الكتاب : النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة المؤلف : المطهر بن محمد الجرموزي |
النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة
أعد هذا الكتاب إلكترونيا
قطب الدين بن محمَّد الشَرْوَني الجعفري
للتواصل
viva_intifada@hotmail.com
www.izbacf.org
تمهيد
لقد أدى المذهب الزيدي إلى خلق وحدة بشرية متماسكة في تاريخ اليمن منذ ظهوره في أواخر القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، والذي يمثل بداية لظهور المذهب الزيدي ذي الأصول المعتزلية والشيعية المعتدلة، وذلك عندما وضع الإمام الهادي يحيى بن الحسين في صعدة سنة 284ه/898م الأسس الأولى لقيام الإمامة الزيدية. وهو بذلك يعد أول من قام بالدعوة لأفكار هذا المذهب الذي قامت على أساسه -فيما بعد- الدولة القاسمية في مطلع القرن الحادي عشر/السادس عشر للميلاد، وتمكنت بعد خروج العثمانيين الأتراك أن تمد نفوذها على غالب اليمن.
ومنذ ذلك الحين بدأ الزيديون يؤسسون لمشاركة فعالة في تاريخ اليمن، طوال العصور الوسطى (الإسلامية) وفي العصر الحديث منذ القرن السادس عشر الميلادي. وهم بذلك يعدون القوة الرئيسية التي كان لها دور أساسي في التصدي للحكم العثماني الثاني في اليمن حتى الاستقلال عام1918م والتي ظلت تسيطر على مقدرات البلاد حتى قيام النظام الجمهور عام 1962م.
وتنطوي أفكار المذهب الزيدي في مجملها على أهداف أكثر تحررية من المذاهب الإسلامية السنية الأخرى، يتبلور أهمها في رفض الظلم والقضاء على الفساد وذلك بالخروج على الحاكم الظالم، وإلى نشر العدل والمساواة بين أفراد المجتمع الإسلامي.
وبإلقاء نظرة عامة على تاريخ المذاهب الإسلامية نجد أن المذهب
الزيدي قد أعلن وبقوة -من خلال ما دعى إليه الإمام زيد-
ورأيه حول أهم قضية كانت تشغل الفكر السياسي الإسلامي ألا وهي الخروج على الظلمة والجائرين.
ولهذا نجد أن آراء المذهب الزيدي تدعو إلى الثورة أولاً في إنكار الجور أياً كان، والخروج على الظلمة مهما كان نوعهم، ثم إلى الشوروية الكاملة في اختيار الإمام. الذي يجب أن تتوافر فيه شروط الإمامة التي تبلورت بعد الإمام الهادي يحيى بن الحسين في الأربعة عشر وهي: "أن يكون الإمام مكلفاً، ذكراً، مجتهداً، علوياً، فاطمياً، عدلاً، سخياً، ورعاً، سليم العقل، سليم الحواس، سليم الأطراف، صائب الرأي، مقداماً، فارسا".
ويمثل المذهب الزيدي طليعة تجمع في عمق التاريخ الإسلامي، يدعو إلى الانفتاح الفكري والإبداع الإنساني ويجعل باب الاجتهاد مفتوحاً. وهو بذلك -وعلى مر العصور- قد أدى إلى ظهور العديد من الأئمة المجتهدين الذين كان لهم دور مهم في: "إثراء المذهب بمؤلفاتهم وبآرائهم". وبالإضافة إلى ذلك فقد فتح المذهب باب الاختيار من المذاهب الأخرى وخاصة السنيّة، وهو الأمر الذي أدى إلى نمائه باستمرار، وعلى تقريبه إلى تلك المذاهب، ولا شك أن: "الزيدية هم أعظم الشيعة اعتدالاً وأكثرهم التصاقاً بالسنة".
وبالتأكيد فقد كانت هذه العوامل من: "أهم لأسباب في نمو المذهب الزيدي في اليمن، وبقائه طوال تلك القرون العديدة حتى يومنا هذا".
ويستند المذهب الزيدي على ركنين هامين، يمثلان القاعدة الأساسية للمذهب، بذل في دراستها أئمة وعلماء الزيدية جهداً واهتماماً كبيرين، وهما بالتالي يمثلان المحصلة الكلية لأهم العلوم الدينية في الأصول وما يترتب عليها من الفروع:
الأول: علم الكلام أو علم العدل والتوحيد، ويُسمى أصول الدين، ويعتبر كما قال الإمام القاسم بن محمد، في كتابه (الأساس): "من أجلّ العلوم قدراً وأعظمها حظاً، وأكبرها خطراً، وأعمها وجوباً، وأولاها إيثاراً، وأولها صدراً". وهو يمثل الصياغة النهائية للفكر الزيدي. ولذلك اعتبر هذا العلم من أصول الدين لارتباط مباحثه بالإيمان بالله، وهو العقيدة أساساً.
الثاني: علم أصول الفقه، وهو علم: "يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية".
وقد أدى ظهور المذهب الزيدي في المناطق الشمالية لليمن، إلى ازدياد هجرة أسرة الأشراف إلى هذه الجهات، والاستقرار فيها، وبالتالي أفضت -تلك الهجرة- إلى إغناء المذهب بعدد من علماء الزيدية، ممن تنطبق عليهم شروط الإمامة الزيدية، والتي لعبت دوراً هاماً في تاريخ اليمن الحديث، منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي.
وكانت أهم وأقوى الزعامات اليمنية التي سيطرت على أقاليم اليمن الداخلية، وهي بذلك تعد القوة السياسية والعسكرية التي واجهت العثمانيين في اليمن منذ فتح سليمان باشا الخادم للسواحل اليمنية سنة 944ه/1538م. والتي كان لها زمام المبادرة في قيادة الثورات الوطنية -حينذاك- ضد الوجود العثماني. الأمر الذي أدّى في النهاية إلى خروج العثمانيين من اليمن عام 1044ه/1635م.
وباستقراء مجريات الأحداث لتلك الفترة، يتضح أن العلاقة بين هاتين القوتين -الزيدية والعثمانية- قد اتخذت طابع الحرب أو السلم، إلا أنه غلب عليها -عموماً- طابع الحذر والتوتر، وهو ما كان يؤدي قطعاً إلى قيام الاحتكاك بينهما.
حيث أولى العثمانيون عنايتهم الفائقة في إيجاد عمق استراتيجي لهم في داخل اليمن، كان من شأنه حماية ثكناتهم على السواحل اليمنية والتي تعد القاعدة الاستراتيجية، مكنتهم -فيما بعد- من مد سيطرتهم إلى باقي أنحاء اليمن، إضافة إلى أنها مثلت قاعدة للإمداد العسكري للقضاء على أية أخطار تهدد قواتهم في داخل البلاد. فيما كان يرى الزيديون أن العثمانيين باتوا يشكلون العقبة الرئيسية التي تحول دون تمكنهم من بسط نفوذهم على امتداد رقعة اليمن.
ولعل حقيقة تبرز لقارئ الأحداث لتلك الفترة -لا مناص منها- تؤكد أنه كان من الصعب القضاء على الزعامة الزيدية بشكل جذري في البلاد. ومرد ذلك يعود إلى انتشار المذهب الزيدي بين هؤلاء من جانب، وإلى موالاة والتفاف الأهالي حول تلك الزعامة للوقوف في وجه العثمانيين من جانب آخر.
ولقد مثل الإمام شرف الدين يحيى قوة الإمامة الزيدية، والتي كانت الكيان السياسي والعسكري -في ذلك الوقت- الذي واجه العثمانيين خلاف تقدمهم لبسط سيطرتهم داخل اليمن (944ه/1538م). إلا أنه وكما يؤكد مؤرخ معاصر لتلك الأحداث قد: "ارتكب خطأين كبيرين أثرا تأثيراً كبيراً في انهيار حكومته أولهما تقسيم ممتلكاته بين أبنائه العديدين في سنة 947ه/1541م، وثانيهما جعله ولاية العهد لابنه علي دون ابنه الأكبر [والخطير] وهو المطهر".
ولقد كان لهذين العاملين أثرهما البالغ في إثارة روح العداء والتناقض بين الأخوة، مما أدى إلى تفكك وضعف أسرة الإمام شرف الدين، وهو الأمر الذي أفضى في النهاية إلى تفتت السلطة الزيدية في اليمن.
ولقد أثارت خطوة الإمام شرف الدين -الآنفة الذكر- حفيظة المطهر إلى درجة أنه خرج عن طاعة أبيه، وقاوم بإثارة اليمنيين والعثمانيين على السواء ضد حكمه.
ولم يكن الأمر أوفر حظاً بالنسبة للمناطق الجنوبية التي كانت تخضع لنفوذ أسرة شرف الدين، فقد انعكست الخلافات القائمة في محيط الأسرة، على الأوضاع في تلك المناطق. إضافة إلى فساد ولاة وعمال -آل شرف الدين- هناك كان من جملة الأسباب التي أدت إلى سقوط تلك المناطق في قبضة العثمانيين وإلى انهيار الحكم الزيدي فيها.
وعندما شعر الإمام شرف الدين بالخطر الماثل أمامه -المتمثل بسيطرة العثمانيين على المناطق الجنوبية وبداية تقدمهم نحو الشمال- رأى من الضرورة بمكان إعادة توحيد جبهته لصد تقدم تلك القوات. وحينئذ لم يكن أمامه سوى قبول شروط الصلح مع ابنه المطهر، لعل أعظمها وأهمها أن تكون السلطة في يده -أي المطهر- وفي تسليم مقاليد الحكم له.
وبذلك استطاع المطهر أن يتسنم مقاليد الأمور في البلاد، وأن يقود الثورة ضد الوجود العثماني، وطردهم من جميع جهات اليمن، ما عدا زبيد وميناء المخاء.
وفي الحقيقة أن تقهقر العثمانيين بهذا الشكل -الملفت للنظر- وانزوائهم في الأخير في المنطقتين الآنفتي الذكر، لم يكن ليحدث لولا بروز عدد من العوامل، أدت في نهاية المطاف إلى انهيار السيطرة العثمانية في اليمن، أرجعها ذلك المؤرخ المعاصر للأحداث، إلى: "ضعف أوضاع العثمانيين السياسية والعسكرية والمالية، إضافة إلى عدم اهتمام الولاة برعاية شؤون الأهالي. وكذلك تقسيم البلاد إلى ولايتين" إلى جانب ما قاساه الأهالي من شدة الأعباء المالية الملقاة على كواهلهم. كان من شأنه أن أدى إلى تذمر هؤلاء -الأهالي- وانضوائهم المتسارع تحت قيادة المطهر.
وكان لشخصية المطهر وإرادته القوية وحنكته السياسية والعسكرية ونجاحه في الحفاظ على وحدة الجبهة الزيدية، تحت زعامته الأثر الكبير في نجاح الثورة ضد العثمانيين.
وباستقراء دقيق لأحداث تلك الفترة، بحسب ما هو متوفر من مصادر شحيحة -لمجرياتها- نجد أن ثورة المطهر، لم تكن نهاية المطاف بالنسبة للوجود العثماني في اليمن.
وكنتيجة حتمية لقوة الدولة العثمانية -حينذاك- ولاهتمامها الواضح بولاية اليمن، التي أصبحت منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي بمثابة خط الدفاع الأمامي بالنسبة لحوض البحر الأحمر، فقد حرص العثمانيون على أن يكون لهم موضع قدم في المنطقة، لإغلاق هذا المنفذ البحري، وبالذات ميناء عدن أمام الخطر البرتغالي. الذي كان يهدد العالم العربي، بل والدولة العثمانية بشكل عام.
وكما أورد ذلك المؤرخ النهروالي بقوله: "إن الإفرنج، الملاعين إذا تمكنوا من هذا الثغر الحصين أضروا المسلمين، ومنعوا سفائن الهند من الوصول إلى بنادر الحرمين الشريفين، وربما
طمعوا في أخذ جدة ونواحيها، وأضروا بتلك البقاع الشريفة وضواحيها".
ولذلك كله -كما أشرنا آنفاً- فقد أرسلت الدولة العثمانية حملة كبيرة إلى اليمن، تحت قيادة سنان باشا في عام 977ه/1569م استطاعت أن تعيد سيطرتها مرة أخرى على البلاد.
وبوفاة المطهر في رجب سنة (989ه/1572م) انهارت سيطرة أسرة الإمام شرف الدين، إذ لم يستطع أولاده من بعده المحافظة على وحدة كيانهم، نتيجة لبروز الخلافات فيما بينهم، بشأن الاستئثار بالسلطة والنفوذ و:"ثبت كل واحد منهم على ما تحت يده في البلاد". حيث كان المطهر قد ولاّهم على الأجزاء المختلفة من ممتلكاته قبل وفاته بمدة غير قصيرة.
وكنتيجة حتمية لتلك الخلافات، فقد شهدت المناطق الشمالية اندلاع العديد من الحروب العنيفة بين أمرائها، مما أدى بالتالي إلى ضعف مراكزهم أمام العثمانيين. بل وأكثر من ذلك مهدت الطريق أمام القبائل لإعلان تمردها وخلافها ضد حكامهم.
وبهذا افتقدت اليمن -حينذاك- إلى شخصية قوية باستطاعتها قيادة الثورة من خلال إذكاء روح المقاومة في أوساط الأهالي الساخطين ضد الوجود العثماني.
وعلى الرغم من قيام بعض الأشراف بالدعوة لأنفسهم، وإعلان الثورات ضد الحكم العثماني، إلا أنها -أي الثورات- لم تكن على نطاق واسع في المناطق الشمالية نتيجة الأسباب التي ذكرناها آنفاً، مما سهل بالتالي على العثمانيين القضاء عليهم.
وشهدت اليمن نوعاً من الاستقرار خلال تولي حسن باشا شؤون الحكم فيها، والتي امتدت إلى حوالي خمسة وعشرين عاماً (1580ـ1605م) استطاع خلالها من فرض سيطرة عثمانية قوية على المناطق الشمالية حين شرع في: "إقامة بديل زيدي -عثماني، ضمن إطار نظام حكم الولاية المركزية- ضم في نطاقه عدداً محدوداً من الأمراء الزيديين".
وساعده على ذلك ضعف أمراء المناطق الشمالية نتيجة كثرة الحروب في ما بينهم إضافة إلى أنه استغل تضارب المصالح بين الزعماء الزيديين أنفسهم وعمل على توسيع الهوة بينهم؛ حتى لا يحاول هؤلاء -رغم خلافاتهم- تكوين جبهة قوية للوقوف ضده.
ويتضح أن حسن باشا قد قلص من نطاق نفوذ أسرة الإمام شرف الدين بوجه عام. وذلك بعد أن انهك قواهم العسكرية وتأكده من عدم مساندة الأهالي لهم.
ولتوطيد السيطرة العثمانية في اليمن، عمد حسن باشا أيضاً إلى تقرير رواتب شهرية للأمراء من آل الإمام شرف الدين، وآل المؤيد، وأشراف الجوف، والذي كان لهم نفوذ في الشمال، بعد ضمان طاعتهم وخضوعهم التام للدولة العثمانية.
ورغم تلك الإجراءات فلم يتمتع الحكم العثماني بالاستقرار طويلاً إذ ظهر إماماً جديداً، وهو الإمام القاسم بن محمد [1006هـ/1597م] الذي أشعل الثورة مرة أخرى على العثمانيين، وبدأ يبسط سيطرته على المناطق الشمالية. ويعلن مرحلة جديدة من مراحل الكفاح الوطني ضد الوجود العثماني. الذي توج في نهاية المطاف بخروجهم من اليمن عام 1635م على يد خلفه ابنه الإمام المؤيد بالله محمد.
الفصل الأول الأسباب التي أدت إلى قيام ثورة الإمام القاسم بن محمد
أدى فساد الأوضاع العامة للحكم العثماني في اليمن خلال الفترة (1580-1597م) إلى اندلاع ثورة الإمام القاسم بن محمد.
فلقد ارتسمت في تلك الفترة جملةٌ من الأسباب عبرت في طياتها عن أوضاع هذه الفترة الهامة من تاريخ البلاد.
ولعل أهم تلك الأسباب تتمثل في عدم اقتناع فئة تنتمي أساساً إلى المذهب الزيدي، بشرعية الوجود العثماني في اليمن. ولقد أصبح هذا المذهب بحكم طبيعته، قوة سياسية تمكنه من إعلان العصيان ضد السلطة القائمة، خاصة وأنه يخول للإمام إعلان الخروج إذا رأى مبرراً لذلك مثل فساد السلطة أو اضطراب أحوالها.
ولقد أوضحت ثورة الإمام القاسم، بجلاء ضعف الحكم العثماني -حينذاك- والذي انعكس على الأوضاع القائمة في البلاد. أدت بالتالي إلى استياء الكثير من الأهالي وانضوائهم تحت عَلم تلك الثورة، حيث رأوا فيها تعبيراً عن تذمرهم من سياسة العثمانيين وتصرفاتهم.
ومن الأهمية بمكان أن نبرز -هنا- أهم الأسباب التي كانت المحك الرئيس في قيام هذه الثورة.
سوء الإدارة العثمانية
باستقراء لأحداث الفترة التاريخية، قبل دعوة الإمام القاسم، تحديداً حين تسلم حسن باشا ولاية اليمن عام(1585م)، حيث كانت قد برزت جملة من التصرفات من قبل الولاة والعمال والجنود، كانت تسيء إلى سمعتهم الأخلاقية والدينية، تمثلت بقيام هؤلاء بأعمال سلب ونهب وابتزاز طالت غالبية الأهالي. وذلك لتغطية تكاليف معيشتهم: "فلقد ترتب على التناقض الواضح بين ضآلة المرتبات العثمانية بوجه عام، وبين تعلق الموظفين بمظاهر الحياة أن اتجه هؤلاء إلى ظلم الأهالي وإلى ابتزاز الأموال بالطرق غير المشروعة". وكان أن استغل الإمام القاسم تلك التصرفات لحث الأهالي على عدم الخضوع للعثمانيين كونهم أفسدوا في الأرض.
كما استغل أيضاً الناحية الدينية لتأجيج روح المقاومة واستمراريتها، فهو يرى في خروج العثمانيين عن مبادئ الدين مروقاً، ويصبح من الأهمية بمكان اقتلاع سيطرتهم على البلاد. ويأتي حثه واضحاً في خطاب (منشور) وجهه إلى جميع أهالي اليمن كي: "يستيقظوا من رقدتهم وينتبهوا من غفلتهم". ويؤكد أن إحكام هؤلاء قبضتهم على السلطة يعني أن: "أحكام الشريعة قد عطلت". ولن يتم إحيائها إلا عن طريق الجهاد.
ولكي يذكي روح الثورة في صفوف الأهالي، فهو يوضح أيضاً في الخطاب ذاته، أن: "المحارم قد انتهكت ـ والخمور قد شربت ـ والذكور قد نكحت ـ والدماء قد سفكت ـ والشرور قد كثرت ـ والفتنة قد عظمت".
وفي صورة أخرى يرسمها المؤرخ الجرموزي -كاتب سيرة الإمام- توضح سوء تصرفات هؤلاء الولاة وفسادهم، وتساند بصورة جلية ما جاء في خطاب الإمام -الآنف الذكر- حين يقول: "وأخبرني من سمع طاغيتهم سنان [باشا] وقد شكى إليه بعض المردان الذين في السوق من بعض العسكر، أنه فعل بهم العظيم، قال: فأمر بذلك الجندي أن يضرب، فكيف تغصب هذا المسكين غصباً، أعطه دراهم فإن قبل وإلا زودت له حتى يرضى".
ويتضح هنا أن الوالي سنان باشا، لم يأمر بضرب الجندي كونه قد أتى بأفعال يحرمها الدين الإسلامي .. وإنما كان عقابه لذلك الجندي لأنه لم يبادر إلى مراضاة ذلك الفتى ليأخذ مبتغاه.
وفي جانب آخر يبرز لنا صورة تمثل أخطاء العثمانيين الاجتماعية، تتمثل في الظلم الجائر الذي كان يقع على عاتق الأهالي .. حيث يقول: "وأما الحكم في الرعية والعمل في القضية فجورٌ وظلم وكفر".
ولقد عمد هؤلاء الولاة والعمال إلى استخدام شتى الطرق والوسائل في ابتزاز أموال الأهالي، مؤرخ معاصر للأحداث يوضح ذلك بقوله: "وأما المال فلهم في أخذه قوة وسطوة .. ولقد يعذبون أهله العذاب العظيم مثل ضربه بالسياط قليلاً أو كثيراً .. وقد يجلدون بعضهم".
ولم يكن اشتعال فتيل الثورة مقتصراً على المناطق الشمالية من اليمن، فقد استعرت حمى الثورة في أقاليم شافعية المذهب، كشف بالتالي سوأة العثمانيين، ودعت اليمنيين إلى ضرورة الثورة عليهم، ولعل ثورة قبائل يافع عام 1006ه/1597م، ضد الأمير علي، عامل العثمانيين هناك، توضح مجريات الأحداث بشكل جلي. فلقد حاصرت تلك القبائل ذلك الأمير، عندما اشتدت وطأته على الأهالي في حصن الخلقة، الأمر الذي استدعى إلى قيام الوالي حسن باشا -وقتئذ- بتجهيز قوة قوامها خمسة آلاف جندي لفك الحصار عن الخلقة لاستعادة هيبة الدولة.
إلا أن تلك القوة تلقت هزيمة نكراء على أيدي قبائل يافع والرصاص، في نجد السلف و:"ضعفت دولة الأتراك، وقتل كثير من أجنادها وخرج أكثر البلاد على أيديهم". وتم الاستيلاء على معداتها العسكرية وموادها التموينية وأسر عدد كبير من أفرادها.
تمرد آخر يكشف بجلاء ضعف العثمانيين، ارتكزت مجريات أحداثه في منطقة الحجرية، حيث تمكن الشيخ علي الشرجبي -أحد مشائخها- في عام 1006ه/1597م: "من قيادة تمرد القبائل هناك على السلطة العثمانية". وقد تمكن رغم بساطة قواته من السيطرة على غالب القلاع والحصون، القائمة بين الحجرية ومدينة تعز والتي تتمركز فيها قوات عثمانية، وأطلق من فيها من الرهائن، بل وأكثر من ذلك استطاع إحكام قبضته على القاهرة الحصينة والاستيلاء على محتوياتها وعتادها العسكري. وكانت القلعة -حينئذ- تمثل الخط الدفاعي الهام لمدينة تعز.
وطالت الاضطرابات كذلك مناطق ريمة ووصاب وعتمة، المشهورة بحصونها وجبالها الوعرة و:"باستمرار الثورات بها".
ولا شك بأن تلك التمردات القبلية، توضح بجلاء مدى ظلم وجور حكام تلك الأقاليم ضد الأهالي، وهو الأمر الذي أدى إلى ردود أفعال -من قبل الأهالي- تمثلت بصورة التمردات الآنفة الذكر. وهي بالتالي ساندت إلى حد لا يستهان به ثورة الإمام القاسم، إضافة إلى أنها شتت المجهود الحربي العثماني.
ولقد أدت سياسة البطش والتنكيل واستخدام القوة، التي انتهجها بعض الولاة العثمانيين هي الأخرى إلى إشعال فتيل الثورة في نفوس اليمنيين ضد سلطة الحكم العثماني. فوالٍ كحسن باشا (1585-1604م) شهد الأهالي خلال سنوات ولايته الطويلة صنوف العذاب والخوف والتنكيل، واشتدت وطأة الحكم العثماني ضدهم حتى: "امتلأ عهده بالحروب والأعمال العنيفة" لإخضاع اليمنيين لسيطرة الدولة العثمانية.
ولعل صورة أخرى للبطش والعنف مورست ضد الأهالي. تتضح بشكل جلي وبدلالات عميقة عند تولي سنان باشا لولاية اليمن (المرة الثانية) خلال الفترة (1604-1607م)، حيث قبض على إدارتها بقبضة حديدية، إلى حد استحق معه: "أن يقرنه بعض اليمنيين ب(الحجاج) أمير الأمويين الشهير على العراق".
كونه عامل الأهالي بقسوة وعنف، بل: "وتوصل إلى أخذ أمالهم الجليلة بكل حيلة، حتى بالغ أهل الأموال في كتم ما بأيديهم منها بكل حال". الأمر الذي أدى ببعض أعيان اليمن أن اشتكوه إلى السلطان العثماني أحمد الأول (1603-1617م).
وقد أورد المؤرخ الجرموزي في غير صفحة من مؤلفه (النبذة المشيرة) أعمال العنف والبطش والقوة التي مارسها سنان باشا ضد الأهالي في اليمن خلال فترة ولايته الآنفة الذكر.
وهكذا يتضح أن سوء تصرفات الولاة -السابقة الذكر- وجورهم المستمر ضد الأهالي كان وراء الاستجابة الكبيرة للقبائل -الأهالي- لثورة الإمام القاسم، والانضواء تحت رايتها.
ولعل ذلك يتضح بصورة موجزة رسمها أحد المؤرخين المعاصرين لتلك الفترة -رغم ميوله للعثمانيين- إلا أنه التزم الموضوعية خلال سرده لأحداثها، إضافة إلى معايشته لأوضاع مجتمعه، وإدراكه لمعاناتهم الشديدة من شدة وطأة الحكم العثماني، حيث يقول: "وقد كان قبل الفتنة -ثورة الإمام القاسم- أطبق على العباد الجور، وضعفت البرية، واستهلك العمال أموال الرعية، وقاست القبائل من الظلم أشد التعب، والهول، والنصب، فمن أجل ذلك أشعلت القبائل نارها، وحملت على جنوبها أكفانها، وأصدقت مع الإمام الحروب".
تدهور الأوضاع الاقتصادية
مما لا شك فيه أن العامل الاقتصادي، يعد اهم العوامل في بناء أي مجتمع، وهو بالتالي المرتكز الأساسي لاستقرار نظامه السياسي من عدمه. وبنظرة جلية لمجريات الأحداث التي هيأت لاندلاع ثورة الإمام القاسم -وقتئذ- سنجد أن ضخامة الأعباء المالية الملقاة على عاتق اليمنيين في العهد العثماني، كانت أحد أسباب هذه الثورة.
ولعل الحروب الكثيرة التي دارت وقائعها في اليمن -حينذاك- قد دفعت بالتالي الدولة العثمانية إلى زيادة الأعباء والضرائب المالية على كواهل الأهالي، وذلك لتغطية تكاليف تلك الحروب، وكان لاتساع الدولة العثمانية وازدياد أعبائها المالية إضافة إلى انشغالها في مشاكلها الداخلية والخارجية -آنذاك- سبباً رئيسياً في ظهور أزماتها المالية, وقد انعكس ذلك على ولاياتها ومنها اليمن.
ذلك أدى إلى استغلال كبار الموظفين لوظائفهم للحصول على الثروات الطائلة، خاصة إذا ما علمنا حسب مؤرخ محدث: "أن الخزانة العامة للدولة كانت تصرف لبعض كبار موظفيها جزءاً من مرتباتهم، أما الجزء الثاني فكانوا يحصلون عليه من الأهالي أنفسهم وذلك في صور رسوم أو عوائد مقابل ما يقدمونه من خدمات".
وقد استخدم العثمانيون القوة نظير حصول قواتهم على احتياجاتها والمصادرة -أي السلب والنهب- من المناطق التي ينزلون إليها. وكان ذلك من أهم العوامل التي ساعدت على اضطراب الأحوال في اليمن وانتشار الفوضى.
وأوضح الجرموزي بصورة أكثر دقة -كونه أحد المعاصرين لأحداث الفترة- شدة وطأة الحكم العثماني على الأهالي في الحصول على المال حيث قال: "أما المال فلهم في أخذه قوة وسطوة ولقد يعذبون أهله العذاب العظيم، مثل الضرب بالسياط قليلاً أو كثيراً، وقد يجلدون بعضهم حتى يموت مع المساهرة والكي بالنار وغير ذلك".
أما بالنسبة للخراج والذي كان يرسل سنوياً إلى خزانة الدولة في استانبول، فقد شكل هو الآخر عبئاً أثقل كاهل اليمنيين، وزاد من معاناتهم، فبعد أن كان ذلك الخراج حوالي خمسين ألف ذهباً، عند بداية عهد العثمانيين باليمن، تم رفعه من قبل سنان باشا بعد انتهاء حملته في اليمن (1571م) إلى مائتي ألف ذهباً، وقد اختلفت الآراء حسب دكتور سيد مصطفى: "حول تقدير هذا الخراج حيث ذهب أحد الأتراك المتأخرين إلى أن إيراد ولاية اليمن كان حوالي خمسمائة ألف ذهباً".
وكان على اليمنيين أن يتحملوا أيضاً متطلبات الأمراء والعسكر وبقية الموظفين من مرتبات وغير ذلك.
ويتضح ذلك جلياً من خلال قوة قوام الجيش العثماني في اليمن، فقد كان يتألف باستمرار من حوالي خمسة عشر ألفاً من العثمانيين، إلى جانب خمسة آلاف من أهالي البلاد الذين يدخلون في خدمة العثمانيين.
ولم تستند تلك الأعباء المالية الضخمة على أساس اقتصادي متين، فقد شهدت المناطق الزراعية لفترات متلاحقة، شحة في سقوط الأمطار، وهو الأمر الذي انعكس بالتالي على مردود المنتجات الزراعية، إضافة إلى تدهور زراعة البن كمحصول اقتصادي كبير، نتيجة للحروب المستمرة بين اليمنيين والعثمانيين حينذاك.
ثمة عامل آخر كان سبباً في تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، يتعلق بمحاولات الدولة العثمانية زيادة إيراداتها من الضرائب، تمثل ذلك بنظام الالتزام، والذي طبق في الولايات العربية كمصر والشام، أو نظام الضمان، أو التضمين، كما عرف في اليمن، وقد شكل عبئاً اقتصادياً أثقل كواهل الأهالي، وأدى إلى سخطهم وتذمرهم.
وبمقتضى هذا النظام كانت الدولة العثمانية تعهد إلى شخص من ذوي النفوذ والثراء في العادة بجباية الضرائب المربوطة على الأراضي الزراعية والمقررة على الفلاحين.
وقد سمحت تلك الثغرات التي وجدت في هذا النظام للمعينين في تنفيذه، ـ حيث عمد هؤلاء الملتزمون ـ إلى استغلال الفلاحين لتأمين منافعهم باستحصال الأموال التي دفعوها، وبتحقيق ربح خاص لأنفسهم.
وفي حقيقة الأمر لم يكن للضرائب العثمانية نظام معين أو حجم معين، بل كانت تفرض من قبل الملتزمين اعتباطاً، ومع هذا فهناك من حيث الأساس نوعان من الضرائب:
أولهما: الضرائب الشرعية التي أقرها الفقهاء على مدى الأزمنة ومنها الخراج والعشر والجزية، إلا أن الولاة توسعوا كثيراً واجتهدوا في جبايتها.
وثانيهما: الضرائب الديوانية التي كانت تفرض من قبل السلطان وقت الحاجة على الأشخاص والتجارة والحيوانات والمنتجات المختلفة.
وقد أشار مؤرخ معاصر للأحداث-لفترة الوالي جعفر باشا في اليمن- إلى ما كان يمارس على الأهالي في سهل تهامة حيث: "كان يطلب منهم ما هو مكتوب في الدفاتر الخالية مما هو مقرر ومقدر في كل عود من النخيل ورأس من البقر".
وبموجب ما هو قائم في تلك الدفاتر، كان لزاماً على الأهالي، في كل سنة دفع المقررات المالية -الضرائب- حتى وإن: "أفنى أكثر الأشجار، ويموت أجزل الأبقار، وقد تفنى كلها ويتبعها أهلها، ويتركون من خلفهم ذرية ضعفاء فقراء لا يملكون نخيلاً ولا بقراً، فيطلب منهم ما هو مكتوب على أصولهم في ذلك الدفتر، حسبما كانوا يملكون سابقاً من النخيل والبقر".
وهكذا تتضح الصورة جلية واضحة إلى أي مدى بلغ التعسف والجور، الذي مورس ضد الأهالي من قبل الحكام العثمانيين في جمع الأموال، فهم -حسب عبارة المؤرخ المعاصر الآنفة الذكر- لم يحاولوا التحري والتدقيق لما هو موثّق في سجلاتهم -الدفاتر- والتي رصدت بياناتها لسنوات مضت، وبين ما هو قائم على الواقع بالنسبة لما هو بين يدي الأهالي من الممتلكات.
وحيال ذلك لم يجد هؤلاء الأهالي بداً، من تسليم ما هو ملزم عليهم: "وتضرروا بذلك غاية الضرر". ولم يكن أمام غالبهم سوى الخروج من قراهم ومواطنهم هرباً من ثقل الأعباء المالية الملقاة على كواهلهم حتى أن بلاد تهامة: "خلت كثير من ممالكها بالتفرق في الأرض والتشتت والتبديد".
ولقد شاعت أصناف أخرى من الضرائب كانت تفرض على الأسواق وأصحاب الحرف فيها. فكان البقالون والعطارون والقصابون والخبازون يدفعون ما يسمى ب(ضريبة المهنة). والتي كانت تناهز أحياناً الثمن الأصلي للبضائع.
أما بالنسبة للعملة والتي تعتبر المؤشر الحقيقي، لاستقرار الوضع الاقتصادي في أي بلد، فقد نالها هي الأخرى ضروب من المد والجزر، حيث أدى اهتزازها تبعاً للأحوال السياسية وتطور الأحداث -حينذاك- إلى انهيار الأوضاع الاقتصادية، وكان ذلك نتيجة حتمية للضعف الاقتصادي الذي أصاب البلاد، جراء الحروب الكثيرة -بين اليمنيين والعثمانيين- إضافة إلى تلاعب بعض الولاة العثمانيين بالعملة، طمعاً في تكوين الثروات الخاصة، وميلهم أيضاً إلى سك عملات جديدة خلال فترة ولايتهم لليمن، وهو الأمر الذي أضر بالقديم منها. وانعكس بالتالي على أحوال الأهالي الاقتصادية. ولقد عمد هؤلاء الولاة إلى: "إنقاص قيمة الذهب والفضة عند سك العملات المختلفة" وذلك للاستفادة من فروق العملة في تكوين ثروات خاصة بهم.
ولقد رصد بعض المؤرخين المعاصرين للأحداث عدداً من العملات تم سكها، في فترات متلاحقة من قبل الولاة الجدد القادمين إلى اليمن، ومن ذلك على سبيل المثال في عام 977ه/1569م ضرب بهرام باشا: "السكة المباركة في ملحظ .. وهي مشهورة بالملحظية". أما حسن باشا فقدم سك عملة جديدة في عام 999ه/1590م حيث: "ضرب السكة السلطانية بتعز باسم السلطان مراد بن سليم(1574-1595)". في حين قام سنان باشا في عام 1013ه/1604م بضرب: "البقشة السنانية، والمنقير السناني". ولقد أدى ضرب هذه العملات الجديدة بين حين وآخر وفي فترات متقاربة إلى الإضرار بأحوال الأهالي المعيشية، وإلى إرباك في الميزان الاقتصادي للبلاد. وهذا الأمر الذي جعلهم يرفضون التعامل بها: "لشكهم في قيمتها".
وقد استغل الإمام القاسم بن محمد ردود الأفعال تلك، لتدعيم مركزه السياسي المناهض للعثمانيين، حين أمر في السنوات الأولى لدعوته في عام 1007ه/1598م بسك: "الضربة المنصورية، وكانت نصف درهم" من الفضة الخالصة ولأنها كذلك فقد: "انتشرت وأخذها الناس بركة لطيب فضتها".
وشهد الجانب الزراعي -هو الآخر- تدهوراً ملحوظاً، في غالب اليمن -خاصة المناطق الشمالية- انعكس أثره على الأوضاع المعيشية للأهالي، وقد تظافرت عوامل عدة ساعدت في ذلك التدهور، منها: كثرة الحروب بين الجانبين الزيدي والعثماني، التي أدت بالتالي إلى أن ترك الناس الاهتمام بالأراضي الزراعية واستغلالها وزراعتها كنتيجة حتمية لعدم الاستقرار، إضافة إلى الجدب، الذي شهدته غالبية المناطق -خاصة الشمالية- جراء عدم سقوط الأمطار، فانحصرت لذلك زراعة الحبوب -المصدر الرئيسي للغذاء- وضعفت زراعتها في: "المشارق والمغارب" و"قل المدد والتاث الناس"، مما أدى حسب الجرموزي إلى ارتفاع الأسعار و:"كاد الطعام يعدم".
وعموماً فقد كان فقر هذه المناطق -الشمالية- الوعرة اقتصادياً، من أهم العوامل التي زادت من حساسية الأهالي ضد الحكم العثماني، والتي جعلتهم أكثر اندفاعاً إلى الثورة والحرب.
تذمر اليمنيين
كان لسوء التصرفات التي يقوم بها الولاة والعمال وكذلك الجنود العثمانيون -كما أشرنا آنفاً- وقعها الملموس لدى عامة اليمنيين. في ما زادت التصرفات اللا أخلاقية من سخط الأهالي وتذمرهم حين أقبل هؤلاء على ارتكاب المحرمات، فلقد تفشت ظاهرة الزنا في أوساطهم وكما يورد ذلك المؤرخ الجرموزي بقوله: "وأما النسوان ففي كل مدائنهم جوانب معروفة مأهولة للنساء لهذا المعنى، وكل فاسدة تزين نفسها وبابها وتعرض لمن مر عليها". بل وأكثر من ذلك فقد ذهب هؤلاء إلى فرض مقررات مالية، مقابل ممارسة تلك النسوة للبغاء تجبى منهن: "وعلى كل واحدة قبالة يومية وشهرية".
كما أشار الجرموزي أيضاً إلى ظاهرة بيع وشرب الخمور حين قال: "وأما الخمور فظاهرة تدار عليهم في الأسواق، كما يدار بالماء، وربما يتشدد بعض ولاتهم إذا كثر فيقطعه من السوق، ويجعلون له حانات لذلك تباع فيها".
ولم يجد هؤلاء -العثمانيون- غضاضة في التعامل بالربا، كونها تمس بمعتقدات الناس الدينية، وكما يورد ذلك مؤرخ معاصر بقوله: "..وأما المعاملة في الربا فظاهرة غالبة عليهم، ولا يذكر فيه تحريم ولا تحليل، وإنما يسمونه فائدة".
تلك التصرفات اللا أخلاقية أوجدت في أوساط المجتمع ردود أفعال، كونها انتهاك صريح وعلني لتعاليم الدين الإسلامي، حتى أن أحد علماء الزيدية المعاصرين للأحداث عز الدين محمد بن علي الشكايذي، تناول جملة من تصرفات العثمانيين -السابقة الذكر- في قصيدة مطولة .. قال فيها:
والمنكرات على الأشهاد قد ظهرت .... لا يستطاع لها رداً وكتمانا
القتل والصلب والتحريق قد فعلوا .... والشحن للجلد بعد السلخ أتبانا
كذا الربا والزنا والخمر قد شربوا .... جهراً وباعوه في الأسواق أدنانا
ولقد تناقل الناس القصيدة: "ودونت وانتشرت لإصابة المعنى" وكانت القصيدة سبباً في مصرع صاحبها من قبل السلطة العثمانية، كونها تعد تقريراً استشف ودل على جملة الأفعال اللا أخلاقية والتصرفات المشينة التي كان يقوم بها العثمانيون، وعبرت بالتالي عن سخط وتذمر اليمنيين. ويتضح ذلك من خلال المشاركة الواسعة غير المعهودة -حينذاك- في جنازة الشكايذي -صاحب القصيدة- فقد خرج: "في جنازته عامة أهل صنعاء حتى المخدرات". حتى أن سنان باشا -الوالي وقتئذ- علق على ذلك الحدث بقوله: "إذا كان هذا حال جنازته كيف لو خرج علينا وهو حي".
ولعل تلك الأفعال المشينة تؤكد استجابة الأهالي لدعوة الإمام القاسم بن محمد، إلى الثورة والالتفاف حولها، وعدم الخضوع للعثمانيين نظراً لفساد حكمهم وخروجهم عن مبادئ الدين الإسلامي. ففي أحد خطاباته دعاهم إلى إعلان الجهاد ضد هؤلاء الفاسدين والظلمة لأنهم: "أظهروا في الأرض الفساد"، وهو في خطاب آخر يؤكد للناس أن: "رسوم الدين قد عفت .. وأحكام الشريعة قد طمست .. والمحارم قد انتهكت".
أما بالنسبة للجهاز القضائي في اليمن -حينذاك- فقد شكل هو الآخر مصدر سخط وتذمر لدى اليمنيين، حيث أساء العثمانيون إلى الشريعة الإسلامية التي كانوا يحكمون باسمها، وقد تدهورت وظيفة القاضي كما يقول مؤرخ محدث: "عندما تولاها غير مستحقيها ممن يسعون إليها" حيث كانوا: "يشترون ولاية القضاء، وعليهم خراج مضروب ثم يتزايدون في شرائه، ويتحاسدون عليه، ولقد يتولى أحدهم القطر أو المدينة أقل من سنة وقد اشترى ذلك غيره".
أما ظاهرة الرشوة فكانت سمة غالبة بين هؤلاء، يأخذونها على: "ضرب من الاختفاء وقد يظهرونها". مقابل عدولهم عن قول الحق في قضايا عامة الناس. في ما كانوا يتقاضون أموالاً طائلة من ذوي الوجاهات الاجتماعية أو التجار كما يوضح المؤرخ الجرموزي في قوله: "وأما في قضايا الكبراء والتجار والعظماء فلا ينحصر ما يأخذونه في قضاياهم".
وفي الحقيقة فقد أدى ذلك التلاعب في نظام القضاء إلى ازدياد حدة الخلافات في أوساط المجتمع، نتيجة عدم تطبيق تعاليم الشريعة السمحاء بين المتخاصمين، إضافة إلى المماطلة والتسويف في قضايا الناس.
جانب آخر كان له الأثر العميق في نفوس الأهالي، أدى إلى تذمرهم وإلى النفور من الحكم العثماني حين عمدوا إلى تقريب بعض: "اليمنيين لتكوين طبقة تساندهم في حكم البلاد وذلك باعتبارهم غرباء عنها"، وتظهر الصورة واضحة جلية -في ما ذهبنا إليه- حين قام حسن باشا خلال فترة ولايته لليمن على: "إقامة بديل زيدي -عثماني ضمن إطار حكم الولاية المركزي، ضم في نطاقه عدداً محدوداً من الأمراء الزيديين" استمدوا الحق في تسيير شؤون الحكم من توليتهم من قبل الوالي العثماني باعتباره ممثل الدولة العثمانية.
فقد أوكل تسيير الأمور في كوكبان إلى الأمير محمد بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين الذي: "...ظاهرهم ووالاهم وضرب السكة باسم سلطانهم وخطب لهم" وحارب في صفوف قواتهم ضد الإمام الحسن بن علي، في ما تصدر ولده الأمير أحمد بن محمد لمحاربة الإمام القاسم بن محمد. وكان من: "أعوان الأتراك وأعظم أعضائهم". ولقد أقرت رواتب سنوية له ولجنوده مقابل ولائه للدولة العثمانية. إضافة إلى ذلك فقد أوكل إليه جمع الضرائب من المناطق التي كانت تقع تحت سيطرته وهي جهات مسور ولاعة وقراضة وجبل تيس وما يوالي هذه الجهات. باعتباره صاحب التزام الضرائب في هذه الأنحاء.
بينما أسندت مهام الحكم في بلاد الشرف إلى الأمير لطف الله، كذلك تم تنصيب إبراهيم بن المطهر أميراً على حصن ثلا. فيما كان الأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن عاملاً على بلاد حجة، أما عبد الله بن المعافا فقد عين حاكماً على بلاد السودة، وامتد نفوذه إلى الأهنوم ووادعة وعذر، وقد: "بلغ مكانة مؤثرة في ظل العثمانيين".
وبالغ الولاة العثمانيون في تكريم أمراء المناطق الشمالية -الموالين لهم- عن طريق منحهم ألقاباً عثمانية: "أمراء أو سناجق". إلى جانب إعطائهم الهدايا، بل وأكثر من ذلك فإن سلاطين الدولة العثمانية أنفسهم كانوا يرسلون لهم: "الخلع والترقيات من استانبول بناء على طلب ولاة اليمن".
وقد أثار ذلك الوضع باقي طبقات المجتمع، وخاصة ذوي المكانة السياسية والاجتماعية في البلاد، إضافة إلى أنه أثقل كاهل الأهالي، الذين تقع عليهم أعباء الامتيازات التي تحصل عليها الطبقة الحاكمة -الآنفة الذكر-.
ومما زاد من تذمر اليمنيين، تلك السياسة التي اتبعها العثمانيون والمتمثلة في ظاهرة جمع الرهائن، من القبائل المناوئة للحكم، وذلك لضمان ولائها وعدم تمردها ضد السلطة العثمانية. وكان غالب هؤلاء الرهائن من أبناء المشائخ، أو أقرب الناس إليهم، وقد أوضح الجرموزي بشكل جلي تلك الظاهرة بقوله: "ومن ذلك أن من خالف أمرهم من الرعية أو مال إلى مُخالفهم من إمام حق أو غير ذلك عمدوا إلى قبض الرهائن، صغيراً كان أو كبيراً من ذكر أو أنثى، من أولاد شيخ البلد المخالفة، أو من كان يعتزي إليه".
إلا أنهم -العثمانيون- أساءوا معاملة هؤلاء الرهائن، حيث كان يتم وضعهم في سجون مظلمة: "ثم يعمرون عليهم العمارة الأكيدة، حتى يهلكوا، كما فعلوا مع كثير من رهائن أرض اليمن". ويؤكد مؤرخ معاصر للأحداث هذا القول، حين يذكر أن زهاء مائتين وخمسين شخصاً -بينهم مشائخ- من أهالي الحيمة، وقرابة نفس العدد من قبائل نهم. تم إيداعهم السجن، وأغلق من جميع الجهات، ولم يجعل له متنفساً، الأمر الذي أدى إلى وفاة جميع من فيه من الرهائن، ولم يعش منهم، حسب الجرموزي: "إلا سبع أنفس".
ولقد كانت ظاهرة الرهائن من النساء، محل استياء وتذمر لدى الأهالي، وأثارت روح العداء ضد العثمانيين، كونها تسيء إلى سمعتهم، لما فيها من انتهاك صريح وعلني لقدسية حرمات المسلمين.
إن سوء معاملة الرهائن أفضى كذلك إلى إعلان حالات التمرد في السجون، وهو الأمر الذي يفسر لنا -حسب مؤرخ معاصر- تمرد وعصيان رهائن سجن قلعة القاهرة في شهر رجب من عام 996ه/1587م. نتيجة أن القائم على سجن القلعة: "قد أتعبهم أشد التعب وكلفهم جمع المحن والمهن والنكد والنصب، وامتحنهم أشد الامتحان، حتى أنه كان يكلفهم على عمل بستانين ومزارع في القلعة مع الضرب الشديد والعمل الدائم المزيد".
وقد تم إخماد ذلك التمرد بصورة بشعة، أثارت معها سخط واستياء الأهالي، حين أمر حسن باشا -والي اليمن حينذاك- بأن يوضع كل سجناء القلعة في أكياس: "ويرمى بهم من رأس القلعة من أرفع مكان عال".
ولعل سوء معاملة الرهائن، كان أحد الأسباب المباشرة لاندلاع عدد من الاضطرابات في بعض أقاليم اليمن، وانقلاب الأهالي -في تلك الأقاليم- ضد العثمانيين،، ويتضح ذلك في ما حدث في سنة (1006ه/1597م) عندما تمرد الأمير علي الشرجبي في الحجرية، فإن أول عمل قام به، هو مهاجمة سجون وقلاع العثمانيين القائمة بين الحجرية ومدينة تعز، لإخراج مئات من الرهائن المحتجزين فيها.
ويتبيّن الأمر كذلك بشكل جلي -في ما ذهبنا إليه- لما حدث في سجن مدينة عدن سنة 1008ه/1600م، عندما تمرد الرهائن المحتجزون فيه على حراسهم، جراء ما قاسوه من سوء المعاملة، حيث استولوا على: "ما كان هناك من السلاح والبارود، وشحنوا المدافع التي فيها" للدفاع عن أنفسهم من مهاجمة الجنود الأتراك، وخوفاً من اتساع حركة تمرد السجناء ونتائجها السلبية على القوات العثمانية في المدينة، فقد رأى حاكم المدينة وكبار مسؤوليه: "أن يعطوا الرهائن والمحابيس الإذن في الخروج، ولا يتعرض لهم أحد". وتحسباً كذلك لأي رد فعل انتقامي من قبائل أهالي الرهائن والمحابيس.
صورة أخرى يتجسد فيها التذمر والاستياء الذي كابده الأهالي جراء ما يفعله العثمانيون، ولعل ذلك يتبين بوضوح في الأفعال التي ارتكبت في حق أسراء الحرب، الذين كانوا يقعون في قبضة القوات العثمانية، فقد عمد العثمانيون إلى إنزال شتى ضروب التعذيب والتنكيل في أسراهم، دون مراعاة لحرمة الأسير كما أوصى بها الدين الإسلامي الحنيف، حيث كان يتم قتلهم أو يودعون في السجون، ويساقون إليها: "كما تساق الأنعام" وكانت عملية سلخ جلد الأسير وهو حي، من أبشع الصور التي مارسها العثمانيون ضد هؤلاء الأسرى، ويورد المؤرخ الجرموزي مثالاً حياً لذلك -عدة مرات- حينما أمر سنان باشا بسلخ جلد عامر بن علي، بعد أن وقع في أيدي العثمانيين خلال إحدى المعارك سنة (1007ه/1598م)، وأن: "يمثل به مُثلة ما فعلها مثله في مثله".
وقد بالغ العثمانيون في تعذيب أسراهم إلى درجة -حسب مؤرخ معاصر- أنه كان يتم: "ركزهم على الخوازيق والتحريق بالقطران والبارود، ومن سهلوا عذابه اجتزوا رأسه ومن أحبوا بقاءه مهاناً زنجروه وزندوه وضربوه وغير ذلك مما لا يفعله مسلم".
وباستقراء لجملة الأوضاع التي أوردناها يتضح لنا جملة من الأسباب التي أدت في نهاية المطاف إلى إعلان الثورة ضد الحكم العثماني، التي جسدها اليمنيون، حين استجابوا لدعوة الإمام القاسم بن محمد للقيام بتلك الثورة، وانخرطوا في صفوف المقاومة ضد الوجود العثماني، وذلك ما سيكون مفصلاً في الفصول التالية من الرسالة.
الفصل الثاني مراحل ثورة الإمام القاسم بن محمد
المرحلة الأولى: (1006-1013ه/1597-1602م)
توطئة
مما لا شك فيه ان العوامل التي مثلت المسببات الرئيسة الداعمة لقيام الثورة ضد الوجود العثماني -كما أشرنا إليها سابقاً- تطلب بشكل أو آخر من القوى المعارضة للحكم العثماني في الشمال الجبلي، كضرورة ملحة إلى قيام إمام حق للخروج على هؤلاء -العثمانيين- كما يذهب إليه المذهب الزيدي. كونهم قد أذاقوا الأهالي العذاب والجور العظيمين وهم بذلك إنما أرادوا التبشير بعودة وشيكة للإمامة الزيدية، قبل بضع سنوات من ظهور الإمام القاسم بن محمد.
وفي حقيقة الأمر فإن الإمامة الزيدية كانت بحاجة ماسة تتطلبها ظروف الحالة القائمة -وقتئذ- لتستعيد بذلك نشاطها السياسي، كي يتسنى لها بالتالي تسنم زمام المقاومة ضد العثمانيين.
ولقد شهدت اليمن خلال حقبة زمنية تجاوزت الأربعين عاماً، قبل إعلان دعوة الإمام القاسم في عام (1006ه/1597م)، مقاومة ضد الوجود العثماني، قاد زمامها المطهر بن الإمام شرف الدين (1547-1572م) وانتهت بوفاته لتبدأ مرحلة أخرى اتسمت بالضعف نتيجة التباين والخلاف القائم آنذاك بين أبناء المطهر إلى أن تمكن حسن باشا -الوالي- من إقامة بديل زيدي عثماني ضمن نظام حكم الولاية المركزي.
ولعل الفترة الزمنية -الآنفة الذكر- قد ساعدت إلى حد كبير في تكوين ملامح وشخصية الإمام القاسم بن محمد، فهو ومنذ نعومة أظافره شهد واقعاً مريراً ومرحلة كفاح ضد الحكم العثماني، بل إن والده نفسه كان أحد عناصر المقاومة في جيش المطهر بن الإمام شرف الدين، وخاض معه حروباً كثيرة ضد القوات العثمانية.
في ما هيأت التغيرات الكبيرة التي شهدتها المناطق الشمالية خلال فترة حسن باشا (1580-1604م)، للإمام القاسم، كما يؤكد مؤرخ محدث: “ظرفاً محلياً مناسباً ليصبح بعد أمد طويل إماماً ذا تأثير"، وليكون من أهم الشخصيات اليمنية التي لعبت دوراً كبيراً في تاريخ اليمن الحديث -حينذاك- عند بداية القرن السابع عشر الميلادي.
مكث الإمام القاسم بن محمد سنوات عدة متفرغاً لطلب العلم، تنقل خلالها بين أبرز مراكز الهجر وتَلَقى العلم، في صعدة وحوث والرجم وكوكبان والحيمة وصنعاء، إضافة إلى الأهنوم، والتي بقي فيها فترة لا بأس بها، ولم يغادرها إلا عندما أسرت قوات حسن باشا الإمام الحسن بن داود سنة (993ه/1586م)، ولقد مثلت فترة بقائه في الأهنوم نقطة هامة في مسار تكوين شخصيته وتوجهاته الدينية والفقهية. كما أتاحت له معرفة العديد من شيوخ المذهب الزيدي الذين تجمعوا هناك استجابة للإمام الحسن المؤيدي -حينذاك- إضافة إلى أنها مكنته من الاطلاع على الأوضاع فيها -الأهنوم- كونها أحد المعاقل الهامة في مقاومة الحكم العثماني، اتخذها في ما بعد كمعقل حيوي لإمامته.
واصل الإمام القاسم عقب خروجه من الأهنوم تنقلاته لطلب العلم، حيث كانت هذه المرة صوب جهات الشرف وأتيح له هناك التتلمذ على يد عدد من أشهر علماء الحديث النبوي. انتقل إثرها إلى: "الحيمة وجبل تيس وصنعاء". وكانت حجة كذلك أحد محطاته العلمية حيث: "تلقاه فقهاؤها وعلماؤها وأخذوا عنه علماً كثيراً". ثم حط رحاله في: "جهات الشرف فسكن فيها". وقد أدت تنقلاته تلك إلى ذيوع صيته واشتهار فضله بين أوساط السادة الزيديين، كان لها الأثر الإيجابي عند إعلان إمامته في ما بعد.
حرص الإمام القاسم أن يحيط تنقلاته -السابقة الذكر- بالسرية التامة، وهي مرحلة سبقت مباشرة دعوته، سيما وأن العثمانيين قد شعروا بخطورته قبل ظهور إمامته وحسب الجرموزي فإنهم: "خافوا جانبه" فأخذوا: "يجتهدون في التجسس عليه ومطاردته للقبض عليه دون طائل".
ويبدو أن الإمام القاسم قد اعتزل نطاق الحكم العثماني، حين رأى أن الضرورة تقتضي التواري عن أعين العثمانيين ورجالهم، كونه قد بدأ ينتقل إلى ناشط فقهي وسياسي يتبنى قضية إحياء الإمامة الزيدية. ويتضح ذلك بصورة جلية حينما بدأ يتوجه للأوساط المعارضة للعثمانيين لتبني فكرة الإمامة للتخلص من التسلط العثماني.
ولقد عمد -الإمام- إلى مراسلة أتباعه المنتشرين في العديد من المناطق الشمالية وضح لهم من خلالها خطورة المرحلة والظروف المحيطة بهم، خاصة مع تشديد حسن باشا من إجراءاته القمعية ضد المعارضين لحكمه. كما حرص أيضاً في رسائله على تهيئة الأهالي لأمر الإمامة.
ففي رسالة بعث بها إلى بلاد العصيمات للأمير الحسن بن ناصر أحد كبار أعوان الإمام الحسن بن علي -الآنف الذكر- أكد فيها كما يقول الجرموزي: "أن الجور قد عم والشرع الشريف ادلهم". وفيها دعوة واضحة لمحاربة العثمانيين. مشيراً إلى أن ذلك لن يتم إلا عن طريق إحياء الإمامة الزيدية. وفي إحدى جولاته إلى مدينة صعدة -لهذا الغرض- التقى بكبار "علماء ذمار وفقهاء الظاهر وفقهاء صنعاء". والذين أكدوا على ضرورة القيام بأمر الإمامة.
وفي حقيقة الأمر فقد استغرقت تلك المراسلات والمشاورات واللقاءات التي أجراها الإمام القاسم مع غالب مؤيديه من السادة الزيديين وشيوخ القبائل عدة سنوات، استطاع فيها أن يبلور جملة من المرتكزات الأساسية توخى من خلالها قيام تكتل في الأوساط المعارضة للعثمانيين في المناطق الشمالية، يؤدي بالتالي إلى ظهور الإمامة، في سبيل الخلاص من التسلط العثماني.
ولقد تزامن ذلك مع اتساع رقعة المؤيدين له لتشمل الكثير من السادة والفقهاء -الشيعة- والذين: "كان لهم نفوذ ديني وروحي ذو طابع محلي وأهلي غالباً، ويرتبطون ارتباطاً وطيداً بنمط الحياة القبلية بما في ذلك تقاليده المحاربة".
وهكذا يتضح حسب مؤرخ محدث: "وكان حزباً جديداً للإمامة في دور التشكل". وهو الأمر الذي يتجلى خلال بضع سنوات، حين أصبح الإمام القاسم أهم داعية إلى التوجه الإمامي، والزعيم الأقوى والأجدر على طريق إعادة الإمامة الزيدية إلى الوجود والفعل كما سيتبين -لنا- في ما بعد.
إعلان الدعوة
بدأ اسم الإمام القاسم يظهر قيد التداول باعتباره الإمام الذي توشك دعوته على الظهور. "فلما أظهر الله صيته وانتصرت دعوته تحقق الأولياء صدق الوعد، وعرف الأعداء كلال الحد". وكان في نظر الكثير من رجال الزيدية الأجدر على القيام بمنصب الإمامة، فتقدم إليه المناصرون وطلبوا منه النهوض بالأمر.
وحسب الجرموزي فقد أيده: "رجال من سراة العترة الكرام وبطارقها الهامات من شيعتها". وأعلنوا مبايعته سراً والقيام بتهيئة الظروف لإشهار دعوته بالإمامة.
ولقد أدرك الإمام القاسم عندما تبين أن أخباره قد بلغت إلى العثمانيين بأنهم لن يتركوا أمره، لذلك فقد استشار بعضاً من كبار العلماء والشخصيات بشأن إعلان الدعوة، ويبدو أن الأشد معارضة منهم للحكم القائم قد شجعون على ذلك: أما الأكثر فقد رأوا حسب مؤرخ معاصر: أن الوقت لم يحن بعد: "لما كانوا يرون من قوة الأتراك وتملكهم جميع الجهات من زبيد وصنعاء وصعدة وأبي عريش وصبيا وجميع مخاليف هذه المدن ونواحيها" بالإضافة إلى شدة وطأتهم وقوتهم وكثرة عددهم وعتادهم الحربي.
بقي على الإمام أن يضمن شيئاً من التأييد القبلي، فأشار عليه بعض كبار مستشاريه أن يكون القيام بالدعوة من بلاد سنحان، لما فيه من نصرة القبائل وإلى أهمية موقعها وجبالها الحصينة، ولبعدها عن مركز العثمانيين، إضافة إلى منافذها الكثيرة والآمنة، والتي تتيح له سهولة الخروج إذا ما داهمته القوات العثمانية: "فاستصوب الإمام هذا الرأي". لذلك فقد حل الإمام القاسم قبيل إعلان دعوته في بلاد سنحان من جهة الحقار، حيث جرت هناك على نحو محدود وبسرية تامة مبايعته إماماً، وذلك في أواخر شهر محرم سنة 1006ه/1597م.
وعندئذ رأت بعض القوى المناهضة للحكم العثماني ضرورة اختيار معقل آخر لإعلان الدعوة يكون أكثر أماناً، فوقع الاختيار على جبل حديد قارة المنيع والبعيد عن متناول القوات العثمانية. فوصل الإمام إثر ذلك إلى موضع يسمى وادي الحمر بالقرب من جبل قمر، ومنها أعلن دعوته في بداية شهر صفر 1006ه/ سبتمبر أكتوبر 1597م، وتلقب بالإمام المنصور. وقد أشار المؤرخ الشرفي إلى ذلك مطلع قصيدة:
ثم ابتدا الدعوة الغراء من قمر .... إمامنا القاسم المنصور في صفر
وكان قبلها قد شيعه إلى جبل قارة أحد كبار مشائخ سنحان وهو الشيخ أبو زيد بن سراج وأعطاه: "بندقين وثلاثة أرطال باروت"، وهي دلالة واضحة لبداية مرحلة جديدة محورها الثورة ومقاومة الوجود العثماني. وتوقع الإمام القاسم أن تؤدي دعوته إلى تعاضد القوى اليمنية بشكل واسع ضد حكم الولاية التي كانت إذ ذاك ناقمة على العثمانيين.
ولعل دعوة الإمام القاسم كانت قد أُيدت من قبل سادة وقضاة وعلماء كان لهم وزنهم المذهبي والروحي، وفي قصيدة ذات مغزى ديني سياسي واضح المعالم، قالها أحد هؤلاء يحث فيها الإمام القاسم في إظهار دعوته:
ضاع الوفاء وضاعت بعده الهمم .... والدين ضاع وضاع المجد والكرم
والجور في الناس لا تخفى معالمه .... والعدل من حوله الأستار والظلم
وكل من تابع الشيطان محترم .... وكل من عبد الرحمن مهتضم
وقراءة متأنية للقصيدة -الآنفة الذكر- تعبر في مدلولها السياسي إلى ما آلت إليه الأوضاع في أوساط الأهالي، وإلى أي حد بلغ الجور والظلم الذي كان يمارسه العثمانيون، بل لقد أساء هؤلاء إلى الدين من خلال أفعالهم -كما أشرنا في الفصل الأول- وهو الأمر الذي أدى إلى اندلاع الثورة ضدهم.
وهكذا يبدو بأن المشروع الإمامي الذي يتزعمه الإمام القاسم، بات بمثابة تحد صريح للعثمانيين يعمل على زعزعة حكمهم في اليمن من جانب، وتعبير عن تطلع إقامة إمامة جديدة من جانب آخر، وبإعلان الدعوة -كما أشرنا آنفاً- تبدأ المرحلة الأولى لثورة القاسم، وتجدر الإشارة إلى أن المؤرخ الجرموزي -كاتب سيرة القاسم- كان قد بيّن مراحل ثورة الإمام القاسم حين قسمها إلى أربع نهضات (مراحل) -انظر المقدمة- أسفرت بين الأعوام (1006-1029هـ/1597-1620م)عن ظهور حكم إمامي في الشمال الجبلي.
رسائل الإمام إلى مشائخ وقبائل المناطق الشمالية
بدأ الإمام القاسم بعد إعلان دعوته في جبل قارة في توجيه نداءاته من خلال الخطابات والرسائل إلى الأهالي ومشائخ القبائل في المناطق الشمالية وغيرهم، لتلبية دعوته ومناصرة ثورته، وكانت هذه الخطابات حسب مؤرخ محدث: "تشبه المنشورات السياسية في الأزمنة المعاصرة"، حيث حملت في طياتها المبادئ التي كان يدعو إليها -الإمام- لإذكاء روح المقاومة لدى الأهالي، وحثهم بالتالي على الثورة وعدم الخضوع للعثمانيين نتيجة فساد حكمهم.
فهو في إحدى رسائله إلى قبائل وادعة الشام، يدعو إلى محاربة العثمانيين، حيث يؤكد: "أن الله قد أوجب قتل هؤلاء الأتراك وأعوانهم من العرب". ويحذر تلك القبائل من موالاة وإطاعة هؤلاء -العثمانيين- كون ذلك يعد خروجاً عن الإسلام ومبادئه.
ولقد أوضح الإمام أن استمرار تسلط الحكم العثماني على رقاب اليمنيين كان نتيجة حتمية، كون بعض القبائل قد استكانت وهادنت هؤلاء، بل أمدتهم بالأموال التي كانت تجبى عليهم دون وجه حق، ويؤكد أيضاً أن عدم الاستجابة للدعوة الإمامية ومؤازرة الثورة، تؤدي إلى تمادي العثمانيين فيما يعتملونه ضد الأهالي من البطش والقوة والظلم، ويبدو أن الإمام قد عمد إلى هذا الأسلوب في بعض خطاباته كجزء من تحفيز القبائل ودفعها بالتالي إلى صفوف الثورة، ولعل ذلك يتبين في إحدى رسائله إلى عامة اليمنيين حين يقول أنه: "لولا مداراتكم وإمدادكم لهم بالمال، والقعود عن نصرتنا ما استقامت لهم راية أبداً".
وفي خطاب آخر يؤكد الإمام -فيه- ضرورة الاستجابة للدعوة الإمامية كونها امتثال لأوامر الله، في وجوب طاعة أهل البيت، أما من يدير ظهره يكون قد خالف أوامر الله، وبالتالي سوف: "يفتح الله عليه أبواب المصائب ويمحقه في دنياه وآخرته". ويتضح لنا ذلك في رسالة وجهها الإمام إلى قبائل الأهنوم، حيث يقول: "فإن الله أوجب عليكم طاعة أئمة أهل البيت، وحرم عليكم مخالفتهم". ويبدو أن هذا الأسلوب الخطابي في قالبه الديني، الذي عمد إليه الإمام القاسم، قد أثمر في غالب الأحيان إلى نتائج أدت إلى انضواء الكثيرين تحت راية الثورة.
ونستقرئ في جانب آخر من رسائل الإمام: استنكاراً شديد اللهجة، لموقف بعض القبائل نتيجة لعدم استجابتها لنداء الدعوة، والجهاد ضد العثمانيين، ففي رسالة بعثها إلى قبائل هجر الظهرين من بلاد حجة يقول فيها: "وأنتم رحمكم الله رأيناكم عن الجهاد مضربين وكأن الله لم يفرضه عليكم". مستدلاً بما ذهب إليه بقوله: "فإنا لم نرَ منكم رجلاً وقف ساعةً في موطن من مواطن الجهاد، وإنكم لم تعتدوا لجهاد الظالمين سلاحاً". إلا أننا نجده -الإمام- مع استنكاره الآنف الذكر يلتمس الأعذار والمسببات التي أدت إلى عدم المشاركة الفعلية لتلك القبائل: "وعذرتكم عن الجهاد بأنفسكم"، حتى ولو لم تكن على جانب من الصواب، فهو في ظرف يستدعي عليه اتباع سياسة المهادنة لاستمالة هذه القبائل، إلا أنه في جانب آخر يدعوهم إلى ضرورة بذل المال لمساندة الثورة والمجاهدين، بل ويفرض عليهم مبالغ مالية واجبة الدفع، حين يقول: "وعيّنا عليكم ستمائة حرف تفترقونها على قدر أموالكم". محذراً إياهم بنقمة من الله في حالة عدم التزامهم بدفع تلك الأموال، كون ذلك يعد معصية لأوامر الله التي فرضها في الجهاد: "ومن لم يمتثل ما في التنزيل فالله حسبه وهو الآخذ له بذنبه".
ولقد حرص الإمام القاسم في بعض رسائله على تأنيب تلك القبائل التي لم تشاركه الجهاد بحجة: "خوفهم على ممتلكاتهم ومناطقهم" من أيدي القوات العثمانية. ولم يكتف بذلك بل عمد إلى رسم صورة واضحة المعالم لسلطة الحكم العثماني، يبين من خلالها ما تعتمله هذه السلطة على أرض الواقع في سبيل إبقاء سيطرتها على البلاد، ويشير إلى أن العهود التي قطعها العثمانيون لبعض القبائل -والمتمثلة في عدم المساس بهم وبممتلكاتهم ومناطقهم طالما بقوا على ولائهم للحكم العثماني- سرعان ما يتم نكثها، إذا ما تضررت مصالحهم: "ولقد عرفتم بهذه الدولة وعدم وفائها بالعهود". وهو مع ذلك لم يغفل على حثهم لمساندته ومناصرة ثورته: "وقد أوجب الله عليكم معاونتنا" مستشهداً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
وغالباً فقد ركز الإمام القاسم في كل خطاباته ورسائله، على الطبيعة الدينية للثورة على العثمانيين. نظراً لفساد الأوضاع العامة لحكمهم مشيراً إلى التصرفات المشينة واللا أخلاقية التي يرتكبها هؤلاء.
وهو في جانب آخر يؤكد أن تسلط العثمانيين يعني أن: "رسوم الدين قد عفت، وأعلام الهدى قد طمست، وأحكام الشريعة قد عطلت، والفرائض قد رفضت". وعلى هذا النحو لا يبقى أمام اليمنيين إلا طريق الكفاح المقدس: "البدار البدار رحمكم الله إلى ما افترض عليكم من جهاد عدوكم" في سبيل إرساء دعائم الإمامة والثورة ضد الحكم العثماني.
دور القوى الوطنية في إرساء دعائم ثورة الإمام القاسم وتوسيع نفوذه
استطاع الإمام القاسم من خلال رسائله -السابقة الذكر- أن يضمن شيئاً من التأييد القبلي لدعوته، حيث وجدت استجابة كبيرة من قبل الأهالي الذين رأوا فيها تعبيراً عن تذمرهم من سياسة العثمانيين وسوء تصرفاتهم.
ولا غرابة أن تعتبر دعوة الإمام -حينذاك- بمثابة ثورة ضد الحكم العثماني وأن هذه الثورة كانت ذات مضمون اجتماعي لأنها كما يقول الدكتور سيد مصطفى سالم: "كانت تحارب فساد الحكم العثماني وتطالب برفع الظلم عن اليمنيين".
ولقد كان استجابة القبائل لهذه الثورة، أسرع من وصول الجيوش العثمانية إلى تلك المناطق. ويبدو أن العديد من السادة والفقهاء الزيديين كانوا مهيئين لتأييد ما حدث، بل وكما يقول مؤرخ محدث قد: "سارع البعض منهم إلى الالتحاق بمركز الدعوة".
واصل الإمام القاسم توسيع نطاق دعوته، من خلال تحريضه لمشائخ تلك القبائل على مناصرته، رغم المحاولات التي قام بها حسن باشا -الوالي- لإسكات صوت معارضيه.
ولم يمض سوى قليل من الوقت حتى توالت انتفاضات أقاليم المناطق الشمالية، بل وامتدت شرارة الثورة ضد الحكم العثماني إلى غالب أرجاء اليمن.
ولم يكتف الإمام ببعث رسائله أو بعوثه، بل قام بتحركات أحيطت بالسرية التامة إلى عدد من المناطق الشمالية، كجبل شاطب، وهجرة حوث وحيدان، أدت بالتالي إلى استجابة قبائل تلك المناطق للدعوة، وأعلنت ولائها للإمام، "وأشعلت النار في قمم جبالها" إعلاناً بتأييدها للثورة. كما سارعت قبائل الأهنوم والشرف -والتي شكلت العمق الاستراتيجي لدعوة الإمام- في أول ربيع الآخر 1006ه/9يناير 1598م، للانضواء تحت راية الثورة، إضافة إلى قبائل ظليمة وعذر.
وفي هذه الأثناء كانت قبائل الحيمة هي الأخرى قد أعلنت ولائها: "وجعلوا الحل والعقد إلى عم الإمام"، عامر بن علي.
أما قبائل بلاد لاعة جميعها ومسور والمغارب، فقد أمدت الإمام بالأموال والرجال لشد عضد الثورة، حتى أن الجنود الذين التحقوا بمركز الدعوة، كما يقول الجرموزي: "قد تكاثرت لديه والأمور الإمامية على يديه في تلك النواحي انتشرت" وقد وجد الإمام أيضاً ترحيباً بدعوته من قبائل حاشد وبكيل، أكبر القبائل اليمنية.
ولقد خاضت تلك القبائل معارك ضارية ضد القوات العثمانية كانت الغلبة إلى جانبها، رغم عدم امتلاكها إلا القليل النادر من الأسلحة النارية -نتيجة أن الولاة العثمانيين كانوا يجمعون الأسلحة من الأهالي لإضعاف قدرتهم على الثورة- إلا أنها -القبائل- استطاعت أن تعوض عملية نقص الأسلحة عقب قيام الحرب بينها وبين القوات العثمانية، وذلك من خلال استيلائها على ما بأيدي العثمانيين منها.
ولم يمض النصف الأول من سنة 1006ه/1597م، إلا وقد أصبح الإمام القاسم صاحب الأمر في شهارة، التي تدافع إليها العديد من: "الوفود من كل ناحية، وكثر الناس لديه كثرة عظيمة". وهكذا فلم يعد أمر الإمام ودعوته خافياً على أحد، وكما يقول المؤرخ الشرفي فقد: "شاع ذكره، وارتفع صيته من مكة إلى عدن، إلى غيرهما، وقصده أهل الأطراف والآفاق ما بين متوقد ومتعرف على حاله، وداخل في ولايته".
دفع الإمام القاسم بكبار مؤيديه الذين أسندت إليهم قيادة الانتفاضات في المناطق الشمالية، وكان هؤلاء قد قاموا بأدوار أساسية أثناء الإعداد للدعوة، وكذلك في مناصرتها ومد نطاق تأثيرها. إلى حث الأهالي للإنضواء تحت راية الثورة ضد الحكم العثماني. ولقد عمد في محاولة لتوطيد دعائم حكمه إلى تولية هؤلاء على المناطق التي افتتحها وانتزعها من أيدي العثمانيين، حيث ولّى -على سبيل المثال- على الأهنوم وعذر عبد الله بن محمد بن علي المحرابي، فيما أوكل إلى إبراهيم بن المهدي بن جحاف بلاد شظب وظليمة، وأسند إلى الحسن بن شرف الدين الحمزي بلاد ثلا، أما بلاد الحيمة فقد ولاها عمه عامر بن علي.
ولم يكن أمر الثورة منحصراً على القوى الزيدية لوحدها، فقد استعرت حمى الثورة، كذلك في أقاليم شافعية المذهب -كما أشرنا في الفصل الأول- مثل الحجرية، ويافع، ريمة ووصاب وعتمة. وقد اتصل ممثل الدعوة الإمامية بوسط البلاد، القاضي يوسف الحماطي، ببعض القوى في جنوب الولاية لحثها على تصعيد الكفاح ضد العثمانيين. وغالباً فقد ساندت تلك الانتفاضات ثورة الإمام القاسم في مرحلتها الأولى.
انتقل الإمام بعد أن صار يسيطر على أهم المناطق الواقعة بين صعدة وصنعاء إلى السودة، والتي سقطت في يده في شهر صفر 1007ه/1598م واتخذها مركزاً لحكمه. ولقد جاء اختياره للسودة نظراً لموقعها الآمن -وقتئذ- كونها على ذروة جبل مما يجعلها شديدة التحصن، إضافة إلى أنها غير بعيدة عن إقليم الحيمة حيث قاعدة أكبر قادته -آنذاك- وهو عامر بن علي. والتي تعد أيضاً مركزاً هاماً للإمدادات في حال مهاجمة القوات العثمانية لمركز حكمه.
وخلال بقائه في السودة عمد -الإمام- إلى مما رسة مهامه التنفيذية والقضائية، وقد أراد بذلك حسب مؤرخ محدث: "أن يسبغ على نفسه السمات التقليدية للإمام الزيدي الحاكم". حيث شرع في متابعة شؤون المناطق الواقعة تحت سيطرته، وإلى حث ولاته على جباية الزكاة، وإنفاذ الأحكام الشرعية وتهيئة المقاتلين، وإعدادهم لمحاربة القوات العثمانية. كما أنشأ إدارة مالية (بيت مال)، تتولى جمع الضرائب من المناطق الواقعة تحت سيطرته. بالإضافة إلى تجهيز وإرسال قواته إلى عدد من المناطق التي لم تنضو بعد تحت راية الثورة لانتزاعها من أيدي العثمانيين، وضمها إلى دائرة حكمه.
ولاستكمال مظاهر الحكم أصدر عملة فضية: "كانت نصف درهم". تداولها الناس، وأدت بالتالي إلى تثبيت جانبه الاقتصادي.
موقف العثمانيين والقوى اليمنية المعارضة للدعوة
وجدت دعوة الإمام القاسم وثورته ضد العثمانيين استجابة من قبل العديد من القوى اليمنية سواء منها الزيدية أو الشافعية، ولا شك أن ذلك يرجع إلى التذمر العام الذي ساد اليمن في تلك الفترة. في ما واجهت هذه الثورة قوى أخرى -شاركت في رسم الخارطة السياسية لليمن حينذاك- حاولت إخمادها وقمعها في مهدها الأول.
يأتي في مقدمة هذه القوى العثمانيون أنفسهم، والذين رأوا في الثورة بمثابة انتزاع السلطة من أيديهم، وفي حقيقة الأمر كانوا قد شعروا بخطورته قبل ظهور إمامته، وبدأوا بملاحقته للقبض عليه. بينما مثلت القوى الثانية، بقايا الأمراء الزيديين من أسرة الإمام شرف الدين، إضافة إلى أصحاب النفوذ والعلماء من أهالي الأقاليم الجنوبية، والذين انضموا صراحة إلى جانب العثمانيين لارتباط مصالحهم بوجود هؤلاء -العثمانيين- وبقوة سيطرتهم.
أما القوى الثالثة فقد كانوا أتباع المذهب الإسماعيلي، والمتمركزين أساساً في بعض جبال حراز إلى الغرب من صنعاء، وفي نجران بأقصى شمال اليمن، وكان هؤلاء يمثلون -حينئذ- أقلية شيعية، كما كانوا على عداء دائم مع الزيديين.
ولقد اتضح التعاون بين العثمانيين وبين حلفائهم من اليمنيين عند ظهور دعوة الإمام القاسم، حيث حمل بقايا أبناء المطهر العبء الأكبر في محاربة الإمام ومحاولة القضاء على دعوته. ويأتي في مقدمة هؤلاء عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن المطهر حاكم حجة وأقاليمها الذي كان أول من حارب الإمام، بل وأول من سارع إلى إبلاغ الوالي حسن باشا بقيام الدعوة الإمامية، وطالب بإشعال: "سعير الحرب ضد الإمام". وهذه البداية من جانب عبد الرحيم هي التي أشعلت فتيل الحرب ضد القوات الإمامية. ودفعت بالتالي حسن باشا إلى التحرك السريع، واتخاذ الاستعدادات اللازمة للقضاء على هذه الدعوة في مهدها.
ولم يكن باقي الأمراء الزيديين -المعارضين- من أسرة آل شرف الدين بمنأى عن الأحداث، فلقد سارعوا بدورهم إلى الانظمام إلى التحالف -الآنف الذكر- مثل مطهر بن الشويع، وعلي بن المطهر بن الشويع، وأخوه عبد الله، ومحمد بن شمس الدين حاكم كوكبان، وعبد الله بن المعافا حاكم السودة، وحسب الدكتور سيد مصطفى سالم فقد قام هذا التحالف: "على أساسين رسمي وواقعي فمن الناحية الرسمية كان هؤلاء الأمراء بمثابة عمال عثمانيين لانخراطهم في خدمة سلطة الحكم العثماني في اليمن، أما من الناحية الواقعية، فقد كانت وحدة المصلحة التي تربط بين عناصر الطبقة الحاكمة، هي التي تدعم أواصر هذا التحالف وتبقي عليه".
وكان الإمام في حقيقة الأمر قد شعر بمدى خطورة هذا التحالف، ودعا إلى مقاومته، حين أشار في إحدى خطاباته، التي وجهها لليمنيين: "وبعد فإن الله قد أوجب عليكم قتل هؤلاء الأتراك، وأعوانهم من العرب على أية حال ولو خلية في الطرقات والمساجد".
بدأ حسن باشا يركز اهتمامه على الحيلولة دون تحقيق الثورة القائمة إلى زعزعة الحكم العثماني في اليمن. حيث دفع بقواته، إضافة إلى قوات المتعاونين معه من الأمراء الزيديين إلى جبل قارة، لمحاصرة قوات الإمام هناك.
ولم يكتف بذلك بل عمد إلى إرسال بعض الأمراء الزيديين إلى المناطق ذات العمق الاستراتيجي، من ناحية موقعها وبعدها عن مركز الحكم، قد تكون بالتالي ملاذاً آمناً يلجأ إليها الإمام للتحصن بها. إضافة إلى أنه أراد بذلك بسط السيطرة العثمانية في تلك المناطق، التي لم تصلها أيدي قواته بعد. ولهذا الغرض فقد وجه علي بن المطهر بن الشويع إلى بلاد الظاهر، وتم تجهيز الأمير عبد الله بن المعافا لمحاصرة المناطق المحيطة بالأهنوم، في ما أرسل الأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن: "وجميع من في الجهات الشرقية من عسكر". الأتراك لمواجهة قوات الإمام في قارة.
أما حاكم كوكبان الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين، فقد توجه في لفيف من قواته لمساندة القوات العثمانية في منطقة حضور. ولم يغب عن بال حسن باشا بإجراءاته تلك أن الإمام القاسم قد بقي في مناطق صعبة المنال، بينما الثورة تنشر الخطر والاضطراب في أكثر الأرجاء.
ولمزيد من إحكام السيطرة والحصار ضد القوات الإمامية في منطقة الحيمة وهي المعقل الاستراتيجي الهام لأكبر قواد الإمام ومنفذ خططه العسكرية عامر بن علي وتشكل من الناحية البشرية قوة ضاربة بيد الإمام، ومن ناحية أخرى كانت المصدر الريئس للتموين الغذائي لتلك القوات. فقد تم إرسال الكيخيا سنان على رأس قوة عسكرية كبيرة لتنفيذ ما أشرنا إليه آنفاً. وكان قبلها قد عمد حسن باشا إلى الاستيلاء على حصن ثلا الاستراتيجي الموقع لأهميته العسكرية والأمنية، لتأمين مؤخرة جيشه خلال توجهه إلى محاصرة الحيمة.
وإزاء تلك الإجراءات العسكرية، والحصار الشديد من قبل القوات العثمانية وانتشارها في غالب المناطق الشمالية، ارتفع الإمام إلى منطقة برط المنيعة والبعيدة المنال على أيدي العثمانيين، إلا أنه وخلال بقائه هناك قرابة الشهرين فقد قام القائد العسكري العثماني في صعدة قُرَّأ جمعه، بعدة محاولات كان الهدف منها الإيقاع به، لكنها باءت بالفشل أمام المساندة القوية لقبائل برط للإمام.
وأمام الحصار الشديد وعمليات البطش والتنكيل التي ترتكبها القوات العثمانية ضد الأهالي في مناطق الشمال الجبلي، أصدر الإمام تعليماته بفتح جبهة جديدة لمناوشة العثمانيين، دارت أحداثها هذه المرة وسط البلاد، وتحديداً بلاد ذمار والمناطق المجاورة لها. وقد توخى الإمام بذلك صرف النظر ولو بعض الوقت لترفع تلك القوات يدها عن المناطق المحاصرة في الشمال الجبلي، وليتسنى له أيضاً من إعادة انتشار قواته من جديد هناك.
وفي حقيقة الأمر فقد استطاع الحماطي، أحد كبار قواد الإمام فتح تلك الجبهة، حينما توجه في جمادى الأول سنة 1006ه/1597م إلى منطقة آنس ومنها إلى بلاد ذمار، وعقد سلسلة من اللقاءات مع عدد من مشائخ القبائل في مناطق رداع، الرصاص، يافع، ونقيل سمارة، أوضح لهم خلالها مبررات قيام الدعوة الإمامية واندلاع الثورة في أقاليم الشمال الجبلي، كانت أن أدت إلى تكوين حلف من القبائل الآنفة الذكر، انضوى تحت راية الثورة، وأصبح مصدر إزعاج وقلق للسلطة ولم يكن أمام حسن باشا إزاء التطورات الخطيرة والمتسارعة تلك إلا أن استدعى غالب قواته من المناطق الشمالية بقيادة الكيخيا سنان وأرسلها على وجه السرعة إلى ذمار لمواجهة القوات الإمامية وحلفائها الجدد هناك. خاصة وأن الحماطي قد قطع الطريق من ذمار إلى صنعاء: "ومنع العابر والمار" إليها.
وكان من الأهمية بمكان بالنسبة للعثمانيين إرسال تلك القوات لمنع توسيع رقعة التأييد والموالاة للإمام في المناطق السابقة الذكر، وكذلك خوفاً من قطع الإمدادات العسكرية والبشرية القادمة من السلطنة إلى السواحل اليمنية والتي تصل بالتالي إلى مركز الحكم العثماني في صنعاء عن طريق تعز ذمار.
ولعل ما كان يخشاه حسن باشا في امتداد رقعة الثورة إلى وسط وجنوب البلاد، كان قد جسد على أرض الواقع، حين طالت الاضطرابات مناطق ريمة ووصاب وعتمة -المحاذية لذمار- وكذلك ثورة الأهالي في يافع في رمضان سنة (1006ه/1598م)، ضد العامل العثماني هناك. ولم تكن منطقة الحجرية -الواقعة جنوب البلاد- بمنأى عن الأحداث فقد تمرد شيخها علي الشرجبي في نفس المدة ضد العثمانيين -كما أشرنا في الفصل الأول- ولقد أدت تلك التمردات إلى إحداث إرباك في صفوف القوات العثمانية، وتشتت مجهودها الحربي.
وفي حقيقة الأمر فقد أدت الخطة العسكرية -الآنفة الذكر- التي عمد إليها الإمام القاسم إلى نتائج إيجابية على الصعيد العسكري، حيث استعادت القوات الإمامية سيطرتها من جديد على العديد من المعاقل والمناطق الشمالية، التي باتت تحت السيطرة العثمانية، في الفترة ما بين جمادى الآخرة 1006ه/1597م وبداية العام 1007ه/1598م.
وقد أجبرت انتصارات الإمام القاسم المتسارعة، بعض الأمراء الزيديين الموالين للعثمانيين، على موالاة الإمام، والدخول في طاعته، يأتي في مقدمة هؤلاء، عبد الرحيم بن عبد الرحمن، وعبد الله بن المعافا، في ما تحصن البعض الآخر في قلاعه القليلة المتبقية في أيديهم وخاصة حصن كوكبان والطويلة. وبقي هؤلاء على ولائهم للعثمانيين طوال امتداد قوة الإمام وسيطرته، ثم بدأ هذا الولاء يتأكد بشكل جلي عندما انحسرت هذه السيطرة.
ويتضح ذلك، عند سقوط بلاد حجة في أيدي القوات الإمامية حيث سارع حاكمها الأمير عبد الرحيم في جمادى الآخرة سنة 1006ه/1597م إلى طلب الصلح مع الإمام، ووصل إليه: "وقد جمع كثيراً من قبائل الأهنوم، وعاهد على الجهاد بين يدي الإمام والنصيحة في السر والعلن". ومع أن الإمام قد قربه إليه وولاه قيادة قواته التي وجهها للاستيلاء على عمران، إلا أنه كان مبيتاً في قرارة نفسه: "أن يجعل لأصحاب الإمام مكيدة لا تبقي لهم باقية". وهو ما تم بالفعل، حينما راسل القائد العثماني الكيخيا سنان وأعلمه بتقدمه على رأس القوات الإمامية إلى عمران لمواجهة العثمانيين هناك، بل وأطلعه إلى ما رمى إليه من خطة للإيقاع بتلك القوات، وكبار أعيان الإمام الذين كانوا في معيتها في قبضة القوات العثمانية، ويتسنى -حينئذ- للكيخيا سنان أن: "يروي من دمائهم الأرض، ويتركهم إلى يوم العرض". إلا أن خطته تلك باءت بالفشل حين فطن إليها رجال الإمام القاسم.
وكان حاكم السودة الأمير عبد الله بن المعافا، هو الآخر بعد سقوط بلاده بيد القوات الإمامية في صفر 1007ه/1598م، وإعلان موالاته للإمام، قد انقلب عليه عندما حانت له الفرصة عقب تمكن قوات حسن باشا من استعادة السيطرة في قلب الشمال الجبلي، وذلك في أواخر السنة الثانية -من المرحلة الأولى- من ثورة الإمام القاسم بن محمد.
واصلت القوات العثمانية هجومها على المناطق الشمالية بقيادة الكيخيا سنان مع بداية العام 1007ه/1598م، والذي شرع في توجيه هجماته العنيفة إلى مؤيدي الإمام، مستخدماً حيال ذلك كل أنواع البطش والتنكيل، وقد بلغت قسوته تلك حسب مؤرخ محدث إلى: "حد خوزقة عدد من رجال الإمام القاسم، وكذا سلخ عدد آخر وهم على قيد الحياة".
أدرك الوالي حسن باشا أن سيطرة الإمام على منطقة السودة وجعلها مقراً لحكمه سيؤدي إلى ازدياد أعداد المناصرين للثورة وإلى زعزعة الحكم العثماني، لذلك فقد بالغ في أجراءاته القمعية ضد الأهالي في مناطق الشمال الجبلي، بل وشرع في اتباع سياسة موازية للجانب العسكري، تنصب هذه المرة في الجانب الاقتصادي، حين شدد من ضغوطاته ضد الأهالي من خلال فرضه للضرائب العديدة، أثمرت إلى حد كبير في موالاة العديد من قبائل في تلك المناطق للحكم العثماني نتيجة الحاجة والفقر، وكان لها بالغ التأثير على مركز الحكم الإمامي في السودة.
ولم يكتف بتكثيف الحصار على الإمام في معقله الجديد -السودة- بل فتح جبهة أخرى لتفتيت المجهود الحربي للقوات الإمامية، دارت أحداثها في إقليم صعدة، على يد واحد من علماء الزيدية وهو عبد الله بن علي المؤيدي. فقد دفع العثمانيون بالمؤيدي إلى إعلان إمامته وأمدوه بالمال حيث: "جعلوا له جامكية آغا من أغواتهم".
وكما هو متوقع فقد اتجهت دعوته -المؤيدي- إلى معارضة إمامة القاسم حين بدأ يبث رسائله إلى بعض القبائل في جهات صعدة داعياً إياها للانضواء تحت إمامته، وإلى مناصرة العثمانيين. ولقد أزعجت هذه المواقف الإمام القاسم لما يمكن أن تؤدي من إرباك في صفوف الزيديين.
وفي محاولة أخرى كان الغرض منها -أيضاً- خلخلة وإرباك جبهات القتال في صفوف قوات الإمام ساند العثمانيون محمد بن عبد الله المؤيدي -الابن- وكان: "مجاباً وله دهاء وملابسة للسياسة" حين أعلن تمرده في إقليم حيدان ضد الإمام، وقد انظمت إليه بعض قبائل تلك الجهات، وقد وعده العثمانيون بتنصيبه على: "ولاية خولان صعدة .. وأن يكون أميراً من أمرائهم".
خاض المؤيدي -الابن- عدداً من المعارك ضد القوات الإمامية، أدت في نهاية المطاف إلى تقهقره وانهزامه ثم التجائه إلى مقر الحكم العثماني في صنعاء، لكنها في المقابل أحدثت نوعاً من الارتباك في صفوف قوات الإمام، وهو ما كان يؤمله حسن باشا -كما أشرنا آنفاً-.
ولم يكتف العثمانيون بمؤازرة ومساندة السادة والأمراء الزيديين -المعارضين- خلال معاركهم -الآنفة الذكر- ضد القوات الإمامية، بل عمدوا إلى الدفع بأبناء الطائفة الإسماعيلية -الباطنية- المتمركزين في حراز من بلاد الحيمة. وإقليم نجران، والمشهورين بعدائهم التقليدي للأئمة الزيديين للانخراط في صفوف القوات العثمانية في قتالها ضد الإمام.
وفي حقيقة الأمر فقد دل التقارب الذي حدث بين العثمانيين والإسماعيلية على حاجة كل منهما للآخر، وكما يقول مؤرخ معاصر فقد كان: "العثمانيون في حاجة إلى حليف قوي لتدعيم وجودها في اليمن، كما كان الإسماعيلون كذلك في حاجة إلى حليف قوي للانتقام من الإمام القاسم الذي لم يألوا جهداً خلال ثورته في محاربة هؤلاء كونهم مناصرين للأتراك. ووقف كغيره من الأئمة السابقين موقفاً حازماً في وجه الصوفية، وهي إحدى الفرق الباطنية، بل وتهكم بالمتصوفة من الزيدية، ودعا المسلمين إلى: "استباحة دمائهم وأموالهم".
ويبدو حسب مؤرخ محدث: "أن الحكم العثماني أتاح الفرصة لأن تنشط ممارسات بعض الطرق الصوفية في الشمال الجبلي، الأمر الذي رأى فيه البعض من علماء الزيدية تهديداً لمذهب آل البيت، خاصة مع خشيتهم أن تستميل كرامات المتصوفة عامة الزيديين بعيداً عن المذهب الروحي للسادة والمذهب الزيدي". وتجدر الإشارة إلى أن العثمانيين أملوا في جانب عام أن يعمل تبنيهم للطرق الصوفية على أكسابهم نفوذاً روحياً على رعايهم المسلمين.
وكيفما كان الأمر فقد ساندت طائفة الإسماعيلية القوات العثمانية في العديد من معاركها، وخاصة في منطقة مسار من بلاد حراز والتي استمرت الحرب فيها: "ما يقارب ثلاث سنوات وأربعة أشهر". وكان ذلك من بين العوامل الهامة التي شجعت القوات العثمانية على التوسع في أقاليم الشمال الجبلي.
وإزاء الانتصارات المتلاحقة للقوات الإمامية، بل وتهديدها لصنعاء نفسها مركز الحكم العثماني. فقد سارع حسن باشا بطلب النجدة من مصر واستانبول. وكان أن أرسلت السلطنة لحسم الموقف إلى واليها في مصر بتجهيز الإمدادات اللازمة لإرسالها على وجه السرعة إلى اليمن.
وفي خطوة أخرى أيضاً تم استدعاء علي باشا الجزائري أحد القادة العثمانيين -العسكريين- من الحبشة، وكان الجزائري على دراية بشؤون اليمن، كونه كان حاكماً لإقليم ريمة في بداية حكم حسن باشا وخاض بالتالي معه العديد من المعارك في جنوب وشمال البلاد -حينئذ- وعلى أية حال فقد كان استدعائه ضرورة ملحة أملتها الظروف نتيجة تشتت المجهود الحربي للقوات العثمانية، واضطراب أحوال البلاد.
وقد عزز الجزائري عند قدومه إلى اليمن -في رجب سنة 1007ه/1598م- القوات العثمانية بقوة عسكرية قوامها ألفان وخمسمائة جندي، وقد عينه حسن باشا حاكماً لإقليمي وصاب وريمة، اللذين كانا قد انظما إلى جانب الثورة، وفي حقيقة الأمر فقد خاض علي باشا عدداً من المعارك ضد القوات الإمامية استطاع خلالها -إعادة السيطرة على تلك المناطق المجاورة للإقليمين- المذكورين إلا أنه لقي مصرعه على أيدي قبائل بني الطليلي من بلاد ريمه خلال إحدى المعارك مع القوات الإمامية في 23صفر 1009ه/ 4 أغسطس 1160م.
لم يدم استقرار الإمام القاسم في السودة، فلقد أدرك خلال الأحداث -السابقة- أن الأمور لم تعد تسير كما ينبغي أن تكون حيث بدأ الأمراء الزيديون والعثمانيون يستعيدون قوتهم ثانية، ليبدأ التحول إلى مواجهة الحكم الإمامي الناشيء ورجاله، فلقد تمكن ابن شمس الدين من إضعاف هجمات القوات الإمامية التي تركزت على كوكبان في ما استطاع عبد الرحيم بن عبد الرحمن من السيطرة على حصن مبين من بلاد حجة من جانبها واصلت القوات العثمانية تقدمها إلى أكثر مناطق الشمال الجبلي، خاضت خلالها عشرين معركة مع القوات الإمامية، أدت في نهاية المطاف إلى إحكام السيطرة عليها.
وهكذا لم يمتد الوقت بحكم الإمام القاسم في السودة، فقد أرغم على مبارحتها في صفر 1008ه/ أواخر 1599م، على يد تألب واسع لقوى عثمانية وزيدية يقودها الكيخيا سنان، ولعل خروجه من السودة كان مؤشراً على: "البداية الفعلية لإخفاق محاولته المبكرة لإقامة حكم إمامي".
لكن ذلك لم يكن خاتمة المطاف لنفوذ إمامته في مرحلتها الأولى، فقد كانت شهارة -ذات الموقع الحصين، والجبال العالية والمناطق الوعرة- وهي أحد المعاقل الإمامية الهامة، تنضوي تحتها عدد من المناطق الخاضعة لسيطرته، ومنها استطاع أن يمارس مهامه من جديد.
إلا أنه لم تمض أشهر قليلة خلال العام 1008ه/1599م، حتى تهاوى المحيط الإمامي، خاصة بعد أن تم أسر عامر بن علي أكبر قادة الإمام العسكريين -عمه- في أواخر جمادى الآخرة سنة 1008ه/أكتوبر1599م، على يد الكيخيا سنان، والذي أمر بقتله: "وسلخ جلده". وقد مثّل ذلك نقطة الانحدار التي بعدها تلاشت الفرصة لنجاح الحكم الإمامي المبكر للإمام القاسم. وأخذ العثمانيون يشددون عليه الحصار، ويرسلون الحملات العديدة إلى شهارة، تساندهم قوات الأمراء الزيديين، والإسماعيليين المتعاونين معهم.
ونتيجة لطول الحصار، وقلة المؤن في شهارة، فقد رأى الإمام أنه لا جدوى من الاستمرار في المقاومة. لذا قرر الخروج من شهارة في (شوال 1010ه/مارس1602م). كما أكد ذلك المؤرخ الجرموزي على لسان الإمام نفسه: "كان خروجي من حصون شهارة .. لثلاث بقين من شوال سنة عشر وألف، بعد أن طال حطاط الأتراك .. وقل الناصر .. والشحنة".
ولم يكن أمام من بقي من أعوان الإمام في شهارة، حيال محاصرة العثمانيين الشديدة لها إلا تسليم أنفسهم ليصبحوا أسرى في قبضة حاكم كوكبان الأمير أحمد بن شمس الدين. وكان في مقدمة هؤلاء محمد بن الإمام القاسم -المؤيد فيما بعد-.
وهكذا عادت شهارة مرة أخرى معقلاً عثمانياً ومركزاً إدارياً يتبع أمير السودة الزيدي العثماني عبد الله بن المعافا.
اتجه الإمام بعد خروجه من شهارة إلى جبل برط في أواخر سنة 1010ه/1600م، ومثّل ذلك بالنسبة له نفياً اضطرارياً، هدفه الحفاظ على شخصه ودعوته إلى حين. وهناك -في برط- بنى مسجداً جعله مقر دعوته، حيث التف حوله: "كثير من أصحابه". من العلماء والفقهاء، وقصده مريدوه من كل أنحاء البلاد لتلقي تعليماته أو لتسليمه الأموال والنذور التي يتبرع بها أتباعه.
غير أن إقامته في برط لم تكن آمنة تماماً، وأن هجرته هذه لا تظهر لها جدوى ويبدو أنه صار قلقاً بالنسبة لمواصلة الاستقرار في معقله الجديد، حين شعر بتبرم أهله من إقامته بينهم خوفاً من بطش العثمانيين بهم إذا ما امتدت أيديهم إلى بلادهم، ويتضح الأمر كذلك حينما أرسل حاكم صعدة العثماني، بعض قواته إلى برط لمحاصرة الإمام والقبض عليه.
حينها قرر الإمام الذهاب إلى إقليم نجران بعد موالاة بعض أهلها، إلا أنه وبعد وصوله إلى هناك، حدثت معارك بين من رافقه من أتباعه وبين قبائل يام الإسماعيلية، فلم يستقر فيها: "لخبث أهله الذين أكثرهم من الباطنية". والمعروفين بعدائهم الدائم للأئمة الزيديين، فعاد مرة أخرى إلى جهات برط ليبقى فيها بعض الوقت بعيداً عن العثمانيين، حتى أتيحت له الفرصة لإعلان الحرب عليهم ثانية، كما سيتبين خلال المرحلة الثانية للثورة -في ما بعد-.
بات على الوالي حسن باشا بعد تحقيق تلك الانتصارات -السابقة الذكر- على القوات الإمامية، وتثبيت دعائم الحكم العثماني في أقاليم الشمال الجبلي، الدخول في مفاوضات لإبرام صلح مع الإمام بالرغم من إخفاق الأخير في مواصلة الثورة. ويبدو أن حسن باشا قد مال إلى ذلك حين رأى أن الضرورة تقتضي وضع حد لدعوة الإمام الذي ما زال يترقب الفرص لمعاودة المواجهة مع العثمانيين، خاصة وأن أمر رحيله عن ولاية اليمن أصبح وشيكاً عقب عزله وتعيين الكيخيا سنان بدلاً عنه في بداية العام 1013ه/1604م.
فوَّض حسن باشا أمير كوكبان أحمد بن محمد شمس الدين، أمر القيام بدور الوسيط لإتمام عقد الصلح مع الإمام. وقد وضع أمير كوكبان أهم البنود التي أرادها العثمانيون، والقاضية بأن يصرف الإمام النظر عن دعوته، مقابل منحه عفواً عثمانياً والإفراج عن ولديه محمد وأحمد الأسيرين في كوكبان، وأمامه لقبوله ذلك أحد أمرين: إما أن يتخذ وضع أحد كبار السادة العلماء دون القيام بأي أعمال من شأنها أن تؤدي إلى مناوشة أو مواجهة الحكم العثماني مقابل إعطائه راتباً مجزياً. أو أن يصير أحد الأمراء الزيديين العثمانيين ويكون له سنجقاً وإقطاعا، ولقد بادر الإمام إلى المهادنة السياسية، وأن يسلم بالوجود العثماني في البلاد إلى أجل مفتوح، إلا أنه قد أكد في معرض رده لطلب الصلح على أمرين هامين، أولهما: أنه ما زال يتمتع بمكانته الروحية رغم خسارته لسلطته السياسية. وثانيهما: إنه لم يصل بعد إلى حالة من الضعف كما يتصورها الآخرون، حيث بإمكانه أن يفاوض وأن يضع شروطاً كذلك ويتضح أن الإمام قد وقف من بنود الصلح، موقفاً اتسم بالرفض التام يتجلى ذلك من خلال رفضه لأهم بنوده وهو التخلي عن دعوته حيث أشار إلى أحقية أهل البيت بالحكم وفضله على سائر الناس وهو بالتالي أمر لا تفاوض فيه.
بينما أكد في معرض رده بشأن ولديه المأسورين أنه لن يترك أمرهما، حين أقسم بأنه سيواصل حروبه وتأجيج المقاومة ضد الوجود العثماني كما يشير المؤرخ الجرموزي على لسان الإمام نفسه بقوله: "وأقسم بالله لأبلغن في حربكم وفكاكهم كل مبلغ". وقد أكد الإمام في جانب آخر أن الجبايات التي فرضها على أتباعه إلى جانب النذور التي يتبرعون بها تؤمن معيشته بالإضافة إلى المنضويين تحت دعوته القائمين على أمر الثورة وهو بالتالي ليس بحاجة لما قرره العثمانيون في بنود الصلح مقابل التنازل عن أمر الدعوة.
وقد أبدى الإمام تعجباً للبند الثاني من بنود الصلح -الآنف الذكر- حين أراد العثمانيون أن يصير أميراً عثمانياً وهو حسب تعبيره: "يجسد الإمامة" وأنه: "أحق بها كما كان صلى الله عليه وآله وسلم أحق بها من سائر الناس" إلا أن الإمام القاسم أبدى استعداده، للتوقف عن التحريض على الثورة، مقابل أن يترك له العثمانيون: "شهارة وبلادها ووادعة وبلاد خولان وجبل رازح مع برط"، وأن يتم ذلك في إطار صلح يتم تحديد فترته الزمنية.
ويبدو أن الإمام قد أراد حسب مؤرخ محدث بشروطه تلك أن يكون للإمامة الزيدية نصيبها من الوجود دون أن يشكل هذا تعارضاً مع نفوذ العثمانيين وأمرائهم الزيديين. وفي حقيقة الأمر لم تجد شروط الإمام -السابقة الذكر- استجابة لدى مركز الحكم العثماني في صنعاء، ولعل الظروف لم تكن مواتية لعقد الصلح خاصة مع مغادرة حسن باشا اليمن. إلا أن ذلك الأمر -الصلح- ستتضح معالمه خلال المرحلة الثانية من ثورة الإمام القاسم كما سيتبين في ما بعد.
هكذا انتهت المرحلة الأولى من ثورة الإمام القاسم، بعد حروب دامت قرابة خمس سنوات، استطاع خلالها أن يبسط سيطرته على غالب أقاليم المنطقة الشمالية، ثم عاد فخسر كل هذه الممتلكات ولجأ إلى برط. ليبقى في معقله الجديد بعض الوقت بعيداً عن العثمانيين، حتى أتيحت له الفرصة لإعلان الحرب عليهم ثانية ولتبدأ بذلك المرحلة الثانية من ثورته.
الفصل الثالث المرحلة الثانية لثورة الإمام القاسم
(1013-1020ه/1604-1611م)
بقاء الإمام في برط
لم يستطع حسن باشا إزاء تطورات الأوضاع المتلاحقة من عقد صلح كان يتوخاه مع الإمام القاسم -كما أشرنا في الفصل الثاني- لوضع حد لدعوته، خاصة مع رحيله الذي أوشك عن ولاية اليمن، وتعيين خليفته سنان باشا.
في ما بقي الإمام القاسم في منفاه -الاضطراري- في برط، يتواصل معه بعض من أتباعه ومريديه لمؤازرته. وقد أخفق خلال محاولات عدة، كان الغرض منها الدفع بقبائل برط لمعاودة المقاومة، ويبدو أن موقف تلك القبائل من الإمام كان نتيجة لما أصابها حسب مؤرخ محدث: "من تعسف العثمانيين عند مساندتهم -الإمام- السابقة له". بل إن بعضها كانت على استعداد لمواجهته عند محاولته اللجوء إلى مناطقها مثل قبائل وادي الشام التي أعلنت ذلك بصراحة.
ورغم تنقلات الإمام في غير جهة من إقليم برط النائي ليصبح بعيداً عن متناول العثمانيين. إلا أن القوات العثمانية كانت قد عززت من تواجدها تحت قيادة القائد العسكري في صعدة -قُرَّأ جمعة- وإحكام حصارها على أماكن عدة في الإقليم. وفي حقيقة الأمر لم يكن بمقدور الإمام مواجهة تلك القوات لكثافتها البشرية والعسكرية، ولافتكاره لقواته التي كان قد أصابها الضعف والوهن في المرحلة الأولى من الثورة -كما أشرنا سابقاً-.
وفي محاولة عمد إليها الإمام كان الغرض منها صرف النظر عنه من قبل القوات العثمانية ولو لبعض الوقت ليتمكن من إعادة لملمة قواته، فقد حاول فتح جبهة ضد العثمانيين في حصن مسار بجبل حراز خاصة مع مناصرة الأهالي هناك لدعوته، وبالفعل فقد كان لتلك المحاولة ردود فعل إيجابية، حين سحب سنان باشا غالب قواته المحاصرة للإمام في برط لمواجهة المقاومة التي اندلعت في جبل حراز.
ويبدو أن سنان باشا قد أدرك أهمية حصن مسار الاستراتيجية بالنسبة للإمام، كونه يشكل مؤخرة قواته، ويستطيع من خلاله كذلك تلقي الإمدادات البشرية والغذائية في معقله ببرط -كما أشرنا في الفصل الأول-، لذلك فقد شدد سنان باشا من حصاره للحصن، واستطاع بعد أمد ليس بالقليل من السيطرة عليه. وحسب مؤرخ معاصر فقد دام حصاره للحصن: "قرابة ثلاثة أعوام وأربعة أشهر".
وفي واقع الأمر فقد كان وراء إخفاق القوات الإمامية في الحصول على نصر يذكر في جبهة حراز عاملان هامان: أولهما: كثافة القوات العثمانية البشرية والعسكرية. وثانيهما: القوات الإسماعيلية والمتمركزة في الأساس في جبل حراز، والتي كانت تشكل حلفاً رئيسياً يدعم ويساند الجانب العثماني.
لم تثن محاولات الوالي العثماني سنان باشا -الآنفة الذكر- وما اعتمله من بطش وقوة وتنكيل بالأسرى من قوات الإمام أو ضد مؤيديه ومناصريه، الإمام عن مواصلة مجهوداته الحربية فقد أصدر تعليماته إلى علي بن يوسف الحماطي، أحد كبار قادته العسكريين، بفتح جبهة أخرى ضد القوات العثمانية، كان موقعها هذه المرة الحيمة، والتي كانت تشكل أهمية استراتيجية بالنسبة له، فهي مصدر إمداد بشري وغذائي ساندت الثورة في مراحلها الأربعة.
ويبدو أن الإمام قد عمد إلى فتح تلك الجبهات أمام خصومه العثمانيين، وإن لم يحرز انتصارات تذكر، لإدراكه بأنها ستؤدي إلى تشتيت المجهود الحربي لتلك القوات وهو ما كان يؤمله.
وعلى أية حال فإن محاولة فتح جبهة الحيمة لم يكتب لها النجاح، حيث سارع سنان باشا إلى إرسال أعداد كبيرة من قواته، تساندها القوات الإسماعيلية، وقوات الأمير أحمد بن محمد بن شرف الدين، لمواجهة مقاومة قبائل الحيمة ضد سلطة الحكم العثماني، وما تقدمه بالتالي من دعم ومناصرة للثورة.
ولقد عمد العثمانيون من خلال إجراءات عسكرية مشددة، إلى رصد تحركات الإمام في مناطق عدة منها: "بلاد بكيل وحاشد وخمر والصرارة وعمران والهجر من الأهنوم والسودة .. وغيرها". كان الغرض منها القبض على شخص الإمام، أو عدم إتاحة الفرصة أمامه لإعادة لملمة قواته، وإلى ذلك فإنها أحدثت إرباكاً وتخوفاً لدى القبائل في تلك المناطق، والتي تسانده -الإمام- وتناصره، من خلال عمليات البطش والقوة التي استخدمتها القوات العثمانية ضد الأهالي في تلك المناطق.
وإزاء تلك التطورات المتسارعة، وشدة الحصار الذي ضُرب على الإمام القاسم، وموقف أهالي برط من شخصه، وعدم رغبتهم في بقائه بينهم -كما أوضحنا آنفاً- لم يجد أمامه سوى مغادرة برط، واللجوء إلى بلاد سفيان، ليواصل من هناك تأليب مؤيديه، وما تحت يده من قوات لمقاومة الوجود العثماني.
وفي حقيقة الأمر، فقد أخفق الإمام خلال تحركاته تلك في العثور على المناصرين، رغم ما بذله من جهود لتحريض القبائل على ذلك.
ويبدو أن إحكام الحصار من قبل القوات العثمانية على غالب المناطق الشمالية، ومساندة الأمراء الزيديين العثمانيين، وأبناء الطائفة الإسماعيلية لتلك القوات كانت عاملاً مهماً أدى إلى إضعاف روح المقاومة في صفوف القوات الإمامية. ولعل سنان باشا حسب مؤرخ محدث: "قد أراد بذلك عزل الإمامة والثورة في البلاد، لاستقرار حكمه، ولمنع الإمام من ممارسة تأثيره على الأوضاع في الولاية".
وسط تلك الأوضاع تقدم الإمام القاسم في شهر جمادى الأول من سنة 1013ه/ سبتمبر 1604م. إلى وادعة الظاهر رغم تردد شيوخها في إجابة الدعوة، فقد كانوا بين الرجاء والخشية من سنان باشا.
ويبدو أن ترددهم ذلك كان مرده إلى ما تعتمله القوات العثمانية من عمليات البطش والتنكيل ضد مؤيدي الإمام من جانب، ومن جانب آخر تخوفهم على مصير رهائنهم لدى العثمانيين.
إلا أن الإمام حاول التخفيف مما ذهبوا إليه، حين أكد لهم حسب الجرموزي "إن كنتم راهنين رهائن فأولادي .. وأصحابي رهائن في كوكبان" ولعله أراد بذلك تفويض مصيره هو وأبنائه ورجاله الذين معه إلى وادعة وهكذا أخذت الأمور تتغير لصالحه بعد أن وجد مكاناً ورجالاً تسانده وتحميه في منطقة وادعة، حين اجتمعت إليه قبائلها ووعدت بالمناصرة.
أدرك سنان باشا أن اختيار الإمام لمعقله الجديد وادعة، ومناصرة أهلها، ستؤدي بالتالي إلى إعلان الثورة ثانية ضد العثمانيين، لذلك فقد عمد إلى الدفع بمزيد من قواته إلى وادعة، تساندها قوات الأمير الزيدي عبد الله بن المعافا. لإحباط ما كان يؤمله الإمام، ولتفادي زعزعة الحكم العثماني. ولقد خاضت القوات الإمامية معارك ضارية في وادعة أدت إلى هزيمة القوات العثمانية.
توسيع نفوذ الإمام في المناطق الشمالية
مما لا شك فيه أن تلك الانتصارات -الآنفة الذكر- والتي حققها الجانب الإمامي ضد العثمانيين كان لها أثرها الهام على الإمام وأتباعه، حيث أدت إلى تعزيز الثقة مرة أخرى وعودة الأمل بإمكانية هزيمة قوات سنان باشا، بعد أن ساد لديهم الاعتقاد بعدم قهرها.
وكان لذلك النصر أيضاً رد فعل لعدد من القبائل المحيطة بوادعة، حين تجرأت على رفض السيطرة العثمانية، وأعلنت موالاتها للإمام القاسم، الذي بدأ يوسع من دائرة نفوذه من جديد.
وهكذا انطلق الإمام من معقله الجديد -وادعة- يعد ثانية قواته لمواجهة أشد مع القوات العثمانية، حيث عمد إلى إرسال أعداد منها إلى المناطق المجاورة مثل خمر، شاطب، وجبر.. وغيرها، وقد ساعده على ذلك عاملان اثنان أديا بالتالي إلى تقوية جانبه المعنوي والمادي.
أولهما: وفاة الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين في الحادي عشر من شوال سنة 1013ه/31يناير1605م. الذي كان يعد أكبر مساند للقوات العثمانية لانضواء قبائل عدة تحت إمرته، وبوفاته فقد العثمانيون نصيراً قوياً وداعماً فعالاً في صفوف جبهاتهم القتالية.
ثانيهما: موالاة الأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن المطهر -الذي ظل في خدمة العثمانيين- مرة أخرى للإمام، حيث أرسل إليه يعتذر عن موقفه السابق، وأعرب له عن استعداده للوقوف ثانية إلى جانبه.
ولقد وجد الإمام القاسم في الأمير عبد الرحيم، الذي أعلن انشقاقه عن الإدارة العثمانية مع بداية العام 1014ه/1605م، حليفاً جديداً وقوياً خاصةً وأن نفوذ عبد الرحيم كان قد شمل إقليم الشرف أثناء المواجهة السالفة للثورة والإمامة.
هكذا نشط الإمام ورجاله في مكاتبة القبائل وشد عزائمهم للإنضواء تحت راية الثورة والمقاومة، فتوسعت بذلك جبهة الإمام ومناصرته وهو الأمر الذي جعله أكثر إصراراً وعزماً على مواصلة القتال ضد العثمانيين، بعد أن كان قد بلغ به الأمر حد اليأس.
ويبدو أن الإمام صار يرى أن وضعه الجديد، قد يمكنه من إعادة صياغة علاقته بالسيطرة العثمانية. ساعده في ذلك تذمر اليمنيين من سياسة الاعتصار الاقتصادي التي عمد إليها سنان باشا لإرضاء السلطنة وأدائها باليمن.
وفي حقيقة الأمر فقد بدأ الإمام يوسع من دائرة نفوذه خاصة مع تلك الانتصارات التي حققها حليفه الأمير عبد الرحيم، عند إخراجه للقوات العثمانية من مناطق إدارته، والضغط على جيرانه من الأمراء الزيديين الآخرين وتهديد نطاقات نفوذهم. وتمكن كذلك بمساعدة أخويه أحمد والمطهر والقوات الإمامية من تحقيق انتصارات ضد الجانب العثماني في إقليم الحيمة، وبلاد مسور وحصونها وبلاد شظب وغربان والسودة.
وفي جانب آخر خاضت القوات الإمامية تساندها قبائل شيخ إقليم آنس علي بن يوسف الحماطي معارك ضد الجانب العثماني، استطاع خلالها من إعادة بسط السيطرة على آنس والمناطق المجاورة لها. وتمكن كذلك من إعادة النفوذ الإمامي على مناطق الشاحذية وجبل تيس والأهجر، التي كان العثمانيون قد سيطروا عليها خلال المرحلة الأولى لثورة الإمام القاسم.
أدرك الإمام مع مد نفوذه وسيطرته على غالب مناطق الشمال الجبلي، ضرورة تأمين خطوط الجبهة القتالية في إقليم صعدة، كونها كانت أحد الأسباب التي أدت إلى انحصاره في جبل برط -خلال المرحلة الأولى للثورة- لذلك فقد وجه قوة عسكرية تحت قيادة ابنه علي إلى صعدة. وفي واقع الأمر فقد كان أمام هذه القوات أن تخوض معارك أشد ضرواة من سابقاتها في إقليم الشمال الجبلي، خاصة وأن غالبية مناطق هذا الإقليم كانت تدين بالولاء والطاعة للعثمانيين، في حين لم تمتد إليها يد الإمام خلال المرحلة الأولى للثورة، كونه قد انشغل مع بداية ثورته في تثبيت دعائم دعوته في محيط المناطق الشمالية -كما ذكرنا آنفاً- لذلك فقد أدت المعارك التي شهدتها المناطق الواقعة في إطار هذا الإقليم وهي حيدان وبني ذؤيب وخولان ورغافة وقطابر إلى تشتيت المجهود الحربي لقوات الإمام، وهو الأمر الذي لم يؤد إلى أي نصر يذكر لهذه القوات ضد الجانب العثماني، سوى إلحاقها هزائم في صفوف قوات عبد الله بن علي المؤيد، الذي كان حليفاً قوياً ومسانداً للقوات العثمانية -كما أشرنا في الفصل الأول- وأجبرته على الفرار من المعركة التي شهدها مركز نفوذه في حيدان واللجوء إلى صنعاء
مركز الحكم العثماني.
وكيفما كان الأمر فقد دامت المعارك التي شهدها إقليم صعدة بين الجانبين الزيدي والعثماني فترة تقارب السنتين -رمضان 1014ه - رجب1016ه/يناير 1606م-أكتوبر1607م- لم تستطع خلالها القوات الإمامية من إحكام سيطرتها هناك للأسباب التي ذكرناها آنفاً.
بدأ الإمام القاسم مع انتصاراته ومد نفوذه إلى غالب إقليم الشمال الجبلي، يتوق إلى استعادة شهارة من أيدي العثمانيين، فهي إلى جانب موقعها الاستراتيجي، فإنها المعقل الأول لدعوته واندلاع الثورة في مرحلتها الأولى، وهي مركزه العلمي التي اعتصر منها خلاصة علمه.
ويبدو أن العثمانيين قد أدركوا الأهمية التي تمثلها شهارة بالنسبة للإمام، لذلك فقد عمدوا إلى إحكام السيطرة عليها من خلال تعزيز تواجدهم العسكري فيها بمائتي جندي عثماني، تحت إمرة أحد قادتهم، بالإضافة إلى أنهم عمدوا إلى تعيين شيخين من مشائخ قبيلتي حاشد وبكيل ينخرط تحت إمرتهم عدد غير قليل من أفراد تلك القبيلتين. ولعلهم أرادوا بذلك إضفاء مزيد من الحماية عليها. ولاعتقادهم كذلك بأنه إذا ما هوجمت المدينة فإن أعداداً غير قليلة من فخوض وفروع القبيلتين سوف تتوافد وتسارع لتخليص أفرادها ومشائخها المساندين للقوات العثمانية في شهارة وتمنع بالتالي من سقوط المدينة في أيدي القوات الإمامية.
لم يلق الإمام بالاً إلى ما اعتمله العثمانيون من إجراءات عسكرية لإحكام السيطرة والدفاع عن شهارة. فقد دفع بحليفه عبد الرحيم لتوجيه قواته إلى محاصرة شهارة تسانده أعدا كبيرة من أتباعه -الإمام- ومؤيديه.
ويبدو أن الإمام قد أدرك أن المواجهة مع القوات العثمانية وحلفائها لن تجدي، بل ستؤدي إلى نتائج وخيمة في صفوف قواته؛ نتيجة تفوق الجانب العثماني البشري والعسكري، لذلك فقد رأى أن حصار شهارة هو الأصوب في هذه الحالة. خاصة مع درايته التامة أن المدينة لن تصمد طويلاً إزاء حاجتها الضرورية للمؤن الغذائية عند نفادها، لما هو قائم -وقتئذ- من الأعداد الهائلة للقوات العثمانية وحلفائها، بالإضافة إلى سكان المدينة. خاصة وأن المؤن التي اختزنها العثمانيون لمواجهات محتملة مع قوات الإمام، لم تكن بالقدر الكافي، نتيجة الحالة الاقتصادية السائدة -حينئذ- في شهارة نفسها، والمناطق المجاورة لها، لافتقارها إلى مادة الحبوب جراء شحة الأمطار التي أدت إلى نقص كبير في المردود الزراعي لهذه المادة، بالإضافة إلى ترك الأهالي لأراضيهم دون زراعتها جراء الحروب القائمة بين العثمانيين والإمام -كما أشرنا في الفصل الأول-.
ولعل الحصار الذي تعرض له الإمام وقواته، خلال المرحلة الأولى من ثورته، في شهارة، من قبل القوات العثمانية، وأدى إلى تسليمه المدينة، كان مرده النقص الشديد في المؤن الغذائية -كما أشرنا في الفصل الأول- وهو ما أدركه -الإمام- على أرض الواقع حين عمد إلى فكرة حصاره لشهارة بدلاً من المواجهة كما سيتبين في ما بعد.
بدأ الأمير عبد الرحيم يطبق حصاره الشديد على مدينة شهارة، والذي دام قرابة العام، حينئذ لم يجد عبد الله بن المعافا سوى إعلانه بتسليم المدينة خاصة وقد أصبحت تعاني من نقص شديد في مخزونها الغذائي، مما زاد من شدة معاناة الأهالي فيها، حتى بلغ بهم الأمر إلى حد أنهم، حسب الجرموزي: "أكلوا الكلاب ولحوم الدواب". وكان ذلك من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط شهارة في يد الإمام بعد حصار استمر زهاء العام في شهر شعبان من سنة 1015ه/ديسمبر1607م.
وكان عبد الله بن المعافا قد راسل الإمام بشأن تسليمه المدينة دون عبد الرحيم الذي كان يكن له عداءاً شديداً، خاصة وأن عبد الرحيم تربَّص شراً به، حين أكد كما يذكر الجرموزي: "لئن ظفرت بابن المعافا ليكونن من المثلة التي لا يفعل إلا هو". ولقد استصوب أهل الأهنوم رأي ابن المعافا لكراهتم لعبد الرحيم.
وفي حقيقة الأمر فقد كانت شدة غلظة وقسوة عبد الرحيم أحد الأسباب التي أدت إلى نفور الناس منه، وهو الأمر الذي جعل مؤرخ معاصر يقول: "إن عبد الرحيم سيء الظن بمن حواليه سريع المبادرة ملولا عظيم السطوة لا يراعي حق في الأغلب، وكانت هذه الأمور هي أعظم أسباب انحلال أمره، وإن الصديق والعدو كان بمنزلة واحدة في الخوف منه، مع عدم وفائه بالعهود، واستهانته بها".
وفي قراءة دقيقة لمجريات الأحداث -الآتية الذكر- سيتبين أن مواقف عبد الرحيم العدائية، لم تكن في حقيقة الأمر تشكل من الأهمية بمكان بالنسبة لابن المعافا، ولم يكن ما ذهب إليه الأخير -ابن المعافا- السبب وراء طلبه تسليم المدينة للإمام، بل كان يدرك أن بُعد المسافة بين شهارة ومحل إقامة الإمام في ذيبين ستؤدي إلى تأخر قدومه لاستلام المدينة، وفي هذه الأثناء تكون قد وصلته الإمدادات العثمانية لنجدته، ورفع الحصار عن مدينة شهارة.
فطن الإمام إلى ما كان يضمره ابن المعافا. ويبدو أن مواقفه السابقة -ابن المعافا- مع الإمام خلال المرحلة الأولى لثورته -كما أشرنا في الفصل الأول- كانت وراء توخي الإمام الحذر والحيطة في معاملاته مع الأمراء الزيديين العثمانيين، لذلك فقد سارع إلى إرسال قوة عسكرية تحت إمرة ابنه الحسن لمساعدة المطهر بن عبد الرحيم -أخو عبد الرحيم- لإنهاء الحصار واستلام المدينة من جانب، ومن جانب آخر فإنه بما عمد إليه يكون قد قطع على حليفه عبد الرحيم ما كان يؤمله في قرارة نفسه، من غدر بالإمام لبسط سيطرته على المناطق التي حقق انتصارات فيها. كما ذكرنا آنفاً.
هكذا استقرت الأمور بالإمام القاسم في معقله الجديد شهارة، ليبدأ منها مواصلة جهوده السياسية والعسكرية، لمد نفوذه وسيطرته إلى غير منطقة في إقليم الشمال الجبلي، تسانده في ذلك القبائل الموالية لثورته، في مرحلتها الثانية ضد الوجود العثماني.
وكان قبل ذلك قد أصدر عفواً عاماً لكل القبائل التي ساندت ابن المعافا والقوات العثمانية خلال حصار شهارة، أمل الغرض من ورائه إلى استمالة هؤلاء إلى صفوف قواته لمؤازرة ثورته، إلا أنه أبقى على إبراهيم بن المعافا -أخ عبد الله- ليفدي به ولديه المأسورين في كوكبان عندما حوصر في شهارة -كما أشرنا في الفصل الأول- سنة 1009ه/1600م.
ويبدو أن الإمام قد عاد هذه المرة حسب مؤرخ محدث ببرنامج مختلف نوعاً ما إذ سعى إلى مناشدة جميع القبائل بوجه عام، وقبيلتي حاشد وبكيل على وجه الخصوص لمناصرة إمامته، ويتضح -ما ذهبنا إليه- في رسالة وجهها مع بداية العام 1016ه/1607م إلى مشائخ القبيلتين يذكرهم فيها بمواقف آبائهم المناصرة للأئمة الزيديين منذ قيام الإمام الهادي الرسي، حين أشار إلى ذلك بقوله: "وإن لكم سوابق في الأولين، ولواحق في الآخرين". ولم يكتف بذلك بل دعاهم إلى مساندة ثورته ضد الحكم العثماني قائلاً حسب الجرموزي: "فنحب منكم أبقاكم الله أن تعودوا لعاداتكم وتقتدوا بأسلافكم".
ودعم قوله ذلك بتأكيد المواقف السابقة للقبيلتين في قصيدة جاءت على لسانه مطلعها:
يا حاشداً وبكيلاً إن عادتكم .... نصر الأئمة لا تبتغوا بديلا
آباؤكم نصروا أباءنا وسقوا .... أسيافهم نهلاً من بعده عللا
ولم يغب عن بال الإمام في رسالته -الآنفة الذكر- من تحذير وجهه إلى تلك القبائل التي والت العثمانيين، وانخرطت في صفوف قواتهم لمحاربته طمعاً في ما يقدمونه لهم من المال نظير ذلك:
لا تطمعوا طمعاً من فاسق خبثت .... أعماله ولكم قد أعمل الحيلَ
مؤكداً لهم أن جانب العثمانيين لا يؤتمن لما يتصفون به من نقض للعهود إن تضررت مصالحهم. ولقد عمد الإمام في خطاباته على التأكيد على الهوية المتميزة لدعوته حين راح يدفع بأنصاره لتوسيع نطاق ثورته.
صلح (1015ه/1606م) بين الإمام القاسم والوالي سنان باشا ونتائجه
إزاء التطورات المتلاحقة التي شهدها الشمال الجبلي، مع بداية المرحلة الثانية لثورة الإمام، وبسط نفوذه في عدد غير قليل من المناطق الشمالية، وموالاة العديد من القبائل له. أدرك الوالي سنان باشا -خاصة مع علمه بقرار عزله عن ولاية اليمن- ضرورة وضع حل لامتداد سعير هذه الثورة التي من شأنها أن تؤدي إلى زعزعة مركز الحكم العثماني في البلاد -صنعاء- خاصة وقد بدأ الإمام بداية غير محمودة العواقب بالنسبة للجانب العثماني كما ذكرنا آنفاً.
وفي حقيقة الأمر فقد خشي سنان باشا أن يجتاح الإمام القاسم بقواته خلال مرحلة تسليم الولاية للوالي الجديد جعفر باشا عند قدومه إلى صنعاء مركز الحكم. وهو أمر جد خطير إن حدث، سيمثل منعطفاً لامتداد السيطرة العثمانية في اليمن.
لذلك لم يكن أمام الوالي سنان باشا خاصة وقد أصبح أمر رحيله قاب قوسين أو أدنى سوى اللجوء إلى طلب الصلح مع الإمام. حيث عمد إلى إرسال أحد مبعوثيه وهو: "الحاج التاجر أحمد الوادي". الذي كان يمثل أحد الوجاهات الاجتماعية في صنعاء -وقتئذ- ليعرض على الإمام الصلح لمدة عام أو أكثر.
وقف الإمام حيال طلب الصلح موقفاً اتسم بالحيطة والحذر، فهو لم يكن يتوقع طلباً كهذا من سنان باشا، خاصة ومواقفه من شخص الإمام وثورته اتصفت -خلال المرحلة الأولى للثورة- بالمكايدة وبما قام به من عمليات بطش وتنكيل ضد أتباعه، إلى جانب إدراكه بأن القوات العثمانية بشقيها البشري والعسكري باتت تمثل قوة لا يستهان بها وهي بالتالي ليست محل مقارنة لما بين يديه -الإمام- من قوات.
وقد تبادر إلى ذهن الإمام أن يكون طلب الصلح مناورة سياسية عمد إليها سنان باشا للإيقاع بشخصه أو لتقصي الحقائق لمعرفة أموره السياسية والعسكرية. لذلك فقد استدعى أحد كبار مستشاريه -حينئذ- وهو القاضي علي بن أحمد بن أبي الرجال لتدارس الأمر. ولمعرفة حقيقة الأمور الداعية إلى عقد الصلح، قبل أن يقرر قبوله أو رفضه. ويتضح حرص الإمام -هذا- حين قام بإرسال أبي الرجال إلى الأمير علي بن مطهر بن الشويع أحد المقربين للوالي سنان باشا لتقصي الحقائق بشأن الصلح.
عاد المبعوث الإمامي -أبو الرجال- بعد زيارة اتسمت بالسرية التامة برد من الأمير ابن الشويع. يؤكد حقيقة طلب الصلح من قبل سنان باشا موضحاً أن الأسباب التي أوجبت أمر الصلح تتمثل في خشية الوالي الفتنة مع رحيله عن اليمن بعد قرار عزله، وقدوم الوالي جعفر باشا.
أدرك الإمام -حينئذ- ضرورة المسارعة إلى عقد الصلح خاصة وقد تأكد له رحيل سنان باشا عن الولاية، وهو ما كان يؤمله.
وقع الإمام مع الوسيط العثماني أحمد الوادي على عقد الصلح في أواخر سنة1015ه/1606م. والذي نصت بنوده على:
1- تكون مدة الصلح لمدة عام واحد.
2- يكون للإمام بموجب الصلح ما تحت يده من المناطق في إقليم الشمال الجبلي وهو: شهارة، الأهنوم، الحيمة، السودة، وادعة، شاطب، الشاحذية.
ولم يتجاهل الإمام حليفه عبد الرحيم في أمر الصلح، ويبدو أنه كان يرغب من وراء إشراكه أن يضاعف من ثقله أمام العثمانيين. إلا أن موقف الأخير -عبد الرحيم- اتسم بالرفض التام لهذا الصلح، بل واتهم الإمام بالعجز والضعف أمام العثمانيين، ولاعتقاده بأن الانتصارات التي شهدتها جبهة الإمام كانت بفضله هو، وأنه على استعداد وبدون الإمام الاستمرار في الثورة ضد العثمانيين، فتركه الإمام وشأنه معهم. وهذا ما سنتبينه في ما بعد.
ولقد بادر سنان باشا قبل رحيله عن صنعاء إلى تجديد الصلح: "والزيادة فيه إلى عشر سنين". ولعله أراد بذلك تأكيده للسلطنة في إقرار الأمور واستقرار أوضاع اليمن، وأن يمحو الصورة القاتمة التي رسمها اليمنيون له خلال فترة بقائه في البلاد.
وكيفما كان الأمر فقد نتج عن الصلح بين الجانبين:
1- اعتراف صريح بالإمام القاسم من قبل الدولة العثمانية كحاكم …فعلي لما تحت يديه من إقليم الشمال الجبلي.
2- اعتراف ضمني بمكانة الإمام الدينية.
3- أن مركز الإمام صار أفضل حالاً يمكنه أن يترك التحالف مع …الأمير عبد الرحيم.
4- يوضح الصلح مدى حاجة الجانبين له.
5- أدى الصلح إلى استقرار الأوضاع في المناطق الشمالية ومركز الحكم العثماني في صنعاء خاصة مع رحيل سنان باشا وقدوم الوالي الجديد جعفر باشا -كما سنتبين في ما بعد-.
صلح (1016ه/1607م) بين الإمام القاسم والوالي جعفر باشا ونتائجه
تسلم الوالي الجديد جعفر باشا(1607-1616م) ولاية اليمن بعد عزل سلفه سنان باشا وأموره مضطربة نتيجة الحروب التي دارت رحاها في غير منطقة، خلال تولي سنان باشا -كما أشرنا آنفاً- ولقد أدرك بأن فتح الحرب في جبهتين مع الإمام ومع عبد الرحيم ستؤدي إلى إضعاف فعالية القوات العثمانية، وستقلل بالتالي من فرص نجاحه في إدارة الولاية، خاصةً مع جهله بشؤون اليمن.
لذلك فقد سعى بعد قدومه إلى تعز إلى مراسلة الإمام لعقد صلح ليتسنى له في ما بعد -كما سنتبين- من الانفراد بعبد الرحيم، خاصة وأن سلفه سنان باشا كان قد أكد عليه ضرورة عقد صلح مع الإمام، لتستقر بذلك أموره في مناطق الشمال الجبلي المتوتر.
من جانبه لم يتردد الإمام في عقد الصلح، حيث وافق عليه، لعلمه بأن مناصريه قد أرهقتهم طول الحرب. وإن: "المصلحة الظاهرة" تحتم عليه ذلك، خاصة وأنه قد رأى أن العديد من القبائل أعلنت موالاتها للعثمانيين، لما يدفعونه لهم من الأموال نظير ذلك. نتيجة لسوء الأوضاع الاقتصادية السائدة -وقتئذ-، ولإدراكه كذلك أنه أصبح يحارب في أكثر من جهة ضد العثمانيين وحلفائهم، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تشتيت مجهوده الحربي.
وبعد فترة مفاوضات، انعقد الصلح بين الجانبين -الزيدي والعثماني- وذلك في شهر ذي الحجة سنة 1016ه/مارس /إبريل 1608م. وكانت أهم بنوده:
1- عقد هدنة لمدة عشر سنوات.
2- أن يكون للإمام ما تحت يده من المناطق الشمالية وهي: الأهنوم، عذر، وادعة، ظليمة، العصيمات، شهارة، برط، الحيمة، وحميمة السعداء، حضور، بلاد صعدة.
3- يحق للأهالي التابعين لنفوذ الإمام، أو لسلطة الحكم العثماني الاختلاط في ما بينهم كيفما شاءوا، وإن وجد حق لأحد هؤلاء في قضية ما في أحد الطرفين، يتم التفاهم بشأنه بين الجانبين.
4- إطلاق سراح الأسرى الذين أودعوا سجن كوكبان بما فيهم ولدا الإمام محمد وأحمد.
5- إطلاق أسرى بني جبر ووادعة وعذر والأهنوم.
6- إطلاق أسراء الحيمة.
7- عدم انتزاع الأسلحة التابعة للأهالي في الحيمة.
8- يتم تسليم الواجبات -الضريبة الزكوية- في الحيمة للإمام، في ما يتم تسليم ضريبة المري للوالي العثماني.
وفي حقيقة الأمر فقد جاء الصلح حسب مؤرخ محدث: "ثمرة لتبادل الطرفين دبلوماسية ودية". ويبدو أن جعفر باشا قد عمد إلى بلورة سياسة عثمانية مختلفة عما كان في السابق، محورها تفهمه بشكل كبير للأوضاع في البلاد. ويمكن القول أيضاً أن هذا الصلح قد مثل بداية لاستقرار نفوذ الإمام، حيث يمكن لقارئ الأحداث ان يستشف جملةً من الأمور تصب فيما ذهبنا إليه:
1- اعتراف ضمني من قبل العثمانيين بمنزلة دينية للإمام:
وذلك باعتبار أن الإمامة هي تعبير عام عن الدور الديني ل:"أهل البيت وأحقيتهم بالحكم وفضلهم على سائر الناس، وهي كما كان يراها الإمام القاسم أمراً دينياً واعتقادياً لازماً بالنسبة له ولأنصاره. دون أن يمثل ذلك تحدياً للسيادة العثمانية في اليمن.
2- نفوذ واسع لسيادة الإمام القاسم:
حيث أصبح للإمام القاسم مقاطعة شمالية مركزها الاستراتيجي والهام شهارة، وقد انضوى تحتها القسم الشمالي من المنطقة التي كان يسيطر عليها الأمير عبد الله بن المعافا، إضافة إلى الجزء الغربي من منطقة إدارة الأمير مطهر بن الشويع، وصار للإمام كذلك مقاطعة غربية مركزها إقليم الحيمة الواقع إلى الغرب من صنعاء، ويتبين أن نفوذ الإمام بالحيمة لم يكن بالقدر الذي هو عليه في مركزه بشهارة حين أكد الصلح أن يتم تسليم الواجبات -الضريبة الزكوية- فيها لشخص الإمام فيما يتم تسليم ضريبة الميري للوالي العثماني كما كان مقرراً في السابق من قبل مشائخ أهل الحيمة وبضمان الإمام نفسه.
3- التزام الإمام بقوانين الإدارة العثمانية:
عمد الوالي جعفر باشا إلى إلزام الإمام بتقديم قدر من الخضوع لللإدراة العثمانية. ولعل ذلك يتبين بشكل واضح حين رفض أثناء تفاوضه مع الإمام أي أمور تتعارض مع ما أسماه ب:"قانون السلطنة". ويتضح كذلك في جانب آخر، عندما أخر جعفر باشا بالإفراج عن الأسراء من أتباع الإمام في كوكبان -كما نصت عليه بنود الصلح- وفي مقدمتهم ولداه محمد وأحمد، إذ أن أمر إطلاق سراح هؤلاء لم يتم بضغوط من جانب الإمام، بل كان عبر رسالة بعث بها -الإمام- إلى أمير كوكبان علي بن شمس الدين -أحد وسطاء الصلح- أصبغها بالدعاء للوالي جعفر باشا كما رصدها المؤرخ الجرموزي على لسان الإمام نفسه حين قال: "وكان مما رأى تأخير أولادنا وأصحابنا لديكم، ولا تزال المراجعة لجعفر باشا قرن الله أعماله بالصلاح المرة بعد المرة، ولعل إن شاء الله أن لا يفاوت ما نهواه من الخير" ونلمس كذلك بأن الإمام لم يعارض الشروط التي وضعها جعفر باشا بالنسبة لإخضاع إقليم الحيمة تحت نفوذ الإمام -كما أشرنا آنفاً.
4- استقرار الأوضاع في البلاد:
توخى الجانبان -الزيدي والعثماني- من امر الصلح أن يؤدي إلى الهدوء والاستقرار في أنحاء البلاد، خاصة بعد أن تركها سنان باشا تلتهب بالحروب والاضطرابات -كما أوضحنا آنفاً- ولقد أكد الإمام في رسالة بعث بها إلى أمير كوكبان بأن الصلح يعتبر: "ضالة الصلاح المنشود بيننا وبين جعفر باشا بلغه الله في الخير ما يرجوه".
من جانبه استفاد جعفر باشا، حسب مؤرخ محدث: "ليس لوضع حد لتحركات الإمام بل وأطلق يده في التعامل مع انشقاق عبد الرحيم، ثم تمرد أمير صعدة العثماني". -كما سنتبين في ما بعد- وهو الأمر الذي مكنه من بسط السيطرة العثمانية بقوة في المناطق الشمالية.
وفي حقيقة الأمر، فقد شهدت البلاد خلال ولاية جعفر باشا استقرار للأوضاع فيها إلى حد كبير، ولقد وصف مؤرخ معاصر للأحداث ذلك بقوله: "وكان لوصول جعفر باشا وقع في اليمن، فإنه أظهر بعض عدل .. وغيَّر كثيراً من جور سنان" خاصة وأن أوضاع اليمن كانت حسب الجرموزي: "مع سنان وعبد الرحيم كالنار". لذلك كان على جعفر باشا أن يغير من سياسة سلفه سنان ليمسك بزمام الأمور في البلاد.
وفي واقع الأمر، فقد ظهرت نتائج الصلح بشكل ملموس على أرض الواقع، حيث مثل -الصلح- تتويجاً لانتصارات الإمام القاسم عند نهاية المرحلة الثانية من مراحل ثورته، وأدى إلى تثبيت نفوذه في مناطق الشمال الجبلي، على عكس ما حدث عند نهاية المرحلة الأولى للثورة، التي انتهت إلى هزيمته، ومن ثم لجوئه إلى برط. واستطاع الإمام من خلاله أن يفرض وجوده على العثمانيين، وأن ينتزع اعترافاً ضمنياً من قبل سلطة الحكم العثماني كحاكم فعلي تمتد سيطرته ويبسط نفوذه في المناطق التي حددتها بنود الصلح -كما أشرنا آنفاً-.
وفي جانب آخر فقد مكنه الصلح من التخلص من حليفه الزيدي عبد الرحيم بن عبد الرحمن، الذي لم يكن في حقيقة الأمر راغباً في نفوذ حقيقي للإمام القاسم، ولعل ذلك يتضح حينما أراد بسط نفوذه على شهارة دون الإمام -كما أشرنا آنفاً- لولا أن الأهنوميين حالوا دون ذلك لمعرفتهم بتسلط الأمير عبد الرحيم، ولقد ظهرت نواياه إلى السطح عندما رفض أن يكون طرفاً في الصلح حسبما أراده الإمام، بل واتهم الإمام بالعجز والضعف أمام العثمانيين، واعتبر نفسه الأجدر للاستمرار في الثورة ضد الوجود العثماني.
بدأ الإمام عقب الصلح يؤهل شهارة لتكون مركزاً لنشاط دعوي مذهبي -كما كانت كذلك في المرحلة الأولى من ثورته- خاص بالإمامة، حيث عمد إلى إكمال بناء مسجدها الذي كان قد أسسه في 15محرم 1015ه/11يونيو 1607م. وجعله مركزاً لإلقاء خطبه وتعليماته وبلورة الأفكار التي توخاها لإرساء دعائم دعوته. كان يحضرها كبار العلماء والسادة الزيديين، الذين رأوا في الصلح مكسباً عظيماً حققته الإمامة الزيدية، بل ووصفوه وكأنه: "صلح الحديبية". لما من شأنه أن يؤدي إلى إعادة تهيئة الظروف للدفع بالإمامة لإعادة مهامها حسب ما هو مؤمل لها، وكما رسمتها الخطوط العريضة عند انطلاقها ويبدو أن الإمام كان قد توخى من ذلك أن يتحمل الدارسون الذين كانوا يتوافدون إلى مركزه الدعوي في شهارة مهام أمر نشر الدعوة الإمامية بعد إجازتهم من قبل كبار العلماء هناك.
وفي واقع الأمر فقد شرع الإمام من خلال مركزه الدعوي إلى ترك مهام الإدارة المباشرة، وانصرف بجانب كبير من وقته نحو العلم، يحيط به عدد من كبار رجال دعوته الإمامية، أمثال علي بن صلاح العبالي، وأحمد بن محمد الشرفي، ومحمد بن علي عشيش، عبد الله المحرابي، القاضي سعيد بن صلاح الهبل، والقاضي الحسن بن سعيد العيزري ..وغيرهم. وقد آزر هؤلاء منذ البداية الدعوة الإمامية وعمدوا إلى مناهضة الحكم العثماني في الشمال الجبلي.
ولقد كان الإمام حريصاً على بقاء هؤلاء العلماء قريباً منه مما يجعل منهم أعضاء في هيئة دعوية. في ما كان يرتقب من الوافدين إليه من متلقي العلوم التعرف على ما يدعو إليه، وإظهار التأييد له بالحدود التي يسمح بها بنود الصلح.
بدأ الإمام القاسم في تنظيم أموره في مناطق نفوذه -كما أقرها بنود الصلح- والاهتمام بشؤون الأهالي فيها، إلا أنه لم يبادر في مرحلته الثانية في اتخاذ هيئة ومظاهر السلطة الحاكمة، كما كان الأمر عند محاولته المبكرة لإقامة حكم إمامي في مرحلتها الأولى. فهو لم يعمد إلى تهيئة وإعداد قوات إمامية للحفاظ على ما تحت يده من مناطق نفوذه، كما أنه لم يدع إلى تجنيد الأهالي لذات الغرض أو حتى الإنفاق على ذلك بما يلزم، إذ قد يظهر موقف الإمامة في غضون الصلح وكأنها في حالة قيام. ولقد ترك أمر الانضمام إلى جانبه كعمل طوعي، ولعله بذلك أراد تكريس مكانته وتأثيره عن طريق انضواء أنصاره ومؤيديه خلف إمامته وهيئتها الدعوية.
وقد أبدى الإمام اهتماماً ملحوظاً في مقر دعوته شهارة برعاية أنصاره والتكفل باللائذين بإمامته، مهما بدت أهميتهم السياسية ضئيلة وبغض النظر عن محدودية إمكاناته الاقتصادية والمعيشية، ولعل ذلك يختلف عما كان في موقفه في أوج المرحلة الأولى من إمامته عندما راح حسب مؤرخ محدث: "يسلك كإمام منتصر غير عابئ بمصير بعض أنصاره الذين استنزفتهم المشاركة في ثورته".
فيما اهتم الإمام -في المرحلة الثانية لثورته- بشكل محدود بالتنظيم الإداري لمناطق نفوذه، وراعى في الأغلب خصوصيات تلك المناطق وطابعها الجبلي والقبلي. حيث أناط بالسادة والعلماء وبعض شيوخ القبائل تنفيذ بعض المهام الشرعية والتنفيذية عند الحاجة، كما أنه أسند إلى بعض أبنائه تسيير المهام الإدارية والعسكرية، بينما أوكل إلى العدد القليل من عماله في إطار مناطق نفوذه الإشراف على تحصيل الواجبات من تلك المناطق.
ولقد أدرك الإمام القاسم -خلال مرحلته الثانية- الحاجة إلى الموارد الاقتصادية حيث مثل الجانب الاقتصادي حاجة ملحة وضرورة حتمية تمليها الظروف القائمة -وقتئذ- لاستقرار الأوضاع في مناطق نفوذه، وللإنفاق على نشاطات مركزه المذهبي الإمامي في شهارة وعلى حاجتها القتالية، بالإضافة إلى القائمين على إدراة شؤون تلك المناطق. لذلك فقد عمد إلى استصلاح ضفاف بعض الوديان مثل وادي صومل الواقع إلى الغرب من الأهنوم ووادي عر من أعمال البطنة، لإمداد الأراضي المحيطة بتلك الوديان بما تحتاجه من المياه لزراعتها بمحاصيل سلعية مثل: "البن والقندر والأرز" لسد الحاجات الاقتصادية لمعيشته بالإضافة إلى أتباعه.
وفي حقيقة الأمر فقد بقى الإمام يعاني من قصور مصادره المالية خلال سنوات الصلح. ويبدو ذلك واضحاً حين عمد إلى سد العجز المالي الذي كان يواجهه من خلال ما يتحصله من عائدات أملاكه.
ولقد تمكن الإمام خلال سنوات المرحلة الثانية لثورته رغم ما تخللها من عقبات وصعوبات من إضفاء حضور ملحوظ لإمامته في مناطق الشمال الجبلي لإثبات وجودها أمام الحكم العثماني، وتحقق لها ذلك حسب مؤرخ محدث: "عبر مسار غلبت عليه المساومة السياسية والصرامة الدعوية المنظمة نسبياً في آن واحد".
أما بالنسبة للجانب العثماني، فقد مثّل له الصلح -هو الآخر- جملة من النتائج الإيجابية على أرض الواقع، حيث شرع جعفر باشا يترجم -خلال مدة الصلح- اهتمام السلطنة المتزايد باليمن إلى خطوات مؤثرة سعت في حقيقة الأمر إلى التخفيف نسبياً من الضغوط الاقتصادية للسيطرة العثمانية، كان الغرض منها القضاء على المظالم المالية السائدة قبيل ولايته فقد ربط الضرائب بالثروة الحقيقية للأفراد، حيث أمر -على سبيل المثال- بتحصيل الضرائب على الموارد الزراعية والحيوانية في زبيد طبقاً لما هو قائم، ملغياً بذلك ما كان قد قرره سلفه سنان باشا من ضرائب كانت تدفع كل سنة بموجب السجلات العثمانية القديمة، بحسب ما كانوا يملكون من تلك الموارد وإن كانت قد زالت -كما أشرنا في الفصل الأول- وهو بذلك حسب مؤرخ معاصر قد: "أذهب عنهم بهذه المظلمة المطلوب على المفقود ولم يبق عليهم الطلب إلا فيما هو موجود". وفي جانب آخر ألغى ما كان يؤخذ من ضرائب على أشجار البن اليابسة التي ليس لها مردود مالي.
واتجه جعفر باشا إلى استرضاء رجال الدين اليمنيين الشافعيين والزيديين وإجراء المناقشات الطويلة معهم، وذلك لإذابة الفوارق المذهبية ولتقريب وجهات النظر.
ولقد أدت سنوات الصلح إلى اهتمام ملحوظ بالتجارة -نتيجة استقرار الأوضاع- حيث عمد جعفر باشا إلى جعل السواحل اليمنية صاحبة الدور الرئيسي في التجارة بين الهند ومصر. خاصة مع تضاؤل الخطر البرتغالي في المياه الجنوبية منذ أوائل القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري)، وقد ازدهر ميناء المخاء في عهده وأصبح مركزاً كبيراً للتجارة العامرة بالبحر الأحمر.
وفي خطوة أخرى لتقريب الأهالي إليه، فقد استخدم جعفر باشا ممثلي الأسر ذات المكانة الاجتماعية من السادة الزيديين، أمثال آل شرف الدين وآل المؤيد والحمزيين...وغيرهم، لتسيير أموره الإدارية والقضائية في مناطق نفوذ السيطرة العثمانية، بل وأكثر من ذلك فقد جعل بعض شيوخ القبائل في وسط البلاد وشرقها أمراء عثمانيين، إضافة إلى استعانته بالعديد من شيوخ المناطق الجنوبية في إدارة مناطقهم مدنياً وأمنياً.
وفي واقع الأمر فإن الجانبين، الإمام القاسم، وجعفر باشا كانا في حاجة ماسة إلى هدنة طويلة -حققها الصلح- لتنظيم شئونهما في داخل مناطق نفوذهما.
بالنسبة لجانب الإمام فهو وإن كان قد أحرز انتصارات عدة على أرض الواقع إلا أنها لم تكن في حقيقة الأمر تعني امتداداً كاملاً لنفوذه، نتيجة المواقف التي أبدتها بعض قبائل تلك المناطق، والتي ظلت على الدوام تخاف جانب العثمانيين بل وتتردد في مناصرته، حيث كان همها بالدرجة الأساسية خلال انخراطها في صفوف القوات الإمامية ومشاركتها في العديد من المعارك ضد العثمانيين، الحصول على قدر أكبر من الغنائم. لذلك فقد بات الإمام يدرك تماماً بأن الضرورة تقتضي استمالة تلك القبائل لوضع حد لمواقفها المتباينة.
ومن جهة أخرى فقد انتشرت في غير منطقة الكثير من البدع والخرافات، بالإضافة إلى ما يحدث من نزاعات وإشكالات بين أوساط الأهالي، لم يكن باستطاعة -الإمام- القضاء عليها أو إقامة الحدود فيها لانشغاله بالحرب المستمرة، وكذلك تنقلاته في غير جهة من إقليم الشمال الجبلي. لذلك فقد كانت الحاجة ماسة لهذا الصلح ليدعم نفوذه في البلاد ويقيم الحدود الشرعية ويقضي على البدع والخرافات.
في ما كان كان جعفر باشا هو الآخر، بحاجة إلى الصلح، لمواجهة تمرد عبد الرحيم وأمير صعدة العثماني، محمد التركي -كما سنتبين في ما بعد- وإلى إخماد تلك الاضطرابات التي كانت تظهر على السطح في أقاليم اليمن، وهو ما يؤدي بالتالي إلى إضعاف جانب العثمانيين ويقلل من هيبتهم.
إخماد تمردات عبد الرحيم بن عبد الرحمن والأمير محمد التركي
انصرف جعفر باشا عقب عقد الصلح مع الإمام إلى إدارة شؤون الولاية، التي كانت مضطربة جراء السياسة التي إعتملها الوالي السابق سنان باشا ضد الأهالي -كما ذكرنا سابقاً- لذلك فقد أدرك الوالي جعفر باشا ضرورة عودة الهدوء والاستقرار إلى غالب البلاد لبسط السيطرة العثمانية على الولاية.
وكان من أولويات مهامه تلك القضاء على تمرد الأمير عبد الرحيم، خاصة وأنه ما زال يتمتع بنفوذ واسع في وسط إقليم الشمال الجبلي لا يستهان به، وربما أدى تماديه إلى إحداث إرباك وإلى زعزعة الحكم العثماني.
وباستقراء الأحداث -كما تم رصدها في الفصل الأول- فقد كان عبد الرحيم أحد رموز الأمراء الزيديين من بقايا أسرة المطهر بن الإمام شرف الدين، الذين واجهوا دعوة الإمام وثورته، وساندوا جانب العثمانيين في القضاء عليها. ولم يعلن عصيانه وانشقاقه عن حلفائه العثمانيين إلا لأسباب كان عاملها الأساسي خلافه مع الوالي سنان باشا -وقتئذ- بشأن الشيخ عاطف الأهنومي أحد المطلوبين لسلطة الحكم العثماني، الذي التجأ إلى عبد الرحيم ليؤمنه من بطش العثمانيين. وإزاء إصرار سنان باشا على تسليم الأهنومي، امتثل عبد الرحيم لأوامر السلطة العثمانية. لكنه اشترط في المقابل على سنان باشا ضرورة الإبقاء على حياة الأهنومي، وهو الأمر الذي لم يتم، حيث عمد سنان باشا بعد القبض عليه -الأهنومي- إلى قتله.
أدرك عبد الرحيم بهذه الحادثة أن العثمانيين لا يؤتمن جانبهم، خاصة مع نقض الوالي -سنان باشا- للعهد الذي قطعه على نفسه بعدم قتل الأهنومي، غير آبه كذلك بثقل ومركز عبد الرحيم بين قبائله.
ألقت الحادثة بظلالها على الأمير الزيدي، الذي بات يعرف نوايا سنان باشا، والذي كان يؤمل في الحقيقة في القضاء على نفوذ عبد الرحيم لإضعاف جانبه الذي بات يهدد السيطرة العثمانية، ومع إدراكه لتطلعات عبد الرحيم لزعامة في وسط الشمال الجبلي. حينها أيقن عبد الرحيم أن العثمانيين لن يتركوه، خاصة والمؤشرات تؤكد ضرورة بسط النفوذ العثماني على وسط المناطق الشمالية، لتفادي خطر ثورة الإمام القاسم. وهو الأمر الذي إن تم سيؤدي إلى مطالبته بما تحت يديه من بلاد: "الشرف وحجة" فأضمر الخلاف عليهم. ليعلن ولاءه للإمام القاسم، وليخوض معه معارك شرسة حقق فيها انتصارات تذكر على الجانب العثماني -كما أشرنا آنفاً-.
ولقد كان عبد الرحيم في حقيقة الأمر يؤمل في قرارة نفسه بسط نفوذه على تلك المناطق التي حقق فيها انتصاراته بمساندة قوات الإمام القاسم، ليضرب بولائه وعهده للإمام عرض الحائط خاصة وأن ما بين يديه من قوات ضاربة تؤهله لذلك.
ومع قرار عزل سنان باشا -عدوه السابق- وقدوم الوالي الجديد جعفر باشا، لاحت الفرصة أمامه لتحقيق ما كان يصبو إليه، فقد أدرك أن مصلحته تقتضي إعادة انضوائه تحت جناح حلفائه السابقين -العثمانيين- ليؤمن من خلالهم بسط نفوذه. وهو الأمر الذي عمد إليه حين راسل جعفر باشا مع بداية العام 1016ه/1607م، طالباً الصلح ومبرراً تمرده السابق ضد سلطة الحكم العثماني خلافه مع سنان باشا وقد شرط في رسالته مقابل توقيعه الصلح إعطائه: "من البلاد ما يرضاه".
ويبدو أن جعفر باشا رأى ضرورة استمالة عبد الرحيم، نتيجة لما يتمتع به من نفوذ، وما تحت يده من قوات، قد تكون عوناً له إذا ما واجه قوات الإمام القاسم. خاصة وأن التقارير التي وردت إليه -خلال مكوثه في تعز بشأن الأوضاع في المناطق الشمالية أشارت إلى أن عبد الرحيم: "عظيم الشأن والملك والإقدام". لذلك فقد وافق على طلب الصلح. وأن يترك لعبد الرحيم المناطق التي تحت يديه.
إلا أنه تريث في توقيع الصلح بعد ان وصلته مراسلات من أمير كوكبان -حينئذ- إسماعيل بن أحمد بن محمد بن شمس الدين، يناشد فيها وضع حد لمحاولات عبد الرحيم العدوانية على مناطق نفوذه. ولاستقصاء مجريات الأحداث، أرسل جعفر باشا عند وصوله إلى صنعاء في 25شوال سنة 1016ه/ 12فبراير1608م مبعوثاً إلى عبد الرحيم.
وفي واقع الأمر فقد أجرى المبعوث العثماني، محادثات مع الأمير عبد الرحيم أكد خلالها ضرورة أعادة المناطق التي استولت عليها قواته. الواقعة ضمن نفوذ أمير كوكبان، والاكتفاء بما تحت يديه من نفوذ في بلاد حجة وأقاليمها كشرط أساسي لعقد الصلح مع الجانب العثماني. وهو الأمر الذي رفضه عبد الرحيم، بل وعمد إلى قتل ذلك المبعوث، وحسب مؤرخ معاصر فقد مثلت تلك الحادثة: "أحد الأسباب الموقعة له فيما وقع فيه لأن الأتراك بعد ذلك أعرضوا عن مراجعته".
إزاء تلك الأحداث المتسارعة أدرك جعفر باشا أن جانب عبد الرحيم لا يحمد عقباه، فعمد إلى الصلح مع الإمام -كما أشرنا آنفاً- ولقد رسخ رفض عبد الرحيم مشاركة الإمام في صلحه مع العثمانيين، وإعلانه الاستمرار في مقاومة الحكم العثماني، قناعة الوالي الجديد بضرورة إعلان الحرب عليه. وكيفما كان الأمر فقد انفرد جعفر باشا بعد عقد الصلح مع الإمام القاسم، لمقاتلة عبد الرحيم، حيث وجه إليه في شهر ربيع الآخر 1017ه/يوليو1608م قوات عثمانية يقودها عمر كيخيا. تسانده قوات أمير كوكبان -الآنف الذكر- لمحاصرته في معقله بحجة، ولم يكن بمقدور عبد الرحيم حيال الأعداد الكبيرة من القوات المحاصرة له المواجهة، فعمد إلى اللجوء إلى حصن نوسان، بعد أن سلم أخواه أحمد ومحمد حصني مبين ومفتاح الهامين. إلا أنهما لم يستطيعا الصمود طويلاً أمام القوات العثمانية، فسلما نفسيهما إلى تلك القوات وأعلنا الولاء لسلطة الحكم العثماني.
أدرك عبد الرحيم أن أمر تطلعه للزعامة، التي كان يؤملها قد بدأ ينهار خاصة بعد أن تخلى عنه أخواه -أحمد ومحمد- لينخرطا تحت ولاء العثمانيين، ولم يكن امامه إزاء الحصار الشديد الذي تضربه القوات العثمانية على معقله في حصن نوسان سوى تسليم نفسه للوالي العثماني جعفر باشا في شهر صفر 1018ه/إبريل1609م، الذي عامله حسب مؤرخ محدث: "كخارج عن الطاعة" وأودعه سجن الدار الحمراء بصنعاء، ثم نفاه في السادس عشر من شعبان سنة 1020ه/24أكتوبر1611م، إلى استانبول، ليواجه المصير نفسه الذي حاق من قبل بعدد من أعمامه الأمراء. وبتلك الصورة القاتمة حدد جعفر باشا مصير آخر محاولة قام بها أمراء من آل شرف الدين لتحدي السيطرة العثمانية.
لم يكن القضاء على تمرد عبد الرحيم نهاية المطاف بالنسبة للاضطرابات التي واجهها جعفر باشا خلال ولايته لليمن. فقد كان عليه كذلك أن يضع حداً لتطلعات حاكم صعدة العثماني الأمير محمد التركي، الذي كان يطمح للاستقلال بالإقليم عن جانب مركز الحكم العثماني في صنعاء، شجعه في ذلك ثلاثة عوامل هامة:
1- العلاقة القوية التي كانت تربطه بالصدر الأعظم -رئيس الوزراء- مراد باشا في استانبول.
2- بعد إقليم صعدة عن مركز الحكم العثماني في اليمن -صنعاء-.
3- بقاؤه لفترة طويلة حاكماً على الإقليم، ترجع إلى فترة ولاية حسن باشا لليمن، وهو الأمر الذي أدى إلى ترسيخ نفوذه وبسط سيطرته بشكل كبير في الإقليم: "وجعله يطمع في ملك صعدة من غير واسطة الباشا صاحب صنعاء".
ولعل إقامته لعلاقة حسن جوار وتعاون مع شريف مكة -وقتئذ- إدريس بن حسن، إلى جانب العلاقات التجارية التي أقامها مع: "مصر ونواحيها" تؤكد تطلعاته الاستقلالية بالإقليم.
وفي واقع الأمر فقد كان سنان باشا -أثناء توليه لليمن - يرغب في عزله من منصبه، لولا أن ظروف الحرب التي كانت قائمة -وقتئذ- بينه والأمير عبد الرحيم حالت دون تنفيذ ما كان يؤمله.
بات جعفر باشا يدرك تماماً -من الأهمية بمكان- ضرورة القضاء على تمرد الأمير محمد التركي، ويبدو أنه كان يخش أن ينعكس الأمر على باقي أمراء الإقليم في البلاد، لذلك فقد سارع إلى تجهيز حملة عسكرية تحت إمرة عدد من كبار قواده، لخوض معركة تضع حداً لتمرد حاكم صعدة العثماني وكان عليه قبل إرسال حملته تلك، استقصاء موقف الإمام القاسم حيال ما عمد إليه من الإجراءات -الآنفة الذكر- لقمع ذلك التمرد، بل وأكثر من ذلك فقد تطلع إلى مشاركة فعلية للإمام للقضاء على تمرد الأمير محمد التركي. وقد بين ما كان يؤمله في رسالة بعثها إلى الإمام.
وقف الإمام القاسم أمام طلب جعفر باشا موقفاً حيادياً، حين أكد في معرض رده على رسالة الوالي -جعفر باشا- بأن إخماد ذلك التمرد يعد شأناً داخلياً يخص العثمانيين أنفسهم، ولن يقف الجانب الإمامي مع أي طرف ضد الآخر، مشيراً إلى التزامه ببنود الصلح الموقع بين الجانبين، حيث قال، حسب الجرموزي: "إن بيننا وبينكم عقداً لا نحله وعهداً لا ننقضه، وهذا صاحبكم لا نعينكم عليه ولا نعينه عليكم".
ولقد جدد الإمام موقفه -الآنف الذكر- كذلك مع الأمير محمد التركي حين طلب هو الآخر مساعدته ضد القوات العثمانية.
وكيفما كان الأمر فقد توجهت القوات العثمانية إلى صعدة، بعد موافقة الإمام على مرورها عبر مناطق نفوذه في خمر.
وفي هذه الأثناء بات على حاكم صعدة العثماني -خاصة مع قدوم القوات العثمانية إلى مركز نفوذه- أن يجد حليفاً يعاضده لمواجهة تلك القوات، التي ليس بمقدوره الوقوف أمامها لتفوقها البشري والعسكري، لذلك فقد عمد إلى أحمد بن الإمام الحسن المؤيدي طالباً منه الوقوف إلى جانبه لمحاربة: "جنود الأتراك". ويبدو أن الأمير محمد التركي قد لاذ بالمؤيدي لثقله الاجتماعي في أوساط قبائل صعدة، فهو ابن الإمام الحسن المؤيدي، وهو كذلك صهر الإمام القاسم، وكان يعتقد أنه في حال انهزامه وحليفه المؤيدي، فإن الإمام لن يقف مكتوف اليدين أمام الأمر الواقع، وسيتدخل لإنقاذ المؤيدي، وهو الأمر الذي كان يؤمله -الأمير محمد التركي- لإشراك القوات الإمامية لترجيح كفته خلال المواجهة مع القوات العثمانية. ولقد كان لانضمام أحمد المؤيدي إلى جانب حاكم صعدة العثماني بالغ الخطورة على الجانب الإمامي، كونه اعتبر أحد الأسباب التي أدت إلى نقض الصلح بين الإمام وجعفر باشا، كما سنتبين في ما بعد.
خاض الجانبان -قوات جعفر باشا وقوات الأمير التركي- معركة غير متكافئة، أدت إلى انهزام الأمير محمد التركي، وفراره من أرض المعركة ثم لجوئه إلى شريف مكة. في ما لم يكن أمام المؤيدي سوى الالتجاء إلى الإمام، وبذلك الانتصار استطاع جعفر باشا أن يضع حداً للتطلعات الاستقلالية لحاكم صعدة العثماني، وأن يعيد الإقليم إلى حظيرة السيطرة العثمانية في اليمن.
وفي حقيقة الأمر فقد كان الصلح توطيداً لأقدام الإمام القاسم في المناطق الشمالية، كما كانت الاضطرابات التي واجهت جعفر باشا من جانب العثمانيين واليمنيين على السواء بداية لامتداد سيطرة النفوذ الإمامي إلى أقاليم الشمال الجبلي.
ولقد استمر الصلح بين الجانبين إلى شهر ربيع أول من سنة 1021ه/مايو1612م، ولم تحدث خلال تلك المدة أية أحداث، وحسب المؤرخ الشرفي فقد كانت الأمور: "في مدة الصلح بين الإمام وجعفر جارية على السداد ولم يجر فيها ما يفضي منافرة". وربما غض الطرف كل منهما عن الآخر إزاء بعض القضايا التي لا تستوجب حفاظاً على الصلح.
الفصل الرابع المرحلة الثالثة لثورة الإمام القاسم
(1021-1025ه/1612-1616م)
تصادم القوى العثمانية وأثره على ثورة الإمام القاسم
لم تمر أحداث المواجهات العسكرية في إقليم صعدة بين العثمانيين -جعفر باشا والأمير محمد التركي- بسلام كما توخاها جعفر باشا، خاصة وأن الدولة العثمانية قد أقلقها اضطراب الأمور في صفوف القوات العثمانية في ولاية اليمن، وخشيت ظهور تمردات أخرى، في محيط قواتها هناك، قد تؤدي إلى زعزعة نفوذها في الولاية. لذلك فقد سارعت إلى إقصاء جعفر باشا من منصبه حيث أصدر السلطان أحمد بن مراد مرسوماً في شهر رمضان سنة 1021ه/اكتوبر1612م قضى بعزل جعفر باشا وتعيين إبراهيم باشا بدلاً عنه.
ويبدو كذلك أن العلاقات الوثيقة القائمة -وقتئذ- بين الأمير محمد التركي -حاكم صعدة- بكبار رجالات الدولة العثمانية، خاصة رئيس الوزراء -الصدر الأعظم- مراد باشا، كانت سبباً آخر في تلك الإجراءات التي عمدت إليها السلطنة.
تحرك جعفر باشا من صنعاء إلى مدينة تعز، لتسليم أمور الولاية إلى الوالي الجديد إبراهيم باشا والذي كان قد وصلها في شهر ربيع الأول من سنة 1022ه/يونيو1613م. وقد عهد إلى الأمير عبد الله شلبي أحد رجالاته -المقربين منه- للقيام بهذه المهمة. ويبدو أن شلبي كان قد: "نوى في نفسه التخلف عن جعفر باشا والمخادعة". وهو الأمر الذي عمد إليه خلال مثوله إمام إبراهيم باشا، حيث أعلن الولاء والطاعة له.
ولقد كان لموقف الأمير شلبي هذا بالغ الأثر لدى جعفر باشا، خاصة وأنه كان قد عينه خلال فترة ولايته لليمن نائباً له، وأصبح ذو مكانة رفيعة في مركز الحكم العثماني بصنعاء، وقد وصفه أحد المؤرخين المعاصرين بأنه كان: "صاحب الحل والعقد" في تسيير أمور الولاية -وقتئذ-.
سارع إبراهيم باشا بتعيين الأمير عبد الله شلبي قائداً عسكرياً، وأمره بالتقدم إلى صنعاء، لتسيير الأمور في مركز الحكم العثماني إلى حين وصوله -إبراهيم باشا- ويبدو أن الوالي الجديد قد عمد إلى إجراءاته تلك، كون شلبي خبيراً بشؤون الولاية -كما أشرنا آنفاً- بالإضافة إلى علاقاته الواسعة مع زعما القبائل في مناطق النفوذ العثماني في الشمال الجبلي.
وعقيب وصوله صنعاء حشد الأمير عبد الله شلبي القوات العثمانية المرافقة له وعززها بقوات إضافية من القبائل المجاورة -بحسب توجيهات إبراهيم باشا- وجعلها في حالة استنفار في مخيم نصبه لذلك إلى الغرب من باب شعوب. ولقد كانت تلك الإجراءات والتحركات العسكرية التي أمر بها إبراهيم باشا بمثابة رسالة موجهة إلى الإمام القاسم، تؤكد إحكام السيطرة العثمانية قبضتها على مناطق النفوذ العثماني. وليمنع كذلك أية محاولة قد يقوم بها الإمام -مع الظروف القائمة وقتئذ- للتقدم بقواته إلى صنعاء.
لم تستطع الإدارة العثمانية الجديدة مباشرة مهامها، وما كانت تؤمله من إجراءات ربما أرادت من خلالها مواصلة جهود الجانب العثماني الرامية إلى القضاء على ثورة الإمام القاسم في مناطق الشمال الجبلي، فلقد حالت الأقدار دون أن يشهد إبراهيم باشا ذلك حيث قضى مع قرب وصوله إلى صنعاء في 27جمادى الأولى 1022ه/17مايو1613م، وتم مواراة جثمانه في مدينة ذمار.
خشي كبار الأمراء الذي قدموا في معية إبراهيم باشا -كهيئة استشارية- لمساندته في إدراة شؤون البلاد، أن تحدث وفاته فراغاً سياسياً وعسكرياً يؤدي إلى اضطراب شؤون الولاية، وهو الأمر الذي قد يشجع الإمام القاسم بتوجيه قواته لاقتحام صنعاء، والسيطرة عليها. لذلك قرروا بعد عقد اجتماع لهم استدعاء جعفر باشا الذي أوشك على الرحيل من البلاد -لإدارة شؤون الولاية بالوكالة إلى حين تعيين وال جديد.
أدرك جعفر باشا خطورة الوضع القائم -وقتئذ- وأن الضرورة تقتضي تحركات عاجلة لاستقرار الأوضاع في البلاد، خاصة وأن الأمير عبد الله شلبي -الذي تنكر له عقب عزله عن الولاية- قابضاً على مجريات الأمور في مركز الحكم العثماني بصنعاء، وهو المتطلع لزعامة سياسية عثمانية في الولاية.
وفي محاولة كان الغرض منها استمالة شلبي فقد بعث جعفر باشا برسالة إليه يؤكد فيها إبقاؤه في منصبه الذي أقره إبراهيم باشا قبل وفاته.
وفي واقع الأمر لم يكن ما عمد إليه -جعفر باشا- موضع ترحيب لدى شلبي، وهو العارف بدهاء وسياسة جعفر باشا بحكم ملازمته له لأمد غير قليل أثناء فترة توليه ولاية اليمن -كما أشرنا آنفاً- وأيقن أن الخطر بات يحدق به مع تقدم جعفر باشا بقواته إلى صنعاء. فلم يكن أمامه سوى اللجوء إلى تقوية جانبه العسكري، حيث قام باستدعاء الأمراء والقادة العسكريين المرابطين في صنعاء، وأوضح لهم خطورة الوضع القائم -وقتئذ- وأمر جميع القوات أن تكون في حالة استنفار لمواجهة محتملة مع قوات جعفر باشا.
ولكسب الولاء والطاعة من قبل هؤلاء فقد أكد لهم -شلبي- أن الحشود العسكرية على صنعاء التي يعتملها الجانب الآخر، تعد انتهاكاً صارخاً للآوامر السلطانية، خاصة وأن جعفر باشا قد عزل عن الولاية بموجب مرسوم سلطاني. والضرورة في أمر كهذا تقتضي ردع أية محاولة من شأنها إحداث فوضى واضطراب في صفوف القوات العثمانية إلى حين تعيين والٍ جديد.
ويبدو أن الدولة العثمانية قد أدركت خطورة الأوضاع في اليمن وأن الاضطراب في صفوف قواتها هناك، سيؤدي إلى نتائج تنعكس سلباً على نفوذها في الولاية، وهو الأمر الذي قد يستغله الجانب الزيدي لتوسيع نطاق نفوذه، لذلك فقد سارعت بإقرار ولاية ثانية لجعفر باشا لتهدئة الوضع القائم.
إزاء تطورات الأحداث -الآنفة الذكر- قام الأمير شلبي بالاتصال بالإمام القاسم، وأطلعه في رسالة بعث بها إليه على مجريات الأوضاع موضحاً أن استقراء الأحداث تؤكد أن جعفر باشا في حال انتصاره سيعاود الحرب على الإمام لاستعادة مناطق نفوذه التي استولى عليها الجانب الزيدي -كما أشرنا آنفاً- ولم يكتف شلبي بذلك بل عمد إلى مولاة الإمام في محاولة سياسية كان الغرض منها كسب الجانب الإمامي ليكون حليفاً قوياً في حال اندلاع المواجهات مع جعفر باشا ولتعزيز جانبه العسكري كذلك، فقد استدعى جميع القوات العثمانية المرابطة في أقاليم النفوذ العثماني في المناطق الشمالية إلى صنعاء.
حاول جعفر باشا الاتصال مرة ثانية بالأمير عبد الله شلبي، لتهدئة الأمور بين الطرفين، خاصة وقد تناهت إليه تحركاته العسكرية.
ويبدو أنه أراد تفادي ما ستؤول إليه المواجهات بين الجانبين، وما سيترتب عليها من نتائج لا يحمد عقباها في صفوف القوات العثمانية حيث بعث برسالة إليه -شلبي- بواسطة الأمير علي بن شمس الدين، يقر فيها الأمير شلبي حاكماً على إقليم صعدة مع تعزيزه بكل القوات المتحالفة معه ليستعيد بذلك الإقليم من تحت أيدي القوات الإمامية التي كانت قد استولت عليه أثناء رحيله عن صنعاء في ولايته الأولى، ومن جهة ثانية يكون قد حسم عدم احتراب الجانبين.
لم تؤد محاولات جعفر باشا -السابقة الذكر- إلى إحراز تقدم يذكر من جانب الأمير عبد الله شلبي لتفادي المواجهات، بل أدت إلى ازدياد تدهور الموقف بين الجانبين، حيث اتخذ شلبي موقفاً معارضاً لما أراده جعفر باشا، إلا أنه اقترح عليه في معرض رده على خطابه -الآنف الذكر- تقسيم الولاية بينهما، على أن يكون له -شلبي- صنعاء وما يليها شمالاً، وأن تكون الأقاليم الممتدة من ذمار إلى عدن جنوباً لجعفر باشا.
أدرك جعفر باشا -حينئذ- أن المواجهة العسكرية هي الخيار الوحيد، لوضع حد لتمرد الأمير عبد الله شلبي لإعادة هيبة الدولة العثمانية على الولاية، وإلى منع أي إجراءات قد يحسمها الإمام القاسم لصالحه خاصة مع اتساع حدة الخلاف بين الجانبين -جعفر باشا وشلبي-. لذلك فقد أمر قائد جيشه الأمير حيدر بالتحرك لحصار صنعاء.
وخلال تقدم الأمير حيدر إلى صنعاء، برزت انقسامات في صفوف جانب الأمير شلبي، تزعمها بعض من الأمراء الزيديين والعثمانيين، أمثال الأمير درويش، الأمير عبد الله بن المعافا، الأمير صلاح المؤيدي، والأمير علي بن الشويع. الذين أدركوا ان الأمور باتت تسير لصالح جعفر باشا، لذلك فقد قاموا بمراسلة الأمير حيدر -سراً- طالبين الأمان لتسليم أنفسهم وقرابة: "ألف نفر" من جنود الأمير شلبي إلى أيدي قوات جعفر باشا شريطة عدم إحداث أعمال سلب ونهب وتخريب لمدينة صنعاء أو الإضرار بأهلها عند دخولها.
وفي واقع الأمر فقد أضعفت تلك الانقسامات -الآنفة الذكر- في صفوف قوات الأمير شلبي موقفه العسكري من جانب، ومن جانب آخر مكنت قوات الأمير حيدر من إحكام السيطرة والحصار على مدينة صنعاء، ثم خوض معركة لم يمتد أجلها أدت إلى دخول المدينة وإلقاء القبض على الأمير عبد الله شلبي ومن في معيته من الأمراء والجنود.
أمر الوالي جعفر باشا بتشكيل مجلس عسكري يتألف أعضاؤه من كبار الأمراء والقادة العسكريين الذين في جانبه لمحاكمة الأمراء الذين تم أسرهم خلال الحرب مع عبد الله شلبي. في ما أصدر أوامر إلى الأمير حيدر بإعدام الأمير شلبي وكبار مستشاريه. وبهذه النتيجة القاتمة استطاع جعفر باشا أن يضع حداً لتمرد كاد يزعزع السيطرة العثمانية في الولاية.
نقض صلح (1016ه/1607م) وتوسيع نفوذ الإمام القاسم
مما لا شك فيه أن صلح 1016ه/1607م، كان قد وضع حداً لحروب طال أمدها بين الجانبين الزيدي والعثماني، وأدى بالتالي إلى استقرار يذكر في أقاليم البلاد -كما أشرنا في الفصل الثالث- إلا أن قرار عزل جعفر باشا عن الولاية مثَّل بداية فعلية لخرق صلح 1016ه/1607م. من قبل الإمام القاسم الذي خشي أن يلجأ الوالي الجديد إبراهيم باشا إلى الحرب ثانية للاستيلاء على ما تحت يده من مناطق الشمال الجبلي، كما حددها بنود صلح 1016ه/1607م، وبالتالي عدم الاعتراف بإمامته، وهو الأمر الذي إن حدث سيؤدي إلى اضطراب في صفوف مؤيديه ومناصريه خاصة وأنهم قد استراحوا إلى الدعة أيام الصلح.
استدعى الإمام القاسم كبار مستشاريه: "الذين يباشرون الحرب". لإطلاعهم على تطورات الأحداث، وما هو عازم عليه، لاتخاذ قرار بشأنه، ويبدو أن هؤلاء كانوا قد أدركوا خطورة الوضع القائم -حينئذ- فلم يكن هناك ثمة معارض لإعلان الحرب، بل وطلبوا منه سرعة التحرك بقواته لإحكام السيطرة على مناطق النفوذ العثماني في الشمال الجبلي، خاصة مع الاضطرابات القائمة في صفوفهم -كما أشرنا آنفاً-.
وتجدر الإشارة إلى أن الأمير عبد الله شلبي، كان قد عرض على الإمام أن يقف إلى جانبه، ليكون حليفاً له ضد قوات جعفر باشا خلال المواجهات الآنفة الذكر مقابل أن يمكنه: "من أكثر البلاد" كما أنه سحب غالب قواته من مناطق الشمال الجبلي إلى صنعاء لمواجهة جعفر باشا. إلا أن الإمام لم يثق بعروض شلبي ويبدو أنه أدرك أن العثمانيين إذا: "ما انتظم أمرهم ثاروا عليه جميعاً".
وفي حقيقة الأمر فقد مثل انسحاب القوات العثمانية إلى صنعاء من المناطق الشمالية، عاملاً هاماً أدى إلى سرعة تحرك الإمام لمد نفوذه وإحكام سيطرته على مناطق نفوذ العثمانيين دون مقاومة تذكر من جانب، ومن جانب آخر أدى كذلك إلى انضمام غالب قبائل تلك المناطق إلى الإمام، وأعلنت مبايعتها وموالاتها له.
شن الإمام الحرب ثانية على العثمانيين، ليبدأ بها المرحلة الثالثة من ثورته، مستغلاً حالة الفراغ السياسي والعسكري الناشئ حوله في صفوف العثمانيين لبسط نفوذه وسيطرته على رقعة أوسع من أقاليم الشمال الجبلي. وقد عمد مع خطواته تلك إلى تحويل هيئته الدعوية إلى قيادة سياسية وعسكرية تحمَّل غالب صلاحيتها أبناؤه -محمد وعلي والحسن والحسين- وأحمد بن الإمام الحسن بن علي المؤيدي.
وفي خطوات متسارعة لتنفيذ إجراءاته تلك لإحكام السيطرة الزيدية ومد نفوذها، فقد وجه ابنه الحسن إلى الاستيلاء على مناطق شطب وبلاد جنب يساعده في ذلك عدد من قادته العسكريين. في ما وجه ابنه علي إلى الشرفين، وأوكل مهمة السيطرة على حجة إلى ابنه الحسين، بينما أرسل أحمد بن الحسن المؤيدي إلى مواجهات عسكرية مع القوى العثمانية في مناطق عمران وبلاد لاعة وجبل تيس. وأصدر أوامره كذلك إلى قائده العسكري أحمد بن عواض الأسدي بالتحرك إلى جهات: "المشارق وبلاد حاشد وبكيل". ذات العمق الاستراتيجي والبشري والتي أعلنت مولاتها له.
أما إقليم الحيمة والذي بات يشكل له أهمية سياسية وعسكرية -كما أشرنا آنفاً- فقد أناط مهمة القيادة فيه إلى بعض الفقهاء وشيوخ القبائل هناك، أما مناطق بلاد نهم وخولان وظفار داود فقد أوكلت مهام مد النفوذ الإمامي إليها إلى القائد العسكري أحمد القطابري.
ولم يكن إقليم صعدة النائي والذي استعصى عليه خلال المرحلتين الأولى والثانية من ثورته -كما أشرنا آنفاً- بعيداً عن تلك الإجراءات فقد ولَّى عليه محمد بن أحمد بن عز الدين، ولمزيد من إحكام السيطرة على الإقليم أصدر توجيهاته لابنه الحسين في التوجه إلى صعدة: "لحفظ المدينة وإقرار الأحكام" وتسيير الأمور فيها.
وكيفما كان الأمر فقد استطاع الإمام من مركزه بشهارة الدفع بقادته العسكريين على رأس فرق قبلية محاربة من إقليم الشمال الجبلي، تساندها شيوخ القبائل وأعداد من السادة والفقهاء الزيديين، واكتسح غالب المناطق الشمالية وإلحاقها بالنفوذ الإمامي -كما أشرنا آنفاً- ويبدو حسب مؤرخ محدث أن: "انتهاز الفرص للقيام بأعمال النهب والسلب قد أغرت الكثير من القبائل للالتحاق بالثورة مما وسع نطاق الأحداث آنذاك". والتي استولت خلال انتشارها السريع في غالب المناطق الشمالية على عدد غير قليل من الغنائم، خاصة منها العتاد العسكري الذي خلفته الحاميات العثمانية أثناء التحاقها بعبد الله شلبي في صنعاء لمواجهة جعفر باشا -كما أشرنا آنفاً- أو تلك التي أرغم ما تبقى منها في الشمال الأعلى على تركه مقابل انسحاب آمن لها كما حدث في مدينة صعدة.
وفي حقيقة الأمر لم يستطع الإمام القاسم، رغم إجراءاته -الآنفة الذكر- من تحقيق أهدافه -كما كان يتوخاها- وقد كانت على مرمى حجر من التحقق في سلطة حاكمة، فلقد حالت التطورات المتسارعة -وقتئذ- دون ذلك. حيث لم تنته الأشهر الأخيرة من سنة1022ه/1614م إلا وقد انقلب الموقف إلى النقيض، حين استطاع جعفر باشا القضاء على تمرد الأمير عبد الله شلبي في صنعاء -كما أشرنا آنفاً- فقد وجه قواته وأمراءه الزيديين -المتعاونين معه- إلى مواجهة أشد مع الإمام لاستعادة المناطق التي امتدت إليها يد القوات الإمامية الآنفة الذكر.
وجه جعفر باشا قوات عسكرية تحت إمرة قائده العسكري الأمير حيدر يصل قوامها إلى: "سبعة عشر ألف خيلا ورجلا". لتخوض معارك ضارية مع الجانب الإمامي في مناطق عمران ونواحي كوكبان وثلا، استطاع خلالها من تحقيق نصر يذكر على القوات الإمامية، بل وأسر الحسن بن الإمام وإرساله إلى صنعاء حيث تم التحفض عليه في سجن الدار الحمراء، وقد تمكنت القوات العثمانية كذلك من استعادة سيطرتها على بلاد الشرف وجهاتها وعفار وجنب والمحابشة، ولقد ساعدت الإغراءات المادية التي عمد إليها الأمير حيدر على كسب قبائل تلك الجهات، التي أعلنت ولائها للعثمانيين، وأجبرت القوات الإمامية على التقهقر إلى مراكز النفوذ الإمامي.
وفي هذه الأثناء استطاعت القوات العثمانية من إحكام سيطرتها على إقليم الحيمة، دون مقاومة تذكر، حيث والت غالبية قبائل الإقليم العثمانيين، ويبدو أن حروب المرحلتين الأولى والثانية من ثورة الإمام القاسم، وعمليات البطش والتنكيل التي اعتملها العثمانيون هناك قد تركت أثرها على تلك القبائل التي سارعت إلى إعلان ذلك الولاء لحماية أهاليها وممتلكاتها.
وفي شهر ذي الحجة من سنة 1022ه/يناير 1614م تمكنت القوات العثمانية من السيطرة على مدينة وادعة، والتي حسب المؤرخ الشرفي قد: "انتهبوها وأخربوها". ولم يكن أمام قبائل وادعة حيال أعمال السلب والنهب التي تعرضت لها مدينتهم سوى إعلان الولاء والطاعة للعثمانيين، تفادياً للمزيد من التخريب والبطش للأهالي والمدينة.
وفي إجراءات عسكرية مشددة فقد دفع الأمير حيدر كذلك بقواته لتأمين جبهات القتال في إقليم صعدة، ولم يكتف بذلك بل عمد إلى بذل الأموال للقبائل -الساعية وراء الغنائم- ولقد أثمرت تلك الإغراءات أكلها حيث تخلت غالب قبائل صعدة عن الوقوف إلى جانب القوات الإمامية، وكان لذلك أثره البالغ في اختلال جبهات القتال لقوات الحسين بن الإمام القاسم، الذي لم يستطع الصمود طويلاً، أمام الضربات العسكرية لقوات العثمانيين. وفي واقع الأمر فقد كان على القوات الإمامية في جبهة صعدة أن تخوض غمار المواجهات العسكرية في أكثر من منطقة في الإقليم، خاصة وقد انظم غالب قبائل تلك الجهات إلى الجانب العثماني، وهو الأمر الذي أدى إلى تشتيت المجهود الحربي في صفوف قوات الإمام وأنهك قواها.
وكان الأمير حيدر قبل ذلك قد استولى على منطقة الهجر من وادعة، وأبقى الأمير عبد الله بن المعافا على رأس قوات عسكرية عثمانية هناك لحماية مؤخرته خلال تقدمه إلى صعدة يسانده في ذلك مشائخ قبائل عذر والأهنوم التي أعلنت طاعتها للعثمانيين.
ومن الأهمية بمكان أن نذكر، أنه رغم الصعوبات التي واجهتها القوات الإمامية خلال معاركها في إقليم صعدة مع القوات العثمانية، إلا أنها استطاعت أن تكبد الجانب العثماني خسائر غير قليلة في صفوف قواته في معركة العرو التي وقعت في ربيع الأول سنة 1023ه/يونيو1614م بين الجانبين.
كما أحكمت القوات الإمامية كذلك، حصارها على قوات العثمانيين في منطقة الحضائر، ولم يستطع الأمير حيدر -قائد الجند العثماني- إزاء ذلك من فك الحصار، خاصة ولم تصله أي إمدادات عسكرية من منطقة الهجر من بلاد وادعة، والتي كانت تشكل -كما ذكرنا آنفاً- مؤخرة لإمداد الأمير حيدر بما يحتاجه من قوات في جبهات صعدة، ولقد فقد الجانب العثماني خلال معركتي العرو والحضائر قرابة (1500جندي) وأحد كبار قادته العسكريين، وهو الأمير أحمد الأخرم.
أدرك الإمام أن الوضع القائم إزاء تدهور الجانب العسكري في صفوف قواته، وتقهقرها في أكثر من منطقة في الشمال الجبلي، قد يؤدي إلى نتائج غير متوخاة في مسار المرحلة الثالثة من ثورته ضد الوجود العثماني، كما كان الأمر خلال المرحلة الأولى للثورة، لهذا فقد قام في أواخر شهر ربيع الأول من سنة 1023ه/يونيو1614م بتفقد جبهات القتال في مناطق عذر والعصيمات وقطبين وبير أثلة، وجبل سيران، وجهات حجور والشرف، إلى أن استقر به الأمر إلى منطقة الأهنوم. وعمد خلال زياراته تلك على تحفيز قواته ومؤيديه وأنصاره بمواصلة المقاومة ضد القوات العثمانية.
ويبدو أن تحركاته -الآنفة الذكر- كان لها مردودها الإيجابي، فهي قد أعادت الثقة للمقاتلين في استمرارية الصمود والمقاومة، لتخليص البلاد من السيطرة والنفوذ العثماني -الهدف الرئيس لثورة القاسم- وهي -الزيارات- إلى ذلك قد قوت جانبهم المعنوي.
ولعل ذلك يتضح بجلاء عندما استعادت تلك القوات نشاطاتها العسكرية من جديد حيث أحكمت حصارها على الأمير عبد الله بن المعافا ومن معه من القوات العثمانية في منطقة الهجر من بلاد وادعة، لقطع الإمداد العسكري العثماني إلى إقليم صعدة خلال معاركه مع الجانب الزيدي -كما ذكرنا آنفاً- ولم تجد محاولات العثمانيين في فك الحصار على قواتهم في الهجر، بل أدت إلى نتائج وخيمة حيث خاض الجانبان معارك ضارية في الهجر قتل خلالها قائدا الحملة العثمانية الأمير عبد الله درويش والأمير عبد الله بن المعافا، وعدد غير قليل من الأمراء وقادة الجيش العثماني والجنود، وتم أسر أعداد كبيرة من تلك القوات خلال معركة غارب أثلة التي وقعت أحداثها في يوم الأحد 13 شهر جمادى الآخرة 1023ه/23 إبريل1614م.
وفي واقع الأمر فقد كان لهذه المعركة نتائج إيجابية، كونها أعادت الثقة إلى القوات الإمامية لاستمرار المقاومة ضد الوجود العثماني بعد أن كان اليأس قد أصابهم خلال الانتصارات التي حققها الجانب العثماني -عليهم- في غير منطقة من مناطق الشمال الجبلي -كما أشرنا آنفاً- في ما كانت نتائجها سلبية في الجانب العثماني، حيث أدت إلى تذمر الجنود العثمانيين الذين: "ضاقوا من طول الحروب".
أيقن جعفر باشا أن مواصلة الحرب ضد الجانب الزيدي، مع انهيار الجانب المعنوي في صفوف قواته، لن يؤدي إلى تحقيق أي انتصار يذكر في مواجهات جديدة مع القوات الإمامية، ولعله أدرك بأنه قد ارتكب خطأً فادحاً نتيجة نقضه صلح 1016ه/1607م. كونه قد تورط في أتون حرب مع القوى القبلية أثارت بالتالي شهية هذه القوى للغنائم التي قد تؤول إليها من الفرق العثمانية الجيدة التجهيز، لهذا فقد بادر إلى الإمام لطلب العودة إلى الصلح (الآنف الذكر).
لم يجد طلب جعفر باشا آذاناً صاغية لدى الإمام الذي رأى في واقع الأمر أن العودة إلى الصلح، يعني تنازله عن المناطق التي كان قد استولى عليها عقب نقض الصلح، وذلك استناداً إلى بنوده التي حددت مناطق نفوذ كلا الجانبين.
لقد أدت الإجراءات العسكرية التي عمد إليها الإمام القاسم، في بداية المرحلة الثالثة من ثورته لأحكام سيطرته على مناطق الشمال الجبلي إلى إكسابه التأييد السياسي والمذهبي في أوساط العديد من قبائل تلك المناطق، وقد تزامن ذلك مع تحقيق قواته لعدد من الانتصارات العسكرية في المناطق المحيطة بالأهنوم، كان أهمها حسب مؤرخ محدث: "ما حدث في غارب أثلة شمال جبال الأهنوم -الآنفة الذكر- والتي أدت إلى زعزعة الحكم العثماني في البلاد وأوجدت تذمراً واسع النطاق في صفوف القوات العثمانية.
إزاء ذلك بدأ الإمام القاسم يرنو إلى توسيع نفوذه إلى مناطق لم تصلها يده خلال المرحلتين الأولى والثانية من ثورته، ولهذه الغاية فقد وجه قواته في ربيع أول 1023ه/يونيو1614م إلى جهات الشرف لخوض معارك أشد مع القوات العثمانية، تمكنت خلالها من الاستيلاء على مناطق خمر والسنتين وعيال يزيد وبلاد الخشب -القريبة من صنعاء- وسفيان ومرهبة.
في ما تمكن ابنه الحسين من هزيمة الحاميات العثمانية المرابطة في جهات حجة ونواحي بلاد لاعة، استطاع إثرها من الاستيلاء على حصون كوكبان ومبين من بلاد مسور ذات الأهمية الاستراتيجية العسكرية.
وفي هذه الأثناء كان قائده العسكري عبد الله الطير، قد أحكم قبضته على إقليم الحيمة -ساندته في ذلك قبائل الحيمة- واستولى كذلك حسب مؤرخ معاصر على: "البلاد الحضورية جميعها، وأمدت يده إلى سنع وحَدَّه" كما أنه استولى على منطقة عصر الواقعة أعلى صنعاء إلى الغرب: "ولم يبق بينهم وبين صنعاء سوى ثلاثة أميال أو أربعة". مما شكل تهديداً مباشراً لمركز الحكم العثماني.
وامتدت المواجهات العسكرية بين الجانبين -الإمامي والعثماني- إلى بلاد آنس حيث خاضت القوات الإمامية تحت إمرة الشيخ يوسف الحماطي في منتصف سنة 1023ه/يونيو/يوليو1614م معارك ضارية مع القوات العثمانية أدت في نهاية المطاف إلى انهزام الجانب العثماني وتقهقر قواته إلى صنعاء، وتوالت مجريات الأحداث لتؤكد تحقيق نصر آخر يذكر للقوات الإمامية في منطقة غربان ذات الأهمية الاسترتيجية، ولَّى على إثرها الأمير حيدر وجميع جنوده منهزماً إلى منطقة خمر.
وشهد إقليم صعدة هو الآخر مواجهات عسكرية بين القوات الإمامية والعثمانية، ويبدو أن معركة غارب أثلة -الآنفة الذكر- والتي أدت إلى قطع الإمداد العسكري العثماني إلى الإقليم كانت قد شجعت علي بن الإمام القاسم -الذي كان يضرب حصاره على صعدة- في مد نفوذ يذكر للإمامة إلى داخل مناطق الإقليم، خاض خلالها معارك اتسمت بالضراوة الشديدة مع قوات الجانب العثماني، أدت في نهاية الأمر إلى مقتله وقرابة ثلاثمائة جندي من قواته في معركة الشقات التي جرت وقائعها في 19جمادى الآخرة سنة1023ه/29إبريل1614م، ولعل كثرة أعداد القوات العثمانية والعتاد العسكري الكبير الذي كان في معيتها، بالإضافة إلى موالاة غالب قبائل صعدة للجانب العثماني، كانت من الأسباب الهامة في تحديد تلك النهاية القاتمة لعلي بن الإمام القاسم.
ولم يكن إقليما ريمة ووصاب -اللذان شكلا خلال المراحل الأربع لثورة الإمام مصدر إزعاجاً وقلقاً للعثمانيين- بعيدين عن مجريات الأحداث، فقد استغلت قبائلهما انشغال قوات جعفر باشا في معاركها ضد الإمام في مناطق الشمال الجبلي، وأعلنت التمرد على الحاميات العثمانية المرابطة في الإقليمين التي كانت تحت إمرة القائد العثماني الأمير محمد، وفي حقيقة الأمر لم تستطع القوات العثمانية من تحقيق نصر يذكر خلال المواجهات العسكرية التي خاضتها مع قبائل ريمة ووصاب، حيث أدت تلك المواجهات إلى وقوع خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد الحربي في صفوف قوات الجانب العثماني. وهو الأمر الذي جعل القائد العسكري الأمير محمد يفر وبعض من قواته من أرض المعركة إلى زبيد.
وباستقراء الأوضاع القائمة -وقتئذ- سنرى أنه بمصرع علي بن الإمام القاسم في معركة الشقات في إقليم صعدة -كما أشرنا آنفاً- تمكن الوالي جعفر باشا من وضع حد للتوسع الإمامي خاصة في قطاع الشام -صعدة- ولم يتداع أي من الطرفين إلى مواجهات جديدة، سوى معركة جرت وقائعها في منطقة الفايش القريبة إلى غربان -وهي من المناطق ذات العمق الاستراتيجي بالنسبة لمدينة صنعاء- ويبدو أن الإمام قد أراد من خلال تلك المعركة الاستيلاء على حصن الفايش الاستراتيجي لإحكام قبضته على المناطق المجاورة والتي كانت قد امتدت يده إليها.
وفي حقيقة الأمر فقد خاضت القوات الإمامية معركة ضارية ضد القوات العثمانية، حققت فيها نصراً يذكر، قتل خلالها قرابة مائة من القادة والجنود العثمانيين.
صلح (1025ه/1616م) بين الإمام القاسم والوالي العثماني جعفر باشا ونتائجه
أدرك الجانبان الزيدي والعثماني، أن ظروف كلا منهما باتت لا تتحمل الاستمرار في مواجهات جديدة، حيث ادت الحروب بينهما إلى تشتيت مجهودهما الحربي وإنهاك صفوف قواتهما. لذلك فقد بادر الطرفان حين دعا أحدهما -جعفر باشا- خلال سنة 1025ه/1615م إلى عقد صلح إلى الموافقة عليه. خاصة بعد أن أصبح للسيطرة الإمامية حسب مؤرخ محدث: "ممثليها في بقاع لم يتضمنها صلح 1016ه/1607م، وصار بإمكان الإمام أن يفاوض جعفر باشا باعتباره زعيماً لتكتل قبلي ومذهبي مؤثر وسط الشمال الجبلي.
ويبدو أن الصلح كان من الأهمية بمكان للجانب العثماني، خاصة مع قرار عزل الوالي جعفر باشا عن ولاية اليمن، وتعيين محمد باشا بدلاً عنه، والذي خشى كما يذكر الجرموزي: "أن يسير والفتنة في إثره". لذلك فقد طلب من الحسن بن الإمام القاسم، المأسور لدى مركز الحكم العثماني في الدار الحمراء بصنعاء، تحرير رسالة إلى والده لإطلاعه على نوايا الوالي قبل رحيله عن الولاية، ويبدو أنه -جعفر باشا- قد عمد إلى ذلك لإدراكه أن الرسالة سيكون وقعها إيجابي بالنسبة للإمام، خاصة وأنها من ابنه -الحسن- أحد أركان حكمه، وهي كذلك لن تجافي الحقيقة.
وكيفما كان الأمر، فقد كتب الحسن قصيدة حملت في مدلولها السياسي نشدان الصلح وما سينتج عنه من استقرار للأوضاع في البلاد، حيث قال:
مولاي إن الصلح أعذب مورداً .... فاسلك له سبلا سوياً أجردا
أرسل دلاء الحلم في صافيه كي .... تروي ضماة المسلمين عن الصدى
واجعل رفيق القسط فيه مانحاً .... والرفق يمنح والسماحة مرقدا
فالصلح فيه للأنام صلاحه .... والحرب أوهن ذا الأنام وأفسدا
ولقد كان للقصيدة وقعها على الإمام، رغم أنه لم يعرف كاتبها كون وابنه الحسن لم يمهرها بتوقيعه. إلا أن الضرورة كانت تقتضي الصلح، لهذا كانت الاستجابة من قبل الجانب الإمامي، لما دعت إليه رسالة الوالي جعفر باشا والمتمثلة في القصيدة -الآنفة الذكر- ويتضح ذلك عندما طلب الإمام من القاضي يحيى بن صلاح الثلائي -أحد مستشاريه- الرد على القصيدة بقصيدة مماثلة يؤكد من خلالها موافقته على طلب الصلح، إلا أن القصيدة أوضحت كذلك جانب القوة والمنعة الذي وصل إليه الجانب الزيدي، وأن قبوله الصلح لا يعني بالتالي أنه ناتج عن ضعف موقفه، وإنما مقتضيات الضرورة ونشدان أن الصلح خير، وليعم السلام بعد حروب طال أمدها حيث قال الثلائي في مطلع قصيدته:
يا مانحاً محض النصيحة مرشدا .... إن الهدى عندي لمن يبغي الهدى
والحلم نحن بحاره نروي بها .... ظامي الحشا وبنور عدل نقتدى
نحمي حما الإسلام أن يسطى به .... ونذود كل المسلمين عن الردى
والسلم إن تدعوننا نجنح لها .... والقول ما قلنا وإن رغم العدا
إلى أن قال:
إن تقبلوا صلحاً فإني قابل .... أو تحجمون فما عدا مما بدا
بدأ الجانبان مفاوضات لم يطل أمدها أدت في النهاية إلى قبول الطرفين الصلح، حيث بعث الإمام أحد مستشاريه وهو العلامة عامر بن أحمد الذماري إلى صنعاء، مقر إقامة الوالي جعفر باشا لإتمام عقد الصلح كانت أهم بنوده:
1- تحدد مدة الصلح بعام واحد يبدأ من شهر رجب من سنة 1025ه/يوليو-أغسطس1616م، وينتهي في رجب 1026ه/يوليو1617م.
2- يترك للإمام ما تحت يده من مناطق نفوذه والتي حددتها بنود صلح 1016ه/1607م وهي بلاد الحيمة، حضور، جبل مسور، بلاد صعدة، الأهنوم، عذر، وادعة، ظليمة، العصيمات، شهارة، برط.
3- يترك للإمام بموجب صلح 1025ه/1616م المناطق الجديدة التي لم يشملها صلح 1016ه/1607م، وهي المناطق المحيطة بجبل نيسا وحصن الظفير شمال شرقي إقليم حجة، وكذلك الأقاليم الممتدة غرب وشرق بلدة ريدة، وأيضاً المناطق القائمة إلى الغرب والشرق تقريباً من مدينة خمر وبلدة حوث وأطراف إقليمي خولان الشمالية ورازح إلى الشمال من شهارة، ورأس عصر أعلى صنعاء إلى الغرب منها.
4- إنهاء الحصار الذي تضربه القوات الإمامية على إقليم صعدة، وترحيل الأمير صفر حاكم الإقليم سالماً إلى صنعاء.
5- تعيين الأمير صلاح بن أحمد بن الحسين حاكماً لإقليم صعدة من قبل العثمانيين وأن يبقى بمعيته قرابة ألف جندي ونحو مائتي فارس من الجنود العثمانيين واليمنيين، لإدارة الإقليم وتنظيم أموره.
6- أن يظل الطريق من صنعاء -مركز الحكم العثماني- إلى إقليم صعدة في يد العثمانيين لإيصال الإمدادات الغذائية إلى الإقليم.
7- الإفراج عن الرهائن والأسرى من الجانبين.
8- أن يبقى الحسن بن الإمام القاسم لدى الجانب العثماني في سجنه بالدار الحمراء بصنعاء شريطة عدم انتقاله إلى مكان آخر.
ويمكن القول أن الصلح قد أفضى إلى نتائج -إيجابية- كان يؤملها الطرفان بعد أن تبادلت قوات الجانبين الهزيمة والنصر، خلال معارك استمرت قرابة العامين.
فبالنسبة للجانب العثماني، فقد مكن الصلح الوالي العثماني جعفر باشا من الخروج آمناً لدى مغادرته صنعاء -عقب قرار عزله- دون حدوث أية اضطرابات كان يخشاها، أثناء تسليمه أمور الولاية للوالي الجديد محمد باشا. كما اكد الصلح حقيقة هامة هي أنه رغم الانتصارات التي حققها الجانب الإمامي فإنها لم تكن تعني ضعف شوكة العثمانيين كثيراً، فما زالت سيطرتهم على غالب البلاد لها وقعها السياسي والعسكري، كما أن قواتهم كانت أكثر عدداً وأحسن تسليحاً.
استطاع العثمانيون كذلك وضع حد لأي توسع إمامي في الشمال الجبلي الأعلى (إقليم صعدة)، ويتضح ذلك من خلال نص إحدى مواد بنود الصلح تعيين حاكم للإقليم وإبقاء حاميات عسكرية عثمانية فيه من قبل الجانب الزيدي.
ولقد حصل العثمانيون كذلك على التزام ضمني بعدم تدخل الجانب الإمامي في أي أحداث قد تقع في مناطق نفوذهم، ويبدو ذلك واضحاً عندما رفض الإمام عقب الصلح التدخل في النزاع الذي حدث في إقليم صعدة -بعد رحيل جعفر باشا عن صنعاء- بين القوات العثمانية وقبائل صعدة، رغم استجارة تلك القبائل بالإمام، ولم يجبهم إلى طلبهم إلا بعد أن: "كملت السنة وانقضت أيام الصلح".
في ما مثل الصلح بالنسبة للجانب الزيدي -في المرحلة الثالثة للثورة- نجاحاً ملحوظاً في توسيع حدود ممتلكاته، حين أقر الصلح إضافة مناطق جديدة لم يشملها صلح 1016ه/1607م تندرج في إطار مناطق النفوذ الإمامي، ولقد بيّن الصلح حسب مؤرخ محدث: "توجهاً نحو تعايش طويل مع السيطرة العثمانية أو على الأقل إبداء حُسن النية في ذلك".
كما مكّن الصلح الإمام من الإبقاء على ابنه الحسن في سجنه بمركز الحكم العثماني بصنعاء، دون نفيه إلى استانبول -كما كان يهدد الجانب العثماني من قبل بشأنه- وتفادى بذلك مصيراً كاد يؤدي بحياة أحد أبنائه، كما لحق من قبل بأبناء المطهر بن الإمام شرف الدين.
ولقد هيأ الصلح كذلك الظروف المناسبة -مع تداعي المواجهات- بين الجانبين إلى الاستقرار والهدوء- للإمام لإعادة تنظيم نفوذه السياسي وسط التجمع القبلي في مراكز سيطرته في الشمال الجبلي التي كانت أغلب أقسامها وفروعها العليا قد والت الإمامة.
ويبدو أن الصلح قد مكّن الإمام كذلك من إعادة تنظيم هيكله الإداري لتنظيم جمع الضرائب -الزكاة- ومن إقامة إدارة مالية تتولى مهمة رعاية الفرق العسكرية ذات الصفة الرسمية، بالإضافة إلى تلك الفرق القبلية التي كانت تبادر إلى الانخراط في صفوف القوات الإمامية عند الحاجة إليها.
الفصل الخامس المرحلة الرابعة لثورة الإمام القاسم
(1026-1029ه/1617-1620م)
إعادة ترتيب الأوضاع في ولاية اليمن
لقد أدى صلح عام (1025ه/1616م) بين الجانبين -الزيدي والعثماني- كما أشرنا في الفصل السابق إلى استقرار نسبي للأوضاع في الولاية خاصة في شمال البلاد، حيث واصل الإمام القاسم اهتمامه والتوجه نحو اليمنيين في الشمال، وإبراز دور السادة الزيديين في الكفاح من أجل تحقيق أهداف إمامته، لتصبح حسب رأي مؤرح محدث: "ثمة بنية سياسية إمامية تسيطر على الشمال الأعلى من اليمن".
في ما حاول الوالي الجديد محمد باشا منذ أن وطأت قدماه البلاد في أواخر شعبان من سنة (1025ه/أغسطس1616م) تهدئة الأحوال المضطربة، خاصة وقد كانت حسب المؤرخ ابن لطف الله قد: "عمته الخطوب والفتن وتسلمه النصب والحزن وتفرقت قبائله زمراً"، جراء الحروب التي دارت وقائعها بين الطرفين -اليمني والعثماني- خلال فترة ولاية جعفر باشا.
وفي حقيقة الأمر فقد رأى مع بداية مباشرة مهامه، أن الضرورة تقتضي التركيز أكثر على أوضاع العثمانيين في اليمن، ومراجعة شاملة للإدارة العثمانية في الولاية. خاصة الجانب المالي منها، والذي أولاه جل اهتمامه، حيث أعاد تقويم النواحي المالية ومستلزمات إنفاقها، ويتبين ذلك بشكل واضح، حين أمر بالتدقيق في السجلات والدفاتر الخاصة برواتب الجنود العثمانيين، ومطابقة الأسماء التي بموجبها يتم صرف مرتبات هؤلاء الجنود.
كما أنه ضبط في سجلات خاصة تلك المقررات المالية (الرواتب) التي كانت تصرف لزعماء القبائل (الشيوخ) والوجاهات الاجتماعية في الولاية، بحيث استبعد الأسماء الوهمية التي كانت مثبتة في تلك السجلات.
ولقد أدرك محمد باشا ضرورة تقريب اليمنيين إليه، لتسهيل مهام إدارته للولاية، حيث أبدى اهتماماً بأوضاع الأهالي، وذلك بالقضاء على المظالم المالية -كثرة الضرائب- التي كانت سائدة قبيل ولايته وقد أصدر كذلك توجيهاته إلى حكامه وعماله في الأقاليم بالنظر في قضايا الأهالي وسرعة البت فيها بموجب أحكام الشريعة الإسلامية. كما أنه أطلق خلال مكوثه في مدينة تعز في شهر محرم 1025ه/يناير1616م سراح جميع السجناء الذين كانوا في سجن قلعة القاهرة -وقتئذ- وحسب مؤرخ معاصر للأحداث أن البعض من هؤلاء كان نزيلاً في سجن القلعة منذ: "قرابة ثلاثين عاماً". ولقد كان لهذه الإجراءات وقع في نفوس اليمنيين.
من جانب آخر حرص محمد باشا على رعاية حجاج بيت الله الحرام، حيث أولى اهتماماً كبيراً بالمحمل اليمني إلى مكة المكرمة، فقد أمر بتوفير الإمكانات الضرورية لتسهيل مهام الحجاج لأداء مناسك الحج مثل وسائل النقل من: "الجمال والرواحل لركوب الضعفاء والفقراء والأرامل". بالإضافة إلى مدهم بما يحتاجون من المواد الغذائية خلال رحلتهم الشاقة إلى الديار المقدسة.
وأبدى محمد باشا اهتاماً ملحوظاً بالناحية العمرانية، يتمثل ذلك في بنائه للمساجد أو إجراء الترميمات اللازمة للبعض منها، فهو قد أمر خلال زيارته لضريح ولي التصوف الشهير أحمد بن علوان بالحجرية، في شوال 1026ه/1617م ببناء جامع كبير وحفر بئر للجامع بجانب الضريح، وأغلب الظن حسب مؤرخ محدث: "أنه لم يحدث أن فعل وال عثماني مثل هذا من قبل". ولعله أراد بذلك إعطاء مزيد من الاهتمام بالطرق والزوايا الصوفية، والتصوف عامة: "بما من شأنه تقوية الطابع العثماني للتوجهات الروحية في الولاية".
وأمر كذلك بإعادة ترميم سور صنعاء حيث كلف: "العمارين بإصلاح شعبه وصدوعه وإقامته قبل حدوث وقوعه". كما أنه قام بترميم قلاع حجة التي خربت أو آلت للسقوط خلال المعارك التي جرت بين الجانبين الزيدي والعثماني منذ بداية ثورة الإمام القاسم، وأمر ببناء جامع مدينة يريم.
كما حرص محمد باشا على تشديد إجراءاته الأمنية، لحماية الأهالي خلال تنقلاتهم بين المدن -خاصة الرئيسية منها- وعمد في هذا الجانب إلى استمالة العديد من القبائل القريبة من هذه المدن، والتي باتت تمثل مصدر قلق وإزعاج جراء أعمال السلب والنهب في الطرق المؤدية لتلك المدن حيث قرر صرف مرتبات شهرية لهذه القبائل.
وسارع محمد باشا كذلك إلى وضع قيود على تداول مادة الكبريت في منطقة جبل الكبريت -الواقعة إلى الشرق من مدينة ذمار- والتي تصنع منها مادة البارود المادة الرئيسية للذخيرة الحربية، وذلك لمنع تداولها بين الناس خاصة المواليين للإمامة الذين أصبحوا متمرسين في صناعة مادة البارود لاستخدامها خلال معاركهم ضد الجانب العثماني، ولشدة حرصه على عدم تداولها فقد أمر ببناء: "حصن حصين وسور رصين" حول المنطقة -الآنفة الذكر- وجعل لها حراسة عثمانية مشددة.
ولقد اشتهر الوالي محمد باشا بحبه للعلم وتعظيمه للعلماء والفقهاء، فهو لذلك قد قربهم منه وأجرى محاورات ومناقشات معهم لتقريب وجهات النظر في المسائل السياسية والدينية، ولازمه العديد من العلماء في مجالسه أمثال عبد الرحمن بن الصديق الطباطبي، والسيد عيسى بن لطف الله -كتب جزء من سيرة محمد باشا في الجزء الثاني من مؤلفه روح الروح- وحسن أفندي. وكان -محمد باشا- ذو اهتمام واسع بالقراءة في شتى أنواع المعرفة، يتضح ذلك من خلال اقتنائه لمكتبة غاصة بالكتب في جميع الفنون.
وفي محاولة سياسية لكسب ود الزيديين -القريبين من الإمام- أمر بمعاملة خاصة للحسن بن الإمام القاسم، والذي كان مأسوراً في سجن الدار الحمراء بصنعاء منذ عهد جعفر باشا -كما أشرنا آنفاً- حيث أصدر توجيهاته بفك القيود التي كانت محكمة على قدميه، وتلبية طلباته، بل وأذن للعلماء بمجالسته، كما أنه صرح له بالخروج من سجنه للتجول في صنعاء بصحبة الحراس العثمانيين.
ورأى محمد باشا مع بداية مباشرته لمهامه في ولاية اليمن، أن الضرورة تقتضي تعيين هيئة استشارية لمساعدته في تسيير أمور البلاد، تتألف من الأمراء العثمانيين الذين عاصروا سلفه الوالي جعفر باشا، كونهم على دراية وإلمام واسع بمجريات الأوضاع في الولاية، ولعل ذلك يفسر -لنا- تعيينه للأمير محمد بن سنان باشا (كتخذاً له) -نائباً- بحكم خبرته الطويلة بالشئون الداخلية لليمن التي اكتسبها خلال ملازمته للوالي جعفر باشا، بالإضافة إلى علاقاته الاجتماعية بالعديد من زعماء القبائل خاصة في الشمال الجبلي منها، وكان لهذه الخطوة أثرها في إحكام قبضته على أمور الحكم.
وكيفما كان الأمر كان لتلك الإجراءات التي اعتمدها محمد باشا -كما أشرنا آنفاً- أثرها الإيجابي في تثبيت دعائم النفوذ العثماني في اليمن، التي كانت قد أصيبت بمرمى خلال حروب سلفه جعفر باشا، وأدت بالتالي -الإجراءات- إلى استعادة العثمانيين الثقة بأنفسهم وقدرتهم على خوض الحرب مجدداً ضد الجانب الإمامي.
نقض صلح (1025ه/1616م) وتوسيع مناطق الإمام القاسم
أدرك الإمام القاسم مع قدوم الوالي الجديد محمد باشا، أن أوضاع الشمال الجبلي، رغم صلح (1025ه/1616م) ما زالت مستعرة جراء الحروب الطويلة مع الجانب العثماني خاصة وأن انتصاراته التي حققها خلال حروبه السابقة، باتت لا تعني له شيئاً، كون والأوضاع الاقتصادية للمناطق التي تحت نفوذه متردية، وأصبحت جباياتها -الضرائب- لا تفي بالإنفاق على هيئته الدعوة والقائمين على إدارة أمور الأقاليم التابعة له. إضافة إلى الإنفاقات الضرورية للفرق العسكرية الإمامية.
وخضوعاً لهذه الحقيقة، فقد سعى -من جانبه- إلى الاتصال بالوالي الجديد عند وصوله إلى صنعاء في شهر ربيع الأول 1026ه/مارس1616م. طالباً مد فترة الصلح -السابق الذكر- إلى عشر سنوات بدلاً من سنة واحدة. إلا أن محمد باشا رفض من جانبه عرض الإمام بحجة أنه لم يكن على اطلاع واسع بأوضاع الولاية لقرب وصوله إليها.
ويبدو أن محمد باشا كان يطمح من خلال ذلك -الرفض- تحقيق انتصارات تذكر ضد الجانب الزيدي، ترفع من شأنه لدى رجالات الدولة العثمانية في استانبول.
وفي واقع الأمر لم تكن الظروف الاقتصادية -الآنفة الذكر- سبباً رئيسياً في ما ذهب إليه الإمام من مد لفترة الصلح، بل إن الأوضاع القائمة -وقتئذ- كانت بالغة التعقيد، فخطوط المواجهة بين قوات الجانبين -الإمامي والعثماني- باتت في حالة استنفار -خصوصاً مع قدوم محمد باشا إلى صنعاء- مما يعني انفجار الوضع في أي وقت، والخوض في أتون حرب جديدة. ولقد فرضت الحقائق نفسها على أرض الواقع -حول هذا الشأن- فإقليم صعدة أصبحت أوضاعه غير مستقرة، حيث أخفق الإمام وجعفر باشا في تثبيت سيطرة فعالة لأي منهما هناك. بينما أدى مد النفوذ والسيطرة الإمامية على إقليم الحيمة، إلى ازدياد القلق في الجانب العثماني خاصة بعد سيطرة الموالين للإمام على منطقة حضور الواقعة غرب صنعاء، وهو الأمر الذي بات يمثل تهديداً للنفوذ العثماني، حسب مؤرخ محدث: "على مدينة صنعاء" مركز الحكم العثماني.
مثَّل رفض الجانب العثماني في تمديد فترة الصلح، بداية فعلية للمرحلة الرابعة والأخيرة من ثورة الإمام القاسم، حيث بدأت الأوضاع بين الجانبين -الزيدي والعثماني- تتجه نحو منعطف خطير مع انتهاء أمد الصلح في شهر شعبان من سنة 1026ه/أغسطس 1617م كان أن أدت إلى خوض غمار حرب جديدة بين الطرفين.
بدأ الإمام بتحريك قواته إلى مناطق الظهراوين، وظلامة والسودة وشظب القريبة من معقله بشهارة لتأمين خطوط المواجهة الأمامية خلال معاركه مع الجانب العثماني، والتي استمرت قرابة تسعة أشهر. وكان عليه أيضاً أن يؤمن خطوط جبهات القتال حول المعاقل الإماميةفي الركن الشمالي الشرقي من إقليم حجة الهام. حيث أوكل مهمة الدفاع عن الإقليم إلى ابنه الحسين في أواخر شهر رمضان 1026ه/ سبتمبر1617م فيما توجه عدد غير قليل من كبار قادته لتأمين خطوط الإمدادات إلى حجة عبر مناطق خولان الشام، بني جيش، وسحار، وقد استطاع الحسين بن الإمام القاسم تحقيق انتصارات تذكر على الجانب العثماني -خلال تقدمه إلى إقليم حجة- تمكن خلالها من مد النفوذ الإمامي في بلاد قراضة ولاعة ومسور وذلك في أواخر ذي القعدة 1026ه/اكتوبر1617م، فيما أبدت القوات العثمانية مواجهات أشد لإحباط تقدم قوات الجانب الإمامي إلى إقليم حجة، تساندها قبائل المناطق -الآنفة الذكر- استطاعت خلالها وقف زحف قوات الإمام للسيطرة على الإقليم. وبذلك خابت آمال الإمام في تحقيق نصر يذكر لمد نفوذه على إقليم حجة، ويبدو ان النفوذ المذهبي للإمام القاسم حسب مؤرخ محدث: "كانت له نطاقات لم يستطع أن يتجاوزها إلا على نحو محدود، ولعل محمد باشا كان مدركاً لأمر كهذا".
وفي هذه الأثناء أخفقت محاولات القائد الإمامي أحمد بن عوَّاض في مد أي نفوذ للإمامة في مناطق بلاد الظواهر وبلاد حاشد وبكيل، وخولان وسفيان، ويبدو أن السياسة القبلية التي عمد إليها محمد باشا، قد لعبت دوراً ملحوظاً في الحيلولة دون مشاركة تلك القوى القبلية في الحرب أو الثورة إلى جانب الإمام. كون مناطقها باتت تشكل مواقع استراتيجية لحماية مركز الحكم العثماني في صنعاء. حيث ارتكزت سياسة -محمد باشا- تلك على الإغراءات المادية التي أدت بالتالي إلى: "إفساد كثير من القبائل" ولم يكتف بذلك بل ضم تلك القوى القبلية إلى سجلات القوات العثمانية ليصرف لهم من خلالها مرتبات شهرية مجزية.
المؤرخ الجرموزي وصف تهافت تلك القبائل إلى موالاة العثمانيين نظير ما يدفع لهم من الأمول .. بقوله: "لقد كانوا .. يصلون من بيوتهم .. ويقبضون جامكية كثيرة .. وإن الرجل صار يكتب ابنته جامكية ويسميها ولداً في الدفتر بأن يحذف هاء التأنيث على نحو سعيدة". وبتلك السياسة استطاع محمد باشا إقامة عازل قبلي بين مناطق الإمامة ومراكز النفوذ العثماني في الأقاليم الممتدة حوالي صنعاء، ليضمن بذلك ولاء تلك القبائل لمركز الحكم العثماني.
ورغم الإجراءات العسكرية المشددة والإغراءات المادية، التي عمد إليها الوالي محمد باشا لإقامة ذلك الحزام الأمني لحماية مدينة صنعاء إلا أن الإمام استطاع أن يخترق ذلك النطاق عن طريق بعض القبائل التي أعلنت موالاتها له مثل قبائل ذيفان والصيد وبني زهير حيث شهدت مناطقها مواجهات أشد مع القوات العثمانية، بل إنها استطاعت قطع الإمدادات -الغذائية والعسكرية- العثمانية التي كانت تمر عبر أراضيها إلى الحاميات العثمانية في إقليم الشمال الجبلي. ولقد حرص الإمام على مساندة تلك القبائل من خلال مواصلتها بالإمداد العسكري والغذائي لاستمرار مقاومتها للجانب العثماني.
فيما مثل إقليم الحيمة بمناطقه حضور وحراز وآنس مركزاً هاماً للمقاومة خلال المرحلة الرابعة -والأخيرة- لثورة الإمام القاسم، وقد أبدى الإمام اهتماماً ملحوظاً بالإقليم، حيث حرص على مؤازرة القوى القبلية وعلى تعزيز جبهات القتال فيه، والتي باتت تشكل خطراً على العثمانيين خاصة منطقة حضور ذات الاستراتيجية العسكرية بالنسبة لمدينة صنعاء، ولقد خاضت قبائله مواجهات عنيفة خلال محاولات القائد العثماني الأمير محمد بن سنان لبسط السيطرة عليها دون طائل، نتيجة المقاومة والصمود التي أبدتها قبائل حضور أمام القوات العثمانية.
دفع الإمام بمزيد من قواته إلى الإقليم في 12 شوال من سنة 1026ه/سبتمبر 1617م لتعزيز قائده العسكري عبد الله الطير، فيما عزز محمد باشا جانبه في الإقليم بقوات وصل قوامها إلى قرابة ستة آلاف جندي، وقد خاض الجانبان معارك اتسمت بالضراوة دامت حوالي تسعة أشهر تمكن في نهاية الأمر الجانب الإمامي من إحكام قبضته على الحيمة في جمادى الآخرة من سنة 1027ه/مايو1618م. وقد باءت كل محاولات محمد باشا لمد النفوذ العثماني على الإقليم بالفشل، رغم محاولاته استمالة بعض زعماء قبائل الحيمة من خلال مدهم بالأموال وتقرير رواتب شهرية لهم ومنحهم ألقاب عثمانية ولم تستطع القوات العثمانية كذلك من تحقيق نصر يذكر في جبهات القتال في إقليمي حراز وآنس بالرغم من تحالفها مع قبائل الحدا وذمار، ولقد استمرت المواجهات بين الجانبين -في الإقليمين- بشكل متقطع دامت قرابة العامين إلى أن عقد الصلح بين الطرفين -كما سنتبين-.
بينما شهد إقليم صعدة -هو الآخر- خلال المرحلة الرابعة للثورة تحركات من قبل الإمام لإعادة بسط السيطرة عليه، ويبدو أنه كان مع بدايتها -المرحلة الرابعة- مهملاً من قبل الطرفين، ولم يبادر أي منهما إلى أجراءات عسكرية لإحكام قبضته على الإقليم. وكانت قبائل صعدة قد وضعت يدها على الإقليم بعد مواجهات مع قوات صلاح بن أحمد المؤيدي، الذي عينه جعفر باشا حاكماً على الإقليم بموجب صلح 1025ه/1616م -كما أشرنا آنفاً- إلا أن الإمام وبعد انقضاء مدة الصلح، ومع تزامن حدة المعارك مع الجانب العثماني رأى أنه من الضرورة بمكان تأمين جانبه في إقليم صعدة، قبل أن يشرع العثمانيون إلى ذلك، خاصة وقد أعلنت قبائل الإقليم موالاتها له، و:"الجهاد بالأموال والأنفس" ضد العثمانيين.
وإزاء تلك التطورات أصدر الإمام أمراً في رجب من سنة 1027ه/يوليو1618م بجعل ولاية: "جهات صعدة وخولان وبني جماعة" لابنه أحمد، والذي سارع إلى تنظيم أمور الإقليم: "وضبط القبائل فانقادوا له رغبة وهيبة لجانبه". وقد مثل ذلك حسب مؤرخ محدث: "نصراً سياسياً هاماً للإمام طالما تمناه من قبل إذ به تكتمل سيطرة إمامته في الشمال الأعلى".
وفي حقيقة الأمر فإن الجانب العثماني تردد في مد أي نفوذ له على إقليم صعدة، ويبدو أن الوالي محمد باشا قد أدرك أن فتح جبهة صعدة سيؤدي إلى تشتيت مجهوده الحربي، خاصة مع احتدام الصراع في جبهات القتال في إقليم الحيمة ومناطق الشمال الجبلي الأخرى.
استمرت المواجهات بين الجانبين -الإمامي والعثماني- في أكثر من منطقة في الشمال الجبلي -كما ذكرناها آنفاً- لم يستطع خلالها الجانب العثماني إحراز أي انتصارات تذكر، وفي محاولة ربما كانت خاتمة المعارك التي جرت بين الطرفين، حاول العثمانيون في جمادى الآخرة من سنة 1027ه/مايو1618م السيطرة على جبل بني علي ذي الاستراتيجية، كون حصنه يشرف على العديد من المناطق الشمالية، مثل جنب وقدم وجهاتها، وعلى الطرق الرئيسية المؤدية إلى إقليم حجة، وهي غالباً مراكز للنفوذ الإمامي، حيث تمكن القائد العثماني الأمير محمد خمخم من إحكام الحصار على الطرق الرئيسة المؤدية إلى أعلى الجبل بعد أن تم تعزيزه بقوات من الحاميات العثمانية المرابطة في منطقة السودة، وبعض القبائل الموالية للعثمانيين.
أدرك الإمام القاسم -حينئذ- خطورة الموقف في حال سيطرة العثمانيين على حصن جبل بني علي، فأمر بإمدادات عسكرية تحت قيادة ولده أحمد لمؤازرة القوات الإمامية المرابطة في الجبل لمنع أي تقدم من قبل الجانب العثماني للسيطرة على الحصن.
وفي حقيقة الأمر فقد كان لسرعة الإجراءات العسكرية من قبل الجانب العثماني، الذي دفع بقوات يزيد قوامها على خمسة آلاف جندي لإحكام السيطرة على جبل بني علي، وقعها الفاعل في السيطرة السريعة على الحصن.
ويبدو أن العثمانيين قد أنساهم انتصارهم في إحكام قبضتهم على جبل بني علي على تأمين مؤخرة قواتهم، وكذلك منافذ الطرق المؤدية إلى الحصن. وهو الأمر الذي استغله الإمام حين دفع بمزيد من قواته من مراكز نفوذه القريبة والتي تمكنت من إحكام الحصار على القوات العثمانية من خلال سيطرتها على منافذ الطرق المؤدية إلى أعلى الجبل، وبعد حصار لأمد غير قليل ونقص في المواد التموينية -ماء غذاء- في الحصن، لم يكن أمام القائد العثماني الأمير محمد خمخم، من سبيل لإنقاذ قواته من الهلاك، سوى طلب الأمان من قادة القوات الإمامية، مقابل تسليمهم الحصن وخروجاً آمناً لقواته إلى مركز الحكم العثماني في صنعاء. ويبدو أن معركة جبل بني علي كانت خاتمة المعارك التي جرت وقائعها بين الجانبين.
ولقد كان لهذه المعركة أثرها الكبير على الجانب العثماني، كما كان الأمر في معركة غارب آثلة -التي أشرنا إليها في الفصل الثالث- ويبدو أن محاولة العثمانيين -الآنفة الذكر- قد أظهرت عدم قدرتهم على اقتحام مركز النفوذ الإمامي المركزي في شهارة، ووصف المؤرخ الجرموزي ذلك بقوله: "ولقد أيس الترك من الطمع في بلاد الإمام". أما المؤرخ الشرفي فقد أكد بأن معركة جبل بني علي كانت:"خاتمة الوقعات الكبار". ولم تحدث بعدها معارك تذكر بين الطرفين، إلى أن تم التوصل إلى صلح بين الجانبين كما سنتبين فيما بعد.
أدت المعارك التي استمرت بين القوات الإمامية والعثمانية قرابة ثلاث سنوات، والتي شهدتها المرحلة الرابعة لثورة الإمام القاسم، إلى تشتيت المجهود الحربي لكلا الطرفين، وإلى إنهاك في صفوف قواتهما خاصة في الجانب العثماني، الذي كان يجهل التضاريس الجبلية لليمن، والتي مثلت على الدوام عاملاً في الهزائم التي مني بها مدة بقائه في البلاد خلال الحقبة الأولى من السيطرة العثمانية (1538-1635م).
ولقد أدرك محمد باشا عند مباشرة مهامه في الولاية، أن معرفته وإلمامه بشئون اليمن أثناء عمله كوالي لمصر -من خلال التقارير التي كانت تصله عن مجريات الأحداث في الولاية- قد خيّبت آماله على أرض الواقع. ولعل ذلك الأمر هو ما جعله يعدل عن رفضه للصلح -كما اعتمله في بداية قدومه إلى البلاد- ويعود إلى الموافقة عليه مع الإمام -كما سنتبين فيما بعد- بعد حروبه -الآنفة الذكر- والتي لم يحقق خلالها أي نصر يذكر بينما تمكن الجانب الإمامي من توسيع نفوذه خلال هذه المدة في مناطق الشمال الجبلي على حساب العثمانيين.
وكان للظروف الاقتصادية التي تزامنت مع المواجهات بين الجانبين، أثرها البالغ على جبهات القتال، حيث أدت الأمطار وشحتها في غالب اليمن، خاصة في مناطق وسط البلاد -ذمار وإب- والتي كانت تمثل على الدوام المخزون الرئيسي للمواد الغذائية في الولاية. إلى حدوث جدب في المناطق الزراعية وقلة في المحصول الغذائي، خاصة مادة الحبوب المادة الرئيسية للغذاء، وهو الأمر الذي أدى إلى شحة في الإمدادات لهذه المادة إلى قوات الجانبين -الزيدي والعثماني- خلال معارك المرحلة الرابعة لثورة الإمام، كما أنه أدى أيضاً إلى ارتفاع أسعار الحبوب، وحسب الجرموزي فقد: "كاد الطعام يُعدم".
وفي حقيقة الأمر فإن شدة الجدب في بعض المناطق الشمالية كان قد أدى إلى ضعف المقاومة في صفوف جبهات القتال بالنسبة للقوات الإمامية نتيجة الحاجة الماسة للغذاء لمواصلة معاركها أمام الجانب العثماني، ولقد وصف المؤرخ الشرفي الظروف المعيشية للأهالي في تلك المناطق جراء النقص الشديد لمادة الحبوب -الغذاء- بقوله: "لاذ بالإمام إلى شهارة الضعفاء والمساكين والنساء والأرامل والأيتام وغيرهم من أهل الفاقة خلق كثير، وكان الوقت غلاء وشدة في جهات المشارق". في ما أفضت الحالة الاقتصادية المتردية -وقتئذ- إلى مطالبة بعض مستشاري الوالي محمد باشا إلى ترك حروبه مع الجانب الإمامي في مناطق الشمال الجبلي، كونها فقيرة اقتصادياً: "وهي تكلف العثمانيين للاحتفاظ بها أكثر مما كانوا يحصلون عليه منها". ودعوه إلى تكثيف إجراءاته العسكرية للسيطرة وإحكام النفوذ العثماني على الأقاليم الواقعة في وسط البلاد -ذمار- خاصة أقليمي ريمة ووصاب الغنيين زراعياً.
ولقد صاحب تردي الأوضاع الاقتصادية، إنحسار شديد في تحصيل الضرائب من أقاليم النفوذ العثماني، والتي كانت مردوداتها تصرف في تغطية نفقات جبهات القتال -رواتب الجنود ومعيشتهم- وهو الأمر الذي يفسر لنا مطالبة الجنود العثمانيين للوالي محمد باشا بمخصصاتهم المالية، بل وأدى ذلك إلى اضطراب وفوضى في صفوفهم.
ولقد تزامن مع تردي الأوضاع -الآنفة الذكر- قلق أشد في جانب التجارة البحرية في مينائي عدن والمخاء، حيث بات الهولنديون والإنجليز يتطلعون بشكل أكبر نحو سواحل هذين المينائين بهدف الحصول على امتيازات تجارية لصالحهم. ويبدو ذلك واضحاً حين سمحت الدولة العثمانية للإنجليز في إبريل 1618م بالاتجار في أي ميناء من الموانئ اليمنية، فيما أصدر السلطان عثمان الثاني(1617-1622) مرسوماً سلطانياً في رجب 1027ه/يوليو1618م -عقب مفاوضات أجراها مع السفير الهولندي في استانبول (كورنيلى هاخا)- للوالي محمد باشا يتم بموجبه السماح للسفن الهولندية القادمة من الهند الشرقية الاتجار عبر موانئ ولاية اليمن. ويبدو أن ذلك المرسوم جاء لتحسين العلاقات بين الدولتين العثمانية والهولندية، خاصة وأن هولندا كانت قد هددت بضرب التجارة المارة في البحرين العربي والأحمر، إذا لم يتم السماح لها بمزاولة التجارة عبر موانئ هذين البحرين، وفي حقيقة الأمر فقد تضررت تجارة العثمانيين البحرية جراء فرض الهيمنة التجارية تلك من قبل الدولتين -خاصة وأنه لم يعد هناك وجود فعال للبحرية العثمانية عند السواحل اليمنين.
صلح (1028ه/1619م) بين الإمام القاسم والوالي العثماني محمد باشا ونتائجه
هكذا فرضت الأوضاع الاقتصادية -كما أشرنا آنفاً- آثارها على الجانب البشري والسياسي، بل وامتدت نتائجها سلباً على الحرب القائمة -وقتئذ- بين الجانبين -الزيدي والعثماني- وأخذت الولاية تشهد ارتفاعاً كبيراً في الأسعار وقلة في المتوفر من حاجاتها المعيشية، وبدأ الوضع لا يحتمل مزيداً من الحروب بين الطرفين، وهو الأمر الذي أملى آخر المطاف، حسب مؤرخ محدث إلى: "نشدان تسوية سياسية طويلة الأمد". أفضى إليها صلح (1028ه/1619م) بين الإمام القاسم، ومحمد باشا -كما سنتبين-.
أدرك محمد باشا خطورة الوضع القائم -وقتئذ- لذلك فقد دعا إلى اجتماع ضم كبار مستشاريه من الأمراء وقادة الجند، وعرض عليهم ما أملته الضرورة بشأن عقد صلح مع الجانب الإمامي، مؤكداً لهم أن استمرار الحروب ضد القوات الإمامية، لم يسفر عنها تحقيق أي انتصارات تذكر رغم تشديد الإجراءات العسكرية ومضاعفة أعداد الجنود، ويبدو أن مستشاريه كانوا كذلك قد أدركوا معاناة العثمانيين جراء تلك الحروب وتردي الأوضاع الاقتصادية التي صاحبتها والتي أدت إلى مزيد من التقهقر، وربما أدى الوضع هكذا إلى إحداث خلخلة وفوضى في صفوف العثمانيين وإلى ضعف مركز الحكم العثماني في صنعاء، وقد أكدوا صراحة للباشا محمد، أن الجانب الإمامي قد اتسعت دائرة نفوذه وكثر مؤيدوه ومناصروه، وأصبح يمثل قوة ضاربة لما تحت يده من عتاد عسكري وبشري لم يكن متوفراً له في الماضي، وأن استمرار الحروب ضده لن تؤدي إلى نتيجة يتوخاها الجانب العثماني، سوى خسائر جديدة في صفوف قواته، ونفقات مالية تزيد من أعباء الإدارة العثمانية في اليمن، ولعل ما جاء في معرض رد الهيئة الاستشارية لمحمد باشا هو ما كان يؤمله لإتمام عقد الصلح. حيث أسند إلى الأمير علي بن المطهر بن الشويع والأمير شالق مصطفى مهمة مخاطبة الإمام لعقد الصلح. وفي حقيقة الأمر لم يتردد الإمام هو الآخر في مقابلة مبعوثي الوالي -محمد باشا- حيث أحسن استقبالهما: "وبذل لمن أعان على الصلح: .
وبعد مفاوضات مع المبعوثين العثمانيين حول بنود الصلح لم يتوان الإمام -لما تقتضيه مصلحة الجانبين- من إرسال مبعوثه عبد الله بن شمس الدين بن الحسن الجحافي إلى محمد باشا في صنعاء: "وكان من أهل الكمال ومعرفة الخطاب". لإقرار بنود الصلح والتوقيع عليه.
اشتمل الصلح الذي وقعه الجانبان في شهر جمادى الأولى من سنة (1028ه/مايو1619م) على البنود التالية:
1) تكون مدة الصلح عشر سنوات ابتداء من شهر جمادى الأولى (1028ه/إبريل /مايو1619م).
2) تعترف الدولة العثمانية اعترافاً ضمنياً بشخصه السياسي، وباعتباره إماماً للزيدية.
3) اعتراف ضمني بمراكز نفوذ وسيطرة الإمام القاسم، كحاكم فعلي لما تحت يده من مناطق النفوذ التي اشتمل عليها صلح (1025ه/1616م) الذي عقد مع جعفر باشا، إضافة إلى المناطق التي امتدت يده إليها خلال حروبه مع محمد باشا، وقد حددت: "إجمالاً نقاط الحد أو الخط الذي يفصل بين أراضي الإمامة وأراضي العثمانيين، ويبدأ الخط من جنوب هضبة الشرف، فيمر أسفل الأجزاء الشمالية الشرقية من إقليم حجة الكبير، ويمر بالأطراف الغربية لإقليم شظب، ثم يمتد إلى الشمال من بلدة السودة، فجنوب جبل غربان، ثم يخترق ظاهر خمر ليمر جنوب ذي بين، فينحدر إلى الشمال قريباً من مدينة عمران، ثم يذهب شرقاً ماراً بالأطراف الجنوبية لقبيلة أرحب، حتى يحاذي أراضي قبيلة نهم شمال شرق مدينة صنعاء.
أما بالنسبة للأراضي الإمامية الواقعة إلى الغرب من صنعاء فتشمل الأجزاء الجنوبة للحيمة وإقليم حضور وتشمل كذلك مناطق بني مطر وبلاد الثلث والحدب وبني سوار وبني سياغ العارضة والأجبوب وبني النمري وعانز وحراز وحصبان وجبل بني إسماعيل وبني حسن وبني سعد".
4) اعتراف ضمني من قبل الإمام بالسيادة العثمانية وسلطتها الكاملة في بقية أقاليم البلاد (الشافعية).
5) إطلاق سراح جميع الأسرى من كلا الجانبين.
6) يبقى الحسن بن الإمام القاسم أسيراً في سجنه بالدار الحمراء، كما حدده بنود صلح (1025ه/1616م)، كون أمره قد رفع إلى السلطنة، ولا بد من مرسوم سلطاني لإطلاق سراحه.
7) يسحب الجانبان الفرق أو الحشود العسكرية التابعة لكل منهما في آن واحد، بحيث تنسحب قوات الإمام إلى شهارة، فيما تنسحب القوات العثمانية إلى مركز الحكم العثماني في صنعاء.
8) إرساء علاقة بين الطرفين أساسها عدم السماح لكل مامن شأنه تعكير الأجواء مجدداً بينهما.
9) في حال حدوث أية إشكالات أو تعد على جانب من الطرف الآخر، يتم إحالتها للنظر إلى صاحب الحل والعقد الوالي محمد باشا.
وفي واقع الأمر فقد كان الصلح مطلباً ملحاً أملته الظروف القائمة -وقتئذ- وأكدته كذلك مصلحة الجانبين اللذين كانا في حاجة ماسة إليه، ليتمكن كل منهما من إعادة ترتيب أوضاعه وتنظيم شؤونه في مناطق نفوذه بموجب بنود الصلح.
ولقد مثل الصلح بالنسبة للإمام القاسم ضرورة ملحة وحتمية فرضتها الأوضاع المحيطة به، يأتي في مقدمتها الحالة الاقتصادية، حيث شهدت مناطق الشمال الجبلي خلال حروب المرحلة الرابعة من ثورة القاسم، ظروفاً اقتصادية صعبة، حين ضرب القحط والجدب غالب تلك المناطق جراء شحة سقوط الأمطار -كما أشرنا آنفاً- وهو الأمر الذي أدى إلى تذمر الأهالي واضطراب أحوالهم، وقد خشى الإمام مع قلة سقوط الأمطار: "قنوط الناس" -كما ذكر ذلك المؤرخ الجرموزي ما قد يشكل إخلال في تماسك مجتمع الشمال الجبلي، ولعل صورة حية شخصها لنا المؤرخ الشرفي، توضح الوضع الاقتصادي القائم -وقتئذ- حيث يقول: "واشتد القحط ودارت رحى الموت في شهر شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة من سنة 1028ه/يوليو/أغسطس/سبتمبر/أكتوبر 1619م في صنعاء وكوكبان ونواحيها وهرب أهل خولان ونهم وكثير من جهات الظواهر إلى جهات المغارب وبلادها وجبل تيس ولاعة وقراضة وحجة وما يولي هذه الجهات".
وقد ادت تلك الحالة الاقتصادية المتردية إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية وبالذات مادة الحبوب، الأمر الذي اضطر الأهالي إلى بيع: "النفيس من السلاح بالثمن اليسير، كالدروع والرماح والسيوف والبنادق، وغيرها من الحلي والفضة"، بل وأدت الحالة إلى اضطراب في صفوف الأهالي حيث: "نهب القوي والضعيف في جهات المشارق وبرط وبلاد سفيان وعيان ومشارف صعدة". وقد اضطر عدد غير قليل من أهال المناطق الشمالية حسب مؤرخ معاصر إلى الهجرة إلى: "جهات حضرموت وما يصاليها" سعياً وراء الغذاء.
ولقد ادى النقص الشديد في المواد الغذائية -كما يذكر نفس المؤرخ- إلى موت عدد غير قليل من الأهالي جوعاً و:"كان يحمل من صنعاء على النعش الواحد جماعة من الموتى، وكان يموت في اليوم الواحد خلق كثير، وأكثر الموت وقع في الخارجين من بيوتهم الطالبين للمعاش، ووقع في غيرهم من أهل السكون في صنعاء وكوكبان وشهارة، أقل من ذلك بسبب أكثر الموت من الجوع" ولقد اتخذ الإمام القاسم إزاء تلك التطورات عدداً من الإجراءات -خاصة مع استقرار الأوضاع عقيب الصلح- لتأمين وصول الغذاء للمناطق التي ضربها الجفاف وأضير فيها الأهالي، أدت بالتالي إلى التخفيف إلى حد ما من معاناتهم، حيث طلب من المناطق التي لم يصبها القحط والجدب سرعة المبادرة في إرسال الإمدادات الغذائية إلى شهارة ليتم توزيعها على المحتاجين في غالب المناطق التي تضررت جراء شحة الأمطار وندرتها.
كما أنه قام من جانب آخر بفتح المخازن التي كانت ممتلئة بالطعام في شهارة -وهي المخازن التي كانت تمثل احتياطاً للمواد الغذائية خلال حروبه مع العثمانيين- وأمر بتوزيعها على المحتاجين، خاصة وقد لاذا بشهارة عدد غير قليل من الأهالي من المناطق المجاورة طلباً للغذاء لتأمين معيشتهم.
ولقد عمد الإمام كذلك -مع اشتداد الأزمة الغذائية- إلى سياسة الاقتراض الغذائي من مناطق لم يضر بها الجفاف، ففي رسالة بعثها إلى أحد وجهاء منطقة المداير قال فيها: "حصل الخلل العام فأقرضنا ما تجد من الطعام أو أقترض لنا".
ويبدو أن الصلح قد أزاح عن الجانب الإمامي تلك المعاناة، التي لقيها جراء السياسة القبلية التي لجأ إليها محمد باشا حين استمال عدداً غير قليل من القبائل المجاورة لصنعاء، مثل قبائل خولان العالية، وبني سحام وبني شداد وبني جبر، بالإضافة إلى بعض القبائل الواقعة في إطار الأقسام الحادشية والبكيلية، الأقرب إلى خط خمر -ريدة، لموالاة الجانب العثماني، وطلب من تلك القبائل عدم تأييد الإمام بأي شكل من الأشكال، مقابل ما كان يصرف لهم من الأموال والرواتب الشهرية المجزية، إلا أن الجانب العثماني بعد توقيعه الصلح استغنى عن خدمة تلك القبائل، بل حسب الجرموزي فقد: "انقطعت عنهم مواد العجم واستخفوا بهم وأهملوهم".
ولقد جسد الصلح كذلك منعطفاً حاسماً في تطور إمامة القاسم بن محمد، كونه قد أفضى إلى اعتراف ضمني به كسلطة سياسية حاكمة، واضحة المعالم نسبياً، وهو تطور في حقيقة الأمر يظهر بصورة جلية ضعف مركز الحكم العثماني في اليمن. فيما بيّن -الصلح- تمسك الإمام بما تحت يده من مناطق النفوذ وعدم التفريط في أي منها لصالح الجانب العثماني، ولعل ذلك يتضح في رفضه تلك المساومات التي أبداها محمد باشا، والتي أراد من خلالها ضم منطقة حضور -أحد مراكز نفوذ الإمام بموجب بنود الصلح- الواقعة إلى الغرب من صنعاء، والتي تشكل أهمية استراتيجية للعثمانيين -كما أشرنا آنفاً- مقابل الإفراج عن ولده الحسن المسجون في صنعاء.
ولقد مكن الصلح -أيضاً- الإمام القاسم الوقوف بوجه معارضيه وإحباط محاولات الإطاحة به، فقبيل وفاته بقليل خرج عن طاعته أحد السادة الزيديين وهو ناصر صبح الغرباني، والذي أعلن في شهر محرم من سنة 1029ه/يناير1620م في الحيمة الإمامة لنفسه: "وأظهر للناس أنه لا ولاية للإمام القاسم". وزعم أنه المهدي المنتظر. وعمد إلى مراسلة زعماء قبائل إقليم الحيمة، لمؤازرته وتأييده. وفي حقيقة الأمر فقد خشي الإمام، مع ما دعا إليه الغرباني اضطراب الأمور بين مؤيديه وأنصاره، وأن يؤدي ذلك أيضاً إلى نقض الصلح مع الجانب العثماني. لذلك فقد سارع إلى: "تأثيم الداعي الغرباني" في رسالة بعثها إلى قبائل الحيمة حذر من خلالها الأهالي من اتباعه والانجرار إلى ما ذهب إليه قائلاً حسب الجرموزي: "وأصاب الله من كان صبح إمامه، وأصاب من اتبع هذا الضال".
ولم يكتف الإمام بتحذيراته -الآنفة الذكر- بل أرسل قوة عسكرية إلى إقليم الحيمة لإعادة الاستقرار والهدوء فيه والقبض على الداعي الغرباني.
وفي حقيقة الأمر فقد أقلق أمر هذا الداعي مركز الحكم العثماني في صنعاء وحسب المؤرخ الجرموزي فقد"توهموا أن الإمام قد فعل ذلك حيلة في إنقاض الصلح الذي بينهم وبينه". إلا أنهم تأكدوا بعد إرسال أحد مبعوثهم إلى الحيمة للتحقق من مجريات الأمور، أن الغرباني مخالف للإمام، لذلك فقد تظافرت جهود الجانبين الإمام القاسم ومحمد باشا، والتي أدت في نهاية المطاف إلى محاصرة الداعي صبح الغرباني والقبض عليه لينهي الطرفان بذلك أزمة سياسية ربما كانت ستؤدي إلى نقض أحد الطرفين الصلح والعودة من جديد إلى ميدان القتال.
ولقد مكن الصلح الإمام القاسم من إقامة إدارة مركزية إمامية، استطاع من خلالها تنظيم الأمور المالية والإدارية في مراكز نفوذه. فبالنسبة للجانب المالي، بدأ الإمام بضبط أوجه الإنفاق المالي على الأقاليم التابعة لنفوذه، والتي كانت في الأساس مجموع الضرائب المفروضة على تلك الأقاليم إضافة إلى النذور والهبات التي كانت تعطى للإمام. ويبدو أنه لأول مرة حسب مؤرخ محدث يصبح: "التصرف في عائدات الضرائب في قبضة الإمام عقب الصلح الأخير". وفي حقيقة الأمر فقد حدد الإمام أوجه الإنفاق المالي لإدارته، حيث خصص عشر الضرائب لمشائخ القبائل. نظير ما يقومون به من الأعمال الموكلة إليهم من قبل أمراء الأقاليم لتسيير شئون قبائلهم، فيما أولى اهتماماته في الجانب المالي للإنفاق على الفرق القبلية العسكرية حيث أكد على ضرورة: "توفير المطالب لأهل المراتب، وأهل الجهاد المحتكمين". فيما أسند إلى أمراء الأقاليم صرف مقررات مالية: "للفقراء الذين لا حيلة لهم".
بينما نالت الناحية الإدارية كذلك جانباً من اهتمامات الإمام القاسم حيث عهد إلى أبنائه وكبار رجاله تسيير أمور الأقاليم والمراكز الإدارية التابعة لنفوذه، فقد أناط إدارة إقليم الشرف إلى ابنه الحسين، فيما ولّى ابنه أحمد على إقليم صعدة، وجعل: "ابنه (الأكبر) محمد ينوب عنه في بعض الشؤون الإمامية في المركز الإمامي بشهارة". وقلد كذلك العديد من كبار رجال إمامته مناصب إدارية شملتها غالب مناطق الشمال الجبلي التابعة لنفوذه، وقد وجه جميع هؤلاء بتنفيذ الأحكام "الشرعيَّة بموجب الشريعة المحمدية"، وشدد عليهم بمتابعة شؤون الأهالي وتنظيم أمور حياتهم لإقرار العدل بين الناس، وألزمهم بضرورة الرجوع إلى الإدارة الإمامية في الأمور والقضايا التي تستعصي عليهم.
أما بالنسبة للجانب العثمانين، فقد مثّل له الصلح هو الآخر متنفساً لإعادة تنظيم أوضاعه في الولاية، فقد عمد محمد باشا إلى ترميم الهيئة العثمانية التي أصابها الضعف -جراء الحروب الطويلة خلال المرحلة الرابعة لثورة الإمام القاسم- وحاول تشجيع العثمانيين في البلاد، لاستعادة الثقة؛ بأنفسهم من جديد.
وفي حقيقة الأمر فقد أدرك محمد باشا أن ما كان يؤمله عند قدومه إلى اليمن من إحراز نصر عثماني كبير وحاسم ضد الإمام القاسم، لرفع مكانته لدى السلطنة وبالتالي تحجيم الإمامة سياسياً، كان مخيباً لآماله عامة، خاصة وقد دخل في أتون حرب ضارية مع الإمام، أفقدته الكثير من قادته وجنوده، بالإضافة إلى ما حدث في اضطرابات في صفوف قواته، التي ملت الحروب وطالبته بمخصصاتها المالية، بل وأدى الأمر أن بعضهم قد: "هم بقتله" لذلك فقد مثل الصلح ضرورة حتمية لإعادة الاستقرار والهدوء في صفوف قواته خاصة والولاية بشكل عام.
في ما هيأ الصلح كذلك لمحمد باشا، وضع حد لتمرد بعض أقاليم وسط البلاد (وصاب وعتمة وريمة)، المشهورة بجبالها العالية ومناطقها الوعرة، والتي كانت على الدوام مصدر إزعاج وقلق لسلطة الحكم العثماني في اليمن -كما أشرنا آنفاً- ويبدو أن الجانب الاقتصادي هو الآخر كان عاملاً هاماً في إحكام السيطرة العثمانية على تلك الأقاليم كونها: "بلاد الخراج والأموال الواسعة والخيرات المتتابعة" لذلك فقد سارع محمد باشا في إرسال قوة عسكرية كبيرة تحت قيادة الأمير تيمور لإعادة السيطرة على الأقاليم الآنفة الذكر.
ويبدو أن الصلح قد مكن -أيضاً- الوالي محمد باشا من وضع حد لتمرد واسع النطاق كانت مجريات أحداثه هذه المرة وسط الأقاليم الجنوبية، تحديداً منطقة الحجرية والتي استغل حاكمها الأمير على الشرجبي، احتدام الصراع بين الإمام ومحمد باشا في أوائل سنة 1025ه/1616م ليعلي من شأنه وليوسع من دائرة سيطرته.
ولقد بلغ هذا الأمير حسب مؤرخ محدث: "منزلة كبيرة خاصة خلال الولاية الثانية لجعفر باشا عندما كان هذا الوالي في أتون صراع ضارٍ مع قوى الإمامة" كما أن محمد باشا كان قد أولاه هو الآخر رعاية كبيرة وأبقاه في منصبه.
وفي واقع الأمر فإن خطورة تمرد الأمير علي الشرجبي تكمن في كونه قد حاول مد سيطرته إلى مناطق بالغة الأهمية بالنسبة للعثمانيين. حيث أرسل قوات يصل قوامها إلى ثلاثة آلاف جندي للسيطرة على إقليم خدير -الواقع شرق مدينة تعز- الذي كان تحت نفوذ الأمير اليمني العثماني حيدرة بن إسماعيل السلمي، ولم يكتف بذلك بل عمد إلى قطع: "طريق عدن تعز وطريق المخاء من طريق موزع". الأمر الذي يعني قطع أي إمدادات عسكرية وغذائية قادمة من السلطنة عبر مينائي عدن والمخاء إلى مركز الحكم العثماني في صنعاء.
أدرك محمد باشا خطورة الوضع القائم -وقتئذ- مع خشيته امتداد تمرد الأمير على الشرجبي إلى غالب المناطق الجنوبية، لذلك أمر بإرسال جميع قواته حسب الموزعي: "المرابطة من كوكبان إلى عدن" إلى التقدم إلى منطقة الجند لوضع حد للتمرد إلا أن تلك القوات لم تستطع تحقيق أي نصر يذكر خاصة وأن عدداً غير قليل من القبائل الجنوبية قد انظمت إلى قوات الأمير الشرجبي وتمركزت على طول الطريق من الحجرية غرباً إلى دمنة خدير شرقاً.
أيقن الوالي محمد باشا أن استمرار تفاقم الأوضاع في الأقاليم الجنوبية بتلك الصورة القائمة قد يؤدي إلى عصيان واسع النطاق في تلك الأقاليم، وإلى زعزعة النفوذ العثماني في الولاية. لذلك سارع إلى مطالبة السلطنة بتعزيزه بقوات عسكرية لكبح تمرد قبائل الجنوب -شرعب وما والاها- من جهتها لم تتوان السلطنة العثمانية في إرسال الإمدادات العسكرية التي طلبها واليها في اليمن، فلقد رأت أن الوضع في الأقاليم الجنوبية للولاية أصبح بالغ الخطورة، خاصة مع خشيتها أن يستغل الإمام القاسم ذلك ويعمد إلى نقض الصلح المبرم مع محمد باشا، وهو أمر إن حدث سيؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها في ولاية اليمن. فكان أن أمرت بإرسال قوة عسكرية من ولايتها في مصر تحت قيادة الأمير صفر.
وصلت الحملة العسكرية العثمانية إلى مدينة تعز في شهر صفر 1028ه/1619م فعمد محمد باشا إلى تعيين قائد تلك الحملة الأمير صفر حاكماً على: "تعز وما إليها وجبل صبر وأعمالها وشرعب وتوابعها" ويبدو أن إجراءاته السريعة تلك كان الغرض منها إضفاء مزيد من الهيبة على القوة العسكرية القادمة من السلطنة من جانب، ومن جانب آخر إعطاء صلاحيات واسعة للقائد العثماني الأمير صفر لإحكام قبضته على التمرد القائم في الأقاليم الجنوبية من البلاد، خاصة وأن الأمير صفر كان ملماً بأوضاع اليمن من خلال خدمته مع جعفر باشا عندما كان والياً لليمن.
وفي واقع الأمر فقد كثف الأمير صفر إجراءاته العسكرية من الجنود والعتاد الحربي، واستطاع بعد معارك ضارية خاضتها قواته مع قوات القبائل من مدينة تعز إلى إقليم الحجرية وتمكن من محاصرة الأمير الشرجبي في منطقة الأعلوم القريبة من الحجرية، وكان الشرجبي قد استدعى غالب قواته المرابطة في إقليم دمنة خدير لمواجهة القوات العثمانية في الحجرية.
وفي خطوة كان الغرض منها قطع الإمدادات على الأمير الشرجبي في مركز تحصنه في الأعلوم، التقي الأمير صفر بمشائخ بلاد الحجرية: "ومشائخ السامعية وشيخ الصلو وشيخ بني حماد وشيخ الأعروق".وغيرهم من مشائخ تلك الجهات الواقعة إلى الشرق وإلى الغرب من مدينة تعز، واستطاع بعد مفاوضات أجراها معهم أن يعيد موالاتهم ثانية للنفوذ العثماني، وحسب الموزعي فقد: "راعاهم وأحسن إليهم".
لقد أدت تلك الإجراءات التي عمد إليها الأمير صفر إلى نتائج إيجابية، حيث امتنعت جميع قبائل الحجرية والأقاليم المجاورة لها من مؤازرة الأمير علي الشرجبي أو تقديم الإمدادات -عسكرية غذائية- إليه، وهو الأمر الذي أدى في نهاية المطاف في شهر رمضان 1029ه/1620م بعد حروب استمرت قرابة السنتين شهدها إقليم الحجرية إلى إنهاء تمرد الأمير علي الشرجبي، الذي لاذا للاحتماء بحصن الجاهلي المنيع في جبل المقاطرة، وظل هناك إلى أن طلب الأمان من محمد باشا، ومن ثم انخراطه من جديد تحت راية النفوذ العثماني في شهر رمضان من سنة 1030ه/1621م.
مما لا شك فيه أن الصورة التي رسمناها لمجريات الأحداث السابقة الذكر توضح بجلاء، كيف كان الصلح مطلباً ملحاً وضرورة اقتضتها حاجة الجانبين لبلورة سياسة جديدة اعتملها الطرفان عقيب الصلح -كما أشرنا آنفاً- أدت بالتالي إلى نتائج توخاها الجميع على أرض الواقع هيأت من خلالها للإمام القاسم والوالي محمد باشا بدء مرحلة بناء وتحديث في مراكز كل منهما -بعد أن أنهكت قدراتهما حروب سنوات عدة.
وفي واقع الأمر فقد أظهر الصلح حقيقة هامة وهي أن الإمام بات يمثل قوة عسكرية وسياسية حقيقة -رغم الظروف التي عانى منها- وأثرت في مجريات الأحداث -للخارطة السياسية لليمن وقتئذ- بل وتملي شروطها كهيئة حاكمة أصبحت نداً للسلطة العثمانية في البلاد، انتزعت شرعيتها باعتراف ضمني بها من قبل السلطنة، كما بين الصلح حقيقة أخرى وهي ضعف الحكم العثماني واهتزاز بنيته في الولاية.
وهكذا مثل صلح 1028ه/1619م، المحطة الأخيرة، لنهاية المرحلة الرابعة والأخيرة من مراحل ثورة الإمام القاسم التي خاضها عبر سنوات عدة ضد الوجود العثماني في اليمن كما أوضحتها فصول الرسالة.
وفاة الإمام القاسم
توفي الإمام القاسم بن محمد بعد عقد الصلح بسنة، وذلك في 12 ربيع أول 1029ه/ 16 يوليو 1620م، ودفن إلى جوار جامع شهارة. وعقب وفاته بايع أتباعه أكبر أبنائه -محمد- والذي تلقب بالإمام المؤيد بالله، فيما سارع الوالي محمد باشا بإرسال رسالة إلى الإمام الجديد -المؤيد بالله- عبر فيها عن بالغ الأسى والحزن لوفاة الإمام القاسم، وأكد في رسالته تمسكه بصلح 1028ه/1619م وسريان مفعوله كما حددته بنوده.
ويبدو -للباحث- بأن الرسالة كانت بمثابة اعتراف ضمني من قبل الدولة العثمانية بإمامة المؤيد بالله محمد، وبمدى قوة الجانب اليمني، كما أن تمسك الوالي محمد باشا بالصلح أوضح بجلاء ضعف الجانب العثماني في الولاية.
وفي حقيقة الأمر فقد كانت مبايعة الإمام المؤيد بالله من العوامل الهامة التي أظهرت وحدة القوى الزيدية وتماسكها، ولقد خاض المؤيد بالله فيما بعد حروباً ضارية ضد الوجود العثماني الأول في اليمن، أدت في نهاية الأمر إلى انتصاره عليهم وإخراجعهم منها للمرة الأولى في عام 1045ه/1635م.
ولعلنا في الخاتمة نستطيع القول أنه باستقراء دقيق لمجريات أحداث ثورة الإمام القاسم -كما أوضحتها الرسالة- تكون الإمامة الزيدية قد أكملت دورة حياتها. ولعل الإمام القاسم قد انفرد بذلك دون غيره من الأئمة الزيديين، حيث استطاع أن يؤكد قدرة الحكم الإمامي على التجديد بالرغم من تطور المصالح العثمانية في اليمن. ولقد بيَّنت إمامة القاسم والثورة التي قادها ثم الحكم الإمامي الذي ظهر عقيب صلح 1028ه/1619م أبعاده السياسية التي مهدت للأحداث من بعده، والتي وضعت اللبنات الأولى في مدامك الدولة القاسمية (الزيدية) في اليمن حين أكمل دعائم إقامتها ولدا الإمام القاسم، المؤيد بالله محمد (1029-1054ه/1620-2644م، ومن بعده أخيه الإمام المتوكل على الله إسماعيل (1054-1087ه/1644-1676م) توحدت اليمن في ظل حكم الأئمة الأوائل من أسرة آل القاسم لتستمر بين مد وجزر عبر مسار تاريخي. انتهى بزوال نظام الإمامة وقيام النظام الجمهوري الحديث في اليمن عام1962م.
الفصل السادس (دراسة تمهيدية عن المؤرخ ومخطوطته)
ترجمة المؤرخ: المطهر بن محمد الجرموزي
تمهيد
تعد الفترة الزمنية (1538-1635م) إحدى الفترات التاريخية الهامة في تاريخ اليمن الحديث؛ إذ ارتبطت مجريات أحداثها ووقائعها، والتي تصل إلى قرابة مائة عام هي فترة الوجود العثماني الأول في اليمن- بأحداث سياسية هامة نتجت عن ذلك الصراع الذي احتدم بين العثمانيين واليمنيين- خاصة الأئمة الزيديين -حيث برزت الإمامة الزيدية- وقتئذ كقوة رئيسية واجهت العثمانيين الذين قاموا: بـ"قيادة الثورات الوطنية حينذاك ضد العثمانيين"، الأمر الذي مكنهم في النهاية أن يقوموا بدوررئيسي في تاريخ اليمن الحديث بل والمعاصر.
ولم تكن العلاقة بين القوتين -الآنفتا الذكر- حسب مؤرخ معاصر: "حرباً دائماً أو سلاماً دائماً". بل كانت مزيجاً من الإثنين، فلقد كان همّ العثمانيين إقامة عمق استراتيجي داخل اليمن لما من شأنه إحكام نفوذهم وسيطرتهم عليه، فيما رأى الأئمة في الوجود العثماني -حينئذ- عقبة أمام مد نفوذهم في كل أنحاء البلاد ومن ثم الاستقلال عن دار الخلافة، وذلك ما تم كنتيجة لثورة الإمام القاسم بن محمد ومن بعده ابنه المؤيد.
ولقد تأثرت حركة التأليف في اليمن، في واقع الأمر بالأوضاع السياسية الناجمة عن ذلك الصراع، نتج عنه تصادم آخر في النواحي الثقافية والفكرية أدت بالتالي إلى اشتراك القلم في رصد وقائع الأحداث ومجرياتها -في الحرب والسلم على السواء- وظهرت كتابات ومؤلفات، عالجت النواحي المختلفة الخاصة بتلك الفترة، ورسمت خطوطها السياسية بشكل واضح وذلك في أبعاد متفاوتة، ومن وجهات نظر مختلفة كانت مصدراً هاماً يستند إليه كل من أراد أن يؤرخ لهذه الفترة ويعول بالتالي على مصداقيته باتجاه طرح رؤاه وتحليلاته عنها.
وما زال غالب تلك المؤلفات والكتابات حبيس المكتبات العامة أو الخاصة منها، وهي بلا ريب تمثل تراثاً وطنياً ثرياً، ومن الأهمية بمكان القيام بتحقيقها ونشرها ليتمكن المهتمون والباحثون، من دراستها وتحليلها ولعل مخطوط (النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة) -موضوع الدراسة- للمؤرخ المطهر بن محمد الجرموزي، يعد واحداً من نماذج مؤلفات ذلكم العصر كونه -الجرموزي- أحد معاصري فترة لنشوء الدولة القاسمية (الزيدية) التي أرسى دعائم بنائها الإمام القاسم بن محمد آخر سنوات الوجود العثماني الأول في اليمن.
ولقد كتب المؤرخ الجرموزي ثلاثة مؤلفات -سنأتي على ذكرها- أولها موضوع دراستنا -النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة- وهي سيرة أحداث ووقائع الإمام القاسم بن محمد فيما تناول في مؤلفيه الآخرين سيرة كل من ولدي الإمام القاسم، وهما الإمام المؤيد بالله محمد (ت1054ه/1664م)، والإمام المتوكل على الله إسماعيل (ت1087ه/1676م).
ولعلنا فيما يأتي نوضح بالتفصيل ترجمة عن المؤرخ الجرموزي، مستقصين أخباره بما حصلنا عليه من مصادر.
نسبه
هو السيد العلامة المجاهد فخر الدين، المطهر بن محمد بن أحمد بن أحمد بن عبد الله المنتصر بن محمد بن أحمد بن القاسم بن يوسف بن المرتضى بن المفضل بن منصور بن الحجاج بن عبد الله بن علي بن يحيى بن القاسم بن يوسف الداعي بن يحيى الناصر بن أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
أما شهرته بالجرموزي فترجع إلى قريته -مسقط رأسه- بني جرموز من بلاد بني الحارث شمال صنعاء.
مولده ونشأته
في حقيقة الأمر لم نستطع بما وقع بين أيدينا من مصادر -شحيحة- معرفة ما كنا نؤمل من تفاصيل دقيقة عن نشأته أو المشائخ اللذين تتلمذ على أيديهم، ويبدو أن مطولات التراجم اليمنية قد أغفلته، فهو لم يُذكر في كتاب (مطلع البدور ومجمع البحور) لمعاصره القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال؛ ولعل سبب إغفاله ذلك مرده أن أبا الرجال لم يتناول في تراجمه سوى من تفقهوا في المذهب الزيدي. فيما لم يشر إليه كذلك العلامة المؤرخ محمد بن علي الشوكاني في مؤلفه: (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع).
ولد المؤرخ الجرموزي في (جمادى الآخرة سنة 1003ه/1594م) حيث نشأ في كنف والده. وكان لقربه من الأسرة القاسمية الأثر البالغ في تحصيله العلمي، حيث نال حظاً وافراً من العلم فصار عالماً فقيهاً صاحب دراسة ومعرفة دقيقتين بعلوم الدين لا سيما الأصول والفقه منها.
وهو بذلك حسب المحبي قد: "كان من أعيان الدهر وأفراد العصر علماً وعملاً ونباهة وفضلاً". قرّبه الإمام القاسم إليه فكانت له مكانة عالية لديه. فيما ولاه الإمام المؤيد بالله محمد القضاء على نواحي آنس ووصاب وعتمة، وأبقاه في منصبه كذلك الإمام المتوكل على الله إسماعيل.
وفاته
لم تتفق المصادر التي أرخت للمؤرخ الجرموزي في تحديد تاريخ دقيق لوفاته، فلقد ذكر مؤرخ معاصر أن وفاته كانت في (27 ذي الحجة سنة1077ه/1666م)، بينما ذكر المؤرخ يحيى بن الحسين في مؤلفه (بهجة الزمن) أن وفاته كانت في (يوم الإثنين السادس من شهر ذي الحجة سنة1076ه/التاسع من مايو1665م) ووافقه إلى ذلك صاحب (مختصر طيب أهل الكسا) إسماعيل بن أحمد، وشاركهما كذلك الجنداري في مؤلفه (الجامع الوجيز) وربما كان الأرجح بينهم جميعاً ما أكده مؤرخ محدث: "أن وفاته كانت في شهر المحرم من سنة 1077ه/1666م" استناداً إلى ما ذهب إليه حفيد المؤرخ الجرموزي، أحمد بن الحسن في كتابه (عقود الجوهر في أنباء آل المطهر) عن عمر ناهز السبعين عاماً، وقد وري جثمانه الثرى في قرية سماه من نواحي مديرية عتمة وقبره مشهور مزور.
الجرموزي مؤرخاً
مما لا شك فيه أن الفترة التاريخية التي عاشها المؤرخ الجرموزي (1003-1077ه/1594-1666م)، كان لها بالغ الأثر في صقل شخصه كسياسي ومؤرخ، فالنبت غالباً ما ينمُ عن التربة التي تحمله، فكذلك الشخوص عن محيطاتهم الاجتماعية، والجرموزي تنقل في نموّه عبر مراحل متناغمة الإيقاع، والموقع تكاملية الفعل والمحصلة، فسني طفولته التي عاشها في كنف والده أسست للبذرة الأولى في شخصيته التي ازدهرت في السنين اللاحقة من عمره، فكان للشخصية المحاربة التي عرف بها والده كأحد المقاتلين في صفوف جيش الإمام القاسم، إبان ثورته ضد العثمانيين (1006-1029ه/1597-1619م) أثرها البالغ في رسم المعالم الأولى لشخص مؤرخنا، وعندما شب عن الطوق عاش وضعاً سياسياً حافلاً بالأحداث لتلك الفترة -الصراع بين الأئمة والعثمانيين- والتي اشتدت أوضاعها السياسية تأزماً في عهد الإمام المؤيد بالله محمد، وانتهت بالجلاء العثماني الأول عن اليمن في عام (1635م)، وبعد وفاة المؤيد (1054ه/1644م) تسنّم سدة الحكم من بعده أخيه الإمام المتوكل على الله إسماعيل ليدخل بذلك حسب مؤرخ محدث: "معتركاً سياسياً هاماً على طول سني حكمه تمثل في بسط نفوذ الدولة على أرجاء اليمن قاطبة".
وقد تظافرت عدة عوامل أثرت على نتاجه الفكري وفي رفع شأنه كمؤرخ، منها قرابته للأئمة الزيدية -أسرة القاسم- وارتباطه المباشر بأركان الدولة القاسمية كونه أحد المسؤولين فيها. ومثلت سيره الثلاث التي كتبها عن الإمام القاسم بن محمد وولديه الإمام المؤيد بالله محمد، والإمام المتوكل على الله إسماعيل مصدراً مهماً وموثوق به في التاريخ اليمني الحديث، وكانت تلك السير: "تاريخاً حافلاً لليمن وللأئمة الثلاثة ودولهم وتراجم لمعاصريهم من العلماء والفقهاء والأدباء" كان الجرموزي ممن شاهدها أو عاصرها، ودوّن وقائعها. وهو بذلك قد: "رسم لنا صورة شاملة واضحة لمجريات أحداث تلك الفترة بكل ظروفها وملابساتها السياسية" وهي تساعد حسب مؤرخ معاصر: "باستمرار على توضيح وجهات النظر المختلفة مما كان يعمق في النهاية لتطور الأحداث".
وفي حقيقة الأمر فإن المؤرخ الجرموزي يعتبر أحد النماذج البارزة بين مؤرخي عصره وذلك لغزارة مادته التاريخية ولعمق نظرته وتحليلاته.
ولعل ذلك يتضح جلياً في كتاباته، نورد منها على سبيل المثال ما ذكره عن معركة دارت أحداثها في صعدة إبان فترة الإمام القاسم بن محمد -موضوع دراستنا- بين القوات الإمامية والقوات العثمانية في سنة (1023ه/1614م)، خلال محاصرة علي بن الإمام القاسم لقوات جعفر باشا لبسط نفوذ الإمام على صعدة، حيث يقول: "وأما أصحاب مولانا علي ... فإنهم لما سمعوا الحرب عادوا ناشرين رايتهم يضربون مرفعهم مجدين وقد خالطهم الشجن على مولانا علي..." .
وهو في جانب آخر، يتطرق إلى ذكر الصلح الذي عقد بين الإمام القاسم وجعفر باشا في سنة (1025ه/1616م) قائلاً: "ثم حصلت المكاتبة بهذا الصلح سراً فما عرف الناس إلا والسيد العلامة جمال الدين عامر بن محمد الذماري قد تقدم إلى صنعاء لعقد الصلح وتحليف الباشا جعفر.." .
ولعله من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن مؤلفاته التاريخية لم تقتصر في محتوياتها على الجانب السياسي، وإن هو حظي بالنصيب الأكبر والأوفر من اهتمام المؤلف، بل تناولت الجانب الاقتصادي كذلك، حيث يذكر على سبيل المثال في مؤلفه -موضوع الدراسة- ضمن أحداث عام (1028ه/1618م) أن أسعار الغذاء -الحبوب- قد ارتفعت نتيجة لقلة الأمطار في غالب مناطق البلاد، حيث يقول: "أما المطر فلا عهد لها به والظواهر مثلاً والبلاد الإمامية يعني مشارقها أقل، وارتفعت الأسعار وكاد الطعام يعدم".
وأما الجانب الاجتماعي، فقد حرص المؤرخ الجرموزي على تضمين مؤلفه بعضاً من عادات الأهالي وتقاليدهم، أو ما كان سائداً في أوساط الناس من طقوس اجتماعية أو معتقدات، فهو يشير -على سبيل المثال- إلى واحدة من المعتقدات وهي ظاهرة التبرك بالموجودات، حيث يذكر أن الأهالي تداعوا للتبرك بإحدى الأشجار العملاقة واقعة في منطقة المير، وعمدوا إلى زيارتها، ويوضح ذلك بقوله: "إنه كان في الفراع من أعلى المير وما يقرب من شام صور شجرة عظيمة من أجناس شجر مجموعة من ثلاثة أنواع أو أكثر فكان يقصدها البدوان من الشام واليمن البلاد المقاربة للزيارة والذبائح من الإبل والبقر والغنم".
كما اهتم الجرموزي -أيضاً- بالجانب العمراني وذلك من خلال تدوينه كل ما تم بناؤه أو إصلاحه وترميمه من المساجد والمدارس، مما كان موضع اهتمام الإمام القاسم، فهو يذكر الأعمال العمرانية التي تم إنجازها في مدينة شهارة حيث يقول: "أسس الإمام .. مسجده الجامع في محروس شهارة في رابع شهر محرم عام خمسة عشر وألف .... وساق معظم حجارته من خارج الباب".
ولم يقتصر المؤرخ الجرموزي على ذكر النواحي الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية فحسب بل إنه عمد إلى تضمين مؤلفه الظواهر الطبيعية التي حدثت في تلك الفترة من الزمن، ومن ذلك تتبعه لسير أحد النجوم حيث يقول: "طلع النجم ذو الذنب المشهور وصفته أنه طلع نجم مع الفجر له رأس كالسنان المرتفع وله نور يطلع قبله ثم لا زال يطلع حتى انتهى إلى نحو ثلث السماء أو يزيد وهو يطلع قبل الفجر نوره في كل يوم حتى انتهى إلى ما ذكرناه".
ولم تصرف اهتمامات مؤرخنا الجرموزي التاريخية عن الأدب، حيث اتخذ له مساحة لا بأس بها من اهتماماته عامة، ولقد ضمن مؤلفه العديد من القصائد التي قيلت سواء أكانت مدحاً في الإمام القاسم أو ابتهاجاً بالانتصارات التي حققتها قواته على الجانب العثماني أو غيرها من المناسبات كما تناولتها سيرة الإمام القاسم -موضوع الدراسة-.
ولعل ما أوضحناه -آنفاً- يؤكد بشكل جلي سعة اطلاع مؤرخنا الجرموزي ومعرفته بعلوم عصره يتبين ذلك من خلال مؤلفه موضع الدراسة -النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة- فهو إلى جانب اهتمامه بالتاريخ وتتبعه بالرصد لمجريات العصر وأحداثه كان على جانب كبير من الإلمام بالعلوم الأخرى، حيث نجد كتابه زاخراً بالاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فضلاً عن قصائد الشعر والأمثال، ولعله بذلك حسب مؤرخ محدث: "شأنه شأن غيره من معاصريه الذين تشبعوا بالثقافة الإسلامية التي سادت في تلك الفترة الزمنية".
مؤلفات المؤرخ الجرموزي
كتب مؤرخنا الجرموزي خلال سني حياته أربعة مؤلفات، أرّخ في ثلاثة منها للدولة القاسمية، وهي سير للأئمة الثلاثة: الإمام القاسم بن محمد، وولديه الإمام المؤيد بالله محمد، والإمام المتوكل على الله إسماعيل، فيما خصص مؤلفه الرابع للحديث عن أخبار ملوك اليمن منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى زمانه. ونتناول فيما يلي بالتفصيل نتاجه الفكري:
1- النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة
وهو الكتاب الذي نُعنى بدراسته، حيث تناول فيه الجرموزي سيرة الإمام القاسم بن محمد (ت1029ه/1619م) وهناك مسمى آخر لهذه السيرة يأتي تحت عنوان (الدرة المضيئة في السيرة القاسمية). وقد تناول -المؤرخ- فيه جوانب حياة الإمام القاسم الشخصية والعلمية والسياسية والحربية.
وبين الجرموزي في مقدمة كتابه الدافع من تأليفه لهذا الكتاب مؤكداً حرصه على تدوين أحداث الفترة -الإمام القاسم- ووقائعها وجمع أخبارها ممن شاهد أو شارك أو اتصل بالأحداث في حينها حيث قال: "...فإني قد سمعت كثيراً من أخبار مولانا وإمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد فأخذ النسيان أكثره، فرأيت أن أعلق في هذا المختصر ما أمكن مما بقي، وأجعل في هذه الأوراق اليسيرة توقيعاً لما أمكن من الجمل".
وقد ضمن المؤرخ الجرموزي في كتابه (النبذة المشيرة) العديد من الرسائل التي تبادلها الإمام القاسم بن محمد مع مؤيديه ومناصريه، وبعض العهود لتعيينات بعض أبنائه وكبار رجال إمامته ممن تولوا مهام تسيير الأمور في الأقاليم التابعة لنفوذه". كما تطرق كذلك إلى تلك الإصلاحات التي قام بها الإمام في مجالات عدة كبناء المدارس وشق قنوات المياه المستخرجة من الينابيع. وسنجد أنه أبدى اهتماماً كبيراً لثورة الإمام القاسم، وهو الجزء الهام في أحداث هذه السيرة، حيث أفرد أغلبه للحديث بشكل مفصل ودقيق لدعوة الإمام وثورته التي خاضها ضد الوجود العثماني الأول في اليمن.
وأورد بشكل مسهب أحداث المعارك التي دارت رحاها -وقتئذ- بين الجانبين الإمامي والعثماني خلال الثورة، والتي قسمها إلى أربع مراحل (نهضات) كما تناولتها فصول الرسالة -السابقة الذكر-.
ووثق مؤرخنا في مؤلفه تلك الرسائل التي تبادلها الإمام مع بعض الولاة العثمانيين الذين تولوا ولاية اليمن خلال فترة الإمام القاسم، وأورد كل اتفاقيات الصلح التي وقعها -الإمام- مع هؤلاء الولاة. كما أنه أورد تراجم لعدد من العلماء والفقهاء، وغيرهم من الأدباء ممن عاصروا الإمام القاسم.
وتناول مؤرخنا في كتابه كذلك العلاقات الخارجية التي كانت قائمة بين الإمام وبعض زعماء دول الجوار. من خلال الرسائل التي كان يبعثها إليهم.
ومن الأهمية بمكان ان نذكر أن مؤرخنا كان قد سجل مجريات الأحداث لمؤلفه (النبذة المشيرة) خلال سنوات حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل وهو ما أشار إليه في نهاية كتابه بقوله: "حررت في أيام مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله إسماعيل لعشر بقين من شهر ربيع الأول خمس وستين وألف من الهجرة النبوية".
وتجدر الإشارة إلى أن هذه السيرة كانت مصدراً هاماً ورئيساً لمادة تاريخية اعتمدت عليها الباحثة السعودية أميرة المداح نالت بها درجة علمية -ماجستير- من جامعة مكة المكرمة.
2- الجوهرة المنيرة في تاريخ الخلافة المؤيدية
تناول مؤرخنا في مؤلفه (الجوهرة المنيرة) الحديث عن سيرة الإمام المؤيد بالله محمد. منذ توليه الإمامة عقب وفاة أبيه الإمام القاسم سنة (1029ه/1619م) وحتى وفاته سنة (1054ه/1635م). وأفرد الجرموزي جانباً كبيراً من كتابه لثورة الإمام المؤيد بالله محمد ضد العثمانيين حيث سجل وقائع وأحداث الحروب التي خاضها معهم. انتهاءً بخروجهم (جلاؤهم) عن اليمن سنة (1036ه/1635م)، كما أنه تطرق إلى تلك السياسة التي اتبعها الإمام المؤيد ضد معارضيه.
وتحدث الجرموزي في مؤلفه عن العلماء والفقهاء والأدباء الذين عاصروا الإمام المؤيد ووالده الإمام القاسم، بالإضافة إلى رجال الدولة وحكام المناطق المختلفة في اليمن -خلال حكم المؤيد- الذين اشتركوا في القتال ضد العثمانيين أو المعارضين لحكم الإمام المؤيد بالله محمد.
3- تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرائب الأخبار
تناول المؤرخ الجرموزي في كتابه (تحفة الأسماع) سيرة الإمام المتوكل على الله إسماعيل، وقد تطرق في مقدمته للحديث عن المعارضين لإمامة الإمام المتوكل على الله، وكيف حسم الإمام -المتوكل- الصراع القائم -وقتئذ- بين أفراد الأسرة القاسمية -المعارضين- والذي انتهى بتوليه إدارة شئون البلاد في عام (1054ه/1644م).
ورسم مؤرخنا بدقة متناهية صورة واضحة للسياسة التي اتبعها الإمام لمد نفوذه إلى المناطق الجنوبية من البلاد بغرض ضمها في إطار الدولة الواحدة، وقد خصص حيزاً كبيراً من السيرة للحديث عن الوقائع والأحداث التي خاضتها قوات الإمام بقيادة أحمد بن الحسن بن القاسم في تلك المناطق، كما وضح بشكل جلي المعارك التي خاضتها قوات الإمام المتوكل في المناطق الجنوبية، والهادفة إلى توحيد اليمن تحت لواء دولة مركزية واحدة امتدت سيطرتها إلى حضرموت وما جاورها من مشرق اليمن وجنوبه.
وتطرق المؤرخ كذلك إلى الحياة السياسية والعلمية للإمام المتوكل على الله إسماعيل، بالإضافة إلى إصلاحاته الاقتصادية.
واهتم المؤرخ برصد معالم السياسة الخارجية التي انتهجها الإمام المتوكل مع عدد من الأقطار العربية والإسلامية، وبعض الدول الأوروبية، كما أنه ترجم للمعاصرين من علماء، وفقهاء، وأدباء ممن عاصروا الإمام المتوكل على الله، بالإضافة إلى الحياة العلمية التي شهدها عصره.
وتجدر الإشارة بأن الباحث حقق هذه السيرة ونال عليها درجة علمية -ماجستير- كما أنها كانت مصدراً هاماً ورئيساً لمادة تاريخية اعتمدت عليها باحثة سعودية ونالت هي الأخرى بها درجة علمية -ماجستير- من جامعة الملك عبد العزيز بجدة.
4- عقد الجواهر البهية في معرفة المملكة اليمنية، والدولة الفاطمية الحسينية
تناول مؤرخنا في كتابه (عقد الجواهر البهية) أخبار من ملك اليمن منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاء بعصره، ولم يقدر أهمية هذا الكتاب كما يقول مؤرخ معاصر: "سوى ناس قليلين منهم الشيخ حمد الجاسر الذي يمتلك نسخة من الأم المجهولة".
البحث عن النسخ واختيار النسخة الأم
إن القيام بتحقيق المخطوطات عملية ليست بالسهلة -كما يتصورها البعض- لكنها في واقع الأمر عملية يدخل معها الباحث -المحقق- في سلسلة من الإجراءات التي لا بد منها لإظهار عمله بالمستوى الذي ينبغي أن يكون، حيث يتطلب منه -الباحث- السعي حثيثاً للحصول أولاً على النسخة الأم، تليها مهمة أخرى شاقة تتمثل في البحث عن نسخ أخرى نسخت عن المخطوطة الأصلية -الأم- فإذا تعذر عليه الأمر في الحصول على النسخة الأم يتوجب عليه -حينئذ- اختيار إحدى النسخ التي توافرت بين يديه من نسخ المخطوط المراد تحقيقه وجعلها أماً يستند عليها خلال عملية التحقيق، ولعل ذلك ما عمدت إليه حينما عزمت على تحقيق مخطوطة (النبذة المشيرة) للمؤرخ المطهر بن محمد الجرموزي، إلى جانب موضوع رسالة الدكتوراه (ثورة الإمام القاسم ضد الوجود العثماني الأول في اليمن) كما تناولتها في فصولها الخمسة الآنفة الذكر.
كانت مهمتي الأولى التقصي والبحث الدقيقين في فهارس المخطوطات التابعة للمكتبات العامة والخاصة، اتجهت بداية -بهذا الشأن- إلى دار المخطوطات -الواقع بجانب الجامع الكبير بصنعاء القديمة- الذي يعنى بشؤون المخطوطات في اليمن، قمت عقب ذلك بقراءة دقيقة لمحتويات فهرست المكتبة الغربية بالجامع الكبير -التي تضم أعداداً غير قليلة من المخطوطات- التي أعدها المختصون في الدار، بطريقة علمية لتسهيل مهام الباحثين، وبعد جهد في عملية البحث لم أجد ما كنت أتوخاه، كان عليّ عقب ذلك البحث في فهرست مكتبة الأوقاف التابعة كذلك للجامع الكبير، وبعد بحث وجدت في فهرست المكتبة نسخة للمخطوط تحت رقم (2159).
وفي حقيقة الأمر لم أكتف بالبحث (السابق الذكر)، كما هو دأب الباحث وراء تحقيق المخطوطات، فكان أن عمدت إلى المصادر والمراجع اليمنية التي تناولت في محتوياتها الحديث عن الأعلام (المؤرخون ...الأدباء...إلخ) مثل كتاب (حوليات يمانية) للأستاذ عبد الله الحبشي ومؤلفه الآخر (مصادر الفكر الإسلامي)، وكتاب (مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني) للأستاذ الدكتور حسين العمري، وكتابي (أعلام الزيدية) و(مصادر التراث في المكتبات الخاصة في اليمن) للأستاذ عبد السلام الوجيه، وكتاب (مصادر تأريخ اليمن الإسلامي) لأيمن فؤاد السيد.
ولقد أشارت تلك المصادر إلى وجود نسختين للمخطوطة، إحداهما في الجامع الكبير تحت رقم (19خ1094)، فيما ذكرت أن ثانيهما -نسخ المخطوطة- توجد في المتحف البريطاني بلندن رقم (or. 3329).
فقمت بتصوير نسخة مكتبة الأوقاف.
وتجدر الإشارة أن أستاذي المشرف الدكتور حسين العمري، كان قد أعارني من مكتبته الخاصة نسخة مصورة للمخطوط صادرة عن مكتبة اليمن الكبرى.
ولقد قمت بزيارات لبعض المكتبات الخاصة -لدى الأهالي- كان المؤمل منها الحصول على نسخ للمخطوط، ومن تلك المكتبات على سبيل المثال، مكتبة المفتي أحمد زبارة، ومكتبة الوالد القاضي محمد قاسم الوجيه (رحمه الله)، ولكني في حقيقة الأمر لم أجد أي نسخ للمخطوط بين محتويات تلك المكتبات.
من جانب آخر حرصت كذلك على الاتصال بأسرة المؤرخ الجرموزي، حيث تربطني علاقة طيبة بأحد أفرادها وهو الأستاذ محمد بن يحيى الجرموزي، والذي زرته في منزله، وقام مشكوراً بإجراء اتصالاته بحفيد المؤرخ وهو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الجرموزي في عزلة سماه من مديرية عتمة بمحافظة ذمار، وبعد إجراءات مطولة مع أسرة المؤرخ الجرموزي -وهي مشكورة الجانب- قام الأخ عبد الله الجرموزي (أحد أحفاد المؤرخ) بإيصال المخطوطة إلى منزل الأستاذ محمد الجرموزي وقمت عقب ذلك بتصوير نسخة المخطوطة.
وبعد أن قطعت شوطاً كبيراً في نسخ المخطوطة التي اعتمدت عليها -النسخة الأم- تسلمت نسخة أخرى للمخطوطة من مكتبة المتحف البريطاني، أرسلها أستاذي المشرف مشكوراً من مقر عمله في لندن في بداية عام (2001م) حيث كان يشغل منصب سفير الجمهورية اليمنية لدى المملكة المتحدة.
أما بالنسبة للنسخة التي اعتمدت عليها -واعتبرتها النسخة الأم- عند قيامي بعملية النسخ، فهي نسخة مكتبة اليمن الكبرى، وقد أشرت إليها بالرمز (ك)، وكانت هناك جملة من المسببات جعلتني أتخذها النسخة الأم، نستعرضها تفصيلاً في إطار الحديث عنها.
وفيما يلي وصفا للنسخ التي اعتمدت عليها عن تحقيقي للمخطوطة، كل حدة:
1- نسخة مكتبة اليمن الكبرى، وتم الإشارة إليها في الرسالة بالرمز (ك) وتقع في (508) ورقة، تضم كل صفحة منها (26) سطراً) كتبت بخط نسخي معتاد وجميل.
2- نسخة المتحف البريطاني (لندن)، وأشرت إليها بالرمز (م) حملت رقم (or. 3329) حسب فهرستها في المتحف البريطاني، وتقع في (286)ورقة، تضم كل صفحة منها (24) سطراً، كتبت بخط نسخي معتاد، فرغ ناسخها من عملية نسخها في يوم السبت 19 شعبان 1064ه/5يوليو 1654م.
3- نسخة مكتبة العلامة الفاضل السيد محمد بن عبد الرحمن بن قاسم بن عبد الله الجرموزي أحد أحفاد المؤلف المطهر بن محمد الجرموزي، وكان حاكماً لناحية عتمة حتى تاريخ العاشر ذي الحجة من سنة 1407ه/6أغسطس 1987م كما كتب على ورقة في نهاية المخطوطة،
…ويبدو أنها بخط المؤلف نفسه -الجرموزي- إلا أن بها خرماً أذهب قريب النصف منها، وعليه فقط اكتفيت بالاستئناس بها، وهي تقع في (106) ورقة، ضمت كل صفحة منها (28) سطراً كتبت بخط نسخي معتاد.
4- نسخة الجامع الكبير، مكتبة الأوقاف، وأشرت إليها بالرمز (ج) حملت الرقم (2156) كما جاء في فهرست المكتبة، وتقع في (261) ورقة، تضم كل صفحة منها (27) سطراً، كتبت بخط نسخي معتاد، فرغ ناسخها من نسخها في 1063ه/ 1653م
وحيال هذا العدد من النسخ التي توافرت لدي لنفس المخطوط، كان من الأهمية بمكان إجراء مقارنة دقيقة بينها لإيضاح الأسباب التي أدت إلى اختياري للنسخة الأولى (ك) واعتبرتها النسخة الأم (للمخطوط)، ولعل ما ذهبت إليه تدعمه عدة أسباب أوجزها فيما يلي:
1- النسخة (ك) لا يعتريها أي نقص في محتوياتها من الأحداث إضافة إلى أنها جاءت مرتبة في سياق أحداثها الزمنية كما أرادها المؤلف. كما أن خطها جميل وواضح غير مهمل النقط.
2- أما بالنسبة لنسخة المتحف البريطاني بلندن (م)، فهي الأخرى واضحة، حيث كتبت بخط نسخي معتاد، ولقد اهتم في حقيقة الأمر ناسخها بكل محتوياتها، فهو قد كتب عناوينها باللون الأسود الواضح، وقد أشار ناسخها أنه فرغ منها في (يوم السبت 19شعبان لسنة 1064ه/1654م) إلا أنه لم يثبت اسمه في نهاية النسخة، كما جرت عليه عادة الناسخ واكتفى بالإشارة إلى التأريخ كما أوردناه سابقاً. وتجدر الإحاطة إلى أنه خلال عملية المقارنة التي أجريناها مع النسخة (ك)، اتضح لنا أنه قد شابها بعض العيوب نوردها فيما يلي:
أ- لوحظ أن هناك عدداً من الكلمات في أوراقها قد سقطت، ولم يشر الناسخ إليها -يثبتها- في حواشي الأوراق كما هو معتاد من خلال وضع إشارة السهم القلوب (7) ثم يثبت الكلمة التي سقطت في الحواشي ويتضح ذلك جلياً كما أثبتناه في هوامش الأوراق (30،31،78،122،126) من النسخة (ك).
ب- يلاحظ على النسخة (م) ظهور بعض الإضافات على الهوامش منها على سبيل المثال في الورقة (132/أ) حيث كتب العبارة التالية (وجميعهم مولانا أمير المؤمنين علي بن أمير المؤمنين القاسم رحمه الله) وهي بغير خط الناسخ.
ج- أسقط الناسخ أحدى رسائل الإمام التي وجهها إلى قبائل الحيمة بشأن الداعي ناصر الغرباني كما هي مثبوتة في النسخة (ك) تحديداً في الورقة (478) وبدايتها .."ومن الرسائل التي أرسل الإمام عليه السلام في أمره في شهر محرم من سنة تسع وعشرين وألف" أما نهاية الرسالة فهي كما جاءت مثبتة في الورقة (480) من النسخة (ك)، ولم يشر الناسخ إلى ذلك، كما جرت العادة -النساخ- إثبات ما سقط في حواشي الأوراق، تجدر الإشارة أن الرسالة -السالفة الذكر- تقع في ورقتين، وهو ما أشرنا إليه في هوامش الورقة (480).
3- وبالنسبة للنسخة (ج) فلم تخل هي الأخرى من عيوب ظاهرة، على الرغم من وضوح خطها، حيث نجد أن الناسخ أسقط عدداً غير قليل من الكلمات ولم يشر إليها في حواشي الأوراق، أثبتنا ما ذهبنا إليه -الباحث- في هوامش الأوراق (30،31،78،126، 147، 155، 443) من النسخة (ك) ويلاحظ كذلك ان الناسخ قد أسقط مقدار صفحتين من محتويات نسخته أشرنا إلى ذلك في الورقة (139) من النسخة (ك).
وصف النسخة الأم
لعل الأسباب التي ذكرناها سابقاً، تؤكد ترجيحي في اختيار النسخة (ك) واعتبارها النسخة الأم. وهو الأمر الذي أفضى إلى الاعتماد عليها عند القيام بنسخ المخطوط لغرض تحقيقها، وهكذا تكون النسخة (ك) قد أحاطت دون غيرها من باقي النسخ المشار إليها سابقاً بأحداث سيرة الإمام القاسم بن محمد حتى سنة وفاته (1029ه/1619م).
وفيما يتعلق بوصف المخطوطة، فسنجد أنها كتبت في أوراق قديمة (صورت) تقع في (508) ورقة، احتوت كل ورقة منها على (26) سطراً جلدت تجليداً سميكاً للحفاظ عليها.
ويلاحظ أن ورقتها الثانية والتي بُدئت بالبسملة لم تكن ضمن محتويات (سيرة الإمام القاسم) -بل كانت مقدمة من قبل ناسخ المخطوطة وهو الحسن بن المطهر الجرموزي -ابن المؤلف- أراد منها (المقدمة) التعريف بأهمية المخطوطة حيث قال: "... فلما اطلع راقم الأحرف الفقير إلى الله الغني، الحسن بن المطهر بن محمد الجرموزي، وفقه الله بأحسن التوفيق، وهداه إلى واضح الطريق، على هذه السيرة الفائقة، والنبذة اللطيفة الرائقة، الجامعة لغرر الأخبار من أخبار الغرر، وسيرة الأخيار أخيار السير..." .
ويبدو أن الحسن بن المطهر الجرموزي، هو من قام بنسخ هذا المخطوط بعد وفاة أبيه (المؤرخ) يتضح ذلك جلياً من خلال مقارنة دقيقة لخط الحسن، ورسم الكلمات كما جاءت في الورقة الثانية بمثيلاتها في باقي الأوراق الخاصة بالسيرة، وحرصاً لما ذهبت إليه -الباحث- فقد دفعت بالمخطوطة للأخ أحمد مسعود (أحد موظفي دار المخطوطات وخبير في هذا المجال) والذي أكد بعد مقارنته هو الآخر لخط الناسخ في الورقة الثانية للسيرة وطريقة رسمه للكلمات وما جاء في باقي محتويات السيرة، أن المخطوطة قد نسخت من قبل ابن المؤرخ (الحسن). فيما اشتملت الورقة الثانية للسيرة على تعريف للإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم.
أما نسخ المخطوط فقد كان بخط نسخي معتاد وجميل، وقد استهل الناسخ عند كتابته لسيرة الإمام القاسم بن محمد بالبسملة، كما حرص عند كتابته عنوان أو فصل أن يكون بارزاً وبخط كبير، وقد عمد كذلك إلى تمييز اسم الإمام وأفعال الرواية مثل (قال .. أخبرني .. نذكر) بخط كبير باللون الأسود.
أما بالنسبة لتلك الكلمات التي سقطت خلال عملية النسخ لهذه المخطوطة -وهو أمر طبيعي نجده في غالب المخطوطات- فقد عمد الناسخ إلى وضع الإشارة (7) سهم مقلوب (وهي عادة جرى عليها النساخ) وهو إلى ذلك قام بإثبات ما سقط عنه سهواً في حواشي الأوراق، والملاحظ أن الكلمات التي سقطت من قبل الناسخ كانت قليلة جداً بالمقارنة ببقية النسخ الأخرى.
كما حرص الناسخ على وضع نقاط بين سطور الأوراق بهذا الشكل (0) وبلون أسود واضح، للتدليل على نهاية جملة أو فقرة ما، ولقد وضع الإشارة نفسها لتشطير الأبيات الشعرية.
ولقد اهتم المؤرخون عند تأليفهم الكتب على توثيق مادتهم التأريخية بما يقع بين أيديهم من خطابات أو رسائل أو أبيات شعرية لإضفاء المصداقية على ما ذهبوا إليه في مؤلفاتهم، وفي حالة عدم تمكنهم من الحصول على تلك الوثائق، فإنهم يحرصون على ترك (بياض) في الأوراق التي يرغبون تثبيت ما كانوا يؤملونه، حرصاً منهم على الأمانة العلمية لمؤلفاتهم، ويتضح ذلك من خلال ترك الناسخ للمخطوطة (ك) بعض أوراقها خالية من الأحداث (بياض).
كما جرت العادة لغالب نساخ المخطوطات، إهمال استخدام الهمزات في الكلمات التي تستوجب استخدامها مثل (مشايخ، قبايل، عماير) وعمدوا كذلك في رسمهم للعديد من الكلمات بالرسم القرآني مثل (الصلوت، الزكوت، السموات)، ولعل ذلك يبدو واضحاً لدى ناسخ المخطوطة (ك) كما سنبينه عند الحديث عن منهج التحقيق.
منهج المؤرخ
لقد أثرت الفترة التاريخية التي عاشها مؤرخنا الجرموزي (1003ـ1077ه/1594ـ1666م) تأثيراً كبيراً في أسلوب صياغته للأحداث بحكم قربه من البيت الحاكم (الأسرة القاسمية) إضافة إلى دخوله في خدمة هؤلاء الأئمة فهو أحد المسؤولين، وهو الأمر الذي ترك بصماته واضحة جلية في منهجه (المؤرخ) خلال كتابته لمؤلفاته.
ولقد استقى المؤرخ الجرموزي معلوماته من مصادرها كونه قريباً من الأحداث من جانب، ومن جانب آخر فإنه يعتبر من مؤرخي السير البارزين باحثاً مدققاً وراء ما يجمع من الأخبار وروايتها، ولم يغفل عن ذكر من أخذ عنهم حيث يسند رواياته إلى أصولها.
وتبدو لنا معالم منهجه واضحة من خلال دراستنا لمؤلفه (النبذة المشيرة) حيث أشار إلى الغرض من تأليفه بقوله: "...أما بعد فإني كنت سمعت كثيراً من أخبار مولانا وإمامنا، ووسيلتنا إلى ربنا الإمام الأعظم والحجة لله سبحانه على أهل عصره من ولد آدم، المنصور بالله القاسم بن محمد بن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فأخذ النسيان أكثره، فرأيت أن أعلق في هذا المختصر ما أمكن مما بقي، وأجعله في هذه الأوراق اليسيرة توقيعاً لما أمكن من الجمل، وأما الإحاطة بها فما أبعدها، والتفصيل لها أبعد من نيل النجوم وعدها، لطول المدة وتأخرنا عنها...".
فيما بيّن المؤرخ الجرموزي، بعناية بالغة، وتفصيل دقيق المنهج الذي اتبعه في كتابه (النبذة المشيرة) سيرة الإمام القاسم بن محمد، من جميع جوانبها الشخصية والحربية والسياسية، وقد عرض هذا المنهج في مقدمة كتابه ..حيث قال: "...ونذكر نسبه الشريف، ونشأته، وحلته، وخصائصه، وعلمه، وشجاعته، وورعه، وتدبيره، وسخاه، وشفقته على الأمة، وصبره، ونبذاً من مواعظه ورسائله وكراماته، ونبذاً من أشعاره، ويسيراً مما امتدحه به أهل الإجادة، وتعداد عيون العلماء من أهل عصره، ودعوته، وحروبه، ونهضاته، ووفاته وموضع قبره...".
ثم يبدأ بعد ذلك عرض موضوعات كتابه ذاكراً كل عنصر بشكل مفصل، فيقول: "أما نسبه الشريف فهو الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن يوسف الأصغر الملقب الأشل ...". وقد تطرق المؤرخ في نحو (65) ورقة في مؤلفه إلى الحديث عن صفات الإمام ومناقبه، فيما تناول في باقي الكتاب، دعوة الإمام وحروبه (ثورته) في مراحلها الأربع حتى وفاته وهي تمثل الجزء الهام في مؤلفه.
وحرص المؤرخ على تدعيم كتابه بالوثائق مثل رسائل الإمام التي كان يبعثها إلى رؤوساء القبائل يدعوهم فيها إلى الثورة على العثمانيين.
على سبيل المثال وثق (المؤرخ) أحدى رسائل الإمام يحثهم فيها على الجهاد ضد العثمانيين حيث يقول: "...ثم إنا ندعوكم إلى جهاد أعداء الله الذين ظلموا العباد وأظهروا في الأرض الفساد..." كما اهتم الجرموزي بتلك الرسائل التي كان الإمام القاسم بن محمد يتبادلها مع قواده أو حكام الأقاليم، والتي كانت تحمل أوامره وتعليماته وتوجيهاته لتسيير الأمور في مراكز نفوذه، كما أنه لم يغفل تلك الرسائل التي كان يبعثها الإمام إلى بعض أمراء الدول العربية. من ذلك رسالة وجهها الإمام إلى شريف مكة حسن بن نمي يبين له فيها الفتنة التي حدثت في البلاد (اليمن) جراء خروج عبد الله المؤيدي عن الطاعة وإعلانه الإمامة لنفسه .. فيقول: "...أما بعد فكتابنا هذا إلى سلالة النجباء من عترة النبي المجتبى مفاخر الزمن ودوأبه بني الحسن، أهل الشوكة في حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...". ولقد مثلت محتويات تلك الرسائل وثائق بالغة الأهمية عن هذا العصر وما اتصل به من ظروف محلية (ثورة الإمام ضد العثمانيين)، وعلاقات كانت قائمة بين الإمام وبعض أمراء الدول العربية.
ولعل سعة اطلاعه وقربه من مواقع الأحداث، بالإضافة إلى موقعه كواحد من كبار مسؤولي الأسرة القاسمية، قد أثرت هي الأخرى في منهجه عند كتابة مؤلفاته، فهو لذلك قد استقى معلوماته من مصادرها المباشرة أمثال الإمام القاسم وكبار رجال إمامته ومستشاريه، وغيرهم من القادة العسكريين الذين شهدوا وقائع الأحداث عن قرب وتتبعوها عن كثب، فهو في موضع (على سبيل المثال) يدون حديثاً دار بينه وبين الإمام القاسم عن أحوال الأقاليم الواقعة وسط البلاد (اليمن) بعد الزيارة التي قام بها (المؤرخ) إلى أهله في بني جرموز ..فيقول: "...فلما عدت إليه سلام الله عليه سألني عن المشارق فحملني ما شاهدت من أحوالها ...".
ولقد تميز مؤرخنا دون غيره من المؤرخين المعاصرين له في رصده بعض أحداث مؤلفاته، وكأنه يكتب مذكراته، فهو على سبيل المثال يدون الأحداث حول حصار شهارة ضمن مجريات الأحداث لسنة 1011ه/1601م من قبل العثمانيين، وكيفية خروج الإمام منها (شهارة) في بضع أوراق، لكنه يتوقف فجأة عن أخبار الحصار، تاركاً أكثر التفاصيل لنتائج ذلكم الحدث، لينقلنا إلى أخبار وصول الإمام إلى برط، وما دارت من أحداث بين الإمام وأهالي برط ثم يتوقف عن سرد أخبار الإمام في برط، ليعود بنا مرة أخرى لمتابعة أحداث شهارة التي كان قد ذكرها فيما قبل، ليضيف إليها ما استجد من الأحداث عقب خروج الإمام إلى برط، كان قد رصدها في مذكراته، غير أنه لم يدونها في كتابه، ومن ثم يعود بالسرد التاريخي بعبارته التقليدية على مثل هذا النحو: "ولنرجع إلى أخبار شهارة المحروسة بالله، فإنهم صبروا بعد خروج مولانا الإمام وأحربوا حروباً كثيرة...".
ولقد اتبع المؤرخ الجرموزي في تناوله للأحداث في كتاباته أسلوب السرد القصصي مع حرصه على التوقيت الزمني ورصد الأحداث بتبيان تواريخها، وهو بذلك يختلف عن نهج من عاصره من المؤلفين ممن كتبوا عن الفترة أمثال عيسى بن لطف الله في مؤلفه (رَوْح الروح) والتي كانت تنهج في رصدها الأحداث منهج المدرسة العربية الإسلامية الكلاسيكية، بالتزامها بترتيب الأحداث على طريقة الحوليات.
وعني مؤرخنا كذلك وبشكل دقيق على توثيق مادته التاريخية بما وقع بين يديه من كتب المؤرخين المعاصرين له، كان الغرض منها تأكيد مصداقية تلك المعلومات والأحداث التي سطرها في مؤلفاته، شأنه في ذلك شأن سائر مؤرخي عصره، ويبدو ما ذهبنا إليه واضحاً في مؤلفه: (النبذة المشيرة) -موضوع الدراسة- حيث حرص على توثيق كثيراً من أحداثه مما استقاه من كتاب: (اللآلئ المضيئة في أخبار الأئمة الزيدية) للعلامة أحمد بن محمد الشرفي، ..مثل قوله: "...قال السيد أحمد نفع الله به: فتح جهات خولان صعدة وما جرى فيها من الحوادث.."، وهو في موضع آخر ينقل من كتاب (روح الروح في ما جرى بعد المائة من الفتن والفتوح) لمؤلفه المؤرخ، عيسى بن لطف الله حيث يقول: "...قال السيد عيسى أن الذين أنذرهم وأطلع خبر هذا الظالم رجل من عيال يزيد اسمه سبحا..." وتجدر الإشارة إلى ان ما نقله من هذه المصادر قد اقتصر على النقل الحرفي ليس أكثر، فلا هو علق عليها إثباتاً أو نفياً أو ترجيحاً ولا هو عابها منتقداً".
وإذا ما ألقينا نظرة على مؤلفات المؤرخ الجرموزي سنجد أنها اتسمت بالتحيز الشديد للأئمة الزيدية، فهو على سبيل المثال عند ذكره للإمام القاسم بن محمد يحيطه بألقاب التعظيم وهالات التقديس يقول: "...سمعت كثيراً من أخبار مولانا وإمامنا ووسيلتنا إلى ربنا الإمام الأعظم والحجة لله سبحانه على أهل عصره من ولد آدم المنصور بالله القاسم بن محمد.." وهو إلى ذلك لم يذكره على طول السيرة مجرداً ولو لمرة فما صادف اسم الإمام مرة إلا وقال: ..الإمام عليه السلام.." أو: "الإمام سلام الله عليه.." ولعل تحيزه يتضح أكثر في تلك الصفحات التي خصصها لذكر كرامات الإمام القاسم بن محمد وفضائله وكرمه وحميد خصاله وسخائه.
لغة المؤرخ
مما لا شك فيه أن اللغة هي وسيلة الكاتب المؤثر في محيطه فبها يستشف المعاني والمفردات ويتغلغل في أعماق النفس البشرية، وبها يستلهم مفردات الحياة، وهي بالتالي تكشف على الدوام عن هويته، ومن الأهمية بمكان أن يكون ملماً بقواعدها دارساً لأبجدياتها عارفاً بجزئياتها وتركيبها وصياغتها، كونها أساس كل عمل كتابي قويم، فإن شابها خلل (ركاكة) في تناغم انسيابها أو اتساق مفرداتها أثرت بالتالي على محتويات مادتها.
وإلى ذلك نستطيع القول أن مؤرخنا الجرموزي كان ذو اطلاع ودراية وإلمام واسع بلغته العربية، نستشف ذلك حين نقرأ ما سطرته يديه من مؤلفات تؤكد: "مقدرته الفائقة على التصرف بألفاظها وتوظيفها في تحقيق ما يصبو إليه".
وفي حقيقة الأمر فقد كان لاطلاعه الواسع باللغة، أثرها على مؤلفاته التاريخية، فهو قد جعل قلمه ينساب أثناء تدوينه لوقائع الأحداث ليسطر في أسلوب أدبي رائع عبارات جزيلة المعنى، رصينة المأخذ، رائقة الصفاء، ليترجم من خلالها ما كان يؤمله، ويتضح ما ذهبنا إليه من عبارة كهذه: "...فكم له من موطن في الجهاد، تشهد له السيوف فيها أنه الذي أعطاها حقها، وأهداها من أعناق الإسلام إلى واضح طرقها..." هكذا يتضح لنا ولع مؤرخنا بجماليات اللغة وبمحسناتها البديعة من جناس وطباق ونحوهما، وهو في عبارة أخرى يستخدم السجع، كما جرى عليه مؤرخوا تلك الفترة ..حيث يقول: "...فلما ظهر فضل علمه على العلماء، وعمله على العملة الصلحاء، وإعراضه عن الدنيا وإقباله إلى الأخرى..".
ولقد أضفت قصائده التي تخللت ورقات مؤلفه (النبذة المشيرة) بعداً أدبياً وجمالياً حاكت أبياتها الشعرية (في كل القصائد) في إيقاعات جزيلة المعنى أحداث ذلك العصر ... مثل قوله:
العيد أنت فما الأعياد والجمع .... ما لم تكن والليالي كلها شرع
والدهر ما دمت عيد كله ولنا .... من جُود كفك مصطاف ومرتبع
وكيف لا وبك الإسلام منتصرٌ .... والعدل منتشر والحق متبعُ
أهمية المخطوطة ومحتوياتها
(أ) أهمية المخطوطة
مثلت المرحلة التي عُنيت بها المخطوطة فترة تاريخية هامة من تاريخ اليمن الحديث، حيث رسمت الخارطة السياسية للبلاد -وقتئذ- في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين وجملة الأحداث التي أفرزتها الظروف السياسية نتيجة الصدام بين العثمانيين والإمام القاسم بن محمد، مكنته من خوض حروب خلال ثورته ضدهم. أدت في نهاية المطاف إلى خروج العثمانيين الأول من اليمن في عام (1635م) كما أبرزت المخطوطة الميزات الهامة والفريدة لهذه الفترة والتي تمثلت في الحنكة السياسية والشخصية القوية للإمام القاسم بن محمد والذي يعتبر من أهم الشخصيات اليمنية في تاريخ اليمن الحديث لدوره الكبير في إرساء دعائم الدولة القاسمية، والتي استطاعت (فيما بعد) على يد ولديه الإمام المؤيد بالله محمد والإمام المتوكل على الله إسماعيل انتزاع الاستقلال عن الدولة العثمانية، بينما كان معظم العالم العربي يرزح في هذا الوقت تحت سيطرتها.
وفي حقيقة الأمر فإن المخطوطة تكتسب أهميتها من أهمية الفترة التي أرخت لها، كونها قد غطت بين دفتيها جميع الأحداث التي دارت وقائعها -وقتئذ- بين الجانبين الإمامي والعثماني، وهو الأمر الذي لم يتطرق إليه أي من المؤرخين المعاصرين لها ممن كتب عنها بالشكل الذي تناولته هي. أمثال المؤرخ عيسى بن لطف الله في مؤلفه (روح الروح)، والمؤرخ أحمد بن محمد الشرفي في كتابه (اللآلئ المضيئة)، وكذلك المؤرخ يحيى بن الحسين في مؤلفه (بهجة الزمن في حوادث اليمن)، ويضاف إلى هؤلاء بعض من الدارسين والباحثين المحدثين مثل الباحثة السعودية أميرة المداح وكتابها (العثمانيون والإمام القاسم).
ولعل معاصرة مؤرخنا الجرموزي لوقائع تلك الفترة الزمنية، وجمع أخبارها من مصادرها ممن شارك أو اتصل بالأحداث في حينها، قد أظفى قدراً كبيراً من الأهمية على المخطوطة.
ولقد تطرقت المخطوطة بشكل ملحوظ إلى دعوة الإمام القاسم بن محمد وثورته التي خاضها ضد الجانب العثماني في مراحلها الأربع (كما أشرنا لها في موضوع الرسالة) والأهم من ذلك كله ما جاء من تناول مؤرخنا لأدق التفاصيل ولكل صغيرة وكبيرة ممن شاهد تلك المعارك التي خاضتها قوات الإمام في الشمال الجبلي ضد العثمانيين لبسط نفوذه عليها.
وتبرز أهمية المخطوطة كونها قد تطرقت إلى تلك العلاقات التي كانت قائمة -وقتئذ- بين الإمام وبعض الأقطار العربية، حيث اهتم الجرموزي بتوثيق الرسائل التي تبودلت بين الإمام القاسم وأشراف مكة.
فيما نلمس أهميتها كذلك في أنها تناولت الجانب الاقتصادي، من خلال تدوين (المؤرخ) لما حدث من جدب ومجاعات في الشمال الجبلي، وارتفاع للأسعار كمظهر لتردي وشحة الموارد الاقتصادية، كما أنها (المخطوط) تناولت الجانب الاجتماعي يتضح ذلك من خلال تطرق المؤرخ الجرموزي للعادات والتقاليد التي كانت سائدة في مجتمعه.
وجانب آخر يكتسب قدراً من الأهمية، ألا وهو الجانب العلمي، يتضح ذلك في ذكر المؤرخ لعدد كبير من العلماء والفقهاء الذين عاصروا الإمام القاسم، وتدوينه للعديد من الرسائل التي كان يبعثها الإمام إلى أولاده حاثاً فيها إياهم بضرورة طلب العلم.
(ب) محتويات المخطوطة
1- الأوضاع السياسية
يعتبر الإمام القاسم بن محمد من اهم الشخصيات اليمنية في تاريخ اليمن الحديث، حيث برز كشخصية سياسية مع بداية القرن السابع عشر الميلادي، الذي شهد منعطفاً تاريخياً هاماً تمثل في احتدام الصراع بين اليمنيين (الإمام القاسم) والعثمانيين.
اهتم المؤرخ الجرموزي بالتطرق إلى دعوة الإمام القاسم للإمامة، والصعوبات التي واجهها قبل إعلان دعوته، كما حرص على الإسهاب في تناول ثورة الإمام في مراحلها (نهضاتها) الأربع، والعوامل التي أدت إلى قيامها، ويشير الجرموزي إلى كيفية استغلال الإمام فساد الأوضاع العامة في ولاية اليمن جراء السياسة التي انتهجها العثمانيون في كل جوانب الحياة، خاصة الاقتصادية منها والاجتماعية، لكسب ولاء وتأييد الأهالي في مناطق الشمال الجبلي للإنضواء تحت راية الثورة. وبيّن السياسة التي اتبعها الإمام مع هؤلاء من خلال الرسائل العديدة التي بعثها إلى زعماء القبائل، والتي حملت في طياتها المبادئ العامة لثورته، ولإذكاء روح المقاومة لدى الأهالي وحثهم على الثورة ضد العثمانيين.
ثم عمد الإمام القاسم إلى اتخاذ شهارة مقراً لدعوته لأهمية موقعها الاستراتيجي وليوجه منها كذلك رجال إمامته وقادته العسكريين إلى غالب مناطق الشمال الجبلي لبسط نفوذه، وكان هؤلاء قد لعبوا أدواراً أساسية أثناء الإعداد لدعوته ومد نطاق تأثيرها، ولقد أوضح الجرموزي أن الإمام قد تنقل بعد حصار العثمانيين لشهارة بين عدد من مناطق الشمال الجبلي خلال سنوات ثورته وهي السودة وبرط ووادعة إلى أن استقر في نهاية الأمر مرة أخرى في شهارة وقد مثلت المناطق الآنفة الذكر مواقع استراتيجية لمد نفوذه.
وأشار مؤرخنا كذلك إلى موقف القوى اليمنية المعارضة لدعوة الإمام القاسم، وهم غالباً من بقايا الأمراء الزيديين من أسرة الإمام شرف الدين، وأتباع المذهب الإسماعيلي، وتحالفهم مع العثمانيين في سبيل القضاء على الدعوة وإخماد الثورة. كما تناول السياسة التي عمد إليها الولاة العثمانيون الذين عاصرهم الإمام القاسم خلال سنوات ثورته، لإضعاف صفوف المقاومة الإمامية والقضاء عليها، وبين مؤرخنا أيضاً السياسة التي انتهجها الإمام في مفاوضاته مع الجانب العثماني لعقد عددٍ من اتفاقيات الصلح خلال مراحل ثورته، وهي صلح سنة (1015ه/1606م) مع سنان باشا، وصلح سنة (1016ه/1607م) مع جعفر باشا، وصلح سنة (1025ه/1616م) مع جعفر باشا وانتهاءً بصلح سنة (1028ه/1617م) مع الوالي العثماني محمد باشا. والذي أفضى إلى الاعتراف به كحاكم فعلي من قبل السلطنة العثمانية لمناطق الشمال الجبلي التي تحت نفوذه.
وقد رسم الجرموزي صورة متكاملة عن الكيفية التي عمد إليها الإمام القاسم لإخماد حركات التمرد والعصيان التي قامت ضده، فيذكر لنا مثلاً أن الإمام أرسل قوات إلى إقليم صعدة للقضاء على عبد الله بن علي المؤيدي الذي أعلن لنفسه الإمامة. كما أنه دفع بقواته إلى إقليم صعدة كذلك لإخماد التمرد الذي قام به محمد بن عبد الله المؤيدي، وكانت إجراءاته تلك ضرورة حتمية أملتها الضرورة -وقتئذ- حتى لا تحدث تلك التمردات خلخلة وإرباكاً في صفوف مؤيديه وأنصاره، بالإضافة إلى قواته خلال ثورته ضد العثمانيين، ولقد اتبع الإمام السياسة نفسها لإحباط تمرد ناصر صبح الغرباني الذي أعلن الإمامة لنفسه في إقليم الحيمة قبيل وفاة الإمام بقليل، ويتضح ذلك من خلال الرسالة التي وجهها إلى قبائل الحيمة حذرهم فيها من اتباع الغرباني ولم يكتف الإمام بتحذيراته تلك بل أرسل قوة عسكرية إلى الحيمة للقضاء على تمرد الغرباني وإعادة الاستقرار والهدوء إلى مناطق نفوذه في إقليم الحيمة.
ويذكر لنا مؤرخنا نموذجاً آخر من أشكال التمردات، تمثل في موقف الطائفة الإسماعيلية، وهي أقلية تمركزت في بعض جبال حراز إلى الغرب من صنعاء، وفي نجران بأقصى شمال اليمن. وكان هؤلاء يمثلون بمواقفهم العدائية للأئمة -على طول تاريخ الأئمة في اليمن- مصدر إزعاج وقلق لسلطة الإمام ونفوذه، وقد استخدم الإمام ضد هؤلاء وسائل التهديد والوعيد لدعاة هذا المذهب، يتضح ذلك جلياً من خلال رسائله التي كان يبعث بها للأهالي.
أما بالنسبة للناحية الإدارية، فقد نالت جانباً من اهتمامات الإمام القاسم، فمن الواضح أن تسيير أمور الأقاليم والمراكز الإدارية التابعة لنفوذه، لم تكن تخرج عن دائرة سلطته الإمامية، يساعده في ذلك أبناؤه وكبار رجاله، والذين أوكل لهم (الإمام) إدارة شئونها، وكان هؤلاء على اتصال مباشر به من خلال ما يصلهم من أوامره وتوجيهاته التي يحثهم فيها على رعاية مصالح الأهالي وتسيير شئون حياتهم.
وإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن الجيش، سنجد أن السيرة لم تشر إلى قيام جيش منظم بالمعنى الصحيح، بل كان عبارة عن فرق عسكرية من القبائل بالإضافة إلى تلك الفرق القبلية التي كانت تبادر إلى الانخراط في صفوف القوات الأساسية عند الحاجة إليها، ويتضح أن الإمام كان هو السلطة المطلقة على الجيش، فيما أسند مهمة قيادة وتنظيم وصرف رواتب الجنود إلى أبنائه وكبار رجال إمامته.
ب- السياسة الخارجية
للحديث عن السياسة الخارجية، يمكن القول أن السيرة -كما لمسنا في مطالعتنا لها- لم تشر إلى إقامة علاقات بين الإمام والدول العربية والإسلامية -حينئذ- سوى علاقة مع أشراف مكة و"جيلان وديلمان" يتضح ذلك من خلال الرسائل المتبادلة بين أشراف مكة والإمام القاسم. حيث ذكر الجرموزي أنه في سنة (1007ه/1598م) قام الإمام بإرسال رسالة إلى الشريف حسن بن نمي وإخوته يشرح له فيها تطورات الأحداث في بلده -وقتئذ- الصراع مع العثمانيين بشكل عام، وتمرد عبد الله المؤيدي، الذي أعلن لنفسه الإمامة والفتنة التي حدثت جراء ذلك في صفوف الأهالي في إقليم صعدة، وقد ضمن الرسالة مناشدة لشريف مكة لمؤازرته ضد الداعي المؤيدي.. حيث قال: "...ثم إنّا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله، وإلى جهاد أعداء الله، وإحياء سنة رسول الله، وإماتت بدعة أعداء الله".
2- الأوضاع الاقتصادية
لم يغفل المؤرخ الجرموزي تناوله الحالة الاقتصادية في البلاد، فهو قد تقص الزراعة ومواسم الأمطار وحالات الجدب والقحط التي شهدتها غالب أقاليم اليمن، حيث حوت السيرة بين دفتيها مادة لا بأس بها عن هذا الجانب.
ولتوضيح ما ذهب إليه المؤرخ الجرموزي، نورده من خلال المجالات التالية:
أ- المجال الزراعي.
ب- المجال التجاري.
ج- الجانب العمراني.
1- المجال الزراعي:
من خلال استقرائنا للسيرة -موضوع الدراسة- يتضح لنا أن المؤرخ الجرموزي، استوفى إلى حد ما تناوله عن الجانب الزراعي. ونستطيع القول أن الحروب التي شهدتها مناطق الشمال الجبلي كانت سبباً رئيساً في تدني الموارد الزراعية خاصة مع ترك الأهالي الاهتمام بمدرجاتهم الزراعية أو الاعتناء بها نتيجة لعدم الأمان والاستقرار جراء احتدام الصراع بين الجانب الإمامي والقوات العثمانية خلال مراحل ثورة الإمام القاسم. لكن هذا لا يعني بالتأكيد ترك الناس الزراعة مصدر قوتهم الأساسي.
ويبدو أن شحة الأمطار في المناطق الشمالية، كانت أن أدت إلى حدوث أزمات غذائية (مجاعات) يتزامن معها بالتالي ارتفاع أسعار الأغذية بجميع أنواعها خاصة منها مادة الحبوب، يتضح ذلك جلياً حينما يذكر الجرموزي أنه في خلال سنة (1015ه/1607م) أدت شحة سقوط الأمطار إلى ضعف في إنتاج محصول الحبوب، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعاره ... حيث يقول: "..وكان الطعام قليل الوجود مرتفع السعر.." وهو في جانب آخر يذكر كذلك أن انعدام الأمطار وشحتها أدت بالتالي إلى حدوث قحط وجدب في غالب المناطق الشمالية عقب صلح (1028ه/1618م) وكادت مادة الحبوب تنعدم في الأسواق نتيجة لارتفاع سعرها...فيقول: "وارتفعت الأسعار، وكاد الطعام يُعدم..".
كما أن مناطق وسط البلاد (ذمار وإب) والتي كانت تمثل على الدوام المخزون الأمني للمواد الغذائية في اليمن قد ضربها هي الأخرى القحط والجدب جراء شحة سقوط الأمطار، ولعل ذلك يتضح جلياً حين ذكر المؤرخ الجرموزي أحوال تلك المناطق بعد زيارته لأهله في بني جرموز (في إب) عقب صلح (1028ه/1618م) وكان حاضراً أحد مجالس الإمام القاسم، وقد سأله عن أمور الناس هناك فقال: "...فلما عدت إليه سلام الله عليه سألني عن المشارق فحملني ما شاهدت من أحوالها أن قلت صالحة من الشمس والريح وأما المطر فلا عهد لها به...".
ومما لا شك فيه أن الأزمات الغذائية، وما يصاحبها من ترد في أوضاع الأهالي، تؤدي إلى معاناة هؤلاء بل وربما إلى تذمرهم أو تولد فيهم حالة من اليأس وهو ما قد ينتج عنه اضطراب أحوالهم، ولعل ذلك يتضح ما جاء على لسان الإمام نفسه عندما كان في وادعة قبيل صلح (1028ه/1618م) وقد أصابها شدة الجدب جراء عدم سقوط الأمطار فخشى الإمام أن يؤثر ذلك على تماسك الأهالي هناك، فسنجده يقول، كما ذكر ذلك الجرموزي: "..خشيت على الناس أنه إذا لم يحصل المطر يقنطون لما قد خالطهم من الشدة..".
إزاء تردي الأوضاع الاقتصادية -السابقة الذكر- ما هي الإجراءات التي اتخذها الإمام القاسم بشأن تلك الأزمة..؟ لعل الإجابة تتبين فيما ذكره الجرموزي أن الإمام قد وضع تجاه مثل هذه الصعوبات والأزمات تدابيراً وحلولاً كفيلة، ولو بصورة مؤقتة لمواجهات تلك الصعوبات، فهو (الإمام) قد واجه الأزمة الاقتصادية التي حلت بأغلب مناطق الشمال الجبلي في عام (1028ه/1618م) بأن طلب من المناطق التي لم يصبها القحط سرعة المبادرة في إرسال الإمدادات الغذائية إلى شهارة لتوزيعها على المحتاجين في تلك المناطق التي تضررت جراء شحة الأمطار وندرتها.. حيث يقول: "واحتاج الإمام عليه السلام إلى المعاون الكثيرة..". كما أنه قام بتوزيع الحبوب على المتضررين من مخازن الحبوب التي كانت ممتلئة بالحبوب في شهارة -والتي كان يتخذها احتياطاً أمنياً خلال حروبه مع العثمانيين. خاصة وقد قدم إلى شهارة كما يذكر الجرموزي: "كثيراً من الضعفاء" من المناطق المجاورة طلباً للغذاء لتأمين معيشتهم، وقد عمد الإمام كذلك بعد أن نفد مخزونه من الحبوب إلى طلب الحبوب من المناطق التي لم يضر بها الجفاف، يتضح ذلك في رسالة بعث بها إلى أحد وجهاء منطقة المداير قال فيها، كما يذكر الجرموزي: "...حصل الخلل العام فأقرضنا ما تجد من الطعام..".
جانب آخر يبين اهتمام الإمام بالمجال الزراعي، يتمثل في استصلاحه للوديان الزراعية لغرض زراعة الأراضي التي تمتد على ضفاف هذه الوديان وهو ما يتضح عندما عمد الإمام إلى إصلاح وادي صومل الواقع إلى الغرب من منطقة عذر القريبة من الأهنوم، وكذلك وادي وعر من أعمال بطنة حجور، ولقد قام عقب عملية استصلاح هذين الواديين بزراعة: "البن والقندر والأرز..".
ب- المجال التجاري:
في حقيقة الأمر لم تذكر السيرة في ما بين دفتيها أي توضيحات تشير إلى الجانب التجاري، ولعل اهتمامات الإمام السياسية والعسكرية خلال مراحل ثورته كانت قد أبعدته إلى حد ما عن إبداء أي اهتمام بالجانب التجاري، نتيجة الحروب القائمة -حينئذ- مع العثمانيين والتي حالت دون تحقيق ذلك.
إلا أننا نلمس أن مؤرخنا قد ذكر بصورة عابرة بعض الجوانب التجارية، أظهرت على ما يبدو -للباحث- اهتمام يذكر للإمام في هذا الجانب، فهو (الإمام) قد أمر ببناء سمسرة في الهجر: "قل مثلها في العمائر.. وهي معلومة فإن أهل النظر في العمائر يقولون إن هذه السمسرة ...من عجائب اليمن...". ويتأكد لنا من هذا البناء البديع كما وصفه الجرموزي أن السمسرة كان الغرض من إنشائها هو استقبال الوفود التي كانت تصل إلى الإمام وكذلك التجار للسكن والراحة فيها.
ولقد أبدى الإمام في جانب آخر اهتماماً ملحوظاً في زراعة البن -كما أشرنا سابقاً في معرض حديثنا عن الجانب الزراعي- وهو من المحاصيل السلعية التي كانت -وقتئذ- تمثل مورداً اقتصادياً هاماً جراء عائداته المالية. كونه يصدر إلى خارج البلاد، ويبدو -للباحث- أن هناك تجاراً اعتمدهم الإمام كوسطاء لشراء هذا المحصول.
ولتدعيم جانبه الاقتصادي فقد أمر الإمام خلال إقامته في السودة في عام (1007ه/1598م) بسك عملة خاصة به، وهي: "الضربة المنصورية وكانت نصف درهم كتب في جانب منها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الجانب الآخر اسمه عليه السلام والتاريخ.." فكان لهذه العملة كما يذكر الجرموزي رواجاً كبيراً حيث تداولت بين أوساط الناس.
الجانب العمراني
اهتم مؤرخنا الجرموزي بذكر الأعمال العمراني التي قام بها الإمام، فهو يشير إلى أن الإمام قام ببناء: "مسجده الجامع في محروس شهارة في رابع محرم الحرام عام خمسة عشر وألف..". وأقام عدداً من الأماكن الخاصة لطلبة العلم بجانب الجامع. كما أنه أنشأ السمسرة في مدينة الهجر شرقي الأهنوم، كنزل للوفود والتجار القادمين إلى المدينة.
3- الأوضاع الاجتماعية
لم يغفل مؤرخنا الجرموزي بين دفتي مؤلفه الحديث عن الجانب الاجتماعي .. فهو قد رصد أوضاع مجتمعه والحياة الاجتماعية السائدة -فهو مثلاً قد رسم صورة واضحة للفئات والشرائح الاجتماعية القائمة -وقتئذ- ويمكن أن نقسمها -كما ذكرها الجرموزي- حسب درجات القرابة والصلات والتعامل العلمي العام إلى طبقات (شرائح) اجتماعية:
الأولى: وهي طبقة الأشراف: "من أهل البيت وشيعتهم الأعلام".
الثانية: فهم: "الذين نبلوا في خلافته وكانوا عيوناً في أيام حياته".
الثالثة: وهم: "الذين عاصروه من كبار رجال دعوته".
الرابعة: وهم: "العيون من أكابر الشيعة".
الخامسة: وهم: "الذين تفقهوا في أيامه وظهر فضلهم ونبلهم في التزام أحكامه".
السادسة: وهم عامة الناس.
كما أنه -الجرموزي- رصد حركات التمرد والعصيان التي حدثت -حينئذ- فهو على سبيل المثال يذكر أن عبد الله بن علي المؤيدي أعلن دعوته ومعارضته للإمام القاسم، وقام بتأليب عدد من قبائل صعدة حوله، وهو الأمر الذي جعل الإمام يسارع إلى وضع حد لما دعا إليه المؤيدي وكبح جماح القبائل التي انضوت تحت تأثيره.
كما أنه رصد حركة أخرى من حركات التمرد والعصيان كانت هذه المرة في إقليم الحيمة حيث دعا ناصر الغرباني لنفسه بالإمامة معارضاً بذلك دعوة الإمام القاسم وجمع حوله عدداً من قبائل الإقليم، وكان ان عمد الإمام إلى إرسال رسائل إلى قبائل الحيمة يحذرهم فيها من تقديم أي دعم أو مناصرة للغرباني، ولم يكتف بذلك بل قام بإرسال قوات عسكرية إلى الإقليم لوضع حد لتمرد الغرباني ولإعادة الاستقرار والأمن هناك.
وفي موضع آخر نجد مؤرخنا يورد التركيبة القبلية لمجتمعه حيث برزت -حسب الجرموزي- في مناطق الشمال الجبلي قبيلتان هما بكيل وحاشد، وظهرت أهميتهما بالعديد من الفخوذ والبطون المتحدة والمتفرعة منهما.
أما في جنوب البلاد (إقليم تعز) فقد برزت مجموعة من قبائل الحجرية مثل قبائل شرجب فيما برزت في أقاليم وسط البلاد قبائل ريمة ووصاب وعتمة ويافع والرصاص.
ولقد دأب مؤرخنا على رصد مجتمعه في كل حركاته وسكناته، كبير أمورها وصغيرها، فهو يصف في موضع تقليداً كان يمارسه كبار رجال إمامة القاسم حيث يذكر لنا طريقة لباس يوسف الحماطي .. فيقول: "كان لباس سيدنا عادت بركاته قطعة من أغلظ ما يكون من غزل أمه وأهله وعمامته قطعة منها لا يزيد ..".
ونلمسه في جانب آخر يرصد نشاطات بعض المذاهب الدينية، فهو يذكر (على سبيل المثال) موقف الإمام القاسم من الطائفة الإسماعيلية ودعوته الناس للتصدي لهذه الطائفة، مخافة أن يتسع محيط دائرتها في أوساط المجتمع. فهو -مؤرخنا- قد دون في مؤلفه العديد من رسائل الإمام خاصة بالمذهب الإسماعيلي. منها (على سبيل المثال) رسالة يحذر فيها الناس من اتباع هؤلاء حيث يقول: "..إنا نحذركم من الفرقة الباطنية..". وقد دعا الإمام إلى حضر نشاطات هذه الطائفة، بل ودعا إلى استباحة دمائهم وأموالهم: "الواجب على المسلمين استباحة دمائهم وأموالهم..".
4- الأوضاع العلمية
رغم الظروف السياسية القائمة -وقتئذ- بين الجانبين اليمني (الإمامة) والعثمانيين والمتمثلة في احتدام الصراع بينهما خلال ثورة الإمام القاسم في مراحلها الأربع، إلا أننا نجد ان المخطوطة قد تناولت بين دفتيها الجانب العلمي -كما يذكر الجرموزي- حيث أولى الإمام العلم والعلماء النصيب الأكبر من اهتماماته ومرجعية ذلك هو أن الإمام نفسه كان أحد علماء زمانه، فقد برع في علوم الدين، وكان واحداً من جهابذته تدلنا على ذلك كثرة مؤلفاته منها (الأساس) في الأصول، و(الاعتصام) في الفقه ..وغيرها كثير.
ولعل ذلك الاهتمام يتضح من خلال رصد مؤرخنا رسالة للإمام إلى ولده محمد (الإمام المؤيد بالله) يحثه فيها على طلب العلم .. حيث يقول: "...عليك بملازمة العلم وطلبه فإنه أكبر من الفرائض... ومما تستعين به على تحصيل العلم ترك حب الدنيا والاشتغال بها ... واعلم يا بني أني لم آمرك بالعلم إلا أنه من أعظم الطاعات لحاجتنا إليه.." وهو في رسالة أخرى يحث ولده أحمد -عندما كان أميراً على إقليم صعدة- على طلب العلم فيقول: "..لا يترك طلب العلم على سبيل الاستمرار.. ويجعل له لذلك أوقاتاً .. ولا يكن جلساؤه إلا أهل العلم ومحاسن العرب..".
وقد رصد مؤرخنا في سيرته قيام الإمام ببناء جامع شهارة وإقامة عدد من الأماكن الخاصة لطلاب العلم بجانب الجامع. وكانت المساجد -وقتئذ- هي مراكز تلقي العلم.
ولم يقتصر ذكر الجرموزي على اهتمامات الإمام بالجانب الديني وحسب، بل تعداه إلى جوانب أخرى كثيرة شملت الأدب، فهو قد ألف الشرح على الحاجبية في النحو، كما كان يقرض الشعر، ولقد أورد مؤرخنا بعضاً مما قاله في إحدى قصائده -عندما أعلن عبد الله المؤيدي إمامته في صعدة- حيث قال:
عجباً لمن يدعي تبحر عالم .... يدعو ليطفي نور رب عالم
إن تأته بشرى العلوج فبشر .... وكأنه قد حاز غنم الغانم
ويقول إن الترك من أعوانه .... في حرب عدل بالإمامة قائم
ولعل اهتمامه (الإمام) بالشعر يفسر تصدر الشعر في العديد من المناسبات التي رصدها المؤرخ الجرموزي في مخطوطته وهي دليل على ازدهار الأدب وبالذات الشعر حيث احتل موقع الصدارة بين غيره من الأجناس الأدبية الأخرى.
وتجدر الإشارة أن المؤرخ الجرموزي قد ضمن بين دفتي مخطوطته ذكر عدد غير قليل من العلماء الذين عاصروا الإمام القاسم بن محمد.
5- الظواهر الطبيعية
لم يقف مؤرخنا في مخطوطته في تناول الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية بل تعداها إلى رصد الظواهر الطبيعية كسير النجوم على سبيل المثال. فهو قد تتبع سير أحد النجوم في سنة (1028ه/1618م) فيقول: "طلع النجم ذو الذنب وصفته أنه طلع نجم مع الفجر له رأس كالسنان المرتفع وله نور يطلع قبله، ثم لا زال يطلع حتى انتهى إلى نحو ثلث السماء أو يزيد، وهو يطلع قبل الفجر نوره كل يوم حتى انتهى إلى ما ذكرناه، ثم طلع بعد أيام نجم أصغر منه من فوقه وطال نوره نحواً من منزله وأقل وبقيت هذه النجوم آية يشهدها العالم..".
هكذا نجد أن مؤرخنا الجرموزي قد استوفى في مخطوطته ذكر وقائع الأحداث لما شاهده أو نقل إليه من أخبارها خلال معاصرته لفترة الإمام القاسم بن محمد، وهو الأمر الذي يبين الأهمية التي اقتضتها الضرورة لدراسة وتحقيق (النبذة المشيرة) لإخراجها إلى حيز الوجود ولأهميتها التي اكتسبتها الفترة الزمنية التي أرخت لها، وهي بالتأكيد واحدة من أهم الفترات الزمنية -كما ذكرنا في بداية الدراسة التمهيدية- في التاريخ اليمني الحديث.
منهج التحقيق
مما لا شك فيه أن الغرض من تحقيق أي مخطوط هو ضبط نصه كما أراده صاحبه. وربما تدخل قلم المحقق في إجراء تصحيحات عليه ليضعها في الهوامش.
ولقد اتبعت، عند تحقيقي مخطوطة (النبذة المشيرة إلى جمل من عيون السيرة) -موضوع الدراسة- أصول وقواعد المنهج العلمي المتبع في تحقيق النصوص، حيث اعتمدت عند تحقيق المخطوطة ثلاث نسخ كان أن اخترت أفضلها لأسباب بينتها في معرض حديثي عن نسخ المخطوط.
ومن الأهمية بمكان أن أورد بعض الصعوبات التي صادفتني خلال عملية التحقيق، وتمثل ذلك في وجود بعض الكلمات المهملة التنقيط والتي درجت حيالها أن عمدت وتوخياً للدقة والأمانة العلمية بنقلها عن طريق فك رموزها وتقريبها إلى معانيها الصحيحة بعد إجراء المقارنة عليها في النسخ الأخرى. فيما تركت الكلمات التي لم أستطع فك رموزها كما هي برسمها، مع الإشارة إلى ذلك في الهامش بعبارة: (كذا في الأصل).
أما فيما يخص السنوات الهجرية فقد قمت باستخراج السنوات الميلادية المصادفة لتلك السنوات وجعلها بين محصورتين، ومن ثم وضعها بجانب السنوات الهجرية في المتن.
أما بالنسبة للأخطاء النحوية واللغوية، فلم أصحح منها إلا ما كان مخلاً بالمعنى أو اقتضت الضرورة إلى ذلك، على سبيل المثال دأب الجرموزي على إهمال (الهمزة) حيث لم يضعها في مكانها الصحيح مثل: فقاها (فقائها)، وفي مكان آخر عمد مؤرخنا على تخفيف الهمزة حيث كتب بدلاً عنها ياءً كما في كلمة قبايل (قبائل). وهو ما لم أذهب إلى تغييره بل تركته كما جاء في المتن كون هذه الكلمات تعود إلى لغة العصر، وقد أوضحت ذلك في الهوامش مرة أو مرتين مع الإشارة إلى أن ذلك لن يتكرر.
فيما وضعت بعض الكلمات أو المواضع أو التواريخ التي أضيفها من النسخ الأخرى إلى النسخة التي اعتمدت عليها بين محصورتين معقوفتين مع الإشارة إلى ذلك في الهوامش.
أما بالنسبة للكلمات أو العبارات التي سقطت لدى ناسخ المخطوط ووضع إشارة (7) أو (صح) وقد وضعت على جوانب ورقات المخطوط فقد قمت بوضعها مكانها الصحيح مع الإشارة إلى ذلك في الهوامش إلى ذلك قمت بتصحيح الأخطاء الإملائية -بما يتوافق وأسس الكتابة المتداولة في عصرنا- على سبيل المثال عمد الناسخ على رسم بعض الكلمات بالرسم القرآني مثل (صلوات، زكوات) حيث قمت بكتابتها صحيحة فصارت (زكاة، صلاة).
ولقد قمت كذلك بالتنبيه إلى الأخطاء واللحن عند مؤرخنا الجرموزي، حتى لا يظن القارئ، أن ما كتبه المؤرخ هو عين الصواب حيث عمدت في مثل هذه الحالات إلى تصحيح ما تطلبته الضرورة في الأصل مع الإشارة إلى ذلك في الهوامش.
وقد تم وضع تلك العبارات بين حاصرتين معقوفتين من لدينا ليكتمل بذلك المعنى، مع الإشارة في الهوامش بهذه العبارة "وهو لحن وقومناه".
ولما لم يضع المؤرخ أي عناوين في مخطوطته هذه بل وضع عناوين لفصول طويلة فقد قمت بوضع عناوين جانبية ووضعتها بين حاصرتين معقوفتين تسهيلاً للقارئ وجرياً على عادة المؤلفين في التحقيق، مع الإشارة إلى مثل ذلك في الهوامش والتنويه بالعبارة التالية: (العنوان من لدينا) مرة أو مرتين ولن نشر إلى مثل ذلك.
أما بالنسبة لما درج عليه الناسخ من ترك بياض في بعض ورقات المخطوط كان الغرض منها تثبيت أبيات شعر أو رسائل، ولم يتحصل عليها خلال عملية النسخ فتركها (بياض) فهو على سبيل المثال كان يورد مناسبة قيل فيها أبيات من الشعر فإذا ما انتهى من حديثه يورد هذه العبارة: "وما قيل فيها من الأشعار" ولا يأتي بالقصيدة، وهو الأمر الذي أشرت إليه بوضع نقط على السطور أثناء النسخ واضعاً إياها (النقط) بين حاصرتين معقوفتين [.......] لنذكر في الهامش أن ما بين الحاصرتين في الأصل بياض مع الإشارة إلى مقدار ذلك البياض في ورقة المخطوط.
كما أني ضمنت رسالتي تعريف لكل أسماء الأعلام والمواضع والمصطلحات وكذلك تخريج الآيات والأحاديث، تاركاً بعض الأماكن التي لم أجد أي تعريف لها في المصادر، سواء كانت (معجم القبائل والبلدان للحجري)، أو(صفة جزيرة العرب للهمداني) أو (معجم البلدان والقبائل اليمنية، لإبراهيم المقحفي)، ولعل تلك الأماكن قد اندثرت أو أنها أماكن صغيرة أو غير مأهولة بالسكان حالياً، فكان أن أغفلتها هذه المراجع.
أما بالنسبة للآيات القرآنية، فقد أشرت في الحواشي إليها بعبارة (الأية ( ) من سورة ( )) واضعاً رقم الآية أو السورة بين قوسين صغيرين، وفيما يتعلق بالأحاديث النبوية الشريفة فقد اقتصرت على الإشارة إلى أوثق المراجع وأكثرها أهمية.
يلي هذا التحقيق.
نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أسألك الإعانة
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله وعبده، وآله وصحبه من بعده، وبعد:
فلما طالع راقم الأحرف الفقير إلى الله الغني: الحسن بن المطهر بن محمد الجرموزي -وفقه الله بأحسن التوفيق وهداه إلى واضح الطريق- على هذه السيرة الفائقة، والنبذة اللطيفة الرائقة، الجامعة لغرر الأخبار من أخبار الغرر، وسيرة الأخيار أخيار السير، المحيين لما اندرس وعفا من سنن جدهم المصطفى، وآله الكرام الحنفاء، الذين شادوا للدين مناراً، وأظهروا للحق آثاراً، وعمروا من معالم الإسلام ما درس وانهار، وأسسوا للدين بيوتاً تجري من تحتها الأنهار، وطلعت شموس فضلهم في مدلهمات المظالم، فأزالت تلك الحنادس، واهتدى بها من اهتدى فسلم عن موجبات الردى ولبس أفخر الملابس، وصلت سيوفهم في هامات أهل البغي وكبرت، فصغرت كل كبير منهم وعظمت كل صغير من أهل الحق وكبرت.
وصاروا لنار الحرب كالحطب الذي .... تنال فما تزداد إلا تلهبا
وصالت عليهم أسد غاب فحكموا .... بأعناقهم بيض الصوارم والصبا
فخرت أعناقهم لها خاضعين، وما برحت بهم ساجدة، وتلا كل منهم سورة الحشر لما ظلت الأرض به مائدة، وأمطرت عليهم السيوف عذاباً وبيلاً، فقال كل منهم: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً، يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً، وجرمت أفعالهم التي ما انفكت على التمييز منصوبة في الماضي، وقطع كل موصولٍ منهم بالماضي، والعزم المضارع للماضي، ومدت إليهم أيدي العوامل قاضب، بقاني دمائهم مخضوبة، وبادت الطير بترخيم أجسامهم المفروضة بالمسنونة فطلت في كل ناد مندوبة، وجمع كل منهم جمع التكسير وجزم السلامة، وألبسوا ثياب التصغير فباءوا بالحسرة والندامة، ولما نزل بهم ذلك الطارق في البلد، قال كل من سدة البلد هذه والرحمن القيامة، وبنى كل منهم على الكسر فلزم السكون، وعلم كل بالفتح والنصر حين ظفر المؤمنون، قرأ أهل الحق حينئذٍ {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ} ولن إن شاء الله بعد غلبهم.
ترجمة مولانا الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام
هو الإمام الحجة إمام اليمن، أبو الأئمة الأعلام: يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، ولد بالمدينة سنة خمس وأربعين ومائتين، وكان قيامه سنة ثمانين ومائتين، وله المؤلفات العديدة: من التفسير، والتوحيد، والفقه، وهي مذكورة تفصيلاً في(الشافي) للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام، وقد وردت فيه الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآثار عن جده الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام منها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يخرج من هذا النهج وأشار بيده إلى اليمن رجل من أولادي اسمه يحيى الهادي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحيي الله به الحق، ويميت به الباطل)) .
ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أشار بيده إلى اليمن وقال: ((سيخرج رجل من ولدي في هذه الجهة اسمه يحيى، يحيي الله به الدين)).
وروى مصنف سيرته عن بشرى رافع رفع الحديث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام قال: (يا أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، أيها الناس أنا أحلم الناس صغاراً، وأعلمهم كباراً، أيها الناس إن الله تعالى بنا فتح، وبنا ختم، أيها الناس ما تمر فتنة إلا وأنا أعرف سائقها وناعقها -ثم ذكر فتنة بين الثمان ومائتين- فيخرج رجل من عترتي اسمه اسم نبي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً...)إلخ.
وروي عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه ما لاذا قتل أهل مصر كبيرهم وظهر، وقد بسط الكلام في سيرته وجهاده مؤلف سيرة الهادي عليه السلام محمد بن عبيد الله، والإمام عبد الله بن حمزة وغيرهما من المؤرخين، وكان وفاته عليه السلام يوم الأحد لعشر بقيت من ذي الحجة سنة ثمانية وتسعين ومائتين، ودفن يوم الإثنين قبل الزوال....في عدي المسجد بصعدة، وقبره مشهور مزور.......................يوماً لاثنين................
المنصور بالله القاسم بن محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
[ق/4] الحمد لله الذي خلق الخلق ليتفضل عليهم، وجعل خلقه لهم إظهاراً لقدرته من غير حاجة إليهم، وألهمهم معرفته بما ركبه من العقول الفارقة فيهم، وأرسل إليهم رسله الكرام بالمعجز الذي هو الدليل عليهم، وجعل الإمامة للنبوة خلفاً لبلاغ ما استحفظه لديهم، وأراهم محلها بما جمع من الفضائل في أهل بيت نبيهم، وأبان الدلالة على صاحبها بما جعل فيه من الخلال المأثورة عن أبيهم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم.
أما بعد: فإني كنت سمعت كثيراً من أخبار مولانا وإمامنا، ووسيلتنا إلى ربنا، الإمام الأعظم، والحجة لله سبحانه على أهل عصره من ولد آدم: المنصور بالله القاسم بن محمد بن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فأخذ النسيان أكثره، فرأيت أن أعلق في هذا المختصر ما أمكن مما بقي، وأجعله في هذه الأوراق اليسيرة توقيعاً لما أمكن من الجمل، وأما الإحاطة بها فما أبعدها، والتفصيل لها أبعد من نيل النجوم وعدها؛ لطول المدة وتأخرنا عنها، ولتفرق الوقايع والقضايا، والبعوث والسرايا، في أقطار اليمن فإنه عليه السلام قام واليمن كله مجتمع للعجم، ولا مخالف لهم فيه من مكة إلى عدن، وكذا كثير من الأقاليم الخارجة عنه، ولايعلم أن ملك اليمن قد اجتمع قبل أوان قيامه عليه السلام على عادل أو جاير، كاجتماعه لهم من أيام الملقب بالرشيد إلى التأريخ المذكور، ومن تأمل السير والأخبار وجد صحة ذلك فكانت سيرته[ق5] عليه السلام كما قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
فإن سيرت سيرتي باليقين .... كانت لعمرك خير السير
فصل: ولنذكر نسبه الشريف، ومولده، ونشأته، وحليته، وخصايصه، وعلمه، وشجاعته، وورعه، وتدبيره، وسخاه، وشفقته على الأمة، وصبره ونبذاً من مواعظه، ورسايله وكراماته، ونبذاً من أشعاره، ويسيراً مما امتدحه به أهل الإجادة، وتعداد عيون العلماء من أهل عصره، ودعوته وحروبه، ونهضاته، ووفاته وموضع قبره سلام الله ورضوانه على روحه الطاهرة.
[نسبه]
أما نسبه الشريف: فهو الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن الإمام يوسف الأصغر الملقب الأشل بن الإمام الداعي إلى الله القاسم بن الإمام الداعي إلى الله يوسف بن الإمام المنصور بالله يحيى بن الإمام الناصر لدين الله أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين الحافظ بن الإمام ترجمان الدين القاسم بن إبراهيم الغمر طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الشبه بن الحسن الرضي بن الحسن السبط بن علي أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وفاطمة سيدة نساء العالمين، نسب أضوأ من الضيا، وأعذب من شرب الماء على الظما.
[مولده]
وأما مولده: فمما نقل من خط يده الطاهرة: وجدت بخط والدي تاريخ مولدي أنه كان في صفر لاثني عشرة ليلة خلت منه وأحسبه ذكر أنها ليلة الإثنين من سنة سبع وستين وتسعمائة، عدد التاريخ هو عدد [..........] برتقي وجواد وهب ربك.
وهذا من باب الفال، فكان كما قال، والحمد لله الكبير المتعال.
أخبرني حي الفقيه الفاضل العدل المجاهد عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله أنه أخبره من يثق به، عن والدته عليه السلام أنه أخذها الطلق فدخلت بيتاً مظلماً تتوارى فيه، وأنه لما وقع على الأرض سمعت قول لا إله إلا الله محمداً رسول الله، ولم أفهم من روايته هل هو القايل أو غيره، وأيهما كان فيه دلالة على تشريفه وتفضيله، وأما القاضي شمس الإسلام أحمد بن سعد الدين أبقاه الله فقال: وسمع كذلك أنها سمعت[ق/6] أذاناً كاملاً بألفاظه المعروفة.
[نشأته]
وأما نشأته عليه السلام: فسمعت من بعض أخواله أنهم تبركوا به ونذروا له النذور، واعتقدوا فيه الخير وأنه نشأ معروفاً بالطهارة وقوة القلب والبطش، وذكروا من ذلك أخباراً حسنة، وسمعت من حي الفقيه العدل عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله أنه أخبرهم أنه بلغ عمته الشريفة الطاهرة أم الغيث بنت علي رحمها الله تعالى عنه عليه السلام حدة، وأنه لا يروعه شيء مما يروع الصبيان، وأن في قراءته تسهيلاً، فخافت عليه وبعثت له إلى عندها، إلى الرغيل غربي مسور، وكانت مزوجة حي السيد العالم أحمد بن الحسن الخطيب،وكان من أهل الجاه واليسار مع العلم الكثير، ووفد إلى الإمام عليه السلام بعد الدعوة، وأمره بالخطبة وجوابات الفتوى، واعترض لما كان خطيباً مع أولاد مطهر بن الإمام شرف الدين، ودولة كوكبان، وللإمام جواب على ذلك كما سمعته من القاضي العلامة صفي الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه، وكانت هذه الشريفة من أهل الفضل والكمال، وطلبها الإمام عليه السلام في السنة التي توفى فيها من كوكبان، وكان لها أثقال ولها على أهله وأبنائه هيبة كما سمعناه في تلك الأيام، وتوفيت بعد العام الذي توفي فيه عليه السلام.
نعم فأتم قراءته عندها، وكذا أخوها حي السيد الشهيد عامر بن علي، ضمته إليها، وقرأ وهو أصغر من الإمام عليه السلام كما سمعته بعام. والله أعلم.
ومما أخبرني الفقيه المذكور وكذا سمعت من غيره أنه دخل سوق بيت عذاقة المعروف بسوق بيت الصميل وهو صغير مع عمته كما تقدم فرأى من فيه صفة الدجال لعنه الله مسيح العين كامل الصفات المأثورة فيه، وأنه لم ير أحداً رآه غيره، وأنه كان يتبعه وينظر إليه وأنه استوحش منه ولم يعد السوق المذكور بعدها، ثم قرأ في صعدة وغيرها.
[حليته]
وأما حليته عليه السلام: فكان ربعة معتدل القامة قوي البطش إذا مشى فكان لما تحته من الأرض حساً إلى السمن أقرب، أسمر اللون، واسع الجبهة، عظيم العينين والشفتين، واسع الفم، أشم الأنف في أسفلها دق مع الشمم يعلوها قعرة تزينه كثيراً، طويل اللحية عظيمها، فيها غصنان يصلان سرته عند القيام وتملأ صدره عند القعود، عبل الذراعين، أشعرهما دجداح البطن.
[خصائصه وعلمه]
[ق/7] وأما خصايصه عليه السلام: فكان أشبه أهل زمانه بصفات جده صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكر الله هو أو غيره يرى عليه أثر الخوف، وتأخذه رعدة، وسيأتي كثير من صفاته وكراماته وأخباره بالمغيبات ثقة بوعد الله ولأمارات عرفها مما عوده الله سبحانه حصولها، كما سيأتي في ذكر جمل سيرته.
[علمه]
وأما علمه: فمما لا يفتقر إلى بيان، ولا إمعان لطلب البرهان، فإنما هو أعلم الأمة وهاديها، ومعلن الشريعة الغراء وحاميها، ومن نظر في طرقه ورواياته، ومصنفاته، وجواباته، ورسايله، علم صحة ذلك كما تعلم الضروريات.
[شجاعته]
وأما شجاعته ورباطة جأشه عند طوفان الطغيان، وسورة الضراب والطعان، فمما عرفه القريب والسحيق، والعدو والصديق، فكم له من يوم أشجى عداه، وبدد أعداه، ونشر على الإسلام من جورهم رداه، وترى طرفاً من ذكر أمهات من ذلك في جمل سيرته، وأما الأكثر أو الإحاطة فما أبعده.
[ورعه]
وأما ورعه: فمما يضرب به المثل ولا يقدر عليه فيما يعلم غيره.
وأما تدبيره النافع: فمما لا يحتاج أن يفرد له باب؛ لظهوره فاكتفينا بما تراه في بعض سيرته بما أمكن من التفصيل.
[سخاؤه]
وأما سخاؤه: فمما يضرب به المثل أيضاً ولا يختلف فيه أحد من أهل العقد والحل، بل ولا أهل السهل والجبل، وسيأتي في سيرته ما يشير إلى بعض ذلك، وإلا فظهوره يغني من أراد معرفته.
روي أن السيد العلامة محمد بن عبد الله الحوثي المقيم في صنعاء مع العجم، وكان من عيون العلماء فاسترسل في مخالطتهم حتى كان لهم لساناً ومعواناً، وله معهم في ذلك أخبار طويلة لا أحب ذكرها، والله ولي العفو عن المقصرين في حقوق الأئمة الهادين، أنه لما سأله كبراء العجم في صنعاء عن الإمام عليه السلام وقد وصل إليه إلى شهارة كما أخبرني مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله على روحه الطاهرة أنه وصل إلى الإمام في الصلح الكبير الذي عقده مع جعفر باشا، وأنهم طلبوا منه يعني من السيد محمد أن يكتب لهم أخبارهم وسيرتهم في اليمن وحروبهم، ويرسلون بها إلى ملكهم في الروم، فقال: لا يتمكن إلا بأن يكون في حوث ليقرب من أخبار اليمن والشام، ويختلط به من يعرفه القضايا، ففعلوا له بذلك داراً قل مثلها في حوث في أيام الصلح، وقد رأيتها، وجعلوا في أعلاها السقايا[ق/8] للماء، فخالط الإمام عليه السلام مع ذلك على أنه يتحقق الأخبار، وكذا مما لا يتهمونه، فكان من جوابه عليهم أن هذا الرجل يعني الإمام عليه السلام أعجز من صفته.
أما سخاؤه: فكأنه لا يعقل ولا يعرف ما فعل، فلقد يعطي الرجل ما عنده كله، ثم يستدين له ما وجد ولو عاد عليه أو كمال قال، وهذا يسير من بعض صفاته، وإلا فإن سخاه مما لا يفتقر إلى بيان، ولا يختلف فيه اثنان، وسيأتي إن شاء الله تعالى في جمل السيرة ما أمكن من ذلك.
[شفقته]
وأما شفقته على الأمة وحرصه على هدايتها فسيأتي إن شاء الله تعالى أنه لم يقف على بدعة إلا ردها، ولا منكر إلا أزاله منذ قدر وبلغ، مما أخبرنا مولانا الإمام المؤيد بالله عليه السلام في مجلس الإملاء أنه كان الإمام عليه السلام إذا سمع بالقبائل وقد أرادوا الوليمة فر بأولاده قبل ذلك بأيام، وأنه في بعضها احتملهم وسار لمسيره جماعة فمضى بهم وادياً في بلاد حجور سماه، فسمع مع حرس الزراعة شيئاً من الزمر، فسد أذنه وأمر جميع من معه بسد آذانهم فسمعهم أهل جانب الوادي فاسترابوا منهم، وتصايحوا عليهم خوفاً أن يكونوا خصوماً لهم يريدون غزوهم، وأن الإمام عليه السلام وأصحابه لم يعرفوهم بنفوسهم لما كانت آذانهم مسدودة، وذكر قضية معهم كذلك.
وأخبرنا السيد العلامة الفاضل عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الشرفي رحمه الله بمثل ذلك كثيراً وهو معهم وسيأتي ما أمكن من ذلك.
وأما صبره عليه السلام على الشدايد، وتحمله ما يوهي الأوابد، فترى في ذكر سيرته ودعوته عليه السلام الإشارة إليها من دون استقصاء على جملها فضلاً عن تفصيلها.
وأما النبذ من كتبه ومواعظه: فمنها (قوله عليه السلام) من كتاب له بعد حذف طرته: إلى من اتبع الهدى، وأناب إليه، سلام عليكم فإنا نحمد الله إليكم، أما بعد:
فإن الله أوجب عليكم طاعة أئمة أهل البيت عليه السلام، وحرم عليكم مخالفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه يوم القيامة)) وأنا من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدعوكم إلى الله، وفي شرايط الإمامة فأنا الحجة عليكم عند الله يوم القيامة[ق/9]، فعليكم بالامتثال لأمر الله من قبل:{أَنْ (تَقُولَ) نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}، ولا تقولوا أنكم معذورون لقهر عدوكم لأن الله يقول في محكم كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، ولا تقولوا شغلتنا أموالنا وأهلونا لأن الله سبحانه يقول: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ
فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ولا تقولوا إنا نخشى الفاقة والضياع إذا هاجرنا لأن الله يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً}، فمن صدق الشيطان في عدته وكذب الله فهو كافر، ومن كذب الشيطان في عدته وصدق الله فهو مؤمن، وقال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} وأقسم بالله لئن لم تطيعوني في اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكونن الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب دعاؤهم)) فلا تحسبوا أن الدنيا معقودة على هذه الفرقة الطاغية فإن الله قد فرق شملهم وسلبهم محاسن ملكهم، والله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فلا تغتروا بكذبهم أو إرعادهم وإبراقهم فإن الكذب دأبهم، والفجور مذهبهم، ينكحون الذكور، ويشربون الخمور، ويقولون الزور، ويسفكون الدماء، وينقضون العهود، ولو جللوكم هذه الأيام فبسعادة نكايتنا لهم، إذ لو كان الجو لهم صافياً لقتلوا محاسنكم واستحلوا حرمكم، وسلبوكم سلاحكم، ولا يتركون إلا من كان ضعيفاً لا يخافونه، يجعلونه جعيلاً ويزرع لهم، ويتكسب عليهم، ويأتيهم بمحاسن رزقه، ويأخذون منكم شبه الجزية، ويدخلونكم في كل خزية حتى لايكون لكم في السماء عاذر، ولا في
الأرض ناصر، والملائكة مع ذلك يلعنونكم، وربكم ساخط[ق/10] عليكم، ويكون مأواكم مع ذلك جهنم وساءت مصيرا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ينادي منادٍ يوم القيامة أين الظلمة وأعوان الظلمة أين من لاق لهم دواة أو برى لهم قلماً، أوكثر لهم سواداً ويجعلون في تابوت من نار)).
وروى الإمام الهادي عليه السلام عن محمد الباقر عليه السلام يرفعه: ((يؤتى بأعوان الظلمة ويجعل لهم أظافير من حديد يحكون بهاصدورهم حتى تبدو أفئدتهم فتحترق فيقولون: ربنا ألم نكن نعبدك؟ فيقول: بلى ولكنكم كنتم أعواناً للظالمين)) يا أيها الناس ما تقولون لنبيكم صلى الله عليه وآله وسلم حين تردون عليه الحوض فيسألكم عن الأئمة الهادين من ذريته لأن في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((سيرد علي يوم القيامة ثلاث رايات أحدها سوداء مظلمة أشد سواداً من الليل المظلم وتحتها خلق كثير وهم ينادون: واعطشاه، واعطشاه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأقول من أنتم؟ قال: فينسون ذكري، قال: فأقول أنا محمد، قال فيقولون نحن من أمة محمد، قال: فأقول فما خلفتموني في كتاب ربي وعترتي لم تنصروهم، ولم تجاهدوا معهم، قال: فأولي وجهي عنهم فيصدرون عطاشاً إلى النار)).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ثم ترد علي راية أخرى أشد سواداً من الأولى وتحتها خلق كثير وهم ينادون: واعطشاه واعطشاه، قال: فأقول من أنتم؟ فينسون ذكري ويقولون: نحن من أهل العدل والتوحيد، قال: فأقول أنا محمد، فيقولون: نحن من أمة محمد، قال: فأقول فما خلفتموني في كتاب الله وعترتي أهل بيتي؟ قال: فيقولون: أما كتاب ربك فضيعنا، وأما عترتك فقتلنا، ومزقنا كل ممزق يعنون أنهم أحربوا عترة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فأولي وجهي عنهم ويصدرون عطاشاً إلى النار، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثم ترد علي راية أخرى ولها نور يضيئ ما بين المغرب والمشرق وتحتها خلق قليل، قال: فأقول من أنتم؟ قال: فلا ينسون ذكري ويقولون: نحن من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فأقول فما خلفتم في كتاب ربي وعترتي أهل بيتي؟ قال: فيقولون: أما كتاب ربك فحفظنا، وأما عترتك فنصرنا وواسينا بأنفسنا وأموالنا، قال: فأقول صدقتم فيشربون شربة لا يظمأون بعدها ويصدرون رواء إلى الجنة)) ولا نقول أن معهم جماعة من فسقة آل محمد لأن الله يقول[ق/11]: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ}، ويقول تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} اللهم من سمعنا دعوتنا العادلة غير الجائرة فلم يجبها فاشهد عليه وأبسله وخذه بذنبه ونجني ومن معي من المؤمنين، وصلى الله على محمد وآله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[رسائل الإمام يحث الناس على الجهاد]
ومن رسائله عليه السلام وقد أراد بها بعض من يقتدي به حين تثاقل الناس عن الجهاد، ومالوا إلى مدارات الظالمين:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ، إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كتابنا هذا إلى من يزعم أنه محبنا ممن أعان علينا عدونا بإحدى خصال أذكرها وهو بذلك عند الله من الهالكين، من الذين قال فيهم تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا...} الآية، وذلك أنه دانى الظالمين، وقاربهم وواصلهم، وقرب إليهم القبائل، ورد إليهم المائل فأعان بنفسه علينا، وآخر يفتي الناس بأنهم يدارون على بيوتهم وأموالهم، فيخذل الناس عن نصرتنا ويشير عليهم بعدم القيام لله معنا، كافرين بقوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وآخر يقول: اعتزل الناس وهذه الفتنة لا أفتي ولا أشير، ولست بمعين لظالم، وهو عند الله من الكاذبين؛ لأن من سكن عن نصرة المؤمنين فقد خذلهم بسكونه
فكأنهم لم يسمعوا ما أنزل الله في المخلفين حيث قال تعالى لنبيه: {فَإِنْ رَجَعَكَ الله إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ، وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} يعني لم يصدقوا الله ورسوله في قوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ...} الآية {وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} وآخر يقول: لا تطالبني يا مولانا بشيء من الجهاد فإني صاحب مال وبلاد، وأخاف[ق12] تلاف مالي وبلادي حتى دخل في قوله تعالى: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} أما بعد:
فمن كان هذه صفته وهو يزعم أنه محبنا، ولا يتبع الهداة والدعاة إلى الله منا، فإنا نبرأ إلى الله منه، ومن محبته فإنه ليس منا؛ إذ لا تصلح المحبة إلا مع الاتباع قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.
وعن علي عليه السلام أنه قال شعراً:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه .... هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته .... إن المحب لمن يحب مطيع
اللهم إنا ندعوك على جميع من يزعم أنه يحبنا وصفته كما ذكرنا، اللهم افتح عليه أبواب المصايب، وامحق دنياه وآخرته، والعنه لعناً وبيلاً، واغننا عن نصرته وبدله بنا شراً له منا، وبدلنا [به] خيراً لنا منه إنك على كل شيء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
ومن رسائله عليه السلام في هذا المعنى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، كتابنا هذا إلى من بلغه من المسلمين، أما بعد:
فالسلام عليكم، وإنا لنحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم إن الله تعالى قد أوجب علينا نصحيتكم، وأن نبين لكم الحق ولا نكتمه قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كتم علماً مما ينفع الله به في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا وإن الدين النصيحة يكرر ذلك ثلاثاً)) . وكذلك يجب على من بلغه نصيحتنا هذه أن ينشرها حسب طاقته، إذا عرفتم ذلك فاعرفوا رحمكم الله أن الناس من الزراع والتجار وغيرهم فريقان:
فريق: يطلب صلاح دينه، وفريق يطلب صلاح دنياه، فأما الذين يطلبون صلاح دينهم فلا نجاة لهم إلا بمباينة الظالمين والخروج من ديارهم، وعدم إمداد الظالمين لما يتقوون به على المسلمين؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا[ق/13] فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} والركون: هو الميل إليهم، ويقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ينادي منادٍ يوم القيامة: أين الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلماً فيجعلون في تابوت من نار...)) الخبر.
وروى الإمام الهاد عليه السلام عن محمد الباقر عليه السلام يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يؤتى بأعوان الظلمة فيجعلون في سرادق من نار، ويجعل لهم أظافر من حديد فيحكون بها صدورهم حتى تبدو أفئدتهم فتحرق فيقولون ربنا ألم نكن نعبدك؟ فيقول: بلى ولكنكم كنتم أعواناً للظالمين)).ولا تقولوا: تدارينا على بيوتنا وأموالنا؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ...} الآية إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ولا تقولوا: إنا قهرنا فصرنا مستضعفين؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من جبى-أي ساق- درهماً إلى سلطان جاير كبه الله على منخريه في قعر جهنم)). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سود علينا فقد شرك في دمائنا)). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((سيكون أقوام لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر، ولا يستقيم لهم الغنى إلا بالبخل والفجر، ولا تستقيم لهم المحبة في الناس إلا باتباع الهوى ألا فمن أدرك ذلك فصبر على الذل وهو يقدر على العز، وصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة في الله وهو يقدر على المحبة لا يريد بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة أثابه الله ثواب خمسين صديقاً)) .
وأما الذين يطلبون صلاح دنياهم فاعلموا أرشدكم الله أنه بلغنا عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة أنه قال: (ما ترك الناس شيئاً من دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أشد) وقد عرفتم هذه الدولة وعدم وفائها بالعهود وكيف طلبت من القبايل مطالب ثلاث سنين أو أكثر من ذلك، ثم لا يزالون ينقلبون عليهم ويأخذونهم واحداً واحداً، وشيئاً وشيئاً، ويقربون لكم البعيد حتى تقعوا في أيديهم ولولا بركاتنا أيها الناس لقد ساموكم الخسوف، وقتلوا خياركم[ق/14]، ونهبوا أموالكم ووالله يمين قسم لئن لم تتوبوا وتفروا منهم ليسلطنهم الله عليكم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم، ثم لا تجدون في السماء عاذراً، ولا في الأرض ناصراً مع ما أعد الله لكم لأجل محبتكم لدنياكم، وإيثاركم لها من العذاب الأليم حيث يقول تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} ومعنى طغى: عصى الله بمعاونة الظالمين وغير ذلك من المعاصي، وآثر الحياة الدنيا: يعني على الآخرة، فإن الجحيم هي المأوى، وحيث يقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فأفٍ لمن خسر الدنيا والآخرة بتسليط الظالمين عليه بسبب معونته لهم بتسليم الأموال إليهم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
((من أعان ظالماً أغري به وخسر الآخرة بإيثار الدنيا كان كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ})).
فإن اعتذرتم أنا جرنا عليكم بالمطالب والقرضة فقد عرفتم بجهادنا للظالمين، وقد أوجب الله عليكم معاونتنا، قال الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقال سبحانه وتعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} مع ما أعد الله تعالى للمعين والمقرض والساعي من الثواب الجزيل، قال سبحانه وتعالى في النفقة في الجهاد: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} فجعل الحسنة سبعمائة، وجعل الحسنة في غير الجهاد بعشرة أمثالها كما أخبرنا الله تعالى في كتابه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في القرض: ((من أقرض أخاه المسلم قرضاً فله بكل مثقال ذرة من قرضه كل يوم عند الله بوزن أحد...)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أقرض أخاه المسلم قرضاً كتب الله له بكل مثقال ذرة منه كل يوم ألف حسنة)) إلى غير ذلك من الأحاديث بالقرض، وقال تعالى في حق الساعي: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} فخذلتم أهل الحق وأعنتم أهل الباطل مع أنا قد طهرناكم، ودعوناكم إلى الخير فأبيتم إلا ما تستوجبون به نقمة الله وسخطه وعذابه، فإن لم تستغفروا الله[ق/15] وترجعوا إلى الله تعالى فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد، وسلام على أهله.
[وصية الإمام لولده أحمد]
ومن عهد له عليه السلام كتبه لولده صفي الدين أحمدبن أمير المؤمنين أيده الله تعالى حين ولاه أعمال صعدة ومخاليفها في شهر رجب سنة سبع وعشرين وألف[يونيو/1618م] :
استخرت الله تعالى وجعلت للولد الأمجد صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين ولاية يقدم بها ويحجم، ويحل ويبرم -إن شاء الله تعالى-في مدينة صعدة المحروسة بالله وبلادها وما ينسب إليها، وفي جميع بلاد خولان،وبلاد همدان، وما والاها من البلاد، يقيم فيها الجمعات، ويقبض الحقوق والواجبات، ويقيم الشرايع المحمدية، ويقسم في الناس بالسوية، وينتصف للمظلوم من الظالم، ويؤدب أهل الجرايم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويعظم أهل التعظيم، ويفتقد الأيتام والمساكين ولا تأخذه في الله لومة لايم، ويسير السيرة المرضية المطابقة لطريقة الشريعة المحمدية، ويسهل الحجاب، ويلين الجناب، ويقيم الحدود، وهو مقلد عهد الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوفير الحقوق، وجعلها حيث نأمره بها، والامتثال لما قلنا، والاستفهام لنا فيما التبس عليه من الأمور، وأمرنا أهل هذه الجهات التي ذكرناها والتي لم نذكرها مما شملته الولاية بالسمع له والطاعة، وعدم المخالفة، وتسليم الواجبات، والامتثال لما يأمر به مما يرضي الله، والمعاونة له على البر والتقوى، وعلى إزالة البدع والمنكرات، وعليه العمل بتقوى الله والتواضع، وتقريب أهل الفضل والحث على طلب العلم، وافتقاد المساجد، والمصالح والطرقات، وإقامة الشريعة وتنفيذها وتعميدها، وإبطال الأحكام الخارجة عن الشريعة والله يتولى إعانته، ويبارك
لمن أطاعه في نفسه وولده وماله، فمن أطاعه فقد أطاعنا، ومن عصاه فقد عصانا، ومن ولاه على أمر فقد توصيناه فيه على مطابقة رضى الله، ويسألنا في المهم من الذي نأمره به، والله يوفقه ويسدده ويعينه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ثم أوصاه بكلام جعله مسطوراً في رقعة وأمره أن لا يفارقها[ق/16]، فقال عليه السلام: تقوى الله قبل كل شيء والمواضبة على الصلاة في أوقاتها جماعة ولا يترك طلب العلم على سبيل الاستمرار ويجعل لذلك وقتاً، وتقرير [كل] من يرجى خيره أو يخشى ضره على ما قد وضعناه له، المشايخ يصير إليهم عشر المطالب، من طلب تقريراً زائداً فلا يجاب إلى شيء، توفير المطالب لأهل المراتب، وأهل الجهاد المحتكمين، ويجعل للفقراء الذين لا حيلة لهم حصة من الزكاة والفطرة، ولا يجعل للفقراء شيئاً من المعونات والخدمة، ولا يجعل لأحد من الشعراء والشحاذ شيئاً سيما مع حاجة المجاهدين الغفلة من حوايج الناس، وعن إنصاف المظلوم حرام، ويجب عليه أن يتوقف على ما أمرته به، وينتهي عما نهيته عنه، ويجب الاستعانة بالله ويولي أهل الحياء والدين، والعزم والحزم، ولا يولي من يضيع المطالب، ويستشير أهل الرأي ولا يترك الشور في جميع الأمور إن شاء الله تعالى، ولا يكن جلساؤه إلا أهل العلم ومحاسن العرب، ولا يقرب أحداً من الأهماج، ولا يخالط أهل الريبة، ويتعلم الاستخارة ويكثر منها، من كان يتمرد من المطالب فأجمعوا عليه العسكر وغيرهم من القبائل واجعلوا عليهم غنماً وقوتاً لهم، لا يرفعون إلا مخلصين إن شاء الله تعالى، ومن أحب الحرب أحرب حتى يكون نكالاً للظالمين إن شاء الله تعالى إلى آخر ما أوصاه عليه السلام.
[رسائله إلى المجاهدين]
ومن بعض كتبه عليه السلام إلى المجاهدين: كتابنا هذا إلى المجاهدين في سبيل الله أيدهم الله بالنصر والظفر وحماهم ووقاهم من كل شر، وأتحفهم بشريف السلام المتصلة بكل خير عام، إذا عزمتم فتوكلوا على الله واتقوه، وحافظوا على الصلاة، ولا ترضوا منكراً ينصركم الله، وتواضعوا لله، وأيقنوا أن ليس النصر إلا من الله فإذا أظفركم الله بعسكر الظالمين فاقتلولهم على أي حال وجدتموهم، وصونوا القبائل إلا من قاتلكم، والله سبحانه وتعالى يفتح ويؤيدكم، ويمدكم بملائكة، والسلام.
ومن بعض كتبه عليه السلام جواباً على الشيخ شجاع الدين أبي زيد بن سراج السنحاني بخط يده عليه السلام: وما ذكرتم من تناقص المواساة فاعلم يا طويل العمر أنا مقاتلون للدولة الظالمة من العجم مع تحزب جميع فسقة العرب معهم، وصرنا نعاني الأمور ونقاسيها، ونشتري من يقاتلهم معنا من العسكر سراً بالبذل الواسع وهم لا يرضون بذلك، وبالأقوات الواسعة حتى أجحفنا بيت المال، وأجحفنا ببعض القبايل الموالين لنا، وطلبنا منهم الطعام مع إعدامهم[ق/17] وحاجتهم إليه، وتبرأوا منا ونسبونا إلى الجور، وإنما الذي [وقع] تتوهمه بسبب هذا وإلا فمحلكم عندنا غير مجهول، وقد طلبنا من بعض الواجدين في هذه السنين معونة فتغلبوا وتمنعوا مع حاجة المجاهدين، وضرورتنا إلى ذلك فامتنعوا، فتوجهت إلى الله تعالى وبسطت يدي إليه مبتهلاً، وقلت: اللهم امحق عليهم ما تحت أيديهم أكثر مما منعونا من المعونة، فاستجاب الله الدعاء، وإن بعض تجار وادعة دعوت الله عليهم، وكانوا يسافرون إلى المخاء فبلاهم الله بالفقر حتى صار بعضهم يتطلب على الأبواب، ونحن والله قسماً ما نترك ما يتوجه علينا لكم، وما يمنعنا إلا إيثار مدافعة العدو، الله يكفينا شر كل عدو...إلى آخره.
قال السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي: ومن كتبه عليه السلام جواباً علي بخط يده الكريمة وهو في برط بعد خروجه من شهارة: وتحققنا ما ذكرتم من تقلب أحوال الذين يزعمون أنهم مستضعفون وما هم عليه من الرضى بالذل والهوان، فهم كما قال الله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} وما ذكرت من حسن حال المستقيمين على طاعة الله سبحانه، فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدايد بعد دنوها، وهطلت عليه البركة بعد إردادها، وكفى بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}.
وأما ما يجري معهم من المشقة فإن ذلك بلوى من الله يظهر معها العمل؛ لأن الناس منهم من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلاَ إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} هم والله الذين عناهم الله في قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} اللهم إنا لا نحب إلا طريقتهم هذه فأعنا عليها واهدنا إنك على كل شيء قدير.
وما ذكرتم أبقاكم[ق/18] الله من وصولكم للقراءة فنحن نحب ذلك، فتصلون إلينا إن شاء الله تعالى ويكون العمل فيها على حسب ما ترون من الحال، ونشترط أن لا تكون القراءة إلا في الحديث وأصول الفقه خاصة لا في غيرهما؛ لأنه ليس معنا كل الفراغ، اللهم إلا أن تأخذوا المقصود من ذلك فلا بأس في القراءة في غيرهما.
وجواب المسائل التي سألتم عنها في القرطاس لم أتمكن منها حال صدور هذه؛ لأن الرسول لم يرض بالوقوف حتى نتم، ولأن معنا اشتغالاً بتأليف شرح لطيف على الحاجبية في النحو للأصحاب والأولاد-فتح الله عليهم بالعلم والحكمة- لأنه لم يكن عندنا من كتب النحو إلا الحاجبية، وحاشية عز الدين فقط، وقد بلغنا في هذا الشرح آخر الفعل، ونرجو من الله المعونة على تمامه، ومعنا أيضاً اشتغال آخر جوابات وكتب مبتدأت إلى القبائل عملاً بقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} وقد وصلت إلينا كتب من نهم، وبلاد الخشب يطلبون وصول الحاج المجاهد أحمد بن عواض، ولم نترك إجابتهم إلى ذلك إلا رجاء يقوم معهم غيرهم؛ لئلا يتجمع عليهم الظالمون، والعصيمات كافة خالفوا، وأوقدوا النار في بلادهم إلا آل صدان منهم خاصة... إلى أن قال عليه السلام في كتابه هذا: آل نجران وأهل جبوبا وداعي الباطنية أحمد بن الوديع الغريري وأصحابه صاروا يكاتبون إلينا أنا نصل إليهم، ونسكن في جبوبا ويمدوننا بما نحتاج إليه فلم تطمئن النفس وإلا فبلادهم خير من الشرف، ومن حجة إلا الأودية لكثرة خيره وقرب مائه حتى نخيلهم لم يغرسوها إلا بين الوحل، وليس كل نجران باطنية، وإنما الباطنية قبيلة يقال لهم مذكر، وأما وادعة الكبرى ويام وبنو الحارث، وآل الهندي فبخلافهم.
هذا ما سنح من الأخبار، والولد طول الله عمره وأصنايك الجميع ومن حضر مقامكم متحفون بشريف السلام ورحمة الله وبركاته، وتحياته ومرضاته. انتهى.
ومن كتبه عليه السلام بخط يده الكريمة إلى عمه السيد الأكمل المجاهد سيف الإسلام عامر بن علي رحمه الله تعالى: أسأل الله بحق محمد وآل محمد أن يحرس ويحمي ويسدد وينصر ويعضد الوالد السيد المثاغر المرابط المجاهد نور الدين عامر بن علي، ويتحفه بشريف السلام، وزليف التحية والإكرام، ورحمة الله على الدوام، وبعد:
فلا يخفى على الوالد[ق/19] أيده الله سبحانه من وجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ} {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} وإني أحضك على ذلك فاجعله شعارك، وعلى تقوى الله فاجعلها دثارك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} ويقول: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وإياك والإعجاب بالكثرة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}.
واعلم أن النصر بيد الله {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }،{إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} ولا بد من الامتحان: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلاَ إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} وعليك بالصبر فإنه سلطان الدين، وهو من الإيمان كالرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وبلغني أن بعض الجند الذين معكم اجتمعوا على [دف] مثلث، فانهوا عن المنكر تنصروا كما جاء في الأثر عن سيد البشر، تعوذوا بالله من الإتكال على نفوسكم، أو على أحد من الخلق فإن الإتكال على النفس ثمرته العجز، والإتكال على الناس ثمرته الضياع، ولكل شيء آفة وآفة العمل الصالح الإعجاب، حمى الله دينكم وحرسه وعافاكم، وأصلح أحوالنا وأحوالكم وبعد شريف السلام نصر من الله وفتح قريب، المنصور بالله إن شاء الله وحال صدروها، والغايب الناكث محمد بن عبد الله يطلب الرفاقة من الأصحاب بعد أن قتلوا من أصحاب الترك الذين خرج بهم ستيناً رجلاً، ونرجوا من الله أن يأتوا به أسيراً أو قتيلاً. انتهى لفظ كتابه عليه السلام.
[كتبه إلى أهل وادعة والشام]
وكتب عليه السلام كتاباً إلى أهل وادعة الشام، وهذه نسخته:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} كتابنا هذا إلى الشيخ المقام، المعظم الأعز الأكرم، جمال الدين عمدة المشائخ الأمجدين: محمد بن مهدي[ق/20] بن موسى وكافة قبايله، أصلح الله لهم كل شأن، وأتحفهم بشريف السلام، ورحمة الله وبركاته الهاطلة بكل خير عام، وبعد:
فإن الله قد أوجب عليكم قتل هؤلاء الأتراك، وأعوانهم من العرب على أي حال ولو خفية في الطرقات والمساجد والبيوت، ومن ترك ذلك وهو يقدر عليه فهو عند الله من الهالكين وليس من المسلمين، والله لا بارك لمن ترك ذلك وهو يقدر عليه، والله يسلطهم عليه إن لم يفعل ما أمره الله[به] من قتلهم حيث قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا...} الآية، وهؤلاء قد سعوا في الأرض فساداً، وحاربوا الله ورسوله كما قد علمه العام منكم والخاص، يبغون اللوطية، وقتل الصالحين وإهانة المسلمين، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أهان لله ولياً فقد بارز الله بالمحاربة)) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين كافة: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً وجوههم كالمجان المطرقة)). يعني الأتراك- فمن والاهم وأطاعهم فقد خرج من الإسلام إليهم، ومن عاداهم وباينهم وسعى في قتلهم وقاتلهم فهو على دين الإسلام حقاً، فاحذروا غضب الله إن لم تمتثلوا ما ذكرناه لكم، وقد ألزمنا كثيراً من القبائل بمثل هذا وقد أطاعوا، فمن أطاعنا فقد أطاع الله، ومن عصانا فقد عصى الله، والله له بالمرصاد، وقد جاء جواب بعضهم بما يشد ظهور المسلمين، ومع القبائل في هذه الساعة نهضة عالية نرجوا إن شاء الله أن يكون فيها هلاك الظالمين وعن قريب وقد بلغكم السارح فيجب منكم القيام التام، والسعاية في قتال الظالمين، أصلح الله بكم ولكم، وعليكم السلام ورحمة الله.
قال السيد العلامة أحمد بن محمد نفع الله به: وله عليه السلام جواب علي وقد كتبت إليه في شأن خراب الوعلية، وهي قرية من قرى الشرف الأعلى، فقال في جوابه ما لفظه بخط يده الكريمة بعد البسملة: بلغ كتاب السيد المقام، الفاضل العلامة، شمس الدين: أحمد بن محمد بن صلاح يسر الله أمره وشرح صدره، وأتحفه بشريف السلام ورحمة الله وبركاته، وعرفنا ما ذكره من النصيحة وترك خراب الوعلية، وأن فيها من لا ذنب له، فاعلم أنه بلغنا أنهم آووا السدني وآخر معه ولاقوه، وأضافوا، ووقف في بيت الشرايف ولم ينكر عليهم أحد، ولا نبهّوا عليكم، ولا فعلوا شيئاً مما يجب[ق/21] حتى دخلوا كحلان المأخوذ المحروب إن شاء الله...إلخ.
وهذا الكتاب إلى السيد نفع الله بهما في النهضة الأولى في عام سبع وألف[1598م]، وأخرب الله هذا الحصن المذكور على يده عليه السلام عام أربع أو ثلاث وعشرين[وألف] وهو على ذلك إلى الآن، وقد أرسلنا على أهل الطرق وفيهم من الضعفاء مثل الذي في مهبط الشيطان، ومغرس الفتنة، وبالهادي عليه السلام وبغيره من الأئمة اقتديت فإن الإمام إبراهيم بن موسى بن جعفر أخرب سد الخانق بصعدة وكان يسقى لطائفة من الناس فهم من الضعفاء كالذين بالمؤتفكة، وكذلك الهادي عليه السلام قطع أعناب أملح ونخيلها من بلاد شاكر، وفيهم مثل من ذكرت، وكذلك أيضاً قطع أعناب حقل صعدة بوادي وعلان ونخيل بني الحارث بنجران، وولده الناصر عليه السلام أخرب أرض قدم كلها ولم يسأل عن بيت يتيم ولا أرملة، ولا ضعيف، وفي سيرة الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام أنه أخرب العادية في بلاد ظليمة، وأشياء مذكورة في مثل ذلك كثيرة، وكذلك الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام أخرب صعدة القديمة، وغيرهم من سائر الأئمة عليه السلام، والإمام المنصور بالله عليه السلام نص على ذلك نصاً، وإمامنا الإمام الناصر لدين الله خرب قرية في الكريش يقال لها: الجند والعصرة في بني محمد، وعزان بني أسعد، وقاهر في بلاد المداير، ولم يسألوا عن بيت يتيم ولا أرملة.
واحتج الإمام الحسن عليه السلام على ذلك بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وهي حجة الأئمة عليهم السلام، ومما يحتج به أيضاً أنا روينا بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمالي أبي طالب عليه السلام أنه قال: ((إن الله أوحى إلى نبي من أنبيائه إني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألف من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لن يغضبوا لغضبي)).
وفي الأمالي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله أمر أن يخسف بمدينة أو يعذب -السهو من عندي- فقالت الملائكة: إن فيها يا رب العابد الفلاني أو فلان العابد-السهو من عندي- فقال الله تعالى: اسمعوني ضجيجه فإنه لم يغضب لغضبي)).
وفي الأمالي عنه أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما من قوم يكون بينهم من يعمل فيهم بالمعاصي فلم[ق/22] يأخذوا على يده إلا عمهم الله بعذاب)). وهؤلاء هل أنكروا منكراً، أو هاجروا؟ هم بين أهل المعاصي يرون ويسمعون، ثم كان في هذه الأيام ما أدخلوا أهل الفساد إلى بين الشرائف يا منكراه يا منكراه. انتهى بلفظه من خطه عليه السلام.
[رسائل الإمام إلى أهل هجرة الظهرين]
ومن كتبه عليه السلام كتاب كتبه إلى أهل هجرة الظهرين من بلاد حجة وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد:
فإن الله سبحانه فرض فرائض من جملتها الجهاد في سبيل الله قال الله سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}، وقال سبحانه: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، وقال الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} وأنتم رحمكم الله رأيناكم عن الجهاد مضربين، وكأن الله لم يفرضه عليكم، وآية ذلك أنا لم نر منكم رجلاً وقف ساعة في موقف من مواقف الجهاد، وإنكم لم تعدوا لجهاد الظالمين سلاحاً، كأن الله سبحانه لم ينزل في كتابه الحكيم {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} وصرنا ندعوا الناس إلى جهاد الظالمين، وننادي فيهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)) . فهذه الآيات والخبر، وما هو
أكثر من أن يحصى من الحجج البالغة عند الناس كأنها لم تكن، ونحن نشهد الله عليكم وملائكته والمؤمنين وكفى بالله شهيداً، ثم إنا لما رأينا كراهتكم لحر القتال ومنازلة الأبطال عذرناكم عن الجهاد بأنفسكم، وألزمناكم الجهاد بأموالكم،ولا عذر لكم عنه، ثم إنا خففنا عليكم وعذرناكم عن إنفاق الفاضل عن كفاية السنة من جميع ما تملكون كما هو اختيار الأئمة الهادين الذين بهم تقتدون، وعلى مذهبهم تعتمدون، وعينا عليكم ستمائة حرف تفرقونها على قدر أحوالكم، تحسبون من ذلك زكاة أموالكم، وما زاد فمما فرض الله عليكم من الجهاد بأموالكم، فمن امتثل فالله يسامحه ويغفر له[ق/23] ويبارك له فيما أبقى، ويتقبل منه ما أعطى، ومن أبى وعصى ولم يمتثل ما في التنزيل فالله حسبه وهو الآخذ له بذنبه، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، ونقول: اللهم اغننا عنه، وأره المأساة فيما يحب، والله حسبنا ونعم الوكيل ونعم النصير، والسلام.
إلى هنا ما نقل مما نقله مولانا السيد العلامة صفي الدين أحمد بن محمد نفع الله به في هذا الموضع.
[رسائله لعامة المسلمين]
وله عليه السلام في مثل ذلك ما لا يحصى كثرة، أحسبها إلى الألوف، ونلحق هذه لمناسبتها ما تقدم وهي:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن أصحابه الأكرمين.
كتابنا هذا إلى من وقف عليه من المسلمين، أما بعد: فإنا لنحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو إليكم، ثم إنا ندعوكم إلى جهاد أعداء الله الذين ظلموا العباد، وأظهروا في الأرض الفساد، وشربوا الخمور، ونكحوا الذكور، واستباحوا دماء المحترمين من المؤمنين، فقتلوا الأطفال والنساء، ومن لا يحمل سلاحاً من الضعفاء والمساكين، وأنتم تعلمون ذلك ولا تجهلونه، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، وقال تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، وقال تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وإياكم والإقتداء بكفرة بني إسرائيل فإنهم كانوا كما حكى الله فيهم حيث قال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ[ق/24] ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون علي الحوض، ومن لم يصدقهم على كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون علي الحوض)). ومن الإعانة لهم[على ظلمهم] تسليم الأموال إليهم كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ما معناه: ((من جبى -أي سلم- لسلطان جائر درهماً كبه الله على منخريه)). وبلغنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((المعين للظالمين كالمعين لفرعون على موسى)).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ليخرجن ناس من أمتي من قبورهم في صور الخنازير بما داهنوا أهل المعاصي، وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون)).
ومما رواه الموالف والمخالف وتلقته الأمة بالقبول ما بلغنا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة-يعني الترك-)). وفي رواية: ((صغار الأعين ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة)). وهذا الحديث رواه البخاري، ومسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي في صحاحهم وغيرهم.
وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقاتلكم قوم صغار الأعين-يعني الترك-)). أخرجه أبو داود.
هذان الخبران من النصوص المفيدة أن الترك على خلاف الحق، وأن المسلمين يقاتلونهم ولا يقاتل المسلمين إلا من كان عادياً يجب قتاله، يؤيد ذلك ما رواه أبو داود عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا كان آخر الزمان جاء بنو قيطور أعراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر فيفترق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا -يعني هلكوا في دينهم لتركهم جهاد الترك- وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا-يعني يأخذون لأنفسهم الأمان فيكفرون-، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلون وهم الشهداء)) .
فإني ملزمكم أيها المسلمون ما ألزمكم الله في كتابه[ق/25] ورسوله في سنته، فكونوا رحمكم الله من الذين قال الله فيهم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ولا تكونوا من الذين قال الله فيهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ومعنى قوله تعالى: ويقبضون أيديهم أي يعني الجهاد والإنفاق في سبيل الله.
وبلغنا عن أبي جعفر محمد الباقر، عن أبيه علي بن الحسين زين العابدين، عن أبيه الشهيد الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يكون في آخر الزمان قوم مراؤن فيتقربون ويتنسكون لا يوجبون أمراً بالمعروف ولا نهياً عن المنكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير يتتبعون زلات العلماء، وما لا يضرهم في نفس ولا مال، فلو أضرت الصلاة والصيام وسائر ما يعملون بأموالهم وأولادهم وأبدانهم لرفضوها)). وقد رفضوا أسنم الفرائض وأشرفها، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة تقام بها الفرائض، وتحل المكاسب، وتطرد المظالم، وتعمر الأرض، وتنتصف من الأعداء، فأنكروا المنكر بألسنتكم، وصكوا بها جباههم، قال: ((وأوحى الله إلى نبي من أنبيائه عليهم السلام إني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستيناً ألفاً من خيارهم، قال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي)).
وبلغنا عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ما من رجل يجاور قوماً فيعمل بين ظهرانيهم بالمعاصي فلا يأخذون على يده إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)).
وبلغنا عن أبي جعفر محمد بن علي رحمة الله عليه أنه كان يروي ويقول: إذا كان يوم القيامة جعل الله سرادق من نار وجعل فيه أعوان الظلمة ويجعل لهم أظافير من حديد يحكون بها صدورهم حتى تبدو أفئدتهم فتحترق فيقولون ربنا ألم نكن نعبدك؟ فيقول: بلى ولكنكم كنتم أعواناً للظالمين.
اللهم إن حجتك قائمة على خلقك، فمن آثر رضاك على هواه فلقه اليسر، واشرح له الصدر، وضاعف له الحسنات، وامح عنه السيئات[ق/26]، واحمه من المكروهات، اللهم ومن أبى إلا النكوص على عقبيه فخذه بذنبه وانتقمه، واعكس أمله، وامحق عمله، وابله بشر منا، وارزقنا خيراً منه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[كرامات الإمام]
وأما كراماته عليه السلام فهي كثيرة.
قال السيد أحمد بن محمد نفع الله به: منها: أنها خضعت له رقاب القبايل عامة وقبايل المشرق خاصة، وأهابوا جانبه، وعظموا شأنه واحترموا من اعتزى إليه من جميع أصحابه، وأمنوا الطرقات.
ومنها: أنه عليه السلام ترك خزانته وجميع ما معه في موضع يسمى العصيدة في جهات برط مع ثلاثة نفر من أصحابه وبينهم وبين القرى فراسخ، فقصدهم قوم في الليل فعطبت أيديهم على سلاحهم، وصرفهم الله، حكى ذلك الفقيه الفاضل الزاهد العابد جمال الدين: محمد بن علي اليعقوبي رحمه الله.
ومنها: أن شيخاً من مشائخ أهل برط اسمه يحيى أبو عروق تبرأ من الإمام عليه السلام وأصحابه، فصاح في السوق أنه بريء منهم، وذلك حين قصد الأتراك إلى جهة برط فدعا عليه الإمام عليه السلام فأهلكه الله بسرعة نعته، لعله لم يلبث إلا أقل من أسبوع.
ومنها: أنه عليه السلام لما وصل الأتراك إلى جهة برط والتجأ الإمام عليه السلام ومن معه إلى قفر في تلك الجهات فأصبحوا ذات يوم وليس معهم من الطعام شيء، فاعتزل الإمام عليه السلام هو وولده الحسين بن أمير المؤمنين إلى مكان خالٍ من أصحابه غير بعيد، فدعا إلى الله سبحانه وسأله من فضله، فإذا جمل موقر عنباً سبق صاحبه، فلما وصل إلى الإمام قسم له ولأصحابه نصف ذلك العنب، ودعا له الإمام عليه السلام، وبقى الإمام عليه السلام هو وأصحابه ذلك اليوم ولا شيء معهم على خوف من الأتراك إلى اليوم التالي، فإذا جماعة وصلوا من اليمن بمال كثير للإمام عليه السلام زهاء مأتي حرف، فأخذ الإمام عليه السلام وقر ثلاث جمال بر وأخذ له رفقاً في الطريق وسار ليلة إلى موضع قفر يسمى العقل، فوافق هناك شيخاً من مشائخ ذي حسين من مشارق برط من دهمة[ق/26] اسمه أبو حياد محمد بن علي وقدكان هذا الشيخ نافراً من الإمام عليه السلام فألقى الله في قلبه محبة للإمام عليه السلام عظيمة يقل الوصف عنها، وبقى الإمام عليه السلام وأصحابه في تلك القفار معه وحواليه حتى رجعت الأتراك من برط إلى صعدة.
ومنها: أن الثعابين والحيات في تلك الجهات كثيرة وقد أهلكت كثيراً من أهلها وعلى قبر كل من هلك منهم منها علامة يعرف بها أنه هلك بسم الأفاعي ينقبون ذلك في حجارة على قبورهم، ولم يقع في الإمام عليه السلام ولا جميع أصحابه ولامن وصل إليه شيء من ذلك مع كون بقايهم أكثر ذلك الزمان في القفار.
ومنها: أنه عليه السلام دعا إلى الله سبحانه وتعالى بتعجيل الفرج عند صخرة هنالك لها مثل النسر جناحان عرضها قدر ثلاثين ذراعاً على قطب في وسطها مثل قطب الرحى، حامل لها في الهواء فاستجاب الله سبحانه له ولم يمش إلا خطاً يسيرة قدر نصف مرمى، فإذا البشير بالفرج برجوع الأتراك من برط إلى صعدة.
ومنها: أنه أصبح ذات يوم هو وأولاده الثلاثة عليهم السلام علي والحسن والحسين ولا غداء معهم في شدة الخوف إذ كان عليه السلام لا يأكل إلا من النذر والهدية فإذا رجل بصحفة فيها عريك بر وسمن ملفوفة الصحفة في جراب فوضعها بين يدي الإمام، فأكل الإمام عليه السلام وأولاده حتى شبعوا، ودفع الباقي إلى أصحابه، وكان بين الإمام عليه السلام وبين الحي مرحلتان وسار الرجل ولم يعرف له اسم ولا خبر.
ومنها: أنه عليه السلام دعا على رجل من ذي حسين من دهمة أشار بيده إلى الثياب التي على الإمام وأصحابه وتكلم بكلام فيه أذية للإمام عليه السلام فسقط الرجل فغاب أصبعه في كفه، فندم الرجل وسأل الإمام عليه السلام أن يرضى عليه ويدعو له، فدعا له الإمام فرجعت يده كما كانت من قبل صحيحة.
ومنها: أن الأتراك أرادوا غزو الإمام عليه السلام إلى جهة برط من صعدة مرة أخرى، وبلغ خبرهم إلى الإمام عليه السلام فوقع معه عليه السلام من ذلك كرب عظيم لما كان قد عرف من تغيير كثير من القبائل ولما قد جرى عليه وعلى أصحابه في المرة الأولى من التعب والخوف الشديد في القفار فالتجأ عليه السلام إلى الله سحانه وتعالى ودعا إليه وهو في موضع قفر يسمى رسب، فاستجاب الله سبحانه دعاه، فوصل الأتراك إلى موضع يسمى الصدارة من بلاد آل سالم ولم يبق بينهم وبين الموضع الذي فيه الإمام عليه السلام إلا مقدار سير نصف يوم، وألقىالله في قلوبهم الرعب والعداوة لأميرهم الذي أرسلهم من صعدة، ورجعوا إلى صعدة [ق/28] عازمين على قتل أميرهم الذي يسمى الأمير محمد، وكان معهم من أشراف الجوف الحمزيين الأمير هادي بن جمعان الحمزي، فلما علم هذا الشريف المخذول بمقصدهم سبقهم إلى الأمير بصعدة، فأخبرهم بخبرهم، واحترز الأمير محمد منهم، وكان دعاء الإمام عليه السلام وقت العشاء ورجوعهم إلى صعدة وقت السحر، وهذه القضية قد أشرنا إليها، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
ومنها: خروجه إلى وادعة المرة الأخرى في وقت قوة الأتراك وتملكهم للبلاد كلها مع كثرة محاطهم، وعساكرهم في جميع الجهات، فوثب بنفسه إلى وادعة، فنصره الله سبحانه وتعالى وألقى في قلوب أهل وادعة الإنقياد له، ثم يسَر الله سبحانه أسباب موالاة عبد الرحيم وغير ذلك من الأسباب الموجبة لنصرته، وعلو كلمته عليه السلام.
ومنها: أن بعض عبيد الأتراك خرج من صعدة وقد أودعوا سماً يهلك به الإمام عليه السلام فكفاه الله شره، وقتل في طريق نجران ووجد السم معه.
ومنها: أنه عليه السلام في وقت حصار شهارة لم يكن معه من بيت المال إلا خمسة حروف فقط، فيسر الله من الأموال شيئاً كثيراً من ساير البلدان، وكانوا يدخلونها إلى شهارة من بين العساكر الكثيرة المحيطة بجميع جوانب شهارة، وكانوا يخبرون بعجائب من ألطاف الله سبحانه وتعالى لهم.
ومنها: خروجه عليه السلام من شهارة وحفظ الله له في الطريق بين المحاط من كل جانب ويسر الله له ذلك مع صعوبة الطريق وكثرة شناخيبها وعدم الإهتداء إليها في النهار فضلاً عن الليل مع تراكم الأعداء، وتلاصقهم وشدة حرصهم عليه واجتهادهم في الحراسة والعساسة، فسلمه الله تعالى منهم، وسار إلى وادعة ثم إلى برط، ثم بقي فيها مدة، ثم وثب عليهم في وادعة كما عرف ذلك، وحفظ الله أولاده في شهارة وجميع أصحابه إلى أن خرجوا منها على حال جميل، ثم من الله سبحانه بأن يسر خروج أولاده وأهله من كوكبان، واجتماعه بهم ورجوعهم إلى محروس شهارة كما ذلك مذكور في موضعه من هذه السيرة المباركة، فهذا كله من كرامات الله سبحانه له.
ومنها: أن قوماً بيتوا الإمام عليه السلام أي أرادوا غزوه، فلما قربوا منه يبست أطرافهم وأيديهم على سلاحهم، وظهر ذلك في ألسنتهم وذلك في برط.
ومنها: أنه عليه السلام طلب زكاة المواشي من بعض دهمة وأرسل رسلاً برسالة فيها دعاء عظيم، فرجعوا بشيء يسير قدر ثلاثين رأساً من الغنم الضعاف ما فيها شيء مليح، فدعا عليهم فأصابهم الله بالجدب حتى أكل الرعية التراب وماتت، وما بقي منها إلا اليسير وأجلوا عن بلادهم، ومات منهم خلق كثير في الأرض ثم التجؤا إلى الإمام عليه السلام فأحسن إليهم[ق/29].
ومنها: أن رجلاً من أهل شهارة وقع منه أذية للإمام عليه السلام فأهلكه الله بسرعة.
ومنها: أن بعض فقهاء الأهنوم وهو الفقيه عبد الله بن علي الرنجي سعى بفساد في شهارة الفيش وقت حصار الأتراك لها، وراح وغدى في ذلك، وعامل جماعة على نصرة الأمير عبد الله بن المعافا وهو حاط في النجد، فبلغ الإمام عليه السلام ذلك فاكترب كربة عظيمة وفزع إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء المذكور، فاستجاب له دعاه، وعجل الانتقام من الفقيه المذكور من ساعته بعد أن رجع من نواحي شهارة، وأصابه الله بالفالج وهو يشرب القهوة عند ابن المعافا فاختلط عقله، وخلط البول بالغائط فحملوه من معسكر بني المعافا ليلاً إلى بيته، وهو في بني نتام من جبل ذري، فبقي يتقلب بين فضلاته قريباً من سنة بين الحي والميت.
ومنها: ما اشتهر للخاص والعام والقريب والبعيد والعدو والصديق في صنعاء في أول دعوته عليه السلام، أنه كان يسمع من الصوامع النداء المتكرر منذ شهرين أو نحوهما في الليل بصوت شهير ثخين يسمعه الناس ولا يرون شخصه، يقول: يا إمام قاسم بتفخيم القاف.
وروى بعضهم أنه رأى صورة طاير من جهة الصوت.
ومنها: أن ولده السيد شرف الدين الحسين وقعت في كفه عاشة، فأمر الإمام عليه السلام لمن يقطعها، وأمر لولده من وادعة إلى جهات مرهبة، ورق له الإمام عليه السلام ومسح عليها، وأمره بالعود إلى وادعة، وأنها تقطع هنالك، فما وصل وادعة إلا وقد من الله تعالى له بالشفاء وزالت بالكلية، ووصل الخبر إلى الإمام عليه السلام فسر بذلك.
ومنها: أن رجلاً من أهل الظاهر سلم عليه في مكان قفر وقال: يا مولانا أنا راعٍ غنم لي وقد أضر بنا القحط، وقلة الماء فادع لنا، فتوجه القبلة والوقت قريب غروب الشمس وما في السماء قزعة، فما جاء وقت العشاء إلا وقد مُطِر، وأرسلت السماء غرابيلها، وأقبلت الشعاب بما فيها، وما توضأ أكثر الناس إلا من الجرب والأموال، وكان ذلك بالسنتين من بلاد بني صريم، واستمر المطر متصلاً نحو أربعة عشر يوماً.
ومنها: أنه بلغ إليه الخبر بقتل أصحاب درويش في عقبة ظفار إلى المعاصر ببلاد خيار وقت الوقعة ولم يعرف من جاء بالخبر، فلما كان بعض الليل جاء الخبر اليقين.
ومنها: أن بعض أهل شهارة أراد أن يمكر في شهارة ويسلمها إلى يد عبد الرحيم على يد الفقيه علي الشهاري، وذلك في وقت موالاة عبد الرحيم للإمام عليه السلام، وكان في ذلك الوقت كثير من مشائخ الأهنوم باقيين عند عبد الرحيم في حجة باستبقائه لهم، وكان كثير من الناس يظن أن عبد[ق/30] الرحيم غير صادق في موالاته للإمام عليه السلام، فلهذا سعى هذا الماكر من أهل شهارة بهذا السعي المنكوس، ووقف الإمام عليه السلام على بعض كتب هذا الماكر، وأرسل أيضاً عبد الرحيم بما وصله من الكتب ممن كان أراد المكر من أهل شهارة إلى عند الإمام عليه السلام، فلما تحقق الإمام عليه السلام ذلك طرد هذا الماكر من أهل شهارة، وكان من الأشراف فلم يلبث أن يقطع هو وأولاده بالجذام في مدة يسيرة دون السنة، وكان ذلك على يد الشهاري، وكذلك الشهاري قتل شر قتلة، كما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن بعض خدم ابن المعافا وقت حطاطه على شهارة وحصارها، وكان ابن المعافا معسكراً في نجد بني حمزة، وكانوا يرمون بالزبرطان، وكان هذا الخادم من أهل حبور.
وروي أنه من بني النهاري من بني السودة يخدم في الريح، وكان يضرب في طاسته وهي معلقة في رقبته، ويفرح برمي الزبرطان ويشيع البشارة لأصحابه والاستهزاء بأصحاب الإمام عليه السلام فبينما هو كذلك إذ رمي صاحب الزبرطان فانقض الزبرطان وطارت منه قطعة وقعت في رجل الخادم[ورمت بها علوة رمية] فمات من ساعته، وصار إلى سخط الله ولعنته.
ومنها: ما رواه السيد الفاضل الورع الزاهد شرف الدين الحسن بن شرف الدين الهادي صاحب بلد عران من بلاد عفار أنه رأى في المنام كأن جماعة من الأشراف العلماء الأخيار، منهم الإمام عليه السلام، ومنهم السيد العالم الكبير أمير الدين بن عبد الله من ذرية الإمام المطهر يحيى وغيرهما من الأشراف لم يعرفهم حول شجرة قد سقطت على الأرض وهم يعالجون في تقويمها، والإمام عليه السلام أشدهم عناية في ذلك، إذ سمع قائلاً يقول شعراً:
شجر الكريم ابن الأكارم أورقا .... وبدا الزمان له مطيعاً مشرقا
ودنى له ظهر البسيطة خاضعاً .... من غير ما نصب يَضُر ولا شقا
خضعت له غلب الرقاب بأسرها .... نصبت له رتب بأعلى مرتقا
وعلى السعادة استوت إمامته .... يا صاحبي والله خير يتقى
انتهى.
(وسيأتي إن شاء الله تعالى كثير من نحو هذه في أثناء هذا التوقيع مع ما قد مر) .
(وقال السيد نفع الله به) : ومن أشعاره عليه السلام قصيدته المسماة الكامل المتدارك لبيان مذهب المتصوف الهالك، وهي مشهورة، وأجاب عليها السيد محمد بن عبد الله بن الإمام شرف الدين عليه السلام عن أمر سنان لعنه الله تعالى، وأجابه الإمام عليه السلام أيضاً بقصيدته المسماة حتف أنف الإفك في رده[ق/31] على الكامل المتدارك، وعلى الكامل المتدارك شرح لطيف معروف، وعلى حتف أنف الإفك شرح بسيط يأتي مجلداً لم نر إثباته في هذا المختصر لطوله، ونأتي برسالة له عليه السلام مختصرة في شأن الصوفية أقمأهم الله، وما بعدها من الموجود من شعره عليه السلام وهي:
[رسالة حول الصوفية]
بسم الله الرحمن الرحيم كتابنا هذا إلى من يبلغ إليه من المسلمين، أما بعد:
فسلام عليكم وإنا لنحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم، ثم إنا نحذركم من فرقة من الفرقة الباطنية يقال لهم الصوفية، وذلك أن أصل دينهم من بقية أولاد المجوس لما ضعفت شوكتهم بتقوي الإسلام وأهله أظهروا الإسلام، وأبطنوا الكفر حقناً لدمائهم، ودينهم، قالوا: إن ربهم ليس هو إلا حسان النساء والمردان، وأن لا رب لهم ولا للخلق سواها- قاتلهم الله ولعنهم- ولذلك اتخذوا دينهم الغناء والغزل والعشق، وذكر الرذائل والعكوف على الملاهي، والشبابات، والطارات، فإذا خافوا على نفوسهم خلطوا تلك الملاهي بالتهليل، ومولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلبسوا على الجهال، ويدخلون من استطاعوا في دينهم، فالواجب على المسلمين استباحة دمائهم وأموالهم؛ لأنهم كفار ومشركون بل شركهم أعظم وأكثر؛ لأن المشركين الذين كان[رسول الله] صلى الله عليه وآله وسلم يجاهدهم يقرون بالله ويجعلون له شركاء وهي الأصنام، وهؤلاء لم يجعلوا إلههم إلا الحسان من النساء والمردان، ولا يعرفون لهم رباً غير ذلك قاتلهم الله فمن أجارهم فهو كافر، ومن أحسن إليهم فهو كافر؛ لأن من فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام، ومن أعان على هدم الإسلام فهو كافر، عصمنا الله وإياكم عن الزيغ والزلل في القول والنية والعمل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
وله عليه السلام هذه القصيدة في ذكر الصوفية أيضاً والحث على اتباع أهل البيت عليهم السلام:
يا ذا المريد لنفسه تثبيتا .... ولدينه عن الإله ثبوتا
اسلك طريقة آل أحمد واسألن .... سفن النجا إن تسألوا ياقوتا
لاتعدلن بآل أحمد غيرهم .... وهل الحصى يشاكل الياقوتا
الله أوجب ودهم في وحيه .... والرجس أذهب عنهم إن شئتا
[ق/32]
وأئمة الأخيار تروي فضلهم .... فابحث تجده مجملاً وشتيتا
ما إن تلم بمسند أو مرسل .... إلا وجدت لهم هناك نعوتا
فيها نعوت نجاتهم فدع الذي .... لم يلف يوماً بالنجا منعوتا
دع عنك رفض الرافضين وصفقهم .... وادفع على من فعلهم ممقوتا
واعلم بأن الله في تنزيله .... وقت الشرائع للعباد وقوتا
فالحل بين والحرام ونقله .... وكذاك بين فرضه الموقوتا
فانظر أكان فعالهم عن فرضة .... أو نحلة أو نفلة مبتوتا
أم كان فيها داخلاً حاشى لها .... ماذا إلى أنسابها مبتوتا
بل زرع داء دائم أبداً لنا .... من قلب داج داجن مكفوتا
أبدا كميناً كامناً قد دسه .... من كان من برهاننا مبهوتا
ولقى لذلك لافقاً من شكله .... أجرى التفعل مصبحاً ومبيتا
وسقوا بذكر الله زرع نفاقهم .... وذكر أحمد ثبتوا تثبيتا
جعلوا الحلالة للجهول جعالة .... الله يجعل أصلهم مسحوتا
بموالد لموائد ومكائد .... إلف الخبائث مراقصاً وبيوتا
ما ذا يغرك والحلول مقالهم .... قد أثبتوا اللاهوت والناسوتا
ماذا يغرك والمجوس أصولهم .... لم يتركوا من قولهم مهنوتا
سيان في تحقيق ذاك عناهم .... أو أن يطل مهيمناً وثبيتا
فاهجر هديت مقالهم وفعالهم .... ومقال من ضاهاهم وهيتا
ثم الصلاة على النبي وآله .... ما دام ربي عالماً ومقيتا
وله عليه السلام:
بتضييع حق الآل في الناس أجمعا .... تضعضع دين الله حتى تضيعا
وأضحى كتاب الله فيهم مهجراً .... وبدله الغاوون شعراً مصرعا
وسنة خير الرسل في الناس أهملت .... وأضحت صنوف اللهو ديناً مشيعا
وصار صلاة القوم بالليل رقصة .... بصفق ولحن للمغنين مشفعا
لقد كيد دين الله فينا مكائداً .... وكيد عبيد الطار أسوأ فأفضعا
يقولون رب العرش في المرد ساكناً .... وفي الخرد البيض الحسان توسعا
تعالى إله العرش عن سوء وصفهم .... هو الملك القدوس عز عن الوعا
[ق/33] وإن حرم التنزيل أملاك مسلم .... يقولون ملك الحي للغير واسعا
فردوا كتاب الله رداً وشيخهم .... لرد كتاب الله خذلان أخشعا
ومن كلامه عليه السلام حين ألف كتاب (الأساس) أملاه علي أفرس زيد لتلك العالم المفروس، يوري لك ما ووري عنك، أثر ثروة حجاك في منثور الأثر، يثري لك ثروة عرفان المؤثر، أقدر قدر المقدور، تقدر على عرفان قدرة القادر، أجد في تحديد النظر تجد وجدان موجود هذا الموجود، اعمل أعلام علمك في إعلام إحكام العالم، تعلم علم المحكم، أحي ماحي الشك فيما حم من ضد الحي يحيى حياة المحيي، قدم مقدمات قلبك إلى ما قدم تقدم على قدم المقدم.
(ومما قاله عليه السلام في شأن الصوفية أيضاً في وقت الاختفاء):
لقد شان البسيطة ساكنوها .... وخان الله فيها قاطنوها
تغنى بالحسان شرار قوم .... وقالوا هي إله وأبطنوها
وشابوا ذكرها من ذكر ليلى .... يبين للحضور فيفطنوها
فهاذي الباطنية بالملاهي .... وأرباب الجهالة مكنوها
وهذا الكاعبات وعابدوها .... وآلهة تبل وأبنوها
فيا علماء هل من بينات .... تميط هنات تلك فبينوها
فإن الفرض في هذا عليكم .... فقوموا بالفرائض واحسنوها
تلاقوا عصبة الجهال منهم .... ولا تخفوا البيان فتفتنوها
هلموا بالكتاب وبينوه .... وبالسنن الصحاح وأعلنوها
وأقوال الذين مضوا كراماً .... ونادوا للجنان لتجتنوها
ففي إظهارها من ذي شفاء .... فشببوا نارها ليعاينوها
فإن الله سائلنا جميعاً .... ولا عذراً أراه فتكتبوها
ومما قاله عليه السلام في حال الاختفاء أيضاً:
ألا يا إلهي إنني لك خاضع .... وإني في الإحسان منك لطامع
وإنك رحمان رحيم وواهب .... لخلقك آلاء ففضلك جامع
تجود على العاصي وتقبل عذره .... وتغفر زلات الذي هو راجع
ورزقك ممدود فذو الحرص نائل .... ومن هو معتر ومن هو قانع
فيا من هو الله العظيم جلاله .... ومن هو للداعي مجيب وسامع
[ق/34] تقبل دعائي واقبلن وسيلتي .... وما لي سوى إفضالك الجم نافع
بحقك والمختار جدي وفاطم .... ومن كان زكى خاتماً وهو راكع
وحق شبير ثم شبر صنوه .... وآلهم الغر النجوم الطوالع
وكل ولي في البرية صالح .... يقوم بأكناف الدجى وهو جائع
طلبتك فاغفر لي ذنوبي كلها .... ويسرن لليسرى فمالك مانع
ووفقن يا رب لتجديد توبة .... وصالح أعمال إذا حان وازع
وهب لي علماً ثم زدني زيادة .... لأن كثر العلم للعبد رافع
وهب لي من الآل ما أنت أهله ....ووسع نصيبي إن جودك واسع
وهب لي أماناً إني اليوم خائف .... وأنت على اللا جي إليك مدافع
وودعتك الأولاد من كل نكبة .... فإنك ما ضاعت لديك الودائع
فعاف لي الأولاد واحفظن فيهم .... ولم بهم شملي فكم لي موانع
ووسع عليهم واهدهم ثم باركن .... عليهم فمن جودك الكريم الجوامع
وسائر إخواني وأهلي هب لهم .... أيادي منها خيرهم متتابع
وغفران ذنب منه ثم هداية .... وفتح بعلم والأمان متابع
ورزق وسيع ثم قرة أعين .... بأهل وأولاد لتجري تتابع
وأشركن فيهم ثم شركهم معي .... إذا ما دعاي كان والقلب خاشع
وساغبة الأيتام فاجبر نفورهم .... ومن هو مكفوف ضعيف وجائع
وختم جسيمات الأيادي برحمة .... لنا في جنان خيرها متواسع
وصل صلاة لا يحد عديدها .... على أحمد المختار ما أنت صانع
وثن على الأطياب من أهل بيته .... ومن هو مهدي رشيد وطائع
وأما ما قيل فيه من المدائح، والقصائد والنظم، والنثر فشيء كثير يشتمل على مجلد كبير، ولكن أذكر منه شيئاً يسيراً يدل على غيره، من ذلك ما قاله القاضي الفاضل العالم الزاهد خلاصة الشيعة المطهرين، وصفوة حواري أهل البيت المصطفين، جمال الدين علي بن الحسين بن محمد المسوري مهنياً له ببعض الأعياد، قوله:
العيد أنت فما الأعياد والجمع .... ما لم تكن والليالي كلها شرع
والدهر ما دمت عيداً كله ولنا .... من جود كفك مصطاف ومرتبع
[ق/35] ونعمة أنت كبرى لا نطيق لها .... شكراً ولا دونها بالعيش ينتفع
وكيف لا وبك الإسلام منتصر .... والعدل منتشر والحق متبع
والعلم منتشر الأنوار ساطعها .... للطالبين وشمل الدين مجتمع
أحييت سنة خير المرسلين وقد .... كادت تغيب لما أحييته بدع
صنت الشريعة على تأويل مرتطم .... في الغي مكتنفاه الجهل والطمع
فالحمد لله إذ امسيت قائدنا .... حمداً به جنن الرضوان تدرع
نأوي إلى ظل عدل منك منتشر .... فيه لنا بك مرتاد ومنتجع
فالله يبقيك حصناً للولاء به .... من كل خطب إذا ما حل يمتنع
ولا برحت من الأعداء منتقماً .... تذيقهم كل يوم غب ما صنعوا
الحضرة التي لا تقتبس أنوار الهداية إلا منها، ولا تستفاد فرائد السعادة إلا عنها، حضرة المولى أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، المنصور بالله رب العالمين، حفظه الله وأيده ونصره، وعليه أفضل الصلوات والتسليم، والرحمة والرضوان والتبجيل والتعظيم، وإني أهدي من التهنئة بورود عيد الفطر المبارك مسنونها، وأزف إليه منها أبكارها وعونها، وإلى الله أبتهل أن يفيض علي جناب المولى من بركات ذلك اليوم أنوارها، ويطلع به من جوائز رحمته المقسومة لخلص عباده شموسها وأقمارها، وأن يعيد إلى أمثاله أعواماً وسيعة العدد، في نعم متصلة بنعيم الآخرة الذي لا ينفد، مبلغ الأمل من نصرة الإسلام وهلاك أعدائه المردة الطغام، محفوظاً من غير الأيام، وكيد الأنام، ملحوظاً بعين العناية في الحل والإبرام، والإقدام والإحجام، آمين اللهم آمين، وقال أيضاً شعراً:
يعاد حديث المكرمات ولا ينسى .... فيمسى على ذكر ويضحى كما أمسى
وينشر منه ما طوى الدهر سابقاً .... ويكسى من الإبداع أفضل ما يكسى
ثلاثة أيام ظروف لنشره .... ولم يك إلا اليوم والغد والأمسا
شرحنا صدرواً لليراع بذكره .... لنرسم حرفاً منه لما نخف طمسا
عرفنا مقامات الفخار لأهلها .... فتهنا وحققنا لها في الورى درسا
توحشت الأيام عن ذكر أهلها .... فلما ذكرنا قاسماً وجدت أنسا
وطابت أحاديث الكرام بذكره .... كما طابت العليا بإمداحه نفسا
[ق/36] إمام بدت أقمار أوصاف مجده .... كما قد بدا في أفق فضله شمسا
إماماً برياً بالعلوم وزانها .... فحققها درساً وأوضحها لبسا
فتى أثمرت أغصان دوحته هدى .... كما في التقى من قبل ذا قد زكت غرسا
رمى غرض العليا فأصمى ولم يزل .... على كل قطر بالظباء والقنا ترسا
وخاض بحاراً للجهاد عميقة .... وهمته القعساء كانت له مرسى
فلله أيام له أبرزت لنا .... فتى بالأولى من قبله اليوم قد أنسى
أرى قلمي مهما ذكرتك قاسماً .... يتيه بأوصاف ويقوى بها حسا
وأما مشى في سطر طرس جرت به .... سوابق إبداع إذا رقم الطرسا
أنا القائل المزري بسحبان وائل .... وقس فدع سحبانها واطرح قسا
ولم لا وممدوحي أبو الفخر قاسم .... ومن صيته قد أسمع الأذن الخرسا
إمام له العليا مهاد ومضجع .... له العزم أما صال والهمة القعسا
فشبب به في الشعر لا ظبي رامة .... ولا ريم نعمان ولا ظبية الوعسا
ولا ثغر الماء يستسف رضابه .... ولا مرسنا أقنى ولا شفة لعسا
فتعساً لمن رام اللحاق بقاسم .... وتباً لشاوٍ دونه لاحقاً تعسا
فسيرته أنست بمن كان قبله .... من الآل أقيال صنعاء ولا الفرسا
ودعوته أرست جبالاً منيفة .... من الملك في الإسلام إذا حبت الدرسا
متون علوم في الأصولين حازها .... إذا ما جلى مرآة فكراً له حدسا
جرى سابقاً للآمدي في أصوله .... إلى أمد في بحره قط ما أرسا
على جعفري علم الكلام مبرزاً .... لديه لقد باع علومهما وكسا
وإن يعتلى من فوقه صهوة منبر .... فلا خطبا حي تميم ولا عبسا
رأينا السخا والجود من بطن كفه .... ومن راحة مستمطراً أنملاً خمسا
فعند الندى أزرى بفضل وجعفر .... برامكة في الجود والسادة الطمسا
وشمنا بروقاً للأماني شعشعت .... وأمطرت الغيث الذي أخضل اليبسا
فسقنا إليه ركب آمالنا الذي .... شددنا عليه الكور والرحل والحلسا
بنينا بيوتاً من نداه مشيدة .... وكان لأركان البناء فضله أسا
وما تركت من قصدنا ومرادنا .... أياديه لا نوعاً أردنا ولا جنسا
لقد رسى فخر الأقدمين فخاره .... وما فيه من مجد علا من مضى رسا
[ق/37] جبال كمال راسيات لغيره .... أراه على الأكمال قد بسها بسا
فأعلن بصوت المدح فيه وأفشه .... تكن جهورياً لا خفاء ولا همسا
ولا تكتمن ما أظهر الله فيه من .... سرائر سقت إبلها العشر والخمسا
ذخائر أمداحي لقاسم كلها .... ولا عشراً زكيت منها ولا خمسا
وقد خالطتها دعوة مستجابة .... على طول عمر منه قد جنست جنسا
أرى الفلك العلوي اطلع انجماً .... له سافرات لا نرى بينها نحسا
وأجرى له الإقبال خيلاً سوابقاً .... مذاكي في ميدان إسعاده شمسا
سماء فخار زينتها كواكب .... على أذن الجوزاء قد علقت جرسا
رمى قاسم أرض العناد بجحفل .... تروع إذا شاهدته الجن والإنسا
على جانبيه كل أغلب لا يرى .... له مغنماً إلا إذا أنفق النفسا
أعاظم أعلام لهم همم إذا .... أرادوا السماء نيلاً ينالوناه لمسا
مشوا تحت تدبير الإله وقاسم .... ومن قارن الإصباح بالسعد والأمسا
ومن خلقه أبهى من الروض مزهراً .... ومن قبله صخرة في الوغى أقسا
ومن هو إن لا بينة البين الورى .... ومن هوان خاشنته الصخرة اللمسا
ومن هو إن تاجرته المدح لم تخف .... عليه لدى قوس النفاق له نحسا
سأثني على معروفه وجميله .... إلى أن أدري مستوطناً في الثرى رمسا
وأجعل أمداحي له وقصائدي .... لمثواي في قبري وفي حفرتي أنسا
وله أيضاً:
تبدت لنا غرر كالأهلة .... تجلت براهينها والأدلة
أضاءت بدوراً أقام التمام .... على برجها والسنا فيه حلة
أراحت صدوراً بإلمامها .... لنا وأرحت به كل علة
شموس (بآفاقها أطلعت .... بأرجائها) قد ضربن الأكلة
لها الله من أوجه قد حوت .... ومن الفضل نور الهدايات كله
شهارة مطلع أنوارها .... ومنزل أقمار هذي الأهلة
ومنصورنا قاسم شمسها .... وهادي الأنام إلى خير ملة
مسلسل أخبار آبائه آل .... كرام ذوي المكرمات الأجلة
مؤيد دين الهدى والذي .... أعز مقام الورى بعد ذلة
[ق/38] وأعلا منار الجهاد الذي ....أسار جموع العدا جمع قلة
وأجرى دماهم ببيض الظبا .... وبالشاجرات على كل قلة
وشال نصيع المعالي وساق .... إلى الضد جيش اعترام وسلة
إمام إلى حسن ينتمي .... وألبس من أصله خير حلة
وبأس الحسين إليه انتهى .... فحل على الناس منه محلة
فهذا الذي فل سيف العدا .... وللعرس مما يناويه ثلة
وفلق هاماتهم بالظبا .... وفرق من شمل ذي البغي شمله
فأنهل منه شبا سيفه .... وأورده من دماهم وعله
له راية النصر أما مشى .... وأما إقام الصلاة عليه مطلة
فلا تذكرون سوى قاسم .... إذا عرضت حاجة أو تعلة
فلا يقر عن سوى بابه .... إذا فاجأت نوب مشتعلة
فداك الذي كرب الدهر عنك .... إذا جئت أبوابه مضمحلة
لقد حل من وادبي جوده .... بداخله ثم في ذاك حلة
قد جل قدراً عن المدح في .... جمع الخلال فيا ما أجله
وقد قام فينا مقام النبي .... هدى الذي سعيه قد أظله
وقام مقام الوصي الذي .... به نفعت للصبا كل علة
وفي يوم صفين والنهروان .... بقتل البغاة شفا كل علة
وراح ابن عاص بعصيانه .... وللأشعري ضلة أي ضلة
وطلحتهم وابن عوامهم .... إلى النكث حلته شر حلة
فللبغي والنكث عقد الجميع .... وسيف علي على الدين حلة
وراح ابن هند بخفي حنين .... فخسراً لمن حفه قد أضله
وعائش عادت بسوء المعاد .... وأدمعها حسرة مستهلة
على حمل غير ذاك الذي .... تمطته في ثوب خزي وذلة
فيا سائقاً رحل أيامه .... ليحرز حسن الأماني وفضله
إلى غير قاسم لا تمتطي .... ولا تركبن لسواه شملة
ودع خلف ظهرك كل الأنام .... فما في سواه لراج تعلة
رأيت السخاء وأفراده .... ثوى شخصه جملة بعد جملة
[ق/39] وحاتم طي على جوده .... إذا ما رآه غدا كالمدلة
على مثله كان تعريجنا .... وهيهات أن يوجد الدهر مثله
فأقسم أقسام بر اليمين .... ما للخطوب سواه ونسله
وما للزمان إذا الجور جار .... على الناس إلاه شخصاً وعدله
حلفت بهذي اليمين التي .... على قسمي ولها من تحلة
لما أوجد الله إلا الإمام .... لجور زمان علينا بذلة
إذا ما دجى ليل عاف له .... هداه سناه إليه ودله
عطفنا إليه حروف الركاب .... فجاءت أياديهم من غير مهلة
وجئنا إليه بأمداحنا .... فأنحلنا جوده خير نحلة
قطعنا الفيافي إلى سوحه .... وجزنا القفار نجاداً وسهلة
وما نبتغي غير رضوانه .... وغير الدعاء من يديه وبذله
وشيئاً أكنته منا الصدور .... وشيئاً قد أثقل الظهر حمله
وفي حوث حط ركاب النوى .... وفيه على متنها حط رحله
وشدنا بيوتاً بأكنافها .... أناخ لنا في المشيدات فضله
أطاب إمام الهدى قاسم .... لنا المستقر بهذي المحلة
فيا فوز من في رباها أقام .... وفي ذلك السوح قد حط رحله
نصرنا قديماً بمنصورها .... ومنصورنا آخراً وهو بالله
وفي الأولين أتت ثلة .... وفي الآخرين على الفضل ثلة
جبلنا على حبها أولاً .... وآخرنا طيبين الجبلة
ووالله لولا إمام الزمان .... لما كان لي نحوها قط رحلة
ولو أنها دجلة والفرات .... أو نيل مصر ونهر الأبلة
وهذا وادع الذي كفه .... لجامع أفواهنا الهيم قبله
فتقبيله منه غدا والوادع .... يعدل من غيره ألف قبله
وألف سلام على وجهه .... وضعفاه يهدى إليه ومثله
وقال السيد العلامة الفصيح بدر الدين محمد بن عبد الله الحوثي: هذه القصيدة والمكاتبة التي قبلها وهما من بديع الخطاب، ومما يهتز لسماعهما أولو الألباب[ق/40]:
الحضرة التي اتصل سندها بالنبوة والوصاية، والعقدة التي تمسكت يدها بالعروة الوثقى من الخلافة والإمامة والولاية، ومن شمخت أنف الزمان بأوامرها النافذة، ورسخت في جبال الإيمان بدعوتها التي ما زالت لأرواح البغي والعناد آخذة، من زأرت أسود الجهاد من أجناسها، وانتشقت الأكوان ريح الجلاد العبقة من أنفاسها، مولانا أمير المؤمنين وسيد العالمين، والمنصور الراية الخفاقة العذبات في الدفاع عن سور هذه المدينة من السنة النبوية، التي شيدت بمفاخر الآل الأكرمين، المنصور بالله رب العالمين: القاسم بن محمد بن علي -زاده الله على جلاله المتضح جلالاً، ورفع مقام ذكره بالسعي المشكور، الذي يقال عنده:
فليكن سعي من سعى لفخار .... هكذا هكذا وإلا فلا لا
وعلى غرته الميمونة التي تشام بروق بلاغ الآمال من أساريرها، ويستنزل غيث البركات من سحب أسراره التي قاومت كل البركات الواسعة بتيسيرها شعراً:
سلام الذي فوق السموات عرشه .... تخص به يا خير ماش على الأرض
وبعد فإنه لما انبسط ببركة مولانا في الأرض ظل الأمان، وكفر إساءته بالإحسان هذا الزمان، وعقبت السبع العجاف من المحل قبل دعوة مولانا أعاد الله من سره وبركاته بالسبع السمان، سرى ساري اللطف في الأجساد منا، وروي راوي العطف من محبة الوطن، والنزوع إليه عنا، فحنت إليه حنين الهيم، فطلع نور الإهتداء في أفق جوارحي وقلبي طلوع البدر وغرته في الأفق من الليل البهيم:
وعاودني شوقي الذي قد طرحته .... إلى وطني من بعد والعود أحمد
فاردت أن أسعى سعي العاجز عن الطلع، وأن ألقى أثر المكالف في هذا الهجر المأنوس الذي ضاق بنا فيه البيت والمكلف اتسع:
ويا وطني إن فاتني بك صالح .... من الدهر فلينعم لساكنك البال
ورثى لضيق مقامنا فيه الحاسد، وكاد أن يصدنا عنه وعن الرأي الرشيد رأي ذوي البغضاء الفاسد.
لعل أمير المؤمنين يغار من .... تراحمنا في بيتنا المتهدم
ويبقى لنا ذكراً يبقيه بعدنا .... كما ذكره أبقاه للمتقدم
فإن مولانا حفظه الله هو الذي طمس بذكره كل ذكر، وحير بتعديد أوصافه وخصائصه[ق/41] الصالحة كل فكر، وأتت دولته السعيدة، وسيرته الحميدة، بكل فارض من المكارم العديدة وكل بكر، فذكرناه في هذا المقام ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر للمرتضى، وذكر دعبل بن علي بنظمه الفائق عند اشتداد الزمان عليه لعلي بن موسى الرضى، بل ذكر الأعشى لعلقمة بن علافة فيما أنشأه، أو ذكر ذي الرمة بأسجاعه تصيدحه لبلال بن أبي بردة حين أتاه من الإحسان ما أتاه، وذلك حين ضاق به الزمان، فتوجه وقال:
سمعت الناس ينتجعون غيثاً .... فقلت لصديح انتجعي بلالا
والنقيب المملوك من هذا المنثور إلى هذا المنظوم، فقال وله قلب من تحمل الغرامات من هذا القصد، وما يستغرقه من النفقة مكظوم:
فعد عن ذكر العذيب والحمى .... وحاجر ورامة وحاسما
وعد عن سلع وعن شعابه .... ومربع بالرقمتين قاسما
وعد عن نعمان والسفح الذي .... كأن به سرح الظبا سائما
وعد عن تشبيب أرباب الهوى .... وذكرهم في شعرهم معلما
وعد عن ذات اللمى تغزلاً .... واذكر أمير المؤمنين قاسما
القائم المنصور حقاً من غدا .... لمادة الجهل البسيط حاسما
خليفة الله الإمام المنتضى .... سيفاً على هام العدا صارما
فهو الذي أيقظ دين المصطفى .... من رقدة وكان قبل نائما
وهو الذي أحيا رسوماً قد عفت .... من ديننا وأنهض المكارما
مجاهداً في الله ذا عزيمة .... يبيد ممن عاند العزائما
إني أهني عترة المختار إذ .... رأوا برج النصر ناجما
رأوا على أفق الفخار قاسماً .... لمن مضى في فخرهم مقاسما
شمس بدت والظلم ذو دالج .... فكشفت بنورها المظالما
مذكراً بالغر من آبائه .... وصادقاً وبارقاً وكاظما
واذكر لديه ناصراً وهادياً .... ونجم أبناء الرسول القاسما
تجدهم في شخصه تصوروا .... علماً وزهداً وجهاداً قائما
ذا خاتم في خنصر الآل الذي .... غدا لهم مثل النبي خاتما
[ق/42]
من لم يفه بمدحه ووصفه .... كمثل وصف كان فيه آثما
قرأت في وصفي له لنافع .... فكان لي عن كل سوء عاصما
شم برق سحب الجود من بنانه .... إن كنت للغيث الملت شائما
وادخل بساتين الندى بوصفه .... تجده روضاً بالزهور باسما
طير الأماني ناشر جناحه .... لنيلها خوافياً قوادما
زر سوحه يا طالباً كنز الغنى .... إن كنت للمال الجزيل عادما
بجمع تكسير تزور بابه .... فتنثني بالمال جمعاً سالما
من سافرت آماله لسوحه .... يبغي الغنى ما آب إلا غانما
ومن نحا نحو فنا أعتابه .... حاز قصارى سؤله مغانما
أطلع شمساً للهدى منيرة .... وكان ليل الغي ليلاً عاتما
نفى الضلال بالضياء والهدى .... من بعد ما قد كان حوى قاتما
فكم روى عن الورى مظالماً .... وكم محى عن كلهم مآثما
فهو الذي أحيا السخاء بجوده .... وكان تحت الترب عظماً هاتما
أحيا لنا كعب الندى ابن مامة .... وبعده أحيا ابن سعد حاتما
والفضل أضحى دونه وجعفراً .... من أهمها سحب السخا عائما
جلا وقاما صلياً من خلفه .... وقد لوى عليهما العمائما
أهب ريحاً للجهاد عاصفاً .... حيث انثنت سجاسجاً نسائما
في كل دار للعدا يقتلهم .... أقام فيهم بالظبا مآتما
مغرباً بصيته مشرقاً .... ميامناً بذكره مشائما
قد طبق الأرض بطيب ذكره .... عرفنا ذكياً طيباً شمائما
دين الهدى أضحى كعمار لداعي .... الحق أعني ذا الفخار قاسما
كجلدة ما بين أنف المصطفى .... وعينه هل كان إلا سالما
في برج المصطفى سعوده .... قد قارنت في برجها نعائما
لله ما أبقى لنا مختارنا .... من نسله أسد اللقاء ضراغما
أولاده الغر الميامين الأولى .... سلوا سيوفاً للعدا صوارما
محمداً من في بني محمد .... في علمه أضحى إماماً عالما
من عام في بحر العلوم يافعاً .... أكرم به في بحرهن عائما
[ق/43]
أقام في بحبوحة المجد التي .... والده أضحى عليها قائما
أظهر هذا الدهر من خصاله ....ما كان من قبل الظهور كاتما
وصنوه أعني علياً من علا .... ولم يزل لضده مقاوما
وإن دعا داعٍ إلى الجلاد سعى .... وكان فيها ليثها الضبارما
والحسن السيف الذي في .... كف داعي الحق أضحىصارما
من دوخ العاتي بسيف بطشه .... ومن حوى مال العدا غنائما
والمقدم الليث الهصور من غدا .... للثار من أهل العناد ناقما
ولست أنسى للحسين بارقاً .... أضحى له طرف الفخار شائما
ومن غدا لسرح آمال الورى .... في روضه من التمام سائما
وأحمد من للتقى مخائل .... صارت عليه بالتقى تمائما
يا سادة قد صيروا فخارهم .... إلى سما علياهم سلالما
هم خمسة في عد أصحاب الكسا .... أضحوا لدين جدهم دعائما
يا من به الدين الحنيف اهتدى .... وكان حيران الفؤاد هائما
أقلامنا أضحت على طروسها .... بشكره وحمده حمائما
قد غردت من فوق أيك حمده .... تميل أغصاناًلها نواعما
ما سافرت عبد ية شملة .... وقلبت في سيرها مناسما
تحدو إلى سوح كسوح من غدا .... له تجمل يحمل المغارما
أعني أمير المؤمنين قاسماً .... ومن لركن البغي أضحى هادما
ومن يرى فناه للمثنى علا .... إحسانه في الناس ديناً لازما
ومن غدا بشخصه مجرداً .... لكل جيش المعتدين هازما
أضحى بنفع الحزم من آرائه .... لكل فعل البغاة جازما
يا خازماً بيوت أشعار العدا .... لا زلت للأناف منهم خازما
زرتك في العام الذي من قبل ذا .... فكنت بي براً رؤوفاً راحما
زيارة كانت لكل مارد .... من جسدي عني شهاباً راجما
واليوم إني أرتجي زيارتي .... يكون للأعمال لي خواتما
لكنني جعلت إرهاصاً لها .... هذا الكتاب ناثراً وناظما
ومن أتاك قاصداً وآملاً .... ما عض كفاً حين آب نادما
[ق/44]
صلى عليك الله ما برق شرى .... ودمت من كل الشرور سالما
وقد بعثت ابني بها تجملاً .... ليجتني غض السرور دائما
ليبلغ الغايات من آماله .... في ظل أمن لا يزال نائما
…
[علماء عصره]
فصل: نذكر فيه عيون علماء عصره من أهل البيت عليهم السلام، وشيعتهم الأعلام رضي الله عنهم دون استقصاء لعيونهم في اليمن، ومشاهيرهم في ذلك الزمن، وهم طبقتان:
الأولى: العيون في أيام دعوته القائمون بنصرته، ومن هو في عصرهم ممن تخلف عنهم لعذر.
والطبقة الأخرى: الذين فقهوا في أيام خلافته، ولحقوا بالطبقة الأولى في اتباع طريقته، ومن هو في عصرهم وتخلف عنهم لعذر، أولهم السيد الإمام العلامة البحر، تاج العلماء والصدر، شيخ آل الرسول، أمير الدين بن عبد الله بن نهشل بن المطهر بن أحمد بن عبد الله بن عز الدين بن محمد بن إبراهيم بن الإمام المتوكل على الله المظلل بالغمام المطهر بن يحيى بن المرتضى بن المطهر بن القاسم بن المطهر بن محمد بن المطهر بن علي بن أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (عليه السلام)، كان عين العترة الكرام في أوانه، وشيخهم في كل فن في زمانه، أخذ عنه جل العلماء في وقته، منهم مولانا الإمام المنصور بالله سلام الله عليه، وولده مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله عليه، وكذا سائر أولاده وغيرهم، توفي في شهر جمادى الآخرة في حوث عام تسع وعشرين وألف[إبريل:1619م].
ومنهم: السيد العلامة الزاهد المجاهد شرف الدين، وقمر العابدين الحسن بن شرف الدين بن صلاح بن يحيى بن الهادي بن الحسين بن محمد بن إدريس بن المهدي بن علي بن محمد وهو الملقب تاج الدين بن أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي بن حمزة بن أبي القاسم الإمام النفس الزكية الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المثنى بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، كان رضي الله عنه إماماً في العلم مقصوداً، ومنهلاً للطلبة وذوي الحاجات مورداً، وفي العبادة والزهادة والجهاد ومكارم الأخلاق معدوداً، توفي في شهر القعدة من سنة ثمان وعشرين وألف[1618م]، وقبره في[ق/45] مشهد ذي الشرفين بشهارة.
ومنهم: السيد العلامة المثاغر المجاهد المناصر عامر بن علي عم الإمام القاسم عليه السلام، نسبه معروف، كان رحمه الله من فتيان آل أبي طالب شجاعاً فاتكاً، سخياً.
قال السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي نفع الله به: وكان السيد عامر رحمه الله علماً للإسلام نافعاً، ونظماً لمكارم الأخلاق جامعاً، حسن الشمائل، كثير الفضائل والفواضل، أقبل في سن شبيبته على الإكباب على العلوم والدؤب في طاعة الحي القيوم، وجمع من العلوم جملة وافرة من أصول، وفقه، وعربية، وأقرأ في جيمع تلك الفنون، وكان رحمه الله سلس القياد للإخوان، كثير التواضع للخلان، مع همة علية، ونفس أبية، ولما دعا الإمام القاسم عليه السلام وهو ابن أخيه، أجاب دعوته، وبادر إلى نصرته، وذكر كثيراً من أخباره، ثم قال: وارتفع شأنه، وساس الأمور أحسن سياسة، وأشعل على الأعداء نار حرب عميت للفحها أبصارهم، وحارت لحرها أفكارهم، وجيش الجيوش وقاد العساكر، وبذل الأموال وصار شبحاً في قلوب الأعداء، وظلاً ظليلاً على الإوداء مع حدة كانت تلحقه إذا غضب ثم يرجع أحسن رجوع، ويعتذر رحمه الله وأعاد من بركاته آمين، واستشهد في شهر رجب عام ثمان وألف[يناير1600م]، وقبره مزور مشهور في خمر من بلاد بني صريم.
ومنهم: السيد الزاهد العلامة الحبر شيبة الحمد صلاح الدين بن صالح بن عبد الله بن علي بن داود بن علي بن الحكيم بن عبد الله بن عسكر بن مهنى بن داود بن القاسم بن إبراهيم بن القاسم بن محمد بن جعفر بن الإمام القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد بن الإمام القاسم نجم آل الرسول بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، توفي في تاسع شهر رجب سنة ثمان وأربعين وألف[16نوفبمر1638م]، ودفن في مشهد ذي الشرفين بشهارة حرسها الله، وكان من فضلاء العترة وأئمتها، علماً وعملاً وجهاداً وعبادة، عاضد الإمام الحسن بن علي عليه السلام، والإمام القاسم بن محمد، والإمام المؤيد بالله محمد عليهم السلام، وكان إليه في أكثرها الفتيا والخطابة والرسائل، ومما أوصى أن يكتب على قبره رضوان الله عليه:
لما عدمت وسيلة ألقى بها .... ربي تقى نفسي أليم عقابها
صيرت رحمته إليه وسيلة .... وكفى بها وكفى بها وكفى بها
ومنهم: السيد العلامة المجاهد صارم الدين إبراهيم بن المهدي بن علي بن المهدي بن أحمد بن يحيى بن قاسم بن يحيى بن عليان بن محمد بن الحسين الملقب جحاف بن الحسين[ق/46] بن محمد ذي الشرفين بن جعفر بن المنصور بالله القاسم بن علي العياني بن محمد بن الإمام القاسم الرسي صلوات الله عليه، وكان من عيون العترة علماً وعملاً وجهاداً، وهو أحد مشائخ الإمام عليه السلام، أسر في شهارة المحروسة بالله مع أولاد الإمام عليه السلام، والسادة الفضلاء، وكان لسانهم في محاورة العظماء، وكان مشهوراً بالتواضع مع علو قدره، وسعة علمه، وتوفي يوم السبت لسبع ليالٍٍبقين من شهر صفر سنة إحدى عشر وألف[12أغسطس 1602م]، وقبره في كوكبان في الزاوية اليمنى عند الباب في قبة السيد مطهر بن صلاح بن شمس الدين عند المدرسة التي عمرها الإمام شرف الدين عليه السلام.
ومنهم: ولده السيد العالم المهدي بن إبراهيم، وكان عالماً، وهو أحد شيوخ الإمام المؤيد بالله عليه السلام.
ومنهم: السيد السند النجيب الماجد العالم العامل المجاهد، جمال الدين وسيف الله على أعدائه المردة المفسدين علي بن صلاح بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن يحيى بن علي بن الحسن بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن عيسى بن إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه العبالي القاسمي.
قال السيد أحمد نفع الله به وقد ذكره فيما تقدم: وكان هذا السيد رحمه الله من فتيان أهل البيت المشهورين بالعلم والحلم، والشجاعة والسخاء، وحسن الأخلاق والكمال، وله مقامات بين يدي الإمام عليه السلام مشهورة في الجهاد، وكان الأمير عبد الرحيم اعتقله في حصن مبين خوفاً من جهته، وهو الذي أرسله الإمام عليه السلام قبل الدعوة إلى الفقيه نجم الدين يوسف بن علي الحماطي يخبره بأنه عازم على الدعوة وأنه يقوم في جهته بأمر الدعوة، وكان هذا السيد رحمه الله ملاذاً لكثير من الضعفاء والمساكين، يقضي حوائجهم بسعايات وشفاعات حسنة سهلة، وكان والده وأقاربه يسكنون بلد العبال من جهات حجة، ولعل جدهم القريب من بلاد الحرجة، ولهم قرابة هنالك يتصلون بهم، ومن أقاربهم السيد العالم الفاضل المجاهد الكامل جمال الدين: علي بن إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بن صلاح بن المهدي بن الهادي بن علي بن محمد بن الحسن بن يحيى بن علي بن الحسن بن عبد الله بن إسماعيل بن عيسى بن عبد الله بن عيسى بن إسماعيل بن عبد الله، وهو أبو القاسم العياني الحيداني المحنكي، وأصحابه أشراف محنكة من جهة حيدان خولان صعدة، توفي رحمه الله يوم الخميس خامس شهر رجب الأصب سنة تسع عشرة وألف[6نوفمبر 1606م]] في شهارة المحروسة بالله، وقبره قريب من مسجد الميدان[ق/47] فيها مشهور مزور نفع الله به.
ومنهم: السيد الفاضل العلامة الكامل الورع التقي السخي بن السخي أحمد بن عامر بن علي رحمة الله عليه، توفي في صفر سنة اثنين وعشرين وألف[مارس 1613م]، وقبره في صرح قبة الإمام المنصور بالله في شهارة حرسها الله، وهو من الطبقة الأخرى ورسم في هذا سهواً.
ومنهم: السيد الإمام العالم المبجل ذو الفضائل والفواضل، غوث الأيتام والأرامل، وكعبة الطلبة المصمود لغرائب المسائل عز الدين محمد بن علي بن عبد الله الملقب عشيش بن محمد بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن محمد بن الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة، ونسبه مشهور [........] الحوثي، كان رحمه الله في العلم إماماً، وفي الفضل الشهير علماً، ومقاماً، مشهور الفضل، تأتي إليه النذور من البلاد البعيدة، ويعتقد فيه الفضلاء والعامة من الملأ البركات الحميدة، وله في الجهاد الحظ الأوفر، توفي رحمه الله في هجرة حوث في رابع عشر شهر صفر من عام اثنين وثلاثين وألف[18ديسمبر 1622م].
ومنهم: مولانا السيد الحبر العلامة شمس الدين، وشيخ العترة الطاهرين، ذي الفضائل الشهيرة، والعلوم الغزيرة، والتصانيف النافعة بالأدلة القاطعة شمس الدين أحمد بن محمد بن صلاح الدين بن محمد بن صلاح بن أحمد بن محمد بن القاسم بن يحيى بن الأمير داود المترجم بن يحيى بن عبد الله بن القاسم بن سليمان بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن القاسم الحرازي بن محمد بن الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي الشرفي القاسمي عليهم صلوات الله رب العالمين، له من التصانيف (اللآلئ المضية) شرح البسامة الصغرى في سيرة أهل البيت عليهم السلام، وله شرح الأساس الكبير مجلدين ضخمين، وشرح الأساس مجلد وكتاب شرح الأزهار يتضمن الأدلة وغير ذلك، ومن محاسن شعره رضوان الله عليه قوله لبعض قرابته يحضه على طلب العلم والكدح فيه:
أيا صاح كم بين امرئ ذي شهامة .... له همة تعلو على الكوكب العالي
عشيق خبيات المعاني متيم .... بأبكارها صب بها غير مكسال
يرى حلق التدريس روضة جنة .... يقطف من حافاتها الثمر الحالي
وآخر أغشاه امرئ القيس إذ غشى .... بعشق هوى نفس وربة أحجال
فقال لها والله لا أبرح قاعداً .... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
وكان مع سعة علمه بليغاً مصقعاً، أخبرني بعض من خدمه أنه مر في بعض [ق/48] أسفاره على وادي مور وقد أراد الصلاة وطلب من ذلك الخادم شجرة السواك فأتاه بها، ثم وقع بصره على شجرة الأراك فرمى بما كان في يده، وقال ارتجالاً:
أتحسب أني يا أراك أراكا .... وآخذ يوماً للسواك سواكا
وأظنه زاد بيتاً خفي علي فتنظر هذه البلاغة وإصابة المعنى مع الجناس التام رضوان الله عليه، وكان رحمه الله من عيون العلماء وبقية الفضلاء، وله اليد الطولى في الجهاد ومباينة أهل الفساد.
أخبرني بعض أهل بلدة هجر معمرة من جبل الأهنوم أنه سمع في بعض الأيام أصوات حواطب من النساء في طريق يرفعن أصواتهن بما يروحن على أنفسهن من التعب، قال: فغضب ثم جمع أهل البلد، وقال: لا بد من التوبة من هذه وأمثالها وإن لم فارقت بلدكم، ثم قال: هذه البلد موفية تسعة وعشرين بلداً مهاجراً في أرض الله فإن سمعت أو بلغني شيء من هذا خرجت إلى غير بلادكم أو في الثلاثين أو كما قال. فحصل معهم الوحشة وخافوا كثيراً، توفي رحمه الله في (يوم الأربعاء ثلاثة وعشرين ذي القعدة خمس وخمسين بعد الألف) ، وقبره في هجرة معمرة عند مسجدها مزور مشهور، وعليه قبة عظيمة مقصودة للقراءة والإحياء والنذور، وكان احتفر قبره قبل موته بمدة طويلة، وكان تعاهده بالقراءة رضوان الله عليه.
ومنهم: السيد الشهير الحميد العقيد العلامة العلم، المعروف بالفضل والكرم، أحمد بن محمد بن علي بن الهادي بن علي بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن أحمد بن الحسن الملقب رغيب بن علي بن عبد الله بن أحمد بن يحيى بن القاسم بن الإمام الداعي إلى الله يوسف بن الإمام المنصور بالله يحيى بن الناصر لدين الله أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب عليهم سلام رب العالمين، المحرابي الهادوي.
قال السيد أحمد نفع الله به عند ذكر استشهاده: وكان هذا السيد قد جمع من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، بما تقصر الألسن عن وصفه، وتكل الأقلام عن رقمه، أما الكرم وحسن البشر والإيثار على النفس والتواضع والوفاء بالحقوق، ولين الجانب، وسعة الصدر، والهمة العالية، والنفس الأبية، وغيرها من مكارم الأخلاق، فأمر مجبول عليه ومخلوق فيه، فإنه رحمه الله وأعاد من بركاته من أول شبابه وفي سن حداثته من رآه ممن لم يكن يعرفه وتدبر أحواله ورأى ما خصه الله من الفضائل لا يقول إلا أنه قد تدرب بها مدة طويلة، وراض نفسه بها رياضة كثيرة، يعلم [ق/49] هذا منه كل من خالطه حتى أنه لا يراه أحد ويخالطه إلا أحبه، ومال إليه قلبه.
وأما العلم فإنه رحمه الله بلغ درجة الإجتهاد بل زاد، وقرأ في جميع الفنون قراءة متقنة، ولم يرض في شيء منها إلا بالبحث في دقائقها، والغوص على حقائقها، وتجرد للقراءة مدة، ولعلها اثني عشر سنة، وقطع العلائق كلها حتى الزواجة فما كان قد تزوج.
وأما السياسة والمعرفة لما يصدر ويورد والحزم وأداء الحقوق، والرعاية التي ليس مثلها رعاية، والتحمل للأمور الصعبة، ووضع كل شيء في محله، فالذي يراه يظن أنه لم يولد إلا في الأمر والنهي لما يراه من إيقاع الأوامر على وجوهها المطابق للعقل والشرع مع الأناة والحلم والشدة في مواضعها، واللين في مواضعه، والإنصاف للمظلوم، والأخذ على يد الظالم، وتقريب أهل الفضل، فما أحقه بقول الشاعر:
تجاوز حد المدح حتى كأنه .... بأحسن ما يثنى عليه يعاب
ثم قال ووصف شهادته وموضع وفاته، وموضع قبره، وكانت شهادته رضوان الله عليه في [............] وقبره في رأس مسور في بيت رتب، ومعمور عليه وعلى أخيه رضوان الله عليهما قبة عظيمة تقصد للزيارة من جهات كثيرة.
وأما أخوه السيد الفاضل العالم المجاهد علي بن محمد بن علي رحمه الله فكان عالماً فاضلاً، استشهد مع أخيه رضوان الله عليهما، وقبراهما في القبة المذكورة.
وأخوهما السيد العلامة المثاغر المجاهد الصابر فخر الدين عبد الله بن محمد بن علي المحرابي الهادوي، وكان رحمه الله مجاهداً منصوراً، لهم مقامات مشهورة في الجهاد، وله في فنون العلم أقصى المراد، وهو ممن قبض إلى كوكبان من شهارة المحروسة بالله مع أولاد الإمام عليه السلام والسادة الأعلام، توفي في المحراب[......].
وأخوه السيد العلامة الحسين بن محمد كان فقيهاً عالماً، ولي القضاء كثيراً في بلاده، توفي [...........].
ومنهم: السيد العلامة المثاغر المجاهد المناصر علي بن إبراهيم القاسمي الحيداني المحنكي، وهو من المعمرين أطال الله بقاه، وله في العلم اليد الطولى سيما فقه الزيدية فإنه ممن يضرب بتحقيقه فيه المثل، وأقام آخر مدته في ذي بين مشهد الإمام المهدي أحمد بن الحسين الشهيد، وجعل الإمام عليه السلام ولاية تلك البلاد إليه، ومصالح المشهد المقدس نحواً من ثلاثين سنة، وهو الآن في [ق/50] تأريخ عام ثلاث وستين عليها.
ومنهم: السيد الشهيد العلامة الفاضل الزاهد علي بن محمد بن أحمد بن يحيى بن أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن يحيى بن المجاهد في سبيل الله محمد بن الإمام يوسف الأشل بن القاسم بن الإمام يوسف الداعي بن الإمام يحيى بن الناصر أحمد بن الهادي الهادوي الجديري من بلد يسمى جديرة من بلاد خولان.
قال السيد أحمد نفع الله به: وكان هذا السيد رحمه الله من أعيان أهل البيت عليهم السلام علماً وعملاً، وورعاً وشجاعة، أسر رضوان الله عليه في وقعة رحبان، وقتله الأمير الطاغي مصطفى التركي لعنه الله، وقد ذكرته في هذا التوقيع، وذكره السيد أحمد نفع الله به، وذكره السيد عيسى بن لطف الله فيما جمعه من تأريخ الترك فهو في حكم الشهادة المعدلة؛ لأنه في تلك المدة، وتأريخ الترك وهو معهم فهي كإقرار الخصم أن هذا الطاغي علاه بسلاح يسمى كلنجاً، فلم يبق بعده إلا أقل من أسبوع وفي كل ليلة يصيح بأعلى صوته حتى يسمعه جميع أصحابه الذين عنده: يكفي يكفي يكفي سيدي جديرة، وهذه مما ظهرت واستمرت، وقبره رضوان الله عليه فيما بين القصر وقبر الكينعي أقرب إلى الطريق التي يخرج الحبحب، وكان استشهاده في شهر [........] عام ست وألف [1597م].
ومنهم: السيد العلامة الكبير شرف الدين الحسين بن علي بن إبراهيم بن المهدي بن أحمد بن يحيى بن قاسم بن يحيى بن عليان بن الحسن بن محمد بن الحسين بن محمد الملقب بجحاف لقباً لا اسماً بن الحسين بن محمد بن جعفر بن القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كان من الأعيان، وأفراد الزمان في العلم الغزير والفضائل المشهورة، ومع ذلك فمعروف في زمانه بكمال التدبير، والمرجع إليه في المهمات من غير نكير، توفي رحمه الله في شهر [......] من عام أربع وخمسين وألف[1644م]، وقبره إلى جنب بيته مزور.
ومنهم: السيد العالم الأديب الكامل صلاح الدين صلاح بن عبد الخالق بن يحيى بن الهدى بن إبراهيم بن المهدي بن أحمد بن يحيى بن القاسم بن يحيى بن عليان بن الحسن جحاف بن محمد بن الحسين بن محمد بن علي بن الحسين بن محمد ذي الشرفين بن جعفر بن الإمام القاسم بن علي العياني ، وكان هذا السيد عالماً أديباً فاضلاً مؤرخاً، نسابة بليغاً، يقال فيه: زمخشري الوقت، توفي[......] وقبره في بلدة حبور [ق/51].
ومنهم: السيد الشهير العالم الكبير الزاهد علي بن إبراهيم بن علي بن محمد بن المهدي بن صلاح بن علي بن أحمد بن الإمام محمد بن جعفر بن الحسين بن فليتة بن علي بن الحسين بن أبي البركات بن الحسين بن أبي البركات بن الحسين بن يحيى بن علي بن القاسم الحرازي بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو المعروف بالعالم، توفي رحمه الله في عام ست وألف [1597م] بعد أن بايع الإمام عليه السلام فقام بنصره كما هو معروف في السيرة.
ومنهم: السيد العلامة الكبير محمد بن صلاح القطابري، وكان هذا السيد معروفاً بالعلم الغزير، والفضل الشهير، وسمعت عن كثير عن المنصور بالله القاسم عليه السلام أن هذا السيد أهل للإمامة، توفي رحمه الله في عام ثمان عشرة وألف [1609م] بهجرة قطابر.
ومنهم: صنوه السيد العالم الفصيح الكامل عماد الدين يحيى بن صلاح القطابري اليحيوي، وكان تلو أخيه معروفاً بالبلاغة والشعرالحسن.
ومنهم: السيد الجليل الكبير الطيب ابن أحمد المؤيدي، وكا معظماً مبجلاً، وله الجهاد والرباط مع الإمام عليه السلام الأعظم الناصر لدين الله الحسن بن علي بن داود نفع الله به، ومع الإمام القاسم عليه السلام، توفي [.......].
ومنهم: السيد الجليل الكبير صارم الدين داود بن الهادي بن أحمد بن المهدي بن أمير المؤمنين الإمام الهادي إلى الحق عز الدين بن الحسن عليه السلام، وكان له جلالة وأبهة، ورئاسة في العلم كاملة، وله مصنفات منها (الشرح المشهور على الأساس)، توفي يوم الأربعاء وقت الضحى لست بقين من شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وألف [1636م]، وقد وصل زائراً للإمام عليه السلام، فكانت وفاته في معمور آقر بالمخيم المنصور، وصلى عليه الإمام عليه السلام، وعمر عليه القبة المعروفة، فهو مزور مشهور.
ومنهم وإن كان أصغر سناً: السيد العلامة المجاهد عز الدين محمد بن أحمد بن عز الدين المؤيدي، وكان من أهل الجهاد والصبر، والعلم الغزير، توفي شهيداً في شهر[......] من عام أربع وعشرين وألف [1614م] في هجرة فللة، وقبره هنالك.
ومنهم: السيد العلامة الزاهد أحمد بن يحيى الرغافي الهادوي، (أخبرني السيد الفاضل أحمد بن محمد بن الجلال اليحيوي أنه نقل هذا السيد رحمه الله بعامين أوأكثر فوجده لم يتغير منه شيء، وأنه استصحب شيئاً من الطيب والرياحين ففاح من جسده رحمه [ق/52] الله رائحة المسك، توفي [.......]).
ومنهم: السيد الجليل، الفاضل، العالم الحسن بن محمد (بن الحسن بن محمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن محمد بن الإمام يحيى عليه السلام) الحسيني الحوثي.
ومنهم: السيد العلامة الخطيب عز الدين محمد بن عبد الله بن الهادي بن يحيى بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن محمد بن أمير المؤمنين المؤيد بالله يحيى بن حمزة الحسيني الحوثي، كان فاضلاً عالماً، عاملاً خطيباً، غزير الدمعة، كثير الخشوع، ولي القضاء في الظفير وجهاته، توفي في أبي عريش، وهو حاج عن مولانا الإمام عليه السلام بوصية منه في شهر القعدة عام تسع وعشرين وألف [سبتمبر 1620م].
ومن العلماء الذين تأخروا عن نصرته لأعذار مع قولهم بإمامته والاعتزاء إليه.
منهم: السيد العلامة، الحبر الفهامة صلاح الدين صلاح بن أحمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى المعروف بابن الوزير، كان عالماً متبحراً، توفي في شهر[.......] عام أربع وعشرين وألف [1614م]، وقبره في صنعاء مزور مشهور.
(ومنهم: السيد العلامة عز الدين بن محمد بن عز الدين بن صلاح بن الحسن بن الإمام الهادي علي بن المؤيد بن جبريل، توفي في [.......] عام [.......] وقبره في صنعاء) .
ومنهم: ولده العالم الكبير، البحر الخضم الشهير، مفتي الفرق، ولسان أهل الحق: محمد بن عز الدين، كان إماماً في العلم، عمدة في علماء الزيدية، والعترة الأحمدية، توفي لاثني عشر يوماً من شهر شعبان سنة خمسين وألف [نوفمبر 1640م].
ومنهم: السيد العلامة فخر الدين عبد الله بن علي المؤيدي، وولده محمد بن عبد الله، وكانا عالمين، أخبرني القاضي العالم جمال الدين علي بن أحمد بن أبي الرجال أنه سمع الإمام القاسم يقول لهم: هو يصلح للإمامة والطعن عليه خلافة الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي عليه السلام، والإمام عليه السلام ، وتاب في آخر أيامه كما تقدم، وذكر ذلك السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد الشرفي نفع الله به، فقال في ولده: السيد الإمام الأعلم، الرئيس الأفخم محمد بن عبد الله بن علي أنه وصل إلى الإمام المؤيد بالله سلام الله عليه إلى آقر مع وصول من وصل من أهل صنعاء وآل المؤيد في سنة ثمان وثلاثين وألف [1629م]، وأظهر التوبة والندم، قال: وحسنت حال السيد محمد بن عبد الله المذكور وأخلص التوبة والإنابة إلى الله سبحانه، وباع جميع أمواله في صنعاء[ق/53]، وانتقل بأهله إلى صعدة فبقي فيها حتى توفي فيها ليلة الجمعة ثامن شهر الحجة الحرام عام أربع وأربعين وألف[يونيو 1635م] رحمه الله رحمة الأبرار.
قال: وأما والده فإن الأتراك قرروه في يسنم وتركوا له قريات ينتفع بها لا غير فلبث إلى سنة ثلاث عشرة بعد الألف، ثم نقله ولده صلاح إلى العشة قريباً من صعدة بأولاده لأمور اقتضت ذلك، ولم تطل مدته بها، وكان قد أظهر التوبة والتنحي عن الإمامة والندم على منازعة الإمام عليه السلام، وذلك على يدي القاضي العلامة إمام الشيعة في زمانه أحمد بن صلاح الدواري، وقبره في فللة قريباً من قبر الإمام عز الدين عليه السلام، وسمعت لبعض السادة آل المؤيد أشعاراً حسنة يعظمون نعمة الله باجتماعهم بهذا السيد فإنه شيخهم المعظم، وبقية أهل بيتهم المكرم.
ومنهم: السيد العلامة الفصيح الشاعر المفلق المشهور محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن محمد بن الإمام يحيى عليه السلام الحوثي الحسيني، كان بليغاً مقولاً عالماً، واسترسل في مخالطة أهل الدنيا وامتداحهم في الشعر حتى غلب عليه واتصل بملوك الترك، وله معهم أخبار، ثم تاب وأناب، وذكرته لأنه ممن يعرف حق الإمام عليه السلام ويعتقد إمامته، وله فيه أشعار رائقة فائقة، وإنما تعلقت به حبائل الدنيا التي قل من سلم علائقها، وخلص من بوائقها، الله المستعان، توفي [.......] عام [.........] [ق/54].............. [...................].
[ق/55] وأما الطبقة الثانية الذين نبلوا في خلافته وكانوا عيوناً في أيام حياته.
أولهم وأولاهم في التقديم، وأشهرهم في الجلالة والتعظيم، أولاده الكرام، أئمةالإسلام وسوره، وحتف أعدائه الطغام، ونجوم الهدى ونوره، مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، الصادع بالحق المبين، ومعلن دعوة سيد المرسلين المؤيد بالله محمد بن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وأخواه نصيرا الحق، وعضدا ملة خير الخلق: الحسن، والحسين ابنا أمير المؤمنين رضوان الله عليهما، فمحلهما في العلم كما ظهر واستمر في المحل، الذي لا يختلف فيه عنهما أهل السهل والجبل، وجهادهما كذلك، وسائر مناقبهما تستحق أن يفرد لها باباً أو كتاباً، وكان الحسين أظهرهما في العلم ذكراً، توفي الحسن رحمة الله عليه عند غروب شمس ثاني شوال عام ثمان وأربعين وألف[مايو1638م]، وصلى عليه أخوه الحسين رحمهما الله، وقبره في الحصين من ضوران مزور مشهور، والحسين توفي في ليلة الجمعة ثامن شهر ربيع الآخر عام خمسين وألف[يونيو 1640م] في محروس ذمار، وصلى عليه ولد أخيه السيد العلامة محمد بن الحسن أطال الله بقاه.
ومنهم: السيد العلامة جمال الإسلام الناصر بن محمد بن يحيى القاسمي الغرباني المعروف بصبح.
ومنهم: السيد العلامة المتكلم عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الشرفي، كان فاضلاً ناسكاً، له في العلم الحظ الأوفر، وجمع تفسيره المعروف بـ(المصابيح) قليل الوجود لمثله إنما هو نصوص الأئمة وتفسيرهم، توفي رحمه الله في يوم الإثنين قبيل الزوال لاثني عشرة ليلة مضت من صفر الخير عام اثنين وستين وألف [1651م]، وقبره في ذي الشرفين أقرب إلى الباب الغربي.
ومنهم: السيد العلامة المجاهد الأبر شرف الدين الحسن بن محمد بن صلاح الشرفي حفظه الله، وهو من السادة النجباء الأخيار الأجلاء، وأهل الجهاد أطال الله بقاه.
ومنهم: السيد العلامة الفاضل عبد الله بن محمد بن صلاح الشرفي، كان من عباد الله الصالحين، وأهل الورع الشحيح، مع العلم النافع، والجهاد الصادق، توفي رحمه الله في صنعاء المحروسة في شوال 19منه عام أربعين وألف [21مايو 1631م]، وقبره مما يقرب من قبر القاضي حسن النحوي رحمه الله.
ومنهم: السيد الرئيس الكبير العالم أحمد بن المهدي، نسبه معروف، كان عالماً ناهضاً في الرئاسة، سخياً مألوفاً حليماً[ق/56]، توفي يوم الأربعاء لعشر بقيت من شهر ذي الحجة عام أربع وأربعين وألف [6يونيو 1635م] رحمه الله.
ومنهم: السيد العالم الزاهد الفاضل محمد بن الحسن بن شرف الدين رحمه الله، كان من أهل الزهادة والعبادة والفضل، وكان تلو أبيه في شريف خلاله، ملازماً حضرة مولانا الإمام المؤيد بالله عوناً نافعاً في الكتابة والفتيا وغيرها، توفي سلخ شعبان سنة ثلاث وستين وألف [26يوليو 1653م]، وقبر إلى جنب أبيه رحمة الله عليهما في مشهد الشرفين.
ومنهم: السيد الجليل العلامة المجاهد محمد بن صالح بن عبد الله القاسمي الغرباني رحمة الله عليه، كان من عيون العلماء، وعمدة أهل الجهاد والصبر عليه، توفي رحمة الله عليه وقت العصر من يوم الأربعاء من شهر شوال عام تسع وعشرين وألف [أغسطس 1620م]، وقبر في ذي الشرفين في المشهد، وقبر قريباً منه والده شيبة الحمد، وشيخ العترة رحمة الله عليهما.
ومنهم: السيد وأظنه من الطبقة الأولى الفاضل العالم فخر الدين عبد الله بن قاسم بن يحيى بن محمد بن يحيى بن محمد بن علي بن نشوان بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن نشوان بن علي بن الأمير الكبير ذي الشرفين محمد بن جعفر رحمة الله عليه، توفي في ذي القعدة من عام تسع وعشرين وألف [سبتمبر 1620م].
قال السيد أحمد نفع الله به: توفي في بلدة هجرة ريح من بلاد سيران، وذكر والدته بالفضل الشهير والعبادة والصدقات، ووصف كثيراً رحمهما الله تعالى.
ومنهم: السيد العلامة، المتبحر في جميع الفنون الفهامة، والمجاهد الصمصامة، صفي الدين أحمد بن علي الشامي بن الحسن بن صلاح بن الحسن بن جبريل بن يحيى بن محمد بن سليمان بن أحمد بن الإمام الداعي إلى الله يحيى بن المحسن بن محفوظ بن محمد بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن الأمير عبد الله بن الإمام المنتصر بالله محمد بن الإمام المختار لدين الله القاسم بن الإمام الناصر بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين سلام الله عليهم، له في العلم المحل العظيم، وفي الجهاد الحظ القويم، وفي الكمال في أمور الدين والدنيا الذكر الفخيم، إليه في آخر أيام المؤيد بالله سلام الله عليه في صنعاء الفتيا والتدريس، وكف بصره، والنفع بعلومه عادته وزيادة، وهو منهل للطلبة يردونه من الأقطار المتباعدة، أطال الله تعميره.
ومنهم: السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد القطابري اليحيوي، عالماً مجاهداً تلو أبيه رحمه الله، وقد تقدم ذكره أطال الله عمره.
ومنهم: السيد[ق/57] الفاضل العالم الطاهر القاسم بن نجم الدين القاسمي الساكن جبل ذري عالماً فاضلاً أطال الله عمره.
ومنهم: السيد الفاضل العلامة صارم الدين إبراهيم بن يحيى الجحافي أطال الله عمره، عالماً كبيراً، إليه القضاء والتدريس والفتيا في جهات ظليمة وحجور.
ومنهم: السيد العلامة الفهامة المجتهد المجاهد شمس الدين أحمد بن محمد بن لقمان بن أحمد بن شمس الدين بن الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى رحمه الله، كان هذا السيد من العلماء الكبار، وأهل الهمة فيه، والكدح الذي لا يعلم في وقته مثله، أخبرني بعض فقهاء آنس العدول أنه أخبره من قرأ معه في أول شبيبته في الأزهار، وكان في شبام كوكبان أنه يعيد[كل] معشره خمسين مرة وكذا حاله في شهارة المحروسة بالله فإنه هاجر إليها في أواخر أيام الإمام عليه السلام، وكان مسكنه قبل ذلك كحلان تاج الدين، وكان له في شهارة من الهمة العالية والصبر على ملازمة جامعها المعظم والدرس حتى كان عليه سبعة أدوال في كل وقت لمتعلمين في فن غير الفن الأول، وله في الجهاد مع الإمام المؤيد بالله عليه السلام مبلغ عظيم، توفي رحمه الله عقيب وقعة نجد محيرب بعد عوده من بلاد مكة المشرفة فإنه تجهز لفتحها وكاد يظهر، فخانه بعض الجنود، وعاد إلى تهامة ومرض في الثغر وطال مرضه، فحمل إلى بلاد رازح إلى موضع منه يسمى عمار، وتوفي فيه يوم الخميس ثامن شهر رجب من عام تسع وثلاثين وألف، وقبره هناك مزور مشهور[.............].
وأما العيون من أكابر الشيعة وهم طبقتان كما تقدم في ذكر عيون من الأشراف الشاهدون لدعوته، والملبون لدعوته، والقائمون بنصرته، ومن تلاهم ولحق بهم في مدته، فأولهم إمام الشيعة الأبرار، وقاموس علمهم التيار، وزاهدهم المشهور، وواعظهم[ق/58] المؤثر في الصدور، نجم الدين، وعمدة الزاهدين: يوسف بن علي بن محمد الحماطي، نسب إلى بطن من الحنائف وبلاد الحجرة يسمون بني حماطة، وكان والده من أهل اليسار، ومن بيت رئاستهم فانقطع إلى الله سبحانه وتعالى، ووقف أمواله وتصدق بها، واحتفر بئراً عليها منافع [أهل] بلده، وهاجر إلى الله متبتلاً وخالط الفقهاء وأخذ عنهم، واستقر في بلاد آنس في موضع من بني قشيب يسمى بني رشيد، وتزوج منهم بمشورة بعض الفضلاء، وعكف على العبادة وعرف فضله، وله كرامات تذكر، وقبره في البلد المذكور، عليه مشهد مزور مشهور، إليه الزيارة والنذور، وفي آخر أيامه قصد الفقهاء العلماء أهل هجرة مصدح ذرية العابد المشهور ولا يزال قريباً منه فإنه معروف بالعبادة، ويروى أنه كان يقسم القرآن جميعه في ركعتين في كل ليلة فزوجوه امرأة عابدة منهم، فحملت بسيدنا نجم الدين يوسف رحمه الله، فنشأ على الزهادة والورع والإحتياط، ثم ارتحل للعلم فأحرز منه ما يطول حتى إنه لحقه بعض ألم من شدة الكدح، فهبط زبيد فلقي شيوخ فقهائها فأخذ عنهم علماً كثيراً من علوم العامة، ثم قصد مكة المشرفة وأخذ علماً كثيراً وانتشر ذكره، وكان يكره أن يعرف حاله أحد، فعاد إلى اليمن وأقام في فللة المحروسة وسم مدة، وعاد بلاده، وكان حريصاً على التعليم والإرشاد، ولا يعلم أنه علم
ببدعة إلا ردها، وله رسائل، وهجر ومواضع معروفة حتى كان في أمره ما ظهر، واستشهد رضوان الله عليه مسموماً، وهو في الأسر في عام سبع وألف[1598م]، وقبره مشهور في أعلى المقبرة في (خزيمة) إلى جهة نقم رحمة الله عليه ورضوانه.
ومنهم: ولده المجاهد العالم الفصيح الماجد جمال الدين علي بن يوسف الحماطي رحمه الله، كان رحمه الله معروفاً بالفهم والاطلاع على دقائق العلم مع الهمة العالية والنفس الأبية، والسخاء والشجاعة، استشهد رحمه الله في الحيمة عام خمس عشرة وألف في شهر صفر من هذا العام[1606م]، وقبره في محرم معمور عليه مشهد مزور رحمه الله.
ومنهم: إمام الشيعة في بلاد صعدة القاضي العلامة المجاهد المحقق لعلوم العترة متناً وسنداً، شمس الدين أحمد بن صلاح الدواري الصعدي، كان رحمه الله من عيون العلماء وأهل الجهاد والإرشاد والاحتياط، نهض بدعوة الإمام الناصر لدين الله الولي أمير المؤمنين الحسن بن علي بن داود عليه السلام [ق/59]، ثم بدعوة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، توفي في شهر [...........] عام ثمان عشرة وألف[1609م].
ومنهم: القاضي العلامة الحافظ الفقيه المشهور عبد القادر بن حمزة التهامي من بلاد القنفذة، هاجر في طلب العلم في أيام الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين صلوات الله عليه، ونبل في وقته، وعمر وقام مع الإمام الأعظم الحسن بن علي عليه السلام، ثم نهض مع الإمام القاسم صلوات الله عليه، وكان فقيهاً عارفاً، أخذ عنه عدة من العيون: منهم القاضي الشهير ذو العلم الغزير عامر بن محمد الصباحي الذماري، وصنوه في العلم وقرينه في النفع الذي عم سعيد بن صلاح الهبل وغيرهما، وكان هذا القاضي عبد القادر رحمه الله مهيباً محبباً إلى الناس لا يكاد يخالفه أحد من مشارق خولان ومخاليفها، توفي في عاشر [أو] في ثامن من جمادى الأخرى عام ثلاث عشرة وألف [5 أغسطس 1604م]، ودفن إلى جنب شيخه العلامة جمال الدين علي بن راوع في القبة المشهورة على العلماء فإنها عمرت على القاضي علي، ثم دفن معه فيها القاضي عبد القادر، ثم القاضي عامر وولده كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومنهم: القاضي المحقق المتقن المجاهد المعاضد عامر بن محمد الصباحي المعروف بالذماري، اشتهار فقهه ظاهر ومعروف بالتدقيق لمسائله مع كمال المحامد، كان جليساً للإمام الأعظم الناصر لدين الله الحسن بن علي، ثم لمولانا صلوات الله عليهما، ثم مولانا الإمام المؤيد بالله سلام الله عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، معروف الكمال والمعرفة لأمور الدين والدنيا، ولقد سمعت من حي سيدنا الزاهد محمد ابن عبد الله الغشم نفع الله به مقسماً بالله: ما أعلم أكمل منه في زماننا.
وقال بعض الفضلاء مقسماً: ما أعلم أكمل منه متقدماً.
وأخبرني القاضي العلامة وجيه الدين، قمر العلماء الراشدين: عبد القادر بن علي المحيرسي أطال الله بقاه، أن سيدنا عامر بعث إليه وإلى أمثاله من الفقهاء من أهل طبقته الآتي ذكرهم إن شاء الله تعالى، وأظنه قال في عام ثلاث وثلاثين وألف[1623م] رسلاً، فلما وصلنا إليه إلى محروس شهارة، قال لنا جميعاً: بعثت لكم الرسل إلى الجهات المتفرقة لأعطيكم أمانة عندي للمسلمين، فقد بلغت ما ترون وأخاف أن يذهب وهو كتاب (التذكرة الفاخرة) فلا أعلم أحداً يعرفها معرفتي، فإني قد أقرأت فيها أربعين عاماً من غير ما تلقيته من الشيوخ، توفي رحمه الله عام سبع وأربعين وألف في شهر رمضان[يناير1638م]، وقبر كما تقدم إلى جنب شيخه التهامي [ق/60] في عاشر، وأرسل الإمام المؤيد بالله سلام الله عليه ولده مولانا علي بن أمير المؤمنين معزياً فيه إلى بلاد خولان مع عيون، ومنهم صنوه في الكمال، وقرينه في جميع الخصال القاضي الأجل سعيد بن صلاح المعروف بالهبل، وكان للقاضي سعيد نفع الله به كثرة أتباع فضلاء في جهات كثيرة، لا سيما في بلاد صعدة وتهامة.
أخبرني من سمع رجلاً من مشائخ المشرق ممن لا يعرف مجالس العلم، وقد وصل إلى الإمام عليه السلام وقد سأله الإمام عليه السلام أين كان؟ فقال: في الجامع انظر قاضياً شيبه يرصف ملان الجامع علماً، وكلهم كتابه بين يديه، وهذا الشيبة كتابه في بطنه يرد عليهم كلهم من بطنه.
قال الراوي: فضحك الإمام كثيراً، ثم قال: هو والله كما ذكر الشيخ مملوء علماً أو كما قال، وكان هذه صفة مجالس إملائه رحمه الله يجعل أهل النسخ حلقة واسعة، وصغارهم بين أيديهم، ثم يقعد في وسطهم جاعلاً من وراء ظهره أقرب إليه من أمامه، ويملي عليهم كأنما يغرف من بحر، ولا يفتح كتاباً، وكذا حال إملاء القاضي عامر رحمهم الله، وكان في القاضي سعيد زهد خفي، وورع شحيح، يروى أنه لم يأكل من مال أبيه لما كان من عرفاء الدولة الظالمة، وكان رفيقاً بالطلبة مفيداً كثير الدعاب لهم، من ذلك أن الترك أقمأهم الله غزوا بلده هجرة شوكان، وقتلوا جماعة منهم من إخوته وأولادهم، وقبضوا من أولاده أحدهم القاضي العلامة أحمد بن سعيد، والقاضي أحمد بن عامر، وهو ابن أخته، فعزى الطلبة ولم يقطع القراءة (وهو إذ ذاك في بلاد الحيمة) ، ولما رأى بكاءهم حلف مازحاً معهم أن هذا الذي اتفق أشق ما لقيت ولا يرضيني، فلما ضحكوا من سعة صدره وكلامه بهذا في تلك الحال، قال: إخترتم موالاة أهل البيت ولا يصيبكم ما أصابهم، ثم أخذ يسليهم ببعض ما لقي أهل البيت عليه السلام، وله أخبار طريفة حسنة، توفي رابع وعشرين من شهر شوال سنة ثمان وثلاثين وألف [16 يونيو 1629م]، وقبره بالسرار بشهارة معروف رحمة الله عليه ورضوانه.
ومنهم: القاضي المجاهد العلامة القدوة حسام الدين الهادي بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن أبي الرجال رحمة الله عليه ورضوانه، كان له في الجهاد الملاحم الكبار، وفي دعاء القبائل إلى الجهاد ما لا يقوم به إلا الأئمة الأطهار، وكان زاهداً، ولي كثيراً من البلاد، وكان مهيباً عظيم النهضة، ولم يترك من الدنيا شيئاً ولا عمر حجراً على حجر، وإنما همه الجهاد وعمارة المساجد، عمر جوامع كباراً أسسها وهي معلومة ظاهرة منها جامع هزم من بلاد الخشب، ومنها جامع يناعة من بلاد[ق/61] الصيد، وهو أعظمها، ومنه جامع ثبور من بلاد بني جبر، ومنها جامع حيط حمران من بلاد بني جبر أيضاً، ومنها جامع السودة من بلاد ذييان، ومنها جامع مدر من بلاد بني زهير، استشهد في بلاد العصيمات يوم الخميس لأربع عشر يوماً من شهر ربيع الآخر عام خمس وعشرين وألف [29 يونيو 1616م]، وقبره في حوث مشهور.
قال ابن عمه القاضي جمال الدين الآتي ذكره إن شاء الله تعالى قريباً، وقد ذكر القاضي الهادي وشهادته وولده، وولد ولده أيضاً فقال: كان الصنو الهادي وأبوه وأظنه قال وجده وولده، وولد ولده ممن كتبوا في الشهداء قبل أن يكونوا، ثم قال: إن والد القاضي عبد الله بن أحمد رحمه الله تعالى سمع المدافع على كوكبان وثلاء أيام المطهر بن الإمام شرف الدين، وولد أخيه محمد بن شمس الدين، قال: فصاح وهو في بلاد ذيبان وهو يبكي ويقول يا مسلمين أما تستحوا من رسول الله يسمع هذه المدافع على أولاده ومكالفه، ثم أغار بمن أجابه، فجاهد حتى استشهد رحمة الله عليه وأظنه ذكر جده بما لم أتحققه.
ومنهم: ابن عمه القاضي العلامة الفقيه المحقق المجاهد جمال الإسلام علي بن أحمد بن إبراهيم بن أبي الرجال، كان فقيهاً محققاً في فروع الفقه مع التفنن في غيره، مشغوفاً بالجهاد فإنه بلغ خمس وسبعين عاماً وهو على فرسه معتقل قناته في أيام الجهاد ومحاصرة زبيد، توفي في شهر صفر عام أحد وخمسين وألف [أغسطس 1641م] في بلاد وصاب في هجرة الروضة من بلاد نعمان، وكان توفي قبله ولده الفقيه الصالح صالح بن علي فيها، فهو إلى جنب ابنه، وكان إليه القضاء في بلاد وصاب وما والاها، وكان إليه ملازمة الأمير سنبل كما كان ولده رحمه الله، وكان هذا القاضي سريع الجواب في الفتيا مع صحتها، وحسن الفصل في القضايا، ونقل من علم الشافعية كثيراً من مسائله، وجلدوها وأعجبوا بها.
ومنهم: القاضي العلامة المجتهد شيخ الإسلام عماد الدين يحيى بن محمد بن يحيى بن صالح بن محمد بن أحمد بن يحيى بن حنش الظفاري، كان من العيون والمحققين في جميع الفنون، وأوعية العلم المصون، قرأ مع الإمام المنصور بالله القاسم عليه السلام على كثير من الشيوخ، وكان معظماً عند الإمام عليه السلام، توفي في شهارة المحروسة بالله في شهر شوال من عام ثمان وعشرين وألف [سبتمبر 1619م]، وقبره عند مسجد الميدان بالقرب من قبر حي السيد[ق/62] العلامة جمال الإسلام علي بن صالح العبالي نفع الله بهما، مولده في عام ست وستين وتسعمائة [1558م] فعمره اثنان وستون عاماً.
ومنهم: القاضي العالم الأديب صلاح الدين بن صالح بن عبد الله بن حسن بن حنش، كان فقيهاً خطيباً شاعراً، وكان إليه القضاء في ذيبين المحروس بالله والخطابة والتدريس، توفي في شهارة المحروسة بالله في عام تسع وعشرين وألف في سلخ شهر الحجة الحرام [اكتوبر:1620م] من العام المذكور، وقبره قريب من مسجد ذي الشرفين رحمهما الله تعالى.
ومنهم: القاضي المكين الصدر، العلامة الحبر، شرف الدين الحسن بن سعيد بن جابر بن محمد العيزري الأهنومي، كان عالماً في جميع فنون العلم، حسن التعليم مع الورع الشحيح، ولي القضاء للإمام المنصور بالله، وولده الإمام المؤيد بالله في بلاد الأهنوم، كثير الملازمة لمجالسهما، توفي يوم الخميس منتصف شهر محرم الحرام سنة ثمان وثلاثين وألف [14 سبتمبر 1628م].
ومنهم: الأخوان العالمان المصقعان البليغان لسانا العترة الطاهرة، وسيفا حجتها الظاهرة علي، وسعد الدين ابنا الحسين بن محمد المسوري، كانا عالمين معروفين بصدق الولاء لذرية نبيهما في عصرهما، وكانا مع الإمام المنصور بالله وولده الإمام المؤيد بالله صلوات الله عليهما خطيبين كاتبين، وليا رسائلهما وخصا بالقرب منهما، توفي القاضي علي بن الحسين رحمه الله في طريق الحج في صبيا في شهر ذي القعدة يوم السبت ثاني وعشرين عام أربع وثلاثين وألف [5اكتوبر1624م]، وصلى عليه ولد أخيه القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله عمره، وتوفي القاضي سعد الدين بن الحسين [.......] عام[......] وقبره في الهجر من بلاد الأهنوم مما يقرب من جامع الإمام المنصور بالله معروف مشهور.
ومنهم: القاضي العلامة الأديب جمال الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد الجملولي الأهنومي، كان فقيهاً عالماً أديباً، من أعوان الإمامين المنصور بالله والمؤيد بالله، ولي القضاء كثيراً في بلاد بني عبيد وغيرها، وولي القضاء أيضاً في كوكبان بعد فتحه، وتوفي فيه في شهر رجب عام ثلاث وأربعين وألف [يونيو 1643م].
ومنهم: القاضي العلامة الحبر فخر الدين، عين العلماء الراشدين عبد الله بن سعيد المهلا الشرفي رحمه الله، كان عالماً متبحراً في جميع الفنون مجتهداً، أخذ عنه عيون من العلماء منهم الإمامان الأعظمان: المنصور بالله، والمؤيد بالله[ق/63] سلام الله عليهما، توفي في أول سنة تسع وعشرين وألف [18ديسمبر 1619م].
ومنهم: الفقيه الزاهد الواعظ العابد بدر الدين محمد بن علي اليعقوبي السحاري كان رحمه الله زاهداً متقشفاً، وكان ملازماً سفر الإمام الأعظم الحسن بن علي بن داود سلام الله عليه ورضوانه وحضره، ثم الإمام المنصور بالله سلام الله عليه حتى عجز وكثيراً ما تملي كتبه عليه السلام ويقصد للقراءة عليه فيها، توفي رحمه الله في معمرة من جبل الأهنوم في شهر الحجة سنة ثمان وعشرين وألف [نوفمبر 1619م].
ومنهم: القاضي العلامة الحبر الفهامة شيخ الفقهاء وقدوة العلماء إبراهيم بن مسعود الحوالي الحجي، كان من العلماء الأكابر مقصوداً في مغارب حجة ونواحيها، كالمجاهد في نواحي ذمار، أخذ عنه كثير من العلماء منهم الإمام المنصور بالله سلام الله عليه توفي [......] عام [......].
ومنهم: الفقيه العلامة الكبير وجيه الدين عبد الوهاب بن سعيد الصنعاني اللحجي الحوالي أيضاً، وكان من أهل العلم والزهادة والانفراد في كثير من أوقاته وقد يخالط كثيراً وينقبض كما أخبرني من يعرف حاله رحمة الله عليه توفي [.......].
و منهم: الحاكم الكبير والقاضي الشهير العلامة الفقيه الأصولي المحدث عبد الهادي بن أحمد الثلائي المعروف بالحسوسة رحمه الله، كان هذا القاضي معروفاً بسعة العلم إذا جلس في عامة العلماء كان لسانهم الناطقة، وكلمتهم الفارقة، عاضد الإمام عليه السلام وولي القضاء حيث كان أخبرني القاضي الفاضل علي بن نجم الدين الذماري أنه سأله: كم سماعك يا سيدنا في علم الكلام؟ فقال: مائة مجلد، وكان بهشمياً في كثير من المسائل، شيعياً في غيرها لم يؤت في العلمين من قلة، ولي القضاء على صنعاء من يوم فتحها حتى توفي رحمه الله في ثلاء ليلة الجمعة الثاني عشر من شهر الحجة عام ثمان وأربعين وألف [16ابريل 1639م]، وكان له من السياسة الراجحة إلى تناول القضية والنظر الموصل إلى تحقيق فصل الخصومة القوية ما يضرب بها الأمثال، ولما مرض رحمة الله عليه وخرج من صنعاء المحروسة بالله وقف أمامه عيون من أهل صنعاء للنظر إليه والتبرك به فالتفت إليهم وقال: أنتم مع الله يا أهل صنعاء، والله ليفقدني كبيركم وصغيركم، ثم أقسم بالله أخرى ما أعلم أن معي لأحدكم مظلمة قليلة ولا كثيرة أو كما قال.
وكان زاهداً ورعاً محتاطاً، يفترش إهاب شاة على خصفة وجرم من أوكس جنس، ولقد أراد مولانا علي بن أمير المؤمنين أبقاه الله وهو [ق/64] يعني القاضي شيخه، وملازمه أن يوطي له فراشاً مما يليق، وكساء مما ينبغي مع مسيره فأرجعها.
قال ولده القاضي العلامة علي بن عبد الهادي أطال الله بقاه: وكنت الرسول فلما وقف عليه ابن الإمام حولق واسترجع وطلب مني أن أقبلها لي حيث لم يقبلها أبي، فقلت له: إني بضعة منه أكره ما يكره، فلما أخبرته بذلك سر به، وقبل بين عيني.
ومنهم: القاضي العالم الفاضل الورع الزاهد علي بن قاسم العنسي العياني، كان من الفضلاء العلماء، وممن قام بحق الإمام، وعرف أهل المشارق حقه، واهتدى على يده خلق من أهل المشرق، توفي رحمه الله في شهر الحجة الحرام سنة ست وأربعين وألف [ابريل 1637م].
ومنهم: القاضي العلامة عبد الله بن علي الرحبي فقيهاً عالماً، فروعياً، أخذ عن القاضي السنحاني وغيره، وقام مع الإمام أحسن قيام، وهاجر إلى بديدة لما هاجر الإمام عليه السلام إلى برط، توفي رحمه الله في عام ثلاثة أو أربعة وعشرين[1614م] في الحنكة من أعمال السر ومخلاف نهم.
ومنهم: القاضي العلامة الحاكم في مدينة صعدة يحيى بن أحمد بن حابس الدواري، توفي ليلة الأربعاء سادس شهر شوال من سنة أربعين بعد الألف [8مايو 1631م].
ومنهم: القاضي العالم المتكلم صلاح بن مسعود الشدادي الخولاني، كان متكلماً بهشمياً فقيهاً عارفاً، توفي في بلاد خولان [.......] عام [.......].
ومنهم: القاضي الفاضل العالم الكبير علي بن صلاح الحضراني الآنسي، كان من أهل الورع والاحتياط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صليباً في أمر الله، قام مع قيام القاضي نجم الدين يوسف بن علي الحماطي رحمهما الله تعالى، توفي رحمه الله في سنة سبع أو ثمان وعشرين وألف [1618م]، قبره في آنس في حضران من جبل الشرق مزور مشهور، وولده العالم الزاهد العابد المتبتل أبو المساكين محمد بن علي الحضراني، توفي رحمه الله في سنة ست وخمسين أو سبع وخمسين وألف [1646م]، قبر عند والده رحمة الله عليه.
ومنهم: القاضي العالم التقي عبد الله بن محمد بن المعافا اللاحجي الآنسي، كان رحمه الله من أهل الدرس والتحقيق والإتقان، والقيام مع الإمام، توفي في شهر جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وألف [ابريل 1644م]، وقبره إلى جنب والده رحمهما الله تعالى.
ومنهم: القاضي العالم الفقيه المحقق صلاح بن علي الوشاح، ولي القضاء في (بلاد ألهان) أولاً مدة، وكان إليه التدريس في بلاد ألهان ثم ولي [ق/65] القضاء في محروس ضوران في الدولة الإمامية، توفي رحمه الله في عام ثمان وخمسين وألف [1648م].
ومنهم: العالمان الزاهدان الشهيدان الحميدان محمد بن علي العياني، وعلي بن يحيى المحيرسي المشهوران في اتباع سيدنا نجم الدين، وتأخرهما عن سمطه سهو، ولهما فضل شهير، وهما خاصته ورسله بالمواعظ، وله ولهما أخبار طويلة تذكرة لمن تذكر، وتبصرة لمن تبصر، رحمة الله عليهم، اسشتهدا في عام ست وألف[1597م] كما سيأتي في السيرة.
ومنهم: القاضي الجليل، العالم النبيل أحمد بن قاسم الخولاني من بلاد بني جبر، كان عالماً مجاهداً، أخذ من عيون منهم: السيد صلاح بن الوزير، والسيد محمد بن عز الدين والحاكم عبد العزيز بن بهران وغيرهم، توفي في رداع العرش لعشر بقين من المحرم عام ستين وألف[1650م]، كان إليه قضاؤها رحمة الله عليه.
ومنهم: الفقيه الفاضل العالم العامل المجاهد الصابر العابد الورع يحيى ابن صلاح الثلائي، كان من أهل الفضل والجهاد، والصبر ومكارم الأخلاق، توفي في شهر رمضان أو شوال عام ثمان وأربعين وألف [يناير 1639م].
ومنهم: القاضي العالم الفاضل المدرس المفيد صلاح الدين صلاح بن صالح بن محمد بن حسن بن ناجي بن معرف الآنسي، كان فقيهاً عالماً إليه الفتيا من بلاد آنس وما والاها، توفي [......] وعام[.......] وقبره في بلدة خربة جبل الشرق مزور مشهور.
ومن هذه الطبقة القاضي العلامة الفقيه المشهور علي بن قاسم السنحاني، كان عالماً عاملاً، زاهداً ورعاً، صليباً في أمر الله، معروفاً بالشدة على أهل البدع، توفي في صنعاء[....] عام [1005هـ/1596م].
ومنهم: الفقيه الفاضل العلامة عماد الدين يحيى بن محمد السحولي الذماري المقيم في صنعاء، كان عالماً تقياً ورعاً منقطعاً إلى العلم والتعليم، توفي رحمه الله تعالى [........] عام [........] في صنعاء المحروسة بالله، وقبرره مزور.
ومنهم: الفقيه العلامة الزاهد العابد المتبتل بدر الدين محمد بن علي الشكايذي الذماري رحمه الله، كان من خلصاء الشيعة وأهل الفضل، وخافه العجم لما تحرك الإمام عليه السلام فأطلعوه صنعاء، ثم ظهرت قصيدته المعروفة، وتحريضه المسلمين على الجهاد مع الإمام عليه السلام فاغتالوه بالسم كما أخبرني عدة، منهم: سيدنا العلامة الزاهد الفاضل أحمد بن عبد الله الغشم الآنسي رحمه الله، توفي رحمه الله تعالى [ق/66] في سنة ست أو سبع وألف[ديسمبر 1598م]، وقبره مشهور، وقبر إلى جنبه القاضي أحمد الغشم المذكور، وكان تلميذه، توفي في عام خمسين وألف[1640م] رحمة الله عليهما.
ومنهم: القاضي العلامة المحقق المدقق صارم الدين إبراهيم بن حثيث العلي ثم الذماري[رحمه الله] ، كان عالماً فقيهاً فروعياً معروفاً بالتحقيق، أخذ عنه كثير من عيون العلماء، ويقال له: عالم اليمن، ويعرف بالمحبة الكثيرة والمودة الشهيرة لأهل البيت عليهم السلام والتألم لهم، كثير البكاء عند [ذكر] ما لقوا من شرار أمة جدهم، توفي في شهر صفر الخير عام إحدى وأربعين وألف [أغسطس 1631م بمحروس ذمار، وقبره مشهور.
ومنهم: القاضي العلامة الشهير، ذو العلم الغزير، عز الدين: محمد بن الحسن الأضرعي الذماري نسبة إلى قرية من بلاد ذمار تسمى أضرعة.
قال القاضي العلامة عماد الدين يحيى بن محمد الشبيبي: إنه كان يقال له غرارة العلم لسعة علمه وباهر فهمه، قال: ومن طرف أخباره أنه لجأ إلى بيته في ذمار بعض ضعفاء أعوان الظلمة لما يخافون عليه من أمتعتهم وعزيز مالهم، وقد استولى سيدنا القدوة الإمام الزاهد يوسف بن علي الحماطي نفع الله به على ذمار فطالبه القاضي يوسف بمال أولئك، فعظم عليه ترويعهم، وقد لجأوا إليه فلم يجب على القاضي يوسف بما ينبغي، فغضب القاضي يوسف وقال: أو أنت لا تقول بإمامة الإمام عليه السلام، قال: فعظم عليه هذه وتبرأ من مخالفته عليه السلام حتى هابه من حضر المقام، وقال للقاضي يوسف: إفعل ما رأيت ثم تحكم لما تريده منه بما لا أتحقق نهايته، توفي [....] عام[.......].
ومنهم: القاضي العلامة الكبير صلاح الدين صلاح بن محمد بن ناصر الدين الفلكي منسوب إلى بلد من بلاد ذمار تسمى الفلكة، كان رحمه الله من عيون العلماء وأهل البلاغة، والصبر على الدرس والتدريس والإحاطة، توفي في شهر [........] من عام أربعين وألف [1630م]، وقبره في ذمار.
ومنهم: القاضي العالم الزاهد الفاضل المعافا بن سعيد الموشكي الذماري، كان من أهل الورع والاحتياط، والعلم الكثير، سيما في الأصول، توفي في أواخر أربع وثلاثين أو خمس وثلاثين[23/1624م وألف من بلد خبان من أعمال المغرب الصغير.
ومنهم: الشيخ العالم الأديب لطف الله بن محمد بن الغياث الظفيري، وكان هذا الشيخ رحمه الله عارفاً كبيراً، وله مصنفات، وكان أكثر إقامته في مكة المشرفة، وأخذ عنه كثير من العلماء منهم مولانا [ق/67] السيد العلامة شرف الإسلام والمسلمين الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله سلام الله عليهما، وغيره من العيون، توفي في شهر[رجب] عام ثلاث وثلاثين وألف[1623م].
ومنهم: القاضي الفاضل العلامة جمال الدين الهادي بن يحيى البشاري العنسي العذري، كان عالماً فاضلاً، ولي القضاء في الهجر وعذر، توفي في شهر[.....] عام[.......] وألف.
ومنهم: القاضي العلامة المجاهد الصمصامة عبد الرحمن بن المنتصر العشبي من بلاد بني عشب، كان عالماً مجاهداً، وله في العلم والعمل أخبار حسنة، وتوفي في بلاد الشرف وهو واليه يومئذٍ في جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وألف [اكتوبر 1637م]، ولعله من الطبقة الثانية.
ومنهم: القاضي العلامة المجاهد شمس الدين أحمد بن محمد السلفي، كان عالماً مجاهداً معروفاً بمحبة أهل البيت الصحيحة، وتوفي في شهر الحجة عام خمس وثلاثين وألف [أغسطس 1626م]، أو أول شهر محرم سنة ست وثلاثين [1627م]، وقبره في مسار، وكان إليه ولاية تلك الجهة.
ومن عيون الذين فقهوا في أيامه وظهر فضلهم ونبلهم في التزام أحكامه.
منهم: الفقيه العلامة الزاهد الحبر الورع، العابد عز الدين، وقدوة العارفين محمد بن عبد الله المعروف بابن الغشم الآنسي، علمه الغزير، وفضله الشهير، وورعه الشحيح، ووعظه النافع، مما ظهر واشتهر، وله في ذلك أخبار حسنة، وله مصنفات سيما في التفسير، توفي في جميمة بني الذواد من بلاد لاعة في رجب عام ثلاث وأربعين وألف [يناير 1633م]، وقبره مزور مشهور، وكان قد اختارها وطناً وتزوج فيها، وكان لا يسكن موضعاً قبلها، بل إذا (وصل) إلى بلده إلى آنس قصر الصلاة، وكانت نفقته من يسير معه من نذوره ويتصدق بكثير منها، وكان مقبولاً عند العامة والخاصة، كثيراً ما تراه يحاسب نفسه، وله أخبار حسنة.
ومنهم: القاضي العلامة البحر الفهامة، الحبر شمس الدين أحمد بن سعد الدين الحسين المسوري أطال الله بقاه هو لسان العلماء في وقته، وخطيبهم في مدته، وله مع سعة العلم من الزهادة والورع والاحتياط ما يليق بمثله، معروفاً في أيامه بالبلاغة وخلوص التشيع كما قال في أبيات له أيده الله تعالى [ق/68]:
إذا لم يكن حب النبي شعاري .... وحب علي والبتول دثاري
وحب نبيهم شيمتي وبضاعتي .... وكسبي بليلي كله ونهاري
فلا نلت ما أبغي ولا نلت منيتي .... ولا رفع الله العظيم مناري
وقال أطال الله بقاه من قصيدة طويلة:
لآل رسول الله حق ودادي .... غذاني أبي إياه يوم ولادي
وأرضعته طفلاً وماذقت غيره .... فيعلق منه عالق بفؤادي
وفك به لحيي فأصبحت لاهجاً .... به وإليه في الأنام أنادي
أقفي به آثار وحي مقدس .... هدانا به الرحمن أكرم هادي
وسنة خير المرسلين فإنها .... كفيلتنا فيه بحجج سدادي
وسيرة أطهار الأئمة من بهم .... يكشف من ليل الضلال دادي
على نهجهم أنحو أوالي وليهم .... وأبرأ من ضد لهم ومعادي
أريد به غفران ربي وعفوه .... ورضوانه في مبعثي ومعادي
وله أخبار من هذا وأمثاله ما لو جمع لصار مجلداً كبيراً.
ومنهم: القاضي الفاضل الورع الكامل جمال الدين علي بن سعيد الهبل، وأخواه مهدي بن سعيد، وأحمد بن سعيد الهبل، أما القاضي علي بن سعيد فله في الفقه قراءة وتحقيق، وفي سائر الفنون حصة وافرة، ولي القضاء في حضرة الإمام المؤيد بالله عليه السلام والفتيا، وكف بصره بعد وفاة الإمام،ولم ينقص شيئاً من وضائف القراءة، ويغيب القرآن أطال الله بقاه.
وأما القاضي مهدي ففقيه فرضي، والقاضي أحمد عالم متقن، له في كل فن اليد الطولى، وسمعت من بعضهم يصفه بالإجتهاد، توفي في صنعاء في شهر جمادى الآخرة في عام إحدى وستين وألف[1651].
ومنهم: القاضي العلامة المجتهد البحر شمس الدين أحمد بن يحيى بن حابس الدواري، كان عالماً محققاً، وبحراً في العلوم دافقاً، ولي القضاء بعد أبيه مدة، وله مصنفات نافعة في كثير من الفنون، توفي قبيل الفجر في الليلة المسفر عنها يوم الإثنين الرابع عشر من ربيع الأول عام أحد وستين وألف[الجمعة 5مايو 1651م] [ق/69] [ومن محاسن أشعاره] [..............].
ومنهم وهو من الطبقة الأولى: الفقيه الفاضل المحدث الطاهر -شبيه سلمان للبيت النبوي وأبي ذر الغفاري- أحمد بن موسى بن مقبل بن علي بن سهل العدناني النزاري، ثم الصعدي، وبلغ من العمر[.....] سنة.
قال السيد أحمد نفع الله به: وحج في عام ثمانين وتسعمائة، وكان له من محبة أهل البيت والسعاية في قضاء حوائجهم، والمحبة لهم بقلبه ولسانه،والمناصرة بيده وسنانه، ما لم يكن لغيره قط، ولقد كان يخرج بنفسه إلى قراهم المبتعدة ليتفقد أحوال حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وربما تختصم المرأتان فيخرج إليهما بنفسه ليصلح بينهما، وكان رحمه الله قد اتخذ منازله مألفاً لبني هاشم يأوون إليه كما يأوي الطير إلى وكره، وكان ممن بايع الإمام الحسن بن علي عليه السلام وشايعه، وناصره واستعان له من أهل صعدة أموالاً جزيلة، ولما دعا الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد عليه السلام جعل له ولاية عامة، فكان يفعل كما كان يفعل الإمام عليه السلام ، وكان باقياً في صعدة أيام الظالمين بأمر الإمام عليه السلام، وكان له هيبة في صدور الظالمين، وجرى له مع الأمير محمد التركي والأمير صفر قضية ونجاه الله منهم، بل حبس ساعة من نهار، ثم أخرج.
قلت: وسمعت في صعدة من غير واحد أنهم هموا بقتله، وقد أحضروا ما أرسله إلى الإمام عليه السلام حجة عليه فهابوه كثيراً وأبلسوا، ثم رأوا المدينة تموج بأهلها خوفاً عليه، فخلوا عنه، وقد أجاب الأمير محمد بجواب حسن قبله منه، وخلى عنه من غير حبس ثانٍ، قال هذا الإمام هو من بلدنا وولد إمامنا الهادي، وبيننا وبينه مثل ما بينكم وبين من هو من بلدكم صحبة كتب إلينا نشتري له بعض كسوة وصابون، وأمور لا عليكم منها ضرر- أو كما قال- وهو مع ذلك مطرق لا يراه ولا ينظر إلى الترك.
ولقد أخبرني حي الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي رحمه الله قال: إنه دخل صعدة لزيارة الهادي عليه السلام في الصلح الكبير وأظن أن الإمام عليه السلام أصحبه شيئاً من الأغراض، قال في حديث طويل: فأمرني أنا وصاحبي باللقاء إلى خارج المدينة ليخرج إلى عند السيد فارس، هو من أولاد الإمام المنصور بالله، فيه ديانة حسنة، (ومسكنه في المخلاف) ، قال: فلما توسطنا القاع لقينا هذا الطاغي وقد خرج بخيله ملأ القاع فأنكرنا، فانفرد من فرسانه وسار بينه وبينهم كثيراً[ق/70]، ثم أقبل على فرسه حتى وقف علينا وسألنا، وعرف سيدنا أحمد بن موسى فقال: أين تريد يا فقيه؟قال: نخرج إلى السيد فارس، ثم ولى عنا ولحق بفرسانه، فلما ولَّى سألني سيدنا أحمد: هل قد هذا الأمير شيبة أم لا؟فقلت: يا سبحان الله أنت في بلده كذا مدة ما تعرفه، فقال: ما والله أعرف وجهه.
ومنهم: الفقيه الفاضل الورع العامل إبراهيم بن [......] المتميز الصعدي، كان ورعاً عالماً مشغوفاً به، معروفاً بملازمة المسجد والصدقة والبر، سيما بالأشراف، وكان تلوالفقيه أحمد رحمهما الله، توفي في شهر [.......] عام [........].
ومنهم: القاضي العلامة وحيد العصر، وفريد الدهر، الولي الصديق، الفقيه العالم على التحقيق: صارم الدين إبراهيم بن يحيى بن محمد السحولي عالماً عاملاً، ورعاً زاهداً، جاهداً في صلاح المسلمين، ونفع المتعلمين، ولي القضاء في صنعاء بعد وفاة القاضي العلامة وجيه الدين عبد الهادي بن أحمد الثلائي رحمه الله،وكان قبلها إماماً مصموداً، وبالعلم مقصوداً، توفي ضحوة يوم السبت لعشر بقين من جمادى الأولى عام ستين وألف [الأربعاء 23مارس 1650م] بمدينة صنعاء، وقبر بها، وكان قبر أولاً بجربة الروض عدني مدينة صنعاء عند قبر والده رحمة الله عليهما، ومن لديه من العلماء رحمهم الله جميعاً غربي قبر والده، ثم اقتضى الحال نقله إلى مشهده المعروف قبلي محراب السعيدة عدني صنعاء الذي أمر رحمه الله بعمارته، وكان نقله ليلة الخميس السابع عشر من شهر شوال من عام ستين وألف[13 اكتوبر 1650م]، ووجد جسده وأكتافه على حالته التي قبر عليها لم يتغير عنها رحمه الله ورضي عنه.
ومنهم: القاضي الفاضل الزاهد العلامة أحمد بن صالح العنسي العياني من أهل الورع الغزير، والفضل الشهير سيما في الأصول أطال الله بقاه.
ومنهم: الأخوان العالمان شرف الدين الحسن بن محمد بن يحيى بن سلامة المشهور بالفضل، عالماً تقياً فاضلاً أطال الله بعمره، وعلي بن محمد عالماً متبحراً كاتباً بليغاً، محققاً في جميع الفنون، مقيماً في صنعاء المحروسة بالله تعالى أطال الله بقاه.
[دعوة الإمام القاسم]
وأما دعوته عليه السلام وحروبه وطرف من سيرته فمما أخبرني الثقة عن جماعة من أصحابه، منهم: الأمير الكبير[ق/71] الحسن بن ناصر الأمير الغرباني رحمه الله تعالى، ومنهم الفقيه المجاهد قاسم بن سعيد الشهاري رحمه الله تعالى، ومنهم القاضي شمس الدين أحمد بن قاسم الخولاني، ومنهم الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي الآنسي رحمه الله تعالى وغيرهم ممن يعرض ذكرهم إن شاء الله تعالى، فأخبرني السيد الفاضل جمال الدين علي بن محمد بن شمس الدين الغرباني قال: أخبره الأمير الحسن بن الناصر المذكور، قال: كنت مهاجراً في بلاد العصيمات في موضع سماه، وكان قد جاور العصيمات والتجى إليهم لما أسر الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي عليه السلام، وكان هذا الأمير الحسن من عمدة أعوانه والمشهورين بالشجاعة، والرمي بالبندق، قال: وكان الإمامة ما تعرض في فكري لما أرى من شرار الخلق، وقوة سلطان الترك على الأرض، فلم أشعر إلا وعندي كتاب من السيد القاسم خلاصته: وصولي إليه لمفاوضة خير إن شاء الله تعالى.
وروى السيد محمد بن ناصر الغرباني أن السيد المذكور حال وصول الكتاب إليه وهو بمحروس شاطب من جهات المشرق، قال: فوصلته إلى بلاد الشرف، فعظم وأكرم، ثم قال: هذا الجور قد عم، والشرع الشريف ادلهم أو كما قال- ولا يسعنا عند الله إلا الذب عن دينه، ومجاهدة أعدائه، قال: فلما قال ذلك دهشت ووقع في نفسي أن هذا حدث بمحال مع معرفتي بكماله واستحقاقه المقام بما أسمعه عن جل العلماء، وقلت: يا سبحان الله وأي موضع تستقر فيه وتأمن حتى يعود رسولك، وهكذا من الكلام؟فقال: معي على هؤلاء القوم عونان اثنان عظيمان، قال: فأنست وقلت لعلهما من ملوك اليمن كعبد الرحيم بن عبد الرحمن، والأمير أحمد بن محمد صاحب كوكبان فهما أعظم من أعرف في وقتهما، فأعدت عليه القول، فقال: سبحان الله العون الكبير الغاضب لدينه المرجو لنصر أوليائه، والثاني ما ترى من ظلمهم الذي قد عم القريب والبعيد، والرفيع والوضيع، فما ننثني إن شاء الله عن ذلك، ثم وعدته ووصلني بذهب أحمر لا أدري من أين صار إليه من شدة الخوف، وعدم ظهوره.
وأخبرني الوالد السيد محمد بن ناصر الغرباني أطال الله بقاه أن هذا الذهب من امرأة من الشرف من المحابشة لعلها من المشائخ أو صت به له على يد بعض الفضلاء، فكانت الوصية مائتي حرف أحمر ، وسمعت من غيره أنها مائة. والله أعلم.
وأما القاضي شمس الدين أحمد بن قاسم الخولاني عافاه الله تعالى[ق/72] فقال: أخبره حي مولانا الإمام عليه السلام من فيه قال: لما اشتد به الخوف من الظالمين، وقد تنقل في مواضع كثيرة من نواحي الشرف، وطلب أشد الطلب أحيط به في مواضع، ونجاه الله تعالى، وتنقل إلى نواحي الحيمة وجبل تيس، ودخل صنعاء مستخفياً أمسى ليلة أو ليلتين في مسجد داود وهو كاتم نفسه، وفي مضيه هذه المواضع المذكورة أخبرني غير واحد من عجائب ما اتفق له منها في الصلبة وقعة، ومنها في المرواح أخرى، ومنها في المحويت، ومنها في بلاد الشاحذية وغيرها ما يدل على حفظ الله له سبحانه، وتأييده ومدده، وما مهد الله له وألقى في القلوب له من المحبة والهيبة.
وأخبرني حي القاضي العالم علي بن سعيد الظفاري الظاهري ثم الحيمي أنه كان مع جماعة من الطلبة يقرأون على حي الفقيه العلامة المحدث عبد الرحمن بن عبد الله الحيمي الحصباني في هجرة الحدب من الحيمة، وأنه وصلهم عليه السلام ولا عرفوه، وقرأ على الفقيه كتاباً أو قال كتابين، وأقام عندهم ولا يعرفون اسمه، وكان الفقيه عبد الرحمن يكره مقام الإمام عنده، واعتذاره من القراءة، ومن ذلك فلم يقبل الإمام، ثم تودعه من العر، قال: ورأينا من سيدنا كراهة بقاء السيد عنده، ولا كاد يقبله، ثم حثه على السير من عنده، قال: وقلنا قد شغفنا به يا معشر الطلبة وكنا جماعة وافرة، فلما فارقنا وكان عقيب صلاة الظهر اتفقنا على مفارقة سيدنا وهجره، واتهمناه بما نعوذ بالله من كراهة أهل البيت عليهم السلام، فلما رآنا على نية المسير جمعنا واعتذرنا، وقال: يا فقهاء هذا إمام هذه الأمة وكذا، وبلادكم قد غلب عليها الترك أخذهم الله فلا نأمن من أن نرغبه في المقام، فيظهر اسمه فيقبضونه من عندنا، قال: فاستغفرنا الله وعدنا للقراءة، وكذا سمعت من كثير من أصحابه عليه السلام يحدثون عنه بمثل ذلك، وأنه أراد أن يمشي في بيت المنامة فوجد منكراً فغيره، وفارق المكان، ثم صار إلى بيت القدح أو قال الحواني من بلاد الأحبوب، ووقف على شيء أنكره فأمسى في غير البلد بغير عشاء، ثم صار إلى بيت المصفر من بلاد بني سوار، واتفق بالشيخ محمد بن جعفر، وكان إذ ذاك خادماً للشيخ العبادي شيخ بني سوار، وكان العبادي معظماً في الناس، وأن هذا الشيخ محمد بن جعفر فعل له معروفاً [ق/73] فدعا له، وصار بعد ذلك
ذا يسار، وكثرت عليه الخيرات والبركات، وأخبرني المذكور بقضية من فيه وأنه وجده فأدخله بعض مساجد البلد، وأطعمه من ملكه، وأنه دعا له، وذكر كلاماً كثيراً في معنى ذلك، ودخل صنعاء وخرج منها على المشهور من قضية بنيان الحاسب، وذلك على سبيل الاختصار مما سمعته من ولده السيد الأكرم العلامة أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله أن هذا بنيان كان يحسب هو وغيره من المنجمين ظهور الإمام عليه السلام، وأنه يقلع جرثومة الترك من أرض اليمن، ويظهره الله على مخالفيه فكانوا لذلك في تعب شديد، وبحث أكيد، وكان طلب إلى صنعاء الشيخ عبد القادر الجعدي من صوفية اليمن، ونذكر عنه أشياء، وذكر سيدي أحمد حفظه الله أن له في خلاص الإمام من هذه القضية عناية ويداً لم أتحقق تفصيلها منه.
وأخبرني الشيخ الأكمل إبراهيم بن أحمد الحشيبري أنه سمع من والده حي الشيخ أحمد بن أبي السعود الحشيبري يحدث بصفة ما حكاه سيد أحمد أطال الله بقاه، وأن الوزير والأمير سنان طلبوا هذا الشيخ عبد القادر يعينهم بالتنجيم والبحث عن الإمام، فورى بالبحث عن الإمام وقد عرف مكانه، وأرسل إليه أن أنج بنفسك، وذكر الآية الكريمة {إِنَّ الْمَلاََ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} قال الشيخ المذكور: إن والده حكىذلك لمولانا الحسن رحمه الله، وأنه صدق هذه الرواية، ولأجلها أحسن إلى والد الشيخ الجعدي المذكور. والله أعلم.
وأخبرني سيدي أحمد أطال الله بقاه أيضاً عن القاضي العلامة سعيد بن صلاح الهبل أنه كان في تلك المدة في صنعاء ويخالط الشيخ المذكور، ووصف من تعظيم الترك له كثيراً، وأن سنان باشا كان يزوره فلا يقوم له، قال: وكان في دار فإذا أذن للداخل عليه فتح الباب غير من يراه الناس، قال: فلما دخل مسجد داود وهو يريد الاتفاق بحي سيدنا العلامة عز الدين عمدة الزاهدين محمد بن يحيى بن سلامة رحمه الله تعالى، وكان محبوساً في قصر صنعاء وعليه ضمانات أشراف الجوف، ويقيم في مسجد قصر صنعاء لأنه ممن لزم مع حي مولانا الإمام الحسن عليه السلام، فاتفق أن الحاسب المذكور قال للوزير حسن: هذا صاحبكم في صنعاء، وكان يقول بحليته وصفته ولا ينطق بالاسم بل يقول في اسمه ميم، قال: فلم يشعر العلماء الذين في المسجد، وهم عدة منهم: القاضي العلامة علي بن قاسم السنحاني، وسيدنا العلامة [ق/74] عامر بن محمد الذماري وهو الذي كان الإمام مختفياً في منزلته ولا يعرفه الباقون صورة وإنما يسمعون به، وكان عليه السلام في لباس مخالف للفقهاء من الصوف فما عليه لذلك معول، وغيرهم من علماء الزيدية إلا وباب المسجد مملوء تركاً وخدماً من أصحاب الباشا حسن يطلبون من في المسجد جميعاً، فلما أرهقوهم وحثوهم، وهم يحافظون على أهل الهيئة واللباس لظنهم أنه المقصود ولا خبر عندهم إلا أنهم طلبوهم لعطاء، قام عليه السلام وترك شملته، ودخل المطهر فقال له أحد الخدم: أكمل الطهور يا فقيه والحق بالفقهاء، وسار وتركه، قال: فقام عليه السلام وصلى ركعتين كأنه تابع لهم حتى وصل باب مسجد القصر، ودخل المسجد
فاتفق بحي سيدنا محمد بن يحيى بن سلامة رحمه الله.
وأخبرني الفقيه الفاضل علي بن محمد بن حنش قال: سمع من بعضهم أنهما بقيا فأطلع على بكائهما بعض أهل القصر ممن يعرف القاضي محمد بن يحيى ولا يعرف الإمام عليه السلام، فسألهم فقال: القاضي هذا فقيه من بلادنا أخبر بموت أصحاب لنا وكذا، ثم قال: يا فقيه ما نجد من يشتري لك قهوة، لكن تقهو بهذه البقشة أو قال البقشتين، وتعزم ووادعه فما وصل بعض بلاد همدان إلا وقد توسمه بعض من يعرفه، ويسمع به وسماه باسمه، وقال هو يعزم شبام عند عمه السيد عامر، فلحقت خيل إلى ظلع ففاتهم، ودخل شبام في مسجد خالٍ في جانب من المدينة، فما شعر إلا والأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين قريب من المسجد بحفدته وأعيان دولته يحتفر غيلاً هناك، حتى حضرت صلاة الظهر ودخل المسجد-يعني الأمير- ومولانا عليه السلام مكب في جانب على صفة الهنود، فلم يلتفت إلى الأمير ولم يتحرك، فقال: هذا- الله أعلم- جني وأعرض عنه، وخرج من المسجد ولم يتعرض له، فلما وصل بعض العقبة التي إلى الحصن التفت إلى خادم ركابه وأعطاه خمسة حروف وقال له: لعل الذي في المسجد ابن أخي السيد عامر فقد ذكر له فضل وعلم وكذا أعطه هذه يصل بها عمه أو كما قال، وكان هذا الأمير في عقله مما للعجم فيه، وكان يذكر عنه عرب كثير، قال: ولما خرج الأمير من المسجد هرب مولانا بنفسه قبل حبابة، فلحقه الخادم المعروف بالحوار بتلك الدراهم، فناداه حتى [ق/75] وصل إليه وأعطاه الخمسة فلم يقبضها عليه السلام بل قال: هي لك، فقال: أخاف على نفسي، فقال: ومن يعلم الأمير أني لم أقبضها منك،
وأمسى في حبابة ثم انحدر منها إلى بلاد حجة. إلى هنا رواية سيدي أحمد حفظه الله بالمعنى.
وأخبرني غيره أنه عليه السلام دخل بلاد حجة فتلقاه فقهاؤها وعلماؤها منهم سيدنا العلامة صارم الدين إبراهيم بن مسعود، والسادة العلماء الفضلاء بنو العبالي كالسيد العلامة جمال الدين علي بن صلاح وأخيه السيد محمد بن صلاح، وغيرهم، وأظهروه في بلادهم ثقة بعزها بعبد الرحيم بن عبد الرحمن، فأقام عندهم في العبالي وأخذوا عنه علماً، فلما ظهر خبره أرسل الترك أخذهم الله إلى الأمير عبد الرحيم أن لا عذر من القبض على فلان، وكان غافلاً عما هم فيه كما سبق من الأمير أحمد بن محمد فأرسل على مولانا عليه السلام ومن لديه من العلماء رحمة الله عليهم أربعة وعشرين نفراً عبيداً وخدماً، وكان الإمام عليه السلام يومئذٍ في مكان من العبالي يسمى الجميمة في مسجد يقرأون فيه، فلما لزموا الباب اشتغل العلماء ومن حضر بلزم الباب والمواثبة عليه، وكان الخدم يعرفون من الأمير عبد الرحيم تعظيم العلماء سيما السادة لصهارة بينهم وبينه فأجلوهم، ومولانا عليه السلام اغتنم الفرصة وخرج من طاقة المسجد وانحدر في شعب غائباً عن أعينهم، فلا زال حتى دخل بيت الشيخ محمد الأدبعي، وأنا أعرف الشيخ المذكور وأعرف جلالته لرعايته لمولانا عليه السلام فأخفاه في منزله حتى الليل، وأخرجه طريق بلاد الشرفي فكانت طريقه وادي مور قاصداً جهات الشرف.
قالوا: فأما العلماء فأطلعوهم إلى عند الأمير المحروم فهتك حرمتهم، وقتل صهره السيد محمد بن صلاح بعد أيام، وضرب الآخرين بالسياط منهم سيدنا العلامة عبد الوهاب بن سعيد الصنعاني رحمهم الله تعالى.
سمعت هذه الرواية في حجة من غير واحد ولأجل ذلك تشرد من بلاده العلماء رحمهم الله تعالى، ثم أرسل عسكراً مع نقيب سموه لي قريباً من المائة النفر، فلحقوا مولانا عليه السلام أنهم يجدونه في الشاهل أو بني مديخة عند أخواله، وكانت طريقهم مور أيضاً.
قالوا: فبينا مولانا عليه السلام في عطفة من الوادي إذ سمع المرفع فالتجأ إلى أصول شجر أكثرها أثل، ونظار وتوارى فيها، قال: فسمعهم عليه السلام وهو يسبون عبد الرحيم -يعني العسكر- ويقولون: يأمرنا بالمسير الليل ويحملنا هذه المشقة على فقيه واحد ما عسى أن يفعل، وكان في العسكر رجل يسمى عبد القادر[ق/76] العبالي، كان من وجوههم، فأخبرني المذكور من فيه وهو والله يتأوه ويكاد يبكي قال: فقلت: نعم تواريه مثل هذه الشجرة ورمى بحجرة إلى أعلى الشجرة التي مولانا عليه السلام في أصلها، ولا علم له بأحد هناك، قال: فضحك العسكر كثيراً وقالوا مستهزئين به، قال عبد القادر: [ولما اتفق ما اتفق من القبض على الأمير عبد الرحيم ووصوله إلى الإمام عليه السلام إلى المدان من هنوم، وقد أظهره الله عليه وعلى غيره كما سيأتي، عرضنا عليه يا أصحاب عبد الرحيم] حتى وصل اسمي فسلمت عليه، فلما رآني ضحك وقال: أنت الذي رجمتني في مور بالحجر حتى سال بها دمي وأراني في وجهه، قال: فبكيت وخجلت، فأبرأني وآنسني واستغفر لي.
فصل: ولما دخل بلاد الشرف وله بها وبأهلها خلطة، وفيهم أخواله مشائخ بني مديخة وشيعة كثيرون، وفي جانب الشاهل بعض أولاده مع أخوالهم أولاد حي السيد الفاضل العالم العابد المعروف بالسيد علي العابد؛ لاشتهاره بالعبادة، وهو عالم مشهور أيضاً وهو علي بن إبراهيم القاسمي، له من الزهادة ما يضرب بها المثل، وفي العبادة كذلك، وكان احتسب لله وأسر كما أخبرني القاضي شمس الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه تخفى في مواضع من هذه أياماً، وهجم عليه إلى مواضع وسلمه الله تعالى بعد الإحاطة به، ولتفاصيل هذه الجمل أخبار طويلة فيها له الكرامات الباهرة، والآيات الظاهرة، وتركت إثبات بعض ما حفظته من روايات ثقات من أصحابه عليه السلام لتراخي الأيام حتى فات عن حفظي ترتيبها، وللاختصار من ذلك أنه وصل إلى أخواله إلى بني مديخة واعتذرهم من دخوله بيوتهم بما يصرفهم عن التعويل عليه، وأمسى معهم في مسجد وقد أمرهم أن يخلوه له، فلما تفرقوا خرج منه خوفاً أن يهجم عليه فصار في مزرعة بالقرب منه، والثمرة فيه قد تغطي القاعد، وأراد النوم وإذا بوجبة في القرب منه كبيرة، ثم أخرى فقعد مفكراً في ذلك ويظن أنه عدو قد هجم عليه، وعرف أنه إذا هو العدو فلا يقصد إلا المسجد فإذا هو يسمع السير ولا ينظر السائر فقرأ القرآن فإذا باثنين يقرآن كذلك، فسألهما؟ فقال: هما من فقهاء الجان، وصلا لزيارته وطلباه يقريهما، وخاطباه وعرفاه أن اسم أحدهما جابر التركي، قال عليه السلام: ثم ضحكا وقالا: نحن نكره الترك مثلك وإنما سمي هذا لأنه إلى السمن أقرب فشبهوه[ق/77] بهم، وأخبراه بكثير،
ثم اعتذر إليهم عن القراءة لما هو عليه من التخفي والمشقة، ووصف لهما حي السيد العالم علي بن إبراهيم المعروف بالعالم وهو زاهد وعابد أيضاً، وهو تلميذ العابد رحمه الله تعالى (من أهل الشاهل) يقصد أنه قال عليه السلام ولا أعرف ما كان لاشتغالي، وهذه الرواية عنه عليه السلام لحي القاضي العالم أحمد بن قاسم الخولاني رحمه الله، ثم سمعتها من غير واحد من أصحابه، ومثل ذلك نقلت من خط القاضي شمس الإسلام أطال الله بقاه عن مولانا أحمد بن أمير المؤمنين أطال الله بقاه عن والده عليه السلام قال: كان مما يعينني على الدعوة أني كنت أيام خوفي من الظلمة أسير في الليل فحصل معي في بعض الليالي وحشة فأحسست من فوقي شيئاً كهيئة الطير أو نحوه لا أراه وهو يسير في الهوى معي، ويناديني باسمي يا إمام قاسم.
قال القاضي في الروايتين: وهذا مما تواتر وظهر ظهور الشمس، ومن خط القاضي أيضاً متصلاً بهذه الرواية ما رواه أيضاً عن مولانا أحمد بن أمير المؤمنين أيده الله عن والدته أنهم كانوا يختفون مع الخوف الشديد في مواضع كثيرة من حجور، ولا يعرفون موضعه ولا يعرف هو، فما يشعرهم إلا وصوله إليهم من غير دليل يدله عليهم.
وقال: والمذكور أيضاً أخبره مولانا عليه السلام من فيه قال: لما اشتد به الخوف الشديد لم يأو إلى حي، ولم يدخل حضراً من بلاد الشرف بل لزم الفيوش، وله مواضع سماها، وكان يقوم على أولاده مع تفرقهم في الاختفاء الفقيه الفاضل عبد المغني بن عيسى الشرفي رحمه الله، ويعولهم مع تفرقهم ما يجتمع له من النذور، ثم يصله بما أمكن إذا وجد إلى الإتصال به سبيلاً أو كمال قال.
قال الشيخ: أحمد قال لي مولانا عليه السلام: من أعظم ما لقيت أني خفت كل أحد وتفرق أولادي ولا وجدت من أسأله عنهم، فتوسمت طريقاً أعرفها إلى سوق سماه، ويعرف أن أحد أخواله يمضي فيها فمشى في غير الطريق بعد أن قصدها من بعض جبال حجور، ثم توارى في موضع يرى الطريق ومن فيها وهو لا يرى من الشجر حتى رأى خاله قريب غروب الشمس وقد عاد من السوق، وبعده غيره من أهل السوق وقد تقدمه كذلك وهو وحده ماضياً، فقال: هذا خالي أنحدر إليه وأوافيه يخبرني عن أولادي، وكان عليه السلام قد طال شعره، وتقطع ما عليه من الكسوة وفي بدنه عليه السلام قوة وخفة، فلما رآه خاله منحدراً مشمراً ظنه يريده بمكروه وأنه ممن يقطع السبيل فهرب واشتد [ق/78] فناديته بصوت غير مرتفع من الخوف ممن بعده وقبله لا يعودون، فلم يلتفت فقفوت أثره لعلي أدركه قبل غروب الشمس، فلما رآني ازداد هرباً وصاح بمن تقدمه أدركوني وهو لا يظن إلا أنه قاطع طريق، وكان ذلك الموضع مظنة لذلك، قال: فعدت باكياً وصرت إلى جبال حجور ولم يبق لي مأوى حتى كان يتصل بمن يدنو منه من البدوان، فينال منهم الطعام اليسير فيتبلغ به ولا يعرف أحد غير أنه سائح
ماض طريقاً على ما تقدم من صفة الهنود.
وأخبرني حي السيد لطف الله بن علي الهادوي المعروف بسحلة رحمه الله أنه سمع الإمام عليه السلام يحدث ببقاه على هذه الصفة، وأنه كان يبات في المواضع التي فيها الماء لأجل الصلاة، فأوى في بعض الليالي إلى ماء محيط به الشجر فتوضأ وأراد الصلاة، فلما توجه للصلاة ظهر له حيوانات شبيهة صغار البقر، وكان يعلو بعضها بعضاً فإذا خرج من الصلاة ذهبت وإذا عاد عادت، قال: ففارقت المكان وعرفت أن ذلك مأوى الشياطين ولم أعد إليه بعدها، ولم أحص كم بقي على هذه الحالة.
قال السيد العلامة صلاح بن عبد الخالق الجحافي رحمه الله في ميميته الآتية إن شاء الله تعالى:
من خاض بحر الموت أسود مزبداً .... فاختار فوق أديه المتلاطم
من فارق الأبناء لا لغضاضة .... سبعاً وكان مجاوراً لأراقم
فأشار السيد إلى بقاه على هذه الحالة سبع سنين. والله أعلم.
(وفي المشهور) مما سمعته من غير القاضي المذكور أنه بلغه في أيام بقاه في هذا الموضع فتوى من بعض السادة وأهل العلم بجواز المداراة للظلمة، وظهر ذلك فأجاب عليهم بكتابه المسمى (التحذير) وهو مشهور في مجموعه عليه السلام، وكذلك قصيدته المسماة (وشرحها الكامل المتدارك في بيان مذهب المتصوف الهالك)، و(حتف أنف الإفك وشرحه) أيضاً، وكتابه (الجواب المختار على مسائل عبد الجبار) وفيه علم جم ولا أدري كم بين ذلك، وبين ما ذكره الشيخ أحمد عنه.
قال السيد أحمد نفع الله به: ثم انتقل عليه السلام إلى جهات الشرف فسكن فيها، ثم ظهر صيته واشتهر فضله ورمقته العيون، وبلغ خبره إلى الأتراك فخافوا جانبه وأرادوا القبض عليه، فتخوف منهم وكتم نفسه، واختفى عن الناس كافة حتى خفي خبره ولم يدرك له أثر مع جدهم في التجسس عليه، واجتهادهم في تتبعه، فبقي على ذلك نحو بضع سنين، وهو في خلال [ق/79] ذلك عاكف على درس كتب العلم والقرآن، وألف في خلال ذلك كتاب (الأساس) في أصول الدين، وكتاب (الإرشاد في معرفة أعمال العباد عند فقد الاجتهاد) وكتاب (التحذير من المعاونة على الفتنة)، وكتاب (الجواب المختار على مسائل عبد الجبار)،وأنشأ قصيدته في خلال ذلك المشهورة في ذكر الصوفية وأعمالهم القبيحة الكفرية، وسماها بـ(الكامل المتدارك في بيان مذهب المتصوف الهالك) وهي مشهورة.
دقيقة تلوح ومسكية تفوح: فيها مهد الله سبحانه وتعالى لعبده ووليه، وصفوته من ولد نبيه، مولانا أمير المؤمنين المنصور بالله صلوات الله عليه وسلامه، وهي إذا فكرت فيما ألقى الله سبحانه وتعالى له في قلوب أهل قطر اليمن بارهم وفاجرهم، ومسلمهم وكافرهم من الهيبة والعظمة، والجلالة والفخامة، حتى أفزع ملوكهم ذكره، وأسهرهم اسمه قبل أن يعرفوا منه سطوة، ولا ظهر له في قتالهم روحة ولا غدوة، ولا هو من أهل المال فيكثر بماله أعوانه، ولا قوة عشيرة فيعظم سواده إخوانه، ولا له منعة من مال أو رجال، ولا قلل من الجبال، فيقول القائل أنهم يخافون منه الفتك والاختلاس، وأن يثب فيهم وثوب الليث للإفتراس، ويعود إلى معقل منيع، وجيل مطيع، فمما يكون هذا الذكر الوسيع، والأمر المريع، ومن المعلوم أن في وقته عليه السلام من العلماء من هو كمثله، وذكرهم عند العامة أشهر من ذكره، لاستقرارهم بأوطانهم ومعرفة إلدهماء بمكانهم، ويقصد الطالب للعلم فيخرجون عليه النفقات ويفيدونه العلوم النافعات، ثم يقصدهم الزائر والمستفتي فيعود بحل المشكلات، مع القرى والإيناس وإسبال الخيرات، وهو عليه السلام لا يكاد يوجد لأنه في أوان كدحه للطلب لايشتغل بغيره فلم يعرفه أحد إلا مشائخه أو من يلازم مجلسه، وهو مع ذلك ينتقل من موضع إلى آخر، وربما يختم الكتاب كما سمعت عن بعض من كان له من الأصحاب، ومن لا يعرف الشيخ ولا أصحابه ما اسمه، فما هذا المقلق لقلوب الأشرار حتى هابوه هيبة الأسد الزءار، وقطعوا في ذكره كثيراً من أوقات الليل والنهار، وتوعد به المؤمنون الفجار، وقطعوا بالفرح من عنده
فهم في الانتظار للانتصار، فما هذه إرهاصات ساقها له الحكيم العدل، كما جعلها سبحانه لأنبيائه من قبل، وجعل ذلك عنوان اختياره [ق/80] للخلافة وتمييزه لما جعل فيه من الكمال على الكافة، وساق له الألطاف، وخصه بجزيل الإتحاف، منها جودة الذكاء والفهم، وما منحه من سعة العلم فكان سهمه فيه أوفر سهم، مما أخبرني الثقة عنه عليه السلام أنه سمعه وقد ذكر نعمة الله عليه بجودة الفهم أنه صلى المغرب في بعض ليالي أيامه ولا يعرف علمي العروض والوزن إلا بالذكر، وصلى العشاء وهو شيخ فيهما، وكذا أنه وجد في ذلك الوقت اليسير شيخاً استملى منه جوامعها، ولم يحتج فيهما إلى غير ذلك المجلس، ومنها العمل بالعلم حتى كأنه في الناس أمة وحده لما شوهد من حرصه على العمل بما أراد الله به عبده، ومن ذلك الأمر بالمعروف الأكبر والنهي عن [الفحشاء] المنكر، فإنه عمل فيهما بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} فلم يرخص فيهما بشيء من المعاذير، ومن ذلك البدع في الدين فإنه عليه السلام ردها، وتكلم فيها وظهرت مصنفاته في الرد عليها، ومع ذلك خاض معه العلماء في غرائب العلم فجلى عليهم واعترض الخصوم من علماء السوء فدمغ بحقه باطلهم، وكذا من لجأ إليهم من الموسومين بالصوفية وغيرهم من أهل المذاهب الردية، فأبان بصدقه ظاهر إفكهم، وطحطح بضياء الحق ديجور شركهم، فرمقته لذلك العيون، وتباشر به المؤمنون، وقرأوا: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
نعم فلما ظهر فضل علمه على العلماء، وعمله على العملة الصلحاء، وإعراضه عن الدنيا وإقباله على الآخرة، والعزيمة التي النجوم دون مضاها، والهمة العلوية التي أورثها من وصي النبوة ومرتضاها، وتوعد الأشرار بإماطة شرهم وذهاب ريحهم، وقال كما قال جده صلوات الله عليه وآله لقريش: لقد جاءهم بذبحهم فلما كثر ذكره هول به الأخيار لاسترواح الفرج، ورجفت لهيبته أفئدة الأشرار لما خالطهم من الهرج والحرج، ولما سمعوا من ذكره من اللهج مع جهدهم أن تدركه عيونهم بالبصر، أو ينالون منه حقيقة أثر، فهم منه في تعب وأبن، ويتوقعون منه أياماً كيوم حنين، فكانوا يتعوقون وثوبه في كل حين، كما أن ملك الموت لا يعرف هجومه، ولا يعلم نجومه، فلما أظهر الله صيته وانتشرت دعوته، تحقق الأولياء صدق الوعد، وعرف الأعداء كلال الحد، وقرأ القارئ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ} ومنحه الله النصر ويسر الله له الأمر، وألقى عليه محبة في القلوب مع اقترانها، وأيده برجال من سراة العترة الكرام وبطارقها، والهامات من شيعتها في طرائقها، وأهل الهمم العلية والعزائم[ق/81] القوية، من جمهور علائقها، ولقد أحبه وناصره على هذا المقصد اليهود مع العداوة التي هي فيهم والجحود كما ترى إن شاء الله تعالى في قصة يهودي مدر من بلاد الخشب، وكما ظهر لبعض يهود وادعة، وغيرهم مما أخبرني القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه أن الإمام عليه السلام خرج في بلاد وادعة موضعاً يريده لحاجة، وقد
احتاط مع شدة الخوف لمن يحترس أن لا يصل موضعه أحد، فلما دخل ذلك الموضع وإذا بيهودي يهتم إليه قاصداً، ويتخفى عن الأعين ما أمكنه فسأله الإمام عليه السلام استنكاراً ما يريده، فقال: يا مولانا هذه الدراهم استعن بها على جهاد أعدائك فإني أحب أن لا يطلع عليها أحد من المسلمين ولا من الذميين وهي كثيرة في ذلك الوقت، فسأله الإمام ما الحامل له؟ فقال: هذا الجهاد الذي أنت فيه يرضاه أهل الأرض كما يرضاه أهل السماء أو كما قال، وسيأتي ما روي للجن من الإعانة في مواضع من هذا المختصر، أفترى هذا الأثر من فعل البشر؟ لا والله إنما هو ممن خلق وصور وحكم وقدر، فأحصى خلقه ودبر، فهل يحتاج اللبيب إلى غير هذا دليلاً على صحة ما قرره أئمتنا عليهم السلام تأصيلاً أن الإمامة تثبت لصاحبها بتثبيت الله يجعل للمكلف إليها سبيلاً {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} انتهى المقصود من طويل الكلام في صفة الإمام عليه السلام.
رجعنا إلى تمام رواية الشيخ أحمد، قال: فانقطعت ولم أجد الطعام حتى ظننت أنه الموت، وكان لي في الجبل كهف آوي إليه وعندي من الكتب شيء، فلما اشتد بي الحال وضعفت طويت ثوبي علي، على أنه كفن واستقبلت القبلة وقلت: يا رب لا أقدر على شيء أحفظ به بدني أو كما قال-ودعوت بما أمكن، قال: فما شعرت إلا وحيوان يحركني بفمه ففتحت وجهي وإذا بظبي عظيم واقف فقمت إليه وعلمت أن الله سبحانه ساقه رزقاً لي وغياثاً، وأوثقته بما أمكن من القوة على أنه صيد، فإذا هو ساكن لم يتحرك غير أن فتحت رجليه وإذا هو أنثى وفيها لبن، قال: فرضعت من لبنها وهي ساكنة حتى شبعت، قال: ثم ولت عني وبت بأطيب ليلة، وحمدت الله سبحانه حين كفاني عطاء غيره-أو كما قال- فلما أصبح الصباح صعدت أعلى الكهف موضعاً بين حجارة أستتر بها وأدفأ في الشمس فبينا أنا كذلك وفي يدي المصحف أدرس وعندي السيف إذ باثنين من بدو حجور معهما بندق -أو قال بندقان- يطلبان [ق/82] الصيد، قال: فخفتهما وبقيت مكاني أنظر حتى أن أحدهما قصد جهتي بالبندق حتى قرب مني وركب الفتيلة ووجه البندق إلى ولا أجد ما أدافع به عن نفسي، فقلت: لا أجد غير الاضطجاع حتى يرمي لعلها تطفني فأقاتله، فلما ضربت البندق وأحسست موضع الرصاصة قريباً مني إخترطت السيف وقمت مواثباً، فصاح بأخيه وكان في جانب من الجبل يطلب صيداً، فما كان أقرب من القبض عليه بفضل الله هو وسلاحه، وأما الثاني فهرب يصيح، وقلت للذي في يدي: يا ظالم ما فعلت بك حتى تقتلني فصاح واستغاث وجحد ذلك كثيراً، فقلت: فمن رميت؟ قال: ما كنت أراك وإنما كان أعلاك ظبي كبير
فرميته فقلت: أرني موضعه فصار بي إلى ذلك الموضع وإذا هو صادق وأثر الظبي ظاهر، وكانت الرصاصة بين يديه ورجليه وسلمه الله تعالى، فعرفت أنه صاحبي البارحة، فقلت: اذهب فقد عذرتك فيما فعلت، فالتزمني وهو يصيح بأنك -الله أعلم- سيدي قاسم؟ فقلت: نعم، فعاد بالسلاح الكثير، فقلت: من الذي فر عنك؟ قال: أخي قلت: أدركه ورده لئلا يجمع علينا البدوان ولا حاجة لنا بالاجتماع بهم، قال: فلحقه حتى أدركه بالصوت، فلما رجعا وعظمهما كثيراً، فتابا وأنابا، ثم قال لهما: تجدان أحداً على مثل رأيكما يعيننا يوماً واحداً بنهب سوق طهننة، ونغير المنكرات التي فيه، وكانت أنواعاً من نحو ما يأتي في موضعه من هذا المختصر إن شاء الله تعالى؟ فقالا: لا نعلم أحداً، ولكنا نفعل فتواعدنا إلى جبل أعلى من السوق كثير شجر وأنهم يصلون ببنادقهم ومن أجابهم، وكان معي بندق بغير مجرى مخبوءة في جبل سماه، وعندها ثلث رطل -أو قال- ثلثا رطل باروتاً فقط مما صنعته بيدي، فمضيت للبندق وسرت في الليل حتى دخلت الجبل وبقيت في انتظار صاحبي حتى حمى السوق، واجتمع من جند الظلمة جماعة على ما هم عليه من المنكرات، والهسف والعسف لضعفاء المسلمين، وإذا بصاحبي يتخللان الشجرة وحدهما معهما بندقان فحسب، فسلما وقالا: ما ذا نفعل، فرأيت أن لا نرجع حتى نفزع هؤلاء الظلمة بأي فزع، وقلت: ما عسى أن نفعل وفزعت إلى الله سبحانه وتعالى، ثم قلت لهما: اشحنا بنادقكما ففعلا من الباروت حقي وشحنت بندقي أيضاً ورزمت عليها بحجارة ووجهتها نحو السوق، وأكثرت من شحنتها على ما نفعل في الطلاعات للتعشيرة، ووجها
بندقيهما كذلك، ثم قلت: على رسلكما وتيممت [ق/83] وصليت ركعتين، وبكيت، وقلت: هذا جهدي ودعوت الله سبحانه بما أمكن، ثم أمرتهما بالتنصير للإمام حتى يسمع أهل السوق ولا يسمياه ففعلا، ثم رمينا بتلك البنادق فصاح القبائل الذين في السوق معنا وأجابونا، فانتهب السوق وبعض سلاح العسكر، وهربوا على وجوههم لا يلوي أحد على أحد، وخرج إلينا أكثر أهل السوق، وبعض سلاح العسكر في أيديهم حتى اجتمع طائفة، وبايعوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدنا بعد أن فرقنا ذلك الجمع. إلى هنا الرواية عنه.
قال السيد أحمد نفع الله به ما معناه من كلام طويل: وكان الشيخ أبو زيد مخالفاً للأتراك، وكان له هيبة لواقعة أوقع فيهم فراسل إليه أنه يأوي الإمام عليه السلام وجماعة من الفضلاء، فأجابهم، وكان ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
قال السيد نفع الله به:
ثم ابتدأ الدعوة الغراء من قمر .... إمامنا القاسم المنصور في صفر
وسمعت من غير واحد من علمائنا أنه كان حريصاً على الجهاد، وطلب القائم غيرهم من أهل البيت عليهم السلام، وكان يشير هو وغيره إلى بعضهم فلم تحصل إجابة، فمما أخبرني القاضي الأعلم جمال الدين علي بن أحمد بن أبي الرجال رحمة الله عليه وقد حكى مسيره للحج في سنة[.......] قبل الدعوة الميمونة أنه اتفق بعيون علماء ذمار كالسيد العلامة إبراهيم بن حثيث، والقاضي الفاضل العلامة محمد بن علي الشكايذي، والقاضي الفاضل عماد الدين يحيى بن محمد السحولي وغيرهم من فقهاء ذمار، ومن فقهاء الظاهر سيدنا العلامة محمد بن يحيى بن سلامة، ومن فقهاء صنعاء عدة سماهم كذلك، قال: فاجتمعنا في صعدة، وكان عليها وعلى بعض اليمن الباشا علي في قوة وعظمة نعوذ بالله من شره وفعله، وأنا في أول الشباب لا علم لي ما الباعث لجمع العلماء للحج في ذلك العام كأنه على ميعاد، قال: وما ذلك إلا لما يرون ويسمعون من المنكرات التي لا يسمع بمثلها كما قاله القاضي محمد بن علي الشكايذي رحمه الله في قصيدته الآتية إن شاء الله تعالى:
تا لله ما ملة جاءت بذا أبداً .... ولا رووه لفرعون وهامانا
ولا أتى من عتى كفراً وزندقة .... بمثله لا ولا من يعبد أوثانا
قال: فلما أردنا الخروج من صعدة وإذا بالأبواب قد حفظت وأن لا يخرج أحد إلا من باب المنصورة، وأظهروا أن مماليك الباشة يريدون الحج بغير رأي [ق/84]، فما خرج من الباب أحد إلا عرضوه واسمه وبلده، ولما صرنا في العشة وكنت في رفقة القاضي صارم الدين إبراهيم بن حثيث، فبينا الناس بعد العشاء الآخرة على غفلة وإذا بالخيل والرجل يهجمون على كل، ويفتشون أعظم من الذي فعلوا في صعدة فهربنا مع القاضي إلى جبل أعلى من البلد حتى هجع الناس، ورجعنا إلى بعض المساجد، قال: ولا سمعت من القاضي غير الخوف الشديد ولا معي إلا أنهم يطلبون عبيدهم، فلما انفصلنا إلى موضع سماه بحيث نأمن الظلمة وقد تأخرت عن القاضي، ثم لحقت وإذا بجماعة الإخوان يميلون من القافلة فيدخلون شعباً في جانب الطريق، ويخرجون من جانب آخر ولا ينتظر بعضهم بعضاً، فملت إلى الشعب مثلهم وإذا بالإمام عليه السلام ولا أعرفه قبلها وهو على حجر، فعرفني وقال: أنت الفقيه على بن أبي الرجال؟ فقلت: نعم فسلمت عليه ولحقت بأصحابي فكنا معه نصلي خلفه حتى دخلنا الطائف، وسمعت من القاضي رحمه الله أنه دخل صعدة من باب سويدان وزار الهادي عليه السلام ورجع من ساعته من الباب المذكور فأمسى عند بعض السادة أظنه في رغافة، ولم يعرفوه لأنه مغير هيئته حتى صار أشبه شيء بالهنود كما تقدم، وسمعت من سيدنا القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه في مجلس القراءة بالحضرة الشريفة الإمامية حضرة الإمام المؤيد بالله سلام الله عليه أنه بعد دخوله حدود العصيمات وطريق صعدة غير محترز من العجم، وكان معه جماعة،
فلما وصلوا الفقمين أخذ أصحابه عليه السلام يصلحون لهم الطعام وهو عليه السلام عندهم يحفظ أمتعتهم فمر بهم جماعة من أصحاب علي باشا لا رحمه الله، وفيهم من توسم الإمام أو عرفه، فقال له على سبيل التحذير وقد رآه يهب من الطعام لابن السبيل: يا هذا الرجل الذي تفرق طعامك لمن مر عليك لا يراك الترك فيظنوك السيد قاسم قال: فخاف الإمام عليه السلام، وعرف أن ذلك من المذكور إنذاراً له ففرقهم كما تقدم.
وأخبرني القاضي علي رحمه الله أيضاً أنه أمسى معه في مشهد حبر الأمة عبد الله بن العباس رضي الله عنه في الطائف، قال: فنام على خشب أعلى مني من المكان وظننته نائماً وإذا به يدعوني فأجبته، فقال: يا فقيه علي، قد رأيت أني أقيم في هذا الموضع وأعاهد البيت الشريف من هذا الموضع، قال: فقلت: على ما [ق/ 85] ترى.
وأخبرني حي الفقيه الفاضل يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله تعالى، وسمعت أيضاً من غيره عنه عليه السلام أنه أراد المقام في الطائف كما ذكر القاضي علي أو هم أن يلحق بجيلان وديلمان، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قال: الإمام الهادي عليه السلام الشك مني أنه يبايع له أهل اليمن فاستبشر وعاد اليمن، قال القاضي: ولما وصلنا ذهبان من أعمال شام قحطان وكان في موضع منه يسمى الواديين السيد العلامة عبد الله بن علي بن حسين المؤيدي وكان قد دعا إلى نفسه وقد عارض حي الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي عليه السلام ولم ينتظم له أمر ولا إليه التفات، وصار في هذا الموضع متوارياً ولديه أهله، قال: فأضافنا جميعاً ضيافة حسنة، قال: فلم أر الإمام القاسم عليه السلام مد يداً، وأما الحضور فحضر ثم جمعنا الإمام في موضع وتكلم فيه بمواعظ نافعة، ثم قال: هذا السيد عبد الله يصلح للإمامة ونعلم عليه هفوة كانت إلى الإمام الحسن عليه السلام فهلموا يا أصحاب ندخل عليه نسأله التوبة عنها ثم نبايعه ويظهر نفسه للجهاد ونعود فنجاهد ونؤخر الحج فالجهاد أهم وأقدم، قال: فدخلنا عليه ونحن جماعة من علماء مشهورين وقد قال لهم الإمام عليه السلام: يكون الكلام منكم يا أصحاب، فلما أخذوا مجالسهم نظر بعضهم إلى بعض أيهم يبتدي الحديث فلما لم يحصل تكلم مولانا عليه السلام وقال فيما قال: يا سيد عبد الله الأصحاب وصلوا إليك يطلبونك التوبة والاعتذار إلى الله سبحانه مما كان منك إلى الإمام الحسن، ومرادنا بعد ذلك نبايعك على أنك تنتصب لجهاد الظالمين وكذا أو كما قال، وعند
الإمام حي الفقيه الزاهد العدل عز الدين محمد بن علي اليعقوبي رحمه الله وكان من خاصة الإمام الحسن عليه السلام وملازمي مولانا عليه السلام وكان الخازن لبيت المال للإمام الحسن فكان الجواب: تذكر يا فقيه محمد وفودي على الإمام الحسن أو أظنه أسقط اسم الإمام (إلى الإمام) إلى المدان وما قابلني به وإني طلبت فنجال عسل ومضى وهو ظالم لي ونال منه شيئاً قال: فقام الإمام عليه السلام وقام الفقيه محمد وجماعة ولم يرد عليه الفقيه محمد بغير الإشارة بيده أن لا شيء مما قلت.
وأما القاضي العالم الزاهد شمس الدين أحمد بن عبد الله الغشم رحمه الله تعالى فأخبرني أن فقهاء ذمار وافقوه وهو معهم وبايعوه.
وأخبرني سيدنا القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه بمثل [ق/86] ذلك أنه عرض نفسه لنصرة من قام غيره وأن بيعته ودعوته إلى الرضى من آل محمد عليهم السلام.
قال السيد أحمد رحمه الله تعالى: وكان ممن أشار عليه بالقيام السيد الفاضل العالم العابد الزاهد علي بن إبرهيم صاحب الشاهل المعروف بالعالم الذي تقدم ذكره فإنه حرص في دعوته وبالغ في نصرته وجاهد معه، وجمع قبائل حجور وباشر وشمر وغيرهم، وتحرك بهم حين ظهرت دعوة الإمام عليه السلام في قارة، وكان الإمام عليه السلام قد أسر إليه حين توجه إلى بلاد بني سنحان بذلك، وممن أشار بالقيام الفقيه الفاضل العابد العالم العامل المجاهد نجم الدين يوسف بن علي الحماطي من بلاد آنس فإنه بالغ في نصرته وشمر في إعزاز دعوته، وجاهد جهاداً عظيماً حتى مضى لسبيله مسموماً رحمه الله تعالى، وسيأتي بعض خبره إن شاء الله تعالى، وممن أشار بدعوته وحرضه على القيام السيد الفاضل العالم الزاهد الكامل حسام الدين صالح بن عبد الله بن علي بن داود الغرباني القاسمي الملقب مغل رحمه الله تعالى، وأنشأ قصيدة في حثه على القيام وذلك حين ظهر على ألسن الناس أن الباشا حسن صاحب صنعاء قد عزل عن ولاية صنعاء وجهات اليمن وأن له دويلاً، واستدلوا على ذلك ببيع آلاته وحوائجه التي جرت عادتهم أنهم متى عزلوا باعوها كالنحاسات وغيرها، ثم انكشف كذب ذلك وامتنع عزله لعروض أمر لهم، والقصيدة التي أنشأها السيد المذكور هي قوله رحمه الله تعالى:
ضاع الوفاء وضاعت بعده الهمم .... والدين ضاع وضاع المجد والكرم
والجور في الناس لا تخفى معالمه .... والعدل من حوله الأستار والظلم
وكل من تابع الشيطان مجترم .... وكل من عبد الرحمن مهتضم
وليس تلقى بهذا الدهر مؤتمناً ....في نصحه لك إلا وهو متهم
آذانهم لسماع الفحش واعية .... وعن سماع الذي ينجي بها صمم
يشاهدون ضلالات بأعينهم .... وإن تجلى لهم وجه الصواب عموا
الغدر والمكر والإضغان طبعهم .... والزور والغي والبهتان نطقهم
والزمر والطار والرنات دينهم .... كذلك الرقص والتصفيق والنغم
أحكامهم في أمور الدين منبعها .... آراؤهم وكتاب الله بينهم
كأن آل رسول الله عندهم .... لم يفرض الله في القرآن ودهم
[ق/87]
لم يعرفون لهم حقاً بلى عرفوا .... لكنهم تركوا الحق الذي علموا
إذا دعاهم إمام الحق ما سمعوا .... وإن أجابوا فلا سعي ولا قدم
إن صالحوا نقضوا أو عاهدوا نكثوا .... أو ناصحوا خدعوا أو عوملوا ظلموا
وجملة الأمر أن القوم ليس لهم .... على الحقيقة لا عهد ولا ذمم
لو اهتدوا بايعوا سفن النجاة أولي .... الأمر الذين هم للناس معتصم
لكنهم قلدوا الأهوى فما سلموا .... واستدرجتهم على هذا نفوسهم
لذاك ذلت جميع العرب وانخدعت .... واستحكمت فيهم الأوغاد والعجم
وصيرتهم سواماً لا رعاة لهم .... والراع إن غاب يوماً ضاعت الغنم
وقد روي أن تسليط الأعاجم لا .... لا يأتي على العرب إلا من فسادهم
أشكو على الله من هذا وأسأله .... التوفيق للرشد فهو الحاكم الحكم
يا أيها الناس خافوا الله واتبعوا .... مرضاته وأنيبوا لا أباً لكم
لعل أفراجه تأتي إذا صلحت .... نياتكم وأزحتم ما يشينكم
ولذتم بالذي نرجوا بأن له .... عناية لسناها تهتدي الأمم
الأروع الماجد الميمون جانبه .... الكيس الفطن العلامة العلم
مؤيد الرأي من أبناء حيدرة .... ماضي العزيمة ما في بأسه سأم
سهل الشمائل محمود الفضائل .... مأمون الغوائل من يشفى به الألم
إنا لنأمل أن يجيء الزمان به .... ويشرق الحق والإسلام يبتسم
وتمتلى الأرض عدلاً بعد أن ملئت .... جوراً وأحوال هذا الناس تنتظم
فقد رأيناه أهلا للزعامة والـ .... ـبرهان فيها جلي ليس ينكتم
وما بقي شخصه فالجرح مندملٌ .... والكسر منجبر والصدع ملتئم
وكل آل رسول الله قد علموا .... لأنه الغيث إن ما أصحت الديم
وأنه نور هدي يستضاء به .... وأنه فيهم الصمصامة الحذم
يا سيدي يا أمير المؤمنين ويا .... من شأن همته تدنو لها الهمم
كيف البقاء وأهل البغي في دعة .... ونار جورهم في الأرض تضطرم
أليس ذكركم أوهى قواعدهم .... فبعد عزمكم لاشك ينهدم
فاصدع بأمرك إن الهم منفرج .... على يدك وحبل الجور منصرم
[ق/88]
وآية الفتح قد لاحت علامتها .... والناصر الله لا الأجناد والخدم
وثق بربك في كل الأمور فما .... أملت منه تعالى فهو ينبرم
ولا يصدنك عن عزم تكاثرهم .... فإنه يتلاشى ثم ينعدم
وصاحب الحق غلاب وإن كثرت .... أعداؤه فهو عند الصدق ينهزم
قد كان في يوم بدر ما علمت به .... وأيد الله دين الحق ملتزم
وخيب الله أهل الكفر وانهزمت .... طوائف الشرك واشتدت جموعهم
هذا وأنفع ما لازمت صحبته .... بعد التقى النصر ثم الحزم تلتزم
والعزم إن كان إمكان ومقدرة .... والصفح إن لاح ممن قد أسا الندم
وغير هؤلاء فيما سمعنا عنهم لم يستتروا عليها إشفاقاً. انتهى.
[من رسائل الإمام للمسلمين]
ونقلت من رسائله عليه السلام ما يسره الله وإلا فهي غير مختصرة لطول الوقت منها من كتاب الدعوة قوله:
الحمد لله الذي جعل الجهاد سنام الدين، والأمر بالمعروف شداً لظهور المؤمنين، والنهي عن المنكر إرغاماً لأنوف الفاسقين، وطاعة أئمة الهدى من مهمات فرائض الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة إيمان المخلصين، وإيقان المتقين، وإخلاص الخاشعين، وإذعان السعداء الفائزين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاة ترقيهم إلى أعلى عليين، ورضي الله عن الصحابة أهل التقى والعهد والوفاء أجمعين، وتابعيهم في طاعة رب العالمين، وتابع التابعين إلى يوم الدين، وبعد:
فكتابنا هذا إلى جميع البرية، وسكان هذه المدحية، أقاصيها ودانيها، حزونها وسهولها، وأوعارها ونجودها، بأن يستيقظوا من رقدتهم، وينتبهوا من غفلتهم، ويلتفتون إلى أديانهم وينقادون إلى إيمانهم، ويرغبون إلى الله ويخافون من الله، فيجاهدوا في سبيل الله ويمتثلوا لأمر الله في طاعته وطاعة رسوله، وطاعة الأئمة السابقين من عترته سفن النجا، ومصابيح الدجى، ومعالم الاهتدى، وأن يستضيئوا بنورهم ويهتدوا بهديهم، ويسلكوا سبلهم، ويتبعوا آثارهم، ويوالوا وليهم، ويعادوا عدوهم[ق/89]، ويجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بين أيديهم {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي الله وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} يا أيها الناس إن رسوم الدين قد عفت، وأعلام الهدى قد طمست، وأحكام الشريعة قد عطلت، والفرائض قد رفضت، والمحارم قد انتهكت، والخمور قد شربت، والذكور قد نكحت، والمكافيف والزمنىقد انتهبت، والضعفاء والأيتام قد ظلمت، والأرامل قد اجتحفت، والدماء قد سفكت، والشرور قد كثرت، والفتنة قد عظمت، حتى لبس الإسلام في هذا الزمان لبس الفرو مقلوباً، وصار كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً)) فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، وقرب فيه الماحل، وبعد فيه الفاضل، واستكمل فيه الفاجر، واستنقص فيه الطاهر، وكذب الصادق وصدق الكاذب، واستوى من الخائن واستخين الأمين الناصح، وهاجت الدهماء وكثر الضلال والعمى، فلم يبق من الإسلام إلا
اسمه، ومن الدين إلا رسمه، وأنتم عباد الله غير معذورين من الله بتغيير ذلك، ولا متروكين عن مؤاخذة الله عن ذلك، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أوليستعملن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم))، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله أوحى إلى نبي من أنبيائه إني معذب من قومك مائة ألف أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فقال: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي)).
البدار البدار رحمكم الله إلى ما افترض الله عليكم من جهاد عدوكم، وإلى الحكم بكتاب الله، وإلى إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى إنصاف المظلوم والتفريج عنه، وإلى أخذ الحقوق ووضعها في مواضعها التي أمر الله أن توضع فيها، وإلى العدل في الرعية، وإلى القسمة بالسوية، وإلى العمل بالسنة، وإلى إماتة البدعة،وإلى إصلاح العباد وتطهير البلاد من أهل الجور والفساد، ألا وإن الذي دعوتكم إليه أسنم الفرائض وأشرفها فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ألا وإن الجهاد في سبيل الله سنام الدين، وسبيل الأنبياء والصالحين، وعمود تقوى رب العالمين، به يرحمكم الله وينظر إليكم فيدر[ق/90] لكم الأمطار، ويرخص لكم الأسعار، ويتابع لكم الخيرات، ويدافع عنكم النقمات، ويعز المسلمون، ويذل الظالمون، مصداق ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((مروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا...)) .
امتثلوا لله في {أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فإن أولي الأمر الذي افترض الله طاعتهم أئمة الهدى من ذرية النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الذين عقلوا عن الله كتابه فتدبروه وعملوا به وحكموا، وتفهموا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعملوا بمقتضى قوله تعالى: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} شهد بذلك البراهين الباهرة التي يطول شرحها، منها قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وأئمة الهدى من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولي من أهل بيتي يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين)) فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله وبيني وبينكم كتاب الله آية آية، وما تواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما اتفق عليه مشاهير العلماء من الفرق الإسلامية على صحته، وما وافق كتاب الله خبراً خبراً فإن لم أحكم فيكم بذلك فلا طاعة لي عليكم، إنه لا طاعة لمن لم يحكم بما أنزل الله من أهل الهوى والمبتدعة، وأرباب الجور
والفساد لأن الله سبحانه يقول: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}، ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، والظالم: لا تحل طاعته لقوله تعالى لخليله إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [ق/91] [..........................] .
ومن مثلها قوله سلام الله عليه:
وسلام على عباده الذين اصطفى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} يا أيها الناس إن الله سبحانه قد دعاكم ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طاعته، وطاعة رسوله والصالحين من أولي الأمر من ذريته حيث يقول الحق وهو يهدي السبيل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ولا شك أن أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم يجب أن يكونوا عدولاً، وأهل تقوى؛ لقوله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[ق/92]: ((من ولى رجلاً وهو يعلم أن غيره أفضل منه فقد خان الله في أرضه))، ويجب أيضاً أن يكون أعلم الناس بالتنزيل والتأويل، وبما يحتاج إليه الناس من تبيين الحلال والحرام والفرائض والسنن والعزائم والرخص لقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، ويجب أيضاً أن يكون من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} يعني محمداً صلى الله عليه وآله وسلم {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} يعني من قرابته وعترته المهتدين بهديه، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) ومن وجب التمسك به لأجل أن لا يقع في الضلال يجب أن يكون متبوعاً لا تابعاً، يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في عترته الطاهرين: ((قدموهم ولا تقدموهم وتعلموا منهم ولا تعلموهم ولا تخالفوهم فتضلوا)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله جعل علياً لي وزيراً)) في حديث طويل إلى أن قال: ((وابناه سيدا شباب أهل الجنة وهما والأئمة من بعدهما من ولدهما حجج الله على خلقه)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة الله في أرضه وخليفة كتابه وخليفة رسوله)) إلى غير ذلك من رواية الموالف والمخالف المؤدي إلى العلم الذي لا يمكن دفعه بشك ولا بشبهة، وها أنا ذا أيها الناس من عترة نبيكم نسبي في ذريته كالشمس الطالعة، ولئن أجر على حر وجهي مصفداً أو أبيت على حسك السعدان مسهداً أحب إلي من أن أعصي الله سبحانه في صغير ما تستحقرونه فضلاً عن كبيره، ثم إني ما وقفت في موقفي هذا إلا وقد علمت ما فرض على عباده وما أحل لهم، وما حرم عليهم، وما عزم لهم فيه من الأحكام، وما رخص في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا أدعوكم إلى جهاد الظلمة الأشرار العاملين بسيرة كل جبار، ينكحون الذكور ويشربون الخمور، ويقتلون النفوس التي حرم الله تعالى بغير حق، ويظلمون الناس، ويقربون أهل الفجور، ويعملون بالكذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم برواية الزور {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا [ق/93] نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} والجهاد سنام الدين، ورأس كل بر وتقوى، ويقول تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} ويقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما من قوم يكون بين ظهرانيهم من يعمل بالمعاصي فلم يغيروا عليهم إلا أصابهم الله تعالى بعقاب)) .
ولا ترخصوا لأنفسكم في مداراتهم فإنا نعلم أنه لولا مداراتكم وإمدادكم لهم بالمال والقعود عن نصرتنا ما استقامت لهم راية أبداً، فذلك منكم معاونة على إثمهم وظلمهم، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ولا تعتذروا بأنكم مستضعفون لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولو حبواً)) .
فاتقوا الله عباد الله وأطيعوني لرشدكم وصلاحكم فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها أكبه الله على منخريه في جهنم ومن نزع يده من طاعة إمام بعث يوم القيامة ولا حجة له...))الخبر، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما بال أقوام إذا ذكر عندهم آل إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم استبشرت قلوبهم وتهللت وجوههم وإذا ذكر أهل بيتي اشمأزت قلوبهم وكلحت وجوههم، والذي بعثني بالحق نبياً لو أن رجلاً لقى الله بعمل سبعين نبياً ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل بيتي ما قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) ولا تستوحشوا لقلة أوليائنا وكثرة أعدائنا فإن الله تعالى مدح القليل وذم الكثير، قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} وقال تعالى: {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((سيرد علي الحوض يوم القيامة ثلاث رايات أولها أشد سواداً من الليل المظلم وتحتها خلق كثير وهم ينادون واعطشاه واعطشاه، فأقول: من أنتم فينسون ذكري، فأقول أنا محمد، فيقولون: نحن من أمة محمد، فأقول: فما خلفتموني في كتاب الله وعترتي أهل بيتي؟ فيقولون: أما الكتاب فضيعنا، وأما عترتك فخذلنا، قال: فأولي وجهي فيصدرون عطاشاً فيؤمر بهم إلى النار، ثم ترد راية أخرى أشد سواداً من الأولى وهم ينادون واعطشاه واعطشاه واعطشاه، فأقول:من أنتم؟ فينسون ذكري، ويقولون: نحن من أمة أهل العدل والتوحيد، فأقول: أنا محمد، فيقولون: نحن من أمة محمد، فأقول: فما خلفتموني في كتاب ربي وعترتي أهل بيتي؟ فيقولون: أما الكتاب فضيعنا، وأما عترتك فقتلنا ومزقناهم كل ممزق، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فأولي وجهي فيصدرون عطاشاً فيؤمر بهم إلى النار، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ثم ترد راية أخرى ولها نور يضيئ ما بين المشرق والمغرب وتحتها عصابة قليل لهم نور من آثار الوضوء، فأقول: من أنتم؟ فلا ينسون ذكري، فيقولون: أهل العدل والتوحيد ونحن من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأقول: فما خلفتموني في كتاب ربي وعترتي أهل بيتي؟ فيقولون: أما الكتاب فحفظنا، وأما عترتك فنصرنا وواسينا بنفوسنا وأموالنا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فشربوا شربة لا يظمأون بعدها أبداً، فيصدرون رواء إلى الجنة)).
فلينظر امرؤ لنفسه وليتق الله ربه فوالله لولا أهل الرايتين السوداوتين ما سلمت الحصون، ولا وجد في الدنيا مظلوم ولا نكحت الذكور، ولا شربت الخمور، فاتقوا الله عباد الله وأطيعوني لرشدكم، وجاهدوا بنفوسكم وأموالكم، فقد عرفتم قيامنا لله عز وجل ودعاءنا إلى الله، وجهادنا أعداء الله، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((الجنة تحت ظلال السيوف)).
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((للشهيد سبع درجات: فأول درجة من درجاته: أن يرى منزله من الجنة قبل خروج نفسه ليهون عليه ما به، والثانية: أن تبرز زوجته من حور الجنة فتقول له: ابشر يا ولي الله ما عند الله خير لك مما عند أهلك، والثالثة: إذا خرجت نفسه جاءه خزنة الجنة فولوا غسله وكفنوه وطيبوه من طيب الجنة، والرابعة: أنه لا يهون على مسلم خروج نفسه [ق/95] مثل ما يهون على الشهيد، والخامسة: أنه يبعث يوم القيامة وجرحه يشخب مسكاً فيعرف الشهداء برائحتهم يوم القيامة، والسادسة: أنه ليس أحد أقرب منزلاً من عرش الرحمن من الشهداء، والسابعة: أن لهم في كل جمعة زورة فيحيّون تحية الكرامة ويتحفون بتحف الجنة، فيقال لهم: هؤلاء زوار الله تعالى)).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم، وعلى المعين عليهم أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) .
واعلموا أرشدكم الله أن الله سبحانه لا يقبل الفرائض بعضها إلا ببعض، فلا يقبل الله صلاة إلا بزكاة، ولا يقبل صلاة وزكاة إلا بصيام، ولا يقبل ذلك من غير حج لمن استطاع إليه سبيلا، ولا يقبل ذلك كله من غير جهاد في سبيل الله بالمال والنفس لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} ونحو ذلك.
روى آباؤنا عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك جميع ما نذهب إليه نحن، نرويه بالسند الصحيح عن أئمة الهدى وشيعتهم يرويه منهم خلف عن سلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن ميكائيل عليهم السلام عن رب العالمين، فمن أطاعنا فقد اهتدى، ومن تولى عنا ضربه الله بالذلة وسيم الخسف، ومنع النصف في الدنيا ولعنه الله وأعد له جهنم وساءت مصيراً في الآخرة، فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
قال مولانا السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي نفع لله به آمين.
[إعلان دعوة الإمام]
وأما الفصل الثاني في ذكر دعوته عليه السلام، وما جرى فيها من القصص والوقائع فإنها كثيرة لا يمكن استيفاؤها ولا العشر من معشارها، ولكنا نذكر نكتاً من ذلك ولمعاً تدل على ما وراها، كان ابتداء دعوته عليه السلام في أواخر شهر محرم سنة ست وألف [أغسطس 1597م] من بلاد بني سنحان من جهة الحقار، وكان شيخهم وصاحب أمرهم يومئذٍ الشيخ الكبير المقدام أبو زيد بن سراج، فالتقى الإمام عليه السلام في جبل قمر وبايعه الناس، فأول [ق/ 96] من بايع من الناس رجل من مشائخ قارة يسمى الشيخ عبد الله بن مسعود، وكان تام الخلق وسيم الوجه، وافر اللحية، فتيمن به الإمام عليه السلام، وتبعه الناس الذين حضروا ذلك الجمع، ثم لم يتهيأ تمام الأمر والظهور في ذلك الوقت، ورجح أبو زيد التأني، وفي خلال ذلك وقع صريخ في بلاده فأغار هو وقبائله إلى موضع قريب اللجب، ولم يظهر سبب للصريخ، فمات عليه في تلك الغارة فرسان افتلجا من الجري، وبعد ذلك عزم الإمام عليه السلام والشيخ على تمام الأمر وإظهار الدعوة، وكان ذلك لليلة خلت من شهر صفر وهو الذي أردنا في صفر، فطلع الإمام عليه السلام من ساعته تلك بعد غروب الشمس إلى جهة قارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وشيعة أبو زيد قليلاً، وأعطاه بندقين ضعيفين، وكانت البنادق في تلك المدة قليلة مع القبائل لا تكاد توجد إلا مع أرباب الدولة، ونحو ثلاثة أرطال باروت، وقرب الشيخ أبو زيد للإمام عليه السلام حين تهيأ إلى قارة فرساً يركب عليه، فسأل الإمام عليه السلام عن اسمه، فقيل: اسمه الفتح، فتيمن الإمام عليه السلام بذلك،
وظهرت الدعوة من جبل قارة، وذكر السيد أحمد كلاماً دار بين الشيخ أبي زيد ومشائخ قارة وخطاب في موضع ابتداء الظهور للدعوة. انتهى.
فصل: وأما رواية الفقيه علم الدين قاسم بن سعيد الشهاري رحمه الله، فأخبرني من فيه قال: كنا جماعة من الطلبة من فقهاء الأهنوم نقرأ في الأهجر من بلاد كوكبان، وكان حي السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد المحرابي رحمه الله وإخوته العلماء المشهورون، قال: وكنا نسمع أن السيد المذكور ممن يصلح للإمامة وأن الإمام عليه السلام وغيره عرضوا عليه، واعتذر بصغر سنه وغير ذلك، وكنت سمعت بعض أصحاب سيدنا نجم الدين يوسف بن علي الحماطي رحمة الله عليه ورضوانه أنه قال: وودت أن القائم السيد أحمد، قال: فقلت: لم؟فقال له أخوه كمله يعنونه، وأما السيد القاسم فإنما هو وحيد أو كما قال.
قال الفقيه قاسم: فلم نشعر إلا والفقهاء يتشاورون بالهروب بنفوسهم إلى الأهنوم، منهم صاحبهم الفقيه علي بن محمد الشهاري الآتي ذكره، وقالوا: هذه كتب من السيد قاسم بالقيام فلا يحصل عليها من الظالمين ناجم، قال: فتفرقنا وكذلك السيد أحمد رحمه الله وإخوته، فلما وصلنا الأهنوم[ق/97] والمحاط من صنعاء تخرج إلى القبلة على ما تقدم من ظهور الإمام عليه السلام في طهننة.
وقال السيد أحمد نفع الله به: إن السيد أحمد بن محمد المحرابي رحمه الله وأخواه علي والحسين والقاضي العلامة المهدي بن أحمد الرجمي رحمه الله أن الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين بلغه ظهور الإمام عليه السلام فاعتقل السيد أحمد وإخوته والقاضي حتى حلفوا له يميناً لا تلزمهم بعدم القيام مع الإمام عليه السلام، وقال في صفة السيد أحمد بن محمد المحرابي: وكان السيد أحمد بن محمد المذكور ممن تؤهل للإمامة.
قال الفقيه قاسم: والأمير عبد الله بن يحيى بن المعافا في محطة عظيمة من جنود العجم في نجد بني حمزة، وكان إليه مع بلاد شظب بلاد الظاهر وعذرين والأهنوم، وظليمة وغيرها، وترفقنا وجمعنا الرأي للفقيه علي الشهاري، ولما وصلنا البلاد خفي علينا خبر الإمام عليه السلام، وقل ذكره فرجح الفقيه علي تمام القراءة في هجرة معمرة على حي القاضي محمد بن صلاح المعمري رحمه الله تعالى، فاجتمعنا لديه وقرأنا نحو عشرة أيام، وإذا برسول من أهل الحقار ونواحي تهامة إلى القاضي فساره، وعاد بعد أن أجاب عليه وإذا القاضي يشير إلى الفقيه علي بقيام الرجل ويتحدثان بما لا يفهم تفصيله، قال: فلما كان بعد ذلك نحو ثمانية أيام وإذا بالرسول على مثل ذلك، وأخرج الكتب وإذا هي متروبة وقد تسمى عليه السلام بأمير المؤمنين، قال: فرأيت القاضي متغيراً كئيباً من عظم التكليف وخوف العواقب أو كما قال، فتفرقنا فلما وصلنا قريباً من مغربة الحليف موضعاً تحت النجد، والمحطة مكانها، قال لنا الفقيه علي: يا فقهاء تفرقوا ومتى وصلكم رسولي كنتم على أهبة، نعزم إلى الإمام عليه السلام، قال: فلما
بلغ الفقيه علي ظهور الإمام عليه السلام في جبل قارة ضاعن في موضع يسمى حديد قارة أرسل إلينا فاجتمعنا فيمن أجابنا من الأهنوم إلى الموضع الذي تواعدنا فيه، وكان جملة من اجتمع منا خمسة وثلاثين نفراً ما بين فقيه ومحب للخير من العوام لا أعرف معنا سلاحاً كاملاً إلا مع الفقيه علي بندق وسيف فعزم بنا الفقيه علي على خفية في الليل حتى طلع علينا الفجر وقد قطعنا وادي مور وصلينا فيه.
ثم صعدنا جبال ضاعن فوجدنا الإمام عليه السلام في أعلى الجبل وعنده من أصحاب الشيخ أبا زيد من أهل الحقار نحو مأئتي نفر قد شق بهم البرد، ومعه حي الشيخ جمال الدين علي بن وهان [ق/98] رحمه الله نحو مائة وخمسين نفراً، وعند مولانا عليه السلام جماعة، منهم السيد المجاهد عبد الله بن هادي المحنكي في سلاح حسن وأربعة أنفار أو خمسة معهم والحاج المجاهد شمس الدين أحمد بن عواض الأسدي، وجماعة نحو خمسة عشر نفراً بالسلاح الحسن والرجال الطوال، وإلى جنب مولانا عليه السلام حي السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي رحمه الله تعالى، وإذا الإمام بعد طلوع الشمس على حجر مرتفع، فلما قربنا منه عليه السلام وثب إلى الأرض وسلم علينا وأنصفنا، وهو مع ذلك يدعو لنا ويقول: كثرتمونا كثركم الله أو كما قال، وأخذ يسأل الفقيه علي وهو يخبره بمن في البلاد من الظلمة، وعاد على الحجر محتبياً بحبائل سيفه وبين يده عنزة مركوزة وهو يحدثنا وكان لا يعرفه منا إلا الفقيه علي وبعض من معنا، ونحن نشتفي بحديثه فبينا نحن في ذلك إذ برجل من البدو وسكون الجبل المذكور يحمل قرصاً من الكبار في
إناءٍ مما يعتاد في تلك الجهة في الكبر؛ لأنهم يجعلونه في النار العظيمة كالحنيذ، وفي يد آخر معه قدح مخروط كبير مملوء لبناً حامضاً، فقال: يا مولانا هذا نذر عليك، فنزل الإمام عليه السلام من الحجر وكسر ذلك صغيرة صغيرة ودعا له ثم قال: كلوا لقمة لقمة من هذه الكسر، واشربوا كل واحد ملء فمه من هذا اللبن ففعلنا حتى أتى على جميع من عنده، ثم أكل لقمة واحدة، وشرب ملء فمه كأحدنا، وعاد على تلك الحجر فما كان قليلاً إلا وبدوي آخر بثلاث رؤوس بقر ما بين الكبار والصغار، وقال: يا مولانا هذه ضيفة لك ولمن معك منا فدعا له عليه السلام، وأثنى عليه، ثم أمر بإحداها لأصحاب الشيخ أبي زيد، والآخر للشيخ علي بن وهان وأصحابه، فأسرعوا ذبح ما هو لهم، وأضرموا النار وحنذوهما، وبقي الثالث فإن أصحاب الإمام عليه السلام اشتغلوا بالحديث، واشتغلنا برؤية الإمام عليه السلام مع ما نحن عليه من دهشة الوارد على المقيم، فقال الإمام عليه السلام: وأنتم يا أصحاب قوموا أصلحوا حقكم، ونزل يجمع معنا الحطب، قال: فأقسموا عليه أن يبقى وهم يكفونه، فعاد موضعه الأول، قال: فلم نسمع إلا صوته: القوم، القوم، وإذا ببيارق الظالمين قد شرعت فينا، ولم نشعر بهم إلا في أطرافنا، قال: فاجتمعنا إلى الإمام عليه السلام ووقع قتال عظيم لا نعرف تفصيله في تلك الحال لاشتغال كل في جهته، وجرح الشيخ [ق/ 99] علي بن وهان بصائبة، وقتل معه نفر فأركبه أصحابه على فرسه ومالوا به شام اليمن، وجرح السيد عبد الله المحنكي كذلك، وحصل بيننا وبينهم تلازم واختلاط حتى جذبوا منا الفقيه فلان واحتزوا رأسه،
ونحن نجر برجليه، ورمي الفقيه علي وقتل منهم، واحتمل فلان من الأهنوم سماه أحد الظلمة، واجتززنا رأسه ونحن على ذلك نعتقد أن الإمام عليه السلام في ساقتنا في موضعه، فإذا بالفقيه علي يحتدينا الأول فالأول وهو يقول: اخرجوا فقد خرج الإمام، فخرجنا على حالة، واندرجنا من الجبل وهم يرمون ويرجمون بالحجارة والله سبحانه يدافع عنا، ونظرنا الإمام وإذا هو بين شجرات من وادي مور وقد اجتمع إليه أصحابه، قال: فبشر بعضنا بعضاً بسلامته، وانحدرنا والصخر الكبار بعدنا فدافع الله عنا شرها، وكان الظلمة الغازون من أصحاب الأمير عبد الرحيم لا رحمه الله.
ولما وصلنا إلى الإمام عليه السلام، وكان قد لحقنا من الغم الشديد للهزيمة ونرى أنا قد فررنا من الزحف، فلما رآنا استقبلنا بوجه طلق ويضحك إلينا ويقول: هذا أول يوم بيننا وبين الظالمين، ثم أخذ يحقرهم ويصغرهم، ويقول: لو كان معنا لهم أهبة لأخذناهم عن آخرهم وكذا وكذا حتى ذهب ذلك من صدورنا جميعاً وكان قد انحدر معنا الرأس من البقر، فأخبرنا الإمام عليه السلام فقال: ساعتكم أتموا عملكم فشويناه وأكلنا، وقد اجتمع إليه عليه السلام بين الشجر نحو أربعمائة أو خمسمائة نفر، قال: فرأيناه يوقع للسيد أحمد عليه السلام توقيعات بيده الطاهرة ويساره، ثم يقوم إلى قوم من الناس فيخلو بهم بين الشجر ثم يتودعونه ويذهبون ثم لا ندري أين يذهبون، فلما فرغ من ذلك وأمر أصحاب الشيخ علي بن وهان أن يذهبوا به إلى جهة المشرق ففعلوا ثم طلبنا بالأهنوم إلى تحت شجرة قال: وتكلم معنا بكلام بليغ لم أضبطه وفيه المواعظ حتى بكينا، ثم قال: تبايعوني على الموت وأن نقاتل من دون صنعاء حتى ندخلها فنغير ما فيها من المنكرات، قال: فبايعناه على ذلك ونحن نعتقد ذلك أنه يكون من قوة اليقين والثقة بالله وبما سمعنا منه عليه السلام حتى أن فلاناً منا قال: يا مولانا فإذا دخلت صنعاء ونسيتنا يا هؤلاء، فتبسم عليه السلام وقال: لا يكون إن شاء الله تعالى، ثم قال: كم أنتم حين وصلتم إلينا هذه المرة؟ قلنا: خمسة وثلاثون نفراً، فقال: تذهبون على اسم الله وادخلوا البلاد ليلاً، ثم ادعوا أهل الصبر على الجهاد والعزائم فأقل (حالة كل) رجل منكم يدعو[ق/100] رجلاً مثله فتأتونا إن شاء الله حيث نطلبكم سبعون رجلاً أو كما قال.
قال السيد أحمد بن محمد الشرفي نفع الله به: إن رجلاً طلب من الإمام عليه السلام موضعاً وتمسكا في كيت وكيت فالتفت عليه السلام وقال: اكتب له ما يقول، فقلت ما معناه: هذه الساعة ما هي ساعة كتابة، وكان الأمر قد عظم على أصحابه وغيرهم وظنوا أنهم قد غلبوا فقال عليه السلام: كأنك ضقت ذرعاً مما جرى والله لأقلبنها عليهم يعني الأتراك ومن والاهم من المشرق ولأذيقنهم كأس المنايا أو كلاماً هذا معناه، ثم طلب السيد أحمد بن محمد فوصل بعده خطوط فعلم عليها، ثم أودعها مع الفقيه علي الشهاري وهي إلى أعيان من الأهنوم وظليمة، وكذلك إلى السادة أهل المحراب والسيد العلامة إبراهيم بن المهدي بن جحاف رحمه الله وغيرهم، وكان الحاج المجاهد شمس الدين رحمه الله وأصحابه قائمين بالسلاح قريباً من مولانا عليه السلام لا يؤنسون بكلمة، ولما تودعناه قام إليهم وعزموا جهات المشرق لا نعرف أين توجهوا، وأما نحن فلما قربنا من البلاد تفرقنا كما تقدم، وجعلنا الموعد أينما يراه الفقيه علي وهو الذي يأتيه أمر الإمام عليه السلام، قال: فرجعنا وقد انحدر ابن لمعافا إلى الهجر وقد تبسط في البلاد، وضم إليه من يخشاه بالإحسان، وأخذ من كل جبل من جبال الأهنوم عدة عسكر كاتبهم في ديوانه وأحسن إليهم، قال: فكنا في خوف شديد حتى إنا كنا في النهار لا نظهر لأحد، وفي الليل نمشي إلى بعضنا بعضاً وندعو من نثق به إلى الجهاد وخفي علينا خبر الإمام عليه السلام نحو الشهر لا ندري أين هو والأرض كأنها ترتجف بالظالمين قد انثالت محاطهم من صنعاء إلى الأهنوم
والظواهر حتى أنه لم يبق موضع من المواضع المعتادة إلا وفيه محطة، ولقد أخبر الثقات أنه خرج من صنعاء في ليلة واحدة أو ويوم ثمانية عشر أميراً كل أمير بمحطة، وكان قد قطعوا جماعة من العسكر بعد عودهم من يافع واطمأنت لهم البلاد، فأخبر غير واحد من غير الفقيه قاسم أنهم طلبوهم وأعطوهم حتى أن الرجل منهم يخرج بمايْن من الدراهم والبر، ولقد بلغهم أن شيوخاً كباراً ممن خدم المطهر بن الإمام شرف الدين عليه السلام كانوا في عسكره فطلبوهم وأعطوهم وأن منهم من لم يقدر على المشي فوصل على الحمار فأعطوه كذلك، ولقد أخبرني الشيخ علي بن دهاق الدريدي الآنسي أنه لما وصل[ق/101] جعفر باشا دويلاً لسنان باشا لا رحمه الله تعالى كما سيأتي فوصل إلى تعز فاجتمع إليه وجوه العرب والترك، فجمعهم حتى لم يبق أحد ممن لم نذكره، ثم قال: أمرني مولانا السلطان محمد أن آخذ شهادتكم ويكتبها هذا القاضي فأشار إلى فنديمهم الأعظم ما الوجه في انقطاع الخزانة المعتادة من الأبواب السلطانية أيام الوزير حسن فإنه اعتذر من الفتنة، ولما ولي الباشا سنان بقيت الفتنة بحالها، وانساق من لديه خزانة، فأجابوه بعد ذلك بعد أن نظروا إلى بعضهم بعضاً أن ما قاله الوزير حسن حق وأنه ربما وقف على المعتاد من البلاد، فلم يف ببعض ما تحتاجه الجنود، وأن سنان باشا لم يراع القانون بل قتل أعيان السلطنة والتجار وغيرهم على أموالهم، فهذا الوجه وإلا فما أبقت الفتنة شيئاً أو كما قال، ولقد أخبرني أيضاً تركي يسمى حسن شاوش كان خدمنا مدة قال:أنه كان مملوكاً في مصر لعاملها المشهور أبي المواهب البكري
الشافعي وأنه سمع من لسان الوزير حسن وهو مع سيده يحدث في مصر أنه كان لديه من الخزائن والآلات مالا يظنها تجتمع للسلطان لأن ولايته لليمن كانت قريباً من ثلاثين سنة، فلما قام الإمام الداعي خرج ذلك كله حتى لقد ضربنا حلي السلاح والخيل والمماليك، وخرجنا مثل ما دخلنا اليمن أو كما قال. انتهى.
رجعنا إلى رواية الفقيه قاسم، قال: ولم يصح لنا من أحد أين الإمام عليه السلام وإذا برسول إلى الفقيه علي الشهاري أنكم تبقون بما اجتمع إليكم إلى تالقة فريج، من أعمال شرق عذر، فاجتمعنا في ليلة إلى ذلك الموضع، وكان صبح يوم الجمعة في شهر [..........] وإذا نحن فوق ثلاثمائة نفر وانضم إلينا أهل ذلك الموضع من عذر، وكانت الزراعة حينئذٍ ضعيفة.
قال الفقيه علي: امضوا على اسم الله ظاهراً ولا تخافوا إن شاء الله فالموعد بيننا وبين الإمام هجرة آهبة من بلاد عذر، فقطعنا شط حمام ومضينا مشرق قرن الوعر من خوف محطة من الترك أخذهم الله فيها أمير لهم مع ابن حميد السنحاني وغيره، فلما أشرفنا على آهبة وقد انضم إلينا جماعة من عذر أكثرهم من غير سلاح، وإذا بالإمام عليه السلام نزل من الشروة موضعاً ينحدر من نواحي حوث، فتلقيناه وسلمنا عليه ومعه ستمائة نفر قوم صحاح أهل أسلحة، والبنادق فيهم قليلة ومعه راية بيضاء أو قال رايتين فسلمنا عليه وتبركنا بطلعته، وأقبل من عذر والعصيمات جماعة وهو يبايع من لم [يكن] قد بايع، ويقوم [ق/102] في الناس حتى حضرت الجمعة فصلى بنا الجمعة، وخطب السيد أحمد بن محمد، ثم تكلم بكلام بليغ وضمنه الوعظ البيلغ النافع، وأمر الناس بالتقدم لأخذ المحطة التي في قرن الوعر، قال: فتقدم الناس وهم فوق الألف بكثير، فلما وصل الناس إلى قرب محطة خارج قرن الوعر رتب الناس، وأمرهم بالقتال فبدرت منهم خيل قليلة ورجال فناوشوا الناس ساعة، ثم هزموهم حتى اتصلوا بالمحطة فقاتل جنود الظلمة قتالاً شديداً حتى دنا الليل، وهزمهم جنود الحق حتى انتهبوا محطتهم على آخرها، وقتلوا منهم قتلاً كثيراً، وهرب الباقون حتى تعلقوا القفلة وتحصنوا فيها وقد دنا الليل، قال: فكان الإمام عليه السلام يصيح بنفسه ويأمر من عنده بذلك أنكم لا تحرقوا السوق وما فيه من عشش المحطة وغيرها من الحطب والعلف مخافة من البنادق أن ترميهم من القفلة على ضوء النار، قال: فحصل من الناس مخالفة فأحرقوها، فطلعت نار عظيمة
ورميت البنادق من القفلة فأصابوا جماعة من الناس، واستشهد نحو اثني عشر نفراً، فأمر الإمام عليه السلام بإخراج القتلى فأخرجوهم إلى فوق بئر أثلة المعروفه هنالك بحيث أن البندق البالغة تصل إليها من القفلة، فصلى بالناس المغرب ثم العشاء، ثم أمر بالشهداء فأحضروا وصلى عليهم، وأمر بدفنهم، ثم وصل فلان من زراع الحضيرات وقال هذا الموضع عشاء لأصحابك يا مولانا، فأمر الإمام عليه السلام الناس أن يأخذ كل واحد منهم الكفاية ولا يتعداها وقدرها هو ومن عنده سنبلتين، قال مقسماً بالله: ما رأيت احداً زاد على ذلك ولا بلغني أن رجلاً زاد على ذلك، وأخبرنا بعد ذلك من يعرف المالك المذكور أن ثمرته المعتادة منها حصلت من غير نقص، ثم طلع الإمام عليه السلام القرن الأسود محل الحضيرات وقد فزعه أهلها فكان في بيت فلان وغيرها كذلك، والظن منا أنا نمسي إلى الصبح، ثم نناجز من بقي من المحطة حتى نستأصلهم ونظهر إلى غيرهم ولا تدبير لنا إلا ذلك، قال: فإذا بنا نسمع من عند الإمام عليه السلام الدواعي للقبائل قبيلة قبيلة يدخلون عليه حتى كنا بالأهنوم من أحرهم طلباً، فلما حصلنا عنده عليه السلام وإذا به في منزل وسيع على قصب الذرة ما ثم فراش غيره، فتكلم معنا بكلام بليغ لم أضبطه متضمناً المواعظ النافعة، والحث على الجهاد وإظهار كلمة الحق، ثم قال ما معناه: التدبير أن تفرقوا وكل واحد يدعو من أمكنه وقدر [ق/ 103] عليه من أهل الخير والعزائم والصبر، ثم طلب البيعة ممن لم قد يبايع فبايعوه وأعطى الفقيه علي بن محمد الشهاري كتباً كما تقدم، وقال: تحفظوا نفوسكم بالاختفاء حتى
يأتيكم إن شاء الله أمري ، ثم نهضنا ونهض جهات المشرق فدخلنا البلاد على تلك الصفة مستورين بالظلام فكنا في البلاد كما تقدم نختفي النهار في شواهق وأسفال البيوت، والليل نسير على من نتوسم فيه الإجابة حتى اجتمع لنا جماعة نظنهم فوق السبعمائة، وخفي علينا الإمام عليه السلام فلا تصح رواية بأنه في موضع، والأرض إذ ذاك ترجف بالظالمين لا يدرون أين هو فيقصدوه.
[وقعة أخرف]
قصة قتل أخرف من رواية المذكور، ومن رواية السيد جمال الدين علي بن محمد الغرباني عن والده السيد محمد بن شمس الدين، ومن رواية حي الحاج المجاهد عواض بن قاسم الأقهومي أنه لما استقر ابن المعافا ومن معه من الأمراء في الهجر، واستقر في قرن الوعر محطة وفي نجد ابن دحباش من أعمال حاشف، كذلك كان من الترك رتبة في حصن نعمان عيال قاسم من غربان، ثم أقبلت محاط فيها من أعيان الأمراء الأمير عبد الله بن مطهر بن الإمام شرف الدين وعدة من أمراء الترك، ثم أمراء الجوف الأمير علي بن مطهر بن شويع، اتفق رأيهم أن يبقى في غربان الأمير علي بن مطهر بن الشويع، ويتقدم الأمير عبد الله ومن معه من الأمراء إلى بلاد عذر، فأخبرني السيد علي بن محمد عن والده أنهم نزلوا من الخشع إلى الوادي ومعهم من الأثقال والآلات ما يجل ويعظم حتى أن أكثر تلك المواضع من الخشع إلى الوادي حمائل مطرحة، وكان أهل غربان مع الظالمين خالصين ولا همة لهم خلاف ذلك، وأن فلاناً سماه أخذ يؤنب الأشراف والقبائل ويقول فيما يقول: خذوا هذه الأموال المطرحة يا (فعله يا تركه) وما تخافوا عليه في غربان من العواقب وما الذي معكم تخافون عليه، وأطال في ذلك فاجتمع جماعة منهم السيد محمد بن شمس الدين والد السيد علي بن محمد، وتعاقدوا على الوثوب في آخر المحطة، ورواية الفقيه قاسم تقرب من هذا المعنى.
وأما الحاج عواض الأقهومي رحمه الله، فقال: خرج جماعة يتخفون ويطلبون خبر الإمام عليه السلام للحوق به على خوف شديد حتى اتصل بمذاعير وادعة، فبلغهم المحاط والأموال [ق/104] المطرحة، وجاء الخبر أن ثم قوماً واصلين لها لا يعرفون قائله، فاجتمعوا هم وجماعة من أهل بلد الحزيز وأسفال وادعة حتى كانوا فوق مائتي رجل معهم من السلاح اليسير، وانضم إليهم بدوان ومن غربان جماعة، وهجموا على آخر المحطة فانتهبوا كثيراً منها، وقتلوا جماعة معها، ودافع عنهم الأمير عبد الله ومن معه، وأمسوا عليهم إلى قريب الصبح ثم تفرقوا، وطلعت المحطة من أخرف، وقتل منهم قريب المائتين النفر، وانتهب من أثقالهم كثير، قال الحاج عواض: فاتفقنا على التفرق فتفرقنا وطلبنا رسولاً إلى الإمام عليه السلام لا علم لنا به فانتدب السيد محمد بن شمس الدين، فعزم وكان فيه خفة وقوة، وعمر رحمه الله مدة، واستمر في الجهاد حتى مات رحمه الله تعالى، فأخبرني ولده عن خبره أنه لا يعرف البلاد، وكان معه من الغنائم فرجية كبيرة حمراء، وسيف مسقط في حلية عظيمة من السيوف الكبار ذوات القيم البالغة، قال: فحملت السيف ليقف الإمام عليه والقبائل ليعرفوا صحة البشارة حتى وصلت مرهبة وهو في غاية من الخوف فاتفقت بسيدنا الفقيه الفاضل جمال الدين علي بن الصالح الأكوع رحمه الله تعالى، وهو أيضاً خائف ولا أعرفه فكتمت نفسي منه وكتم مني كذلك حتى طال الكلام، وأخبر كل واحد منا صاحبه بالصدق فبشرته فحمد الله واستبشر وعرفني باسمه، وسألته عن الإمام، فقال: تجد خبره في موضع يسمى حرف الصللة من أعمال الرونة من
بلاد عيال أسد، فطلب لي الدليل فعزمت معه، قال: فوافقت الإمام عليه السلام وبشرته وأخبرته فحمد الله سبحانه، ثم تقدم إلى موضع من أسفال عيال أسد أظنه يسمى حرف عريج واشتد عزمه عليه السلام، وظهر في ذلك الموضع.
قال السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي رحمه الله تعالى: إن سبب وقعة أخرف أن الإمام عليه السلام أرسل أول الدعوة وقبل ظهورها جماعة من أصحابه كالحاج المجاهد سيف الإسلام أحمد بن عواض الأسدي، والحاج الفاضل المجاهد أحمد بن علي بن دغيش وغيرهم لمعاقدة قبائل الظاهر وغيرهم، وأنهم متى ظهر أمرهم عليهم وصلوا إليه بسلاحهم، فلما ظهر أمره في قارة وصله الأمير الحسن بن ناصر الغرباني وذكر حديثاً في طريقهم، ثم إن الأمير الحسن بن ناصر، والحاج أحمد بن علي بن دغيش وغيرهما أعقدوا من حاشد وبكيل وأهل غربان، فكانوا نحو ألف نفر فتركوا المحطة المذكورة حتى خرج أولها إلى الصافية وأوقعوا [ق/105] بهم فأول من رماهم الأمير الحسن بن ناصر، وذكر أنهم حاصروهم يومين بلياليهما، ولم يذكر القتل أنه كان كثيراً كالرواية المتقدمة بل أقل، وأن الأمير علي بن المطهر بن الشويع احتال في خروجهم، والإفراج عنهم، وكان الأمير علي قد حلف لأصحاب الإمام عليه السلام أنه لا يضر أصحاب الإمام بسوء وأنه صائر إليه بعد حين، نقل ما ذكره بالمعنى.
ولنعد إلى رواية الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي الآنسي رحمه الله تعالى، قال: كنت في صنعاء قبل خروج الإمام عليه السلام وكنا نتحدث بظهوره ونتوعد على المسارعة إليه عليه السلام، فلما خرج وصح خروجه على الظالمين والأرض إذ ذاك تميد بهم أعانني بعض أهل صنعاء بهذا السيف سيفاً عظيماً حسنياً قل مثله، وقال: هذا لك للجهاد وأعانني آخر بترس ولبست مضربات، ومعي أيضاً جوخ وتهيأت بهيئات أشراف كوكبان، فلم أتمكن إلا بأني عازم ظفير حجة، ثم منه وجدت من أخرجني بلاد الشرف، ثم لما صح أن الإمام عليه السلام في جهات المشرق قصدت الهجر هجر الأهنوم لعلي أدرك خبره عند السادة الفضلاء أهل المحراب ولم أتمكن من قصدهم إلا بأن دخلت محطة بني المعافا في الهجر فبينا أنا في السوق أدور إلا وعندي شاوش يقول: أجب الأمير، فقمت معه فأدخلت على الأمير عبد الله بن المعافا وعنده كاتباه ونحو ثلاثة أنفار فأخرج من كان عنده وأخلى لي المكان، ولم يبق غير كاتبيه الفقيه صلاح الجملولي، والشيخ سعيد بن حاجب فرفق بي وتكلم معي من أنت؟ وأين تريد؟ وما، وما؟ وكان قدرآني في صنعاء في سادتها حتى أنه صرح بأنك تريد الإمام كذا، قال: فلما سمعت منه قلت له: هذا عقلك كله تحدث بأن هذا الرجل المجنون يجيبه أحد أو يلتفت صاحب عقل إليه لا يجد موضعاً يحفظه حتى يلتئم إليه أنصار وكذا، اللهم إلا أنتم يا رؤساء الزيدية مثلك ومثل إخواننا أهل كوكبان حتى التفت إلى صاحبي، وقال: صدق الرجل فما وصلك؟ قال: فقلت كان على رجل لي دراهم في صنعاء، فلما تفرقت المحاط ولم أعرف موضعه فبلغني أنه في هذه
المحطة فصدقني، وخلصت أوطلبت موضعاً آوي إليه ففعل، ثم أخذت أدور ظاهراً لصاحبي حتى وجدت رجلاً من أهل المحراب فسألته عن السادة فأخبر أنهم آمنون وباقون في بيوتهم، فقلت: ما يحفظني غيرهم، وأجد الحقيقة عندهم فخرجت معه على صورة مع إقبال الليل وكنت أعرف السادة من شبام كوكبان، فدخلت عليهم ليلاً [ق/ 106] فاستبشروا وآنسوني وأخفوني في بيوتهم ليلة.
ثم قالوا: بلغنا أن عراف البتامي كان حمل مع الإمام رايته يوم قرن الوعر، وسار معه وقد وصل هذه الليلة، قال فطلبوه على صفة فوصل وأخبر بخروج الإمام إلى الموضع المذكور من بلاد عيال أسد وأنه وصل بكتب إلى السادة وغيرهم فأحضروه وأحضروا معه من أخرجني إلى بلاد العصيمات فأقبل إلينا جماعة رفقونا حتى صرنا إلى جانب حوث، وبلغنا دخول الأمير حسن بن ناصر الغرباني، والسيد الهادي الغرباني، والشيخ المجاهد علي بن وهان العذري ومن انضم إليهم المصنعة سفال بلاد الصبيحات من وادعة وأن الحرب عليهم من المحاط التي في وادعة قائمة، وأن الأمير عبد الله بن المعافا جمع من عنده ومشائخ الأهنوم، والعسكر الذين اجتذبهم من ملاح الأهنوم واتصلوا بأمراء العجم الذين في وادعة، وكانوا كما ذكر السيد العلامة أحمد بن محمد نفع الله به نحو خمسة عشر ألفاً وخيلهم ثمانمائة فارس، والحرب على السادة قائمة فأغرنا في جماعة من العصيمات، فحصلت حروب وملازمة شديدة، ووصل الشيخ المجاهد محمد بن صلاح البحش وجماعة من أصحابه من عند الإمام مدداً، وفيهم عسكر وبيارق وسلاح حسن، فكان لوصولهم موقع، وأصيب الأمير الحسن بن ناصر في رجله حتى شلت، وعاش
بعدها زماناً طويلاً حت مات رحمه الله في السنة التي مات فيها حي مولانا عليه السلام، واستشهد السيد الهادي الغرباني القاسمي رحمه الله، وحملوه ثم السيد علي بن المهدي الآنسي بصائبة في كتفه، وحملوه إلى عند الإمام عليه السلام فوافاه وهو على أهبة الغارة بنفسه إلى وادعة، وأرسل الحاج المجاهد شمس الدين أحمد بن عواض رحمه الله يلتمس غارة، فاحتبسوا له في موضع حتى وصل في جماعة ليسوا بالكثير، وكان في وادعة محاط العجم كثرة، وفي بهمان كذلك، وفي خمر كذلك فلم يتمكن الإمام أن يتصل بوادعة، فاختفوا في موضع قريب من الحبلة حتى جاء الليل ودخلوا حدود وادعة وإذا بالبشرى والتنصير بظهور المجاهدين عليهم، وأن وادعة كلها مالوا إلى جانب الحق وأن عسكر الأهنوم الذين كانوا مع ابن المعافا خرجوا إلى جانب المحطة، وحاربوا مع جنود الحق، فبينا نحن كذلك وإذا بالقاضي هادي [ق/107] بن يحيى بشاري العنسي العذري ينادي بأعلى صوته: البشارة يا أمير المؤمنين هؤلاء قبائل الأهنوم وعذر تواثقوا رهائن لبعضهم بعضاً، وأجابوا كلمة الحق وأوقدوا النار واجتمعوا للجهاد، وطردوا من بقي في بلادهم من أصحاب المعافا، وطلبوا المبادرة بوصولك إلى بلادهم لئلا ينتقض عليهم ما عقدوا أو كما قال.
قال: فأمر الإمام عليهم السلام السيد العلامة محمد بن علي بن عشيش وقد وصل إلى الإمام والسيد أحمد بن محمد الأعضب، والحاج المجاهد أحمد بن عواض، والشيخ المجاهد الشهيد علي بن وهان العذري وغيرهم بملازمة الجهاد في وادعة، وشمر الإمام عليه السلام العزم إلى الأهنوم، وكانت طريقه حوث والسروة، ثم طلب دواة يكتب جواباً عاماً وإعلاماً لمشائخ الأهنوم وعذر بوصوله، فلم يجد الدواة فسكوا الفحم وخلطوا عليه الصمغ وكتبوا، وأرسل السيد محمد بن شمس الدين الغرباني الواصل ببشارة أخرف، قال: وكان فيه من الخفة ما لا أعرفها في غيره، ثم تقدم الإمام عليه السلام إلى المحراب وقد اجتمع إليه كثرة فوق ألفي رجل، وتلقاه السادة والعلماء من الأهنوم.
قال السيد أحمد بن محمد الشرفي نفع الله به: إن الأمير ابن المعافا ترك في الهجر محطة من الترك مع الشيخ جابر بن حميد السنحاني فقبض الإمام عليهم ورفق ابن حميد كما شرطه له الأهنوم، ومضى مرفقاً بالسودة وتقدم من المحراب إلى جبل سيران.
[حرب وادعة]
فصل: وأما الحرب على وادعة فاستظهر جنود الحق على الظالمين فانهزموا وقد طلبوا الرفاقة على أنهم يعزمون صنعاء، فوضعها لهم السادة، ومن إليهم، وانكفوا راجعين إلى صنعاء ، ولما وصلوا إلى حراف خمر وأقاموا أياماً يسيرة، ثم دخلوا خمر باتوا فيها ليلتين وطالبوا الرفاقة فرفقهم الكلبيون، ومن إليهم، وكان عددهم كثيراً وأمراؤهم ثماني عشر أميراً، ولقد أخبرني من حكى ذلك وشاهده وهو الشيخ صلاح بن قاسم الكلبي وغيره أن أولهم يشرب في بئر ريدة البون، وآخرهم يخرج من السنتين فوق مسافة البريد، ومن الأمراء المذكورين الأمير عبد الله بن مطهر، والأمير مطهر بن الشويع وولده الأمير علي، والأمير طرموش، والأمير مخرعلي، والشيخ علي بن متاش السنحاني الخولاني وغيرهم[ق/108].
[وقعة نقيل عجيب]
ثم إنه أغار عليه الحاج المجاهد شمس الدين أحمد بن عواض ومن انضم إليه من الكلبيين وغيرهم فأدركوا قدر ثلث المحطة لأنه رمي جمل للشيخ علي بن متاش الخولاني عليه حاصل فعقم الطريق وانتهب بسببه ما بعده من الأثقال الكثيرة، وبعض الزبارط وغيرها.
وقال السيد عيسى بن لطف الله: إنها أخذت جميع أثقالهم وأصيب الشيخ علي بن متاش وذهب ماله في جملتها ألف وسبعمائة حرف أحمر ذهب، وقتل جماعة فوق المائة النفر وأحرق عليهم الباروت وهلك منهم به أنفار.
وقال السيد أحمد نفع الله به: ووقعت الورطة مع الأتراك في جراف خمر وأيقنوا بالعطب، فروى الثقة أنهم احتالوا في أنفسهم بأن خدعوا السيد العلامة محمد بن علي الحوثي، والسيد أحمد بن محمد الأعضب والشيخ علي بن وهان ومن معه، وكتبوا إليهم في رفاقة لهم وإخراجهم إلى البون بما معهم من الأثقال، وكان ذلك على يد الأمير علي بن المطهر بن الشويع بعد أن أخذوا منه العهد للإمام عليه السلام وأنه بعد ذلك يصل إلى الإمام عليه السلام ويكتب بذلك الحديث إلى الحاج المجاهد أحمد بن عواض ومن معه، فأجاب عليهم الحاج ومن معه: إن هذا الصلح إن كان برأي الإمام عليه السلام فلا بأس وإن لم يكن فلا نساعد إليه ،فأظهر الترك عدم المبالاة بالحاج ومن معه وأظهروا أنهم يقصدونه للحرب، ثم مالوا نقيل عجيب وكان ما تقدم (منقولاً بالمعنى)، وبعد هذه الواقعة فتح المشرق جميعه إلى بلاد الطيال كما أخبرني حي القاضي العالم جمال الدين علي بن أحمد بن أبي الرجال رحمه الله، قال: إنه خرج في تلك الأيام إلى الأمير مطهر بن الشويع من قبل الوزير حسن، وكان إليه بلاد حاشد وبكيل في محطة فلا زال يطوف في البلاد مثل بلاد ذيبان وبني زهير والصيد ونواحيها، ويصطنع الناس كما تقدم من ابن المعافا، ثم طلب جماعة من العلماء والفقهاء، منهم: القاضي الهادي بن عبد الله بن أبي الرجال، والقاضي صالح بن عبد الله بن حنش، والقاضي عبد الوهاب الصنعاني المذكور في أخبار حجة وغيره، وكان يسير بهم معه على أنه معظم لهم وهم معه في الاعتقال ومع ذلك فهو يحضهم على ترك الفتنة، ويقول: قد رأيتم عدم صبر القبائل على
القيام مع الإمام الحسن كذا وكذا من العواقب [ق/109]. قال: ودعاة الإمام وكتبه تترى عامة وخاصة حتى أن الصنو القاضي الهادي أضاف الأمير في ظفار، وعندي في بعض منازل البيت اثنان فأخذنا لهم حصة من الضيافة من بين يد الأمير وعاقدنا أهل العزائم من الشيعة والقبائل، ثم أوقدت النيران وقام معنا أهل خارف حتى اجتمعنا إلى ناعط من أعلى جبال الصيد جمعاً كثيراً لكن من غير سلاح ولا ندري إلى أين توجه لأن الظالمين قد انكفؤا إلى صنعاء وقدهزمهم الله.
[كرامات الإمام]
نعم واتفق معنا في حال المساء في ناعط قضية أنا لما أخذنا مضاجعنا للنوم احتجنا إلى شربة ماء، قال: فقلت: من يسقينا من البركة فأجره على الله، قال:فقام الفقيه فلان خفي علي اسمه وقد سماه، وقال: أنا، فأخذ إناء وذهب ولم نره ونمنا وأصبحناولم نجده في القوم فظننا أنه جبن وبدا له الرجوع إلى المشهد المقدس بذي بين وترددنا ننتظر التئام القبائل، وأمر مولانا الإمام عليه السلام نحو ثمانية أيام، ودخلنا أعناب سلب من بلاد حشب الزيادي وقد أصفقت حاشد وبكيل على الإجابة وغالبهم بغير سلاح، وأما البنادق قليلة جداً ماتجاوز العشرين القصبة.
قال: فلم نشعر إلا بالفقيه المذكور وقد صار في حالة ضعيفة مصفر اللون وعينه مجرحة حمراء يقطر منها الدم فلم نكد نعرفه حتى تحققناه فسألناه عن خبره وأين كان هذه الأيام وهو فارقنا على أنه يسقينا الماء، فقال: اتفق لي قضية وهي أني لما خرجت من عندكم، فلما هبطت إلى أسفل منكم إلا وقد حملت فيما بين السماء والأرض حتى أوصلوني محل فلان من جبل الفليقة من بلاد الكلبيين فأحضروني عند أمير الجان، وشكاني قوم أني قتلت منهم بأن وقعت عليهم مع النزول وكحلوني بكحال فرأيتهم ووصف من أمورهم وألوانهم أموراً هائلة، فقلت: وكيف ذاك؟ فقالوا: كنا محاطين تحتكم وكنا في محطة من الجن خرجنا للجهاد في سبيل الله، قال: فحبسوه حتى سكنت فورتهم وطلبوه وأبروه وسمحوا له لأجل الجهاد مع الإمام عليه السلام، وهذه من كرامات الإمام عليه السلام وما اتفق من اجتماع الجن مع الإنس على وجوب نصرته سلام الله عليه ورحمته.
[حروب هزم]
قال: ثم خرجنا إلى هزم لاستدعائهم لنا فصرنا إليها في عالم من الناس وبينها وبين صنعاء نحو ستة فراسخ لا غير، ثم تواترت الغارات إلينا من قبل الإمام عليه السلام فوصل الفقيه المجاهد عز الدين علي بن صالح الأكوع، ثم السيد أحمد بن محمد الأعضب الحوثي وغيرهما حتى اجتمع في[ق/110] هزم عالم من الناس، وخيموا في ذلك الموضع فخرج عليهم سنان لعنه الله في جمع عظيم من العجم والعرب والمدافع وقد أرهب وأرعد وأبرق، وألبس جنوده وخيله الحمر وجماله كذلك حتى روي أنه لبس الكلاب الحمرة وأخرج معهم الأمير عبد الله بن محمد الداعي الهمداني وهو الذي دخل الروم يستدعي الخروج على عيال الإمام شرف الدين عليه السلام، وكان معه نحو ثلاثة آلاف من همدان، فاتفق حرب عظيم صبر فيه المجاهدون ولهم شدة حتى أحيط بهم من ثلاث جهات ولزم المجاهدون البيوت وهي غير حصينة، والخيل تحمل عليهم حتى تصل شوارع البلد، فبينماهم في مكابدة ذلك، وكان الحاج المجاهد شمس الدين أحمد بن عواض الأسدي رحمه الله تعالى قد دخل بلاد نهم، واجتمعوا إليه وأجابوه وأراد التقدم بهم ومن اجتمع إليه من غيرهم من بلاد خولان الطيال فوصل إلى موضع من أعلى السر يسمى الشرفة، ثم إنه دعا كالمستجن على هزم فعاد بمن معه وصعد بهم جبلاً مشرفاً على صنعاء على وادي السر يسمى ذباب فعشر من ذلك من هنالك فسمع الحرب والمدافع على هزم فقام بمن اجتمع إليه من القبائل وحرضهم على الجهاد، وقال: ما يسع عند الله إلا الغارة على إخواننا إلى هزم، فخلص له نحو ثمانمائة نفر أو يزيدون على ذلك وانحدر بهم إلى القاع ثم جبل
بني جرموز حتى انتهى أسفل محطة سنان لعنه الله إلى جهة المشرق، والمسلمون في هزم في أضيق حال قد دخل عليهم بعض بيوتها وهم ثابتون صابرون، وكان رجل من الحارة من بلاد ذي مرمر يسمى أبا مريم لعنه الله تعالى من كبار جنده ومن أهل البأس تكلم في الإمام عليه السلام بما لا يجوز لعنه الله وأشار مستهزئاً إلى فرجه فما أتم ذلك حتى أصابته رصاصة أخذت مذاكيره، وكان عبرة ظاهرة.
ولقد أخبرني حي والدي رحمه الله وكان في عسكر الحاج أحمد من تحريض الحاج للناس بما يطول ولقد اهتز للجهاد من حضر من رعاة الغنم في الطريق، ثم لما وصل ذلك الموضع وكان وصل غارات من قبل من حاشد وبكيل وأحصروا لم يتمكنوا من المدد فانضموا إلى الحاج فأخذ عليهم أن لا يتقدمه أحد فتقدم بهم من مواضع سماها حتى قصد همدان ولم يليهم جند العجم فأوقعوا فيهم حتى هزموهم وفرقوهم وجملة المراكز كلها فاجتمع جنود العجم إلى طاغيتهم ودافعوا عنه، وكان قد أرهق، ثم استقامت الملاحم [ق/ 111] الكبيرة والمصادمة التي يضرب بها المثل فأقاموا على ذلك شهراً أو فوق ذلك، وفي أكثرها اليد لهم على العجم، وكان سنان لا رحمه الله يباشر الحرب بنفسه وكان له مترس يحفظ نفسه فيه وقريب منه المدفع المعروف بالخباني قل مثله في أرض اليمن، وكان قد ضر المسلمين والبيوت فحمل عليه المسلمون حملة هائلة حتى أزاحوهم من فوقه وحصل عجب من سرعان الناس وقطعوا حباله التي يُجر بها فلم يقدروا أن يجروه إليهم، وقد تمكنوا منه فجمعوا عليه حطباً وغرائر وآلات كانت بالقرب فأحرقوه على أنهم يغيرونه وصبوا عليه الماء والخل، فتراجع أصحاب
المخذول سنان لارحمه الله إليه وكانوا حملوه للهرب فرموا فأصابوا جماعة من المجاهدين علىضوء النار فرجع الناس ليلتهم وهموا به أخرى حتى اتصلوا به ولم يتمكنوا كما تقدم، وكان حي الشيخ علي بن عبد الله الزيادي عند سنان لا رحمه الله في الاعتقال وأخوه الشيخ محمد بن عبد الله عمدة في أهل الجهاد وممن له التأثير العظيم والنصيحة، وكان يرمي بالبندق ويركب الخيل ويقاتل عليها، فكان سنان لا رحمه الله يخرج الشيخ علي حتى يعاينه أخوه وينادونه هذا أخوك إن يخرج أصحاب الإمام من بلدك وإلا قتلناه فلا يجيبهم إلا: افعلوا ما بدا لكم، لقد صارت البلاد للإمام أيده الله ولم يبق لي فيها تصرف أو كما قال، فلما يئسوا منه أخرجوا الشيخ علي على المدفع وذبحوه كما يذبح الخروف، وبقي الحرب حتى قيل هذا الأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن المحروم قد وصل من عند الإمام عليه السلام، ولمصيره بجنوده وأهل مملكته إلى عند الإمام خبر طويل نذكرمنه إن شاء الله تعالى ما يسره الله في موضعه، وقد بايع الإمام وأظهر التوبة وتقدم بعيون من أصحاب الإمام عليه السلام حتى وصل بعاش، وكان في عمران من قبل مولانا الإمام عليه السلام الوالد السيد محمد بن ناصر الغرباني أطال الله عمره فقبض على من عنده من أصحاب الإمام عليه السلام وانحدر إلى جنات عمران، وعاث فيهم وقتل عالماً وتقدم إلى عيال سريح فانهزم المجاهدون من هزم وتفرقوا، وقتل من أهل هزم نحو ثلاثمائة نفر فيهم صغاروضعفاء ومن سائر الناس ولو أن عبد الرحيم المحروم كتم سره ودبر أمره لما كان عزم عليه من إظهاره لأهل هزم أنه ممد لهم حتى
يحيق بهم ومن وراءهم وسنان لعنه الله من أمامهم لكانت [ق/112] وقعة هائلة ومصيبة عظيمة ولكن دافع الله سبحانه.
نعم! وهذا المنقول من مداد الحاج المجاهد أحمد بن عواض رحمه الله تعالى إلى هنا من رواية الوالد وغيره.
قال السيد أحمد نفع الله به: إنه استدعى السيد الحسن وجميع العيون من أفاضل أصحاب الإمام عليه السلام وقد أسر سنان أنه يحتال فيهم ويطلبهم للتشاور، ثم يقبض عليهم فلم يأمنوه.
وقال السيد عيسى: إن الذي أنذرهم وأطلع على خبر هذا الظالم رجل من عيال يزيد اسمه صبحا من بلد الخدرة جزاه الله خيراً، ومن لطف الله بالمسلمين وإعانته لأمير المؤمنين إنما وصل عبد الرحيم بعاش إلا واتهمه عيون الأنصار وتفرقوا من حوله، ووافق وصوله الجنات وقد انهزم من في هزم ولقاه جنود سنان إلى موضع يسمى الحمودي.
[ذكر تقدم الإمام عليه السلام إلى حبور]
قال نفع الله به: ولما بلغ الإمام عليه السلام نكث عبد الرحيم وهو عليه السلام في سيران تقدم إلى حبور ليكون ظهيراً لمن في السودة، والسودة وغيرها من المجاهدين.
قال السيد عيسى بن لطف الله: كانت الهزيمة من هزم وعذر الأمير المحروم في شهر رمضان سنة ست وألف [1597م].
[أخبار القاضي يوسف بن علي الحماطي]
فصل: في أخبار القاضي الزاهد الإمام المتبتل العابد نجم الدين، وأويس الآخرين يوسف بن علي الحماطي نفع الله به وإجابته، وحسن مواقع نصرته، فمنها ما أخبرني الفقيهان الأفضلان الفقيه الأعلم شمس الدين أحمد بن محمد بن حسان الآنسي ثم الشمهاني، وكان من أهل العلم وأتباع سيدنا نجم الدين يوسف بن علي الحماطي عادت بركاته، والفقيه أحمد بن سعيد الظفاري ثم الحيمي وهو أيضاً من عباد الله الصالحين، وله علقة بحي سيدنا العالم العابد الشهيد محمد بن علي العياني المشهور الفضل في اتباع سيدنا نجم الدين المتقدم ذكره رحمة الله عليهما أن حي سيدنا يوسف عادت بركاته كان مع شدة خوفه من الظالمين أخذهم الله وهم ولاة سلطان الروم حسن باشا، ثم من بعده سنان باشا ومن بعدهم ممن سيأتي إن شاء الله تعالى أسماؤهم [ق/113] في موضعه من هذا المختصر ما زال منذ ما اتفق لحي مولانا الإمام الناصر لدين الله الولي الحسن بن علي بن داود المؤيدي صلوات الله عليه من الأسر يترقب لقائم حق وعهد له، ويدعو إلى جماعة آل محمد صلى الله عليه وعليهم، ومع ذلك فتاويه ظاهرة ويده بالذب عن الدين في كل جهة لمخالفيه قاهرة، والقلوب من غالب الزيدية في اليمن كثرهم الله إليه مائلة، وكان له رسائل كثيرة وفي أيام تخوفه كما تقدم قد أظهر نفسه مراراً وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وكان أكثر مواضعه التي يستخفي فيها ويتردد إليها جبل عانز وما يتصل به من جبال الحجرة المتصلة بسهام، ثم بلاد حراز ومثل بعض بني مطر وبعض بلاد جبل تيس، ومثل جبل حصبان من أعمال حراز، ومع
بعض الأمان قد يقصده عدة من العلماء والفضلاء من المشرق والمغرب، وقد يطلع نواحي خولان الطيال، وله فيها أتباع وهجر معروفة يأوي إليها.
قال الفقيه أحمد بن محمد بن حسان رحمه الله: فكنا عنده في أواخر عام خمس وألف [1596م] في حصبان، وكان له في موضع منها يسمى بني الشريحي شرقي جودا وزوجه، وقد حضرنا بعد صلاة الظهر للقراءة عليه في كتاب سماه وإذا ببريد من غير جنس البلد لايعرفون بلاده ولا هيئات لباسه عليه قشف السفر البعيد فاستدعى سيدنا فقام إليه وغاب عنا ثم عاد منشرح الصدر طلق المحيا فعجبنا من ذلك، ثم قال: إنه زلجه بالجواب ذلك اليوم أو قال نهار ثاني، ثم لم يلبث بعد أيام قليلة وإذا به قد وصل مثل ذلك الأوان، فقام هو وسيدنا وإذا بسيدنا متغير اللون، ثم قال الفقيه يوسف نطلب له حجراً وشجراً تواريه، قال هذا الإمام أو قال الهاشمي قم يا فقيه يوسف بعصاك قاتل العرب والعجم وإلا دخلت النار، ثم قال لنا: قام الرجل واستبشرنا لجهلنا عظم التكليف أو كما قال، وقلنا: هذا الذي كنا نترقبه ونسمعه من سيدنا حفظه الله، قال ثم غاب سيدنا في البيت إلى حوالي وقت العصر ثم خرج وصلى العصر، ثم أخرج أربع رسائل من مولانا الإمام سلام الله عليه ومعها أربع رسائل منه مضمونها الدعوة وقيام الحجة كما يفعله الأئمة سلام الله عليه أحدها إلى الحيمة، والثانية إلى بلاد آنس وما يتصل بها من نواحي ذمار، والثالثة إلى جبل تيس ونواحي بلاد كوكبان، والرابعة إلى بلاد خولان المشرق وما يتصل بها ثم عين على جماعة [ق/114] من الطلبة المسير بها منهم الفقيه حسن المعقب الخولاني ومن
أثبت اسمه غيره، ثم دخل البيت وغاب ساعة ثم خرج بجراب يجمع آلة السفر من نحو مهمات المسافر وقطوط طهوره وهي دبة مفتوحة الفم من أعلى للوضوء تحمل له في كل حركاته، وقد كان نحيفاً بحيث أن أكثر أسفاره يحمله أصحابه على أكتافهم من غير مشقة، ولهم وله في ذلك أخبار طريفة مملوءة مواعظ، وكان وجهه نيراً.
قال الفقيه شمس الدين: ولما خرج أمر لآلة الريح من طبل وطاسة من قبيلة يسمون بني الركود فحضروا بالطبول وأمر بالدواعي وقد أمر أن المساء في حج حج من أسفال الحيمة فاجتمعت إليه في أقل من ساعة نحو ستمائة نفر، وأخذ شاشاً من أضعف جنس لحي الفقيه العالم العابد الشهيد علي بن يحيى المحيرسي رحمه الله بطيبة منه وفضلة راية وهو يذكر الله سبحانه ويسميه ويقول: لا تحقروا هذا العمل فأول الحمير ماء إن شاء الله تعالى، قال: ثم سار ما أمكن وحملوه فما عسر فما كان صلاة العشاء الآخرة إلا هو في حج حج، ثم أرسل في الليل حي سيدنا العابد المتبتل محمد بن علي العياني رحمة الله عليه في أكثر الناس، وأصبح في شط بني يوسف مكان المشائخ بني الورد وهم ممن يخالطه صلحاؤهم ويسمعون مواعظه، ولهم بعض قراءة وتمييز حسن ولما طلع الصبح أو قرب منه تقدم إلى موضع يسمى حذاف من أطراف حج حج جهة وقد أرسل للشيخ صلاح بن معوضة الجحاحي، وكان من مشائخ البلاد وعنده جوالة من جند العجم نحو أربعين نفراً فأخبرني الشيخ المذكور من فيه قال: لما وصلني رسوله في الليل بحفظ العسكر وسلاحهم قال حصل معي ومعهم من الخوف العظيم ما لم يكن ولم نقدر أن نخرجهم، وكان لهم طريق تتصل بمحطة العجم فخفت إن هلكوا
ولي رهينة في صنعاء هلك أولادي وأهلي، قال: فتجاسرت وعزمت إليه وأقسم أنه قد خالط كذا كذا من طغاة العجم ممن يقتل ويطلب لا كان يدخل بعض ما ذكره من الهيبة لهذا العالم رحمه الله فلا زلت به حتى سمح بالأمان لهم ليذهبون عند أصحابهم.
قال الفقيه أحمد بن سعيد الظفاري رحمه الله: وقدمت عليه من عند سيدنا محمد العياني نلتمس رأيه أين نصير من بني يوسف ونخبره بمن قد وصله من القبائل وإذا به إلى جنب جدار في نحو ثمانمائة نفر [ق/115] ما أعلم أني رأيت معهم سلاحاً ولا مع سيدنا إلا الجراب والقطوط حق طهوره بين يده، وعليه هيبة ما شاء الله، قال: فلما أشرق النهار وإذا بالنصير والبشارة، فسأل سيدنا فقالوا: هذا السيد العالم عامر بن علي عم مولانا الإمام عليهما السلام، قال: فأمر سيدنا بطاسة من مدر وقبائل قليلة يلقونه وأظهروا سروراً وأمر بشراء عقيرة فأحضر ثوراً عظيماً فربطوه فبسطوه للذبح وأقسم أنهم لم يجدوا عند الجميع ممن حضر سلاحاً يذبح به مما قد ضعف الناس من دولة العجم، فأخرج لهم سيدنا رضي الله عنه من الجراب شفرة وقال: بهذه فذبحوه، ثم قدم السيد ولم يكن عليه إلا قيمصه فقط لأنه هرب من حبس كوكبان وإنما دلوه بحبل، قال فيما بلغه: ثم إن سيدنا أمر إلى العياني بالقدوم بالناس نحو العدو ولا يبرح حتى يدخل بلاد الحدب، قال وكنت الرسول، قال فلما نهض العياني بمن معه إلى وادي السخنة وقد اجتمع عنده كثرة قبائل بغير سلاح وأرادوا دخول الحدب فوجدوا رتبة للعجم قد قدمت إلى أسفل الحدب وأعانهم أهل البلد فلم يتأت طلوع في تلك الليلة فأمسى الناس في الوادي، وكانت
الثمرة في وقت حصول الصعيف منها فأقسم أنه لا رأى ولا سمع على أحد أنه مد يده إلى سنبلة واحدة من حق الناس ورعاً وخوفاً من نهي الحماطي والعياني حتى أن فلاناً من أهل القرقرة بلد من أسفل بلاد بني عمرو وهب للعياني جربة عشاء للناس، قال: فلا أعلم بأحد أخذ غير ذلك، فلما أصبحوا عبى الناس للطلوع للحدب فناوشوا تلك الرتبة ساعة، ثم هزموهم وطلعوا إلى المحارم أعلى الحدب واستقام حرب عظيم وقد خرج العجم من العر من عند أمير لهم من قبل الترك لعله الأمير أحمد القرماني معه نحو سبعمائة أكثرها بنادق وعدة من كوكبان ورؤساؤهم فقتل من جند الترك جماعة، ومن القبائل القليل حتى أخرجوهم يعني جنود الحق من المحارم إلى مغربة العر، فلزم الترك بيت المرين وما إليه، قال: وحمى الحرب ولم يكن مع جنود الحيمة كلهم إلا نحو ثمانية عشر بندقاً وكثرة رجال بغير سلاح، فلما شق الحال وقد حكى من صبرهم ونصر الله سبحانه لهم عجباً، قال: فعدت إلى سيدنا أطلب منه باروتاً ورصاصاً لبعض أهل المتارس وإذا به يتضرع ويبتهل ويسأل الله النصر، قال: ثم أكثر من رقب الشمس وصاح صائح من عنده لا أعلم هل هو يراه أم لا: يقول لكم سيدنا محمد: ما قد هي ساعتكم [ق/116]، قال: فبرد القتال واستقر كل في موضعه حتى يسر الله غارة من بني المهلهل ماهي بالكثير ومعها السيد بدر الدين محمد بن علي بن حسين المعروف بالقراع هارباً من كوكبان على نحو ما تقدم للسيد عامر -رضي الله عنه- قال فصاح القاضي للناس بالحملة وهو يقول: ساعتكم، قال: فحمل الناس من كل جهة فوقع قتال عظيم حتى تكادموا بالأفواه وانهزم جنود
العجم، وجنود الحق ملازمون لهم يختلطون بهم يقتلوهم لكن أكثرهم بغير سلاح حتى دخلو محطتهم فانتهبوها، وقتل من العجم وجنودهم فوق ثلاثمائة رجل واحتاز الباقون في حصن الناصرة في العر، قال ثم قدم سيدنا يوسف ومولانا السيد العلامة عامر بن علي فجرى الخطاب على السيد عامر -رحمه الله- فاعتذر السيد عامر وقال: إنما هربت من الحبس على ما عرفت من الحال ولا قد معي ولاية من الإمام وبيننا وبينه مسافات وعوائق، فقال سيدنا يوسف: قد معي ولاية، قد وليتك وها أنا عندك فأخرج العجم وألفافهم وقبض سلاحهم، قال: فلقد طرح بين يديهما نحو ستمائة بندق وأنا شاهد وآلات كثيرة وسيوف وسلاح وغيرها ونحو ثلاثين رأساً من الخيل أكثر بالعدد المحلية، فأعطى السيد عامر من طلبه من الخيل.
وأما البنادق فعرضوها على القبائل يتقوون بها فكل أحد من القبائل لم يرض من خوف عاقبة دولة الترك، ولم يمد إليها يداً، فجرى القول أنها تفرق في كل قبيلة بمعنى يكونون جميعاً ممن قتل وسلب من شدة الخوف ففعلوا، ثم إن سيد يوسف عادت بركاته جهز سيدنا محمد العياني في أهل الحجرة وحراز على محطة كانت في مفحق المعروف من الحجرة كان فيها من العجم وأتباعهم نحو من أربعمائة، قال فأشار من أشار عليه إنما يحسن مسيره إلا راكباً، قال فكلفوه على ركوب حصان عظيم وأن يلبس فرجية للإرهاب، وكان لباس سيدنا -عادت بركاته- قطاعة من أغلظ ما يكون من غزل أمه وأهله، وعمامته قطعة منها لا يزيد على ذلك، ويصوم مستمراً، وكان له من الخشوع والرقة ما يضرب به المثل، قال فما كان ثاني أو ثالث يوم إلا والخبر عندنا بالظفر بأولئك جميعاً وقبض سلاحهم وأمنهم وأرسلهم إلى عند السيد عامر، وسيدنا يوسف، قال وعزم سيدنا محمد بيته حراز [ق/117] ولا يظن أن في ذلك خللاً، قال فعظم على سيدنا محمد فكتب كتاباً سمعت بعضه في فصوله يا أخي وفيه بلاغة، ومن جوابه في بعضها ما لفظه:
ليالي الوصل من أحبابنا عودي .... حتى يعود نظيراً مورقاً عودي
وصل الكتاب المودع بدائع الخطاب، الملاحظ فيه دقائق العتاب ومرارة الجواب، وعليكم أشرف التسليم وأزلف التكريم، ونوامي بركات الرحمن الرحيم.
سلام عليكم كلما هبت الصبا .... على الروضة الغنا وينفاح طيبها
وما ذكرت من أني قطعت التحية، وفضحتك على رؤس البرية، ولم أرد عنك الغيبة الردية، فحاشا وكلا، ومهلا أن أتخلق بذلك مهلا، وما أردت من ذلك الكلام، وإبداء العيوب وقطع السلام، إلا التحريض لكم بالاهتمام، واعتمدت على قول ذي الأرب، إذا صفت المودة سقط الأدب، ومن كتابك العجب كل العجب، وما كنت أظنك تأول كلامي تأويلاً معكوسا، وتصرفه تصريفاً منكوسا، وكنت أظنك من أشفق الولدان، وممن كشفت بيني وبينه الأردان، فغدا الظن على غير حقيقة، وصار الرجاء سالكاً في أصعب طريقة، وما ذكرت من أني لم أرد عنك الغيبة المردية، والألفاظ المزرية، فقد علم الله سبحانه وتعالى أني لم آل جهداً، ولم أزل لألسنة أهل البذا مسددا.
ثم قالوا تحبه قلت مهلا .... عدد الرمل والحصى والتراب
والعتاب سيما الأحباب، ومن صفة مودته من الأصحاب وأنت تستحق من الخصام أجزله، ومن العتاب أقتله، تركتنا والجهاد قائم على ساقه، وكل مؤمن قد رجع عن إشفاقه، وفزع عن قومة، واغتنم فضل نومة، وأنت تجود بنفسك هاربا، وتركت كل من كان لك محباً وصاحبا.
يا خليلي ويا شقيق فؤادي .... أنت خلفتنا لأمر شديد
وقد تناولنا كتابك على ثلاثة أوجه، إما أنك أردت بذلك الاختبار لنا بما عندنا لك، فعهدي ذلك العهد القديم، وقلبي ذلك القلب السليم، وإما أنك قد اعترفت بالذنب وتريد الذب باللسان فلا يقبل منك ذلك حتى تفعل ما أريد منك وأستغفر الله في حقك وحق كل مسلم، ولك السلامة من الجبن والبخل والملامة، ومن تاب بعد الذنب وتشجع بعد الجبن تاب الله عليه، ونظرت العيون إليه، ومدحه من كان ينقد عليه، فاستر هذه الفعلة بأحسن بدوة وأجمل جملة، وتصلون جملة أنت وأصحابك إن ساعدوك وإلا وصلت أنت [ق/118] بنفسك ومن ساعدك، وأنتم يا أهل الثلث تقولون أنكم رأس الزيدية فلا تبقوا تفرجوا على أصحابكم الزيدية وهم يحربون الإسماعيلية، فإما أن تصلوا وإلا فتحتم عليهم من بلادكم، والسلام. انتهى الموجود.
وكان سيدنا رحمه الله تعالى يكاتب القبائل بما هو أنفع لإفهامهم، من ذلك ما أخبرني الفقيه أحمد بن سعيد المذكور، قال: رأيته رضوان الله عليه يأمر القبائل برفع الأصوات بالأشعار المحركة لهم حتى أن بعضهم لم يكن لهم من يعرف ذلك، فأمرهم برفع أصواتهم بقوله:
الحرب إذا باشرتها .... فلا يكن فيك الفشل
واصبر على حوماتها .... ما الموت إلا بالأجل
ومن مثل ذلك أنه كتب إلى خولان العالية وبسط من البراهين ما يتعلق بمعارفه الظاهرة، ثم جعل إلحاقاً فيه من كلام القبائل من جملته قد قال الأول:
ادخل مع أخوك القاسم .... ويقسم الله ما قسم
ومما قال قد قال شاعركم:
إن صاحبي كلما فيا هجس .... وإلا فليش المعاني والصحب
إن يرفس النار رفسنا ما رفس .... وإن يمس الحنظلة مصات أقب
قال رضي الله عنه: وأنا أقول:
وإن صاحبي بين ماء صافي غطس .... غطست من هامتي بين الخلب
وإن صاحبي من قميص سوسي جلس .... خلست جلدي ويبدين العصب
وأمثال هذا مما يطول ذكره، قال: فعاد سيدنا إلى لقاء سيدنا يوسف كما سيأتي إن شاء الله تعالى، قال: وأرسلوا في خلال عزم سيدنا العياني سيدنا الفقيه العالم الزاهد جمال الدين علي بن يحيى المحيرسي رحمه الله إلى بلاد كوكبان جبل تيس ونواحيه، وعينوا معه قبائل وأعياناً سماهم، منهم: السيد المجاهد محمد بن علي بن الحسين من آل شرف الدين المعروف بالقراع، وجهزوه بنحو ما جهزوا به العياني، فلما قاربوا بلاد جبل تيس أجابتهم القبائل وخالفوا على دولة كوكبان، فأرسل الأمير أحمد بن محمد ابن عمه الأمير محمد بن عز الدين بن الإمام شرف الدين نحو ستمائة نفر فاتفق حرب عظيم فهزم أهل كوكبان، وانتهبت محاطهم وقبض على الأمير محمد بن عز الدين في هجرة عر ثومان، ووصل به السيد محمد بن علي القراع إلى العر في الحيمة إلى عند السيد العالم عامر بن علي رحمة الله عليه، وتقدمت القبائل مع حي الفقيه الشهيد علي بن يحيى رحمه الله تعالى ومن معه فأخذوا [ق/119] الطويلة، ثم بلاد الضلع جميعاً، واستقروا في بيت مليك موضعاً هناك أياماً، ثم تأخروا إلى موضع يسمى الماخذ هناك، ولا تزال الحرب عليهم قائمة من كوكبان حتى كان آخر الحرب في موضع يسمى جرف هيفر أعلى بني الخياط، استشهد فيه الفقيه جمال الدين رحمة الله عليه، واجتز رأسه وبقي أهل البلاد فوضى، فأغار السيد العلامة عامر بن علي من الحيمة، واستخلف خليفة وكانت أيام
سافوف المشهورة الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى في موضع كما أشار إليها السيد العلامة الحبر أحمد بن محمد الشرفي رحمة الله عليه في تتمته لبَسَّامة ابن الوزير، وأسس عليها شرحه المسمى( الكواكب المضيئة):
وحاز عم الإمام الفضل واشتهرت .... له المناقب مثل الشمس والقمر
وقبله:
أما مواطن سافوف وفي هزم .... فكالجبال اصطدام البعض بالآخر
وسيأتي إن شاء الله الإشارة إلى ما يمكن من تفاصيل هذه الجملة في موضعه من هذا المختصر.
ولما استقر سيدنا جمال الدين علي بن يحيى رحمه الله في بيت مليك والماخذ كما تقدم، ووقعت وقائع كثيرة وحروب شديدة فيما بينه وبين الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين (عليه السلام)، ومن انضاف إليه من العجم، وقد انضم إليه أعيان من أصحاب مولانا الإمام عليه السلام حتى ضايقوا الأمير المذكور، وكان قد لزم صنو القاضي المذكور قبل القيام وهو الفقيه الفاضل عبد الواحد بن يحيى المحيرسي، وضيق عليه في المدفن.
قال مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله محمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله سلام الله عليهما حاكياً في مذاكرة القراءة، وما يجوز فعله وما تقدم من مصلحة العامة على الخاصة، فقال: كما اتفق لحي الفقيه علي بن يحى المحيرسي رحمه الله وصنوه عبد الواحد وأن الظلمة كانوا يخرجونه في أيديهم حتى يقابلوا به صنوه وهو في تلك المرتبة، ويقولون: لئن لم تترك هذا الموضع وتنهزم لنسلخن جلد أخيك ونفعل ونفعل، وهو يصيح في أيديهم مما يعذبونه، قال: فعظم عليه الأمر إن ترك المرتبة وهلك أخيه، وكانا من أهل العلم، فطلب منهم مهلة حتى يراجع الإمام عليه السلام فشرح عليه السلام الصورة، وما الأوسع له في الشرع وأقرب إلى مراد الله سبحانه وتعالى، فكان الجواب عليهم ما معناه: أن ما تقدره يكون بأخيك مظنوناً وما يحدث على المسلمين من الهزيمة والهضم، وما يتعقب من القتل معلوم، وتنزل الأول منزلة الترس أو كما قال، قال: فصبر ودافع الله عن أخيه رحمة الله عليهما فنسوه في الحبس حتى استشهد أخوه، وبقي في الحبس مدة طويلة، وأخرج في جملة أسرى، وكان هذا الفقيه علي بن يحيى من أهل العلم والعمل والعبادة بمحل، وكان من الواعظين، يحكى أنه باع جميع ما يملكه وصرفه في الجهاد، واستشهد وولده سيدنا العلامة الغرة في العلماء العاملين، والعلامة عبد القادر بن علي حفظه الله وأطال بقاه حمل في بطن أمه، وقال عليه السلام مع ذكر قضية المحيرسي: إنه اتفق فتوى من الإمام عليه السلام في مثل هذه مما يجب معه تقديم المصلحة العامة على الخاصة أن السيد علي أبا حضارة الغرباني استحق عليه القصاص
وانتظر شروطه، فقام الإمام عليه السلام وهو في ذلك فطلبه فقال للإمام عليه السلام: ما الأوسع لي عند الله أحفظ نفسي لأهل الدم أو أخرج للجهاد؟ -وكان من أهل النفع والتأثير في الجهاد بالبندق-؟ فقال عليه السلام: لا بل الجهاد، وذكر أدلة على وجوب تقديم المصلحة العامة على الخاصة.
وأما بلاد حراز فهم زيدية كبلاد الثلث وحصبان، وإليهم شافعية حلفاء لهم وباطنية، ولهم حلفاء من الشافعية أيضاً، فالزيدية وحلفاؤهم مالوا إلى جانب الحق وحاربوا الباطنية، والباطنية حينئذٍ يدٌ، ورجل للعجم كما هي عادتهم دعوى التشيع الكوفي والنصب الأصبهاني، فوجه إليهم السيد الشهيد عم الإمام عليه السلام السيد محمد بن علي المعروف بالقراع، فحاصروا حصن مسار وفيهم رتبة من العجم مع آغا من أغواتهم وشيخ من الرحبة من بلاد صنعاء يسمى الشيخ سعيد القشم وقتله سنان لا رحمه الله لأجل ذلك، وغالب أهل مسار الميل إلى الزيدية لأنهم حلفاؤهم، فاستولوا عليه وأخرجوا من فيه من العجم، وبقي الحصن في يد أهله كما سيأتي من أخبارهم إن شاء الله تعالى.
[وقعة ريمة بني السياغ]
فصل: وأما السيد عامر وسيدنا يوسف رحمة الله عليهما فإنه خرج عليهما غارة من صنعاء مع أمير من العجم سموه، وعدة من العرب، فوصل أعلى الأحبوب وبني السياغ، ولازمه المجاهدون بحرب عظيم، قتل من جند العجم جماعة، ومن أهل الحيمة القليل [ق/121]، ووقع أمر ليس بالهزل، ثم وصل أمير آخر يسمى إبراهيم طويل كان من عظماء الروم بمحطة أعظم من الأولى حتى اجتمعوا في ريمة بني السياغ، وانضاف الشيخ عبد الله بن محمد الرماح المطري وجمع كثير من بني مطر وغيرهم فانفتح الحرب العظيم، وأقبلت قبائل الحيمة وطلع السيد عامر فوقع حرب عظيم، وكان في آخر نهار فإذا أقبل الليل قرب جنود الحق من العجم لمعرفتهم بالبلد حتى أنه حمل الأمير إبراهيم بنفسه فهزم المجاهدون، وقتل جماعة سمى الراوي بعضهم حتى أخبر غير واحد أن هذا الأمير إبراهيم لا رحمه الله دخل بحصانه بين القبائل فاحتمل رجلاً من أهل الحيمة على ذهني أنه سماه، وحمله بشعر رأسه حياً، ثم إن الحيمي قطع الشعر وهو في الهوى معلقاً ونجا، قال: فرماه بعض أهل الحيمة -يعني الأمير فقتله، فانهزم العجم وألفافهم، وأحاطت بهم جنود الحق من كل جهة طول الليل فقبر العجم أميرهم، وفزعوا إلى الشيخ عبد الله الرماح يخاطب لهم إلى السيد عامر وأهل الحيمة، وبذلوا كساً كثيراً وعطايا واسعة فأفرجوا لهم، وخرجوا إلى بركة متنة أعلى سهمان، فلما أصبح انتهب الناس ما وجد بعدهم، ثم نبشوا قبر أميرهم، وطلع السيد عامر بالمسلمين وهم كثرة إلى قرية جبل بيت خولان، وقد خرج من صنعاء من عند الوزير حسن الأمير حسين الناظر، وجمع
من العجم والعرب وابن حميد والقشم، والأمير يحيى الداعي من همدان، واجتمع معهم عالم كثيرون، ثم وصل الأمير سنان لا رحمه الله بنفسه، وقد طال الحرب أياماً وجنود الحق تقصدهم إلى مخيمهم حتى أن سنان ومن معه طلعوا الجبل من نواحٍ كثيرة وأحاطوا بأقطاره، فقتل من المسلمين جماعة، وانتهب الجبل ولولا دفاع الله وجماعة من أعيان الحيمة منهم الشيخ محمد بن ثامر الأحبوبي وإليه جماعة سماهم حفظوا مغربة المسجدين حتى انحدر السيد عامر ومن معه لكانت العظيمة، [كان قد وصل] من كوكبان الأمير أحمد بن محمد بنحو خمسمائة فارس من غير الرجالة مدداً لسنان، وكان مدخلهم من جعلل فأخذ كثيراً من الضعفاء حتى قتلوا النساء مع من وجدوا من الصبيان قاتلهم الله أنى يؤفكون، ثم استقر مخيمهم في جبل الثويرين، ووصلهم مشائخ خولان وقايفة بنو ظبيان مدداً لهم، وتشرعوا لحرب الحيمة، وسيدنا نجم الدين في العر، والسيد عامر عاد إليه بعد الهزيمة ورتبوا[ق/122] أعلى الحيمة على خوف شديد والحرب قائمة في جميع المراتب، واتفق قتلة في الترك وأعوانهم في موضع يسمى الزرقات (من بني مهلهل).
وأخبرني الشيخ شهاب الدين أحمد بن علي خضر القشيبي الآنسي، وكان في جملة من أغار مع الترك أخذهم الله وأصحاب الشيخ الدهاق الدريدي ومشائخ آنس إلى عند سنان لعنه الله، قال: فبلغ سنان لا رحمه الله أن طائفة من خولان خرجوا مع عينة من قبل مولانا الإمام عليه السلام وأخذوا جمالاً كثيرة خرجت للوزير من صنعاء إلى نواحي مسور للحطب فانتهبوها، وقتلوا من معها، فقبض على من عنده من مشائخ خولان، حبس بعضاً وقتل بعضاً بالخازوق، وصفته: أن ينجر الأخشاب ويدخلها من دبر الرجل حتى يخرج من فيه، فخالفت عليهم خولان وشغلوا صنعاء ومن فيها حتى أشرفوا على صنعاء من نقم، ثم دخل السيد العلامة عمدة الزاهدين، وقمر الساجدين: الحسن بن شرف الدين بن صلاح الحمزي رضوان الله عليه على حصن ثلاء بعد أن فتح الله عليه جهات كثيرة، وأخذ بعده حصن عفار وكحلان تاج الدين، وله أخبار طويلة فأرسل سنان لا رحمه الله إلى أهل الحيمة من يتوسط بصلح ليلة واحدة فعقدوا له ذلك، وأصبح هارباً من جبل حضور مغيراً إلى ثلاء فلم يقدر أن يدرك ما فات بل حصل حروب عظيمة تعقبه عوده منهزماً.
[الحرب على ثلاء]
وصفة الحرب على ثلاء أنه بلغ عدو الله (أن شحنته قد تعطلت) فإن القبائل أخذوا ما فيه ولم يقفوا على حقيقة رأي السيد الحسن كما سيأتي من خبر الفتح.
قال السيد أحمد نفع الله به: وقد عرفوا يعني الترك تعطل الحصن من الشحنة من الطعام والباروت والرصاص وتقلل أصحاب الإمام عليه السلام في مدينة ثلاء حين استولوا عليه، فوقع مناوشة حرب خارج المدينة وانهزم أصحاب الإمام عليه السلام لقلتهم وتفرق أهل البلاد، ولما داخلهم من الريبة، واستشهد نحو من ثلاثين نفراً، من جملتهم الشريف الفاضل الهندي المسمى شاه عالم، وكان هذا الشريف من الفضلاء وصل من الهند، وشرع في قراءة العلم وتزوج في مدينة ثلاء وسكن حتى استشهد رحمه الله، ودخل الأتراك المدينة وانتهب ما فيها، وحمل القبائل الذين بالقرب منها من أبوابها وأخشابها كثيراً، وانحاز السيد شرف الملة وبدر الأهلة الحسن بن شرف الدين الحمزي رحمة الله عليه في جماعة قليلين من أصحاب أهل كحلان[ق/123] إلى الحصن، وسار السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد المحرابي تلك الساعة إلى الأهنوم إلى عند الإمام عليه السلام، وكان لم يتفق بالإمام قبل ذلك الوقت بعد إطلاقه من كوكبان، ولما وقعت هذه الوقعة ألزم الإمام الناس من جميع جهاته بالغارة إلى ثلاء، وحضهم وحرضهم في ذلك وقام القبائل في ذلك مقاماً محموداً، فسار السيد الفاضل العلامة الزاهد حسام الدين صالح بن عبد الله بن علي بن داود القاسمي الغرباني أيده الله بعسكر كثير من جنب وبني حشيش وبني قطيل وغيرهم إلى حضور، وسار أيضاً الشيخ المجاهد عبد الرحيم بن
القدمي وكثير من قبائل قدم إلى حضور أيضاً، وأغار أيضاً السيد شمس الدين أحمد بن محمد الأعضب الحوثي والمشائخ بنو عمران بقبائلهم ومن انضم إليهم إلى نواحي بني عقيف والمحالي ونحوها بالقرب من ثلاء، وأراد السيد أحمد وبنو عمران ومن معهم أن يقصدوا المدينة ولم يأخذوا بالحزم، فأحربهم عسكر الأتراك خارج المدينة من جهة القبلة، وكان مع الأتراك خيل كثيرة، ولم يكن مع أصحاب الإمام شيء من الخيل فانهزموا بعض هزيمة، وقتل منهم جماعة، وكان من جملة أصحاب الإمام المنهزمين بعض الأتراك الذين كانوا في شهارة، وكان الإمام عليه السلام قد قررهم في الخدمة وأمرهم يومئذٍ مع جعفر بن علي بن يحيى بن المطهر بن الإمام شرف الدين وجعله أميراً عليهم فلم يلبث جعفر المذكور أن انقلب على عقبه، وانحاز جماعة من أصحاب الإمام عليه السلام إلى أكمة هناك فقطعتهم الخيل، (واستشهد جماعة) من أصحاب السيد أحمد بن محمد الأعضب ووقعت في ذلك كرامة عظيمة للإمام عليه السلام وهي ما رواه القاضي الفاضل العالم علي بن الحسين بن محمد المسوري، قال: أخبرني السيد أحمد بن محمد الحوثي المذكور أنه لما توسطوا الحرب ولم يكن معهم من الباروت إلا اليسير فأنفقوه جميعاً ولم يبق معهم منهم شيء، وطالبه أهل البنادق بالباروت فتحير ولم يدر ما يصنع إذ لا قوام لهم بغيره، فبينماهم كذلك إذ طلع أصحابه بين صخرتين هناك فإذا بطة كبيرة فحملها بعضهم فإذا هي مملوءة باروتاً، فحمدوا الله على ذلك وأيقنوا بالنصر، ولما عاد بعض أصحاب الإمام عليه السلام بعد الحرب إلى نواحي الماخذ وحواز البون طمع الأتراك في
العسكر الذين يحضرون من أصحاب الإمام عليه السلام فقصدوهم إليه في اليوم الثاني من الحرب الأول بجنود كثيرة، ورزق الله أصحاب الإمام عليه السلام الصبر فإنهم في تلك الأيام [ق/124]، وما كان أكثر طعامهم إلا الجراد، فوقع الحرب قريباً من قرية حضور وفتح الله على أصحاب الإمام عليه السلام بالنصر وانهزم الأتراك هزيمة كبيرة، وقتل منهم جماعة، ثم عاودوهم بالقتال يومين آخرين وأصحاب الإمام عليه السلام يهزموهم وينتصرون عليهم، وكان رئيس أصحاب الإمام عليه السلام في حضور السيد العلامة حسام الدين بن عبد الله الغرباني القاسمي وأراد ابن شمس الدين صاحب كوكبان أن يأتي من وراء أصحاب الإمام ويتركوهم حتى يشغلوا بحرب من يقصدهم من ناحية ثلاء، ثم تأتيهم من قبلي حضور فخرج من كوكبان، وكانت طريقه مغربة الحمام مريداً أن يأتي من وراء أصحاب الإمام عليه السلام فوافق لما وصل إلى المغرب المذكورة، وصول غارة قد أرسلها الحاج الفاضل أحمد بن علي بن دغيش من مسور بعد استقامة الحرب، ورئيسهم السيد الكامل المجاهد علي بن محمد بن علي المعروف بسحلة يريدون تقوية أصحاب الإمام عليه السلام فوقع بينهم وبين ابن شمس الدين حرب نصر الله فيها أصحاب الإمام عليه السلام، وردوه خاسئاً ذليلاً، وخيب الله سعيه، وجرح السيد المذكور في رجله برصاصة، وكانت سبب موته رحمه الله.
قال: وبعد هذه الحروب العظيمة في حضور ونواحيه وما منح الله به أصحاب الإمام عليه السلام من الصبر والنصر وقع التنفيس على أهل ثلاء، واطمأنت قلوبهم واشتدت ظهورهم، ودخل إليهم ما يحتاجون إليه من الباروت والرصاص وغير ذلك، ولقد أخبرني من أثق به أنه لما أشرف الأمير سنان لعنه الله في قاع حوشان وقع مع الجماعة الذين تحيزوا إلى الحصن أمر عظيم، وأن السيد شرف الدين رحمه الله أمر بعض أصحابه أن ينحت من الأحجار الرخام الأبيض ما يشبه الرصاص ليرموا به إذا اضطروا إليه، فجعل الله سبحانه الفرج عليهم والنصر، وكان مدة حصرهم في الحصن ثمانية أيام فقط، ولما كثرت العساكر الإمامية بحضور وانسد ذلك الثغر ورد الله الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين والأمير سنان خاسئين، والتهبت نار الفتنة والحرب بنواحي صنعاء كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وقال رحمة الله عليه: إن سنان لا رحمه الله قد طمع في استئصال الحصن وكتب الباشا حسن إليه بالغارة على صنعاء تترى حتى كتب إلى العسكر والأمراء أن من هو في طاعة السلطان وصل إذا ساعدكم الأمير سنان، قال: فحملوا ما قدروا عليه من أثقالهم، وأحرقوا بعضاً ونهب المسلمون بعضاً [ق/125].
[الحرب على ذمار]
فصل: ولما اتفق ما تقدم من هزيمة السيد عامر من الجبل اتفق الرأي منه ومن سيدنا نجم الدين عادت بركاته أن السيد عامر يستقر في العر، وسيدنا يوسف يخرج آنس ونواحيه، فانفصل بقوم ليسوا بالكثير لمحبته والمصلحة في تقوية السيد عامر حتى انتهى إلى آنس فدخلها بعالم لا تحصى، وكتب إلى جميع نواحي المغرب واليمن فأطاعه من لا يحصى كثرة، ووصل أعيان المغارب وفقهاؤها، ولقد أخبرني الشيخ أحمد بن علي وغيره من إقبال القلوب إلى القاضي حتى لقد سمع من بعض رؤساء الناس أنه قال يخشى على الناس لا يغلوا في هذا الرجل حتى يخرجوا عن الإسلام، فأقام الحدود والأحكام واستوفى القصاص حتى انتهى إلى نواحي بكيل، ووصله مشائخ الحدا، ثم المشرق كله والمغرب جميعاً حتى لا يضبط الناس قلم ولا يحيط بهم حساب، واجتمع خيل كثيرة فأشار عليه أهل الفضل من العلماء ومن لا معرفة له بقتال العجم [بالمبادرة إلى ذمار فدخلها وأخذ من فيها وكان فيها الأمير إبراهيم دُرة من العجم] وحصر قلعتها، ووصل مشائخ اليمن الأسفل مثل الحاربي والكهالي وغيرهم رهبة ومشائخ قيفة وكان قد أرسل سنان لعنه الله وهو في حضور مشائخ آنس لما رأى بلادهم قد دخلت فوصل الملاحي والدريدي وغيرهم فصاروا في جملة سيدنا رحمه الله، ولما استقر في محروس ذمار وقد أرسل القاضي الفاضل جمال الدين علي بن صلاح الحضراني الحاكم رحمه الله إلى مدينة رداع ونواحي خبان فدخلها مع قائفة، وأخذوا من فيها من عسكر الظلمة وأعوانهم ،والفقيه الزاهد العابد محمد بن علي العياني أرسله إلى حقل يريم، فلا زال حتى انتهى إلى جبل
إريان، وفي خلال هذه قضايا وحوادث منها ما أخبرني حي الشيخ الأجل عمر بن علي بن فلاح الحداي أنه دخل مع والده عالم من بدوان الحدا ذمار.
وكان الشيخ علي بن فلاح الحداي صادق المحبة للإمام عليه السلام وللقاضي، فاتفق منهم تعد على أهل ذمار ودخلوا البيوت فشكا أهل ذمار على القاضي فلم يحصل من الحدا امتناع ولا مقابلة أمر القاضي بما يحق له، فأمر أهل ذمار بالدفاع عن بيوتهم وأجابهم من أجاب من الناس فخرج عليهم ألفاف ذمار فقتلوا من الحدا جماعة كثرة، وأخرجوهم من ذمار منهم من المشائخ الشيخ أحمد بن بدر، والشيخ أحمد بن حسن، والشيخ سعيد بن [ق/126] محمد المسخر وغيرهم، فاشتغل القاضي بهذا الحادث عن أمر كان دبره وهو إرسال الشيخ علي بن فلاح وإليه جماعة يحفظونه طريق صنعاء لا تمد إلى ذمار حتى خرج من صنعاء جريدة خيل ورجل مع أمير لهم يسمى الواعظ وسمى هذا واعظاً لأنه كان منعزلاً عن الدنيا، ثم أماله الترك حتى صار منهم فخاف سيدنا من الملاحمة في المدينة وقد افترقت القلوب للوقعة المذكورة بعض الافتراق ولكثرة من مع الأمير المختار، فأشار عليه من أشار بالخروج من ذمار إلى صنعة وافق غربي ذمار، فخرجوا على سبيل الإنهزام والعجم على وصول من غير ملاحمة فعرض الرأي من بعضهم أن يخرجوا إلى يفاع قرية غربي ذمار بالقرب منها يحيط بها القاع، فلما كان ثالث دخولهم ذماراً أخرجوا خيلاً ورجلاً وأحاطوا بالقرية، وتلازم الحرب في جهاتها الأربع حتى أن بعض من انضم مع سيدنا رحمة الله عليه من أعوان الظلمة دلوا الترك على عورات البلد وكلموهم بلغة الروم على أنهم ناصحون،
وقولهم أن هؤلاء كثرة من غير آلة حرب فجرى الخطاب بسلامة الناس بخروج القاضي يوسف فقط بعد أن استشهد جماعة، منهم القاضي الزاهد العابد عبد الله الغشم، فخرج القاضي، وكان بغيتهم ولم يعترضوا لغيره.
قال السيد عيسى بن لطف الله: وكان ذلك في نصف شهر جمادى الآخرة سنة ست وألف [25نوفمبر 1597م] وكان ولده العالم الشهيد علي بن يوسف رحمه الله تعالى حاضراً في ذمار، وعرض له مرض فحمله بعض مشائخ آنس وهو الشيخ صالح بن جار الله الملاحي على فرسه، وحصل بعد انفصاله ما حصل، واجتمع إليه أهل بلاد آنس وانضموا إليه، فلما وصولوا آنس وجهاتها وقد ارتجفت البلاد وحصل مع الناس الخوف الشديد، فاتفق أن بعض الفضلاء رجح تقوية ما يقوله عامة الناس في القاضي عادت بركاته أنه لو شاء لطار، ورووا عنه أنه قال: هو يخرج ما بين السيف وقرابه لميلهم إليه رحمة الله عليه وإلا فلا يقول ذلك، فأظهروا أنه أصبح بمسجد أيوب في جبل ضوران، وكان عليه يعني المسجد فقيه من المغرب الصغير يسمى الفقيه ناصر الموشكي فكان يغلق الباب، ويحلف أن الفقيه في المسجد يعني نفسه فيقولون أدخلنا عليه فيقول هو ساجد ونحو ذلك، فأوقدت النيران في البلاد واجتمعوا إلى ولده وحفظوا البلاد مدة قدرها شهر، وكان في ذلك مصلحة، ثم وصل من قبل مولانا الإمام عليه السلام السيد عبد الرحمن [ق/127] من سادة حبور، وعزم القاضي علي بن يوسف إلى الإمام عليه السلام فعاد والياً.
وأخبرني الشيخ أحمد بن علي خضر أن القاضي رحمه الله رجع من عند الإمام عليه السلام، وكانت طريقه على حي السيد عامر رحمه الله إلى سافوف وأنه لما انفصل من عنده يريد بلاد آنس وجهاتها، اتفق أن أهل جبل تيس خالفوا على السيد عامر رحمه الله ووالوا دولة كوكبان، وكاد المركز في سافوف يختل، فوصلت كتب السيد عامر إلى القاضي فأغار بأهل الحيمة واستعاد جبل تيس وصلح الحال، ثم عاد بلاد آنس فكان فيها نحو أربع سنين، وفي كلها حروب شديدة وقضايا عديدة، وأما القاضي جمال الدين علي بن صلاح الحضراني رحمه الله تعالى، فأخرجه مشائخ قائفة من رداع ووافوا له وعاد سالماً، وأما سيدنا محمد العياني فغدر به بعض أهل اليمن وهو الشيخ السرحي صاحب سمارة ولزموه ومن معه وأدخلوه صنعاء، واغتالوه فيها رحمة الله عليه، ولم نعرف قبره، وأما سيدنا يوسف فبقي أياماً في محبسهم، و كان ربما تظهر كتبه ونصائحه للمسلمين، والإشارة إلى القيام بما يجب لله من نصرة إمام الزمان من ذلك إلى ولده وغيره، ووصايا وحكم، وفي أيام حبسه حمله الترك أخذهم الله أن يكتب إلى الإمام في صلح مدة يكون فيها، وفيها، ولا غرض لهم إلا معرفة حاله بعد لزم الحماطي، وقد عرف ذلك القاضي رحمة الله عليه، فكتب إلى الإمام وبالغ في طلب الصلح، وفي إعطافه ما يفهم الإمام أنه معروض عليه يعني الكتاب محمول على كتابته.
وأخبرني الوالد السيد الفاضل عز الدين محمد بن ناصر بن عبد الله الغرباني عافاه الله أنه كان حاضراً عند مولانا الإمام عليه السلام وفهم الإشارات وقال: جزى الله القاضي يوسف خيراً عرفنا بما لا يفهمون، وأن مرادهم معرفة حالنا بعده، ثم قال: احفظ على الباب حتى أتم الجواب فأفرغ جواباً عظيماً لم نضبطه حاصله: كيف تأمرنا بمصالحة قوم فعلهم كذا، وحالهم كذا وهم غاصبون أرض العرب كلها، وقد سلطنا الله سبحانه عليهم، ولا في أيدينا مالاً ولا رجالاً ولا معقل ففرقنا بحمد الله وفضله جماعتهم، واستأصلنا عظماء دولتهم، وأما الآن فنعم الله أكثر وكذا لنا من فضله من القوة والسلطان ما نأخذ به إن شاء الله ما بقي، ولكن إذا مرادهم الصلح فالصلح خير تفعل لهم أماناً ولا يلحقهم صوت أحد حتى يخرجوا من أرض اليمن وكذا، قال: وأرسل الجواب ولا أعلم أنه وصل غيره. والله أعلم.
[ق/128] فصل: ولما انقضت أيام هزم وحوادثها وحروبها على نحو ما ذكرناه من إهمال إجمال عيون الحوادث من دون تفصيل فشرح ذلك يطول: اجتمع الظالمون إلى عمران البون، ثم طلع سنان لا رحمه الله إلى بلاد الطرف وانتهى إلى السودة من بلاد الطرف، وكادت مغارب قدم وحجة وما إليها تختل على مولانا عليه السلام ففتح الله سبحانه بلاد المشرق كله من بلاد حاشد وبكيل ونهم وخولان حتى انتقض على العجم إلى بلاد قيفة والرصاص، وبلاد يافع وشرق اليمن وقام فيهم الأمير جعفر الجماعي وأحرب من يليه من أمراء العجم حتى ضايقهم، وبقي أياماً وعاد لموالاة الظالمين مع عود علي باشا من الحبشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، واحتال العجم بعد ذلك واغتالوه يعني الجماعي، فانقطعت مواد صنعاء وتقطعت سبلها، فأما ما بين صنعاء وذمار فلا يكاد يمضيها أحد وإنما كان الشيخ زيد بن أحمد الحداي وبعض الحدا يتوخون أوقاتاً ومواضع فيحملون للعجم المال من اليمن والبنادر في مخالي الخيل، ويقطعون بها غير طريق الذراع، وأما بعضهم فموالون لدولة الحق مع الشيخ الرئيس علي بن فلاح بن طوس، ويأتي من تفصيل هذه الجلمة ما يحتمله هذا الاختصار إن شاء الله تعالى، وهذا الفتح في بلاد المشرق.
وأما الجهات الغربية كبلاد الحيمة ويتصل بها حضور إلى عصر من أعلى قاع صنعاء، وبلاد كوكبان ونواحي حراز إلى بلاد آنس من مغارب ذمار وبلاد ريمة وما إليها من بلاد وصاب ونواحيها، فأجابوا على ما يأتي إن شاء الله تعالى من بعض تفصيل لهذه الجمل، وأما الإحاطة بها أو الأكثر فما أبعده لكثرة الوقعات وطولها وتراخي الأيام عن نقلها حتى ذهبت، ولنشرع إن شاء الله تعالى فيما أمكن من تفصيل هذه الجمل.
[ذكر جمل من فتح المشرق]
لما عاد الحاج المجاهد شمس الدين أحمد بن عواض رحمه الله من بلاد حاشد وبكيل وجهات الظواهر تقدم إلى بلاد نهم وخولان والتأم إليه عيون من العلماء والرؤساء وغيرهم من الأعيان، فشن الحرب والمغازي على صنعاء [ق/129] حتى ضايق الوزير حسن، وكان الرمي بالبنادق يصل إلى القصر وقد يرمى الوزير على نفسه بالمدافع وغيرها.
ولقد أخبرني حي الوالد رحمه الله أنه كان في أهل المشرق مشائخ يتجارون إلى المحامد، ولقد تواعدوا يوماً للحرب على صنعاء، وكان على نهم الشيخ شهران بن شندق الصيادي مع غيره منهم فقدم رؤساء خولان لطردهم من صنعاء قبلهم حتى بلغوا نقم وأعلى القصر، ورموهم من القصر، قال: فرأيت شرهان المذكور كاد يخرج من إهابه آسفاً على تأخره، ثم جمع نهم وقال ما عاد إلا أن يغلقوا منا الباب وإلا أهلكت نفسي فلا زال حتى دنا من فروة فرآهم وقد أغلقوا الباب فمال بأصحابه إلى نقم، وغلظ جند الحق، واتسق له المدد والفتوح حتى لقد غزى الحاج شمس الدين رضوان الله عليه حدة، والعجم في صنعاء فلم يتخذوا من فيها من الرتبة ولا من أهلها فاستولى عليها كما ذكر سيدنا العلامة محمد بن علي الشكايذي في قصيدته المشهورة الآتية إن شاء الله تعالى:
وحدة هَدّاها لما عتت وبغت .... عليه بالقول تزويراً وبهتانا
فمما روى من جهلهم وعنجهيتهم أنهم كانوا يسمرون في تلك المدة ويلقبون أرذالهم بأصحاب مولانا فإذا وصلوا عند الحاج شمس الدين رضوان الله عليه دعوا باسمه الكلاب قاتلهم الله أنى يؤفكون:
المسك من أطيب الأشياء رائحة .... وقد يموت إذا ما شمه الجعل
هذا قول الجهلة العمين في هذا الرجل الفاضل المجاهد الأمين، وأما قول علماء الإسلام وسادة الأنام، فإنها دونت فيه الأشعار، وسمرت بمناقبه السمار، كما إليه أشار سيدنا القاضي عز الدين محمد بن علي الشكايذي رحمه الله في قوله:
أما الأمير شهاب الدين حطه ولا .... تجعل عليه سبيلاً أينما كانا
قد أهلك الترك في سهل وفي جبل .... وبات منهم وزير الترك سهرانا
ما زال يقصدهم إلى مخيمهم .... وهم كشاة رأت في القاع سرحانا
فالله يكلؤه من كل نائبة .... فذاك أشترنا وأبو سرايانا
أراد مالك الأشتر النخعي وزير أمير المؤمنين عليه السلام، وأبو السرايا الشيباني السري بن منصور وزير الإمامين الفاضلين محمد بن إبراهيم بن إسماعيل ومحمد بن محمد بن زيد سلام الله عليهم أجمعين.
نعم! وكان منه المغازي قبل حدة [ق/130] وبعدها مستمرة، ومن ذلك ولعلها قبل حدة غزاه همدان فإنه انتهبهم وزعزع بهم دعاتهم ومن يليهم من العجم، وقتل منهم عدة، وهي مشهورة بغزاة الحمزي وما إليها.
قال السيد عيسى بن لطف الله: إن الحاج أحمد الأسدي غزا ليلة المحطة السلطانية إلى باب اليمن وكاد يأخذها، وذلك بعد صلاة العشاء من شهر محرم سنة سبع وألف [أغسطس 1598]، وما دافع عنها إلا عيال خزانة الباشة حسن، وأمسى الحرب على القصر وهذه الوقائع واشتغال العجم كما تقدم من انفتاح مشرق اليمن وتغلبهم على بلدهم، وحازت كل بلد واليها، أو أخرجته لم يبق إلا بطن اليمن فقط والمدائن والحصون.
[ذكر وقعة نجد السلف من نواحي رداع]
فمن ذلك أنه كان في حلقة يافع أمير من العجم يسمى الأمير علي، وكان نظير سنان في المرتبة، وكان من عظمائهم، وكان إليه كثير من اليمن فعمر مدينة الخلقة وقبض رهائن يافع إليها ورهينة الرصاص، وغيرهم، فأحاطت به العشائر ويافع وحاصروه كما أخبرني غير واحد فتضعضع وضعف، وكان لا يأتيه المدد إلا على يد الشيخ الكهالي صاحب آل عمار من شرق اليمن، وحصل له بسبب ذلك المرتبة من العجم حتى لقد أجروا الجامكية والقطائع لنسائه، واتفق على هذا الأمير حروب كثيرة فأمر الوزير حسن الأمير طرموش من العجم، والأمير محرعلي، والأمير محمد الصديق من اليمن، والأمير حسين الناظر، والأمير إبراهيم ذرة من العجم وغيرهم بمحطة عظيمة، وانضم إليهم من رؤساء اليمن عدة فكان الأمراء من العرب والعجم نحو سبعة أمراء من كبارهم، ومن الجند فوق خمسة آلاف على أنهم ينجدون هذا الأمير فانتهوا إلى نجد السلف من أعمال نواحي رداع، وتقدم إليهم الشيخ الرئيس الرصاص الجرهمي الأرضي ومن انضم إليه فلزموا عليهم نجد السلف وقائفة ومن إليهم من ورائهم فأحربوهم وقتلوا من جنودهم كثيراً، ونجا أكثر أمرائهم وأخذوا جميع ما أجلبوا به، وانقطع عن ذلك الأمير المدد، ثم أخرج من الخلقة صلحاً بعد بذل مال كثير، ورجع إلى تعز العدينة واغتاله الوزير وقتله، وذلك أنه خاف على اليمن فجعل لبعض الجند ورماة مع تعشيرة وهلك لا رحمه الله، ثم أخرب القبائل مدينة الخلقة والقلعة وأخرجوا الرهائن وما فيها [ق/131] من المحابيس.
وأما مشائخ قائفة كالشيخ الرئيس مقبل بن أحمد، وصنوه الأمير الكبير حسين بن أحمد فاتفقا على نصر الحق وأعانا في قتل الأمراء المذكورين في نجد السلف كما تقدم، ثم إن الأمير حسين بعد [إن] والى العجم على أسباب خفي علي تفصيلها.
وأما الشيخ مقبل بن أحمد فاستمر في الجهاد وقطع طريق عدن، وغالب طريق اليمن الأسفل، وأخذ مدينة رداع كما تقدم، وغزا كثيراً من محاط العجم المقاربة له، وأعان الأمير جعفر الجماعي المتقدم ذكره آنفاً، ولقد أخبرني غير واحد أنه كان أحد أمراء العجم يسمى الأمير شوبان في بلاد يريم يتنقل من موضعه مراراً من شدة الخوف ولا يمسي هو وأصحابه إلا على ظهور خيلهم.
قال السيد عيسى: إن قائفة قتلوا من محطة العجم فوق ستمائة، أمراؤهم ممن ذكر في وقعة الزهري من نجد السلف وأنهم قتلوهم جميعاً، وذكر أنها في صفر سنة ثمان وألف [أغسطس 1599] وأن أميرها طرموس المتقدم ذكره، والأمير محمد الصديق أمير ذي جبلة.
[وقعة السودة]
نعم! ولما ضايق جنود الحق صنعاء وانقطعت موادها وقد انحصر سنان لا رحمه الله في بلاد الطرف كما تقدم.
أخبرني الشيخ أحمد بن علي بن خضر وغيره: أن الوزير حسن طلبه للوصول يفرج عن صنعاء وطرقها فلم يتمكن لملاحمة جنود الحق له، وقد هزموه من السودة، وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة، وما حمله يعني سنان وكان علق رهنه إلا النقيب حاتم الحارثي وجماعة من العرب على أكتافهم وقد أحيط به ووقع فيه صوائب، وأخذ حصانه وحليته، وصارت الحلية مع رجل من بني صريم، والحصان مع الشيخ عبد الملك بن عامر بن عمران وأخفى اسمه بعض المنافقين عمن قد عرفه ليرميه، وأطفى عليه الفتيلة لصنائع قاتلهم الله، ثم إنه احتال هو أو بعض مماليكه بأن طرح أكياساً مملوءة نقداً من على البغال فاشتغل بأخذها خفاف الناس، وكان الملاحم له من قبل مولانا عليه السلام الفقيه جمال الدين علي بن محمد الشهاري المشهور والشريف صلاح بن محمد الغرباني، والشيخ عبد الملك بن عامر بن عمران.
[وقعة نغاش]
وقال السيد عيسى: ووقع في أيام نغاش وقائع هائلة خاض فيها سنان لعنه الله المتالف.
قال السيد أحمد عادت بركاته: وكان القتل من أصحابه في هذه الوقعة نحو مائتي رجل من شجعان العجم والعرب، وغنم المجاهدون في هذه الوقعات أنواعاً من السلاح والبنادق العظيمة وغيرها شيئاً كثيراً، وكانت هذه الوقعة مقوية [ق/ 132] لأعضاد أصحاب الإمام، مثبتة لأقدامهم، ومزلزلة لقواعد الأتراك، وهادمة لقواهم، وكان لها موقع عظيم، ووقع بسببها فتوحات كثيرة، وقيلت فيها الأشعار الكثيرة، ومما قيل فيها قول السيد العلامة صلاح الدين صلاح بن عبد الخالق بن يحيى بن الهدى الجحافي، وهو قوله:
النصر والفتح والتأييد والظفر .... جرى بها لك من دون الورى القدر
وساعدتك عنايات الإله ففي .... جيوشك الغر من أملاكه زمر
مذ قمت لله لا تلوي على أحد .... والأرض فيها نيار الجور تستعر
نصرت بالرعب والأعداء قاطبة .... بحد سيف شديد البطش قد قهروا
ما سار جيشك إلا أمه رعب .... تكاد منه قلوب الخصم تنفطر
لم أنس يوماً بطوف السود كان له .... ذكر بروق ونشر طيب عطر
فصدق الله منك الظن وانفتحت .... لك الفتوح وزال المكر والغرر
فما سمعنا بفتح كان يشبهها .... إلا الذي خص في أيامه عمر
يوماً شفيت فؤادي من بلابله .... به وأدركت ما قد كنت أنتظر
لدن تمشت جنود البغي يقدمها .... الشيطان والزهو والطغيان والبطر
لا يحسبون لهم كفؤاً يقاتلهم .... ولا يردنهم بدو ولا حضر
فصادفوا عصبة سيان عندهم .... أقل أعداؤهم في العين أم كثروا
أهل الحفيضة من حنب وهل أحد .... يفوقهم أو يسامي مجدهم بشر
وأهل كحلان تاج الدين إن لهم .... مجد على من يساميهم ومفتخر
ولست أنسى بني حيش وما صنعوا .... فإنهم عصبة حين الوغى صبروا
وعصبة بذلت لله أنفسها .... من الذين هم آووا وهم نصروا
ومن أتى قاصداً للقوم من كشر .... ما صدهم عنهم جبن ولا خور
فأخشنوا الحرب حتى انقض مركزهم .... والطعن يأخذ منهم فوق ما يذر
وأعملوا السيف فيهم والرماح معاً .... وكل ما سفكوا من دمٍ هدر
فأصبحوا جزراً للطير تأكلهم .... وسوف تأخذهم في أهلها سقر
تباً لمن عاند القهار فيك وما .... درى بأنك من أنصارك المطر
أعشى عيونهم فانقض جمعهم .... وأسلموا كل ما يهوون وانتشروا
[ق/133]
غمائم يوم بدر كنَّ تكرمة .... لجيش جدك جاءت وهي تنهمر
طهرت جيشك من رجز وكن لهم .... سكينة فاستقلوا القوم فانتصروا
فالأرض تشكر صوب الساقين له .... جماجم وسماء فوقها درر
مولاي أكرم داعٍ من بني حسن .... ومن به فخرت في عصرنا مضر
ومن هو الثمر الحلو الذي كرمت .... أصوله فزكى من طيبها الثمر
أعيذ مجدك من كل العيون فما .... أتت بمشبهك الأيام والعصر
عصراً أقول لدهري فيه من عجبي .... أرُد موسى إلينا اليوم والخضر
أعصر أحمد هذا أم صحابته .... غابوا زماناً وجاءوا بعد ما غبروا
مولاي واعذر إذا قصرت في كلمي .... إن الكرام إذا ما سألوا عذروا
وهاك مزجاة شعر ما لها ثمن .... في غير سوقك في أذيالها قصر
والله يحمي بك الإسلام ما طلعت .... شمس وما لاح في أفق السماء قمر
ولما صار سنان لا رحمه الله إلى نغاش بقي حائراً أن يرجع لاغاثة صنعاء خاف على نفسه من العرب، وكان معه أثقال من أعظمها مدفعان، أحدهما المدفع الخباني المذكور في حروب هزم، والآخر قريب منه، وتتابعت رسل الوزير يطلب وصوله حتى كان آخرها: إن لم تصل بالعسكر وصلناك بنفوسنا، قال الشيخ المذكور: فطلب المخذول نقيب العرب المسمى سعدان العبدلي الشقي لا رحمه الله، وكان عيبة نصحه، وقال: اطلب من في المحطة من يافع ولا تحضر أنت معهم وهم نحو خمسمائة، فلما حضروه أخرج من عنده من العرب من الزيدية، وقال لهم: يا يافع أنا في هذا المكان غريب وأنتم مثلي غرباء، وأخبرهم بحال صنعاء، وشكا عليهم وتباكى لهم، وقال معي ثقل أخاف العار بتركه وهما هذان المدفعان وأنا طالب منكما تجروهما فأنا لا أقدر على تحصيل أحد من القبائل أو كما قال، فأجابوه إلى ذلك وجروهما، وارتحل على حين غفلة حتى اتصل بصنعاء فتلقاه الوزير والأعيان بالمحطة إلى باب اليمن بمشورة بعض العرب قاتله الله فإنه قال إذا دخلتم صنعاء فسد من فيها، ويظنوكم اجتمعتم للحوزة، واجتمع جنود العجم وأمراؤهم والأمير المحروم عبد الرحيم.
قال السيد عيسى بن لطف الله: وغزوا خربة سعوان وهي قرية خارج صنعاء إلى جهة المشرق فقتلوا أهلها جميعهم، وكانوا فوق مائة [ٌ:134] نفس ولم ينج منهم إلا من كان غائباً عنها، وذلك في سادس شهر ذي الحجة سنة ست وألف [10يوليو 1598م]، ثم لا زالت منهم المغازي إلى مشارق سنحان وإلى روس سنحان وغيرها والحرب سجال، ثم اختلت بلاد سنحان، وصار أهلها إلى العجم، وخيم المخذول سنان لا رحمه الله في القبتين من أعمال كنن سنحان، والحاج شمس الدين ومن إليه من أعيان المجاهدين مع خولان ومن معهم من العسكر الإمامية يدافعوهم، وكان في تلك المدة حروب حرمان المشهورة، ثم إن الحاج شمس الدين رحمة الله عليه عاد إلى نواحي خولان ومخاليفها، ولما استمر للعجم الطريق من ذمار إلى صنعاء بعض استمرار وفسد إليهم من بلاد مذحج وقيفة من فسد مع ما تقدم من أخبار الشيخ زيد بن أحمد الحداي، عاد سنان لعنه الله والأمير عبد الرحيم وغيرهم جهات القبلة، ولهم أخبار طويلة في اجتماعهم في صنعاء، ثم في كوكبان كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعض من تفصيل ذلك، وكانت حروب مدع المشهورة وأيام حروب سهران الظاهر وغيرها وهي ملاحم لا تنحصر كما قال السيد العلامة الزاهد شيخ العترة أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي عادت بركاته:
ومن يحدثك فيما كان في مدع .... وفي ثلاء قلت ماذا الفعل من بشر
أخبرني القاضي العلامة المهدي بن عبد الهادي الثلائي المعروف بالحسوسة مكاتبة عن والده رحمة الله عليه إن عدة الحروب في مدع وثلاء أكثر من نيف وسبعين وقعة، في وقعتين منها هزم أصحاب الإمام عليه السلام، ودخلت مدينة ثلاء وانتهبت، واستشهد من أهلها ومن المجاهدين كثير، ثم استعادها جنود الحق فكان فيه حي الحاج الفاضل أحمد بن علي بن دعيش، والقاضي المجاهد يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله حتى أخرجهما منه سنان لعنه الله بأمان ووفى لهما به كما أخبرني سيدنا عماد الدين يحيى بن صلاح رحمه الله تعالى.
[ذكر استقرار الإمام في السودة]
لما بلغ الإمام عليه السلام عساكر الأتراك وإجماعهم كافة على السيد عامر رحمه الله إلى جبل تيس وهو يومئذٍ في حبور وابن المعافا عنده رأى عليه السلام أن يتقدم إلى السودة ليشدد أصحابه الذين في ثلاء وغيره والذين في جبل تيس، ويشغل [ق/ 135] قلوب الأعداء من ورائهم، وليحسن أيضاً استخراج ولده عز الإسلام محمد بن أمير المؤمنين، وذلك أنه كان في مدع لأنه لما ساير الخارجين من حصن السودة ورفقهم كما ذكرنا من قبل سار معهم إلى المضلعة، ثم تقدم إلى مدع، ولما وقع الحرب في جبل تيس اجتمع السادة الذين هم السيد حسن بن شرف الدين، والسيد صالح بن عبد الله، والسيد أحمد بن محمد المحرابي وأرسلوا القاضي سعد الدين إلى حبور ورأوا تقدم الإمام إلى السودة، وأخذ شوره ورأيه في ولده عز الإسلام محمد بن الإمام لا يبقى في مدع بل يعود إلى أبيه، فتقدم الإمام عليه السلام إلى السودة، والسيد عامر حينئذٍ في جبل تيس فتأخر السيد عامر عقيب ذلك، وتقدم الإمام إلى السودة في شهر صفر سنة سبع وألف [سبتمبر1598م] حتى استقر بالسودة، ووقع مع الناس تضعضع من تأخر السيد عامر رحمه الله وساغ للمرجف القول، وتفرق من كان في ثلاء من أصحاب الإمام وعادوا إلى نواحي جبل عيال يزيد وبني قطيل، وانتقل السيد شمس الدين أحمد بن محمد المحرابي من قرية مدع إلى مسور واجتمع بالسيد عامر هنالك، وبقي في حصن مدع الحاج الفاضل المجاهد شمس الدين أحمد بن علي بن دغيش- وقد تقدم ذكر ذلك-ومعه جماعة من العسكر المجاهدين، ولما خلت بلاد جبل تيس ونواحي ثلاء غير حصن ثلاء من
أصحاب الإمام عليه السلام انتقل سنان بعساكره إلى حول حصن مدع، فحط في جرن مدع وحاصر أهل الحصن، ثم شرع في حرب من في مسور من أصحاب الإمام عليه السلام، واتصل به بعض قبائل مسور كعيال على وعيال مومر خفية، وكان ظاهر هؤلاء مع أصحاب الإمام عليه السلام وباطنهم مع الأتراك، وكان سنان لعنه الله لما وصل مدع أصابه الله بألم نحو أربعة أشهر وأشيع موته، هذا معنى ما ذكره السيد أحمد نفع الله به.
وفي أيام بقاء الإمام عليه السلام في السودة قضايا، منها: أن الشيخ ناصر البهيلة صاحب حقل كاتب الإمام عليه السلام أنه يسلم له الحصن بشرط أن يقدم الإمام لقبضه هو، فتوكل على الله، ولما كان بالقرب منه وقف لينظر في الأمر وينتظر وصول الشيخ المذكور وظلل عليه أصحابه من الشمس فرماه عدو الله بثلاث بنادق لم يحصل عليه ولا على أصحابه منها ضرر، وعاد عليه السلام إلى السودة.
ومنها: أنه بلغ الإمام عليه السلام أن سنان لعنه الله قال: إن الإمام قد بدن في السودة [ق/136] واستراح فلا يقدر على الحركة، وكان عليه السلام معروفاً بزيادة القوة والخفة، وقد رأى من الناس مللاً من الجهاد فصلى الجمعة يوماً في السودة وسار مسرعاً حتى صعد مرتفعاً ولم يلحقه أحد لعجزهم عن لحوقه، فلما حصلوا قال لهم: اسمعوا ما أقول لكم وليس ما أقول في أمر الجهاد الذي قد ثقلتم عنه، هذا شهر رجب من تعمده بالتعبد ونسك فيه فقد خالف دين الله، ودين رسوله إذذلك من أفعال الجاهلية أو كما قال، ثم مضى إلى غربان، ثم إلى خمر وبلاد الكلبيين ورأى في الناس تثاقلاً ومللاً عن الجهاد، وقد طلب الحاج شمس الدين أحمد بن عواض فوصل في نحو ستمائة رجل إلى بلاد الكلبيين، وعاد إلى جبل عيال يزيد، ثم إلى بني جيش وأمر بالحرب على مراتب الترك في بلاد قضوى من بلاد كحلان تاج الدين فأخذهم أسرى، فأما الذين في قضوى فوهبهم لخولان أصحاب الحاج أحمد لكونهم منهم، وأما الذين في مدع فأخذوا أسرى، واستشهد في ذلك اليوم الحاج الفاضل المجاهد علي بن عواض الأسدي كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ثم عاد إلى السودة واستقر فيها، وكانت السرايا والمراكز شرقاً وغرباً منها، واجتمع لديه علماء كثيرون، ولهم معه مسائل وفوائد، وممن وصل إليه إلى حبور أوالسودة السيد العلامة محمد بن عبد الله بن الإمام شرف الدين عليه السلام وأظهر توبة مما كان منه من معاونة سنان لعنه الله ومجالسته حتى كان منه أشعار يرد عليهم ويصوب فعلهم، وللإمام عليه السلام الجواب المسمى( حتف أنف الإفك) وشرحه، وهو كتاب مشهور، ولا أدري هل استقام أم لا، وفي الكتاب المذكور ما يفهم أنه عاد إليهم ومات معهم على غير الصواب. والله أعلم.
[ضرب الإمام للعملة]
وإنما أخبرني بوصوله إلى الإمام الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي، قال ورآه وكان يخضب بالحناء، وضرب الإمام عليه السلام في السودة الضربية المنصورية، وكانت نصف درهم مكتوباً في جانب منها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الجانب الآخر اسمه عليه السلام والتأريخ، وانتشرت وأخذها الناس بركة ولطيب فضتها، (وفي آخر إقامته عليه السلام في السودة تزوج الشريفة الطاهرة فاطمة بنت الإمام الأعظم الناصر لدين الله الحسن بن علي عليه السلام، وأمها بنت الأمير عبد الله بن يحيى بن المعافا، وحصل في تلك الأيام مسائل ورسائل [ق/137] طارت في البلاد ولم أقف على ترتيبها ومجالس أدب، من ذلك أنه كان حي السيد الأديب الصدر صلاح بن عبد الخالق الجحافي القاسمي، والقاضي العلامة الفاضل علي بن الحسين المسوري رحمهما الله تعالى في منزل بالقرب من الإمام عليه السلام فراسلاه بهذا الشعر تناشداه بيتاً بيتاً، فكان له موقع في المفاكهة بالفوائد، والتحف الوافية المقاصد، وهو:
خليفتنا أنت بحر الأياد .... وغوث الموالي وحتف الأعاد
بك الله أنقذ دين الهدى .... وأهليه من معضلات شداد
وشد بك الله أزر الصلاح .... وهد بك الله ركن الفساد
وسماك منصوره فانتصرت .... على المفسدين وأهل العناد
نصرت الضعيف أغثت اللهيف .... دعوت إلى الله كل العباد
أنالك ربك ما ترتجي .... وبلغك الله أقصى المراد
ومتعك الله بالصالحات .... ولا زلت من فضله في ازدياد
وهناك ما هو أولاك من .... سرور ومن فرح مستزاد
سنا النور زفت إلى النور .... والضياء المنير على كل ناد
فنور على النور أذكى سنا .... وأضوأ لملتمس للرشاد
فأسعد ربك جديكا .... وأخرج من نسلكم كل هاد
ولا زال شملكما جامعاً .... كما قال جدك جم الأياد
ووالى الفتوح ووالى المنوح .... وأرغم بالنصر كل الأعاد
أهنيك يا خير داع إلى .... سبيل الرشاد ونهج السداد
أمولاي قد عم هذا السرور .... خواطر كل الدنا والبواد
ونال نوالكم كل من .... قصى ودنى من جميع البلاد
ولكن بباكم رفقة .... تخطتهم كل تلك الأياد
وما نالهم منه غير السماع .... وغير السرور الذي في الفؤاد
وهاهم على حالة ألبست .... جسومهم البيض ثوبي جداد
فأضحوا ومن حام ألوانهم .... وقد كان من سام طيب التلاد
وعادوا من بعد سكن البقاع .... بركة حالهم في الوهاد
[ق/138]
فإن لم تداركهم عطفة .... من الملك البر واري الزناد
فلا غرو إن كثرت منهم .... شكايا إلى كل جاءٍ وغاد
وقال القاضي جمال الدين علي بن الحسين المسوري رحمه الله وقد أحس ما وقع من كيد الأشرار وخيانة الغدار هذه الكلمة مخاطباً بها الإمام عليه السلام:
على رغم أهل البغي أيدك الله .... وألبسك الفضل الذي أنت مولاه
وأولاك ما أولاك من أمر دينه .... وحسب امرءٍ ما كان مولاه أولاه
بك أنعش الله الهدى فتبلجت .... مصابيحه وازداد حسناً محياه
محى بك آثار الضلال الذي ترى .... ذوي الجهل في ظلماء جهلهم تاهوا
فما سلكوا إلا طريق غواية .... كذاك من بالجهل إبليس أغراه
نضاك إله العرش سيفاً عليهم .... فأنت الصقيل العضب والضارب الله
إليك أمير المؤمنين بكل ذي .... عناد غذاه الجهل والظلم رباه
فشرد بهم من خلفهم وأذقهم .... نكالاً وكلا ول ما قد تولاه
وصب عليهم صوب نقمتك الذي .... إذا بان من يسعى لكيدك أفناه
تصفح أمير المؤمنين أمورهم .... ولا ترض منهم غير ما الله يرضاه
وجربهم واسبر بعقلك حالهم .... فكل الذي أخفوه يظهر إن فاهوا
كذا قال مولانا الوصي ومن به .... اقتدى فاز في الأخرى وأصلح دنياه
فإن الذي أخفى العداوة قلبه .... أضر العدى كيداً ومكراً وأخفاه
فليس كمون النار في الزند مؤمناً .... مضرتها والنار والحقد أشباه
بلى إن من قد تاب لله مخلصاً .... وكفر بالأولى الذي كان أمضاه
فذاك جدير أن يشاد بذكره .... وما أطيب الذكر الجميل وأعلاه
فأول الموالي نعمة وفواضلاً .... وأصل المعادي نار حر تعناه
وأما الذي أبدى العداوة جاهراً .... مجاهرة فهو الذي ضل مسعاه
فلا تخشه فالله قد كف حده .... وأرداه في بئر الهلاك وأقماه
وهاك أمير المؤمنين نصيحة .... وإن لم أكن أدر الصواب ولا ماهو
وإني في هذا كمهد إداوة .... إلى البحر كي يزداد للبحر أمواه
[ق/139]
ودم وابق واسلم وانصر الحق وأخذ .... ل الضلال مزاحاً عنك ما كنت تخشاه)
وحصل في هذه المدة حروب اليمن وهي كثيرة، وفيها اتفق قتل الترك في أسناف أخذهم الله وهي أحد الملاحم الكبار، وفيها قتلة القوعة من أعلى الريشة وسامك، وهي أعظم منها، كلها على يد الحاج شمس الدين رحمه الله تعالى.
وفيها حروب جبل تيس وأيام سافوف التي يضرب بها المثل فإنها فوق سنتين كما سيأتي، أميرها السيد الشهيد عامر بن علي عم مولانا الإمام عليه السلام.
وفيها حروب مسور التي استشهد فيها السيدان الشهيدان الحميدان أحمد بن محمد المحرابي، وعلي بن محمد المحرابي رضوان الله عليهما، واستشهد معهما خمسة وأربعون، وقيل: خمسة وخمسون، وكان السيد العلامة جمال الدين عامر بن علي عادت بركاته عم مولانا عليه السلام لما انهزم من سافوف أمدهما، وحضر الوقعة وانهزم إلى عند مولانا عليه السلام، وسيأتي طرف من أخبار السيد الشهيد وما أمكن من تفصيل هذه الجملة إن شاء الله تعالى، وفيها غزاة حفاش مع جماعة من الأعيان، منهم السيد الفاضل ناصر بن محمد سحلة من بني الهادي وغيره، والسيد المهدي من هجرة السنفة، وقتل منهم جماعة وهزموا، وفيها أشعار حمينية طريفة سمعتها من غير واحد.
ذكر فتح بلاد صعدة.
قال السيد أحمد نفع الله به: فتح جهات خولان صعدة وما جرى فيها من الحوادث في الكرة الأولى يعني أول القيام، وقد كان الإمام علي عليه السلام جهز إلى جهات صعدة قبل وصول السيد عبدالله بن علي جماعة من أصحابه وهم الآتي ذكرهم في قضية رحبان فافتتحوا بلاد خولان جميعاً، ووالاهم أهلها بعد حروب وقعت في نواحي حيدان وغيره وبقى من عسكر الترك جماعة في صعدة وجبل رازح، ثم تقدموا لحصار صعدة فاتفق فيها حروب صعبة وما أصيب به المسلمون في رحبان فإنه تقدم لحصار صعدة عدة من الأعيان بجموع كثيرة بعد فتح بلاد خولان، منهم السيد العلامة علي بن إبراهيم الحيداني أطال الله بقاه، ومنهم السيد الفاضل الزاهد العالم الشهيد علي بن محمد الجديري، ومنهم الشيخ [ق/140] بدر الدين محمد بن جابر الخياري من بلاد بني صريم، ومنهم القاضي شرف الدين الحسن بن علي بشاري، ومنهم من عمدة الرؤساء والأعيان الأمير الكبير الحسين بن محمد بن ناصر المنصوري الحمزي الجوفي وصنوه الأمير المهدي، وكانت الوقعة، وصفتها أن المجاهدين لزموا أعناب رحبان وبعض دورها فخرج أمير العجم فيها المسمى مصطفى وكان من عظمائهم ورؤسائهم وملوكهم فحصل تخاذل فاقتطع منهم نحو من خمسمائة فقتلوا واجتزت رؤوسهم، منهم الشيخ محمد الخياري، ومن أصحابه نيف وثمانون نفراً وهزم الباقون، وللأمير الحسين وصنوه في هذه الوقعة أثر عظيم وذكر فخيم فإنهما دافعا عن كثير من المسلمين، ونجا الأمير الحسين بن محمد واستشهد صنوه المهدي رحمه الله.
وكان فيمن طعن الأمير الحسن الأمير عثمان قلفات المشهور بالفراسة في العجم من كبرائهم وما خاطوا بطنه إلا بالمخيط، وللأمير الحسين في هذه الوقعة أشعار حماسة سمعت بعضها، وأسر السيد الفاضل على بن محمد الجديري، فعلاه العلج مصطفى بسلاح للعجم يسمونه كلنجاً على شبيه فوس الحجارة الدقيق وله رأس مربوع، ويحلونه فيتخذونه سلاحاً حتى شق رأسه رحمة الله عليه وهو بين يديه صابراً محتسباً، ويروى أن هذا الشقي لم يلبث بعده إلا نحو ثمانية أيام وأهلكه الله، وكان في كل ليلة إذا نام يصيح حتى يفزع من حوله وهويقول: يكفي سيدي جديرة يكفي سيدي جديرة، ويخبر أنه يراه يطعنه كل ليلة، وهذه القضية مشهورة سمعتها من غير واحد في صعدة حرسها الله بدوام المشاهد المقدسة، وذكرها السيد عيسى في تأريخه كذلك، والحق ما شهدت به الأعداء، ومن عظم موقع هذه الوقعة أن السيد العلامة جمال الدين علي بن إبراهيم أطال الله بقاه استوحش من أهل الشام وخاف على مولانا عليه السلام من الغدر فجرد العزم بعد الوقعة إلى عند مولانا ليخبره ويحذره، وإنما بقي في الشام من يشغل من فيه من العجم من إمداد من هو منهم مثاغر لمولانا عليه السلام، ومضى يومه حتى أمسى السودة، ويقال: أدرك فيها صلاة العصر، وهذه من أعظم ما قيل في أهل الخفة في السير فلا يعلم أن قدر عليها أحد غيره، ويقال أن معه أحد عشر نفراً تقطعوا بعده وما بلغ بيومه سواه وهي مسافة ثلاثة مراحل وشيء، ولما أخبر مولانا عليه السلام لم يكترث [ق/141] وأظهر الغلظة والشدة أعظم من الأولى ولم يذكر من قضايا الشام غير هذه القضية لسعة الوقعات فيها، ونذكر ما أمكن من الإشارة إلى معظماتها إن شاء الله تعالى فيما بعد.
[ذكر ولاة الإمام]
قال السيد أحمد نفع الله به: ذكر ولاة الإمام عليه السلام في الجهات الإمامية، وكان في أثناء ما تقدم ولى الإمام عليه السلام في الجهات التي افتتحها، فولى الأهنوم وعذر السيد الفاضل المجاهد فخر الدين عبد الله بن محمد بن علي المحرابي صنوه السيد شمس الدين أحمد بن محمد المحرابي رحمه الله، وولى شظب وظليمة السيد الفاضل العلامة صارم الدين إبراهيم بن المهدي بن جحاف القاسمي، وولى جهات الظاهر السيد الفاضل العلامة حسام الدين صالح بن عبد الله الغرباني، وولى بلاد ثلاء وما يليه كبني قطيل وبني حيش، وبلاد عفار وبلاد كحلان، والطرف وبلاد مدع والبون الأعلى، وغير ذلك السيد الفاضل العلامة الزاهد شرف الدين الحسن بن شرف الدين الحمزي أيده الله تعالى، وولى الحيمة وما والاها وجبل تيس عمه السيد الفاضل سيف الإسلام عامر بن على رحمه الله تعالى، وولى بلاد مسور ولاعة وقراضة وما يليها السيد الفاضل العلامة أحمد بن محمد بن علي المحرابي، وولى حجة وما يليها السيد الفاضل العلامة نظام الدين أمير الدين بن عبد الله بن نهشل بن المطهر بن أحمد بن عبد الله بن عز الدين بن محمد بن إبراهيم بن الإمام المظلل بالغمام المطهر بن يحيى بن المرتضى صلوات الله عليهم، وولى بلاد الشرف وما يليه كحجورين وجهات جبل أسلم، والخميسين، وجهات الحقار السيد الفاضل العلامة شمس الدين أحمد بن محمد بن صلاح القاسمي في الشرف، وولى بعض بلاد خولان صعدة السيد الفاضل العلامة عز الدين محمد بن صلاح القطابري، وجعل بعضها إلى السيد الفاضل العالم المجاهد جمال الدين علي بن إبراهيم المحنكي الحيداني، وولى بلاد خولان صنعاء وما يليها الحاج الفاضل المجاهد شمس الدين أحمد بن عواض الأسدي رحمه الله. انتهى.
[وقعة أسناف]
ولنرجع إلى أخبار الحاج المجاهد شمس الدين [ق/142] ومشارق صنعاء ومشارق اليمن فإنه التأم إلى الحاج شمس الدين رحمه الله عيون وأعوان فحصلت وقعة أسناف كما تقدم، وذلك أن أمير العجم المسمى الواعظ تقدم إلى أسناف وإليه غيره منهم، قال السيد عيسى بن لطف الله: أنه قرن معه الشيخ علي بن متاش الخولاني السحامي، والأمير أحمد بن محمد الأدرن الحمزي فأحط خارج البلد وقد تفرق أهل القبلة وحاشد وبكيل للمساء في بلاد الحجفة ولا يعلمون بهذا الأمير، وكذلك الحاج شمس الدين، وكان معظم من عند الحاج خولان، وكان فيهم الشيخ الرئيس الشهيد أحمد بن محمد الفاخري، وكان من أهل الشجاعة والرئاسة، فقال الحاج أحمد: أمهلوهم حتى يرسل لأهل القبلة وغيرهم، وكان في نفس الشيخ المذكور شيء على الحاج، وقد نافره مراراً ودعا عليه الحاج، فقال لخولان: ما يريد الحاج إلا تنتظرون أهل القبلة وتفوزون بالذكر والغنمية، ثم صاح فيهم فحمل عليهم الناس على غير تعبية فما وسع الحاج إلا الغارة والمدد، فحصل حرب عظيم آخر نهار انجلى على نحو خمسمائة قتيل من الترك وأكثر، وانتهبت محطتهم جميعاً وما فيها من الزبارط، وفر الباقون إلى البلد حتى الليل وأخرجهم بعض مشائخ البلد حتى اتصلوا بصنعاء وقد قتل مع الهزيمة كثير، وأخذت جميع أثقالهم وخيلهم وجمالهم وحميرهم لم يبق إلا قليل من الخيل نجوا عليها، وممن قتل الأمير أحمد بن محمد الأدرن وولداه، وبعدها استشهد الشيخ أحمد الفاخري المذكور فيما بعد في موضع يسمى حرمان من أعمال سنحان في وقعة من حروبها المشار إليها.
قال السيد عيسى: وكانت هذه الوقعة آخر نهار الخميس من شوال سنة ست وألف [مايو 1598م]، ووصل الواعظ هارباً بمن معه نهار الجمعة، وقتله سنان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[وقعة القوعة]
وأما أخبار وقعة القوعة فإنه اتفق في تلك الأيام اختلاف ما بين القاضي الشهيد جمال الدين علي بن يوسف الحماطي رحمة الله عليه وبين حي الشيخ ناصر بن راجح نشير إليها في موضعها إن شاء الله تعالى من أخبار الحماطي، فخاف الحاج شمس الدين الخلل فجمع جموعاً واسعة من القبلة وخولان، والحدا وسنحان وغيرهم ورؤساؤهم وقصد بلاد الملاحي وجمعهم إلى ألهان يعني الحماطي وابن راجح، وسد أمورهم كلها، وأمر القاضي جمال الإسلام [ق/143] بجموعه بالمسير معه، وأمر الشيخ ناصر بن راجح إلى بلاد ذمار فلا زال حتى استقر في صنعة قرية غربي ذمار، فاستقر فيها وحصل بينه وبين العجم حروب، وفي بعضها قتل وابل من كبراء أغواتهم في جماعة من جند العجم لا رحمه الله، وتردد في المغارب حتى غلبه عليها علي باشا لا رحمه الله كما سيأتي إن شاء الله، ثم توجه الحاج شمس الدين حتى انتهى إلى ريشة أعشار، وكان فيها بعض الصوفية وأهل الشعبذة قد أقبلت إليه العوام وأظهر البدع، فأراد الحاج شمس الدين القبض عليه وإخراب منازله وإراحة المسلمين من شره، وكان له جانب من بني مطر ومن إليهم، وكانوا عمدة في عسكر القاضي جمال الدين علي بن يوسف الحماطي رحمه الله فعرف القاضي نفور أصحابه فتقدم إلى بيت المذكور، وبقي فيه لسلامته فأرسل الحاج شمس الدين رحمه الله إلى القاضي بتسليم البيت وما فيه، فماطله القاضي حتى ينظر في القضية ، ثم اهتم الحاج وأزعجه وأرسل جماعة منهم سيدنا العلامة القاضي سعيد بن صلاح الهبل رحمه الله تعالى، والقاضي يدافع ما أمكن فلم يشعر إلا وقد وصل الحاج بنفسه مع
خواص، وكان عند الحاج مشائخ المشرق والمغرب ورؤساؤها كالشيخ علي بن فلاح، والشيخ علي بن عاطف الحجيفي ومشائخ خولان وغيرهم، ومن العلماء العيون من أهل المشرق والمغرب جماعة وافرة، وكان الشيخ داود الملاحي معهم في حكم الملزوم، وله أخبار نأتي إن شاء الله بما أمكن منها فخاف القاضي جمال الدين إن تم ما أراد الحاج نفور بني مطر وغيرهم، وفهم الحاج شمس الدين أنه متهم له في الدفاع عن المذكور.
قال الشيخ شهاب الدين أحمد بن علي خضر: وكنت عند القاضي علي، فقيل: هذا الحاج، فقام للقاه فسلم عليه فلم يلتفت إليه بل دخل البيت قبله، قال: فتأخر القاضي في جماعة من الأعيان أصحاب الحاج فأشار إلى أن عرف بني مطر بالإشارة يغضبون ويفارقون المحطة، قال: فضربت طيسانهم للعزم إلى بلادهم فسمع الحاج فوقف وأرسل لهم بما يطيب به نفوسهم فكف عن ذلك ولم يرد القاضي [من سلامته] إلا تقريب بني مطر وما قد وضعه لهم ولمن هو في جانب لهم، قال: فخاف الحاج أن يحدث بين القبائل شيء فأمر الناس بالرحيل والتقدم على محطة القوعة، وكانت أعلى من سامك [ق/144] في أعلى الوادي الذي ينزل إلى الريشة، فلما عاينهم الحاج أمر بالمراكز أن تكون مع الشيخ داود الملاحي، وكان معظماً في الناس وضم إليه سواداً عظيماً من الناس، ثم رتب خولان ومن إليهم من جهة المشرق والحدا وغيرهم من جهة اليمن وهو وأهل القبلة في القلب، والقاضي جمال الدين علي بن يوسف الحماطي رحمه الله وبنو مطر وأهل المغرب من جهة المغرب ،فحصل حرب عظيم انجلى على أخذ المحطة كلها لم يفلت منهم إلا القليل على الخيل، منهم أميرهم
المسمى الواعظ.
قال السيد عيسى: إن أميرهم ممن وصل من مصر مدداً ولعله أثبت من الشيخ [أحمد] لكونه معهم يعني مع العجم الله المستعان، وقتل أصحاب الواعظ في قضية أسناف وقتله سنان لا رحمه الله لأجل الهزيمة، وقتل فيمن قتل منهم الشيخ حميد بن محمد السنحاني، وكانت مقتلة عظيمة وغنم المسلمون غنائم واسعة يقال إن هذه القتلة فوق ألف نفر، وحكى غير واحد منهم حي الوالد رحمه الله أن من خيلهم من هرب عليها صاحبها وقد تعبت في القتال ثم الهرب فبلغت إلى ضبر خيرة وخرجت نفوسها وبعض ركابها عليها وهي تسعى، حتى لقد رأى من الخيل ما خرج من فيه القصب والحسيك من شدة الهرب، وكانت وقعة هائلة مسطورة، ثم عاد الحاج شمس الدين رحمه الله جهات المشرق، وفي تلك المدة غزا سيان بلداً معروفة من بلاد سنحان، وقتل من العجم وانتهبها وغيرها وانقطعت مواد صنعاء وفزع العجم والعرب من جنود الحق، ولقد روي أن ثوراً في عنقه قلادة حديد فر على صاحبه ليلاً فأفزع عالماً من الناس وغير ذلك.
قال السيد أحمد نفع الله به: وكادت طريق اليمن تنقطع إلى صنعاء وذلك أنه أجمع على حرب الأتراك أكثر أهل تلك الجهات كنهم وخولان وبني مطر وأكثر قبائل الحدا وقائفة وأهل المغرب كآنس ومن والاهم، ونفذت أوامر الإمام عليه السلام في أكثر بلاد الأتراك التي بقيت تحت أيديهم كبلاد سنحان والرحبة وغيرها ، فإن الحاج الأفضل سيف الله على أعدائه شمس الدين أحمد بن عواض الأسدي وهو الذي كان متولياً تلك الجهات كانت أوامره تنفذ في هذه الجهة المذكورة من بلاد الترك بما شاء وكيف شاء؛ لأنه حمى الله مهجته لما كان ظهر له من الإقدام في المواطن والصبر عند لقاء العدو [ق/145]، وما منحه الله من النصر ورزقه من الهمة التي تناطح الفرقدين، والعزم الذي لا يثلم حده أوقع الله له في قلوب الأعداء هيبة أخذت بمجامع أفئدتهم لمثلته بهم في كل مواطنهم حتى لم يكونوا يذكرون غيره، ولقد كان يحكى أنه يطلب ما شاء وكيف شاء من بعض أعيان الأتراك فلا يقدرون على الامتناع مما يطلب، وكانت مطلبته مقدمة على مطالب الأتراك وربما اجتمع عسكره وعسكر الأتراك في القرية الواحدة لسياقة المطالب وقد يجمع بينهم بعض أهل البلاد ويضيفهم جميعاً، وكان أمراء الترك قد عذروا الرعية مما يفعلون لأنهم لا يستطيعون الدفع عنهم فإنه أبقى الله عزته كثير الغزو عظيم الهمة، بعيد المرمى، شديد البطش بمن خرج عن الطاعة، ومع ذلك فهو على أحسن سيرة وأبر عمل من ورع كامل ومراعاة لأمور الشريعة وقيام بالواجبات، ومواظبة على سنن الشريعة، ويحرز عما لا ينبغي فهو أعلى الله شأنه يعد من أهل الزهد، ومن عرفه علم هذا الذي ذكرنا يقيناً فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خيراً فلقد نصر الإسلام حق نصره، وأشجى قلوب الأعداء فكم له من موطن في الجهاد تشهد له السيوف فيها أنه الذي أعطاها حقها، وأهداها من أعناق الإسلام إلى واضح طرقها. انتهى.
[ملاحقة أهل الحدا]
وبعد هذه الوقعة جمع الحاج شمس الدين جموعاً وقصد الحدا، وهم الشيخ زيد ومن إليه إلى زراجة فأخذها وفروا، ثم إنه لحقهم إلى موضع يسمى قاع الصهيد ولم يجدوا منه محيصاً، وكانوا فوق ألف بيت كما أخبرني غير واحد، منهم الوالد رحمه الله، فوصل إليه الشيخ صوال المشخر النصيري الحداي بفرس عظيمة، فلما توسط بها المحطة المنصورة بالله عقرها وترامى عليها وصاح بالأمان، وطلب الرفاقة، فأقبلت الأعيان إلى الحاج شمس الدين رحمه الله يعولون عليه بالقبول فأمنهم بشرط وصول مشائخهم وكبارهم إليه، وعاد الشيخ صوال فلما دنا الليل وسترهم نكثوا وفروا بأنفسهم واستجاروا بقيفة وغيرهم، وكان ذلك خديعة منهم قاتلهم الله.
[محاصرة ذمار]
ثم إنه اجتمع الحاج شمس الدين ومشائخ قائفة وأصحاب مولانا عليه السلام وقصدوا ذمار لفتحها، وفيها أمير من العجم يسمى إبراهيم ذرة ورتبة خيلاً ورجلاً فاجتمعوا إلى نواحي جبل اسبيل، وكان جموع الجميع ما يقرب من ثمانية آلاف أو أكثر، فالحاج وأهل القبلة وخولان والحدا والقاضي علي [ق/146] بن يوسف الحماطي ومن إليه، والشيخ ناصربن راجح ومن إليه من المغارب، ووصل الأمير الحسين بن أحمد وصنوه مقبل بن أحمد القائفي بقائفة للمشورة، فأخبرني الفقيه الصالح عبد الله بن الحاج الشهيد راشد بن محمد أنه شاهد ذلك الجمع وأن مشائخ قائفة لم يدخلوا الملم بل تقدم الشيخ مقبل فقط حتى توسط المجلس فتكلم الحاج شمس الدين وحرضهم على الجهاد، وطلب رأيهم في ترتيب حصار المدينة، قال: فتكلم الشيخ مقبل بكلام حسن فيه عرب وصحة عقيدة بأن قال: يا حاج ما لنا تدبير غير تدبيرك ولا رأي غير رأيك، فإنك وكيل الإمام وقد بايعت الإمام وعرفته أما نحن فتابعون، قال: فتكلم الحاج شمس الدين رحمة الله عليه وقال: قائفة ومن إليهم من جهة عدن وخولان والحدا من جهة المشرق، وأنا وأهل القبلة من جهة القبلة، والحماطي وابن راجح وأهل المغرب من جهة المغرب أو كما قال، ونترك ما بيننا وبين المدينة قدر مبلغ البندق، قال: فلما وصل الحاج رحمه الله إلى هذا القول وإذا بالصائح يقول: قد دخلت المدينة، وقد صار بنو فلان في موضع كذا من المدينة، فحمل الناس على غير تعبئة فدافعهم العجم خيلاً ورجلاً وأهل المدينة، وقتل من الفريقين جماعة ومن جنود الحق أكثر لكثرتهم، منهم الحاج الصالح العابد
راشد بن محمد والد الفقيه المذكور وغيره حتى هزموا العجم وجنودهم إلى الدور من داخل المدينة ودنا الليل فافترق الناس ولم يتمكنوا من استئصال المدينة، ولما انتثر نظام التدبير وتفرق الناس رجع كل من الجنود الإمامية إلى جهاتها إلا قائفة فإنهم دخلوا أسفل المدينة ولزموا بيوتاً، وقال الأمير حسين وصنوه مقبل لا بد لنا من المساء فيها والعشاء والغدا من أهل المدينة، فلما أصبحوا وطلعت الشمس خرجوا على تعبئة حسنة، ولهم حماية ومرافعهم تضرب وراياتهم منشورة ولم يلحقهم من العجم شر، بل قنعوا منهم بتركهم، ثم عاد الحاج جهة المشرق الأعلى وقائفة رجعوا بلادهم وقد يغلبون على طريق اليمن الأسفل ويقطعونها، وقد يغلبهم العجم عليها، وفيما بين ذلك قضايا هائلة وأمور مهيلة في المشرق، منها أنه بلغ الحاج شمس الدين أن الحدا أصبحوا عسكراً من العجم من [ق/147] ذمار يريدون صنعاء خيلاً ورجلاً فقصدهم فمنحه الله النصر وقتل منهم زهاء خمسين رجلاً وهزمهم ،وكان سبب ذلك خروج الواعظ ووقعة أسناف (كما تقدم) .
وقال السيد أحمد نفع الله به: أنه وصل إلى زراجة فندي من الأتراك في جماعة وثمانية أفراس فقصده الحاج شمس الدين وتحصن في بلده ونقبوا جدارات البلد ودخلوا وغنموا ما فيها وقتلوا ثمانية وعشرين رجلاً، وأسروا ثمانية عشر رجلاً وأرسلهم إلى الإمام فحبسهم في شهارة المحروسة، وكان سنان لعنه الله في القبتين في القرب منهم فأغار ولم يدرك شيئاً وخلفه الحاج إلى موضع قريب من محطته الأولى، وطمع بلداً كبيرة وأنعمها ونحو ثلاثمائة زبدي طعاماً، هذا معنى ما ذكره السيد أحمد نفع الله به.
قال الوالد رحمه الله تعالى: إن البلد التي قريب القبتين مقولة وأنه مع الحاج فيها ووصف كثرة الغنيمة في يوم زراجة ومن أهلها غار الباشا علي من الحبشة مدداً للوزير حسن إلى صنعاء واليمن.
[أخبار الباشا علي]
أخبرني الشيخ ناصر بن داود الصمدي العتمي، وكذلك القاضي الأجل سيف الدين بن عبد الغفار البحري وغيرهما عن حي الفقيه جمال الدين علي بن عبد الوهاب السمحي رحمه الله أن هذا الباشا كان والده خواجاً كبيراً كثير المال عظيم الحال عند الملوك في الروم، وأنه أقرض الوزير حسن لما خرج متولياًمن سلطان الروم المسمى مراد بن سليم بن سليمان مالاً كثيراً فأوجب خروجه إلى اليمن، ثم استقر في ذي جبلة وتربى ولده هذا الباشا علي فيها، ثم لما مات والده حفظ منزلته وماله فطمع في الرئاسة فسامح الوزير بنشئ من المال وشرط على نفسه فتح بلاد ريمة الأشابط وريمة الريمي وما إليها، وكانت متغلبة مانعة حصونها لم تفتح حصونها بعد ولاية أولاد الإمام الأعظم المتوكل على الله أمير المؤمنين شرف الدين عليه السلام، وكانت في ولاية ولده الفاضل الكامل شمس الدين رحمه الله تعالى فاتفق في خلال ذلك أنه كان في بلاد وصاب في موضع منه يسمى عمد أمير للعجم يسمى فلان شاوش باشي والياً عليه من جهة الوزير حسن فاسترسل في المعاصي [ق/148] التي تنزه الطروس عن ذكرها، ولا بد من ذكر شيء من أحوال العجم المذكورين في فصل من هذا المختصر إن شاء الله تعالى حتى سام من بعض كبرائهم بناتهم وأمثال ذلك وعرفوا أنه لا ينفعهم من ولاة فإنما هو كما قيل الحجاج بعض حسنات عبد الملك بن مروان لعنهما الله، فبيتوه ليلة وجمعوا عليه جميع العشائر ومخاليف وصاب وقتلوه بعد حرب شديد ودفاع لا عليه مزيد، ثم انتهبوا المحطة ورفقوا من بقي وأتموا على الخلاف فخرج عليهم هذا الخوجا علي بجموع ما رأوا
أمثالها في المغارب فامتنع عليهم أهل وصاب وحفظوا بلادهم نحواً من أربعة أشهر ثم دخلوها عنوة فقتلوا أهلها وأمنوا الباقين، وعذروا بمن لهم عليه ظغائن يقال أن الذي قتل منهم الخوجا بعد الأمان فوق ثلاثمائة رجل أكثرهم صبراً، وكان يرى في السوق الرؤوس معلقة على الشجر ثم حالف تلك الأيام بني الضبيبي من ريمة ودلوه على عورات ريمة وشرط لهم الجبرية وولاية الحصون فيها، ووفى لهم هو ومن بعده من العجم بما شرط وفتح ريمة بعد حروب نحو أربع سنين، فغلظ جنده وعظم جانبه وسموه أميراً سنجقاً، وصار من ملوكهم ثم كثر ماله حتى لقد روي أنه رأى طعاماً مجموعاً ورأى من الناس استكثاره فعجب وقال إن الفلفل من تجارته أكثر منه، وروى من شاهد ملكه أنه رأى أحمال الإبر حق الخياطة ما يستقل بها قوافل فخافه الوزير حسن بعدها وعظم عليه وخافوا أن يتغلب على المغارب وربما يسري إلى النادر فأعطوه اسم الباشا على وولوه صعدة وبلادها إلى جازان ثم الشرفين وما إليها وإلى بلاد عفار وشظب وتلك الجهات، فعظم أمره فخافوه أيضاً، فكتب الباشا حسن [إلى] سلطان الروم في شأنه وأنه يوليه الحبشة يستكفون شره ويخرجونه من اليمن مخرجاً جميلاً، فلما استقر في الحبشة وحصل معهم الخلاف في اليمن استدعوه مدداً لهم وكاتبوهم الوصول إليهم إلى السلطان وإلى مصر، فوصل اليمن واستعاده واستولى على مدائنه فلما طلع إلى ذمار بعد أن استفتح الحجرية وغيرها من بلاد المعافر وولى عليها، ثم غزا من ذمار مشرقاً ومغرباً وعمَّر قصرها المعروف وأخذ الرهائن من غرب اليمن ومشارقه، وعظم جانبه، ثم طلع إلى جهات صنعاء
[ق/149] فلقيه الحاج المجاهد شمس الدين بأهل المشارق وأحربوه في حرمان من أعمال بلاد سنحان حرباً هائلة انجلى على رجوع جنود الحق جهات المشرق، ومن تفصيل هذه الجملة لما وصل علي باشا حرمان أحربه الشيخ المجاهد فخر الدين عبد الله بن سعيد الطير رحمه الله، ثم وصل الحاج الفاضل سيف الإسلام أحمد بن عواض اليوم الثاني في جموع خولان فأحربوه وقت الظهر إلى الربع الأول من الليل ولم يقتل من المجاهدين إلا رجل واحد وقتل من أصحابه جماعة، ثم تأخر الحاج شمس الدين إلى مسور وجعل أعلاه رتبة مع الفقيه الفاضل صلاح بن مسعود الشدادي ثم قصدهم علي باشا وقتل من أصحاب علي باشا خيلاً ورجلاً، وعاد العجم قبل وصول غارة الحاج سيف الإسلام، ثم انتقل علي باشا إلى مقولة ثم إلى نجد الشيرزة ثم إلى قاع عتمة عند الجعيرا، والحاج حينئذٍ في قروى فتقدم سنان لعنه الله إلى رجام إلى قاع الصلة ولم يزل الحرب بين علي باشا وبين الأمير سنان والحاج أحمد وخولان ،ثم إن سنان بذل المال لطلوع جبل اللوز فيروى أنه أعطى رجلاً يسمى علي بن رياش قدح ذهب أحمر وطلع الجبل، ولما طلع الجبل تفرق جمع خولان وصار الحاج شمس الإسلام رحمه الله إلى بدبدة وجهاتها وكان ما سيأتي إن شاء الله قريباً، هذه رواية السيد أحمد رحمه الله.
رجعنا إلى تمام الرواية الأولى ثم تكاسل الناس وعظم عليهم الأمر وعجزوا عن مقاومته ثم إنه خرج طريق ملاحا من خولان وبني شداد بجموع لا تنحصر وخرج سنان وزير الوزير حسن لا رحمهما الله تعالى، فواجه من خولان بنو شداد ومن إليهم إلى الباشا علي، وبنو سحام ومن إليهم إلى الباشا سنان لا رحمه الله، وطلع سنان وادي عاشر من أسفله إلى أعلاه وهو مكان ضيق لا يعلم أن قد دخله ملك وقد بذل العطاء الواسع لبني سحام.
أخبرني الشيخ العالم الفاضل شمس الدين أحمد بن قاسم الخولاني أنه كان له فرس وكان أخفاه بعض أصدقائه من بني سحام فهو في جانب وفرسه أدخلوه شعباً في جانب الوادي فراحت روائح الخيل فصهلت فسمعها العجم وسمعها الباشا سنان لا رحمه الله فأظهروا أنما رأووا ولا سمعوا من الخوف فلا زالا حتى اتفقا في سوق الحضارم مكاناً يجمع خولان العالية، ووصلهم جميع خولان، والحاج شمس الدين رحمة [ق/150] الله عليه انفرد وتفرق أصحابه عنه وعاد جهات القبلة، وله ولأصحابه في خلالها قضايا وشدائد ومن عنده من عيون العلماء، وقبضت الرهائن من خولان وأدخلوها إلى صنعاء.
[صفات الأتراك]
فصل: نذكر فيه بعض صفات الترك المذكورين في أخبار الإمام عليه السلام فالقليل يدل على الكثير، وضوء البارق يشير إلى السحب المطير، فأما أصول نسبتهم فمعروفة وأكثرهم من سبي النصارى على اختلاف طبقاتهم، فمنهم ملوكهم وولاتهم غالبهم من ذلك السبي، ولقد روي عن كثير من ملوكهم: أن الذين يولونهم الأقطار مثل مصر، واليمن، والعراق، والشام وغيرها يفتخر بأنه قد يحلق لحيته في خدمة السلطان، كذا سنيناً، ثم من بعدهم من طبقاتهم على هذا من أمير، ووزير، وكاتب أو أقل من ذلك لا يستخدم غالباً إلا بمن لا لحية له فيحلقون لحاهم ما داموا في الخدمة فإذا أذن له المخدوم بترك اللحية من الحلق فعل وليمة، وهذا مشهور من حالهم كظهورهم، فلا يقال: هل لا كان لذلك سند كغيرها من خسيس أحوالهم المشار إليها في هذا الفصل.
وأما دخولهم في الإسلام فيناظرون عليه وينصرونه، ويتطهرون به، ويفتخرون بأنهم من خدمة المجاهدين فيه، وعقائدهم على الجبر، والتشبيه، والتصورات الباطلة، فهم جبرية مع الجبرية، ومرجئة مع المرجئة، وصوفية مع الصوفية، هذا حال الديانين منهم.
[حسن باشا الوزير]
ومما روي عن طغاتهم الوزير حسن باشا أنه كان يعظم أحد أغواتهم وينزله منزلة الأمير منهم فسئل عن ذلك فقال: أنتم ما تعرفون من حق هذا الرجل ما أعرف، هذا خصي لمولانا السلطان أربعمائة مملوك لم يمت منهم إلا ثمانون فقط بخلاف غيره فإنهم إذا خصوا الخصيات هلك منهم النصف وأكثر، فهذا مبارك مسعود، فترى هذا الضال عد المثلة بأربعمائة نفس وقتل ثمانين منقبة يستحق بها التعظيم، أين العقول السليمة المميزة بين الحق القويم، والجهل العميم؟ وغير ذلك من جهلهم العمي، وتمردهم الجلي، وأخبر من يعرف هذا الآغا المذكور أن اسمه أرنز شاوش السلطان.
وأما عامتهم وجنودهم وغالب ملوكهم فخارجون عن رسم الإسلام[ق/151] فكان كل جندي أو غيره حتى قضاتهم على كل قدرته يتخذون الذكور ويتظهرون بذلك وينسبون إلى ذلك، ولا يتحاشون عن ذكر ذلك كما ظهر واشتهر، وأن كل واحد يزين من عنده منهم بما أمكنه ظاهراً، وإذا أخذوا مضاجعهم أدخل كل رجل منهم ذلك الصبي في ثيابه ولا يتحاشى من صاحبه.
ولقد روى من شاهدهم وخالطهم من مشائخ البلاد أن عسكرهم وبعض ولاتهم إذا خاف البراغيث والكتان واتخذ كيساً ينام فيه أنه يدخل ذلك الصبي في محضرهم متجردين عندهم إلى داخل ذلك الكيس، فينامان فيه ولا يحترمان المساجد ،ثم الثاني وصبيه كذلك، وهذا عموم فيهم كما رواه غير واحد ممن تاب ورجع إلى تقبيح هذه المفاسد، ولقد يغار كل أحد من رؤية صبيه من الآخر كما يغار على امرأته، ولما صار لهم ذلك طبعاً كان يفتخر به كبارهم، فمما أخبرني حي الشيخ أحمد بن صالح الجعري الآنسي أن بعض جنودهم من العرب ممن تربى معهم وسار معهم الروم وعاد اليمن قال: سمعته يقول لبعض أمرائهم وقد شكا بعض تقصير في حقه إن لي خدمة مع السلطنة وكذا حتى قال: خرج من تحتي خمسة وثلاثون ولداً، وصاروا في دفتر السلطان يعني أن الأمرد إذا غلبته اللحية أعطاه سلاحاً ودخل به على أميرهم، وقال: هذا افعلوا له جامكية من جملة العسكر فيكتبونه جامكية ويتبدل صغيراً [به] ثم كذلك وغيرهم.
وأخبرني من سمع طاغيتهم سنان لعنه الله وقد شكا إليه بعض المردان الذين في السوق من بعض العسكر أنه فعل بهم العظيم، قال: فأمر بذلك الجندي أن يضرب ويقول: اضربوه وأكثروا فكيف تغصب هذا المسكين غصباً، ثم قال يا كذا أعطه دراهم فإن قبل وإلا زدت له حتى يرضى ولا تغضبه، فلا يرى هذا الأغلف التحريم حقاً للإسلام إنما هو لأجل عدم المراضاة وأشباه ذلك.
وأما أسواقهم فعلى هذا المقهاية، خدمها كلهم لباسهم الحرير مرداً في صورتهم التي يبالغون في استخدام أهلها فلا يتباهون إلا بذلك وبكثرة المردان تنفق القهوة وغيرها من أنواع البيع والشراء، وقد يحتمله الجندي من بينهم ويتوارى به ويعود به كما أخبر غير واحد ممن شهد ذلك.
وأما النسوان ففي كل مدائنهم جوانب معروفة ما هو له للفساد متخذة لهذا المعنى، وكل فاسدة تزين نفسها وبابها وتعرض لمن مر عليها وعليهن والٍ، وعلى كل واحدة قبال يومية وشهرية ظاهراً، وإذا اتهموا [ق/152] امرأة وقد رأوا عليها دخولها في هذا المحل وإن كانت من غيره لأجل تكثير القانون عليهن، وهذا ظاهر لا يجحدونه ولا يكتمونه بل هو معهم مستعل معدود.
وأما الحكم في الرعية والعمل في القضية، فجور وظلم وكفر، أما المال فلهم في أخذه قوة سطوة، ولقد يعذبون أهله العذاب العظيم مثل ضرب السياط قليلاً وكثيراً، وقد يجلدون بعضهم حتى يموت مع المساهرة والكي بالنار وغير ذلك والمثلة بمن قتلوه أنواعاً، منها سلخ الجلد وهو حي يصيح ثم يأخذون إهابه فيملونه تبناً ويلبسونه قميصاً وعمامة، وينصبونه ويدورون به، وبعضهم يقتلونه بالخازوق وصفته كما تقدم أن ينجر الخشبة ثم يضربونها من دبر الرجل حتى يخرجونها من رأسه أو ترقوته، ولهم صنعة أنهم يفعلون ذلك ويبقى صاحب هذا البلاء حياً ينادي يوماً أو يومين أو أكثر، وغير ذلك مما يطول تعداده، (ومنهم من ينصفوه، ومنهم من يدخلون الإبر تحت أظافره، ومنهم من يسقوه الماء الكثير ويسدوا ثقب ذكره ونعوذ بالله من حالهم وقبيح فعالهم، ومن ذلك أن من خالف أمرهم من الرعية أو مال إلى مخالفهم من إمام حق أو غيره عمدوا لعنهم الله إلى قبض الرهائن صغيراً كان أو كبيراً من ذكر أو أنثى من أولاد شيخ البلد المخالفة، أو من كان يعتزي إليه فيجعلونهم في سجن مظلم، ثم يعمرون عليهم العمارة الأكيدة حتى يهلكوا كما فعلوا مع كثير من رهائن أرض اليمن مما حدثنا به الحاج سعيد بن محمد بن سعدان، وقد كان رهينة في قصر صنعاء أنهم فعلوا ذلك بمرآه ومشهده وكذا غيره كثيرون شهدوا مثل ذلك.
قال الحاج المذكور: وفعلوا ذلك مع مشائخ الحيمة وكانوا زهاء من مائتين وخمسين نفساً، ومن مشائخ نهم مثلهم، ومن ذيبان أقل منهم قدر ثمانين نفساً ولم يعش منهم إلا سبع أنفس، وأن بعض المشائخ أخرجوا نساءهم يطوفون بهن الأسواق عاريات، وربما يجعلون مع النساء صغار الكلاب عوضاً عن أولادهن ،وكثير من نحو ذلك الهول العظيم، والخطب الجسيم، أنافوا بذلك على فرعون الذميم، والعتل الزنيم، وكل أفاك أثيم، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن جملة مشائخ الحيمة الشيخ سعيد أبو هيفاء الحنتفي كان من عيونهم ويروى عنه رقة وخشوع فإنه لما رآهم يأمرون عليه وعلى أصحابه المشائخ وأولادهم أنشد شعراً وأمر بكتبه على الباب [ق/153] قال الحاج المذكور وغيره فانهدم البناء عقيبه وهو شعر حميني، منه قوله:
خالق الروح .... قابض للروح
قل لراعي السجن ويحه .... ما معه في السجن مصلوح
يغلق أبوابه ويجهد .... إن باب الله مفتوح
وغير ذلك من قبيح أفعالهم).
وأما قضاتهم وإن كان محل ذكرهم صدر هذه الإشارة من هذا الفصل فهم أحط قدراً ممن ذكر لتلبسهم باسم الشريعة المطهرة، وهم داؤها الغي، وهادمها الحي، فيشترون ولاية القضاء وعليهم خراج مضروب، ثم يتزايدون في شراه ويتحاسدون عليه، ولقد يتولى أحدهم القطر أو المدينة أقل من سنة وقد اشترى ذلك غيره ويكون بين يدي فنديهم الأعظم ونوابه صندوق له خرق أعلاه مقفول فالرشوة يقبضها غير صاحب الصندوق على ضرب من الإختفاء، وقد يظهرونها وإنما هذا الصندوق للقانون من كل مدعٍ درهم ومن المدعى عليه كذلك توضع في ذلك المحل، ومن كل زوج يعقد على امرأة حرف، وكل ورقة يكتبها في هذا المحل فكذا، وكل دين ادعاه مدع على آخر فعليه العشر، هذا في حكم الحلال الذي لا يتحاشون من ظهوره فلا يقوم من مجلس الحكم إلا بكذا مال، وأما في قضايا الكبراء والتجار والعظماء فلا ينحصر ما يأخذونه في قضاياهم، ولهم على ذلك أعوان يجلبون المتخاصمين إليهم، ويمنعون التحاكم إلى غيرهم والقعود على النساء يمنعوهم إلا عندهم، وتفصيل هذا يطول لعنهم الله، وقد يوجد فيهم من ظاهره العدالة، ومن فقهائهم أهل علم لكن التصرف فيهم لأهل هذا الجور الكثير فيكون المظاهر لهم وإن كان عالماً مصوباً لفعلهم إذا لم يعتزلهم ولا ينكر عليهم.
وأما الخمور فظاهرة تدار عليهم في الأسواق كما يدار بالماء وربما قد يتشدد ولاتهم إذا كثر فيقطعه من السوق، ويجعلون له حانات في ذلك تباح فيها، وأما اللهو والطرب فهو عادتهم المعروفة وأخلاقهم المألوفة، وأما المعاملة في الربا فظاهرة غالبة عليهم ولا يذكر فيه تحليل ولا تحريم، وإنما يسمونه فائدة، والغدر بمن أمنوه يسمى دولاباً، وقد أشار سيدنا [ق/154] العلامة الزاهد عز الدين محمد بن علي الشكايذي رحمه الله تعالى إلى بعض أحوالهم في قصيدته المشهورة، فإن هذه القصيدة لما كانت من هذا العالم العدل الفاضل تناقلها الفضلاء بل وعامة الناس، ودونت وانتشرت لإصابة المعنى وإلا فإن سيدنا عادت بركاته لا يقول الشعر، ولأجلها اغتالوه وسموه، ولما مات رحمه الله خرج في جنازته عامة أهل صنعاء حتى المخدرات.
قالوا: فكان الطاغي سنان لا رحمه الله يضرب صدره، ويقول: إذا كان هذا حال جنازته كيف لو خرج علينا وهو حي، فإنهم كانوا احترسوا عليه لا يهاجر وهذه القصيدة:
بشرى لنا شيعة أهل البيت بشرانا .... قد أدبر العسر حين اليسر فاجانا
فالحمد لله إسراراً وإعلانا .... حمداً يكون رضاً لله سبحانا
أغاثنا وبحار الهم يغشانا
[.........................................................]
من بعد يأس وقد كانت معطلة .... معالم الدين والعصيان أفنانا
والمنكرات على الأشهاد قد ظهرت .... لا يستطاع لها رداً وكتمانا
القتل والصلب والتحريق قد فعلوا .... والشحن للجلد بعد السلخ أتبانا
كذا الربا والزنا والخمر قد شربوا .... جهراً وباعوه في الأسواق أدنانا
والمرد في حلة النسوان قد شاءوا .... عليهم من رفيع القز قمصانا
قد عمموا بمناديل لها هدب .... من الحرير وفيه الصبغ ألوانا
على قلانس فوق الروس تحسبها .... من كثر الذهب المحبوك تيجانا
والجاهل النذل يأتي كل مخزية .... بين العوالم في الأسواق إعلانا
والعالم الحبر لا تبدو مسائله .... خوفاً كأن اكتساب العلم عصيانا
والشرع قد طمست أعلامه فبقوا .... كل الخلائق بعد الطمس عميانا
قاضي الشريعة علج ما له ثقة .... دان على الدن لا ينفك سكرانا
يقضي بجهل لمن أرشى ولو كذب .... شهوده وادعى زوراً وبهتانا
تالله ما ملة جاءت بذا أبداً .... ولا حكوه لفرعون وهامانا
ولا أتى من عتى كفر وزندقة .... فمثله لا ولا من يعبد أوثانا
كم ذمة خرموا عهداً وكم نقضوا .... عهداً وقد حلفوا بالله أيمانا
[ق/155]
فكيف يصفو لذي لب مشار .... أو يغدوا لنوم بعد اليوم إنسانا
أو تسريح أمر قد طال ما نظرت .... عيناه ما صنعوا عهداً وعدوانا
وكم أعدوكم من مسلم تركوا .... منه المدامع في الخدين هتانا
يا للإله ويا للمسلمين معاً .... أغيثوا الدين إن الدين قد هانا
أين الحمية في الإسلام إذا هدمت .... قواعد الدين والجبار غضبانا
لا تأمنوا مكر مولاكم فقد عظمت .... زلاتكم فاحذروا خسفاً وطوفانا
فقد علمتم بأهل السبت ما فعلوا .... وأصبحوا بعد ذلك الفعل قردانا
من عند باريكم قد جاءكم فرج .... توبوا إليه تروا عزاً وغفرانا
داع دعاكم إلى دار السلام غداً .... لبوا نداه وقولوا أنت مولانا
قولوا سمعنا وما أملت نفعله .... يا داعي الله ما يرضيك أرضانا
أحييت من ديننا ما كان مندرساً .... جزاك ربك جنات وعرفانا
أين القبائل من بدو ومن حضر .... كحاشد وبكيل ثم خولانا
هم الأسود أسود الحرب ما قصدوا .... طاغ فأبقوا له في الأرض إمكانا
أبطالهم في ظلام الليل ما رقدوا .... ولا برح غازي الأتراك سهرانا
والسبق للسادة الأنجاد ما كرمت .... أصولهم وغدوا في الناس أعيانا
أهل الإعانة في الإسلام ما سبقوا .... كمثل سادات كحلان وغربانا
وفيهم الحسنان السيدان هما .... صارا لعين في أعين الناس أعيانا
ونعم من نهم قد شاعت وقائعهم .... في الأرض ما برحوا للدين أعوانا
وكم رجال من الأتراك قد قتلوا .... وأرملوا من بنات الروم نسوانا
أيا قبائل لا تعصوا الإمام ومن .... ولي عليكم أطعتم ذاك إذعانا
فقد دعاكم لما تحيوا بذا أبداً .... وتستحقوا من الرحمن رضوانا
دعا إلى الله في وقت قد انطمست .... فيه الحقوق كأن الدين ما كانا
بلا معين ولا مال لديه ولا .... حصن يلوذ به إن خاف سلطانا
إلا رجال شروا الله أنفسهم .... وأموالهم وغدوا في الله إخوانا
بعض أسارى وبعضاً منهم قتلوا .... في الله صبراً ونالوا منه رضوانا
هذا هو الفضل لا قعبان من لبن .... شيبا بماء فعاد اللون سرحانا
[ق/156]
يهنيكم النصر للمنصور من شهدت .... له الهواتف في الآفاق إعلانا
والناس قد سمعوا الداعي يصيح بيا .... إمام قاسم أوقاتاً وأحيانا
فهل سمعتم كرامات قد اتفقت .... لقائم مثل ما كانت لمولانا
أو استمرت كاستمرار هاتفه .... والآن باق فمن شا بات سهرانا
لا والذي نصب الأجبال راسية .... ما قد علمنا بداع مثلما كانا
إمام حق جواد فيض أنمله .... على الخلائق مثل الغيث هتانا
فللسطا والعطايا كفه خلقت .... غوثاً لملهوفنا حتفاً لأعدانا
وكم أعد كرامات قد اشتهرت .... لا يستطاع لها سبطاً وحسبانا
يا رب فاحفظ على الإسلام مهجته .... بما حفظت به في اللوح قرآنا
ومن أراد به سوءاً فخذه ولا .... تبقى عليه ولا تصلح له شانا
لا زال في كل وقت يشتكي وجعاً .... في الرأس والعين فاطمسها والأجفانا
وابله بآكلة يا رب تأكله .... في وجهه ليراه الناس برهانا
أما الأمير شهاب الدين حطه ولا .... تجعل عليه سبيلاً أينما كانا
قد شرف الدين تشريفاً يعز به .... بعزمه تارة والحزم أحيانا
ما يبرح السيف مشدوداً بعاتقه .... لله درك ضراباً وطعانا
قد أهلك الترك في سهل وفي جبل .... وبات منه وزير الترك سهرانا
بالنوم مااكتحلوا من خوفه أبداً .... وفي الشوارع رجلاناً وركبانا
ما زال يقصدهم إلى مخيمهم .... وهم كشاة رأت في القاع سرحانا
كم حاز من عدد منهم ومن مدد .... وفي الغنائم أغنانا وأقنانا
وكم أباد من الأعداء بصارمه .... وفي البنادق أفنى رب شيطانا
من المعينين للأتراك ما برحوا .... عن اتباع الهدى صماً وعميانا
كم فك من كرب عنا ومن نوب .... كادت تقد من الأشجان أشجانا
وكم خشينا على داع الهدى خدعاً .... لولاه قد كان في الإسلام ما كانا
سل عنه من شئت من بدو ومن حضر .... وسل بكيلاً وسل نهماً وخولانا
ما كان في هزم منهم وفي نقم .... وأسناف قد ردت الولدان شيبانا
وحدة هدها لما بغت وعتت .... عليه بالقول تزويراً وبهتانا
[ق/157]
وفي زراجة ما قد شاع من خبر .... من وقعة البدو سل نهماً وسنحانا
وكم أعدوا له من موطن شهدت .... بيض المواضي له في حرب همدانا
فالله يكلؤه من كل نائبةٍ .... فذاك أشترنا وأبو سرايانا
فقل لمن عظمت في الدين رغبته .... بالله كونوا له في الحرب أعوانا
ولا تملوا وحاموا عن محارِمكم .... ودينكم مذهب أهل البيت قد هانا
حاموا على دين زيد فهو قدوتكم .... ولا تملوا تروا ذلاً وخسرانا
ولا تخافوا فقد ذلوا وقد ضعفوا .... وما بقى لهم في الأرض سلطانا
ما للحيام عن الأتراك قد رقدوا .... وآثروا مستغلات وأوطانا
إمامكم لوطيس الحرب مفترس .... وقد علاه من الباروت دخانا
مقاتل لجنود الترك في مدع .... فكيف يهنى طعام العيش إنسانا
قوموا مع السيد الضرغام واغتمنوا .... فضل الجهاد فهذا عم مولانا
ولا تتركوه ولا تعصوا أوامره .... ما زال يوليكم براً وإحسانا
إن لم تعينوا إمام الحق ما قبلت .... لكم صلاة ولا صوم وإيمانا
وتندموا حيث لا ينفعكم ندم .... والدمع يبقى على الأوجان شنانا
حاشاكم أن يخيب الظن عندكم .... وتحبطوا سعيكم دهراً وأزمانا
ولا نظن بأن المال يفسدكم .... ولا سمعنا بشخص منكم خانا
فقدموا واقدموا واغزوا بلادهم .... إلى جبل تيس فاغزوهم وسهمانا
هذا كتابي إلى كل الأنام فمن .... أتاه أبلغه أقصى خراسانا
الله ينفع قاريه وكاتبه .... ويوقظنه به إن كان وسنانا
والعيب تستره فيه وتظهر ما .... قد كان في حسن إن تم إحسانا
فليس لي في علوم النحو معرفة .... كلا ولا لي بفن الشعر عرفانا
لكن واجب أهل البيت أكلفني .... فما تركت من الإحسان إمكانا
أبلغت جهدي على مقدار معرفتي .... ولست شاعر أهل البيت حسانا
فإن أصبت فمن مولاي وفقني .... أو كنت أخطي فهذا من سجايانا
لكن أوصاف مولانا تحسنها .... وتكتسي من ثياب الفخر ألوانا
الله يعلم ما قصدي بها عوضاً .... إلا الدعا والرضى من فضل مولانا
[ق/158]
بأن يمن بجمع الشمل في عجل .... بنعمة وجنود الحق تغشانا
يارب فاحفظ علينا وما وهبت لنا .... وهب له منك توفيقاً وسلطانا
يا رب واجعل قلوب الناس مائلة .... إليه واجعل له أمناً وإيمانا
وصل يارب ما هبت نسيم صبا .... وما أمالت من الأشجار أغصانا
على حبيب قلوب المؤمنين ومن .... محى به الله أحكاماً وأديانا
محمد سيد الكونين والثقلين .... والفريقين عرباناً وعجمانا
والآل والصحب ثم التابعين لهم .... وتابعيهم بإحسان وبرهانا
[كرامات الإمام]
ونذكر ما أشار إليه سيدنا المذكور رحمه الله تعالى في ذكر الكرامة العظمى السائرة في الآفاق، الشاهد بها سماعاً وتواتراً أخلاط الرفاق، وأهل الولاء والشقاق، وهي سماع الآتي، وسنذكر رواية في رؤيته إن شاء الله وهي ما أخبرني السيد المقام مهدي السراج من سادة صنعاء في رجب عام ثمان وعشرين وألف أنهم سمروا يعني سادة صنعاء ليلة عند الوزير حسن، وكان كثيراً ما يطلبهم لذلك في تلك الأيام، قال: ثم تفرقنا بعد مضي وهن من الليل، وكان مكاني بمسجد الأبهر وقد اشتهر في تلك الأيام المنادي كما تقدم وكنت في مكاني ولم أجد داعياً للنوم فخرجت باب منزلتي وعندي شيء آكله مما أعطونا من الفواكه، فسمعت الهاتف على العادة يصيح من أعلى القصر مرة وفي أسفل المدينة أخرى في صومعة الجامع وفي صومعة الإمام صلاح الدين ومواضع أخرى، ومع كل سماع للخيل دوي ووجبة عظيمة لأن الباشا حسن فرق خيلاً قريباً من الصوامع ليغير على الصوت عند السماع لعلهم يجدون ذلك من فعل الآدميين مع أن الصوت ممدود لا يمكن الآدمي أن يمده كذلك، فإذا بطائر أبيض يقق كثيراً ملأ ما بين شرافتين ورجله كهذه وأرانا عموداً من حجارة العنب فوق الذراع الهادي، ورقبته أكثر من ذراع ثم نشر جناحيه فكان كل جناح كالثوب البنجالي الأبيض، ثم صوت وهو يراني وأراه يمد الصوت ويشق القاف بما لفظه: يا إمام قاسم وقد أخذتني الرعدة منه فحملت نفسي بما أمكن من القوة لأتواري من خوف الخيل لا تدركني فيظنوه إياي، وقال: اشهدوا على شهادتي وأن خرطومه كالزبرة[ق/159] الطويلة الدقيقة ورجليه حمراوتان وصفراوان وعرض الحجر التي أرانا شبه رجله ما يحيط بها الإبهامان والمسبحتان تقريباً للتقدير والله أعلم.
وأخبرني السيد مطهر بن المهدي، قال: كان خاله السيد علي بن محمد السدمي مع دولة كوكبان قبل دعوة الإمام عليه السلام من جملة فرسانهم وأهل الجهاد في أعمالهم فكنت معه وأنا وولداه وأرسلونا مدداً إلى القبتين في جملتهم، قال: وبقينا ليالي وطلبونا العود إلى كوكبان، وكانت الطريق على الباشا حسن صنعاء فأرسل لضيافتنا والسمرة عندنا آغا من خواصه يقال له فلان فائق باشي، فجرى ذكر الهاتف، فقال هذا الآغا: إن الباشا صعد على القصر فسمعه بنفسه وقد طلع ليسمعه وهو ينادي كما تقدم فبكى الباشا وضرب صدره، وقال: نعم والله إمام والله إمام لكن إيش أقول للسلطنة، قال: فلما تفرقنا قلت لخالي أنا وولداه: هل نطلب شهادة أكثر من شهادة الخصم لا نجتمع نحن وأنت مع هؤلاء الظالمين وهربنا ثاني يوم حتى لحقنا بالسيد عامر رحمه الله تعالى، وبقي أياماً ولحق بنا وكان عند الحاج أحمد بن عواض الأسدي رحمه الله، (وأخبرني الوالد الحسن بن مطهر أطال الله بقاه أنه حضر دعوة في صنعاء مع بعض أهل الفضل من أهلها فتحدث من حضر ذلك المجلس بأحاديث انتهى بهم الحديث إلى ذكر الإمام القاسم عليه السلام وفضائله حتى ذكروا هذه الكرامة الكبرى، والآية الباهرة الغراء، واشتهارها مع الأنام، وظهورها ظهور البدر ليلة التمام، فقال رجلان تاجران من أهل الطاعة أحدهما يسمى عبده صبرة والآخر محمد صبرة: أنه أخبرهما رجل سمياه باسمه أنه كان مع سنان لعنه الله في جبل حضور بني شهاب وحضر عنده جماعة من أمراء العجم
وأمراء العرب فذكروا هذه الكرامة، وقالوا هذه من صنعة فقهاء الزيدية، وعظم هذا التأويل الحاضرون، وأنكروا ما أبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فبينماهم يتذاركون إذ بهرة عظيمة في أعلى الخيمة فزعوا منها وإذا بهاتف يقول: يا إمام قاسم، وكرر ذلك مرتين أو ثلاث.
قال الراوي: فاستوحش من سمع ذلك ولم يتكلم جميع من هنالك، فما هذا التعامي عن المكارم الظاهرة، والآيات الباهرة، وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. انتهى).
وقال السيد[ق/160] أحمد بن محمد نفع الله به: ذكر قيام السيدين العلمين الأعلمين شرف الدين الحسن بن شرف الدين بن صلاح بن يحيى بن الهادي بن الحسين بن مهدي بن محمد بن إدريس بن علي بن محمد الملقب تاج الدين بن أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي بن حمزة بن أبي هاشم وهو الإمام الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم الرسي عليه السلام، وحسام الدين صالح بن عبد الله بن علي بن داود بن علي الحكيم بن عبد الله بن عسكر بن مهنا بن داود بن داود بن مهنا بن داود بن القاسم بن إبراهيم بن القاسم بن إبراهيم بن جعفر بن الإمام القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد القاسم بن نجم آل الرسول بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم الغرباني القاسمي المعروف بمغل بدعوة الإمام عليه السلام، وكتب الإمام إلى السيدين المذكورين وهما يومئذٍ بكحلان تاج الدين يحثهما على النهوض من جهتهما والتشمير في الجهاد، وهما من أعيان العترة عليهم السلام في ذلك الأوان علماً وعملاً واجتهاداً، وخرجا ليلة الأربعاء في سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ست وألف [1597م] ومعهما ولداهما محمد بن الحسن، والحسن بن صالح إلى السودة، وأجابهما قبائل تلك الجهة كبني حيش وحنب، والرحبيين وبني قطيل، واجتمع من الأشمور وجبل عيال يزيد جماعة في موضع يسمى [.........] في بلاد الشطين بقرية مذكورة من أعمال السود، وأرادوا الامتناع والحرب، فتوجه نحوهم جماعة من أصحاب الإمام عليه السلام رئيسهم السيد العلامة صالح بن عبد الله الغرباني فأخذوهم قهراً وخربوا القصبة التي تمنعوا فيها، ورفقوا من فيها من مشائخ جبل عيال يزيد إلى بلادهم وذلك قبل طلوع السيد الحسن بن شرف الدين إلى بني قطيل، قال السيد أحمد عادت بركاته.
[فتح ثلاء]
قال لما وصل السيد شرف الدين الحسن بن شرف الدين مد الله مدته وحرس مهجته إلى مدينة ثلاء فتح الحصن يوم الدخول إلى المدينة بيومه، وكان في الحصن آغا من الأتراك يسمى علياً، وكان جباراً غليظاً، وكان قد حبس الفقيه الفاضل العامل وجيه الدين عبد الهادي بن أحمد الحسوسة فخاف أهل ثلاء على الفقيه [ق/161] عبد الهادي أن يقتله الآغا المذكور، وذكروا للسيد الحسن أنه يكتب إلى الآغا هذا أنه إن أحدث بالفقيه عبد الهادي مكروهاً من جهته أنه مقتول به، فلما أخد السيد في الكتاب طلع جماعة من ألفاف أهل المدينة إلى باب الحصن الأسفل وهو باب الحديد فعالجوه حتى فتحوه، ثم طلعوا إلى باب فوقه ففتحوه، وكان قد تلاحق الناس إلى جهة الحصن لما رأوا ذلك، فلما دخلوا هذا الباب حمل الناس من كل جهة فحمل أهل قارن والأشمور وغيرهم من جهة القبلة وامتلأ المدرج رجالاً حتى لا يستطيع أحد أن ينظر إلى موضع قدمه، وتعسر عليهم فتح الباب الثالث لأنه كان مرصعاً بالحديد وهو باب الرقيشا فازدحم الناس حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً وأقبل عليهم أهل الحصن يرمونهم بالحجارة، ويقلبون الصخور، فلم يضر ذلك أحداً، فأخذ أهل الحصن يخربون الجدرات من البيوت وغيرها التي فوق المدرج، فثار من الغبار ماغطى الحصن وارتفعت أصوات الناس من أصحاب الإمام عليه السلام ومن أهله، فصار الأمر كما يقال: حيث لا عين ترى ولا أذن تسمع، فعالج بعضهم الباب حتى انفتح، ودخل الناس وظن أهل الحصن أنهم قد قتلوا أكثر من في المدرج بفعلهم فكان ذلك ولله الحمد بخلاف ما يظنون، ولاقتل أحد ولا جرح إلا جماعة يسيرة
جراحة خفيفة، وكان في ذلك من الآيات الباهرة، والكرامات الواضحة الشاهدة للإمام عليه السلام بالفضيلة الكبيرة، والمنزلة الرفيعة، من انفتاح الأبواب المغلقة، وطلوع أصحاب الإمام عليه السلام من نواحي الحصن وهو حيد عسر لا يكاد يطمع فيه أحد، وسرعة طلوعهم وسلامتهم من الأحجاروالبنادق وغيرها وغير ذلك آيات عظيمة، ولقد أخبر الثقة عن الآغا علي المذكور بعد أن أتي به أسيراً إلىحضرة الإمام عليه السلام أقسم بالله أني أظن أن الذي طلع علينا ملائكة قال الثقة: فقلت له: فلم ذلك؟ قال: بدليل أنا مارأينا من الطالعين علينا قتيلاً ولا مجروحاً إلا ما لايعول عليه، وقد ألقينا عليهم من الحجارة أمراً عظيماً وهم متكشفون لنا لا يسترهم شيء أبداً مع كثرتهم حتى ظننت أن قد وطأ بعضهم بعضاً كما أشرنا في ذلك بالبيت السابق وهو قوله:
ومن يحدثك فيما كان من مدعٍ .... وفي ثلاء قلت ماذا الفعل من بشر
ثم تحير الطالعون من طرق الحصن في المطبق وهو الباب الرابع وذلك أن درجته [ق/162] ضيقة وإنما يطبق إطباقاً كصورة أبواب المطابق التي في البيوت فلم يروا كيف يصنعون وقد كان أهل الحصن لما أيسوا من السلامة ورأوا ما صنع أصحاب الإمام عليه السلام أخرجوا الفقيه وجيه الدين عبد الهادي من الحبس، وكان والي التركي الذي هو الآغا علي قد زاد في التضييق عليه تلك الليلة، وكان فيه قيد وزنجير في مكان في الدار البيضاء ومرادهم هلاكه فسمع جلبة الأصوات ولم يشعر ما سببها، ثم خاطبته امرأة الآغا تقول: يا سيدي عبد الهادي الرفاقة أعطني مسبحتك لما أحست باستئصال أصحاب الإمام عليه السلام بهم، ثم أخرجوه وأمروه أن يخاطب أصحابه ويردهم فأشرف على من في طريق الحصن ثم خاطبهم ودعا إليهم فلم يسمعوا لكثرة الضجة والأصوات، وفي خلال ذلك جاء من قال للآغا المذكور ومن لديه من أصحابه أن أصحاب الإمام الذين جاءوا من قبلي الحصن قد صاروا في الدائر فترك المطبق ودعا إلى حيث ذكرله لينظر في أمرهم فما انتهى إلى بعض الطريق حتى لقيه أصحاب الإمام وقد دخلوا الحصن، وانتشروا فيه ينتهبون ما فيه والذين كانوا بالمطبق قد فتحوه، وقضي الأمر والحمد لله وفتح حصن ثلاء وانتهب جميع مافيه من سلاح وأثاث وباروت ورصاص وغير ذلك، وقد كان أصحاب الإمام عليه السلام أردوا قتل الآغا فمنعه القاضي عبد الهادي ولاذبه وما زال يدافع عنه حتى سلب القاضي ثيابه من شدة الدفاع، ورام السيد شرف الدين أيده الله وأعاد من بركاته أن يمنع الناس من انتهاب الحب والباروت والرصاص فلم يقدر على ذلك لكثرة الناس وكان
أبواب الحصن قد كسرت جميعاً فبقى الداخل والخارج فيه من ذلك الوقت إلى مثله من اليوم الثاني، وبعد بلوغ الخبر بأخذ ثلاء إلى من كان محصوراً من عسكر الأتراك في السودة مع ابن المعافا وأيسوا من الغارة إليهم فخرج أكثر من كان فيها من العسكر ووصلوا إلى الإمام إلى جبل الأهنوم كما ذكرنا من قبل، ودخل ابن المعافا عزان السودة وهو المسمى قرن الناعي هو ومن معه من خاصته وخاصة الترك وجماعة من عسكر كوكبان، وكان رئيس عسكر الترك الآغا أحمد عيون وحسن الداعي، ورئيس أهل كوكبان النقيب سنبل أشول مملوك علي يحيى بن المطهر، ودخل أصحاب الإمام عليه السلام مدينة السودة وحاصروا ابن المعافا في حصنه حصاراً شديداً.
[فتح بلاد عفار وكحلان]
[ق/163] وأما عفار وكحلان ومايوازهما من البلاد فذلك أنه تقدم الشيخ زاهر بن عرجاش في جماعة من القبائل والعسكر إلى جبل نيسا، وتقدم اليسد شمس الدين أحمد بن المهدى بن جحاف بجماعة معه من دهمة وغيرهم إلى بني جيش ثم طلعوا إلى موضع يسمى شعبان وهو حصن خراب بين صبرة وعفار، فثبتوا فيه وتقدم ابن عرجاش إلى بلاد قيدان، وكان في صبرة محطة للأتراك عسكر كثير من جملهتم أحمد ذماري الذي كان في الشرف لما وصل إلى حجة هارباً أمره الأمير عبد الرحيم إلى بلاد عفار رتبة في عسكر كثير، وكان فيها أمير من الأتراك، والهادي بن الحسن بن الإمام شرف الدين أيضاً في عسكر من الأتراك وغيرها رتبة فقدم الأتراك جماعة منهم إلى المصنعة وهو حصن في بلاد قيدان فأحربهم الشيخ زاهر بن عرجاش وأصحابه، ولما وصل السيد أحمد بن الهادى وأصحابه إلى شعبان وقع الحرب بينه وبين من في صبرة من الأتراك، فمنح الله أصحاب الإمام النصر والصبر وهزموا الأعداء وقتلوا منهم، فلما كان كذلك واجه أهل صبرة إلى أصحاب الإمام عليه السلام ودخلوا في الطاعة وتحيز حرب الأتراك إلى جبل جرع وهو يومئذٍ خراب فحاصرهم أصحاب الإمام من كل جهة، ثم وقع صلح على أن يرفقوهم بسلاحهم وخرج بعضهم إلى حجة فبقوا في حورة وطلع بعضهم وهو الهادي بن الحسن ومن معه إلى حصن كحلان تاج الدين، ودخلت بلاد عفار وكحلان وبني عشب وما يوالي هذه الجهات في طاعة الإمام عليه السلام ونفذت فيها الأحكام الإمامية، وكانت ولايتها إلى السيد شرف الدين الحسن بن شرف الدين واحتاز الهادي بن الحسن وإخوته في حصن كحلان
تاج الدين أياماً قليلة، ثم تسلم الإمام عليه السلام الحصن وواجه إلى الإمام بعض أولاد الحسن وبعضهم لحق بالأتراك إلى صنعاء ووقع الحصار على حصن عفار وكان فيه ولاة للأتراك من همدان وغيرهم حتى تسلم إلى الإمام بعد نحو سنة.
[فتح مدع]
وقال نفع الله به: فتح مدع، وكان فتح مدع في خلال الحروب التي كانت في جبل تيس بين السيد عامر رحمه الله والأتراك، وذلك أن السيد العلامة مفخر الآل شرف الدين الحسين بن شرف الدين، والسيد الأكمل الأعلم شمس الدين أحمد بن محمد بن علي المحرابي رحمه الله [ق/164] التقوا إلى نواحي مدع في من معهما من القبائل والعسكر ثم أحربوا أهل مدع ليلة واحدة ودخلوه من الغد وقت شروق الشمس قهراً، فقتل جميع من فيه من الولاة وغيرهم، وانتهبت جميع ما فيه من أثاث وسلاح وغير ذلك إلا الباروت والرصاص فإنه بقي فيه.
وروي أنه لم يسلم من أهل الحصن غير واحد اختفى بين النساء، واستشهد في هذه الوقعة من أصحاب الإمام عليه السلام اثني عشر رجلاً، وكانت هذه الوقعة من أعظم الوقعات شبيهة بوقعة فتح ثلاء لأن حصن مدع هذا من أحصن الحصون وأمنعها، وكان فيه رتبة قوية من الأتراك وهمدان فيسر الله سبحانه وتعالى فتحه بسرعة (فله الحمد) ما كان ذلك إلا بتأييد الله سبحانه ونصره للإمام عليه السلام وأصحابه، ثم بعد فتح مدع رجع السيد شرف الدين الحسن بن شرف الدين أيده الله تعالى إلى ثلاء وتقدم السيد شمس الدين أحمد بن محمد إلى حضور لغرض دعا إلى ذلك ثم رجع إلى مدع.
[حروب المغرب]
وأما حروب المغرب فقد ذكرنا ما اتفق لسيدنا العلامة نجم الدين وأويس الآخرين يوسف بن علي الحماطي رحمه الله وما عرض من ذكر ولده الشهيد القاضي العالم علي بن يوسف الحماطي رحمه الله مع بعض أخبار الحاج شمس الدين رحمه الله تعالى، وأول أخبار السيد العالم الشهيد جمال الدين عامر بن علي عم مولانا عليه السلام أنه لما سكنت الزعازع وقرت الأمور اجتمع إلى ولده الشهيد عيون المغارب من بلاد آنس ومغارب ذمار، وبلاد ريمة ووصاب وما إليها، وتوجه إليها حي الشيخ ناصر بن راجح وغلظ جانب دولة الحق، وفيها أخبار طويلة واختلاف مع القبائل سيما بلاد الشافعية فإنهم امتنعوا من الظالمين باشتغالهم بحروب بلاد الزيدية كثرهم الله وحفظوا بلادهم واختلفوا في ذات بينهم فممن نزل بلادهم الشيخ ناصر بن راجح كما تقدم فأحربوه في بلاد عتمة في موضع منها يسمى المنصورة من بلاد الثلاثاء وحازوه فيها فأدركه القاضي جمال الدين رحمه الله، وكان المنتصب لحرب الشيخ ناصر بن راجح، الشيخ عبد الله بن معوضة البحري وإليه قبائل، فلما وصل القاضي جمال الدين رحمه الله انهزم البحري وأصحابه [ق/165] بعد حرب شديد وخراب لبعض بلاده ووصل إلى القاضي مواجهاً وستر نفسه بالمواجهة إلى القاضي وأنه لا يرى ابن راجح ولا يراه فقبله القاضي، واجتمع إليه أكثر المغارب ثم افترقت القبائل من بلاد عتمة وغيرها حتى سرى إلى آنس فمال قبائل حمير مع ابن راجح لهذا الداعي، والآخرين عولوا على القاضي أن ينصب لهم من جهته لقبائل نزار فجعل معهم الشيخ أحمد البصير السلامي على نزار فاجتمع الطائفتان
معاً وفتحوا بلاد وصاب، ولهم أخبار وحروب، فلما وصل الباشا علي من الحبشة كما تقدم خرج عليهم الأمير محمد الزوم ومعه طوائف كثيرة فوق أربعة آلاف أو خمسة من العرب والعجم فهزموهم من وصاب ودخلوه وفي بلاد ريمة كذلك، وتمنعوا بسبب اشتغال العجم بحروب مولانا عليه السلام سنين لم يتمكنوا من فتحها وتغلب عليها أهلها، ولضعف عقائدهم في أهل البيت كانوا يخطبون لسلطان الروم وينصرون له وهم على محاربته ومخالفته، فنعوذ بالله من الزيغ الشديد، والضلال البعيد، ولما اتفق ما تقدم ذكره من وصول علي باشا لا رحمه الله بعد قضية خولان دخل صنعاء متفقاً بالوزير حسن، وكان فيما بينهما يعني الوزير حسن وعلي باشا لا رحمهما الله مصانعة وإظهار الصفا وقد أحبه لتفريج كربه وهو غير آمن له.
وأما سنان لعنه الله فهو أشد خوفاً ويظهر الكراهة للباشا علي، ثم إن الباشا حسن لا رحمه الله خرج مشيعاً للباشا علي إلى الصريات أعلى من ريشة أعشار من بلاد سنحان وأقام معه أربعة أيام، وخرج الباشا علي يريد فتح ريمة وما إليها، وكان مغرماً بها، وله فيها أخبار طويلة، وكان مقيماً في ولايته الأولى في موضع منها يسمى ظلملم من مواضع بني جعفر وكانوا ملوك ريمة ولهم موالاة مع العجم أخبار فأذلهم هذا الباشا علي في الأيام الأول واتخذ أولادهم ومساكنهم، ولقد روي عنه وعنهم ماتنزه منه الطروس، فلهذا كان مبادرته إلى ريمة والعجلة إلى ذلك الموضع وعرف أعداؤه أنه لايبرح عن تلك البلد ويمضي تلك الطريق فكان من أمره ماسيأتي إن شا الله تعالى قريباً، ولما استقر في الصريات وقدروا لعنهم الله أن المشارق قد سكنت فتنتها وأمنوا جانبها توجه لفتح ريمة بجموع هائلة وأمراء كثرة من العجم والعرب حتى أحط في بلاد [ق/166] ألهان، ثم جعل كثيراً من خزائنه وأثقاله عند الشيخ داود الملاحي وكان من أهل الرئاسة والميل إلى الظالمين الله المستعان،ثم خرج إلى بلاد الشيخ الدهاق الدويدي، ومنها واجهت المغارب كلها وخرج القاضي الشهيد علي بن يوسف الحماطي رحمة الله عليه وغيره إلى فيوش من أعمال عانز وغيرها وانفردوا وكانوا في مشاق بحيث أنهم كانوا كما أخبرني غير واحد من خواصهم امتنعوا من الأكل والشرب لشدة الإختفاء في الشواهق وأسفال البيوت لئلا يحتاجون إلى الخلاء لأنهم لا يظهرون إلا في الليل ثم خرج المخذول إلى بلاد يفعان موضعاً منها يسمى السلف وقتل قوماً وصلب آخرين، وسلخ
جلودهم قاتله الله.
(قال الشيخ علي بن إبراهيم المقبح الإسلافي ثم الريمي إنه كان مع الباشا وقد كان أمر أمراء عدة من العسكر لغزو بعض قبائل السلفية ولا خبر معهم بهذا الباشا وأمر أن يقتلوهم ذكراً وأنثى وصغيراً وكبيراً فأرسل الله في تلك الليلة مطراً مخالفاً للعادة تردد سبع مرات فحال بينهم وبين مقصدهم، فأمر هذا الطاغي بالكف عنهم ونجاهم الله)، ثم ولى على عتمة ووصاب أميراً سموه منهم الأمير علي مهردار، والآخر الأمير علي بهلوان وبسط في الظلم والجور بحيث أنه استعجل الحبوب في غير وقتها وشحن يفعان وحصون ريمة.
نعم ولما أراد الله إراحة المسلمين منه، وكان الشيخ الرئيس صبر بن رسام الطليلي قد احتال على حصن حزر وملكه وأخذه سابقاً على بني جعفر وغيره من حصون الجعفرية، واستقر فيه وامتنع على العجم فيه مدة، ثم ولده الشيخ الرئيس الكبير سعيد بن صبر بن رسام كاتبه سنان لعنه الله سراً، وأخرج بعض بني جعفر الذين كانوا معه في الاعتقال وصاروا معه في جهات الحيمة لأنهم لما أمنوا من جهة المشرق خرج الباشا علي ريمة وما إليها، وسنان لا رحمه الله الحيمة وما إليها وصار في عر الحيمة وأظهر أن صبر آغا الجعفري وأحمد بن علي بن سليمان الجعفري هربا واستجارا ببعض مشائخ آنس، ثم أدخلوهم حصنهم على أنهم مفتسحون من سنان أو هاربون وقد عرفوا من هوى هذا الباشا علي أنه يريد ظلملم على المعهود ولا يرضى بغيره، فأظهر سعيد بن صبر له الطاعة وكذا وهو حافظ نفسه وحصنه وبلاده منه، فعزموا اليوم الذي [ق/167] نزل فيه إلى ظلملم فكمنوا في الليل في جانب الطريق مما يلي حصن حزر وانحدرت جنوده في النقيل الذي ابتناه المسمى مراش بحيث أن مثله قليل في العمارة والصنعة العجيبة والطول، وتسهيله لكل دابة ضعيفة وغيرها، وقد عرفوا أنه يكون في آخر المحطة في خاصة مماليكه فرماه بعضهم بحجر في رأسه ثم رماه آخر ببندق أصابت رأسه أيضاً فاحتز المماليك رأسه خوفاً لا يغلبهم القبائل عليه، وقد قتل القبائل من قاتل معه من المماليك، فما راع أول المحطة إلا والصائح يقول: قتل الباشا، فعادت الجنود فوجدوه مقتولاً هو وجماعة من مماليكه وقد طلع أصحاب سعيد بن صبر حصنه وامتنعوا فيه، فحصل في العجم الذل حتى
لقد نهبتهم النسوان ولاذوا إلى الأمير جعفر الجماعي اليمني فدافع عنهم، وقد اجتمعت عليهم القبائل مع الشيخ سعيد بن صبر فحازوهم في كسمة، وعظم الأمر حتى أخذوا الرفاقة من القبائل المذكورة ممن حضر ورأى وسمع أنهم عرضوا من يحمل معهم الخزائن والأثقال من القبائل بعد الصلح على خروجهم من البلاد، فأقبل القبائل على أنهم يحملونها، والكاتب يكتب على كل شيخ وأصحابه ما حملوه إلى السهل للجمال ويثبت اسم الشيخ واسم الحمال من أصحابه حتى أن بعض القبائل أحس أن حمولته حاصل فقال له الكاتب: ما اسمك؟ فقال: (إليك لك) الشيخ داري فظن الكاتب أن ذلك اسمه فأثبته على هذه المقالة فأرسلت مثلاً، ثم أخذت أكثر الخزائن مما حمله القبائل وتغلبوا عليها ورضيت المحاط الكثيرة بالسلامة.
ويروى أن هذا الكاتب أخذ عليه بعض مشائخ ريمة الدفتر من خوف العواقب فقال فيما قال: إذا ذهب الدفتر فالخزائن موقعة في صدره فاغتالوه وقتلوه لئلا يخبر بذلك، وخرجت المحاط إلى وصاب وظنوا أنهم يستقرون فيه فحصل فيهم الفشل بعدها وقد نصبوا لهم الأمير علي مهردار كما أخبرني الشيخ شرهان الرازحي وغيره، وكان هذا الأمير على ذا مال عظيم الحال، فانحدر من عتمة إلى وادي النار فيما بين عتمة ووصاب وخيم هنالك مستقيماً للأمراء الذين أخرجوا من ريمة فأرسل الله مطراً عظيماً مخالفاً للعادة فنزل السيل فاحتمل محطته وأثقاله وخيامه وتفرق أصحابه في جنبات الوادي، وتعلق المذكور في شجرة حتى تمكنوا من إخراجه، وكانت آية ظاهرة وعبرة سائرة [ق/168]، وهذا من إمداد الله تعالى لولد نبيه سلام الله عليه فلم يلتئم له بعدها حال فخرجوا من وصاب جهات اليمن، وتفرقوا على ما يأتيهم من الباشا حسن وسنان لا رحمهما الله من التدبير.
وأخبرني الفقيه الفاضل صلاح بن علي البريشي الحضوري قال: إنه كان عند الإمام عليه السلام في تلك الأيام في موضع حوالي المحراب من الأهنوم، قال: لما بلغه قتل علي باشا لا رحمه الله، قال عليه السلام: قد كنا هممنا نصعد شهارة للحوزة حتى رأيت ليلة هذه البشرى قائلاً يقول:
وما من يد إلا يد الله فوقها .... ولا ظالم إلا سيبلى بظالم
وكان مصداق الرؤيا أن سنان لا رحمه الله الذي اغتال الباشا علي، وأما القاضي الشهيد جمال الدين علي بن يوسف الحماطي رحمه الله والشيخ ناصر بن راجح، وصنوه الشيخ عاطف ومن انضم إليهم فإنه لما صح لهم قتل الباشا المذكور وخرجوا من الاختفاء، وكان قد لحق الباشا عسكر وعليهم رئيس من العجم ومعهم خزانة تلحق بالباشا المذكور فسارع إليها الشيخ ناصر بن راجح في جماعة وانضم إليهم قبائل من بلاد مقرا في موضع يسمى القحصة من حدود ريمة فاستولوا عليها وقتلوا جماعة منهم وأسروا من بقي، وكان في ألهان رئيس من العجم يسمى حسن آغا من كبرائهم بنحو مائة وثلاثين بندقاً على خزائن للباشا المذكور، فلما بلغه قتله نزل حتى دخل بلاد الشيخ الدهاق ثم أحاطت به جنود الحق في حجر قران موضعاً هنالك فأخذوه وقتلوه ومن معه على كيفيات مختلفات، وغنموا سلاحهم، ولما كان ذلك وصل من عند سنان والوزير حسن لا رحمهما الله أمير يسمى الأمير أحمد شوبان فأحط في خذاو موضعاً في ألهان، ثم تقدم إلى رأس نقيل ستران ولزم العجم شرف ألهان وجنود الحق في موضع أسفل منه فلا زالت الحرب قائمة قريباً من تسعة أشهر، ثم عجز القبائل وانهزموا، وهتكت حرم بعد الهزيمة وأخرب العجم ومن انضم إليهم من القبائل جبل الشرق حتى المساجد قاتلهم الله أنى يؤفكون، ولقد حكى لي غير واحد أنهم أحرقوا المساجد وما فيها من المصاحف، وأن بعض جهلة القبائل أراد إخراج شيء من المصاحف فضربه المستقيم عليهم من قبل العجم حتى ردوه إلى النار لعنهم الله، ثم إن القاضي جمال الدين انهزم وعاد جهات عانز ثم عاد إلى الحيمة.
[موالاة الأهنوم للإمام]
[ن1691] فصل: ولنرجع إلى رواية حي الفقيه المجاهد قاسم بن سعيد الشهاري رحمه الله تعالى.
قال: لما صح ظهور الإمام عليه السلام في شرقي بلاد عيال أسد والحرب في وادعة أظهرنا في الأهنوم الدعا إلى الإمام حتى تعاقدنا على إلصاء النار وإظهار الخلاف في البلاد، فحصل اختلاف بيننا وبين قرابة المشائخ والعسكر الذين مع ابن المعافا، وقالوا: إظهاركم ذلك وأصحابنا في أيدي الظالمين سبب هلاكهم، فاتفق الرأي على تأخير النار ليلة واحدة حتى يرسل كل واحد لصاحبه ففعلنا وفعلوا، فلما كان بعد غروب الشمس ألصى جميع جبال الأهنوم النار وأظهروا الخلاف والعسكر انحازوا إلى وادعة كما تقدم وسلمهم الله مما كانوا يخافونه، وله الحمد كثيراً، ثم اجتمعت الأهنوم إلى الفقيه علي بن محمد الشهاري وظليمة وما إليها إلى السيد العلامة المهدي بن إبراهيم بن المهدي وتقدموا بلاد شظب فأحاطوا بالسودة فأخذوها، وكان قد انهزم ابن المعافا من وادعة فحاصروه ثم استأمن إلى مولانا الإمام كما تقدم، وكان قد عزم (من وادعة ومعه مشائخ الأهنوم حول ثلاثين شيخاً، وأما قبائلهم فلما رأوا النار في بلادهم عزموا من التحيد ومن غيره تلك الساعة إلى الأهنوم، والمحاصر له في قرن الناعي السيد العلامة المجاهد المهدي بن إبراهيم بن المهدي الجحافي رحمة الله عليهما في عسكر ظليمة وغيرهم والفقيه علي بن محمد الشهاري في عسكر الأهنوم، ولما طلب ابن المعافا الخروج قال: إن مشائخ الأهنوم الذين عنده قالوا ما يخرجون إلا إلى يد السيد المهدي بن إبراهيم رحمه الله لأن صاحبهم الشهاري من أهل
الجرأة والغدر فخرجوا إلى يد السيد رحمه الله، وأما من في السودة من عسكر الأتراك اشترطوا وصول مولانا عز الإسلام محمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله عليه السلام فوصل وعزم بهم إلى جبل عيال يزيد والفقيه عبد الله بن المعافا فأخرج إلى عند الإمام المنصور بالله عليه السلام إلى حبور وبرز له الإمام بيت السيد جمال الدين علي بن المهدي بن جحاف وهو صهر الإمام عليه السلام وبقي إلى أن طلع الإمام عليه السلام إلى السودة، ولهم مواقف وأمور واختص بالإمام عليه السلام ودخل في نفوس السادة والفقهاء [ق/170] الملازمين ونصحوا لمولانا عليه السلام وحذروه من المذكور، وللسيد العلامة صلاح الدين صلاح بن عبد الخالق وللقاضي العلامة علي بن الحسين المسوري قصائد إلى مولانا ونصائح قد ذكرت).
قال السيد العلامة أحمد بن محمد نفع الله به: إن ابن المعافا وكثير من عسكر الظلمة من أصحاب الترك عليهم أحمد آغا عيون وابن البيطار، ومن كوكبان رئيساً سماه احتازوا في السودة يعني في حصنهما وكانوا كثيراً وطلبوا مسير ابن الإمام محمد بن أمير المؤمنين عليهما السلام ليرفقهم فسار بهم إلى المضلعة من بلاد عيال يزيد وعاد إلى جهة مدع وعفار، ثم عاد إلى الإمام عليه السلام إلى السودة كما تقدم، وبقي ابن المعافا عند الإمام معظماً واستخلفه وأبقاه على حصنه بسعاية من يحب ابن المعافا ويصانعه، وكان رأي الإمام عليه السلام إخراجه من الحصن فأعجله أهل ذلك القول بجريرة الرهائن والمحابيس لئلا يهلكوا جوعاً وقد كان هلك أكثرهم قبل الخطاب، وذلك في القعدة أو محرم عام سبع وألف[1598م].
[فتح شهارة]
نعم ولما استقر مولانا عليه السلام في جبل سيران وفتح الله عليه حصن شهارة المحروسة بالله وحصن الظاهرة، وحصن جميمة ظليمة، وحصن جميمة السخدا وحصن كحلان الشرف، وكانت هذه الحصون بيد الشيخ جمال الدين علي بن الحسام الحمزي الصريمي.
قال السيد أحمد نفع الله به: كان فتح شهارة في أول شهر جمادى الأولى سنة ست وألف [12اكتوبر 1597م]، وكذلك الحصون المذكورة وقرر ولاتها في البلاد وأحسن إليهم.
قال عيسى بن لطف الله: وكان مع الشيخ آغا من العجم يسمى مقلوش آغا على جماعة الترك، والشيخ المذكور على العرب، وكانت مشحونة مضبوطة فهدى الله الشيخ المذكور إلى الصواب وأخبروا لتوبته أسباباً من كرامات مولانا عليه السلام لم أضبط تفصيلها، منها ما أخبرني الوالد السيد المقام جمال الدين علي بن إبراهيم بن المهدي الجحافي أطال الله بقاه مكاتبة أن الشيخ المذكور سلخ شاة فوجد في لوح الشاة مكتوباً الإمام قاسم، وأن الشيخ المذكور قال هو السالخ للشاة بنفسه وعادته يفتش اللوح على قاعدة عيار القبائل فرأى هذه الآية، وحلى هذا اللوح بالفضة وظهر ذلك وانتشر، وسمعت من الفقيه الفاضل ناصر بن عابد الشهاري مثل ذلك وذكر غير ذلك.
وأخبرني غير واحد من أصحابه عليه السلام أنه كان يقول [ق/171]: يأتيكم النصر وكذا من بلاد كحلان وجهاتها، وكان يرمق كل ليلة الجهة متى تقد فيها النار، فما كان أسرع من أن ألصت تلك البلاد وهي بلاد بني حيش الأعرام، وبني شاور وبلاد عفار، وبلاد كحلان وما إليها في ليلة واحدة وإذا بالبشرى بقدوم السيدين العابدين الفاضلين شرف الدين الحسن بن شرف الدين بن صلاح الحمزي وصالح بن عبد الله الغرباني عادت بركاتهما إلى بني حيش وقد أجابته تلك البلاد كما مر.
وأخبرني القاضي العلامة صفي الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه أنه بلغه أظن من طريق والده رحمة الله عليه أنها حضرت أول جمعة في بني حيش عند السيد الحسن سلام الله عليه وتأهبوا للصلاة فقال القائل: يا مولانا من الخطيب؟ فقال: يأتيكم الآن إن شاء الله تعالى القاضي سعد الدين من السودة ولا علم له بالقاضي وإنما ذلك من الفراسة الصادقة، قال: فوصل سيدنا القاضي سعد الدين رحمه الله من السودة والخطبة في رأسه، ثم تقدم بلاد كحلان فأخذها وجعل على الحصن من حاصره، ثم جعل على حصن عفار من حاصره وتقدم على حصن ثلاء فأخذه عنوة كما تقدم ، واستقر في حصن ثلاء المحروسة بالله كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[فتح بلاد الشرف]
وأما بلاد الشرف فأرسل الإمام عليه السلام لفتحها السيد الشهيد عبد الله بن الهادي الحيداني رحمه الله، والقاضي المجاهد حسن بن علي بشاري وغيرهما من المشائخ والمجاهدين، وامتد السيد فخر الدين عبد الله بن الهادي المتقدم إلى جهات الحقار، وقدم القاضي حسن بلاد نهم فأجابه ضاعن وعاهم وقبائل حجور، وخيران وقدم القاضي حسن بمن معه من القبائل إلى بلاد بني عبد وقصدهم الأتراك الذين في طهننة فنصر الله المجاهدين وهزم أعداءهم، ولم يزل أصحاب الإمام عليه السلام في أثرهم إلى أن بلغوا قرية فصر، وكانت جنود الأتراك كثيرة بنادقها نحو الألفين وأربعمائة، وبنادق أصحاب الإمام عليه السلام لا تبلغ العشرين، وبعد هذه الوقعة انهزم عسكر الأتراك ومن معهم من عسكر عبد الرحيم إلى حجة، وتركوا كثيراً من أثقالهم في طهننة فأخذه القبائل، ودخل أصحاب الإمام بلاد الشرف بغير قتال وطلع السيد فخر الدين عبد الله بن الهادي بمن أجابه من أهل الحقار من طريق المحرق، واستقر بجهات الشرف وأطاع أهله جميعاً، وأما كبار مشائخهم فلحقوا بالترك ثم عادوا إلى موالاة الإمام عليه السلام [ق/172] ظاهراً كما نقل. والله أعلم.
[حروب حجة]
فصل [في حروب حجة]: وأما حروب حجة ومصير الأمير عبد الرحيم في أسر مولانا الإمام عليه السلام فإن مولانا الإمام تقدم إلى حبور من أعمال ظليمة بعد فتح بلاد الشرف، وجهز السيد العلامة شمس الإسلام أحمد بن محمد الشرفي عادت بركاته والياً لبلاد الشرف فطرد من فيها من أعوان الظالمين، وقد صار إليه الشيخ ناصر المحبشي وغيره وملك الشرفين جميعاً، وله نهضات وغزوات إلى تهامة، وقرر الأحكام الشرعية، وعمر الدولة الإمامية، وأرسل أمداداً إلى حجة وغيرها، وعظم الأمر في حجة فأمد بنفسه كما سيأتي، وقد أرسل الإمام عليه السلام لحرب عبد الرحيم شيخ العترة السيد العلامة أمير الدين بن عبد الله المطهري عادت بركاته في عيون من الشيعة وغيرهم، وكان السيد أمير الدين رحمه الله في بيت قدم مختفياً فلما بلغه ظهور الإمام عليه السلام سار إليه فوصل نيسا من بلاد عفار ووجد أهله قد والوا الإمام فعولوا عليه بحفظهم ومعاونتهم، وأرسل إليه الإمام عليه السلام ولاية حجة فتقدم لحرب عبد الرحيم فضايقه وأخذ عليه حصونه لم يبق معه إلا مبين والذنوب وراسل العجم، فكان جوابهم: ومن يفرج عنا حتى نفرج عنك، فاحتال بموالاة الإمام عليه السلام كما سيأتي إن شاء الله تعالى وأمده الإمام عليه السلام بالسيد أحمد بن محمد كما تقدم، ثم بالشيخ زاهر بن عرجاش، وكان فاتكاً، وله جهاد ونكاية في العدو، وبعد مضي عام أمد الله الإمام عليه السلام بولده مولانا محمد كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وفتح الله بالظفير وأهله وأول من والى الشيخ شمسان ووصل إلى الإمام عليه السلام إلى حبور الشيخ
الرئيس الكبير الحصين شيخ ظفير حجة وكان من المعظمين في ذلك الزمان، وكان يروى عنه العرابة وصدق الحديث فإنه قال مع وصوله إلى الإمام عليه السلام بلغة الظفير: اشهد يا مولانا على نفسك بوصولنا لا تقل يوم القيامة عند جدك: (مد رمين مد رمين) يعني لا تقل أنا لم نصل، فأجاب السيد أمير الدين أكثر بلاد حجة وعظم جانبه، ثم إنه وصل الشيخ الرئيس أبو زيد صاحب الهيجة وغيره ووافق قدوم مولانا محمد إلى حبور من سيران فكان صحبته عليه السلام [ق/173] ومولانا الإمام المؤيد بالله إذ ذاك في أول التكليف، وكان من صغره عليه السلام فيه حدة ومعرفة للأمور الدينية والدنيوية كما يليق بمنصبه الشريف، وكان في حبور جموع من كل ناحية من العلماء وغيرهم ومراجعة حسنة، منها: ما أخبرني الفقيه العدل الصالح محمد بن علي بن عباس الآنسي وكان من عباد الله الصالحين، وإمام مسجد سيدنا القدوة العلامة الزاهد محمد بن عبد الله الغشم عادت بركاته أن حي سيدنا العلامة إبراهيم بن مسعود وصل من حجة وقد أعد مسائل:
منها: ما الوجه في إبطال بيع الرجاء وغيرها من المسائل، وأنه سأل مولانا عليه السلام وعرف الإمام منه الانتصار لما قد تقرر عنده وقد سمع من جواباته أنه قال: إلحق بالوالد أمير الدين إلى الجهاد، وهذه المسائل مدركة أو كما قال، فعزم القاضي وفي نفسه شيء ويظن أنه عسر على الإمام عليه السلام الجواب في تلك الحال ، ثم لما انفصل أخذ الإمام في الجواب عليها جواباً شافياً في يوم عزمه، قال: وهو موجود، ثم أمر الرسول أن يسير مع القاضي ولا يدفع له الجواب إلا في حجة، قال فأعجب القاضي استيفاء الجواب الذي اطمأن به، وحسن النظر في إرساله على الصفة لمحبة الميل عن طريق الجدل والمراء المنهي عنهما.
[وصول الإمام إلى حبور]
قال السيد أحمد نفع الله به: إن وصول الإمام عليه السلام إلى حبور في شعبان عام ست وألف [1597م] ووفدته الوفود، وكثرت الفتوحات والأرزاق وأعطى العطاء الواسع، وذكر وصول القاضي إبراهيم بن مسعود، ووصف كثيراً من تعظيم الإمام له، وقال ووصل الفقيه الفاضل العالم جمال الدين علي بن صلاح الحضراني من بلاد آنس وهو من كبراء فقهاء الزيدية في تلك الجهة، ووفد إلى حبور الفقيه المجاهد الفاضل الشهيد علي بن يوسف الحماطي وهو يومئذٍ حدث السن لم تنبت لحيته إلا أن مخائل الكمال تلوح عليه، وأيدي الرئاسة تشير إليه، ولم يزل رحمه الله بعد عودته من مقام الإمام عليه السلام يرتقي درج الرئاسة حتى بلغ أقصاها ويستولي على أقطار السياسة حتى بلغ منتهاها، وجاهد في الله حق جهاده، وساس الأمور، وظهر صيته عند الجمهور، وهابه العدو، ورجاه الصديق، وانتهى الأمر إلى أن غدر به بعض أعداء الدين من مشائخ الحيمة فقتله غدراً كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ثم إن الإمام عليه السلام بعد استقراره في السودة كما سيأتي إن شاء الله تعالى استرجح[ق/174]توجيه ولده مولانا الإمام محمد وأصحبه جماعة من السادة والفضلاء ،منهم الفقيه الصالح صلاح بن عبد الله بن داود الشظبي مؤدب مولانا محمد عليه السلام.
ويروى عنه معرفة للأمور وأن يلحقوا بالسيد أمير الدين، وقد اتفق بينهم يعني السادة وبين عبد الرحيم حروب كثيرة، اليد في أكثرها لجنود الحق حتى ألجؤه إلى المصالحة والخطاب.
قال السيد أحمد نفع الله به: إنه دار قدر شهرين والمراتب عليه من جميع الجهات، منهم السيد عبد الله بن الهادي الحيداني في العبالي ووقوف السيد أمير الدين في مأذن والشيخ الحصين ملازم له، والشريف صلاح بن محمد الغرباني والسيد إبراهيم الوشلي في دار حاجب، وأرسل الإمام عليه السلام باستدعائه مراراً وفي بعضها اختلف عليهم وفي بعضها أغضبوا وأرسل أخرى إخوته، وأرسل الإمام سادة وفقهاء ومشائخ وجعل على كل طائفة رئيساً، فعلى السادة السيد محمد بن علي بن إبراهيم صاحب الشاهل، ورئيس الفقهاء القاضي سعد الدين بن الحسين، ورئيس المشائخ الشيخ علي الحسام حتى صلح الحال وشرط له الإمام حصنه مبين والصوافي وأن له ولعسكره كفايتهم، ثم كان منه الوصول بجميع من معه من عسكره وحفدته إلى مولانا عليه السلام فوصل إليه إلى المدان من أعمال هنوم فأنصفه الإمام عليه السلام، واستتابه فتاب وأظهر ذلك وحبس نفسه ومن معه للجهاد في سبيل الله ونصرة إمام الزمان عليه السلام، فوجهه عليه السلام مدداً لأهل هزم كما تقدم وعمدة في أهل الجهاد، وواعده بإرجاع بلاده وغيرها حتى كان منه ما تقدم من الغدر والعود إلى ما هو أشر من حاله الأول كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[أخبار بلاد وادعة]
فصل: وأما دخول السيد العلامة الحبر أحمد بن محمد المحرابي (عادت ببركاته بلاد لاعة وأعمال بلاد ابن شمس الدين فلم أقف على تفصيلها) غير أني سمعت من الفقيه الفاضل العالم المجاهد عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله، ومن حي الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي أنه رحمة الله عليه دخل بلاد لاعة كلها ومسور والمغارب وأمدته بمالها ورجالها، وذكرا عنه انتظاماً في أمره وقوة في تدبيره حتى أن العساكر لديه تكاثرت، والأمور الإمامية في تلك النواحي على يده انتشرت، واتصل ببلاد الطرف، واجتمع فيها مع السيد العلامة العابد الزاهد شرف الدين الحسن بن شرف [ق/175] الدين نفع الله به، ولهما في بلاد مدع حروب شديدة وملاحم عديدة كما قال السيد العلامة الحبر شمس الدين أحمد بن محمد الشرفي عادت بركاته في تتمته للبسامة في وصف شيء من تأييد الله ونصره لمولانا عليه السلام :
ومن يحدثك فيما كان في مدع .... وفي ثلاء قلت ما ذا الفعل من بشر
[فتح بلاد مسور]
قال السيد أحمد بن محمد نفع الله به في صفة فتح مسور وما إليه من بلاد لاعة وجهاتها: إن الإمام عليه السلام أرسل الحاج الفاضل شمس الدين أحمد بن علي بن دعيش الغشمي إلى بلاد مسور فعاقد جماعة من أهلها سراً، ثم وصل بجماعة عسكر من أهلها إلى الإمام عليه السلام قبل وقعة نقيل عجيب، ثم رجع بعد وقعة نقيل عجيب إلى جهة مسور وقد عظم أمر الإمام عليه السلام في صدور الناس فنهض الفقيه العالم العامل الفاضل جمال الدين المهدي بن أحمد الرجمي والحاج الفاضل أحمد بن علي بن دعيش المذكور في جمع من أهل تلك الجهات وطلعوا على مسور، وفيها عسكر كثير من جهة الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين صاحب كوكبان، وكانت جهات مسور ولاعة وبحرة، وقراضة وجبل تيس وما يوالي هذه الجهات كلها أمرها إليه، وهو من أعوان الأتراك وأعظم أعضادهم وتركوا له هذه البلاد ليس لهم منها شيء مع جامكية ابن عمهم مسلمة للعسكر إليه في كل سنة شيء معروف، فوقع الحرب من أصحاب الإمام عليه السلام للعسكر الذين في بيت قابس وهو حصن بأعلى مسور كانوا فيه نحو ثلاثمائة رجل أكثرهم أهل بنادق فاستسلموا وطلبوا الأمان وخرجوا إلى بين يدي الفقيه الفاضل جمال الدين المهدي بن أحمد، والحاج الفاضل أحمد ومن معهما فعاهدوهم على طاعة الإمام عليه السلام والجهاد بين يديه، وكان أكثرهم من قبائل حاشد وبكيل وانضم بلاد مسور كلها في سلك طاعة الإمام عليه السلام إلى حد حصن مدع وبني العباس وإلى حد جبل نمرة وبلاد المراوح وغير ذلك، ووقع الحصار على حصن عولي مدة، ثم تسلم إلى الإمام عليه السلام، وأقام
الحاج الفاضل أحمد بن علي دعيش بجبل مسور إلى أن وصل السيد ابن شمس الدين أحمد بن محمد المحرابي فسمعت أنهم في أيام السيدين رحمهما الله تعالى حصروا العساكر الإمامية في تلك المدة فكانوا زهاء ثمانين ألفاً، وكذا سمعت معنى ذلك في محضر الفقيه عماد الدين [ق/176] يحيى بن صلاح رحمه الله وأن أمراءهم كانوا لا يجدون أرزاقهم فيحلون لهم إلى المغارب فيحصل بذلك خلل في المراكز أو كما قال، وسمعت أيضاً القاضي العلامة صفي الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه يحدث بحضرة حي مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله بقريب من ذلك وأن الفقيه فلاناً قال للإمام المنصور بالله: عسكرك كذا وكذا مما يكون إلى تجمعهم فيصيرون محطة واحدة ثم يقصد بهم الأتراك أخذهم الله يوماً واحداً ويهلكون في يوم واحد ونستريح من شرهم، قال: فضحك الإمام عليه السلام وقال: أما أصحابنا فلعلهم يساعدونا بالاجتماع وبقي الترك وجنودهم من ذا يجمعهم لنا يا سيدنا فلان خفي علي اسمه فكانت طرفة وبعد فتح مدع وثلاء كما تقدم.
قال حي الفقيه عماد الدين رحمه الله: أنه وحي الحاج العالم الصالح أحمد بن علي بن دعيش الغشمي رحمه الله كانا ولاته وما إليه من الأعمال بنظر السيدين وأخبر أن مولانا عليه السلام لما كثرت الحروب واشتد الحال أمد بولده مولانا الإمام المؤيد بالله محمد بن أمير المؤمنين سلام الله عليهما وذلك بعد عوده من مصاحبة العجم الذين كانوا مع ابن المعافا كما تقدم، وعاد إلى الإمام عليه السلام وبقي عنده في شظب، ثم تقدم إلى نيسا ثم الظفير وكانا فيه واليين حتى طال عليهما الحصار من سنان لعنه الله فاشترطا سلامتهما وسلامة من معهما وخرجا وسلمهما الله من شره ومكره كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[وقعة سافوف]
ولنعد إلى أخبار جهة الحيمة وحروبها وأيام سافوف، وأخبار السيد الشهيد عامر بن علي رحمة الله عليه ورضوانه وكيفية أسره والمثلة به، وموضع قبره رضوان الله عليه، وذلك أنه لما بلغ السيد عامر ما اتفق لحي القاضي الفاضل علي بن يحيى المحيرسي رحمه الله وبقي من في بلاد كوكبان من جنود الحق فوضى، خرج السيد عامر ممداً ومسدداً فلا زال حتى دخل سافوف وحصلت مراكزة وحروب هائلة اليد فيها لجنود الحق.
قال السيد عيسى في تاريخه: لما استقر السيد عامر في مقفوز الحصان واطمأن به المكان قصده الأمير أحمد بن محمد في يوم الأحد سادس شهر شوال من السنة المذكورة [28 مايو 1598م] يريد سنة ست وألف فكان قريباً من المحطة في موضع يسمى تريادة وأمر إخوته من آل الإمام شرف الدين عليه السلام بالنزول لقتال أصحاب السيد عامر فوقع بقدرة [ق/177] الله مطر أطفأ فتائل البنادق وتكاثر أصحاب السيد عامر على عسكر الأمير أحمد بن محمد فوضعوا فيهم السيف فقتل عدة من أعيان عسكره وقتل من أهله الهادي بن رضي الدين بن الإمام شرف الدين ولطف الباري بن محمد بن عبد الله بن الإمام شرف الدين، وأسر علي بن الحسين بن علي بن الإمام شرف الدين، وعاد الأمير أحمد بن محمد إلى كوكبان كاسف البال حليف البلبال، ثم قصد السيد عامر مرة أخرى فوصل إلى محل يقال له يفعان وتلازم الحرب بينه وبين أصحاب الإمام وقد تقدم بنفسه في جماعة فأحاطوا به، وخرج من بين الأسنة والسيوف، وكان هماماً نبيلاً مقداماً، وقتل من أصحابه جماعة وسمعت من حي سيدنا يحيى الثلائي رحمه الله تعالى ذكر شجاعة هذا الأمير أحمد.
قال السيد أحمد نفع الله به: وروي أن بعض كبراء عبيد بن شمس الدين في هذه الوقعة لما عرف أن سيده قد أحيط به وأيقن أنه مأخوذ صرخ بأعلى صوته يا عسكر سيدي يا عسكر سيدي يا عسكر سيدي، فما زال يكررها حتى افتلج ومات، قال رحمه الله روى ذلك من شاهد الوقعة، وهذا العبد هو المسمى بقرزان الذي أسره الإمام الحسن بن علي في السودة، وكانت مدة المراكزة سنتين ونيفاً، وفيها ملاحم عديدة وحروب شديدة ثم إنه اجتمع عليه سنان لا رحمه الله والأمير أحمد بن محمد وعبد الرحيم المحروم وعدة من أمراء العجم فأحربوه فيما أخبرني الشيخ أحمد بن علي خضر وغيره تسعة وعشرون يوماً، كل يوم والحرب الثاني أشد من الذي قبله حتى أنه وصله الفقيه علي الشهاري بغارة ومدد من عند مولانا عليه السلام فحصل بعض إعجاب بكثرة الناس ففرقهم للمساء فاغتنم الأشرار الفرصة وباكروهم القتال.
قال السيد أحمد نفع الله به: اجتماع الأتراك وأعوانهم على السيد عامر رحمه الله تعالى فانتقل الأمير سنان في جميع عساكره وحشد من أمكنه من جميع البلاد التي بقيت تحت يد الأتراك من اليمن وهمدان وغيرهم فوصل إلى بركة الخلب في ضلع كوكبان في أول شهر صفر من سنة سبع وألف [3سبتمبر 1598م] ومعه الأمير عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن مطهر، والأمير عبد الله بن مطهر والأمير يحيى الداعي، والأمير علي الدقاق التركي، وقيل: إن الأمير علي الدقاق وكان في حفاش وإنما طلع جبل تيس بعد ذلك الأمير شملي علي التركي والأمير علي بن المطهر بن شويع وجمع الأمير [ق/178] أحمد بن محمد بن شمس الدين عساكره ومن أمكنه من أقاربه وأهل كوكبان واجتمعوا كلهم في بركة الخلب فالرجل شيء كثير والخيل نحو ثلاثمائة فارس. والله أعلم.
وأخبرني الثقة عمن أخبره ممن حضر ذلك الجمع أن الأمير سنان لعنه الله جمع الأمراء والرؤساء جميعاً في ذلك وتكلم بكلام معهم مضمونه أن هذا الداعي عدو لكل أحد منا لا يترك لأحد منا باقية، والرأي أن نجتمع كلنا على هذا الرجل يعني السيد عامر لأنه أعظم أصحابه نكاية لنا ولو يحصل لنا قصد الداعي نفسه لكان هو الأولى وإلا نفع ولكنه غير ممكن لشدة حذره، والآن لا بد لنا من عهود نؤكدها بيننا أننا يد واحدة على هذا المقصد، ويكون أمرنا إلىواحد منا وهو الأمير أحمد بن محمد صاحب كوكبان لأنه صاحب البلاد التي فيها السيد عامر فامتنع صاحب كوكبان أن يكون الأمر بيده، وأجمع كل الأمراء أن يكون الأمر وتدبير الحرب إلى الأمير سنان فحلف كل واحد له أنه سامع ومطيع ممتثل لأمره كائناً ما كان فقال: الرأي أن نجمع الخيل مع الأمير عبد الله بن مطهر والأمير يحيى الداعي في عسكر كثير يبقون عند بكر في الضلع مركزاً خشية من أن يقطعهم السيد عامر رحمه الله من ورائهم، وكان السيد عامر رحمه الله في مقفوز الحصان والأمير علي بن شمس الدين بن الإمام باق في موضع يسمى حجر الزكاتين في عسكر معه من أهل كوكبان خشية من أن يقطعهم من في ثلاء من أصحاب الإمام عليه السلام ثم قصد الأمير سنان ومن بقي معه من الأتراك وأهل كوكبان من في الطويلة من أصحاب الإمام [فأخبرهم] يوماً كاملاً، وقتل من الفريقين كثير، ثم كثر الأتراك ففضوا ما قدامهم فدخلوا المدينة، وكان في موضع يسمى القرانيع بالقرب من مدينة الطويلة رتبة من أصحاب الإمام وفي موضع يسمى القاهرة رتبة أيضاً، وكانت طريق الأتراك
الطويلة بالقرب من القاهرة ولم يقدر أهل القاهرة على دفعهم مع كون الأتراك لم يتعرضوا الحرب بل جعلوا همهم من كان في المدينة من أصحاب الإمام عليه السلام، ولما دخل الأتراك المدينة انحاز أهل القرانيع وانحصروا في مواضعهم ولم يقدر أصحاب الإمام عليه السلام على استخلاصهم حتى خرجوا إلى أيدي الأتراك برفاقة وهم نحو ثلاثمائة وعشرون رجلاً فسلموا لم يقتل منهم إلا السيد محمد الصادق من بني سحلة أصابته حجر المدفع قبل خروجه، واستقر الأتراك في المدينة واشتد عليهم الحرب وضاق الأمر [ق/179]، وثبت السيد عامر رحمه الله ثباتاً يضرب به المثل ويعجز عنه شجعان الدهر، وكادت الطريق والمواد تنقطع عن الأتراك ونزل أهل القاهرة يوماً فنهبوا طعاماً وباروتاً ورصاصاً كان أهل كوكبان قد أرسلوا به إلى محطة الأتراك بالطويلة، وكادت أمور الأتراك تضمحل وتنهار لأنهم كانوا كالمحصورين وكانوا يقصدون السيد عامر وأصحابه فما يرجعون إلا بالخسران والذلة والنقصان، وكان أهل مدينة الطويلة قد هربوا عنها، وأهل حصن الطويلة قد تضعضعت أحوالهم وركت من طول الحصار فلم يقدروا يقوموا ببعض مؤن جند الأتراك فبقي الأمر كذلك نحو تسعة أيام، ثم وقع خدع من بعض أهل الحيمة الذين مع السيد عامر مثل الشيخ محمد البعبعي وغيره من مشائخ الحيمة بدراهم جعلت لهم من الأتراك كثيرة ففارقوا السيد عامر في نحو ثلاثمائة من أهل الحيمة وعزموا بلادهم والحرب قائمة، فوهن بذلك أمر السيد عامر رحمه الله وانكسر من بقي معه من مقفوز الحصان في بعض الحروب، وكان السيد عامر رحمه الله في ذلك اليوم الذي وقع فيه
الحرب والهزيمة في سافوف وهو بالقرب من مقفوز الحصان، وكان له هناك بيت يقف فيه وسرية، فاستشهد من أصحاب الإمام عليه السلام نحو أربعة وعشرين رجلاً وتأخر السيد ومن معه إلى جبل أهنم بقي فيه نحو ثلاثة أيام وأحس بركة تلك البلاد وضعفهم فتأخر إلى بلاد لاعة، ثم وصل إلى عند السيد شمس الدين أحمد بن محمد بن علي المحرابي إلى بلاد مسور، ثم وصل الإمام عليه السلام كما سيأتي إن شاء الله تعالى. انتهى.
[مقتل عامر بن علي]
ولما رجع السيد عامر إلى السودة أنبه مولانا عليه السلام وقال: ما هذا التدبير العام للمسلمين أن تجتمع إلينا وتخلي لهم جهات المغارب فعد إلى جهة الحيمة ونواحيها واشغل صنعاء وما إليها ولم يبق له طريق إلى جهات الحيمة إلا جهات المشرق من بلاد حاشد وبكيل وبلاد نهم وخولان، فأخبرني والدي رحمه الله أن الرسول بخطه يعني السيد عامر إلى مشائخ من خولان وعلى ذهني وإلى الحاج شمس الدين، قال: لما صار إلى بلاد خولان خرج بلاد اليمانية وقد سعى الأشرار بخروج محطة من صنعاء إلى موضع يسمى الرفاص من بلاد جهران، وكذا الشيخ زيد بن أحمد والحدا من خلفه ولا علم للسيد عامر عادت بركاته بهم وعلم [ق/180] الحاج المجاهد شمس الدين فعارضهم في موضع يسمى ظبا من حوالي دلاج فأحربهم حرباً عظيماً وهزمهم الله وخلص السيد عامر، هذه من رواية الفقيه الفاضل صلاح بن علي البربشي عن عمه الشيخ محمد بن المهدي، قال وانتهى إلى عاثين والتقاه القاضي الشهيد علي بن يوسف الحماطي رحمة الله عليه والشيخ ناصر بن راجح وخافا أن يطلبهما للمسير معه كما أخبرني أيضاً الوالد جمال الدين علي بن المهدي رحمه الله فاحتالا حتى أخرجاه إلى جهة الحجر وأريا أنهما يلحقانه بمن معهما ورأيا من التدبير بقاهما حتى وصل الحيمة، فأقبلت إليه القلوب، واجتمع إليه أهل الحيمة وكان قد حصل فيهم الخلل، وكادت المغارب تفسد فاستدركها وتألف أهلها ورؤساءها وتزوج منهم، ولما اجتمعت له القلوب رتب أعلى الحيمة ونواحي صنعاء وتقدم بأهل الحيمة إلى بلاد جبل تيس حتى استعاده وملكه جميعاً، واستقر في
موضع منه يسمى بني حبش ورتب مواضعاً واستقامت بينه وبينهم ملاحم عديدة وفيها قضايا كثيرة، ثم أنه طلع نصف أهل الحيمة ورؤساؤهم إلى موضع يسمى ردمان بني أسعد، والنصف الآخر يسمى الجالد بني الحلي، وكان قد غلظ جند العجم وكثرت موادهم وحصل الملل مع جنود الحق لقلة المواد فحصل في السيد عامر عادت بركاته حيلة من بعض الظالمين كما رأيتها مكتوبة بخط مولانا عليه السلام وهي أنهم أطعموه بنجاً أو نحوه من مغيرات العقل حتى ذهل عن التدبير فحالت جنود الظالمين بين موضعه وبين موضع جمهور الحيمة حتى أخذ وقد حمله بعض الخواص إلى غيل أسفل من الموضع وحملوه إلى الظالمين.
وأخبرني القاضي المجاهد الرئيس يحيى بن أحمد المخلافي قال: كنت مع الذين في ردمان وعند الوالد فلما رأى الوالد والشيخ سعيد الجرمي شدة الحرب على السيد وخافوا عليه عولوا علي بالغارة والمدد فقلت: غيري وأنا أكون مع الوالد فلم يقبلوا مني ، وكان الجميع في شدة من الجوع، فلما قربنا من السيد عامر وإذا بالخبر بالقبض عليه فأردنا الرجوع إلى ردمان فإذا قد أحيط بهم فخرجنا وكان ذلك من أسباب سلامة الله لنا، ثم رجعت محاطهم بعد ذلك على المراتب فهزموها، وقتل جماعة من أهل الحيمة فوق المائة والثمانين منهم القاضي المكين أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المخلافي، وصنوه القاضي عبد الرحمن وولده [ق/181]، ومن المشائخ سعيد الجرمي وغيرهم وحصل في المسلمين هزيمة عظيمة كادت البلاد المغربية تختل.
وأما السيد عامر رحمه الله فإن الأمير أحمد بن محمد لما أسروه وبقي في كوكبان ليالي يسيرة وبدا للأمير أحمد بن محمد إرساله إلى عند سنان لا رحمه الله باستدعائه لذلك، وكان سنان في خمر من أعمال بني صريم فلما وصل إليه أمر به لعنه الله أن يسلخ جلده الشريف وأن يمثل به مثلة ما فعلها مثله في مثله رضوان الله عليه، ثم دفن في مقبرة عامة في موضع يسمى حمحمة قبلي خمر.
ويروى أن السيد سلام الله عليه لم يسمع منه في حال ذلك صوت بل صبر كما روي أن القاسم بن محمد بن عبد الله النفس الزكية رحمه الله لما لزمه الهادي العباسي لعنه الله مثل به بأن وضع على كل عضو نشاراً وقد أقسم لا رحمه الله ليقتلنه قتلة ما قتلها أحد من قبله أحداً قبله، فقال عليه السلام: والله لأصبرن لك صبراً ما صبره أحد قبلي أو كما قال، فلما أن أتوا على أكثره قال الملعون: أرأيت ما فعلت بك؟ فقال ما معناه: ويحك لو تعلم ما أعد لي لما فعلت، وما أعد لك بما فعلت ،فكان هذا حال مولانا السيد عامر رحمه الله.
وأخبرني حي سيدنا الفقيه العالم المجاهد العدل يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله وكذا حي الوالد جمال الدين علي بن المهدي أنهما سمعا من السيد عامر رحمة الله عليه كثيراً يقول وقد أخذ بأحد يديه على ذراعيه الآخر: يا أصحاب، هذا الجسد يحتمل السلخ أو كما قال، وكان في السيد عامر رحمه الله علو همة.
أخبرني القاضي شهاب الدين أحمد بن عبد الرحيم بن أبي الرجال أنه وصلهم قبل قيام مولانا عليه السلام وهم في ظفار داود لزيارة المشهد المقدس المنصور من شبام كوكبان فاتفق في تلك الأيام حرب ما بين عيال أسد وبني علي من بني زهير في شوابة، قال: فلما رأى ذلك رأيته يهتز ويفرح ويظهر سروراً فقلنا له: يا سيد مالك من نفع بما تراه؟ قال: فرحت حيث يوجد في الزيدية من يقدر على هذا الحرب مع شدة الظلمة وإذلالهم للمسلمين فحيث يوجد مثل هؤلاء فهم نصرة إن شاء الله لقائم حق أو كما قال.
ويروى أن الأمير أحمد بن محمد ندم على تمكين العجم من السيد عامر وأن الوزير حسن لا رحمه الله أنب سناناً وخطأه وأظهر البراءة من فعله.
وأخبرني من سمع أن الأمير عبد الله بن المعافا أخبر أنه سمع الوزير يلوم سناناً [ق/182] على المثلة بالسيد عامر ويلعنه ويتبرأ من فعله، قال: فأرسل من ينظر كيف القضية فوجد السيد في حبس سنان حياً فعرف إنما يفعل الوزير إلا بما أمره الأمير وإنما يتستروا للعامة قاتلهم الله أنى يؤفكون، {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} .
قال السيد عيسى بن لطف الله: وكان القبض على السيد عامر في النصف من شهر جمادى الآخرة سنة ثمان وألف [4نوفمبر 1599] وسلخ ثلاثة فقهاء من بني حيش، كذا ذكرهم الإمام عليه السلام، وقال حي القاضي يحيى المخلافي: أنهم من فقهاء ظفار مهاجرين إلى الحيمة وكانوا من خواص السيد عامر، وأنهم من أصحاب القاضي علي بن سعيد الظفاري السكون في بلد ابن ذرة، وسلخ معهم جلد سعيد العزب من رونة ثلاء، وله يد في استئصال ثلاء، وغزا عدو الله قبل القبض على السيد عامر من موضع يسمى حنب المعسكر إلى بلاد خيار فأخذ رؤوساً من الضعفاء وقبض على الفقيه الفاضل الشهيد هادي بن حدقة وقتل ولديه، ثم حملوه رؤسهما حتى وصلوا به لعنهم الله إلى عند طاغيتهم فسلخ جلده، وكان من الصالحين، وكان الذي غزاه عن أمر سنان لعنه الله الشقي النقيب سعدان لعنه الله، واستشهد في خمر بما تقدم في نصف رجب سنة ثمان وألف.
[موضع قبر السيد عامر بن علي]
وأما موضع قبره الآن فإنه لما عاد مولانا الإمام عليه السلام من برط إلى وادعة الخرجة الأخرى واتفق من الملاحم والحروب والفتح ما سيأتي إن شاء الله تعالى بعض جمله، تقدم إلى خمر ثم سأل عن قبر عمه رضوان الله عليه فأخبره رجل من بني صريم وأنه حضر دفنه ودفن إلى أعلى القبر حجراً من غير جنس حجارة القبر وجعل تحتها قرطاساً، فأخبرني والدي رحمه الله وكان حاضراً أن الإمام عليه السلام استثبت الرواية ثم تقدم فوجد العلامة فأمر به فأخرج فوجده سليماً لم يذهب منه شيء ولا وجدوا فيه رائحة وهو مسلوخ رحمة الله عليه ففتح فاه ورأى رباعيته فبكى ثم قال: عمي والله، عمي والله، ثم كفنه وصلى عليه، وتقدمت إليه وجوه حاشد وبكيل كل قبيلة تطلب أن يقبر عندها فطلب منهم عليه السلام ثياباً على أنهم لا يخالفونه وأن يجعلوا النظر إليه في قبرانه لأجل طيبة نفوسهم، فقال: أطلب منكم أن يقبر في صرح مسجد خمر ففعلوا فهو هنالك مزور مشهور رحمه الله تعالى، وفيه مراثٍ أثبت منها في هذا المختصر التي أمر مولانا أمير المؤمنين [ق/183]]، وسيد المسلمين، المؤيد بالله رب العالمين: محمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله صلوات الله عليهما ورضوانه أن يكتب في التابوت الذي على قبره وهي للقاضي العلامة صفي الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه:
أزائر هذا القبر حييت زائرا .... ونلت به سهماً من الأجر قامرا
سليل الكرام الشم من آل أحمد .... ومن كان للدين الحنيف عامرا
وعم الإمام القاسم بن محمد .... إمام الهدى من قام للحق ناصرا
ومن شد أزراً منه حين دعا إلى .... رضى ربه أكرم بذاك أزرا
يقلده المنصور سيفاً مهندا .... وكان له في وجه أعدائه شاهرا
فجاهد في الرحمن حق جهاده .... وباين من أضحى عن الحق سادرا
وكأين له من موقف شهدت له .... أعداؤه إن فاق الأوائل آخرا
إذا أورد البيض الرقاق عدوه .... فروت رجيع القوم أحمر صادرا
إلى أن أراد الله إعظام أجره .... لأن كان يسعى للجنان مبادرا
فمحصه بالأسر لما تفرقت .... جنود لديه كان عنها مثابرا
وخان ظهيراً من وراه وخادع .... فأصبح مأسوراً وكم كان آسرا
ولم يرع فيه حرمة لمحمد .... ولكنه ما زال في الله صابرا
ألم تره لم تجبر ضده .... وخان عهود الله فيهم مجاهرا
تلقى البلا بالصبر إذ مثلوا به .... تلقى مسرور الجنان مفاخرا
أراه إله العرش دار ثوابه .... وما كان فيها للمنيبين ذاخرا
فلذ له التمحيص في الله ربه .... فأكرم بمن أضحى له الله آجرا
أعامر هنئت الجنان وخلدها .... وعيشاً مريئاً عند ربك ناظرا
تجاور فيه جدك المصطفى الذي .... قفوت ومن آثارة كنت آثرا
وتلقى أباك المرتضى غير ناكل .... عن الحق مرضياً شكوراً مصابرا
وأمك تلقاها البتول وسيدي .... شباب جنان الخلد كالبدر زاهرا
يهنيك ذو العرش الكريم جزاءه .... ويمليك أملاك السماء بشائرا
ويأتي لك المنصور بالله شاهداً .... بأن كنت بالمعروف في الله آمرا
ومن نكر تنهى وبغي وفاحش .... كأن لم تزل في العلم لله ناشرا
[ق/184]
فلا تنسنا عند النبي وآله .... وكن لذوي ود لدى الله ذاكرا
فإنا على النهج الذي أنت عالم .... على منهج المنصور بدواً وآخرا
إلى ابن أخيك القاسم بن محمد .... ومذهبه ندعو أصيلاً وباكرا
وما دلنا من منهج العترة الذي .... هو الحق والدين الحنيف بلا مرا
ثم أمر أن يكتب هذا ضريح العالم، الأسد الضبارم صاحب المقامات والملاحم والجهاد الذي زلزل به قاعدة كل أفاك وظالم، عم الإمام المنصور بالله أبي محمد القاسم، وسيفه الذي سله على أعدائه لنصرة الحق المبين الصارم عامر بن علي إلى آخر نسبه الشريف، وقد تقدم نسبه في نسب مولانا عليه السلام.
[أحوال أهل الحيمة بعد مقتل السيد عامر]
نعم! ولما صح لأهل الحيمة ما اتفق لحي السيد عامر اختل أكثر أهلها ورفع أهل النفاق روسهم، وافترقت جماعتهم فوصلت كتب الأولياء منهم إلى القاضي علي بن يوسف الحماطي رحمه الله وهو إذذاك في شظوان من أعلى بني مطر يخبر بما كان من الوقعة العظمى.
قال الشيخ أحمد بن علي خضر: وكنت حاضراً فأظهر البشارة ثم جمع من عنده ولا زال حتى خرج من بلاد بني مطر، وسلمه الله فلو عرف من حوله من بني مطر لما حفظوا حق الله فيه لقربهم من صنعاء والجرائر بينهم، قال: فلما انتهى إلى الحيمة وصلت له ولاية عامة في الحيمة وما إليها من مولانا عليه السلام ، وكان خليفة حي السيد عامر بن عمه حي السيد الرئيس صالح بن داود، فحفظ الناس والبلاد حتى وصل القاضي جمال الدين رحمه الله وتعاونا على حفظ البلاد والجهاد فانتظم العمل بعض الانتظام، وساس الجمهور، وأهل النفاق يراسلون الظالمين سراً ويدلونهم على عورات البلاد وطرق المكائد، فهدم القاضي دور قوم ونكل بآخرين، وأعان على ذلك أولياء الدولة الإمامية من أهل الحيمة، واستقر في العر من الحيمة محل السيد عامر فلا زالوا يتعنتونه سيما قبائل الحدب وما إليه فأخذ حذره منهم، ثم إنهم أخذوا من سنان لا رحمه الله جعلاً على لزمهم وهم عيون من أهل المكان وحفظوا عليه باب الحصن ودارت المكاتبة إلى سنان لعنه الله أنهم يمسكونه حتى يصل إليهم وعرف القاضي ذلك فكتمه وطلب مشائخ الأحبوب وبني السياغ فأظهر أهل العر عدم الرضى بقبائل الأحبوب لا يتصلون به، والمراد لا يعاونونه على المخرج وما عنده من العسكر
[ق/185] من يدفع به شرهم فأرسل إلى الشيخ المجاهد أحمد بن صلاح بن ثامر والشيخ زائد السياغي وعيون من الأحبوب ركن إليهم أنهم يرقبونه في خربة سودان قرية من الأحبوب أعلى من العر ففعلوا، ولما حضرت صلاة الجمعة أمر بتغليق الباب الذي هو فيه وأخذ من أمتعته ما خف، فلما فرغ من الصلاة هو وأصحابه نجا بنفسه .
وأما أهل الفساد فلم يحضروا الصلاة وإنما هم مشغولون بما داروا به من الغدر وهم في نهار غير محترسين لظنهم أنما يطمع في الخلاص إلا ليلاً ، فلما فرغ من الصلاة انحدر من الباب الذي يلي الأحبوب، وكانت الصلاة قريبة من على سبيل الهرب والسرعة المفرطة فلم يشعروا بهم إلا وقد خرجوا من الباب، فلما أغاروا وضربت الأصوات إلا وقد أنجدهم الأحبوب فآووهم واستقاموا له بعض أيام قلائل، وأما أثقاله وبعض خيله فأخذوها.
وأما السيد صالح بن داود رحمه الله فكان قد تزوج فيهم فبقي حتى وصل العجم مع سنان لعنه الله كما سيأتي وأخفوه في بعض الحيمة ونجا وتقدم القاضي إلى بلاد آنس وشغل من فيها من العجم وظهر عليهم بعض الظهور ثم انتقض عليه أهلها فعاد إلى جهات جبل عانز، واستولى العجم على بلاد الحيمة وغيرها وأخذوا الرهائن ممن يعرف ويقدر عليه حتى أخذوا عالماً من النسوان قاتلهم الله والقاضي جمال الدين استخفى في جبل عانز وأكثر أوقاته منفرد عند خواص من أصحاب والده رحمة الله عليهما حتى أهلك الله علي باشا كما سبق، ثم تقدم القاضي رحمه الله إلى بلاد آنس، ثم هزم كما تقدم وبقي في آنس وجهاته حتى يسر الله فتح مسار وحروبه الآتية إن شاء الله تعالى.
[أخبار الجهات القبلية ومعارضة عبد الله بن علي المؤيدي]
فصل: ولنرجع إلى أخبار الجهات القبلية، ولنذكر منها مقدمة وإن كانت على غير ترتيبها في الأزمنة وقد ذكرنا حسن الإجابة من غالب أرض اليمن لمولانا عليه السلام وأن العشائر في جيمع بلاد الشافعية فضلاً عن الزيدية امتنعوا عن الظالمين وأخرجوا ولاتهم إلى بطن اليمن الأسفل الضعفاء المغلوب عليهم، فحصل من هذا أن بلاد الشام وأعمال صعدة أولى وأقدر على النصرة فإنهم غلبوا على بلادهم وحاصروهم [ق/186] في صعدة، وحصلت حروب في بلاد صعدة وقضايا كثيرة فيها والانتقام من الظالمين حتى ألجوهم إلى صعدة واتفق ما اتفق في رحبان وقد تقدم، وذكرنا أن السيد العلامة عبد الله بن علي المؤيدي عارض حي مولانا الإمام الحسن عليه السلام، ثم مولانا عليه السلام وأن إمامته مختلة ولا إليها التفات من العلماء وأعيان الجمهور من غيرهم لما سبق منهم من الشقاق للإمام الحسن عليه السلام ولعدم التوبة من ذلك كما تقدم فكاتب الظالمين، وروي عنه ما لا ينبغي أن يكون من مثله حتى قال: إن الترك من أعوانه على الإمام عليه السلام كما أشار مولانا في بعض الرد عليه، وكفى من الرد عليه قوله عليه السلام في القصيدة الآتية:
لمن المنابر والسيوف وسكة .... الحالم بقراض حلمة نائم
يعني إن كانوا عونك علينا فهلا خطبوا لك على المنابر وضربوا السكة باسمك وسلوا سيوفهم لنصرك، وما أبعد ذلك فإنهم جعلوا له جامكية آغا من أغواتهم محلول بمعنى كانت لميت، وهذا غاية التهكم به، وقصيدته التي هجا فيها مولانا عليه السلام لم أقف عليها، وهذه مقدمة جواب مولانا عليه السلام على السيد المذكور أن قال عليه السلام مما نقل من خط يده الكريمة الطاهرة هذه صورة جواب على السيد عبد الله بن علي المؤيدي لأنه بلغنا أنه صار يحدث أشعاراً أو قصيدة يؤذينا فيها، وبلغنا أن بعض الشيعة الأتقياء من أهل صبيا قد كفانا فأجاب عليه بجواب في قصيدة له جواباً حسناً، وقد بينت أحواله التي هو عليها في هذه الأبيات لأنه من سيما حمى الظالمين عادى الإمام أحمد بن عز الدين وصار إلى الظالم أحمد بن الحسين المؤيدي، وأكل الحرام وعادى الإمام الحسن وبقي مع السيد أحمد المذكور، ثم صار بعد ذلك إلى لطف الله بن مطهر وأكل الحرام، ثم ادعى الإمامة، ووفدنا إليه إلى الواديين بالشام فسب الإمام الحسن والعلماء الأبرار، والأتقياء الأخيار، وأطنب في مدح الظلمة ومن خالطهم وأنا أسمع وصار يفتخر بأقوال الحساب الكذبة وأنا أسمع، ثم إنه فعل معنا الذي لا يخفى على الناس مباينة أهل الحق وميله إلى الظلمة، وكتب إلى سقا بمأخوذ صعدة يذكر فيه أن الله يقيم الدين بقوة الأتراك فأطلع عليه بعض علماء آل المؤيد ونقلوا لفظه إلى حوامي كتبهم وأرسلوا بذلك إلينا والسلام، وهذه القصيدة التي [ق/187] أنشأها عليه السلام:
عجباً لمن يدعي بحبر عالم .... يدعو ليطفئ نور رب عالم
إن تأته بشرى العلوج فبشر .... وكأنه قد حاز غنم الغانم
ويقول إن الترك من أعوانه .... في حرب عدل بالإمامة قائم
ويقول أن الحق في عشماتهم .... وفعلهم فعل الكفور الآثم
ويقول أن قناة دين الله من .... تقويمها ظلم الغشوم الظالم
وبذي الفواحش والخمور قيامها .... وبذي اللواط وطمس نور معالم
وبعز مبتدع أثيم فاسق .... وبقتل محترم ومثلة غاشم
لمن المنابر والسيوف وسكة .... الحالم بقراض حلمة نائم
قد طردوه في البلاد وأبعدوا .... لولا مغامرة النجيب الفاطم
يا قائلاً قد حاز خير غنيمة .... لولا قيامي لم يج بغنائم
أفطالب الدنيا الذي من شأنه .... صبر الكرام على البلاء المتفاقم
وعلى الحروب المضرمات بنارها .... ويشبها في المأزق المتلاحم
أم طالب الدنيا الذي عادته .... يؤذ الأئمة من زمان قادم
ويحب أهل الملك من أضدادهم .... لينال شيئاً من وبي مظالم
ومسالم للظالمين كما ترى .... ولقائم بالحق غير مسالم
وتراه يشمت بالشهيد كعامر .... ولعامر فوز بظل دائم
والبر من آل الأشل فيوسف .... رزق الشهادة لا هنات الحارم
ولقد علمت وقائعاً من عامر .... أفنت عصاة أعارب وأعاجم
ويقول قول الزور أحدث قاسم .... حدث وما حدث أتى من قاسم
إلا الحروب المفنيات من العدا .... خيلاً فعال مصابر ومناقم
بإعانة الباري وفضل محمد .... وبجاه حيدرة وشيمة هاشم
والصبر في البأساء والضراء معاً .... والصبر حين البأس صبر العازم
ومكارم دين وعلم نافع .... وتقى وخوف الله أصل مكارم
ومحبة لقتال غاش غاشم .... وببغضه لفعال عادٍ غارم
وبوارق وصواعق ببنادق .... وسوابق وبيارق وصوارم
[ق/188]
وقبائل أفنت عساكر ظالم .... وعساكر مثل الأسود ضراغم
خل الوقائع والحروب لباسل .... ثبت الجنان شديد بأس باسم
وخيار أهل العدل قد وليتهم .... فبغى الحسود على سرى وأكارم
لولا اشتغالي بالحروب وأهلها .... لوجدت نفسك لقمة للاقم
لا تلبس الحق المبين بباطل .... فالعمي تدرك صوت زؤم الزائم
إن كنت تبغي هدم دين محمد .... فأنا المريد أقيمه بدعائم
أو كنت تخبط في غيابة بدعة .... فأنا المزيل ظلامها بعزائمي
بمشيئة الله القوي وعونه .... وبرغم أنف معاند ومراغم
بعد الصلاة على النبي محمد .... العاقب الرسل الكرام الخاتم
وعلى كرام الآل آل محمد .... سفن النجاة لكل ناج سالم
وممن رد على السيد المذكور السيد العلامة جمال الدين علي بن صلاح العبالي جزاه الله خيراً:
سحقاً لمن يدعي بحبر عالم .... ويريد طمس مآثر ومعالم
يشري بآي الله شيئاً تافهاً .... ويبيعها حيناً ببخس دراهم
وإذا أتته بشارة من كافر .... فسروره منها سرور القادم
قرأ الكتاب وليس يرعى حقه .... هذا لعمر الله مثل العادم
ومن العجائب أنه في زعمه .... أمسى إماماً كالإمام القاسم
شتان ما بين الثريا والثرى .... ما من بنى يوماً كمثل الهادم
قد كان قبل قيامه في بيشة .... دهراً يعيش بها كعيش بهائم
وأراد غزو الترك منها قاصداً .... حرباً فردوه بأنف راغم
لما أتى المنصور باذل نفسه .... لله لا يهوى هدو الطاغم
وأعانه أخيار آل محمد .... وأكارم من شيعة بصوارم
أفنى العصاة بها وثل عروشهم .... وسقاهم بالسيف مر علاقم
خرت له قلل الحصون سواجداً .... وأتاه كل معاند ومسالم
أضحى يقول له الخلافة دونه .... أمخالط أم ذا كضغث الحالم
كيف الإمامة عندكم وشروطها .... أم كيف يعرف عادل من ظالم
[ق/189]
قد كنت تكذب للأنام بكذبة .... حتى انكشفت لهم بكفر لازم
واليت أهل الكفر والفعل الخنا .... وتبعت سنة آثم عن آثم
هذا كتاب الله يحكم بيننا .... ثم الحديث وكل حبر عالم
آثرت نصرة هندهم ويزيدهم .... ومرقت من دين النبي الهاشم
ومن العجائب سبه من عنده .... تأتي لعامرنا وبغض القاسم
لولا الإمام وعمه يا جاهل .... ما كنت في تلك الديار بنائم
أما الشهادة إنها نهج الأولى .... سلكوا السبيل إلى الصراط القائم
أين الحسين وأين زيد بعده .... أين الأئمة بعده يا لا ئمي
ولقد وصلت إليهما متذللا .... مستسلماً للأمر بين عوالم
ثم انسللت إلى العلوج بسرعة .... ونزلت منزلة اللئيم الخادم
ورهنت ابنك منهم في صعدة .... لفضائح ومناكر وعظائم
مهديكم قد صار من أغواتهم .... وإمامكم في يسنم كالسائم
هذي الفضيحة والنقيصة عاجلاً .... ثم الندامة في المقام الدائم
إن كنت تبغي هدم دين محمد .... فإمامنا المنصور حتف الهادم
من جوده عم الأنام وعدله .... والعلم منه كزاخر متلاطم
ثم الصلاة على النبي وآله .... ووصيه والسيدين وفاطم
وممن رد عليه أيضاً السيد العلامة جمال الدين صالح بن عبد الله الغرباني جزاه الله خيراً:
ألا أيها العادي وللخير عادم .... فعالك للدين الحنيف مصادم
أتحسب فيما قلت سالم .... عن الإثم لا بل أنت لا شك آثم
ولو كنت من أهل الديانة والنهى .... لما قلت أن الشرع بالترك قائم
فإن قلته عن اعتقاد فأنت في .... تعاطيك أهداب الخلافة واهم
وإن قلته ميناً فقد صرت ظالماً .... وليس ينال العهد من هو ظالم
وحينئذٍ أبطلت دعواك أمرها .... ولم يستمعها بعد ذا منك حاكم
وأرداك عن مرقاتها فعلك الذي .... هويت به واستأسرتك العظائم
وأزرى بك البغي الحديث وحرمة .... عظيم كم أزرى بك المتقادم
[ق/190]
وأما الذي قد نلت منه تعدياً .... فقام بها حقاً وأنفك راغم
وعاضده السادات من آل أحمد .... وأتباعهم الطيبون الأكارم
وكان لها أهلاً بكل شروطها .... وإن ظن ظان أو توهم حالم
خليقاً بما قد قيل في جده الذي .... به فخرت آل الرسول والفواطم
ولو أنه نأى المنادي بمكة .... وبطن منى فيما تضم المواسم
من السيد السباق في كل غاية .... لقال جميع الناس لا شك قاسم
إمام أقام الحق بعد اعوجاجه .... وبدد من ناوى وإن لام لائم
وكان عليك الشكر للصنع إذ به .... أمنت وقبلاً أنت في الأرض هائم
فدع هذراً واقعد بجهلك خاسئاً .... فلا يستوي غي جهول وعالم
ومن باين العاصين طول زمانه .... ومن هو لأرباب الفسوق متاخم
ومن سارت السادات تحت لوائه .... ومن لم يجبه إلا السمهري الملازم
وأهل آغة الأتراك يصلح داعياً .... إماماً وقد ساواه عبد وخادم
ويكفيك ما أحدثت خراباً وأنه .... لما رمت من ثدي الخلافة فاطم
وإظهارك البشرى على قتل عامر .... عليك لك الويلات قيد مآثم
أسرك قتل الفارس الضيغم الذي .... له صولات في العدا وملاحم
فكم نازل الباغين في كل ماقط .... وسيقت له مما حووه غنائم
لئن ضحك الشاني لمهلكه لقد .... بكت منه أعراب العدا والأعاجم
وإن خفيت أعلامه بعد موته .... فقد ظهرت في الحق منه معالم
فلا تشمتن فالقتل لا ينقص الفتى .... وعد لهذا الثأر يوجد ناقم
وما هذه الدنيا ينال بها العلا .... إذا لم يكن للمرء فيها مكارم
وما الفخر إلا للذي أظهر الهدى .... وزاحت ظلامات به ومظالم
وفرق جمع الترك في كل وجهة .... فشملهم مادام لا يتلاءم
ومهما بقي فالكسر منجبر وما .... رأي سالم في الناس فالكل سالم
ولله ألطاف إليه خفية .... على قدر عزم المرء تأتي العزائم
فيا طالباً شيئاً لغيرك نفعه .... أسكران في دعواك أم أنت نائم
رويدك لا تعجل فدون مرامه .... رماح وأسياف حداد صوارم
[ق/191]
وخيل كأمثال العسال شرب .... عليها من الأبطال أسد ضراغم
إذا لم تدارك ما أتيت بتوبة .... نصوح فقد أردتك تلك الجرائم
وصلى إله العرش خير صلاته .... على المصطفى من خاطبته البهائم
وعترته من أوجب الله حبهم .... وطهرهم مهما هملن غمائم
وممن رد عليه أيضاً السيد المهدي بن إبراهيم بن جحاف على النحو المتقدم:
ياذا المسفه للإمام القاسم .... ومهجناً لقيامه في العالم
وأتى بقول فيه كل خرافة .... محشوة ألفاظه بمآثم
إن كنت تبغي نقصه بجهالة .... تحيي بها بدع الجهول الظالم
ولسوف تحصد ما زرعت وتجتني .... غرس المآثم بالعذاب الدائم
قد كنت قدماً في الزمان محارباً .... لإمام حق قبل هذا قائم
فحسدته وسعيت في خذلانه .... وأعنت كل معاند ومخاصم
وبغيت جوراً طالباً كيد الذي .... أردى العدا بأسنة وصوارم
القاسم المنصور أفضل من دعا .... وأزال نخوة كل ضد غاشم
والله لولا دعوة الحبر الذي .... قد ساد كل أعارب وأعاجم
ما نلت شبراً في البلاد وإنما .... قد كنت أحقر من غريب هائم
إن كنت حقاً للإمامة تدعي .... فعلام صرت موالياً لأعاجم
وإذا أتتك من الأعادي فرحة .... فكأنما قد حزت غنم الغانم
إن الفواحش واللواط وسكره .... في بيت ابنك ظاهر في العالم
وتقول جهلاً منك أنك قائم .... وإلى رضى الرحمن لست بقائم
هيهات ذاك إن ذاك باطل .... بل أنت أول خاذل للقائم
إن الإمام هو الذي نعش الهدى .... وأباد كل ضلالة ومآثم
وأزال أرباب المظالم والخنا .... بشوازب وبنادق وخواذم
قد جرع الأعداء سماً ناقعا .... فلكم له من سطوة وعزائم
أضحت فضائله تزيد على الحصى .... بخٍ له من قسوري هاشم
ياذا المريد بجهله نقص الذي .... قد حاز كل محامد ومكارم
أعجبت أن قتل المظفر عامر .... وخذلت من كلم النجيب الفاطم
[ق/192] أو ما علمت بأن ذلك مفخر .... للضيغم الأسد الشجاع الغانم
إن الشهادة في الأنام عزيزة .... وينالها مروي الحسام القاصم
ما مات منا سيد في بيته .... كلا ولا طلت دماء ضراغم
قد كان يشعل للحروب نيارها .... ويشبها في الماقط المتلاحم
ولكم له من موقف أسر العدا .... ولكم له من مآثر ومعالم
وأذاق أرباب الجهالة والخنا .... كأس الحمام بأنجد وتهائم
تالله إن فجع الزمان بعامر .... وبسادة مثل البدور أكارم
فلقد شروا ربحاً عظيماً دائماً .... وعلوا ذكرٍ باقياً في العالم
فبفيك ترب الأرض يا متبجحاً .... بفعال أعداء النبي الهاشم
هذا هو الكفر الصريح بعينه .... تباً لقولك يا شبيه أناعم
خل الفخار لمن غدا أهلاً له .... وأفق من الجهل المضل الخازم
وإذا بقي روح الإمام فإنه .... كافٍ لإهلاك الحسود الشاتم
يا ربنا فاحفظه عن كيد العدا .... وانصره بالفتح المبين اللازم
ثم الصلاة على النبي وآله .... ما لاح برق من كريم غمائم
ومن رد عليه أيضاً السيد صلاح بن عبد الخالق الجحافي رحمه الله تعالى:
درك المنى بنفوذ عزم العازم .... لا بالأماني والحمام الدائم
وصفا السريرة علة الطوع الذي .... دان الأنام بذلة للقائم
والله يعطي ملكه من شاءلم .... يك ربنا فيما قضاه ظالم
وأحق من ولى الورى من همة .... أمضى من الذكر الحسام الصارم
عزماته ما إن يفل غرارها .... لمع الصوارم في الغبار القاتم
تبدي الوقائع في العدا وتعيدها .... بثبات ذي حنك ذكي حازم
تسطو بقاض في الكريهة قاضب .... في كف عاص للمعادي عاصم
خص العدا بصيال ليث خادر .... ورنا الولي بلحظ طرف راحم
كلأ الموالي مثل ما كلم العدا .... أحسن به ما بين كال كالم
كأبي محمد الإمام القاسم الـ .... ـمنصور هل أحد يكون كقاسم
[ق/193]
من ذا فقا عين الضلال ولم يكن .... ليرده في الله لومة لائم
من خاض بحر الموت أسود مزبدا .... فاجتاز فوق أذية المتلاطم
من فارق الأبناء لا لغضاضة .... سبعاً وكان مجاوراً لأراقم
وله الكرامات التي شهدت له .... بالفضل عند محارب ومسالم
مما يفوت الحصر عد عشيرة .... ويطول شرحاً عند رقم الراقم
أوفى الأنام بذمة وأخصهم .... بالعفو عن جان أتاه وجارم
لبى لدعوته وجوه أكابر .... وسعى بطاعته سراة أكارم
من سادة نجب وقادة شيعة .... من فاضل ورع وحبر عالم
ممن عنا بظهور وصف صفاته .... عن وصفه للغافل المتناوم
[بذلوا النفائس والنفيس وجاهدوا .... في الله كل حليف فسق آثم
ما همهم إلا جهاد عدوهم .... لا القدح في المولى الرضي من هاشم
يجدون طعم الموت تحت ركابهم .... أشهى من الأذى المشار الطاعم
إذ كان وضع الجد تحت الحق مـ .... ـحض العز في العقل الصحيح السالم
ولقد خبى عجباً دهر أتى .... عن يسنم بمقال لاح لائم
يحصي الفضائل في عديد مثالب .... ويقول مدحاً في طريقة شاتم
إذ مصرع عامر مستشهداً .... عيباً وثلماً في الإمام لثالم
وزرى على عم الإمام بمثله .... سقيت بها وهوت علوج أعاجم
وبحمزة مثلت قريش مثله .... ظل الرسول لها بقلب واجم
إذ كاد غيظاً لا يشق لعمه .... قبر التحشر من بطون قشاعم
ولنسوة الأنصار عرض بالبكاء .... فبكينه حزناً بدمع ساجم
فبمثل ذا أضحى التلائم في النبـ .... ـوة والخلافة طاهراً لملائم
فاعجب بمنتقص إمام زمانه .... بفضائل وخصائص ومكارم
ودعا الأنام إلى قتال معاشر .... رهن ابنه فيهم لنصح الخادم
وهو الذي كناه بالمهدي من .... آل الرسول لسيرة وملاحم
وخزعبلات جمة وعجائب .... وعلامة فيه بزعم الزاعم
فغدى ابنه للروم يعنو ساجداً .... طوعاً ويخبط في فنون مآثم
[ق/194]
ويقوم جاعل مرفقيه تخشعاً .... من فوق كف أبرقت وبراجم
أفهذه سمة الدعاة إلى الهدى .... هيهات ما بانٍ يكون كهادم
شتان بين مسعر نار الوغى .... في الخافقين وبين جاثٍ جاثم
وعلى محمد النبي وآله .... خير الصلاة مع السلام الدائم
وممن رد عليه أيضاً السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي عادت بركاته:
يا من تردى خاوياً من قائم .... وهوى بإجرام الردى من ناقم]
وجرت له في الغابرين مقالة .... شنعا فاضحة له في العالم
بيناه منتحل الديانة والهدى .... في زي ذي نسك وصورة عالم
ويروم نحو خلافة ورئاسة .... ونزاهة وشهامة وفخائم
إذ خر في نفق الشقاوة هاوياً .... والمرء يهلك حيث ليس بحازم
جمحت به الدنيا الغرور ونفسه .... في لج بحر زاخر متلاطم
ورأى بعين ضال ما عميت عمى .... ورأى لذيذ مشارب ومطاعم
في زخرف الدنيا وسحت طعامها .... والشر أجمع من مطاعم طاعم
فسرى لأرباب الضلال ومن طغى .... أرباب كل كبائر وعظائم
وأتى العلوج أقادهم أولاده .... في فعل كل رذيلة ومآثم
أهل الخمور وقوم لوط والأولى .... انتهكوا حدود شرائع ومحارم
وتقمص البغي المبين مشمراً .... في زي كفار ظلوم آثم
وشرى بدين الله جل جلاله .... ورضاه دين خوارج وأعاجم
ويقول من حمق هم أعوانه .... في حرب خير إمام حق قائم
حتى تورط في الضلال وهام في .... غمرات هلك ويله من هائم
ثم اجترى زوراً لشتم إمامه .... وكما مضى من فعله المتقادم
ويقول في الأشعار أحدث قاسم .... سوءاً وما حدث أتى من قاسم
إلا الحروب المضرمات على العدا .... الناقمات لكل عاد ظالم
من جرع الأعداء سماً ناقعاً .... في كل ماقط مضرم متلاحم
بأسنة عند اللقا وصوارم .... ورداة حرب مقدمين بقاصم
[ق/195]
وبنادق تحكي الرعود قواصفاً .... ورصاصها حتف العدو الفاحم
وشوازب كالشهب تهوى في الهوى .... رصد الخطاطف خطفة من راجم
يحملن كل فتى هزبر أروع .... ثبت الجنان لدي الوقائع باسم
سل عنه ذات السود أو أسنافهم .... وثلاء وذا مدع وذات مرازم
تخبرك عن نبأ يقين أنها .... سقت العدو بها كؤوس علاقم
ولكم له من وقعة مشهورة .... وعزيمة موصولة بعزائم
شكرت لها الطير المظلة في الهوى .... والوحش حسن صنائع ونعائم
ذاك الإمام القائم البر الأغر .... اليوسفي الهاشمي الفاطمي
القاسم المنصور من شهدت له .... بالسيف زهر عوالم وعوالم
من سارت السادات تحت لوائه .... في طاعة الملك القدير الدائم
وإذا أراد الله نشر فضائل .... كبت الحسود بغيضه المتزاحم
وتراه يشمت حين يذكر عامراً .... أبعامر يبغي الشماتة يا عمي
ثكلتك أمك أين عقلك هائم .... لا خير في عقل الكبير الهائم
أين الوصي وأين سبطاه معاً .... أم أين من خاض الوطيس إذا حمي
زيد وناقم ثاره من بعده .... يحيى الهزبر وياله من ناقم
وأئمة سبقوا على منهاجهم .... شادوا منار الدين فوق دعائم
وحموه عن أهل الهوى بصفائح .... وبأنفس عند الإله كرائم
باعوا نفوسهم بدارٍ للبقا .... وجوار رحمن رؤوف راحم
قتلوا بأيدي الظالمين وشردوا .... راضين بين مهاجر ومهاجم
والقتل ليس بشين ذا كرمٍ ولا .... هو واهن منه سليل أكارم
وبذاك قد زهرت مفاخر عامر .... كالنيرات لقاعد ولقائم
عم الإمام الفذ خيرمناصر .... ومعاضد ومصاول ومصارم
من أطعم البيض الصوارم والقنا .... علقاً عبيطاً من بطون غواشم
وله بمقفوز الحصان معارك .... نيحت حتوف مصاول ومسالم
ولئن ثوى تحت الثرى فلقد سمى .... بمآثر في المكرمات رواسم
ما ذا تعيب من الإمام وعمه .... حجر بفيك سوى علا ومكارم
[ق/156]
فاقعد بغيك خاسئاً أنت الحقيق .... بفعل بلعم في الزمان القادم
ودع التشدق بالإمامة إنها .... مثل السناء لناظر ولراقم
أو يصلح الآغة المقدم هادياً .... أو كاشف لهج بجمع دراهم
دعها لمن جمع الفضائل والندى .... والعد منه شامل لعوالم
والزهد والعلم الغزير ونجدة .... والرأي عند تقاحط وتقاحم
قد كنت أولى يا جهول بشكره .... فالكفر يخبث رغد عيش ناعم
إذ كنت محتجراً ذلولاً خائفاً .... بالواديين وغوره المشائم
فبفضله جئت المناكب آمناً .... أقبح بذا أقبح بذا من كاتم
فالله يرعى للشرائع حقه .... ويديم مهجته بعز دائم
ما دام فهو حتوف كل معاند .... وشجاك أفئدة وشجو حلاقم
والله يختم بالرضى أعمالنا .... والمؤمنين وتوبة للنادم
ثم الصلاة على النبي وآله .... ما غردت في الأيك ورق حمائم
وللقاضي الأفضل جمال الدين علي بن يوسف الحماطي رد عليه أيضاً:
عجباً لبدر التم غير مشائم .... والكلب ينبحه لشؤم الشائم
ماذا عليه نقيصة من هرة العـ .... ـمى فنكر صوت ذا المتشائم
لولا سناه لما تعدى حشة .... وحمى الحمى وأتى بصيد ناعم
والزاخر التيار ليس تضيره .... تقطير بول ملتقى المتلاطم
وشيبة ذاك من أتى بمكاذب .... ومعائب ومثالب ومثالم
وشهادة زور وبهت منزه .... وتبجح بفعال غاش غاشم
يبغي بها حطاً لرتبة من له .... في المجد والقدام عشر قوادم
تاج المفاخر بدرها وجمالها .... طود الأمان من الهلاك العاصم
ذي الفضل والشرف الرفيع على الورى .... القاسم منصور عدل حاكم
خير الأنام مواصلاً ومصارماً .... تباً لمنتقص علاه وكاتم
شهدت له أعداؤه بفضائل .... ومحامد ومكاسب ومكارم
ووقائع حمد الصنيع لربها .... أوس وزجر ثعالب وقشاعم
والله قد أعطاه كل كرامة .... وأحله في المجد برج نعائم
[ق/197]
وإذا المهيمن مادح ومفضل .... فعلام يجزع من لئيم لائم
والحسن يعلم من وضاعة ضده .... والجد يعرف من كلام الكالم
يا جاهلاً بعيوبه متشاغلاً .... بسباب وارث النبي الهاشم
رفثت يمينك مايسوك نشره .... يوم الحساب على رؤوس العالم
لم يلق عيباً للإمام وعمه .... إلا الشهادة في سبيل العالم
ثكلتك أم إذسخرت بعامر .... إن نال خير مقاصد ومقاسم
ليست ببكر من أبي بكر ولا .... هي من أبي جهل بجهل لازم
لكنها عون وأبكار له .... في نقص آل المصطفى من قادم
متهاوناً بحقوقهم متجارياً .... بعقوقهم تعساً له من ناقم
متولياً حزب الضلال موالياً .... لينال سحت مطامع ومطاعم
ويحرف القرآن عن إيراده .... ويحل كل كبائر ومحارم
فعسى بها رب السموات العلى .... لهوى نفوس أحابش وأعاجم
هذا سجاح الأخرين بعينها .... فلقد أتى بعظائم وهظائم
لا تحسبن يا شامخاً بجنونه .... ومحبة الدين الحنيف مصادم
ليس الإمامة بيلها بتشدق .... وتفهيق وروٍ ونصب عائم
وتزين للناظرين بزينة .... وطريف ملبوس وعقد تمائم
إن الإمامة للذي نعش الهدى .... ليت لمبدع آثيم ظالم
وشروها عدل وعلم نافع .... وشجاعة عند التقى صوارم
فأقعد بجهلك خاسئاً وكما يرى .... الأعدا فأنظرها بطرف قاتم
ومن العلي سبعين عاماً فاقترب .... إن شئت تشبه عبد عند القاسم
تسعى لها بخصائص ومآثرٍ .... وترومها بخسائس ومآثم
وإذا أردت بأن تكون محبباً .... عند الأنام وعند رب راحم
فتدارك الفسق الصريح بتوبة .... وتول حزب المؤمنين وسالم
من قبل مزدلق وليس له لعا .... والرجل ينطق عن لسان باكم
ثم الصلاة على النبي وآله .... وعليهم أسني السلام الدائم
انتهت القصائد الموجودة في الرد على السيد المذكور، وفيها من البلاغة [ق/198]، والفصاحة والحجج النيرة ماتليق بمعارف قائليها وعلومهم الزاخرة، وصحة عقائدهم الظاهرة، ولم أقف على شيء من قصائد السيد عبد الله وإنما في أول قصيدة من قصائده قوله:
حدث ألم بنا أتى من قاسم
وأقام هذا السيد عبد الله في يسنم وقراضة مدة، (وكان قد) وصل إلى مولانا عليه السلام كما سمعت من الوالد السيد محمد بن ناصر الغرباني وكما أشار إليه السيد جمال الدين علي بن صلاح العبالي في قوله:
ولقد وصلت إليهما متذللاً .... مستسلماً للأمرين عوالم
[أراد وصوله] إلى هجرة [فإنه وصل إلى الإمام عليه السلام] شهارة وأحسن إليه، ولا أدري هل تاب في تلك المرة أو غيرها، فقد سمعت من بعض ولده التوبة، وسمعت من غيره كذلك والله غفور رحيم، نسأله التوبة ولا يحرمنا قبولها والتوفيق إليها، آمين.
قال السيد أحمد نفع الله به: إن دعوة السيد عبد الله في سنة ثلاث أو أربع وتسعين وتسعمائة [1585م]، وكان له محل في العلم إلا أنه كان يعاب عليه شيئاً نفرت أهل المعرفة عنه في وقت الإمام الحسن عليه السلام وغيره، ولم يتب ولم يحفل بدعوة أحد، قال:فلما ظهر الإمام عليه السلام عاد إلى جهات بني جماعة ولم يلتفت إليه أحد فأرسل رسلاً إلى الإمام عليه السلام، منهم الشيخ يحيى بن مخارش النصيري وغيره، فرجح الإمام عليه السلام وصوله فوصل إلى محروس شهارة في أول شعبان من سنة ست [وألف] [1597م] ، وقابله الإمام عليه السلام بما هو أهله من الإنصاف والإعزاز والإكرام، ورفع محله وخلع عليه وعلى من معه من أقاربه وأركبه من كرائم الخيل، ووضع له مواضع في بعض جهات خولان ولم يظهر منه ترك إمامة نفسه ولا مباينة الإمام فظهر حينئذٍ انشقاقه بعدها.
نعم! وأما ولده السيد العالم بدر الدين محمد بن عبد الله بن علي فكان يلوح لقرابته من أولاد الإمام الهادي علي بن المؤيد عليه السلام فيه لوائح الصلاح والفلاح، وتوسم فيه بعضهم أنه المهدي المنتظر آخر الزمان المنبه الشريف، ولما توسموه فيه فأخبرني ولد ولده قال: إنه خرج في بعض نواحي قحطان فأجابه جمهور خيل ورجل.
وأخبرني غيره أنه وهمهم أنه المهدي ولم يعلن بذلك، وأوهم أباه أنه داع إليه، وأوهم مولانا كذلك وهو يسر حسوا في أربعاً، ثم خرج بمن أجابه فأجابه أكثر بلاد الشام، وهو مع ذلك يكاتب مولانا عليه السلام ويظهر الدعاء له إليه [ق/199] ويخطب له.
قال الوالد السيد علي بن المهدي رحمه الله: لما اختلف حاله على مولانا عليه السلام وهو عليه السلام في جبل هنوم دعا بفقيه من الأهنوم يسمى الفقيه سعيد بن محمد الطريقي، وكان من أهل الدين الوثيق والرجالة، فقال له: تذهب إلى هذا السيد وتعرف لنا حاله وكذا، فقال: لا بد من أن أقول كما قال نعيم بن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحجاج بن علاط، فقال: قل، قال: قال له الفقيه المذكور من فيه بعد تمام أعمالهم، للسيد محمد: هذا الرجل يعني الإمام عليه السلام قد رأينا منه أنه غير نافع للمسلمين وأن أعماله هذه لا تتم أو كما قال، وقد أرسلني إليك أعيان الأهنوم ومن إليهم أنك تقرب منهم ويخلعون الإمام ويبايعونك أو كما قال، ولازال به حتى أظهر ما هو كاتمه، وأخبره بما هو مضمر وأظن أنه أصحبه شيئاً من المكاتبة إلى من عرف، فلما صح للإمام بعث لإصلاحه وأخذ حذره منه حتى كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قال السيد أحمد نفع الله به: قصة السيد عبد الله بن علي وولده، وأسر السيد الجليل النبيل العلامة عز الدين محمد بن صلاح القطابري، وكان ما بين صلح ابن المعافا وتأخر السيد عامر رحمه الله من جبل تيس، وقد وقع بين أصحاب الإمام عليه السلام الذين في جهة خولان صعدة منازعة أدت إلى مقاطعة، وانتهت إلى الحرب والمقارعة، وذلك بين السيد الفاضل محمد بن صلاح القطابري اليحيوي، والسيد محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين المؤيدي، وكان السيد محمد بن صلاح والياً لجبل رازح، فقصده السيد محمد بن عبد الله إلى هنالك في شهر شوال سنة سبع وألف [ابريل 1599م]، فوقع بينهم حرب أدى إلى تفرق أصحاب السيد محمد بن صلاح عنه، ثم إلى أسره فأسروه، وكلا الفريقين معتزون في الظاهر إلى الإمام عليه السلام لما قرر ولاته في تلك الجهة أمرهم أن يسوقوا ما كان يحتاجه أهل المراتب الذين بالقرب من صعدة فوقع الإختلاف بين أهل المراتب والولاة، وكان السيد محمد بن عبد الله من أهل المراتب فطلب من السيد محمد بن صلاح أشياءً تعذرت منه، وكان بينهم أحقاد اقتضتها القرابة والمناظرة في المراتب، فغنم السيد محمد بن عبد الله الفرصة، وكان مجاباً وله دهاء وملابسة للسياسة فالتقوا للحرب في سوق الربوع، وكان ما ذكرناه من أسر السيد محمد بن صلاح وتفرق أصحابه، وعاد [ق/200] السيد محمد إلى بلاد حيدان بعد أن استولى على جبل رازح عازماً على إجلاء أصحاب الإمام عليه السلام من تلك الجهة وهو في تلك الحال يظهر موالاة الإمام عليه السلام، ويعتذر إلى من لامه في فعله بأن هؤلاء ما كفوني، ومن تحت يدي من
العسكر لما احتاج إليه، وقد كان الإمام عليه السلام لما بلغه ما بينهم من الشجار أرسل إليهم السيد الأكمل ضياء الدين شمس الدين بن الحسن الجحافي، والفقيه الأفضل العارف جمال الدين علي بن محمد الجملولي ليصلحا ويسدا ذلك الخلل، فلم ينتظم لهما ما أرادا، وبقيا هناك مدة، والأمر لا يزداد إلا شدة حتى آل الأمر إلى الحرب، ولما عاد السيد محمد بن عبد الله إلى بلاد حيدان اجتمع أصحاب الإمام عليه السلام هناك، وأحربهم السيد المذكور وكان هو القاصد لهم وذلك في موضع قريب من تولّ قرية السوق بحيدان، وقد كان استمال الناس لدهائه بأشياء منها إظهار موالاته الإمام عليه السلام، ومنها ضبطه للأمور ومصانعته الرؤساء واعتقاد الناس فيه أنه أصلح للولاية، وكتب الإمام عليه السلام رسالة إلى الناس عامة يعرفهم بما كان من أمر السيد محمد بن عبد الله، ويشكو لهم سوء فعله وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، كتابنا هذا إلى من بلغته دعوتنا واتصلت به أخبار سيرتنا من أهل العلم والورع، والطالبين للحق الذي يجب أن يتبع، والمائلين عن زخارف أهل البدع، أما بعد:
فالسلام عليكم، وإنا لنحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم، وتعرفون أن حب الدنيا من الكبائر، قال الله سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:((حب الدنيا رأس كل خطية)) وقد عرفنا ذلك وعقلناه عن الله سبحانه وأمنا به فلم نقم بحمد الله محبة الدنيا، وإنما قمنا لله غاضبين ولأعدائه محاربين، فلما علم الله سبحانه منا ما علمه فتح لنا فتحاً مبيناً، ونصرنا على أعدائه نصراً عزيزاً فلما أخذنا من عدو الله وعدو المسلمين بالمخنق أعمل السيد عبد الله بن علي وولده الحيلة في التوصل إلى الدنيا وحطامها، وكتب لنا كتاباً يبذل فيه [ق/201] معاونته على الظالمين، قال:في كتاب كتبه إلينا بخط يده مالفظه: وقد اتصل بمسامعنا ما صرتم بصدده من الانتصار لجهاد أعداء الله الفجار وما ذاقوا من النكال والوبال في تلك الأقطار، وما من الله به على الفضلاء الأخيار من عز الدين وعلو مناره من الهمة العلية، والنهضة المباركة الزكية، التي شفت الصدور وقصمت من أعداء الله الظهور، ثم ساق كلاماً تركته خشية التطويل إلىأن دعا لنا بدعاء وقال فيه:ويجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى في كل وقت وأوان، فلما طمعنا في معاونته وأذنا له في التناول من الجهات مايستعبن به على جهاد الظالمين وثب علينا كما يثب الهر على الرية وجنح إلى الظالمين حتى قال: في بعض مكاتباته يمدح الأتراك إن الله شاد بهم منار الدين، وأنهم أحيوا سنة سيد المرسلين، وأنتم أيها الناس بحالهم غير جاهلين ليس همهم إلا سفك الدماء وشرب الخمور، ونكح الذكور وتهييج الشرور.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة: (ما اختلف دعوتان في الإسلام إلاوكانت أحدهما ضلالاً أوكما قال) وأقول مع أني على بصيرة من ربي مالبست على نفسي ولا لبس علي من المحب للدنيا الذي باين أعداء الله منذ عرف عقله إلى أن قام غاضباً لله تعالى عملاً بقوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، أم الذي وازر أحمد بن الحسين بن عز الدين الذي لم يوجب الله إلا مناواته ومعاداته، ثم عادى إمام الحق الولي الحسن بن علي فقام وجد مع أحمد بن الحسين الذكور محارباً للإمام عليه السلام وأفتى بقتل الأخيار من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كالسيد علي بن عبد الله الغرباني القاسمي الشهيد رحمة الله عليه ورضوانه، فهو لأجل ذلك داخل تحت قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ...} الآية، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:((لا يحل دم امرء مسلم إلا في ثلاث: كفر بعد إسلام، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم مامعناه: ((من شرك في دم المسلم ولو بشطر كلمة...)) الخبر. ثم ألجاه الأمر إلى أن وقف بين يد ي الإمام الحسن بن علي عليه السلام حتى استكمل رفده من
الإمام عليه السلام مال إلى أشباهه الظالمين، فآزر لطف الله بن المطهر، فلما خاف [ق/202] على نفسه من الأتراك فر هارباً إلى بيشة، فلما من الله بقيامنا الميمون تشدد بنا وتوصل بما منح الله به علينا إلى الأمان والإطمئنان من الظالمين فقدم أولاده رهائن إلى أيدي الظالمين، وسكن بعد ذلك وقعد، وصار يفري أعراضنا بالشتم والسب ويمجد الظالمين بغياً علينا جزاء لما فعلناه إليه من المعروف ونسي ما صدر إليه منا من الجبا من غير ماله من البلاد، فاتقوا عباد الله وانظروا بعين البصيرة من العامل بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} أم من نابذهم أم ركن إليهم فإن اعتل بتقدم دعوته فإنها لم تصح عند أهل الورع والدين والعلماء الراشدين لما ذكرناه أولاً من ركونه إلى الظالمين، وبغيه على أمير المؤمنين الولي الحسن بن علي إذ صار لذلك ظالماً، والله يقول لخليله إبراهيم عليه السلام : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، فسأل الإمامة لذريته فلم يجعلها سبحانه لأحد من الظالمين، وأيضاً إنه لم يجبه بر ولا فاجر فيما يعرفه حتى من الله سبحانه بقيامنا، وليس يمنع قيام الصالح للإمامة من أهل البيت عليه السلام من تقدم دعوته إمام حق مجاب كما ذكره أئمتنا عليهم السلام في كتبهم، ويكفيهم قول الإمام المهدي أحمد بن يحيى عليه السلام: لم يتقدمه مجاب، وأيضاً قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام في الأحكام ما لفظه بعد الاحتجاج على إمامة أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين بصفتهما من ذريتهما، وتعداد بعض من دعا بعدهما في صفة الإمام من ذريتهما الذي تجب طاعته ولا تجوز مخالفته قوله: فكان ورعاً تقياً في أمر الله سبحانه جاهداً، وفي حطام الدنيا زاهداً، وكان فهماً بما يحتاج إليه، عالماً بتفسير ما يرد عليه، شجاعاً، كمياً، بذولاً، سخياً، رؤوفاً بالرعية رحيماً متعطفاً، متثبتاً، حليماً مساوياً لهم بنفسه، مشركاً لهم في أمره، غير مستأثر عليهم ولا حاكماً بغير حق الله فيهم، قائماً شاهراً لسيفه، داعياً إلى ربه، رافعاً لرايته، مجتهداً في دعوته، مفرقاً للدعاة في البلاد غير مقصر في تأليف العباد، مخيفاً للظالمين، مؤمناً للمؤمنين، لا يأمن الفاسقين، ولا يأمنونه، بل يطلبهم ويطلبونه قد باينهم وباينوه، وناصبهم وناصبونه، فهم لهم خائفون، وعلى إهلاكه جاهدون، ببغيهم الغوائل، ويدعو إلى جهادهم القبائل، متشرداً عنهم خائفاً [ق/203] منهم، لا يردعه عن أمر الله تعالى ولا تهوله الأخواف، ولا تمنعه عن الاجتهاد عليهم كثرة الإرجاف شمر تشمرة مجتهد غير مقصر، فمن كان كذلك من ذرية السبطين الحسن والحسين فهو الإمام المفترضة طاعته، الواجبة على الأمة نصرته إلى قوله: فأما من عبث بنفسه وتمنى وأقام في أهله وولده وتلهى، وساير الظالمين وداجاهم وقضوا حوائجه وقضى حوائجهم وعاشروه وعاشرهم، وأمنوه وأمنهم وكفوا عنه وكف عنهم، وغمد سيفه وطوى رايته وستر نفسه وموه على الجهال وأهل الغفلة من الضلال وادعى الإمامة، وأوهمهم أنه يريد القيام وهو عند الله من القاعدين النيام، ذوي الفترة والوناء طلاب
الراحة والرخا، وهو يظهر للرعية ويعرض لهم ويدخل قلوبهم أنه غير قاعد وأنه مباين للظالمين مجاهد، يوهمهم ذلك ويعرض لهم أنه كذلك ليجلب من درهم جلباً وخيماً دوياً، ويأكل بذلك من أموالهم حراماً دنياً، قد لبس عليهم أمورهم بتمويهه عليهم، وقعد لهم بطريق رشدهم، يصدهم بتمويهه عن ربهم، ويمنعهم بتلبيسه عليهم من أداء فرضهم، والقيام بما يجب لخالقهم، فهو دائب في التحيل لأكل أموالهم بما يلبس عليهم من أحوالهم، وتمويهه لجهالهم أنه قائم غير قاعد، وأنه أحد يوميه ناهض، على الظالمين مجاهد، والله يعلم من سرائره وباطن أمره غير ما يوهم الجاهلين، ويكتبه عند الله من الصادين عن سبيله الذين يبغونها عوجاً فهو يهلك نفسه عند ربه بفعله وفعل غيره، يفرق عن الحق والمحقين الأنام، ويجمع بذلك عليه الآثام، ويمكن دعوة الظالمين، ويقيم عهد ملك الفاسقين، ويوهن دعوة الحق والمحقين بما يموه به على الجاهلين للترؤس عليهم، وأكل أوساخ أيديهم، يأكل سحتاً تافهاً حراماً، ويجترم العظائم بالصد عن الله إجراماً، يفرق كلمة المؤمنين، ويشتت رأي المسلمين، ولا يألو الحق خبالاً يتأول في ذلك التأويلات، ويتقحم على الله فيه بالقحمات، ضميره إذا رجع إلى نفسه وناقشها في كل فعلة وأوقفها على خفي سره مخالف لظاهره، وفعاله في باطنه بغير ما يبدي للناس من ظاهره، يخادع الله والذين آمنوا وما يخادع إلا نفسه كما قال الله سبحانه: {يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
كأن لم يسمع الله عز وجل يقول: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فهو يمكر بالله وبالمؤمنين، والله يمكر به وهو خير الماكرين [ق/204]، فهو في بلية من نفسه من تحيله لديناره ودرهمه، والاستدامة لما هو فيه من تافه نعمه، يلبس الحرير والديباج والقز، ويلتحف السمور والفنك والخز، لا يرتمض في أمور الله ولا يصلح شأن عباد الله، فأين من كان كذلك فقط من الإمامة كلا لعمره أنه عنها بعيد مجنب، ومنها غير دان ولا مقرب، إن لعب بنفسه وخدع من كان من شكله بزخرف قوله وكذبه، واجترائه على ربه ومن يفعل ذلك يلقى أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً، فلعمري أن من كان كذلك فقط لبعيد عما يدعي وينتحل مما لم يجعل الله له أهلاً ولم يشرع عليه إليه سبيلاً. انتهى كلام الهادي عليه السلام.
فانظروا رحمكم الله من العامل بما ذكره الهادي عليه السلام في أول كلامه هذا ومن العامل بما ذكره عليه السلام في آخره، الذي لم يزل مبايناً للظالمين، أم الذي رهن أولاده إليهم وإن ادعى أنهم في طاعته وأنهم من أعوانه فما باله رهن أولاده إليهم وما بالهم يخطبون لسلطانهم ويتركونه فإن كابر وجحد الضرورة في ذلك وزعم أنهم له مطيعون ولأمره منقادون غير عاصين له ولا مخالفين، وأن جميع ما يصدرمنهم عن رأيه، فلعمري لقد بانت لهم فيه سيرة الفراعنة حيث كانوا يمكنون المسلمين على الحوازيق ويسلخون جلودهم وهم أحياء وينصفونهم، وينوعون عذابهم أنواعاً، ويعكفون على اللواط وشرب الخمور، ويستحلون ما حرم الله، ثم هو يكذب في قوله حيث يقول: إنهم شادوا منار الدين وأحيوا سنة سيد المرسلين، وحيث يقول في شعر له:
أحييت من دين أهل الحق ما اندرسا .... وكاد في الأرض أن ينسى ويندرسا
وقد غرست لأهل البيت إن عقلوا .... غرائس العز فرداً في الذي غرسا
قد مسها عطش والماء محتبس .... عنها فلا قدس الرحمن من حبسا
تداركوها وفي أوراقها رمق .... فلن يعود اخضرار العود إن يبسا
لكي يكون لكم ظلاً يظلكم .... لأن في ظلهن الروح والنفسا
فإن رجع إلى المعقول وقال إن ذلك لم يصدر عن رأيه، وأنهم لم يكونوا من أعوانه فما باله يعتزي إليهم، ثم هو مع ذلك يدعي الإمامة والرئاسة على أهل الحق والزعامة، والله يقول سبحانه: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، ويقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، والذي تمسه [ق/205] النار ماللمسلمين من ولايته من شيء، عاصٍ لله سبحانه وتعالى، والعاصي لا يصلح أن تكون له على المؤمنين الرئاسة والزعامة؛ لأن المؤمنين أولياء الله، والعاصي عدو الله، فإن كان متجارئاً على الله غير مستحل فهو كافر نعمة الله فاسق، وقد دلت الآية المتقدمة على عدم استحقاقه للإمامة لأنها لم تفصل بين كافر الشرك والجحدان، وبين كافر النعمة والإحسان، وأيضاً قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}،وإذا لم يكن كالمسلمين فبطريق الأولى أن لا يكون أعلى باستحقاقه الرئاسة والزعامة عليهم، وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ} ، وإذا كانوا لا يستوون فبطريق الأولى أن لا يكون الفاسقون أعلى من المؤمنين باستحقاق الإمامة عليهم، وأيضاً لا يخلو إما أن يكون راضياً بما يفعلون أولا، إن كان راضياً فقد شاركهم في دماء المسلمين لأن من رضي بالمعاصي فقد شارك فاعلها فيها بدليل قوله تعالى في من عقر ناقة صالح عليه السلام: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}، وليس العاقر إلا واحداً،
وقوله تعالى لليهود الذين كانوا زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ الله مِنْ قَبْلُ}، وليس القاتل للإمامة إلا الأولون من اليهود، فنسب الله القتل إلى الذين رضوا بفعالهم من الموجودين زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن قال إنه راضٍ، فما باله يدعو لهم بالنصر! وماباله لم يجاهدهم! فإن زعم أنه لم يدع لهم بالنصر، فإني أشهد الله جميع من عرف ذلك إلا ما شهدوا بما علموا، وإن ادعى أن جهادهم غير واجب عليهم، فذلك لا يخلو إما أن يدعي أنهم محقون في جميع أفعالهم، فذلك كفر لأن من ادعى أن اللواط حق وقتل النفس المحرمة حق، فقد كفر برده كتاب الله سبحانه لأنه ورد بتحريم اللواط، وقتل النفس بغير الحق، وظلم المسلمين، وإن ادعى أنهم لم يفعلوا ذلك، فالناس حياله، وكفى له بذلك خزياً، وإن ادعى أنه لم يجد الناصر فما باله فرق كلمة المسلمين الذين اجتمعوا على حربه ودعوه لقتالهم ومن عليهم أنه لهم من المعينين حتى أخذ قبضة من الدنيا وفر بها إلى من يجب عليه وعلى جميع المسلمين حربهم، فإن قال: إن له حقاً بتقدم دعوته وأنه إنما اعتزى إليهم مستجيراً بهم كما استجار المسلمون بالحبشة أيام هاجروا إليهم، وإنما استجار بهم لخذلان الناس له.
فالجواب: والله الموفق أنا قد بينا فيما تقدم من كلامنا هذا أن دعوته لم تصح لما صدر منه من مؤازرة [ق/206] الظالمين ومحاربة أمير المؤمنين، ولعدم إجابة أهل الدين والصدق واليقين لدعوته، وإن سلمنا على التنزيل، فلا يحل له أن يعتزي إليهم وله في الأرض متسع، أليس قد وفد إلينا فأحسنا قراه وأركبناه من ركاب خيلنا، وحبوناه بما استطعنا حتى بدا بالعداوة وفرق كلمة المسلمين حسداً لنعم الله التي أنعم بها علينا، فإن حمله الحسد وصده البغضاء فليعمد إلى الحجاز حيث كان لا يعضد ظالماً ولا يفرق كلمة المؤمنين، جمع الله شمل المؤمنين على ما يرضيه، وفرق شمله وأركسه بعمله، اللهم إنا ندعوك على المبطل منه ومنا، فعجل بنقمته وأرح العباد من شره، وانصر الحق واخذل الباطل بحق محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[وقعة المرازم]
لما اشتد الأمر والاختلاف وتعذر الائتلاف بين السيد محمد بن عبد الله المذكور وأصحاب الإمام عليه السلام اهتمه الإمام، وخشي أن تعظم فتنته، ويعم ضرره فأرسل الإمام السيد فخر الدين عبد الله بن محمد المحرابي بعسكر كثير من الأهنوم وغيرهم إلى جهات حيدان، وعالجوا في الصلح مرة أخرى فلم يتم لهم ما أرادوا، وقصدهم السيد محمد بن عبد الله إلى موضع عند وشحة يسمى المرازم في شهر محرم أول سنة سبع وألف [ابريل:1596]، فوقع حرب ضرير، ونصر الله أصحاب الإمام عليه السلام، ومنح من أكتاف البغاة فهزمهم هزيمة كبيرة وقتلوا من أصحابه قتلاً ذريعاً، ونهبوا خيلهم، وأكثر سلاح أصحابه، وتبعوا أثره فوصل إلى ساقين ومعه بقية من عسكره قليلة، وكان فيه والده عبد الله بن علي يومئذٍ لا يمر ولا يحلى، فحمله وحمل السيد محمد بن صلاح القطابري أسيراً، وكذلك السيد الفاضل العلامة أحمد بن حسن المؤيدي، وكان قد اعتقله قبل ذلك لأنه اتهمه بالميل إلى جانب الإمام عليه السلام وولى السيد محمد بن عبد الله منهزماً لا يلوي على أحد حتى انتهى إلى قراض من بلاد آل أبي الخطاب، ولما انتهى إليه سعى قبائل تلك الجهة إليه في إطلاق السيدين المذكورين، فأطلقهما وتبعه بعض أصحاب الإمام عليه السلام حتى انتهوا إلى قهر يسنم، ولما آلت حالته إلى ذلك وكان ربما يؤمل أنه إن صفيت له جهات من خولان من أصحاب الإمام عليه السلام استبد بالأمر فيها، ولما لم يحصل من سعيه على طائل كاتب الأتراك الذين بصعدة يومئذٍ على يد رجل من أشراف الجوف يسمى فارع بن حميضة، وشرط [ق/207] عليهم ولاية بلاد
خولان، وأن لا يدخل صعدة وأن يكون أميراً من أمرائهم، وشرط لهم أن يرهن أخاه صلاح بن عبد الله منهم وثيقة في إتمام ما شرط لهم، وتم الأمر بينهم على ذلك، وعاد إلى فللة ولقاه الأتراك عسكراً من صعدة وواجهه كثير من أهل البلاد وقصده أصحاب الإمام عليه السلام إليها في شهر محرم من سنة سبع وألف وحاصروه بها حصاراً شديداً مقدار أربعة أيام حتى أشرف على الهلاك فخرج له غارة من صعدة، ولما علم بهم أصحاب الإمام عليه السلام تأخروا عن وشحة واتصلت بهم تلك الغارة ولم يقدر أصحاب الإمام عليه السلام على حربه وتفرقوا منهم من عاد إلى اليمن كالسيد فخر الدين عبدالله بن محمد المحرابي وغيره، ومنهم من انحاز إلى بني ذؤيب، وآل أمر السيد محمد بن عبد الله إلى أن دخل صعدة واستبدل الذل بالعز، وإلى وقت رقم هذه السيرة المباركة وهو مع الأتراك في صنعاء من الرئاسة باسم الإمارة فقط يعض على يده، وقد كان قبل هذه الأمور من أعيان العترة، وكان قد ضرب بسهم في العلوم وافر، واستضاف في نواحي الكمال بدر سافر، ثم لما استولى الإمام المؤيد بالله عليه السلام على صنعاء في سنة ثمان وثلاثين بعد الألف [1628م] وصل هذا السيد محمد بن عبد الله إلى الإمام المؤيد بالله إلى أقر مع من وصل من أهل صنعاء وآل المؤيد، وأظهر التوبة والندم، وأجرى له الإمام عليه السلام ولمن يتعلق به ولجميع من كان له جراية من الأشرف آل المطهر وآل المؤيد وغبرهم كفايتهم، ثم حسنت حال السيد محمد بن عبد الله المذكور وأخلص التوبة والإنابة إلى الله سبحانه، وباع جميع أمواله بصنعاء، وانتقل بأهله إلى صعدة، فبقي فيها حتى مات ليلة الجمعة ثامن شهر الحجة الحرام سنة أربع وأربعين وألف رحمه لله رحمة الأبرار. انتهى.
[مراسلة الإمام إلى الشريف حسن بن نمي]
وكان هذا الخلاف من السيد عبد الله وولده له موقع وفساد، وقيل: كثير كمن ذكرنا في المرامي وغيرهم، ولقد ذكرها الإمام عليه السلام في كثير من رسائله منها رسالته إلى الشريف حسن بن نمي وإخوته من بني الحسن وهي هذه:
الحمد لله الذي جعل الأئمة من أهل بيت نبيه قوام الله على خلقه، وشهوده بعد جدهم صلى الله عليه وآله على عباده، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه، قضاء قضى على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله حيث قال: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه [ق/208]مات ميتة جاهلية)) وحيث قال: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه)).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ونجيه وصفوته، لا يوازى فضله، ولا يقاس به من الناس غيره، أضاءت به البلاد بعد الضلالات المظملة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية، صلى الله عليه وعلى آله عمر الدنيا الفانية، والأخرى الباقية، أما بعد:
فكتابنا هذا إلى سلالة النجباء من عترة النبي المجتبى، مفاخر الزمن، وداوية بني الحسن، أهل الشوكة في حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذين لهم الأصول النبوية، والأعراق الفاطمية، والنجدة والشيم الهاشمية، ولله القائل:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه .... ويغرس إلا في منابتها النخل
سلام عليكم، وإنا لنحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم، ونسأله المزيد من هداه المبلغ إلى رضاه، ثم إن الله سبحانه جعل جهاد الظالمين، ونكاية المعتدين، ذروة وسناماً للدين، إن قام به المسلمون منحهم الله العز والنصر، وإن خذلوا ولاته ولم يجيبوا دعاته خذلوا وذلوا، وأديل الحق منهم إلى غيرهم، هذا معنى ما رويناه عن أمير المؤمنين، وباب مدينة علم سيد المرسلين على عليه السلام، وقد قمنا لله سبحانه غاضبين حيث عمت الفتنة، وشملت المحنة، وطبق ظلام الظلم على العباد، وكثر الفجور، وشربت الخمور، ونكحت الذكور، وبدلت الأحكام، واستحل الحرام، وبدلت عبادة الرحمن بالملاهي، وكبائر العصيان، فقام في حربنا ونصرة عدونا من كنا نحب له القيام بفريضة الجهاد مع بقاء ملكه، ودوام عزه، وقد بذلنا لهم ذلك فلم يجيبوه {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} غلبت عليهم الأهوى، فلكل فؤاد هوى، فلو أنهم جعلوا الحق والباطل سوى، ووقفوا وتركوا نصرة أهل الحق والأعدا، ولكنهم اختاروا السبل المتفرقة عن سبيل الله وإيثار النفوس الأمارة بالسوء فوصلوا غير الرحم، وقطعوا السبب الذي أمرهم الله بصلته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوا في عرصات الحطبة وبقاع كل ضارب في غمرة، فماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة، على شبه الفراعنة، وطريق الطاغية، فهم بين منقطع إلى الدنيا راكن، ومفارق للدين مباين، ولقد عاينا العجب من بعضهم يعد نفسه إماماً هادياً، وإلى الله داعياً، وقد حليت الدنيا في عينه وراقه زبرجها، فأخلد إلى الأرض، ومال إلى لعق الحرام [ق/209]، وسحت
من الطعام، ووالى الأتراك الطغام، وحارب الإمام بعد الإمام، وهو يتلو قول الله تعالى:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وليس الحامل لهم على ذلك إلا ما هلكت به الأمم الماضية من استحقارهم لأولياء الله، وتعظيمهم لأهل الدنيا من أعداء الله، واغترارهم بتقلبهم في البلاد، وإيثارهم للدنيا الفانية على الآخرة الباقية، كأنهم لم يسمعوا الله حيث يقول:{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وحيث يقول: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} بلى ولكن مر في آذان صم، فما أشبه الحال منا ومنهم بما قال الناصر للحق أحمد بن يحيى عليه السلام:
لقد شاب رأسي قبل حين مشيبه .... وعاد بياض الوجه فاللون أكلف
أفكر في الدنيا وغفلة أهلها .... وزهدهم فيما إلى الله يزلف
ورفضهم حكم الكتاب وفرضه .... وقد عطلوا قول الإله وحرفوا
فلا عالم يهديه للرشد علمه .... ولا جاهل من عالم يتعرف
تقلبت الأيام بالناس كلهم .... فكلهم في ظلمة الغي يعسف
إلى قوله عليه السلام:
أقَوَّم من لا يستقيم اعوجاجه .... وإني لعمر الله نعم المثقف
ولكنها لانت لقوم عريكتي .... فظن بي القوم الظنون وأرجفوا
وقالوا إمام ليس يشهر سيفه .... بلى إن سيفي للطغاة لمرهف
وإن كان أعواني قليلاً وناصري .... كذاك فمنهم مخلص ومولف
وأكثر من ألقى مهيباً مغفلاً .... حريصاً على الدنيا والقلب أغلف
هذه نفثة مصدور لأن الخبر ذو شجون، ثم إنا ندعوكم إلى الله وإلى رسوله، وإلى جهاد أعداء الله، وإحياء سنة رسوله الله، وإماتتة بدعة أعداء الله، يا قومنا أجيبوا داعي الله ولا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله إن الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل، واحذروا رحمكم الله من الرضى بفعل العاصين، فإنه إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموا بالرضى، فقال سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} واعلموا أنه من سلك الطريق الواضح ورد الماء [ق/210]، ألا تحبون الجمع بين الدارين، والفوز بالخيرين، أعينونا على إزاحة الباطل وإقامة المائل، والفوز بخير العاجل والآجل، ولا تغتروا بعيش الدنيا الزائل، فإنه مشوب بكدر شامل، ونجمه عما قليل آفل، قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}،{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هدانا الله وإياكم إلى سبيل الرشاد، والصلاح والسداد بفضل محمد الأمين وآله الطيبين الطاهرين، صلى الله عليه وعليهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
[أخبار الإمام في السودة]
ولنرجع إلى أخبار مولانا عليه السلام في السودة، وكيفية خروجه منها، وما اتفق له عليه السلام من عظائم الأمور حتى ألجوه إلى محروس شهارة عمرها الله بالتقوى وببقاء المشاهد المقدسة، وذلك أنها لما اختلت مشارق صنعاء كما تقدم، وبلاد الحيمة، وأمن الظالمون من جهات اليمن والمشارق والمغارب، اجتمع العجم وأصحاب الأمير أحمد بن محمد ومن أصحاب الأمير المحروم عبد الرحيم لا رحمه الله إلى جهات شظب وكثير من أمراء العجم وأعمال بني جيش الأعرام وغيرها من بلاد قدم، واتفقت حروب شديدة ولها تفصيلات هائلة.
قال الفقيه أحمد بن يحيى الأكوع: إنها كانت فوق عشرين وقعة والمقاتلون لهم من عند الإمام السيد أحمد بن الإمام الحسن، والفقيه علي الشهاري، ثم السيد العالم محمد بن أحمد عز الدين المؤيدي، وفي بعضها أمد سيدنا العلامة عامر بن محمد الذماري، وفيها وصل الحاج المجاهد أحمد ابن عواض وأخوه الحاج الفاضل علي بن عواض، واستشهد في بيت زريب في هذه الحروب، ثم إنه حضر عيد الأضحى كما أخبرني مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله ورضوانه عليه، وقد ذكر لي أمور شهارة المحروسة بالله، وأن حي والده صلوات الله عليهما فيما قاله: يا ولدي لا يغرنكم إقبال الفتوح فتتركون شهارة وتستبدلون بها فقد حصل معي غلط وخطأ بالبقاء في السودة، وترك الأهنوم في تلك المدة فأنالم أتمكن من الخروج منها من غير ملاحمة، وذكر حديثاً طويلاً في أحوال شهارة، وقلت له سلام الله عليه في ذلك المقام: أرأيت يا مولانا حفظكم الله أن الإمام عليه السلام كان يقطع بأنك القائم بعده وولي عهده، وليس من مذهبه ومذهبكم [ق/211] الشريف الوصية؟ فقال: كان يتوسم ذلك ويظنه غالباً لأمارات كان يجدها، وإلا فالمذهب ذلك حتى قال: لما كان ليلة العيد في عرفة افتسح جماعة، منهم القاضي المجاهد حسن بن علي بن شمس الدين بشاري العنسي العذري، وكان من عمدة الرؤساء، فكتب إليه الإمام عليه السلام بالمبادرة بالعودة، ومن ذلك الكتاب: إن الأشرار باعوا أئمتهم بدنيا، وأما أنتم فبكذا من خضارة العيد أو كما قال، وما وصلته المواد إلا وقد انهزمت مقدمات مراتبه واتصل به العجم.
قال السيد عيسى: إن سنان دس لمن بدله حتى لزم النوبتين، وأن الإمام عليه السلام لما رأى ذلك قال لابن المعافا: يا فقيه هذا أمر عقد بليل وإن ذلك في شهر صفر سنة ثمان وألف [أغسطس 1599م].
إلى هنا رواية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، وأخبرني غيره كالوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي وغيره أن سنان لعنه الله تقدم إلى بيت ابن علاء موضعاً يسمى قرن اليهودي وهزم المراتب الإمامية كما تقدم، وكان الإمام عليه السلام أرسل رتبة إلى جبل بني حجاج فهزموا، واستشهد فيه السيدان الفاضلان والسيد المجاهد شرف الدين الحسن الصادق بن علي بن المهدي رحمه الله، والسيد صارم الدين إبراهيم بن شمس الدين بن محمد بن علي بن المهدي رحمه الله من أهل حبور، وقتل من أهل السودة ومن فيها مع الهزيمة جماعة ولم يشعر الإمام عليه السلام إلا (وهم) في قاع زوقر، فخرج للقائهم بعض من حضر وهزموا واتصلوا بالمدينة، وكان الإمام عليه السلام متزوجاً على بنت الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي عليه السلام، وأمها بنت الأمير عبد الله بن المعافا في تلك الأيام فأراد طلوع الحصن ليأخذ شيئاً، فقال له الأمير عبد الله بن المعافا: لا تدخل وهو ناصح له في ذلك وإن كان في موالاة العجم مضمراً وله السعاية في دخولهم السودة على مولانا عليه السلام وجماعة من أصحابه على رأيه كالشريف صلاح بن محمد الغرباني، فإنه يروى أنه هم بقتل الإمام عليه السلام وقد أخذ مالاً على ذلك وقلب الرمح لذلك ومولانا عليه السلام مدبر، فمنعه ابن المعافا ورضي ابن المعافا بخلاصه من يد الإمام وعوده بلاده وما وعده
العجم، وكره الغدر الموصل إلى النفس لما يريد الله سبحانه من حفظ مولانا عليه السلام، وما جعل الله به من النفع العام لملة الإسلام، فخرج عليه السلام وليس عليه إلا قميصه وسلاحه وقد اعتجر بعمامته، وتقلد مصحفه الكريم مع سيفه، وكان [ق/212] يخرج في من بيت معه ويعود ويرمي على ضعفاء أصحابه.
(روى القاضي العلامة صفي الإسلام أحمد بن سعد الدين بن الحسين المسوري حفظه الله أنه روى له الحاج يحيى بن مطر من بني سعيد من الأهنوم وهو من خدم الإمام المنصور بالله عليه السلام ومن يختص به: أنه لما خرج الإمام عليه السلام من السودة ومعه بندق في يده وهو يريد الرمي والأتراك قد حضروا ومعه السيد جمال الدين علي بن المهدي بن علي بن المهدي بن أحمد الجحافي رحمه الله، فخاف على الإمام عليه السلام، فقال للإمام: إذا مرادك الرمي وقتل الأتراك خرجنا إلى تحت باب السودة إلى برنكة المنسرة فإنها تلزم الطريق الشرقية وطريق السودة لئلا تلزم علينا الطريق الشرقية، فقال: صواب، ولو واجهه السيد بغير هذا لم يسعده لأنه من أهل الثبات فوجه له العبارة، ولما صارت بيارق الأتراك فيها فتوجه إلى الموسم وبات فيه على ما قيل، وعزم إلى ظليمة سلام الله عليه) .
ولقد أخبرني غير واحد أنه وقف ساعة في جانب السودة في موضع يسمى الخف يرمي بالبندق ويقتل حتى تعلق هو وأصحابه موضعاً يسمى الصابة من الموسم، ثم نصب رايته في ذلك الموضع وثاب إليه المنهزمون، وتقدم بيومه حتى اتصل بالمدائن من بلاد ظليمة، واستقر هنالك في الأبرق، وقد تفرق أعوانه.
قال السيد أحمد نفع الله به: لم يبق معه في جمعة صلاها في الأبرق إلا ثلاث بنادق، وأما أهل السودة فإن كبراءهم ممن صار إلى رأي ابن المعافا خانوا فقل احترازهم ووثقوا بما في أيديهم من سنان لعنه الله من العقد فقتل منهم كثيراً مع غيرهم من الضعفاء.
أخبرني بعض أهل السودة أن شيخهم الشيخ صلاح بن [.......] ممن خان الإمام أتت به الجنود الظالمة في جملة أسرى، وقد أثخنوه بالجراح وقتل بعض أهله في جملة القتلى، فقال لسنان لعنهما الله: هذا خطك في أيدينا فحصل فينا ما تراه، فقال: ما يفعل لك القرطاس وقد وقفت في طريق السيل، ثم أطلقه وأعطاه شيئاً وأطلق الأسرى، قال: فعاد هذا الشيخ المشؤم فوجد في الطريق أسرى من أصحابه في أيدي العجم يساقون، فبشرهم بالسلامة، وقال لهم: إن سنان لم يقتل الأسرى ولا أعطي من وصل [ق/213] منهم بأحد شيئاً بل عاقب بعضهم، وإنما أعطى المال من وصل بالرؤوس ففطن العسكر الذين أسروهم فضربوا أعناقهم ووصلوا بالرؤوس لأجل المال، قال: واتهم الشيخ بأنه أراد هلاكهم لعنهم الله جميعاً، وأما الإمام عليه السلام فاستقر في الأبرق والعجم تجتمع في السودة وقد رأى عليه السلام كثرتهم وذهاب الناس عن الله سبحانه وعن أحكامه، وأما العجم فإنهم اجتمعوا إلى عند طاغيتهم سنان لا رحمه الله.
قال السيد عيسى: اجتمعوا إليه إلى خمر وأنه عاد بعد فتح السودة إليه لعنه الله.
قال الفقيه أحمد بن يحيى الأكوع: إن عدو الله بعد أن فعل ما هو أهله بالسيد عامر رحمه الله وسلخ جلود أنفار من أصحابه كما تقدم وغيرهم، وغزا إلى خيار فقتل كثيراً، منهم الفقيه هادي بن حدقة قتل أولاده وحملوه رؤوسهم إلى حمومة، ثم سلخوه لعنهم الله فهابه الناس وواجهه كثيرون رهبة وقد تقدم ثم عاد إلى رجام من أعمال ذي مرمر يعني سنان لا رحمه الله، وذلك أن مقدمات الحاج شمس الدين وأهل المشرق ضيقوا على صنعاء، قال: وعاد لفتح ثلاء ثم صعد إلى كوكبان وخلعوا على الأمير عبد الله بن المعافا وجلعوه أمير الأمراء وأقطعوه بلاده وغيرها وجهزوا معه أمراءهم من العرب والعجم وجعلوا على الجميع الأمير المسمى ذي الفقار وجعلوه مع الأمير ابن المعافا وتدرك لا رحمه الله بلزم الإمام عليه السلام ومحاصرته في شهارة وكذا، وأعطوه الأموال، وجمعوا معه الرجال من العرب والعجم، وقد قتل سنان لا رحمه الله جماعة في هذه الوقعة بعضهم صبراً، منهم السيد عبد الله المؤيدي وقد أمنه ابن المعافا وغيره، والفقيه الفاضل الصالح [......] الآنسي قال: لا نفر عن إمام الحق والدفاع عنه فثبت يجالدهم حتى قطعوه رحمة الله عليه، ورأيت خطاً للحاج الفاضل المجاهد أحمد بن عواض رحمة الله عليه بعد هزيمة الإمام عليه السلام من السودة فيه طول، ويذكر أنه قد استحيا من كثرة معاودة ما أودعه فيه من النصيحة وسأله بالله العظيم أن يفعل ما نصحه أو يرجع له خطه، فكان الجواب عليه في ظهره ما لفظه:
الحمد لله وحده، المنصور بالله إن شاء الله بلغ كتابكم والله يتحفكم بشريف السلام، ويحققنا جميع ما ذكرتم وجمعنا قبائل عذر والأهنوم وظليمة، وطلبنا منهم أيماناً وقواعد فعلوه وافترقوا لنا ألف رجل وثمانمائة رجل وجميع البنادق همة تشبه الهمة الأولى والله متم نوره ولو كره الكافرون، وتأهبوا أنتم ومشائخ بني عمران [ق/214] وقبائلهم ووادعة وغيرهم إلى وادعة وبني مالك أو أي الأماكن تفعل عليهم قواعد مثل ذلك، ونتفاوض نحن وأنتم ونبني على ما هو الأصلح للمسلمين إن شاء الله تعالى ولا تشجنوا من رجوعنا من السودة إنما أراد الله بذلك هلاك الظالم الغشوم ومن يتعلق به وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، بعد شريف السلام هذا لفظه بخط يده الشريفة.
وفي كتاب الحاج طول وذكر أن الإمام يجعل على بلاد الأهنوم وغيرها أحد السادة ثم تقدم المشرق فهو خال عن الظالمين، ويقدم الفضلاء والأنصار ويكون ظهرهم في جهات المشرق مخافة مما وقع، وسمعت من حي مولانا المؤيد بالله سلام الله عليه أن الإمام عليه السلام تكلم في الناس وشددهم بعد هزيمته من السودة وذكر من كلامهم كثيراً.
قال السيد أحمد نفع الله به ما معناه: وبعد رجوع الإمام عليه السلام من السودة وقد وصل الحاج المجاهد سيف الإسلام أحمد بن عواض رحمه الله ومشائخ خولان العالية إلى معرجة من جاسف يلتمسون مسير الإمام معهم ويقاربون صنعاء بالحرب فلم يسترجح الإمام عليه السلام ذلك ودافع عن بلاد شهارة كما سيأتي في أخبار الشرف وغيره.
[موالاة وادعة للإمام]
ولما استقر سنان لعنه الله في حمومه، وكانت قضية السيد عامر رحمه الله اختلت بلاد الظاهر على الإمام عليه السلام وكذا غربان، فأرسل الإمام عليه السلام إلى وادعة بعد محاورة وعطاء كثير لكبارهم وطلب منهم الإجابة فأجابوه، وطلع إليهم السيدان العالمان الفاضلان صالح بن عبد الله الغرباني، وعلي بن صلاح العبالي واستقام لهم وادعة أياماً وأخربوا محطة للعجم في بهمان عليها الأمير عبد الله بن مطهر بن الإمام شرف الدين، ثم غلبهم عليها جنود الظالمين ثم في خلال ذلك والى غربان جانب الحق فأرسل إليهم الإمام جماعة من أصحابه فيهم الشيخ المجاهد عبد الله بن سعيد الطير، واستقر فيهم ليالي، وقصدهم الأمير عبد الله بن مطهر أيضاً فانهزموا من غربان مع تلازم الحرب وسلمهم الله تعالى، ثم توجهت المحاط المخذولة إلى جهات ظليمة فدافعهم جنود الحق بعض دفاع ثم طلعوا من موضع يسمى بينة فقتلوا من المسلمين عدة كما أخبرني ناصر بن عبد الملك بن عمران وبعد طلوعهم ظليمة أخربوا حبور سيما بيوت السادة.
قلت: وبلغني أن الإمام عليه السلام كان يرى الخراب في بيوت السادة وهم عنده فيدعو لهم ويدعو على ابن المعافا، وقال: إن شاء الله تعمر خيراً مما كان ويهدم الله بيوت ابن المعافا، فكان كما قال [ق/215] عليه السلام يضرب بعمارة حبور في الدولة الإمامية الأمثال فعاد الإمام عليه السلام إلى جوار شهارة ورتب مواضع، وقامت الحرب أياماً ثم دخلت جنود العجم بلاد عذر وطلع جنود الظالمين إلى حوالي وعر من أسفل وادي أقر فتعلق الإمام عليه السلام شهارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأما الحاج شمس الدين رحمه الله فعاد بلاد خولان وجهاتها.
قال السيد العلامة أحمد بن محمد نفع الله به: ولما عاد الحاج شمس الدين أحمد بن عواض الأسدي حماه الله من وادعة بعد إضراب الإمام عليه السلام من الخروج عن بلاد الأهنوم إلى بلاد خولان جمعهم ولف شملهم، وغزا أطراف الأتراك وأنزل بهم ضرراً عظيماً، وكان قد وقع في تلك الجهة فترة وفساد لما خرج الإمام من السودة، وخرج من صنعاء الشريف محمد بن علي بن بنت الناصر بدراهم كثيرة ودخل بلاد خولان لفساد أهلها وأظهر أنه موال للإمام عليه السلام ليتوصل بذلك إلى ما يريد، وروي أنه خرج بسم ليهلك من أمكنه من أعوان الإمام وأنصاره فلما تبين للحاج شمس الدين أمره طلب مشائخ خولان وأعلمهم بذلك، فقبضوا عليه بعد أن كاد يفلت بالهرب فأمر به الحاج إلى الحيمة فسجن في حصن يسمى ظفر، قلت: أظنه أرسله إلى آنس لأنه لم يكن في الحيمة حصن اسمه ظفر. والله أعلم.
[أخبار المغارب من جهة الحيمة وبلاد آنس]
فصل: ولنرجع إلى تمام أعمال المغارب من جهة الحيمة وبلاد آنس وما إليها من بلاد ذمار وبلاد جبل تيس وما يتصل بها من بلاد حراز، فذكرنا أن الباشا علي لا رحمه الله لما قتل في ريمة انتثر نظام العجم والتجأوا إلى الباشا حسن لا رحمه الله وأتم أهل ريمة وجهاتها على الامتناع من الظالمين نحواً من إحدى عشر سنة، وفتحها وزير الباشا جعفر لا رحمه الله المسمى عبد الله شلبي كما سيأتي إن شاء الله تعالى وغلبت العجم على المشارق والمغارب، وفيها اجتمع في كوكبان بعد أسر السيد عامر رحمه الله أيام سنان لعنه الله وأمراء من عظماء العجم، والأمير أحمد بن محمد ببن شمس الدين والأمير المحروم عبد الرحيم، والأمير عبد الله بن مطهر والأمير إبراهيم بن مطهر وغيرهم وذلك بعد أن صفا لهم جانب المغارب وأسرفوا في الأموال، وبسطوا في التهتك لمحارم ذي الجلال حتى روي من أخبارهم ما تنزه منه الأسماع كما تقدم قريباً مما أمكن من ذكر جمل [ق/216]أحوالهم.
وروي أن أمراء الأشراف أخرجوا مضحكاً يسمى زفاجر حاشا الشرف وأهله منه ولبسوه قميصاً أسود وعمموه بثياب كثيرة وجعلوا على رأسه عوداً كبيراً يهزؤون بالإمام صلوات الله عليه، والعجم أخرجوه مضحكاً لهم مصرياً فعل أعظم من ذلك لكن بغير ما يتعلق بمولانا عليه السلام فاحتال مضحك الأشراف على مضحك العجم حتى جنى عليه بما لا ينبغي تصديره، فرأوا في وجه سنان لا رحمه الله والأتراك الكراهة فأرادوا إتحافهم بما يهون عليهم فأمروا لأسد هائل من أسدين مع الأمير أحمد بن محمد بأن يخرج إلى الميدان بحيث لا يراه سنان لا رحمه الله ثم قال المضحكون وغيرهم بالأصوات المرتفعة: خرج سنان خرج سنان وعظموا القول حتى ذهب من سنان ما به، ثم أخرجوا ثوراً من بقر جبل تيس مما وصل لهم للضيافة.
قال القاضي الأفضل شهاب الدين أحمد بن عبد الرحيم بن أبي الرجال: ما هو بالكبير وإنه يعرفه ومولاته امرأة نهبوه عليها من بني الخياط، قال: وكنا مختفين في تلك البلد فلما أوصلوه الميدان صاحوا جميعاً: هذا الإمام قاسم هذا الإمام قاسم انظروا ما يفعل به سنان يعنون الأسد، قال من شهد ذلك من غير واحد: فتطولت الأعناق وازدحم الناس للنظر إلى هذه المضحكة، قال: فلما عاين الثور ذلك الأسد قصده فجمع الأسد نفسه للوثبة وافتراس الثور فما كان بأسرع من سبق الثور إلى أن وضع قرنيه في صدره فألقاه على قفاه ثم داس بطنه وخصيته حتى أحدث شيئاً فريا وولى هارباً والثور في أثره، والغوغاء تصيح، وكانت كرامة عظمى أظهرها الله سبحانه في هذا المحل الذي اجتمع فيه أهل الضلال، وغالبوا فيه ذي الجلال، وانتشرت هذه الكرامة في الآفاق، وتحدث بها أخلاط الرفاق كما قال السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد الشرفي نفع الله به في ذكر شيء من كراماته الباهرة سلام الله عليه:
كالجمع ولوا بلا حرب وفتنتهم .... والأسد مذعورة ولت من البقر
وقام أولئك الأشرار من مجلسهم الخبيث، ونسوا مع هذه الكرامة كل حديث، وما كان عطاء ربك محظوراً، وفي صنعاء اجتمعوا على مثل ذلك مراراً وقد تقدمت الإشارة إلى ذكر هذين المجلسين ولم ينجح فيهم هذه وأمثالها بل اجتمعوا إلى جهات القبلة حتى نالوا الأطراف وانحدروا إلى بلاد مدع وبلاد عفار، فحصلت حروب مهيلة [ق/217]وقضايا طويلة وقد جعلوا على حصن عفار محطة فحاصروه حتى تسّلموه، وكان في بلاد عفار السيد شمس الدين أحمد بن الإمام الحسن عادت بركاته والفقيه علي الشهاري والفقيه عز الدين واشتد عليهم الأمر وانهزموا إلى بني حيش والفقيه عز الدين أمره الإمام عليه السلام بالغارة إلى الظفير فكان من أمره مايأتي إن شا الله تعالى، واتصلوا ببلاد حجة وكان جنود الحق فيها حافظين أطرافها وأميرهم وصاحب تدبيرهم مولانا محمد عليه السلام وهو في عنفوان الشباب ولديه السادة الكرام المقدم ذكرهم وغيرهم.
[أخبار حجة]
قال القاضي العلامة جمال الدين المهدي بن سعيد الهبل عافاه الله تعالى: أنه كان الفقيه المجاهد عزالدين بن سعيد الأكوع رحمه الله في جانب القروات من بلاد قدم حجة، وكان الشيخ حسن بن عاطف الأهنومي في الجاهلي وأن السيد العلامة عبد الله بن محمد المحرابي رحمه الله في جمع من الأهنوم في حصن ماذن بالقرب من كوكبان الجبر فكان أول من دخل حجة من الظالمين الأمير محمد بن عبد الرحمن، ثم اتفقت حروب شديدة (ثم ما راعهم) إلا دخول الأمير المحروم عبد الرحيم من القروات، وانهزم الفقيه عز الدين وأراد الاتصال يعني الفقيه عزالدين بجانب الظفير حتى انتهى إلى بني هجر وجعل في المصنعة رتبة بني الحسام وهم من أهل الصبر قريبة من بلاد الجبر مما يلي الظفير والتجأ إليها فاتفقت حروب شديدة في مواضع كثيرة من بلادحجة فما أمسى إلا وقد اتصل عبد الرحيم لارحمه الله ببلاد الجبر وأحاطت جنودهم بالفقيه عز الدين ومن معه وبالسيد عبد الله ومن معه فاجتمعت الغارات من كل جهة من البلاد الإمامية فما قدروا على الإفراج عنهم، ولقد أرسل مولانا محمد سلام الله عليه رسلاً إلى بلاد حاشد وبكيل ينكفون (ولبس) أهل التنكيف الخصف وغيرها فأتى من المشرق غوائر نافعة، وانضموا إلى الحاج شمس الدين بن أحمد بن عواض رحمه الله، وقصدوا المحيطين بالفقيه عز الدين ومن إليه فأفرجوا عنهم بعد شدة شديدة وملاحم وقتل كثير، وبقي الفقيه عزالدين وبنو الحسام محتارين خمسة أشهر من غرة رمضان سنة سبع إلى آخر محرم سنة ثمان [وألف] ، وكان مولانا محمد والسادة وأهل الظفير يشغلوا عسكر عبد الرحيم
من جهة القبلة وتختلف إليهم بالمدد من قوت وغيره، رجل اسمه المطري، ووصلت الغارات مع الحاج شمس الدين أحمد بن عواض والشيخ عبد الله الطير وغيرهما، وكان الإمام عليه السلام [ق/218] قد تابع الغارات وأكثرها لم ينفذ إلى الطير لانقطاع الطريق وبعضها حروب فحصل الفرج وذلك الغوائر عادوا وقد أحربوا حرباً عظيماً ولم يقدروا على الاتصال بالفقيه عز الدين ومن معه فأيس المحتازون من التفريج فخاطروا بأنفسهم وخرجوا ونجوا من القوم الظالمين والحمد لله رب العالمين، كما أخبرني بذلك أحمد بن يحيى الأكوع وهو مع المحصورين، وأخبرني أيضاً أن بني صريم وبني جبر تخلفوا عن الغارة والغوث، واعتلوا بأن المحتازين من بكيل فالغارة والغوث متعينة على بكيل، فابتلوا بالوقعة الآتية، من قتل بني جبر وغزوا موضعاً من بني صريم يسمى دلوان واحتز منهم ستة وعشرين رأساً، ومن بين جبر أربعون رأساً كما سيأتي.
وأما السيد عبد الله ومن لديه من الأهنوم فإنهم أحربوا وقتلوا كثيراً من العجم، جنود المحروم عبد الرحيم ولم تتصل بهم الغارات وقل عليهم الطعام، ولقد أكلوا بغلاً للسيد عبد الله رحمه الله، ولما طال حصارهم على عبد الرحيم لارحمه الله، وقد رأى كثرة الجموع في جانب الظفير ورأى ما حصل على المصنعة فخاطبوه بالصلح، وأنه يفرج لهم يخرجون ويسلمون له الحصن ففعل لهم أماناً، وكان معه الأمير أحمد الأخرم من العجم وغيره، واشترط السيد ومن معه ضمانة العجم، وكان أركن إليها وآنس من الأمير المذكور، وكان عبد الرحيم وأصحابه في جانب والعجم في جانب وقد شرط لهم عبد الرحيم أن طريقهم عنده ولاعلم لهم بما هو مضمر فاتفق أن أمير العجم كره العيب، وقال: لا أرضى بالعيب والغدر، وأرسل إلى السيد أني أبرأ ممن كانت طريقة جانب عبد الرحيم فخرج السيد ومن إليه ليلاً من العجم وألصوا الفوانيس فأمرهم الأمير الأخرم بتطفيتها ووفى لهم وخرجوا سالمين والذي خرج من جانب عبد الرحيم غدر به وقتل جماعة من المسلمين بعد الأمان وصارت حجة عليه، ثم أرسل صنوه محمد بن عبد الرحمن وكثيراً من أمراء العجم فاستولوا على بلاد الشرف، ولهم أخبار سمعت جملها وذهب التفصيل وصار مولانا الإمام محمد في حصن الظفيرمع مشائخ الظفير، وعبد الرحيم يدبر الحيل عليه وعليهم فلم يقع على طائل وقد راوحتهم الغارات وباكرت، وفي بعضها وقع فيه صائبة رصاص في لحيته وذهب منها بعض أضراسه، وروي أنه لا رحمه الله اختفى [ق/219] وأظهر أنه قد مات وأنه أوصى أن يدفن في الظفير عند الإمام شرف الدين سلام الله علية وحمله
أصحابه لعله يدخل باب الحصن للفتك به، وكان له غدرات حجاجية قاتله الله وأرجعوه من قرب الباب وخيب الله أمله، هكذا سمعنا من غير واحد.
وأخبرني بعض من كان في جنوده أنه فعل التابوت المعتنى به على قبر الإمام شرف الدين عليه السلام فشع أنه فعله مكيدة فأرجعوه -والله أعلم- وبقى مولانا الإمام محمد في الظفير أياماً وحصل من أهل الظفير الملل من الجهاد وخافوا على أطيانهم واستهلاك منافعهم، فصالحوا على أنفسهم وجرى خطابهم إلى الأمير عبد الله بن المطهر بن الإمام شرف الدين وأخرجوا مولانا محمد على حالة محمودة فاتصل بوالده عليه السلام، وسمعت أن في طريقه إلى والده عليهما السلام لحقه مشاق خفي علي تفصيلها وسلمه الله تعالى كيد الكائدين، وعداوة المعتدين، والحمد لله رب العالمين.
ومن فروع هذه الجمل أخبار بلاد حراز فإنا قد ذكرنا إستيلاء أهل مسار على حصنهم كما تقدم مع السيد محمد بن علي القراع وحفظوه من العجم ومن الباطنية وحاربوا دونه وأجابهم حلفاؤهم من الزيدة والشافعبة، وتغلب على العجم مع اشتغالهم بأطراف المغارب كريمة الريمي وما إليها وبلاد حراز وبلاد برع وما إليها، وكذا بلاد الحجرية ومشارق اليمن ويافع حتى فرغوا من أعمال القبلة وفتحوا بعضاً وبقى على الامتناع بعض كما سيأتي إن شا الله تعالى في أخبار مسار وما يتعلق به.
[وقعة اللطية]
فصل: ولنعد إلى أخبار الإمام الزاهد شرف الدين بن صلاح الحمزي رحمة الله عليه قد ذكرنا كيفية استيلائه على الحصون، ثم استقراره في حصن ثلاء، وكان الحرب بينه وبين العجم وكوكبان فيما بلغني نحو ثلاث سنين، وكان رضوان الله عليه محبباً إلى جميع المسلمين فضله معروف، وعلمه موصوف، وكرمه مألوف، وكان قبل قيام مولانا عليه السلام كما قال الإمام المنصور بالله عليه السلام في السيد الإمام عماد الدين يحيى بن علي السليماني رحمه الله تعالى:
فلو يحيى دعا قدماً إليها .... لكان بها إماماً للإمام
وكان مجاب الدعوة، ويسعى السعاة في كثير من بلاد الزيدية لاسيما مغاربها [ق/220]، وكان قد قبضه الترك أخذهم الله وحملوه إلى صنعاء قبل الإمام عليه السلام لما اشتهر من فضله وكثر عند العامة والخاصة ذكره فخافوه فضمن عليه الأتراك بني الحسن أهل كحلان وبقي إياماً ثم هاجر إلى الظفير، وبقي أياماً مقصوداً للقرى والإقراء حتى قام الإمام عليه السلام فخرج من الظفير إلى كحلان، ولما قام الإمام عليه السلام خرج من كحلان إلى بلاد بني جيش وكحلان كما تقدم.
وأخبرني بعض أصحابه أن عدة عسكره الذين صبروا معه [ألف ومائتي نفر] ، وكان يأتي لهم المدد من كل جهة حتى أيس منهم الظالمون، وعاد سنان لا رحمه الله إلى بني صريم كما تقدم وأهل كوكبان يحاربونه ومن عندهم من العجم اليد له في أكثرها عليهم، وكان معه من العيون الحاج الفاضل أحمد بن علي بن دعيش الغشمي والفقيه علي بن محمد الشهاري عمدة في الجهاد كثيراً ما يمده ويحضر معه ،وكذا السيد الرئيس الهادي ابن الحسن بن الإمام شرف الدين الكحلاني وانقلب على عقبه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقد تقدم من أخبار السيد العلامة أحمد بن محمد المحرابي رحمه الله تعالى فكان هؤلاء يمدون ثلاء ويحضرون أكثر حروبها حتى استشهد السيد أحمد وما حصل بعد ذلك مما تقدمت الإشارة إليه، وامتحن رضوان الله عليه في وقعة باب اللطية وهي أنه زحف إلى حوالي الضلع بجموع كثيرة ولم يحصل من بعضهم وقوف على تدبيره النافع، بل تقدموا وجعلوا شاهق الحيد وراء ظهورهم فحصل تخاذل بعد أن كانت اليد له في أول النهار، فحمل الأمير أحمد بن محمد في نحو خمسمائة فارس، فانهزم المسلمون فقتل منهم نحو مائة نفر، أو يزيدون أو ينقصون، وبعضهم هلك من التردي من أعلى الجبل {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}.
قال السيد أحمد بن محمد نفع الله به: إن هذه الوقعة ثاني مقدم السيد أحمد بن محمد المحرابي إلى حضور وذلك أن السيد المجاهد حسين بن علي [سحلة] رحمه الله كان قد أرسله السيد عامر رحمه الله إلى بيت منعين في عسكر كثير فقصده ابن شمس الدين ووقع الحرب بينهما في ضلع بكر فأغار إلى السيد حسين على عسكر من أصحاب الإمام عليه السلام الذين في حضور فوصلوا إلى موضع يسمى اللطية، والتفت ابن شمس الدين عليهم وأحربهم وترك أهل بيت منعين فانهزموا فقطعهم الخيل فقتل منهم وجعل في ذلك بياضاً، والرواية التي في الكتاب من السيد [ق/221] علي بن المهدي والشيخ عبد الله الحارثي والفقيه صلاح البريشي وغيرهم من الثقات، وذكروا فيها من الأعيان كثيراً مع السيد الحسن نفع الله به والسيد أحمد منهم، والحاج الفاضل المجاهد أحمد بن علي بن دغيش وغيرهم من العيون لعل في الرواية سهو وإلا ما في الكتاب أظهر وأشهر من غير واحد، واستمر على ذلك حتى انحاز مولانا عليه السلام في شهارة المحروسة بالله وبقي على حالته حتى خرج مولانا عليه السلام من شهارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وله مكاتبات إلى مولانا عليه السلام وجوابات مشحونة من الحكم والعلوم الدينية وبعد غور،ٍ ودهاء، وصبر، في الأمور الدنيوية رحمة الله عليهما، وسمعت من جماعة من أصحاب مولانا عليه السلام أن سبب الظهور عليه في حصن ثلاء على يد الفقيه أحمد الدعاني من بلاد عيال يزيد وأنه كان من أصحاب مولانا الإمام عليه السلام، وكان متاخماً له ويعرف كثيراً من مكاتبته فغرته هذه الفانية وصار إلى سنان لا رحمه الله على يد بعض
مشائخ الظواهر فقال وقد ذكروا إياسهم من الحرب على ثلاء: أنا أدلكم من أين مدد السيد الحسن وكيف حاله وعمد المغور إلى قرطاس وسود خطاً على لسن مولانا عليه السلام إلى السيد الحسن، وعلم علامة مولانا عليه السلام، وفي ذلك من الخط وشبهة والعلامة الشريفة وشبهها، واللفظ والأغراض التي لا يعرفها إلا الخواص، وأرسل للسيد الحسن رضي الله عنه بشيء من الإمام، وفي الكتاب أخبار عامة وخاصة وأنا صرنا في سجن عليكم فتعرفنا كيف أموركم والحصن المحروس بالله أو كما قال، فأجابه السيد الحسن وأخبره بمن يمدهم ومن يواصلهم وإنما عندهم شيء مدخر إلا ما حصل من المحبين أو كما قال، فلما عرف سنان لا رحمه الله، وكان في خمر تجهز مغيراً إلى ثلاء وأحاط به من جميع أقطاره وانضم إليه الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين ومن إليه من كبراء دولته حتى منعوا على السيد عادت بركاته المواد فدافعهم وجرت حروب كثيرة حتى عرف رضوان الله عليه عدم صبر من عنده فجرى الخطاب على تسليم الحصن وأمان من فيه، وخرج السيد إلى كوكبان إلى نظر الأمير أحمد بن محمد، وأما أصحابه فلهم سلاحهم والأمان إلى بلادهم وتقررت الأحوال وصار السيد الحسن إلى محطة الأمير أحمد بن محمد وعظموه فأراد سنان لا رحمه الله أن يصل إليه فلم يتمكن من ذلك لتوسط الأمير المذكور.
وأخبرني بجملة هذه غير واحد من أصحاب الإمام عليه السلام وأن السيد الحسن سلام الله عليه كان في خيمة عند خيمة الأمير أحمد بن محمد [ق/222]، وعنده الرسم الموكلون بحفظه فلم يشعر إلا بالمخذول سنان لعنه الله في جماعة من خواصه فارتاع لذلك الأمير أحمد بن محمد وأصحابه وظنوا منه الغدر الذي هو أهله فقال سنان لا رحمه الله ما معناه: على رسلكم إنما أريد أنظر إلى صورة هذا السيد فلما رآه وخاطبه أجابه السيد بكلام صحيح مستقيم، وخفى على حالها تحقيقه، ثم أرسلوه ليلاً إلى كوكبان خوفاً من الغدر ولما صار إلى كوكبان طلبوه يقيدونه فانكسر القيد الأول ثم الثاني والثالث لزمه السيد عادت بركاته بيده الطاهرة فبقي لم ينكسر وبقي في حصن كوكبان حتى وصل مولانا محمد بن أمير المؤمنين والسادة الكرام المذكورون في أخبار شهارة المحروسة بالله فإنهم خرجوا من شهارة بعد تسليم حصن ثلاء بنحو عشرة أشهر وانضم إليهم.
[أخبار بلاد الشرف]
وأما بلاد الشرف فقال السيد أحمد بن محمد الشرفي نفع الله به ما معناه: أن الإمام عليه السلام بقي حافظاً لجانب شهارة بعد الخروج من السودة أياماً وتحركت جنود الظالمين لدخول بلاد الشرف ودخلوها من جهة حجة، وكان السيد نفع الله به واليها كما تقدم.
قال رضي الله عنه: ولم يكن معه من العسكر من يضبط بهم أطراف الشرف لاتساعها وعظم الأمر، وأرسل الإمام عليه السلام بغارة مع الفقيه علي بن محمد الشهاري واجتمع بالسيد أحمد عادت بركاته وقد طلع الشيخ زاهر بن عرجاش وغيره من مشائخ الشرف إلى الإمام عليه السلام وطلبوه أن يمدهم بولده مولانا محمد عادت بركاته فأجابهم عليه السلام بإرساله معهم ولم يحصل طائل إلى مراكزه أياماً، وعادوا إلى الإمام عليه السلام، ودخل الظالمون الشرف، وبعد ذلك أرسل سنان لعنه الله الشيخ مجلي بن صلاح بن وهان العذري وكان معه في الاعتقال فاسترضاه وأرسله للفساد علىالإمام، وصار في الصرارة من عذر مع عسكر من الظالمين فأرسل الإمام عليه السلام لمحاربته السيد الفاضل شرف الدين الحسن بن محمد المحرابي مع عسكر منصور، فحاصروه أياماً وقتلوا من أصحابه أنفاراً وأتوا به وبباقي أصحابه أسرى، فأمر الإمام عليه السلام بهدم الصرارة فهي إلى الآن، والحمد الله رب العالمين، وقبض على المفسدين إلى شهارة المحروسة بالله وأعطى الأمير الحسن بن ناصر الغرباني بغل الشيخ المذكور.
[حصار شهارة]
فصل: ولنرجع إلى تمام رواية الشيخ [ق/223] ناصر بن عبد الملك وأنه لما طلع جنود الظالمين من وعر أسفل وادي أقر، قال الشيخ المذكور: فلما عاد من كان عند مولانا عليه السلام وهو حينئذٍ في الحبس من شرقي فبقي الإمام عليه السلام ينظر ما زحف إليه من العجم والعرب وكأن الأرض تميد بهم، وسماع أصوات المرافع والطبول وغيرها تصك الأسماع، قال: فرأيت الإمام عليه السلام يهتز ويقلقل سيفه ويقول فيما بين ذلك: شهيد كزيد بن علي إن شاء الله وارتفع صوته بذلك، قال: فقال جماعة من أصحابه: في بقاك نفع عام وكذا، ثم لا زالوا به حتى تعلق بشهارة، ووقع وقعة مع ذلك في وادي من غربي سيران قتل فيها جماعة من المسلمين وفي غير ذلك أقل فيما سمعت جملته، وقد قامت المراتب أياماً مع السيد العلامة علي بن صلاح العبالي بجانب الغربي والسيد عبد الله بن محمد المحرابي بالأبرق، ثم المسارحة والسيد العلامة صالح بن عبد الله في الهجر واستعد للحصار، وصار الأهنوم إلا القليل إلى الأمير عبد الله بن المعافا وأطلعوه إلى نجد بني حمزة ورتبوا على شهارة المحروسة بالله الحصار حتى أحاطوا بأقطارها وألبوا العرب مع العجم على حصارها، والإمام عليه السلام يحاربهم بمن بقي معه من أهل الصبر والهجرة، وفي أكثرها اليد له عليهم، وكان جعل مراتب في مواضع وجعل الحرس ثم من يطوف عليهم بالنوبة، وله ولأصحابه أخبار طريفة، وجعل بعض أهل شهارة الفيش لأجل التنقل إليها للإحتياط والتماس الحفيظة وأنه غير مكترث وإنما يطوف على أهله، وكان بينهم قوماً ممن معه بمسارة ابن المعافا كما أخبرني السيد
جمال الدين علي بن محمد الغرباني عافاه الله أن الشريف صلاح بن محمد الغرباني لما أخذ المال من سنان لا رحمه الله على الفتك بالإمام عليه السلام في السودة وخاف من العجم تعلق بمولانا أيده الله كالعائذ به، وصار معه في شهارة فأراد الإمام عليه السلام وقد عرف بقاه على أنه أعظم من حاله الأول، قتله وأراح المسلمين من شره فلم يحصل إسعاد وخاف لا يكون بسببه وحشة وافتراق كلمة فحبسه، وكان الفقيه عبد الله بن علي الربخي المحرابي من خواص مولانا عليه السلام فصار إلى ابن المعافا ولم يدخل مع الإمام عليه السلام في شهارة.
وأخبرني الفقيه الصالح ناصر بن عابد الشهاري قال إن الإمام عليه السلام فرغ من صلاة الجمعة وهو في ميدان شهارة فذكر له الربخي فقال: اللهم عجل نقمته وكذا من الدعاء قال: فما والله [ق/224] أمسى عليه تلك الليلة حتى قال فلان من أصحابنا ما أظن هذه الدعوة صعدت إلى السماء بل أخرجها الله إلى هذا الفقيه الشقي، وذلك أن الإمام عليه السلام بقي إلى بعد العشاء الآخرة ورأى فوانيس وشمعاً خرجت من مكان ابن المعافا إلى جبل ذري فحصل مع الإمام ومن عنده الشجن وظنوا الظنون وخافوا على مواضع من شرق شهارة الفيش، قال: وكان في حي صنوه الفقيه صلاح بن عابد قوة ورجالة، وكان بينه وبين ابن المعافا معرفة ويوهم أنه عين له على الإمام عليه السلام وهو للإمام عليه السلام فيأخذ لذلك الإمام كثيراً من أخباره، فقال للإمام عليه السلام: أتأذن لي يا مولانا آتيك بخبر هذه الفوانيس والحركة؟ قفال: نعم فذهب إلى منزله وأخذ عشاه وعليه قطيع لحم وأخذ معه من حائط له بقلاً ثم جعله في خرقة وغير هيئته وهو من أهل المكان، وخرج على أنه يطوف على الحرس على عادته، ثم خرج إلى محطة أهل كوكبان وعليها الشيخ عبد الله الرواس فلا زال يتلطف لدخوله محطتهم فوجده سامراً في خواص من أصحابه وكان يعرفه ويوهمه كما ذكرت من أخباره مع ابن المعافا، قال فسأله كيف كان الوصول إليه مع شدة الحرس، فذكر أخباراً فيها شدة اختلاس وقوة مراس والموجب للوصول أن بيني وبينك كذا من الصحبة وقد أرسل الإمام عليه السلام جماعة يكمنون علي الغيل حين يخرج أصحابك للإغتراف فيقتلونهم وخشيت اللوم وكذا، فشكر له وصدقه،
وقال: رأيت حركة في محطة الأمير وشموعاً وكذا فحصل معي أيضاً شجن ماهي؟ قفال : لا شجن إنما هو الفقيه الربخي كان في حضرة الأمير قبيل صلاة العصر فحدث معه ورم في بطنه وخرج معه شيء ووجع هائل (بحيث أنه أنتن ريحه من حينه فأمر من يوصله بيته المحراب فحمل بعد المغرب) وهلك، وقد تقدم في الكرامات تفصيل هذه من رواية السيد أحمد نفع الله به.
قال الفقيه صلاح: فعلمت أنه أصيب عقيب تلك الدعوة وكان مصداق ما قاله فلان من أصحابنا أنها لم تصعد إلى السماء، فرجع الفقيه صلاح في الليل فأمر جماعة يكمنون على الماء لأجل يراهم أهل كوكبان فيأمنوه لمثلها، ورجع إلى الإمام عليه السلام فأخبره الخبر فحمد الله سبحانه على هلاك المذكور، وفيما بين هذه الأمور منها أن الإمام عليه السلام أمر بصنيعة عرادة وكملت على أحسن ما يكون فخاف الذي اصطنعها [ق/225] العواقب فغيرها وبعث في أيام حصاره رسائل إلى المسلمين يستدعي غارة فلم يقدر أحد أن يقرأها فضلاً أن يعمل بها.
قال الشيخ محمد بن حسن دشيلة الجبري وغيره من مشائح بني جبر: وأنا أسمع أنها وصلتهم قصيدة السيد الإمام الزاهد صلاح الدين صالح بن عبد الله الغرباني المعروف بابن مغل عادت بركاته إلى بلاد حاشد وبكيل وهو إذ ذاك في محروس شهارة محصور مع الإمام عليه السلام في جماعة من علماء الآل الكرام وشيعتهم الأعلام كما سيأتي بعض تعدادهم وهي هذه:
ألا هل إلى نيل العلى من يساعد .... وهل لحسام المجد كف وساعد
وهل بقيت للمسلمين حمية .... إذا هي قد ذلت بكيل وحاشد
أفيقوا عباد الله من غشواتكم .... فليس سوى قاعد ومجاهد
إمامكم المنصور قد أحدقت به .... طوائف أهل البغي كيف التقاعد
ترون سحاب الروميات وبرقها .... وما برحت منها تحن الرواعد
وأنتم وقوف في البيوت كأنكم .... بهائم ترعى أو نساء قواعد
تحاليتم أكل العصيد وربما .... تقب عليكم أن ونيتم عصائد
أترضون هذا في إمام زمانكم .... وفيكم علي عهد حماه أماجد
نسيتم عهوداً طوقت في رقابكم .... وخابت ظنون فيكم وعقائد
جحدتم جميلاً منه والحق شكره .... فما شاكر عرفان كمن هو جاحد
وإني لأخشى إن تطاول حربهم .... تقطع رؤوساً منكم وسواعد
ولا تأمنوا كيد العدو فإنه .... له ظغن في قلبه ومكائد
أما فيكم من غاضب لإلهه .... يعيد الذي كانت عليه العوائد
فيا حاشداه بل يا بكيلاه ما لكم .... تقاعدتم والخاذل المتقاعد
أما آن أن تحموا بقية أرضكم .... وأن تتواصوا بينكم وتعاقدوا
وتتبعوا ما أسستته جدودكم .... فهم ناصروا آل الرسول وعاضدوا
وأثنى عليهم بالذي هم أهله .... فكم دونت بالمدح فيهم قصائد
وقد كنتم في الابتداء أهل سطوة .... لكم سطوة تنهد منها الجلامد
تعالوا إلى نهج سوي ومشرب .... هني فقد طال الجفاء والتباعد
[ق/226]
ولا تخذلوا المنصور وارعوا حقوقه .... فهو حجة لله فيكم وشاهد
أما قرعت أسماعكم من شهارة .... بنادق لا تنفك منها تراعد
وفيها من الآل الأكارم سادة .... لهم شيم مرضية ومحامد
بهم يهتدى في المعضلات ويقتدى .... ويستدفع المكروه ممن يعاند
ومن عسكر المنصور كم من سميدع .... ملاحمهم قامت عليها شواهد
وأنصاره أهل الشهارات والأولى .... تخلوا عن الأوطان ثمت جاهدوا
تراهم إذا ناداهم صارخ الوغى .... صقور إلى حوماتها يتواردوا
وإن أمطرت فوق الخصوم رصاصهم .... يفلق هاماً منهم وقماحد
حمى الله بالآيات من في شهارة .... ونجاهم من مكر من هو حاسد
فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى .... وتنحل إلا منك عنا الشدائد
وخص دعائي بالقبول لأنني .... على كل حال شاكر لك حامد
أغثنا أغثنا يا كريم بنصرة .... تبدد شمل المعتدي وتباعد
وصل على المختار ما ذر شارق .... وعترته الأخيار ما خر ساجد
قال: فاجتمعنا بجماعة من الفقهاء ينظر موضعاً يقرأها فيه ولما وجدناه وقرأناها بكينا كثيراً وإذا بفلان يتخلل الناس حتى وقف علينا فأخرج قصيدة مع رسالة من السيد العلامة الحسن بن شرف الدين عادت بركاته في حصن ثلاء وهي هذه:
أمثلكم يطيب له منام .... ويهناه الشراب أوالطعام
ويضحك ضاحك عجباً ولهواً .... حرام ذلكم منكم حرام
وكيف يلذ للأحرار عيش .... وسوح ثلاء تغاوره الطغام
وشرد ساكنوه بكل نجد .... وأعقبه به بوم وهام
فحيناً من نغاش الترك يغزو .... وأحياناً تغازيه شبام
أحصن ثلاء حماه الله يرضى .... بأن يعلوه قهراً واهتضام
ومولانا الإمام له جنود .... يضيق السهل منها والأكام
وسادات الأنام بكل قطر .... لكم منهم جيش لهام
فصح فيهم واسمع إن أجابوا .... ونبههم إذا ما هم نيام
[ق/227]
وقل أحباءنا كم توعدونا .... أما يرجى لموعدكم تمام
فيا أنصار مولانا قعدتم .... فلا يرى لقعدتكم قيام
غفلتم بل رقدتم ثم نمتم .... فكم ذا تغفلون وكم تناموا
أجدوا في الجهاد فقد دعاكم .... إمام ما يقاس به إمام
إمام من بني المختار طابت .... أرومته وأنسله كرام
وبدر من بني الزهراء تجلى .... فزال بنور غرته الظلام
فنحمد ربنا إذ قام فينا .... ألاح السر وهو بنا غلام
فجزاه الإله جنان خلد .... يحيا حين يدخلها سلام
وتفرق الأعوان، وقل المعوان، قال الشيخ سعيد بن راشد القميحي النهمي رحمه الله: فما كان نجد في القبيلة بيتاً واحداً أو اثنين ممن يحفظنا من شدة الخوف حتى أنكرتنا المعارف، وفرقتنا المخاوف، وتطير بأهل الحق الجاهلون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
قال الشيخ محمد بن حسن[دشيلة]: فما قدرنا على غير البكاء والله المستعان، ثم كان ما كان من تسليم حصن ثلاء وقد تقدم حصن مدع وعفار، وكان في حصن عولي سيدنا العلامة المهدي بن أحمد الرحمي أحد مشائخ مولانا عليه السلام فغلبه الرتبة وهم من أهله كما رأيت منقولاً من خط الإمام عليه السلام، وتعنتوه وطلبوه خطاً من الإمام عليه السلام أنهم يسلمون الحصن وأنهم أهل الوفاء، وعرف الإمام ذلك وفعله لهم لخلاص القاضي المهدي رحمه الله ولا أدري أين صار رحمه الله بعد خروجه من الحصن المذكور.
قال السيد أحمد بن محمد نفع الله به: ولم تحصل للفقيه السلامة إلا بعد وضع الإمام عليه السلام لوالي الحصن الذي كان تسليم الحصن على يده وهو من بني القدمي كتاباً أنه طيب في الإمام ففعل له الإمام عليه السلام تفادياً للفقيه المذكور ولغيره من المؤمنين من الهلاك، وهذه صورة الكتاب:
ليعلم الواقف على هذا المسطور أنه إذا انسلخ شهر رجب الأصب من سنة ثمان وألف سنة،[1599م] ولما يمن الله سبحانه بالفتح من عنده فقد أذنا لمشائخ من بني القدمي وأصحابه من ولاة حصن عولي وكذا السادة الساكنون معهم أن يصالحوا على أنفسهم إذا خافوا على أنفسهم التلف وهم أهل الطيب والنقاء والصدق [ق/228] والوفاء، ولنا من ذلك عوض من الله وخلف، والله متم نوره لو كره الكافرون. انتهى بلفظه.
وأما سيدنا المهدي رحمه الله فاعتقله الأمير أحمد بن محمد في كوكبان وبقي مع أولاد الإمام عليه السلام والسادة ثم أخرجه إلى الأهجر، وتوفي بها رحمة الله عليه.
[رسالة الإمام إلى السادة والفقهاء لحثهم على الجهاد]
وللإمام عليه السلام رسائل لا تحصى كثرة، وقد جمع منها مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله عليه كثيراً، وبقي الأكثر لم يكتب لطول المدة وتفرق الرسائل في البلاد، منها إلى السادة والفقهاء وأهل العلم من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكرناها هاهنا، وإن كان أنشأها في السودة لمناسبتها نهاية الشدة عليه صلوات الله عليه، وهي هذه:
كتابنا هذا إلى المعترين إلى المعرفة والدين من السادة والشيعة وسائر الفقهاء من أمة محمد صلى الله عليه وآله، أما بعد:
حمداً لله المفترض حمده، والنافذ حكمه، والواجب امتثال ما أمر به ونهى عنه، والصلاة والسلام على سيد البشر وآله الغرر، والسلام على من اتبع الهدى، وتجنب طرق الغواية والردى، فإنا قد دعونا هذه الأمة إلى سبيل الرشاد، وإلى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، فنظرنا في كثير ممن يعتزي إلى المعرفة والعلم يقر بوجوب طاعتنا بلسانه ويخالفنا في جميع ذلك بفعاله، لا يجاهد في الله بنفسه ولا بماله والله يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ....} الآية، ويقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ...} الآية، ومعنى قوله: (كتب عليكم القتال): أوجب وحتم وألزم، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } تقتضي الوجوب عقلاً وشرعاً ولغة؛ لأن العقل يقضي بوجوب امتثال أمر المالك المنعم على الإطلاق وهذا منه، ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولأن العرب تؤدب من لم يمتثل أمرها ونهيها، ويعتدون في التأديب بأمرهم ونهيهم، وما ذاك إلا لأنه يفهم ما ذكرناه من لغتهم.
فإن قلتم: إنه فرض كفاية وقد تكاثرت العساكر المنصورة وهي تقوم بذلك.
قلنا: كيف نقوم بذلك والأعداء خذلهم[ق/229] الله وأقمأهم كما عرفتم لا نستطيع على استئصالهم وأخذهم مع تفرقهم في المدائن والله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، ألستم تعلمون أنهم صاروا يصولون في حدود البلاد، ويكثرون فيها الفساد، ويسفكون الدماء، والمجاهدون من ذلك في تعب وعناء، وأنتم تتلقطون الأخبار من جهتم كأنكم غيرمخاطبين، ولا بالجهاد مكلفين، ورضيتم بالقعود مع الخوالف، لا تحملون سلاحاً، ولا نرجوا منكم فلاحاً، ألا ترون ما فعل بمدينة الطويلة وهزم وغيرهما.
فإن قلتم: إنا لم نلزمكم بذلك، فهذا غاية المكابرة لأنا لم نزل نطلب الناس للجهاد من كل أوان، وهانا ذا الآن أقول لكم: أنا مطالب لكم في كل لحظة وعند كل فريضة القيام بالجهاد، فإن قلتم: إنا لا نجدسلاحاً فأعطنا سلاحاً، وعلينا الجهاد، قلنا: إن الله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ...} الآية، وهذه الآية تقضي بوجوب كسب ما استطعتم من السلاح فمن استطاع كسب الخيل وجب عليه ذلك، ومن استطاع كسب البنادق وجب عليه ذلك، وعلى كل امرئ ما استطاع، فإن قلتم: إنا معاشر السادة والشيعة والفقهاء فينا الضعف، قلنا: وبالله التوفيق إنا نراكم بخلاف ذلك والله يقول: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} ، فإن قلتم: إنا نخاف على من ورائنا الضياع إن اشتغلنا بذلك، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)) ، قلنا: وبالله التوفيق إن الله وعد من امتثل أمره واتقاه وتوكل عليه بالرزق واليسر والكفاية، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ}وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} ثم إن الله تعالى وعد عباده مع الهجرة بمراغمة الأعداء والسعة قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ
فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}، والشيطان يعدكم الفقر قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} والله تعالى وعد أيضاً بالمغفرة والفضل قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْل} فاخبروني أيها العلماء ما حكم الذي لا يصدق الله فيما وعد ويصدق الشيطان فيما وعد؟، فإن قلتم: إنا نخاف على أموالنا وأهلنا التلف، قلت وبالله التوفيق: إنكم [ق/230]إذا قمتم قياماً تاماً وعلم الله إيمانكم لم يقع شيء من ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ويقول: {إِنْ تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ...} الآية، وإن قلتم: إن ذلك قد وقع مع كثير من المؤمنين، قلت: وبالله التوفيق سبب ذلك بحرب الأعداء وخذلان مثلكم فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا ولا استكانوا مثلكم، مع أن الله سبحانه يقول: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
فإن قلتم: أسرنا وعسف علينا بالمال ونحن نجاهد.
قلت وبالله التوفيق: وأين المال وأنتم لا ترضون تعينونا بشيء من المال والله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وهذا من الله أمر جازم يتناول المال وغيره، ويقول: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ...} الآية، وهذا نص صريح في محل النزاع، اللهم هذا أمرك وأنا مطالب به جميع المكلفين بالمعاونة والجهاد بالمال والنفس حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، من امتثل أمره فخذ بناصيته إلى الخير ومن أبى وعصى فاغننا عنه وابسله بما كسب إنك على كل شيء قدير.
فإن قلتم: إنا لم نعرف صحة إمامتك.
قلت: هذا [وما توفيقي إلاَّ بالله] الفرس وهذا الميدان واسألوني عما تحتاجون إليه في أمر دينكم مسترشدين لا متعنتين، فإنا بحمد الله حجة الله عليكم فمن أطاعني هديته إلى سواء السبيل، ومن عصاني فبيني وبينه يوم الحساب {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}،{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
وقال الفقيه ناصر بن عابد وغيره: أن ذا القفار لعنه الله كان في الرحبة أعلى من جميمة علي بن علي فاحتال بأن جعل مترساً مرتفعاً وحصنه وجعل فيه حماة من أصحابه وطمع في قطع ما بين شهارة الأمير وشهارة الفيش، وخاف الإمام عليه السلام ذلك وأن يسري ذلك إلى غيره فجمع أهل الشهارتين وأخبرهم [ق/231] الخبر وطلب منهم حملة يفرج الله بها هذه الشدة، وكان فيما قال: هبوا لي هذه الليلة من أعماركم، ثم أمرهم بالحملة ونزل معهم عليه السلام حتى ركز لهم قريباً من حصن المنصورة، وكانت ليلة أربعة عشر من شهر رمضان المعظم، فلما أكملوا التعبئة حمل المجاهدون وكبروا، وأكثروا من ذلك، ثم تصايحت العجم عليهم ورموهم بالبنادق، قال: واختلط الرجال ودخان البنادق وشعاع النيران حتى صار الضوء كالشمس فالتقى الفريقان، وتكاثر العجم ومن إليهم فكادوا يلزمون المجاهدين قبضاً بالأيدي، قال: فأغاث الله عباده المجاهدين وقبل دعوة ابن نبيه المجاهد فيه بأن خسف القمر في أقرب من لمح البصر، خسوفاً لا يعلم مثله حتى لم يعلم أنه كان قمر، فعاد المجاهدون وقد هزموا الظالمين وأخربوا ذلك المترس، وقتل من المجاهدين ثلاثة أنفار فقط، وجرح جماعة ليسوا بالكثير وقتل من العجم جماعة كثيرون.
قال الفقيه ناصر عافاه الله: فوصلنا عند الإمام عليه السلام وإذا هو يبكي كثيراً وينتحب ويقول: غررت بكم -ويقول فيما بين ذلك وهو يبكي-: من بقي منكم وكم عاد وقد ظن أن قد هلك أكثر من النصف فبشرناه بالسلامة، فلما عرف السلامة حمد الله كثيراً وسجد شكراً، وكان من الثلاثة السيد الفاضل لطف الله بن شمس الدين بن المرتضى بن علي بن الهادوي المعروف بسحلة، وكان من كبار المجاهدين، قال: فصلى عليه الإمام ودفنه ونزل قبره، قال وهو يقول له فيما بين ذلك: يا سيد لطف الله اقر جدي وجدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرفه ما لقيت من أمته وما فعلت معي هذه الأمة، وأكثر من ذلك حتى قال له القائل: تخاطب ميتاً يا مولانا أوكما قال، فغضب وتلا {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ...} الآية.
قال السيد أحمد عادت بركاته: وممن استشهد أيضاً السيد عبد الله بن علي بن المهدي بن جحاف القاسمي، والشيخ علي بن طحيح من ظليمة وسعيد بن يحيى بن ترابة، وهي في ليلة الإثنين لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة عشر وألف [الأول من اكتوبر 1602م] أصيبوا بالرصاص في رؤوسهم إلا السيد عبد الله فإنها أصابته تحت سرته، وقبره هو والسيد لطف الله شامي البركة السفلى وغربي البركة العليا من شهارة الفيش حرسها الله، وقبر السيد لطف الله عدنياً ، وقبر السيد عبد الله قبلياً رحمهم الله.
[وقعة المحافر]
وقبل هذه الوقعة [ق/232] أو بعدها بيسير وقعة المحافر وهي أن ابن المعافا رتب في موضع يسمى المحافر وهي أكمة بيضاء يماني شهارة قريبة من باب النحر لظنه أن حفظه لذلك المكان من أهل شهارة يضر بهم من جهة الحطب وغيره فجمع لذلك عسكراً كثيراً وبذل لهم دراهم واسعة، ووعدهم أن ثبتوا فيه الزيادة في جوامكهم فطلعوه في الليل وعمروا في ذلك الموضع في ليلتهم تلك زهاء أربعين موضعاً ولم يستقفوها لمعاجلة أصحاب الإمام عليه السلام لهم، وكانوا قد أجلبوا قبائل الأهنوم للعمارة، وحمل الأخشاب والأبواب من كل مكان، ولما استقروا فيه أحربهم جماعة من أهل شهارة وغيرهم من المهاجرين فيها نحو مائة ولم يحربوهم لينزلوهم عنه لأن يد الأتراك أقوى من يد أصحاب الإمام إلا أنهم طمعوا في أن يقتلوا منهم من قدروا عليه فأحربوهم من أول طلوع الفجر إلى قبيل غروب الشمس، وكان أكثر الحروب بالحجارة إذ عسكر الأتراك من وراء أكمة هناك، فكان أصحاب الإمام يلقون الأحجار في الهوى وهي تسقط عليهم وراء تلك الأكمة، فأضرت بهم فثبت الله أصحاب الإمام عليه السلام فصبروا، وفي آخر ذلك اليوم قتل رئيس هؤلاء الذين طلعوا إلى الموضع المذكور وهو رجل من أهل صنعاء يقال له الآغا محمد، وبعد قتله مع من قتل منهم غيره وما شاهدوه من صبر أصحاب الإمام وما نزل بهم من الضرر تركوا هذا الموضع وخرجوا منه منهزمين، وتركوا فيه الخيام التي كانوا نصبوها وهي على ما ظنه الراوي تسع، وذكر بعض من كان حاضر الوقعة وغنم منها خيمة أنها أربع عشرة خيمة وذلك قبل غروب الشمس ولم يكن [قد] بقي في
المقاتل من أصحاب الإمام عليه السلام إلا جماعة يسيرة لأنهم تعبوا، ومنهم من راح للعشاء، ومنهم من راح للصلاة فتبعهم من بقي هناك من أصحاب الإمام عليه السلام، ومنهم السيد الفاضل العلامة جمال الدين علي بن صلاح العبالي والفقيه علي بن محمد الشهاري ومن معهما وأخذوا تلك الخيام وأطلعت محروس شهارة ونصبت فيها.
قال السيد أحمد نفع الله به: ولم تزل الحرب قائمة على شهارة في المدة التي حوصرت فيها أكثر الأيام بل كلها وأكثر ذلك حولي باب النصر، وكان [بعض] أصحاب الإمام ينزلون في الليل على بعض مراتب الأتراك فيأخذون ما فيها ويقتلون من قدروا عليه وربما يطردونهم من ذلك [ق/233] الموضع، وكان بينهم وقعات كثيرة.
[محاصرة شهارة وخروج الإمام منها]
فصل: ولما اشتد الحصار على شهارة المحروسة بالله، ويروى أن عدة المحاط عليها من جميع أقطارها سبعون محطة من العجم والعرب، وكان صاحب أمرهم من العجم ذي الفقار (كما تقدم) ، وإليه أمراء منهم أيضاً وصاحب تدبيرهم والمرجع إليه في أمورهم الأمير عبد الله بن يحيى بن عمر وابن المعافا كما سبق، نظر مولانا عليه السلام أن اليمن قد صفا لهم وإنما نرجو أحداً يفرج عن شهارة حرسها الله تعالى كما رأيت ذلك بخط يده الكريمة في حامية كتاب له يسمى (البرهان) للإمام الديلمي عليه السلام ما معناه: كان خروجنا من شهارة المحروسة بالله ليلة كذا من شهر كذا من عام كذا خفي علي اسم التأريخ وإذا يسر الله أثبته في هذا الموضع إن شاء الله تعالى.
نعم ظفرت بذلك والحمد لله كثيراً، قال عليه السلام: كان خروجي من حصون شهارة أنتزعها الله من أيدي الظالمين لثلاث بقين من شوال سنة عشر وألف سنة [98 ابريل 1602م] بعد أن طال حطاط الأتراك أبادهم الله وقل الناصر، وكان حطاطهم لثلاث ليال خلت من شوال سنة تسع وألف [الأول من مايو 1601م]، وكان من أسباب خروجي قلة الشحنة، وكان الإنفاق فيها على ألف وثلاثمائة نفس بين ذكر وأنثى وكبير وصغير، وطمعنا في قيام الناس معنا فلم يتم لنا ما أردنا منهم حتى كان تسليم الشهارتين معاً إلى أيدي الظالمين لثلاث ليالٍ بقين من ذي الحجة سنة إحدى عشرة وألف [7 يونيو 1603م]. انتهى.
قلت: فيكون مدة حصار شهارة حتى خرج منها عليه السلام إحدى عشر شهراً وسبعة وعشرون يوماً وحفظوها بعده سلام الله عليه سنة كاملة. والله أعلم.
وأخبرني الحاج الأفضل سالم بن علي الحكمي من بلد قبلي شهارة الفيش يسمى الجحيحة، وكان هو ورفيقه الحاج الأفضل الصالح محمد بن زياد الحكمي منهم أيضاً أن حي الحاج الفاضل العالم أحمد بن علي بن دعيش رحمه الله لم يحتز مع مولانا عليه السلام بل أقام جاراً مع بني عبيد وادعة الظاهر وحفظوه، (وقال الفقيه العالم بدر الدين محمد بن ناصر بن دعيش: أنه خرج إليها رسولاً من شهارة المحروسة بالله إليهم من الإمام عليه السلام فكان في جوار حي الشيخ يحيى القبيضة المعروف بأبي عسال، وذكر خبراً طويلاً) فكان يسعى في إرسال سعاة على سبيل الاختفاء على نواحٍ كثيرة من بلاد الزيدية [ق/234] لطلب المواد للإمام عليه السلام من زكاة وبر وغير ذلك فإذا اجتمع لديه أرسل للحاجين المذكورين لمعرفتهم بالطرق والمراتب لكونهم من حوالي شهارة فيحملان ما حصله الحاج على مخاطرة بأنفسهما لمحبتهما ومعرفتهما، فيوصلانه إلى كفه ما بين المنصورة المسمى الرزوة فيدخلان الكهف ليلاً ثم يضحيان أعلاه ثوباً فيراه أصحاب الإمام عليه السلام فيعرفونه فينزل هو بنفسه إلى أعلى الكهف فإذا عرفهما بالكلام نزل إليهما، وقد ينزل معه كاتب وأحد الفقهاء يعيناه في قبض ما وصلا به، والجوابات على أهل الخطوط والنظور لهم بما وصل، قال الحاج سالم: فكنا على ذلك مدة وما كاد يقصر على مولانا أيده الله ومن عنده حال من كثرة الإمداد، قال: وأعاننا الله وسهل علينا الطرقات، وكنا نخاف المرور في جهات من طرق الجبل المحروس بالله وكنا كثيراً ما نقول لمولانا عليه السلام: قد ترى كم يحمل كل رجل منا من هذا البر
والصابون وغيرهما أنت يا مولانا أخف من هذه الحمولة، هلم نحملك حتى تخرج إلى مشارق الأرض فيلتئم إليك أصحابك والأنصار وأهل الصبر، فتفرج عن شهارة وأهلها، قال: فكان يبعد عنا غاية البعد، فلما كان في بعضها، قال: يطلعان معنا حتى يخرجا لنا شيئاً، قال: وقد دبر الأمر وشاور أهل الصلاح من الخاصة ومهد لهم قواعد منها تنقله من شهارة الأمير إلى شهارة الفيش حتى كان يقسم المقام نصفين، وقد يختفي أياماً وكان في أهل شهارة نفسها من غير المهاجرين من يخاف غدره وأنهم عيون عليه لابن المعافا، وقد تقدم طرف من ذلك، فلما كان الليل، قال: احتجنا كلامكم الأول، قال الحاج المذكور: ففرحنا بذلك فرحاً شديداً فالكل منا ومن العلماء وخواصه قاطعون أنه إذا خرج اجتمع له من يفرج الله به عن شهارة ومن فيها والكل قاطعون، فكان الخروج من شرق شهارة الفيش في شوال سنة عشر وألف، وصحبه الفقيه علي الشهاري المشهور في الجهاد وسيأتي ما كان من سوء الخاتمة نعوذ بالله منها.
ومما أخبرني بعض الخواص أنه عليه السلام استصحبه في الخروج مخافة مكره في شهارة ومن فيها، فإنه من أهل الشهامة مع عدم الثبات كما كان منه والله المستعان، نسأله السلامة والتوفيق وحسن الخاتمة، واستصحب أيضاً الشيخ علي بن وهان العذري رحمه الله وقد دبر أمر شهارة المحروسة بالله وعلقها بولده مولانا محمد والسادة الفضلاء.
قال [ق/235] الوالد السيد محمد بن نصار الغرباني مغل أطال الله بقاه: إنه كتب اسمه الشريف في أوراق وتركها عند شيخه السيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن المهدي الجحافي رحمه الله ليجيب عن مطلوب أهل شهارة وما يحتاجون فيه رأي الإمام عليه السلام، وجواب بما يرد ونظير ما وصل حتى يقال أنه عليه السلام في بيته مختلياً لتدبير أنفع من ظهوره، فكان كذلك حتى ظهر في بلاد سفيان كما سيأتي.
(وكان العمل على السيد صارم الدين رحمه الله في كل شيء وهو المعظم والوصي على أولاد الإمام وإليه المرجع وعليه المعول، وكان أولاده معه في شهارة، وصنوه السيد علي بن المهدي رحمه الله وأولاده، وكان السيد علي مصاهراً للإمام المنصور بالله زوجه السيد ابنته الشريفة زينب بنت علي أم ولده يوسف بن أمير المؤمنين وإخوانه رحمهم الله، واسشتهد ولده السيد عبد الله بن علي في شهارة في الحصار، وتوفي السيد علي بن المهدي رحمه الله في شهارة الفيش، وقبره عند ولده الشهيد والسيد لطف بن شمس الدين سحلة رحمه الله)، وكانت طريقهم (يعني الإمام ومن خرج معه من محروس شهارة) إلى مرتبة فيها قوم من نهم ممن جلبهم العجم لحصار شهارة حرسها الله، وعليهم أمير من العجم فوجدوهم كما أخبرني الحاج المذكور محترسين فما أمكن قطع محطتهم إلا وقد قرب الصباح فدلهم الحاجان إلى موضع في أسفل وادي العق فيه مغارة عظيمة يصطنعها أهل تلك المواضع للماء، فأخفوهم نهارهم فيها وهم بالقرب من المحطة، وسمعت من الشيخ سريع بن صالح النهمي ثم الصيادي من قرية الحرف أنه كان مع العجم مع أصحابه من نهم هو والشيخ سعيد بن
عاطف النهمي الصيادي ابن عم الشيخ سريع المذكور أنهما يعني الشيخ سريع وابن عمه اتفقا بمولانا عليه السلام في هذه المغارة وأمنهما، وكان أصحابه هموا بهما وأنهما رعياه حتى الليل لا يطوف إلى حوالي هذه المغارة أحد إلا صرفاه بما لا يوهم، وأما غير الشيخ سريع فقال: أما الشيخ سريع فلم يوافق مولانا عليه السلام وإنما وافقه الشيخ سعيد فقط، وكان مولانا عليه السلام يحسن إليهم ويعرف لهم ذلك، وهاجرا آخراً لما عم المشارق الجدب إلى مولانا عليه السلام وسكنا في ذلك الموضع وأنا أعرف ذلك.
نعم وقد كان أمراء العجم إذا خفي الإمام على عيونهم في شهارة يشددون في المحارس حتى أنهم يجعلون خيلاً يطوف في البطنة يقطع المواد وتطمع في مثلما وقع، وكفى الله شرهم [ق/236] لم ينالوا خيراً، ولما دخل الليل توكل على الله سبحانه وتعالى وقطع البطنة هو وأصحابه والحاجان، فوصلوا بعض قاع البطنة وأحسوا الخيل فانبطحوا على بطونهم حتى ذهبت، ومضوا ليلتهم، وكان قد سقط نعل مولانا عليه السلام فهو حاف إذ ذاك فشق به المشي، ولقد روي أنه قطع من ثيابه عليه السلام على أقدامه حتى أصبح عليه السلام في جانب القفاف من ظلعة النطاق فاختفى يومه وأمر إلى بعض البدوان وأرسل إليه فأضافه وأصحابه ما أمكن، [وكان قد مضى من الليلة القابلة] حتى قارب من حوث كما أخبرني الحاج الصالح علي بن سعيد الوادعي من أهل النحيد، قال: إنه وافق الإمام عليه السلام، وكان هذا الحاج من خواص السيد العلامة أمير الدين عبد الله رحمة الله عليه فانتهى إلى خارج هجرة حوث، وأرسل للسادة فوصل السيد العلامة عز الدين محمد بن علي بن عشيش رحمة الله عليه، وخواص من علماء حوث، قال: فتحدثا قليلاً ثم زودوهم ما أمكن ومضوا حتى أصبحوا قريباً من الجبل الأسود من بلاد سفيان فاختفوا هنالك حتى قرب الليل، وقربوا من الجبل المذكور وطلعوه قبل غروب الشمس فاحتطبوا في أعلاه حتى فعلوا حطباً كثيراً وفعلوا ناراً عظيمة، ويمينها أخرى أصغر منها وشمالها أصغر منها أيضاً، فكانت النار ثلاثاً، وهذه الثلاث النيران هي الأمارة لمن في شهارة حرسها الله من السادة الكرام وولده مولانا عز الإسلام نفع الله بهم جميعاً،
وقد قال لهم: إذا خلصنا الله سبحانه فسترون النار في ذلك الجبل على عددنا يعني الإمام وصاحبيه والدليلين، فلما صح لمن في شهارة حرسها الله النار أظهروا البشرى بسلامة مولانا وقطعوا بالنفس على شهارة واضطربت المحاط المحاصرة لشهارة من العجم وجنودهم، وعظم على العجم ذلك فخرجت لهم الزيادات من صنعاء ثم أرسلوا إلى بلاد حاشد وبكيل الأمير درويش، وصارت البلاد إليه في بلاد ذيبان وبني زهير، وأما المأمور لهدم البيوت فإنه حسين آغا في طائفة من العجم يسمون السيمانية كما أخبرني الشيخ صلاح بن قاسم الكلبي، وسمعت كذا من غيره لا علم له إلا خراب ما زاد على طبقة من كل بيت وتشددوا حتى ذلت القبائل ذلاً لا يعلم بمثله وقد أخذوا الرهائن من كل من يعرف له اسم فأحدهم يرهن رهينة على قبيلته، وآخر على أهل بلده، وآخر على إخوته وآخر على نفسه.
[إقامة الإمام في برط]
أخبرني الشيخ محمد [ق/237] بن حسن دشيلة الجبري من أهل وادي ذيبين، وكان من عيون بني جبر وأهل السبق في الجهاد أنها وصلت من مولانا عليه السلام رسائل فأقسم بالله لا وجدوا موضعاً يسترهم لقرائتها من شدة الخوف كيف بالعمل بمقتضاها، وقد تقدم {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ثم إن مولانا عليه السلام قطع بلاد سفيان، وكان قد مضه التعب الشديد وأكثر مسيره ليلاً وعلى غير طريق ومن غير نعلين إلا ما حمله أصحابه مع مشقة عليه وعليهم، وإذا برجل من سفيان معه جمل عظيم، وقال: هذا نذر له مدة ما وجدت من يوصله إلى مولانا عليه السلام فدلوه على الإمام فأعطاه إياه، وركب عليه مولانا عليه السلام حتى طلع طفة برط واستنهض أهل المشارق، فتثاقالوا عليه وقد خرج إلى شرق عيال أسد من شاظب وجهاتها كما سيأتي، وما كاد أحد من القبائل يقدر على رد الجواب من كثرة الظالمين والأشرار وذهاب كثير من الناس عن الله سبحانه، فأقام في مواضع من برط منها موضع يسمى حجار الضبع واحتفر فيها بئراً، وابتنى مسجداً وسمى الموضع الهجرة وهي قريب من ذو محمد بطن من أهل برط، وانتقل إلى موضع آخر يسمى رسب وادياً عظيماً وبقي قريباً من سنة ونصف وزوج ولده علياً من مشائخهم كما سيأتي، وخرج أمير من العجم من صعدة وأخرب مواضع الإمام عليه السلام، وخرج الإمام عليه السلام جهات المشارق وحصل عليه الخوف
الشديد فانقطع عن الناس وقد أخذ الترك أخذهم الله رهائن أهل برط فقل لذلك المعين، واشتد الخوف، وكان قد خرج إلى بلاد حاشد وبكيل قبل ذلك، وعاد ولم يجد ناصراً، وشهارة مع ذلك محتازة، فلما أيس من التفريج عليهم، واتفق معه ما اتفق مما ذكرناه عاد جهات المشرق كما تقدم آنفاً، فوصل التراب الأحمر فسمع الفقيه الأفضل عماد الدين يحيى بن محمد بن حنش رحمه الله يقرأ {يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، وكان هو مفكراً في أمره فتفاءل بذلك وعاد إلى فيوش برط، واتفق في بقاه في تلك المواضع أنه أرسل الحاج المجاهد شمس الدين أحمد بن عواض الأسدي إلى جهات خولان العالية، وقد طمع في إجابتهم لبقاء أعيان من العلماء والفضلاء عندهم في بدبدة، وكانت طريقه بلاد نهم، وكان قد دخل سنان لا رحمه الله إلى بلاد نهم، واستقر في موضع [ق/238] من أوديتها يسمى قفاج من أعمال عيال منصور، ولزم جماعة من مشائخ نهم وقتل آخرين.
وفيها اتفقت القضية المشهورة من الغدر بالحاج المجاهد شمس الدين رحمة الله عليه وذلك ما أخبرني والدي رحمه الله، قال: استقر سنان في الموضع المذكور، قال: وكنت أنا وعمي السيد الفاضل محمد بن عبد الله بن المنتصر رحمه الله مهاجرين في أعلى نصف في موضع منه يسمى الحنو من بلاد نهم وإذا قائل يقول لعمي: الحاج أحمد في جماعة يسيرة في بلاد القميحات مختفين، قال: فقال لي عمي: يا ولدي تعزم إلى عند الحاج على صورة لا يعرفك أحد وتحذره -وعلى ذهني أنه كتب إليه بقطفة غير موضحة اسمه- وقل له: يحفظ نفسه ويعزم ولا يقف وأكثر من التوصية، قال: فعزمت حتى وجدته في عنب في موضع من أعلى ضبوعة عند الشيخ محمد بن راصع القميحي وهو رفيقه، ومع الحاج شمس الدين رحمه الله قريب من العشرة الأنفار سمى منهم الشيخ محمد بن صلاح البحش الأسدي ومع الشيخ محمد بن راصع جماعة سماهم، قال: وكان الحاج يعرفني فأشرت إليه فقام إلي وأخبرته الخبر فقال: سلم على عمك كثيراً وقل له: الله خير حافظاً، وأخبره أن الإمام قال: إن ثم بطوناً تبغض أهل البيت ما رأينا منهم أحداً في نهم أو كما قال، [وها] نحن على ساق العزم في هذه الساعة إلى بلاد خولان وإنما نحن مستقربون لدنو الليل لأجل نقطع بلاد الشيخ هادي بن سالم النعيمي وجه ليل فإنه من الظالمين وممن نخافه أو كما قال، ولكن نذهب على حالتك هذه وتعيننا بهذه القطفة إلى سعيد الجعدي من موضع أسفل محطة سنان بينه وبين المحطة فوق الميل وتقبض منه الباروت والرصاص الوديعة وتلطف أنت ومن يحب الخير على إيصال ذلك إلينا إلى بلاد خولان، قال: ثم ودعته
وعزمت فلما فارقته بقدر بلاغ الصوت وإذا أولاد هادي بن سالم المذكور في نحو سبعين رجلاً عليهم السلاح الحسن، وقصدوا المضيق الذي يخرج منه الحاج، وكان بينهم وبين الحاج حاجز منيع فرآهم من عند الحاج فصاحوا، وسعى الحاج ومن معهم ليملكوا المضيق يقاتلون حتى ينفذوا وسعى المذكور كذلك، قال فلقد رأيت الشيخ محمد بن راصع يصيح بصوت يكاد أن تخرج نفسه معه من شدته وينادي أنه رفيق، وأنه معين فيما جرى، وكان معه جماعة ليسوا بالكثير يلحقون بعده، وكان هذا الشيخ محمد فيه [ق/239] شجاعة وقوة، لكنه بدين لا يقدر على السعي، فكان الحاج شمس الدين رحمة الله عليه أولهم وقد رآهم وعرفهم وعرفوه، ثم إن الحاج شمس الدين تقدم إلى المضيق [ولم يكن قد وصله أحد] حتى وصله فلان من أصحاب الشيخ الشقي فناوشه وهو يقول: لزيم يا حاج لزيم يا حاج، والحاج يصيح في رفقته فلم يعرف الحاج حتى قبضه الابن الثاني من أولاد الشيخ الشقي من ورائه، فقبض على وسطه وعلى الجنبية وقد صاح الشيخ محمد بن راصع بالشيخ المجاهد الباذل الشجاع المشهور صالح بن محمد حمران، وكان إذ ذاك لا يعرف في الجهاد وهو ابن أخت الشيخ محمد بن راصع، وقال فيما قال: يا صالحاه يا صالحاه عيبوا خالك، فوصل وطعن اللازم للحاج حتى أفلته من يده، وطعن الآخر ولم يموتا من تلك الطعنتان بل انتقمهم الله عقيبها بأسباب، أما أحدهما فقتله سعيد بن هادي بن الشيخ الشقي فإنه يعيب فيما جرى بالحاج، والآخر قتل في الجوف وهو الذي نهب بندق الحاج واسمه لا رحمه الله سعيد بن عامر ، والذي أخذ بندق الشيخ محمد بن البحش أكله حمل حتى هلك،
وكانت هذه من كرامات مولانا الإمام عليه السلام، ثم أدركه بعض ولد الشيخ محمد وغيرهم فهزموهم واستقام بينهم قتال عظيم حتى دنا الليل وسلم الله الحاج وجمل الشيخ محمد بن راصع، ومن هذه الوقعة انتشر ذكر الشيخ المجاهد صالح بن محمد حمران حتى كان يضرب به المثل ونأتي إن شاء الله بما أمكن من جمل أخباره.
[أخبار بلاد نهم]
واتفق في أيام هذه المحطة المخذولة قضايا، منها مغازي إلى بلاد نهم وكان الصوائح في تلك المدة من الظالم الشقي سنان لا رحمه الله على الفقهاء فيقتل من هو فقيه ولو اسماً أو يقرأ القرآن، وكان كثيراً ما يترصد لهم من جماعة العرب من أصحاب النقيب سعدان لا رحمه الله، وكان الفقيه الصالح نجم الدين الذماري [والد] القاضي الفاضل علي بن نجم الدين الضريمي بالضاد المعجمة سمي باسم قرية من بلاد نهم، هاجر إليها واستقر فيها حتى توفي رحمه الله، وكان هذا الفقيه نجم الدين ليس كولده، إنما هو خامل لا يعرف، وكان مختفياً عند رجل يسمى علي بن محمد الحداد من موضع يسمى العيضة بينه وبين محطة المخذول سنان لا رحمه الله نحو ثلاثة أميال إلا أنها يعني بلد المذكور في مضائق جبال فأتى بعض العرب أصحاب سعدان يسمى علي صميل إلى مكان الحداد، فوجد الفقيه نجم الدين فعرف أنه فقيه فأظهر [ق/240] له الأمان، واستقر عندهم، ثم طلب من الحداد ماء يشرب فقام الحداد ودخل بيته للماء والمكان خال في تلك الحال فما عاد بالماء إلا ووجد الملعون الشقي قد قتل الفقيه واحتز رأسه وحمله في خرقة وولى يريد المحطة، فلما رأى الحداد الفقيه بغير رأس أخذ سلاحه ولحق الشقي حتى أدركه قريباً من المحطة يراهم ويرونه وصاح به وهو لا يحتسب ذلك ونادى بأني معيب بالفقيه وزرقه، ثم تقدم فحز رأسه وأخذ رأس الفقيه أيضاً وعاد والصائح بعده فهرب بأولاده إلى شواهق أعلى من بيته، ووصلت العجم هدمت منازله وبلده وقطعوا أعنابهم وبقي مدة لا يستقر في موضع حتى هلك سنان لا رحمه الله وعاد
ففتح الله عليه الرزق الواسع والخير المتتابع، وأصلح الله بلده، وانفجر له غيل وضرب به المثل حتى لقد غرس البن في الشرق، وانتفع به، وهذا من بركة غضبه لله وانتصاره لهذا المظلوم، واتفق للوالد رحمه الله قضايا شبيهة بهذه وسلمه الله سبحانه وتعالى، وكذا غيره، ثم إن سنان لا رحمه الله قبض رهائن من نهم وأخذ طاعتهم وعاد إلى بلاد الظاهر، وكان حي السيد الطاهر العلامة الزاهد شرف الدين، وقمر الساجدين الحسن بن شرف الدين بن صلاح الحمزي رحمة الله عليه في ثلاء كما تقدم ، وله نهضات وحروب هائلة وحامية، وكان أعظم من ينتصب لمراكزته الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين من كوكبان فكانت الحروب عليه فوق سنتين ونصف في كلها اليد له وقد يقصدهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى بما أمكن من أخباره، فوصل هذا الظالم وشن الحرب مع الأمير المذكور ومن إليه من العجم على ثلاء وكانت أياماً كلها لم تقع على طائل فتأخر سنان إلى خمر من بلاد بني صريم، وسنذكر من أخباره إن شاء الله تعالى وحروب القبلة مع ما أمكن.
وأخبرني الشيخ سعيد بن راشد القميحي النهمي: أنه خرج الحاج المجاهد شمس الدين بجماعة واتفق له ما تقدم من القضية في بلاد نهم وسار بعدها حتى دخلوا بلاد خولان، وأجابه بعض بني جبر والشيخ علي بن فلاح الحدامي وغيرهم، وبقي أياماً وخرجت عليهم محاط من العجم مع الأمير درويش وغيره والشيخ زيد بن أحمد الحداي وغيرهم فانتهوا إلى زراجة، وكان الحاج أحمد في جانب لمدة مع الشيخ علي بن فلاح، قال الشيخ المذكور [ق/241]: ومرض الحاج مرضاً أيسنا منه بحيث أنه لا يقدر على تحريك شيء من جسده، قال: وكنا يا أصحابه عنده في خيمة خارج صرم الشيخ علي وجميع ما نحتاجه من الشيخ علي بن فلاح، قال فوصل رجل من نواحي الذراع وقال للحاج وهو مستلقي على قفاه: الترك بعدي وهم إليكم في هذه الليلة وقد جمعوا جموعاً، فشكر له الحاج ذلك ودعا له فقال: يا حاج عندي لك مروءة وصنيعة وذكر أشياء نزراً قل من يحفظه من الكرماء فضلاً عن غيرهم فجزاه الله خيراً، فطلب الحاج الشيخ علي وأخبره الخبر ورجح الإنتقال من ذلك الموضع إلى موضع قريب من جهات مشارق خولان، قال: وحملنا الحاج على سرير والشيخ وأصحابه وأولادهم وهم نحو أربعمائة بيت أو دون ذلك.
فلما وصلنا ذلك الموضع وأصبح الصباح والظالمون محيطون بموضعنا الأول وإليهم بنو ظبيان وغيرهم فحمدنا الله سبحانه على السلامة من شرهم، قال: وبقينا إلى آخر نهارنا وإذا بمرافعهم تضرب وقد أخربوا مواضع وإذا بنو ظبيان وشيخهم الشيخ عامر السراي لا رحمه الله يفتشون الأودية علينا وللعداوة بينهم وبين الحدا جاهدون ليدركون منهم ثأراً، فخرج سرعان من الحدا ومن أولاد الشيخ وأغاروا عليهم والحاج على ظهره كما تقدم، فأرسل إلى الشيخ ينهاهم فلم يقبلوا بل تلازموا بحرب عظيم قتل فيه أولاد الشيخ علي بن فلاح المسمى منصور، وكان شجاعاً بطلاً ثم غيره وانهزم الحداي فأغار الشيخ محمد البحش وأصحاب الحاج نحو من زهاء وعشرين نفراً، فأمر الحاج أن لا يظهروا للعدو وإنما يسمعونهم المرفع لأجل التفريج عن الحدا ، ولا يعرفون قلة القوم فيجترؤن علينا بمثل ما وقع فيمن شده الأمر ظهرنا لهم، واتصل بهم المدد من العجم فهزمونا عند غروب الشمس ودخلوا معنا الصرم، فوجدنا الحاج في غير موضعه، قال فسمعت الشيخ علي بن فلاح رحمه الله يصيح لفقد الحاج ولا ذكر أولاده وأهله، ثم استأصلوا بالصرم فقتلوا جماعة ونهبوا الصرم، قال: وهربنا وقد أيسنا من الحاج، فلما استقرينا في موضع وإذا به يصيح فاجتمعنا إليه وإذا هو يمشي على رجليه مشياً ضعفياً ويتوكأ بيده على الأرض مع رجليه في الليل، قال واجتمعنا إليه وحمدنا الله سبحانه على سلامته وهان كل ما لقينا بلقاه، وأن الشيخ علي بن فلاح هان عليه أولاده وقتل أصحابه مع سلامة الحاج شمس الدين، قال ثم اتفق رأي [ق/242] الحاج والشيخ علي بن فلاح على
أن الشيخ علي يكاتب الظلمة ويصالح على نفسه، وخرج الحاج محمولاً حتى انتهى إلى جانب من عيال وهب وبلاد خولان، وأخفاه بعضهم في عنب ووصل الشيخ أحمد بن علي العلواني الوهبي في جماعة بما نحتاج إليه وحصل من حمله إلى بلاد بدبدة بلاد السلاطين وبقى عندهم أربعة أشهر حتى شفاه الله سبحانه وتعالى ولحق بالإمام وقد تفرق أصحابه وخلصوا إلى عند الإمام عليه السلام على مشاق ومخاوف وسلمهم الله ولم يبق مع الحاج إلا ثلاثة أنفار هو رابعهم، قال الشيخ المذكور: ثم أرسلني بكتاب إلى الإمام عليه السلام يستورد رأيه الكريم وكنت الرسول فوافقت خروج الإمام عليه السلام إلى وادعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[أخبار الإمام في برط]
رجعنا إلى بقاء الإمام عليه السلام في برط، وقد اجتمع إليه كثير من أصحابه الذين لم يحتازوا في شهارة من مهاجرهم من مشارق البلاد ومغاربها، وقد تقدم ذكر رجوع عدو الله سنان لعنه الله إلى بلاد صنعاء وقد لقي هو وصنعاء من الحاج شمس الدين كل بلاء، ولما وصل علي باشا وكان ما تقدم [ثم] لحق بالإمام عليه السلام، وكان في بلاد خولان صعدة السيد العلامة علي بن إبراهيم الحداني فأرسل إليه الإمام عليه السلام الرئيس أحمد بن الإمام الحسن عادت بركاته، وحصل بينهما وحشة وأرسل الإمام عليه السلام الشيخ المجاهد عبد الله بن سعيد الطير، فأما السيد أحمد فكاتب العجم إلى صعدة وصار إليهم على يد السيد محمد بن عبد الله المؤيدي وبقي السيد علي بن إبراهيم والشيخ عبد الله، ولهما حروب على العجم اليد في أكثرها لهما، وكانا من أهل شدة البأس والمراس، لهما وقعات كثيرة وعلى أيديهما كانت وقعة السبيع على الأتراك وهي وقعة عظيمة قتل فيها جماعة من عسكر الأتراك، ولم يزالا على ذلك إلى أن استولى الأتراك علىشهارة، وبقيا بعد ذلك أياماً ولحق الشيخ عبد الله بالإمام عليه السلام وبقي السيد علي يتردد في الأطراف هذا معنى ما ذكره السيد أحمد نفع الله به.
[خروج أولاد الإمام من شهارة]
نعم ولما أيس عليه السلام من التنفيس عن شهارة قال الحاج سالم المذكور فقال لنا الإمام عليه السلام: هل تقدرون على إخراج أولادي علي والحسن والحسين من شهارة كما فعلتم في إخراجي أو كما قال؟ قفالا: نفعل إن شاء الله، قال: وأزمعنا على ذلك قفلنا: هات لنا جملك هذا نحملهم عليه إن شاء الله ثم مضينا وقد غيرنا حالنا [ق/243] حتى صرنا أشبه شيء بالحطابين من العصيمات ونحوهم الذين يختلفون إلى المحاط، فلما قربنا من المحاط أخذنا حطباً إلى محطة بالقرب من غارب رجح وأدخلنا الحطب وسمناه حتى أمسينا وما قد نفق، فلما كان الليل أخرجنا الجمل من المحطة على أناس من البدوان القريب من المحطة حتى غبنا عنها وعقل الجمل أحدنا والآخر بقي عند الحطب حتى عرفنا المحارس ومواضعها وتسللنا على عادتنا حتى طلعنا شهارة المحروسة بالله، وتسللنا فيها أيضاً حتى تبينا الموضع الذي فيه مولانا محمد عليه السلام وكان عنده جماعة من كبار أهل شهارة يمسون معه ويمسي معاهم فهو يخافهم باطناً وهم كذلك يخافون أن يخرج كما خرج أبوه عليه السلام وربما قد توعدهم ابن المعافا ومن عنده من العجم أنه إذا خرج ابن الإمام كما خرج أبوه فلا أمان لكم أو كما قال.
قال الحاج: فطلع أحدنا إلى طاقة منزله عليه السلام وقرعها فسمع ذلك فخرج إلينا على صفة وأدخلنا موضعاً وقرأ خط الإمام عليه السلام بالحيلة في الخروج بصغار أولاده عليه السلام، قال: فاحتال سيدي محمد بخروجهم إلينا والجواب وخرجنا بهم على نحو ما فعلنا به عليه السلام، وسرنا بهم ليلاً حتى قربنا من قرن الوعر وألبسناهم قمصانهم وقد نأى بهم الجمل ظاهراً طريق حوث، ومن سألنا، قلنا: هؤلاء أشراف من أهل حوث أطلعناهم من الهجر إلى بلدهم ونحن عصيمات أو كما قالوا، ثم لا زلنا حتى أوصلناهم إلى عند مولانا عليه السلام، قال فحصل معه السرور الذي لا يقدر قدره وحمد الله كثيراً، ودعا لنا بما نرجوا من الله قبوله إن شاء الله تعالى، قال وعدنا عن أمره عليه السلام مرة أخرى حتى دخلنا شهارة وقد عول علينا نخرج ولده أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله، قال: فلقينا شدة من شدة الاحتراس حتى ما قدرنا بالاتفاق بمولانا محمد إلا شيئاً يسيراً، وقال لا نقدر نحن وأنتم على ذلك من شدة الاحتراس داخلاً وخارجاً، قال فقلنا: أنت يا سيدي محمد، قال: أما أنا فقد وهبت نفسي لله تعالى ولمن في شهارة المحروسة بالله من المسلمين والعلماء والمستضعفين أو كما قال عليه السلام.
وأيضاً إن الإمام لم يأمرني بذلك وفي بقائي سلامة من في شهارة أو كما قال، فرجعنا إلى مولانا عليه السلام فأخبرناه بما قاله سيدي محمد، فدعا له وشكر له ولهما ذلك.
[تسليم شهارة وخروج محمد بن الإمام القاسم منها]
فصل: ولنرجع إلى أخبار شهارة المحروسة بالله فإنهم صبروا بعد خروج مولانا عليه السلام وأحربوا حروباً كثيرة [ق/244] وفي بعضها حصل بمولانا محمد صائبة رصاص وسلمه الله تعالى، ثم كاتبهم الأمير عبد الله بن المعافا فأجابوه فطمع فيهم فطاولوا عليه حتى اتهم نفسه وخواصه، وألقى الله في قلبه وقلوب خواصه العجم أن بقاءهم في شهارة والصبر عليهم لا يأمنون معه وثوب الإمام عليه السلام واستدراكهم.
قال الوالد السيد محمد بن ناصر الغرباني مغل أطال الله بقاه: أنه كان في شهارة محابيس ومتهمون فكانوا يعرفون ابن المعافا بما هم عليه من شدة الحصار وأنه لا يقبل منهم إلا النزول على حكمه، وكان الخطاب بواسطة حي الفقيه الفاضل الكامل صلاح بن عبد الله الشظبي فطمع فيهم وانقطعت المكاتبة، فلما خرج أولاد الإمام عليه السلام كما تقدم كتب الفقيه صلاح إلى ابن المعافا على أن الإمام قد خرج وأولاده الثلاثة خرجوا وبقي محمد وأحمد لا ندري إلا وقد لحقوا بوالدهم فما كان الجواب إلا يستدعي وصوله لتمام الصلح وعرف قصد ذلك وكتموا أمر باقي الطعام، وكان لم يبق لهم إلا إحدى عشر زبدياً فقط، ومن حفظه الله ما ضاع، فسبحان من حفظهم ونجاهم، فحصل الخطاب على تسليم شهارة المحروسة بالله، وخرج مولانا محمد وأولاده والسادة الكرام والعلماء إلى كوكبان في شهر محرم سنة إحدى عشرة وألف، وكان في شهارة من أهلها والمهاجرين إليها لهم الأمان بسلاحهم، وما هو لهم ويسكنون حيث أحبوا من البلاد وضمن لهم على العجم الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين والأمير عبد الله بن المعافا ووفوا لهم.
قال مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله عليه: وقد ذكرت له أن بعض الكبراء ممن كان مع الترك أخذهم الله خلع علي لما اجتمعت به وقد ولى دولة الحق فقال: اخطأت، فقلت: لم؟ وقد صار الأمير من جملتنا وكذا، فقال عليه السلام: هو كذلك إلا أن نفس خرقة الكسوة وما تليق بمثلك ألا ترى أني تشردت وأنا في شهارة أني لا أرى الترك قط إلا ابن المعافا لكونه من العرب، وأن لا ألبس لهم كسوة مخافة من أن يلبسوني ما لا أعتاده، قال: فقبلوا مني فقلت له عليه السلام الحياء وأنا صادق بمنع من ذلك فضحك عليه السلام.
ولما خرج مولانا محمد والسادة على ما وضع لهم همّ سنان لا رحمه الله بالغدر بهم وخرج من قبله من صنعاء النقيب الشقي سعدان لذلك إلى عمران، وبلغ الأمير أحمد بن محمد فخرج في نحو خمسمائة فارس وجمع رجاله ومنع من ذلك، وأنكره كما أخبرني من شهد [ق/245] ذلك، وقال سمع الأمير أحمد يقول: كفاني عار ما حصل في السيد عامر أو كما قال، وسلمهم الله تعالى، ولما صاروا إلى كوكبان تلقاهم الأمير أحمد بن محمد بالإعظام وعرف لهم حقهم، وجعل لهم موضعاً خاصاً في الحصن يسمى المنصور وأولادهم معهم، وهم: مولانا الإمام محمد وأخوه أحمد وأولادهم، والسيد العلامة صالح بن عبد الله الغرباني المعروف بابن مغل وأولاده، وأولاد إخوته، والسيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن المهدي الجحافي القاسمي وهو أحد شيوخ الإمام عليه السلام، وولده السيد العلامة المهدي بن إبراهيم وأولاده، والسادة أهل المحرابي السيد العلامة عبد الله بن محمد المحرابي وإخوته وبعض السادة بني العبالي غيرالسيد العلامة القدوة جمال الدين علي بن صلاح العبالي فإنه حصل له من شهارة المحروسة مخرج صفته كما أخبرني الوالد السيد الفاضل محمد بن ناصر الغرباني أطال الله بقاه أنه خرج يعني السيد علي مع مولانا محمد والسادة إلى عند ابن المعافا إلى النجد، وكان أولادهم في قرية قصل وعليهم الحرس فاستأذن ابن الإمام في الوصول إليهم، فلما وصل إليهم اعتذر للرسم بأن معه كتب وديعة في العيازرة يجب عليه ردها، وهذا أخي يعني ابن عمه السيد الفاضل علي بن عبد الله العبالي مكاني حتى أعود وإن تحبوا يسير معي أحدكم فعلى ما ترون
فأمنوه ومضى، وخلص ونجا ولم يكن له أولاد مع السادة إلا زوجته الشريفة الفاضلة الطاهرة فاطمة بنت أمير المؤمنين المنصور بالله رحمها الله.
قال الهادي بن أحمد الجليس الكوكباني وهو صهر السيد علي بن عبد الله والخاص بهم: أن حي السيد علي بن صلاح رضوان الله عليه أوقفه في الموضع الذي فرج الله عنه فيه، وقال: خفت من اغتيالكم ومن عبد الرحيم المحروم فاستأذنت الصنو علي بن عبد الله فرضي أن يكون عوضاً عني، وأخفاني الفقيه أحمد بن مهيوب ليلتين ثم نقلني إلى بيت الشيخ واصل بن عدابة فلبثت عنده شهرين ونصف ثم أخرجني إلى بيت الشيخ جراد بن عثمان العاهمي، قال: وسار معنا نمر من حدود الأهنوم إلى عاهم ليلاً وأنسنا في الطريق وخفنا من الناس، وبقينا عنده ليالي ثم أرسلنا إلى الإمام عليه السلام إلى برط، وكنا لديه وكذا الأمير حسن بن ناصر الغرباني احتال بخروجه بعض الأهنوم فيما بلغني ثم استجار بقوم ولحق بمولانا الإمام عليه السلام، وممن حبس في كوكبان عدة غيرهم [ق/246] وهم الفقيه صلاح بن صلاح بن عبد الله بن داود الشظبي، وكان أكثر الخطاب على يديه وغيرهم والشيخ عبد الله بن أحمد الحارثي والفقيه محمد بن سعيد المكتمي الظليمي والقاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي وغيرهم، وخرج قبلهم من ثلاء بأشهر مولانا السيد العلامة شرف الدين الحسن بن شرف الدين بن صلاح كما تقدم من حصن ثلاء.
وأما أولاده وقرابته فخرجوا مع أولاد مولانا عليه السلام من شهارة، وصاروا إلى أبيهم في الموضع المذكور.
وأخبرني الوالد السيد علي بن إبراهيم بن جحاف مكاتبة: أنه خرج من ثلاء قبلهم، وكذا رأيته في التاريخ -والله أعلم- وتمكنوا فيما بعد من الكتب ولا زالت القراءة والدرس في جميع فنون العلم، ويروى من كدهم وصبرهم ما يليق بمعارفهم الظاهرة ومعارقهم الطاهرة.
ومما أخبرني مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله محمد بن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وقد ذكر الهمة والرغبة في الطلب والحفظ على ذلك أن قال: كان في الأمير أحمد بن محمد وكبراء دولته سخف عقول، وقل قبول للحق المسموع والمعقول، وروي عنهم من ذلك كثيراً وكذا غيره، وفق الله الجميع إلى السداد، والسلوك مسالك الأجداد، إنه كريم جواد.
قال: فكنا نخافه كثيراً وكان يحضر في كثير من القراءة من آبائهم معنا جماعة من أشراف كوكبان وخواصهم ومن يستمع القراءة ويحب أن يرى ابن الإمام يعني نفسه عليه السلام، قال: فقال مولانا السيد الحسن بن شرف الدين: لا نأمن حادثاً علينا من هذا الرجل لمصير أولادهم إلينا وغيرهم من كبراء دولتهم، فإما وتركتم القراءة يا أصحاب كلها، وإلا فلا يحضر ابن الإمام معنا فإنما يجمعهم إلينا إلا النظر إليه أو كما قال، فحصل من هذا القول أن تركوا القراءة أياماً قليلة ثم عادوا لها بشرط عدم حضوري معهم، قال: وأتموا على ذلك مدة لم نذكرها بغير الكثرة ففكرت كيف الطريق إلى الشيخ أقرأ عليه، وكان إلى جنب بيتي السيد العلامة إبراهيم بن المهدي وولده المهدي، وكان يأتيني كثيراً قِشْر من النذور والبر على صفة، وكان السيد المهدي كثيراً ما يحب القهوة فكان يطلب أن يتقهوى معي فأقول له متى سمعت صب القهوة إلى الفنجان من وراء الجدار فأتني فكنت أحصل القهوة لبعد صلاة الفجر فإذا سمع ذلك فلا أسمع إلا نداه من الباب فآذن له فيتقهوى حتى يرضى، فقلت له: مدة هذه القهوة اسمع لي معشراً في كذا حتى تكمل القهوة، قال: فيفعل حتى ما تكمل [ق/247] القهوة إلا وقد قريت من المعشر فيستحي مني حتى أتمه على ضرب من الإيجاز والإخفاء، فما زال ذلك دأبي ودأبه حتى ختمت كتباً كثيرة ذكرها من تصريف ومعاني وبيان، وغيرها فلما أذن لنا نقرأ مع السادة راجعتهم في تلك الكتب، قال فامتدت إلي الأعناق وسألوني كيف كان الطريق فأخبرتهم فعجبوا من ذلك واستحيوا مني كثيراً، وكان يأتي لهم من المصارف من أهل
الخير ومحبي الإمام على أيدي جماعة كالفقيه الفاضل عبد الله بن أحمد الآملي من بلاد الحيمة ومن نواحي جبل تيس، وعلى يد رجل من بلاد عقار البون يسمى علوان وغيرهم وأنا أعرفهم.
قال عليه السلام: وكان ربما يرسل لنا الإمام عليه السلام من برط يعني والده بالقليل فيصل وقد يسر الله لنا غيره، فنرجعه له عليه السلام لمن عنده من المهاجرين وقد ربما نزيده من عندنا ونمده ابتداء {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} صدق الله العظيم.
[وصية الإمام لولده بطلب العلم]
ولمولانا الإمام عليه السلام إلى ولده مع وجود من يبلغها وإلى السادة الفضلاء رضوان الله عليهم مكاتبات مملوءة علماً ومواعظ، ومن ذلك وصية من الإمام عليه السلام لولده وهي مشهورة مسطورة، وهي هذه:
أما بعد: فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته، إني أوصيك أن لا تترك درس القرآن يوماً واحداً، ولو في كل يوم جزءين أو جزءاً واحداً لا تترك ذلك أبداً، وعليك بصلاة الجماعة فإنها من الواجبات، ولا يغرك قول من يقول أنها سنة، وعليك بملازمة العلم وطلبه، فإنه من أكبر الفرائض واستعن على ذلك بتقوى الله سبحانه لأن الله تعالى يقول: {إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} ، والفرقان: هو الفهم والفطنة وتنوير القلب الذي يفرق به بين الحق والباطل، والتقوى: هي أن تترك كل حرام وكل مشتبه بالحرام كأكل الشظا لأجل الخلاف، وأن تقوم بكل ما أوجب الله عليك،ومما تستعين به على تحصيل العلم ترك حب الدنيا والاشتغال بها لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من اشتد رغبته في الدنيا أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها)) وعليك الإكثار من الحسنات؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، وعليك بالتواضع للمؤمنين، وترك التكبر عليهم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله)) وعليك بترك الإعجاب بنفسك [ق/248]وذلك أن تعتقد أنك أفضل من غيرك من المؤمنين فإن ذلك من الكبائر والموبقات المحبطات للأعمال لأن إبليس لعنه الله كان قد عبد الله ستة
آلاف سنة أو خمسة آلاف سنة-شككت أنا في ذلك-فاعتقد أنه أفضل من آدم فجعل الله عليه اللعنة إلى يوم الدين.
ورى الإمام الحسن بن سليمان في كتاب (حقائق المعرفة) أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صفة المحبين للرحمن، فقال: ((عبداً استصغر بذله في الله)) ح يعني استصغر ما فعل من الطاعات، واستعظم ذنبه ووطن نفسه أنه ليس في السماوات والأرض مؤاخذاً غيره، قال: ((فصقع الأعرابي)) ح يعني ذهب عقله حتى وقع على الأرض كالميت((فلما أفاق)) يعني رجع عقله، قال: أخبرنا يا ابن أبي طالب هل يكون في حالة أعظم من هذا العبد؟ قال: ((نعم سبعون درجة)) ح يعني أنه خائف أنه ليس مؤاخذ في السموات والأرض غيره خوفاً زائداً على خوف العبد الذي وضعه سبعون درجة.
واعلم يا بني أن ذلك صحيح لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، ولا نظن بأمر المؤمنين شراً لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}، ويقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وعليك بترك المراء وهو كثرة المراجعة فلا تفعل شيئاً من ذلك لكن إذا عرضت مراجعة وقد عرفت الحق فتكلم بالحق مرة إن قبل وإلا سكت لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أنا زعيم لمن ترك المراء ببيت في ربض الجنة وإن كان محقاً)) .
وعن علي عليه السلام أنه قال: (ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه على الحق) وقال علي عليه السلام: (فمن جعل المراء [ديدناً] لم يصبح ليله والدين العادة) ويعني لم يصبح ليله أن يبقى في الظلمات لا يهتدي إلى الحق، وقال عليه السلام في وصيته لابنه الحسن: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا وليكن طلبك بتفهم، وتعلم لا تتورط الشبهات وعلم الخصومات في كلام طويل إلى أن قال فيه: (وليس طالب الدين من خبط أو خلط والإمساك عن ذلك أمثل) وقال بعض الشعراء في ذلك:
فإياك إياك المراء فإنه .... إلى الشر دعاء وللشر جالب
وعليك بتعظيم شيخك في العلم لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ...} لآية، وقوله تعالى: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ [ق/249] أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، فمن جمع بين العلم والإيمان أفضل ممن لم يكن منه إلا الإيمان فقط وهو المتعلم.
واعلم يا بني أني لم آمرك بالعلم إلا أنه من أعظم الطاعات لحاجتنا إليه، وإنه لا ينجو إلا العلماء العاملون لأنه لا ينجو من عذاب الله إلا من خشي الله بدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} ، وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يخشاه إلا العلماء حيث قال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.
وروى زيد بن علي عليه السلام عن علي عليه السلام أنه قال: (عالم واحد أفضل من ألف عابد، العالم يستنقذ عباد الله من الضلالة إلى الهدى والعابد يوشك أن يقدح الشك في قلبه فإذا هو في وادي الهلكات).
وروى زيد بن علي عليه السلام عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:((من سلك طريقاً يطلب فيها علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم وإنه ليستغفر لطالب العلم من في السموات والأرض حتى حيتان البحر وهوام البر وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)).
وظهر أن هذه الوصية النافعة كانت من الإمام عليه السلام إلى ولده إلى كوكبان.
وأخبرني من أثق به عن مولانا محمد عليه السلام أنها قبل الدعوة، فتأكدت إلى كوكبان فيما أحسب فظهرت. والله أعلم.
[جواب الإمام على الأمير أحمد بن محمد بشأن العدول عن الثورة]
نعم واتفق أن العجم وهم سنان والوزير حسن لا رحمهما الله عولوا على الأمير أحمد بن محمد أن يلزم السيد الحسن بن شرف الدين عادت بركاته أن يتوسط بينهم وبين الإمام عليه السلام أن يجعلوا له أماناً ويخرجوا أولاده، ويصير إليهم بواسطة الأمير المذكور ويجعلوا له أخزاهم الله ما أسخف عقولهم سنجقاً، ويجعلوا له بلاداً قطعة ويأمنوه ويأمنهم أو كما قالوا، وكان في هذا الأمير أحمد بن محمد عرابة وعدم تأمل للأصول، وإلا فهو من أهلها، فطلبوا السيد الحسن فكتب كتاباً بسيطاً فيه بلاغة، وفي أعطافه ما يعرفه مولانا من أنه محمول على ذلك، وأن ذلك معروض عليهم بحيث لا يعرفه الأمير المذكور ولا العجم كما أخبرني مولانا أمير المؤمنين محمد بن أمير المؤمنين عليهما السلام، فكان الجواب من مولانا الإمام عليه السلام ما هذا لفظه:
والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى {قُلِ [ق/250]اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، بلغ كتاب السيد قمر الأقمار، وخيرة الأخيار، وصفوة عترة النبي المختار، وذروة الشرف الشامخ، وفي العلم القرم الراسخ، شرف الدين الحسن بن شرف الدين أطال الله عمره، ورفع في الدارين ذكره، وأتحفه بشآبيب السلام، وهواطل رحمته على الدوام، وسوابغ نعمه التوام، مدى الليالي والأيام، وكنفه بكنفه الذي لا يرام ولا يضام، وتحققنا ما ذكرتم من أطيب أحوالكم، وأحوال أولادنا السادة مع أنه قد نقل إلينا حسن صنيع الأمير صفي الدين أحمد بن محمد بن شمس الدين بن أمير المؤمنين يحيى بن شرف الدين أعاد الله من بركاته من فعل المعروف الطائل، وجاء شكره ذلك على كل لسان، وورد به الرجال والركبان، فالله يحسن إليه ويمده بمواد ألطافه الخفية، ويأخذ بناصيته إلى الخير ويدفع عنه كل مكروه وضير، فتلك شنشنة أخزمية، بل شيمة هاشية توارثها أباً فأباً، وما أحقه بقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الولدان فينا .... على ما كان عوده أبوه
وإن ذلك لا يضيع عند الله إن شاء الله تعالى قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا}، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كفارة الذنوب إطعام الطعام وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب)) وقال علي كرم الله وجهه في الجنة: (فوالذي وسع سمعه الأصوات ما من أحد أودع قلباً سروراً إلا وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها كما يطرد غريبة الإبل).
وأنا أقول لكم كما قال بعض أئمتنا عليهم السلام:
إن تشكروه فإني الآن شاكر .... سراً وجهراً وهذا بعض ما يجب
وما ذكرت أبقاك الله من ترك الفتنة والميل إلى الراحة فهيهات أترك قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أين السماء من رافع بنانه ولله القائل شعراً:
ما اعتن لي يأس يناحي همتي .... لكن لي عزماً إذا أمطيته
إلا تجداه رجاء فاكتمي .... لمبهم الخطب فأه فانفأي
[ق/251] أين الثقة بالعزيز الجبار؟ أين الأسوة بالصفوة الأخيار؟ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلاَ إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} ولله قول الشاعر:
لست إذا مابهصتني غمرة .... ممن يقول بلغ السيل الزبا
وقد علت بي رتباً بجارتي .... آسفين لي منها على سفن النجا
وأما ذكركم للوصول وضمانتكم علي مما تمجه العقول، فالحري أن لا يجاب عليه ولا ينطق به، ولا يجري به قلم، ولولا مراعاة حقكم ما ذكرته، ولا تحدثت به هيهات إني إن شاء الله لا أغمز بالمكيدة إلا فيما أكون به كريماً، كالوفاء ولا أغمز بالشدائد بحول الله إلا متحرفاً لقتال هو أحر من لظى وأشد، سيفرغ للأعداء إن شاء الله أي فراغ، فيتجرعون الغصص ولا تحين مساغ، ويطيش منهم رواجح لسنان الدماغ، حتى يعلم الله الناس لأي كريم راغ، أيحسب الأعداء أني عنهم غافل وقد دخلت لهم المداخل، وأعددت لهم الغوائل، ولي من الله وله الحمد مدد متواصل، ومحبة راسخة في قلوب القبائل، لبث قليلاً ريثما يستريح منهم المستريح، ويمنح بالمال منهم من يمنح، وأما ما ذكرت من أن يكون الحال كحال السيد صلاح بن الوزير فإني في سعة الله الواسعة، ونعمته السابغة، تجبى إلينا بحمد الله ثمرات كل شيء اقرأ إن شئت: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} ولله القائل:
إن الأمير هو الذي .... أمسى أميراً يوم عزله
إن فات سلطان الولاية .... بات في سلطان فضله
وأما ما ذكرتم من إقطاع بلاد فأنا أحق بها كما كان صلى الله عليه وآله وسلم أحق بها من سائر الناس ولأني من عترته الطاهرين والله يقول: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ولما منحنا الله من العلم الهادي من الضلال، والله يقول: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه آباؤنا وأئمتنا عليهم السلام، وأشياء عنا خلف عن سلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة الله في أرضه وخليفة كتابه وخليفة رسوله)) ومما رواه آباؤنا وأئمتنا عليهم السلام وشيعتهم كذلك ق:252]، وترويه سائر الفرق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) في ألوف من الأحاديث الصحيحة يرويه الموالف والمخالف، كلها تدل على صحة إمامتنا أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفضلنا على سائر الناس لا أترك ما أنا أحق به ولله القائل:
من راقب الناس مات غماً .... وفاز باللذة الجسور
بلى إن تتركوا لي شهارة وبلادها ووادعة وبلاد خولان وجبل رازح مع برط أيضاً، ونعقد صلحاً سنين معروفة طولها وقصرها إليهم، فإن ذلك مشروع ولي عند الله مندوحة، فإن ترضوا فإنا قد رضينا ولا ننقض إن شاء الله عهداً؛ لأنه فسق، قال الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} وقد أمرناكم والأمير صفي الدين أن تضمنوا علينا ولنا، وإن يأبوا ذلك فليرتقبوا إنا مرتقبون {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وأما ما ذكرتم حفظكم الله وبذلكم الأموال في الغيالة، فلا تخف ولا تحزن إن يعلم الله سبحانه وتعالى تسليطي عليهم ،فحافظ موسى في البحر هو حافظي {إِنَّ وَلِيِّي الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} وأما أموالهم {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} فلا يغرنك إقبال الدنيا عليهم والله يقول: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} ويقول: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، واعلم أن سنة الله ما ذكره في كتابه حيث يقول لنبيه صلى الله عليه وآله
وسلم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَن}.انتهى.
نعم، ولما عاد الجواب لا أعلم أنهم أعادوا مثله إليه صلوات الله عليه، وذكر السيد أحمد نفع الله به: أن صاحب كوكبان كتب إلى الإمام من غير [ق/253] واسطة السيد حسن، قال: فكان الجواب ما لفظه أو معناه: أما من عندكم من المأسورين فافعلوا بهم ما بدا لكم وأقسم بالله لأبلغن في حربكم وفكاكهم كل مبلغ، ولأروغن لكم روغان الثعالب، ولأثبن عليكم وثوب الأسد.
قال الراوي: فوالله لقد وقع معهم هذا الجواب موقعاً عظيماً، ولقد هد من قواهم وزلزل من أركانهم ما لم تفعله المحاط الكثيرة، ولقد كانوا يتوقعون الوقعة الوقت بعد الوقت، فلم يلبث عليه السلام أن صدق الله ظنه، وبر قسمه، فوثب في بلاد وادعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وكان دخول مولانا محمد سلام الله عليه أسر كوكبان في شهر محرم من سنة إحدى عشرة وألف، ثم خرج كما سيأتي إن شاء الله تعالى في شهر [........] من سنة ثمان عشرة وألف [1609م].
[هجرة الإمام في برط]
فصل: وأما الإمام عليه السلام وهجرته في برط فحصل عليه خلل من بعض أهلها وقصده الطغاة من صعدة على أيدي قوم وسلمه الله تعالى، واستقر في مواضع كما تقدم، وابتنى فيها مسجداً فكثرت نذوره عليه السلام، وكفى الله سبحانه من عنده من المهاجرين والعلماء.
قال الفقيه العدل الفاضل العالم المجاهد يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله: لا أنسى مقامنا في هذا الموضع وكمال ديننا وصلاح دنيانا بحيث أن كل مطلب موجود من حوائج الدنيا، وأما وضائف الطاعات فلا أعلم بشيء يثقل علينا، ويعرض ما يشغل عنه، وفي كل أوقاتنا نختلط بالإمام عليه السلام فنسأله ونستفيد من مواعظه وأخلاقه النبوية، قال: لقد قال فلان من أصحاب مولانا عليه السلام بعد أن فتح الله عليه شهارة والبلاد كما سيأتي إن شاء الله لمولانا: ليت يا مولانا أنا نعود إلى ذلك الموضع باختيارنا لنستريح فيه وفي غيره، وقال قريباً من ذلك فكان يقول لهم سلام الله عليه في مثل ذلك: ذلك وعد الله الصادق لمن يهاجر في سبيل الله أو كما قال، وكان قد غزاه الترك أخذهم الله من صعدة مراراً، فأحدها انهزموا من غير حرب كما قال السيد العلامة الحبر أحمد بن محمد الشرفي عادت بركاته:
كالجمع ولوا بلا حرب وفتنتهم
فإن الأتراك جمعوا عساكرهم من صعدة وقصدوا الإمام عليه السلام إلى برط بعد المرة التي كان منهم فيها ما تقدم، فوصلوا إلى بعض الطريق وصرف الله قلوبهم بغير [ق/254] سبب معلوم، وولوا راجعين إلى صعدة وأرادوا قتل أميرهم الذي في صعدة المسمى الأمير محمد، والآخر حصل ما تقدم من الوصول إلى مكان الإمام عليه السلام وهدم مساكنه ومساجده، وكان قد زوج ولده مولانا علياً من الشيخ صالح بن عواض المحمدي كما تقدم، فكانوا له لأجل ذلك من الناصحين مع أن غالب أهل برط المحبة لأهل البيت عليهم السلام كما ذكره في سيرة الإمام الهادي عليه السلام، وفي سيرة الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام.
قال السيد أحمد نفع الله به ما معناه: إن الإمام عليه السلام كان في برط تارة يظهر وتارة يختفي، وأن أنفاق الأتراك لمحاطهم كما كان مثاغراً لهم، وأعظم وذلك لما ذاقوه من مرارة فتنته، ولما عرفوا به من الهمة والعزيمة التي يذل لها الدهر، وأنه لا يتضعضع لنوائب الزمان، ولما تحققوه من ميل كثير من الرعية إليه، قال: وفي خلال بقائه هناك اتصل بنجران ووالاه بعض أهله فقدم إليه بنفسه مع من اجتمع إليه من قبائل دهمة والمهاجرين من أصحابه، ووقع بينه وبين بعض قبائل يام، وهم الإسماعلية هناك حرب استشهد فيه من محاسن المجاهدين واحد يسمى علي بن صالح الأسدي رحمه الله، وكان من الشجعان (ولم يستقر فيه عليه السلام) لخبث أهله ولأن أكثر أهله هم الباطنية والشوكة لهم هنالك وهم في عداوة الأئمة عليهم السلام في المحل المعروف، فعاد إلى جهة برط.
انتهى معنى ما ذكره السيد أحمد، وربما وهذه الخرجة هي التي نذكرها من بعد برواية الظن في وقتها. والله أعلم.
[حروب مسار]
فصل: وأما الحروب على حصن مسار وما يتصل بذلك، فأخبرني حي الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي رحمه الله تعالى، قال: لما اشتد الخوف على القاضي جمال الدين علي بن يوسف الحماطي وهو مختف كما تقدم في بلاد عانز في موضع يسمى الحطب، وكان معه على تلك الحالة لا يظهر لقضاء الحاجة إلا ليلاً، وكان له مكاتبات حسنة رأيت كثيراً منها مع بعض أصحابه رحمه الله، منها وقد كتب إلى بعض أصحابه وصرنا في هذه الأيام في مخاوف وأشجان في الليل تنم علينا النار ،والنهار الدخان، وفي بعضها: وصرنا في مشاق وأي مشاق، قريبة من تكليف ما لا يطاق، أعداؤنا كفار وأنصارنا فساق، قال: فقال له القاضي: يا سيد فلان تبلَّغنا أن الإمام وأصحابه والعلماء الذين عنده في نعمة من الله وأمان، ونحن كما ترى فهل يحسن أنا [ق/255] نلحق به، ومن الذي يأخذ لنا رأيه الكريم؟ فقلت: أنا أسير إليه، قال: فكتب معي كتاباً هذا معناه، وكان كثيراً ما ينشد أبياتاً للإشتياق إلى حضرة الإمام عليه السلام وأخلاقه النبوية، منها:
يا راحلاً أما عرضـ .... ـت من البلاد على برط
حيث الفضائل والمحـ .... ـامد والنجاة من الورط
فاقر السلام على الإمـ .... ـام ومن لديه في الخطط
وقل المحب إليك قد .... أهدى سلاماً بين خط
والقلب مشتاق إلـ .... ـيك على نواه والشطط
أسفي على ماضي الزمـ .... ـان بغير رؤياكم فرط
وقال رضي الله عنه:
إذا نصر الله الإمام وحزبه .... فسهل علينا ما نقاسي من الأذى
وإن كان بالحسنى ختام اكتسابنا .... فصبراً على ما في العيون من القذى
[قال وكانت طريقنا ليلاً إلى بلاد خولان، ثم منها إلى مشارق بلاد نهم، ثم إلى الجوف، ويسر الله لنا الوصول إلى الإمام عليه السلام، فلم يسترجح وصول القاضي، بل قال: نصير ونستعين بالله سبحانه، ونحاول موضعاً أو جباً ولو يقلقه العجم يوماً أو كما قال] وكتب بمعنى ذلك رسائل من رسائله المشحونة بالحكم والحجج القائمة على الأمم، ثم جهزنا وأكثر من التوصية بالتحرز من الظالمين، وكانت طريقنا بلاد عيال أسد ولا نسير منها إلا ليلاً، فاتفقنا في وجه ليل بما نخافه ونحذره وهو الأمير الطاغي درويش لا رحمه الله، وكانت بلاد ذيبان وبلاد حاشد وبكيل إليه ولا سلاح معنا إلا الجنابي أنا ورفيق لي يسمى عبد الله اليمني، وكان درويش لعنه الله ومحطته عادوا من غزو رجل من بلاد ذيبان أتهم بأن أصحاب الإمام يمسون عنده فقتل رجلاً ولزم آخر ولم ندر إلا ونحن بينهم فسألنا العسكر فقلنا: من كوكبان فلما لقينا الشقي في زمرة من العجم في آخرهم فأقام البغل وسألنا فقلنا: من كوكبان، قال: فما موجب وصولكم إلى هذه البلاد؟ فقلنا: بعنا بقراً إلى موضع كذا ووصلنا لأثمانها وإذا لم يقضونا وصلناكم للشكاية أو كما قلنا، فقال: عظيم إن لم يعطوكم حقكم وصلتم إلينا ننصفكم وسلمنا الله سبحانه بعد اليأس من نفوسنا، ثم عزمنا على خوف فوصلنا إلى القاضي جمال الدين إلى موضع يسمى الحرب من حطب عانز فاستبشر كثيراً وقال من عجائب الاتفاق أن أهل الثلث من حراز وصلونا سراً بالأمس يطلبون منا الغارة على مسار وأن أهله يوالونا ويسلمون إلى الإمام عليه السلام ويجاهدون [ق/256] معنا الباطنية وكذا
فحمدنا الله سبحانه على الموافقة، ثم تجهز القاضي جمال الدين وأرسل لأصحابه وسلاحه وباروت ورصاص مفرقاً، ثم طلب من أعانه من أهل عانز ودخل بلاد الثلث فتلقاه أهلها وفرحوا به مما عليهم من شدة الباطنية وأنهم محاصرون حصن مسار وهو في يد أهله كما تقدم، ثم خرج القاضي من بلاد الثلث إلى بلاد لهاب، ثم منها إلى حصن مسار، وكان أصحابه من الزيدية نحواً من ثلاثمائة نفر فقط من بلاد الثلث وحلفائهم وملازمو القاضي نحواً من ثلاثين نفراً فحصلت حروب شديدة، اليد في أكثرها لجنود الحق، وأحبه أهل مسار حباً مفرطاً، حتى روى في ذلك أخبار حسنة وتيمنوا بطلعته وكانوا يرون أن عزهم وعز بلادهم على يده، وكان كذلك فإنهم حتى الآن حصنهم لهم وبلادهم ولهم الجبرية حتى مع الظالمين كما سيأتي إن شاء الله تعالى، واستقام الحرب بينهم وبين الباطنية ودعاتهم أياماً عديدة ثم تتابع للباطنية وأميرهم المسمى الأمير علي الممدد من العجم وأمدهم سنان لا رحمه الله بوزيرين الأمير ذي الفقار من أمراء العجم المتقدم ذكره في حصار شهارة المحروسة بالله، وكانت مدة الحروب على مسار ثلاثة أعوام وأربعة أشهر، وفي هذه الحروب قتل الشقي المحروم المسمى سعدان لا رحمه الله كما سيأتي، وطال الحصار وقل المعين، والإمام عليه السلام في هذه المدة في برط كما تقدم، وفي خلال هذا الحرب على مسار كما أخبرني علي بن صالح المعطري البرطي من ذو محمد، وصدقه الشيخ المجاهد صلاح بن ناصر بن مفضل المعمري الحيمي عافاه الله أن الإمام عليه السلام كان في بعض فيوش برط، وكان قبائلنا وبلادنا والوا العجم كما تقدم،
وأن الإمام وصل التراب الأحمر، قال: فخرجت مع غنم لنا وعرض الإمام في فكري وأنا غير عارف موضعه عليه السلام فما ملكت نفسي إلا أن صحت بأعلى صوتي بالتنصير للإمام عليه السلام وأنا على ذروة جبل تيس بالطويل وتحتي كهوف وإذا بجماعة سادة وفقهاء وعسكر خرجوا من تحت الحجارة ينادون: هلم يا بشير فهذا الإمام وقد قطعوا بأني قدمت ببشرى وأني عارف بهم فوصلتهم وإذا الإمام عليه السلام معي فسألني عن البشرى فقلت له بالوقائع فعذرني وقد خجلت حياء منه، قال: فبقيت قليلاً ثم لحقت غنمي وأخذت أربعاً منها للإمام وأصحابه وجرى في بقائي عندهم ذكر جوابات للزيدية وأنهم لا يقدرون على القيام وأكثرهم لا يقدر على الجواب اللهم إلا إذا حدث في جانب الحيمة أو بلاد خولان ما يشغلهم حتى نهضوا وكذا [ق/257]، فقال الإمام عليه السلام في الحيمة: من يرضى بذهاب روحه لنصرتنا ومشاركتنا في هذه المشاق، وهم الشيخ صلاح بن مفضل والشيخ صلاح العزب من بلاد القبائل، والشيخ علي بن داود الغباري من الأحبوب، فقال: أتعرف البلاد والطريق؟ فقلت: لا ولكن أتوكل على الله وأريك كيف أعزم بها، فقال: تعزم إن شاء الله تتأهب وتأتينا من الغد، فلما وصلته ورأى لباسي بهيئة السؤال فأعجبه فوصلت الحيمة وموضعاً وصفه لي عليه السلام وهو سوق هجر الأحبوب فاتفقت بأحد المشائخ وأخبرته على صفه ثم وعدني حتى اجتمع بصاحبيه ثم جمعهم وبعض الفقهاء في بعض المساجد على غاية من التخفي، وقرأ لهم الكتاب حق الإمام عليه السلام، قال: فرأيتهم يبكون ويتأوهون وقالوا للفقيه: أجب على الإمام أنه يرسل لنا كتباً إلى جماعة
ممن يعينهم وإلى القاضي علي بن يوسف الحماطي أنه يستخلف على موضعه من مسار ويخرج إلى الحيمة وكذا، وأخذت الجوابات ثم وصلت إلى الإمام عليه السلام إلى تلك الفيوش وعرفت مكانه.
ونظرت مبشراً فتلقاني أصحابه وخرجوا من تحت الحجارة، فأخبرتهم بما سمعت من حسن الإجابة، قال: فخرج الإمام عليه السلام وهو مستبشر ضاحك ويقول: فيما بين ذلك قد عرفتم يا أصحاب بأهل تلك البلاد وحسن إجابتهم وكذا، فلما قرأ الكتاب رأيته متغيراً، ثم إن أصحابه كذلك فقلت: يا مولانا أولا يكاد في الكتاب غير ما قلت لكم فالحق والله ما قلت وأكثرت من ذلك وقلت: هذا عمل الفقيه لأن المشائخ لا يقرأون ولا يكتبون وكذا فصدقني وقال: تعزم إليهم برسائل وخطوط إلى القاضي علي الحماطي، فقلت: نعم فعدت بخطوط واجتمعوا إلي كذلك في ذلك الموضع وقلت لهم بالخبر وأنه لا يقرأ لكم الكتاب الفقيه الأول فطلبوا غيره، ولما سمع الشيخ علي بن داود ما اتفق من الفقيه وهو صاحب المكان والسوق في بلده، وهو خاص بالعسكر وغيره والمحطة بالقرب منهم فصاح الشيخ المذكور وقال: يقتل الفقيه، وأخذ الشيخان يسكنانه فغلبهم وخرج إلى جانب من السوق مرتفع ونصر للإمام عليه السلام فهرب العسكر من السوق واجتمع إلى الشيخ المذكور جماعة، واختلف القبائل وحصل بين الفريقين اختلاف، ثم أجاب من أجاب ونفذت الخطوط والرسل إلى القاضي جمال الدين فخرج إلى الحيمة على مشقة من الباطنية والجنود الظالمة، قال الفقيه الفاضل صلاح بن علي البريشي: وكنت فيمن عزم للقاضي فخرج وكانت طريقه حج حج ليلاً وأنه كان له في الطريق كوز للماء عهدة بعض الخدم
يشرب فيه، قال: فرأيته وقد طلب ماء يقول للخادم [ق/258]: لا حاجة إلى هذا لماء فيه من اختبار الماء وطرحه بعيداً ، قال: فرآه الخادم سليماً فاحتمله وملأه ماء فاحتاجه أخرى فأراه سلامته، قال: فهان عليه شيء مما كان وكان أول موضع وصله حج حج ثم بني حجاج ووصله بعض بني عمرو وكره أكثرهم ووقع بينه وبينهم مناوشة حرب، ثم تقدم من بني عمرو بعد أن والوه جمهورهم إلى بلاد القبائل فتلكأ القبائل، ثم صلحوا بعد محاورة شديدة وحرب وقتل منهم ثلاثة أنفار، ومن أصحاب القاضي نفر، ثم صلحوا ووصلت العجم واجتمع إمداد من عند سنان لا رحمه الله، والأمير أحمد بن محمد من كوكبان وغيرهم فأحربوه حرباً تعقبه إنكساره وقتل من أهل الحد (من بني النمري) ستة وعشرون نفراً وقد لقوهم بالعقائر، وغاب بعض أهل الحيمة وأرادوا المكر به فأنجاه الله سبحانه، ثم عاد من قاع الصيد من بني عمرو فأحرب على الصوبات الشيخ عبيد صاحبها، وكان من الأشرار وقتل من الطائفتين نفر فخرج إلى بني يوسف وحاول المقام [وقد اصفقت العجم] وأعوانها حتى ملأوا الحيمة فلجأ كثير من بني عمرو من بني يوسف وبني الحذيفي وغيرهم إلى حصن الشيخ معوضة بن عبد الله الحذيفي المسمى عر شريح، وكان إذذاك من المعظمين مع العجم، وبلغ عدد النساء ثمانمائة امرأة فحصل في الحيمة خراب وانتهاب، وتقدم النقيب سعدان الشقي لا رحمه الله إلى هذا الموضع، وأخرج الحريم وقتل عالم من الناس، واستاقها العجم كما تساق الأنعام حتى انتهوا إلى جانب ردمان من بني النمري من حبور، ولحق الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين الحميَّة على مكالف
الزيدية فمنع من إيصالهن صنعاء على تلك الحال، وتكلم على سعدان وأراه المكروه، ثم أخذ حريم من يعرف أنه شيخاً حتى أخذ نحو عشرين امرأة، وقال بعضهم: ثمانين، وأرسلهن إلى سنان لا رحمه الله، وقال: هؤلاء الذين يصلح أن يرهنوا وقد أحسن فيما أساء ونسأل الله السلامة، ثم إن القاضي جمال الدين خرج من بني يوسف إلى جانب بلاد الحنائف على مخاطرة وقد خرج الأمير يحيى الداعي والباطنية ليقطعوا من العود إلى مسار وسلمه الله، وتعلق ببلاد الثلث وعاد إلى محروس مسار، وهذه كلها والإمام عليه السلام في برط.
[كرامات الإمام]
واتفق له عليه السلام في برط قضايا كثيرة لم نذكرها وكرامات ظهرت، من ذلك أنه لما خرج إلى نواحي مشارق برط وخاف كل أحد، وكان معه أولاده أصغرهم سناً الحسين رضوان الله عليهم فجاعوا كثيراً حتى قال الحاج سعد بن أحمد الرجوي رحمه الله: رأيت الإمام يبكي وولده الحسين قد سقط من الجوع، وكان قد حصل قبل [ق/259] ذلك ما هو زكاة فأكلها مصرفها، وأردنا نهب لأولاده مما ملكناه فقال: ليس ذلك مذهبي التحيل فبينا نحن ذلك إذ بجمل قد أقبل من أرض فيحاء نراه مد البصر وهو يقرب وهو مسرع كأحث ما يكون حتى وصلنا وإذا عليه عنب فحمد الله سبحانه الإمام وتقدم وأخذ عنقوداً أو أكثر وأطعم الصغير وحفظ العنب حتى يجد مالكه، فبقينا وقتاً وإذا بنفرين أو ثلاثة يقفون أثره ويقصون عليه حتى رأونا، فلما وصلوا أخبروا الإمام عليه السلام أنهم خرجوا بهذا العنب للإمام عليه السلام وقد ظنوه في مكان من قفار برط فلم يجدوه وأرادوا الرجوع إلى بلادهم فند عليهم الجمل حتى وصل الإمام فحمد الله وشكر لهم وعرف أن هذا مدداً لهم من الله سبحانه وتعالى، وسمعت من السيد العلامة عز الدين بن دريب التهامي عافاه الله أنه رأى هذه القضية مسطورة مع بعض أصحاب مولانا عليه السلام.
وأخبرني الفقيه الفاضل صلاح بن علي البريشي أنه سمع هذه الرواية فسأل عنها مولانا الحسين رحمه الله فأخبره بمعناها وزاد قال: هبط بي الإمام عليه السلام مكاناً منخفظاً عن الأصحاب، ثم دعا وأطال وأمرني أن أؤمن على دعائه فوصل الجمل عقيب الدعاء ولم يذكر أنه أعطاه شيئاً قبل وصول أربابه، ولم يذكر أنه معين للإمام عليه السلام وإنما أخبروا أن هذا الجمل ند عليهم ولهم وجه آخر فكان كما تقدم، وأن الإمام عليه السلام أرجع لهم نصف العنب.
[محاولة قتل الإمام]
ومنها ما أخبرني سيدنا الفقيه العدل يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله أنه وصل الإمام في تلك الأيام فقيه من أهل حلب له عارضة لسان وهيئة وأظهر أنه موال للإمام عليه السلام ومهاجر إليه، وكان له عمامة كبيرة فارتاب الإمام عليه السلام منه لأجلها، وكان لا ينقضها أبداً يعني الحلبي، ثم إن الإمام عليه السلام أمر بعض أصحابه بالقبض عليها فخاف ذلك الحلبي كثيراً وشهق، فقال عليه السلام: افتحوها حتى نرى الفقيه كيف يعتم، فوجد فيها ما هو صورة قرن من نحاس، ثم أمر بفتحه وإذا من داخل شيء أصفر يقرب من زلال البيض فتضمم الإمام عليه السلام والحاضرون، وأمر به فدفن تحت الأرض وعلم أنه سم قاطع وعنف الفقيه وقال: ما ذا فعلت بك حتى تستحل مني هذا العظيم أو كما قال، فاعتذر وبكى، وقال: ألجأني إلى ذلك الظلمة وذكر أن له أولاداً صغاراً في صنعاء وكذا، فأمر الإمام عليه السلام بني العبسي من مشائخ عيال بني أسد أصحاب الحاج شمس الدين بأن يبلغوه إلى صعدة، قال: وضربوا عنقه في الطريق ولا أدري هل برأي من الإمام عليه السلام أو من الحاج فقط، وكان [ق/260] الوالد رحمه الله تعالى قد أخبرني بصفة خروج هذا الشقي من صنعاء وأنه اجتمع بعالم من خولان وأظهر أنه إمام فاتفقنا به ونحن مهاجرون في بلاد نهم وأردت المسير معه إلى الإمام عليه السلام، فمنعني عمي من ذلك وغير ذلك من القضايا، وفي تلك المدة أرسل الحاج الصالح العابد دغيش بن محمد الغشمي إلى الروم للإتفاق بحي الإمام الحسن بن علي عليه السلام وقد بلغه أنه عليه السلام مكن من الكتب في الروم وأنه أتم ما كان شرعه من شرح البحر الزخار.
أخبرني سيدنا الفقيه المجاهد العالم يحيى بن صلاح الثلائي رحمة الله عليه أن الحاج المذكور كان دخل بلاد الروم مرة أولى في أول قيام الإمام عليه السلام، وأن الإمام الحسن عليه السلام سأله بتفصيل قيامه وحسن الإجابة فحصل معه عليه السلام من السرور وأكثر من الدعاء له سلام الله عليهما.
[ذكر بعض أخبار الإمام الحسن بن علي]
وحيث عرض ذكر الإمام الحسن سلام الله عليه فلنتبرك بشيء من ذكره، أما أحواله في اليمن ونشأته، وزهده واحتياطه، وعلمه ودعوته فمشهورة في سيرته وإنما نذكر أحواله في الروم، ووفاته صلوات الله عليه.
أخبرني الأمير عبد الله بن محمد الرومي من أهل القسطنطينية وسكانها فإنه خرج إلى عند مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله عليه في عام سنة اثنين وخمسين وألف [1642م] لما بقي لحيدر باشا الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى فيما يأتي من أخبار مولانا الإمام المؤيد بالله أن الإمام الحسن عليه السلام حبس في موضع بنظر عمه القاضي فلان خفي علي اسمه، وكان أخ لهذا الأمير يسمى علي صغير وهو أكبر من عبد الله هذا فخدمه، ثم إن الإمام عليه السلام كره منه شيئاً ذكره فجعل القاضي عوضة عبد الله، قال: فكان الإمام يغلق على نفسه في مكان وسيع مأهول للعلماء والكبراء وعنده كتبه، فكان يغلق الطياق ويقبل من الضياء ما لا بد منه وله طريق إلى بيت الحريم، وكان معه ست جواري سماهن، وذكر لباسه عليه السلام أنه قميص أزرق وعمامة منه، وثوب مثني، ولباد يدفى به.
قال: وللباب بيننا وبينه فإذا سألنا أجابنا من خلف الباب وإذا وصل أحد من الكبراء قال: اطلبوا لي السيد محمد بن لطف الله بن المطهر، وكان ولد في الروم فهو يعرف لسانهم وينتظر الواصل حتى يصل المذكور ثم يفتح الإمام وينزل كلاً منزلته ويجيب كلاً بغرضه ولا يطال عنده الجلوس، قال: وكان يجلس على لباد ضعيف وقد اجتمع عنده من فرش الروم وبسطها [ق/261] وطنافسها كثير تأتي أحمالاً مما يصل به الكبراء فيقول: أفرشوا لهم من حقهم فإذا قاموا أرجعناها وإذا خرج السلطان ووزراؤه وضربت لهم الصنوج وغيرها من الآلات والملوك على اختلافهم والجنود فلا يفتح في مكانه طاقة ولا ينظر إليهم فسأله عمه القاضي وغيره عن ذلك فقال: لا يجوز ذلك إلا بإذن السلطان، والحاكي يحدثنا بذلك في محروس شهارة حرسها الله، والسامعون في الروم يظنونه سلطانهم الطاغي حقهم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وكثيراً من نحو ذلك حكاه مما يعرف بالسماع أن هذه أخلاقه الكريمة، ومن ذلك أنه كان يموت من عظمائهم ويطلبونه للصلاة عليهم فيقول: إنما يصح إلا بإذن السلطان وهم لا يعرفون مقصد عليه السلام.
ولما توفي سلام الله عليه ودفن في موضع سماه ووصل ناظر السلطان لقبض ما في مكانه، قال: فجلس القاضي والمفتي والناظر خارج المكان وجعلوني أخرج لهم ما وجدت لأن قد علاه غبار كثير فوجدنا ثلاثمائة صرة ذهباً أحمر وفضة وهي أقلها كلها بخواتمها مما يصله من البر وهو لا يفتحها وإنما يجعلها في مواضع من المكان، ووجدنا عنده كثيراً من أدواح الزيت وأرصد جميع ذلك وصيروا لولده المسمى محمد وهو على أم ولد شركسية سماها ولمن معه شيئاً ليس بالكثير وحملوا ذلك إلى بيت مالهم، ثم مات بعد أيام، ورأيت بخط السيد العلامة الزاهد صلاح الدين صالح بن عبد الله الغرباني قدس الله روحه: كانت وفاة الإمام الحسن عليه السلام في شوال سنة خمس وعشرين وألف [اكتوبر:1616م] كما أخبرني الحاج محمد التركي بالمعنى. والله أعلم.
رجعنا إلى تمام خبر الحاج دغيش رحمه الله، قال سيدنا يحيى بن صلاح: ولما أخبر الإمام عليه السلام بكمال الشرح أرسل الحاج أخرى ولم يعد بل توفى في الطريق، قال: وأخبره القاضي فلان من فقهاء عيان أنه وجد في مكة في تلك السنة رجلاً يسأل عن فقهاء عيان ولهم جانب يأوون إليه في الحرم فعرفوه بأنفسهم فقال: هل فيكم الفقيه يحيى الثلائي؟ قالوا: لا، فقال: خرج معنا من الروم حاج فاضل ومعه كتب ومات في موضع كذا وقبضت السلطنة مخلفاته، وأوصاني إلى الفقيه يحيى بالسلام وقال أقول له صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) أو كما قال.
قال سيدنا يحيى رحمه الله: فعلمت أنه يريد أن النجم الذي عندكم كاف أو كما قال، وأخبرني الفقيه الفاضل صلاح بن علي البريشي أن حي الشيخ المجاهد الشهيد عبد الله بن سعيد الطير رحمه الله أخبره من فيه أنه غزا من برط إلى بلاد صعدة، وانتهب قافلة للعجم، وفيها دخل غربي صعدة وأخذ طعاماً كثيراً وأشاطه للإمام عليه السلام وكنت أسمع أن ذلك في بلاد بني ذؤيب وأنه بقي فيها أياماً.
قال السيد أحمد نفع الله به: إن على يده رحمه الله وقعة كبرى في الظالمين في موضع يسمى السبيع قتل من الأتراك وجنودهم كثيراً وأن الإمام عليه السلام أرسله من الأهنوم، وهذه الأخرى من برط غيرها.
وقال السيد نفع الله به في مواضع من سيرته: وإن المذكور من القضايا فيما لم نذكر كالمجة من اللجة، والقطرة من المطرة، وذكر كثيراً من أحوال الإمام عليه السلام التي خصه الله بها، وكان هاجر إليها السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد الشرفي نفع الله به، وفي أيام بقاه في برط أنشأ قصيدته المسماة باستفتاح الفرج وحصل الفرج.
وقال السيد أحمد نفع الله به: إن الإمام عليه السلام أنشأ هذه القصيدة قبل ظهور الدعوة والله أعلم، وهي هذه:
يا ملجأ للخائف المحتارا .... يا من يغيث مرشداً قد طارا
يا حي يا قيوم يا غوث الذي .... يشكوا إليك من الذي قد جارا
يا من يجير بفضله مستضعفاً .... مستصرخاً متضرعاً لك جارا
يا من يجير ولا يجار عليه في .... سلطانه يا قاصماً جبارا
يا من هو الله الشديد محاله .... يا قادراً يا غالباً قهارا
يا من تنزه أن نراه بناظر .... يا من يحيط ويدرك الأبصارا
يا أولاً يا آخراً يا ظاهراً .... يا باطناً يا عالماً أسرارا
يا واحداً يا دائماً يا باقياً .... يا من أبان عجائباً وأثارا
يا باري الصنع العجيب بحكمة .... حياً يحس وجامداً وبحارا
يا نافخ الأرواح في أشباحها .... ومقدراً لبقائها مقدارا
يا محيي الأموات بعد فنائهم .... لجزائهم نعم الجنان ونارا
يا من بنى السبع الشداد ومن دحى .... الأرض المهاد ونور الأنوارا
يا من أدار بأمره في ملكه .... فلكاً مطيعاً دائباً دوارا
يا من يسرمد آية بقضائه .... للخلق ليلاً مظلماً ونهارا
[ق/263]
يا مرسياً شم الجبال بأرضه .... ومحملاً أثقالها الزخارا
يا مرسلاً ذلل الرياح لواقحاً .... فتثير من قلص السحاب غزارا
يا منشئاً جوف السحاب عجائباً .... برقاً يلوح ووابلاً مغزارا
يا منزل الغيث الهني تفضلاً .... لعباده يا مجرياً أنهارا
يا منبت الأصناف من شجر ومن .... نجم ويا من أثمر الأثمارا
يا من حوائج خلقه من عنده .... يقضي ويغني البائس المعسارا
يا من تعفرت الجباه تواضعاً .... لجلاله صار العظام حقارا
يا من إذا وقف الطريد ببابه .... يشكو يفرج كربه الكبارا
يا من إذا المضطر أجهده البلاء .... فدعاك تكشف فادحاً ضرارا
يا رب يا حنان يا منان يا .... رحمن يا ديان يا جبارا
يشكو عبيدك بعد أن نزلت به .... دهماء يسعر حرها إسعارا
يشكو إليك من الذي تعب الأولى .... يبغون فجعه مؤمن ودمارا
يشكو شكاية محرق مستضعف .... كثرت جنود عدوه فتجارا
أعوانه متجبرون فأشبهوا .... فرعون أو هامانه الكفارا
يشكو إليك جميعهم أمراءهم .... وجنودهم والظالم الجوارا
وبعونهم أهل البغاية إنهم .... قد زوروا من إفكهم أخبارا
يغرونهم بقرابة لمحمد .... حتى أخافوا صبية وكبارا
لا يرتجون لحل ما ينزل بهم .... أحداً سواك أتوا إليك فرارا
وقفوا ببابك طالبين لنفحة .... تطفي حرارة محرق محرارا
فبحق ذاتك يا مغيث عبيده .... المضطر ممن قد أراد صرارا
وبحق ذاتك يا رحيم برحمة .... رادفتها بتفضل مدرارا
بجلالك الأعلى لما يختص من .... كرم أضاء بهاؤها وأنارا
وبكل ما سميت نفسك طيباً .... بعظميها أدعوا خفاً وجهارا
بكتابك الهادي بما أظهرت من .... نور به لهداية إظهارا
وبحرمة السبع المثاني إنها .... نور أضاء لنا ولن يتوارا
وبحرمة السور التي ضمنتها .... ممن أحار بلاغة أفكارا
[ق/264]
وبكل حرمة آية أنزلتها .... أدعو بها الإعلان والإسرارا
بملائك لا يفترون عبادة .... عدوا طوال زمان ذاك قصارا
وبجبريل أمين وحيك والذي .... اخترته ليدمر الكفارا
وبحق ميكائيل صاحب قسمة الـ .... أرزاق والمستغفر استغفارا
وبحق إسرافيل ذي الوجل الذي .... أقدرته يا سيدي إقدارا
وبقابض الأرواح عزرائيل من .... ألزمته لوفائها تكرارا
وبأنبيائك كلهم أهل الوفاء .... والجاعلي نصح العباد شعارا
ببديع فطرتك الذي أكرمته .... بسجود من لا يكسب الأوزارا
وبحق إدريس الذي أوليته .... أعلى مكان رفعة ووقارا
وبنوح الناجي على ألواحه .... لما رأى تنورهم قد فارا
وبهود المختار والنصاح .... بالأحقاف ينذر قومه إنذارا
وبحق صالح الذي أرسلته .... بهدى ثمود فأنكروا إنكارا
بخليلك الباني لبيتك والذي .... رضح الصليب بفأسه كسارا
وبلوط الساري بليلة أمطرت .... شر القرى قبل الهوى أحجارا
وبحق إسماعيل صادق وعده .... المعطي ليذبح نفسه مختارا
وبحق إسحاق ويعقوب ابنه .... المجري لحزن دمعه المطارا
بحماعة الأسباط يوسف والأولى .... تابوا فحطوا عنهم الأوزارا
بشعيب مع أيوب ذاك هو الذي .... فيما ابتليت وجدته صبارا
بكليمك المختار موسى الذي .... بمحبة أنشأته أنوارا
بأخيه هارون الزكي بيوشع .... بعزيز أسأل مرة وكرارا
وبحق داود الذي آتيته .... فصل الخطاب وحكمة ووقارا
بسليله أعني سليمان الذي .... ملكته الثقلين والأقطارا
وبأرميا وبأشعيا بكرامة الـ .... خضر الذي عمرته أعمارا
وبحق إلياس ويونس بعده .... باليسع حيث جعلتهم أخيارا
وبحق يحيى بالزكي أبيه من .... وضع الطغاة برأسه المنشارا
وبروحك الزاكي المسيح وأمه .... الآيتين لمن يشاء نظارا
[ق/265]
وبحق لقمان الحكيم وفتية .... بالكهف نالوا من لدنك جوارا
وخاتم الرسل الكرام محمد .... خير الأنام الرسل والأخيارا
أكرم بخير المرسلين محمد .... أكرم به في المرسلين خيارا
أكرم به من مرسل أكرم به .... من طيب فرعاً له ونجارا
أكرم به من طاهر أكرم به .... من صادق أكرم به مختارا
جدي الذي أرسلته والناس في .... قعر الضلالة تائهون حيارا
فأتاهم بالمعجزات شواهداً .... أعط الملأ برهانك السيارا
ودعا لدينك ناصحاً حتى أتى .... بالسيف يضرب من بغى الإدبارا
حتى أمات الشرك بعد حياته .... وأنار من سبل النجاة منارا
وأقام دينك قيماً بعزيمة .... لو سلها لأذابت الأحجارا
فأشاد أركان الشريعة بالذي .... اخترته من يحكم الأخبارا
بأخيه حامل علمه ووصيه .... أعني الشجاع الصائل الكرارا
جدي علياً خير من وطئ الثرى .... بعد النبيين الفتى المعصارا
بالطاهر الحسن الكريم وصنوه .... اعني الحسين والسبط والمبرارا
وبفاطم الزهراء بنت محمد .... خير النساء كرامة وطهارا
وبحق حمزة الشهيد وجعفر .... (من قد غدا) في جنة طيارا
وبحق عباس كذلك سليله .... بحر العلوم الزاخر التيارا
بجماعة الآل الكرام جميعهم .... أهل النجاة وسفينها الأطهارا
قرناء وحيك يا إلهي والأولى .... صاروا لملة جدهم أنصارا
بصحابة صحب النبي ووقروا .... أجر النبي محمد وقارا
وبكل عبد في البرية صالح .... لم أسمه لا أترك الأبرارا
بالكعبة البيت الحرام وركنه .... ومقام من عمر العتيق وزارا
وبزمزم والمروتين ومشعر .... ومواقف أكرم بهن مزارا
أن تكشف السوء الذي قد حل بي .... وبصبيتي والمؤمنين وثارا
أرني إلهي ما وعدت عبيدك .... المضطر غوثاً مسرعاً نصارا
نحن الذين إليك يا رب التجأ .... ممن طغى أو من بغى الإضرارا
[ق/266]
اجعل دعائي موصلاً بإجابة .... وانظر إلينا واكفنا الأشرارا
فرق جموع المفسدين وحولن .... إقبالهم يا سيدي إدبارا
حتى نقر ولا نخاف من الأولى .... يبغوننا بنكاية ديارا
أسرع ولا تقطع رجائي إنني .... لما أزل لك راجياً نظارا
وعلى الملائك كلهم والأنبياء .... أبداً صلاة مكثراً إكثارا
واخصص محمد الأمين بخير ما .... آتيت رسلك طيباً مكثارا
وعلى كرام الآل آل فرعوا .... من خير من ركب المطي وسارا
واغفر لنا والمؤمنين ذنوبنا .... إنا طلبنا راحماً غفارا
نعم وفي أيام بقائه عليه السلام في برط استخرج الرصاص من خمسة معادن وكان يشرط على أهله ما يجب لله تعالى من الخمس ويبيعون إليه الأربعة الأخماس، ولهذا كثرت خزانته من الباروت والرصاص حتى لا يعلموا أنه اجتمع لغيره مثل ما اجتمع له.
[أخبار النهضة الثانية للإمام]
فصل: ولنذكر النهضة الأخرى وما اتفق فيها من الحوادث فإن للإمام عليه السلام أربع نهضات:
الأولى: من الدعوة إلى خروجه من شهارة المحروسة بالله إلى برط.
والثانية: من خروجه من برط إلى انعقاد الصلح بينه وبين سنان لعنه الله، ثم جعفر باشا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والثالثة: خروجه على جعفر باشا بعد موت إبراهيم باشا كما سيأتي.
والرابعة: خروجه على محمد باشا ويعقبها وفاته صلوات الله عليه.
قال سيدنا يحيى بن صلاح رحمه الله وقد ذكر سبب خروج الإمام عليه السلام الخوف في برط وخلاف الأمير عبد الرحيم المحروم على الترك أنه اشتد بالإمام الخوف في برط، وغُزي كما تقدم من صعدة، وكان رجح من رجح التوجه إلى بلاد قحطان ويأمن هناك ويجمع كتبه وأصحابه فلم ير ذلك، بل قال: هذه المشاق التي ترون لغفلتنا عن الجهاد ومنابذة أهل الفساد أو كما قال، ثم توجه بلاد سفيان والتأم إليه القبائل، ثم طلع الجبل الأسود أعلى من عيان وعشر من هنالك وفيه محطة من العجم كما تقدم من تبسطهم في الظلم والهسف والعسف وأنهم جعلوا في بلاد حاشد وبكيل محاطاً، منها في خمر ،ومنها في الصرار وعمران وذيبين ووادعة والهجر من الأهنوم والسودة، وفي بلاد ذيبان في مخصم وغيرها وجعلوا من يخرب البيوت كما [ق/267]تقدم، وتفرق العلماء والفضلاء في أطراف البلاد على غاية من التخفي وقد تقدم بعض ذكر ذلك، قال: لما رأه من في عيان حصل معهم الفشل وانضموا إلى بعضهم بعضاً، ثم خرج من شرقي خيوان إلى مواضع سماها، ثم انتهى إلى الجبل أسفل بلاد خيار من بني صريم، وفي دماج بني قيس أعلى نهمان محطة العجم وفي وادعة كذلك، ثم طلع إلى قبة خيار وليس معه مايقرب من ثلاثمائة نفر وليس معهم من البنادق إلا اثنى عشر بندقاً.
كما أخبرني حي مولانا شرف الإسلام الحسن بن أمير المؤمنين رضوان الله عليه قال: هو موفيها وصنوه علي بن أمير المؤمنين الشهيد الفاضل رضوان الله عليه وعالج الإمام عليه السلام التئام وادعة فصمموا على حربه عليه السلام وهم من أهل السبق والمحبة وإنما قد أذلهم العجم فإنهم أخذوا منهم رهائن جمة ثم أخذوا من كل قبيلة من يعرف فيها وكتبوهم في ديوان عساكرهم ووجهوهم اليمن مع أمير للعجم يسمى أحمد الأخرم، وكذا غيرهم من بلاد حاشد وبكيل لأن النقيب الشقي سعدان العبدلي قال لسنان: كل من كان في دفتر الإمام فأنا زعيم بإدخاله دفترك وغزا إلى مواضع من لم يخدم العجم وقتل كثيراً حتى من بلاده، ويروى أنه وصله جماعة أسرى غزاهم على مثل ذلك يعني إلى عند سعدان لا رحمه الله، فيهم ابن أخته فقال: قدموه في القتل على أولئك وقال له رجل من قبائله وقد قتل أولاده: يا نقيب ابق لي هذا الولد للمكالف فقتله مع ابنه، نسأل الله السلامة من شرورهم وأمثالهم.
رجعنا إلى رواية حي سيدي الحسن بن أمير المؤمنين عليهما السلام قال: لما شق بالإمام المقام في بلاد خيار وهم يعجزون عن القيام والجهاد بين يديه وإذا فارقهم ورجع المشرق هلكوا عن آخرهم فأرسل من أوقد النيران في العفيرة من أعلى وادعة وهو الشيخ عبد الله بن سعيد الطير رحمه الله ليتهم بعضهم بعضاً، فلما وصل البلد وقد أعطاه الإمام عليه السلام فضة، وقال: تؤلف بها من عرفت من أهل البلد ليتركوكم توقدوا النار، فقال الشيخ: معي دراهم، وتم له ذلك، ولما رأى الإمام عليه السلام النار قال لوادعة: هؤلاء العفيرة أقرب منكم إلى العدو والونا فكان من أول أسباب صلاحهم، ثم تقدم إلى بركة الحسفة وبقي فيها ،ووادعة مركزون لمنع بلادهم من الإمام عليه السلام لما سبق من مخافة العواقب حتى دنا الليل وضاق الحال بالإمام عليه السلام، ولم يجد موضعاً يمسي فيه حتى ينظر في أمره فهدى [ق/268]الله الشيخ المجاهد الناصح ناصر بن يحيى المسمى شيخ الحرب وهو من الصبيحات ونادى في الإمام وأصحابه بأن عشاءكم ومساءكم عندي، فتقدم إلى بلده وهو ينصر للإمام عليه السلام وكان الشيخ حاجب بن حسين من أصحابه أيضاً ينصر للترك وأخذهم الله وحصل بينهم خلاف فغلب الشيخ ناصر الشيخ حاجب بن حسين المكنى أبا شاردة على البلد، وصلح حال الشيخ حاجب بن حسين فيما بعد، وكان لهذا الشيخ ناصر سبب هذه القضية محل ولأولاده من بعده، وتكررت الوصية من الإمام عليه السلام فيه كما سمعته من ولده مولانا المؤيد بالله سلام الله عليه وغيره، ورأيته في وصيته.
وأخبرني السيد الفاضل علي بن محمد الغرباني أن الإمام عليه السلام رأى هذا الشيخ خارج سعدان في جماعة من وادعة فدعا ولده مولانا محمد عليه السلام، وقال: هذا الشيخ لولاه لما تم لأبيكم أمر ولا ولا فوصية الله فيه، وخاف الإمام افتراق وادعة والشقاق وقد طمع في اجتماعهم فأرسلني يعني نفسه سيدي الحسن والفقيه أحمد بن عجاج من أهل درب عبيد كما أخبرني صالح بن محمد الوادعي وسمعت ذلك على ذهني من الفقيه المذكور يدلني الطريق إلى بيت الشيخ صالح بن قبيضة وهو الشيخ المعظم عندهم، وصنوه الشيخ يحيى أبو عسال كان عند سنان من المعظمين، وكان الشيخ صالح يعين على الإمام عليه السلام لأجل أخيه الشيخ يحيى، قال: فوصلنا بيته قبل الفجر فوجدناه في سطح داره يسمع ما يحدث من المراكزة.
[انظمام وادعة إلى الإمام]
وأخبرني الشيخ صالح المذكور في بيته أنه لما رآه وعرفه صاح به فقال: ويلك من الله أنت وأخوك وأبوك تأتني على هذه الحال إن أغدر بك كان العار والنار، وإن أساعدك هلك أخي وأصحابي، ولم أتحقق جوابه، وأما سيدي الحسن رحمة الله عليه فقال: لقينا [الشيخ] إلى الباب وهو يتكلم بنحو ما تقدم، وأراد يعقر رأس بقر وقد حلنا بينه وبينه، ثم أراد إدخالنا منزله، فقلنا: لا نطعم لك طعاماً ولا شراباً حتى تطلع أعلى بيتك وتنشر ثوبك وتنصر للإمام عليه السلام، قال: فتلكأ قليلاً فقلت له: إن فعلت وإلا فهذا ابن الإمام في بيتك وفي يدك سلمه إلى الترك، فعظم عليه ذلك ففعل ما أمرناه، وزاد في النصيحة وقال: وأنا أعلم أن بيتي للهدم وأخي وأهلي لكذا، فقلنا: ثق بالله سبحانه، فلما طلع الصبح وسمع وادعة التنصير في بيت الشيخ انحزل منهم إلى الإمام قريب الألف وبايعوه، ثم الباقون فما أمسى تلك الليلة إلا وقد اجتمع وادعة على القيام والنصرة إلا مشائخ [ق/269]الترك أهل الرهائن.
قال السيد أحمد نفع الله به: وانتثرت النجوم في السماء كالمطر في خلال مسير الإمام إلى وادعة أو قبله بيسير.
وأخبرني صالح بن محمد الوادعي من أهل قرية النحيد أن الإمام عليه السلام جمع وادعة في قرية الصبيحات وتكلم فيهم بكلام طويل حاصله: إن كنتم راهنين رهائن فأولادي أكثر وأصحابي رهائن في كوكبان، وها أنا وأولادي بينكم وأشار إلى أولاده الثلاثة عليهم السلام ونفسه رهائن عندكم والله إني قد أقمت في هذا المكان كهذه وأشار إلى أصل التالوقة وهو متكئ عليها ولا فارقت وادعة إلا مقتول أو منصور، قال: فقام كبراء وادعة إلى جانب وقالوا بعضهم لبعض قد سمعتم ما سمعمتم فنتعاهد على مثل ما فعل وإلا فهي الفضيحة في الدنيا والآخرة، قال: فعادوا فعاهدوه على ذلك وشرطوا على بعضهم بعضاً أنهم لا يطلبونه وأن كل أحد ينفق ما يجده حتى ينفد، وذلك في جمادى الآخرة عام ثلاث عشرة وألف [أغسطس: 1604م] كما نقل من خط القاضي شمس الدين أحمد بن يحيى بن حنش رحمه الله، وأقبلت العجم إلى مواضع كما أخبرني الفقيه المجاهد عبد الله بن عز الدين الأكوع وغيره إلى موضع يسمى حجا موضعاً بين بني مالك ووادعة، ولقيهم المجاهدون فاتفق حرب عظيم، كانت اليد فيه لجنود الحق، ثم تقدم الشيخ المجاهد الشهيد عبد الله بن سعيد الطير إلى بلاد بني مالك ولزم الحوارث، وقصده ابن المعافا بجموع كثيرة وردهم الله بغيظهم، وقتل منهم كثيرون واحتزت رؤوسهم فلم يعودوا لحرب بني مالك فيما أرسل الإمام عليه السلام إلى العفيرة رتبة السيد العلامة علي بن صالح العبالي، ثم إلى غير تلك المواضع حتى لقد احتاج الإمام عليه السلام إلى عدة مراتب، ومع ذلك الأرض تميد بالظالمين وزحفت جنودهم حتى أحطوا في بني قيس وفي جانب
البطنة من جهة الهجر والأهنوم، وخرجت المحاط من صعدة وعيان إلى خيوان وأحاط الظالمون بوادعة من كل جهة ورسله عليه السلام ودعاته إلى كل جهة والإجابة قليل إلا أن أهل الصبر والعزائم قد وصله كثير منهم متطوعين للجهاد، ولا تزال الحرب والغارة في غالب الأيام.
قال السيد أحمد نفع الله به: أرسل الإمام عليه السلام ولده الحسن بن أمير المؤمنين إلى ذيبين وجانب بني جبر، والسيد العلامة علي بن صلاح العبالي كما بلغني من بني جبر من غير رواية السيد أحمد فاجتمع عليه محاط وهم الأمير أحمد الأخرم في محطة وابن أخ الأمير عبد الله بن المعافا المسمى يحيى في محطة وجوهر [ق/270]كاشف من عند الأمير درويش في محطة، وعبد الله السلطان أمير البون كذلك والتقوا كلهم في ذيبين، فخرج ابن الإمام عليه السلام إلى مرهبة متخفياً، ثم انتقل إلى جبل مشرف على نوفان بقي فيه نحو عشرين يوماً، ثم رجع إلى وادعة إلى والده عليه السلام ودخلت عساكر الأتراك ذيبين فنهبوا ما فيه وهربوا قبائل بني جبر وتركوا بلادهم خالية، وكانوا يقتلون من وجدوه في طرق الأتراك. انتهى.
[فائدة]
أخبرني الشيخ الرئيس صلاح بن ناصر بن مفضل المعمري ثم الحيمي أنه وصل من الحيمة إلى الإمام عليه السلام بعد خروجه من برط إلى وادعة في الخرجة الأخرى هذه، قال: فكنت عنده بعد التئام وادعة له عليه السلام فدخل عليه كبارهم وقالوا: لنا منك خبر لا يطلع عليه غيرك فقام أهل حضرته الشريفة وقمت معهم فقال الإمام عليه السلام: أما أنت يا شيخ فغير مقصود بالقيام لأنك من جهات بعيدة فبقيت عنده فتكلم متكلمهم وقال: يا مولانا هذه ساعة جهاد والعدو مقبل علينا وثم شرائع وتنازع ودعاوي بين قوم ضعفاء قد رهنوا أموالهم من الكبراء والأغنياء، وقد ظهر من مذهبك إبطال بيع الرجاء وعلل الرهان فلو أخرجت هذه المسألة حتى ينفصل العدو ويظهرك الله عليه لئلا يحصل سبب ذلك تخذيل وفتنة بين الناس أو كما قالوا.
قال الشيخ المذكور: فرأيته عليه السلام وقد تقطب وجهه بالغضب ثم قال: أتقولون لي ذلك وأخون الله في بلاده وعباده، وماذا المقصود من الجهاد غير إنفاذ أحكام الله، ثم أقسم بالله لو تحملون على الترك بتاء الخطاب الحاضر في حجزكم لا فعلت ثم قال: وكيف نرجوا نصرته ونحن لا ننصر أحكامه أو كمال قال، ثم طلب السيد العلامة عز الدين محمد بن علي بن عشيش وكان إليه القضاء قال أنفذ الأحكام على القوي والضعيف ولو كان ما كان، وتفرق المشائخ وقد استحوا كثيراً، ثم أقبل العجم وكان ما تقدم من الانتصار عليهم، ولما سمع هذه الرواية الشيخ جمال الدين علي بن أحمد بن جابر السيراني ثم الأهنومي، قال: وقد كان من مشائخ الأهنوم والله مثلها، وكان الجواب كذلك، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وأخبرني القاضي الأعلم جمال الدين علي بن أحمد بن أبي الرجال رحمه الله أنه دخل بني عثيمة من أعمال بني صريم بعسكر من قبل الإمام عليه السلام فبقي فيها ليالي، ثم لم يشعروا إلا بالظالمين في أطرافهم ودخلوا القرية فأخرجنا أهلها وكانوا السعاة علينا ونجانا الله سبحانه [ق/271] فوصلنا العفيرة أو قريباً منها فأول من لقينا للغوث والمدد الإمام عليه السلام وهو حامل بندقه بنفسه والفتيل بيده الطاهرة تقد ناراً، وقد أخذه الغضب فأقسم القاضي لا كدت أثبته معرفة لما رأيت عليه من الهيبة، وقد تفرق شعره وهو يقول لنا: يا ضعفة القلوب والكذا، تخرجون منهم والله لا تهبنهم المسلمين ولأفعلن وأفعلن حتى هممنا بالرجوع، [وهو معنا] فمنعه السيد العلامة جمال الدين علي بن صلاح العبالي رحمة الله عليه وغيره وكان أيام العنب فكان يحصل من وادعة ما يكفي المجاهدين مع ما يأتي على مشاق، ولقد أخبرني أنه كان يفرق ما وجد في أهل المراتب والجرحى وإذا لم يجد ما يقوم به وبمن عنده أخذ بندقه وطلب عذراً للتغفل ولقد قال لنا يوماً: يا أصحاب أرى المراتب ساكنة قوموا بنا نطلب الصيد في جبل رميض أعلى من حوث فوصلنا ذلك الجبل وصدنا وعلاً فقسمناه وكنا خمسة وأربعين رجلاً ومعه الطاسة والطبول معدة للغارة من غير حركة ولا سماع لها في تلك المواضع، وعزمنا أعلى الجبل مما يلي الفقع، فلما أشرفنا على الفقع وكان فلان يقدمنا ينظر صيداً وإذا به مفجوع يشير برأسه ويده ولم يتكلم وأنكم ابتطحوا على وجوهكم أو كما قال، فأعاد الإمام عليه السلام القول وقال: ما وراءك؟ فقال: علي خوف وخجل القاع
كله خيلاً ورجالاً من الترك أخذهم الله وما بيننا وبينهم إلا هذه الهضبة، فلو رأونا لقبضونا بالأيدي، قال: فرأيته عليه السلام قد عظم وكبر في أعيننا وقال: كونوا مكانكم ثم خلع عمامته وتجرد وطلع وحده يتخلل الحجارة حتى عاينهم، ثم عاد إلينا يتهلل وقال فما ترون من التدبير؟ فقلنا كلنا: الأصوب إنهم لا يعرفون مكاننا ونختفي تحت الحجارة حتى ينفذوا وهم الأمير رمضان من العجم ومحطة معه مغيراً من خيوان إلى دماج بني قيس وطريقهم ذلك، فقال عليه السلام:وتخبرهم عيونهم بأنا تخفينا منهم ويقولون لبعضهم بعضاً: ليتنا أدركناهم، لا يكون ذلك إن شاء الله تعالى، ثم أخذ اثنين من الخفاف وأمرهم بالسعي إلى جبل أعلى منا يشرف على وادعة وأعطاهم ثوباً أبيضاً ينشرانه ويصرخان في وادعة وغيرهم ثم دعاني ومعي بندق والحاج صالح المسلتي وثلاثة أنفار معهم بيارق عرب وطلع معنا حتى أرانا قدوم الخيل المتصل بالقاع وقال: انشروا البيارق وتقدموا ثم فلان وفلان أهل بنادق وثلاثة مثلهم على ذهني أنهم بنو العبسي الشيخ هادي بن صالح [ق/272] من أصحاب الحاج شمس الدين رحمه الله، وثلاثة بيارق أرسلهم إلى قدوم مثل ما في جانبنا، ثم ترسم علينا وقد رأى منا خوفاً على الإمام عليه السلام وعلينا حتى نصرنا ورميناهم بتلك البنادق وهم نحو خمسمائة نفر وفوق المائة من الخيل قال: لما رأوا البيارق والبنادق رجع أولهم إلى آخرهم وتحركوا للحملة وهم لا يعرفون عددنا لكوننا تحت الحجارة، فلما رآهم عليه السلام على ذلك صاح باليقين واختلط بهم وضربت الطاسات والطبول، ثم أغار من جانب يسمعون الطبول
والأصوات ولا يرونه وهو معارض لهم بحيث لا يراهم ولا يرونه والأصوات والطبول تخبرهم بمعارضته، قال: فرأيناهم أجفلوا بالهرب لا يلوي أحد على أحد، قال: فلما هربوا بقينا في مكاننا مخافة أن يعرفوا عددنا فيعودوا علينا ولا زال معارضاً لهم حتى طلعوا نقيل الحبلة وقد وصلت أول الغارات، قال: فرجعنا إلى مواضعهم فوجدنا من أثقالهم ما طرحوا وحميراً وغيرها فأخذنا ذلك ورجعنا بحامية، فلما انقضت القضية تبسم عليه السلام إلينا وقال: كيف هذا الرأي من الذي قلتم؟ فقلنا جميعاً: أنتم الموفقون للصواب وقرناء الكتاب أو كما قال، وتضايقت الأمور بسعة المحارب والحراسة فأرسل الإمام عليه السلام إلى جهات كثيرة دعاة وقد امتدت إليه الأعناق ووصله أصحابه الذين فرقهم الخوف فإنهم مع تبسط الظالمين تفرقوا.
[وقعة حاشف]
قال القاضي الأعلم شمس الدين أحمد بن يحيى بن حنش رحمه الله فيما رأيته بخط عن خطه ما معناه: أن الإمام عليه السلام أرسل الفقيه علي بن أحمد الشهاري إلى الأهنوم وكانت طريقه حاشف حتى صار إلى جبل سيران ثم إلى بني سعيد منه، وطلع إلى مغربة الشاوري فكان ذلك سبب مطلع الأمير إبراهيم بن عبد الله بن المعافا من الهجر، ثم إن الأهنوم لما رأوا قلة العسكر مع الفقيه علي الشهاري وكانوا زهاء من أربعين نفراً لم يظهروا أمرهم وأخلفوه ما أعطوه فرجع منهزماً إلى وادعة، ثم نزلت محطة عظيمة من حمومة الظاهر، وانضم إليهم ابن المعافا الذي في النجد فواجههم أهل سيران، وبعضهم طلع جبل سام الذي فوق الحبس، وأوقعوا في بني سعيد حتى لقد أباحوهم ثلاثة أيام نهباً، وقتلوا كثيراً منهم، وتفرق أهلها، وأرسل الإمام عليه السلام بعدها الشيخ علي بن وهان فكان في بيت بني حنيش من حاشف وقتل رجل منهم يسمى صالح من الأشاهرة من حاشف، وكان هذا قد لزم رجلاً [ق/273]يسمى دُخْني من أصحاب الإمام عليه السلام وقتله الترك على بدية الخاروق لعنهم الله ثم إن الأمير إبراهيم بن المعافا غزا بيت بني حنيش فانهزم الشيخ علي ونهبه وأخربه وقتل جماعة من أهله، ورجع إلى نجد بني حمزة كما تقدم، واستولى الإمام بعد وادعة على خيوان، وكانت محطة من العجم في عيان فكانوا يحاربونهم ويهزمونهم بإذن الله تعالى.
[موالاة الأمير عبد الرحيم للإمام]
فصل: وأما قيام الأمير عبد الرحيم المحروم وسبب موالاته في تلك الأيام لمولانا عليه السلام وقد تقدم منه ما تقدم فإنه لما استولى على حجة وبلاد الشرف وقد جعله العجم له يعني الشرف وكتبوا له به عليه عهداً وأقطعوه إياه مع بلاد حجة، هاجر إلى بلاد الشرف الشيخ حسن بن عاطف الأهنومي بعد تسليم شهارة واستيلاء العجم عليها، وهذا الشيخ تروى عنه رئاسة وشهرة، وله مع الإمام الحسن عليه السلام أخبار حسنة ومع الإمام عليه السلام فحمله كثرة العيال والحاجة إلى أن صار إلى الأمير محمد بن عبد الرحمن ثم إلى الأمير عبد الرحيم فقام به وصار في جملته، ولسنان لعنة الله عليه ضغائن وإحن فطلب مسيره إليه فغلب عليه عبد الرحيم وخاف عليه كما وقع فأعاد عليه وأمنه أنه إذا وصل إليه عاد إلى عبد الرحيم سالماً فأرسله إليهم فقتله سنان لارحمه الله، فعظم على عبد الرحيم وكبر لديه وعرف أنه يعني سنان إذا تمكن طالبه ببلاد الشرف ثم حجة فأضمر الخلاف عليه وسعى في استخراج من في جنود الظالمين المثاغرين للإمام عليه السلام من عسكره فأخرجهم على كيفيات ثم أرسل أخاه الأمير مطهر بن عبد الرحمن إلى بلاد ظليمة والأهنوم وبلاد شظب فكان في أبرق ظليمة وتسلط على كثير ممن خان الإمام عليه السلام مما أخبرني الوالد السيد محمد بن ناصر الغرباني أطال الله بقاه أن القاضي علي بشاري من أعداء الإمام عليه السلام وكان يطلب على الإمام الغوائل فسلط الله عليه عبد الرحيم كما أخبرني بتفصيل ذلك علي بن يحيى سدالة الأهنومي أنه حضر ذلك عند قبض مطهر له في الأبرق من
ظليمة لكتاب وجده منه إلى ابن المعافا، فعزره وبعث به إلى عبد الرحيم فقتله ممثولاً به وأرسل محاط بعدها إلى السود وبعضها إلى الصرحة من بلاد عفار وملك حصن جرع، وكان خراباً وجعل فيه رتبة، وكانت هذه في ليلتين كما روى ذلك من عرفه وأمر بالتنصير في بلاده للإمام [ق/274] عليه السلام فأرسل العجم إليه أحد كتابه وكبرائهم وشرطوا له ما تطيب به نفسه، فقتل ذلك الرسول وأحرقه بالنار وكذا حاله بالمثلة كما سيأتي من أخباره بما لا يفعله أحد من طماطمة الترك وطواغيت الهند، وأحسن فيما أساء، وصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) ثم امتدت محاطه إلى بلاد كوكبان وبلاد عفار وظليمة والأهنوم وشظب، وخطب للإمام عليه السلام والإمام يمده ويحرض المسلمين على نصرته وأرسل إليه جماعة، وللشيخ ناصر البهيلة صاحب حقل بواسطة بعض أصحاب الإمام يد في تحريض عبد الرحيم لم أتحقق تفصيلها، وانفتح المشرق جميعه وولوا الظالمين وهم عدد[...........] إلى عمران البون وجعلوا رتبة خيل في البون كانت تغير إلى بلد الصيد وما يقرب منه، ولا يزال القتل من الفريقين، ثم رجع معظم جنودهم إلى بلاد الطرف وبلاد كوكبان وبلاد قدم إلى حرب عبد الرحيم وعظم الحرب في جانب عبد الرحيم، وله معهم وقعات كلها اليد له حتى أسر من أهل كوكبان ثمانمائة نفر من عسكرهم وكبرائهم في حميمة بني الذواد في يوم واحد واتصل ببلاد جبل تيس، واستقامت الحروب على حصن جرع وملكه عليهم وغيره، فغلظ جانب الحق وامتدت الأوامر الإمامية شرقاً وغرباً ويمناً وتقدم الإمام عليه السلام
إلى خمر واستخرج عمه كما تقدم، وكان قد وجه الحاج المجاهد شمس الدين أحمد بن عواض رحمه الله إلى جهات خولان العالية فأجابه أهلها وصاروا إليه وقطع مواد صنعاء على نحو ما تقدم في النهضة الأولى، ثم وجه في أثره بعد وصوله إلى خمر الشيخ المجاهد الصابر عبد الله بن سعيد الطير رحمه الله في ثمانمائة نفر عسكراً من وجوه حاشد وبكيل أكثرهم بنادقية فصار إلى الحاج شمس الدين، ولهم حروب كثيرة منها في نقيل ابن غيلان من بلاد نهم، ومنها القضية التي اتفقت في بني سحام وما كان منهم من الغدر بالمجاهدين كما أخبرني الوالد رحمه الله وغيره أن الحاج شمس الدين والشيخ عبد الله والمجاهدن سبقوا الظالمين إلى جبل اللوز وصاروا إلى بلد يسمى المربك وقد أجفل العجم لحفظه فسبقوهم إليه وتعبوا لحربهم وقد جاءوا بإرعادهم وإبراقهم، قال: فثبت لهم جنود الحق وحصل حرب عظيم وهزم الله الظالمين وشرع فيهم خفاف الناس وقد قتل من الفريقين نفر ومن الترك وغيرهم أكثر، فبينا المسلمون في ذلك [ق/275] وإذا بالصائح من ورائهم بأن بني سحام غدروا وصاروا يقتلون المجاهدين من ورائهم وينصرون للعجم، وذلك لأسباب أعظمها ما اصطنعهم به سنان لا رحمه الله بالعطاء والجعل، وممن قتل بنو سحام الشيخ المجاهد شهاب الدين أحمد بن علي العلواني الوهبي.
[كرامات الإمام]
وأخبرني بعض مشائخ خولان في محضر جماعة منهم وصدقوه أن هذا الشيخ العلواني بعد أن قبر بسنة أو أكثر نقله أهله إلى بلادهم من قبره الأول فوجدوه كما دفن صحيحاً لم يتغير، وكان الحاج شمس الدين رحمه الله في ساقة أوائل القوم وسرعانهم والشيخ المجاهد عبد الله بن سعيد الطير في الأثر في جماعة وافرة من حاشد وبكيل ظهيراً للمجاهدين لالتماس الحفيظة، فانهزم الناس وحصل ما لا يحتسب من الهزيمة والنهب والقتل أقل لكثرة اختلاف الناس بعضهم ببعض، فلا زال المجاهدون في صعود وهبوط حتى كاد يستأصلهم الخصوم ويشغلونهم حتى يصل العجم فإنهم كانوا في الهزيمة فلو كانوا حال أن وقع الغدر من بني سحم مقبلين على المجاهدين لكانت العظيمة، فاستقام الشيخ المجاهد عبد الله بن سعيد الطير حتى خلص الناس بعد مشقة شديدة ومدافعة أكيدة، ثم آووا إلى جبل أعلى من شرفة الأزارق يسمى دلاج ومنه انحدروا إلى مشارق بلاد نهم، وكانت ليلة مظلمة والبروق والرياح الشديدة.
أخبرني حي سيدنا الفقيه عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله أنهم كانوا يمشون خطوات على البروق، قال: فكنت أذكر الآية الكريمة{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}، واتفقت في تلك الليلة الكرامة العظمى وهي مشهورة رواها حي سيدنا المذكور وحي الوالد رحمه الله وسمعتها من كثير ممن حضرها أنه أضاء لهم نور من أعلى سنان رمح الحاج شمس الدين رحمة الله عليهم وانتفع به من حوله وطال لهم حتى انحدروا، فقال الحاج حينئذٍ: يا قوم هذه الكرامة لمولانا الإمام عليه السلام وأخذ يحقر نفسه رحمه الله.
وأخبرني القاضي العالم علي بن سعيد الهبل أطال الله بقاه مكاتبة أنه اتفق للحاج شمس الدين بعد هذه الكرامة مثلها كما أخبره صنوه عز الدين بن سعيد الهبل، قال: كنا مع الحاج نحو سبعة أنفار أكثرهم فقهاء من بني شداد وسرنا ليلاً في مخافة شديدة، وكانت طريقنا في جبل الكولة من بلاد بني جبر في ليلة مظلمة ومطر، وأقسم لا ينظر بعضهم بعضاً من شدة الظلمة والمطر فوقع أعلى الحطيبي [ق/276] يعني رمح الحاج أحمد نور يشبه الذبالة الطويلة خضراء فاهتدوا بها، وإن الراوي ممن سار في ضيائها وأراد الحاج أن يطفيها ما طفيت وهي نار من يمنة ويسرة.
قال القاضي وذكر القاضي عز الدين للحاج هل قد اتفق لك مثل هذه؟ فقال: نعم وذكر معنى القضية الأولى، وبعضهم كانت الأملاك تشبهه، وبعضهم كان نور السوط يهديه، وهذا من ذاك، والحمد لله رب العالمين، وما كان عطاء ربك محظوراً، ثم عاد الحاج شمس الدين رحمه الله إلى بلاد خولان فاجتمع له بنو جبر وبنو شداد ومن إليهم وتغيّبوا فيما كان من بني سحام كما أخبرني الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي رحمه الله وقصدوا محطة العجم إلى جبل اللوز، فلما توسطوا في الطريق اتفق أن الشيخ عبد الله بن ربيح القرموشي الجبري وكان من الأشرار وحكام الطاغوت فتك ببعض القوم وغدر به وقتله في الليل مع الجمع الكبير، فافترقت الناس وعادوا وقد تشعب ذلك الجمع وانتقض ما أبرمه الحاج شمس الدين رحمه الله وأعطوه من أنفسهم، وفي خلال ذلك مغازي لم أحط بجملتها، واتصل الحاج رحمه الله بالذراع وهدمه، وصار إليه وإليه الشيخ على الجرعي وقضايا كثيرة.
[محاولة الغدر بالشيخ المجاهد عبد الله الطير]
وأما الشيخ الرئيس المجاهد عبد الله بن سعيد الطير رحمه الله فبقي يتردد في جهات السر وما يقرب منه من بلاد نهم وخولان نحو أربع سنين وتقدمت مراتبه إلى نحو صنعاء إلى مواضع، منها الرونة من أعلى سعوان ونحو رجام، وأسفال السر والمغازي عليه من صنعاء لا تزال ويدافعهم الله سبحانه، وفيها غزا الترك أخذهم الله خربة سعوان وقتل من الترك كثيراً، وقد تقدم في النهضة الأولى عكس هذه القضية حتى لقد أخرج سنان لا رحمه الله رجلاً من نهم يسمى محمد بن سند، وكان من أعيان جنود الظلمة وقد حسن حاله عندهم وأولاده في صنعاء وأمره بالغدر بالشيخ عبد الله، وعلم الشيخ ذلك وعرفه قبائل نهم فخافوه لا يغدر بالشيخ وقد أظهر أنه هارب وكذا فبسط له الشيخ عبد الله الجناح وأحسن إليه وأمنه وخالطه، وكان هذا محمد بن سند من عقلائهم فلا زال حتى أوقفه على أمره وأراه ما عنده وقد وعده سنان بالغدر به ما لا يقدر قدره وإن لم يفعل أهلكه وأهله، فعظم عليه الأمران فطلب من الشيخ عبد الله أن يعرف الإمام عليه ويطلبه وعلى أنه معتقل له ففعل، ولما وصل إلى مولانا عليه السلام خاف أن يبقى عنده على أولاده فطلب منه إرساله إلى مكة المشرفة، وبقي هنالك [ق/277]حتى هلك سنان لا رحمه الله كما سيأتي، وخرج اليمن مع جعفر باشا لا رحمه الله وبعد استقرار الإمام عليه السلام في وادعة وفتح المشرق وقيام الأمير عبد الرحيم جهز ولده جمال الإسلام علي بن أمير المؤمنين عليه السلام إلى بلاد صعدة فكان في بني ذؤيب يغزي العجم ويغزونه ومعه جماعة من الأعيان، ولا بد من ذكر ما أمكن من قضايا بلاد صعدة في هذه النهضة إن شاء الله تعالى.
[حروب الرجو]
وهي قرية عظيمة من بلاد بني زهير فدخلها نحو سبعة أمراء من العجم من همدان وبني الحارث وكبرائهم، فتوجه لقتالهم القاضي العلامة الهادي بن عبدالله بن أبي الرجال والفقيه المجاهد عز الدين بن علي الأكوع والشيخ المجاهد الشجاع صالح بن محمد حمران النهمي رحمه الله تعالى، فاتفقت أيام جهاد وجلاد، وملاحم شداد لم يضبطها تعداد مدة ثمانية عشر شهراً، وكان من انهزم من أمراء العجم قتله سنان لا رحمه الله حتى لقد صلب أميراً من كبرائهم انهزم في بعض حروبها حياً يسمى الأمير عثمان كما أخبرني الشيخ أحمد بن علي خضر، وكان القاضي الهادي رحمة الله عليه على بلاد خارف ويلزم أعلى كابظ.
قال السيد أحمد نفع الله به: إنه خرج من صنعاء الأمير علي بن مطهر بن الشويع من الحمزات في عسكر من الأتراك إلى بلاد الصيد، وأمر عسكراً من أصحابه إلى موضع من الصيد الأسفل وجماعة إلى موضع يسمى كانط فوقع حرب انتصر فيه أصحاب الإمام عليه السلام وقتل فيه جماعة من رؤساء الأشراف الذين مع الأتراك منهم الأمير فارع بن حميضة، وأخذت عدة أفراس ووقع الحصار للأمير علي بن مطهر حتى أشرف على الهلاك، ثم جاءت غارة من صنعاء رئيسها النقيب محمد بن الراشدي العبدلي [فلم يستطع الاتصال به] بل ثبت في قرية كانط فوقع مخاطبة في خروجه ورفاقة فخرج عن رضى من القبائل، وخرج جماعة من جنود الترك إلى عصام موضعاً في الخشب فحصرهم جنود الحق وأخذوهم أسرى وأرسلوهم إلى الإمام عليه السلام إلى وادعة، والشيخ صالح بن محمد حمران رحمه الله على بني زهير ويلزم قطوان وبيت الجالد وما إليها، والفقيه عز الدين على ذيبان ومن إليهم ويلزم قرية مدر، وفي هذه المدة كانت الوقائع متفرقة، منها مقتلة في العجم في موضع من بلاد الخشب يسمى مكحلة ومواضع غيرها على يد الحاج المجاهد أحمد بن عواض فإنه وصل مغيراً من بلاد خولان، والشيخ [ق/278] صالح بن محمد حمران رحمة الله عليهما قتل جماعة من العجم فوق المائة، وانتهبت أثقالهم لأنهم وصلوا مدداً لهم من صنعاء كما أخبرني السيد محمد بن أحمد الحمزي من الحيفة.
قال السيد المذكور: وغزا العجم ثاني قتلة مكحلة المجاهدين إلى قرية مدر وكادوا يدخلون عليهم فقتل من المجاهدين أربعين نفراً، قال فقال الظالمون: هذه بتلك، واليد في أكثرها لجنود الحق حتى لقد غُزي الشيخ صالح حمران إلى قطوان بني زهير وأحاطوا به من جميع جوانبه حتى ملكوا على البيت الذي هو فيه وبقي معه ما تحتها يرمي ويدافع هو ومن معه من أعلى البيت ومن في الباب ولا زال حتى فرج الله عنه بالغوائر من جميع المراتب الإمامية وأهل العزائم من القبائل حتى أدركوه ونجا سالماً، والحمد لله رب العالمين، وقد قتل من العجم كثير وتعاهد حاشد وبكيل على النصرة والقيام، وكان مع العجم منهم عسكر معظمهم من بني زهير لمكان النقيب الشقي سعدان لا رحمه الله فكتب القبائل بينهم مشروحاً ظهر للناس وانتشر أن من قتلة الذين في جانب الحق من حاشد وبكيل الذين مع العجم فلا يطالب قاتله ولا يذكر وإنما قتله راية الإمام عليه السلام، ومن قتل جنود الظالمين من المذكورين فكذلك قتله راية الضلال، وكان مما هيأه الله سبحانه من جمع الكلمة، وظهر في هذه المدة المذكورة لعموم هذه القبائل محامد ذكرت ومناقب اشتهرت، والعيون خصوصاً مثل الشيخ المجاهد صالح أبو سرعة الكثيري الذيباني رحمه الله فإنه وحي صنوه الشهيد قاسم أبو سرعة ممن اشتهر بالثبات وجودة الرمي بالبندق حتى أن الشيخ قاسم استشهد وقد عد له جملة قتلاء، ثم أخوه الشيخ صالح بن محمد رحمه الله اشتهر أعظم من أخيه حتى لقد أخبرني غير واحد ممن يوثق بهم منهم الحاج صالح بن معوضة الجبري الذيباني وكان من أهل السبق في الجهاد أنهم
أحصوا له في هذه المدة وما قبلها أن الذي قتل من جند الظالمين أربعمائة قتيل وثمانين فرساً، وأخبرني هو وغيره أن كثيراً من المجاهدين كان إذا أرهقه العدو وخاف أن يناله قال: أنا أبو سرعة فيتركه الخصم لما ظهر من هيبته، وكان هذا المذكور ممن رزق الصبر والقناعة، ولقد كان يفد على مولانا الإمام عليه السلام فيعرض عليه العطاء فلا يطلب إلا آلة الحرب وما يتعلق بها وسائر القبائل كثيرون حتى أن بعض أهل الذمة من اليهود من ظهر له ذكر في الرمي بالأوظاف، واستشهد في [ق/279] هذه الملاحم عدة من الناس سمعت غير واحد من ذيبان وبني زهير يقولون إنه كان يقتل مشاهيرهم فما يأسفون عليهم كثيراً وإنما يقولون من يقاتل بعدهم قتالهم ويكفي كفايتهم فما يقع الحرب الثاني إلا وقد اشتهر غيرهم ممن لا يعدونه ولا ينظرونه حتى من رعاة الغنم، وممن اشتهر من أعيانهم القاضي العالم الشهيد عبد الله بن القاضي العلامة الهادي رحمه الله فإنه وصل في بعضها مغيراً مع الحاج المجاهد شمس الدين رحمه الله لأنه كان إذا ضربت المدافع والبنادق فيغير الناس للجهاد من جميع البلاد من بلاد نهم إلى بلاد مرهبة الظاهر، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما كان بعدها من الهزيمة والحوادث على سبيل الإجمال كما أن المذكور مع مالم يذكر كنسبة قطرة من مطرة لتفرق القضايا وتراخي الأزمنة. والله أعلم.
ويكفيك أن أيام هذه الحروب ثمانية عشر شهراً الحروب في غالب أيامها كما تقدمت الإشارة إليه.
[حروب وادعة]
فصل: ولنرجع إلى حروب وادعة وقد تقدم جملة من بعض أخبار عبد الرحيم وكان في أيام قيام عبد الرحيم في دماج بني قيس من بني صريم محطة قبل طلوع مولانا عليه السلام خمر كما تقدم، فيها الأمير حسن بن ناصر بن أحمد الحمزي الجوفي من قبل العجم ومعه عدة من أمراء العجم فحاربهم الإمام عليه السلام حتى ضيق عليهم في دماج فخافوا الهلكة، وقد قتل منهم جماعة فراسل هذا الأمير إلى الإمام عليه السلام يطلب الصلح أنه يخرج هو ومن معه من العجم وطلب واسطة فدخل إليه السيد العلامة محمد بن علي بن عشيش رحمه الله وجرى الخطاب وكان كثير الاختلاف ومنطوٍ على العدوان وكراهة الحق وأهله -والله المستعان- فترك السيد عنده وبقي يتردد في الشروط ودارت المكاتبة، وللإمام عليه السلام جوابات تتضمن الألفاظ الغريبة والمواعظ النافعة، والحكم البالغة، وهي موجودة في بعض مجموعاته عليه السلام، منها هذا الكتاب:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، بلغ كتاب السيد العلامة فخر آل الرسول وبقية الآل الطاهرين صلوات الله على جدهم وعليهم أجمعين، محمد بن علي الحوثي أبقاه الله تعالى ونفع بحميد سعيه وأتحفه بشريف السلام ورحمة الله الهاطلة بكل خير عام، وبركاته السابغة الكافلة [ق/281] بكل خير عام، وتحققناه ونسأل الله أن يمن عليكم بالفرج عن قريب إنه سميع مجيب، ثم إنكم محمولون على كاهل السلامة ولو جرى مني من اللفظ نحو لا يحل لي ولا لكم المداهنة فهو من باب {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وذكرت من جهة الرجل وأنه على ما في النفس ومع الناس من الريب ما لا يعلمه إلا عالم الغيب من عدم الآلاق من هذا الطاغية، فإن كانوا شاكين في الوفاء لهم بما وضعه الظالمون من الأمان وعدم الوفاء فيا عجباه كيف تخالطونهم وترفضون من يأمنون مكره يقيناً مع ما يعلمون من غدر القوم وما أوقعوا في كثير من الناس من العذاب المتنوع من سلخ جلود الأحياء وركزهم على الخواريق، والتحريق بالقطران والباروت والنار، وتوسيط المسلمين ومن سهلوا عذابه احتزوا رأسه، ومن أحبوا بقاه مهاناً ذليلاً زنجروه وزندوه وضربوه، وغير ذلك مما لا يفعله مسلم فإذا لم يقوموا بالواجب عليهم عقلاً وشرعاً من دفع الضرر عن نفوسهم وعن سائر المسلمين وعن أصل دينهم فما بالهم لا يهربون من أرضهم، ولكنهم رضوا بالدنية حباً للأوطان، ولبسوا ثياب المذلة صيانة للديار، فلا عامل بالشريعة امتثالاً لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}
ولا بقيت لهم حمية كما قال:
إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها .... خرجت مع البازي على سواد
فلئن لم يذبوا عن نفوسهم ويذودوا عن دينهم ليسلطن الله عليهم هؤلاء الأشرار فيدعون فلا يستجاب دعاؤهم ولا يبقى لهم في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوصي {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
وعن علي عليه السلام: (ما ترك الناس من دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أشد) وذكرتم قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى...} الآية، وأنه ليس لها ناسخ ولا مخصص، فلا شك أن الأمر كذلك، ولكن أكثر من تعقل بالعلم ادعى الضعف {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}، وليس المراد بالآية إلا من لا يقوى على الحرب كالشيخ الهم، ومن به السل الذي لا يخرج ولا ينجو منه إنسان {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ} وذكرتم حدوث الولد المهدي إن شاء الله في وقت الزلزلة هذه فالله يربيه أحسن تربية ويهديه خير هداية، ويقيكم جميعاً ويحميكم من كل شر، واذكروا [ق/281]لذلك الرجل أنه لا يسعه غير ما ذكرنا له في الكتب السابقة ولولا الثلاثة الأنفار ما اتفق بعض الذي اتفق، ولكن أقول: الله يتجاوز عمن تاب ويعجل نقمة من عاب، ولولا مخالطة الرجل الذي ذكرت للقوم الظالمين لقد صلحت تلك النواحي وكيف ينتظر الفرج من الله وهو معين لأعداء الله على أولياء الله، وليس ينتظر الفرج إلا من توكل على الله وقام
لله، فرق الله شمل من سعى في تفريق شمل المسلمين، وألهمنا وإياكم إلى ما فيه الصلاح، ولولا مواجهة المواجهين من حاشد وبكيل لما قبل ابن حدقة وأصحابه ولا خرج من خرج من بيته مظلوماً فقد شارك المواجهون في دماء المسلمين وأثم المطرودين [وأوزارهم كاملة لقوله تعالى: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} إذا هذا] من ذلك، فقل يتوبوا إلى الله قبل أن يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون، الله يعصمنا وإياكم ويمن بالنصر والفرج إنه قريب مجيب، وصدر على عجل وعن اشتغال. انتهى.
وكتب الإمام عليه السلام أيضاً إلى السيد إلى مخيم الأمير المذكور ما لفظه مما نقل من خط يده الطاهرة رضوان الله عليه:
الحمد لله وحده، المنصور بالله إن شاء الله استخرت الله سبحانه ووكلت السيد الأعلم البر التقي عز الدين محمد بن علي الملقب بابن عشيش أن يأخذ العهد على الأمير الأعظم شرف الدين الحسن بن الناصر المنصوري الحمزي وذلك أن يقول: قل والله الذي لا إله إلا هو إنك لواف بما وضعه الإمام في كتاب الولاية من الشروط وأنك مبادر بالفتح بنفسك في حرب الظالمين، أو ملزم لقبائل بني صريم ومن أمكن بإظهار الخلاف على الظلمة والتنصير للإمام، والغارة مع عسكر الإمام على من بغربان طهره الله من أرجاسهم، فمتى فعل ذلك الأمير فليقل السيد المذكور: وإن علم الله أنك ناو خلاف ما أظهرت من العهد أو ناو غدراً ومحقاً على الإمام فقد برئت من حول الله وقوته استعلاء على الله واتكالاً على حولك وقوتك، فمتى فعل ذلك فقد تم بيننا إن شاء الله ما وضعناه وكنا لبعضنا بعضاً كالعضد والساعد والله خير الشاهدين، ومتى اختار الأمير حفظه الله أن يبادر بإلزام بني صريم بالقيام معنا فالمليح انتقاله إلى ظفار طهره الله وحرسه، على صاحب مشهده المقدس أفضل صلاة المصلين وصلاة رب العالمين. انتهى.
[دخول علي بن القاسم صعدة]
فصل: نذكر فيه دخول مولانا علي بن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد بلاد صعدة.
قال السيد أحمد [ق/282] نفع الله به ما معناه من كلام طويل: ذكر وصول ولد الإمام جمال الإسلام علي بن أمير المؤمنين إلى بلاد خولان صعدة وهو في أول التكليف وأصحبه جماعة من العيون كالسيد العلامة جمال الدين علي بن إبراهيم الحيداني، وزهاء من مائة وخمسين رجلاً، منهم نحو خمسين بندقاً ولم يحصل من خولان التفات إليهم بميل مشائخهم إلى الأتراك فإن في بلاد صعدة الأمير محمد التركي وهو واليهم ومن أهل الحزم والجزم والإحسان إلى المشائخ إلا الشيخ الأجل محمد بن جراد بن هوس صاحب آلة الزبير، وكان خائفاً من الأتراك، وبلده مما يلي الفيش فنصح وآوى، ثم أرسل ابن الإمام عسكراً لفتح بلاد ساقين فلم يتمكن ورجع عسكره، ونفدت المحطة من صعدة من الأتراك إلى حيدان واجتمعوا بكاشف حيدان وقصدوا ابن الإمام عليه السلام إلى مكان يسمى الذراع، وكان هذا المكان لا ماء فيه إلا ما يحمل من بعيد فخاف أن يحصروه من الماء فانتقل في الليل إلى موضع يسمى العر وهو رأس بلاد بني ذؤيب فوصلوه قبل الفجر ومشائخ أهل ذلك المكان مع الأتراك في حيدان وأهله غير راضين بوصول ابن الإمام وأصحابه، فما شعر ولد الإمام بعد شروق الشمس إلا بوصول الترك من حيدان بغتة وكانوا غير متأهبين والموضع لا يصلح للقتال لظنهم أن الترك لا يقصدونهم في ذلك الوقت، ووقع مناوشة حرب وملكوا الخيل، وبقي ابن الإمام وأصحابه زهاء يومين لا يأكلون إلا اللحم، ثم رجح بعض بني ذؤيب عوده إلى بلادهم فأجابهم وبقي
متردداً فيها، ومشائخها مع الأتراك مائلين عنه فكان على خوف وتخويف غزوة الظاهر، ثم جمع ابن الإمام عليه السلام أصحابه ومن أمكنه من بني ذئيب وقد وصله مدد من اليمن أيضاً من جهة الشاهل وغيره من بلاد الشرف وقصد موضعاً قريباً من سوق الظاهر، وهو في ناحية الحقار وفيه جماعة من المتغلبين فغنم المجاهدون أموالهم وقتلوا منهم ثلاثة أنفار، ورجع ابن الإمام وأصحابه إلى بني ذؤيب، ثم قصد موضعاً من أعمال بني ذؤيب يسمى محضان، وقد كان عمّره الأتراك بعد أن أخرجوا الشيخ عبد الله بن سعيد الطير من بلاد ذؤيب وقت بقاء الإمام عليه السلام في برط وقد ألب ابن الإمام لأخذه فلم يقدر غير أنهم خاطبوا على دخول ابن الإمام الحصن وسلامة أهله ومواجهة الشيخ منهم إلى ولد الإمام فلم يفعلوا بل هرب شيخهم إلى صعدة إلى عند الأتراك فأمر ابن الإمام [ق/283] بخرابه فأخربه القبائل لعداوة بينهم وبين أهله، وانتقل ابن الإمام إلى رأس بني ذؤيب إلى موضع يسمى الفرخي، ووقع مع أهل تلك الجهة رغبة ورهبة لولد الإمام وأقبلوا إليه من أطراف البلاد وكثرت الأرزاق للمجاهدين.
[غزوة العر]
لما وقع الضرر على الأتراك وعظم أمر ابن الإمام عليهم وارتفع صيته ووصلته الوفود من بلاد خولان بالحقوق والواجبات اجتمع الأتراك على قصده إلى بلاد ذؤيب واعتقدوا أنهم قادرون عليه، وكان ابن الإمام في الموضع المسمى الفرخي قريباً من العر، فلما نزل عسكرهم الوادي وشرع أولهم يطلع النقيل الذي يصل إلى بني ذؤيب خلفهم ولد الإمام وأصحابه ومن خلصت محبته من أهل تلك الجهة إلى العر وقصد مركز الأتراك الذي فيه رئيسهم وهو والي حيدان وهو الفقيه محمد بن عبد العلفي القرشي من ذرية عمر بن عبد العزيز، وكان في موضع يسمى [........] قريباً من حيدان ولم يبق معه إلا جماعة قليلة وخواصه وغيرهم لأنه قد كان أرسل عسكر بني ذؤيب، وأرسل الله سحاباً تستر ابن الإمام وأصحابه فلم يشعر الفقيه محمد وأصحابه إلا بهجوم ولد الإمام عليه السلام عليه هو ومن معه فلم يتمكن إلا من الهرب والهزيمة والرمي عليهم بالبنادق، وقتل منهم جماعة ولاذوا بموضع حصين قريب من حيدان فدخلوه والتجأوا إليه ولا حمهم ابن الإمام، واشتد القتال وأشرف العدو على الهلاك، فوصلت إليهم غارة من حيدان فاستنقذوهم من ذلك الموضع بعد اللتيا والتي، ووقع الصريخ في عسكر الأتراك الذين نزلوا بني ذؤيب فرجعوا مغيرين فما وصلوا حيدان إلا اليوم الثاني وسلم الله بني ذؤيب وبقي ابن الإمام وأصحابه يترددون في أطراف البلاد أياماً، ثم رجعوا بني ذؤيب وقد أحبوهم وقابلوهم مقابلة حسنة، ثم وصل مادة من عند الإمام عليه السلام نحو مائة رجل من أهل البنادق ومن غيرهم فتلقاهم ابن الإمام وتقدم بهم إلى بلاد
الجعاشن، ثم موهرة ثم تقدم إلى أسفل حيدان بمشورة كثير من خولان، فلما وصلها أخلفوه ما وعدوه وأيأسوا من خولان وأراد أن يخرج من النوعة إلى بلاد بني جماعة، ووصلته محطة من صعدة مع الشريف يحيى المؤيدي أبو ست أصابع فهجم عليهم العدو وهم على غير تعبئة فاعتزوا إلى أكمة فوق القرية وتحرفوا للقتال وثبتوا في ذلك المكان ساعة يترامون بالبنادق فغشيهم العدو من ورائهم وكبر عليهم، وقتل منهم ومن أهل [ق/284]تلك القرية زهاء ثمانية أنفار، وتوجه ابن الإمام إلى بني جماعة وقد أجهدهم الجوع والتعب فأمسوا في موضع من شق بلاد بني سويد يسمى ضباعين فقاموا بقراهم واحتفلوا بهم وكانوا أهل محبة للإمام عليه السلام، وكانت يد الأتراك ليست قوية لاشتغالهم بحرب الإمام في كل مكان.
[غزوة المجمعة]
ثم اجتمع ولد الإمام عليه السلام غزو السيد عبد الله بن علي المؤيدي الذي تقدم ذكره في معارضة الإمام وقد أعطاه الأتراك بعض تلك البلاد وهو معتزٍ إليهم فجاءه النذير فهرب ونهبت المجمعة كلها وأراد ابن الإمام يرجع لهم بعض مالهم فلم يقدر عليه من أيدي القوم، ثم انتقل ابن الإمام إلى هجرة قملا وإلى قطابر، وإلى بلاد حاشر، وإلى رغافة وبوصان.
[غزوة رغافة]
ثم إن الأتراك عظم عليهم أمر ابن الإمام فغزوه إلى رغافة، فلما توسطوا في الوادي أطلق عليهم بمن أجابه وحاصرهم خمسة عشر يوماً وقتل منهم جماعة واحتزت رؤوسهم، ثم إن الأتراك جمعوا من صعدة جموعاً كثيرة وخرجوا إليهم وأراد ابن لإمام منعهم من الاتصال بالمحصورين فلم يقو هو وأصحابه على ذلك ووقع حرب عظيم، واستشهد من أصحابه ثلاثة أنفار، وجاءت رسل قطابر يستدعون ابن الإمام إلى بلادهم ويستغيرون به لعداوة بينهم وبين آل نصر وخافوا أنهم يستدعون عليهم الأتراك فوصل ابن الإمام ومن معه إلى قطابر فوجدوا أهلها قد هربوا ولم يجدوا ما يأكله العسكر إلا حباً لا غير، ثم باكرهم العدو صبيحة الليلة التي قدم فيها وأراد ابن الإمام أن يثبت في قطابر فلم يتأت لاختلال أهل البلاد فوقع مناوشة حرب ودخل العدو قطابر فعاد ابن الإمام وأصحابه إلى بني ذؤيب فأصبحوا في موضع يسمى [.......] ثم ساروا إلى بعض بني عباد، ثم اليوم الثالث وليلة الرابع إلى موضع يسمى الكرب من بلاد خولان وهم من بلاد الترك، ثم إلى بني غربان ثم إلى بني ذؤيب، واستقر فيها وساق واجباتها إلى شهارة المحروسة بالله، ثم إن ابن الإمام غزا مرة أخرى إلى بلاد الحقار قوماً من الصوفية، وأخذ بقراً وغنماً، ثم أمنهم بعد ذلك.
[وقعة جبل الرعا]
قال السيد أحمد نفع الله به: وقعة جبل الرعا، وذلك أنه وصل جماعة من أهل الرعا ومشائخهم مستغيرين به ولاجئين إليه لما أفقرتهم دولة الأتراك وأظهروا الخلاف على الأتراك فسار حتى صار في موضع الفواطم وقد وصله بنو ذؤيب [ق/285] للغارة، وجمع الأتراك جموعهم من صعدة ورازح وخولان وصاروا جموعاً كثيرة، وقصدوا جبل الرعا، وكان شيخ من جبل الرعا يسمى الشيخ إبراهيم بن فاضل معارضاً للشيخ الذي عند ابن الإمام فدلهم حتى أوصلهم جبل الرعا فما شعر أصحاب ابن الإمام وهم في المراكز مواجهين العدو إلا والقوم من وراء ظهورهم فانهزموا هزيمة كبيرة، واستشهد منهم زهاء عشرين رجلاً واحتزت رؤوسهم، وأراد ابن الإمام الغارة إليهم بنفسه فما وصلت غارته إلا وقد قضي الأمر ووقع الخراب والنهب في جبل الرعا، وكانت قضية كبيرة امتحن فيها المجاهدون، ثم رجع ابن الإمام إلى بني ذؤيب وبقي فيها مدة.
[رجوع علي ابن الإمام إلى عند والده إلى وادعة]
وذلك أن الترك جمعوا عليه إلى بني ذؤيب محاطاً متكاثفة وجاءوا من طريقين فتأخر عنهم إلى جانب المشرق من بلاد بني غربان وتردد أياماً وغزا إلى خولان وغنم بقراً وغنماً، وكان الملازم له في هذه الحروب كلها السيد الفاضل العلامة جمال الدين علي بن إبراهيم الحيداني وجماعة من إخوته وقرابته، ولما تعب من الفيش وقل الناصر والمدد عاد إلى الإمام إلى بلاد وادعة، وكان بقاء الإمام في بني ذؤيب وما يليها سنتين من شهر رمضان سنة أربع عشرة وألف [يناير 1606م]إلى شهر رجب سنة ستة عشرة وألف [اكتوبر 1607م]، وجمعنا هذه بالمعنى من رواية السيد المذكور نفع الله به لقصد اجتماع الفائدة. انتهى.
[أخبار الإمام في وادعة]
رجعنا إلى أخبار الإمام عليه السلام في وادعة، ثم انعقد الصلح على خروج المذكور أعني الأمير حسن بمن معه من العجم وغيرهم إلى ظفار، ثم ترفق العجم يتصلون بأصحابهم وهو ينحدر إلى الجوف وطلب جمالاً كثيرة تحمل أثقاله من الإمام عليه السلام فطلبها الإمام عليه السلام فحصلت على مشقة للمشاق وقلتها في البلاد، وكان الوقت أيام صريم العنب وهو ثمرة وادعة وهم معظم أهل الجهاد فاغتنم المذكورون الصلح وبادروا إلى صريم أعنابهم، وكان الإمام عليه السلام في قرية الحسفة من بلاد خيار المتصلة بوادعة وبينه وبين دماج ثلاثة أميال أو أكثر، وكان المتطوعة من المهاجرين قليلاً أيضاً لتفرقهم في المراتب فأخبرني الوالد رحمه الله تعالى قال: خرجت أنا والصنو مطهر بن المهدي وفلان من قرابته من عند الإمام عليه السلام وبقي الصنو علي بن المهدي عند الإمام عليه السلام، فلما قربت من جدار عنب بين يدي البلد ورأيت فيها ظلاً فاتكيت أنا ورفيقي لننام [ق/286] في ذلك الظل وفي موضع آخر عبرنا على ما نحن عليه سمعنا حوافر الخيل وقلقلة لجامها والحديد ورقاعات الرجال، وقال مقسماً: ما رجعنا إلى سلاحنا إلا وأول الخيل بيننا وبين الإمام عليه السلام وقد غدر هذا الأمير الشقي، وكان أول الخيل يغتنم الفتك بالإمام عليه السلام ولا غرض لهم غيره فإنهم لو أرادوا لأخذوا من هو خارج البلد حتى لا يتركون أحداً، قال: فملنا إلى آكام صغار وأخذنا نرجم الخيل، قال: فرأيت الإمام يرمي وينتمي ويعرف نفسه، ومن عنده كذلك يدافعون صاحب البندق بالبندق وغيرها يرجم ويضرب، ولقد كان
صاحب الطاسة ابن مطهر من الأهنوم يدافع بيد عن الطاسة لا يأخذونها ويضرب بالأخرى حتى قتل رحمه الله، وفي كل وقت وجنود الحق تكثر الغارات تتصل من وادعة وغيرهم من المراتب، ثم انهزم الظالمون وركنوا إلى الفرار وولوا الأدبار بعد القتال الشديد والدفاع الذي لا عليه مزيد، واسشتهد جماعة، ومن الظالمين الكثير، وذكر كثيرون نفوسهم في ذلك المقام كالسيد الحبر جمال الدين علي بن صلاح العبالي وغيره من الفقهاء القاضي العلامة الهادي بن عبد الله بن أبي الرجال وابن عمه القاضي العالم علي بن أحمد وغيرهم، فلا زالوا عليهم حتى خيموا عليهم في دماج وأمسوا عليهم، وكان قد اقتطع منهم سبعة أنفار في بيت من بيوت الأعناب فأنزلهم المجاهدون على حكم الإمام فوجد فيهم من عرف أنه القاتل للسيد العلامة الشهيد أحمد بن محمد المحرابي المتقدم ذكره في مسور المنتاب فأمر الإمام بضرب عنقه، قال: فكان الذي أمره بقتلهم لم يسارع فقطع هذا الشقي الرباط ووثب جداراً وأراد النجا والعدو قريب، قال فرأيت الإمام عليه السلام قد امتشق السيف وضربه في الهواء فقطعه نصفين، ثم طعن آخر بالجنبية وقال دونكم فقتلهم من عنده، ثم إنه عليه السلام عرف شرارة الناس وقل صبرهم فجرى الخطاب مرة أخرى على طلوعهم خمر واجتماعهم بمن فيه من العجم والعرب وهم كثيرون، ولما صار إليهم واتفق ما تقدم من خلاف عبد الرحيم عليهم انهزموا من خمر، ثم تقدم مولانا الإمام عليه السلام إلى دماج فهدمه كما تقدم، ولما استقر الإمام عليه السلام في خمر وجهز السرايا إلى جهات شظب وبلاد البون، وكما تقدم من إمداد الحاج شمس
الدين رحمه الله بالشيخ عبد الله الطير ومن معه من بلاد حاشد وبكيل، قال القاضي العلامة أحمد بن سعد الدين [ق/287]مما نقلته من خطه بلفظه وسمعته منه أيضاً شفاهاً وقد ذكر كثيراً من كرامات الإمام عليه السلام فقال: من ذلك ما أخبرني والدي رحمه الله أنه كان مع الإمام عليه السلام في جهة الظاهر وكان الحاج شمس الدين أحمد بن عواض رضوان الله عليه مقابلاً لدرويش بينهم وبين الإمام عليه السلام نحو بريد، وكان الإمام عليه السلام مشفقاً على الحاج وأصحابه فأرسل الإمام عليه السلام بريداً بباروت ورصاص وذلك في أول وقت المغرب فخرج البريد إلى خارج البلد ورجع وقال: أخبرني رجل أن الحاج احترب هو والظلمة وهزمهم وقتل منهم قتلاً كثيراً، فأمره الإمام بالعزم فلبثوا إلى الوقت الذي يمكن فيه وصول الرسول ووصل المبشرون يخبرون بما أخبر به، وأنها وقعت الهزيمة في الظلمة والقتل في أول المغرب تلك الليلة في الوقت الذي أخبر فيه ذلك الرجل بعينه فسبحان القادر على ما يشاء، وأخبرني عافاه الله على جهة التظنن أن القصة كانت في دماج فذكرناها عند ذكره وإلا فالقضايا التي لم تكتب أضعاف كما تكرر أن المذكور فيما لم يذكر كما قال حي مولانا السيد العلامة أحمد بن محمد: كنسبة قطرة من مطرة.
ولنعد إلى أخبار شهارة المحروسة بالله قد ذكرنا استيلاء العجم عليها، ثم إنهم جعلوها وبلادها بنظر الأمير عبد الله بن يحيى بن المعافا وفيها رتبة خاصة آغا من العجم وشيخ من العرب من الكلبيين يسمى الشيخ ناصر الأبيض، وآخران من مشائخ حاشد وبكيل، وانضموا إليهم نحواً من مائتي نفر لحفظها وعمروها وأصلحوا المدرج الكبير المشهور بباب النصر وعمروها عمارة محكمة وجعلوا فيها دوراً دار العقبة وفي باب النصر، وفي باب الفتوح وفي السر، وداراً من غير عمائر سعدان والناصرة والمحطة والنافر وقووهم بالشحنة الكثيرة، وكان في الهجر الأمير إبراهيم بن عبد الله بن المعافا في محطة عرباً وعجماً، والأمير عبد الله في السودة، ثم إنه طلع الأمير إبراهيم من الهجر بمن معه من المحطة إلى نجد بني حمزة كما تقدم، فلما قام عبد الرحيم وأرسل صنوه مطهر بن عبد الرحمن إلى أبرق ظليمة وامتدت يده حتى ملك إلى بيت ابن علاء ، ثم أرسل من حاصر شهارة المحروسة بالله من عسكر عبد الرحيم وهو مع ذلك يكاتب الإمام وينصر له ويخطب ويعتمده، والإمام عليه السلام يكاتب الناس بإجابته ويأمرهم بمواصلته مع بعض الاحتراز من مكائده حتى انحازت السودة وشهارة وطال الحصار عليهما، فراسل ابن المعافا الإمام عليه السلام خفية أنه الذي يتولى حصار شهارة ويعود إليه مخافة من عبد الرحيم والعواقب فإن عبد الرحيم كان يتحدث لئن ظفرت بابن المعافا ليكون ويكون من المثلة التي لا يفعلها إلا هو، ثم إنهم واجهوه الأهنوم وأهل المحبة خافوا من عبد الرحيم أنه إذا ملك شهارة أذلهم واستولى عليهم، ثم يخرج على الإمام عليه السلام كما كان منه سابقاً ولا حقاً، والإمام عليه السلام عارف بمكره ولا هو واثق به.
[تسليم شهارة وأسر الأمير إبراهيم بن المعافا]
أخبرني القاضي العالم علي بن أحمد بن أبي الرجال رحمه الله أنه سمع الإمام عليه السلام يكبر عبد الرحيم عند السامعين ويفخم أمره، قال: فقلت له على سبيل كلام الإدلال: يا هذا أكثرت من تعظيم هذا المغرور ثق بالله سبحانه، قال فرأيته عليه السلام يحرك رأسه ويقول: هو كما ذكرت والثقة بالله وإنما أردنا تشديد من يرى عظمته فتخلص موالاتهم أو كما قال، والأمير عبد الله بن المعافا مضمر أنما ذلك منه تهوين على من في شهارة وتمهيد لما يرجوه من خلاصهم بما يجتمع له من عند سنان لا رحمه الله من الجيوش المتظافرة ليفرج عن شهارة، فاتفق لهذه الأسباب أن الإمام عليه السلام بعث جماعة من الأعيان لمعاونة الأمير مطهر بن عبد الرحمن وأرسل والياً إلى بلاد عذر، ثم كان من المشائخ بني وهان مخالفة للإمام عليه السلام وفيهم له كراهة إلا الشيخ جمال الدين علي بن وهان ووالده فقد تقدم أنهم جاهدوا ونصحوا لله سبحانه، وأسر الشيخ وهان بن علي مع مولانا الحسن رحمة الله عليه وحمله العجم مع الإمام إلى الروم فأرسل الإمام عليه السلام ولده المجاهد السيد الكامل الملك العادل الحسن بن أمير المؤمنين قدس الله روحه، وكان في عنفوان الشباب وضم إليه من أمكن فتقدم إلى حصن ابن وهان المسمى الصرارة فأخذه عليهم، ثم هدمه فهو إلى الآن خراب، وهذا الخراب غير الأول، فإن الأول لخلاف من الشيخ مجلي فقط، وهذا الآخر كان منه ومن الشيخ قاسم بن صلاح، ثم تقدم فأخذ جميمة السخدا وكان فيها رتبة للعجم محاصرون من جنود عبد الرحيم فأخذها وتقدم الإمام
عليه السلام في الأثر، وكان الإمام عليه السلام في ذيبين فإنه تقدم إليه وبقي نحواً من عشرين يوماً وقد انحاز ابن المعافا في شهارة في جميع العجم الذين معه فكان سبب سرعة أخذها لأنه اجتمع على شحنتها أهلها ومن انضاف إليهم مع ابن المعافا [ق/289] حتى لقد أكلوا الكلاب ولحوم الدواب، وبلغت الأوقية الملح ثلاثة كبار، والإمام عليه السلام يتردد في حواز الأهنوم والخطاب بينه وبينهم حتى تسلم من فيها في شهر شعبان من عام خمس عشرة وألف [ديسمبر 1606م] كما ذكره السيد عيسى، وكان حصارها أكثر من سنة وكانت أيام الخريف، فأخبرني الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي رحمه الله أنه رأى كثيراً من العجم ومعهم بقية من لحم الكلاب يأكلونها وقد تغيرت صورتهم إلى الغاية وأن الخمور باقية فأمرهم الإمام عليه السلام بإراقتها، قال: فأراقوها ظاهراً حتى لقد سمعوا لجريها حساً، والإمام عليه السلام يتمثل بقول الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام:
لا نعرف الخمر إلا حين نهرقها .... ولا الفواحس إلا حين ننفيها
قال: وأمن من كان فيها وسرحهم إلى مأمنهم إلا الأمير إبراهيم بن المعافا فجعله في أيدي أهل شهارة في الاعتقال وتشدد عليهم في حفظه، ومما قيل في فتح شهارة من الشعر قول السيد العلامة البحر الفهامة علي بن صلاح العبالي رحمه الله:
هنيئاً بهذا الفتح يا ابن محمد .... وحمداً لمن أولاك سؤلي ومقصدي
على بعد عهد في الزمان وموعداً .... وبعد إياس من ولي ومعتدي
وثبت إلى العليا بصدق عزيمة .... فنلت الثناء والنصر والفتح عن يد
ورام جميع الناس صدك دونها .... فلم تستمع أقوالهم في التردد
وكان جواب الكل منك عليهم .... دعوني لأني بالحوادث مرتدي
وقلت لهم بالأمس كلمة جازم .... فلا تيأسوا قد يحدث الله في غد
على أنني فيما مضى كنت راجياً .... لنيلك هذا في مغيب ومشهد
وصدق ربي قولك الحق إنه .... يجيب دعاء العالم المتهجد
سقى الجبل المسطور جنبي شهارة .... شآبيب جود مصلح غير مفسد
لقد جاءهم نيل المنى يوم جاءهم .... غياث الورى ورد لهم أي مورد
إمام هدى منَّ الإله لنا به .... نفى كل ذي جور وذى مذهب ردي
هو القاسم المنصور من آل حيدر .... هو العالم الفياض من آل أحمد
نشأ في التقى والفضل والعلم والنهى .... وأغنى اليتامى من ندى كفه الندي
لهن جميع العالمين ظهوره .... على رغم قوم من آعاد وحسد
[ق/290]
هو الحجة الكبرى على أهل عصره .... حليف الوفاء والصدق في كل موعد
أيا سيدي لا تنس لي فيك صحبة .... ووداً قديماً خاصين التردد
فإني وأولادي وأهلي ووالدي .... فداك من الأسواء ما مكلت يدي
بحقك والسبطين منك وصحبتي .... أغثني فإني هاهنا كالمقيد
وحق سليل منك في الحبس موثق .... وآخر في بحر العدا متجلد
وبادر بوال للبلاد معجلاً .... ولا تتركني كالبعير المقيد
لقد كنت في الماضي على الضر صابراً .... رجاء رضى الواحد المتفرد
وبعد زوال الخوف إني لعاطش .... إلى الشراب من حوض لديك مصمد
بقيت بقاء الدهر يا غوث عصره .... وهذا دعاء للبرية عن يد
[أوضاع شهارة]
قال وكان الطعام قليل الوجود مرتفع السعر، قال: ما كان غالب قوت الناس إلا العنب حتى أنه وصل للإمام عليه السلام جفنة مملوءة لحيحاً ونشوفاً من حق الأهنوم من بعض الخواص، قال: وبنا من الحاجة إليه ما شاء الله، فلما رآه الإمام عليه السلام قال لمن عنده ما معناه: يا قوم هاهنا بقية هرر من سناجيب العجم قد تلفت من الجوع، ولا تأكل العنب تأذنون نفرق هذه لها؟ فقلنا: الخير فيما رأيت، فقال عليه السلام: أعينوني بأن يقبض كل واحد منكم واحدة حتىلا تهلك بعضها بعضاً وقد هي ضعيفة ففعلنا وجعل يقسم ذلك فيها، وأمسينا من غير شيء إلا العنب، قال: وخرج بنا إلى جانب الميدان وإذا بالأمير مطهر بن عبد الرحمن يعشر في المسارحة وقد دبر أمراً وإخوته أمراً، وأراد الله سبحانه غير ما دبروه، وذلك أن عبد الرحيم مشدد عليه في لزم شهارة ولا يتعداها وعين حصار السودة على آخرين وأن يحفظ شهارة لا تكون للإمام عليه السلام وهو مضمر في الإمام عليه السلام وفي صنوه السوء، ومطهر هذا قد عرف حال أخيه فأخذ في تقويته ويكاتب الترك سراً أنهم إذا جعلوا له شهارة وبلاد الشرف وسنجقاً كان منهم وهم يعدونه حتى خاف منهم لا يغدرون به قبل أن يستوثق فأرسل جمهور عسكره إلى بيت ابن علاء يمنع اتصالهم بشظب، وخاف أيضاً من أخيه لكثرة العيون عليه فأرسل من يحرس طريق حجة مخافة أن يغزوه منها فما بقي معه من يكمل من حصار شهارة فكانت هذه الأسباب من المعين للإمام عليه السلام على حصول شهارة مع ثقته بالله سبحانه، ولقد أخبر الثقات من أصحابه عليه السلام [ق/291] كسى وبشير وهو إذ
ذاك في برط لما أعلموه بما عمر فيه الظالمون وقال: عمروها لنا إن شاء الله حتى أن بعض أصحابه كان يهزأ استبعاداً وبعضهم أخذ خطاً في بعض دورها فلما استعاد شهارة عليه السلام وصار فيها خاف الأمير مطهر من أخيه وأنه لا يهمله لعدم حفظها من الإمام وعرف أن الترك لا يوفون له بما شرطوه وقد أخذت شهارة ومن فيها فإنها أعظم مقصدهم لحفظها واستنقاذ من فيها من الأمراء صار إلى المسارحة، وأرسل لجميع عسكره خواتم أمارة في ترك القتال وتعطيلها للترك ووصولهم إليه يحفظ نفسه من الجميع، وأقرب من يرجو نفعه ولايخاف ضره الإمام عليه السلام، قال ولما رأينا التعاشير في المسارحة والأخرى في السودة وقد اتصل ابن المعافا والجنود السلطانية بالسودة حتى لقد صكت المسامع تعاشيرهم وما عند الإمام عليه السلام بالكثير لأن القبائل تفرقوا لعدم وجود ما يأكلون بعد دخول شهارة ولا فيها شيء كما تقدم.
قال الوالد جمال الدين علي بن المهدي: فتقدمت إليه وهو ينظر إلى السودة ونواحيها ويسمع ما تقدم، وقلت له: يا سبحان الله تسكن وتستقر على هذا الحال وهذه شهارة ما فيها قوت ليلة واحدة لئن أقبل العدو ليأخذها من أيدينا وما ذا نفعل فسر بنا على هذا الذي في المسارحة إن هو منا وصلنا وكذا، وإن هو علينا ناجزناه وكذا، قال: فقال وهو ضاحك: لا تخف وأقسم بالله ما يدخلها الظالمون بعدها أبداً، وأخبرني رحمه الله أيضاً أن الإمام عليه السلام في هذه أو وهو في المدائر من ظليمة وقد سمعت ما تقدم من العجم وتعظيمهم لوصول الأمير درويش المشهور من أمرائهم فكتب في قرطاس شيئاً وتركه في الدواة وقام إلى مكان غير مجلسه الأول فقرأناه، أو قال اقرأوه فإذا هو قوله:
إن النواصب من شقاوة جدهم .... نصروا العلوج وأهل كل قبيح
طاح الخباث وطاح من والاهم .... النازلون بساحة المنطيح
القائلين لغيرهم مولاهم .... وهو الحقيق بقولهم حي حي حي
أراد الإمام عليه السلام بقوله: حي حي حي التعريض بأميرهم درويش المذكور والمنطيح قرية غربي السودة نزل فيها محاطهم.
قال السيد عيسى: إن الأمير درويش لا رحمه الله وجهه سنان لعنه الله أيام فتح شهارة المحروسة بالله بعد هزيمة أصحاب [ق/292]الأمير عبد الرحيم.
قال الفقيه الفاضل صلاح بن علي البريشي: لم أر مثل فرح عامة الأهنوم بقدوم الإمام عليه السلام إلى شهارة من الخوف من عبد الرحيم والترك.
وأخبرني القاضي العالم جمال الدين علي بن أحمد بن أبي الرجال رحمه الله قال: إن الإمام جمع مشائخ الأهنوم وقال: نحتاج ما فتح الله طعاماً لمن يحفظ شهارة، قال: ففرقوا نحواً من ثلاثين زبدياً من الناس من يسلم المد حتى اجتمع وكنت الرسول لها فاجتمع إلى شهارة ذلك القدر أو دونه فجعله قوتاً لمن حفظها وتأكد عليهم بحفظ ابن المعافا وهو طامع في حفظه ليستخرج به ولده من كوكبان كما تقدم، فإن ابن المعافا عند الترك بمكان، ثم خرج إلى ظليمة وولى عليها وأقام المراتب بحفظ الأطراف ممن في السودة، ووكل حرب ابن المعافا إلى الأمير عبد الرحيم، وأبقى ولده الحسن رحمه الله في ظليمة وجعل البلاد إليه وقواه وعاد وادعة وهو مع ذلك يجهز السرايا إلى الشام والمشارق والحيمة وجهات اليمن كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وبقي في وادعة [.........] وبلغه أن بعض أهل شهارة وغيرهم ممن صانع الأمير ابن المعافا أعملوا في إطلاق الأمير إبراهيم فأخرجوه من شهارة على صفة فصاح الأولياء ممن في شهارة بمثل ذلك، ثم إن أهل البلاد من الأهنوم وعظم عليهم فأخفاه الذين عاملوا في خروجه في بعض أودية شهارة مما يلي وادي العق وغارب رجح، فأغار الإمام عليه السلام مبادراً إلى استدراك ذلك فوصل إلى صور من أعمال شهارة الفيش وصح له تحقيق الواقع وبشره بعض الخواص أن الرجل محفوظ وأنه لا يكشف أحد فأظهر الإمام عليه السلام أن هذا الرجل هرب بنفسه من غير عمل أحد، فقد أنتم تفرقوا يا أصحاب وأمر الناس بالتفتيش في تلك الأودية والشواهق على أنه لا يعرف له خبراً ومعه الحقيقة وإنما أراد الإمام عليه
السلام بالتورية إبقاء على ما هذا فعله، ولما رأى من الصلاح العام وعهد إلى المفتشين أنهم إذا وجدوه عظموه كذا، فلما وجدوه أخذه وطلع به شهارة واستقر في الهجر أياماً وفي غيره من بلاد الأهنوم، ولما عرف أهل شهارة وفيهم أهل النصيحة وفيهم المتهم شق عليه اسم العيب فقتلوا من الرسم واحداً عن رأي الفقيه علي الشهاري وأمره وهو ابن عمه يسمى منصور بن سعيد وعادت أمورهم إلى السداد.
[أخبار الحيمة في النهضة الثانية]
[ق/293] فصل: وأما أخبار الحيمة في النهضة الأخرى وقد تقدم طرف في مصير مسار وأهله وحلفائهم من الزيدية والشافعية إلى موالاة جانب الحق وأنهم استنجدوا القاضي جمال الدين علي بن يوسف رحمة الله عليه لما خافوا من الباطنية لدخول وإحن بينهم يطول شرحها، وأن العجم أمدوهم بمواد وجنود كثيرة، ثم أرسلوا النقيب الشقي سعدان العبدلي الزهيري لعنه الله بمحطة هائلة، وكان قد تقدم قبله محاط كثيرة كما تقدم على مسار جمل من العرب والعجم من جنود صنعاء وكوكبان حتى من يافع وكان أهل حصن مسار ليسوا بالكثير، والخواص من الزيدية مع القاضي نحو من ثلاثين نفراً وقد يزيد وينقص الخاصة من الملازمين وتأتي إليهم عند الشدائد غوائر من بلد ثلث الزيدية ومن إليهم من الشافعية ومن جهات حصبان ومثل عر حجاج وعراس مواضع فيها بشر من الخلق، ولما وصل الشقي تكلم على أمراء العجم والعرب وتوعدهم وكان مقبولاً عليهم عند سنان لعنهم الله تعالى، ولا كلام لهم معه وقال: أتلفتم خزائن السلطنة على دائر غنم وأخذ يحفر الحصن والمحطة المخذولة في عبري سهام موضعاً مقابلاً للدائر الحطب المعروف وهو يراه وغيره سهلاً وقد تأملته فهو يرى من بعيد سهلاً فإذا قرب منه الرائي ارتفع لأن الطريق إليه من أسفل والمحطة مقابلة له، فعبأ المحاط للحمل وقد أرعد وأبرق وأمر بالحملة من جميع جوانب الحصن والمراتب، وكان القاضي جمال الدين رحمة الله عليه قد قسم من عنده من الخواص مع أهل البلاد لحفظ مواضع معروفة، ويخافها وقال لهم: كونوا مكانكم إن لنا وإن علينا كما أخبرني الوالد جمال الدين علي بن المهدي رحمه الله وإخوته وبنو عمه كذلك وأنهم رأوا سرعان عسكر الظالمين يتعلقون بالسور ويقبضون الزرب بالأيدي ويكادون يحملون الدائر وقد صب عليهم المجاهدون الرصاص والحجارة وكادوا يتكادمون بالأفواه من شدة التلاحم.
[قتل الأمير سعدان]
قال رحمه الله: وكنا أيأس ما كنا نرجوا وإذا بجموع تقهقر ولا يلوي أحد على أحد حتى انكفوا راجعين وخرج من خرج من المجاهدين أخذوا رؤوساً ممن قتل على الدائر فما كان بأسرع من وصول الخبر بقتل اللعين سعدان [ق/294] لا رحمه الله وكفى الله المؤمنين شر القتال وشره، واختلفت الروايات في قتله فظهر لنا أن الذي رماه الشريف محمد الكشري من أعمال حضور فإنه أمدحه بذلك حال الواقعة وكان هذا الشريف محمد في ديوان العجم وملازمي سعدان فقطعوا جامكيته لبعض الأسباب فلحق بالحماطي، واشتهر أنه قاتله وهرب إلى مكة من خوف التبعة.
وأما رواية الوالد علي بن المهدي وابن عمه السيد ناصر بن أحمد فقالا: إن قاتله الفقيه عبد الله من فقهاء عيان حراز، وجعل الذكر للشريف خوفاً من العواقب.
وأما جمهور الباطنية من همدان فإنهم يمتدحون أن قاتله فلان منهم عن أمر أميرهم لأنه تكلم عليه وعليهم وخافوا لا يأخذ الحصن عنوة في حرب واحدة وليلة واحدة فيهلك سنان لا رحمه الله أميرهم وأنه اغتاله- والله أعلم أي ذلك كان-، وقتل معه عالم من جنود العجم، ولما أهلكه الله اضطربت جنود الظالمين وذلوا وتوقى جانب الحق فوصل من العجم مدداً وزير الباشا سنان ذو الفقار كما تقدم، وطال الحرب على مسار مدة.
ومما أخبرني الشيخ صلاح بن مفضل المعمري الحيمي قال: إنهم سمعوا الحرب على مسار وهو في جانب بني مهلهل في الحيمة على مسافة البريد المسرع وأنه ومن معه ضيف عند صديق فتغدوا وعزموا فيها اتصلوا بالحدب يريدون القاضي محمد بن عبد الله بن درة رحمه الله وإذا برجل لا يعرفونه ولا رأوه بعدها يقول: قتل سعدان ثم غاب، قال: ولما وصلنا إلى القاضي أخبرناه فلما كان أول المغرب من الليل طلعت النار في مسار وغيره وانتشر ذلك وعجبنا من المخبر لنا، فقال القاضي: الله أعلم إنه من الجن، ثم إن الباطنية دخلوا مواضع من صعفان فدافعهم المجاهدون ووقعت قضايا حتى اتصلوا ببلاد صعفان.
[الحرب على مسار]
وأغار القاضي وأهل مسار ووقعت حروب في صعفان في أكمة خليفة وغزا القاضي بعض مشائخ صعفان من موضع يسمى المغارب وكان اسمه الشيخ شمسان، وكان ممن يكره الحق فقتله وأباح بلده ومدد مسار وطريق أكثر الغارات منها، فشق ذلك على القاضي وعلى أهل مسار ثم احتالوا بدخول المعاجلة من حوالي الحصن المحروس فشق ذلك أيضاً، وخاف القاضي جمال الدين رحمه الله تعالى وأهل الحصن من الغدر والملل وقد تكاثر عليهم الحصار، ولهم في [ق/295]هذه أشعار حمينية فيها طرافة وأخبار وفيها عبرة، قال: ثم إنهم طمعوا في موالاة الأمير المحروم عبد الرحيم للإمام عليه السلام وقد بلغهم عنه مقال فراسلوه فلم يصح لهم ذلك وخفي عليهم حال الإمام عليه السلام فاتفق رأيهم يعني أهل مسار والقاضي جمال الدين على الخطاب بتسليم الحصن وجعلوا الخطاب إلى الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين على يد النائب على عسكره في المحطة المخذولة النقيب حفظ الدين قاعة وشرطوا شروطاً التزمها لهم الأمير المذكور علي سنان لا رحمه الله وهو أن القاضي والذين معه من أصحابه حيث كانوا يخرجون في سلاحهم وما هو لهم إلى مأمنهم، وأن لأهل مسار الجبرية من جميع المطالب وعليهم قدر من العسكر للخدمة مع السلطنة وسبارهم من السلطنة وأن الحصن لا يدخله الباطنية ودعاتهم بل يكون بيد السلطنة، وكان السفير -بعد تقارب الشرط بالمكاتبة- الشريف الفاضل الحسين بن أبي القاسم الأهدل من أشراف تهامة، وكان معروفاً بالفضل ويعتقد فيه الظلمة أيضاً، وطلع إلى سنان لا رحمه الله واستحلفه على ذلك وتأكد، وطلع معه من أهل مسار الشيخ
سعيد بن داود النجار وصار له بعد ذلك رئاسة كبيرة على بلاده وغيرها، ثم خرج القاضي رحمه الله ليلاً وهو يبكي شفقة على أهل مسار لما أسدوا إليه من الجميل وهم كذلك، قال رحمه الله: ولقد قال لهم: خروجنا إن شاء الله إلى بلاد لهاب إلى جبل شقروة بلد الشيخ الرئيس عبد الرحمن الجعدي فإنه من أهل الرئاسة فإذا رأيتم منهم غدراً انحزتم إلى الحصن ووصلنا ويصيبنا ما أصابكم، ولما انفصل القاضي رحمه الله وقد اختار أهل مسار الشيخ سعيد النجار لهم شيخاً كما تقدم وتقدم مع السيد الحسين فطلع الجنود الظالمة كأنهم البحر، ومن همدان حراز مع أميرهم فوق خمسة آلاف فأراد أمير الباطنية الغدر بأهل مسار وقد أمر أصحابه يعوثون في قاع مسار وأنه لا يترك أحداً فعظم ذلك على أمير العجم وهم بأمير همدان وأمر جنود العجم بقتلهم وأخذهم يعني الباطنية، قال: فسمعنا الصوائح والحريق فظننا أنهم قد غدروا بأهل مسار وقتلوهم وسبوهم، فأرسل القاضي من حينه من أصحابه شيخ البلد من أتاه بحقيقة الخبر ليومه فحمدنا الله على سلامتهم، وكان ذلك من الباطنية مما أعان الله به أهل مسار فإنه لزم الأمير ذا الفقار القيام بهم لكراهة أمير همدان لما عارضه في أمره، وكاد يفضحه في ذمامه، وأما القاضي [ق/296]جمال الدين رحمه الله فبقي في جبل شقروة ثم توجه إليه جنود الظالمين وجروا عليه المدافع التي كانت على مسار وأحربوه شهرين وقد صح له خروج الإمام عليه السلام من برط كما تقدم، وندم القاضي وأهل مسار على تسليمه غاية، ثم خرج القاضي جمال الدين إلى جهة الحيمة فأجابه أهلها وطلع إلى جبل تيس وأقام في
[..........] ومعه جموع واسعة من الحيمة وغيرهم وقد تقدم إلى بلاد جبل تيس من قبل الأمير عبد الرحيم مقدمة السيد رضي الدين فإنه طمع في الإستيلاء على جبل تيس وفي كوكبان وكان معه حماة عبد الرحيم وهم الذين أخذوا المحطة في بني الذواد كما تقدم وكان في محطة[..........] وهو يرى القاضي جمال الدين الاتحاد وأن الكل أعوان في الجهاد وفي المطابقة لمولانا عليه السلام على المراد وهو يضمر السوء ويتربص الدائرة، ثم إن القاضي خافه وانفصل عنه ونجا من شره فكان سبب نجاته أن سخط عبد الرحيم على رضي الدين فقتله بعد ذلك لعدم الفتك بالقاضي أو لزمه كما سيأتي طرف من أحوال الأمير المحروم.
[وفاة الأمير أحمد بن محمد أمير كوكبان]
وفي هذه الأيام مات الأمير أحمد بن محمد وخلف بعده ولده محمد بن أحمد وبقي سنة ثم مات، وخلف ولده إسماعيل واضطربت أمور كوكبان غاية الإضطراب، وكان إسماعيل هذا صغير السن حسن التدبير، ويروى عنه بعض كمال فأصيب بألم حصر البول واعتل وطالت عليه أياماً، فكان أكثر أوقاته مستلقياً على قفاه، ولما كثرت الحروب على جبل تيس أرسل ابن عمه الأمير صلاح بن مطهر بن شمس الدين إلى الطويلة وعيون كوكبان ثم وصل إليهم الأمير ذو الفقار وزير سنان لا رحمه الله والأمير عبد الله بن المطهر بن الإمام شرف الدين عليه السلام وغيرهم، وكان القاضي الشهيد رحمه الله إذذاك في حصن يسمى الهيبني من أعمال بني الحلبي فراسل الأمير صلاح بن مطهر القاضي جمال الدين أنه موال للإمام عليه السلام وأنه يعمل الحيلة فيمن عنده من العجم ودبر تدبيراً كما أخبرني الشيخ أحمد بن علي خضر الآنسي ومعوضة بن أحمد السويدي خادم القاضي جمال الدين رحمه الله في سفره وحضره وكذا خادم والده سيدنا يوسف الحماطي رحمه الله على أن القاضي وأهل الحيمة يقصدون محطة الطويلة من جانبهم، والسيد رضي الدين وأصحاب الأمير عبد الرحيم من جانبهم فإذا خرج الأمراء لقتالهم خلف عليهم الأمير صلاح بن مطهر [ق/297] من خلف ظهورهم فيقتلون ويستولي على ما عندهم ويصير ملك كوكبان إليه، ويروى أنه استأذن الأمير إسماعيل في ذلك وأنهم خافوا على حصنهم من كثرة جنود العجم ما رواه من الوحشة عليهم فظهر السر ولم يحفظ الأمير صلاح بن مطهر بن شمس الدين لطمعه في تكثير سواده، ويقال: إنه أفشى سره
ابن عمه الأمير عبد الله بن مطهر فأخذ أمراء العجم حذرهم منه وكذلك العرب الذين في الجنود الظالمة وطلبوه قبل الحرب إلى مجلس لهم عام عند أمير العجم ليأكل معهم القات وقد جعل الأمارة بينه وبين القاضي والسيد رضي الدين أنهم يحملون مرة واحدة وقد خاف مما وقع فحصل من السيد رضي الدين بطاء وخذلان فسارع القاضي وأصحابه فما شعروا إلا والبنادق وجنود الحق ملازمون لهم حتى دخلت عليهم الرصاص المنزل الذين هم فيه.
وكان أرسل الأمراء مع طلبهم إياه من حفظ مكانه من ثقاتهم وعلى أنه إذا صح لهم سماع البنادق ضربوا عنقه فسبقهم بالقيام وكاد ينجو لكثرة أصحابه وكان محبباً إليهم فأراد النهوض إلى بيته، والأمراء الذين طلبوه غير مظهرين الفتك به ثقة بأن مكانه محفوظ وقد جعلوا فيه خمسين نفراً من الباشلية عيون عسكر العجم وحماتهم، فلما قرب من البيت تلقاه العسكر الذين في بيته فواثبوه فقتل ثلاثة أنفار بالسيف وقتل رحمه الله واحتزوا رأسه، ويروى أن قاطع رأسه ابن عمه الأمير الضال عبد الله بن مطهر، ثم وقع القتال وقد اختل أصحابه وفشلوا من قتله وقد قتلوا من العجم وجنودهم نحو سبعين نفراً، وصح للقاضي جمال الدين والسيد رضي الدين قتله فانحازوا بمن معهم وعادوا مواضعهم فانحزل إليهم من عسكر كوكبان خمسمائة نفر وخمسون فارساً ونصروا للإمام عليه السلام وصار إلى القاضي جمال الدين من أحب جانبه وإلى عسكر عبد الرحيم كذلك، وعاد القاضي جمال الدين وبقي في موضعه من الهيبني نحو خمسة عشر يوماً ، وكان ما تقدم من خيانة عبد الرحيم وإرادة الفتك بالقاضي جمال الدين رحمه الله
وبعدها، ولما وصل القاضي الحيمة وتكاثرت جنود العجم على رضي الدين انهزم وأخذت أثقاله ومما أخذ فرجيته ووجد فيها العجم كتابين من عبد الرحيم ومن أخيه الأمير أحمد إلى رضي الدين أن يلزم الحماطي ويغدر به أو يقتله، فلما وصل الكتابان إلى الشقي سنان لا رحمه الله أرسل بهما إلى القاضي جمال الدين رحمه الله لقصد التفرقة بين أصحاب الإمام عليه السلام وعبد الرحيم [ق/298] وعاد القاضي الحيمة وتردد فيها يحامي على أطرافها واشتغل جنود العجم بعبد الرحيم وجهات القبلة بعد ضبطهم كوكبان وبلاده واستظهارهم كما سبق، وقد أظهر الأمير إسماعيل البراءة من ابن عمه المقتول وأظهر أنه ما أرادكم وإنما أراد أن يملك ملكي ويقتلني والله أعلم أي ذلك كان، وعاد السيد رضي الدين عند عبد الرحيم المحروم فقتله كما سبق {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، واحتجه بعدم الفتك بالقاضي وتمتد يده على الحيمة وجهاتها حيث لم يحصل كوكبان، وفي هذه المدة تقدم القاضي جمال الدين بمن أجابه من أهل الحيمة وغيرهم وصحبه من الخيل نحو ثلاثين فارساً من أصحاب الأمير إسماعيل وقليل من العسكر وافتتح بلاد آنس وبقي في جانب بني سويد نحو شهر، وفيها حروب وطرد من فيها من الظالمين، فاتفق بينه وبين الشيخ أحمد الملاحي حروب قتل فيها جماعة، ثم أراد خراب بيت الملاحي فاستفداه بمال وبقي القاضي مدة في الحب من بني خالد، وفيها ما أخبرني رضوان التركي خادم القاضي رحمه الله في المطبخ والقهوة أنه أعطاه خمسمائة حرف على أنه يسمم القاضي، قال فأريت القاضي ذلك وقلت
له: أرى أنك تطلب الملاحي بعد أن تربطني وتشدد علي حتى أناظره ففعل القاضي وأرسل للملاحي فلما رآني على تلك الحال ناظر بيني وبينه فجحدت ذلك فقال: لا عذر من تحقيق الخبر وإلا كان كذا فأخبرته على أني مكره فأخذ منه القاضي للمجاهدين مالاً وأعطاني منه كثيراً الله المستعان، كانت العجم أحنى وأشفق في هذه على القاضي المجاهد من العرب، ثم إن القاضي رحمه الله بعد أيام عاد منهزماً من جهات آنس وقد ألبوا عليه، فعاد جهات عانز ونواحي الحجرة وشق به الخيل وأهلها وكثرة سبارهم وعليقها فثقل على الناس وخاف أن يعوزه إلى الانفراد كما تقدم ولا يجد موضعاً يخبئهم فيه ولا منفذاً إلى الإمام عليه السلام ولا يكاد يساعدونه وقد يخالفهم أيضاً، فراسل إلى الإمام عليه السلام واستأذن عليه أن يصلحهم إلى صاحب أمرهم الأمير إسماعيل إلى كوكبان، فعاد له الجواب بتصويب ذلك، فكاتب صاحب كوكبان فأحب ذلك ورآها من القاضي معروفاً كبيراً ولا علم له بالحال ولا بجواب الإمام عليه السلام، فعاد إلى جهات الحيمة لينفذ الفرسان من أهل كوكبان إلى صاحب أمرهم وقد تشرط لهم واستوثق وكان أكثر خوفهم من سنان لا رحمه الله.
[مقتل القاضي علي بن يوسف الحماطي]
فصل: ولنذكر صفة استشهاد القاضي [ق/299] جمال الدين علي بن يوسف الحماطي رحمة الله عليه وذلك أن العجم لعنهم الله عظم عليهم حاله فبذلوا العطاء والأماني لمن يغتاله، وكان في أهل الحيمة من قد مله واستثقله لأمور يلقيها شياطين الإنس والجن أن هذا من أحد الصفين؛ لأن لأهل الحيمة ينقسمون نصفين ويتحاربون لذلك فيما بينهم ،ومنها كثرة خرجاتهم معه فإنه قل سكونه عن الخروج بهم إلى نواحي جبل تيس حتى لقد روي أن عدة مخارجه إلى جبل تيس نحو من خمسة وعشرين مخرجاً، وكان يضع لكبرائهم إقطاعات وطعامات تأليفاً لهم ورجاء لصلاحهم فتمالى عليه قوم من بني عمرو نحو من ستة عشر نفراً، منهم: الشيخ قاسم الجرمي لعنه الله، وعلي شبيل، والدريني وجابر محرم، وعلي بن ناصر ودكتم الحاصبي من بني علي وخفي علي أسماء الباقين ثم احتازوا في حصن الجرمي ولم يقدروا ينفذوا إلى سنان لعنه الله لبعده عنهم وأنه غافل عن الحرب على الحيمة في تلك الأيام لاشتغاله بحروب القبلة وعبد الرحيم، فيقال كما سمعته من كثير من أهل الحيمة: أن القاضي رحمه الله كان قد أقام الشيخ قاسم الجرمي لعنه الله مقام عمه الشيخ الشهيد سعيد الجرمي المقتول مع السيد عامر رحمه الله تعالى فسعى أولئك بالمباعدة بينه وبين القاضي، ويروى أن كاتب سرهم الفقيه الشاعر محمد بن غفير الحيمي الآتي ذكره وكان كاتباً للسيد عامر ثم كتب مع القاضي وهو من أهل اللسان وبراعة القلم معروف بالشر وعدم الثبات فجعل خطاباً لأولئك على لسن القاضي جمال الدين رحمه الله بعطاء وشروط على أن يغتالوا
الجرمي، ثم حملوا ذلك الخط وهو لا يقرأ وأوقفوه عليه وقالوا: هذه عطايا سنان لا رحمه الله ورعايته بقتل هذا الفقيه الذي بسببه هلكت الحيمة ونهبت نساؤهم وكذا وأنت لا تقبلها هاهو قد بايعنا بقتلك فصدقهم وأخذ يشترط على سنان سراً على يد الشيخ صالح بن أحمد الشهابي، وكان في ذلك الزمان من أعوان العجم ومن المنظورين وأهل المال والرئاسة والجرمي وقبائله بنو عمرو مع المخلاف قبائله وحلفاؤه، فجعل سنان لا رحمه الله كيفية العطاء لمن يعين المذكور على الفتك ومن يخرجه بعد تمام القضية قاتلهم الله {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فألزموا الشيخ صالح بن أحمد أن يكون في بيته ليكون الهرب إليه ثم منه إلى حضور [ثم] صنعاء هذا إذالم تحصل المبادرة بمحطة تفتح الحيمة، وبذلوا للجميع الرغائب فاجتمع لهذه الأسباب ما أملوه [ق/300] من الغدر والعداون قاتلهم الله.
قال الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي رحمه الله: وكنت الرسول مع الخيل وأهل كوكبان، ولما انفصلت من عند القاضي إلى كوكبان وهو يتردد في جانب بني يوسف وبلاد القبائل وبلاد بني عمرو والشيخ الجرمي لعنه الله صديق، والقاضي حامل له على ظاهره فأطلع على الواقع الشيخ الرئيس المجاهد صلاح بن مفضل المعمري كما أخبرني من فيه قال: لقيت القاضي إلى جانب الصيد من أعمال بني عمرو وقلت له: الحذر الحذر تدخل بيت الجرمي، فلم يقبل مني قال: فلزمته وأقسمت إني بار صادق، قال والمتحالفون قد حذروه مني أني أريد أفرق بينه وبين الجرمي وأني طامع في الرئاسة وكذا، قال حتى قلت له إذ لا بد فتفضل أرسل معي سلاحك وأداتك وكذا من أثقالك فأنا أحق بها، فضحك واستبعد ذلك فعزمت بيتي مغاضباً وهو تقدم مع المذكور إلى حصنه المسمى قرن حسم لعنه الله وسايره القاضي وهو يقول له: السيد علي بن المهدي على وصول يا شيخ قاسم في هذا اليوم من عند الأمير إسماعيل ويأتي لنا إن شاء الله بهدايا وكذا نعطيك منها حصتك، قال: نعم، فلما وصل القاضي خارج المحل والشيخ المذكور تقدم يهيأ الضيافة على قوله وقد أعد أصحابه الذين حالفوه في الحصن وهم الذين تقدم ذكرهم ورأى أن يكون قتل القاضي خارج البيت أخف عليه وأسهل، فركب البندق إليه ليرميه وقد استمكن منه فلم تطلع النار، ثم حضر أخوه وزوجته وكرهوا العيب وواثبوه وأولئك الأشرار في جانب من البيت فأرسل للقاضي يدخل إليه وحده، قال الوالد السيد مطهر بن المهدي: وكنت أنا وابن عم القاضي رحمه الله الفقيه يوسف بن محمد والفقيه معوضة بن محمد لا نكاد
نفارقه وكذا خادمه معوضة السويد المذكور آنفاً، وقال الشيخ الملعون: مرادنا القاضي، فالتفت القاضي إلينا وكره دخولنا معه وقال: تعودون موافقة لغرض الشيخ وما يريد القاضي رحمه الله إلا تقريب الشيخ وعلى أنه آمن له وإذا في صدره شيء زال، قال: فلما دخل المنزل الذي أعلى من الباب وله كوة واسعة مما يلي شاهقة الحيد مشرفة على قاع الصيد، قال الوالد مطهر بن المهدي رحمه الله: فرأى اللعين الصنو علي بن المهدي وقد أقبل من القاع وقرب من المكان فقال: يا سيدنا هذا السيد علي وصل من كوكبان فأخرج القاضي رأسه من الكوة يريد النظر وقد انحط عليه عدو الله يطعنه في ظهره حتى خرجت من صدره ومال عليه [ق/301] أصحابه من عنده، قال: فسمعت شهقة القاضي رحمه الله شهقة هائلة ويقول: العيب العيب، قال فأقبلت على أصحابي وهم من وراء المسجد وأنا أصيح: قتل القاضي وكذا فما كادوا يصدقون حتى رأيناهم طرحوه من الشاهق ويقولون: كلوا لحم صاحبكم وكذا لعنهم الله، قال: ورموا بالبنادق فسلمنا الله سبحانه وانحدرت إلى السهل من أسفل الموضع الذي فيه شخص القاضي رحمه الله لأدرك الصنو علي أرده لا يقتلونه بالبنادق ثم تفرقنا وضربت الأصوات قال: فتلقانا الشيخ عبيد الصوبات لا رحمه الله هو وأصحابه فانتهبونا وما جاء به الصنو علي وسلاحه وسلاحنا ولم يتركوا لنا غير اللبس ثم حبسونا في بيته حتى استنقذنا القبائل وهموا بهذا الشيخ عبيد وأولاده وبلده وأرجعوا علينا سلاحنا وما ظهر من أمتعتنا، ولقينا الشيخ صالح حمران وكنا معه كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقد أقبل من صنعاء محطة ومن كوكبان أخرى
على ما بينه وبين الشقي من المكاتبة، ثم إن الحيمة كلها أجفلت وضربت الطبول وتبرأوا من العيب ولعنوا فاعله حتى اجتمع من لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى فلم يقدر الذين أغاروا من صنعاء وكوكبان على نزول الحيمة ولا وثقوا بأحد، ثم إن القبائل كلهم التقوا ولعنوا العيب وتبرأوا منه وكتبوا مسارعين إلى الإمام عليه السلام يمدهم بوال وينتقمون من العائب وأصحابه في حصنه، فبادر الإمام بإرسال الشيخ صالح بن محمد حمران النهمي.
قال السيد أحمد نفع الله به: إن الإمام عليه السلام كان قد أرسل الشيخ صالح حمران والياً لجهة من الحيمة بسؤال القاضي رحمه الله أنه شكا وحدته وقل المعين، فتراخى الشيخ صالح رحمه الله لاشتغاله بما لا بد منه فوافق وصوله جانب الحيمة قضية القاضي رحمه الله، وأخبرني بعض أهل الحيمة وقد أحاطت القبائل بهذا الحصن إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر، ووصل الشيخ صالح بن محمد فتشدد في المحارس وابتاع له نفران من أصحاب اللعين ومن الذين قتلوا القاضي معه فغزاهم إلى موضع وضرب أعناقهم وشدد على الآخرين فبقوا محصورين فوق شهرين، ثم إن كبراء الحيمة أحبوا أن يرأسوا القاضي عماد الدين يحيى بن أحمد المخلافي وعرفوا الإمام عليه السلام فأجابهم إلى ذلك، وكان الشيخ صالح عوناً له والحرب عليهم ليلاً ونهاراً ولا يزال القتل من خارج وداخل فعظم على بني عمرو أن الأعداء يدخلون بلادهم ويقتلون رجالهم، وعظم عليهم أيضاً اسم العيب والمخزية هذه فإن يظهروا لنصر صاحبهم كانوا كلهم عيبة []ق:302] ويحملون المذمة معه ولا ينضم إليهم قبيلي من مخالفهم، فاجتمعوا يتشاورون وقد سمعوا من خصومهم من القبائل نسبتهم إلى العيب، فقال لهم الشيخ قاسم الشعوبي من بلاد نعام بني عمرو كما سمعت ذلك منه وهو يفتخر بذلك الرأي: يا بني عمرو قد وجدت لكم رأياً تنتفعون به، قالوا: وما هو؟ فقال: نطلب أهل الحيمة كلهم يعني وجوههم ونشكو عليهم من جهالهم أنهم دعونا بالعيب وكذا، والآن فتختاروا يا أهل الحيمة أحد أمرين إما وتركتم حصار صاحبنا علينا ونصبر عليه حتى نأخذه إن شاء الله تعالى وترون بقاءنا
وأنتم تعزمونا بلادكم لا تأكلونا وكذا، وإن لم تركناكم وإياه، وإذا لم تفعلوا أحد الأمرين وترفعوا منا هذا الاسم الشنيع كنتم الشهداء لنا وصرنا إلى صاحبنا ولبسنا معه لباس العيب، قال وأنا أعلم أنهم لا يرضون يقلدونا حصاره فإذا كان ما علينا عهدة احتلنا في خروجه لمعرفتنا للبلد وطرقها، فكان كما دبره هذا المغرور، واحتال أشرار بني عمرو على إخراج المذكور فأصبح في بلاد مهلهل، ثم تلقاه أشرار من بلاد المخلاف، ثم إلى حضور إلى الشيخ صالح بن أحمد ومن عنده من العسكر، ثم إلى صنعاء لعنهم الله فهدم القبائل بيته وبيت من أعانه كذلك، وكذلك مسجده.
وأما قبره رضوان الله عليه فإن الشيخ الرئيس صلاح بن مفضل المقدم ذكره أغار عقيب القضية هو وأصحابه نحو مائة نفر فدخل إلى موضع شخصه المتقدم على مخاطرة فاحتمله إلى بلده وقبره عند مسجدها المسمى مسجد محرم، وكفنه وصلى عليه وابتنى عليه مشهداً وهو مزور مشهور رحمة الله عليه، وظهر له كرامات منها أن قاتليه ومن أعان عليه صب الله عليهم أنواع المصائب وقتل أكثرهم، وأما الشيخ الشقي قاسم الجرمي لعنه الله فقدم إلى سنان لا رحمهما الله فأعطاه ولم يكد يأمنه ولا يقربه، ولقد روي أنه دخل عليه يوماً مسلماً فأعطاه ذهباً بمشهد الراوي كثيراً وسأله عن حاجته ولم يتركه يقف عنده، فلما خرج لعنه وسبه وقال الذي يفعل في ضيفه ورفيقه وصاحب أمره هذا لا يؤمن يبقى في مكاننا ثم يسلط عليه اليأس من رحمة الله، هتك المحارم، وعكف على الخمور والمآثم وكان يتحدث أنه لو يعلم أن عليه شعرة تدخل الجنة ليحرقنها، وبقي على ذلك حتى توفي لا رحمه الله وهو على تلك الحال في زبيد طريداً شريداً، وحق ما روي أن بسر بن أرطأة لعنه الله قاتل الشهيدين دعا عليه أمير المؤمنين علي عليه السلام بأن يطيل الله عمره، ويبتر رزقه، ويسلبه التوفيق [ق/303] فلا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، واحتال أبناء عم القاضي رحمه الله وقتلا نفرين من قاتليه والمعينين عليه، ثم إن الإمام عليه السلام لا زال يطلب المذكور في محاط العجم وقتل في مرقده ونفران لأن اللعين كان يظهر أنه ينام في موضع فإذا هجع من عنده وطفى المصباح مال إلى مكان آخر والله أشد انتقاماً، ولقد كانت هذه الغدرة حديثاً عند الولي والعدو.
وأخبرني جماعة من تلامذة سيدنا القاضي الزاهد عز الدين محمد بن عبد الله الغشم نفع الله به وأظن أني سمعت منه معنى ذلك أنه في أيام تردده للتدريس في الحيمة وصله أخ لهذا الشقي يسمى صالح وكان يروي عنه التبري من أخيه وأنه لا يواكله ولا يواصله أنه وصل إلى القاضي وعول عليه وشكا هجران الناس لمكانهم وأنه يصل بالفقهاء ضيفاً إلى بيته وكذا وأكثر عليه، فأجابه القاضي إلى ذلك وتلقاهم بالعقائر والإكرام.
قال القاضي: فلزمتني وحشة من المساء فخرجت إلى موضع خارج البلد وبقي الفقهاء، قال ونام فرأى حي القاضي الشهيد رضوان الله عليه في المنام معرضاً عنه ساخطاً عليه ولم يكلمه، قال: فعرفت أنه كره ما كان من تأنيس قرابة هذا الشقي فما أصبح القاضي إلا في مكان آخر ولم يعد إلى ذلك.
ويروى عن القاضي الشهيد رحمه الله أنه كان كثيراً إذا وصل قرية محرم بلد الشيخ صلاح يستحسن موضع قبره ويطيل البقاء فيه، ولذلك اختاره له الشيخ صلاح.
ومنها أن الشيخ صلاح هذا مذ كان ما كان من القيام بحق هذا الشهيد رضوان الله عليه هطلت عليه البركات، وعظم قدره وانتشر ذكره حتى لقد يعجز أن يعرف ماله وقدره، ولقد أعد للضيوف بيتاً كاملاً بجميع ما يحتاجون إليه ولا يغلق أبداً والقهوة والماء كلها لمن وصله من كبير وصغير ومعروف وغير معروف ببركات القاضي رحمه الله تعالى.
ومن كرامات القاضي رحمه الله ما سمعت من غير واحد من أهل محرم أن قد رأوا على قبره نوراً.
ومنها أن الشيخ صالح بن أحمد الشهابي له رئاسة ومجد مذكور يضرب به المثل مع القبائل ومع العجم يلحقونه بأمرائهم وكان كريماً ممدوحاً، فلما كان منه ما كان بتر الله رزقه وأقل في الناس حظه وقدره، وأخذته الحاجة بعد سقوطه من مرتبته، ولقد روى القاضي الرئيس عماد الدين يحيى بن أحمد المخلافي رحمه الله إلى أنه بلغ به الحال إلى أن التقط الحب في سوق صنعاء وأكل ما وجده في السوق، قال وأخبره من رأى أهل السوق يضربونه على تهمة أنه [ق/304] يأخذ عليهم طعاماً اختلاساً والله أشد انتقاماً، نسأله حسن الخاتمة والتوفيق، ونستكفيه الخذلان والتعويق.
[الفقيه عز الدين بن علي الأكوع والياً على الحيمة]
فصل: ولما استشهد القاضي رحمه الله واضطربت أمور الحيمة فما استقاموا للشيخ صالح بن محمد حمران فعاد جهات القبلة ولمقارنة مولانا الإمام عليه السلام كما تقدم من حروب الرجو، ثم إن الإمام عليه السلام استرجح إرسال الفقيه المجاهد عز الدين بن علي الأكوع رحمه الله، كما أخبرني الفقيه الفاضل صلاح بن علي البريشي أنه لما بلغه خروج جعفر باشا كما سيأتي دويلاً لسنان لعنهما الله تعالى وغالب أهل الحيمة المحبة، ولهم جهاد كما تكرر ذكره وإنما حصل ما كان من بعض أشرار كبرائهم، وكتب له ولاية سمعت من تحدث بما تضمنته من البلاغة التي يليق بمثله والحكم والأحكام والآداب النبوية، وبقي فيها مدة وليست بالكثير ثم اختل الأكثر وقل الناصر، وكثرت مواصلة الترك أخذهم الله من أهل الحيمة ثم استدعوا أميراً من العجم واستولى عليها ذلك الأمير، فعاد الفقيه المذكور إلى الإمام عليه السلام فكان ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الصلح وأن أهل الحيمة يكونون إلى الترك لما صار إلى الترك أكثرهم وأخرجوا الفقيه عزالدين وضمن عليهم الإمام عليه السلام وتداركهم بما سيأتي من الشروط كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
[ذكر تمام أخبار الرجو]
على سبيل الاختصار، حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء، وحصل في أيامها استيلاء الظالمين على قرية مدر وأحاطوا بجميع جوانبها ثم دخلوا بعض بيوتها ثم قسم البيت نصفين وحصل بلاء وتمحيص حتى أخذوها عنوة، وقتل من أهلها وممن فيها نحو مائتي نفر، واستقام بعد ذلك حروب وملاحم على غيرها كثيرة، وفي بقاء الشيخ المجاهد عبد الله بن سعيد الطيب رحمه الله في بلاد السر اتفقت قضية المحابيس في حصن ذي مرمر وذلك أنه كان فيه أربعة عشر رجلاً كلهم من أهل الشجاعة والقوة منهم السيد عبد الله بن هادي الرجي، والسيد محمد أبو عساج الغرباني وجعفر بن جميل الهمداني، والشيخ غانم السياغي الحيمي وأربعة من كبار الترك كان عليهم القتل وآخرين خفي علي أسماءهم فتبايعوا وقتلوا الرسم وأخذو المفاتيح التي للحصن، ثم قتلو آغا الحصن والشاوش والكاتب وأعوانهم وملكوا الجميمة أعلى الحصن، وفتحوا المخازين وأخذوا السلاح، وفتحوا الأبوب إلا الباب الأسفل وهزموا [ق/305] من لقوه، وكان أكثر العسكر للباب الأسفل للخوف عليه من الشيخ عبدالله الطير والمحاصرين للحصن فاجتمع أهل الباب الأسفل وحفظوه وهزموا المحابيس وقد أرسلوا بعد العشاء إلى صنعاء فأرسل سنان جميع محطته مع وزيره والأمير حسن بن ناصر الجوفي فخاف المحابيس فقطعوا مع الحبال بسط الجامع ودلوا أنفسهم بها، ثم خرجوا جهات نهم ونجاهم الله، ثم لحقوا بالإمام عليه السلام إلا الشريف محمد أبو عساج فقتل، وبعد قضية مدر عظم الأمر على المسلمين واختلت بلاد نهم وبلاد خولان بعد حروب شديدة سيما على بلاد نهم ومعاري ثم سرى إلى
بلاد حاشد وبكيل فوالى أكثر البلاد وانحاز أصحاب الإمام عليه السلام إلى بلاد وادعة وما إليها من بلاد شهارة، وذلك في آخر أيام سنان لعنه الله كما أخبرني بذلك الأمير الهادي بن المطهر بن الشويع رحمه الله وكذا غيره أن سنان لا رحمه الله جعل بعد طول الحرب على بلاد نهم محطة في ثومة من أعمال عيال صياد من نهم مع الأمير درويش وغيره وأنه شق بسنان كثرة الحروب مع قرب بلاد نهم من صنعاء، وكان حي الأمير علي بن المطهر بن الشويع صنو الأمير المذكور في صنعاء خائفاً من سنان وقد اتهم فلا يظن أنه يسلم من شره إلا ظناً فأشفق عليه بعض مشائخ نهم وقال لسنان: لا يفتح نهم غير الأمير علي فإنه وإنه، وله فيهم اختصاص ولهم فيه محبة وما غرضه إلا سلامته، فطلبه في الليل وجهزه وأمر الأمراء بالطاعة له فجعل من المشائخ الذين ظاهروا من أعانه وشرط لهم شروطاً، فدخلوا قرية الحرث وأخربوها وقطعوا أعنابها وقد حذرهم الأمير ينجوا بأنفسهم، ثم دخل بلاد نهم بعدها وبقى في موضع منها يسمى لصف كما سيأتي، وعاد الشيخ عبدالله الطير وأصحابه إلى الإمام عليه السلام جهات وادعة كما تقدم وبعد احتلال نهم وبلاد بني زهير والصيد ونواحيها تقدم الإمام عليه السلام إلى جانب من شاظب بلاد عيال أسد وبقي أياماً وجمع على ظفار وشوابة وهران ووصلهما مراراً، وقد عظم الأمر وقل الأنصار والمواد التي تقوم بالإمام وأصحابه، وسمعت من كثير من أصحابه عليه السلام يذكرون المشقة والجهد الذي لحقهم في هذا المحط، ولعل ذلك في عام ست عشرة وألف كما رأيت في تأريخ الرسالة التي أنشأها إلى بلاد حاشد وبكيل
،وفي أيام بقائه في شاظب أرسل الحاج المجاهد شمس الدين رحمة الله عليه وجماعة كميناً لقتل الفقيه أحمد بن حسن بن حنش وكان ظاهره [ق/306] السلامة فأكثر التردد إلى الأمير حسن بن ناصر الجوفي إلى ذيبين للفساد على الإمام فقتله الحاج شمس الدين ومن معه منهم جماعة من الفقهاء بني حنش فإنهم اعتنوا في إزاحة شره لما هم عليه من محبة الحق وأهله، والميل مع الشرع النبوي وآله.
[رسالة الإمام إلى قبائل حاشد وبكيل]
وهذه الرسالة:
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، كتابنا هذا إلى حي حاشد وبكيل أرشدهم الله سبحانه وتعالى إلى سواء السبيل، وأتحفهم بالسلام الأفخر الجزيل، ورحمة الله سرمداً في البكرة والأصيل، حتى تتصل بنعيم الآخرة الدائم العريض الطويل، وبعد: فإن لكم سوابق في الأولين، ولواحق في الآخرين، سوابق أرضت رب العالمين، وسر بها سيد المرسلين، لواحق مطابقة للكتاب المبين، وسنة خاتم النبيين، فرجت الكرب عن سيد الوصيين، وأبنائه الأئمة الهادين، فنحب منكم أبقاكم الله أن تعودوا لعاداتكم، وتقتدوا بأسلافكم، فو الله إن إجابتنا عليكم لفريضة واجبة لا نجاة لأحد من المسلمين إلا إذا قاموا بها ورعوها حق رعايتها، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها أكبه الله على منخريه في النار)) والواعية: هو داعي الحق من آل محمد صلى الله عليه وآله، وقد قلت في ذلك المعنى أبياتاً:
يا عالماً بحديث الأولين ألا .... بالله أخبره عن همدان من سالا
أمل الحديث عن القوم الكرام على .... أغصان دوحتهم فرعاً نمى وعلى
أعني الذين لهم عند النبي قدم .... إذ أسلموا طمعاً في الدين لا وجلا
وانشر فضائلهم للسامعين وقل .... سائل مواطنهم يا من له جهلا
صفين سل وبقاع النهروان وسل .... أيام عقرهم في المارق الجملا
عن حاشد وبكيل إذا أتوا سرعاً .... أعني وصي رسول الله لا مهلا
تعلم فضائل همدان وسبقهم .... كم فرجوا كرباً كم جدلوا بطلا
نصروا إمامهم الهادي وما خذلوا .... أرووا بتحديهم السمر والأسلا
من بعد ذا نصروا آل النبي قدماً .... كم سيرة ضمنت من فضلهم جملا
الله يشكر من همدان ما صنعوا .... الله يكسوهم في الجنة الحللا
يا حاشداً وبكيلاً إن عادتكم .... نصر الأئمة لا تبغوا به بدلا
آباؤكم نصروا آباءنا وسقوا .... أسيافهم نهلاً من بعده عللا
[ق/307]]
لا تطمعوا طمعاً من فاسق خبيث .... أعماله ولكم قد أعمل الحيلا
لا تيأسوا وثقوا بالله وارتقبوا .... نصراً فيا ربنا تأتي به عجلا
قال النبي لكم لا تخذلوا ولدي .... فالنار مصرع من ناوى ومن خذلا
والله ناصرنا نصراً يبلغنا .... قهر الطغاة ومن ناوى فقد سعلا
ثم الصلاة على المختار دائمة .... والآل صلى عليهم بعد واكتملا
ورأيت بخط القاضي الشهيد العالم عبد الله بن الهادي بن عبد الله بن أبي الرجال رحمه الله عقيب هذه الرسالة القصيدة الحائية للإمام عليه السلام، قال: أنشأها في شهر شوال سنة ثلاث عشرة وألف، فألحقناها هنا لمناسبتها حكاية الشدة المذكورة في شاظب وإن كانت قبلها ولتكثير الفائدة وفيها ما هو في حكم الجواب على السيد عبد الله بن علي المؤيدي المتقدم وهي هذه:
سفحت مدامع مقلة المجروح .... لدم لآل المصطفى مسفوح
ولشيعة بذلوا النفوس لربهم .... الكاسرين قرون كل نطوح
فالدمع منسجم على الخدين من .... حرقات قلب محرق مقروح
مثل الطغاة بنسل أحمد عامر .... سامي الأصول سنامها الأطريح
واحتز رأس السيدين بمسور .... في الله ذاك وبذلهم للروح
واسأل بحرم عن الشهيد من الذي .... أفتى بسفك دمٍ له في السوح
إن يفرح العادي بقتلك يا علي .... فعيوننا ترقص من تبريح
وعلى الحبر الشهيد ويوسف .... فخر الآواخر كالبوح
ومن العناية عابد متبتل .... ومن المحيرس باذل لنصيح
العاملين العالمين لربهم .... والمخلص لمالك سبوح
وعصابة زيدية كم أروع .... أسد هزبر في الثرى مطروح
هذا نكاية قاسطين وقد رموا .... بمصائب كم فاسق مبطوح
أسلافكم يا قاسطين أمية .... الناصبون عداوة التبريح
سنوا لكم لسقائكم وبر النبي .... لضغائن بصدورهم وأجنح
ليس العدو سواكم لمحمد .... ولعصبة التوحيد والتسبيح
والشامتون بعامر بحريمهم .... في العالمين ثراثر التبجيح
[ق/308]
خير الممات شهادة البطل الذي .... يردى الطغاة بهائل مطيح
لولا ذكرت إذ الجبا يأتيكم .... لكن جزيت مليحنا بقبيح
ليست بنكر تلك من عاداته .... عون وأبكار وبنت لقوح
عادى الإمام إمامنا الحسن الذي .... هو للخلافة مأمل الترشيح
واسأل علاف وحربها وأسيرها .... وفتاوى الأذهان والتنطيح
لا تشمتن بعامر فلقد فأى .... هام العدى بصوارم البطريح
ليس الشهيد بناقص في قومه .... إن المناقص فعله المفضوح
كم سيد رزق الشهادة في الورى .... بل أنبياء الله فيما أوحي
ولهم من الله الكريم كرامة .... في جنة موصولة ٍالتفريح
صلى الإله عليهم من معشر .... فازوا بخير مثقل الترجيح
إن الشهادة من سعادة أهلها .... والمنكرين لكافر التصريح
إن تمدحوا أحباركم في نظمكم .... بمرصح التجنيس والتلميح
فمصابنا الملأ الذين استشهدوا .... فوزاً لنا ومديحة لمديح
لا تحسبونا واهنين لما جرى .... والله مصرخنا ونعم الموحي
لا تحسبونا تاركين لحقنا .... فالله ليس لحقنا بمبيح
فلئن بقيت لآمرن عساكراً .... ترمي الطغاة لقاصم وقدوح
ولأجدحن شاربهم بمنغص .... وليهلكن بذلك المجدوح
وليشربن كأساتهم من منقع .... كأس الغبوق بعيد كأس صبوح
وليعقبن شرابهم لعقارهم .... عقارهم يردونهم بالجوح
ولأفتحن بإذن ربي أرضهم .... ولأنفينهم عن البحبوح
ولأهرقن دماهم وخمورهم .... ولأذبحن سراتهم بذبيح
وجهادنا لله جل جلاله .... ولدينه بأسنة وصفيح
وبنصرنا لا لا هنا يقضي لنا .... سبحانه بمرادنا والريح
ثم الصلاة على النبي محمد .... خير الورى من أعجم وفصيح
وعلى الكرام أولي النهى من آله .... ما شن غيث من ثعاع دلوح
[سنان باشا يطلب الصلح مع الإمام]
وكانت المراتب والحروب في كل جهة وعظم الأمر مع اضطراب الأمير المحروم [ق/309] عبد الرحيم على الإمام كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فبينا الإمام عليه السلام في ذلك وإذا بالحاج التاجر المسمى أحمد الوادي، وكان من المعظمين في ذلك الزمان وكان يروى من سعة ماله مالا يحتمله الإختصار، وكان محبباً إلى الناس ويروى عنه صدقات وسماحة نفس وافداً على الإمام عليه السلام من عند الباشا سنان لا رحمه الله مخاطباً بصلح سنة أوأكثر، فعظم على الإمام عليه السلام الأمر وظن الظنون في الحاج المذكور لما عليه الترك أخذهم الله من الاستظهار والقوة وما في سنان لعنه الله من الشدة والسطوة وما هو عليه من القوة والبغضاء للعرب فضلاً عن أهل البيت عليهم السلام.
[ذكر الولاة الذين تولوا اليمن]
وحيث قد جرى ذكر اللعين، فلنذكر مصير الأمر إليه وعزل الوزير حسن لا رحمه الله كما أخبرني غير واحد من خواصهم وكتابهم بعد ظهور الحق عليهم كما سيأتي والحمد لله رب العالمين أن أول من خرج على الإمام الأعظم شرف الدين عليه السلام من ملوك الروم الباشا حسن ومراد وهو ومن معه الذين قتلوا اللوند اللذين خرجوا إلى الهند مع الباشا سلمان، ثم أخذوا اليمن على عامر بن عبد الوهاب الطاهري الناصبي لعنه الله، وفي أيام المتوكل على الله شرف الدين تتابع ملوك اليمن من وزراء ملك الروم فكان بعد [فرهاد باشا] إزدمر باشا وهو الذي بلي به المطهر بن الإمام شرف الدين عليه السلام، ثم مراد باشا كور وهو المقتول، ثم الذي خرج على المطهر المسمى مصطفى نشار سموه لما كان ينشر من غضب عليه بالمناشير لعنه الله، ثم خرج الوزير الأعظم المسمى سنان المحط في قاع حوشان ولم يدخل صنعاء لعظم جيوشه وحصر كوكبان وثلاء وصالح أولاد الإمام شرف الدين عليه السلام وولي على اليمن وعاد الروم على وزارته، ثم ولى بعده محمود باشا وهو الذي أخذ النظاري من ملوك اليمن بالغدر المعروف، ثم بهرام باشا وولي على صنعاء وبقي في ذمار الصغرى وأقطع كبار العجم البلاد فغلبوه عليها وعتوا عتواً كبيراً،وفي أيامه مات المطهر بن الإمام شرف الدين رحمه الله، ثم عزل بمراد باشا فقتل كثير من الأمراء ووضع الخراجات على اليمن وبقي في تعز العدينة وولى على صنعاء وغيرها، وأولاد المطهر وبنو شمس الدين في بلادهم وحصونهم والاختلاف بينهم، ثم عزل بالباشا حسن ووصل من الروم ووزيره هذا
الباشا سنان لا رحمهما الله فوليا اليمن قريباً [ق/310] من ثلاثين سنة، وعظم أمرهما وفتحا اليمن وحصروا أولاد الإمام شرف الدين عليه السلام وقتلوا بعضاً وأدخلوا بعضاً الروم أسرى، وكذلك الإمام الحسن عليه السلام وكذلك الأمراء من أشراف الجوف ثم الأمراء من بني المؤيد حتى لم يتركوا في بلاد الزيدية إلا من دخل تحت طاعتهم ومد يده لصلتهم بيد المسكنة إلا صاحب كوكبان الأمير محمد بن شمس الدين فإنه ظاهرهم ووالاهم وضرب السكة باسم سلطانهم وخطب لهم وباين إخوته وحاربهم، وكذا تصدر لحروب الإمام الحسن عليه السلام كما تصدر ولده الأمير أحمد بن محمد لمحاربة مولانا الإمام عليه السلام وكذا قطع الله دابره كما تقدم، ولما صفي لهم ملك اليمن وأخذوا معاقله وأمواله من مكة إلى عدن إلى حضرموت جعلوا عليه ضريبة تدخل إلى أبواب سلطان الروم في كل عام مائتا ألف حرف من غير الهدايا والتفاريق، وأخبارهم وأخبار أعوانهم طويلة تستغرق مجلدات وفراغ وأوقات، يروى أن الوزير حسن لا رحمه الله قال لبعض الأمراء من أولاد المطهر بن شرف الدين عليه السلام: أترى أنا أحسن تدبيراً أم أبوك يعني المطهر بن شرف الدين، وكان هذا الأمير أظنه إبراهيم بن مطهر يكره الشيخ ابن حميد السنحاني؟ فقال: إلا والدي أكمل بعد أن اعتذر من الجواب عليه، فقال: لم، فقال: كان ابن حميد مع أبي يلبس ثوبين صفتهما كذا ويركب حماراً ويخدم وهو الآن معكم يلبس مثل لباسك ويركب مثل مركوبك، وله ثمانون فرساً وغيره قريب منه أو مثله، فقال وقد ضحك: إنك لم تعرف حال والدك ولا حالي، أما والدك فمن العرب والبلد بلده
هو أولى بالرعية من ابن حميد، وأما نحن فعجم من كذا وكذا بر وبحر مالنا صديق فنجعل مثل المذكور مثلنا، ونخلطهم بنفوسنا ليحرسوا سلطاننا في اليمن لبقاء نعمتهم لا لبقائنا أو كما قال، والعاقبة للمتقين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، ثم لما قام الإمام عليه السلام كان هذا سنان لا رحمه الله صارمه الذي لا ينبو، وجواده الذي لا يكبو، وعظم عند ملوك الروم كبر اسمه وعظمت نفسه فخان صاحب أمره وكاتب حسدة مخدومه حتى عزلوه بحيلة أنهم يولونه مصر مع اليمن وأنه يستكفي بوزيره سنان على اليمن ويتقدم على مصر وكذا، فلما وصلت له يعني سنان على اليمن اسم الباشوية بعد عنها وأغلق على نفسه وعاقب من خاطبه بها أياماً توصلاً إلى ما سيأتي من مكره قريباً إن شاء الله، [ق/311] فلا زال كبراء العجم يتوسطون بينه وبين مخدومه أنه والٍ من تحت يده وخليفة له أياماً حتى يستقر في مصر ويستخلف غيره وهو يحلف بأن نفسه لا تطيب بعدم رؤيته أو تفارق خدمته أو كما قال.
وتجهز الباشا حسن فشد أثقاله هذا سنان لا رحمه الله وتولى تجهيزه وتباكى لعزمه مع ذلك، ثم إنه دس من حسن للوزير حسن أن طريق اليمن بعيدة وفيها أوخام وكذا فيعزم بالخزائن والأثقال أمناؤك وزوجتك المسماة السلطانة، وكانت غالية على الباشا حسن، ويروى أنها سبب ولايته وأنها من خواص السلطان، فتجهزت الأثقال وتوجهت إلى اليمن وسنان لا رحمه الله يصحبها خواصه للخدمة ، ثم وجه هو والمشيرون أن الباشا يلقي أثقاله وعياله من طريق كوكبان ثم جبل تيس ثم بلاد المحويت ويخرج تهامة، فلما انفصل عنه وقد شيعه جميع أعوانه وعظماء الروم أوقفهم على أمره وأن له الولاية حتى صح له من عنده رهبة ورغبة وأرسل من قبض الخزائن التي مع المراتب والأعوان وترك لهم ما لا بد منه، وقال: قد قلت لصاحب السعادة أسير معه فلم يقبل، وهذه الفتن في اليمن محيطة وكذا من الإمام وعبد الرحيم ويذهب بالمال، فعزم الوزير حسن باشا باكياً شاكياً، وهذه كلها والإمام عليه السلام في برط ولضعف حاله أقام في مكة عاماً واحداً حتى صح للسلطنة ضعف حاله ثم ولوه مصر عاماً واحداً، وتقدم إلى الروم وشكا من سنان وأنه قتل الناس ولم يقف على أمره وغلب على العساكر وقتل من كبراء السلطنة، ثم ظلم اليمن فخرجوا علينا وكذا فعولوا على عزله من اليمن وقد عظمت هيبته لم يكد يقم بذلك أحد، فانتدب الباشا جعفر وكان من خواص السلطان، ولما صح للمخذول لعنه الله خروجه خاف أنه إذا سار مع حروب الإمام عليه السلام وعبد الرحيم فما يأمن على صنعاء ولا يأمن على نفسه من السلطان إذا حصل خلل فأرسل الحاج المذكور كما تقدم، والحديث ذو شجون، ولكن لا يخلو من فائدة والله الموفق.
[الإمام يستقصي خبر الصلح]
قال القاضي العالم جمال الدين علي بن أحمد بن أبي الرجال رحمه الله: وكنت في جانب من أعمال وادعة وأتردد إلى بعض بلاد سفيان متوارياً مجاهداً على ما يأتي به تدبير الإمام عليه السلام فلم أشعر إلا بكتاب منه عليه السلام وهو في شهارة المحروسة بالله، وفيه: إنك لا تقف بعد ورود الكتاب لحظة واحدة أو كما قال، فوصلته عليه السلام مبادراً كما قال، فما كان بعد السلام عليه أن خلا بي وقال: وصل الحاج أحمد الوادي [ق/312]من عند هذا الطاغية يطلب صلحاً ولا عرفت السبب الموجب لطلابه مع ضعفنا عندهم وقوتهم واستظهارهم علينا حتى يريدون معرفة حالنا أو هو حق وصدق فهو المحبوب والمطلوب، ورأيت المماطلة بالجواب عليهم حتى تغير زيك وتلبس غير لباسك وتذهب إلى الأمير علي بن مطهر بن الشويع الجوفي، وهو يومئذ في لصف من بلاد نهم كما تقدم وخرج مع العجم لفتحها، ثم ولوه إياها وبقي محترزاً من سنان لا رحمه الله فتساءله هل ثم موجب لطلب الصلح ودويل لهذا الطاغي لعزله أجبناهم إلى الصلح وعقدناه فالمسلمون أحوج ما كانوا إليه أو كما قال، قال: فاعتذرت بكثرة الخصوم وبعد المسافة وأني لا آمن أن يعرفني من قد أغضبه الحق، وأيضاً قد أسأنا إلى الأمراء أشراف الجوف وأحربناهم وقطعنا أعنابهم، فقال: لا عذر وتوكل على الله فإنهم يعرفون أنك على الحق، وما ألجأهم لخدمة العجم إلا حب الدنيا وعندهم بعض عمومتك، وقد دبرت هذا الأمر فما وجدت غيرك، قال: فعزمت وصحبني فلان اسمه محمد بن أحمد من بلد سماها ولبست مثل لباسه وسرنا ليلاً وكانت طريقنا بلاد ذيبان.
ثم دخلنا بلاد نهم على خوف شديد حتى وصلنا بعد العشاء الآخرة أسفل من درب الحنشيات محل الأمير المذكور وهو في محطة أكثرها من العرب والأشراف وأصحابه ليسوا بالكثير، فتواريت في خرابة ثم أرسلت صاحبي إلى عمي الفقيه يحيى وهو جليس مع الأمير المذكور ولم يكن معنا في تكليف الإمامة فقلت: أخبر عمي بمكاني ولا علم للرسول ما الموجب للوصول ولا معي من الإمام عليه السلام إلا قطفة صغيرة تتضمن وصولي لغرض مهم، والظاهر عند الرسول الذي معي وعند عمي أن مرادي في الأمان أسكن في بلادي، قال: ولما غاب عني ذلك الرسول داخلني الخوف فصعدت إلى أعلى موضعي بحيث أرى من وصل فإنه كان مظنة سوء نجوت بنفسي فما كان غير كثير إلا وقد وصل صاحبي وآخر معهما عشاء لي من الأمير ويطلبان موضعي فتعرفت لهما فوصلا وتعشيت ما وصلا به، وقال صاحب الأمير: مكانك، فبقيت حتى عاد أخرى وأدخلني إلى صرح مسجد كبير والأمير نازل فيه وعنده عيون أصحابه،وقال لي ذلك الدليل: تبقى في هذه الزاوية في صرح المسجد، فبقيت كأني من جملتهم وكانت ليلة مظلمة، فخرج الأمير منفرداً على أنه متبرد وبقي يدور إلى أن قاربني وقد أمرني أن لا أسلم عليه مخافة من عيون عليه من خواصه من سنان [ق/313] لعنه الله فسألني وهو يتردد فأخبرته بما معي جملة وأن عند الإمام عليه السلام خطاباً بصُلح، قال: ففرح واستبشر كثيراً وهو مع ذلك يدور مخافة أن يطلع أحد علينا فطلب الشيخ أحمد بن طاهر الحفر النهمي شيخ المكان وكان من كبرائهم وهو صهر الأمير وأسرَّه أن يدخلني بيتاً فأدخلني، فلما أضاء لنا المصباح عرفني وكان بيننا وبينه
معرفة من أيام هزم فسألني ما موجب المخاطرة والوصول مع شدة الخوف من سنان لا رحمه الله؟ فقلت له: مرادنا أمان وننزل بلاد الجوف وهذا التخفي خوفاً على الأمير من سنان لا يعلم فيطالبه بنا أو كما قلت، فصدقني الشيخ المذكور، فلما سكن الليل وصل الأمير وحدثته بجميع ما قال الإمام عليه السلام ورأيته كتاب جملته: صدر فلان يلقي إليكم ما يوقفكم عليه وقد أخرج الشيخ، قال فأعاد علي ذكره فحققت له فقال وقد حصل معه من السرور ما لا يوصف بزوال دولة هذا الشقي فإنه لا يظن مع بقائه السلامة إلا ظناً، وأرسل من حينه إلى صنعاء يحقق له الخبر، وعاد الرسول ليلة القابلة، فلما كان مثل ذلك الوقت دخل علي إلى ذلك المكان وهو خالٍ في جوف الليل وأجاب على الإمام عليه السلام كلمتين في ظهر ذلك القرطاس ما معناه: صح ما قلتم وقيل لكم، فلما وصلت عند الإمام عليه السلام عقد الصلح وأرسل الحاج أحمد الوادي، إلى هنا رواية القاضي جمال الدين رحمة الله عليه، ومن رواية غيره تمام أخبار الأمير عبد الرحيم.
[موقف الأمير عبد الرحيم من الصلح]
فصل: ولنرجع إلى تمام أخبار الأمير عبد الرحيم، وذكرناه هنا لتعلقه بالصلح وقد ذكرنا كيفية قيامه على الترك أخذهم الله وتظهره بمناصرة الإمام عليه السلام وأنه طمع في شهارة ثم في كوكبان، ثم بالحماطي وأهل الحيمة وبذل لهم الرغائب، فلما لم يحصل له المطلوب اضطربت أحواله فتارة يخطب للإمام وينصر له، وتارة لنفسه، ولقد أرسل إليه الإمام عليه السلام حاجبه شمس الدين البواب عن سؤال ذلك الحاجب أنه يسير إليه ببشارة مما فتح الله للإمام طمعاً في نائلة، وكان مأمولاً كريماً جواداً، ولكن يختلف ذلك لا ختلاف الهوى والأوقات، فلما وصل إليه كما أخبرني الشريف محمد بن ناصر أبو سهر الغرباني، وكان مع والده في عسكر عبد الرحيم أنه فعله عند عسكر غربان فأمسى معهم وقد عرف موضعه، فلما كان وقت سمرة [ق/314] العسكر تزيا المحروم بزي الخدام، ثم سمع حديثهم فسمع من هذا الحاجب ذكراً لابن المعافا وبلاده وما عند الإمام عليه السلام من الجهاد والوقائع وكأنه قلل أصحاب عبد الرحيم، وكان عبد الرحيم في حورة حينئذ فلما أصبح الصباح طلبه في محفل وقال: أنت تبيع أبي قاسم وتخونه في الباب حتى من أعطاك خمسة كبار أدخلته عليه وهو يعني الإمام ما انتقم لنفسه منك وإنما أرسلك آخذ له منك وكذا، ثم أمر بربطه وتجريده من ثيابه، ثم أمر أن يعلق في تالوقة هناك وطلب البندق يرميه على أنه عرض فلم تطلع له النار وعظم عليه عدم إصابته وهو مشهور في الرمي بالبندق، فقال: ربما وأنتم يعني الحاضرين تظنون أن سلامته من فضل إمام الأهنوم -أو كما قال- تنظرون ما
أفعل به ثم أمر بالحطب وأن يجمعوه من كل بيت حتى صار عظيماً جداً، وطرح المذكور حياً في الحطب وهو مكتوف، فكان الحاجب يصيح ويستغيث بالله سبحانه وبفضل الإمام عليه السلام فلما اشتعلت النار من جميع الجوانب أرسل الله سبحانه مطراً على المكان فأطفأ تلك النار وتفرق الناس من المطر فخشع هو وكثير ممن شهد ذلك وعفا عنه وأطلقه واعترف بفضل الإمام عليه السلام في تلك الحال وأكثر لذلك الحاجب من العطاء وطلب منه البقاء عنده وملازمة خدمته، فأظهر له المحبة والإجابة ونهاية الرغبة وأرسل لأهله وأخذ يشكو عليه من الإمام عليه السلام حتى اطمأن إليه، ثم خلص إلى الظفير، ودعا إلى الإمام عليه السلام وترك مكان إعطائه ورضي من الغنيمة بالإياب، وأما أنه يقف على حدود الله سبحانه أو يراعي شيئاً من أوامر الإمام عليه السلام فهو في حكم الخارج عن الإمامة وإنما يلبس على من تجوز عليه الكبة أنه مؤتم بالإمام ولما خاض الإمام عليه السلام في الصلح عرض عليه إرسال أن يكون الصلح واحد فلم يرض بل نسب الإمام إلى العجز فعقد الإمام الصلح وتركه والترك أخذهم الله، فلما صح لهم أن الإمام تركه وإياهم وأنه تبرأ منه اجتمعوا الحربة وهو لا يزال منصوراً عليهم حتى أن المائة من أصحابه لا يفرون من الألف من غيرهم لاختيار لهم، وأن من ثبت وابتلي معه لا يدري ما يعطيه، ومن تأخر أو تلكأ أهلكه فكان خوفهم من ورائهم أكثر من سنة أو أكثر بعد عقد الصلح بين الإمام عليه السلام والترك، ولا يحصى من قتل من جنود الترك ومن أصحابه حتى إذا قتل كما أخبرني غير واحد ممن عرفناه ممن خدمه [ق/315]
وشهد ذلك إنما موضع في بلاده كلها إلا وسال عليه الدم لم يبعد، ثم إنه قتل من أصحابه بالتهمة وأكثر حتى إخوته خافوه خوفاً شديداً مثل ما تقدم لصنوه مطهر وأنه بقي عند الإمام عليه السلام مستجيراً به منه، ثم انحدر إلى بلاد الشيخ أبي زيد، وكان أخواله منهم، ثم منه إلى جعفر باشا مع خروجه، ثم صنوه الأمير أحمد بن عبد الرحمن فإنه راكز أمراء الترك في جبل مسور وبقي هو وهم من بيت إلى آخر في جبل مسور المنتاب أكثر من سنة، وفي أكثرها اليد له عليهم، ثم انحدر بعد القتال الشديد والدفاع الذي لا عليه مزيد إلى أخيه إلى حجة وخوفه منه أكثر من الترك أخذهم الله، وأخوه الأمير محمد بن عبد الرحمن قريب من ذلك، وبلغني من كثير ممن يعرف أخباره أن جملة من قتل من جبر حجة المعروفين بالتهمة في جميع أيامه ثلاثمائة نفر ونيف، وقتل الشيخ بن علان وأولاده وإخوته وأولادهم لتهمة أنهم فتحوا لابن المعافا الطريق إلى السودة، وكانوا فوق عشرين نفراً في يوم العيد وجعلهم حوالي السماط فيأكل الناس وهم ينظرون الموت وكذا غيرهم من أفراد الناس حتى فعل الفضيحة المشهورة أخزاه الله من المثلة بزوجة رجل من أصحابه وعيون عسكره يسمى عبد الله الزنم فإنه خافه فهرب إلى الترك فأخذ امرأته وأمر يتجريدها فكانت على أعين الناس ولم يبق على عورتها شيء، ثم صلبها على تلك الصفة ثم أخذ ابنين لها صغيرين وعلقهما في ثديها، ثم أمر الناس الذين عنده لعنه الله وإياهم بالنظر إليها واللعن لها ولزوجها ففعلوا فمن حال أن فعل ذلك خذله الله وسلبه النصر فلا زالوا به حتى قبضوا عليه في كحلان الشرف وقد احتال إخوته وكبار عسكره بمصيره في ذلك الحصن بتعجيل الراحة منه وقد كاتبوا العجم وتشرطوا لنفوسهم فأخذوه من كحلان الشرف الحصن المعروف وأراح الله العباد منه {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
[القبض على الأمير عبد الرحيم]
وكان القبض عليه في أواخر عام سنة سبع وعشرة وألف، قال الوالد السيد علي بن المهدي رحمه الله كان يبلغه أنه لما رأى أنه مغلوب كان يعتزي إلى الإمام وينصر له ويكاتبه ويقول الترك لا تكذب الإمام معنا عليك، ولما أخذ وبلغ الإمام عليه السلام وهوفي حبور أنه هرب بجماعة من عسكره إليه صار عليه السلام يتبرأ منه ظاهراً ويقول فيما بين ذلك وما وصل به إلينا ثم يلعنه فإذا هو لم يكن للمقالة صحة وإنما وصل الإمام جماعة من عسكره أرسالاً حتى بلغوا ثمانمائة نفر فاستحلفهم الإمام عليه السلام وجعل ديوانهم [ق/316] مع ولده الحسن رضوان الله عليهما.
[رحيل سنان باشا عن اليمن ووصول جعفر باشا والياً عليها]
وأما مسير الباشا سنان لا رحمه الله فقد تقدم صفة خروج جعفر باشا وأنه لما حصل في زبيد تجهيز سنان للمسير وقد وصله متسلم صنعاء من قبل جعفر باشا، ووصل سنان لعنه الله بخلع بكساء من السلطان وولاية على مصر وحمل أثقاله فمما أخبر علي السلطان وكان على جماله أن الذي جعل عهدته سبعمائة جمل عليها حاصل وأنه حصل من الآلات والهدايا والتحف ما لا يقدر قدره، وانتخب من العسكر على هيئة اليمن ألفاً وخمسمائة نفر في سلاح وأبهة ما يعظم في ذلك الوقت للمسير معه إلى الروم، ولما وصل إلى تعز العدينة خاف جعفر باشا وامتنع أن يراه ثم هلك من خواصه في يوم واحد أربعة أو خمسة من كبارهم فازداد خوفاً وعرف أن هذا الطاغية قد سمهم حتى لقد جعل رتباً خارج تعز والسفراء بينهم كما أخبرني بعض من كان معهم من خواصهم بعد مصيرهم إلى جانب الحق حتى انفصل، وكانت طريقه المخا وقد حمل كثيراً من أثقاله البحر، ولما صار في المخا هلك، وقد كثر أعوان جعفر باشا ولجأ إليه كثير من أمراء العجم والعرب من الخوف من سنان، ولما صح لجعفر باشا موته أرسل أمناءه لقبض الخزائن واستعادة ما في البحر وبسط لذي الفقار وزير سنان ووعده بالوزارة حتى صار إليه، ثم طلع صنعاء ورأى من كبار جند العجم ميلاً إلى ذي الفقار فخافه واحتال بتفريق أصحابه، ثم ضرب عنقه في الطريق فكان ذلك مما قوى به على الآخرين ممن يكره ولايته.
[جعفر باشا يحدد الصلح لمدة عشر سنوات]
فصل: ولنرجع إلى أخبار الصلح فإنه لما وصل جعفر باشا، وقد كان سنان لا رحمه الله قرر الصلح وبادر بتجديده والزيادة فيه إلى عشر سنين، وكان لوصول جعفر باشا موقع في اليمن فإنه أظهر بعض عدل وادعى أنه من أهل العلم وقرب أهله لذلك وغير كثيراً من جور سنان لا رحمه الله، وكان اليمن مع سنان وعبد الرحيم كالنار حتى أن سنان قتل كثيراً من رؤساء اليمن ولا ذنب لهم إلا لا يذهب من اليمن وفيه من يذكر له حالة دينية أو دنيوية، وتتابعت من جعفر باشا المكاتبة إلى الإمام عليه السلام.
(وأخبرني بعض الفضلاء والأمراء من المتوسطين في الصلح وقد أثنى على الإمام عليه السلام كثيراً، وقال العلامة في كتبه إلينا في الوجه لا يحتملها قانون السلطنة فنحب من الإمام يضعها كما نضع نحن علامتنا أو كما قال، ثم هذا التراب الأحمر كذلك [ق/317] لا يحتمله أوكما قال، قال: فأجابه بعضهم أن العلامة ومحلها يراه الإمام عليه السلام ديناً لا يمكن تركها عن محلها اعتقاداً دينياً لا نحول عنه، وأما التراب الأحمر فنطلب منه تركه، قال ففعلوا وفعل الإمام عليه السلام ذلك وأظنه قال وحصل ذلك بعد مراجعة) .
[أخبار كوكبان]
رجعنا إلى تمام أخبار كوكبان وقد تقدم ذكر موت الأمير أحمد بن محمد بن شمس الدين، ثم ولده محمد، ويروى أنهما ماتا بالسم من سنان لا رحمه الله لأنه خافهما ولميلهما إلى الوزير حسن وأن طريقه كانت كوكبان وأعطاهم كثيراً وذلك والإمام عليه السلام في برط كما تقدم، وقد ذكرنا العلة التي لازمت الأمير إسماعيل حتى طمع فيه من تقدم ذكره، ثم مات قريباً بعد أن استشهد القاضي جمال الدين علي بن يوسف الحماطي رحمه الله وذلك في سنة ست عشرة وألف، ووصل جعفر باشا في آخر سنة ست عشرة، وفيها توفي إسماعيل المذكور واضطربت أحوال كوكبان واختلفوا فيما بينهم، وكان الإمام المؤيد بالله سلام الله عليه والسادة الفضلاء في أسرهم كما تقدم من أخبار شهارة وثلاء، وكان بعد موت الأمير أحمد بن محمد ثم حصول الصلح قد يخرجون ويدخلون وقد صارروا في حكم أهل الحلل من أهل الحصن، وكان يخالط مولانا محمد عليه السلام كثير من عبيدهم ورؤسائهم وقليل من الأشراف لأن قواعد كوكبان في ذلك الزمان مصير أمرهم وأمر جنودهم إلى عبيدهم، ولهم أخبار عجيبة ثم إلى بعض نسائهم حتى أن لهن شيئاً من محصول البلاد ومن دار الضرب.
وأخبرني الشيخ الأديب أحمد بن ناصر الحميضة الملصي وكان من أهل خرقة التصوف وممن يخالط حي الأمير أحمد بن محمد أنه أخبره أن الإمام الأعظم شرف الدين عليه السلام رأى منشداً ينشده في نومه:
فإذا رأيت عصابة قد توجت .... نسوانها وعبيدها تيجانها
فاعلم بأن سعودها قد أدبرت .... وتمكنت (أقرانها بمكانها)
قال: ولما رأيت ما يدل على ذلك أيام الأمير عبد الرب بن علي بن شمس الدين أخبرته بالرؤيا وروايتها فصدقها وقرأ: {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَقْدُورًا}، نعم فخاضوا مع مولانا محمد عليه السلام وطلبوا أن يبايعونه ويظهر نفسه على أمره، والأمير إسماعيل إذذاك مكتوم أمر موته على العامة ولم يوقف السادة الكرام رضوان الله عليهم على ما هو فيه من الأمر أن لا يصوبوه وأن يخوفوه العواقب.
وأخبرني القاضي الأعلم شمس الدين أحمد بن محمد [ق/318] السلفي رحمه الله قال: كان السيد محمد بن صالح بن عبد الله فيه حدة وقد يخالط عيال الدولة فوقف على صحة موت إسماعيل وما هم فيه من الاضطراب وشدة النظر فيمن يقيموه، قال فما راعنا إلا به يصيح في ابن الإمام: يا هذا العاجز الذي كذا صرت كالفرخ يلعب به الصبيان من يد إلى أخرى هذا إسماعيل مات ولا لهم أحد فقم واقبض الحصن واطلب العسكر وافتح الخزائن وهم إليك طاعة أو كما قال، قال القاضي أحمد: ولا علم لنا ما بينه وبينهم فطلب عيال السادة والفقهاء وخرج وخرجنا معه وفتح لنا مخزان السلاح ولزمنا باب الحد ما بين الميدان والدار واتصل بنا بعض من وعده ونصروا للإمام، والشيوخ من العلماء في أماكنهم لا علم لهم، قال فأخلفنا العبيد وأرسلوا للأمير علي بن شمس الدين إلى شبام وكان طريداً من عيال إخوته لا يكاد يلتفتون إليه ولا على أولاده، وبعض منهم أرسل للأمير محمد بن عز الدين بن الإمام شرف الدين وتكاثروا وقصدوا مولانا بالسيوف فدافع عنه بعضهم بدفاع الله سبحانه حتى عاد مكانه وتناوله بعضهم بسيف أصاب وجهه وكانت الشجة التي
فيه، ولما وصل الأمير علي بن شمس الدين أمر بإغلاق الباب على ابن عمه الأمير محمد بن عز الدين، فلما رأى محمد بن عز الدين الباب دونه واستيلاء ابن عمه على كوكبان مات فجأة، وقيل: إنه أراد الدخول فصك الباب على رأسه فهلك ثم اتسق الأمر للأمير علي بن شمس الدين، قال القاضي رحمه الله: واشتغل عنا بتدبير أمره وطلب الكبراء والعسكر للحلف وقد أرجعونا مواضعنا بعنف ثم قيدونا وقيدوا مولانا عليه السلام ودافع الله عنا شرهم، قال وأكثر السادة الملامة لمولانا محمد على التعزير بنفسه وأنبوه، وكان أشدهم عليه السيد العلامة الحسن بن شرف الدين عليه السلام حتى تكلم بما لا ينبغي من شدة ما وجد، ثم بعد أن تقرر الأمر للأمير علي بن شمس الدين وكاتب العجم إلى صنعاء وكتب إلى الإمام عليه السلام واعتذر لولده بأنه ما كان منه ما كان إلا من ضنك الحبس وإنما في نفسه عليه شيء، والإمام عليه السلام يتوسل بالأمير عبد الله بن المعافا لمكان حبس ولده الأمير إبراهيم عنده.
[استقرار قواعد الصلح بين الإمام وجعفر باشا]
وأرسل عليه السلام سفيراً إلى صنعاء القاضي العالم الكامل مجد الدين سعد الدين بن الحسين المسوري رحمه الله لتحليف الباشا في صلح العشر السنين وإطلاق الرهائن التي من بلاد بني عبيد ووادعة وعذر والأهنوم ثم إطلاق بعض رهائن الحيمة، [ق/319] وكان قد قبض منها جملة رهائن وأبقى من كل قبيلة رهينة فقط، وأن سلاح أهل الحيمة يبقى لهم لمكان جهادهم مع الإمام عليه السلام وعليهم المال المعتاد ولا يطالبون بالماضي كغيرهم من البلاد التي صارت إليهم، وكان المتوسط في الصلح من الأمراء الأمير عبد الله بن يحيى بن المعافا والسفير الحاج أحمد بن سعد الله الوادي، وكان جعفر باشا يسارع إلى إجابة الإمام عليه السلام ويروي أن سنان لعنه الله نصح جعفر باشا بأنه يصلح الإمام ويتوجه على عبد الرحيم فمن ذلك أن الحيمة اضطربت كما تقدم وأن الإمام عليه السلام أرسل الفقيه المجاهد ضياء الدين عز الدين علي بن الأكوع كما سبق وطلب الإمام عليه السلام من الباشا أن أهل الحيمة يسلموا رأس المال كما تقدم، وأن الفقيه عز الدين يبقى لقبض الواجبات وإنما للوالي إلا نفس المال المعتاد يقبضه من المشائخ بضمانة الإمام، فلما وصل واليهم أهمله أهل الحيمة وأقبلوا على الفقيه عز الدين بالتعظيم كما أخبرني ولده الفقيه المجاهد عبد الله بن عز الدين فعظم على الباشا ذلك وأمر ببقاء عيال الإمام والسادة في كوكبان وكثر الخطاب وعجل الحاج أحمد الوادي بالمسير قبل إبرام القول، ورأيت مسودة بخط الإمام عليه السلام إلى الأمير علي بن شمس الدين صاحب كوكبان
ما لفظه: ولقد علمنا علماً يقيناً محبتكم لنا وصلاح طويتكم والعناية التامة فيما يحبه الله ويرضاه فالله سبحانه وتعالى يمدكم بمدده الرباني، ويقرن أعمالكم بالتسديد والصلاح والفلاح والتأييد، وقد انبرم الصلح الذي هو ثمرة سعايتكم المحمودة وضالة الصلاح المنشودة بيننا وبين جعفر باشا بلغه الله في الخير ما يرجوه، وكان مما رأى تأخير أولادنا وأصحابنا لديكم فأحببنا حقن الدماء وتسكين الدهماء، وهم ضيف الله سبحانه ووفده وجيران ولد كريم، وهم يخرجون إن شاء الله بعد طيبة النفوس ولكل أجل كتاب، ولا تزال المراجعة لجعفر باشا قرن الله أعماله بالصلاح المرة بعد المرة ولعله إن شاء الله لا يفاوت ما نهواه من الخير إن شاء الله والسلام.
واستقرت قواعد الصلح وكتب في تلك الشروط المكاتب وعبد الرحيم حرب للترك إذذاك كما تقدم، ثم يسر الله سبحانه وتعالى الخوض في خروج أولاد الإمام عليه السلام من كوكبان والسادة الفضلاء جميعاً وأولادهم، وكان قد توفي السيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن المهدي رحمه الله في كوكبان، وولي القضاء ولده السيد الأعلم وجيه الدين المهدي بن إبراهيم فبقي مدة في كوكبان بعد خروج أولاد الإمام [ق/320] عليهم السلام والسادة والشيعة وأولادهم إلى شهارة المحروسة بالله، وكان لهم عند الإمام جلالة كمهاجرة الحبشة عند قدومهم على النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم، ووصل ولده مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله عليه وقد بلغ في العلم درجة الكمال، وكان العين في علماء الآل مع الزهادة في هذه الفانية والكمال في أمور العاجلة والآجلة حتى كان يضرب به المثل، وتلقاهم الإمام عليه السلام إلى المدائر من ظليمة ثم كان معهم إلى حبور، ثم شهارة المحروسة بالله، ووردت إلى مولانا عليه السلام التهاني، ونظمت في معناها الأشعار الرائقة المعاني، منها ما قاله السيد العلامة جمال الإسلام علي بن صلاح العبالي القاسمي رحمه الله:
تجلت نجوم في البلاد وأسفرت .... كما الصبح يبدو عن ظلام ويسفر
أتا عزنا من بعده شرف لنا .... وصالحنا والفخر فالله نشكر
هم السادة الأعلام والقادة الأولى .... هم يهتدى سبل الرشاد ويبصر
فبشرى لكل العالمين بهذه .... لأمور ما كادت على القلب تخطر
لسعدإمام من سلالة أحمد .... كراماته فيما أرى ليس تحصر
هو العالم المفضال والماجد الذي .... تناقض من يبغي مداه ويقصر
إمام هدى من الإله به لنا .... يؤمننا مما نخاف ونقهر
رحيب جناب للموالين مفضل .... هزبر على الأعداء كمي مظفر
أياسيدي قلبي لديك مخيم .... وشخصي في هذه الديار محير
تشبث بي أهل وصحب ومكلف .... وما كدت فيما قد مضى قط أنفر
وماغاب عني ذكركم كل ساعة .... وإن شمت ناساً غيركم لست أنظر
وإني لأرجو جمع شملي بسرعة .... وأشفى فؤادي والإله المقدر
فيا رب يسر بغيتي أنت قادر .... وأنت رؤوف بالعباد مدبر
وصل على المختار والآل إنهم .... غياثي في نومي وفي يوم أحشر
[أخبار النهضة الثانية]
وهذه أخبار النهضة الثانية والله الموفق:
تنبيه: وأما أخبار بلاد صعدة ونواحيها في النهضة الأخرى فإنه كان عليها الأمير محمد المسمى قرا محمد من الترك، وكان عظيم السلطان من أهل الحزم والتدبير ومعرفة أمور العرب فغلب على بلاد صعدة واستفحل أمره، وعظم خطره، وهو الذي كان يبعث المغازي إلى برط، وكان لأهل بلاد صعدة ميل إليه [ق/321] شديد، فلهذه الأسباب قلت الفتوح لبلاد صعدة في هذه النهضة وإنما كان يناوش في أطراف الشام السادة ولا يؤثرون كثيراً، ولا أعلم في أيامه على بلاد صعدة ما يذكر من الوقائع، وسمعت حي سيدنا الفقيه العدل المجاهد عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله وقد ذكر البطون التي [تتهم] ببغض أهل البيت من أرض اليمن حتى ذكر أن الإمام عليه السلام حدثه أنه كان يسمع هذا الخبر عن جده الإمام ترجمان الدين نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليه السلام وعدد سبع بطون منهم بنو الحرث بن كعب من نجران والحدادون بصعدة، والسليمان في عيان، والحواليون في ثلاء، والكباريون بتافث، واللعويون بريدة، والأبارة بظهر، قال فلما وصلنا إلى بلاد يام أو بادية نجران نزلنا على رجل منهم يسمى أحمد فلان -الشك مني- وقد سماه فقابلنا بالإكرام والإحسان وبقينا عنده ليال فقلت له نخفف عنك يا شيخ فلان وننتقل إلى مكان آخر، فقال مقسماً: والله يا مولانا إنك عندي مثل هؤلاء وأشار إلى أولاده لولا شيء أجده في صدري عليك وأشار بيده إلى صدره في أوقات لغير سبب فأبغضك حتى أكاد آكل لحمك أو كما قال، قال الإمام: فعرفت صدق الخبر والرجل من بني
الحرث، قال ففارقناه ولا أعرف متى وصل الإمام عليه السلام نجران ولا سألت المذكور، وسمعت من حدث من الأصحاب ونحن جماعة من السادة والفقهاء في مرتبة الحمراء من أعمال مرقص وبني حجاج شظب رتبة في عام سبع وعشرين وألف، وأظن أن سيدنا يحيى يسمع الحديث بوقعه في جانب نجران وكان مع الإمام عليه السلام من أشراف الجوف الأمير الشهيد المجاهد أحمد بن محمد الأخرم الجوفي وعدة من أصحاب الإمام عليه السلام منهم الفقيه عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله وأن جنود العجم قصدوهم إلى ذلك الموضع فأبلى الأمير المذكور حتى نجا الإمام عليه السلام وتعلق الجبل ورمى بالبندق، وقتل جماعة الفقيه المذكور وآخرين من عيال أسد أظنهم بني العبسي علي بن صالح وصنوه الهادي بن صالح حتى قال الإمام عليه السلام: هذا اليوم للأمير أحمد بن محمد في الخيل، والفقيه يحيى في الرحالة، ولم أتحقق التفصيل ولا الوقت فأشرت لحفظ هذه الجملة. والله الموفق والهادي.
قال السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي نفع الله به: هذه القضية والإمام عليه السلام في برط وأنه خرج إلى نجران وقد تقدم ذكرها من رواية السيد نفع الله به آمين.
[الإمام يأسس مسجده الجامع في شهارة]
[ق/322] فصل: ولما انبرم الصلح وكان نفعه ظاهراً للإسلام وحسن عائدته على الخاص والعام، وقبله أسس الإمام عليه السلام مسجده الجامع في محروس شهارة في رابع شهر محرم الحرام عام خمسة عشر وألف [مايو 1606م] وتمامه في العشر الأواخر، وكان موضعه يحط فيه أهل شهارة ثمرة الزبيب، ويروى عن كثير من أصحابه رحمهم الله وأطال بقاء من هو في الحياة أنهم سمعوا من الإمام عليه السلام أنه ابتدأ عمارته ولا يجد من أجرته إلا خمسة كبار تأتي درهماً إسلامياً، فحصل الإمداد من فضل الله سبحانه بكثرة النذور وكانت نذوره عليه السلام مما لا يعلم مثلها من نذور الأئمة الأطهار، وساق معظم حجارته من خارج الباب، وكان فيما ذكر أن في الناس قلة حتى إن كثيراً ممن وقف على أساسه المقدس استبعد حاجة الناس إليه.
قال الفقيه ناصر بن عابد الشهاري: شهدت عليه السلام بعد العشاء الآخرة وهو يستقيم على تأسيس المحراب لأجل القبلة وتحقيق أماراتها المعروفة وعنده عدة من الفضلاء، فتكلم القاضي العالم الورع وجيه الدين عبد الوهاب الصنعاني ثم الحجي رحمه الله، وقال: هذا المسجد كبير يا مولانا ومن ذا يملأه للصلاة فلا حاجة إليه أو كما قال، وأكثر من ذلك القول مع ما سمع الإمام عليه السلام من غيره، قال: فرأيت ذلك أغاضه، وقال: يا فقيه فلان إذا لم نجد من يملؤه كان هذا المسجد في هذا الموضع مثل علمك لا تنتفع به فسكت القاضي وذلك من الإمام عليه السلام تنبيه للمذكور بما قد سبق من الإمام ذكره فإن المسموع أن العلماء كانوا يطعنون على الفقيه عبد الوهاب المذكور مع زهده وورعه وعلمه النافع عدم الصبر على التدريس والإكباب عليه، وكان غالب أوقاته السياحة رحمه الله فأراد الإمام عليه السلام تعريفه بذلك، ثم أصلح مع المسجد المناهل والمنازل للقراءة وبعد تمامه كان غالب أوقاته التدريس فيه، وكان يحضر مجلسه الشريف عيون هم خير أهل الأرض في زمنهم رضوان الله عليهم كولده الإمام محمد عليه السلام، والسيد الحسن بن شرف الدين، والسيد صلاح الدين صالح بن عبد الله الغرباني القاسمي، والسيد الأفضل علي بن صلاح العبالي، ومثل شيخ العترة السيد أمير الدين بن عبد الله، والسيد الحبر أحمد بن محمد الشرفي، والسيد محمد بن علي بن عشيش الحوثي الحسيني، والسيد علي بن إبراهيم الحيداني، والسيد الحسين بن علي الجحافي، والسيد الأديب العلامة صلاح بن عبد الخالق الجحافي القاسمي، والسيد العلامة
عبد الله بن محمد المحرابي [ق/323] وإخوته الحسن والحسين، والسيد ناصر بن محمد القاسمي المعروف بصبح وغيرهم من طبقتهم، ومن بعدها من السادة الفضلاء وعيون العلماء والفقهاء كالقاضي العلامة عامر بن محمد الذماري، والقاضي سعيد بن صالح الهبل، والقاضي عبد الهادي بن أحمد الثلائي، والقاضي الحسن سعيد بن العيزري، والقاضي علي بن محمد الجملولي، والقاضي صلاح الشدادي، والقاضي علي بن الحسين المسوري، والقاضي سعد الدين المسوري، وغيرهم ممن يطول ذكرهم.
قال مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله عليه فيما رأيت بخطه الكريم وقد عدد مسموعاته ومشائخه حتى قال: وقد ذكر أهل مجلس أبيه أنهم خير أهل الأرض في زمنهم وبإن النظر إليهم عبادة أو كما قال مما هذا معناه، وكان هذا الصلح كصلح الحديبة في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اختلط الضال بالعلم فاهتدى، وخالط الجهال أهل الكمال فصاروا ممن بهم يقتدى، ووقف الحائر على المهتدي فاستبصر، وأطلع المسترشد على الحق فأثمر، ونقلت الأخلاق النبوية والسيرة العلوية إلى البلاد النائية، وكان السبب في هدي كثير من الأمة الأحمدية سيما بلاد الزيدية، وكتب رسائله عليه السلام لتفريق الأمة ما يجب على العلماء من البيان، وتواصلت كتبه بذلك إلى جميع البلدان من الحرمين والحجاز وجيلان وديلمان، وهي غير كتب الدعوة الشريفة، وكذا الرد على أهل البدع من الصوفية المتسهمين في هذا الزمان، والباطنية وغيرهم من الملاحده في الأديان، من ذلك الرسالة إلى يام نجران وهي هذه وأثبتها ههنا وإن كانت متقدمة على أيام الصلح المذكور فيما بلغني لمناسبتها أيام التفرغ للتعليم والإرشاد. والله الهادي.
[رسالة الإمام إلى يام نجران]
الحمد لله الذي جعل للخير أهلاً وللحق دعائم وللطاعة عصماً، والحمد لله الذي جعل لعباده المتقين عند كل طاعة عوناً منه سبحانه بقول على الألسنة ويثبت الأفئدة، فيه كفاء لمكتف وشفاء لمشتف، وأشهد أن لا إله إلا الله العلي عن شبه المخلوقين الغالب لمقال الواصفين، الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين، الباطن بجلال عزته عن فكر المتوهمين، وأشهد أن محمداً عبد ه ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله أشرف الصلوات، تبلغه أعلى الدرجات، أما بعد:
فكتابنا هذا إلى [ق/324] ذروة همدان الكرام، وسنام القبائل الفخام، الساكنين بنجران وبواديه من يام، ألهمهم الله ما يرشدهم، وهداهم إلىالعمل بما يرضيه، وجنبهم طرق معاصيه، وأتحفهم بشريف السلام، ورحمة الله على الدوام، ثم إن كتابنا تذكرة للعاقل، وتنبيه للغافل، وتعليم للجاهل، وطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه، وتجنب من يرديه، أصاب سبيل السلامة ببصيرة من بصيرة، وطاعة هدى من أمره وبادر الهدى قبل تغلق أبوابه، وتقطع أسبابه، و استفتح التوبة فقد أقيم على الطريق وهدي إلى نهج السبيل.
اعملوا هداكم الله أنه قد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو حي حتى قام خطيباً فقال: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) ولقد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يقع بعده في أمته من الكذب عليه ومخالفة الحق فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستفترق أمتي إلى ثلاثة وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)) فلما سمع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم ضاق به المسلمون ذرعاً وضجوا بالبكاء وأقبلوا عليه وقالوا: يا رسول الله كيف لنا بعدك بطريق النجاة وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى ومن قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال)) فنحن أصلح الله شأنكم عترة نبيكم وأهل بيته أخذنا العلم عمن سبقنا من آبائنا الكرام بروية منا خلف عن سلف حتى ينتهي إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولله در الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام حيث قال:
كم بين قولي عن أبي عن جده .... وأبي أبي فهو النبي الهادي
وعصابة قالت روى أشياخنا .... ما ذلك الإسناد من إسنادي
هذا الإمام السابق زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يروي مذهبه عن أبيه زين العابدين علي عن أبيه سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نحفظ مذهب الإمام زيد بن علي نرويه بالسند المتصل، وهذا [ق/325] صنوه باقر العلم الإمام المقتصد محمد بن علي زين العابدين بن الحسين، روى مذهبه عن آبائه الكرام عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نحفظ مذهبه بطريق صحيح من طريق الإمام علي بن موسى الرضي عليهم السلام، قال: حدثني أبي موسى بن جعفر قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال حدثني أبي علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم والمعين عليهم ومن سبهم أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)).
وهذا الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية يروي مذهبه عن أبيه عبد الله الكامل عن أبيه الحسن المثنى عن أبيه الحسن السبط عن أبيه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحفظه سنداً وطريقاً صحيحاً.
وهذا الإمام ترجمان الدين القاسم بن إبراهيم الذي قال فيه جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا فاطمة إن منك هادياً ومهدياً ومستلب الرباعيتين لو كان بعدي نبياً لكان إياه)) الرباعيتين: هو القاسم بن إبراهيم عليه السلام يروي مذهبه عن أبيه إبراهيم عن أبيه إسماعيل عن أبيه شبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أبيه الحسن المثنى عن أبيه الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام يروي مذهبه عن أبيه الحسين الحافظ وعميه محمد والحسن وهم يروونه عن أبيهم القاسم بن إبراهيم عليه السلام وهو يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم ذكره، وهذا الإمام الناصر للحق الذي ظهر بالجيل الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب يروي مذهبه عن شيخ الإسلام محمد بن منصور المرادي عن الإمام المقتصد أحمد بن عيسى عن أبيه عيسى الحافظ عن أبيه أمير المؤمنين زيد بن علي عن أبيه زين العابدين علي بن الحسين السبط عن أبيه الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أبيه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين يروي مذهبه عن محدث آل محمد أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل عن الناصر لدين الله مقدم الذكر، ونحن [ق/326] نروي مذهبهما إليهما بالسند الصحيح، ولنذكر طريقاً من طرق العلم المتصلة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنا أروي مذهبي عن السيد العلامة صارم الدين إبراهيم بن المهدي الجحافي القاسمي قراءة، وعن السيد العلامة أمير الدين بن عبد الله من آل الإمام المطهر بن يحيى إجازة وقراءة عن السيد العلامة أحمد بن عبد الله المعروف بابن الوزير عن الإمام يحيى شرف الدين عن السيد إبراهيم بن محمد عن السيد صلاح الدين عبد الله بن يحيى بن المهدي الزيدي مذهباً عن والده يحيى بن المهدي عن الإمام المهدي لدين الله محمد بن المطهر عن والده الإمام المطهر بن يحيى عن شيخ الشيعة العلامة محمد بن سليمان بن أبي الرجال عن الإمام الشهيد أحمد بن الحسين عن الشيخ أحمد بن أبي القاسم الأكوع المعروف بشعلة عن الشيخ محمد بن أحمد بن الوليد القرشي عن الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عن الشيخ الأجل إسحاق بن أحمد بن عبد الباعث بن عبد الرزاق بن أحمد عن الشريف علي بن الحرث وأبي الهيثم يوسف بن أبي العشيرة عن محمد بن حسن الطهري إمام مسجد الهادي إلى الحق عليه السلام، عن محمد بن أبي الفتح عن الإمام المرتضى لدين الله محمد بن يحيى عن أبيه الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عن أبيه الحسين الحافظ وعميه محمد والحسن عن أبيه ترجمان الدين القاسم بن إبراهيم عن أبيه إسماعيل عن أبيه إبراهيم الشبه عن أبيه الحسن المثنى عن أبيه الحسن
السبط عن أبيه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا هو مذهبنا الذي تجده في العلم أن مذهب الباطنية الإسماعيلية حدث بعد مائتين وكسور، والسبب في ذلك أن طائفة من المزدكية وأولاد المجوس وبعض الملاحدة لما عجزوا عن محاربة أهل الإسلام تزيوا بزي أهل الإسلام وأظهروا الدين ودخلوا في جهال الشيعة وأحدثوا فيهم مذهب الإسماعيلية الباطنية سنة مائتين وكسور ودخلوا في جهال الصوفية الباطنية وأحدثوا فيهم مذهب الحلول، وقالوا: إن الله يحل في الصورة الحسنة، و تفرقت دعاتهم في الأقاليم يظهرون لجهال الشيعة التألم لأهل البيت عليه السلام والسب لمن تقدم على علي عليه السلام ويظهرون لجهالة الصوفية كثرة الصلوات حتى أنهم ليصلون بغير وضوء ولا طهارة، ويلبسون المرقعات، [ق/327] ويموهون عليهم بالترك للدنيا فمن وجدوه من الفريقين قد انسلخ إليهم وقبلهم قبولاً وعرفوا صحة ذلك منه أطلعوه على ما أبطنوه من الكفر بالله وإبطال الشرائع وتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن يأخذوا عليهم المواثيق والعهود المغلظة أن لا يطلع على سرهم أحد، والذي نجد في العلم أن بعض الكفار الذين تقدم ذكرهم وفد على رجل جاهل متزهد يقال له حمدان القرمط من أعمال الكوفة فرأى حمدان القرمط هذا ذلك الكافر الملحد ولقد لحقته مشقة السفر، وكان حمدان يسوق بقراً له، فقال للكافر لما رآه لا غباً: اركب هذه البقرة من بقري، فقال الكافر: لا أفعل، فقال حمدان القرمط: أين تريد؟ فقال الكافر: أريد هذه القرية يعني قرية حمدان القرمط، فقال له حمدان القرمط: وما حاجتك فيها؟ فقال
الكافر: أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ومن الضلالة إلى الهدى ومن الشقاوة إلى السعادة وأملكهم ما يستغنون به عن التعب، فقال حمدان القرمط: أنقذني أنقذك الله وأفض علي من العلم الذي عندك ما تحييني به، فقال الكافر: ما أمرت بإخراج السر المكنون إلى كل أحد إلا بعد الثقة به، وأخذ عليه العهد، فقال حمدان القرمط: أنا أعطيك العهد فاذكر لي ما شئت فأنا التزمه، فقال الكافر: إن لي إماماً هو حجة الله على أهل الأرض لا يوازيه من المخلوقين أحد فإن أعطيتني العهد أنك لن تخرج سره الذي ألقيه إليك فعلت، فقال حمدان القرمط: أنا أفعل ذلك، فأخذ الكافر على حمدان القرمطي العهد وتحكم فيه حتى استدرجه وسلخه عن الإسلام فأجابه إلى الكفر، فكان أصلاً من الأصول للباطنية وهم على هذه القاعدة يأتون لكل بما يوافقه ويفطنون أصول مذاهبهم الكفرية عن عوام أهل مذهبهم ولا يظهرون الكفر لا لمن عرفوا أنه يميل إلى ما يقولون، ويأخذون عليه العهود والمواثيق حتى يسلخونه عن الدين ومتى قويت شوكتهم أظهروا الكفر وأكرهوا الناس عليه كما كان من علي بن الفضل لعنه الله فإنه ظهر في اليمن سنة ثلاث وستين ومائتين[هجرية] [876م] وتقوت شوكته فتارة كان يقول هو الله، وكان في عنوان كتبه إلى أسعد بن أبي يعفر: من باسط الأرض وداحيها، ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده أسعد بن عفيرة، وتارة يقول هو رسول الله حتى أمر المؤذن في عسكره بأن يؤذن بأشهد أن علي بن الفضل رسول الله، وأظهر مذهب المجوس وأمرهم [ق/328] بنكاح الأمهات والأخوات ونكاح الصبيان، وأمرهم بشرب الخمر، وكان
يجمع من عنده من النساء في دار كل ليلة جمعة ويرسل الرجال عليهن فيفجرون بهن في ليلتهم فمن امتنع من ذلك قتله وأباح دمه، وكان يتسمى برب العالمين، وكان استقراره في المذيخرة مدينة لهم في اليمن، وغلب على صنعاء وعلى كثير من نواحي اليمن، وخرب المساجد في سنة سبعة عشرة وثلاثمائة [929م]، ووافى ملكه ليلة التروية عسكر الباطنية يقدمهم رسولهم يقال له: أبو طاهر بعد أن غلبوا على كثير من العراق والحجاز والمشرق والشام وباب مصر، فلما دخلوا يوم التروية مكة قتلوا المسلمين في مكة وهم في المسجد الحرام من غير أكفان، ونهبوا كسوة الكعبة ودور مكة وقلعوا باب الكعبة والحجر الأسود، واحتملوه معهم يريدون إغراقه في الفرات، وبذل لهم أمير بغداد ألف دينار ويردونه فأبوا عليه حتى أن عبد الله الباطني الإسماعيلي صاحب أفريقية كتب إلى أبي طاهر يلومه ويلعنه ويقول: حققت علينا الكفر، فمكث الحجر الأسود عندهم اثنتين وعشرين سنة، ولما عزموا على رده علقوه في جامع الكوفة ثم حملوه على جمل واحد حتى ردوه إلى موضعه وقد كان يوم حملوه تفسخ تحته ثلاثة جمال قوية من ثقله، ومن جملة مذهبهم تعلقهم بالتنجيم والحساب فإذا خالف ما يقولون قالوا: غلطنا دقيقة وقد عرفوا المنازل التي تكسف فيها القمر والشمس فيخبرون العامة بالكسوف قبل أن تقع فيكون ذلك ذريعة إلى قبولهم ولو تعلم تلك المنازل بدوي لعرف الكسوف قبل وقوعه مثلهم وأحسن، واعرفوا أنه كان أهل البغضاء لأئمة الحق في نجران بني الحرث بن كعب ولم يكونوا باطنية، وكانت يام من أنصار الأئمة عليهم السلام، وكان أول حدوث مذهب الرفض
لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيهم في عشر التسعين بعد ثلاثمائة من الهجرة زمن الإمام القاسم بن علي العياني عليه السلام وصل به عابر من أهل اليمن يقال له أحمد بن الريان، ثم سرى فيهم الباطن إلى زماننا هذا.
فاعرفوا أنقذكم الله من الضلالة كم بين الأصلين وكم بين المذهبين، واسألوا من خياركم من يتعرف أليسوا يخصون جماعة منهم ويعلمونهم الكفر ولا يرضونكم تطلعون على شيء من ذلك، في كل وقت مذهب يخالف ما تقدمه، يعرفه القدماء منكم وربما يغرنكم بكثرة الصلاة في بعض الأحوال فلا تغتروا بذلك فإن قوماً كانوا مع علي بن أبي طالب عليه السلام وكانوا يصلون الليل [ق/329] كله، وكانت جباههم كركب المعز من كثرة السجود فمرقوا من الإسلام، وكانوا يوم مروقهم ثلاثين ألف فارس وقالوا إن علياً عليه السلام كافر فقاتلوا علياً عليه السلام فقتل منهم يوم النهروان أربعة آلاف إلا تسعة رجال، ومن العجب أن الملاحدة وأولاد المجوس يحتالون عليكم بإظهار محبتنا أهل البيت وبكثرة الصلاة ويقولون إنه لا إمام من آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يثقون به ويرونه كذباً وزوراً ليبطلوا شرائع الله ويحملونكم على عداوة آل محمد وحربهم فتصدقون أقوالهم وتكذبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((في كل خلف من أهل بيتي عدول ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً يذب عنه ويعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو الخليفة من بعدي)) فتتركون قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأخذون بكلام أولاد المجوس والملاحدة، ومذهبهم جحد الوحي وجحد مجي الملائكة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنكار القيامة والبعث والنشور والنار وتكذيب الله سبحانه وتعالى، ومن جهالة أتباعهم أنهم يتباكون لهم على المقهورين من أسلاف آل محمد ويلزمونهم سفك دماء من كان في زمانهم من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويكذبون لاتباعهم أن إسماعيل بن جعفر الصادق حي، وأنه المهدي، وبعضهم يقول: قد مات إسماعيل وإنما المهدي محمد بن إسماعيل وهو حي، والمعلوم أنهما عليهما السلام قد ماتا، ولإسماعيل وولده من حين ماتا إلى زماننا هذا حول ثمانمائة سنة وخمسين سنة، وأهلهم من آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلمون ذلك ويروونه، والجهال يكذبون آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك ويصدقون علوجاً كفاراً يردون عليهم من أرض الكفار وعبدة الشمس من الهند ومن أرض المجوس الذين يعبدون الشمس والنيرات ويستحلون نكاح أمهاتهم وبناتهم، فإذا عرفوا من أتباعهم مساعدة أظهروا ذلك وإذا خافوا انحرافهم أبطنوه، ويزعمون أن إمامهم يخلق ويرزق ويحي ويميت وذلك كفر بالله سبحانه لأن الرازق المحي المميت هو الله رب العالمين دون
خلقه، ولو كانوا [ق/330] صادقين لما كان مختفياً وهو يقدر على أن يخلق ويرزق ويحيي ويميت لأن الموجب للإختفاء هو الخوف من الجبارين فلو كان كذلك لم يتخف، وأيضاً فإنه لوكان حياً لكان ظاهراً في النواحي التي يسكنونها ويأمنون عليه من سطوة الجبارين وينصرونه، ولما كان محمد بن إسماعيل داعي الإسماعيلية بقلعة وادي ظهر سار إلى سلطان الأتراك يستنصره من الروم وإمامه الذي يكذب أنه يراه يخلق ويرزق ويحيي ويميت حاضر، ولكان أولى بأن ينصره، فأين العقول؟ ولم لا يخرج الإمام الذي صاروا يكذبون أنه حي حيوياً ويخرج المعادن والكنوز ويستعين بكم على من عاداه وعصاه، فسبحان الله إنا أهل بيت النبي أعلم الناس بعلم جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعلم الناس بأهل بيتنا من علوج يأتونكم من الهند خارجين عن الإسلام ومن آخرين حالهم كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولون ما تعرفون ويفعلون ما تنكرون.
انظروا أنقذكم الله إلى أحوالهم أليسوا موالين لأعداء آل محمد ومناصرين لهم من الأتراك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة)) يعني الترك، ويحربون آل محمد فلو كان الإمام حياً كما يزعمون لما رضي لهؤلاء الدعاة أن يحاربوا آل محمد عليهم السلام وينصرون الترك أعداء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
اعلموا رحمكم الله أنه حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق إن أريد إلا الإصلاح مااستطعت وما توفيقي إلا بالله، إن الدعاة الذين يقتدون بهم من الباطنية يبغضون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وذريتهما عليهم السلام، ولكنهم لم يتمكنوا من مرادهم إلا بإظهار محبتهم.
حكى بعض الثقات أن جماعة كانوا يتسايرون وراء الكوفة فنظروا إلى مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في العرى فقال أحدهم: ما هذه البنية؟ فقال شيخ: هذا قبر خادم خويدم خديجة، جعلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم خويدم استحقاراً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستهانة، وجعلوا علياً عليه السلام خادماً لخويدم، وصرح بعضهم بالمجوسية فقال: إن دين محمد ليس شيء وكذلك دين موسى ودين عيسى، ثم قال: إن صح شيء من الأديان فالمجوسية. فإذا علموا أن أحداً قد اطلع على ذلك أنكروا أشد الإنكار وكتبهم ومقالاتهم تفضحهم أليسوا يستدرجون الجهال بالمواثيق الشديدة، ويدرجونهم درجة درجة [ق/331] فأول ما يبتدونهم بالعفاف والكفاف وفعل الطاعات والتألم للمظلومين من قدماء آل محمد، فإذا علموا أن قد ركن إليهم أحد وانسلخ إليهم أدرجوه في شيء آخر من بواطنهم، ولا يزالون به حتى يسلخونه من الإسلام، وقد اطلع على كفرهم بالله كثير من العلماء وتدريجهم للجهلة في كتبهم مثل كتاب (البلاغ الأكبر) وكتاب الرضاع، وكتاب الجامع، وكتاب المبتدأ والمنتهى وكتاب العلم المكنون والسر المخزون، وكتاب دعائم الإسلام وكتاب المحصول وكتاب تأويل الشريعة وغيرها مما صدروه من الكفر
بالله ورسوله وإبطال الشرائع ويخفون ذلك كما قدمنا، والمعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن معالم الدين كالفرائض والعلوم الإلهية يجب إظهارها وإشاعتها وإذاعتها في المسلمين أينما كانوا، وقد علم من هؤلاء إخفاء كتبهم، وليس السبب إلا ما يعرفه العاقل المستعمل لعقله أن معهم فيها فضائح اكتتبوها لأن الإنسان يحب أن لا يظهر على فضائحه من يخزيه بها، ولعمري لقد ظهرت فضائحهم وفضحهم الله تعالى باطلاع بعض العلماء عليها.
قال في بعض كتبهم وهو كتاب البلاغ: إذا ارتقى المؤمن إلى أعلى درجة يعني الكفر زال عنه العمل كله واستراح ولا صوم عليه ولا حج ولا صلاة ولا جهاد ولا يحرم شيء البتة من طعام وملبس ومنكح.
قال في موضع آخر: إن هذا العالم فيء لهم يعني غنيمة، وجميع من كان يعبد الله من الناس لهم عبيد ونساؤهم إماء مملوكات، وأموالهم لهم طلق يعني حلال قال ولا يحرم من ذلك إلا من كان قد عرف حقائق ملتهم ودخل فيها، قال ولا يعبد الله إلا حيث يخاف أن يقتل أو حيث يخاف يقتل، هذا معنى كلامه ولعنة الله على من زاغ، وقال في كتاب البلاغ أيضاً في موضع آخر: وما العجب من شيء كالعجب من شيء يرى نفسه بعقل ودين ينتحله تكون له أخت حسناء ليس له امرأة كحسنها يحرمها على نفسه وهو إليها محتاج ويدفعها لرجل غريب أجنبي فينكحها فيجعله أولى بها منه، وقد كان الواجب أن يكون الجاهل بأخته وبنته أحق منه وأولى إنه أولى بستر عورتها من الغريب، انظر إلى قدماء المجوس هل ذلك عليهم محظور، هذا منقول بلفظه ولعنة الله على من زاغ، وقال في موضع آخر ما لإلهنا أمرنا بتقبيل الحجر الأسود في الكعبة شرفها الله الذي لا يصلح إلا للإستجمار، وهذا منقول بمعناه وأكثر لفظه ولعنة الله على من زاغ، وقال صاحب كتاب البلاغ أيضاً في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وحذرهم محمد على قدر سخافة عقولهم مما لا يرونه أبداً من الرجوع في القيامة والعقاب والعذاب [ق/332] حتى استعبدهم عاجلاً واستدفع بهم شر أعدائه، وجعلهم في حياته ولذريته من بعده خولاً وعبيداً واستباح بذلك أموالهم وجعلهم له ولعقبه ملكاً دائماً وشأناً عظيماً ومودة في قلوب الجهال فقال: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، فكان أمره معهم وأمرهم معه نسيئة لأنه وعدهم الثواب بعد موتهم في
الاخرة ودخول الجنة والحور العين وهذا مما لا يرونه أبداً ولا يمكنه الوفاء به، هذا منقول بلفظه ولعنة الله على من زاغ، فهذا الكفر الذي لا أبلغ منه، وقد بلغنا عن آبائنا الأئمة الكرام عليهم السلام وشيعتهم رضي الله عنهم بسند متصل إلى علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به يقال لهم الرافضة إن أدركتهم فاقتلهم قتلهم الله إنهم مشركون)).
فلينظر المسترشد أي الفريقين أحق بالأمن عند الله تعالى والفوز بالثواب الذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام بقتلهم كما تقدم الآن أم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الأئمة عليهم السلام وشيعتهم رضي الله عنهم بالإسناد الموثوق به إلى أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي فقلت: فداك أبي وأمي قد قطعت أنياط قلبي فقال: ((لا قطع الله نياط قلبك يا أبا ذر إن الحسين يولد له ولد يسمى علياً أخبرني حبيبي جبريل أنه يعرف في السماء بزين العابدين وأنه يولد له ابن يقال له زيد وأن شيعة زيد فرسان الله في الأرض وأن فرسان الله في السماء الملائكة، وأن الخلق يوم القيامة يحاسبون وأن شيعة زيد في أرض بيضاء كالفضة أو كلون الفضة يأكلون ويشربون ويتمتعون ويقول بعضهم لبعض امضوا إلى مولاكم أمير المؤمنين حتى ننظر إليه كيف يسقي شيعته، قال: فيركبون على نجائب من الياقوت والزبرجد مكللة بالجواهر أزمتها اللؤلؤ الرطب رحالها السندس والاستبرق، قال فبينماهم يركبون إذ يقول بعضهم لبعض والله إنا لنرى أقواماً ما كانوا معنا في المعركة، قال فيسمع زيد فيقول والله لقد شارككم هؤلاء فيما كنتم من الدنيا كما شارك الذين أتوا من بعد وقعة صفين وإنهم لإخوانكم اليوم وشركاؤكم اليوم)).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن لله جنداً في السماء وهم الملائكة وجنداً في الأرض وهم الزيدية)) .
وروينا عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: (الشهيد من ذريتي والقائم بالحق من ولدي المصلوب بكناسة كوفان إمام المجاهدين وقائد الغر المحجلين يأتي [ق/333] يوم القيامة هو وأصحابه تتلقاهم الملائكة المقربون ينادونهم ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
وروينا بالإسناد الموثوق به إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال للحسين: ((يا حسين يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يتخطى هو وأصحابه رقاب الناس غراً محجلين يدخلون الجنة -وروى- بغير حساب)).
وفي بعض الروايات: ((ينادي المنادي من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء دعاة الحق)) وبلغنا عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يقتل من ولدي رجل يدعى زيداً بموضع يعرف بالكناسة يتبعه عليه كل مؤمن)) إلى غير ذلك، وفي هذا القدر كفاية للعاقل اللبيب {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}والسلام على من اتبع الهدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
[رسالة للإمام يحذر فيها من مكائد الصوفية]
وله عليه السلام هذه النصيحة للمسلمين وتحذيرهم من مكائد صوفية هذا الزمان، وألحقناها بما تقدم لمناسبتها وسبق الوعد بها:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، كتابنا هذا إلى من بلغه من المسلمين كتبناه تقرباً إلى الله تعالى ونصيحة لهم، أما بعد:
فسلام عليكم، وإنا لنحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم، ثم اعلموا رحمكم الله تعالى أن ربنا تبارك وتعالى واحد أرسل إلينا نبيه الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشريعة واحدة، وأمرنا سبحانه وتعالى أن نقيم الدين ولا نتفرق فيه ولا نتخلف، قال الله سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا...} الآية، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)) فهذه الحجج النيرات قائمة لله عليكم بتحريم الاختلاف في الدين وكذلك نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، فإنه لم يكن بينهم اختلاف في حياته أليس ذلك هو الدين؟ أم الدين هو الجاري من الاختلاف بين الناس بعد ذلك؟ لا تجلعوا الجهل وشبهة الباطل معتمدكم في دينكم فتقولون نقتدي بما هو ثابت
[ق/334] في البقاع الشريفة طهرها الله وحرسها من المآثر والأفعال، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعلمون هجرته من أفضل بقاع الأرض وهي مكة المشرفة لما كان فيها من المآثر والأفعال المخالفة لدين الله فلو كان ما فعل هناك حجة ودين لكان ما تقدمه حجة، ولكن الدين ما شرع الله سبحانه وتعالى وافترضه عليكم وأحبه منكم من الصلاة في أوقاتها من فرض ونافلة مع تمام الطهارة والزكاة الواجبة والصدقات، وصلات الأرحام، والصيام الواجب والمستحب، والحج إلى بيت الله الحرام، وذكر الله في السر والعلن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتجنب لما حرم الله، وما أشبه ذلك مما ذكره الله في كتابه وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغه إلى أمته، وتلقته الأمة بالقبول مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) رواه جماعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواية تفيد السامع منهم علماً بصحتها كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)) أو كان بصحته شاهد في كتاب الله كرده صلى الله عليه وآله وسلم لبيضة الذهب على من أعطاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لا يملك غيرها، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا صدقة إلا عن ظهر غنى)) فإن الشاهد بصحة هذا الخبر قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}، أي لا تبخل ولا تعط
مالك كله {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}، ومما افترض الله الإقتداء بالصالحين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً كما حكاه الله تعالى حيث قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى، ومن قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحب أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعد ربي فليتول علي بن أبي طالب وذريته الطاهرين أئمة الهدى ومصابيح الدجى من بعده فإنهم لن يخرجوكم من بابا الهدى إلى باب الضلالة)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أخبرهم أن أمته صلى الله عليه وآله [ق/335] وسلم ستفترق إلى ثلاثة وسبعين فرقة كلها هالكة إلا واحدة كما بلغنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن عند كل بدعة يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً يذب عنه يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله)) فإن قيل: إن أتباع آل محمد قليل. قلنا لهم إن الفرقة الناجية هي أقل من اثنتين وسبعين فرقة ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ
يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}،وبقوله سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، ومما حرم الله سبحانه اتباع ملة كفرية أصلها الذي ينتمى إليه دين المجوس الذين ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم فإنه فيما بلغنا من العلم ورواه الثقات أنه بقي من المجوس بقية عجزوا عن حرب المسلمين فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر وتزيوا بزي المسلمين، ودخلوا في ضعفاء هذه الأمة من الروافض وتسموا الإسماعيلية، وفيه صفة السنية ويسموا بالصوفية، فأما الإسماعيلية فقد تجنبهم أكثر الأمة في زماننا هذا، وأما الصوفية فإنهم قد استنزلوا الناس وسلخوهم عن الإسلام إلا من عصم الله لأنهم يقولون أن الله سبحانه وتعالى حل في النساء الحسان وفيمن أشبهها من المرادن، فاتحد بها فليس ربهم إلا الصور الحسان، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فصاروا يتغنون بالأشعار من الغزل وذكر العشق والفسق، ثم إنهم يخلطونه بشيء من التهليل وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقبل قولهم الجهلة وتحقن دماؤهم فلو أن الناس علموا ما هم عليه لتجنبهم كل من يعتزي إلى الإسلام، ولسارع إلى قتلهم جميع العلماء بالحلال والحرام، فمن أعانهم على تقرير دينهم كان حكمه حكمهم في الكفر لأنه قد أعان على هدم الإسلام وطمس شريعة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، قال الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أعان بباطل
[ليدحض] بباطله حقاً فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله)) ومن المعاونة له التشبه بهم في الحضرات ولو بالتهليل الذي يخالطه شيء من المنكرات لأنه يكون ذريعة لهم إلى التمادي في باطلهم وإلى انتشار كفرهم، وكل طاعة يكون سببها طمس [ق/336] الإسلام فلا شك أنه يجب تجنبها، ألا ترى أن عمارة المساجد من القرب المقربة إلى الله سبحانه وتعالى، ثم لما عمر المنافقون مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله وكان ذلك عند الله وعند رسوله معصية كما هو معلوم من الدين ضرورة، وعند أهل الورع من علماء الإسلام لأن المصلحة إذا قارنتها مفسدة [مساوية أو راجحة أن المصلحة تنتقل مفسدة] وقد حذر منهم صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغنا عنه وكذلك حذر منهم كثير من علماء فرق الإسلام، ثم اسألوا رحمكم الله هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد من أصحابه أو أحد من صلحاء هذه الأمة يأتون بطارٍ ومزمار ومغن ويصفحون ويرقصون، لا والله ما ذلك دينهم وإنما هو دين هؤلاء الكفار الذين قال الله تعالى فيهم: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}.
أيها الناس انتبهوا من غفلتكم وانصروا دين نبيكم ولا تكونوا من الذين قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا، ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}.
[بعض عمائر الإمام]
رجعنا إلى ما كان بعد عمارة الجامع المبارك، ثم ابتدأ عليه السلام بعده بيوته الشريفة وما يتعلق بمرافق وفوده وجنوده، ثم أسس عقيب ذلك السمسرة في الهجر قل مثلها في العمائر ووقفها على الجامع وهي معلومة فإن أهل النظر في العمائر يقولون إن هذه السمسرة وأساطين جامع شهارة من عجائب اليمن، ثم أسس جامع الهجر وهو قريب من جامع شهارة المحروسة بالله، ثم ابتدأ في إحياء وادي صومل وهو وادٍ معروف في جانب عذر الغربي مما يقرب من ساحل الأهنوم فإنه استقر عليه مدة وتردد كثيراً حتى أحياه وغرس فيه البن والقند والأرز، ثم غيره من وادي وعر وأعمال بطنة حجور حتى كان الإنفاق من أملاكه المباركة أكثر من بيت المال، ولقد كان أكثر [ق/337] قوت الوافدين والقاصدين والملازمين الأرز الكثير، ولأهل المدرسة المنصورية كذلك، ولقد كان يعطى الأرز أكثر من الذرة في كثير من الأوقات، وماهي إلا بركة ظاهرة وإلا فإن ذلك انقطع بعد موته أوبقى منه مالا يذكر.
[رؤية الإمام]
قال الفقيه ناصر بن عابد الشهاري: إنه كان للإمام عليه السلام أراك استغلت بعمارة هذا المال في صومل وغيره وكنت فيما سبق لا نلتفت إليه فقال: لي الأمر كذلك ولكني رأيت في هذه الأيام أمير المؤمنين علياً -كرم الله وجهه في الجنة- وشكوت عليه قال فوضع كفه الطاهرة عليّ، وقال: أقر الله قرارك مرتين أو ثلاثاً فقد آنا إن شاء الله واثق بقبول دعوته أو كما قال، وكان في أيام الصلح يتردد في جبال الأهنوم وظليمة وبلاد عذر ووادعة إذا كثر عليه الوفد صيانة لشهارة وشحنتها، ثم حدث في ابتداء عمارة الجامع المقدس في عام ثمان عشرة وألف الحطمة الشديدة المسماة مع أهل مشارق شهارة وبلاد صعدة الساجية وعمت حتى هلك كثير من الخلق، ولاذ بشهارة عالم من الناس، فآواهم حتى كادوا يصلون آخر الطعام.
[قلة المؤنة في حصن شهارة]
أخبرني الفقيه الفاضل علي بن غبيس البرطي أنه أخبره الشيخ محمد بن فلان من أصهار الإمام عليه السلام من أهل برط أنه وصل إلى الإمام في تلك الأيام وكان الإمام عليه السلام في بعض منازل داره السعيد ممتداً على سريره وسألني عن أخبار المشرق وأنا أخبره وهو يستزيدني، وإذا سيدي محمد يعني الإمام المؤيد عليه السلام دخل وقام قريباً من باب المنزل، ثم دخل السيد الحسن ثم السيد صالح ثم عيون السادة والفضلاء، والفقيه يحيى بن محمد بن حنش واقف على الباب أيضاً من خارج المنزل، ولما رآهم الإمام عليه السلام استوى جالساً وقال لهم: مرحباً بكم يا أصحاب ما اجتمعتم إلا لأمر، قال فنظر بعضهم بعضاً واستحيوا من الإمام عليه السلام حتى أعاد عليهم وتبسم إليهم فعلى ذهني أن المتكلم السيد صالح بن عبد الله الغرباني رحمه الله فقال: يا مولانا الأصحاب تذاكروا نصيحة يلقونها إليك ومرادهم تسمعها، قال فتبسم الإمام أخرى وهش إليهم وقال: هم أهل النصيحة للإسلام وكذا ومقبول نصيحتهم ولا نتهمهم في نيصحة هذه الأمة أو كما قال، فقالوا للسيد صالح تكلم، فقال: ذكر الأصحاب أن هذا الحصن قد فتح الله به وتفضل على الإسلام والأعداء محيطة ولا لهم إلا الوفاء ورعاية الصلح إرادة، وقد صار الطعام فيه قليلاً ونخاف كرة العدو إذا عرف ذلك فأول ما [ق/338] تنظر فيمن ألم من الضعفاء وأهل الحاجة فتردهم إلى المواضع التي ينالون بها القوت حتى يقل المخروج، ثم أصحابك ومن تعلق بهذا الحصن منهم من يخاف العاقبة ولا يأمن من بلاد الظلمة، فهذا عليك كفايته وحفظه، ومنهم من
يأمن على نفسه وتأمن عليه وفي بلاده ما يقوم به فتعطيه ما يوصله ويذهب حتى يعيد الله سبحانه عائدته ويعود إن شاء الله تعالى، ومنهم من لا عذر عنه فيتحتم القيام به، قال فلما سمع ذلك منه رأيت وجهه تقطب وبدا من لحظاته وقال: ما ترون يا أصحاب؟ فقالوا كلهم: صدق هذه النصيحة التي رأيناها، قال فرأيته يتلون ثم استرجع وأكثر، وقال: يا سبحان الله كنا نعتقد أن معنا علماء هداة في الدين وكذا، فإذا هم قد نفوا خزانة الله سبحانه وتعالى وهي التوكل عليه وألجونا إلى حجرة سوداء وحبة بيضاء، ثم قال: فمن لنا قبل حصول شهارة وما فيها ويقول فيما بين ذلك: أين تروني أذهب بالرحمات، ثم أقسم بالله لا كان إلا أقاسمهم ما معي حتى لا يبقى شيء ثم أحمل عصاي وأخرج معهم يصيبني ما أصابهم أو كما قال، وسمعت هذه الرواية من غير واحد من أصحابه عليه السلام ففرج الله تلك الغمة وأبدل الله العسر باليسر والحمد لله رب العالمين.
[ذكر قضايا حدثت أثناء الصلح]
وفي أيام الصلح الكبير قضايا نذكر ما أمكن، منها أنه كان في الفراع من أعلى المير وما يقرب من شام مور شجرة عظيمة من أجناس شجر مجموعة من ثلاثة أنواع أو أكثر فكان يقصدها البدوان من الشام واليمن البلاد المقاربة لها للزيارة والذبائح من الإبل والبقر والغنم وحولها كما أخبرني من شاهدها حجارة ملس توضع فيها لحوم الجزائر، ويطرح أسلابها على الشجرة، ويجتمع على ذلك عوالم بحيث لا ينقطع زائرها ويعتقدون فيها ما تعتقد هوازن في ذات أنواط ويتحدث غوغاؤهم أنهم سمعوا منها أصواتاً وغير ذلك فجمع عليه السلام كثيراً من العسكر وأعطى القبائل الذين حولها ما ألفهم به، ثم قصدها فقطعها بعد الإقامة عليها ثلاثة أيام وجمع حطباً وأحرقها.
وفيها أقام وهو في الهجر حداً على امرأة اعترفت عنده بالزنا ورجمها، وأقام الحدود والتعزيرات.
أخبرني بعض مشائخ الأهنوم قال: كان الخمر ظاهراً قبل استقرار يده الطاهرة على الأهنوم فجلد فيه وعزر ونفى بعضهم حتى أنه لم يعد في البلاد إلا بعد وفاته صلوات الله عليه، ووصل بيته ومات في ليلته وهو من بني حمزة، وكذا في سائر البلاد التي ظهر عليها.
ومنها [ق/339] أن امرأة من بلد يسمى عوان حاشف من بطن يسمون أيلة يوس خافت من أهلها لشيء اتهموها به فهربت إلى قوم منهم يسمون أيلة أحمد فأجاروها فأغار قومها فقبضوا امرأة من أولئك، وقالوا: هذه بتلك وتصاف الفريقان للحرب وقد جعل أيلة يوس الإمرأة التي قبضوها في بيت في صفهم، ثم أخذوا يدخلون عليها واحداً واحداً ويظهرون لأهلها أنهم فعلوا فيها العظيم وربما لم يكن شيء من ذلك إنما يقصدون بجهلهم تقليل أولئك، بلغ الإمام عليه السلام فأنكره ونهض بنفسه من شهارة حتى صار إلى الحبس من الحار وقدم عليهم ولده مولانا علي عليه السلام فانتهبوا مواشيهم وقبضوا على من قدروا عليه وأكلها الناس وكانت كثيرة، ووجدوا فيها غنماً لرجل منهم يسمى مسعود كان غائباً في طريق الحج، وقد وصل ذلك اليوم أو يوم ثاني إلى الإمام عليه السلام فأعاد له قيمة ما فاته، فكان من أهل اليسار بعدها.
(وفيها أن بدواً من العصيمات أغاروا على ماء يلي بلاد صدان من عذر الشرقي وصرخ الصريخ فركب الشيخ الرئيس المجاهد علي بن وهان بن علي رحمه الله فوجد العصيمات قد أوقعوا في أصحابه فأغار عليهم ليصيب منهم غرة، وكان فارساً فرماه بعضهم وقتل شهيداً رحمه الله، فوقع مع الإمام عليه السلام والمسلمين غم وترك الإمام الفتح عليهم كما ترك ذلك في قتل القاضي الشهيد الهادي بن عبد الله بن أبي الرجال رحمه الله.
وفيها أرسل الإمام عليه السلام سعيد بن طاهر الأسدي وسعيد بن طاهر الروني كلاهما من أصحاب المجاهد شمس الدين أحمد بن عواض رحمه الله، وأخبرني عبد الله بن حديث أنه ثالثهما لقتل الشريف عبد الله بن علي الحجي العبادي، وكان هذا الشريف مع الترك أخذهم الله على طريقة التصوف في زماننا ثم استرسل في سب الإمام عليه السلام والعلماء والنقص لهم، وكان مجلسه مع الباشا جعفر وأصحابه إنما هو كذلك فتلقوه فيما بين صنعاء والروضة وطريق الحشيشية فخرجوا عليهم من بين شجر الأثل المعروف هناك وصافحه بعضهم حتى استمكن منه ثم أنزله بقوته عن ظهر بغلته وقتلوه وتفرقوا، وقبض على سعيد بن طاهر الأسدي فقتله جعفر باشا وجزأه في أبواب المدينة ونجا الآخران.
وفيها وصل إلى شهارة امرأة من خولان العالية لم يكن فيها شيء من شبه النساء في الصورة ولها اللحية والشارب والمشي والقوة والسطوة، وعرفت نفسها أنها امرأة، وغلب الظن أنها كاذبة، فأمر الإمام عليه السلام الحاج الفاضل التقي علي بن محمد [ق/340] الذماري أن يلمسها بحائل فوجدها امرأة، وذكرت هذه العبرة ولحفظ المسألة يجوز مثل ذلك مع الظن الغالب فإن الظاهر ممن حاله كذلك الذكورة فأمر عليه السلام أن يكشف لبسها ذكراً، وأن لو ظهرت على هذا النظر أمارة المرأة في رجل وادعى أنه رجل كان الأولى أن يكشفها عدلة. والله أعلم) .
[الصراع بين الأمير محمد التركي والوالي العثماني جعفر باشا]
فصل: في ذكر نقض الصلح وما اتفق لذلك من الأسباب فكان الصلح في سنة سبع عشرة وألف فأول الأسباب أن في صعدة المحروسة بالله الأمير محمد التركي كما تقدم من قوة سلطانه وتغلبه على بلاد صعدة، ثم ساس مشارق قحطان ونجران حتى كانوا له من الأعوان ويقال إنه امتد عطاه وصنائعه إلى بوادي البصرة فطمع في ملك صعدة من غير واسطة الباشا صاحب صنعاء، ثم طمع في ولاية أرض اليمن، وكان له رسل يدخلون بتجارة إلى مصر ونواحيها، وكان بينه وبين الشريف إدريس بن حسن صاحب مكة اتصال وتعاون، فحصل من هذا أنه كاتب إلى أبواب سلطان الروم فبلغ جعفر باشا، فراسل إلى الإمام عليه السلام في أمره وأن هذا عصانا وكذا، وصعدة وبلادها ولايتنا فنحب منكم أن تكونوا عوننا عليه وتفتحوا لنا الطريق إليه، والإمام عليه السلام يجيبه: إن بيننا وبينكم عقداً لا نحله وعدهاً لا ننقضه، وهذا صاحبكم لا نعينكم عليه ولا نعينه عليكم، ثم كاتب الباشا بعد ذلك الأمراء من أصحاب الأمير محمد ووعدهم وأوعدهم حتى أطمعهم في ولاية صعدة ولا علم لهم بما في ضمير صاحبهم، والباشا يريد المعاجلة قبل وصول الكتب ويتم له المراد، فلما عرف الباشا أن الإمام عليه السلام لا ينقض عهداً ولا يخلف وعداً وقد أكثر من المواصلة والمكاتبة جهز عليه ثمانية عشر أميراً وجنوداً كثرة مما يكون كفؤاً له، وقد وثق أيضاً بالأمراء الذين في صعدة، فلما وصلت محاطهم إلى خمر من بني صريم أرسل الإمام عليه السلام ولده الحسن رضوان الله عليه في جماعة لحفظ الأطراف وحفظ الطريق لا
يحصل في جنود العجم غائلة؛ رعاية لحق الله سبحانه بالوفاء بالذمة فاستبقاهم هناك حتى وصلوا خيوان وقد تعبى جنود صعدة في العمشية، وكان هذا الأمير قد أكثر على الإمام عليه السلام أنه يصير في جملته ويعينه وكذا حيث لم تصله الكتب بالولاية فإنها لو وصلته لا ستظهر بها على الإمام من عنده [ق/341]، ولما خالفوه والإمام عليه السلام لا يجبه إلا بكلمة الصواب وإني لا أنقض عهداً ولا أخلف وعداً، ولما أيس من نصرة الإمام عليه السلام أطمعه السيد شمس الدين أحمد بن الإمام الحسن وكان قد أحسن إليه وأعلى قدره في صعدة فإنه صار إليهم في أيام قضية السيد محمد بن عبد الله، وكان مع الظالمين في صعدة على يد شريف من أشراف الجوف يسمى الأمير فارع بن حميضة فجعله الأمير محمد من أمرائه لحرب جنود صنعاء وقد توسم فيه أنه مجاب وأنه ابن الإمام الحسن وصهر الإمام عليه السلام وأن الإمام تلحقه عليه الشفقة والمصير إلى رأيه في نصرة المذكور، فحصل من ذلك توجيهه للحرب وأعطاه ما لا يحتسب، فلما تقابلت الجنود خالطهم أهل صنعاء بأنكم عسكر للسلطان وهذا صاحبكم خائن أو كما قالوا، وناوشوهم ساعة ثم اختلطوا وصاروا جميعاً في طاعة صاحب صنعاء، وأما الأمير محمد فلما صح له ذلك وكان قد دفن كثيراً من أمواله وسلاحه وذخائره تحت الأرض لمثل ما اتفق عليه خرج مع الأمير هادي بن جمعان الجوفي والشيخ علي بن مشعل النجراني حتى دخلوا نجران، ثم كذلك حتى دخل البصرة، ثم عاد إلى مكة المشرفة ووصلته الولاية وقد تعطلت يده من خزائنه، فأشار عليه كما أخبرني بعض كتابه وأصحابه ممن صار في جانب الحق الشريف إدريس وقال وما نفعل بخط من غير مال وجنود ثم كاتبوا إلى بعض الوزراء وأعطوه ولاية لحبشة، و الحديث ذو شجون.
[عزل الوالي جعفر باشا]
ولما كان من جنود صعدة المصير إلى جنود صنعاء انحزل السيد أحمد بن الإمام الحسن بمن معه إلى الإمام عليه السلام فحصلت التهمة إلى جانب الإمام عليه السلام ،ثم إن الأمير صفر المتولي صعدة بعد الأمير محمد صادر الشيخ قاسم بن محمد الحطروم المعروف بالقاسم شيخ صعدة بمال وعذبه عليه وأراد قتله، فصار إلى الإمام عليه السلام وجرى في أمره مكاتبة أيضاً كما أخبرني من فيه، وكذا أخبرني الشيخ أحمد بن سعيد العبادي الآنسي وكان كاتباً للأمير محمد، ويختلف لحوائجه إلى مكة المشرفة وإلى مصر أنه حصل بين جعفر باشا والوزير الأعظم المسمى مراد باشا وهو الذي تقدم ذكره في ولاية اليمن بسبب هذا الأمير محمد عداوة وأنه ممن مماليكه فعزل عقيبها جعفر باشا، وخرج اليمن إبراهيم باشا متولياً وخرج معه جنود كثيرة من خواص جنود ملك الروم فحصل مع أهل اليمن الخوف الشديد من هذا الشر وكذا مع جنود العجم وأمرائهم، وكان يوصف بجور مخالف لهم وإن كان الجور لهم صفة لازمة.
[عودة جعفر باشا وصراعه مع عبد الله شلبي]
ولما صار جعفر باشا في زبيد وأخذ في تجهيز أثقاله وقد جعل واحتال في سم المذكور، فمات هذا الباشا المسمى إبراهيم في منقذة من بلاد ذمار وأعادوه ذمار، وكان وزير جعفر باشا الأمير المسمى عبد الله شلبي غالباً على أمر الباشا جعفر، وكان من عظمائهم وملوكهم وقد صار إلى إبراهيم باشا وغدر بمخدومه فقدمه إلى صنعاء وكان هو ملكها مع الباشا جعفر ثم مع إبراهيم، فلما مات إبراهيم باشا جمع جنود صنعاء والأمراء وكانوا كثرة وقال: هذا جعفر باشا معزول والولاية لإبراهيم باشا وأنا وكليه أحفظ ملك اليمن حتى يأتي أمر السلطان، واستحلفهم على طرد جعفر باشا إن عاد فحلفوا له، وكاتب الإمام عليه السلام في الصلح وكان الإمام عليه السلام ينتظر وصول كتب إبراهيم باشا بتجديد الصلح فلم تأت ولا وثق بكتب عبد الله شلبي وخاف إن انتظم لهم أمرهم ثاروا عليه جميعاً كما وقع، فنبذ إليهم عهدهم واستعان بالله سبحانه وتعالى وشن عليهم الغارات، فأول من تجهز سرية إلى بلاد عفار عليها الفقيه الفاضل المجاهد علي بن حميد السيراني رحمه الله وعادوا من غير فتح فأمرهم مولانا الحسن رحمه الله أن يفتحوا بلاد شظب ففتحوها وحصروا حصن السودة.
[نقض الصلح]
قال السيد أحمد نفع الله به: ولما عرف الإمام عليه السلام أنهم يعني الظلمة بعد مصير جعفر باشا ساعون فيما يكره شرع في تدبير ما عزم عليه من الحرب وجمع عيون أصحابه الذين يباشرون الحرب وأمر كلاً منهم إلى جهة وجعل أمر الناس من الأمراء والأجناد إلى ولده السيد الأجل والعلم الأطول، شرف الإسلام الرفيع، ومعقله المنيع، الحسن بن أمير المؤمنين أيده الله وأطلع في سماء محبيه بدره، بمنه وطوله، وكان هذا السيد إذذاك عين أولاد الإمام حفظهم الله في حسن السياسة ونظم الأمور، وتدبيرها والصبرعلى مباشرتها.
نعم ثم بعد فتح شظب بعث مولانا الحسن إلى بلاد حنب وبني حيش السادة الفضلاء الكماة النبلاء سيف الإسلام علي بن الحسن بن شرف الدين ونصير الدين محمد بن صالح بن عبد الله وحسام الدين الهادي بن محمد الحبسي العلوي ففتحوها ثم أمر الإمام عليه السلام ولده السيد الفاضل الشهيد جمال الدين علي بن أمير المؤمنين قدس الله روحه ففتح الشرفين جميعاً وطرد من فيها وأسر جماعة وقتل الشيخ جراد بن عثمان الضاعني وكذا من جنود الظالمين، وأخاه مولانا الحسين رضوان الله عليه والسيد شمس الدين [ق/343] أحمد بن الإمام الحسن عليه السلام في أثره وفتحوا حجة وأسروا بعض ولاتها وجنودها ووجهوهم إلى الإمام عليه السلام وكذا أخذوا جبل وضرة من أعمال خبت حجة وقتلوا من جنود الظالمين هنالك مقتلة عظيمة وكذا في الدامي، وكانت المقتلة التي في الدامي من خبوت حجة وما يقرب من مبين على يد مولانا الحسين رحمه الله فإنه غزاهم من جانب الشرف والتي في جبل وضرة على يد السيد الضرغام الليث الهمام أحمد بن الإمام الحسن عادت بركاته، ثم مولانا الحسين بن أمير المؤمنين رحمه الله تعالى فإنه قد تقدم أنه أرسل إلى بلاد عفار ثم عظم الأمر وطلع من حجة والشرف مولانا علي بن أمير المؤمنين والسيد أحمد بن الإمام الحسن فإنهم هزموا جنود العجم من بلاد عفار واستعادوها عليهم ووقعت قضية شعبان.
[صفة قضية شعبان]
وصفتها أنه دخل السيد الفاضل صلاح بن ناصر الغرباني وجماعة من المجاهدين حصن شعبان وهو خراب ما بين صبرة وعفار ولا عمارة فيه ولا شحنة فاجتمع عليهم الظالمين فحاصروهم وقتلوا من المجاهدين كثيراً، وأسروا السيد المذكور في نحو خمسين نفراً وأطلعوهم صنعاء، وكان وجه مولانا الحسن السيد العلامة عبد الله بن عامر والسيد الضرغام عز الدين محمد بن عامر لفتح بلاد خمر وما إليها وبلغه أيضاً نكث الشهاري كما سيأتي إن شاء الله، ثم طلع غربان ثم طلع الظواهر وملكها وطرد العجم ومن فيها من أعوان الظالمين وصار إليه جماعة من عسكرهم وصار إلى نواحي بلاد الطرف وكان قد سبق إليها مولانا السيد الحسن بن شرف الدين أعاد الله بركاته، وكان في خمر الأمير صلاح بن أحمد المؤيدي فقدموا عليه وحاصروه في خمر، ثم استأمن ورفقوه إلى بلاد عيال يزيد ثم تقدموا، وكان قد انظم إليه السادة الذين تقدم ذكرهم في بني جيش والسيد محمد بن أحمد المؤيدي والسيد العلامة علي بن إبراهيم الحيداني والسيد العالم ناصر بن محمد صبيح وغيرهم وقد وقع بينهم وبين جنود الظالمين وقعات في بلاد عفار، فلما طلع الحسن رحمه الله انهزم جنود الأتراك إلى عمران واستقر في بيت علمان من بلاد المصانع وفتح بلاد لاعة وبلاد جبل تيس، ووقع (فيما بينهم) حروب وغلظ حنود الحق وصار العجم إلى عمران البون، واحتاز كوكبان من جهة المغارب.
وأما جهات المشارق وبلاد حاشد وبكيل فتوجه إليه الحاج الفاضل شمس الدين أحمد بن عواض الأسدي والقاضي [ق/344] جمال الدين الهادي بن عبد الله بن أبي الرجال، والشيخ عبد الله الطير والشيخ صالح بن حمران، والفقيه عز الدين بن علي الأكوع فاجتمعت لهم حاشد وبكيل وسبقوا إلى الرجو من بلاد بني زهير لئلا يقدم إليه جنود العجم، ثم أمرهم الإمام عليه السلام بهدمها فهي على ذلك إلى الآن.
قصة الحاج شمس الدين أحمد بن عواض والقاضي الهادي بن عبد الله بن أبي الرجال والشيخ المجاهد عبد الله بن سعيد الطير رحمهم الله.
وذلك أنهم بعد هدم الرجو أمرهم الإمام عليه السلام بالتقدم لفتح بلاد الحيمة وما إليها فأخذوا دليلاً هو الفقيه عبد الله بن صلاح الجائفي الهمداني وكان قد تاب وصار إلى الإمام عليه السلام، وله في مصيره إلى الإمام خبر طويل، خلاصته: أنه كان رهينة مع دعاة همدان وصار معهم في طَيْبة معقل ضلالهم فرأى منهم ما يكتمونه من عقائدهم الكفرية وتدريجهم إليه المروية، ففر بدينه إلى الإمام عليه السلام وساروا ليلاً وطريقهم بلاد همدان وهي دهساء سوداء طريقها شاقة نهاراً فضلاً عن الليل، فضل بهم الدليل الطريق فتقحموا أوعاراً شديدة إنما هي محرقة فأصبح عليهم في موضع يسمى الأحرقي فتواروا في بعض كهوفها وهي كثيرة موجودة، وهم جماعة نحو عشرين نفراً من أعيان الأنصار واختفوا نهارهم، وكان أمير همدان محطاً في قرية قريباً منهم.
قال الفقيه عبد الله المذكور: فأكثرت في الدخول والخروج التمس معرفة الطريق لليلة القابلة فرآه راع فحصل أصوات، فكان أول من وصل إلى ذلك المكان رجل من أقرب بيت إلينا يسمى سعيد بن عيني الذيب من الراقي فما زال حتى وقف على المذكورين وما يعرفهم بل قال: كيف تختفون في بلاد همدان وهي كما عرفتم لو يدخلها الإمام ما اعترضه أحد، وكان لهمدان مع العجم هذه الجلالة حتى لا يتعرض من مضى بلادهم ليلاً أو نهاراً، ثم رد الغارة ودفعها وعلم همدان وأميرهم أيضاً أنهم من أصحاب الإمام عليه السلام بل أعيانهم وبعث لهم بضيافة على صفة ووفى لهم، ثم ساروا ليلتهم الأخرى إلى بلاد الحيمة فأصبحوا في أعلاها وانتشر ذكرهم وطردوا من فيها من العجم وفي جانب حضور، وكان في الحيمة الأمير أحمد الأخرم في العر وكانت إليه كما أخبرني الفقيه صلاح بن علي البريشي عافاه الله، قال: وكنت في شهارة المحروسة بالله لطلب العلم فرجح الإمام عليه السلام أن الحاج شمس الدين أحمد بن عواض رحمه الله يكتب عن أمر مولانا الإمام عليه السلام إلى مشائخ الحيمة وهم ستة عشر [ق/345] نفراً أنهم يحتالون بحصار هذا الأمير حتى يصل الحاج وأصحابه إليهم، قال فحذر هذا الأمير وطلع قبل وصولهم، وأمر الحاج شمس الدين أن ينصب راية بيضاء لهمدان، وانتشرت هذه القضية وعظمها الإمام عليه السلام ولأجلها كان كل من أسر من همدان كما سيأتي فله سلاحه ويعظم ويكرم حتى يعود بلاده، وعرفها لهم الإمام عليه السلام وأصحابه ويريدون بإظهارها أقتداء غيرهم بهم وليتهمهم العجم فيصيرون من الأنصار وهم لم يفعلوها ديناً ولا صنيعة
إنما أرادوا أن تبقى علي بلادهم هيبتها وجلالتها المرسومة لهم من الملوك فإنهم يرون معهم في هذه القاعدة خطأ من ملوك الروم وصل به أميرهم المسمى عبد الله بن محمد مع أنهم جميعاً لم يعرفوا القصة، وكذا أميرهم لم يعرف أنه الحاج شمس الدين ومن معه، فكانت هذه الأسباب مما حفظهم الله وإلا فإنماهم طعمة وصلت يد مستطعم، فسبحان الله من حفظهم ونجاهم والحمد لله رب العالمين، وخرج الحاج شمس الدين رحمه الله بأهل الحيمة جهات جبل تيس، ووقع فيها حروب كثيرة اليد فيها لجنود الحق، وغزا بهم إلى جهات الأهجر ونواحي كوكبان فما حمد طريقتهم ولا قبل صنيعتهم، فوجه أعمالهم إلى الشيخ عبد الله الطير وتصدر لأعمالهم وعاد إلى الإمام عليه السلام وجهات القبلة، والقاضي الهادي بقي بعده ليالي، وعاد إلى جهات حاشد وبكيل، وجعل الإمام عليه السلام ولايتها إليه، وفيها يعني بعد رجوعه من الحيمة أرسل الإمام عليه السلام إليه السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد القطابري عافاه الله تعالى لفتح بلاد نهم ثم خولان فوصلا إلى أودية نهم واختلفوا عليهم، وعادوا من غير ما أرادوا وأمدهم العجم ووقع مراكزة وحروب وعادوا من غير غرض، ثم الفقيه عز الدين بن علي دخل بلاد مرهبة نهم وأجلبوا عليه كذلك، وكان الإمام عليه السلام قد أمده أيضاً بالسيد العالم ناصر بن محمد صبح.
[خراب حجر ظفار داود ومدينة ظفار]
وفي هذه النهضة ترجيح الإمام عليه السلام عن رأي الحاج شمس الدين خراب حجر ظفار داود ومدينة ظفار بعد الاستيلاء على الحصن المذكور فإنه كان لا يزال فيه الرتبة من العجم، وكان أهله يداً للظالمين.
أول أسباب ذلك كما أخبرني القاضي الأعلم بدر الدين أحمد بن محمد بن يحيى بن حنش عن حي صنوه القاضي شمس الدين أحمد بن يحيى رحمه الله تعالى أنه لما اتفق ما سيأتي من الأسر لمولانا الحسن رضوان الله عليه ووحم المسلمون لذلك وحزنوا كثيراً فرأى من حوالي ظفار من حاشد وبكيل من أهل مدينة ظفار فرحاً بما ساء المسلمين [ق/346] وأظهروا سروراً، ثم خرجوا إلى أعلى من ذيبين إلى الجبل المسمى قدارة وكان يوم سوق المنقضة، وعشروا من هنالك مع رتبة الحصن المذكور من العجم وهمدان، فعظم موقع ذلك وأظهروا العداوة لأهل ظفار، ولما فتح الله بما سيأتي من فتح الترك أخذهم الله في غارب أثلة وما قبلها من الوقعات المذكورة غزاهم الحاج شمس الدين أحمد بن عواض والقاضي العلامة الهادي بن عبد الله بن أبي الرجال، ولما بلغ أهل ظفار الإجماع على اسئصالهم طاروا في البلاد وتفرقوا جيراناً مع القبائل، وأخرب الحاج شمس الدين والقاضي حسام الدين ومن معه ما أمكنهم وتركوا ما غلبهم عليه العجم مما يقرب من الحصن المسمى الحجر فإن العجم وهمدان تحصنوا فيه وحموا ما حوله بالبنادق، وكان في المشهد المنصوري القاضي العلامة عماد الدين وشيخ الشيعة الأكرمين يحيى بن محمد بن حنش هو أحد العيون والمشار إليه في جميع الفنون فأمره الحاج والقاضي بترك المشهد وهبط بمن معه
من الطلبة إلى ذيبين، ثم جعل الحاج شمس الدين على حصار الحصن المذكور الشيخ المجاهد محمد بن صلاح البحش رحمه الله، ولما طال عليهم الحصار وضاقت عليهم الأرض بما رحبت راسلوا إلى الحاج شمس الدين أحمد بن عواض رحمه الله، وكان في غيل مغدف من أعمال الميقاع كما سيأتي إن شاء الله، وبينه وبين شيخ همدان الشيخ مهدي الهمداني مواصلة لأجل ما تقدم منهم من الإحسان إلى الحاج رحمه الله، والقاضي الهادي ومن معهم رحمهم الله تعالى في همدان فأرسل الشيخ محمد البحش أيضاً مع المحاصرين وكان قد لحق بالحاج وبقي عليهم نحو الشهر، ثم وصلت مكاتبتهم أيضاً الحاج شمس الإسلام رحمه الله فأمنهم وأخرجهم وقبض الحصن والسلاح وما أجلبوا به إلا همدان فأكرمهم ولم يأخذ منهم شيئاً لأجل ما تقدم، ثم عاد الحاج لمثاغرة العجم في بلاد الميقاع كما تقدم وترك الشيخ محمد البحر على خراب حصن الحجر بأمر الإمام عليه السلام وراسلوا لأهل ظفار بالأمان أن يعودوا فلم يرجعوا، وأطالوا الخطاب فلم ينجع فيهم، فأمر الإمام عليه السلام بخراب مدينتهم وهي إلى الآن، وقد رجع أكثرهم وعمروا في تاريخ هذه التوقيعات، وذكر القاضي المذكور عن أخيه القاضي شمس الدين رحمه الله أن الإمام عليه السلام مع زيارته كما سيأتي إلى ظفار وذيبين في سنة ست وعشرين وألف [1616م] وقف على خراب البركة العظمى فتبرأ من ذلك وقال: ما أمرت [ق/347] بذلك وكتب معه عليه السلام في ذلك اليوم ولم أسمع أي ذلك كان .والله أعلم.
[قوعة ظفار]
وجمعت أخبار ظفار في سنة أحد وعشرين عقيب ذكر خراب الرجو وما يتصل بها لأجل اجتماع الفائدة وإلا فإن خرابها كان في عام ثلاث وعشرين وألف [1614م] وبسبب حجر ظفار اتفقت حروب شديدة في النهضة الأولى والأخرى، واتفق في بعضها القضيتان المشهورتان قتلة في العجم في عقيب ظفار قتل منهم كثير وهزمهم الله على يد القاضي الهادي رحمه الله والفقيه عز الدين بن علي رحمه الله تعالى، وصفتها أن العجم أرسلوا طاغيتهم درويش لاستدراك رتبة ظفار وقد كادوا يهلكون جوعاً فوصل إلى عمران البون وحمل طعاماً على نحو أربعمائة نفر وقدم إلى مذود وقسم الفلاحين الذين عليهم الطعام من طريقين لأجل الطريق، وكان الحاج شمس الدين والقاضي الهادي، والشيخ صالح بن حمران، والشيخ محمد البحش في جانب بني علي وبعضهم في جانب مرهبة ومواضع، فقدموا للقائهم فاتفق حرب عظيم واتصل بالحصن بعض الطعام على مشقة وانقطع الأكثر، وقتل من القبائل الذين حملوا الطعام مع الترك فوق المائة النفر كما تقدم، وعاد العجم حتى أحطوا مذود فقاتلهم الفقيه المجاهد عز الدين بن علي في جدر من أعمال بني جبر، والقاضي هادي في موضع يسمى خراب واف، وبقي الحرب حتى وصل الشيخ المجاهد صالح بن محمد حمران في غارة من بني علي وذيبان فعاد الحرب ودخل على العجم إلى أطرافهم وانهزم أصحابه وقتل منهم نحو خمسة وثلاثين نفراً ومن غيرهم مثلهم، فكان القتل من جنود الحق فيما بلغ نحو سبعين نفراً، ولولا دفاع الله وثبات الشيخ صالح أبي سرعة المشهور عن الشيخ صالح حمران لكان قد أحيط به، (وعاد أمير العجم درويش) لعنه الله
إلى موضع من الصيد يسمى الحيس وغزا مواضع من بلاد الصيد، وأخرب معاقلهم، وبقي نحو خمسة عشر يوماً وقتل من أصحابه جماعة، وهزم في بعضها من سوات بلد من الصيد وقد غزاها، وكان فيها القاضي الفاضل الهادي رحمه الله وحاصره فيها حتى كاد يستأصله، والإمام عليه السلام في جانب من مرهبة فأغار الإمام عليه السلام للغوث بنفسه فانتهى إلى ذيبين وبلغه هزيمة الطاغي والفرج عن القاضي بكثرة الغارات من القبائل مع حركة الإمام عليه السلام، وقد قتل من الفريقين كثيراً أكثرهم من جنود العجم، ثم رجع أميرهم الطاغي إلى ابن حاجب موضعاً هناك، وقتل من أصحابه نحو أربعين نفراً.
والأخرى القتلة المشهورة من بني جبر فإنهم أغاروا إلى طرف قاع الشمس وصفة ذلك: أن درويش [ق/348] انهزم إلى الماجلين من البون وبقي القاضي الهادي رحمه الله في ابن حاجب فوصلت غارة بني جبر تريد الاتصال به فقطعهم الخيل فقتل منهم أربعين رجلاً، ومن غيرهم ممن كان مختلطاً بهم نحو العشرة في موضع واحد، وهذه في النهضة الأولى والثانية والثالثة، وذكرناها في ذكر خراب ظفار لتعلقها بأسباب كما ترى. والله الموفق.
[استقرار أعمال البلاد المغربية]
فصل: ولما استقر مولانا الحسن بن أمير المؤمنين رضوان الله عليه في بيت علمان وصنوه السيد الفاضل الشهيد علي بن أمير المؤمنين رضوان الله عليه في حضور الشيخ من أعمال بلاد مدع، والسيد الرئيس أحمد بن الإمام الحسن في جانب بيت قدم، واجتمع لهم عسكر كثير، وأرسل الإمام عليه السلام إلى بلاد الشرف مولانا الإمام محمد بن أمير المؤمنين قدس الله روحه والياً ومدداً لإخوته، وانتظمت أعمال البلاد المغربية، وكان الفقيه الرئيس علي بن محمد الشهاري من عمدة أهل الجهاد، وله رئاسة وشهامة خلا أنه يرى له من الحق ما لا يحتمله الإنصاف، ويرى تقديمه على كبراء الفضلاء من الأشراف.
أخبرني القاضي العلامة شمس الإسلام والمسلمين أحمد بن سعد الدين المسوري أطال الله بقاه وقد جرى ذكر طلحة والزبير وما روى كثير من أئمتنا عليهم السلام أنهما قد جاء على أمير المؤمنين سلام الله عليه أنه سوى بينهما وبين خادميهما أو أبنائهما، وأن ظاهر الرواية تفهم أنه فات أمير المؤمنين سلام الله عليه حسن السياسة وكذا، فقال رضي الله عنه: وروى الإمام المنصور بالله سلام الله عليه في تفسير ذلك ما يشفي الغلة ويزيح العلة، من ذلك أنهما طمعا في الإمارة وقد عرف الإمام صلوات الله عليه أنما للتأليف فيهما أثر وأنهما لا يقبلان إلا مسير الأمر إليهما، وأتى بما شهد بذلك من الدلائل التي لا ينكرها حتى قال: ويرى الفقيه علي الشهاري هل كان مطلبه العطاء، وما يلحق به هذا كان على الإمام هين غير عسير ولكن مطلوبه الاستيلاء على الأمر أو كما قال.
تمام ما أمكن من أخباره فإنه تقدم بعسكر أعظمهم من الأهنوم وصار إلى بلاد شظب وكان ممن استفتحها ثم بلاد عيال يزيد حتى استقر في الخدرة ثم المضلعة وبقي أياماً، وحصل بينه وبين العجم حرب قتل من أصحابه جماعة ورجع إلى جانب بلاد السودة وكاتب العجم، وكان نظر بلاد شظب إليه وقد يتعدى إلى غيرها[ق/349]، وعلى الحصن في مدينة السودة من عند الإمام عليه السلام من هو محاصر للحصن المذكور وأخرجوا السوق من المدينة إلى الضلعة ليبعد من الرمي من أهل الحصن، فاحتاج الإمام عليه السلام منافع ذلك السوق من القانون لمن في السودة، وذلك المنع والمصير على يد مولانا الحسن بن أمير المؤمنين رحمه الله، ولما رجع رسله بلا شيء وذكروا أموراً من الاختلاف بينهم وبين الذين منعوهم، أضمر السوء وكاتب العجم ووالاهم وتلقاهم الأمير درويش إلى بلاد بني قطيل.
ومنها دخل صنعاء وصار إلى عبد الله شلبي فعظموه ولم يبلغوا ما يأملوا من تعظيمهم، وبقي عندهم حتى قتله جعفر باشا في ذمار كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فلما بلغ الإمام عليه السلام شق به وأمر بخراب داره التي تسمى دار المحطة وهي دار عظيمة عمرها الأمير عبد الله بن المعافا والترك أخذهم الله، ولما بشر الإمام عليه السلام بعمارة شهارة وقال: عمروها لنا، وهو في برط طلبها من الإمام عليه السلام فصارت له، ولما هدمها الإمام عليه السلام بعد أيام من هربه لم تطب نفسه بعمارتها ولا السكون فيها بل جعل مكانها أماكن أخدام المرافع، ولما هرب إلى العجم كان لذلك موقع، وكان قد خرج رضوان الله عليه للجهاد وتقدم إلى بلاد كحلان وقد هو شيخ كبير لا يكاد يقدر على المشي الكثير فكان لمخرجه موقع عظيم، وازداد جنود الحق قوة في عزائمهم لما يعرفون من كبر سنه ومحله العظيم في الفضل والجهاد، وعادت جنود الحق مرة أخرى إلى عمران حتى طلع جعفر باشا صنعاء وقتل عبد الله شلبي ومن سيأتي ذكره كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال السيد أحمد نفع الله به: واشتغل الترك بعضهم ببعض، وكتب عبد الله شلبي إلى الإمام عليه السلام بهدنة وأن يقتصر على ما قد ملك من البلاد، فكان من أمرهم ما سيأتي إن شاء الله.
[أخبار صعدة ونواحيها]
وأما أخبار شام صعدة ونواحيها فأخبرني الشيخ الرئيس قاسم بن محمد الحطروم القاسمي الصعدي أنه لجأ إلى الإمام عليه السلام وصار إليه بعد قضية الأمير محمد لما صادره الأمير صفر، وبقي عند الإمام عليه السلام في الهجر، وسببه جرى مكاتبة بين الإمام عليه السلام وجعفر باشا فبقي في الهجر حتى انتقض الصلح كما تقدم وطلع إلى الإمام- عليه السلام، وكان عند الإمام عليه السلام السيدان الفاضلان عز الدين محمد بن أحمد المؤيدي المعروف بابن حورية، والسيد أحمد بن المهدي [ق/350] رحمهما الله تعالى في جملة من عند الإمام عليه السلام وما إلى الشام التفات للاشتغال باليمن، وكان الأمير صفر قد خرج قبل نقض الصلح لكونه من خاصة جعفر باشا للمسير معه إلى الروم عند وصول إبراهيم باشا كما تقدم، وقد استخلف على صعدة أميراً يسمى الأمير حسن، وضم إليه عيوناً من العجم والعرب جنوداً كثيرة، قال الشيخ المذكور: فجمعني والسيدين المكان ومعرفة البلاد فقلت لهما: هلما نعزم الشام ونجاهد فيه وكذا من التحريض على الجهاد وكانا من عيون سادتنا آل المؤيد، ووعدتهما أني آخذ لهما ما يحتاجانه من أصحاب أهل صعدة من الهجر، وقد وصلني بعض مالي أيضاً ودخلنا على الإمام جميعاً ورجحنا له ذلك فلم يكد يرضى خوفاً علينا ولئلا نفتح عليه باباً وهو مشغول باليمن، فعاودناه حتى قلنا: لا تمدنا إلا بالكتب والباروت والرصاص، فرجحه وكتب ولاية للسيد محمد بن أحمد بن عز الدين، والسيد أحمد عضده وجعلني معهما معيناً، قال: فحصل لنا من شهارة اثني عشر نفراً ونشرنا البيرق وضرب لنا مرفع،
وخرج الإمام عليه السلام لوداعنا حتى عاد من أعلى المدرج، وكان في الحبس من ولاة الظلمة ثلاثة، أحدهم جوهر كاشف، وفرحان، وسالمين، ممن أخذ من حجة وغيرهم فسألوا الرسم إلى أين هذه الغارة اليسيرة؟ فقالوا: ولاهم الإمام بلاد صعدة فضحكوا كثيراً، وقالوا: ولهذا قد رأينا دوائر صعدة تعرق وأكثروا من ذلك فأخبر الرسم الإمام عليه السلام فقال: الخير فيهم إن شاء الله تعالى واستبشر وقال: لحقارتهم عندهم يجعل الله في عملهم الخير والبركة، قال: فلما وصلنا الهجر استدنا ما لا بد منه ثم قصدنا بلاد خولان فأجابنا أكثرهم، وصار إلينا عيون من بلاد خولان وحاصرنا محطة في حيدان فخرج لهم مدد من صعدة وأحطوا في ساقين مع عظيم منهم يسمى قرا جمعة، وجعلنا رتباً في الطريق لا يمدونهم، ثم تقدمنا لحرب من في ساقين وإذا بأهل حيدان وهو الآغا المسمى مصطفى، وآخر يسمى أحمد وكان من أهل السطوة والتأثير في الشام قد طمعوا في الاتصال بأهل ساقين، فلاحمناهم، وأقبلت إلينا القبائل في حمك قريباً من حصن المفتاح، واتفق حرب ليس بالهزل انجلى على مقتلة فيهم قريباً من ثلاثمائة نفر، وأسرناهم جميعاً وأرسلناهم إلى الإمام عليه السلام وأميرهم، فلما وصل إلى الإمام عليه السلام أرسله إلى الحبس، وقال: قولوا لمن في الحبس من ولاتهم هذا دائر [ق/351] صعدة عرق أو كما قال، ثم أقبلت إلينا بعدها سادة الشام، وتفرقنا لحصار صعدة المحروسة بالله وأخرجوا خيلاً تدافع عليهم لعلمهم إن ما عندنا من الخيل ما يكافئ خيلهم مع أنه قد انضم إلى السادة خيلاً من أشراف الجوف ورؤساء [الشام] أيضاً كالشيخ
أحمد بن علي بن كناس فاهتدينا إلى دخول المشهد الخارج من المدينة الذي لصلاة العيدين والقبور متصلة به فأصبحنا في تلك المواضع فبالنهار تغلبنا الخيل على القاع ولا تقدر أن تركض علينا من القبور، وإذا كان الليل قربنا منهم حتى ننالهم، والأمداد تأتي إلينا من البلاد والسادة في ظهورنا حتى يسر الله سبحانه وهيأ الاتصال في بعضها بالدائر، وابتاع لنا جانب مما يقرب من باب سويدان بأن احتال فيه فلان بن عناش عماراً فصعدنا منه إلى المدينة على خفية، ثم تتابع الناس حتى صرنا في المدينة ونحن أهلها ونعرف المواضع التي تنفعنا وتضرهم، ثم ثرنا في المدينة ونصرنا للإمام عليه السلام ليلاً فالتبس على العجم الموضع ففروا بين أيدينا حتى دخلوا القصر والمنصورة والقتل والنهب فيهم، ثم فتحت الأبواب ودخل السادة وشددنا عليهم الحصار، ثم إن العمار الذي احتال في نقب دائر المدينة احتال في نقب دائر المنصورة حتى أشرف النقب من تحت امرأة من الرهائن وهي تطحن وكانوا نحو ألف نفس، وكان عادتهم لا يبات عندهم إلا الصغار، وأهل الرهائن يتصلوا بهم النهار فقط فبشروها ثم أخرجوا من ذلك السرداب جميع الرهائن، وكان هذا الموضع كالهوة فلا يتمكن أصحاب الإمام من صعوده فيقاتلون منه، وعظم الأمر على المحصورين في قصر مطهر ثم خافوا لا ينقبوا عليهم من تحت الأرض مثلما فعلوا في المنصورة فطلبوا الأمان فأمنوهم وأخرجوهم صاغرين إلى صنعاء.
قال القاضي العلامة أحمد بن سعد الدين مما نقلت من خط يده وسمعته من لفظه: ومن كرامات الإمام عليه السلام ما علمته أنا على جهة القطع ضرورة غير خبر أنه لما تقدم السيد الأفضل العلامة عز الدين محمد بن أحمد بن عز الدين إلى الجهة الشامية لاستفتاحها في سنة اثنين وعشرين وألف أجابه قبائل الشام جميعاً وأحاطوا بصعدة ودخلوها وقت الفجر يوم خميس إلا أني نسيت تاريخ الشهر، وكنت أنا في ذلك اليوم بعينه في الهجر من بلاد الأهنوم فلم تطلع شمس ذلك اليوم إلا والخبر في الهجر بدخولهم صعدة على التفصيل الذي كان من غير زيادة ولا نقصان، ولم نعرف من الذي أخبر بذلك [ق/352] الخبر أصلاً، ولما كان وسط الليلة الأخرى ليلة الجمعة وصل أول خبر مع رسل عزموا من صعدة مبشرين وقت دخولهم، ثم وصلت الكتب ظهر يوم الجمعة وهو ثاني دخولهم ثم استأمنوا فأمنوهم، وقبضت الخزائن والسلاح، ثم خرج الأمير المذكور ومن معه وشرط لهم السلامة وإخراجهم إلى صنعاء من أي طريق شاءوا وخرجوا ووفينا لهم، هذه رواية الشيخ قاسم القاسمي بالمعنى وكان من أهل الفتك والرئاسة، ثم جعل ولاية صعدة وما إليها إلى السيد العالم محمد بن أحمد بن عز الدين المؤيدي، وإليه الشيخ الرئيس قاسم بن محمد الحطروم الصعدي، وبلاد خولان كانت بنظر السيد أحمد بن المهدي رحمه الله.
وأما بلاد رازح فتوجه لفتحها الحاج الفاضل أحمد بن علي بن دغيش رحمه الله فقتل هو ومن معه كثيراً من الظالمين وأسروا الباقين وأرسلوهم إلى تهامة بأمان فغدر بهم بعض أهل تلك الجهات من غير مبالاة بالأمان، والله المستعان.
ولما فتح الله صعدة المحروسة وخاف الإمام عليه السلام الافتراق بين الأعيان أرسل ولده مولانا الحسين بن أمير المؤمنين رحمه الله تعالى في جماعة وافرة، منهم السيد محمد بن أحمد وغيره وحفظ المدينة وقرر الأحكام وأنصف المظلوم، ونظم أمور صعدة وبلادها على العموم، وكان السادة يعجزون عن حفظ المدينة من ألفاف القبائل، وكان هم الطالبون لوصول مولانا الحسين رحمه الله، وأرسل إلى الإمام عليه السلام بكثير مما قبض على العجم من السلاح ومدافع وزبارط والحمد لله رب العالمين.
[وفاة الوالي إبراهيم باشا]
فصل: ولنرجع إلى أخبار وفاة إبراهيم باشا لا رحمه الله بالسم كما تقدم وحصل ما بين عبد الله شلبي وجعفر باشا التشاجر كما تقدم وبقي جعفر باشا في ذمار وعبد الله شلبي في صنعاء، وكل يدبر الحيلة على الآخر، وكثرت الجنود مع عبد الله شلبي وكذا المال إلا أن مواد اليمن والبنادر إلى الباشا فلاشتغالهم في ذات بينهم خلت القبلة للإمام عليه السلام حتى أن جنود صنعاء اختلوا على عبد الله شلبي، وعظم عليهم حرب وكيل السلطان مع أمير لا ولاية له فأخلفوا عبد الله شلبي ما أعطوه وصاروا أرسالاً إلى وزير الباشا جعفر الأمير حيدر فإنه جعل له ما كان لعبد الله شلبي، وتقدم بالعسكر الضخم حتى حاصروه في صنعاء، وقد أرسل بجماعة من الكبراء من الذين خرجوا في عسكر صنعاء ممن تلكأ [ق/353] ولم يدخل في الطاعة إلا لما خذله أعوانه فضرب أعناق بعض وعفا عن بعض، فممن قتل محمد آغا المتسلم والأمير رمضان، والأمير يوسف وحسن بك، والفقيه علي الشهاري الهارب إليهم، وصدق النبي صلى الله عليه وآله بقوله: ((من أعان ظالماً أغري به)) وكان قتله من كرامات الإمام عليه السلام لخيانته ولميل الأهنوم إليه فلو كان [معهم مع حوزة شهارة الأخرى كما سيأتي لمال إليه عامة الأهنوم] ولكن تدبير الله أنفع ورحمته لأوليائه أوسع، وغيرهم ممن قتل من كبرائهم.
وأما صنعاء فإن الأمراء الذين فيها منهم من نصح الشلبي ومنهم من لزم بيته وحفظه فإنه ظهر على الأمير عبد الله بن مطهر مكاتبة فأرسل عبد الله شلبي العسكر كلهم لنهب بيته وقال: أبحت لكم بيت الأمير عبد الله فلم يعرفوا من الأمير عبد الله وسبق إلي أفهامهم أنه الأمير عبد الله بن المعافا فهتكوا ستره ونبهوا جميع ما حواه بيته من الآلات والسلاح والخزائن والنسوان وما عليهن على حين غفلة، وكانت قضية هائلة لم يقع مثلها حتى لقد قطعوا آذان النساء بما عليهن وغير ذلك فخاف بعدها الأمراء الشلبي وجعل كل في بيته رتباً، فلما وصلهم الأمير حيدر وقد جمع جنود صنعاء وذمار فانحاز الشلبي إلى القصر وقد أيس وكان من أشرارهم، وفتحت صنعاء، وعالجه كثير من العرب والعجم أنه ينحاز إلى الإمام فغضب عليهم كما أخبرني الشيخ فارع السلطان النهمي وكان ممن أشار بذلك أنه قال: سيف السلطان أطهر، ولذلك استسلم، وطلع جعفر باشا وأمر أن يلقوه رأسه إلى خارج المدينة ففعلوا، ثم قبض على كثير من عيونهم وجعلهم في الاعتقال، ثم اغتالهم وساءت ظنونهم حتى لا يحصى من أخذه بهذه الجريرة لا رحمه الله وإياهم.
[الوالي جعفر باشا يوجه قواته لحرب الإمام]
فصل: ولما اتسق لجعفر باشا أمره وجه جموعه إلى حرب الإمام عليه السلام وجعل وزيره الأمير حيدر على جميع عساكره، فيروى أن الذي خرج معه سبعة عشر ألفاً خيلاً ورجلاً من غير من في عمران ونواحي كوكبان، ولحق في الأثر من بعد فإنها ما زالت المحاط تتابع، ولما صار العجم في عمران البون اجتمع أعيان المجاهدين وتأهبوا لقتالهم والمراكز الإمامية كما تقدم، مولانا الحسن في بيت علمان وصنوه علي بن أمير المؤمنين رحمه الله تعالى في حضور الشيخ في عسكر حجة ونواحيها في بيت قدم، والسيد الحسن بن شرف الدين نفع الله به في السود، والقاضي الهادي في الأبرق من جبل عيال يزيد، والحاج [ق/354] الفاضل أحمد بن عواض يتردد في الظواهر وكذا رتب في جانب الأقهوم وخفي علي أسماء رؤسائها من الأعيان، وحصلت مراكزة قريب الشهر، ثم طلعت جنود الظالمين جبل عيال يزيد وانهزم من كان مقابلاً لهم من الرتب، فخرج مولانا الحسن رحمه الله من بيت علمان يريد معرفة العجم ولم يكن معه من عسكره إلا القليل حتى صار إلى عرة الأشمور ولا غرض له إلا أنه يسير في جماعة يسيرة يطلع على محاط العجم إلى عمران فوافق وصول الأمير درويش من كبراء العجم ومحطة عظيمة معه قد صعدوا إلى بلاد الأشمور، فراكزهم مولانا الحسن ومن معه وبقي على أنه يقيم حتى يعودوا، فلاحموا وأمسوا عليه فأشار عليه من أشار بالرجوع آخر ذلك النهار أو الليل فلم يجبهم لما في علم الله من التمحيص.
أخبرني مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله على روحه الطاهرة أنه ذكر عند الإمام الشيخ صلاح بن جعفر من بلاد عفار وغيره من كبراء أصحاب مولانا الحسن الذي احتازوا معه يوم العرة فكره دخولهم عليه، وذكرهم بالتقصير وقال: ما جعلناهم مع الولد الحسن إلا يعينوه فهلا دعوه دعاًٍ بكراسي البنادق أو احتملوه حال غلبهم لا يخرج من العرة، وكان رحمه الله أعني سيدي الحسن إذا حدث بهذه القضية لا يذكرها بغير تلك الفضيحة فأرسل الأمير درويش لعنه الله إلى الأمير حيدر يبشره بما اتفق ويستنجده فأرسل الأمراء قوماً بعد آخرين ثم لحقهم وحاصروه نحو عشرة أيام، وقد جعلوا عليه سبعة صفوف والمحاط من ورائها، وهذه البلد أكمة صغيرة في قاع، وفي كل يوم يتسرع جنود الحق لحربهم والتفريج عليهم فيقتل من الفريقين جماعة وإذا فرق بينهم الليل عادوا إلى مواضعهم وقد اجتمع مع مولانا علي بن أمير المؤمنين، والسيد أحمد بن أمير المؤمنين الإمام الحسن ومع الحاج شمس الدين أحمد بن عواض، والقاضي الهادي والشيخ صالح حمران جموع حاشد وبكيل وغيرهم حتى قيل إن الرايات بلغت قريب الخمسين الراية تحت كل راية قوم عليهم رئيس حتى عجزوا وقد أبلوا وصبروا ودافعوا، وفي بعضها أتهم السيد أحمد بن الإمام الحسن بأنه انهزم لما عرف أنهم قد كادوا يصلون عن التفريج عن الحسن رحمه الله ومن معه، وأما هو رحمه الله فإنه لما عرف أنه قد أحيط به وقد قربوا منه فلم ينفك من الرمي عليهم والقتل الكثير منهم ليلاً ولا [ق/355] نهاراً حتى لقد قتل منهم عدة، وفي بعضها أراد أصحابه التعاقد على الخروج في الليل ونهب من هلك ويحيا من حي، فأنكر ذلك عليهم مخافة على أهل البلد وضعفائهم، وقال: لا يكون إلا نخرج جميعاً أو نهلك جميعاً.
[أسر الحسن بن الإمام القاسم]
ولما عظم الأمر وتفاقم وعجزوا أهل الجهاد بعد البلاء الحسن لكثرة جنود الظالمين وتراصهم خاطب الحسن ومن معه واستوثقوا ونزلوا إلى العجم وقد وضعوا لهم الأمان وأن لا يأخذون أحداً بجريرة، وكان السفير إليهم الأمير أحمد الأخرم التركي وكان أقربهم إلى الوفاء فإنهم يحكون عنه الزهد في الغدر في قصة مآذن في حجة مع السيد عبد الله المحرابي رحمه الله فخرج إليهم، فأما ابن الإمام عليه السلام فجعلوه في خيمة وأصحابه عرضوهم وهم نحو ثلاثمائة نفر وقسموهم في الأبلاق لحفظهم إلى صبح ثاني يوم، ووجهوهم وراياتهم منكسة إلى صنعاء مع جماعة من كبرائهم، وذلك في شهر رمضان سنة اثنين وعشرين وألف [اكتوبر 1613م] وأخذوا منهم أحد عشر نفراً كما أخبرني السيد أحمد بن حسن اليندي الهدوي أنه من الإحدى عشر النفر، قال: فكنا نظهر نفوسنا مع الرمي وقد نتكلم بغير ما فعلناه، فحقدوا علينا ثم أخرجونا مع اجتماعهم إلى باب فسطاطهم وهم سماطان، وحيدر يتعرف كل واحد منا ويضرب أعناقهم حتى ما بقي غيري وأنا في يد علج من كبرائهم، فاتفق أن الأمير أحمد الأخرم كان قد قبض آلة الريح التي لابن الإمام فجعلها في مكان وقد أعجبه الطبول والطاسة واشتغل بالدخول والخروج مع الخطاب فأخذها أحمد آغا بسبب من أمراء العسكر فراسله يردها عليه فلم يجبه، ولما انتهوا إلى ما تقدم من قتل العشرة نظر الأمير أحمد الطبول وما إليها من خلف هذا الآغا أحمد أخذه الغضب بأن احتمل حجرة كبيرة ورمى بها الطاسة ليكسرها فكان سماعها وقصده إلى الآغا المذكور مما أوجب أن كلاً ابتشق سيفه
وثاروا إلى بعضهم بعضاً وكان ذلك آخر النهار، وقام عسكر كل مع صاحبه حتى قتل من الفريقين نحو سبعة أنفار، واختلطت المحاط واشتغلوا ببعضهم بعضاً، قال: وأنا مربوط في جانب ذاهل، فخرجت من بينهم على حالة شديدة وكان الليل قد غطاه فتوارى عند بدوي بالقرب من المحطة وعرفني فأعتقني ونجوت والأجل من حصن حصين، والحمد لله رب العالمين.
ولما قبض على الحسن سلام الله عليه انهزمت الجنود الإمامية والمراتب جميعها وارتجفت المشارق [ق/356] والمغارب، وأما السيد أحمد بن الإمام الحسن فعاد إلى نواحي حجة وكانت إليه فلم يقم فيها غير ليلة أو ليلتين، ثم انهزم إلى الأمرور من بلاد الشرف، وكانت هزيمة يضرب بها المثل وأتاهم السيد أحمد كما سبق بهذه الهزيمة لما يعرف من بسالته وشجاعته والله أعلم أي ذلك كان.
وأخبرني الولد الحسن عافاه الله أنه وجد مع رجل من بلاد حجة قطفة صغيرة بخط مولانا الإمام عليه السلام: يا ولد تخبرنا عن حالك ومكانك، وكيف أنت وعلم في ظهر القرطاس والده موسى بن علي، قال: وروَّاه قطفة أخرى بخط مولانا الحسن رحمه الله فيها أخبار بسلامته جملة من غير ذكر المكان، وعلامته: عبد الله بن موسى، قال: وأخبره أن الإمام عليه السلام قلق كثيراً وطلب من يأتيه بخبر ولده، قال فأرسلني فدخلت صنعاء وكنت مع مقهوي أشقى بحمل القهوة حتى اتصلت بدار الحمزي وجعلت تلك القطفة في جمنة لا قهوة فيها ودفعتها من طاقة إلى الحسن سلام الله عليه وعرف ذلك وقال: تردد حتى آخذ المداد أجوب عليك فأجاب بهذه وطلبتهما يبقيان [معي] بركة بخطهما، وفي العلامة باسم موسى بن علي لطيفة وهي أن لكل فرعون موسى فإن موسى الترك وابن علي يريد جده علياً عليه السلام وعبد الله في اسم الحسن طاهر بن موسى كذلك قال وأوقفت الإمام عليه السلام على ذلك فهان عليه بعض شيء، ووقفت على لفظ خط الإمام عليه السلام بأوضح من ذلك من خط القاضي الأعلم شمس الدين أحمد بن سعد الدين ما لفظه:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، أتحف الله الولد أحمد بن موسى بشريف السلام ورحمته وببركاته وبعد:
فثق بالله وفوض أمرك إليه {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}، ووالدك بالغ جهده فيما يستطيع ولله ألطاف خفية، ومن جهة ما وقع بسبب داود الحالط وأهل العرب هل يمكن أن يصلحوا بما أمر الله سبحانه فالخاسر كل الخاسر من وكله الله إلى نفسه ومن كان معه الله فإن الله لا يضيعه إن شاء الله إنه على كل شيء قدير. انتهى بحروفه، وكتب علامته في ظهرها: موسى بن علي لاطفه الله.
وكتب إليه مرة أخرى توقيعاً ولم يذكر اسمه ولا اسم ولده سلام الله عليهما ما لفظه: الدين عليك في الماضي اجعل تذاكر في ذلك [ق/357] لأهله ونحن نقضيه إن شاء الله تعالى، وأما في المستقبل فأقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر من طلب الدنيا فوق ما يكفيك فكل ما فيها لا يكفيه، الزكاة لا تحل لبني هاشم والمصرف قد صار عندنا فلا خير في مصير شيء من ذلك إليك الذي تحتاج إليه من النفقة أنت وأربعة نفر يسره الله سبحانه من ذلك، أربعون حرفاً من عندي ومن عند محمد ومن عند عبد الله بن أحمد أربعون، وذلك في كل شهر إن شاء الله تعالى، ومنه ما يسره الله من النذور والأخماس من الحيمة وما يليها إن شاء الله المسجون إذا تكلف العطايا ولا مادة له فتكليفه شعبة من الجنون، المسجون محكوم عليه فلا تتعرض لسخط الحاكم بأي أمر من الأمور حتى يفرج الله عنه. انتهى بحروفه من خطه أيضاً.
نعم وسألت القاضي أيده الله عن قضية الحالط فقال: إنه وقع بين أهل حبور وبين الحالط وأصحابه شيء على قتل جار فاتهموا مولانا الحسن رحمه الله أنه لم ينصف من أهل حبور لاختصاصهم بقرب جواره، وطال الكلام في ذلك وسيأتي ما أخبرني به رحمه الله في قضية الرؤيا إن شاء الله تعالى.
[أخبار علي بن الإمام القاسم]
وأما مولانا علي بن محمد بن أمير المؤمنين عليه السلام فاجتمع إليه عالم من العسكر الإمامي فوق الألفين وعيون السادة كالسيد المجاهد جمال الدين علي بن الحسن بن شرف الدين رحمه الله وغيره من السادة الكرام والعيون ممن يطول ذكرهم فصاروا إلى بني حيش، ثم منه إلى جبل بني حجاج شظب، وحفظوا أعلى شظب كنشمة وشعر والنوبتين، وجعلوا فيها رتباً، وأقام عليه السلام في الظهراوين ليال فما شعر إلا وقد دلت شظب على عورات الجبل، وأدخلوا محاط العجم إلى السودة وأحاطوا بالجبل، فأراد عليه السلام الثبات فوجد الجند قد فشل، وأهل البلاد قد أدخلوا عليه جنود الظالمين، وخاف أن يقطعوه فاجتمع عليه السادة والعلماء ولم يروا لهم غير الانحدار فانحدروا من الجبل على حالة من غير موافقة، والقتل من المراتب قليل لأن كل مرتبة ما عرفوا إلا وقد أدخلوا عليها، وكانت طريقه مرقص ثم عصمان ما بين شظب وغربان حتى خلص إلى المدائر من بلاد ظليمة، ويروى مع انحداره من الجبل أنه أغضب وأوجع شيئاً من أعضائه مع النزول، فقال: سمعت من غير واحد من شظب أيام إقامتنا عندهم في مرتبة الحمراء كما سيأتي إن شاء الله تعالى هد الله هذا الجبل كما هدنا أو كذا، فماد ذلك الموضع من تلك الساعة، ورأيته أنا وغيري وهو يسير حتى ذهبت أموال وبيوت أعرف أهلها لا شيء [ق/358] لهم، وسمعتهم يقولون أنهم بعدها ذهبوا إلى الإمام عليه السلام يستعطفونه ويطلبون منه الدعاء، وآثاره باقية إلى الآن، والله ولي العفو عن المقصرين في حق الله سبحانه وحق رسوله وأهل بيته، واستولى العجم على البلاد لم يبق إلا ظليمة والأهنوم.
[أخبار أحمد بن الإمام القاسم]
وأما مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله عليه فإنه بقي في الشرف الأسفل في الوعيلة وحفظ البلاد وأقام أحكامها ونفع المسلمين بأموالها، وجعل من يحاصر كحلان الشرف، وفيه رتب من العجم كما تقدم في أخبار عبد الرحيم فاختلفت عليه البلاد وشرعت له جنود الظالمين، ودخل عدة أمراء من جوانب كما أخبرني من فيه عليه السلام مراراً وهو يرسل رتباً إلى مواضع فمن انهزم منهم لم يعد إليه حتى لم يشعر إلا بهم في البلد، فخرج قبل الفجر وقد أخرج من خاف عليه من الصغار وسبحان الله، وكان قد أرهق، قال عليه السلام: إنه أرسل الفقيه محمد بن عبد الله العلفي الكاتب مع الأمير محمد المتقدم ذكره في أخبار الشام وصعدة لكونه نقيلاً مع إخوته وأولاده، قال: فعظم ما رأيته أنا خرجنا جانباً ونظن أنما وراءنا أحد من الظلمة، ونقول نصلي في تلك المواضع ونحن على وضوء وإذا بأولاده يعني الفقيه وأصحابه قد جردوه عن ثيابه وصار مخلوساً، وذلك بأمره لهم لأنه يقول قد هو للقتل فلا يقتلون معه ولا يأخذ ما عليه الظالمون، قال: فلما رأيت بياض جسده، وعرفت صوته أقبلت عليه وأنا على البغل فأخبرني بذلك فنزلت من على البغل وحملته إياه، ومشيت خلفه حتى نجونا جميعاً، وذكر كثيراً من ألطاف الله وحمايته حتى تعلق الأهنوم من طريق ظليمة، واتفق بأخيه جمال الإسلام والسادة في ظليمة وقد كان أحيط به.
[رسالة من الإمام إلى الشيخ المجاهد هادي بن ذياب الرغافي]
ونقل القاضي أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه من خط الإمام عليه السلام ما لفظه إلى الشيخ المجاهد هادي بن ذياب الرغافي صاحب جبر الشرف بخط يده عليه السلام وألفاظه:
وصلت كتبكم وتحققناها، وما ذكرتم من أحوال فلان فقد عرفنا ما ذكرتم وليس ذلك بخفي علينا، وما ذكرتم من أمر فلان وفلان فإن الله يصيب كل خادع ومكار {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} وما ذكرتم من ضبط بلاد الجبر فنحن راكنون على الله وعليكم في ذلك، فمن رأيتموه يميل أو يختل أو يقع منه خلل فأرسلوا به إلى الجميمة من غير لا هوى ولا غرض، وأنتم المقلدون في ذلك الأمانة التي فرضها الله [ق/359] علينا وعلى كافة المسلمين.
واعلم أن لك سابقة وفعل حسن ولا نرجوا أن يجزيك من الخير والإحسان إلا الله سبحانه لأنك أحييت الولد محمد وطائفة من المسلمين والله يقول: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، وأما مكافأتك منا فلا نقدر عليها، بلى إنا ما دمنا ودمت فإنك لا ترى منا إلا كل خير وفعل جميل، وليس من شيمتنا أن نسيئ إلى من أحسن إلينا، تلك سجية من ليس منا أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما تلك سجية أهل الحسد وقلة الخير ممن ليس له أصل منيع، وأما من جنح إلى الظالمين ويريد العز عندهم كفلان فإن الله سيريك إن مد الله لك في العمر كيف تكون غايتهم في الدنيا، ولا يبعد أن يسلط الله بعض الظالمين على بعض، فلا يغررك تقلبهم في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد، هذا وذكرتم قرضة الطعام إلى بيتنا حرسه الله فقد فوضناكم في ذلك ونحن نقضيه في الصراب إن شاء الله، ويكون في ذلك همة ومبادرة حسبما نؤمل فيك، وهدية العنب وصلت، الله يكثر خيركم. انتهى من خط يده وألفاظه إلا فلان وفلان فكناية.
[خروج الإمام من الهجر]
نعم، وأشار مولانا الإمام عليه السلام إلى قضية مولانا محمد في القضية المذكورة، فإن هذا الشيخ آواهم وقاتل دونهم، وله أثر حسن في ذلك، وصار إلى الإمام عليه السلام وأمره الإمام بحفظ شهارة وأهلها، ثم تقدم الإمام عليه السلام إلى الهجر من الأهنوم، ومولانا علي بن أمير المؤمنين بمن صح معه من العسكر في ظليمة، وقد انتفضت العزائم وارتجفت الأهنوم وعذر، وكان مولانا الحسين رحمه الله أرسل مدداً من صعدة خيلاً ورجلاً إلى خمر، فلما بلغهم ما وقع وتقدم محطة للترك إلى خمر، عادوا إلى جهات وادعة، ثم ارتجفت وادعة كغيرها بعد أن أحربوا يوماً على العجم إلى بهمان، ثم مالوا إلى الدعة وتفرق من عندهم من أصحاب الإمام عليه السلام، والإمام عليه السلام يشدد الناس وعازم على لقاء العدو إلى المحراب، كما أخبرني الشيخ واصل بن علي السيراني، قال: وكتب الكتب عليه السلام إلى ولده جمال الإسلام أيده الله تعالى، ومن عنده من العلماء يتولون الكتب ويصوبون هذا الرأي، وقد أخذوا يستحثونه يرتفع بنفسه من الهجر مخافة عليه من الجنود الظالمة، وقد صار الأمير حيدر وعدة من أمرائهم في غربان ووادعة وأسفالها، قال: فقلت له يقبل مني نصيحة ولا يتهمني وحلفت له أيماناً لو تنتهي إلى أطراف الأرض أو البحر لا فارقتك ولا خدمت غيرك كائناً من كان، فقال: هات [ق/360]، فقلت: اعلم أن الناس قد اختلوا وفشلوا وقد هنا إقبال مع الخصم تصير عليه حتى ينتهي إن شاء الله وتخرج الشام تحفظ البلاد وتترك لهم صعدة وكذا وإذا فتح الله بوقعة فيهم ترد قلوب الناس فالله الكريم وما
الفائدة بالمراكزة حتى يجتمعوا ويحصروك في شهارة مثل المرة الأولى، قال: ففكر قليلاً ثم استعاد الكتب وكتب إلى ولده جمال الدين رحمه الله أنه يطلع إلى حوالي نجد بني حمزة حتى يتقرر أعمال شهارة ويعرف من ينصح ويستقر مع مولانا محمد عليه السلام ويلحق به، وخرج مولانا علي بن أمير المؤمنين رحمه الله إلى الشاهل من الأهنوم وقد قل عليه العسكر ما يجاوزون الخمس المائة إلا بقليل، والإمام عليه السلام توجه الشام.
قال السيد أحمد نفع الله به: خرج من الهجر ثامن شهر الحجة عام اثنين وعشرين وألف [19يناير 1614م] فأدركه عيد الأضحى وهو في مور ما بين بلاد عذر وبلاد صعدة، ووقع مع الناس عموماً من الفترة والفشل والإياس من النصر ما لا يمكن شرحه والإمام عليه السلام صابر متجلد محتسب لله سبحانه.
[وصول الإمام إلى صعدة]
أخبرني السيد العالم الكبير صالح بن عبد الله الغرباني رحمه الله قال: كنا مع الإمام عليه السلام في نواحي مور فانفرد الإمام موضعاً خالياً ولحقه الحاج الفاضل علي بن محمد الذماري، فرده الإمام، وتوارى الإمام في بعض تلك الشعاب ثم كشف رأسه ودعا إلى الله سبحانه وتعالى [بدعاء وتضرع] وبكى بكاء كثيراً حتى سمعه الفقيه المذكور وهو بالبعد منه والإمام يعتقد أنه لا يسمعه، قال السيد حسام الدين صالح بن عبد الله: فلما أخبرني الحاج بذلك أيقنت بإجابة الدعوة وحصول النصر والظفر من ذلك الوقت، وكانت طريقه بلاد حيدان ثم بني عويرة، وولده الحسين عليه السلام في صعدة وعنده الشريف الفارس المشهور الأمير أحمد الأخرم وجماعة من إخوته، ومن بني الهادي ومن مشائخ الشام وقحطان ما يقرب من خمسين فارساً أو أكثر وعسكراً ليسوا بالكثير ومشائخ الشام، فلما استقر الإمام عليه السلام في بلاد الشام تقدم إلى صعدة المحروسة بالله وقد اجتمع له عسكر من خولان وغيرهم، وفرح الشام بقدومه فرحاً شديداً لأنهم يظنون أنه محتاز في شهارة، وقد صار إليه السيد شمس الدين أحمد بن الإمام الحسن عليه السلام في عسكره وكانوا قريباً من خمسمائة نفر، وأرسل الإمام عليه السلام الخيل التي عنده وعسكراً يحفطون طريق عيان، فأقاموا هنالك نحو عشرين يوماً، وتقدمت لهم جنود العجم بما لا قدرة لهم على دفاعه وانكفوا، والإمام عليه السلام أقام في صعدة قريباً من عشرين يوماً، ثم خرج إلى ساقين وأقام [ق/361] هنالك، ومولانا الحسين في صعدة وقد علم أن الأمير حيدر وجمهور عسكره في الهجر وقد صار إليهم مشائخ عذر وبعض الأهنوم.
[وصول الإمام إلى وادعة]
ويروى أن الشيخ حسن بن علي بن وهان لقي حيدر بألف كبش من كبار الغنم ضيافة وكان وعد الإمام عليه السلام اللحوق به وقد اتهمه الإمام واستحلفه على ذلك فأخلفه، وكان من أمره ما سيأتي إن شاء الله، وكان الظالمون قسموا محاطهم بعضاً من طريق الشرف فصاروا في جانب الغربي وطائفة من طريق السودة فصاروا في المسارحة، وطائفة من طريق غربان وهو طاغيتهم حيدر ومن إليه وطائفة وادعة، ثم هبطوا إلى قرن الوعر والحدبة في الهجر، ثم خرج الإمام عليه السلام أخرى إلى جبل بني عوير كما أخبرني سيدنا الفقيه العالم المجاهد يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله أنه جمع في بني عوير أهل الرأي ومشائخ وادعة وكانوا كلهم معه وحي الشيخ المجاهد صالح بن محمد حمران فإن له في وادعة نسباً وبيته وأولاده فكان حديثه مع وادعة ولم يصر إلى الظالمين شيخ من وادعة وإنما قابلهم مشائخ آخرون غير معروفين برضى المشائخ الكبار أهل البيوت لحفظ البلاد من الخراب، وقنع الترك منهم بذلك ورهنوا، فقال سيدنا: قال الإمام عليه السلام: هذا طاغية الروم في الهجر والمحاط إليه وبيننا وبينه ليلتين -أو كما قال- أترون من الصواب أنهم جميعاً يأمنون من اليمن ويدخلون جميعاً الشام فكم يحتمل الشام منهم ولا يقدر يحفظ مع اجتماعهم شيئاً من الشام بل ولا غيره لأنهم إذا أمنوا من ورائهم دخلوا جميعاً وتركوا على حصار شهارة الكفاية أو كما قال، فماذا ترون؟ قال: فنظر بعضهم بعضاً وقلنا: يا مولانا الأمر كما وصفت فهل من تدبير؟ قال: نعم لو لي طريق إلى خولان الطيال لصرت إليهم وكذا فإن صنعاء وما
حولها وما وراءها آمنون ولا شاغل لهم وإذا أمنوا ما قدرنا نقاومهم في أطراف البلاد وكذا أو كما قال، ثم قال: فما ترون في إرسال الولد علي حفظه الله والولد أحمد بن الحسن بن علي بن داود إلى وادعة يدخلونها يقلقلون الترك من الهجر فيردون عنا محطة إلى وادعة وإلى خمر، ثم لا يزالون يخافون من عودنا اليمن فيبقى في اليمن منهم من يبقى ولا يجتمعون علينا في الشام، قال: فتكلم الشيخ صالح بن محمد حمران وبعض المشائخ وقالوا: لا إله إلا الله يا مولانا وادعة هجرتك وأول أهل نصرتك وقد استأمنوا وحفظوا بلادهم من الخراب وكذا وهي لك إن شاء الله أو كما قالوا فما من حقهم أن يعيد عليهم المحاط من الهجر وصنعاء، قال: فغضب [ق/362] وقال: هذا التدبير الذي ذكرته هو العام للإسلام من الشام واليمن ورجاء عائدته للمسلمين، وهذا يا شيخ صالح ووجه الخطاب إلى الشيخ صالح حمران لأجل بيتك إذا أخربوه عمرناه إن شاء الله تعالى، قال فسكت القوم، ثم قال: يسير الولد علي والولد أحمد بن الحسن ونظر في ذلك، ثم قال ما لها إلا الله سبحانه وأنا وعدس يعني بغله المعروف فإنه قل مثله وهو من هدايا عبد الرحيم ثم ضحك وطلب السيدين وتوجه بنفسه الشريفة وكانت طريقه آل عمار، والسيدان بعسكرهما في جانب وهو وملازموه في جانب مع المشائخ والمتطوعة لا زال حتى دخل وادعة وصار الإمام عليه السلام إلى ما بين الصبيحات والمقابلة، ومولانا علي بن أمير المؤمنين في النجيد قرية كبيرة معروفة وأجابهم وادعة وألصوا النار.
وأما أحمد بن الإمام الحسن وعسكره فتخلفوا من الطريق فكان ذلك مما وقع في نفس الإمام عليه السلام على السيد أحمد واتهمه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولما صح للعجم دخول الإمام عليه السلام وادعة اضطربت محاطهم وخافوه، ثم توجه من عند الأمير حيدر الأمير رستام وغيره من الأمراء في محطتين ومن خمر أخرى، فلما عظم الأمر عليه السلام انكفى راجعاً والحرب في أثره ومعظمه على ولده جمال الإسلام رضوان الله عليه، وقتل من العجم وجنودهم كثرة ولمولانا علي بن أمير المؤمنين رحمه الله في هذه الوقعة ثبات ورمى بالبندق وقتل جماعة، ولما خرج الإمام عليه السلام وكانت طريقه الشرزى وقرن المصنعة من أسفل الصبيحات والعدو في أثره، وخلص من شرهم وصار بإزائه مولانا علي بن أمير المؤمنين مما يلي حواز المقابلة ولا يرى الإمام إلا بالرسل أن الإمام قد خرج فيخرج.
[قدوم الإمام إلى ساقين]
قال الفقيه الفاضل الصالح الكامل جابر بن فتح الله الغفاري رحمه الله وهو خادم الإمام عليه السلام وملازمه: فكنا مع الإمام قريب الأربعين النفر فقط خلاصة أصحابه ونحن في غاية الإشفاق على الإمام عليه السلام وإذا بالبيارق والعسكر لا زمون لنا أعلى جبل أمامنا مما يقرب من أوطان حوث ولا طريق لنا غيره، فسقط في أيدينا وأيسنا أعظم ذلك على الإسلام، قال: فلما رآهم أقبل إلينا وتكلم بكلام مواعظ لم أضبطها، ثم تناول الترس واعتجر في وسطه وتقدم وقد كبر في أعيننا وتفرق شعره وهو يقول: الجهاد والجلاد هاضرب من على الركبة، فقوت قلوبنا لما رأينا منه عليه السلام وتقدمنا وقد برد العدو [ق/363] من خلفنا وإذا بأولئك ينصرون للإمام عليه السلام وإذا هم عسكر السيد أحمد بن الحسن وقد ندموا على التخلف عن الإمام عليه السلام ثم لحقوا إلى قريب صيدان أسفل بلاد العصيمات، وقد ستروا أنفسهم بأن غزوا بدواناً ممن قد والى الظلمة وأخذوا بقراً، ثم طلعوا إلى ذلك المحل ينتظرون الإمام عليه السلام فلما رأوه نصروا، ولام الإمام عليه السلام السيد أحمد على التأخر عنه فاعتذر بأنهم العسكر لم يساعدوه فلم يكشف الإمام له ولا لهم حال، ثم عاد إلى جبل بني عوير وقد خلط على العجم تدبيرهم، ثم عاد كما أخبرني الشيخ قاسم القاسمي لزيارة الهادي عليه السلام فدخل المدينة ليلاً ووكل بالأبواب ثقاته حتى زار الهادي عليه السلام والأئمة، وكنا نسمع أنه عليه السلام يعرف موضع ذي الفقار في بعض مسجد الهادي عليه السلام قال: فقطعنا أنما دخل في الليل إلا له، فلما فرغ من
الزيارة تقدمت إليه وقلت له: يا مولانا تحتاج شيئاً من الحديد مثل مفرس أو معول أو كذا، فقال: لا، وعرف المراد وتبسم ثم خرج حتى طلع ساقين.
وأما العجم فإنهم أكثروا من الرتب مع ابن المعافا على شهارة ثم أرجعوا عسكراً إلى وادعة وخمر والصرارة وذيبين، وتجرد حيدر بنحو أربعة آلاف وخمسمائة نفر كما أخبرني بعض أصحاب الإمام عليه السلام في أنه لما صح له دخول الأمير حيدر صعدة وهو في ساقين وقد خرج مولانا الحسين رحمه الله هو ومن معه صبيحة دخولهم صعدة فإنهم حفظوا المدينة حتى قيل: إن الأول يدخل الخانق وخرجوا على أنهم يلقونهم، وسلكوا وادي عرار غرباً حتى اتصلوا بالإمام عليه السلام فقال: إن الإمام عليه السلام جمع وجوه خولان وأعيان من عنده من أهل الشام، ثم قال لهم من مكان مرتفع: وصل صعدة في هذا اليوم [أربعة آلاف وخمسمائة] من جنود الظلمة وهم إن شاء الله غنيمة لكم تعرفون ذلك فلا ترتجفوا وكذا، فإن كثروا كثرت لكم الغنائم إن شاء الله، وإن قلوا قلت الغنائم أو كما قال، وأراد عليه السلام تقوية قلوبهم، فأرسل ولده مولانا جمال الإسلام بعسكره ووجهه من خولان إلى جبل عرو من أعلى جبال خولان مما يلي هجرة فللة، وجعل السيد أحمد بن الإمام الحسن وعسكره في الحضائر، وجعل ولده الحسين رضوان الله عليه في ساقين.
قال الشيخ واصل بن علي السيراني عافاه الله: إنه وصل رسول من حيدر إلى ذلك الموضع إلى مشائخ خولان وعيون منهم للفساد، وكان الإمام عليه السلام قد فرق عسكره وولده الحسين رضوان الله عليه في بعض المواضع خفي علي [ق/364] أسماؤها وفي أصحابه قلة فأرسل لذلك المكتب الساعي في الفساد وكان يوم سوق ساقين والرسول هذا من خولان أيضاً، وأمرني وثلاثة أنفار نكتفه ففعلنا، ثم أخذ السيف وأعطاه ريحان العبد المعروف بالحاج ريحان، وقال: أخرجوا هذا إلى وسط السوق واضربوا عنقه ويكون الضارب أنت يا ريحان، قال: فقلت له سراً: نحن قليلون وهذا من قوم أكثرهم في السوق فلا يكاد يحدث منهم ما يحدث لكن يحبس إلى الليل ويقتل سراً إذ لا بد من قتله، قال فانتهرني وغضب، قال: فلما صرنا به في السوق رأيته عليه السلام وقد صعد ذلك الدائر ليراه الناس مخافة علينا من نحو ما قلناه له، فقتلناه وعلقنا رأسه، قال: فحصل في ذلك من المصلحة كثير وعرف الناس قوته.
[وقعة حواز بلاد رازح]
قال السيد أحمد نفع الله به في صفة قدومه إلى صعدة: ثم ساروا والتيه أمامهم والبطر سائقهم، والتكبر سلطانهم، وقد جمعوا أجماعاً كثيراً خيلاً ورجلاً وجمالاً وأميرهم جميعاً الأمير حيدر، ثم إنه عليه السلام أرسل ولده الحسين رضوان الله عليه لغزو السيد يحيى بن الهادي المؤيدي المعروف بأبي ست من قرابة الأمير صلاح بن أحمد وكان قد وصل إلى حواز بلاد رازح من جهات تهامة في عسكر من الترك وكاد، أهل تلك الجهات يميلون إليه فأوقع به وقتل من أصحابه أنفاراً وهزمه مع ذلك هزيمة عظيمة، وغنم جميع ما أجلب به، وكانت غنيمة من الغنائم النافعة وانهزم منفرداً من حيث جاء، ومما وجد مع هذا السيد اصطرلاب الذي يعرفون به الفلك والحساب والتنجيم، فلما رآه الإمام عليه السلام أخذ دبوساً من يد بعض المهاجرين وضربه فكسره وهو يقرأ: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ} وعاد مولانا الحسين رحمه الله إلى الإمام عليه السلام وكان حصل من بعض العسكر فيما أخبرني الشيخ واصل السيراني والشيخ فارع بن خيران كاتب مولانا الحسين رحمه الله خيانة في الغنيمة غير ما أذن لهم فيه فتشدد عليهم الإمام عليه السلام واستعاد ذلك وغيرها، ولا أدري هل بلغ في هذه المرة أو في غيرها إلى بني جماعة وآل الخطاب.
[أخبار شهارة]
فصل: ولنرجع إلى أخبار شهارة المحروسة بالله فإن حيدر ترك الأمير عبد الله بن المعافا وغيره من عيون العجم في الهجر فوصله [ق/365] قبائل الأهنوم من غير المشائخ ورهنوا على نحو ما تقدم من وادعة، ووالى على عذر والأهنوم وظليمة، وانضم إلى شهارة من حولها من بني حمزة وبني نعمان، وبني أبي الحكم والسادة والمهاجرون، وأهل شهارة، وعمروا ما يحتاج إليه وقد فشل الأهنوم ومن حوله.
أخبرني السيد العلامة ناصر بن محمد الغرباني المعروف بصبح أنه قدم إلى شهارة من جانب ظليمة بعد الكسيرة من بني حجاج وأنه رأى أهل جبل سيران أهل الجبال يهربون الأودية، وأهل الأودية يهربون الجبال ويلتقون فلا يسأل بعضهم بعضاً كأنهم ذاهبون إلى غير مقصد، ومولانا محمد عليه السلام يقرر الناس ويتفقد شحنة الحصن وأهله ومن فيه، وأخرج منه من لا نفع فيه من أهل الحلل ولم يجعل شيئاً من الرتب خارج شهارة، وأحسن جوار من بقي من الأهنوم قريباً منه، ولا أظهر لهم وحشة وإن كانوا قد والوا العجم، وابن المعافا لم يطمع في طلوع نجد بني حمزة بل رغب القبائل وقنع من كل جبل برهينة إلى حصن عفار والسودة، ثم إن الإمام محمد عليه السلام رأى أنه يشوش على من في الصرارة بلد ابن وهان وقرن الوعر بأن أخرج عسكراً من شهارة المحروسة بالله وطمعوا من البطنة بقراً وغنماً وقسمها في العسكر المنصور.
[موالاة الحيمة للأتراك]
وأما جهات الحيمة فبقي فيها الشيخ فخر الدين عبد الله بن سعيد الطير رحمه الله ظاهراً أياماً، ثم إنه أحوج إلى الإنفراد من غير أن تخرج إليهم محطة وخفف من أصحابه وفرقهم وخاف وقد والى أكثر الحيمة العجم من غير أن تخرج إليهم محطة منصورة إلا صفة ولاة ومشائخ وهم بالرجوع إلى الشام، وكان القاضي العلامة الهادي عبد الله بن أبي الرجال قد وصل إلى الحيمة أيضاً لما كان من اختلال حاشد وبكيل ودخول الإمام عليه السلام الشام وحوزة شهارة وبقي منفرداً في جانب منها، وتزوج هنالك وهو مختف.
[غزو مشارق عيال أسد]
وأما الحاج شمس الدين أحمد بن عواض والفقيه عز الدين ومن إليهم فهاجروا إلى جهات مشارق عيال أسد ونواحيها وغزاهم العجم إليها، وقتلوا جماعة، وأسروا ابن القاضي هادي صغيراً وتخفوا في جهات المشرق؛ لأن العجم بعدما تقدم من عود الإمام عليه السلام لم يتركوا موضعاً من الظواهر يعتادوا المحط إلا وجعلوا فيه محطة، فكان في خمر الأمير عبد الله بن مطهر وأمراء من العجم في ذيبين والأمير علي بن مطهر في بعض بلاد الكلبيين، وأمير من العجم والأمير محمد بن عبد الله بن المؤيد في الصرارة، والأمير [ق/366] صلاح بن أحمد بن المؤيد في العرة من الأشمور التي تقدم ذكرها، وفي جانب ظليمة حسين بن الأمير عبد الله بن المعافا وأمير من العجم في سوق الثلاثاء من المسارحة.
[أخبار صعدة وبلاد الشام]
ولنرجع إلى أخبار صعدة وبلادها قد ذكرنا تقرر السيد الفاضل علي بن أمير المؤمنين قدس الله روحه في سودة عرو والسيد شمس الدين أحمد بن الإمام الحسن في الحضائر وأن الإمام عليه السلام يتردد في جانب بلاد خولان وقد كادت بلاد المغارب تختل كما أخبرني الفقيه الكاتب ناصر بن صلاح الحاصبي وغيره ممن كان مع العجم في صعدة أنهم وسطوا من يريد خذلان الحق وأهله على موالاة كثير من عيون الشام منهم السيد أحمد بن الإمام الحسن عليه السلام وأنه ممن اختل وكاتب، فقال قائل لحيدر: إذا أنت تدخل الشام بهذه العساكر والخزائن وكذا ثم تعطي وتداري إنك لعاجز ما هو إلا هزيمة المركزين عرو والحضائر وأخذهما وإذا أهل الشام يعطونك الإتاوة ما أنت الذي تعطيهم أو كما قالوا، لما يريد الله نصرة دينه وخذلان الباطل وشياطينه، وكانت محطة عرو قد تفاوت منها كثير فما يجاوز من فيها ثلاثمائة إلا بالقليل.
قال السيد أحمد نفع الله به: إن عسكر علي بن الإمام عليه السلام نحو المائتين، فتجهز عليهما الأمير رستام الرومي وكان من شياطينهم، وجعلوا معه نحو الألف من حماتهم وشجعانهم فيهم سبعمائة بندق من عيون عسكرهم، هكذا أخبرني من شهد الوقعة.
قال السيد أحمد بن محمد نفع الله به: إنماهم أربعمائة نفر أصحاب رستام وأرسلوا على محطة الحضائر الأمير أحمد الأخرم التركي وكان من دهاة حربهم المعروفين بالشجاعة والتدبير في مثلهم، وكانت طريق الأخرم وأصحابه أقرب لكونها أسهل فأصبحوا على السيد شمس الدين ومن معه فأحاطوا بهم في القرية ولزموا أطرافها فانهزم لما يريد الله ودخلت القرية وارتفع فيمن معه فرضى الأخرم بإستيلائه على البلد وقد نجا أهلها بنفوسهم، وكان مولانا علي بن أمير المؤمنين رحمة الله عليه قد عرف من عيونه أنهم قد خرجوا من صعدة غازين له فانتظرهم من قبل طلوع الفجر فأرسل من يحفظ الطريق بمعنى يعرف طريقهم فإن لهم طريقين، وأمر المقدم على الطريق أن يرمي ببندق إعلاماً أنهم سلكوا تلك الطريق ففعل، وتأهب ابن الإمام عليه السلام وكان أرسل جمهور عسكره مع السيد عبد الله السويدي لحفظ الطريق الأخرى فكانوا فيها حتى سمعوا [ق/367] الحرب على ابن الإمام فلحقوا به كما سيأتي قريباً إن شاء الله، ولما انفصل أصحاب مولانا علي وهم السيد عبد الله ومن معه كما أخبرني الفقيه علي بن قاسم البرطي وبعض أصحابه عليه السلام وغابوا عنه وانتشر الفجر وحصل الضياء وإذا بأول العجم أصحاب رستام في أطرافهم ثم نظروا المحطة في أثرهم بما لا قبل لهم به فعزموا على الهزيمة، فلاحمهم من أول جنود الظالمين النقيب أحمد الأسد اليافعي وكان من المشهورين في جندهم بالشجاعة فصاح بمولانا علي بن أمير المؤمنين عليه السلام وقال له: إذا كنت ابن الإمام المنصور فاثبت لنا هذه الساعة الله المستعان إن كان لم يكن ابن الإمام
الحسن فما استقمتم لنا بعده يريد لعنه الله تحريضه على الاستقامة للطمع الذي قد داخله فيه لأنه لم ير معه إلا عصابة يسيرة نحو أربعين نفراً، قال: فلما سمعه عاد على كره من أصحابه وأطلع حصانه أعلى أكمة وبغلة وكذا ثقله، وجعلوا على ذلك المكان مترساً مستطيلاً ومن تحته مثله، وانقسموا فيهما وظهرهم وعر فلا يخافون من ورائهم ويتصل بهم المدد من قبائل خولان، وأحاط بهم جنود الظالمين حتى كادوا يأخذونهم قبضاً بالأيدي وهم يدافعونهم حتى كادوا يهلكون، وقد قتلوا من العجم كثيراً وقتل منهم أيضاً.
وأما أصحاب مولانا علي عليه السلام وهم السيد عبد الله وأصحابه فإنهم لما سمعوا الحرب عادوا ناشرين رايتهم يضربون مرفعهم مجدين وقد خالطهم الشجن على مولانا علي رحمه الله فوصلوا والحرب قائمة فكانوا في ناحية المشرق في غير جهة ابن الإمام والعجم في ناحية المغرب فكانت الشمس إلى وجوه الظالمين فلا يستطيعون للرمي، ثم وصل السيد المقام شمس الدين أحمد بن الإمام الحسن فضايقوهم وصاروا إلى أكمة سوداء أعلى عرو وقد كثرت المواد لجنود الحق، وفي كل حين يزيد عددهم وينقص من عدد العجم لكثرة من قتل منهم حتى ضايقوه وجعلوا على نفوسهم مثل ما فعل مولانا علي عليه السلام أول النهار ولا شيء عندهم من الماء حتى عظم عليهم الأمر وكثرت الغوائر والأمداد حتى إن من قبائل خولان من كان ينهب البندق من يد العجمي وقد أسقط الفتيلة في الباروت فيضرب البندق بين أيديهما وقد يقتل أحدهما أو من حاذاهما حتى عظم الأمر على العجم وهم في انتظار غارة لهم، فخاطبوا فأجابهم للخطاب الشيخ الشجاع المجاهد محمد بن صلاح البحش الأسدي وقال، لا أجب إلا أميركم فأروني هو فأروه فقتله، وقد كان هذا الأمير عرف أنه مأخوذ فجمع ما معهم من الباروت [ق/368]والرصاص والنقد والسلاح والأثاث وحرقها بالنار لئلا تصير غنيمة للمجاهدين، ولما قتل أميرهم فشلوا وطلع عليهم جنود الحق فقتلوهم على آخرهم وغنموا الغنائم الواسعة، وأصدق الله كلام الإمام عليه السلام في قوله: هم لكم قلوا أو كثروا، وكانت هذه الوقعة يوم الأربعاء لأيام مضت من ربيع الأول من عام ثلاث وعشرين وألف [يونيو 1614م]، واستشهد من عموم
المجاهدين نحو سبعين نفراً، ولما انقضت الوقعة سار مولانا علي رحمه الله من ساعته فصلى العصر فوق الحضائر من جهة الشام، وأحمد بن الإمام الحسن استقر على الحضائر فحاصروا الأخرم تلك الليلة وهي ليلة الخميس ويومها وليلة الجمعة، وكان الإمام عليه السلام في ذلك اليوم في جانب بني ذؤيب فأغار من هناك حتى عاد جهات حيدان وسارعت من عنده المواد وقد غنم الناس الغنائم التي لا تخطر ببال من السلاح الحسن وغيرها من الآلات والنقود الواسعة حتى يروى أن بعض من غنم قروشاً كثيرة وقد أحرقها الباروت كما تقدم ظنها رصاصاً فباعها رخيصاً من سعر الرصاص ولا علم للبائع ولا للمشتري أنها فضة إلا بعد أن عرفها غيرهما، وقضايا من ذلك كثيرة والحمد لله رب العالمين.
[الأمير حيدر يغير لنجدة أصحابه]
وأما الأمير حيدر لعنه الله فإنه لما بلغه قتل العسكر في عرو وحصارهم في الحضائر نحر وتجبر وركب من حينه إلى علاف، ولما كان اليوم الثاني وزهو صبح يوم الجمعة وقد وصلت أمداد الإمام عليه السلام كما تقدم وصل طاغيتهم الأمير حيدر بجموع هائلة فوق جنود الحق أعلى الجبل وأفرجوا عن الأخرم والمحصورين وحصل معهم بعض فشل لما رأوا من كثرة جنوده، ومولانا علي يشددهم ويقول فيما بين ذلك: ما همهم إلا استخراج أصحابهم، ولما اتصلوا ببعضهم بعضاً انحدروا في وادي الذواهب فلاحمهم المجاهدون من بعيد، ولما صار حيدر في وسط الوادي قيل له قد صار الحرب أول القوم فحمل بحصانه قاصداً للغارة فتوهم أصحابه أنه منهزم يريد النجاة بنفسه فقط فهرب كل منهم لوجهه فحينئذ ألحم فيهم السيف أجناد الحق ضر باً وطعناً، وكانوا يعمدون إلى آخر القوم فيقتطعون منهم ثلاثين أربعين نفراً فيقتلونهم، ثم كذلك حتى قتل منهم زهاء ألف وثلاثمائة نفر من غير الخيل والجمال، وقتل من أمرائهم الأمير هادي بن حميضة الجوفي.
قال الصنو السيد الفاضل المجاهد أحمد بن هادي بن هارون أطال الله بقاه: إنها وصلت غارة نافعة من جهة بني جماعة في آخر وادي علاف [ق/369] فكان حيدر يتضرب يجتمع إليه عسكره ويضرب فيمن أدبر منهم بالسيف، وكلما رأوه يدبر ظنوه منهزماً حتى أن العجم التزموا الأمير هادي بن جمعان على أنه عربي وشريف يستجيرون به فقتل وهم يتعلقون به، وطار طاغيتهم لوجهه وقد قتل من جنوده بيده لما انهزموا وقد أصابهم الذل والفشل عقيب ذلك حتى عاد إلى محطته الخبيثة وقتل من أصحابه ألف وسبعمائة نفر، ومن المجاهدين جماعة، ثم تقدمت جنود الحق لحصاره إلى صعدة كما سيأتي.
[قتل الأمير الأخرم]
وأما الأمير أحمد الأخرم فإنه لما تكلم عليه حيدر وهم بقتله بقي في جنودهم إلى الليل وأخذ له دليلاً إلى الإمام عليه السلام فوصل موضعاً يسمى الركوب فتلقاه بعض المجاهدين ولم يعرفوا أنه هارب، وعرفهم أنه الأمير أحمد الأخرم فعاجلوه بالقتل واحتزوا رأسه وحملوه إلى الإمام عليه السلام.
أخبرني الصنو السيد الفاضل أحمد بن الهادي بن هارون قال: كنت صغيراً في سطح في بيتنا في الحبحب ورأيت الأخرم وفارساً معه ورجلاً من أهل صعدة سماه وهو منغمس دم وسيفه في يده جرده فأرسل صاحبيه لجهاتهما وأنا أنظر، ثم عاد الطريق بعد أن شرب وأكل شيئاً من القات وأوهم صاحبيه أنهما يقدما ببشرى بسلامته فعادا فلم يجداه، قال: وأكثرا علينا السؤال حتى خفناهم وهم يبكون عليه، وكانت قضيته ما تقدم فأخذه الإمام عليه السلام ورأس رستام وبعث بهما مع البريد إلى شهارة حرسها الله، وكان لوصلهما موقع فأمر محمد ابن الإمام عليه السلام بنصبهما وأن يطاف بهما على شهارة ليرى ذلك الأهنوم وغيرهم ويبلغ ابن المعافا، ثم احتال مولانا محمد عليه السلام بإرسال الرأسين إلى الهجر، وقيل: إنما أرسل الإمام عليه السلام برأس الأخرم ليعرفونه بالتجديع لأنه مجدع الأنف والأذن وأرسل بهما إلى هنالك وقد أطلع ابن المعافا رتبة من الهجر إلى جبل ذري ثم إلى بيت بني مياح من أعمال بني حمزة، وحصل لوصولهما شهارة البشرى العظيمة والمسرة الفخيمة وقل إرجاف المرجفين.
قال القاضي العلامة أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه: إنه كان في أيام هذه الوقعة في جهة الشرف وأنه سمع من يخبر بالقضية على ما كانت قبل كونها بخمسة عشر يوماً. قال لي بذلك شفاهاً ونقلت معناها من كتابه أيضاً.
[حصار ابن المعافا]
قال السيد أحمد نفع الله به: وكان جعفر باشا قد ندم على نقض الصلح فأمر الشيخ ناصر بن علي المحبشي أن يستوقف الإمام في الشام ويسعى في الصلح الأول فلم يجبه الإمام لأنه قد لزمه لخولان الشام [ق/370] حق فلا يسلمه للعجم لأنهم شرطوا على ما كان عليه من البلاد الأولى، فكانت هذه الوقعة ورسولهم عنده ثم إن الإمام محمد عليه السلام أرسل إلى أهل سيران أن طريقنا عليكم لقتال العدو وإياكم أن تعرضونا أو تحذروه، واستوثق ثم خرج منفرداً، وتلاحق السادة والعسكر المنصورة وكانوا قد أطلعوا رتبة إلى موضع أعلى من المسارحة يسمى الكراع فأرسل عليها من حاصرها، وتقدم وفرق السادة فريقين فكان السيد علي بن الحسن وجماعة في جانب، والسيد ناصر بن محمد صبح وجماعة في جانب فما كان بأسرع من هزيمة المحطة واستئصالها حتى هزموهم إلى قريب من وادي أخرف وقتلوا منهم مقتلة عظيمة نحو ثلاثمائة، وأخذوا الغنائم الواسعة والرتبة الذين في الكراع وهم نحو عشرين نفراً، ثم عادوا شهارة وناوشوا في آخر يومهم رتبة في جانب النجد فهزموهم إلى جبل ذري، وواجه الأهنوم وهزموا الرتبة التي في جبل ذري حتى عادوا إلى الهجر، واجتمع الأهنوم جميعاً إلى مولانا الإمام محمد عليه السلام وصار إلى القدوم من أقرب قرى جبل الأهنوم المتصلة بالهجر وعسكر هنالك، ولا يعلم للأهنوم ولا لغيرهم مثل ما في هذه المراكزة من النصيحة والاجتهاد، وكان الحصار على الأمير عبد الله بن المعافا والذين معه من جنود العجم وأمرائهم من الثلاث الجهات من جهة المشرق واليمن والمغرب، وفي الليل تقدم جنود الحق
يقطعون طريق القبلة وفي النهار يرتفعون من مخافة الخيل، وكانت مواقف محمودة ووقائع مشهودة، اليد في أكثرها لجنود الحق، واستقام الحصار لهذا الأمير عبد الله بن المعافا حتى كاد يهلك هو ومن معه من جنود العجم، وقد اجتمع إلى مولانا محمد عليه السلام هو ومن معه من المتطوعة للجهاد جملة وافرة وتوسعت النفقات، وأنفق أهل الخير كل مما في يده وتبلغ إليه قدرته، وكانت مدة الحصار فوق ثلاثة أشهر.
[عودة الإمام إلى نواحي شهارة]
وأما الإمام عليه السلام فإنه لما صح له حوزة من في الهجر وتقررت المحاط الإمامية لحصار صعدة استعان بالله سبحانه وعاد إلى جهات شهارة المحروسة بالله وكانت طريقه من جهات ساقين إلى نواحي العصيمات، ثم منها إلى جبل ايمير من أعمال عذر، وبقي فيه حتى الليل وقد أمر من معه أن يكثروا إشعال النيران في ذروته إخباراً بوصوله اليمن من الشام، فألصت النار في جميع البلاد، وقوت قلوب المجاهدين، ونزل البؤس والكظم على أفئدة المعتدين، وفرح [ق/371] المسلمون بظهور الإمام عليه السلام وكان في قرن الوعر رتبة من العجم عليها الأزرقي وغيرهم مع الشيخ علي بن وهان، وكان مع الإمام عليه السلام الشيخ وهان بن مجلي بن وهان، فلما دخل البلاد والاه أهلها وهربت رتبة العجم إلى وادعة، ثم خرج إلى جانب جبل ذري وأرسل إلى ولده محمد عليهما السلام إعانة لحصار الهجر وكان قد بعث مولانا محمد عليه السلام إلى حواز الظاهر وغربان وظليمة سرايا لفتحها، وكان لهم تأثير، ولما وصل الإمام عليه السلام لم يدخل شهارة المحروسة بالله بل كان طريقه شرقي شهارة المحروسة وحوازها حتى استقر في شرفة المواطر، وجهز ولده أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله وضم إليه عيوناً من العلماء والفضلاء كالحاج شمس الدين أحمد بن علي بن دغيش وغيره لفتح بلاد الشرف وجعل جهازه بنظر أخيه مولانا محمد عليه السلام وكان قد أرسل إلى الشرف الأعلى بعضهم فلم يحصل على طائل ففتح الشرفين جميعاً وطرد من فيهما من أعوان الظلمة، وحفظ البلاد وموادها وساقها إلى أخيه للجهاد، وحاصر قلعة كحلان
الشرف مدة حتى أخذها في تسعة أشهر، ولهم مع هذه الحوزة أخبار وأشعار طريفة.
وأخبرني الشيخ صلاح بن قاسم الكلبي وكان منهم أن الشريف المسيح القشنشلي من آل الإمام شرف الدين ممن احتاز مع الظلمة وكان أشر منهم وأنه في بعضها استخف بالإمام عليه السلام وأمر بعض الترك أن يصلي بهم وصفهم خلف ذلك التركي استهزاء بالإمام، فما أمسى حتى أصابه الله سبحانه بالبرق خصه دون أهل الحصن، قال: وكان من جملة من أغار على الصوت فإذا به قد أنتن برائحة لم يعرف مثلها ولا كادوا يقربونه من شدتها، وأنهم استعانوا بالطيب على أنواعه والرياحين فلم ينفع، وأهلكه الله وشهد بذلك جميع أهل الحصن.
وأما الإمام عليه السلام فجهز السرايا والبعوث إلى بلاد عفار وبلاد شظب وغربان والظاهر فاستولى على أكثرها سيما بلاد وادعة وما إليها فإنه تابع السرايا حتى قطع أمداد الظالمين إلى صعدة، وفي هذه الفتوحات قضايا، وعلى الجملة إنه تقلقل على العجم أكثر بلادهم بعد هذه الفتوحات إلا غربان وشظب لم يكد تستقر عليه يده عليه السلام وما عقده فيها لم يتم فإنه أرسل الشيخ واصل بن علي السيراني إلى أسفل غربان، فأكثروا عليه الشروط حتى لقد أخبرني المذكور من فيه أنهم طلبوه مالاً فراسل الإمام عليه السلام فأرسل إليه بفضة أهله وبعض دراهم يسيرة، قال: فعلمت عدم صحة وعدهم فحفظت ما عندي إلى أن عدت إليه وأرجعته [ق/372] عليه.
[حصار صعدة]
وأما صعدة فالحصار عليها، وكانت المحاط كما أخبرني الفقيه المجاهد أحمد بن محمد بن ملقاط المخلافي رحمه الله في العبلاء وما إليها مولانا علي بن أمير المؤمنين عليه السلام وفي جانب تلمص وما إليها مولانا الحسين رحمه الله والأمير المجاهد الشهيد أحمد بن محمد الأخرم الحمزي رحمه الله تعالى، وفي جانب الصعيد السادة السيد محمد بن عز الدين والسيد أحمد بن المهدي، وفي جانب السيد شمس الدين أحمد بن الإمام الحسن عليه السلام والسيد علي بن إبراهيم الحيداني أطال الله بقاه وضايقوها مضايقة شديدة، وفي أيام حصار صعدة حروب شديدة وقضايا عديدة من ذلك أنه وصل مدداً من أشراف الجوف نحو ثلاثين فارساً عليهم الأمير أحمد بن محمد الأخرم المذكور، فاجتمع السادة في موضع قريب من الخانق للمشورة فيما يعم الصلاح والموضع سهل أقرب إلى رحبان، وعادوا بعد المشورة كل يريد مرتبته فأغار عليهم العجم أميرهم ومأمورهم منهم الأمير حيدر وقصدوا مولانا الحسين ومن معه من الأشراف فثبتوا لهم ووقع الطعان، واحتضب المران، وتكسرت العيدان، وارتفعت العجاج، وغمغمت الأبطال، وكان قطب رحاها شرف الإسلام الحسين أيده الله تعالى إذ كان لا يدانى في بسالته ولا يسامى في شجاعته، وظن من شاهد الوقعة أنه لا ينجو أحد من أصحاب الإمام لقلتهم وكثرة خيل العجم، وممن ثبت مع الحسين الأمير أحمد الأخرم وجماعة قليل واستشهد من الأشراف الحمزيين ثلاثة فرسان وجماعة من العسكر. هذا معنى ما ذكره السيد أحمد نفع الله به وأكثر ألفاظه.
قال الفقيه صلاح بن سعيد القحيف وكان من ملازمي مولانا الحسين رحمه الله قال: كنت من رجالة الحسين فلم نقدر نرمي ببندق ولا بحجر لأنا لم نعرف فيمن تقع ولا نرى أحداً من الفريقين إلا نعرف الهمهمة وأيسنا، قال فأول من رأيته السيد العلامة عبد الله بن عامر رحمه الله فقلت هذا الذي بقي منهم، ثم لازالوا يخرجون بعد الانجلاء فكان كما تقدم، وبعدها وقعة قريب من تلمص قريبة منها واشتهر الشريف المجاهد الأمير أحمد بن محمد الأخرم وكان إذا انتمى قل طمعهم فيه وكان كثيراً ما يقول: أنا أحمد أنا شوق الناظرين، ثم عوض الشامي الفقيه المجاهد أحمد بن محمد بن ملقاط وغيرهم كانوا يغيرون إلى أطراف محطتهم حتى قتل الأمير أحمد وعوض وأصيب الفقيه أحمد وقتل عليه فرسان، وقضايا طويلة واشتد [ق/373] عليهم الحصار، وارتفع عليهم الطعام حتى كاد يعدم، ثم إن الأشرار من سفيان الدين كانوا يختلفون بالكتب من صنعاء ومن خمر إلى عند الأمير حيدر أدخلوا ذهباً كثيراً للعسكر وأمنهم العجم على المال مراراً ولم يروا منهم إلا النصيحة كما أخبرني الشيخ هادي بن محمد السفياني ممن صار مع الحق، قال كان جماعة منهم عليه بلاغ الجامكية ويأخذون الكتب بوصولها إلى جعفر باشا ووكيله في خمر الأمير محمد شلبي، قال: فلما اطمأنوا إلينا وقد رأوا منا النصيحة قال لنا رجب آغا والي المدينة وكان أقربهم إلى معرفة خطاب العرب: يا مشائخ تبقون عندنا هذا اليوم في المدينة تحملوا لنا وديعة إلى خمر وهي ثقيلة تحتاج الصبر عليها، قال فأجبناه وحلفنا على ذلك بيمين، وقد كنا ودعنا الأمير حيدر والجوابات معنا،
قال وكنا ستة أنفار أو ثمانية -الشك مني- فحلفنا وتأكد علينا، قال وبقينا إلى الربع الأول من الليل فأخرجونا مع المذكور إلى خارج باب المنصورة وإذا بنحو عشرين فارساً وفيهم رجل كبير على فرس عال ساكت لم يتكلم وعرفنا فيهم الأمير صفر أيضاً فتشوشنا منه، فقال الأمير صفر ورجب: يا مشائخ أنتم وأنتم من أهل النصيحة مرادنا تحملون للباشا وديعة طلبها وهي عليه عزيزة فيحصل لكم ويحصل ورغبونا فيها، فقلنا وما هي ونبلغ جهدنا قال وأخرج الهيكل وحلفنا أخرى وهم يسمعون، فقلنا: هاتوا وداعتكم، فقالوا: مولانا الكيخيا يعني الأمير حيدر يطلب منكم تدلونه طريقاً لا يعرفها الخصوم حتى يصل معكم بلادكم وهاهو ذا حاضر وهو ساكت لم يتكلم، قال: فعظم علينا الأمر وخفنا عليه ولم نجد بداً من الإجابة، فلما أجبناه تحدث معنا بكلام لطيف، وقال: على بركة الله، قال وأجنب له حصاناً غير حصانه الذي تحته وركب معه أربعة عشر فارساً من ممالكيه واستخلف على المحطة الأمير صفر، قال فسرنا به وكانت الطريق جانب المخلاف ثم وراء العبلاء ثم رجعنا إلى نواحي درب الحناجر ثم كذا حتى خرجنا إلى حوالي العيون فمال بنا المذكور عن الطريق وأكلنا معه طعاماً ولحماً ونام حتى أصبح، ثم سلك الطريق لا يخرج منها ونحن معه حتى وصلنا بلاد حباشة من بلاد سفيان، ثم اختار مسجداً وربط الخيل في ذلك المحل ودخل عيان وكان فيها الأمير عابدين بن مطهر بن الشويع وأمير من أمراء العجم في عسكر، ثم خيوان وسرنا كما سبق من حوالي صعدة للمراتب التي في أعلى وادعة.
نعم، ولما وصل حيدر خمر واجتمع إليه جنود العجم من الصرارة [ق/374] والظواهر قصد وادعة فلازمه المجاهدون بحروب كثيرة، ثم استقر في الحصن والمجاهدون يقصدونه ليلاً ونهاراً حتى لقد دخل السيد عز الدين محمد بن عامر بن علي عافاه الله إلى قرية الغول خارج المحطة، والشيخ صالح بن محمد حمران وعيون من المجاهدين في درب العبر، وقام الجهاد على ساقه، والإمام عليه السلام يمده بما أمكن وقد صار عليه السلام في شهارة المحروسة بالله.
[أخبار بلاد ذبيان وخارف]
وأما بلاد خارف وبني زهير وذيبان وما إليها فقد تقدم أن القاضي الهادي رحمه الله بعد هزيمة الإمام عليه السلام إلى الشام صار إلى الحيمة، فلما صح له رجوع الإمام عليه السلام وما أيده الله به من النصر عاد من الحيمة فصار إلى جانب بلاد ذيبان فأجابه جماعة منهم وطردوا جماعة مع رئيس لهم من جنود العجم من محصم من بلاد ذيبان، ثم خلص له منهم جماعة ومن بني زهير أقل وتقدم إلى الصيد فأجابه بعضهم، وقصد الأمير علي بن مطهر بن الشويع إلى يناعة وكان في محطة من جند العجم فحاربوه في آخر نهار، ولما قرب الليل كثرت إليه الغوائر والأمداد من أهل العزائم حتى قتلوا من أصحابه جماعة يعني الأمير علي وضايقوه حصاراً، وقتل من ذيبان نحو أربعة أنفار ومن غيرهم مثلهم، فلما عرف الأمير المذكور أنه مغلوب وخاف طلب الأمان ليتركوه يصعد جبل الكلبيين ويتصل بمحطته، ثم تقدم القاضي بعدها على ولد الأمير المذكور الأمير حسن بن علي وكان في عسكر ليسوا بالكثير من جهة أبيه في ذيبين المحروس بالله فحاصروه وجرى الخطاب على خروجه كما سبق من أبيه، وصفت بلاد حاشد وبكيل من جنود العجم، ثم طلع بهم القاضي جمال الدين الهادي إلى الظواهر مراراً، ولما كانت الحروب المذكورة آنفاً وتلازمت في وادعة بما يطول تفصيلها بحيث أن الرائي إلى الآن يرى حجارة وادعة وما يقرب من الحصن معلومة فيها أثر الخيل لكثرة الغارات، وكان الحاج شمس الدين رحمه الله والفقيه عز الدين معه أيضاً يباشر القتال كل يوم للتفريج عن درب العنز حتى نصرهم الله تعالى وأفرجوا عن درب العنز، وقد وصل
القاضي الهادي بغارة عظيمة من حاشد وبكيل وكان العجم قد حاصروا السيد محمد بن عامر في الغول والشيخ صالح بن محمد حمران في درب العنز وضايقوها وطمعوا فيها، فصار القاضي الهادي في الغول وأفرجوا عن السيد محمد بن عامر، ثم اجتمعوا للحرب على درب العنز وقد أبلى [ق/375] فيه الشيخ صالح بن محمد بن حمران ومن معه وأحصى للشيخ صالح حمران عدة قتلى من جنود العجم حتى لقد انفجر صدره من شدة الرمي وبقي صدره مشققاً من ذلك اليوم إلى أن مات حتى أفرجوا عن درب العنز، وكان في محاط العجم الأمير الطاغي الكبير حيدر وإليه خمسة أمراء صناجق وجنود هائلة، وعظم الأمر فانهزم جنود الحق ورجع القاضي رحمه الله بلاد المشرق والسيد محمد بن عامر وعيون من أصحاب الإمام عليه السلام وصاروا إلى الحرير من أسفل وادعة، ثم عجزوا عن المقام فانكسروا إلى معرجة من أعمال حاشف، ثم عادوا إلى الإمام عليه السلام وكان الحاج شمس الدين أحمد بن عواض قد وصل بغارة من المشرق وحضر هذه الحروب كما تقدم، والإمام عليه السلام يمد ولده مولانا محمد ويتشدد عليه في حصار الذين في الهجر، وقد طلب ولده مولانا الحسين رضوان الله عليه من تلمص وقد رأى أن على حصار صعدة من يكفي، فلما صار إليه أرسله ظليمة لمقابلة من في السودة وجهاتها من جنود العجم فصار في القصبة من ظليمة وقد تقدم أنه عليه السلام أرسل جماعة من أنصار الحق إلى بلاد عفار ومن الشرف إلى بلاد حجة فلم يقعوا على طائل.
نعم، ولما انهزمت المراتب الإمامية تقدم الأمير حيدر لا رحمه الله إلى أعلى طلعة النطاق وعشر هنالك بما كأنها الرعود وأرعد وأبرق، وأرسل الأمير درويش لا رحمه الله والأمير عبد القادر بن ناصر الجوفي، والأمير حسين من العجم وغيرهم إلى قرن الوعر، وكان في القبلة رتبة من العجم مع الشيخ حسن بن علي بن وهان فاتصلوا بهم ظاهراً وطاغيتهم مراكز لهم في جانب وادعة وأعلى الحرير، قال سيدنا الفقيه المجاهد عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي وكنا عند الإمام عليه السلام في شهارة وقد صكت المسامع تعشيرة الترك وطبولهم ومرافعهم والإمام عليه السلام لم يبق عنده إلا أقل من عشرة أنفار فيما أظن والمجاهدون كلهم على الهجر، ومن انهزم منهم من وادعة صار إلى الهجر أيضاً وبعضهم في جانب أعمال حاشد، قال فاجتمع إلينا رأينا أن نشير على الإمام عليه السلام أن يخرج من شهارة لئلا يحصروه فيها، وعظم الأمر وهو يشدنا حتى قلنا له تخرج إلى الأهنوم وتكون ظهراً لمولانا محمد فهو في الموضع المعروف بالقدوم، وحروب القدوم معروفة طويلة، قال فلم يسترجح ذلك، ثم خرج من سعدان إلى الشرفي المشرف على البطنة ووادعة فأرى العجم وإرعادهم وإبراقهم وسمع في أسفل الطلعة مناوشة [ق/376] حرب ثم سكن، فقال عليه السلام: تعرفون هذه البنادق؟ قلنا: لا، قال: هذا الحاج أحمد حفظه الله وجد جماعة أعانوه فرماهم في ذلك الموضع وهذا آخر ما قدر عليه فكان كذلك أنه الحاج وإنما توسمه سلام الله عليه، ثم إن النقيب السيد الحسن بن شرف الدين رضوان الله عليه وسيدنا العلامة عامر بن محمد ومن حضر وقال: يا أصحاب ما
معناه أترون هذه الشدائد وكذا إنما أتينا من قبل نفوسنا بتقصيرنا في حق الله سبحانه فهلموا نستغفر الله العظيم وندعوا، قال فأمنا على دعائه وقام مستبشراً من ذلك الموضع يبشرنا بالفرج ونصرنا الله سبحانه، فلما وصلنا باب سعدان وإذا بطفل صغير من أبناء السادة يخبر من غير أن يكون عنده أحد هذا رأس ابن المعافا وهذا رأس درويش وأظن أنه زاد غيرهما فأخبره الإمام عليه السلام فاستبشر أيضاً، ولما تفضل الله بالنصر كانت الرؤوس حيث قال ذلك الصبي لم يعدها.
[ملاحقة القوات الإمامية ابن المعافا]
وأخبرني القاضي صفي الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه عن والده رحمه الله أنه خرج في تلك الساعة من عند الإمام عليه السلام وأمره وغيره أن يسودوا كتباً إلى القبائل للاجتماع للغارة فسمع صوت الصبي قبل أن يكتب {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ولما وصل العجم قرن الوعر وباتوا فيه ثم أصبحوا إلى الحدبة المعروفة بحدبة السنحاني، وترفعت المراتب الإمامية القريبة من القاع إلى جانب السبط من أسفل جبل ذري ثم إلى مولانا محمد عليه السلام إلى القدوم حذراً من حدث من الخيل، وكان مولانا محمد عليه السلام قد قدم خيمة لمقدمته ويستقر فيها بعض الأوقات ليشرف على وادي الهجر، ولما استقر العجم في الحدبة واتصلوا بالهجر ومن فيه من العجم وشرار العرب، وكان صاحب تدبيرهم يعني أهل المدد الأمير درويش، فقال للعسكر: من وصل منكم عند تلك الخيمة فله كذا ومن اقتلعها فله كذا، وقد طمع فيها وفي مكانها لقربها منه فتبادروا إليها ودافعهم المجاهدون، ووقع حولها ملحمة وقتال شديد عادوا عنها خائبين وقد قتل منهم جماعة ومن المجاهدين أقل وهزموا حتى عادوا موضعهم، فهان على المجاهدين أمرهم وقللهم الله في أعينهم، ثم دار الخطاب فيما بين الأمير عبد الله بن المعافا ومن معه والأمير درويش ومن معه فرأى المحصورين أن الغارة تبقى في موضعها من الحدبة وهم في موضعهم [ق/377] وطمع ابن المعافا في هزيمة جنود الحق، ورأى درويش ومن معه المبادرة بالعود إلى حيدر وإنما
نريد خلاصكم فقط ولا نطمع في غيره وتدبير ابن المعافا أن المكان بعيد فنخاف مع الخروج كما وقع، والله غالب على أمره والغاضب لدينه المنتصر لأوليائه، فتحرك أهل الهجر للخروج فشعرت بهم المراتب التي أعلى منهم في جانب ذري مع السيد العالم ناصر بن محمد بن يحيى صبح الغرباني، والسيد المجاهد أحمد بن محمد الحيداني والسادة أهل المحراب ومن في جانبهم من المجاهدين، وأهل ذري فحملوا على مرتبة تقرب منهم فأخذوهم، ثم تقدموا على القرعي فأخذوه ولاحموا ابن المعافا في المدينة، ثم خرج حتى اتصل بالحدبة وقد قتل من أصحابه جماعة ونهبت أثقاله وحمل المجاهدون من القدوم عليهم، ووقع أمر ليس بالهزل، وعطفت خيلهم ورجلهم على مولانا محمد رضوان الله عليه وقد عرفوه والراية على رأسه فثبت لهم المجاهدون ثباتاً حسناً حتى ردوهم مراراً، واستشهد جماعة، ومن الظالمين كثيراً، وبات المجاهدون مجاورون لهم فيما بين الحدبة والهجر، فلما كان آخر الليل مع طلوع الفجر قدم أمراء العجم أثقالهم وجعلوا معها محطة وهم والخيل في أثرها، فلما شعر بهم جنود الحق صاحوا بهم ولازموهم حتى انتهوا معهم إلى قريب من بيت جمعان وعادوا عليهم الترك مراراً في الطريق وهم يهزمونهم والقتل فيهم وهم يعني أمراء العجم يبشرون جنودهم ويمنونهم بأن في قرن الوعر محطة تنجدهم وأن الأمير حيدر فيها وكذا، وفي كل وقت يزداد المجاهدون قوة وكثرة حتى انتهى أولهم إلى غارب أثلة والمجاهدون في أثرهم حتى لقد وصل من النساء من الأهنوم بما قدرنا عليه من الطعام والعنب، ولقد جهد الأهنوم حتى واسوا من جلب العنب وعرف لهم ذلك الموالف والمخالف.
[وقعة غارب أثلة]
وأما مولانا الحسين رضوان الله عليه فإن الإمام عليه السلام أمره بالمدد أن يلقي إلى غارب أثلة المعروف مما يتصل بقرن الوعر فأغار بقية يومه وليلته حتى طلع عليه الفجر وهو في الغارب وعسكره لا يجاوزون المائة النفر، وانضم إليه من عذر ومن قرب منهم غارات فأمرهم بعمارة مترس كبير ممتد حتى سد معظم المغربة وصار مع راياته في وسطه وغير لباسه، فلما رأى أولهم ظنوهم من العجم حتى رأى ذلك الأمير درويش فيما يذكر عنه عرف خرقة البيرق، وقال: هذا البيرق الذي كنا نراه في درب العنز فألقى الله في قلوبهم الرعب فماجوا فيما بينهم حتى لم يمد أكثرهم إلى سلاحه فأخذهم المسلمون [ق/378] من كل جهة.
قال الوالد جمال الدين علي بن المهدي رحمه الله مقسماً: لقد سمع الضرب فيهم كما يسمع قوم في هيجة يضربون الحطب بالفؤوس، وانجلت الوقعة على نحو ألف وأربعمائة قتيل ونفد منهم نحو من ألف نفر إلى قرن الوعر ولجؤا إلى القفلة وغنم المسلمون ما لا يحتسب ويضرب به المثل، ولا فقد مع ذلك من جنود الحق ممن يعرف أحد، وقتل أمراؤهم وأخذت صناجقهم المعروفة وهم الأمير عبد القادر بن ناصر الجوفي وكان يعد بعده فوارس، والأمير عبد الله بن المعافا، والأمير درويش والأمير الفارس المشهور عثمان قلفات، وكان ممن يضرب به المثل، والأمير حسين كيل وكان من عظمائهم، وسنان آغا وكان من عظمائهم وغيرهم، ولما انقضت الوقعة حمل الأهنوم ومن لا نظر إليه الغنائم الواسعة وتفرق الناس وتقدم مولانا محمد بعيون السادة والفضلاء إلى قرن الوعر، فجرى الخطاب إلى خروجهم إليه على حكم الإمام عليه السلام ودخل من عنده السيد أحمد بن محمد الحيداني المحنكي والشيخ عبد الله بن أحمد الحارثي وغيرهم لقبض السلاح والخيل وغيرها، ثم أرسل الإمام عليه السلام بعد أن أرسل قبل تسليم رؤوس الأمراء فقط، وأما غيرهم فلم يقطع رؤوسهم لكثرتها، وكان جملة النازلين من القفلة تسعمائة نفر ونيف فيهم من كبرائهم علي آغا رئيس بلق الحملية وقاسم آغا وإسماعيل آغا هؤلاء من كبراء العجم، ومن العرب علي الأزرقي الشقي وكان يقال له أبا عرب، وعبد الله بن إسماعيل من أمراء همدان وغيره وكان هو رتبة قفلة قرن الوعر، ومن الأشراف الأمير عامر الذيفاني وجماعة من أصحابه من ذيفان وعقبات، ومن كوكبان كبيرهم النقيب هادي بن مبارك
وجماعة من فرسان الأشراف.
وأما الشيخ حسن بن علي بن وهان فغيب عن الإمام عليه السلام برأي من مولانا محمد سلام الله عليه لرعاية حق والده وجده، وإن كان قد أساء إلى الإمام عليه السلام والمسلمين بما يطول به الشرح وحبس نحو أربع سنين، ثم أخرج، وكانت هذه القضية مما يضرب بها المثل، ثم إن مولانا محمد عليه السلام اشتغل بقبض الغنائم، وحفظ الأسرى، ووصل بهم إلى الإمام عليه السلام فأمر عليه السلام منهم يعني الأسرى نحو أربعمائة نفر أكثرهم من يافع مع الشيخ الرئيس المجاهد محمد بن صلاح البحش الأسدي إلى بلاد الشام على أنهم يحفظونهم، وقال: صدر حصتكم، فوصل بهم [ق/379] الشيخ محمد ومن معه من أهل الشام بعض الطريق وقتلوهم عن آخرهم، ويقال: إنهم فعلوا غير ما أمرهم به الإمام عليه السلام والآخرين فرقهم بعضاً في شهارة، وبعضاً في الهجر، وبعضاً في قرن الوعر، وبعضاً في المدان وجعلوا من يحفظهم وشقوا مع الناس وعمروا عليهم العمائر بالأجرة لأن فيهم من يقدر ما لا يقدر عليه العرب، ثم إن الإمام عليه السلام أمر بقتل الأزرقي لما يعرف من تعديه على المسلمين حتى لقد أحصى له عدة رؤوس من المسلمين، والثاني صالح حجار لعنه الله فإنه كان يتصيد مع سنان لا رحمه الله رؤوس الأشراف والفقهاء كما يطلب الكلاب الصيد، وله في هذه ما لا يسعه الاختصار ونحو خمسة أنفار على مثلهم سهيت حالها عن أسمائهم، منهم صلاح بن وهان من بدو عقبات فارساً مشهوراً.
ومما روي عن كثير من كبرائهم أنهم رأوا خيلاً تقاتلهم وكثيراً من نحو هذه الرواية، وأخبرني الفقيه الفاضل صلاح بن علي البريشي عافاه الله عن الشيخ المجاهد محمد بن صلاح البحش الأسدي أنه كان يسمع الضرب فيهم ولا يرى كثيراً من الناس وأنه هاب علجاً من طماطم الروم عظيم الخلقة وكاع عنه، قال فرأيت رجلاً لا سلاح له معروف يقول لي: اليوم من أيامك يا أبا حسن، ثم قتل ذلك العلج سهلاً ولم يأخذ شيئاً من سلبه النفيس ولم أره بعدها ولم أر من هو، وأبلى مولانا الحسين رحمه الله في هذه الوقعة.
أخبرني الفقيه الفاضل صلاح بن سعيد القحيف رحمه الله أن مولانا الحسين كان يطعن بالرمح حتى انكسر ثم الجنبية وأنه لقي علجاً [شاكاً، قال فرأيت الحسين وقد قصده بطعنة فالتفت عليه] واحتمله في حضنه وأراد ذبحه، ومولانا الحسين يدافع عن نفسه، قال فجررت العلج بلحيته وطعنته في نحره وانصب على مولانا الحسين دمه ولم يفلته إلا بعد موته لعنه الله ثم لم يكف عن مثل ذلك حتى انقضت الوقعة، ولم يزل مولانا الحسين يعرف هذه للفقيه المذكور حتى مات رحمه الله، وسمعت عمن حدث عن قوم من بلاد الحقار أنهم سمعوا لصبح تلك الليلة مرافع تضرب في بلادهم ويقولون: الغارة الغارة إلى غارب أثلة، وأخبرني الأمير عامر بن حسن الذيفاني أنه رأى هو وغيره خيلاً تطير في الهواء، وانتشرت هذه الوقعة وطارت منها أفئدة الظالمين، وقل طمعهم بعدها في شهارة وما إليها والشام وبلاده.
[رؤية القاضي علي بن محمد العنسي]
وأخبرني القاضي الفاضل علي بن محمد العنسي الآنسي أنه كتب رؤيا رواها له من يثق به من أصحاب الإمام عليه السلام في هذه الوقعة أن قائلاً أنشده في النوم [ق/380]:
إن المنية أنشبت .... بابن المعافا ظفرها
وسقته من كاساتها .... والنائبات أمرها
وبنيه طاحوا بعده .... بجريرة قد جرها
قبحاً لدنيا أعقبت .... من بعد نفعٍ ضرها
(روى لي الوالد السيد جمال الدين علي بن إبراهيم بن المهدي بن علي بن المهدي الجحافي القاسمي رحمه الله أن مولانا أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد سلام الله عليه قال لمن يخطب الخطب من أولاد السادة ومعهم رجل يسمى الحاج سعيد العبد وصالح صنوه، وكان مع السادة إبراهيم بن المهدي رحمه الله، وصنوه علي بن المهدي رحمه الله في أيام الحصار على شهارة إذ أمر لم يختطبون فقولوا بهذه الأبيات:
إن المنية أنشبت .... بابن المعافا ظفرها
وفيها بعد قوله: (وسقته):
تعساً له من صرعة .... لو كان يعرف قدرها
وبنوه طاحوا بعده .... .......................])
إلى آخرها، ولم يذكر أنها رؤيا، وكنت سمعت بعض هذه الرواية فأثبتها.
نعم وكان في مدة الحصار [قد] دار الخطاب بين الإمام عليه السلام وبين ابن المعافا والمحصورين معه على أنهم يسلموا السلاح ويذهبوا وهو يقبض ويصير إلى يد الإمام عليه السلام وكان قد أجابهم حيدر، ثم رجح لهم بعض طغاتهم الغارة المذكورة، فكان فيها أمر الله المبرم وتدبيره النافع، والحمد لله رب العالمين.
قال السيد أحمد نفع الله به: لما توجه ابن المعافا لمحاربة الإمام عليه السلام بعد غدره بالإمام في السودة وصار إلى ظليمة، وكان السيد عبد الله المسمى حسن بن عبد الله فأرسله الإمام إلى أبيه وحلفه أنه مبلغ عنه ابن المعافا ما يتوصاه، ثم قال: قل للفقيه عبد الله: قال الإمام: قد طاب في جانبك ورد فيك قول كل الناس من قريب وبعيد، وجاهد الناس من جهتك مجاهدة، وكلهم يحب أن يسعى في هلاكك بما أمكن فما ساعدهم الإمام ولا رضي، وأما أنت فقد نكثت وعبت وغيرت العهد الذي بينك وبينه وهو ينتظر طيب الله فإن الله بالمرصاد، قال السيد حسين [ق/381]: فقلت له بهذا الكلام يعني الأمير عبد الله فتغير وجهه، واختلج لسانه، وتكلم بكلام غير مستقيم، فكان من أمره ما كان والله المنتصر لدينه، وقال السيد أيضاً: وروى لي الثقة أن الإمام عليه السلام أقسم بالله الذي لا إله إلا هو ليبتلين الله آل المعافا بالذل والفقر حتى يكونوا يلتقطون الحب من الأسواق وتهدم بيوتهم الذي في السودة والحصن المعروف. انتهى بالمعنى.
نعم، وكتبت البشائر إلى جميع اليمن وربما غيرها، وفيها ألفاظ عجيبة طارت في البلاد ولم أجد عند رقم هذه الجملة شيئاً فأثبته وقد وقفت على كثير منها فإن يسر الله سبحانه كتبت في هذا الموضع ما أمكن، وما قيل فيها من الأشعار.
[.................................................................].
[كرامات الإمام]
فائدة: ومن كرامات الإمام عليه السلام في هذه النهضة، منها: ما أخبرني مولانا أحمد بن أمير المؤمنين أطال الله بقاه أن الإمام عليه السلام قبل وقعة عرو وما بعدها، قال وقد تشدد بالقسم بالله ليأتي إليه رأس الأمير أحمد الأخرم التركي- وكان داهية حرب الترك أقمأهم الله- في هذا الأسبوع أو قال هذا الشهر فأصدق الله أمله، قال أطال الله بقاه: وفيها سمعه يستوهب الله رأس الأخرم والأمير رستام فلما رآهما مولانا أحمد حفظه الله قال: يا والد لو طلبتم معهما حيدر فكان أميرهم الأعظم مقسماً بالله متشدداً في القسم أنه آخر الترك في أراضي اليمن، قال فعجبت من اليمين على سبيل القطع فذهب محمد مع مخدومه الباشا جعفر وعاد بعد فضلي باشا والياً على اليمن وهو آخر من ملك منهم صنعاء اليمن، وعند ذكره لهذه ذكر كثيراً من نحو هذه، فقال إنه يروي أن والده عليه السلام اشتد عليه وعلى وادعة الحرب واجتماع العرب والعجم عليه وعليهم فاجتمعوا إليه للتراود فأجابهم بما تقدم في ذكر النهضة الأخرى ودخوله وادعة، ثم وضع قلنسوته بينهم وقال: كم ترون باقي من مدة هذه الكوفيه، وكانت عتيقة؟ فقال أحدهم: كذا، وقال آخر بغير ذلك، فأقسم بالله متشدداً في القسم أن عمر هذه القلنسوة أكثر من الباقي من دولة الباشا سنان وإنما تأتي خمسة أشهر إلا وقد انقطعت دولته من اليمن فكان كما قال، وألحقناها ما تقدم لقصد حفظها وإن كان محلها متقدماً كما ترى. والله الموفق.
وقال إنه اغتم يوماً لما يرى من قوة الأتراك أقمأهم الله وتسلطهم فرأى أن قائلاً يقول له ثلاثاً: إنما هذه الدولة حمارية، قال وبقي الإمام عليه السلام أياماً يفكر ما تفسير ذلك، ثم فسرها بعد ذلك مثلاً مضروباً بدولة بني مروان كما ذكر أهل التأريخ في مروان الحمار فإن به تمام دولة بني أمية، وقال بعد أن ذكر هذا المنام بعد ما تقدم من الرواية عن والده وأن الإمام عليه السلام رأى في النوم أن شجرة مخالفة للشجر فيها قرون كثيرة واسمها شجرة القرون لون القرون الحمرة، قال فكسرت الأول بمشقة والآخر كذلك وهو ينبت بعد الأول أضعف منه حتى أزالهن بمشقة وعناء، وأنه فسر ذلك بالترك فكان كذلك على يد ولد الإمام عليه السلام وإخوته عليهم السلام، وقال أيضاً: إنه حصل في شهارة وبلادها جدب مخالف وانقطع الماء من المناهل حتى اغترفوا [ق/386] من وادي رخم وغيره وقنط كثير من الناس والإمام عليه السلام يبشرهم بالفرج ويخوفهم بالله من القنوط، فطلع رجل من الأهنوم يسمى الحاج قاسم بن قب من عرب بني حمزة إلى شهارة إلى عند الإمام عليه السلام وتكلم بما لا يجوز من اليأس من الرحمة والفرج، فخوفه الإمام عليه السلام فلم يقبل وخرج من عند الإمام عليه السلام فقال له الإمام ولمن عنده مقسماً بالله مكرراً للقسم متشدداً فيه: لا أمسي هذا اليوم إلا وقد فرج الله هذه الشدة وحصل الغيث وأنه أخبرني بذلك الصادق ولم يكن في السماء قزعة، فبعث الله الغمام في ذلك اليوم ونزل المطر الغزير حتى ملأ المناهل وسال أكثر من المعتاد، قال فعجبنا وسألوه فقال: قال الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا}،فعلمت قرب الفرج من كلام الصادق الحكيم أو كما قال، وأن هذا السيل اجتحف مال هذا الحاج حتى كاد يعدمه.
وقال السيد أحمد نفع الله به في أخبار غارب أثلة من نحو ما تقدم ما لفظه: ومن العجائب أن خبر هذه الوقعة بلغ إلى كوكبان ذلك اليوم وهو يوم الإثنين وبلغ أيضاً خبر نزول الأتراك من وادعة إلى بلاد عذر ذلك الوقت الذي دخلوا فيه قرن الوعر وهو بعد العصر ثاني عشر جمادى الأول.
أخبرني السيد العالم الكبير المهدي بن إبراهيم بن جحاف رحمه الله.
قلت: وأخبرني القاضي العلامة أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه أنهم تحدثوا بهذه الواقعة باسمها واسم الموقع في بلاد الشرف قبل الوقعة بنحو شهرين، ومثل هذه ذكر في سيرة الإمام الأعظم المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام أنهم تحدثوا بفتح صنعاء في منى، وكان الفتح في ربيع الأول أو صفر -الشك مني- فيتحقق في السير وإنما المقصود أنها نظير هذه بل أكثر مدة، وقد ذكر فيما سبق كثيراً ولا أدري إلى ما يرجع ذلك، فسبحان من أحاط بكل شيء علماً.
نعم، وسمعت من بعض من كان مع الظالمين أن أول خبر وصل حيدر إلى وادعة من رجل يسمى علي سقا كان مع المحطة ووقع فيه صوائب كلها غير حائفة، ولكنها كثيرة قل من لحمه ما لم يكن فيه موضع سليم من ضربة أوطعنة ففرغ بعد الوقعة في الليل لقوته حتى وصل حيدر صباحاً فأخبره الخبر وأظنه قال مات بعدها، وضرب جنود العجم المثل بذلك حتى إنهم يقولون فيمن بالغوا في إثخانه وقتله: قتلة علي سقا. والله أعلم.
نعم، وأخبرني الشيخ محمد القارني [ق/387] وكان شاوشاً مع الإمام عليه السلام وهو من مشائخ قارن أن الإمام عليه السلام قبل وقعة عرو والذواهب رق عسكره وقل ناصرهم والإمداد إليه، فطلع أعلى صخرة في بعض بلاد خولان وناداني أفرق في الناس ما بقي من الدقيق فأخذت أباشر ذلك بنفسي وأتحرك لتفريقه وقد علاني غباره وأنا أرجو في تلك الحال دعوة منه عليه السلام صالحة، فلما فرغت دعاني فوصلت إليه وإذا هو متغير اللون، فقال: هذه المشقة وما ترى مما اتفق من أسر الولد الحسن والشيخ علي بن عبد الملك القارني فيه أعظم عذر سلط الله عليه الترك وكرر ذلك، قال: فقطعت بهلاك الشيخ المذكور وهو من قرابتي وذكر آخرين معه، ووقع في نفسي عطف رحيم على المذكور، قال فقام رجل وقال: يا مولانا وأهل وادي عقار جلبوا العنب طرياً للترك ولم يكن العنب إلا معهم، فقال وهو مغضب أيضاً: عقر الله عنبهم ومحق بركتهم أو كما قال، ثم قام آخر وقال: أهل قرية جدر من مخاليف صنعاء الذين يمدون الترك بالدقيق إلى محطتهم، قال فتغير أخرى وقال: وما معي لهم يعينوهم عليّ جدر الله عليهم الرحمة، قال فما كان أقل من شهر إلا والخبر عندنا أن الترك أخذهم الله قتلوا الشيخ علي القارني بأن سلخوا جلده وهو حي يصيح ويقول: الله الله في الإمام فإنما صرت فيما ترون لما خنته، وأنهم قتلوه في الأسبوع الذي دعا عليه الإمام عليه السلام فيه، والذي أعانهم أهلكهم الله بما لا أتحقق تفصيله.
وأما وادي عقار فأرسل الله عليهم الجدب المتتابع حتى يبس العنب وأذوى وبقي بعض سنين، ووصل أهله يستعطفون الإمام عليه السلام فعاد لهم دون المعتاد، وهذه القضية ظاهرة مشهورة.
وأما قرية جدر فكذلك حتى خربت وتقلع أهلها من الجدب المختص بها، ولما طال وصلوا مع الفقيه الفاضل صالح بن جابر العلماني تائبين ووصلوا بنذور فعاد دون المعتاد، وهذه في الشهرة أعظم من قضية عقار. انتهى.
وجمعنا ذلك في هذا الموضع لقصد اجتماع الفائدة، رجعنا إلى تمام الحوادث بعد قضية غارب أثلة.
فصل: ولما انقضت هذه الملحمة وكان مولانا علي بن أمير المؤمنين رضوان الله عليه في حصار صعدة ولهم حولها ملاحم عديدة، وقضايا هائلة، واستشهد في أيامها الأمير الشهيد الفارس الصنديد أحمد بن محمد الأخرم الجوفي وكان فيما يقال عليه ثلث القتال على صعدة، واستشهد الشيخ الفارس عوض بن نسر القحطاني من الحرجة، وكان تلو الأمير أحمد في الفراسة [ق/388]، ولغيرهم ذكر حسن مثل الشيخ ابن عرفج والفقيه المجاهد أحمد بن محمد ملقاط وغيرهم، وكان مولانا الحسين رضوان الله عليه معهم في تلك القضايا، ومولانا علي بن أمير المؤمنين عليه السلام بقي على أمر الجنود الإمامية، وكان فارساً شجاعاً بطلاً يعرف له ذلك الموالف والمخالف، وكان الإمام عليه السلام يخاف عليه كثيراً حتى لقد أرسل من يقبض حصانه لكثرة مباشرة الحروب الشديدة.
[وقعة الشقات واستشهاد علي بن الإمام القاسم]
فلما وصل خبر هذه الوقعة في غارب أثلة انحدر من جبل حسن إلى موضع أعلى من الصعيد يسمى الشقات قريباً من محطة العجم، وكان أمراؤهم قد عرفوا المقتلة الهائلة في غارب أثلة وهم يدبرون الحيلة في الخطاب أو الدخول المدينة ويحتازون فيها حتى ينظروا في أمرهم كما أخبرني من كان في جملتهم وصار إلى دولة الحق من غير واحد من الناس فلم يشعروا إلا بوصول مولانا علي بن أمير المؤمنين رحمة الله عليه، والسيد شمس الدين أحمد بن الإمام الحسن في جانب من ذلك الموضع، واغتنم الأمير صفر الفرصة بالقتال بالعسكر من أصحابه قبل أن يعلموا بالواقع، فخرج عليه السلام عليه طائفتان فانهزم السيد أحمد بن الحسن وأحيط بمولانا علي بن أمير المؤمنين عليه السلام فقتل من أصحابه ما يقرب من ثلاثمائة، واستشهد رضوان الله عليه وقد أبلى بلاء حسناً، واحتز رأسه الشريف.
قال السيد عيسى: وكانت الوقعة في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وألف [مارس 1615م]، وعاد العجم إلى محاطهم وأخبروا جنودهم وقالوا هذه بتلك أو كما قالوا فخف الحصار على صعدة ونالوا من الطرقات بعدها والأطراف، وتحدث الناس بأن السيد أحمد بن الحسن الذي عامل في مولانا علي رحمة الله عليه وكان إليه ولاية بلاد خولان، فأمر الإمام عليه السلام السيد العلامة الأفضل عبد الله بن محمد المحرابي لولايتها والقيام بها، وأمر السيد أحمد أن يلزم بيته، وكثرت عليه المقالة فكاتب الظلمة وصار إلى صعدة فعظموه، وغزا بهم مغازي حتى أفرج عن صعدة وبقي المجاهدون مع السادة في جانب فللة وفي علاف، ثم إنهم تحدثوا أنهم يطلبون له صنجقاً وأنهم طلبوه من صنعاء كما أخبرني الفقيه الأديب ناصر الحاصبي الحيمي وكان كاتباً مع العجم في صعدة في تلك المدة، قال: فلما رآهم في غاية الإعظام له توهم أنهم يريدون اغتياله وأنه لا صحة لما قالوه وكان قد أدخل ولده السيد المجاهد العالم عز الدين محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين أطال الله بقاه وهو ابن نحو من [ق/389]عشر سنين فخاف أن يأخذوه رهينة فكاتب السادة الفضلاء سراً السيد عز الدين محمد بن أحمد بن عز الدين المعروف بابن حورية، والسيد شمس الدين أحمد بن المهدي فلقوه إلى بعض أودية فللة مما يقرب من بني حذيفة، وقد خرج رئيسان من أعوان العجم وعسكرهما على أنهم يغزون معه السادة وقد أمكنته فرصة في جانبهم، فلما قرب منهم وانفرد من أصحابه وولده في ظهره على السرج ولا علم للعجم إلا أنه في صعدة، ثم لقي بني عمه وصار إليهم مدد الترك أخذهم الله،
وأمر الترك بالرجوع، ثم حشد للجهاد وتاب وأظهر التوبة والندم، وقد عرف مواضع مدد الترك أخذهم الله.
قال الفقيه ناصر بن صلاح الحاصبي: فكان عليهم أعظم مما كانوا بالقرب منهم على صعدة وقل عليهم الطعام حتى كادوا يهلكون، قال الفقيه ناصر المذكور: وانقطع عليهم المدد من صنعاء بالجامكية أربعة أشهر فوصلهم كتاب من الأمير عابدين بن مطهر بن الشويع من عيان أن جامكية العسكر لها أربعة أشهر عندي ذهباً أحمر ولم أجد من يوصلها، فأجابه الأمير صفر هذا إنكم تلقون بها إلى العيون من بلاد آل عامر، ثم جعل على المحطة فلاناً من العجم وخرج في الخيل وبعض البنادق، ثم جعل مركزين حتى اتصل بأولئك حوالي العيون وقبض الجامكية، ووصلته الغوائر فناوشوه، وقتل من أصحابه جماعة، ومن المجاهدين أقل، وعاد فاحتالوا باغتيال السيد العلامة محمد بن أحمد بن عز الدين رحمه الله فقتل ليلاً في هجرة فللة على ضوء السراج، ثم احتالوا بعد ذلك بأن دسوا السم للسيد أحمد بن الإمام الحسن رحمه الله ودفن مع ابن عمه في فللة.
رجعنا إلى تمام أخبار مولانا علي بن أمير المؤمنين عليه السلام فإن العجم أخذوا رأسه الشريف، وسلخوه وأرسلوا بجلدة رأسه إلى صنعاء وكان حامله من سفيان، فلما وصل به إلى بلاد وقف على أمره منصور وصالح التامين وهما أخوان من قوم يعرفون بآل جبير فقتلا حامله وأخذا رأس صاحبهما وحملاه إلى الإمام عليه السلام.
وأما رأسه الشريف فحمل إلى الإمام عليه السلام من صعدة فأمر الإمام بدفنه في الحال.
أخبرني حي الحاج عبد الله أبو شفلوت الحاجب أنه الذي دفنه في موضع معروف الآن عند قبر السيد العلامة علي بن صلاح العبالي رحمه الله ولم يصل عليه مولانا عليه السلام كما هو المختار من مذهب الهادي عليه السلام، وهذا المسجد هو الذي أسسه فإنه معروف بمسجد علي بن الإمام، وجسده الشريف احتمله الشيخ المجاهد شمس الدين أحمد بن علي بن [ق/390] كباس السحاري من أهل علاف وكفنه ودفنه عنده، وابتنى عليه مشهداً فهو هناك مزور مشهور رضوان الله عليه.
[مراثي في علي بن الإمام]
ومما قيل من المراثي ما قاله القاضي العلامة جمال الدين علي بن الحسين المسوري وهي هذه مخاطباً للإمام عليه السلام:
محلك أعلى أن ترى الدهر باكياً .... على من غدا في جنة الخلد ثاويا
وإن كان قد أشجى المعالي فراقه .... وضعضع منها منزلاً كان ساميا
فقد صار في دار النعيم محله .... علياً وللحور الحسان مدانيا
يطاف عليه بالكؤوس ويكتسي .... بها سندساً عضاً ويحلى لآليا
هنيئاً له أن بات لله مرضياً .... وعنه فرب العرش قد صار راضياً
فتى نازل الأعداء قبل احتلامه .... لهم لم يزل كأس المنية ساقيا
فتى علق الحرب العوان فلم يزل .... إليها على الحال الكريهة ساعيا
بغير المواضي البيض ما كان مولعاً .... كأن المواضي البيض بيضاً صوافياً
سواء عليه أن يلاقي جحفلاً .... بحرب وأن يلقى صديقاً مواتياً
ويغشى المنايا راغباً غير راهب .... أكان يرى أن المنايا أمانياً
بعزم به لو يطلب الشهب نالها .... وألقت إلى كفيه منها النواصيا
أقاتله تبت يداك لقد غدرت .... بقتلك إياه المعالي عواريا
وعطل جيد المجد من جوهر الوفاء .... وأصبح دوح الفضل ظمآن ذاويا
جمال الهدى بوساً ليومك إنه .... ليوم أرانا زند بلواه واريا
وأدنى إلينا الحزن بعد انتزاحه .... وقربه منا وقد صار قاصيا
وقرح أكباداً وروع أنفساً .... وصعد أنفاساً وهاج بواكيا
وأسبل دمعاً ما جرى قط قبله .... ومن بعده قد أحجل الغيث ساريا
أناعيه إن كنت لم تدر من له .... نعيت فيا قبحاً لمثلك ناعيا
وإن كنت قد حققت من هو فما الذي .... أتيت به قل لي وقبحت آتيا
أتيت إلينا ناعياً لمكارم .... هوت وغدى منهن ذي الدهر خاليا
لبأس يقود الأسد وهي خوادر .... ويجري على هام السماك المذاكيا
وجود لو أن الغيث ساواه واكفاً .... لأصبح وجه الأرض كالبحر طاميا
وسلك حلت من الشريعة جيدها .... وشادت به بعد انهدام مبانيا
[ق/391]
وصبر إليه الصبر يعزى وهمة .... تسهل للراقي المعالي المراقيا
فيا دهر لا تشمت بنا فلنا بمن .... تقدم منا أسوة فهي ماهيا
أليس علي ذاق بالسيف حتفه .... وكم مرة روى السيوف المواضيا
كذاك ابنه السبط الحسين وأهله .... مضوا ولعاب السيف يقطر قانيا
كذا زيد البحر الخضم سقى الثرى .... دم منه إذ أمسى إلى الله داعيا
وهل كابنه يحيى بن زيد وقد غدى .... دم منه في أرض الأعاجم جاريا
ونفس ابن عبد الله نفس زكية .... أعد لها الدهر الخؤون الدواهيا
فسالت على حد الحسام ولم يزل .... كذا الدهر للآل الكرام معاديا
وإخوته ذاقوا الذي ذاق بعدها .... رمى بهم ريب الزمان المراميا
وفي فخ قد ضاقت من الآل أنفس .... سقى دمها ترباً هنالك ضاحيا
وما زال من أولاد أحمد قائم .... يرى الموت من داء المذلة شافيا
يجاهد في الرحمن حق جهاده .... فيهلك جبار ويردع عاصيا
ويرفع من دين الإله منارة .... ويظهر نور منه قد كان خافيا
ويطلب ما عند الإله ببذل ما .... يعز فيفني نفسه والذراريا
وثوقاً بوعد الله جل جلاله .... لمن كان عن دين الإله محاميا
وعزة نفس لا ترى الذل مذهباً .... ولو نال من يمسي عليه الدراريا
وصوناً لأصل لو يحل رداه .... على الليل عاد الليل بالصبح زاريا
فصبراً أمير المؤمنين فإنه .... الزمان على الأحرار ما زال باغيا
ومثل من لقى الخطوب بهمة .... وصبراً يهد الشامخات الرواسيا
ألست على رزء الأسير أريتنا .... احتمالاً وصبراً باذخاً متعاليا
وألهمتنا يا ابن الكرام إلى التي .... هي التي ترد بها ناب المكاره نابيا
إلى حلة الصبر التي من سمى لها .... وألهمها لم يلق للدهر شاكيا
وأن ابنك الماضي وإن حل رزؤه .... لأغبط ممن صار في السجن عانيا
وأشرف إن لم يدفع الموت دافع .... لدى الفضل أن يلقى إلى القتل ساعيا
فموت الفتى بالسيف غنم وهل ترى .... من الناس من أمسى على الدهر باقيا
وأبشر أمير المؤمنين بنصرة .... بها الملك القهار يفني الأعاديا
[ق/392]
ويمكن منهم عاجلاً ويذيقهم .... بواراً ويفنيهم قريباً ونائيا
ففوض إليه الأمر في كل حالة .... تجده تعالى منهم لك كافيا
وأرسل إليهم من دعاتك عسكراً .... تهد به أمصارهم والصياصيا
فيغدوا وإن شادوا الحصون عليهم .... فيترك ما شادوه منهن خاويا
ولا زلت منصوراً معاناً مؤيداً .... مسدد آراء كريماً مساعيا
وكتب على قبره عادت بركاته (ولعلها للفقيه العلامة مطهر بن علي الضمدي رحمه الله تعالى):
هذا الضريح ضريح السيد البطل .... نجل الإمام الولي ابن الولي علي
العابد الزاهد الميمون طائره .... وقارن العلم بالإخلاص والعمل
الباذل المال لا من يكدره .... والثابت الجأش يوم الروع والوهل
الطاهر القلب من عجب ومن صلف .... ومن رياء ومن غش ومن دغل
يا سيدي يا علي يا ابن الإمام لقد .... أدركت منزلة في الفضل لم تنل
ما زلت في طلب العلياء مجتهداً .... من يوم أدركت حتى منتهى الأجل
هبطت تبغي جهاد الترك محتسباً .... لله من غير ما رهب ولا فشل
وحين أبصرك الأعداء منفرداً .... مالوا إليك فلم تجزع ولم تمل
وحين وافوك راموا أن تطاوعهم .... على الأسار فقلت القتل أشرف لي
فاستشهدوك حميداً يا أبا حسن .... ومزقوك ببيض الهند والأسل
لم يرقبوا فيك إلاً يا ابن فاطمة .... ولم يخافوا غداً من خاتم الرسل
ففاحت الأرض طيباً إذ ثويت بها .... وريع أهل التقى والفضل عن كمل
واستبشرت بك جنات النعيم معاً .... وقالت الحور والولدان حي هل
عليك أزكى صلاة الله دائمة .... تغشى ضريحك في صبح وفي طفل
[وصية الإمام لأولاده]
ومما نقل من خط القاضي العلامة ضياء الدين سعد الدين بن الحسين المسوري رحمه الله تعالى ما لفظه: ومما كتبت هذه الوصية من خط مولانا أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم محمد صلوات الله عليه وقرأتها عليه، وذلك في سنة أربع وعشرين وألف عقيب السنة التي استشهد فيها مولانا جمال الدين علي بن أمير المؤمنين عادت بركاته: يا بني اتقوا الله يكرمكم [ق/393]، وصلوا أرحامكم يطول أعماركم ويبارك لكم في أموالكم، وتصدقوا ترزقوا، وامروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا، وأخمصوا بطونكم من أموال الناس يكن طلبكم جميلاً، وإياكم ودماء الناس فإن تبعاتها في الدارين عظيمة، وأصلحوا المال حذار جفوة مخلوق تلجؤن إليه، ونبوة زمان يقل الصبر فيه، وإذا ابتليتم بمسألة أحد فقفوا عند أولها وكفى بالرد منعاً، وأكرموا الضيف بما تجدون ولا تكلفوا له فإنكم مع ذلك تملونه، ولا تكرهونه ولا يكن لكم على طلب العلم مانع، فيستغرق أوقاتكم ولكن اقسموا أوقاتكم واجعلوا خيرها وأكثرها في طلب العلم إلا ما كان لا بد منه في صلاح مالكم في أوقاتها، وحين تدعو الضرورة إليه، وإذا طلبتم العلم فعليكم بالعلم النافع وهو علوم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم، ودعوا الإغراق فيما لا ينفع فرب طالب علم جهل ورب ساع فيما يضره، هذا مع استقامة دينكم وعدم معاونتكم للظالمين فإن لم يستقم دينكم أو حملكم ظالم على معاونته والعياذ بالله فعليكم بالفرار إلى الله، واعتمدوا على الله وتوكلوا عليه وهو سبحانه لا يضيعكم، والسلام. كتب الفقير إلى الله أمير المؤمنين
القاسم بن محمد لطف الله به آمين.
(وممن ورد على الإمام عليه السلام عقيب هذه الوقعة الكبرى الفقيه الفاضل رضي الدين أبو بكر بن عبد الله الشافعي الحضرمي رحمه الله وأنشد هذه القصيدة الرائقة والكلمة الفائقة، وكان لها موقع عظيم، وذكر فخيم، وأعطاه الإمام عليه السلام في تلك الأيام مع قلة البلاد والمواد وكثرة الوفاد ثلاثمائة طاقة كندكي ونقداً وطارت في البلاد، وهي:
قل للمنازل بالكثيب الفرقد .... يا راحلاً طاب الزمان فغرد
إن الإمام القاسم بن محمد .... فتح البلاد بأسمر ومهند
دانت له شوس الملوك مهابة .... فرمى بحد السيف كل معربد
أضحى بنو عيص بن إسحاق وهم .... من حربه في جنح ليل أسود
سلكوا طريقاً شينة أفضت بهم .... قوداً إلى درك الحضيض الأوهد
سفكوا الدماء بغير حق بعدما .... أخذوا رياش اليعربية عن يد
شربوا الخمور وجاهروا رب السما .... بتزين الولد الحسين الأمرد
[ق/394]
ولو أنهم تركوا الفساد وسلموا .... أمر الخلافة للإمام الأوحد
وأتوا إليه خاضعين بأسرهم .... لنجوا به من هول ذاك الموعد
ونجت به أموالهم ورجالهم .... وتفيأوا في ظل آل محمد
لكنهم عرفوه فاختاروا العمى .... وتمردوا في الأرض أي تمرد
فأراهم المنصور كل كريهة .... قص الرؤوس بكل قرم أمجد
أنصاره مثل النجوم وأنه .... قمر يراه كل عبد مهتدي
حاز الفصاحة والسماحة والتقى .... وحوى الشجاعة والبراعة عن يد
وإذا سألت عن العلوم فإنه .... متضلع منها كبحر مزبد
أحيا منار الدين بعد خموله .... وأباد كل مريض قلب مفسد
أفنى جنود الروم بعد فسادهم .... ولحوق آخرهم بهم فكأن قد
والطير أضحت والوحوش تفضله .... وبنصرة في طيب عيش أرغد
في كل يوم سيفه أهدى لها .... منهم لحوماً بالعشي وبالغد
ما شح في حرب العدو بنفسه .... عشرون عاماً للعدو بمرصد
أقسمت لا سمح الزمان بمثله .... الله يحشرني بزمرة سيدي
أني أتيتك يا إمام زماننا .... أرجو دعاك به يقوم تأودي
فلأنت أفضل من على وجه الثرى .... يا قائماً لله درك منتدي
عذراً أمير المؤمنين فإنني .... في بدع أبيات النشيد لمبتدي
وأنا الفرزدق فيكم يا سادتي .... عبد يعيش بحبكم فلقد هدي
أنتم مصابيح الدجى سفن النجا .... أصل التقى وذخيرة المتزود
في حبكم أشنى معاوية الخنا .... إني سألعنه ولو قطعت يدي
وبني أمية كلهم أشناهم .... إلا أبا عمرو فلست بمسعد
وأخا بني تيم أبو بكر فلست أسبه .... يا سيدي وكذا شيخ بني عدي
وعقيدتي أن الإمامة فيكم .... وسواكم أخذ الخلافة معتدي
والله لا يرضى القبيح لنفسه .... أبداً ولا يرضى لكل موحد
والله ما خلق الفساد سوى الذي .... ركب الفساد مجاهراً بتعمد
وقطعت أن الله رب لا يرى .... فلعنت كل مجسم ومجسد
[ق:/395]
هو أول هو آخر هو قادر .... هو قاهر بعطا الخلائق مبتدي
هذي عقيدة شافعي صادق .... يرجو النجاة بحب آل محمد
وعليك مني ألف ألف تحية .... ترعاك ما تلي الكتاب بمسجد
وعلى نبيك وتابعيك بأسرهم .... ما مال غصن أخضر بتأود
أوهب ريح صبا بنشرٍ طيب .... نحو المنازل بالكثيب الفرقد)
[.........................................].
[الأحداث بعد وقعة الشقات]
[ق/397] رجعنا إلى أخبار الإمام عليه السلام وما تعقب من الفتوح في اليمن بعد هذه الوقعة فإنها أطارت أفئدة الظالمين، وحيت بها قلوب أولياء الدين، لولا أمران للتمحيص ما كان عقبها إلا حصار صنعاء أحدهما ما يعقبها من وقعة الشقات وما كان من استشهاد مولانا علي بن أمير المؤمنين رحمه الله، والثاني اشتغال مولانا محمد سلام الله عليه بالأسرى والغنائم وتفاوت المجاهدين حتى خلص حيدر ومن معه من وادعة وطاروا على وجوههم إلى خمر، وكان الحاج شمس الدين رحمه الله في جانب من وادعة فلاحمهم بقوم ليسوا بالكثير لأنه وصلهم الخبر بأخذ محطتهم قبل أن يصح للحاج والقبائل فاغتمنوا الفرصة، ولما وصلوا إلى خمر ومحطتها المعروفة بحممة أراد حيدر الهرب قبل أن تعلم القبائل والعسكر الذين في خمر، وكان في جملة أمرائهم الأمير عبد الله بن مطهر بن الإمام شرف الدين عليه السلام، وكان معظماً فيهم، والأمير محمد شلبي وجماعة من أمرائهم، والأمير علي بن مطهر بن الشويع فمنع الأمير عبد الله بن مطهر الأمير حيدر من الهرب وتكلم عليه كما روى ذلك غير واحد، وقال ما هو إلا هروبك من هذا الموضع وهلكت أنت وجميع العساكر وعرف العجم للمذكور ذلك مع عدم الفراغ لملازمتهم كما سبق، فأقام العجم في خمر، وتقدمت السرايا من عند الإمام عليه السلام شرقاً وغرباً ويمناً، وأحيط بجميع محاطهم.
ولنذكر من هذه الجمل ما أمكن لكثرتها على سبيل الإختصار إن شاء الله تعالى لما استقر المخذول في خمر صارت مراتب الإمام عليه السلام محيطة به فدخل أصحاب الإمام عليه السلام الجراف والعيانة، وخيران، والنائف، والسنتين وحازت جنود الحق من جميع الجهات، وفي هذه حروب مهيلة، وقضايا طويلة.
أخبرني السيد المجاهد عبد الله بن محمد صبح الغرباني القاسمي والسيد المجاهد مطهر بن ناصر الدين الحمزي المعروف بسحلة، وصنوه السيد علي بن زين العابدين والسيد علي بن محمد بن شمس الدين الغرباني أنهم أحصوا الحروب والمغازي في هذه الأيام على المسيجد من بلاد غشم ما يقرب من سبعين وقعة في أكثرها يدخل جنود الظلمة عليهم شوارعها وينهزمون، وفيها السيدان المجاهدان ناصر بن محمد صبح، والسيد أحمد بن محمد الحيداني [ق/398]رحمه الله، وفي النائف قريب منهما السيد المجاهد عز الدين محمد بن عامر بن علي بن عم مولانا الإمام عليه السلام، وفي خيران ما يتصل بمحطة خمر قريب من ذلك، والحاج شمس الدين أحمد بن عواض رحمه الله في غيل مغدف بلاد الأشراف، و بقي مدة يراوح العجم ويراوحوه.
وأخبرني السيد مطهر بن ناصر الدين الحمزي رحمه الله وكان في جماعته أنه أحصى في تلك المراكز أربعة وستين حرباً اليد في أكثرها لجنود الحق، وكان قبلها قد تقدم السيد العلامة ناصر بن محمد المعروف بصبح أطال الله بقاه إلى بني عبد وأبلى في تلك المرتبة، ولهم عليه حروب كثيرة أظنها أقل مما في جانب الحاج شمس الدين رحمه الله.
وفيها القضية العظيمة وهي أنهم حاصروه في بلد يسمى بيت الدرسي من بلاد بني عبد وأحاطوا به وكادوا يستأصلونه فيها، وقد قتل هو وأصحابه من جنودهم مقتلة عظيمة، ثم أفرده أهل البلاد واستأصل العجم البلاد فخرج السيد في حال الملاحمة يريد الإلتجاء بقرية أسفل من موضعه فيها جماعة من المجاهدين محصورين ويتصل بالغارة مع الحاج شمس الدين رحمه الله وغيره، فألجئ إلى بيت من بيوت العنب فدخلها هو وأخوه السيد عبد الله بن محمد والحاج صالح بن عبد الله حاجب الإمام عليه السلام فأحاطوا بهم، وقتلوا بالبنادق جماعة من العجم ما يقرب من الأربعين النفر وأيسوا من أنفسهم، فوصل طاغيتهم الأمير حيدر مغيراً ومركزه في الظاهر، فسأل كم المحتازون في تلك القصبة؟ فقيل: أربعة أنفار أو خمسة، فقال: اتركوهم وارتفعوا فإنهم لا يؤخذون حتى يقتلوا كثيراً أو كما قال، ولا علم له بأن السيد فيهم، وهذا من لطف الله سبحانه، فخرجوا سالمين، والحمد لله رب العالمين، وهدم العجم البلد وقد قتلوا من أهلها كثيراً فوق مائتي نفس صغاراً وكباراً حتى لقد قتلوا نساء قاتلهم الله ولعنهم.
ويروى أن بعض العرب الذين مع العجم احتز رأس عجوز زمنة في غاية الضعف وطرحها عند طاغيتهم مع الرؤوس فضحكوا عليه، فقال: هذه جدة الزيدية وأعطوه مالاً وزادوا في عطاه، وعادت المراكز غيل مغدف من بلاد الميقاع، والمراتب المتقدمة على حالها.
[أخبار جهات المشرق]
وأما جهات المشرق فقد تقدم أن فيها القاضي الهادي رحمه الله، والفقيه المجاهد [ق/399] عز الدين بن علي الأكوع، والشيخ صالح بن محمد حمران رحمهما الله فكانوا تارة يدخلون إلى جانب خمر ويقطعون ما بين محطة حممة والصرارة وما بين خمر وحمومة، ولهم مواقف حميدة، وملاحم عديدة كحرب السنتين والعجم قد جعلوا فيها محطة تحفظ لهم الطريق إلى صرارة وعمران مع الأمير أحمد بن عبد الرحمن.
قال السيد عيسى بمشورة الأمير عبد الله بن مطهر بن الإمام كما تقدم فحفظت لهم الطريق، وأما نقيل عجيب فقد قطعهم المجاهدون فلا يصلهم من جهته مدد وتنقلت هذه المراتب إلى حوالي كولة آل أبي الحسين من بني صريم وغيرها، وأعلى مرهبة وفي أكثرها حروب دون ما تقدم، وفي القليعة من الكلبيين وغيرها حتى أن الرتب ممتدة إلى حمدة البون وإلى أبرق جبل عيال يزيد، وإلى جانب الصيد وإلى بلاد الخشب مما يقرب من صنعاء وطمعهم في تلك البلاد أقل فالحرب عليهم في هذه النهضة أخف من جهات القبلة.
وأما بلاد شظب ونواحي بلاد الطرف فتقدمت إليهم الجنود، واستقرت المراتب في سهران من أعلى الأقهوم وما إليها من بلاد حنب وبني حيس الأعرام وهم جماعة من المجاهدين منهم الشيخ [..............] والقاضي جمال الدين علي بن أحمد بن أبي الرجال، والفقيه قاسم بن سعيد الشهاري وغيرهم، والحروب عليهم لا تزال.
[وقعة الزافن]
وأما بلاد عفار ونواحي كحلان وما إليها فتقدم إليها السيد المجاهد المنصور جمال الدين علي بن الحسن بن شرف الدين الحمزي وأخوه السيد شمس الدين أحمد بن الحسن، والسيد عز الدين محمد بن صالح بن عبد الله القاسمي وغيرهم، وكان عليهم السيد علي فاستولوا على جميع بلاد كحلان وبلاد عفار وانتهوا إلى حصن مدع والأشمور، ولهم في تلك الجهات حروب على نحو ما تقدم، وفيها قتلة الزافن معروفة على يد السيد جمال الدين رحمه الله، وذلك أنه كان للترك في الزافن رتبة فغزاها السيد جمال الدين ومن معه من المجاهدين فأحاطوا بها، وكان السيد جمال الدين رحمه الله في جانب مدع فأغار عليهم، وكان رحمه الله من سرعان الغارة وأول من وضع فيهم السيف وأحصى له عدة من القتلى في هذه الوقعة فهزموا الظالمين وقتل من جنودهم كثيرون، وكانت وقعة كبرى مما قلل الله بها شرهم، وكان في قرية مدع محطة من الأتراك [ق/400]، وكان السيد جمال الدين مراكز لهم فلما رأوا وقعة الزافن ووقعة الرتبة في حجر بني الفليحي فهي في يوم ولوا هاربين إلى حضور الشيخ.
[دخول الحسين بن الإمام الظفير وجهات حجة]
وأما جهات حجة ونواحي لاعة وما إليها فإن الإمام عليه السلام استرجح دخول مولانا الحسين رحمه الله بلاد حجة وقدم إليها جماعة من الأعيان والمجاهدين كالسيد علي بن الحسن رحمه الله تعالى فإنه في حكم من فتح حجة لأنه لما فتح الله عليه بلاد عفار وما إليها (احتازت جنود الظالمين إلى حصونهم ككوكبان قدم وكوكبان الجبر وحصن مبين وما إليها) وجهات مسور المنتاب، فاتفق في هذه الأيام المراكزة المشهورة في بيت علمان وكانت مما يضرب بها المثل، وكان فيها من قبل مولانا الحسين القاضي العلامة عبد الرحمن بن المنتصر العشبي.
قال السيد أحمد نفع الله به: وتقدم الفقيه الفاضل المجاهد العالم عبد الرحمن بن المنتصر العشبي إلى بني الطربي ثم إلى جهات مسور، ثم قال: وكان في بيت علمان رتبة من أهل كوكبان قدر خمسين نفراً فتقدم الفقيه عبد الرحمن ومن معه فحصرهم يوماً وليلة، ثم أخرجهم بأمان بعد أن قبض سلاحهم جميعه، وكان في حجر بني الفليحي بالمصانع رتبة للأتراك فتقدم إليهم الفقيه المذكور فقتل بعضهم وأسر بعضهم وأطلق بعضهم، وكانت هذه مع وقعة الزافن بيومها، ثم استقر السيد علي في الأشمور، والفقيه عبد الرحمن في بيت علمان ويمد بعضهم بعضاً عند الحاجات، ومما اتفق فيها يعني هذه المراكزة أنه كان لواء أهل كوكبان مع سعيد اليغنمي وكان داهية حربهم معروفاً بالقوة والشجاعة، وله وقائع معروفة هائلة، وحامل لواء جند الحق في بيت علمان الشيخ محمد بن دشلان المرهبي وكان مثله في جنود الحق، له ملاحم وقضايا فاتفق أنهما كانا يثبتان حتى أن الريح يخلط راياتهما وفي بعضها يسكنا بين الصفين وتجالدا فلم يقدر أحدهما على الآخر، فاعتنقا وتصافحا، وأقر كل واحد منهما لقرينه بالمكافأة، وفي جانب بلاد مسور القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن محمد السلفي من بلاد مسور، واستقامت الحروب الشديدة أياماً إلى أن رجع حيدر من الصرارة، وغزا الأشمور [ق/401] إلى العرة كما سيأتي، انحاز السيد جمال الدين ومن معه من السادة إلى جهة حجة، وكذلك الفقيه وجيه الدين عبد الرحمن بن المنتصر، والقاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي وغيرهم، وفي هذه حروب ووقعات منها فيما بين حيدر والسيد الضرغام الليث الهمام علي بن الحسن بن شرف الدين وهو في الأشمور كما تقدم، والسيد العلامة المجاهد عز الدين محمد بن صالح بن عبد الله الغرباني رحمة الله عليه اليد في أكثرها لجنود الحق.
[حروب العرة]
قال السيد أحمد نفع الله به: ووقع في هذه النهضة على العرة وأيامها حروب، باشر فيها السيد جمال الإسلام علي بن الحسن ضرامها بنفسه فأغاظ حيدر وأشجى حلقه ونغص عيشه، وقطع حيدر أنه لا نجاة له من السيد جمال الإسلام لما كان يرى من شدة بأسه وإقدامه وإقدام أصحابه مع قلتهم وكثرة عدوهم، وكان تسليم العرة في المرة الأخرى في شهر شوال عام ثلاث وعشرين وألف، ثم عاد السيد جمال الدين إلى عزان بني عشب، وكان [قد] أرسل الترك إليه محطة لحفظه فسبقهم إليه وغلبهم عليه وعمر فيه عمارة، وراوحه الأتراك القتال وباكروه أياماً في كلها اليد له عليهم ولا يزال منهم القتل الكثير، وأعمل الترك الحيلة بالأموال ودخلت مواضع من خلف ظهر السيد المذكور والمراتب الإمامية فعاد إلى الصرحة من بلاد عفار، واستشهد من أصحابه ستة أنفار مع الانتفال، ثم قصد الأتراك بيت علمان وفيه الفقيه عبد الرحمن كما تقدم فهزمهم جنود الحق، وقتلوا كثيراً منهم فوق الثلاثين النفر، ثم اختلت مقدمته بالمال فدخل العجم بيت عذاقة فانحدر الفقيه عبد الرحمن إلى قيلاب، هذا معنى ما ذكره السيد في هذه الجملة، ثم لا زالت الأموال تفعل حتى عادت المراتب إلى حجة بعد حروب يطول تفصيلها، وعاد أصحاب الإمام من حجة إلى الظفير، ثم غزوا منه حورة واستعادوا حجة، ثم عاد عليهم الترك وأهل البلاد بالخدع فصاروا إلى مولانا الحسين رحمه الله إلى المعبر من أعمال الظفير كما سيأتي، وهذه المراتب كلها بنظره إنما هم مقدماته وهم عدة أمراء لم نذكر منهم إلا أقل من النصف، وكل هذه القضايا في سنة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين وألف.
[مؤازرة الحيمة للإمام]
وأما جهات الحيمة ونواحيها فقد تقدم أن حي الشيخ المجاهد فخر الدين عبد الله بن سعيد الطير رحمه الله بقي في [ق/402] الحيمة وأحوج مع هزيمة الإمام عليه السلام إلى الشام وحوزة شهارة المرة الأخرى إلى الإنفراد، وهم بالخروج من الحيمة، فلما صح له ظهور الإمام عليه السلام وانتصاره كما تقدم اجتمع إليه أهل الحيمة وقاموا معه القيام المحمود وظهرت مناقب لكبرائهم، وكان قد تقدم لهم المواقف المحمودة، والمحامد المشهودة، وغلظ جنده، وطلع بهم حضور واستولى عليه، وغزا جهات سنحان وبلاد كوكبان مراراً حتى بلغ عصر أعلى من صنعاء.
ويروى أن الباشا جعفر سلم حصته مما صالح به أهل الأملاك من أهل صنعاء وجند الظلمة في حدة وسناع وبستان عصر، وعظم جانبه وأمده الإمام عليه السلام بعيون كالقاضي العلامة سعيد بن صلاح الهبل، وسيدنا القاضي العلامة عبد الهادي بن أحمد الثلائي رحمه الله، ومن أهل الحيمة القاضي المجاهد السابق عماد الدين يحيى بن أحمد المخلافي وإليه الرئاسة في كثير من قبائل الحيمة، وله التأثير الحسن في الجهاد، ومن أهل الحيمة كثيرون كالشيخ علي بن عبد الله المنامة وغيره، ثم إن الشيخ عبد الله جعل كميناً مما يقرب من صنعاء فانتهبوا غنماً للباشا وثياباً كثيرة لأهل الصابون، وكان قد نهبوا قبلها غنماً مراراً، ولما كانت هذه النهبة الأخرى من باب السبحة وكونها للباشا عظم ذلك عليه فغضب وجمع عسكراً من العرب والعجم كثيراً، وأرسل عليهم ثلاثة أمراء من العجم منهم إسماعيل آغا، ومن العرب الأمير حسن الداعي وخمسمائة نفر من همدان، والشيخ جميل القشم وقريباً منهم من بني الحارث، ومن سنحان كذلك، ومن العرب النقيب محمد سعدان أخ سعدان الشقي وكان تلوه، وكان على العرب وهم الذين لا بنادق معهم، ثم أرسلوا بعدهم الأمير الحسين بن محمد بن ناصر الحمزي بعد أن أخرجوا من الحبس وأقاموه مقام عمه الأمير عبد القادر بن ناصر المقتول في غارب أثلة ومن معه في جانب بني مطر في الدار البيضاء.
قال السيد عيسى: وأحربه فيها بنو مطر وهزمهم وقتل منهم أنفار، ومن أصحابه كذلك، وصعدت المحاط إلى جهات حضور ولبثوا ليالي في حصن المساجد وأحربهم المجاهدون فيه حرباً لم يقعوا فيه على طائل لكثرة خيلهم، ثم زحف الظالمون إلى قرية بيت ردم المعروف، وتقدم إليهم جنود الحق وتعبوا لهم وجعلوا في مقابلة [ق/403] الخيل مراكز من الرجال أهل البسالة ومن انتدب لذلك من أهل الصبر والشجاعة، فداخلوهم بحرب عظيم قتل فيهم كثير من العجم وجنودهم ولا لخيلهم أثر بل أثرت فيها البنادق فهزموهم حتى ألجوهم إلى محطهم وأمسوا عليهم وقد قتلوا من العجم مقتلة عظيمة، فأغار مدداً لهم الأمير الحسين بن محمد الحمزي بمن معه من الخيل والرجل وقد أظهر شجاعة، وبذل للعجم نصيحته فكاد يؤثر في المسلمين فرماه جماعة منهم القاضي المجاهد أحمد بن عامر بن محمد الذماري رحمه الله تعالى فيقال: إنه الذي أصابه، وخذل الله المبطلين، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم اشتدت عليهم الغارات من الحيمة وحضور وبني مطر وألجؤهم إلى البيوت وإلى الحصن، والقتل فيهم كثير، ومن المجاهدين القليل، فراسلوا طاغيتهم بالمدد وأرسل إلى كوكبان فيما أخبرني من وقف على ذلك ممن صار في جنود الحق من عسكرهم فكان الجواب أن عندنا شاغلاً أعظم، وكان النقيب محمد سعدان لا رحمه الله لين العريكة يخالط العرب ويظهر تودداً، وقد يكاتب الإمام عليه السلام ويدعي أنه مخالف لأخيه، فجرى الخطاب على يده على أن يجعلوا لجنود الظلمة وأمرائهم صلحاً ويعودون صنعاء كما خرجوا، وبذلوا مالاً فقبل منهم الشيخ عبد الله بعد أن شاور من عنده من
العلماء والرؤساء ورأوا ذلك صلاحاً فوضعوا لهم ذلك وأخذوا ما أعطوهم من الفداء، وما عجزوا عن حمله من الأثقال فإنها للمجاهدين وأفرجوا لهم فعادوا ليلاً حتى أصبحوا في باب صنعاء، وكان عظم موقع كسيرتهم هذه قريب من قضية غارب أثلة عند أهل صنعاء، واستمر الشيخ عبد الله في الحيمة وبلاد حضور على نحو ما تقدم وأشد قوة، وأمر الإمام عليه السلام الشيخ عبد الله بأن يجهز من عنده رئيساً لفتح جبل تيس فأرسل لذلك الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي الآنسي رحمه الله وضم إليه قبائل من الحيمة من الأحبوب والقبائل، وكان رأي الإمام عليه السلام المسارعة بدخول جبل تيس لأجل أنهم يشغلون كوكبان عن تكاثرهم على المراتب الإمامية المتقدمة في بيت علمان وبيت عذاقة من مسور وما إليها، فلما استبطأهم الإمام عليه السلام أمر من عنده السيد المجاهد عبد الله الهادي المحنكي الحيداني رحمه الله تعالى، وكانت طريقه من عند مولانا الحسين رحمه الله من حجة، ثم الخبت من بلاد نمرة وطلع قبلة جبل تيس بعسكر ليسوا بالكثير فوجد السيد علي في سافوف قد سبقه [ق/404]وضايقوا كوكبان وخرجت عليهم المحاط، وكانت المراكزة قريباً من أربعة أشهر، واستشهد الشيخ المجاهد الرئيس شمس الدين بن صلاح العزب وهو عمدة من أهل الجهاد وجماعة وكانوا في جماعة السيد علي رحمه الله ثم هزموا إلى جانب الحيمة.
[مقتل عبد الله بن الهادي]
وأما السيد عبد الله بن هادي رحمه الله فعاد جهات خبت نمرة من بلاد ابن الأهيل فتلقاه الشيخ محمد عديعد وأضافه حتى اطمأن وغدر به وقتله وتفرق أصحابه ونهب مامعه، وكانت غدرة يضرب بها المثل ثانية لغدرة الجرمي لعنهما الله {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وكان الشقي بعدها لا يقر له قرار بل كان يغزوه أصحاب الإمام عليه السلام في أكثر الأوقات وخاف خوفاً شديداً، وجرى عليه وعلى بلده مصائب، ثم لما فتح الله البلاد على مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله عليه وصل هذا المحروم وأظهر توبته وما ذاك فيما يذكر إلا خوفاً من ظهور الحق عليه، وأعطى ورثة السيد المذكور الدية، وبعد أيام أرسل الإمام عليه السلام السيد محمد بن علي المعروف بالقراع وكان قد صار إلى الظلمة وغرته هذه العاجلة، ثم إنه عاد تائباً إلى الإمام عليه السلام فأرسله أخرى لفتح جبل تيس بأمداد الحيمة، واستقر في جبل بني حبش من جبل تيس، وله حروب حسنة، وكان القاضي عماد الدين يحيى بن أحمد المخلافي رحمه الله عند الإمام عليه السلام فأرسله إلى الحيمة ممداً للسيد المذكور فخرج بجمهور أهل الحيمة، وله وللسيد محمد بن علي حروب كثيرة وطردوا من في جبل تيس من الظالمين، وغلبوا عليه أياماً ثم هزموا فعادوا الحيمة.
[أخبار خولان العالية]
وأما بلاد خولان العالية فإنهم في هذه النهضة تثاقلوا وأفسد سراياهم الترك أخذهم الله بالمال، وكان السيد العلامة شمس الدين أحمد بن علي بن الحسن الهادوي الشامي وصنوه الشهيد الهادي رحمه الله في صنعاء تلازم عليهم المقام فيها فإنهم دخلوها من بلادهم لطلب العلم فظهر فضل السيد أحمد في العلم وكان إمام مسجد الشهيدين وذكر بالعلم والفضل فراجع نفسه واستدرك ما فات من أداء ما وجب لله من الجهاد والهجرة، فندم وتاب، وخرج من صنعاء إلى بلاد خولان فكان لظهوره فيها أثر عظيم، وذكر فخيم، واجتمعت عليه خولان وغزا بهم مراراً وأمده الإمام عليه السلام بالقاضي العلامة جمال الدين علي بن أحمد بن أبي الرجال فأخرج العجم محطة إلى جبل اللوز فأحربوها [ق/405] وكادوا يأخذونها، وحصل أسباب من مشائخ خولان أهل الرهائن حتى أخرجوا الأمير محمد المعروف ببوتج من كبراء الترك وملوكهم، وكان هذا الأمير قد ملك ريمة وبلادها بعد الأمير عبد الله شلبي فإن ريمة وبلادها بقيت في يد أهلها منذ ما تقدم للباشا علي من القتل حتى استعادها عبد الله شلبي، ثم ملكها بعده الأمير محمد هذا ولما كان ما تقدم من ظهور الإمام عليه السلام ثارت عليه القبائل من ريمة ووصاب وغيرها حتى حاصروه وقتلوا من عسكره كثيراً، وقتل من القبائل كذلك، ثم أخرجوه على أخبار طويلة إلى زبيد، وجمع عسكره ووصل صنعاء فوجهوه مع غيره من أمراء صنعاء إلى بلاد خولان فاستعادها، فرجح الإمام عليه السلام عود السيد أحمد في جهة الحيمة، فصار إليها وقسمت الحيمة بينه وبين الشيخ عبد الله الطير نصفين.
وأما القاضي علي فأقام مختفياً تارة وظاهراً أخرى في بلاد خولان حتى كان ما سيأتي من استشهاد القاضي الهادي رحمه الله وطلبه الإمام عليه السلام لجمع كلمة حاشد وبكيل والقيام مقام القاضي المذكور رحمة الله عليهم.
[مؤازرة بلاد آنس للإمام]
وأما بلاد آنس فإن الفقيه المجاهد يوسف بن محمد الحماطي وهو ابن أخ سيدنا القاضي يوسف رحمه الله وصل إلى الإمام عليه السلام وطلب ولاية لفتح بلاد آنس في عام ثلاث وعشرين [1614م] ووافق وصول الشيخ مجلي بن ناصر بن راجح إلى الإمام عليه السلام وهو في أول الشباب كان مغاضباً لوالده، فاجتمع لهم من بلاد الحجرة وبعض الحيمة وحراز رجال ثم تقدموا فأجابهم أكثر بلاد آنس ووصلوا إلى حوالي بيت الشيخ أحمد الملاحي وقد انحاز فيمن عنده من العجم وأحربهم وقتل من أصحابه أربعة أنفار، ومن المجاهدين نحو عشرة أنفار، وانهمزوا إلى أسفل بلاد آنس ولم يقدروا على المعاودة، وبعدها اتفق أن حي القاضي العالم الزاهد يحيى بن إبراهيم وسيدنا القاضي عز الدين محمد بن عبد الله الغشم رأوا من الناس إجابة فقاما واستدعيا الفقيه يوسف المذكور، ووصلوا أسفل بني قشيب ووصلهم جنود الظلمة فهزموهم وأخربوا بلاد بني قشيب ولم يقعوا على طائل.
[أخبار حجة]
فصل: ولنرجع إلى أخبار القبلة ومولانا [ق/406] الإمام عليه السلام قد تقدم ظهور جنود الحق وإحاطتهم بمحاط العجم حتى ضايقوهم واستولوا على المغارب كما تقدم فاجتمع عليهم جنود العجم لما أمنوا من جهات خولان وجبل تيس وقصدوا جنود الحق في وقعات متفرقة وقضايا يطول تفصيلها، فهزموا جنود الحق من بلاد مدع ومسور وبلاد عفار، وعادت العساكر الإمامية إلى الظفير من حجة إلى مولانا الحسين رحمه الله كما تقدم، وكان أهل الظفير يرون عليهم نصرة الإمام عليه السلام ويجاهدون معه ولا يرون مصير الإمام وجنوده في حصنهم لقولهم إنه هجره ليس للحرب والمحاربة ولا تستقر فيه دولة تقهرهم وتخالف عوائدهم فإن لهم قواعد في بعض منها حسن وفيها غير حسن، فمن الحسن: أنهم يحتكمون للشريعة حتى في القصاص وغير ذلك، ومن غير الحسن نحو ما تقدم من عدم إيواء أئمة الهدى والمجاهدين إلى حصنهم عند الشدائد، وعدم العمل بالشريعة في المواريث وغيرها، وحصنهم هذا لا نظير له فيما أعلم بأرض اليمن فإنه يغلق على نحو من ألف وخمسمائة رجل بالسلاح الحسن والرجال النفعة ومبلغ أهل البنادق منهم ألف، ولهم أسواق في أعلاه، ويدر الله عليهم الأرزاق في أوديتهم وبيعهم وشرائهم، وصار مولانا الحسن عليه السلام في المعبر خارج الظفير مما يلي حجة وقد تشعرت جنود العجم في حجة ووقع مع ذلك حروب شديدة أعظمها قضية جبل عمرو وما اتفق فيها، وذلك أن مولانا الحسين رحمه الله أراد أن يحفظ جبل عمرو وغيره مما يتصل به وهو متصل بالظفير وهو من بلاد الجبر فجعل فيه السادة الفضلاء الذين هم: السيد جمال الدين
علي بن الحسن بن شرف الدين، والسيد شمس الدين أحمد بن الحسن بن شرف الدين، والسيد حفظ الدين بن علي سحلة والقاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي، والقاضي عبد الرحمن بن المنتصر العشبي، والفقيه عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي وغيرهم، وأراد عليه السلام أن يحفظوا هذا الجبل وهو حصن عظيم يداً على حجة تمد يميناً وشمالاً، ثم يفتح حجة.
قال السيد أحمد نفع الله به: وكان صفة ذلك أنه أرسل القاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي إلى الأمرور من جهة الشرف وأنه يدخل من هناك مغارب حجة ويكون مدده من صنوه صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين أطال الله بقاه من الشرف، وأرسل السيد جمال الإسلام [ق/407] علي بن الحسن وصنوه شمس الدين أحمد بن الحسن والسيد زيد بن علي القراع إلى جبل عمرو في عسكر كثير من حاشد وبكيل وبلاد حجة وغيرهم، وأرسل الفقيه وجيه الدين عبد الرحمن بن المنتصر إلى بني هجر من بلاد الجبر وقريب من بلاد عمرو فتقدم القاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي إلى جبل وضرة واستقر فيه وغزا الصلبة وغنم منها كثيراً، فاجتمعت محاط الأتراك وغاب الخبر من حجة وقصدوا جبل عمرو، ولزم عليهم طريقاً ضيقاً كان فيها علي دشيلة الجبري فانهزم لضعف أو دسيسة عذر، فلزم البغاة لجنود الحق المضيق فاجتمع جنود الحق وحملوا بقوتهم حتى هزموا الذين لزم عليهم الطريق من جنود الظالمين ففرقوهم على مشقة، وخرجوا وقد استشهد جماعة فأقبلت جنود العجم حتى كادت جنودهم تملأ بلاد حجة وقصدوا السادة إلى هذا الموضع، وحصل حرب شديد ظهر فيه الجنود الظالمة على جنود الحق، واستشهد السيد الفاضل
شمس الدين أحمد بن الحسن بن شرف الدين والسيد الفاضل علي بن حفظ الدين الحمزي من قرابة السيد الحسن أيضاً، والسيد الحسن بن أحمد بن الناصر، والفقيه الفاضل علي بن سعيد من القبلة وفوق العشرين النفر من سائر المجاهدين، وأصيب السيد علي بن الحسن بجراحة في يده ونجاه الله تعالى كما أشار إلى ذلك السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد الشرفي رحمه الله في قوله:
وحجة النصب والفجار كان بها .... وقائع ومصائب السادة الطهر
وعاد العجم على جبل وضرة فهزموا القاضي شمس الدين أحمد بن محمد رحمه الله تعالى، واستشهد من أصحابه نفرين ومن أهل البلاد أنفاراً، وعاد إلى بلاد الشرف واستقر مولانا الحسين في المعبر.
قال سيدنا الفقيه عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله: وكان في هذا المقام من المشقة لكثرة العسكر وقل ما يقوم بهم من النفقات والخصم قريب منا لا نأمنه ليلاً ولا نهاراً ودخول الحصن متعذر، وترك المركز فيه الضرر الكبير على شهارة المحروسة بالله فإنها لو انهزم مولانا الحسين رضوان الله عليه بعد هذه القضية لدخلت جنود الظالمين إلى بلاد الشرف، وكانوا من خلف شهارة المحروسة بالله ويقطعون مواد الشرف، وكانت أعظم مادة في تلك المدة.
قال سيدنا رحمه الله: فأكثر مولانا الحسين سلام الله عليه من زيارة الإمام المهدي والإمام شرف الدين عليهما السلام وهم لا يمنعون ذلك، ويسير معه جماعة لا يتشوش منهم أهل الحصن، وقد تعاقد أهل الحصن على أن لا يضيف مولانا الحسين وأصحابه أحد فيه، بل من أراد المعروف أخرجه إلى المحطة، ولما طال ذلك دخل سيدنا المذكور في الشيخ محمد المعروف بأبي قمر وطرحوا شرطاً على أنه يضيف مولانا الحسين ويلزمه للضيافة على سبيل الإكرام، وما لحقه من المؤنة فعلى الحسين رحمه الله ففعل، فعظم على أهل الظفير ولم يقدروا يحدثوا حدثاً لكثرة المحبين منهم للإمام عليه السلام وهذا الشيخ من آهل التأثير في أهل الحصن فعند ذلك اقتدى به غيره حتى أضافوه ثلاثاً أو أكثر، وفي كلها يدخل إليه من أصحابه مع السادة كثير حتى حصل الأنس بين الفريقين، وجعل من يتحدث من أهل الظفير لا ندري هو الفقيه يحيى كما تقدم أو السيد المجاهد علي بن الحسن رحمه الله أن هؤلاء العسكر الذين في المعبر يفتتح لهم ابن الإمام يعزمون عند الإمام عليه السلام وما هو لهم من الجامكية والكيلة كانت لأهل الظفير فطمعوا في ذلك، وكان هو المطلوب لأجل ينفعون الإمام حفظه الله، ويكون مولانا الحسين في حصن ومنعة يحفظونه بحفظ الله ويدافع بهم عن بلاد الشرف، وصحَّ لهم ذلك وتزوج رضوان الله عليه من مشائخهم أم ولده محمد العالم النجيب واضطربوا عليه مراراً وهو يصبر على جفاهم ويحسن إلى من أساء منهم ويغتفر له، وفي بعضها ألصى سفهاؤهم النار ونصروا للسلطان وهو صعد أعلى داره وألصى معهم النار ونصر للإمام عليه السلام، وفي
بعضها قتل رسلاً من العجم ودولة كوكبان، وقد دخلوا بمال ومكائد إلى الحصن واحداً بعد واحد وهم بأهل الظفير لأجل ذلك فأجابهم بأني منكم وعلي لكم في هذا ما توجبونه على أنفسكم وهو مع ذلك يحسن إلى كبرائهم ومن هو من أهل النفع منهم حتى تم له المراد، ولا وقع عليه ولا على أهل البلاد المغربية ضرر والحمد لله رب العالمين، واحتال العجم وأهل كوكبان في بعضها بإرسال علي بن يحيى بن المطهر بن شرف الدين أن يدخل الظفير هجرة جده وبيته المعروف، وفيه بعض أهله أيضاً وهو أحد أعوان العجم وعرفوا أن أهل الظفير لا يمنعونه، فعرفهم مولانا الحسين رحمه الله أن يمنعوه، فقالوا: لا نمنعه بيته وهجرة جده، فقال: اتركوني وإياه وأخذ سلاحه ولقيه فعاد من قريب الباب [ق/409] منهزماً، وقد جعل السيد المجاهد حفظ الدين علي بن سحلة في عسكر رتبة في حصن نيسا وأجرى لهم نحو ما تقدم لأهل الظفير.
[أخبار جهات بلاد عفار]
وأما جهات بلاد عفار وما إليها من بلاد الطرف فقد تقدم استقرار السيد العلامة محمد بن صالح الغرباني رحمه الله في بلاد السودة فقصدهم محاط الأتراك فثبت الله جنود الحق وقتلوا منهم كثيراً وغنموا منهم، ثم إنه خان بعض أهل البلاد ودخلوا محطة إلى عران بني حيش من وراء السودة فانحاز السيد محمد رحمه الله ومن معه إلى بلاد جنب، ثم داخلهم الرعب فوالى الأتراك بعض جنب وخرج مع السيد بعض ولحق بالإمام عليه السلام وبلاد شظب وما إليها وبلاد بني صريم والظواهر، فنذكر جملاً من أخبارها كما قد دخل إلى عرة الأشمور أيام حروب الزافن وبلاد مدع الشيخ صلاح من أهل الأشمور وأصحابه، ولزموها مدة، وغزاهم حيدر وأحيط بهم وردوه مراراً وجر عليهم المدافع حتى خانهم بعضهم بني قطيلة وكان قد أيس منهم، فكان ما تقدم، وأخذهم العجم أسرى ودخلوا صنعاء، وفي بلاد عفار حروب أيضاً [...........] وكان في بلاد شظب مراتب منها السيد محمد بن الحسن المحرابي في عسكر في نشمة، والسيد العلامة محمد بن صالح الغرباني في بلاد جبر شظب، والسيد محمد بن حميد الدين بن عاهم في سد الأقرح، والشيخ المجاهد شجاع الدين صالح بن محمد ن حمران النهمي في شعر وكان قد دخل نشمة وبقي فيها أياماً قبل السيد محمد بن الحسن، وكان الفقيه عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي في الرأس من جبل بني حجاج [ق/410] وعلى حصن السودة المسمى قرن الناعي جماعة محاصرون لهم منهم الفقيه الفاضل عماد الدين يحيى بن محمد بن صلاح الأهنومي والفقيه قاسم الشهاري وجماعة من مشائخ الأهنوم، وفي نشمة الشيخ المجاهد
صالح بن أحمد بن محمد حمران، ثم صار إلى شعر، وفي جانب من شظب الفقيه المجاهد عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله كما تقدم فحصل لما تقدم أن تكاثر عليهم العدو وقد اختل أهل البلاد فهزموا إلى جانب غربان إلى أسفل بني موهب من بلاد شظب، والذين كانوا في الميقاع وبلاد غشم كالمسيجد والنائف وخيران فتأخروا إلى غربان وجانب وادعة، والفقيه عز الدين بن علي تأخر من كولة آل أبي الحسين، وانهزمت في هذه الأيام مراتب القاضي الهادي من الكلبيين، وغزا الأمير حيدر بعدها الصيد فلم يظفر بشيء وعاد مكسوراً وغزا قبلها غولة فقتل من أهلها نحو السبعين النفر وهدمها وغزا إلى أعلى بني جبر من الشظبة وبتان وإلى الداحضة من أعلى مرهبة ولم ينل مراده وعاد مقهوراً محسوراً.
[وقعة الفايشي]
قصة القتلة التي اتفقت في الفايشي من أسفل بني موهب من شظب لما تكاثرت جنود الترك ودخل الأمير عمر والأمير محمد السودة مع الأمير إبراهيم بن المعافا وهزموا من في شظب من جنود الحق، والإمام عليه السلام في أبرق ظليمة، ومولانا محمد في شهارة المحروسة بالله أمر طاغيتهم الأمير حيدر عسكراً من عنده من الصرارة زيادة على الذين في السودة، وأمرهم بالخروج على من في الفايشي من الجنود الإمامية وكان عليهم السيد المجاهد محمد بن الحسن المحرابي، والسيد العلامة محمد بن صالح الغرباني رحمه الله، وكان مريضاً قليل الحركة في ذلك اليوم، والفقيه علي بن جميل وفي مواضع رتب فخرج عليهم الجنود الظالمة وكان الإمام عليه السلام قد جعل في العجر من بني عبد رتبة مع القاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي رحمه الله، وقد كادت هذه المراتب تختل من قلة المواد، وكان في الوقت شدة فما كان بعد صلاة الفجر إلا وأحاطوا بهم، وكان أول من رآهم الإمام عليه السلام وهو في الأبرق كما تقدم كما أخبرني حاجبه الحاج محمد بن مسعود فأمر بضرب المرفع والغارة وكان في الناس عنده عليه السلام قل فاجتمعت الغارات إلى القاضي شمس الدين، فصعد بهم طريق القران، ولاحم من كان مقابلاً لتلك الطريق من مراكز العجم فقتلوا منهم [ق/411]واحتزوا رؤوساً، وكان حي الشيخ صالح بن حمران رحمه الله في غرب غربان فأغار بمن عنده ومن صار إليه من غربان حتى دخل المكمهل قرية شرقي بني وهب، وأحرب من كان مراكزاً هنالك من العجم، ولما سمع الملازمون لأهل الفياشي الحرب من ورائهم يشتد خافوا أن يقطعوهم من
العودة فانهزموا إلى مركزهم فوجدوا مراكزهم قد انهزمت فلاحمهم المجاهدون، وقتلوا منهم قتلاً ذريعاً، ولولا أن فيهم قلاً يعني أهل الفايشي لأخذهم وقد تزايلت مراكزهم من الشرق والمغرب وما زال فيهم القتل حتى ألجؤهم إلى الخف أسفل السودة، وقد غنم الناس الغنائم الواسعة بحيث أن الرعيان والنساء الحواطب وجدوا في الشواهق قتلاء بسلاحهم بعد هذه الوقعة بسنين، وأحصي القتلاء منهم فوق أربعمائة قتيل ولزم المجاهدون الموسم وجعلوا حوله رتباً وفي بلاد الجبر كذلك، وحصن عتاد والعمشة وحصن بداد، واستقرت المراتب فيها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وكانت هذه الوقعة في إحدى وعشرين من رجب سنة أربع وعشرين وألف[16 يوليو 1616م].
نعم، ولما توجهوا من السودة وما إليها لغزو أهل الفياشي أرسلوا محطتهم التي في حمومة تفتح على غربان لئلا يمدوا من في الفايشي، وكان في غربي غربان حي الشيخ المجاهد صالح بن محمد حمران رحمه الله تعالى كما تقدم، فأغار بمن معه وأهل غربي غربان [إلى الفايشي فكان ما تقدم، وأما أهل الشرقي من من غربان] فلقوا المحطة التي من خمر إلى ظلعة حاحم موضعاً هناك، واستقام حرب عظيم على عود العجم محطتهم من غير ما أرادوا وقد قتل منهم جماعة، واستشهد في هذا اليوم حي السيد الفاضل الحسين بن عبد الله الشظبي رحمه الله وأنفار معه، وكان أرسل الإمام للمدد إلى غربان السيد العالم الفاضل محمد بن صالح بن عبد الله الغرباني فلم يدرك الحرب.
[حرب غربان ومقتل الأمير محمد شلبي]
قصة الحرب على غربان وقتل طاغية الترك الأمير محمد شلبي، والحرب على مرتبة المقعد من مرقص فإنها في يوم واحد فالذين خرجوا لحرب مرقص الأمير محمد المعروف ببوتج وابن المعافا وكثير من أمرائهم وكانوا نحو ثلاثة آلاف، فثبت لهم جنود الحق وهزموهم، وقتل منهم كثير واحتز منهم رؤوس وعادوا، وذكرنا المقعد قبل ذكر فتحه وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وأما قضية غربان في ذلك اليوم فصفتها أن الأمير حيدر لما أمر من في شظب بالحملة على المقعد تقدم إلى خمر وأرسل الأمراء ومن [ق/412] وصل به وكانوا كثرة فيهم عدة من أمراء العرب والعجم، فمن العجم الأمير المعروف بخمخم كان عظيماً عندهم، والأمير محمد شلبي وهو صاحب تدبيرهم، والأمير عبد الله بن مطهر والأمير علي بن مطهر وغيرهم، وقد بلغ الإمام عليه السلام ذلك، وكان في غربان السيد المجاهد أحمد بن محمد الحيداني في حصن قيضان في جماعة ليسوا بالكثير، وفي الغربي السيد المجاهد ناصر بن محمد صبح في بيته المعروف بالصابة فأرسل الإمام عليه السلام الحاج المجاهد أحمد بن عواض رضوان الله عليه في جماعة يسيرة إلى قصبة عيال الأمير فدخلها وجه ليل وكان في جانب وادعة، فلما أصبحوا على قيضان وقد أطمعهم بعض الأشرار من أهل عزان ورجل من عيال قاسم، ويروى أن السيد صلاح بن أحمد صبح عم السيد ناصر بن محمد منهم -والله أعلم- فجعلوا الحملة من ثلاث جهات، فمنهم من قصد طريق الواكفة ليمنع غارة غربان ومن يأتي من عند الإمام عليه السلام والجهة الأخرى قصدوا طريق الحصن، والفريق الثالث قصدوا غربان
فوقع أمر ليس بالهزل وكادوا يقبضون على السيد أحمد ومن معه بالأيدي، وكان من جملة أصحابه السيد المجاهد مطهر بن ناصر الدين الحمزي رحمه الله وجماعة من المذاعير وخلصان الأنصار فجاهدوا وصبروا ولا علم لهم بمن قد حال بينهم وبين عيال قاسم وعيال الأمير ومن يأتي من عندهم وهم العمدة في غربان، وكان ذلك في أول طلوع الفجر، وفي جملة أهل قيضان جماعة من عيال قاسم قد سبقوا إلى عند السيد أحمد ومن معه فوقع نظرهم مع طلوع الفجر على المحاط تشرعت لبلدهم الواكفة فلحقهم الخوف على أهلهم فوجدوا لواهم الأعظم في مغربة قيضان مما يلي الواكفة فرماه بعضهم فقتل صاحبه، ثم رمى غيره فكذلك فانهزم أهل ذلك المركز، ثم تحرك مركز الحاج شمس الدين وسيف الله على المعتدين من القصبة، وأوقع هو ومن معه من أوساطهم، ووقع أمر ليس بالهزل، وحصلت الغوائر والأمداد وهم يهزمونهم حتى ألجؤهم إلى الظلعة المقابلة لعزان فانهزم من في مقابل قيضان وكذا من في عزان، ووصل السيد ناصر بن محمد وغوائر بني مكنى والغوائر فهزموهم أيضاً وقد قتل من جنودهم كثير، وقتل السيد صلاح بن أحمد صبح المتهم، ويقال: إنهم وجدوا معه خطوط الظلمة بالمعاملة في المراكز، وأصيب الحاج [ق/413]شمس الدين برصاصة في جانب من بطنه وسلمه الله بعد أن مرض أياماً، وقد تكايلت عليهم جنود الحق حتى قتل من العجم قريب المائتي النفر، وقتل أمير العجم المسمى محمد شلبي، فلما صح لهم قتله حملوه على بغالهم وانهزموا، وكان الأمير حيدر في أعلى من العفري وقد قتل من المنهزمة نفراً وعادوا كما عاد أهل شظب خائبين، وكان مغزاهم في يوم
واحد وهو غرة شهر صفر من سنة أربعة وعشرين وألف[ 2مارس 1615م]، واستقرت مرتبة غربان بعدها ولم يقصدها العجم وإنما كان السادة يقصدونهم إلى حوالي الفصيرة، وفي خلال هذه القضية اجتمع جنود للعجم [إلى أبي عريش] خيلاً ورجلاً وقصدوا رازح من بلاد صعدة والوالي فيها السيد الرئيس الكبير أحمد بن المهدي المؤيدي كان قد بلغه فحشد من أجابه، ولزم لهم موضعاً يعرف أنما لهم طريق غيره فأحربهم حرباً عظيماً انجلى على هزيمتهم، وقد قتل منهم جم غفير وأخذ من سلاحهم كثيراً ونحو من ثلاثين فارساً غنيمة فلم يعودوا بعدها والحمد لله رب العالمين، ووقعت حروب الفصيرة المعروفة، وفي بعضها ينهزم جنود الحق، وفيها كثر إيعاد العجم بإعادة الغزو إلى غربان وكثر الرجيف والتأهب لهم، فرجح السادة أنهم يقصدون المحطة الظالمة إلى خمر عقيب صلاة الجمعة ابتداء، فتوجه السيد شمس الدين أحمد بن محمد بجمهور الناس ظاهراً، والسيد ناصر بن محمد عافاه الله سلك بجماعة ممن انتدب لذلك وبذل نفسه لله سبحانه في ذلك المقام طريق الفصيرة، ثم جعل على رتبة فيها من حاصرهم وقرب من المحطة من غربها حيث لم يكن للخيل فيه مجال، وكان قد خرجت خيولهم وجمهور قومهم إلى لقاء السيد أحمد بن محمد ومن معه في الظلعة المسماه الجفر فما راعهم إلا والبنادق قريب غروب الشمس في أطراف المحطة فانهزم الملاحمون للسيد أحمد بن محمد، وقتل منهم جماعة ولم يجمحهم إلا الخيل، وغربت الشمس والبنادق تضرب في أطرافهم فقل طمعهم بعدها، واشتدت القلوب حتى حصل الصلح كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[الاستيلاء على المقعد وبلاده]
ولما استقرت المراتب في غربان والموسم وبلاد الجبر، وكان الشيخ محمد بن داود القحيف الحجاجي صاحب المقعد من مرقص قد هاجر إلى الإمام عليه السلام وله ولصنوه وجماعة من أصحابه جهاد وملازمة جمع أصحابه واستعان بالله سبحانه وطلع إلى حصنه المعروف [ق/414] وهو إذذاك خراب ليس فيه ما يواري شخص الإنسان، وعمروا فيه ليلتهم متارس تحفظهم وقد طلب أمداد غربان وكتب إلى الإمام عليه السلام فأصبحت عليه المحاط التي في جبل بني حجاج فحاصروه وكادوا يصلون إليه، وقتل من أصحاب الشريف المجاهد قاسم بن صالح الحجاجي وكان هو أكثر أثراً من الشيخ المذكور، ووصلت الغارات من المراتب الإمامية مثل غربان وبني موهب فأفرجوا عنه، ثم وصل من عند الإمام عليه السلام الشيخ المجاهد صالح بن محمد حمران والسيد الفاضل مطهر بن صالح بن المرتضى المعروف بسحلة، ثم الفقيه الفاضل عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله بعصابة من أهل الفضل من السادة والفقهاء، واستقر مظاهراً للمقعد ومحل الشيخ، ولازالت الحرب عليهم قائمة لم يقع العجم فيها على طائل وانهزموا فيها، ولما عمر الشيخ الحصن المذكور وكثر أصحابه عاد المجاهدون مواضعهم وبقي الفقيه العدل يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله نحواً من أربع سنين وقد يخرج منها ويعود إليها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وله رحمه الله في هذه المرتبة عناء ونصب، وكان لا يستنفق من غير ما يملكه ويؤجر نفسه للنسيخ في النهار وقراءة القرآن بالأجرة، والليل يحرس المسلمين، وطلب من الإمام عليه السلام في تلك الأيام الطيافة على
أولاده إلى بلاد برط، وأرسل إلى الإمام عليه السلام بشعر منه قوله:
يا مربعاً للنازح المستبعد .... وطول أحباب بتلك الأنجد
ومعاهداً في الرمضتين وحيدها .... والسفح من سرع كدارة أسعد
سقياً لهاتيك الديار وأهلها .... من صوب سارية تدوم إلى غد
حتى إذا روت البقاع وأعشبت .... فيها مراتع كل ظبي أغيد
ساجي اللحاظ مكحلاً قد زانه .... ربي وأغنى عن كحال الإثمد
وتقنعت ساحاتها ورفوفها .... بنفيس لون لجينها والعسجد
أهدت نسيمات السحور بنازح .... منها بأرواح يروح ويغتدي
فهناك يرتاح الفؤاد لذكركم .... ويضيع مني عند ذاك تجلدي
وأقول ما قال الذي قد شاقه .... تذكار منزله وعيش أرغد
قسماً بوجهك حلفة مبرورة .... لولا رجائي طيفكم لم أرقد
إني وإن طال المزار على النوى .... باق على عهدي وحسن توددي
[ق/415]
فعساكم ترعون حقاً سابقاً .... قد مر من ميثاقنا المتأكد
يا صاح عد عن الحسان وأهلها .... واطو المقال بها وذكر المعهد
وانشر مقالك مادحاً مولى الورى .... واذكر ثناه بملئ فيك وغرد
إن راعني دهر وضقت لصرفه .... وتعاورت نحوي هموم تعتدي
أعددت صبراً أرتجي في غبه .... فرحاً به صدري عقيب المورد
هذا رجاي في الإله وعطفه .... المولى أنال بها قصارى مقصدي
القاسم المنصور من صعدت به .... عزماته فوق السما والفرقد
ترب المعالي من غدا في عصره .... بين الورى كالكوكب المتوقد
جم النوال فكل راج فضله .... نال المنى من مغور أو منجد
من لم يزل يسمو بصالح فعله .... حتى تمكن من غريب السؤدد
حلف التقى بحر الندى سم العدا .... بل ابن بجدتها كريم المورد
يا خير مأمول إذا أملته .... سيبر لي قسمي وينجح مقصدي
طال اغترابي والنواء أضرني .... أمسي وأضحى حائراً لا أهتدي
فبحق من فتق الهدى ومن بنى .... سقفاً ولم احتج لنصب الأعمد
وأبان بين الأفق كم من آية .... غراء دامغة لهام الملحد
وأرى بديعاً من عجائب صنعه .... وأسال ماء من صميم الجلمد
والخمسة الأشياخ من أسمائهم .... كلمات آدم إذ بفضلهم هدي
إلا سمحت بزورة هي مطلبي .... في فرد شهر أو وعشر ترددي
واضرب لعودي موعداً لا يعتدي .... فإذا ضربت فإنني لا أعتدي
فالقلب يصدى كالحديد من النوى .... ماذاك لي يجلي الفؤاد إذا صدي
واسلم ودم في خفض عيش طيب .... وبلوغ آمال وملك أتلد
ثم الصلاة على النبي وآله .... مالاح برق في البهيم الأسود
ولما وقف عليها الإمام عليه السلام أمر بعض حضرته بالجواب عليها فقال:
ذكر المعاهد والطلول الهمد .... يشفي فؤاد النازح المستبعد
ويهيج التذكار منه مهجة .... ما إن تزال تحن نحو المعهد
وإذا رأى برق الحمى متبسماً .... يبكي بكاء الحائر المتبلد
[ق/416] وإذا تذكر في الديار خرائداً .... من كل هيفاء كالقضيب الأملد
لم يبق منه بقية من عقله .... ويصير مثل الهائم المتردد
شوقاً إلى ساجي اللحاظ وقربه .... وإلى مغازلة الغزال الأغيد
إن التذكر فتنة لأولي النهى .... يدع من الأشياء ما لم يحمد
يا صاح عد عن الحسان فإنما .... وصل الحسان كوصل طيف بمنجد
دع ذا وقل يا راكباً عد بي .... وجنابها جناب المقعد
وانزل على العلم الهمام المنتقى .... يحيى الغمطمط في العلوم المزبد
واقر السلام عليه ثمة قل له .... وافى نظامك مثل عقد العسجد
ففضضته ولثمته وقرأته .... فإذا سموط لآلي وزبرجد
وعرفت فيه ما شرحت من الهوى .... والعذر نحو الأهل قدر الموعد
تالله إن رضاك عندي بغية .... لكن رضاء الله أعظم مقصد
فإذا اعتذرت وأنت أكبر قدوة .... كل بفعلك في المراتب يقتدي
وإذا اعتذرت وأنت خير مرابط .... فمن الرجاء لحسم داء المعتدي
فاصبر لعل من المهيمن غارة .... يطفي بها نار العدو المفسد
ويبيد أرباب الضلال بنقمة .... منه معجلة لكل معربد
يا وارثاً علم النبي محمد .... اصبر كصبر الهاشمي محمد
وكصبر أبناء النبي المصطفى .... فلكم تغرب منهم من سيد
تركوا المنازل والبنين ونابذوا .... أهل الضلال بحد كل مهند
فحووا من الذكر الجميل محامداً .... فاقت على تعداد كل معدد
ولأنت منا إن شيعتنا هم .... منا فكم قد نابذوا من ملحد
بسيوفهم ورماحهم وبألسن .... بالقول مشجية قلوب الحسد
فغداً ترافق أحمداً خير الورى .... وهو الشفيع غداً لكل موحد
وتفوز من حوض النبي بمشرب .... صافٍ لذيذ الطعم عذب المورد
وتزوج الحور الحسان بمقعد .... عند المهيمن ياله من مقعد
ومنها قوله:
ولديك شيخ ماجد متفضل .... ينسيك كل فتى كريم المولد
[ق/417]ذاك ابن داود محمد ماله .... من مشبه في فرعه والمحتد
لله در محمد وقبيله .... أهل المكارم والفخار الأتلد
[حرب مرقص]
وفي أيام حروب مرقص وصل الحاج شمس الدين أحمد بن عواض رحمه الله تعالى إلى غربان من جهات المشرق بقوم ليسوا بالكثير، ثم حشد غربان حتى صار معه نحو ستمائة نفر، وتقدم إلى وادي الثاجة ما بين مرتبة الموسم والمقعد، وكان في أعلى الوادي رتبة من العجم في موضع يسمى العبرين فجعل عليهم من حاصرهم، وجعل أعلاه كميناً، ثم تقدم آخر نهار حتى قرب من الجبوب أول الناس، فخرج الترك من السودة وحملوا على المجاهدين فرموهم بما في بنادقهم فأصابوا جماعة، ثم انهزموا لهم يعني جنود الحق فلما لاحموهم ثار فيهم الكمين الأول فرماهم كذلك وقتلوا جماعة، ثم انهزموا وثار الثالث فكان كذلك، ثم عطف عليهم المجاهدون فاستولوا على أكثر قتلاهم وجرحاهم، واحتزوا منهم خمسة وثلاثين رأساً، ثم عاد الحاج وقد أظفره الله بهذه المقتلة وعاد المشرق، وكانت مما اشتهر ذكرها لأن الله سبحانه نصر المجاهدين ولم يقتل منهم أحد.
نعم، وبقيت المراتب متقابلة وهذا تعداها من ظفير حجة إلى جانب الخشب من مخاليف، أولها الظفير وإليه رتب تحفظ لهم الطرقات، ثم (نيسا) من أسفل بني شاور كذلك، ثم جميمة سنجدا وظليمة، ثم خبر شظب في عتاد وبداد والعمشة، ثم الموسم من بني موهب وإليه رتب تحفظ أطرافه، ثم مرقص المقعد والحمراء، وإليهما رتب صغيرة تحفظ الطريق والأطراف، ثم غربي غربان وفي المواجل وسائل والصابة، وحصن قنصان ونعمان والواكفة والقصبة، ثم في بني مالك من بني صريم، وأعالي وادعة كقيهمة والعفيرة، ثم بني قيس، ثم الدحضة من مرهبة وبتان من بني جبر وقاع الشمس، وجانب الصيد ثلاث مراتب أو أربع، ثم بيت القديمي والمحم من الصيد أيضاً، ثم بني الأعور وما إليه من بلاد خشب الزيادي، ويقابل هذه المراتب من العجم في حجة جبل عمرو وماذن والمصنعة وما إليها، ومن بلاد عفار قيدان وصبرة وعزان، وفي بلاد قدم وبني حيش الأعرام وفي شظب السودة، وفي الجبل الظهراوين والظلاعة وذبيل وشعر، وسيد الأقرح ورتب صغار كذلك وفي العرضي من بلاد الميقاع رتب، وفي غشم الفصيرة وما إليها من خمر مقدمات ورتب، ثم كذلك إلى مقابل ما تقدم ولم يطمع أحد [ق/418] الفريقين في هزيمة الآخر حتى فتح الله بالصلح.
[سبب الصلح]
وسببه أنه قد تقدم أن جعفر باشا عاد لولايته وقتل عبد الله شلبي وكثيراً من العرب والعجم لموالاته، فعزله سلطان الروم بمحمد باشا أرسله من مصر كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى، فلما صح له ذلك وقد نشب خواصه مثل الأمير حيدر في الظواهر والأمير صفر ومن إليه في صعدة وهما في جملة مماليكه وخاصته، وخاف أن يسير والفتنة في أثره مثل ما تقدم ولا يتمكن من استخراج أصحابه إلا وقد وصل الباشا محمد فيطلب منه الحساب وخزانة يتركها للعسكر ويطالبه بمال إبراهيم باشا وعبد الله شلبي، فطلب أهل المشورة من أصحابه فأشار عليه بعضهم أنه يفتح له الخطاب ابن الإمام يعني سيدي الحسن بن الإمام عليهما السلام فطلبه إليه، وقال له: تكتب إلى أبيك يصلح بيننا وبينه وأنه واصل باشا من الأبواب متولياً فإن يحصل الصلح ويخرج الأمير صفر من صعدة سالماً أبقيناك في اليمن وكذا، وإن يجري والعياذ بالله فيه شيء أو يمنع أبوك من إخراجه حملناك معنا إلى الروم أو كما قال، فاعتذره رضوان الله عليه بأني في يدك نفراً واحداً والإمام ليس في يدي وحيث قد رأيتم فافعل ما ترون، ولما عاد مكانه كتب إلى الإمام عليه السلام كما أخبرني الفقيه العدل المجاهد عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله أيام إقامتنا معه في مرتبة الحمراء من مرقص، قال: إنه دخل إلى الإمام عليه السلام وفي يده ورقة يقلبها، فقال: تقرأ هذا يا فقيه يحيى وتجيب عليها وإذا هي شعر أنشدناه، ورأيناه في يد غيره أيضاً وهو قوله:
مولاي إن الصلح أعذب مورداً .... فاسلك له سبلاً سوياً أجردا
أرسل دلاء الحلم في صافيه كي .... يروي ظماه المسلمين عن الصدا
واجعل رفيق القسط فيه مانحاً .... والرفق يمنح والسماحة مرقدا
أقتابه حمى الحروب وزفرها .... في ساحة الإسلام كيما يبردا
أخمد به ناراً يرف شرارها .... فترى الجماجم شفعاً لا فردا
أغمر به سهل البلاد وحزنها .... اسكن به فتناً تذيب الجلمدا
أغمض على قذى العيون لصالح .... تجزاه في الدنيا وفي يوم الندا
شاور ذوي الأحلام واصغ إليهم .... ما تعدمن إذا تشاور مرشدا
[ق/419] فالصلح فيه للأنام صلاحه .... والحرب أوهن ذا الأنام وأفسدا
كم من أسير في الحديد مكبل .... ولكم قتيل في التراب موسدا
فلقد غدا والله نسأل جمعه .... متهدماً ومشرداً ومبددا
رفقاً عداك اللوم يا ابن محمد .... بالمسلمين وعطفة وتوددا
هذا عصا الإسلام فاجبر شقها .... بجبائر الإصلاح كيما تحمدا
سكن رحى الحرب واغنم وقته .... يظفرك شداً بالمراد مقيدا
واعمل بقول النصح فيما قلته .... واعرض عن العذال تغد مسعدا
واستكرم المولى الوزير فإن .... للكرماء في أسواحه لترددا
وله جناب لا لضعف مسهل .... للمستكين إذا ابتدى منه الندا
وله جناب لا يرام صعوده .... صعب القياد لمن أتاه تجلدا
وترى له الصعب الشرود مذللاً .... وله عوالي الشهب خرت سجدا
اختاره السلطان من أقياله .... يمناً لذي يمن يمن فيجتدا
ورآه أهلاً للوزارة فيهم .... فبزين ملبسها تأزر وارتدا
فبنى له مجداً رفيعاً سمكه .... يعلو به زلفاً يسامي الفرقدا
وبه غدت تختال في أفق العلى .... ولها دنت عتق السعادة أعبدا
فهو الجدير بأن يراعي ذمة .... لكم يراها عن وصيه أحمدا
وبمثله أغضى بحسن عنكم .... صفحاً لحلم لاونى وتبلدا
فاللين عن عز يريك تكرماً .... والصفح عن حلم يزين السؤددا
إني محضتك خير شور ناصحاً .... فاجعله سبروتاً يريك المهتدا
وتلقه عني بوجهٍ مبشر .... لا ترددنه أو يصير مفندا
لا تحقرن رأياً تراه عالياً .... شرف الإصابة إذ غدت ومصفدا
فلكم منيع قد تقاصر خطوه .... يجري له نظر يبين المعمدا
ولكم طريق في الوساع مرحل .... يغدو عن الوضاح أعمى أبلدا
واسلم ودم في رغب عيش دائم .... ما دام مر الدهر نجم أوبدا
في رحب من في رياض كرامة .... في سور عز بالحماية أوصدا
قال سيدنا يحيى: فأجبت عليها نيابة عن الإمام عليه السلام ولا أعلم أنه [ق/420] القائل -يعني سيدي الحسن رضوان الله عليه- بل ظننت أنه من أهل صنعاء المتوددين إليهم، فكان الجواب على وزن ذلك وعدد أبياتها وهو قوله:
يا مانحاً محض النصيحة مرشداً .... إن الهدى عندي لمن يبغي الهدى
والحلم نحن نجاره نروي بها .... ظامي الحشا وبنورعدلي يقتدى
نحمي حمى الأسلام إن يسطى به .... ونذود كل المسلمين عن الردى
والسلم إن يدعوننا نجنح لها .... والقول ما قلنا وإن زعم العدا
فبعدلنا يأوي الورى في ظلمه .... وبهدينا يا ذا الرجاحة يهتدى
والرفق والإنصاف فهي سماتنا .... وخلال كل الخير فينا والندا
والدين ننظمه ونحكم سلكه .... ونذب عنه من يريد تبددا
لانقبل الدنيا وإن هي أقبلت .... إن كان في الأخرى مخلاً مفسدا
ولنا الوراث على أبينا المصطفى .... ومن الوصي وفضلنا لن يجحدا
وبكرهنا ما كان من سفك الدماء .... إلا لمن ناوى شريعة أحمدا
والصلح نرضاه بأية ممكن .... وخمود نار الحرب أحسن مقصدا
فإذا نظاع فإننا غوث الورى .... ونذيق من لم يهتدي عرق المدى
لا نبتغي إلا رضى الرحمن في .... أفعالنا في الانتها والإبتدا
ولنا على الأعداء كم كرة .... تدع الجماجم شفعاً لا فردا
ومن المهيمن نستمد إعانة .... ولطائفاً تأتي وإن طال المدا
وأسيرنا وقتيلنا في راحة .... لا يرتجي فرحاً وهذا الخردا
هذا كتاب الله يحكم بيننا .... إن كنت صدقت النبي محمدا
من ذا له الأمر المطاع ومن له .... رب العباد موفقاً ومسددا
أو ما علمت أننا سفن النجا .... ولمن تعدى حكمنا فقد اعتدى
يا مادحاً صنم الطغاة سفاهة .... تبغي بذلك زلفة أن تحمدا
أطنبت وحيك في مديحك فاسقاً .... علجاً جعلت لك الكواكب سجدا
أرضيت مخلوقاً وتغضب خالقاً .... وتهز عرش الرحمن بغياً عامدا
وإذا طغى الطاغي وعاش مهملاً .... أتظن الله يتركه سدى
وزعمت قد أغضى وراع ذمة .... للمصطفى فينا وما إن اعتدى
[ق/421]
هيهات ما راع ذمام محمد .... أكلا ولا كف اللسان ولا اليدا
ولولا سوار منا وسمر رماحنا .... صرتم جماجم للعدا وسواعدا
نهلت من الأعداء نجيعاً قانياً .... وتعل من دم تصير معاندا
أو ما علمت وقائعاً ومواطناً .... خرت بها الأذقان ليس تعبدا
هذا تراه في الرغام معفراً .... وأسير أنكال وذاك مصفدا
اسأل عن الزهراء ووقعة سامك .... وبسفح أسناف بقاع أجردا
وأتوا إلى عرو ليقضي نحبهم .... كالواعدين فلم يخونوا الموعدا
وعقيبه وادي الذواهب أصبحوا .... صرعاً تراهم مثل زرع أحصدا
وبغارب غربت نجوم سعودهم .... والفياشي لقد فشى فيه الردى
إن يقبلوا صلحاً فإني قابل .... أو يحجمون فما عدا مما بدا
ثم حصلت المكاتبة بهذا الصلح سراً فما عرف الناس إلا وسيدنا العلامة جمال الدين عامر بن محمد الذماري رحمة الله عليه قد تقدم إلى صنعاء لعقد الصلح وتحليف الباشا جعفر، فلما وصل صنعاء وعقد صلح سنة للإمام عليه السلام حيث استقرت راياته في البلاد حسبما تقدم، فدخل في ذلك بلاد صعدة وبلاد الحيمة وحضور إلى رأس عصر أعلى صنعاء، وكان عقد الصلح من شهر رجب سنة خمس وعشرين وألف [يوليو 1616م] إلى رجب سنة ست وعشرين وألف [أغسطس 1617م]، وأرسل الإمام عليه السلام من خرج مع الأمير صفر، وجعل الباشا ولاية صعدة إلى الأمير صلاح بن أحمد بن الحسين المؤيدي إذ هو من أمرائهم، وجعلوا معه العسكر الذين في صعدة وهم قريب من الألف النفر ونحو مائتي فارس، ولما خرج الأمير صفر إلى صنعاء وقد جعل على جميع محاطهم الأمير محمد المعروف بخمخم وهو من عظمائهم وملوكهم واستخرج وزيره حيدر ووصل متسلم من قبل محمد باشا وتسلم صنعاء وعزم جعفر المذكور.
قال مولانا الحسن رحمة الله عليه: وما كدت أصدق أنه يتركني في اليمن إذا لم يقتلني.
(وأخبرني الفقيه العالم الفاضل جمال الدين علي بن جابر الهبل أطال الله بقاه وجماعة من إخوانه قرابة سيدنا العلامة سعيد بن صلاح الهبل أنه كان في شهارة المحروسة بالله أيام عزم جعفر باشا وانعقاد هذا الصلح وسيدنا عامر رحمه الله كما وصل من صنعاء أنه بلغ الإمام عليه السلام أن الباشا عزم على حمل مولانا [ق/422] الحسن رحمه الله إلى الروم، وأنه نقض ما أعطاه من العهد فيه، فقلق الإمام عليه السلام وحصل معه مالا يقادر قدره من الشجن، ثم طلبه مع سيدنا القاضي عامر رحمة الله عليهما، وقال لهما: يعزم أحدكما في هذه الساعة إلى بلاد خولان على أنه طائف على أولاده وتجدون من خولان من فيه كصفة القشعمي، وكان هذا القشعمي من الشارق من صفة الخلوس فيدخل قصر صنعاء ويدخل على الملوك إلى أمكنتهم مما يطول صفة أحكامه لذلك فإذا وجدتم من يدخل محطتهم مع مسيرهم فلعله يدخل على الولد حسن حفظه الله، فيحتمله هو وقيده ويخفيه في جهة المشارق، وقلب هو وهم الرأي في ذلك مع القلق الشديد، فقال حي سيدنا سعيد رحمه الله أو قالا كلاهما: ثق بالله واستعذ بالله من الوساوس الشيطانية واستخر الله وما بدا لك من الرأي فمن الغد إن شاء الله، قال: فقال القاضي: فلما كان آخر الليل أرسل إلينا فدخلنا عليه وإذا به قد سكن ما به وانطلق إلينا بوجهه مبشراً لنا، قال: خرجتما من عندي وأنا على تلك الحال وعالجت أني أنام وأستروح رؤيا يفرج الله بها ذلك فأخذتني خفقة فرأيت مبشراً يفتح علي بشرى فمن اللهج بها
أتكلم قبل تمام كلامه فاستيقظ مرتين ثم الثالثة استمكلت ما بشرني به من نحو قوله فقال: لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك أو آية شبه هذه -السهو مني-) وقد ذكرت ما حكاه سيدنا يحيى بن صلاح رحمه الله من اقتصار الجواب ولا يظن أن القائل للشعر إلا السيد محمد بن عبد الله الحوثي الصائر مع العجم في صنعاء، وكان فصيحاً مقولاً أو مثله ممن يحسن لملوك العجم دنياهم، قال ولما أفرغته تناقله الأصحاب ونسبوه إلى الحوثي، ولما عرف الأصحاب أنه من سيدي الحسن تركوه وطرحوه، وكان سيدنا رحمه الله إذا ذكره وما فيه من الجفاء تغير وحولق كثيراً، وكان حي القاضي العلامة الهادي بن عبد الله بن أبي الرجال عالي الهمة محبباً في الناس فكان أصحاب الإمام عليه السلام يراسلونه بكل فائدة تحصل في مجلس الإمام عليه السلام فأرسلوا هذه القصيدة وجوابها وعلقها في مجموع له، ولما حصل الصلح أمر بأن يجلد في صنعاء فوقف على القصيدتين بعض فقهاء صنعاء فنقلها، وأوقف مولانا الحسن رحمة الله عليهما ليتحفه وعرف الجواب على قصيدته، وفهم أنه متولي الجواب عليه القاضي الهادي رحمه الله لما كان في كتابه، وكان يتهمه قبل ما كان من أمره لشيء وأنه أهمل أمره مرارا،ً وكان القاضي [ق/423] رحمه الله ولايته عامة، وله فيها أخبار حسنة ظاهرة النفع للمسلمين وكان معظماً في الناس عامة وخاصة، فحصل معه لذلك التألم الشديد حتى ظهرت قصيدته الهمزية، وفيها ما يدل على عظم ما وقع في نفسه ووجهها إلى والده وإخوته وهي هذه:
قل هو الهجر ثابت والجفا .... قد تولى الوصال ثم الخفاء
خطر الوصل لا يرام اطلاعاً .... واستبحت من القطاع الحماء
كلما جرت أعلماً من قطاع .... انتدب لي من الأسى هضباء
أصروفاً مع اغتراب وسجن .... يا لخطب أعيت له الخطباء
يا لدهر تحار فيه عقول .... فاض كيسانه وغاض الوفاء
ما رآني لذيذة قط إلا .... وعليها من الهموم التواء
ما لدهري إلى مضامي منادٍ .... ولأهليه عن نداه انبراء
فاغتراري بدا الأنام سقاه .... ضاع فيه الولاء وضاع اللواء
كم تراءى لناظري شخص صدق .... إن ذاك الخيال فيه هباء
لا خليل تراه إلا حليلا .... أو حميماً يبوح منه الحماء
فعلام الملام عاذل دعني .... أستطيب البكاء فمما السلاء
أنت خلو عن الشجى كيف تلح .... من عراه عن الحبيب شجاء
يا خليلي عللاني فإني .... طال ليلي وند عني الغفاء
ليل بالله أصدقني جواباً .... أين صبح الوفاء وأين ذكاء
فك قيد الصباح والشمس منا .... أو تريد الفدا فمني الفداء
كي أصناي برؤيتي وأراهم .... إذ ترى الوجوه فيه الحياء
كي أبث الوداد عن ذي وداد .... إن قول العتاب فيه البقاء
لم يطب عندهم مذاق اصطفائي .... استتار ووطعم ودي قفاء
كم كذا لي من التعامي ذهاب .... برح الستر عنكم والخفاء
لم يكونوا من الأشابيه أصلاً .... بل سراة وصفوة نجباء
رؤوساً أعزة كرماء .... حلماً تكرماً علماء
ما لحق لدى مصابي مصابا .... ورعاتي في محبسي عمياء
[ق/424]
لم تروني لذا التجمع فيكم .... فرجاي باء وتاء وهاء
أي ود ودادكم وخليلي .... منكم واصل ووصلي راء
جف وصلي ففاض دمعي عنه .... وانتفاسي لهجركم صعداء
ناعم أنتم ترغب ومني .... قد تجلى عن الوجوه الرواء
ولكم في النعيم روح وغدو .... وعلينا من السقام كساء
لا تناسوا إذ خصصت بحبس .... فبحبسي يخبر الأصفياء
تذكر وحدتي وضيق مكاني .... حيث تلاها والبنون والآباء
لبعيد حصول ذكر المعنى .... من سباغ النعمة الخضراء
ما اشتكائي تجرعاً من خطوب .... فحناني وضعتها إلقاء
بل عنائي ملازم رفعتي إذ .... كعلية البأساء والضراء
أطعمتهم من الخصاصة سقماً .... وكستهم محالة غبراء
لهم بالحنين ترجيع نحل .... تتدانى لقسمه الأرجاء
فإلى الله مفزعي وانتجاعي .... وإليه اللجاء وفيه الرجاء
إن لله بعد ذا العسر يسرين .... بذا للإله وعد وفاء
فمن الرحمن الرحيم انتفاعي .... بإمام دنت له العلياء
طاب أصلاً فطاب فرعاً وفخراً .... واستطاب السمة والأسماء
حجرة التنزيل والسنة .... حبذا الأمهات والآباء
كم لآل الرسول أنشرت علماً .... طمستها الرسوم والأقواء
فلإسرافيل هدتك نفخ صور .... فيك تحقيقها ففيها انتشاء
ولعزرائيل علمك قبض .... بدعاً رهرهت بها الحملاء
فنعتها الهوان يأمل خلداً .... واغتشاها الممات والإفناء
يال لها خطة نفاها اهتمام .... أرضها في السماء فأين السماء
كيف يسطاع في نظام ونثر .... وصف فخر مناطه الأنبياء
يا إمامي ووالدي واستنادي .... من به لي على الأنام ازدهاء
منك أصلى وفيك ذخري وحصني .... واستضائي إذا دجى الظلماء
ليس بطاء أناتك في انتصافي .... في سريع إجابتك والعناء
[ق/425]
كيف يكبو لآملي فيك زند .... ويصطلي الأدنون والبعداء
ما ليتني من الأقارب سقم .... ولسقمي في يديك الدواء
غير أني تولعت بي جيوش .... وخطوب وهت لها الأعضاء
كأسي الضيم والكآبة ساقٍ .... ونديمي السهاد والبرحاء
لا تدعني لدى المهانة نصاً .... يحتويني من الجهات الرماء
فخلاصي إذا اعتنيت بسير .... ليس تعييك لو ترى الآراء
من لفقري ومن لكسري وقطعي .... أنت وصلي حياربي والعطاء
شرح حالي إلى ارتجاك منادي .... بمقال تقوله الشعراء
هذه علتي وأنت طبيبي .... ليس يخفى عليك في القلب داء
ومن الفوز أن أبثك شكوى .... هي شكواي إليك وهي اقتضاء
ولما وصلت هذه القصيدة أمر الإمام عليه السلام الفقيه العلامة الأديب جمال الدين علي بن محمد بن سلامة عافاه الله بالجواب عليها فأجاب بقصيدة همزية مثلها وهي قوله:
أرقتني حمامة ورقاء .... إذ تغنت وقد دجى الظلماء
بكيت شجوها وناحت بحزن .... فتداعي لها الهوى والشجاء
وتباكت حمائم الغور شجواً .... لبكاها فهن فيه سواء
ناوحتنا على اغتراب وبعد .... فأجبنا وهكذا الأصفياء
نحت بالشجو مثلها فتراني .... كل حين ومقلتي هطلاء
غير أني مدامعي ذات شجو .... واشتياق وعبرتي حمراء
أنصفت أعيني العداة بدمع .... ما حكته غمامة وطفاء
صار داء الأشواق مني دخيلاً .... ودخيل الأشواق يا صاح داء
أتمنى من الحبيب مزاراً .... ولقاء تشفه البرحاء
قد ثواه الأسا زماناً طويلاً .... رب ثاو يمل منه الثواء
ليت شعري تشوقي وغرامي .... هل له بعد طوله انقضاء
هل لماذا شكوت من ألم الهجر .... ومن ظلمة النوى انجلاء
يا خليلي رفقاً بصب عميد .... ما كهذا الأحباب والرفقاء
[ق/426]
عد على من يحب وصلك عوداً .... يتجلى عن القلوب الصداء
أنعمن لي بزورة ذات أنس .... فيها يستفاد منك الشفاء
لا تطع إن دعاك للهجر داع .... من زمان ولاح منه جفاء
فصروف الزمان تدعو بهجر .... ما يراعي بها لصب وفاء
زاد شجوي نظم له الحسن طبعاً .... وصفاتاً له السنا والبهاء
كالآلي بل كالدراري ولكن .... قد تجلت بهن فيه السماء
قط ما مثله رأيت نظاماً .... وكلاماً عنت له البلغاء
مثل روض الربيع يفتر في الصبح .... وقد جاده هناك الحياء
فهو أزهاره تألق ألوانا .... وأفنانه عليها رواء
نظم من أكمل المحامد جمعاً .... وتحلت بفخره العلياء
شرف الدين والأنام وذي الفضل .... ومن أشرقت به الدنياء
وغدا الدين وهو يزهي اختيالاً .... وابتهاجاً تهزه خيلاء
ضاحكاً مذ غدا له عقد در .... يتحلى به فراق السناء
من له في الأنام فضل جليل .... وفخار تغار منه ذكاء
طاب فرعاً وطاب أصلاً وأضحى .... وله الفخر في الوراء والعلاء
حمد الناس منه كل السجايا .... فله المدح فيهم والثناء
يشتكي فيه من نوائب دهر .... وصروف أعيت له الأدواء
يا سليل الإمام حركت شجواً .... وشجوناً ذابت له الأعضاء
وأذبت القلوب طراً بنظم .... ما حكته مدامة صهباء
وأفضت العيون دمعاً غزيراً .... ما حكته الأمطار والأنواء
مثل هذا يكون ليس كل مقال .... يسلب النوم منه والإغفاء
فدعني كل مهجة منه حزن .... وعناء وكربة وضناء
ولأصناك منه هم عسير .... وعتيدك كما هم الأصناء
لا تراهم ينسون من بره الدهر .... عياناً وهم له شهداء
ما يزالون ينبذون دموعاً .... تتباكي لقطره الصحراء
كل حين لهم عليك التهاف .... والتفات وحسرة وجواء
[ق/427]
كيف من ينسون من هو الشمس شأناً .... وهي الشمس ما عليها رداء
كيف ينسون من غدا يحب سجن .... مثل بدر ألوت به الوطفاء
أي يوم غديت فيه أسيراً .... ما حكى مثله لنا بلاء
أنت يا جامع المحامد والفخر .... لهم مفخر سما وارتقاء
فإذا جاوزوا إليك اقترافاً .... لحقوق فالصفح منه عطاء
أسبلن سترك الكريم اغتفارا .... مثل هذا قد يفعل الكرماء
أفترضي بأن عتبك أشجى .... كل قلب وحل فيه عناء
كيف من يومك الذي جل يوماً .... وغدا للأنام منه بلاء
وترى الدين باكياً منه دمعاً .... قد عراه أسى له وذواء
ليت يا دهر لو فعلت جميلاً .... ما غدا من له الحجا والذكاء
تحت سجن في قصره أي سجن .... قد حوته دار لهم حمراء
إن سجى الليل بات يلتاح شوقاً .... وعرته صبابة حراء
أو بدا الصبح واستبان ضياء .... قل من الرجاء وتم العزاء
يا سليل الإمام بالفضل صبراً .... لك في الله قبل كل رجاء
فعساه يحل عقداً وثيقاً .... وتزول البأساء والضراء
فهو ما نرتجي وأبلغ ما نهوى .... وذاك النوال والإعطاء
واعطفن عطفة تعود علينا .... تتدانى لنا بها الأهواء
فلكم نظرة له بعد بؤس .... تحتها غارة له شعواء
يا كريم الفعال يا خير مرجو .... إليك انتجاعنا واللجاء
خلصن ليثها المقيد في السجن .... أميراً تعنو له الأمراء
كم كفوف تمد نحوك صفراً .... فأعدها وقد أتاها العطاء
جعلوا نحوك الوسيلة حقاً .... منهم الأنبياء والأوصياء
ثم آل أكارم ونجوم .... طالعات والبضعة الزهراء
وحسين وصنوه البر أعني .... من حواه مع النبي كساء
ثم زيد وآل زيد جميعاً .... فبهم قد تزحزح البأساء
وبمولى الأنام والدك البر .... ومن هو للمسلمين الدراء
[ق/428]
من به تنجلي الخطوب ويكفى .... بدعاء الضراء واللأواء
من أرانا الرحمن فيه صفات .... قد حكتها قدماً لنا الأنبياء
يبرئ الأكمه المريض ويشفى .... يبديه الضرير والأعماء
كم له من فضائل ليس تحصى .... أبداً دائماً لها إحصاء
دام في نعمة على أبد الدهر .... معافاً تجلى به الظلماء
وعليه السلام ما لاح برق .... وبكى عارض له بكاء
وعليك السلام مني خصوصاً .... ما أضا شارق وهبت صباء
كنسيم سرى صباحاً بروض .... جاده الصبح من غمام حياء
كفريد للدر ينظم سلكاً .... زينته الفريدة العصماء
وصلاة الآل تغشى رسول .... الله ما افتر ضاحك وسناء
وكذا الآل منه أنجم الأرض .... ومنهم سفينة ونجاء
ولما وصل سيدنا عامر رحمة الله عليه صنعاء كما أخبرني القاضي العلامة صفي الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله عمره ذكر الباشا ووزيره حيدر القاضي العلامة سعد الدين رحمه الله وسألا القاضي عامر عنه وقد عرفاه مع دخوله صنعاء لعقد الصلح الكبير، فقال حيدر: يا قاضي حصل لنا من بعض بلاد العصيمات وسفيان كتب القاضي سعد الدين، ولها قضية أنهم هربوها من الهجر لما دخلها العجم، وكانت بنظر سيدنا القاضي العلامة جمال الدين علي بن الحسين المسوري رحمه الله فوقع فيها قضية خفي علي تفصيلها، خلاصتها مصيرها إلى حيدر، وكان فيها مجموع سيرة الإمام عليه السلام لسيدنا علي بن الحسين فقال القاضي عامر: القاضي سعد الدين يطلب منكم إرجاع كتبه وكذا، قال: واغتنم القول فأعادوها في الحال لم يفت منها إلا شيء يسير مما يعرفونه والكراريس التي من سيرة الإمام عليه السلام وأرسلها سيدنا عامر إلى السودة، ثم سارعت لها وسلمها الله وله الحمد كثيراً.
[مشاورات بشأن إخراج الحسن بن الإٌمام من السجن]
وأخبرني مولانا أحمد بن أمير المؤمنين أطال الله بقاه أن سيدنا العلامة عامر بن محمد رحمه الله لقي حيدر باشا وكان في تلك المدة مملوكاً ووزيراً لجعفر باشا وخاض معه في إطلاق مولانا الحسن رحمه الله وقرب كثيراً وقال افعل ما قدرت عليه عند الباشا، ولكن أقدم إليه أنت وافتح عليه حتى أقدم، وكان إذ ذاك في الصرارة وأنا [ق/429] أطبخ إن شاء الله تعالى في ذلك رأياً مع الاجتماع بالباشا ثم قال: التمس لي من الإمام هيكلاً أتبرك به، فعرف القاضي الإمام عليه السلام فلم ير هذا لمثله القران، فأرسل له بمسبحة مرجان ثمينة وقال القاضي: هذه مسبحة الإمام فكان لها محلة عنده، ثم إن القاضي عرف الباشا وبسط القول فقرب وبعد، ولما وصل حيدر عالجه فقال: هذا الأمر لا أفعله إلا برأي السلطان فإني كتبت به أو كما قال، وكان القاضي قد استروح التمام فبكى عند الباشا فتوسط حيدر وقال: يترك الإمام حضور للسلطنة ويفعلوا صورة تحسن فيها العذر للباشا في إطلاقه وهو أنهم يهولوا بمضرة حضور على صنعاء وأن مشربها منه وأنه لم يتمكن من الصلح عليه إلا بإطلاق ابن الإمام، ويكتب سجلاً وشهادة العلماء في صنعاء وعظماء العجم والعرب ويخرجوه وأتموا على ذلك، ووصل القاضي إلى الإمام عليه السلام وأخبره فطلب العلماء وأهل الفضل من خواصه فكلهم استرجح ذلك فلما سمعهم الإمام عليه السلام قال: لا يراني الله تعالى أخونه في بلاده وعباده ثم ذكر كم في هذه البلاد المذكورة من نفوس وقال: أبيعها بنفس واحدة، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: ((لعن الله إماماً يتجر في رعيته)) أو ما معناه، فبكى القاضي أيضاً، وقد قال الإمام عليه السلام: أنا مستودع ولدي من هو أقدر على خلاصه أو كما قال، وكان قد رضي مشائخ حضور والحيمة بذلك، وحيث قد ذكر مسير الباشا جعفر فلنعد إلى طرف من أخبار أسر مولانا الحسن رحمه الله ومقدمات ما يسر الله من خلاصه مما أخبرني به سلام الله عليه مراراً، فلنذكره على جهة الاختصار إن شاء الله تعالى، قال رحمه الله: كنت في حبور في الصلح الكبير وبنظري بلاد عذر وظليمة وجمهور عسكر الإمام عليه السلام وكان حي الفقيه بدر الدين محمد بن سعيد النمة كاتب العسكر فكان كثيراً ما يشكونه إلى الإمام عليه السلام وقد يكتب الإمام عليه السلام عليه وعلينا، ثم إن بعض ظليمة وبعض عذر التمسوا خطوطاً من الإمام عليه السلام أن يكونوا ما تعين عليهم من الحقوق والمعاون إلى الإمام عليه السلام من غير واسطتنا، فكبر ذلك وخشيت تفرق العسكر وقصور الحال عن حفظهم مع قوة العدو فأرسلت الفقيه المذكور إلى الإمام عليه السلام وكتبت معه بكتاب حملني عليه عظم الموقع، وخلاصته إيمان إن لم تعن على حفظ العسكر لأتركن المكان، وأصل إليك أفر أو ألجأ إلى هجرة حوث ولا ألتفت إلى غير العلم.
فأخبرني الفقيه محمد [ق/430] بن سعيد أنه وصل إلى الإمام عليه السلام وهو في المدان من الأهنوم قال: وصلته في نصف نهار وما عنده إلا من يحتاج إليه، فلما رآني قال: رأيته متغيراً، ثم أغلق علي الباب وسالت دموعه وكان عليه السلام مهيباً فظننت أن في نفسه علي من شكوى العسكر فأردت أعتذر، وإذا الأمر خلاف ذلك بل قال والدمع على خده: كيف الولد الحسن حفظه الله؟ فقلت له: في خير وعافية قراءته في كذا وحاله كذا، فقال: الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، ثم أجاب عن كتابي وفعل ما طلبته من تقرير قواعد البلاد والعسكر، وقال في الجواب: أكثر يا ولدي من الإستغفار واجعل راتبك لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، هذا اللفظ ومعناه، قال: فلما قرأته حصل معي أن ذلك بسبب أليتي وأني أضجرته عليه السلام فحصل معي الخوف الشديد من ضجره وظننت التقصير في حقه، فبردت بريداً وعرفته واستغفرت وقلت يخبرني، فلم يزدني على المقالة الأولى فتوهمت وعرفته، فقال: كذلك ثم طلعنا للقاء العدو وفتح البلاد وكتبت إليه من بيت علمان فكان الجواب كما تقدم، ثم كان ما عرفت من تلك الفضيحة في العرة، وكان كثيراً ما يذكرها في هذا الاسم تواضعاً وإلا فلو أراد الفرار لما أسروه كما قال الإمام المهدي إبراهيم بن تاج الدين عليه السلام:
فإن غلبت فما هذا بمبتدع .... فكم بهاليل غلابون قد غلبوا
وكما قال ابن الرومي في الإمام يحيى بن عمر الزيدي سلام الله عليه:
كدأب علي في المواطن قبله .... أبي حسن والغصن من حيث يخرج
ثم صرنا إلى صنعاء، وكان الأسر، ومشقته أهون عندي من دموع الإمام عليه السلام قال رحمه الله: ولما أذن لي بكتاب إلى الإمام عليه السلام عن ذلك وقلت: ها أنا في هذا الموضع فما أشق منه أو كما قال، قال: فكان الجواب على نحو الأول فحصل معي لأجل ذلك أعظم من الأول، ثم كتبت إلى إمامنا الصنو محمد حفظه الله فقال ذلك لأجل رؤيا رآها لم يستحسن إعلامك بها، ثم إلى الصنو الحسين فقال: أنا في الظفير ولكن قد سألت الصنو محمد فقال: كذا فلما يسر الله الخروج كما سيأتي إن شاء الله سألت مولانا محمد عليه السلام في الهجر في أول الاتفاق به، فقال الإمام عليه السلام: أمرنا أن نكتم الحقيقة مخافة أن تعرفها فيحصل اليأس من الفرج ويقل الدعاء إلى الله أو كما قال، فقلت: كيف الرؤيا؟ فقال: إنه رأى لصبيحة وصول الفقيه محمد بن سعيد النمة [ق/431] أنه يمشي في طريق ونحن بعده واحداً بعد واحد يعني أولاده محمد وعلي والحسين فلم يسمع للحسن بعده حساً فالتفت فإذا الأرض قد انهارت به وصار في بئر قال: فرآه الإمام عليه السلام في البئر وقد علاه أسد هائل وهو بين مخالبه، فصاح الإمام عليه السلام بالمسلمين يمدونه فلم يؤثروا فأمر بأن يكبس البئر بالتراب حتى يرتفع الأسد فيقاتله عن ولده ففعل المسلمون فلم يؤثروا، واستيقظ والحال هذه فهذا الذي كتمه عنك. انتهى.
[أخبار الحسن بن الإمام في سجنه]
طرف من دخوله صنعاء حسب ما تقدم في أخبار أسره رضوان الله عليه، قال: لما وصل عند جعفر باشا لم ينصفه بما يحق لمثله بل عبأ وأرسله وأصحابه إلى الدار الحمراء، قال: ففرقوا أصحابي عني وجعلوني في منزل منها يسمى حبلة منفرداً وغفلوا مني فصليت على الحالة وقد جعلوا في رجلي قيد أربعة وخمسين رطلاً عجزت عن القيام به وإنما حملني وإياه عتال من أهل القوة وتبلغت بشيء من رحير السمسم المعصور منه السليط من يد صبي باب المكان يحمله على رأسه بما لا أدري أين يريد، وبقيت ثلاثة أيام، وجعلوا عندي تركياً لا يعرف كلمة واحدة بالعربية فكنت أخاف وأظن إنما أرسلوه ليغتالني، قال وإذا هو نائم لم يتحرك فعرفت أنهم أمنوه يحفظني تأكيداً مع الأبواب والرسم والحرس، قال فكنت بعدها إذا رأيته آنس إليه، فلما كان اليوم الثالث استأذن الحاج أحمد الوادي من الباشا بالوصول إلي وكان عندهم مقبول القول، قال فوصلني بعنب وفواكه وفراش وقال يا سيدي ألك حاجة أقضيها أو كمال قال؟ فقلت: نعم أطلب منك ثلاثاً ما قدرت عليه منهن فهذا وقت النفع، الأولى: غير هذا القيد فقد كاد يهلكني ولا أستطيع معه الصلاة، الثانية: إن من أصحابي فضلاء سادة أحب أن يكونوا عندي آنس إليهم ويأنسون إلي، والثالثة: أنه كان معي عبيد بعضهم من عبيد عبد الرحيم وبعضهم من عبيد ابن المعافا كلهم أحرار وإنما خدموني بالإحسان فلا يستعبدون على أنهم مماليك، قال فقام من حينه وقضى هذه الحوائج كلها وصلح الحال كله وأجرى علينا الكفاية من الطعام والماء، وانقطع من عندي ذلك الحرسي، قال
وكان ثم سائس يخدم في خيل الباشا ممن قد خدمنا فكان إذا رآني في طاقة ذلك المكان سلم علي ويشير إذا لم يكن عنده من يخافه بما اتفق من الحروب فكنت أجد لإشارته لذة لأنا لا نعرف حال الإمام [ق/432] عليه السلام وما كان من عدم المواصل لنا، فلما كانت قضايا الشام كما تقدم من عرو والحضائر وعلاف رأيت للأمراء حركة إلى عند الباشا فأشار ذلك الغلام بما فهمت أنها وقعة عظماء فيهم فكانت بشارة ولا علم لي فما شعرنا إلا وقد أخرجوا من كان عندي من الأصحاب كالسيد الحسين بن إبراهيم، والسيد الهادي بن جحاف، والفقيه عثمان بن سليمان والفقيه عبد المغني بن عيسى الشرفي وضربوهم وعنفوا عليهم وأغلقوا علي أو قال وزادوا قيداً، قال وحصلت وحشة عظيمة وظننت الظنون، وذلك أن الباشا أراد المكر وأن يقتلني لما وقع في نفسه ممن قتل في جنده، قال: وكان في أصحابه رئاسة وشهامة بحيث أنهم كانوا خيراً منه فكرهوا له قتل الأسرى الذين لا ذنب له فلازالوا به حتى برد، ثم بقينا ليالي وأعادوا لنا أصحابنا وبقوا حتى رأينا أعظم من الأولى وذلك الغلام يشير بأعظم، قال ففعلوا معنا ومعهم أعظم من الأولى وكان ذلك العجمي الذي رأيته أنست لأنه لا يتعقب وصوله غير أن يفرش ويرقد ويغلق الأبواب وإذا لم أره خفت وقلت في نفسي قد بدا لهم بادٍ، ثم بلغنا أن الباشا لما صح له قتلة غارب أثلة وقتل الأزرقي وحجار ومن قتلهم الإمام عليه السلام من الأسرى وقد هولوا عند الباشا أن الإمام طرحهم الخوار أحياء فلم يقبل مراجعة من أصحابه بل قال: يفعل هذه مع الأسرى وأنا أفعل بولده كذا مما نعوذ بالله منه، قال:
فدافعه أصحابه وسماهم من عبد الرحمن شلبي، وعثمان أفندي وإسماعيل آغا والخزرجي الكاتب، فلما لم يقبل منهم أرسلوا إلى الحاج أحمد الوادي أن أدركنا، قال فوصل فلما رآه الباشا تنفس إليه، وشكى عليه من الإمام ومن قتل، وإنا قد عزمنا أن نقتدي به، ونقتل ولده، ومن عندنا من أصحابه، وكان أحمد الوادي له صناعة في الحديث فتبسم إلى الباشا، وقال: يا سبحان الله إن كان قد فعل الإمام خطأ فتكن مثله مخطئاً أو كما قال، ولكن قد بلغني غير هذا قال: وما هو؟ فقال: أخبرني الثقة أن هؤلاء المذكورين لما صاروا إليه وقد عرفت كم قتلوا من أصحابه طالبهم الورثة للمقتولين فأمرهم إلى حاكم الشريعة فقضى عليهم بالقصاص فإن اقتصوا منهم وأنت إذا أحد يسأل هؤلاء الذين عندك دماً أمرتهم إلى الشريعة وكذا، وأحسن المدخل إلى تدبير الملعون، قال فوصل ذلك العجمي وقد أيست بعد نصف الليل وقد كنت أعددت لباسين لئلا تبدو [ق/433] عورتي، وأعددت فلقتين من الحطب أقاتل بهما جهدي إذا قصدني، فقال حال وصل تستأهل السلامة، وسيأتي إن شاء الله تفصيل خروجه من الحبس وما يسر الله من الأسباب وأبدله من الرخاء بعد الشدة وله الحمد على كل حال.
[المناطق الخاضعة لسيطرة الإمام التي أقرت في الصلح]
ولنرجع إلى تمام عقد الصلح، ولما وصل محمد باشا في سنة خمس وعشرين وألف [1616م] كاتب الإمام عليه السلام بتمام السنة التي عقدها جعفر باشا فقط والمراكز في مواضعها في المشرق والمغرب وجهات القبلة بجهة صعدة.
قال السيد أحمد نفع الله به: وطلب محمد باشا جهات حضور ووعد بإطلاق مولانا الحسن رحمه الله ومن معه فلم ير ذلك الإمام عليه السلام كما تقدم.
قلت: ورأيت للإمام عليه السلام مسودة في حدود البلاد التي وقع عليها الصلح الذي ذهب فيه جعفر باشا وهو صلح السنة، هذا ما نشعر بحاجته إليه وأنه الأنفع للمسلمين ومن ألفاظه إلى الباشا: أنتم أهل الإحسان والتفضل والمطلوب من البلاد الظفير ونيسا وما وراء ذلك من الشرف وغربان والمقعد، والموسم والعجر وما وراء ذلك من البلاد التي نحن فيها وبني زهير وخارف ما خلا الكلبيين والبطنة من بني جبر فلا سبيل لنا إليهم، ومن الذي نطلبه الحيمة وما إليها ومرهبة وبني قيس وشاظب وخيوان، ومن بلاد صعدة الحدود[غربي بني غوير وآلة يعقوب والأرقوك، وحطم فلله وما وراء هذه الحدود] من بلاد خولان ورازح، ثم ذكر ما بقي لهم من حوالي صعدة مع نجران وبلاد سفيان والطريق لهم، ثم قال عليه السلام: السلطان الأعظم أعظم أن يلحظ إلى هذه البلاد الحقيرة والوزير الأكرم أكرم أن [يشاح] على بلاد أهلها يطلق اسم الفقر عليهم لأنهم يأكلون الجشب ويلبسون الخشن لأن أكثر قوتهم الذرة، وفي كتاب فقه اللغة من يستمر على أكل الذرة يطلق عليهم اسم الفقر. وهو يطول بخط يده الطاهرة وحروفه.
قلت: وهذا التواضع لهذا الطاغية يدل على معرفته للمصلحة للمسلمين وتسكين فورتهم بلين الكلام أقل ضرراً على المسلمين من نحو ما تقدم من الملاحم والأيام، فجزاه الله عن الإسلام أفضل ما جزى إمام على مثل قيامه قام.
[فتح صعدة]
قد تقدم أن الأمير صفر خرج منها ليلحق بالباشا جعفر واستخلف الأمير صلاح بن أحمد بن حسين المؤيدي على الرتبة المأخوذة وهم نحو ألف نفر ومائتي فارس من [ق/434]غير من خرج مع صفر فاتفق أن هذا الأمير صلاح كان له خادم غالب على أمره يسمى صلاح السقاء فطلب من حول صعدة من القبائل مالا يحملونه لا سيما مع أن الجبال من جهة خولان وبني جماعة إلى الإمام عليه السلام لا شيء عليهم مما على سحار يعني الذين في الصعيد منهم، وإلا فإن الشيخ أحمد بن علي بن كباس وبني معاذ والأرقوك في صلح الإمام عليه السلام فأوغر صدروهم، ثم إنه طلب من الشيخ علي بن سليمان بن محرب وكان ناصحاً للعجم، وكان له شوكة ورئاسة معتادة ثلاثمائة حرف يحصلها في يوم واحد، فعظم على الشيخ المذكور وأنف أن يطالبه مثل هذا الخادم، وأن الشيخ أحمد بن كباس وغيره ممن هم دونه في ناموس ونعمة وعدل ظاهر، فندم على تخلفه عن الإمام عليه السلام غاية الندم فاستمهل في تلك المطلب وخرج إلى بلدة أيلة مجرب، وأرسل بالعقائر إلى جميع قبائله سحار وحلفاؤهم فمدوه برجال ووالاه كثير من أهل صعدة، وأمدوه بمال، ثم أرسل عقائر أيضاً إلى مشارق صعدة فأجابوه وقصدوا صعدة فحاصروها حتى منعوا منها جميع المنافع، ثم قصدوا المصلى والمقابر على نحو ما تقدم في المرة الأولى وناشبوهم الحرب ليلاً ونهاراً والزيادات إليهم من القبائل ومع ذلك يراسل المذكور إلى الإمام عليه السلام فلا يجيبه بل يمنع أهل بلدته ويتشدد عليه السادة، وقال: دعوهم وبعضهم بعضاً واحتالوا بأن دخلت المدينة على نحو ما تقدم في القضية الأولى،
وانهزم جنود الظلمة إلى القصر والمنصورة فحاصروهم أيضاً حصاراً شديداً وهم يراسلون إلى الإمام عليه السلام فلا يجيب عليهم إلا هذه رعيتكم التي ثارت عليكم، واشتغل الباشا محمد مع وصوله عنهم حتى طال عليهم الحصار، فاتفق أن رجلاً يسمى محمد عناش من أهل الحقل بايع جماعة من أهل البسالة والاجتهاد أن يفعل ثقباً تحت الأرض طويلاً حتى يفتحه من داخل المنصورة، وشاع ذلك فخاطب الأمير صلاح ومن معه وطلب الرفاقة على تسليم صعدة ويفتحون له الطريق إلى صنعاء، ففعلوا وأخذوا سلاحاً كثيراً، وبقيت صعدة في يد الشيخ علي بن سليمان والقبائل، وأظهر القبائل أن صعدة للشيخ علي بن محرب وقد تقسمونها فكل حافة من حافاتها استجارت بقبائل فراسلوا الإمام عليه السلام يرسل لقبضها فلم يجبهم حتى كملت السنة، وانقضت أيام الصلح، وأمر السيد الكبير شمس الدين أحمد بن المهدي المؤيدي رحمه الله تعالى [ق/435] لقبضها وقبض ما حولها، فدخلها السيد شمس الدين وقد خالط أهلها القبائل وملكوا أمرها وغيروا قانونها، فعالجهم السيد أحمد علاجاً شديداً وكان فيه رحمه الله رئاسة وكرم أخلاق وسخاء، وساقها إلى الإمام عليه السلام وعظم نفعها كما سيأتي إن شاء الله تعالى من نقض الصلح وما بعدها من الحوادث بعد الصلح المذكور.
[قضية مقتل القاضي حسام الدين الهادي]
استشهاد القاضي العلامة حسام الدين الهادي بن عبد الله بن أبي الرجال رحمه الله، وصفة ذلك أنه كان إليه رحمه الله بلاد حاشد وبكيل من حدود وادعة إلى حدود بلاد نهم وعليه حفظ هذه البلاد وحروبها، فحصل من بعض الفضلاء أن قال في حضرة الإمام عليه السلام أن بنظر فلان بلاداً كثيرة وهو ربما يقصر في إمداد الإمام عليه السلام بشيء من محاصليها وكذا، ثم كثر ذكر مثل ذلك وكان رحمه الله يتألم من ذلك كثيراً، وكان من أهل الزهد الخفي والورع الشحيح بحيث أنه لا يملك شيئاً من العقارات ولا عمر بيته الذي خربه الترك في هجرة حيط حمران وإنما سكنوه في بيت الإمام الشهيد أحمد بن الحسين سلام الله عليه، ويؤثر غيره بما عنده مشهور السخاء، وكان مع اشتغاله بالجهاد والقضاء بين الناس لا يبرح عن عمارة المساجد حتى لقد عمر كثيراً منها، وكان له في هذا البلاد المذكورة قوة نهضة وهيبة بحيث أنها صارت كالهجر، وله رحمه الله سياسة وحسن معرفة لأخلاق الناس وطباعهم، ولقد قدر على استخراج كتب الطاغوت التي تترك مع رؤساء بلاد حاشد وبكيل وغيرها وأحرقها بالنار، ولما بلغه مثل ما تقدم، وعرف أنهم قد ظنوا فيه الظنون لما يبلغهم من عطائه لأهل النفع من هذه القبائل، وسمعته رحمه الله مراراً يقول لعيون من بلاد خارف وبني زهير: مرادنا نزور الإمام ويسير معنا المشائخ والعسكر من جميع أهل بلادنا يعرف الإمام عليه السلام والأصحاب أن علينا في المراتب النصف أو كذا، وليس كثير على أهل هذه المراتب أن يصير إليهم من بلادهم ما يقوم بهم في الجهاد أو كما
قال، وأخذ يعلمهم بذلك لقصد أنهم يساعدونه وأن لا يطلبون من الإمام عليه السلام عطاء بل يخصهم على أنهم لو أعطاهم الإمام عليه السلام شيئاً امتنعوا للتخفيف على الإمام عليه السلام ولتكون زيارة خالصة من الشوائب، فلما أبرم ذلك وأخذ في الأهبة عرف إلى مولانا محمد عليه السلام وكان صديقاً له خالصاً فرجح له ذلك، ثم توجه حتى وصل بلاد وادعة موضعاً يسمى عصافر، ولا له ولا [ق/436] لمن معه غير قصد الإمام عليه السلام وكان معه قريب من ثمانمائة نفر، وكان من قوم من العصيمات قد أفسدوا في طريق الفقع وغيرها، فكتب مولانا محمد عليه السلام إليه أنك تطلب وادعة جميعاً وتأخذ هؤلاء الأشرار مع طريقكم فإنهم غير خائفين فما هي إلا مصلحة خالصة وبين وادعة والعصيمات خصومة ودخول متقدمة فوصلوا إليه في الليل، وتقدم بهم الأدلاء حتى أشرفوا على مواضعهم ولم يعرفها القاضي قبل ذلك، فركز رايته في جبل أعلى من حوث وأمر بالغارة على الصروم بعد صلاة الفجر، فأغاروا عليهم وهم متفرقون في شعاب فتفرق العسكر بتفرقهم حتى قتلوا في الشعاب وأخذوهم وطمعوهم، وأغارت العصيمات والقاضي يضرب المرفع ليرجع الغارة إليه ويكون ردءاً لهم، وقد خرج إليه من حوث السادة الفضلاء السيد أمير الدين والسيد محمد بن علي بن عشيش، والسيد الحسن بن محمد رضوان الله عليهم وقالوا له: ادخل الهجرة للغداء، فقال: لا أبرح حتى يعود العسكر إلى هذا الموضع وليس مع السادة عليه شجن أصلاً فاتفق أن غارت العصيمات قطعت ما بين القاضي والعسكر من أصحابه، فجاءوا طريقاً أخرى خرجوا منها إلى جهة وادعة ولا علم له
بخروجهم فإنما هو في انتظارهم، فتقدمت قبيلة منهم غارة يسمون ذو الفصل إليه رضوان الله عليه ولم يكن عنده إلا القليل فقاتلهم ساعة ثم قتلوه وثمانية ممن معهم ونهبوهم وعادوا جهاتهم، فبلغ السادة الفضلاء القضية فعادوا وقد هلك رحمه الله فاحتملوه إلى الهجرة وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه فيها رحمة الله عليه.
ولما بلغ الإمام عليه السلام وقع معه الأمر الأعظم وعرف أنه لو يتفرغ لجهاد العصيمات ولا خصم له غيرهم لأحوجهم إلى أمر عظيم وخطب جسيم، فما وجد غير الإنكار في أنه لم يأمره بغزوهم وأظهر مثل ذلك كما كان من السيد الفاضل القاسم بن جعفر وأخيه ذي الشرفين محمد بن جعفر سلام الله عليهما حيث قالا عمهما الحسين بن القاسم لم يقتل رحمة الله عليه، وذلك لئلا يقولا هما وشيعتهما: قتله قوم لا يقدر ينقم بثأره منهم كذلك.
قال الإمام عليه السلام بلسان الحال لا بلسان المقال ومثل هذه لا يطلق عليها اسم الكذب، ومما رثي به القاضي رحمه الله قول ولد عمه القاضي الأعلم شمس الدين أحمد بن علي بن أحمد بن أبي الرجال:
أبكي مصابك والسخاء والرحما .... وأصبح الدين مثلوماً ومنهدما
[ق/437]
فللأنام وقد ذاقوا مرارته .... يحق للعين أن تبكي عليه دما
يا حائزاً كل معروف ومكرمة .... ومن على هامة العلياء رسا قدما
من للمساكين كهف يوم مسغبة .... ومن لهم ذخرة إن أملقوا عدما
وللمجالس تاج راق منظره .... وللمدارس نور زحزح الظلما
يا ملجئاً لطريد عضه زمن .... ومن يعد لكشف الخطب إن عظما
ومن إذا أعيت الأعلام مشكلة .... وجاش من فوقها طوفانها وطما
قالوا جميعاً لهذا فيصل فطن .... أتوا عليها بخاف أمرها علما
أما الجهاد فلا يحصى وقائعه .... فيه ومن يحصر الأمران والديما
من بالصلاة وبالصولات مشتهر .... يروي بهذين حد السيف والقلما
كذا الزمان فلا تحصى مصائبه .... جنى علينا ولم يحفل بنا ورمى
وما أصبنا خصوماً في قضيته .... بل تلك بلوى أتتنا عمت الأمما
إن العصيمات أخلى الله أرضهم .... عن كل حي ولا آتاهم النعما
دحوا مشيداً على الإسلام واعتمدوا .... قتل الهمام سليل القادة العلما
وإن يقولوا مقالاً يفخرون به .... على الأنام ليزدادوا به كرما
بأن يقولوا شفينا غيضنا بحجا .... كما شفاه روس قبلنا قدما
آباؤنا استغرقوا الأقرام من قدم .... ولم يروا أحداً للثار منتقما
قلنا لنا مفزع بعد الإله إلى .... حام حمى الدين بل من شاده وحمى
ما يظفرون وملجأنا أبو حسن .... يبني لنا ما دحاه الدهر وانحدما
بقي لنا فهو نعم المستغاث به .... سعداً لمن بعراه لاذ والتزما
والصبر خير وقد قالت الحكماء .... لكنه لم يفد ما قالت الحكما
متى النصيف أمير المؤمنين متى .... يكون ممن لهذا الدين قد ثلما
وجرع النظيم أرحاماً يبيت لها .... تحت الدجى نحيب تجلب الألما
وللبنين وللأطفال نائحة .... يحسها من حوث آذانه الصمما
وزادهم حسرة من فوق ما بهم .... بطؤ النصيف من العداء والخصما
ما أدرك الروم بل طابت دماؤهم .... بمرهفاتك وانقادت لك الزعما
أتاك للسلم باقيهم محاذرة .... من أن يحل بنا ما حل بالقدما
[ق/438]
وتحت أمرك أملاك غطارفة .... من هاشم يضربون الهام والقمما
أبناؤك الصيد الحامون الحدود ومن .... لهم إلى الرتبة القصوى ارتقى ونما
وواحد إن تهيأ في سريته .... أفنى العداة وأوفى الفيء والقسما
إذا رأيت لشمس الدين أرسلها .... شعثاً وأسقاهم بالصارم السقما
يجرها من نواحي الشام عادية .... فرسان صدق عليها أمره حكما
شامية تملأ الأقطار هيبتها .... ليوث حرب إذا ما شادوا الحزما
تأتيهم تحت أعلام وألوية .... ليلاً فيصبح ربع القوم منحسما
فذاك والله ما صعب يقوم له .... إلا تيسر ما يرجوه والتأما
بجودة الرأي والبأس الذي انصدعت .... منه الجبال إذا ما جيشه اصطدما
حاشاك أن تكسب السرى حلائلهم .... سمتاً وأرحامنا الأحزان والندما
هذا أوان الوفاء إن كنت فاعله .... فأنت ممن إذا استرعى رعى وحمى
إن لم يكن منك في سلم مناصفة .... فمن يرجى انتصاف حيث لا سلما
ثم الصلاة على المختار ما خطرت .... عيس وما شن مزن هاطل وهمى
[أخبار النهضة الرابعة]
فصل: في ذكر النهضة الرابعة التي توفي فيها صلوات الله عليه، وذلك في شهر شعبان وأنه لما أبرم الصلح توكل على الله سبحانه واستعانه وجمع عساكره المنصورة فكان أول ابتدائه طمع في فتح بلاد شظب لقربها، وقد تقدم ذكر من فيها من أمراء العجم والمواضع التي هم فيها رتباً بمكاتبة الشيخ بدر الدين داود بن قاسم القحيف رحمه الله تعالى فإنه عاقد جماعة من أهل جبل بني حجاج، فأرسل الإمام عليه السلام جمهور عساكره لذلك مع السيد الرئيس المجاهد علي بن الحسن شرف الدين والسيد المجاهد بدر الدين محمد بن صالح بن عبد الله الغرباني، والسيد العلامة المجاهد ناصر بن محمد صبح الغرباني، ثم القاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي رحمه الله، وكان سيدنا الفقيه العدل العالم يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله في جماعة من السادة والفقهاء في الحمراء كما تقدم، فلما وصل السادة من عند الإمام إلى وادي عصمان خاف الشيخ محمد أن يعرف أهل الجبل فتقدموا رتباً بلزم مواضع فتعذر الطلوع الجبل كما وقع، فرجح تقدم سيدنا عماد الدين رحمه الله [ق/439] لأصحابه، وأصحاب الشيخ يلزمون موضعين أحدهما يسمى الدربين أساسات بناء قديم على رأس قبة وهي أيضاً العقبة إنما هي لرجل فقط، والآخر يسمى درب السقم، فلما صعده بعد صلاة المغرب وقسم من معه في الموضعين وعلى أنهم يحفظونهما حتى الصباح وتصل العساكر الإمامية وتصول على محاط الترك أخذهم الله في الظهراوين والظلامة ونحوها، ثم يتقدم من يتقدم للزم بيت ابن علاء لقطع مواد صنعاء والصرارة ويحيط بالسودة ومن فيها، وكان في السودة
الأمير محمد بوتج وغيره، والأمير إبراهيم بن المعافا في نحو ألف وخمسمائة نفر، وفي الجبل نحو ستمائة نفر أو ثمانمائة نفر معظمهم في الظهراوين والطاعة، فلازموا سيدنا والمجاهدين وأحاطوا بهم عند صلاة العشاء حتى ضايقوهم، وقتل نحو أربعة أنفار من المجاهدين والانتظار لوصول السادة ويصعدون، فأشار الأشرار من أهل شظب على الأمير محمد بأن يرسل محطة من عنده من السودة في الليل ففعل ولزموا رأس القبة وحالوا بين الفقيه يحيى والسادة، وعظم الأمر حتى أحاطوا بالمجاهدين من ثلاث جهات، والرابعة اكتفوا بشاهق شرقي ينزل إلى موضع يسمى ساق، وعظم الأمر ووصل السادة في الليل إلى الشيخ محمد وهو منتظر لهم ليصعد بهم الجبل فوجدوا القبة قد ملكها العجم، وحصلت مراماة بالبنادق غير مؤثرة في الليل، فلما عرف ذلك الفقيه عماد الدين طلب من عنده من أهل البلاد وإذا هم قد تفرقوا وقلوا لم يبق إلا رجل منهم يسمى عبد الله الرحال وجماعة دون العشرة، فقال هذا المذكور: إذا أصبح الصباح وقد اجتمع من الظلمة في رأس القبة مائة بندق فلا يقدر السادة على التفريج علينا لعسر المكان، و هذه الخرابة التي نحن وأنت فيها كما ترى غير حصينة ولا فيها ماء ولا غير،ه فحصل من الرأي الخروج فأمر سيدنا بخروج الأصحاب من هنالك وبقي إلى آخرهم، وقطع فتائل في المتارس على أن أهل البنادق ثابتون فيها ورمى ببندق، وخرج المجاهدون واتصلوا بالسادة والغارات بعد صلاة الفجر، وضبط الظلمة الجبل حتى لا مدخل إليه، فعاد السادة والمجاهدون إلى حبور عند مولانا محمد عليه السلام.
[فتح قدم وجنب وبني حنب الأعوام]
ولما يسر الله وصول الشيخ شمس الدين القدمي وجماعة من [ق/440] قدم الذروة من بني شاور ومثل الشيخ صلاج بن مخارش، والشيخ محمد بن راصع فإنهم مهاجرون مع الإمام عليه السلام طلع السادة والقاضي أحمد حتى اتصل بقدم، وقتل من رتبة العجم جماعة، ومن المجاهدين ثلاثة أنفار وهزموهم بإذن الله سبحانه وتعالى، واستقر القاضي أحمد في قدم ونفذ السادة الكرام إلى بني حيش فلزموا مواضع منها قرن النود والأكمة والمدارة، واستقامت حروب شديدة، وكان قد طلع السيد الهادي بن الحسن بن الإمام شرف الدين صاحب كحلان بمحطة من جنود الظلمة إلى الحصن المعروف بسيد العرابي فأحاط السادة الكرام به من الجهات الأربع، ووصل الأمير محمد خمخم إلى الأعرام وقد جعل فيه محطة، وكان أمر ليس بالهزل ولا زال الحرب ليلاً ونهاراً حتى كاد الفريقان يتكادمون بالأفواه، ووصلت الأمداد من الإمام عليه السلام مثل الشيخ وهان بن مجلي بن وهان وكان في المدارة المتقدم ذكرها، ووصل عسكر من الشام من عند السيد أحمد بن المهدي والسادة الذين لديه في بلاد خولان مع حي الشيخ المجاهد عيسى بن الخطاب، وعظم الأمر حتى أفرجوا عن هادي بن الحسن ومن معه، وخرجوا إلى موضع يسمى خولان قظوع، ووصل إلى السادة وإلى مولانا محمد عليه السلام من بلاد حنب وبلاد الأقهوم وبلاد حقل من يطلب القود وأن يوالوا الإمام عليه السلام إذا وصلهم أحد السادة الكرام رضوان الله عليهم، فتقدم إلى بلادهم السيد العلامة ناصر بن محمد صبح القاسمي بعسكر نحو أربعمائة نفر والشيخ عيسى بن الخطاب ومن أصحابه نحو
الثلاث المائة أو أقل منه، فلزموا موضعاً يسمى قلد وحصناً أعلى منه يسمى سمع، وتقدمت محطة من الترك إلى مقابلهم موضعاً يسمى نباش، وكان الشيخ ابن علاء قد واثر بموالاته جانب الحق وتقدمت محطة من العجم إلى محطة ابن علاء مع محطة الأعرام فرجع ابن علاء وهو الشيخ محمد بن راشد بن علاء عما كان أعطى من نفسه وأعطاه العجم، ونصح معهم الله المستعان، فعظم الأمر وكان الطريق إلى المراتب الإمامية بني علي شظب ثم بني حي من بني الحارث قريباً من سفر يوم للبريد، والمراتب الإمامية تحفظ الطريق من جهة السودة ومن جهة بلاد عفار فإن العجم أكثروا من الرتب واستخدام أهل البلاد فكانوا يجعلون الرتبة منهم ومثلها من أهل البلاد، ويعطونهم مثل العسكر، [ق/441] وهذه بمشورة أشرار العرب فإنهم فعلوها في مواضع وابتدأوها في أيام جعفر، ثم أكثرها محمد باشا حتى أفسد كثيراً من العرب بذلك، ولما تلازمت المراكز ولا تزال الحرب من مغربة الظفير من حجة إلى مراتب خمر ونواحيه جمع الإمام عليه السلام إلى ولده مولانا محمد عليه السلام عسكراً من الأهنوم ومن غيرهم حتى كثروا في ظليمة، وقد حصل اليأس من فتح شظب وبلاد عفار فإني سمعت الإمام عليه السلام يقول لمن أشار عليه بفتح بلاد عفار: ليفرج عن هذه المراتب لا يكاد يحصل مثل ما حصل في شظب، وكان في بلاد عفار أمير من العجم والأمير ناصر المحبشي والي تدبير تلك المحطة وقد ضبطها بالرتب والعطاء فالصواب أن نرسل هذه العساكر إلى الولد الحسين حفظه الله يفتح بها حجة إن شاء الله تعالى، وليجد المجاهدون ما يحملهم من القوت، ومنها حصون حجة
متعطلة أو كما قال، فجهز السرايا إلى حجة مع السيد المجاهد عز الدين محمد بن الحسن المحرابي وكان في مرتبة الموسم، وخلف مكانه عمه السيد الهادي بن محمد المحرابي ثم أرسل القاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي، وكان في قدم، وأرسل عوضه السيد المجاهد المطهر بن ناصر الدين الحمزي المعروف بسحلة رحمة الله عليه وتابع العسكر والغارات إلى حجة، وجعل عليه السلام بلاد خولان الشام وما إليها تمد إلى بني حيش وحنب بالدول شهرين شهرين وسحار، وجانب بني جماعة إلى حجة، ولما تواترت الأمداد إلى مولانا الحسين رحمه الله قدم السيد محمد بن الحسن المحرابي والأهنوم إلى قدم القروات فأحاطوا هنالك، ثم أرسل السيد حفظ الدين بن علي والقاضي أحمد بن محمد السلفي إلى حوالي الرنع وحصن ظفر، وجعل في الشاهل السيد مطهر بن صالح بن المرتضى سحلة الهادوي، وإلى العبالي السيد علي بن عبد الله العبالي، ثم أدخل رتبة إلى جبل السهيل ثم إلى بني عكاب وإلى حقنة واجتمع الجبر كلهم للجهاد مع الإمام عليه السلام وبقيت الرتب في الذنوب ومبين وكوكبان الحبر وكوكبان قدم وشمسان بني عكاب والجاهلي، وكان في هذه الرتب من جنود الظلمة فوق خمسمائة نفر من غير أهل هذه الحصون فإنهم منهم، واجتمعت جنود الظلمة إلى حورة، وكثرت محاطهم وأمدادهم وغزوا المراتب الإمامية، وكان أعظمها قضيتين حرب حصن ظفر والرنع والشاهل فإنهم دخلوا إلى شوارع البلد، وحصل تلاحم، ثم هزم الله جنود الظالمين إلى قريب من المدرسة [ق/442] وقتل منهم فوق المائتين واحتز منهم نحو سبعين رأساً، وحملت إلى الإمام عليه السلام.
والأخرى: وهي قبل هذه خرجوا على السيد محمد بن الحسن المحرابي والأهنوم، وحصل تلاحم مثل ذلك حتى لقد قتل من المجاهدين أنفاراً ضرباً بالسيوف وهم في مواضعهم ثابتون، ثم وصلت الأمداد والغوائر فهزموهم إلى قريب من حورة، وقتل منهم كثير لكن دون القتلة الأولى وقل بعدها شرهم وكانت المراتب الإمامية كما تقدم من المواضع، ثم حصل دخول بلاد قراضة واستقر الشيخ صالح بن محمد حمران في نجرة ثم جرف الحداد رداء للسيد حفظ الدين رحمة الله عليهما، وكان هو أول من فتح بلاد قراضة، ولهما فيها حروب شديدة ثم إنه وصل إلى الإمام الأمير مطهر بن عبد الرحمن هارباً من صنعاء وأظهر التوبة وأنه يريد الجهاد، وكان فيه رئاسة وله نهضة وقدرة كما تقدم من أخباره في حروب أخيه عبد الرحيم فجهزه الإمام عليه السلام من الهجر، وهو متوجه للمخرج المنصور على محطة عيان كما سيأتي، وأرسل معه عسكراً ليسوا بالكثير ثم جعل مولانا الحسين رحمه الله على العسكر الذين توجهوا لفتح بلاد لاعة وبلاد قراضة، وكان ممن تقدم لفتحها أيضاً القاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي والقاضي عبد الرحمن بن المنتصر العشبي، والشيخ المجاهد صالح بن محمد حمران في قراضة كما تقدم، وتابع الإمام عليه السلام إلى بلاد لاعة السرايا، منهم الفقيه علي بن محمد المخرفي وغيرهم فانحاز عسكر كوكبان ومن إليهم من موضع يسمى شهمة ووعيلة والمخاضة من الجبل الأسفل من بلاد قراضة، وفيها تقلبات حتى لقد طلع القاضي أحمد بن محمد إلى بيت غذاقة وانهزم إلى حجة لأنه طلع عليه الذين تحته وانحدرت عليه محطة أخرى من كوكبان، فلما وصل
الأمير مطهر بن عبد الرحمن وصار إلى حرف الحداد من أسفل لاعة كما تقدم، وكان فيه السيد المجاهد حفظ الدين بن علي سحلة رحمه الله، و الشيخ صالح بن محمد حمران رحمه الله كما تقدم فهزم الله من كان مقاتلاً لهم، وطلع مطهر إلى المخاضة واحتاز أهل كوكبان في الجبل الأسفل، وقتل منهم في بعضها نحو مائة وخمسين نفراً واستشهد جماعة، منهم ابنان للسيد حفظ الدين وآخران من أولاد إخوته، ثم صعد مطهر بن عبد الرحمن إلى شهمة وغلظ عسكره والحرب عليه قائمة وحصن عولي للظلمة [ق/443]، فلما انتظم له الأمر بعض الإنتظام وقد كثر عسكره وكانوا فوق الألفين عاد إلى شيء من أحواله الذميمة ففر عنه أصحاب الإمام عليه السلام، وأحبوا عدم البقاء قريباً منه فضلاً عن مكانه ومحطته فمع تفرقهم طمع العدو في قل تعاونهم وتناصحهم فأحاطوا بالفقيه العالم عبد الرحمن بن المنتصر في بيت الحذاعي موضعاً هنالك فأسر وقتل من أصحابه جماعة، منهم الفقيه الفاضل الشهيد عبد الله بن أحمد الآنسي وكان من أهل الفضل، و قبره هناك مزور مشهور، وأصيب الفقيه عبد الرحمن بصائبة في عينه حتى ذهبت وأخذ إلى كوكبان في جماعة من أصحابه، ثم حصلت حروب شديدة وقد اختل أصحاب مطهر بن عبد الرحمن، وكان قد غزا الشيخ صالح بن محمد حمران رحمه الله إلى سمسرة لاعة المشهورة وانتهبها وأراد بذلك يزعزع بهم ويخافون من وراءهم فانقسم المقابلون لمطهر بن عبد الرحمن قسمين، قسم ظهر في الحرب، وقسم كمين وقد عرفوا خذلان أصحاب الإمام له يعني نفورهم عنه فأرسل من كان عنده لقتال الظاهرين فقتلوا من جنود كوكبان جماعة وقد تعطل
المكان فقصده بالكمين ولم يكن عنده من يدافع بهم فقاتل هو ومن كان عنده حتى قتل أكثرهم، وكانوا نحو خمسين نفراً وأخذوه أسيراً وطلعوا به إلى كوكبان، ثم أرسلوه إلى صنعاء وبقي في حبسهم حتى خرج حيدر باشا كما سيأتي، والشيخ صالح بن محمد حمران والمجاهدون انهزموا من بلاد لاعة واجتمع جنود الظلمة الذين في بلاد لاعة جميعاً، وقد وصل من عند الباشا الأمير أحمد بن عبد الرحمن أخو عبد الرحيم، وكان مقداماً ذا معرفة ببلاد حجة فخرجت المراتب في ليلتين إلى المعبر وبقي محطتان أحدهما في جبل عمرو ومأذن، والأخرى في هجرة القيلة ومراتب في شرقي الجبر بموضع منها يسمى شامة، ثم هزموا بعد حرب شديد وصاروا إلى المعبر، وبقي عند مولانا الحسين رضوان الله عليه أصحابه والظفير له هجرة، ومن أهله جمهور عسكره، ثم أرسل القاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي لحفظ جبل نيسا، وكان المقابل له رتباً في بلاد عفار بنظر المحبشي من العجم والعرب، وقد قتلوا من المجاهدين في طريق ثعلان والفجرين كثيراً، ومن ذلك أنه كان في هجرة وكية من أسفل بلاد عفار رتبة فأرسل المحبشي شاوشاً من أصحابه يسمى مفرح في جماعة من عسكره وقصد البلد المذكورة [ق/444] فناداه أهل التقدمة والمحرس: من أنتم؟ فقالوا: هذا عبد الله شاوش القوقعة من أصحاب الإمام ففتحوا لهم باب البلد، فلما دخلوا البلد أوقعوا بهم وقتلوا منهم فوق عشرين نفراً، وكانت قضية عظيمة، ثم بعد نصف شهر أو أكثر طلب مولانا محمد عليه السلام القاضي أحمد بن محمد السلفي إلى حبور، وبقي في نيسا مكانه السيد المجاهد محمد بن الحسن المحرابي
عافاه الله تعالى بعسكر الأهنوم وكان فيه حتى انعقد الصلح الكبير كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهذا المكان تلو الظفير فإنه في حكم المركز على بلاد الشرفين.
وأما السادة في بني حيش وبلاد حنب وقدم الذروة وما إليها من الرتب، فلما فرغت للعجم بلاد حجة وبلاد كوكبان ألبوا محاطهم فاحتلت قدم الذروة وبلاد حنب، وقد بلغ الإمام عليه السلام أنهم قاصدون قدم الذروة وقد تقدم أن فيه السيد فخر الدين المطهر بن ناصر الدين الحمزي رحمه الله في موضع يسمى معدة وقد أرسل مولانا محمد عليه السلام أمداداً غير نافعة، فعين الإمام عليه السلام على الفقيه عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي وأصحابه السادة والفقهاء المدد فسار من المعبر إلى نيسا، ثم إلى قدم واجتمع الأولون والآخرون نحو ثمانين نفراً فقط، وكان شيخ البلاد الشيخ صلاح العنسي مع المحبشي وكان ممن يتقى شره فما دارت ثمانية أيام إلا وتجهز الأمير ناصر المحبشي وأمير من العجم، ومن كوكبان غارة لغزو قدم فلم يحصل ملاوثة حرب إلا مع طلوع الفجر، ولم يعرف المجاهدون المواضع التي دخلت فانجلت القضية على الهزيمة بعد طلوع الفجر، وكان الفقيه عماد الدين قد كسر يده مما يتصل بالحلقوم المسمى الترقوة فلذلك سارع الأصحاب بخروجه، ولقد رأيته في حال الهزيمة يعالج أن يقدر على الصلاة فما أمكن وقد صليناها مسايفة كيف أمكن ولم يقدر على غير الإيماء برأسه وهو قائم.
وأما رتبة جنب فإنهم جعلوا كميناً من وراء قرية قلد فلما خرج السيد ناصر والمجاهدون خلفهم الكمين وملك البلد فهزم المجاهدون، وقتل منهم جماعة، وأخذت أمتعتهم التي كانت في البلد فاجتمعوا وخرجوا بعد مشقة، والسيد ناصر والشيخ عيسى سلكوا طريقاً لم يعرفها أصحابهما فأيسوا منهما فسألناهم عنهما، فقالوا: لا ندري قتلا أم أسرا، وكان في أعلى من حصن حقل يسمى الشامخ [ق/445] قد أرسل إليه مولانا محمد رحمه الله السيد يحيى بن لطف الباري من أولاد الإمام شرف الدين عليه السلام فحاصروهم مدة، ثم هزموا مع أهل جنب وقد طلع الأمير محمد بوتج من السودة والتقى بالأمير محمد خمخم، وصار هذا الأمير في الشامخ بعد هزيمة الرتب التي كانت فيه فخاف أهل العزائم وأهل الدين لا يطلع حصن بني الحارث المسمى العلكي فطلع إليه الفقيه عماد الدين رحمه الله، واجتمع إليه السيد يحيى بن لطف الباري والسيد مطهر بن ناصر الدين وقد التجأ إليه مكالف بني الحارث وجنب وقدم، واشتغل الترك أخذهم الله بنهب تلك البلاد وخرابها وخافوا مع اجتماع المجاهدين فكان ذلك من ألطاف الله سبحانه وإمداده، فلما كان آخر ذلك النهار وجد السيد الناصر والشيخ عيسى وهما منفردان ثم اجتمع الجميع نحو من خمسمائة نفر، وكانت الطريق بني حيي حصن في وادٍ أسفل بني الحارث، وكان فيه الفقيه صلاح بن عابد الشهاري رحمه الله ورتبة بنحو عشرة فرسان ومثلها بنادق من عند مولانا محمد رضوان الله عليه يحفظون طريق هذه البلاد المذكورة فنزل عليهم أول النهار محطة من السودة وخيل، فحازوهم بعض النهار ولم يظفروا منهم غرضاً فارتفعوا
فخاف الفقيه صلاح ومن معه أن يحصروه فولى مع وصول الفقيه يحيى والسادة فاجتمع الرأي على حفظ ذلك المكان والانتظار فيه للسيدين المجاهدين علي بن الحسن بن شرف الدين، والسيد محمد بن صالح بن عبد الله ومن معهما في بني حيش.
ولنرجع إلى أخبارهما رحمهما الله فإنها نزلت عليهم المحاط المقابلة لهم ثم الأمير محمد خمخم بنفسه من الصرارة وأحربوهم طول النهار ولم ينالوا خيراً وكفاهم الله شر أولئك الأشرار، فلما دنا الليل أظهروا أنهم منحازون إلى الحصن المسمى بسيد العرابي، ثم تقدم السيد علي بن الحسن رضوان الله عليه أمام العسكر في سرعان القوم يكفهم ليراعوا الآخرين ويوزعهم، والسيد محمد بن صالح الغرباني في ساقتهم حتى وصلوا إلينا طلوع الفجر، واجتمع الجميع وصاروا، فكان السيدان علي بن الحسن ومحمد بن صالح وما إليهما في جبر شظب في العمشة وما إليها، والسيد ناصر ومن ذكر من السادة والفقيه يحيى في بني علي [مع] رتبة من عند الإمام عليه السلام مع الشيخ سعيد بن صلاح، شيخهم عليها الشيخ عامر بن لهوس [ق/446] السعيدي الأهنومي.
فصل: وأما أخبار بلاد الظواهر، وبلاد حاشد، وبكيل، وبلاد خولان، وبلاد سفيان ومحطة عيان فإن الإمام عليه السلام جهز إلى بلاد خولان الحاج شمس الدين أحمد بن عواض رحمه الله، فلما وصل إليها اختلفوا عليه فوصل إلى الإمام عليه السلام منهم طائفة ودخل صنعاء عند العجم طوائف وقد أشرنا فيما تقدم أن السيد محمد باشا أفسد كثيراً من القبائل بأن كتبهم جوامك، وجعلهم كلهم عسكراً لأجل أن نفعهم لحفظ بلادهم آكد، فممن اصطنع من القبائل خولان الثلاث القبائل بني حبر وبني شداد وبني سحام حتى بلغهم عددهم قريباً من الألفين وجعل عليهم الأمير حسين بن محمد الجوفي الحمزي وأمير من العجم، حتى لقد كان الأشرار يصلون من بيوتهم جبل اللوز ويقبضون جامكية كثيرة ولا يباتون إلا في بيوتهم.
وروي أنهم يغفلون ويسافرون ويستأجرون من يقبضها لهم والعجم يعرفون ذلك حتى لم يبق إلى الحاج أحمد [رحمه الله] التفات ومثلهم وأكثر منهم الكلبييون من الظاهر وبني صريم وأن الرجل صار يكتب ابنته جامكية ويسميها ولداً في الدفتر بأن يحذف هاء التأنيث من نحو سعيدة، فصاروا منهم وحفظوا بلادهم من جنود الحق وقتلوا دونها كما سيأتي قاتلهم الله، وكان وصل الإمام عليه السلام الأمير المسيح ابن المطهر بن ناصر الحمزي من الجوف حابساً نفسه للجهاد في نحو من ستين فارساً فقام به الإمام عليه السلام وقد كان الإمام عليه السلام جعل البلاد التي كانت بنظر القاضي الهادي رحمه الله بنظر القاضي الأعلم جمال الدين علي بن أحمد بن أبي الرجال، وقد صلحت به البلاد، وأمره الإمام عليه السلام لهذا الأمير بالطاعة فصار إليه وامتثل فيه أمر الإمام عليه السلام وطلع من بني قيس إلى الحيري من آل أبي الحسين، وقصده العجم من خمر والأمير علي بن المطهر بن الشويع فقاتل يوماً وقتل من أصحابه نفر من الأشراف، (وانقضت حالته) على هزيمته إلى بني قيس ونهبت أثقاله وبقي أياماً، ثم عاد إلى موالاة الترك، ثم صار إلى ابن عمه الأمير حسين إلى جبل اللوز، وبقيت بلاد المشارق قبل هربه تضطرب.
وأما بلاد سفيان ومحطة عيان فقد تقدم أن الأمير عابدين بن مطهر واثنان من أغوات العجم كانوا رتبة في عيان أيام جعفر باشا وأيام الأمير حيدر والأمير صفر فأفسدوا قبائل سفيان حتى كتبوا منهم نحو ألف نفر [ق/447] كما تقدم من خولان والكلبيين، فخاف الإمام عليه السلام على صعدة، وقد جعل أيضاً أهل بلاد خيوان رتبة مع الشريف أبي الغيث بن [.........] من قرابة الأمير علي بن مطهر، والأمير عابدين بن مطهر وكان [قد] هرب من عند العجم إلى عند القاضي الهادي رحمه الله أيام جعفر باشا، وغزا مع القاضي الهادي ونصح، ووقع فيه صائبة في غزاة جرف عبلة من أسفل السر من بلاد ذي مرمر فإن هذه الغزاة قل مثلها لأنها قريبة من الباشا جعفر وكان مخيماً في روضة صنعاء فحصل من هذا طيبة نفس الإمام عليه السلام عليه فولاه بلاد خولان وخيار وبني قيس، وأمره بحفظ الطريق في ما بين خيار وعيان فخان الله سبحانه وتعالى وكاد يفسد البلاد ويجمع خيلاً إلى عيان، ثم يستعيدون صعدة للعجم، وقد اجتمع بخاله الأمير عابدين سراً وقدم إلى حوالي صعدة فبسط له السيد شمس الدين أحمد بن المهدي رحمه الله حتى دخل صعدة وهو لا يعرف أن السيد أحمد قد عرف ما هو عليه، ثم قبض عليه وعرف الإمام عليه السلام فأمر بأخذ سلاحه وفرسه وهي من شرائف الخيل قل مثلها، وطرده الجوف ولم يلبث إلا قليلاً بعدها، وهلك هنالك، فأرسل الإمام عليه السلام لحفظ ذلك المحل السيد أحمد بن محمد الطويل والسيد عبد الله بن الهادي الرحبي، ثم خاف الإمام عليه السلام من هذه المحطة في عيان أن يستفحل أمرها وأن غيره لا يؤثر فيها فإنه
قد أفسد أهل المشارق بالعطاء فاستعان الله سبحانه وتعالى، وطلب الحاج شمس الدين من خولان بلقاه، وكتب إلى السيد أحمد بن المهدي والسادة في الشام وإلى القضاة أهل برط ونواحي المشرق، وأبقى ولده صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله في شهارة، وكان قد ولى على المشرق الشيخ واصل بن علي السيراني عافاه الله، ثم خرج والمراتب كلها على مولانا محمد رضوان الله عليه فتقدم إلى الهجر وجهز الأمير مطهر بن عبد الرحمن إلى حجة كما تقدم، وكانت القضايا المذكورة ووصله إلى الهجر الشيخ صلاح بن محمد الغشمي من غشم المسيجد، وكان مع العجم معظماً، وكان تلو الشيخ أحمد الشامي صاحب الفصيرة الآتي ذكرها هارباً إلى الإمام عليه السلام وطلب من الإمام عليه السلام الإعانة ويلزم بيته على العجم ويعمره، ففعل الإمام عليه السلام وكتب إلى السيد شمس الدين أحمد بن محمد المحنكي الحيداني وغربان أنهم يعينونه ويمدونه ففعل وفعلوا وعمر بيته وغزاه الترك مراراً وهو يحفظ [ق/448] نفسه ويقتل منهم، ثم تأتيه الأمداد من غربان والمراتب الإمامية، وتم على ذلك حتى حصل الصلح الكبير، واتفق في الهجر قضية سمعناها من غير واحد ولا أعرف أسماء أهلها ولا كنت شاهداً إلا أن الإمام عليه السلام طلب بزاً ودراهم قرضة من بعض تجار الهجر فاعتذره ثلاثة أنفار وحملوا دراهمهم وأرادوا النزول تهامة فوصلوا إلى خارج الهجر قريباً من غربي عذر وعميت أبصارهم فلا يهتدوا فصاحوا بالحي وهم قريب أن ردونا فردوهم فتوسلوا إلى الله سبحانه بالإمام عليه السلام ودعا لهم فشفاهم الله تعالى وأعانوه بما أمكن، وتقدم
إلى موضع يسمى الرحضة من أعلى سفيان، وكان حي الفقيه الفاضل عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي من قواعده مع أصحابه أنه يلزم أحد الفقهاء يمضون على الراتب كل ليلة أحد وأربعين شرفاً سورة يس ومن قوم سورة الفيل، ولما علم بخروج الإمام عليه السلام إلى هذا الموضع وجهات سفيان وهو يعرفها فبقي حائراً متبلداً شجناً على الإمام عليه السلام ثم ثنى الراتب، وكان كثيراً لا ينام حتى وصل الخبر بطلوع الرحضة فرأيته يعيد ذلك على الرسول ويقول: ظهر الإمام والحمد لله رب العالمين، فلما وصل الإمام إلى هذا الموضع وصل السيد شمس الدين أحمد بن المهدي بأهل الشام والأمداد الكثيرة وأهل برط وجهات المشارق، [ووصل الحاج شمس الدين كذلك بجمع من بلاد سفيان وغيرهم] فلما تكاثرت المراكز حول مدينة عيان وأحاطت المراتب خاطب الأمير عابدين إلى الإمام عليه السلام أنه يفرج عنه ويخرج الجوف بمن معه من عسكر الترك، وكان عليهم حمزة آغا وآخر خفي علي اسمه فأجابه الإمام عليه السلام إلى ذلك ورآه الصواب فإنه خاف من طول المقام اختلال ما بعده ومع المباشرة للحرب خاف افتراق سفيان واختلالهم فإن عسكره من عيونهم فعرفه الإمام عليه السلام على أنه ينزل الجوف وطلب من الإمام عليه السلام أربعمائة جمل تحمل أثقاله ومن معه، فحصلها له الإمام ثم يخرجون من الجوف بيحان ثم رداع من مشارق اليمن، فلما ذهبوا تقدم الإمام عليه السلام ورأى خراب هذه البلد، وكانت فيما يقولون حصينة على باب فهدمها ووجد فيها خموراً كثيرة، وعدل السائلة العظمى إليها ولم يبق إلا المشهد المقدس مشهد القاسم بن علي عليه
السلام وهو خارجها المعروف بمذاقة، ولقد أخبر البريد أنه كان يباشر الخراب بيده الشريفة ويقرأ {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}، وكان خرابها [ق/449] في شهر القعدة سنة ست وعشرين وألف[أكتوبر 1617م]، ثم توجه إلى بلاد وادعة بجموع كثيرة من أهل المشارق وصار إلى قرية الأشطوط من بلاد الصبيحات وكتب إلى غربان وطلب الفقيه عماد الدين يحيى بن صلاح للاجتماع إلى غربان، ثم يكون القدوم على محطة خمر في يوم واحد وقد فرق للقبائل رايات، وأرسل السيد الطاهر العلامة محمد بن علي بن عشيش رحمه الله ليصلح ما بين عيال قاسم وعيال الأمير من غربان فوصل وفعل ذلك، ثم اجتمع غربان وعزموا إلى المسيجد وهم نحو من ثمانمائة عسكراً مع السيد أحمد بن محمد المحنكي والفقيه يحيى بن صلاح على أصحابه، فلما جاوزنا المسيجد نريد القرب من محاط الإمام عليه السلام حتى اتصلنا بخيران من أقرب موضع من محطة حمومة، وتظهرنا وونحن ننتظر محاط الإمام عليه السلام وإذا بالتعشيرة في المحطة والبيارق منشورة نراها في محطة حمومة فاختلج علينا الأمر، وإذا برجل من غشم يخبر السادة الذين يعرفهم ويعرفونه بصوت مرتفع: لا يغرونكم فإنما الرؤوس الذين أخذوا ثمانية عشر رأساً وكذا، فإذا الإمام عليه السلام قدم السيد عز الدين محمد بن عامر بن علي (رحمه الله) ، والسيد الحسن الشامي الواصل بغارة من قبل السيد أحمد بن المهدي رحمه الله فأشار عليهم من أشار بطلوع العسكر أول الليل إلى وادي دماج، ولما صح لأهل خمر طلوعهم إلى ذلك الموضع، والحاج شمس الدين في جبل صبيح وكان
في خمر عدة أمراء عليهم أمير يسمى شالق مصطفى فيقال إن المشير عليهم الأمير علي بن مطهربن الشويع إنكم اغزوهم إلى الوادي في الليل قبل أن يجتمعوا عليكم، فتجهز إليهم أمير وعسكر في الربع الأخير من الليل فألفوهم آمنين لا يخطر ببالهم أن العجم تقصدهم وإنما هم في انتظار الدخول عليهم محطتهم، فأوقعوا بهم وهزموهم واحتزوا رؤوساً من القتلى أكثر مما ذكره العشمي، وانتهبوا المحطة وما فيها وبغل السيد الحسن.
وأما الحاج شمس الدين فأغار عند طلوع الشمس إلى الحشحلش ففاتوه فانتهب من قراش أهل الحشحلش، وجموع غربان رجعت المسيجد، فلما بلغ الإمام عليه السلام أغار بنفسه حتى طلع قيهمة من أعلى بني مالك ووجد الناس قد تفاشلوا ولم يكونوا عسكر حرب إنما هم غارات مجموعة فإن عساكره عليه السلام من بلاد بني حيش وحجة ولاعة كما تقدم ذكر ذلك، وكان عسكر الترك أخذهم الله في خمر فوق ثلاثة آلاف قصبة بندق من غير أهل البلاد والخيل [ق/450] والعرب فيكونوا قريباً من خمسة آلاف، فرجع عليه السلام وتردد في وادعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى واتهم وادعة بعض كبرائهم بأنهم أعملوا في الهزيمة فحلفهم الإمام عليه السلام طيبة لنفسه ونفوس وادعة.
[أخبار ذيفان]
وأما قضية موالاة أهل ذيفان ورتبة العرقة من أعلى الصيد فإنه اتفق على الأمير ناصر بن حمزة الذيفاني من الأمير محمد خمخم ما أغضبه، وكان عنده رتبة من العجم فطردهم ونصّر للإمام عليه السلام وأرسل إلى بلاد الصيد وبني زهير فتقدم بهم القاضي جمال الدين علي بن أحمد بن أبي الرجال، وحفظوا ذيفان وقطعوا الطريق على محطة العجم، وغزا الأشراف إلى البون، ثم إن الأمير المذكور أرسل عليهم محطة من عنده من الصرارة، ثم خرحت أخرى من صنعاء وجمعوا عليهم فأخرجوهم من ذيفان بعد حرب شديد قتل فيه من الفريقين جماعة، وأخرج الأشراف أهلهم إلى العرقة أعلى الصيد مما يلي ذيفان، وكان في خمر عند شالق مصطفى بن عم الأمير ناصر الشريف الفارس عبد الله بن محمد وكان له مع العجم حالة فلما بلغه ما بين [ابن] عمه والعجم وقد كاتبه أن ينجا بنفسه إلى الإمام عليه السلام لا يؤاخذ بجريرته هرب إلى الإمام عليه السلام إلى شهارة المحروسة، وكانت هذه الفتوحات قبل خروج الإمام عليه السلام عيان فعظمه الإمام وكان هذا الأمير عبد الله في حكم الغافل عن الإمامة وطريق آبائه الكرام، فلما عرف الإمام عليه السلام ورأى أحواله الشريفة ومن عنده من الفضلاء أقبل إلى الله سبحانه وتعالى بالتوبة الخالصة وأذهب ما عليه من لباس العجم، وكان له أحوال طيبة، واستمر على ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقد تقدم في ذكر غارب أثلة أن من أسرائها الأمير عامر بن حسن الذيفاني وابن أخيه أحمد، ولما صلح حال هذا الأمير عبد الله ضمن على الأمير عامر وجماعة مثل جوهر كاشف من أصحاب الأمير درويش
وأصله من عبيدهم، والشيخ محمد عجير المعروف بأبي وردة إلى نحو اثني عشر فارساً وأطلقهم الإمام عليه السلام من الحبس، وأحسن إليهم وأعطاهم سلاحاً وخيلاً ثم أرسلهم إلى الأمير ناصر.
وأما الأمير عبد الله فلم تطب نفسه لمفارقة الإمام عليه السلام ولهم في أيام بقائهم في العرقة بعض مغازي ثم انقطعوا من بلادهم وذهبت أموالهم فثقل على الإمام عليه السلام كفايتهم، وكانوا أهل سعة دائرة ولا يعرفون قانون الإمام عليه السلام [ق/451] فكفاهم الإمام وأعطاهم العطاء الجزيل، وكان فرحان كاشف قد صبغ فيه عطاء العجم وكان من الأشرار، فحملهم آخر المدة على الرجوع في الحافرة وذهاب الدنيا والآخرة، ولم يفعل لهم العجم غير أن أرجعوا لهم حصنهم، ثم تعقب فضيحتهم الصلح، ولما طلع الإمام عليه السلام إلى ظفار وذيبين لزيارة الأئمة عليهم السلام واستنهاض حاشد وبكيل، ووصله هذا الأمير حمزة وأنا شاهد ذلك، وأعطاه الإمام عليه السلام ما وصل له من النذور وغيرها حتى لقد حملوا على الجمال البر وغيره من غير النقود والسلاح، ولما تودع الإمام عليه السلام وقد وصل له من المشارق نذور من الغنم الكبار والضيافات فأمر أن يلحقوه ما بقي منها فكانت ستمائة رأس غنم من الكبار، واستمالهم هذا العبد حتى خسروا الدنيا والآخرة، ولقد كان الإمام عليه السلام يحمل لهم الطعام من شهارة إلى العرقة كل شهر قافلة من غير ما يحصل من الصيد وجهاته.
وأما الأمير عبد الله بن محمد فاستقام على التوبة وأقبل إليها وظهر أثرها عليه، وكان كثير الملازمة للمسجد ووضائف الطاعات حتى توفي رحمه الله بعد وفاة الإمام عليه السلام بأشهر في درب الأمير من أعمال أقر، وأراد الإمام المؤيد بالله سلام الله عليه أن ينزل من شهارة للصلاة عليه فاستناب لذلك، وكان في هذا الأمير شجاعة وفراسة غير أنه غافل عن النظر في سبيل سلفه وثمرة تكليفه، ولقد حدث الإمام عليه السلام وكذا مولانا الحسن بن شرف الدين نفع الله به وغيرهما وسمعت ذلك منه أيضاً بغريبة وآية عجيبة أنه كان حي عمه الأمير الكبير الفارس الشهير حمزة بن أحمد الذيفاني بعد انقطاع دولة المطهر بن الإمام شرف الدين وأولاده صار إلى العجم وعظموه، ولما دعا الإمام عليه السلام وقد تولج في صنعاء وكثر أولاده فيها أمر ولديه ناصر والهادي بالمسير إلى الإمام عليه السلام وأن يجاهدوا معه على أنهما خالفاه، وكان لهما في القضية الأولى جهاد حسن وتأثير، ثم إن الترك أمروه بالخروج معهم لحرب الإمام عليه السلام فتعلل على الانتصاب في وجه الإمام عليه السلام فما قبلوا منه، ثم أخرجوه مع أمير للعجم يسمى أحمد شوبان إلى جهة ألهان.
[من كرامات الإمام]
قال الأمير عبد الله المذكور: وكنت أختص بعمي هذا ولا أفارقه ووصلنا من ذيفان أخبار الصيد وقيامهم مع الإمام عليه السلام وغزوهم مواضعنا وأطرافنا، فكنت أقول لعمي: نعود جهاتنا [ق/452]ونقاتل عن بلدنا وقطائعنا وهو لا يرضى شيئاً من ذلك ويتعلل علي فشكوت على الأمير التركي واتفقت معه أنه يكتب لي إلى طاغيتهم سنان لعنه الله أن يجهز معي محطة إلى المنجدة من أعلى البون المتصل بذيفان حتى نحفظ البون وما إليه، ففعل وأرسل معي الباشا سنان لعنه الله عسكراً مع رئيس عليهم وقد أغضبت عمي فقل طمعهم من بلادنا، ثم إنه بلغني أن الصيد يحتاجون الأسواق والحوائج من جهات المغارب فيجتمعون إلى ثلاثين أو أربعين نفراً ويقطعون البون إلى بلادنا، فقلت في نفسي لما فيها من عداوتهم وبغضهم لو كمنت لهم في البون وأشفي صدري بقتل ما قدرت عليه منهم فإنما هم أهل سفر لا حالة لهم وأقطع أني أقدر أقتلهم لما أجد في نفسي من القوة وما قد خالطني من عداوتهم مع أن لي فرساً لا نظير لها في ذلك الوقت، فكمنت ليلة ثم أخرى ولم أجد منهم أحداً، وفي الثالثة أو الرابعة نظرت سواداً مقبلاً من جهة الصيد حزرت ذلك سواد أربعين رجلاً فاستفرهت فرسي وتأهبت لهم، فلما قرب مني ذلك السواد فإذا هي دابة عظيمة كأنما هي البيت القصير المتوسط لها عنق ليس بالطويل، وعرض ظهرها وطولها نحو من عشرة أذرع أو يزيد على ذلك تمشي رويداً ولها حركة، قال: فقلت وهذه قتلها مفخرة أحوزها فحركت فرسي للحملة عليها ويممت الرمح معظم سوادها، فلما قربت منها رفعت أذنيها كأنما كل واحدة إهاب شاة ففرت
الفرس من تحتي لا أملكها حتى جاوزت غلوة شوط الفرس، ثم أعدتها فعادت كذلك ثم لا زال كذلك مني ومنها حتى تعلقت هذه الدابة جبل الكلبيين من جهات صيحان، فلما صعدت الجبل ترامى من حافرها الشرر ونزل من الجبل حجارة كل حجارة منها كالشاة فأخذتني رعدة وفشل، وعدت موضعي ولم أعد لمثل ذلك ولا تعرضت بعدها إلى ما يكره الإمام عليه السلام وأخبرني أنه لما أخبر الإمام عليه السلام بهذه الآية وقد عرفه أن مثل هذه لا نعرفها لا في بلادنا ولا في غيرها وإني أعرف الجبال المذكورة ما أعلم فيها بمغارة تواري هذه، قال: فقال الإمام عليه السلام: هذه يا ولدي مما علمه الله ولا يعلمه الخلق جعلها لك موعظة وذكرى وحماية لك مما كنت عزمت عليه، قال: وقال السيد الحسن مثل ذلك وزاد بأن ذلك [ق/453]من كرامات الإمام عليه السلام، وذكرنا هذه الكرامة بطولها عبرة وتذكرة. انتهى.
[ولاية أحمد بن الإمام القاسم على صعدة]
وفي بقاء مولانا الإمام عليه السلام في وادعة وهذه الأيام لم يتقيد أهل الشام للسيد شمس الدين أحمد بن المهدي رحمه الله وكادوا يفسدون عليه صعدة وأدلوا عليه بأنهم الذي فتحوها من غير الإمام عليه السلام وكثرت مطالعته إلى الإمام عليه السلام بمثل ذلك حتى استرجح الإمام أن ولى ولده مولانا أحمد بن أمير المؤمنين أطال الله بقاه فحفظها وقمع مردتها وغزا الأطراف حتى استقامت له، وقد عهد إليه الإمام عليه السلام في مثل ذلك، ولا بد من ذكر ما تيسر من جمل أخباره فيها إن شاء الله تعالى.
[أخبار الوالي محمد باشا]
فصل: في أخبار جهات الحيمة وحضور جهات آنس وحراز في هذه النهضة الرابعة، فذكرنا استيلاء حي الشيخ المجاهد عبد الله بن سعيد الطير رحمه الله على حضور مع الحيمة وأن السيد العلامة أحمد بن علي الشامي أطال الله بقاه كان على نصف الحيمة، والنصف الآخر وحضور إلى الشيخ عبد الله، وكان القاضي عماد الدين يحيى بن أحمد المخلافي منضماً إلى الشيخ عبد الله وإليه بلاد، ولحق به الشيخ محمد بن عز الدين البروي في آخر الأيام وصارت إليه بلاد بنظر الشيخ المذكور وعظم جانب الحيمة على الترك أخذهم الله، فلما وصل محمد باشا وكان من شياطين العجم وذوي تدبيرهم بحيث أنه وضع في نظم الأمور ما يضرب به المثل، ولقد كان يخبرني حي مولانا الحسن رضوان الله عليه بعجيب وكذلك غيره، وكان كاتباً بليغاً وينظم أرزاق العسكر بيده وكان كثير المال، مما أخبر عنه أنه كان ينفق على العسكر من ماله الذي وصل به من مصر.
وأخبرني حي الأمير سنبل رحمه الله بمثل ذلك وقال: لا يختلط معه مخزان المخرج والمدخول ويصف من نظمه دنياه عجباً، وهو الذي وسع ما كان أسس من تأليف من يخافه بأن يكتبه جامكية ويفسده حتى يصير من أعوانه، ولذلك إنه أغلق باب جهات القبلة بمن فيها من الرتب لأنه جعل جوامك كما تقدم لأهل البلاد وكذا خولان، ثم إنه صرف همته إلى جانب الحيمة فأمر وزيره الأمير دمر الخارج معه من مصر وجماعة الأمراء مثل الأمير محمد بن سنان وكان من ملوكهم وأبوه سنان معروف بالظلم [ق/454] والعتو، وكان هذا تلو أبيه في خصاله، وكان كثيراً التوابع والمال، ومنهم الأمير خضر، ومنهم الأمير سهيل، ومنهم الأمير إبراهيم الداعي، ومنهم من الأشراف الأمير محمد بن عبد الرحمن وغيرهم، ثم مشائخ جهات اليمن وآنس حتى روي أن الذي طلع حضور ستة آلاف من غير الخيل، ولما بلغ السيد شمس الدين أحمد بن علي والشيخ المجاهد عبد الله بن سعيد الطير جمعوا له قبائل الحيمة واجتمعوا إلى بركة متنة من سهمان، وتعاقدوا وتعاضدوا أنهم يداً واحدة لقتال العدو، ووصل لهم رايات وأحمال باروت ورصاص من الإمام عليه السلام وطلع العجم وألفافهم إلى بيت ردم وزحفت إليهم جنود الحق، وكانت حروباً شديدة ثم غلبتهم الخيل فانتقلت المراتب الإمامية إلى جانب بني مطر بشطوان وبيت الجهراني المسمى شعبان، فكان فيه الشيخ المجاهد علي بن عبد الله الطير والشيخ المجاهد عبده ركبة الكشري، وكان نادرة في الرمي وغيرهم، وإليهم عيون مثل القاضي شمس الدين أحمد بن عامر الذماري وغيرهم، وفي يازل من بني سوار القاضي المجاهد عماد الدين
يحيى بن أحمد المخلافي وإليه عيون من قبائله، وبلد القذف فيه الشيخ جمال الدين علي بن عبد الله المنامة وعيون قبائله بالأحبوب، وبنو السياغ عليهم الشيخ الكامل وصنوه الشيخ غانم العجلي وداعر في الحازة فيه قبائل بني مهلهل وبنو عمرو وبنو النمري وحلفاؤهم، ومثل بيت شعيب فيه بلاد القبائل ومن أسفال الحيمة من بني يوسف، وبني الحذيفي وحجحج وبني حجاج وغيرهم، فتقدم العجم إلى بيت الجهراني بالمدافع وحاربوه أربعة أشهر وأياماً حتى هدموا منازله، وكان المدافع والزبرطان يثقب الدار، وانقسم أهل المركز منهم من يرمي من موضع الثقب، ومنهم من يعمره حتى طال عليهم، وقد ملك العجم شظوان بعد حروب كثيرة وكان المجاهدون يحصرونهم حتى تمدهم الغارة من بيت ردم، ولما طال عليهم ذلك تأخرت المراتب التي في جانب بني مطر إلى بلاد الثلث وما يقرب منه، وتقدمت العجم بجميع محاطهم إلى بركة متنة أعلى قاع سهمان، وكانوا يتشرعون للحرب على القذف وهو أقرب مرتبة إليهم حتى يحيطوا به، ثم يجتمع المجاهدون إلى السيد أحمد والشيخ عبد الله ثم يحملون عليهم ويهزمونهم إلى المحطة، وكانت هذه المراكزة أكثر من تسعة أشهر وقد يسرحون إلى غير القذف ويعودون كذلك حتى ضربت [ق/455] الأمثال بأهل القذف.
[ذكر اختلال الحيمة وأسبابه]
وذلك أنه كان بينهم اختلاف بسبب حصن يناع ووقع في أيام استقرار الشيخ عبد الله الطير في حضور والسيد أحمد في الحيمة اختلاف كثير وحروب، وتداعت الأحلاف حتى قيل: إن بسببهم اختلفت القبائل إلى بلاد الجوف والمغارب، وكان أصل ذلك أن الحصن هذا صار إلى السلاطين ثم إنهم خرجوا منه فبعضهم صار إلى بني السياغ، وبعضهم إلى بني مهلهل وهما صفان يعني بني مهلهل صف، وبني السياغ صف، ثم إن رجلاً من السلاطين الذين في بني السياغ يسمى الأسد غدر بأصحابه السلاطين من بني مهلهل وسرق عليهم الحصن، فاختلف القبيلتان لأجل ذلك وحصل الضرر على بني مهلهل، وعظم بينهم ذلك حتى أن الترك لما خرجوا عليهم أصلحوا وتعاهدوا وتعاقدوا كما سبق، وكان منهم ما تقدم من الجهاد ويعطي بينهم الاختلاف، ثم إن صاحب يناع غزا على سبيل الغيالة بني مهلهل لغارات فشكى بنو مهلهل على صفهم كأهل المخلاف، وبني سليمان وبني شهاب وغيرهم وبني عمرو ففتحوا على مشائخ الصف الآخر، فأجابوهم جواباً حاصله: إنا على عهد وكذا ولم ينفعوهم بما أرادوا حتى يقال إنهم أعادوا إليهم خطاباً في ذلك فأجابهم بنو السياغ على أنا في الجهاد والسلطان عندنا فالله أعلم أن شكواكم من أمراته أو كما قال، فعظمها يعني الكلمة الهوى وأساس العداوة وزخرف شياطين الإنس والجن، وصار إلى الترك الشيخ محمد بن عز الدين البروي فأعطوه وضيفة آغا من أغواتهم وجعلوه مقدماً لهم فأفسد غيره من ذلك الصف، ثم كاتب الأشرار إلى الباشا إلى صنعاء أن يرسل إليهم الشيخ الشقي قاسم الجرمي لعنه الله قاتل الحماطي فأرسلوه إلى
كوكبان، ثم انحدر إلى أسفل جبل تيس، وخرج إلى أسفل الحيمة إلى موضع من بني عمرو يسمى نعام وصار إليه كثير من ذلك الصف وكتبهم عسكراً والعجم يمدونه بالمال حتى خلص له خمسمائة نفر من بني عمرو ومن إليهم، ومع ذلك الحرب قائمة والمخلصون من الصف المذكور ومن الصف الأعلى أصحاب الشيخ علي المنامة ثابتون في الجهاد ويحاربون أعداء الله ومن إليهم، واليد فيها لجنود الحق.
[ذكر استشهاد الشيخ المجاهد الصابر عبد الله بن سعيد الطير رحمه الله]
قد تقدم أنه كان في قرية جبل بيت خولان وكذلك السيد أحمد عافاه الله تعالى في الجبل فإذا أحاط العجم والعرب [ق/456] في مرتبة القذف أغاروا فأفرجوا عنهم وهزموا العجم هذا دأبهم، فكان في بعض هذه الأيام وقد تعاقد العجم على الوصول إلى القذف والدخول على الرتبة لو يهلكون على آخرهم، ولما أحاطوا به بمثل العادة أغار الشيخ جانباً والسيد أحمد جانباً، وكان أمر ليس بالهزل فلا زالوا حتى هزموا جنود الظالمين، والشيخ رحمه الله مشهر نفسه ويقاتل، فوصله رصاصة من بنادقهم مع هزيمتهم وحمله المجاهدون فما رآه حين صرع إلا الشيخ علي المنامة، وقليل من الخواص فوضعوا عليه ثوباً وستروه عن أعين المجاهدين، فهزموهم على العادة حتى أدخلوهم مخيمهم.
أخبرني الفقيه أحمد بن علي العلفي من السكون في سر بني الشقاق من الأحبوب أنه رآه على حال صرعه رحمه الله ولم يثبته معرفة لشدة الأمر ، قال: ثم رأيت الشيخ علي المنامة رحمه الله ممسك بقدميه وهو ساتر عليه بالثوب ويبكي وقد جعل قدميه في وجهه وهو يقول فيما بين ذلك: لا أبكي عليك وإنما أبكي على ديني فإني لا أصبر بعدك لأحد أو كما قال، ولما بلغ الترك أخذهم الله أظهروا البشارات في جميع محاطهم وفي صنعاء.
وأما أصحابه رحمة الله عليه فلما توفي أرسلوا لولده الشيخ المجاهد علي بن عبد الله الطير وكان تلو أبيه في الجهاد، وله قراءة وفقه ومجالس، فلما وصل عزوه بوالده، وقبروه في قرية بيت خولان وعقروا عليه وحلفوا لولده وعرفوا الإمام عليه السلام فصوب فعلهم وقرره، وكان الحرب على الظالمين ولم ينالوا خيراً، هذا وبنو عمرو والجرمي على تلك الحالة فلا زال حتى دخل المخلاف وكاد يخرب المراتب من وراءها بمن قد اجتمع له وهم كثيرون، والصف الأعلى قد بذلوا النصيحة التي لا وراءها لئلا يقال: بنو فلان نقصوا عن مقامهم في الجهاد، وأن أصحاب الجرمي أقدر منهم على الظهور والتأثير، وكان [قد] وضع الترك أخذهم الله لبني عمرو وبني مهلهل ومن إليهم إرجاع يناع إليهم وكذا، فبلغني من كثير من أهل الحيمة أنه اجتمع كبراء الصف أصحاب المنامة وقالوا: الآن غلبنا ثم اتفقوا على أن الشيخ غانم السياغي العجلي يتقدم يواجه الأمير محمد بن سنان، ولا يصل إلى عند أمير العجم المسمى دمر، ففعل فعظم ذلك على دمر، وشمخ به، وبمن وصل معه الأمير محمد بن سنان، ثم استدعى أنه يصل إلى الباشا محمد بمسارة الأمير محمد بن سنان فطلبه الباشا، فلما وصل إليه قال: أنا رسول الشيخ علي [ق/457] المنامة، وكان قد عظم ذكره وعلا صيته عند العجم يعني الشيخ علي المنامة: وقال: لا يمكن أني أواجه ودمر كيخيا على هذه العساكر فإنه لا يعرف حقي ولا ولا، فعجل الأمر إلى الأمير محمد بن سنان وعزل دمر، فلما صار الأمر إلى ابن سنان هبط المنامة ومشائخ الصف الأعلى إليه، وأخرجوا الشيخ علي الطير إلى أسفل بلادهم، ثم
خرج إلى الإمام عليه السلام، وطلع ابن سنان وجميع المحاط إلى جبل حضور إلى موضع يسمى جبل الثويرين، وأقبلت الحيمة يواجهون من كل جهة واختفى السيد أحمد وأفرد من أصحابه والقاضي يحيى المخلافي اختفى في بلاده وأفرد، وغلظ عسكر العجم من أهل الحيمة، فالصف الأول عليهم المنامة، والأسفل عليهم الجرمي، والشيخ محمد بن عز الدين البروي، حتى صار البروي هذا في محرم من بلاد بني عمرو، وقد أنزلوا الأمير خضر من العجم إلى العر، وتبسطوا في البلاد، فعرف الصف الأسفل أنهم قد عابوا وخانوا الإمام، وله على كبرائهم أيادٍ وأن يناع لم يصح لهم بل قبضه العجم، وولوه بنظرهم برأي الشيخ المنامة وغيره، أنكم تسدوا بيننا تأخذونه لكم لا لنا ولا لخصومنا، وأخلفهم العجم ما وعدوهم به، وقد رأى ابن سنان أن المنامة الذي أوصله إلى الوزارة فإنهم عظموه بعدها، وصار إليه أكثر اليمن، ورأوا تبسط العجم عليهم، حتى أن الشيخ محمد بن عز الدين البروي الذي يسموه آغا جعل خيمته في أعلى بيت الشيخ صلاح بن مفضل في بني عمرو، فندم أهل الحيمة على ما سبق، وعادوا إلى النظر في أنفسهم، وكان أول من ذكر لهم وقائم في نقض طاعة العجم الشيخ صلاح بن ناصر بن مفضل، فإنه كان يمشي في الليل إلى مواضع، ويجتمع بأعيان من الصفين، ثم يراسلون القاضي عماد الدين يحيى بن أحمد المخلافي، وقد وعدوهم القيام، واستوثق منهم، ووعدهم أنه يطلب من الإمام عليه السلام الحاج شمس الدين أحمد بن عواض يأتي إليه إلى المخلاف، ثم يظهرون لقتال العجم، وقد فسد المخلاف بعسكر البروي مع العجم، وإنما هذا في الليل سراً حتى استحكم
أمره، وطلبوا السيد شمس الدين أحمد بن علي أطال الله بقاه فوجد متخفياً في بعض البلاد، وقد اشتد به الخوف، وهم أن يلحق بالمشرق، ثم يرجع إلى الإمام عليه السلام كما سبق للشيخ علي بن عبد الله الطير وقد تبسط العجم، وأمنوا وفرقوا عسكرهم، فمنهم من رجع صنعاء، ومنهم من نزل العر مع الأمير خضر، ومنهم في جانب بني النمري مع الأمير سهيل، ومنهم من تفرق للمال مع المشائخ في الحيمة وحضور [ق/458] فتواعدوا للحرب على جبل الثويرين فأصبح مع القاضي عماد الدين جماعة نحو ثلاثمائة نفر فقط وأخلفه الباقون، فقصد بهم محطة ابن سنان على حين غفلة، فما شعروا إلا والرمي آخر النهار في أطرافهم فأحربوهم إلى الليل، وقد أرسل ابن سنان بخاتمه إلى الباشا أن أدركنا، فأرسل غارات من صنعاء وكوكبان، ولما يظهر القاضي يحيى بذلك عاد إلى عر بني سليمان والحصن المعروف بحصن بني سليمان، فوصل إليه بعض أهل العزائم في الليل، وأجابه أهل الجهاد حتى أصبح وقد اجتمع له فوق الألف، ولما استكمل للعجم عساكرهم قصدوه وحازوه في هذا الموضع بعض نهار فأغارت الحيمة حتى أغار الذين لم يتظهروا بالجهاد من قبل، فكسروا الجنود الظالمة، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ثم شدد الرتب وجمع من أجابه، وظهر السيد أحمد بن علي عافاه الله تعالى فحاصروا العر ووقعت عليه حرب، ثم إن أسفل الأحبوب يسمون المحاجرة والبعابعة وبني عباس نحو ثلاثمائة رجل عسكروا في خربة سودان موضعاً أعلى من العر وحاصروه من جهتهم، ثم خافوا من ابن سنان ومن معه فجعلوا رتباً في مواضع منها بيت حباب من أعلى ظهر الأحبوب وزالان موضعاً آخر،
وكان أهل البيت ينقسمون نصفين، نصف يدافع [عن] المحطة التي في العر من الطلوع، ونصف يقاتل محطة ابن سنان لا ينزل عليهم والغارات إليهم، وكان ذلك دأبهم أياماً، حتى وصلتهم غارة من كوكبان مع النقيب محمود، وحمل العجم والعرب وأهل كوكبان حتى أحاطوا بهذه المراتب، ووقع أمر ليس بالهزل، حتى لقد احتمل رتبة زالان صاحب لواء العجم وقتلوه وقتلوا معه كثيراً، ووصلت الغارات، فلما رأوا البيرق منصوباً على البيت ظنوهم العجم قد أخذوا المرتبة فكفوا وبردوا، وإلا فلو عرفوا أن الرتبة المنصورون لكانت قتلة هائلة في العجم ولا زالوا يكسرونهم حتى ردوهم، وقد قتل منهم جماعة كثيرون.
وأما الذين في بيت حباب فإنه أصيب النقيب محمود فحمل وانهزم أصحابه فقتل منهم فوق أربعين نفراً وكانت كسيرة، ثم بعد ذلك خاطب الأمير خضر أنهم يفرجون له بعد أن حاصروه محاصرة شديدة، فجرى الخطاب، وحمل بنوا عمرو الذين مع العجم الحرص على حصن يناع بأن منعه الشيخ الجرمي لعنه الله ومن إليه أن الأمير لا يجي طريق الأحبوب وهي [الطريق] المعتادة بل يخرجونه بلاد بني مهلهل، ثم بني سليمان، ثم الجبل ويكون الحصن لهم، ففعلوا ذلك وجعلوه لهم، فأخذه القاضي يحيى وصار له لطيب [ق/459] نفوس الفريقين.
وأخبرني القاضي عماد الدين يحيى بن أحمد المخلافي رحمه الله تعالى، قال: لما استقروا في جبل الثويرين قال تكلم محمد آغا البروي على ابن سنان، وعلى الترك، وأنه لم يحمد حربهم، وكان قد وشى به الوشاة أنه يفتك بالمحطة، ويأخذها لما يعرفون من سطوته، فكان ذلك مقوياً لما يعرفون فحملوه ليلاً إلى صنعاء وكبلوه في الحديد، وبقي محبوساً إلى أن قتله فضلي باشا لعنه الله.
قال القاضي رحمه الله: فكان ذلك من ألطاف الله تعالى، فما كنا نخاف أحداً خوفنا منه، ولما اجتمع جنود العجم تقدمت المراتب الإمامية، وأرسل الإمام الشيخ المجاهد صالح بن محمد حمران والشيخ المجاهد محمد بن صلاح البخض وغيرهم لإعانة القاضي يحيى، والسيد أحمد وكانت المراتب في بيت موجان من بني سوار، وفي بيت المفصر، وفي العر من بني سليمان، وفي رحب وفي الحصن، ومراتب السيد أحمد في أعلى الأحبوب وبعض بني النمري وسر بني الشقاق، وطالت الحروب حتى انعقد الصلح على هذه المواضع كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[حرب بلاد آنس]
وأما بلاد آنس فإن أسفلها كانوا تمنعوا من الترك كبني أسعد وقد يرسل إليهم الإمام عليه السلام من تبقى معهم، منهم الوالد السيد جمال الدين علي بن المهدي رحمه الله، ومنهم السيد الهادي بن علي الشامي أخ السيد أحمد وقد ترجع جهات خولان، ثم أنه قد تقدم أن الباشا محمد اسستنفرهم إلى حضور والحيمة مع الأمير دمر، ثم وجههم الأمير ومن مع الأمير سهيل إلى جبل شظوان بني مطر فعظم عليهم حيث يأكل بلادهم غيرهم، وجعل الباشا واليهم من العجم معهم في شظوان فتمالوا على الحرب إلى بلادهم وحلفوا للشيخ أحمد بن داود الملاحي وكان معظماً مع التركي حتى لقد سموه آغا، وجعلوا له إقطاعات وجوامك وغيرها، فلما وصلوا بلادهم ساقوا للباشا ما رأوه من غير شدة فاتفق أن الملاحي خرج إلى بلاد ضوران، وكانوا إليه يطلبهم مطالب فاستظهروا عليه بالحداء وقتلوا من أصحابه قدر أربعين رجلاً وهزموه وقتل عليه من خيله فشكى ذلك على الباشا فقال: نصلح بينك وبين أهل ضوران والحدا فأغضب، وأرسل للسيد الهادي علي بن الشامي ومن في بني أسعد من أصحاب الإمام عليه السلام وأرسل للشيخ علي دهاق الدريدي والشيخ عاطف بن راجح، ثم حالفوه ونصروا للإمام عليه السلام وخرجوا على بلاد ضوران، وقتل من الحدا في جانب بلاد هداد مقتلة تقرب من الأربعين النفر واجتز منهم رؤوس ممن قتل من أصحابه، فخرجت محطة من صنعاء [ق/460] والأمير جعفر من عظماء الترك من ذمار بمحطة والحدا فصاروا في جانب بكيل وبلاد مخلاف عاثين، ووقع حرب في يتار من أعلى بلاد سلامة انهزم فيه أهل المغرب، ولما عظم عليه الأمر راسل
إلى مشائخ قائفة وكانوا أصهاره هو متزوج منهم فوصلوا على صفة الغارة وقد كاتبوا الباشا أنهم يتقدمون ويخاطبونه ويشترطون له وكذا، فلما وصلوا صار إليهم وترك من عنده من آل المغرب ومن السادة، ثم توجه الأمير جعفر إلى بلاد آنس فأحربوا في بعضها، وقد قام معه الشيخ ناصر بن راجح فإنه قد والى الترك منذ وصل جعفر باشا كما تقدم وبقي السيد الهادي والشيخ علي بن دهاق إلى أن تم الصلح في بني أسعد وحصن ظفر والقارة.
[الاستيلاء على حصن مسار]
وأما بلاد حراز فقد تقدم أن حصن مسار صار إلى العجم فأرسل الإمام عليه السلام في هذه المدة السيد محمد بن علي بن حسين القراع، فأجابه كثير وأعانه أهل مسار فأخذوه من يد آغا من العجم ورفقوه، وبقي السيد محمد بن علي فيه ،وصعفان وما إليه في يد دعاة همدان، ثم حصل اختلاف بينهم فأرسل الإمام عليه السلام في أول عقد الصلح الآتي القاضي العلامة أحمد بن محمد السلفي رحمه الله لأنه خاف من السيد محمد بن علي أن يعود إلى شيء من تخلفات أحواله.
حرب بني علي
قد ذكرنا أن فيه رتبة في حصنهم أعلى جبل بني علي من قبل الإمام عليه السلام مع حي الشيخ عامر بن لهوس السعيد الأهنومي، ولما عادت المراتب كما تقدم بعد هزيمة بني جيش وبلاد جنب وقدم، وجهاتها خفف الإمام عليه السلام الرتبة فيه، وجعل عليهم الفقيه المجاهد علم الدين قاسم بن سعيد الشهاري رحمه الله وشيخ بني علي المسمى الشيخ سعيد بن صلاح العليي والشيخ عمار ونحو أربعين قصبة بنادق، ومن بني علي أصحاب الشيخ سعيد قريباً من عشرين نفراً بنادق، وقد استقرت المراتب كما تقدم والحرب لا تزال، وبعد أن تقدم أمير العجم المسمى الأمير محمد خمخم إلى بيت بني علي المعروف بقرن اليهودي وقد جمع العسكر من بلاد حجة وبلاد عفار وبلاد كوكبان مع من عنده، ثم أرسل الجمهور إلى السودة إلى الأمير محمد بوتج وكان نظيره في المرتبة فاضطربت المراتب الإمامية، وكل مرتبة تقول الغزو لها فلما كان باقي ربع [من] الليل أو يقرب من الصبح وقد أصبحوا على بني علي بعد أن أخرجوا الأمير إبراهيم بن المعافا وأمراء من العجم إلى ظلعة البستان المقابل لحصن عتاد، وعسكروا هنالك، وتقدم جمهورهم [ق/461] إلى بني علي فأخذوا الجبل حميعه ولجأ أهله إلى الحصن، وكان مولانا محمد عليه السلام في حبور ظليمة وقد صار عنده نحو من أربعمائة عسكر مختارين معداً لهم للغارة، وكان ذلك دأبه مستمراً فلما سمع ابتداء الحرب أمرهم بالغارة مع القاضي المجاهد أحمد بن محمد السلفي رحمه الله، فلما قرب القاضي أحمد من المدائر سمع مولانا محمد عليه السلام الحرب في غربان أيضاً وسمعه من الموسم وسمعه في
المقعد، وكان عنده شيخان من غربان متهمان بالخيانة فأرادا تبرأة أنفسهما عنده فقالا له وهما ناصحان: يا مولانا إذا ذهبت المراتب وبقي غربان فهو أنفع أو كما قالا، وعضد ذلك غيرهما فأرسل عليه السلام إلى القاضي أحمد ومن معه أنهم يطلعون غربان ويتركون شظب فما وصلوا غربان إلا وقد تم الحرب وانهزم جنود العجم إلى خمر وإنما أرادوا يشغلون مدد غربان من شظب.
وأما حرب بني علي فإن السادة الكرام علي بن الحسن ومحمد بن صالح رحمهما الله تعالى جمعا من عندهما وتقدما للمدد إلى بني علي وأحربا حرباً عظيماً لم يقع على أن أنسل إليهم مكالف بني علي وصغارهم وبعض مواشيهم لأنهم سارعوا قبل أن ينفتح الصباح، فتفرق العجم في المواضع التي يحفظون فيها الطريق إلى الحصن، وهذا كان يوم السبت، وقتل من الفريقين جماعة وعادوا ثم وصلتهم الغارات من المراتب الإمامية، وقد لحق أمير العجم محمد بوتج بنفسه وملك الجبل جميعه، وجعل على المجاهدين سبعة صفوف وبقي في قرية الجملول، ولما اجتمعت الأمداد من المراتب الإمامية يوم الأحد تقدموا للحلمة فطلعوا الجبل وقد أحصر أمراء العجم جنودهم فهزموا المجاهدين وعادوا في بعض الليل، وذلك يوم الأحد وتكاثرت الغارات وأحربوهم يوم الإثنين فانهزم المجاهدون كذلك، ثم الثلاثاء ثم الأربعاء ثم الخميس فكانت الحروب في جميع المراتب ستة أيام لا يفصل بين الفريقين إلا الليل، هذا والحرب في الظلعة كذلك وفي الموسم كذلك حتى لقد دخل ناصر بن محمد صبح عافاه الله إلى أعلى من الخف وكادوا يحصرونه أيضاً وكذا غربان وكذا في المقعد وكذا رتبة في العرض، وكذا
رتبة في بلاد عفار نزلت على جبل نيسا، وهم الإمام القاسم عليه السلام بأن يغير بنفسه وكان قد طلب ولده مولانا أحمد أطال الله بقاه لولاية صعدة كما سيأتي فهو عنده في النجيد، ووقعت هذه القضيه فأمره بالغارة إلى عند صنوه مولانا محمد عليه السلام فوصل إلى آخر الفصال.
قال [ق/462]القاضي العلامة أحمد بن سعد الدين: إن الإمام عليه السلام أمر عمه العلامة الفاضل علي بن الحسين المسوري بالغارة وقد كان شيخاً، ثم قال: يا سيدنا أنا أعلم ضعفك عن مباشرة الجهاد إلا أني أخاف أن يراني الله سبحانه وتعالى سهلت في المسلمين أو كما قال، وخرج الحاج شمس الدين أحمد بن عواض رحمه الله المشرق للغارة، ووصلت غارة صعدة إلى قرن الوعر وحصل الفصال في اليوم السابع، وذلك أن مولانا محمد عليه السلام أغار إلى الغرب أعلى أخرف مما يلي بني محمد ولم يبق عنده إلا السادة والفقهاء وأهل العلم والحضرة، فلما وصل ذلك الموضع وأراد اللحوق بالمجاهدين وذلك يوم الجمعة فلزمه السادة، وقالوا له: لولم يبق عندك إلا المرفع[فإذا كان بقاك أولى] فإذا وصلت كان وهناً لأنه لم يبق معك مدد وإذا كنت في هذا الموضع قدر الولي والعدو إن عندك قوة تنتفع بها، وكان فيهم السيد العلامة عبد الله بن محمد المحرابي رحمه الله فقال: أنا أكفيك ثم أجمعوا على الكيفية التي نذكرها إن شاء الله تعالى، فلما وصل السيد عبد الله رحمه الله وقد اجتمع المجاهدون من كل مرتبة، ومنهم من عند الإمام حتى قيل: إنهم صرفوا لهم القوت لثمانية آلاف، وأرسل مولانا محمد عليه السلام إلى جميع جهات المراتب بأن تفتح الحرب بعد
صلاة الجمعة، وقسمت الرايات وزحف الناس حتى كانوا في أسفل الجبل وجعل أهل البنادق البالغة وثقال الرجال صفاً واحداً، ثم طلع في الجبل وفعل صفاً ممن هو بعدهم ثم طلع في الجبل وفعل مثل ذلك، ثم تقدم مع باقي الجيش للحملة على محطة أميرهم وقد جمع عدو الله أصحابه على عادته وكانوا زهاء على خمسة آلاف، وقد تحصنوا في البيوت وذروة الجبل، ثم حملوا على المجاهدين فهزموهم حتى ألجوهم إلى المركز الأول من الثلاثة، وصالت فيهم الرجال ورمتهم البنادق ثم هزموا المجاهدين إلى المركز الثاني وثاروا فيهم كذلك ثم الثالث واستقامت الصفوف وكان أمر ليس بالهزل حتى دنا الليل وقد عجز العجم عن حمل جرحاهم، فعادوا والجنود الإمامية ملاحمون لهم حتى أدخلوهم المحطة وقد قتل من الظالمين فوق ثلاثمائة نفر واحتزوا منهم نحو سبعين رأساً، وعلى الجملة إنه لم يبق منهم خُبرة لم يقتل منهم أو يصاب فاشتغلوا بذلك وقد أيس المحتازون وخاطبوا وقد لقوا شدة وكادوا يأخذونهم قبضاً بالأيدي، وغيروا عليهم الماء بأن طرحوا إليه الدجر واقتلعوا بعض سور الحصن فظهر للعجم ضعفهم [ق/463] فحملوا من أكيد الحراسة سهلاً لذلك ولأنهم قد خاطبوا وطلبوا الأمان، ولما عرف الفقيه قاسم أصحابه اشتغال الترك عنهم بما هم فيه وبما يظنونه فيهم سلوا سيوفهم واقتحموا شرطة ومن فيها فهزموهم وقتلوا منهم، وخرجوا سالمين وهم أعرف بشعاب الحصن ولم يقتل منهم إلا أربعة أنفار أحدهم الفقيه صلاح بن علي الآنسي وعامر الحبسي العمراني وآخرين خفي علي أسماؤهم فما وصل آخر من كان في الحرب العمشية إلا وهم معهم، وكفاهم الله ذلك
الهول، وضربت الطبول والأرياح وأوقدت النيران بشارة بخروجهم، وأخذ أعداء الله الندم وهلاك من تقدم منهم، وفي سائر الأيام الست تكون قريباً من ذلك، ولما وقع هذه الحرب أيس الترك أخذهم الله من الطمع في بلاد الإمام عليه السلام ولم يكن بعده حرب مما يعتد به حتى تم الصلح والحمد لله رب العالمين.
[أخبار البلاد قبل الصلح]
فصل نذكر فيه الصلح وكيفيته وما تعقبه من وفاته صلوات الله عليه وسلامه فإن المشارق خصوصاً أجدبت وامتنع عنها المطر وكان أعظمها جهات خولان العالية فإنه لما جرى منه ما تقدم من نقض العهود بعد توكيدها، وكان ربما يظهر في المحافل الإستهزاء بالإمام عليه السلام لما يرون من عطاء العجم الواصل إلى بيوتهم من غير مشقة، وكان أول من سارع إلى نقض طاعة الإمام عليه السلام بنو سحام، ثم تلاهم بنو شداد وكان بنو جبر آخر من صار إليهم إلى جبال اللوز وصاروا محاطاً، وهذه من مكائد محمد باشا ودسيسة شياطين العرب، فجعلوا ناموس التقدم لأول سابق إلى طاعتهم مثل بني سحام وقدموهم على بني جبر وقدموا بني شداد على بني جبر في العطاء وديوانه لأجل سبقهم، فعظم ذلك على بني جبر ولهم عادة في التقدم على خولان وغيرهم وكثرت الإحن بينهم حتى أن كبراءهم كانوا يعسكرون بهم في جانب محطة العجم، ويجعلون نياراً مرتبة، ويلعبون على النار ويشعرون فذكروا بنو سحام بني جبر معرضين بهم لأخذ التقدم فحمل بعض بني جبر الغضب أن رمى شاعر بني سحام إلى عند النار فقتله، وثار الحيان يقتتلان، فقتل من هؤلاء وهؤلاء جماعة، ثم خرج عليهم جنود العجم فطردوا الفريقين من المحطة وقامت الخصومة بين خولان حتى كادوا يتفانون ووصل البلاء وانقطعت أرزاقهم من الأرض، ومع الصلح انقطعت عنهم مواد العجم واستخفوا بهم وأهملوهم ونزلوا المغارب، وهلكوا في أسواقها وطرقها حتى لقد روي ممن أذلهم الله أن منهم كثيراً ركبوا البر [ق/464] إلى الحبشة لطلب القوت.
وأخبرني رجل من أهل الحيمة قال: كان عندنا الشيخ نشوان أبو عريج السحامي ضيفاً في بعض بيوتنا فإذا دوشان من المداحين يتكلم من خارج البيت فقلنا: أخرجوا لهذا طعاماً فنظر الشيخ نشوان ذلك من حيث لا يراه، قال فرجع علينا وقد تغير كثيراً وحولق واسترجع فقلنا: ماذا يا شيخ؟ قال: هذا فلان من سلاطين بديدة بني جبر قد حمله الجوع والحاجة أن دخل مع هؤلاء ويظن [أنه لن] يعرفه أحد في هذه الأرض فلو يعرف أني قد رأيته وعرفته قتل نفسه، قال فسارعنا بأن أعطيناه شيئاً وسيرناه لا يعرف أبا عريج عندنا ومما سمعته فيهم من مولانا الإمام عليه السلام أني بعد الصلح استأذنته لزيارة أهلي إلى بني جرموز، فلما عدت إليه سلام الله عليه سألني عن المشارق فحملني ما شاهدت من أحوالها أن قلت صالحة من الشمس والريح، وأما المطر فلا عهد لها به فاستعادني فعدت عليه وكان منبطحاً فقام واستوى جالساً ثم نادى السيد العلامة صالح بن عبد الله وعنده غيره، وسيدنا العلامة عامر بن محمد رحمة الله عليه وقال: يا سيد صالح اسمع ما يقوله الشريف ثم وضع كفه الطاهرة علي، وقال: أخبره عن خولان يا بني أو كما قال، فأعدت عليه فرأيته بعد أن كان متبسماً قد أغضب، ثم قال خذلوني وكذا فسلط الله عليهم الجوع الأغبر، والموت الأحمر، ثم كرر ذلك وقال فيما بين ذلك وهم يقدرون على نصرتي وإنما جعلوني كذا يأكلون بي من الترك أو كما قال، فرأيت سيدنا عامر رحمه الله ينظرني مغضباً لما وقع من بركات دعاء الإمام عليه السلام وأولاده فيهم والظواهر مثلها، والبلاد الإمامية يعني مشارقها أقل وارتفعت الأسعار،
وكاد الطعام يعدم في كثير وكان الأمداد في أكثرها من المراتب من شهارة المحروسة بالله، ثم إن عساكر العجم ضجروا وطلبوا ما لا يعتاد حتى لقد اضطربوا مراراً وهموا بقتل باشتهم وأخذوا منه مالاً وأغضبوه، ثم إنه كان في بلاد الحجرية وبلاد المعافر أمير يسمى الأمير علي الشرجبي كان إليه ولاية تلك الجهة وقطع طريق عدن إلى تعز وطريق المخا من طريق موزع، وعظم أمره وقد وجهوا لحربه الأمير محمد الزوم وغيره من ولاة العجم في اليمن فهزمهم وقتلهم واستفحل أمره حتى قلت المواد على هذا الباشا مع اضطراب العسكر عليه والسنة الشهباء في المشارق وبلاد صنعاء.
وأخبرني الفقيه علي بن محمد الكاتب من أصحاب الأمير صفر وقد صار إلى الإمام [ق/465] عليه السلام أنه كان في بلاد الروم مع الأمير صفر، وأنها وصلت كتب محمد باشا تشكى من حروب اليمن وأن الإمام كاد يستأصله وأن الأمير الشرجبي من خلفه تقطعه وطلب الأمير صفر لاشتهاره في حروب صعدة ونواحي اليمن فأرسلوه وجعلوا له مدينة تعز وبلادها ولاية وبلاد الحجرية، فخرج بمحطة من الروم إلى اليمن وحارب الشرجبي نحواً من سنتين ولزمه صلحاً بعد صلح الإمام عليه السلام في سنة أو سنتين وبقي في حبسهم حتى قتله فضلي باشا.
[أسباب الصلح]
نعم، فتوسط في الخطاب للصلح الأمير علي بن المطهر بن الشويع كان إذذاك في خمر وكذا الأمير شالق مصطفى والأمير محمد بوتج المخيم في السودة، وبلغني أن الإمام عليه السلام هادى المذكورين، وبذل لمن أعان على الصلح وقد شاهدت الجمال تحمل لهم أرزاً مقشوراً كثيراً وسكراً وقشراً من أملاكه سلام الله عليه، وبلغني من كثير من الأصحاب ولم أسمع ذلك من حي السيد صلاح الدين صالح بن عبد الله الغرباني نفع الله به، أنه قال قبل وفاة الإمام عليه السلام قلت للإمام: أراك تبذل الرغائب في الصلح وقد عالجوك فيه مع وصول محمد باشا فلم ترض والآن تطلبه أو كما قال، وقال عليه السلام: الأولى أني رأيت أن أختم عمري بالجهاد وتنغيص دنيا الظالمين، ولما رأيت قد تفاقم وظننت قرب أجلي خفت أن يحدث بي الموت وأمور الإسلام على ما ترى فلا يتمكن أهله من النظر ويحصل في الإسلام ما يحصل، فرأيت المسارعة حتى ينتزح الترك عنا وفرج الله قريب أو كما قال، وحيث ذكرنا الملجي لمحمد باشا من الأسباب لطلب الصلح فلنذكر طرفاً مما كان عليه الإمام عليه السلام من الشدة فإن المشارق وأكثر المغارب ضعفت كما سيأتي إن شاء الله تعالى، واحتاج الإمام عليه السلام المعاون الكثيرة وقل المدد والتاث إليه كثير من الضعفاء، وله في تفقدهم بنفسه وإيثارهم بما عنده ما يطول كما قال القاضي الأعلم جمال الدين علي بن الحسين المسوري رحمه الله في المرثية الآتية:
إذا قدموا يوماً إليه طعامه .... يقول أما غير له اليوم آكل
ولقد سمعها مني بعض أصحابه فبكى وقال: كان ذلك كذلك.
وأخبرني القاضي الأعلم وجيه الدين المهدي بن سعيد الهبل عافاه الله أنه أخبره حي السيد الفاضل عبد الله بن شرف الدين العاهمي من المدائر أنه وصله في تلك الأيام خط من الإمام عليه السلام بخط يده الكريمة أنه لا يجد غداء من عنده في النجيد وأنه إذا لم يحصل لهم غداء [ق/466] انفضت المراتب وحصل الخلل العام فأقرضنا ما نجد من الطعام أو اقترض لنا، وأعيذك بالله أن تخيب ظني فيك، وأن يعود رسولي من غير شيء فيحصل الخلل العام وأكثر من ذلك، قال ومعي في مدفن ثمرتي كلها أربعين كيلة ثلوثي لا يزيد عن ذلك ولي عول ومن لا يعذرني، فهممت أن أقسمها نصفين فيكون لي نصف، وله عليه السلام نصف، فرأيت ما تشدد في كتابه وأنه إذا لم يحصل شيء انهزم المركز أو كما قال، فقلت وقد غالبت نفسي لأوثرنه على نفسي وأولادي بهذا كله وأكثر ما يكون أبيع المال في النفقة أو أسير بعيالي المغرب، وحملت ذلك كله في الليل ولم أترك شيئاً، وأقسم القاضي عافاه الله أنه أقسم له أن الله فتح علي أبواب الكفاية في تلك السنة ولا نقص عليه حال وأن المال الذي كان غلته في أخرف أربعين كيلة استمرت في كل عام الحاصل منه أربعمائة كيلة فكان ذلك أضعافاً، ثم بعد ذلك غرسها السيد المذكور بناً واكتسب إليها، فكان من أكثر أهل بلده مالاً وأحسنهم حالاً، وكان يقرض الإمام المؤيد بالله رضوان الله عليه حتى لقد كان يسميه مخزاننا فإنه في بعض الشدائد كما سمعت ذلك أرسل إليه بألفي حرف في ليلة واحدة، وفي أيام عقد الصلح بلغ الإمام أن كثيراً من أهل بلاد الشرف استقبل المعاون فإن الحاجة دعت إليها حتى لقد رأيت
الإمام المؤيد بالله سلام الله عليه يقضي بعض أهل الشرف في أواخر أيامه مما أقرضوا مولانا الحسين رحمه الله في تلك المدة، فأرسل الإمام عليه السلام رسالة تقرأ عليهم [..............].
[ق/469] ثم إن الإمام عليه السلام أرسل السيد الأكرم فخر الدين عبد الله بن شمس الدين بن الحسن الجحافي، وكان من أهل الكمال ومعرفة الخطاب إلى صنعاء لعقد الصلح وتحديد البلاد وتحليف الباشا ففعل، فلما بلغ الإمام عليه السلام ذلك وقد تواعد هو والعجم أن محاطهم ترجع صنعاء ومحاطه ترجع شهارة المحروسة بالله في يوم وأحد وكنا في مرتبة الحمراء من أعمال مرقص فما راعنا إلاوقد عاد العجم كلهم صنعاء وهدموا أملاكهم بأيديهم، والإمام عليه السلام انحدر إلى درب الأمير المعروف بيت القابعي [وكان قد جعل فيه مخازين الأرز ولم يعمر كثيراً] ، واجتمعت إليه المراتب كلها حتى كانت جموعاً هائلة، ثم اشتغل عليه السلام بتمام قواعد الصلح وتحديد البلاد وأطلق من عنده من الأسرى وكانوا فوق أربعمائة؛ لأنه كان قد خرج بعض منهم ومات بعض وهلك في الشام بنظر الشيخ محمد البحش فوق أربعمائة، ولما وصلوا إليه سلام الله عليه أبقاهم حتى وصل الأسرى من صنعاء وهم أصحاب مولانا الحسن رحمه الله ومن بقى ممن لزم أو أسر غيرهم حتى لقد أخرجوا من في البحر من إخوة القاضي العلامة سعيد بن صالح الهبل وغيرهم، ثم كساهم وزودهم إلى السودة، ثم خرجوا صنعاء وهم جماعة منهم علي آغا من كبرائهم وقاسم آغا وإبراهيم آغا، وقرا جمعة آغا، وسالم كاشف، وجوهر كاشف، والأمير عبد الله بن إسماعيل الداعي من همدان حراز، وكثيرمن
كبرائهم وهادي بن مبارك من كوكبان، ولقد رأيناهم لما اجتمعوا من الحبوس وعليهم بقية أسمال خلقة وقد نضهم التعب والشقا في المهن الدنية ولا يعرف منهم غير الأغوات فاحتاج مولانا محمد عليه السلام أن يفرق فيهم الكساء والزاد فازدحموا على الكتاب والأعوان، فصاح أحدهم عليه بقية من بساط هاني شاوشية فخرج منهم أربعة أنفار أو خمسة، وأخذوا الأعصى من أيدي الأعوان ونظموهم وقالوا بلق فلان فعدوهم واحداً بعد واحد ولم يزدحم أحد مع أحد، ثم عزموا والأغوات بقوا يومين ثم عزموا بعدهم، وكان اتفق من حي السيد محمد بن صلاح الأعور الأهنومي وناصر ابن أبي خير الأسدي خيانة في عسكر مطهر بن عبد الرحمن وكادوا يفسدون العسكر وهم من سراتهم وكبراء العسكر الإمامي، فاستدركهم مولانا الحسين رضوان الله عليه وقبض عليهما وعلى الشيخ علي بن قاسم المرهبي، فأما المرهبي فقتله العسكر الذين أرادوا إيصاله حصن حميمة سنخدا لأنهم خافوه، وهذان بقيا في الحبس فاتفق [ق/470] أنهما وأصحابهما حرضا كبار المجاهدين من بلاد الأهنوم وبلاد عيال أسد والمذاعير أنهم يشفعون فيهم ويطلقون كما يطلق العدو، فاجتمع الأعيان من المشائخ وكبراء العسكر حتى رآهم الإمام عليه السلام وأحس بهم، فلما رآهم مولانا محمد عليه السلام تلقاهم وسألهم عن المقصود فأخبروه وقد عرف ما في نفس الإمام عليه السلام عليهما فقال لهم:أتروني لكم ناصحاً، فقالوا: بل المالك أو كما قالوا، فقال الإمام عليه السلام داع لكم شاكر لكم راضي جهادكم مثنٍ عليكم فلا تلجوه إلى أحد أمرين، إما أنه لا يجيبكم وتقع في نفسه ونفوسكم أو
يجيبكم وهو كاره فتكونوا قد أحبطتم سعيكم المحمود أو كما قال، ولكن تؤخرون هذا إلى وقت وأنا أقوم به وإذا تقارب الأمر عرفتكم فقالوا: قد رآنا الإمام عليه السلام فلا نعود من غير حديث، ثم قدموا إلى الإمام عليه السلام وقالوا: يا مولانا نراك أطلقت أسارى الترك وأعيانهم وسكت عن ولدك الحسن رضوان الله عليه فيا سبحان الله إذا لم يطلقوه فلا تطلق أصحابهم، فقال لهم عليه السلام وقد تبسم إليهم ودعا لهم: يا سبحان الله أترون أحبس هؤلاء العلوج بالحسن أو كما قال وقد أودعته القادر على إطلاقه أترون أن الكريم من البدوان يضيع وديعته؟ فقالوا: لا، فقال: ثقوا بالله فإن الحسن خروجه على الله سبحانه لا أطلبه من غيره أو كما قال بإطلاقه ثقة بالله فكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى والحمد لله رب العالمين.
[رؤيا بشأن الحسن بن الإمام القاسم]
وحيث قد ذكر الحسن رضوان الله عليه ووالده صلوات الله فلأذكر رؤيا رأيتها مرتين في تلك المدة.
الأولى: بعد الهزيمة من قدم وبني حيش، وقد أمسينا في عتاد من بني بلاد الجبر وهي أني رأيت كأن ما بين وادعة وحوث إلى صعدة قاع صفصف وإذا قد طلعت الرايات تقصد جهة صنعاء وتحتها قوم كثير من العرب على أنواعهم وجهاتهم المتفرقة، ثم الهند على لباسهم وراياتهم خضر، وفيهم الترك ثم عبيد بلباس الحبشة، ولهم رايات وخيل مختلفة اللباس وهم يقولون هم تقدمة الإمام الحسن، فقلت لمن رأيته وعرفته وهو القاضي علي بن أحمد بن أبي الرجال وقد رأيته فيهم ولا عرفت غيره من هذا الإمام الحسن، وفهمت أنه الإمام الحسن بن علي بن داود سلام الله عليه فقال: لا هذا سيد من أنصار الإمام وليس بإمام أتعرف السيد قاسم بن نجم الدين من جبل ذري وهو من أهل الفضل قلت: نعم قال: هو في سنه، وسمعتهم يقولون [ق/471] لا يزال حتى يحطوا في النجد الأحمر ولا أعرف النجد الأحمر قبل هذه الرؤيا، وكان ذلك في عام سبع وعشرين وألف، وكان ما سيأتي إن شاء الله تعالى من اجتماع هذه الطوائف تحت راياته رحمه الله تعالى وخروجه من صعدة.
الرؤيا الثانية: وكنت في الحمزي وقد قل الناس ومل أهل الجهاد وفي النفوس كثير من ضيق الحال والخوف على المسلمين حتى لقد عرض وادعة وغيرهم أن الإمام يتأخر من وادعة إلى حوث وهو في النحيد من بلاد المقابلة فصليت في أول الظهر وخفقت على السجادة وأنا مستلق فرأيت رجلاً داخلاً علي من باب المسجد عظيم اللحية يعني جسيمها وهي ممتدة إلى أسفل صدره، لابساً صوفاً ليس عليه عمامة وإنما عليه قلنسوة من صوف أسود وقد علاه الشيب وعليه هيبة، وفي يده عمودان دقيقان من حديد على مثل الرماح الدقاق طولهما نحو من عشرة أذرع ولم يقع في نفسي شيء منه من الهيبة لأجل الأنس منه، ثم خلفه رجل على مثل صورته ولباسه إلا أنه أقصر منه قامة، وليس في يده شيء من الحديد، وكأنه خادم للأول فاستحييت من سؤال الأول من هو فسألت الآخر؟ فقال: هذا هو الإمام الهادي إلى الحق يعني يحيى بن الحسين صلوات الله عليه فوقف الأول حتى كانت قدماه حذاء خدي، وقال: أنا الإمام الهادي أو قال جدك الهادي -السهو مني- فجعلت فمي على قدمه، وقلت: يا مولانا أليس معنا إمام ولا يصح إمامان في مذهبك؟ فقال عليه السلام: أنا مغير على الإمام القاسم الذي في وادعة فقلت لعله القاسم بن جعفر رحمة الله عليه فقلت: الإمام القاسم بن جعفر، فقال الإمام القاسم بن محمد إنما هو ولدي وهذا الحديد أضرب به أعداءه يا صرارتاه، ويا عمراناه، ويا صنعاتاه، ويا يمناه بهذا اللفظ فاستيقظت وقد استبشرت فما عقب ذلك إلا الصلح، وأخربوا محاطهم بأيديهم، وقد كانوا عمروها وغرسوا فيها الغروس كما بلغ. والله أعلم.
وبعد طلوع الإمام عليه السلام شهارة المحروسة بالله بنحو عشرة أيام أو أكثر وصل مولانا الإمام الحسين رضوان الله عليه من الظفير وقد اجتمع معه عسكره وكانوا مع أهل الظفير ومن سار بسيرته نحو ألفين بالسلاح الحسن والهيئة التي قل مثلها في ذلك الزمن، وكان لوصوله بتلك الهيئة الشأن العظيم، والذكر الفخيم الذي شرح صدور المؤمنين وأوغر قلوب المعاندين، ووصلهم الإمام عليه السلام بالصلات الواسعة، والحمد لله رب العالمين.
وقبل عقد االصلح وإقبال الجدب على المشارق طلع النجم ذو الذنب [ق/472] المشهور وصفته أنه طلع نجم مع الفجر له رأس كالسنان المرتفع، وله نور يطلع قبله، ثم لا زال يطلع حتى انتهى إلى نحو ثلث السماء أو يزيد وهو يطلع قبل الفجر نوره في كل يوم حتى انتهى إلى ما ذكرناه، ثم طلع بعد أيام نجم أصغر منه من فوقه وطال نوره نحو اً من منزله وأقل وبقيت هذه النجوم آية يشهدها العالم، وسئل الإمام عليه السلام وكان من جوابه مما رأيت بخط يده الكريمة أنه ذكر ما هذا مثاله:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، ذكر في كتاب (عقد الدرر في أخبار المنتظر المهدي عليه السلام) من نسخة قديمة قال في آخرها: تم الكتاب بحمد الله ومنه وحسن توفيقه بالقاهرة المغربية وذكر كاتبها إلى أن قال: بتأريخ يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة أربع وعشرين وسبعمائة عن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما قال: لا يخرج المهدي حتى تطلع مع الشمس آية. قال: أخرجه الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسيين البيهقي وقال في هذا الكتاب: وعن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام قال: إذا بلغ العباسي خراسان طلع بالمشرق القرن ذو السنين وكان أول ما طلع هلاك قوم نوح حين أغرقهم الله وطلع في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقوه في النار، وأهلك الله النمرود بن كنعان وحين أهلك الله تعالى فرعون ومن معه، وحين قتل يحيى بن زكريا عليه السلام وسلط الله على قاتله بخت نصر، قال: فإذا رأيتم ذلك فاستعيذوا بالله من الفتن، وذكر في سياق طلوعه كسوف الشمس والقمر، قال: ثم لا يلبثون حتى يخرج الأبقع بمصر، قال: أخرجه أبو عبيد نعيم بن حماد... تم ذلك.
وكان قد ضعف أهل وادعة من الجدب وخاف الفضلاء على الإمام عليه السلام وعرضوا عليه الخروج إلى حوث كما تقدم فلم ير ذلك، وسمعت في تلك الأيام من غير واحد أنه خرج ليلة يتفقد المساكين على عادته فسمع طائراً يصوت فقال: معنا في هذه الليلة غدر أو نحو هذه الكلمة، ثم أخذ يفتش مواضع حتى وجد تحت مرقده عليه السلام باروتاً كثيراً قد دسه العجم وشياطين العرب على أنه يحرقونه في الليل فأخذه إلى المخزان وأمر بعمارة الموضع وجعل بابه إلى البيت الذي هو فيه، فرأيت الباب معموراً وكنت أعرفه مفتوحاً.
وأخبرني السيد الفاضل قاسم بن حمزة الغرباني أطال الله بقاه أن هذا التفتيش من الإمام عليه السلام [ تورية فأنه أخبره من أبدت اسمه] وكان يختلف إلى حي الأمير [ق/473] علي بن المطهر بن شويع الحمزي فقال إنه طلبه أمير الأتراك المسمى شالق مصطفى وقال له: هذا الإمام لا نقدر على حربه ولكن قد فعلنا من يحرقه في هذه الليلة بالباروت ونعتقد في الأمير أنه يحبهم في الباطن، قال: فأجابه الأمير بأن هذا الصواب وأظهر الفرح، ولما خرج من عند الأمير طلب هذا الراوي وقال: هل فيك خير؟ قال: نعم، قال تسير هذه الساعة وقد كان وجه ليل إلى الإمام فما تدرك منه إلا ما قدرت عليه وأخبره بمقالة الأمير فأغار مسرعاً فوصل والإمام عليه السلام في بقية أعمال فاستدعاه من عند أصحابه وأخبره، قال: فأخبره أن الإمام عليه السلام عرف ذلك فلم يستقم حتى يخبره بتمام الخبر، بل خرج موضع آخر وأمر بالمحراس، وكان ما كان من أخذ الباروت، وكان الإمام عليه السلام أمر قبل عوده من وادعة بالإستسقاء فلما حضرت الصلاة هم بالخروج، ثم رجع وأمر السيد صالح بن عبد الله نفع الله به فحصل مطر غزير في البلد التي كانت فيها الصلاة والإستسقاء، وبلغنا أنهم سألوا الإمام لم لا تحضر وقد هممت بالخروج؟ فقال: خشيت على الناس أنه إذا لم يحصل المطر يقنطون لما قد خالطهم من الشدة وإن مطروا غلوا ووقعوا في أمر عظيم من القنوط أو كما قال صلوات الله عليه، وكان قد عدم الماء في شهارة حتى في بركة الجامع المقدس مما أخبرني بعض الدرسة في الجامع أنه لم يجد ما يسقي به الدَّواه وإنما سار إلى الناصرة يطلب من
هناك وعظم ذلك، ثم إنها وصلت كتب من السيد الزاهد العلامة شيخ العترة الحسن بن شرف الدين رضوان الله عليه يقول للإمام: بادر بالوصول عسى نمطر ونسقى ببركاتك ثم أكثر من ذلك فعزم الإمام عليه السلام على الإرتحال وكانت طريقه سوق الثلاثاء من أعمال المسارحة بعد صلاة الجمعة في شهر جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وألف[إبريل1619م].
قال السيد الفاضل العلامة محمد بن الحسن بن شرف الدين: رأيته عليه السلام في المصلى يقبض من الطين وينظر فيه وطول عهده بالجدب فرأيته يدعو ويحرك شفتيه وهو يقلبه بيده، وكان العسكر فيما أحسب ثلاثة آلاف أو أكثر من غير أهل البلاد ومن وفد من غيرهم من آنس وبلاد حراز، وبلاد الشاحذية للأسباب الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى، فلما حاذى شرفة المواطر وقد تقدم إلى المسارحة مولانا محمد عليه السلام يهيئ أماكن وما يحتاج إليه الإمام عليه السلام والعسكر، وأقبل مطر ما قد عهد في تلك السنة حتى لقد ألجأنا وكنا بالقرب من الإمام عليه السلام إلى سقاة كبيرة أظن درجها [ق/474] يجاوز العشرين الدرجة كانت متعطلة فامتلأت وبقينا بين الماء، والإمام عليه السلام قد لجأ إلى الجبل ولا أدري فيما اكتن من المطر، فلما ارتفع المطر وإذا هو لم يتجاوز الحازة ولم يصل شهارة ولا غيرها، ثم في اليوم الثاني تقدم مولانا محمد إلى نجد بني حمزة ولما انحدر الإمام عليه السلام من قرية المسارحة وصار في آخر العسكر وإذا بقائل يقول: هذا سيدنا عبد الرحمن المنتصر العشبي وصل من كوكبان، وكان من الأسرى هناك فنزل الإمام عليه السلام ونزل الفقيه وهو على بغل من أهل
كوكبان أعطوه إياه ليركبه مع عزمه ويعود عليه هادي بن مبارك قائد عسكره، ولما رأى الإمام عليه السلام عينه قد ذهبت بكى ودمعت عينيه، فبكى الفقيه وترامى على قدميه وهو يدعو له، والفقيه يقول: قليل ذلك في محبتكم أهل البيت، ولما وصل عليه السلام شهارة المحروسة بالله وقد لبس ثوباً من شواذر الشرف وفرد قميص من بز الشرف وعمامة (من بز الشرف) أيضاً وعباءة منكساً متواضعاً وقد تلقاه الشيوخ من أهل شهارة مثل السيد الفاضل العلامة الحسن بن شرف الدين، وسيدنا العلامة عامر بن محمد رضوان الله عليهم وغيرهما من الشيوخ والصغار، وفي أول العسكر مولانا محمد عليه السلام وأمراء العسكر، وكان يوماً مشهوداً، وشريت القرية الماء بفوق سبعة كبار مما يأتي به السقاة من الغيول الخارجة عن شهارة المحروسة بالله، وكان الإمام عليه السلام خرج من شهارة إلى عيان وبعض الجامع لم يتم تنضيد الحجارة في الشمسي، ومطاهير الجامع لم تكن كما هي الآن بل كانت دون ذلك وسقوفها خشباً وتولى تمام ذلك الفقيه الفاضل عماد الدين يحيى بن محمد بن حنش وكان يحضر معه سيدنا عامر رحمه الله فتم ذلك على أحسن حال، وكانت طريقه صلوات الله عليه الجامع فصلى فيه ركعتين وأغلقت الأبواب عليه وعلى من معه في الجامع، وكنت شاهد ذلك، ثم طاف فرأى الصرح موافقاً فدعا للفقيه يحيى كثيراً، ثم نزل البركة ورأى كذلك ولا فيها قطرة من ماء فرأيته سلام الله عليه تغير وجهه حتى هبته وكذا غيري، وعاد مسرعاً إلى قبلة الجامع والدموع تسيل على خده الشريف، واستقبل القبلة ودعا بما شاء الله ونحن صفوف نؤمن على دعائه، ثم
خرج من الباب الشرقي وصعد داره السعيد، ومعه الفضلاء وصغار أولاده، وأولاد أولاده، ومولانا محمد عليه السلام والسادة أمراء العسكر في الميدان يرصدون العسكر وينظمون لهم [ق/475] مواضع وإذا الهاتف بالأصوات المرتفعة يقول لكم الإمام عليه السلام: بادروا بالخيام وأخرجوا مضرباً وخياماً غيره، ثم شرعوا يصرفونها والهاتف من الإمام بادروا قبل المطر فما كان أقرب من حدوث غيث هني، فلجأ العسكر إلى الجامع ومنازل الدرسة والمطاهير والمساجد فلم يصل الظهر إلا في المطاهير السافلات، ثم تتابع المطر حتى صلينا العصر في الواسطات، ثم ما صلينا العشاء الآخرة إلا والمطر في أعلى البركة ويفيض منها وقد عم المطر شهارة وما حولها، وكان يتردد المطر الغزير من دعائه عليه السلام سبع مرات مما عددته وغيري والحمد لله رب العالمين.
[المناطق التي شملها الصلح التابعة للإمام القاسم]
فصل: ولنذكر البلاد التي وقع الصلح عليها: غربان، وعشم المسيجد وبني مالك من وادعة وبني عتمة وادعة وبلاد بني قيس وبني صريم، ثم مرهبة والصيد وبني جبر وبلاد بني زهير إلى حدود بني جرموز وإلى حدود بلاد نهم وما وراءها إلى جهة المشرق والشام جميعاً وجهات شظب المقعد وما إليه، والموسم وما بعده من بني موهب والجبر من شظب وما وراءه من بلاد عفار هجرة وكية فقط، وجبل نيسا والظفير وما وراءهما من بني جديلة وبني حمار والشرفين، وغير ذلك.
وأما جهات الحيمة فمن بني مطر بلاد الثلث والحدب وبني سوار جميعه والأيازل فإن للعجم بني سليمان أجمع وما وراه وبني السياغ العارضة إلى الإمام عليه السلام مع الحيمة، وأعلى بني السياغ للعجم والأجبوب كله إلا المسانية أصحاب الشيخ علي المنامة، وبني النمري جميعاً إلا ردمان للإمام عليه السلام، والحيمة والحجرة وعانز للإمام عليه السلام.
وأما حراز فحصبان وحلفاهم الشافعية مثل جبل بني إسماعيل وبني حسن وبني سعد إلى الإمام عليه السلام وحصن مسار وبلاده إلى الإمام عليه السلام وبلاد الثلث ومن إليهم.
[الإمام يشكو لمحمد باشا لمخالفات حدثت بعد الصلح]
وأما جهات آنس فإن السيد الشهيد الهادي بن علي الشامي رحمه الله دخلها من بني أسعد الأيام القريبة من عقد الصلح ثم تقدم هو والشيخ علي بن دهاق الدريدي وبنو الرؤية فأخبرهم الشيخ ناصر بن راجح وآغا من الترك وهزموهما في قاع آنس، وقتلوا من أصحابهما جماعة، وتقدما إلى الجمعة، فتقدم عليهم الأمير جعفر من العجم عن مشورة مشائخ آنس لأنهم خافوا أن تكون هذه البلاد في الصلح فلا يقدرون على هضم رعاياهم وطلبهم الأموال فهزموا [ق/476] السيد بعد أن أروه شدة واجتمعوا عليه، ثم اختل بني رؤية مع الشيخ ناصر بن راجح واستقام السيد الهادي في القارة وهو مضاهر لبني أسعد وبلاد الحجرة، وانعقد الصلح وهو هناك، وكان حي سيدنا العلامة الزاهد عز الدين بن محمد بن عبد الله الغشم نفع الله به مهاجراً في تلك البلد معيناً للسيد الهادي فقال: استقيموا وأنا أذهب إلى الإمام عليه السلام أعرفه أن بني قشيب لم يدخلوها إلا وقد عقد الصلح، ولما سار لحقه جماعة من بني أسعد لمثل ذلك، ودارت المكاتبة بين الإمام عليه السلام وبين الباشا في شأنهم وكان رأي الباشا المسامحة وإنما التحريض من مشائخ آنس لما سبق ولئلا يكون هؤلاء في نعمة وهم في ضدها، ثم إن الشيخ ناصر بن راجح ومن ذكر اختدعوا ابن الشيخ علي الدريدي على أنه يطلع صنعاء يكون شيخاً على قبيلته ورغبوه وضمنوا عليه ويقال: إن مع أهل الوسط في ذلك جعلاً، فلما وصل صنعاء كتب أهل الصلح والسيد عبد الله بن شمس الدين أن هذا الدريدي وصل فحذفوهم من كتاب الصلح ومع ذلك بادروا بالغزو
لبلاد بني أسعد فقتلوا منهم جماعة ونهبوهم واستولوا عليهم، وصاروا إلى الشيخ ناصر بن راجح وولده الشيخ مجلي، وعرف الإمام عليه السلام ذلك، ووصل بنوا أسعد شكاة إليه وعرف المصلحة العامة بالتستر بالصلح وكذا بنوا البدي من أسفال الشاحذية من جبل تيس كان عندهم الشيخ محمد بن صلاح البحش رحمه الله استدعوه فحفظ بلادهم وغزوا إليها مراراً وهو يردهم في أيام الخطاب ليدخلوا في الصلح، فلما كان منهم قضية بني أسعد ومع أهل كوكبان في بني البدي فأخذوهم أيضاً، وقالوا ذلك قبل عقد الصلح، وذلك بعد انعقاده بشهرين أو أكثر، والإمام عليه السلام ينظر في الأنفع للمسلمين ويكتب إلى الباشا محمد كما رأيت مسودة في بعضها بخط يده الكريمة ما لفظه: وبعد فإن هذا الصلح الذي شملت به نعم الله الأمة المحمدية وعمتهم بركته فإنها لو زالت الجبال الرواسي لم تحل منه عقدة ولا يزداد إن شاء الله على مر الليالي إلا جدة، وإذا وقع من طالبي الفتنة ما يغير علينا راجعنا صاحب الحل والعقد الكامل في السياسة الخاقانية الوزير الأعظم محمد باشا أدام الله له السعادة، وأرغم أعداءه وحساده، هذا وليعلم صاحب السعادة أن عنوان ما انطوى عليه هذا [ق/477] الصلح الميمون الذي هو بكل خير إن شاء الله مقرون، في صريح ألفاظكم الشريفة وعليه خاتمكم الكريم هو عندنا مشرفاً ومكرماً، قاطعون بأن لا تحل له عقدة ولا يزداد من لديكم مع مر الليالي والأيام إلا قوة، ولفظه: وما هو إلى جانب الإمام القاسم الذي يده مستقرة عليه وأصحابه فيه وتقرر تصرفه عليه، وذكر دام عزه عدة من الحدود والأطراف، فعرفنا وسكنت
نفوسنا أن ذلك كلام وكيل السلطان الأعظم -عز نصره- ومدبر مملكته وأنه لا يعتري ما وقع اختلاف، وكان في هذه الأيام من طالبي الفتنة اتباعاً لأهوائه أنه وقع منه تعدٍ في الحدود، وهذا الأمير علي بن شمس الدين غزا [هو] أصحابه بني البدي وقتل منهم قرابة الفقيه العابد الطارح للدنيا وأهلها محمد بن جابر، وأخذ عليهم ستين رأساً من البقر وهم منا وكان عند عقد الصلح والفقيه صلاح البريشي عندهم ومشائخهم هربوا من كوكبان قبل عقد الصلح في المحرم غرة سنة ثمان وعشرين وألف، وفرحان الكاشف قبض رجلاً من بيت مران، وبيت مران ومعازبية التي هي قريبة منه وبيت مران، هذا هو إلينا وتصرفنا فيه على سبيل الإستمرار يعرف ذلك كل أحد، وكذلك بنو أسعد في آنس أيدينا ثابتة عليهم وعاملنا يتصرف عليهم على سبيل الإستمرار، يعلم ذلك الخاص والعام وحاشا نائب السلطان الأعظم ومدبر ملكه أن يكون فيما وضعه أدنى خلل ولو استقصينا وقلنا وادي الشجر إلينا وحقبة إلى السلطان وحسمة إلينا، والشراعب وشوابة إلى السلطنة ثم كذلك لطال الشرح، هذا حيث كان العذر أن هذه الحدود لم تذكر في المسودة وقد سهلها الألفاظ الجامعة، ثم إن جماعة لدينا من جبر حجة أرادوا أن يتصلوا بأموالهم ويسلموا ما هو مقرر عليهم للسلطنة حسب الأغرام من جملة أصحابهم، فمنعهم الشيخ هادي الورد المعروف بالدش، وأخذ ما كان معهم في هذه الشديدة من العنب ومنعهم بالكلية هذه الأمور، وحيث أنهاها إلى مسامعكم الشريفة صيانة للقواعد الأكيدة. انتهى بلفظه وحروفه.
وتوفي صلوات الله عليه، واشتغل الناس بوفاته، ثم بالشدة الشديدة عن ذلك.
[دعوة السيد ناصر بن محمد صبح القاسمي]
ذكر ما كان من دعوة السيد ناصر بن محمد صبح القاسمي الغرباني عافاه الله في تلك المدة وما كان في صعدة في تلك الأيام، فإن السيد المذكور يقال أنه سأل الإمام عليه السلام عن الصلح فأخبره بالمصلحة وإنما هذا الصلح [ق/478] لاستقالة المسلمين وانتظار فرج من الله سبحانه وإلا فقد نقضه الترك بما فعلوه في بني أسعد وبني البدي، وقد تصور في نفسه أنه المهدي المنتظر ولاح له لوائح، وأمال فانسل إلى ذيبين ثم الحيمة، وأظهر أمره على القاضي يحيى بن أحمد المخلافي وهو والي أكثرها، ثم إن الإمام عليه السلام غضب وكتب رسائل توضح أنه خالفه ولم يكن ما هو عليه عن رأيه وأنه عاص باغٍ.
[رسائل الإمام لأهل الحيمة ببطلان دعوة ناصر بن محمد صبح]
(ومن الرسائل التي أرسلها الإمام عليه السلام في أمره في شهر محرم سنة تسع وعشرين وألف قبل وفاته عليه السلام بنحو شهرين أرسل بها إلى نواحي الحيمة من محروس شهارة محذراً ومعرفاً للناس ببطلان دعوى السيد المذكور بأنه المهدي المدعو به في آخر الزمان، وأن من أجابه فقد عصاه.قال عليه السلام:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، المنصور بالله -إن شاء الله- كتابنا هذا إلى من وقف عليه من المسلمين، أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اعلموا رحمكم الله أن الإمام المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه يخرج في آخر الزمان، لزمانه علامات منها: ما رواه محمد بن علي بن أبي طالب أخو الحسن والحسين بني علي عليه السلام المعروف بابن الحنفية، قال: تخرج في آخر الزمان راية من خراسان، ثم تخرج أخرى ثيابهم بيض على مقدمتهم رجل من بني تميم يقال له شعيب بن صالح فيجتمعان بباب اصطخر فتكون بينهما ملحمة عظيمة، وتنظر الرايات السود، فعند ذلك يتمنى الناس المهدي، وفي رواية أخرى: يبعث السفياني خيله ورجله وجنوده فيبلغ غاية المشرق من أرض خراسان وأهل فارس، فيثور بهم المشرق ويقتلونهم ويكون منهم وقعات في غير موضع فإذا طال قتالهم بايعوا رجلاً من بني هاشم وهو يومئذ في آخر الشرق فيخرج بأهل خراسان على مقدمتهم رجلين من تميم مولاهم أصفر اللون، قليل اللحية، يخرج إليهم في خمسة آلاف فإذا بلغه خروجه بايعه فيسير على مقدمته لو استقبلته الجبال لهدمها، فيلتقي هو وخيل السفياني فيهزمهم، ويقتل منهم مقتلة عظيمة فلا يزال يخرجهم من بلد إلى بلد حتى يهزمهم إلى العراق، ثم تكون بينه وبين خيل السفياني وقعة، ثم تكون الغلبة للسفياني فيهزمهم فيقتل منهم مقتلة عظيمة ويخرج الهاشمي، ويخرج شعيب بن صالح [ق/479] مختفياً إلى بيت المقدس يطوي للمهدي منزله إذا بلغه خروجه إلى الشام.
وعن بعض أهل العلم قال: بلغني أن هذا الهاشمي أخو المهدي لأمه، وقال بعضهم: هو ابن عمه لا يموت يعني من الجراحة ولكن بعد الهزيمة يخرج إلى مكة فإذا ظهر المهدي خرج معه، وعن علي بن أبي طالب قال:يخرج قبل المهدي رجل من أهل بيت المهدي يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر يقتل ويمثل ويتوجه إلى بيت المقدس، وعن عبد الله بن مسعود قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إلينا مستبشراً نعرف السرور في وجهه فلما سألنا عن شيء إلا أخبرنا به ولا سكتنا إلا ابتدأنا حتى مرت فئة من بني هاشم فيهم الحسن والحسين عليهما السلام، فلما رآهم عمر هم وانهملت عيناه فقلنا: يا رسول الله ما لنا نرى في وجهك شيئاً نكرهه؟ فقال: ((إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً في البلاد وتشريداً حتى ترتفع رايات سود من المشرق فيسألون الحق فلا يعطونه ثم يسألونه فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون فمن أدركه منكم أو من بعدكم فليأت إمام أهل بيتي ولوحبواً على الثلج فإنها رايات هدى يرفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً)).
وعن جابر بن سعيد الجعفي قال: قال أبو جعفر عليه السلام: يا جابر الزم الأرض ولا تحرك يداً ولا رجلاً حتى ترى أمارات أذكرها لك إن أدركتها، أولها: اختلاف بني العباس وما أراك تدركها، ويكون حدث بعدي وينادي منادٍ من السماء ويحكم الصوت من ناحية دمشق ويخسف بقرية من قرى الشام تسمى الجائفة، وتسقط طالعة من جانب مسجد دمشق الأيمن ومارقة تمرق من الترك وبعضها هرج الروم وينزل الترك في الجزيرة وينزل الروم الرملة فتلك السنة فيها اختلاف كثير في كل أرض، وتختلف في الشام ثلاث رايات راية الأصهب وراية الأبقع وراية السفياني ومن معه، ثم يقتل الأصهب، ثم لا يبقى لهم هم إلا الفرار نحو العراق، وتمر جيوشه بقرقيسيا فيقتلون بها، فيقتل من الجبارين سبعون ألفاً فيصيبون من أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً، فبيناهم كذلك إذ أقبلت رايات خراسان تطوي المنازل طياً حثيثاً وهم من أصحاب المهدي فيخرج رجل من موالي أهل الكوفة في صفها فيقتله أمير جيش السفياني بالبيداء فينادي [ق/480] منادٍ من السماء يا بيداء أبيدي القوم فيخسف بهم فلا يفوت منهم إلا ثلاثون نفراً يحول الله وجوهم إلى أقفيتهم وهم من كلب، قال: فيجمع الله للمهدي أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً يجمعهم الله على ميعاد قزعاً كقزع السحاب فيبايعونه بين الركن والمقام، قال: والمهدي يا جابر من ولد الحسين.
إذا عرفتم ذلك فالشريف ناصر صبح ليس من ولد الحسين عليه السلام وإنما هو من ولد الحسن وليس اسمه محمداً ولا أبوه عبد الله، وإنما هو ناصر بن محمد صبح من ذرية الشريف مكنى حسني النسب، وهذه العلامات التي قدمنا تظهر قبل خروج المهدي لا قد رأين ولا سمعنا منها بشيء، وناصر صبح ما دعا بين الركن ومقام إبراهيم عليه السلام وإنما خلع ربقة الإسلام من عنقه في مخالفته لإمام زمانه كما ورد ذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخالف ما أنزل الله حيث يقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً}، لأن الصلح أنفذ وهو معنا وفي جوازنا، فالصلح شامل له ولجميع من دخل من المسلمين في جانبنا، وهذا من الكبائر وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يؤتم بمثله كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه)) ومنها أن بعض المسلمين يترافع إليه هو وبعض اليهود ليقضي بينهما بما أنزل الله فأوجب الشريف ناصر هذا على المسلم البينة فأتاه بجماعة من المسلمين فقال: زد على هؤلاء الشهود غيرهم فأتاه بغيرهم، فقال: لا تطالب فقد اشتريت المال الذي تنازعتما فيه وهذا حيف وظلم عظيم فكيف يكون هذا من أئمة المسلمين، وهذا القصة اتفقت سنة سبع وعشرين وألف وليست ببعيد، ومما قد أخبر جماعة من المسلمين أنه إذا لاح له شيء من أموال المسلمين وثب عليه وثوب ذئب قرم لا من ذلك حياء من الله ولا حياء من مخلوق، وله أعمال غير صالحة، رحم الله امرءاً خالف هواه واتقى ربه، وأصاب الله من كان صبح إمامه وأصاب من اتبع هذا الضال، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته، بتأريخ شهر محرم الحرام سنة سبع وعشرين وألف) .
ثم أرسل إلى القاضي (يحيى بن أحمد المخلافي) خادمه سيلان الظفاري فلما وصل إلى القاضي وكان إذ ذاك في العر من الحيمة أمر معه جماعة من المخلاف على أنهم يضيفونه ويكون هنالك حتى يلحق به، ثم أمر الرتبة في يناع أن يطلعوهم للضيافة فإذا دخل الحصن حبسوه، فلما فعلوا وصار في الحبس طلع [ق/481] رسول الإمام عليه السلام فقيده في الحصن، وبقي في الحبس أياماً يسيرة واحتاج القاضي ذلك الدار لطعام يدخله إليه، ونقله إلى مكان قريب من الحيد فكسر القيد وهرب إلى بيت عجل من بني السياغ فالتفت إليه كثير من الناس وكان يؤثر واعتقد فيه كثيرون لأجل هربه من الحبس، وسألت أصحاب القاضي فقالوا: إنه رأى القيد اكتسر حال ضربه فستره، فكان سهلاً لأجل ذلك ولا بد من نأتي من أخباره بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى.
وأما مولانا أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله فإنه حفظ الشام وظهر نفعه ثم إنه اتفق من آل عمار تعدٍ في الطريق ونهبوا قوافل وقطعوا الطريق، وممن نهبوا سيدنا القاضي العلامة سعد الدين بن الحسين المسوري رحمه الله وكان منظوراً محبباً إلى الناس مع حدة مفرطة فيه وقوة غضب لله، فوصل صعدة وتكلم على مولانا أحمد وقال كثيراً من ذلك حتى أغضبه فأرسل لمشائخ آل عمار وكانوا ثلاثة عشر شيخاً وسألهم عن القضية فما أجابوه إلا بما عرف به تمردهم فأشار عليه من حضر من العلماء بقتلهم فقتلهم في الليل، ثم تابع المغازي عليهم، ولما بلغ الإمام عليه السلام قام وقعد وخطأه وخطأ من عنده من العلماء لما صوبوا فعله فأجابوه جواباً واحداً: إن هذا هو الذي يجب عليك وعليه وكذا، وما أراد الإمام عليه السلام إلا تأليف القبائل لا يخرجون إلى غير الحق، وصلح بعدها أمر الشام وإنما بقي الطريق فإن الإمام المؤيد بالله سلام الله عليه لا زال أكثر من سنة يرسل مع القافلة الداخلة إلى صعدة عسكراً إلى نصف العمشية ويلقاهم مثلهم من صعدة من يسير مع القافلة إلى صعدة وكذا من خرج من صعدة لقاه من عند الإمام لسبب هذه القضية، ثم إنه تمكن وغزا شرقاً وغرباً حتى صلحت البلاد والطرقات وكان يقال في مواضع من المخاوف للتاجر: ما على جملك؟ فيقول: أحمد، وعمرت صعدة وبلادها ومساجدها، وانتشر العلم الشريف وحصلت النفقات للمساكين مع الشدة الآتية فإنها أمور هائلة كما سيأتي في أخبار شهارة حرسها الله فإن الإمام عليه السلام استقر في شهارة بقية من شهر جمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان، وشوال،
والقعدة، والمحرم فالتاث بشهارة المحروسة بالله من ضعفاء المسلمين على طبقاتهم ما يجل عن الوصف منهم طبقات العلماء والفضلاء لم يبق لهم مكان للعلم وما يقوم بهم غير شهارة من الشدة الشديدة، ثم درسة [ق/482] القرآن والمتعلقين حتى لقد أحصى أهل المكتب [ألف ومائتين] نفس وأهل طلب العلم فوق الثمانمائة، وبلغ الصرف للحريم في مكان منفرد وقد عمر الإمام عليه السلام لهن مكاناً على باب فوق الألف، وجعل المراضع منهن في جانب، وبلغ عدد المساكين فوق الألف الذي خارج باب النصر ولهم كهوف يسكنون فيها وفي باب الفتوح فوق أربعمائة نفس، وفي باب الصلل فوق المائتين من غير من في شوارع الحصن ويصرف لهم الطعام من المطبخ من غير الجنود وأهل الحقوق، ولقد رأيت الشيخ صالح بن محمد حمران وجماعة من أصحابه لم يوجد لهم مكان يأوون إليه وأكلوا في جملة عامة الناس في الديوان وهو عليه السلام يتفقد المسلمين بنفسه (وبولده مولانا محمد عليه السلام)، ومما بلغ من شدة شفقته بالمسلمين وإن كانت فيه صلوات الله عليه صفة لا زمة أنه أجرى للمراضع طعاماً حالياً من بيوته الطاهرة، وبيوت أولاده لكل واحدة كفايتها من غير قوتهن العام الفائض فإني ممن ولي صرف شيء من ذلك فأشهد لا رأيت ميتاً ولا مريضاً ولم يكن عند رأسه الطعام على أنواعه من لحيح ومكافاً وطعام ودقيق وزبيب فضلاً عن الحي، ومما رأى من ذلك أن أهل التمييز والتقشف في الطهارة استقوا من مساهم في المطاهير حق الجامع والمجالس وأبواب البيوت وما يكون هناك من الأذى فاستأذنوا مولانا محمداً عليه السلام في إخراجهم إلى عند الخارجين
وهو باب النصر ففعلوا، فلما كان الليل لم يسمع لهم الإمام عليه السلام حساً فسأل فقالوا: أخرجوا العشي، فقام بنفسه وغضب حتى هم بقتل بعضهم، ولام مولانا محمد عليه السلام حتى أنه توارى منه حياء وخوفاً ثم أمر بفتح الباب وعودهم.
ومما سمعت من حي سيدنا عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله وقد خرج من عنده عليه السلام واجتمعنا للغداء في بعض بيوت الأصحاب فإذا هو يكثر من التبسم والدعاء للإمام عليه السلام وكذا ويقسم لا كان ولا يكون فسألناه عن ذلك، فقال: كنت الساعة عند الإمام عليه السلام فدخل عليه جماعة من الأصحاب وولده مولانا محمد عليه السلام وذكروا أن الطعام قد قل وأن خير المغارب قد قرب فما ترى في زاد هؤلاء الذين قد ملأوا الحصن وأشقوا عليه وعلى أهله وكذا ويزودن ما يبلغهم، قال: فغضب، وقال: اقصروا والله ما نقطع المغرفة ومثلها صبغ لو لم يكن إلا زبدي واحد أو كما قال، ولقد [ق/483] رأيته عليه السلام في تلك الأيام وقد رأى شريفاً من الجوف وله ولدان صغيران لعلهما خماسين وإنهما توأمان قد محل لحمهما ويبس جلدهما من الضعف وهما مع أبيهما وكان قدم بهما فنزل عليه السلام حتى احتمل أحدهما وبعض الأعوان الآخر وأدخلهما داره، فأخبرني من شهد ذلك وهو الوالد جمال الدين علي بن المهدي أنه قال: أطعمهما بيده وشوى لهما لحماً ولا أرى دمعته سكنت، ورأيته لبُنيَّة مريضة وهو يتعاهدها بأنواع الطعام، وكان ذلك بعد عيد عرفة ويكسوها وإذا لم يجد الطريق لكثرة الناس فتح الكوة الشرقيه عليها حتى يرى من يخصها بذلك حتى وجد لها في بيته الشريف مأوى وأدخلها
وغير ذلك كما قال القاضي العلامة جمال الدين علي بن الحسين المسوري رحمه الله في المرثية الآتية:
أب كان للأيتام يحنو عليهم .... فمالهم إلا هو كاف وكافل
يفيض عليهم غيث سحب نواله .... وما هو عنهم ما تقلب غافل
وحيث ذكرنا ذلك فلنتبرك بذكر اليسير من شرائف خلاله في السخاء الذي يضرب به المثل والشفقة بضعفاء المسلمين والصبر على القيام بحقوقهم التي لا تجب عليه وفعلها ولم يقدر عليها غيره، وهذا لا يفتقر إلى بيان، منها: أحواله عليه السلام في العيدين أنه يعطي أهل العوائد الكساء الكثير والمصاريف الواسعة والغنم والبقر ، ثم إذا فرغ من ذلك تقدم إلى باب النصر وأمر بالعقائر الكثيرة نحو الأربعين الرأس على قدر ما يعرف من كثرة المساكين وقدهم يصلون لها من المواضع البعيدة فيكون بالباب ولكل نفس [صاع من طعام] صاع أو نصفه من لحم على عدد النفوس حتى يفرغ منهم، وقد يعد مخازين مملوة كساء مخيطاً للصغار مما يجتمع له من النذور وتأتي مخيطة وقد يشتري إلى فوقها حتى تكون كثيرة، ثم يأمر بالصغار من الذكور والإناث إلى بيوته الطاهرة ويقعد على مرتفع والحمالون يقربون له ذلك على أنواعه فيكسي الصغير قميصاً وكوفية، ومن هو أكبر منه يزيده عمامة كلها مخيطة كاملة حتى أزرتها وجيوبها، ثم يجعل غالباً بيده الطاهرة إلى جيوبهم بعد أن يلبسوها التمر والزبيب فيخرج الصغير فارحاً، وللبنات لباساً وقميصاً وعلى رأسها خماراً صغيراً من أجناس لكل على قدره، وكذلك فقد يكملون في يومين وقد يحتاج يتفرغ لهم ثلاثة أيام وربما وهذه قبل أن يعطيهم شركة العيد وما إليها كما تقدم ويكسو
أصحابه وأهاليهم وقد يعطي الرجل على ما يقول [ق/484] إن في بيته من يحتاج، وهذا دأبه في سائر الأيام بحيث أنه يعطي حتى لا يجد شيئاً وقد لا يجد فيعوزه ذو الحاجة فيتداراه ليبقى وقد يقول لبعضهم: انتظر يومك هذا فنصيبك ما حصل فيه فقد يحصل للنفر الواحد ما يجل ويعظم، وقد سمعنا ذلك مما أخبرني سيدنا الفقيه العدل عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي رحمه الله قال: كان حي السيد العلامة الفاضل جمال الدين علي بن صلاح العبالي رحمه الله كثير الشفقة على الضعفاء فكثيراً ما يطلب لهم ويلتاثون به، وكان الإمام عليه السلام يتلذذ بذلك منه حتى أنه سأله لفقراء من الأشراف وغيرهم، فقال الإمام: لا أجد، ثم ذهب السيد وعاد وقال فأجابه الإمام عليه السلام كذلك وأظنه قال عاد في الرابعة أو الثالثة بمثل ذلك، قال: فغضب الإمام عليه السلام وأخذ عصاء وقال: تنح عني، اخرج عني فلا أجد، قال: فخرج السيد، ووصل الإمام عليه السلام ليس بالكثير فاعترض السيد بعض المساكين وشكا عليه فرق له وعاد إلى الإمام عليه السلام متبسماً وقال: أردت آنف منك ساعة فما قبل المساكين وإذا شيء سهل فأجرك على الله، قال: فأخرج لهم ذلك ثم جاءت أحمال البز والدراهم الواسعة حتى امتلأ ما بين يديه فجعل يقرأ: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ، ويقول: هذا من بركات السيد علي جزاه الله عني خيراً وأكثر من الدعاء له، وكان هذا السيد من الفضل والعلم بمكان.
ولقد روي أن الإمام عليه السلام مرض في بعض الأيام فقال: إن حدث لي حادث فأرى أن السيد علي أولى بمقامي ممن أعرف أو كما قال، وزوجه عليه السلام ابنته فاطمة الشريفة الطاهرة الفاضلة ابنة أمير المؤمنين، وقبره إلى جنب مسجد الميدان في شهارة المحروسة بالله مزور مشهور، وهو من ولد الإمام القاسم الحرازي من بيت شهير بالفضل والعلم.
[ورع الإمام واحتياطه]
فصل [في ذكر شيء من ورعه واحتياطه]: ولنذكر شيئاً من ورعه واحتياطه من ذلك أني لا أعرف أحداً في عهده وبعده من أولاده وأولاد عمه مثل السيد العلامة عبد الله بن عامر وقبله حي أخيه العلامة الفاضل أحمد بن عامر لم يأكل من بيت المال ولا من غيره إلا ما يملكونه وتر اهم يضعون طعامهم الخاص على الطعام العام وكل عما يره له أو لبيت المال أو لطريق أو مسجد أو منهل إنما يكون ذلك من نذوره، ومن ذلك أنه عليه السلام جعل في بيوته المباركة وبيوت أولاده طبقة مخازين لبيت المال [ق/485] في مقابل ما يأكله العمارون والسقاة من بيت المال، وأما الأجرة والآلة فمن نذوره عليه السلام ولقد أراد عليه السلام أن يجري ماء يجري على الباب الشرقي في الجامع المقدس من البركة وهو لا يمكن الصعود فجعل شيئاً يسمى شهافاً اخترعه على أنه يصعد الماء إلى أعلى، ثم يجريه إلى باب المسجد الشرقي ويعود البركة، فعمره وجعل له أنابيباً كباراً من مدر مخصوص لا يضره الماء والقضاض، ثم اعتنى فيه حتى ارتفع وما حصل المقصود ولا تم له ذلك فأخبرني حي ولده مولانا الحسين رضوان الله عليه أنه قضى ما أكله أهل العمل فيه من بذر ماله حتى أوفاه واحتاط بزيادة، وأما الأجرة فهي من نذوره وماله مطلقاً، وأخبرني رحمه الله أنه استغفر وقال ما حملني على ذلك إلا الشفقة بالمسلمين لأن ما في موضعنا هذا مثل المدائن غيول وأنه لم يكن له قدوة سبقه إلى ذلك وإنما تصوره لأنه كان يشرب من ركوة لها موضعين للماء كما هي عادة الركوة، قال: فكان يشرب الماء فإذا فتح فاه وأغلق أحدهما اجتمع
الهواء فأحس له حركة يشهف ما قبالته ثم جربه في التراب ففعل فأراد مثل ذلك، ومن ذلك تقديره النفقات حتى لا يمكن أن يبقى شيء ولا يحتاج المستنفق شيئاً وجعل المدخول عشر قوب والمخروج ست قوب، وفي هذه غاية الاحتياط والورع لأن السامع يقول ذلك من السياسة والتدبير وأخلق بها من مثله صلوات الله عليه، وأما الأكثر فللنفع العام فيكون ما صورته قوت شهر يكفي شهراً وثلثي شهر والأصغر لتعريف النفقة الكافية وقدرها والثالثة القدح في زاد المسافر وحصة ابن السبيل خمس قوب وأربع ويصل فيها رفيقه، واحتياط خليق بمثله عليه السلام لأن المسافر إذا بلغ وطنه وجب عليه رد الزيادة أو الصرف كما هو مقرر في مواضعه، ومن المعلوم في أهل العصر أنهم لا يفعلون ولهم حصة وقد يتضيفون وكان في ذلك الأقرب إلى مراد الشارع لأن ابن السبيل له حق في مال الله فإن حصلت الكفاية وجب عليه رد الفاضل أو صرفه وهو لا يفعل، والأغلب على ابن السبيل أن يستطعم أهل الطرقات فيطعموه وليس وراء هذا احتياط.
[وفاة الإمام القاسم بن محمد]
وأما وفاته صلوات الله عليه فتوفي لمضي ثلث الليلة المسفر عنها يوم الثلاثاء لاثني عشر يوماً من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وألف[16فبراير1620م]، ولم يكتم أمر موته صلوات الله عليه بل عرف الخاصة والعامة مرضه عليه السلام [ق/486] ولم يطل وإنما كان من ألم المسبع فطال فيه ثلاثة عشر يوماً أو أربعة عشر يوماً ثم توفي رضوان الله عليه، وكان قد أرسل لجماعة أهل الفضل الذين خارج شهارة المحروسة بالله مثل السيد الإمام العلامة شيخ العترة أمير الدين بن عبد الله رضوان الله عليه، ومثل السيد الفاضل العلامة عز الدين محمد بن علي بن عشيش الحوثي رحمه الله، ومثل السيد العلامة محمد بن علي الحوثي الحاكم بمحروس الظفير، والسيد العلامة المجاهد جمال الدين علي بن إبراهيم الحيداني وغيرهم.
وممن بعث إليه مع مرضه عليه السلام الحاج الفاضل المجاهد شمس الدين أحمد بن عواض الأسدي، وأما الذين في شهارة المحروسة بالله فهم: السيد العلامة الفاضل العابد صلاح الدين صالح بن عبد الله المعروف بابن مغل الغرباني، والسيد الفاضل الزاهد محمد بن الحسن بن شرف الدين رحمه الله وأخوه السيد العالم المجاهد جمال الدين علي بن الحسن بن شرف الدين، والسيد الفاضل محمد بن عبد الله بن مغل الغرباني والسيد جمال الدين علي بن عبد الله العبالي، والسيد العالم الحسن بن محمد الشرفي أطال الله بقاه وأخوه السيد العالم الفاضل عبد الله بن محمد، وأما أخاهم شيخ العترة صفي الدين أحمد بن محمد رضوان الله عليه فكان مريضاً لم يحضر.
ومن الفقهاء سيدنا الإمام العلامة جمال الدين عامر بن محمد الذماري رحمة الله عليه وسيدنا العلامة شرف الدين الحسن بن علي العيزري رحمة الله عليه، والقاضي العلامة الأديب جمال الدين علي بن محمد الجملولي والقاضي جمال الدين علي بن محمد الروسي وسيدنا العلامة الفاضل عز الدين محمد بن عبد الله الآنسي المعروف بالغشم، وسيدنا العالم الأديب صالح بن عبد الله بن حنش رحمه الله والفقيه العالم الأمين عماد الدين ناصح المسلمين يحيى بن محمد بن حنش، والقاضيان العالمان الفضلان جمال الدين علي بن الحسين المسوري، وسعد الدين بن الحسين المسوري وولداهما سيدنا القاضي العلامة صفي الدين وبركة المسلمين أحمد بن سعد الدين ورضي الدين زيد بن علي بن الحسين، وكان مع صغر سنه كاملاً.
وأما السادة الذين وصلوا في الليل عقيب وفاته صلوات الله عليه من أهل المحراب فهم السيد العلامة فخر الدين عبد الله بن محمد المحرابي وصنوه الحسن بن محمد والحسين بن [ق/487] محمد، والهادي بن محمد ومحمد بن الحسن، والسيد القاسم بن نجم الدين كلهم من أهل الفضل والكمال، والسيد العلامة الكامل شرف الدين صلاح الدين صلاح بن عبد الخالق بن يحيى، والسيد العالم صارم الدين إبراهيم بن يحيى وغيرهم، ومن المتعلمين أهل الإجادة والإفادة كثيرون، وكان مولانا شرف الدين الحسين بن أمير المؤمنين رحمة الله عليه في بلاد الشرف طائفاً للبلاد ومقرراً أعمالها وكانت إليه رضوان الله عليه فوصله البريد في ابتداء مرض الإمام عليه السلام فوصل وبقي عنده نحو ثمانية أيام حتى توفي وهو حاضر وأمور العامة والخاصة إلى مولانا محمد عليه السلام كما هي عهدته مع صحة أبيه سلام الله عليهما.
[مبايعة الإمام محمد بن القاسم]
نعم، فلما توفي صلوات الله عليه كما تقدم وقد اجتمع أهل الفضل كمن تقدم ومن سهيت عن اسمه وللاختصار كان أول مخبر لهم ومعزٍ مولانا محمد عليه السلام فعظم على أهل الفضل موقع ذلك حتى أحصروا عن الكلام وأقعدوا عن الحركة وعظم الأمر، فكان أول متكلم سيدنا العلامة الحسن بن سعيد العيزري رحمة الله عليه وقال فيما قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم.. )) الخبر. والإمام قام بفرائضه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -أو كما قال- وقد سقط عنه التكليف وتعين عليكم، فتراجع الفضلاء وسكنوا بعض السكون ثم تشاوروا وكاد يطول منهم وكلهم ينص على مولانا محمد وأخيه الحسين سلام الله عليهما، فتكلم مولانا محمد بكلام فصل جزل وقال فيه: إنما أنا وأخي عونان لمن يقوم بهذا الأمر من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا لنا في ذلك شيء ثم طلب المفاتيح على بيت المال من الفقيه عماد الدين يحيى بن محمد بن حنش وقال: ضعها يا سيدنا عند الأصحاب ينظرون لأنفسهم، ثم خرج عنهم ودخل منزله وأغلق على نفسه ثم أجهش باكياً، وكان أهل البيوت لا علم لهم بوفاة الإمام عليه السلام لأنه لما توفي رضوان الله عليه وكان عنده مولانا محمد ومولانا الحسين رضوان الله عليهما والفقيهان الفاضلان عماد الدين يحيى بن صلاح الثلائي وجابر بن فتح الله العفاري فتركاهما عند الإمام عليه السلام على أنه حي لا يعرف أهل البيوت قبل أن يبرموا أمر الخلافة فلما سمع أهل بيته بكاه عرفوا وفاة الإمام عليه السلام فسمع الفضلاء
فاهتموا بتمام الشورى، وعولوا على مولانا الحسين رحمه الله أن يدخل على أخيه ويخرجه [ق/488] لهم ففعل، فلما وصل نصوا كلهم عليه وألقوا ثقل التكليف إليه متفقين الرأي فيه فلا زال بهم حتى استحلفهم أنهم لا يعلمون له عذراً عن التخلف وقال بعضهم: والله إن لم تفعل ليجب علينا نعيد ما قد صلينا خلفك أوكما قال، ثم تبادروا إلى بيعته مزدحمين عليها حتى فيما ظننت والله أعلم إنما قام الفقيهان الفاضلان يحيى وجابر ومن أعانهما على غسل الإمام عليه السلام إلا وقد بايع أهل الحضرة، ثم من بعدهم فوق ثلاثمائة أكثرهم من أهل الفضل والعلماء والمتعلمين، وامتدت البيعة نحو ثمانية أيام، وكان المتولي لها السيد العلامة محمد بن علي بن عشيش وسيدنا العلامة عامر بن محمد الذماري رحمة الله عليهما لا ينفك أحدهما عند الإمام عليه السلام ثم أمر الإمام بكتب صنعاء وكانت إلى مولانا الحسن رحمه الله كتاباً وإلى الباشا محمد كتاباً، وإلى الأمير علي بن المطهر بن الشويع كتاباً، وإلى السيد فخر الدين عبد الله بن شمس الدين بن جحاف السفير بالصلح كتاباً، فإنه كان باقياً لأعمال مما يتعلق بالصلح مضمون الكتب إعلاماً لهم بوفاة الإمام عليه السلام وقيام مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين المؤيد بالله رب العالمين محمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله سلام الله عليهما،وفي الكتاب الذي إلى الباشا محمد بعد إعلامه والبسط في موضعه والإيجاز في محله مما هو خليق بمثله ما معناه وقبض الله سبحانه مولانا وإمامنا ووالدنا أمير المؤمنين سلام الله على روحه وقد عقد بينكم وبينه صلح فيه صلاح
المسلمين وحقن دمائهم وكذا ثم توفاه الله وتحملنا ما كان من ثقل الأمر، فإن ترون تمام المدة وتسكين الهدنة فعلينا أن نقتفي أثره ونحيي ذكره ولا ننقض له عهداً ولا نخلف فعلى ما ترون، وإن ترون غير ذلك جعلنا هدنة حتى تعود حنودكم مواضعها، وبعد أن تعود مواضعها نستعين الله سبحانه وتعالى والجواب منكم أو كما قال [................................] .
[جواب محمد باشا للإمام المؤيد بالله محمد]
ووصل جواب محمد باشا وهذا لفظه:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وقدوة مستحسنة طريق سلكه سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، لله الحمد على ما قضى، وقدر وأمضى، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وكل إنسان وإن طال عمرانه إلى الفوت إنا لله وإنا إليه راجعون وصائرون ومنلقبون، فنعزي ولدنا الإمام المقام الأكمل، السيد العلم الأفضل، منبع الفضائل عمدة الأفاضل، مالك أزمة المفاخر العميمة، والمعارف الجسيمة محمد بن القاسم بن محمد منحه الله صبراً، و كتب له أجراً بوالده الإمام العلم الأطول الأعلم الأفضل تغشاه الله برحمته ورضوانه، وأسكنه بحبوح جنته بإحسانه، وجعل نزله في عليين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والتسليم حق لله في أمره وحكم قضائه حلوه ومره، وحكمه السابق النافذ في جميع الخلائق، والله يجبر هذه الرزية ويأسوها ولا يريكم بعدها سوءاً ولا مكروهاً، والحمد لله الذي جعل القائمين من بعده لما اختاره من الخير من عنده وقيامكم بالأمر بعده استخارة الله سبحانه وتعالىومواطأة من العلماء الأخيار والقضاة الأطهار، فأنتم إن شاء الله لذلك أهل، ولما وقع من اختيارهم موضع ومحل تولى الله عونكم ورزقكم الصبر، وكتب لكم على فراقه الأجر فقد أنالنا ذلك السرور بعد الفزع، وحصل لنا به الحبور الذي أذهب الجزع، وأنتم بمقامه أحق وإليه أسبق، وذكرتم أن الذي بيننا وبين والدكم رحمه الله من العهود والمواثيق ثابت أساسها ومراسها ثباتة وقوة كما هي الإرادة
المرجوة ونحن إن شاء الله تعالى على ذلك ما يبدو منا أمراً نظهر فيه إخلالاً ولا يكون بسببننا لموضوعات قواعدها وعقودها انحلال، بل إنا لكم كما أنتم لنا وما هو موجود عندكم وكذلك عندنا والألفة الصافية، الخالصة الوافية، كما هي ما يغير تلك القواعد مغير ولا يكدرها مكدر، ونحن لكم في أمر الخير مساعدون وطريق مرضاة الله معاضدون، والله يختار لنا ولكم الخير ويأخذ بنواصينا إليه، ويرشدنا ويحسن حالتنا عليه، وحسبيي الله وكفى، في تاريخ سابع عشر في شهر ربيع من شهور سنة تسع وعشرين بعد الألف سنة، حرر بمحروس صنعاء. انتهى.
[رسالة من بعض علماء صنعاء للإمام المؤيد بالله محمد]
[ق/492] ووصل كتاب من بعض علماء صنعاء ولفظه:
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملاً، وهب نعمة وفضلاً، وسلب حكمة وعدلاً، جعل الموت تحفة الأبرار، وزلفة تدنيهم إلى دار السلام، في جوار الملك الغفار:
وما هي إلا نقلة غير أنها .... من العالم الأدنى إلى المنزل الأعلى
وأزكى الصلوات على من اختار الرفيق الأعلى فدنى ثم تدلى، وعلى آله الأخيار الفائزين من التطهير بالقدح المعلى، ما صعد عمود الإيمان بصبح فضلهم وتجلى، وبعد:
فلما ورد علينا حباب المصاب فشربنا منه بكأس روية وتقاسمنا هموم بلاياه المذهبة للروية، شق الأنملة بالسوية من المواقف المحمدية القاسمية، من ألقت عليه الإمامة شعاعها، ونشرت بيمين إنالته طيور السعادة على كثرة أجناسها وأنواعها، وغرسته أيادي العناية الربانية بيدها وسقته بأنوائها، فتلاحقت عنده إعجاز مواهبها بهوادها، أسجد الله تعالى على وصيد أعتابها كل جبين متوج، وأقام بحميد عنايتها كل أمر أعوج، وأنهج لمطالبها كل باب مرتج، وأبان تفضلها كل حق أبلج، وأطفأ بعد لها لهب الباطل إذا ارتفع وتأجج، فحين دهمنا ذلك الأمر المهيل، والبلاء الذي يكون الصبر عنده خير جميل، فيالك من أجفان شرقت بالدموع، ونيران متقدة في أحناء الضلوع، وبنان تود لو ماتت أن يخط بنازل الخطة، وأنفس أساطت بها بلابل الهموم المشتطة، والناس من شدة الأحزان والكمد وفقد الاصطبار والجلد، ما لا يستطاع ذكره، فكيف يحتمل أمر ثقله وزبره، فياله من خطب عم بيت الرسالة، جدد الخطب في الوصي والبتول وياله، فأولاد الوصي تحني ظهورها أسفاً، ومعادن الإمامة تذري دموعها ولهاً ولهفاً، ولكن ما نصنع والقضاء نازل، والموت حكم شامل، ونحن في دار نقلة، ومحل قلعة، فمن راحل ليومه، ومن مدعوٍ لغده، وهي العارية المرتجعة، والسحاب المنقشعة، ولو كان من الموت وزر، لكان لخير البشر، ولنا به أسوة ولن نصاب بمثله كما ورد في الأثر، وفي الله عزاء من كل مصيبة، ودركاً من كل فائت وخلفاً من كل هالك، فبالله فليثق من عمه المصاب من أولئك، مع أن من صنع الله الحفي، وجميل لطفه الخفي، أنقذنا بعد المحنة بالمنحة،
فما عبس المحزون [حتى تبسم، ولا ركد رحا الإمامة حتى تنسم، إذ سد هذه الثلمة بأفضل خلف لأكرم سلف، وأنجب فرع لأعظم أصل، فيا لها من تحف، فوجب علينا تخطي الأحزان، إلى شكر الإحسان، دلت الرزية في هذه القضية، دلالة ضمنية على جزيل العطية في البرية، إذ كان مولانا المؤبد بالله القائم بعده الساد مسده، فهو في حكم الخالد وإن أصبح في الثرى، والمقيم في أهله وإن أضحى في العراء، فرحم الله إن بكت المكارم شجوها لفقده، ولبست المعالي حدادها من بعده، وأعاد علينا من بركاته ما يهون علينا مصاب الدنيا التي صار الحدث أخف ظنونها، وأصغر دنوها، والله اسأل أن يربط على القلوب لفقد المحبوب، وبالتماسك بالحسنات التي تُنجي من المهالك، وأن يفيض على مولانا ومن تحوطه شفقته تجلداً يضاهي اجتماعه السديد، ويجعل مسرة يومه تابعة لمساه، والحمد لله على ما وفق إليه الأصحاب من إقرار الحق في نصابه، فأصابوا الصواب وأقاموا ما يجب للإسلام من الحق الواجب، ولو سكتوا أثبت عليه الحقائق، فما اكتأبنا للمنعي إلينا حتى ارتبطنا بالمستخلف علينا، ولا تجهش باكينا عند الرزية حتى استهل ضحكنا للعطية، تصديقاً لخبر بدا خير الأمم: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) هذا والله لقد أعطى القوس باريها، وأنزل الدار بانيها، ومن أحق الصدر من صدر الأفاضل، المؤيد الرئيس، عقد الفخار الرائق النفيس، كيف وهو المبرز في جلباب الفضل على نظرائه وأمثاله، واعترف وأنا الحقير في مساجلته عن قرب غايته وبعد مناله، وقد أغنى ظهور فضله عن إقامة البرهان، وكف اشتهار نيله حتى لم يختلف فيه اثنان
وكيف يصح في الأذهان شيء .... إذا احتاج النهار إلى دليل
من ذلك، ثم رآه بعد ذلك، ارتفع السماء.
ومنها ما حكاه ولده السيد الأكمل صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين أيده الله، وهو يومئذٍ بصعدة متولياً من جهة والده، قال: إنه سمع ليلة موت والده عليه السلام والليلة التي قبلها حركات في المنزل الذي هو فيه، ولم يكن بقربه أحد، وأنه حرك عليه باب المنزل الذي هو فيه مرات] [ق/493] حركات غير معهودة، وكان له كوز يشرب فيه تركه فوق سطح في الليل للتبريد، فلما كان نصف الليل سمع الكوز وكأن أحداً حمله ورمى به إلى حجر تحته فقام فوجد الكوز قد تهشم تهشيماً عجيباً كصورة الفلوس، ثم إنه سمع في تلك الليلة وفي الليلة التي قبلها والتي بعدها أصوات بكاء ونواح بالقرب من منزله فقام ليرى الباكي فلم ير أحداً ولا أحس ببكاء، ولما عاد إلى فراشه عاد البكاء وهو كأنه في طاقات المنزل الذي هو فيه وكأنه والله أعلم من بكاء الجان، وسمع أيضاً بعض شيعة الإمام بمحروس صعدة ممن كان واقفاً بالقرب من الدار التي فيها السيد صفي الدين في منزله لم يكن فيها إلا هذا الراوي سمع دق الباب عليه في تلك الليلة ثلاث مرات متفرقات ينبه في كل مرة من نومه ولم يعهد ذلك قبله ولا بعده.
ومنها ما حكاه بعض أولاد القاضي العلامة المفيد جمال الدين سعيد بن صالح الهبل وهم يومئذ ساكنون بصعدة دارهم ملاصقة الدار التي فيها ولد الإمام عليه السلام السيد صفي الدين أحمد حفظه الله وهم جماعة من ذكور وإناث أنهم سمعوا في الدار التي فيها ابن الإمام عليه السلام في ليلة موت الإمام عليه السلام أو فيما بعدها قراءة القرآن كأنها من جماعة بأصوات أقرب إلى أصوات الصبيان كثيرة فظنوا أن ثم من يقرأ في بيت الإمام وأن أحداً ألزم بالقراءة فيه كما جرت العادة في بعض الأوقات أنه قد يطلب من حملة القرآن من يدرس في البيت الذي يسكن فيه ابن الإمام أو أحد أولاده خصوصاً ليلة الجمعة وحين ظنوا ذلك اجتمعوا هم للقراءة في بيتهم الذي هم فيه بناء على أن تلك القراءة آنس ولم يكن أحداً يقرأ في ذلك الوقت حيث سمعوا القراءة، وسمع أيضاً غير المذكورين قراءة في غير الجهة التي سمعوا فيها وهي من ذلك القبيل. انتهى.
ومما ظهر واشتهر ما روى غير واحد عن الحاج الفاضل شمس الدين وعمدة المجاهدين أحمد بن عواض رحمه الله أنه أتاه آتٍ في ليلة موت الإمام عليه السلام أو التي قبلها فأيقضه مراراً يقول: مات صاحبك، أو قال: أدرك صاحبك قال فعلمت أنه الإمام فاشتد في طريقه وقد سار أول مرحلة من صعدة إلى الفقمين مما يلي بلاد عذر ووصله الخبر بالحقيقة فسقط في موضعه ولم يقدر بعد ذلك الوصول إلى شهارة إلا ثاني يوم أو ثالث.
وأما قضية النور الذي طلع على قبره الشريف سلام الله عليه في أول عام ثلاثين وألف [1621م] فمشهور، وصفته ما رأيت ابتداه وقد خرجت من سعدان بعد العشاء الآخرة بغلس أريد دار العقبة وكان فيه بيتي في تلك المدة [ق/494] وأمامي الشيخ الفاضل عبد الله بن أحمد الحارثي رحمه الله كلنا كنا عند الفقيه الفاضل عماد الدين وأبو المساكين يحيى بن محمد بن حنش رحمه الله، وكان في الناس قل في تلك الأيام في شهارة المحروسة، وكان الشيخ المذكور أول خارج من خرج من الباب وقد غطى رأسه لرياح فرأيت كواو القبة المقدسة وهي كما عرفت من العمارة والباب معمور بحجارة أيضاً ثم الكواو [ولم تبوب] وقد ملأ الطياق نور مجموع أبيض مثل قرع الخريف الصافي وازدحم فيها كأنه العطب المنفوش فناديت الشيخ عبد الله وقلت له: أترى هذا في القبة فالتفت نحو النور وقال هذا رجل من المغفلين أو كما قال قد نذر بأرطال لبان فأوقده مرة واحدة، ومضينا وأصبح الصبح والناس يتحدثون بأنه كبر وعظم حتى رآه من كان في شهارة، ثم رأوه إلى أقر أيضاً في المحطة المنصورة وتحدث الناس به وعدت إلى الإمام المؤيد بالله عليه السلام وكان عنده عدة من الفضلاء والعلماء منهم سيدنا العلامة الزاهد القدوة عز الدين محمد بن عبد الله المعروف بالغشم نفع الله به فسألني عن هذا النور فأخبرته بأوله وإنما سمعت انتهاؤه من ألسنة الناس فتحرك لذلك كثيراً ثم كتب تهنئة إلى مولانا المؤيد بالله سلام الله عليه، وتكلم في هذه المنقبة بما لا أضبطه، وأخبرني أيضاً سيدنا العلامة صفي الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله عمره أنه رأى
مرة أخرى على القبة نوراً يضيء، وبقي مدة وذلك في الليل وكان معه عند ذلك بعض الفضلاء والعلماء. انتهى.
رجعنا إلى ما كنا فيه، ثم إن الإمام عليه السلام أمر بتغليق الأبواب ولم تفتح إلا لرسولين خفيفين هما قاسم بن طاهر المذعوري والحاج صالح بن عبد الله بن أبي شفلوت أحد حجاب الإمام عليه السلام ووجهت الرسائل المتضمنة للدعوة عقيب التعزية إلى جميع بلاد الزيدية ممن في جانب الإمام عليه السلام وممن تحت سلطان العجم، وعين لأخذ البيعة له في صعدة المحروسة بالله القاضي العلامة الصدر جمال الدين سعيد بن صالح الهبل الخولاني رحمة الله عليه فسارع إليها الناس على طبقاتهم وتلقوها بما يحق من التبجيل والتعظيم، وكان أول مبايع مولانا صفي الدين أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله كما أخبرني البرد وغيرهم، ولما بلغ السيد العلامة صارم الدين داود بن المهدي المؤيدي رضوان الله عليه ذلك دهش وعظم عليه الأمر حتى ركب إلى العشة، واجتمع به كثير من أهل الفضل [ق495] وتلامذته وإخوانه بنو المؤيد فظنوا أنه بدا له بدو ويدعو إلى نفسه كما فهمت من سياق حديث منه رحمه الله يخاطب به مولانا الحسن رحمه الله في صعدة فخرج بهم إلى مكان جامع في الفضاء وخطبهم وبايعهم للإمام عليه السلام جميعاً وأخبرهم إنما خرج على تلك الصفة إلا لعظم ما ورد عليه من الغم، فكان ذلك مما أصلح الله به الشام الداخل، وكان في صعدة المحروسة بالله في تلك المدة عدة من الأعيان والفضلاء مثل السيد العلامة أحمد بن المهدي المؤيدي، والسيد الفاضل العالم أحمد بن محمد بن عز الدين والسادة آل الطيب، والسيد
العلامة أحمد بن محمد بن صلاح القطابري، والقاضي العلامة عماد الدين يحيى بن أحمد بن حابس الحاكم، وولده العلامة الحبر المجتهد شمس الدين أحمد بن يحيى، والحاج الفاضل العلامة أحمد بن علي دعيش وغيرهم.
ولما وصلت جوابات صنعاء بتمام الصلح وتقرير قواعده وحكي أنهم اجتمعوا وائتمروا بينهم فأشار جمهورهم بأن الصلح خير ولا يلد الأسد إلا شبلاً أو كما قالوا، وأخبرنا البرد والمترددون في تلك الأيام وكذا حي مولانا الحسن رضوان الله عليه قرر جملته وما يفهم صدق الرواية من غير أن أسمع بسطاً منه سلام الله عليه أن الباشا محمد طلبه إلى عنده وكان قد طلبه مع عقد الصلح وأطلقه من القيد واعتذر على الإمام عليه السلام في عدم إطلاقه بأنه في حبس غيري يعني الباشا جعفر واني جعلت شاهداً على نفسي لجفعر باشا في أنه بيدي وديعة للسلطان، ولما وصل إليه عزاه وأجل قدره وبقي عنده قريباً من أكثر النهار وخاطبه خطاباً حسناً وكثيراً ما كان يسمع من حي مولانا الحسن رضوان الله عليه الثناء على أدبه وكمال عقله ومروءته، وأنه سأله عن أخيه الإمام عليه السلام فاخبره بحيلته ومبلغ سنه عند الدعوة، قال: فقال له أنت يوسف إخوتك وأقسم له الأيمان البالغة أنه قد أحبه وأنه جاهد في إطلاقه ثم أخذ يسود كتاباً إلى السلطان وإلى وزيره كتاباً فيهما من البلاغة وحسن اللفظ واستيفاء المعنى ما يعظم من مثله، ثم وصله بصلات وأجرى له مصروفاً.
نعم، وقد ذكرنا ما وقع مع أهل الفضل من الرزية العظماء والفاقرة الكبرى عند وفاة الإمام عليه السلام خصوصاً، وكذلك في سائر البلاد عموماً من ذلك ما نقل من خط القاضي شمس الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه أنه وصل يوم وفاة الإمام عليه السلام رجل من جبل هنوم [496] وقد أخرس لما بلغه وفاة الإمام عليه السلام فلم ينطق بكلمة واحدة فوصل حضرة مولانا المؤيد بالله سلام الله عليه وقرأ عليه هو ومن حضر من السادة والشيعة فلم يكن ثالث ذلك اليوم إلا وقد من الله سبحانه وتعالى له بالعافية وأطلق الله لسانه فله الحمد كثيراً، ومن الناس من أجراه بطنه دماً عند بلوغ وفاته عليه السلام ومن النساء في محروس الظفير من ألقت جنينها، ومنهن من هلكت بعد بلوغ الخبر وحصل مع الناس من ذلك أمور لا توصف إلا أنه كان من وصل حضرة المؤيد بالله زال عنه ذلك الحادث وكشف الله عنه.
ولنرجع إلى أخبار وفاته وموضع قبره وقدمنا دعوة مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله عليه لما تقدم من مقدم ذكرها قبل دفن أبيه سلام الله عليه فإنه لما انتضم الأمر أمر مولانا محمد سلام الله عليه بأن يحفر له في منزله شرقي مسجد الشريف ففرغ القبر وأخرج صلوات الله عليه إلى صرح المسجد الجامع وصلى عليه المسلمون ثم تودع جسده الشريف الفضلاء، ودفن قبل صلاة الصبح بمنزلة أو منزلتين وقامت قراءة القرآن على قبره الكريم أشهراً مع أنها لم تزل إلى يوم الناس، هذا ونحرت النحائر وعقرت العقائر وصرفت مع الصدقات المجراة كما تقدم حتى كثرت فاستحياها الإمام عليه السلام وصرفت في القرب، وجعل منها حصة وافرة لأهل العلم والقرآن وعين لها من بيقبضها ويصرفها وحصل بها الانتفاع وقد ذكرنا أنه عليه السلام أمر للفضلاء فيما سمعناه في ذلك الأوان قبل وفاته.
وأما الوالد السيد الفاضل محمد بن ناصر بن عبد الله الغرباني خال مولانا الإمام محمد أطال الله بقاه فذكر أنه مولانا محمد المستدعى لوصولهم وأن ذلك بمشورة أهل الفضل منهم ونصح أن يكونوا مجموعهما. والله أعلم.
ولما توفي سلام الله عليه واجتمع المسلمون إلى ولده مولانا أمير المؤمنين المؤيد بالله سلام الله عليه ذهب عنهم كثير مما يجدون وقاموا بما يجب لله سبحانه من المسارعة إلى نصرة إمامة مولانا محمد سلام الله عليه، ولما كان آخر نهار ذلك اليوم بعيد العصر وصل السيد العلامة شيخ العترة أمير الدين بن عبد الله رحمة الله عليه فلما رآه الناس طالعاً عليهم من باب النصر وهو على بغل مولانا الإمام صلوات الله وعليه ومعه خادم الإمام عليه السلام وشيبه يقرب [ق/497] من شيب الإمام عليه السلام وهم يعرفون أنه أحد شيوخ الإمام عليه السلام ومحله منه ومن الإسلام فتلقاه الناس أفواجاً للسلام عليه وقل من لم يبك منهم إذ رآه ثم قدم إلى القبر الشريف، فجثى عليه وكان فائدة ولم يحضر حال الدفن وزار وأطال، ثم تقدم إلى سعدان فتلقاه من عند الإمام عليه السلام من العلماء والإمام كذلك ولا رأيت عيناً لم تدمع من أهل الفضل، ثم جعل يده الطاهرة في كف الإمام عليه السلام وبايعه مع وصوله ولم يقبل مراجعة بل قال ومن لها بعد الله غيرك يا ولدي، ثم صافح العلماء ومن لم يسلم قبل ذلك، وكان الجمهور من العلماء في قراءة البحر الزاخر على مولانا محمد سلام الله عليه في كتاب النكاح فمن ثالث ذلك النهار عادوا جميعاً لتمامها، وكان الإمام عليه السلام قد ابتدأ احتفار البركة الكبيرة المسماة بركة الإمامين التي في الطوف القبلي فهم فيها لم يشتغلوا غير يوم وفاة الإمام عليه السلام وكذا كل عمل ديني أو دنيوي أتموه ووصلت الجنود الإمامية من كل جهة وجدد الله للإسلام ما كان قبل وفاته
عليه السلام من الاجتماع والتمام، ولقد رأيت سيدنا العلامة عامر بن محمد رضوان الله عليه كثيراً ما يحمل على يده بجهد جهيد الحجارة في البركة المعروفة، وكذا كثير من الشيوخ لأجل تأنيس الأولياء أن الحال ما حال وإرغام أنوف الأعداء أن الباقي أهل الكمال، ومما رثي به صلوات الله عليه ما قاله القاضي العلامة البليغ المقول جمال الإسلام والمسلمين، وشجاك الملحدين علي بن الحسين المسوري رحمة الله عليه وهي التي في اللوح على يمين الداخل لزيارته عليه السلام في قبته المشرفة وهذه المرثية:
من الآن فلتبك العلى والفضائل .... ويهمل إلا ذكرهن الفواضل
سلام على الدنيا سلام مودعٍ .... فقد أوحشت منها علينا المنازل
وأظلمت الآفاق طراً وأكدرت .... علينا لداهي الخطب منها المناهل
بفيك الثرى يا ناعي الجود والهدى .... لقد هد ركن المجد ما أنت قائل
نعيت أمير المؤمنين فقل لنا .... أبالحق إذ مات الإمام الحلاحل
لأن كان ما قد قلت حقاً لأنه .... لخطب لأبناء البسيطة هائل
قلوبهم مما زعمت رواجف .... وأدمعهم مما ذكرت هوامل
أمات فما للنيرات طوالع .... وذي الشمس لم تكسف وذوالبدر كامل
[ق/498]
وهذه الجبال الشم شامخة الذرى .... فما بالها إن صدعتها الزلازل
وذي الأرض لم يخسف بها وبأهلها .... أحققت أم قد غال عقلك غائل
بلى إنما قد قلت حقاً وإننا .... لنعلم أن الموت بالخلق نازل
وإن إلى الله العظيم مسيرنا .... وأن قضاء الله للكل شامل
وإن قصارى كل حي إلى الفناء .... وإن نال من دنياه ما هو آمل
ولكن رزء القاسم بن محمد .... هو الرزء لا ما تدعيه الثواكل
إمام بني الزهراء درة تاجهم .... وحاميهم إن حوربوا والمناضل
خضم العلوم الزاخرات وشمسها .... إذا أشكلت يوماً علينا المسائل
هو العلم الهادي إلى الحق والذي .... به يهتدي من حيرته المجاهل
هو الغيث غيث المرملين ومن له .... أنامل غر سحبهن هواطل
أقام قناة الدين بعد اعوجاجها .... وشيد من بنيانه وهو مائل
وأطفأ نار الظلم بعد التهابها .... وأهلك أسد الكفر وهي صوائل
وقاد لحرب المبطلين كتائباً .... يغطي شعاع الشمس منها القساطل
وأعمل في حرب البغاة نوافذاً .... من الرأي لا يبلى بلاها الجحافل
وقام بأمر الله جل جلاله .... ولم يثنه عن نصرة الدين عاذل
ولا راعه ملك العدو وقهره .... ولا صد عنه خؤون وخاذل
أبٌ كان للأيتام يحنو عليهم .... فما لهم إلا هو كاف وكافل
يراهم بعين لا يرى غيرهم بها .... ولا هو عنهم ما تقلب غافل
يفيض عليهم سحب فيض نواله .... إذا خلفتهم عن نداه المخائل
وإن نزل العافون سدة بابه .... تلقتهم قبل النزول الفضائل
وإن أبصروا يوماً بياض جبينه .... تجلت غموم عنهم وبلابل
فمن علمه تملا عليهم مسائل .... ومن جوده تجري إليهم جداول
فيشفي سقيم الجهل ترياق علمه .... وتحيي قبيل الفقر منه النوافل
بليد بليغ القول ما هو قائل .... وينسى جميع الفعل ما هو فاعل
ويحتقر الدنيا احتقار مجرب .... يرى أن ما هو فيها وحاشاه باطل
فلا لشهي الزاد تطرب نفسه .... ولا الملبس الباهي تراه يحاول
[ق/499]
إذا قدموا يوماً إليه طعامه .... يقول أما غيري له اليوم آكل
وإن قيل هذا سائل فكأنما .... سروراً به أدت له الخرج بابل
ترى الوفد أفواجاً إليه كأنما .... تهب بهم داع إلى الحق حافل
فمن آيب يثني عليه بفعله .... ومن قادم قد أنصبته المجاهل
فذا باسمه يرجى المطي مؤملاً .... وذا باسمه يحدو بها وهو قافل
صفات له لو أن معشار عشرها .... تحلى بها ذا الخلق لم يلق خامل
فدع عنك تعداداً لذكر صفاته .... فعند التناهي يقصر المتطاول
وإن كنت سحباناً بياناً ولهمة .... لأنك في مدح الإمام لباقل
فيا يومه ماذا هدمت من العلى .... بك انزاح عنا منه تلك الشمائل
ويا غاسليه كيف قمتم بغسله .... أيقوى بتقليب الشوامخ غاسل
ويا حامليه كيف سرتم بنعشه .... أيا عجباً تمشي بثهلان حامل
ويا قبره كيف اتسعت لشخصه .... وقد كان بحراً ما له الدهر ساحل
أبا حسن من للعلوم ونشرها .... ومن ذا بنور الحق عنها يجادل
أبا حسن من للشريعة إذ وهت .... عراها وخان الدين لص مخاتل
أبا حسن من للمعالي فقد وهت .... كواكبها وانهد منها المعاقل
أبا حسن من ذا عن الدين يتقى .... وبالمشرفيات الرقاق يقاتل
أأنساك لا والله يا ابن محمد .... إلى أن يهيل الترب فوقي هائل
أصبر نفسي إن تفيض دموعها .... وبيني وبين الصبر عنك مراحل
أما كان لي من غير عطفك حافظ .... ولي من ندا كفك ظل ووابل
وكنت أنا المدني وغيري مبعد .... إذا اجتمعت يوماً لديك المحافل
ففارقتني والقلب مني ذائب .... عليك ودمعي من عيوني سائل
عليك سلام الله ما انهل واكف .... من المزن أو غنت بأيك بلابل
وصبراً بني المنصور صبراً فإنما .... بكم يقتدي في النائبات الأماثل
لئن رفعت شمس إلى الله منكم .... لقد أشرقت منكم شموس كوامل
وقام بأمر الله منكم مؤيد .... طليع بحق الله في الخلق عادل
إمام يهاب الناس سطوة بأسه .... ويرجوه أيتام الورى والأرامل
[ق/500]
أعز الورى قدراً وأرفعهم علاً .... وأسمحهم إن ظن بالمال باخل
فلا البحر يحكيه إذا جاء سائل .... ولا الطود يحكيه إذا خف جاهل
وعن علمه فاسأل إذا كنت جاهلاً .... تخبرك عنه كتبه والرسائل
ومن رأيه والله يكلأ ذاته .... سيوف على أعدائه وذوابل
إذا امتنعت يوماً علينا مطالب .... بعثنا إليه عزمة فتساهل
أهب إلى نصر الهدى فأجابه .... أكأبر أبناء الرسول الأفاضل
وأشياعهم أرباب كل فضيلة .... ولبته لما أن دعاها القبائل
فذا وارد منهم إليه مبايع .... وذا صادر يثني الدعاء ويواصل
فيا رب بلغه الذي هو آمل .... وحطة فلا تسطو عليه الغوائل
وألبسه تاج المكرمات فإنه .... حقيق بما قد قال من قبل قائل
وإني وإن كنت الأخير زمانه .... لآت بما لم تسطعه الأوائل
حماية دين الله جل جلاله .... أدافع عنه جاهداً وأنازل
وإنصاف مظلوم وتشريد ظالم .... بكفرانه الآن بي يقاتل
ونشر علوم الآل صلى عليهم .... ألا همهم ما حن عود مطافل
وإني لعبد خاضع لجلاله .... على عنقي قيد المذلة جاعل
ودم يا أبا يحيى مدى الدهر سالماً .... لعزتك القعساء يعنو المطاول
ودام لنا من إخوة لك سادة .... غطارفة غر حماة مقاول
إذا ما انتدوا يوم المفاخر أخرسوا .... بذكر المعالي عنهم من يفاضل
وإن ركبوا يوماً فمن ذا يصاول .... وإن بذلوا يوماً فمن ذا يساجل
هم السابقون الخلق في كل غاية .... ولا غرو إن جلوا وأعيت فساكل
ودمت لهم كنزاً وداموا لنا غناً .... يذاد بهم بؤس ويخصب ماحل
يتلوها مرثية السيد العلامة شمس الدين أحمد بن محمد بن صلاح بن يحيى القطابري أطال الله بقاه وأعاد من بركاته:
خطب ألم بأهل الأرض عن كمل .... ففرج الله ذاك العسر في عجل
فالعين تبكي من غم ومن حزن .... وألسن تضحك من روح ومن حذل
فاعجب لرزء عظيم الشأن خالطه .... غوث أغاث بني الدنيا بلى مهل
[ق/501] وذلك الخطب إن تثبت كراهته .... بالجبر هذا فهذا غاية الأمل
ولوعة الكرب ممزوج بغصاصها .... بسلوة القلب عن ورع وعن وحل
وفي الجوانح نار الحزن يشعلها .... وبرد ماء الرضاء يطفيء لظأ الشعل
وكل قلب له في حال علته .... ذكر يسر به يشفي من العلل
وفي الوجوه انتقاع من كآبتها .... والبشر يلبسها عن كدرة الخجل
أمران ما لهما ند لعظمها .... ضدان قد مزج المر بالعسل
إمام حق ثوى اختيار الإله له .... فقام من بعده من ليس بالوكل
ذاك الإمام دعاه الله تكرمة .... وذا إمام دعا أربى على زحل
ذاك الإمام الذي عمت رزيته .... وذا الذي ذاد عن زيغ وعن زلل
ذاك الذي هد ركن الدين مصرعه .... وذا الذي شاده بالبيض والأسل
لأن فقدنا إماماً كان قدوتنا .... فقد وجدنا إمام العلم والعمل
لأن دهينا بخطب جل موقعه .... فقد شفينا بجبر الحادث الجلل
لأن مضى القاسم المولى الإمام لقد .... أبقى لنا خلفاً للمؤمنين ولي
يا دهر أن رعتنا فيمن قبضت فقد .... جادت يداك لنا عن ذاك بالبدل
مثلاً بمثل يداً يادهر نابيد .... فهل لذلك يا للناس من مثل
لكن أنا شدك الرحمن كيف سطت .... أيديك إذ فتكت في ذلك الرجل
وكيف نلت الذي قد نلت منه فلم .... تجرع لمصرعه المشجي ولم تهل
أما علمت بأن الله فضله .... على البرية من حاف ومنتعل
أما علمت بأن الله أكرمه .... واختصه بالهدى من خاتم الرسل
أما علمت بما قد حاز من شرف .... وراثة من أمير المؤمنين علي
أما علمت بأن الدين قام به .... وكان أشفى على التعطيل والخطل
أما علمت بما أحياه من سنن .... برغم كل شقي فاسق دغل
وما أمات بعون الله من بدعٍ .... بلا توانٍ ولا عجز ولا ملل
أما علمت بأن الأرض طهرها .... من كل رجس بسهل القاع والجبل
[ق/502]
هلا قبلت الفدى منا بأنفسنا .... وما لدينا من الأموال والنفل
هلا قبلت الفدا بالكل من ولدٍ .... ومن حميم ومن صحب ومن خول
هلا قبلت الفدا من بالناس أكثرهم .... فرب فرد يفي بالخلق عن كمل
لكن حكم إله العرش ليس له .... رد بمكر ولا شيء من الحيل
وأمره نافذ فبنا بأجمعنا .... وملحق أخريات الناس بالأول
ولا مجال لحي الخلود ولو .... علاية المجد أعلى شامخ القلل
لو كان بالمجد تخليداً لدى شرف .... لم يبرح الدهر مولانا ولم يزل
فأحملي جزعاً يا نفس واصطبري .... فالمرء ما عاش إلا بعد وامد الأجل
لأن ثوى القاسم المنصور أن له .... نجلاً كريماً بفضل المكرمات جلي
مضى وأبقاه فيننا كي يكون لنا .... عزاً إذا رامه الأعداء لم ينل
فقام فينا بأمر الله منتصباً .... من عز لا خور فيه ولا ميل
فضم شمل ذوي الإسلام مجهتداً .... لله من ناعش للدين ممتثل
وحل عقدة روع كاد يهلكنا .... لولا تدارك لطف الواحد الأزل
أعني المؤيد مولانا الذي شهدت .... له الخلائق في الأمصار والحلل
من زاده الله تعظيماً وألبسه .... من الخلافة حتى أشرف الحلل
لازال يزداد تأبيداً وبسط يدٍ .... على نعيم جزيل دائم هطل
نعم وحاشاه ممن يعزيه إذا .... وأن يحل به شيء من الحلل
كذاك أخوته السادات أن لهم .... أعلى المراتب في مجد وفي نبل
سادات آل رسول الله قادتهم .... فالنص فيهم بأنواع الكمال جلي
شم الأنوف مطاعيم مطاعنه .... حاموا الخلائق بالخطية الذيل
أبوهم القاسم الزكي وصنوهم .... داعي الأنام لا هدي واضح السبل
فهل لذي الفخر من مثل ومن شبه .... حاشاه عن مثل ما كيَّف العذل
فالله يحفظه يكلأ ويحفظهم .... له كفاة مضاة القول والعمل
وقد أسر الذي في السجن طال به .... ما ذاق بالمنع من غم ومن ثقل
نرجوا من الله من افراجه سرعاً .... كسرعة اللمح بالأبصار والمقل
نعم ولا زال عون الله ينصرهم .... على المعادين أهل المكر والغيل
ثم الصلاة على المختار من مضر .... ما سبح الله في الأسحار والأصل
وآله الطيبين الطاهرين معاً .... ما غرد الأيك في صبح وفي طفل
ومن ذلك أيضاً قول القاضي الأجل الأكمل الأعلم الفصيح المقول[ق/503] سعد الدين بن الحسين المسوري رحمه الله تعالى:
الحمد لله على ما أراد .... ليس لحكم الله في الخلق راد
وإن رزينا فلنا أسوة .... بشافع العالم يوم التناد
ما هذه الظلمة ماذا السواد .... ما هذه الحيرة ماذا السهاد
ما للعيون استعبرت بالبكا .... هل حشيت أجفانها بالقتاد
ما بالها تبكي عقيقاً وما .... تكتحل أجفانها بالرقاد
ما لوجوه الغر من هاشم .... كأنما سف عليها الرماد
ما للكرام الشم من يعرب .... قد ألبست كرهاً ثياب الحداد
ما لليتامىمثل فقع الفلاة .... ذلاً وكانوا قد أنيلوا المراد
ما للمساكين غدت حيرة .... تهيم مثل الهيم في كل واد
ما لعلوم الآل أضحت كذا .... مهجورة بعد الهدى والرشاد
ما للمحاريب وأربابها .... كأنما قد رميت بالكساد
ما لبني المختار لم يصبروا .... والصبر من مثلهم يستفاد
ما لذوي الحبر وقد أصبحت .... تذري دموعاً من سواد المداد
ما للعذارى أصبحت ثكلاً .... ولم تمخض ليلة عن ولاد
ما لجميع الخلق لم يكففوا .... دموعهم بل أصبحت في ازدياد
ما للمواضي ثلمت حدها .... كانت بعهدي ماضيات حداد
ما لجياد الخيل قد فسكلت .... وقبل كانت سابقات جياد
أهذه الساعة قد فاجأت .... أم هذه أشراط يوم المعاد
أم صدق الناعي بما قاله .... فهذه عظمى رزايا العباد
إن كان حقاً ما أتى أنه .... جزعنا أم اللهيم النآد
يا ويحه كيف نعى من نعى .... لقد أتى بالمعظلات الشداد
مات الذي كنا به نتقي .... حر وطيس الحرب يوم الجلاد
مات الذي كان غياث الورى .... إذا استغاثوا بالسنين الجماد
إمامنا المنصور بالله من .... دل على طرق العلا والسداد
فيا عباد الله نوحوا على .... من كان براً بكم يا عباد
[ق/504] يا يومه كيف فجعت الورى .... هل أنت في الأيام يوم التناد
مات أمير المؤمنين الذي .... سعى إليه الناس مثل الجراد
لا غرو إن مات لنا أسوة .... بجده ثم أبيه الجواد
هل هاجه شوق إلى صنوه .... الحسن المحيي لكنز الرشاد
وصحبه مثل عماد الهدى .... يحيي الذي قد كان نعم المعاد
وغيره من فضلاء الورى .... أشياخ علم منهم يستفاد
تتابعوا طراً بعام معاً .... لا كان ذاك العام مما يعاد
والناس في الموت كخيل الطراد .... فالسابق السابق منها الجواد
والموت نقاد على كفه .... جواهر يختار منها الجياد
لكننا لم نستطع بعده .... صبراً وليت الصبر عنا أفاد
حمداً لرب حكمه نافذ .... فما لحكم الله في الخلق راد
والحمد لله على ما قضى .... والحمد لله على ما أراد
يا معشر الإسلام لا تقنطوا .... فإن لله تعالى مراد
يا أيها الناس اتقوا ربكم .... فإن تقوى ربنا خير زاد
وبعد فالمسؤل من ربنا .... دوام مولانا طويل النجاد
العالم العلامة المنتقى .... موطؤ الأكناف جم الرماد
من أجمع الناس على فضله .... وفاق أهل العصر طراً وزاد
محمد من مثله في الورى .... من شيد الدين الحنيفي وشاد
من جاءه يسأل عن علمه .... راح وقد ألقى إليه القياد
أو جاءه يسأله حاجة .... عاد بطين الخرج مما أفاد
أو جاءه يسأله صفحة .... عن ذنبه من عليه وجاد
جاد على العالم فاستبشروا .... بكثرة الخير ومن جاد ساد
ساد جميع الناس لما غدا .... مطهر الفعل مزيل الفساد
فيا أبا يحيى بلغت المنى .... وكلنا يبلغ منك المراد
ويا نصير الدين أنت الذي .... لولاه ركن الدين قد كان ماد
يا حارس الإسلام أنت الذي .... حفظت هذا الدين عن أن يكاد
[ق/505] سيغلبون، ولما أتتهم العاديات بالقارعة، دهمتهم لشدة ذلك الغاشية، وحين علموها الحاقة طفقت كل فرقة منهم جاثية، ولما نازلهم حمام الحقيقة ضاق علي نازلهم المجاز، وأجروا تلك القضايا على القياس، وحكموا فيهم السيف فجاز، فلله تلك الفتية الهاشمية التي ما برحت رافعة لأعلام الهدى، مسقية لأعداء الله مياة الردى، وما برح فيهم اللاحق يقفو السابق والولد ينحو أثر الوالد الصادق، ولله القائل:
شابه معدي أباه في الكرم .... ومن مشابه أباه فما ظلم
والآخر:
ويربي ناشيء الولدان فينا .... على ما كان عوده أبوه
فرعياً لها فرقة ما زالت من مظالم، ورفعت من مآثم، فجزاهم الله أحسن الجزاء، وأخزى أعداء دين الله أخشن الجزاء، فلا برحوا يرفعون ما انخفض من أحوال المسلمين، ويعرفون ما نكر من أعلام الدين، ويمنعون حمى الإسلام بالعدل الظاهر والمعرفة، ويصرفون عنه كل على ويصفونه بكل صفة، بمن الله ذي الإفضال، وبمحمد وآله خير آل، علم ما من الله به على عباده من النعم، وما أفاضه على بلاده على أيدي أهل هذا البيت الأكرم، فحمد الله تعالى جزيل الحمد وشكر، وعرف نعم الله تعالى وادكر، ودعا لمن جاهد في الله حق جهاده، وسعى في إصلاح عباد الله وبلاده، ولمن جمع تلك الفضائل في هذا الكتاب، والغزوات الهائلات الصعاب.
وقائع من بدر آل النبي .... يذكرك النهروان وصفينا
يقول للراوي بها لا تصف .... في تلك من هول وصف فينا
ولما هزه هذا الكتاب طرباً، وملأ أحشاءه عجباً، وتمتع بروحه وريحانه، وارتاح برياضه وجنانه، أخذ القرطاس واليراع، وكتب مع قصور الباع:
يا أيها السفر الذي قد حوى .... ما لم يحزه قبله من كتاب
لله منشيك الذي لم يزل .... يودع في طيك أياً غراب
قد جرت في ذا السفر يا سادتي .... والدهر يأتي أبداً بالعجاب
آمن لآل صيغ أم عسجد .... أم عسل ألفاظه أم رضاب
أم روضة هاتيك أم جنة .... لكل عين ما عليها حجاب
[ق/506]
أم تلك أزهار على دوحة .... أم ذاك تبر أم لجين مذاب
يا نثرها الحالي ويا نظمها .... السعالي ويا جوهر ذاك الخطاب
إن زكاة الحسن قد أجوبت .... عليك لما جرت كم من نصاب
سحرتني أطربتني صرت من .... حسنك حيراناً فما لي جواب
ماذاك نثراً ونظام بلى .... راح بكاسات علاه حباب
فقد حوى أخبار آل النبي .... الأطهار من خصوا بنص الكتاب
كالقاسم المنصور سم العدا .... وفارس الهيجا ليث الضراب
محيي رسوم الدين من بعدما .... أضحت مباينة جميعاً خراب
قام فجلى نوره ظلمه الفحشا .... وأحيا الدين بعد الذهاب
أزال قوماً ما اتقوا ربهم .... ولاخشوا في الحشر سوء الحساب
كم فاحش جاءوا به ظاهراً .... وكم رؤوس أذهبوا عن رقاب
فقام فيهم قاسم قاسماً .... هاماتهم حقاً بماضي الشظاب
مفوض الأمر إلى ربه .... وقابل التوب شديد العقاب
وقام لا يرجو سوى الله رب .... العرش ربي من إليه متاب
وإن مولاك يضل الذي .... يشاء ويهدي من إليه أناب
فصال فيهم مثل ليث الشرى .... كم مرة قد أشرقوا باللعاب
وكم همام أسد باسلٍ .... من نسله أنحب أصلاً وطاب
كالقائم الندب إمام الورى .... محمد الهادي لنهج الصواب
كم جرع الأعداء من غصة .... أبدت أموراً هائلات صعاب
ضاءت به الأقطار وازينت .... وظلت الآفاق طراً رواب
والسادة الأطهار أصناؤه .... كأنهم عن كمل أسد غاب
فاذكر علياً ذا السماحات .... والمقتول ظلماً في زمان الشباب
مع حسن ذي الفخر من .... طبقت شهرته والذكر كل الوطاب
يا حسناً بالعلم سدت الورى .... فتحت من مشكلة كل باب
طهرت أرض الله من مارق .... شردت في الآفاق أهل الكذاب
كذا حسين ذو الحجا من غدا .... لعلم آل المصطفى كالعباب
يخوض بحر العلم طوراً وبحر .... الضرب طوراً قاطعاً للرقاب
[ق/507]
وأحمد ذو الفضل من قرعت .... أعداؤه من فعله كل ناب
ما برحوا يسقون أعداءهم .... كأس المنايا والغصيص الشراب
كم مزقوا في الأرض أعداء دين .... الله بالسمر وخيل عراب
كم حكموا فيهم رماح القنى .... تصميمهم شزراً وكم من سكاب
وسابغات مسردات ومن .... بنادق تصرعنكم من مصاب
وكم جيوش مثل سراب القطا .... حلت ومرت مثل مر السحاب
كم بطل فيهم وكم ضيغم .... يرمي الأعادي أبداً كالشهاب
ما طمع الأعداء فيهم سوى .... ما يطمع الطامي بلمع السراب
وكمل الباري بنور من الآل .... إمام خير داع مجاب
القائم إسماعيل نور الهدى .... والدافع الكرب إذا الخطب ناب
أكرم به من طود علم سمى .... أكرم به من ليث حرب نقاب
لا زال في العالم يحيي به .... ما جاء في السنة أو في الكتاب
ولا أزال الله عنهم بني المنصـ .... ـور يحموا الخلق مما أصاب
هم أهل بيت طاهر لم تزل .... نعماؤهم طوقاً بكل الرقاب
هم سادة سادوا وشادوا منار .... الدين فالأجرهم والثواب
فازوا لدى الرحمن في جنة .... طوبى لهم فيها وحسن المآب
وفاز أعداهم بتخليدهم .... في النار يسقون أشد العذاب
وإن ذا المجد وفخر الهدى .... مطهراً نجل الكرام النجاب
أبقى لهم ذكراً غدا طيباً .... مخلداً في طي هذا الكتاب
وأوضح الإنكار من فخرهم .... فما على أوجهها من نقاب
وألبس العلياء من ذكرهم .... والدين والدنيا ثياباً قشاب
فالله يجزيه ويعطيه في .... الدارين ما يأمله من طلاب
هذا وصلى ربنا دائماً .... على شفيع الخلق يوم الحساب
ما غرد الطير على أيكة .... وما تلى التالون أم الكتاب
حررت في أيام خلافة مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، المتوكل على الله رب العالمين إسماعيل بن أمير المؤمنين حفظه الله آمين.
قال منشي هذه الأبيات: فرغت من إنشاء هذه القصيدة لعشر مضت من شهر [ق/508] ربيع الأول سنة خمسة وستين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل السلام.
ملحق: مؤلفات الإمام القاسم بن محمد
الوصية السنية الزكية
المقنع في علم أصول الدين المطلع على مذاهب العلماء المتكلمين.
مرقاة الوصول إلى علم الأصول.
مستخرج كتاب التفريع.
نبذة في تفسير القرآن.
كتاب ذم الأهواء والأوهام.
بحث في من كمل عقله من الأطفال.
التحذير للعباد من معاونة أهل البغي والفساد.
تفسير القرآن.
الجواب المختار على مسائل عبد الجبار.
جواب السؤالات الصنعانية عن الاختلافات الاعتقادية.
الدرر في معرفة الله سبحانه وتعالى.
طرفة الراغب في الإعراب عن مقدمة ابن الحاجب.
القصيدة المرسومة باستفتاح الفرج.
مرقاة الطلاب إلى علم الإعراب.
أربعون حديثاً في العلماء والمتعلمين.
الإرشاد إلى سبيل الرشاد في طريق أعمال العباد عند فقد الاجتهاد.
أساس الأساس لما يجب تقديمه من صحيح عقائد الأكياس.
الأساس لعقائد الأكياس.
الأساس المتكفل بكشف الإلباس.
أسانيد الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد.
الاعتقاد بحبل الله المتين القاضي بإجماع المتقين.
أبيات في ذم الفتن.
الإجازات في تصحيح الأسانيد والروايات.
بحث في كتاب الشافي وسبب تأليفه.
بغية الطالب وتحفة الراغب في الأحاديث الأربعين المتزعة من أمالي أبي طالب.
القصيدة الفريدة.
الكامل المتدارك في بيان حال الصد في الهالك.
حتف أنف الآفك.
نقل بعض طرق الإمام القاسم في الإسناد.
القصيدة المرسومة باستنتاج الفرج.
جوابات أمير المؤمنين على مسائل الشاك في القرآن.
سؤالات والجواب عليها .
قائمة المصادر والمراجع
أولاً: المخطوطات
1- الجنداري، أحمد بن عبد الله: الجامع الوجيز في وفيات العلماء أولي تبريز، دار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء. رقم (2524).
2- الشرفي، أحمد بن محمد: اللآلئ المضيئة، دار المخطوطات، المكتبة الغربية،صنعاء.
3- عامر، محمد بن عامر: بغية المريد، دار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء ، رقم (1512).
4- القاسمي، يحيى بن علي: بتسمية الإفادة في تأريخ الأئمة السادة، دار المخطوطات، المكتبة الغربية، رقم (1152).
5- ابن لطف الله، عيسى: روح الروح فيما جرى بعد المائة التاسعة من الفتن والفتوح، دار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء رقم (2132).
6- المهلا، الحسين بن ناصر: حسنة الزمان في ذكر محاسن الأعيان، دار المخطوطات، المكتبة الغربية، صنعاء، رقم (1536).
ثانياً: المصادر والمراجع العربية:
1- الإرياني، مطهر علي: المعجم اليمني في اللغة والتراث، دار الفكر، دمشق، سوريا، 1996م.
2- الأكوع، إسماعيل بن علي: الزيدية نشأتها ومعتقداتها، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1993م.
3- الأكوع، إسماعيل بن علي: هجر العلم ومعاقله في اليمن، 5 أجزاء، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1995م.
4- الأكوع، إسماعيل بن علي: البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي،الطبعة الثانية، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، 1988م.
5- الآنسي، عبد الملك بن أنس: إتحاف ذوي الفطن في مختصر أنباء الزمن، تحقيق إسماعيل بن أحمد الجرافي، منشورات جامعة صنعاء، صنعاء، 1981م.
6- أمين، أحمد: ضحى الإسلام، القاهرة، 1979م.
7- أوغلو، أكمل الدين إحسان (وأخرون): الدولة العثمانية تأريخ وحضارة، المجلد الثاني، مركز الأبحاث للتأريخ والفنون والثقافة الإسلامية، استانبول ، 1999م.
8- أوغلو، عبد القادر (وآخرون): السلاطين العثمانية، ترجمة محمد جان، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس ، 1990م.
9- أنيس، د/ إبراهيم (وآخرون): المعجم الوسيط، المجلد الأول، دار المعارف، مصر ، 1972م.
10- د/ البحراوي، أحمد عبد اللطيف: فتح العثمانيين عدن وانتقال التوازن الدولي من البحر الأحمر، دار التراث، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.
11- البخاري، أبي عبد الله بن إسماعيل،صحيح البخاري، دار مطابع الشعب.
12- براود: ك. خ: اليمن في أوائل القرن السابع عشر (مقتطفات من الوثائق الهولندية المتعلقة بالتاريخ الانتصاري لجنوب الجزيرة العربية 1613 - 1630م، شركة أ. ي، بريل، ليدن،1988م.
13- بروكلمان، كارل: تاريخ الأدب العربي (الترجمة العربية)، دار المعارف ، القاهرة، 1959م.
14- البيهقي، أبي بكر أحمد: السنن الكبرى، دار صادر، بيروت، 1346هـ.
15- الجرافي، عبد الله بن عبد الكريم: المقتطف من تأريخ اليمن، مؤسسة دار الكتاب الحديث، بيروت، 1984م.
16- الجرموزي، المطهر بن محمد: تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من غرابة الأخبار، تحقيق عبد الحكيم عبد المجيد الهجري، مؤسسة الإمام زيد الثقافية، الأردن، 2001م.
17- جلي، أحمد محمد: دراسة عن الطرق في تأريخ المسلمين والخوارج والشيعة، الطبعة الثالثة، مركز فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 1998م.
18- الحاكم، الناسبوري: المستدرك على الصحيح، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر، دار الكتب العلمية ، بيروت، 1990م.
19- الحبشي، عبد الله محمد: مصارد الفكر العربي الإسلامي في اليمن، مركز الدراسات والبحوث اليمن، صنعاء، 1978م.
20- ابن حجر، أحمد: لسان الميزان، الجزء الثاني، الطبعة الثالثة، مؤسسة الأعلمي، 1406هـ.
21- الحجري، محمد بن أحم: مجموع بلدان اليمن وقبائلها، تحقيق إسماعيل بن علي الأكوع، مجلدين، دار النفائس، بيروت، 1984م.
22- الحسيني، السيد أحمد: مؤلفات الزيدية، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1413م.
23- حنبل: أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل، دار صادر، بيروت.
24- د/ خليل، إبراهيم: تاريخ الوطن العربي في العهد العثماني، (1516-1916م)، جامعة الموصل، العراق، 1403هـ/ 1983م.
25- أبو داود، سليمان بن الأشعث: سنن أبي داود، شرح وتحقيق الدكتور السيد محمد سيد (وآخرون)، دار الحديث، القاهرة، 1999م.
26- ابن الديبع، عبد الرحمن بن علي: الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد، تحقيق الدكتور يوسف شلحد، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 1983م.
27- راشد، أحمد: تاريخ اليمن وصنعاء، ترجمة حمدي إبراهيم عبد الرحمن، العراق، 1292هـ.
28- د/رافق، عبد الكريم: بلاد الشام ومصر من الفتح العثماني غلىمجلة نابليون بوتايرت (1516-1798)، الطبعة الأولى، دمشق، 1967م.
29- زبارة، محمد بن علي: ملحق البدر الطالع، دار المعرفة، بيروت.
30- زبارة، محمد بن علي: نبلاء اليمن في القرن الثاني عشر للهجرة (نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف)، الطبعة الثانية، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 1985م.
31- الزركلي، خير الدين: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت،1984م.
32- أبو زهرة، محمد: دائرة المعارف الإسلامية، الجزء الثالث، الطبعة الثالثة، درا الشعب.
33- أبو زهرة، محمد: تأريخ المذاهب.
34- سالم، د/ سيد مصطفى: المؤرخون اليمنيون في العهد العثماني الأول (1538-1635)، المطبعة العالمية، القاهرة، 1971م.
35- سالم، د/ سيد مصطفى: الفتح العثماني الأول لليمن (1538-1635)، الطبعة الثالثة، مطبعة الجبلاوي، القاهرة، 1978م.
36- السالمي، محمود: محاولة توحيد اليمن بعد خروج العثمانيين الأول (1045-1097هـ/1635-1685). (الدولة القاسمية)، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، دمشق، سوريا، 2000م.
37- السبيطلي، د/ محمود: الصراع الدولي في البحر الأحمر الدولة العثمانية والأئمة في تأريخ اليمن الحديث ، صنعاء، 1998م.
38- السيد، د/ أيمن فؤاد: مصادر تأريخ اليمن في العصر الإسلامي، المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة، 1974م.
39- الشامي، أحمد: تأريخ اليمن الفكري في العصر الإسلامي، الجزء الأول.
40- شرف الدين، أحمد حسين: تاريخ اليمن الثقافي، الجزء الرابع، مطبعة المحمدية،1967م.
41- شرف الدين، أحمد حسين: دراسات في أنساب قبائل اليمن، الطبعة الثانية، الرياض، السعودية، 1981م.
42- الشكعة، د/ مصطفى: إسلام بلا مذاهب، الطبعة الثالثة، 1979م.
43- الشناوي، د/ عبد العزيز محمد: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مكتبة الإنجلو المصرية، القاهرة، 1997م.
44- شهاب، حسن صالح: عدن فرضة اليمن، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 1990م.
45- الشهرستاني، أبو الفتوح محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، 1981م.
46- الشوكاني، محمد بن علي: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، تحقيق الدكتور حسين بن عبد الله العمري، دار الفكر، دمشق، سوريا، 1419هـ/ 1998م.
47- صابات، د/ سهيل: المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية، مكتبة فهد الوطنية، الرياض، 1421هـ/2000م.
48- صبحي، د/ أحمد محمود: المذهب الزيدي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1981م.
49- الصنعاني، عبد الرزاق: مصنف عبد الرزاق، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب الإسلامية، بيروت، 2000م.
50- ابن أبي طالب (الإمام)، علي: نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمد عبده، دار التعاون، بيروت.
51- الطبراني، سليمان بن أحمد: الجامع الكبير، بغداد- العراق .
52- عبد الباقي، محمد فؤاد: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الطبعة الثالثة، درا الفكر.
53- العرشي، حسين أحمد: بلوغ المرام في شرح مسك الختام في من تولى اليمن من ملك وإمام، نشرها وحققها الأب، انستاس ماري الكرملي، مطبعة البرتيري، القاهرة، 1939م.
54- عطية الله، أحمد: القاموس الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1970م.
55- عفيف،أحمد جابر (وآخرون): الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، 1412هـ/1992م.
56- العمري، د/ حسين بن عبد الله: مصادر التراث اليمني في ……………… …المتحف البريطاني، دمشق، …………………1980م، دار المختار.
57- ،، ،، ،، : مائة عام من تأريخ اليمن الحديث، ……………… دار الفكر،دمشق، 1984م.
58- ،، ،، ،، : تاريخ اليمن الحديث والمعاصر (1516-1918م)، دار الفكر، ط2. دمشق، 1999م.
59- الغالبي، سلوى سعد:الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ودوره في توحيد اليمن، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 1411هـ/ 1991م.
60- أبو غانم، د/ فضل علي: القبيلة والدولة في اليمن، مطابع الكتاب المدرسي، صنعاء.
61- القاسم، محمد بن علي: الاعتصام بحبل الله المتين وحرمة التفرق في الدين، تحقيق يحيى عبد الكريم الفضيل، المجلد الأول، مطابع الجمعية العلمية الملكية، عمان، الأردن، 1403هـ/1983م.
62- القاسم، محمد بن علي: الأساس لعقائد الأكياس، تحقيق البير نصرناد، دار الطليعة للنشر، بيروت، 1980م.
63- القاسم، يحيى بن الحسين: غاية الأماني في أخبار القطر اليماني، تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور، الجزء الثاني، دار العربي، 1388هـ/1968م.
64- القاسم، يحيى بن الحسين:رسائل العدل والتوحيد، تحقيق محمد عمارة، دار الهلال، القاهرة، 1971م.
65- الكبسي،محمد بن إسماعيل: اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية، الطبعة الأولى، مطبعة دار السعادة.
66- كحالة، عمر رضا: معجم المؤلفين، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
67- لقمان، حمزة علي: تأريخ القبائل اليمنية، دار الكلمة، صنعاء، 1985م.
68- ابن ماجه، أبي عبد الله محمد: سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث،بيروت، 1985م.
69- ماكرو، أريك: اليمن والغرب،تعريب د/ حسين بن عبد الله العمري، دمشق، 1978م.
70- المتوكل، إسماعيل بن أحمد: مختصر طيب أهل الكساء، تحقيق عبد الله الحبشي، مطابع المفضل، صنعاء، 1990م.
71- المحبي، محمد أمين: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، الجزء الثالث، بيروت، دار صادر.
72- المحبي، محمد أمين:نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة، تحقيق عبد الفتاح الحلو، الجزء الثالث، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1388هـ/1968م.
73- محمدي، كاظم: (وآخرون): المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، دار الأضواء، بيروت، 1989م.
74- المداح، أميرة: العثمانيون والإمام القاسم بن علي في اليمن (1006-798هـ/1029-1620)، دار تهامة، جدة، 1982م.
75- المقبلي، صالح بن مهدي: العلم الشامخ في تفضل إيثار الحق على الآباء والمشائخ، الطبعة الثانية، المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع، صنعاء، 1985م.
76- المقحفي، إبراهيم أحمد: معجم البلدان والقبائل اليمنية، مجلدين، دار الكلمة للطباعة والنشر، صنعاء، 1422هـ/2002م.
77- مصطفى، غالب: تاريخ الدعوة الإسماعيلية، الطبعة الثالثة، دار الأندلس.
78- الموزعي، عبد الصمد بن إسماعيل: الإحسان في دخول مملكة اليمن تحت ظل عدالة آل عثمان، تحقيق عبد الله المحبشي، منشورات المدينة، صنعاء.
79- النود، وليد عبد المجيد: قيام الدولة الإمامية في اليمن(قيام الدولة الإمامية القاسمية 1006هـ/1054هـ/1597-1644)، رسالة ماجستير لم تنشر، كلية الآداب، جامعة صنعاء، 2001م.
80- نورس، د/ علاء: دراسات تأريخية عثمانية، دار الفكر المعاصر، صنعاء 1998م.
81- النهرواني، قطب الدين محمد: البرق اليماني في الفتح العثماني (تأريخ اليمن في القرن العاشر الهجري مع توسع في أخبار غزوات الجراكسة والعثمانيين لذلك القطر)، دار اليمامة.
82- الهاروني، أحمد بن الحسين: الأمالي الصغرى، تحقيق عبد السلام الوجيه، دار التراث، صعدة، 1414هـ.
83- الهمداني، الحسن بن أحمد: صفة جزيرة العرب، تحقيق محمد ………………بن علي الأكوع، مركز الدراسات ………………والبحوث اليمن، صنعاء، 1986م.
84- ،، ،، ،، : الإكليل، الجزء الثاني، تحقيق محمد بن علي الأكوع، القاهرة، 1963م.
85- الواسعي، عبد الواسع بن يحيى: تأريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث تأريخ اليمن، الطبعة الثانية، مكتبة اليمن الكبرى، صنعاء، 1991م.
86- ويستفلد، ف: جداول السنين الهجري بلياليها وشهورها بما يوافقها من السنين الميلادية بأيامها وشهورها، ترجمة أ.د/ عبد المنعم ماجد، مكتبة الإنجلو المصرية، القاهرة.
ثالثاً: الدوريات
1- الجنيد، د/ عبد الله حامد: المطهر بن محمد الجرموزي ومؤلفاته عن الدولة القاسمية، مجلة المؤرخ العربي، العدد الثامن، الأمانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب، بغداد.
2- العمري، د/ حسين بن عبد الله: صنعاء في مرآة الغرب، مجلة الإكليل، العدد الثالث، السنة الثانية، مطابع ألف باء، دمشق، 1403هـ / 1983.
رابعاً: المراجع الأجنبية
1- ROBERT.L.PLayfair:Ahistory oF Arabia Felix , or yemen
Amestram philopers.st , Leonatds. 1970.
2- SERGEANT, R. B. LEW O K . R: SAN A'A AN Arabain Islame ity, WORLD OF ISLami Festival Trust , London , 1983.
3- SERGEANT, R. B: The Poruquese OF South Ara bian oas, Lebanon , 1974.
4- TRITON , A. S: IMAMS OF SANA A , OXFord University Press , Lonaon , 1925