الكتاب : المنتخب |
بسم الله الرحمن الرحيم(1) (1/1)
باب معرفة الأصول
فكان أول ما سألته عنه: أن قلت له: أيها الإمام رضي الله عنك، ما تقول في أول ما افترض الله على خلقه، ما هو؟
فقال: أول ما افترض الله على خلقه: معرفته.
قلت: وما أصل معرفته؟
قال: أصل معرفة الله: توحيده.
قلت: وما كمال معرفة توحيده؟
قال: نفي جميع صفات التشبيه له.
قلت: فبين لي كيف نفي التشبيه عن الله؟ بكلام موجز مختصر.
قال: نعم، إن شاء الله، اعلم وفقك الله، أنَّه لم يتوهم المتوهمون، ولم يتمثل في عقولهم مثل صفة ذات الله إلاَّ كان الله بخلاف ذلك الذي يتوهمه المتوهمون، أو يتمثل في عقولهم، والشَّاهد بذلك والدَّال عليه قول الله تبارك وتعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}[ ]، فافهم هذا، فلك فيه كفاية.
قلت: ثُمَّ ما بعد هذا؟
قال: أن تعلم أنَّه العادل في جميع أفعاله.
قلت: ثُمَّ ما بعد هذا؟
قال: أن تعلم أنَّه لا يخلف الوعد والوعيد، فهذه الكلمات تفرع لك جميع ما تحتاج إليه من معرفة ربك، فافهمها وتدبرها.
قلت: قد فهمت، فما بعد هذا؟
قال: معرفة إثبات النبوءة، من أين ثبتت.
قلت: فبين لي ذلك؟
قال: اعلم أن الله عز وجل لما خلق الخلق جعل فيهم عقولاً هي الحجج له عليهم، ركَّبها فيهم ودلهم بها عليه بآثار صُنْعه فيهم، وفي جميع ما خلق، ولم يكن عز وجل مشافهاً لهم فيما أراد من الأمر والنهي؛ لأن المشافهة ليست من صفاته، فكان الخلق محتاجين مضطرين إلى من يشافههم بما أراد الله منهم.
فلما علم الله ذلك من حاجة الخلق، وأنه لا بد لهم ممَّن يشافههم ويقيم الأحكام فيهم، أرسل الأنبياء حججاً عليهم، ولو لم يرسل الرسل لكان للخلق حجة، كما قال الله تبارك وتعالى ـ لعلمه بمنابذة المنابذين وكلام المتعنتين ـ: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}[ ]، ولقولهم هم: {ما جاءنا من بشير ولا نذير}[ ]، فأرسل الله تبارك وتعالى رسله حججاً على خلقه، لِمَا علمه من حاجة الخلق إليهم وأنهم لا بد لهم منهم، فهذا لك فيه كفاية. (1/2)
قلت: قد فهمتُ إثبات النبوة، فما بعد ذلك؟
قال: معرفة الأئمة، والقول بهم، ومن أين ثبتت الإمامة.
قلت: بيِّن لي ذلك وأوجزه لي في كلام يسير حتَّى أفهمه؟
قال: قد قدمت لك جواب ذلك، أن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه رَكَّب فيهم عقولاً، ولم يكن مشافهاً لهم، فاحتاج الخلق إلى من يشافههم، فأرسل الرسل فكانت الرسل حججاً، ثُمَّ من بعد الرسل الإمام الذي يقوم مقام الرسول المختومة به الرسل، لا يجهل من أفعاله وأحكامه شيئاً، فمن كان بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصفة فهو الإمام، وقد شهدت الأمة بأسرها فيما نقله الناقلون من الأخبار أنَّه لم يكن بعد رسول الله بهذه الصفة إلاَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه.
قلت: وكيف شهدت الأمة بأسرها لعلي بذلك؟
قال: أجمعوا فيما رووه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه: <أُبَيٌّ أقرؤكم، وزيد أفرضكم، وعلي أقضاكم>(1)، فجمع القضاءُ القرآنَ والفرائضَ وجميع الأحكام، ورووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <علي مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبي بعدي>(2)، فدل صلى الله عليه وآله وسلم بقوله هذا أن عليّاً خليفته في جميع أموره، كما كان هارون خليفة موسى في جميع أموره.
وأجمعوا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخا بين المسلمين، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين طلحة والزبير، وبين سعد وسعيد، وغيرهم من المسلمين، فقال علي يا رسول الله آخيت بين المسلمين وتركتني، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : <يا علي أما ترضى بأن أكون أنا أخاك>(1). فآخاه، فكان علي أخاه. (1/3)
وكذلك روى كادح بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <يا علي أنت أخي ورفيقي في الجنة>(2).
وكل ذلك من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فدلالة على علي ٌّ ، وله بأنه الإمام من بعده، فافهم هذا.
وكذلك إشارته صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحسن والحسين في قوله: <هما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما والمهدي من ولدهما(3)>، وكذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة وقد عادته في مرضه ـ في حديث طويل ـ : <ومنا ـ والذي نفس محمد بيده ـ مهديُّ هذه الأمة>(4)، كل ذلك من محمد دلالة على أن الإمامة في أهل بيته في ولد فاطمة، وقد بينا وشرحنا أن الإمام من ولد فاطمة، الباذل نفسه، الشاهر سيفه، والداعي إلى كتاب ربه، القوي في الله، الأمين على أحكام الله وأمواله، الورع في دينه، فهذه معرفة الإمامة فافهمها.
قلت: ثُمَّ ما بعد هذا؟
قال: البحث والنظر في الحلال والحرام في جميع الدين.
[الإستأذان في السؤال عن مسائل الحلال والحرام، واشترط الهادي السؤال عن الدليل]
قلت: فإني قد فهمت ما أجبتني به في التوحيد وإثبات النبوة والإمامة، وأنا أريد أن أسألك عن أصول الحلال والحرام في جميع الفقه، فإني قد وطأت علوم العامة وعلوم عامة الخاصة، فوجدتهم مختلفين كما ذكرت لك؟
فقال لي: إذا كنت قد قدمت النية في طلب العلم وفرغت قلبك للمسائل عن الحلال والحرام فافهم ما أقدمه لك من الشرط فيما تسألني عنه.
قلت: نعم، إن شاء الله أن أجمع همي في ذلك.
قال: فلا تقبل مني جواب مسألة أنبئك عنها أو أجيبك فيها بتقليد ولا اتكال على ما تعرفه ممَّا قد خصني به في العلم ربي دون أن تسألني عن الحجة وحجة الحجة حتَّى ينتهي بك ذلك إلى أصول المعرفة الَّتِي لا يجوز لأحد أن يجاوزها(1). (1/4)
فقلت: وما أصول المعرفة الَّتِي لا ينبغي لأحد أن يجاوزها عند بلوغها؟
فقال: هي المعاني الَّتِي مَنْ طلب مجاوزتها خرج إلى حد المكابرة والبلادة وإلى طلب جواز ما أوقفه الله عليه ومنعه من التجاوز له.
قلت: وما ذلك الذي منع الله العباد عن مجاوزته؟
قال: هو ما رضيه لهم وأوقفهم عليه، وجعله منتهى حججهم، وغاية مناظرتهم، فجعله شاهداً لمن استشهد به، وقائلاً بالحق لمن سأله، وناطقاً بالصدق لمن صدَّقه، فمن جاوزه بعد معرفته فقد خرج إلى حد الجهل، وقصر عن حد العلم، فصار طالباً لما لا يجده، ومستشهداً لغير العدل من شهوده، ومن كان كذلك وصار إلى شيءٍ من ذلك فقد ارتطم في بحور الجهالات، وخرج إلى غاية المنكرات، وعدل عن الطَّرق البَيِّنات، وصار طالباً لغير ما جعل الله، وقاصداً لغير ما افترض الله، وباغياً للهدى من حيث لم يجعله الله، ومن طلب الهدى من غير هدى الله ازداد عمىً، ولم يزل يخبط في الكُمْهِ(2) والرَّدى.
قلت: وما ذلك الذي تذكر وتشرح وتزعم أنَّه حَدٌّ حدَّه الله وأوقف عباده عليه، من طلب أن يجوزه لم يقدر، ومن تناول سواه لم يظفر؟
فقال: هي الثلاثة الأصول الَّتِي جعلها الله حجة على خلقه لا ينفك الحق منها، ولا يخرج أبداً عنه، وهي:
1ـ كتابه الناطق.
2ـ والإجماع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مما جاء به عن الله عز وجل.
__________
(1) ـ كأنه يقول: لا تعتمد على علمي وذكائي، وتقول: ما دام الهادي قد توصل إلى أن المسألة هكذا وهو صاب علم وذكاء فهو أدرى ولا ولا فائدة في معرفة الدليل.
(2) ـ الكمه، هو: العمي.
3ـ وحجة العقل الَّتِي رَكَّبها الله في صدور العالمين، لتدلهم على رب العالمين، وتهديهم إلى فرائض الدين، ويثبت ما اختار الله لهم من الحق واليقين، وتزيح عنهم المعاني الباطلات، وتدفع الريب عن الفِكَر الجايلات في القلوب والمخلوقات المركبات. (1/5)
وإذا سألت عن شيءٍ من أمر الحلال والحرام، فاجعل ذلك لله تبارك وتعالى خالصاً لا تشوره برياء ولا طَلِبة رياسة، فإن ذلك أجزل لثوابك، وأكثر لتَفَجُّرِ ينابيع الحكمة من قلبك، واستقص في مسائلك كما أطلقتُ لك وأمرتك، وإلى ذلك ندبتك، فإني مجيبك عما تسأل عنه، فسل عمَّا بدا لك إن شاء الله تعالى.
مسائل الوضوء
[أدب قضاء الحاجة]
قلت: فما تقول أيها الإمام رضي الله عنك في الرجل إذا دخل المخرج، كيف يقول؟
قال: يقول: بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الرِّجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم.
قلت: فإذا جلس للبول أو لغائط، هل يستقبل القبلة أو يستدبرها؟
قال: لا.
قلت: وما يضره من ذلك، وما عليه فيه؟
قال: مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما قال.
قلت: وما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك؟
قال: روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، شرقوا أو غربوا>(1).
قلت: فإن قال قائل: هذا حديث لا ندري أيصح أم لا، ما نقول له؟
قال: نقول: إن الحديث صحيح، والقرآن يؤكده ويصححه.
قلت: وأين نجد ذلك في القرآن؟
قال: قول الله تبارك وتعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها}[ ]، فولاه الله تبارك وتعالى قِبْلَة رضيها له وعظمها في القرآن، وأمره بها، فيجب على المسلمين تعظيمها مكا عظمها الله، ولا يستقبلوها بغائط ولا بول، ولكن يشرقون عنها ويغربون، تعظيماً لها وتنزيهاً.
قلت: فإذا فرغ من حاجته، ما الذي يعمل؟
قال: يجب له أن يتمسح قبل أن يقوم بأحجار، ثُمَّ يقوم ويستر عورته، وكذلك عن جلوسه أُحِبُّ له ذلك، فإذا قام تنشف من البول تنشفاً بحجر أو بجدار حتَّى يعلم أنَّه قد استبرأ. (1/6)
قلت: فإن لم يطل التنشف؟
قال: الماء يقطع البول، وكذلك روي عن علماء آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتنشف أحب إليَّ.
[المياة الصالحة للطهارة، وإقام الغسل]
قلت: فإنه تنشف ثُمَّ أتى إلى الموضع الذي يتوضأ فيه، وفيه طهوره في سطل أو مركن(1)، فغمس يده قبل أن يغسلها؟
قال: إن كان لم يصبها شيء من الأقذار فلا بأس بذلك، والغسل على حال أوكد وأحب إليَّ.
قلت: فإنه كان جنباً فأدخل يده في الإناء الذي فيه الطهور، ولم يغسلها؟
قال: قد نجس الماء بنجاسة يده.
قلت: فيهرق الماء ويجدد غيره؟
قال: نعم.
قلت: فإنه لم يكن جنباً، ولكنه غسل يده وأدخلها، ولم يذكر اسم الله عند إدخاله يده في الإناء؟
قال: يجزيه ذلك؛ لأن اعتقاده ملةُ الإسلام، وليس ذلك بأعظم من الذبيحة لو نسي عليها التسمية.
قلت: فإن الماء الذي أراد أن يتطهر به كان قد وقع فيه قطرة مقدار وزن دانق(2) أو أقل من ذلك، أو أكثر بشيء يسير خمراً، واتهم أنَّه تنضح فيه قطرة من بول أو قطرة من دم؟
قال: إذا تيقن ذلك يقيناً أنَّه قد خالط الماء شيء من ذلك، قل أو كثر، لم يجز له أن يتوضأ بذلك الماء.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن الله حرم قليل ذلك وكثيره، فإذا وقع في الماء القليل شيء من ذلك لم يجز التطهر به.
قلت: فإنه وقع في الماء الذي أراد أن يتطهر به شيء من بول بغل أو حمار أو كلب أو فرس أو ثور أو شاة أو شيء من البهائم؟
قال: أما بول جميع ما أكل لحمه فلا ينجس الماء لطهور ولا لشُرب، وأما ما كان من البهائم لا يؤكل لحمه فبوله نجس، لا أرى الطهور بما وقع فيه منه شيء.
قلت: وكذلك أيضاً سور الحمار وما أشبهه من البهائم الَّتِي لا يؤكل لحمها؟
__________
(1) ـ المركن: إناء.
(2) ـ الدانق: وزن سدس درهم فضة.
قال: إذا وجد في الماء من لعابها شيء قد خالط الماء لم أحب أن يتطهر به، وإذا كثر الماء لم يضره، ولم ينجسه شرب الدواب الَّتِي لا يؤكل لحمها. (1/7)
قلت: فهل يتطهر بماء البحر؟
قال: نعم، هو الطهور ماؤه، لا اختلاف عند علماء آل الرسول عليهم السلام في ذلك.
قلت فإن رجلاً أصابته جنابة ومعه مائة رطلٍ ماء وردٍ أو أكثر أو أقل، هل يجزيه أن يغتسل به؟
قال: ليس ماء الورد من ماء الطهور في شيء، ولا يجوز الغسل به، وإنَّما عليه التيمم.
قلت: فإن الجنب لم يجد إلاَّ ماء عُصْفُرٍ، أو ماءً فيه زعفران، أو ماء مستعملاً بمعنى من المعاني، هل يغتسل به أو يتوضأ للصلاة إذا لم يكن جنباً إن لم يجد ماء غيره؟
قال: لا يجزي في الطهور والغسل من الجنابة إلاَّ ماء القراح وإلاَّ فالتيمم بالصعيد.
قلت: ولِمَ لا يجوز؟
قال: لقول الله تبارك وتعالى: {فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً}[ ] والماء الذي أمر الله بالطهور به فهو ماء القراح الذي لا يخالطه شيء من غيره، فيغلب عليه اسمه.
قلت: بيِّن لي ذلك؟
قال: نعم، ألا ترى أنك تقول: ماء عصفر، وماء ورد، وماء زعفران، فلم تفرد الماء لعلة ما خالطه وغلب عليه.
قلت: وكذلك لو أن الماء القراح وقع فيه شيء من الأشربة، مثل السكنجين أو الجلاب(1) أو اللبن أو ما أشبهه؟
قال: نعم، قد قدمنا لك الجواب في ذلك كله، ما غلب عليه اسمٌ غير اسم الماء، فليس لأحد أن يتطهر به.
قلت: فمثل الغدير والبير والوقيعة(2) وما أشبه ذلك، وكذلك الإناء مثل الجرة أو القربة وما أشبهه من الآنية؟
قال: كل ما تغير لونه أو طعمه أو ريحه مما وقع فيه كائناً ما كان من الميتة والأدران لم يتوضأ به، فأما إذا لم يتغير للماء طعم ولا لون ولا ريح مما وقع فيه مما ذكرنا من ميتة أو غيرها جاز الطهور به؟
قلت: فإنه لم يجد إلاَّ هذا الماء؟
__________
(1) ـ الجلاب: ماء الورد. معرب.
(2) ـ الوقيعة: الحفرة في الجبل أو السهل يستنقع فيها الماء.
قال: يتيمم، ولا يتطهر به. (1/8)
قلت: فإن جنباً لم يجد ماء إلاَّ في بئر، ولم يكن معه دلو ينزع بها ولا إناء يغرف به، هل يغتسل في جوف البئر؟
قال: نعم يجزيه ذلك إن كان ماؤها حاملاً.
قلت: وكيف يكون الماء حاملاً؟
قال: كثيراً لا يُقْدَر على نزفه من البير حتَّى لا يبقى منه شيء، فإذا كان الماء في البئر كذلك اغتسل الجنب فيها.
قلت: فإن اغتسل هذا الجنب في البئر غمسة حتَّى غمره الماء، وكذلك إن اغتمس في نهر أو غدير ولم يعرك بدنه بيديه(1)، ثُمَّ خرج فتطهر وصلى؟
قال: أرى أن ذلك لا يجزيه لاغتسال الجنابة، ولا ينقى المغتسل من الجنابة حتَّى يدلك جميع بدنه وأرفاغه، ويبلغ مواضع الشعر من جسده، حتَّى يصل الماء إلى غامض شعره.
قلت: فتوجب على هذا إعادة الغسل؟
قال: نعم.
قلت: فإن الجنب اغتسل ولم يَبُل هل يجزئه؟
قال: لا.
قلت: فإن صلى هل توجب عليه إعادة الغسل والصلاة؟
قال: نعم، إذا لم يبل الجنب لم ينق، ولم يزل في إحليله بقية من الجنابة.
قلت: فإن هو بال وأراد الغسل، هل يبدأ بالطهور للصلاة قبل غسله أو يؤخره إلى بعد الغسل؟
قال: قد قال غيرنا أنَّه يبدأ بالوضوء، وأخطأ في ذلك؛ لأن الطهور إنَّما يكون على طهارة الجسم، فأما إذا أمَرَّ يده على بدن جنب لم يكن ذلك طهوراً.
قلت: وكيف يعمل؟
قال: إذا اغتسل ونقى وتنظف توضأ بعد ذلك بالماء للصلاة، فهذا أحب إلينا.
قلت: فصف لي الطهور كيف هو؟
[الاستنجاء]
__________
(1) ـ في (أ) بيده.
قال: ينبغي للمتطهر أن يبدأ فيغسل كفه اليمنى فيُنْقيها، ثُمَّ يدخلها في الإناء، ثُمَّ يسمي، ثُمَّ يأخذ بكفه ماءً فيصب على يده اليسرى ويغسلها وحدها حتَّى ينقيها أيضاً، ثُمَّ يأخذ بيده اليمنى فيصب على يده اليسرى ثُمَّ يعركهما جميعاً غسلاً، ثُمَّ يأخذ بيده الينى فيصب على فرجه الأعلى ويغسله بيده اليسرى حتَّى ينقيه، ثُمَّ يحدر بيده اليسرى إلى فرجه الأسفل، ثُمَّ يأخذ بيده اليمنى فيصب على يده اليسرى وهو ينقي فرجه الأسفل إن كان خرج من الغائط فينبغي له أن يتفحج قليلاً ويرفع رجله اليسرى على صدرها ثُمَّ ينقي بأصبعه الوسطى من يده اليسرى ما يمكنه من داخل فرجه من الأقذار، وهو كلما فعل ذلك صب على يده اليسرى الماء ثُمَّ دلكها ونَظَّفها، ثُمَّ أعاد حتَّى ينقي جميع ما ثَمَّ من الأقذار، فإذا تيقن أنَّه قد أنقى ذلك، غسل بالماء جميع مَرَاقّ ذلك الموضع من الفرج الأعلى والأسفل، فإذا فعل ذلك فقد أتم الاستنجاء. (1/9)
قلت: فالاستنجاء فريضة من فرائض الطهور؟
قال: نعم، أكبر فرائض الطهور.
قلت: فإن العامة تروي في الأخبار أن الاستنجاء ليس من فرائض الطهور(1)؟
قال: قد رووا ذلك، وهذه الرواية مضادة لكتاب الله، ونقض لما أمر الله به.
قلت: وأين أمر الله به في كتابه؟
قال: قوله تبارك وتعالى في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمت إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيدكم إلى المرافق}، إلى قوله سبحانه: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً}[ ]، فدل بقوله سبحانه: {أو جاء أحد منكم من الغائط}، أنَّه قد أمر بالاستنجاء عند وجود الماء من الغائط، فافهم ذلك فإن فيه من نص كتاب الله بطلان ما قال به غيرنا من أن الاستنجاء ليس بفرض.
[الوضوء]
قلت: قد فهمت ما ذكرت من وجوب فرض الاستنجاء، فبين لي ما بعده؟
__________
(1) ـ حيث قالوا: إنَّه يكفي التمسح بالأحجار، وروو في ذلك ثلاث أحجار ينقين المؤمن.
قال: إذا استنجى المتطهر، كما شرحت لك، تمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً ثلاثاً من غَرْفة واحدة. (1/10)
قلت: هل يزيد غرفة أخرى أو أكثر؟
قال: لا بأس بذلك.
قلت: فالمضمضة والاستنشاق، فرض من فرائض الطهور، أو سُنَّة؟
قال: فرض من الله نَصٌّ في كتابه.
قلت: وأين فرضهما في ذلك؟
قال: قوله تبارك وتعالى: {فاغسلوا وجوهكم}، فالأنف والفم قد أجملهما من الوجه، ويؤكد ما قلنا أيضاً إجماع علماء أهل بيت محمد عليهم السلام بأسرهم، أن جنباً لو اغتسل ولم يتمضمض ويستنشق لم يكن له صلاة، فعلمنا عند ذلك أنهما من فرض الطهور.
وأما من قال: إنهما سنة بَيِّنة، فهي سنة الله الَّتِي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه وعلَّمه إيَّاها، ولم يخترعها محمد صلى الله عليه وآله وسلم اختراعاً كما قال الجاهلون بمعاني السنة، فجعلوها من محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون الله.
قلت: قد فهمت ذلك، فما بعد المضمضة والاستنشاق؟
قال: غسل الوجه.
قلت: كيف نغسله؟
قال: يحمل الماء بكفيه، فيغسل وجهه ثلاثاً.
قلت: فأين حَدُّ الوجه؟
قال: مَقَاصُّ الشعر.
قلت: فإن جاز الذي يغسل وجهه مقاصَّ الشَعر، هل يكون متعدياً لما أمر الله به من حد الطهور؟
قال: لا.
قلت: وكيف وقد حددت الوجه، وإنَّما ذكر الله غسله؟
قال: لأن المتوضئ إنَّما يعتقد غسل الوجه الذي أمر الله به، أرأيت لو غسل في وقت كل صلاة وجهه ورأسه وعنقه غسلاً، أكان عند الله متعدياً إذا اعتقد قبل غسل رأسه ووجهه وعُنُقه أنَّه يريد غسل الوجه الذي أمره الله به لطهوره؟
قلت: لا.
قال: وكذلك أيضاً لو غسل لكل وقت صلاة كل جسمه، وتطهر للصلاة، أكان في ذلك مذموماً؟
قلت: لا.
قال: فافهم ذلك.
قلت: فإذا غسل وجهه ما يعمل بعد ذلك؟
قال: يغسل ذراعيه إلى المرفقين، كما قال الله.
قلت: وأين المرفقان، وحَدُّهما؟
قال: العظم الناتئ، وهو المفصل ما بين العضد والذراع، فيغسل ذلك ثلاثاً ثلاثاً.
قلت: فإذا فعل ذلك فما يعمل؟
قال: يمسح رأسه. (1/11)
قلت: كيف؟
قال: يأخذ الماء بيده، ثُمَّ يريقه من كفيه، ثُمَّ يمسح رأسه كله مقدمه ومؤخره وجوانبه وأذنيه باطنهما وظاهرهما ثلاثاً.
قلت: فإن مسح بعض رأسه، هل يجزيه ذلك؟
قال: لا.
قلت: فإن صلى بذلك، أتوجب عليه إعادة الصلاة؟
قال: نعم.
قلت: ولِمَ ذلك، وقد جاءت الروايات أن ذلك جائز؟
قال: قد جاءت في ذلك روايات مكا ذكرت، وليس بصحيحة؛ لنها لا توافق كتاب الله.
قلت: وكيف لا توافق كتاب الله؟
قال: لأن الله يقول: {وامسحوا برؤوسكم}[ ]، فجمع كُلَّ الرأس في قوله: {وامسحوا برؤسكم}، فلم يجعل في ذلك بعضاً، ولم يحدد كما حَدَّدَ في اليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين، وليس بعض الرأس ككله، فمن مسح بعضه لم يأت في الطهور بما أمر الله به.
قلت: قد فهمت، ثُمَّ ما يعمل بعد ذلك؟
قال: يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ثلاثاً باطنهما وظاهرهما غسلاً نقياً، يفرغ عليهما الماء إفراغاً، ويخلل بين أصابعهما، وكذلك يخلل اليدين.
قلت: فأين الكعبان، وحدُّهما؟
قال: العظمان الناتئان ، وهو مفصل الساق من القدم.
قلت: فإن مسحهما ولم يغسلهما، هل يجزيه؟
قال: لا، حتَّى ينقيهما بالماء جميعاً إلى الكعبين، كما قال الله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين}[ ]، ولو كان معنى قوله هذا في المسح دون الغسل لكان يجب مسحهما كلاهما جميعاً باطنهما وظاهرهما؛ لن قوله: {وأرجلكم}، عموم لكل الرجلين فعلمنا أن معنى قوله: {وأرجلَكم} بالنصب، إنَّما أراد بذلك الغسل ولم يرد المسح، فافهم ما شرحنا لك في ذلك فلك فيه كفاية وثبات.
فهذا الوضوء التام الذي جاء به الخبر الصَّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان يتوضأ كذلك.
[مسائل متفرقة للوضوء]
قلت: فإنه تمضمض واستنشف مرةً مرةً، وغسل وجهه مرةً، وكذلك ذراعيه، ومسح رأسه وغسل رجليه، كل ذلك مرةً مرَّةً أو مرتين مرتين؟
قال: يجزيه إذا أسبغ الوضوء بالماء، الثلاث أفضل، كما قال محمد صلى الله عليه وآله وسلم: <الثلاث طهوري وطهور الأنبياء من قبلي>(1). (1/12)
قلت: فإنه لما توضأ للصلاة وأراد أن يقوم يصلي ثُمَّ رَعُفَ أو كان به دملٌ وبثرة فسال منهما شيء؟
قال: يعيد الطهور.
قلت: أيبتدئ الطهور بالاستنجاء أم يجزيه من موضع الجارحة الَّتِي حدث منها الحدث؟
قال: إذا كان شيء مما ينقض الطهور مثل سيل الدمل أو البثرة أو الرعاف أو القيء أو الريح أو المذي أو الدود يخرج أو ما أشبه ذلك أعاد منه الطهور من أوله ابتداءً.
قلت: فإنه لما توضأ للصلاة أخذ من شعره أو قلم أظفاره أو حلق شاربه أو ما أشبه ذلك؟
قال: يُمِرُّ على أثر ذلك الذي أخذه الماء، وأجزأه ذلك عن الإعادة للطهور.
قلت: فإنه لما توضأ سها، فَشَكَّ في غسل ذراعيه من أين يعيد الوضوء؟
قال: من حيث شك.
قلت: وكذلك لو شك في غسل رجليه وتيقن أنَّه قد أسبغ ما سوى ذلك بالوضوء؟
قال: يغسل رجليه، ويجزيه.
قلت: ولو كان قد جف ويبس من الطهور؟
قال: كذلك وقد كرهه غيرنا.
قلت: فإنه توضأ في السَّحر، ولم يقدم النية أنَّه يصلي بذلك الطهور الفجر، هل يصلي الفجر بذلك الطهور، وإن كان لم يقدم النية؟
قال: لا يجزيه ذلك الطهور حتَّى يعيد الطهور للفجر.
قلت: فإنه تطهر طهوراً سابغاً ولم يقدم النية أنَّه لصلاة من الصلوات، هل يصلي بذلك الطهور الظهر أو صلاة من الصلوات؟
قال: لا يجزيه ذلك؛ لأنَّه ينبغي له إذا أراد الصلاة أن يقوم فيقدم النية أن هذا الطهور للصلاة المكتوبة.
قلت: فإن رجلاً قال لرجلٍ: علمني الطهور، فأخذ الرجل إناءً فيه ماء، فقال له: انظر إليَّ وأنا أتطهر. فتطهر والرجل ينظر إليه حتَّى أسبغ الوضوء، هل يجزيه ذلك للصلاة إن أراد أن يصلي فريضة؟
قال: لا يجزيه ذلك.
قلت: ولِمَ، وقد أسبغ الوضوء؟
قال: لأنَّه إنَّما توضأ وهو يريد التعليم للرجل الذي سأله أن يعلمه.
قلت: فإنه لما أخذ الإناء وقال للرجل: انظر إليَّ، اعتقد هو أن هذا الطهور للصلاة؟ (1/13)
قال: إذا قَدَّم النية أن هذا الطهور للصلاة أجزأه ذلك.
قلت: فمقدار الماء الذي يجزي للتوضؤ للصلاة والغسل من الجنابة كم يكون؟
قال: قد قال غيرنا: أنَّه المد للطهور، والصاع للغسل، ورووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يصح عنه ذلك، فأما أنا فقولي وقول علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام أنَّه لا حَدَّ للماء ولا مقدار فيما يكفي الطهور، وإنَّما ذلك إلى ما يعلم المتطهر من نفسه، فإذا نقي وعلم أنَّه قد أسبغ الطهور أو الغسل من الجنابة على ما وصفنا في صفة الطهور والغسل من الجنابة فهو المجزي الكافي.
قلت: فهل يصلي الرجل بطهور واحد صلاتين؟
قال: أحب إليَّ أن يتوضأ لكل صلاة.
قلت: فإن رجلاً أصابته جنابة، فقام فغسل رأسه ثُمَّ مضى فلما جف شَعْرُه، عاد الطهور فغسل سائر جسمه من حيث أنقى من رأسه، هل يجزيه ذلك؟
قال: نعم يجزيه، قد روي عن بعض علماء آل الرسول أنَّه أجاز تفريق الوضوء.
قلت: فإن رجلاً نام ثُمَّ استيقظ فوجد على فخذه مَنْياً ولم يرَ في النوم شيئاً، هل يجب عليه الغسل؟
قال: نعم، ربما نسي النائم ما يرى.
قلت: فإنه رأى في نومه أنَّه يجامع، فلما استيقظ لم يجد منياً، هل يغتسل؟
قال: لا إذا لم ير شيئاً مما يجب به الغسل، لم يغتسل.
قلت: فإنه لما استيقظ من نومه وجد على إحليله ندىً؟
قال: ينظر في ذلك، فإن تيقن أنَّه مني اغتسل، وإن كان مذياً توضأ لصلاته، ولم يغتسل.
[نواقض الوضوء]
قلت: فالذي ينقض الوضوء، ما هو؟
قال: قد قدمنا جواب بعض ذلك، أنَّ كلَّ ما خرج من الدبر أو القبل من دود أو ريح أو بول أو سيل دمل أو بثرة أو دم فسال عن رأس الجرح أُعيد منه الطهور.
قلت: فالقهقهة والضحك؟
قال: لا ينقض ذلك الوضوء عندنا، وقد قال غيرنا: إنَّه ينقض الوضوء، ولم نلتفت إلى ذلك.
قلت: فالنوم هل ينقض الوضوء؟
قال: نعم، إذا نام الرجل وزال عقله من النوم على أيِّ حال كان قائماً أو جالساً، انتقض وضوؤه واستأنف الوضوء للصلاة. (1/14)
قلت: فإن رجلاً انكسرت يده أو رجله أو كان به جدري أو بثرة أو علة فوضع على ذلك خِرَقاً أو جبائر على الكسر؟
قال: أصل ذلك كله أن كل ما كان في الجسم من علة يخاف صاحبها عليها إذا أصابها الماء أن يعنت، لم نر له أن يُعْنِتَ نفسه لغسلها، ولا يدني الماء منها، ويتوضأ ويترك ذلك الغضو ويمسح على الجبائر(1)، إلاَّ أن يؤلمه ذلك، فإذا توضأ صلى وأجزاه ذلك لصلاته، فافهم هذه الجملة فلك فيها كفاية إن شاء الله، وقد قال غيرنا أنَّه يتوضأ بالماء ثُمَّ يتيمم لذلك العضو، وليس ذلك عندنا بشيء، ولا يلتفت إليه من قولهم.
قلت: فما تقول في المسح على الخفين؟
قال: قد روي في ذلك روايات، ولسنا نرى ذلك، ولا يقول به أحد من علماء آل الرسول عليهم السلام.
صفة التيمم
وسألته عن التيمم، كيف هو؟
فقال: معنى التيمم، هو: طلب الصعيد، والصعيد، فهو: التراب الطيب.
فإذا أراد الرجل التيمم جلس، ثُمَّ ضرب بيديه على التراب الطيب، وفرَّج بين أصابعه، ثُمَّ مسح بيديه على وجهه كله مسحة غامرة له، وأدخل إبهاميه من تحت غَابَّته، مخللاً للحيته، ثُمَّ عاد فضرب بيديه على التراب ضربة أخرى، وفَرَّج بين أصابعه، ثُمَّ رفع بيديه فبدأ يمسح يمينه من ظاهرها من عند أظفاره، حتَّى يأتي على ذلك إلى المرفق، ثُمَّ يقلب راحته اليسرى على باطن يده اليمنى، فيمسح جميع باطنها إلى راحته وجميع يده وإبهامه، ثُمَّ يرد يده اليمنى على ظاهر يده اليسرى، فيفعل بها ما فعل باليمنى سواء سواء.
قلت: فهل يصلي بتيمم واحد صلاتين؟
قال: لا يجوز ذلك، ولا يصلى بالتيمم إلاَّ صلاة واحدة.
__________
(1) ـ في الأحكام 1/60: فأما ما يقال من المسح على ذلك العضو فليس ذلك عندنا بشيء ....... يديه رجليه.
قلت: فإن عدم الرجل الصعيد الطيب من التراب، ووجد رملاً أو نورةً أو زرنيخاً(1)، أو ما أشبه ذلك من الأرض، هل يتيمم به؟ (1/15)
قال: لا يتيمم بشيء من ذلك، إلاَّ أن يكون في الرمل من الصعيد الطيب الذي يلصق باليدين، وهو التراب، فيتيمم به.
قلت: فإن عدم ذلك كله، هل يصلي بغير تيمم؟
قال: إن خاف فوات الوقت من الصلاة الَّتِي يتيمم لها، صلى بغير تيمم إذا عدم الماء والصعيد، ولا يترك الصلاة.
قلت: فيعيدها إذا وجد الماء أو الصعيد؟
قال: لا، إذا خرج وقتها.
باب القول الحيض
وسألته عن: أقل الحيض وأكثره.
قال: أقله ثلاث، وأكثره عشر.
قلت: فما زاد على العشر؟
قال: ذلك استحاضة، وليس بحيض، وقد قال أهل المدينة: إن أكثر الحيض خمس عشرة، ولم نلتفت إلى ذلك(2).
قلت: فهل للرجل أن يدنو من امرأته في وقت حيضها؟
قال: نعم، إذا اجتنبَ موضع الحرث، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأم سلمة رحمة الله عليها(3).
قلت: فهل للرجل أن يواقع امرأته إذا نَقَت من الدم ورأت النقاء في موضع الحرث من قبل أن تغتسل وتَطَّهر بالماء؟
قال: لا، حتَّى تطهر بالماء، كما قال الله سبحانه: {حتى يطهرن}[ ].
قلت: فما تقول في الصُّفرة والكدرة في (أيام الحيض)(4)؟
قال: الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، والحيض فبِّينٌ مِن غيره.
قلت: وكيف يبين الحيض من غيره؟
__________
(1) ـ الزرنيخ: نوع من الحجارة، يستخدم في متحضرات طبية.
(2) ـ ذكر ابن المنذر في الأوسط 2/ 227، أن الشافعي وأحمد وأبو نور وعطاء بن أبي رياح، يقولون: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمس عشرة.
(3) ـ روى البخاري ومسلم، ومن طريق البخاري بن النمذر، عن أم سلمة قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخميلة، فوضعت فانسللت في الخميلة، فقال لي: أنقيت؟ قلت: نعم، فلبست ثياب حيضتي، ودخلت مع رسول الله في الخميلة.
(4) ـ سقط من (أ) أيام الحيظ.
قال: لأن دم الحيض أسود (عكر)(1)، ودم الاستحاضة أصفر. (1/16)
قلت: فهل يجتمع الحيض والولد؟
فقال: لا، إذا حملت المرأة وبان حملها لم تحض، وذلك أن الله عز ذكره جعل موضع الحيض موضع الولد ومستقره، فإذا وقع الولد في الرحم واستوى ذهب الحيض، فلم تحض المرأة، وإذا لم يكن الولد في الرحم جاء الحيض.
قلت: فإن المرأة تحمل ويبين(2) حملها، ثُمَّ ترى بعد ذلك دَماً أو صُفْرةً أو كُدْرةً؟
قال: ذلك علَّةٌ، ليس ذلك بحيض.
قلت: فإذا رأت ذلك أتصلي؟
قال: نعم، تَطَهَّر وتصلي.
قلت: فإن المرأة ترى الدم يوماً أو يومين، ثُمَّ ترى النقاء بعد ذلك يوماً أو يومين، ثُمَّ يعاودها الدم بعد ذلك، كيف تعمل؟
قال: أصل ذلك عندنا وما نقول به أن المرأة متى رأت الدم الذي تيقن أنَّه دم حيض تركت الصلاة، ومتى رأت النقاء صلت، ولو رأت الدم يوماً والنقاء يوماً، كان القول فيه على ما قلنا، فافهم ذلك(3).
باب القول في النِّفاس
وسألته عن النِّفاس.
فقال: أكثره أربعون يوماً، إلاَّ أن ترى الطهر قبل ذلك، فتطَهَّر وتصلي.
قلت: فإن عاودها الدم في الأربعين؟
قال: تترك الصلاة.
قلت: فإن طهرت في الأربعين، وكان نفاسها في شهر رمضان فصلت وصامت، ثُمَّ عاودها الدم في الأربعين، هل يجزيها الصوم الذي(4) صامت قبل أن يعاودها الدم؟
قال: نعم، متى ما رأت الطهر والنقاء تصوم وتصلي، ولو لم تفعل لكانت تاركة لدين الله(5) .
قلت: فنفاس أم الولد مثل نفاس الحرة؟
قال: نعم، سواء سواء.
باب القول في الأذان
__________
(1) ـ سقط من (أ) عكر.
(2) ـ ويتبين (ب).
(3) ـ الذي ذكر أبو طالب في التحرير: أن النقاء إذا لم يبلغ طهراً صحيحاً ـ وهو عشرة أيام ـ ليس له حكم الطهر. ولعل الهادي: أن تصلي وتصوم أيام النقاء احتيطاً، ولغيره بالانكشاف. فإن بلغ طهراً كان طهراً، وإن لم كان حكمه حكم الحيض، والله أعلم.
(4) ـ نسخة: التي.
(5) ـ نسخة: كافرة في دين الله.
وسألته عن الأذان، أواجب على المصلين أم غير واجب؟ (1/17)
قال: الأذان واجب من الله أمر به نبيه أمراً، وليس كما قال الجاهلون إنَّه إنَّما رآه رجل في النوم رؤيا.
قلت: فأين أمر الله به؟
قال: قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}، وقوله: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزؤاً ولعباً}، فدل عز وجل على الأذان بذلك.
قلت: فكيف الأذان؟
قال: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، حي على خير العمل، حي على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله.
قلت: فإن الأكثر من الناس يكررون التكبير في الأول، ويسقطون حي على خير العمل؟
قال: الذي صح لنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذا، وهو مثنى مثنى، وهم فقد أجمعوا على أن الأذان مثنى مثنى، ورووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتركوا قولهم بالتكرير في التكبير عند روايتهم أنَّه مثنى مثنى؛ لأنَّه إذا قال: الله أكبر، الله أكبر، فهو مثنى، وصح الخبر، فإذا زادوا أكثر من ذلك أبطلوا الخبر، وأتوا في الأذان بما ليس فيه.
وأما حي على خير العمل فلم تزل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتَّى قبضه الله، وفي عهد أبي بكر حتَّى مات، وإنَّما تركها عمر وأمر بذلك، فقيل له: لِمَ تركتها؟ فقال: لأن لا يتكل الناس عليها ويتركوا الجهاد!!
باب القول في تسمية أوقات الصلوات في كتاب الله وعددها
وسألته عن الخمس الصلوات وأوقاتها، من أين نجده حتَّى نعلم أن الخمس واجبة علينا يقيناً، وأوقاتها معروفة؟
فقال: الخمس الصلوات وأوقاتها فموجودة في كتاب الله عز وجل نصاً، ومن شاهد العقول حجة، ومن إجماع العالم، فكل ذلك مما يؤكدها.
فقلت: فأخبرني، فأين هي في كتاب الله؟
فقال: قول الله: {من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء}[ ]، فنص في هذه الآية ثلاث صلوات بأسمائها وأوقاتها. (1/18)
ثُمَّ قال: {والعصر}، فنصها باسمها.
ثُمَّ قال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}، فكرر صلاة الظهر، وهي عند دلوك الشمس، ودلوكها فهو زوالها.
وقوله: {إلى غسق الليل}، فهو غروب الشمس ودخول الليل: وهي المغرب، وإنَّما قوله: {إلى غسق الليل}، أراد عند غسق الليل؛ لأن هذه حروف الصفات، وهي يقوم بعضها مقام بعض، وعند غسق الليل فهو المغرب، فهذه خمس صلوات، وأوقاتها منصوصات معروفات في الكتاب.
وفيها من الكتاب تأكيد أكثر من هذا، مثل قوله: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل}[ ]، وقوله: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيّاً وحين تظهرون}[ ].
فرووا في الأخبار أن في هذه الآية أربع صلوات منصوصات، وقوله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}[ ]، ومثل هذا كثير في كتاب الله عز وجل مما يؤكد الخمس الصلوات وأوقاتها، فاكتف بذلك.
وأما شواهد العقول الَّتِي تدل على أن الصلوات خمس في كتاب الله فبَيِّنٌ لقول الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}، فلا تكون صلاة وسطى لأقل من خمس صلوات، ثنتين وثنتين وواحدة وسطى. فإن قال قائل: فإن للثلاث صلوات صلاة وسطى، قلنا له: فالذي بقي من الثلاث بعد إفراد الله الوسطى صلاتان، ولا تكون الصلاتان صلوات؛ لأنهما ثنتان، فدل بذلك على أنَّها خمس صلوات، فافهم ذلك وتدبره فإن لك فيه كفاية إن شاء الله.
قلت: قد فهمت ما ذكرت من تسمية أوقات الصلاة في كتاب الله، ومن العقول، فبَيِّن لي أوقات الصلاة الَّتِي تُصلَّى فيها الصلوات، فقد أكثر الناس الاختلاف في ذلك؟
فقال لي: إن اختلاف الناس في هذا الذي ذكرت؛ لجهلهم وتقليدهم لعلمائهم، وتركهم النظر في كتاب الله، والتفتيش عن تفسيره وتفسير شرح الأخبار الَّتِي رووها وأجمعوا عليها، فاستشنعوا ما قال علماء آل الرسول عليهم السلام في هذا الذي سألت عنه من بيان أوقات الصلوات من أهل بيت نبيهم، ولم ينظروا في معاني الأخبار وشرحها، وما تقضي من البيان لما سألت عنه، وأنا أبين لك ما سألت عنه، والقوة بالله، من أخبارهم الَّتِي رووها بأجمعهم وصححوها عن رجالهم الثقات، فافهم ذلك. (1/19)
أجمعوا جميعاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <أمَّني جبريل عند البيت، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، فكانت بقدر الشراك، ثُمَّ صلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثُمَّ صلى بي المغرب حين أفطر الصائم، ثُمَّ صلى بي العشاء حين غاب الشفق، ثُمَّ صلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم. قال: ثُمَّ صلى بي الغد الظهر حين كان ظل كل شيء مثله، ثُمَّ صلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثُمَّ صلى بي المغرب حين أفطر الصائم، ثُمَّ صلى بي العشاء في ثلث الليل الأول، ثُمَّ صلى بي الفجر فأسفر، ثُمَّ التفت إليَّ جبريل، فقال لي: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، الوقت فيما بين هذين الوقتين>.
وروى هذا الحديث من أهل العراق، أبو بكر بن أبي شيبة(1) وغيره، ورواه عبد الرزاق(2)، عن سفيان الثوري، وابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن الحرث، قال: حدثني حكيم بن حكم(3)، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... (1/20)
وقد جاء هذا الحديث من وجوهٍ شتَّى لم نذكرها لئلا يطول الكلام، فروى القوم هذا الخبر مجملاً، ولم ينظروا فيه نظراً شافياً حتَّى يتبين لهم فيه مواقيت الصلوات، فافهم ما سألت عنه، وفرِّغ ذهنك له يتبين لك ـ إن شاء الله ـ ما أذكر لك من شرح هذا الخبر في أوقات الصلاة؛ لأنَّه الأصل المعمول عليه عندهم.
__________
(1) ـ مصنف ابن أبي شيبة 1/280 (3220)، فقال: أخبرنا وكيع، قال: أخبرنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عباس بن ربيعة، عن حكيم بن حكم بن عباد بن حنيف، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ...
(2) ـ مصنف عبد الرزاق 1/531 (2028).
(3) ـ في ط: حكيم بن حكم، وهو غلط، والصواب ما أثبته، وهو كذلك في مصادر الحديث.
واعلم ـ وفقك الله ـ أنَّه لما صح هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم أنَّه صلى الظهر في أول يوم حين زالت الشمس، وصلى العصر وظل كل شيء مثله، ثُمَّ صلى من الغد الظهر وظل كل شيء مثله، وصلى العصر وظل كل شيء مثلاه، علمنا أنَّه قد صلى في أول يوم العصر في وقت صلاة الظهر الَّتِي صلاها من الغد، فأجاز صلى الله عليه وآله وسلم بفعله هذا صلاة الظهر في وقت صلاة العصر، وصلاة العصر في وقت صلاة الظهر؛ لأنَّه صلَّى الظهر والعصر وظل كل شيء مثله، فوجب بفعله هذا أن وقت الظهر كله وقت للعصر، ووقت العصر كله وقت للظهر؛ لأن من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله وقت واحد ممدود لا مرية فيه، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الوقت الواحد الظهر والعصر عند زوال الشمس، ومن فعل ذلك فقد أدَّى الصلاتين في أوقاتهما؛ لأن أول الوقت كآخره، وآخر الوقت كأوله في تأدية صلاتهما، غير متعد لفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك من صلاَّهما في آخر الوقت فقد صلاهما في أوقاتهما. (1/21)
قلت: فبيَّن لي آخر الوقت، ما هو؟
قال: قد بينت لك فيما شرحت لك وأجبت، أن وقت الظهر كله وقت للعصر، ووقت العصر كله وقت للظهر، ووقت العصر إلى أن تدرك منها ركعتان قبل غروب الشمس أو ركعة، وبذلك جاء الأثر الصَّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يختلفوا في رواية هذا الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها>، روى ذلك من العراقيين: ابن أبي شيبة(1) وغيره، ومن أهل اليمن: عبد الرزاق اليماني(2)، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها>.
__________
(2) ـ المصنف 1/584 (2224)
وروى هذا الخبر عبد الرزاق(1)، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة، فقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه من أدرك من العصر ركعة فقد أدركها، يوجب أنَّه في وقت منها، لم يفت الوقت، فافهم ذلك وتدبر ما شرحت لك من وقت الظهر والعصر، فلك فيه كفاية إن شاء الله. (1/22)
وكذلك صح لنا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان يجمع بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس في السفر، وإذا حانت المغرب جمع بينها وبين العشاء، روى هذا الخبر عبد الرزاق(2)، عن ابن جريج، قال: أخبرني الحسين بن عبد الله(3) بن عباس، عن عكرمة، وكريب، أن ابن عباس قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر، قلنا: بلى، قال: كان إذا زاغت الشمس من منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ له في منزله سار حتَّى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت المغرب وهو في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تَحِن له في منزله ركب، حتَّى إذا حانت العشاء نزل فجمع بينهما.
فهو(4) دليل على ما قلنا: إن وقت الظهر وقت للعصر، وأن وقت العصر وقت للظهر.
قلت: قد فهمت ما ذكرت من وقت الظهر والعصر، فبين لي وقت المغرب والعشاء، هل يكون وقت المغرب للعشاء، ووقت العشاء للمغرب وقتاً؟
قال: نعم، أبَيِّنه لك ـ إن شاء الله ـ من الكتاب، ومما رووا من الأخبار:
__________
(1) ـ المصنف 1/585 (2228).
(2) ـ 2/548 (4405).
(3) ـ في ط: الحسين بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس، وما أثبته في المصنف.
(4) ـ فهذا (ب).
فأما ما في الكتاب فإن الله تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {يا أيها المزمل قم الليل إلاَّ قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً}[ ]، فكان ذلك من الله توقيتاً لما فرض من الصلاة في الليل من المغرب والعتمة فرضاً، والدليل على أنَّه عنى بذلك الفرض قوله سبحانه من بعد ذلك: {والله يقدِّر الليل والنهار علم أن لن تحصوه، فتاب عليكم، فاقرؤا ما تيسر من القرآن، علم أن سيكون منكم مرضى، وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}[ ]، فدل سبحانه بقوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}: على أن ذلك من الصلاة فرض كفرض إيتاء الزكاة، إذ ضمه إليها، ولو كانت الصلاة نافلة لم يضمها إلى الزكاة المؤكدة، فدل بذلك سبحانه على أن الليل كله من أوله إلى آخره وقت للمغرب العشاء. (1/23)
وفي ذلك ما روى عبد الرزاق اليماني(1)، عن ابن جريج، عن عطاء، أنَّه قال: لا تفوت صلاة النهار الظهر والعصر حتَّى الليل، ولا تفوت صلاة الليل المغرب والعشاء حتَّى النهار(2)، ولا يفوت الصبح حتَّى تطلع الشمس.
وروى عبد الرزاق أيضاً(3)، عن ابن جريج قال: كان [طاووس لا يصلي المغرب يجمع، حتَّى يذهب الشفق، قال: وكان طاووس] يقول: لا يفوت الظهر والعصر حتَّى الليل، ولا يفوت المغرب والعشاء حتَّى الفجر، ولا يفوت الصبح حتَّى تطلع الشمس.
وروى عبد الرزاق(4) عن ابن جريج قال: كان طاووس يقول: لا يفوت الظهر والعصر حتَّى الليل، ولا يفوت المغرب والعشاء حتَّى الفجر، ولا يفوت الصبح حتَّى تطلع الشمس.
وروى عبد الرزاق(5)، عن معمر، عمن سمع عكرمة يقول: مثل قول طاووس.
__________
(1) ـ مصنف عبد الرزاق 1/582 (2219).
(2) ـ في ط: حتَّى يطلع الفجر، وما أثبته من المخطوطة ومصادر الحديث.
(3) ـ مصنف عبد الرزاق 1/584 (584)
(4) ـ ثقة.
وروى عبد الرزاق أيضاً(1)، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء أكان يقول(2): صلاة العشاء فيما بينك وبين شطر الليل الأول، فما وراء ذلك تفريط، والمغرب على نحو ذلك. قال: لا تفريط لهما(3) حتَّى شطر الليل. (1/24)
فهذه أخبار صحيحة موافقة لكتاب الله، أن وقت الظهر والعصر من زوال الشمس إلى الليل، ووقت المغرب والعشاء إلى الفجر، وهو قول ثابت، وهو قول جدي القاسم بن إبراهيم رحمة الله عليه، وبه نأخذ، والدليل على صحة هذا القول وثباته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة من غير سفر ولا خوف ولا مطر، من ذلك:
ما روى أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي(4)، قال: حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر. قال: قيل لابن عباس ما أراد بذلك؟ قال: أن لا يحرج على أمته.
ورواه مالك بن أنس(5)، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله سواء.
وروى عبد الرزاق(6)، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر بالمدينة في غير سفر ولا خوف. قال: قلت لابن عباس ولم تر فعَل ذلك؟ قال: أراد أن لا يُحْرِج أحداً من أمته.
وروى عبد الرزاق(7)، عن داود بن قيس، عن صالح مولى التوأمة، أنَّه سمع ابن عباس يقول: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير سفر ولا مطر. قال: قلت لابن عباس: لِمَ تراه فعل ذلك؟ قال: أراد التوسعة على أمته.
__________
(1) ـ المصنف 1/581 (2213).
(2) ـ ابن عباس.
(3) ـ في المصنف: خير تفريط بها.
(4) ـ مصنف بن أبي شيبة.
(5) ـ الموطأ 1/144 (9/1/4).
(6) ـ المصنف 2/555 (4432).
(7) ـ المصنف 2/555 (4434).
وروى عبد الرزاق(1) عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، قال: قال عبد الله بن عمر: جمع لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو غير مسافر(2) بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. فقال رجل لابن عمر: لِمَ تر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك؟ قال: لأنْ لا يحرج أمته إن جمع رجل. (1/25)
وروى عبد الرزاق(3)، قال: أخبرنا ابن جريج، عن معمر، عن عمرو بن دينار أن أبا الشعثاء أخبره أن ابن عباس أخبره، قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانياً جميعاً، وسبعاً جميعاً بالمدينة.
وروى عبد الرزاق(4)، عن إبراهيم بن محمد، عن صفوان بن سليم، قال: جمع عمر بن الخطاب بين الظهر والعصر في يوم مطير.
وروى عبد الرزاق(5)، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، أن أهل المدينة كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة، فيصلي معهم ابن عمر لا يعيب ذلك عليهم.
وروى عبد الرزاق(6)، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء أن ابن عباس خرج من أرضه من (مر) حين أفطر الصائم، يريد المدينة، فلم يصل المغرب حتَّى جاء المحجة من الظهران، فجمع بينها وبين العشاء، ويقال له: الصلاة، فيقول: شمروا عنكم.
وروى عبد الرزاق(7)، عن معمر، قال: سمعت أن الصلاة جمعت لقوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}، فغسق الليل المغرب والعشاء.
وروى عبد الرزاق(8)، عن إبراهيم بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غربت له الشمس وهو بسَرف، فلم يصل المغرب حتَّى دخل مكة، وذكره الحجاج بن أرطاه، عن ابن الزبير.
__________
(1) ـ المصنف 2/556 (4437).
(2) ـ في المصنف: مغيماً غير مسافر.
(3) ـ المصنف 2/555 (4436).
(4) ـ المصنف 2/556 (4440).
(5) ـ المصنف 2/556 (4441).
(6) ـ المصنف 1/554 (2103)، ومر موضع على مرحلة من مكة.
والمحجة: جادة الطريق. والظهران، لعل المراد به: ظهر مكة.
(7) ـ 1/551 (4417).
(8) ـ 1/554 (4432).
فكل ما شرحنا وذكرنا من الأخبار تدل على ما قلنا به في أوقات الصلاة، وإنَّما جمعنا في هذا الباب هذه الأخبار برواية الثقات من رجال العامة؛ لئلا يحتجوا فيه بحجة، فقطعنا حججهم بروايات ثقاتهم، فافهم ذلك فلك فيه كفاية إن شاء الله، والقوة بالله. (1/26)
باب مسائل التوجه للصلاة ومسائل الصلاة
وسألته عن الرجل إذا تطهر للصلاة وقام فتوجه إلى القبلة، هل يقدم النية قبل أن يتوجه للصلاة الَّتِي يصليها إلى البيت، وكذلك يقدم النية أيضاً أنَّها الظهر أو العصر أو أي الصلوات كانت؟
قال: هكذا ينبغي أن يفعل.
قلت: فإن لم يقدم النية أنَّه يصلي إلى البيت، ولا أنَّها صلاة الظهر أو العصر، هل يجزيه ذلك؟
قال: نعم، الملة ملة الإسلام تجزيه عن ذلك؛ لأن صلاة المسلم قد تقدمتها النية بعقد الإسلام، وكذلك كل أوقات الصلاة فهي مجزية له، وإن قدم النية كان أفضل وأحب إليَّ.
قلت: فإن استقبل القبلة وبين يديه جدار، وخلف الجدار كنيف فيه الأقذار، وكذلك لو كان عن يمينه أو عن شماله؟
قال: إذا حال الجدار الذي بينه وبين الأقذار لم تضره الأقذار، جازت صلاته.
قلت: فإن الجدار الذي استقبله كان مطيَّناً بطين فيه سرجين فرس أو دابة من الدواب أو بول من أبوالها مختلطاً في الطين؟
قال: إذا ظهر ذلك في الطين كرهت له الصلاة إليه.
قلت: فإنه طُيِّنَ فوق ذلك الطين بطين طَيِّبٍ ليس فيه من الأقذار شيء؟
قال: إذا كان الطين طيِّباً وستر الأقذار جازت الصلاة إليه.
قلت: فإن الجدار في نفسه مبني بلبن وطين قد خالطهما الأقذار، وتيقن المصلي ذلك يقيناً؟
قال: لا أحب له أن يصلي إليه ولو طُيِّن الجدار بطين طيِّب.
قلت: فإن قيل له ذلك ولم يتيقَّنه هو، هل يصلي إليه؟
قال: نعم.
قلت: فإن الطين الذي طين به الجدار غليظ لو انهدم الجدار قام بنفسه، هل يصلي إليه؟
قال: نعم؛ لأن ما في الكنيف من الأقذار أكثر مما في الجدار، فإذا كان دونه ما يقوم بنفسه فكأنه جدار دون جدار، جازت إليه الصلاة. (1/27)
قلت: فإنه بسط مصلاه في موضع كان فيه كنيف يطرح فيه الأقذار أو بلاَّعة تسيل إليها الأبوال، ثُمَّ دُفن الكنيف أو البلاعة بتراب طيب، هل يصلي على ذلك الموضع؟
قال: التنزه عن ذلك الموضع، والصلاة في غيره أحب إليَّ.
قلت: فإن صلى عليه، هل يعيد الصلاة؟
قال: لا؛ لأن الذي صلى عليه طيب، وما في بواطن الأرض من الأقذار أكثر من ذلك، فإذا صلى على موضع ظاهر الطهارة جازت صلاته.
قلت: فإن البيت الذي قام يصلي فيه كان في جداره تماثيل من جص أو صبغ مصور أشبه الناس والدواب، هل يصلي في ذلك البيت؟
قال: نعم، وما يضره إذا كان الموضع الذي استقبله إلى قدر رأسه نقياً من ذلك، جازت صلاته.
قلت: فإنه بسط مصلاه على بساطٍ فيه تماثيل، هل يصلي عليه؟
قال: لا أرى ذلك، وقد أجازه غيرنا.
قلت: فكيف يعمل؟
قال: يكشف من البساط قدر موضع سجوده من الأرض، ويضع مصلاه على ذلك، وإن لم يثق بطهارة البساط كشفه كله.
قلت: وكذلك اللبود وبسط الشعر والوبر وما أشبه ذلك؟
قال: لا أحب الصلاة على شيء من ذلك، ولا السجود عليه.
قلت: فأي شيء أحب إليك أن تسجد عليه؟
قال: كلما أنبتت الأرض وكان نظيفاً طاهراً لا قذر فيه من صباغةٍ ولا غيره، فهو أحب الأشياء إليَّ، وإلاَّ فحضيض الأرض.
قلت: فيصلي الرجل على الصفا والصاروج: وهو القضاض؟
قال: نعم، إذا كان الموضع طاهراً.
قلت: فإن الرجل لما توجَّه مال يميناً أو شمالاً عن القبلة بغير تعمُّد ولم يعلم حتَّى فرغ من صلاته، ثُمَّ علم بعد ذلك أنَّه صلى إلى غير القبلة، هل يعيد الصلاة؟
قال: إن كان علم أنَّه صلى إلى غير القبلة وهو في وقتٍ من تلك الصلاة أعادها، وإن كان لم يعلم أنَّه صلى إلى غير القبلة حتَّى جاز وقت تلك الصلاة لم يعدها؛ لأنَّه قد تحرى القبلة عند توجهه.
قلت: وكذلك لو كان في يوم غيم ففعل ذلك؟ (1/28)
قال: نعم.
قلت: وكذلك لو كان أيضاً في يوم غيم فصلى قبل زوال الشمس، ثُمَّ علم بعد ذلك؟
قال: يعيد الصلاة على كل حال؛ لأنَّ هذا ليس مثل الأول، وإنَّما صلى في غير وقت صلاة، فهي صلاة باطلة، فعليه إعادتها.
قلت: فإنه كان في سفينة سائرة فتوجه للصلاة إلى القبلة فدارت السفينة يمنةً أو يسرةً.
قال: يدور إلى القبلة إذا دارت السفينة، ويتبع القبلة حيث كانت واجب(1) عليه ذلك.
قلت: فإن الرجل المتوجه فوق ارتفاع من الأرض أو فوق سطح وبين يديه في الأرض قذر من عذرة أو غير ذلك من الأقذار، والرجل يتيقن ذلك، أو هو قريب منه إذا سجد أشرف عليه، هل يجوز له الصلاة؟
قال: لا أحب له إذا كان هو المرتفع وكان القذر أسفل أن يصلي في ذلك الموضع.
قلت: فإن القذر كان على ارتفاع من الأرض وكان هو أسفل من ذلك؟
قال: نعم، يجوز له الصلاة؛ لأنَّه يستقبل طهارة(2) والقذر مرتفع عنه في معزل.
قلت: فإن(3) توجَّه الرجل فاستقبل القبلة، بأيِّ شيء يبدأ؟
قال: بالاستعاذة، ثُمَّ يفتتح، ثُمَّ يكبر من بعد الافتتاح.
قلت: فبأي شيء يفتتح؟
قال: قد روي في ذلك رويات كثيرة مختلفة متضادة، وإنَّما قلت متضادة؛ لأن المختلفين رووا في الافتتاح كلاماً ليس هو من القرآن، فلم يلتفت إلى رواياتهم لما خصَّنا الله به من معرفة غوامض كتابه، فكان الذي ندبنا الله إليه من الافتتاح أمره لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يقول: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً}[ ]، ثُمَّ أمره الله، فقال تبارك وتعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل}[ ]، فدلَّ على أن هذا هو الافتتاح للصلاة قبل التكبير، ثُمَّ قال له: {وكبره تكبيراً}[ ]، فأمره بالتكبير بعد الافتتاح.
__________
(1) ـ وأوجب (ب).
(2) ـ طاهرة (ب).
(3) ـ نسخة: فإذا.
قلت: فقد جمعت لي في هذا الجواب جواب مسألتين في الافتتاح قبل التكبير، وبأيِّ شيءٍ يبدأ المتوجه للصلاة، فزدني حجةً من المعقول في الافتتاح أنَّه قبل التكبير، فإن أصحاب الأخبار قد أكثروا في ذلك الروايات أنَّه بعد التكبير، ولم أقل ذلك إني لم أرض بما أتى في كتاب الله، بل هو أكفأ الكفاية، ولكن حجة من اللغة أو من المعقول؟ (1/29)
قال: نعم أخبرك بذلك، والقوة بالله: أليس عقول العالم تشهد بأن افتتاح باب الدار قبل دخولها؟
قلت: بلى.
قال: وكذلك يقول القائل استفتحت على بني فلان في دارهم، فلم يفتحوا لي ولم يدخلوني، وكذلك أيضاً يقول القائل إذا أراد أن يتعلم من رجل قرآناً افتتح عليَّ آيات، وكذلك يقول الرجل إذا سئل وهو يتعلم القرآن ممَّن تستفتح، فيقول: من فلان وفلان، فإذا لم يفتح عليه لم يدخل في التعليم من القرآن، ومتى جلس بين يدي القارئ قال له: افتح عليَّ آيات، وهو غير متعلم لها ولا داخل فيها، فلما فتح عليه دخل حينئذ بعد ما يفتح عليه ويعلمه، ففي هذا كفاية لك في الافتتاح، أنَّه قبل التكبير، ولولا ما أردت من اختصار الشرح وإيجازه لشرحنا واستخرجنا من الكتاب وما جاء به الرسول وشواهد المعقول ما يطول به كتابك، فافهم هذا فلك فيه كفاية إن شاء الله. ألا ترى كيف قد بين الله ذلك وليس بعد تبيين الله تبيين، فذكر في قوله سبحانه ما أمر به من الافتتاح فقال: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل}، ثُمَّ قال: {وكبره تكبيراً}، فأمر بالافتتاح قبل التكبير، ثُمَّ قال: {وكبره تكبيراً}، فأمره بالتكبير والدخول في الصلاة بعد التكبير.
قلت: قد فهمت ما ذكرت في الافتتاح أنَّه قبل التكبير، فأخبرني إذا كبر الرجل، هل يرفع يديه أم لا؟
قال: قد رُويت في ذلك أخبار كثيرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى إلى قريب من الأذنين أو الخدين أو المنكبين، ورووا أيضاً في أخبارهم ضد هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <ما بال أقوام يرفعون أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس، لئن لم ينتهوا ليفعلن الله بهم وليفعلن>، وكذلك بلغنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لم يكن يرفع يديه في خفض، ولا رفع في الصلاة، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحب ويأمرنا بالسكون فيقول: <اسكنوا في الصلاة>، حتَّى أنَّه نظر إلى رجل يعبث بلحيته في الصلاة فقال: <لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه>، وذلك فحثٌّ منه على أن لا يحرك المصلي يداً ولا رجلاً إلاَّ من حاجة إلى ذلك، وهذا أحب إلينا، واضح(1) عندنا، من الأولى أن لا يرفع المكبر يديه لا في أول الصلاة ولا في وسطها. (1/30)
قلت: زدني حجة في ترك الرفع لليدين في الصلاة؟
قال: نعم، أليس قد أجمعت الأمة بأسرها أنَّه لو قام رجل متوجه ثُمَّ رفع يديه ولم يحرك لسانه بتكبير وصلى أن صلاته باطلة؟
قلت: بلى، لا اختلاف بينهم في ذلك.
قال: وكذلك أجمعوا جميعاً لو أن رجلاً توجه فكبر وحرك لسانه بالتكبير ولم يرفع يديه أن صلاته جائزة تامة بتحريك لسانه بالتكبير وإن لم يرفع يديه؟
قلت: بلى، لا اختلاف بينهم في ذلك.
قال: فأي حجة أبين من هذه في ترك رفع اليدين بإجماعهم، فافهم ذلك.
قلت: قد فهمت، فإن الرجل افتتح وكبر، بأيّ شيءٍ يبدأ بعد ذلك؟
قال: بالجهر ببسم الله الرحمن الرحيم إذا كان في صلاة يجهر فيها بالقراءة، ثُمَّ يتم الحمد(2) وسورة بعدها.
[الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم]
قلت: فإن لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، هل يعيد الصلاة؟
__________
(1) ـ وأصح (ب).
(2) ـ ثُمَّ الحمد، نسخة.
قال: قد قال غيرنا: إنَّه لا يعيد، ولا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأما علماء آل الرسول وقولي أنا: فيعيد الصلاة؛ لأنَّه قد ترك ما أمر الله به نبيَّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (1/31)
قلت: وأين أمر الله محمداً بالجهر ببسم الله الرحمن الرحيم؟
قال: قوله لنبيه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}[ ]، وقوله أيضاً: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه}[ ]، فقوله: {أَذِنَ} أي: أمر، ثُمَّ وكد مع أمره له بتظليم من منع الجهر في مساجده، فقال: {ومن أظلم ممَّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه}[ ]، فذلك كله تأكيد من الله بالجهر باسمه لعلمه تبارك وتعالى بمن يخالف أمره، ثُمَّ جعل ذلك مكرراً في أم الكتاب الَّتِي أنزلها الله على نبيه، فقال: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني}[ ]، وهي أم الكتاب، فأولها: بسم الله الرحمن الرحيم، ثُمَّ جعل من بعد أول السورة تكريراً لعلمه بمنابذة المنابذين لاسمه وإخفائه، فقال بعد اسمه: {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم}[ ]، هو نصف الجهر ولم يخف الذي أخفى، إلاَّ اسم الله الذي أمر الله نبيه أن يقرأه، وظلم من منع الجهر به في المساجد، فمن ادعى من المخالفين أنَّه إنَّما أخفى بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن النبي أخفاها، قلنا له: أحلت ورويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه فعل غير ما أمره الله به إذ قال له: {اقرأ باسم ربك}[ ]، وكيف يخفي عليكم صلى الله عليه وآله وسلم ما وكد الله عز وجل في إظهاره في السورة الَّتِي هي أم الكتاب مرتين، فلو كان صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإخفائها كما ادعيت أيها المدعي ورويت من الزور لإخفاء: الرحمن الرحيم، بعد قراءته: {الحمد لله رب العالمين}، وكيف يفعل ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أمره الله به أمراً، وكذلك لو فعلت أنت أيها المدعي من الإخفاء إذا قرأت الحمد لله رب العالمين، فأخفيت الرحمن الرحيم ولم تجهر بها ظاهراً إذا كنت في مثل صلاة
الفجر أو مثل صلاة الليل، لأكفرك أهل مقالتك ولأبطلوا صلاتك؛ لأن الأمة أجمعت كلها من جهر منها، ومن لم يجهر أنَّه لا بد من قراءة الحمد في الصلاة، وكلهم فأجمعوا(1) إذا قام المصلي فجهر أو أخفى فابتدأ: بـ{الحمد لله رب العالمين}، لم يكن له بعد من إظهار: {الرحمن الرحيم}، وهو بعض الجهر فلم يترك منه إلاَّ باسم الله الذي أمر الله به نبيَّه أن يقرأه نصاً، فتدبر ما قلنا في ذلك، وأنصف فيه عقلك، ولا تركب فيه هواك، ولا قول من تقلده دينك فيضلك عن سواء السبيل، ولقد علمت إن كنت ممَّن قد روى الأخبار أن الأمة روت بأجمعها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <ما كنت أعرف آخر هذه السورة من أول الأخرى حتَّى ينزل(2) عليَّ جبريل ببسم الله اللرحمن الرحيم>، وكذلك ما أجمعت عليه الأمة عن عائشة، أنَّها قالت: اختلس الشيطان من الناس أعظم آية في كتاب الله وهي: {بسم الله الرحمن الرحيم}، وفي ذلك من الروايات ما يكثر، وفي أقل مما شرحنا وبينا في إيجاب الجهر كفاية لك إن شاء الله. (1/32)
قلت: قد فهمت ما شرحت من أمر الجهر، وثبت عندي، فإن الرجل افتتح وكبر وقرأ الحمد لله وسورة ثُمَّ ركع، هل يفرج أصابعه على ركبتيه أو يضمها؟
قال: يفرجها قليلاً، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فكم يسبح وهو راكع؟
قال: قد قيل في ذلك بأقاويل، من العشر التسبيحات إلى الثلاث.
قلت: فالذي تستحب أنت في ذلك؟
قال: ما هو، قال: خمس أو ثلاث، ففيها كفاية.
قلت: فكيف تسبح؟
قال: (سبحان الله العظيم وبحمده) في الركوع.
قلت: فإن العامة كلها قد روت: (سبحان ربي العظيم) في الركوع؟
قال: قد رووا ذلك، وفيه لو قال قائل من الملحدين قولاً يلحد فيه لشبه على الجهال.
قلت: وكيف ذلك؟
__________
(1) ـ قد أجمعوا (ب).
(2) ـ نزل (ب).
قال: لأن العرب تجيز في لغتها ربَّ الدار وربّ المصر، تريد بذلك رئيس الدار ورجلها وأمير المصر، فلما علمنا ذلك أخذنا بقول أمير المؤمنين في التسبيح في الركوع والسجود، الذي رواه علي بن رجاء، عن الحسن بن الحسين العرني، عن علي بن القاسم الكندي، عن محمد بن عبيد الله بن علي بن أبي رافع، عن أبيه عن جده، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، أنَّه كان يقول في ركوعه: (سبحان الله العظيم وبحمده)، وفي سجوده: (سبحان الله الأعلى وبحمده)، وهذا الاسم لا يشاركه فيه أحد من المخلوقين؛ لأنَّه قال: (هل تعلم له سميّاً)، أي هل يسمى الله إلاَّ الله عز وجل، فاخترنا هذا؛ لأنَّه ليس لملحد فيه قول ولا تشبيه. (1/33)
قلت: قد فهمت شرح هذا فإن نقَّص الرجل من الثلاث تسبيحات، هل يجوز له؟
قال: لا، وقد قال غيرنا: إنَّه يجزيه، ولكنَّا نقول: أقل ما يسبح في الركوع والسجود ثلاثاً ثلاثاً، وكذلك أقل ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التسبيح: ثلاث، إلاَّ أن يكون الرجل ناسياً.
قلت: فإن تعمد ذلك متعمد؟
قال: لا يخلو تعمده من أحد وجهين: إما أن يكون راغباً عمَّا أُجمع عليه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون ذلك مبطلاً لصلاته إذا كان ترك ما أتى به محمد متعمداً، أو الوجه الآخر وهو السهو.
قلت: فإنه رفع رأسه من ركوعه، فقال: سمع الله لمن حمده، هل يقول بعد ذلك: ربنا لك الحمد؟
قال: أما إذا كان يصلي وحده أجزاه أن يقول: سمع الله لمن حمده، لا غير، ويخرُّ ساجداً، وأما إذا كان مع الإمام، فقال الإمام عند رفع رأسه: سمع الله لمن حمده، قال هو: ربنا لك الحمد.
قلت: فإذا خرَّ ساجداً، هل يبدأ بركبتيه على الأرض قبل يديه، أم يضع يديه قبل ركبتيه؟
قال: يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه؛ لأن وضع الركب فعل البهائم؛ لأنها ترمي بركبها على الأرض.
قلت: فبأي شيء يبدأ الرجل إذا خر ساجداً على الأرض، بجبهته أم بأنفه؟
قال: بجبهته، ويضع أيضاً أنفه على الأرض مع جبهته. (1/34)
قلت: فإن لم يضع أنفه على الأرض مع جبهته، هل يجوز ذلك؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه جائز، وأما نحن فنحب أن يمكن جبهته مع أنفه على الأرض.
قلت: فإذا مكن جبهته وأنفه وبسط يديه، أين يكونان؟
قال: بحذا خديه.
قلت: فيفرج أصابعه في سجوده أم يضمها؟
قال: يضمها أحب إليَّ.
قلت: فيخرج مرفقيه ويتفجج إذا كان ساجداً أم يتضمم؟
قال: أما الرجال فيتفججون شيئاً يسيراً، ويخرجون مرافقهم، ويمدون أصلابهم في سجودهم، وأما النساء فيتضممن.
قلت: فإذا رفع رأسه من سجوده، هل يقول بين السجدتين شيئاً؟
قال: قد قال غيرنا في ذلك أقاويل، وأما علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقولي أنا فلا أرى أن يقول المصلي إذا رفع رأسه من ركوعه إلاَّ (سمع الله لمن حمده)، ويخر ساجداً، وكذلك إذا رفع رأسه من سجوده قال: الله أكبر، ثُمَّ خر ساجداً لا يقول غير ذلك.
قلت: فإذا وثب يريد القيام، هل يعتمد على يديه أم يضعهما على ركبتيه ويقوم؟
قال: وكذلك أيضاً، إذا أراد القيام من سجوده اعتمد على يديه لقيامه.
قلت: وكذلك أيضاً، إذا قرأ الحمد وختمها، هل يقول آمين؟
قال: لا، ومن قالها فقد تكلم في صلاته؛ لأن آمين كلمة من الكلام، وليست من القرآن.
قلت: فإنه لما صلى الركعة الثانية وأراد الجلوس في آخرها سها فقام فلم يجلس حتَّى استوى قائماً.
قال: إن كان لم يبتدئ في قراءته ويمضي في صلاته جلس وتشهد، وإن كان قد مضى في بعض القراءة أو بعض الصلاة مضى في صلاته حتَّى يتمها، ثُمَّ يسجد سجدتي السهو.
قلت: وكيف يتشهد في الأولتين؟
قال: يقول في الأولتين: (بسم الله، وبالله، والحمد لله، والأسماء الحسنى، كلها لله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).
قلت: فكيف يتشهد في الأخرتين؟
قال: مثل تشهده في الأولتين، فإذا قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)، ثُمَّ يسلم. (1/35)
قلت: فإن قال: التحيات لله والصلوات والطيبات، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، ويتم التشهد؟
قال: لا بأس بذلك، وأحب إلينا أن يتشهد بما قلنا به أولاً، وهو قول زيد بن علي رضي الله عنه.
قلت: فيسجد سجدتي السهو قبل التسليم، أم بعد التسليم؟
قال: بعد التسليم.
قلت: فإنه سجد سجدتي السهو قبل التسليم، ما يعمل؟
قال: بطلت صلاته، ويبتدئ الصلاة من أولها.
قلت: ولأي علة بطلت صلاته، وقد رويت في ذلك روايات في سجدتي السهو قبل التسليم؟
قال: لم يصح ذلك عندنا، ولا هو مما يوجبه العقل.
قلت: بيِّن لي ذلك أنَّ سجدتي السهو لا يكونان قبل التسليم، وأن صلاة الذي يفعل ذلك باطلة؟
قال: نعم، أليس قد أجمعت الأمة كلها أن التكبيرة الأولى تحريم الصلاة، وأن التسليم تحليل الصلاة؟
قلت: بلى.
قال: فمن زاد شيئاً في الصلاة ليس منها ما بين تحريمها إلى تحليلها، أليس قد أبطل صلاته؟
قلت: بلى، لا شك في ذلك.
قال: أفلا ترى أن هذا الذي سجد سجدتي السهو قبل التسليم، الذي هو التحليل، أليس قد زاد فيها ما ليس منها، ولم يحل له بعد ما عمل؛ لأنَّه بعد في تحريم الصلاة، فافهم ما قلت في هذا الباب.
قلت: قد فهمت. فإن الرجل كان قد وجبت عليه سجدتا السهو، فلما سلم سها، فقام ومضى ولم يسجد، ثُمَّ ذكر أنَّه لم يسجد، ما يعمل؟
قال: يعود إلى مصلاه فيسجد سجدتي السهو.
قلت: فإن لم يقدر على مصلاه، أو كان قد أبعد عنه؟
قال: يسجد في موضعه حيث ذكر، وذلك مجز له.
قلت: فإن كان قد تكلم واشتغل عن معنى الصلاة بتجارة أو كلام، ما يعمل؟
قال: يسجدهما عند ذكره لهما، وليس ذلك بناقض للصلاة، وذلك أنهما جعلتا إرغاماً للشيطان، ولم تجعلا إتماماً للصلاة ولا نقصاناً.
قلت: فإن كان الرجل خلف الإمام، وقد صلى معه المغرب وقد فاتته ركعة فجلس معه في الثانية والثالثة ثُمَّ كان على الإمام سهو، هل يسجد معه سجدتي السهو إذا سلم الإمام وسجد، أم يقوم فيقضي ويسجد هو بعد ذلك؟ (1/36)
قال: لا يسجد مع الإمام سجدتي السهو؛ لأنَّه لا يجوز له أن يسجد سجدتي السهو حتَّى يسلم، فإذا سلم الإمام قام فقضى ما كان عليه من باقي الصلاة، ثُمَّ يسجد سجدتي السهو.
قلت فإن سها الرجل وهو خلف الإمام حتَّى يذهب به السهو عما فيه الإمام من الصلاة، ولم يكن على الإمام سهو، هل عليه هو إذا سلم الإمام وانصرف أن يسجد هو سجدتي السهو لسهوه؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه إذا كان مع الإمام وأصابه السهو ولم يكن على الإمام سهو لا يسجد؛ لأنَّه مع الإمام وصلاته معقودة بصلاته، وأما قولي أنا فأُحِبُّ له إذا سها وهو خلف الإمام حتَّى لم يعلم ما قرأ الإمام ولا ما هو فيه سجد سجدتي السهو لفعله، واستغفر الله من ذنبه، ولم يعد إلى ما فعله من ذلك.
قلت: فإنه أدرك الإمام وهو راكع، كيف يعمل؟
قال: يكبر تكبيرة وهو قائم مُستوٍ، ثُمَّ يكبر ويركع وهو قد تمت صلاته.
قلت: فإنه كان يصلي لنفسه فسها في صلاته فلم يدر أصلَّى ركعتين أم ثلاثاً، ما يفعل؟
قال: ينظر إلى ما تيقن من ذلك، فإن كان أقرب يقينه إلى الركعتين بنَى عليهما، فإن كان إلى الثلاث بنى عليها.
قلت: فإن شك في ذلك ولم يدر أي ذلك صلَّى؟
قال: يستأنف الصلاة من أولها.
قلت: ولِمَ ذلك، وقد روي أنَّه يبني على أقل العددين؟
قال: أرأيت إذا بنى على أقل العددين وهو لا يتيقن ذلك يقيناً، أليس قد صلى على شك منه، إما كان ثلاثاً إن كان في الفجر، وإما خمساً إن كان في الظهر أو العصر، وفي كل ذلك فهو لا يدري أي ذلك صلى، أثلاثاً أو خمساً، هل تصح لهذا صلاة وقد خالف أمر الله؟
قلت: وكيف خالف أمر الله؟
قال: لقول الله تبارك وتعالى: {حافظوا على الصلوات}، وإنَّما معناها حافظوا على الصلوات الَّتِي أنزلت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما نزل بها جبريل من عند الله، لا يزيدون فيها ولا ينقصون منها، فمن شك في أنَّه قد زاد فيها أو نقص منها أمرناه بإعادتها من أولها. (1/37)
قلت: فإن الرجل لما قضى الصلاة فكر فقال في نفسه، قال: قد قصرت في بعض السجود أو الركوع، وهو متيقن أنَّه قد صلى أربع ركعات، هل يعيد الصلاة؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه لا يعيد، أما أنا فأرى أنَّه لا يضره بل الإعادة أحب إليَّ.
قلت: وكذلك أيضاً لو صلى وحده لنفسه، ثُمَّ مضى فنظر إلى رجل يصلي بالناس وهو يرضى به، هل يعيد الصلاة مع الجماعة ويعتقدها فريضة، ويرفض الأولى؟
قال: نعم، وما يضره من ذلك، وقد كرهه غيرنا، ولم يلتفت إلى قوله، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، أنَّه دخل وصلى بالناس، ورجل جالس في المسجد لم يصل معهم، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه فسأله عن أمره فقال: صليت يا رسول الله قبل أن تدخلوا، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان مثل ذلك أن يصلي مع إمامه صلاة مبتدأة ولا يعتد بالأولى.
قلت: فإن الرجل لما صلى وجلس في الثانية سها، فسلم تسليمتين عن اليمين وعن الشمال وهو جالس لم يتكلم، هل يجزيه أن يقوم فيبني على ما صلَّى؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه(1) يجوز، وأما علماء آل الرسول وقولي أنا: فلا أرى ذلك، وأُوجِبُ عليه أن يستأنف الصلاة من أولها.
قلت: ولأيِّ علةٍ ذلك؟
قال: لأنهم أجمعوا جميعاً أن التكبير تحريم الصلاة، وأن التسليم تحليلها، فلما سلم هذا كان قد أحل صلاته فليس يجزيه إلاَّ أن يستأنفها استئنافاً.
قلت: فإن الرجل لم يسلم تسليمتين، ولكنه سلم واحدة، هل يجزيه أن يقوم فيبني على الركعتين الأولتين؟
__________
(1) ـ وقد قال غيرنا يجزيه (ب).
قال: نعم؛ لأن التسليمة الواحدة لم تحل الصلاة، ولا تحل الصلاة إلاَّ تسليمتان عن اليمين وعن الشمال. (1/38)
قلت: فإذا فرغ هذا من صلاته، هل يسجد سجدتي السهو؟
قال: نعم؛ لأنَّه قد سها فسلَّم واحدة.
قلت: فصف لي الصلاة الَّتِي إذا صلاَّها الرجل أجزته؟
قال: نعم، ينبغي للمصلي قبل أن يصلي أن يعرف الموضع الذي وقف فيه.
قلت: فكيف يعرف ذلك، وأي موضع هو؟
قال: أعظم المواضع وأجلها أن يكون العبد بين يدي الله تبارك وتعالى، فينبغي له أن يعظم ذلك الموقف(1)، ويجمع همَّه حتَّى يصيره همَّاً واحداً في قيامه لصلاته والمحافظة عليها والخشوع فيها، ولا يلهو عنها بغيرها، فإذا قام وتوجه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثُمَّ افتتح كما شرحنا في صدر كتابنا، ثُمَّ كبر فقال: (الله أكبر)، ثُمَّ ابتدأ فقرأ الحمد وسورة، ثُمَّ وضع يديه على ركبتيه راكعاً ومدَّ ظهره حتَّى يستوي، ثُمَّ يسبح كما ذكرنا، ثُمَّ يرفع رأسه رفعاً حتَّى ينتصب قائماً وترجع مفاصله، ثُمَّ يخر ساجداً بتثبت، فيبسط يديه بسطاً، وكذلك جبهته وأنفه ويخرج مرفقيه ويتفجج ويسبح كما ذكرنا، ثُمَّ يرفع رأسه من سجوده ويتثبت حتَّى يرجع مفاصله ويستوي، ثُمَّ يعود فيسجد، وهو مع ذلك إذا انحط راكعاً كبر، وإذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده، وإذا خر ساجداً قال: الله أكبر، وكذلك إذا رفع بين السجدتين كبر، وكذلك في كل صلاته، فعلى هذا المثال يفعل، فإنَّ هذه صلاة تامة مجزية لا بالقصيرة ولا بالطويلة.
قلت: فإنه نسي بعض التكبير؟
قال: يسجد سجدتي السهو وصلاته تامة.
قلت: فإنه سها عن التكبير كله؟
قال: إذا لم يكبر في صلاته أصلاً فصلاته باطلة، وعليه إعادة الصلاة.
قلت: وكذلك لو قرأ الحمد وحدها؟
قال: قد قال غيرنا: إن صلاته تامة، وأما نحن فنقول: يستأنف الصلاة.
قلت: ولِمَ وقد روي أن القرآن كله مُجْزٍ مَا كَانَ ثلاث آياتٍ؟
__________
(1) ـ الموضع (ب).
قال: قد روي في ذلك روايات، والذي صح عندنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: <أقلَّ ما يجزي في الصلاة أُمّ الكتاب وثلاث آيات معها>. (1/39)
قلت: فإن كانت الثلاث آيات من وسط السورة؟
قال: مُجْزٍ.
قلت: فإنه صلى صلاته كلها بأُمِّ الكتاب وقل هو الله أحد، هل تجزيه؟
قال: نعم.
قلت: فإنه قرأ في صلاته الحمد وسورتين قصيرتين، هل يجوز(1) له ذلك؟
قال: نعم.
قلت: فهل يجوز أن يصلي مصل ويقرأ في صلاته الحمد وقل أعوذ برب الناس وقل أعوذ برب الفلق، هل يجزيه ذلك؟
قال: نعم، هما من القرآن وقد كذبت هذه الحشوية فيهما على الله وعلى رسوله ما لا يجوز ذكره ولا يحل القول به، فقالوا: ليستا من القرآن.
قلت: فإن قرأ في صلاته عشر آيات من سورة ولم يقرأ الحمد، هل تجزيه صلاته؟
قال: لا.
قلت: لِمَ؟
قال: لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <كل صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج>.
قلت: فهل يقرأ الرجل في الركعتين الآخرتين من الظهر والعصر والعتمة والثالثة من المغرب، بالحمد، أم يسبح؟
قال: كل ذلك عندنا جائز، والتسبيح أحب إلينا، وقد روي التسبيح عن علي بن أبي طالب عليه السلام، وروى علي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان يقرأ في الأولتين من الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويسبح في الآخرتين، وإن قرأ الحمد فلا بأس بذلك.
قلت: فإن الرجل لمَّا قام يصلي فكبر ومضى في صلاته مر بين يديه أعمى يتكمه وبين يديه بئر فخاف الرجل أن يسقط فيها وهو قريب منه، هل يمضي وهو في صلاته فينجي الأعمى عن البئر ويرشده إلى الطريق ثُمَّ يعود إلى صلاته فيبني على ما مضى منها، وكذلك إن مرت بين يديه عقرب أو حية فخاف أن يلسعه أو تلسع غيره، هل يتقدم بين يديه فيقتلها، وكذلك لو كانت عن يمينه أو عن شماله(2) ثُمَّ يرجع إلى صلاته فيبني على ما مضى منها؟
__________
(1) ـ يجزيه: نسخة.
(2) ـ يساره (ب).
قال: قد قال غيرنا إن ذلك جائز، وأما علماء آل الرسول، وقولي أنا فلا أرى أن يفعل المصلي من ذلك شيئاً. (1/40)
قلت: فهل يترك الأعمى يقع في البئر، والعقرب أو الحية يلسعان الناس؟
قال: لا، ولكنه يقطع صلاته ويقتلهما، وكذلك يهدي الأعمى إلى الطريق، ثُمَّ يرجع فيبتدئ صلاته استئنافاً.
قلت: فإن فعل ذلك فاعل ثُمَّ رجع إلى صلاته فبنى على ما مضى، هل تبطل صلاته؟
قال: نعم.
قلت: ولِمَ وقد جاءت في ذلك روايات؟
قال: لم تصح الرواية في ذلك لما ضادَّت الكتاب.
قلت: ومن أين ضادت هذه الرواية الكتاب؟
قال: من قول الله سبحانه: {حافظوا على الصلوات}، والمحافظة على الصلوات ألاَّ يعمل فيها عمل ليس منها، وأن لا يشتغل بشغل غير شغلها، ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}[ ]، ومن فعل شيئاً من ذلك فلم يخشع، وليس الخشوع بالقلب دون الجوارح، الخشوعُ بالكل، ومن اشتغلت جوارحه بغير الصلاة فلم تخشع له جارحة ولا قلب، ومن لم يخشع قلبه وجوارحه فلم تتم صلاته، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه نظر إلى رجل يعبث بلحيته وهو في الصلاة فقال: <لو خشع قلب هذا الرجل لخشعت جوارحه>.
قلت: فإن الرجل قام يصلي وهو ممَّن يكثر السهو ويخاف أن يسهو، هل يعُدُّ الركوع والسجود بخاتمه يجوله في أصابعه؟
قال: ذلك جائز، هو من المحافظة على الصلاة.
قلت: وكذلك لو وضع قبل التكبير حصى، فكلما ركع ركعة أو سجد سجدة حوَّل(1) واحدةً ليعرف بذلك ما يصلي؟
قال: وهذا أيضاً جائز.
قلت: وكذلك لو أن الرجل لما قام يصلي فكلما ركع أو سجد خطَّ بإصبعه خطّاً ليعرف به عدد الصلاة؟
قال: ذلك أيضاً جائز.
قلت: أفليس هذه أعمالاً، وقد ذكرت أن العمل يقطع الصلاة؟
__________
(1) ـ حول بالمهملة، نسخة.
قال: إنَّما قلت: إن كل عمل ليس من عمل الصلاة فهو يقطعها ويبطلها، وأما هذه الأعمال فهي مما يحفظ الصلاة ويقيمها في عددها وركوعها وسجودها، فهذا العمل من صلاح الصلاة لا من فسادها، والمحافظة عليها والتأني لإقامتها إذا احتاج إلى ذلك ولم يجد منه بداً لما يخشى من عوارض الشك ووسوسة الشيطان، ومن ابتلي بشيء من ذلك فالواجب عليه أن يستعمل كل ما ذكرنا مما يزيل عنه وسواس(1) الشيطان، ويثبت له ما قصد بصلاته من طاعة الرحمن. (1/41)
قلت: فهل يجوز للرجل أن يُسَوِّي رداءه في صلاته إذا وقع عن كتفيه؟
قال: نعم.
قلت: فهل يضع الرجل يده على فمه إذا تثاءب في الصلاة؟
قال: ما أحب ذلك، إلاَّ أن يخاف صاحبه ضرراً.
قلت: فإذا سجد الرجل، هل يسوِّي الحصا بيديه لموضع سجوده؟
قال: إن كان كَبَّرَ ولم يسوِّ الحصا بين يديه ثُمَّ نظر بعد ذلك فإذا الحصا الذي بين يديه ليس بمستوٍ سوَّاه ولم يضره؛ لأنَّه أيضاً من عمل الصلاة ولا يعمل ذلك من غير حاجة، وإنَّما أجزناه له؛ لأن الحصا إذا تفاوت لم تستو جبهته ولا أنفه على الأرض، فأمرناه بتسويته ليتم له ما أمره الله به.
قلت: فإن الرجل لما قام في صلاته مَرَّ بين يديه كلب أو سنَّور أو حمار أو ما أشبه ذلك من الدواب أو مرت حائض أو ولد زنى معروف، هل يقطع شيء من ذلك الصلاة؟
قال: لا يقطع الصلاة عندنا شيء من ذلك، وقد قال غيرنا: إنَّه يقطع الصلاة، ولسنا نلتفت إلى شيء من قولهم.
قلت: فَلِمَ؟
قال: لأن الله تبارك وتعالى أقرب إلى العبد مما يمر بين يديه؛ لقوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}[ ].
قلت: فإن قام المصلي في فضاء من الأرض، هل يجزيه أن يصلي وإن لم يضع بين يديه شيئاً؟
قال: أحب إليَّ أن يضع بين يديه مثل مقدمة الرجل، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فإن لم يضع ذلك؟
قال: بأحجارٍ نظافٍ(2) يصُفّها بين يديه.
__________
(1) ـ وساوس (ب).
(2) ـ قال بأحجار نظاف يضعها بين يديه (ب).
قلت: فإن لم يفعل ذلك؟ (1/42)
قال: فيخط بين يديه خطاً؟
قلت: فإن لم يفعل؟
قال: يجزيه ذلك.
قلت: فإن رجلاً قام يصلي وفي لبته(1) دراهم أو دنانير أو حجارة أو طين أو قوارير أو ما أشبه ذلك؟
قال: إذا لم يعلم أن في ذلك قذراً فلا بأس به.
قلت: فإن رجلاً صلى صلاة تامة حتَّى إذا جلس في الرابعة الَّتِي يجب فيها التسليم فاستوى جالساً رعف قبل أن يتشهد؟
قال: يعيد الصلاة.
قلت:فإن تشهد ثُمَّ رعف أو أحدث حدثاً قبل أن يسلم؟
قال: يعيد الصلاة.
قلت: فقد روي عن ابن مسعود وغيره أن المصلي إذا استوى في آخر صلاته قدر التشهد فقد تمت صلاته، وإن لم يسلم؟
قال: هذه الرواية الَّتِي رووها تنقض عليهم إجماعهم الذي أجمعوا عليه.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: لأنهم أجمعوا جميعاً أن تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم، ثُمَّ زعموا أن من لم يسلم فقد تمت صلاته، وفي هذا ما ينقض قولهم من قولهم، وكذلك أيضاً قولنا؟
قلت: وكذلك إذا سها المصلي، ثُمَّ كان أقرب يقينه أنَّه قد صلى أربعاً فانصرف، ثُمَّ ذكر بعد ذلك أنَّه صلى خمساً؟
قال: قد أجملت لك هذا الباب كله جملةً واحدة في الصلاة، أن المصلي إذا لم يعلم علماً يقيناً ما صلى أعاد الصلا، وإذا علم أنَّه قد نقص أو زاد أعاد الصلاة، وكذلك إن عمل في الصلاة شيئاً ليس من عملها والمحافظة عليها من لدن تحريمها إلى لدن تحليلها أو حدث به رعاف أو سيل نثرة أو شيء من هذه المعاني أعاد الصلاة من ذلك كله، فاكتف بذلك في هذا الباب.
قلت: فإن رجلاً جُنَّ عشرة أيام ثُمَّ أفاق بعد ذلك، هل يعيد الصلاة؟
قال: لا؛ لأنَّه قد اعتلَّ عِلَّةً زال بها ما كان عليه من فرض الصلاة.
قلت: وَلِمَ؟
قال: لأن الاستطاعة للصلاة زالت فزال عنه الفرض، فلما أفاق عادت الاستطاعة، فعاد الفرض.
قلت: فكيف وجب عليه إعادة الصوم ولم يجب عليه إعادة الصلاة؟
__________
(1) ـ لبسته (ب).
قال: لقول الله سبحانه: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}[ ]، ولم يذكر إعادة الصلاة بعد المرض كما ذكر إعادة الصوم، وكذلك أجمعوا جميعاً أن المغمى عليه لو مكث شهراً أو أقل أو أكثر لم يُعِدْ من الصلاة إلاَّ لليوم الذي أفاق فيه، فإن أفاق وقد بقي من الشمس قدر ما يصلي ركعة من عصره قضى صلاة يومه ذلك، وكذلك إن أدرك من ليلته مقدار ما يصلي ركعة من العتمة قبل طلوع الفجر قَضى صلاة ليلته تلك ولم يعد صلاة اليوم، فهذا إجماعهم. (1/43)
قلت: فإن أقام هذا المجنون عشر سنين مجنوناً أو أكثر أو أقل، لم يصم في شيء منها، ثُمَّ برأ، ما يلزمه؟
قال: يلزمه أن يقضي جميع ما أفطر من الشهور الَّتِي أوجب الله عليه صيامها، وهي شهر في كل سنةٍ وهو رمضان {الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}[ ].
قلت: ولِمَ لزمه هذا كله؟
قال: لأنَّه كان مريضاً، فأفطر في حال مرضه فوجب عليه القضاء.
قلت: وكذلك لو أنَّه مرض مرضاً ولم يغم عليه، ولكنه لم يقدر يصلي وعقله ثابت؟
قال: وكذلك أيضاً لا يعيد؛ لأنَّه لم يستطع، وكذلك كل من كان في علة لم يقدر على الصلاة بحيلةٍ لم يُعِدْها إذا زال وقت تلك الصلاة.
قلت: فإن كان يستطيع وهو مريض فنسيها أو تغافل عنها حتَّى ترك ذلك عشرة أيام أو أكثر من ذلك أو أقل؟
قال: إذا لم يتركها استحلالاً وكفراً أعادها.
قلت: كيف يعيدها، مع كل صلاة صلاة، أم في وقت واحد؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه يعيد مع كل صلاة صلاة، فأما أنا فقولي وقول علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام: أنَّ كل ذلك مجزٍ له، إن أعاد مع كل صلاة صلاة ونوى(1) أنَّها لما تقدم من نسيانه، أو صلاَّها في يوم واحد في موضع واحد إذا قدّم النية لكل صلاةٍ الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، جاز له ذلك.
قلت: فهل يعيد مع ذلك النوافل؟
قال: لا، إلاَّ أن يحب ذلك.
__________
(1) ـ ونواها، نسخة.
قلت: فإنه في صحته ترك النوافل عمداً ولم يصل إلاَّ الفرض، هل يعيد النوافل؟ (1/44)
قال: قد قدمنا جواب ذلك أنَّه لا يعيد، ويلزمه الخطأ والأدب إذا تعمد ذلك، وتركه استخفافاً.
قلت: فأقل ما يتنفل به الرجل، ماهو؟
قال: ركعتا الفجر، وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وثلاث ركعات (الوتر).
قلت: فهل توقت في النوافل بعد هذا شيئاً؟
قال: أما علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم وقولي أنا: فلا نوقت في النوافل وقتاً؛ لأنها خير موضوع، فمن شاء أقل منه ومن شاء أكثر، وقد وقت في ذلك أصحاب الإمامة في اليوم والليلة إحدى وخمسين ركعة النوافل وكذا الفرائض، ومن نقص من ذلك عندهم شيئاً فقد نقص الصلاة، ولم يلتفت إلى قولهم في ذلك.
قلت: فإن الرجل يتنفل في يومه وليلته بمائة ركعة، ثُمَّ نقَّص من بعد ذلك فتنفل بخمسين ركعة، وكذلك يزيد يوماً وينقص يوماً؟
قال: ذلك حسن جميل لا ينهض نفسه فيما لا يطيق وتضعف نيته، ولكنه يعمل في ذلك على قدر ما يمكنه.
قلت: فإن رجلاً صلى بالناس على سطح بيت أو في مسجد مغلق ومعه جماعة وفي الأرض قوم يأتمُّون به ويصلون معه، وكذلك لو كان الإمام أسفل على الأرض ومعه جماعة وقوم آخرون على سطح بيت يأتمون به ويصلون معه جماعة؟
قال: قد أجاز ذلك غيرنا، وأما أنا فأكره ذلك وأحب إليَّ أن يكون الإمام وكل من يصلي بصلاته أسفل، إذا كان الإمام أسفل، وإذا كان فوق سطح كانوا معه فوق سطح.
قلت: فإن الإمام كان فوقهم وهم أسفل، هل يعيدون الصلاة؟
قال: نعم.
قلت: فإن رجلاً صلى بالناس وهو جنب ناسياً أو صلى بهم على غير وضوء ناسياً، ما يعمل؟
قال: قد روي في ذلك عن عمر أنَّه قال: يجزيه أن يعيد هو وحده ولا يعيد من صلى معه، وروي عن علي بن أبي طالب أنَّه قال: (إذا صلى الإمام بالناس وهو جنب أو على غير وضوء أعاد وأعادوا جميعاً)، وهو قولي وقول علماء آل الرسول عليهم السلام.
قلت: فكيف يعمل الإمام وقد تفرق الناس؟
قال: يعلمهم كل ما صلى ويقول: إني قد صليت يوم كذا وكذا الفجر أو الظهر أو الصلاة الَّتِي صلاها، فمن صلاها معي فليعد الصلاة ويعلم الشاهد منكم الغائب. (1/45)
قلت: هل تجوز الصلاة في جوف الكعبة؟
قال: قد كرَّه ذلك قوم، وما الصلاة إلى جدرها في جوفها إلاَّ كالصلاة إلى جدرها من خارجها، وإنَّما كره ذلك من كرهه؛ لأنَّه أحب أن يكون الكعبة كلها بين يديه، ولا يكون وراءه منها شيء، والقليل منها والكثير يجزي إذا كان وجه المصلي إليها كما أمره الله، ألا تسمع كيف ذكر الله الصلاة إلى البعض كما ذكر الصلاة إلى الكل حيث يقول: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}[ ]، يريد جانباً منه حيث وليتم من الجوانب، وكان تجاهكم من نواحي الكعبة أي ناحية كانت أجزت، ولو كان فرضاً أن يكون كلها أمامه، لم تتم صلاة مصل صلى إلى بعضها دون بعض، ولمَا تمت لمصل صلاة إلاَّ أن المصلي إليها لا يقدر أن يجعلها كلها بين عينيه، ولا بد أن يكون بين عينيه وتجاه وجهه منها جانب، وليس الصلاة إلى جانب منها في جوفها إلاَّ كالتوجه خارجاً منها إلى بعضها، ولا بد أن يكون عن يمين المصلي إليها بعضها وعن شماله بعضها، وليس كينونة بعضها عن يمينه وعن(1) شماله إلاَّ ككينونة بعضها من ورائه.
قلت: فإن الإمام صلى بالناس بمكة في المسجد الحرام فقام عند مقام إبراهيم وصف الناس بالمسجد حلقة، هل يجوز ذلك وإن كان بعضهم مقابلاً له؟
__________
(1) ـ عن يمينه ويساره (ب).
فقال: قد رأينا الناس يصلون حلقاً من حوالي الكعبة والإمام وراء المقام فنمهم من هو مواجه له، ومنهم من الكعبة بينهم وبينه، وهم على ذلك قديماً وحديثاً، ولسنا نرى ذلك ولا نحبه ولا نجيزه، ولا الصلاة إلاَّ من وراء الإمام عن يمينه أو عن يساره، والقول عندنا أن تنقض تلك الحلق كلها ويصفون وراء الإمام صفوفاً صفاً من وراء صف حتَّى يكونوا به مؤتمين ويكون لهم إماماً، وإذا لم يكن أمامهم ويكونوا وراءه لم يصح له اسم إمامتهم ولم يصح لهم اسم الائتمام به وليس من قابل وجوه الناس لهم بإمام، إذ ليس هو متقدماً لهم وهم متأخرون عنه؛ لأن كلهم متوجه إليها مستقبل لجانب منها. (1/46)
قلت: فإن الإمام في جوف الكعبة وأراد أن يصلي بالناس وهم في المسجد الحرام حول البيت، هل يجوز ذلك؟
قال: قد تقدم قولنا فيمن صلى بناس وهو فوقهم؛ لأن الكعبة عالية والمسجد خافظ.
قلت: فهل يجوز لأحد أن يصلي فوق الكعبة؟
قال: لا أحب ذلك له ولا أراه؛ لأنَّه لم يتوجه إلى شيء من جدرها ولم يجعل قبلته شيئاً منها.
قلت: فإن الإمام قام عند مقام إبراهيم وصف الناس خلفه حول البيت وصف النساء بين صفوف الرجال، هل يفسد بذلك صلاة من يقاربهن من خلفهن؟
قال: نعم، ولا يجوز أن يكون النساء إلاَّ من وراء الرجال كلهم، ومن فعل ذلك فقد أخطأ.
قلت: وكذلك لو أن الإمام وقف في المسجد خلف مقام إبراهيم وامتلأ المسجد فوقف بين يديه صفاً وصفان ما بين مقام إبراهيم والكعبة وهم يأتمون به، من الذي يفسد صلاته منهم؟
قال: من كان تجاه وجهه، فأما من كان زائغاً عن وجهه يميناً أو شمالاً فلا بأس ـ عند الضرورة ـ بصلاتهم.
قلت: فإن رجلاً لم يجد الماء ولا الصعيد، هل يصلي بغير طهور؟
قال: نعم إذا عدم الماء والصعيد صلى ولم يترك الصلاة.
قلت: فهل يعيدها إذا وجد الماء؟
قال: إذا كان في وقت من تلك الصلاة توضأ وأعاد الصلاة، وإن كان الوقت قد جاز وفات لم يعدها.
قلت: فإن رجلاً مس ذكره في الصلاة، هل ينقض عليه الوضوء؟ (1/47)
قال: لا. وقد قال غيرنا: إنَّه ينقض الوضوء، ولم نلتفت إلى قوله.
قلت: فإنه مس بعض بدنه فوجد قملة، ما يعمل؟
قال: يطرحها عنه.
قلت: فإنه لما وجدها أخذها بأصبعه فقتلها(1)، ما يعمل؟
قال: أحب إليَّ أن يعيد الصلاة، وذلك أنَّه عمل عملاً ليس من عمل الصلاة، وقد قال غيرنا: إنَّه لا يعيد، والإعادة أحب إلينا.
قلت: فهل يجوز للرجل أن يصلي جالساً فيكبر وهو جالس، فإذا قرأ بعض السورة قام فأتم السورة وركع؟
قال: لا أحب ذلك وقد قال غيرنا: إنَّه يجوز، وأما نحن فلا نرى ذلك، ولكنا نرى أن الرجل إذا افتتح الصلاة قائماً أتم قائماً، وإذا افتتح الصلاة جالساً أتم الصلاة جالساً في النافلة، فأما الفريضة فلا يصلي جالساً إلاَّ من علة.
باب القول في القصر في صلاة السفر
وسألته عن الرجل إذا سافر، متى يقصر الصلاة؟
قال: أما علماء آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم وقولي أنا: ففي بريد يقصر الصلاة، والبريد أربعة فراسخ بالميل الأول.
قلت: فإذا خرج الرجل من مدينته فظهر منها وصار على بريد وهو يرى بيوت مدينته، هل يقصر الصلاة؟
قال: لا يقصر ما دام يرى بيوت مدينته حتَّى يتوارى عنه البيوت، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس ترى البيوت من بريد؛ لأن حجبات الأرض تحجب الأبصار عن درك الديار.
قلت: وما حجبات الأرض؟
قال: البعد الذي ينقطع دونه البصر، وما أحسب ـ والله أعلم ـ أن معنى قول الله تبارك وتعالى في مريم عليها السلام حين يقول سبحانه: {فاتخذت من دونهم حجاباً}[ ]، فما أراد في ذلك عندي ـ والله أعلم ـ إلاَّ بعداً وتنحياً من قربهم، حتَّى احتجبت بالمسافة بينهم وبينها أبصارهم.
قلت: فإن خرج من مدينته يريد سفراً فغابت منه(2) البيوت على ميل أو أقل من ميل وحضرت الصلاة، هل يقصر؟
قال: نعم.
__________
(1) ـ ففتها، نسخة.
(2) ـ عنه، نسخة.
قلت: وكذلك لو رجع المسافر من سفره فرأى بيوت مدينته قبل أن يدخلها ببريد أو أقل أو أكثر، هل يتم الصلاة إذا حضرت؟ (1/48)
قال: نعم، إذا رأى المسافر بيوت مدينته أتم.
قلت: فإن المسافر خرج من مدينته إلى بعض البلاد، ثُمَّ رجع فمر بمدينته نافذاً إلى غيرها فبات فيها ليلة على أن يغدو منها في سفره، هل يتم الصلاة في الليلة الَّتِي بات فيها؟
قال: نعم، ما دام موطنه فيها ورجوعه من الأسفار إليها.
قلت: فإنها مدينته وانقلع منها وصار موطنه في غيرها، فسافر فمر بها وبات فيها، هل يتم الصلاة في الليلة الَّتِي يبيت فيها؟
قال: لا؛ لأنَّه قد انتقل منها.
قلت: فإن مُسَافراً أقام في بلد وهو لا يعزم على المقام، كم يقصر الصلاة؟
قال: إذا كان يقول: اليوم أخرج وغداً أخرج، فله أن يقصر الصلاة شهراً، فأما أكثر من ذلك فلا، وإن عزم على مقام عشرة أيام أتم الصلاة.
قلت: فهل يجب على أهل البوادي الذين ينتقلون في كل يوم ويومين وثلاثة القصر؟
قال: أهل البوادي البادية دارهم، فإذا انتقلوا كل يوم أقل من بريد أتموا الصلاة، وإذا تيقنوا في نقلتهم أنهم يسيرون بريداً قصروا فيها الصلاة.
قلت: فأهل البحر الذين في السفن، هل يجب عليهم القصر؟
قال: نعم، هم مسافرون.
قلت: ولو كانوا دهرهم لا يقيمون؟
قال: إذا لم يقيموا وكانوا في سفر في بحر أو بر وجب عليهم القصر.
قلت: فإنهم أرسوا في جزيرة أو غيرها وعزموا على مقام عشرة أيام، هل يتمون؟
قال: نعم، قد قدمنا الجواب في ذلك.
قلت: فإن هؤلاء الجند يخرجون في العساكر يسافرون وهم يعصون الله سبحانه، هل يجب عليهم القصر؟
قال: نعم، يجب القصر على كل مسافر بما أوجب الله عليهم، وعليهم أن لا يعصوا الله.
قلت: فإن عارضنا معارض فقال: إنَّما أوجب الله القصر في السفر عند المخافة ولم يوجبه عند الأمانة بقوله: {إن خفتم}[ ]، فبِمَ نحتجُّ عليه، بيِّن لي ذلك حتَّى أفهمه؟
قال: نعم ـ إن شاء الله والقوة بالله وله ـ يقال لمن قال بذلك: خبرنا عن القصر الذي تذكر، فلا بد أن يكون مشروحاً مبيناً، فلا يجد بداً من أن يقول: نعم، فإذا قال ذلك، قيل له: أفتجد في القرآن ذكر قصرين أم قصر واحد؟ فإذا قال: لا أجد قصرين إلاَّ قصراً واحداً، وهو هذا القصر الذي عند المخافة، قيل له: فكيف صلاة المخافة وقصرها؟ فلا تجد بداً من أن تقول: ما الناس مجمعون عليه معاً، فنقول: هي عند مواجهة العدو ومضاربته ومصادمته، فيقال له: فكيف هي؟ فلا بد أن تقول: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الخوف، وهي أن يقوم الإمام إذا كان ذلك فيكبر ويصف وراءه نصف الناس أو أقل أو أكثر، ثُمَّ يصلي بهم ركعة ثُمَّ يقوم من الركعة الثانية فيطوِّل في قراءته، وتتم الفئة الَّتِي وراءه صلاتها وهي ركعة أخرى، ثُمَّ يسلمون إذا صلوا ركعتين واحدة مع الإمام وواحدة مع أنفسهم، ثُمَّ يمضون فيقومون في وجه العدو وتأتي الفئة الأخرى فتقف وراء الإمام وهو في قراءته فيصلي بها الركعة، الَّتِي هي له ثانية وهي لهم الأولى، ثُمَّ يسلم الإمام ويقومون فيصلون الثانية لأنفسهم، ثُمَّ يسلمون ويعودون إلى مصافهم، فلما وجدناهم يقصرون صلاتهم عن صلاة الإمام فيصلون واحدة معه وواحدة مع أنفسهم، ولم يكن هذا يجوز لمصل في غير الخوف أن يقصر صلاته عن صلاة إمامه بحيلة من الحيل ولا في رخصة من الرخص إلاَّ في هذا الموضع موضع الخوف والتلف، علمنا أن الذي أمر الله عز وجل بقصره عند الخوف وأجازه وأطلقه ورخص فيه عند الحاجة هو هذا الموقف، وهي هذه الصلاة صلاة الخوف، فرخص لهم عند نزول هذه النازلة في أن يقصروها عن صلاة إمامهم فيصلون واحدةً معه وواحدةً مع أنفسهم، فهذا معنى ما ذكر الله من القصر عند الخوف، ولم يرد تبارك وتعالى قصر الأربع إلى الثنتين، ومن الحجة في ذلك أن صلاة الخوف بإجماع الناس(1) كلهم، لا يكون إلاَّ في سفر (1/49)
__________
(1) ـ الأمة كلها، (ب).
ولا يجوز في حضر ولا يكون، فلما أن وجدنا المصلين في وقت الخوف يصلون واحدة مع الإمام وواحدة مع أنفسهم علمنا أنهم قد قصروا مقصوراً في الأصل وهي الأربع الَّتِي قصرت في الأصل إلى الثنتين، ثُمَّ قصرت في صلاة الخوف عن صلاة الإمام، ولو كانت الصلاة في السفر أربعاً غير مقصورة ثُمَّ دخل عليها الخوف لكان الواجب أن يقصرها الناس فيصلوا نصفها مع الإمام ونصفها مع أنفسهم، فيصلوا مع الإمام ركعتين ومع أنفسهم ركعتين فيكون قصر الخوف الذي لا يجوز في غير الخوف من قصر صلاتهم عن صلاة إمامهم، فلما وجدناهم لا يصلون إلاَّ اثنتين وجدنا قصرهم لصلاتهم عن صلاة إمامهم لا يقع إلاَّ ركعتين ولا يتمون أربعاً لأنفسهم، علمنا أن أصل الصلاة في السفر اثنتان، ولذلك قصروا صلاتهم عن صلاة إمامهم فيهما فصلوا واحدة معه وواحدة مع أنفسهم، ومن الدليل على أن صلاة السفر اثنتان لا أربع في غير الخوف صلاة الإمام الآمن على نفسه بالمقاتلة الَّتِي من ورائه ركعتين دون أربع، فلما صلى الإمام واحدةً بطائفةٍ وركعةً أخرى بطائفة، علمنا أنَّها أصل صلاة السفر، وعلمنا أن الذي ذكر الله من القصر وأطلقه حين قال: {أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا}[ ]، هو قصر المسلمين صلاتهم عن صلاة إمامهم، وسلامهم قبل سلامه وانقضاء فرضهم قبل انقضاء فرضه ودخول الطائفة الأخرى في آخر صلاته وإتمامها لركعتها الباقية بعد سلامه، وفي هذا بيان لمن أراد الحق، وترك الباطل، وقصد الهدى، ولمَّا أن لم نجد في القرآن ذكر قصرين علمنا أن القصر الذي ذكر عند المخافة هو القصر الذي وجدنا، يكون مع الفئتين في صلاتهما مع إمامهما، وعلمنا أن الله تبارك وتعالى أخبرنا بما ألقى من ذلك إلى جبريل وألقاه جبريل عليه السلام إلى نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم من شرحه في الكتاب، أو قد أصَّل أصل الصلاة فيه فاجترأ بعد تأصيل ذكرها في كتابه عن تفصيل عددها في فرقانه كما أخبرنا تبارك (1/50)
وتعالى بتبليغ جبريل لعدد ركعاتها في الحضر إليه، ولم يفصلها بعددها في الكتاب الذي أنزله عليه، فكان تأصيل ذكر الصلاة مشروحاً في الكتاب مبيناً بقوله تبارك وتعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}[ ]، وكان تفصيلها وشرح عددها على لسان جبريل من الله تبارك وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فأثبت فرض الصلاة في الكتاب، وفرع ذكر الصلاتين على لسان الملك الذي هبط به إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فبيَّنَ لنبيه صلاة السفر على لسان جبريل كما بيَّنَ له على لسانه صلاة الحضر، فأعلمه أن صلاة السفر ركعتان كما كانت الصلاة أولاً، وأن صلاة الحضر أربع كما جعلت آخراً، وكذلك ذكرت الزكاة مجملة في الكتاب، ثُمَّ فسرت على لسان جبريل عليه السلام، فبَّيَن كم هي، ومتى هي، ومن كم هي. فجاء من الله شرح القصر في السفر على المعنى الذي جاء منه شرح الإتمام في الحضر على لسان الملك المقرب المذكور في الكتاب المنزل المسطور، ثُمَّ وجدنا بعد ذلك ذكر القصر في الخوف، ثُمَّ وجدنا القاصرين للصلاة في ذلك الوقت عن صلاة إمامهم لم يقصروا إلاَّ ركعة دون ركعة، ولم يتموا إلاَّ ركعتين، وكذلك وجدنا الإمام لم يصل إلاَّ ركعتين، فاستدللنا بصلاة الإمام وإتمام الفئة على ما أرد الله من القصر، فعلمنا أنَّه لم يرد إلاَّ قصر صلاتهم عن صلاة إمامهم، فرخص في ذلك لهم عند هذا الوقت من مخافة عدوهم، ولو أراد الله سبحانه ما قال به من لم يرى القصر في السفر لكان الواجب أن يبين ذكر القصر الثاني، الذي هو قصر من يصلي وراء الإمام لصلاته عن صلاة إمامه؛ لأن هذا أمر استحلته الأمة واستجازته هول عظيم لم يكن ليجوز لخلقٍ ولا لورعٍ أن يفعله إلاَّ بإجازة من الله سبحانه وإطلاق، فلم نجد ذكر قصرين، ووجدنا ذكر قصر واحد، فعلمنا أن الله لم يرد إلاَّ القصر الثاني الذي فيه إباحة هذا المعنى من قصر صلاة الرعية عن صلاة إمامها، وعلمنا أن حال عدد صلاة السفر كان (1/51)
كحال ذكر عدد صلاة الحضر تبلغةً من جبريل إلى نبي الله عن الله، فقد بان بما ذكرنا وشرحنا صدق ما به قلنا، وبطلان ما قال به غيرنا؛ لأن ما قلنا به من طرح ذكر عدد صلاة السفر يمكن أن يكون مبيناً في غير الكتاب مما أرسل الله عز وجل به جبريل إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، كما أمكن أن يكون تبيين عدد صلاة الحضر في غير الكتاب، وذلك كله بإجماع الأمة لا يختلف فيه أن عدد الركعات لم يأت مشروحاً في الكتاب، وأنه إنَّما أتى عن الله على لسان جبريل صلى الله عليه إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فكان الأمر في هذا واحداً لا اختلاف في الفرضين بسببٍ ولا معنى. (1/52)
وكلما سأل سائل أو طالب مطالب به بما في الكتاب وما جعل الله من قصرها طولب بإيجاد عدد فرض صلاة الحضر في إيجاد ذكر صلاة السفر، ولا يطالب بإيجاد عدد صلاة السفر في معنى إلاَّ وجَبَ عليه مثله في إيجاد عدد صلاة الحضر في الكتاب سواء سواء، فلا يجد بُدّاً من الرجوع إلى الحق أو الخروج إلى غير الصدق، فيكون بذلك جاهلاً، وعن الحق مائلاً ولم يكن بُدٌّ أن تأتي هذه الرخصة والإطلاق لهذا الأمر العظيم من قصر صلاة المصلين عن صلاة إمامهم في كتاب أو سنة مما جاء بها جبريل عن الله، فلما أن لم نجد ذلك فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أحد من الناس فضلاً عن أن يجمعوا عليه، فنقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء بهذه الرخصة دون الله، أو يقولون: إنها جاءت إلى رسول الله من الله على لسان الملك دون كتاب الله، ووجدناهم مجمعين معاً على أن هذه الرخصة جاءت في كتاب الله منصوصة، وهو قول الله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً}[ ]، علمنا أنَّه قصر صلاة الأمة لصلاتها عن صلاة إمامها في وقت حربها وخوفها دون ما قالوا به من قصر الأربع إلى الثنتين، وكنا نحن وهم مجمعين على هذا ولم يكن معهم حجة في أن الأمة جاءت بقصر الأربع إلى الثنتين ، وكنا مخالفين لهم في ذلك، فكانت الحجة حجة من أقام البينة على دعواه ولم يكن الحجة لمن لم يُقم البينة على قوله ومعناه، وقد شرحنا حجتنا وبينا في أول الكلام بما فيه كفاية لمن أنصف من أهل الإسلام. (1/53)
قلت: قد فهمت ما شرحت من الحجة في القصر، فما تقول في رجلٍ سافر فأتم الصلاة في سفره؟
قال: من أتم الصلاة في سفره كان كمن قصر في الحضر؟
قلت: فتوجب عليه الإعادة؟
قال: نعم؛ لأنَّه قد صلى في السفر صلاة لم يأمره الله بها، وترك ما أمره الله به من صلاة السفر، فأوجبنا عليه الإعادة.
قلت: فهل يجوز للمسافر أن يصلي خلف المقيم، وكذلك المقيم، هل يصلي خلف المسافر؟ (1/54)
قال: قد قال بعض علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إن المقيم يصلي خلف المسافر، فإذا سلم المسافر أتم المقيم، وكره أن يصلي المسافر خلف المقيم، والصواب عندي أن لا يصلي مسافر خلف مقيم؛ لأنَّه إذا سلم قبله فلم يأتم به.
قلت: فإن رجلاً صلى بالناس فحدث به حادث من رعاف أو غيره، ما يعمل ؟
قال: قد انقطعت صلاته في نفسه، وإذا انقطعت صلاته في نفسه فقد انقطعت صلاة من خلفه؛ لأن صلاتهم معقودة بصلاته، وقد قال غيرنا: إنَّه يجذب رجلاً من خلفه بثوبه فيقدمه موضعه، فيصلي بالقوم تمام الصلاة، ولسنا نرى ذلك.
قلت: فهل يجوز للمطلق أن يصلي خلف المقيد؟
قال: نعم، إذا أتم الصلاة لم يضره القيد.
قلت: فهل يكره الصلاة خلف أحد؟
قال: الصلاة تجوز خلف كل أحد إلاَّ أربعة، لا يجوز لأربعة أن يصلوا خلفهم.
قلت: بيِّن لي هؤلاء؟
قال: لا يجوز للمكتسي أن يصلي خلف العريان، ولا يجوز للمتطهر أن يصلي خلف المتيمم، ولا يجوز للورع أن يصلي خلف الفاسق، ولا يجوز للمهاجر أن يصلي خلف الأعرابي وسائر الناس، فصلاة بعضهم ببعض جائزة إذا كانوا مسلمين ورعين، وقد قال غيرنا: إنَّه يكره الصلاة خلف الأعمى، وليس ذلك عندي كما قال، بل الصلاة خلف الأعمى إذا كان ورعاً أفضل؛ لأن النظر يشغل البصيرة، والأعمى ليس له بصر يشغله عما هو فيه من صلاته.
باب صلاة الليل
وسألته عن صلاة الليل، كم هي؟ وكيف يصلي مثنى مثنى، أم أربعاً؟ وكذلك صلاة النهار؟
فقال: اليل والنهار جميعاً مثنى مثنى، وهما مستويان في النافلة سواء، وكل نافلة فهي مثنى، وقد اختلف في ذلك، فقال قوم: ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر، ولم نلتفت إلى ذلك، وإنَّما صلاة الليل ثماني ركعات، وكذلك صح لنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ الوتر بعد ذلك لمن أخره.
قلت: فإن قدم الوتر وصلاَّها بعد صلاة الفريضة وهي التعتمة؟ (1/55)
قال: حسن لا بأس به، وإن أخرها إلى آخر الليل فهو أفضل.
قلت: فما تقول في الرجل تفوته صلاة الليل حتَّى يطلع الفجر، هل يصلي صلاة الليل بعد طلوع الفجر قضاءً لصلاة الليل؟
قال: قد كرهه غيرنا، ونحن فلسنا نكرهه وهو جائز، ولا يجعله الرجل عادة ولا تعمداً، وإنَّما كرهت الصلاة في ثلاثة أوقات: أول طلوع الشمس حتَّى ترتفع، وأول ما تقوم الشمس حتَّى تزول، وعند غروب الشمس حتَّى تغرب ويدخل الليل.
باب صلاة الجمعة
وسألته عن الرجل إذا أمره الإمام أن يصلي بالناس يوم الجمعة، كيف يعمل؟
قال: يركع قبل أن يصعد المنبر ركعتين، ثُمَّ يصعد المنبر وهو متأيد على كل درجة وقفة يذكر الله حتَّى يصير في أعلى المنبر، ثُمَّ يجلس مستقبلاً للناس بوجهه حتَّى ينادي المنادي، ثُمَّ يقوم فيبتدئ الخطبة، فيخطب الخطبة الأولى يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويعظ الناس ويذكرهم بالله، فإذا فرغ من ذلك ذكر الجمعة وفضلها ورغب الناس في السعي إليها، ثُمَّ يقرأ سورة من سور المفصَّل، ثُمَّ يجلس جلسة خفيفة، ثُمَّ يقوم فيخطب الخطبة الثانية وهي أقصر من الأولى وأوجز، فإذا صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا للإمام والمسلمين، ثُمَّ ينزل فيتقدم بالناس فيصلي بهم ركعتين وينصرف.
قلت: فما يقرأ في الركعتين؟
قال: يقرأ في الأولى الجمعة، وفي الثانية المنافقين.
قلت: فإن قرأ في الثانية بسبح وما أشبه ذلك؟
قال: فلا بأس بذلك.
قلت: فما تقول في رجل فاتته الخطبة يوم الجمعة، كم يصلي؟
قال: يصلي أربعاً.
قلت: فإن أدرك الإمام على المنبر وقد أتم الخطبة، ولم يسمع الرجل منها شيئاً حتَّى نزل الإمام فتقدم بالناس يصلي بهم فصف الرجل مع الناس؟
قال: يصلي أربعاً، اثنتين مع الإمام، فإذا سلم الإمام قام فأتم ركعتين آخرتين.
قلت: فإنه أدرك الإمام على المنبر وهو يقول آخر الخطبة: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}...الآية[ ]؟ (1/56)
قال: إذا أدرك الإمام على المنبر وهو يتكلم بآخر الخطبة صلى مع الإمام ركعتين، وسلم إذا سلم.
قلت: فإذا فاتته مع الإمام ركعة وسلم الإمام فقام، هل يتم؟
قال: يصلي ثلاثاً مع الَّتِي أدرك مع الإمام؟
قلت: فهل يجوز للرجل أن يصلي الجمعة بالناس ركعتين ولم يوله الإمام؟
قال: إذا كان الرجل في بلدٍ ناءٍ عن الإمام وهو يدعو إليه ويحث عليه جاز له أن يصلي بالناس.
قلت: فإن لم يقدر أن يدعو للإمام في الخطبة، فأكنى عن ذلك فدعا لأهل الحق والمحقين؟
قال: إذا كانت نيته الدعاء إلى الإمام في الخطب جاز ذلك.
قلت: فإن رجلاً ممَّن ولاه الإمام الصلاة كان على المنبر يخطب بالناس فجاءه خبر الإمام أنَّه مات وهو على المنبر، أيتم الصلاة بالناس ركعتين؟
قال: نعم؛ لأنَّه إذا ابتدأ الصلاة وقد دخل الوقت وهو في ولايته.
قلت: فإن رجلاً أراد أن يصلي بالناس الجمعة قبل ظهور الإمام وهو يقول بالإمام العادل، هل يصلي بالناس ركعتين؟
قال: لا تجب صلاة الجمعة ركعتين، إلاَّ بقيام الإمام العادل المحق؟
قلت: فما تقول في رجل صعد المنبر في يوم غيم، فلما استوى على المنبر وابتدأ في الخطبة طلعت الشمس، ولم تزل الشمس وهو في خطبته، فأتم الخطبة وزالت الشمس، ونزل فصلى بالناس ركعتين، هل يجزيه ذلك؟
قال: لا، حتَّى يعود فيصعد المنبر فيخطب مستأنفاً للخطبة، وكذلك يعيد الصلاة؛ لأن الخطبة بمنزلة ركعتين، فإذا خطب ولم تزل فكأنه ابتدأ الصلاة في غير وقت فعليه الإعادة.
قلت: فهل يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر السجدة ويسجد؟
قال: قد قال غيرنا بذلك، فأما قولي وقول علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلا أرى أن يقرأ سجدة ويسجد في صلاة الفريضة؛ لأنها زيادة في الصلاة، وليس الزائد في الصلاة إلاَّ كالناقص منها.
قلت: فإن كان في نافلة فقرأ سجدة، أيسجد؟
قال: ليس النوافل كالفرائض، وقد وسع في ذلك في النوافل، وأما قولنا والذي(1) نحب له فلا يسجد بسجدة تقرأ في فريضة ولا نافلة؛ لأنها سجدة زيادة في الصلاة. (1/57)
باب القول في القنوت والوتر وما يقال فيهما
وسألته عن القنوت، في أي الصلوات هو؟
قال: قد قال أصحاب الإمامة: إنَّه في كل الصلوات، وقال غيرهم من العامة: ليس في شيء من الصلوات قنوت إلاَّ في الوتر، فأما قول علماء آل الرسول وقولي أنا: فليس القنوت إلاَّ في صلاة الفجر والوتر، وليس ذلك عندنا بفريضة لازمة(2).
قلت: فإن ترك القنوت تارك متعمداً، هل يعيد الصلاة؟
قال: لا، ولا أحب لأحد أن يتركه متعمداً؛ لأنَّه قد جاءت فيه سنة.
قلت: فإن تركه الرجل ناسياً، هل يسجد سجدتي السهو؟
قال: نعم.
قلت: فإذا سجد سجدتي السهو وقعد(3)، هل يعيد التشهد والتسليم؟
قال: ليس ذلك بواجب، وإعادته أحب إلينا.
قلت: فالقنوت قبل الركوع، أم بعده؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه قبل الركوع، ولم يبلغنا ذلك إلاَّ عن عثمان، ومن قال بقوله، وأما قول علماء آل الرسول عليهم السلام وقولي أنا: فالقنوت في الفجر بعد الركوع، وكذلك أيضاً في وتر العتمة.
قلت: فما يقول الرجل في القنوت، إذا قنت في صلاة الفجر؟
قال: قد روي في ذلك روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك عن أصحابه، ولم يصح فيه عندنا إلاَّ القراءة، وأما ما نراه نحن: فيقنت الرجل بآية من القرآن، مثل قوله: {ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار}[ ]، ومثل قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلاَّ وسعها}...الآية[ ]، ومثل قوله: {آمنا بالله وما أنزل إلينا}...الآية[ ]، فهذا أحب إلينا أن يقنت الرجل به في الفجر.
قلت: فيجهر الرجل بالقنوت(4)، أو يخفي؟
قال: يجهر أحب إلينا.
__________
(1) ـ والذي نختاره (ب).
(2) ـ وجلس (ب).
(3) ـ واجبة (ب).
(4) ـ بقنوته في الفجر، أم يخفي (ب).
قلت: فإذا رفع رأسه من الركوع، فقال: سمع الله لمن حمده، هل يكبر ثُمَّ يقنت؟ (1/58)
قال: لا يكبر إذا قال: سمع الله لمن حمده، ولكن يقنت بعد هذا.
قلت: فما يقول الرجل في وتر العتمة؟
قال: وكذلك أيضاً قد روي في ذلك روايات، والذي نختار من ذلك ونقول به ما يقنت به في الفجر من آي القرآن، أو ما روى أبو الجوزاء، والذي روى أبو الجوزاء، عن الحسن بن علي عليهما السلام، قال: علَّمَنِي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمات أقولهن في القنوت في الوتر: (اللهم اهدني فيمن هديت، وتولني فيمن توليت، وعافني فيمن عافيت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت). قال: وزاد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، وأعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو>. وقد قيل: أنَّه كان يدعو بهذا الدعاء من بعد التسليم، وهو أحب إلينا أن يقوله من بعد التسليم من الوتر، ويقنت بعد الركوع بكتاب الله. وقد قيل: إن ذلك كان قبل تحريم الكلام، ومن أحب أن يقنت بقنوت علي بن أبي طالب عليه السلام، قنت في الوتر، كذلك كان أمير المؤمنين يقول إذا رفع رأسه من الركوع: (اللهم إليك رُفِعَت الأبصار، وبسطت الأيدي، وأفضت القلوب، ودعيتَ بالألسن، وتُحُوكِم إليك في الأعمال، اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، نشكوا إليك غيبة نبينا، وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وتظاهر الفتن، وشدة الزمان، اللهم فأعنا بفتح تعجله ونصر(1) تعز به، وسلطان حق تظهره إله الحق آمين)، وأحب أن يكون هذا بعد التسليم، ولا يكون في الصلاة إلاَّ قراءة، ولا أحسبه بصيحيح عنه في الصلاة، وقال: ولست أحب شيئاً من الكلام في شيء من الصلوات، ولعل هذا القنوت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، ولعل هذا الدعاء الذي ذُكر
__________
(1) ـ ونصر تقربه (ب).
عن علي رضي الله عنه كان بعد التسليم. (1/59)
قلت: فهل يرفع الرجل يديه في دعاء وتر العتمة؟
قال: لا نحب ذلك.
قلت: فما يقرأ الرجل في وتر العتمة؟
قال: قد روي في ذلك روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه كان يقرأ في الأولى من الوتر: بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية: بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة: بقل هو الله أحد.
وروي أنَّه كان يقرأ في الأولى بألهاكم التكاثر، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد.
وروي أيضاً عن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، أنَّه كان يوتر بتسع سور قصار من المفصل، في كل ركعة ثلاث سور، وكل هذا عندنا واسع؛ لأن القرآن كله مجزٍ.
قلت: فهل يسلم الرجل في الركعتين الأولتين من الوتر، أم لا يسلم إلاَّ في الثالثة؟
قال: قد قال غيرنا من أصحاب الإمامة وغيرهم: إنَّه يسلم في الأولتين، وأما قول علماء آل الرسول وقولي أنا: فلا أرى أن يسلم الرجل في الوتر إلاَّ في آخر صلاته.
قلت: فإن نسي الرجل الوتر ـ وتر العتمة ـ فلم يوتر ولم يذكر ذلك إلاَّ بعد يوم أو يومين، وكذلك إن نسي ركعتي الفجر، هل يجب عليه الإعادة إذا ذكر؟
قال: ليس يجب عليه ذلك عندنا، كما يجب عليه إعادة الفريضة، ولسنا نحب تركه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه لم يكن يترك ذلك في سفر ولا حضر.
قلت: فإن رجلاً صلى مع الإمام صلاة الفريضة في الفجر ولم يكن صلى ركعتي الفجر، هل يصليهما بعدما يسلم الإمام؟
قال: ليس إعادتهما عندنا بواجبة كوجوب الصلاة، فإن أحب الرجل أن يصليهما، فأحب إلينا أن يكون بعد طلوع الشمس وعلوها.
قلت: فإن صلاهما بعدما يسلم الإمام؟
قال: لا بأس بذلك عندنا.
باب التكبير في أيام التشريق
وسألته عن التكبير بعد الصلاة في أيام التشريق، متى يكبر الرجل؟
فقال: أما قولي وقول علماء آل الرسول عليهم السلام: فيكبر إذا صلى الفجر يوم عرفه إلى آخر أيام التشريق، وهو: يوم الثالث من بعد الأضحى عند العصر، ويكبر في العصر ويقطع، والتكبير عندنا فهو في دبر ثلاث وعشرين صلاة، وهي: هذه الأيام الَّتِي وصفنا. (1/60)
قلت: فكيف يكبر؟
قال: يقول: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ولله الحمد)، بعد كل صلاة ، فإن زاد في التكبير، فقال: (ولله الحمد على ما هدانا وأولانا وأحل لنا من بهيمة الأنعام)، فهذا أحب إلينا.
باب صلاة الكسوف
وسألته عن صلاة الكسوف، وكيف هي؟
قال: قد روي في ذلك روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه كان يصلي الكسوف ست ركعات في أربع سجدات في كسوف الشمس، ولم يصح ذلك لنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، أنَّه صلى صلاة الكسوف عشر ركعات في أربع سجدات.
قلت: فما تقول أنت، وكيف تصلي؟
قال: عشر ركعات في أربع سجدات.
قلت: فَبِيِّن لي ذلك؟
قال: إذا قام الإمام واصْطَفَّ المصلون وراءه كبر، وقرأ بالحمد، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، سبع مرات، ثُمَّ يركع ويرفع رأسه، ثُمَّ يعود فيقرأ كما قرأ أولاً، ثُمَّ يركع حتَّى يستوفي خمس ركعات، يقرأ بين كل ركعتين بما ذكرت لك، ثُمَّ يسجد من بعد خمس سجدتين، ثُمَّ يقوم فيقرأ ويركع ثُمَّ يقرأ ويركع حتَّى يركع خمساً آخرى، يقرأ بين كل ركعتين منهن ما قرأ أولاً بين الركعات الأولات، ثُمَّ يسجد سجدتين، ثُمَّ يتشهد، ثُمَّ يسلم، ويثبت مكانه، ويكثر من الإستغفار والتهليل والتكبير، ويسمع من وراءه، ويجهر بذلك جهراً شديداً.
قلت: فيجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، أو يخفي؟
قال: كل ذلك عندنا واسع(1)، قال أبو جعفر محمد بن سليمان الكوفي: ورأيته يصلي صلاة الكسوف، وقد انكسف(2) القمر، فأمر رجلاً ينادي الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس أمرهم أن يَصْطَفُّوا وَيُسَوُّوا صفوفهم، وتقدم وكبر ولم يجهر بالقراءة، وطوَّل فصلى عشر ركعات في أربع سجدات، كما وصف في صلاة الكسوف، فسألته عمَّا قرأ؟ (1/61)
فقال: قرأت الكهف، وكهيعص، وطه، والطواسين.
قلت: وكذلك في كسوف الشمس والقمر؟ قال: كل ذلك واحد.
باب صلاة الاستسقاء
وسألته عن صلاة الاستقاء، كيف هي؟
فقال: ينبغي لإمام المسلمين إذا أراد الاستسقاء، أن يأمر الناس فيقوموا ويصطفوا، ويتقدم بهم، ويكبر، ويصلي بهم أربع ركعات، يسلم في كل ركعتين، وتكون قراءته في كل ركعة: الحمد، وإذا جاء نصر الله، وبهذه الآيات آيات من القرآن أولهن: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته}[ ]، {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً}[ ]، {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا، فأبى أكثر الناس إلاَّ كفوراً}[ ]، وبآخر سورة الحشر، وإذا صلى أربع ركعات استغفر الله واستغفر للمسلمين، وقصد بالتوبة وبالدعاء، ومسألة الرحمة والقبول لتوبتهم، والغفران لما تقدم من خطاياهم، ثُمَّ يقول إمامهم: اللهم إياك قصدنا ودعونا، ومنك طلبنا ورحمتك رجونا، وأنت إلهنا وسيدنا وخالقنا، فلا تخيب دعاءنا، ولا تقطع رجاءنا، إنك أنت أرحم الراحمين، ثُمَّ يقلب شق ردائه الذي على منكبه الأيمن على منكبه الأيسر.
قلت: فإن لم يقلب رداءه؟
قال: لا بأس بذلك، ثُمَّ ينصرف ويقرأ في طريقه يس، ويكثر الاستغفار، هو ومن معه، والدعاء والتضرع إلى الله.
قلت: فإن لم يكن الإمام ظاهراً؟
قال: فيفعل ذلك إمام مسجدهم إذا أجدب بلدهم.
باب القول في العيدين
__________
(1) ـ كل ذلك عندنا جائز (ب).
(2) ـ انخسف (ظ).
وسألته(1)، هل في صلاة العيدين أذان وإقامة؟ (1/62)
فقال: لا.
فقلت: كيف يصلي الرجل بالناس صلاة العيدين؟
قال: صلاة العيدين قبل الخطبة، فإذا أراد الرجل أن يصلي بالناس، تقدمهم قبل الخطبة، فكبر التكبيرة الأولى، ثُمَّ افتتح القراءة، فقرأ الحمد وسورة، فإذا فرغ من قراءته كبر بعد فراغه من قراءته سبعاً، يذكر الله بين كل تكبيرتين، ويركع بالسابعة من التكبير، ثُمَّ يرفع رأسه، ويسجد سجدتين، ثُمَّ يقوم في الثانية فيفتتح القراءة بالحمد وسورة مما تيسر، فإذا فرغ من قراءته كبر خمساً، ثُمَّ ركع بالخامسة، وكذلك يذكر الله في تكبيرة في الثانية، فإذا سلم صعد المنبر فخطب، فحمد الله وأثنى عليه، ويفعل في خطبته ما يفعل في خطبة الجمعة من الموعطة، ويذكر فضل يوم العيد، ويحث الناس على الذبائح إن كان في الأضحى، وإن كان يوم الفطر فيجب أن يحث على إخراج الفطرة، ويجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة كما يجلس في الجمعة، ويكبر في خطبته الأولى سبع تكبيرات، يقول: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله، والله أكبر، على ما هدانا وأولانا وأحل لنا من بهيمة الأنعام) إذا كان في الأضحى، وإن كان في الفطر لم يذكر شيئاً في خطبته من ذبح بهيمة الأنعام، وكذلك صلاة العيدين جميعاً عندنا، وقد قال غيرنا: إنَّه يكبر التكبير كله قبل القراءة، ولم يُلْتَفَت إلى قوله، وهذا الذي صح(2) عندنا عن أمير المؤمنين عليه السلام.
قلت: فما تقول في صلاة العيدين، إذا صلى الرجل وحده ولم يكن مع الإمام، كم يصلي؟
قال: ركعتين كما يصلي مع الإمام.
قلت: فهل يكبر في صلاة العيدين إذا كان وحده كما يكبر الإمام؟
قال: نعم.
قلت: فكم يكبر؟
قال: سبعاً في الأولى ويركع في السابعة، وفي الثانية خمساً ويركع بالخامسة.
قلت: فيذكر بين التكبير(3) شيئاً؟
قال: نعم، يذكر الله ويسبحه.
__________
(1) ـ وسألته عن صلاة العيدين، هل فيهما أذان وإقامة؟ (ب).
(2) ـ صح لنا (ب).
(3) ـ بين التكبيرتين (ب).
قلت: فإن لم يكبر الرجل إذا كان وحده كما يكبر الإمام في صلاة العيد، هل يجزيه؟ (1/63)
قال: لا.
قلت: فإذا لم يكبر، هل يعيد صلاة العيدين؟
قال: نعم؛ لأن التكبير معنى صلاة العيد، ويستحب للذي يصلي صلاة العيد أن يصلي قبل الركعتين ركعتين بلا تكبير، يستحب ذلك استحباباً، ولا نوجبه إيجاباً.
ذكر صلاة الضحى
قلت: فما يقول في صلاة الضحى؟
قال: قد روي في ذلك روايات، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاَّها يوم فتح مكة ركعتين، ولم يعد بعد ذلك لصلاتها، والمعنى عندنا في صلاته يوم فتح مكة أنَّه إنَّما صلى في وقت الفتح شكراً لله، لا أنَّه قصد الضحى، بل الصَّحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لم يصلِّها قط، وروي لنا عنه بالصحيح من الرواية، أنَّه نظر إلى رجل يصلي الضحى، فقال: <ما له ينحر الصلاة، نحره الله>، وإنَّما صلاة الضحى كانت تعرف من بدو مكة وجفاتها، ثُمَّ استن بهم الجهال من بعد.
باب القول في غسل الميت
<والصلاة عليه>(1)
وسألته، كيف يُغْسَل الميت؟
فقال: كالغسل من الجنابة.
قلت: صف لي ذلك؟
__________
(1) ـ موجود في النسخة (ب).
قال: نعم، إن شاء الله، إذا مات الرجل حمل بثيابه الَّتِي مات فيها، حتَّى يوضع على مغسله على قفاه مستقبلاً القبلة، ثُمَّ يأخذ الغاسل خرقة فيضعها على فرجه، ثُمَّ يسلخ ثيابه، ثُمَّ يأمر بمركن فيصب له فيه ماء القراح، ثُمَّ يبدأ بيمينه فيغسلها غسلاً نظيفاً، ويأمر رجلاً يصب عليه الماء، فإذا غسل يمينه غسل أيضاً شماله، ثُمَّ لف على يده اليسرى خرقة، ثُمَّ يبدأ فيمسح بطنه مسحاً رفيقاً، ثُمَّ يلين مفاصله، فإذا فعل ذلك أمر الذي يصب عليه الماء أن يتبع يده الصب حيث ما رأى يده، ثُمَّ يدخل يده فيغسل فرجه الأعلى والأسفل، ثُمَّ يمضمض فمه بإبهامه، ثُمَّ ينشق منخريه، ثُمَّ يغسل وجهه وأذنيه ويخللهما، ثُمَّ يبدأ بذراعه اليمنى فيغسلها، ثُمَّ بذراعه اليسرى فيغسلها، ثُمَّ يمسح رأسه، ثُمَّ يغسل رجله اليمنى، ثُمَّ رجله اليسرى ويخلل بين أصابعه، ثُمَّ يقلبه على جنبه الأيسر فيغسل جنبه الأيمن، وكل ظهره وبطنه من رأسه إلى رجليه، ويغسل بين أفخاذه وجميع أرفاغه، ثُمَّ يقلبه على جنبه الأيمن فيغسل جنبه الأيسر، كما فعل بجنبه الأيمن، فإذا فعل ذلك فهي غسلة تامة. (1/64)
قلت: فالغسلة الثانية، بأي شيء، وكيف؟
قال: يغسل بالسدر رأسه ولحيته وجميع جسمه، ويدلكه دلكاً نظيفاً، فإذا فعل ذلك أعاد عليه بالماء القراح، كما فعل بالغسلة الأولى.
قلت: فالغسلة الثانية بأي شيء يغسله؟
قال: بماء الكافور.
قلت: كيف يعمل؟
قال: إذا أراد أن يغسله الثالثة أمر المغسل الرجل الذي يصب عليه الماء أن يصب عليه، ثُمَّ قلب الميت على يمينه، ثُمَّ صب على المغتسل الماء القراح فغسل المغتسل غسلاً جيداً نظيفاً، ثُمَّ أمر بغسل المركن فغسله، ثُمَّ ملأه ماء، ثُمَّ طرح فيه الكافور، ثُمَّ غسل يده اليمنى، ثُمَّ ضرب الماء بالكافور، ثُمَّ غسله الثالثة بماء الكافور، كما غسله في الأولى، والثانية.
قلت: فإن لم يوجد كافور ولا سدر، هل يجزيه أن يغسله الثلاث بالماء القراح؟
قال: نعم. (1/65)
قلت: وكذلك لو أن الميت مات في الشتاء فاحتاج إلى أن يسخن له الماء، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، وما يضره من إسخان الماء، بل هو إنقاء للقذر.
قلت: فإنه لما غسله الثالثة، حدث بالميت حدث، هل يعيد الغسل؟
قال: نعم.
قلت: كم؟
قال: يغسله اثنتين حتَّى يتم على ما وصفنا خمساً.
قلت: فإنه حدث به في الخامسة حدث؟
قال: يتم الغسل سبعاً؟
قلت: فإذا غسل سبعاً، ما يعمل به؟
قال: ينشفه المغسل بثوب أو بخرقة، ثُمَّ يتركه في موضعه، ثُمَّ يعمد إلى كفنه فيبسطه(1) على بساط نظيف أو موضع نظيف، ثُمَّ يعمد إلى الذريرة فيذرها على كفنه، ثُمَّ يحمل الميت هو ومن معه حتَّى يضعوه في كفنه، ثُمَّ يأخذ بيده كافوراً مسحوقاً فيضعه على مساجده، على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه ورجليه، ثُمَّ يضع عليه قطناً إن أحب ذلك، فإن لم يضع أجزاه، إلاَّ في موضع فرجه، فإنا نحب له أن يفعل ذلك، ثُمَّ يلفه في أكفانه.
باب التكفين(2)
قلت: فإنه لما لفه في أكفانه حدث بعد ذلك حدث؟
قال: لا ينظر إلى الحدث من الميت بعد تكفينه، ويحمل إلى قبره بعد تكفينه، حدث به حدث أو لم يحدث.
قلت: فكم يجزي الميت من الأكفان؟
قال: أقل ذلك ثوب واحد يُلف به لفاً، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعمه حمزة، وبعد ذلك ثوب وثوبان وأكثر، والأمر في ذلك واسع.
قلت: فكيف يكون الكفن، أَمِئْزَر وقميص ولفافة، أو ثياب(3) مبسوطة يُلَف بها الميت؟
قال: أما من كُفِّن في ثلاثة، أُزِّرَ بمئزرٍ واحدٍ، ولُف في اثنين لفاً، ومن كُفِّن في خمسة أثواب، أُلبِسَ قَميصاً، وأُزِّر بواحدٍ، وأدرج في ثلاثةٍ، ومن كُفِّنَ في سبعةٍ، أُلبِسَ قميصاً، وعُمِّمَ بعمامةٍ، وأُزِّر بمئزرٍ، وأُدرج في أربعةٍ.
قلت: فإن كانت امرأة؟
__________
(1) ـ فيبسط (ب).
(2) ـ غير موجود في نسخة (ب).
(3) ـ في نسخة (ب): فكيف يكون الكفن، أَمِئزرا وقميصاً ولفافة، أو ثياباً ...إلخ.
قال: تُبدل العمامة بخمار، يعصب به رأسها عصباً. (1/66)
قلت: فإن لم يوجد للميت كفن، ما يعمل به؟
قال: يوضع عليه من نبات الأرض، ثُمَّ يدفن.
قلت: فما تقول في المسك في الحنوط؟
قال: قد كره ذلك بعض الناس من آل محمد وغيرهم، ولسنا نرى به بأساً؛ لأنَّه قد كان في حنوط النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فهل يؤخذ من الميت إذا مات شعر، أو يقص له ظفر، أو يطلى بالنورة؟
قال: لا يفعل بالميت بعد موته شيء من هذا، ولا يحدث فيه حدث.
قلت: فهل يغسل في موضع مكشوف غير متظلل ولا مسقوف؟
قال: لا ينبغي أن يغسل الميت إلاَّ في موضع مسقوف مستور من فوقه، يستر، ولا يترك من فوق مكشوفاً بينه وبين السماء.
قلت: فهل يَغسِل الجنبُ الميتَ، أو تَغْسِل(1) المرأةُ الحائضِ؟
قال: لا أحب ذلك إلاَّ أن لا يوجد غيرهما، فإن لم يوجد غيرهما أجزيا إذا انتقيا وتنظفا(2)، إنَّما ذلك عند الضرورة إليهما، فإن وجد الجُنب ماءً اغتسل قبل غسل الميت، وتَغْتَسِل الحائض أيضاً، وإن كان الماء قليلاً، وكان في ماء(3) الميت فضل، اغتسل ببعضه، وإن لم يكن فيه فضل تيمَّم، فأما الحائض فتغسل يديها قبل أن تغسل الميت(4).
قلت: فهل يجب على الذي يغسل الميت الغسل بعد غسل الميت؟
قال: نحب له ذلك، وليس ذلك بواجب عليه.
قلت: فأيُّ الأوقات أفضلُ للصلاة على الميت؟
قال: أوقات الصلوات المفروضات، الليل كله، والنهار كله.
قلت: فيكره الصلاة على الميت في وقت؟
قا: نعم، في الثلاثة الأوقات، الَّتِي جاء النَّهي فيها عن الصلاة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي: عند طلوع الشمس حتَّى ترتفع وتبيض، وعند اعتدالها حتَّى تزول، وعند تدليها حتَّى تغرب.
قلت: فأين يقف الإمام إذا وضعت الجنازة؟
قال: يقف الإمام من الرجال حذاء السرة، ومن النساء حذاء الصدر والمنكبين.
__________
(1) ـ أو تَغْسِل المرأة الحائض المرأة.
(2) ـ في (ب): إذا انقيا ونظفا.
(3) ـ غسل (ب).
(4) ـ الميتة، نسخة.
قلت: فالمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد حيٌّ يتحرك؟ (1/67)
قال: إذا أوقن موتها إيقاناً وفي بطنها ولد حي يتحرك شقَّ بطنها، واستخرج ولدها استخراجاً رفيقاً، ثُمَّ يخاط بطنا تخييطاً جيِّداً، ثُمَّ يفعل بها ما يفعل بالموتى، من الغسل والتكفين والدفن، إن شاء الله.
ذكر(1) الجنائز
وسألته عن الجنائز، كيف تحمل، وبم يبدأ به منها؟
قال: يبدأ بأول ميامن السرير، فيحمله حامله، ثُمَّ بمؤخر ميامنه، ثُمَّ يدور فيحمله بمقدم مياسره، ثُمَّ يحمله بآخر مياسره.
قلت: فيجوز لمن يشيع الجنازة أن يتقدمها؟
قال: أما قولنا وقول علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يتقدم أحد ممَّن يشيع الجنازة أَمامها، ولكن يكونون كلهم خلفها؛ لأنهم مشيعونن والمشيع إنَّما يكون خلفاً، وليس يكون أَمَامَاً، فاعلم ذلك.
ذكر الصلاة(2) على الميت
وسألته، كم يكبر على الميت؟
فقال: قد روي في ذلك روايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه كبر على شهداء أُحد تسعاً تسعاً، وسبعاً سبعاً، وروي أنَّه كبر على حمزة بن عبد المطلب عليه السلام سبعين تكبيرةً، ولهذا التكبير معنى فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك المعنى.
قلت: بَيِّن لي المعنى، ما هو؟
قال: لمَّا وضع حمزة عليه السلام، فكبر النبي عليه، كانت الجنائز توضع بعدَه واحداً بعد واحد، فكلما وضع فوج من القتلى اعتقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها تكبيراً، غير ما مضى من التكبير على حمزة وغيره.
قلت: قد فهمت ذلك. فكم التكبير على الجنائز؟
قال: أمَّا قولي، وقول علماء آل الرسول: فخمس تكبيرات، وقد قال غيرنا: التكبير أربع، ولسنا نرى ذلك، وقد روي خمس تكبيرات عن زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه كبر خمساً، وكذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام، وقال: الصلوات خمس لكل صلاة تكبيرة.
__________
(1) ـ غير موجود في النسخة (ب).
(2) ـ غير موجود في (ب).
قلت: فإذا كانت جنائز، فرجل حرٌّ ورجل مملوك، وصبي حرٌّ وصبي مملوك، وامرأة حرة وامرأة مملوكة، كيف توضع هذه الجنائز؟ (1/68)
قال: يوضع الرجل الحر بني يدي الإمام، ثُمَّ الصبي الحر خلف ذلك، ثُمَّ المرأة الحرة خلف ذلك، ثُمَّ العبد خلف المرأة، ثُمَّ المملوكة خلف العبد.
قلت: فيكبر على هؤلاء جميعاً خمس تكبيرات؟
قال: نعم.
قلت: فإذا أتت جنازة بعد جنازة وقد كبر الإمام على الأولى تكبيرة أو اثنتين، ثُمَّ أتت الثانية فكبر الإمام عليها تكبيرة ثالثة، ثُمَّ أتت جنازة ثالثة فكبر الإمام عليها تكبيرة رابعة، ثُمَّ أتت جنازة رابعة فكبر عليها الإمام تكبيرة خامسة، هل تجزي هذه الخمس تكبيرات لهذه الجنائز جميعاً على ما أتى بعضهن بعد بعض؟
قال: لا.
قلت: فكيف يعمل؟
قال: يقدم النية لكل جنازة خمس تكبيرات، فإذا كبر على الأولى خمساً وهي للثانية ثلاث زاد تكبيرتين، وقد قدم النية أن التكبيرتين للثانية، وكذلك إذا أدركت الجنازة الثالثة تكبيرة واحدة زاد أربع تكبيرات بعد التكبيرتين اللتين زاد للثانية، وكذلك ما زاد على الجنائز فعلى هذا المثال، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه فعل بحمزة والجنائز تأتي بعده(1) واحدة بعد أخرى حتَّى كبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه سبعين تكبيرة، وعلى هذا كان ما روي من تكبيرة على بعضهم تسعاً وسبعاً، كان على هذا المعنى؛ لأنَّه قصد تكبير(2) تسع ولا سبع على ميت ولا على شهيد من شهداء أُحد رحمة الله عليهم.
قلت: فإذا وقف الإمام ووضعت الجنازة وكبر الإمام، ما يقول على الميت؟
قال: قد روي في ذلك روايات مختلفة، وقولي(3) أنا وقول علماء آل الرسول عليهم السلام: إن كل ما قال أو دعا به على الميت فواسع جائز، ليس نُضيف شيئاً من ذلك.
قلت: ثُمَّ ما يقول بعد ذلك؟
__________
(1) ـ تأتي واحدة بعد واحدة (ب).
(2) ـ بتكبيرة تسعاً ولا سبعاً (ب).
(3) ـ فأما قولي أنا (ب).
قال: يقرأ الحمد، ثُمَّ يكبر، ثُمَّ يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الثانية، ثُمَّ يقرأ: {قل هو الله أحد}، ثُمَّ يكبر، ثُمَّ يصلي على الملائكة والمرسلين، ثُمَّ يقرأ: {قل أعوذ برب الفلق}، ثُمَّ يكبر ثُمَّ يقول: سبحان من سبحت له السموات والأرضون، سبحان ربنا الأعلى، سبحانه وتعالى، ثُمَّ يدعو للميت بما تيسر من العفو عنه والرضوان إن كان مؤمناً موافقاً في الدين. (1/69)
قلت: فإن كان مُخالِفاً عدوّاً للهِ معروفاً بذلك؟
قال: يبتهل عليه باللعنة والخلود في النار، ثُمَّ يقول: اللهم ارزقنا حسن الاستعداد للقائك(1)، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك، ثُمَّ يدعو للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات بما تيسر، ثُمَّ يكبر، ويسلم تسليمتين على يمينه وعلى شماله.
قلت: فهل يرفع يديه إذا قام يصلي على الميت في كل تكبيرة؟
قال: لا يرفع يديه في الأولى ولا بعد ذلك.
قلت: فإن رجلاً فاتته تكبيرة أو اثنتان مع الإمام، هل يتم هو ما فاته من التكبير إذا انصرف الإمام؟
قال: نعم، قبل أن يُرفع الميِّت.
قلت: فيصلي الرجل على الجنازة على غير طهور؟
قال: ما أحِبُّ ذلك.
قلت: فإن خاف أن تفوته الصلاة على الجنازة إن مضى يتطهر؟
قال: إذا خاف أن تفوته تيمم وصلَّى.
قلت: فإن يهودياً أو نصرانياً أقر بالإسلام قبل موته بساعةٍ، وشهد شهادة الحق، وأقر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ مات، ما يُفْعَل به؟
قال: يعمل بهذا ما يعمل بالمسلمين من الغسل والتكفين، ويدفن بين المسلمين؛ لأنَّه قد شهد شهادة الحق.
قلت: فإن يهوديةً أو نصرانيةً ماتت وفي بطنها ولد لمسلم، ما يعمل بها؟
قال: تدفن بين أهل ملتها؛ لأنها ماتت على دينهم، وولدها في بطنها لم يخرج.
قلت: فإذا حمل الميت إلى قبره، هل يُسَلُّ سَلاًّ من عند رجليه أو يستقبل به من ناحية القبلة؟
__________
(1) ـ لمثل هذا اليوم (ب).
قال: أما قولي وقول علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام: فإنَّه يسل سلاًّ من عند(1) رجليه، وقد قال غيرنا: إنَّه يستقبل من ناحية القبلة استقبالاً، ولسنا نرى ذلك. (1/70)
قلت: فهل يُلْحَد القبر في قبلته، أو يُضرح في وسطه؟
قال: اللحد أحب إليَّ، وهو قولنا وقول علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام، وإنَّما الضرح لأهل الذمة في وسط القبور، وقد لُحِدَ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحدٌ.
قلت: فما الذي يوضع على اللَّحد؟
قال: اللِّبْن النظيف الطيب.
قلت: فالقصب؟
قال: لا بأس بذلك، واللِّبن أحب إلينا.
قلت: فالصفا؟
قال: وكذلك أيضاً الصفا لا بأس به عندنا.
قلت: فالآجر؟
قال: لا أحب ذلك إلاَّ أن يضطر إليه.
قلت: فهل تدفن جماعة في قبر واحد؟
قال: لا إلاَّ عند الضرورة.
قلت: فإن اضطر الناس إلى ذلك؟
قال: تدفن الثلاثة والأربعة في قبر واحد ويحجر بينهم في القبر بالحجارة والتراب؛ حتَّى يبين بعضهم من بعض، ولا يجمعون جميعاً، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشهداء أُحد حين ضعف الناس عن الحفر لما بهم من الجراح، فَدَفَنَ(2) اثنين في قبر، وثلاثة في قبر.
قلت: فهل يربَّع القبر أو يسنم؟
قال: التربيع أحب إلينا.
قلت: فيجوز تجصيص القبور؟
قال: نحن نكره ذلك، والتطيين(3) أحب إلينا.
قلت: فهل يغسل الرجل وزوجته، ويُدخلها في قبرها؟
قال: قد كره ذلك غيرنا، ولسنا نرى به بأساً، وقد غسل أمير المؤمنين عليه السلام فاطمة رحمة الله عليها، وكذلك روي أن أسماء بنت عميس غسَّلت أبا بكر.
قلت: فإن امرأة سافرت مع الرجال فماتت، وليس لها منهم ذو رحم، كيف يعملون بها في تغسيلها؟
__________
(1) ـ من قبل رجليه (ب).
(2) ـ فَدُفِنَ اثنان (ب).
(3) ـ والطين (ب).
قال: قد قال غيرنا، مثل سفيان وغيره: إنها تُيَمم، ولسنا نلتفت إلى قولهم في ذلك، ولكنا نرى أن تغسل بالماء من فوق الثياب، وتنقى وتنظف الثياب الَّتِي غسلت وهي عليها، وإن أمكن تجريدها بغير نظر منهم إليها لتكفينها فعلوا ذلك، وإلاَّ تحروا الغسل بسكب الماء على الثياب حتَّى يصل الماء إلى بدنها، وينقى ما تحت ثيابها الَّتِي غسلت فيها إنقاءً نظيفاً، وأدرجت في أكفانها، ودفنت. (1/71)
قلت: وكذلك إذا مات الرجل مع النساء ولم يكن معهن رجل؟
قال: يعمل(1) به ما وصفنا من عمل الرجال بالمرأة.
قلت: فيجوز أن تكفن المرأة في ثيابها المصبوغة؟
قال: نعم، ألا ترى أنَّه يجوز لها فيها الصلاة، فما جاز لها أن تصلي فيه جاز أن تكفن فيه.
قلت: وكذلك الرجل يكفن في الثوب المصبوغ؟
قال: يغسل ويكفن فيه إذا لم يكن البياض، والبياض أحب إلينا.
مبتدأ مسائل الزكاة
قال أبو جفعر محمد بن سليمان الكوفي، سألت إمام المسلمين في عصره يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، عن أقل ما تجب فيه الزكاة من الذهب والفضة، ما هو؟
قال: هذا المثقال الذي في أيدي الناس وهو عشرون قيراطاً بالقيراط العراقي، وأربعة وعشرون قيراطاً بالقيراط الحجازي والبصري.
قلت: وكيف وقع الاختلاف في ذلك، فصار هذا عشرين قيراطاً، وصار هذا أربعة وعشرين قيراطاً؟
قال: ليس في ذلك اختلاف، كله يرجع إلى معنى واحد.
قلت: وكيف ذلك؟
__________
(1) ـ يعملن، نسخة.
قال: لأن قيراط العراق ثلاث حبات، فصار المثقال به عشرين قيراطاً، وجميع المثقال ستون حبة بوزن الشعير، وأمَّا القيراط الحجازي والبصري فحبتان ونصف بالشعير، فلذاك صار المثقال أربعة وعشرين قيراطاً، وأما المثقال في نفسه فهو: الذي ذكره الله سبحانه لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو: الدينار، فقال: في كتابه: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك}[ ]، فهذا هو الدينار الذي عرَّفه اللهُ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على لسان جبريل، وأخبره أنَّ أقل ما تجب فيه الزكاة عشرين ديناراً، فإذا بلغت عشرين مثقالاً ففيها نصف مثقال. (1/72)
قلت: فإن نقص من العشرين سدس مثقال، هل تجب فيه الزكاة؟
قال: لو نقص من عشرين مثقالاً حبة ما وجبت فيها الزكاة إلاَّ أن يكون مع صاحبها شيء من وَرِق الدراهم فيضمها إليها ويخرج منها ما يجب في ذلك.
قلت: قد فهمت ما يجب في الدنانير، فأقل ما يجب في الدنانير فيه الزكاة من الدراهم كم؟
قال: أقل ما يجب فيه الزكاة من الدَّراهم مائتا درهم.
قلت: بأيِّ درهمٍ؛ لأنِّي أرى الدراهم مختلفة في كل بلد، بخرسان ضربٌ، فمنها: الخوارزمية أربعة دوانيق من هذا الدرهم الذي تعرفه، ومنها طبرية تزيد على ذلك نصف دانق، ومنها أكثر من ذلك، ما يكون درهماً وكسراً في العراق هذا(1) الدرهم، وفي اليمن دراهم مختلفة، فَبِيِّن لي من أيِّ الدراهم إذا بلغت مائتين يخرج منها الزكاة، وكيف كان معناها وأولها حتَّى أعرفه؟
قال: أُبينه لك إن شاء الله، هذه الدراهم الَّتِي في أيدي الناس في العراق وما والاها من البلاد هي المعمول عليها، وهو الدرهم الذي وزنه اثنتان(2) وأربعون حبة بالشعير.
قلت: اشرح لي ذلك حتَّى أفهمه؟
__________
(1) ـ هذه الدراهم (ب).
(2) ـ في نسخة: ثمانية وأربعون حبة، وما في الكتاب هو الصَّحيح كما سيأتي.
قال: نعم، لم يزل هذا الدرهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معروفاً غير منكر، كان كدرهمنا هذا اليوم، ولم يكن مضروباً في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كضربة اليوم، وكذلك أيضاً الدنانير، وإنما كانوا يتبايعون ويتشارون بالتبر دراهم معروفة، وأواقي مفهومة، الوقوية أربعون درهماً، فكان رطلهم أربعمائة درهم وثمانين درهم بهذا الدرهم الذي في أيدي الناس اليوم، فأقَرَّ رطلهم صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، والدليل على ما قلنا به من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: <ليس فيما دون خمس أواق من الفضة زكاة>، ثُمَّ قال صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع الأمة عنه: <ليس فيما دون مائتين درهم زكاة، وليس فيما دون خمس أواق زكاة>، وإن الوقية إذ ذاك كانت أربعين درهماً بهذا الدرهم الذي لا اختلاف فيه عند الأمة أن الزكاة تجب في مائتي درهم، فهذا الدرهم الذي سألت عنه، فهو الدرهم الذي يسميه أهل العراق وزن سبعة، وإنَّما سموه وزن سبعة؛ لأنَّه وزن سبعة أعشار المثقال، والدليل على ذلك أنك إن زدت على هذا الدرهم ثلاثة أسباع صار مثقالاً، ولذلك صارت العشرة دراهم به سبعة مثاقيل، وقد كانت دنانير قيصر ملك الروم ودراهم كسرى البغلية ترد على العرب في الجاهلية بمكة، فلم يكونوا يتبايعون بها، وكانوا يردونها إلى ما يعرفون من التبر على وزن المثقال والدرهم على تجزئتها في الأواقي والأرطال، والرطل الذي ذكرنا فهو رطل المدينة، وهو رطل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو: أربعمائة درهم وثمانون درهماً، فهذه الدراهم الَّتِي بيَّنا أمرها وشرحناه فهي المعمول عليها الزكاة، فإذا بلغت عند صاحبها مائتي درهم وحال عليها الحول وجب فيها خمس دراهم منها. (1/73)
قلت: وكذلك إن نقصت درهماً، هل يجب فيها زكاة؟
قال: لا، ولو نقصت حبة.
قلت: فإن زادت على المائتي درهم درهماً واحداً، هل يجب فيه شيء؟
قال: نعم، ربع عشره، كذلك أيضاً لو زادت حبة واحدة وجب ربع عشرها، فاكتف بهذا الأصل فيما زاد ونقص. (1/74)
قلت: فإن رجلاً لمَّا وجبت عليه الزكاة آخرجها وعزلها، فذهبت في الليلة الَّتي وجبت عليه فيها الزكاة، هل يجب عليه أن يخرج غيرها؟
قال: نعم، لا يزال ضامناً لها حتَّى يؤديها فيما أمر الله به.
قلت: وكذلك لو كان أخرجها بعدما وجبت عليه بيوم أو يومين؟
قال: الجواب في ذلك واحد، إن أخرجها قبل أو بعد فذهبت كان ضامناً حتَّى يخرج غيرها، ويؤديها.
قلت: فإنه حملها وقد كان الإمام في بلد غر بلده، فلما صار في بعض الطريق لقيه لصوص فأخذوها، هل يجب عليه أن يخرج غيرها؟
قال: نعم، كل ذلك أمر واحد والجواب فيه واحد، لا يزال الرجل ضامناً للزكاة حتَّى يؤديها إلى الإمام إن كان ظاهراً.
قلت: فإن لم يكن الإمام ظاهراً ففي مَن(1) يخرجها؟
قال: قد قال غيرنا في ذلك بأقاويل، ولسنا نلتفت إلى قولهم: إنها لا تخرج في بناء مسجد ولا حفر قبر ولا عمل سقاية ولا تكفين ميت، وأما أنا فأرى أن أفضل ما تخرج فيه الزكاة: هذه الوجوه وما أشبهها، إذا لم يكن الإمام ظاهراً ولم يجد مخرجها من الناس موافقاً مستحقاً؟
قلت: فإن الرجل كان معه عشرة دنانير، فلما كان قبل أن يحول عليه الحول بيوم أو يومين ورث عشرة دنانير أخرى أو أكثر من ذلك، هل يجب عليه الزكاة ولم يحل عليه الحول فيما ورث؟
قال: نعم، لو كان معه عشرة دراهم ثُمَّ ورث أو اكتسب عشرين مثقالاً قبل الحول بيوم أو يومين لوجب عليه في ذلك الزكاة.
قلت: وكذلك لو كان معه عشرون مثقالاً، فلما كان قبل الحول بيوم أو يومين ذهب، هل يجب عليه فيها زكاة؟
قال: لا؛ لأنها ذهبت قبل أن يحول الحول.
__________
(1) ـ في (ب): ففيم يخرجها.
قلت: فإن رجلاً حال عليه الحول ومعه عشرون مثقالاً ناضةً وله آلة من آلة الدكاكين، مثل: آلة العطارين أو الأساكفة وما أشبه ذلك من الآلات، هل يجب على الرجل أن يقوِّم آلته الَّتي هي للتجارة ويضم ثمنها إلى ماله فيخرج من الجميع زكاة؟ (1/75)
قال: لا، يجب في الآلات الَّتي يكتسب بها ولا الآلات الَّتي ينتفع بها في التجارة، وكذلك آلات الصناع لا يجب أن تقوَّم ويخرج منها الزكاة؛ لأنها من الَّتي يكتسب منها وبها المال الذي يجب فيه الزكاة.
قلت: وكذلك الطحان الَّتي له أرحية تسوى مائتي دينار أو أكثر، وبغال أو جمال تدير الأرحي تسوى أكثر من مائتي دينار، فربما كانت آلة الطحان تسوى خمسمائة دينار، ولعله لا ينض معه إذا حال عليه الحول إلاَّ مائتا دينار.
قلت: وكذلك أيضاً لا يقوِّم هذا الطحان ثمن البغال من الأرحية، ولا يضمها إلى ماله الذي نض عنده عند رأس الحول فيخرج منه الزكاة؟
قال: قد بينا(1) لك الجواب في ذلك كله، أنَّه لا يجب في الآلات شيء، قلَّ ثمنها أو كثر.
قلت: فالدكاكين أيضاً الَّتي فيها الأرحية، هل هي مثل الآلات؟
قال: نعم، إذا كان الطحان يطحن فيها فهي مثل المساكن والدور.
قلت: وكذلك أيضاً دكان العطار والبائع كل ذلك، سواء؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك العبيد الذين يخدمون في التجارات في الدكاكين في هذا المعنى(2)؟
قال: كل ذلك معنى واحد.
قلت: فإن رجلاً اشترى دكاناً أو دكاكين يكريها ويستغلها، هل عليه أن يقوِّم إذا حال عليه الحول، ويخرج من ثمنها ربع عشره؟
قال: نعم، ليس هذه الدكاكين مثل الدكاكين الَّتي يتجر فيها صاحبها؛ لأن هذه إنَّما اشتريت للكراء، فصارت للتجارة فوجبت فيها الزكاة، وكل ما كان للتجارة من دار أو دكان أو عبيد أو غير ذلك وجبت فيه الزكاة.
قلت: فإنه لما اشتراها للكراء أو أكراها وقتاً بدا له فجلس فيها هو يتجر، هل يكون حالها كحال الأولى؟
__________
(1) ـ نسخة (ب): وقد قدمنا لك الجواب.
(2) ـ على هذا المعنى (ب).
قال: لا، إذا اتَّجر فيها فهي مثل مسكنه. (1/76)
قلت: فإن رجلاً اشترى عبداً أو عبيداً للحياكة يحوكون ويستغلهم، هل يُقوَّمون إذا حال الحول، ويُخرج من أثمانهم ربع العشر؟
قال: قد كفيناك الجواب في الأصل، كل ما اشتري للتجارة أو للغلة ففيه الزكاة إذا حال عله الحول، وكل ما اشتري يُسكن أو يُتَّجر فيه أو عبد يستخدم فلا زكاة فيه، فاكتف بهذا الأصل ففيه كفاية إن شاء الله.
قلت: فإن رجلاً اشترى بُرّاً(1) أو طعاماً أو عَرَضاً من العروض أو حيواناً قبل رأس الحول بألف دينار، فلما حال عليه الحول زاد ثمنه ضعف الثمن، أو نقص الثمن، أو نقص من ثمنه الذي اشتراه به نصف الثمن، كيف يزكيه عند رأس الحول؟
قال: لا ينظر في ذلك إلى زيادة الأسعار ونقصانها ولا ينظر إلى ما اشترى به، ولكنه إذا حال عليه الحول نظر إلى قيمته في ذلك الوقت فزكاه وأخرج منه ما يجب فيه.
قلت: فإن رجلاً حال عليه الحول وعنده خمسة عشر مثقالاً ومائة وخمسون درهماً، كيف يعمل في ذلك؟
قال: يضم الدراهم يصرفها إلى الدنانير(2) ثُمَّ يحسب ذلك دنانير، ثُمَّ يخرج من كل عشرين مثقالاً نصف مثقال.
قلت: فإن الدراهم خمسون درهماً، والدنانير عشرة، كيف يعمل في ذلك؟
قال: يضم الدنانير يصرفها إلى الدراهم، ثُمَّ يخرج من كل مائتي درهم خمسة دراهم.
قلت: فلأي معنى هذا؟
قال: لأن لا يبطل الزكاة، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأخذها، فقال سبحانه: {خُذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها}[ ].
قلت: فهذان الصنفان لم يبلغ كل واحد منهما ما يجب فيه الزكاة، فَلِمَ جمعتهما وضممت أحدهما إلى صاحبه، ومنعت أن يجمع شيء من الأصناف بعضه إلى بعضٍ في الزكاة غير هذين الصنفين؟
__________
(1) ـ كلمة بِر عند بعض أهل اليمن ـ بكسر الباء، والبعض الآخر ـ بضمها ـ والبر الحنطة، أي القمح بلغة العصر الحاضر.
(2) ـ على اعتبار صرف الدينار خمسة عشر درهماً فما فوق، تمت.
قال: لأن هذين الصنفين جوهر من جواهر الأرض نباتهما بغير بذر نبتا، وإنَّما جعلهما الله عز وجل محنةٌ لهذا الخلق، ففرض عليهم تأدية الزكاة منهما لو كان الجمع بينهما لا يجب؛ لذهب كثير من فرض الزكاة إذا كان من كان معه عشرون مثقالاً إلاَّ قيراطاً ومائتا درهم إلاَّ دانقاً لم يجمع بينهما، ولم يجب على من معه هذا الذي وصفنا زكاة كان كثير من الخلق يحتالون في نقصان المائتي درهم والعشرين مثقالاً، وهذا ما لا يصح في شواهد العقول، وقد أمر الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فقال: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}[ ]، وقد قال أبو حنيفة وأصحابه: إنَّ الدنانير والدراهم يُجمعان في الزكاة، وهذا أحب الأقاويل إلينا، إنهما يجمعان. (1/77)
قلت: فإن رجلاً كان عنده ألف درهم خمس سنين، ولم يخرج منها زكاة في هذه السنين، كيف يعمل؟
قال: يُخرج منها لأول سنة خمسة وعشرين درهماً، ثُمَّ يُخرج السنة الثانية أربعة وعشرين درهماً وربع درهم وثمن درهم، وكذلك السنة الثالثة والرابعة والخامسة بحساب ما ينقص في كل سنة بما تنتقصه الزكاة.
قلت: وكذلك العمل أيضاً في البقر والغنم والإبل؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك لو أن رجلاً له دين ألف درهم فحال الحول ولم يقبضها، هل يزكيها؟
قال: نعم، كل دين يرجوه صاحبه ويأمل أن يقبضه فعليه أن يزكيه إذا حال عليه الحول.
قلت: فهل تجب الزكاة في الحُلي إذا كان على سيف أو على مرآة أو ما أشبه ذلك من الحلية للسروج أو غير ذلك أو حلي النساء؟
قال: كل حلي من الذهب والفضة يحول عليه الحول فهو عندنا يجب فيه الزكاة، ربع عشره، فافهم ذلك.
قلت: فإن كان هذا الحلي عشرين مثقالاً ذهباً ومائتي درهم فضة، والعشرون مثقال ذهباً يساوي مائة وخمسون درهماً، والمائتان درهم الفضة تساوي عشرة مثاقيل، كيف يُخرج صاحبه زكاته، أَمِنْ نفس الحلي ربع عشر، أم يقوِّمه فيُخرج من قيمته؟
قال: يُخرج من وزن الحلي ربع عشر، ولا يلتفت إلى قيمته. (1/78)
قلت: وكذلك أيضاً لو كان معه له مصحف، عليه حلي مائة درهم فضة، ومعه خمسة عشر مثقالاً من الذهب، هل يضم بعض ذلك إلى بعض ويُخرج زكاته؟
قال: نعم.
قلت: فإن رجلاً عليه دين ألف درهم ومعه ألف درهم ومائة درهم، هل يجب عليه الزكاة؟
قال: نعم، يُخرج منها ما يجب في جميعها، ربع عشرها، ولا ينظر إلى ما عليه من الدين؛ لأن هذه قد حال عليها الحول وهي في ملكه.
قلت: وكيف يكون في ملكه، وإنَّما هي ألف ومائة، وعليه ألف، ولا أرى في ملكه إلاَّ مائة درهم؟
قال: أليس إنَّما عليه ألف درهم ديناً؟
قلت: بلى.
قال: أفلا ترى أنَّه لو أراد أن ينكح من هذه الألف والمائة بنصفها أو بأكثر أو بأقل لم يمنعه الحاكم من ذلك، وكذلك لو أراد أن يتصدق أو يأكل أو يشرب منها؟
قلت: بلى.
قال: فهو أملك بها من صاحب الدين، والواجب عليه أن يخرج زكاتها كلها، ولا يلتفت إلى ما عليه من الدين إذا وجبت الزكاة، وقد قال غيرنا بغير ذلك، ولم يُلتفت إلى قوله في ذلك.
قلت: فإن رجلاً كان معه ألف درهم فدفنها في موضع، فلما كان بعد ذلك ضل عن الموضع الذي دفنها فيه، وكذلك لو كانت معه فسقطت منه، وكذلك لو اغتصبها مغتصبٌ فمكثت سنين، ثُمَّ وجدها بعد ذلك أو ردها بعد ذلك عليه الغاصب، هل يجب عليه أن يخرج زكاتها إذا قبضها لما مضى من السنين؟
قال: نعم.
قلت: فإن المغتصب الذي اغتصب هذه الألف من أهل دار الحرب، ثُمَّ رجعت إليه بعد سنين بغلبة أو ردها الحربي عليه تطوعاً، هل يجب عليه فيها الزكاة؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه ما غلب المشركون عليه من مال أو كراع فقد زال عنه ملك صاحبه، فإذا رجع عليه لم يجب عليه فيه زكاة لما مضى.
باب صدقة الإبل
وسألته عن أقل ما تجب فيه الزكاة من الإبل؟
قال: خمس.
قلت: فهذه الخمس تعرف أسنانها؟
قال: إذا بلغت خمساً صغرت الأسنان أو كبرت، وكانت سائمة.
قلت: وما السائمة، وكيف تكون سائمة؟
قال: مرعية للنتاج وغير ذلك من منافع أهلها لا للكراء، وجبت فيها الزكات. (1/79)
قلت: وكم يجب في الخمس؟
قال: شاة.
قلت: فهذه الشاة تُرف سنها بصغر أو كبر؟
قال: لا، ولكن تؤخذ شاة وسطة من الغنم، لا هرمة ولا ذات عوار.
قلت: ثُمَّ إلى كم تجب الصدقة بعد الخمس؟
قال: إلى عشر، فإذا بلغت عشراً ففيها شاتان إلى خمس عشرة، فإذا بلغت خمس عشرة ففيها ثلاث شياة إلى عشرين، فإذا بلغت عشرين ففيها أربع شياة إلى خمس وعشرين، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها ابنة مخاض؟
قلت: وما معنى ابنة مخاض؟ ولِمَ سميت ابنة مخاض؟
قال: لأن أمها تتمخض بالولد في بطنها، وهي تابع لها، فلذلك سميت ابنة مخاض.
قلت: فقد روي عن علي رضي الله عنه، أنَّه جعل في خمس وعشرين من الإبل خمس شياة، وفي ست وعشرين ابنة مخاض؟
قال: لمْ يصح ذلك عنه عندنا، والذي صح عنه عندنا أنَّه قال: (وجدت في قراب سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحيفة فيها زكاة الإبل والبقر والغنم، فكان فيها: وفي خمس وعشرين من الإبل ابنة مخاض)، فهذا الذي صح عنه عندنا.
قلت: فبعد الخمس والعشرين، إلى كم تجب الصدقة؟
قال: إلى خمس وثلاثين.
قلت: فإذا صارت خمساً وثلاثين، فكم يجب فيها؟
قال: يجب فيها ابنة مخاض أيضاً حتَّى تزيد واحدة على خمس وثلاثين، فإذا صارت ستاً وثلاثين وجبت فيها ابنة لبون.
قلت: فهل يجب بين الخمس والعشرين إلى خمس وثلاثين شيء؟
قال: لا.
قلت: فلأيِّ علَّة لا يجب في ذلك شيء؟
قال: لأنها الأوقاص الَّتي عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الله عز وجل، وهي: ما بين السن والسن، وإنَّما تجب ابنة لبون إذا كملت ستاً وثلاثين، ألا ترى أن سبعاً وعشرين لا يجب فيها ابنة لبون؛ لأنَّه زيادة بعير واحد، وكذلك في زيادة البعير والبعيرين والثلاثة والأربعة إلى ما يجب فيه ابنة لبون؛ لأن بين ابنة مخاض وابنة لبون فرقاً في الثمن والسن.
قلت: فلِمَ سُمِيَت ابنة لبون؟
قال: لأن أمها قد أنتجت وهي تسقيها، فصارت هي ابنة لبون؛ لأن في أمها لبناً وسنها غير سن ابنة المخاض؛ لأن ابنة المخاض لها سنة، وابنة لبون لها سنتان. (1/80)
قلت: فبعد ما يجب ابنة لبون، إلى كم تجب الزكاة؟
قال: إلى ست وأربعين، فإذا كملت ستاً وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل.
قلت: ولأيِّ معنىً سُمَيت حقة طروقة الفحل؟
قال: لأنها قد استحقت أن يحمل عليها ويقرعها الفحل، فلذلك سميت حقة طروقة الفحل.
قلت: فبعد ما وجبت الحقة، ففي كم تجب الزكاة؟
قال: إلى ستين، فإذا زادت على الستين واحدة وجب فيها جذعة.
قلت: وما معنى الجذعة؟
قال: الجذعة معروفة غير منكرة، إذا أتى عليها أربع سنين صارت جذعة.
قلت: فمن بعد ما وجبت الجذعة، إلى كم تجب الصدقة؟
قال: إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، ثُمَّ تستقبل الفريضة من بعد ذلك.
قلت: كيف تستقبل الفريضة، وبأيِّ شيء تستقبل؟
قال: بالغنم.
قلت: وأي شيء يؤخذ منها؟
قال: حقتان وشاة.
قلت: فإنها صارت ثلاثين ومائة؟
قال: فيجب فيها حقتان وشاتان.
قلت: فعلى هذا القياس في الغنم حتَّى يبلغ خمساً وأربعين ومائة؟
قال: نعم.
قلت: فإذا بلغت ذلك؟
قال: ففيها حقتان وابنة مخاض.
قلت: وكذلك إذا صارت خمساً وخمسين ومائة؟
قال: إذا زادت واحدة على الخمس والخمسين ومائة ففيها حقتان وابنة لبون.
قلت: فإنها صارت ستاً وستين ومائة؟
قال: ففيها ثلاث حقات.
قلت: فإن صارت إحدى وثمانين ومائة؟
قال: ففيها حقتان وجذعة.
قلت: فإنها صارت ستاً وتسعين ومائة؟
قال: ففيها حقتان وابنتا لبون.
قلت: فإنها صارت مائتين وإحدى عشرة؟
قال: ففيها أربع حقاق.
قلت: فإنها صارت أربعين ومائتين؟
قال: وكذلك أيضاً فيها أربع حقاق.
قلت: فإن زادت على أربعين ومائتين، ما العمل في ذلك؟
قال: تستقبل أيضاً الفريضة بالغنم على ما قدمنا وشرحنا، في كل خمس شاة، حتَّى تكمل خمساً وستين ومائتين، فيكون فيها أربع حقاق وابنة مخاض، ثُمَّ على هذا الحساب الذي قدمنا في فرائض الإبل ، وقد قال غيرنا: إنَّه إذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، وأما علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام، وقولي أنا: فهذا القول الذي شرحنا. (1/81)
قلت: وكذلك إن بلغت الإبل ألفاً أو أكثر تستقبل بها الفريضة أيضاً، على ما ذكرت وشرحت؟
قال: نعم.
قلت: فإن المصدق وجب له على صاحب الإبل ابنة مخاض، فلم يجد عنده إلاَّ ابنة لبون، وكذلك لو وجب له ابنة لبون فلم يجد عنده إلاَّ ابنة مخاض؟
قال: يترادان الفضل ما بين السنين.
قلت: فإن وجب للمصدق ابنة مخاض ولم يكن عند صاحب الإبل إلاَّ ابنة لبون؟
قال: رد المصدق على صاحب الإبل فضل ثمن ابنة لبون، وكذلك إن وجب له ابنة لبون فلم يكن عند صاحب الإبل إلاَّ ابنة مخاض أخذها المصدق، وأخذ من صاحب الإبل فضل ثمن ابنة لبون.
قلت: فيجعل لما بين السنين ثمناً معلوماً؟
قال: لا، وإنَّما يعمل في ذلك المصدق على قدر ما يعرف أصحاب الإبل الذين هم عندهم.
قلت: فإن المصدق لما وجب له ابنة مخاض أو ابنة لبون وأخذها من صاحبها، قال له المصدق: ذرها لي مع إبلك ترعى حتَّى آخذها، فماتت عنده أو فُرست، هل يجب للمصدق على صاحب الإبل غيرها؟
قال: لا.
قلت: فإنه لم يقبضها، ولكنه قال: أعزل لي ما وجب عليك، وهي ابنة مخاض، وذرها لي معك حتَّى أرسل إليك مَن يقبضها، فعزلها صاحب الإبل وعرَّفها، فلم يرسل المصدق لها حتَّى ماتت أو فُرست، هل يجب عليه غيرها؟
قال: نعم؛ لأنَّه لا يزال ضامناً لها حتَّى يقبضها المصدق.
قلت: فإن المصدق لم يجد عند صاحب الإبل إلاَّ عشرة أجمال بوازل يرحل عليها أهله في البادية من موضع إلى موضع، ويكريها في بعض السنة مرة أو مرتين من عند أهله إلى العراق أو من العراق إلى أهله، وكذلك لو كان عنده عشرون بازلاً ترعى ويكريها كما وصفنا في العشر؟ (1/82)
قال: أمّا الَّتي تحمل عليها، فإن كان أكثر السنة يَحمل عليها أهله في البادية من موضع إلى موضع ففيها أيضاً صدقة أربع شياة إذا كانت عشرين.
قلت: فإنها كانت خمساً وعشرين بازلاً، يَحمل عليها أيضاً، ويرعاها؟
قال: فيجب فيها ابنة مخاض.
قلت: فإن لم يكن عنده ابنة مخاض، هل يأخذ قيمتها دنانير؟
قال: لا.
قلت: فكيف يعمل؟
قال: يأخذ من البوازل واحداً، ويرد المصدق عليه فضل الثمن ما بين البازل وبنت المخاض على قدر ما يعرف أهل الموضع من أثمان الإبل.
قلت: فإن بعض هذه البوازل يكريها صاحبها إلى مثل العراق أو غير ذلك من البلاد في السنة مرة أو مرتين، ويمتار(1) عليها لأهله؟
قال: إذا كانت الإبل أكثر السنة يحتمل عليها صاحبها في البادية، وهي مرعية فهي من الإبل الَّتي يجب فيها الصدقة ولو كانت تكرى مرة أو مرتين.
قلت: فإن هذه الإبل لحمَّالٍ يكريها في المواسم إلى مكة، فإذا رجع بها من مكة وجه بها إلى البادية ترعى من السنة إلى السنة، فإذا كان في الموسم أكراها؟
قال: ليس هذه من الإبل الَّتي يجب فيها الصدقة.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن هذه موقوفة للتجارة والكراء، وإنَّما ترعى في البادية حتَّى تسمن فتصلح للمحامل والأحمال.
قلت: فما يجب على صاحب هذه؟
قال: إذا حال على صاحب هذه الجمال الحول قوَّمها بما تسوى في ذلك الوقت من الثمن، ثُمَّ أخرج ربع عشر ثمنها.
قلت: فَلِمَ ذلك، وهي عوامل، وقد عفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العوامل من الإبل؟
__________
(1) ـ ثُمَّ يمتاز، نسخة.
قال: إنَّما عفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمس من الإبل تكون بالمصر يعمل عليها صاحبها في المناقلة وما أشبه ذلك من الكراء في المصر من موضع إلى موضع، وينفق من كرائها على نفسه وعياله. (1/83)
قلت: فإن هذه الخمس أيضاً صاحبها يعمل عليها بالمصر، فإذا كان الموسم باعها للجمالين، ثُمَّ اشترى بدلها أيضاً فيعمل عليها بالمصر، ويحسن إليها ويسمنها حتَّى يأتي الموسم فيبيعها أيضاً؟
قال: قد بينت لك عن الخمس الَّتي عفى عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأما هذه ومثلها فهي للتجارة، فيجب فيها إذا حال الحول ربع عشر ثمنها إذا بلغ ثمنها ما يجب فيه الزكاة.
قلت: وكذلك كل ما كان من الدواب قد جعل للتجارة فهو على ما وصفت؟
قال: نعم.
قلت: مثل الرجل يكون له الرمكة أو الرمكتان والعشر أو أكثر، قد جعلها للنتاج فهو يبيع منها المهارة؟
قال: نعم، يجب فيها عندما يحول عليها الحول ربع عشر ثمنها.
قلت: أفليس هذه من الخيل الَّتي قد عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: لا.
قلت: فأيُّ الخيل عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: مثل الفرس والفرسين والثلاثة وأكثر إذا كان صاحبها يركبها في سبيل الله أو إلى ضيعته ومنافعه، وليست للتجارة.
قلت: وكذلك الحمير بهذه المنزلة إذا كان لرجل مائة حمار قد جعلها للنتاج أو حمار واحد، فعليه أيضاً إذا حال عليه الحول ربع عشر ثمنها؟
قال: نعم، إذا كان وقت ما يحول عليه الحول ثمنه عشرين مثقالاً فصاعداً وجب فيه عليه ربع عشر ثمنه.
باب القول في صدقة البقر
وسألته عن أقل ما تجب فيه الزكاة من البقر؟
قال: أقل ما تجب فيه الزكاة من البقر في الثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة، حَوْليٌّ أو حَوْلِيَّةٌ.
قلت: ثُمَّ إلى كم تجب الزكاة بعد ذلك؟
قال: إلى أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها مَسِنٌّ أو مَسِنَّةٌ.
قلت: ثُمَّ إلى كم تجب بعد ذلك الزكاة؟
قال: إلى ستين، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان، ثُمَّ ليس فيها شيء حتَّى تبلغ سبعين، فإذا بلغت سبعين ففيها مُسِنَّة وتبيع، ثُمَّ ليس فيها شيء إلى ثمانين، فإذا بلغت ثمانين ففيها مسنتان، ثُمَّ ليس فيها حتَّى تبلغ تسعين، فإذا بلغت تسعين ففيها ثلاث تبايع، ثُمَّ ليس فيها شيء إلى المائة، فإذا بلغت مائة ففيها تبيعان ومَسِنَّةٌ، ثُمَّ ليس فيها شيء حتَّى تبلغ عشراً ومائة، فإذا بلغت عشراً ومائة ففيها مسنتان وتبيع، ثُمَّ ما جاءك من هذا في البقر فقسه على ما مضى ووصفت لك، إن شاء الله. (1/84)
باب صدقة الغنم
وسألته عن أقل ما تجب فيه الصدقة من الغنم؟
فقال: أقل ما تجب فيه الصدقة من الغنم في أربعين شاة، فإذا بلغت أربعين شاة ففيها شاة.
قلت: فإن نقصت من الأربعين شاة واحدة؟
قال: لا يجب فيها شيء إذا نقصت واحدة.
قلت: فإن كانت هذه الغنم عشرين فولدت قبل أن يحول الحول بشهر أو بنصف شهر فصارت مع أولادها أربعين؟
قال: إذا ولدت الغنم قبل الحول بنصف شهر أو أكثر فكملت عند رأس الحول أربعين، وجبت فيها شاة.
قلت: فإن كانت قبل أن يحول الحول بعشرة أيام ثمانية وثلاثين شاة، ثُمَّ ولدت شاتان وَلَدَيْن ولم يخرج الولدان مع الغنم إلى المرعى، هل تجب فيها الصدقة؟
قال: إذا كان مثل الولدين لو خرجا يتقرمان وجبت في الغنم الصدقة.
قلت: وما معنى تقرم؟
قال: إذا خرج الجدي الصغير أو الحمل فنتف من الأرض البقل، فهذا التقرم.
قلت: وكذلك ينبغي للمصدق أن يعد جميع صغار الغنم إذا تقرمن؟
قال: نعم، يعد المصدق الصغار والكبار، فإذا بلغت أربعين أخذ منها شاة.
قلت: فما هذه الشاة الَّتي يأخذها؟
قال: يأخذ شاة وسطة من الغنم، لا تيساً ولا هرمةً ولا ذات عوار.
قلت: ثُمَّ إلى كم من بعد الأربعين تجب الصدقة في الغنم؟
قال: إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان، ثُمَّ ليس فيها شيء إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه، فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة.
قلت: وكم كثير الغنم عندك؟ (1/85)
قال: ثلاثمائة؟
قلت: فقد ذكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه عفا عن الأربعين شاة تكون في المصر؟
قال: قد روي ذلك عنه صلى الله عليه وآله وسلم، والذي صح من هذا الحديث: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم إنَّما عفا عن الأربعين شاة تكون بالمصر يحلبها صاحبها ويعلفها بالمصر.
قلت: فإن أخرجها صاحبها إلى خارج المصر فرعاها، هل يجب فهيا الصدقة؟
قال: نعم، كل ما كان من الغنم والبقر والإبل ترعى في المراعي وجبت فيها الصدقة.
قلت: فإن صاحب الغنم الذي يرعاها كثرت، فجمع منها سمناً يساوي ألف درهم، وحال عليه الحول عنده، هل يجب عليه فيه الزكاة؟
قال: لا، لأن هذا قد أخرج زكاته من الغنم.
قلت: وكذلك لو جَزَّ منها صوفاً يساوي ألف درهم، فحال عليه الحول؟
قال: الجواب في ذلك واحد.
قلت: وكذلك إن مكث عنده السمن أو الصوف سنتين أو ثلاثاً أو عشراً، وهو يتزايد في كل سنة عنده؟
قال: الجواب في ذلك واحد، لا يجب فيه شيء ما دام السمن على حاله أو الصوف، إلاَّ أن يبيعه فيصير ثمنه وَرِقاً.
قلت: فإن باعه وحال على ثمنه الحول؟
قال: يجب فيه ربع عشر ثمنه.
قلت: فإن باع هذا السمن أو الصوف بطعام أو ثياب أو تمر أو عرض من العروض، هل يجب عليه فيه الزكاة؟
قال: إن كان إنَّما اشترى ذلك للتجارة وجب عليه فيه الزكاة عند رأس الحول.
قلت: فإن كان اشترى طعاماً لأهله، فأنفق منه على أهله وبقي منه عند رأس الحول ما يساوي مائتي درهم، هل يجب عليه في ذلك الزكاة؟
قال: لا؛ لأنَّه اشتراه نفقة لأهله، وكل ما اشتري للنفقة أو اللباس لم يجب فيه الزكاة، وإنَّما تجب الزكاة فيما اشتري للتجارة.
قلت: وكذلك الدر والياقوت؟
قال: الجواب في ذلك كله واحد، فاكتف به، إن شاء الله.
قلت: فإن رجلاً له ثلاثمائة شاة مع ثلاثة رعاة، مع واحد خمسون ومائة، ومع واحد عشرون ومائة، ومع واحد ثلاثون، كيف يعمل المصدق في ذلك؟
قال: يضمها جميعاً، ويأخذ منها ثلاث شياه. (1/86)
قلت: وكيف ذلك، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق>؟
قال: قد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم هذا الخبر، ولكن جهل العوام ما أراد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فَبِيِّن لي ما أراد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا القول؟
قال: نعم، وإنَّما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: لا يفرق بين ما جمعه المِلك، مثل ما ذكرت من الرجل الذي له غنم كثيرة على جماعة رعاة، والمِلك واحد لصاحب الغنم، فلا ينبغي للمصدق أن يفرق بين هذا؛ لأن مالكه واحد؛ لأنه لو فرقه ترك ما أوجب الله عز وجل، ألا ترى أنَّه لو كان لرجل أربعون شاة مع راعيين، مع كل واحد عشرون، ثُمَّ لم يجمع المصدق ذلك، أبطل الزكاة عن صاحب الأربعين شاة، والزكاة واجبة عليه؛ لأنَّه يملك الأربعين كلها، فهذا معنى قوله: <لا يفرق بين مجتمع>، أراد به صلى الله عليه وآله وسلم ما جمعه المِلك، لم يفرَّق، وأما قوله: <لا يجمع بين مفترق>، فإنما أراد به صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجمع بين ما فرقه المِلك.
قلت: بِيِّن لي ذلك، كما بينت لي الأولى؟
قال: نعم، لو أن لعشرة رجال مائة شاة مع راع واحد، لكل واحد منهم عشر شياة، لم يجب للمصدق أن يأخذ منها شيئاً؛ لأنَّ المِلْك قد فرقها، فلا ينبغي للمصدق أن يجمع ما فرقه الْمِلْك، وهذا الذي عنى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <أنَّه لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق>.
قلت: فإن رجلاً مات وخلف مائة شاة، وله ثلاثة بنين، فلم يقسموها حتَّى حال الحول، ما يعمل المصدق فيها؟
قال: يأخذ منها شاة.
قلت: وكيف ذلك، وقد فرقها المِلك؟
قال: المِلك بعد مجتمع ما لم يقتسم، ألا ترى أن كل واحد منهم لا يدري ما له من أعيان هذه الغنم.
قلت: وكذلك إن مكث في أيديهم عشر سنين لم يقتسموها، ثُمَّ نقصت حتَّى صارت أربعين وهي على حالها؟ (1/87)
قال: الجواب في ذلك واحد، والزكاة واجبة فيها ما لم تقتسم، ويعرف كل واحد منهم ما له من الغنم بعينه.
قلت: فإن شريكين في مائة شاة، وكل واحد منهما يعرف ما له، فلواحد سبعون شاة، وللآخر ثلاثون شاة، وهي مع راع واحد؟
قال: ينبغي للمصدق أن يأخذ منها شاة، ويتراد الشريكان الفضل بينهما كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <الشريكان يترادان الفضل فيما بينهما بالحساب>.
قلت: فكيف يترادان؟
قال: يرد هذا الذي له سبعون شاة على الذي له ثلاثون شاة ثلاثة أعشار ثمن الشاة.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: لأنَّه لم يكن يجب عليه شيء؛ لأن له ثلاثين شاة، والآخر فله سبعون شاة يجب عليه شاة، فلما أخذ المصدق من غنمهما جميعاً شاة وجب على الذي وجبت عليه في غنمه الشاة أن يرد على الذي لم يجب عليه ثلاثة أعشار قيمة ثمنها؛ لأنها مائة، فلهذا منها سبعة أعشارها، ولهذا ثلاثة أعشارها، فافهم هذا، وقس عليه كل ما أتاك من أمر الشريكين اللذين يترادان الفضل فيما بينهما.
قلت: وعلى هذا المعنى في البقر والإبل في الشريكين؟
قال: نعم.
باب مسائل ما يخرج من البحر
وسألته عن جميع ما يخرج من البحر، مثل العنبر والدر واللؤلؤ، وما أشبه ذلك، ما يجب فيه؟
قال: يجب فيه الخُمس؛ لأنَّه غنيمة.
قلت: ما قل منه وما كثر؟
قال: نعم.
قلت: فإن صيَّاداً اصطاد من البحر حوتاً واحداً يساوي دانقاً؟
قال: يجب فيه الخمس.
قلت: فإنه يصطاد السمك الكبير فيأكل منه ويبيع منه، حتَّى يجمع من ثمنه مائتي درهم ويحول عليها الحول عنده وقد أخرج الخمس من قبل؟
قال: عليه زكاتها إذا حال عليها الحول.
قلت: كم؟
قال: ربع العشر؛ لأنَّه قد زال عن المعنى الأول وصار في عداد الأموال الَّتي يجب فيها الزكاة.
قلت: فإنه لما اصطاد السمك أراد أن يأكله هو وعياله، ولا يبيع منه شيئاً، هل يجب عليه فيه الخمس؟
قال: نعم، كل ذلك غنيمة. (1/88)
قلت: فإنه لم يصطد من البحر، ولكنه كان زرَّاعاً، فأراد أن يسقي زرعه ففتح نهراً من البحر ليسقي به الزرع، فخرج من البحر حوت إلى الأرض، ونضب الماء فأخذ الرجل الحوت من أرضه، هل يجب فيه شيء؟
قال: نعم؛ لأنَّه مما أخرج البحر.
قلت: وكذلك جميع ما يخرج من الفرات ودجلة على هذا المثال غنيمة؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك العيون إذا صار فيها حِيْتَان، وأُخرجت؟
قال: نعم، كل هذا على مثال البحر، ما خرج منه فهو غنيمة؟
قلت: وكذلك ما أخرج من العيون من الكبريت؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك القار والنفط؟
قال: كل ما خرج من ذلك من معين الأرض فهو غنيمة، وفيه الخمس.
قلت: فإن صياداً عمل سفينة بمائة دينار، وشباكاً بعشرين ديناراً، ودخل بها البحر أو الفرات أو دجلة أو النيل أو بعض الأنهار، فاصطاد ما يساوي خمسة دنانير أو ديناراً، هل يحسب ما أنفق فيقتضيه مما يصيد حتَّى يستوفي أو يخرج مما يصيد الخمس ولا ينظر إلى ما أنفق؟
قال: لا يلتفت إلى ما أنفق، لو أنفق ألف دينار ثُمَّ اصطاد ما يساوي درهماً لوجب عليه فيه الخمس.
قلت: فإن الصياد لما اصطاد الحيتان لم يخرج منها الخمس، ثُمَّ باعها من رجل، هل يجب على المشتري أن يخرج هو الخمس؟
قال: نعم، إذا أيقن المشتري أن الصياد لم يخرج منه الخمس، وجب عليه هو أن يخرجه.
قلت: فإن لم يخرج التاجر الخمس، واشترى أيضاً رجل من التاجر حوتاً واحداً بدرهم ليأكله، هل يجب على المشتري أن يخرج الخمس من هذا الحوت؟
قال: نعم.
قلت: فلأيِّ علَّة يجب على المشتري أن يخرج منه الخمس وهو إنَّما اشتراه بدراهمه ولم يصطده؟
قال: لأنَّه اشترى شيئاً لله فيه حق، فلا بد أن يخرج ما لله فيه، وإن لم يفعل كان خائناً لله، ومثل ذلك مثل رجل اغتصب رجلاً شيئاً ثُمَّ باعه من رجل فعلم المُغتَصَب عليه بذلك الشيء، أنَّه عند المشتري، فأثبت عليه البينة، أليس يأخذه؟
قلت: بلى.
قال: وكذلك هذا الذي اشترى من هذا الصياد ما لله فيه حق، أليس يجب عليه أن يخرج الذي لله فيه من الحق؛ لأن الصياد باع ما لا يملكه مما وجب لله عليه. (1/89)
قلت: فصيد البر من الطيور والوحش وغير ذلك مما أشبهه؟
قال: وكذلك كل هذا غنيمة وفيه الخمس؛ لأن كل غنيمة فيها الخمس.
قلت: وكذلك جميع ما خرج من معادن الأرض مثل الذهب والفضة؟
قال: نعم، في كل ذلك الخمس، قَلَّ أو كثر.
قلت: فمتى يجب على صاحبه إخراج خمسه؟
قال: عند وقت وجوده إياه.
قلت: وكذلك ما كان من غير الذهب والفضة مما يخرج من معادن الأرض مثل الكحل والشب والزرنيخ والمغرَّة والزئبق والفصوص والزمرد والياقوت وما أشبه ذلك، ممَّا يخرج من معادن الأرض؟
قال: كل ذلك فيه الخمس، قَلَّ أو كثر، وهي الركاز الَّتي روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <في الركاز الخمس>، والركاز فهي: الكنوز الجاهلية والمعادن.
قلت: فهذا الخمس إذا أراد صاحبه أن يخرجه، إلى من يدفعه؟
قال: إلى الإمام العادل الظاهر، الحاكم بكتاب الله وسنة رسوله، فهو أولى به.
قلت: فإن لم يكن الإمام ظاهراً؟
قال: يفرقه هو فيمن جعله الله له.
قلت: فيمن؟
قال: في آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتاماهم ومساكينهم وبني سبيلهم.
قلت: وكيف جعلته في هؤلاء دون غيرهم؟
قال: لأن الله عز وجل جعله فيهم وصيره لهم دون غيرهم كما صير لغيرهم من الصدقات ما لم يجعله لهم، أمَا سمعت قوله: {واعلموا أنَّما غنمتم من شيء، فإن لله خمسه وللرسول}[ ]، فخمس الله هو خمس الرسول الذي جعله الله للرسول، وخمس الرسول هو الذي جعله الله لقرابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال: {ولذي القربى واليتامة والمساكين وابن السبيل}[ ]، فالخمس هو لِيتاماهم ومساكينهم وبني سبيلهم، وأما الصدقات فلغيرهم من الأصناف الَّتي ذكرها الله الثمانية، وإنَّما جعل الله الخمس لهم عوضاً من أوساخ الناس، وتفضيلاً لهم على غيرهم.
قلت: فمَن قرابة الرسول الذين يجب لهم الخمس؟ (1/90)
قال: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس.
قلت: فإن الرجل وجد في المعدن مائة مثقال تبراً أو فضة، فأخرج خمسها، ثُمَّ حال على ما بقي منها الحول؟
قال: معناها على معنى الغنيمة، وصارت من الأموال عند رأس الحول، وصار فيها ربع العشر.
قلت: فإنَّه وجد ياقوتة أو ما أشبه ذلك، تساوي ثلاثين مثقالاً أو أكثر، ما الذي يجب عليه في ذلك؟
قال: ينظر إلى قيمتها عند وجودها، فيخرج خمس قيمتها.
قلت: فإنه بعدما أخرج الخمس من قيمتها عملها فُصّاً أو خرزة لمرأة تلبسها، ثُمَّ حال عليها الحول، هل يجب عليه فيها شيء، إذا ألبسها هو أو جعلها حلياً لامرأته(1)؟
قال: ليس فيها زكاة.
قلت: فإنه لم يجعلها فُصّاً ولا حليّاً، ولكنه جعلها للتجارة، وطلب بها الثمن، والبيع إلى رأس الحول؟
قال: إذا جعلها للتجارة فحال عليها الحول قوَّمها في ذلك الوقت، وأخرج ربع عشر قيمتها.
قلت: وكذلك جميع ما أخرج من المعادن على هذا المثال؟
قال: نعم.
باب صدقة الطعام
وسألته، عَمَّا يجب فيما أخرجت الأرض؟
قال: تجب الزكاة في جميع ما أخرجت الأرض مما يكال أو لا يكال.
قلت: مثل أي شيء؟
قال: مثل البر والشعير وجميع الحبوب الَّتي تكال، وجميع الفواكه الَّتي لا تكال مثل الخوخ والرمان والجوز والعنب وجميع ثمر الأشجار.
قلت: فبين لي كيف زكاة ذلك، ومتى يجب فيه، ومتى يؤخذ منه، وكيف يعمل فيه؟
قال: نعم إن شاء الله، إذا أخرجت الأرض برّاً أو شعيراً أو ثمراً من ثمر النخل الذي يكال أو فستقاً أو بندقاً أو جلوزاً أو بلوطاً أو عناباً أو زبيباً أو ذرة أو غير ذلك من جميع صنوف ما يكال، ففيه إذا بلغ كيله خمسة أوسق: العشر إذا كان يسقيه سيحاً.
__________
(1) ـ في النسخة الَّتي تمت القصاصة عليها، ما لفظه: في نسخة صحيحة قديمة، أنَّه قال: إذا لبسها هو أو جعلها حلياً لمرته ففيها الزكاة إذا بلغت قيمتها ما تجب فيه الزكاة. تمت.
قلت: وما معنى سيحاً؟ (1/91)
قال: يفتح له الماء فتحاً من فرات أو دجلة أو عين، فإذا كان كذلك كان فيه العشر ما لم ينزع فيه بدلوٍ.
قلت: وكذلك إذا سقي بماء السماء؟
قال: نعم.
قلت: فإذا كان سقيه بغير الفتح وماء السماء؟
قال: كلما كان سقيه غير السيح مثل ما يسقى بالدوالي والخطارات والمساني وكل ما نشط ماؤه نشطاً ففيه إذا بلغ كيله خمسة أوسق، نصف العشر.
قلت: وكم الوسق؟
قال: الوسق ستون صاعاً، بصاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: بَيِّن لي هذا الصاع حتَّى أعرفه، كم هو؟
قال: الصاع ثلث مكوك العراق سواء سواء، قد عَبَرناه(1) فوجدناه كذلك.
قلت: فإذا أخرجت الأرض برّاً، فنقص من الخمسة أوسق صاعاً أو صاعين، هل يجب فيه شيء؟
قال: لا.
قلت: فإن زاد بعض هذه الأصناف على الخمسة أوسق صاعاً أو صاعين، ونقص بعضها صاعاً أو صاعين، هل يضم بعضها إلى بعض؟
قال: لا يُضَمُّ شيءٌ ممَّا أخرجت الأرض ممَّا يكال أو لا يكال بعضه إلى بعض، ولكن إذا نقص بعضها وزاد بعضها أخذ ممَّا زاد، وترك ما نقص من خمسة أوسق، لم يؤخذ منه شيء، فهذه جملة لك، فيها كفاية فيما أخْرَجَت الأرض ممَّا يكال إن شاء الله.
قلت: قد فهمت هذا، فَبِيِّن لي كيف العمل فيما لا يكال؟
قال: نعم إن شاء الله، إذا كان في الأرض شجر فأثمر مثل الرمان والفرسك ـ وهو الخوخ ـ والسفرجل والمشمش والتين والخرنوب والإجاص وقصب السكر والموز والكمثرى، وما أشبه ذلك من الفواكه وغيرها، مثل: البصل والجزر وغير ذلك ممَّا تخرج الأرض ممَّا لا يكال، فأحسن ما أرى في ذلك أن يبعث إليه من يبصر كل صنف منه عند ينعه(2) ومنتهاه، فإذا قوَّمه وصح عنده أن ذلك الصنف يسوى إذا بيع مائتي درهم قفلة، فإذا بلغ مائتي درهم قفلة أخذ منه عشره، إذا كان يُسقَى سيحاً أو بماء السماء، أو نصف عشره إذا كان يسقى بالسواني والدوالي وما أشبه ذلك.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): قد عايرناه.
(2) ـ في نسخة (ب): عند بلوغه ومنتهاه.
قلت: فيؤخذ فيما يجب في هذا ذهب أو فضة؟ (1/92)
قال: لا.
قلت: فكيف يعمل به؟
قال: يقسم فيأخذ المستعمل على ذلك عشره أو نصف عشره، فإذا عرف الذي له باعه إن أحب أن يبيعه.
قلت: فإن أراد صاحبه أن يشتريه؟
قال: ذلك جائز يشتري ويعطي ثمنه.
قلت: فإن قصر كل صنف من هذه الأصناف عن مائتي درهم؟
قال: لا يجب فيه شيء.
قلت: وكذلك العنب؟
قال: إذا كان لرجل كرم أو كروم، فإن كان ممَّا يزبب فقد قدمنا تفسيره فيما قد قدمنا فيما أخرجت الأرض، يؤخذ منه عشره أو نصف عشره عند كمال التزبيب.
قلت: فإن لم يكن ممَّا يزبب؟
قال: الجواب في ذلك كالجواب في غيره ممَّا لا يكال.
باب ما يأتي شيئاً بعد شيء
قلت: قد فهمت في هذا ما ذكرت، فما تقول في زكاة البطيخ والقثاء وكل ما أشبه ذلك ممَّا يأتي شيئاً بعد شيءٍ؟
قال: العمل في ذلك أن ينظر إلى هذا الذي يخرج شيئاً بعد شيء، فإن كان من أول ما يخرج ويباع منه شيء بعد شيء آخر ما ينقضي يبلغ ثمن ذلك الذي يخرج من الأصل من البطيخ أو القثاء أو الدبا أو ما أشبه ذلك يبلغ مائتي درهم قفلة من عند وقت خروجه إلى وقت انقضائه وجب فيه، وأخذ منه على قدر سقيه، إن كان يسقى سيحاً ففيه العشر، وإن كان يسقى بالدوالي والمساني ففيه نصف العشر، وإذا لم يبلغ كل صنف من هذا الذي يخرج شيئاً بعد شيءٍ مائتي درهم لم يجب فيه شيء.
باب القطن والحناء والقضب والكتان والقنب ومثل هذا
قلت: فما القضب والحناء والقطن وما أشبه ذلك ممَّا له أصل ثابت، وهو يقطع ويقطف ويجز ثُمَّ يرجع، كيف العمل فيه؟
قال: أمَّا ما كان مثل هذا فينبغي للمستعمل عليه أن ينظر إلى جميع ما يقطف منه أو يجز في السنة، فإذا كان يبلغ ثمن كل صنف من ذلك مائتي درهم قفلة في السنة أخذ منه عشره أو نصف عشره على قدر سقيه كما وصفنا.
قلت: فإذا علم المستعمل أنَّه يبلغ في السنة مائتي درهم قفلة، هل يجوز للمستعمل أن يقاسم صاحبه في كل جزة أو قطفة ممَّا قل أو كثر؟
قال: نعم.
قلت: فإنه لما خرج واستوى نظر فيه، فإذا فيه أكثر ممَّا يبلغ مائتي درهم قفلة، فقاسم المستعمل عليه صاحبه مرة أو مرتين، ثُمَّ أصابته آفة من بَرْدٍ أو بَرَد أو غير ذلك من الآفات فتلفت أُصول البطيخ أو القثاء أو نثرت جوز القطن أو قلعت الحناء أو فسدت القضب، فطالب صاحب البطيخ والقضب المستعمل على الجباية بما أخذ منه، هل يجب على المستعمل أن يرد على الرجل ما أخذ منه قبل أن يصيب القضب أو البطيخ البرد؟ (1/93)
قال: أمَّا ما كان عرقه باقياً في الأرض يأتي في السنة مراراً فلا يرد عليه ما أخذ منه في أول مرة؛ لأنَّه قد دخل عليهما جميعاً المصيبة بثمرة هذا العرق، وهو يعود بعد أيام مثل القضب والحناء وما أشبه ذلك من العروق، وأمَّا ما كان لا يرجع ثمرته إلاَّ من سنة إلى سنة فإنه يرد عليه ما أخذ منه قبل فساده، إلاَّ أن يكون قد أخذ منه في مبتدأِ أمره ما يجب عليه فيه الزكاة، فإنه إذا كان كذلك لم يرد عليه القابض ما قبض منه؛ لأنَّه قبض ما يجب فيه الزكاة.
باب زكاة العسل
قلت: فما تقول في زكاة العسل؟
قال: أحسن ما أرى في ذلك أنَّه إذا كان لرجل نحل فكان يخرج من عسلها في كل سنة من وقت ما تعمل النحل العسل إلى آخر السنة قيمة مائتي درهم قفلة وجب فيه العشر.
قلت: فإن أصاب النحل آفة في وسط السنة فقتلته، كيف العمل فيه؟
قال: إن كان العامل على استخراج ذلك أخذ من صاحب النحل شيئاً من العسل رده على صاحبه؛ لأنَّه قد بطلت عنه الزكاة عند موت النحل، وإن كان لم يأخذ منه شيئاً فليس عليه فيما تقدم زكاة، وقد بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمر أبا سيّارة ـ وكان له نحل ـ أن يخرج من كل عشر قرب عسل قربة، وهذا الصَّحيح، وبه نأخذ.
باب أرض الخراج
قلت: قد فهمت ما يجب في أرض العشر، فأرض الخراج ما يجب فيها؟
قال: إنَّما أرض الخراج هي: أرض الفتوح الَّتي قد وضع عليه الخراج، مثل سواد الكوفة وما أشبهها، وإنَّما الخراج هو كراء الأرض، فللإمام في ذلك النظر والصلاح لمن في بلد الخراج وأرضه، يأخذ منهم الخراج على قدر ما يرى. (1/94)
قلت: فإن أبوا؟
قال: يجبرهم على ذلك، فإذا أخذه فإنما هو كراء أرض الله وضعه في أموال الله الَّتي جعلها فيئاً تجري على صغير المسلمين وكبيرهم فارسيهم وعربيهم.
قلت: فيجب على الذي في يده الأرض الَّتي عليها الخراج أن يخرج الزكاة أيضاً؟
قال: نعم.
قلت: فإن لم يخرج الزكاة؟
قال: يكون ذلك الرجل عند الله من التاركين للزكاة.
قلت: بَيِّن لي ذلك؟
قال: نعم، إنَّما مثل أرض الخراج مثل الرجل الذي يكتري الأرض من أربابها، فعليه أن يؤدي كراءها، وعليه أن يخرج ما أوجب الله فيها.
قلت: إلى من يخرجه؟
قال: إلى إمام المسلمين العادل.
قلت: فإن لم يكن الإمام ظاهراً؟
قال: يخرجه فيمن أمر الله به عز وجل، فيمن تجب له الصدقات من الأصناف الثمانية.
قلت: فإن ظهر الإمام بعد ذلك، هل يجب على الرجل الذي أخرج زكاة أرضه إلى هؤلاء الأصناف، أن يؤدي إلى الإمام مثل ذلك، أم قد أجزاه الإخراج الأول؟
قال: نعم، قد أجزاه الإخراج الأول على الأصناف الذين أمر الله تبارك وتعالى بإخراجه فيهم، إذا لم يكن الإمام ظاهراً.
قلت: فهل يجزي أخذ السلطان الجائر من الرجل زكاة أرضه أو ماله؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه أخذ ما ليس له ولا أوجب الله له، وإنَّما ينبغي للمزكي أن يعطي من أمره الله بعطائه، مثل ما سأل الله لنبيه: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}[ ]، فلا ينبغي لمسلم أن يعطي زكاته إلاَّ من قام بمثل مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العدل في الرعية، فأما من ظلم وتعدى فلا يعطى الزكاة.
قلت: فهل يجبر الإمام العادل الناس على أخذ الزكاة؟
قال: نعم، لا يسعه عند الله غير ذلك، ولا ينبغي للإمام ـ إمام المسلمين ـ أن يفرط في شيء من ذلك. (1/95)
قلت: فإلى من يدفعها الإمام إذا أخذها؟
قال: إلى مَن أمر الله من هذه الثمانية الأصناف الذين قال الله عز وجل: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله والله عليم حكيم}[ ].
قلت: ومَن الفقراء، ومتى يكون فقيراً؟
قال: إذا لم يملك إلاَّ المنزل والخادم وثياب الأبدان، فهؤلاء الفقراء، وإذا كانوا كذلك وجب لهم أن يأخذوا من الصدقات.
قلت: فمَن المساكين؟
قال: ذوو الحاجة والضرورة، الذين لا يملكون شيئاً.
قلت: فمَن العاملون عليها؟
قال: الذين يجبون الصدقات.
قلت: فمن المؤلَّفة قلوبهم؟
قال: هم أهل الدنيا المائلون إليها، الذين لا يتبعون الإمام، إلاَّ لما يعطيهم من الأموال الَّتي يتألفهم بها.
قلت: فالرِّقاب؟
قال: هم المكاتبون، فيجب على الإمام أن يغنيهم.
قلت: فالغارمون؟
قال: الذين قد لزمتهم الديون في غير إسراف ولا سفه ولا تبذير.
قلت: فالسَّبيل؟
قال: هو أن يصرف الإمام جزء السبيل للمجاهدين والمعاونة للإسلام.
قلت: فابن السبيل؟
قال: هو مارّ الطريق، فينبغي للإمام أن يزوده إلى بلده أو إلى سفره.
قلت: فمتى يجب للرجل أن يأخذ من الصدقة، ومتى يحرم عليه أخذها؟
قال: ينبغي للمسلم أن يأخذ من الصدقة إذا كان في ملكه ما يجب في مثله الصدقة.
قلت: مثل أي شيء؟
قال: إذا كان عند الرجل خمسة أوسق طعاماً لم يجز له أن يأخذ من الصدقة شيئاً؟
قلت: فإن كان على هذا الرجل عيال كثير، والخمسة أوسق لا تبلغهم سنتهم؟
قال: لا يجوز له، وإن كان لا تبلغهم سنتهم أن يأخذ من الصدقة؛ لأنَّه قد أغناه الله وأوجب عليه هو الصدقة، وإن كان خوفه أن يقطع به الطعام قبل السنة فرجاؤه من الله أن يغنيه في وسط السنة ويأتيه برزقه من حيث لا يحتسبه، كما قال الله تبارك وتعالى: {إن مع العسر يسراً}[ ]، وكما قال سبحانه: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}[ ]. (1/96)
قلت: فلمن تجب الصدقة، ومتى يجوز للرجل أخذها؟
قال: إذا لم يكن للرجل عروض للتجارة أو غير ذلك من الغنم والبقر والإبل يجب في مثلها الصدقة.
قلت: فكم يأخذ المحتاج الذي ليس في يده ما يجب فيه زكاة من الصدقة؟
قال: يأخذ على قدر حاجته وكثرة عياله وقلتهم:
إن كان كثير العيال أخذ من الزكاة مائتي درهم إلاَّ خمسة دراهم، أو تسعة عشر مثقالاً من الذهب، أو أربعاً من الإبل، أو تسعة وثلاثين من الغنم، أو تسعة وعشرين من البقر، أو خمسة أوسق إلاَّ ثلثاً من الطعام ، وإن أخذ من أنواع ثمار الأشجار أخذ منه ما يسوى مائتي درهم إلاَّ خمسة دراهم.
وإن كان ممَّن ليس له عيال كثير أخذ ما بين خمسين درهماً إلى مائة درهم، وأكثر من ذلك وأقل على قدر حاجته، وما يرى الإمام في ذلك.
باب تسمية الأرضين ومعانيها
وسألته عن تسمية الأرضين ومعانيها؟
فقال: الأرضون سِتٌّ.
قلت: بيِّن لي معناهن أرضاً أرضاً حتَّى أفهم(1)؟
قال: نعم إن شاء الله. أولهن: أرض افتتحها المسلمون عنوة بالسيف، وهي: أرض مثل خيبر، حيث افتتحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنوة، فقسم بعضها على المسلمين، فصارت ميراثاً لمن قسمها عليه، يجب فيها العشر، وعامل على بعضها بالنصف، وتركها في أيدي أهلها يعملونها ويؤدون نصف ما يأتي فيها، فما كان من ذلك فهو فَيْءٌ بين جميع المسلمين.
__________
(1) ـ حتَّى أفهمهن (ب).
وأرض افتتحها المسلمون مثل سواد الكوفة ومصر والشام وخراسان وغير ذلك من البلاد، فهي أرض خراج، فما أخذ منها فهو فيء يرد إلى بيت مال المسلمين. (1/97)
وأرض صَالَحَ عليها أهلها وهم في منعه، فلا يؤخذ منهم إلاَّ ما صولحوا عليه، مثل أهل نجران وغيرها من البلاد، فهي أيضاً لبيت مال المسلمين.
وأرض أُجلي عنها أهلها، وخلوها من قبل أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب أو يقاتلوا، مثل فدك(1)، فما كان من البلاد على هذا فإمام المسلمين أولى بها يصرفها حيث شاء ورأى، وجميع ما سمينا من هذه الأموال تحل لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم فيها المقدمون على غيرهم؛ لأن غيرهم ينال من الأعشار، وهم لا ينالون، ويجوز لإمام المسلمين أن يصيب معهم من هذه الأموال، فيأكل ويشرب ويركب وينكح بالمعروف، ويرزق نفسه فيها كما يرزق المسلمين.
وأرض أسلم عليها أهلها، فهي أرض عشر، مثل أرض اليمن والحجاز، فعلى أهلها فيها العشر إذا بلغت ثمرتها خمسة أوسق، وما أخذ منها فهو صدقات تخرج حيث سمَّى الله من قوله: {إنَّمَا الصدقات للفقراء والمساكين}[ ].
وأرض أحياها مسلم، فهي له ولورثته من بعده، ويؤخذ منه فيها العشر، وكذلك بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <من أحيا أرضاً فهي له>، وإنَّما أراد بذلك الأرض الَّتي لم يملكها أحد قبله ولم يزرعها أحدٌ سواه، وليس لأحدٍ فيها أثر ولا دعوى.
قلت: فإن رجلاً أخذ أرضاً ميتةً وضرب علهيا أعلاماً، ثُمَّ تركها ولم يعملها ولم يحييها سنة أو سنتين أو ثلاثاً، ثُمَّ جاء غيره فأحياها، ما العمل في ذلك؟
قال: إنَّما أمر الأرضين إلى الإمام إذا كانت الأرض لا صاحب لها، فإذا فعل ذلك رجل بأرض وتركها أمره الإمام بعمارتها وصلاحها، فإن فعل وإلاَّ دفعها(2) إلى غيره يعمرها، فإن في عمارتها صلاح الإسلام.
__________
(1) ـ نسخة (ب): مثل أهل فدك.
(2) ـ نسخة (ب): وإلاَّ دفعها إلى غيره إذا طلبها يعمرها.
باب ما يؤخذ من تجار أهل الذمة إذا اتَّجروا من بلد إلى بلد شاسع (1/98)
وسألته عن تجار أهل الذمة إذا خرجوا من بلدهم ومواطنهم بالتجارة إلى بلد شاسع، هل يؤخذ منهم الزكاة إذا قدموا وباعوا، أو لم يبيعوا المتاع؟
قال: الزكاة لا تؤخذ من ذمي؛ لأنها تطهره وتزكيه، وليس الذميون بأهلٌ لذلك، وإنَّما تؤخذ منهم الجزية، فأما ما يؤخذ من تجارهم فإنما هو صلح يجوز لهم معه التجارة على المسلمين كانوا قد صولحوا في وقت ما جعلوا ذمة على ذلك برضا إمام المسلمين ورأيه، ولنا في هذا كلام وتفسير جيد في مسائل ابني أبي القاسم أطال الله بقاه.
قلت: فكم يؤخذ منهم؟
قال: يؤخذ منهم نصف عشر ما يأتون به من أموالهم، ويتجرون به على المسلمين في أرض الإسلام، وإنَّما يؤخذ منهم ذلك ممَّن أتى من بلد شاسع إلى بلد، مثل تجار أهل الذمة الذين بالشام إذا اتجروا من بلد بعيد إلى بلد من بلاد المسلمين، فأما من كان في الأمصار منهم فلا يؤخذ منهم في الأمصار الَّتي هم فيها متسكنون شيء إلاَّ الجزية، وإنَّما تؤخذ ممَّن انتجع بتجارته من بلد هو فيه متسكن إلى بلد بعيد، فأما تجار في بلد فلا يؤخذ منهم فيه شيء، وإن خرجوا إلى غيره أخذ منهم فيه كما يؤخذ من غيرهم.
قلت: ولأي معنى يؤخذ منهم إذا خرجوا من بلد إلى بلد نصف عشر؟
قال: على ذلك صُولِحُوا، وأطلق لهم التجارة على المسلمين وبينهم، فلزمهم ما صولحوا عليه عند وقت دخولهم في الذمة.
قلت: فكم يؤخذ منهم إذا كانوا في بلد قارِّين غير خارجين؟
قال: لا يؤخذ منهم شيء، إلاَّ جزية رؤوسهم.
قلت: وكم هي؟
قال: تؤخذ من مياسيرهم وأصحاب الضياع منهم الذين يركبون البراذين ويتختمون بالذهب ثمانية وأربعون درهماً قفلة، ويؤخذ من أوساطهم أربعة وعشرون درهماً قفلة، ويؤخذ من ضعفائهم اثنا عشر درهماً قفلة.
قلت: مثل من يكون ضعيفهم؟ وكم قدر ما يملك؟
قال: إذا ملك خمسة دنانير أخذ منه.
قلت: فالصبيان؟
قال: لا يؤخذ منهم حتَّى يبلغوا، ولا يؤخذ من النساء شيء. (1/99)
قلت: ولِمَ لا يؤخذ من النساء ولا من المماليك ولا من الصبيان وهم مشركون؟
فقال: إنَّما جعلت الجزية فدية من القتل، وذلك قول الله عز وجل: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتَّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}[ ]، فمن وجب عليه الإيجاف والجهاد والقتل أُخذ منه فدية القتل عن نفسه، ومن لم يجب عليه ذلك ولم يكن من أهله فلا فدية عليه في غيره، وأما النساء فمنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قتلهن؛ لأنهن ضعف، ولا امتناع عندهنّ ولا حمل سلاح فيهنَّ، وأما الصبيان فلم تجر أحكام الله تعالى عليهم، فسقط بسقوطها القتل عنهم إذ هو حكمٌ من أحكام الله، فلما أن سقطت كلها عنهم سقط هذا الجزاء أيضاً ولم يجر عليهم، وأما المماليك فإنَّما هم أموالهم، وحالهم كحال المال في كل حال من الحال تابعون لأمر غيرهم جارون في إرادة مواليهم لا يجدون عن ذلك مندفعاً، فلذلك سقط اختيارهم، فلما لم يكن اختيارهم نافذاً لهم وكان اختيار مواليهم جارياً عليهم سقط القتل عنهم وصاروا غنيمةً يتغنمهم المسلمون، فلما سقط القتل عنهم سقطت الجزية.
باب في نصارى بني تغلب
قلت: فنصارى بني تغلب؟
قال: هم قوم كانوا قد أَنِفُوا أن تؤخذ منهم الجزية، وسألوا أن تضاعف عليهم الصدقة، فأُجيبوا إلى ذلك، وشرط عليهم: أن لا يدخلوا أولادهم في دينهم، وعوهدوا على ذلك، فأوجب عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أموالهم كلها ضِعْفَي ما يجب على المسلمين من الزكاة في المائتي درهم قفلة عشرة دراهم، وفي العشرين مثقالاً من الذهب مثقال، وفي خمس من الإبل شاتان، وفي عشرين من الغنم شاة، وفي خمس عشرة من البقر تبيع أو تبيعة، وفي الطعام ما كان يؤخذ منه العشر أخذ منهم الخمس، وما كان يؤخذ فيه نصف العشر أخذ منه العشر، فهذا جملة ما يؤخذ منهم وما يجب عليهم. (1/100)
باب القول في الصيام
وسألته عن الرجل ينوي بالليل أنَّه يصبح صائماً تطوعاً، فإذا أصبح بدا له عن الصوم، هل يجوز له الإفطار؟
قال: نعم.
قلت: فإن أفطر، هل يجب عليه القضاء بما قد تقدم من النية للصوم؟
قال: لا.
قلت: فإن رجلاً جُنَّ شهر رمضان كله ثُمَّ أفاق بعد ذلك، هل يجب عليه القضاء؟
قال: نعم، إنَّما هي علة عرضت، فإذا أفاق صام.
قلت: وكذلك إن جُن بعض الشهر وأفاق بعضه، كيف يعمل؟
قال: يصوم أيام إفاقته ويقضي ما كان فاته من الشهر.
قلت: فإن رجلاً ارتد عن الإسلام خمس سنين، ثُمَّ رجع إلى الإسلام، هل يصوم ما فاته من السنين الَّتي ارتد فيها؟
قال: لا؛ لأنَّه قد خرج من عقد الإسلام في ارتداده.
قلت: فإن صبيّاً بلغ مبالغ الرجال بعد انتصاف شهر رمضان أو في آخر يوم منه بعد زوال الشمس، ما يجب عليه؟
قال: إذا أتى على الصَّبي أربع عشر سنة أو خمس عشرة سنة أوجبنا عليه الصوم؛ لأنَّه قد استطاع الصوم.
قلت: فإن رجلاً أكل في شهر رمضان ناسياً أو شرب ناسياً أو جامع ناسياً، ثُمَّ أكل باقي يومه متعمداً، ما يجب عليه في ذلك؟
قال: قضاء يوم، وقد قال غيرنا: إن عليه في الجماع كفارة عتق رقبة، ولسنا نرى في الصوم إلاَّ القضاء والتوبة.
قلت: وكذلك إن جامع امرأته في شهر رمضان متعمداً، ما يجب عليه في ذلك؟ (1/101)
قال: قد قال غيرنا: إن عليه الكفارة والقضاء، ولسنا نرى ذلك، والذي يجب عليه عندنا القضاء يوماً مكان يومه، والتوبة والإنابة، والأدب الشديد إن رأى الإمام ذلك.
قلت: فإن رجلاً قال: لله عليَّ أن أصوم يوم النحر أو يوم الفطر، ما يعمل؟
قال: يفطر، ويصوم يوماً غيره.
قلت: فإن رجلاً أصبح في شهر رمضان، فعزم على الإفطار ثُمَّ بدا له فصام، هل يجب عليه القضاء لما تقدم من نيته؟
قال: لا.
قلت: فإن رجلاً تقيّأَ متعمداً ولم يرجع منه في حلقه شيء، ما يجب عليه في ذلك؟
قال: إن لم يرجع إلى جوفه منه شيء فلا قضاء عليه.
قلت: فإن رجلاً أفطر في يوم غيم، وهو يظن أنَّه وقت المغرب، ثُمَّ طلعت الشمس بعد ذلك، ما يعمل؟
قال: يقضي يوماً.
قلت: فإن رجلاً كان عليه صيام شهرين متتابعين فأفطر يوماً واحداً قبل مضي الشهر بيوم أو بعد مضي الشهر بيوم، ما يعمل؟
قال: إن كان أفطر لعلة يجب في مثلها الإفطار من مرض أو سفر أتم على ما مضى، وإن كان أفطر تمرداً واستخفافاً ابتدأ الصوم من أوله متتابعاً.
قلت: وكذلك لو كان عليه نذر صيام سنة ممتابعة فأفطر منها شهراً أو يوماً، ما يعمل؟
قال: قد تقدم الجواب في ذلك في المسألة الأولى.
قلت: فإن امرأة أفطرت في شهر رمضان قبل الزوال متعمدة، ثُمَّ حاضت بعد الزوال، ما يجب عليها؟
قال: إن كانت أفطرت تمرداً وفسقاً في دين الله وجب عليها قضاء يوم، وعليها التوبة، وإن علم بها الإمام أدَّبها.
قلت: فإن رجلاً جامع امرأته وهي نائمة لم تعلم حتَّى أولج، ما يجب عليها وعليه، وكذلك لو كانت المرأة مجنونة؟
قال: إن علمت بذلك وطاوعت وجب عليهما القضاء والتوبة، وإن علم بهما الإمام أدبهما، وإن كانت هي لم تعلم وجب عليه هو القضاء والأدب، ولا قضاء عليها هي، وكذلك إن كانت مجنونة.
قلت: فإن رجلاً نظر لشهوة إلى امرأته أو إلى غيرها فأمنى أو أمذى، ما يجب عليه؟
قال: القضاء، وقد قال غيرنا: إنَّه لا يجب القضاء في المذي، وأما أنا فأُحب له أن يقضي من المذي. (1/102)
قلت: فإن مسافراً نوى الإفطار في شهر رمضان، ثُمَّ دخل بلده قبل الزوال أو بعده، ما يعمل؟
قال: يتم صومه ولا قضاء عليه.
وسألته عن الكحل والذرور والحقنة، والرجل يصب في إحليله دهناً، والسعوط للصائم؟
فقال: أما الكحل والذرور والحقنة وصب الدهن في الإحليل فلا بأس بشيء من ذلك عندنا للصائم إذا احتاج الرجل إليه، وأما السعوط فلا يجوز عندنا ولا نراه؛ لأن السعوط يدخل في الحلق، وكل ما دخل إلى الحلق لم يجز للصائم فعله.
قلت: فإن رجلاً تمضمض واستنشق فبدر الماء إلى حلقه ودخل إلى جوفه؟
قال: قد قال غيرنا: لا قضاء عليه، وأما نحن: فنحب أن يقضي يوماً.
قلت: وكذلك لو أن صائماً ابتلع ذباباً، أو دخل في حلقه غبار أو دخان؟
قال: ليس ذلك عندنا ممَّا يوجب عليه الإعادة؛ لأنَّه لم يقصد ابتلاع شيء من ذلك، ولكن ينبغي للصائم أن يتحرز من ذلك كله.
قلت: فإن وضع في فِيْهِ ديناراً أو درهماً أو فلساً أو ما أشبه، ذلك فتكلم فدخل في حلقه شيء من ذلك بغير تعمد؟
قال: لا قضاء عليه.
قلت: فإن تعمد ابتلاع ذلك تعمداً؟
قال: إذا تعمد ذلك تعمداً وجب عليه عندنا القضاء.
قلت: فإن رجلاً صائماً اشترى عسلاً أو خلاًّ أو ما أشبه ذلك فذاقه بلسانه قبل أن يشتريه أو بعد ما اشتراه؟
قال: لا يضر الصائم ما ذاق بلسانه إذا(1) لم يدخل من ذلك إلى جوفه شيء، ولو أفسد ذلك الصيام لأفسدته المضمضة بالماء الطهور.
وسألته عن الرجل اعتلَّ في شهر رمضان فأفطر، هل يقضي ما عليه متفرقاً أو مجتمعاً؟
قال: يقضي على قدر ما أفطر، إن كان أفطر متفرقاً قضاه متفرقاً، وإن كان أفطر متتابعاً قضاه متتابعاً.
قلت: فإنه أفطر شهر رمضان من علة ثُمَّ لم يقض ما أفطر حتَّى أتاه شهر رمضان من قابل، ما يعمل؟
__________
(1) ـ نسخة (ب): إذا لم يدخل جوفه من ذلك شيء.
قال: قد قال غيرنا: إنَّه يتصدق في كل يوم بنصف صاع بر على قدر ما أفطر، ويقضي عدة ما أفطر، وأما قولنا: فلا كفارة عليه، وعليه قضاء ما أفطر. (1/103)
باب زكاة الفطر
وسألته عن زكاة الفطر، متى يخرجها الرجل؟
قال: يوم الفطر قبل خروجه إلى المصلى أحب إلينا.
قلت: فهل يقدمها ليلة الفطر فيخرجها إلى من يستحقها؟
قال: لا، ولكن يؤخرها إلى يوم الفطر.
قلت: فهل يؤخرها إلى بعد صلاة العيد أو إلى(1) يوم الثاني؟
قال: إذا لم يجد الذي يخرجها له ممَّن يستحقها كالها وعزلها إلى بعد الصلاة أو يوم الثاني أو الثالث حتَّى يدفعها إلى من عزلها له ممَّن يستحقها.
قلت: فكم زكاة الفطر؟
قال: صاع من بر أو صاع من شعير أو صاع من زبيب أو صاع من تمر أو صاع من ذرة أو صاع من إقطٍ، وقد قال غيرنا: نصف صاع من بر، ولم نلتفت إلى ذلك.
قلت: فكم الصَّاع؟
قال: ثلث مكوك العراق، وقد كلناه فوجدناه مثل صاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء سواء.
قلت: فكم يكون وزن الصاع أرطالاً؟
قال: لا ينظر إلى وزن الصاع كم هو، ولا يصح وزنه، وليس إلاَّ بالكيل.
قلت: فهل يخرج الرجل عن نفسه ما يجب عليه، فيدفعه إلى ثلاثة أو اثنين؟
قال: لا بأس بذلك إذا كان الناس في حاجة شديدة وسنة مجدبة، فأما إذا كان الناس في خصب فأحب إليَّ أن يدفع إلى كل واحد عن واحد.
قلت: فيدفع الرجل زكاة فطرته شعيراً أو تمراً وهو يأكل براً؟
قال: أحب إليَّ أن يدفع ممَّا يأكل، وإن فعل فلا بأس بذلك.
قلت: فهل يدفع الرجل قيمة زكاة فطرته دراهم؟
قال: أما الدراهم فلا يجوز له وهو يجد الطعام بحيلة.
قلت: فيجب على الرجل أن يخرج زكاة الفطر عن الجنين؟
قال: لا، وقد قال بذلك غيرنا، ولم نلتفت إلى قوله.
قلت: فيجب على الرجل أن يخرج فطرة مملوكه؟
قال: نعم، يجب على الرجل أن يخرج عن جميع عياله صغيرهم وكبيرهم وحرَّهم ومملوكهم وذكرهم وأنثاهم.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أم إلى يوم الثاني.
قلت: فهل يخرج زكاة فطرته من بَلَدهِ إلى بلدٍ إذا كان له ذو رحم محتاج وهو ناءٍ عن بلده؟ (1/104)
قال: نعم، يخرجها إليه إذا كان له ذو الرحم ممَّن لا يجب عليه له نفقة.
قلت: مثل مَن؟
قال: مثل عمته وأخته إذا كان لها ولد يحجب أخاها عن ميراثها، وكذلك كل قرابة ممَّن يجب له عليه النفقة، فلا يجوز أن يدفع إليه فطرته ولا زكاته.
قلت: فما تقول في الفقراء الذي لا يكون معهم ما يخرجون الفطرة، هل(1) يجب عليهم أن يأخذوها من غيرهم ويخرجوها؟
قال: لا، وكيف يجب على من ليس معه ما يخرجه أن يخرج الفطرة وهو يجب له أن يأخذها إذا كان فقيراً.
قلت: فَبَيِّن لي مَن الفقير الذي تجب له أن يأخذ الفطرة ولا يخرجها؟
قال: من لم يكن معه قوت عشرة أيام له ولعياله أخذ الفطرة ولم يخرجها.
قلت: فإن كان معه قوت عشرة أيام له ولعياله، هل يجب عليه أن يخرج الفطرة؟
قال: نعم.
قلت: فإنه لم يكن معه يوم الفطر قوت عشرة أيام، فأصاب بعد يوم الفطر بيوم أو يومين مالاً، هل يجب عليه أن يخرج الفطرة؟
قال: لا، إنَّما الفطرة ليوم الفطر بعينه، فإذا جاز يوم الفطر ولم يكن مع الرجل ما يجب عليه فيه إخراج الفطرة لم يجب عليه أن يخرج بعد ذلك، ففي ذلك كفاية إن شاء الله تعالى.
باب مسائل الحج
وسألته عن مواقيت الإحرام؟
فقال: أما من حج فأخذ على طريق المدينة فميقات إحرامه من ذي الحليفة، وأما من أخذ على طريق الجادة أو من أتى من أهل نجد أيضاً فميقات إحرامه من ذات عرق، ومن أتى من المغرب فميقات إحرامه الجحفة، ومن أتى من اليمن فميقات إحرامه يلملم، ومن أتى من أهل اليمن من طريق نجد أو من أهل نجد فميقات إحرامه قرن المنازل.
قلت: فمَن كان منزله أقرب إلى مكة من هذه المواقيت، فمِن أين يُحرم؟
قال: مِن منزله.
قلت: فإذا أتى الرجل ذا الحليفة أو بعض هذه المواقيت، فبأي شيء يبدأ؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): هل تحب لهم أن يأخذوها.
قال: يغتسل، ثُمَّ يلبس ثوبين جديدين أو غسيلين، ثُمَّ يدخل مسجد ذي الحليفة فيصلي ركعتين، وإن كان في وقت صلاة مكتوبة صلى، ثُمَّ أحرم بعد ذلك. (1/105)
قلت: فإنه لم يغتسل، هل يجزيه؟
قال: نعم، ما لم يكن تركه الغسل رغبة عن السنة.
قلت: فإذا أراد أن يحرم، أي(1) شيء يقول، وهل(2) يقرن أو يتمتع أو يفرد الحج؟
قال: أما(3) من لم يكن حَجَّ حجة الإسلام فأحب إليَّ أن يفرد الحج.
قلت: وكيف ذلك وقد تواترت الروايات في التمتع؟
قال: قد جاء في ذلك روايات، وليس شواهد العقول تدل على ما رووا من ذلك.
قلت: بيِّن لي ذلك؟
قال: نعم، ألا ترى المتمتع يجب عليه دم لعلة التمتع؟
قلت: بلى.
قال: أفليس الدم إنَّما هو كفارة لإحلاله ورفاهيته من الإحرام؛ لأن المحرم محظور عليه ما أبيح للمحل؟
قلت: بلى.
قال: فلذلك قلنا: إن الإفراد أحب إلينا وأفضل، إذ في التمتع كفارة، والكفارة فلا تكون إلاَّ لنقصان عن ما لا كفارة فيه، وما لا كفارة فيه أفضل ممَّا فيه كفارة.
قلت: فإذا صلى ركعتين وأراد أن يحرم مفرداً بالحج، ما يقول؟
قال: يقول: اللهم إني أريد الحج رغبة مني فيما رغبت فيه منه، ولطلب ثوابك وتحرِّياً لرضاك، فيسره لي، وبلغني فيه أملي في دنياي وآخرتي، واغفر لي ذنبي، وامح عني سيئاتي، وقني شرَّ سفري، وأخلفني بأحسن الخلافة في ولدي وأهلي ومالي ومحلي حيث حبستني، أُحرم لك بالحج شعري وبشري ولحمي ودمي وما أقلته الأرض مني ونطق لك به لساني وعقد لك عليه قلبي.
قلت: ثُمَّ يلبي في موضعه؟
قال: نعم.
قلت: فكيف يلبي؟
__________
(1) ـ نسخة (ب): بأي شيء يقول.
(2) ـ نسخة(ب): أهو يقرن.
(3) ـ نسخة (ب): أما ما لم يكن حج اهـ. فـ ما هنا مصدرية.
قال: يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك لبيك ذا المعارج لبيك، وضَعَت لعظمتك السمواتُ كنفيها، وسبحت لك الأرض ومن عليها، إياك قصدنا بعملنا، ولك أحرمنا بحجنا، فلا تخيب عندك آمالنا، ولا تقطع منك رجانا. (1/106)
قلت: فإذا أحرم وخرج من المسجد، هل يلبي؟
قال: أحب إليَّ أن يذكر الله ويسبحه ويقدسه حتَّى يستوي على البيداء، ثُمَّ يلبي ويديم التلبية.
قلت: فإنه أتى بعض هذه المواقيت فلم يحرم وجازها، ما يجب عليه؟
قال: يرجع إلى الميقات حتَّى يحرم منه.
قلت: فإن خاف على نفسه في الطريق من رجوعه أو خاف فواتاً من أصحابه؟
قال: يمضي حتَّى يأتي الحرم، ويحرم من بعض مواقيت الحرم.
قلت: فهل عليه إذا فعل ذلك دم؟
قال: استحب له إذا جاوزه متعمداً أن يهريق دماً.
قلت: فإن الرجل لما أحرم ولبس ثوبين رداءً ومئزراً، لبس أيضاً من بعد ذلك إزاراً ثانياً أو كساءً، وكذلك لو زاد مئززراً آخر، هل يجب عليه شيء؟
قال: لا؛ لأنَّه لبس ما يجب له أن يلبسه، وإنَّما يجب عليه لو لبس قميصاً أو عمامةً.
قلت: فإنه لبس قميصاً ناسياً أو متعدماً، ما يجب عليه؟
قال: أما القميص فإذا لبسه ناسياً شَقَّه من تجاه لبته، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه فعل، فإذا(1) لبسه متعمداً فعليه دم.
قلت: وكذلك لو اعتل المحرم، فلبس في وقت علته قميصاً وعمامة وخفين وذلك في وقت واحد، ما يجب عليه؟
قال: دم واحد إذا كان لبس ذلك في وقت واحد.
قلت: فإنه لبس في يوم قميصاً، وفي يوم آخر عمامةً، وفي يوم آخر خفين؟
قال: فعليه لكل واحد من هذه المعاني كفارة.
قلت: فإن زاد مع العمامة قلنسوة، وزاد مع القميص جبة؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): وأما إذا لبسه متعمداً.
قال: كل ذلك واحد، إذا لبس العمامة فقد وجبت عليه الكفارة في العمامة؛ لأنَّه قد وضع على رأسه ما لم يحل للمحرم؛ لأن إحرام الرجل في كشف رأسه، وإحرام المرأة في وجهها، وكذلك إذا زاد على القميص جبة فهو على هذا القياس. (1/107)
قلت: فكيف إذا لبس هذا وقتاً واحداً وجب عليه كفارة واحدة، وإذا لبسه متفرقاً وجب عليه كفارات؟
قال: لأن للرأس كفارة، وللبدن كفارة، وللرجلين كفارة.
قلت: فإن المحرم لما اعْتَلَّ فلبس العمامة والجبة والخفين، أفاق من علته فنزع هذه الثياب فوجبت عليه الكفارة، ثُمَّ عاد فلبس بعد ذلك العمامة أو الجبة؟
قال: يجب عليه بعدما يبرأ من علته إذا فعل ذلك أيضاً كفارة.
قلت: وما الكفارة؟
قال: الذي قال الله سبحانه: {فمن كان به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}[ ].
قلت: بيِّن لي ذلك حتَّى أفهمه؟
قال: أما الصيام فصيام ثلاثة أيام، وأما الصدقة فإطعام ستة مساكين، لكل مسكين مُدَّان بمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طعام ذلك البلد الذي لبس فيه، والنسك فأقله شاة، ومن عظم فهو خير له عند ربه.
قلت: فبيِّن لي الذي يتوقاه المحرم، ما هو؟
قال: ما نهى الله عنه من الرفث والفسوق والجدال.
قلت: فما الرفث والفسوق والجدال؟
قال: أما الرفث فهو: جماع النساء، وهو قول الله تبارك وتعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}[ ]، ومن الرفث أيضاً الفراء على الناس، واللفظ بالقبيح ممَّا يستشنعه أهل الخير.
وأما الفسوق فهو: الفسق والكذب، والظلم، والتعدي على عباد الله، والغشم، والطعن على أولياء الله، والإدخال لشيء من المرافق على عدو من أعداء الله سبحانه، أو دَفْعُ شيء من المنافع عن ولي من أولياء الله.
وأما الجدال الذي نهى الله عنه فهو: المجادلة بالباطل ليدحض به الحق، والمخاصمة التي تخرج إلى الفاحشة الَّتي لا يملك صاحبها نفسه معها.
قلت: فإن محرماً تزوج وهو محرم؟
قال: نكاحه باطل مفسوخ.
قلت: فقد روي عن بعض أصحاب الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث وهو محرم؟ (1/108)
قال: هذا حديث باطل كَذِبٌ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولسنا نرى أن ينكح المحرم، ولا يخطب لغيره.
قلت: فإن نكح لنفسه أو لغيره، ما الذي يجب عليه؟
قال: يفسخ نكاحه، ويلزمه الأدب إذا تعمد ذلك تعمداً.
قلت: قد فهمت هذا، فبيِّن لي الذي يتوقاه المحرم بعد هذا، ما هو؟
قال: يتوقى أن يقتل صيداً، أو يشير إليه، أو يفزعه، أو يعين عليه، أو يدل عليه، وكذلك أيضاً لا يشم طيباً، ولا يلبس ثوباً مصبوغاً، ولا يدنو من النساء، ولا يلبس قميصاً، ولا يجز من شعره، ولا يتداوى بدواء فيه طيب ولا يكتحل به، ولا يقتل من قمل ثوبه شيئاً، وإن أراد أن يحولها من مكان إلى مكان فعل؟
قلت: فإن قتلها؟
قال: يتصدق بشيء من الطعام، ولا يأكل لحم صَيْد صِيْدَ لَهُ أولغيره.
قلت: فإنه أكل لحم صيد ولم يعلم أو علم، ما الذي يجب عليه؟
قال: يجب عليه كفارة إذا علم أنَّه قد أكل، فإذا علم كفَّر.
قلت: فإنه علم أنَّه صيد قبل أن يأكله، ثُمَّ أكله متعمداً، ما الذي يجب عليه؟
قال: إن تعمد ذلك خلافاً لما أمر الله في كتابه واجتراءً منه على فعله وتمرداً في مخالفته لربه عز وجل ولنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وجب على الإمام أن يستتيبه، فإن تاب لزمه الجزاء.
قلت: فإن أبى أن يتوب من أكل الصيد وهو محرم؟
قال: إن أبى أن يتوب ضربت رقبته؛ لأن الله تبارك وتعالى قد نهى عن صيده وأكله لمن كان محرماً، وليس حال من استحل قتل الصيد محرماً إلاَّ كحال من استحل أكل الربا وشرب الخمر، فمن استحل شيئاً من هذه الثلاثة الأشياء ولم يثبت تحريمها كما أثبته الله وجب عليه في ذلك القتل بتحليل ما حرم الله وترك التوبة من ذلك والرجوع إلى ما أمر الله بالرجوع إليه.
قلت: قد فهمت ما ذكرت ممَّا يتوقاه المحرم، فإن احتاج إلى التداوي أو اللبس فلم يلبس وامتنع من ذلك لطلب الفضل واستعمل في ذلك الصبر؟ (1/109)
قال: مواضع الصبر معروفة، وهي: المواضع الَّتي لا يخشى على نفسه معها تهلكة، فإذا خشي على نفسه معها تهلكة فالصبر عند ذلك يحرم عليه ولا يحل له، ولا يسعه في دين الله ترك ما فيه شفاؤه ودفع التهلكة عن نفسه.
قلت: فما الذي يجوز للمحرم قتله في إحرامه؟
قال: كلما خاف المحرم على نفسه وعلى المسلمين جاز قتله.
قلت: فمثل أي شيء؟
قال: مثل السبع العادي إذا عدا عليه، والكلب العقور إذا خافه على نفسه، وكذلك الحدا والغراب والفأرة والبرغوث والكتان والزنبور والحية والعقرب وما أشبه ذلك ممَّا يخاف ضرره.
قلت: قد فهمت ما يجوز للمحرم قتله، فما الذي لا يجوز قتله؟
قال: الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم}[ ].
قلتك فما هذا الصيد الذي إذا قتله المحرم وجب عليه فيه الجزاء؟
قال: كلما كان صيداً فقتله المحرم وجب عليه فيه الجزاء.
قلت: بيِّن لي ذلك واشرحه لي حتَّى أفهمه؟
قال: نعم إن شاء الله، إذا قتل المحرم الصيد متعمداً يرميه بسهم أو يطعنه برمح أو يضربه بسيف أو بحجر أو بغير ذلك من عصا أو ما كان به القتل وهو يريد قتله أو يتعمد أخذه وهو ناس لإحرامه غير ذاكر لما دخل فهي من حجة فعليه الجزاء كما قال الله تبارك وتعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغاً الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبالَ أمره}[ ].
قلت: فما الجزاء؟
قال: مثل ما يقتل، إن قتل ما يكون جزاؤه شاة فلم يجد الشاة أطعم عشرة مساكين إن أحب، أو صام عشرة أيام؛ لأن عدل الشاة من الصيام ما حكم الله به على المتمتع من صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، فجعل الله عدل هذه الشاة صيام هذه العشرة أيام للمتمتع، فأوجبنا ذلك لما وجدنا في كتاب الله سبحانه، وكذلك وجدنا الله تبارك وتعالى قد أقام إطعام كل مسكين مقام صيام يوم، وذلك قوله سبحانه في الظهار: {فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً}[ ]. فافهم هذا الباب، وقس عليه. (1/110)
قلت: قد فهمت، فإن المحرم قتل الصيد وهو ذاكر لإحرامه متعمد لقتله؟
قال: فعليه التوبة النصوح إلى الله ربه من ذنبه؛ لأنَّه قد أتى كبيرة فعليه الخروج منها إلى الله سبحانه، وعليه أيضاً الجزاء كما قدمانا وذكرنا.
قلت: بِّين لي الصيد، ما هو؟
قال: نعم، إذا قتل المحرم نعامة فعليه فيها بدنة.
قلت: ولم ذلك؟
قال: لأنا وجدنا البدنة تقوم مقام عشر شياة، ووجدنا الشاة تقوم بحكم الله للمتمتع مقام صيام عشرة أيام بقوله: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}[ ].
قلت: فلأيِّ معنىً أقمت البدنة مقام عشر شياه؟
قال: لقول الله عز وجل: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}[ ]، فوجدنا المتمتع يجزيه هدي شاة، ووجدنا البدنة تجزي عن عشرة متمتعين، فأقمناها مقام عشر شياة.
قلت: قد فهمت، فإن المحرم قتل بقرة وحش أو حمار وحش، ما يجب عليه؟
قال: يجب عليه في هذين بقرة بقرة؟
قلت: فإن لم يكن معه ثمن بقرة، أو كان معه فلم يفعل، بأي شيء يُحكم عليه؟
قال: بإطعام سبعين مسكيناً.
قلت: وَلِمَ؟
قال: لأن البقرة تجزي عن سبعة متمتعين، وكذلك إن أراد أن يُحكم عليه بصيام حُكم عليه بصيام سبعين يوماً.
قلت: فالمحرم مخير في أي ذلك فعل جاز له، أم إن لم يجد بدنة وجب عليه الإطعام، وكذلك إن لم يجد الإطعام وجب عليه الصيام؟
قال: إنَّما هذا على المظاهر، وأما المحرم فمخير في أي ذلك شاء فعله أجزأه. (1/111)
قلت: فإن ضعف عن الصيام؟
قال: تكون البدنة عليه ديناً حتَّى يجدها فينحرها بمكة.
قلت: فإن قتل ظبياً؟
قال: عليه شاة.
قلت: فإنه قتل وعلاً؟
قال: عليه فيه كبش.
قلت: فإنه قتل ثعلباً أو رمى حماماً فقتله؟
قال: عليه أيضاً في هذه شاة شاة.
قلت: فعلى المحرم قيمة الظبي وقيمة الحمام مع الجزاء؟
قال: نعم.
قلت: ولِمَ ذلك؟
قال: لأن الله تعالى أوجب فيه الجزاء فقال: {فجزاء مثل ما قتل من النعم}[ ].
قلت: فَلِمَ أوجبت عليه القيمة مع الجزاء؟
قال: لحرمة الحَرَم، وليس في غير الحَرَم أكثر من الجزاء.
قلت: فإن محرماً خلَّى كلباً له في الحَرم على ظبي فلحقه الكلب خارج الحرم في الحل فأخذه، ما يجب عليه؟
قال: الجزاء الذي شرحناه في الظبي والقيمة؛ لأنَّه خلاه وأغراه به في الحرم.
قلت: فإنه خَلَّى كلباً له في الحل على صيد وأغراه به، فلم يزل الكلب يطلبه حتَّى أخذه في الحرم فقتله؟
قال: عليه أيضاً الجزاء وقيمة الصيد.
قلت: ولِمَ؟
قال: لقتله كلبه إياه في الحرم حين أغراه به.
قلت: فإن رجلاً حلالاً خلى كلبه في الحل، فلحق الصيد في الحرم فقتله؟
قال: عليه قيمة الصيد فقط؟
قلت: فإن الحلال أغرى كلبه على صيد في الحرم فقتله في الحل؟
قال: عليه أيضاً القيمة لا غير.
قلت: فإن محرماً مفرداً وقارناً وحلالاً اشتركوا في قتل ظبي في الحرم؟
قال: على القارن شاتان وقيمة الظبي، وعلى المفرد شاة وقيمة الظبي، وعلى الحلال قيمة الظبي لا غير.
قلت: فلأيِّ علَّة صار على القارن شاتان؟
قال: لأنَّه في عمرة وحجة، فكلما وجب عليه لهما عملان يجب عليه فيما قتل جزاآن.
قلت: فإن محرماً دلَّ حلالاً على صيد في الحرم فقتله الحلال؟
قال: على المحرم الجزاء والقيمة، وعلى الحلال قيمة الصيد لا غير.
قلت: فإن محرماً أفزع صيداً أو دل عليه، فأُفزِع بدلالته أو بإشارته، ولم يقتل؟
قال: يتصدق المحرم بصدقة لإفزاعه الصيد. (1/112)
قلت: بأي شيء يتصدق؟
قال: بإطعام مسكين مدَّين بمدِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فإن محرماً قتل قُمْرِيّاً أو ديسيّاً أو يعقوباً أو رخمةً أو ورشانةً أو حجلةً، ما يجب عليه؟
قال: يجب عليه في جزاء ذلك شاة شاة.
قلت: فإن صاد المحرم من هذه الطيور واحداً ولم يقتله، ما يجب عليه؟
قال: يرسله ويتصدق بمدين على مسكين بمدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فإنه قتل عصفوراً أو قنبراً أو صعوة(1) أو بلبلاً أو زرزوراً أو ما أشبه هذا من هذه الطيور، ما يجب عليه؟
قال: يتصدق بمدَّين من طعام بمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ أن يكون قيمة ذلك أكثر فيبلغ القيمة، وهذا في هذه الطيور الصغار دون الكبار.
قلت: فإنه قتل يربوعاً أو ضبّاً؟
قال: عليه عناق من المعز، وكذلك روي عن أمير المؤمنين عليه السلام.
قلت: فإن محرماً أو حلالاً صاد صيداً في الحرم فذبحه، فهل يجوز أكله للحلال؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن الله سبحانه قال: {يا أيُّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}[ ]، فجمع بين ما صاد المحرم فذبحه أو ذبحه غيره، فهو قتلٌ لا يحل له ولا لغيره أُكل ما ذبح من الصيد.
قلت: قد فهمت هذا المعنى من أمر المحرم، فلِمَ لا يأكله الحلال ولو ذبحه؟
قال: لأن الله عز وجل حرم صيده في الحرم، وما حرم الله صيده في الحرم فتذكيته حرام، لا يؤكل.
قلت: فإن محرماً اشترى صيداً في الحرم؟
قال: عليه إرساله.
قلتك فإن لم يرسله حتَّى مات في يده، ما يجب عليه؟
قال: عليه الكفارة إذا مات في يده.
قلت: فإن محرماً اشترى صيداً في الحل؟
قال: كذلك أيضاً عليه أن يرسله؛ لأن المحرم لا ينبغي له أن يشتري شيئاً من الصيد، ولا يأخذه ولا يحصر شيئاً من الصيد ولا يأخذه ولا يأسره(2) ولا يحبسه.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أو صعوة. [وهي الَّتي تسمى بصنعاء الصغيران].
(2) ـ نسخة: يباشره.
قلت: فإن محرماً أخذ صيداً فنتف ريشه أو قصه، ما يجب عليه؟ (1/113)
قال: يُقَوَّم عليه حتَّى ينبت جناحه، ثُمَّ يرسله ويتصدق في حبسه له بإطعام مسكين.
قلت: فهل يجب للمحرم أن يحتش حشيشاً لناقته أو يختلي لها بقلاً أو يقطع لنفسه مسواكاً من الأراك أو غيره من الأشجار أو النخل أو يشم ريحاناً مثل المردقوش(1) أو ما أشبهه، أو يشم سفرجلاً أو أترجّاً أو كمثري أو ما أشبه هذا من العضاة المريحة؟
قال: لا بأس بذلك ما خلا الرياحين، وما كانت له رائحة ظاهرة جدّاً والرياحين، فكلما لزمه اسم الطيب، وما لم يلزمه اسم الطيب فلا بأس به وإن طابت رائحته.
قلت: فهل يحتجم المحرم؟
قال: نعم إذا احتاج إلى ذلك، ولا يقطع شعراً، فقد احتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو محرم.
قلت: فإن محرماً دخلت في رجله شوكة أو سلاة أو ما أشبه ذلك، ما يعمل؟
قال: يخرجها.
قلت: فإن لم يمكنه خروجها إلاَّ بقطع شيء من جلده، هل يفعل؟
قال: نعم.
قلت: فإن نقش عنها وقطع شيئاً من الجلد وأخرجها ودمي الموضع، ما يجب عليه؟
قال: إن خرج الدم من قبل قطعه الجلد فعليه كفارة، وإن كان الدم خرج من أثر نقشه الشوكة وجرحها عند خروجها فلا شيء عليه فيه.
قلت: وكذلك إن احتجم فحلق من الشعر ما يبين في رأسه، ما يجب عليه؟
قال: دم.
قلت: فإن الذي حلق لم يبن في رأس، وإنَّما حلق شعرات يسيرة عشراً أو أكثر أو أقل؟
قال: قد أُختُلِف في ذلك، فقال قوم: ما جاوز الثلث ففيه دم، وقال قوم: لا يكون دم حتَّى يتبين في الشعر ويُرى أثر القطع، والآخر عندي أصوب القولين، وما كان دون ذلك أجزأت فيه الصدقة اليسيرة على قدر الموجود.
قلت: فإن محرماً ضرب عليه ضرسه، فأراد أن يقلعه؟
قال: إذا آذاه فليقلعه، ويكفِّر بشاة.
قلت: فإن محرماً أتى ميقاته وهو عليل لا يعقل إحراماً، ما يعمل به؟
__________
(1) ـ (البردقوش) ظن.
قال: يخلف إحرامه إلى آخر المواقيت الَّتي بينه وبين مكة، فإذا بلغ آخر ميقات بينه وبينها أحرم قبل جوازه الميقات. (1/114)
قلت: فإن لم يطق الإحرام، أو لم يعقل حدوده؟
قال: يُهلُّ بالحج له غيره زميله أو بعض رفقائه.
قلت: كيف يعمل به؟
قال: يجرده من الثياب ويفيض الماء عليه إذا لم يكن على المريض في ذلك ضرورة، ثُمَّ يقول: اللهم إن عبدك فلاناً خرج قاصداً لبيتك الحرام متبعاً في ذلك لسنن نبيك صلى الله عليه وآله وسلم فأدركه من المرض ما قد ترى، ثُمَّ قد جردناه من ثيابه وقصدنا به ما علمنا أنَّه قصد من إحرامه، وقد أحرم لك شعره وبشره ولحمه ودمه.
قلت: فإذا فعل ذلك به، هل يلبِّي عنه؟
قال: نعم، ويسير به، ويجنبه ما يجنب المحرم، ممَّا قد ذكرناه من الطيب وغيره.
قلت: فإن أضَرَّ به التجرد، هل يلبس ما يحتاج إليه من الثياب؟
قال: نعم.
قلت: فيكفِّر عنه؟
قال: نعم.
قلت: فإذا دخل مكة وهو في مرضه لم يقدر أيضاً على طواف ولا غيره؟
قال: يوضع أيضاً في محفة ويطاف به، وكذلك أيضاً يعمل به في جميع حجه حتَّى ينقضي.
قلت: فإنه مات وهو محرم، كيف يعمل به؟
قال: يُغسل ويُكفَّن في ثيابه، ولا يكن في حنوطه شيء من الطيب، وكذلك لا يغطى رأسه، وكذلك بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في محرم وَقَصَتْهُ ناقته فقتلته، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يُغسل ويُكفن ويُدفن ولا يغطى رأسه.
قلت: فإن محرماً قتل ضبعاً، ما يجب عليه؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه لا شيء فيها؛ لأنها تفرس وهي من السباع، وأما نحن: فنعرفها بالحجاز أنَّها لا تفرس، والقول عندي: أن ينظر في أمرها في الموضع الذي قتلها المحرم فيه، فإن كانت تفرس فيه فلا شيء عليه فيها، وإن كانت لا تفرس في ذلك الموضع ففيها شاة.
قلت: فإن محرماً اصطاد ظبية فأخذها وأخرجها إلى بلده، ما يجب عليه في ذلك؟
قال: يرسل بها إلى الموضع الذي اصطادها فيه، فتُترك في ذلك الموضع، وعليه لحصرها وإفزاعها صدقة على قدر(1) جدته ممَّا هو دون القيمة. (1/115)
قلت: فإنه لم يرسل بها حتَّى ماتت؟
قال: عليه الجزاء شاة.
قلت: يرسل بالشاة إلى مكة أم يذبحها عنده في بلده؟
قال: لا يجزئه أن يذبحها في بلده؛ لأنها هدي بالغ الكعبة، ولا يذبح إلاَّ بمكة، ويتصدق بها.
قلت: فإنه لما خرج بالظبية نتجت عنده ولداً، ما يعمل به؟
قال: يرسل به أيضاً معها.
قلت: فإن مات قبل أن يرسل به؟
قال: عليه جزاء.
قلت: وكذلك لو كان ولد أو ولدان؟
قال: نعم.
قلت: فإن محرماً اصطاد طيراً فقال له حلال: أرني هذا الطير، فناوله إياه، فأرسله الحلال، ما يجب عليه؟
قال: لا يجب عليه شيء؛ لأنَّه قد أُرسل وعليه صدقة لإفزاعه.
قلت: فإن الحلال قتله؟
قال: على المحرم الجزاء، وعلى الحلال قيمته.
قلت: فإن محرماً قبَّل أو ضمَّ فأمنى، ما يجب عليه؟
قال: إذا قبَّل المحرم لشهوة فأمنى، وجب عليه بدنة.
قلت: فإن أمذى؟
قال: يجب عليه بقرة.
قلت: فإن لم يُمن ولم يُمذ، ولكنه تلذذ بذلك، ووجد في قلبه حركة الشهوة ومنازعة إلى غير ذلك؟
قال: يجب عليه شاة.
قلت: فإن قبَّل لغير شهوة، ولم يتحرك لذلك قلبه لشهوة ولا غير ذلك، ما يجب عليه؟
قال: ليس يجب عليه في ذلك شيء، ولكن أحب له أن لا يعود إلى شيء من ذلك.
قلت: فإن المحرم يحمل امرأته من الأرض إلى المحمل، ومن مكان إلى مكان، فكان منه في ذلك حركة أو منازعة شهوة؟
قال: سبيله في ذلك سبيل ما قدمنا في القُبلة، إن كان منه في حمله لها تلذذ أو منازعة بضمها إليه، وجب عليه في ذلك بدنة إذا أمنى.
قلت: وكذلك إن لم يكن في حمله إياها تلذذ ولا طلب لشهوة فأمذى؟
قال: لا شيء عليه، ولا نحب له أن يحملها إلاَّ أن لا يجد من ذلك بُدّاً.
قلت: فإن محرماً قتل بقرة أهلية قد توحشت حتَّى صارت لا يقدر عليها، ما يجب عليه؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): (على قدر حدثه).
قال: لا يجب عليه في قتلها شيء؛ لأن أصلها أهلية وإن توحشت. (1/116)
قلت: وكذلك ما توحش من الدواب الأهلية بهذه المنزلة؟
قال: نعم.
قلت: فإن محرماً أكل لحم حمار وحش قد استأنس أو قتله، أو لحم ظبي قد استأنس، أو ما أشبه ذلك من الوحش المستأنس؟
قال: عليه في ذلك كله الكفارة؛ لأن حكم الوحش وإن استأنس مردود إلى الأصل، ألا ترى أنَّه في مبتدأ أمره اصطيد اصطياداً، وأُخذ أخذاً.
قلت: فإن محرماً اضطر إلى أكل الميتة، فوجد لحم صيد ولحم ميتة، من أيهما يأكل؟
قال: أحب إليَّ أن يأكل من الميتة؛ لأن الله سبحانه أباح له الميتة عند اضطراره، وحظر عليه أكل الصيد.
قلت: فإن خاف على نفسه ضرراً من أكل الميتة من علة أو غير ذلك؟
قال: إذا خاف على نفسه ذلك أكل من لحم الصيد، وكفر.
قلت: فأيُّ شيء يكفر؟
قال: عليه قيمة اللحم الذي أكل، وعليه كفارة.
قلت: وما الكفارة؟
قال: ما يكون في مثل الذي أكل من لحمه كبير فكبير وصغير فصغير(1)، وإنَّما يكون عليه الجزاء وقيمة اللحم إذا ذبح الصيد أو أمر بذبحه كان عليه جزاء مثله وقيمة لحمه، فأما إذا لم يكن اصطاده ولا أمر بذبحه ولا ذبحه فعليه قيمة ما أكل من اللحم وكفارة، والكفارة شاة، أو إطعام عشرة مساكين، أو عدل ذلك صياماً.
قلت: فإن محرماً بالحج جامع امرأته وهي محرمة بالحج؟
قال: فسد حجهما جميعاً، وعليهما الحج من قابل، فإن أتيا الموضع الذي جامعها فيه فارقها.
قلت: كيف يفارقها؟
قال: لا يركب معها في المحمل، ولكن يكون مركبه غير مركبها، ولا يبيت معها في بيت.
قلت: فهل يقطر بعيرها إلى بعيره؟
قال: نعم.
قلت: فيُتمَّان باقي الحج الذي أفسداه؟
قال: نعم.
قلت: فما الذي يجب عليهما من بعد فساد حجهما؟
قال: إن كانت طاوعته لما أراد منها وجب عليهما بدنة بدنة، وإن كانت لم تطاوعه، وإنَّما غصبها وقهرها على ذلك كانت عليه هو بدنة في نفسه لما أفسد من حجه.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): كبيراً فكبيراً وصغيراً فصغيراً.
قلت: فيجب عليه بدنة أخرى لما أفسد من حجها إذا لم تطاوعه؟ (1/117)
قا: نعم، وقد أُختلف في ذلك، وأحب إليَّ أنا: أن يغرم عنها بدنة.
قلت: فإن المحرم أهلَّ بعمرة، وأهلت المرأة بحجة، فلما دخلا مكة وأحل من عمرته جامع امرأته وهي محرمة؟
قال: قد أفسد عليها حجها، وعليه أن يحج بها من قابل لما أفسد علها من حجها.
قلت: فهل يجب عليه أيضاً البدنة، هو يشتريها لها لما أفسد من حجهما؟
قال: نعم، الجواب في هذه والأولى واحد.
قلت: فإن محرماً رمى طيراً في الحل فطار حتَّى وقع في الحرم، فمات من رميته، ما يجب عليه؟
قال: تجب عليه الكفارة.
قلت: فعليه القيمة مع الكفارة؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه إنَّما رماه في الحل، وإنَّما يلزمه القيمة مع الكفارة إذا قتله في الحرم لحُرمة الحَرم.
قلت: فإنه رماه في الحرم، فطار حتَّى وقع في الحل فمات؟
قال: عليه الكفارة مثل ما يكون في مثله والقيمة؛ لأنَّه رماه في الحرم.
قلت: فإن حلالاً رمى طائراً في الحل فطار حتَّى وقع في الحرم فمات، ما يجب عليه في ذلك؟
قال: لا شيء عليه في ذلك.
قلت: فإن رجلاً أحرم تطوعاً فلم يدخل مكة حتَّى فاته الحج، ما يعمل؟
قال: يحل ويذبح شاة، وعليه الحج من قابل، وقد قال غيرنا: إنَّه إذا كان في حج طوع بعد حجة الإسلام رفض الحج، وذبح ولم يكن عليه حج من قابل، وأما علماء آل الرسول عليهم السلام، وقولي أنا: فعليه الحج من قابل.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه قد عقد على نفسه الحج فلا يجزيه دون أن يأتي بما جعل لله على نفسه.
قلت: فإنه أهلّ بعمرة ودخل مكة يوم التروية، ما يعمل؟
قال: يطوف لعمرته ويسعى ويقصر، ثُمَّ قد أحل من عمرته، ثُمَّ يهل الحج، ثُمَّ يهلُّ بالحج من المسجد، ثُمَّ يخرج في قضاء حجه، وعليه دمٌ في إهلاله بالعمرة في أشهر الحج، ثُمَّ يهل بالحج في يوم التروية من عند البيت، ثُمَّ يخرج إلى منى فيقضي حجه، فإذا رجع إلى مكة يوم الزيارة أو بعد ذلك بيوم طاف وسعى لحجه.
قلت: فكذلك لو أن امرأة أيضاً أهلت بعمرة ثُمَّ حاضت ودخلت إلى مكة حائضاً حتَّى خافت أن يفوتها الحج وهي حائض، ما تعمل؟ (1/118)
قال: ترفض العمرة.
قلت: وكيف ترفضها؟
قال: تنوي أنَّها قد رفضتها وتفرغت منها لغيرها.
قلت: ثُمَّ ما تعمل بعد ذلك؟
قال: تغتسل وتلبس ثوباً نضيفاً من الأقذار، ثُمَّ تهلُّ بالحج من مكة، ثُمَّ تخرج إلى منى وعرفات، فتقضي جميع مناسك الحج، وتقوم بما يقوم به الحاج في جميع أمره، فإذا طهرت دخلت المسجد فطافت طوافها لحجها وسعت بين الصفا والمروة، ثُمَّ عادت فطافت طواف النساء، وهو طواف الزيارة، ثُمَّ قد أحلت وحل لها كل شيء كان عليها حراماً، وعليها دم تهريقه بمنى لما كان من رفضها لعمرتها.
قلت: فعليها أن تقضي تلك العمرة الَّتي رفضتها؟
قال: نعم.
قلت: كيف تعمل؟
قال: تُحرم لها من أقرب المواقيت إلى مكة.
قلت: من أين؟
قال: من مسجد عائشة، أو من الجعرانه إن شاءت، ثُمَّ تصير إلى مكة فتطوف وتسعى لعمرتها وتقصر من شعرها.
قلت: قدر كم؟
قال: قدر أنملة.
قلت: ما الأنملة؟
قال: هي: طرف الأصبع.
قلت: فإنها لم تطهر حتَّى نفر أهل بلدها، ما تعمل، وكذلك إن أراد زوجها وأهلها أن ينفروا؟
قال: لا يجوز لها أن تخرج أبداً حتَّى تقضي ما يكون عليها من مناسك الحج.
قلت: فإن رجلاً أُحصر بعدما أحرم، ما يعمل؟
قال: إذا أُحصر المحرِم لمرض مانع له من السفر قاطع له عن المسير لا يقدر معه على شيء، أو لخوفٍ من الطريق مانع، أو يُحبس من ظالم لا يطيق التخلص منه بَعَث بما استيسر من الهدي، وأقل ذلك شاة، وواعد رسوله يوماً من أيام النحر ينحره فيه، ووقَّت له في ذلك اليوم وقتاً يفهمه، فإذا كان بعد الوقت بقليل حلق المحصر رأسه، وأحل من إحرامه.
قلت: فإن تخلص من إحصاره؟
قال: يسير إلى مكة، فإن لحق الحج حج وانتفع بهديه، ولم يجب عليه نحره ولا ذبحه.
قلت: فإن فاته الحج؟
قال: يُهلُّ بعمرة ويهدي هدياً لإحصاره.
قلت: فإن لم يجد هدياً؟
قال: يصوم عشرة أيام، ثلاثة قبل الحج، وسبعة بعد أيام التشريق. (1/119)
قلت: متى يلحق المحصر الحج؟
قال: إذا لحق الوقوف بعرفة قبل طلوع الفجر فإنه فاته ذلك، فقد فاته الحج وعليه الحج من قابل، وليس له إلى الانتفاع بهديه سبيل.
قلت: فإن كان مع المحصر حرمه، فأحصر فلم تستطع حرمته الذهاب.
قال: فهن محصرات بإحصاره، وعليهن من الإرسال بالهدي ما عليه، ويفعلن كما يفعل.
باب القول في الرجل يلبي فيغلط في التلبية
قال أبو جفعر محمد بن سليمان الكوفي: سألت الإمام الهادي إلى الحق أمير المؤمنين، عن رجل يريد الإفراد بالحج فيغلط فيلبي بعمرة؟
قال: إذا غلط فلبى بغير ما تقدم من نيته لم يلزمه ما لفظ به من عمرته، ووجب عليه أن يعود فيلبي بما نوى من حجه.
قلت: وكذلك لو أن متمتعاً أراد التمتع، فغلط ولبى بالحج مفراداً؟
قال: كذلك لا يلزمه ما لفظ به مخطئاً من الحج، ويلزمه الذي عقد عليه نيته من العمرة؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخطَأتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَت قُلُوبِكُم}[ ].
قلت: فإن رجلاً أهلَّ بحجتين معاً؟
قال: إن فعل ذلك متعمداً وجب عليه أن يرفض إحداهما ويثبت الأخرى، ويهريق لرفضه لها دماً.
قلت: فعليه أن يعود للحجة الَّتي رفض من قابل؟
قال: نعم.
قلت: فإن كان أهلَّ بهما وهو غلط؟
قال: قد قدمنا الجواب، أن ليس في الخطأ شيء.
قلت: فعليه في خطأ اللفظ دم؟
قال: لا؛ لأنَّه لم يعقد النية إلاَّ بحجة واحدة، فلم يجب عليه في خطأِ اللفظ دم.
قلت: وكذلك لو أنَّه أهل بعمرتين معاً؟
قال: عليه أن يمضي لإحداهما ويرفض الأخرى حتَّى يتمها، ثُمَّ عليه أن يقضي الأخرى الَّتي كان رفضَها وكان عقدها، وعليه دم لما رفض منها.
قلت: وكذلك إن كان فعل ذلك في وقت الحج؟
قال: سواء عليه قضى الَّتي رفض من عمرته قبل الحج أو بعده إذا كان في فسحة من أمره، ويهريق لذلك دماً.
قلت: أين يذبح ذلك الدم الذي للعمرة؟
قال: بالجزارين من مكة؛ لأنَّه محل المعتمرين كما أن منى محل الحاجين. (1/120)
قلت: فيجوز لمن كانت عليه عمرة قد رفضها أن يقضيها في أيام التشريق؟
قال: لا.
قلت: فإن أراد أن يتطوع بعمرة، هل يجوز له أن يهل بها في أيام التشريق؟
قال: لا.
قلت: فإن جهل فأهلّ بعمرة بمنى أو مكة أو عرفة وهو مفرد بالحج؟
قال: يرفض تلك العمرة التي أهلَّ بها ويمضي فيما هو فيه من الحج؛ لأن العمرة لا تدخل على الحجة والحج، فيدخل على العمرة في وقته، فإذا قضى ما كان عليه من حجه قضى بعد خروجه من أيام التشريق ما رفض من عمرته الَّتي أهل بها، وأوجبها على نفسه، ويهريق دماً لرفضه إياها.
قلت: فما يقول المحرم إذا دخل الحرم؟
قال: يستحب له إذا قارب الحرم أن ينزل فيغتسل، ثم يدخل الحرم، فإذا وضعت راحلته أو دابته قوائمها في طرف الحرم، قال: اللهم هذا حرمك وأمنك، والموضع الذي اخترته لنبيك صلى الله عليه وآله وسلم وافترضت على خلقك الحج لك إليه، وقد أتيناك راغبين فيما رغبتنا فيه، وراجين منك الثواب عليه، فلك الحمد على حسن البلاغ، وإياك نسأل حسن الصحابة في المرجع فلا تخيب عندك دعاءنا، ولا تقطع منك رجاءنا، واغفر لنا وارحمنا، وتقبل سعينا واشكر فعلنا، وآتنا بالحسنة إحساناً، وبالسيئة غفراناً يا أرحم الراحمين.
قلت: فإذا دخل المحرم مكة، ما يعمل؟
قال: إذا وصل بدأ بمتاعه فأحرزه في منزله حتَّى لا يتعلق قلبه بشيء، ثُمَّ يتطهر للصلاة، وإن اغتسل كان أحب إليَّ، ثُمَّ يمضي حتَّى يأتي المسجد فيقدم رجله اليمنى إلى المسجد، ثُمَّ يدخل، فإذا نظر الكعبة قال: اللهم البيت بيتك والحرم حرمك والعبد عبدك، فاغفر لي وارحمني إنك أنت أرحم الراحمين. ثُمَّ يمضي حتَّى يواجه الحجر الأسود فيقف عنده، ويبتدئ طوافه منه، وإن أمكنه أن يستلمه فعل، ثُمَّ يقول: اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك واتِّباعهاً لأمرك واقتداءً بسنة نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم اغفر عني ذنوبي، وكفِّر عني سيئاتي وأعنِّي على طاتك إنك سميع الدعاء. ثُمَّ يمضي حتَّى يواجه الباب، فإذا حاذاه استقبله بوجهه، ثُمَّ قال ـ وهو مقبل بوجهه ـ: اللهم البيت بيتك والحرم حرمك والعبد عبدك، وهذا مقام العائذ بك من النار، اللهم فأعذني من عذابك، واختصني بالأجزل من ثوابك ووالديَّ وما ولدا، والمسلمين والمسلمات، يا جبار الأرضين والسموات. ثُمَّ يمضي في طوافه وهو يقول في طوافه: رب اغفر وارحم وتجاوز عمّا تعلم إنك أنت الأعز الأكرم، يُردِّد هذا القول وما أشبهه، ويدعو بما حضره من ذلك أو غيره من الدعاء، وكل ذلك واسع حتَّى ينتهي إلى الحجر الأسود، فإذا انتهى إليه استلمه إن أمكنه، ثُمَّ قال ما قال أولاً عنده، ثُمَّ مضى في طوافه حتَّى ينتهي إلى الباب، فيقول ما قال أولاً ، ثُمَّ يمضي في طوافه على ما ذكرنا حتَّى يطوف البيت سبعة أشواطٍ يرمل في ثلاثة منها ويمشي في الأربعة الباقية، ويستلم الأركان كلها إن أمكنه ذلك فهو أفضل. (1/121)
قلت: فإن لم يمكن؟
قال: يشير بيده ويقول عند استلامه لها وإشارته إليها: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار}[ ].
قلت: فإذا طاف سبعة أشواط، ما يعمل؟
قال: يأتي مقام إبراهيم عليه السلام، فيصلي ركعتين.
قلت: فإن كان طافه بعد العصر، يصلي الركعتين؟
قال: نعم.
قلت: فهل يَمرُّ في طوافه في جوف الْحِجْرِ؟ (1/122)
قال: لا.
قلت: فإنَّه طاف ومرَّ في وسط الحِجْرِ، ما يجب عليه؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه يجب عليه أن يعيد الطواف ويذبح لذلك، وليس ذلك عندنا كما قالوا، وينبغي أن لا يمرّ الرجل الحِجْر في طوافه ولا يدخله وهو في طوافه.
قلت: فإن رجلاً دخله وهو في الطواف؟
قال: إن كان دخله جاهلاً فلا شيء عليه كما ذكرنا ولا يعود.
قال: وإن دخله متعمداً وقد علم بما جاء فيه من الكراهية ألزمناه دماً لذلك.
قلت: فإنه سها عن الركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام بعدما طاف؟
قال: يعيدهما إذا ذكرهما.
قلت: فإنه طاف ثمانية أشواط غلطاً منه، ما يعمل؟
قال: قد قال غيرنا: إنه يزيد مع هذا الطواف الذي غلط به ستة حتَّى يكون طوافين، وهذا ما لا يلتفت إليه من قولهم؛ لأن الذي غلط بهذا الطواف لم يُقدّم النية في طوافين.
قلت: فما يعمل إذا غلط فطاف ثمانية؟
قال: يرفض الثامن، ولا شيء عليه في ذلك؛ لأنَّه قدم النية في أنَّه يطوف سبعة.
قلت: فما يقرأ في الركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام؟
قال: ما أحبَّ من سور المفصَّل؟
قلت: فإذا صلى الركعتين، ما يعمل؟
قال: يستقبل الكعبة، ويدعو بما تيسر له وأَحبَّ، ثُمَّ يدخل زمزم فيشرب من مائها ويشرف فيها، فإن في ذلك بركة، ويقول: اللهم إنك أظهرتها وسقيتها نبيك إسماعيل عليه السلام رحمة منك به يا جليل، وجعلت فيها من البركة ما أنت أهله، فأسألك أن تبارك لي فيما شربتُ منها، وتجعله لي دواء وشفاء، تنفي به كل سقم وداء، وتسلمني به من كل رداء، إنك سميع الدعاء، تستجيب لمن تشاء.
قلت: فإذا فرغ من دعائه، ما يعمل؟
قال: يخرج إلى الصفا.
قلت: من أين؟
قال: من بين الأسطوانتين المكتوبتين، فإذا استوى على الصفا استقبل القبلة، ثُمَّ قرأ الحمد والمعوذتين وقل هو الله أحد وآية الكرسي وآخر الحشر، ثُمَّ يقول: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده حقّاً لا شريك له [وأشهد ألاَّ إله إلاَّ الله وحده لا شريك له](1)، اللهم اغفر لي ذنبي، وتجاوز عن خطيئتي، ولا تردَّني خائباً يا أكرم الأكرمين، واجعلني في الآخرة من الفائزين. ثُمَّ لينزل من الصفا ويمضي حتَّى إذا كان عند الميل الأخضر المعلق في جدار المسجد هرول حتَّى يحاذي الميل المنصوب في أول السراجين، ثُمَّ يمشي حتَّى ينتهي إلى المروة، ويقول في طريقه: رب اغفر وارحم وتجاوز عمَّا تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم. يردد هذا القول وغيره من الذكر الحسن لله والدعاء حتَّى يفرغ من سعيه، فإذا انتهى إلى المروة فليرق عليه حتَّى يواجه الكعبة، ثُمَّ ليدع بما دعا على الصفا ويقول ما قال على الصفا، وما يضره من سوى ذلك، ثُمَّ يرجع ويفعل ما فعل أولاً في طريقه حتَّى ينتهي إلى الصفا، ثُمَّ على ذلك الفعال فليكن فعاله حتَّى يوفي سبعة أشواط، ثُمَّ ينصرف فيقيم على حاله إلى يوم التروية، حتَّى يخرج مع الناس إلى منى وعرفات فيقضي المناسك، وهذا الفعال الذي ذكرنا، فهو للمُفرِد بالحج. (1/123)
قلت: فإن كان متمتعاً؟
قال: إذا دخل متمتعاً فنظر إلى الكعبة قطع التلبية، ثُمَّ دخل ففعل ما وصفنا من الطواف والسعي بين الصفا والمروة، وذلك للعمرة، فإذا فرغ من سعيه بين الصفا والمروة انصرف فقصر من شعره، ثُمَّ قد حل له كل شيء، وجاز له ما يجوز للحلال من النساء والطيب والثياب.
قلت: ثُمَّ ما يعمل؟
__________
(1) ـ ما بين قوسي الزيادة غير موجود في نسخة (ب).
قال: يقيم على حاله إلى يوم التروية، فإذا كان يوم التروية اغتسل ولبس ثياب إحرامه، ثُمَّ دخل المسجد الحرام فأهلَّ بالحج كما أهلَّ في أول مرة بالعمرة غير أنَّه يهلُّ بالحج ويلبي به ويفعل كما فعل أولاً، ثُمَّ يستقيم إلى منى، فإن أمكنه صلى بها الظهر والعصر معاً، وإن لم يمكنه الخروج إلاَّ في بعض الليل فليخرج متى أمكنه، كل ذلك واسع له بعد أن يدرك صلاة الفجر بمنى. (1/124)
قلت: فإذا أراد القِران، كيف يعمل، بَيِّنه لي حتَّى أفهمه، وكيف يقول أيضاً المتمتع عند إهلاله، وكذلك أيضاً كيف يقول المفرد عند إهلاله؟
قال: أمَّا من أراد أن يُفرِد الحج فيقول: ما قدمنا في كتابنا: اللهم إني أريد الحج فيسره لي، ويقول ما شرحناه أولاً، ويقول: لبيك بحجة تمامها وأجرها عليك، ولا يقطع التلبية حتَّى يرمي جمرة العقبة من بعد رجوعه من يوم النحر من عرفة، وأما المتمتع فيقول عند إحرامه: اللهم إني أريد العمرة متمتعاً بها إلى الحج فيسرها لي، ثُمَّ يقول ما يقول في إحرامه(1) للحج، ويعمل ما قد فسرناه أوَّلاً.
وأما القارن فإذا أراد الإهلال بالحج والعمر معاً فلا يجوز ذلك عندنا، إلاَّ بسوق بدنَة يسوقها من موضعه الذي أحرم فيه، ويقول حين يريد الإحرام في دبر صلاته: اللهم إني أريد الحج والعمرة معاً فيسرهما لي، ثُمَّ يقول ما شرحناه من قول المحرم في ابتداء إحرامه، ثُمَّ يقول في التلبية: لبيك لبيك بعمرة وحجة معاً.
قلت: فإذا أهلَّ بعمرة وحجة ودخل مكة، ما يعمل؟
قال: يطوف طوافين، ويسعى سعيين.
قلت: كيف يعمل؟
قال: يطوف سبعة أشواط، كما وصفنا في الطواف الأول، ثُمَّ يخرج إلى الصفا فيسعى سبعة أشواط كما وصفنا، فيكون ذلك لعمرته، ثُمَّ يعود فيطوف سبعة أشواط ويسعى سبعة أشواط لحجته، فذلك طوافان وسعيان، وهذا الذي لا اختلاف فيه عندنا.
قلت: فإذا قاد البدنة، ما يعمل بها؟
__________
(1) ـ في إحرام الحج نسخة.
قال: ينيخها ويشعرها ويقلدها فرد نعلٍ، ويجلِّلها بأي الإجلال شاء من صوف أو قطن أو كتان، ثُمَّ يصلي ركعتين. (1/125)
قلت: فيحمل على بدنته شيئاً؟
قال:لا، إلاَّ أن تنتج فيحمل ولدها عليها إن احتاج إلى ذلك.
قلت: فهل يركبها؟
قال: لا، إلاَّ أن يضطر إلى ذلك ضرورة شديدة فيركبها ركوباً لا يعقرها ولا يُتعبها.
قلت: فإن رأى رجلاً ضعيفاً من المسلمين قد فدحه المشي، هل يركبه إياها؟
قال: نعم، يحمله عليها العقبة والعقبتين والليلة بعد الليلة والليلتين، فإن ذلك أجر وخير، والبدنة فهي لله، والمضطر إليها فعبد من عبيد الله.
قلت: فهل يقف ببدنته معه في المواقف عند المشعر وفي عرفات؟
قال: كل ذلك واسع، وأحب إلينا أن يشهد ببدنته المشاهد كلها، وهو قولي وقول علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام.
قلت: ثُمَّ ما يعمل القارن بعد ذلك؟
قال: يكون على حاله حتَّى يخرج مع الناس يوم التروية إلى منى فيبيت بها ثُمَّ يغدو إلى عرفات، فإذا انتهى إلى عرفة نزل بها وأقام حتَّى يصلي الظهر والعصر، فإذا صلى الظهر والعصر ارتحل فوقف في أي عرفات شاء، ويحرص أن يدنو من موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الجبال، وإن لم يقدر على ذلك لكثرة الإزدحام فيقف بأي عرفات شاء ما خلا بطن عرنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: <عرفة(1) كلها موقف ما خلا بطن عرنة>.
قلت: وكذلك أيضاً يفعل الحاج المفرد والمتمتع؟
قال: نعم، كلهم في ذلك سواء.
قلت: فإذا وقف بعرفة، ما يفعل؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): كل عرفة موقف.
قال: يذكر الله سبحانه، ويسبحه ويحمده ويخلص النية إليه ويتضرع إليه بما أمكنه من الدعاء، ويكثر قراءة (قل هو الله أحد) والإستغفار لذنوبه ولوالديه، فإذا توارت الشمس(1) بالحجاب فلينهض من عرفة ملبياً مقبلاً نحو مزدلفة، وعليه السكينة والوقار، ويكثر في طريقه من قراءة القرآن والاستغفار والدعاء والتكبير والتهليل والتلبية، وإن حضره شيء فيتصدق به على من يرى من الضعفة والمساكين. (1/126)
قلت: فإن صام ذلك اليوم؟
قال: هو أحبُّ إليَّ أن يكون في ذلك اليوم صائماً، ولا يصلي المغرب والعشاء حتَّى يرد مزدلفة وهي جمع، فينزل بها ويحط بها رحله، ثُمَّ يجمع فيها بين المغرب والعشاء، ويأخذ حصى منها فيغسله ويصره في ثوبه، وإن أخذ الحصى من غير ذلك المكان أجزاه ذلك.
قلت: ولِمَ سميت جمعاً؟
قال: للاجتماع بها.
قلت: فإذا انتهى إلى مزدلفة وحط بها رحله وصلى؟
قال: يبيبت بها ليلته حتَّى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر فليرتحل وليمض حتَّى يقف عند المشعر الحرام، ويذكر الله سبحانه.
قلت: فإذا أتى المشعر الحرام، ما يقول؟
قال: يقول: اللهم هذا المشعر الحرام الذي تعبدت عبادك بالذكر لك عنده، وأمرتهم به فقلت: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام}[ ]، ولا ذكرٌ لك أذكرك به أعظم من توحيدك، والإقرار بعدلك في كل أمورك، والتصديق بوعدك ووعيدك، ثُمَّ يذكر الله بما أحب، وحضره وتيسر له.
قلت: فيفيض(2) من المشعر قبل طلوع الشمس أو بعد طلوعها؟
قال: إذا طلع(3) الشمس أفاض من عند المشعر الحرام.
قلت: فإذا أفاض من المشعر، ما يعمل؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فإذا توارت الشمس عنه بالحجاب.
(2) ـ في نسخة (ب): من عند المشعر الحرام.
(3) ـ في كتاب الأحكام: قبل طلوع الشمس.
قال: يسير راجعاً إلى منى، وعليه الخشوع والوقار، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ويدعو بما شاء أن يدعو، وذكر الله بما هو أهله ويستغفره، فإذا انتهى إلى جمرة العقبة رماها بسبع حصيات يقول مع كل حصاة: لا إله إلاَّ الله، والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، ثُمَّ ليقطع التلبية مع أول حصاة يرمي بها، ولا يرمي ذلك اليوم غير جمرة العقبة وحدها. (1/127)
قلت: فإذا رماها، ما يعمل؟
قال: يرجع إلى رحله فينحر إن كان ممَّن يجب عليه هدي، فيذبح هديه أو ينحره.
قلت: فما يقول حين ينحر أو يذبح؟
قال: إذا وضع الشفرة قال: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا إله إلاَّ الله والله أكبر، ثُمَّ يذبح، ويقول: اللهم منك وإليك فتقبل من عبدك وابن عبديك، ثُمَّ يأمر به فيصنع منه فيأكل منه هو وإخوانه، ويأمر ببعضه فيتصدق به على المساكين من قرب من منزله، ومن رحله من أهل الفاقة والحاجة.
قلت: فإذا ذبح، ما يعمل؟
قال: يحلق رأسه أو يقصر، كل ذلك واسع له.
قلت: فإن حلق قبل أن يذبح، ما يجب عليه في ذلك؟
قال: لا ينبغي أن يتعمد ذلك تعمداً، فإن فعله ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سئل عن ذلك فقال: <لا حرج عليه>.
قلت: فإذا حلق؟
قال: يلبس ما أحب من الثياب، ويتطيب بما شاء من الطيب، وقد حل له كل شيء يحل للحلال، إلاَّ مجامعة النساء فإنها لا تحل له حتَّى يطوف طواف الزيارة.
قلت: فمتى يطوف طواف الزيارة؟
قال: في أي أيام منى شاء، إن شاء في آخرها، وإن شاء في أولها، كل ذلك واسع.
قلت: فإن كان خرج المحرم من مكة ولم يطف لحجه، ما يعمل؟
قال: فإذا رجع من منى طاف لحجه إن كان مفرداً سبعة أشواط يفعل فها ما وصفنا أولاً، ويسعى بين الصفا والمروة كذلك كما وصفنا.
قلت: فيطوف لحجه قبل طواف الزيارة؟
قال: كذلك ينبغي إذا طاف لحجه وسعى رجع إلى الكبعة فطاف طواف الزيارة وهو الطواف اللازم الذي يحل له من بعده النساء. (1/128)
قلت: فهو الطواف الذي ذكره الله في كتابه؟
قال: نعم.
قلت: فهل يجوز للرجل أن يبيت أيام منى بمكة؟
قال: لا يجوز له ذلك.
قلت: فإن بات بمكة في أيام منى؟
قال: إن أتاها ليلاً فأدركه الفجر بها، أو نهاراً فأدركه الليل بها وجب عليه دم.
قلت: فمتى يرمي الرجل الجمار؟
قال: إذا كان يوم الثاني من يوم النحر ـ وهو اليوم الذي يسمى يوم الروس ـ نهض طاهراً متطهراً بعد زوال الشمس ويحمل معه من رحله إحدى وعشرين حصاةً من الحصى الذي أخذه من مزدلفة فيغسله، فإن ذلك يُروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتَّى يأتي الجمرة الَّتي في وسط منى، وهي أقربهن إلى مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات من بطن الوادي، يكبر مع كل حصاة مكا ذكرنا، ثُمَّ يستقبل القبلة ويجعل الجمرة الَّتي رماها وراء ظهره ثُمَّ يقول: اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم إني عبدك وابن عبديك طالب منك ضارع إليك، فاعطني بفضلك إقالة عثرتي وغفران خطيئتي وستر عورتي والكفاية لكل ما أهمني. ويدعو بما أحب، ثُمَّ يمضي حتَّى ينتهي إلى الجمرة الوسطى فيفعل كما يفعل عند الأولى، ثُمَّ يستقبل القبلة ويجعلها وراء ظهره ثُمَّ يدعو فيقول: اللهم اغفر لي الذنوب الَّتي تهتك العصم، واغفر لي الذنوب الَّتي تورث الندم، واغفر لي الذنوب الَّتي تغير النعم، واغفر لي الذنوب الَّتي تحبس القسم، واغفر لي الذنوب الَّتي تكشف الغطاء، واغفر لي الذنوب الَّتي ترد الأعمال، واغفر لي الذنوب الَّتي تعلمها مني، ووفقني لما تحب وترضى، واعصمني عن الزلل والخطأ إنك أنت الواحد العلي الأعلى. ثُمَّ يأتي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات يفعل فيها ويقول ما قال أولاً ، ثُمَّ ينصرف ولا يقف عندها، ويقول في طريقه ما يحب ممَّا لله فيه رضى، ثُمَّ
ينصرف إلى منزله. فإذا كان من غد وزالت الشمس فعل في رمي الجمار ما فعل بالأمس وهو يوم الثالث من النحر وهو يوم النفر الأول. (1/129)
قلت: فإذا أراد أن ينفر في النفر الأول، ما يعمل؟
قال: إذا زالت الشمس وهو بمنى رمى الجمار كما وصفنا كلها بإحدى وعشرين حصاة، كل جمرة بسبع حصيات، ثُمَّ ينفر من منى إلى مكة فيطوف بالبيت سبعة أشواط، ثُمَّ يصلي ركعتين ثُمَّ يستقبل القبلة، ثُمَّ يقول: اللهم البيت بيتك والحرم حرمك والعبد عبدك، وهذا مقام العائذ بك من النار، اللهم اجعله سعياً مشكوراً وحجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وعملاً مقبولاً، اللهم لا تجعله آخر العهد من بيتك الحرام الذي جعلته قبلة لأهل الإسلام وفرضت حجه على جميع الأنام، اللهم أصحبنا في سفرنا، وكن لنا وليّاً وحافظاً، اللهم إنا نعوذ بك من كآبة السفر وسوء المنقلب وفاحش المنظر في أهلنا ومالنا وأولادنا ومن اتصل بنا من ذوي أرحامنا وأهل عنايتنا، اللهم لك الحمد على ما مننت به علينا من أداء فرضك العظيم، ولك الحمد على حسن الصحابة والبلاغ الجميل، اللهم لا تشمت بنا الأعداء، ولا تسيء بنا الأصدقاء، ولا تكلنا إلى أنفسنا، ربنا وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً. ويدعو بما أحب وحضره إن شاء الله، ثُمَّ ينفر إلى بلده، ولا ينفر حتَّى تزول الشمس.
قلت: فإذا أراد أن ينفر في النفر الثاني، ما يعمل؟
قال: فإذا كان ذلك اليوم ـ وهو يوم الرابع من يوم النحر، وهو آخر يوم من أيام التشريق ـ فلينفر إذا ارتفع الضحى ورمى الجمار في ذلك الوقت إن أحب التعجيل إلى مكة، وإن أحب وقف حتَّى تزول الشمس، ثُمَّ يرمي الجمار وينفر إلى مكة، كل ذلك واسع له يوم الرابع في النفر الثاني، ثُمَّ يطوف كما وصفنا طواف الوداع، ويقول ما وصفنا وينفر.
قلت: فإن أراد المقام بمكة بعد النفر الثاني، ما يعمل؟
قال: يؤخر طواف الوداع إلى اليوم الذي يريد أن ينفر فيه، فإن الوداع لا يكون إلاَّ يوم الرحيل، ويستحب للحاج عند وقت نفره أن يتصدق بما حضره فيما بين مكة ومنى، ويتصدق بما أمكنه يوم خروجه من مكة. (1/130)
قلت: فما تقول لو أن صبيّاً بلغ ليلة عرفة أو عتق عبدٌ أو أسلم ذمي؟
قال: إن أمكنه تلك الليلة أن يرجع إلى مكة فيغتسل بها ويبتدئ الإحرام من المسجد الحرام ثُمَّ يلحق إلى عرفة فيفعل.
قلت: فإن كان ذلك منهم مع زوال الشمس يوم عرفة أو بعد زوالها ولا يمكنهم أن يرجعوا إلى مكة؟
قال: فليحرموا بها ويمضوا فيقفوا مع الناس بمواقفهم، ثُمَّ ليفضوا إذا أفاض الناس من عرفات، ويؤدوها ما أداه الحاج من مناسك الحج كلها، ثُمَّ قد تمَّ حجهم إذا أدوا جميع ما يجب عليهم.
قلت: فإن كان منهم ذلك ليلة النحر؟
قال: إن أمكنهم أن يرجعوا إلى عرفة فيقفوا بها قبل طلوع الفجر فلا بأس أن يحرموا بمزدلفة ثُمَّ ينهضوا(1) حتَّى يقفوا بعرفة، فإن وقفوا بها قبلل طلوع الفجر ثُمَّ أدّوا بعد ذلك جميع مناسكهم فقد تم حجهم.
قلت: فمتى يكون المعتمر متمتعاً بالعمرة إلى الحج؟
قال: إذا أهلَّ بالعمرة في أشهر الحج.
قلت: فإن رجلاً أهلّ بعمرة في شهر رمضان، ثُمَّ طاف لها وسعى في شوال؟
قال: لا يكون متمتعاً.
قلت: فعليه في ذلك دم؟
قال: لا.
قلت: لأي علة؟
قال: لأنَّه أهل بها في غير أشهر الحج، وإنَّما العمرة للشهر الذي يهل بها فيه، وليست للشهر الذي يحل منها فيه.
قلت: فإن أهلَّ بعمرة في شوال؟
قال: فهو متمتع، وعليه الهدي.
قلت: فإن رجلاً من أهل العراق أو اليمن دخل مكة بعمرة في أشهر الحج، ثُمَّ أقام بها إلى قابل، فأهلَّ أيضاً بعمرة في أشهر الحج؟
قال: لا يكن في ذلك متمتاً؛ لأن حكمه حكم أهل مكة.
قلت: فإنه خرج إلى بلده حتَّى جاوز الميقات بميل، ثُمَّ رجع إلى مكة فأقام بها حتَّى دخل أشهر الحج فأهلَّ بعمرة، هل يكون متمتعاً؟
__________
(1) ـ في نخسة (ب): ثُمَّ يمضوا.
قال: نعم، إذا كان قد خرج من مكة وجاوز ميقاته فليس حكمه حكم أهل مكة، وعليه ما على المتمتع من دم أو صيام أو صدقة. (1/131)
قلت: فما تقول فيمن نسي السعي بين الصفا والمروة حتَّى خرج من مكة؟
قال: إن أمكنه الرجوع رجع فسعى.
قلت: فإن لم يمكنه أن يرجع؟
قال: يجزيه أن يهريق دماً.
قلت: فأين؟
قال: حيث شاء.
قلت: فإن عاود الحج؟
قال: يسعى بينهما.
قلت: فإن طاف بينهما وهو على غير طهور ثُمَّ ذكر ذلك بعد خروجه؟
قال: ليس عليه في ذلك شيء.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه ليس عليه في ذلك صلاة، غير أنه لا ينبغي له أن يفرط في التطهر؛ لأنهما موقفان شريفان، والساعي بينهما في عبادة ربه.
قلت: فما تقول فيمن نسي رمي الجمار، ثُمَّ ذكرها في آخر أيام التشريق؟
قال: يرمي ما نسي منها، وليهرق لذلك دماً.
قلت: فإن لم يذكر منها حتَّى صدر الناس من منى؟
قال: عليه أن يهريق لذلك دماً، وليس عليه رمي؛ لأن وقت الرمي قد فاته.
قلت: فإن نسي أن يرمي بحصاة أو حصاتين أو ثلاث؟
قال: يرمي من الغد ويطعم لكل حصاة مسكيناً، ويهريق لذلك دماً.
قلت: فكم يطعم كل مسكين؟
قال: نصف صاع.
قلت: فما تقول فيمن رمى الجمار على غير طهور؟
قال: لا ينبغي أن يرمي الجمار على غير طهر؛ لأنها مواقف شريفة كريمة، ومن رماها جاهلاً على غير طهر لم يفسد ذلك عليه شيئاً من مناسكه.
قلت: فما تقول في رمي الجمار قبل طلوع الفجر؟
قال: لا يجوز ذلك إلاَّ للنساء لضعفهن، ولم يرخص في ذلك لغيرهن، ولا يجوز رميهن للرجال إلاَّ بعد طلوع الشمس.
باب القول فيما يجوز أكله من ذبائح الحاج وما لا يجوز
قلت: فما يجوز أكله من ذبائح الحاج، وما لا يجوز؟
قال: يأكل الحاج بدنته إذا كان قارناً، ويطعم من شاء من مسكين وغيره، وكذلك يفعل المتمتع بهديه، وكذلك يفعل المضحي بأضحيته.
قلت: فالجزاء من الصيد والكفارة في لبس الثياب ومس الطيب وما أشبه ذلك؟
قال: لا يأكل منه شيئاً صاحبه ولا ينتفع منه بشيء، ولا يعطي منه لحماً ولا جلداً من يجزر له. (1/132)
قلت: ولِمَ ذلك؟
قال: لأنَّه في معنى الصدقة؛ لأن الله قال: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}[ ]، فجعل النسك في مقام الصدقة.
قلت: فما تقول في حلال دفع إلى محرم صيداً فذبحه، هل يحل أكله للحلال؟
قال: لا يحل أكل ما ذبح المحرم من الصيد للحلال ولا للمحرم.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}[ ]، فما ذبح المحرم من صيد فهو قتل حرام لا يؤكل.
قلت: فما تقول في الظلال للمحرم؟
قال: لا بأس بذلك، وقد قال غيرنا: إن عليه دماً، ولا يلتفت إلى ذلك، ويتحرز من أن يصيب رأسه ويكون مرتفعة عن الرأس بجهده، ولو فسد عليه التظلل تحت الظلل والعماريات لفسد عليه أن يتظلل تحت المضارب، ولو فسد عليه التظلل تحت المضارب لفسد عليه التظلل تحت السقوف.
باب القول في مسائل الصيد
وسألته عن رجل أرسل كلباً له على ظبي، فلحق الكلب الظبي فقتله، هل يجوز أكله؟
قال: إذا كان الكلب الذي أرسله الرجل معلَّماً، فأرسله وذكر اسم الله فقتل الكلب الصيد فهو ذكي يحل له أكله إذالم يغب عليه.
قلت: وكذلك لو أكل بعضه؟
قال: إذا كان الكلب معلَّماً فأكل بعضه، أكل ما بقي منه، هذا قولي وقول علماء آل الرسول عليه وعلهيم السلام، وقد قال ابن عباس: إذا قتل الكلب وأكل بعضه لم يؤكل ما بقي منه، ولا أدري هل يصح هذا عن ابن عباس أم لا.
قلت: فما معنى قولك: معلَّماً؟
قال: لأن الكلاب مختلفة في معانيها فمنها كلب يكون مع الغنم، ومنها ما يكون للصيد معلماً، فهذا كلب الصيد.
قلت: فكيف يعرف الكلب المعلم من غيره؟
قال: ذلك معروف غير مجهول، فمعرفة المعلَّم أن يؤمر ويشلى فيأتمر، يُدعى فيجيب، والآخر فليس كذلك لا يجيب إذا دُعي، فهذا فرق ما بينهما، فافهم ذلك.
قلت: فالفهد عندك هو على مثال الكلب المعلَّم؟
قال: وكذلك الفهد إذا أمر وأشلى فكان يأتمر ويُدعى فيجيب فهو عندي كالكلب المعلَّم، يحل صيده ويؤكل ما قتل وإن كان أكل بعض الصيد أكل ما بقي منه. (1/133)
قلت: فالصقر والبازي والشاهين وما أشبه ذلك من الجوارح؟
قال: أما هذه الجوارح فما قتلت فليس بذكي عندي ولا يحل أكله، وأما ما أمسكت فذبحه ذابح أُكِل.
قلت: فلأيِّ علَّة لم يحل أُكل ما قتلت هذه الجوارح؟
قال: لأنها لا تأتمر إذا أمرت ولا تأتي إذا دُعيت لغير طعم، وإنَّما تأخذ الصيد إذا جاعت، وكذلك إذا شبعت فدُعيت لم تجب، وإنَّما تُجيب إذا دُعيت إذا لوح باللحم إليها أو تصيد، فتأتي من جوعها إلى طعامها، فلذلك قلنا: إنَّه لا يحل أكل ما قتلت.
قلت: فما تقول في صيد كلب المجوسي واليهودي أو النصراني إذا أرسله واحد من هؤلاء؟
قال: إذا أرسل المجوسي أو اليهودي أو النصراني كلباً فضبط الصيد وقتله لم يحل أكله؛ لأن هؤلاء لا نرى أكل ذبائحهم؛ لأنهم لا يذكرون اسم الله عليها.
قلت: فإن ذكر هؤلاء اسم الله، هل تؤكل ذبائحهم؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنهم لم يعرفوا الله؛ لأن الله عندهم هو غير الذي بعث محمداً إليهم، والله تبارك وتعالى هو باعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليهم وإلى غيرهم، ومن قال بذلك فلم يعرف الله قط ولم يسمه على صيد ولا ذبيحة، والله عند هؤلاء هو الذي أدخلهم فيما هم فيه من الشرك، وعز الله عن ذلك.
قلت: فإن أرسل كلب المجوسي أو الذمي مسلم، فقتل الصيد؟
قال: لا بأس بأكله.
قلت: فما تقول في الصيد بالليل؟
قال: الصيد جائز بالليل والنهار ولم يحظر الله شيئاً من ذلك في كتابه.
قلت: فما تقول في صيد المجوسي أو الذمي للسمك؟
قال: لا بأس بذلك إذا غسل من أثر أيديهم؛ لأنَّه لا يقع على السمك ذكاة.
قلت: فإن رجلاً رمى صيد بسهم أو أرسل عليه كلباً معلماً وذكر اسم الله ثُمَّ تغيب عن عينه ساعة، ثُمَّ وجده بعد ذلك ميتاً.
قال: إذا رماه بسهمه أو أرسل عليه كلبه فغاب عنه ساعة أو ساعتين أو أكثر ثُمَّ وجده ميتاً فوجد سهمه فيه ثابتاً وأيقن أن سهمه الذي قتله أو أن كلبه الذي قتله فلا بأس بأكله إذا أيقن أنَّه هو قاتله؛ لأن الله سبحانه أحل ذلك ولم يذكر تغيباً ولا غير تغيب، ولا يزيح اليقين إلاَّ اليقين، فإذا أيقن أن كلبه أو سهمه قتل الصيد أكله. (1/134)
قلت: قد فهمت ما ذكرت في صيد الكلب المعلم، فأخبرني عن صيد الكلب الذي ليس بمعلم إذا أخذ الصيد وقتله؟
قال: إذا لم يكن الكلب معلماً فلحق الصيد فقتله لم يحل أكله إلاَّ أن يلحق الرجل الصيد لم يمت فيذكيه ويأكله.
قلت: فإن أرسل رجل كلباً معلماً على صيد فعارضه كلب غير معلم فعاونه عليه فقتلاه جميعاً؟
قال: لا يجوز أكله؛ لأنَّه قد أفسد ذكاته معاونة الكلب الذي ليس بمكلب للمكلب عليه.
قلت: فإن رجلاً ركض فرساً على صيد، ثُمَّ رماه بسهم فقتله؟
قال: إذا أثبت الصيد بسهمه وقد ذكر اسم الله عليه فأدماه وجرحه حل أكله له.
قلت: فإن لم يدمه ومات من وقعة سهمه؟
قال: لا يحل أكله؛ لأنَّه وقذة.
قلت: فصيد المعراض؟
قال: لا يحل منه إلاَّ ما لحقت ذكاته.
قلت: وكذلك أيضاً صيد البندق؟
قال: وكذلك أيضاً صيد البندق إذا رمى الرجل بالبندق الصيد فقتله لم يحل أكله إلاَّ أن تدرك ذكاته.
قلت: فإنه رمى صيداً بسهم فتردى فوقع في الماء فمات؟
قال: لا يحل أكله؛ لأنَّه لا يؤمن أن يكون غرقاً.
قلت: فإنه رماه فتردى من جبل فمات؟
قال: وكذلك أيضاً لا يؤكل؛ لأنَّه لا يؤمن أن يكون مات من ترديه.
قلت: فإنه رمى صيداً فتردى من جبل فأدركه وهو يطرف بعينه أو يركض برجله أو يحرك ذنبه؟
قال: يذكيه ويأكله، وكذلك إن تحرك منه شيء بعد أن يذكيه فهو ذكي.
باب الذبائح
وسألته عن الرجل يذبح الشاة أو غير ذلك من الدواب، ولا يذكر اسم الله، هل يحل أكل ذلك؟
قال: نعم، إذا كان عقد التسمية فنسي، فعقد ملة الإسلام يجزي، ولا ينبغي لأحد أن يغفل عن ذلك.
قتل: فإن رجلاً ذبح شاة من القفا وذكر اسم الله، هل يحل أكلها؟ (1/135)
قال: قد قال غيرنا: إنَّه يحل، وأما قولي أنا: فإنه لا يحل؛ لأنَّه لا يبلغ السكين إلى الأوداج، وهو: موضع الذبح حتَّى تموت.
قلت: فإن رجلاً ذبح شاة فقطع رأسها، هل تحل؟
قال: نعم، وقد روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه، أنه قال في ذلك: (هذه الذكاة الشريعة).
قلت: فما تقول في ذبيحة المرأة والصبي والجنب والحائض؟
قال: لا بأس بذبيحة المرأة إذا كانت امرأة مسلمة وعرفت الذبح وأقامت حدوده وفرت الأوداج واستقبلت به القبلة والمنهاج، وكذلك الصبي فلا بأس بذبيحته إذا فهم الذبح وأطاقه وفرى الأوداج وأنهرها وعرف مأخذها وقطعها، وإن لم يبلغ مبالغ الرجال، ولا بأس بذبيحة الجنب والحائض في حال نجاستهما؛ لأنهما مِلِّيان مسلمان، وليس نضيُّق عليهما في حال نجاستهما إلاَّ الصلاة والقرآن.
قلت: فما تقول في الذبح بالشظاظ والظفر والعظم والحجر؟
قال: لا يجوز الذبح بالشظاظ ولا بالظفر ولا بالعظم، ولا بأس بالذبح بالمروة والحجر الحاد إذا فرى الأوداج وأنهر الدم وأبان العروق كما تفعل المدية.
قلت: فما تقول في ذبيحة الأخرس والعبد الآبق والأغلف؟
قال: لا بأس بكل ما ذبح هؤلاء المسلمون إذا كانوا من أهل الملة وكانوا بالذبائح عارفين وكان الأغلف تاركاً للاختتان لعلَّة تقوم له بها عند الله حجة، ومن جازت مناكحته حلت ذبيحته.
قلت: فما تقول في ذكاة الجنين؟
قال: قد قال غيرنا أن ذكاته ذكاة أمه، ولسنا نقول بذلك ولا نلتفت إليه، ولا تصح الذكاة إلاَّ لما ذكي وقُدِرَ على تذكيته خارجاً من بطن أمه؛ لأنَّه لا يكون ذكاةٌ واحدةٌ ذكاة اثنين، وقد يمكن أن يموت في بطنها قبل ذبحها كما يموت عند ذبحها، وقد يحيا في بطنها ويستخرج حيّاً بعد موتها، موجود ذلك في النعام وغير ذلك من نساء الأنام، ولا يعمل في التذكية بما في بطون الأنعام إلاَّ من بعد خروجه حيّاً.
قلت: فإن جملاً أو شاة أو بقرة تردى في بئر فلم يقدر على إخراجه حيّاً؟ (1/136)
قال: يجب على أصحابه أن يطلبوا منحر البعير ومذبح البقرة أو الشاة في جوف البئر، فيذبحوه.
قلت: فإن لم يقدروا على ذلك؟
قال: إذا لم يقدروا على ذلك طعنوه حيث أمكن وذكروا اسم الله وأخرجوه إرباً، فأكلوه.
قتل: فإن رجلاً أتى بشاة أو بجزور أو ببقرة ليذبحها، فندت منه فلم يقدروا على أخذها وذبحها، فرماها بسيفه أو بسهمه أو طعنها برمحه فأدماها وعقر فقتل وقد سمى حين رمى أو طعن؟
قال: لا بأس بأكلها إذا كان قدم النية أنَّه يريد نحرها أو ذبحها ولم يقدر على ذلك، وإن فعل ذلك متمرداً ماثلاً بها لم تؤكل، وعليه في ذلك أدب وتنكيل على المثل بالبهائم والتعدي للسنة في ذبحها إلى ما فعل من المثل بها.
باب الأضاحي
وسألته عمَّا يجزي من الغنم والبقر والإبل في الأضاحي؟
فقال: الجذع من الضأن، والثني من المعز والبقر والإبل.
قلت: فهل يجزي جذعاً أو عوراء أو عمياء أو مكسورة القرن؟
قال: لا يجوز في الأضاحي شيء من ذلك إلاَّ العضباء القرن فإنها تجوز، ومن وجد غيرها كان أفضل، ولا تكون الأضحية إلاَّ سليمة.
قلت: فما تقول في الخصي، يجوز في الأضحية؟
قال: نعم، وهو خيارها وسمانها، وقد ضحى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فهل الأضحية واجبة كوجوب غيرها، مثل الزكاة وما أشبه ذلك؟
قال: لا، ولكنا نحب لمن وجد أن لا يتركها لما جاء فيها من الفضل.
قلت: فهل يجوز أن يذبح الرجل الأضحية قبل خروجه إلى المصلى أو قبل طلوع الشمس؟
قال: لا، وليس يذبح الأضحية إلاَّ بعد انصراف الإمام من المصلى أو بعد صلاة الرجل إذا صلى وحده.
قلت: فإن الرجل ذبح الشاة قبل خروجه إلى المصلى؟
قال: تلك شاة لحم وليست بأضحية.
قلت: فهل يقدد الرجل من لحم الأضحية؟
قال: قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد نهى أن لا يحبس لحم الأضحية فوق ثلاث، ثُمَّ أطلق بعد ذلك، فقال: <قد كنت نهيتكم أن لا تُحبس لحم الأضحية فوق ثلاث، فاحبسوا ما بدا لكم>، فوسَّع لهم ما كان ضيَّق عليهم، وهذا قولنا أن يحبس الرجل لحم أضحيته ما شاء. (1/137)
قلت: فعن كم تجزي الشاة والبقرة والجزور؟
قال: أما الشاة فعن ثلاثة، وأما الجزور من الإبل فعن عشرة، وأما البقرة فعن سبعة، وكل ذلك إذا كانوا أهل بيت واحد.
باب القول في العقيقة
وسألته عن العقيقة، ما هي؟
فقال: العقيقة شاة تذبح عن المولود إذا ولد يوم سابعه، كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه عق عن الحسن والحسين عليهما السلام يوم سابعهما، وحلق رؤوسهما وتصدق بوزن شعرهما فضة.
قلت: فهل يتصدق بها، أو هي لأهلها يأكلونها؟
قال: يعملون في ذلك ما شاءوا، ويأكلون منها ويطعمون ما شاءوا، ويتصدقون على من شاءوا.
قلت: فالعقيقة واجبة للغلام والجارية سواء؟
قال: نعم، العقيقة للغلام والجارية شاةٌ شاة، وقد قال غيرنا: إن للغلام شاتين، وللجارية شاة، وأما قولنا: فشاةٌ شاة.
باب الأطعمة، وتفسير ما تحرم منها في القرآن والسنَّة
وسألته، متى يحل أكل الميتة؟
قال: لا يحل أكل الميتة إلاَّ عند الضرورة إلى أكلها، ولا يكون ذلك إلاَّ فيما ذكر الله سبحانه من المخمصة، والمخمصة فهي المجاعة، فإذا لم يجد الرجل ما يأكل ممَّا يقيم جسمه ويقوى به على أداء فرض ربه حل له أكل الميتة ليقوى به على ما ذكرنا من فرض ربه.
قلت: فكم يأكل المضطر من الميتة؟
قال: يأكل منها ما يلزم روحه في بدنه ويقيم قواه.
قلت: فإن كان الرجل مسافراً أو اضطر إلى أكل الميتة فأكل منها، هل يجوز له أن يتزود منها؟
قال: إذا خاف أن لا يجد شيئاً يغنيه تزود من الميتة قدر ما يغنيه ويقيم نفسه، فإذا وجد الطعام رمى بالميتة.
قلت: فما تقول في رجل أكل لحم الثعلب وما أشبهه؟
قال: الأصل في ذلك كله عندنا واحد، والذي نقول به ما صح عندنا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرَّم أُكل لحوم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، فهذا أصلٌ لك فيه كفاية إن شاء الله. (1/138)
قلت: فما تقول في الذباب والخنفساء والفأرة وما أشبه ذلك يقع في الطعام، هل يحرم ذلك الطعام؟
قال: إذا وقع الذباب والخنفساء في الطعام أخرج فرمي وأُكل ذلك الطعام، وليس بمحرم، وقد قال الشافعي بغير ذلك، ولم يُنظر في قوله، وأمَّا الفأرة فإذا وقعت في الطعام أُخرجت حية فلا بأس أيضاً بأكل ذلك الطعام، وإن ماتت فتغير الطعام بنتن ريحه أو بفساد طعمه لم يؤكل.
قلت: فإن لم يتغير الطعام بنتن ولا ريح وقد ماتت الفأرة فيه؟
قال: يطرح ما حواليها ويؤكل باقي الطعام، وكذلك أيضاً لو وقعت في سمن أو زيت فماتت فيه كان على ما وصفنا، يؤخذ ما حواليها إن كان جامداً فيرمى به ويؤكل سائر ذلك، وإن كان غير جامد فتغير كما وصفنا لم يؤكل، وإن لم يتغير أُكل، وقد بلغنا وصح عندنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أتى بجفنة من طعام، فوجد فيها خنفساء، فأمر بها فطرحت، ثُمَّ قال: <سموا عليها>، وكذلك أيضاً أتى بجفنة طعام، فوجد فيها ذباباً فطرحه وقال: <كلوا فليس يحرم هذا شيئاً>.
قلت: فخبرني عمّا يكره أكله، ما هو؟
قال: يكره ما طفا من السمك فمات، وكذلك يكره ما نضب عنه الماء إلاَّ أن يدرك حيّاً أو يموت في حظيرة حظرت لصيده، ويكره أكل الجري والمارماهي، وكذلك صح لنا عن أمير المؤمنين عليه السلام: ويكره أكل الضب والقنفذ والأرنب وليس بمحرم، ولكنا نعافه، وكذلك بلغنا أنَّه أُهديَ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فعافه ولم يأكله وأمر أصحابه بأكله، ويُكره أكل الطحال وجميع ما عمل المجوس وأهل الذمة من جبن أو سمن أو غير ذلك من الأشياء؛ لأنهم نجس، ويكره أن يأكل الرجل مستلقياً على قفاه أو مبتطحاً على بطنه، ويكره أكل السلحفاة، ويكره أكل الطين؛ لأنَّه ربما قتل. (1/139)
قلت: فما تقول في البغال والحمير والخيل؟
قال: لا تؤكل، ولا يجوز أكلها عندنا؛ لأن الله تبارك وتعالى لم يطلق أكلها وحظره بقوله: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة}[ ]، ولم يقل: لتأكلوها، كما قال في غيرها من الأنعام: {ومنها تأكلون}[ ].
أبواب الأشربة
وسألته عن الخمر، لِمَ سميت خمراً؟
فقال: لأنها تخامر العقل فتزيله، فلذلك سميت خمراً.
قلت: فالخمر، أي شيء هي؟
قال: من العنب والزبيب والتمر والذرة والشعير والبر وجميع ما عمل فشرب فخامر العقل، فهذا أصلٌ فيه جملة ما يحتاج إليه.
قلت: فإنه عصر عنباً على أن يعمله خمراً فلما خمر بدا لصاحبه فعمله خلاًّ؟
قال: لا أحب أكل ذلك، لما تقدم من النية فيه أنَّه خمر، وكذلك بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لما حرمت الخمر أمر بإهراقها، وقال: <لا يُنتفع بها، ولا يعمل خلاًّ، ولا غيره>.
قلت: فما تقول في الطلاء والنحتح والمثلث وما أشبه ذلك، ممَّا يُعمل من الزبيب والعسل إذا طبخ فذهب ثلثاه أو نصفه؟
فقال: أخبرك في هذا بأصل تكتفي إن شاء الله، اعلم أن جميع ما كان من هذه الأشياء المطبوخة أو المنقعة أو ما أشبه ذلك فما لم يسكر كثيره إذا شرب ولم يزل عقل صاحبه من شربه فهو حلال قليله وكثيره، وما أسكر كثيره فقليله وكثيره حرام، فاكتف بهذا. (1/140)
قلت: فما تقول في الشراب في آنية الذهب والفضة؟
قال: لا يجوز ذلك عندنا أن يشرب في آنية الذهب والفضة.
قلت: فإن كان الإناء في نفسه خشباً ففضِّض أو ذُهِّبَ؟
قال: كذلك أيضاً لا يجوز عندنا الشرب فيه؟
قلت: فما تقول في الشرب والانتفاع بآنية الرصاص والنحاس وما أشبه ذلك؟
قال: الشراب والانتفاع بذلك جائز.
القول في أبواب الِّباس
وسألته عن لبس الرجل الحرير والديباج؟
فقال: لا يجوز لبس ذلك للرجال.
قلت: فالنساء؟
قال: تلبس المرأة ما شاءت من ذلك.
قلت: فإن كان الثوب نصفه حريراً(1) ونصفه قطناً، هل يجوز لبسه والصلاة فيه؟
قال: نعم.
قلت: فإنه حرير كله فقطعه رجل جبة أو قلنسوة أو ما أشبه ذلك أو بطَّنه بغيره ببطانة من القطن، هل يجوز الصلاة في ذلك؟
قال: إذا كان ثوباً كاملاً مصمتاً من حرير فلا تجوز الصلاة فيه بُطِّن أو لم يبطَّن، ولا أحب له لبسه إلاَّ أن يكون في حرب أو آلة حرب، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: (أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثياب حرير، فأمرني فقسمتها بين النساء).
قلت: فما تقول في الخز؟
قال: لا أحب الصلاة فيه.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأني لا آمن أن يكون أصله ميتة ممَّا لا يحل أكله ولا تقع الذكاة عليه.
قلت: فما تقول في لبس جلود الثعالب والنمور وجلود كل ذي ناب؟
فقال: كلما حرم الله وروسله أكل لحمه فلا يجوز لبس جلده ولا الانتفاع به ولو دبغ، وقد أجاز ذلك غيرنا.
قلت: فما تقول في لبس جلود الغنم الَّتي تُعمل فراء؟
قال: لا بأس بذلك إذا كانت ذبيحة الغنم على ملة الإسلام، ونظِّف من الأقذار.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فإن كان الثوب نصفه حرير.
قلت: فما تقول في المرأة تصل شعرها بغيره؟ (1/141)
قال: أما إذا وصلت شعرها بشعر غنم صوفاً كان أو شعراً أو ما أشبه ذلك فلا بأس به أن تصل المرأة في شعرها ما تزين به لزوجها، وأمَّا شعور الناس فلا يحل لمرأة أن تصل شعرها بشيء من شعور الناس؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنه، وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لعن الواصلة والموصولة(1)، أراد بذلك الَّتي تصل شعرها بشعر الناس لا شعر الغنم، ولعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواشمة والمؤتشمة، والنامصة والمتنمصة.
قلت: فما تقول في الخضاب بالحناء والكتم يغير به الشيب؟
قال: لا بأس بذلك، وأحب إلينا أن لا يغير الشيب بشيء، ويترك كما خلقه الله.
قلت: فما الذي يُكره لبسه من اللباس؟
قال: لا أحب أن يلبس الرجال من الثياب المصبوغ المشبع، ولا ذا الشهرة بالتلوين إلاَّ في الحروب، ولا نحب أن يلبس من الميتة شيء لا نعل ولا خف.
قلت: فما تقول في صوف الميتة من الأنعام وشعورها ووبرها؟
قال: لا بأس بذلك إذا غسل وأنقي؛ لأنَّه ليس ممَّا يقع عليه ذكاة، وإن تركه تارك تنزهاً كان أفضل، وقد تجز الغنم ويستعمل صوفها وشعرها وهي حية.
قلت: فشعر الخنزير الذي يعمل به الأساكفة؟
قال: لا أحب أن يعملوا به؛ لأن الله حرم الخنزير، وشعره منه.
قلت: فما تقول في هذه الأكسية الَّتي تُصبغ بالنيل وما أشبهه وتغمس في البول، هل يحل الصلاة فيها؟
فقال: إذا غُسِلَت وأُنقيَت ولم يتبين فيها أثر البول ونظفت فلا بأس أن يُصلَّى فيها، ولا ينبغي لأحد أن يتعمد الصباغ ولا العمل بشيء من النجس لا البول ولا غيره.
قلت: فهل يجوز للرجال أن يتختموا بالذهب؟
قال: لا يتختم الرجال بالذهب، وعليهم بخواتم الفضة.
قلت: ففي أي اليدين يلبس الرجل خاتمه؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): الواصلة والمؤتصلة.
قال: في يمينه، كذلك صح عندنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تختَّم في يمينه، وعلي والحسن والحسين عليهم السلام. (1/142)
قلت: فما تقول في لبس الخلاخيل للغلمان؟
قال: لا أحب ذلك إلاَّ للنساء.
بسم الله الرحمن الرحيم(1)
00باب مسائل النكاح
قلت له: فهل يجوز النكاح أو تثبت عقدته بغير ولي وشهود؟
فقال: لا تثبت عقدة نكاح إلاَّ بولي وشاهدين.
قلت: فإن نكح رجل امرأة بغير ولي وشهود، هل يبطل نكاحه؟
قال: نعم، وكيف لا أبطل نكاحه وقد خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: وكيف خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: لأن الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا نكاح إلاَّ بولي وشاهدين، ومهر>، وذلك فأمرٌ من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك أمر الله عز وجل الأولياء بإنكاح النساء بقوله: {وأنكحوا الأيامى منكم}[ ]، فأمر الله الأولياء بذلك ودلَّ سبحانه بأمر الأولياء أنَّه لا نكاح للنساء ولا يتزوج رجل امرأة إلاَّ بأمر وليها، فمن خالف ذلك لم يثبت له نكاح، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا نكاح إلاَّ بولي وشاهدين>، وكذلك أيضاً نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نكاح السر؛ تأكيداً منه ألاَّ يكون النكاح إلاَّ مشهوراً غير خفي ولا مكتوم؛ لأنَّه لا يخفى ولا ينكتم ما كان عليه الشهود والأولياء.
قلت: فمَن الأولياء، ومن أولاهم بالنكاح؟
قال: الأولياء فهم العصبة المتناسبون.
قلت فسِّرهم لي؟
قال: نعم إن شاء الله، أُولي القرابة بعقدة نكاح المرأة وتزويجها أحقهم بوراثة ما تتركه من ميراثها من الرجال دون النساء.
قلت: مثل مَن؟
قال: مثل الابن، ثُمَّ ابن الابن وإن سفل، ثُمَّ الأب، ثُمَّ الجدّ، ثُمَّ الأخ لأبٍ وأمٍ، ثُمَّ الأخ لأبٍ، ثُمَّ ابن الأخ لأبٍ وأمٍ، ثُمَّ ابن الأخ لأبٍ، ثُمَّ العمّ لأبٍ وأم، ثُمَّ العم لأبٍ، ثُمَّ ابن العمّ لأبٍ وأم، ثُمَّ ابن العم لأب، ثُمَّ مولى النعمة وهو المعتق. (1/143)
قلت: فإذا لم يكن لها عصبة وكان لها ذوو أرحام؟
قال: فإمام المسلمين أولى بها من ذوي الأرحام بعقدة نكاحها.
قلت: فإن لم يكن الإمام ظاهراً؟
قال: تولي المرأة رجلاً من المسلمين؟
قلت: أفليس ذوو الأرحام أولى بها بعد العصبة من سائر الناس؟
قال: ذوو الأرحام وسائر الناس في هذا سواء، وإن قدم في ذلك ذوو الرحم فذلك حسن جميل إذا كان فيهم رشيد يصلح لذلك.
قلت: فهل تعقد المرأة عقد النكاح؟
قال: لا تعقد النساء عقدة النكاح.
قلت: فإن أراد الأب أن يزوج ابنته، هل يؤآمرها؟
قال: ذلك الواجب إذا كانت بالغة.
قلت: فإن سكتت ولم ترد عليه إذا أمرها؟
قال: سكوتها إقرارها.
قلت: فيستأمر الأب ابنته البكر إذا أراد أن يزوجها.
قال: إن فعل فحسن، وإن لم يؤآمرها لم يضره، وجاز له تزويجها إذا كانت لم تبلغ، فأما إذا بلغت فلا بد من استئذانها.
قلت: فإن أنكرت على أبيها تزويجه لها عند البلوغ؟
قال: لا ينفعها ذلك وقد ثبتت عقدة النكاح.
قلت: فإن الأب لما زوج ابنته البالغة أنكرت على أبيها تزويجها؟
قال: إذا أنكرت في ذلك الوقت الذي زوجها أبوها فيه بطل النكاح.
قلت: فإن كانت وقت ما زوجها علمت بتزويجه لها فسكتت يومها ذلك أو بعض يوم، ولم تنكر، ثُمَّ أنكرت بعد ذلك؟
قال: إذ سكتت عند تزويجه لها ولم تنكر فهو رضى منها، وقد ثبتت عقدة النكاح.
قلت: فإن كانت لم تعلم ذلك الوقت، ثُمَّ علمت بعد فأنكرت.
قال: لها الإنكار ويبطل النكاح.
قلت: وكذلك الثيب؟
قال: تستأمر أيضاً، كذلك فإن سكتت فهو رضىً منها.
باب القول في الوليِّين يُنكِحان جميعاً في وقت واحد
وسألته عن امرأة بالغة زوَّجها أبوها برجل وزوجها أخوها برجل آخر في ليلة واحدة، فأنكرت الذي زوجها أبوها، ورضيت الذي زوجها أخوها؟ (1/144)
قال: لا يصح نكاحهما جميعاً؛ لأن الأب زوَّجها من لم ترض وهو الولي، وزوجها أخوها مَن رضيت والأب قائم بعينه، فلا يجوز للأخ أن يزوج والأب حيّ سليم، فبطل نكاحهما جميعاً، ولكن يعقد الأب حينئذ لمن رضيت.
قلت: فإن الأب أبى أن يزوجها من رضيت؟
قال: يجبر على ذلك، فإن أبى كان الأمر إلى إمام المسلمين.
قلت: فإن زوجاها جميعاً في وقت واحد من رجلين وهي صغيرة ولم تبلغ فأراد كل واحد منهما أن يدخلها على من زوجها، فأبى الآخر؟
قال: توقف إلى أن تبلغ، فإذا بلغت اختارت من أحبت منهما، فأدخلت عليه.
قلت: فإن أخويها زوجاها وهي بالغ، وقد أمرتهما جميعاً؟
قال: فالعقد عقد الأول.
قلت: فإنَّ لها أخاً واحداً فزوجها ولم تبلغ فأنكرت؟
قال: لا يلتفت إلى قولها ما لم تبلغ.
قلت: فإنها لما صلحت للرجال أدخلها على زوجها فابتنى بها، هل لها إذا بلغت أن تنكر؟
قال: نعم.
قلت: فهل تفسخ النكاح، أم يكون على الزوج الطلاق؟
قال: تفسخ النكاح.
قلت: فإن امرأة زوجها أخوها أو عمها ولم تبلغ، فأنكرت في ذلك الوقت، هل يجوز إنكاحها؟
قال: لا يلتفت إلى إنكارها ما لم تبلغ.
قلت: فإن الزوج دفع الصداق، وطالب الولي أن يدخلها عليه وقد صلحت، هل يجب على الولي أن يدخلها عليه؟
قال: نعم.
قلت: فإنها أيضاً أنكرت وقت الدخول؟
قل: لا ينظر إلى إنكارها قبل أن تبلغ؟
قلت: فإنها أنكرت بعدما دخل بها وبلغت؟
قال: ذلك لها.
قلت: فيُفسخ النكاح، أو على الزوج الطلاق؟
قال: لا طلاق هاهنا.
قلت: لِمَ لا يكون طلاقاً؟
قال: لأنَّه كان من قِبَل المرأة ومِن فعلها، وليس من أفعال النساء الطلاق، وإنما يكون الطلاق للرجال، إنَّما المرأة تفسخ النكاح في مثل هذا الموضع.
قلت: فإذا فسخت النكاح، هل لها المهر؟
قال: نعم، بما استحل من فرجها.
قلت: وكذلك النفقة في العدة؟ (1/145)
قال: نعم، حتَّى تحل للزوج.
قلت: فإنها لما بلغت سكتت يومها أو ساعة، هل لها بعد ذلك أن تنكر؟
قال: لا، إذا لم تنكر في وقتها الذي بلغت فيه وهو رضىً منها، ولا إنكار لها بعد ذلك.
قلت: فإنها ادعت الجهل، وقالت: لم أعلم أنَّه يجب لي الإنكار؟
قال: ينظر في قولها ويكشف عن ذلك الحاكم، فإن صحّ له أنَّه كما قالت وادعت أبطل نكاحها ولم يجز إنكاحها، واستحلفت على ذلك وانفسخ النكاح أيضاً.
قلت: فإن نكلت عن اليمين؟
قال: يثبت العقد ويبطل إنكراها.
قلت: فهل يجب على زوجها نفقتها قبل أن يدخل بها؟
قال: نعم.
قلت: ولِمَ ولها الإنكار إذا بلغت؟
قال: لأنَّه قد علم أنَّه قد تزوج من لم تبلغ، ولها الإنكار، فهو الذي غر نفسه وضرها.
قلت: ولِم؟
قال: لأنَّه كان عليه أن يبحث عن ذلك ويستخبر عنه، فلما لم يفعل ألزمه جَهلُه ما أدخل على نفسه.
قلت: فإن قوماً لا يرون تزويج الصغيرة الَّتي لم تبلغ، إلاَّ أن يكون المزوج لها أبوها، وقوم يقولون: لا يزوج الصغيرة أبوها ولا غيره؟
قال: لا يلتفت إلى قول من قال بذلك؛ لأن الله سبحانه قد أجاز تزويجها، وذلك قول الله تبارك وتعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن}[ ]، وهن اللواتي لم يبلغن مبالغ النساء بعدة اللواتي قد يئسن من المحيض ثلاثة أشهر سواء، فلولا أنَّه قد أجاز نكاحهن ما ذَكَرَ عدتهن؛ لأن ما لا يحل نكاحه ولا يجوز عند الله لا يكون له عدة عند الله موصوفة(1) مذكورة في حكمه مقدمة على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم منزله، فأمَّا قول من قال: إن ذلك للأب دون غيره، فليس معه بذلك حجة تقوم له بها قول؛ لأن الآية جاءت مجملة مبهمة، وقد علم الله مكان الأب وغيره في ذلك، فلو كان عنده كما قالوا لبَيَّنَه وشَرَحَه؛ لأنَّه يقول سبحانه: {ما فرَّطنا في الكتاب من شيء}[ ]، ويقول: {نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمة}[ ]. (1/146)
باب القول في تزويج الأب للبالغة
وسألته عن امرأة زوجها أبوها وقد بلغت مبالغ النساء بغير رضاها؟
قال: النكاح باطل.
قلت: فإن زوجها أبوها وهي صغيرة ثُمَّ بلغت فقالت: لا أرضى؟
فقال: لا يقبل منها، ونكاح الأب جائز عليها في صغرها، رضيت أو لم ترض.
قلت: فإن من لها أخ من أبيها وأمها وأخ من أمها، فأراد الأخ من الأم يزوجها رجلاً رضيت به، وأراد الأخ من أبيها وأمها يزوجها غير ذلك ولم ترض؟
فقال: لا يزوجها إلاَّ أخوها من أبيها وأمها برضاها، فإن أبى أن يزوجها جبر على تزويجها.
باب القول في الولي إذا كان الولي بعيداً
وسألته عن امرأة لها ولي على مسيرة شهر، هل يزوجها رجل من المسلمين ترضى(2) به وتوليه أمرها؟
فقال: لا يجوز أن يزوجها إلاَّ وليها ما علم أن لها وليّاً قريباً أو بعيداً، إلاَّ أن يكون الولي ببلد لا ينال.
قلت: فكم مقدار البلد الذي إذا كان فيه الولي انتظر بالنكاح حتَّى يرسل إليه؟
__________
(1) ـ موصولة (نسخة)، موصلة (نسخة أخرى).
(2) ـ في نسخة (ب): برضاها.
قال: قد قيل: شهر، ولو كان على أكثر لم يجز النكاح، إلاَّ برأيه إذا كان يُعرف موضعه. (1/147)
باب القول في إنكاح الأبوين للصغيرين
وسألته عن رجل له ابن طفل رضيع ورجل له بنت طفلة رضيعة، فزوج الأبوان الطفلين، هل ثبتت عقدة النكاح بينهما؟
قال: نعم.
قلت: مات الصبي الذكر، هل يكون على أبيه صداق الصبية؟
قال: نعم، أرأيت لو جنى الصبي جناية، أليس كانت جنايته على العاقلة؟
قلت: نعم.
قال: فالصداق جناية الأب على نفسه.
قلت: فإن ماتت الصبية ولها مال، يرثها الصبي؟
قال: نعم.
قلت: فإن كبر الصبيان، فرد أحدهما النكاح ولم يرضه؟
قال: لا يقبل منه إذا كان عقد أبوه نكاحه وهو صغير، فنكاحه جائز.
إنكاح الأخ والجد
وسأله عن امرأة لها جد ـ أب الأب ـ وأخ؟
قال: أحب إليَّ وأولى عندي أن يزوجها جدها.
قلت: فإن زوجها الأخ.
قال: إن كان سكت الجد فهو رضى.
قلت: فإن زوج الأخ، وأبى الجد أن يرضى؟
قال: يبطل النكاح.
قلت: فامرأة لها أب وابن، أيهما أولى بتزويجها؟
قال: الابن، وقد يستحب(1) أن يتولى عقد النكاح الأب برضا الابن لما في ذلك من الحشمة على الابن.
قلت: فإن امرأة زوجها عمها أو ابن أخيها أو أخوها أو ابن عمها أو بعض الأولياء ولم تبلغ، هل لها أن تنكر إذا بلغت؟
قال: نعم، لها ذلك، وينفسخ النكاح.
قلت: فهل لها نفقة قبل أن تبلغ إذا طالب لها أبوها أو بعض الأولياء؟
قال: نعم؛ لأن الزوج تزوج من لا تصلح للرجال، فصار الحبس منه لا منها ولا من أهلها.
قلت: ففي كم يجب على الأب أو الولي من السنين أن يدخلها على زوجها؟
قال: قد قيل في ذلك تسع سنين وأكثر وأقل، وليس في ذلك عندنا وقت مؤقت، وإنَّما ينظر في ذلك إلى ما تقول النساء والعدول، فإذا قلن: إن مثلها تصلح للجماع وجب عليه أن يدخلها إلى زوجها إذا دفع الصداق.
قلت: فإنه زوجها بعض الأولياء وهي صغيرة ثُمَّ ماتت، هل يجب لها الصداق؟
قال: نعم، لها الصداق كاملاً.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): نحب.
قلت: فإن امرأة لها ابن عم وأخ صغير، فزوجها ابن عمها وقد رضيت ورضي؟ (1/148)
قال: ذلك جائز.
قلت: فإن أخاها أنكر بعدما بلغ؟
قال: ليس ذلك له إذا رضيت المرأة بتزويج ابن العم.
قلت: فهل يجوز تزويج الصبي؟
قال: إذا جرت عليه الأحكام وأنبت، زوَّج وحكم عليه وله.
قلت: في كم يحكم له وعليه؟
قال: في خمس عشرة سنة.
ما يوجب المهر والعدة
وسألته، ما يوجب المهر والعدة على الرجل إذا تزوج؟
قال: إذا خليا وأرخيا عليهما الستور.
قلت: وإن لم يمسها؟
قال: نعم، وإن لم يمسها وجب الصداق والعدة.
قلت: فإنه تزوج صبية لم تبلغ، فخلا بها وهي في بيت فلم يمسها، هل يجب الصداق كاملاً والعدة؟
قال: ينظر في ذلك إليها، فإن كان مثلها يصلح للجماع وجب المهر والعدة.
قلت: فإنها مثلها ليس يصلح للجماع وقد خلا بها، هل يجب عليه المهر والعدة؟
قال: نعم، ما الحكم في ذلك إلاَّ واحداً.
قلت: فما تقول في امرأة دخل عليها زوجها وأرخى الستر عليه وعليها، وفي البيت معهما امرأة أو امرأتان من نسائها، هل يجب عليه مهر إذا لم يدن منها بإرخاء الستر عليهما؟
فقال: لا يجب المهر بإرخاء الستر، إلاَّ أن لا يكون معه ومعها في البيت أحد من نسائها ولا نسائه، فإذا كانت الخلوة مع إرخاء الستر وجب المهر والعدة.
قلت: فإن المرأة أو المرأتين رقدتا فدنا منها في جانب من البيت؟
فقال: قد أساء في فعله، وقد وجب عليه المهر بالدنو من أهله، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي الرجل أهله ومعه في البيت أحد، حتَّى ذَكَر الطفل، ثُمَّ قال: لو رفع إليَّ خبر هذا لأدبته على فعله؛ لأنَّه قد تعرض للفضيحة الَّتي كره التعرض لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمن معه من النساء.
قلت: فإن رجلاً وامرأة اختلفا في الدخول فقال الزوج: لم أدخل بك، وقالت المرأة: قد دخلْتَ بي، ولم يكن لأيهما بينة، أيهما المصدق في ذلك، أو على من تجب البينة منهما؟
قال: على المرأة البينة؛ لأنها المدعية، وعلى الرجل(1) اليمين. (1/149)
قلت: فإنه دخل بها ولم يفرض لها صداقاً فطالبته بعد الدخول بها بالصداق؟
قال: لها مهر مثلها.
قلت: ومن مهر مثلها من نسائها الَّتي يجب لها صداق مثلها؟
قال: نساؤها ما كان من قبل أبيها لا ما كان من قبل أمها.
قلت: مثل العمة وبنت العم وما كان من قبل الأب؟
قال: نعم.
قلت: فإنه تزوج امرأة ولم يفرض لها، ثُمَّ فرض لها بعد النكاح ولم يدخل بها، هل يلزمه ما فرض لها أم لا؟
قال: نعم، إذا أشهد لها.
قلت: فإنه تزوجها ولم يفرض لها صداقاً، ثُمَّ مات، ما لها من الصداق والميراث؟
قال: لها مهر مثلها وميراثها، وعليها العدة الكاملة.
قلت: فإنها هي الَّتي ماتت، ولم يدخل بها، ما لها من الصداق؟
قال: لها الصداق كاملاً، يكون مع مالها لورثتها.
قلت: متى يكون الرجل محصناً؟
فقال: لا يكون الرجل محصناً إلاَّ بحرة مسلمة بالغة مدخول بها، وكان لا يجيز نكاح الذميات للمسلمين.
(باب مريض تزوج مريضة بألف درهم، ومهر مثلها مائة)
وسألته عن رجل مريض تزوج مريضة على ألف درهم، ومهر مثلها مائة درهم، ثُمَّ اختلعت، ثُمَّ مات الرجل وليس له مال إلاَّ ألف درهم؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): الزوج.
قال: نقول في ذلك: إن المرض الذي يكون في صاحبه ثابت العقل لا يرى منه تخليط يجوز فيه النكاح، فإذا تزوج على ألف درهم وهو ثابت العقل وثبت بذلك شهود كان عليه لها الصداق على ما سمي، وسمع الشهود ولا يلتفت إلى مهر مثلها إلاَّ أن يكون لا يعلم على ما تزوجها الرجل، فيرجع في ذلك إلى مهر مثلها إلاَّ أن يكون أراد بذلك توليج الميراث عن الورثة، فإن صح ذلك وثبت عليه في مرضه وكانت عليه البينة ردت إلى مهر مثلها إلاَّ أن يكون الفضلة تخرج في الثلث فيجوز على طريق الوصية والهبة، وإن كانت الفضلة فوق الثلث ردت إلى الثلث، وأما الخلع فهو تطليقة بائنة فما كانت في عدتها فلا ترثه ولا يرثها؛ لأنَّه لا رجعة له عليها إلاَّ برضاها، وكل ما لم يكن للرجل على المرأة رجعة يملكها بغير مؤامرة منها، فلا ميراث بينهما. (1/150)
قلت: فكم عدتها؟
قال: عدة المطلقة.
قلت: فإن تزوج رجل وهو في سياق الموت، ثُمَّ أصدق داراً بعينها أو أرضاً بعينها أو جمالاً أو شاة أو بقرة بعينها(1)؟
قال: النكاح ثابت(2) إذا كان الرجل ثابت العقل، ولا يجاوز بذلك الصداق مهر مثلها من نسائها إذا أيقنوا أنَّه حابا وزاد في المهر لينقص الورثة، فإن لم يصح منه الزيادة والميل فجميع ما أصدقها جائز.
قلت: فإن ادعى الورثة أنَّه قد زادها في الصداق حيفاً عليهم؟
قال: عليهم البينة في ذلك، فإن أثبتوا أنَّه زادها في الصداق حيفاً عليهم ردت إلى مهر مثلها، وقد تقدم القول منا في الفصل الذي زادها إياه على صداق مثلها في المسألة الأولى.
(إذا ادعى رجل تزويج امرأة فأقرت)
وسألته عن رجل ادعى أنَّه تزوج بامرأة فأقرت المرأة أنَّه زوجها، وأقرّ الرجل أنَّها زوجته؟
قال: يطلب الشهود على ذلك، إذا طلب ذلك الأولياء.
قلت: فإن لم يكن أولياء؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أو شاءً أو بقراً.
(2) ـ في نسخة (ب):صحيح.
قال: فإقرارهما جائز فيما أقرا به على أنفسهما، فإن طلب الأولياء فلم يوجد الشهود فذلك عندي مثل نكاح السرّ. (1/151)
قلت: فإن لم يكن لهما شهود؟
قال: ذلك عندي فاسد؛ لأنه مثل نكاح السِّر، وقد قال غيرنا: إن ذلك جائز، وإنهما يصدقان في أربعة أشياء، هذا منها. وعن نكاح السر نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فإن كان له شاهد واحد، وادعى أن الشهود قد ماتوا؟
قال: لا يخفى التزويج في محلته، يسأل عن ذلك، فإن لم يجد واضطر إلى الشاهد أخذ به، وكان الشاهد معروفاً بالعدالة [أجزته]؛ لأن هذا ليس مثل الحقوق.
المرأة تعقد عقدة النكاح
وسألته عن المرأة تعقد عقدة النكاح؟
فقال: ليس ذلك لها، ولا يكون النساء أولياء.
قلت: فوكالة المرأة تصح في مثل الطلاق والعتاق وغير ذلك؟
قال: نعم، في كل شيء ما خلا عقد النكاح.
قلت: فلِمَ لا تعقد إذا وكلت بذلك وأُمرت؟
قال: لو جاز عقدها بالوكالة لجاز بما هو أوكد وأولى، وهو المِلك، فإذا لم يجز لها أن تعقد عقدة نكاح مملوكتها كانت عن العقد بالوكالة أبعد.
إذا وجد الرجل بالمرأة عيباً بعد الخلوة
وسألته عن رجل تزوج بامرأة، ودخل عليها وأرخى ستره وأغلق بابه، ثُمَّ وجد بها عيباً برصاً أو جذاماً أو رتقاً، فردَّها بالعيب، هل يجب عليه مهر بعد الخلوة وإرخاء الستر، ولم يكن افتضها؟
قال: لا؛ لأنها مردودة بالعيب.
قلت: فعليها العدة؟
قال: نعم.
قلت: فإنه افتضها، ثُمَّ وجد بها عيباً، هل يجب عليه المهر؟
قال: نعم، بما استحل من فرجها.
إذا وهب الرجل بنته لرجل
وسألته عن رجل وهب بنته لرجل ودفعها إليه بعد أن أشهد شاهدين له بالهبة، له يحل له أن يطأها، ولم يدفع إليها قليلاً ولا كثيراً؟
قال: أما الهبة فلا تجوز؛ لأنها حرة، ولا توهب الأحرار، وإن كان إنَّما أراد بهبتها له هبة مهر وهي بالغ ورضيت بذلك فوطئها الرجل لم نوجب عليه في ذلك ذنباً، ولم يكن عليه حرج، غير أنَّه أحب إليَّ أن يدفع إليها أقل ما يكون من المهر، وهو: عشرة دراهم قفلة. (1/152)
قلت: وكذلك لو أن امرأة وهبت نفسها لرجل، وأشهدت بذلك شاهدين على أنَّها قد وهبت نفسها لفلان وأحلت نفسها له، فرضي بذلك أولياؤها أو أنكروا، ما يجب في ذلك؟
قال: وكذلك إن كان لم يقع عقدة نكاح فلا يحل للرجل تهب المرأة نفسها له أن يطأها، وإن كانت قد عقدت عقدة النكاح ووهبت نفسها، وإن أرادت بذلك مهرها فهو كالجواب الأول.
إذا كان للمرأة أولاد صغار من غير زوجها
وسألته عن الرجل يتزوج المرأة ولها أولاد صغار من غيره فيمنعها من تربيتهم وأن يدخلوا عليها ويأتوها؟
قال: لا يجوز له ذلك، ويدخلون عليها ويأتونها وتربيهم، إلاَّ أن يحتال هو لهم مَن تربيهم، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أم سلمة حين تزوجها، أقام لودها من كفلهم برضاءٍ منها.
إذا دخل الأب على زوجة الابن ودخل الابن على زوجة الأب
وسألته عن رجل وابنه تزوجا معاً في ليلة واحدة، ودخلا على نسائهما في ليلة واحدة، فأُدخِلت امرأة الأب على الابن، وأُدخِلت امرأة الابن على الأب وجامعا جميعاً، فلمَّا أصبحا إذا امرأة الأب عند الابن وامرأة الابن عند الأب؟
قال: لا يُحرِّم ذلك عليهما نساءهما؛ لأنَّه لا يحرم حرام حلالاً، وترد كل واحد منهما إلى زوجها بالنكاح الأول، ولكل واحدة منهما مهر آخر على الذي دخل بها لما استحل من فرجها، وتستبرئ كل واحدة منهما من ماء الآخر قبل أن يجامعها زوجها.
قلت: فإن رجلاً حراً تزوج مملوكة، وهو معسر لا يستطيع طَولاً، ثُمَّ أيسر، ما يلزمه بعد إيساره؟
قال: يُؤمَر بطلاقها.
قلت: فإن أبى، فهل يجبر على طلاقها؟
قال: لا، ولكنا نستحب ذلك له عند إيساره، وإنَّما أحببنا له ذلك لئلا يكون ولده مملوكاً، وقد جعل الله له السبيل إلى غير ذلك. (1/153)
رجل تزوج بامرأة قبل أن تنقضي عدتها
وسألته عن رجل تزوج بامرأة قبل أن تنقضي عدتها؟
قال: ذلك نكاح فاسد مفسوخ.
قلت: فيجب لها شيء من الصداق؟
قال: إن كان دخل بها وجب لها الصداق.
قلت: وكذلك نكاح مفسوخ، فلا صداق فيه؟
قال: نعم، ما لم يوطأ ذلك الفرج.
امرأة متهمة
وسألته عن رجل تزوج بامرأة، ودخل بها، ثُمَّ بلغه أنَّها متهمة بفسق، هل يجوز له أن يقيم معها، وإن اتهمها هو؟
قال: نعم، يجوز له ما لم يصح له ذلك عليها؛ لأن الناس يكذبون ويقولون غير الحق.
قلت: فإن تيقن أمرها، وعلم منها الفسق يقيناً يجوز له المقام علهيا؟
قال: لا.
قلت: فإن أصرَّ على ذلك وأقام عليها، ما يجب عليه؟
قال: إن علم منه بذلك الإمام وصحّ له هذا عنه قتله؟
قلت: ولأيِّ معنى يجب عليه القتل؟
قال: لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قتل الديوث، وهذا هو الديوث.
قلت: فإن قال لنا قائل: هذا خبر، ولا ندري هل يصح لنا هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم لا؟ فبِيِّن لي من أين وجب عليه القتل؟
قال: من قول الله تبارك وتعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا}[ ]، فأوجب القتل على كل من سعى بالفساد في الأرض، فأي فساد أعظم عند الله من أن يُورِّث ولداً ليس منه، ويجعل ولداً ليس لأبيه، فيدخل في ذلك من الفساد ما يؤول إلى أن ينكح الأخ أخته.
في امرأة غريبة لا يعلم لها ولي
وسألته عن المرأة الغريبة، إذا دخلت بلداً فأراد رجل أن يتزوجها، هل يجوز لها أن تولِّي رجلاً من المسلمين؟
قال: أما إذا كان الإمام ظاهراً فأمرها إليه يولي لها رجلاً يزوجها بعد أن يأمر الذي يزوجها بالاستقصاء عن خبرها، هل يُعلَم لها ولي في بلد قريب أو بعيد، فإن عُلِم لها وليٌّ لم يزوجها إلاَّ وليها، وإن أنكرت أن لها وليّاً يلي أمرها كشف عن خبرها، فإن لم يعلم لها ولي استحلفت على ذلك ما لها وليس، ثُمَّ أمر رجلاً فزوجها. (1/154)
في تزويج ابن ابن العم وابن العم باق
وسألته عن امرأة زوجها ابن ابن عمها وابن عمها باق، وهو وليها، هل يجوز النكاح؟
قال: لا.
قلت: فإن سكت ابن عمها، هل يكون سكوته إقراراً ورضى؟
قال: قد قال غيرنا: إن سكوته إقرار منه ورضى بالنكاح، وأما أنا فلا أرى أن سكوته رضى.
قلت: فإن قال بعدما زوج ابن ابن العم قد رضيت، هل يجوز؟
قال: نعم، قد أثبت بقوله عقدة النكاح.
قلت: فإنه لم يقل قد رضيت، ولا أنكر، ثُمَّ طالب بصداق المرأة الزوج، هل يكون ذلك رضىً منه بالنكاح؟
قال: نعم.
قلت: فإنه لم يعلم، ولا ذُكر له ذلك حتَّى مات، هل يكون هذا النكاح فاسداً؟
قال: إن كان للمرأة ابن عم مثله في منزلته أوجبت أن يجدد للمرأة نكاحاً في ذلك الوقت، وإن لم يكن لها ابن عم في منزلته فإن ابن ابن عمها وليها، وقد ثبتت عقدة النكاح.
قلت: فإن وليها زوجها، فلما دخلت على زوجها وجد بها عيباً من برص أو جذام أو جنون أو ما أشبه ذلك، هل يردها بالعيب؟
قال: نعم.
قلت: فهل يكون لها الصداق؟
قال: إن كان دخل بها فلها الصداق بما استحل من فرجها، وإن لم يكن دخل بها فلا صداق لها.
قلت: فإن كان الولي دلَّسَها وبها هذا العيب، فدخل بها هذا الرجل فوطئها، ثُمَّ ظهر له العيب من ذلك؟
قال: لها على زوجها الصداق بما استحل من فرجها، ويرجع الزوج بالصداق بما استحل من فرجها على وليها الذي دَلَّسها عليه.
قلت: فإن كان الولي لم يعلم بهذا العيب؟
قال: فلا شيء عليه، وعلى الزوج الصداق بم استحل من فرجها.
قلت: فإن رجلاً تزوج امراة ولم يفرض لها فأنكحه الخاطب على ما تراضيا؟ (1/155)
قال: إن كانا قد شرطا بينهما شرطاً قبل ذلك عشرة دراهم أو أكثر فخطب الخاطب على ما تراضيا به جاز ذلك، وإن لم يكونا شَرَطا شرطاً قبل قول الخاطب هذا ردَّت إلى مهر نسائها.
نكاح المماليك، ونفقتهم
وسألته عن رجل حرٌّ تزوج مملوكة بإذن سيدها، ما يكون ولده؟
قال: مماليك.
قلت: فيجب على زوجها نفقة؟
قال: على قدر الشرط.
قلت: فما لأهلها عليها من الخدمة، وهل يجب عليهم من نفقتها وكسوتها شيء؟
قال: إن كان التزويج منهما وأرسلوها إليه فلها عليه النفقة، فإن استخدموها فعليهم نفقتها إلاَّ أن يكونوا شرطوا بينهم شرطاً فيكون الشرط أولى.
قلت: فهل لمواليها إذا مرض واحد منهم أو احتاج إليها أن يمنعها من زوجها، أو من المساء(1) عنده؟
قال: لا بأس بذلك إذا لم يكن أمر طويل.
قلت: فعلى من يجب نفقتها في تلك الأيام؟
قال: على من كانت عليه أولاً حتَّى يتبين ضرر.
قلت: فإن عبداً تزوج حرَّة بإذن سيده، فولدت منه، ما يكون ولدها؟
قال: أحراراً.
قلت: فوجب لهم على العبد نفقة، وهو مملوك؟
قال: لا، نفقتهم على من يرثهم، وهم موالي أمهم، فإن عتق العبد جرَّ ولاهم، وكانت النفقة عليه، وكانوا موالي لمولى أبيهم دون مولى أمهم.
قلت: فإن أبى السيد؟
قال: يجبر على ترك العبد يكتسب وينفق على امرأته.
قلت: فلو أن العبد بيع من رجل يخرج به من البلد، فقال العبد لزوجته الحرة: اخرجي معي، هل يجب له عليها ذلك؟
قال: نعم.
قلت: فهل يجب على السيد الآخر الذي اشترى العبد من نفقة امرأة العبد، ما يجب على السيد الأول؟
قال: إذا علم وقت ما اشترى العبد أن له امرأة حرة، وجر ذلك عليه أيضاً.
قلت: فإن مولى المملوكة أراد بيعها من رجل يخرج بها إلى بلد، ولها زوج حر، هل له ذلك؟
قال: نعم.
قلت: فهل يفرق بينها وبين ولدها؟
قال: لا.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): المبيت.
قلت: فإن بعض الولد قد بلغ، وبعضهم صغير، من أبناء ثلاث سنين أو أربع، وبعضهم قد استغنى عنها، ما بين العشر سنين إلى أكثر، فهل يفرق بينها وبين من بلغ منهم واستغنى عنها؟ (1/156)
قال: أما الصغار فلا يفرق بينها وبينهم، وأما من استغنى عنها بالكبر فيفرق بينها وبينهم.
قلت: فنفقة ولدها على مَن تجب، على مولى الأم، أم على الأب الحر؟
قال: على مواليهم إلاَّ أن يكون الموالي شرطوا على أبيهم الحر النفقة للولد فيكون عليه.
قلت: فإن مملوكاً تزوج مملوكةً بإذن سيده وإذن سيدها فولدت، لِمَن يكون الولد؟
قال: ليسد الأمة.
قلت: فإن الموالي عندما وقع التزويج تشارطوا على أن يكون الولد بينهم نصفين، فهل يصح ذلك الشرط؟
قال: نعم، ذلك الشرط صحيح إذا تشارطوا عليه، ووفي بعضهم لبعض.
قلت: فإن اختلفوا بعد ما ولدت الجارية، فقال صاحب الجارية: الولد لي كله، وقال صاحب العبد: بل هو بيننا على ما شرطنا؟
قال: الولد كله لصاحب الجارية إذا وقع الحكم عند الحاكم.
قلت: وكذلك في الفرس والحمار؟
قال: نعم.
قلت: فنفقة المملوكة وأولادها على العبد ومولاه، أم على مولاها؟
قال: على ما تشارطوا في النفقة.
قلت: فإن لم يكن شرط؟
قال: فهي على العبد إذا تركوها معه، وإن منعوها منه فعليهم النفقة.
عبدٌ تزوج بغير إذن سيده
وسألته عن عبد تزوج بغير إذن سيده بجارية لرجل بإذن سيدها، ودخل بها، هل يجب عليه ما شرط العبد على نفسه، أو هل للمملوكة على العبد نفقة؟
قال: النكاح مفسوخ، فإذا انفسخ النكاح بطلت النفقة، وليس على العبد ممَّا شرط على نفسه شيء؛ لأن أمر العبد إلى سيده، فإذا فسخ نكاحه انفسخ.
إذا أراد المولى أن يزوج من بنات عبده
وسألته عن رجل له عبد، وللعبد زوجة حرة، ولها بنات أحرار منه، فأراد المولى أن يزوج من بنات مملوكه رجلاً؟
قال: ليس(1) له ذلك، إلاَّ أن يكون المولى الذي أعتق ولد العبد فيكون له ولاؤهم فيزوجهم، وإن لم يكن للمولى الذي أعتق ولد العبد لم يزوجهم، ويزوجهم الذي أعتقهم أو أعتق أمهم؛ لأنه أولى. (1/157)
قلت: فإن أعتقهم رجل وكانوا ذكوراً وإناثاً، والأب مملوك، مَن أولى بتزويجهم الإخوة أو أولياء النعمة؟
قال: الأخوة.
إباحة فرج الأمة
وسألته عن رجل قال لرجل: أبحت لك فرج جاريتي، أو أعرتك فرج جاريتي، أو أحللت لك، أو أطلقته لك؟
قال: هذا باطل.
قلت: فإن وطئها؟
قال: يدرأ عنه الحد بالشبهة، وهو عندي زانٍ، وإنَّما درأْت عنه الحد لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <ادرؤوا الحدود بالشبهات>.
باب الرضاعة
وسألته عن رجل أرضعته امرأة مع بنت لها، ثُمَّ ولدت المرأة بنتاً أخرى، هل يجوز للرجل تزويجها؟
قال: لا.
قلت: فللرجل أخ لم ترضعه المرأة، هل يجوز له تزويجها؟
قال: نعم.
قلت: وكيف وهي أخت أخيه من الرضاعة؟
قال: وإن كانت أخت أخيه فهي تحل له؛ لأنَّه هو لم يشرب الثدي الذي شربت هي منه، فليس بينهما مقارعة نسب؛ لأنَّه إنَّما يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، أرأيت لو أن رجلاً تزوج امرأة فأولدت له ولداً، وكان له ابنة من غيره وله ابن من غيرها، أليس جائزاً أن يتزوج ابنة ابنتها؟
قلت: بلى.
قال: أفليس ابنتها أخت ولده منها، فقد تزوج أخت أخيه، وحل له ذلك؛ لأن هذا لا يقارع النسب، فقس ما جاءك من هذا على هذا الباب، وإنَّما يحرم على هذا الذي شرب من لبن هذه المرأة ولدها وولد ولدها أبداً،
فأما أخوه فلا يحرم عليه ذلك.
قلت: فإن غلاماً أرضعته امرأة بلبن ولدها، ثُمَّ أقامت ثلاث سنين، ثُمَّ أرضعت جارية بلبن ولدها لها آخر، هل تحل هذه الصبية لهذا الغلام؟
قال: لا؛ لأنهما وإن تفاوت رضاعهما أخوان برضاع المرضع لهما؛ لأن الأخوة بلبن المرضع كالأخوة لولد الأم.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): لا يجوز.
قلت: فما تقول في المصة والمصتين، والرضعة والرضعتين، هل يكون ذلك في الحولين رضاعاً؟ (1/158)
قال: نعم، ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، إن امرأة أتته فقالت: إن ابن أخي أعطيته ثديي، فمص منه، ثُمَّ ذكرت قرابته فكففت عنه، ثُمَّ أنا أريد أن أنكحه ابنتي، وقد بلغا، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: (الرضعة الواحدة كالمائة رضعة، لا تحل له أبداً).
قلت: وكذلك لو أن الصبي لم ترضعه المرأة ولكنها حلبت له في مسعط من ثديها، وأوجرته الصبي مرة أو مرتين؟
قال: فكذلك، هذا مثل الرضاع سواء سواء، يحرم به النكاح إذا وصل إلى بطن الصبي بمسعط أو غير مسعط.
قلت: فما تقول في الرضاع بعد الفصال؟
قال: ليس هو عندي برضاع.
قلت: وكيف وقد شرب من هذا اللبن بعد فصاله، بيِّن لي ذلك حتَّى أفهمه؟
قال: نعم إن شاء الله، لو أن رجلاً أرضع ولده بعد فطامه وبعد انقضاء حولين من أيامه بلبن صبية لم ير أنَّها تحرم عليه إذ كان رضاعه بعد فطامه.
قلت: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لسهلة ـ زوجة أبي حذيفة ـ حين ذكرت له: ما ترى في زوجة أبي حذيفة من دخول سالم عليها حين أنزل الله تبارك وتعالى ما أنزل في النَّهي عن دخول بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت قد تبنت سالماً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <أرضعي سالاً عشر رضعات، ثُمَّ ليدخل عليك كما كان يدخل>؟
قال: هذا ما لا يصح عنه عندنا، ولا نراه، وليس ذلك بشيء، وفي ذلك ما بلغنا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أن رجلاً أتاه فقال: يا أمير المؤمنين إنّ لي زوجة، وليس منها ولد، وإني أصبت من جاريتي فغارت عليها، فقالت: ائتني بها، وأعطني بها موثقاً، لا تسؤني فيها، فأتيتها يوماً، فقال: لقد أرويتها من لبني، فما تقول في ذلك؟ فقال عليه السلام: (انطلق فائت جاريتك، وأحسن أدب زوجتك عقوبة لما صنعت، وخذ بأي رجلي جاريتك شئت، فإنه لا رضاع بعد فصال، ولا رضاع إلاَّ ما أنبت لحماً أو شد عظماً). (1/159)
قلت: فإن امرأة أرضعت زوجها في الحولين، وذلك أن هذه المرأة كانت عند رجل فولدت منه، ثُمَّ طلقها طلاقاً بائناً، فزوجها وليها صبياً صغيراً لم يتم له حولان، فأرضعته هذه المرأة، هل تحل له؟
قال: لا تحل له؛ لأنها صارت أمه من الرضاعة، وقد حرَّم الله الأم من الرضاعة.
قلت: فهل لها صداق؟
قال: لا صداق لها؛ لأن الفسخ جاء من قبلها.
قلت: فإن أراد زوجها الأول أن يراجعها، هل تحل له؟
قال: لا يحل له نكاحها(1)
__________
(1) ـ اعلم أن كلام الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام في المنتخب صريح في تحريم المرأة، حيث قال: لأنها أرضعت الصبي...إلخ، أي فتكون حليلة ابنه، وقوله: ولا تحل له إلاَّ من بعد زوج...إلخ، هو وجه آخر لتحريمها، فكأنه قال: مع أنَّها لا تحل له إلاَّ من بعد زوج، أي لمو لم تكن أرضعت الصبي، فهي لا تحل له إلاَّ من بعد زوج، فلا يمكن حمله على غير ذلك؛ لأنَّه قد صرح بعلة ذلك.
وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلامه عليه السلام في الأحكام، حيث قال: فإن أراد زوجها الأول أن يراجعها فلا يحل له نكاحها، أي لأنها أرضعت الصبي كما نص على ذلك هنا نصاً صريحاً، لا يحتمل التأويل، فقد صارت زوجة ابنه من الرضاع، ثُمَّ قال عليه السلام: ولا يجوز له ارتجاعها إذا كان قد طلقها ثلاثاً، ولا تحل له إلاَّ من بعد نكاح زوج...إلخ، أي لا يحل له ارتجاعها لو لم ترضع الصبي إذا كان قد طلقها ثلاثاً...إلخ، فصير القولان في الأحكام والمنتخب قولاً واحداً، وهذا أولى من حمله على اختلاف القولين، وإنك كان جائزاً لكن لا يصار إلى ذلك إلاَّ عند التنافي وعدم إمكان الجمع، ولا يمكن حمل ما هنا على ما في الأحكام؛ لقوله هنا: لا يحل له نكاحها؛ لأنها أرضعت الصبي، فهو صريح في أن تحريمها على الزوج الأول لأجل رضاع الصبي؛ لأنها تصير زوجة لبنه، والتحريم هو الراجع لترجيح جنبه الحظر، وهو المذهب، وقول الأكثر بل لم يظهر فيه قول إلاَّ حمل كلام الأحكام عليه، وقد عرفت اختلال هذا الحمل، ولو كان صحيحاً فقوله في المنخب هو الأقوىى، وليس المنتخب هو المتقدم كا يُتَوَهَّم، فإنه ابتدأ في تأليف الأحكام في الحجاز، والمنتخب سأله به محمد بن سليمان الكوفي ـ رضي الله عنهم ـ جميعه في اليمن، فلا معنى للقول بأن الأحكام المتأخرة إلاَّ أنَّه يحتمل أن يكون فيه ا هو متأخر، فهذا الذي يظهر، والله ولي الهداية والتوفيق.
مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي، غفر الله لهم، كتبها تلميذه: عبد الرحمن بن محمد شمس الدين وفقه الله.
؛ لأنها أرضعت الصبي فصارت أمه، ولا تحل له إلاَّ من بعد زوج يدخل بها، ويطأها. (1/160)
قلت: فهل تتزوج من ساعتها؟
قال: نعم؛ لأن الصبي لم يدخل بها، ولا عدة عليها.
باب القول في الطَّلاق
وسألته، كيف الطَّلاق للعدة؟
فقال: ينبغي للرجل أن يطلق زوجته إذا عزم على تطليقها كما أمر الله عز وجل نبيَّه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يخالف ذلك.
قلت: فبيِّن لي، كيف الطَّلاق الذي أمر الله سبحانه به؟
قال: ينبغي للمطلِّق إذا أراد الطَّلاق أن يترك امرأته حتَّى تطهر من حيضها وتغتسل من قرئها، فإذا طهرت لم يقربها حتَّى يقول لها: أنت طالق أو اعتدي، ينوي بذلك الطلاق، ثُمَّ يتركها تمضي في عدتها حتَّى تحيض ثلاث حيض، فإن بدا له أن يراجعها راجعها من قبل أن تطهر وتخرج من عدتها الثلاث حيض، فهو أولى بها من نفسها ووليها، فإذا أراد ذلك أشهد شاهدين على أنَّه قد راجعها، ثُمَّ قد ملكها.
قلت: فإن تركها حتَّى تخرج من الحيضة الثانية؟
قال: إذا تركها حتَّى تغتسل بالماء من الحيضة الثالثة فقد بانت منه، وصارت أملك بنفسها، وصار هو خاطباً من الخطاب، وتتزوج بن شاءت.
قلت: فإن راجعها من وليها بتزويج جديد ومهر وشاهدين؟
قال: إذا تزوجها من وليها بعد التطليقة الأولى فهي معه باثنتين.
قلت: فإن عزم على أن يطلقها الثانية؟
قال: يفعل كما فعل في الأولى، فإن تركها أيضاً الثانية فهو أملك بها كما وصفنا في الأولى، وإن لم يراجعها قبل أن تنقضي العدة الثانية تزوجها من وليها بمهر وشهود، وهي معه بواحدة، فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتَّى تنكح زوجاً غيره، وعليها العدة ثلاث حيض، لا يحل لها أن تنكح حتَّى تطهر من الحيضة الثالثة، فإذا فعل ذلك فقد طلق كما أمر الله.
قلت: فأين تعتد المطلقة؟
قال: في بيت زوجها، وحيث طُلِّقت.
قلت: فإن خرجت؟
قال: ترد إلى موضعها.
قلت: فإن أبت؟
قال: تجبر على الرد إلى الموضع الذي طلقت فيه، وينفق عليها زوجها حتَّى تخرج من عدتها.
قلت: فإن كانت حبلى فولدت بعدما طلقها بشهر أو بأكثر؟ (1/161)
قال: لو ولدت بعد الطلاق بيوم واحد خرجت من عدتها.
قلت: فأين تعتد المتوفى عنها زوجها؟
قال: تعتد أين(1) شاءت، هي مخيَّرة.
قلت: فلها النفقة؟
قال: نعم.
قلت: من أين؟
قال: من جميع المال قبل أن يقسم.
قلت: وكذلك إن كانت حاملاً؟
قال: كذلك ينفق عليها من جميع المال حتَّى تضع ما في بطنها.
قلت: فكم عدتها؟
قال: آخر الأجلين.
قلت: كان(2) الرجل إذا توفى عن زوجته وهي حامل، فولدت بعد وفاته بشهر، لم يجز لها أن تنكح حتَّى تستوفي أربعة أشهر وعشراً؟
قال: نعم، هذا قولنا وقول علماء آل الرسول عليهم السلام، وقد قال غيرنا بغير ذلك، ولم نلتفت إلى قوله.
قلت: فإن الرجل توفي وزوجته حامل لشهر أو شهرين، فأرادت إذا مضى لها بعد وفاته أربعة أشهر وعشر أن تتزوج، هل لها ذلك؟
قال: لا نجيز لها ذلك حتَّى تضع ما في بطنها.
قلت: فلِم، وقد انقضت عدتها؟
قال: لأن رحمها مشغولة عن النكاح.
قلت: فإذا مضى لها أربعة أشهر وعشر بعد وفاة زوجها وهي حامل، هل تختضب وتتزيّن ووترك الأحداد؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ وقد خرجت من عدتها الَّتي أوجب الله؟
قال: لأن رحمها مشغولة، ولا تنكح أبداً حتَّى تضع ما في بطنها.
قلت: فإن كان حملها لسنة أو سنتين أو ثلاث أو أربع سنين؟
قال: كذلك، لا تنكح حتَّى تضع ما في بطنها.
قلت: فيلزم لها النفقة في هذه السنين ما دام الحمل في بطنها؟
قال: نعم، من جميع المال.
قلت: فيعرض لها بالنكاح؟
قال: لا يجوز ذلك.
قول الرجل لامرأته قد أبرأتك من عقدة النكاح
وسألته عن رجل قال لامرأته: قد أبرأتك من عقدة النكاح؟
قال: هو لغة أهل اليمن، وإنَّما معنى القائل في هذا: قد فارقتك، فإذا قال هذا فهي مبارأة تطليقة تملك بها(3) الرجعة.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): حيث.
(2) ـ في نسخة (ب): فإن.
(3) ـ في نسخة (ب): معها.
قلت: فالرجل يقول لامرأته: قد أبرأتك من عقدة النكاح، فتقول المرأة: قد أبرأتك من جميع حقي عليك؟ (1/162)
قال: وكذلك، وهي تطليقة بائنة ليس يملك رجعتها إلاَّ برضاها.
قلت: فإن أبت؟
قال: فليس عليها رجعة إلاَّ أن تريد، فيكون خاطباً من الخطاب فيتزوجها بمهر جديد وولي وشهود.
قلت: فإن أراد أن يتزوجها في عدتها؟
قال: جائز من يومه، أو من الغد.
قلت: فإن رجلاً طلق امرأته وشرطت له قبل أن يطلقها، إن طلقها فهو بريء من جميع مهرها الذي عليه، ومن نفقتها في العدة، ومن تربية ولد له صغير سنة أو سنتين، ويأخذ ابنتين له صغيرتين لم يبلغا؟
قال: ذلك كله جائز إذا كان عن تراضٍ منهما جميعاً.
باب القول في الرجل يقول لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، في كلمة واحدة
وسألته عن رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، في كلمة واحدة؟
فقال: هي تطليقة واحدة، وهو أملك بها من نفسها ما دامت في عدتها، ألا ترى أنَّه لما قال لها: أنت طالق بانت منه باللفظة الأولى، ثُمَّ قال: ثلاثاً، فعدَّ بعد الطلاق عدداً، كقول الرجل: استغفر الله مائة مرة، وإنَّما استغفر الله مرة واحدة، ثُمَّ قال: لو جاز ذلك لجاز أن يجمع الرجل سبع حصيات ثُمَّ يرمي بها الجمرة فيجزيه، ولو فعل ذلك لم يجزه، وقد روي في ذلك روايات كثيرة بعضها من روايات علماء آل رسول الله صلى الله عليه وعليهم، ومنها روايات روتها العامة من رواياتهم من ثقات رجالهم، فتركوا ما روى رجالهم الثقات، وقلدوا أهواءهم، وتركوا ما جاءهم من(1) ثقاتهم، في أن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة واحدة، من ذلك ما روى عن أهل البيت جدي القاسم بن إبراهيم رحمة الله عليه، روى عنه بنوه كلهم، عن أبيهم، عن أبي هارون العبدي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، فيمن طلق ثلاثاً في كلمة واحدة أنَّها تطليقة واحدة يملك بها الرجعة ما دامت في عدتها.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): عن.
وكذلك روى عبد الرزاق اليماني، عن معمر، عن أبي طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى عهد أبي بكر، وصدرٍ من خلافة عمر الثلاث واحدة. (1/163)
وقد روى هذا الحديث أحمد بن عبد الله بن النبأ، عن محمد بن عبد الله بن القاسم الحشاش، عن عبد الرزاق.
وروى محمد بن عبيد الكندي الكوفي، وعن(1) محمد بن إسحاق الزهري قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمر، وعن عطاء، عن ابن عباس، قال: (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر الثلاث واحدة). محمد بن عبيد قال: حدثنا أحمد بن صبيح، قال: حدثنا يحي بن يعلى، قال: حدثنا سفيان بن عبد الله، قال: قال أنس بن مالك: كان عمر بن الخطاب إذا أُتي برجل قد طلق في مجلس ثلاثاً ضرب بطنه وظهره.
محمد بن عبيد قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن ليث، عن طاووس، وعطاء وجابر بن زيد، وأبي موسى الأشعري، قالوا: من طلق ثلاثاً فهي واحدة إذا كانت طاهراً في غير جماع.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني بعض بني رافع، عن عكرمة، أن ابن عباس قال: طلق رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأته ثلاثاً، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يراجعها، قال: إني قد طلقتها ثلاثاً. قال: قد علمتُ، وقال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة}...الآية[ ].
وروى عبد الرزاق، عن معمر، قال: أخبرني ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبي بكر وشيئاً(2) من خلافة عمر الطلاق الثلاث واحدة). فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا أمراً كانت لهم فيه أناءة(3) فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): عن، بحذف الواو.
(2) ـ في نسخة (ب): سنين.
(3) ـ في نسخة (ب): الأناءة.
وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرنا ابن طاووس، عن أبيه، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: تعلم أنَّها كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وثُلُثاً من خلافة عمر، فقال ابن عباس: نعم. (1/164)
وروى عبد الرزاق، عن عمر بن حوشب، قال: أخبرني عمرو بن دينار أن طاووساً أخبره فقال: دخلت على ابن عباس ومعي مولاه أبو الصهباء، فسأله أبو الصهباء عن الرجل يطلق امرأته ثلاثاً جميعاً؟
فقال: ابن عباس: كانوا يجعلونها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عهد أبي بكر وولاية عمر إلاَّ قليلاً، حتَّى خطب عمر الناس فقال: قد أكثرتم في هذا الطلاق(1)، فمن قال شيئاً فهو على ما تكلم به. فهذه أخبار صحيحة موافقة لكتاب الله تعالى، وإنَّما جعلنا هذه الأخبار في هذا الباب واحتججنا بها؛ لأنها من أخبار العامة الَّتي نقلوها عن ثقات رجالهم لا يردها منهم أحد إلاَّ مكابر، فقطعنا حججهم في هذا الباب بما رووا من الأخبار الصحيحة عن الثقات.
قلت: فما تقول فيه إن قال لامرأته: أنت طالق، ثُمَّ اعتدت المرأة حتَّى خرجت من عدتها ثُمَّ قال لها: أنت طالق، ثُمَّ اعتدت كما فعلت في الأولى، ثُمَّ طلقها ثالثة، ثُمَّ اعتدت حتَّى خرجت من عدتها، هل تحل له قبل أن تنكح زوجاً غيره؟
قال: إن كان ارتجعها بين التطليقتين فطلقها، ثُمَّ راجعها حتَّى فعل ذلك ثلاثاً لم تحل له حتَّى تنكح زوجاً غيره، وإن لم يكن عند انقضاء عدتها قال لها: قد راجعتك، وأشهَدَ على ذلك شاهدين ثُمَّ طلقها على غير مراجعة، فاعلم أنَّه طلق ما لا يملك، فقد بانت منه بالتطليقة الأولى، وهو خاطب من الخطاب.
إذا طلق ثُمَّ راجع ثُمَّ طلق في الغد وبعد غد
__________
(1) ـ في نسخة (ب): هذا الكلام.
وسألته عن رجل قال لامرأته: أنت طالق، ثُمَّ قال لها من الغد: قد راجعتك، ثُمَّ طلقها من بعد قوله لها قد راجعتك في يومه حتَّى فعل ذلك ستة أيام، أو في ثلاثة أيام يوماً يطلق ومن غد يراجع، يطلق ويراجع، حتَّى فعل ذلك ثلاث تطليقات؟ (1/165)
قال: هذا طلاق، ولا تحل له حتَّى تنكح زوجاً غيره، ويجب عليه أن يشهد مع كل ارتجاعة على المراجعة.
قلت: فله في التطليقة الثالثة أن يراجعها؟
قال: لا، إنَّما عليها العدة.
باب إذا بقي من جسدها شيء لم تغسله
وسألته عن رجل طلق امرأته، ثُمَّ راجعها، ثُمَّ طلقها الثانية فحاضت ثلاث حيض، وانقضت العدة، ونقيت من الدم، هل له أن يراجعها قبل أن تغتسل؟
قال: نعم، ولو بقي من جسدها موضع شبر كان له أن يراجعها، ما لم تغسل جسدها كله، ولو بقيت كفها أو بعض شعرها كان له أن يراجعها.
قلت: فإن أخرت الغسل عن الوقت، هل له عليها رجعة؟
قال: إن كان مثل ما جعل للمريض أو المعتل من تأخير الوقت.
قلت: وكم تأخير الوقت الذي يكون للرجل أن يراجعها بعدما رأت النقا؟
قال: إذا نقيت بالنهار، فله أن يراجعها إلى قبل غروب الشمس بقدر ما يصلي خمس ركعات، وكذلك إذا كان النقاء في الليلة فله أن يراجعها إلى قبل طلوع الفجر.
قلت: فرجل طلق امرأته، وأبرأته المرأة ممَّا عليه؟
قال: هذه مبارأة لا يراجعها إلاَّ بإرادتها.
قلت: فهل عليه لها نفقة؟
قال: نعم، حتَّى تخرج من عدتها.
قلت: وكذلك المطلقة الثلاث، إذا طلقها الثالثة، هل لها نفقة وهي في العدة الثالثة؟
قال: نعم، لها النفقة حاملاً كانت أو غير حامل، وقد قال غيرنا: إنَّه لا نفقة لها، ولم نلتفت إلى ذلك.
قلت: فإن طلقها ولم يكن دخل بها، هل له أن يرتجعها من يومه، أو من غده من غير مؤامرة لها؟
قال: لا، هي تطليقة بائنة تزوج من شاءت، ولا عدة عليها هو أو غيره.
قلت: فالمطلقة ثلاثاً، هل لها سكنى مع النفقة؟
قال: ليس لها السكنى، ولها النفقة.
قلت: فلأيِّ علة يكون لها نفقة بلا سكنى؟
قال: لأن السكنى إنَّما جعلها الله سبحانه نظراً لهما لأن يحدث منهما أمر، كما قال الله سبحانه: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً}[ ]، فأما إذا كانت في العدة الثالثة من الطلاق فليس له عليها رجعة لا برضائه ولا برضائها، فبطلت السكنى؛ لأن الأمر الذي جعل الله له السكنى قد بطل بعد التطليقة الثالثة، وهو ما جعل الله له من السبيل إلى المراجعة لها، وإنَّما عليها تمام العدة لا غير. (1/166)
قلت: فكم العدة من حيضة؟
قال: لكل تطليقة ثلاث حيض.
قلت: فالأقراء هي الحيض أم الطهر؟
قال: الأقراء الحيض.
قلت: فما دامت في التطليقتين الأولتين له أن يرتجعها ما لم تنقض من كل تطليقة ثلاث حيض قبل أن تغتسل من الدم؟
قال: نعم.
باب تفسير الحمل أكثره وأقله
وسألته عن المتوفى عنها زوجها وهي تدعي حملاً، كم تنتظر؟
قال: بيان الحمل.
قلت: وكم بيان الحمل؟
قال: أربعة أشهر، وبيانه وحركته في العشر بعد الأربعة الأشهر، وربما لم يتبين إلاَّ بعد هذا الوقت، وليس يغب ذلك على من يفهمه من النساء، ويحتاط في ذلك إلى الستة أشهر.
قلت: فأكثر ما يكون الحمل، كم؟
قال: أربع سنين.
قلت: فأقل ما يكون الحمل؟
قال: ستة أشهر.
قلت: فإن الرجل طلق امرأته وهي حامل فولدت بعد الطلاق بيوم واحد، هل تخرج من عدتها؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك تنقضي نفقتها عن الرجل؟
قال: لا، ما دامت في دم النفاس فلها النفقة.
قلت: فهل تزوج بعد أن تلد بيوم أو يومين؟
قال: لا، حتَّى تخرج من دم النفاس.
قلت: ولأيِّ علة لا تزوج، وقد خرجت من عدتها؟
قال: ألا ترى أنَّها ما دامت في النفاس أنَّها في دم لم تنق؟
قلت: بلى.
قال: وكذلك ألا ترى أنَّه إذا طلقها أليس عليها ثلاثة قروء؟
قلت: بلى.
قال: فإذا بقي من القرء الثالث يوم أو يومان، هل يجوز لها أن تتزوج ما لم تنقُ من الدم؟
قلت: لا.
قال: وكذلك ما دامت في دم النفاس فليس لها أن تزوج ما لم تنق وتغتسل، فإذا نقيت من النفاس واغتسلت تزوجت من أحبت.
قلت: فإن طلقها وهي من ذوات الحيض، فحاضت ثُمَّ ارتفعت حيضتها، هل تعتد بالشهور؟ (1/167)
قال: لا، حتَّى تيئس.
قلت: ولِكَم تيئس؟
قال: لستين سنة.
قلت: فهل تزوج حتَّى تنقضي الستون سنة؟
قال: لا.
قلت: فهل تجب على زوجها نفقتها ما دامت في عدتها هذه الستين سنة؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك إن مات أو ماتت وهي في هذه الستين سنة، أيتوارثان؟
قال: نعم، إذا كان ذلك الطلاق طلاقاً يملك معه رجعتها.
قلت: فما تقول في رجل تزوج صبية فأدخلت عليه، وخلا بها وهي ممَّن لا تصلح للجماع، ثُمَّ طلقها، هل تزوج من يومها أو من غد؟
قال: ما أُحبُّ ذلك، وأَحَبُّ إليَّ أن تعتد بالشهور؛ لأني لا آمن أن يكون كشفها، أو كان دون الفرج شيء.
قلت: فإنه طلقها وهي صبية لم تبلغ فأبرأته من صداقها، فلما بلغت رجعت في صداقها؟
قال: لها ذلك؛ لأنَّه خالع من لم يجب عليه الحكم، فلها أن ترجع في صداقها.
قلت: فهل يجوز له أن يراجعها؟
قال: هو خاطب من الخطاب.
باب الأب يباري عن بنته الصغيرة في صداقها ثُمَّ رجعت في صداقها بعدما بلغت
وسألته عن رجل زوج بنتاً له صغيرة من رجل، ثُمَّ وقع بينهما اختلاف، فقال الأب: أبرئ لي ابنتي وأنا أبريك من صداقها، فأبرأها الرجل وأبرأه الأب من الصداق، وذلك قبل أن يدخل بها، فلما كبرت طلبت الزوج بالصداق؟
فقال: ليس إبراء الأب من الصداق براءة للزوج؛ لأنَّه أبرأه ممَّا لغيره، وعلى الزوج نصف الصداق، ويرجع على الأب بذلك؛ لأنَّه لما أبرأه ممَّا ليس له حتَّى ترك الرجل امرأته كان ضامناً لذلك.
قلت: فإن رجلاً تزوج بامرأة ثُمَّ مات قبل أن يدخل بها، ما العدة عليها؟
قال: عليها العدة أربعة أشهر وعشر.
قلت: فمن أين ينفق عليها في عدتها؟
قال: من جميع المال، ولها الصداق كاملاً.
قلت: فإن رجلاً تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً معروفاً، ثُمَّ مات، ما لها من الصداق والميراث؟
قال: لها مهر مثلها وميراثها، وعليها العدة كاملة.
قلت: فإن الرجل يتزوج المرأة ثُمَّ يطلقها ولم يفرض لها ولم يدخل بها؟ (1/168)
قال: لا صداق لها، ولها المتعة كما قال الله سبحانه: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن علىالموسع قدره وعلى المقتر قدره}[ ].
باب القول في المرأة إذا جاءت بولد لخمسة أشهر وعشر
وسألته عن رجل تزوج بامرأة تزويجاً صحيحاً، فأتت بولد لخمسة أشهر وعشرة أيام منذ دخل بها؟
قال: إذا جاء الولد لتمام ستة أشهر وانقضائها فهو له، وإن كان دون ذلك فليس له.
قلت: فإن الرجل لما ولدت له، قال: ليس هو ابني، فقال رجل آخر: بلى هو ابني؟
قال: يسأل الذي قال: هو ابني، فيقال له: بيِّن.
قلت: فإن قال: كانت معي فطلقتها فتزوجها هذا في عدتها، وقد وطئتها قبل ذلك؟
قال: ينظر في كلامه، فإن كان كما قال كان الولد له، وإن قال: فجرت بها وهذا ابني من الفجور، أقيم عليه الحد، ولم نلتفت إلى قوله؛ لأن الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ولم يكن الولد لواحد منهما، وإنما يكون هذا النظر والعمل في أمر الناكح الأول إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم دخل بها الآخر، فأما إذا جاءت به لتمام السة أشهر فهو للآخر، فإن جحده وأنكره وقد جاءت به لستة أشهر وفاءً أو بعد ستة أشهر فجحده، قيل له: لاَعِن، وإذا لاعن كان الولد ابن ملاعنة.
باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق إن شئت
وسألته عن رجل يقول لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقامت من الموضع ولم تتكلم، هل لها بعد المجلس أن تطلق نفسها؟
قال: لا؛ لأن هذا الكلام إنَّما هو للمجلس إذا قال لها: إن شئت، فإذا قامت من مجلسها لم يكن لها ولا إليها طلاق بعد ذلك.
قلت: فإنه قال لها: أنت طالق إن(1) شئت، أو قال لها: أنت طالق متى شئت، ثُمَّ قاما من مجلسهما، هل لها أن تطلق نفسها بعد ذلك؟
قال: نعم، هذا كلام غير الأول، قد جعل لها في نفسها الخيار والطلاق إذا شاءت ومتى شاءت.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): إذا.
قلت: فإنه لما كان بعد ما قال لها هذا بيوم أو يومين أو أقل أو أكثر، قال لها: قد نسخت ما كنت قلت لك، ولست أجيز لك ما ذكرت لك في ذلك المجلس في نفسك؟ (1/169)
قال: ذلك له، فبطل ما كان وكَّلها فيه، وليس لها بعد أن ينسخ ذلك أن تطلق نفسها.
باب إذا قال لها: أنت طالق إن شاء أبوك
وسألته عن رجل يقول لامرأته: أنت طالق، إلاَّ أن يشاء أبوك حبسك، فقال أبوها: قد شئت أن لا تطلقها؟
قال: لم يقع بهذا الطلاق إذا لم يشأ أبوها.
قلت: فإن شاء أبها طلاقها؟
قال: يلزمها تطليقة؛ لأنَّه قد وكل أباها بطلاقها.
قلت: وكذلك إن قال: أنت طالق إن شاء فلان، فشاء فلان تطليقها؟
قال: وكذلك أيضاً يلزمه الطلاق إن شاء فلان، وإن لم يشأ فلان لم يلزمها الطلاق.
قلت: فإنه قال لها: أنت طالق واحدة إلاَّ واحدة؟
قال: هي واحدة كاملة؛ لأن الطلاق لا ينقسم، ومن طلق جُزءً من تطليقة فقد لزمته تطليقة كاملة.
قلت: ولِمَ ذلك؟
قال: لأنَّه ساعة قال: أنت طالق فقد طلقت، ثُمَّ أتى بالجزء فلم يقع الجزء، ووقع لفظ الطلاق الأول، وبذلك وكذلك وعلى ذلك قلنا فيمن طلق ثلاثاً معاً إنهن يرجعن إلى واحدة؛ لأنَّه قال في مبتدأ كلامه: أنت طالق، فطلقت بهذه اللفظة، ثُمَّ قال بعد وقوع الطلاق ثلاثاً، فأتبع الطلاق عدد لفظ حساب لا طلاق.
باب إذا طلق بعض تطليقة
وسألته عن رجل يقول لامرأته: أنت طالق نصف تطليقة، أو ربع تطليقة؟
قال: كلما قال الرجل من ذلك نصفاً أو ربعاً أو عشراً فهي تطليقة كاملة.
قلت: ولأيِّ معنىً تكون تطليقة كاملة إذا قال: نصفاً أو ربعاً؟
قال: لأنَّه قد ابتدأ في لفظه بكمال الطلاق، وإنَّما قال: نصف تطليقة فكان كلاماً بعدما أكمل التطليقة.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: ألا ترى أنَّه لما قال: أنت طالق كانت تطليقة كاملة، فلما قال: نصف تطليقة كان كلاماً بعد التطليقة كما أنَّه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً لم يلزمه إلاَّ واحدة؛ لأنَّه قال: أنت طالق فألزمناه بهذه اللفظة تطليقة، ثُمَّ قال: ثلاثاً فكان كلاماً بائناً، وهو حجة على أبي حنيفة وأصحابه وجميع من قال إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ثلاث؛ لأنهم قد أجمعوا جميعاً أن من قال لامرأته: أنت طالق نصف تطليقة أنَّها قد طلقت واحدة، وإن كسر الطلاق جبر كامل، فافهم ذلك. وأيضاً الطلاق لا يتبعض ولا ينقسم. (1/170)
باب إذا قال لامرأته: أنت سائبة أو أنت حرة
وسألته عن الرجل يقول لامرأته: أنت سائبة أو أنت حرة، أو لست لي بامرأة؟
قال: إذا قال الرجل شيئاً من ذلك لامرأته سئل عن نيته، فإن قال: نويت طلاقها فهي تطليقة، يملك معها الرجعة، وإن قال: لم أنو طلاقها وإنَّما نويت غير الطلاق صدق في قوله، إلاَّ أن يُتهم فيستحلف على ذلك.
قلت: فإن نكل عن اليمين؟
قال: يلزمه تطليقة.
باب الخلية والبرية وحبلك على غاربك
وسألته عن رجل يقول لامرأته: أنت برية أو خلية أو بتة أو بائن أو حرام أو حبلك على غاربك أو استبري والحقي بأهلك؟
قال: قد روي في ذلك أنَّها ثلاث ثلاث، وروي ذلك عن أمير المؤمنين رضي الله عنه، ولم يصح ذلك عندنا عنه.
قلت: فما تقول أنت في ذلك؟
قال: إذا قال الرجل من ذلك شيئاً، وهو ينوي الطلاق لامرأته كانت واحدة يملك عليها الرجعة ما دامت في العدة.
قلت: فإن تركها حتَّى تخرج من عدتها؟
قال: إذا خرجت من عدتها كانت أملك بنفسها، وكان خاطباً من الخطاب.
قلت: فإن قال الرجل: لم أنو بهذا الذي قلت طلاقاً؟
قال: يدين في ذلك ويكشف عن قوله، فإن ثبت على أنَّه لم ينو الطلاق كان القول قوله وصدق في قوله، إلاَّ أن يُتَّهم فإن اتهم حلف بالله ما نوى بقوله طلاقاً، ويبطل ما ادعوا عليه من الطلاق.
باب إذا قال أمرك بيدك
وسألته عن الرجل يقول لامرأته إذا خرج في سفر أو غير سفر إذا كان وقت كذا وكذا فأمرك بيدك، فأتى ذلك الوقت فلم تقل اخترت نفسي ولا طلقت نفسي، هل لها بعد ذلك بأيام أو أشهر أو أقل أو أكثر أن تختار نفسها أو طلاقها؟ (1/171)
قال: نعم، إذا خرجت، وقال لها هذا كان لها إذا أتى الوقت أن تختار نفسها أو تطليقها، إلاَّ أن يفسخ ما وكلها فيه قبل أن تطلق نفسها أو تختاره، وكذلك لها بعد شهر وأكثر وأقل، فأما إذا كان حاضراً فقال لها: أمرك بيدك ولم يوقت وقتاً، فلم تقل في وقتها ذلك قد اخترت نفسي أو طلقتها، فليس لها بعد ذلك أن تختار إذا كان بالحضرة.
قلت: فإنه كان بالحضرة، ولم يسافر فقال لها: إذا كان رأس هذا الشهر أو إذا رأيت الهلال فأمرك بيدك، فلما رأت الوقت أو جاء الوقت لم تختر نفسها ولم تقل شيئاً، هل يكون لها إذا جاوز الوقت الذي وقَّت لها أن تختار نفسها؟
قال: إن كان قال لها: إذا جاء الوقت الذي وقت، أو جاز الهلال فلم تختاري فقد فسختُ ما جعلتُ إليك، فجاز الهلال لم يكن لها بعد ذلك اختيار.
قلت: فإن كان قال لها: قولاً مبهماً؟
قال: فلها إذا جاز الوقت أن تختار بعد يوم أو يومين وأكثر من ذلك.
باب إذا قال إذا كان رأس الحول أو الشهر فأنت طالق
وسألته عن الرجل يقول لامرأته: إذا كان رأس الحول أو رأس الشهر فأنت طالق، هل يجوز له أن يطأها إلى ذلك الوقت الذي وقت؟
قال: نعم، وقد قال أهل المدينة: إنَّه يلزمها الطلاق إذا لفظ به، وإن وقَّت لها وقتاً، ولسنا نلتفت إلى قولهم.
باب إذا كتب بطلاق امرته ولم يتكلم به
وسألته عن الرجل يكتب بطلاق امرأته ولا يلفظ به، ويكتب: إذا وصل إليكِ كتابي فأنت طالق؟
قال: إذا وصل إليها الكتاب طلقت.
قلت: فإن ضاع الكتاب ولم يصل؟
قال: إذا ذهب الكتاب أو ضاع لم يقع بها طلاق؛ لأنَّه شرط وصول الكتاب، فلم يصل.
قلت: فإنه لما كتب الكتاب ندم فأمسكه، ولم يوجه به؟
قال: كذلك أيضاً لا يقع بها الطلاق.
قلت: فإنه كتب إليها: أنت طالق، ولم يشترط وصول الكتاب، ولا وقَّت وقتاً للفراق؟ (1/172)
قال: إذا كتب ذلك لزمها الطلاق وصل أو لم يصل؛ لأنَّه لم يشترط وصوله.
باب إذا استثنى في الطلاق
وسألته عن الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إن شاء الله؟
فقال: قد اختلف الناس في ذلك، فقال قوم: لا استثنى في طلاق. وقال قوم: الاستثناء في الطلاق جائز. وأما قولي أنا فأقول: إنَّه إذا قال لها: أنت طالق إن شاء الله، نظر في أمرهما، فإن كانا متفقين في دين الله وزوجته قابلة لأمر الله فيه غير هاجرة له ولا مانعة من فراشه ولا تاركة لمصالح منافعه، وهو أيضاً كذلك، فاستثناؤه جائز؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}[ ]، ويقول سبحانه: {ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبينة}[ ]، فإذا كانا على ما وصفنا منهما فقد أمر الله تبارك وتعالى بإمساك مثلها، وجاء استثناؤه، ولم يقع عليها طلاق.
قلت: فإن كان الرجل مسيئاً إليها غير منصف لها؟
قال: قد قدمنا جواب ذلك كله، وأجملناه لك، أنهما إذا كانا متفقين في أمرهما، وكل واحد منهما مصلح لصاحبه أمر معاشه ودينه، فقد شاء الله اجتماعهما ولم يشأ فرقتهما، وإذا كانا مختلفين في أمرهما متبائنين في دينهما ودنياهما فقد شاء الله سبحانه فراقهما، ولا استثناء له إذا كانا كذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإسحان}[ ].
باب إذا كان له أربع نسوة، فحلف بالطلاق فحنث
وسألته عن الرجل يكون له أربع نسوة، فيقول: امرأته طالق إن فعلت كذا وكذا، فيحنث ولم تقع نيته على واحدة منهن بعينها، كيف العمل في ذلك؟
قال: إذا لم تقع نيته على واحدة بعينها فقد التبس عليه أمره في شأنه، وأحسن ما نرى له في ذلك أن يطلقن كلهن تطليقة واحدة يملك معها الرجعة لهن حتَّى يذهب عنه الشك والالتباس، فهذا أحسن ما عندنا، وهو قولنا وقول علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام.
قلت: فإنه دعا واحدة منهن باسمها قد عزم على طلاقها، فأجابته منهن غيرها، فقال: أنت طالق، وهو يظن أنَّها الَّتي أراد وعزم على فراقها؟ (1/173)
قال: لا تطلق هذه المجيبة، وتطلق الَّتي عزم على طلاقها.
قلت: ولِم، وإنَّما طلق الَّتي أجابته؟
قال: لأن نيته وعقده إنَّما كان على الَّتي دعا وعزم على طلاقها، فيلزمها الطلاق بالنية والعقد، وإنَّما قال: أنت طالق، وهو يظن أنَّها الَّتي أجابته.
باب طلاق الحامل والحائض
وسألته عن الرجل إذا أراد أن يطلق امرأته الحامل، كيف يعمل؟
فقال: قد قيل في ذلك: إنَّه يتركها شهراً، ثُمَّ يطلقها، وأما أنا فقولي: أن يطلقها متى شاء إذا كانت حاملاً.
قلت: فإن الرجل أراد أن يطلق امرأته، وهي حائض؟
قال: لا نرى له ذلك، ولا يجوز له أن يطلقها إذا أراد إلاَّ وهي طاهر.
قللت: فإنه وقع بينه وبينها كلام محرد، فقال لها: أنت طالق، وهي حائض؟
قال: قد وقع بها الطلاق، وقد أخطأ، ولزمه بخطأئه ما ألزم نفسه، فنحب له أن يرتجعها حتَّى تطهر، ثُمَّ يطلقها في طهرها، كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ابن عمر حيث طلق زوجته وهي حائض، فأمره أن يرتجعها ثُمَّ يطلقها وهي طاهر؛ لأن الطلاق وقع بها عند تطليقه لها وهي حائض.
قلت: فإن الرجل الذي طلق امرأته وهي حائض أمر بأن يرتجعها حتَّى يطلقها في طهر، فقال: لا أرتجعها، هل يجبر على ذلك، أم كيف العمل في ذلك؟ وهل تعتد بتلك الحيضة الَّتي طلق فيها، أم تستأنف العدة بعد الطهر؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه يجبر على ارتجاعها حتَّى تطهر، ثُمَّ يطقها، وأما قولي أنا فلا أرى أن يجبر على ارتجاعها، ولكن أنا أحب له ذلك إن فعل، وإلاَّ فقد وقعت التطليقة الأولى، وإنَّما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فعل ذلك بالارتجاع حسن نظر منه له لا إيجاباً، ومن فعل فقد أصاب ومن لم يفعل فقد لزمه ما ألزم بهذا نفسه.
وسألته عن رجل له أربع زوجات فطلق واحدة، هل له أن يتزوج غيرها وهي في عدتها؟ (1/174)
قال: لا، وقد روي عن علي عليه السلام أنَّه قال: (لا يجمع الرجل ماءه في خمس نسوة)، وما أحب له أن يتزوج حتَّى تخرج الرابعة من عدتها.
وسألته عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إلاَّ أن لا أريد؟
قال: استثناؤه في نفسه كاستثنائه لغيره.
قلت: وكيف يكون ذلك؟
قال: ألا ترى أنَّه لو قال لامرأته: أنت طالق إلاَّ أن لا يشاء فلان، فلم يشأ فلان أن الطلاق لم يلزمها، وكذلك أيضاً هذا الذي قال: إلاَّ أن لا أريد، يقال له: ما تنوي الطلاق أم غير الطلاق؟ فإن قال: أنوي الطلاق وأريده طلقت امرأته، وإن قال: لا أنوي الطلاق ولا أريده لم تطلق امرأته، وكان استثناؤه لنفسه جائزاً.
مسألة أيضاً[فيمن طلقت ثم مكثت سنة ولو تحض]
وسألته عن رجل تزوج امرأة وهي من ذوات الحيض، ثُمَّ طلقها فمكثت سنة لم تحض من بعد ما طلقها، ثُمَّ تزوجها رجل آخر فحاضت عنده حيضة، وقد دخل بها، ثُمَّ حملت، ثُمَّ علم الرجل بعد ذلك أنَّها لم تكن حاضت من بعد الطلاق الأول، ما العمل في ذلك؟
قال: تزويج الثاني باطل؛ لأنَّه تزوجها وهي في عدة من الأول، فينبغي أن تفسخ من الثاني حتَّى تضع ما في بطنها، ثُمَّ تستقبل ثلاث حيض عدة للأول.
قلت: فإن راجعها الأول قبل تمام هذه الثلاث حيض بغير مؤامرة يجوز له ذلك؟
قال: نعم؛ لأنها في عدته.
قلت: فإن تركها حتَّى تخرج من الحيضة الثالثة وتغتسل؟
قال: قد بانت منه حينئذ، وتزوج من شاءت الأول أو الثاني.
وسألته: أين تعتد المختلعة؟
قال: حيث ما شاءت، وكل طلاق لا يجب لزوج فيه رجعة بغير مؤامرة المرأة فالمرأة تعتد حيث شاءت، مثل المطلقة في الثالثة الَّتي ليس للزوج عليها رجعة، ومثل المرأة الَّتي تفتدي من زوجها بشيء من مهرها فيطلقها فتعتد حيث شاءت.
باب طلاق المماليك
قلت: قد فهمت ما شرحت لي من طلاق الأحرار وما احتججت فيه من كتاب الله تعالى وشواهد العقول، فبيِّن لي كيف طلاق المماليك، وكيف يطلقون، وعدة المملوكة كم عدتها؟ (1/175)
قال: قد قال غيرنا من جميع العوام وبعض الخواص: إن المملوك يطلق تطليقتين، والمملوكة تعتد بحيضتين.
وروي ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وعن غيره من فقهائهم، ولم يصح ذلك عندنا عن علي عليه السلام، ولم نجد ذلك صواباً في شواهد العقول.
قلت: فكيف طلاقهم، وعدتهم، بيِّنه لي حتَّى أفهمه؟
قال: نعم، والقوة بالله، طلاق المماليك وعدة المملوكات مثل طلاق الأحرار وعدة الحرائر سواء سواء، مثال حذو النعل بالنعل لا اختلاف بين المماليك والأحرار في شيء من الطلاق والعدة.
قلت: وكيف ذلك، وأنّى يكون ذلك كذلك وقد ميز الله سبحانه بين المماليك والأحرار في كتابه وفرق بينهم فرقاً عظيماً؟
قال: جوابك في مسأتك.
قلت: وكيف يكون جوابي في مسألتي؟
قال: ألا ترى أنك عجبت من قولي: إن طلاق المماليك مثل طلاق الأحرار سواء سواء؟
قلت: وكيف ذلك وقد فرق الله بينهم في كتابه وميز أمرهم، أفلا ترى أنَّه لما فرق بينهم وميز بعضهم عن بعض فيما بينه فيهم في كتابه وأغفل أمرهم، وأمر الأحرار في موضع آخر في كتابه أنَّه دلنا تبارك وتعالى أن الذي أغفل من أمر المماليك وأمر الأحرار في كتابه لا فرق بينهم وبين الأحرار فيه؛ لما ميز أمرهم، وأمر الأحرار في معنى وفرق بينهم في معنى آخر في كتابه.
قلت: اشرح لي هذا الذي قلت وبيِّنه لي، فإني أراني قد اتجهت فيما ذكرت، فبين لي ما ذكرت حتَّى أفهمه.
قال: نعم، أليس قد قلت: إن الله سبحانه قد ميز بين الأحرار والمماليك في كتابه وفرق بينهم؟
قلت: بلى.
قال: فأين ميز بينهم وفرق؟
قلت: في الحدود، في قوله: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}[ ]، فجعل على المملوك والمملوكة إذا زنيا نصف ما على الحر والحرة وهو خمسون جلدة، وكذلك أيضاً في النفس فحَكَم في كتابه ألاّ يُقتَل حرٌ بعبد، فقال في ذلك: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد}[ ]، فهذا الذي ميز الله بينهم وفرق. (1/176)
قال: صدقت وأوجبت على نفسك الحجة بهذا.
قلت: وكيف أوجبْتُ على نفسي الحجة بهذا؟
قال: لما فرَّقت وميَّزت بينهم كما فعل الله عز وجل بهم، فهل جمع الله بينهم في شيء غير ما فرق بينهم؟
قلت: لا أشك في أن الله قد جمع بينهم في كتابه في غير ما فرق بينهم، فبيِّنه لي أنت فإنه عندك أوجد ومنك أبيَن؟
قال: نعم، قوله تعالى: {السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله}[ ]، ولم يذكر في هذا القطع حُرّاً ولا عبداً، وأغفل ذكرهما؛ لأنَّه جمعهما في ذلك فكانا فيه على معنى واحد في القطع، فجمع بينهما فيه، فإذا سرق العبد قطعت يده، وإذا سرق الحر قطعت يده لحكم من الله عز وجل فيهما، وجمع منه فيه بينهما ولم يميز بينهما في هذا الموضع لإرادته الجمع بينهما فيه، فافهم هذه المعاني، فإنه لا يفقهها إلاَّ ذو لب، ثُمَّ قد جئت إلى النكتة الَّتي سألت عنها بعينها من طلاق المماليك وطلاق الأحرار إنهم فيه سواء لا فرق بينهم فيه؛ لأن الله تبارك وتعالى لم يفرق بينهم في كتابه، ولم يميز بعضهم من بعض، وأغفل ذكرهم فيه والتمييز بينهم لإرادته من الجمع بنيهم فيه، كما أغفل التمييز بينهم في القطع لإرادته الجمع بينهم فيه.
قلت: قد فهمت، فزدني حجَّة وبياناً في تفسير معنى الجمع بينهم وبين الأحرار في الطلاق؟
قال: نعم، والقوة بالله وحده لا شريك له، قوله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثُمَّ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن}[ ]، فكانت هذه الآية جامعة في المخاطبة للأحرار والعبيد المؤمنين؛ لأن الله قد جمع بين العبد والحر المؤمن في الإيمان بقوله تبارك وتعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك}[ ]، فجمعلهما في الإيمان معنى واحداً، وسماهما مؤمنين، فاجتمعا في اسم الإيمان وحكمه، فهذا تفسير ما عنه سألتَ، قد بينته لك، والدليل على ما قلنا به أن الله سبحانه جمع بنيهم في هذه الآية وخاطبهم جميعاً الأحرار منهم والعبيد: إجماع آل الرسول مع الأمة بأسرها أن العبد مطلق له تزويج الحرة، لم يحظر الله ذلك عليه في كتابه ولا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء عنه، وكذلك بتزويج المملوكة الحر إذا لم يستطع طولاً، فلما لم يفرق بين الأحرار والعبيد في نفس النكاح علمنا أنَّه لم يفرق بينهم في الطلاق، وإن أحببتَ أن أزيدك في تمييز الله تبارك وتعالى وتفريقه وجمعه فعلت. (1/177)
قلت: كما زدْت من هذا شيئاً ازدَدتُّ به يقيناً؟
قال: فافهم ما ميز الله سبحانه به بين الأحرار وفرق بينهم وجمعهم في موضع آخر لم يذكر جمعهم فيه، وأغفلهم لإرادته الجمع بينهم ولغنى أهل العقول ومعرفتهم للجمع بينهم لما أغفل ذلك، ولم يذكره سبحانه وجل عن كل شأن شأنه، ففرق بين الأحرار في الأنفس فحكم أن لا يقتل رجل بمرأة وهو قوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والآنثى بالأنثى}[ ]، ففرق بين الذكر والأنثى في القتل، وكذلك أيضاً فرق بينهما في الشهادة، فجعل الامرأتين في الشهادة بمنزلة شاهد واحد من الرجال، ثُمَّ جمع بينهما في الحد في الزنا فقال: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}[ ]، فجمع بينهما في الحد، ثُمَّ جمع بينهما في الحد في موضع آخر بين الحر والحرة والمملوك والمملوكة في آية واحدة، ولم يميز بينهم فيها، ولم يذكرهم بتمييز، وأغفل ذلك لإرادته الجمع بينهم، وهو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}[ ]، ولم يذكر حرّاً ولا عبداً، وكذلك كلما أراد الله عز وجل أن يميز من أحكام الخلق ويفرقه بينهم في كتابه، وكلما أراد الجمع بينهم أغفله لإرادته الجمع بينهم فيه ولغنى المخاطبين عن تمييزه بمعرفتهم الَّتي دلهم الله عليها، وكذلك لما أغفل الله عز وجل طلاق المماليك ولم يميزه ولم يفرق بينهم وبين الأحرار في كتابه، علمنا أنَّه أراد أن يجعل طلاق الأحرار والعبيد واحداً لإغفاله في كتابه وتركه بغير تمييز. فتدبَّر ما قلنا فلك فيه كفاية إن شاء الله. (1/178)
باب الرجل الحر يطلق الأمة ثلاثاً، ثُمَّ يشتريها
وسألته عن رجل تزوج أمةً ثُمَّ طلقها ثلاثاً واحدة بعد واحدة، ثُمَّ اشتراها بعد الطلاق، هل يحل له أن يطأها بالملك قبل أن تنكح زوجاً غيره؟
قال: لا.
قلت: ولِم وقد صارت ملك يمينه؟
قال: ليس المِلك بأولى من النكاح، وهذه المملوكة فقد صيرها زوجة، فلما طلقها ثلاثاً كانت ممَّن قال الله تعالى: {فلا تحل له من بعدُ حتَّى تنكح زوجاً غيره}[ ]، ولم يميز في هذه الآية الأحرار من العبيد. (1/179)
قلت: فإن رجلاً حرّاً طلق أمةً ثلاث تطليقات ثُمَّ اشتراها رجل آخر فوطئها، ثُمَّ أراد زوجها الأول أن يتزوجها من سيدها، هل تحل له بوطء سيدها؟
قال: لا؛ لأن وطء المِلك ليس مثل وطء النكاح، ولا يحل تزويج المطلقة ثلاثاً، إلاَّ من بعد نكاح زوج راغب في النكاح، أمة كانت المطلقة أو حرة، وفي هذا ما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (حتى تحل من حيث حرمت).
قلت: ما يريد بذلك أمير المؤمنين رضي الله عنه؟
قال: يريد يحل بعد نكاح زوج، كما حرمت أولاً على الزوج.
قلت: فإن عبداً طلق أمة ثلاثاً ثُمَّ وطئها سيدها، فأراد العبد أن يتزوجها من بعد وطء سيدها، هل يجوز له ذلك؟
قال: لا؛ لأن السيد وطئ وطء مِلك، ولا يجوز للعبد أن يتزوجها إلاَّ من بعد نكاح زوج.
في المرأة تدعي طلاق زوجها لها
وفي الرجل يقول: قد طلقتك، فتنكر المرأة
وسألته عن امرأة ادعت على زوجها أنَّه قد طلقها، فأنكر الزوج ذلك؟
قال: على المرأة البينة بما ادعت من الطلاق.
قلت: فإن لم يكن لها بينة؟
قال: فعلى الزوج اليمين بالله البتة أنَّه ما طلقها.
قلت: فإن الرجل قال لامرأته: قد طلقتك، فقالت المرأة: لم تطلقني؟
قال: القول قول الزوج في ذلك، يلزمه ما أقر به على نفسه من الطلاق، ولا يلتفت إلى قول المرأة في إنكارها إذا أقر الزوج بالطلاق.
باب الخلع
وسألته عن الرجل، متى يجوز له أن يخالع زوجته؟
فقال: إذا اختلفا أو تباغضا وهاجرها وهاجرته ومنعته فراشها، وقالت له: لا أبر لك قسماً ولا أطيع لك أمراً، فإذا صارا إلى ذلك جاز للرجل أن يخالع امرأته.
قلت: كيف يخالعها؟
قال: يوقعان شرط المخالعة قبل أن يأخذ منها المال.
قلت: وكيف يقول لها؟
قال: يقول: إذا دفتِ إليَّ مالي فأنت طالق.
قلت: فإن لم يوقع لفظ الطلاق؟ (1/180)
قال: فليس ذلك عندي مخالعة؛ لأنَّه لا بد لكل نكاح من طلاق يلفظ به.
قلت: فهل يجوز له أن يأخذ منها إذا خالعها أكثر ممَّا دفع إليها من صداقها؟
قال: لا يجوز ذلك.
قلت: فإن قال لها: إذا أعطيتيني كذا وكذا فأنت طالق، فدفعت إليه ما أوقعا بينهما من المال، هل يكون قد طلقت بقوله هذا، أم تحتاج بعد قبض المال أن يطلقها؟
قال: يجزيه القول الأول عن تكرير الطلاق.
قلت: فإنه قال لها: أعطيني كذا وكذا ديناراً حتَّى أطلقك، هل تطلق بقوله لها حتَّى أطلقك؟
قال: لا يكون ذلك طلاقاً، وإنَّما هذه عِدَة منه لها إن أراد أن يطلق طلق، وإن لم يرد لم يجبر على ذلك.
قلت: فإن لم يطلقها، هل لها أن ترجع فيما دفعت إليه؟
قال: نعم؛ لأنها إنَّما دفعت المال على أن يطلقها، فلما لم يف لها بما وعدها كان لها ترجع في مالها.
قلت: فكم عدة المختلعة؟
قال: عدة المطلقة.
باب القول في عدة المتوفى عنها زوجها وهو غائب
وسألته عن رجل مات في غربة، ولم تعلم امرأته بموته إلاَّ بعد سنة، هل يلزمها أن تعتد مذ يوم بلغها موته، أم قد أجيزت بما مضى من السنة بعد موته؟
قال: قد قال غيرنا: إنها قد خرجت من عدتها ولها أن تتزوج، وهذا ممَّا لا يجوز في شواهد العقول، وأما أنا فقولي وقول علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام: فيجب عليها أن تعتد مذ يوم بلغها موت زوجها أربعة أشهر وعشراً، ولو لم نوجب عليها ذلك لأبطلنا العدة الَّتي ذكر الله جل وتعالى وفرض على المرأة من العدة، وإنَّما جعل الله ذلك لمعنيين:
أحدهما: أن تستبرئ من ماء زوجها حتَّى تيقن أن رحمها من الولد فارغة غير مشغولة فتزوج على يقين من أمرها.
والمعنى الثاني: أن يعرف منها أنَّها قد عظمت أمر زوجها الذي مات ولم تترك الإحداد عليه، وعرف منها الحزن بترك الزينة والخضاب وما أشبه ذلك.
باب طلاق المعتوه والمبرسم والمجنون
وسألته عن طلاق المبرسم والمعتوه والمجنون؟
فقال: إذا زال عقل المعتوه والمجنون والمبرسم فطلاقهم في وقت زوال عقولهم باطل؛ لأنَّه لا يعقل واحد من هؤلاء ما يقول، فإن كان المعتوه والمجنون يفيقان في وقتٍ ويعتلاّن في وقتٍ فطلاقهما في وقت إفاقتهما جائز؛ لأنهما قد يعقلان إذا أفاقا، وإن كانا ممَّن لا يفيق من علتهما مثل الموسوس ـ الدائم الوسوسة ـ فطلاقهما باطل، وأما المبرسم فما كان في هذيانه وزوال عقله فطلاقه باطل، فإذا أفاق وبرأ من علته جاز طلاقه إذا طلق في صحته. (1/181)
باب الظهار
وسأته عن رجل يقول لامرأته: أنت علي كظهر أختي، أو كظهر خالتي، أو كظهر عمتي، أو كظهر أختُك، أو كظهر أمُّكِ، أو كظهرٍ محرم من محارمه غير أمه؟
قال: لا يكون ذلك ظهاراً، وقد قال غيرنا: إن ذلك كله ظهار، ولم نلتفت إلى ذلك، وليس الظهار عندنا إلاَّ أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، لا غير، فيكون مظاهراً كما قال الله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم}[ ]، ولم يذكر غير الأم في الظهار.
قلت: فإذا قال : أنت علي كظهر أختي أو بعض محارمه(1)، هل ينوي في ذلك؟
قال: لا؛ لأن هذه كذبة كذبها.
قلت: فإنه قال: أردت بهذا طلاقاً أو تحريماً لامرأتي عليَّ، ما العمل في ذلك؟
قال: يلزمه ما نوى من الطلاق.
ظهار المملوكة
قلت: فهل يجب الظهار على الإماء المماليك؟
قال: لا يكون الظهار إلاَّ على النساء الحرائر، وعلى المملوكة الَّتي يتزوجها الحر ويعقد لها عقدة نكاح، فإذا تزوج الحر مملوكة وجب بينهما الظهار لعلة عقدة النكاح.
باب الإيلاء
وسألته عن رجل آلى أن لا يجامع امرأته أربعة أشهرٍ، ثُمَّ فاء قبل الأربعة أشهر، هل عليه كفارة؟
قال: نعم.
قلت: ما الكفارة؟
قال: كفارة اليمين على قدر ما يطيق من إطعام عشرة مساكين أو غير ذلك ممَّا أمر الله سبحانه به من كسوة أو صوم.
قلت: فإنه حلف أن لا يجامع امرأته ثلاثة أشهر؟
__________
(1) ـ حرمة، نسخة.
قال: ليس ذلك بإيلاءٍ، ولا يكون مولياً إلاَّ بأربعة أشهر. (1/182)
قلت: فإنه حلف أن لا يجامع امرأته عشرة أشهر؟
قال: يكون بذلك مولياً؛ لأنَّه ما زاد على الأربعة فهو إيلاءٌ، وما نقص من الأربعة فليس بإيلاء.
قلت: فإنه حلف أن لا يجامع امرأته، وأبهم في يمينه فلم يوقت وقتاً؟
قال: لا يكون ذلك إيلاءً، وإن وطئ قبل الأربعة الأشهر فعليه الكفارة.
قلت: فإن ترك حتَّى تجوز الأربعة ثُمَّ وطئ؟
قال: عليه الكفارة، ولا يكون إيلاءً.
قلت: فإنه آلى ثُمَّ طلق بعد إيلائه، ثُمَّ راجع، هل يرجع عليه الإيلاء من بعد رجعة الطلاق؟
قال: نعم ما لم يجامع.
قلت: فإنه مكث في الإيلاء قبل أن تطلق شهرين، ثُمَّ مكث بعدما راجع من الطلاق شهرين إلاَّ عشرة أيام، هل يوقفه الحاكم في أن يفي أو يطلق؟
قال: نعم.
قلت: فإنه طلق، هل يلزمه تطليقتان؟
قال: نعم.
قلت: فإنه فاء ولم يطلق، هل يلزمه كفارة؟
قال: نعم.
قلت: فإنه لما راجع بعد التطليقة الأولى وطئ، هل يكون وطؤه فيئاً؟
قال: نعم، إذا كان وطئ فقد فاء وبطل الإيلاء من بعد وطئه، وعليه الكفارة.
قلت: فإنه فاء، هل يكون عليه الكفارة؟
قال: نعم.
قلت: فإنه لما وقف لم يفئ، ولكنه طلق؟
قال: يلزمه تطليقتان.
قال: نعم.
قلت: فإنه بعد الطلاق الثاني راجع، هل يعود عليه الإيلاء؟
قال: قد قدمنا جواب ذلك، فافهم فيه أصلاً واحداً تكتفي به، إن الرجل إذا آلى ثُمَّ راجع بعد الطلاق ثُمَّ جامع، إنّ جماعه فيئٌ قد أبطل الإيلاء، وإذا لم يجامع راجعه الإيلاء حتَّى يوقف فيفيء أو يطلق.
قلت: فإن رجلاً حلف بطلاق امرأته أن لا يقربها سنةً، هل يكون ذلك إيلاء؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه إيلاء، ولم نلتفت إلى ذلك، وليس يكون الرجل مولياً إلاَّ بيمين بالله.
باب اللعان، وإثبات النسب
وسألته عن رجل تزوج بامرأة، ثُمَّ بلغه أنَّها متهمة بفسق، هل يجوز له أن يقيم عليها وإن اتهمها هو؟
قال: نعم، يجوز له ما لم يصح له عليها؛ لأن الناس يكذبون ويقولون غير حق. (1/183)
قلت: فإن هذا الرجل لما ولدت له المرأة قال: ليس هذا الولد لي ونفاه، وهذا الولد لفلان الذي كان يتهم بالمرأة؟
قال: فيجب بين المرأة والرجل اللعان، وهو أيضاً قاذف للرجل الذي قال إن الولد له.
قلت: فإن أخذ الرجل باللعان فنكل، هل يجب عليه الحد؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك يلحق به الولد؟
قال: نعم.
قلت: فإن لم يكن الرجل لاعن المرأة حتَّى طلقها فتزوجت الرجل الذي كان يتهم بها، فأقر بالولد، هل يجب عليه الحد بإقراره بالولد بأنه قد أقر بالفسق؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه أقر على نفسه مرةً واحدة، ولا يجب عليه الحد حتَّى يقر على نفسه أربع مرات.
قلت: فهل يجب على الزوج الأول الحد لقذفه له؟
قال: لا.
قلت: ولِم؟
قال: لتصديق المقذوف بما قال القاذف؛ لأنَّه لما قال الزوج الأول: الولد لفلان، كان قاذفاً يجب عليه بالقذف الحد، فلما أقر المقذوف بالولد صدق القاذف فيما قال، فدرئ عنه الحد لذلك.
قلت: فالولد بمن يلحق؟
قال: بالذي ولد على فراشه، وهو الزوج الأول.
قلت: فكيف يلحق به وقد نفاه؟
قال: لأن النسب ثابت أبداً ما لم يقع اللعان، فإذا وقع اللعان صار الولد ابن ملاعنة، ولم يلحق بالملاعن.
قلت: فإقرار الزوج الآخر يثبت له به شيء؟
قال: لا.
قلت: ولِم؟
قال: لأنَّه عاهر، وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <الولد للفراش، وللعاهر الحجر>.
باب اللعان
قلت: فبيِّن لي اللعان، كيف هو، ومتى يكون، وبأي سبب يجب؟
قال: اللعان أبداً تابع للحد إذا وجب لأحد الزوجين على صاحبه الحد بالقذف وجب اللعان بينهما ومتى لم يجب لأحدهما على الآخر حد سقط بينهما اللعان.
قلت: فبيِّن لي ذلك؟
قال: مثل الزوج إذا كان حرّاً والزوجة مملوكة فقذفها ونفى الولد، لم يكن لها عليه حد بقذفه لها؛ لأنها مملوكة، ولا حد للملوك على الحر.
قلت: فإن كان الزوج مملوكاً والزوجة حرة فقذفها ونفى الولد؟ (1/184)
قال: بينهما اللعان؛ لأن لها عليه الحد، فافهم هذا الباب واكتف به فياللعان.
قلت: فإن رجلاً نفى ولده فأُمر باللعان، ولاعن، وفرق الحاكم بينهما، فلما كان بعد وقت أراد الملاعن أن يتزوج المرأة الَّتي لاعنها، هل يجوز له ذلك؟
قال: إن أقر أنَّه رماها، وكذب عليها أُقيم عليه الحد وجاز له تزويجها إذا أظهر التوبة من كذبه وقذفه.
قلت: وكذلك الولد يلحق به ويثبت نسبه؟
قال: نعم.
قلت: فإن كان الولد أُنثى وقد مات قبل أن يقر الملاعن بالكذب وله بنت فاقتسمت بنته وعصبة أمه ماله، فلما أقر الملاعن ولحق به الولد طالب عصبة الأم بميراث ابنه، هل يجب ذلك له؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ وقد ثبت النسب ولحق به الولد؟
قال: لأنَّه لم يقر حتَّى قبض عصبة الأم ما وجب لهم من الميراث؛ ولأنهم لو قالوا له: إنَّما أقررت بهذا لطلب الميراث كان لهم في ذلك قول وحجة.
قلت: فإن الولد الذي نفي مات وله ابن، هل يرث أبوه الذي كان نفاه وأقر به بعد موته مع ابنه السدس؟
قال: لا.
قلت: لأيِّ علةٍ؟
قال: لأنَّه ادعى أن ابنه الذي دعاه إلى التوبة خوف من الله ورجعة إلى الحق، والورثة يدعون أن الذي رده إلى التوبة بعد وفاة الميت طمع في الميراث فنظرنا فإذا بفعله تكاد تقوى حجة ضده من الورثة، ووجدنا إقراره على نفسه بالتكذيب بعد وفاة ولده مدخلاً على نفسه شبهة تكاد أن يصح قول الورثة، ولم نجد معه بدعواه أنَّه إنَّما حمله على ذلك الخوف لله حجة، وعلمنا أن الميراث قد وجب لأهله عند وفاة الميت، فكان الورثة في وقت موته مستحقين لميراثه دون أبيه؛ لأن أباه في ذلك الوقت ـ وقت موته ـ كان ثابتاً على جحدانه وقذف أمه، فلم يكن بذلك في وقت موت ابنه له وارثاً، فكان أقل ما يجب عليه في ذلك أن لا يلحق بما لم يستحقه من المال عند وجوبه للورثة ويكون من بعد ذلك وارثاً موروثاً لعقبه، ويلحق به من بعد ذلك النسب نسب الميت وعقب الميت ونسب عقبه، ومثل ذلك عندي مثل رجل حرٌ له أب مملوك، فمات وله أولاد فورثه أولاده، ثُمَّ أُعتِقَ الأبُ بعد ذلك بأيام، فلم يضرب الأب معهم بسهم؛ لأنَّه عُتق بعد أن جرت المواريث لأهلها. وكذلك أيضاً مثله عندي مثل رجل مسلم له أب كافر يهودي أو نصراني، فمات المسلم وله ورثة فورثوه، وأسلم الأب بعد ذلك بأيام فلا يضرب معهم بالسهم الذي يكون للأب؛ لأن الميراث قد وجب لأهله قبل إسلامه، وليس يمنع هذا الكافر ولا ذلك المملوك أن يرثا من أبنائهما ما داموا في حالتهم الأولى، إلاَّ كمنع الملاعن ميراث ولده الذي لاعن به ما دام ثابتاً على لعانه؛ لأنَّ الحكم من الله تبارك وقع فيه وفي ميراث ولده الذي نفاه كحكمه في الكافر وفي ميراث ولده، وكحكمه في المملوك، وما يكون من ميراث ولده الحر، والأحكام كلها إلى الله عز وجل فما جاء الحكم منه فيه منصوصاً لم يكن لأحد أن يغيره، فافهم ما قلت لك وميزه تمييزاً جيداً يتبين لك إن شاء الله، وكذلك هذا المملوك والكافر وإن لم يرثا من مال ابنيهما فالموارثة بينهما وبين عقبهما يرثانهم (1/185)
ويرثونهما كما ذكرت لك في ابن الملاعنة. (1/186)
باب القول في الرجل يقول لأحد عبديه: هو ابني
وسألته عن الرجل له ثلاثة عبيد، فقال: أحد هؤلاء ابني، ثُمَّ مات ولم يبين أيهم ابنه؟
قال: يضرب الثلاثة في مال الميت بنصيب ابن واحدٍ؛ لأن الشبهة قد دخلت فيهم كلهم، فكانوا كلهم قد صاروا ابناً واحداً، فلكل واحد منهم ثلث هذا السهم، وعلى واحد منهم ثلثا قيمته يدفعه إلى ورثة الميت.
قلت: اشرح لي ذلك حتَّى أفهمه؟
قال: نعم، كان الميت مات وترك ثلاثة بنين وهؤلاء الثلاثة الذين قال: أحدهم ابني، وخلف أربعمائة دينار، فأصاب الثلاثة بنين ثلاثمائة دينار، وأصاب هؤلاء الثلاثة مائة دينار، لكل واحد منهم ثلاثة وثلاثون ديناراً وثلث دينار، وقيمة الثلاثة تسعون ديناراً كل واحد ثلاثون ديناراً، فعليه ثلثا قيمته عشرون ديناراً، والباقي له ثلاثة عشر ديناراً وثلث؛ لأن مورثهم بسهمهم مائة دينار، وثلثا قيمتهم ستون ديناراً والباقي لهم أربعون ديناراً.
قلت: فإن مات من هؤلاء الثلاثة واحد، هل يرث منه هذان الاثنان اللذان دخلا معه في الشبهة مع بني الميت؟
قال: نعم، يرثان جميعاً ثلث ربع ما خلف الميت؛ لأنهم ثلاثة لهم ربع ما خلف الميت؛ لأن الثلاثة بمنزلة ابن واحد، وله ثلاثة بنين، وباقي الميراث لبني الميت.
قلت: فإن أحد هذين الابنين مات وخلف بنتاً، وهذا الذي دخل معه في الشبهة، وبني الميت؟
قال: لابنته النصف، وللذي دخل معه في الشبهة ربع الربع الذي أصاب الثلاثة، والباقي لابني الميت.
قلت: فإن هذا الثالث مات وخلف بنتاً، وقد مات أيضاً بنو الميت وتركوا بنين وبنات؟
قال: فلابنته النصف، ولبني الأخ ما بقي.
قلت: فلورثة الميت ولاءُ هؤلاء الذين دخلت فيهم الشبهة بما بقي عليهم من قيمة أنفسهم؟
قال: نعم، الولاء للرجال دون النساء.
في الرجل يتزوج المرأة في عدتها فتأتي بولد، هل يلحق بالأول أو بالثاني الذي تزوجها في عدتها
وسألته عن رجل تزوج امرأة في عدتها، ودخل بها فولدت ولداً، بمن يلحق نسبه؟ (1/187)
قال: إن كانت ولدت لأقل من ستة أشهر منذ يوم طلقها الأول، ولأقل من أربع سنين مذ يوم دخل بها الآخر، فالولد للأول يلحق به، وإن كان منذ يوم طلقها الأول ولدت لأكثر من ستة أشهر ولأقل من أربع سنين فالولد يلحق بالآخر.
قلت: فإن الأول نفى الولد، ولم يقر به؟
قال: يؤخذ بالعان، هو والمرأة.
قلت: وكيف يلاعن وقد طلق المرأة؟
قال: لأنَّ اللعان إنَّما هو لنفي الولد بينه وبين المرأة لا للطلاق، ولو لم يلاعن كان قاذفاً ووجب الحد عليه ولحق الولد به.
قلت: فبيِّن لي أمر اللعان، كيف هو، وكيف يلاعن الرجل المرأة؟
قال: إذا نفى الرجل الولد الذي ولد على فراشه وقال: ليس هذا مني، جمع الحاكم بينه وبين المرأة في مجلس واحد، وأمر المرأة أن يكون ولدها في حجرها، ثُمَّ أقبل الحاكم عليهما فقال لهما: خافا الله ربكما واتقياه ولا تقدما على اللعان، فإن عزما على اللعان بدأ بالرجل، فقال له: قل أشهد بالله الذي لا إله إلاَّ هو الرحمن الرحيم إني لصادق فيما رميتها به من نفي ولدها هذا، ويشير الرجل إلى الولد بيده، يكرر ذلك عليه الحاكم أربع مرات، ثُمَّ يقول له في الخامسة قل: لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين. ثُمَّ يقول للمرأة: قولي أشهد بالله الذي لا إله إلاَّ هو أنَّه فيما رماكِ به أنَّه لمن الكاذبين من نفي ولدك هذا، يكرر ذلك عليها أربع مرات، ثُمَّ يقول لها في الخامسة: قولي: غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين فيما رماني به من نفي ولدي.
قلت: فإن نكل الرجل؟
قال: يضرب ثمانين جلدةً حد القاذف.
قلت: فإن نكلت المرأة؟
قال: ترجم.
قلت: فإن رجلاً طلق امرأته فمكث سنةً بعد طلاقها ثُمَّ تزوجها رجل آخر، ودخل بها فأتت بولد لأربعة أشهر، لمِن يكون هذا الولد؟
قال: ينظر في أمر هذه المرأة، فإن كانت بعدما طلقها الأول حاضت ثلاث حيض وخرجت من عدتها ثُمَّ تزوج بها الآخر بعدما خرجت من عدتها ونقيت من دمها لم يلحق هذا الولد بالأول ولا بالآخر، وأُقيم عليها الحد؛ لأنَّه لا يكون ولداً لأربعة أشهر. (1/188)
قلت: فإن كانت هذه المرأة لم تحض حتَّى تزوجها الثاني، ثُمَّ أتت بهذا الولد لأربعة أشهر وهي مع الثاني؟
قال: فالولد لاحق بالأول؛ لأن الحمل يكون أربع سنين، وقد قال غيرنا: إن أكثر الحمل سنتان، والقول الأول قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو قولنا وبه نأخذ.
قلت: فإن هذه المرأة جاءت بهذا الولد لستة أشهر إلاَّ يوماً مذ يوم تزوجها الزوج الثاني؟
قال: فالولد لاحق به.
قلت: وكيف يكون لاحقاً بالثاني وقد نقص من الستة أشهر يوم، وأقل الحمل ستة أشهر كما قال الله عز وجل: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}[ ]، فجعل أقل الحمل ستة أشهر؛ لأنَّه قال: {وفصاله في عامين}[ ]؟
قال: قد تنقص الشهور وقد يضع النساء حملهن في نقصان من وفاء الحمل بهذا المقدار، وذلك فمشاهد معروف غير منكر، وقد سمى الله تبارك وتعالى أشهراً وهن غير توامٍّ، فقال: {الحج أشهر معلومات}[ ]، فسمى سبعين يوماً أشهراً؛ لأن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
قلت: فإن ادعى هذان الرجلان الزوج الأول والثاني هذا الولد؟
قال: الولد للثاني؛ لأنَّه وُلِد على فراشه، وهو للأشهر الَّتي يأتي فيها الولد.
قلت: فإن نفاه، وقال: ليس هو ولدي؟
قال: فإذا نفاه وجب بينهما اللعان، فإن لاعن فالولد ابن ملاعنة.
قلت: فإنه لما ولد الصبي هُنِّئ الرَّجُل به فسكت، ولم ينكر ولم ينف الولد في ذلك الوقت؟
قال: افهم مني هذا الأصل فيما سألت عنه، واعلم أن الرجل إذا سكت وقت ما يولد المولود على فراشه ولم ينكر وقت الولادة فلا إنكار له بعد ذلك، وكذلك لو بشر به فسكت فقد لزمه الولد ولحق به، ولا إنكار له بعد ذلك، والسكوت أيضاً في هذا الموضع عندما يولد الولد إقرار بالولد. (1/189)
قلت: فإن المرأة لما ولدت هذا الولد لأربعة أشهر من يوم تزوجها الثاني وحكم بالولد للأول وأُلحِقَ به، قال الأول أيضاً: ليس هذا الولد مني؟
قال: يجب بينهما اللعان.
قلت: وكيف يجب اللعان بين هذا الرجل وهذه المرأة وقد طلقها ومكثت بعد الطلاق سَنَة، وتزوجها ثانٍ وهي في حباله؟
قال: ألا ترى أن المراة ما لم تحض فهي في عدَّةٍ من الأول بعد، وما دامت المرأة في عدة من الرجل فاللعان واجب إذا نف الولد؛ لأن المرأة ممنوعة من التزويج فما دامت ممنوعة من التزوج فهي في عِدَّةٍ من المطلق.
قلت: وسواء في هذا كانت في تطليقة ثالثة أو ثانية تجب عليها الرجعة؟
قال: كل ذلك سواء إذا حظر على المرأة التزويج في عدتها وجب اللعان ما كانت ممنوعة في ثانية كانت من الطلاق أو ثالثة.
قلت: فما تقول في نكاح هذا الثاني؟
قال: إذا صح أن المرأة لم تحض من بعد طلاق الأول حتَّى تزوجها هذا الثاني فنكاحه باطل.
قلت: فيجب لها الصِّداق؟
قال: إذا ادعت جهلاً، وقالت: ظننت أني قد خرجت من عدتي لمّا جلست سَنَةً بعد الطلاق فتزوجت وجب لها الصداق ودرئ عنها الحد بالشبهة بما استحل من فرجها، وإن كانت علمت أنَّها تزوجت في عدتها وتيقنت أن ذلك حرام عليها أُقيم عليها الحد ولا صداق لها إذا كانت في عدة تجب للرجل عليها الرجعة.
قلت: فإن امرأة طلقها زوجها فمكثت شهرين ثُمَّ قالت: قد حضت ثلاث حيض، هل تُصدَّق؟
قال: قد قال غيرنا: إنها تُصدَّق، وليس ذلك عندنا كذلك، ولكنا نقول لها: تأتي ببينة على الحيض.
قلت: فإن لم يكن لها بينة تستحلف وتزوج؟
قال: لا، حتَّى تحيض وتشهد على ذلك.
قلت: من تشهد على الحيض؟
قال: امرأتان عدلتان، فإذا شهدتا أنَّها قد حاضت الحيضة الثالثة واغتسلت زوجت. (1/190)
قلت: فإن شهدت امرأة واحدة عدلة أنَّها قد حاضت ثلاث حيض، هل تقبل شهادتها مع قول المرأة؟
قال: نعم إذا كانت ثقة، وتستحلف المرأة مع المرأة الَّتي تشهد.
قلت: وكذلك القابلة إذا شهدت وحدها؟
قال: تقبل شهادتها على استهلال الولد وما أشبه ذلك.
باب القول في المدبّر
وسألته عن رجل دبّر في مرضه الذي مات فيه عبيداً له فيهم رجال قد بلغوا وصبيان لم يبلغوا؟
قال: إذا كانوا كلهم يخرجون في الثلث جاز عتقهم، وإن كانوا أكثر من الثلث استسعى الكبار منهم بقدر نصيبهم، وكان ما بقي ديناً على الصغار حتَّى يكبروا، فإذا كبروا سعوا فيما بقي للورثة عليهم من قيمتهم.
وسألته عن المدبَّر، هل يرد في الرق؟
فقال: إذا احتاج صاحب حاجة شديدة وضرورة من دين أو فاقة رده، وإلاَّ فلا يرد في الرق.
قلت: فإن كان الذي دبّره مؤسراً، وظهر من العبد فسق أو جور أو خبث بعد تدبيره؟
قال: يرد في الرق، ويشتري بثمنه غيره رقبة مؤمنة.
قلت: فإن رده في الرق ولم يشتر غيره؟
قال: لا يجوز له إلاَّ أن يشتري غيره.
قلت: فإذا ظهرت من المدبّر بعد الفسق توبة وقد ردَّه في الرق واشترى غيره فدبّره؟
قل: حال هذا عندي كحال قارن ساق هدية فَضَلَّ عنه فأخلف غيره ثُمَّ وجده بعد أن قاد قبله غيره، فله أن ينتفع بأحدهما ويخرج الآخر في واجبه، وكذلك يعم التدبير للآخر منهما.
قلت: فلِمَ لا يجعل التدبير الأول الثابت؟
قال: قد انفسخ عنه معنى التدبير بفسقه وإبادال سيده غيره، ووجب التدبير للبدل.
قلت: فلِمَ لا يجعله كحال من ساق بدنة تطوعاً فضَلَّت فأبدل غيرها ثُمَّ وجدها، فوجب عليه أن ينحرهما جميعاً؛ لأن تدبيره للأول كان تطوعاً فيقيس التطوع بالتطوع لا التطوع بالواجب؟
قال: ليس قياس تطوع هذا المدبر، وإن كان تطوعاً كقياس من ساق بدنة متطوعاً فضلت ثُمَّ وجدها.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن البدنة لم تحدث ما أحدث العبد من السبب الذي حرم به تدبيره وعتقه، ألا ترى أن العبد الفاسق لا يجوز عتقه عند من عقل عن الله عز وجل وعرف ما أمر به من قوله: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}[ ]، ومن أعتق فاسقاً فقد أعانه على فسقه وعدوانه، فلما كان ذلك في حكم الله سبحانه كذلك كان تدبير الفاسق فاسداً مفسوخاً، فلذلك لم يلزمه فيهما ما ألزمنا المتطوع بالهدي وألزمناه ما ألزمنا القارن في هديه. (1/191)
وسألته عن رجل دبَّر جارية له فولدت وهي مدبَّرة؟
قال: الولد تابع لها يكون أيضاً مدبَّراً.
باب القول في العتق
وسألته عن رجل قال لجاريته: إن ولدتِ غلاماً فهو حر، فولدت غلامين؟
فقال: عتقا جميعاً؛ لأنَّه إنَّما أراد بالعتق ما في بطنها.
وسألته عن رجل قال لعبده: إذا خدمتَ ولدي أياماً كثيرةً فأنت حر، متى يعتق؟
قال: يعتق إذا خدمهم سنة، وذلك أنا نظرنا في أقل الأيام، فإذا هي ثلاث ثُمَّ نظرنا في كثرة الأيام، فإذا هي أضعاف القليل فتسمَّى أيّاماً كثيرة، وقد يجوز من العشرة أيام إلى مائة يوم ومائتين وثلاثمائة وأكثر وأقل، فنظرنا في ذلك فإذا استكمال منتهى الأيام تمام أيام السنة كلها؛ لأن ذلك أكمل ما يكون من كثرة الأيام؛ لأن كل سنة لها منتهى أيام، ثُمَّ تبدأ سنة أخرى، فلكل سنة أشهر معلومة وأيام معدودة، فهذا أحسن ما رأينا في ذلك.
باب القول في عبد بين ثلاثة نفر فدبَّره واحد وأعتقه واحد وكاتبه واحد
وسألته عن عبد بين ثلاثة أنفس، فكاتب العبد أحدهم في ثلثه، ودبّر أحدهم بعد ذلك بيوم ثلثه، وأعتق الثالث بعد ذلك بيوم ثلثه؟
قال: يضمن المكاتب الأول للآخرَين ثلثي قيمة العبد.
قلت: وكيف يضمن وهو لو عجز المكاتب رد في الرق؟
قال: لأنَّه بدأ فكاتب فأتلفه، ولو أراد رده في الرق قبل أن يعجز ما جاز له، فلذلك ضمن، وكذلك الآخر لو أراد أن يبيعه لم يبتع بعد المكاتبة؛ لأنَّه قد عتق من العبد بعضه، وإذا عتق منه شعرة فقد صار حُرّاً كله. (1/192)
قلت: وكذلك إن كان المعتق أعتق أوَّلاً، ثُمَّ دبر الثاني، ثُمَّ كاتب الثالث؟
قال: وكذلك يكون الأول ضامناً؛ لأنَّه أتلف أوَّلاً.
باب القول في الرجل يعتق أم ولده في الكفارة
وسألته عن رجل قتل خطأً، هل تعتق أُم ولده في الكفارة؟
قال: لا يجوز له ذلك.
باب إذا قال: أحد مماليكي حرّ
وسألته عن رجل له ثلاثة مماليك، فكلمه رجل بشيءٍ بينه وبينه فقال: أحد مماليكي حرّ إن لم أفعل، ثُمَّ مات ولم يفعل، ما الحكم في ذلك؟
قال: دخل عليهم العتق كلهم في ثلث كل واحد منهم، ويستسعي كل واحد منهم في ثلثي قيمته.
فإن لم يكن السيد مات، ولكنه جاز الوقت ولم يفعل؟
قال: يقال له: اختر أيهم شئت فأعتقه.
قلت: فإن رجلاً قال: نصف عبدي هذا حر، وثلث عبدي هذا حر، وسدس عبدي هذا حر، وله مال غيرهم، أو لا مال له غيرهم؟
قال: قد عتقوا كلهم بقوله؛ لأنَّه لو قال: شعرةٌ من عبدي هذا حرّ عتق العبد كله.
قلت: فيستسعي هؤلاء في شيء ممَّا يبقى؟
قال: لا، وليس يبقى منمهم شيء مملوكاً؛ لأنَّه لمَّا قال: نصف عبدي حرّ فقد عتق كله، وكذلك في الآخرين، وإنَّما الاستسعاء لو كان له فيهم شريك، فأما له فلا.
باب القول في الولاء
وسألته عن تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <الولاء للرجال دون النساء>؟
فقال: معناه في ذلك أنَّه جعل الولاءَ للرجال دون النساء؛ لأن الولاء لحمة كالنسب، وإنَّما جعل الله الولاء للرجال دون النساء؛ لأنهم العصبة فالولاء فيهم؛ لأن الرجال ينسب أولادهم أبداً إليهم، فالولاء راجع عليهم أبداً، فلذلك جعل الولاء للرجال، ولو شرك فيه النساء لشرك فيه أولادهن وأولاد أولادهن، فقد يكونون من بطن سوى بطن المعتق، فلذلك لم يجعل الولاء في النساء. (1/193)
قلت: فمَن أولى بالولاء؟
قال: الكبر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فما معنى الكبر، بيِّن لي ذلك حتَّى أفهمه؟
قال: إنَّما قال: <الولاء للكبر>، أراد بذلك الأكبر من العصبة، وهم الوارثون للمعتق ـ الأقربون منه ـ والولاء كالمال، فمن أحرز مال الميت من العصبة الذكور أحرز مال الولاء.
قلت: فهل يباع الولاء أو يوهب؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ لا يباع الولاء، ولا يوهب؟
قال: لأنَّه لو جاز أن يباع أو يوهب لجاز أن يكون في غير عصبة المعتق، ولكان الولاء لمن لم يعتق، وذلك لا يجوز.
قلت: فإن بيع أو وهب يكون ذلك باطلاً؟
قال: نعم.
قلت: فهل يكون للنساء من الولاء شيء؟
قال: لا يكون للنساء من الولاء شيء، إلاَّ ما أعتقنه أو أعتقه من أعتقن، أو كاتبه أو جر ولاه من أعتقن.
قلت: فبين لي ذلك حتَّى أفهمه؟
قال: نعم إن شاء الله، إذا أعتقت المراة عبداً فولاؤه لها، فإن أعتق العبد المعتَق عبداً أيضاً كان ولاؤُه لها، وكذلك إن كاتبت عبداً كان ولاؤه لها.
قلت: فما معنى وقولك: أو جر ولاه من أعتقن؟
قال: ذلك مثل رجل مملوك لامرأة فتزوج حرة مولاةً لقوم فولدت له أولاداً، ثُمَّ أعتقت أباهم مولاته فقد جر ولاءَهم أبوهم إليها إذا أعتق.
باب القول في المكاتبة
وسألته عن رجل كاتب عبداً له على كذا وكذا، فعجز العبد عن أداء ما عليه، هل يرد في الرق؟
قال: نعم، ما بقي عليه من مكاتبته درهم واحد رد في الرق إذا عجز، وقد قال غيرنا: بغير هذا ولا(1) يلتفت إليه. (1/194)
قلت: فإن مات العبد وقد أدَّى بعض مكاتبته؟
قال: إذا مات فقد عتق منه بقدر ما أدَّى، ولورثته من ميراثه بقدر ما عتق منه، ولسيده باقي المال.
قلت: فكل ما ولد المكاتب فهو في مكاتبته؟
قال: هم بمنزلته على قدر ما عتق من أبيهم، كذلك يعتق منهم.
قلت: فيطالبون بما بقي على أبيهم مع ما بقي عليهم؟
قال: لا يطالبون بما بقي على أبيهم إذا كان الأولاد حدثوا بعد المكاتبة، ويستسعون فيما بقي عليهم هم إذا لم يكن الإمام ظاهراً.
قلت: فإن كان الإمام قد ظهر(2)؟
قال: عليه أن يخرج ما بقي عليهم من بيت مال المسلمين إن كان المال محتملاً لذلك، وإن لم يحتمل أعانهم على قدر ما يحتمل بيت مال المسلمين في ذلك الوقت؛ لأن الله عز وجل يقول: {وفي الرقاب}[ ]، وهم المكاتبون.
قلت: فإنه كاتب العبد وأولاده جميعاً، فمات العبد وقد أدَّى نصف ما عليهم، هل يطالب الأولاد بما بقي على أبيهم وعليهم؟
قال: نعم، إذا كانت المكاتبة عليهم جميعاً.
قلت: فإن الأولاد كانوا صغاراً، ولم يكن الإمام ظاهراً، وليس يستسعى مثلهم؟
قال: يكون ديناً عليهم حتَّى يكبروا، أو يظهر الإمام فيؤدي عنهم كما قدمنا، فإذا كبروا أدَّوا ما يلزمهم من قيمتهم في وقت ما مات أبوهم لا في وقت كبرهم وسعيهم.
باب القول في الأيمان
وسألته عن رجل حلف لا يأكل لحماً فأكل كبداً أو كرشاً أو لحم قنفذ أو لحم سلحفاة؟
قال: يلزمه ما نوى من ذلك، إذا كانت يمينه وقعت على أن هذا كله لحمٌ حنث، وإن لم يكن نيته وقعت على أن هذا ليس بلحمٍ لم يحنث.
وسألته عن رجل حلف أن لا يشتري لحماً، فاشتُرِي له بأمره أو بغير أمره؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ولم نلتفت.
(2) ـ في نسخة (ب): ظاهراً، مع حذف قد.
قال: إن كان ممَّن لا يشتري اللحم هو فاشتُرِي له حنث، وإن كان ممَّن يشتريه بنفسه لزمه نيته، فإن كان نوى أن لا يشتريه هو فاشتُرِيَ له لم يحنث، وإن كان نوى أن لا يشتريه ولا يُشتَرَى له، ثُمَّ اشتُرِيَ له حنث. (1/195)
وسألته عن رجل حلف أن لا يأتدم بإدام فأكل بملح أو بشوى أو بدهن أو بِخَل؟
قال: أما الخل فإدامٌ، وأما الملح فليس إداماً.
قلت: فالشوى والمرق والشبرج والبصل وما أشبه ذلك ممَّا يؤكل به الخبز؟
قال: هو إدام إلاَّ الملح والماء.
وسألته عن الرجل يحلف بطلاق امرأته إن لم أقتل فلاناً، وفلان ميت ولم يعلم؟
قال: لا حنث عليه؛ لأنَّه حلف على معدوم.
وسألته عن الرجل(1) يحلف إذا دخلت هذه الدار فامرأته طالق، فهدمت وصارت صَحْرَاء فيدخلها، أو تبنى بناءً آخر أو حمَّاماً أو يجعل بستاناً فيدخلها؟
قال: إذا كانت نيته أن لا يدخل هذه العرصة ولا يطأها لزمه الحنث إن دخلها، وإن كانت يمينه يمين مبهمة فصارت مسجداً أو بستاناً أو حمّاماً فدخلها لم يحنث.
وسألته عن رجل قال: إن أكلت من هذا اللَّبن شيئاً فامرأته طالق، فيصير شيرازاً أو إقطاً أو جبناً أو مصلاً؟
قال: يحنث؛ لأنَّه إذا قال: هذا، فكلما كان منه أو تولد أو حَال فهو هو.
قلت: وكذلك التمر إذا حلف لا آكل من هذا التمر، فصار خلاًّ أو رُبّاً؟
قال: كذلك أيضاً.
وسألته عن الرجل يحلف بطلاق امرأته لا يشتري لأهله عشرة أيام لحماً، وعنده شاة قد اشتراها قبل أن يحلف فذبحها بعدما حلف، هل يحنث؟
قال: لا يحنث.
وكذلك لو كان عنده قبل يمينه فدية أو غير ذلك من اللحم فأكلوه؟
قال: لا يحنث في شيء من ذلك، إلاَّ أن يكون نوى أن لا يأكل شيئاً من ذلك.
وسألته عن رجل قال لعبده: أنت حرّ إن بعتك، ثُمَّ باعه؟
قال: يقال لصاحب العبد استقل لصاحبك، فإن أقالك وإلاَّ فاشتره بما قل أو كثر.
قلتك فإن أبى إلاَّ بأضعاف ثمنه؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): عن رجل إن حلف إن دخل هذه الدار.
قال: لا بد أن يشتريه، ولو بأضعاف ثمنه. (1/196)
قلت: فإن أبى أن يبيعه؟
قال: إذا أبى لم يجبر ونقول(1) لبائع العبد: اشتر مثله بثمنه فأعتقه.
وسألته عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن ابتدأتك بكلام، فقالت المرأة: جاريتي حرَّة إن ابتدأتك بكلام، فقال لها هو: لا جزاك الله خيراً لِمَ فعلت؟
قال: إن كان لمَّا قال لها: لا ابتدأتك بكلام أقبلت عليك فابتدأته بالكلام فقالت: جاريتي حرة إن ابتدأتك بكلام، فقد كلمته إذ ابتدأته، وإن كانت إنَّما أقبلت على غيره تكلمه ولم تكلم الزوج فليس له أن يبتدئها بكلام، فإن ابتدأها حنث، وإن كان لمَّا حلف ابتدأته مُقبلة عليه ثُمَّ أجابها هو بعد ذلك مقبلاً عليها فلا حنث على واحد منهما.
وسألته عن رجل قال لرجل: والله لا كلمتك يوماً، والله لا كلمتك يومين، والله لا كلمتك ثلاث أيام؟
قال: ينوي في ذلك، فإن كان نوى ستة أيام أُلزِمَ ما نوى، وإن كانت(2) يمينه مبهمةً وقال هذا في موقف واحد فهي يمين واحدة في ثلاثة أيام.
قلت: فإن قال: والله لا كلمتك اليوم، والله لا كلمتك غداً، والله لا كلمتك بعد غَدٍ؟
قال: وكذلك الجواب كالأول يمين واحدة في ثلاثة أيام.
وسألته عن رجل قال: لِلَّه عليه ثلاثون أو عشرون نذراً منذوراً ـ ولم يسم شيئاً معلوماً ـ لا فعلت كذا وكذا، ثُمَّ فعلهه، ما يجب عليه، وما يلزمه في هذه النذور؟
قال: قد قيل في ذلك أشياء، وأحسن ما عندي وما قد قاله العلماءُ من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن عليه لكل نذر يميناً، إلاَّ أن يكون عقد نذوراً بعينها أن عليه يميناً واحدة إذا كان ذلك في شيء واحد.
وسألته عن الرجل يقول: إن رزقت مالاً فلله عليَّ مائة درهم صدقةً، كم يكون مقدار هذا المال؟
قال: الذي إذا أخرج منه هذا الذي نذر لم يضر بباقيه.
قلت: شِبه(3) الذي يجب فيه الزكاة؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ويقال.
(2) ـ في نسخة (ب): وإن كان إنَّما حلف يميناً مبهمة.
(3) ـ في نسخة (ب): شبيه.
قال: شَبيهٌ بذلك؟ (1/197)
وسألته عن الرجل يحلف بالطلاق، لا يلبس ثيابه، وله ثياب، هل يلبس بعضها؟
قال: لا، وإن لبس بعضها حنث.
وسألته عن رجل حلف بطلاق امرأته، لا يأكل طعاماً، فشرب سويقاً أو فتوتاً أو لبناً أو غير ذلك ممَّا يشرب من جلاب أو سكنجبين أو غير ذلك؟
قال: أمَّا السويق والفتوت وما كان ممَّا له ثقل(1) يغذو فهو طعام إن شرب من ذلك شيئاً حنث، وأما السكنجبين والجلاب والأشربة الَّتي لا ثقل لها ولا تغذو فإن شرب منها لم يحنث.
قلت: وسألته عن رجل يقول لرجل، عليه له ألف درهم: إن لم أقضك اليوم فامرأتي طالق، فيقضيه فيها زيوفاً أو رصاصاً أو مزبقة؟
قال: إذا أخذه الرجل والدافع قد نوى وفاه، ولم يقضه الزيوف عمداً لم يحنث.
قلت: وسألته عن الرجل يقول: عبدي هذا حر إن بعته، فباعه على أن البائع بالخيار ثلاثاً، وكذلك إذا قال المشتري: إن اشتريته فهو حرّ، فاشتراه على أن المشتري بالخيار ثلاثاً؟
قال: إذا كان الخيار للبائع لم يعتق العبد؛ لأنَّه يملك المشتري عقدة البيع، ولم يحنث البيع، وإذا جعل الخيار للمشتري وملك المشتري عقدة البيع فلا حنث عليه، والعبد عبده مملوك له ولا يضره قوله: إن اشتريته فهو حرّ؛ لأنَّ أصل قولنا وقول جميع علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام: أنَّه لا عتق إلاَّ بعد ملك، ولا طلاق إلاَّ بعد ملك عقدة النكاح، والعامة ترى أن ذلك واجد عند الشراء وعند التزويج، ولسنا نقول بذلك ولا نراه ولا أحد من علماء أهل بيت نبينا عليه وعلهيم السلام.
قلت: فكيف يعمل البائع، وقد باعه؟
قال: يشتريه من صاحبه ولو بأضعاف ثمنه، ثُمَّ يعتقه.
قلت: فإن أبى المشتري، هل يجبر على رد العبد؟
قال: لا؛ لأنَّه قد ملكه، ولكن نقول له: يشتري عبداً مكانه بقدر ثمنه فيعتقه.
قلت: ولِم لا يجبر المشتري على البيع وقد لزم البيع العتق وحنث في قوله؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ثفل.
قال: لا سبيل على المشتري للبيع؛ لأنَّه إنَّما اشترى عبداً لا حرّاً، وملك الشراء قبل حنث البيع؛ لأنَّه إنَّما يحنث من بعد نفاذ البيع، وقد توسط اشتراء المشتري وملك العبد؛ لأن شراءه صحيح، ولا سبيل للبيع على العبد ولا على المشتري، ومثل ذلك مثل رجل قال: إن بعت ثوبي هذا فهو للمساكين فباعه، القول في ذلك: أن البيع صحيح، والثوب للمشتري، ويقال للبائع: اشتره واجعله للمساكين، فإن باعه إياه المشتري جعله للمساكين، وإن لم يبعه إياه وجب عليه أن يجعل ثمنه للمساكين، فيقاس العبد هو كقياس هذا الثوب. (1/198)
قلت: فإن قال المشتري: لله عليَّ نذرٌ إن أنا اشتريت هذا العبد أن أعتقه، فاشتراه؟
قال: إذا ملك عقدة البيع فقد وجب عليه عتقه، ولا يحل له ملكه.
قلت: فما الفرق بين هذين المعنيين؟
قال: هذا أمر جعله لله، فعليه الوفاء لله بما جعل له حين قال: إذا اشتريته أو إن اشتريته فهو حر أنَّه قد أعتق ما لا يملك، ووقع قوله: فهو حر، ذلك الوقت على غير ما يملك، وليس يجوز لأحد عتق عبدٍ لغيره، ولا طلاق امرأة غيره، فلما أن وقع هذا العتق الذي أوجبه واللفظ الذي ذكره هذا الوقت على عبد لا يملكه وعلى امرأة لا يملكها كان كمن طلق امرأة غيره أو أعتق عبد غيره، وذلك لا يجوز لأحد؛ لأنَّه تكلم بذلك والمرأة في حبال رجل غيره من زوج أو ولي، وكذلك العبد تكلم بعتقه وهو في ملك غيره.
وسألته عن رجل قال: إن لم أبع هذا العبد أو هذه الجارية فامرأته طالق فأعتقه أو دبّره.
قال: يلزمه الحنث.
قلت: وكذلك لو كاتبه.
قال: نعم، كلما كان يزيل الملك وجب فيه الحنث.
وسألته عن رجل يحلف أن لا يأكل فاكهة فاكل عنباً أو رطباً أو رماناً أو قثاءً أو خيارً أو بطيخاً أو مشمشاً أو خوخاً أو تيناً رطباً أو يابساً أو عنَّاباً أو باقلاء أخضر أو لوبياء أخضر.
قال: كل ذلك من الفاكهة، إلاَّ الرطب والباقلاء فإنه ليس عندي بفاكهة ولا تسميه العرب من الفاكهة.
قلت: وكذلك كل ما يبس من هذه الفواكه. (1/199)
قال: هو فاكهة ولو يبس.
قلت: فالتمر اليابس هو فاكهة؟
قال: لا.
قلت: فالسكر والفانيد؟
قال: أما عند أهل اليمن فهو فاكهة، وإن حلف منهم حالف فأكل منه حنث؛ لأن نياتهم أن هذا فاكهة، وأما أهل العراق وغيرهم من أهل البلدان إذا أكلوا منه شيئاً لم يحنثوا؛ لأن نياتهم أن هذا ليس بفاكهة.
قلت: فالجوز اليابس واللوز اليابس والغبيراء؟
قال: كل هذه الأشجار الَّتي تأتي في كل وقت يستطرفها الناس ويتفكهون بها فهي فاكهة، وكذلك ما يبس منها.
وسألته عن رجل حلف بالله، أو بطلاق امرأته لا يساكن أهله في هذه الدار، أو في هذا البيت، هل له أن يدخل بالنهار إلى هذا البيت أو إلى هذه الدار فيأكل ويشرب ويصلي ويجامع وغير ذلك ولا يأوي في الدار ولا في البيت بالليل.
قال: نعم له ذلك؛ لأن المساكنة إنَّما هي النوم بالليل والنهار، فلا يجب أن ينام بالليل ولا بالنهار، وله أن يدخل مثل الزائر فيقضي جميع ذلك ويخرج ولا حنث عليه.
قلت: وكذلك إن حلف رجل لا يلبس هذا الثوب، فباعه واشترى بثمنه ثوباً غيره، أو اشترى بثمنه غزلاً فعمله ثوباً فلبسه.
قال: لا يحنث، إلاَّ أن يكون نوى أن لا ينتفع من ثنمه بشيءٍ.
قلت: وكذلك إن حلف رجل أن لا يلبس ثيابه وكان له أثواب فلبس بعضها، هل يحنث؟
قال: نعم يحنث؛ لأنَّه لو كان له عشر جوار فحلف أن لا يطأهن ولم يكن له نية فوطء واحدة منهن حنث.
قلت: فإن حلف بطلاق امرأته، أو بالله لا تلبس امرأته هذين الخلخالين فلبست أحدهما؟
قال: وكذلك يحنث أيضاً، والجواب في هذا واحد.
قلت: فإن حلف بطلاق امرأته، أو بالله أن لا يفارق غريمه حتَّى يأخذ حقه منه، ففر غريمه منه، أو قام هو لحاجة، هل يحنث؟
قال: إن كان نوى أن لا يزايله حتَّى يأخذ منه ويده في يده، أو نيته أن يراصده ففر الغريم لزمه الحنث.
وسألته عن رجل حلف لا يأكل لحماً، فأكل شحماً أو أكل بمرق اللحم، هل يحنث؟
قال: يسأل عن نيته، فإن كانت نيته أن لا يأكل اللحم ولم يعقد على الشحم أكل؛ لأنَّ الله قد ميز ذلك. (1/200)
قلت: فإن كانت يمينه مبهمة ولا نية له؟
قال: فلا يأكل؛ لأن الشحم يخالط اللحم كما قال الله تبارك وتعالى: {إلا ما حملت ظهورهما}[ ]، فإن أكل حنث.
قلت: وكذلك إن حلف أن لا يأكل خبزاً فأكل فتوتاً أو شرب سويقاً أو سف دقيقاً أو عمل عصيدة، هل يحنث في ذلك.
قال: أما الفتوت فهو من الخبز، فإن شرب فتوتاً حنث، وأما السويق والعصيدة فزائل عن الخبز، فإن أكل عصيدة أو شرب سويقاً لم يحنث.
قلت: وكذلك إن حلف لا يأكل رؤوساً فأكل رؤوس طيرٍ مَّا، أو حمام أو غير ذلك، هل يحنث.
قال: لا يحنث؛ لأن رؤوس الطير ليس من الرؤوس الَّتي يقع عليها نية الحالف.
قلت: وكذلك إن حلف أن لا يأكل تمراً فأكل رطباً أو زهواً، هل يحنث؟
قال: على ما نوى، فإن كانت نيته أن ما حمل النخل فهو التمر فأكل من ذلك حنث، وإن كان عنى تمراً يابساً دون شيء من ذلك لم يحنث.
قلت: فإن كانت يمينه مبهمة؟
قال: لا يأكل؛ لأنَّه كله تمر.
قلت: وكذلك إن حلف لا يأكل هذه الرمانة فأكل بعضها؟
قال: لا يحنث؛ لأنها رمانة وليس بعضها كلها إلاَّ أن يكون نوى أن لا يأكل منها شيئاً.
قلت: وكذلك إن حلف لا يأكل رمانة، فأكل نصف واحدة وربع أخرى وثلث أخرى؟
قال: إذا أكل ذلك حنث، إلاَّ أن يكون له نية في رمانة بعينها فأكل غيرها لم يحنث.
وسألته عن رجل يحلف لا أبرح حتَّى أخذ حقي من غريمي هذا، ويكون الغريم مُعدِماً، وله عَرضٌ من العروض، ما يعمل في ذلك؟
قال: إن أخذ منه عرضاً من العروض فقيمة ما له عليه، فقد استوفى ولم يحنث.
قلت: فإنه كان له عليه دنانير فأبى الغريم أن يأخذ إلاَّ دنانير.
قال: ذلك له يبيع له.
قلت: فإنه لم يشتر منه إلاَّ بوكس؟
قال: يؤجل له أيّاماً، فإن لم يجد من يشتري منه إلاَّ بوكس ألزم البيع بوكس أو بغير وكس.
قلت: وكذلك لو حلف لا يفارقه حتَّى يأخذ منه حقه، فضمن له رجل آخر عنه، أو دفع إليه صاحبه رهناً بالذي له عليه فقبضه، أو قَبِل الضمان، هل يحنث؟ (1/201)
قال: قد استوفى، فلا حنث عليه، إلاَّ أن يكون نوى أن لا يقبل ضماناً ولا رهناً.
قلت: وكذلك لو حلف لا يأكل لبناً، فأكل إقطاً؟
قال: لا يحنث؟
قلت: وكذلك لو حلف لا يأكل بلبن فأكل شيرازاً أو مصلاً أو جبناً؟
قال: لا يحنث في ذلك.
قلت: فإن رجلاً حلف لا يأكل سمناً فأكل زبداً.
قال: لا يحنث.
وسألته: عن رجل حلف على امرأته بطلاقها، وقد توجهت لتخرج من الدار: أن لا تخرجي، فرجعت فجلست ساعة ثُمَّ خرجت؟
قال: يسأل عن نيته، فإن كانت نيته قبل أن يحلف أن لا تخرج من الدار وكان يأمرها بلزوم المنزل حنث في يمينه؛ لأنَّه كانت نيته أن لا تخرج، وإن لم يكن يأمرها قبل ذلك بلزوم المنزل ولا ينهاها عن الخروج، وإنَّما حلف في الوقت لغضب لا لشيء تقدم لم يحنث.
وسألته عن رجل قال لامرأته وهي راكبة: أنت طالق إن ركبت هذه الدابة؟
قال: تنزل ولا حنث عليه.
قلت: فإن لبثت قليلاً على الدَّابة؟
قال: إذا كانت في أهبة النزول وحركته فلا حنث عليه، وإن ثبتت على الحمار في غير أهبة النزول من بعد يمينه فقد حنث.
قلت: وكذلك إن قال لها: أنت طالق إن لبست هذا الثوب، وهي لابسة؟
قال: وكذلك القياس في جميع هذا واحد.
وسألته عن رجل حلف على امرأته لا تلبس حليّاً فلبست خاتماً أو لؤلؤاً أو دُرّاً أو ياقوتاً أو زبرجداً أو شيئاً من الجوهر غير الذهب والفضة.
قال: أما الخاتم فليس هو حليّاً، وأما الدر والؤلؤ والزبرجد والياقوت وما أشبهه من الجوهر فهو حليّ.
قلت: فمثل المهاء والجزع وما عمل من جوهر القوارير أو حجارة الأرض؟
قال: أما أهل المدن فليس هذا عندهم حليّاً، وكذلك هو عندي، وأما أهل السواد والبوادي فهم يعدونه(1) حليّاً، فمن حلف منهم على ذلك حنث.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يعتدونه.
وسألته عن رجل حلف أن أول عبد يشتريه حرّ، فاشترى عبدين معاً في صفقة واحدة. (1/202)
قال: لا يلتفت إلى ذلك، ولا يلزمه، وسواء اشترى عبداً أو عبدين؛ لأنَّه لا عتق إلاَّ بعد ملك، ولا طلاق إلاَّ بعد مِلك.
قلت: فإن رجلاً قال: كل عبد لي حرّ، وله مدبرون ومكاتبون وأمهات أولاد وعبد قد عتق بعضه.
قال: يعتقون كلهم.
قلت: فيرجع عليه المكاتب بشيء ممَّا أخذ منه.
قال: لا، إنَّما عتق ما يملك فيه.
بابٌ في من حلف يميناً إلى وقت من الأوقات
وسألته عن رجل حلف بالله ليأتين فلاناً في وقت العشاء، فلم يأته إلاَّ بعد ربع الليل أو ثلثه؟
قال: يُسأل عن نيته، فإن كان نوى أن يأتيه في أول وقت العشاء وحين وجوبها حنث، وإن كان لم ينو أول الوقت فأتاه قبل طلوع الفجر فليس بحانث؛ لأن ذلك وقت لصلاتها لمن كانت به علة قاطعة عن تعجيل صلاتها.
قلت: وكذلك لو حلف على دين لغريمه ليقضينه إياه في وقت من الأوقات من ليل أو نهار؟
قال: وكذلك الأمر فيه كما شرحت لك.
قلت: فإن رجلاً حلف بالطلاق ليكلمن رجلاً أو ليأتينَّه على رأس السنة أو رأس الشهر؟
قال: عليه أن يأتيه في أول وقت دخول السنة المقبلة، وخروج السنة الأولى فيكلمه في أول ليلة دخلت من السنة الداخلة ما بينه وبين طلوع الفجر، فإن طلع الفجر ولم يكلمه فقد حنث؛ لأنَّه قد مضت من السنة الداخلة ليلة، ومضى رأس السنة الخارجة.
قلت: وكذلك القول في الشهر؟
قال: وكذلك المعنى واحد، فافهم هذه المعاني، وقس عليها ما أتاك إن شاء الله بقياس حسن ولب حاضر.
بابٌ في الصبي يحلف باليمين في صغره فيحنث في صغره
أو بعد كبره، والمملوك يحنث
قلت: فإن صبيّاً حلف بيمين في معنى من المعاني في صغره ثُمَّ حنث؟
قال: لا كفارة عليه.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن اليمين لم تلزمه عقدتها لصغره عندما حلف بها.
قلت: وكذلك لو حلف في صغره أن لا يكلم فلاناً فكلمه بعد بلوغه، هل عليه كفارة؟
قال: لا يلزمه كفارة في يمينه؛ لأنَّه عقَد اليمين والعقد بها لا يلزمه؛ لأنَّه عقدها في حال صغره، فلما أن لم يلزمه حفظها عند تعقيده إياها لم يلزمه عند الحنث كفارة فيها. (1/203)
قلت: فإن حلف بالطلاق، أو بالعتاق في حال صغره في معنى من المعاني لا يفعله، ثُمَّ فعله في كبره؟
قال: وكذلك لا يلزمه حنث عندي إذا كان إنَّما حلف وهو ابن عشر سنين وما قاربها، إلاَّ أن يكون ذلك الوقت بالغاً.
قلت: فالمملوك إذا أقسم ثُمَّ حنث، ما يجب عليه؟
قال: إذا أقسم وكان كبيراً وجبت عليه الكفارة.
قلت: وما كفارته؟
قال: صيام ثلاثة أيام.
قلت: فإن أطعم عنه سيده أو أعتق؟
قال: لا يجزيه ذلك.
قلت: فكفارة المملوك في الظهار والقتل خطأ؟
قال: لا يجزيه إلاَّ صيام شهرين متتابعين.
قلت: ولِمَ لا يجزي عنه إطعام مولاه ولا عتقه؟
قال: لأن الله تبارك وتعالى إنَّما جعل الكفارة على المذنبين في أموالهم وما يملكونه ويظنون به ممَّا يعز إخراجه عليهم تنكيلاً وتأديباً، والعبد فليس ماله له ولا مال سيده، وليس يؤدبه وينكله إلاَّ ما ناله في نفسه، والصيام فهو داخل عليه في نفسه، فلذلك أوجبنا عليه الصيام، ولم يجز غير ذلك من فعل سيده للغلام من عتق أو كسوة أو إطعام.
باب القول في من حلف لا يشتري شيئاً ولا يبيعه ولا يتزوج
قلت: فإن رجلاً حلف بيمين كائنة ما كانت لا يبيع ولا يشتري شيئاً، ثُمَّ باع أو اشترى بيعاً فاسداً؟
قال: إن باع بيعاً فاسداً أو اشترى شراءً فاسداً يجوز له فيه العتق أو الهبة أو الصدقة، لزمه الحنث.
قلت: وما البيع الفاسد الذي يجوز له هبته وصدقته، بيِّنه لي حتَّى أفهمه؟
قال: نعم إن شاء الله، مثل الرجل يبيع مسكة من الذهب فيها خمسة مثاقيل بستة مطوقة، فأخذ الدنانير فوهبها أو تصدق بها جازت هبته وصدقته، وكذلك لو اشترى بها عبداً فأعتقه لجاز عتقه له، وإن كان البيع بينه وبين من أخذ منه فاسداً مفسوخاً؛ لأن الذهب مثل بمثل لا يجوز الفضل بينهما، فقد أخذ أقل من وزن ذهبه، وإنَّما يجب عليه أن يرد عليه مثقالاً أو يرد عليه خمسة دنانير ويرجع ذهبه، ولا يجب عليه أن يرد تلك الدنانير بعينها ممَّن تصدق بها عليه أو ممَّن اشترى منه العبد فأعتقه. (1/204)
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل عبداً بعبدين إلى سنة فأخذه من ساعته فأعتقه؟
قال: كذلك أيضاً يكون العتق لازماً له؛ لأنَّه قد باعه، ويحكم له عليه بقيمته يوم باعه، ولا يحكم له بالعبدين.
قلت: ولِمَ لا يحكم عليه بالعبدين؟
قال: لأنَّه وقع التأخير والدين، ولا يجوز بيع الحيوان واحداً باثنين إلى أجل، وإنَّما يجوز ذلك يداً بيدٍ.
قلت: فإن كان إلى يوم أو يومين؟
قال: اليوم واليومان كالشهر والشهرين، وليس له إلاَّ قيمة عبده؛ لأن المشتري قد استهلكه بعتقه له، فلما أن لم يحكم عليه في هذا كله برد الشيء نفسه وكان فعله في ذلك الشيء الذي أخذه جائزاً لا يرد عليه، وإنَّما يطالب بمثله، كان الحالف يمينه حانثاً؛ لأنَّه قد استهلك ثمن الشيء ولم يحكم عليه برده بعينه دون غيره فلزمه باستهلاك الثمن اسم البيع، فلما أن ألزم البيع لزمه في يمينه الحنث.
قلت: فإن رجلاً حلف ألاّ يتزوج، فتزوج؟
قال: إن كان تزوج تزويجاً فاسداً لم يحنث.
قلت: وما التزويج الفاسد؟
قال: التزويج الذي لا يجب عليه فيه الطلاق.
قلت: وما التزويج الذي لا يقع عليه فيه الطلاق؟
قال: مثل الرجل يتزوج أمه من الرضاعة أو أخته من الرضاعة وهو لا يعلم، أو امرأة قد أرضعت أباه وهو لا يعلم، فهذا التزويج الذي لا يقع عليه الطلاق، وهو تزويج فاسد يُفسخ.
بابٌ فيمن أكره على اليمين
وسألته عن رجل أكرهه سلطان جائر فأحلفه بالطلاق أو العتاق على أمر من الأمور الَّتي لا تحل للظالم، ولا يحل للرجل أن يصدقه فيها؟ (1/205)
قال: لا يكون استحلافه إياه ممَّا يوجب عليه حنثاً.
قلت: فإن قال له: طلق امرأتك وإلاَّ فعلت بك أمراً يخاف على نفسه فيه الأذى فطلق؟
قال: لا يحنث.
قلت: فإن أعطي من ذلك شيئاً غير مكره.
قال: يلزمه الحنث.
بابٌ فيمن حلف بالطلاق فحنث وهو لا يعلم
وسألته عن رجل حلف بالطلاق لا يبرح حتَّى(1) يشتري عشرة أرطال سكراً، فاشتراها ثُمَّ وجد فيها رطل قند؟
قال: يحنث.
قلت: فإن حلف لا أبرح أو أتزن من فلان عشرين درهماً، فاتزنها فوجد فيها بعد ذلك درهمين حديداً؟
قال: يحنث أيضاً.
قلت: فإن رجلاً حلف بالطلاق لا يلبس ثوبه هذا غيره، فسُرق الثوب منه، فلبسه الذي سرقه وعلم الرجل بذلك، هل يحنث؟
قال: لا يحنث؛ لأن الذي سرقه لبسه بغير إرادته، وإنَّما أراد بيمينه ألاَّ يلبسه غيره طوعاً، إلاَّ أن تكون له نية غير ذلك.
باب الكفارات
وسألته عن الأيمان، كم هي، وما تجب فيه الكفارة منها، وما لا تجب؟
فقال: الأيمان ثلاث أيمان، فمنهن: اللغو، وكسب القلب، وما عقدت عليه الأيمان.
قلت: وما معنى اللغو، وكسب القلب، وما عقدت عليه الأيمان؟
قال: أما اللغو: فاليمين يحلف بها الرجل هو يظن أنَّه صادق فيها، ولا يكون الذي حلف عليه كما حلف، فهاتيك لغو ولا كفارة عليه فيها، وينبغي للحالف أن يتجنب مثلها.
وأما كسب القلب: فهو ما حلف عليه الحالف كاذباً وهو يعلم أنَّه كاذب يتعمد ذلك تعمداً في بيع أو شرى أو غير ذلك، فليس في تلك كفارة وليس عليه فيها إلاَّ التوبة إلى الله سبحانه والإنابة والرجعة عن الخطيئة.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أن لا يبرح أو يشتري...إلخ.
وأما العقد من الأيمان: فهي ما حلف عليه الحالف أن لا يفعله، أو أقسم أن يفعله، وهو عازم على التمام على يمينه والوفاء، ثُمَّ رأى أن غير ذلك خير منه ففعله، فعليه في تلك كفارة اليمين. (1/206)
قلت: ولأيِّ علة كفّرت هذه اليمين ولم تكفّر الأولتين؟
قال: أما اللغو فلعلة أن الله تبارك وتعالى قال: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}[ ]، فلم يوجب عليه في اللغو كفارة، وأما كسب القلب الَّتي هي هجم عليها وهو كاذب فيها متعمد لكذبه مجترئ على الله جل وتعالى فيها فلا يجب عليه فيها كفارة؛ لأنَّه حلف على ما يعلم أنَّه خلاف ما حلف عليه اجتراءً على الله في ذلك، وهذه أعظم الأيمان إثماً.
وأما عقد القلب فقول الله عز وجل: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين}... إلخ[ ]، فأوجب في الكفارة إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.
قلت: فكم يطعم كل مسكين، أو يكسوه، بيِّن لي ذلك حتَّى أفهمه إن شاء الله؟
قال: يطعم كل مسكين منهم نصف صاع من حنطة أو دقيق غداءه وعشاءه النصف الصاع لا غيره، مأدوماً بأوسط الإدام من أوسط ما يطعم أهله.
قلت: وما معنى: {من أوسط ما تطعمون أهليكم}[ ]؟
قال: يطعم ممَّا يأكل هو وعياله، إن أكل برّاً فبرّاً لكل مسكين نصف صاع كما ذكرنا غداءه وعشاءه وإدامه، وإن أكل شعيراً أو ذرةً أو تمراً فصاعاً صاعاً لغدائه وعشائه وإدامه.
قلت: فما يكسو المساكين إن كساهم؟
قال: يكسوهم كسوة الجسد.
قلت: مثل أي شيءٍ؟
قال: إما قميصاً سابغاً، وإمّا ملحفة يلتحف بها، وإما كساء، لا تكون الكسوة إلاَّ كسوة جامعة للبدن، ولا يجوز أن يكسو أحدهم عمامة وآخر سراويلاً.
قلت: فإذا أراد أن يعتق، ما يعتق؟
قال: يعتق رقبة مسلمة صغيرة كانت أو كبيرة.
قلت: فهو في أي ذلك شاء مخير؟
قال: نعم، أي ذلك شاء أجزاه، وعتق الرقبة أفضل، ثُمَّ الكسوة أفضل من الطعام، ثُمَّ الإطعام.
قلت: فمن لم يجد من ذلك شيئاً؟ (1/207)
قال: يصوم ثلاثة أيام متتابعات.
قلت: فإن أراد أن يطعم فلم يجد عشرة مساكين، ولم يجد إلاَّ ثلاثة مساكين، هل يدفع إليهم كفارة اليمين؟
قال: لا أحب ذلك إلاَّ أن لا يجد غيرهم، وكذلك لا أحب له أن يدفع كفارات أيمان إلى عشرة مساكين إلاَّ أن لا يجد غيرهم بحيلة من الحيل.
قلت: فإن لم يجد في كفارة اليمين إلاَّ ثلاثة مساكين، وكذلك إن لم يجد في كفارة ثلاث أيمان إلاَّ عشرة مساكين، ما يعمل؟
قال: إن لم يجد غيرهم دفعها إليهم في أوقات مختلفة، ولا يدفعها إليهم جملة، ولكن يطعمهم كل يوم عن كفارة.
قلت: فهل يبعث بكفارته إذا لم يجد المساكين إلى بلدة أخرى فيها مساكين.
قال: نعم.
قلت: فلِمَ كرهت أن تدفع كفارة اليمين إلى ثلاثة مساكين في يوم واحد.
قال: لأن الواجب على كل مكفر أن يطعم عشرة مساكين طعامهم يوماً، فإذا أطعم ثلاثة إطعام عشرة في يوم لم آمن أن يأكلوه كله في يومهم فيكون قد أطعم ثلاثة إطعام عشرة، والواجب أن يطعم عشرةً.
قلت: فيجب للمكفِّر أن يعطي المساكين الكفَّارة طعاماً، أو يطعمهم في منزله؟
قال: وكل ذلك واسع جائز، وأحب إليَّ إذا أراد أن يكفر يميناً أخرج طعام عشر مساكين خمسة أصوع، ويأمر بعملها حتَّى يخبز، ثُمَّ تفت وتؤدم بلحم أو سمن أو بما أمكن، ثُمَّ يدعوهم فيغديهم ويعشيهم في منزله.
قلت: فإن فضل من عشائهم شيء؟
قال: يدفعه إليهم فيقتسمونه بينهم.
قلت: فإن لم يمكنه يدعوهم في منزله، وكان لهم منازل؟
قال: فأحب إليَّ أن يبعث به إليهم مفتوتاً مأدوماً.
قلت: ولأيِّ علة يجب أن يبعث به إليهم مفتوتاً مأدوماً؟
قال: لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فإطعام عشرة مساكين}[ ]، فأوجب الإطعام على من لم يرد العتق أو الكسوة، فإذا بعث به مفتوتاً لم يكن لهم بدّاً من أكله، ولم يصرفوه في غير الطعام والأكل له، وهو إذا بعث به إليهم حبّاً لم آمن أن يصرفوه في غير الطعام والأكل له، فيكون المرسل بالحب إليهم غير مؤدٍّ لما أمر الله به من إطعامهم. (1/208)
بابٌ في ترديد اليمين في الشيء الواحد
قلت: فإن رجلاً حلف في شيء بعينه بأيمان(1) كثيرة فحنث، هل عليه فيها كفارات على قدر أيمانه، أم عليه كفارة واحدة؟
قال: ليس عليه إلاَّ كفارة واحدة.
قلت: فإن تعداه إلى غيره فحلف في شيءٍ سواه، فحنث؟
قال: فعليه كفارتان.
باب القول في ما يقع به القسم على المقسم
قلت: فإن رجلاً قال: والله لا فعلت(2) كذا وكذا، أو بالله أو تالله لا فعلت(3) كذا وكذا، أو وحق الله، أو قال: وربي، أو قال: وحق ربي، أو قال: ورب شيء ممَّا خلق الرحمن ـ كائناً من الأشياء ما كان ـ أو قال: عليه عهد الله وميثاقه، أو قال: أيم الله، أو هاهيم الله، أو أقسم بالله؟
قال: كل ذلك يمين إذا حلف الحالف(4) ثُمَّ حنث، وجبت عليه الكفارة.
قلت: فإن قال رجل: أقسم إن لم أفعل كذا وكذا ثُمَّ لم يفعل، ما يجب عليه؟
قال: يُسأل عن نيته، فإن كان أراد القسم بالله كانت عليه فيه الكفارة وجبت عليه، وإن كان أراد أن يقسم بغير الله فلا كفارة عليه، كل من أقسم بغير الله أو حلف بغير الله لم يجب عليه كفارة.
بابٌ فيما يجزي من الرقاب في الكفارات
قلت: فما يجزي من الرقاب في الكفارات؟
قال: أما كفارة اليمين وكفارة الظهار، فإنه يجزي فيهما الصبي والمكفوف والأعرج والأعور والأخرس والأشل والمجنون لمن لم يجد غير ذلك، والسالمة من ذلك أفضل.
__________
(1) ـ في نسخة (ب) أيماناً.
(2) ـ في نسخة (ب): لا قلت.
(3) ـ في نسخة (ب): لا أفعل.
(4) ـ في نسخة (ب): حالف.
فأما في القتل فلا يجوز إلاَّ صحيح العقل بالغ في سِنِّه قد عرف الإسلام وعمل به؛ لأن الله عز وجل يقول: {فتحرير رقبة مؤمنة}[ ]، والمؤمنة فهي الَّتي تَعرف الإيمان. (1/209)
وأما في النذور فعليه ما نوى، إن نوى سليمة فسليمة، وإن نوى بالغة فبالغة، وإن نوى صغيرة فصغيرة على قدر نيته، وإن أبهم يمينه فالسليمة أحب إلينا له.
وولد الزنا إذا كان مسلماً عفيفاً يجزي في الرقاب كلها.
بابٌ في الرجل يحلف ويستثني بعد انقطاع كلامه
قلت: فإن رجلاً(1) حلف في شيء فاستثنى في مجلسه قبل انقطاع(2) كلامه وكينونة قيامه؟
قال: من حلف واستثنى هذا الاستثناء الذي ذكرت فله ما استثنى.
قلت: فإنه استثنى بعد انقطاع(3) كلامه فيما حلف فيه؟
قال: فلا استثناء له في ذلك، وعليه الكفارة إن حنث.
بابٌ فيمن لزمته كفارة فلم يجد مساكين المسلمين
هل يجوز له أن يطعم مساكين أهل الذمة
قلت: فإن رجلاً وجبت عليه كفارة، فلم يجد مساكين المسلمين، هل يطعم مساكين أهل الذمة؟
قال: لا يجوز أن يصرف كفارات المسلمين إلى غيرهم من الذميين.
قلت: فما يعمل بها إذا لم يجد مساكين المسلمين؟
قال: ينتظر بها أهلها من فقراء المسلمين حتَّى يصرف فيهم، ويؤثرون بها دون غيرهم، وقد قال غيرنا: إنها تجوز في فقراء أهل الذمة، ولسنا نقول: إنها لا تكون إلاَّ في فقراء أهل الملة الذين تجوز فيهم زكوات أغنيائهم، وبها حكم الله لهم في أموالهم.
بابٌ فيمن حلف بطلاق، ليفعلنّ كذا وكذا، ثُمَّ مات قبل(4) أن يفعل
وسألته عن الرجل يحلف بطلاق امرأته، ليفعلنَّ كذا وكذا، ثُمَّ يموت قبل أن يفعله؟
قال: إذا كان مُجمِعاً على فعله غير تارك له فقد وقع الطلاق بها يوم مات، وهي ترثه؛ لأنها في عدَّةٍ منه.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): حالفاً.
(2) ـ في نسخة (ب): إنقضى.
(3) ـ انقضى، نسخة.
(4) ـ في نسخة (ب): ولم يفعل.
قلت: فإن سمَّى وقتاً، فقال: عليه الطلاق ليفعلنَّ كذا وكذا في هذا اليوم وهذا الشهر(1)، فمات بعدما وقت، ما يجب عليه. (1/210)
قال: قد حنث وقت ما خرج ذلك الوقت وطلقت امرأته قبل وفاته، فإن كان طلقها طلاقاً يجوز له فيه ارتجاعها وكنت في عدتها ورثته، وإن كانت قد خرجت من عدتها لم ترثه.
قلت: فإن حنث وقد تقدم قبلها تطليقتان؟
قال: فلا ترثه إذاً؛ لأن هذه تطليقة ثالثة لا تحل له حتَّى تنكح زوجاً غيره، فلذلك قلنا: إنها لا ترثه إذا كان كذلك، ولو مات بعد الحنث بيوم.
قلت: فإن حلف بطلاق أو بعتق عبده ليفعلنَّ كذا وكذا، ولم يوقت وقتاً، ثُمَّ كان على ذلك مُجمِعاً حتَّى مات؟
قال: فلا حنث عليه.
باب القضاء بين أهل الأسواق في المجالس
وسألتُه عن بطون الأسواق من أحق بها.
فقال: من سبق بموضع فهو أحق به يومه ذلك.
قلت: فإن جلس فيه يومه ذلك وبنى في موضعه دكاناً يجلس فيه، ثُمَّ بدره من غد إليه غيره فجلس فيه، هل للذي بنى الدكان بالأمس أن يقيمه منه؟
قال: لا، حتَّى ينقضي يومه ذلك، ثُمَّ هو لمن بدر إليه أيضاً فجلس، وكذلك بلغنا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه خرج إلى السوق ذات يوم فإذا دكاكين في بطون الأسواق قد بنيت ورفعت، فقال: (ما هذا السوق إلاَّ للأسود والأبيض، فمن سبق إلى مكان غدوة فهو مكانه إلى الليل).
قلت: فأفنية الحوانيت؟
قال: تلك لأربابها لا يزاحمهم فيها أحد، وإنَّما هذا الذي ذكرنا في بطون الأسواق.
باب القول فيما يجب على الزوج والزوجة من القيام في أمر منزلهما
وسألته: ما يجب على الرجل لزوجته؟
فقال: النظر فيما خارج والقيام به والعناية بإصلاحه.
قلت: مثل أيّ شيء؟
قال: مثل اكتساب النفقة والكسوة وغير ذلك ممَّا لا يصلح لها الخروج فيه.
قلت: فما يجب على المرأة لزوجها؟
قال: القيام بما في داخل المنزل والقيام في جميع أمره والإصلاح لكل شأنه.
قلت: مثل أيّ شيء؟
__________
(1) ـ في نسخة: أو شهر.
قال: مثل خدمة المنزل من خبز الطعام وتبريد الماء ونفض الفراش، وغير ذلك من خدمة البيت، وبذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين علي وفاطمة عليهما السلام، فقضى على ابنته فاطمة بخدمة البيت، وقضى على علي رضي الله عنه بإصلاح ما كان خارجاً والقيام به. (1/211)
باب القول في تخيير الغلام بين أمه وعمه ومن أحق بالولد
وسألته عن امرأة ماتت وتركت ولداً صغيراً ولها زوج وأم وأخت، من أحق بالولد من هؤلاء، فيحكم له به؟
قال: أمُّ الأمِّ أحقّ بالولد.
قلت: كم يكون الولد عندها حتَّى يستحقه الأب؟
قال: حتَّى يحتاج إلى الأدب والدخول إلى الكتَّاب لتعليم الكتَّاب وغير ذلك، فيكون أبوه يفعل به ذلك، ولا يُمنع أيضاً من الجدة.
قلت: فإذا ماتت الجدة والصبي صغير لم يبلغ، من أحق به من بعد أُمِّ أُمِّه؟
قال: خالته أحق به أيضاً، يكون عندها على ما كان عند الجدة.
قلت: فإن ماتت الخالة؟
قال: فالأب أحق به بعد هاتين.
قلت: فإن الأب طلق أمُّ الصبي، من أحق به؟
قال: أمه أحقّ، ما لم يحدث في نفسها حدثاً تزويجاً.
قلت: فإذا تزوجت؟
قال: يحكم به حينئذ للأب.
قلت: فإن كانت له أمّ أمّ فطلبته؟
قال: لا يكون لها ذلك إذا كانت الأمُّ باقيةً وتزوجت فالأب أحقّ به.
قلت: فإن قالت الأم لأب الصبي: لا أرضى أن يكون ولدي عند زوجتك ولا عندك؟
قال: لا يلتفت إلى قولها، الأب أحق به.
قلت: فإن كان موضع الزوج نائياً عن البلد الذي فيه الصبي، هل له أن يخرجه إلى موضعه؟
قال: نعم، ذلك له فلا ينبغي له أن يقتطعه(1) على أمه، بل يأتيها به فتنظر إليه ويكون عندها الوقت والوقتين.
قلت: فإن الأم لما حكم عليها بهذا قالت لزوجها الذي تزوجها: قد فرق بيني وبين ولدي بسببك ولست أقوى على فرقته، وخاشنته في ذلك حتَّى طلقها وبانت منه، هل لها أن تأخذ ولده بعد فراق زوجها؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يقطعه.
قال: لا، قد نفذ الحكم عند التزويج وحدثها في نفسها: أن الولد لأبيه، وليس الذي فعلت يبطل الحكم الذي وجب. (1/212)
قلت: فإن الصبي شبَّ وكبر ومات أبوه وله عمٌّ فطالبته أمه بأخذ الولد، مَن أحق به؟
قال: إذا كبر الصبي فبلغ ست عشرة سنة أو شبهاً بذلك خُيِّر بين العم والأم، فإذا بلغ فهو أملك بنفسه.
باب البيوع
وسألته عن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <البيِّعان بالخيار ما لم يفترقا>؟
فقال: أراد بذلك أن البيِّعين بالخيار في رد البيع ما لم تثبت عقدة البيع ويفترقا عن تراضٍ منهما بما بينهما من البيع.
قلت: فكيف الافتراق؟
قال: قد قال غيرنا: الافتراق افتراق الأبدان، وأما قولنا: فهو الافتراق بقطع البيع والمساومة والرضاء بالشراء به، ووقع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <البيِّعان بالخيار ما لم يفترقا>.
باب البيوع الَّتي يفسدها الشرط إذا كان فيها،
والبيوع الَّتي لا يفسدها الشرط إذا كان فيها
وسألته عن رجل اشترى عبدين صفقةً واحدة بألف درهم، فوجد أحدهما حُرّاً أو مكاتباً أو مدبراً، هل يفسد البيع أو يقبض المشتري العبد ويرد الحر؟
قال: إن كان اشترى ذلك كله بدراهم مجملة معاً ولم يعرف قيمة كل واحد منهما فالبيع منتقض.
قلت: ولِمَ انتقض؟
قال: لأنَّه بيع غير صحيح بُنِي على غير صحةٍ.
قلت: وكيف بُني على غير صحةٍ؟
قال: لأنَّه باع ما لا يجوز بيعه ولا يحل له.
قلت: فلِمَ لا يثبت بيع الذي يحل بيعه ويبطل بيع الذي لا يحل بيعه؟
قال: قد ذكرنا ذلك في أول الكلام حين قلنا: إن كان اشترى بدراهم مجملةً ولم تُعرَف قيمة كل واحدٍ فالبيع باطل، وإنَّما يكون ما قلت من ثبات بعضٍ وبطلان بعضٍ إذا كانت قيمة كل واحدٍ منهما معروفة، فحينئذٍ يثبت ما يجوز بيعه بقيمته، ويبطل بيع ما لا يجوز بيعه، ويسقط على المشتري قيمته، وإن كانت صفقة البيع في الكل واحدة.
قلت: وكيف تكون الصفقة واحدة، وقد مُيِّزت الأثمان وعُرِفت؟
فقال: قد تُعرَف الأثمان ويجمع الكل الصفقة. (1/213)
قلت: وما الصفقة؟
فقال: هي الرضاء والقطع من البائع والمشتري والافتراق عن المساومة بالرضاء منهما.
باب الثياب
قلت: وكذلك لو أن رجلاً اشترى عِدَلاً من ثياب معروفة على أن في العِدل مائة ثوب بألف درهم، فوجد في العِدَل مائة ثوب وثوباً واحداً، أو وجد فيه مائة ثوب إلاَّ ثوباً واحداً؟
قال: إن كان اشترى الثياب بعضها على بعض جيدها برديئها وطويلها مع قصيرها بهذا الألف درهم وشرط له البائع مائة قطعة فالقول عندي في ذلك أنَّه إن وجده ناقصاً وقت ما ذكر له أنَّه وافٍ فالبيع منتقض ويبتديان بيعاً جديداً، وإن كان زائداً فالبيع جائز تامّ يرتد من القِطَع قِطْعة لا يتخيرها.
قلت: وكيف بطل في حال النّقصان وثبت في حال الزيادة؟
قال: لأنَّه في حال الزيادة مستوفٍ ما شرط له من العدد، وفي حال النقصان غير مستوفٍ.
قلت: أفلا يعطيه ثوباً حتَّى يتم كما أخذ منه حين زاد؟
قال: وكيف يكون ذلك والثوب الذي نريده خلاف ما في عِدله، ولم يقع عليه بيع، ولا يدري ما قيمته على سعر الثياب من الألف درهم، فلذلك بطل البيع حين لم يكن ما في العِدل على الوفاء، وإذا زاد ففي العدل وفاءٌ لشرطه، ولم يدخل فيه شيئاً من غيره فتختلف القيمة في الشراء.
بابٌ في الشاة المذبوحة
قلت: وكذلك لو أنَّه اشترى شاتين مذبوحتين، فوجد إحداهما ذبيحة يهودي أو مجوسي أو ذبيحة مسلم ترك التسمية عمداً، فعلم بذلك بعد القبض أو قبله؟
قال: الجواب في ذلك كالجواب فيما تقدم في هذا الباب، أن البيع باطل إلاَّ أن يعرف قيمة كل شاة قبل الصفقة، فإن كانت كل شاة قد عرف ثمنها فاشتريت هذه بكذا وهذه بكذا بطل شراء ما لا يجوز شراؤه، وثبت شراء ما يجوز شراؤه، وإن جمعتهما الصفقة.
بابٌ في الحيوان
قلت: وكذلك لو اشترى غنماً أو بقراً أو غير ذلك من الحيوان، أو عِدل برّ كل اثنين من ذلك بكذا وكذا، هل يفسد البيع أم لا؟
قال: إذا رآه وأبصره كله وقلَّبه ثُمَّ اشترى اثنين بدينار أو ثلاثة بدينار بعضها على بعض من بعد النظر والمعرفة والتقليب فلا بأس بذلك، وإن كان لم يقلب ولم ينظر فللعَين عند المعاينة حظها في الرضاء والسخط بخيار النظر. (1/214)
باب بيع الدار مذارعة
قلت: وكذلك لو اشترى داراً كل ذراع بكذا وكذا ولم يسم جيمع ذرعها، هل يفسد البيع أم لا؟
قال: إن كان اشترى عرصة الدار أذرعاً كل ذراع بشيء معروف فذلك جائز، وكذلك إن كان اشترى كل ذراع من العرصة ومن الجدر الَّتي تحيط بالعرصة وقدر عرضه وطوله، وعرفه فلا بأس أيضاً ببيعه بعد معرفته، وأما السقوف والخشب فلا تدخل في بيع المذارعة بالأرض ولا بالجدر؛ لأنَّه يختلف، رُبَّ ذارع يكون فيه خشبتان وثلث، وربَّ ذراع لا يكون فيه خشبة ولا في ذراع ونصف، فمن هاهنا أفسدنا بيع الخشب مع مذارعة الأرض والجدر؛ لأن ذرع الأرض والجدر يمكن ويصح، والسقوف والخشب لا يمكن ذرعها ولا يصح؛ لتباعد خشبة وتقاربه إذا كان ذلك كذلك لم يصح عدد ما يدخل في المزارعة من الخشب، إذا لم يصح ذلك كان شراؤه غرراً وشراء الغرر لا يجوز بيعه.
قلت: فكيف يعمل من اشترى الأرض والجدر؟
قال: يبصر الخشب ويدور تحته حتَّى إذا عرفه اشتراه جزافاً أو عدداً.
قلت: فقد ذُكر أن عمرو بن جرير اشترى داراً على هذا الذرع، فلم ينكر عليه من علماء دهره أحد؟
قال: لعلّ شراءه على ما ذكرنا.
قلت: فإن كان اشترى على غير ما ذكرت؟
قال: ليس عمرو ولا غيره بحجة على الحق، وإنما الحق حجة على الناس، ومن تعدَّى الحق فقد أخطأ، والخطأ لا يثبت ولا يقتدى به، وقد أعلمناك الحجة، وكل من ادعى شيئاً أو أجازه أو حرمه ولم يكن معه حجة نيِّرةٌ بينةٌ من كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو ثبات في العقل فلا يقبل منه ما يأتي به.
بابٌ في الحنطة والشعير وغير ذلك
قلت: وكذلك لو اشترى كر حنطة، أو فرق سمن، أو فرق زبيب معاً، أو ثوباً واحداً، أو غير ذلك من جميع الأصناف، وقال: قد أخذت منك هذا بمثل ما يبيع الناس، هل يفسد البيع أم لا؟ (1/215)
قال: إن كان قد باع من ذلك الصنف صدراً على سعر واحدٍ فلا بأس بشرائه على ذلك الشرط الذي قد عُرف وفُهم، وإن كان لم يبع منه شيئاً فلا يجوز ذلك الشراء.
قلت: وما الفرق بين ذلك.
قال: لأنَّه إذا كان قد باع جزءاً من ذلك الصنف وعرف سعره ثُمَّ اشترى منه هذا المشتري على ما باع الناس فقد اشترى منه على سعر معروف قد مضى غير مجهول، إن تشاجرا فيه من بعد ذلك كان على البائع أن يثبت على بيعه كيف باع، فإذا ثبت لزم المشتري الرضاء بذلك؛ لأنَّه قد اشترط له شرطاً معروفاً قد كان وبان ومضى، وإذا لم يكن باع منه شيئاً فلم يقع شراء هذا الذي لم يسم بيعه وثمنه شيئاً مفهوماً على أصلٍ يثبت به بيع، وهو غررٌ عليهما جميعاً؛ لأنَّه إن رخص سعره بعد ذلك كان الوكس على البائع، وإن غلا سعره كان الوكس على المشتري، وكذلك إن باع من بعدُ بأسعارٍ مختلفةٍ متفاوتةٍ كان ذلك غرراً بيعه أيضاً على المشتري فيما أخذ بغير قطع، فبهذا وشبهه أبطلنا بيعه وفرقنا بين الماضي والمستأنف؛ لأن الماضي معروف لا كغرر فيه وليس فيه إن تناكر البيعان عند إثبات البينة من البيع.
قلت: فما تصنع بهذا الطعام إن كان أخذه على شرط ما يستأنف من البيع؟
قال: يكون عليه ديناً حتَّى يثبت سعره فيشتريه منه في ذلك الوقت بعد بيان السعر ووضوحه وتراضيهما عليه.
بابٌ في الطعام بعضه ببعض
قلت: وكذلك لو أنَّه اشترى قفيز طعام بقفيز طعام مثله إلى أجل، هل يفسد البيع أم لا؟
قال: نعم، هذا بيع فاسد لا يجوز إلاَّ يداً بيدٍ، وفي ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <البرّ بالبر مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثلٍ يداً بيدٍ، فمَن زاد أو ازداد فقد أربا>، فقال صلى الله عليه وآله وسلم في المثل بالمثل: <يداً بيدٍ>. (1/216)
بابٌ فيما يوزن بعضه ببعض
قلت: فإنه اشترى عشرة أرطال سكراً أجلاً بعشرة أرطال تمر عاجلاً، هل يجوز ذلك؟
قال: إن كان التمر ممَّا يوزن ولا يكال فلا يجوز، وإن كان التمر يكال ولا يوزن في ذلك البلد مثل ذلك التمر فلا بأس بذلك، وأصل ما سألت عنه أنَّه لا يجوز أن يسلم ما يوزن فيما يوزن، ولا ما يكال فيما يكال، وإن كان مثلاً بمثل فلا بأس به يداً بيد. قال: وقوله: <يداً بيدٍ>، دليلٌ على أنَّه حرَّم التأخير.
بابٌ في العبد الآبق
قلت: فإن باع عبداً آبقاً ليس في يده حين باعه، هل يفسد البيع أم لا؟
قال: هذا بيعٌ لا يصح.
قلت: ومن أين لا يصح؟
قال: لأنَّه غرر.
قلت: وما الغرر فيه؟
قال: لأنهما يتبايعان شيئاً لا يدريان أيظفر به من يشتريه أم لا.
قلت: فإن كان قد ضبط في بلد قريب أو بعيد وكتب ضابطه إلى صاحبه بضبطه له، هل يجوز بيعه؟
قال: لا، حتَّى يحضر فيقبضه عند الصفقة.
قلت: ولِمَ فسد ذلك وهو ملزوم.
قال: أرأيت إن مات أو أفلت فأبق قبل أن يقبضه المشتري أو وكيله، على مَن يكون الضمان؟
قلت: على البائع.
قال: فلذلك أفسدنا البيع.
بابٌ في بيع الغائب
قلت: فما تقول في رجل اشترى من رجل بالكوفة عبداً له بمكة وقد رآه وأبصره وعرفه.
قال: لا يقع البيع حتَّى يقبضه المشتري أو وكيله، ولا يبرئ البيع من ضمانه حتَّى يقبضه المشتري.
ثُمَّ قال لي: دع عنك الغائب، ما تقول في رجل اشترى منك الساعة عبداً لك، والعبد عنكما غائب في بعض منازلك فأوقعتما الثمن ثم طلبته لتسليمه إليه فوجدته قد مات، على من تدخل مصيبته، ومَن تلزم قيمته.
قلت: البائع يلزمه ذلك كله ما لم يسلمه ويقبضه المشتري؟ (1/217)
قال: وكذلك الإقصاء لم يزده بعده إلاَّ تأكيد حجة.
قلت: وكذلك لو باع عبداً قد اغتصبه إياه رجل، هل يفسد البيع أم لا؟
قال: هذا كغيره، بيعٌ لا يجوز؛ لأن كل شيءٍ باعه صاحبه فعليه أن يسلمه إلى المشتري، وما لم يسلم من كل ما بيع فبيعه غررٌ باطلٌ لا يجوز.
باب بيع الثمار قبل أن تبلغ
قلت: وكذلك لو أنَّه اشترى عنباً لم يُبلَغ أو تمراً في رؤس النخل لم يُبلَغ أو ما أشبه ذلك من الفواكه، هل يفسد البيع في ذلك؟
قال: نعم، لا يجوز بيع ذلك حتَّى يؤمَن عليه الفساد ويظهر صلاحه.
باب البيع المفسوخ في الغنم
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل غنماً على أن يرد منها واحدةً لم يُعرِّفه أيتهن هي، هل يفسد هذا البيع أم لا؟
قال: إذا لم يعرف أيَّتُهن هي فالبيع مفسوخٌ لما في ذلك من الغرر عليهما في الجيدة والرديئة.
قلت: وكذلك لو أنَّه باع مائة ثوبٍ على أنَّ له منها ثوباً أو ثوبين لم يُعرِّفهُما، هل يفسد البيع أم لا؟
قال: كذلك القول في هذا كالقول في الغنم.
قلت: وكذلك لو أنَّه اشترى شاةً وشرط له البائع أنَّها حامل أو أنَّها تحلب كذا وكذا، هل يفسد البيع أم لا.
قال: إذا كان شراؤه لها من أجل ذلك المعنى ثم لم يجده فيها فالبيع مفسوخ.
باب ما يفسد البيع من الشروط
وسألته عن رجل اشترى جارية على أنَّه يتخذها لنفسه أُمّ ولدٍ وشرط على نفسه ذلك، هل يجوز هذا الشرط؟
قال: لا، هذا شرطٌ باطلٌ.
قلت: فيفسد البيع لعلة هذا الشرط؟
قال: لا، البيع ثابت والشرط باطل، إلاَّ أن يكون وضع عنه لذلك الشرط بعض الثمن.
قلت: وكذلك لو أنَّه اشتراها وشرط على نفسه أن لا يطأها؟
قال: أما البيع فثابت، وأما الوطء فأكرهه له كراهية.
قلت: فنأمره ببيعها ونمنعه عن وطئها؟
قال: أما الوطء فأمنعه منه، وأما البيع فلا آمره به، وقد قال غيرنا: إن الشراء إذا كان كذلك مفسوخ.
قلت: فإن وطئها، هل نوجب عليه أدباً؟
قال: لا، إنَّما كرهت له أن يطأها كراهية مني لما أدخل على نفسه من الشرط، ولسنا نجيز وطء فرج يشرط فيه صاحبه أن لا يطأه. (1/218)
وسألته عن رجل اشترى من رجل عشرة أقفزة حنطة أو ثوباً أو فرساً بكذا وكذا، ثُمَّ يبيعه من رجل آخر بزيادة كذا وكذا، أو يشتريه ولا يبيع مرابحةً ولكن يشتري فرساً بعشرة دنانيرٍ ولا يقبضه، ثُمَّ يبيعه باثني عشر ديناراً على أن يقبضه المشتري من يد البائع الأول.
قال: هذا بيع فاسدٌ مفسوخٌ لا يجوز.
كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه نهى عن بيع ما لم يضمن، ويختلف فيه الصاعان من البائع والمشتري.
قلت: فإنه لما اشترى من الرجل عشرة أقفزة طعاماً، قال المشتري للبائع: كِل لي هذا الطعام وأعزله لي في بيتك، ففعل البائع، ثُمَّ إن المشتري بعد ذلك باعه من رجل آخر، ثُمَّ وجد له من يقبضه من بيت البائع الأول.
قال: ذلك جائز؛ لأنَّه قد وكَّل البائع يقبض الطعام من نفسه، فلما كاله وعزله جاز بيعه لهذا المشتري وجاز أيضاً تقبيض البائع الأول للمشتري.
بابٌ بكَم تستبرئ الأمة إذا اشتراها الرجل
وسألته: بكم تستبرئ الأمة؟
فقال: بحيضة.
قلت: فإن اشتراها اليوم وحاضت غداً ثُمَّ طهرت أيواقعها؟
قال: نعم.
قلت: فإن اشتراها اليوم وأعتقها ثُمَّ تزوجها، هل له أن يواقعها قبل أن تحيض؟
قال: لا.
قلت: فإن كانت ممَّن لا تحيض؟
قال: تستبرئ بشهر.
قلت: فإن اشتراها وهي حائض؟
قال: تلك للبائع وعليه أن يستبرئها بحيضة.
قلت: فيقربها في غير الموضع ممَّا هو دون الفرج؟
قال: لا بأس بذلك إذا أيقن أنَّه لا حمل بها.
باب الرجل يشتري السلعة فيستغليها فيردها ويرد معها فضلاً
وسألته عن رجل يشتري عبداً أو ثوباً أو غير ذلك من السلع ويقبضها، فإذا صارت معه استغلاها فيأتي بها إلى صاحبها فيقول له: أقلني فقد استغليت ما اشتريت منك، فيقول له صاحب السلعة: لست أقيلك إلاَّ أن تطرح من ثمنها كذا وكذا، فيطرح عنه المشتري بعض ثمن السلعة، هل يجوز ذلك؟ (1/219)
قال: لا يجوز هذا عندنا، إنَّما هي قيلولة وإحسان إلى من استقاله، أو يأبى أن يقيله فلا يجب عليه في ذلك شيء.
قلت: فإن البائع لم يطلب من المشتري نقصاناً من الثمن، ولكن المشتري لما استغلى السلعة تبرع بشيء من ثمنها برده مع السلعة إلى البائع؟
قال: إذا كان ذلك تبرعاً من المشتري إلى البائع بغير مواطأة جاز ذلك للبائع.
بابٌ في بيع الشريك من شركائه أو من غيرهم قبل أن يقاسمهم
وسألته عن جماعة اشتروا حمل بز، أو حمل أدم، أو كر حنطة بكذا وكذا، ثُمَّ باع أحدهم حصته من رجل ليس من شركائه قبل أن يقاسم شركاءه، هل يجوز ذلك أم لا؟
قال: لا يجوز هذا، هو بيع فاسدٌ مفسوخٌ.
قلت: ولِمَ فسد هذا البيع؟
قال: لأنَّه باعه شيئاً مجهولاً غرراً.
قلت: وكيف صار غرراً؟
قال: لأنَّه باعه ما لم يره ويعرفه.
قلت: فإن كان الشريك قد عرف ما باع وراءه وهو مشاع، وكذلك المشتري من الشريك قد عرف ما اشترى من حصة الشريك وقبله يقيناً بالمعرفة والنظر، هل يجوز هذا؟
قال: نعم إذا عرف هذا ما باع، وعرف هذا ما اشترى.
قلت: وكذلك أيضاً بيع الشريك لشركائه؟
قال: قد قدمنا جواب ذلك، أن الشريك إذا باع من شريكه قبل أن يقاسمه جاز ذلك لهما، ولا يجوز لغير الشريك، إلاَّ أن يكون قد قاسمه أو عرف المشتري ما اشترى من الشريك بمعرفة يقين أو نظر منه إليه وعرف الشريك ما باع.
بابٌ في الرجل يبيع سلعة من رجل وينظره بثمنها
ثُمَّ يشتريها البائع بأقل من ثمنها حاضراً
وسألته عن رجل اشترى من رجل عبداً أو ثوباً أو فرساً بعشرة دنانير وأنظره بها، أو ببعضها وقبض المشتري السلعة ومكثت عنده وقتاً، ثُمَّ أراد بعد ذلك بيعها، فعرضها للبيع فبلغت أقل من ثمنها الذي اشتراها به، فأراد البائع أن يشتريها، هل يجوز له؟ (1/220)
قال: إن كان المشتري عرضها وأراد بيعها قبل حلول أجل ثمنها وقبض البائع له كرهنا أن يشتريها؛ مخافة المحاباة للإنظار والمداهنة، وإن لم يكن في ذلك بينهما مداهنة فلا بأس بذلك، وإن كان عرضها للبيع بعدما قبض البائع ثمنها وزال وقت الإنضار بالثمن جاز له أن يشتريها بأقل من ثمنها؛ لأن المحاباة والمداهنة قد ذهبت بعد قبض الثمن.
قلت: فإن العبد لما اشتراه الرجل بعشرة دنانير وأنظره البائع بها حدث في العبد عيب عند المشتري أو نقصان في جسمه ينتقص بذلك من ثمنه وقيمته، ثُمَّ أراد المشتري أن يبيعه من البائع بأقل من ثمنه.
قال: ذلك جائز لا بأس به إذا كان الأمر صحيحاً ولم يكن بينهما مداهنة في ذلك.
بابٌ في الرجل يشتري من رجل سلعة بكذا وكذا، ثُمَّ يقول المشتري لرجل آخر: خذ هذه السلعة فبعها، فما زاد على كذا وكذا فالزيادة بيني وبينك
وسألته عن رجل يشتري(1) من رجل ثوباً أو عبداً بكذا وكذا، ثُمَّ يقول المشتري لرجل آخر: خذ هذا الثوب أو العبد فبعه، فما زاد على كذا وكذا فالزيادة بيني وبينك؟
قال: هذا أمر فاسدٌ لا يجوز ولا يصح.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه غررٌ مجهول.
قلت: فإن الرجل أخذ العبد فباعه وجاء بالثمن وفيه زيادة على ما حدد له الرجل، ما العمل في ذلك؟
قال: الثمن والزيادة لصاحب الثوب أو العبد، ولهذا المأمور أجرة مثله.
باب بيع ما لا يجوز بيعه
وسألته عن الرجل يقول للرجل: بعني ما حمل كرمُك من قابل أو نخلك أو ما أشبه ذلك من ثمر الأشجار؟
قال: ذلك كلّه بيعٌ فاسدٌ لا يجوز.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): اشترى.
قلت: فإن الرجل اشترى من رجل بطيخاً أو قثَّاءً أو قضباً أو بقلاً أو ما أشبه ذلك ممَّا يأتي شيئاً بعد شيء في شجره وبساتينه، وقد نظر إليه وعرف ما فيه؟ (1/221)
قال: إن كان اشترى ما اشترى من البطيخ والقثاء والبقل والقضب الذي نظر إليه على أن يقطعه في يومه أو من غدٍ جاز ذلك، وإن كان إنَّما اشترى المبطخة والمبقلة وما أشبه ذلك بما فيها وما يخرج بعد ذلك فيها كان ذلك بيعاً فاسداً لا يجوز.
قلت: ولِمَ يبطل؟
قال: لأنَّه بيع غرر، ألا ترى أنَّه اشترى بيعاً مجهولاً لم يعلم ما اشترى بما يخرج بعد الذي هو فيها.
قلت: فإنه لما اشترى القثاء أو البطيخ أو القضب أو البقل دفع إلى صاحبه الثمن فقطف من البطيخ شيئاً، وكذلك من القثاء وما أشبهه، ثُمَّ أصاب المبطخة آفة فيبست، كيف العمل في ذلك؟
قال: هذا بيع أصله فاسد لا يجوز، وإنَّما للبائع ثمن ما باع المشتري من بطيخة أو قثائة أو قضبة إذا كان البيع على ما ذكرنا أنَّه اشترى هذا القضب وما يخرج بعده، وفي سنة أخرى، وهذا البطيخ الذي في المبطخة وما أخرجت بعد ذلك.
قلت: فكيف يشتري ذلك حتَّى يكون البيع صحيحاً؟
قال: يشتري عدداً أو وزناً أو جزافاً، فهذا أصح ما يشتري به هذا.
قلت: وكذلك البصل والجزر؟
قال: كذلك أيضاً، هذا على ما قلنا من الوزن في الجزر؛ لأنَّه في الأرض وهو مجهول وما كان من البصل المدفون في الأرض، فأما البصل الظاهر فشراؤه جائز إذا نظر إليه المشتري؛ لأنَّه لا يأتي شيئاً بعد شيء، وإنَّما هو إذا ظهر وغلظ واستوى نباته لم يأت شيئاً بعد هذا الشيء.
باب بيع ما لا يجوز بيع بعضه ببعض إذا كان صنفاً واحداً، وبعضه أفضل من بعض
وسألته عن الثمن كله، هل يجوز مكوك تمر برني بمكوك ونصف جمعاً؟
فقال: لا يجوز ذلك عندنا، هذا ربا.
قلت: وكيف صار ذلك رباً وهو في الثمن متفاوت؟
قال: حكمه حكم التمر وإن كان متفاوتاً في الثمن والفضل، وكذلك بلغنا وصح عندنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أُهدي له تمر فأمر بلالاً بأخذه، فلما كان بعد ذلك قال: <يا بلال هلم التمر>، فأتاه بتمر غير الذي بعث به إليه، فقال: <يا بلال ما هذا التمر؟> قال: يا رسول الله استبدلته من فلان بأجود منه وأقلّ كيلاً، قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <هذا لا يجوز>، وأمره أن يسترده. (1/222)
قلت: وكذلك الحنطة والذرة والزبيب؟
قال: هذه صنوف، كل صنف منها واحد وإن اختلف في لونه وتفصيل ثمنه، لا يجوز مكوك ونصف حنطة بيضاء بمكوك حنطة طيساري، ولا يجوز مكوك ذرة بيضاء بمكوك ونصف ذرة حمراء، ولا يجوز مكوك زبيب رازقي بمكوك ونصف زبيباً أسود، فافهم هذا الأصل فإن لك فيه كفاية.
قلت: فإن اختلف النوعان، مثل الشعير والحنطة؟
قال: بيع ذلك جائز يداً بيد، مكوك حنطة بمكوكي شعير يداً بيدٍ، وكذلك مكوك ذرة بمكوكي زبيب، ومكوك زبيب بمكوكي شعير يداً بيدٍ، ولا يجوز فيه التأخير.
قلت: ولِمَ لا يجوز فيه التأخير؟
قال: لأنَّه يكون مثل السلم، ولا يجوز أن يسلم الرجل ما يكال فيما يكال، ولا ما يوزن فيما يوزن، ومِن هذا فسد.
باب بيع اللحم بعضه ببعض، وبيع الحيوان باللحم، والسمن بعضه ببعض
وسألته عن اللحوم، هل تختلف؟
قال: نعم اختلافها بَيِّنٌ.
قلت: فهل يجوز رطل لحم ماعز برطل وربع ضائن؟
قال: لا يجوز ذلك.
قلت: أفليس هذان صنفين مختلفين؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن الماعز والضائن في معنى واحد من الغنم.
قلت: فالبقر والإبل؟
قال: البقر غير الغنم، والغنم غير الإبل، هذه أصناف مختلفة غير مؤتلفة، لا يجوز رطل لحم غنم ماعز برطل وربع ضان، ويجوز رطل لحم غنم برطلي لحم بقر، وكذلك أيضاً رطل لحم بقر برطل ونصف لحم إبل؛ لأن الغنم صنف والإبل صنف، فمن هذا جاز الفصل بين هذه اللحوم.
قلت: كله لحم، فبيِّن لي الفرق بين لحمان هذه الدواب؟
فقال: الغنم كلها معزها وضانها تجمع في الزكاة معاً، والبقر والإبل يفترق شروطها في الزكاة، ومعانيها افتراقاً بيناً، فلذلك جعلنا لحم الغنم كله لحماً واحداً، ولم نجعل لحوم ما افترق في الزكوات لحماً مجتمعاً واحداً. (1/223)
قلت: وكذلك سمن الغنم؟
قال: كذلك أيضاً رطل سمن بقر برطلي سمن غنم جائز؛ لأنَّه صنفان مختلفان.
قلت: فالجواميس عندك مثل البقر؟
قال: نعم،
وسمنها مثل سمن البقر؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك الضبا، هل هي في معنى الغنم، وكذلك بقر الوحش، هل هي في معنى البقر يكون لحمها يقوم مقام لحم البقر؟
قال: نعم.
قلت: فإن رجلاً اشترى شاة بعشرين رطلاً لحم بقر أو لحم إبل، وكذلك لو اشترى عشرين رطلاً لحم بشاة.
قال: لا يجوز ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان من أي اللحوم كان.
باب ما لا يجوز بيعه وما يجوز بيعه
وسألته عن الرجل يأتي إلى صاحب جوز أو رمان أو سفرجل أو ما أشبه ذلك من الفواكه اليابسه والرطبة فيقول له: كيف تبيع الجوز؟ فيقول له صاحب الجوز: مائة بدرهم، والسفرجل خمسون بدرهم، وما أشبه ذلك، هل يجوز هذا قبل أن يعزله الرجل وينتقيه؟
فقال: لا يجوز، هذا بيع فاسد.
قلت: فكيف يصح شراء مثل هذه الفواكه اليابسة والرطبة؟
قال: إذا أراد المشتري أن يشتري من ذلك شيئاً من رمان أو سفرجل أو جوز عزل ما أراد من ذلك وانتقاه وساوم به واشتراه إذا نظر إليه صاحبه والمشتري فتبايعا على ذلك صح وجاز شراء ذلك كذلك.
قلت: فإن الرجل لما عزل الرمَّان أو البطيخ أو ما أشبه ذلك واشتراه كسرة فوجده فاسداً، هل يجب للمشتري ردّ ما كان من ذلك فاسداً؟
قال: إذا كان شرى المشتري من الفواكه على أنه جيد فكسره فوجد به عيباً نظر إليه بعد الكسر، فإن كان له قيمة وهو مكسور نظر إلى قيمته صحيحاً وقيمته وهو مكسور، ثُمَّ لزمت المشتري ورجع على البائع بفضل ما بين القيمتين الصَّحيح والمكسور.
قلت: ولأي علة لزمت المشتري وقد وجد بها عيباً؟ (1/224)
قال: لأنَّه قد أحدث في ذلك حدثاً لمَّا كسره.
قلت: فإن المشتري لمَّا اشترى البيطيخ وما أشبهه لم يكسره حتَّى رأى فيه عيباً؟
قال: يرد على البائع ويحكم له بذلك.
قلت: وكذلك البيض؟
قال: الأصل في ذلك كله أن المشتري جميع ما اشترى ممَّا إذا كسره ووجده فاسداً ولم يكن بعد كسره له قيمة يُشتَرَى بها أو يباع فهو مردود على البائع ويرتجع المشتري بقيمته أو يستبدله صحيحاً جيداً إن أراد ذلك، وما كان له قيمة بعد كسره فله أرش ما بين القيمتين، ولا يجب له رده، فافهم هذا الأصل في البيض والقثاء وما أشبه ذلك.
باب بيع الفواكه بعضها ببعض
قلت: فهل يجوز بيع رمانتين برمانة أو أترنجة باترنجتين أو ما أشبه ذلك من الفواكه؟
قال: نعم، هذا كله جائز اثنتين(1) بواحدة يداً بيدٍ؛ لأنَّه لا يكال ولا يوزن، فلذلك جاز.
باب بيع الحنطة بالدقيق
قلت: فهل يجوز بيع مكوك حنطة بمكوك دقيق أو سويق؟
قال: لا يجوز ذلك؛ لأنَّه يختلف عند الطحن في الزيادة والنقصان؛ ولأنهما يكالان.
قلت: فإنه اشترى مكوكي خبز مخبوز بمكوك دقيق؟
قال: ذلك جائز؛ لأن الدقيق يكاك والخبز يوزن.
قلت: وكذلك لو أنَّه اشترى مكوكاً ونصفاً عجيناً بمكوك دقيق؟
قال: ذلك أيضاً جائز.
باب بيع اللَّبن بعضه ببعض، والزبد باللَّبن
وسألته: هل يجوز بيع رطل سمن برطلي زبد؟
قال: لا يجوز ذلك؛ لأنَّه لا يوقف على ما في الزبد من اسم عند السلاء.
قلت: فهل يجوز السمن بالزبد مثلاً بمثل؟
قال: لا يجوز؛ لأنَّه ينقص الزبد عند السلاء فيكون بعضه أكثر من بعض.
قلت: فهل يجوز بيع اللبن الرائب بالزبد؟
قال: لا يجوز ذلك، إلاَّ أن يكون في اللبن من الزبد أقل من ذلك الزبد الذي اشترى به فيكون ذلك الزبد الذي في اللبن بمثله من هذا الزبد، ويكون فضلة هذا الزبد ثمناً لفاضل ذلك اللبن.
قلت: فهل يجوز بيع اللبن الرائب بالمخيض؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): اثنين بواحد.
قال: لا يجوز ذلك. (1/225)
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن في المخيض ماءً، ولا يكون بيع الماء في اللبن بمعنى اللبن.
باب القول في الرجل يقول للرجل: بعني على ما يبيع الناس
وسألته عن رجل يقول للرجل: بعني هذا التمر أو الحنطة على ما يبيع الناس، هل يجوز ذلك؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن ذلك بيع لم يقع، وهذا الذي شرط المشتري فشيءٌ مجهول؛ لأنَّه إذا لم يكن باع من ذلك شيئاً فقد اشترط هذا ما لم يصح بيعه؛ لأن الناس يشترون فيشتري واحد بأكثر ممَّا يشتري الآخر، فإذا قال هذا: بعني على ما يبيع الناس، كان هذا بيع غرر، والغرر لا يصح بيعه.
باب بيع ثوب إلى أجل
قلت: فإنه اشترى ثوباً بكذا وكذا على أن ينقده الثمن إلى أربعة أيام أو إلى شهر، هل يفسد البيع أم لا؟
قال: إذا لم يزده في الثمن من أجل النسيئة فلا بأس بذلك.
باب الشروط في البيع
قلت: فإنه اشترى بيعاً شيئاً واشترط على البائع أن يحمله إلى منزله، أو اشترى منه حنطة على أن يطحنها له، أو اشترى منه ثوباً على أن يخيطه، أو اشترى طعاماً على أن يوفيه إياه في منزله، هل يفسد هذا الشرط البيع أم لا؟
قال: لا يفسد هذا الشرط البيع؛ لأن هذا شرط مفهوم مطروق صحيح، ولا يفسد بمثل هذا الشرط اليبع، وقد أفسده غيرنا.
قلت: فإنه اشترى جارية على أن يتخذها أم ولد لنفسه وشرط ذلك على نفسه، هل يجوز هذا الشرط؟
قال: لا، هذا شرط باطل.
قلت: فيفسد البيع لعلة هذا الشرط؟
قال: لا، البيع ثابت، والشرط باطل، إلاَّ أن يكون وضع عنه لذلك الشرط بعض الثمن، فيجب عليه إن لم يف بشرطه أن يوفيه باقي الثمن الذي وضعه له من أجل ذلك الشرط، فأما عقدة البيع فلا يخلها هذا الشرط.
باب السلعة تباع بدينار إلاَّ درهماً
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل ثوباً بدينارٍ إلاَّ درهماً أو بدينارٍ ودرهم، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، وما يفسد البيع من ذلك أن يبيعه ثوباً ثُمَّ يأخذ منه ديناراً أو درهماً أو يبيعه ثوباً ودرهماً بدينار، كل ذلك جائز، وقد قال غيرنا: إنَّه لا يجوز. (1/226)
قلت: فإنه باع ثوباً بدينار إلاَّ مكوك طعام إلى أجل، ثُمَّ غلا الطعام حتَّى صار المكوك يساوي ديناراً أو أقل من ذلك أو أكثر، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، إذا عرف الطعام فله طعام، غلا الطعام أو رخص، والذي يرجى من الغلاء يخاف من الرخص.
باب بيع الجزاف
قلت: فإن رجلاً باع تمراً أو زبيباً جزافاً في ظروفه، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، هذا جائز ما لم يكن أحدهما قد علم وزن الزبيب أو التمر.
قلت: فإن كان أحدهما قد علم؟
قال: ذلك لا يجوز؛ لأنَّه قد صار مكراً من أحدهما بصاحبه.
باب اختلاف البيِّعين في الظروف
قلت: فإن رجلاً اشترى سمناً أو عسلاً أو زيتاً في زِقٍّ فاتَّزنه كله في زقّه فإذا فيه مائة رطل، ثُمَّ جاء بالزق يرده وفيه عشرون رطلاً، فقال البائع: ليس هذا زقي، وقال المشتري: بل هو زقك، ما الحكم في ذلك؟
قال: هو المدعي في ذلك وعليه البيِّنة أن هذا الزق زق البائع.
قلت: فإن لم تكن له بينة؟
قال: يستحلف له البائع أن هذا الزق ليس الذي دفعه إليه وفيه الزيت، فإذا حلف طرح عنه بوزن ما يحلف عليه من وزن زقه.
قلت: فإن جهله فقال: لا أدري كم كان فيه؟
قال: إن جهله ولم يدر كم كان وزن زقه كان في ذلك صلح بينهما على قدر ما يرى الحاكم، ويستحلف البائع أن زقي لأخف من هذا الزق وما يبلغ وزنه وزن هذا الزق.
قلت: فإن قال: لا أدري أزقي أثقل منه أو أخف، إلاَّ أن هذا ليس زقي؟
قال: القول في ذلك عندي: أن يُسأل المشتري البينة على أنَّه زقه، فإن أتى ببينةٍ حكم بها، وإن لم يأت ببينة على ذلك استحلف البَيِّعُ ما هذا بزقك، فإن حلف وجب له ما يدعي، وإن رد اليمين على المشتري استحلف أن هذا زق صاحبه ثُمَّ يطرح وزنه.
قلت: طرحت وزنه على أنك صدقته أنَّه زق البائع أم على صلح رأيته؟
قال: إذا لم يثبت صاحب الزق على دعواه أن زقه أخف من هذا الزق وقال: لا أدري أهو أخف أو أثقل رأينا أن يجعل الصلح بينهما عند ذلك على وزن هذا الزق، ويستحلف الذي ادعى أنَّه لصاحبه على أنه هو، فيكون ذلك عدلاً بينهما في العينين إذا كان صاحب الزق في شك من وزن زقه فلا يدري أكثر من هذا أو أقل فرأينا أن أوسط الأمرين وزن هذا الزق مع يمين المشتري؛ لأن صاحب الزق يقول: لعل زقي أثقل من هذا، ولعله أخف من ذا، فليس يكون بين ما هو أثقل منه وبين ما هو أخف منه إلاَّ وزنه. (1/227)
باب اختلافهما في عبد
قلت: فإن رجلاً اشترى عبدين بألفي درهم وخمسمائة درهم، فقبض أحدهما، ومات الآخر في يد البائع، ومات الآخر في يد المشتري بعدما قبضه، ثُمَّ اختلفا في ذلك فقال المشتري: قبضت عبداً يسوى ألف درهم ومات في يدك عبدٌ يساوي ألفاً وخمسمائة، وقال البائع: بل قبضت عبداً يساوي ألفي درهم، وبقي عندي العبد الذي يساوي خمسمائة، على مَن البينة؟
قال: كلاهما مُدَّعٍ جَاحد، فعلى كل واحد بينة في دعواه، فمن ثبتت بينته قضي له ببينته، ومن لم تثبت بينته استحلف له صاحبه.
قلت: فإن أتى كل واحد ببينة عدول على دعواه؟
قال: يساوى بينهما في الحكم إذا استوت بينتهما.
قلت: فإن لم يكن لواحد منهما بينة؟
قال: فيستحلف كل واحد على ما يدعي صاحبه.
قلت: فإن حلفا جميعاً؟
قال: يساوى بينهما أيضاً في الغرامة.
قلت: وما الغرامة الَّتي يساوى بينهما فيها؟
قال: الفضلة الَّتي يطلبها المدعي بين العبدين تقسم حتَّى تستوي غرامتهما.
باب اختلافهما في الطعام
قلت: فإن رجلاً اشترى كر حنطة فقبض بعضاً وتلف بعض، فقال البائع للمشتري: قبضت نصفه، وقال المشتري: قبضت ثلثه، على مَن البينة؟
قال: الحكم في هذا كالحكم في الأول إذا كان هذا يدعي أنَّه قبض النصف وذا يدعي بأنه قبض الثلث، فإذا وقعت الدعوى من كليهما وجبت البينة عليهما، وإن ادعى أحدهما على صاحبه شيئاً وأنكره الآخر ولم يدع شيئاً معروفاً نصفاً ولا ثلاثاً ولا ربعاً كانت البينة على المدعي، واليمين على المنكر. (1/228)
باب اختلافهما في عبدين أيضاً
قلت: فإن رجلاً اشترى عبدين صفقةً واحدةً وقبضهما جميعاً ثُمَّ مات أحدهما عند المشتري ثُمَّ أتى بالعبد الآخر يرده بعيب، فاختلفا في قيمة العبد الذي مات، فقال البائع: كانت قيمته ألفاً، وقال المشتري: كان قيمته خمسمائة، على مَن البينة؟
قال: قد تقدم القول منّا في هذا في المسألة الَّتي قبل هذه، فالحكم في هذا كالحكم في تلك.
باب اختلافهما في الثمن
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجلٍ سلعةً، ثُمَّ اختلفا في الثمن، والسلعة قائمة بعينها في يد البائع أو المشتري، على مَن البينة؟
قال: على المدعي.
قلت: ومن المدعي؟
قال: البائع.
قلت: ولِمَ وكُلٌ يدَّعي معنى؟
قال: كلاهما قد اجتمعا على القليل، ثُمَّ ادعى البيِّع الفضل، فالبينة على من ادعى الفضل على ما اجتمعا عليه.
باب شراء عبد بثوبين ثُمَّ وجد به عيباً
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل عبداً بثوبين، وقبض كل واحد منهما وتفرقا، ثُمَّ وجد بالعبد عيباً فرده أو استحق، وقد هلك أحد الثوبين أو هلكا جميعاً، ما الحكم في ذلك؟
قال: عليه قيمتهما.
قلت: أفلا يعطيه مثلهما من الثياب؟
قال: القيمة أعدل في مثل هذا وأشبه بالحق؛ لأن الثياب تختلف والقيمة لا تختلف إذا كان المقوم لهما عارفاً بقيمتهما في بلده.
قلت: فإن لم يكن ذا البصر بتقويم الثياب ولم يكن وقف عليهما ولا عرفهما ولا رآهما؟
قال: يصفهما البائع والمشتري لأهل المعرفة بهما طولاً وعرضاً وجنساً وليناً ولوناً، ثُمَّ يقوم أهل المعرفة على الصفة.
قلت: فإن اختلفا في الوصف؟
قال: يرجعان إلى حال الدعوى والإنكار فيكون على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين. (1/229)
قلت: ومَن أولى بالدعوى في هذا الموضع؟
قال: صاحبهما الذي اشترى بهما العبد.
قلت: فإن ادعيا جميعاً فقال هذا: جنسهما كذا، وقال هذا: جنسهما كذا؟
قال: صارا في هذا الحال مدعيين جميعاً؛ لأن كل واحد منهما يدعي جنساً، فمَن أثبت البينة كان القول قوله.
قلت: فإن لم يُبَيِّنا؟
قال: يستحلفان.
قلت: فإنهما جميعاً حلفا؟
قال: قول الناس: إن الغرامة تقسم بنهما، وقولي أنا في مثل هذا: إن اليمين يمين أطهرهما وأعفهما وأنقاهما وأعرفهما بالله، فإن اشتبهت ديانتهما كان ما قال الناس.
باب السلعة تباع على أن يدفع الثمن في مجلسين
قلت: فإن رجلاً اشترى سلعة بألف درهم على أن يدفع في شهر كذا النصف، وفي شهر كذا وكذا النصف الآخر، هل يجوز البيع كذلك؟
قال: لا بأس بذلك إذا تراضيا ولم يكن ثَمَّ ازدياد على قيمة السلعة من أجل النظرة.
باب بيع ما يكال بما يكال إلى أجل
قلت: فإن رجلاً اشترى عشرة أرطال زيتاً كيلاً أجلاً بقفيز حنطة عاجل؟
قال: لا بأس بذلك؛ لأن الزيت ممَّا يوزن في الأصل، ألا ترى أنك قلت عشرة أرطال زيتاً، والأرطال فهي وزن، وإن كيلت كيلاً فهي ترجع في الأصل إلى الوزن، فافهم ذلك.
قلت: فإنه اشترى قفيز شعير عاجلاً بقفيز حنطة آجلاً؟
قال: لا يجوز ذلك؛ لأنَّه كله كيل ممَّا يكال، ولا يجوز أن يسلم ما يوزن فيما يوزن ولا ما يكال فيما يكال، وإن كان مثلاً بمثل، ولا بأس به يداً بيدٍ، فإن اختلف المعنيان فلا بأس أن يسلم ما يوزن فيما يكال، وما يكال فيما يوزن إلى أجل إذا وقع الرضى والمعرفة بما يشتري وأثبتت الصفات من الجنس والوزن والكيل، وأثبتت الأرطال المعروفة والمكاييل المعروفة وأثبت المكان الذي يستوفي فيه وكان ذلك إلى يوم معروف.
قلت: فإن دفع ما يكال فيما يوزن بقيمة معروفة ودنانير وشرط بالدنانير من هذا الوزن وزناً معروفاً؟
قال: ذلك لا يجوز، وهذا باطل ولا يكون ذلك صحيحاً، إلاَّ أن يشترى الذي يكال موزوناً، فأما إن أوقع بيعاً وشرى فهذا يدخل في معنى الكالي بالكالي، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه. (1/230)
قلت: بيِّن لي ذلك؟
قال: ألا ترى أنه باع هذا الذي يكال بدنانير ولم يقبضها، ثُمَّ اشترى بها ما لم يقبضه فاشترى ديناً بدين، فمِن هذا بطل إذا كانت الدنانير غير حاضرة وغير مقبوضة وكان الذي اشترى بها غير حاضر ولا مقبوض وكانت الدنانير ديناً على المشتري للبائع، ثُمَّ اشترى بهذا الدين موزوناً ديناً على صاحبه غائباً، وهذا لا يجوز، وهو الكالي بالكالي ـ الدين بالدين ـ وفي هذا بعينه جاء النَّهي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنهي الله سبحانه وتعالى.
باب السلف في الطعام
وسألته عن رجلٍ أسلف رجلاً قفيزين من طعام بقفيزين من طعام مثلاً بمثل إلى وقت مسمى، فلما جاء الوقت قال الذي عليه الطعام: ليس عندي طعام، وهذا دينار عن طعامك، فأخذ صاحب الطعام الدينار وقبضه، ثُمَّ قال له الذي كان عليه الطعام: أسلفني ديناراً بطعام، فدفع إليه الدينار بثلاثة أقفزة طعام إلى وقت مُسمَّى؟
فقال: هذا باطل لا يجوز، وليس له إلاَّ قفيزان الطعام الأول.
باب سلف دنانير في أصناف طعام
وسألته عن رجل أسلف رجلاً عشرة دنانير في ثلاثة أصناف طعام زبيب وشعير وحنطة معاً غير معروف وهو كيل معروف إلى أجل معروف؟
فقال: هذا لا يجوز، ولا يجوز السلم في صنف من الصنوف حتَّى تصح شروط السلم، ولا يصح شروط السلم في صنف من الصنوف حتَّى يعرف كيله وصفته ووقته، ويقدم نقد سلمه.
باب الصرف في الرجل يستلف من رجل دراهم ثُمَّ ينقص الصرف
وسألته عن الرجل يستلف من الرجل دراهم، والصرف على عشرين درهماً بدينار، فيستلف منه خمسة دراهم، ثُمَّ ينقص الصرف حتَّى يصير خمسة عشر درهماً بدينارٍ فيطالبه غريمه بالخمسة دراهم الَّتي عليه، وقد كانت يوم قبضها منه بربع دينار، ثُمَّ صارت بثلث، ما يجب له في ذلك؟ (1/231)
قال: له دراهم كمثل دراهمه في جودتها وخلوصها، وليس الدراهم إلاَّ كالدراهم مِثلاً بمثلٍ، كما سائر الأصناف الواحدة مثلاً بمثل، وكذلك الفضة بالفضة مثلاً بمثل في البيع والسلف.
باب الصرف
وسألته عن رجل معه دراهم مزيفة، وصَرْفُها ثلاثون درهماً قفلة بدينار، فأتى بها إلى رجل يطلب بها دراهم صحاحاً يدفع إليه المزيفة يصرفها ويأخذ منه الصحاح يصرفها؟
قال: لا يجوز، إلاَّ أن يبيعه هذه الدراهم بدينار ويقبضه، ثُمَّ يصطرف منه بالدينار دراهم صحاصاً، أو ما أراد، وإلاَّ كانت فضة بفضة، ولا يجوز فضة بفضة بينهما فضل.
قلت: وكذلك لو كان مع رجل بنصف دينار دراهم صحاح، وهي ثمانية دراهم، فأراد أن يدفعها إلى تاجر بنصف دينار ويأخذ بالنصف منه غلة اثنا عشر درهماً؟
قال: وكذلك لا يجوز حتَّى يدخل قبض الذهب بين البيعين.
باب العيب في الفضة والذهب
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل عشرة دراهم فضة على أنَّها فضة جيدة، فوجد فيها وزن درهمين فضة رديئة، فقال المشتري للبائع: أبدلني هذنين، فقال البائع: لا، إما أن تأخذ الجميع وإما أن ترد الجميع، ما يجب في ذلك؟
قال: يجب على البائع إذا كان البيع وقع على فضة جيدة أن يبدله درهمين بفضة جيدة.
قلت: فإن أراد المشتري أن يرد الجميع، هل يجب له ذلك؟
قال: لا، إنَّما يجب أن يرد الدرهمين.
قلت: وكذلك لو كان ذهباً، كان على هذا القياس؟
قال: نعم.
بابٌ من الصرف
قلت: فإن رجلاً باع من رجل ثوباً بدينار إلى ثلاثة أيام على أن ينقده، ووقع البيع بالدينار، فقال المشتري: ليس معي دينار، ولكن خذ بالدينار دراهم، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم؛ لأن الدينار له حال في الوقت الذي باعه، فإذا أخذ منه كذا وكذا درهماً جاز. (1/232)
قلت: وكذلك لو أن رجلاً دفع إلى رجل ديناراً ولم يذكر صرفاً ولا غيره، ثُمَّ أخذ منه دراهم متفرقة العشرة والأكثر والأقل، فلما علم المشتري أنَّه شبيه بصرف الدينار أتاه فقال له: احسب الدراهم الَّتي لك عندي، فحسبها فوجدها مستوية بصرف الدينار أو تنقص درهماً أو تزيد، فأراد الرجل أن يصارفه في ذلك الوقت فيقول له: هذه الدراهم لك عندي بالدينار الذي لي عندك، وإن زاد على صرف الدينار دفعه إليه الرجل، وكذلك إن نقصت الدراهم من الصرف دفع إليه الباقي، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، إذا كان الصرف عند حسابهما ولم يفترقا، وبينهما فيه نَسيئة.
قلت: وكذلك لو لم يقدم إليه الدينار وأخذ منه دراهم حتَّى اجتمعت، ثُمَّ أتى الرجل فحاسبه ثُمَّ صارفه في ذلك الوقت ودفع إليه الدينار؟
قال: نعم، هذا أيضاً جائز.
باب شراء الدراهم عدداً
قلت: فإن اشترى منه عشرين درهماً صحاحاً عدداً بغير وزن، هل يجوز ذلك بغير وزن؟
قال: لا؛ لأنَّه أوقع اسم الدراهم، ولا يدري أفيها زائد أو ناقص، وذلك إذا أراد عشرين درهماً وزناً، فأما إن اشتراها منه عدداً لا وزناً ولم يشترطا الوزن بينهما، وكان كلٌ لا يدري كم وزنها ولا يدري أتزيد أم تنقص، فهذا بيع جزاف، ولا بأس به، وإن علم أحدهما بوزنها دون صاحبه فسد البيع.
باب الصرف أيضاً
وسألته: هل يجوز الصرف بتأخير؟
فقال: لا يجوز الصرف إلاَّ يداً بيدٍ، لا يفترقان وبينهما في الصرف معاملة.
قلت: فإن رجلاً أتى إلى رجل فقال له: عندك دراهم بدينار، فقال له: نعم، فتقاطعا على عشرين درهماً بدينار، وأخذ الصيرفي الدينار، ثُمَّ وزن الدراهم فوجدها تنقص درهمين أو أكثر أو أقل، فقال الصيرفي: خذ هذه الدراهم وعُد إليَّ بعد ساعةٍ حتَّى أعطيك الذي بقي لك؟
قال: هذا صرف باطل لا يجوز؛ لأنَّه لا صرف إلاَّ يداً بيد.
قلت: فإن الرجل حاسب الصيرفي على ما أخذ من الدراهم وبقي عنده كذا وكذا قيراطاً من الدنانير؟ (1/233)
قال: هذا جائز.
قلت: فإن استقرض الصيرفي تمام الدراهم ودفعها إلى الرجل؟
قال: هذا أيضاً جائز.
قلت: فإن دفع إلى الرجل خمسة عشر درهماً وبقي من صرف الدينار خمسة دراهم، فاستقرضها الصيرفي من الرجل الذي صرف عنده الدينار، ثُمَّ دفعها إلهي حتَّى استوفى العشرين درهماً، وبقي للرجل عند الصيرفي خمسة دراهم، هل يجوز ذلك؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن الدراهم الَّتي صارفه بها لم تكن تامة فبطل الصرف عند نقصان الدراهم؛ لأنَّه لا يتم الصرف ولا يملك الذهب حتَّى تتم الدراهم ويكون الصرف يداً بيدٍ.
قلت: فإن الرجل لما دفع الدينار وقاطع الصيرفي على عشرين درهماً بدينار ولم يكن مع الصيرفي إلاَّ خمسة عشر درهماً، فقال للرجل: خذ هذه وعُد إليَّ حتَّى أدفع إليك الباقي، فقال له الرجل: ليس يجوز هذا، ولكني أترك الخمسة الباقي عندك لي وديعة، هل يجوز ذلك؟
قال: لا يجوز، إلاَّ أن يقبض الخمسة دراهم ثُمَّ يودعها إيَّاه.
قلت: فكيف يعملان حتَّى يحل لهما صرفهما؟
قال: إذا نقصت الدراهم عند الصيرفي من صرف الدينار تحاسبا على ما كان من الدراهم حاضراً بكذا وكذا من الدينار، ووقع الصرف على ذلك، ونظر فيما بقي من الدينار فحسباه قراريطاً ربعاً أو ثمناً أو سدساًن فإن اتفقا على أن يقطعا من الدينار قطعة فعلا، وإن أحب صاحب الدينار أن يودع الصيرفي ما بقي له من الدينار إذا عرَّفاه قراريطاً أو ثلثاً أو ربعاً أو ثمناً جاز ذلك لهما وصح صرفهما وحل أن يجعل الدينار عنده رهناً بالخمسة عشر، فإذا كمل باقي الدراهم عنده أوقعا الصرف بينهما في ذلك الوقت واستوفى جميع باقي صرف الدينار.
قلت: فإن عاد صاحب الدينار بعد أيام فقال للصيرفي ادفع بما بقي عندك لي من الدينار دراهم، فصارفه في ذلك الوقت لما بقي له من الدينار وقبض الدراهم، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، ذلك جائز صحيح. (1/234)
قلت: فإن رجلاً أتى بدينار مثقال إلى صيرفي فقال له: اعطني ديناراً مطوَّقاً واعطني بباقي المثقال دراهم، هل يجوز ذلك؟
قال: إن كانا نظرا بكم وزن الدينار المطوق من وزن المثقال فأسقطا وزن المطوق من المثقال مِثلاً بمثل، ثُمَّ تبايعا وتصارفا فَضل المثقال بدراهم على ما يصرف الناس، ولم يكن في ذلك ممَّا كره لطلب الفضل فلا بأس بذلك، وذلك جائز.
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل عشرة مثاقيل تِبْراً أو حليّاً مكسَّراً أو ما أشبه ذلك بسبعة مثاقيل دنانير وثلاثين درهماً، هل يجوز ذلك؟
قال: قد قدمنا جواب ذلك كله، إن كانت الثلاثون درهماً ثمناً للثلاثة المثاقيل الفاضلة من التبر لا زيادة فيها ولا نقصان منها على ما يتصارف الناس ويعرفونه من الذهب المثقال بالفضة والفضة بالذهب جاز ذلك، وإن كان إنَّما أدخلا الدراهم بين الدنانير والتبر لفضل الدنانير على التبر أو التبر على الدنانير بطل ذلك عندنا، ومن فعله فقد أربى، وقد قال غيرنا: إنَّه جائز ولم نلتفت إلى قوله.
باب الرجل يكون له على الرجل دنانير ديناً أو غير دين فيتفقان على أن يأخذ صاحب الدنانير من الذي له عليه الدنانير دراهم يصرفها في ذلك الوقت
وسألته عن رجل يكون له على رجل خمسة دنانير فيأتيه بمائة درهم فيقول له: خذ هذه الدراهم بمالك عندي، هل يجوز ذلك؟
قال: إن كان الصرف في ذلك اليوم عشرين بدينار فهي بالخمسة دنانير، فإذا دفعها إليه وقبضها صاحب الدنانير وصارفه بها في ذلك الوقت مثل صرف الناس وافترقا في وقتهما ولم يبق بينهما معاملة في شيء ممَّا كان بينهما من سبب الدنانير الَّتي كانت له عليه وقت ما قبض الدراهم جاز ذلك.
قلت: وذلك لو كان له عليه مائة درهم فأتاه بخمسة دنانير فقال له: خذ هذه بالدراهم الَّتي لك عليَّ؟
قال: الجواب في هذا كالجواب في الأول.
قلت: فإنه كان له عليه مائة درهم فأتاه بدراهم مكحلة، فأخذها الرجل فحك الكحل عنها واتزنها، فقال له صاحبها: لم آمرك أن تحك الكحل، ما يجب في ذلك؟ (1/235)
قال: ليس عليه فيما فعل شيء؛ لأنَّه حك غشّاً، ولا يجوز الغش بين المسلمين.
قلت: فهل يكون عليه قيمة الكحل الذي حك من الدراهم؟
قال: إن كان الكحل إذا اجتمع له قيمة فعليه قيمته إن كان ضَيَّعهُ، وإن كان لا قيمة له لم يكن عليه شيء، وقد قال غيرنا: قيمة الكحل عليه على كل حال.
قلت: فإن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال له: بعني بهذا الدينار دراهم، فقاطعه على عشرين درهماً بدينار، وقبض الصيرفي الدينار ووزن الدراهم، فقال الذي قبض الدراهم للصيرفي: أنا أنفق فما رُدَّ عليَّ من هذه الدراهم رددته عليك، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، هذا جائز لا بأس به.
باب القواصر والعيب فيها
قلت: فإن رجلاً اشترى قواصر تمرٍ أو قرَبَ تمر، ثُمَّ كشفها ونظر إلى رأسها، ثُمَّ أكل نصفها أو أقل أو أكثر، ثُمَّ وجد بعد ذلك تمراً أردى من الذي كان على رأسها، وهو من جنس التمر الذي نظر إليه، هل يجب له رد ما فيها من الرديئ أو رد الجميع؟
قال: الجواب في ذلك كله واحد، مثل جواب الفضة والذهب، وإن أراد أن يرد التمر الرَّديئ وجب له ذلك، وإن أراد أن يأخذ قيمته وهو فضل ما بين التمر الجيِّد والرديئ من التمر أخذ، وإن أراد أن يرد ما بقي من التمر الجيِّد لم يجب له ذلك.
باب العيب في الثياب
قلت: فإن رجلاً اشترى ثياباً كل ثوب بكذا وكذا فاشترى مائة ثوب، فوجد في واحد منها عيباً؟
قال: إذا كان أوقع كل ثوب بكذا وكذا رد الثوب الذي فيه العيب، إذا كان العيب يمكن أن يُردَّ بعينه، وأخذ الذي ليس فيه عيب.
باب البراءة من العيوب
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل دابةً أو ثوباً أو غير ذلك فقال البائع للمشتري: قد برئت إليك من كل عيب، وأبرأه المشتري من ذلك؟
قال: هذا شرط فاسد، وقد أجازه غيرنا.
قلت: فإن أوقفه البائع على كل عيب وبرأ إليه منه؟ (1/236)
قال: جائز.
قلت: فإن ظهر في السلعة عيب سوى الذي أوقفه عليه البائع؟
قال: يرد المشتري السلعة بذلك العيب.
قلت: فإن ادعى البائع أن هذا العيب حدث عند المشتري؟
قال: يقيم البينة على ذلك وإلاَّ فله اليمين على المشتري، ثُمَّ يرد الثمن من بعد اليمين.
قلت: فإن ظهر بالسلعة عيب غير الذي أوقفه عليه البائع ثُمَّ استعمل المشتري السلعة بعدما ظهر العيب ولم يطالب بالعيب، هل يكون ذلك رضى من المشتري وتلزمه السلعة؟
قال: نعم.
باب القول في ظهور العيب بعد حمل السلعة من بلد إلى بلد
وسألته عن رجل اشترى من رجل بزّاً أو طعاماً بالصفة، ولم يره بمكة فحمله إلى المدينة، فلما أن صار بالمدينة فتحه فوجد به عيباً، فالتقى هو والبائع بالمدينة فقال له: خذ متاعك مني، فقال البائع: رده إليَّ حيث اشتريته مني بمكة، كيف الحكم في ذلك؟
قال: لا يجب على المشتري أن يرده إلى مكة، ويجب على البائع أن يقبضه حيث وجد فيه العيب.
قلت: فإن المشتري قال للبائع: اعطني كراه الذي حملته به من مكة إلى هاهنا؟
قال: لا يجب أيضاً على البائع ذلك؛ لأن المشتري إذا لم ير السلعة عند البيع فله خيار النظر إذا نظر إليها، فحيث وجد بها عيباً ردها في الموضع الذي وجد فيه العيب.
قلت: وكذلك إن كان حماراً أو جملاً؟
قال: القياس في ذلك كله واحد.
بابٌ في الخيار بغير وقت
وسألته عن الخيار إذا جعله البائع للمشتري أو المشتري للبائع ولم يؤقتا وقتاً؟
قال: ذلك فاسد حتَّى يقع وقتٌ معلوم مفهوم، فإذا وقع وقت ما شاء فليكن وجب.
باب الخيار في العبد ثُمَّ يموت
قلت: فإن رجلاً اشترى عبداً وقبضه والخيار للبائع فمات عند المشتري، أو كان الخيار للمشتري، فمات وهو في خياره؟
قال: إذا كان الخيار للمشتري فمات عنده فهو ضامن له؛ لأنَّه لو باعه من غيره جاز بيعه، وكذلك لو أراد البائع أن يرجع في العبد من غد لم يجز له ذلك، فكما جاز للمشتري بيعه في الخيار لزمه الضمان. (1/237)
باب الخيار شهراً أو سنة
قلت: فما تقول في الخيار شهراً أو شهرين أو ثلاثة أو سنة؟
قال: ما وقع بينهم من الشرط جاز ما شاء الوقت فليكن، وقد أبى غيرنا ذلك.
باب الخيار للمشتري ثُمَّ يموت البائع
وسألته عن رجل اشترى عبداً أو عرضاً من العروض بكذا وكذا، على أن المشتري بالخيار شهراً، فمات البائع قبل الشهر بيوم أو يومين، ثُمَّ أراد المشتري أن يرد السلعة، هل يردها على ورثة البائع، أم كيف العمل في ذلك؟
قال: إذا كان الشرط ثابتاً على ذلك فالبيع يقع عند انقضاء الشرط ويجب، وما لم يمض البيع فله الرد على الورثة، وانقضاء البيع ومضيه انقضاء الأجل.
بابٌ إذا مات وله الخيار
قلت: فإن المشتري مات وله الخيار إلى أجل، أو مات المشتري وللبائع الخيار إلى أجل، هل يكون لورثتهما من بعدهما الخيار إلى أجل؟
قال: إذا مات المشتري وله الخيار إلى أجل فالبيع ماضٍ ولا خيار لورثته؛ لأن المساومة والموافقة قد وقعت والرضى بالثمن وحاز المشتري السلعة، وإنَّما بقي له أجل اشترطه يجوز له فيه نقض البيع وإثباته، فإذا مات ولم ينقض البيع فالأصل الذي أثبتاه بينهما من المبايعة ثابت.
قلت: فإن كان البائع شرط إلى أجل، ثُمَّ مات المشتري قبل انقضاء الأجل، هل للبائع أن يرجع فيما كان اشترط فيه الأجل على ورثة المشتري؟
قال: له من ذلك ما كان للمشتري على ورثة البائع.
قلت: وما ذلك؟
قال: له أن يرجع فيما لم ينقض أجله.
باب الرجل إذا زال عقله أو عمي أو ارتدّ وله الخيار
قلت: فإن زال عقل البائع أو المشتري، أو عمي أحدهما، أو ارتدَّ عن الإسلام وله الخيار؟
قال: الناظر في ذلك ورثته، ما أجازوا جاز، وما أبطلوا بطل إذا كان حيّاً.
قلت: فإن صح أو رجع إلى الإسلام قبل انقضاء الأجل أو بعده؟ (1/238)
قال: أما إن كان ما ذكرت قبل انقضاء المدة فليس في ذلك كلام وهو على شرطه، وإن كان بعد انقضاء المدة كان للزائل عقله الخيار عند رجوع عقله؛ لأنَّه كان في سبب لم يجنه على نفسه، وأما المرتد فلا خيار له بعد الأجل؛ لأنَّه قطع ما كان له من الخيار بالتنحي عن دار الإسلام، فكان قطع الخيار وجواز الأجل منه لا من غيره، فلما ارتدَّ عن الإسلام لم يكن له من الشرط ما كان أوجبه لنفسه؛ لأن المرتد خلاف غيره في جميع الأحكام.
قلت: فإن بعث من داره الَّتي هو فيها بذكر رضى أو سخط إجازة أو غير ذلك؟
قال: لا إجازة له ولا رضى ولا سخط في شيء ممَّا ترك من ماله ممَّا باع واشترط فيه شرطاً أو ممَّا تركه من سائر ماله في منزله مجموعاً وورثته أولى بشرطه وماله.
باب العيب في الخيار
قلت: فإن حدث بالسلعة عيب عند المشتري وله الخيار أو تلفت أو جنت جناية؟
قال: إذا حدث بها عيب فصاحب الخيار على خياره إن شاء أخذ وإن شاء رد إذا كان رده على خياره ولم يكن رده من أجل العيب الذي حدث بعد قبضه لها.
قلت: وما خياره؟
قال: شيء تبين له فيها ممَّا كان يطمع ببيانه في الأجل الذي طلبه من ظهور عيب كان بها قديماً ممَّا يرد بمثله ويكره من أجله الرقيق.
قلت: فإنه لم يبين فيها ممَّا كان يطمع ببيانه في الأجل الذي طلبه من ظهور عيب كان بها قديماً ممَّا يرد بمثله ويكره من أجله الرقيق ولم يتبين فيها شيء يكون له به حجة، غير أنَّه لما حدث هذا العيب ردها؟
قال: إذا لم يكن منه سخط قبل العيب فلا سبيل له إلى ردها بعد العيب.
باب اختلاف البيِّعين في السلعة بعد الخيار
قلت: فإن المشتري رد السلعة وكان له الخيار فاختلفا فيها، فقال البائع: ليست هذه السلعة الَّتي بعتك، وقال المشتري: بلى هي سلعتك؟
قال: البينة على الراد الذي يدعي ويذكر أنَّها سلعة البائع بعينها، واليمين على الذي يجحد السلعة وينكرها.
قلت: فإن لم يكن له بينة؟ (1/239)
قال: يستحلف المنكر الجاحد للسلعة، وهو الذي نفى أن تكون سلعته.
باب النكول عن اليمين، فالبينة على المنكر
قلت: فإن نكل عن اليمين؟
قال: ترد اليمين على المدعي ويكون القول قوله.
قلت: فإن نكل هذا أيضاً عن اليمين؟
قال: يسأل صاحب السلعة، هل يشهد له على قوله غيره، فإن أتى بشاهدين يشهدان أن هذه ليست بالسلعة الَّتي دفعها إلى فلان، فإذا أتى بذلك وشهد له عليه كان الحق حقه بما ثبت له من البينة الَّتي لم تثبت لصاحبه.
بابٌ في البينة على المنكر
قلت: وكيف يلزم المنكر البينة، بل كيف ينفع المنكر البينة؟
قال: محل بينة المنكر في مثل هذا الموضع الضيق كمحل اليمين على المدعي عند نكول المنكر فما انتفع به المدعي من اليمين عند نكول الجاحد أو وجب له بها انتفع المنكر بالبينة فيه ويحكم له به عند نكول المدعي عن اليمين إذا نكل المنكر، وعندما لا يكون للمدعي بينة فالحال في هذين المعنيين سواء.
قلت: فإن هذا الآخر الذي أتى بالبينة لما أتى بها قال المدعي الأول: قد صدقوا، قد دفع إليَّ قدامهم السلعة الَّتي يذكرون، وقد رددتها عليه بعدهم، فأعطاني هذه وقبضتها منه من بعد الأولى؟
فقال: المسالة الآن مبتدأة، عليه البينة بردها، فإن لم يجد بينة فعلى الآخر اليمين ما رددت إليَّ السِّلعة الَّتي شهد لي على دفعها إليك هؤلاء بعد معرفتهم بها وإثباتهم إياها، وأنها لعارة عندك، وما أعطيتك هذه، وما مطالبتي لك إلاَّ في الَّتي شهد عليها هؤلاء الشهود، فإذا حلف استحق سلعته الَّتي ادعاها.
قلت: فإنهما نكلا جميعاً عن اليمين في المسألة الأولى ولم يجد المنكر بينة على ما ذكرت، وقد نكلا جميعاً، كيف العمل في ذلك؟
قال: اقسم فضل ما بين السلعتين بينهما.
قلت: وكيف يعلم فضل ما بينهما ولم ترى الأولى وهي غائبة.
قال: يسأل صاحبها والشهود عن قيمتها، فإذا ذكروا شيئاً استحلفوا عليه بالأيمان الغليظة، ثُمَّ قومت هذه الحاضرة، ثُمَّ نظر ما بينهما فقسم. (1/240)
قلت: فإن الشهود قالوا: لا نعرف قيمة هذه السلعة ولا نهتدي لها؛ لأننا لسنا من أهلها ولا ممَّن يعرفها؟
قال: يصفونها وينعتونها ويحدِّدونها لأهل البصر بمثلها، ثُمَّ يجتهد أهل البصر رأيهم في تقويمها، ويستحلف صاحبها من بعد على صدق تقويمهم، وأنهم قد قوموها بما تسوى ثُمَّ يحكم له بذلك.
قلت: فإن كان صاحبها قد حلف أولاً وذكر قيمةً(1) ثُمَّ قومها هؤلاء الموصوفة لهم بأكثر من ذلك؟
قال: ترد القيمة إلى ما عرف صاحبها.
قلت: فإن قوموها دون ما حلف عليه من قيمها؟
قال: القول قول المقومين.
قلت: فكيف صدقته وجعلت القول قوله إذا قوموا أكثر، وأكذبته وجعلت القول قولهم إذا قوموا أقل؟
قال: ألزمته قولهم إن ادعى أكثر؛ لأنهم قد جُعلُوا حَكَماً بينه وبين خصمه، فلم نصدقه فيما ادعى من الزيادة على تقويمهم، وصدقته إذا قوموا أكثر ممَّا قوم؛ لأنَّه أعرف بقيمتها، فلما كان قولهم غير ناقص لصاحبه ولا مذهب شيئاً من حق صاحبه فكان في هذا الموضع الحُكَّام أولى بالتصديق من تصديق الخصم على خصمه، فكان الحكم عندي في هذا الموضع من إقراره وإنكاره فيما يدعيه من ماله كالحكم في الورثة إذا أقر بعضهم بوارثٍ دون بعض؛ صدقته فيما أدخل به على نفسه الضرر من إقراره، ودفعته وأبطلت قوله فيما أراد أن يدخل به الضرر على غيره من الورثة، فافهم المعنى وتدبره يبن لك بحول الله صحته ورشده.
باب خيار النظر إذا لم يقلبه
وسألته عن رجل اشترى من رجل تمراً أو حنطةً أو ثياباً أو غير ذلك من العروض بالصفة، ولم يره المشتري ولم يقلبه ودفع المشتري إلى البائع الثمن وقبضه البائع ولم يقبض المشتري شيئاً، ثُمَّ رجع البائع عن البيع، أو المشتري عن الشراء؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): القيمة.
قال: المشتري بالخيار عند المعاينة، فإن رأى خلاف ما وصف له فأراد أن يترك السلعة تركها، وإن أراد أخذها، وليس للبائع إذا قبض الثمن خيار؛ لأنَّه باع ما قد عرف ولم يجهل من سلعته ما جهل المشتري. (1/241)
قلت: فإن كان البائع باع سلعته ولم يرها؟
قال: ذلك بيع فاسد.
باب الخيار في الشاة ولمن اللَّبن
قلت: فإنه اشترى شاةً بالخيار ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة بعشرة دراهم، فحلبها في أيام الخيار ما يساوي خمسة دراهم، ثُمَّ بدا له أن يردها، كيف العمل في ذلك؟
قال: إذا كان الخيار للبائع فاللبن أيضاً إن بدأ البائع في الرد له؛ لأنَّه لم يقع عقدة بيع.
قلت: فما تقول في العلف؟
قال: العلف أيضاً على البائع إذا كان الخيار له إلاَّ أن يكون اشترط العلف على المشتري.
قلت: فإنه لما اشترى الشاة وجد بها عيباً، فأشهد عليه شاهدين ورجع بها يردها فماتت في الطريق؟
قال: يرجع بثمنها على البائع إذا شهد الشهود على عيب ترد به الغنم؛ لأن البيع مردود بالعيوب، فوجب على صاحبها الثمن بذلك.
باب بيع الشاة مرابحة بعدما حلبها
قلت: فإنه اشترى شاةً فعلفها وحلبها ثُمَّ باعها مرابحةً وقد كان حلب منها مثل قيمتها، كيف العمل في ذلك، وهل يجوز البيع؟
قال: نعم، يجوز البيع إذا كان قد علم أن مثلها يحلب، جاز أن يبيعها مرابحةً.
باب الخيار في بيع ما لم يعرف ولم يسمه
وسألته عن الرجل يرث الميراث من ضيعةٍ أو من حوانيت وغير ذلك ولا يدري كم هو، فيبيعه من رجل ويقول: قد بعتك جميع كل ما ورثته من أبي أو من أخي، أو أبيعك كل ملكٍ لي من قليل أو كثير، ولم يعلم ما له، أو قد علم وفهمه ولم يُسمِّ سهاماً معلومةً؟
قال: إذا لم يعلم البائع ما باع ولا المشتري ما اشترى فذلك بيع باطل لا يجوز، وأما إذا علم البائع ما باع وما قد وقف عليه جاز بيعه وكان للمشتري إذا نظر إلى ما اشترى خيار النظر، إن أحب أخذ وإن أحب رد.
باب العيب في بعض السلع
قلت: فإنه اشترى عشر جوارٍ أو أثوابٍ في صفقة واحدة، ثُمَّ وجد في واحدة منهن عيباً، فأراد المشتري أن يرد المعيب ويقبض الباقي، فقال البائع: رد الجميع؟ (1/242)
قال: ذلك له على المشتري، إما أن يرد الجميع، وإما أن يأخذ الجميع إذا كان ذلك صفقة واحدة.
قلت: فإنه اشترى عشر جوارٍ في صفقة واحدة فاستحق إحدى الجواري فقال البائع للمشتري: رد باقي الجواري، فقد فسد البيع؟
قال: ليس كما قال، ولكن إذا استحقت واحدة من الجواري كان للمشتري قيمتها وقت ما استحقت، وباقي الجواري له، ولا يجب عليه الرد.
قلت: وكذلك لو اشترى عشرة أثواب في صفقة واحدة فاستحق واحدة؟
قال: الجواب في ذلك واحد.
قلت: ولأي معنى لا يرد الجميع إذا استحق بعض، ويجب إذا وجد في بعضه عيباً يرد؟
قال: لأنَّه إذا استحق بعض الجواري كان بيع ذلك البعض فاسداً في الأصل، وكان بيع البواقي ثابتاً، وأما الذي في بعضه عيب فيأخذ الجميع أو يرد الجميع، إلاَّ أن يحب أن يأخذ أرش العيب فيأخذه، وأما أن يرده بعيبه دون باقية فلا يجوز ذلك؛ لأنَّه اشتراه في صفقة واحدة فيرده جميعاً أو يأخذه جميعاً، وإن كان اشترى كل واحدٍ بعينه رد ما فيه العيب وأخذ الباقي.
باب الاستحقاق في الجارية بعدما ولدت
وسألته عن رجل اشترى جارية فوطئها وولدت له أولاداً، ثُمَّ استحقت الجارية، هل للمستحق أن يأخذها وأولادها؟
قال: لا، ولكن للمستحق قيمة أولادها على أبيهم.
قلت: فإنه لم يطأها، ولكن زوجها بعبده فولدت من العبد أولاداً، هل للمستحق أن يأخذها هي وأولادها؟
قال: نعم، ويرجع المشتري على البائع بالثمن.
قلت: فإنه كان البائع قد مات؟
قال: يرجع على ورثته بالثمن في تركته.
قلت: فإن جحدوا أن أباهم لم يبع هذه الجارية ولا يعرفون من هذا شيئاً ولم يكن للمشتري بينة بشراء الجارية؟
قال: يستحلفون على علمهم.
قلت: فإنه اشترى حماراً أو بعيراً أو شاةً أو بقرةً أو فرساً، ثُمَّ ادعى رجل أنَّها سرقت منه واعترفها في يدي المشتري؟ (1/243)
قال: عليه البينة العادلة أنَّها له وأنها لم تخرج من يده ببيع ولا هبة ولا بوجه من الوجوه، إلاَّ سرقة أو ذهاباً، فإذا شهدت بينته بذلك استحقها وقبضها ورجع المشتري على البائع بالثمن.
قلت: فإن كان البائع في بلد غير البلد الذي استحقت فيه الدابة؟
قال: يطلب بائعه حيث كان.
في الثوب يستحق بعدما يقطعه
قلت: فإنه اشترى ثوباً وقطعه قميصاً ولم يخطه حتَّى استحق؟
قال: إن كان المشتري علم أن الثوب مسروق لزمته قيمته صحيحاً، وإن كان لم يعلم أنَّه مسروق حين اشتراه سلمه إلى مستحقه، وكان نقصانه على الذي سرقه، ورجع بحقه على الذي باعه.
قلت: فإنه خاط القميص فاستحق قميصاً مخيطاً؟
فقال: الأمر واحد والوجاب فيها كالجواب الأول.
باب القول في استحقاق الشاة بعد الذبح
قلت: فإن اشترى شاةً فذبحها وسلخها وقطعها أجزاءً، ثُمَّ استحقت؟
قال: صاحبها مخير، إن أحب أخذ قيمتها يوم ذبحت وهي حية، وإن أحب أخذها على ما هي عليه ويرجع المشتري على البائع بالثمن إن لم يكن علم أنَّها غصب.
قلت: فإنه اشتراها وقد علم أنَّها غصب أو حرام، هل له أن يرتجع على البائع؟
قال: نعم.
باب القول في بيع السرقة ثُمَّ يبيع المشتري
قلت: فإن رجلاً سرق حماراً، ثُمَّ باعه من رجل، ولم يعلم المشتري أنَّه سرقه، ثُمَّ باعه المشتري من رجل آخر، ثُمَّ سرقه رجل من المشتري الآخر، ثُمَّ اعترفه صاحب الأول الذي سرق منه مع السارق الآخر، وأقام على ذلك البينة فاستحقه وقبضه، ما يجب في ذلك؟
قال: قد تقدم الجواب في ذلك، إذا أقام صاحبه عليه البينة قبضه.
قلت: فإن الذي اشتراه من السارق طالب به الذي استحقه وأثبت بينة بشرائه؟
قال: لا ينظر إلى بينته إذا ثبتت بينة الأول أنَّه كان له أولاً وسرق منه ولم يخرج من يده ببيعٍ ولا هبة.
قلت: وكذلك إن كانت جارية فسرقها سارق، فباعها من رجل، فأولدها الرجل الأول، ثُمَّ استحقت ولم يكن علم أنَّها مسروقة؟ (1/244)
قال: إذا كان لم يعلم أنَّها مسروقة في وقت ما اشتراها ثُمَّ أثبت عليها سيدها قبضها وقبض أيضاً قيمة ولدها من أبيهم.
باب بيع الدابة ويستثنى ما في بطنها
وسألته عن الرجل يبيع الناقة الحامل أو الفرس أو الشاة أو البقرة أو الجارية، ويستثني ما في بطنها؟
قال: ذلك جائز إذا اشترطه.
باب القول في الأرض والزرع والنخل
قلت: وكذلك يبيع الأرض ويشترط زرعها، والنخل ويشترط ثمره، والشاة ويشترط اللبن الذي في ضرعها؟
قال: ذلك كله جائز، وقد أفسده غيرنا.
قلت: فإن تلفت الشاة أو شيء من هذا الحيوان إذا نتج؟
قال: يكون من مال المشتري.
قلت: أفليس يكون هذا الشرط في هذا البيع فاسداً؟
قال: لا، لأن المشتري قد علم أنَّه لا بد لهذا الحيوان الحامل من أن ينتج ولو تلف عند البائع لم يكن على البائع من ذلك شيء.
قلت: فإنه لما نتجت الدابة أو ولدت الجارية قال صاحبها: لا أرضع لك الولد؟
قال: إن كان دخل في الشرط رضاع الولد وقتاً معلوماً لزم الحكم والشرط.
قلت: فإن كان البيع مبهماً لم يشترط؟
قال: فعلى المشتري أن يرضع الولد من أُمِّه رضعةً واحدة.
قلت: فإن أبى؟
قال: يجبر على ذلك.
قلت: فلأيِّ علَّةٍ يجبر ولم يكن عليه في ذلك شرط؟
قال: لأن غذاء الولد في وقت ما تطرحه الأُم رضعةً في ذلك الوقت باللِّباء، وإن لم يكن رضعةً واحدةً تنفعه أرضعته ثلاث رضعاتٍ.
باب تفسير الشروط الجائزة
قال: وكل بيع يشترط فيه شرط فلا يدخل على المشتري فيه ضرر ولا غرر، فاشتراط البائع فيه جائز.
قلت: مثل أي شيء؟
قال: مثل النخل إذا اشترط البائع التمر، وكذلك الزرع، ألا ترى أنَّه لو فسد التمر أو الزرع لم يدخل على المشتري ضرر؛ لأن النخل والأرض قائمة بعينها.
قلت: فإنه باع جارية وقد أعتق ما في بطنها دونها، هل يفسد بيعها أم لا؟
قال: لا بأس بذلك، البيع ثابت لازم، وما في بطنها حُرٌّ إذا علم المشتري بذلك ورضي. (1/245)
قلت: فإنه اشترى ثوباً بدينارٍ على أنَّه يدفع في كل يوم درهماً حتَّى يستوفي صاحب الثوب الدينار، هل يجوز ذلك؟
قال: لا يجوز ذلك إذا كان البيع وقع بدينار، ثُمَّ اشترط دراهم فدخل ذلك صرف بنظِرَةٍ ففسد البيع.
باب القول في العبد يعتقه قبل أن يدفع ثمنه
وسألته عن رجل اشترى عبداً وقبضه، ثُمَّ أعتقه قبل أن ينقد ثمنه، ثُمَّ فر المشتري أو لم يجد معه ثمنه، هل يُرد في الرق؟
قال: لا يرد في الرق، إنَّما على المشتري الثمن، وكذلك جاء عن علي عليه السلام في مصقلة بن هبيرة حيث باعه الرقيق فأعتقهم وهرب إلى معاوية لم يردهم عليٌّ في الرق.
باب القول في الرجل يشتري العبد المريض ثُمَّ ينفق عليه حتَّى يعتق
وسألته عن رجل اشترى عبداً مريضاً ثُمَّ أنفق عليه مثل ثُمَّنه ثُمَّ استحق العبد؟
قال: يأخذ المستحق للعبد، وتبطل نفقة المشتري؟
قلت: فكيف بنفقه المشتري ولم يستعمل العبد ولم ينتفع به؟
قال: أرأيت لو مات قبل أن يستحق أليس كانت تبطل نفقته، ثُمَّ قال: أرأيت لو اشتراه بمائة وهو صحيح قوي ثُمَّ استحق وهو يساوي عشرين، هل يرجع عليه المستحق بالنقصان أو بالنفقة أو الكسوة؟
قلت: لا.
قال: فكما لا يلحقه النقصان عند الاستحقاق كذلك لا تلحقه الزيادة أو النفقة في صحة العبد.
باب القول فيمن اشترى طعاماً ولم يقبضه حتَّى غلا
وسألته عن رجلٍ اشترى من رجلٍ عشرة أقفزة من حنطة أو ذرة أو غير ذلك من الطعام بخمسة دنانير، ودفع المشتري إلى البائع الثمن وقبضه البائع ولم يقبض المشتري الطعام حتَّى صار الطعام يساوي عشرة دنانير، ثُمَّ جاء المشتري يطلب الطعام؟
قال: يجب للمشتري الطعام على ما باعه البائع.
قلت: فإن كان الطعام قد تلف؟
قال: إن كان المشتري حيث اشتراه قال للبائع: كِل الطعام واعزله لِي في بيتك، ففعل البائع وكال الطعام وعزله ثُمَّ تلف الطعام كان تلفه من مال المشتري؛ لأنَّه أمره بكيله وبعزله، فجعله في ذلك وكيلاً مأموناً، فلم يكن على البائع ضمَانٌ، وإن كان قال له: كِله لي، ثُمَّ مضى وتركه فلم يكله ولم يعزله حتَّى تلف الطعام كان البائع ضامناً لقيمة الطعام يوم تلف أو طعام مثله. (1/246)
بابٌ فيمن اشترى طعاماً ودفع بعض الثمن
وسألته عن رجل اشترى من رجل برّاً أو شعيراً أو تمراً، ونظر إليه وقلبه على سعر معلوم وتراضيا على السعر جميعاً ووقع البيع بثلاثين ديناراً فدفع إليه عشرة دنانير ثُمَّ يذهب المشتري فيمكث أيَّاماً حتَّى ينقص السعر أو يزيد، ثُمَّ يأتي يطلب البائع بما تقاطعا عليه فيقول البائع: ليس لك عندي إلاَّ بما دفعت من الثمن، ويقول المشتري: قد بايعتك بثلاثين ديناراً، كيف العمل في ذلك؟
قال: إذا قطع السعر وأوجب له الطعام فقد وجب إذا قبض بعض الثمن، وكذلك أيضاً لو لم يقبض الثمن وتراضيا على سعر فله ما أوجب له، والشرط أملك.
قلت: فإنه نظر إلى إلى الطعام أو التمر واشترى منه بعشرة دنانير وتراضيا على السعر ولم يدفع إليه شيئاً ثُمَّ مضى المشتري وطلب من البائع الطعام، هل له أن يبيعه؟
قال: لا، ليس له أن يبيعه، وكيف يبيعه وقد تراضيا على سعر ووقفا عليه وأوجب له البيع! وقد قال غيرنا: إنه يجوز.
باب الشاة يشترط جلدها أو شيء منها
وسألته عن رجل باع شاةً أو بقرة أو بعيراً، واشترط الجلد؟
فقال: ذلك جائز، وقد قال غيرنا: إنه لا يجوز، ولم نلتفت إلى قولهم.
قلت: فإنه باع الجلد على الثور وهو قائم؟
قال: هذا لا يجوز.
قلت: فما الفرق بين هذين؟
قال: إذا استثنى الجلد لم يكن على المشتري ضرر ولا غرر فلذلك جاز، وإذا باع الجلد بيعاً وهو على الثور أو الشاة كان ذلك غرراً على المشتري؛ لأنَّه ربما أخلف الجلد، فالاستثناء عندنا في الجلد إذا باع الشاة أو البقرة خلاف بيع الجلد على الدابة وهي قائمة. (1/247)
قلت: فهل يكون للمشتري في اللحم خيار النظر إذا استثنى البائع الجلد؟
قال: لا يكون له خيار النظر في هذا الموضع خرجت الدابة سمينة أو مهزولة.
قلت: وكذلك لو باع شاةً أو ثوراً أو بقرةً أو بعيراً واشترط منه كذا وكذا رطل لحم؟
قال: أما الأرطال فلا يجوز؛ لأن ذلك مجهول، ولكنه لو باع واشترط الجوف أو القلب أو شيئاً بعينه كان ذلك جائزاً، و جزءاً معروفاً ربعاً أو ثلثاً أو سدساً.
قلت: فما تقول في شراء الصوف وهو على الجلد؟
قال: ذلك جائز.
قلت: فإن ذبح الجزار الشاة أو البقرة فلما سلخ الجلد أفسد فيه بقطع سكين أو غير ذلك؟
قال: إن كان فعل ذلك عمداً فعليه ما أفسد، وإن كان لم يتعمد لم يلزمه شيء، إلاَّ أن يكون مستأجراً فليلزمه ما أفسد تعمد أو لم يتعمد.
بابٌ في بيع حبال القضب
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل كذا وكذا حبل قضب بدينارٍ وقبض الثمن أو لم يقبضه، والقضب عنده، ثُمَّ عدَّ صاحب القضب للرجل القضب فبقي ممَّا قاطعه عليه ثلاثون حبلاً أو أكثر أو أقل، فقال له: إذا جززت قضبي فتلت لك الذي لك، وأوعده يوماً، فلما كان بعد ذلك نقص سعر القضب فجاء المشتري يطالب صاحب القضب بما بقي له، فقال البائع: ليس عندي قضب، خذ ثمن الذي بقي لك، هل يجب له القضب أم ثمنه على ما اشتراه منه، أو قيمته يوم طالب به المشتري؟
قال: ما قبض فهو جائز، وما بقي له فهو بقيمته يوم اشترى؛ لأن الذي بقي مجهول لا يعرف.
قلت: فإن كان شراؤه أرطالاً معلومةً على مائة رطل بدينار فقبض البائع الثمن ودفع ثمانين رطلاً وبقي له عشرون رطلاً، ثُمَّ غلا القضب بعد ذلك، فطالب المشتري البائعَ بباقي الأرطال.
قال: تجب له الأرطال غلا القضب أو رخص. (1/248)
باب القول في شراء الأرض بطعام ودنانير
وسألته عن رجل اشترى أرضاً بكذا وكذا ديناراً وكذا وكذا قفيزاً من طعام.
قال: لا بأس بذلك إذا لم يكن في الأرض طعام نابت من جنس الطعام الذي كان في المبايعة؟
قال: ولا يجوز أن يشتري الرجل أرضاً فيها ثمرٌ بدينار، وثمر من جنس الثمر الذي فيها. قال: وإن اشترى أرضاً بطعام كله فلا بأس إذا لم يكن فيها ثمر من جنس الطعام الذي اشتراها به.
قلت: فإن كان فيها حنطةٌ نابتةٌ واشتراها بزبيب أو شعير أو غير ذلك من الحبوب إلاَّ الحنطة؟
قال: لا بأس بذلك يَداً بيدٍ، ولا يجوز نسيّاً؛ لأن أصل الحنطة والثمر الكيل.
قلت: فإن اشتراها وفيها ثمر بشيءٍ ممَّا يوزن رصاص أو حديد أو سكر أو غير ذلك ممَّا يوزن؟
قال: لا باس بالنّسأ فيه.
باب الزيارة في الثمن
قال: وكل سلعة يزاد في ثمنها أكثر من السعر إذا كان البيع نَسيّاً فلا يجوز، وذلك في الثياب والحيوان وجميع العروض إذا بيعت بأكثر من ثمنها الذي يسوى في يومها فهي مردودة غير جائز البيع فيها، إلاَّ أن يكون قدر ما يستقضي البيع في سلعته مقدار العشر في الثمن أو أقل من ذلك، فإن زاد على العشر لم تجز ورد البيع، وإن كان ذلك العشر أو أقل منه تعاملاً بينهما للنَّظِرَة بطل البيع وحرم ولو كانت الزيارة فلساً واحداً.
باب شراء العلو ثُمَّ ينهدم السفل
وسألته عن رجل اشترى علو دار، وانهدم السفل أو حدث في جدارٍ منه حَدثٌ؟
قال: على صاحب السفل أن يرده ويصلحه؛ لأنَّه لا علو إلاَّ بسفل.
قلت: فإن كان صاحب السفل معسراً لا يقدر على عمران سفله؟
قال: يعمر صاحب العلو ويستغله حتَّى يستوفي قيمة ما غرم.
قلت: فإن كان صاحب السفل مؤسراً وأبى أن يعمره؟
قال: يجبر على عمارته.
قلت: فإن هرب صاحب السفل أو اختفى:
قال: يعمره صاحب العلو ولا يسلمه إليه أبداً حتَّى يدفع إليه ما غرم فيه.
قلت: فإن كانا معسرين جميعاً واحتاجا صاحب السفل إلى بيع خشبه وسقفه؟ (1/249)
قال: لا يجوز له أن يبيع؛ لأنَّه فساد العلو وضرر بصاحبه، وله أن يبيع السفل قائماً غير منقوض.
باب المعاملة
قلت: فإن رجلاً عامل رجلاً فيأخذ منه الدراهم والحوائج، والصرف سبعون بدينارٍ، ولا يستتم السبعين درهماً حتَّى يصير الصرف ستين أو ثمانين أو أقل أو أكثر، كيف العمل في ذلك؟
قال: إنَّما هذا مثل السلف الذي يستسلف الدراهم، فإن أراد أن يرد دراهم فله ذلك.
قلت: فإنه أراد أن يشتري منه الدراهم الَّتي اجتمعت عليه في ذلك الوقت بدينار؟
قال: ذلك جائز.
باب المعاملة في الطعام
قلت: وكذلك لو عامله في طعام يأخذ منه مُدّاً بعد مُدٍّ وشيئاً بعد شيءٍ والسعر في أول يومٍ أخذ منه فرقان بدينارٍ فلم يستتم الفرقين حتَّى زاد أو نقص، كيف العمل في ذلك؟
قال: وكذلك إنَّما له عليه طعام، ليس بثمن معلوم إلاَّ أن يكون أخذ منه بدرهم ودرهمين فيكون ذلك مثمناً، وإذا كان ليس مثمَّناً فإنما هو مثل السلف أيضاً إن أحب أن يشتريه في وقت ما اشتراه بما تراضيا به من الثمن، ولا ينظر إلى السعر في أول ما أخذ ولا آخره، إنَّما عليه طعام.
باب بيع أمهات الأولاد
وسألته عن بيع أمهات الأولاد أجائز؟
قال: معاذ الله، ألا ترى أنَّ مارية القبطية أم إبراهيم لما ولد إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: <أعتقها ولدُها>، قال: أعتقها من البيع وحده، ولو كانت عتقت لم يجز أن يجعل عتقها صداقها، وقد قال ذلك غيرنا، ورووه عن علي بن أبي طالب عليه السلام، ولم يصح ذلك عندنا، بل هو كذب عليه وباطل.
قلت: فإنها وضعته قبل أن(1) يتبين؟
قال: إذا علم أنَّه شيء قد تضمنته الرحم من مضغة أو شيء يعلم أنَّه لحمه فقد عتقت، وقد قال أهل المدينة: حتَّى يتبين بعض خلقه.
في ولد الزنا من المملوكة
قلت: فإن مملوكة لرجل ولدت غلاماً من زنا، هل يجوز له أن يبيعه أو يستخدمه؟
__________
(1) ـ أكثر النسخ: بحذف أن.
قال: نعم، هو مملوكه، ويقيم على الجارية الحد. (1/250)
ما جاء في بريرة
وسألته عن حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بريرة؟
فقال: كان في بريرة أربع خصال، كلها سنة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الطلاق لمن أخذ بالساق ولم يجعل بيعها طلاقها؛ لأنها بيعت ولها زوج. وسألته عائشة عما فع2لت حين اشترتها واشترطت الَّتي باعتها أن الولاء لها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: <الولاء لمن أعتق>، وأبطل الشرط، وخيَّرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أُعتقت في زوجها، فاختارت نفسها، ففرق بينهما، وتصدق عليها بتمر، فأهدته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: <هو عليها صدقة، ولنا هدية>، قال يحيى(1) بن الحسين عليه السلام: وسواء أكان(2) الزوج حُرَّاً أو مملوكاً إذا أُعتقت خُيِّرت.
باب القول في الرجل يؤمر بلتات السويق فيزيد عليه غير ما يؤمر به
قلت: فإن رجلاً معه سويق فأتى به زيَّاتاً، فقال له: لت لي هذا السويق بأوقيةٍ، فلته بأوقيتين؟
قال: ليس على صاحب السويق إلاَّ ثمن أوقية؛ لأنَّه قد وصف له ما يلته به، فتبرع هو بغير ما قال له.
قلت: فإنه قال له: لته، ولم يُسَمِّ له شيئاً، فلته لتاتاً كثيراً، فقال صاحب السويق: أفسدته، وقال الزيات: هذا اللَّت، فأتيا الحاكم، فقال قوم: هو فاسد، وقال آخرون: هو جَيِّد، بما يؤخذ من ذلك؟
قال: ينظر في ذلك، فليس يخفى على من يبصر، فإن كان السويق قد فسد ضمن الزيات، وإن كان لم يفسد السويق فقيمة الزيت على صاحب السويق.
باب القول في الزيت يهراق في السويق
قلت: وكذلك لو مر ببطةٍ يحملها، فيها زيت، فسقطت في زنبيل بائع فيه سويق، فاهراق كله في السويق، ما يجب في ذلك؟
قال: لا يكون صاحب السويق ضامناً؛ لأنَّه لم يكن منه عنت لصاحب الزيت.
__________
(1) ـ الرواية في هذه للمرتضى محمد بن يحيى عليهما السلام، كما هو في الأحكام، فيحقق.
(2) ـ في الأصل: كان بحذف الهمزة.
قلت: فإن أندفق في دقيق لا في سويق؟ (1/251)
قال: عليه قيمة ما نقص من سعره، إن كان ذلك ينقصه يضمنه الدافق للزيت لصاحب الدقيق.
باب القول في بيع الوالد مال الولد
وسألته عن رجل باع ضيعة لابنه وهو صغير لم يبلغ مبالغ الرجال؟
فقال: يرد الابن البيع ولو بعد عشرين سنةً إن أراد.
باب القول في بيع التمر بظروفه وبما طارحه الظرف
وسألته عن رجل اشترى من رجل قوصرة تمرٍ أو زق سمنٍ أو قارورة دهنٍ أو ما أشبه ذلك، فلما عرفا الوزن تطارحا الظرف بكذا وكذا رطلاً وتراضيا بذلك؟
قال: ذلك جائز إذا لم يكن واحد منهما علم وزن الظرف ما هو.
باب الشفعة
وسألته عن الشفعة في المماليك والحيوان وغير ذلك من العروض؟
فقال: الشفعة في ذلك كلَّه هي للشريك دون غيره.
قلت: فإن كان الشريك يهوديّاً أو نصرانيّاً؟
قال: وكذلك الشفعة لليهودي والنصراني في جيمع الأشياء، إلاَّ أن يكون في الضياع الَّتي تجب فيها الزكاة فليس له في ذلك شفعة، ولا يترك أهل الذمة يشترون من الضياع شيئاً، إلاَّ أن يكونوا ممَّن صالحنا وكتبنا بيننا وبينه الكتاب الذي كتبناه بنجران، أو ممَّن سمعه فرضي به، وكذلك أيضاً ليس لذمي في العبيد شفعة.
قلت: فإن كان شفيع منزل مسلم وذمي؟
قال: الشفعة بينهما.
قلت: فإن الذمي أقرب إلى المنزل؟
قال: الشفعة له بقربه.
قلت: فإن كان زقاقاً ليس له منفذ وفيه دور، فأراد واحد من أهله أن يبيع منزله؟
قال: الشفعة لأقربهم إليه.
قلت: فإن لم يُرِد الذي بالقرب الشفعة؟
قال: فهي للأقرب بعد الذي لم يُرِد.
قلت: فإن البائع باع بتأخير إلى أجل فجاء الشفيع فاستحقها بشفعته، هل للشفيع أن يأخذها بالتأخير إلى الأجل أم عليه أن يحضر الثمن في وقت ما استحقها؟
قال: إن كان شراؤها بالتأخير لمعنى زيادة زاده فيها أخذها المستحق بالشفعة إلى الأجل؛ لأنَّه قد دخل عليه في الزيادة ما دخل على الأول، وهذا الفعال الذي فعلاه فاسدٌ لا يحل بينهم ولا يجوز لهم، وفُقهاء هذه العامَّة تُجِيزُه، وإن كان اشتراها بما تسوى في ذلك الوقت ولم يكن في الثمن زيادة أخذها المستحق ونقد الثمن؛ لأن التأخير إحسان للأول لا يجب للآخر. (1/252)
بابٌ هل تورث الشفعة
وسألته عن الشفعة، هل تورث؟
فقال: لا تورث الشفعة إذا لم يكن المستشفع طالب بالشفعة للمشتري أو أشهد شاهدين أنَّه على شفعته.
قلت: فإن كان طالب المشتري بالشفعة وأشهد أنه على شفعته ثُمَّ مات وهو يطالب بها؟
قال: فهي لورثته يطالبون بها ويأخذونها.
باب شراء ضيعتين في موضعين في صفقة واحدة
وسألته عن رجل اشترى ضيعة في موضع، وضيقة أخرى في موضع آخر، وذلك في صفقةٍ واحدةٍ، ولكل ضيعةٍ شفيع فترك أحدُهما شفعته وطالب الآخر بالشفعة الَّتي إلى جنبه، فقال له المشتري: إما أن تأخذ الجميع؛ لأني اشتريتهما جميعاً في صفقةٍ واحدةٍ، وإما أن تتركهما جميعاً؟
قال: ليس قول المشتري في ذلك بقول؛ لأن إحدى الشفعتين لازمة لمن هي بجنبه بشفعته، فيأخذها بقيمتها، وذلك الواجب من الحكم.
باب الشفعة بين الأخوة وبني العمومة
قلت: فإن ثلاثة اخوة بينهم ضيعة أو دار، وماتوا جميعاً، وترك كل واحد منهم ابنين، والضيعة في أيدي أولادهم غير مقسومة، فأراد واحد منهم أن يبيع، فقال أخوه: أنا أحقُّ بالشفعة؛ لأنَّه أخي، وقال بنو عمه الشفعة لنا جميعاً؛ لأن الضيعة غير مقسومة وهي لآبائنا؟
فقال: القول قول الأخ، والشفعة له دون بني العم إذا كانت مقسومة؛ لأنَّه شريك لأخيه في نصيبه، وإن كانت غير مقسومة فالشفعة للجميع.
باب الأجل في الشفعة
وسألته عن الرجل يشتري الضيعة أو الدار ثُمَّ يطالبه الشفيع بشفعته فيستحقها، كم يؤجل في جميع الثمن؟
قال: قد ذكر عن زيد بن علي عليه السلام وغيره من أهل البيت في ذلك: أن أكثر ذلك شهر، وقال غيرهم: ثلاثة، وأما أنا فقولي: إنَّه يَنظر الحاكم للشفعة على قدر الصلاح وما يمكنه، إن كان مؤسراً يمكنه في يوم لم يؤجل أكثر من يومه، وإن كان يمكنه في ثلاثة أيام أُجِّل ثلاثاً، وكذلك خمساً وعشراً، وكذلك ينظر الحاكم أيضاً للمستشفع منه، ولا يؤخر ثمنه إلى وقت ما يضر به. (1/253)
قلت: فالشفعة، كيف يجب إذا استحقها جماعة، لواحدٍ نِصفُ سهم، ولواحد ثلاثة أسهم، ولواحد خمسة أسهم، تقسم على قدر السهام أم على الرؤوس؟
قال: لا تقسم الشفعة على السهام، وإنَّما تقسم على الرؤوس.
باب القول في رجل اشترى داراً ثُمَّ أحدث فيها بناءً
وسألته عن رجل اشترى داراً ثُمَّ أحدث فيها بناءً وفيها شفعة لرجل، ثُمَّ أحدث بالشفعة ما له فيه بنائه؟
قال: إن كان المشتري علم حين اشتراها أن لها مَن يطالبه بالشفعة فصاحب الشفعة مخير إن أراد أن يأخذها ويدفع للمشتري قيمة البناء فعل، وإن أراد أن يأمر المشتري أن يقلع ما أحدث فيها من البناء فله ذلك، وإن كان المشتري حين اشتراها لم يطالب بالشفعة ولم يعلم أن لها شفيعاً وكانت الدار غير مستغنية عمَّا بنى فيها فعَلى المستشفع قيمة ما عمل المشتري، وإن كان المشتري بنى في الدار ما لم يكن بالدار إليه حاجة فالمستشفع أيضاً بالخيار، إن أراد أن يأمر المشتري يقلعه فله ذلك، وإن أراد أن يأخذه بالقيمة أخذه.
باب إذا اشترى الأرض وفيها فسيل فسقاه
قلت: فإن الأرض كان فيها فسيل عند اشترائه لها فسقاه المشتري وعمره حتَّى لزمه في ذلك غُرم مال، وكبر الفسيل حتَّى صار نخلاً واستغله أو لم يستغله؟
قال: كذلك الجواب كالجواب الأول.
باب النخل إذا تشفعه رجل وفيه تمر
قلت: فإنه اشترى نخلاً فيه تمر حين اشتراه فأخذ الشفيع النخل بالشفعة، لمن التمر؟
قال: لصاحب الشفعة.
قلت: فإنه اشترى نخلاً ليس فيه شيء، ثُمَّ أطلع فأبره وقام عليه حتَّى صار تمراً، ثُمَّ جاء الشفيع، لمَن التمر؟ (1/254)
قال: لصاحب الشفعة إن كان الشفيع علم عند شرائه أن له من يستشفعه ويطالبه بالشفعة.
قلت: فإن لم يكن علم؟
قال: فما غرم على إباره فهو على صاحب الشفعة.
باب القول في الرجل إذا ترك الشفعة عند البيع ثُمَّ طلب بعد
وسألته عن رجل عرضت عليه الشفعة عند البيع، فقال: ليس لي فيها حاجة، فباع صاحب السلعة سلعته واشتراها منه المشتري، ثُمَّ أتى من بعد فطلب الشفعة وقد تركها عند البيع وعند تسليم المشتري للثمن إلى البائع وتسليم السلعة إلى المشتري؟
قال: إذا كان ذلك كذلك فلا شفعة له؛ لأنَّه قد تركها عند وقوع البيع ونقد الثمن.
بابٌ إذا أتاه قبل الشراء فأذن له بالشراء ثُمَّ طلب الشفعة بعد ذلك
قلت: فإن الرجل قبل أن يشتري جاء إلى صاحب الشفعة، فقال له: إن لك شفعة ضيعة فلان أو داره وأنا أريد أن أشتريها، فلك فيها حاجة؟ فقال له صاحب الشفعة: ليس لي فيها حاجة، فاشتراها الرجل، فلما عقد عقدة البيع جاء الشفيع فقال: أريد شفعتي.؟
قال: ذلك له واجب؛ لأنَّه أمره يشتري ما لم يجب له فيه حق، فلما وجب الحق طالب به فوجب له، وأخذه بحقه.
بابٌ إذا علم صاحب الشفعة فلم يطلب يومه
وسألته عن الرجل يشتري أرضاً ولها شفيع، فعلم الشفيع بالشراء فلم يطلب المشتري من يومه، هل تبطل الشفعة؟
قال: نعم إذا ترك ذلك لغير علة تمنعه.
قلت: وما تلك العلة؟
قال: يكون غائباً في بلد فلم يعلم، أو يكون مريضاً أو ما أشبه ذلك.
قلت: فإذا كان مريضاً أو في بلد، ثُمَّ علم الشراء فتركه، هل تبطل الشفعة؟
قال: نعم أيضاً، إلاَّ أن يشهد في وقت ما علم أنَّه يطلب بشفعته فيشهد على ذلك شاهدين أنَّه يريد الشفعة من فلان، وإن لم يُشهد في وقته الذي علم فيه بطلت شفعته.
بابٌ إذا قال له المشتري: ادفع الثمن، فمضى ولم يعد
قلت: فإنه علم وطلب الشفعة من المشتري، فقال له المشتري: أعطني الثمن، فمضى ولم يعد إليه يوماً أو يومين، هل تبطل شفعته؟ (1/255)
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن المشتري ينبغي له إذا اشترى شفعة لرجل وطلب المستشفع شفعته أن يطالبه بالثمن.
قلت: فإن سكتا جميعاً؟
قال: فصاحب الشفعة على شفعته؛ لأن المشتري قد صار مثل صاحب الدين الذي ينبغي له أن يطالب به حتَّى يقبضه.
باب شفعة الصبي وله وليّ
وسألته عن رجل اشترى ضيعةً ولها شفيع وهو صبي لم يبلغ وله وليٌّ قد ولاَّه الحاكم أو أبوه أمره، فلم يطالب الوليُّ بالشفعة؟
قال: بطلت الشفعة.
قلت: فإن الصبي لم يكن له ولي، فأتى المشتري إلى عمه أو أخيه، فقال: خذوا شفعة هذا الصبي فقد اشتريتها، فقالوا: ليس معنا ثمن، فلما كان بعد وقتٍ قالوا: نحن نأخذها للصبي؟
قال: ليس ذلك لهم.
قلت: فإن المشتري زرعها وأخذ منها طعاماً كثيراً، وبلغ الصبي فطالب بشفعته، هل يجب له؟
قال: نعم، الشفعة له واجبة.
قلت: فالغلة؟
قال: ليس له من ذلك شيء.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن المشتري زرعها وهي في يده ولم يطالبه بالشفعة مستحق فكانت الغلة بما شغل من ماله.
قلت: فإن رجلاً اشترى ضيعةً ولها شفيع مُعدمٍ فطالب بالشفعة؟
قال: إذا عرف الناس والحاكم أنَّه معدم لا يقدر على الثمن لو أُجِّل له شهر بطلت شفعته.
باب شفعة الصبي إذا تركها أبوه
وسألته عن رجل اشترى أرضاً ولصبي صغير لم يبلغ فيها شفعة وأبو الصبي حيٌّ، فلم يطالب أبوه بشفعته، هل للصبي إذا بلغ أن يطالب بالشفعة؟
قال: إن كان الأب ترك الشفعة لعدم ثمنها من مال الابن بطلت الشفعة ولم يكن للصبي أن يطالب بها إذا بلغ، وإن كان الأب تركها وهو واجد لثمنها من مال ابنه كان للصبي أن يطالب هبا إذا بلغ؛ لأن أباه ظلمه وترك حقه لغير علَّةٍ من عدم ثمن.
قلت: فإن كان الأب لم يعلم بالشراء حتَّى مات؟
قال: فللصبي أن يطالب بالشفعة إذا كان لم يعلم.
قلت: فإن الصبي لمَّا بلغ طالب المشتري، فقال له المشتري: قد أعلمت بها أباك فتركها؟ (1/256)
قال: على المشتري البينة على ما قال، فإن أثبت على الأب بينة أنَّه تركها بطلت الشفعة إذا كان تركها الأب لعلة ما ذكرنا في الجواب الأول.
قلت: فإن قال المشتري للصبي: احلف لي أنك ما علمت أن أباك ترك هذه الشفعة؟
قال: يجب له عليه ذلك.
قلت: وكذلك الوصي على هذا المثال في شفعة الصبي؟
قال: نعم.
باب القول في ميراث الشفعة
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل أرضاً ولها مستشفع، فلم يطلبها حتَّى مات، ثُمَّ علم ورثته من بعده، هل لهم أن يطالبوا بالشفعة الَّتي كانت لأبيهم من بعده؟
قال: لا، الشفعة لا تورث، وذلك أن الشفعة إنَّما تجب عند ساعة عقد البيع، فمن كان مالكاً لها في ذلك الوقت فهي له، ومن ملكها من بعد ذلك فلا حق له فيها، وهؤلاء الورثة فإنما ملكوا الضيعة الَّتي يستشفع بها بعد موت أبيهم، وقد وقع البيع قبل موته فلا شفعة لهم.
قلت: فإنه علم ولم يطالب بها يوم اشتراها المشتري، ثُمَّ مات في ذلك اليوم، هل لورثته أن يطالبوا بها من بعده؟
قال: إذا كان علم بشرائها ولم يطالب بالشفعة من ساعته، أو يشهد شاهدين أنَّه على شفعته بطلت شفعته، ولم يكن للورثة أن يطالبوا بها من بعده.
باب القول في الشفعة في المناقلة
وسألته عن رجل يشتري الدار بالدار أو الأرض بالأرض، فيأتي الشفيع فيطالب المشتري، هل يجب له ذلك؟
قال: نعم، ما ذلك عندي إلاَّ كالبيع، والشفعة في ذلك لازمة.
قلت: فهل تجب فيمة الدار الَّتي نوقل بها؟
قال: نعم.
باب الشفعة في الهبة
قلت: فإن رجلاً وهب لرجل أرضاً أو داراً، فأتى الشفيع يطلبها، هل يجب له ذلك؟
قال: أما كل هبة أو صدقة يراد بها الله عز وجل لا يراد بذلك عوض فليس في ذلك عندي شفعة، وأما كل هبة يراد بها عوض قَلَّ العوض أو كثر فالشفعة فيه لازمة.
باب بيع الأرض بالثياب والطعام فيطلبها الشفيع
قلت: فإن رجلاً اشترى داراً أو ضيعةً بمائة دينار على أن يدفع بالمائة مائة قفيز طعاماً كسعره في ذلك اليوم، ثُمَّ أتى الشفيع بعد ذلك بوقت فاستحقها، وقد زاد السعر أو نقص، ما الذي يجب في ذلك؟ (1/257)
قال: الأصل في البيع باطل.
قلت: وكيف بطل؟
قال: لأنَّه باعه بمائة دينار على أن يعطيه بها طعاماً فصار ذلك ببيعتين في بيعة، وذلك الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ أعطاه بها طعاماً، ولم يقبضها فبطل البيع.
قلت: فإنهما جهلا ذلك، كيف العمل؟
قال: يرُدُّ عليه طعاماً مثل طعامه، ولا ينظر إلى رُخْص الطعام ولا غلائه.
قلت: فإنه اشترى الدار أو الأرض بمائة قفيز حنطة، وقبض المشتري الأرض، وقبض البائع الطعام واستهلكه، ثُمَّ استحق الأرض مستشفع بعد ذلك الوقت وقد رخص الطعام أو غلا، فقال المشتري: ادفع إليَّ قيمة ما أعطيت؟
قال: ليس ذلك له ولا يجب له إلاَّ طعام مثل ما أعطى غلا السعر أو رخص، ولا يجب القيمة عندي إلاَّ فيما لا يستدرك، مثل الحيوان وما أشبهه.
باب الرجل يشتري أرضاً أو داراً فيطالب المستشفع المشتري في ذلك بالشفعة فيه فلا يسلمه إليه حتَّى يتقايل البائع والمشتري البيع في ذلك
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل داراً أو ضيعة فطلب المستشفع أخْذ ذلك بالشفعة له فيه من المشتري فلم يسلم ذلك المشتري إلى المستشفع حتَّى تقايل البائع والمشتري البيع في ذلك؟
قال: الإقالة في ذلك باطل، والمستشفع في ذلك على شفعته، إلاَّ أن يرفضها فتجوز الإقالة بينهما في ذلك.
باب الشفعة
وسألته عن الشفعة، من أحق بها؟
فقال: أولى الناس بالشفعة: الشريك في الأصل.
قلت: فإن لها شريكين شريكاً في الأصل وشريكاً في الطريق؟
قال: أولاهما بالشفعة الشريك في الأصل.
قلت: فإن كان لها شريك في الطريق وشريك في المشرب؟
قال: فالشريك في المشرب أحق.
قلت: فإن لها شريكاً في الطريق وجاراً؟
قال: فالشريك في الطريق أولى؛ لأن الشريك في الطريق لا يكون إلاَّ جاراً، فهو أولى من الجار الذي ليس بشريك في الطريق. (1/258)
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل داراً أو ضيعةً، وانقطع الأمر فيما بينهما في المبيع، ولم يزنْ الثمن، فأتى المستشفع فاستحق الدار بشفعته، على مَن يكتب كتابه؟
قال: إذا لم يقع الكتاب ودفع الثمن كتب كتابه على صاحب الدار الذي باعها وكانت العهدة عليه، وإذا كتب المشتري الكتاب ووقعت الشهود(1) فاستحقها الشفيع كان الكتاب والعهدة على المشتري؛ لأنَّه قُبِضَت الدَّار منه.
قلت: فكيف يكتب الكتاب عليه إذا استحقها من المشتري؟
قال: يكتب عليه هذا ما استشفع فلان بن فلان من فلان بن فلان استشفع منه داراً في موضع كذا وكذا بعرف فلان بن فلان، حدها الأول والثاني والثالث والرابع، استشفع فلان بن فلان هذه الدار من فلان بن فلان بحكم الله الذي به حكم على لسان رسوله عليه السلام بالشفعة، فقبضها فلان من فلان، وسلم إليه الثمن الذي دفع فيها وهو كذا وكذا، وقبض فلان هذه الدار الَّتي استحقها بالشفعة، ولفلان بن فلان على فلان بن فلان عهد ذلك، والخلاص بما يقوم به الخلاص، ثُمَّ يتم الكتاب.
قلت: فإن طالب الشفيع صاحب الدار الذي باعها وترك المشتري؟
قال: إذا فعل ذلك بطلت شفعته إذا كان ترك المشتري عنوة وطالب البائع.
قلت: فإن ادَّعى جهلاً وقال: لم أعلم أن ذلك يفسد علَيَّ شفعتي؟
قال: يكشف عمَّا قال، فإن كان كما قال لم تبطل شفعته، وإن اتهم استحلف أنَّه ما علم أن ذلك يبطل شفعته.
باب القول في الرجل يشتري الدار فيستهلك بعضها ثُمَّ يستحقها الشفيع
قلت: فإن رجلاً اشترى داراً بمائة دينارٍ ثُمَّ استهلك منها أبواباً وخشباً، فباع منه بخمسين ديناراً، ثُمَّ استحقها الشفيع بعد ذلك فقُضي له بها.
قال: الواجب عليه أن يدفع إلى الذي هي في يده خمسين ديناراً ويحاسبه بالخمسين الَّتي باع بها منها.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): الشهادة.
قلت: وكذلك لو اشترى نخلاً مثمراً فاستهلك الثمر، ثُمَّ استحقها الشفيع؟ (1/259)
قال: له أن يحاسبه بما استهلك من الثمر ويدفع إليه باقي الثمن.
قلت: فإن اشترى نخلاً ليس فيه ثمر ثُمَّ أثمر بعد ذلك واستهلكه، ثُمَّ استحقها الشفيع، هل له أن يحاسبه أيضاً بالتمر؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن الشراء وقع عليها ولا ثمر فيها، ثُمَّ أتى الله سبحانه بالثمر وهو مالك لها ضامن لها، فكان ما أحدث(1) فيها من بعد بيعها منه وقبل مطالبة الشفيع له بها سابغاً له بضمانه إياها؛ لأنَّه مشترٍ من مالك، فهو على ملكه حتَّى يخرجه منه مستحق له غيره، ألا ترى أنَّه لو حدث بالنخل حدث يتلفه لَتَلِف مال المشتري ولم يرجع به على شفيع ولا بائع، فلذلك أجزنا له ما حدث فيها في(2) ملكه لها بضمانه لرقابها، فإن لحق الثمر فيها الشفيع فهو أولى بما في نخله إذا كان قائماً بعينه وعليه للذي هي في يده ما غرم عليها.
باب المعارضة
وسألته عن رجلين تعارضا بجاريتين وزاد أحدهما الآخر دنانير، وكان لإحدى الجاريتين ولد صغير لم يبع معها؟
قال: لا يجوز أن يفرق بينها وبين ولدها، إما ردت إلى أهلها، وإما أن يباع ولدها معها، فإن ردت لم يلزمهم إلاَّ رد الأمَة الَّتي عارضوا بها وفيها، ولا ينظر إلى ما أوقوعوا من ذكر الأثمان إذا لم يدفعوا ثمناً ولم ينقدوا نقداً.
باب القول في الرجل إذا قال عليَّ لفلان مال ولم يسمه ثُمَّ مات
قلت: فإن رجلاً قال: عليَّ لفلان مال ولم يسم كم هو، ثُمَّ مات، كيف العمل في ذلك؟
قال: يُسأل فلان كم له عليه، فإن قال: كذا وكذا سُئل البينة، فإن كانت له بينة أخذ ما ادعى، وإن لم يكن له بينة أحلف على ما قال وأخذ، فإن قال: لا أدري كم لي عليه دخل بينهم بصلح.
قلت: فإنه قال عندي(3) لفلان شيء ولم يسم كم، ولم يزد على هذا اللفظ، بكم يحكم الحاكم له عليه؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): حدث.
(2) ـ في نسخة (ب): من.
(3) ـ في نسخة (ب) عليَّ.
قال: الجواب كالجواب الأول. (1/260)
باب المضاربة في أحمال الدقيق
قلت: فإن رجلاً دفع إلى رجل أحمال دقيق، كل حمل بكذا وكذا ديناراً بسعر يومه، ثُمَّ يقول له: سافر بهذه الأحمال إلى بلد من البلاد ـ وقد عرفا جميعاً ثمن الدقيق ـ فما ربحت بعد هذه الدنانير فبيني وبينك، لي الثلثان ولك الثلث أو النصف والنصف، فربح الرجل في الأحمال على ما ثمنها عليه الرجل عشرين ديناراً أو أكثر أو أقل، فلِمَن يكون الربح منهما؟
قال: لصاحب المال، ولهذا الذي أخذ الأحمال أجرة مثله؛ لأن هذا الشرط الذي كان بينهما باطل، وليس هذا معنى المضاربة؛ لأن المضاربة بالمال العين، فلما فسد أن يكون في معنى المضاربة لزم الربح لصاحب المال، وكذلك لو نقص المال من الثمن الذي ثمنه عليه لم يلزم الذي أخذ الأحمال من النقصان شيء.
قلت: فإنه دفع إليه مالاً عيناً يضارب له فيه على الثلثين والثلث في الربح؟
قال: ذلك جائز.
قلت: فإن صاحب المال شرط على المضارب إن تلف المال أنَّ عليه ثلث الغرامة؟
قال: ذلك شرط باطل.
قلت: فإنه دفع إليه المال ولم يشترط هذا الشرط، وصح بينهما أمر المضاربة وفوضه، فخرج المضارب في سفر فادعى أن المال ذهب، هل يجب عليه البينة؟
قال: إن كانت له بينة وأراد هو تبيينها، وإلاَّ فعليه اليمين إن أُتِّهم؛ لأنَّه مؤتمن.
قلت: فإنه قال لصاحب المال: أنا أضمن لك المال، أعمل وأسافر حتَّى أرد عليك مالك، هل يجب عليه الضمان؟
قال: لا، إنَّما هذه منه عِدةٌ إن أحب وفَّى وإن أحب لم يف.
باب المضاربة الصحيحة
وسألته عن المضاربة الصحيحة، كيف هي؟
فقال: المضاربة أن يدفع الرجل إلى الرجل دنانير نقداً أو دراهم يتجر له فيها ويتشارطان في الربح على ما يتفقان عليه من الثلث والثلثين والنصف والنصف أو غير ذلك ممَّا يتفقان عليه.
قلت: فإن دفع صاحب المال إلى المضارب عَرَضاً من العروض مثل الثياب أو الطعام وما أشبه ذلك من العروض بسعر يومه، لم يزد على ثمن(1) العروض شيئاً، هل يجوز ذلك؟ (1/261)
قال: لا تكون هذه مضاربة.
قلت: فإن فعل ذلك رجلان، فأخذ المضارب هذا العرض وقد ثمَّنه عليه صاحبه فربح فيه على ما ثمنه عليه صاحبه، لمَن يكون الربح؟
قال: لصاحب المال.
قلت: فهل توجب للمضارب شيئاً؟
قال: له أجرة مثله.
قلت: فإن رجلاً دفع إلى رجل مالاً مضاربةً ولم يشترط بينهما في الربح شرطاً معروفاً، فأخذ الرجل المال فربح فيه دنانير، فقال صاحب المال: لي ثلثا الربح، وقال المضارب: لي نصف الربح، كيف الحكم بينهما؟
قال: هذه المضاربة فاسدة، والربح لصاحب المال، وللمضارب أجره مثله.
قلت: فإن كان في المال نقصان؟
قال: ما نقص من المال فهو على صاحبه.
قلت: فإنه دفع إليه المال واشترط صاحب المال على المضارب أن يؤثره من الربح بدينارين أو ثلاثة؟
قال: هذه أيضاً مضاربة فاسدة.
قلت: ولِمَ تفسد؟
قال: لأن هذا شرط غرر؛ لأن المال ربما لم يربح فيه ولم يخرج إلاَّ الذي اشترط فيه أو قل، ففسد لهذه العلة.
قلت: وكذلك لو اشترط هذا المضارب بهذا(2) الشرط؟
قال: كذلك أيضاً هو فاسد.
قلت: فالربح؟
قال: لصاحب المال، وللمضارب أجرة مثله.
قلت: وكذلك لو أن رجلاً دفع إلى رجل مالاً مضاربةً، واشترط من الربح عشرة دنانير وللمضارب ما بقي، هل يجوز ذلك؟
قال: لا، هذا أيضاً فاسد.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه غرر.
قلت: فإن رجلاً دفع إلى رجل مالاً مضاربةً، وأمره أن يتجر به في المصر، فخالف المضارب وخرج به من المصر، فقُطع عليه في الطريق فذهب المال؟
قال: يضمن؛ لمخالفته.
قلت: فإنه لم تقطع(3) عليه الطريق وخالف، فخرج به من المصر فربح فيه، لمَن يكون الربح؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): عليه في ثمن.
(2) ـ في نسخة (ب): هذا.
(3) ـ في نسخة (ب): يقطع.
قال(1): على ما كان بينهما من الشرط في عقد المضاربة، إذا كانت المضاربة صحيحة العقد. (1/262)
قلت: فإنه لم يخرج به من المصر، هل يحل له أن ينفق منه على نفسه؟
قال: إذا كان المضارب يتجر في المصر فنفقته على نفسه من ماله، وما أنفق على التجارة الَّتي ضارب فيها فالنفقة من المال.
قلت: فإذا سافر المضارب بالمال، فمن أين ينفق؟
قال: النفقة من المال.
قلت: فإن الرجل لم يحظر عليه أن يتجر في شيء بعينه أو في مصر، ولكنه فوضه ودفع إليه المال، وقال له: اتجر في هذا المال حيث أحببت وكيف شئت، وما رزق الله فيه من ربح فهو بيني وبينك نصفان أو ثلث وثلثان؟
قال: هذا صحيح جائز.
قلت: فهل يجوز للمضارب أن يخلط مال المضاربة مع ماله ويتجر بالجميع؟
قال: لا يجوز ذلك للمضارب إلاَّ أن يأذن له أصحاب الأموال في خلط أموالهم، فيجوز ذلك.
قلت: فهل يدفع المضارب المال الذي ضارب به إلى غيره يضارب له فيه؟
قال: نعم إذا كان صاحب المال قد فوضه في المضاربة ولم يحظر عليه شيئاً من المعاني.
قلت: فهل يسلف المضارب من مال المضاربة شيئاً؟
قال: لا يجوز للمضارب أن يسلف شيئاً من مال المضاربة ولا أن يأخذ به(2) سفتجة، إلاَّ أن يكون صاحب المال قد أذن له في هذين المعنيين.
قلت: وكيف خصصت في هذين المعنيين؟
قال: لأن المضاربة إنَّما أصلها: إذا دفع المال صاحبه أن يتجر المضارب فيه في كل المعاني إذا أذن له في ذلك، فأما هذان المعنيان فربما كان فيهما التلف للمال في السلف والسفتجة.
قلت: فإن رجلاً دفع إلى رجل مالاً مضاربة وأمره أن يستدين مثل ماله، فاستدان المضارب مثل مال الرجل واتجر فيه، فبح فيه ربحاً، وقد كانا قبل ذلك اتفقا على أن الربح بينهما نصفان، هل يجوز ذلك؟
قال: العمل في ذلك عندي أن الربح بينهما على ما تشارطا عليه، والوضيعة عليهما نصفان.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): قال: الربح بينهما على ما اصطلحا عليه.
(2) ـ في نسخة (ب): منه.
قلت: لأيِّ علَّة يكون الربح على ما اشترطا والوضيعة عليهما جميعاً، وإنَّما هذا مضارب وقد أمر صاحب المال أن يستدين. (1/263)
((قال في الكتاب: بياضٌ))
قلت: فإن دفع إليه مائة دينار وقال: استدن مع هذه ما أحببت، فاستدان المضارب مائة دينار أخرى واتجر بهما، فربح خمسين ديناراً، وقد كان صاحب المائة لما دفعها إلى المضارب شارطه على أن له ثلثي الربح وللمضارب ثلثه؟
قال: إذا كان ذلك كذلك فالربح يقسم نصفان؛ للمائة الَّتي دفعها صاحب المال من الربح خمسة وعشرون ديناراً، لصاحب المال من ذلك ثلثا الخمسة والعشرين، وللمضارب من ذلك الثلث الباقي، وأما الخمسة والعشرين الأخرى فهي للمضارب الذي استدانها.
قلت: ولِمَ جعلتها للمضارب؟
قال: لأن صاحب المائة الأولى أمر المضارب أن يستدين مالاً غير محدود، والمضاربة فلا تكون إلاَّ بمالٍ محدود، فلما استدان المضارب هذه المائة كان له ربحها.
قلت: وكذلك لو خسر في المائة؟
قال: كان عليه خسرانها.
باب القول في المضارب يشتري السلعة قبل أن يقبض مال المضاربة
وسألته فقلت: لو أن رجلاً اشترى برّاً أو طعاماً أو عرضاً من العروض بمائة دينار، ثُمَّ أتى إلى رجل فقال له: إني قد اشتريت كذا وكذا بمائة دينار، فادفعها إليَّ حتَّى أزنها فيما اشتريت والربح بيني وبينك نصفان، فدفع إليه الرجل مائة دينارٍ ووزنها في العرض الذي اشتراه، ثُمَّ أتى فربح فيه عشرين ديناراً، ما العمل في ذلك؟
قال: ليس الأصل في هذا أصل مضاربة؛ لأن المضاربة الصحيحة أن يقبض المضارب المال قبل أن يشتري السلعة ويشترطا الربح بينهما على ما يتفقان عليه، فتصح عند ذلك المضاربة، فأما إذا اشترى الرجل السلعة وانقطع الشراء بينه وبين البائع، ثُمَّ أتى إلى رجل فقال له: إني قد اشتريت كذا وكذا بمائة دينار فادفعها إليَّ حتَّى أزنها فيه، فدفعها الرجل إليه، فوزنها فيما اشترى فربح فيه، لم يكن ذلك مضاربة، وإنَّما الدنانير الَّتي أخذها سلفٌ عنده، فما ربح فيما اشترى بهذه الدنانير فله، وما وضع عليه فعليه. (1/264)
بابٌ في المضارب يشتري الضيعة بمال المضاربة
قلت: فإن رجلاً دفع إلى رجلا مائة دينار مضاربةً صحيحة، وشرطا الربح بينهما نصفينـ وفوض صاحب المال المضارب يعمل بما يرى، فاشترى المضارب بالمائة كرماً وعمره وأصلحه فزاد في ثمنه فصار الكرم يسوى خمسين ومائة، ثُمَّ أراد رجل له أرض إلى جنب الكرم بيعها، هل للمضارب فيها شفعة؟
قال: نعم، ألا ترى أنَّه لما صار الكرم يساوي مائة وخمسين ديناراً أن المضارب قد صار له سهم في الكرم بربحه نصف الخمسين، فله بذلك شفعة فيما بيع إلى جنبه.
قلت: فإنه لما اشترى الكرم بمائةٍ فات(1) بعضه، فصار يساوي تسعين ديناراً، هل للمضارب فيه شفعة؟
قال: لا.
قلت: فهل لصاحب المال فيه شفعة؟
قال: نعم؛ لأن أصل المال له، وقد ملك الكرم بماله.
باب القول في الرجل يموت وعنده مال مضاربة
قلت: فإن رجلاً دفع إلى رجل مالاً مضاربةً، فمات المضارب، ما الحكم في ذلك؟
قال: إن كان سمَّى المال بعينه أو معروفاً بوزنه أو أوصى به لصاحبه كان ذلك له دون كل أحد، وإن كان لم يبينه ولم يقر(2) به له كان أسوة الغرماء يضرب بسهمه مع سهامهم إذا شُهِدَ أنَّه قد دفع إلى فلان كذا وكذا ديناراً مضاربة.
قلت: فإن لم يكن له شهود؟
قال: يستحلف له الورثة.
بسم الله الرحمن الرحيم(3)
__________
(1) ـ في نسخة (ب): مات.
(2) ـ في نسخة (ب): يوصِ.
باب بيع الجزاف (1/265)
وسألته عن الرجل يكون عنده التمر في قواصره، أو رمان في مكتل، أو فرسك أو عنب أو ما أشبه ذلك من الفواكه، فيأتي إليه رجل يشتري من ذلك منه جزافاً مثل القوصرة بدينار، أو مكتل رمان بدرهم، أو قوصرة عنب بدرهمين، وكل ذلك جزافاً؟
قال: ذلك كله جائز إذا لم يكن أحد الرجلين علم ما في القوصرة(1) من وزن التمر، أو ما في المكتل من عدد الرُّمَّان، فإن علم أحدهما بذلك لم يجز؛ لأنَّه قد صار بينهما مماكرة وخداع، ولا يجوز المماكرة بين المسلمين في بيع ولا شراء.
قلت: فإنه لم يعلم أحدهما بما باع حتَّى افترقا، وقبض المشتري وقبض البائع الثمن، ثُمَّ عدَّ المشتري الرُّمان أو وزن قوصرة التمر فوجد في ذلك زيادة على ما يبيع الناس، هل يطيب له ذلك الشراء؟
قال: نعم؛ لأنَّه قد وقعت عقدة البيع ولم يعلم البائع ما باع ولا المشتري ما اشترى.
قلت: وكذلك لو أنَّه باعه ملء هذا المكيل برّاً بدينارٍ أو باعه كذا وكذا مكيلاً بدينارٍ بمكيال قد رآه المشتري؟
قال: قد قدمنا جواب ذلك كله، أن البائع إن كان علم كيل المكيل أو كم يعطيه بالمكيال فكان أقل ممَّا يبتع غيره لم يجز ذلك، وإن كان لا يعلم كيل المكيل ولا المكيال جاز بيع ذلك جزافاً، فافهم.
باب بيع الذهب بالذهب جزافاً، والفضة بالفضة جزافاً
وسألته عن رجل باع رجلاً قلادة ذهب غير موزونة بدنانير جزافاً، أو باعه صرَّةً من تمر بصرة من قطع دنانير جزافاً، أو باعه سُوَار فضةٍ بسوار فضة جزافاً، أو صرة دراهم مقطعة بصرَّة دراهم صحاح جزافاً؟
قال: لا يجوز أن يُشترى شيء من الذهب بالذهب جزافاً، ولا شيء من الفضة بالفضة جزافاً.
قلت: ولِمَ وهما لا يعلمان ما هو؟
قال: لأنَّه لا يُؤمَن أن يكون أحدهما أفضل من صاحبه، فلا يجوز ذلك؛ لأن الفضة لا تجوز إلاَّ مثلاً بمثل يداً بيد.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): القواصر.
قلت: فإنه اشترى بعشرة مثاقيل موزونة شيئاً من الذهب جزافاً غير موزون. وكذلك بعشرين درهماً موزونة شيئاً من الفضة جزافاً غير موزون؟ (1/266)
قال: ذلك كله بيع باطل، لا يجوز؛ لأنَّه لا يؤمَن أن يكون في أحدهما فضل فيقع الربا.
باب بيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب جزافاً
قلت: فإنه اشترى شيئاً من الذهب جزافاً غير موزون بمائة درهم موزونة، وكذلك لو اشترى شيئاً من الفضة جزافاً غير موزون بعشرة دنانير موزونة؟
قال: ذلك كله جائز.
قلت: ولِمَ جاز هذا؟
قال: لأن الصنفين قد اختلفا، وإذا اختلف الصنفان جاز البيع يداً بيدٍ في مثل هذا.
قلت: فإن كان تأخيراً؟
قال: لا يجوز ذلك.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه صار في حد السلم، ولا يسلم ما يوزن فيما يوزن، فافهم.
باب بيع السيف المحلَّى والمصحف المحلّى جزافاً
قلت: فإنه اشترى سيفاً مُحلَّى أو مصحفاً مُحلّى بفضة أو عتيدة فضَّةٍ أو مَجمَرَة فضَّة بدراهم موزون؟
قال: كل ذلك عندي لا يجوز.
قلت: ولِمَ لا يجوز والسيف حديد ومعه فضة، والمصحف ورق ومعه فضة وخشب، وكذلك العتيدة والمجمرة يدخل فيهما(1) شيء من الغراء والخشب؟
قال: لأنَّه لا يؤمَن أن يكون حلية السيف أو حلية المصحف أكثر ممَّا اشترى به من الفضة أو بأقل، ويكون الحديد والورق بأقل ممَّا يفضل من ثمن السيف أو يزيد، فإذا كان ذلك كذلك فسد؛ لأن الفضة بالفضة مثل بمثل.
قلت: فكيف(2) يصح البيع في مثل هذا؟
قال: تقلع الحلية، ثُمَّ يشترى بالذهب، ويشترى السيف والمصحف بثمن معروف.
قلت: وكذلك لو اشترى قلادةً من ذهب مفصلة باللؤلؤ جزافاً بكذا وكذا ديناراً؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فيها.
(2) ـ في نسخة (ب): وكيف.
قال: لا يجوز ذلك، وكذلك بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمر رجلاً اشترى قلادة يوم خيبر مرصعة بالذهب فيها جوهر معلق بالذهب أن يميز بين جوهرها وبين الذهب ويقلعه منه حتَّى يعرف ما فيها فيشتريه بوزن من الذهب، فقال: إنَّما اشتريت الحجارة بالفضلة بين الوزنين، فقال: <لا، حتَّى يميز بينهما>، فلم يتركه حتَّى ميَّز بينهما. (1/267)
باب بيع تراب المعدن وتراب الصاغة بالذهب
قلت: فإن رجلاً اشترى من صائغ ترابه الذي يجتمع عنده بدينارٍ أو بأكثر أو بأقل جزافاً، وكذلك لو اشترى من المعدن الذي يخرج منه الذهب تراباً جزافاً بذهب مُسمّىً؟
قال: لا يجوز شيء من ذلك؛ لأنَّه لا يعلم ما في التراب من الذهب.
قلت: فإنه اشترى ذلك بفضةٍ؟
قال: هذا بيع غرر، وللمشتري عند بيان ما يخرج منه الخيار، إن شاء أخذ وإن شاء ترك.
باب بيع الحيوان بعضه ببعض
وسألته عن بيع الحيوان بعضه ببعض؟
فقال: ذلك جائز إذا كان يداً بيدٍ، ولا يجوز نسأٌ(1).
قلت: فيبيع الرجل جملاً بجملين؟
قال: لا بأس بذلك إذا كان يداً بيدٍ، باع الرجل جملاً بجملين، أو شاة بشاتين أو فرساً بفرسين أو جارية بجاريتين أو عبداً بعبدين.
قلت: وكذلك إن(2) اختلفت الأصناف؟
قال: هو أجوز، إن يختلف الأصناف فيبيع الرجل فرساً ببعير، وجملاً بفرسين، وفرساً بجملين، وجارية بحمارين، وحمارين بثور، وما أشبه ذلك، فهو جائز إذا كان يداً بيدٍ، ولا يجوز فيه النسأ.
قلت: فإن اشترى جملاً بجمل، فزاد أحدهما لصاحبه دنانير أو دراهم أو عرضاً؟
قال: ذلك كله جائز، ولا بأس أن يشتري الرجل جارية بجارية ودينار وثوب، أو يشتري جملاً بغلامٍ وعشرة دنانير، أو يشتري فرساً بغلام وخمسة دنانير، ذلك كله جائز.
باب ما يكره من بيع المزابنة
__________
(1) ـ في نسخة (ب): نَسِيّاً.
(2) ـ في نسخة (ب): إذا.
وسألته عن رجل يشتري مدّاً ونصفاً رطباً بمدّ تمر، أو يشتري رطباً معلقاً في النخل بتمر مُسمّىً، أو يشتري مكوك زبيب بكذا وكذا رطل عنب؟ (1/268)
فقال: هذا لا يجوز، وهو بيع المزابنة الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: وما معنى الكراهة في هذا؟
قال: لأنَّه إذا اشترى رُطباً بتمر لم يؤمَن إذا جفَّ الرُّطب فصار تمراً أن يكون أقلّ ممَّا اشترى به التَّمر أو أكثر فيدخل الربا؛ لأن التمر مثل بمثل، وكذلك الزبيب على ما وصفنا، فافهم ذلك.
قلت: فبيع المحاقلة أيضاً مكروه؟
قال: نعم.
قلت: فما معنى المحاقلة؟
قال: بيع الزرع القائم في الأرض بكيلٍ من جنسه، ومعنى المحاقلة والمزابنة شبيه بعضه ببعض، فالمزابنة في التمر، والمحاقلة في الحبوب.
باب الرجل يبيع السلعة بثمن ثُمَّ يحيل به لرجل آخر قبل أن يقبضه
وسألته عن رجل اشترى من رجل ثوباً بدينار، وكان لرجل عليه دينار، فأحاله على الذي اشترى منه الثوب قبل أن يقبضه، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم.
قلت: فإنه لما باع الثوب بدينارٍ اشترى هو من رجل آخر سيفاً بدينار، فأمر لصاحب السيف بثمن سيفه على الذي اشترى منه الثوب قبل أن يقبض ثمن الثوب، هل يجوز ذلك؟
قال: لا، حتَّى يقبض الثمن؛ لأن هذا من الكالي بالكالي.
باب السلم
وسألته عن السلم، كيف هو، وكيف أصح ما يسلم الرجل إلى الرجل؟
فقال: أصل السلم صحيح جائز إذا أسلم الرجل ما يوزن فيما يكال أو ما يكال فيما يوزن.
قلت: فإن أسلم ما يكال فيما يكال، وما يوزن فيما يوزن؟
قال: ذلك سلم فاسد، لا يجوز.
قلت: فللمسلم قيمة ما أسلم يوم دفع ذلك السلم؟
قال: نعم.
قلت: بَيِّن لي أصح ما يسلم الرجل، كيف هو؟
قال: نعم إن شاء الله، إذا أراد الرجل أن يسلم إلى رجل في شيء من الصنوف أخذ نقده معه، ثُمَّ قال للرجل الذي يسلم إليه: أسلم إليك هذا الدينار في قفيزي أو فرقي بُر أو في عشرة مكاكي بُر بمكيال قد عرفاه جميعاً يقيناً، ثُمَّ يقول له إذا أسلم إليه ووصف له برّاً من أجناس البر المعروف: بر طيشاري نقي من التراب والحجارة جيِّداً وبرميساني، يصف على ما وصفنا، أو برّ عربي، أو أبيض، ويشترط جودته، ولا يكون ذلك البر الذي يصفه من بُرِّ أرض بعينها، وكذلك ما كان من الأصناف الَّتي يسلم فيها الرجل مثل الزبيب بالتمر لا يشترط زبيب كرم بعينه ولا نخل بعينه. (1/269)
قلت: ولِم لا يسلم في شيء من هذه الثمار من أرض بعينها أو تمر نخل بعينه؟
قال: لأنَّه لا يؤمن فساد هذا البُر الذي يكون في هذه الأرض فيفسد السلم، وكذلك الزبيب والتمر، وما أشبه ذلك.
قلت: فإذا دفع المسلم الدينار أو الدنانير إلى الرجل الذي يسلم إليه في صنفٍ من هذه الأصناف، كيف يصحح شروط السلم حتَّى يصح؟
قال: إذا ذكر خمس خصال في السلم وشرطها صح.
قلت: ما هي؟
قال: أولهن أن يقدَّم النقد في السلم. ويشترط كيلاً معروفاً بمكيال معروف. من برٍّ معروف أو زبيب أو تمر، أو ما كان من الأصناف معروفاً. يقبضه في بلد معروف، أو في موضع معروف. إلى أجل معروف، فإذا شرط هذه الشروط صح السلم.
قلت: وكذلك لو أسلم ديناراً في عشرة أقفزة حنطة، والسعر يوم أسلم قفيز بدينار؟
قال: جائز طيب.
قلت: فهذا قد أسلم في أكثر من سعر يومه؟
قال: وما يضره من ذلك، وإنَّما هو إلى أجل، ولعل الطعام إذا حلَّ الأجل يكون أكثر من عشرة أقفزة بدينار، فهما جميعاً لا يعلمان كيف يكون سعر الطعام يوم حلول الأجل، فلذلك جاز السلم.
قلت: فإن رجلاً أسلم ديناراً في عشرين رطلاً سكَّراً أو عشرين ذراعاً من ثوب قد عرفاه جميعاً، أو في قفيز زبيب أو ما أشبه ذلك، فلما حل الأجل عَسر على المسلم إليه ذلك الصنف الذي أسلم إليه فيه، فقال الرجل الذي أسلم إليه: ليس عندي سكراً أو ليس عندي ثوب، فخذ مني بما أسلمت إليَّ برّاً أو شعيراً أو صنفاً غير الصنف الذي أسلم إليه فيه، فأخذ المسلم إليه بدل السكر برّاً أو شعيراً، أو صنفاً غير الصنف الذي أسلم إليه فيه، فأخذ المسلم إليه بدل السكر برّاً يسوى أقل ممَّا يجب له في السكر، وكذلك لو أخذ منه تمراً أو ما يشبهه بدلاً من الصنف الذي أسلم إليه فيه ولم يجاوز ثمن الصنف الذي استحقه عند حلول الأجل؟ (1/270)
قال: لا يجوز، إلاَّ في الصنف الذي أسلم إليه بعينه.
قلت: فإن الرجل الذي أسلم لما كان قبل حلول الأجل بأيَّامٍ قال للرجل الذي أسلم إليه: أنا أضع عنك بعض حقي، وادفع إليَّ الذي لي، فرضي بذلك المسلم إليه، هل يجوز أن يدفع إليه ويطرح بعض حقه؟
قال: نعم، ذلك جائز إذا رضيا به جميعاً.
قلت: فإن الذي أسلم إليه لما جاء الأجل عسر عليه الحق، فقال للذي أسلم إليه: أجِّلني إلى أجل كذا وكذا وأزيدك على مالك عندي كذا وكذا، هل يجوز هذا؟
قال: هذا الربا بعينه، لا يجوز ذلك.
قلت: فإنه لم يزده الذي أسلم إليه شيئاً، ولكنه قال له: قد عَسُر عليَّ حقك فأنظرني شهراً أو أقل أو أكثر، فأنظره بلا ازدياد عليه، هل يبطل السلم؟
قال: وما يبطل السلم من ذلك، وإنَّما هذا من الذي أسلم إلى الذي أسلم إليه إحسان حين أنظره ولم يضيق عليه.
باب ما ذكر في شروط السلم إلى أجل غير معلوم
قلت: فإن رجلاً أسلم ديناراً إلى جذاذ النخل، أو إلى صوم النصارى أو إلى السعانين(1) أو إلى النيروز أو إلى حصاد الزرع أو إلى مجيء الطعام أو إلى الموسم أو إلى مشي صبي أو إلى برء مريض أو ما أشبه ذلك؟
قال: كل ذلك باطل، لا يجوز.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): الشعانين، ظنٌ.
قلت: ولِمَ لا يجوز وهذه أوقات مسمَّاةٌ معروفة؟ (1/271)
قال: إنها وإن كانت معروفة بأسمائها وأوقاتها فإنها تتفاوت وتتقدم وتتأخر، وليست بدائمة على وقت واحد مثل مستهل الشهر إذا رأى الهلال، ومثل يوم العاشر من يوم كذا وكذا، وما أشبه ذلك ممَّا وصفنا، فهذا لا يتقدم ولا يتأخر فيختلف المتسالمان فيه، وأما تلك الأوقات الَّتي ذكرت فهي تختلف وتتأخر وتتقدم، ألا ترى أن بين جذاذ أول النخل وآخره تفاوتاً في القطع، وكذلك بين حصاد الزرع أوله وآخره تفاوت، وغير ذلك ممَّا وصفنا متفاوت في مثل ما ذكرت في الأوقات الَّتي ذكرتها، فأفسدنا السلم إلى هذه الأوقات لتفاوتها وتقديمها وتأخيرها، فافهم ذلك.
قلت: فإن المسلم لم يذكر شرطاً واحداً من شروط السلم وأغفله، وذكر الباقي؟
قال: يفسد السلم بترك هذا الشرط الواحد.
قلت: وكيف وقد ذكر هذه الشروط إلاَّ هذا الشرط الواحد؟
قال: ألا ترى أنهما إذا اختلفا في الموضع الذي يقبضه فيه أو في المكيال الذي يكال به السلم أو الصنف الذي أسلم فيه فقال المسلم: لي صنف كذا وكذا أو بمكيال كذا وكذا، أو أقبضه في موضع كذا وكذا، فقال المسلم إليه: ليس هو كما تقول هو بمكيال كذا وكذا أو صنف كذا وكذا، ولم يكن بينهما شهود على هذا الشرط لما أغفلاه وتركاه، أليس إنَّما الحكم بينهما أن يتحالفا وينتقض السلم، فلذلك أفسدنا السلم إذا لم تكن شروطه مبينة كلها، فافهم ذلك.
باب ما يجوز في السلم وما لا يجوز فيه
قلت: فبيِّن لي جميع ما يجوز فيه السلم وجميع ما لا يجوز فيه؟
قال: نعم إن شاء الله، السلم عندي جائز في كل شيء ممَّا يكال ويوزن وغير ذلك من العروض الَّتي لا تكال ولا توزن إذا كان الذي أسلم فيه تحيط به الصفة، ويأتي عليه النعت ولا يتفاوت تفاوتاً فاحشاً، فكلما أتى عليه النعت وأحاطت به الصفة جاز السلم فيه، فافهم هذا الأصل في السلم.
باب السلم في الحيوان
قلت: فهل يجوز السلم في الحيوان؟
قال: لا يجوز عندي السلم في الحيوان؛ لأنَّه عندي متفاوت الأجسام، ألا ترى أن أسنانها متفاوتة في أجسامها، وإن كانت في السن معنى واحد. (1/272)
قلت: بيِّن لي ذلك؟
قال: ألا ترى أنَّه ربما كان بين البعير الثني في جسمه وبين البعير الثني في جسمه تفاوت بين الجسمين، وكذلك في الفرس الرباع ربما كان أحدهما أجسم من الآخر وما أشبه ذلك، فمن هذا التفاوت في الأجسام أفسدنا السلم في الحيوان.
قلت: وكذلك في العبيد والإماء؟
قال: هم من الحيوان، والجواب فيه واحد.
باب السلم في الثياب
قلت: فهل يجوز سلم ما لا يكال ولا يوزن، مثل الثياب اثنين بواحد إذا اختلفت أصنافهما؟
قال: نعم يجوز السلم كذلك، وفي ذلك لا بأس أن يسلم الرجل إلى الرجل ثوباً وشيئاً في ثوب خز وثوبين، وثوب خز في ثوب وشيء، وثوبين وثوب قوهي في ثوب ديبقي، وثوبين وثوب ديبقي في ثوب قوهي وثوبين.
قلت: وكيف أجزت السلم في هذا ثوبين بثوب؟
قال: لأنَّه لا يكال ولا يوزن ولا يدخل فيه الاختلاط، فلذلك أجزناه.
باب السلم إذا فسد
قلت: فإنه أسلم دنانير أو دراهم في بر أو شعير، فوجد في الدراهم أو الدنانير ردية، هل يفسد السلم؟
قال: لا إذا طلب من المسلم بدلها فأعطاه بدلها جيداً(1)، فالسلم صحيح جائز.
قلت: فإنه أسلم دنانير أو دراهم أو شيئاً ممَّا يكال أو يوزن أو عرضاً من العروض في شيء(2) ممَّا يجوز فيه السلم وترك شروط السلم أو بعضها؟
قال: يفسد السلم إذا كان كذلك؟
قلت: فيأخذ صاحب السلم الذي أسلم بعينه؟
قال: نعم.
قلت: فإن الذي أسلم إليه استهلك الدنانير أو الدراهم أو العروض، ما العمل في ذلك؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): جياداً.
(2) ـ في نسخة (ب): من العروض.
قال: إذا كانت دنانير أو دراهم أخذ مثلها بوزنها، وإذا كان ما يكال مثل البر والشعير وما أشبهه أخذ كيله من مثله، وكذلك إذا كان ممَّا يوزن مثل سكَّر أو غيره ممَّا يشبه ذلك أخذ وزنه من جنسه، وأما العروض فإذا استهلكها المسلم إليه فعليه القيمة يوم استهلكها. (1/273)
قلت: وكيف فرقت بين العروض وغيرها ممَّا يوزن ويكال؟
قال: لأن ما يوزن ويكال يوجد مثله وليس يتفاوت، والعروض فلا يكاد يوجد منها اثنان مستويان معنى واحد إلاَّ يتفاوتان.
قلت: بيِّن لي ذلك؟
قال: العروض متفاوتة في الثمن والمعنى، ألا ترى أن الثياب متفاوتة في الأثمان والعمل والألوان وغير ذلك من العروض، وكذلك الحيوان أيضاً متفاوتة، فإذا تفاوتت في معانيها لم يحكم على صاحب السلم إذا أسلم عرضاً بمثله؛ لأنَّه لو أخذ ثوباً مكان ثوب وكان بينهما في الثمن حبة لم يحل. فافهم ذلك.
قلت: فإن اختلفا في القيمة، فقال صاحب السلم: سلمي يسوى عشرة دنانير، وقال المسلم إليه: سلمك يسوى خمسة دنانير؟
قال: البينة على صاحب السلم؛ لأنَّه يدعي الفضل، وعلى المسلم إليه اليمين.
قلت: فإن نكل المسلم إليه عن اليمين؟
قال: تلزمه ما ادعى صاحب السلم عليه.
قلت: فإن ادعيا جميعاً جهلاً، فقال صاحب السلم: لا أدري كم كان قيمته، وقال المسلم إليه أيضاً كذلك؟
قال: ينعت العرض بصفته لأهل المعرفة بذلك العرض، ثُمَّ يقومه على قدر صفته، وليس يكون في ذلك إلاَّ الصلح والاتفاق إذا وقع الجهل منهما جميعاً.
باب السلم في الفواكه واللحم والبيض والصوف والوبر والشعر والقز والقطن
قلت: فهل يجوز السلم في الفواكه الرطبة واللحم والصوف والوبر وما أشبه ذلك؟
قال: أما الفواكه الرطبة الَّتي تجف وتبقى في أيدي الناس من السنة إلى السنة وأكثر مثل الرمان وما أشبهه فالسلم فيه جائز إذا أراد الرجل ذلك، فأحسن ما عندي في ذلك أن يجرب من ذلك وزن معروف، ثُمَّ يسلم المسلم إلى المسلم إليه شيئاً معروفاً في وزن معروف، وأما ما كان من الفواكه الَّتي لا تبقى في أيدي الناس مثل الأترنج والسفرجل والبطيخ وما أشبه ذلك، فأحسن ما يعمل في ذلك أن يسلم المسلم فيه ويتحرى وقت مجيئه الذي تأتي فيه هذه الفاكهة، فيكون السلم فيها في كل شهر معروف يأتي فيه صنف(1) من هذه الأصناف ويكون السلم كما وصفنا بالميزان، فإنه أصح، ولو أسلم عدداً فيها لم يجز ذلك؛ لأنها تتفاوت ولا يسلم في شيء من هذه من مزرعةٍ بعينها ولا شجرٍ بعينه. (1/274)
قلت: فلم حددت التحري في هذه الشهور الَّتي يجيء فيها هذه الفواكه؟
قال: لأن هذه الفواكه تنقطع ولا تبقى في أيدي الناس، فحددنا الوقت الذي تأتي فيه ليصح السلم.
قلت: فالصوف والوبر والقز وما أشبه ذلك؟
قال: السلم في ذلك جائز إذا عرفا الصفة ووقفا عليها بعينها.
قلت: وكذلك السلم في اللحم؟
قال: والسلم أيضاً في اللحم جائز إذا اشترط من اللحم النقي ولم يشترط أسمن ما يكون من اللحم؛ لأن ذلك لا يجوز، لأنَّه لا يكون من اللحم سمين إلاَّ وفوقه أسمن منه، فإذا اشترط النقي فهو معروف يصح السلم في ذلك.
باب السلم في الفراش والأكسية
قلت: وكذلك لو أسلم الرجل في أصناف الأكسية وأصناف فرش البيوت مثل السوسنجرد والميساني وما أشبه ذلك من الفرش؟
قال: السلم في ذلك كله جائز إذا وَصَفا من ذلك صفةً معروفة ورقعةً معروفةً.
باب سلم صنفين في صنف واحد
قلت: وكذلك لو أسلم الرجل دنانير وثوباً(2) في برٍّ كيلاً معروفاً؟
قال: ذلك جائز.
باب الرجل يكون له دين على رجل فيسلمه إليه في صنف من الأصناف
__________
(1) ـ في نسخة (ب): هذه الفاكهة.
(2) ـ في نسخة (ب): أثواباً.
قلت: فإن رجلاً له على رجل عشرة دنانير ديناً إلى أجلٍ معلومٍ، فأراد أن يسلمها إلى رجل من الوقت الذي يحل في كذا وكذا قفيز حنطة إلى أجلٍ معلوم، هل يجوز ذلك؟ (1/275)
قال: لا يجوز ذلك؛ لأنَّه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو الكالي بالكالي.
قلت: وما معنى الكالي بالكالي؟
قال: الدَّين بالدين؟
قلت: فإن الرجل الذي له العشرة دنانير زاد الرجل الذي له عليه العشرة عشرة أخرى، وقال له: هذه العشرة دنانير مع العشرة الأولى سَلَماً في كذا وكذا قفيز حنطة؟
قال: يصح من السلم هذه العشرة الدنانير الَّتي نقدها، ويبطل السلم في العشرة التي كانت ديناً.
باب الشركة في السلم
قلت: فإن رجلاً أسلم إلى رجل عشرة دنانير في عشرين قفيز حنطة سلماً صحيحاً، فأتاه رجل فقال: أشركني في سلمك الذي أسلمت إلى فلان، واتَّزِن مني نصف ما أسلمت إليك، فأجابه إلى ذلك، وقال: قد أشركتك فيه، هل يجوز ذلك؟
قال: لا يجوز، وهذا باطل، والسلم لمن أسلمه أولاً.
قلت: ولِمَ بطل؟
قال: لأنَّه أشركه في شيء لم يقبضه ولم يحزه، والشركة لا تكون إلاَّ فيما حيز من البيوع.
قلت: فإنه لم يدفع إليه الدنانير، ولكنه قاوَله مقاولةً على أن يسلم إليه عشرة دنانير في كذا وكذا قفيز حنطة وانقطع الأمر فيما بينهما على ذلك، ثُمَّ أتاه الرجل فقال: أشركني فيما أسلمت؟
قال: ذلك أيضاً باطل، لا يجوز.
قلت: ولِمَ يبطل؟
قال: لأنهما قد اتفقا على السلم وانقطع أمرهما ولو لم يدفع النقد.
قلت: فإن المسلم أسلم دنانيره عشرة في عشرين قفيز حنطة إلى أجلٍ، فلما حلَّ الأجل قبض الحنطة وحازها، فأتاه رجل فقال: أشركني في سلمك هذا وخذ مني خمسة دنانير واعطني عشرة أقفزة، ففعل، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم جائز.
قلت: وكذلك لو أن رجلاً أتى إلى المسلم إليه فقال له: أدخلني فيما أسلم إليك فيه، وخذ مني نصف ما يلزمك من الطعام، واعطني نصف ما قبضت من الدنانير، فأجابه إلى ذلك؟
قال: هذا أيضاً جائز. (1/276)
باب الرهن
وسألته عن الرهن، هل يغلق؟
فقال: لا يغلق الرهن، كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا يغلق الرهن للمرتهن غنمه وعليه غرمه>، وهذا أصح ما جاء عندنا في الرهن، وأحب الأقاويل إلينا.
قلت: فما معنى قوله: <للمرتهن غنمه وعليه غرمه>؟
قال: أراد بذلك أن الراهن والمرتهن يترادان الفضل بينهما إذا ضاع الرهن.
قلت: بيِّن لي ذلك حتَّى أفهمه؟
قال: نعم إن شاء الله، لو أن رجلاً رهن ثوباً يساوي ديناراً بنصف دينارٍ فضاع الرهن أوجبنا على المرتهن أن يرد فضل ثمن الرهن، وكذلك لو أن الرجل رهن الثوب بدينارٍ وهو يساوي نصف دينار فضاع الرهن أوجبنا على الراهن أن يرد على المرتهن فضل ما بقي له على الراهن.
قلت: فإنَّ أهل العراق مثل أبي حنيفة وأصحابه وغيرهم من الفقهاء قد قالوا: ذهبت الرهان بما فيها، ورووا في ذلك روايات، وأسقطوا هذا الخبر الذي جاء في أن الراهن والمرتهن يترادان الفضل؟
قال: وكيف يسقطونه وقد أجمعوا عليه جميعاً.
قلت: وكيف أجمعوا عليه؟
قال: ألا ترى أنهم قالوا جميعاً: لو أن رجلاً رهن ثوباً يساوي ديناراً بدينارين فضاع، أن المرتهن يرجع على الراهن بما بقي له من فضل قيمة الرهن.
قلت: بلى، قد قالوا جميعاً بذلك.
قال: أفلا ترى أنهم قد أوجبوا ما قلنا من أن الراهن والمرتهن يترادان الفضل، لما قالوا: إن المرتهن يرجع على الراهن بالفضل، أوجبوا ذلك على أنفسهم، وصح الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن علي أمير المؤمنين رحمة الله عليه، في تراد الراهن المرتهن الفضل بينهما، هو قولنا وقول علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام، وبه نأخذ.
باب القول في التسليط على بيع الرهن
وسألته عن رجل أدَان رجلاً ديناً، ورهنه به رهناً، وكتب المرتهن على الراهن كتاباً أنَّه قد سلطه على بيع الرهن إذا حل دينه(1) بما قل أو كثر، فإن زاد ثمن الرهن على دين المرتهن شيئاً رده المرتهن على الراهن، وإن نقص من دين المرتهن شيء رجع المرتهن على الراهن بما بقي عليه؟ (1/277)
قال: هذا جائز؟
قلت: فإن باع الراهن الرهن وهو في يد المرتهن؟
قال: هذا بيع فاسد؟
قلت: فإن كان الراهن قد قضى المرتهن بعض ما(2) على الراهن حتَّى لم يبق للمرتهن عليه إلاَّ خطر يسير، ولم يحاسبه، ولم يدفع كتاب الرهن إلى صاحبه، ثُمَّ باعه الراهن، وقبضه المشتري، وسلم المرتهن ولم يعترض على المشتري، واستغله المشتري مثل ثمنه، ثُمَّ جاء المرتهن يطالب المشتري؟
قال: ليس للمرتهن أن يطالب المشتري بشيء؛ لأنَّه عند وقت بيع الرهن قد سلم وقبض قبل ذلك بعض فكاك الرهن، وإنَّما للمرتهن أن يطالب الراهن بما بقي له عليه في رهنه فيقبضه من الراهن، والشراء فصحيح للمشتري، والغلة بما ملك من شرائه.
قلت: فإن المرتهن هو الذي باع الرهن وقد قبض من فكاكه النصف أو أقل أو أكثر، وقد كان قبل ذلك سلطه على بيعه إذا أتى وقت كذا وكذا، هل ينقض ما أدَّى من فكاك الرهن التَّسليط على البيع؟
قال: نعم.
قلت: فإن كان المرتهن باع الرهن بعدما أدَّى الراهن من فكاكه شيئاً وقد سلطه على بيعه إذا أتى وقت كذا وكذا، فلما باعه المرتهن لم يعترض الراهن في ذلك ولم ينكر، هل يكون سكوته رضىً منه بالبيع؟
قال: نعم؛ لأنَّه قد سلطه على البيع، فباع وسكت ولم يعترض فهو رضىً.
قلت: فإن كان طالب الراهن بعد ذلك بالرهن المرتهن بعد بيعه؟
قال: ليس ذلك له، وقد جاز البيع، وإنَّما له فضل الثمن بما بقي على الرهن.
قلت: فإن المرتهن باع الرهن ولم يسلطه الراهن على بيعه؟
قال: ذلك بيع فاسد.
باب القول في ما يجب في ذهاب الرهن وما يحدث فيه عند المرتهن
__________
(1) ـ في نسخة (ب): الأجل.
(2) ـ في نسخة (ب):حقه.
وسألته عن رجل رهن ثوباً يساوي عشرة دنانير على دينارٍ، فذهب الثوب؟ (1/278)
قال: يرتجع الراهن على المرتهن بتسعة دنانير فضل(1) ثمن الرهن.
قلت: وكذلك لو رهن على ثلاثة دنانير وهو يساوي ديناراً؟
قال: وكذلك(2) يرتجع المرتهن على الراهن بدينارين إذا ذهب الثوب.
قلت: فإنه لم يذهب الثوب، ولكنه قرضه الفأر أو أوقع فيه العث فأخرقه؟
قال: يضمن المرتهن أيضاً.
قلت: يضمن أرش ما نقص من الثوب أم الثوب كله؟
قال: يضن أرش ما نقص من الثوب إلاَّ أن يكون الذي بقي من الثوب بعدما قرضه الفأر أو وقع فيه العث لا قيمة له، فيضمن قيمة الثوب كله.
قلت: وكذلك الدار أو ما أشبه ذلك من البناء إذا انهدم منها جدارٌ أو ذهب منها باب؟
قال: كذلك يضمن المرتهن.
قلت: فإن المرتهن سكن الدار شهرين أو ثلاثة أو سنة، وقيمة السكنى تساوي نصف ما على الراهن؟
قال: يسقط عن الراهن قيمة ما سكن المرتهن.
قلت: وكذلك لو أكرى المرتهن الدار فاستغلها جميع، ما على الراهن؟
قال: يأخذ صاحب الدار داره إذا استوفى المرتهن ما على الرهن من غلة الدار.
قلت: فإنه لم يستغل من الدار جميع ما على الراهن، ولكنه استغل منها ثلث ما على الراهن أو نصفه؟
قال: تلك الغلة التي استغلها زيادة في الرهن هي مرهونة أيضاً مع الرهن.
قلت: فإن ذهبت الغلة الَّتي استغلها من الدار هي يكون المرتهن ضامناً للزيادة الَّتي استغلها من الدار؟
قال: نعم.
باب القول في رهن الحيوان
وسألته عن رجل رهن عند رجل شاة أو بقرة أو فرساً أو ناقة، هل للمرتهن أن ينتفع من ظهر الناقة أو الفرس بركوب أو حمولة؟
قال: لا ينتفع المرتهن من الرهن بقليل ولا كثير.
قلت: فإن ركب المرتهن الراحلة إلى مكة؟
قال: عليه قيمة الركوب يسقط ممَّا على الراهن.
قلت: وكذلك لو حلب من الشاة أو البقرة لبناً فباع اللبن؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فضلة.
(2) ـ في نسخة (ب): بحذف الواو.
قال: قد قدمنا جواب ذلك جميعاً، فما باع من لبنٍ أو صوف أو أكل فعليه قيمة ذلك يسقط من الرهن. (1/279)
قلت: فإنه لم ينتفع به، ولكنه لما حلب اللبن اهراق، أو إحترق الصوف لمَّا جزَّه؟
قال: يضمن ذلك كله المرتهن.
قلت: فعلى من علق الشاة والبقرة؟
قال: على الراهن.
قلت: وكذلك أجرة من يرعاها؟
قال: نعم.
قلت: فإن قال الراهن: لم أرد ترعى شاتي ولا بقرتي ولا تحلب منهن لبناً؟
قال: إن كان الضرر على الشاة والبقرة في ترك اللبن في ضروعها لم يلتفت إلى قول الراهن، وكان عليه أجرة من يحلب اللبن، وله قيمته، وكذلك الراعي إن لم يكن علف في البلد يعلف، وليس للمواشي إلاَّ المراعى.
باب القول في العبد إذا رهن فقتل العبد المرتهن
وسألته عن رجل رهن عند رجل عبداً على عشرة دنانير فتقل العبد المُرتهن؟
قال: يُسلم سيِّد العبد العبد إلى ورثة المرتهن، إن شاؤوا قتلوا، وإن شاءوا استرقوا.
قلت: فالذي كان به العبد مرهوناً، هل يرتجع به ورثة المرتهن على سيد العبد؟
قال: نعم؛ لأنَّه دين للمرتهن على سيد العبد وهو الراهن.
قلت: فإن العبد قتل المرتهن خطأ؟
قال: الجواب كالجواب الأول(1).
قلت: فإن المرتهن شج العبد موضحةً؟
قال: على المرتهن نصف عشر قيمة العبد.
قلت: فلأيِّ معنى(2) نصف العشر؟
قال: لأن في موضحة الحُرِّ نصف عشر الدية، كذلك في موضحة العبد نصف عشر قيمته؛ لأن دية العبد قيمته.
قلت: فإن العبد قَتل أجنبياً غير المرتهن عمداً أو خطأً؟
قال: للمرتهن على سيد العبد دينه الذي كان به العبد مرهوناً، والعبد يُسلَّم بجريرته.
قلت: وما معنى له دينه؟
فقال: يكون لازماً له يؤديه إليه أو يضع مكان العبد ما فيه الوفاءُ لصاحب الرهن.
__________
(1) ـ قوله عليه السلام: كالجواب الأول، أي في الضمان لا في قتل العبد؛ لأنَّ الخطأ لا قوة فيه قطعاً، والله ولي التوفيق. مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي، غفر الله لهم.
(2) ـ في نسخة (ب): علَّةٍ.
قلت: فإن كان سيده معسراً ـ لا مال له ـ يضعه رهناً مكان العبد، وطلب أهل الدم قاتلهم، فقال صاحب الدين: العبد في يدي بديني؟ (1/280)
قال: الحكم في ذلك أن العبد في يدي المرتهن حتَّى يفئ لله على سيده فيؤدي ما عليه، ويسلم العبد إلى أولياء القتيل.
قلت: ولِمَ صار المرتهن أولى به من أولياء المقتول؟
قال: لأنَّه ضامن له لو تلف في يده يَتَرادَّان هو وسيده الفضل، فلما أن كان ضامناً للرهن كان أولى به من كل أهل جناية جناها العبد.
باب القول في العتق للعبد المرهون
وسألته عن رجل رهن عبداً من رجل بألف درهم، والعبد يساوي ألفين، والدين إلى سنةٍ، ثُمَّ إن الراهن أعتق العبد وهو معسرُ أو مؤسر؟
قال: إن كان مؤسراً جاز عتقه وأدَّى من ساعته ما عليه من الدين إلى المرتهن.
قلت: فإن تعسَّر على السيد المؤسر المال في تلك الساعة فسأل نظرة أيّام؟
قال: يضع رهناً مكان العبد ويُنظر على قدر ما يرى الحاكم، وإن كان السيد المعتق معسراً أعتق من العبد بقدر الفضل عمَّا للمرتهن من المال على قدر قيمة العبد، وكان باقي العبد رهناً في يد المرتهن، ونُجِّم على المعتق مال المرتهن قبله على قدر طاقته، فإذا أدَّى ذلك عتق العبد كله.
قلت: فهل يستسعي العبد في شيء من ذلك؟
قال: لا، إلاَّ أن يحب ذلك العبد فيتطوع به تطوعاً.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن المال دين على سيد العبد، ولا بد من رده للدين الذي عليه، وإنَّما يستسعي العبد إذا كان بين شريكين فأعتق أحدهما(1)، وكان المعتق معسراً سعى العبد في نصف قيمة رقبته لمالكه، وهذا المرتهن فلا يملك رقبة العبد فيسعى له في قيمة رقبته، وإنَّما هو رهن عنده بدينه، والدين على سيد العبد ولا بُدَّ من ردِّه.
قلت: فإن وضع مكان هذا العبد عبداً آخر أو رهناً غيره فتلف، هل يكون المرتهن ضامناً له؟
قال: حاله وحال غيره من الرهون(2) سواء.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): نصيبه، ظن.
(2) ـ في نسخة (ب): الرهن.
قلت: فإن العبد يسوى مائةً، وكان مرهوناً على مائة فأعتقه سيِّده؟ (1/281)
قال: لا يجوز عتقه؛ لأنَّه لا فضل له(1).
وسألته عن رجل رهن عبدين أحدهما يساوي ألف درهم، والآخر يساوي ألفين، فأعتقهما الراهن وهو مؤسر أو معسر والحق حال؟
قال: الحكم في هذا إذا كانا رُهِنا معاً كالحكم في واحد، والجواب فيهما كالجواب في المسألة الأولى.
قلت: فإن رهن كل واحد منما على حدته واحداً بعد واحدٍ؟
قال: الحكم في كل واحد منهما والقياس كالحكم في المسألة الأولى.
قلت: فإن رهنه بمائة وهو يسوى ثمانين ثُمَّ أعتقه؟
قال: لا يجوز عتقه حتَّى يودي ما بقي عليه من الدين فيه، فإذا أدَّى ذلك عتق العبد.
قلت: أفرأيت إن تركه صاحبه عند المرتهن إذا علم أنَّه يعتق عليه عند افتدائه، إما بيعاً باعه إياه بما عليه وإما تحيلاً لتركه؟
قال: لا يجوز بيعه منه ولا من غيره، ويجبر السيد إن كان مؤسراً على افتكاكه، ثُمَّ يعتق العبد عند تخلصه من الرهن.
بابٌ في العبد المدبر المرهون إذا دبره الراهن
قلت: فإن رجلاً رهن عبداً له، يساوي ألفاً بألفين، ثُمَّ دبره الراهن وهو مؤسر أو معسر؟
قال: إن كان مؤسراً فالقول فيه كالقول فيمن أعتق، وإن كان معسراً كان العبد على ما هو عليه حتَّى يحكم لصاحب الدين بدينه على سيد العبد، فيباع عليه.
بابٌ في أم الولد إذا رهنت فجاءت فادعاه الراهن
قلت: فإنه رهن جارية بألف تساوي ألفين، فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر أو أكثر منذ يوم رهنها فادعاه الراهن، والدين حال أو إلى أجل؟
قال: إذا جائت بولد فادعاه الراهن فهو ولده، وما كان عليها من الرهن فهو دين، وينفسخ الرهن.
قلت: فلِمَ انفسخ الرهن؟
قال: لأنَّه في وقت ما رهن كان باطلاً.
قلت: وكيف يكون(2) باطلاً؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فيه.
(2) ـ في نسخة (ب): كان.
قال: لأنَّه رهنها وفي بطنها منه ولد، فرهن ما لا يجوز رهنه ولا بيعه، فدُرِئ عنه الأدب بما يقول: لم أعلم أنَّها حامل، وكذلك يدرأ عن المرتهن وترجع الأشياء إلى أصولها؛ لأنَّ أمهات الأولاد لا ترهن، ولا يقع الرهن إلاَّ فيما يباع ويوهب، ويحكم للمرتهن على الراهن بماله يضع به رهناً أو يؤديه عاجلاً. (1/282)
قلت: وسواء(1) جاءت به لستة أشهر أو لأكثر؟
قال: سواء إذا كان مقرّاً به.
باب القول في الرجل يأتي بالرهن(2) يرهنه فيتلف قبل قبض الراهن المال
وسألته عن رجل جاء بجارية له إلى رجل، فقال: خذها مني رهناً على أن تقرضني ألف درهم، فأخذها منه على ذلك، ثُمَّ ماتت الجارية أو أبقَت قبل أن يعطيه الألف؟
قال: لا يكون لسيدها على من جعلها في يده شيء؛ لأنَّه لم يقبض من ماله ما يكون به رهناً، وإنَّما يترادان الفضل إذا كان الراهن قد قبض شيئاً يقع به بينهما المحاسبة، فأما إذا لم يكن له قبله(3) على الرهن شيء يقع به المحاسبة فلا ضمان على المرتهن.
قلت: فما سبيل هذه الجارية عند هذا القابض لها؟
قال: سبيل متواجبين على أمرٍ لم يتم بينهما.
باب القول في الرجل يأتي بالرهن(4) ثُمَّ يأتي ببدله فيضعه(5) فيتلف
قلت: فإنه رهن عبداً بألف درهم يساوي ألفاً وأخذ الألف ثُمَّ أتاه بعد ذلك بجارية تساوي ألفاً، فقال: امسكها رهناً مكان العبد، ورد عليَّ العبد، فأخذها منه المرتهن فماتت قبل أن يرد العبد؟
قال: القيمتان سواء قيمة العبد وقيمة الجارية، والذي له من الدين كقيمة الأمة لا فضل لأحدهما على صاحبه.
قلت: فهل غيَّر الحُكم إبدال الرهن؟
قال: لا، قد رضي بالرهن الثاني كما رضي بالرهن الأول رهناً بماله.
باب القول في الرجل يرهن الرهن ثُمَّ يستزيد عليه
__________
(1) ـ في نسخة (ب): سواء، بحذف الواو.
(2) ـ في نسخة (ب): يرهن.
(3) ـ في نسخة (ب): بحذف قبله.
(4) ـ في نسخة (ب): برهن.
(5) ـ في نسخة (ب): بحذف فيضعه.
قلت: فإنه رهن الجارية على خمسمائة درهم وهي تساوي ألفاً، وقبضها المرتن، وقبض الراهن الخمسمائة، ثُمَّ أتى الراهن بعد ذلك، فقال: زدني على الجارية مائة أخرى وتكن الجارية رهناً بها مع الخمسمائة، ففعل ودفع إليه المائة، ثُمَّ ماتت الجارية في يدي المرتهن؟ (1/283)
قال: يكون للراهن على المرتهن فضل قيمة الجارية يرده عليه، وهو أربعمائة؛ لأن المائة الَّتي زاده زيادة في حق المرتهن.
قلت: فإن بعض أهل العراق يقولون: إن المائة الثانية الَّتي زاده إياها لا تدخل في قيمة الجارية، وإن له عليه خمسمائة وافية، ويطالبه بهذه المائة الأخرى؟
فقال: هذا عندنا قول فاسد لا يصح، وإن طولبوا بالجواب فيه بطل قولهم.
قلت: وكيف الجواب الذي يطالبون به؟
قال: يقال لهم: أخبرونا عن هذا الذي قال: زدني على جاريتي هذه وفيها هذه المائة، فزاده إياها وأشهد عليه أنَّها فيها وعليها، وتراضيا بذلك، ثُمَّ إن الراهن أدَّى إليه خمسمائة وسلمها إليه، وقال: ادفع إليَّ رهني وسلم إليَّ جاريتي، ما الحكم في ذلك بعد أن قد تشاهدا على ذلك ورضيا، فإن قالوا: لا يسلمها حتَّى يأخذ ما قد أشهد به عليه وتراضيا به في الرهن الثابت على المرتهن رجعوا عن قولهم إلى قولنا، وإن قالوا: إن على المرتهن أن يسلم الجارية إليه ولا يحبسها عليه وتكون المائة ديناً بلا رهن، فقد حكموا بغير ما تراضيا به المتعاملان، وصار حكمهم على غير الرضى المتعاملين، والحكم فلا يفارق الشرط، والشرط أملك كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونقول لهم: ما تقولون إن كانت قيمة هذه الجارية خمسمائة فرهنها الراهن على خمسمائة، ثُمَّ ازداد منه فيها مائة من بعد ما قد أشهد عليه أن المائة في الرهن، ثُمَّ تلفت الجارية، كيف الحكم فيها؟ فلا تجدون بدّاً من أن تحكوا بأن المائة فضل على الراهن للمرتهن(1) يردها إليه؛ لأنها فضل عن قيمة الرهن، وفضل الرهن مردود للراهن كان أو للمرتهن، فإن حكموا بذلك فقد رجعوا إلى قولنا، وإن زعموا أن المائة الَّتي استزادها الراهن على رهنه ليست تلزم الراهن ولا يكون عليه، لم يحكموا للراهن على المرتهن برد الفضل، وجعلوها ديناً لا تدخل في حساب قيمة الرهن، وفي هذا أيضاً إن حكموا به مخالفةً لشرط المتعاملين، وإبطال لشرطهما الذي تراضيا عليه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <الشرط أملك>، وهذا قد شرط على صاحبه أن مائته في هذا الرهن، ومتى لم يحكم الحاكم على أصل ما كان بين المتعاملين من شروطهما لم يخرج الحكم موافقاً للحق. (1/284)
باب القول في الرجل يكون عليه الدين إلى أجل فيطالبه صاحب الدين به إذا حل فتبرع رجل على المديون فيضع عند صاحب الحق رهناً فيتلف
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ثم.
وسألته عن رجل له على رجل ألف درهم حاله أو إلى أجل، فلما جاء الأجل طالبه صاحبه بها، فأتى رجل إلى صاحب الحق فتبرع على الذي عليه الدين، فرهن صاحب الحق بذلك غلاماً له، يساوي ألفي درهم، فمات الغلام؟ (1/285)
قال: لا فضل له عليه.
قلت: فكيف ذلك؟
قال: لأنَّه ليس على أصل رهن صحيح يترادان فيه الفضل.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: لأن الدين على غير صاحب العبد وهو(1) المتبرع، فهو غير صاحب الدين، فكأن العبد لم يكن على أصل رهن معروف؛ لأن الرهان لا يصح أصل رهنها حتَّى تكون مقبوضةً، والراهن المقبوض لا يكون إلاَّ ممَّن أخذ المال، وجعل الرهن مكان المال، وقابض هذا المال فهو خلاف دافع الرهن، وواضعه عند المرتهن فلا يلحق على الراهن بفضلة قيمة الغلام.
باب القول في الرجل يكون له على رجل دين فيأخذ به ضميناً
فيدفع الضمين بدين المدان رهناً فيتلف
قلت: فإن رجلاً له على رجل ألف درهم، فأخذ منه بذلك ضميناً، ثُمَّ إن الضمين أعطى صاحب الحق رهناً بالألف، فمات في يدي المرتهن؟
قال: حال الضمين إذا دفع رهناً بما ضمن كحال الراهن يترادان الفضل الضمين والمرتهن.
قلت: وبأي سبب استوى رهن الضمين بما ضمن ورهن الراهن المبتدئ؟
قال: لأن الدراهم صارت على الضامن عند ضمانه لها وبرئ منها الذي ضمنت عنه، فوجب على الضامن دفعها من ساعته، فاستنظر بها ودفع بها رهناً، فصارت المعاملة بين الضامن وبين المرتهن مبتدأة.
قلت: فإنه ضمن له بوجهه ولم يضمن له بالمال فدفع إليه بذلك رهناً، ثُمَّ تلف الرهن؟
قال: تلف الرهن على صاحبه؛ لأن الراهن ضامن بوجهٍ لا يؤخذ به رهن.
قلت: فإن الضمين مات أو فرَّ؟
قال: إن مات رجع الدين على الراهن، وإن فرَّ كان مطالباً بما ضمن له بوجه صاحب الرهن، وللحاكم أن يضيق عليه في ذلك بمثل قبض مال وإيقاف عوامل إن كانت له، وله أن يحبسه إذا رجع حتَّى يأتي بالوجه الذي ضمن به.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): وهذا.
قلت: فإن كان دينه إلى مستهل شهر رمضان، ثُمَّ خاف صاحب الدين من المستدين هرباً فطلب منه ضميناً بسببه، فأعطاه ضميناً في شهر شعبان، فقال الضمين: إن استهل شهر رمضان وجاء الوقت الذي يجب لك عليه فلم يدفع إليك حقك بذلك الوقت فحقك عليَّ دونه، فقال صاحب الدين: أنا لا أثق بك، فادفع إليَّ بالمال رهناً على ما ذكرت وشرطت، فدفع إليه بذلك رهناً، فمات الرهن في يدي المرتهن؟ (1/286)
قال: إن كان الرهن مات بعد دخول شهر رمضان ووجوب الحق لصاحبه ترادا الفضل في ذلك، وإن كان مات قبل حلول الحق فهو على صاحبه، وليس على المرتهن من ذلك شيء والشرط على حاله، والمال على الضمين في وقته.
قلت: ولم افترق المعنى فيه؟
قال: لأنَّه لا يجب على الضمين أن يدفع المال ولا يلزمه، إلاَّ من بعد محل الدين على المستدين الأول؛ لأن الضمين قد اشترط على صاحب المال ذلك، وإنَّما يقع المال ويجب على الضمين بعد جواز الوقت والأجل فحين ما يلزمه المال يجوز له الرهن ويصير عند صاحب المال مرهوناً بمالٍ قد وجب له على صاحبه، فيترادان حينئذ الفضل.
قلت: وما السبب الذي افترق به المعنيان في الرهن حتَّى صارا يترادان الفضل إذا دخل الشهر وجاز الأجل، ولا يترادان قبل بلوغ الأجل؟
قال: ألا ترى أن الضمين يمكنه أن يتخلى ممَّن ضمن ويجمع بينه وبين صاحب الدين، ثُمَّ يتبرأ عند الحاكم أو عند الشهود من ضمانه قبل أن يحل الوقت، وأنه لا يمكنه أن يتبرأ ولا يخرج ممَّا دخل فيه بعد دخول الشهر وبلوغ الأجل.
قلت: ولِمَ ذلك؟
قال: لأنَّه من قبل حلول الأجل لم يلزمه المال وهو من بعد الأجل لازم له المال دون من كان عليه أولاً.
باب القول في العيب في الرهن إذا ظهر عند المترهن
قلت: فإنه رهن جاريةً بألفٍ، وهي تساوي ألفين، ثُمَّ ظهر فيها عيب فاختلفا، فقال الراهن: رهنتكها صحيحة، وقال المرتهن: بل دفعتها إليَّ وبها هذا العيب؟
قال: بينهما البينة في ذلك.
قلت: على من البينة؟
قال: على المدَّعي. (1/287)
قلت: ومن المدَّعي؟
قال: الذي يطلب وكس صاحبه وانتقاصه.
قلت: ومن هو؟
قال: المرتهن الذي ادَّعى عيباً.
قلت: فإن المرتهن لم يذكر شيئاً ولم يدع نقصاناً، قال صاحب الرهن: قد حدث في أمَتي حدث عندك أيها المرتهن؟
قال: يجب حينئذٍ على الراهن البينة؛ لأنَّه يبتغي انتقاص صاحبه، وقد صار الآن مدعياً كما كان المرتهن أولاً مدَّعياً، وكل من لم يجد بينة فعلى خصمه اليمين.
قلت: فإنه رهن جاريةً بألفٍ، فجاء الراهن يطلبها، فقال المرتهن: قد رددتها عليك، وقال الراهن: بل ماتت عندك؟
قال: البينة على الذي يدَّعي أنَّه قد ردها، وهو المرتهن؛ لأنَّه قد صح مصيرها إليه وقبضه لها من سيدها، فلا بد أن يصحح رده لها على سيدها.
باب جناية الرهن
قلت: فإن رجلاً ارتهن جاريةً بألفٍ تساوي ألفاً، فاغتصبت مالاً لرجل، فاستهلكته أو قتلت دابةً لرجل أو أحرقت ثياباً لرجل؟
قال: الجارية لمالكها وجنايتها عليه.
قلت: وكيف وقعت عليه دون المرتهن، والمرتهن ضامن؟
قال: إنَّما تضمن النفس لا الأحداث والجنايات.
قلت: فما مثل ذلك وقياسه؟
قال: أرأيت لو أن جاريةً تسوى مائة رهِنت على مائة وهي مريضة، فصحت فسويت مائتين، ثُمَّ فقأ فاقئ عينها فأخرج نصف قيمتها، لمن يكون هذا، ألا ترى أنَّه يكون لسيدها دون المرتهن.
قلت: بلى.
قال: فكما أخذ زيادتها فإن عليه جنايتها، وكما لم يستحق المرتهن شيئاً من فضلها ودية عينها عند زيادة قيمتها لم ينتقصه في جنايتها شيئاً من ماله، وكذلك لو ولدت عنده وكسبت كسباً كثيراً كان ليسدها.
باب القول في زيادة الرهن
قلت: فكل زيادة في الرهن من ولد الحيوان يكون رهناً مع أمهاته؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك لو هلكت الأولاد يكون المرتهن لها ضامناً؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك لو هلكت الأمهات وبقيت الأولاد؟
قال: كذلك أيضاً يكون ضامناً.
قلت: أفرأيت إن رهنها بمائة وهي تساوي مائة، ثُمَّ زادت وكبرت وصلحت حتَّى سويت في يد المرتهن مائتين، ثُمَّ ماتت على أيِّ القيمتين يحاسبه؟ (1/288)
قال: بالقيمة الَّتي ماتت عليها.
قلت: فلأيِّ علَّة يخرج المرتهن القيمة الصالحة دون القيمة الرَّديَّة؟
قال: كذلك الحكم؛ لأنَّه ربما كان رابحاً في غير هذا الموضع، كما كان خاسراً في هذا الموضع.
قلت: وأين ذلك الموضع؟
قال: لو رهنها وهي تساوي مائتين، ثُمَّ مرضت وسقمت حتَّى سويت خمسين، ثُمَّ ماتت في يده كانت محاسبتهما في أمرها على قدر قيمتها يوم ماتت، فسقط من مال المرتهن خمسون لا غير، وتبع بمائة وخمسين على الراهن فنفعه نقصان قيمتها بما استدرك من المال على سيدها عند موتها، كما ضره زيادة ثمنها عندما استلحق عليه سيدها الفضل عند موتها، فلذلك وقع الحكم في حساب القيمة عند وقت الوفاة.
باب القول في جناية الرهن بعضه على بعض
قلت: فإن رجلاً رهن جاريتين بألف درهم، وكل واحدة تساوي ألفاً، فقتلت إحداهما الأخرى، أو فقأت إحداهما عين الأخرى؟
فقال: باقي الرهن يفيء بمال المرتهن، وهي في يده حتَّى تؤدى إليه، وإن أحب سيد القاتلة أن يقتلها بأمته الأخرى وضع مكانها رهناً وقتلها، وإن عفا فهي مكانها عند المرتهن رهن.
قلت: فإنه ارتهن جاريتين بألفٍ، وكل واحدة منهما تساوي ألفاً، فولدت إحداهما ولداً يساوي ألفاً، ثُمَّ قتل الولد الأم، وكذلك لو قتل الأخرى؟
قال: في الباقي وفاء له برهنه، والولد الذي قتل أمه في حكم الله مقتول، فإن قتله سيده فبحكم الله قتله، وإن عفى فهو مرهون مع الأخرى، وإن كان في هذا الوقت الذي وقع فيه الحدث إمامُ حقٍّ ظاهر كان أولى بالنظر في هذا كله، وكان نظره على قدر اجتناء(1) الجاني وإقدامه وتمرده وسفهه، فعلى قدر ما يرى من ذلك يكون إجازته لعفو السيد أو منعه من ذلك وقتله من يجب عليه القتل.
باب القول في التسليط على الرهن في بيعه
__________
(1) ـ في نخسة (ب): اجترى.
قلت: فإنه ارتهن جاريتين قيمتهما ألف، كل واحدة تساوي خمسمائة، وارتهنهما بألفين، وجعل الراهنُ المرتهن مُسلَّطاً على البيع فباعهما المرتهن بألفين، ثم هرب المشتري ولم يدفع الثمن؟ (1/289)
قال: إذا سلطه على البيع والاقتضاء جاز البيع، ويقتضي(1) المرتهن حقه.
باب القول في غصب العبد ثُمَّ يرتهن
وسألته عن رجل اغتصب عبداً يساوي عشرين ديناراً، فرهنه من رجل بعشرة دنانير، فمات العبد عند المرتهن، فعلم بذلك سيد العبد، فأثبت البينة أن هذا العبد الذي مات عند المرتهن عبد سرق منه، ما الحكم في ذلك؟
قال: إذا كان المرتهن علم عندما ارتهن العبد أنَّه غصب فصاحب العبد مخير في مطالبته لأيهما شاء، إن شاء طالب المرتهن الذي مات العبد في يده، وإن شاء طالب الغاصب.
قلت: ولِمَ يطالب المرتهن ولم يغتصبه؟
قال: لأنَّه قد علم أن العبد مغصوب، فكان مثل الغاصب عند علمه.
قلت: فما يجب لصاحب العبد على المرتهن؟
قال: قيمة العبد.
قلت: ولأيِّ معنىً تجب عليه القيمة كلها وله هو في العبد عشرة دنانير؟
قال: ليس ينظر إلى ما له في العبد؛ لأنَّه أتلف ما له هو.
قلت: وكيف أتلفه؟
قال: لمَّا علم أنَّه غصب، فارتهن غصباً، ودفع ماله في غير رهنٍ، حقيقةٍ كان متلفاً لما له، ولم يجب في ذلك مرادَّة الفضل؛ لأنَّه ليس بمنزلة رهن الحقيقة.
قلت: قد علمت أن هذا حكم المرتهن إذا علم أنَّه غصب، فكيف الحكم فيه إذا لم يعلم أنه غصب؟
قال: يطالب المستحق الغاصب بقيمة عبده، ويرجع المرتهن على الغاصب بما كان في العبد؛ لأنَّه غرَّه ورهنه ما لم يملك.
باب القول في الرجل يرهن رهناً ثُمَّ يزيد رهناً آخر
قلت: فإنه رهن عند رجل عبداً يساوي ألفاً على ستمائة، ثُمَّ إن الراهن زاد المرتهن عبداً يساوي ألفاً، وقال له: هذا زيادرة لك في الرهن، فمات الغلام الذي زاده أو الغلام الذي كان قبل الزيادة؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب) ويقبض.
قال: إن كان المرتهن سخط الرهن وسأل الراهن الزيادة ولم يرضه(1) من الراهن غير ذلك فالرهنان واحد، والمرتهن الجاني على نفسه، والفضل مردود على أهله، والمرتهن ضامن لما تلف في يده. (1/290)
قلت: فإن كان الراهن تبرع بالغلام زيادةً في الرهن ولم يطلب منه المرتهن ذلك؟
قال: إذا قبضه وأدخله مع الرهن الأول ولم يكن ينوي رده إليه لو طلبه ولم يكن الراهن يطمع بارتجاعه منه متى أراده بغير أداء شيء ممَّا عليه من الدين فحاله كحال(2) الرهن الأول، والمرتهن ضامن له، وإن كان الراهن قد علم أنَّه إذا طلبه أخذه وكان المرتهن مضمراً لرده إليه لو طلبه لسبب قد علماه بينهما ولم يكن محله عنده، في الضبط محل الأول، فلا ضمان على المرتهن.
باب القول في رهن الثياب والعروض
وسألته عن رجل رهن عند رجل ثوباً يساوي دينارين، وفضةً تساوي ديناراً، وسيفاً يساوي ديناراً، فذُهبت الفضة؟
قال: يسقط(3) عن الراهن ربع ما على الرهن إذا كان إنما رهنه على أربعه دنانير.
قلت: فإن كان رهنه على دينارين وهو يساوي أربعة، فذهب الثوب؟
قال: يسقط(4) عن الراهن قيمة الثوب وهو ديناران، ويأخذ الراهن باقي رهنه بغير شيء وهو السيف والفضة.
باب القول في الرجل يرهن ثوباً فيبيعه المرتهن ثُمَّ يفرّ
قلت: فإن رجلاً رهن عند رجل ثوباً على عشرة دراهم، فباع المرتهن الثوب بخمسة عشر وفَرَّ، ثم اعترفه الراهن مع المشتري؟
قال: إذا كان بيعه له من غير إذن من(5) الراهن، ثُمَّ أقام عليه صاحبه البنية دفع إلى من هو في يده ماكان عليه إذا أقام أيضاً عليه البينة على ذلك بعينه، وكان الذي هو في يده مطالباً لمن باعه بالفضل.
قلت: فلِمَ وجب على هذا تسليم الثوب ووجب لصاحبه أخذه وقد باعه رجل ضامن له؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يرض.
(2) ـ في نسخة (ب): حال.
(3) ـ في نسخة (ب): سقط.
(4) ـ في نسخة (ب): سقط.
(5) ـ في نسخة (ب) بحذف: من.
قال: لأنها سلعته وجدها بعينها، ولم يكن أجاز للمرتهن بيعها، فلما أراد المرتهن إتلافها لم يجز له، وكان صاحبها أولى بها. (1/291)
قلت: فيجب على صابحها دفع الخمسة عشر كاملة؟
قال: لا يجب عليه إلاَّ دفع ما للمرتهن عليه، والخمسة الفاضلة لصاحبها على الذي غره وباعه ما لا يجوز بيعه.
قلت: فلِمَ لا يكون المطالبة بين صاحب الثوب وبين المرتهن؟
قال: لأنَّه وجد سلعته قد حكم فيها بباطلٍ فردها عليه الحقُّ، وكان أقل ما يجب للمغرور أن يقبض ما كان لمن غره على غريمه في هذه السلعة بعينها.
قلت: فإن رجلاً رهن عند رجل ثوباً بعشرة دراهم(1)، ثُمَّ رهن المرتهن الثوب على خسمة عشر درهماً وفَرَّ المرتهن؟
قال: يؤدي ما عليه ويقبضه، ويطالب صاحب الفضل الذي رهنه، وإنَّما يجوز ذلك إذا أقام صاحب الثوب البينة أن الثوب ثوبه.
قلت: فلا أرى بين رهن المرتهن للرهن ولا بيعه له فرقاً؟
قال: أما إذا أدَّى ما عليه صاحبه فسواء، وليس للذي هو في يده مشترٍ أو راهنٍ أن يحبس عليه ثوبه ولم يكن للمرتهن أن يرهنه عند غيره كما لم يكن له أن يبيعه من سواه، وكلا الفعلين لا يجب على صاحب الرهن.
باب القول في الراهن إذا غاب أو لم يغب
ولم يسلط المرتهن على بيع الرهن، كيف يعمل المرتهن
قلت: فإن رجلاً رهن عند رجل ثوباً أو عرضاً من العروض ولم يكن بينهما شرط إلى أجل إن أتى الراهن وإلاَّ باع المرتهن الرهن، ولكنه رهنه رهناً مبهماً، ثُمَّ غاب الراهن، هل للمرتهن أن يبيع الرهن إن احتاج إلى حقه؟
قال: لا يبيع المرتهن الرهن أبداً إذا لم يكن شرط على الراهن إلى وقتٍ.
قلت: فإن الراهن لم يغب وهو حاضر فطالبه المرتهن بحقه؟
قال: ذلك له.
قلت: فيحكم عليه الحاكم بأن يبيع رهنه أو يؤدي إلى الرجل حقه؟
قال: نعم.
باب القول في رهن الدور والأرضين(2) إذا باعهما الراهن بغير علم المرتهن
__________
(1) ـ في نسخة (ب): على.
(2) ـ في نسخة (ب): الدار والأرض.
وسألته عن رجلٍ رهن عند رجل داراً على عشرة دنانير فباعها الراهن من غير المرتهن بغير علم المرتهن، وقبض الراهن الثمن، ثُمَّ باعها بعد ذلك الراهن من المرتهن بحقه فيها، ثُمَّ طلب المشتري الأول الدار، لأيهما البيع وأيهما أولى به؟ (1/292)
قال: البيع الأول فاسد، لا يجوز.
قلت: من أين فسد؟
قال: لأنها في يد ضامن.
قلت: فبيعه إيَّاها من المرتهن جائز؟
قال: نعم، كيف لا يجوز بيعه إيَّاها منه وقد أفسد مصيرها في يده بيعه إيَّاها من البائع الأول.
قلت: فإن أذن المرتهن للراهن بيع الدار فباع؟
قال: فسخ الرهن من يده ورده إلى صاحبه، وجعل ما كان على الراهن ديناً له عليه بلا رهن.
قلت: فإن أذن له في بيعها، ثُمَّ انهدمت أو بعضها قبل البيع؟
قال: لا يضمن؛ لأنَّه قد سلمها إليه بإذنه له في بيعها وأخرجها من يده بإطلاق الشراء لغيره.
قلت: فإن أذن له في بيع نصفها واشترى منه نصفها، فعرض النصف، ثُمَّ انهدمت؟
قال: أما النصف الذي أطلق له بيعه فقد سلمه إليه بإطلاقه له بيعه فلا يضمن قيمته، وأما النصف الثاني الذي ساومه به(1) فهو ضامن له، فإن كان قد دفع إليه الثمن فلا ضمان عليه، وإن كان لم يعقد عقدة يجب له بها الملك من دفع أو غيره، فهو ضامن بقيمة هذا النصف شائعاً كان أو مقسوماً.
باب القول في المرتهن يسكن الدار أو يكريها
وسألته عن رجل رهن عند رجل داراً، وقبض المرتهن الدار فسكنها، أو أكراها وقبض كراها؟
قال: يسقط ذلك ممَّا على الراهن.
قلت: وكذلك إن كانت دابةً فأكراها، أو مملوكاً فأكراه؟
قال: وكذلك.
قلت: فإن حدث في الدار حدثٌ من جدار أو غيره؟
قال: يسقط عن الراهن قيمة ذلك الذي حدث.
باب القول في الأرض يزرعها الراهن بغير علم المرتهن
وسألته عن رجل ارتهن أرضاً وقبضها ثُمَّ زرعها الراهن بغير علم المرتهن؟
قال: يجب في ذلك على الراهن أدب، على قدر ما يرى الحاكم.
قلت: فيقلع الزرع؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فيه.
قال: لا، ولكنه يكون زيادةً في الرهن في يد المرتهن. (1/293)
قلت: فإن حدث في الزرع حدث، أيكون المرتهن ضامناً؟
قال: لا.
باب القول في رهن الشقص من الدار والضيعة، هل يجوز أم لا يجوز
وسألته: هل يجوز الرهن في شقص من الأرض ومن الدار وغير ذلك؟
فقال: كل ما جاز بيعه جاز رهنه.
قلت: فقد يجوز بيع السهم من كذا وكذا سهماً، أو ربع الدار أو ثمنها أو ثلثها؟
فقال: نعم، وكذلك أيضاً يجوز رهن ذلك السهم ما كان ربع أو ثمن أو ثلث إذا وقعت عليه المعرفة.
قلت: وإن كان ذلك مشاعاً غير مقسوم؟
قال: نعم.
قلت: فيكون الرهن غير مقبوض؟
قال: لا.
قلت: فهل يكون هذا السهم إذا كان مشاعاً مقبوضاً؟
قال: نعم يقبضه المرتهن.
قلت: وكيف يقبض وهو مشاع؟
قال: كما يقبض المشتري السهم وهو مشاع.
قلت: فإن هذا الذي له في الدار نصفها أو ثلثها أراد أن يسكن أو يكري؟
قال: ذلك له يكري الجميع، وتكون غلة الرهن لصاحبه.
باب القول في النخل والشجر إذا أثمر في يد المرتهن ثُمَّ فسد
قلت: فإن رجلاً رهن عند رجل نخلاً أو شجراً فأطلع النخل أو أثمر الشجر ففسد الثمر في رؤوس النخل أو الشجر، هل يضمن المرتهن؟
قال: نعم.
قلت: فإن اكترى المرتهن على النخل من يجذه ـ وهو الصرام بكلام اليمن ـ وعلى الشجر من يقطع ثمره، على من الأجرة؟
قال: على الراهن.
باب القول في الرجل إذا استعار شيئاً يرهنه بكذا(1) ثُمَّ رهنه بأكثر من ذلك
وسألته عن رجل أتى إلى رجل فقال: أعرني ثوباً أو كذا وكذا، أرهنه على عشرة دراهم، فأعاره ثوباً أو غير ذلك، والثوب يساوي عشرين درهماً، فرهنه المستعير بخمسة عشر درهماً، فذهب الثوب؟
قال: للراهن على المرتهن فضل القيمة، وللمعير على المستعير ما قبض في ثوبه، لا يزيده ولا ينقصه، وليس قوله: أرهنه على عشرة، ممَّا أحل للمستعير ما صار إليه من قيمة ثوب أخيه.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): بشيء.
قلت: فإن استعار منه ثوباً يساوي خمسين درهماً، على أن يرهنه، فأعاره إيَّاه، فلبسه المستعير قبل أن يرهنه، فحدث فيه في لبسه إيَّاه حدثٌ، نقص من ثمنه عشرة دراهم، ثُمَّ رهنه بعشرين، فتلف عند المرتهن؟ (1/294)
قال: للراهن على المرتهن تمام قيمته معيباً، وهي عشرون درهماً أخرى، ولصاحب الثوب المعير على المستعير قيمته صحيحاً خمسون درهماً، يزيد على ما قبض في الثوب عشرة دراهم من صلب ماله، حتَّى يوفي قيمة الثوب.
قلت: فإن كان حين استعاره منه ليرهنه استثنى عليه لبس عشرة أيَّامٍ ثُمَّ يرهنه، فحدث فيه(1) هذا الحدث في عشرة أيام؟
قال: إن لم يكن من المستعير تعمد لهذا الحدث فلا شيء عليه.
باب القول في الاستعانة
قلت: فإن رجلاً قال لرجل: خذ مني هذا الثوب فارهنه لي على عشرة دراهم، ففعل الرجل المأمور، وقال للمرتهن: إن فلاناً استعانني أن أرهن له هذا الثوب على عشرة دراهم، ودفع المرتهن الدراهم إلى المأمور، فذهب الثوب وقيمته عشرون درهماً، وكذلك لو كانت العشرة دراهم ذهبت من المستعان؟
قال: أما المستعان فإن ذهبت منه الدراهم فليس عليه أكثر من اليمين إن أُتُّهِمَ؛ لأنَّه مؤتمن، وعلى المرتهن فضل القيمة.
قلت: فالمعاملة والمطالبة، بين مَن تكون؟
قال: إن كان الراهن أتى برسالة صاحب هذا الثوب إلى المرتهن، فقبل المرتهن الرسالة، وأخذه على أن صاحب الثوب أرسل به إليه، وسأله فيه الدراهم فالمعاملة بينهما والمناظرة إذا كان المرتهن قد صدق الرسول بالرسالة، وإن كان الراهن ـ الذي هو الرسول ـ رهنه عند المرتهن من تلقاء نفسه وسأله أن يقضي الحاجة له ولم يأته برسالة من صاحب الثوب فالمعاملة بينه وبين الراهن دون صاحب الثوب، والحق في ذلك ثابت حيث كان.
باب القول في شرط الراهن والمرتهن في ترك الضمان بينهما
__________
(1) ـ به.
قلت: فهل يجوز للراهن والمرتهن أن يوقعا بينهما شرطاً في ترك الضمان على واحد منهما، فيقول المرتهن للراهن: آخذ منك هذا الرهن بكذا وكذا على أنَّه إن ذهب مني لم أرُد عليك فضله، ولم أضمن لك، وكذلك لو قال الراهن للمرتهن: أرهنك هذا الثوب، فإن ذهب لم أرُد عليك فضلاً إن كان لك ولا آخذ منك فضلاً إن كان لي؟ (1/295)
قال: ذلك شرط باطلٌ لا يصح، وحكم الله أوجب.
قلت: فإن كان الراهن استعار عبداً من صاحبه، وأمره بتسليمه إلى المرتهن، وأمر المرتهن بقبضه من المعير؟
قال: الحكم في ذلك أن الفضل مردود إلى من دفع الرهن وهو المستعير، ولصاحب العبد على المستعير قيمة عبده إن مات.
قلت: كيف يكون لسيد العبد على المستعير القيمة كلها وقد يعلم أنَّه لا ضمان على المستعير إذا لم يجاوز الشرط الذي اشترط المعير في عاريته؟
قال: ليس هذا كغيره من العارية، هذا قد لحق فيه قيمة العبد كلها خمسمائة(1) مبتدأة رهنه بها، وخمسمائة لحقها على الراهن من فضل قيمة العبد، فقد استوفى قيمة العبد كلها فعليه أن يردها إلى صاحب العبد، وإنَّما العارية الَّتي لا تضمن ما لم يرجع منها منفعة على مستعيرها ولم يربح فيها المستعير، وأما هذا فلا يكون كذلك؛ لأن المستعير قد صار إليه العبد كله، فكان قياسه قياس من استعار شيئاً ثُمَّ باعه وأخذ ثمنه فالقيمة لسيد الشيء المعير لا للمستعير.
قلت: فما العارية الَّتي لا تجب على مستعيرها رد ثمنها؟
قال: هو كل شيء استعير لمعنى معروف، فلم يجز المستعير فيه ذلك المعنى، فتلف ولم يصر إلى المعير منه عوض، ألا ترى لو أن رجلاً استعار شيئاً كائناً ما كان لينتفع به في ذات نفسه، ثُمَّ إنَّه أكراه بكرى، ألا ترى أن الكرى لصاحب الشيء لا للمستعير، فافهم المعنى في هذا القياس إن شاء الله.
__________
(1) ـ لعل هنا سقطاً، وذلك أنَّه لم يبين قدر المرهون فيه، وقدر قيمة العبد عند تلفه، وقد أشار إلى ذلك في الجواب.
قلت: فإن رجلاً رهن عند رجل ثوباً بعشرة دنانير، ثُمَّ قال الراهن للمرتهن: أعرني ثوبي هذا، فأعاره إياه المرتهن ثوبه، فذهب الثوب، هل تكون العارية تفسخ الرهن؟ (1/296)
قال: قد زعم غيرنا أن ذلك يفسخ الرهن، ولسنا نقول به ولا نراه؛ لأن الشروط والأصول أولى من الفروع، ولكن نرى إن كان صاحبه المتلف له أن لا يضمن المرتهن، وأن يكون الدين على الراهن.
قلت: فلِمَ لم يضمن المرتهن وهو الذي أخرج الرهن من يده؟
قال: لم يكن إخراجه منكراً، وإنَّما كان معروفاً.
قلت: وما المنكر، وما المعروف هاهنا؟
قال: أما المنكر: أن يعيره غير صاحبه ويخرجه من يده إلى غير راهنه، والمعروف: أن يعيره من رهنه ويثق به ويرفق عليه بذلك إذا طلبه.
قلت: وسواء إذا أعاره إياه بضمان أو غير ضمان؟
قال: كذلك إذا كان صاحبه المتلف له.
قلت: بيِّن لي ـ يرحمك الله ـ بيَاناً أفهمه؟
قال: ألا ترى أنَّه لو أعاره إياه بضمان، فذهب منه كان أكثر ما يطالبه به بما عليه من الدين له، وإن كان فضلاً رده إلى صاحب الثوب، فلما إن لم يكن له عليه إلاَّ ما أخذ منه وكانت كل فضلة في القيمة مردودة إلى مالك الثوب لم يكن على الذي أتلفه أكثر من دين صاحبه.
باب القول في الخاتم إذا سقط فصَّه من المرتهن
وسألته عن رجل رهن خاتماً بعشرة دراهم، فوقع الفص عن الخاتم فذهب، فقال الراهن: فُصِّي يسوى ديناراً، أو أنا اشتريته بدينار، وقال المرتهن: ليس يسوى ما قلت، ولست أدري ما يسوى؟
قال: يأتي الراهن بالبينة على دعواه، ويجب له ما حقق عليه.
قلت: فإن لم يكن له بينة؟
قال: يوصف لأهل المعرفة بمثله، ثُمَّ يؤخذ بأوسط ما يقوِّمه أهلُ المعرفة ثُمَّ يترادان الفضل في ذلك.
قلت: فإن تناكرا في الصفة الراهن والمرتهن؟
قال: فالقول قول من أتى بالبينة على صفته.
قلت: فإن لم يجد أحدهما بينةً على ما ذكر من صفة الرهن؟
قال: قد قال غيرنا في مثل هذا: اليمين على مالك الشيء، والقول عندنا إذا وقع هذا اللبس: أن اليمين على أروع الرجلين وأعفهما، واحتج علينا من قال: اليمين يمين صاحب الشيء بأن صاحب الشيء أعرف به، فقلنا لمن قال بذلك: إن المعرفة لا تكون إلاَّ بالنظر والبصر والتقليب، والمرتهن لا يرتهن إلاَّ ما قد وثق به وعرفه، وقد يمكن أن يشتريه صاحبه استملاحاً وشهوةً فيشتريه بأكثر ممَّا يسوى، والمرتهن فلا يأخذه إلاَّ من بعد المعرفة بأنه يسوى ما يُخرجُ فيه؛ لأنَّه غير مالك له، وإنَّما هو متحفظ له بسبب ماله، فلا حجة لكم في هذا، فإذا ادَّعى المرتهن معرفة بقيمة(1) ما ارتهن، فادَّعيا جميعاً معرفة قيمة الفص كان أعرفهما بالله وأتقاهما له أولاهما بالتصديق. (1/297)
قلت: فإن استويا جميعاً في الورع أو الجهل؟
قال: اليمين حينئذ يمين صاحب الشيء، وهو الراهن، ويدخل في يمينه ما زدت لهوى نفسك شيئاً على القيمة، ولقد اشتريته بما يسوى عند غيرك.
باب القول في الرجل يستعير من الرجل الشيء ويضع مكانه رهناً
قلت: فإن رجلاً أتى إلى رجلٍ، فقال: أعرني ثوبك وهذا خاتمي رهن عليه حتَّى أرده، تبرعاً منه بالخاتم، أو قال: أعرني ثوبك، فقال له صاحب الثوب: اعطني رهناً، فدفع إليه الخاتم فذهب؟
قال: المرتهن ضامن على أيِّ الحالتين(2) كان الذي دفع إليه متبرعاً أو غير متبرع؛ لأن قبض المرتهن من الذي أعطاه الرهن متبرعاً هو رضىً منه، وقبض ما دفع إليه من الثوب فصار ضامناً بقبض ذلك.
باب القول في الضيعة يزرعها المرتهن بغير أمر الراهن
وسألته عن رجل رهن من رجل ضيعة وقبضها المرتهن، وغاب الراهن، فزرعها المرتهن واستغلها طعاماً كثيراً، ومات الراهن وله غرماء، ما الحكم في ذلك؟
قال: الضيعة في يد المرتهن وهو أحق بها، وأما الزرع فأقل ما يجب له أن يكون مثل الشريك يأخذ كما يأخذ الشريك على قدر ما يعرف من شركة البلد.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): لقيمة.
(2) ـ في نسخة (ب): الحالات.
قلت: ففضل الطعام؟ (1/298)
قال: يكون بين(1) الغرماء وله معهم.
قلت: فالضيعة؟
قال: هي في يده، وهو أحق بها حتَّى يستوفي ماله عليها دون الغرماء، فإن فَضُلَ من ثمنها شيءٌ قُسِم على الغرماء بعدما يستوفي حقه.
قلت: ولِمَ صار هذا أحق من الغرماء؟
قال: لأنها في يده دونهم.
قلت: فإن الراهن لم يمت وقد أمر المرتهن أن يزرعها، فزرعها المرتهن وأخذ منها طعاماً؟
قال: هو رهن معها في يد المرتهن، إلاَّ أن يحب أن يأخذ ممَّا له على(2) الراهن فيقتضيه ويسقط من الرهن بعدده.
باب القول في اختلاف الراهن والمرتهن
وسألته عن الراهن والمرتهن يختلفان إذا ضاع الرهن، فيقول الراهن: رهني يسوى ألف درهم، ويقول المرتهن: رهنك يسوى مائة درهم، على مَن البينة؟
قال: على الراهن البينة؛ لأنَّه المدعي الفضل، وعلى المرتهن اليمين.
قلت: فإن الراهن والمرتهن اختلافا فيما على الرهن، ولم يضِع، فقال المرتهن: لي على الرهن ألف درهم، وقال الراهن: بل لك في الرهن مائة درهم، على مَن البينة؟
قال: البينة على المرتهن؛ لأنَّه المدعي الفضل، وعلى الراهن اليمين.
قلت: فإن الراهن لمَّا دفع فِكاك الرهن أخرج المرتهن إليه الثوب، فقال الراهن: ليس هذا ثوبي، وقال المرتهن: بل هو ثوبك الذي رهنت عندي، على مَن البينة منهما؟
قال: البينة في ذلك على المرتهن؛ لأن الراهن أنكر أن يكون هذا ثوبه، فعليه اليمين.
قلت: يحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما هذا ثوبي؟
قال: نعم.
قلت: فإذا اختلفا ولم يكن للمرتهن بينة، ما يعمل في ذلك؟
قال: يقال للراهن: صف ثوبك الذي كان لك، فإذا وصفه سئل أيضاً البينة على ذلك، فكإن أتى ببينةٍ حكم له بقيمة ثوبه عند البُصَراء من البزازين الذين يعرفون جنس الثوب وقيمته.
قلت: فإن لم يكن له بينة؟
قال: فالحكم فيه ما وصفنا في المسألة الأولى، يحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما كان قيمة حليتك إلاَّ كذا وكذا.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): للغرماء.
(2) ـ في نسخة (ب): عن.
باب القول في رهن آنية الذهب والفضة (1/299)
وسألته عن رجل رهن عند رجل إكليلاً من ذهب، فانشدخ الإكليل عند المرتهن بغير جناية من أحد، ولكنه سقط عليه بيت أو غير ذلك فانشدخ، هل يكون المرتهن ضامناً لذلك؟
قال: أمَّا إذا لم يكن جنى عليه المرتهن أو وضعه في ذلك البيت الذي سقط عليه، والبيت مخوف أن يسقط لم يكن ضامناً؛ لأن الذهب قائم بعينه.
قلت: فإن كان وزن الإكليل قد نقص عمَّا(1) كان عليه أولاً، وكان فيه جوهر فتكسَّر؟
قال: إذا كان ذلك كذلك ضمن المرتهن ما نقص من الذهب، وقيمة ما تكسَّر من الجوهر.
قلت: فهل يضمن المرتهن أيضاً قيمة عمل الإكليل مع نقصان الذهب وقيمة الجوهر؟
قال: إن كان فساد الإكليل من قبله فهو ضامن لقيمة العمل أيضاً، وإن لم يكن الفساد من قبله فقد قدمنا فيه الجواب في أول المسألة.
باب القول فيمن رهن رهناً بأكثر من قيمته أو دون قيمته ثُمَّ أفلس
وسألته عن رجل رهن عند رجل رهناً يساوي مائة دينار، بخمسين ديناراً، ثُمَّ أفلس الراهن؟
قال: للمرتهن أن يستوفي حقه ويرد الفضل إلى الغرماء.
قلت: فإنه رهن عنده رهناً يساوي خمسين ديناراً بمائة دينار، ثُمَّ أفلس؟
قال: يقبض المرتهن رهنه بقيمته، ويضرب بباقي حقه مع سائر الغرماء.
قلت: فإنه رهن عند عبدين أو أمتين، ثُمَّ أفلس فمات أحد العبدين أو إحدى الأمَتين؟
قال: ينظر في ذلك إلى قيمتهما، كم هي؟ وكم كانت؟ فإن كانت قيمتهما أكثر ممَّا كان له عليهما رد المرتهن تلك الفضلة على الغرماء وكانت قيمة الهالكة لازمة له داخلة عليه في ماله، وإن كانت قيمتهما أقل ممَّا كان له على المفلس أخذهما بقيمتهما من ماله وضرب مع الغرماء بباقي حقه في سائر مال المفلس.
قلت: فإنه رهن غيره نخلاً، فأثمر النخل سنتين أو ثلاثاً، ثُمَّ أفلس الراهن؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ممَّا.
قال: ينظر إلى ما كان للمرتهن على ذلك النخل وإلى قيمة ثمر تلك السنتين، فإن كانت قيمة الثمر بما كان له عليه سلم ذلك إليه الراهن وأخذ منه أصل النخل، وإن كان الذي أثمر في النخل أقل من قيمة الرهن استوفى المرتهن ذلك إذا باع أصل النخل، وسلم الباقي إليهم، وإن كان ما كان له عليه يستغرق ثمن التمر، وأصل النخل فهو له، وإن كان ذلك كله لا يؤدي ما له فيه أخذ ذلك بحسابه وضرب بفضلة ماله في مال المفلس مع الغرماء. (1/300)
باب رهن الأرض وفيها زرع
وسألته عن رجل رهن أرضاً وفيها زرع وأدخل الزرع في الرهن؟
فقال: هذا باطل لا يجوز؛ لأنَّه لا يكون الرهن إلاَّ مقبوضاً، وهذا الزرع فليس يقبضه المرتهن.
قلت: فإنه رهن الأرض وحدها ولم يدخل الزرع في الرهن؟
قال: إذا كانت الأرض بنفسها تفي بمال المرتهن جاز ذلك، ويكون سقي الزرع وصلاحه على صاحبه، فإذا حصد الزرع وحصل طعامه كان أيضاً رهناً مع الأرض حتَّى يستوفي المرتهن حقه.
قلت: فإن رجلاً رهن أرضاً عند رجل بمائة دينار، وقبض المرتهن الأرض وهي بيضاء، ثُمَّ غلب العدو على البلد الذي فيه الأرض، فأخرج العدوُّ أهلَ البلد منه ولم يقدر الراهن ولا المرتهن على البلد، ما الحكم في ذلك؟
قال: الحكم عندي في هذا إذا غلب العدوُّ على البلد أن يطالب المرتهن الرهن بماله عليه، وليس هذا عندي مثل ما يضمنه المرتهن؛ لأن هذا جائحة لا يقدر المرتهن على دفعها(1)، وهذا مثل أهل صنعاء والقرامطة وما أشبه ذلك من البلدان.
قلت: وكذلك لو أن رجلاً تقبَّل أرضاً أو استأجرها من صاحبها خمس سنين أو أكثر أول السنين كذا وآخرها بكذا وكذا ديناراً، ثُمَّ غلب أيضاً العدوُّ مثل القرامطة على صنعاء وغيرها من البلد فأخرجوا أهله منه، هل يجب على متقبل الأرض أو مستأجرها ما تقبلها به من الدنانير؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): دفعه.
قال: لا يجب عليه إلاَّ ما استغلَّ الأرض من زرع أو غيره، فأما إذا أُخرجت من يده فلا يجب عليه فيها شيء؛ لأن صاحبها إنَّما قبل عين الأرض، فلما خرجت من يده بغصب غاصب لم يجب عليه فيها شيءٌ، وكذلك لو استأجر عبداً سنةً بكذا وكذا فأبق العبد بعدما عمل شهرين لم يكن للمولى إلاَّ ما عمل عنده، وهذا قياس على المعنى الأول، فافهم ذلك. (1/301)
قلت: فإن رجلاً رهن عند رجل ثوباً بكذا وكذا إلى أجلٍ، فلما حلَّ الأجل طالب المرتهن الراهن بما له عليه فدافعه فدعاه إلى الحاكم، فأمر الحاكم المرتهن أن يأتي بالرهن، فأتى بالرهن فدفعه إلى مُنادٍ وأمره ببيعه، فأخذه المنادي على أن يبيعه، فذهب من المنادي، ما الحكم في ذلك؟
قال: حكم الرهن بين الراهن والمرتهن أن يترادا الفضل فيما بينهما، ويطالب الراهن المنادي بالرهن الذي دفعه إليه الحاكم ببيعه، ويوجب الحاكم على المنادي قيمة الثوب الذي كان رهناً، فيدفعه إلى الراهن.
قلت: فإن الراهن قال للمرتهن: ادفع الرهن(1) إلى من يبيعه، واستوفى مالك، فدفع المرتهن الرهن بأمر الراهن إلى من يبيعه، فتلف الرهن؟
قال: إذا كان ذلك بأمر الراهن لم يضمن المرتهن؛ لأن الراهن أمره بدفعه إلى من يبيعه فيطلب(2) المرتهن الراهن بما له عليه فيقبضه منه، ويطلب(3) الراهن الرجل الذي دفع إليه المرتهن الثوب، فافهم ذلك وقس عليه، فلك فيه كفاية إن شاء الله تعالى.
باب الإجارات في الدور
وسألته عن رجل استأجر داراً أو حانوتاً سنةً أولُها شهر كذا وآخرها شهر كذا بكذا وكذا ديناراً، ودفع المكتري إلى صاحب الدار الكرى كله، ثُمَّ إن صاحب الدار باعها وقبضها المشتري، هل ينفسخ الكرى؟
قال: إن كان صاحب الدار باع وهو مؤسر غير مضطر إلى بيعها لم ينفسخ الكرى والكرى على حاله، وإن كان صاحب الدار باعها من فقر انفسخ الكرى.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): الثوب.
(2) ـ في نسخة (ب): ويطلب.
(3) ـ في نسخة (ب): ويطالب.
قلت: فإن لم يكن المكتري دفع الكرى، ولكنه دفع بعض الكرى؟ (1/302)
قال: كذلك الجواب فيه واحد.
قلت: فإن كان المكتري دفع الكرى كله لسنةٍ كاملةٍ، ثُمَّ أراد أن يخرج من الدار قبل انقضاء السَّنة؟
قال: الكرى واجب خرج أو لم يخرج.
قلت: فإن كان دفع بعض الكرى وتشاهدا على سنةٍ، فأراد المكتري أن يخرج من الدار قبل انقضاء السنة؟
قال: كرى السنة لازم له، فإن أراد أن يخرج ويغلق الدار فعل.
قلت: فيجب على صاحب الدار فضل الكرى؟
قال: لا.
قلت: وكذلك صاحب الدار لو أراد أن يخرج المكتري قبل تمام السنة؟
قال: ليس ذلك له حتَّى يستكمل المكتري الكرى.
وسألته عن رجل استأجر داراً أو حانوتاً سنةً ودفع الكرى، ثُمَّ سكن الدار سنة، فلما كان عند انقضاء السنة أراد أن يفرغ الدار، فوجد صاحبها غائباً؟
قال: يفرغها ويشهد على ذلك شاهدين، ولا يلزمه شيء.
قلت: فإن لزم المفاتيح لمَّا غاب صاحبها؟
قال: إذا فرغها(1) وأشهد على تفريغها أو لم يشهد لم يضره لزوم المفاتيح.
قلت: فإن فرغها وأغلق بابها وأمسك المفاتيح حتَّى قدم صاحبها؟
قال: إذا أشهد على ذلك لم يضره.
قلت: فإن كان صاحبها حاضراً ففرغها وأمسك المفاتيح شهراً بعد ذلك؟
قال: عليه إجارتها بلزوم المفاتيح حتَّى يرد المفاتيح.
قلت: فإنه استأجر منه الدار سنة أولها كذا وآخرها كذا بكذا، وقبضها المكتري مفرَّغة سليمةً، فسكنها شهراً أو أكثر أو أقل، ثُمَّ مرَّ بها السيل(2) فهدمها أو انهدمت، هل تنفسخ الإجارة؟
قال: لا.
قلت: فيحكم على صاحبها ببنائها؟
قال: نعم.
قلت: فإن كان معدماً لا حيلة له في بنائها، هل يفسخ المعدم الإجارة؟
قال: نعم.
قلت: فإنه أيسر بعد ذلك فبنى الدار، هل ترجع الإجارة للمكتري؟
قال: نعم.
قلت: فإن انهدم بعضها؟
قال: يبني ما انهدم منها.
قلت: فإن المكتري أو المكري مات؟
قال: لا يفسخ الإجارة موت المكري ولا المكتري.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أفرغها.
(2) ـ في نسخة(ب): سَيلٌ.
قلت: فإن المكري دفع إلى المكتري الدار، فسُرقت أبوابها ومتاع المكتري، هل يكون أحدهما ضامناً؟ (1/303)
قال: لا، إلاَّ أن يكون من المكتري تضييع للأبواب فيكون بذلك ضامناً.
باب القول في إجارة الدَّواب
وسألته عن رجل اكترى من رجل جمالاً بأعيانها أو حميراً أو بغالاً أو غير ذلك ممَّا يحمل عليه على أحمال بأعيانها إلى بلد بعينه، فحمل المكتري على الجمال، فلما كان في بعض الطريق قُطع عليه، فأُخذت الجمال، ما يجب للمكتري من الكرى، وما يجب عليه؟
قال: يجب على المكري أن يكتري على أحمال المكتري إلى البلد الذي شرط عليه، ولا ينظر إلى كرى الحمل بعينه ولا الدابة بعينها، إذا اكترى إلى بلد معروف فعليه أن يبلغ الحمل إلى حيث اكترى عليه ماتت الدابة أو أُخذت أو سلمت.
قلت: فإن الرجل لم يكتر دوابّاً بعينها، وإنَّما اكترى من رجل على أحمال من بلد إلى بلد، فحملها الرجل على دوابه، فقطع عليه الطريق قبل أن يبلغ فأُخذت الدواب؟
قال: هو أوكد عليه كما قدمنا في الجواب الأول، عليه أن يكتري لأحمال الرجل حتَّى يبلغها إلى حيث اكترى منه.
قلت: فإن الرجل لما قطع عليه اكترى الكرى على الأحمال إلى الموضع الذي اكترى منه إلي،ه فضاع من الأحمال شيء بسرقٍ أو غيره، وكذلك لو ذهب(1) الأحمال كلها؟
قال: يكون ضامناً لما ذهب من الأحمال، إلاَّ أن تكون الأحمال أُخذت عنوة لا يقدر على مدافعة لمن أخذها.
وسألته عن رجل اكترى من رجل على أحمال يحملها له على دوابه من بلد إلى بلد، والمكتري مقيم في البلد، فدفع الأحمال إلى المكاري، وقال له: قد كتبت لك كتاباً إلى الذي وجَّهت إليه الأحمال يدفع الكرى إليك، فلما وصل الرجل بالكتاب إلى الرجل، قرأه فلم يجد فيه أن يدفع إلى الحمَّال شيئاً، ما يجب في ذلك؟
قال: يرتجع الحمَّال على الذي غرَّه وهو صاحب الأحمال حيثما كان، فيأخذ منه حقه.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ذهبت.
قلت: فإن الحمال اتَّهم الذي جاءه بالكتاب أن في الكتاب دفع الكرى، هل يجب له عليه يمين؟ (1/304)
قال: نعم.
قلت: فإنه كان في الكتاب أن يدفع إليه الكرى، فقال الذي جاءه الكتاب: ليس للرجل عندي شيء، ولست أدفع إليك شيئاً، فقال له الحمال: ادفع إليَّ الأحمال الَّتي أتيتك بها، وقد كان في الكتاب إلى الرجل: اقبض لي من الحمَّال كذا وكذا حملاً، فقبضها الرجل، فقال: ليس له عندي شيء، ما يجب في ذلك؟
قال: يجب للحمال على الذي قبض الأحمال أن يدفع الكرى إلى الحمال أو يدفع إليه الأحمال إذا كان صاحب الأحمال كتب إليه أن يدفع إلى الحمال الكرى، فأبى وجب عليه أن يرد إلى الحمال الأحمال.
قلت: فإن جاء في الكتاب: أن يدفع إلى الحمال ديناراً، فقال الحمال: لي عنده ديناران؟
قال: ليس على الذي جاءه الكتاب إلاَّ أن يدفع ديناراً واحداً، ويرجع الحمال إلى الذي ادَّعى عليه، وهو صاحب الأحمال بدينار.
قلت: فإن الرجل الذي اكترى قال للحمال: أكرني، فقال له: نعم على كراء الناس، وافترقا على ذلك، فلما وصل الرجل بالأحمال إلى البلد دفعها إلى صاحبه، ثُمَّ اختلفا حينئذ في الكرى، فقال الحمال: خرج كرى الناس كذا وكذا رطلاً بدينار، وقال الذي وصلت إليه الأحمال: لا، بل كرى الناس كذا وكذا بدينارٍ، أقل ممَّا قال الحمال، فسألا أهل العير، فاختلف القول في ذلك، فقال بعضهم: خرج الكرى ثلاثمائة بدينار، وقال بعضهم: خرج الكرى مائتين بدينار، واختلفوا في ذلك، ما يجب؟
قال: ينظر في ذلك إلى الوسط ما بين أعلى الكرى وأدناه فيحكم بذلك.
وسألته عن رجل دفع إلى رجل جمالاً أو حميراً أو بغالاً أو غير ذلك ممَّا يحمل عليه من الحيوان، وقال له صاحب الدواب: أكرني هذه الدواب من صعدة إلى مكة، أو من حيث استوى لك الكرى إلى بلد ـ ولم يحظر عليه من بلد إلى بلد ـ على أن لك من جميع ما أكريت به هذه الدواب سدس الكرى أو ربعاً أو ثلثاً أو شيئاً سمَّى له على أن علف الدواب على صاحبها ممَّا له من الكرى، وعلى أن الرجل يقوم على هذه الدواب ويعلفها ويشد عليها إلى البلد الذي أكراها إليه ذاهباً وراجعاً، فأخذها الرجل وأكراها من بلد إلى بلد فأخذ ربع كرائها، فلما كان في بعض الطريق أُخذت الجمال كلُّها أو بعضها، ما يجب في ذلك؟ (1/305)
قال: يكتري الذي دُفعت إليه الجمال على الأحمال من جميع الكرى الذي لصاحب الجمال وللمستأجر عليها، وقد قال غيرنا: إن هذا لا يجوز، ولسنا نلتفت إلى قوله، وهو عندنا جائز؛ لأن الغرر لو كان لكان على صاحب الجمال، وعلى المستأجر عليها، فجاز هذا؛ لأن الغرر عليهما جميعاً.
قلت: فإن الرجل الذي له الجمال أكراها قبل أن يدفها إلى الرجل وقبض كراها، ودفع إلى الرجل ربع الكرى وأعطاه باقي الكرى أو بعضه، فقال: أنفق من هذا على جمالي، فلما كان في بعض الطريق وقف بعض الجمال أو مات، واكترى الذي معه الجمال على الحمل الذي كان على الجمل الذي وقف أو مات إلى البلد الذي اكترى إليه، فلما رجع قال له صاحب الجمال: لم آمرك بهذا، ما يجب في ذلك؟
قال: قد قدمنا الجواب، وسواء أكراها صاحبها أو أكراها صاحبه، وأما قول صاحب الجمال: لم آمرك أن تحمل الحمل إذا مات الجمل وتكتري عليه، فلا نلتفت(1) إلى قوله؛ لأنَّه الواجب عليه في الحكم، وكذلك على من استأجره على جماله.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يلتفت.
قلت: فإن رجلاً اكترى من رجل على أحمالٍ من بلد إلى بلد، فلما صار في بعض الطريق أُخذت الأحمال وسلمت الجمال، وطالب الحمال صاحب الأحمال بما يجب له من الكرى، وطالب صاحب الأحمال الحمال بثمن أحماله، ما يجب في ذلك؟ (1/306)
قال: للحمال كرى ما حمل إلى حيث أُخذت الأحمال سلمت الجمال أو لم تسلم، وليس على الحمال ضمان الأحمال إذا أُخذت عنوةً وغلبة، إلاَّ أن يكون بان منه تفريط في ذلك.
قلت: فإن الأحمال والجمال أُخذت جميعاً، فطالب الحمَّال صاحب المتاع بالكرى إلى الموضع الذي قُطع عليه فيه؟
قال: قد قدمنا ذلك في الجواب الأول، وله الكرى إلى حيث أُخذت الأحمال أو(1) الجمال.
قلت: فإن الجمال رجعت على الجمَّال بعد ذلك، فقال له صاحب المتاع: قد رجعت عليك إبلك فلي فيها حق، ما يجب في ذلك؟
قال: لا حق له في الجمال، كما أنَّه لو رجعت الأحمال وذهبت الجمال لم يكن للجمَّال حق في الأحمال غير الكرى.
قلت: فإن الجمَّال وصل بالأحمال إلى البلد الذي اكترى إليه، فلما وصل حطَّ في البلد ولم يُقْبِضْ صاحبَ الأحمال أحماله، فسُرق منها عِدل أو أكثر أو ثوب، هل يضمن الجمَّال؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك لو أن الحمَّال أدخل الأحمال إلى منزل الرجل الذي أكراه ولم يُقبضْه أحماله، فنقبت الدار، فأُخِذ منها عِدل، هل يضمن الجمَّال؟
قال: نعم، لا يزال الجمَّال ضامناً لما ذهب منه حتَّى يقبض صاحب الأحمال أحماله في دار كانت الأحمال أو في غيرها.
وسألته عن رجل اكترى من رجل على أرطال معلومة كذا وكذا رطلاً بدينارٍ على أن يحملها له من بلد إلى بلد على دابة له ودفع إليه الحمل، فلما صار في بعض الطريق ماتت الدابة، فطلب الحمَّال صاحب الحمل بما يجب عليه من الكرى؟
قال: له ذلك.
قلت: فيكون الحمَّال ضامناً للحمل إن قُطِع عليه الطريق فأخذه اللصوص؟
قال: لا يكون ضامناً إذا أُخذ منه عنوةً ولم يقدر على دفع اللصوص.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): والجمال بحذف الألف والهمزة.
قلت: وكذلك إن أُخذ المتاع ولم تؤخذ الجمال؟ (1/307)
قال: وكذلك لا يكون ضامناً.
قلت: فإن كان صاحب الحمل اكترى من الجمَّال على ثلاثمائة رطل بدينارٍ من بلد إلى بلد، ودفع ذلك إلى الجمَّال، فلما صار في بعض الطريق مات الجمل تحت الحمل أو انكسرت رجله، فوزن الجمَّال الحمل فوجده يزيد رطلاً أو رطلين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، هل يكون صاحب المتاع ضامناً للجمل؟
قال: أما في رطل أو رطلين أو ما لا يتلف مثله الدابة إذا زيد عليها فلا يضمن المكتري، وأما إذا زاد المكتري على الدابة ما يكون مثله يبهظها ويتلفها ضمن قيمة الدابة كلها.
قلت: فإن كان لما اكترى منه من بلد إلى بلد وصار في بعض الطريق ماتت الدابة، هل عليه أن يحمل حمل الرجل إلى الموضع الذي شارطه عليه بكرى أو شراء دابَّة أو غير ذلك؟
قال: إن كان الطريق آمناً فعليه أن يؤدي ما شارطه عليه إلى البلد الذي اكترى منه إليه، وإن كان البلد مخوفاً حاسب الحمَّال صاحب المتاع.
قلت: فإن أمن الطريق بعد ذلك بيوم أو شهر أو أقل أو أكثر، هل على الحمَّال أن يحمل ذلك للرجل إلى موضعه؟
قال: نعم إذا لم يكن صاحب الحمل قد حمله، وكانا جميعاً قارِّين في البلد.
قلت: فإن الجمَّال والمكتري اختلفا، فقال الجمَّال: أكريتك إلى مكة بعشرة دنانير، وقال المكتري: اكتريت منك بخمسة دنانير؟
قال: البينة على الجمَّال، واليمين على المكتري.
قلت: وكذلك إن اختلفا، فقال الجمَّال: أكريتك إلى الكوفة بعشرة، وقال المكتري: أكتريت منك إلى بغداد بسبعة دنانير؟
قال: البينة على الجمَّال.
قلت: وكذلك إن ماتت الدابة في بلد مخوف، وكان الطريق مخوفاً، فقال صاحب المتاع: لست آمن في هذا البلد، فاحمل لي متاعي إلى حيث اكتريت منك أو ردني من حيث جئت، فقال الجمَّال: البلد خائف أن أنقذك وأردك، ما يجب في ذلك؟
قال: قد قدمنا جواب ذلك، إذا كان البلد خائفاً لم ينبغ للجمَّال والمكتري أن يحملا أنفسهما على الغرر والتلف.
وسألته عما ينقص من الوزن أو الكيل مع الجمَّال، فيطالبه المكتري بما نقص معه(1) فيقول الجمَّال: هذا الذي حملتني، أو يقول: سُرق منه ولم أعلم، أو سُرق منه بعلمي ولم ألحق الذي سرقه، هل يكون الجمَّال ضامناً لذلك؟ (1/308)
قال: نعم يكون الجمَّال ضامناً لما نقص ممَّا يكال عليه أو يوزن.
باب القول في الحمار إذا اكتري
وسألته عن رجل اكترى حماراً من بلد إلى بلدٍ يوماً، فحبسه شهراً، كم يجب على المكتري لصاحب الحمار؟
قال: أجرة الشهر الذي حبسه، إلاَّ أن يكون منعه من رده خوف على نفسه أو معنىً لم يقدر أن يرده.
قلت: أرأيت إن كان في ذلك الشهر واقفاً أيعطيه أجرته وهو واقف أم أجرته وهو يعمل؟
قال: يجب عليه الأجرة إذا اكتراه يوماً في جميع ما أوقفه أو عمل عليه حتَّى يرده إلى صاحبه.
قلت: فإنه عطب؟
قال: إن كان عطب في حبسه الذي حبسه من غير خوفٍ ولا علَّةٍ مانعةٍ لرده ضمن ثمنه.
قلت: فإن اكترى حماراً فسُرِق الحمار أو السرج، هل يضمن المكتري؟
قال: لا يكون المكتري ضامناً، إلاَّ أن يتبين منه تضييع أو تعدٍّ.
باب القول في إجارة المحامل
وسألته عن رجل أكرى(2) عشرة محامل من بلدٍ إلى بلدٍ، أو عشرة أحمال ولم يكن عند المكري جمال، هل يجب على المكري الكرى؟
قال: لا، ذلك باطل.
قلت: ومن أين بطل؟
قال: لأنَّه أكرى جمالاً ليست عنده ولا في ملكه، فكان ذلك باطلاً؛ لأن الكراء مثل البيع، ألا ترى أن رجلاً لو باع قفيزاً من بُرٍّ وليس هو عنده ولا في ملكه أن البيع باطل، وأن المشتري إذا لم يرَ ما اشترى أنَّه بخيار النظر، وكذلك لو أتاه البائع ببرٍّ لم يرضه، أليس كان البيع فاسداً باطلاً.
قلت: ولِمَ يبطل وهو شبيهٌ بالسلم؟
__________
(1) ـ منه.
(2) ـ في نسخة (ب): اكترى من رجل.
قال: ليس هذا مثل السلم؛ لأن السلم إنَّما يسلم في برٍّ معروف بمكيال معروف، إلى أجل معروف، فيصح السلم بهذه الشروط وهذا البيع، فلم يكن له من هذه الشروط شيء، وكذلك الجمال ليس لها صفة معروفة ولا معنى معروف يصح به الكرى، ففسد الكرى من هذا المعنى. (1/309)
قلت: فإن المكري قال للمكتري: أكريك على عشرة محامل أو عشرة أحمال على أن أشتري جمالاً، هل يجب على المكري إذا شرط للمكتري هذا الشرط أن يشتري له جمالاً؟
قال: نعم، إذا رضي بذلك المكتري وكان المكري قد قال للمكتري: ليس عندي جمالاً وأنا أكريك على كذا وكذا حملاً بكذا وكذا على أن أشتري الجمال، فرضي المكتري بذلك، وجب على المكري أن يشتري الجمال غليت أو رخصت.
قلت: فإن قال المكري: ليس لي في هذا الكرى فضل؟
قال: لا يلتفت إلى قوله، وعليه أن يشتري الجمال.
قلت: فإنه لما أخذ الكرى وقبضه طلب جمالاً يشتريها فلم يجد جمالاً يشتريها، هل ينفسخ الكرى إذا لم يجد؟
قال: نعم.
قلت: ولأيِّ علَّةٍ ينفسخ الكرى إذا لم يجد؟
قال: لأن الجمال لم تكن عنده، وإنَّما قال له: أكريك على أن أشتري جمالاً، وقد علم المكتري أنَّه لم يكن عند المكري جمالاً فيقدم على معرفة، فلما لم يجد الجمَّال جمالاً انفسخ الكرى لما تقدم من علمه، وللشرط الذي كان تقدم من الجمال.
قلت: فإنه كان عند الجمَّال المكري عشرة أجمال، فأكرى ثلاثين جملاً لثلاثة أنفس، هل يجوز ذلك، أو يجب عليه أن يشتري تمام الثلاثين؟
قال: نعم، إذا كان عند المكري بعض الجمال فأكرى أكثر ممَّا عنده وجب عليه أن يشتري تمام ما أكرى.
قلت: فإنه أعدم أن يشتري تمام الجمال؟
قال: فالكرى واجب للذي اكترى أولاً.
قلت: وهل هو مُصَدَّق إذا قال: أكريت فلاناً أولاً؟
قال: لا، ولكن يسأل الحاكم الذين اكتروا أيهم اكترى أولاً، فإن ادعى كل واحد منهم أنَّه اكترى أولاً سأل عن(1) ذلك البينة، فمن أقام البينة منهم على أنه اكترى أولاً كان الكرى له. (1/310)
قلت: فإن التبس عليهم وقالوا: لا ندري أينا اكترى أولاً؟
قال: يرجع(2) إلى المكري فيستحلف(3) أي الأكرياء اكترى منه أولاً، فإن قال المكري: قد التبس عليَّ أيضاً ولا أدري أيهم أولاً، كان كرى العشرة الأجمال الَّتي عنده للجميع يحملون عليها.
قلت: فإن رجلاً أكرى جملاً لرجل فحمل له عليه حملاً فخرج الجمَّال ومعه جمله وعليه الحمل حتَّى صار في بعض الطريق فوقف الجمل أو مات، هل يجب على الجمَّال أن يكتري على الحمل حتَّى يبلغه إلى الموضع الذي اكترى منه إليه؟
قال: نعم.
قلت: فإن لم يجد الجمَّال في الموضع الذي وقف فيه الجمل من يكتري منه على الحمل، فترك الحمل في ذلك الموضع ومضى إلى بلد يكتري منه للحمل، فخالفه بعدما مضى قوم إلى الحمل فأخذوه، هل يجب على الجمَّال قيمة الحِمل؟
قال: إن كان الجمَّال مضى وترك الحِمل في موضع مخوف غير آمن من اللصوص فخولف بعد مضيه(4) من الموضع إلى الحِمل فأُخذ ضمن قيمة الحِمل.
قلت: فهل للجمَّال كراء الحمل إلى الموضع الذي أُخذ منه؟
قال: نعم.
قلت: فإن الجمَّال ترك الحمل في موضع آمن غير مخوف وعنده رجل استودعه إياه ثقة أمين، فلما مضى يريد أن يكتري للحمل خُولف إليه فأُخذ أو إلى الرجل فأُخذ من عنده، هل يضمن؟
قال: لا.
قلت: فلِمَ لا يضمن في هذا الموضع وهو مستأجر على الحمل وهو ضامن في الموضع الأول؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): على.
(2) ـ في نسخة (ب): رُجع.
(3) ـ في نسخة (ب): فاستُحلِف.
(4) ـ في نسخة (ب): ما مضى.
قال: لأنَّه مضى من الموضع الأول وهو مخوف، فكان مضيه غرراً وتلفاً للحمل فضمن لذلك ولا يضمن في هذا الموضع الآخر؛ لأنَّه ترك الحمل في موضع قد أمِنَ عليه واطمأنت نفسه إليه ومضى وهو فيما يجب عليه من كراء الحمل والصراح لصاحبه، فلما خولف إليه فأُخذ لم يضمن. (1/311)
قلت: فإن الجمَّال لما وقف الجملُ أو مات وجد من يكريه فاكترى من رجل على الحمل، فلما بلغه(1) إلى البلد نقص الحمل أو ذهب منه متاع؟
قال: صاحب الجمل مطالب للجمَّال الذي اكترى منه الجمال بما ذهب من الحمل، والجمَّال مطالب للجمَّال الآخر الذي اكترى منه الجمال بما ذهب من الحمل.
قلت: فإن الجمَّال الثاني الذي اكترى منه الجمَّال الأول قال: قد بلغت الحمل مسلماً كما دفعته إليه، فقال له الجمَّال الأول: دفعته إليك مسلماً على ما دفعه إليَّ صاحبه، على من البينة؟
قال: على الجمَّال الأول البينة أنَّه دفع الحمل إلى الجمَّال الثاني مسلماً، فإن لم يكن له بينة كان على الجمَّال الثاني اليمين.
قلت: فإن الجمَّال الأول قال لصاحب الحمل أيضاً: هكذا دفعته إليَّ، فقال له صاحب الحمل بما ادعى أنَّه كان في حمله: كذا وكذا رطلاً، أو كذا وكذا ثوباً، فإن لم يكن له بينة فاليمين على الجمَّال الذي اكترى منه صاحب الحمل.
باب القول في مخالفة المكتري
وسألته عن رجلٍ اكترى من رجل على حمل تمرٍ يحمله على جمل له، فحمل عليه حمل حديد أو حمل قطن مثل وزن حمل التمر فتلف الجمل، هل يضمن المكتري لمَّا حمَّل الحديد أو القطن مكان التمر؟
قال: إذا كان الذي حمَّل وزن التمر لم يضمن، إلاَّ أن يكون الجمل بكراً صغيراً لا يحتمل الحفى، فكان تلفه ممَّا حمَّل عليه ، فيضمن قيمة الجمل.
قلت: فإن رجلاً اكترى جملاً من مكة إلى المدينة بكذا وكذا، فجاز المكتري بالجمل المدينة بمنزل أو أقل أو أكثر، فتلف الجمل، هل يضمن المكتري قيمة الجمل؟
__________
(1) ـ في نخسة (ب): أبلغه.
قال: نعم، وقد قال غيرنا: إنَّه لا يجب عليه الكرى مع الضمان، ولسنا نلتفت إلى ذلك. (1/312)
قلت: فهل يلزمه الكرى مع قيمة الجمل؟
قال: نعم يلزمه الكرى من مكة إلى المدينة؛ لأنَّه لمَّا صار إلى المدينة وجب عليه الكرى، فلمَّا جاز المدينة وتلف الجمل ضمن قيمته بجوازه عن المدينة الَّتي اكترى إليها.
قلت: فإنه تلف في الموضع الذي اكترى إليه وهي المدينة، هل يضمن؟
قال: لا.
قلت: فإنه اكترى من مكة إلى المدينة جملاً، فركبه إلى بلد غير المدينة فتلف الجمل، هل يضمن المكتري قيمة الجمل؟
قال: نعم.
قلت: فيضمن الكرى مع القيمة؟
قال: لا؛ لأن هذا لم يقصد الموضع الذي اكترى إليه فضمن(1) القيمة ولم يضمن الكرى.
قلت: فإنه اكترى جملاً من مكة إلى المدينة على أن يركبه هو وحده، فأركب معه رديفاً فتلف الجمل دون المدينة، هل يضمن؟
قال: نعم إذا كان مثل الرديف الذي أردفه يتلفه.
قلت: فيضمن الكرى إلى الموضع الذي تلف فيه الجمل؟
قال: نعم.
باب القول في المحاملة على بعض الشيء الذي حمل
وسألته عن رجل معه جملٌ، فأتاه رجل فقال له: احمل لي هذا التمر أو البر أو الذرة إلى موضع كذا وكذا بنصفه أو بثلثه، فحمله الجمَّال فلما صار في بعض الطريق سُرق الحمل من الجمَّال؟
قال: يضمن قيمة نصف الحمل؛ لأن النصف الآخر كراؤه، فذهب منه وضمن النصف؛ لأنَّه المكتري منه عليه.
قلت: فهل للمكتري باقي الكرى من الموضع الذي أُخِذ فيه الحمل إلى الموضع الذي اكترى إليه؟
قال: نعم؛ لأن المكري إنَّما أكرى بنصف الحمل إلى البلد الذي اكترى منه إليه، فله من الكرى بقدر ما حمل، وعليه قيمة نصف الحمل كله.
باب القول في إجارة الظئير، وهي المرضعة
وسألته عن رجل استأجر ظئراً على ولد له ترضعه شهرين بدينارٍ، فسقته شهراً من لبن إبلٍ أو غنم أو بقرٍ، هل تنفسخ الإجارة؟
قال: المستأجر مخير، إن أراد أن يفسخ الإجارة فسخها.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فيضمن.
قلت: فإن فسخ الإجارة، هل للظئر قيمة اللبن الذي سقته الصبي؟ (1/313)
قال: نعم.
قلت: فإن أراد أن يعطيها قيمة اللبن ويبتدئ الإجارة للشهرن اللذين استأجرها، هل يجب له ذلك؟
قال: نعم، قد قدمنا أنَّه مخير في فسخ الإجارة وفي إثباتها.
قلت: فإن الظئر مرضت أو ماتت؟
قال: أما إذا مرضت فهو مخير أيضاً، إن أراد أن يصبر حتَّى تصح أو تموت فعل، وإن أراد أن يحاسبها عند مرضها ويفسخ الإجارة كان ذلك له، وأما إذا ماتت فله أن يرتجع على ورثتها بما بقي لها ممَّا دفع من الإجارة.
قلت: فإن الظئر لمَّا سقت الصبي لبن البقر أو الغنم أو الإبل مرض الصبي من ذلك أو مات، هل يجب عليها في ذلك شيء؟
قال: إن كان مرضه من اللبن الذي سقته فعليها صلاح الصبي ودواؤه حتَّى يبرأ.
قلت: فإن مات؟
قال: ينظر في ذلك، فإن كان هذا اللبن يتلف الصبيان بموت ـ وذلك معروف عند الناس ـ وجب عليها القود؛ لأنها قد تعمَّدت ذلك، إذا كانت المرضعات يعرفن أن الصبيان يتلفون من ذلك، وعُرف منها التعمُّد لما فعلت.
قلت: فإن ادعت أنَّها لم تعلم أن ذلك ممَّا يتلف الصبيان، وقال الناس: أما هذا اللبن فأكثر الصبيان يسلمون منه، فإذا قيل ذلك استحلفت ما تعمدت ثُمَّ كان عليها الدية.
قلت: عليها في نفسها أو على عاقلتها؟
قال: على العاقلة؛ لأن ذلك خطأٌ.
باب القول في خنوع الجمال أو المكتري
وسألته عن رجل اكترى من رجل جملاً من المدينة بدينارٍ على أن يحمِّله حملاً له من مكة بهذا الدينار، واشترط الحمَّال على المكتري أنَّه إذا وصل مكة فخنع به المكتري أو تركه ولم يحمله أن له عليه هذا الدينار، هل يجوز للجمَّال هذا الشرط، ويجب له هذا الكرى؟
قال: نعم؛ لأنَّه قد غره وقاد جمله إلى الموضع.
قلت: فإن كان الجمَّال هو الذي خنع بالمكتري لما وصل إلى مكة، وقد اشترط عليه المكتري أيضاً أنَّه إن خنع به فله عليه مثل أجرة الجمل، هل يجب أيضاً للمكتري هذا الشرط؟
قال: لا، هذا شرط باطل.
قلت: فما الفرق بين هذا والأول؟ (1/314)
قال: لأن المكتري في الأول غر الجمَّال حتَّى قاد جمله فلزمه الكرى عند ذلك، حمل عليه أو لم يحمل، إذا وقع الشرط على ذلك، وأما الجمَّال فلم نوجب عليه شيئاً؛ لأنَّه لم يحمل ولم يتلف شيئاً فيضمن، ولكن نوجب عليه الأدب بفعله وخنعه بصاحبه وقطيعته به.
قلت: فإن الجمَّال لما خنع بالمكتري أكرى بدينارين واكترى المكتري أيضاً بدينارين على الحمل الذي كان اكترى عليه منه بدينار، هل يجب للمكتري على الجمَّال شيء؟
قال: قد قدمنا أنَّه لا يجب عليه إلاَّ الأدب في ذلك، وإن قرَّبه المكتري إلى الحاكم حكم له عليه يحمل ما شرط له.
باب القول في إجارة الرجال
وسألته عن رجل اكترى رجلاً يذهب له بكتاب من بلدٍ إلى بلد يدفعه إلى فلان ويأتي بالجواب، فأخذ الرجل الكتاب ومضى به، فلما أتى المدينة وجد صاحب الكتاب غائباً فدفعه إلى ابنه أو إلى وكيله ورجع إلى المكتري، ما يجب له؟
قال: إن كان شرط على الذي دفع إليه الكتاب أن يرد إليه الجواب فلا أجرة له حتَّى يرد إليه الجواب، وإن لم يكن شرط ذلك عليه ودفعه إليه مُبهماً، فدفعه إلى ابنه أو إلى وكيله وجبت له الأجرة.
قلت: فإن كان المستأجر لما أخذ الكتاب فصار في بعض الطريق قُطع عليه فأُخِذ الكتاب منه فرجع إلى المستأجر، ما يجب له؟
قال: قد قدما جواب ذلك، إذا لم يوصل الكتاب فلا أجرة له.
وسألته عن رجل استأجر من رجل نفسه خمسة أشهرْ أولاها شهر كذا وآخرها شهر كذا بعشرة دنانير، على أن يدفع إليه أجرة كل شهر عند انقضائه، هل يجوز بهذا الشرط وتتم هذه الإجارة للمستأجر؟
قال: نعم.
قلت: فإن عمل المستأجر شهراً أو شهرين، ثُمَّ أراد أن يفسخ الإجارة أو أراد الذي استأجره أن يفسخ الإجارة، هل يجب لواحد منهما ذلك؟
قال: لا إذا كان العقد بينهما على أشهر معلومة جاز، وقد قال غيرنا: إن هذا لا يجوز؛ لأنَّه لما ذكر أجرة كل شهر عند انقضائه، ولم نلتفت إلى قولهم في ذلك، وإنَّما يبطل هذا لو كان استأجره على أن يدفع له في كل شهر كذا وكذا جلداً أو يحوك له كذا وكذا ثوباً؛ لأن هذا غرر يمكن ولا يمكن. (1/315)
قلت: فإن رجلاً استأجر حمَّالاً يحمل له قارورة دهن أو زق سمن، فانكسرت القارورة، هل يضمن الحمَّال؟
قال: نعم، لأنَّه مستأجر.
قلت: فيجب له من الكرى بقدر ما حمل؟
قال: نعم.
باب القول في إجارة الأداة
وسألته عن رجل يكتري من رجل آلةً مثل آلة الصائغ أو الحداد أو الحائك أو ما أشبه ذلك(1) من الآلات كل يوم بكذا وكذا، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم.
قلت: فإن اكترى شهراً بكذا وكذا على أن يأخذ منه أجرة كل يوم بكذا وكذا، هل يجوز؟
قال: نعم.
قلت: فإن صاحب الآلة قال للمستأجر: لست أدفع إليك هذه الآلة إلاَّ بضمان ما ذهب منها، هل يكون ذلك صحيحاً؟
قال: نعم، إذا ضمن المستأجر ذلك وشرط على نفسه ضمن ما ذهب من الآلة.
قلت: فإن صاحب الآلة اشترط عليه إن انكسر منها شيء كان المتستأجر أيضاً ضامناً، هل يجوز هذا الشرط؟
قال: لا، هذا شرط باطل.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه إما أكراه الآلة وهو يعلم أنَّه يعمل بها، والعمل فربما أتلف الآلة في كسر وغيره.
قلت: فإذا انقضت إجارة الآلة على من أجره ردها إلى صاحبها؟
قال: على المكتري أن يردها إلى صاحبها من حيث أخذها منه، إلاَّ أن يكون اشترط على صاحبها أن عليه حملها عند انقضاء الأجرة(2).
__________
(1) ـ في نسخة (ب): هذا.
(2) ـ في نسخة (ب): الإجارة.
وسألته عن رجل استأجر من جمَّال لنفسه على أن يحمله من بلد إلى بلد، فحمله الجمَّال ميلاً أو منزلاً أو ما أشبه ذلك، فلما نزلوا مضى المكتري يتطهر لصلاة أو يبول، أو في بعض حوائجه، ورحل الناس فرحل الجمَّال مع الناس وقد طلبه فلم يجده، فلما أتى البلد طالبه الجمَّال بالكرى، هل يجب له عليه شيء؟ (1/316)
قال: لا يجب له عليه شيء.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه كان يجب على الجمَّال انتظاره حتَّى يأتي من حيث كان، ويطلبه حتَّى يحمله؛ لأنَّه قد أوجب ذلك على نفسه بكرائه له، وإنَّما ذلك مثل الحمل الذي قد أكرى.
قلت: فإن كان الرجل المكتري هو الذي مضى وترك الحمَّال، وصح ذلك عليه، هل يجب عليه الكرى؟
قال: نعم؛ لأنَّه اكترى منه، ثُمَّ ذهب هو ولم يكن بسبب من الجمَّال فلزمه الكرى.
باب القول في إجارة العبيد
وسألته عن رجل استأجر عبداً من رجل سنة أولها كذا وآخرها كذا بكذا وكذا، وقبض صاحب العبد من المستأجر ربع الكرى أو ثلثه أو أقل أو أكثر، ودفع العبد إليه، فلما عمل العبد عنده ربع السنة أو ثلثها أراد مولى العبد أو المستأجر أن يفسخ الإجارة؟
قال: لا تنفسخ الإجارة إلاَّ أن يكونا اشترطا ذلك، إذا أراد أن يفسخا فسخا.
قلت: فإن المستأجر لما قبض العبد استخدمه بعض السنة، مرض العبد؟
قال: المستأجر مخير، إن أراد أن يصبر حتَّى يصح العبد فيعمل له، وإن أراد أن يحاسب سيد العبد على ما عمل له العبد فيرتجع إن كان له فضل على سيد العبد به.
قلت: فإن المستأجر لما قبض العبد عمل معه بعض السنة، ثُمَّ أبق العبد بقية السنة؟
قال: قد قدمنا الجواب، ليس العبد مثل الدابة، إذا أبق العبد أو مات فليس على صاحبه أن يستأجر باقي الذي أكرى العبد، وإنَّما عليه أن يحاسب بما عمل عنده ويأخذ أجرة ما عمل، ويرد الفضل إن كان عليه، ويأخذ الفضل إن كان له.
قلت: فإن المستأجر غاب بالعبد سنةً ثُمَّ أتى، فقال: أبق العبد مني ستة أشهر وعمل معي ستة أشهر، هل يُصدَّق، أم كيف يعمل في ذلك؟ (1/317)
قال: إن كان مولاه أذن له في السفر فعليه البينة فيما ادَّعى من إباق العبد أو موته، فإن أقام البينة فلا ضمان عليه، وإن لم يأت ببينة ضمن قيمة العبد.
وسألته عن رجل استأجر من رجل عبداً سنةً بكذا وكذا، ثُمَّ أجره بأكثرمن ذلك، أيجوز ذلك؟
قال: لا يجوز، إلاَّ أن يكون اشترط المستأجر أنَّه يكري العبد ويوجهه حيث شاء ويعمل به ما شاء، وإن لم يشترط ضمن.
باب القول في إجارة الحمير
وسألته عن رجل اكترى حماراً من رجل من المدينة إلى السيالة بكذا وكذا درهماً، فلما كان في بعض الطريق وقف الحمار، فتركه المكتري ومضى، فمات الحمار أو سُرق، هل يضمن المكتري؟
قال: إن كان مضى من خوف كان في الطريق، إن أقام خاف على نفسه وما معه أن ينقطع من سفره لم يضمن، وإن كان لمَّا وقف الحمار تركه ومضى والطريق آمن ولم يخف على نفسه تلفاً فمات الحمار أو سرق ضمن؛ لأنَّه هو أتلفه.
قلت: فإنه استودعه أنساناً فمات أو سُرق، هل يضمن المكتري؟
قال: قد قدمنا الجواب، إن كان استودعه من خوف الطريق وبادر فتلف لم يضمن.
قلت: فإنه لما وقف الحمار تركه المكتري عند رجل وأمره أن يعلفه، على من يكون العلف؟
قال: إن كان شارطه المكتري لمَّا اكترى الحمار أن يعلفه فالعلف عليه حتَّى يرده إلى صاحبه، وإن كان لم يشارطه على علفه فالعلف على صاحبه، وقد قال غيرنا: إن العلف على صاحبه على كل معنى، وقال: إن اشتراط العلف غرر.
باب القول في كرى الإبل
قلت: فإن رجلاً اكترى من رجل إبلاً من المدينة إلى مكة بعشرة دنانير على أن يسير به من المدينة إلى مكة ستاً أو سبعاً، فسار به عشراً أو أكثر، كيف العمل في ذلك؟
قال: إن كان وقع الشرط على سير ست فسار عشراً، نظر إلى كراء مثله على السير الذي سار فيدفع إليه؛ لأنَّه قد غر المكتري.
باب القول في البريد
قلت: وكذلك البريد والأجير؟ (1/318)
قال: كذلك الجواب كالأول.
وسألته عن رجل اكترى من رجل عشرة محامل من بلد إلى بلد وقبض بعض الكرى أو لم يقبض، فقال المكتري: لست أجد إبلاً أشتريها إلاَّ غالية ليس لي فيها فضل، ما يجب عليه للمكتري؟
قال: إن كان أكراه وليس عنده جمال فذلك باطل، وإن كان أكراه وعنده جمال لم يلتفت إلى قول المكري، وعليه أن يحمل الرجل إلى حيث أكراه، كان له في ذلك فضل أو لم يكن له.
قلت: فما تقول فيه إن أكراه إبلاً بأعيانها، ثُمَّ قال: إنَّما هي لفلان، أو أعار(1) عليها فباعها، فوجدها المكتري عند المشتري؟
قال: إن كان باعها فذلك بيع باطل؛ لأنَّه لا يجوز بيع ما أكرى من الإبل حتَّى تنقضي الإجارة ويحمل الرجل إلى حيث أكراه، وإن ادعى أنَّها لغيره طولب بما قال حتَّى يوضح عليه، فإن صح الذي قال: إنها لغيره، انفسخت الإجارة؛ لأنَّه أكرى ما لا يملك.
وسألته عن رجل اكترى من رجل داراً عشر سنين ودفع إليه الكرى كله ثُمَّ أفلس أو مات، هل تنفسخ الإجارة؟
قال: لا تنفسخ الإجارة بموت ولا إفلاس.
قلت: فيجب للمكتري على ورثة المكري أن يتركوه في الدار حتَّى تنقضي السنون؟
قال: نعم.
قلت: فإن الدار انهدمت؟
قال: يؤخذ المكري ببنائها، ولا يفسخ الإجارة أيضاً هدمها.
قلت: فإن المكري بناها، هل للمكتري أن يعود فيها أم قد انفسخ الكرى الذي بين المكتري وبينه؟
قال: للمكتري أن يعود فيها حتَّى تنقضي إجارته.
وسالته عن رجل اكترى دابة، هل يجوز أن يكريها بأكثر ممَّا اكتراها به إلى البلد الذي اكتراها إليه؟
قال: لا يجوز، إلاَّ أن يكون المكتري اشترط ذلك، وإن لم يشترط كان ضامناً لها لو تلفت.
باب القول في إجارة الحائك والبنَّاء
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أو أغار.
وسألته عن رجل يدفع إلى حائك غزلاً على أن يعمله له عشرة أذرع، وقاطعه على الكرى، ودفع إليه الغزل والكرى، فلما كان بعد أيام بدا لصاحب الغزل في عمله، فقال للحائك: رد عليَّ غزلي ودراهمي، فقد بدا لي أن أعمله، فقال له الحائك: قد أنفقت دراهمك، وأنا أعمل لك ثوبك، هل يلزم الحائك رد الدراهم والغزل؟ (1/319)
قال: نعم.
(قلت(1): وكيف يلزم وقد انقطع الشرط بينهما؟
قال: ألزمناه ذلك؛ لأنَّه لم يعمل منه شيئاً ولم يكن على الحائك في رد الغزل والدراهم ضرر، وليس هذا مثل الجمال لا هما على شرطهما إلاَّ أن يتسامحا في ذلك وتطيب نفس الحائك بما طلب منه؟
قال: وهذا مثل الجمَّال والمكتري، الذي أوجبنا عليهما وفاء ما تشارطا عليه(2)؛ لأن أولئك مسافرون)، فإذا عقدا بينهما شيئاً وجب عليهما؛ لأن خنوع أحدهما بصاحبه ضرر وقطع عن السفر، ولا يجوز الضرر بين المسلمين، فافهم التمييز بين ذلك إن شاء الله.
قلت: فإن الرجل لما دفع الغزل والدراهم إلى الحائك قال أيضاً الحائك بعد أيام: قد بدا لي في عملك، فلست أعمله؟
قال: ليس ذلك له، ويجب عليه أن يعمل الثوب لصاحبه؛ لأنَّه قد غره حيث أخذه منه، أن يكون دفع للرجل ثوبه إلى غيره يعمله له.
قلت: وكذلك البنَّاء على هذا المثال؟
قال: نعم.
قلت: فإن الحائك عمل بعض الثوب، ثُمَّ بدا لصاحب الثوب في عمله، أو أبى الحائك أيضاً أن يتمه، وكذلك البنَّاء إن بنى بعض الجدار ثُمَّ أبى أن يتمه، أو بدا لصاحب الجدار أيضاً أن يعمله؟
قال: لا بد من إتمام الجدار والثوب إذا كان قد عمل منهما شيء.
باب القول في الضمان
__________
(1) ـ قال في الأم ظ: هذا الملحق غلط. وفي نسخة (ب) قال: لا هما على شرطهما إلاَّ أن يتسامحا في ذلك وتطيب نفس الحائك بما طلب منه... إلى آخر الكلام، وكلمة نعم، غير موجودة، والملحق غير موجود، فليحقق الملحق من قوله: قلت إلى فليس هذا مثل الجمال، وهذا زيادة إيضاح.
(2) ـ قال في الأم ظ: الزيادة ضعيفة.
وسألته عن الدواب إذا أُهملت في المراعي فنطح بعضها بعضاً أو عضَّ بعضها بعضاً، هل يضمن صاحب الدابة الَّتي نطحت أو الَّتي عضَّت؟ (1/320)
قال: إن كانت هذه الدابة قد عُرفت بالنطح والعضِّ ثُمَّ أرسلها صاحبها وقد عرف ذلك منها، فنطحت أو عضَّت ضمن صاحبها، إلاَّ أن تكون الدابة في ملك صاحبها فتأتي إليها دابة فتدخل إليها في ملك صاحبها فنطحتها(1)، فإذا كان ذلك كذلك لم يكن صاحبها ضامناً.
قلت: فإن لم تكن هذه الدابة قد عُرِفت بالنطح قبل ذلك، ثُمَّ تناطحت الدواب فنطح بعضها بعضاً، فماتت واحدة منهن؟
قال: إذا كان ذلك كذلك لم يكن صاحبها ضامناً؛ لأن هذه الَّتي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <العجماء جبار>؟
قلت: وما معنى قوله: <جبار>؟
قال: هدر لا يلزم(2) فعلها، ولا ضمان على صاحبها.
باب القول في ضمان العبد الآبق
وسألته عن رجل اشترى من رجل عبداً أو أمةً، ولم يشترط البائع على المشتري أنَّه آبق، فمكث العبد عند المشتري أيَّاماً ثُمَّ أبق، فطالب المشتري البائع بالعبد، فقال: لم يأبق العبد عندي، فأثبت المشتري شاهدين أن العبد أبق عند البائع، هل يكون البائع ضامناً لثمن العبد؟
قال: نعم؛ لأنَّه باعه عبداً آبقاً وغره في ذلك فلزمه الضمان لثمنه.
باب القول في الرجل يشتري من الرجل نصف جلود في مدبغة أو نصف عبد أو نصف دابة
وسألته عن رجل اشترى نصف عشرة أجلاد في مدبغة، والجلود مقسومة نصفين نصفين ليست تفاوت، فذهب منها جلدان أو أكثر، هل يصح أصل هذا البيع؟
قال: إن كان هذا المشتري نظر إلى جميع هذه الجلود وقلبها ثبتت عقدة البيع، وإن كان لم ينظر إليها عند شرائه بطل البيع ولم يثبت.
قلت: فإن كان المشتري قد نظر إلى الجلود جميعاً واشترى نصفها فلم يَقبضه ولم يُقبضه البائع، ثُمَّ ذهب من الجلود جلد أو أكثر، هل يكون ضامناً لما ذهب؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فتنطحها.
(2) ـ في نخسة (ب): لا يلزمه.
قال: نعم هو ضامن لما ذهب؛ لأنَّه لم يُقبضه ما باعه. (1/321)
قلت: فإنه اشترى نصف جارية أو نصف عبدٍ أو نصف دابة وقبض البائع الثمن، ثُمَّ ذهبت الجارية أو الدابة، هل يكون البائع ضامناً للنصف الذي اشترى منه المشتري؟
قال: لا يكن ضامناً.
قلت: فكيف ضمنته في نصف الجلود ولم تضمنه نصف الدابة؟
قال: لأن قبض نصف الجلود مُستَدرَكٌ يمكن قبض نصفه ونصف الدابة، والعبد لا يمكن قبض نصفه، إلاَّ بالنظر والرضى، ولو لم يَجُز ذلك لم يجز بيع سهمٍ مشاعٍ من دارٍ في جميعها أو في أرض أو فيما أشبه ذلك، وليس بين الأمة اختلاف في بيع نصف الدار ونصف العبد والجارية والدابة وما أشبه ذلك، فافهم الفرق في ذلك.
باب القول في الاستقالة في الدابة والجارية
قلت: فإن مشتري الدابة أو الجارية استقال البائع، فقال له البائع: إن أخرتني بالثمن إلى شهرٍ أو أقل أو أكثر أقلتك، هل يجوز هذا الشرط في الاستقالة؟
قال: لا.
قلت: فإن البائع أقاله على هذا التأخير الذي شرط له، ثُمَّ طالبه بعد ذلك بالثمن الذي أخره به؟
قال: يحكم على البائع(1) بالثمن بعد هذا الشرط الذي شرط للمشتري من تأخير الثمن.
باب القول في الرجل يدفع إلى رجل جملاً يرعاه على سهم
وسألته عن رجل دفع إلى رجل جملاً يرعاه على ثلثه أو ربعه، فذهب الجمل من المرعى، هل يكون المستأجر بثلثه ضامناً لثلثي الجمل؟
قال: إذا كان ذهاب الجمل بتقصير المستأجر عليه ضمن، وإن لم يكن ذهاب الجمل بتقصير منه لم يضمن.
قلت: وكيف يكون التقصير من المستأجر في مثل هذا؟
قال: إهماله في موضع مخوف، أو يرسله في موضع ولا يتفقده ولا يحفظه فيكون بذلك مقصِّراً.
قلت: فإن اختلفا، فقال صاحب الجمل: قد قصرت، وقال المستأجر: لم أقصر، على مَن البينة؟
قال: على المدعي وهو صاحب الجمل، وعلى المستأجر اليمين؛ لأنَّه المنكر.
باب القول في الإجارات أيضاً
__________
(1) ـ في نسة (ب): للبائع.
وسألته عن رجل استأجر رجلاً يحفر له بئراً بدينارٍ حتَّى يخرج الماء، هل يجوز ذلك؟ (1/322)
قال: هذا باطل، لا يجوز؛ لأن خروج الماء من الأرض متفاوت.
قلت: فكيف تصح الإجارة في ذلك؟
قال: يستأجره إذا أراد كذا وكذا ذراعاً بدينار، فهذا أصح ما يُستَأجَر في الآبار.
باب القول في الرجل يكتري من الرجل من بلد إلى بلد يحمل له على دوابه
وسألته عن رجل اكترى من رجل يحمل له ألف رطل على دوابه من المدينة إلى مكة، ويحمل له من مكة أو من عرفات أو من قرن أو من جدة ألف رطل إلى المدينة راجعاً، وذلك كله في مصعده ومنحدره بعشرة دنانير، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم.
قلت: وكيف يجوز وقد شرط من ثلاث قرى متباعد ما بينها في المسافة؟
قال: لأن المكتري قد سمَّى القرى بأسمائها وهي معروفة وما بينها من المسافة، فلذلك صح الكرى.
قلت: فإن كان المكتري اكترى على هذه الألف رطلاً، ولم يكن عنده أحمال، هل يجوز له الكرى؟
قال: نعم، ذلك له؛ لأنَّه وإن لم يكن عنده أحمال وقت ما اكترى فقد يجوز أن يشتري ما شارط عليه من الأرطال، ويحملها إذا كان الشرط وقع على أشياء معروفة مثل البر أو التمر أو القطن أو ما أشبه ذلك.
قلت: فإن المكتري أراد أن يكتري على هذه الأرطال من غيره بأكثر ممَّا اكترى به منه، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم إذا وقع ذلك في الشرط.
قلت: فإنه لم يشترط ذلك، هل له أن يكتري من غيره على هذه الألف؟
قال: نعم.
قلت: وكيف ولم يشترط ذلك؟
قال: أرأيت لو أن هذا المكتري اكترى على هذه الألف بكذا وكذا، ثُمَّ أتاه رجل فقال له: ولَّنِي ما اكتريت حتَّى أحمله أنا على الجمال ففعل أليس كان ذلك له؟
قلت: بلى.
قال: فإذا ولاَّه غيره وجاز له ذلك جاز أيضاً للجمَّال أن يكتري على حمولة الرجل من غيره.
قلت: فإن المكتري لما اكترى على هذه الألف رطل لم يذكر شيئاً بعينه يحمله، هل يفسد هذا الكرى؟
قال: لا.
قلت ولِمَ وهذا مجهول، لو اختفا فيما يحمل من الجفا وغيره؟
قال: إذا اختلفا فيما يجفو على الإبل وما لا يجفو وجب على الجمَّال أن يحمل ما لا يجفو ولا يعنت دوابه، ولم يبطل الكرى. (1/323)
قلت: زدني فيما يثبت به الكرى في مثل هذا المعنى؟
قال: نعم إن شاء الله، إذا أكرى هذه الجمال هذا الرجل على ألف رطل يحملها له من مكة إلى المدينة فلم يجد المكتري ما يحمله على الجمال أوجبنا على المكتري أن يحمل على الجمال بكرى يكريه المكتري من غيره، فإن لم يقدر حمل على الجمال ولو تراباً، ووجب عليه الكرى، فافهم ذلك فلك فيه كفاية.
باب القول في الرجل يدفع إلى الرجل دابة يعمل عليها بالثلث أو الربع
وسألته عن الرجل يدفع إلى الرجل بعيراً أو حماراً فيقول له: اكتسب على هذا أو حش عليه أو أكره وما أشبه ذلك، بثلث ما تكسبه عليه، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، هذا جائز، وهذا لم يزل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي المخاشنة.
قلت: وكذلك لو أنَّه دفع إليه فرساً يجاهد عليه بثلث ما يغنم؟
قال: ذلك أيضاً جائز.
باب ضمان الخاتن
وسألته عن رجل دعا حجاماً إلى ابنه يختنه، فقطع الحجام بعض الحشفة؟
قال: عليه الضمان.
قلت: وكذلك لو مات؟
قال: نعم، يكون ضامناً، إلاَّ أن يتبرأ.
قلت: وكذلك إن لم يشترط الجعل ولم يتبرأ؟
قال: يضمن أيضاً.
قلت: فالدية على عاقلته؟
قال: نعم، إلاَّ أن يتبين منه تعمد.
المتطبب والحجَّام والمداوي
وسألته عن المتطبب والحجَّام والمداوي، هل عليهم ضمان؟
قال: نعم، الضمان عليهم إلاَّ أن يتبرأوا، فإن تبرأوا سقط عنهم الضمان.
قلت: فإنهم لم يتبراوا؟
قال: يكونون ضامنين لما أعنتوا.
قلت: فيكون ذلك على عواقلهم أو عليهم في أنفسهم؟
قال: على عواقلهم، إلاَّ أن يتبين منهم تعمد فيكون في أموالهم.
قلت: فإنهم لم يشترطوا الأجرة ولم يتبرأوا؟
قال: يضمنون أيضاً.
قلت: فإنهم مماليك، فأعنتوا وقد علم الذي استأجرهم أنهم مماليك أو لم يعلم؟
قال: إذا كان مواليهم هم الذين أذنوا لهم في هذه الصناعات وأطلقوا لهم في العمل للناس كانت جناياتهم على مواليهم؛ لأن العبد المأذون له في التجارة والصناعة جنايته على مولاه. (1/324)
قلت: فإن العبد أطلقه مولاه في صناعة بعينها مثل الحياكة أو ما أشبهها، ثُمَّ دايَن العبدُ في غير صناعته فأفلس؟
قال: إن كانت تلك الصناعة تجر إلى المداينة الَّتي داين؛ لأنَّه لا بد للعبد في مثل الصناعة من المداينة والمبايعة وما أشبه ذلك فهو مثل المأذون له في التجارة، وما لزمه فهو على مولاه، إن كان حبسه مولاه وأطلقه في صناعةٍ بعينها فداين العبد فيما لا تحتاج إليه تلك الصناعة فهو مثل العبد المحجور عليه، فما جنى أو أفلس به فهو على نفسه يطالب به إذا أُعتق(1).
قلت: فهل يحبس العبد فيما أفلس به لصاحب الدين؟
قال: لا، لأن المحجور عليه إذا حبس أضرَّ ذلك بمولاه، وإنَّما الذي داينه أعنت نفسه.
باب القول في الحائك إذا عمل فزاد أو نقص ممَّا شورط عليه
وسألته عن رجل دفع إلى حائك غزلاً، وشارطه على الأجرة على أن يعمل له شقة اثني عشر ذراعاً، فعملها الحائك عشرة أذرع؟
قال: على الحائك أن يتم ما شارطه عليه من عمله، فيعمل له خرقة ذراعين.
قلت: فإن كان صاحب الشقة أراد أن يقطعها ثوباً فنقصت عن الثوب؟
قال: يضمن الحائك قيمة الغزل ويرد الأجرة، أو يعمل لصاحبه ما أراد.
قلت: فإن صاحب الشقة دفع إلى الحائك غزلاً، وشارطه على الجعل على أن يعمل له عشرة أذرع، فعمل اثني عشر ذراعاً؟
قال: على صاحب الشقة أجرة عشرة، ويبطل عمل الذراعين؛ لأن الحائك متبرع بذلك.
قلت: فإن الرجل ادَّعى أن الحائك أبدل الغزل؟
قال: القول قول الحائك مع يمينه.
قلت: فإن الرجل لما دفع غزله إلى الحائك نُقِبَ بيت الحائك، فأُخذ غزلُ الرجل وغيره من غزول الناس؟
قال: يضمن الحائك.
قلت: فإنه وقع في بيت الحائك نار فاحترق البيت وما فيه؟
قال: لا يكن الحائك في ذلك ضامناً؟
__________
(1) ـ فأعتق.
قلت: فلأيِّ علةٍ ضمنت الحائك في النقب ولم تضمنه إذا احترق بيته؟ (1/325)
قال: لأنَّه قد كان يقدر يحترز من النقب، ولم يكن له في النار حيلة.
باب الخياط
وسألته عن رجل دفع إلى خياطٍ ثوباً يقطعه له قميصاً، فقطعه قباً، فقال صاحب الثوب: أمرتك بقميص، وقال الخياط: أمترتني بقباً، على مَن البينة؟
قال: على صاحب الثوب، واليمين على الخياط.
وسألته عن رجل أتى الخياط بثوب، فقال: إن كان هذا الثوب يكفيني قميصاً فاقطعه، فقال الخياط: نعم، ولم يقل له شيئاً، فقطعه فعجز، هل يضمن بفضلته(1) أم لا؟
قال: لا يضمن، وليس عليه أكثر من اليمين أنَّه ما تعمد ضرراً لمن قطع له اجتراراً بذلك منفعة نفسه.
قلت: فإن دفع ثوباً إلى خياط فقطعه ثُمَّ اعترفه رجل وصح عليه، فأخذه، على مَن أُجرته؟
قال: على الذي دفعه أجرة الخياط.
باب الصِّباغ
وسألته عن رجل دفع إلى صبَّاغ ثوباً يصبغه له أحمر، فصبغه أسود وقد شارط على أجره؟
قال: إن أحب صاحبه أن يأخذه أخذه، وإن أحب أخذ قيمته أبيض.
قلت: فإن كان صاحب الثوب لم يشارط الصباغ على الثوب ولم يعرف كراه، وإنَّما دفعه إليه، فقال له: إصبغ لي ثوبي هذا، فإذا فرغت منه دفعت إليك كراه، فصبغ الثوب غير اللون الذي قال له، ما يجب في ذلك؟
قال: وكذلك يكون ضامناً، وليس ترك المشارطة في الكرى ممَّا يبطل عنه الضمان.
قلت: فإنه لمَّا دفع إليه الثوب وشارطه على الأجرة، نُقِب بيت الصَّباغ فأُخذ الثوب وحده ولم يؤخذ شيء غيره؟
قال: وكذلك أيضاً يكون ضامناً، ولا يُنظر إلى نقب البيت.
قلت: وكذلك لو أُخذ الثوب، وكل ما في بيت الصَّباغ؟
قال: وكذلك أيضاً يكون ضامناً وهو آكد الضمان.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): لفضلته.
وسألته عن رجل دفع إلى الصبَّاغ ثوباً يصبغه له لون كذا وكذا بدرهم، فصبغه الصَّباغ ذلك اللَّون أشبع ممَّا قال له صاحب الثوب صبغاً(1) يساوي ثلاثة دراهم، فقال صاحب الثوب: أمرتك بدرهم فتعديت وعملت بثلاثة؟ (1/326)
قال: الصباغ متبرع، وليس على صاحب الثوب في زيادة الصبغ شيء، إلاَّ أن يكون صاحب الثوب قال للصباغ: اصبغ لي لون كذا وكذا بدرهم، وكان اللون الذي وصفه صاحب الثوب لا يصبغ مثله بدرهم، فإذا صبغ الصباغ ذلك اللون الذي وصفه صاحب الثوب كان عليه قيمة الصبغ، ولم يلتفت إلى قوله: بدرهم.
قلت: فإن الصَّباغ قال: أمرتني أصبغ لك الثوب بثلاثة، وقال صاحب الثوب: أمرتك بدرهم؟
قال: البينة على الصَّباغ، واليمين على صاحب الثوب.
قلت: فإن صاحب الثوب قال للصباغ: اصبغ لي هذا بدرهم، فعلَّقه الصباغ على عود أو غيره، فسقط في الصبغ بعينه فاصطبغ صباغاً يساوي أربعة دراهم، أو وقع في الصبغ غير الصبغ الذي أمره به، فقال صاحب الثوب: لم آمرك بهذا الصبغ، وقال الصباغ: إنَّما علَّقته(2) فسقط فيه، ما يجب في ذلك؟
قال: إذا سقط في الصبغ بعينه فليس على صاحب الثوب في زيادة الصبغ شيء؛ لأن الصباغ علقه، وإن وقع في غير الصبغ فصاحب الثوب مخير، إن أحب أن يأخذ ثوبه أخذه، وإن أحب قيمته أبيض أخذه.
وسألته عن الدار يكون فيها سكان ومعهم دواب فيفلت بعض الدواب فيدخل بيت أحد السكان فيأكل له طعاماً، هل يلزم صاحب الدابة شيء؟
قال: إذا كان ذلك بالنهار فلا شيء عليه؛ لأن على أصحاب الدواب ضبطها بالليل، فما أكلت ضمن، وعلى صاحب البيت أن يحفظ بيته بالنهار؛ لأن الدواب تُهمل بالنهار، فإذا أفسدت زرعاً أو أكلت شيئاً فلا شيء على صاحبها، إلاَّ أن يتعمد ذلك تعمداً.
باب ضمان صاحب الحمَّام
وسألته عن صاحب الحمَّام، هل يكون ضامناً لما ذهب من الثياب من حمَّامه؟
قال: نعم.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): شبعاً.
(2) ـ في نسخة (ب): علقه.
قلت: فإن صاحب الحمَّام قال: إنَّما أعطيتني الأجرة لدخولك الحمام، ولم تعطنيها على ضمان الثياب، وإنَّما أنا مؤتمن؟ (1/327)
قال: لا يلتفت إلى قوله، وهو ضامن، وإنَّما يضع(1) الرجل الثياب عنده ليحفظها إذا دخل.
قلت: فإن ادعى صاحب الثياب أنَّه كان في ثيابه دنانير أو دراهم، وقال صاحب الحمَّام: لم تعلمني بها، ولم أعلم أنَّه كان في ثيابك شيء؟
قال: على صاحب الثياب البينة بما كان في ثيابه، وعلى صاحب الحمَّام اليمين.
قلت: فإن اختلف صاحب الثياب والحمَّامي، فقال صاحب الثياب: ثيابي تساوي عشرة دنانير، وقال صاحب الحمَّام: ليست ثيابك تساوي هذا؟
قال: البينة على صاحب الثياب؛ لأنَّه مُدَّعٍ، واليمين على صاحب الحمَّام أيضاً.
باب الرَّاعي
وسألته عن الرَّاعي الذي يكون معه الإبل أو الغنم أو غير ذلك من الحيوان، هل يكون ضامناً لما ذهب منه؟
قال: إن كان منه سبب يبين فيه التفريط لزمه ما ذهب منه، وأما ما أخذه الذئب أو اللصوص منه عنوة فلا ضمان عليه.
قلت: وكذلك إن أُخذ من الرَّاعي عنوة وقسراً(2)؟
قال: لا يلزمه فيه ضمان، هذا خلاف لما فرط فيه.
قلت: وكذلك إن أكل الشاةَ الذئبُ وعرف ذلك، أو فَرس السبعُ الجملَ أو الحيوان، وأتى الراعي بالذَنَب أو ببعض الجلد أو شيء من الحيوان يعرفه صاحبه أو يقيم الراعي به البينة؟
قال: قد قدمنا جواب ذلك.
ضمان أهل الصناعات
وسألته عن الحائك والصانع والغسال وأهل الصناعات، هل عليهم ضمان فيما أعنتوا أو ذهب منهم؟
قال: نعم، هم ضامنون.
قلت: فإن اختلف الصانع وصاحب الشيء، فقال صاحبه: هو يساوي كذا وكذا، وقال الصانع: لا يساوي ما قلت؟
قال: القول قول الصانع مع يمينه، والبينة على صاحب الشيء.
في أجرة الصائح
قلت: فإن رجلاً دفع ثوباً إلى منادٍ فقال له المنادي: إن بعت هذا الثوب فلي كذا وكذا، وإن لم أبعه فلي كذا وكذا؟
فقال: هذا شرط صحيح.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): وضع.
(2) ـ في نسخة (ب): وقهراً.
قلت: فإن الثوب ذهب من المنادي، هل يكون ضامناً؟ (1/328)
قال: نعم.
قلت: فإن لم يكن المنادي شارط صاحب الثوب، ولكن صاحب الثوب دفعه إليه على أن يبيعه، وقد علما جميعاً أن للمنادي فيه إذا باعه أجرة، فذهب الثوب؟
قال: إذا كان مثل أجرة ذلك الثوب معلومةً معروفةً ضمن المنادي، وإن لم يكن أوقع شرطاً على الجعل، وكذلك كل أهل الصنائع، إذا دفع إليهم صناعة فهم ضامنون، وإن لم يقع شرط إذا كانت الإجارة معروفة عند أهل صنائعهم.
قلت: فإن رجلاً استحق ثوباً عند خياط وقد قطعه وخاطه لرجل؟
قال: يأخذه صاحبه ويرتجع للمشتري على من باعه الثوب بالثمن.
قلت: فإن لم يجد المشتري الذي باعه؟
قال: يأخذه صاحبه إذا صح(1) له به البينة.
قلت: فأجرة الخياط؟
قال: على الذي قطع الثوب؛ لأنَّه الذي دفعه إلى الخياط، فأجرته عليه.
باب الدابة تقع في الزرع
وسألته عن رجل له زرع أو كرم أو غير ذلك ممَّا يكون في الأرض مثل قثّاً أو بطيخاً أو لوبياء أو باقلاء، فوقعت فيه دابة، حمار أو جمل أو بغل أو فرس أو ثور، فأفسدت في ذلك وأكلت منه، وذلك بالنهار، ما يجب في ذلك؟
قال: لا يكون صاحب الدابة ضامناً؛ لأن على أهل الزرع حفظه بالنهار.
قلت: فإن كان(2) هذه الدابة وقعت في هذه الأرض بالليل فأفسدت، ما يجب في ذلك؟
قال: يكون صاحب الدابة ضامناً لما أفسدت دابته؛ لأن على أهل الدواب حفظها بالليل، فإذا تركها صاحبها ضمن ما أفسدت.
قلت: فإن الذي له الزرع ضرب الدابة فقتلها؟
قال: يضمن ثمنها؛ لأنَّه لا سلطان له على الدابة، وإنَّما سلطانه على صاحبها فيغرمه ما أفسدت دابته.
قلت: فإنه لم يقتلها ولكنه قطع أذنها أو أعنت رجلها أو فقأ عينها؟
قال: وكذلك يكون لجميع ذلك ضامناً.
قلت: إن كان ذلك ليلاً أو نهاراً؟
قال: نعم، الأمر في ذلك واحد.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): وضح.
(2) ـ في نسخة (ب): كانت.
قلت: فإن هذه الدابة لما وقعت في هذا الزرع فأفسدته حبسها ولم يضربها يوماً أو يومين، فماتت أو حدث بها حدث غير الموت من أكل سبع بغير علم صاحب الزرع، ثُمَّ وجدت مفروسة أو ميتة في زرع الرجل، فأقر بحبسها وأنكر قتلها، ولم يكن بينة لواحد منهما؟ (1/329)
قال: إن كان حبسها ليلة الذي وجدها في زرعه فماتت في تلك الليلة أو فرست فلا ضمان عليه، وإن كانت ماتت بعد يوم أو يومين ضمن؛ لأنَّه لم يكن ينبغي له حبسها أكثر من ليلته تلك.
قلت: فإن صاحب الزرع لما حبس الدابة سُرقت من الموضع الذي حبسها فيه فذهبت، ما يجب في ذلك؟
قال: إن كانت(1) في ليلتها الَّتي حبسها فيها لم يكن ضامناً، وإن كانت(2) بعد ذلك بأيام فإنما جاء العنت من قبله فعليه الضمان.
باب العبد الآبق
قلت: وكذلك العبد إذا أبق من صاحبه، فوجده رجل فأخذه فحبسه عنده يوماً أو يومين أو أقل أو أكثر، وذلك لطلب ما يأخذ من صاحبه من فداء، فأبق العبد أيضاً من الحابس أو سُرق منه أو مات، ما يجب في ذلك؟
قال: إذا كان ذلك في بلد يتعارفون بينهم أن يأخذوا العبيد فلا(3) يردوهم حتَّى يأخذوا فيهم فدية، فلا ضمان فيه على من أخذه.
قلت: فإن الرجل لما أخذ العبد الآبق عرف صاحبه فوجَّه به مع مملوكه أو أجيره أو رجل وثق به إلى صاحبه، ففر العبد من ذلك الموجه به معه، ما يجب في ذلك؟
قال: غرر في ذلك، عليه الضمان.
قلت: فإن الرجل الذي أخذ العبد ووجه به إلى رجل آخر، فقال له: إن هذا العبد لفلان أبق منه فوجه به إليه، فحبسه الرجل يوماً أو يومين أو ثلاثاً ففر العبد منه أو سُرق، وكذلك لو وجه به ففر أو سُرق؟
قال: هذا كله غرر وعليه الضمان.
باب ضمان أهل الصناعات إذا علموا على ربع أو ثلث أو نصف
ثُمَّ هلك الشيء في أيديهم
__________
(1) ـ في نسخة (ب): كان.
(2) ـ في نسخة (ب): كان.
(3) ـ في نسخة (ب): ولا يردونهم.
وسألته عن الرجل يدفع إلى الرجل جلداً أو أديماً، فيقول له: ادبغ لي هذا بربعه، أو يقول للحائك اعمل لي هذا الغزل ثوباً بربعه أو ثلثه، وكذلك الحداد، ثُمَّ يتلف الغزل أو الحديد أو الجلد، هل يضمن أحد من هؤلاء؟ (1/330)
قال: نعم.
قلت: وكيف يضمن وقد صار له فيه شقص(1)، وإنَّما قال له: اعمل لي هذا بربعه؟
قال: ألا ترى أنَّه إنَّما استأجره إجارة على ثلاثة أرباعه بربعه أو ثلثه فهو أجير، والأجير ضامن وليس بشريك.
قلت: فإن الدباغ أنغل الجلد وهو بعد نغله له قيمة، وكذلك الحداد إذا أحرق الحديد وبقي منه ما له قيمة، كيف العمل في ذلك؟
قال: إذا دفع الرجل إلى الدباغ جلداً نيَّاً فقال له: ادبغ هذا على الثلث، فأنغله، نظر(2) في قيمة الجلد وقت ما دفعه صاحبه إلى الدباغ وهو ني، ثُمَّ نظر(3) إليه بعد خروجه من الدباغ وقد نغل، فإن كانت قيمته مثل قيمته وهو ني أخذه صاحبه ولم يكن للدباغ أجرة، وإن كانت قيمته أقل من قيمته نيّاً ضمن الدَّباغ ما نقص من قيمته، وإن كانت قيمته أكثر من قيمته وهو ني كان للدباغ أجرة مثله(4).
في رجل اشترى من رجل متاعاً فنقد بعض ثمنه، وأراد المشتري أن يمضي بالمتاع وأبى البائع أن يتركه حتَّى يستوفي باقي الثمن فتركه المشتري فتلف عند البائع
وسألته عن رجل اشترى من رجل متاعاً فنقده بعض ثمنه وأراد أن يمضي به فلم يتركه البائع وأبى أن يسلمه إليه حتَّى يوفيه باقي ثمنه ولزمه عنده، فتلف المتاع عند البائع، هل يكون له ضامناً؟
قال: نعم، يكون له ضامناً؛ لأنَّه أبى أن يسلمه إلى المشتري.
__________
(1) ـ قوله: وكيف يضمن وقد صار له فيه شقص، قال في الأم: ملحق لا يدري من الأصل أو من غيره.
(2) ـ في نسخة (ب): ينظر.
(3) ـ لأن الذي تعاملا عليه أولاً فاسد. قال في الأم: هذا ملحق فانظر فيه.
(4) ـ في نسخة (ب): أُجرة عمله.
قلت: فإنه لما اشتراه ونقد بعض ثمنه أرد أن يمضي به فقال له البائع: أوفني باقي ثمني، فقال أنا آتيك بباقي ثمنه، فسلم متاعي إليَّ، فسلمه إليه وقبضه المشتري، ثُمَّ أراد أن يمضي به فمنعه البائع بعد أن سلمه إليه فتركه عنده لمنعه له إياه فتلف المتاع عند البائع، هل يكون ضامناً له؟ (1/331)
قال: نعم هو ضامن له؛ لأنَّه لم يسلمه إلى المشتري إذ منعه من الذهاب به، وكان أمره فيه أنفذ من أمره.
قلت: فإنه لما اشترى منه المتاع ونقده بعض ثمنه، وسلم البائع إليه المتاع، وقبضه المشتري فأراد أن يمضي به، فقال له البائع: اعطني باقي ثمن متاعي، فوضع بعضه رهناً عند البائع بباقي الثمن، فتلف ذلك؟
قال: يترادان الفضل بينهما.
قلت: فإنه لما اشترى منه المتاع وطالبه بباقي الثمن ولم يسلم إليه المتاع فوضعاه جميعاً على يدي عدل حتَّى يوفيه ثمنه، فتلف ذلك؟
قال: ذهب المتاع من مال البائع، وليس على المشتري شيء.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه لم يسلمه إليه ولم يقبضه إياه.
قلت: فإنه قد سلم البائع إلى المشتري المتاع وقبضه المشتري ثُمَّ وضعاه على يدي عدل حتَّى يوفيه المشتري باقي الثمن، فتلف المتاع، كيف العمل في ذلك؟
قال: إن كان البائع لم يضطره إلى ذلك فلا ضمان عليه، وهو من مال المشتري، وإن كان البيِّع اضطره إلى ذلك فهو ضامن له؛ لأنَّه لم يسلمه إلى المشتري على حقيقة التسليم.
باب الرجل يأخذ من الرجل ثوباً أو سلعة من السلع على أن يريها رجلاً آخر،
فإن أعجبت الذي يراها اشتراها ولم يشترط صاحبها ردها فضاعت
وسألته عن رجل أخذ من رجل ثوباً أو سلعة من السلع على أن يريها رجلاً آخر، فإن رضيها اشتراها ولم يشترط عليه صاحبها ردها إليه، فأخذها الرجل منه ومضى بها فضاعت منه، هل يكون ضامناً؟
قال: لا ضمان عليه.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن صاحبها لم يشترط ردها إليه فجعله فيها مؤتمناً.
قلت: فإن اتهمه؟
قال: عليه اليمين يحلفه على ما اتهمه.
قلت: فإن صاحب السلعة اشترط عليه ردها؟ (1/332)
قال: إذا كان اشترط صاحبها ردها كان عليه ضمانها أو أداء قيمتها.
في ضمان المخالف
وسألته عن رجل دفع إلى رجل مالاً، وأمره أن يشتري له به طعاماً، فخالف الرجل فاشترى بالمال تمراً فتلف التمر، هل يضمن؟
قال: نعم، هو ضامن بمخالفته.
قلت: فإن التمر لم يتلف، ولكنه ضمنه الحاكم لتمر، فباعه المخالف فربح فيه، لمن يكون الربح؟
قال: لصاحب المال.
قلت: فكيف يضمن التمر إذا تلف ولا يكون له الربح بضمانه؟
قال: لو جعلت له الربح لأطلقت لكل من يدفع إليه مالاً أن يخالف صاحب المال عمداً حتَّى يستحق به الربح، ولو فعلت ذلك لفسدت المضاربة(1) وغيرها من التجارات.
قلت: فيجعل لهذا المخالف شيئاً من الربح؟
قال: لا أحكم له بشيء من الربح، ولكني أجعل له أجرة مثله.
قلت: فإن كانت أجرة مثله أكثر من الربح؟
قال: له أجرة مثله، ولا يجاوز بها الربح، وقد قال غيرنا: إن الربح في بيت مال المسلمين، ولسنا نقول بذلك.
في الرجل يشتري بذر البطيخ فيبذره في أرضه فيخرج قثَّاء أو يشتري بذر بصل فيخرج كراثاً
وسألته عن رجل اشترى من رجل بذر بصل، فبذره في أرضه فنبت كراثاً؟
قال: إن كان فعل ذلك متعمداً بالرجل فقد غره، فعليه ثمن البذر وقيمة ما عمل الرجل في أرضه؛ لأنَّه غررٌ(2).
قلت: فيقلع الذي باع البذر والكراث؟
قال: نعم، هو له.
قلت:فإن كان الذي باع البذر لم يعلم أنَّه دفع إليه بذراً غير الذي باعه؟
قال: إذا لم يعلم ولم يتعمَّد فعليه فضل ما بين قيمة بذر الكراث وبذر البصل.
قلت: فإنه باعه بذر كراث، فبذره الرجل فنبت بصلاً؟
قال: إن كان علم بذلك وتعمد لم يكن له فضل قيمة بذر البصل الذي اشتراه على بذر الكراث.
قلت: فإن كان لم يعلم وغلط على نفسه ودفع(3) بذر البصل إلى الذي اشترى منه بذر الكراث؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): الضامنات.
(2) ـ في نسخة (ب): غره.
(3) ـ في نسخة (ب): فدفع.
قال: إذا كان ذلك كذالك فله فضل قيمة ما بين بذر البصل إلى بذر الكراث؛ لأن مع الزراع الفضل بيِّناً(1)، فقد غلط البائع على نفسه، وقد كان ينبغي للمشتري البذر ألاَّ يبذره حتَّى يتيقن أنَّه ممَّا اشترى ويريه من يبصره فيطرحه في أرضه على يقين من أمره. (1/333)
أبواب الغصوب
وسألته عن رجل اغتصب جاريةً من رجل فباعها المغتصب من آخر، فوطئها المشتري فولدت له أولاداً، ثُمَّ جاء مولى الجارية فاعترفها وأثبت عليها البينة فاستحقها، ما يجب في ذلك؟
قال: إن كان الذي اشتراها علم أنَّها مغصوبة قبل أن يشتريها فولدت مماليك للمستحق، وإن كان لم يعلم أنها مغصوبة فولدها أحرار، وللمستحق قيمتهم عليه، ويرتجع هو بقيمة ولده على الذي غرَّه مع ثمن الجارية.
قلت: وكذلك إذا علم المشتري أنَّها غصبـ، فله أن يرتجع بثمنها على الغاصب؟
قال: نعم، ولو لم أوجب له الثمن على الغاصب لكنت قد أحللت للغاصب ما أخذ من الثمن.
قلت: فإنه اغتصبها ثُمَّ وطئها هو فولدت له أولاداً، ثُمَّ استحقها مولاها؟
قال: يأخذها هي وأولادها مماليك له.
قلت: فيجب على الغاصب الحد؟
قال: نعم، إن كان بكراً فحد البكر، وإن كان محصناً فحد المحصن.
قلت: فيجب عليه العقر مع الحد؟
قال: لا يجتمع العقر والحد أبداً؟
قلت: وما العقر؟
قال: المهر.
قلت: فإنه لما اغتصبها زوجها عبده أو فجرت فجاءت بأولادٍ، ثُمَّ استحقها مولاها؟
قال: وكذلك هي وأولادها مماليك لمولاها وليس تزويجه لها من عبده أو من غيره بأعظم من وطئه هو.
قلت: فإنه اغتصبها وقيمتها تساوي مائة دينار، فلما أن ولدت عند الغاصب لنفسه صارت تساوي خمسين ديناراً؟
قال: ليس لصاحبها إلاَّ هي، ولا يرجع على الغاصب بشيء ممَّا نقص من ثمنها.
باب اغتصاب أم ولد الرجل
قلت: فإنه اغتصب أم ولد الرجل فأولدها أولاداً، ثُمَّ استحقها مولاها، وكذلك لو زوجها من غيره أو من عبده فأولدت أو باعها فأولدت ثُمَّ استحقت؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب) بين.
قال: الأمة لسيدها، وأولادها موقوفون حتَّى تعتق فيعتقون. (1/334)
قلت: وكيف يعتقون؟
قال: يموت عنها سيدها أو يعتقها فيعتق حينئذ أولادها.
قلت: فما حال الولد بعد عتقها؟
قال: يكونون موالي لسيدها الذي أعتقها.
قلت: فهل لأبيهم الذي أولدهم فيهم نسب أو غيره؟
قال: لا.
قلت: لأيِّ علَّة؟
قال: لأنَّه غاصب، والغاصب بمنزلة العاهر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <الولد للفراش وللعاهر الحجر>، فأبطل أن يثبت النسب للعاهر.
قلت: فهل يوارثون أخوتهم لأمهم؟
قال: نعم إذا أعتقوا.
قلت: فإن لم يكن الذي أولدها اغتصبها ولكنه اشتراها من مغتصب؟
قال: إن كان علم أنها مغتصبة فحاله حال المغتصب، فإن كان لم يعلم أنَّها مغتصبة رجعت أم الولد إلى سيدها، وكان للمشتري على البائع المغتصب قيمتها يرد القيمة إلى الذي اشتراها منه.
قلت: فأولادها، هل لهم قيمة يرجع بها سيدها على أبيهم، ويرجع بها أبوهم على الذي باعه؟
قال: لا، ذلك في أولاد المملوكة الَّتي يجوز بيعها وشراؤها، وحال كل ولد كحال أمه، أيُّ أُمٍّ جاز بيعها استدرك قيمة ولدها، وما لم يجز بيعها لم يكن لودلها قيمة.
قلت: فهل يلحق نسب الولد بأبيهم؟
قال: نعم.
قلت: فهل يتوارثون هم وأبوهم؟
قال: نعم إذا اعتقوا.
قلت: فإن مات بعضهم قبل أن تعتق، لمَن الميراث، لأبيه أم لغيره؟
فقال: الميراث لمولاه؛ لأن الميراث لا يقع حتَّى تعتق الرقبة كلها، فإذا خلص حرَّاً ورثه أبوه الحر، وما بقي فيه شُبهَة ملكٍ لمالكه فلا يوارثه؛ لأنَّه لا يرث(1) حرٌّ مملوكاً، ولا مملوك حُراً، وقال: لا يجوز لسيد أم الولد يزوجها حُراً ولا مملوكاً، إلاَّ أن يعتقها فيكن وليها، وقد قال غيرنا: ذلك جائز، ولسنا نجيزه ولا نراه.
باب القول في العبد المغصوب
وسألته عن رجل اغتصب عبداً من رجلٍ فاستغلَّه، ثُمَّ أتى مولاه فأثبت عليه واستحقه(2)، ما يجب في ذلك؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): لا يوارث.
(2) ـ في نسخة (ب): فاستحقه.
قال: يأخذه صاحبه الذي استحقه وغلته. (1/335)
قلت: فإنه اغتصبه وهو يساوي مائة دينارٍ، فشُلَّت يده أو نقص جسمه حتَّى صار يساوي خمسين ديناراً؟
قال: ليس له إلاَّ هو بنفسه نقص أو زاد، إلاَّ أن يكون ذلك بجناية جناها عليه المغتصب له فلزمه ما جنى بنقصان الثمن.
قلت: فإنه لما اغتصبه علَّمه صناعة واستغله، ثُمَّ أبق العبد فأخذه صاحبه، ما يجب في ذلك على الغاصب، أو مات العبد قبل أن يستحقه صاحبه؟
قال: إذا أبق العبد فأخذه صاحبه لم يرجع على الغاصب بشيء، إلاَّ بغلَّتِه الَّتي استغل منه، وأما(1) إذا مات فيرجع المستحق على الغاصب بقيمة العبد يوم اغتصبه.
قلت: فإنه اغتصبه وهو يساوي عشرة دنانير فعلَّمه صناعةً، فصار يساوي خمسين ديناراً، ثُمَّ استغله ثلاثين ديناراً، ثُمَّ استحق؟
قال: كل ذلك للمستحق، ولا ينظر إلى ما علَّمه الغاصب، ولا يرجع الغاصب على المستحق بشيء.
باب العبد يغتصب مالاً
وسألته عن العبد يغتصب مالاً، أو ثوباً فيستهلكه، على مَن جناية العبد؟
قال: على سيده.
قلت: وكيف ذلك وقد جاء أن جناية العبيد على أنفسهم؟
قال: إنَّما ذلك في الحدود لا غير، ذلك لا يؤخذ سيد عبد بقتل، إذا قتل العبد رجلاً فالعبد مقتول في حكم الله، إلاَّ أن يفتديه سيده بقيمة عبده إن أراد ذلك أولياء المقتول، والأمر إليهم إن أحبو رقبته، وإن أحبوا قيمته لا غير ذلك، وكذلك إذا سرق العبد، فأما إذا اغتصب مالاً واستهلكه كان المال على سيده، إما أن يؤدي فدية عن عبده، وإما أن يسلمها إلى صاحب المال إذا كان المال الذي اغتصبه العبد مثل ثمنه سواء.
قلت: فإن كان المال أكثر من قيمته؟
قال: فلا شيء على السيد، إلاَّ قيمة العبد في دين العبد.
قلت: فإن استدان العبد ديناً، على مَن يكون الدين؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فأما.
قال: إن كان استدان وهو غير مطلق في تجارة أو صناعة يستدان على مثلها، فليس على سيده شيء؛ لأن الذي أدانه أتلف ماله، وإن كان مطلقاً في صناعة بيده أو تجارة فاستدان فيما يصلح ما هو فيه فهو على مولاه. (1/336)
قلت: فإن لم يأذن له في الدين؟
قال: نعم.
باب اغتصاب الحيوان
قلت: فإن رجلاً اغتصب فرساً أو بقرةً أو ناقة أو شاةً، فولدت عنده أولاداً كثيراً، ثُمَّ استحقها صابحها ببينة؟
قال: يأخذها هي وأولادها.
قلت: فإنه لما اغتصبها وولدت عنده مات أولادها وبقيت الأم على حالها؟
قال: لا يكون المغتصب ضامناً لقيمة أولادها، وإنَّما لصاحب الأم أن يأخذها.
قلت: فإنها لمَّا ولدت ماتت وبقي الأولاد؟
قال: يلزم الغاصب قيمة الأم يوم غصبها ويأخذ أولادها المغصوب وقيمة الأم.
قلت: وكذلك إن استغل من الأم ثمن لبن أو سمن أو غير ذلك من الغلة من بيع ولد أو غيره، ثُمَّ ماتت الأم؟
قال: جيمع الغلة لصاحبها الذي استحقها، قلَّت الغلَّة أو كثرت.
باب من اغتصب أرضاً ثُمَّ غرسها
قلت: فإن رجلاً اغتصب أرضاً تساوي عشرة دنانير فغرس فيها كرماً أو نخلاً أو غير ذلك حتَّى صارت تساوي مائة دينار، ولم يستغلها، ثُمَّ استحقها صاحبها؟
قال: هو مخير، إن أراد أن يقلع ما فيها من الغاصب قلعه، وإن أراد أن يأخذها ويدفع إلى الغاصب ثمن الغرس.
قلت: في أيِّ وقت يكن قيمة الغرس له، أعند وقت غرسها، أو عند استحقاق المستحق له؟
قال: وقت ما استحقه المستحق.
قلت: وكذلك إن كان استغلها ضعف ثمنها الذي كانت تساوي يوم غصبها؟
قال: الغلة لصاحبها الذي استحقها.
باب اغتصاب الغزل
قلت: فإن رجلاً اغتصب غزلاً فعمله ثوباً،ثم أثبت عليه صاحبه أنَّه غزله بعينه، ما يجب في ذلك؟
قال: يجب لصاحب الغزل قيمة الغزل؛ لأن الغاصب قد استهلكه بعمله ثوباً.
باب الأديم
قلت: فإنه اغتصب أديماً لم يدبغ فدبغه الغاصب بمثل ثمنه، ثُمَّ يثبت عليه صاحبه؟
قال: يأخذه صاحبه مدبوغاً.
قلت: فكيف ولأيِّ علة أخذ صاحب الأديم أديماً مدبوغاً وأخذ صاحب الغزل قيمته؟ (1/337)
قال: لأن الأديم قائم بعينه لم يتغير إلابالدباغ، فهو أديم مدبوغاً وغير مدبوغ فلم يزل عن المعنى، ولم يكن مدبوغاً وغير مدبوغ فلم يزل عن المعنى، ولم يكن مستهلكاً بذلك، وأما الغزل فقد صار ثوباً فليس الغزل ثوباً، ولا الثوب غزلاً، فبذلك صار مستهلكاً، لمَّا زال عن المعنى.
قلت: زدني في هذا الباب معنىً أزداد به معرفة وأقيس عليه(1) ما جاء منه؟
قال: نعم إن شاء الله، قال: أرأيت لو أن رجلاً اغتصب نوى تمر فغرسه في أرضه فصار نخلاً أليس كان يجب له قيمة النوى؟
قلت: بلى، لا اختلاف في ذلك.
قال: فلو أنَّه اغتصب نوى فدقَّه دقّاً يصلح لعلف الإبل ثُمَّ أنقعه في الماء، ثُمَّ استحقه صاحبه، أليس يأخذه مدقوقاً؟
قلت: بلى.
قال: أليس ذلك لأنَّه لم يزل عن المعنى، فكان غير مستهلك، وأما الآخر فلما صار نخلاً وانتقل عن المعنى كان مستهلكاً، فكان للمستحق قيمته يوم اغتصبه، فافهم ذلك وقس عليه كلما أتاك، فلك فيه كفاية إن شاء الله.
باب اغتصاب الثوب ثُمَّ يصبغ
قلت: فإن رجلاً اغتصب ثوباً أبيض ثُمَّ باعه المغتصب من رجل فصبغه المشتري بمثل ثمنه الذي كان يسوى، ثُمَّ أثبت عليه صاحبه واستحقه وقبضه، ما يجب في ذلك؟
قال: إن كان المشتري علم أنه غصبه وقت ما اشتراه ارتجع بقيمته على البائع أبيض.
قلت: فالصبغ؟
قال: لا يرتجع بقيمته؛ لأنَّه قد علم وقت ما اشتراه أنَّه غصب، فأحدث فيه بعد علمه صبغاً، فلم يجب له قيمة الصبغ على الذي استحقه ولا على الغاصب؛ لأنَّه لم يغره لما علم أنَّه غصب، وإن كان لم يعلم وقت ما اشتراه أنَّه غصب ثُمَّ استحق رجع المشتري على البائع بقيمته وقيمة الصبغ؛ لأنَّه غره.
قلت: فيأخذ المستحق الثوب مصبوغاً مسلماً وقد زاد في ثمنه مثله؟
قال: نعم؛ لأن الصبغ لا يستدرك قلعه.
قلت: فإن المشتري قال: إنَّما أغسل صبغي؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): به.
قال: لا يجب له ذلك؛ لأنَّه ضرر على الثوب. (1/338)
باب اغتصاب الخشبة
قلت: فإن رجلاً اغتصب خشبةً ثم بنى علها سقفاً، وبنى فوق السقف عُلُوّاً، ثُمَّ دخل صاحب الخشبة المنزل فعرفها وأثبت عليها واستحقها، فقال المستحق: إقلع خشبتي، وفي قلعها فساد العلو وسقف السفل؟
قال: لا يلتفت إلى ما في ذلك من الفساد على الغاصب، ويأخذ المستحق خشبته، وقد قال غيرنا بغير ذلك، ولم يلتفت(1) إلى قوله.
قلت: فإنه بنى العلوَّ غير الغاصب؟
قال: إن كان الباني غير الغاصب وعلم أن الخشبة مغصوبة قلعها صاحبها، وإن كان لم يعلم أنَّها مغصوبة قلعها صاحبها أيضاً ورجع الباني للعلو على المغتصب الذي غره بقيمة ما فسد من بنائه(2).
في رجل اغتصب نخلة صغيرة فغرسها في أرضه فأثمرت وأخذ ثمرها
وسألته عن رجل قلع نخلة صغيرة من أرض رجل، فغرسها في أرضه فنبتت وكبرت حتَّى أثمرت وأكل الرجل ثمرها سنين، ثُمَّ استحقها صاحبها؟
قال: يقلعها من أرض الغاصب ويأخذها إلى حيث شاء، وقد قال غيرنا: إنَّه لا يجب ذلك؛ لأنَّه اغتصبها صغيرة فلما سقاها وغذاها حتَّى كبرت كان مستهلكاً، وليس هو عندنا كذلك، وما هذا عندي إلاَّ كرجل اغتصب جدياً صغيراً فكبر عنده حتَّى صار تيساً، أو ولد بقرة صغيراً فصار عنده ثوراً، فكل ذلك يجب لصاحبه أن يأخذه؛ لأنَّه من اغتصب صغيراً أُخذ منه كبيراً، ومن اغتصب هزيلاً أُخذ منه سميناً.
قلت: فإنه اغتصبه سميناً فهزل عنده؟
قال: ليس لصاحبه شيء فيما نقص من جسمه، ولا يأخذه إلاَّ كما وجده، فافهم هذا وقس عليه.
قلت: فما تقول في غلة النخلة؟
قال: يحكم لصاحب النخلة بغلتها مذ يوم اغتصبها المغتصب.
باب الدعوى والبيِّنات
وسألته عن رجل ادعى على رجل ديناً أو حقّاً من الحقوق، على مَن البينة؟
قال: على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين.
قلت: فإن نكل المنكر عن اليمين، هل يلزمه الحق الذي ادعى عليه الرجل؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب) نلتفت.
(2) ـ في نسخة (ب): بنيانه.
قال: نعم، النكول عن اليمين عندي إقرار بالحق، فيلزم الذي نكل ما ادعى عليه صاحبه. (1/339)
قلت: فإنه لما نكل وأوجب عليه الحاكم الحق، قال: أنا أحلف ما لهذا المدعي عليَّ حق، هل يستحلف بعد نكوله، أم لا يلتفت إلى قوله ويلزم(1) الحق؟
قال: يستحلف بعد النكول؛ لأنَّه يجب على الحاكم أن يعظه ويذكره اللهَ(2) فيما يجب عليه من الحق، فإن أبى إلاَّ أن يحلف أُحلف.
قلت: فإنه لم ينكل، وحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما عليه للمدعي حق، ثُمَّ أتى المدعي عليه ببينة عدول، فشهدوا أن للمدعي هذا الحق الذي ادعاه ثابتاً قارّاً، هل يقبل الحاكم هذه البينة؟
قال: إن كان المدعي قال للحاكم: أحلفه لي بالله وأنا أبريه من كل حق بعد يمينه، فأحلفه الحاكم لم تُقبل البينة بعد قول المدعي هذا.
قلت: فإن المدعي لم يقل من هذا شيئاً؟
قال: فيجب على الحاكم أن يقول للذي له الحق: إن أحلفته لك ثُمَّ أثُبَتَّ(3) بينةً لم أقبلها، فاطلب بينة إن كانت لك.
قلت: فإن الحاكم لم يقل من هذا شيئاً؟
قال: فهذا خطأ من الحاكم.
قلت: فإذا أخطأ الحاكم، ثُمَّ أتى المدعي بعدما(4) استحلفه ببينة عدول فشهدوا أن للمدعي هذا الحق الذي ادعى ثابتاً قارّاً، هل تقبل البينة ويثبت الحق للمدعي؟
قال: نعم.
وسألته عن رجل ادعى على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: ليس له عندي إلاَّ خمسمائة درهم؟
قال: يثبت عليه خمسمائة، وعلى المدعي البنية، فإن لم يكن له بينة أحلف المنكر على ما أنكره.
وسألته عن رجل ادعى على رجل ألف درهم ديناً حالاًّ، فقال المدعى عليه: قد كانت له عندي ألف، وقبضته(5) إياها؟
قال: قد أقر بالألف، ويثبت عليه، وعليه البينة بالقضاء.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ويلزمه.
(2) ـ في نسخة (ب): بالله.
(3) ـ في نسخة (ب): ثُمَّ أتيت ببينة.
(4) ـ في نسخة (ب): بعد أن.
(5) ـ في نسخة (ب): وفيته.
قلت: فإنه لم يقل: كانت له عندي ألف، ولكنه قال: إن كان له عندي شيء فقد قبضته(1) إياه، هل يثبت عليه بهذا الكلام حق(2)؟ (1/340)
قال: لا يثبت عليه بهذا الكلام شيء(3).
وسألته عن رجل ادّعى على رجل ألف درهم ديناً حالاًّ، فقال المدعى عليه: هذا الدين(4) له عليَّ إلى أجلٍ؟
قال: قد أقرَّ المدعى عليه بالحق، وعليه البينة أن الدين إلى أجلٍ.
قلت: فإن لم يكن له بينة أن الدين إلى أجل؟
قال: فالحق عليه حالٌّ.
قلت: فيستحلف المدعي على أن الدين حالٌ؟
قال: نعم.
وسألته عن رجل في يده دار، فأتى رجل فادعى أنَّها له، فقال له الحاكم: أثبت البينة على دعواك، فقال المدعي للحاكم: بينتي غيب، أو أنا أطلب بينتي، أو وجد شاهداً واحداً، هل يجوز له أن يفرغ الدار ويوقف حتَّى يأتي ببينة أم لا؟
قال: لا يحكم الحاكم بتفريغ الدار ولا توقف الضيعة عن عمل صاحبها حتَّى يثبت البينة، فإذا ثبتت البينة أمر الحاكم بتفريغ الدار وتسليمها إلى صاحبها، فإن كانت البينة غيباً كما ذكر المدعي نظر الحاكم في ذلك، وكشف عما يقول المدعي، فإن صح له أنَّه كما قال المدعي أن له بينة غيباً أمر الحاكم صاحب البينة أن يرسل إليهم، وأمر بوقف الدار والضيعة احتياطاً منه لنفسه، إن أراد الذي هي في يده أن يبيعها أو يحدث فيها حدثاً حتَّى تأتي بينة المدعي، وإن لم يرد الذي هي في يده أن يبيعها فليس للحاكم أن يوقفها حتَّى تأتي بينة المدعي فينكشف الحكم للحاكم.
قلت: فإن الذي كان في يد الرجل نخلاً فيه تمر أو أرضاً فيها زرع، فادعاه مُدَّعٍ فطولب بالبينة، فقال أيضاً: بينتي غيب، وطلب المدعي أن يوقف النخل بتمره أو الأرض بزرعها؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أقبضته.
(2) ـ في نسخة (ب): الحق.
(3) ـ في نسخة (ب): الحق.
(4) ـ في نسخة (ب): الذي.
قال: قد قدمنا الجواب في ذلك بما فيه كفاية لك إن شاء الله، أن الحاكم لا ينبغي له أبداً أن يقف(1) شيئاً من دار ولا ضيعة عن الذي هي في يده بدعوى مدَّعٍ حتَّى يثبت البينة فيستحق، وأما التمر فإن خيف عليه فساد فينبغي للحاكم أن يأمر الذي في يده النخل أو الزرع بجذه وحصاد زرعه ووضعه في مجارينه، ولا يحدث فيه حدثاً حتَّى يصح للمدعي ما ادعى أو يبطل ما قال، فيقبضه الذي كان في يده. (1/341)
وسألته عن رجل ادعى على رجل ديناً، فقال المدعى عليه: ما له عندي حق، ولا أعرف ما يقول، وطولب المدعي بالبينة، فأثبت البنية بما ادعى من الحق، فقال المدعى عليه: عندي المخرج من ذلك، ودفع ما قال وما ثبتت عليه بينته، هل يقبل كلامه ويسمع(2) بعدما حجد وأنكر؟
قال: نعم، يسمع منه الحاكم ما يقول حتَّى ينظر بما يدفع المدعي، فإن صح قوله فيما(3) يدفع المدعي قَبِل قوله، ولم ينظر إلى ما قال من الإنكار أولاً.
باب الجدار يكون بين الدارين
وسألته عن جدار بين الدارين(4) فادعاه صاحب هذه الدار وصاحب هذه الدار، فقال هذا: هو لي، وقال هذا: هو لي، وليس لواحدٍ منهما عليه خشب أو لكليهما عليه خشب؟
قال: هذان الرجلان جميعاً قد ادعى كل واحد مهما هذا الجدار، وعلى كل واحد منهما البينة بما ادعى، فمن أقام منهما البينة العدول استحق ببينته.
قلت: فإن لم يكن لواحدٍ منهما بينة؟
قال: يرد النظر في ذلك إلى عدول البنَّائين، فينظرون وجه الحائط إلى أيِّ الدارين كان فهو له.
قلت: فإن التبس على البنائين ولم يكن لواحدٍ منهما بينة؟
قال: يستحلفان جميعاً، فإذا حلفا قسم بينهما.
قلت: فإن الخشب الذي على الجدار كان لأحدهما؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يوقف.
(2) ـ في نسخة (ب): يستمع.
(3) ـ في نسخة (ب): بما.
(4) ـ في نسخة (ب): دارين.
قال: ينظر في الخشب، فإن كان مُركَّباً مع بناء الجدار فهو لصاحب الخشب، وإن كان محدثاً مدخلاً بعد البناء لم ينظر إلى الخشب، وكان الحكم فيه ما قدمنا من البيان. (1/342)
قلت: فإن كان الخشب لهما جميعاً؟
قال: وكذلك أيضاً ينظر إلى الخشب، فإن كان خشب هذا وخشب هذا مركباً مع البناء كان الجدار بينهما نصفين، وإن كان لواحد منهما فالجواب ما قدمنا.
قلت: وكذلك الحكم في كل ما كان مثل هذا من غرم أو غيره؟
قال: نعم.
باب الدابة والعروض
وسألته عن رجل في يده دابة أو عرض من العروض، فادعاها رجل آخر فطولب بالبينة، فأقام بينة فشهدوا له أن هذه الدابة نتجت عنده، أو هذ الثوب في ملكه حاكه، وأقام أيضاً الرجل الذي في يده الدابة أو الثوب أن هذه الدابة نتجت عنده أو الثوب حيك عنده؟
قال: لا ينظر في بينة الذي عنده السلعة، وإنَّما المدعي الذي ليست في يده وعليه البينة، فإذا أقام البينة العدول استحقها ببينته وأخرجتها من يد هذا إليه.
قلت: فإن هذه الدابة أو العروض في يد هذين الرجلين جميعاً، وأقام كل واحدٍ منهما بينةً عدولاً أنَّها له؟
قال: يستحلفان جميعاً مع شهودهما، ثُمَّ يقسم ذلك بينهما نصفين.
قلت: فإن كان لأحدهما أربعة شهود وللآخر شاهدان، كيف يقسم بينهما؟
قال: نصفين.
قلت: وقد روي عن علي عليه السلام أنَّه قسم في مثل هذا الحكم على عدد الشهود، فجعل للذي له أربعة شهود ثلثين، وللآخر ثلثاً؟
قال: لم يصح ذلك عنه عندنا، وكيف يجوز ذلك والشاهدان يشهدان لصاحبه بالنصف، فلم ينقص من النصف، وقد أتى صاحب الحق بالشاهدين الذي(1) أمر الله، وأتى الآخر بأربعة، ولو يأت إلاَّ بشاهدين كفاه، وإنَّما الشاهدان الآخران زيادة على ما كفاه من شهادة الاثنين، فلا يزاد بزيادة الشهود شيئاًن، ألا ترى أن رجلاً لو شهد عليه ثمانية شهود أنَّه زنى(2) فرجع أربعة منهم قبل أن يحد وثبت أربعة على شهادتهم، أليس كان يقام عليه الحد؟ (1/343)
قلت: بلى.
قال: فلذلك قلنا: إنَّه لا يستحق بزيادة الشهود شيئاً.
وسألته عن رجل بالكوفة ادعى على رجل بالبصرة ديناً، ووكل وكيلاً وأشهد له بذلك، فمضى الوكيل إلى البصرة فطالب المدعى عليه بالدين، فأقر له به وادعى بعد الإقرار أنَّه قد قضى المدعي الدين، فطولب بالبينة فلم تكن له بينة، وقال: أريد أن أحلف صاحبي وأعطيه ما ادعى، فقال له الوكيل: قد أقررت لي بالحق فادفعه إليَّ واتبع صاحبك حيثما كان، فأحلفه؟
قال: ليس ذلك له، ولا يدفع إلى الوكيل حبة حتَّى يستحلف الرجل صاحبه ويستحق حقه بيمينه.
قلت: فهل يجب أن يدفع الذي ادعى الحق ووكل الوكيل إلى الموضع الذي ادعى على الرجل فيه الحق حتَّى يستحقه، أم هل يجب على الذي ادعى القضاء أن يمضي إلى الذي ادعى الدين فيستحلفه في موضعه؟
قال: ينظر حيث كان دفع المال، فيجب عليه اليمين ثَمَّ، أو يوكل من يستحلف الرجل في الموضع الذي دفع فيه المال.
قلت: فإن نكل الذي كان لهالمال عن اليمين لما ادعى عليه صاحبه أنَّه قد قضاه، هل يبطل حقه بنكوله؟
قال: نعم.
وسألته عن رجل اشترى شيئاً فتعرَّفه رجل في يد المشتري فأقام البنية عليه، وأقام المشتري أيضاً بينة بشرائه، فبأي(3) البينتين يؤخذ بها، وكذلك إن أقام البائع البينة على أن الشيء له وباعه وهو في مكله؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): اللذين.
(2) ـ قد زنى.
(3) ـ في نسخة (ب): فأي البينتين.
قال: البينة بينة الذي تعرَّفه، فإذا أثبت البينة أنَّه ذهب منه غصباً أو سرقةً أو بوجه من وجوه التلف الَّتي لم تخرجه هو بها قبِضه، وارتجع المشتري على من باعه بالثمن. (1/344)
وسألته عن رجلٍ ادعى أنَّه دفع إلى رجل دنانير يشتري له بها حاجة، فقال المدعى عليه للحاكم: قد دفع إليَّ هذه الدنانير على أني أدفعها له إلى فلان وقد دفعتها، على مَن البينة؟
قال: قد أقر المدعي عليه بقبض الدنانير، وقال: أمرتني أدفعها إلى فلان فعليه بذلك البينة: أنه قد دفعها إلى فلان، فإن أثبت البينة أنَّه قد دفعها إلى فلان بأمر فلان الذي دفعها إليه بَرِئ منها، وإن لم يثبت أن فلاناً أمره بدفعها إلى فلان فأثبت أنَّه قد دفعها إلى فلان ثبت له على الذي دفعها إليه، وأخذها منه وردها على صاحبها.
قلت: فإن الذي دفعت إليه الدنانير كان غائباً، هل يحكم للمدعي الأول الذي ادعى أنَّه أمره أن يشتري له بالدنانير حاجة على الذي أقرَّ بها، وادعى أنه أمره أن يدفعها إلى فلان يأخذ الدنانير؟
قال: لا، حتَّى يقيم المدعي الأول البينة أنَّه دفع إليه هذه الدنانير يشتري له بها حاجة، فحينئذ يحكم له بأخذها منه.
وسألته عن رجلٍ ادعى على رجلٍ أنَّه باعه جاريةً بعشرين ديناراً إلى رجلٍ، فلمّا حلَّ الأجل أتى المدعي يطالب المشتري بالثمن، فادعى الذي عنده الجارية، وقد ولدت عنده، أن المدعي الذي ادعى بيع الجارية زوجه إياها، على مَن البينة؟
قال: على الذي ادعى التزويج، والجارية عنده.
قلت: وكيف تكون البينة على الذي ادعى التزويج دن أن يكون على الذي ادعى البيع؟
قال: لأنَّ الذي في يده الجارية قد أقر أنا كانت للذي ادعاها، وقد صارت إليه، ثُمَّ ادعى أنَّها إنَّما صارت إليه بتزويجٍ لا بيعٍ، فكانت البينة عليه؛ لأنَّه أراد أن يسقط عن نفسه ثمن الجارية بالتزويج.
قلت: فإنه أثبت البينة بالتزويج؟
قال: يبطل ما ادعى الأول من البيع.
قلت: فيكون ولده مملوكاً؟
قال: نعم، لسيد الجارية. (1/345)
قلت: فإنه لم يكن له بينة؟
قال: يسأل حينئذ المدعي الذي ادعى البيع البينة على ما ادعى من البيع.
قلت: فإذا أثبت البينة على البائع؟
قال: وجب على المدعي الذي ادعى التزويج الثمن.
قلت: فيكون الولد بعد إثبات المدعي على البيع البينة حرّاً؟
قال: نعم.
قلت: فإن لم يكن لواحدٍ منهما بينة؟
قال: يتحالفان.
قلت: على ما يتحالفان؟
قال: يُحلِّف الحاكم كل واحدٍ منهما على ما ادعى، فإذا حلفا دفعت الجارية إلى سيدها.
قلت: فإذا قبض الجاريةَ سيِّدُها، هل يكون الولد مملوكاً؟
قال: نعم، لسيدها(1) مع أمه.
قلت: فهل يجب على المدعي التزويج الحد؟
قال: لا، ولكن يدرأ عنه الحد باليمين.
قلت: فهل يجب على المدعي التزويج العقر؟
قال: نعم.
قلت: وما العقر؟
قال: المهر.
قلت: وكم(2) مهر الأمة المملوكة؟
قال: قد قال غيرنا في ذلك أقاويل، وأما قولي أنا، والذي أراه وأستحسنه: فعشر قيمتها.
قلت: كأنَّه إذا كان قيمتها عشرين ديناراً فمهرها من ذلك ديناران؟
قال: نعم.
قلت: فإن المدعي التزويج نفى الولد؟
قال: ليس بينهما لعان؛ لأن الزوج إذا كان حُرّاً والزوجة مملوكة، فقذفها لم يجب لها عليه حد؛ لأنها مملوكة، فلذلك سقط اللعان بينهما.
قلت: فالولد إلى من ينتمي؟
قال: هو مملوك لسيده، فإن أعتقوه يوماً كان ولاؤه لهم، وميراثه أيضاً لهم، فأما أن ينتمي إلى أبٍ فلا.
وسألته عن رجل ادعى على رجل حقوقاً كثيرةً، فأتى به الحاكم، فقال: لي على هذا حقوق، فاحلفه لي على كذا وكذا ـ يعني بعض الحقوق ـ فقال المدعى عليه للحاكم: قل يضم جميع حقوقه حتَّى أحلف له عليها كلها جميعاً يميناً واحدةً، هل يجب له ذلك؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): لسيده.
(2) ـ في نسخة (ب): فكم.
قال: إذا كانت الحقوق مفترقة في الدعوى ـ كأنه ادعى عليه غصباً وديناً وسلفاً ـ أحلفه الحاكم على كل دعوى يميناً، فإذا(1) كان حقّاً واحداً في دعوى واحدةٍ لم تُفرَّق عليه الأيمان. (1/346)
قلت: فإن كان المدعون جماعة في مثل ميراث أو ما أشبهه، هل يحلف الرجل المدعى عليه لكل واحد منهم يميناً أو لكلهم يميناً واحدةً؟
قال: قد قدمنا الجواب في ذلك، إن كانوا كلهم يدعون حقّاً واحداً أحلفه لهم الحاكم يميناً واحدةً، وإن كانت حقوقاً مفترقة(2) أحلفه لكل واحدٍ منهم يميناً.
قلت: فإن ادعى الورثة أن الميت خلف دنانير وثياباً وسلاحاً أو ما أشبه ذلك، هل يحلف في كل ذلك يميناً واحدةً، أم في كل شيء منه يميناً؟
قال: قد قدمنا جواب ذلك، أن الدَّعوى إذا كانت في أشياء مختلفة أحلف على كل معنىً يميناً، وإذا كانت الدعوى في معنى واحد أحلف يميناً على جميع دعواه.
وسألته عن رجلين أتيا جميعاً، فأودعا رجلاً كيساً ولم يخبراه لأيهما الكيس ولا أنَّه بينهما، ثُمَّ أتيا وهما مختلفان في الكلام، أحدهما يدعي الكيس كله، والآخر يدعي نصفه، كيف يعمل المستودع في ذلك؟
قال: إذا لم يكونا بيَّنا له من أمرهما شيئاً عندما استودعاه الكيس دفعه إليهما، ولم يجب عليه شيء إلاَّ دفعه إليهما جميعاً، وكانت المناظرة بينهما.
قلت: فعلى من البينة منهما؟
قال: هما جميعاً مدعيان، وعلى كل واحدٍ منهما البينة بما ادعى.
قلت: ولأيِّ معنىً تكون البينة عليهما جميعاً دون أن تكون البنية على الذي ادعى الفضل، وهو مدعي الكيس كله؟
قال: لأن الكيس في أيديهما جميعاً، وليس هذا المدعي الفضل عليه البينة دون الآخر؛ لأن كل واحدٍ من هذين يقول ويدعي في هذا الكيس، وإنَّما تكون البنية على الذي يدعي الفضل في معنى غير هذا.
قلت: في أي معنى؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): وإذا.
(2) ـ في نسخة (ب): متفرقة.
قال: في مثل اختلاف الراهن والمرتهن، إذا قال المرتهن: لي في هذا الرهن عشرون درهماً، فقال له الراهن: بل لك فيه عشرة دراهم، فالبينة في ذلك على من ادعى الفضل، وهو المرتهن. ومثل الرجل يقول: بعتك هذا الثوب بعشرين درهماً، فقال المشتري: بعتنيه بعشرة دراهم، فالبينة في ذلك أيضاً على من ادعى الفضل، وهو البائع، وأما هذان فلا لأنهما مدَّعِيان جميعاً، وعلى كل واحدٍ منهما البينة بما ادعى. (1/347)
قلت: فإنهما أثبتا جميعاً البينة؟
قال: إذا ثبتت البينة لهما جميعاً استحلفا مع بينتهما، فإذا حلفا دفع إلى الذي ادعى كله ثلاثة أرباع ما في الكيس.
قلت: فلأيِّ معنى ذلك، بيِّنه لي حتَّى أفهمه؟
قال: لأن المدعي النصف قد أقرَّ للمدعي الكل بالنصف، فليس بينهما فيه كلام، وإنَّما المطالبة بينهما في النصف، فمدعي الكل يقول: هذا النصف لي، ومدعي النصف: يقول: هذا النصف لي، فإذا أثبتا البينة جميعاً في ذلك واستحلفا قسم النصف بينهمان فصار لمدعي النصف الربع وهو نصف النصف، وكان(1) لمدعي الكل ثلاثة أرباع الكيس، نصف هذا النصف، وهو الربع مع النصف الذي أقر له به، فصار له ثلاثة أرباع، فافهم ذلك.
قلت: فإن لم يكن للمدعي الكل بينة، وأثبت المدعي النصف البينة؟
قال: يقسم الكيس بينهما نصفان؟
قلت: فلأيِّ معنىً؟
قال: لأن صاحب النصف قد أثبت البينة على ما ادعى، فقبض النصف، ويأخذ الآخر النصف بإقرار هذا له.
قلت: وكذلك إن أقام المدعي الكل البينة ولم يكن لمدعي النصف بينة، هل يأخذ مدعي الكل الكيس كله؟
قال: نعم.
قلت: فإن مدعي النصف أثبت أربعة شهود وأثبت مدعي الكل شاهدين، كيف يقسم الكيس بينهما؟
قال: كما قسم عليهما أوَّلاً، لمدعي النصف الربع، ولمدعي الكل ثلاثة أرباع.
قلت: فلم ينفع هذا زيادة الشهود، إذا كان له أربعة وللآخر شاهدان؟
قال: لا.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): وصار.
قلت: ولأيِّ معنىً لا ينفعه وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في أربعة شهدوا لرجل واثنان شهدوا لرجل في دعوى كانت بينهما، فجعل لصاحب الأربعة ثلثي الدعوى، ولصاحب الشاهدين ثلث الدعوى؟ (1/348)
قال: قد روي هذا عنه، ولم يصح ذلك عندنا، وكيف يحكم بذلك وقد جاء عنه أنَّه لو شهد ثمانية على رجل بالزنا، ثُمَّ رجع أربعة من الثمانية لكان الحد ثابتاً بالأربعة الباقين، ألا ترى أنَّه لم ينظر إلى زيادة الشهود الذين رجعوا لما قام على الشهادة أربعة، وكذلك في هذين المدعيين لما شهد لواحدٍ أربعةٌ وللآخر اثنان، لم يكن لهذا الذي شهد له أربعة بزيادة الشاهدين أكثر من الحق الذي وجب له بالشاهدين، فافهم هذا.
قلت: فإن لم يثبت لواحدٍ منهما بينة، كيف العمل في ذلك؟
قال: إذا لم يثبت لواحدٍ منهما بينة استحلفا جميعاً على ما ادعيا، ثُمَّ قسم الكيس بينهما على المعنى الأول، لصاحب النصف الربع من الكيس، وللمدعي الكل ثلاثة أرباع الكيس.
قلت: فكيف يكون هذا إن ثبتت البينة لهما جميعاً أُعطي مدَّعي النصف الربع، وأُعطي مدعي الكل ثلاثة أرباع، وإن لم تثبت لهما بينة قسم أيضاً على هذا المعنى؟
قال: أنا أشرحه لك إن شاء الله حتَّى تفهمه.
قلت: نعم.
فقال: يقال للذي ادعى نصف الكيس: أليس إنَّما ادعيت نصف الكيس، والنصف الآخر فقد أقررت به لصاحبك، فليس لك فيه كلام، وهذا المدعي الكيس كله يطالبك أنت بالنصف الذي تدعيه، فأنتما جميعاً مدَّعِيان في هذا النصف الواحد، فطالبناكما بالبينة، فلم يثبت لواحدٍ منكما، فصار لك أنت الربع، وصار لهذا الربع مع النصف الأول، فلك ربع الكيس جميعاً، ولهذا ثلاثة أرباعه، فهذا الحكم فيهما إذا لم تثبت لهما بينة وحلفا، فافهم ذلك.
وسألته عن رجل ادعى على رجل أنَّه مملوك له، فقال له المدعى عليه: ما كنت عبداً قط، ولا أعرف ممَّا تقول شيئاً؟
قال: على المدعي البينة.
قلت: فإن لم يكن له بينة، هل يستحلف المدعى عليه، ما هو مملوك؟ (1/349)
قال: نعم، يجب عليه اليمين، وقد قال غيرنا: لا تجب عليه.
قلت: فإن ادعى أن له بينة غيباً أو في موضع يطلبهم، هل يجب على هذا المدعى عليه أن يعطي كفيلاً بعينه حتَّى يطلب المدعي بينته؟
قال: نعم.
وسألته عن مملوك ادعى على سيده أنَّه أعتقه أو كاتبه أو دبره، هل يجب على المملوك أن يثبت بينة على ما ادعى؟
قال: نعم.
قلت: فإن لم يكن له بينة، هل يستحلف له سيده ويلزمه الملك؟
قال: نعم.
قلت: فإن نكل المولى عن اليمين؟
قال: يثبت للعبد ما ادعى.
قلت: فإن المولى أقر أنَّه كاتبه بكذا وكذا وهو عليه بعدُ، أو أعتقه، أو أدبره بكذا وكذا؟
قال: أما العتق والتدبير فليس يجوز أن يقول السيد لعبده: أعتقتك بكذا وكذا ديناراً، وكذلك في التدبير؛ لأن هذا عتق جائز، إلاَّ أن يكون باعه نفسه بثمن فيكون على العبد البينة بما ادعى، وأما المكاتبة فإذا أقر المولى بأنه كاتبه والمكاتبة عليه، فقال العبد: قد دفعت ما عليَّ، قيل للعبد: قد أقررت بالمكابتة، فأثبت أنك قد دفعت ما عليك.
قلت: فإن لم يكن للعبد بينة؟
قال: يثبت عليه ما كاتبه المولى به بعد أن يستحلف له المولى.
قلت: فإن نكل المولى عن اليمين؟
قال: يبطل الدعوى عن العبد.
وسألته عن امرأة ادعت صِدَاقاً على زوجها، وقد مات، وله ورثة؟
قال: إن كان لها بينة بصداقها أخذته من الورثة، إلاَّ أن يأتي الورثة بمعنى يدفع حقها، وإن لم يكن لها بينة استحلف لها الورثة بالله ما يعلمون أن لها هذا الصدقاق الذي ادعته على أبيهم، فإن نكلوا أُجِبَ لها عليهم الصداق، صداق مثلها، وإن قال الورثة: لا ندري أدفع صاحبنا إليها أم لا، ردوا اليمين عليها بالله ما قبضت من صداقها شيئاً، أو ما قبضت إلاَّ كذا وكذا، ولقد مات فلان ولي عنده صداقي أو من صداقي كذا وكذا، ثُمَّ تستحق بيمينها ما حلفت عليه.
وسألته عن رجل أخذ أرضاً ميتةً لم يُعرُ لها صاحبٌ فأحياها وحفر فيها بئراً أو شق فيها نهراً أو غرس فيها شجراً أو نخلاً، ثُمَّ جاء بعد ذلك رجل فادعى أنَّها كات لأبيه أو لجده؟ (1/350)
قال: إن أقام عليها البينة شهوداً يشهدون أنَّها كانت لجده حتَّى مات وتركها مورثاً(1) لورثته، أو كانت لأبيه وفي يده حتَّى مات وتركها موروثة لهذا المدعي أو لورثته قبضها.
قلت: فالعمل الذي عمل والنفقة الَّتي أنفق عليها؟
قال: إن كان حيث عملها علم أنَّها لمالك قلع جميع ما عمل، ولم يلزم أصحابها شيء، وإن كان لم يعلم حيث عملها أنَّها لمالك أُحلِف بالله ما علم حيث عملها أنَّها لمالك، ثُمَّ لزم أصحابها قيمة ما عمل في أرضهم.
وسألته عن رجل كان بينه وبين رجل مطالبة ودعوى، وظن الرجل أن ذلك لا يجب له، فصالح فيه بصلح وكتب عليه في ذلك كتاب يراه، ثُمَّ سأل بعد ذلك الفقهاء فإذا هو يجب له الذي ظن أنَّه لا يجب له، هل للرجل أن يرجع في ذلك بعد هذا الصلح؟
فقال: إن كان جاهلاً ولم يعلم أنَّه يجب له أُحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما علم أنَّ هذا شيء كان يجب له، ثُمَّ يرجع في المطالبة ولم يبطل حقه بجهله.
وسألته عن رجل ادعى على رجل ألف درهم، فقال له الحاكم: أثبت على ذلك بينة، فأتى بشاهدين، فشهد أحدهما بالألف على الرجل، وشهد الآخر بخمسمائة على الرجل، كيف العمل في ذلك؟
قال: لا يثبت على المدعى عليه من ذلك شيء؛ لأنَّه لم يشهد له شاهدان بمعنى واحد، ولا نقول في ذلك كما قال غيرنا: إنَّهما اجتمعا على الخمسمائة ويلزم المدعى عليه؛ لأن الخمسمائة داخلة في الألف، وكيف يكون على ما قالوا ولم يشهدا بشهادة كاملة، وشهد كل واحد منهما بضد ما شهد به صاحبه.
وسألته عن رجلٍ ادعى على رجلٍ ميِّتٍ ديناً، فأقر رجل من الورثة بالدين الذي ادعاه المدعي، هل يكون الرجل بمنزلة شاهدٍ أم يلزمه في نصيبه من دعوى المدعي بقدر سهمه من ميراثه؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): موروثاً.
قال: ليس هذا بمنزلة شاهد، ويلزمه في نصيبه بقدر ما شهد به. (1/351)
قلت: فإن الذي أقر رجلان من الورثة ـ ورثه الميت ـ هل يكونان بمنزلة شاهدين على جميع الورثة أم على أنفسهما؟
قال: هذان اللذان أقرَّا إذا كانا عفيفين كانا بمنزلة شاهدين على جميع الورثة، ويحكم بشهادتهما للمدعي بما ادعى.
قلت: فإن الذي أقر رجل وامرأة من الورثة؟
قال: ليس المرأة والرجل بمنزلة شاهدين؛ لأن الله تعالى يقول: {فرجل وامرأتان}[ ]، فأما إذا كان رجل وامرأة فلما أقرَّا به من شيءٍ كان(1) في نصيبهما من دين المدعي، لا لهما ولا لغيرهما من الورثة، كل واحد منهما على قدر نصيبه الذي ورثه.
وسألته عن رجل ادعى أرضاً أو نخلاً أنَّها كانت لجده، وذلك في يد رجل آخر؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فهو.
فقال: عليه البينة العادلة أنَّ جده كان يملكها ويحوزها حتَّى مات وتركها مورثاً لأبيه، فإذا قامت البنية بذلك قيل للذي هي في يده: قد ثبت لهذا بينة أن جده مات وتركها مورثاً لابنه، فبم صارت في يدك أنت فلا بد أن تدعي في ذلك دعوى، فإن قال: اشتريت، قيل له: شهودك على الشراء، فإن أثبت على شرائه من فلان، قيل أيضاً لفلان: بما صارت هذه الأرض إليك وفي يدك، حتَّى ينظر الحاكم آخِر الخبر، فيحكم بما ينكشف له من(1) الحق، فإن قال: اشتريت من فلان وقد مات فُلانٌ ومات شهودي، قيل للذي ادعى الأرض: تحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو إلى آخر اليمين الغموس(2) ـ وهي الجذ البتة ـ أن هذه الأرض تركها جدك موروثاً(3) لأبيك، وما خرجت من يد أبيك ببيع ولا هبة ولا غير ذلك، فإن حلف البتة ـ وهي الغموس ـ استحقها بيمينه الغموس، وإن قال: لا أدري كيف خرجت من يد أبي وأنا أحلف على علمي أني ما علمت أنَّها خرجت من يد أبي ببيع ولا هبةٍ، قيل للذي هي في يده: تحلف بالله أنت اليمين الغموس لقد اشتريت من بائع مستحق مَالِكٍ، فإن حلف استحقها دون من ادعاها لأبيه، فإن لم يحلف على ذلك قطعاً فقد أدخل الشك في دعواه ولم يأتِ بينةٍ، فكانت اليمين يمين المدعي أن لأبيه الأرض. (1/352)
باب القريعين إذا ماتا
وسألته عن الرجل وزوجته يموتان جميعاً أو واحدٌ بعد واحدٍ، ويترك الرجل ورثةً وتترك الزوجة أيضاً ورثةً، فيدعي ورثة الزوجة صداقها أو ديناً لها على ورثة الزوج؟
قال: على ورثة الزوجة البينة على ما ادعوا.
قلت: فإن لم يكن لهم بينة؟
قال: يحلف ورثة الزوج.
قلت: يحلفون على علمهم أو الغموس؟
قال: يحلفون على علمهم بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما علمنا أن أبانا أو فلاناً مات ولفلانة عليه حق.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): عن.
(2) ـ قال في الأم: ضرب على قوله: إلى آخر اليمين الغموس، وضرب أيضاً على الجد، فانظر.
(3) ـ في نسخة (ب): مورثاً.
قلت: وكذلك كل ورثة وكل من ليس عليه في نفسه الحق يحلف على علمه؟ (1/353)
قال: نعم.
قلت: فإن كانت الزوجة في حياتها لم تطالب الزوج بالصداق أو الدين حتَّى مات، فلمَّا مات طالبت الورثة، هل يكون تركها الزوج في حياته إبطالاً لحقها؟
قال: لا، ولم يبطل حقها إن كانت تركته توانياً منها أو تركته حياءً من زوجها.
قلت: فإن كان الورثة قد اقتسموا المال وهي أيضاً باقية وهي تنظر إليهم، فلم تنكر ولم تطالب حتَّى ماتت، فلما ماتت طالب ورثتها ورثة الرجل وقد اقتسموا؟
قال: ذلك لهم لا يبطل الحق وإن تركته، إلاَّ أن تكون وهبته لهم وعُرِف ذلك منها.
قلت: فهل ترد القسمة الَّتي اقتسموها والمرأة باقية؟
قال: لا؛ لأن القسمة اقتسمت وهي تعلم، فكان سكوتها رضىً بالقسمة، ولم يبطل حقها لو طالبت به في ذلك الوقت، وكذلك ورثتها من بعدها لا يبطل حقهم من ميراثها.
قلت: فإن كان بعض ورثة الميت قد باع واستهلك؟
قال: الحق لازم لهم يؤدون إلى ورثة المرأة كل واحد منهم بقدر نصيبه الذي ورث، إن كان سدساً فسدساً، وإن كان ربعاً فربعاً، حتَّى يوفوا ورثة المرأة كلما كان من حقها.
باب تصديق الرسول وإنكار المرسل
قلت: فإن رجلاً أتى إلى رجلٍ، فقال له: يقول لك فلان ادفع إليَّ ديناراً، فدفع إليه ديناراً، ولم يكن له بعَلامة كذا وكذا، ثُمَّ التقى الدافع والرجل، فقال: قد أخذ مني فلان برسالتك ديناراً، فقال: لم أرسله إليك، ما يجب في دعواه؟
قال: لا يلزم الذي ادعى عليه أنَّه أرسل الرجل شيء، ويطالب الدافع المدفوع إليه بالدينار.
قلت: فإن المدفوع إليه جحد؟
قال: على الدافع البنية، وعلى المدفوع إليه اليمين.
قلت: وكذلك يستحلف المدفوع إليه الذي ادعى أنَّه أرسله أنَّه ما أرسله؟
قال: نعم.
قلت: فإن كان المدفوع إليه جاء بأمارةٍ عرفها الدافع من قِبَل صاحبه، فدفع إليه لمعنى العلامة، ثُمَّ جحد المرسل، ما يجب في ذلك؟
قال: القول فيه كالقول الأول.
بابٌ في الرجل يدعي على رجل قد مات ديناً فيطالب الورثة بذلك (1/354)
وسألته عن رجل ادعى على رجل قد مات ديناً، فيطالب الورثة بذلك فأنكروا، فأثبت المدعي على الميت أن له عليه كذا وكذا ديناراً، ولم يشهد الشهود أن هذا الدين على الميت قارٌ حتَّى مات؟
قال: الشهادة ثابتة بالدين على الميت بإقراره.
قلت: فهل على الورثة أن يثبتوا بالقضاء؟
قال: نعم.
قلت: فإن لم تكن لهم بينة وادعوا جهلاً، وقالوا: لا ندري قضى أبونا هذا الدين أم لا؟
قال: إذا ادعوا جهلاً أُحلف لهم المدعي الذي على أبيهم بالله ـ إلى آخر اليمين البتة ـ أنَّ هذا الدين الذي ادعيت على أبينا قارٌ لك حتَّى مات أبونا ما قبضت منه شيئاً ولا أمرت بقبضه، ثُمَّ يحكم بالدين على ورثة الميت للمدعي.
بابٌ في المرأة تموت عند الرجل وهي في حباله،
فيدعي ورثتها أن صداقها على الزوج قارّ، فيطالبوه بذلك
وسألته عن المرأة تموت عند الرجل وهي في حباله، فيطالب ورثة المرأة الرجل بصداقها، فيقول الرجل: ليس لها عندي شيء؟
قال: إذا أُثبت(1) النكاح بينهما، وثبتت البينة أنَّها ماتت وهي في حباله ثبت على الزوج الصداق بثبات النكاح.
قلت: فهل يجب على الزوج البنية بالقضاء؟
قال: نعم.
قلت: ولِمَ يجب على الزوج البينة بالقضاء وهو الجاحد؟
قال: لأنَّه يريد يذهب عن نفسه الصداق، فوجبت عليه البينة بذلك.
قلت: فيجب على الورثة اليمين ما علموا أن هذه المرأة قبضت صداقها ولا شيئاً منه؟
قال: نعم، يحلفون بالله على علمهم.
بابٌ في البائع والمشتري يختلفان، على مَن البينة
وسألته عن رجل باع رجلاً ثوباً أو عرضاً من العروض ثُمَّ اختلفا، فقال البائع: بعتك هذا الثوب بدينارٍ، وقال المشتري: اشتريت منك هذا الثوب بعشرة دراهم، على مَن البينة منهما؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ثبت.
قال: قد قال غيرنا: إن هذين جميعاً مُدَّعيان، عليهما البينة، ويبدأ(1) ببينة البائع؛ لأنَّه يدعي الفضل، فإن لم يكن لواحدٍ منهما بينة أحلفا جيمعاً على ما قالا، ثُمَّ يترادان البيع، وأما قولنا: فإن البينة على البائع، وهو المدعي، واليمين على المنكر، وهو المشتري. (1/355)
باب القول في الرجل يستعير الثوب أو السيف أو ما أشبه ذلك،
ثُمَّ يرده فينكره الذي أعاره إياه
وسألته عن رجل أعار رجلاً ثوباً أو عرضاً من العروض، ثُمَّ أتى به يرده، فقال المعير: ليس هذا ثوبي، على مَن البينة؟
قال: البينة على المستعير أنَّ هذا الثوب هو الذي أعاره الرجل.
قلت: فإن لم تكن له بينة؟
قال: يستحلف صاحب الثوب على ما ادعى من صفة ثوبه وثمنه، ثُمَّ يدفع إليه.
باب القول في الرجل يشتري من الرجل السلعة فيدفع إليه ثمنها
فيأخذه صاحب السلعة، فيكون معه يوماً أو أكثر،
ثُمَّ يرده فينكره المشتري، على مَن البينة
وسألته عن الرجل يشتري من الرجل السلعة بدينار فيدفع الدينار إلى البائع، فيكون معه يوماً أو أكثر، ثُمَّ يرده على المشتري بعيب، فينكره المشتري ويقول: ليس هذا ديناري، على مَن البينة؟
قال: البينة على الذي رده، وقال للمشتري: هذا دينارك، فيجب عليه بذلك البينة أنَّه دينار المشتري.
قلت: فإن لم يكن له بينة؟
قال: يحلف المشتري بالله ما هذا الدينار ديناره.
قلت: فإن قال المشتري: لا أدري هذا ديناري أم لا؟
قال: إذا جهل ذلك ردت اليمين على البائع بالله ـ إلى آخرها ـ أن هذا الدينار الدينار الذي قبضه من المشتري، ثُمَّ يحكم على المشتري ببدله.
باب الرجل يشتري من الرجل تمراً أو سكَّراً ثُمَّ يختلفان في الوزن، على مَن البينة
وسألته عن رجل اشترى من رجل تمراً أو سكَّراً أو ما أشبه ذلك، فوزن البائع للمشتري، ثُمَّ اختلفا، فقال البائع للمشتري: وزنت لك خمس وزنات، وقال المشتري: لم تزن لي إلاَّ أربع وزنات، على مَن البينة؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ويبتدأ.
قال: على البائع؛ لأنَّه يدعي الفضل. (1/356)
قلت: فإن المشتري قال للبائع: وزنتَ لي ستة أرطال، وقال البائع: وزنتُ لك عشرة أرطال؟
قال: الجواب في ذلك واحدٌ، البينة على البائع؛ لأنَّه الذي يطالب(1) الفضل.
بابٌ في الرجل يدعي غلطاً
قلت: فإن رجلاً اشترى من رجل سمناً أو سكَّراً أو ما أشبه ذلك، فوزنه البائع للمشتري وقبضه، ثُمَّ أتى البائع فقال للمتشري: كان لك عندي عشرة أرطال فغلطت على نفسي فوزنت لك خمسة عشرة رطلاً، على مَن البينة؟
قال: البينة على البائع الذي وزن وادَّعى(2) الغلط، وهو طالب الفضل.
قلت: فإن لم يكن له بينة؟
قال: يستحلف له المشتري ما علم بهذه الزيادة ولا أن له عنده غلطاً.
قلت: فإن قال المشتري للبائع: أنت وزنت لي ولا أدري هو كما تقول(3) أم لا؟
قال: إذا ادعى جهلاً ردت اليمين على البائع، فاحتلف بالله ـ إلى آخر اليمين ـ لقدت وزنت خمسة عشر رطلاً كما ذكرت، ثُمَّ يستحق بيمينه ما ادعى.
بابٌ في الرجل يدعي أن الرجل ضربه، فأذهب سمعه
قلت: فإن رجلاً ضرب رجلاً فادعى المضروب على الضارب أنَّه أذهب سمعه، كيف العمل في ذلك؟
قال: يحتال عليه، فيفزع من ورائه في أغفل غفلاته بشيء يضرب به ورائه، فإن فزع لذلك الضرب(4) فهو كاذب، وإن لم يفزع فهو صادق.
قلت: فإن اتهم في ذلك؟
قال: يستحلف على دعواه، والإفزاعُ على الغفلة يستخرج ضميره بلا شك.
بابٌ في الرجل يودع الرجل وديعة، فيبيعها فيطالبه صاحب الوديعة بها، فيقول المستودع: أمرتني وأطلقت لي أن أبيعها، فينكر صاحبها ذلك، على مَن البينة
وسألته عن رجل أودع رجلاً ثوباً أو عرضاً من العروض فيبيعه الذي وضع عنده، فيطالبه صاحب الوديعة بها، فيدعي أن صاحبها أطلق له بيعها، على مَن البينة؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يطلب.
(2) ـ في نسخة (ب): فادعى.
(3) ـ في نسخة (ب): على ما قلت.
(4) ـ في نسخة (ب): الصوت.
قال: على الذي كانت عنده الوديعة؛ لأنَّه الذي ادعى أن صاحبها أمره ببيعها، وعلى صاحب الوديعة اليمين؛ لأنَّه المنكر أنَّه أمره ببيعها. (1/357)
قلت: فإن حلف وقد باعها المستودع، هل عليه قيمتها يوم باعها؟
قال: عليه ردها بعينها، إلاَّ أن تكون قد استهلكت فيكون عليه مثلها.
بابٌ في الرجل يكون له عند الرجل مال، فيتلف، فيطالبه فيدعي أنَّه كان عنده مضاربة، ويقول صاحب المال: بل أسلفتك إياه سلفاً، على مَن البينة
وسألته عن رجل يكون له عند رجل مال فيتلف فيطالبه به، فيدعي أن المال كان عنده مضاربة، فيقول صاحب المال: بل أسلفتك إياه سلفاً، على مَن البينة منهما؟
قال: على من ادعى أنه كان عنده مضاربة؛ لأنَّه يريد يتلف مال الرجل، ولا بد له من بينة على ما قال وادعى.
قلت: فإن رجلاً ادعى على رجل ديناً، فأنكر المدعى عليه ذلك، وقال المدعي: فلان يشهد لي بذلك عليك، فقال المدعى عليه: إن شهد عليَّ فلان وحده فهو صادق وقد رضيت به، فأتى المدعي بالرجل الذي رضي به المدعى عليه فشهد عليه بالدين، هل يوجب عليه الحاكم الدين برضاه بهذا الشاهد؟
قال: أما الحكم فلا يجب بشاهد واحد.
قلت: وكيف وقد رضي المدعى عليه بهذا الشاهد؟
قال: حكم الله وأمره أولى، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بشاهدين، وإنَّما هذا قولٌ من المدعى عليه، فإن تم على ما قال فهو صلح بينهما ورضىً، وإن لم يتم على ذلك وطلب الشاهدين فله ذلك، ولم يلزمه بهذا القول الحكم.
وسأالته عن رجل اشترى من رجل ثوباً، ثُمَّ اختلفا، فقال البائع: بعتك بعشرين، وقال المشتري اشتريته منك بعشرة، على مَن البينة؟
قال: البينة على البائع؛ لأنَّه يدعي الفضل.
قلت: فإن لم تكن له بينة؟
قال: فاليمين على المشتري.
قلت: كيف يستحلف؟
قال: يستحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما اشتريت منك هذا الثوب إلاَّ بعشرة، ثُمَّ يحكم له الثوب، وقد قال غيرنا: إنهما إذا اختلفا يتحالفان ويترادان البيع، ولسنا نقول بذلك ولا نلتفت إليه. (1/358)
قلت: فإن رجلاً ادعى على رجلٍ أنَّه رهن عنده ثوباً بكذا وكذا، فضاع الثوب، فقال المدعى عليه: إنَّما أودعتني الثوب وديعةً ولم أرتهنه، فذهب، على مَن البينة؟
قال: على الذي ادعى أنَّه رهنه.
باب الشهادات
وسألته عن الرجل يعرف خطه وينسى الشهادة، ما يجب عليه؟
قال: إذا أيقن بخطه وعرفه معرفةً بينةً بالغةً شهد.
وسألته عن الرجل يشهد على المرأة ولا ينظر إلى وجهها، هل يشهد إذا عرف صوتها؟
قال: إذا عرفها بوجهٍ أو بصوتٍ أو غير ذلك جازت شهادته إذا أيقن أنَّه صوتها كما يوقن إذا رأى أنَّه وجهها، وإذا شك أدخل عليها مَن يَعرفُها شاهدين تقيين يعرفانها.
وسمعت رجلاً يسأله عن شاهدين أحدهما مملوك؟
فقال: وما للملوك إذا كان تقيّاً خائفاً عدلاً ما يسقط شهادته، نحن نجيز شهادة المملوك إذاكان عدلاً.
وسألته عن رجلين شهدا على رجل بعشرة دنانير، غير(1) أنهما اختلفا في الموضع الذي شهدا فيه، فقال أحدهما: أشهدني فلان على نفسي لفلان بعشرة دنانير في داره، وقال الآخر: أشهدني فلان على نفسه لفلان بعشرة دنانير في السوق؟
قال: هذه شهادة صحيحة.
قلت: فإن الرجل أتى بشاهد آخر مع الذي شهد في الدار بالعشرة فشهد على مثل ذلك، وجاء بشاهد آخر على مثل ما شهد به الذي في السوق؟
قال: يلزم الرجل عشرون ديناراً.
قلت: فإن المدعى عليه قال: هذه الشهادة كلها على هذه العشرة؟
قال: قد صار بقوله هذا مُدَّعِياً، وعليه البينة على ما قال، وعلى الذي وجبت له الدنانير اليمين بالله على ما قال. قال: وقد أخطأ المدعى عليه الأول حيث أشهد عليه أن لا يقول للشهود هذه العشرة دنانير هي الَّتي شهد عليَّ بها الشهود كلهم ويكتب بها خطوطهم.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): على.
وسألته عن رجلين شهدا على رجل بطلاق زوجته، ثُمَّ رجع أحدهما عن شهادته أو رجعا جميعاً؟ (1/359)
فقال: كل ذلك سواء رجوعهما جميعاً أو أحدهما(1) ردت المرأة على زوجها ويبطل الطلاق.
قلت: فإن كانت المرأة قد تزوجت زوجاً وولدت منه قبل رجوع الشهود ثُمَّ رجعوا؟
قال: انفسخ تزويج الثاني، وترد المرأة على زوجها الأول بالنكاح الأول، وتستبرئ من ماء الآخر.
وسألته عن أربعةٍ(2) يشهدون على رجل أن لفلان عليه ألف درهم، ثُمَّ يرجع واحد بعد واحد عن الشهادة حتَّى يبقى رجلان؟
قال: الحكم على حاله.
قلت: فإن رجع أحد الرجلين؟
قال: يبطل الحكم، وآخذ المال من الذي حكم له به فأرده على صاحبه الذي حكم عليه به؛ لأنَّه حكم عليه بغير حقٍّ ولا ألزم الشُّهود المال كما قال الجهَّال، ولأيِ معنىً ألزِمُ الشُّهودَ المالَ وقد شهدوا شهادةً أعدل من شهادتهم الأول،، على كل حالٍ إن قالوا: إنا أخطأنا في الشهادة، أو قالوا: إنا اعتمدنا ثُمَّ رجعنا، فذلك أعدل لشهادتهم عند توبتهم وإنابَتهم، فألزم الشهود عند ذلك ما لا يجب عليهم، وأترك الذي أخذ المال بغير شهادة حقيقة فلا آخذ منه المال، فيكون ذلك ظلماً للشهود وربحاً للذي أخذ المال.
وسألته عن الرجل يدعي على الرجل ألف درهم، فقال له الحاكم: أثبت على ذلك بينة، فأتى بشاهدين، فشهد أحدهما على الرجل بألفٍ، وشهد الآخر بخمسمائة على الرجل، كيف العمل في ذلك؟
قال: لا يثبت على المدعى عليه من ذلك شيء؛ لأنَّه لم يشهد عليه شاهدان بمعنى واحد، ولا نقول في ذلك كما قال غيرنا: إنهما اجتمعا على الخمسمائة ويلزم المدعى عليه؛ لأن الخمسمائة داخلة في الألف، وكيف يكون على ما قالوا ولم يشهد بشهادة كاملة، وشهد كل واحد بضدِّ شهادة صاحبه.
وسألته عن رجلين شهدا لرجل على رجل بألف درهم، ثُمَّ شهد أحدهما أن صاحب الألف قد اقتضاها من الذي هي عليه؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أو رجوع.
(2) ـ في نسخة (ب): الشهود.
قال: الشهادة بالألف على حالها، وقد شهد هذا بقضاء الألف، فإن كان له معه شاهد آخر يشهد بالقضاء بَرِئ الذي عليه الدين، وإن لم يكن له شاهد آخر فالدين على حاله. (1/360)
قلت: فإن شهد شاهدان على رجل فشهد أحدهما أنَّه طلق ثلاثاً، وشهد الآخر أنَّه طلق تطليقتين؟
قال: فما قول الرجل؟
قلت: ينكر.
قال: فهذه الشهادة باطلة؛ لأنهما لم يتفقا في شهادتهما، ولا يلزمه الطلاق عند اختلافهما.
قلت: فإن أقر بتطليقة لا غير؟
قال: يلزمه تطليقة لا غير بإقراره.
وسألته عن أربعة شهدوا على رجل أنَّه فجَر بامرأةٍ، فشهد اثنان أنَّه فجر بها بالبصرة، وشهد اثنان أنَّه فجرَ بها بالكوفة، كيف الحكم في الرجل والمرأة والشهود؟
قال: هذا أمر ملتبس لم تصح الشهادة على وجهها؛ باختلاف شهودها، وبأقل من هذا من الشبهة(1) يُدرأ الحدُّ عنهما.
قلت: وعنهم؟
قال: وعنهم جميعاً.
وسألته عن أربعة شهدوا على امرأة بالزنا، فنظر إليها النساء فوجدنها بكراً؟
قال: إن صح أنَّها بكرٌ بغاية ما يكون من الصحة دُرئ عنها حدُّ الزانية(2)، ودرئ عن الشهود إن كانوا عدولاً حد القاذف، وعزَّرهما الإمام بقدر(3) ما يرى.
وسألته عن رجل شهد عليه أربعة أنَّه زنى بامرأةٍ ولم يعرفوها بعينها وعرفوا الرجل؟
قال: الحد واجب على من زنى، وليس الحد بزائل عنه بانفلات المرأة من الحد إن لم تعرف، وهذا مثل رجل زنى بامرأة ثُمَّ انفلتت المراة من أيدي الشهود فالحد لازم للرجل.
وسألته عن رجل قال: كل شهادة أشهد بها على فلان فهي باطلة، أو قال: ليس عندي على فلان شهادة، ثُمَّ يشهد عليه من بعد ذلك؟
قال: يسأل عمَّا قال: لِمَ قلت هذا؟ فإن قال: نسيت الشهادة ثُمَّ ذكرتها استحلف على ما قال، ثُمَّ قبلت شهادته.
__________
(1) ـ الشهود.
(2) ـ في نسخة (ب): الزنى.
(3) ـ في نسخة (ب): على قدر.
وسألته عن رجل حضر رجلين فقالا: لا تشهد علينا بشيء ممَّا نتكلم به، ثُمَّ تكلما بشيء، أيلزمه الشهادة لأحدهما على الآخر أم يجوز له كتمان ما سمع منهما؟ (1/361)
قال: إن كان تيقن ما سمع منهما حقّاً على واحدٍ منهما لصاحبه شهد على ذلك، وإن لم يتيقن الذي(1) كان بينهما مطالبة كل واحد منهما لصاحبه بحق لم يشهد؛ لأنَّه قد يكون ذلك فيما يكون بين الناس مزاحاً أو غير حقٍ.
وسألته عن شاهدين شهدا أن فلاناً اشترى من فلانٍ هذه الدار بألف، فقال المشهود له: اشتريتها بألف ومائة، هل تجوز شهادتهما؟
قال: نعم، لا يلتفت إلى قوله هو مع قول الشاهدين، وإنَّما تبطل شهادتهما لو قالا: اشترى هذه الدار بألف، وقال هو: اشتريتها بخمسمائة، بطلت شهادتهما.
وسألته عن الصبي يشهد قبل أن يبلغ، هل تجوز شهادته إذا بلغ؟
قال: نعم إذا ذكرها وصححها(2).
وسألته عن رجلين شهدا(3) على شهادة رجلين، هل تجوز شهادتهما؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه صار على شهادة كل رجل رجل(4) واحد، وليس تجوز شهادة الرجل الواحد.
قلت: فإن شهد الرجلان جميعاً على شهادة الرجل، وشهد أيضاً على شهادة هذا الرجل الثاني؟
قال: ذلك جائز ليس فيه كلام، ولو شهدا على مائة، إلاَّ أنهما جميعاً يشهدان على كل واحد من المائة لجازت شهادتهما.
وسألته عن رجلين شهدا على شهادة رجل وهو حاضر في البلد الذي شهدا على شهادته؟
قال: إن كان الذي شهدا على شهادته عليلاً أو خائفاً على نفسه لايقدر أن يأتي الحاكم أو كان غائباً في بلد جازت شهادتهما على شهادته.
قلت: فإن لم يكن عليلاً ولا خائفاً وشهدا على شهادته، هل يقبل الحاكم ذلك؟
قال: ما أحب ذلك إذا كان الشاهد في الأصل حاضراً ولم يكن به علَّةٌ.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أنه.
(2) ـ في نسخة (ب): وأصحها.
(3) ـ في نسخة (ب): يشهدان.
(4) ـ في نسخة (ب): يشهدان.
وسألته عن رجلين شهدا على خطِّ رجلٍ في كتاب رجل شراء أو بيع أو غير ذلك وعرف الشاهدان خطَّ الرجل أنَّه خطه بيده، والرجل قد مات وهو يُعرف بالعدالة، هل تكون هذه شهادة على الخط أو ينفع عند الحاكم؟ (1/362)
قال: لا، ليست الشهادة على الخط بشهادةٍ.
قلت: ولِمَ وقد عرفا خطه وعرفاه بعدالة الشهادة وتيقناه؟
قال: لا يجوز؛ لأنَّه قد يمكن أن يكون قد نقص ذلك الكتاب أو قضى الدين أو رجع عن شهادته لمعنى قد عرفه، فلا تجوز الشهادة على خط، ولا يؤخذ بذلك.
باب مَن تجوز شهادته ومن لا تجوز
وسألته: هل تجوز شهادة الأب لابنه أو الابن لأبيه أو الأخ لأخيه؟
قال: تجوز شهادة كل ذي رحمٍ لرحمِه إذا كانوا عدولاً مسلمين، وكل عدل من ذوي الأرحام وغيرهم فجائز شهادته إذا كان عدلاً إلاَّ أربعة.
قلت: ومن هم؟
قال: لا تقبل شهادة الشريك لشريكه، ولا تجوز شهادة الفاسق، ولا تجوز شهادة الصبي حتَّى يأتي عليه خمس عشرة سنة.
قلت: وإن لم يبلغ؟
قال: نعم؛ لأنَّه إذا بلغ خمسة عشرة سنة جرى عليه الحكم، فحكم له وعليه، ولاتجوز شهادة الجارِّ إلى نفسه إذا كان هو المخاصم، وقد قال غيرنا بغير ذلك، ولم نلتفت إلى قوله.
باب شهادة النِّساء وحدهنَّ
وسألته: هل تجوز شهادة النساء وحدهنَّ على شيء من الأشياء؟
فقال: لا تجوز شهادة النساء وحدهن، إلاَّ على ما لا يظهر عليه الرجال.
قلت: مثل أيِّ شيء؟
قال: مثل استهلال الصبي وأمراض الفروج.
باب شهادة المسلمين على شهادة الذميين وشهادة الذميين بعضهم على بعض
وسألته عن رجلين مسلمين شهدا على شهادة رجل نصراني على نصارني؟
قال: شهادة المسلمين على جميع أهل الذمة جائز.
قلت: فإن شهد شاهدان مسلمان على شهادة يهودي على نصراني، هل يجوز؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأني لا أجيز شهادة النصارى على اليهود ولا شهادة اليهود على النصارى.
قلت: أوليس هم أهل كفر كلهم، والكفر ملَّةٌ واحدة؟
قال: أصل الكفر واحد، ولكنهم مفترقون في ذلك، ومللهم متفرقة، وإنَّما لم أجز شهادة بعضهم على بعض؛ لأني رأيتهم يشهد بعضهم على بعض بالكفر ويستحله، فلم آمن أن يشهد بعضهم على بعض بزورٍ بشهادة بعضهم على بعض بالكفر واستحلال بعضهم لبعض. (1/363)
بابٌ في شاهدين يشهان في أرض أو دار، ثُمَّ يدعيانها بعد ذلك
وسألته عن رجل اشترى من رجل داراً أو أرضاً، وشهد على ذلك شاهدان، فشهدا وأثبتا شهادتهما ثُمَّ ادعيانها(1) جميعاً أو واحد منهما في هذه الأرض أو الدار جُزءاً أو كلها، هل تفسد دعواهما شهادتهما(2)، أم يفسد الشراء، أم كيف العمل؟
قال: الشراء ثابت وشهادتهما ثابتة.
قلت: وكيف ثبتت شهادتهما وقد ادعيا فيما شهد فيه، ولم ينكرا على المشتري وقت ما اشترى ولم ينكرا أن لهما فيها شيئاً؟
قال: لأنهما وقت ما شهدا لم يكونا مستحقين لحقٍّ وجب لهما، فثبتت شهادتهما للمشتري، فإذا ادعيا سألهما الحاكم البينة، فإذا أثبتا بما لهما في هذه الأرض استحقاها ورجع المشتري بثمن ما يستحق على من باعه ربعاً كان أو ثلثاً أو الكل.
قلت: ولو كانا عَلِما وقت ما شهدا أن لهما هذه الأرض أو بعضها فسكتا كانت أيضاً شهادتهما ثابتة؟
قال: نعم، ليس سكوتهما يبطل حقهما ولا يفسد شهادتهما.
بابٌ في الرجل يعترف الثوب أو الدابة فيشهد له شاهدان أنَّه كان في ملكه
وسألته عن الرجل يعترف الدابة أو الثوب أو الخاتم وشهد(3) له شاهدان أنهما كانا يعرفان هذا الثوب أو الخاتم لهذا الرجل ولا يشهدان أنَّه لم يزل في ملكه حتَّى ذهب منه بوجه من وجوه التلف وهو في ملكه، هل يجوز لهما هذه الشهادة وتصح؟
قال: ليس هذه شهادة؛ لأن المعرفة لا تصح بها شهادة.
قلت: فكيف تتم شهادتهما؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ادعيا فيها.
(2) ـ في نسخة (ب): بشهادتهما.
(3) ـ في نسخة (ب): ويشهد.
قال: يشهدان أن هذا الثوب أو الخاتم أو الدابة لم يزل في ملك هذا الرجل حتَّى ذهب منه ضالاًّ أو بوجه من وجوه التلف ولم يذهب منه ببيعٍ ولا بسببٍ أخرجه هو من يده، فإذا شهدا بذلك صحت شهادتهما. (1/364)
باب العبد يكون بين شريكين فيشهد أحدهما على صاحبه أنَّه أعتق نصيبه
وأنكر ذلك المشهود عليه
وسألته عن رجلين بينهما عبد، فشهد أحدهما على شريكه أنَّه أعتق نصيبه، فأنكر ذلك المشهود عليه؟
قال: الحكم في ذلك أن يقال للشاهد أنت قد شهدت على شريكك أنَّه قد أعتق حصته فلا سبيل لك على العبد في ملك(1)؛ لأنك قد زعمت أنَّ بعضه حُرٌّ والله لا يشارك، فلا سبيل لك على العبد، وليس لك إلاَّ قيمة حقك فيه، إن كنت معسراً يسعى لك العبد فيه، فإذا حكم على الشاهد بذلك قيل للمشهود عليه: قد عتق ما كان لشريكك في هذا العبد؛ لأنَّه قد شهد عليك بالعتق لهذا العبد فأزاح بشهادته عليك مِلكَه هو عنك، فلك عليه قيمة حقك إن كان مؤسراً، وإن كان معسراً سعى لك العبد في قيمة حقك كما سعى له هو في قيمة حقه في حال إعساره.
باب الوديعة
وسألته عن رجل أودع رجلاً وديعةً من عرضٍ أو غير ذلك من الثياب أو دراهم أو دنانير، فقال المستودع: قد ذهبت؟
قال: لا ضمان عليه؛ لأنَّه مؤتمن.
قلت: فعليه يمين؟
قال: نعم، إن اتهم.
قلت: فإن فتح الصُّرةَ فأخذ منها ديناراً(2) سلفاً، ثُمَّ ذهبت الصُّرَّة، هل يضمن بإحداثه في الصُّرة؟
قال: لا ضمان عليه؛ لأنَّه إنَّما فتحها لسلف لا لتلف، وإنَّما عليه يرد الدينار(3) لا غير، ويستحل صاحبه بما فعل في صرته بغير أمره.
قلت: فإنه لم يفتحها هو ولكنه دفعها إلى أهله أو ولده أو أحد ممَّن يثق به في منزله الذي يسكنه، فذهبت الصرة؟
قال: لا يضمن؛ لأن هذا حرزه الذي فيه ماله.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ملكك.
(2) ـ في نسخة (ب): دنانير.
(3) ـ في نسخة (ب):الدنانير.
قلت: فإنه دفع الصرة إلى أحد هؤلاء الذين يثق بهم وهو في غير منزله الذي يسكنه فذهبت الصرة؟ (1/365)
قال: يضمن.
قلت: فلأيِّ علةٍ لا يضمن إذا دفعها إلى من في منزله ممَّن يثق به، ويضمن إذا أخرجها إلى من يثق به في غير منزله؟
قال: لأنها إنَّما دفعت إليه لتكون في حرزه، وحرزه حيث يكون ماله، ولم يكن له أن يخرجها إلى غير حرزه من منزله الذي يكون فيه إلى منزل آخر فيضمن بذلك، إلاَّ أن يكون اشترط على صاحب الوديعة أن يعمل فيها برأيه ويستودعها، فإذا اشترط عليه لم يضمن.
قلت: وكذلك لو سافر بها في بعض أسفاره فذهبت؟
قال: وكذلك لا يضمن إذا اشترط ما قلنا، وإن لم يشترط ضمن؟
قال: فإن رجلاً أودع رجلاً برّاً أو عرضاً أو حيواناً أو تمراً، فقال له: بع لي هذا في بلد كذا وكذا بلد معروف، فخرج المستودع حتَّى صار دون البلد الذي أودع إليه، فحال بينه وبينه الخوف من لصوص أو غير ذلك فباع التمر دون البلد؟
قال: إن صح أن الخوف منعه من البلد الذي أودع إليه فباع التمر دون البلد ضمن.
قلت: يضمن مثل التمر أو ثمنه؟
قال: صاحب البضاعة مخير إن شاء أخذ فضل الثمن مثل ما بين البلد الذي أودع إليه وبين البلد الذي باع فيه، وإن شاء ضمنه مثل بضاعته.
قلت: فإنه لما باع التمر كتب إلى صاحبه أني قد بعته دون البلد، فرضي صاحب البضاعة، فذهب منه الثمن في البلد الذي باع فيه؟
قال: لا يكون ضامناً؛ لأنَّه قد رضي ببيعه.
قلت: فإنه لم يكتب إليه أني قد بعته، وخرج بالثمن من البلد فأُخِذ منه؟
قال: يضمن؛ لأنَّه خالف.
قلت: فإنه وصل بالتمر إلى البلد الذي أودع إليه، ثُمَّ أرسل به مع من يثق به فذهب؟
قال: يضمن إلاَّ أن يكون ما قدمنا في إباحة الوديعة أن يعمل فيها بما(1) يرى، فلا يضمن.
قلت: فإن رجلاً أودع رجلاً مالاً فاشترى به المستودع بضاعةً فربح فيها دنانير، لمَن الرّبح؟
قال: لصاحب المال.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): كما يرى.
قلت: ولِمَ يكون الربح لصاحب المال وقد خالفه المستودع، ولو ذهب المال لكان ضاماً؟ (1/366)
قلت: فلِمَ لم يكن له الربح لضمانه؟
قال: لو جعلنا الربح للمستودع لجعلت أربحاح أموال المسلمين لغيرهم.
قلت: فيجعل له شيء من الربح؟
قال: نعم، أجرة مثله لما قام فيه، وبذلك ألزمته الضمان.
قلت: فإن كسدت(1) البضاعة واحتاج صاحب المال إلى ماله، هل يجبر المستودع على البيع وردِّ المال على صاحبه؟
قال: نعم.
باب العارية
وسألته عن رجل استعار من رجل دابةً أو ثوباً أو غير ذلك ممَّا يُستَعَار، فأعنت المستعير الدابة أو ذهب منه الثوب أو لقيه اللصوص فانتهبوا منه العارية.
قال: إن كان ضمَّن المعير المُستعِير العاريةَ، كما ضمَّن صفوانُ بن أمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلاح فهي عارية مضمونة على المستعير الضمان، وإن كان لم يُضمِّنه وإنَّما استعارها عارية مبهمة فقال له: أعرني، فأعاره فتلفت العارية فليس على المستعير ضمانٌ.
قلت: فإن كان المستعير استعارها إلى موضعٍ معروف أو في معنىً معروف فخالف ذلك فتلت العارية؟
قال: إذا خالف المستعير ضمِن.
قلت: فإن المستعير رد العارية مع مملوكه أو خادمه فتلفت العارية، يكون بذلك ضامناً؟
قال: لا.
قلت: فإن كان ردها(2) مع أجنبي من الناس فتلفت؟
قال: يكون ضامناً، إلاَّ أن يكون الذي أرسلت معه حملها على ما أتلفها فيضمن المتلف.
قلت: فإن الذي رُدَّت معه العارية حملها على العنت فأعنتها؟
قال: يضمن.
وسألته عن رجل يستعير من الرجل الجدار ـ وهو بكلام العراق الحائط ـ يضع عليه خشب سقفه، فيعيره الرجل حائطه فيضع عليه خشب سقفه، ثُمَّ يقول بعد سنةٍ أو سننتين: اقلع عني خشبك؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): كسرت.
(2) ـ في نسخة (ب): أرسلها.
قال: إن كان أذن له وأعاره جداره يضع عليه خشبه ولم يؤقت لذلك وقتاً ولا شرط عليه أنَّه أعاره سنة أو مداً(1) معروفاً، فليس له أن يقلعه عنه أبداً؛ لأن قلعه ضرر، وإن(2) كان أعاره وقتاً معروفاً فله أن يقلعه إذا جاء الوقت الذي ذكر له. (1/367)
قلت: فإن وقع الجدار الذي عليه الخشب بعدما مات الذي أعاره إيَّاهُ أو في حياته وصار لورثته؟
قال: هم أولى بالجدار.
وسألته عن رجل استعار من رجل عرصةً فبنى عليها، ثُمَّ طلبها بعد ذلك، هل يجب للمعير أن يأخذ عرصته ويقلع المستعير ما عمل؟
قال: أصل العارية أن الرجل إذا استعار من رجل أرضاً أو موضع جدارٍ أو ما أشبه(3) ذلك عاريةً مبهمةً ليس فيها شرط إلى وقت معلوم، فأخذها المستعير فبنى فيها بناءً أو عمل فيها عملاً أو حفر فيها بئراً، ثُمَّ طلبها(4) صاحبها، أن للمستعير قيمة ما عمل على صاحبها، وإذا أعار الرَّجل الرجل أرضاً سنةً أو إلى وقت كذا وكذا، أو على أنَّه إذا احتاج إليها أخذها، فعمل صاحبها عملاً فيها، ثُمَّ طلبها إذا جاء الوقت، أن لصاحبها أخذها، وللذي عمل نقض بنائه لا غير، إلاَّ أن يحب المعير أن يأخذ البناء بقيمته فهو مخير، إن أحب أن يأمر المستعير بقلع(5) فله، وإن أحب أن يأخذ أخذ.
باب الإقرار
وسألته عن رجل أقر لبعض ولده بمال كله؟
فقال: يرد إلى حكم الله عز وجل، فيجعل له ثلث المال، ويرجع الثلثان على الورثة، ويكون المقر له مع الورثة.
وسألته عن رجل قطع جميع ماله لولده ثُمَّ أراد الرجوع فيه، وكذلك إن كان الولد صغيراً في حجره؟
قال: ذلك إليه إذا كان صغيراً إن شاء رجع وإن شاء لم يرجع، وإن كان كبيراً قد بلغ فله الثلث من ذلك، لا يجوز أن يهب له أكثر ممَّا يجوز له بعد الوصية، فهو الثلث فقط.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أمداً.
(2) ـ في نسخة (ب): فإن كان.
(3) ـ في نسخة (ب): أشبهه.
(4) ـ في نسخة (ب): طالبه.
(5) ـ في نسخة (ب): بقلعه.
قلت: فهل للصغير إذا بلغ أن يطالب أباه أو الورثة من بعده إذا وجد الشهود بذلك، وكيف جاز للكبير الثلث ولم يجز للصغير وقد أشهد له، فسِّر لي جمع ذلك، ومن أين رجع في حق الصغير ولم يرجع في حق الكبير؟ (1/368)
قال: لأن الصغير في حجره وما دام في حجر أبيه فهو أملك به، وكذلك إذا وهب له هبةً رجع فهيا ما دام في حجره، وأما الكبير فقد صار أملك بنفسه، فليس لأبيه أن يرجع فيما وهب له.
قلت: فالإقرار، ما هو؟
قال: على جهتين: إقرار بهبة، أو إقرار بدين، فذلك جائز.
قلت: فإنه أقر لابنه أو لبنته بضيعةٍ هي ثلث ماله في صحته، وقبضها أو لم يقبضها، وقد أشهد له بها، وله ولد غيره؟
قال: ذلك جائز.
قلت: فله أن يرجع إذا لم يقبضها الولد؟
قال: لا إن كان بالغاً، وأحب إلينا أن يساوي بين الولد في هبته وعطيته.
قلت: فإنه أقر له بهذه الضيعة وقبضها، ثُمَّ أوصى له في مرضه الذي مات فيه بثلث ماله دون ولده، هل يجوز ذلك؟
قال: لا، لا يجوز؛ لأنَّه قد بان حيفُه وميلُه على ولده، فيصير له من دونهم ثلثي المال، وهذا حيفٌ بيِّنٌ.
وسألته عن رجل قطع لابن أخ له شيئاً يسيراً من ماله، ثُمَّ قطع بقية المال لابنته، ثُمَّ توفي، كيف يقسم الثلث بينهما؟
قال: يقسم على قدر ما في يد كل واحد منهما من المال بحسابه، ينظر ما في يده وما يبقى من المال قسم على الموارث.
وسألته عن رجلٍ قطع ماله كله لولد له وله أولاد جماعة غير الذي أقطعه المال، ثُمَّ توفي الولد وخلف أباه وخلف أولاداً، ثُمَّ توفي الأب، هل لولده أن يرجع على ولد ولده فيما جعل لأبيهم؟
قال: نعم، لهم أن يرجعوا فيما بقي عن الثلث، يكون للورثة؛ لأن الأب جارَ وظلمَ.
وسألته عن رجل أقر لابنه بأرضٍ، وقبضها الابن وحازها في صحة منه وجواز أمرٍ، ثم مكث أياماً، ثُمَّ أقر لابن له آخر بأرضٍ أخرى، وقبضها أيضاً وحازها في صحة منه، ثُمَّ مكث أياماً، ثُمَّ أقر لابنٍ له آخر بأرضٍ أخرى وقبضها أيضاً وحازها في صحةٍ منه، ثُمَّ مكث أياماً، ثُمَّ أقر لامرأته بمنزله(1)، وقبضته الزوجة في صحةٍ منه، وأشهد لكل واحدٍ من هؤلاء شهوداً، وكل ذلك متفاوت الثمن، ثُمَّ توفي الرجل وفي يد كل واحد منهم ما أشهد له به؟ (1/369)
قال: يكون جميع ذلك في ثلث ماله، ويكون الثلث بينهم على قدر ما قطع لكل واحدٍ منهم، ويكون سائر المال مورثاً عنه.
وسألته عن رجل أقر لولد له صغير بضيعة أرض أو عنب، وأشهد في ذلك شهوداً عدولاً ولم يعلم بذلك الولد الذي أشهد له بذلك، ثُمَّ إن الرجل باع الضيعة من رجل وقبضها المشتري، وذلك قبل بلوغ الولد المشهد له بها، ثُمَّ مات الرجل فوقع في يد الولد المشهد له بالضيعة كتاب الإقرار الذي أقرَّ له به أبوه، والضيعة في يد المشتري، وكانت يوم اشتراها تساوي مائة دينارٍ، فغرس فيها شجراً ونخلاً(2) حتَّى صارت تساوي مائتي دينارٍ، ثُمَّ طالب الذي أقرَّ له بالضيعة المشتري الذي في يده الضيعة، وقد استغلها المشتري سنين أكثر من ثمنها أو أقل؟
قال: إذا كان ذلك كذلك جاز بيع الأب؛ لأنَّه باعه والصبي صغير في حجره، وليس للصبي أن يرجع(3) على المشتري بشيء.
باب الهبة
وسألته عن رجل وهب لابنه أرضاً وغنماً وغير ذلك، وكان الابن مع أبيه، فاستهلك الابن الغنم وبعض الأرض وبقي بعض ما وهب له، وذلك في أيديهما جميعاً؟
فقال: قد جاز الذي استهلكه ابنه، وليس للأب فيه رجعة، فأما الذي بقي فهو للأب إذا لم يكن الأب أشهد للابن به وحازه الابن، فإن كان الابن قد حازه فلا رجعة للأب فيه إذا كان الابن بالغاً.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): بمنزله له.
(2) ـ في نسخة (ب): أو نخلاً.
(3) ـ في نسخة (ب): أن يرتجع.
وسألته عن رجل وهب ثلث ماله في حياته، هل يكون له أن يوصي عند موته في الثلثين الباقيين؟ (1/370)
فقال: إذا كان وهب ذلك في صحةٍ من بدنه وثباتٍ من عقله وجوازٍ من أمره فهبته جائزة، وفعله في ماله نافذ، وله أن يوصي عند موته بثلث ما بقي في يده.
وسألته عن الرجل يهب ثلث ماله لرجل، ثُمَّ يهب ثلث ماله لآخر، ثُمَّ يهب أيضاً ثلث ماله لآخر، هل يكون الثلث للأول، أو يكونون شركاء في الثلث؟
فقال: إن كان وهب ذلك مفرقاً(1) لواحدٍ بعد واحد وذلك في صحةٍ منه وجواز أمرٍ فالثلث للأول، وإن كان إنَّما وهب المال كله لواحد، ثُمَّ وهبه للآخر، ثُمَّ وهبه للآخر فأحسن ما أرى في ذلك: أنهم شركاء في الثلث، إذا كان في صحته؛ لأنَّه وهب ما وهب لواحدٍ بعد واحدٍ وكلهم لم يحز ما وهب له، فهم في ثلثه شركاء.
وسألته عن رجل وهب لذي رحَمٍ أو لأجنبيٍّ في صحةٍ منه وجواز أمرٍ داراً أو فرساً أو ثوباً أو غير ذلك، وقبضه الموهوب له وحازه، ثُمَّ أراد الواهب يرجع في ذلك؟
قال: ليس له أن يرجع فيه إلاَّ أن يكون وهبه الواهب على أنَّه يريد به عوضاً.
قلت: فإن الواهب لمَّا وهبه وحازه الموهوب له واستهلك بعضه أو كله ولم يعوضه الموهوب له، فقال الواهب: وهبتك على أن تعوضني، وقال المهوب له: لم أعلم أنك تريد منِّي عوضاً، وقد استهلكت الذي وهبت لي؟
قال: إن كان لم يعلم أنَّه يريد منه عوضاً فلا شيء عليه.
قلت: فإن الواهب قال: قد علمتَ أني أريد بهبتي منك عوضاً، فاحلف لي أنك ما علمت بذلك، هل يجب له(2) اليمين؟
قال: نعم.
وسألته عن رجل له أولاد ذكور وأنثى، فدفع إلى الجارية حليّاً وثياباً وفرشاً ولم يشهد لها به، فلما مات الأب طالبها الإخوة بالشيء؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): متفرقاً.
(2) ـ في نسخة (ب): عليه.
فقال: إن أقامت لها بينة أن أباها وهبه لها نظر في قيمة ماله كله، فإن خرج ذلك في الثلث جاز لها، وإن كان أكثر من الثلث ردَّت الهبة إلى الثلث، وكانت من بعد ذلك وارثة معهم على فرائض الله تبارك وتعالى، فإن لم يكن لها بينة على أن أباها وهبه لها فجميع ذلك ميراث بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين. (1/371)
وسألته عن رجل له أولاد، فوهب لكل رجل منهم عبداً، وسلم العبد(1) إلى أولاده، إلاَّ واحداً منهم، فنمنعه عن عبده الذي وهب له، فحلف ابنه الذي لم يُسلَّم إليه العبد كما سُلِّمَ إلى إخوته بالطلاق لا يأخذ له ما وهب له حين منعه إيّاه؟
قال: يجب على أبيه أن يسلم له ما وهب له ولا يمتنع عليه.
قلت: فإن امتنع الأب على ابنه من تسليم ما وهب له؟
قال: يرتجع الممنوع فيما وهب له أبوه ولإخوته، فإن كان أكثر من الثلث من جميع مال الأب رُدَّ إلى الثلث ولحق الممنوع في الباقي بحساب ما يجب له، وإن لم يمنعه الأب وإنَّما هو الممتنع ليمينه بالطلاق فهو مخير، إن أراد أن يأخذ العبد ويطلق، وإن أراد ترك العبد ولم يلحق مع اخوته شيئاً؛ لأنَّه هو الذي ترك ما وهب له وجنى على نفسه.
وسألته عن رجل له أولاد فيقسم ماله بينهم في صحة منه ويقبض كل واحد منهم ما وهب له، ثُمَّ يحدث للرجل بعدما دفع المال ولد غير هذا الولد، هل له أن يرتجع في شيء ممَّا دفع إلى أولئك؟
قال: نعم، له أن يرتجع عليهم في ثلثي المال.
قلت: وكيف يرتجع وقد دفعه إليهم في صحته؟
قال: لأنَّه إنَّما قسم المال عليهم على أنَّه ليس له ولد غيرهم، وأخطأ في ذلك، وحكم الله أوجب من خطأ الرجل.
قلت: فإن الولد استهلكوا المال حتَّى لم يبق معهم منه شيء؟
قال: إذا استهلك المال فقد ذهب منهم ومن الذي قسمه، ولا يرتجع علهيم بشيءٍ ممَّا استهلكوا.
__________
(1) ـ وتسليم العبيد.
قلت: فإن رجلاً قال لرجل: خذ مالي كله وأنفق عليَّ حتَّى أُموت، فدفع إليه المال وكتب عليه كتاب إقرارٍ أو كتاب هبةٍ، ثُمَّ أنفق عليه الرجل حتَّى مات صاحب المال، فطالب ورثة الرجل الذي دفع إليه المال، هل يجب لهم عليه أخذ المال؟ (1/372)
قال: نعم، ذلك الذي كان بين الرجلين شرط باطل لا يصح.
قلت: وما الذي يبطله؟
قال: لأنَّه غرر وضرر على الورثة، ولا يجوز ما كان فيه ضرر؛ لأنَّه إذا دفع إليه المال على أن ينفق عليه حتَّى يموت، فمات بعد ذلك بيوم أو يومين وكان المال له أليس ذلك ضرراً؟
قلت: بلى، وهو أيضاً شرط باطل.
قال: فمن هاهنا بطل.
قلت: فما يجب للمُنفِق؟
قال: قيمة ما أنفق.
قلت: فإن جهل ذلك؟
قال: ينظر كم الأيام أو الشهور أو غير ذلك ممَّا أنفق، ثُمَّ يجزأ بالنفقة، فليس يخفى ذلك.
قلت: فإنه قال الرجل: أنا استأجرك بنصف مالي أو بثلثه على أن تخدمني حتَّى أموت؟
قال: هذا أيضاً شرط باطل، وله أيضاً أجرة ما يجب في خدمة مثله.
وسألته عن الرجل يرث الميراث ثُمَّ لا يطلبه حتَّى يموت، فإذا مات طالبه به ورثته؟
قال: إن كان تركه ولم يُطالب به من أنَّه وهب حقه من الميراث وقامت بذلك بينة يشهدون أنَّه وهب لهم ما ورث جاز ذلك، ولم يكن للورثة أن يطالبوا بذلك، وإن لم تكن لهم بينة بهبةٍ وإنَّما تركه توانياً وسكت عنه لم يكن سكوته بالذي يذهب بحقه الذي أوجبه الله له، وجاز للورثة أن يطلبوه ويأخذوه.
بابٌ فيمن وهب هبةً يطلب بها عوضاً
وسألته عن رجل يهب للرجل شيئاً يطلب به منه عوضاً بعينه، فلم يعط ذلك العوض؟
قال: فله أن يرتجع في هبته.
قلت: فإن لم يرجع في هبته حتَّى تلف ذلك الشيء الذي طلبه عوضاً من هبته؟
قال: فله أن يرجع(1) في هبته إذا علم بتلف ذلك الشيء من ساعته، فيطالب بذلك العوض.
قلت: فإن تمادى بعد علمه وقتاً أو وقتين أو يوماً أو يومين، ثُمَّ رجع من بعد ذلك في هبته؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يرتجع.
قال: ليس يجوز له الرجوع في هبته إذا علم بتلف ذلك العوض الذي طلبه وسكت عن طلب هبته يوماً أو يومين؛ لأن سكوته بعد تلف ذلك العوض رضىً. (1/373)
قلت: ولِمَ ذلك؟
قال: لأنَّه قد ترك الهبة في يد الموهوب له بعد ذهاب العوض، فكان تركه لها من بعد علمه تسليماً منه لها.
قلت: فإن وهب رجل لرجل دراهم واستهلكها أو خلطها بدراهم مثلها فاختلطت، فلم يعرفها بأعيانها من غيرها، هل له إلى الرجوع فيها سبيل؟
قال: لا؛ لأنها غير قائمة بأعيانها.
قلت: فإن وهب رجل لرجل ديناً كان له عليه، هل له إلى الرجوع فيه سبيل؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ ذلك؟
قال: لأنَّه مال مستهلك غير قائم بعينه، وكل مال وهب للهِ أو لصلة رحمٍ فلا سبيل لصاحبه إليه بسببٍ ولا معنى.
وسألته عن رجل وهب لرجل داراً أو حانوتاً أو ما أشبه ذلك، ثُمَّ باع الواهب الدار أو الحانوت بغير علم الموهوب له، وقبض المشتري ذلك، ثُمَّ علم الموهوب له ببيع الواهب، فطالب الموهوب له المشتري، فقال له المشتري: اشتريت هذا(1) من فلان فطالِبهُ أنت بما وهب لك، فليس بيني وبينك مطالبة، ما الحكم في ذلك؟
قال: إذا ثبتت البينة العادلة بهبة الواهب للموهوب له، طالب الموهوب له المشتري الذي في يده الشيء؛ لأن المطالبة بينه وبين من في يده الشيء الذي وهب له، فإذا حكم له بذلك قبض الموهوب له ورجع المشتري على من غره ببيع ما كان قد وهبه، فافهم ذلك، وقس على هذا الأصل كل ما أتاك من هذا، فلك فيه كفاية إن شاء الله.
قلت: فإن رجلاً وهب لابنه أو لرجل أجنبي داراً وقبضها الموهوب له، ثُمَّ ادعى فيها رجل نصفها أو ربعها وأثبت على ذلك بينة فاستحق ما شهد له به وقبضه بحكم حاكم، هل يجب للموهوب له على الواهب يرتجع بشيء ممَّا استحق منه؟
قال: لا يجب على الواهب شيء، إلاَّ ما كان له في الدار لا غير.
باب الصلح
__________
(1) ـ في نسخة (ب): هذه.
وسألته عن رجل كان له على رجل دين فطالبه به فجحده إياه، فدخل بينهما رجل يصلح، فأصلح بينهما بنصف ما ادعى الرجل الذي له الدين على أن يؤجله في ذلك الذي اصطلحا عليه شهراً أو أكثر من ذلك، هل يجوز؟ (1/374)
قال: لا يجوز صلح(1) بتأخير، وقد قال غيرنا: إن ذلك جائز، ولسنا نلتفت إليه(2).
قلت: فإن فعلا ذلك، هل يرتجع الذي ادعى الدين بمطالبته لجميع الذي ادعى.
قال: نعم.
قلت: فإن صالحه على النصف وعجل له ما وقع عليه الصلح؟
قال: ذلك جائز.
قلت: فإن ادعى شيئاً فصولح على أكثر منه؟
قال: لا يجوز ذلك.
قلت: فإن اصطلحا على شيءٍ مبهمٍ أو شيء ممَّا يكال أو يوزن جزافاً لم يعلم أحدهما ما كيله ولا وزنه ولا عدده؟
قال: ذلك أيضاً جائز في الصلح.
قلت: وكذلك الصلح جائز في الدماء والديات والدَّين؟
قال: الصلح في ذلك كله جائز، وفي كل شيءٍ تعامل الناس عليه، إلاَّ ما كان من أربعة أشياء.
قلت: ما هي؟
قال: صلح حرَّم ما أحلَّ الله، أو صلح أحلَّ ما حرَّم الله، و صلح في حدٍّ من حدود الله الَّتي أوجب إقامتها، بعد أن ترفع إلى الإمام، أو صلح بدينٍ إلى أجلٍ.
قلت: فإن رجلاً كان له على رجلٍ دين، فمات، فطالب صاحب الدين ورثة الميت وهم جماعة فصالحه(3) منهم واحد عن نفسه وعن إخوته ودفع إلى المدَّعي ما صالحه عليه، فقال أخوته: لم نأمرك أن تصالح علينا، وإنَّما أنت متبرع، فلسنا ندفع إليك شيئاً ممَّا صالحت عليه، هل يجب عليهم ذلك؟
قال: إن كان هذا المُصالِح صالحَ عن إخوته بغير أمرهم وضمن هو لمن صالح هو عن إخوته كان جميع ما صالح عليه في ماله؛ لأنَّه متبرع وضمن فغرم.
قلت: فإن كان هذا المصالِح صالح المدَّعي عن إخوته ولم يضمن، فأنكر إخوتُه الصلح؟
قال: إذا كان ذلك كذلك وجب عليه الكل فيما صالح ولا على إخوته.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): الصلح.
(2) ـ في نسخة (ب): إلى ذلك.
(3) ـ في نسخة (ب): فيصالحه.
قلت: فإن رجلاً ادعى على رجل ديناراً فتبرع رجل فصالح المدعي عن المدعى عليه بنصف دينار، هل للمتبرع أن يطالب المدعى عليه بما صالح عنه، أو يكون ذلك من مال المتبرع إذا أنكر المدعى عليه؟ (1/375)
قال: لا يجب على الرجل الذي صالح عنه(1) المتبرع شيء؛ لأن المصالح تبرع بما لم يأمر به المدعى عليه.
قلت: فإن رجلاً له على رجل دين أو حق من الحقوق فطالبه الرجل بما له عليه، فأمر رجلاً أن يضمن عنه(2)، فضمن عنه(3) رجل بأمره، ثُمَّ طالب صاحب الدين الضامن فأنكر الضمان، ولم يكن للمطالب بينةٌ، فاحلف الضامن الرجل فحلف له أنَّه ما ضمن له عن فلان شيئاً، هل للرجل الذي كان له عليه الحق أن يرجع على صاحبه الأول فيطالبه بحقه؟
قال: لا يرجع عليه بشيءٍ؛ لأنَّه قد انتقل(4) حقه إلى غيره بضمانه له.
قلت: فإن الذي كان له الحق صالح الضامن على بعض حقه الذي ضمن له وقبض منه ما صالحه عليه، هل يرجع على الذي كان له عليه الحق أولاً بشيء؟
قال: لا؛ لأنَّه لمَّا صالحه وقد تيقن أن حقه صار على الضامن سقط حقه عن الأول.
قلت: فإن رجلاً كان له على رجلٍ دين مائة دينار، فطالبه فجحده الذي عليه الحق، وقال: ليس لك عندي شيء، فدخل داخل بينهما بصلح، فأصلح بينهما على خمسين ديناراً فقبضها ثُمَّ وجد بعد ذلك شهوداً يشهدون له بالمائة، هل له أن يطالب بما بقي له من المائة؟
قال: نعم، له أن يطالب؛ لأن كل صلح مثل هذا فهو غير جائز، إذا كان المصالح مُنكراً.
قلت: فكيف يكون الصلح الجائز؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): عليه.
(2) ـ في نسخة (ب): عليه.
(3) ـ في نسخة (ب): عنه، محذوفةٌ.
(4) ـ في نسخة (ب): أفضى.
قال: افهم هذا الأصل في الصلح، ولا تلتفت إلى ما يقول هؤلاء الجهال: اعلم أن كل صلح يكون بعد إنكار المدعى عليه الحق فإنما هو شبه الغصب إذا جحد الذي عليه الحق؛ لأن صاحب الحق يقول: أخذ بعض حقي، خير من أن يذهب كله، فهو ملجأٌ إلى أخذ بعض حقه إذا لم يكن له بينة، فهذا متى ما وجد البنية طالب صاحبه بما بقي له عليه وبطل الصلح في هذا الموضع، وأما الصلح الجائز، فإذا كان لرجل على رجل مائة دينار واعترف بها الذي هي عليه وأقرَّ بها، ثُمَّ طلب إلى صاحبه أن يضع له منها ويصالحه على بعضها بطيبة نفسه ففعل جاز هذا الصلح إذا دفع إليه ما صالحه(1) عليه قبل أن يفترقا، ولم يكن له عليه رجعة. (1/376)
قلت: فإن لم يدفع إليه ما صالحه عليه في مجلسه، هل يتم الصلح؟
قال: ينبغي أن يستقبِلا صُلحاً جديداً؛ لأن الصلح مثل الصرف.
بسم الله الرحمن الرحيم(2)
باب الوصية
وسألته: هل تجوز الوصية لوارثٍ؟
فقال: تجوز الوصية لكل وارث كما تجوز للأجنبي، فأما الخبر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: <لا تجوز لوارث وصية>، فإنما هذا خبر، وإن صح هذا الخبر فإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لا يجوز مثل وصية الجاهلية؛ لأنهم كانوا يوصون لبعض الولد بالمال كله، فإن صح هذا الخبر فلهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيز الوصية للأجنبي ويمنعها من الولد الضعيف أو ذي الرحم المحتاج، والعقل فيدل على أن الوصية جائزة لكل وارث إذا كانت ثلث المال أو أقل من الثلث، والحجة في ذلك على من خالفنا أن نقول لهم: ما تقولون لو أن رجلاً أوصى بثلث ماله للفقراء، ثُمَّ كان في ورثته فقراء محتاجون أليس كانوا أولى بالوصية من سائر الفقراء، فليس بين أحد من فقهاء آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه اختلاف أنهم أولى بذلك.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يصالحه.
وسألته عن رجل مات وله ولد كبار وصغار، ولم يوص إلى أحدٍ وكان في البلد سلطان من سلاطين الظلمة، فولَّى بعض الولد الكبار أمر الولد الصغار وكتب له بذلك السلطان كتاباً بالولاية، فباع الوليُّ على الولد الصغار جميع ما لهم أو بعضه ولم يكن على أبيهم دين معروف، فلما كبر الولد الصغار طالبوا أخاهم بميراثهم من أبيهم، فقال: قد ولاَّني السُّلطان أمركم وبعت الذي لكم وأنفقته عليكم وقضيت بعضه، والمال قائم بعينه مع المشتري، أو قد مات المشتري والمال مع ورثته؟ (1/377)
قال: إن كان باع هذا الولي لغير دينٍ لازمٍ، ولا لحاجة من ضرورةٍ مُلحَّةٍ بالصبيان فبيعه فاسدٌ مردودٌ على الصبيان، ويرجع المشتري على ورثة البائع بالثمن، وإن كان الولي باع بدين واجب أو فقر من الصبيان لازم فبيعه جائز إذا كان باعه بحسن نظر لهم(1) وإصلاح لأمرهم.
وسألته عن رجل أقرَّ في مرضه لرجل بدين؟
قال: إن كان يُعرف بينه وبين الرجل معاملة ولم يُعلم أنه أقرَّ(2) بهذا الدين حيفاً على الورثة لزمه الإقرار بذلك.
قلت: فإن قال الورثة إن الميت أقرَّ لرجلٍ له عليه شيء؟
قال: يستحلف الذي أقر له بالدين بالله أن له على الميت ما أقر له به لحق واجب وما اقتضى منه شيئاً.
وسألته عن وليٍّ باع مال يتيم في صغره، فلما بلغ اليتيم طالب بماله وقال: بِيْعَ عليَّ ولم أحتج إلى بيع، وقد كانت الغلة تقوم بي؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): منه.
(2) ـ في نسخة (ب): قد أقر.
فقال: لا يجوز للأب أن يبيع مال ابنه الصغير، إلاَّ فيما للابن فيه الصلاح، فكيف يجوز للولي بيع المال إذا لم يكن اليتيم يحتاج حاجة ضرورة فيجوز للولي البيع لحاجة اليتيم، وإن كان الولي باع من غير حاجةٍ ملحَّةٍ باليتيم أن يتبع ماله، وعلى الولي أن يرد ما باع به من الثمن، إلاَّ أن يكون أنفقه على الصبي فيقيم بذلك بينة، فيكون الصبي بالخيار، إن شاء أجاز البيع، وإن شاء رد هو الثمن الذي أنفقه عليه الولي، واستحق المال فقبضه من المشتري. (1/378)
قلت: فإن كان المشتري اشترى السلعة، وهي تساوي عشرة دنانير، وعمرها حتَّى صارت تساوي مائة دينارٍ، ثُمَّ استغلها سنين بأضعاف ثمنها، هل يرجع اليتيم بشيء من غلتها؟
قال: إن كان الولي باع لغير حاجة من اليتيم لبيعها فالغلة أيضاً له، ويرتجع المشتري بها على من باعه وغره.
وسألته عن امرأة هلكت وتركت حليّاً عند رجلٍ، وأوصت إليه بالحلي أنَّه في سبيل الله، وتركت أباها فقيراً ليس يملك شيئاً، وزوجها ولها عنده صداق، فادعى الزوج أنها قد أبرأته من صداقها؟
فقال: أما إبراؤها لزوجها من الصداق فإن كان ذلك في صحةٍ من عقلها وبدنها وجوازٍ من أمرها فهو جائز، وليس لأحدٍ من الورثة أن يعترض في ذلك، وإن كانت أبرأته من الصداق عند الموت أو في مرضٍ، فإنَّما يجوز من ذلك الثلث إن لم يكن لها مال غيره، ويرجع الباقي على المواريث، وأما ما أوصت به من حليِّها في سبيل الله، فليس يجوز لها أن توصي بأكثر من الثلث من حليِّها ومالها، فيرد ما أوصت به إلى الثلث فيخرج فيما سبَّلته وصرفته فيه، ويرجع ثلثا ذلك على الأب والزوج.
قلت: فإن كان الأب ضعيفاً لا يملك درهماً يجوز للموصى إليه أن يدفع إلى الأب ما أوصت به في سبيل الله؟
قال: لا يجوز أنَّه يخرجه إلاَّ في سبيل الله؛ لأنها إنَّما أوصت به لله، ولو كانت أوصت به للمساكين جاز أن يدفعه الموصى إليه إلى الأب لفقره ومسكنته؛ لأنَّه أحق.
قلت: فإن دفعه الموصى إليه إلى الأب؟ (1/379)
قال: يكون ضامناً لمَا كان تحت يده حتَّى يخرجه في مواضعه الَّتي جُعِل فيها.
وسألته: عن رجل أوصى بثلث ماله لفقراء أهل بيته، ولم يوجد في أهل بيته فقير، وكان له مولى فقير، هل يجب له ذلك؟
قال: المولى أولى بما يغنيه ويستره، ثُمَّ الفقراء أولى من بعد؛ لأن المسلمين اخوة كما قال الله عز وجل، فإذا لم يكن له قريب فقير رُدَّ في المسلمين.
وسألته عن رجل يوصي عند موته بثلث ماله، وعليه دين أيهما يخرج قبل؟
فقال: الدين ثُمَّ الوصية.
وسألته عن رجلٍ أوصى عند موته بثلث لمملوك له؟
قال: جائز، ويعتق المملوك إن كان(1) قيمته قدر ثلث مال المعتق، وإن لم يكن له مال سواه سعى في ثلثي قيمته.
قلت: فإن أوصى بثلثه لمساكين معروفين معدودين فأدخل العبد معهم؟
قال: جائز، العبد كأحدهم. قال: ويعتق من العبد بقدر حصته من الثلث، ويسعى فيما بقي من قيمته.
قلت: فإن كان المساكين مجهولين غير معدودين فأدخل العبد معهم؟
قال: تبطل هبة العبد؛ لأنَّه وهب له شيئاً لا يدري كم هو.
وسألته عن امرأة أبرأت زوجها من صداقها وهي مريضة، وأوصت في مرضها ذلك بثلث جميع مالها لبنتين لها؟
قال: ذلك كله جائز، ما أبرأت زوجها وما أوصت به في ثلثها.
قلت: فكيف يقسم الثلث على الزوج والبنتين؟
قال: يقسم على الحصص بقدر ما أوصت لكل واحدٍ.
وسألته عن الرجل يمرض، فيقول في مرضه: هذا ابني، ثُمَّ يبرأ فيقول: ليس بابني؟
قال: إذا أقرَّ مرَّةً واحدةً في صحة أو مرضٍ بولدٍ لزمه الإقرار وثبت(2) نسب الولد.
قلت: وكذلك لو لم يكن ولد على فراشه أو لم تكن أم الصبي في بيت الرجل؟
قال: نعم، إذا لم يكن إقرار هذا الولد من فجور.
قلت: وكذلك لو أقرَّ في مرضه بوديعةٍ لرجل عنده أو بدين، ثُمَّ صح فجحد؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): كانت.
(2) ـ في نسخة (ب): ويثبت.
قال: وكذلك يلزمه الإقرار فيما أقرَّ به في مرضه صح بعد المرض أو مات، إلاَّ أن يتبين(1) منه توليج على الورثة. (1/380)
قلت: فإنه مات وترك عشرة دنانير فأقرَّ بها لرجل أو كانت عليه ديناً ولم يخلف غيرنا، من أين يكون ثمن الكفن والحنوط، ويغيب الميت؟
قلت: فنفقة عدَّة امرأته من أين، ولم يخلف شيئاً؟
قال: نفقة المرأة ممَّا يخلف الرجل، فإذا لم يخلف شيئاً بطلت نفقة العدة.
قلت: فإن الرجل لمَّا مات خلف مالاً، فدفع الورثة إلى المرأة نفقة عشرة أيام، فماتت المرأة بعد الرجل بخمس، هل يرجع(2) ورثة الرجل بما بقي عند ورثة المرأة من باقي النفقة للخمسة أيام؟
قال: نعم.
قلت: فإن المرأة ماتت يوم العاشر وقد استوفت نفقة عشرة أيام، هل لورثتها أن يطالبوا ورثة الرجل بما بقي من نفقة الأربعة الأشهر والعشر؟
قال: لا، إذا ماتت المرأة بعد الرجل بطلت نفقتها.
وسألته عن رجل أوصى، فقال: ثلث مالي في أحسن وجوه البِرِّ؟
فقال: أحسن وجوه البِرِّ ما يتقرب به إلى الله، ووجوه البرِّ كثيرةٌ، كلها فاضلة، وأفضلها ثلاثة وجوه: الحج، والصدقة، والجهاد في سبيل الله، فنظرنا في هذه الثلاثة وجوه أيضاً أنَّها أفضل، فقلنا: الحجَّ؛ لأنَّه فرض، ثُمَّ نظرنا فإذا عمل الحاج لا يجاوزه إلى غيره، ثُمَّ نظرنا في الصدقة فإذا الصدقة لا تنفع إلاَّ من تَصَدَّق بها أو تُصُدِّقَ عليه بها، ثُمَّ نظرنا في الجهاد فإذا هو أفضل الوجوه وأحسنها وأنفعها لجميع المسلمين إذا كان الجهاد مع إمام عدل، فنقول: إنَّ هذا الموصي إن كان أوصى وإمام الحق ظاهر فإنَّ أفضل الوجوه أن تدفع إليه، فيقسمها على من جاهد معه على كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يبين.
(2) ـ في نسخة (ب): يرتجع.
وسألته عن رجل أوصى لرجل من كل ثمر جابر يخرج من أرضه بكذا وكذا ذهباً(1) أو قفيزاً من طعام، ما الثمر الجابر الذي يجوز فيه الوصية؟ (1/381)
فقال: قد قيل: إن الثمر الجابر: الكثير(2) الزاكي، فإذا زكت الأرض الَّتي أوصى للموصي له فيها حباً ـ يقال: قد زكت ـ فقد وجبت له الوصية؛ لأنَّه إذا أيقن الناس أن الأرض قد زكت فقد وقع شرطه، وقد قال بعض الناس: إن كل وصية لا تُحَدُّ وتُعْرَف فهي باطلة، وكذلك الهبة، وذلك عندنا في غير هذا، وغيره ممَّا لا يجوز فرق.
وسألته عن الرجل يوصي في مرضه الذي يموت فيه بثلثه، فيقول: ثلثي لأقاربي، ولم يفسر أحداً من الأقارب، هل يدخل أقارب الأم مع أقارب الأب؟
قال: نعم، أقارب الأم مثل أقارب الأب في الوصية.
قلت: فكيف تكون القسمة بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، للرجل والمرأة فيه سواء؟
قال: الرجل فيه والمرأة سواء في السهام، إذا كان الكلام مُبْهَماً في الوصية، مثل ما قصَّ اللهُ قصته على محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {واعلموا إنَّما غنمتم من شيءٍ فإن للهِ خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين}[ ] فقرابة الرسول في الخمس، الرجل منهم والمرأة سواء.
وسألته عن رجلٍ أوصى في صحته بوصيَّةٍ، ثُمَّ مرض فَوَصَّى بغيرها، ولم يذكر الأولى بنقض ولا غيره؟
قال: لا تنتقض الأولى، إلاَّ أن ينقضها، فإن لم ينقضها فالوصيتان ثابتتان.
قلت: ولو أدخل في الثانية قوماً لم يوص لهم في الأولى؟
قال: نعم، هذا زيادة في الوصية.
وسألته عن رجل ادعى أن أخاه مرض مرضاً شديداً، فتزوج في مرضه بامرأةٍ، وأصدقها أكثر من صداق نسائها وأوصى لأهلها بمالٍ كثيرٍ؟
فقال: إذا قامت البينة على النكاح، فالنكاح صحيح جائز، ولها مهر نسائها، وأما ما أوصى به فإن كان أكثر من الثلث لم يُجز ويُرَدُّ إلى ثلث ماله ويرجع الباقي على ورثته.
__________
(1) ـ ذهباً، سقط من نسخة (ب).
(2) ـ الكبير.
وسألته عن الرجل يمرض المرض الذي يموت فيه أو المرض الذي يبرأ منه، فيقول في مرضه الذي مات فيه: هذا ابني لرجلٍ بعينه، ولم تكن أم ذلك الرجل تُعرَفُ له زوجةٌ ولا عُرِفَ نِكَاحُه لها، هل يثبت نسبه؟ (1/382)
قال: نعم، إذا لم يكن عُرِف أن ذلك الولد من فجور.
قلت: وكذلك لو أن رجلاً لا يُعرَف له أبٌ، فقال: هذا أبي(1)، فأقر الرجل بقوله، هل يلحق به؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك لو قال: هذا أخي، فأقر الأخ به، هل يوارثه؟
قال: نعم، إلاَّ أن يناكره ورثة الأخ من بعد موته فيكون عليه البينة.
قلت: فإنه لم يمت في مرضه ولكنه بَرِئ من مرضه، فجحد الصبي بعد أن أقر به في مرضه؟
قال: لا يلتفت إلى الجحود بعد الإقرار، ونسبه لاحِقٌ به وارثٌ ومورث.
قلت: وكذلك الرجل يمرض فيقول: لفلان عندي كذا وكذا ديناراً، ويقول: فلان ابن عمي وهو وارثي، ويقول: لفلان عندي وديعة كذا وكذا، ثُمَّ يموت؟
قال: أما الوديعة وما أقرَّ بِهِ من الدنانير فإن كان يُعلَمُ منه أنَّه لم يدفر عن ورثته مورثاً بما قال لزم الورثة ما أقرَّ بهِ، وأما إذا قال: فلان ابن عمي وارثٌ مورثٌ، قال: ينظر فيما قال، فإن كان لم يُرِد بما قال ظلماً ولا حيفاً وإنَّما أقرَّ به لعلمه ثبت ما قال.
قلت: فإن قال المُقَرُّ بهِ: ليس كما قال: إني ابن عمه؟
قال: يبطل الإقرار به.
قلت: فإنه سكت لما أقر به الرجل حتَّى مات وأخذ ميراثه، فلما حضرته الوفاة قال: ليس فلان ابن عمي، ولا لورثته مني ميراث، هل يرجع ورثة الأول المقر بما أخذ المقر به على ورثته؟
قال: نعم.
قلت: فإنه لما برأ جحد ذلك كله؟
قال: لا يلتفت بعد إقراره إلى ما قال إذا تُيُقِّن أن الذي قال عند الإقرار حقٌ.
قلت: فإنه لما مرض قال: عندي لامرأتي صداق كذا وكذا ديناراً، ولامرأتي الأخرى عندي كذا وكذا، وهذه العشرون ديناراً لبنتي عندي وديعة، ولفلان(2)، ولم يخلف غير العشرين ديناراً؟
__________
(1) ـ ابني.
(2) ـ في نسخة (ب): أو لفلان.
قال: إن علم منه أن الذي قال حق لم يدفر عن الورثة بذلك حقّاً ثبت ما قال. (1/383)
وسألته عن رجلين خرجا في بعض الأسفار، فمات أحدهما ولم يوص إلى الآخر، فتبرع الآخر فكفنه كفناً كثير الثمن، فلما رجع، قال الورثة: لم نرض أن تكفنه بمثل هذا الكفن؛ لأن ماله لا يحتمل؟
قال: ينظر إلى كم يحتمل المال ممَّا يكفن به مثله، ثُمَّ نظر إلى الكفن الذي كفنه به الرجل، فإن كان أسرف أُلْزِمَ باقي ما كفن به الرجل.
قلت: فإذا كان مع الرجل مائة دينارٍ، كم مقدار ما يكفن به منها؟
قال: خمسه بنصف عشر ماله أو نحو ذلك.
باب القول في الرجل يوصي في مرضه بثلث ماله
وسألته عن الرجل يوصي في مرضه بثلث ماله لرجل، فإذا صح أراد أن ينقض ذلك، هل يجوز ذلك له؟
قال: أصل الوصية معنيان ـ فافهمهما ـ: فوصية فيها شرط فلا تجوز، إلاَّ ما اشترط فيها. ووصية مبهمة، فإذا كانت مبهمة جازت.
قلت: بيِّن لي ذلك حتَّى أفهمه؟
قال: نعم إن شاء الله، إذا أوصى الرجل في مرضه، فقال للشهود: اشهدوا لي أن ثلث مالي لفلان، ولم يقل: إن مت، فهذه وصية مبهمة، وهي مثل الهبة لا تجوز له إذا برأ من مرضه أن يعود في شيء من ثلثه، ولا ينقضه عمن أشهد له به. وإذا أوصى في مرضه فقال للشهود: اشهدوا أن ثلث مالي لفلان إن مت، فقد جعل في وصيته شرطاً إن مات، فإذا برأ من مرضه كان له نقض ما أوصى به والرجوع فيه، فافهم هذين المعنيين، وقس عليهما ما جاء في الوصية.
باب العُمْرَى والرُّقْبَى
وسألته عن رجل قال لرجل: قد أعمرتك أو أرقبتك ضيعتي أو جاريتي عُمُرِي؟
قال: العمرى والرقى معنى(1) واحد.
قلت: فإذا قال رجل لرجل أحد هذين المعنيين، أو قال: قد أعمرتك جاريتي عُمُرِي، هل تكون الجارية بعد موت الذي أعمره لولده؟
قال: نعم.
قلت: ولِمَ؟
قال: لِمَا وقع من الشرط، لقوله: قد أعمرتك هذه الجارية عُمُري، فكأنه لمَّا قال: عُمرِي، اشترط أنَّها لولده من بعد موته.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): شيء.
قلت: فإن قال: قد أعمرتك هذه الجارية عمرك، هل تكون الجارية ترجع على ولد الذي أعمر(1) من بعد موته أيضاً؟ (1/384)
قال: الجواب في ذلك واحد، إذا قال: أعمرتك هذه الجارية عُمرِي أو عُمُرُك فهو موقع شرط في عمره وعمر الآخر، فإذا مات الذي أعمر والذي أعمر له وقد وقع هذا الشرط فالجارية راجعة مردودة على ولد الذي أعمر.
قلت: فهل يجوز للذي أعمر له أن يطأ الجارية في عمره؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لمعنى الشرط الذي وقته المُعَمِّرُ؛ لأن كل شيء شرط في فرج يحظر الوطءَ.
قلت: فإن الذي أعمر لرجل قال لرجل: قد أعمرتك جاريتي هذه، ولم يقل: عمري ولا عمرك، ولكنه أبهم؟
قال: هذا معنى الهبة إذا كانت العمرى مبهمة.
قلت: فإذا مات الذي أعمر له، هل تكون لولده من بعده؟
قال: نعم.
قلت: فهل يجوز للذي أعمر له الجارية عُمْرَى مبهمةً أن يطأها؟
قال: قد قال غيرنا: إنَّه جائز له، وأما أنا: فأكره له ذلك؛ لأني لا أحب أن يطأ فرجاً إلاَّ على حقيقة اليقين بالملك.
قلت: ومِن أين كرهت له أن يطأها وقد أوجب أن العمرى المبهمة مثل الهبة؟
قال: قد كرهت له ذلك؛ لأني لا آمن أن يقول له الذي أعمر: إنَّما أعمرتك هذه الجارية، وكانت نيتي عُمْرى وَقْتاً، ولم أهبها لك هبةً جائزةً، فكرهت له أن يطأها حتَّى يتيقن أمر الذي أعمر بجواز هبته، أو دعوى يدعيها إن بدا له.
قلت: فإن طالب الذي أعمل جاريته الرجل الذي أعمل له الجارية، وقال: إنَّه أعمره جاريته وقتاً معلوماً، وقال: إنَّما كانت تلك نيتي، ما العمل في ذلك؟
قال: يطالب بالبينة على ما ادعى أنَّه أعمره وقتاً معلوماً.
قلت: فإن لم يكن له بينة؟
قال: يستحلف الذي أعمل له لقد أعمرك فلان هذه الجارية عُمرَى ما كان لها وقت ولا عَلِمتَ أنَّه أراد بذلك وقتاً؟
قلت: فإنه حلف على ذلك، هل يحل له بعد يمينه أن يطأ الجارية؟
قال: نعم؛ لأنَّه قد حلف واستحق الملك باليمين إذا لم تقم للذي أعمر بينة.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أعمرها.
قلت: فإن نكل الذي أعمر له عن اليمين، هل ترجع الجارية إلى الذي أعمر؟ (1/385)
قال: نعم؛ لأن نكوله إقرار بأن العمرى كانت مؤقتة.
قلت: فإنه لم ينكل، ولكنه قال: لا أدري كيف أعمرتنيها؟
قال: إذا ادعى الجهل ردت اليمين على الذي أعمل، فقيل له: احلف باللهِ الذي لا إله إلاَّ هو لقد أعمرت هذه الجارية لهذا الرجل عُمرى مؤقتة.
قلت: فإن حلف؟
قال: يرتجعها بيمين.
قلت: فإن نكل الذي أعمر عن اليمين، هل يستحقها الذي أعمر له بنكول الذي أعمر؟
قال: نعم.
قلت: فإن الذي أعمر قال للرجل الذي أعمر له: قد أعمرتك هذه الجارية عمري أو وقتاً، فوطئ الرجل الذي أعمر له الجارية، فولدت منه فطالبه الذي أعمر له بالجارية والولد؟
قال: فله قيمة الولد على أبيه.
قلت: ولِمَ ذلك؟
قال: لأنَّه وطئ بشبهة العمرى، ولو لم أجعل لسيد الجارية قيمة الولد لمعنى الشبهة لأقمت على الواطئ الحد وجعلت الولد مملوكاً للسيد، ولكن درأت الحد عنه، وألزمته قيمة الولد بشبهة العمرى.
قلت: فإن السيد قال للذي أعمر له: وطئت جاريتي ولم أهبها لك، فقال الذي أعمر له: لم أعلم أنَّها لا تحل لي؟
قال: فلذلك درأت عنه الحد وأوجبت قيمة الولد عليه.
قلت: فإن قال قد علمت أنَّها لا تحل لي لمَّا وطئتها، هل يجب عليه الحد؟
قال: نعم، إن كان بِكراً فحد البكر، وإن كان محصناً فحد المحصن.
قلت: فإنه أعمره عمرى مبهمةً؟
قال: فأكره له أن يطأها؛ لما شرحت في صدر المسألة.
قلت: فهل يجوز لولده من بعده أن يطأها؟
قال: نعم، إن كان أبوه لم يطأها، وإن كان الأب قد وطئها لم يحل لولده.
قلت: فإن الأب لم يطأها، كيف حلت(1) لولده أن يطأها؟
قال: لما قدمنا من شرحنا في الكراهة حتَّى يتيقن، فأما إذا مات فقد وجب الملك لولده وحل له الوطءُ بالمِلك.
وسألته عن العمرى والرقبى والحبس؟
فقال: جائز على ما فعله صاحبه.
قلت: فإن كان ذلك وقتاً مؤقتاً، ثُمَّ انقضى الوقت، هل يعود إلى صاحبه؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): تحل.
قال: نعم. (1/386)
قلت: فإنه لم يكن لذلك وقت مؤقت، وكان ذلك مبهماً؟
قال: ذلك معنى الهبة إذا لم يكن وقت، فاكتف بهذا الأصل في كل ذلك.
قلت: وكذلك في الشاة والجمل وغير ذلك؟
قال: نعم.
باب السكنى
وسألته عن رجلٍ دفع إلى رجل عرصةَ أرضٍ، فقال له: ابنِ هذه سكنى لك إلى أن تموت، فبناها الرجل وسكنها، ثُمَّ مات الذي دفعها إليه، فأتاه الورثة فقالوا: اخرج من دارنا، فقد ملكناها، ما يجب في ذلك؟
قال: ليس ذلك لهم، إذا كان أبوهم قد عقد للرجل السكنى حتَّى يموت، فليس لهم أن يخرجوه حتَّى يموت.
قلت: فإن الرجل عمرها ومات ولم يسكنها، فطلبها صاحبها، فقال الورثة: لم يسكنها أبونا؟
فقال: إن كان دافعُ العرصة لم يشترط أن البناء بالسكنى فالنقض لورثة الميت، وإن كان اشترط ذلك ولم يسكنها أبوهم فالنقض أيضاً لهم، وإن كان قد سكنها وقتاً قلَّ أو كَثُر فالنقص لصاحبها.
قلت: فإن الرجل لما قبض العرصة أو الدار بنى العرصة أو عمّر الدار بمائة دينارٍ، وسكنها شهراً أو شهرين أو سنة ثُمَّ مات وله ولد في الدار، فأتى صاحب الدار فقال لولده: اخرجوا، فإنما دفعها إلى أبيكم وشرطت له إلى أن يموت، وقد مات فاخرجوا من داري، فقال الولد: عمرها أبونا بمائة دينارٍ، وإنَّما سكنها ما لا يجب كراؤه دينارين أو أقل أو أكثر، ما يجب في ذلك؟
قال: لا ينظر في ذلك إلى عمارة، ولصاحب الدار أن يخرجهم؛ لأن أباهم قد مات، وإنَّما كان الشرط إلى أن يموت.
قلت: فيلزم لورثة الميت نقض الدار؟
قال: إن كان دافع العرصة دفع العرصة، وقال: عمر هذه الدار واسكنها بعمارة حتَّى تموت، فليس للورثة من العمارة شيء، وإن كان إنَّما دفعها دَفْعاً مبهماً فلهم بعد موت أبيهم أن ينقضوا العمارة إذا أخرجهم.
باب شركة المفاوضة
وسألته كيف تكون شركة المفاوضة؟
فقال: إذا أراد الرجلان أن يشتركا شركةً مفاوضةً فَليُخْرِج كلُّ واحدٍ منهما جميع ما يملك من النقد، ثُمَّ ليَزِن كل واحد منهما ماله ويعرف كم هو من دينار ودرهم(1)، ثُمَّ يخلطانه من بعد أن قد فهم كل واحدٍ منهما ماله، ولا يترك كل واحدٍ منهما في ملكه نقداً إلاَّ أخرجه. (1/387)
قلت: ولأيِّ معنى ذلك؟
قال: لأن شركة المفاوضة لا تكون ولا تصح إلاَّ بالأموال كلها، وإنَّما كان ذلك كذلك مخافة من اللبسة والتهمة من أحدهما لصاحبه، فإذا خلطا ذلك فليعملا فيه وليبيعا وليشتريا مجتمعين ومتفرقين يعمل كل واحدٍ منهما في المال كله برأيه.
قلت: فإذا فعَلا ذلك يكون كلما فعل أحدهما جائزاً على صاحبه لازِماً له؟
قال: نعم.
قلت: فإن غاب أحدهما وعليه دين وله دين، هل يكون شريكه بمنزلة نفسه يَطلُب مالَه ويُطالَب بما عليه؟
قال: نعم، إلاَّ أن يكون جناية جناها أو امرأة نكحها.
قلت: فينفقان من مالهما على أنفسهما وعيالهما؟
قال: نعم، إذا تساوت نفقتهما، فإن كانت نفقة أحدهما أكثر من نفقة الآخر فطيّبَ له ذلك شريكه فلا بأس به، وإن لم يطيّب له كان فضل ذلك ديناً عليه لصاحبه.
قلت: فيقبضه منه إذا أراد؟
قال: لا ينبغي أن يقبضه منه ولا لشريكه أن يقضه إياه حتَّى يفترقا(2) وينقضي خلطتهما.
قلت: ولأيِّ معنى ذلك؟
قال: لأنَّه متى قضاه ذلك كان له مال نقد بخلاف ما لصاحبه، وهذا يبطل شركة المفاوضة.
قلت: فإن كان لهما عروض؟
قال: ليس ذلك يفسد عليهما شركتهما إلاَّ أن يبيع أحدهما من ذلك شيئاً فيصير معه مال ناض خلاف ما لصاحبه، فتبطل حينئذٍ شركة المفاوضة، فأمَّا ما دَامَا على صحيح شركتهما فهما في الشركة سواءٌ، وإذا عزما على شركة المفاوضة كتَبَا بينهما كِتَاباً يذكران فيه رؤوس أموالهما وتفاوضهما.
باب الشركة
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أو درهم
(2) ـ في نسخة (ب): يتفرقا.
وسألته عن رجلين اشتركا في أرضٍ، والأرض لأحدهما، على أن الآخر يغرس فيها كرماً أو نخلاً أو شجراً أو غير ذلك، فعَمِل، ثُمَّ مات صاحب الأرض، فجاء ورثته إلى الشريك، فقالوا: قد ملكنا الأرض فاقلع مالك؟ (1/388)
قال: هذه شركة فاسدة، وللشريك قيمة ذلك الغرس ما كان، ثُمَّ يأخذون أرضهم، فإن شاءوا قلعوا، وإن شاءوا تركوا.
وسألته عن رجلين اشتركا في أرضٍ، على أن الشريك يزرعها قضباً، فلمَّا زرعها واقتسمَا ذلك وقتاً، قال صاحب الأرض: أريد أرضي، ولم يكن بينهما في الشركة شرط إلى وقت؟
قال: يُقَوَّم الذي في الأرض بقيمة عدل، فيأخذ الشريك حقه من ذلك، ثُمَّ يدفع الأرض إلى صاحبها.
وسألته عن رجلين بينهما أرض نصفان أو ثلث أو ثلثان، ولأحَدِهما فيها نخلة أو شجرة، فوقعت النخلة أو الشجرة، فأراد صاحبها أن يضع في موضعها شجرة أو نخلة؟
قال: ذلك أن يضع شجرة أو نخلة.
قلت: فإن أراد أن يبني في موضعها بقدر أصلها؟
قال: ليس له أن يضع غير العرق.
وسألته عن رجلين بينهما بئر نصفان أو ثلث وثلثان، أو غيل كذلك، ولكل واحد منهما أيام معروفة من الماء، ومجرى الماء واحد إلى أرض هذا و أرض هذا، فاشترى أحدهما أرضاً، فأراد أن يعبر الماء الذي له إلى أرضه الَّتي اشتراها بقدر ما له من الماء؟
قال: له أن يعبر الماء الذي له إلى أرضه الَّتي اشتراها بقدر ما له من الماء، نقول: يجري حقَّه من الماء الذي يملكه إلى حيث شاء من ملكه، إلاَّ أن يكون على صاحبه ضرر في ذلك، فلا يجوز الضرر.
باب الشركة على غير المفاوضة
وسألته عن رجلين أرادا أن يشتركا شركة على غير المفاوضة، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، لهما أن يشتركا بما شاءا من نقودهما قليلاً شاءا أو كثيراً.
قلت: فلهما أن يشتركا بمال غير ناضٍ؟
قال: لا يجوز أن يشتركا إلاَّ بمال ناضٍ.
قلت: فيكون الربح على رؤوس الأموال أم على ما اصطلحا عليه؟
قال: الربح على ما يصطلحان عليه، والوضيعة على رؤوس الأموال.
قلت: فإن اشتركا بمائة مائةٍ، واصطلحا على أن لأحدهما ثلثي الربح، وللآخر الثلث، ويعملان في ذلك جميعاً يشتريان ويبيعان؟ (1/389)
قال: صلحهما في ذلك جائز، والوضيعة بينهما في هذه المسألة نصفان.
قلت: فإن كان رأس المال لواحد مائتين، وللآخر مائة، فاصطلح على أن الربح بينهما نصفان، والوضيعة بينهما نصفان؟
قال: أما شرطهما في الربح فجائز، وأما شرطهما في الوضيعة فلا يجوز، والوضيعة على قدر رؤوس أموالهما.
قلت: فإن اشترطا على أن لواحدٍ ثلثي الربح وللآخر ثلثه، ويكون صاحب الثلثين هو المتقلب فيها؟
قال: لا بأس بذلك.
قلت: فإن اشترطا على أن للذي لا يعمل ثلثي الربح، وللذي يلي العمل ثلثه؟
قال: لا يجوز ذلك لهما، والربح بينهما على قد رؤوس أموالهما، وذلك أن تكون رؤوس الأموال مستوية، ويشترطان للذي يتقلب في المال ثلث الربح، وللذي لا يتقلب ثلثي الربح، فهذا باطل لا يجوز؛ لأن الفضل هاهنا بما وقع للشريك بماله لا بعمله.
قلت: ولِمَ لا يجوز الشرط بينهما على ما اصطلحا عليه؟
قال: لأن مال الشريك لا يجر منفعته لشركته، إلاَّ أن يكون فيه فضل لصاحبه على مال شريكه، فأما إذا استويا ولم يعمل أحدهما ففضل القاعد على العامل حينئذٍ مشابه للربا.
قلت: فإن كانت رؤوس أموالهما مستوية ثُمَّ اشترطا أن للعامل ثلثي الربح، وللقاعد الثلث؟
قال: ذلك جائز.
قلت: ولِمَ جاز هذا الشرط؟
قال: لأنَّ ثُلُثاً بثُلثٍ، والثلث الآخر كرى بدنه وعوض من عمله.
باب القول في الرجلين يشتركان وليس معهما مال على أن يشتريا بوجوههما ويبيعا
قلت: إن رجلين أرادا أن يشتركا على أن يأخذا بوجهيهما ويشتريا ويبيعا، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، ذلك جائز.
قلت: فإن كان أحدهما أبصر من الآخر بالبيع والشراء، فأرادا أن يجعلا للأبصَر منهما فضلاً في الربح، هل يجوز ذلك؟
قال: لا يجوز ذلك.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه لا يجوز أن يضمن رجل شيئاً ويأكل غيره ربح ما ضمنه هو، وذلك أنهما مستويان في ضمان ما أخذا، فكذلك ينبغي أن يكون الربح سواء سواء بينهما. (1/390)
قلت: فإن أثبتا لصاحب المال على أحدهما ضمان ثلثيه، وعلى الآخر ضمان ثلثه؟
قال: ذلك جائز، إذا تسَاوَيا في الضمان تسَاوَيَا في الربح.
قلت: فالخسران؟
قال: على قدر ضمانهما.
باب القول في النجارين والخياطين والزراعين والحجامين وغير ذلك من أهل الصناعات، يشتركان فيما يصنعان
وسألته عن رجلين حائكين أو خياطين أو غير ذلك من أهل الصناعات أرادا أن يشتركا، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، لهما أن يشتركا في صناعتهما، ويقتسما ما رُزقا من كسبهما إذا نصَحَا في ذلك.
قلت: فكيف يكون ربحهما وكسبهما؟
قال: يكون بينهما نصفين.
قلت: فما دخل عليهما من فساد؟
قال: فكذلك يكون عليهما نصفين.
قلت: فإن اشترطا أن يتَقبَّلا الأعمال كلاهُما، ويكون لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان من الربح؟
قال: ذلك شرط باطل، لا يجوز لهما، وما ربحاه فهو بينهما نصفان؛ لأن الضمان عليهما سواءٌ.
قلت: فإن شرطا في أصل الشركة أن على واحد ثلثي الضمان وعلى الآخر ثلثه؟
قال: إذا أتياه(1) في أصل الشركة فيجب عليهما أن يُعْلِمَا كُلَّ مَنْ تقَبَّلاَ منه عملاً، ويخبراه بالضامن للثلث المتقبل له، والضامن للثلثين المتقبل لهما، فإذا فعَلا ذلك كان الربح بنيهما على قدر ضمانهما؛ لأن الضامن للعمل كالضامن لرؤوس الأموال.
باب القسمة
وسألته عن قسمة الأرض وفيها ثمر؟
فقال: لا بأس بذلك إذا تراضيا الناس بينهم.
قلت: فإن شريكين اقتسما عِنَباً أو ما أشبه العنَب، فاقتسما الأصول دون الفروع؟
قال: تلك قسمة باطلة؛ لأنَّه لا يكون فرع بلا أصل، إلاَّ أن يكون ذلك تراضياً بينهم.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أثبتاه.
قلت: فإن تراضوا بينهم على ذلك فقسموا الأصل ووضعوا بينهم حاجِزاً، فجاز فرع هذا الأصل إلى حق هذا الشريك، وكذلك حق هذا الشريك إلى حق هذا الشريك، على أن لكل واحد منهما ثمر الفرع الذي هو عنده، هل ذلك جائز في القسمة؟ (1/391)
قال: لا.
قلت: فإنهما أرادا الرجوع في القسمة؟
قال: ينظر في القسمة العدول، فإن كانت عادلة غير جائزة لم تبطل، وضم كل واحدٍ منهما فرع أصله إليه.
قلت: فإن لم ينضم إلاَّ بقطع، هل يجب على كل واحدٍ منهما قطع فرع الآخر؟
قال: نعم، ألا ترى أن أحد الأصلين لو مات، أليس كان يموت الفرع؟
قلت: نعم.
قال: أفلا ترى أن الفرع الباقي في الأصل الآخر وفرعه في عنب هذا الذي مات أصله لو طالبه عند الحاكم بالثمر(1)، أليس كان يجب له؟
قلت: بلى.
قال: فلذلك قلنا: إنَّه لا قسمة أصل إلاَّ مع الفرع، وإنَّما صار ذلك رِضىً يفسُد إذا أفسده الشركاء.
قلت: فلو أن نخلةً في أرضٍ لرجل أو خوخةً أو شيئاً من الشجر غير ذلك، فارتفع ثُمَّ اعوج حتَّى صار فرعه في أرضٍ لرجلٍ آخر، فوقع منه ثمر في أرض الرجل، فأراد صاحب العضة أن يدخل إلى هذه الأرض ويأخذ ثمر شجرته أو نخلته، فمنعه صاحب الضيعة أن يدخل لثمره؟
قال: له أن يدخل.
قلت: فإن منعه؟
قال: يجبر على ذلك.
قلت: فإن قال: إن هذا الذي اعوج يُبطِلُ أرضي ويُفسدُها ويضرني(2)؟
قال: يَنظر في قوله العدولُ، فإن كان كما قال أُمِر صاحبها بقطعها(3)؛ لأنَّه ضررٌ، ولا ضرر ولا ضرار كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يكن عليه ضررٌ لم يقطع ولم نلتفت إلى قوله.
وسألته عن رجل مات وله ولد صغار لم يبلغوا، وولد كبار قد بلغوا، فقسم المال على المواريث الكبار والصغار، ثُمَّ باع بعضهم، فلما بلغ الصبيان لم يرضوا بالقسمة، وكذلك إن كان مات الأخوة الذين قسموا وبقي أولادهم؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): الثمن.
(2) ـ في نسخة (ب): ويضرُّ بي.
(3) ـ في نسخة (ب): بقلعها.
فقال: إن كانت القسمة عادلة غير جائرة ولم يكن فيها حيف ولا ظلم واضح على أحد ممَّن قسم عليه جاز ذلك ولم يرد منه شيء، فإن كان في القسمة ظلم أو جور على أحد كان ذلك فاسداً مردوداً. (1/392)
قلت: فإن فسدت القسمة وقد باع بعضهم ومات وبقي ولده؟
قال: تستأنف القسمة على المواريث الأولى، وينظر إلى ما يقع لهذا الذي باع وقد مات، فإن رضي ورثة المشتري منه بما وقع له قبضوه، وإلاَّ رجعوا بالثمن على ورثة البائع ودفعوا إليهم ما وقع لأبيهم.
قلت: فإن لم يكن للبائع ورثة ولا مال؟
قال: فليس لورثة المشتري إلاَّ ما وقع لهم بقسمة العدول.
وسألته عن امرأة ماتت وخلفت حُليّاً ومتاعاً مع زوجها، ولها اخوة وأخوات في بلد غير تلك البلد الذي ماتت فيه، ولها أخ أو أخت عندها، فأتوا إلى زوجها فقالوا له: ادفع إلينا حقنا ما تركت أختنا، فقال لهم: حتَّى تجتمعوا جميعاً ودافعهم، ثُمَّ أخذ المتاع فوضعه في بيت وأقفل عليه، فسُرِق المتاع، هل يكون ضامناً؟
قال: لا ضمان عليه؛ لأنَّه لم يتلفه بتلف اعتمده، وإنَّما وضعه لهم حتَّى يجتمعوا.
قلت: فإن امتنع الذي كان في يده أن يقسمه، هل يحكم عليه الحاكم بالقسمة؟
قال: أحب إليَّ أن يرسل إلى الغيّب حتى يحضروا(1)، وإن قسم جاز إذا عدل في القسمة.
قلت: فإنه دفع إلى الأخ والأخت اللذين كانا عنده ما يجب لهما من المتاع، وحبس الباقي في بيت فسُرِق، فلما قدم الباقون من الأخوة والأخوات قالوا: لم يكن يجب علينا قسمة ونحن غيَّب، ولنا نصيبنا فيما أخذتم، ما يجب في ذلك؟
قال: إذا كانت القسمة عادة غير جائرة جازت، ولم يجب على هؤلاء الذين قسم لهم شيء يؤخذ منهم، وقد قال غيرنا: إنَّه لا يجوز.
وسألته عن قوم بينهم مسقاة في وادٍ ـ وهي بكلام اليمن: الحجل والعرم ـ فخرب منها شيء، فكلم بعضهم بعضاً ليعمروها جميعاً، فقال بعضهم: لست أعمر؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أن يحضروا.
فقال: ليس لمن لم يعمر منهم من الماء شيء؛ لأن الماء لمن عمر إلاَّ أن يرد عليهم ما يجب عليه فيما غرموا فيشرب معهم. (1/393)
بابٌ في شريكين اقتسما أرضاً فوقعت لأحدهما بئر في أرض صاحبه
وسألته عن رجلين بينهما أرض فاقتسماها، فوقعت لأحدهما بئر في نصيب صاحبه، فأراد أن يسقي منها ويدخل إليها فمنعه الآخر عن ذلك؟
قال: ليس له أن يمنعه من الدخول إليها والشرب والاستسقاء منها.
قلت: فإن كان ذلك يَضُرُّ بِه لزرع قد زرعه أو لسبب قد أحدثه؟
قال: إذا كان ذلك كذلك انتقضت القسمة بينهما واقتسما قسمة جديدة، وجعلا جميعاً للبئر طريقاً وحريماً لا يحدث أحدهما فيه على صاحبه حدثاً.
باب قسمة السيل بين الضياع
وسألته عن ضياع على وادٍ فيأتي السيل، كيف يقسم الماء بينهم؟
قال: يقضى لصاحب الزرع أن يمسك الماء إلى الشراكين، ولصاحب النخل إلى الكعبين، ثُمَّ يرسلوا الماء إلى من هو أسفل منهم، وكذلك يفعل الأسفلون حتَّى ينتهي السيل إلى آخر الضياع إن كان الماء كثيراً.
قلت: فإن كان الماء ليس بالكثير الذي يبلغ إلى آخر الضياع؟
قال: فالأعلى أولى بقليل الماء، وكذلك بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قضى بين أهل المدينة في سيل مهرور، وكان يصب فيها حتَّى حول، فقال أهل أسفل الوادي: إن أهل أعلى الوادي يمسكون عنا الماء، فحكم لهم بذلك إذا قل الماء.
وسألته عن جماعة يكون بينهم ضياع ولبعضهم فيها أكثر من بعض، فطلب بعضهم من بعض المقاسمة، فيقول منهم الذي له الأقل: اجمعوا لي ما يجب لي في هذه الضياع في موضع واحد، فإن الذي يجب لي في كل أرض لا ينفعني ولا يُشترى مني إلاَّ أن تجمعوه لي، فقالوا: لسنا نفعل، فخذ حقك في كل أرض، هل يجبرون على أن يجمعوا له حقه في موضع واحد، أم كيف العمل في ذلك؟
قال: إن كان الأمر على ما ذكر هذا، أنَّه إذا قسم له في كل موضع لم ينفعه ببيع ولا زرع جبروا على أن يجمعوا له حقه كله إلى موضع واحد، لأن في تفريق ذلك ضرراً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا ضرر ولا ضرار>. (1/394)
قلت: فإن هؤلاء الجماعة بينهم عبد أو دابة، فقال واحد منهم لشركائه: اشتروا مني نصيبي في هذا العبد، فإني أحتاج إلى بيعه، فقالوا: لسنا نشتريه ولا نحتاج إلى ذلك، فقال لهم: فبيعوا معي ما يجب لكم، فقالوا: لسنا نبيع، فبع أنت حقك، فقال لهم: لا يبتاع مني(1) إلاَّ مع ما لكم فيه، هل يجبرون على أن بيعا جميعاً؟
فقال: إذا كان هذا على ما ذكر أنَّه محتاج إلى بيع ما له في العبد فقال لهم: اشتروا مني أو بيعوا معي، فقد أنصف في ذلك، والحكم في ذلك أن يجبروا على أن يشتروا منه أو يبيعوا معه كما قال.
باب القول في رجل له دجاجة، فيقول له رجل آخر: ضع لي تحق دجاجتك هذا البيض، فإذا خرج الفراخ(2) فهي بيني وبينك نصفان
وسألته عن رجل له دجاجة، فأتاه رجل فقال له: ضع لي تحت دجاجتك هذا البيض، فإذا خرج الفراخ(2) فهي بيني وبينك، هل يصح هذا الشرط بينهما؟
قال: هذا شرط باطل؛ لأنَّه غرر في البيض، وربما صلح، وربما فسد لا سخرج منه الفراخ(2).
قلت: فما يجب لصاحب هذه الدجاجة؟
قال: أجرة مثل دجاجته.
قلت: وما تكون أجرة الدجاجة؟
قال: أحسن ما أرى في ذلك أن ينظر إلى الدجاجة في وقت ما تجلس على البيض كم قيمتها، وينظر إليها عند خروج الفراخ(2)، فما نقص من ثمنها فهو أجرتها(3)؛ لأن الدجاجة إذا حضنت نقصت ممَّا كانت عليه قبل أن تحضن.
بابٌ في الوقف
__________
(1) ـ في نسخة (ب): لي.
(2) ـ في نسخة (ب): الفروخ.
(3) ـ في نسخة (ب): أجارتها.
وسألته عن رجل أوقف ماله على ولده وولد ولده أبداً ما تناسلوا، ومنهم(1) كبار بالغون وصغار غير بالغين، فباع واحد منهم بقدر نصيبه، ثُمَّ مات البائع وولده وبقي ولد ولده، فطالبوا المشتري وأشهدوا على المال أنَّه وقف عليهم حتَّى استحقوه، على مَن يرجع المشتري بماله؟ (1/395)
قال: يرتجع المشتري على الورثة الذين يرجع الوقف عليهم.
وسألته عن رجل أوقف جميع ماله على ولده، للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يدخل زوجته معهم، هل يجوز الوقف؟
قال: يخرج ما للزوجة من صداق من رأس الوقف، فيدفع إليها ويثبت الوقف على حاله.
قلت: فالثُّمُن الذي يكون لها، هل يكون وقفاً معهم؟
قال: نعم.
قلت: فإنهم اضطروا ضرورةً شديدةً، هل يبيعون الوقف؟
قال: لا يباع إذا كان وقفاً.
قلت: فيموتون؟
قال: لا، ولكن يرهنون.
قلت: كم أكثر ما يرهن(2) الوقف؟
قال: سنة أو سنتين حتَّى ينتفعوا بما يأخذون، ولا يفعلوا في الوقف ما يقول هؤلاء الجهال من قبالة ثلاثين سنة و أربعين سنة، وإنما ذلك تلفه.
وسألته عن رج أوقف ماله كله على ولده وولد ولده الذكور دون الإناث؟
فقال: ذلك باطل، يرد إلى حكم الله، ويكون وقفاً على الذكور والإناث على سهام الله، ويعطى الثلث من الوقف الذكور دون الإناث.
وسألته عن رجل له ثلاث بنات وعصبة، فوقف جميع ماله على بناته دون عصبته، فطالبته العصبة في حياته، هل يبطل الوقف ما دام حيّاً؟
قال: لا.
قلت: فإنه لما مات طالبت العصبة البنات بالميراث؟
قال: ذلك لهم.
قلت: فيكون ميراثه ثابت في الوقف، أو يأخذونه ولا يثبت في الوقف.
قال: نصيب العصبة أيضاً موقوف على العصبة.
قلت: فإن العصبة قالوا: لم يوقف علينا نحن، وإنَّما أوقف على غيرنا فنحن نأخذ نصيبنا فنبيعه؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): وفيهم.
(2) ـ في نسخة (ب): ما يرهنون.
قال: يقال له: ليس لكم ذلك؛ لأنَّه وقَّف جميع المال، فصار وقفاً، وأخرج منه من كان يجب له فيه حق، فأبطلنا حكمه ورددناه إلى حكم الله تبارك وتعالى، وتركنا الوقف على حاله؛ لأن الرجل إنَّما طلب بالوقف الصلاح للورثة(1) ودوام النعمة، وأخرج بعضهم من الصلاح، فرددناه إليه، وقد فعل ذلك وأوقف المال النبيون والأئمة الراشدون، وغير ذلك من الصالحين. (1/396)
وسألته عن الرجل يوقف الضيعة أو الدار على رجل عشر سنين مسماة، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، وقد قال غيرنا: إنَّه لا يجوز الوقف إلاَّ مؤبداً، ولم ننظر في قولهم.
قلت: فإذا مات الذي وقفت عليه ولم تنقض العشر السنين، هل يكون تمام الوقف لورثته؟
قال: نعم، إلى أن ينقضي الوقت الذي سمَّى، ثُمَّ يعود الوقف إلى(2) صاحبه، وقد قال غيرنا: إنَّه لا يجوز الوقف إلاَّ مؤبداً، ولم ننظر في قولهم.
قلت: فإنه أوقف ثلث ماله على ولد رجل أجنبي، الذكور منهم دون الإناث، هل يجوز ذلك؟
قال: نعم، إذا فعل ذلك بغير ولده أو ورثته جاز له أن يفعل في ماله ما شاء، ويقفه على ما يشاء(3) إذا لم يجاوز الثلث ولم يرد شططاً.
وسألته عن امرأة أوقفت مالها كله على بناتها وهن ثلاث، ولها عصبة غيرهن، فقالت: مالي كله وقف على بناتي الثلاث، من مات منهن فالوقف على من بقي منهن دون ولد الميت منهن، فإذا متن كلهن فالوقف راجع على أولادهن وأولاد أولادهن ما تناسلن، فماتت منهن واحدة، ثُمَّ ماتت المرأة الَّتي أوقفت، فطالبت العصبة بما يجب لهم، ما الحكم في ذلك؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): على الورثة.
(2) ـ في نسخة (ب): على.
(3) ـ في نسخة (ب): شاء.
قال: أصل هذا الوقف ليس كما أوقفت المرأة، ولا يجوز ذلك أن يكون الوقف على امرأة دون ولدها، ولكنا نقول في ذلك: إن هذه المرأة الَّتي أوقفت قد أخطأت في هذا الوقف فيرد الخطأ إلى حكم الكتاب، فإذا ماتت إحدى البنات، ولها ولد فنصيبها من الوقف لولدها وولد ولدها أبداً ما تناسلوا، ماتت البنت قبل أمها أو بعد كل ذلك سواء، فإن ماتت بنت المرأة وليس لها ولد فالوقف على أختيها كما سبَّلت أمهن في حياتها، فإذا ماتت الأم وسكتت العصبة لم يطالبوا فالوقف على حاله. (1/397)
قلت: فإن طالبت العصبة بعد موت الأم الَّتي أوقفت المال؟
قال: إذا طالبت العصبة نظرنا في جميع المال الذي أوقفته المرأة فجعلنا لبناتها من ذلك الثلث، ثُمَّ نظرنا في ثلثي المال الآخرين فأخرجنا ثلثيه فجعلناه أيضاً للبنات، وباقي الثلثين للعصبة، وهو ثلث الثلثين، وهذا كله فهو وقف على البنات وأولاد أولادهن أبداً ما تناسلوا، وعلى العصبة وأولادهم وأولاد أولادهم أبداً ما تناسلوا.
بابٌ فيما يجب للعيون والآبار الجاهلية والإسلامية من الحريم
وسألته عن حريم العيون الَّتي تفور من الأرض؟
فقال: أحسن ما رأينا وسمعنا في ذلك من القول: أن يكون حريمها خمسمائة ذراع من جميع جوانبها كلها، من شرقه(1) وغربه وشامه ويمنه، لا يدخل على صاحبه في سحجه(2)، ولا يحفر على صاحبه في حريمه.
قلت: فكم حريم البئر الجاهلية أو الإسلامية؟
قال: أما حريم البئر الجاهلية: فخمسون ذراعاً من كل جانب منها، وحريم البئر الحادثة الإسلامية: أربعون ذراعاً، فهذا أحسن ما نرى وسمعنا في ذلك.
باب التفليس
وسألته عن رجل فلسه القاضي، فأراد غريمه يستحلفه في كل جُمُعةٍ ما استفاد شيئاً؟
قال: له ذلك إذا اتهم أنَّه قد استفاد.
قلت: فكم الأمد الذي تراه يلزمه يستحلفه فيه؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): من شرقها وغربها وشامها ويمنها.
(2) ـ سحجه: أي حرمه، تمت ترتيب قاموس.
قال: قد قدمنا جواب ذلك، إذا اتهم أنَّه قد استفاد شيئاً استُحلِف(1). (1/398)
قلت: فما الذي يباع من مال المفلس؟
قال: ما كان عنه مستغنياً.
قلت: فإنه كان عليه ثوبان يسويان عشرة دنانير؟
فقال: يباعان ويشترى من ثمنهما ما يستره، ويدفع باقي الثمن إلى غريمه.
قلت: وكذلك لو كان(2) له دار، هل يجب أن يبيع بعضها ويترك منها ما يستره هو وعياله؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك لو كان عليه خاتم، هل يباع عليه؟
قال: نعم، ذلك ممَّا لا يحتاج إليه.
قلت: فإنه كان عنده لعياله نفقة لشهرين أو ثلاثة؟
قال: إذا كان معه شيء غير النفقة الَّتي لعياله يكون مثل النفقة مرة أو مرتين بيع الذي لغير النفقة، وتُركت له النفقة يعيش بها هو وعياله.
قلت: فإنه رأى مع غريمه الذي قد أفلس متاعاً، فقال: هذا لك، وقال المفلس: ليس هو لي هو لإنسان غيري، على أيُّهم البينة؟
قال: يكشف الحاكم عن ذلك حتَّى يصح له فيه الخبر، فإن كان لغيره كما ادعى فلا شيء عليه فيه، وإن كان له فقد قدمنا الجواب فيه، أن يؤخذ منه بعضه ويترك له ولعياله بعضه يعيشون به.
ورأيته قد حكم على رجل عليه ديون لجماعة من الناس، فأمر(3) ببيع ضيعته ودوابه وعبيده، وأمره أن يواسي بين الغرماء بالثلثين من ذلك، ويمسك ثلث ماله لعياله.
وسألته عن رجل أسلمت إليه في بُرٍّ، ثُمَّ أفلس، ففلسه القاضي فلم أطلبه بحقي ولم آخذ مع الغراء حصتي، ثُمَّ أيسر، هل لي أن آخذ منه سلمي؟
قال: نعم، إذا كان السلم صحيحاً بشروط السلم.
قلت: فما تقول فِيَّ إن أخذت بحصتي مع الغرماء ثُمَّ أيسر، هل لي أن آخذ سلمي؟
قال: نعم.
قلت: وكذلك يرتجع جميع الغرماء عليه إذا أيسر؟
قال: نعم.
قلت: إن رجلاً باع(4) جارية إلى أجل من رجل، فولدت عنده أولاداً، ثُمَّ أفلس المشتري، وعليه أيضاً دين غير ثمن الجارية؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): استخلفه.
(2) ـ في نسخة (ب): لو كانت.
(3) ـ في نسخة (ب): فأمرهم.
(4) ـ في نسخة (ب): اشترى.
قال: ليس للبائع أن يأخذ إلاَّ الجارية بعينها، ولا يقبض الولد معها، إلاَّ أن يختار(1) أن يحاص الغرماء في الجارية وولدها، وإلاَّ فليس له إلاَّ الجارية وحدها. (1/399)
بابٌ في المعدم
وسألته عن رجل لزمه دين، وليس يملك مالاً ولا عقاراً، إلاَّ منزلاً يسكنه هو وعياله؟
قال: إن كان صاحب المنزل يقدر أن يستبدل منزلاً دون منزله ببعض ثمنه وجب عليه أن يبيع منزله فيشتري ببعض ثمنه منزلاً دون منزله يستر(2) فيه حرمته، ويقضي الغرماء باقي ثمن منزله، وإن لم يجد منزلاً دون منزله ببعض ثمن منزله يستر حرمته لزم منزله، وكان ممَّن قال الله تبارك وتعالى: {وإن كان ذو عسرة فنَظِرَةٌ إلى ميْسَرَة}[ ].
باب متى يكون الرجل مفلساً فيجب على القاضي أن يفلسه
وسألته عن الرجل متى يكون مفلساً، ومتى يفلسه القاضي؟
قال: إذا كثر دينه، وقلَّت ذات يده، فلم يكن معه ما يقضي الغرماء، فذلك علامة الإفلاس.
قلت: فإن رجلاً باعه سلعة، فأفلس والسلعة عنده قائمة بعينها، هل يجب لصاحبها أن يأخذها بعينها؟
قال: إذا أشهد على سلعته بعينها أنَّها سلعته أخذها دون الغرماء.
قلت: إن الرجل ادعى الإفلاس وقال الغرماء: لا بل أنت مؤسر مؤدٍّ لما لنا عليك، هل يجب للحاكم أن يحبس هذا الرجل حتَّى يكشف عن أمره؟
قال: ينبغي للحاكم أن يحبسه، ويسأل عن أمره ويكشف ذلك(3) حتَّى يتبيَّن له أمره، فإن كان مُمَاطِلاً لغرمائه وهو واجد لما عليه من الدين حبسه حتَّى يؤدي إليهم ما لهم، وإن انكشف له أنَّه معسر نجم عليه للغرماء على قدر ما لهم عليه تنجيماً صالحاً له وللغرماء، ولا يضر بالمفلس إضراراً شديداً ولا بالغرماء.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يحب.
(2) ـ في نسخة (ب): ليستر.
(3) ـ في نسخة (ب): عن.
قلت: فإذا نجم الحاكم على المفلس ما لهم، فقال المفلس: أنا في عمل أشتغل به فمرهم يأتوني كل يوم يأخذون ما وظفت لهم عليَّ، وقال الغرماء للحاكم: بل يأتينا هو بما وظفت عليه، على مَن يجب منهم أن يأتي صاحبه؟ (1/400)
قال: ينبغي للحاكم أن يأمر أصحاب الديون المضي إلى المفلس حتَّى يأخذوا منه ما وظف عليه الحاكم كل واحد منهم على قدر ماله من القلة والكثرة.
باب النفقة للمرضعة
وسألته عن الرجل يولد له المولود، فتقول المرأة: لا أرضعه، هل يجب عليها أن ترضعه؟
قال: أما ما كان في اللباء فيجب عليها ذلك، شاءت أو أبت.
قلت: وكم يكون اللباء؟
قال: يوم، وأكثره ثلاث.
قلت: فإن المرأة قالت لزوجها بعد الثلاث: لا أرضعه، استأجر على ولدك.
قال: ذلك لها، يستأجر على ولده من يرضعه هي أو غيرها.
قلت: فإن استأجر له ظئراً ترضعه، فقالت أم الصبي: أنا أحق بابني آخُذ الأجر وأرضعه؟
قال: ذلك لها.
قلت: فإن قال الأب: لا أريد ترضعه(1)؟
قال: ليس ذلك له، ولا يُلتفَت إلى قوله.
قلت: فتوقت لها أجراً معلوماً؟
قال: الأمر في ذلك إليهما على ما تراضيا به؛ لأنَّها إجارة، وإنَّما يكون ذلك على المطلقة.
قلت: فإنه طلقها وهي حامل لم تضع، ثُمَّ وضعت بعد الطلاق بيوم واحد، هل يجب لها نفقة؟
قال: نعم، يجب لها أجرة الصبي في رضاعه.
قلت: فكم مقدار ما يجب على المؤسر؟
قال: ثلاث أمداد بمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يكون فيه الأدم، ومدان بمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء الأدم.
قلت: فكم المقدار الذي يكون به الرجل مؤسراً؟
قال: الإيجاد حتَّى يقال: إن فلاناً واجد(2).
قلت: إذا ملك مائة دينار أو أكثر أو أقل بشيء يسير؟
قال: شبه ذلك.
قلت: فكم يجب على المعسر؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ترضعيه.
(2) ـ في نسخة (ب): موجد.
قال: على قدر ما يمكنه، مد ونصف بمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المد والربع، والمد فهو ربع كيلجة العراق وأقل من ذلك، إن لم يمكنه فعلى قدر ما يرى الحاكم من عسرته. (1/401)
قلت: فما حد المعسر؟
قال: الذي لا يجد إلاَّ ما اكتسب من صناعة أو غيرها فعليه المواساة على قدر ما يرى الحاكم من عسرته.
قلت: فكم ينفق الرجل على المرأة إذا كانت ترضع له؟
قال: حتَّى تفصل الولد.
قلت: وكم ذلك؟
قال: حولين كما قال الله تبارك وتعالى.
قلت: فإن الرجل قال أفصل ولدي فقد اكتفى؟
قال: لا ينظر في قوله حتَّى يتم الحولان.
قلت: فكم يكون الصبي مع أمه؟
قال: حتَّى يستغني عنها.
قلت: وكم مقدار ذلك؟
قال: حتَّى يعقل ويقوم بنفسه.
قلت: فإن طالب به أبوه ليأخذه قبل ذلك، هل يجب له؟
قال: لا، إلاَّ أن تحدث أمه حدثاً تزويجاً، فيجب للأب حينئذٍ أخذه.
قلت: فإن أمه ماتت ولم تزوج، هل يجب لأبيه أخذه؟
قال: لا، جدته ـ أم أمه ـ أحق به.
قلت: فإن لم يكن له جدة؟
قال: أبوه أحق به، ثُمَّ الخالة أخت الأم، إذا لم يكن أب.
قلت: ثُمَّ من أحق به؟
قال: الأقرب فالأقرب، من قِبَل الأب، فافهم ذلك إن شاء الله.
باب القول في نفقة المؤسر على المعسر من القرابات
قال أبو جعفر محمد بن سليمان الكوفي: سألت إمام المسلمين في عصره يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، عن رجل له ابنٍ معسرٍ وأخٍ مؤسرٍ، على مَن تجب نفقته؟
قال: لا تجب له نفقة على واحد منهما.
قلت: فكيف وأخوه مؤسر؟
قال: لأن أخاه لا يرث منه لو مات مع ابنه شيئاً.
قلت: وكذلك لو أنَّه طالب الأخ وله ابن ابن؟
قال: وكذلك.
قلت: فإن له ثلاثة اخوة متفرقين، على مَنْ تجب نفقته منهم؟
قال: على أخيه من أمه سدس النفقة، وعلى الأخ لأبيه وأمه الباقي.
قلت: وكذلك لو كن أخوات متفرقات، كان على هذا القياس؟
قال: نعم، على الأخت للأب والأم النصف، وعلى الأخت للأب السدس، وعلى الأخت للأم السدس، وباقي النفقة عليهم على هذا المثال. (1/402)
قلت: وكذلك إن كانت ابنة ابن وثلاث أخوات متفرقات؟
فقال: على بنت الابن النصف، وعلى الأخت للأب والأم الباقي.
قلت: وكذلك لو كان له ابن معسر، وجدٌّ مؤسر؟
قال: على الجد سدس النفقة.
قلت: فباقي النفقة على مَن؟
قال: على الله يرزقه(1)، ففي هذا كفاية، فقس ما جاء من هذا على ما ذكرت لك.
قلت: فلو أن رجلاً له بنت مؤسرة وابن صغير لم يبلغ معسر وابن أيضاً كبير معسر؟
قال: إن منزلة الأب ليس كمنزلة القربات لما جعل الله له في كتابه من الوصية، فيؤخذ له من المؤسر من ولده ما يكفيه، ويقوم به ولا ينظر إلى من أعسر منهم.
وسألته عن رجل له أخ صغير لم يبلغ وهو مؤسر وأخ كبير معسر وأخت مؤسرة، ما يجب على هؤلاء من النفقة؟
قال: على الأخ الصغير خمسا النفقة، وعلى الأخت خمس، وليس على الأخ المعسر شيء، وباقي النفقة فللإمام فيه نظر على قدر ما يرى.
قلت: وكذلك كل القرابات(2) ممَّن لم يبلغ وهو يحجب إذا كان مؤسراً فعليه النفقة؟
قال: نعم، وإن لم يبلغ فهو يرث.
قلت: فإن رجلاً له ابن صغير لم يبلغ وله مال كثير، فقال الأب: لا أنفق على ابني هذا إلاَّ من ماله، هل يجب على الأب نفقة(3) وله مال؟
قال: نعم، لا بد من نفقة الأب على الابن حتَّى يستقل ويستحق أخذ ماله.
قلت: وكم يكن ذلك؟
قال: حتَّى يجب عليه الحكم شبه بخمس عشرة سنة، ولا ينظر إلى مال ابنه ما دام في صغره حتَّى يبلغ هذا المبلغ الذي قلنا.
قلت: فإن كان الأب معسراً، هل يجب له أن ينفق على نفسه من مال ابنه هذا الصغير؟
قال: نعم، ينفق على نفسه بالمعروف على قدر ما يكفيه.
باب القول في الرجل يتزوج المرأة فتطالبه بالنفقة أو يطالبه الولي ثُمَّ يغفل عنه
__________
(1) ـ في نسخة (ب): رزقه.
(2) ـ في نسخة (ب): الأقارب.
(3) ـ في نسخة (ب): نفقته.
وسألته عن رجل تزوج بامرأة بالغةٌ من وليها، فطالب وليها الزوج بنفقتها، فقال الزوج: نعم أنا أنفق، ثُمَّ هرب فغاب سنة أو أكثر أو أقل، ثُمَّ قدم فطالبه الولي بنفقة ما أقام في غيبته، هل يجب عليه نفقة ذلك؟ (1/403)
قال: نعم.
قلت: وكذلك لو لم يغب فطالبه الولي بالنفقة، فقال: نعم، أو لم يقل، ثُمَّ غفل الولي عن المطالبة شهراً أو أقل أو أكثر، ثُمَّ طالبه بعد ذلك بنفقة ما مضى من الشهر، هل يجب له ذلك؟
قال: نعم.
قلت: فإن الولي طالب الزوج بنفقة المرأة فدفعه الزوج، فأنفق الولي من ماله عليها، ثُمَّ طالبه بما أنفق؟
فقال: للولي على الزوج ما أنفق بالمعروف.
قلت: فإن أسرف الولي في النفقة؟
قال: يحكم له من ذلك بنفقة المعروف وهو القصد في النفقة، ويبطل ما سوى ذلك.
قلت: فإن كان للمرأة مالٌ فأنفق عليها الولي منه وقد طلبت النفقة من زوجها فدافعها؟
قال: هو دين لها عليه، إن طلبته حكم لها به.
قلت: فإن ماطل الزوج ولم يدفع ما عليه من الدين الذي للمرأة، هل يحبس لها؟
قال: نعم.
قلت: فإنه لما حبس طلب الزوج المرأة أن تصير إليه وهو في الحبس، هل يجب ذلك له؟
قال: أما حبس يحبس فيه عموم الناس من أهل الديون والجنايات وغير ذلك فيكثر فيه الناس، وليس فيه موضع مستور يحجب المرأة وزوجها إذا كانا فيه عن الناس فلا يجب له أن يصير المرأة إليه ولا يحكم له بذلك، وإن كان في الحبس موضع محجوب عن الناس تستر(1) فيه المرأة وزوجها وجب للزوج على المرأة أن تأتيه إلى الموضع، فتكون معه فيه.
باب القول في المزارعة
وسألته عن رجل زرع في غير أرضه بغير علم صاحب الأرض؟
قال: إن كان غصبه الأرض ثُمَّ زرعها ثُمَّ استحقها صاحبها فصاحبها بالخيار، إن شاء أمر الزراع يقلع ما زرع، وإن شاء صالحه أو تركه، وإن كان الزراع زرع الأرض وهو مقر بها لصاحبها غير غاصب له الأرض ولا جاحد فلصاحبها الخيار أيضاً.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يستتر.
وسألته عن الرجل يدفع إلى الرجل أرضاً بيضاء على أن يحرثها ويعملها ويزرعها؟ (1/404)
قال: هذه مزارعة فاسدة، وللشريك أجرة مثله فيما عمل به.
قلت: فإنه زارعه هذه الأرض مزارعة صحيحة ودفعها إليه فتركها وضيعها، فدفعها صاحبها إلى غيره، هل يكون للذي تركها وضعف عنها قيمة ما عمل؟
قال: إن كان تركها عجزاً أو فقراً، فإن أحب صاحب الأرض إن أيقن من صاحبه أنَّه تركها من عجز أو ضعف أن يرد عليه قيمة ما عمل، ولست أحكم عليه بذلك حكماً قاطعاً، ولكنه استحسان، فأما إن كان التارك للأرض مؤسراً قويّاً على عملها، ثُمَّ تركها غدراً بصاحبه فليس له قيمة شيء ممَّا عمل، بل أحكم عليه أن يتم لصاحبه على شرطه، أو يخلي له عن أرضه.
وسألته عن رجل دفع إلى رجل عن رجل دفع إلى رجل أرضاً بيضاء يغرسها كرماً أو قضباً أو نخلاً أو غير ذلك، على النصف أو الثلث من غلتها، وكانت الأرض تسوى(1) عشرة دنانير فقبضها الرجل فغرسها واستغلها هو وصاحبها سنين على ما كان بينهما من الشرط، ثُمَّ جاء رجل فاستحقها أو بعضها؟
قال: هي للمستحق باستحقاقه، ويرجع الغارس على الذي أشركه بعمله بقيمة غرسه يوم غرسه.
قلت: فالغلَّة؟
قال: للذي كانت الأرض في يده أولاً بضمانه لها، ألا ترى أنها لو كانت أرضاً حيَّةً ذات أشجار ونخل فاشتراها وهو لا يعلم أنَّها غصب فاستغلها، أليس كانت الغلة للمشتري بما شغل من ماله، إلاَّ أن يلحق المستحق فيها ثمرة قائمة فيكون أحق بها.
وسألته عن رجلين شريكين بينهما أرض فبذرها أحدهما بغير أذن صاحبه، فقال له صاحبه: اقلع عنِّي زرعك وقاسمني الأرض؟
قال: لا يجب ذلك عليه؛ لأن هذا ليس مثل الغصب.
قلت: فما لهذا الذي بذر؟
قال: له قيمة ما عمل لصاحبه ونصف البذر، ويقتسمان ما جاء في الأرض.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): تساوي.
وسألته عن رجل غرس في أرض امرأته كرماً أو قضباً أو نخلاً بغير أذن امرأته، وقام عليه وسقاه وأصلحه حتَّى أثمر واستغله وهو ينفق عليه وعليها من ذلك، ثُمَّ وقع بينهما اختلاف، فقالت: ادفع إليَّ أرضي بما فيها، واخرج فليس لك فيها شيء، ما يجب في ذلك؟ (1/405)
قال: إن كانت المرأة رضيت بما فعل الزوج فله أجرته فيما عمل على الزوجة، وله عليها أيضاً ثمن تلك الأصول يوم غرسها، وإن ذكرت أنَّها لم ترض بما عمل ولم يكن للزوج عليها بينة الرضى بغرسه وعمله استحلفت الزوجة ما رضيت بما فعل الزوج من ذلك ولا أذنت له به، ثُمَّ قلع الزوج جميع ما غرس ولا أجرة له فيما عمل من ذلك.
وسألته عن الرجل يدفع إلى الرجل أرضاً على أنَّه يحرثها ويسقيها ويزرعها ويحصدها ويجعل له في ذلك ثلث الثمر أو ربعه أو أقل أو أكثر، هل يجوز ذلك؟
قال: ذلك غير جائز، وليس يجوز في المزارعة عندنا، إلاَّ ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رواه رافع بن خديج.
قلت: وكذلك لو أنَّه دفع إليه نخلاً أو شجراً يسقيه ويحده ويعمله على أن له فيه شقصاً؟
قال: ذلك جائز عندنا في المساقاة، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر.
باب القول في الكفالة
وسألته عن رجل كفل لرجل بوجه رجل، وكان له عليه مال ولم يكفله إلى يوم معلوم، ولكنه قال له: أكفل لك بوجهه هذا إلى متى ما أردته جئتك به، فمات المكفول به قبل أن يطلبه الرجل؟
قال: بطلت الكفالة عن الكفيل عند موت المكفول به، ويرجع صاحب المال على ورثة المكفول به فيطالبهم بماله.
قلت: فإن كان كفل به إلى يوم معلوم، فمات الكفيل قبل ذلك اليوم؟
قال: وكذلك أيضاً يرجع صاحب المال على المكفول به فيطالبه بماله، إلاَّ أن يكون الكفيل تبرع بالكفالة من غير أن يطلب إليه المكفول به أن يكفل به فيلزمه ذلك المال، فإن مات الكفيل كان على ورثته.
قلت: فإن كان الكفيل كفل به إلى وقت معلوم أو غير معلوم، ثُمَّ فرَّ المكفول به ولم يقدر عليه الكفيل؟ (1/406)
قال: يحبس الكفيل أبداً حتَّى يأتي بالمكفول به أو يخلص نفسه بمال الرجل تبرعاً منه بخلاص نفسه لا بحكم عليه.
وسألته عن رجل يدعي على رجل ديناً فيقدمه إلى الحاكم فيقول أثبت عليه فيقول: بينتي غيب يعطني كفيلاً بوجهه حتَّى آتي ببينتي، هل يجب ذلك، وكم يؤجل له؟
قال: يؤجل له الحاكم على قدر ما يعلم أن بينته تأتي إن كان الذي يقول بينته صحيحاً.
قلت: فيجب عليه أن يعطي كفيلاً إلى وقت ما تأتي البينة؟
قال: نعم.
باب القول في الحوالة
وسألته عن رجل عليه لرجل دين، فأحاله على رجل آخر بذلك المال؟
فقال: إذا كان لرجل على رجل دنانير أو غير ذلك فأحاله على رجل آخر بذلك المال ورضي المحتال عليه بذلك فهو جائز لا سبيل له على الغريم الأول؛ لأن ماله قد صار على الذي رضي بالاحتيال عليه، فإن مات الذي احتال عليه فهو أسوة الغرماء في ماله، وكذلك لو أفليس لم يكن على غريمه الأول سبيل؛ لأن دينه قد انتقل عنه.
باب القول في التخيير للغلام بين أمه وعمه
وسألته عن الصبي تتزوج أمه بعد موت أبيه، فيطلبه عمه، هل يحمك له به؟
قال: إذا كبر الغلام وتزوجت أمه وتأدب واستغنى عن الأدب ولم يبلغ وقد عقل وفهم فهو بالخيار، إن شاء أقام مع أمه، وإن شاء لحق بعصبته من عمه وغيره.
قلت: فإن لم تكن أمه تزوجت؟
قال: هي أولى به ما لم تزوج، وهو لها ومعها أحبَّ ذلك أو كرهه، يتبعها في صغره وتتبعه في كبره، وعليه القيام بها والإحسان إليها والبر بها والرفق في كل الأمور بها.
باب القول في الوكالة
وسألته عن رجل ولك رجلاً في بيع مال أو قبضه أو شراء أو طلاق أو غير ذلك من الأسباب؟
قال: الوكالة في ذلك كله جائزة إذا جعل للوكيل شروط الوكالة.
قلت: وما شروط الوكالة؟
قال: التفويض للوكيل فيما وكل فيه(1) من بيع أو شراء أو قبض أو غير ذلك.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): به.
قلت: فإن فسخ الموكل وكالة الوكيل بعد ما أشهد له بالوكالة؟ (1/407)
قال: ذلك له، وتنفسخ الوكالة ما لم ينفذ الوكيل ما وكل فيه قبل أن يفسخ وكالته.
قلت: فإن أنفذ الوكيل بعض ما وكل فيه وبقي بعض، هل للموكل أن يفسخ الوكالة؟
قال: نعم.
قلت: فهل للوكيل من أجرة وكالته بقدر ما وكل فيه، مثل أنَّه وكل في قبض مائة دينار فقبض منها خمسين، وفسخ الموكل وكالته، فيجب على الموكل نصف أجرة الوكيل؟
قال: نعم.
قلت: فإن الوكيل أوكل في شيء بعينه مثل أن يقبض مائة دينار، فوهب عشرة أو مثل أن يبيع ضيعة بثمن معروف مؤقت فباع، هل يكون الوكيل ضامناً لما وهب أو نقص من الثمن المؤقت، أم لا يكون ضامناً، وهل تنفسخ وكالته لفعله؟
قال: لا يكون الوكيل ضامناً لفعله ذلك بما وهب أو بما نقص من الثمن، ولكن وكالته تنفسخ بما فعل بمخالفته لمن وكله.
قلت: فإذا انفسخت وكالته، هل يبطل البيع الذي باعه أم يثبت ويطالب المشتري الوكيل؟
قال: إن أتم المشتري ما نقصه الوكيل من الثمن المؤقت للوكيل ثبت البيع وجاز على الموكل الوكيل، وإن أبى المشتري أن يتم الثمن الذي وقت للوكيل ولم يجعل له إلى طرح شيء من ذلك سبيلاً فالبيع باطل؛ لأنَّه باع بأقل من الثمن الذي وقته له، وكذلك العشرة الَّتي وهب من المائة يرجع بها الموكل على الموكل عليه، وقد انفسخت وكالته.
قلت: فإن رجلاً بالكوفة وله مال بالبصرة من دين أو ضيعة، فوكل صاحب المال وكيلاً يبيع المال أو يقبض الدين بالبصرة فخرج الوكيل حتَّى صار في بعض الطريق، ثُمَّ فسخ الموكل وكالة الوكيل قبل أن يبلغ الوكيل إلى البصر، وأشهد على فسخ الوكالة شاهدين ولم يعلم بذلك الوكيل، ونفذ لما وُكِّل فيه، فباع الضيعة وقبض الثمن، فلما قبض الثمن وأشهد على البيع أتاه كتاب الموكل: أني قد فسخت وكالتك قبل أن تبلغ إلى البصرة، فلا تبع الضيعة؟
قال: الكتاب الذي أتاه بعد ما باع بفسخ الوكالة باطل؛ لأنَّه قد باع وأنفذ ما وكل فيه قبل مجيء الكتاب إليه بفسخ الوكالة، وقد جاز البيع للمشتري، وثبتت له عقدة البيع. (1/408)
قلت: فإن الوكيل لما خرج من الكوفة وقد أشهد له بالوكالة ببيع الضيعة، فصار في بعض الطريق وفسخ الموكل وكالته لقيه رجل أو رجلان قبل بلوغه إلى البصرة، فقال له: إن فلاناً قد فسخ وكالتك وأشهد على ذلك، فمضى الوكيل ولم يلتفت إلى ما قيل له، فباع الضيعة وقبض الثمن وأشهد المشتري؟
قال: أخطأ الوكيل في ذلك؛ لأنَّه كان ينبغي له أن يقف عن البيع عندما أُخبر حتَّى يصح له ما أُخبر به من فسخ الوكالة.
قلت: فالبيع ثابت أم باطل؟
قال: البيع بعدما أخبر بفسخ وكالته باطل مفسوخ.
قلت: فإن رجلاً كانت له امرأة في بلد غير البلد الذي هو فيه، فوكل وكيلاً بطلاقها في البلد الذي هو فيه، فخرج الوكيل حتَّى صار في بعض الطريق، ثُمَّ بدا للرجل الموكل في امرأته، وأشهد شاهدين بفسخ وكالة الموكل بغير علمه، فمضى الموكل إلى البلد الذي فيه المرأة فطلقها، هل يجوز طلاقها؟
قال: لا؛ لأنَّه قد فسخ الرجل وكالته، وليس الطلاق مثل البيع.
قلت: فإنه وكل وكيلين وفوضهما فيما وكلهما فيه من طلاق المرأة وبيع الضيعة أو قبض المال، فطلق واحد منهما دون الآخر، أو باع الضيعة أو قبض المال دون الآخر، هل يجوز ذلك لواحد منهما دون الآخر؟
قال: نعم، إذا فوضهما وجعل أمرهما واحد جاز ذلك.
قلت: فإنه قال لهما: اجتمعا فيما وكلتكما فيه، فطلق أحدهما أو باع دون الآخر؟
قال: لا يجوز ذلك؛ لأنَّه قد أمرهما بالاجتماع.
قلت: فإنه أشهد لهما بوكالة مبهمة لم يفوضهما، ولم يقل: اجتمعا، فباع أحدهما أو طلق؟
قال: أما الطلاق فلا يجوز لأحدهما دون الآخر إن كانت وكالتهما مبهمة؛ لأن الطلاق لا يستدرك، وأما البيع إذا باع أحدهما فهو جائز.
قلت: فإن رجلاً وكل رجلاً يعقد له عقدة نكاح امرأة قد عرف أباها وأمره أن يعقد النكاح بخمسين(1) ديناراً، فمضى الوكيل فعقد له عقدة نكاح المرأة بستين ديناراً، فلما رجع الوكيل فأخبر الرجل، قال: لم آمرك أن تزيد على الخمسين، وقد فسخت عقدة النكاح الَّتي عقدت، هل يجوز للرجل أن يفسخ العقدة؟ (1/409)
قال: نعم.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن الوكيل خالفه، فكان إليه فسخ ذلك.
قلت: فهل يفسخ الرجل النكاح فسخاً أو يطلق طلاقاً؟
قال: لا، ألاّ يفسخ فسخاً؛ لأنَّه أمرٌ لم يتم.
قلت: وكيف لم يتم؟
قال: لأنَّه عقد على غير رضى وخولف في شرطه.
قلت: فإن امرأة لم يكن لها ولي، فوكلت رجلاً يعقد عقدة نكاحها لرجل بمائة دينار، فمضى الوكيل فعقد نكاحها بخمسين(2) ديناراً، ثُمَّ أخبرها، فقالت: لا أرضى بما فعلت، هل ينفسخ النكاح؟
قال: لا، قد ثبتت العقدة، ويقال للرجل الذي عقد له الوكيل: إما أن تتم على ما قالت المرأة ورضيت من المهر، وإما أن تطلق.
قلت: فإن أبى الرجل ذلك؟
قال: يجبر على أحد هذين المعنيين، إما أن يطلق، وإما أن يتم الصداق الذي رضيت به المرأة.
قلت: فلِمَ جاز للرجل أن يفسخ النكاح فسخاً بغير طلاق لما خالفه الوكيل ولَمْ يجز للمرأة أن تفسخ النكاح فسخاً لما خالفها الوكيل؟
قال: لأن عقدة النكاح إنَّما هي للرجال لا للنساء، فالرجال يملكون عقدة النكاح، وكذلك يفسخون النكاح إذا خالف الوكيل، فلما كان ذلك كذلك فسخ الرجل لما خالفه الوكيل فجاز فسخه، وأما المرأة فلم يجز لها أن تفسخ؛ لأنها قد أمرت بالعقدة فثبتت وليست ممَّن يملك عقدة النكاح، إلاَّ أن توكل، وهذه المرأة فقد رضيت أن يعقد لها الوكيل عقدة نكاحها، فلما عقد ثبتت العقدة، وأما ما خالفها فيه من نقصان الصداق فلا يكون ذلك فسخاً إن أرادته؛ لأنها قد رضيت وثبتت العقدة.
قلت: فيطلقها الرجل طلاقاً؟
قال: نعم.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): على خمسين.
(2) ـ في نسخة (ب): على خمسين.
قلت: فإنها لم تعلم بما فعل الوكيل حتَّى دخلت على زوجها ودخل بها، ثُمَّ تناظرا في الصداق، فقالت: أمرت الوكيل أن يزوجني على مائة دينار، فقال الرجل: إنَّما زوجني بخمسين، ما العمل في ذلك؟ (1/410)
قال: إن صح قولها أنَّها أمرت الوكيل بمائة، فخالفها الوكيل فعقَدَ العقدة على خمسين ودخل الزوج بها كان الوكيل في هذا الموضع ضامناً للخمسين من ماله؛ لأنَّه هو الذي أعنت نفسه.
تمت الفتيا في الوكالة بحمد الله ومنه وعونه ونصره، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
باب القول في الديات
قال أبو جعفر محمد بن سليمان الكوفي: سألت إمام المسلمين في عصره الهادي إلى الحق أمير المؤمنين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، عمَّن يجب عليه القتل من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى مَن يجب من غيرهم؟
فقال: يجب القتل على عشرة.
قلت: مَن هم بيِّنهم لي؟
قال: أولهم: قتل أهل الشرك بالله من بعد الدعاء لهم إلى الله عز وجل إذا أبوا أن يجيبوا إلى الإسلام والمعاهدة.
والثاني: قتل المرتد عن الإسلام إذا أبى التوبة.
والثالث: قتل سحرة المسلمين إذا أبو التوبة.
والرابع: قتل الزنادقة.
والخامس: ما أمر الله تبارك وتعالى من قتل الديوث إذا صحت دياثته من بعد الاستتابة.
قلت: وما الديوث؟
قال: الذي تؤتى امرأته وهو يعلم ويتيقن ذلك.
قلت: فبأي معنى استوجب القتل؟
قال: بقول الله جل ذكره: {إنما جزاء الذي يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا}[ ]، فليس من المحاربة لله سبحانه شيء أعظم من أن يورث ولداً من ماله وهو من غيره، وكذلك لعل هذا الولد بإصراره على الكينونة مع أمه يتزوج مثل أخته أو عمته أو ما أشبه ذلك من المحارم الَّتي حرم الله، فأي فساد في الأرض أعظم من هذا، فافهم ما قلنا فإن فيه كفاية لمن نظر وتدبر.
والسادس: قتل الفئة الباغية من المسلمين إذا بغت وتعدَّت على المؤمنين، كما أمر الله سبحانه بقتلها، وذلك قوله سبحانه: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا الَّتي تبغي حتَّى تفيء إلى أمر الله}[ ]، وهم الذين يدعون ما ليس لهم، ويتأولون بزعمهم أنهم أئمة، ويعطلون الأحكام ويعصون الرحمن، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: {قاتلوا الذي يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين}[ ]، فأمر بقتال من لم يحكم بحكمه ويأمر بأمره، وذلك قوله تبارك وتعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم}[ ]. وأما قوله: {قاتلوا الذين يلونكم}، فمعناها: بينكم الذين هم أضر من غيرهم عليكم، كذلك حروف الصفات يعاقب بعضها بعضاً، وفي ذلك ما يقول الشاعر: (1/411)
شربن بماء البحر ثُمَّ ترفعت ... لدى لجج خضر لهن نائج
قال: ترفعت لدى لجج، وإنَّما أراد على لجج خضر، وإنَّما يصف السحاب ويذكر أنَّها ترفعت فوق لجج البحار.
والسابع: فهو ما حكم الله به من قتل قطاع طريق المسلمين المحاربين في ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين إذا أخذوا أموالهم وقتلوا فيهم، وذلك قول الله سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا}[ ].
والثامن: فهو قتل من قتل مؤمناً متعمداً، ففي حكم الله أن يقتل به، وذلك قوله الله سبحانه: {النفس بالنفس}... الآية [ ].
والتاسع: فهو مَن سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشتمه واستخف بحقه واطرحه، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <من سبني فاقتلوه>.
والعاشر: قتل من زنى بعد إحصان، كذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجمه حتَّى يقتله.
قال يحيى بن الحسين رضي الله عنه: ثمانية أصناف من هؤلاء العشرة إذا تابوا خُلِّي سبيلُهُم ولم يقتلوا، وصنف لا بد من قتله تاب أو لم يتب وهو: المحصن الزاني، وصنفٌ الأمر فيه إلى أولياء أمره وهو: قاتل النفس، فإن أحبوا قتلوه وإن أحبوا تركوه. (1/412)
قلت: فإن رجلاً قتل رجلاً عمداً، كم ديته، ومن أين تؤخذ الدية، أمِن مال القاتل أو من(1) عاقلته؟
قال: إذا قتل الرجل عمداً أخذت منه الدية من ماله إن أحب أولياء المقتول ذلك، وإلاَّ فالقود.
قلت: فكم الدية؟
قال: ألف مثقال إذا كان المقتول في بلد الدنانير وهو العراق وما والاها من البلاد مثل الشام ومصر والمغرب وأهل البحرين واليمن، والدية في أهل الدراهم عشرة آلاف درهم قفلة وهم أهل خراسان وما والاها من البلاد الَّتي يتعامل فيها بالدراهم، وفي أهل الإبل مائة من الإبل، وهم أهل البوادي من العرب وغيرهم.
قلت: فما أسنان هذه الإبل المائة(2)؟
قال: ربع جذاع، وربع حقاق، وربع بنات لبون، وربع بنات مخاض، وفي أهل البقر مائتا بقرة، وهم أهل تهامة اليمن وغيرهم من سواد الكوفة وغيره، وفي أصحاب الشاة ألفا شاة، وهم أهل الجباة بالشرق والغرب واليمن والشام.
قلت: فإن قتل الرجل عمداً وهو في بلد الدنانير أو الدراهم، فقال أولياء المقتول: لا نأخذ في دية صاحبنا إلاَّ ألفي دينار أو عشرين ألف درهم، وإلاَّ قتلنا؟
قال: ذلك لهم، إنَّما يتبعون القاتل نفسه بما اتفقوا عليه من المال كان ذلك أقل من الدية أو أكثر.
قلت: ففي كم تؤخذ الدية إذا اتفقوا عليها؟
قال: في ثلاث سنين، في كل سنة ثلثها، كذلك جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فعلى من تجب الدية؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): أم مال عاقلته.
(2) ـ في نسخة (ب): من المائة.
قال: على من قتل قتيلاً أو قطع عضواً أو جرح جرحاً متعمداً في شيء من ذلك كله كان عليه في ذلك كله القود يفعل به ما فعل بغيره، إلاَّ أن يرضى أهل المجروح من الجارح لهم بالدية فيكون أمر ذلك إليهم، ويكون كل دية أو صلح كانت في العمد واجبة على المتعمد في ماله دون مال عاقلته، قال: وكل ذلك من الخطأ في النفس، وما دونها فهو في أموال العاقلة وعليها، والعاقلة فهي: العشيرة. (1/413)
قلت: فإن لم يكن البطن الأدنى إلى القاتل يحتمل أن تخرج الدية كلها، هل يضمن إليه أقرب العشيرة إليه؟
قال: نعم، إذا لم يكن هذا البطن يحتمل إخراج الدية كلها ضم إليه أقرب العشيرة إليه على قدر ما يحتملون، يكون غرمهم في ذلك.
قلت: فإن كانت العاقلة أهل دواوين، هل تؤخذ من أرزاقهم؟
قال: نعم، إن كانت العاقلة أهل دواوين مع إمام المسلمين أخرجت من أعطيتهم في كل سنة ثلثها يلزم كل واحد كسراً كسراً أو أقل أو أكثر على قدر كثرتهم وقلتهم، وعلى قدر ما تكون أعطيتهم.
قلت: فما الذي يعقل العاقلة، وما الذي لا يعقل؟
قال: لا تعقل العاقلة عبداً ولا عمداً ولا صلحاً ولا معترفاً، وهو الذي يعترف على نفسه بالقتل وتعقل العاقلة كل ما كان بعد هذه الأربعة.
قلت: وكذلك كل ما كان دون السن، هل تعقله العاقلة؟
قال: نعم، قد كفيتك أن العاقلة تعقل كل ما كان غير هذه الأربع قلّ أو كثر.
بابٌ فيما في الإنسان من الديات
قلت: فبيِّن لي كم في الإنسان من الديات؟
قال: في النفس الدية، وفي العينين جميعاً الدية، وفي كل عين نصف دية، وفي السمع الدية إذا صُمَّ فلم يسمع، وفي الخرس الدية إذا ضرب الرجل ضربة خرس منها، وفي الصوت الدية إذا انقطع صوت الرجل، وفي اللسان الدية، وفي العقل الدية، وفي الأنف الدية إذا استوعب من أصله الدية، وفي الظهر إذا دق فلم يجبر الدية، وفي الذكر الدية، وفي الغائط الدية، وفي البول إذا ضرب صاحبه فسلس فلم يقف الدية، وفي الرِّجْلَين الدية، وفي كل رِجْلٍ نصف الدية، وفي اليدين الدية، وفي كل يدٍ نصف الدية، وفي البيضتين الدية، وفي كل واحدة نصف الدية، وفي الشفتين الدية إذا قطعتا من أصلهما، والسفلى أفضل بشيءٍ على ما يرى الحاكم، وفي الكف إذا قطعت نصف الدية، فإن ضربت فشلت ففيها حكومة ذوي عدل، فإن ضربها ضارب فشلت ثُمَّ قطعها قاطع بعد ذلك ففيها حكومة ذوي عدل. (1/414)
قلت: فإن قطع الكف قاطع؟
قال: ففيها نصف الدية.
قلت: فإن قطع القاطع الأول أو غيره باقي الساعد أو العضد؟
قال: ففيه حكومة ذي عدل.
قلت: فإن قطع قاطع الرجل من أصل الفخذ أو الساق؟
قال: ففيه نصف الدية، ليس فيه فضل على القدم، وليس في هذا قود، فإن قطع القدم حكم عليه بنصف الدية.
قلت: فإن قطع بعد ذلك الساق أو الفخذ هو أو غيره؟
قال فيه حكومة ذي عدل، ليس فيه شيء مؤقت.
باب القول في شعر الأشفار والحاجبين
قلت: فما تقول في شعر الأشفار، إذا لم ينبت؟
قال: حكومة.
قلت: وكذلك في الحاجبين إذا لم ينبتا؟
قال: نعم، وكذلك شعر الرأس واللحية.
باب القول في الأصابع
قلت: فما تقول في الأصابع من اليدين والرجلين؟
قال: كلها سواء، في كل إصبع عشر من الإبل، حقتان وجذعتان وابنتا لبون وابنتا مخاض وابنا مخاض.
قلت: فإذا ضربت الإصبع فشلت؟
قال: حكومة، شبه بالنصف من ديتها.
قال: وفي كل مفصل من الأصابع ثلث دية الإصبع، إلاَّ الإبهام فإنها مفصلان في كل مفصل نصف ديتها.
باب القول في الأسنان
وسألته عن الأسنان؟
فقال: كلها سواء، الثنايا والأضراس. (1/415)
قلت: فكم في كل سن؟
قال: خمس من الإبل جذعة وحقة وبنت لبون وبنت مخاض وابن مخاض.
قلت: فإذا اسودت؟
قال: ففيها حكومة.
قلت: فإن انكسرت؟
قال: فعلى قدر ما يذهب منها.
قلت: فسن الصبي؟
قال: فيها حكومة.
باب القول في السمحاق
وسألته عن السمحاق، ما هي؟
فقال: هي الَّتي تحلق الشعر وتسحق اللحم.
قلت: فكم فيها(1)؟
قال: أربع من الإبل.
باب القول في الموضحة
وسألته عن الموضحة؟
فقال: هي الَّتي تضح عن العظم حتَّى يرى من الضربة، وهي في الوجه والرأس سواء.
قلت: فما ديتها؟
قال: في الموضحة خمس من الإبل.
قلت: فالموضحة في الأعضاء؟
قال: حكومة ذي عدل.
باب القول في الهاشمة
وسألته عن الهاشمة؟
فقال: هي الَّتي تهشم العظم، ولا يخرج منه عظام.
قلت: فما(2) ديتها؟
قال: عشر من الإبل.
باب القول في المنقلة
وسألته عن المنقلة؟
قال: هي الَّتي يخرج منها العظام.
قلت: فما(3) ديتها؟
قال: خمس عشرة من الإبل.
باب القول في الجائفة
وسألته عن الجائفة؟
قال: هي الَّتي تصل إلى الجوف.
قلت: فما ديتها؟
قال: ثلث الدية.
قلت: فإن نفذت؟
قال: ففيها ثلثا الدية.
باب القول في الآمّة
وسألته عن الآمة؟
فقال: هي الَّتي تصل إلى الدماغ.
قلت: فما يجب فيها؟
قال: ثلث الدية.
باب القول في الوجنتين
وسألته عن الوجنتين إذا قطعتا؟
قال: حكومة، وليس فيها شيء مؤقت.
باب القول في الترقؤتين
وسألته عن الترقؤتين إذا كسرتا؟
فقال: حكومة ذي عدل.
باب القول في الأضلاع
وسألته عن الأضلاع إذا كسرت؟
فقال: حكومة ذي عدل.
باب القول في الظفر
وسألته عن الظفر إذا كسر؟
فقال: حكومة.
قال: في كل مكسور إذا انجبر حكومة ذي عدل.
باب القول في الرجل إذا ضُرب فذهب أنفه وعيناه وهو حي
وسألته عن رجل ضرب رجلاً خطأً فقطع أنفه وشفتيه وذهبت عيناه جميعاً ونحو ذلك، ثُمَّ عاش؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ديتها.
(2) ـ في نسخة (ب): فكم
(3) ـ في نسخة (ب): فكم.
فقال: المعنى فيه أن يحكم عليه بحكم الديات إن هو برأ وعاش، وإن مات فإنما هي دية واحدة، ولا يحكم عليه حتَّى يبرأ أو يموت إذا ضربه خطأ. (1/416)
باب القول في العين إذا ابيضت ثُمَّ عادت
وسألته عن رجل لطم رجلاً فابيضت عينه من اللطمة، ثُمَّ تنجلي عينه حتَّى تعود إلى حالها(1)؟
قال: ليس عليه قصاص ولا دية، وعليه حكومة على قدر ما يرى الإمام وما مرَّ بالرجل من الصعوبة.
قلت: فإن أخذ الملطوم من اللاطم دية العين، ثُمَّ برأت العين بعد ذلك؟
قال: يرجع الملطوم على اللاطم بما أخذ منه، ويكون عليه أرش ما فعل.
باب القول في ثديي المرأة
وسألته عن ثدييّ المرأة إذا قطعا جميعاً؟
قال: إذا قطعت الحلمتان ففيهما حكومة، شبه بثلثي الدية.
باب القول في استكراه المرأة
وسألته عن الرجل يستكره المرأة فيفتضها؟
قال: عليه الحد.
باب القول في الصبي يفتض المرأة
قلت: فالصبي يفتض المرأة؟
قال: يحكم الإمام على عاقلته بالعقر.
قلت: فإن لم تكن له عاقلة؟
قال: ففي صلب ماله.
قلت: فإن لم يكن له صلب مال؟
قال: ففي بيت المال.
في الأمة
قلت: فإن كان الصبي افتض أمةً؟
قال: فعلى عاقلته عقر مثلها.
قلت: وكم عقر الأمة؟
قال: عشر قيمتها.
قلت: كأنها إذا كان قيمتها عشرين ديناراً، أيكون عقرها دينارين؟
قال: نعم.
باب القول في رجل يقتل في زحام
قلت: فإن رجلاً قُتِل في زحام مثل الطواف وغيره؟
قال: ديته على بيت المال.
باب القول في الوالد يقتل ولده عمداً
قلت: فإن رجلاً قتل ولده عمداً؟
قال: لا يقتاد منه إذا قتله عمداً، ويكون عليه الدية في نفسه يدفعها إلى اخوته وورثته، ولا يرث القاتل من الدية شيئاً.
إذا أوصى له ثُمَّ قتله
قلت: فإن رجلاً أوصى لرجل بثلث ماله ثُمَّ قتله الموصى له؟
قال: لا يجوز له الوصية؛ لأنها لا تجوز للقاتل.
ميراث الزوجة من الدية
وسألته عن المرأة، هل ترث من دية زوجها؟
قال: نعم، إذا قُتل رجل ورثت امرأته من ديته.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): حالتها.
باب القول في القتيل يوجد بين أظهر قوم (1/417)
وسألته عن القتيل يوجد بين أظهر قوم أو في بلدهم أو قريباً من قريتهم؟
قال: يستحلف منهم خمسون رجلاً قسامة ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، فإن حلفوا زال عنهم القتل ولزمتهم الدية، وإن لم يحلفوا حبسوا أبداً حتَّى يحلفوا أو يقروا.
إذا ادعى أولياؤه على رجل بعينه
قلت: فإن ادعى أولياء المقتول على رجل بعينه من أهل المحلة أنَّه قتله عمداً أو خطأً، ما يجب في ذلك؟
قال: بطلت القسامة عنهم ولم تبطل عن المدعى عليه، فإن كان قتل عمداً فعليه القود، وإن كان قتل خطأً فعليه الدية إذا أقاموا عليه البينة.
قلت: فإن لم يجدوا عليه بينة؟
قال: يستحلف المدعى عليه بالله ما قتل، ثُمَّ يُبرأ.
قلت: فيبطل دم الرجل؟
قال: نعم، إنَّما عليه دعوى، وهو جاحد لها، فعليه اليمين لا غير ذلك.
إذا ادعوا على قوم غير الذين وجد فيهم
قلت: وكذلك إذا ادعى أولياء المقتول على قوم غير الذين وجد عندهم القتيل؟
قال: نعم، تبطل منهم القسامة.
في الرجل يوجد ميتاً عند قوم
قال: إذا وجد رجلٌ ميتاً عند قوم ليس فيه أثر فلا قسامة فيه ولا دية.
في الدابة توجد مقتولة في حي
قال: إذا وجدت دابة مقتولة في حي فليس عليهم شيء؛ لأن العاقلة لا تعقل البهائم والعروض، إلاَّ أن يدعى على إنسان بعينه أو على قوم بأعيانهم.
إذا وُجد القتيل بين الذميين
وسألته عن القتيل يُوجد بين الذميين؟
قال: حكمهم كحكم المسلمين.
إذا وُجد القتيل بين مسلمين وذميين
وسألته عن القتيل يوجد في قرية فيها مسلمون وذميون؟
قال: القسامة عليهم جميعاً على المسلم والكافر، تكون عليهم الأيمان، ثُمَّ تقسم عليهم الدية فما أصاب المسلمين فعلى عواقلهم، وما أصاب الذميين فإن كانت لهم عواقل وإلاَّ ففي صلب أموالهم.
قال: وكل ما لم يكن على العاقلة فليس فيه قسامة.
القتيل يوجد في موضع فيه سكان
قلت: فإن وجد قتيل في موضع فيه سكان في دور لغيرهم؟
قال: فالقسامة عليهم، فليس على أرباب الدور شيء. (1/418)
القول في العبد إذا عتق منه شقص
قال: وإذا عتق من العبد شقص فحكمه على قدر ما عتق منه في حكم الأحرار، وما بقي من العبد فحكمه حكم العبيد.
إذا مات الرجل من ضربة أو رمية
قلت: فإن رجلاً ضرب رجلاً أو رماه بسهم أو ما أشبه ذلك فمات؟
قال: أولياء المقتول يضربون عنق القاتل ولا ينظرون إلى ما فعل بصاحبهم؛ لأنَّه لا توجد ضربة بضربة، وليس إلاَّ القتل إذا قتل عمداً.
القول في الجماعة يقتلون الرجل
قلت: فإن جماعة قتلوا رجلاً عمداً؟
قال: يقتلون كلهم به، إلاَّ أن يكون فيهم صبي أو مجنون فعليهم جزؤهم من الدية على العدد على عواقلهم.
إذا سقط الجنين من فعل أمه
قلت: فإن امرأة شربت دواء أو استدخلت كرسفاً فرمت بما في بطنها؟
قال: عليها الكفارة ودية الجنين لأبيه إن كان قد جاز الأربعة الأشهر؛ لأنَّه بعد الأربعة الأشهر يحيا في قول علي عليه السلام.
قلت: فإن لم يكن بلغ أربعة أشهر؟
قال: فعليها غرة.
قلت: وما الغرة؟
قال: عبد أو أمة.
قلت: وكم قيمة الغرة؟
قال: خمسمائة درهم.
ما لا يجب فيه القود
وسألته: عمَّا لا يجب فيه القود، ما هو؟
فقال: كل شيء يخاف على صاحبه منه الموت مثل كسر الفخذ والساق والصلب والجائفة والآمة وقطع العضو البائن من وسطه مثل العضد من وسطها وشبه هذا، ولكن فيه الديات.
في اللطمة
قلت: فإن رجلاً لطم رجلاً، ما يجب في ذلك؟
قال: إذا لطم رجل رجلاً ففيها قود بلطمة مثلها إذا كانت في موضع مأمون، فأما إن كانت في عين أو في موضع تلف فلا، وفيها حكومة على قدر ما يرى الإمام.
إذا كسر رجل بعض سن رجل عمداً
قلت: فإن رجلاً كسر بعض سن رجل عمداً ثُمَّ اسودَّ ما بقي منها؟
قال: ليس فيه قصاص، وفيه الأرش في مال الجاني؛ لأنَّه عمد، وإن مات فالقود.
قلت: وكذلك لو قطع إصبعه فشلّت الكف؟
قال: نعم.
في الحر يقتل العبد
وسألته عن الحر يقتل العبدَ؟
قال: إذا قتل الحر العبد وكان ثمن العبد أكثر من دية الحر لم يجاوز دية الحر في العبد بقتل الحر. (1/419)
قلت: فإن العبد قتل الحر؟
قال: إذا كان ثمن العبد أكثر من الدية فصاحبه بالخيار إن شاء سلمه وإن شاء أخرج الدية، إذا كان قتله إيّاه خطأً، وإن كان قتله تعمداً فلا بد من تسليمه على كل حال.
في عين العبد ويده
قلت: فإن قطع الحر يد العبد؟
قال: فنصف ثمنه، وكذلك عينه وكذلك إصبعه عشر قيمته.
في العبد يجني على الجماعة
قلت: فإن العبد جنى على جماعة فيهم الحر والعبد والمدبر؟
قال: يدفع إليهم كلهم، إلاَّ أن يفديه(1) مولاه بثمنه إن كانت جنايته خطأ، وإن كانت جنايته عمداً سلمه إليهم.
في عفو بعض الورثة
وسألته عن رجل قتل رجلاً عمداً فعفا بعض الأولياء؟
قال: قد سقط عنه القتل، وعلى القاتل بقية الدية لمن لم يعف، ولا يأخذ من عفا شيئاً(2).
في عفو المضروب قبل أن يموت
قلت: فإن رجلاً ضرب رجلاً بسيف فعفا المضروب قبل أن يموت؟
قال: عفوه وصية إن كان له مال يكون الدية في ثلثه، لم يكن على الضارب شيء، وإن لم يكن له مال تكون الدية في ثلثه فبحساب ذلك.
قلت: فإن ضربه ضربة فقدر فيها ديناراً ومائة دينار أو أقل أو أكثر، فعفا عن ذلك، ثُمَّ مات بعد ذلك من الضربة؟
قال: زال عنه القتل وسقط عنه من الدية بقدر ما عفا عنه من أرش جرحه.
في الرجلين يقتتلان فيموت أحدهما وبالآخر جراح
وسألته عن رجلين تواثبا بالسلاح فضرب كل واحد منهما صاحبه، فمات أحدهما وأصاب الآخر من المقتول ضرب(3) أذهب إحدى عينيه وقطع أنفه وقطع يديه وذهب بعض أسنان فمه؟
قال: أولياء المقتول مخيرون إن أرادوا أخذوا القاتل فقتلوه وأعطوا أرش الجراحات، وإن شاءوا حاسبوا القاتل.
إذا قتل جماعة رجلاً عمداً
__________
(1) ـ في نسخة (ب): بفتديه.
(2) ـ قال في الأحكام: أن العافي يأخذ الدية، إلاَّ أن يكون عفا عن الدية مع الدم.
(3) ـ في نسخة (ب): ضربة أذهبت.
قال: فإن جماعة قتلوا رجلاً عمداً فعفا الولي عن بعضهم وأراد أن يقتل الباقين؟ (1/420)
قال: ليس ذلك له؛ لأنَّه إذا عفا عن واحد فقد دخل العفو عليهم كلهم عن القتل، وإنَّما هي الدية على من بقي، على كل رجل منهم دية كاملة لا يشتركون فيها؛ لأن كل واحد منهم قتل بعينه، وإنَّما يجب هذا في العمد، فأما في الخطأ فلا.
قلت: فكيف حكمهم في الخطأ؟
قال: الحكم في الخطأ أن على كل جماعة قتلت رجلاً خطأ دية واحدة يشتركون فيها.
قلت: وكيف اشتركوا في دية الخطأ ولم يشتركوا في دية العمد؟
قال: لأن قتلهم له كان عمداً، فكل واحد منهم نوى القتل وقصده وتعمده وأراده وفعله فوجب عليه بتعمده جزاء ما تعمده، وهي الدية الكاملة، ألا ترى أن كلهم مقتول به، كذلك كلهم عليه دية(1) كاملة.
في الرجل يقتله غير الولي بغير أمر الولي
قلت: فإن دفع القاتل إلى ولي المقتول ليقتله فقتله رجل غير الولي بغير أمر الولي؟
قال: حق المقتول الأول قد بطل، وعلى القاتل الذي قتل المدفوع إلى الولي القود، إلاَّ أن يشاء الأولياء فيأخذون منه الدية، ثُمَّ هي رد إلى أولياء القتيل الأول؛ لأن الدم كان لهم.
إذا شهدوا عليه فقتل ثُمَّ رجعوا
وسألته عن رجل شهد عليه شهود أنَّه قتل رجلاً عمداً بالسف، فدفعه الإمام إلى ولي المقتول فقتله، ثُمَّ رجعوا جميعاً فقالوا: شهدنا بزور؟
قال: يُدفعون إلى ولي المقتول، فإن شاء قتلهم كلهم، وإن شاء أخذ من كل واحد منهم دية كاملة، وإنَّما ذلك إذا كانت شهادتهم تعمداً، وإن قالوا: شهدنا ولم نتعمد فعليهم دية واحدة يشتركون فيها في صلب أموالهم، وعلى كل واحد منهم كفارة.
قلت: وما الكفارة؟
قال: عتق رقبة مؤمنة.
قلت: فإن لم يجد؟
قال: فصيام شهرين متتابعين.
قال: ولا بد من الكفارة على كل حال، قتل عمداً أو خطأً؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): ديته.
وقال: في رجل قتله رجل خطأً أو عمداً ثُمَّ علم بعد ذلك أنَّه قاتل أبيه عمداً، أنَّه لا شيء عليه، وكذلك إن كان للقاتل اخوة. (1/421)
إذا عفا أحد الوليين وقتل الآخر
وسألته عن رجل قتل رجلاً عمداً، وله وليان، فعفا أحدهما وقتل الآخر القاتل؟
قال: إن كان قتله وهو يعلم أن أخاه عفا عنه فعليه القود، وإن كان قتله وهو لا يعلم أن أخاه عفا عنه فإن عليه الدية، فيحسب له من ذلك النصف، ويؤخذ بالنصف، فيكون لورثة المقتول عنه، وذلك على العاقلة، وعليه كفارة القتل.
إذا سقط رجل من فوق بيت فقتل رجلاً
وسألته عن رجل يقع من فوق بيت على رجل، فمات الأسفل؟
قال: ديته على عاقلة الساقط.
قلت: فإن مات الأعلى؟
قال: فلا دية له.
قلت: فإن ماتا جميعاً؟
قال: فالدية على عاقلة الأعلى، وذلك إذا كان مثل هذا في مثل مسجد يأوي إليه المسلمون، أو في طريق أو في سوق جامع أو شبه هذا.
إذا أصابته جراح فلم يطالب حتَّى يعود
قلت: فإن رجلاً فقأ عين رجل، فلم يطالبه حتَّى برئت عينه وعادت إلى حالتها أو ضرب يده فكسرها فلا يطالبه حتَّى تبرأ يده وتعود إلى حالتها؟
قال: ففي كل ذلك حكومة على قدر تعب الرجل، وما مرَّ به من ذلك، ولا يجوز أن يطالب في مثل هذا حتَّى يبرأ أو يعنت فتقع الحكومة على أمرٍ بيِّنٍ لا ينتقص؛ لأن كل حكومة رفعت قبل انتهاء الجرح فهي منقوضة إن انتقض الجرح.
في الكلب وعقره
وسألته عن الكلب يأخذ الرجل فيعقره؟
قال: إذا عقر الكلب في فناء أصحابه فلا غرم على أهله، وإذا عقر في غير فناء أهله فعليهم الغرم، وإنَّما يكون ذلك إذا لم يكن عرف بالعقر، وإذا كان قد عرف بالعقر فلم يقتلوه فهم غارمون لما عقر حيث عقر.
جراحات النساء
وسألته عن جراحات النساء؟
فقال: جراحات النساء على النصف من جراحات الرجال، في كل قليل وكثير، وكذلك دياتهن.
في الرجل والمرأة يقتلان رجلاً عمداً أو خطأً
قلت: فإن رجلاً وامرأةً قتلا رجلاً خطأً أو عمداً؟
قال: إن كان خطأً فعليهما جميعاً دية واحدة على عواقلهم. (1/422)
قلت: فعاقلة المرأة عشيرتها من الرجال؟
قال: نعم، وإن كان القتل عمداً قُتلا جميعاً المرأة والرجل، إلاَّ أن يشاء أولياء المقتول فيأخذوا من كل واحد منهما دية من ماله.
المرأة تفقأ عين رجل
قلت: فإن امرأة فقأت عين رجل، ما يجب عليها؟
قال: يخير الرجل، فإن أحب أن يفقأ عينها فقأ، وإن أراد أن يأخذ نصف دية كاملة أخذ.
الرجل يفقأ عين المرأة
قلت: فإن رجلاً فقأ عين امرأة، ما يجب عليه؟
قال: تخير المرأة، فإن أحبت دفعت نصفُ دية العين وفقأت عين الرجل، وإن أحبت أخذت هي نصف دية العين.
في ستة قتلوا رجلاً عمداً فعفا الولي عن بعض بعد أن قتل بعضاً
وسألته عن ستة أنفس قتلوا رجلاً عمداً، فقتل الولي ثلاثة وعفا بعد عن ثلاثة، هل يجوز؟
قال: نعم.
قلت: فله بعد عفوه عنهم الدية؟
قال: إنَّما العفو عن القتل لا عن الدية، إلاَّ أن يكون وهب لهم الدية مع العفو.
قلت: فإن عفا عن الثلاثة قبل أن يقتل الثلاثة، هل له أن يقتل بعد العفو؟
قال: لا، قد دخل العفو عليهم كلهم؛ لأنَّه عفا قبل أن يقتل، فدخل العفو عليهم، وإنَّما له أن يعفو عن بعضهم إذا قتل بعضهم قبل.
في انتهار الصبي فيموت
وسألته عن رجل انتهر صبياً ففزع الصبي فخرَّ ميتاً من غير أن يمسه بضرب ولا بيده؟
قال: ذلك خطأ، فالدية على العاقلة.
في المعلم
قلت: وكذلك لو أن مُعَلِّماً ضرب صبيّاً فمات الصبي؟
قال: وكذلك هذا خطأ، والدية على العاقلة.
في المخنوق
قلت: فإن رجلاً خنق رجلاً بيده أو بحبل أو بوتر حتَّى قتله؟
قال: عليه القود.
الشهود يرجع بعشهم قبل القتل
وسألته عن أربعة شهدوا على رجل أنَّه قتل رجلاً، ثُمَّ رجع اثنان قبل أن يقتل المشهود عليه، ثُمَّ رجع الاثنان الباقيان بعد القتل، كيف الحكم في ذلك؟
قال: ينظر في رجوع الشاهدين الآخرين، فإن كانا تَعمَّدا قتله قُتلا به جميعاً، وإن كانا لم يتعمَّدا وقالا: أخطأنا وبان ذلك فالدية على عاقلتهما. (1/423)
قلت: فالشاهدان اللذان رجعا أولاً؟
قال: ليس عليهما شيء؛ لأنهما رجعا قبل القتل.
في جرح الرجل نفسه خطأ
قلت: فإن رجلاً قطع إصبع نفسه خطأً أو شج نفسه موضحة خطأً، هل يلزم عاقلته لنفسه شيء؟
قال: قد روي في ذلك روايات أنَّه يلزم عاقلته لنفسه، وأما أنا فلست أرى ذلك ولا يصح عندي في ذلك الرواية.
في الرجل يعور أعين جماعة
وسألته عن جماعة كانوا جلوساً يكلم بعضهم بعضاً، فأخذ رجل منهم بيده كف حصى فضرب به وجوه ثلاثة فعورت أعينهم، ما يجب عليه في ذلك لهم؟
قال: يفقأون له جميعاً عيناً واحدة.
قلت: فيفقأ هو ثلاث أعين وفقأ له عين واحدة؟
قال: نعم، كذلك لو قتلهم جميعاً لم يكن لهم إلاَّ نفسه وحده.
قلت: فإذا فقأ الثلاثة عينه، هل يجب لهم بعد فقء عينه شيء غير العين(1)؟
قال: نعم، يدفع إليهم ديتي عينين ويه دية كاملة يقتسمونها بينهم لكل واحد منهم ثلثا دية عين.
في تفسير ذلك
قلت: ولأيِّ معنىً ذلك، اشرحه لي حتَّى أفهمه؟
قال: نعم، ألا ترى أنَّه لما فقأ الثلاثة عيناً واحدةً كان كل واحد منهم قد فقأ ثلث عين وبقي له ثلثا دية عين، فكان ذلك دية كاملة، وهي ديتا عينين، فإذا اقتسموها بالسواء استوفى كل واحد منهم ثلث فقء عينه وثلثي دية العين، فافهم ذلك.
قلت: قد فهمته.
إذا فقأ عين واحد بعد واحد
قلت: فإن رجلاً فقأ عين رجل اليوم، وفقأ عين آخر غداً، وفقأ عين آخر بعد غد، ما الحكم في ذلك؟
قال: إن اجتمعوا جميعاً في الحكم ورضوا بأن يجتمعوا فالحكم فيه كما قدمنا في الجواب الأول.
قلت: فإن الأول ـ من الثلاثة الذين فقئت أعينهم ـ قال: أنا أول من فقئت عينه، وأنا أريد أن أفقأ عينه كما فقأ عيني، هل يجب له ذلك دون الاثنين؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): الفقى.
قال: نعم؛ لأنَّه الأول، والرجل الذي فقأ عينه فله عينان، فلذلك ألزمناه للأول يفقأ عينه. (1/424)
قلت: فإن الأول فقأ عينه، ثُمَّ أتى الثاني الذي فقئت عينه فقال: أنا أيضاً أريد أن أفقأ عينه الأخرى؛ لأني الثاني، هل يحكم له بذلك؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ، وهو أيضاً قد فقئت عينه قبل الثالث؟
قال: لأنَّه لما بدر الحكم بالعين الواحدة فقئت وصار الرجل أعور لم أوجب للثاني فقء العين؛ لأن عين الأعور بصره كله، وهي بمنزلة عينين، إلاَّ أن أرى في وقت النازل أن ذلك الفعل منه تمرد أو كفر أو فسق في دين الله فأحكم عندما أرى ذلك بقلع العين(1).
تفسير ذلك
قلت: ولأيّ علة لم يحكم للثاني بقلع عينه؟
قال: قد قدمنا بعض الجواب في ذلك، أن عين الأعور بمنزلة عينين، وإنَّما يطالبه هذا بفقء عين وهي بمنزلة عين واحدة، وعينه هي بمنزلة عينين، ولو أوجبت له عينه تركت هذا أعمى وبقي هذا صحيحاً بعين، وليس هذا بحكم الله.
قلت: فكيف العمل في ذلك؟
قال: نقول للثاني والثالث المعورين: أنتما مخيران في أن يدفع كل واحد منكما إلى هذا الرجل نصف دية العين وتفقآن عينه، وإن شئتما فيأخذ كل واحد منكما منه دية عينه.
بابٌ في حجتهما[أي حجة من فقأعين من فقأ عينا بعد عين]
قلت: فإن قال هذان المعوران: ولم ندفع نحن نصف دية العين فندفع دية العين وتفقأ عينه وهي واحدة، فكأنا لم نقتص شيئاً، فإن قلت أيها الحاكم: إن منزلة عين هذا الرجل بمنزلة عينين فقد صدقت، فقد فقأ لنا عينين، فنحن نفقأ عيناً واحدةً بعينينا ولا ندفع شيئاً، ما جوابه لهما في ذلك؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): عينه الأخرى.
قال: يقول لهما: ليس القول كما قلتما، ولكنا نقول: لكل واحد منكما على حدته بم تطالب أنت، فيقول بفقء عيني، فنقول له: فدية عينك أنت، أليس نصف دية ودية عين هذا دية كاملة، فإن قال: نعم، قلنا له: فادفع إليه نصف دية العين؛ لأنك إنَّما تطالب بعين وديتها نصف الدية، وتريد أن تفقأ عيناً ديتها دية كاملة، ولا يجوز لك ذلك، ولكن يبقى عليك لو كنت أنت وحدك نصف الدية، إذا كانت عينك إنَّما ديتها نصف الدية، ودية عين هذا دية كاملة. وكذلك يقال للآخر مثل هذا القول: فاخرج أنت نصف دية العين ويخرج صاحبك نصف دية العين، فادفعاها إلى هذا وافقأا عين هذا إن أردتما، فإن قال: قال الله عز وجل: {العين بالعين}[ ]، وأنا أريد فقء عين هذا بعيني، قلنا له: فإذا فقأت عين هذا بعينك فالثالث أي شيء يفقأ إذ ليس للإنسان إلاَّ عينان، فإن قال: إذا فقأت أنا عين هذا، فيأخذ(1) الثالث الدية، قلنا له: ليس هذا من حكم الله عز وجل أن يكون هذا إنَّما صيرك أعور تجعله أنت أعمى وتأخذ منه بعد العمى دية، ولا يكلف الله نفساً إلاَّ وسعها، ثُمَّ نقول له: أما قولك: العين بالعين، فما تقول في أربعة أُناس فقأوا جميعاً عين رجل، ما يعمل بهم، فلا بد أن نقول: إن كان ممَّن ينظر(2) الأحكام يفقأ الذي فقئت عينه لكل واحد منهم عيناً بعينه الواحدة الَّتي فقئت، فنقول له: ألا ترى أنَّها قد صارت أربع أعين بعين، فافهم ما قلنا من هذا، فلك فيه كفاية إن شاء الله تعالى. (1/425)
قال: وفي العين نصف الدية، فإن خسفها خاسف بعد ذلك ففيها حكومة ذي عدل.
جناية ولد العبد ثُمَّ يعتق أبوه بعد ذلك
وسألته عن امرأة حرة كانت تحت عبد فولدت منه غلاماً فجنى الغلام بعدما بلغ جناية، وأبوه عبد، فعقلت عنه عاقلة أمه نَجماً، ثُمَّ عتق أبوه، كيف الحكم في ذلك؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): فليأخذ.
(2) ـ في نسخة (ب): يبصر.
قال: تمام الدية على عاقلة أمه؛ لأن الدية وجبت وقت ما جنى الغلام، فلزمت عاقلة أمه ولم يلزم أباه شيء إذا كانت الجناية قبل عتقه. (1/426)
في جناية الصبي
وسألته عن صبيٍّ لم يبلغ قتل رجلاً عمداً أو خطأً؟
قال: جناية الصبي كلها خطأ، وهي على عاقلته.
جناية الصبيان بعضهم على بعض
قلت: فإن صبيين لم يبلغا قتل أحدهما صاحبه، أو شج أحدهما موضحة أو غير ذلك من الشجاج، ما الحكم في ذلك؟
قال: كذلك كل جناية الصبيان على العواقل(1)؛ لأنها كلها خطأ، وليس على آبائهم دون عواقلهم.
صبيان أهل الذمة
قلت: فإن أحد الصبيين ذمي شجه صبي مسلم موضحة أو الذمي شج المسلم، ما يجب في ذلك؟
قال: الحكم في ذلك حكم المسلمين، وجناية الصبيان كلها خطأ، وهي على عواقلهم.
صبي مسلم شج رجلاً بالغاً من الذميين
قلت: فإن صبياً من المسلمين شج ذمياً بالغاً موضحةً، أو رجل ذمي شج صبياً من صبيان المسلمين لم يبلغ، ما الحكم في ذلك؟
قال: قد قدمنا الجواب في ذلك، أن الحكم حكم أهل الإسلام في أهل الإسلام وأهل الذمة، فعلى عاقلة الصبي جناية ما فعل باليهودي، وعلى اليهودي مثل ذلك.
باب القول في الصبي والمجنون
قال: والصبي والمجنون ومن ليس له عقل فجنايتهم خطأ كلها.
إذا ادعت امرأة على صبي لم يبلغ
قلت: فإن امرأة ادعت على صبي أنَّه ضربها حتَّى رمت بما في بطنها، ولم يكن لها شهود؟
فقال: ليس على الصبي حكم، ولا على عاقلته أن يحلفوا عن الصبي؛ لأنها ادعت على صبي بعينه، وإنَّما تجب القسامة إذا ادعت على قوم أنهم قتلوا رجلاً أحلف منهم خمسون رجلاً ما قتلوا ولا علموا من قتل.
قلت: فإن جاءت هذه المرأة ببينة على هذا الصبي أنَّه ضربها حتَّى رمت بما في بطنها؟
قال: فدية ما في بطنها على عاقلة الصبي، وإن لم تأت ببينة فلا حق لها.
في امرأة أفزعها قوم فطرحت ولداً ميتاً
قلت: فإن امرأة حاملاً أفزعها قوم عمداً فأسقطت ولداً ميتاً؟
قال: عليهم غرة.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): عواقلهم.
قلت: وكم قيمة الغرة؟ (1/427)
قال: نصف عشر الدية، وهي خمسمائة درهم.
قلت: فإن كان الولد قد صاح أو عطس؟
قال: هذا مثل الخطأ وعليهم الدية كاملة.
في الدابة تطرح ما في بطنها
قلت: فإن رجلاً ضرب دابة فرمت بما في بطنها ميتاً؟
قال: عليه نصف عشر قيمتها.
في القتيل يدعي الولي أنَّه قُتِل خطأً
قلت: فإن رجلاً قتل رجلاً فادعى أولياء المقتول أنَّه قتله خطأً، وقال القاتل: قتلته عمداً؟
قال: سقطت عنه الدية والقتل جميعاً؛ لأن الأولياء أسقطوا عنه القتل لقولهم للقاتل: قتله خطأً، وقال القاتل: قتلته عمداً، فسقطت عنه الدية.
قلت: فيسلم هذا القاتل فيما بينه وبين الله؟
قال: إن كان قتل خطأً كما قال أولياء المقتول فعليه الكفارة عتق رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين، وإن كان قتل عمداً أقادهم من نفسه، فإن أبوا قَتْلَه كان عليه التوبة والإخلاص.
بابٌ في الأمة
قلت: فإن رجلاً ضرب أمةً حاملاً فرمت بما في بطنها؟
قال: عليه نصف عشر قيمتها.
في رجلين تجاذبا حبلاً فانقطع بهما
وسألته عن رجلين تجاذبا حبلاً كل واحد منهما بطرفه، فانقطع الحبل فوقعا فماتا جميعاً؟
قال: أرى أنَّ دية هذا على عاقلة هذا، ودية(1) هذا على عاقلة هذا.
قلت: فإن تركت العاقلتان الديتين كل واحدة منهما بما عند صاحبتها؟
قال: لا يجوز حتَّى تخرج(2) الديتان كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <لا يظل دم مسلم>.
قلت: فإن كان هذا الحبل الذي تجاذبه الرجلان كان لأحدهما، وكان الآخر يجاذبه عليه ليأخذه منه، أو كان عبثاً فيما بينهما فانقطع الحبل فوقعا جميعاً فماتا.
قال: دية الذي كان له الحبل على عاقلة الآخر وتبطل دية ذلك الرجل الذي لم يكن له في الحبل شيء.
في القود
وسألته عن القود؟
فقال: القود في العمد، وليس في الخطأ قود.
في الرجل يقتل ابنه
قلت: فإن رجلاً قتل ابنه، هل يقتل به؟
قال: لا يقتل والد بولده.
__________
(1) ـ في نسخة (ب): وأنّ.
(2) ـ في نسخة: يخرجوا الدنانير.
في الابن يقتل أباه (1/428)
قلت: فإن الابن قتل أباه، هل يقتل به؟
قال: نعم.
في الحر لا يقتل بالعبد
قلت: فيقتل الحر بالعبد؟
قال: لا يقتل حر بعبد، ولا يقتل مؤمن بمشرك.
قلت: فإن قتل مؤمن مشركاً؟
قال: الدية.
قلت: فكم الدية؟
قال: دية كاملة إذا كان من أهل الذمة الذين تؤخذ منهم الجزية وتجري عليهم أحكامنا فديةٌ كاملة.
في الرجل هل يقتل بالمرأة
قلت: فيقتل الرجل بالمرأة؟
قال: لا.
قلت: فكم دية المرأة؟
قال: نصف الدية.
في الرجل يلزمه القصاص قبل أن تجري عليه(1) أحكام الإمام
قلت: فإن رجلاً وجب عليه القصاص أو حد قبل أن يجري(2) عليه حكم الإمام ويملك موضعه؟
قال: أما القصاص فيؤخذ، وأما الحد فيترك.
القتيل يوجد في قرية
قلت: فإن قتيلاً(3) في قرية فادعى أولياء المقتول على قوم من القرية دون قوم من أهل القرية؟
قال: يجب القسامة على الذي ادعى عليهم أولياء المقتول أنهم ما قتلوا ولا علموا قاتلاً، فإذا حلفوا(4) حلَّف الإمام باقي أهل القرية أيضاً لمعنى أن الدم وجد عندهم وبينهم.
قلت: وتبطل الدية؟
قال: لا، ولكن يلزم القوم جميعاً، وقد قال قوم: يبطل الدم، حيث ادعى أولياء المقتول على قوم خلاف قوم، وقال آخرون: القسامة والدية تلزم القوم الذين ادعى عليهم، فلما رأينا اختلافهم في ذلك ألزمنا هؤلاء القسامة ونصف الدية لمعنى الدعوى الَّتي أُدُّعِيت عليهم، وألزمنا هؤلاء القسامة ونصف الدية لمعنى الدم الذي وجد بينهم كلهم في قريتهم وعندهم، ورأينا هذا أحسن الأقاويل في هذا.
قلت: فتكون الدية على عواقل الجميع؟
قال: نعم.
وسألته عن رجل أدخل جملاً له السوق فعقر رجلاً؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يجري على حكم.
(2) ـ في نسخة (ب): يخرج.
(3) ـ في نسخة (ب): رجلاً قتيلاً.
(4) ـ في نسخة (ب): أحلفوا أحلف.
قال: إن كان الجمل يعرف بالعقر ثُمَّ أدخله السوق فما أحدث فعلى صاحبه، وإن لم يكن عرف بذلك فهو جبار كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى جبار فهو: باطال، ليس على صاحبه شيء. (1/429)
وسألته عن رجلين اقتتلا، فدخل بينهما رجل يفرع بينهما، فأصابه من أحدهما ضربة فقتلته، على مَن ديته؟
قال: على عاقلة الذي أصابه بالضرب.
قلت: ولِمَ تكون الدية على عاقلته؟
قال: لأنَّه قتله خطأ، ألا ترى أنَّه لما أراد أن يضرب غيره فدخل الرجل بينهما يفرع فوقعت الضربة به فهذا هو الخطأ بعينه ودية الخطأ على العاقلة.
قلت: فدية الجراح مثل الجائفة والمنقلة وما أشبه ذلك، على مَن هي؟
قال: إذا كان ذلك عمداً ففي مال الرجل الجاني.
قلت: فإذا ضرب الرجل الرجل ضربة في رأسه عمداً فأمَّته أو أوضحت أو غير ذلك، فديتها في ماله، وليس على العاقلة من ذلك شيء؟
قال: نعم، وإنَّما على العاقلة ما كان خطأً.
قلت: فكيف يكون مثل هذه الجراح خطأ؟
قال: يرمي الرامي بحجر أو بسهم يريد به رجلاً أو طائراً فيصيب رجلاً غير الذي رماه فيكون هذا خطأ، ودية الخطأ على العاقلة.
كتاب الحدود في قطع السارق
وسألته عن السارق، متى يجب عليه القطع، وفي قيمة كم؟
قال: إذا سرق عشرة دراهم أو قيمتها قطع.
قلت: وما هذه الدراهم؟
قال: العراقية الَّتي وزن كل درهم منها ثمانية(1) وأربعون حبة بالشعير، فإذا سرق الرجل من هذه الدراهم عشرة من حرز وجب عليه القطع.
قلت: فمن أين تقطع؟
قال: من الكوع، وهو: مفصل اليد، كذلك بلغنا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
قلت: فما الحرز الذي إذا سرق منه السارق وجب عليه القطع؟
قال: كلما كان عليه الحظائر من الجدر والقصب أو الجريد وما كان ممَّا يشبه ذلك وأغلق عليه الأبواب فما كان من خلف ذلك فهو حرز.
قلت: فاقل ما يكون طول الجدر الذي يجب على من أخذ من خلفه القطع ما هو؟
__________
(1) ـ وفي نسخة: اثنان وأربعون، وكما هو في الأزهار.
قال: الذي يمنع الإنسان من الدخوٍل ويمنع الدابة من الخروج، وفي هذا كفاية لك فيما سألت عنه في الحرز الذي يوجب القطع، فافهمه. (1/430)
قلت: فإن رجلاً سرق من رؤوس النخل تمراً أو عنباً أو فركساً أو ما أشبه ذلك من رؤوس الشجر؟
قال: ليس في شيء من هذا قطع، إذا سرقه السارق من رؤوس شجرة أو نخلة.
قلت: فإن هذا النخل والشجر عليه جدر طوال(1)، وأبواب وأغلاق؟
قال: وكذلك لا يجب فيه القطع.
قلت: ولم وهذا حرز؟
قال: لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي رواه عنه رافع بن خديج، أنَّه قال: <لا قطع في ثمر ولا كثر>.
قلت: وما الكثر؟
قال: الجمار، وهو: شحم النخل.
قلت: فإن قطع صاحب النخل أو الشجر التمر من رؤوسه، ثُمَّ وُضِعت تحت النخل أو الشجر، فدخل السارق فسرقه؟
قال: يقطع.
قلت: فإنه لم يكن في الشجر ولا النخل تمر، فدخل السارق فقطع جذع النخلة أو قطع الشجرة هي تساوي أكثر من عشرة دراهم، وخرج بها من الباب، هل يقطع؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ وهي تساوي؟
قال: لأن هذا عرق وهو يضرب في الأرض، وهو مثل التمر.
قلت: وكذلك ما أشبه هذا ممَّا له عرق يضرب مثل البصل والجزر والقثاء والبطيخ وما أشبه ذلك؟
قال: وكذلك هذا كله ثمر، لا يجب فيه القطع.
قلت: فأي شيء يجب على السارق هذا؟
قال: ينكل بالضرب والأدب الشديد حتَّى لا يعود ويجدد ذلك غيره.
وسألته عمَّن سرق صبيّاً حُراً له خمس سنين إلى العشر، هل يجب عليه القطع؟
قال: نعم، يجب في ذلك القطع، و هو أوجب ما وجب فيه؛ لأنَّه قد صير ما جعل الله حرّاً عبداً يجري بفعل السارق مجرى الأموال.
من سرق صبياً مملوكاً
قلت: وكذلك لو سرق صبي مملوكاً لم يبلغ مبالغ الرجال، أو قد بلغ، فصيحاً أو أعجميّاً، هل يجب عليه القطع؟
قال: نعم، لا اختلاف في ذلك، إذا أخذ من حرزه؛ لأنَّه كغيره من الأموال.
فيمن شق جوالقاً
__________
(1) ـ في نسخة (ب): جدر طويل.
قلت: فإن رجلاً شق جوالقاً على بعير يسير، فأخرج من الجوالق رزمة بز أو ثوباً يساوي عشرة دراهم قفلة وترك الجوالق وباقي ما فيه على البعير بحاله، هل يجب عليه القطع؟ (1/431)
قال: قد قيل: إن القطع يجب عليه، وإن ذلك له حرز، ولسنا نرى ذلك حرزاً، ولا نرى الحرز إلاَّ الحظائر المحظورة والأبواب الموثقة.
قلت: وكذلك إن كان الجوالق في الأرض وصاحبه عليه راقد فشق الجوالق وأخذ منه ما يساوي عشرة دراهم أو أكثر، هل يجب عليه القطع؟
قال: وكذلك أيضاً لا يجب فيه القطع؛ لأنَّه ليس بحرز، كل ما كان على سبيل مارٍّ غير مقيم في حظيرة ولا دار فليس موضعه بموضع يجب فيه القطع.
في الطّرّار
قلت: وكذلك الطرار إذا أدخل يده في كُم رجل فطر من داخل الكم الصرة؟
قال: وكذلك هذا لا يجب فيه القطع.
قلت: وكذلك إن كان قطع الصرة من خارج الكم ولم يدخل يده في الكم؟
قال: هما سواء، وداخل الكم أوكد، فإذا لم يجب فيه القطع فالخارج أجدر.
الكوة في البيت
قلت: وكذلك لو أن رجلاً دخل(1) يده في كوة في بيت إلى داخل البيت، فأخذ منها ثوباً يساوي عشرة دراهم ولم يدخل هو البيت، هل يجب عليه القطع؟
قال: نعم، يجب عليه القطع إذا أخرجه من حرزه بدخوله فيه أو بغير دخوله؛ لأن الله تبارك وتعالى إنَّما أوجب القطع بإخراج السرقة من حرزها لا بدخوله هو ببدنه، و قد أبى ذلك غيرنا.
بابٌ في المتاع
وسألته عن رجلين سرقا متاعاً يساوي عشرة دراهم من حرز، فأخذ أحدهما ولم يأخذ(2) الآخر؟
قال: يقطع إذا صح أنَّه أخرجها مع صاحبه من حرزها، وليس إفلات صاحبه ممَّا دَرأ عنه حدّاً لازماً له.
قلت: فإن المتاع يساوي عشرين درهماً؟
قال: الأمر واحد، ولسنا نقسم بينهما القيمة(3) كما قسم من لم ينصف في الجواب، وليس هذا بأعظم من القتل.
في رجل سرق ثوباً ثُمَّ سرق منه
__________
(1) ـ في نسخة (ب): مد.
(2) ـ في نسخة (ب): يؤخذ.
(3) ـ في نسخة (ب): القسمة.
وسألته عن رجل سرق ثوباً من رجل ثُمَّ سرقه منه رجل آخر، وهو يساوي عشرة دراهم، هل يجب على السارق الآخر قطع؟ (1/432)
قال: يجب على السارق الأول القطع؛ لأنَّه أخرجه من ملك مالكه وحرزه، ولا يجب على الآخر قطع؛ لأنَّه سرق ممَّن لا ملك له، والحرز للأول.
عبد معه مال فقال سرقته من فلان
وسألته عن عبد محجور عليه، وفي يده ألف درهم، فقال العبد: سرقتها من فلان، وقال المولى: كذب، الألف لي؟
قال: إن كان ظهر من الرجل الذي زعم العبد أنَّه سرقها منه دعوى أو سبب يدل على ما قال العبد كان في ذلك مصدَّقاً، وإن لم يكن ظهر ذلك قبل الدعوى لم يصدق إلاَّ أن يقوم بينة.
فيمن سرق وله إصبعان مقطوعتان
وسألته عن رجل سرق وإبهامه وسبابته مقطوعتان، هل يجب عليه قطع أم لا؟
قال: القطع واجب عليه ما دام له في كفه إصبعان ينال بهما قوته.
قلت: وكذلك إن كانت الإبهام مقطوعة وحدها؟
قال: وكذلك الأمر فيها كالجواب الأول.
فيمن سرق ما يفسد إذا مكث
وسألته عن رجل سرق ما يسوى عشرة دراهم ممَّا يفسد لحماً أو فواكه رطبة أو غير ذلك، هل يجب عليه قطع أم لا؟
قال: القطع واجب في كل ما كانت قيمته عشرة دراهم في وقت أخذه، ولو زال القطع بفساده بعد يوم أو يومين لزال بموت الحيوان بوقت ووقتين، وقد قال غيرنا: إنَّه لا يقطع.
في سرق الخشب
قلت: فإنه سرق جذعاً من بيت يساوي عشرة دراهم أو خشبة من ساج تساوي ديناراً أو أكثر؟
قال: القطع واجب في كل ما كان يباع ويكون له قيمته هذا المقدار.
في سرق الأبواب
قلت: وكذلك لو سرق باب دار في درب وليس على الدرب باب أو عليه باب، وكذلك لو سرق باب الدرب؟
قال: ليس في باب الدرب قطع، ولا في باب الدار؛ لأنَّ الباب هو الحرز، والقطع فيما كان من ورائه.
فيمن سرق حماماً
قلت: فإن رجلاً سرق حماماً يساوي عشرة دراهم من دار رجل، والحمام مقصوص، هل يجب عليه القطع، وكذلك لو كان من الحمام الطيارة؟
قال: سواء كان طيراً أو مقصوصاً، إذا كانت قيمته في نفسه عشرة دراهم وجب فيه القطع. (1/433)
قطاع الطريق في المصر وغيره
قلت: فما تقول في رجل قطع الطريق في المصر، هل يكون حكمه كحكم قطاع الطريق خارجاً؟
قال: لا، لا يكون حكمهما واحداً، حكم من أخذ في المصر شيئاً حكم سائر الأمصار، وإن أخذ من حرزه كان حكمه حكم من أخذ من حرز، وإن أخذ من طريق كان الحكم فيه إلى الإمام، وحكم من أخذ من(1) الطريق والسبل المسلوكة ما حَكم(2) الله عز وجل من قطع اليد والرجل.
من سرق من حجرة في قصر
وسألته عن رجل سرق سرقة من حجرة في قصر فيه حجر كثيرة، وجدار القصر واحد، وبابه واحد، وأبواب الحجر متفرقة، فسرق من حجرة من الحجر وأخرج المتاع إلى وسط القصر، ولم يخرجه من باب القصر، وكان في الحجر سكان غير صاحب القصر، هل يجب عليه القطع؟
قال: يجب عليه القطع إذا أخرجه من حرز صاحبه، وحرزه باب حجرته، ألا ترى أن سكان الحجر لو سرق بعضهم من بعض لوجب عليه القطع، فإذا كان القطع واجباً على من هو ساكن في القصر بدخول بعض حجره، فكيف لا يجب على من لم يكن من أهله، فأما باب القصر فلا يعمل عليه ولا يعتبر به.
قلت: فإذا لم يكن في القصر ساكن غير صاحب القصر، فسرق السارق من بعض الحجر، فأخرجه إلى وسط القصر ولم يخرجه من بابه؟
قال: إذا كان باب القصر في يد واحد ولم يكن معه غيره، فهو حرزه وحجرته كبيت الرجل، حكمه كحكم من أخرج من البيت إلى الدار، فلا يجب عليه القطع حتى(3) يبرزه من القصر كله.
قلت: فإن كان في القصر سكان فأغار بعض سكان الحجر على بعض أهل الحجر فسرق منه ما يساوي عشرة دراهم من جوف حجرته، هل يجب عليه القطع؟
قال: قد تقدم الجواب في ذلك بوجوب القطع.
إذا سرق من غريمه
__________
(1) ـ في نسخة (ب): على.
(2) ـ في نسخة (ب): ما ذكر الله.
(3) ـ في نسخة (ب): إن لم.
قلت: فإن رجلاً له على رجل عشرة دراهم، فسرق منه الذي له الدراهم من الذي هي عليه عشرة دراهم، فارتفعوا إلى الحاكم، فقال: إنما سرقتها؛ لأن لي عليه دراهم، فأقر المسروق بأن له عليه عشرة دراهم أو أنكر؟ (1/434)
قال: الدين يلحق بحكم الحاكم، وليس له أن يختان غريمه، ومن سرق وجب عليه القطع؛ لأنَّه قد فعل ما لا يجز له.
فيمن سرق ثُمَّ رد السرقة
قلت: فإن رجلاً سرق من رجل سرقة، ثم ردها إليه قبل أن يترافعوا إلى الحاكم، هل يجب عليه القطع؟
قال: إن ارتفعوا إلى الحاكم أمضى الحكم، وإن تعافوا بينهم لم يلزم الحاكم إمضاء حكم على من لم يرتفع(1) إليه، وإنَّما يجب إمضاء الحكم من الإمام إذا صحت عنده البينة وثبتت.
إذا وهب المسروق للسارق السرقة
قلت: فما تقول في سارق سرق ما يساوي عشرة دراهم، فقضى عليه بالقطع، ثُمَّ وهب رب السرقة للسارق السرقة؟
فقال: إذا قامت عليه البينة عند الحاكم لزمه إمضاء الحكم، وما لم يصح عنده البينة فالرعية أولى بأمرها.
السرقة من الصحارى
وسألته عن الشاة والبقرة والجمل وغير ذلك من الحيوان الراعية في الصحاري يسرق منها السارق بعضها، هل يجب عليه قطع؟
قال: ما دامت في المراعي فلا، حتَّى يضمها المراح والدور.
قلت: فما يحرزها من الدور الحظائر؟
قال: الذي يمنع الدابة أن تخرج منه.
قلت: فإن صاحب الغنم وضع في رقابها رباقاً رَبَق بعضها إلى بعض، أو قيد الجمل والحيوان، فأخذ من غير المراح، هل يكون لها حرزاً؟
قال: لا.
قلت: فالحرز الذي يقطع به السارق إذا أخذ منه، ما هو؟
قال: الذي يمنع السارق أن يدخل منه قصر ذلك أو طال.
قلت: فإنه ثبت ليس عليه باب، فدخل السارق فأخذ منه ما يساوي عشرة دراهم ثُمَّ خرج به، هل يقطع؟
قال: نعم، ذلك حرز، وإن لم يكن عليه باب.
قلت: فالبيادر الَّتي تكون بالعراق وغيره الَّتي يكون عليها شرائح القصب يدخل السارق فيأخذ من ذلك ما يساوي عشرة دراهم، هل يقطع؟
__________
(1) ـ في نسخة (ب): يرفع.
قال: نعم، ذلك أكبر الحرز. (1/435)
البيادر إذا لم يكن عليها حوائط
قلت: فإن الرجل وضع التمر في بيدر ليس عليه حائط ولا باب، فأخذ منه ما يساوي عشرة دراهم؟
قال: ليس عليه قطع.
باب القول في عشرة رجال سرقوا من حرز
قلت: فإن الداخل كان معه عشرة رجال، فسرق كلهم من هذا الثمر، أو من غيره من حرزٍ، ما يساوي عشرة دراهم، هل يجب عليهم جميعاً القطع؟
قال: نعم.
قلت: فلأيّ علة أوجبت عليهم القطع، وإنَّما كان لكل واحد منهم درهم؟
قال: لا أنظر إلى ما أصاب كل واحد منهم؛ لأنهم كلهم سراق، أرأيت لو قتلوا جميعاً رجلاً أليس كانوا كلهم يُقتَلون به؟
قلت: بلى.
قال: فالنفس أعظم من اليد، يجب عليهم القطع كلهم، وقد قال غيرنا: لا يجب عليهم القطع، ولسنا نلتفت إلى ذلك.
الأب يسرق من مال الابن
قلت: فإن رجلاً سرق من مال ولده ما يساوي عشرة دراهم أو أكثر، هل يُقطع الأب؟
قال: لا، لا يُقطع الأب فيما سرق من الابن؛ للشبهة الَّتي جاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: <أنت ومالك لأبيك>.
الابن يسرق من مال الأب
قلت: فهل يقطع الابن إذا سرق من مال الأب ما يساوي عشرة دراهم؟
قال: نعم.
فيمن سرق من أمه للرضاعة
قلت: فإن رجلاً سرق من أمه من الرضاعة ما يساوي عشرة دراهم؟
قال: القطع لازم له، إذا قامت البينة عليه عند الإمام.
باب الرجل يجد في منزله سارقاً فقطع يده
وسألته عن رجل وجد سارقاً قد أخذ من بيته متاعاً وأخرجه من حرز، فقطع يده، وذلك قبل ظهور الإمام، ما يجب على القاطع إذا ظهر الإمام؟
قال: إن ادعى القاطع جهلاً، وقال: لم أدر أنَّه يجب عليّ شيء دُرئ عنه القطع وألزم نصف الدية كاملة.
قلت: فهل يجب عليه قيمة السرقة؟
قال: إن كان له مال فعليه قيمة ما سرق، وإن لم يكن له مال بطلت السرقة إذا استهلكها السارق.
قلت: فيدفع دية اليد إلى المقطوع؟
قال: لا، ولكنها توضع في بيت مال المسلمين.
قلت: فمن أين تؤخذ دية اليد، أمِن مال الرجل في نفسه، أم من العاقلة؟ (1/436)
قال لا، بل من العاقلة.
قلت: وكيف تكون على عاقلته، وقد اعتمد قطع يده؟
قال: لأنَّه ادعى جهلاً في قطع يد الرجل، فصارت جنايته خطأً، و إن كان قطعه عمداً فهو راجع إلى الخطأ؛ لأنَّه قطع يد الرجل، ولم يَرَ أن عليه في ذلك شيئاً.
في الحدود في الزنا
وسألته عن الزاني، متى يجب عليه الحد؟
قال: إذا شهد عليه الشهود الأربعة، أو بالإقرار على نفسه أربعة مرات، فإذا شهد على الزاني أربعة شهود بالإيلاج والإخراج، أو أقر على نفسه أربعة مرات، وجب عليه الحد، إن كان محصناً فحد المحصن، وإن كان بكراً فحد البكر.
في تفسير الشهود
قلت: فلأي علة جعل الله على الزاني أربعة شهود وعلى القاتل شاهدين؟
قال: لأن الزاني من فاعلين زانيين، فجعل الله على كل زانٍ شاهدين بفعله، فلا يجب الحد بأقل من شاهدين، وأما القتل فإنما جعل الله فيه شاهدين؛ لأنهما للمقتول على القاتل.
رجوع المقر على نفسه
قلت: فإن رجع المقر على نفسه بالزنى عن إقراره، هل يدرأ عنه الحد؟
قال: نعم.
قلت: فإذا شهد الشهود على الزاني بالإيلاج والإخراج، كيف يعمل الإمام في ذلك؟
قال: يجب على الإمام إذا شهد عنده الشهود أن يسأل عن عدالتهم وعن عقولهم وعن أسماعهم وعن أسمائهم وعن أبصارهم.
قلت: ولأيِّ معنىً يسأل الإمام عن ذلك؟
قال: لأنَّه ربما كان فيهم الذمي الذي لا تجوز شهادته على الملِّي، وكذلك ربما كان فيهم الأعمى الذي لا يتبين عماه إلاَّ لمن عرفه، وذلك الذي ينزل الماء في بصره ولا يستبين الإمام ذلك في بصره، إلاَّ بالسؤال عنه، فمن هذا الموضع وجب على الإمام أن يسأل عن الشهود، فإذا صح له أمرهم سأل أيضاً، هل بين الشهود وبين المشهود عليه عدواة حتَّى يصح له أنَّه ليس بينهم وبينه عدواة.
قلت: فإذا صح أمر الشهود بحقه وصدقه، ما يعمل الإمام به؟
قال: يسأل أيضاً عن المشهود عليه في صحة عقله، وهل هو حر أو مملوك، أو بكر هو أو محصن. (1/437)
قلت: فإذا شهد شاهدان عدلان أنَّه بكر لم يتزوج ولم يعرف ذلك منه، ما يعمل به الإمام؟
قال: يجلده الإمام مائة جلدة بالسوط.
قلت: بين العقابين أم كيف؟
قال: كل ذلك عندي سواء، وقد كره قوم العقابين، وليس يلتفت إلى قولهم.
تفسيره في السوط
قلت: فالسوط الذي يضرب به المحدود يُحِدُّه؟
قال: سوط لا بالدقيق ولا بالغليظ يدق رأسه بين حجرين ويضرب به المحدود.
قلت: فأقل من يحضره كم؟
قال: قد قال الله: {طائفة من المؤمنين}[ ]، فأقل من يحضره الإمام والجلاد وثلاثة.
الشهود في الإحصان
قلت: فإنه شهد عنده الشاهدان أنَّه محصن؟
قال: فيجب على الإمام أن يسأل الشاهدين عن الإحصان ما هو؟
فإذا بينا له الإحصان وكيف هو معناه أمر الإمام به، فجلد مائة جلدة، ثُمَّ أمر بعد ذلك حينئذٍ فحفر له حفرة إلى سرته فوضع فيها وركم حواليه بالتراب.
قلت: فالمرأة؟
قال: إلى ثدييها، ثُمَّ أمر الإمام الشهود الذين شهدوا عليه الأربعة أن يرجموه بالحجارة واعتمدوا رأسه، ثُمَّ رمى الإمام بعد الشهود، ثُمَّ أمر الإمام سائر الناس أن يرجموه.
قلت: فإذا رجم بالشهود، هل يصلى عليه؟
قال: لا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه رجم بالشهود وهو غير تائب إلى ربه من ذنبه.
المعترف على نفسه بالزنى
قلت: فالمعترف على نفسه بالزنى، مَن أول من يرجمه؟
قال: الإمام ثُمَّ الناس.
قلت: فيصلى عليه؟
قال: نعم؛ لأنَّه تائب، وليس حاله كحال الأول.
الحجة في الرجم
قلت: فإن عارضنا معارض، فقال: ليس هو في كتاب الله، ما نقول له؟
قال: تقول له: إنك جهلت ما في كتاب الله، وأصل الرجم فهو في كتاب الله.
قلت: فإن قال: وأين هو في كتاب الله؟
قال: نقول له: رَجمُ الله لقوم لوط بفعلهم ما فعلوا من زناهم في الأدبار وسواء الزنا في الدبر والقبل، فرجمهم الله وبيَّن ذلك في كتابه حيث يقول: {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}[ ]، وقوله: {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين}[ ]، فهذا أصل الرجم في كتاب الله بيِّنٌ وليس بين علماء الأمة اختلاف في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم ماعز بن مالك الأسلمي حيث اعترف على نفسه بالزنى أربع مرات، وكذلك أيضاً أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام رجم شراحة الهمدانية، ولا اختلاف في ذلك. (1/438)
قلت: فما يكون الرجل محصناً؟
قال: إذا دخل بزوجة بالغة حرة مسلمة.
قلت: فإنه تزوج صبية لم تبلغ وهي تستطيع أن يجامع مثلها؟
قال: فالرجل يحصن بها إذا استطاعت الجماع، وكان قد أتى عليها خمس عشرة سنة.
قلت: فإنه تزوج مملوكة، هل يكون بها محصناً؟
قال: نعم، إذا كانت زوجة قد نكحها، فأما إذا كانت عنده مملوكة أو مماليك لم يكن بهن محصناً.
الذِّميات
قلت: فالذميات؟
قال: لا تحصِّن المسلمَ الذميةُ.
رجوع بعض الشهود بعد الرجم
قلت: فإن الرجل لما شهد عليه الشهود ورجمه الإمام حتَّى قتله رجع واحد من الشهود؟
قال: يجلده حد القاذف ثمانين، ولا سبيل على الباقين.
قلت: ولِمَ وقد شهدوا ثُمَّ رجع بعضهم؟
قال: ألا ترى أن الثلاثة ثابتون على شهادتهم، فلأيِّ معنىً ألزمهم كما قال الجهال الحدود، ولم يرجعوا عن شهادتهم، وإنَّما ألزم الحد مَن رجع لقذفه.
قلت: فدية الرجل عليهم، أو من بيت مال المسلمين، أو كيف يعمل في ذلك؟
قال: يسأل الشاهد الذي رجع، هل تعمدت قتله بشهادتك، فإن قال: نعم، قتل به، وإن جحد وقال: لم أتعمد قتله ولم أدر ما ينزل به، وادعى خطأً كان عليه ربع الضرب وربع الدية، ويكون ذلك على عاقلته.
قلت: فإن تعمد قتله ثُمَّ صولح على دية.
قال: يكون ذلك في صلب ماله، ولا يكون على عاقلته منه شيء. (1/439)
جلد الشهود
قلت: فإن شهد أول الشهود على إنسان بالزنى ثُمَّ نكل آخر الشهود فلم يشهدوا؟
قال: يجلد الذين شهدوا.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن الشهادة لم تتم فلا سبيل على المشهود عليه ولا الناكل.
قلت: فالمشهود عليه؟
قال: لا سبيل عليه لأن الشهادة لم تتم.
قلت: فالناكل عن الشهادة؟
قال: لا سبيل عليه أيضاً.
قلت: فإن الرجل لما شهد عليه الشهود الأربعة ورجمه الإمام فقتله وُجِدَ مجنوناً بعد رجمه؟
قال: على الإمام ديته يؤديها من بيت مال المسلمين.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن ذلك خطأ من خطأ الإمام؛ لأنَّه قد كان يجب عليه أن يسأل عن صحة عقل المشهود عليه كما قدمنا فيما يجب على الإمام.
قلت: فإن لم يكن محصناً فضرب بشهادتهم، ثُمَّ وجد بعد ذلك مجنوناً؟
قال: عليهم أرش الضرب في أموالهم.
قلت: وكذلك لو شهدوا على رجل فرجم ثُمَّ وجد بعد الرجم مملوكاً؟
قال: عليهم قيمته في أموالهم لمولاه إن شهدوا أنَّه حر.
قلت: فإن لم يشهدوا أنَّه حر ورجمه الإمام بشهادتهم.
قال: ذلك خطأ من الإمام، وقيمته لمولاه من بيت مال المسلمين.
حد المدبرة وأم الولد والمكاتبة
قلت: فما تقول في حد المدبرة وأم الولد والمكاتبة؟
قال: أما المدبرة وأم الولد فحدها إذا زنتا خمسون جلدةً، وأما المكاتبة فحدها على قدر ما أعتق منها، كذلك بلغنا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
باب القول في التعزير
قلت: فكم التعزير عندك؟
قال: أقل من الحد بسوط أو سوطين، حرّاً كان أو عبداً، فعلى ذلك ينقص الحر من حده والعبد من حده سوطاً أو سوطين.
إذا ادعت المرأة أنَّها مستكرهة
قلت: فإن أربعة شهدوا على رجل وامرأةٍ بالزنى، فقالت المرأة: أستكرهني على نفسي؟
قال: يدرأ عنها الحد.
قلت: ولأي معنىً؟
قال: لأنها أدلت بحجة فينبغي للإمام أن يسأل الشهود: هل طاوعته، فإن شهدوا أنَّها طاوعته أقيم عليها الحد ولم يلتفت إلى قولها.
قلت: فإن لم يشهدوا أنَّها طاوعته وقالوا: إنَّما هجمنا عليها وهما في فسقهما ولم نعلم كيف ذلك أطاوعته أم لم تطاوعه؟ (1/440)
قال: يدرأ عنها الحد إذا كان ذلك كذلك، وأقيم الحد على الزاني.
الشهود إذا شهدوا على رجل في بلدين
قلت: فإن أربعة شهود شهدوا على رجل أنَّه فجر بامرأة، فشهد اثنان أنَّه فجر بها في البصرة، وشهد اثنان أنَّه فجر بها في الكوفة، كيف الحكم في الرجل والمرأة؟
قال: هذا أمر ملتبس، لم تصح الشهادة على وجهها باختلاف شهودها، وبأقل من هذا من الشبهة يدرأ الحد عنها.
قلت: وعنهم جميعاً؟
قال: وعنهم.
شهود على امرأة ثُمَّ وجدت بكراً
قلت: فإن أربعة شهدوا على امرأة بالزنى، فنظر إليها النساء فوجدنها بكراً؟
قال: إن صح أنَّها بكر بغاية ما يكون من الصحة درئ عنها حد الزانية، ودرئ عن الشهود إن كانوا عدولاً حد القاذف وعزرها الإمام على قدر ما يرى.
شهود شهدوا على رجل أنَّه زنى ولم يعرفوا المرأة
قلت: فإن أربعة شهدوا على رجل أنَّه زنى بامرأة ولم يعرفوها بعينها وعرفوا الرجل؟
قال: الحد واجب على من زنى، وليس الحد بزائل عنه بانفلات المرأة من الحد إذا لم يعرفوا، وهذا مثل رجل زنا بامرأة ثُمَّ انفلتت المرأة من أيدي الشهود فالحد لازم للرجل.
الحربي يزني بامرأة ذمية
قلت: فإن حربياً دخل إلينا بأمانٍ فزنى بذمية، ما يجب في ذلك؟
قال: الحدود لازمة لكل من خلق الله، ولا يدرأ حكم الله شيء، وقد وجب عليه الحد في ذلك، وقد قال غيرنا: إنَّه قد نقض الأمان في ذلك، وهذا أمر حرام على كل أحد، وليس بنقض أمان، ونحن نرى أنَّه ينتقض على الذمي ذمته.
الحدود في القذف
وسألته عن القذف، ما هو ومتى يكون الرجل قاذفاً، ومتى يجب في القذف الحد؟
قال: أما القذف فهو أن يقذف الرجل الرجل، فيقول: يا زاني، أو يقول للمرأة: يا زانية، فإذا قال الرجل للرجل المسلم: يا زاني أو يا ابن الزانية أو يا ابن الزاني فهذا هو القذف.
قلت: فما يجب في هذا؟
قال: أما إذا قال للرجل: يا زاني، أو للمرأة: يا زانية فقد قذف، فعلى الإمام أن يقول للقاذف: أثبت أربعة شهود على ما قلت، فإن أقام الأربعة الشهود على ما قذفه به من الزنا أقام عليه الحد، وخلى سبيل القاذف، إن كان بكرأً فحد البكر، وإن كان محصناً فحد المحصن، وإن كان مملوكاً فحد المملوك. (1/441)
إذا لم يقم القاذف شهوداً
قلت: فإن لم يقم القاذف الشهود على ما قذف به الرجل؟
قال: يقيم الإمام على القاذف الحد، وهو: ثمانون جلدة.
إذا لم يرفعه إلى الإمام
قلت: فإن لم يرفعه المقذوف إلى الإمام وتركه؟
قال: ذلك جائز بين الرعية إذا تعافوا بينهم.
الأب يقذف الابن
قلت: فإن قذف الأب الولد، هل يحد؟
قال: نعم، يحد الأب إذا قذف الولد؛ لأن الله يقول في كتابه: {والذين يرمون المحصنات}[ ]، فالأب وغيره في القذف خاصة سواء.
قلت: فإنه لم يقذفه في نفسه خاصّاً، ولكن قال له: يا ابن الزانية؟
قال: يسأله الإمام الشهود على زنى امرأته، فإن أتى بذلك أقيم عليها الحد، وإلاَّ جلد الأب على قذفه لامرأته ثمانين جلدة.
قلت: فإن أتى بالشهود عليها؟
قال: يضربها الإمام مائة جلدة ثُمَّ يرجمها.
الابن يقذف أباه
قلت: فإن رجلاً قذف أباه، هل يحد أباه؟
قال: نعم.
الرجل يقذف الجماعة
قلت: فإن رجلاً قال لجماعة: يا بني الزواني، ما يجب عليه؟
قال: إن رفعوه إلى الإمام جلده الإمام لكل واحدٍ حدّاً.
قلت: فهل يكون الأولاد الذين يطلبون للأمهات أو الأمهات؟
قال: إنَّما الأمهات المقذوفات وهن المطالبات.
قلت: فمن كان منهن قد مات؟
قال: يطالب لها ولدها.
إذا قال لهم: يا بني الزانية
قلت: وكذلك لو قال لرجل أو رجلين أو ثلاثة: يا بني الزانية؟
قال: يسأل عنهم، فإن كانت أمهم واحدة أقيم لها عليه الحد، وإن كانت أُمهاتهم متفرقات لم يجب على القاذف الحد، وخلي سبيله؛ لأنَّه قال: يا بني الزانية، وهم لأمهاتٍ شتّى.
إذا قال له: يا بابن الزواني
قلت: فإن رجلاً قال لرجل: يا ابن الزواني؟
قال: يجب على القاذف الحدود إذا قال ذلك؛ لأن له أمهات، أمه وجدته وغيرها من جداته من أمهات أبيه؛ لأنهن قد ولدنه. (1/442)
إذا قال: يا فاعل بأمه
قلت: فإن رجلاً قال لرجل: يا فاعل بأمه؟
قال: أما قوله: يا فاعل بأمه فهو أكبر القذف.
إذا قال: يا فاجر يا فاسق
قلت: فإن رجلاً قال لرجل: يا فاسق؟
قال: أما قوله: يا فاجر يا فاسق فيُسأل عن إرادته من قوله، فإن ذكر أنَّه أراد القذف بالزنا حد له، وإن أراد فجوراً في الدين وفسقاً زجر عن ذلك، ولم يجب عليه فيه حد، وللإمام أن يؤدبه.
إذا ادعى أن بينته غيب
قلت: فإن قاذفاً قذف فسئل البينة، فادعى أن بينته غيب؟
قال: يؤجل على قدر مجيء البينة، فإن جاء بها وإلاَّ حدَّ.
إذا ثنّى بالقذف
قلت: فإنه لما أقامه الإمام وأمر بجلده ثنَّى بالقذف لمن قذفه؟
قال: أما إذا كان قذف من هو يجلد له في قذفه أتم الحدّ ولم يجب عليه تثنيته غير ذلك.
قلت: فإن قذف غير الذي يجلده له؟
قال: يجلد أيضاً حدّاً مبتدأً لمن قذفه من بعد الفراغ من الأول، وكذلك روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنَّه جلد حدين في موضع واحد.
الرجل والمرأة يترادان اللفظ
قلت: فإن رجلاً قال لامرأة، أو امرأة قالت لرجل: يا زاني، قال الرجل: زنيت بك؟
قال: لا حد على واحد منهما.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنها حين قذفته صدقها بقوله زنيت بك، فسقط عنها الحد بتصديقه إياها، وسقط عنه الحد؛ لأنَّه إنَّما شهد على نفسه مرةً واحدةً، ولا يلزمه بشهادته على نفسه مرة واحدة.
قلت: فإن الرجل قال لها: يا زانية، قالت: زنيت بي؟
قال: يجب على كل واحد منها حد.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأنَّه قذفها حين قال لها: يا زانية، فلما قالت هي: زنيت بي، كانت أيضاً قاذفة.
إذا قذف أمها فقالت: زنيت بها
قلت: فإن قال لها: يا بنت الزانية، فقالت: زنيت بها؟
قال: عليهما كلاهما الحد.
قلت: فإن قال لها: يا بنت الزانية، فقالت: زنت بك؟
قال: وكذلك يجب عليهما الحد؛ لأنهما قاذفان جميعاً لأم المرأة. (1/443)
إذا قذف أبويها فردت عليه
قلت: فإن قال لها: يا بنت الزانيين، فقالت: فأبواك زانيان؟
قال: وجب عليه الحد لأبويها، ويجب عليها الحد؛ لأنها قاذفة.
إذا قال أم من باعك أو اشتراك زانية
قلت: فإن رجلاً قال لعبد: أم من باعك أو أم من اشتراك زانيةٌ؟
قال: ينظر إلى أمر من باعه أو اشتراه، فإن كانت أمه مملوكة لم يجب عليه حد؛ لأنَّه ليس على قاذف المملوكة حد، وإن كانت حرة وجب عليه الحد؛ لأنَّه قذفها.
إذا قال أم من يشتريك أو يبيعك زانية
قلت: فإن قال لعبد أم من يشتريك أو يبيعك زانية، وكان ذلك مبهماً لم يدر من يبيعه ويشتريه؟
قال: لا يكون عليه بذلك حد؛ لأنَّه لم يقذف أحداً بعينه.
المسلم يقذف الذمي أو العبد
قلت: فإن مسلماً قذف ذمياً أو عبداً؟
قال: لا يجب عليه الحد.
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن الله يقول: {والذين يرمون المحصنات المؤمنات}[ ]، وليس أهل الذمة بمؤمنين، فليس يجب فيهم قذف، وأما الأمة والعبد فليس بينهم وبين الأحرار قذف، إذا قذف الحر العبد لم يجب على الحر حد.
قلت: وكذلك الذمي إذا قذف المسلم؟
قال: يجب على الذمي الحد؛ لأنَّه قذف المحصنة، وحكم الله جائز على جميع الخلق من المسلمين والذميين.
قلت: فإن رجلاً له عبد وللعبد أم حرة قد ماتت، فيقذف المولى أم العبد؟
قال: الأمر في ذلك إلى الإمام، وليس للعبد أن يطالب لها من بعدها؛ لأنَّه غير وارث لها، ويجب على الإمام أن يفعل في ذلك بما يجب عنده من طهارة الأم؛ لأنَّه وليها في ذلك.
جارية بين رجلين فيطأها أحدهما
قلت: فإن جارية بين رجلين فوطئها أحدهما، فقذف رجل الواطئ، هل يجب على القاذف حد أم لا؟
قال: يجب عليه الحد؛ لأنَّه قذف من لم يجب عليه الحد.
إذا جاءت بولد
قلت: فإن الجارية جاءت بولد لهذا الواطئ، فقال له رجل: يا ابن الفاعلة، هل يجب على القاذف حد أم لا؟
قال: وهذا أيضاً أوكد في طرح الحد؛ لأنَّه قذف أمةً. (1/444)
قلت: فإن امرأة تحت رجل جاءت بولد، فقال الرجل: ليس هو ابني، ثُمَّ قال: هو ابني؟
قال: إن ارتفع أمره إلى الحاكم وحاكمته في ذلك المرأة فرجعا عند الحاكم بعد الإنكار فعليه الحد وهو ابنه، وإن لم يرتفعا إلى الحاكم فلا حد عليه، وهو ابنه.
قلت: فإن قال: ليس بابني ولا بابنك؟
قال: عليها البينة أنَّها ولدت على فراشه، فإذا قامت البنية على ذلك قيل للرجل: ما تقول في هذا الولد، فإن قال: ليس بابني ولا مني، قيل له: لاعن، فإن لاعن كان الولد ابن ملاعنة، وفرق بينهما، وإن رجع وقال: هو ابني ثبت نسبه ولحق به.
إذا قال لست ابن فلان
قلت: فإن رجلاً قال لرجل في غضب أو غير غضب: لست بابن لفلان الذي تدعى إليه؟
قال: حاله حال القاذف، إلاَّ أن يدلي بحجةٍ يدرأ عنه الحد ويبين أمر لم يظهر من إرادته.
الأب يقذف أم الابن وقد ماتت
قلت: فإن رجلاً قذف أم ابنه وقد ماتت وهي حرة مسلمة، فطالبه الابن؟
قال: الأمر فيها إلى الإمام إذا لم يكن المطالب غير الابن، وإنَّما رخصنا في ذلك لإجلال الوالد وإيجاب حقه على الولد إذا كان الولد هو المطالب دون غيره، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <أنت ومالك لأبيك>، فلم نوجب على من سرق من مال ابنه قطعاً، ولذلك جعلنا أمر مطالبة الولد من والده إلى الإمام.
باب القول في المحاربين
وسألته عن الحكم في المحاربين، كيف هو؟
فقال: حكمهم كما قال الله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}[ ].
قلت: بيِّن لي هذه الآية في حكم؟
قال: نعم إن شاء الله، ينبغي للإمام إذا أخذ المحارب الذي قد قطع الطريق وحمل السلاح وأخذ المال وقتل النفس أن يقتله ثُمَّ يصلبه من بعد القتل.
قلت: وكيف يقتله؟
قال: يضرب عنقه ثُمَّ يصلبه.
قلت: فيصلبه عرياناً؟ (1/445)
قال: لا أحب ذلك، ولكن يؤزر بسراويل أو مئزر يستر به عورته.
قلت: فالذي أخاف الطريق بحمل السلاح وأخذ المال ولم يقتل النفس؟
قال: يجب عليه أن يقطع يده اليمنى من الكوع ورجله اليسرى من المفصل.
قلت: فإذا قطعت يده ورجله، ما يعمل به؟
قال: يخلى سبيله يذهب حيث شاء.
قلت: فالذي حمل السلاح وأخاف به المسلمين ولم يأخذ المال ولم يقتل النفس؟
قال: يجب عليه أن ينفى من الأرض.
قلت: وكيف ينفى من الأرض؟
قال: يطرد ويغرب من بلد إلى بلد بعد أن يؤدب.
قلت: فإن لم يوجد؟
قال: يطلب ويتبع بالخيل والرجال حتَّى يذهب، وقد قال غيرنا: إن نفيه له من الأرض أن يحبس، وليس كذلك.
قلت: قد فهمت ما ذكرت من الحكم في هؤلاء الأصناف من المحاربين، فما معنى قول الله في الآية: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف}[ ]؟
قال: معنى قوله: {أن يقتلوا أو يصلبوا}، إنَّما أراد جمع حكمهم وبيانه أراد بذلك أن يقتلوا ويصلبوا وتقطع أيديهم وأرجلهم، وإنَّما أدخل الألف صلة للكلام لغير سبب يوجب معنى.
قلت: فما معناه في إدخال الألف لا يوجب معنى؟
قال: لإرادته لسعة لغة العرب حتَّى تتسع لغتها، فقال: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون}[ ]، فمعنى أو يزيدون: إنَّما هو ويزيدون؛ لأن الله عز وجل لا يشك في إدخال الألف في قوله: {أو يزيدون}، كما أدخل: {أو يصلبوا أو تقطع أيديهم}، وفي كلام العرب شواهد كثيرة على ما قلنا.
قلت: فإن جاء رجل من هؤلاء المحاربين تائباً منيباً قبل أن يقدر عليه الإمام أو يأخذه ببعض سرايا المسلمين، وكذلك إن هجم هو على الإمام يذكر له من نفسه توبةً وإنابةً وإقلاعاً عما كان عليه من محاربته؟
قال: يجب على الإمام إذا أتى المحارب كذلك تائباً منيباً أن يقبله ويؤمنه على نفسه وماله.
قلت: وكذلك إن كتب المحارب إلى الإمام يسأله أن يؤمنه على نفسه بما فعل ويقدم؟
قال: ينبغي للإمام أن يؤمنه على ذلك إذا كان ذلك أصلح للمسلمين. (1/446)
قلت: فإن عرض له أحد ممَّن يحاربه أو أخذ ماله؟
قال: يمنعه منه الإمام، ولا يترك أحداً يتعرض له ولا يطالبه بعد أن يؤمنه الإمام.
قلت: فإن قتله رجل ممَّن أخذ ماله أو قتل له أخاً أو قريباً؟
قال: ينبغي للإمام أن يقتله به.
قلت: ولِمَ يقتله به وقد قتل أخاه أو قريبه؟
قال: لأنَّه لما تاب من قبل أن يقدر عليه الإمام، ثُمَّ أتى الإمام وهو تائب وأمَّنه الإمام حقن دمه، فذلك الذي قال الله: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}[ ]، فأهدر هذا عنه كل شيء ممَّا فعل إذا كانت توبته خالصةً مقلعاً عن ذنبه إليه بالحقيقة.
قلت: فإن أخذه الإمام في بعض البلدان أو أخذه له عامل، فأتى به إلى الإمام قبل أن يكتب المحارب إلى الإمام بتوبته أو يظهر من المجيء إلى الإمام التوبة.
فقال: إنَّما خرجت إلى الإمام وأنا تائب؟
قال: ينبغي للإمام أن لا يلتفت إلى قوله إذا كان ذلك كذلك، ويقيم عليه الإمام ما أوجب الله عليه من الأحكام.
انتهى ولله الحمد، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، تم كتاب المنتخب بعون الله وتوفيقه.
قال في الأم: وافق الفراغ منه يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم أو شهور، سنة تسع وأربعين وخمسمائة سنة، كاتبه: سليمان بن محمد بن ساور بن إبراهيم بن ميمون بن عبد الله رحمه الله تعالى، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
قال في الأم: نسخت هذه النسخة من نسخة قديمة، يقول صاحبها: سمعت هذا الكتاب من أبي جعفر محمد بن سليمان الكوفي عن الهادي إلى الحق أمير المؤمنين يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في شهر ذي الحجة من سنة ست عشرة وثلاثمائة سنة.
قال في الأم: تم نقل هذه النسخة العظيمة يومنا هذا السبت 14 شهر صفر الخير سنة 1375هـ بعناية سيدنا العلامة شرف الإسلام فقيه الشيعة الكرام الحسن بن محمد سهيل حفظه الله تعالى، كتب الفقير إلى الله تعالى علي بن قاسم الطالبي المؤيدي. تم بحمد الله (1/447)