الكتاب : الكامل المنير في إثبات ولاية أمير المؤمنين(ع)
المؤلف : يُنسب
لنجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم الرسي عليهما السلام

الكامل المنير
في إثبات ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
والرد على الخوارج
يُنسب
لنجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم الرسي عليهما السلام

(1/1)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وبعد:
فبين يديك أخي المؤمن الكريم كتاب (الْكَامِلُ المُنِيْرُ في إِثْبَاْتِ ولايَةِ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْن عليّ بن أَبِيْ طَاْلِب(ع) والرَّدّ على الخَوَاْرِجِ )، وقد وقع اختلاف حول نسبة الكتاب إلى الإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن بن علي بن أبي طالب(ع)، وأيّا كان المؤلِّف فالكتاب عظيم النفع، جليل الفائدة، وقد احتوى على أدلّة وردود عقليّة دامغة، ونقليّة مُتّفق عليها بين طوائف الأمة.
وقد نقل منه الكثير من أئمة أهل البيت(ع)، وإن كان بعضهم يحتاط فيقول: قال صاحب الكامل المنير، وبعضهم يقول: قال في الكامل المنير، أمَّا الإمام القاسم بن محمد(ع) فقد نقل لمعاً من كتاب الكامل المنير في كتابه الشهير الإعتصام بحبل الله المتين، وأسند الكتاب إلى الإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم(ع)، قال الإمام القاسم بن محمد(ع): وروى القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في الكامل المنير عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- من حديث طويل أنه قال:((يا أيها الناس اسمعوا ما أقول لكم، إني فرطكم على الحوض، وإنكم واردون عليّ الحوض - حوضاً أعرض مما بين صنعاء إلى أيله - فيه كعدد نجوم السماء أقداح ، إني مصادفكم على الحوض يوم القيامة، ألا فإني مستنقذ رجالاً ويختلج دوني آخرون ، فأقول: يارب أصحابي أصحابي، فيقال: إنهم أحدثوا وغيّروا بعدك، وإني سائلكم حين تردون عليّ الحوض عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، قالوا: وما الثقلان يارسول الله؟ قال: الأكبر منهما كتاب الله سبب ما بين السماء والأرض، طرف بيد الله وطرف بأيديكم، فتمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا، والأصغر منهما عترتي أهل بيتي، فقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)) الإعتصام 1/35.
وقال عليه السلام: وروى القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في الكامل المنير في آخر خبر طويل من خبر الغدير : (( اللهم اشهد أني قد جعلت علياً علماً يُعرف به حزبك عند الفرقة ))؛ الإعتصام 1/47. وهذه النصوص تجدها بذاتها داخل هذا الكتاب.

(1/2)


ولا تخفى مكانة الإمام القاسم بن إبراهيم(ع)، فهو إمام المعقول والمنقول، وقد ورد فيه عن جدّه الرسول -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- ما رواه أئمتنا عليهم السلام أنه قال -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم - : ((يا فاطمة إن منك هادياً ومهدياً ومستلب الرباعيتين ولو كان نبي بعدي لكان إيّاه)).
وقيل للفقيه العالم حواري أهل البيت(ع) أبي جعفر محمد بن منصور المرادي: إن الناس يقولون: إنك لم تستكثر من القاسم بن إبراهيم(ع)، وقد طالت صحبتك له، فقال: نعم، صحبته خمساً وعشرين سنة، ولكنكم تظنون أنّا كلما أردنا كلامه كلّمناه، ومَنْ كان يقدر على ذلك منّا، وكنّا إذا لقيناه، فكأنما أُشرب حزناً لتأسّفه على الأمة، وما أُصيبت به من الفتنة من علماء السوء وعتاة الظلمة، وروي أنه سمع صوت طنبور في جنده، فقال: والله هؤلاء لا يُنْتصر بهم، وتركهم، وقد دعا إلى الله في بعض الشدائد فامتلأ البيت نوراً.
كما لا تخفى مكانة الإمام الأجلّ، المنصور بالله عزّ وجلّ، القاسم بن محمد(ع) الناقل لما تقدّم عن الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وما فيه من ترجيح كبير لنسبة الكتاب إليه عليه السلام.
وعلى كلّ فقد رأينا طبع الكتاب ونشره لتعمّ به الفائدة، وأهملنا ذكر اسم مؤلّفه ، وتركنا ذلك لما وقع من الإختلاف الذي بينّاه.

(1/3)


النسخ المعتمدة
المخطوطة (أ): حصلتُ على صورة منها من مجموع كتب يمتلكها الأخ السيِّد: عبدالوهَّاب حسن علي السِّراجي، وكانت هذه النسخة ضمن مجموع الإمام القاسم بن إبراهيم عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وهي آخر هذا المجموع قبلها كتاب صلاة اليوم والليلة، وهي مكتوبة بخط النسخ، إلاَّ أن الخط فيها صغير جداً غير واضح، وهي من القطع الكبير، عدد صفحاتها (48) صفحة، وقد جعلتها أصلاً وذلك لقلَّة الأخطاء الإملائية، خاصة أن أسماء رجال الحديث فيها صحيحة، وقد رمزتُ لها بالرمز (أ)، كتب في آخرها:
تم ((كتاب الكامل المنير)) بِمَنِّ الله وتيسيره وعونه، وتوفيقه وتسديده، والحمد لله ربِّ العالمين.
وافق الفراغ من رقم هذه النسخة المباركة صحوة يوم الجمعة 28 من شهر رمضان المبارك، سنة [1084ه‍] أربع وثمانين وألف، بخط أفقر العباد، وأحوجهم إلى عفو مالكه يوم يقوم الأشهاد، السيِّد علي بن الحسن بن عز الدِّين بن الحسن الشامي، وفقه الله، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم، وصلواته وسلامه على سيِّدنا محمَّد وآله.
المخطوطة (ب): حصلت عليها من مكتبة السِّيد العلاَّمة يحيى راوية - رحمه الله - وهي مكتوبة بخط النسخ، واضحة جداً، والأخطاء الإملائية فيها قليلة، إلاَّ أن بعض تراجم الرجال كان نقلها غير صحيح، وهي من القطع المتوسط، عدد صفحاتها (145) صفحة، وقد رمزتُ لها بالرمز (ب)، مكتوب في آخرها:
تمّ ذلك، والحمد لله ربِّ العالمين.
صادف الفراغ من رقمه أوان الظهر يوم الجمعة بمحرم سنة 1042ه‍. تم بعناية مالكه عبد الله بن أحمد الشباطي. وصلَّى الله وسلِّم على محمَّد وآله.

(1/4)


النسخة (ج‍): حصلتُ عليها من مكتبة السيِّد محمَّد عبد العظيم الهادي، وهي مكتوبة بخط النسخ، واضحة، لم تسلم من الأخطاء الإملائية كثيراً، وبها سقط أسطر وكلمات كثيرة جداً، وتراجم الشخصيات فيها غير صحيحة، إلاَّ أنها لم تخلُ من الفائدة، وهي من القطع الكبير، عدد صفحاتها (75) صفحة، مكتوب في آخرها:
تم الكتاب الموسوم بـ(كتاب الكامل المنير) بفضل الله ومَنِّه، فله الحمد كثيراً، وصلَّى الله على محمَّد وآله وسلَّم، آمين.
وكان الفراغ من زَبْرِ هذا الكتاب صحوة الاثنين، غُرَّة شهر الحجة الحرام سنة 1370ه‍ بمحروس هجرة ضَحيان المحميَّة - حرسها الله بالصالحين - وذلك بعناية سيدي العلاَّمة ضياء الإسلام عبد العظيم بن الإمام الهادي - حفظه الله تعالى - بقلم السيد الفقير إلى الله سبحانه أحمد بن محمَّد القاسمي المؤيدي الضحياني، غفر الله له ولوالديه، ومن له حقٌّ عليه، آمين.
ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم، وصلى الله وسلَّم على محمَّد وآله وسلَّم.
هذا؛ وقد وضعتُ علامات لتحقيق الكتاب والمقابلة، فما كان ساقطاً من النسخة (أ) وكان ثابتاً في (ب) أو (ج‍) أو كليهما (ب،ج‍) فقد وضعته بين معقوفين بعدهما قوسين هكذا ، وما كان من عندي فقد وضعته بين معقوفين فقط ، وذلك لاتساق الكلام.
أما ما كان مخالفاً في اللفظ، أو كان نقاصاً في النسختين (ب) و(ج‍) فقد اكتفيتُ إلى الإشارة إليه في الحاشية.
نسأل الله العلي القدير أن يتقبّل العمل، وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.
عبدالولي يحيى الهادي
صعدة /10ربيع الأول 1423هـ

(1/5)


الجزءُ الأَوَّل مِن كِتاب الكامل المنير
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين، وعليه أتوكل، وإيَّاه أستخير في جميع الأمور
أكرمك الله بلزوم طاعته، وحجرك بعصمته عن ارتكاب معصيته، ووفقنا وإيَّاك للذي يحب ويرضى بَمَنِّه وقدرته.
[اعلم] أن في ناحيتنا - أكرم الله وجهك - قوماً من الخوارج قد كثرتْ عِدتهم، والتحمت مجادلتهم؛ في النقص على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ- وعلى شيعته، وتكفيرهم وتخطئتهم، وقد كتبوا إلينا كتاباً في ذلك، وقد بعثنا إليك بنسخة لتُجِبْهم عليه بتوفيق الله وإرشاده إيَّاك، وهذه نسخة الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم
[ذكر كتاب الخوارج في الطعن على أمير المؤمنين (ع) وشيعته]
زعمت الشيعة أن عليًّا وصي رسول الله -عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ-، وأنه يعلم الغيب، وأن أبابكر وعمر لم يكن لهما أن يقبلا البيعة من علي لأنفسهما؛ لأن عليًّا أولى [بالإمامة] منهما، ونحلوه أشياء كثيرة تكثر صفتها.

(1/6)


فمن زعم أن عليًّا أولى بالإمامة من أبي بكر وعمر فقد كذب؛ وطعن على جميع أُمَّة محمَّد -عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ- من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وعلى أبي بكر وعمر وعثمان، زعم أن أصحاب محمَّد -عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ- بدَّلوا وصيته، وخالفوا أمره، وهم يومئذٍ متوافرون متعاونون على البِّر والتقوى، منهم أبو عبيدة بن الجرَّاح أمين هذه الأُمَّة، وأبو ذر الغفاري الذي قال فيه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق عند الله من أبي ذر)) .
ومنهم عمَّار بن ياسر، وقال فيه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((خليلي في الله عمَّار بن ياسر)).
وقال أيضاً:((رُبَّ ذي طُمرين لا يُوْبَه له لو أقسم على الله لأبرّ قسمه)) .
وقال بعضهم إنه البراء بن عازب.

(1/7)


ومنهم سلمان الفارسي الذي كان صاحب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ووزيره، وهو الذي كان المشركون يقولون إنه كان يُعلِّم رسول الله القرآن من نفسه، فأنزل الله في ذلك:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}[النحل/103] ، وكان سلمان يقرأ التوراة والإنجيل والقرآن هو وأصحابه، وكانوا قبل النبي متمسكين بالحق وهم ينتظرون خروج النبي، ولم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وفيهم أنزل الله:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ [بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]}[القصص/52-54] ، وكان لهم في الإسلام سهمان، ولسائر الناس سهم.
ومنهم عبد الرَّحمن بن عوف الذي أقرض في سبيل الله نصف ماله، أربعة آلاف أوقية ذهب، وهو الذي أقرض العير [الإبل] وما عليها في سبيل الله التي قدمت من الشام، فأقرضها جميعاً، والرقيق الذين يسوقونها، فبذلك أنزل الله:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}[الجمعة/11] .
ومنهم الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم.

(1/8)


ومنهم طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والمهاجرين الذين اتبعوهم بإحسان، فكيف يجوز هذا على أصحاب رسول الله [عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ]؟!.
وكفَّروا أبا بكر وعمر وقد سماهما رسول الله باسمين اختصهما بهما من بين أصحابه، سمى أبا بكر: الصديق، وعمر: الفاروق، فأنزل الله في أبي بكر:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة/40] .
وقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((اللَّهُمَّ أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)) .
وأفضل من هذا أنهما قُبرا مع رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من بين جميع الأُمَّة، فهم في موضع واحد.
واختص رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في مرضه الذي مات فيه أبا بكر بالصلاة بالناس فصلى بهم تسعة أيام، وعليٌّ تابع راضٍ بذلك، وأمر رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن تسد كل فرجة من المسجد إلا فرجة أبي بكر بن أبي قحافة.
وأمَّا ما ذكروا من قرابة علي من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأنه أحق بالإمامة فلو كان ذلك كذلك لكان العباس بن عبد المطلب أولى بالإمامة منه؛ لأن العم أولى من ابن العم بالميراث.

(1/9)


ولو أوصَى رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- - كما قالوا - ثم قُهِر ومُنِع حقه؛ لكانت بيعة أبي بكر وعمر كفراً وضلالاً؛ لأن من ترك وصية رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وتعدى أمره كفر، وقد كذَّب أمره من قال بذلك؛ لأن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يوص أحداً بالإمامة غير أنه أمر أبا بكر أن يَؤُمَّ الناس في مرضه، فلما توفي أجمع الناس على بيعته، ورضوا به، وعليّ راضٍ بذلك فبايع [معهم] راضٍ غير كاره.
ولو أوصَى رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- - كما قالوا - لما حل أن تُترك وصية رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وما قدر أبو بكر وعمر أن يمنعاه وصية رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنه كان أشرف منهما بيتاً، وأشجع منهما، وأكثر عشيرة، لأن بني هاشم كانوا أقوى من تيم وعدي.
وعلي أيضاً أحد الستة الذين صَيّر عمر في الشورى أن يختاروا أفضلهم في أنفسهم للإمامة، فاختاروا عثمان جميعاً، فبايعوا له وعلي راضٍ فبايع، وهذا شيءٌ قد أجمعت الأمَّة عليه، واتسقت الأخبار فيه، واتفقت وتكاملت.
فيا سبحان الله العظيم!! ما أعظم فرية الشيعة وأجرأهم على الله.
وقد قاتل علي حين بايع له الناس بعد عثمان كل من نقض عليه بيعته وخالفه، مثل طلحة، والزبير، ومعاوية؛ حتى قُتل بينهم ما لا يحصيه إلا الله، فكيف وصية رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تضيع وتترك؟! هذا ما لا يقبله القلب.

(1/10)


وقد نحلوا علياً الضَّعْف، وألزموه وجميع الأُمَّة الكفر والضلال، والذي قال بذلك أشتم لعلي وأكذب.
وقد بلغنا عن بعض العلماء أنه رفع عن علي أنه قال:((سيهلك فيَّ اثنان: عدوٌ مفرط، ومحب مغرق)) .
فأمَّا أهل الشام فهم أصحاب عثمان ومعاوية وعَمْرو فيطعنون على علي ويفرطون.
وأمَّا الشيعة فيغرقون فيه حتى كذبوا عليه، وأنحلوه ما لم ينحل نفسه، ولم يدّعه قط، ولم يقل فيه.
وكذلك قالت النصارى في عيسى بن مريم -عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ- حين جعلوه إلها وسموه ابن الله، وجعلوه وأُمَّه وربَّ العالمين ثلاثة، فسبحان الله عمَّا يقولون علواً كبيراً، وعيسى -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ- بريء منهم غير راض به، بل قال:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ}[مريم/30] ، وقالت اليهود عزير بن الله، وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه كذباً على الله وجرأة عليه، قال الله -تبارك وتعالى-:{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}[المائدة/18] .
وكذلك قالت الشيعة إن علياً يعلم الغيب، وقال بعضهم إنه إله، وقال بعضهم إنه وصي.

(1/11)


فيا سبحان الله!! ما أشبه بعضهم ببعض، ولو كان علي يعلم الغيب ما حكَّم الحكمين، وهو يعلم أنهما يخلعانه من الإمامة ويجعلانها [لغيره]، وكذبوا ليس يعلم الغيب إلا الله رب العالمين، وقد ذكر الله في كتابه قول نبيه محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال:{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ}[الأعراف/188] .
ولو كان أحد يعلم الغيب لعلمته الملائكة والأنبياء، وكانوا أحق بذلك، وقد سأل الله الملائكة فقال:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة/31-32] وصدقوا لم يكلفوا ما لا يعلمون، فلم يكن ذلك عليهم عاراً ولا عيباً.
ولو كان أحد يعلم الغيب لكانت أنبياء الله وملائكته أعلم بذلك من غيرهم؛ لفضلهم على غيرهم الذي فضَّلهم الله به، ليس أهل الجور والكذب إلا يقولون على الله ما لا يعلمون.
وأمَّا قولهم إنه غُلب على رأيه حتى حَكَّم الحَكَمين، فلو كان بما قالوا حقاً من أنه غير راضٍ بحكمهما طائعاً وكارهاً، ويعلم أنهما يَحكمان بغير ما أنزل الله فقد كفروا ونسبوه إلى الضعف والضلال؛ لأن الله يقول:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}[المائدة/45] و{الْكَافِرُونَ}[المائدة/44] و{الْفَاسِقُونَ}[المائدة/47] ثلاث آيات متتابعات من كتاب الله.

(1/12)


وقال الله:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات/9] .
وقد عَلِمَ أهل العقول والألباب من أهل العلم أن معاوية وعمرو ومن اتبعهما قد بغوا، وأسرفوا، واستحلوا قتل المسلمين بغير الحق لو لم يكن من جَورهم إلا قتل عمَّار بن ياسر وابن بديل، فكيف وقد قُتِل من شِبههما نحو من سبعين ألفاً من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان؟!.
فإن كان علي قاتلهم على حكم الله وكتابه؛ فَلِم جَوَّز لنفسه أن يترك حكم الله الذي حكم به على الفئة الباغية، وحَكَّم عمرو بن العاص شانئ رسول الله في الجاهلية والإسلام، والمستحل لدماء المسلمين بغير الحق، وأبا موسى الأشعري المخدوع؟
فأي الحُكْمَيْن أحق أن يحكم به: أحكم الله الذي قاتل عليه أول مَرَّة حتى قَتل عليه نحو من سبعين ألفاً، وقال بعضهم: تسعين ألفاً. والله أعلم؟ أو حكم عمرو وأبي موسى الأشعري؟!.
ولعَمْرِي؛ لقد كان حكمهما خسراناً مبيناً، وما كان يجوز لعلي ومن معه أن يحكِّموا عمرو بن العاص في دم عصفور أصيب في الحرم، فكيف في دماء المسلمين، والله يقول في الصيد الذي يصيبه في الحرم المحُرمُ:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:95] فيما لم يأت به من الله فيه حكم منزل، ولقد حَكَم الله في قتال الفئة الباغية حكما مُفصَّلاً.

(1/13)


ولقد علم كل ذي عقل أن علياً أولى بالإمامة من معاوية وعمرو بن العاص، وما قاتلهم إلا على اتفاقهم بحكم الله في الفئة الباغية، وليس لله في الفئة الباغية حكمان مختلفان، وإن حكم الله في ذلك لحكم واحد.
وقد بلغنا أن حوشب ذا ظليم الأَلهاني، وكان من أصحاب معاوية، وكان فيما يقال من أجمل الناس وأبلغهم، نادى علياً قبل وقعة صِفِّين بأيام، فأجابه علي والتقيا بين الصَّفين، ودنا منه حتى اختلفت أعنة دوابهما، وقد أمِن كل واحد منهما صاحبه، ولم يكونوا أهل غدر ولا فجور، فقال: يا عليّ! إن الله قد جعل لك سابقة وشرفاً وصهراً، وتجربة للأمور، فهل لك أن تحقن دمك ودماء المسلمين، وتضع الحرب عنَّا وعنكم، فيكون ذلك أسلم لدماء المسلمين؛ تخلي بيننا وبين شامنا، ونخلي بينك وبين عراقك؟
فقال عليٌ: هيهات يا ذا ظليم إنك لم تأل حرصاً، ولا تحُضَى بجهدك وعلمك، ولكنِّي ضربت الأمر ظهره لبطنه، والله يغيِّبه عني حتى يتبيَّن لي ذلك اليوم من الليل، فما وجدته يسعني عند الله إلا قتالهم، أو الجحود بما أنزل الله على محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فكان مؤنة القتال في هذه الدنيا أهون عليَّ من النار، والسلاسل والأغلال.
فانصرف حوشب ذو ظليم وهو يقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون؛ هلكت العرب وربِّ محمَّد.
فما كان بعد ذلك إلا بضعة عشر يوماً حتى افترقوا عن سبعين ألف قتيل من جحاجح العرب أكبرهم حوشب ذو ظليم، من بعد هذا ما كان من أمر الحَكَمين، والله أعلم بأمورهم، وحسابهم إلى الله، ولم نُكلَّف إلا أنفسنا، والله المستعان.

(1/14)


وقد بلغنا أن الحَجَّاج بن يوسف سأل الحسن بن أبي الحسن البصري: ما تقول في علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، إنهم كانوا على الصواب أو الخطأ؟
فقال الحسن: أقول فيهم كما قال من هو خير مني لمن هو شر منك: قال فرعون لموسى: ما بال القرون الأولى؟
قال: علمها عند ربِّي في كتاب لا يضل ربِّي ولا ينسى.
وقد بلغنا عن الربيع بن خثيم أنه قيل له: لِمَ لا تذكر الناس؟
فقال: ما أنا راضٍ عن نفسي حتى أفرغ من ذمها إلى ذم الناس، إنِّي لا أخاف الإثم في ذنوب الناس وأخافه من ذنوبي.

(1/15)


فقد ينبغي للعاقل أن يكون له في نفسه شغل عن الناس، وذكرهم، وطلب عيُوبهم، يحاسب نفسه، ويحبس لسانه عمَّا لا يحل له، ولم يُكلَّف علمه ولا ذكره، فإن ذلك أسلم له، وأحصن لدينه؛ من تكلف ما لا يعنيه، والحق من ذلك المأخوذ به كلما أجمع عليه أهل القبلة من الحلال والحرام، والصلاة، والصيام، وجميع ما أمر الله به ونهى عنه، فإذا أخذوا بذلك كله لم يبق إلا المختلف فيه مِمَّا ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه ممَّا قال فيه العلماء بالرأي، والرأي شيءٌ مخوف، وليس على من قال بالرأي حرج حتى يتخذ رأيه ديناً يدين به ويدعو إليه، ويدعي على رأيه أنه أُمِر به، فإذا فعل ذلك ضل وكفر، وليس يجوز لأحد من الأُمَّة ما يجوز للنبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه [لو] قال لأحد فيما يسع جهله افعل كذا وكذا فلم يفعل ضل وكفر، وليس ذلك لغيره من الناس، وعلى الناس أن يُصلُّوا على الأنبياء والنبي خاصة -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ولا يجوز ذلك لغيره باسمه ولا شخصه، إنما يقال صلى الله عليه، ورحمة الله على فلان إعزازاً للأنبياء وتكرمة لهم عمَّن سواهم من الناس وتفضيلاً؛ لأن الإسلام أصله الشهادة والعلم واليقين أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن محمَّداً عبده ورسوله، ومعرفة الفناء والثواب والعقاب، وأن ما جاء من عند الله حق، وأداء الفرائض في أوقاتها، والكفّ عن الأمور التي لا يسعهم جهلها ولا يستقيم فعلها، وترك البحث والسؤال عمَّا لم يُكلَّف علمه ولم يؤمر به، والصلاة على محمَّد النبي وآله وسلم.

(1/16)


* * * * * * * * * * * * * * * * * *
[مُقَدِّمَةُ الْكِتَاب]
[الجواب على الخوارج]
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
وبالله أستعين، وإيَّاه أسأل التوفيق والتسديد
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمَّد خاتم النبيين وسيِّد المرسلين، أمين ربِّ العالمين، وعلى أخيه، ووصيه سيد الوصيين، وعلى أهل بيته الطَّيِّبِين الأخيار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، ورحمة الله وبركاته على رغم الراغمين.
أكرمك الله بكرامة الأبرار، ووقانا وإيَّاك حرّ النار، وجعلنا وإيَّاك من المتقين الأخيار برحمته.
قد فَهِمْتُ - يرحمك الله - كتابَك، وما ذَكَرْتَ فيه من أمر النَّفر الذين في ناحيتك من الخوارج، وكتابهم إليك بالذي نقموا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ، وإنكارهم وصية رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إليه، وزعموا أنه لم يَدَّع ذلك، وأنه لو كان وصياً لَمَا مُنِع الوصية، ولَما بايع أبا بكر؛ ولكنه - زعموا - بايع طائعاً غير مستكره.
وزعموا أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف أحداً ولم يوص إلى أحد؛ ولكنه أمر أبا بكر بالصلاة، والصلاة - زعموا - عمود الدِّيْن، فلما اختاره رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لدينهم اختاره المسلمون لدنياهم.

(1/17)


وزعموا أن الشيعة طعنت على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وجميع المهاجرين والأنصار، وفيهم سلمان الفارسي، وكان يقرأ التوراة والإنجيل والقرآن، وكان ينتظر خروج النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
ومنهم أبو ذر الغفاري الذي قال فيه النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق عند الله من أبي ذر)) .
ومنهم عمَّار بن ياسر الذي قال فيه النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((رُبَّ ذي طُمرين لا يُوْبَه له لو أقسم على الله لأبر قسمه)) يعني عمَّاراً.
ومنهم أبو عبيدة بن الجرَّاح الذي قال فيه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((أبو عبيدة أمين هذه الأُمَّة)).
وكفَّرُوا أبا بكر، وقد قال الله في كتابه في أبي بكر: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة/40] ، وأمره رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالصلاة بالناس.
وأنه وعمر ضجيعي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قُبِرا في قبر واحد، وسَمَّى النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أبابكر: (الصديق)، وعمر : (الفاروق)، وقال:((اللَّهُمَّ أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)).
وزعموا أن الشيعة تقول إن علي بن أبي طالب يعلم الغيب، واحتجوا بأن العباس أولى برسول الله من علي لأن العم أولى بالميراث من ابن العم.

(1/18)


وزعموا أن الصلاة لا تجوز على أحد من الخلق إلا على الأنبياء وما احتجوا به من الروايات عن الحسن بن أبي الحسن البصري، وعن الربيع بن خثيم، وعن الحَجَّاج بن يوسف من الأحاديث، وأشياء كثيرة ممَّا شَنَّعُوا به على الشيعة أنها تقول، وما سألتَ عن جوابهم على ما احتجوا به وادعوه بآيات من القرآن والأحاديث المجتمع عليها، ونحن مجيبوهم على ذلك إن شاء الله تعالى، وما توفيقي إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
لعَمْرِي؛ لقد علمت الخوارج ومن قال بمقالتهم لم يبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ- إلا على النصرة الواضحة، والأعلام المنيرة، والدلائل القويّة، التي بهرت العقول، مع ما نزل فيه من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ من الآيات المفسرات اللاتي لم تنزل في غيره، والأحاديث القويّة التي رووها عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالإجماع منهم ومن غيرهم عليها؛ فكانوا في عسكره يجاهدون دونه عدوه، ويشهدون أمره، ويقومون بحجته، ويثبتون له الوصية من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، عارفين لحقِّه، معظمين لقدره له، ويقدمونه على جميع الأُمَّة، فكان ذلك فيهم مستودعاً في قلوبهم، مستقراً فيها، فلما أراد الله عَزَّ وَجَلَّ خذلانهم لِما عَلِم من سوءِ ضمائرهم سلبهم وديعته فكان مثلهم في ذلك كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ}[الأعراف/175] .

(1/19)


وقوله:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل/13-14] .
وقال:{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين/14] .
وقد رسمنا لك في كتابنا هذا، وأوضحنا لك فيه من الحجج عليهم وعلى غيرهم من القرآن والروايات المجتمع عليها، ومن جهة المعقول وغيره ممَّا بعضه يجزي دون بعض لمن أحب الله أن يهديه، مع أنِّي لا أطمع لك في قبولهم منك؛ لأن الله تبارك وتعالى قد صرف الأمثال في كتابه فقال عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}[الأنعام/111] .
وفقنا الله وإيَّاك لطاعته واجتناب معصيته، ولا سلبنا وإيَّاك ما أنعم به عليك وعلينا من معرفته برحمته.

(1/20)


* * * * * * * * * * * * * * * * * *
الجواب في إثبات الوصية من الله تبارك وتعالى وافتراضه إيَّاها على الخلق
* * * * * * * * * * * * * * * *
وعلى الله أتوكل، وإيَّاه أسأل التوفيق
(أمَّا بعد):
فإن الله تبارك وتعالى خلق خلقه بلا حاجة منه إليهم، فلم يخلقهم عبثاً، ولم يتركهم سداً، فغذاهم برزقه، ودعاهم إلى طاعته؛ ليعلم مطيعهم من عاصيهم، ووعدهم على طاعته ثوابه، وعلى معصيته عقابه، وهو من قبل خَلْقهم بهم عليم، وبما إليه يصيرون بصير حكيم، فبعث فيهم رسلاً منهم مبشرين ومنذرين بأمر متقن، وقول مبين، فشرَّع لهم شرائع، وحدّ لهم حدوداً، وأنزل فيهم أحكاماً، فأمر ألا تغير شرائعه، ولا تُتعَدى حدوده، ولا تُبدَّل أحكامه، ثم ختم بنبيه الأمين الهادي المهدي، الرؤوف الرَّحيم محمَّد -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ- مصدِّقاً لِما كان من الرسل قبله، ومتخذاً على أُمَّتِه من بعده حُجَّةً أهله، وهي سنة الله في الأولين أمضاها في الآخرين، حكم عدل، وقول فصلٌ، ليس بهزلٍ، وذلك قوله [تعالى]:{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}[الإسراء/77] .
وقال:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ [الْكَافِرُونَ]}[غافر/85] .

(1/21)


وقال:{شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}[الشورى/13] ؛فأمر تبارك وتعالى بإقامة دينه وشرائعه فقال:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [الماائدة/44] ، و{الظَّالِمُونَ} [الماائدة/45]، و{الْفَاسِقُونَ}[الماائدة/47]، فكانت أنبياء الله ورسله علَيْهِمُ الْسَّلاَمُ أمناءه على وحيه، وحُجَّته على خلقه، وشهداءه بإبلاغ رسالته، مستحفظين لكتابه، مستَودَعين على أسراره، مستودِعِين ما استُودعوا، أوصياء مرضيين، أمناء منتجبين، حُججاً له على أممهم من بعدهم، فكان النبي يوصي إلى الوصي بعد وفاته بعلم ما تحتاج إليه أمته بعد انقضاء أجله، لئلا يُدْرَس الدين، ولا تبدل أحكام ربِّ العالمين، فيجيء ذلك الوصي ما أوصى به إليه ذلك النبي يسير بسيرته، ويهدي بهديه، ولولا ذلك لدُرِسَت الأعلام، ولبُدِّلَت الأحكام، ولا عُرف الحلال من الحرام، حتى إذا أفضت النبوة إلى خاتم النبيئين، والحُجَّة على الخلق أجمعين، والشاهد عليهم يوم الدين [محمَّد] -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- دعا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، صابراً على الأذى، محتملاً للبلاء، مخالفاً في الله الأقرباء، دعا عشيرته الأقربين، وأعم بالدعوة جميع الخلق أجمعين، فكان أول من أجابه وصدقه أخوه المرتضى، وابن عمه المهتدي علي بن أبي طالب

(1/22)


-صَلَوَاتُ اللهِ عَلِيْهِ-، المواسي له بنفسه، الضارب دونه بسيفه، [الممتحن بالنوم على فراشِه، يقيه الحتوف بنفسه]، وكان ذلك أخص الخلق به، وأكثرهم عنده منزلة، يفضي إليه بسرِّه، ويشركه دون الخلق في جميع أمره؛ حتى إذا دنا حِمَامه، وانقضت أيامه، بعد كمال الدِّين، والنصيحة لربِّ العالمين، قصد بالوصية؛ فَصَّدَ دليله؛ ليوضِّح لأمَّته من بعده منهاج سبيله، أقام أخاه عَلَماً لأُمَّتِه، واستودعه ما استودعه الله من علمه وحكمته، متبعاً بذلك سنن النبيين الذين خلوا من قبله لقول الله تبارك وتعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}[الأنعام/90] ؛ فاقتدى بهدي إبراهيم ويعقوب وجميع النبيين في الوصية لقوله:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[البقرة/132] .
وقال:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ}[النساء/131] .
وقال تبارك وتعالى فرضاً على عباده:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة/180-181] .

(1/23)


وقال:{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}[المائدة/106] .
وقال عَزَّ وَجَلَّ في وصية المواريث:{يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[النساء/11] .
وقال:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء/12] .
وقال فيما افترض على النساء:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء/12] .
فلما أنزل الله -تبارك وتعالى- الوصية في غير آيه، وافترضها على عباده، وأمرهم بها، كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أحقّ الخلق وأولاهم بأن يأخذ بما افترض الله عليه، وأن يفضي بما قلده الله وأسند إليه، من يقوم مقامه فيهم؛ وهو قول الله تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[القصص/51] يعني وصيًّا بعد نبي، ونبيًّا بعد وصي، فجرت الوصية من النبيين إلى الوصيين إلى يوم القيامة.
[الكلام على زعم الخوارج أن رسول الله (ص) لم يوص إلى أحد]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يوص إلى أحد، ولم يستخلف أحداً، وأنه ترك ذلك حُسن نظر منه لأُمَّتِه لأَن لا يوصي بهم إلى رجل، أو يستخلفه عليهم فيعصونه فيكفروا [به].
فقل للخوارج: لو الفضل في ذلك، أو كان ذلك أصلح للأُمَّة، لكان ترك بعث الله عَزَّ وَجَلَّ للأنبياء والرسل إلى الأمم أصلح وأفضل لأن لا يعصوهم فيكفروا.

(1/24)


وسلهم عن رجلين عالمين فاضلين كانت عندهما للناس ودائع وحقوق ومعرفة لبعضهم على بعض، والمواريث والصدقات وغير ذلك، فحضرتهما الوفاة، وأمسك أحدهما عن الوصية ولم يؤد إليهم ودائعهم، ولم يدفع إليهم حقوقهم، ولم يُعلِمهم مواضعها فيقصدوا قصدها، فبقوا حيارى، ومضى ذلك الرجل لسبيله، فوثب القوم على خزائنه، وادعى كل رجل منهم ما ليس له، ووثب بعضهم على بعض، واضطهد بعضهم بعضاً، وأخذ بعضهم حق بعض.
أهذا في ترك وصيته وإعلام الناس بحقوقهم، وأداء ودائعهم إليهم أولى بحسن النظر لنفسه؛ ولمن خَلَّفَ من بعده؛ وأحرى عند الله بالنجاة يوم القيامة؟!.
أم رجل حضرته الوفاة فذكر يوم معاده، فنظر فيما بينه وبين ربِّه وعباده، وأحب الخلاص ممَّا في عنقه، وقصد إلى نظيره في ورعه، وعلمه، وزهده، فأوصى إليه فيما له وعليه من الذي ما عنده من الحقوق، والودائع، والأمانات؟!.
فإن قالوا: فإن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يكن عليه حق لأحد، ولم يُخلِّف مالاً، ولم يستودعه أحدٌ وديعة.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: فأي مال أكبر، أو حق أوجب، أو وديعة أضمن من وديعة الله إيَّاه جميع ما تحتاج إليه أُمَّته من حلالها وحرامها؛ إذ كان رسولاً إلى آخر أُمَّته كما هو رسول إلى أولها، فأوجب عليه لآخرها ما أوجب عليه لأولها، وأنزل عليه من الحكم للآخر ما أنزل عليه من الحكم للأول؟

(1/25)


فإن زعموا أنه مضى ولم يستودع تلك الوديعة أحداً وحاشاه -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ - فقد [أعظمت الفرية على الله خاصَّة]؛ إذ زعموا أنه بعث نبياً إلى أُمَّةٍ بجميع ما تحتاج تلك الأُمَّة إليه، فلو علم اللهُ أن رسوله لا يبلغ ما أرسله به، وإن أقروا أنه قد استودع ما استودعه الله عَزَّ وَجَلَّ من يقوم به من بعده فالأُمَّة أولى وأحق بالعصيان لله بكتمان البلاغ، وإضاعة الوديعة من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنَّا نرى الله -تبارك وتعالى- أنزل نبيه صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ من عباده بمنزلة الوالد البر الحَدِبِ، الشفيق، الرؤوف الرحيم بأمر ولده، المدبر لشأنهم، العارف لأمورهم، العالم بمصلحتهم، وإنما يخاف عليهم فساده من بعده بما قلده الله من أمر عباده، فلم يكن ليدع حُسنَ النظر في هذا الوجه الذي ينسب من تركه إلى الجهل وسُوءِ التدبير وقبح الصفة.

(1/26)


ووجدنا فيما أنزل عليه ووصفه دليلاً على ما وصفنا وذكرنا حين يقول تبارك وتعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[التوبة/128-129] ؛ فعلمنا أن من حُسن صفاته ونظره لمن بقي من بعده من أُمَّته عند وفاته أن ينصب لهم من يقوم مقامه، ويخلفه في أُمَّته بأحسن الخلافة، ويكون بمثل صفته في جميع حالاته من المدح في حسن الثناء، وأداء الأمانات لأهلها، والأخذ للحقوق، فمتى لم يقم الوالد لولده فيما ندب عارفاً بمصلحتهم وبما لبعضهم على بعض كان ذلك القائم يقمع الظالم، وينصف المظلوم.
فإن لم يكن كذلك كان الوالد منسوباً إلى العجز، وضعف الرأي، وقلة الحزم، وكذلك رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بتلك المنزلة فيما أقام صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ لأمته؛ لم يكن ليقيم أحداً إلا بأمر الله مُطَهَرًّا مَعصوماً.

(1/27)


[توضيح عظم الإمامة وكبر قدرها]
وسأوضح لك من الإمامة وعظم شأن خطرها، وكبر قدرها، وعلوّ منزلتها، ما تتصاغر الأشياء عنها عند من فهم وعقل إن شاء الله، وذلك أن إبراهيم خليل الله -عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ- اتخذه الله خليلاً من قبل أن يتخذه نبياً، فلما رأى ما في الخُلَّة من الفضل عَظمت في عينه، ثم اتخذه نبياً من قبل أن يتخذه رسولاً؛ فكانت النبوة أعظم عند الله من الخلَّة، وكانت الرسالة أعظم عنده من النبوة، فلما أكمل الله له الخلَّة والنبوة والرسالة قال الله -تبارك وتعالى-:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[البقرة/124] .

(1/28)


فعلم إبراهيم أنه لا شيء أفضل من الإمامة؛ لأن الإمام يُقتدى ويُهتدى به، على أنه لا يوحى إليه، فما فعل من شيءٍ جاز ذلك الشيء؛ لأنه لا يعمل إلا بأمر الله وهديه، فعند ذلك قال إبراهيم عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ؛ إذ قال الله له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، قال إبراهيم:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، قال:{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124] أي أن الإمامة عهد الله، ولا ينال عهد الله ظالم، والظالم المشرك بالله؛ لأن الله يقول:{لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان/13] ، فلا ينال عهده من أشرك به، وحَجَّ لغيره، وعَبَد الأصنام، واستقسم بالأزلام، وكذلك النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، وكذلك الأنبياء علَيْهِمُ الْسَّلاَمُ مطهَّرون معصومون بالهداية من الله، والتأديب، لم يجز عليهم شرك، ولم يحجّوا لغير الله، ولا استقسموا بالأزلام، ولم يعبدوا الأصنام، وكذلك الأئمة بمنزلتهم، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم؛ إلا أنه لا يوحى إليهم.
[شروط الإمام الواجب طاعته وموالاته]
ولن يكون الإمام إماماً حتى تكون فيه ست خصال؛ أولها: أن يكون أولهم إيماناً. وأعلمهم بحكم الله وبما أنزل الله على نبيه، ويكون أشجعهم قلباً، وأسخاهم كفاً، وأقدمهم هجرة، وأمسهم برسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رحماً، وأجمعهم لعلم رسول الله عَلَيْهِ آلَهِ الْسَّلامُ.

(1/29)


فأمَّا ما ذكرنا من قدم الإيمان: فإن الله سبحانه فضل السابقين سابقاً فسابقاً لقوله:{[وَ]السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة/10-11] .
وأمَّا العِلم بحكم الله: فإنه إن لم يكن عالماً لم يُؤمَن عليه أن يحكم بغير ما أنزل الله، ووجبت عليه الأسماء الثلاثة التي ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه من الكفر، والظلم، والفسق، لقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}[المائدة/44] ، و{الظَّالِمُونَ}[المائدة/45]، و{الْفَاسِقُونَ}[المائدة/47].
[وأمَّا الشجاعة]: فإنه إن لم يكن شجاعاً انهزم من عدوّه، ومتى انهزم من عدوه باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير.
وأمَّا السخاء: فإنه إن لم يكن سخياً غلَّ واتخذ مال الله خولاً، ومتى فعل ذلك وجب عليه من الله شديد العقاب.
وأمَّا قِدَم الهجرة: فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}[الأنفال/72] .

(1/30)


فعلمنا أن من صرف هذه الصفة عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الحكمة، وحُسن الصفة، والقيام بما أولاه الله من أمر خلقه، ووصفه بغير ذلك؛ فزعم أنه أهمل الناس وتركهم يثب بعضهم على بعض، ويظلم بعضهم بعضاً؛ أنه قد أظهر المحادة لله، والعداوة له ولرسوله، والإزراء عليه، وأضاف الذم إليه، ونفى المدح عنه، وأنه إنما قصد الله بسوءِ الثناء، وسوءِ التدبير، ووصف غيره بحسن الثناء، وحسن التدبير، فتعالى الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً.
[الكلام على زعم الخوارج أن رسول الله (ص) مضى وعنده علم ما تحتاج إليه الأمة]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يوصِ إلى أحد، ومضى وعنده علم ما تحتاج إليه الأُمَّة من حلالها وحرامها، ومعرفة مواريثها وصدقاتها، وطلاقها، وقسم فِيِّها، وشرائع حجّها، وعلم أحكامها في النوازل التي نزلت من بعده فيها، وعلم ناسخ القرآن ومنسوخه، والمعمول به من ذلك من محكمه ومتشابهه ، وتنزيله وتأويله ؛ أحوج ما كانوا إلى قائم يقوم فيهم من بعده يفزعون إليه في هذا كله حتى لا يكون في دين الله اختلاف، ولا شبهة تخاف، لذمّه تبارك وتعالى الاختلاف ونهيه عنه؛ إذ يقول:{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ}[آل عمران/3] .
وقال:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[الأنعام/159] .

(1/31)


وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[النساء/59] ؛ فأخبر تبارك وتعالى أنه لن يؤمن بالله واليوم الآخر من لم يرد ما لم يجد في كتاب الله إلى الله وإلى رسوله، ولم يتكلف ما لم يفترض عليه ولم يؤمر به.
ثم قال تبارك وتعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء/83] ؛ فأخبر تبارك وتعالى أن للأمر وليًّا يُسْتنبط [العلم] من عنده يدل عليه نبيه، فإن لم يكن ذلك فما معنى قوله تبارك وتعالى إذ يأمر برد الحكم إلى حاكم لا يوجد، وإلى ولي [أمر لا يُعْرف] ولا يدل عليه رسوله، تعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً، مع أنه تبارك وتعالى قد أمر بطاعة هذا الولي فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء/59] ، فزعموا أنه لم يخبر بأسمائهم، ولم يدل عليهم رسوله.

(1/32)


فإن قالوا: إنما أمر بطاعة قوم مخصوصين وهم أمراء السرايا، وهذا مثل قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة/9] ، ومثل قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ}[النساء/59، الأنفال/20، محمَّد/33] ، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة/95] ، هذا كله بمنزلة واحدة، فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ}[النساء/59، الأنفال/20، محمَّد/33] ، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ}[الجمعة/9] ، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة/95] خاص غير عام، أمّا الجُمعة فسقطت صلاتها عمَّن لم تجب عليه، وحل الصيد لمن لم يُحَرَّم عليه في الحَرَم، وكذلك سقطت طاعة أمراء السرايا عمَّن لم يفرض عليه.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: إن كانت أمراء السرايا هم ولاة الأمر وقد سقطت طاعتهم حيث ماتوا فقد إذاً سقطت طاعة الرسول -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حيث مات، ومتى سقطت طاعة الرسول سقطت طاعة الله، ومتى سقطت طاعة الله سقط الاستعباد عن الخلق، ووقع التهارج بينهم، وسقط الأمر والنهي؛ لأن طاعة ولي الأمر مقرونة بطاعة الرسول، وطاعة الرسول مقرونة بطاعة الله.

(1/33)


ووجه آخر: أجبهم على أن ولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم هم أمراء السرايا، فإن كان كذلك فقد سقط الأمر والنهي، والطاعة لله ولرسوله، ولأمراء السرايا؛ إلا على أهل السرايا لأمرائهم فإن طاعتهم عليهم معقودة مفروضة، ولا خلاف بين الأُمَّة أن الأبتر بن الأبتر شانئ رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عمرو بن العاص من أُمراءِ السرايا، وأن أبا بكر وعمر كانا جميعاً في سريته التي عقد له رسول الله عليها إلى ذات السلاسل يأمرهما فيأتمران، ويقصرهما فيقتصران، وما اختلفا فيه من شيءٍ فعليهما رده إلى وليِّ أمرهما، المفروض طاعته عليهما؛ لأنه يقول تبارك وتعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء/83] فذلك عليهما واجب لم يسقط عنهما ولم يَزل فلم يُوَلَّيا عليه إلا من بعد رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فإن قالوا: إنما ولاَّه رسول الله عليهما لأنه أبصر بالحروب منهما لا أنه أفضل وأعلم منهما.
فقل لهم: فكيف أمرهما الله -تبارك وتعالى- أن يردا ما اختلفا فيه إلى من هما أعلم وأفضل منه؟
فإذا كانا أفضل وأعلم منه فماذا الذي يردان إليه غير العلم إلا الجهل لأن ضد العلم هو الجهل.
وسَلهم عن الحرب التي زعموا أنه أبصر منهما: هي من دين الله أم من غير دين الله؟
فإن قالوا: بلى؛ هي من دين الله.

(1/34)


فقل لهم: نعم؛ فعمرو إِذاً أبصر وأعلم بدين الله منهما وأفضل، ولولا ذلك لما ولاَّه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عليهما؛ لأنه لا اختلاف بين الأُمَّة أن الأمير أفضل من المأمور.
فإن قالوا: إن الحرب (إنها) ليست من دين الله. فقد طعنوا على رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ إذ زعموا أنه أمر بغير دين الله.
فإن قالوا: فإن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد فسخ طاعة عمرو عن أبي بكر وعمر.
فقل لهم: لم نناظركم في فسخ الطاعة أنها إذا زعمتم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمر أبا بكر بالصلاة ثم وَجَد - زعمتم - إفاقة فخرج يتهادى بين يدي علي بن أبي طالب والفضل بن العبّاس، فلما سمع أبو بكر نحنحة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- اعتزل عن المحراب وتقدم النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فإذا كان ذلك كذلك فقد فسخ صلاة أبي بكر التي ادعيتم له الإمامة بها، إنما نحن في فرض طاعة عمرو بن العاص عليهما؛ إذ زعمتم أن الطاعة التي أمر الله بها المؤمنين لولاة الأمر أنهم أمراء السرايا.
فإن زعمتم أنه فسخ طاعة عمرو فمن فسخ طاعة أسامة بن زيد عنهما إذ ولاَّه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- جيشاً في ذلك الجيش أبو بكر وعمر، وأمرهما بالخروج معه وهو في سكرات الموت!، وكان آخر قوله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((أنفذوا جيش أسامة)) .

(1/35)


ففي هذا بيان لمن فهم وعقل، وأنه لا بُدَّ للجيش من أمير ينفذه؛ لأنه لم يقل ((أنفذوا)) إلا لِمُنفِّذ يأمر بإنفاذ ما أُمِر به.
[في النهي عن الاختلاف، وبطلان حديث:((أصحابي كالنجوم))]
وقد زعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ترك الوصية التي افترض الله عليه، وترك إقامة ولي الأمر الذي أمر الله الخلق برد ما اختلفوا فيه إليه الذي يستنبط العلم من عنده.
وزعموا أنه ترك الأُمَّة حيارى يعمهون بلا دليل، لا يعلمون حلال نازلةٍ من حرامها من بعده حتى اضطرهم ذلك إلى إكذاب قوله الذي عقدت عليه قلوبهم، وأفصحت به ألسنتهم؛ إذ يقول تبارك وتعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام/38] ، وفيه تبيان لكل شيء.
فأقاموا أضداداً وأنداداً لله ولرسوله، يفزعون إليهم في هذا كله، على أنهم متفرقون بأقاويلهم، مستحسنون لآرائهم، مختلفون بأهوائهم، فصار هذا يُحل نازلة يُحرمها هذا، ويُحل هذا فرجاً يُحرمه هذا، ويُحل هذا دماً يُحرمه هذا، ويُحل هذا ما لا يُحرمه هذا [بلا كتاب] في ذلك نزل من الله عليهم، ولا أمر من رسول الله قصد به إليهم، وقد نهاهم الله -تبارك وتعالى- عن ذلك فقال:{وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل/116] كأبي حنيفة ، وابن أبي ليلى، وزفر، ومحمد بن الحسن، وجميع من قال برأيه.

(1/36)


ثم رووا عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الروايات الزُّور، وأحاديث الفجور، بالمدخول عليهم فيها؛ لتقوم بذلك رياستهم؛ فزعموا أن رسول الله -عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ- أمر بما نهى الله عنه، وذلك أن الله عَزَّ وَجَلَّ نهى عن الاختلاف.
وزعموا أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمر به؛ إذ قال - زعموا -: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
فزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أنه من أخذ برأي واحد منهم فقد أصاب وإن اختلفوا.
فإذا كان الأمر على هذا القول لا حق ولا باطل، إذا كان كذلك لم يُعرف المأمور به من المنهي عنه، ولا المعمول به من المتروك، فتركوا قول من أرادوا من أصحابه، وأخذوا بقول من أرادوا، وقالوا: هذا يُعمل به، وهذا لا يُعمل به. فصاروا هم الحُكَّام على من أُمِرُوا بالاقتداء به، وذلك أن أبا بكر وهو - زعموا عندهم - خير هذه الأُمَّة بعد نبيها، صَيَّر الجَدّ أباً، وصيَّره زيد أخاً، فأخذوا برأي زيد، وتركوا قول أبي بكر. وقد رووا أن النبي -عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ- قال:((أفرَضَكم زيد)) .
ومن ذلك أن عمر بن الخطاب - وهو أفضل الأُمَّة عندهم بعد أبي بكر - أمر برجم المرأة التي وضعت لستة أشهر فردهم عن ذلك علي بن أبي طالب - كَرَّمَ اللهُ وَجَهَهُ - فكان من قول عمر:((لولا علي لهلك عمر)) ، وأخذوا بقول علي، وتركوا قول عمر.

(1/37)


وقد رووا عن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:((بين عيني عمر ملك يسدده)) ، فأخذوا بقول من أرادوا منهم، وتركوا قول من أرادوا.
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن لهم الانقياد إلى ما لم يجدوا في كتاب الله ولا في سنة رسوله إلى قول العلماء وإن اختلفوا، وللحكام أن يختاروا من أقاويلهم ما أحبوا.
فإذاً أصحاب محمَّد صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ عندهم أعلم من الله ومن رسوله بما تحتاج إليه الأُمَّة من حلالها وحرامها؛ لأنهم - فيما زعموا - لم يجدوا في كتاب الله ولا في سنة رسوله علم ما تحتاج إليه الأُمَّة، وإذاً الحكام عندهم الذي يقولون برأيهم أعلم عندهم من أصحاب محمَّد لاختيارهم أقاويل أصحاب الرأي، وكذبوا قول الله تبارك وتعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام/38] ، وقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل:89].

(1/38)


وزعموا أنه فَرَّط ولم يُبِيِّن، ولو بَيَّن لوجدوه، تعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً، فلقد بَيَّن وأوضح، ودلّ وأمر باتباع الذي دلّ عليه، ولقد وبخهم بذلك إذ أمرهم أن يردوا علم ما لم يجدوا إلى ولي الأمر الراسخ في العلم الذي يعلم تأويل القرآن وتنزيله، وناسخه ومنسوخه، وحلاله وحرامه، ومحكمه ومتشابهه، الذي قال فيه:{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}[المائدة/44] ، ثم استثنى بعد النبيئين فقال: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}[المائدة/44] ؛ فأخبر تبارك وتعالى أن المستحفظين لكتاب الله هم الذين يحكمون بكتاب الله وبما في التوراة، على أن التوراة أعجمية أنزلت لغيرنا على غير نبينا، فكيف لا يعلم نبينا المستحفظ لكتابنا على حكم ما أنزل عليه لنا؟

(1/39)


فلو نَظَرَت الخوارج ومن قال بمقالتهم، وفَكَّرَت مَنْ كان المستحفظ لكتاب الله بعد رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ومن الذي جمعه وألفه، وادعى علم تأويله، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، وحلاله وحرامه، ومحكمه ومتشابهه، فقصدوا قصده؛ لم يعدموا علم نازلة تنزل بهم، ولا بأحد من الخلق إلا وجدوا علمها عند ذلك المستحفظ، ولم يقصدوا من لم يحفظ كتاب الله ولم يقرأه، ومن طلب الشهود عليه بعد وفاة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لمن يجمعه، فمن جاء بآية يشهد عليها شاهدان أنها من كتاب الله أثبتها، وإن لم يأت عليها شاهدان لم يقبلها، ولعل فيما لم يقبل من الله حكماً من الله لبعض النوازل التي زعموا أنهم لم يجدوا حكمها في كتاب الله.
[الموقف من الصحابة]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن الشيعة طعنت على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وجميع المهاجرين والأنصار.
فلعمري؛ إن مَن طَعَن على الله في تدبيره، وعلى رسوله في تقصيره، في بلاغ رسالات ربِّه، وبين من طعن على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وجميع المهاجرين والأنصار، وجميع الخلق أجمعين؛ بَوْناً بعيداً.

(1/40)


إن من زعم أن الله تبارك وتعالى بعث نبياً من أنبيائه إلى أُمَّة من خلقه بجميع ما تحتاج إليه تلك الأُمَّة من علم حلال وحرام، وفرائض وأحكام في نوازل تنزل عليه، ونوازل تنزل بعده فعلم ذلك النبي حكم الله في جميع تلك النوازل التي تكون بعده فلم يستودع ذلك الشيء تلك الوديعة التي استودعه الله إيَّاها مَنْ يقوم من بعده لآخر أُمَّته؛ إذ كان رسولاً إليهم مبلغاً عن الله، مسئولاً عن بلاغهم، حتى لا يكون على ذلك النبي حُجَّة لله، ولا لتلك الأُمَّة عليه إنكار فيما أدى عن الله عَزَّ وَجَلَّ إليهم؛ لأعظم طعناً على الله وعلى رسوله ممَّن طعن على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وجميع المهاجرين والأنصار؛ لأنه يقول تبارك وتعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف/6] .
فعن مَاذا يسأل الأُمَّة إذا لم يبلغها الرسول شيئاً؟، وما حُجَّة الرسول على الأُمَّة بترك البلاغ؟!.
[الله تعالى قد أنزل على رسوله (ص) علم ما تحتاج إليه الأُمَّة]
فإن زعموا أن الله تبارك وتعالى لم ينزل على نبيِّه علم ما يحتاج إليه الخلق ولم يعلم ذلك رسوله، لقد نسبوا الله ورسوله إلى الجهل العظيم الذي لا تقم به السموات والأرضون؛ إذ زعموا أنهم علموا ما لم يعلَمَا.

(1/41)


وإن زعموا أن الله قد أنزل على رسوله علم ما يحتاج إليه أهل عصره ممَّا سألوه عنه لا غير ولم ينزل عليه حكم النوازل التي تكون من بعده في غير عصره فكان لهؤلاء الأضداد الذين سموهم علماء أن يقولوا فيها برأيهم، وأن يشرِّعوا فيها أحكاماً من عند أنفسهم، فكان عليهم أن يقولوا فيها، وعليه تبارك وتعالى أن يرضى، لقد نسبوه إلى ضعف التدبير، وسُوْءِ التقدير؛ إذ كانوا - زعموا - قد علموا ما لم يعلم، وحكموا بما لم يحكم، وشرَّعوا بما لم يشرع، وأمروا بما لم يأمر، ونهوا عمَّا لم ينه عنه، كأنهم تجاهلوا قوله:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى/21] .
فقد أخبر تبارك وتعالى أنه قد أكمل الدِّين فقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة/3] ، والحكم في النوازل من الدين، فزعموا أنهم لم يجدوا من النوازل في كتابه ولا سنة نبيه عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ حكماً منصوصاً، فأي كمال أكمل الدِّين في قولهم، وهو في كل وقت يحتاج إلى من يزيد فيه حكماً من عند نفسه في نازلة؟!.
فلو جهدت اليهود والنصارى والذين أشركوا على أن يطعنوا على الله وعلى رسوله ببعض ما طعنت به الخوارج ومن قال بمقالتهم ما قدروا على ذلك، ولا أحد يقدم على هذه الفضيحة العظيمة في الإسلام، فتعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً، فقد أتقن عَزَّ وَجَلَّ أمره، وأنفد حكمه، فما ترك لأحد منهم ولا من غيرهم من جميع الخلق مقالاً، وهو يقول:{وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}[الكهف/26] .

(1/42)


الجواب في الصلاة
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف أحداً، ولم يوص إلى أحد؛ ولكنه أمر أبا بكر بالصلاة فاختاره - زعموا - لدينهم، واختاره المسلمون لدنياهم.
وزعموا أن الصلاة عمود الدِّين، فنظرنا فإذا الأشياء كلها الدين والدنيا لا ثالث لهما:
فأمَّا الدِّين: فالعمل للآخرة بما أمر الله به من أداء جميع الفرائض من الصلاة، والزكاة، والحَجّ، والصيام، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وأمَّا الدنيا: فمتاع الغرور كما سمى الله في كتابه:{لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت/64] ، فاختاره - زعمتم - رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لصنف من الدين للصلاة لا لغيرها.
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: إن كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: لا تزيدوا ولا تنقصوا؛ لأنه الرسول إليكم، والآمر لكم، لستم المرسلين إليه والآمرين له، واتركوا ما ترك.
فإن قالوا: فمن يولى الزكاة، والحَجّ، والصيام، والجهاد، والأحكام، وقَسْم الفيء والمواريث، وشرائع الدين كلها؟
فقل لهم: إن كان ولاَّه إياها مع الصلاة [فولُّوه]، وإن كان أمسك فأمسكوا، وليسعكم ما وسعه -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فإن قالوا: إن الصلاة عمود الدين، وسائر الأشياء تبع لها، والصلاة والزكاة مقرونتان في كتاب الله.

(1/43)


فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: ما الذي منع رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يُصيِّر إليه مع الصلاة الزكاة وسائر الدين كما صيَّرتُم ذلك إليه، أعجز عن الكلام؟ أم لم يحسن (أن) يفعل كما فعلتم؟ أم قال لكم: الأمر في الصلاة [إليَّ]، وسائر الدِّين إليكم فقلدوا من شئتم أمركم؟
فإن قالوا: هذا لا يستقيم؛ من صيرت إليه الصلاة فهو الإمام؛ لأن الصلاة عمود الدين، وسائر الأشياء تبع لها، فمن ترك صلاة واحدة متعمداً فقد كفر بالله العظيم.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: ما حُجَّتهم على من خالفهم في الصلاة أنها ليست بعمود الدِّين، وقال: إن عمود الدِّين طاعة ولي الأمر ومودة ذوي القربى؛ لأن ولي الأمر هو الدليل على الدين؟
ولو لم يكن دليل لم يكن مدلول عليه؛ فطاعة ولي الأمر ومودة ذوي القربى مفروضتان على الخلق لا يسقطان، ولا يسقط فرضهما عن أحد من الخلق إلا بجحود الخلق لهما؛ لأن الدين لا يقوم إلا بهما، ونجد الصلاة، والزكاة، والصيام، والحَجّ، والجهاد قد وضعه الله عن بعض خلقه، ولم يضعه عن بعض، ونجد طاعة ولي الأمر ومودة ذوي القربى لم يضعهما الله عن أحد من خلقه.
[الدليل على عدم اعتبار الصلاة عموداً للدين]
فإن سألوك على ذلك دليلاً، فسلهم عن الصلاة التي زعموا أنها عمود الدين: أليس قد يؤخرها العبد عن وقتها عمداً وغير عمد، وتسقط عن المسافر منها ركعتان ما كان مسافراً أبداً، وعن المريض إذا كان لا يعقل ولم يدرِ كم فاته من صلاته لا قضاء عليه، وعن الحائض ما كانت في حيضها فقد سقط الفرض عنها فلا صلاة عليها؟

(1/44)


ولا قضاء على المسافر؛ لأنه قد سقط عنه بعض الفرض؟
ولم تسقط طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عن أحد من هؤلاء.
وتسقط عن الخائف من الصلاة ما وجب على الآمن؛ لأن صلاة الآمن أربع ركعات، وصلاة الخائف ركعتان يصلي الإمام وتقوم طائفة من خلفهم، فإذا سجدوا كانت الآخرة من ورائهم كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ.
[وصلاة] الخائف بخلاف صلاة المسايفة، صلاة المسايفة يسقط عنهم فيها القيام، والركوع، والسجود، والقعود؛ إنما هي تكبيرٌ وتهليل.
هذه الصلاة كلها قد وضعها الله عَزَّ وَجَلَّ عن أهلها ما كانوا على حالاتهم هذه.
ولم يضع الله عَزَّ وَجَلَّ طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عن أحد من هؤلاء، ولا من غيرهم من الخلق كانوا على هذه الحالة، أو على غيرها.
والزكاة إنما فرضها الله عَزَّ وَجَلَّ على أهل المال، فمن لم يكن له مال فقد سقط عنه الفرض حتى يكون له مال.
ولم يضع الله عَزَّ وَجَلَّ طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عن ذي مال، ولا غير ذي مال.
وكذلك الصوم وضعه الله عَزَّ وَجَلَّ عن جميع الخلق إلا في شهر واحد، في شهر رمضان، فمتى دخل الشهر سقط الفرض عن المسافر، والمريض، والحائض؛ حتى يعتدوا كلهم بأيام أخر.
ولم يضع الله عَزَّ وَجَلَّ طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عن مسافر، ولا مريض، ولا حائض.
وكذلك الحَجّ وضعه الله عمَّن لم يستطع إليه سبيلاً، ولم يضع طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عنهم.

(1/45)


وكذلك الجهاد وضعه الله عَزَّ وَجَلَّ عن الأعمى، والأعرج، والمريض، ولم يضع الله عَزَّ وَجَلَّ طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عن أحد من هؤلاء.
وكذلك الصلوات الخمس لها مواقيت لا تجوز في غيرها، فإذا أدَّاها العبد في مواقيتها سقط عنه فرضها وصار خليًّا عن الفرض إلى مواقيتها الأخرى، وليس يخلو العبد عن طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى طرفة عين.
وكذلك الصوم له وقت؛ فإذا أدَّاها العبد في وقته سقط عنه الفرض وكان خلياً من فرضه إلى ذلك الوقت، وليس يخلو العبد من طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى طرفة عين.
وكذلك الزكاة لها وقت في رأس الحول، فإذا أدَّاها العبد سقط عنه الفرض وكان خلياً من فرضها إلى ذلك الوقت، وليس يخلو العبد عن طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى طرفة عين.
وكذلك الجهاد قد عَطَّلَه كل هذا الخلق وتركوه، وتركه الله عَزَّ وَجَلَّ عمَّن تركه منهم، ولم يسقط عنهم طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى طرفة عين؛ بل هما معقود عليهم فرضهما في أعناقهم لا يخلون منهما طرفة عين أبداً.
فما كان ثابتاً معقوداً في أعناق الخلق مفروضاً عليهم لا يخلون منه طرفة عين أبداً لا عذر فيه أولى أن يكون عمود الدين من الذي يثبت في وقت، ويسقط في وقت، ويتم في آخر.
[ وجوب الوصية، والرد على من زعم أن الرسول (ص) لم يستخلف]
وزعموا أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف، فَلِم سَمُّوا أبا بكر خليفة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؟

(1/46)


فإن كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- استخلفه فَلِم كذَّبوا وقالوا: لم يستخلف؟
وإن كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف فقد كذبوا عليه إذ سمُّوه خليفة، وقد قال صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ:((من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار)) .
وقد قال أبو بكر: أقيلوني بيعتي.
فقالوا لا نقيلك ولا نستقيلك.
وقال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه.
فكل هذا دليل على أن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لم يستخلف أبا بكر.
فإن قالوا: لا يستقيم أن يكون الخلق هملاً، ولا بد لهم من خليفة يقيم صلاتهم، ويؤدون إليه زكاتهم، ويُنفِذ أحكامهم، وينصف مظلومهم من ظالمهم، ويقيم جُمَعهم.
فقل لهم: فأي طعن أكثر على الله تعالى وعلى رسوله من طعنكم؛ إذ زعمتم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ترك هذا الخلق هملاً؛ إذ ترك أمراً لا يقوم الدين إلا به؟!.
وقل لهم: أي الفعلين أصلح: فعال محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذ لم يستخلف، أو فعالكم إذ استخلفتم؟
فإن قالوا: بل فعال محمَّد.
فقل لهم: فقد كان ينبغي لكم أن تقتدوا به صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ كما أمركم الله عَزَّ وَجَلَّ. وإن كان فعالهم خيراً قد نسبوه إلى التقصير؛ إذ ترك ما هو خير للأُمَّة وحاشاه -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من التقصير في دين الله.
وزعموا أن محمَّداً عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لم يستخلف.

(1/47)


قلنا لهم: فَلِم استخلف أبو بكر وعمر.
وزعموا أن محمَّداً عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لم يوص بالخلافة إلى أحد أحوج ما كانت الأُمَّة إلى خليفة من بعده.
فالرواية الصحيحة المأثورة عنه -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:((أيما قوم خرجوا في سفر لم يؤمّروا عليهم أميراً فقد عصوا الله ورسوله)) .
فكيف ينسبون رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أنه يأمر أُمَّته يُؤَمِّر بعضهم على بعض ولا يُؤمِّر هو على أُمَّته من بعده، وهو يعلم أن ترك ذلك عصيان لله عَزَّ وَجَلَّ؟!.
وقد كان في حياته عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ يبعث السرايا والبعوث فيؤمِّر عليهم على أنه بين أظهرهم؛ من ذلك أنه بعث إلى مؤتة بعثاً أمَّر عليهم ثلاثة نفر جعفر بن أبي طالبرَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فإن حدث به حدث فزيد بن حارثة، فإن حدث به حدث فعبد الله بن رواحه الأنصاري.
وبعث إلى ذات السلاسل بعثاً آخر أمَّر عليه أبا بكر، وفي ذلك الجيش عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، فانهزموا.
ثم بعث بعثاً أمَّر عليهم عمر بن الخطاب، وفي ذلك الجيش أبو بكر، وعمرو بن العاص، فانهزموا.
ثم بعث بعثاً آخر أمَّر عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، وفي البعث أبو بكر، وعمر، وعمرو بن العاص، ففتح الله على يديه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وكان صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ يخرج في الغزوات فلا يدع المدينة دون أن يستخلف عليها خليفة يقوم مقامه؛ من ذلك: أنه غزا غزوة بدر فاستخلف على المدينة أبا لبابة [بن عبد] المنذر فكان فيها أميراً حتى انصرف.

(1/48)


وغزا غزوة تبوك فاستخلف علي بن أبي طالب على المدينة فكان فيها أميراً حتى انصرف.
وغزا غزوة خيبر فاستخلف أبا ذر الغفاري على المدينة فكان فيها أميراً حتى انصرف.
وغزا عام الفتح فاستخلف على المدينة عمرو بن أم مكتوم فكان فيها أميراً حتى انصرف.
وغزا بعض غزواته فخلَّف أبا رُهْمٍ كلثوم بن حصين على المدينة فكان فيها أميراً حتى انصرف.
واستخلف عتاب بن أسيد وهو بمكَّة وحجَّته معهم بالأبطح يصلي بالناس الفجر والمغرب، ويصلي أعتاب الصلوات كلها .
هذا يخرج في السفر القريب فيستخلف الخليفة من بعده؛ لأن تفزغ أمَّته إلى خليفته بما تفزغ إليه من نازلة تنزل بهم، فكيف لا يستخلف عند وفاته على جميع أُمَّته أحوج ما كانوا عندها إلى علم نازلة تنزل بهم من بعده لا يقدرون لها على حكم منصوص؟!.
لقد ضلت الخوارج ومن قال بمقالتهم ضلالاً بعيداً.
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
[الأدلة على إثبات الوصية وفضل أهل البيت(ع) ]
فإن سألت الخوارج برهاناً ودليلاً على أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أوصَى إلى علي، أو شاهداً على ذلك، واحتجوا أنه لا تقطع الحقوق، ولا تنفذ الأحكام إلا بالإقرار من الخصوم، أو البينات العدول من غير أهل الدعوى ممَّن لا يَجُرُّ إلى نفسه، واحتجوا أن شهادتنا لا تجوز عليهم، وشهادتهم لا تجوز علينا، لجَرِّنا إلى أنفسنا وجَرهم إلى أنفسهم.

(1/49)


فلعمري؛ إن لهم في هذا لمقالاً، فنحن نستشهد علينا وعليهم من خالفنا وإيَّاهم من جميع الفرق التي افترقت من أُمَّة محمَّدٍ عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ وهم العامّة على أنهم أعداؤنا وأعداؤهم، وشهادتهم علينا وعلى الخوارج جائزة؛ لأنهم لا يَجُرُّون إلينا ولا إليهم مع ما نحتج عليهم من رواياتهم التي بها يُقِرُّون، وبها يأخذون، وبين أظهرهم من علماء العامّة ممَّن تُقبل شهادته لنا وعلينا، فليسألوهم عن رواياتهم هل أوصَى رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أم لم يوص؟
هذا عندهم من روايات عبد الرزاق بن هَمَّام، وهو علم من أعلام العامة ممَّن لا يطعن عليه أحد في علمه، وزهده، وورعه، وهو ورواته مخالفنا لنا ولكم.
1-[شهادة إبراهيم النخعي بالوصية لعليٍّ عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ]
حدثني من لا أتهمه عن أحمد بن داود عن عبد الرزاق بن همام قال: أخبرنا يحيى بن العلاء:
عن الأعمش قال: اشتد مرض إبراهيم النخعي قال لخيثمة: أجلسني. فأجلسته.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمَّداً عبده ورسوله، وأن علياً وصي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وأن حسناً وصي علي، وأن حسيناً وصي الحسن، وأن علي بن الحسين وصي الحسين، وأن محمَّد بن علي وصي علي بن الحسين.
ثم غشي عليه، فلما أفاق قال: [هل] سمعني أحد؟
قال خيثمة: لا.
قال: اكتم عني. ثم مات في آخر نهاره.

(1/50)


2-[وصية الرسول (ص) إلى علي (ع)]
[وحديث] محمَّد بن شرحبيل قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر قال: أدركت بمكَّة شيخاً كبيراً يقول: إن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أوصى إلى علي، وأمره أن يقضي دينه، وينجز موعده ووعده، وأمرني علي أن أصيح في الحج حتى أموت: من وعده رسول الله بِعِدَة، أو كان يطلبه بدين فأنا منجز له.
3- [مسألة الشامي لعبد الله بن عبّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وجواب ابن عبّاس له وشرحه بعض مناقب عليّ (ع)]
وحديث عبدالرزاق قال: أخبرنا يحيى بن العلاء عن عمَّه شعيب بن خالد: عن سلمة بن كهيل: أن عبد الله بن عباس كان يُحدِّث [في] الناس على شفير زمزم، فلما قضى حديثه قام رجل من أهل الشام فقال: يا ابن عباس؛ إنِّي رجل من أهل الشام.
قال ابن عباس: أعوان كل ظالم إلا من عصم الله منهم، سل عمَّا بدا لك يا أخا أهل الشام.
قال: إنِّي رجل من أهل حِمص، وإنهم تبرؤا من علي بن أبي طالب، ويلعنونه.
قال ابن عباس: لعنهم الله؛ له القرابة من رسول الله . ألم يكن أوَّل العالمين إيماناً بالله ورسوله؟
قال: ليس هم يجهلون قرابته، ولا سابقته، غير أنهم يزعمون أنه أحدث أحداثاً؛ وضع سيفه على عاتقه، فلم يزل يضرب به أهل شهادة أن لا إله إلا الله، ولم يكفروا حجاً ولا عمرة، ولا صلاة، ولا زكاة، ولا صوم شهر رمضان.
قال ابن عباس: ثكلتك أُمُّك، وعدمتك؛ سل عمَّا يعنيك، ودع عمَّا ما لا يعنيك.
قال: ما من أمرٍ أنا له أعنا، ولا عليه أحرص؛ مني على هذا.

(1/51)


قال ابن عباس - وهو يريد أن يصرفه عن الذي يريد -:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة/134 و141] .
قال الشامي: يا ابن عباس! إن قومي جمعوا لي نفقة من أموالهم وأرسلوني إليك، فأنا رسولهم وأمينهم، ولا يسعك في دين الله أن تردني إليهم بغير قضاء حاجتهم، وقد رضي القوم جميعاً بك، ففرِّج عنَّا فرَّج الله عنك.
فقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن العلم الغائب يستصعب لا يقوى على حمله إلا ثلاثة: ملك مقرب، أو نبي منتجب، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.
وقد علمت أنَّك لست ملك ، ولا نبي ، ولعلَّك ممَّن امتحن الله قلبه بالإيمان .
فكيف أنت إذا مر بمسامعك ما لم تسمع بمثله قط؟
وكيف احتفاظك بما عسيت ألاّ يبلغ فهمك ذكره وإن كان هو الحق؟
قال الشامي: أرجوا أن يلهمني الله معرفته.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا أخا أهل الشام؛ احفظ وافهم واسمع، وبلِّغ أصحابك أنِّي أخبرك أنه كان مثل علي بن أبي طالب صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ في هذا الأُمَّة كمثل العبد الصالح الذي لقيه موسى صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِمَا على ساحل البحر كما وصفه الله سبحانه في كتابه، قال:{عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}[الكهف/65] .

(1/52)


فلما أن لقيه موسى وكلمه وسمع كلامه أقر له بفضله، ولم يحسده على علمه كما حُسِد عليٌّ على علمه؛ بل خضع له موسى إذ لقيه وطلب إليه أن يتبعه ويعلم منه، قال له موسى {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[الكهف/66] .
قال له العالم:{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}[الكهف/67-68] .
قال: قال له موسى:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}[الكهف/69] .
قال العالم: إن علمي لا يُطاق، ولا يُصبر عليه؛{فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}[الكهف/70] ، فأعطاه موسى ذلك.
فلما ركبا في السفينة خرقها العالم، وكان خرقه إيَّاها لله رضاً، وصلاحاً لأهلها، فلما رأى موسى أن ذلك عنده فساداً لم يصبر أن قال:{أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}[الكهف/71] .
قال له العالم:{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}[الكهف/72] .
قال له موسى - وهو يعتذر إليه -:{لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}[الكهف/58] . فكف عنه العالم، ورفق به.
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ العالم، وكان قتله لله رضاً، ولأبويه صلاحاً، وسخطاً لموسى، قال له موسى ولم يصبر:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}[الكهف/74] .

(1/53)


قال له العالم:{أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}[الكهف/75] .
قال له موسى:{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}[الكهف/76] .
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ}[الكهف/77] فأقامه العالم، وكان إقامته لله رضىً، ولغلامين صلاحاً، وسخطاً لموسى، قال له موسى:{لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}[الكهف/77] .
وكان العالم أعلم بما أتَى، فكيف أنت يا أخا أهل الشام؟!.
أَعلِمَ أهل الشام أن علياً لم يقتل إلاّ من كان قتله لله رضاً، ولأهل الجحود سخطاً؟
والذي نفسي بيده: لا أحابي علياً في ديني وأمانتي، ولا القرابة من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ولا أقول في ذلك إلا حقًّا.

(1/54)


فأبلغ عني؛ أخبرك أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تزوَّج زينب بنت جحش بعد ما طلقها زيد، فأقام رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فكانت وليمته الحيس ، فكان يدعو كل عشرة على قصعة، ثم كان إذا فرغوا استأنسوا بحديثه، وأحبوا النظر إلى وجهه، وكان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يحبُّ أن يخففوا عنه ويخلو مع أهله، وكان حديث عهد بالعرس، وأراد أن يؤدِّب المؤمنين، فلما علم الله ذلك من نبيه أنزل الله قرآناً في ذلك أدباً للمؤمنين وذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ}[الأحزاب/53] .
قال ابن عباس: فلما نزلت هذه الآية إذا أكلوا قالوا: الحمد لله المطعم المنعم. ثم مضوا ولم ينتظروا الخِرَق ليمسحوا بها أيديهم.

(1/55)


فمكث النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك أسبوعاً ثم تحول بعد ذلك إلى بيت أم سَلمة بنت أبي أميَّة، وكانت مع رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليلتها ويومها؛ حتى تعالى النهار، وأن عليّاً أتى الباب فدقه دقاً خفيفاً، فعرَفَه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وأنكرته أم سَلمة، فقال النبي:((قومي يا أم سلمة فافتحي الباب)).
فقالت أم سَلمة: من هذا يا رسول الله الذي (بلغ) من خطره أن أقوم فأفتح له الباب وأستقبله بمحاسني ومعاصمي؟
قال لها:((يا أم سَلمة إن طاعتي طاعة الله،{مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء/80] .
قومي فافتحي الباب، فإن بالباب رجل ليس بالنزق ولا الخرق، ولا بالعجول في أمره، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
يا أم سَلمة؛ إنه يأخذ بعضادتي الباب فليس بفاتح ولا داخل حتى يُخفى عليه صوت الوطي)).
فقامت أم سلمة لا تدري مَنْ بالباب، وقد حفظت الصفة والمدحة، فمشت نحو الباب وهي تقول: بَخٍ بَحٍ لرجل يحب الله ورسوله، ويحبُّه اللهُ ورسولُه.
فلما فتحت أم سلمة أخذ بعضادتي الباب فلم يزل قائماً حتى خفي الوطي، ثم فتح ودخل وأم سلمة عند رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ثم جلس فقال رسول الله:((يا أم سلمة؛ هل تعرفين الرجل؟!))
فقالت: نعم؛ هذا علي بن أبي طالب، وهنيئاً له.
فقال النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((يا أم سلمة؛ لحمي لحمه، [ودمي دمه]، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

(1/56)


يا أم سَلمة؛ هذا علي سيد المسلمين، وأمير المؤمنين، علمه علمي، والوصي على أهل بيتي من بعدي، وقرابتي في الدنيا والآخرة، بابي الذي أؤتى منه، والوصي من أهلي، والخليفة على الأخيار من أُمَّتِي، أخي في الدنيا، ورفيقي في الآخرة، يكون معي في السنا الأعلى.
اسمعي واشهدي يا أم سلمة؛ إنه يقتل الناكثين، والمارقين، والقاسطين)) .
قال الشامي: ومن الناكثون؟
قال: الذين أقرُّوا بالمدينة وأنكروا بالبصرة [وهم طلحة والزبير]، وأمَّا القاسطون فمعاوية وأصحابه، وأمَّا المارقون فأهل النهروان.
فقال الشامي: ملأتَ صدري نوراً وحكمة، وفرَّجت عني فرَّج الله عنك.
4-[حديث: ((لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم..))]
وحديث عبد الرزاق (عن) شبر بن السري، وكادح بن جعفر، ومحمد بن محرز، قالوا: حدثنا عبد الله بن لهيعة عن الإفريقي، عن مسلم بن يسار:
عن جابر بن عبد الله قال: لَمَّا قدم عليٌّ على رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بفتح خيبر قال له رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم؛ لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمر على مَلأٍ من الناس إلا أخذوا من تراب رجليك، ومن فضل طهورك يستشفون به.

(1/57)


وحسبك يا علي أنَّك مني وأنا منك، ترثني وأرثك، وأنَّك مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، وأنك وصيي، وتبرئ ذمتي، وتقاتل على سنتي، وأنَّك في الآخرة غداً أقرب الناس مني، وأنَّ شعيتك على منابر من نور مُبيضة وجوههم حولي أشفع لهم، ويكونون غداً في الجَنَّة جيراني، وأن حربك حربي، وأن سِلمَك سِلمِي، وأن سِرك سِرِّي، وأن علانيتك علانيتي، وأن البرِّ سريرة صدرك كسريرتي، وأن ولدك ولدي، وأنَّك منجز عِدَاتي، وأن الحق معك ليس أحد من الأُمَّة يَعدِلُك عندي، وأن الحق على لسانك، وفي قلبك، وبين عينيك، فالإيمان مخالط للحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأنه لن يرد الحوض مبغض لك، ولن يُغيَّب محبٌّ لك غداً عني حتى يرد الحوض معك)) .
قال: فخرَّ علي -عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ- ساجداً، ثم قال: الحمد لله الذي أنعم عليَّ بالإسلام، وعلمني القرآن، وحببني إلى خير البرية خاتم النبيئين، وسيد المرسلين؛ إحساناً منه إليَّ، وفضلاً منه عليَّ.
قال: فقال النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((لولا أنت يا علي لما عُرف المؤمنون بعدي)) .

(1/58)


5-[حديث الصخرة]
[وحديث] عبد الله بن منصور قال: أخبرنا عبدالعزيز بن سنانة:
عن أبي سعيد عفيصا قال: خرجت مع علي في مسيرة إلى الشام؛ حتى إذا كان بجانب هذا السواد بظهر الكوفة عطش الناس واحتاجوا إلى الماء، فانطلق علي حتى انتهى إلى صخرة كأنها ربضة عنز، فأمر بها. فقُلِعَت، فخرج لنا ماء فشرب الناس وارتووا. ثم إنَّه أمر بالصخرة فأُلقيت عليها، ثم سار حتى انتهى إلى المنزل فقال: أيُّكم يعلم مكان هذا الماء الذي شربنا منه؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ نحن نعلم مكانه.
قال: فاذهبوا إليه.
فانطلقنا رجالاً ورُكباناً حتى أتينا المكان الذي كُنَّا نعلم فيه، فطلبناه فيه فلم نقدر على شيءٍ، فلما أعيا علينا أتينا ديراً قريباً منه، فسألنا أهل الدير: هل تعلمون مكان هذا الماء الذي هاهنا؟
قالوا: ما هاهنا ماء.
قلنا بلى؛ قد شربنا منه اليوم.
قالوا: وأنتم شربتم منه؟!.
قالوا: نعم.
قالوا: فوالله ما بني هذا الدير إلا من أجل ذلك الماء، وما استخرجه إلا نبي أو وصي.
6-[حديث الغدير]
وحديث عبدالرزاق عن معمر عن علي بن زيد بن جذعان - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم - عن عدي بن ثابت:
عن البراء بن عازب قال: لما نزل النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بغدير خُمٍّ أمرهم، فكنس لهم بين نخلتين.
قال: ثم قام فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر ما شاء الله أن يذكر، ثم دعا بعليٍّ وأخذه بعضده فقال:((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟)).
قالوا: بلى.
قال:((ألست أولى بهم من آبائهم؟)).
قالوا: بلى.
قال:((ألست أولى بهم من أمهاتهم؟)).
قالوا: بلى.
قال:((ألست أولى بهم من إخوانهم؟)).
قالوا: بلى.

(1/59)


قال:((فهذا وليكم من بعدي؛ اللَّهُمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه)) .
قال: فقال عمر بن الخطاب: ليهنك يا ابن أبي طالب؛ أصبحت - أو قال أمسيت - ولي كل مسلم.
7-[حديث الاستخلاف]
وحديث عبدالرزاق قال: أخبرني أبي عن [مينا]، عن عبد الله بن مسعود - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم -:
قال: كنت مع النبي -عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ- ليلة وفد الجن، فلما انصرف منهم تنفس.
فقلت: ما شأنك؟
قال:((نُعِيَت إليَّ نفسي يا ابن مسعود)).
قال: فقلت: استخلف.
قال:((مَنْ؟)).
قلت: أبا بكر.
فسكت ثم تنفس الصعداء، فقال مثل قوله الأول.
قال: فقلت: استخلف.
قال:((مَنْ؟)).
قلت: عُمَر بن الخطاب.
قال: فسكت.
قال: ثم مشى ساعة ثم تنفس أيضاً، ثم قال: ((نُعِيَت إليَّ نفسي يا ابن مسعود)).
قال: قلت: استخلف.
قال:((مَنْ؟)).
قلت: عثمان. ثم قلت: طلحة، ثم قلت: عبدالرحمن بن عوف، ثم قلت: الزبير. وهو ساكت.
ثم قال:((نُعِيَت إليَّ نفسي يا ابن مسعود)).
قال: قلت: استخلف.
قال: ((من؟)) قلت: علياً. - وهو في رواية أخرى عن إبراهيم بن عيسى-: وأخّرت علياً لمعرفتي برأيه فيه.
فقال:((والذي نفسي بيده: لئِن أطاعوه ليدخلُنَّ الجَنَّة أجمعين أكتعين)) .
فقلت لعبدالرزاق: ما أكتعين؟
قال: لا يبقى منهم أحد.
وفي رواية إبراهيم أنه قال:((أوه؛ أمَا إنهم لن يفعلوا، ولو فعلوها لدخلوها أجمعين أكتعين)).

(1/60)


8-[حديث أم أيمن (رَضِيَ اللهُ عنها) عن زواج فاطمة (ع)]
وحديث مسعدة بن حماد البصري قال: حدثنا صفوان الجمال:
عن جعفر بن محمَّد قال: دَخلَت أم أيمن على النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهي باكية، فقال لها النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((ما يبكيك يا أم أيمن؟)).
قالت: يا رسول الله! وكيف لا أبكي وفلان الأنصاري تزوج فلانة الأنصارية؛ فقد نُثِر عليها من اللوز والسكر ما الله به عليم، وذكرتُ نثار فاطمة بنت رسول الله.
فقال لها:((يا أم أيمن اسكتي، فوالذي بعثني بالحق ما زوجت ابنتي فاطمة من عليٍّ حتى زوَّجها الله من السماء، فلمَّا أراد الله أن يزوجها أمر شجرة يقال لها طوبى أن ريفي، وتخففي، وتزيني. وأمر الملائكة أن يحفوا بالعرش.
فلمَّا زوجها الله من عليٍّ أمر (الله) شجرة طوبى أن انثري الدُّر الأبيض، والياقوت الأحمر، واللؤلؤ الرطب.
فتبارد الحُور من الخيام يلتقطن، ويفتخرن، ويهدين، و(هنّ) يقلن: هذا نثار فاطمة ابنة محمَّدٍ المصطفى، زوجة سيد الأوصياء)).
وفي رواية أخرى:((فهنَّ يتهادينه إلى يوم القيامة، ويفتخر بعضهنّ على بعض أَيهنَّ أخذ أكثر)) .

(1/61)


9-[حديث: ((علي على ناقة من نور))]
والحديث الذي يُرفع إلى عبد الله بن عبَّاس [رَضِيَ اللهُ عَنْهُ] في الوصية لعليٍّ بن أبي طالب عن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، الحديث الذي يذكر فيه الركبان الأربعة:((عليٌّ على ناقة من نور، زمامها (من) ياقوتة حمراء، خطوها مد بصرها، عليه حُلتان خضراوان يعجب منه النبيئُون والصدِّيقُون، فينادي منادٍ من بطنان العرش بلسان طلق ذلق: معاشر الخلائق؛ هذا علي بن أبي طالب وصي محمَّدٍ -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-)) .
10-[حديث: ((زوجكِ وصيٌّ، خير الوصيين))]
وحديث إبراهيم بن أبي يحيى المديني - وهو المخالف لنا ولكم-، يرفعه إلى النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال لفاطمة:((زوجك وصيٌّ، خير الوصيين)) .
11-[حديث أن الله تعالى اختار علياً (ع) وصياً]
وحديث أبي الدوانيق عبد الله بن محمد - وهو المخالف لنا ولكم - عن أبيه، عن جَدِّه قال: بينا نحن قعود عند رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذْ أقبلت فاطمة وهي تبكي، قال:((ما يبكيك؟ لا أبكى الله عينيك)).
قالت: يا رسول الله؛ نساء قريش يُعيرنني ويقلن: إنَّ أباك زَوَّجَك من معدم لا مال له.
فقال لها:((يا فاطمة؛ إن الله اطلع على أهل الأرض اطلاعة فاختارني فبعثني نبياً، ثم اطلع فاختار علياً فجعله وصيًّا)) .
فانصرفت وهي ضاحكة، وهي تقول: رضيت، رضيت بما رَضِيَ اللهُ لي ورسوله.

(1/62)


12-[حديث: سؤال أبي ذَر للرسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في أمر الصحابة الثلاثة، وما يلحق بأمير المؤمنين (ع) بعده]
وحديث إبراهيم بن إسحاق عن محمد بن القاسم البغدادي، عن الحسين بن علوان الكلبي، وعن الأعمش - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم - عن الأصبغ بن نباته:
عن أبي ذر الغفاري قال: سألت رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقلت: يا رسول الله؛ من خليفتك علينا من بعدك؟
فقال:((علي بن أبي طالب هو خير من أخلف من بعدي)) .
قال: قلت: يا رسول الله؛ فمن يلينا من بعدك.
فأطرق طويلاً حتى سألته ثلاثاً، فقال:((يليكم من بعدي أبو بكر بن أبي قحافة)).
فقلت: يا رسول الله؛ فأين وصيك علي بن أبي طالب!؟
فقال:((يا أبا ذر! إن الله -تبارك وتعالى- إذا أراد أمراً فلا مرد له)).
قال: قلت: يا رسول الله ثم مَه؟
قال:((ثم يليكم من بعده عمر بن الخطاب فيلبث فيكم ما يلبث ثم (إنه) يقتل)).
قال: فقلت يا رسول الله؛ فأين وصيك علي بن أبي طالب!؟
قال:((يا أبا ذر ألم أخبرك أن الله تبارك وتعالى إذا أراد أمراً فلا مرد له؟)).
قال: قلت: ثم مَه؟
قال:((ثم يليكم من بعده عثمان، ثم يلبث فيكم ما يلبث، ثم إنه يقتل)).
قال: فقلت: يا رسول الله على اختلاط من الأُمَّة؟
قال:((لا)).
قال: قلت: يا رسول الله فأين وصيك علي بن أبي طالب!؟
قال:((يا أبا ذر؛ ألم أخبرك أن الله إذا أراد أمراً فلا مرد له؟)).
قال: قلت: يا رسول الله ثم مَه؟

(1/63)


قال:((ثم تبايعون لخير هذه الأُمَّة بعد رسولها لعليٍّ بن أبي طالب؛ حتى إذا وجبت له الصفقة على كل مصلي القبلة، وإِدَّى الجزية؛ أخطأتم ونكثتم، فأول من ينكث عليه في بيعته طلحة والزبير، ثم يستأذنان إلى مَكَّة فيجدان فيها امرأة من نسائي فيسيران بها إلى البصرة)).
قال: قلت: يا رسول الله وما البصرة؟
قال:((الحزينة)).
قال: قلت: يا رسول الله وما الحزينة!؟
قال:((المؤتفكة بأهلها؛ بل بدينها ودنياها. فعند ذلك يسيرون إلى فرعون أُمَّتِي من الشام فتكون لكم الحزونة، ولهم السهولة)).
قال: قلت: يا رسول الله ومن فرعون أُمَّتِك من الشام؟
قال:((معاوية بن أبي سفيان. فيقتتلون فيها قتالاً شديداً، فيحجز الله بينكم بالوهن، فعند ذلك يبعثون حكمين فيكون حكمهما على أنفسهما، وعند حكومتهما تفترق الأُمَّة إلى أربع فرق: فرقة على الحق لا ينقص منها الباطل شيئاً، وفرقة على الباطل لا ينقص الحق منها شيئاً، وفرقة مرقت من الدين كما يمرق السهم من الرمية - وهم الخوارج -، وفرقة وقفت كالشاة الربيض حتى إذا سرحت الغنم سئِمَت هذه فلم يعرفها، فبينا هي كذلك إذ جاء الذئب اختطفها، فكذلك من مات من أُمَّتِي لم يكن له إمام ولا إيمان مات ميتة جاهلية، فقدم على الله بما فعل في الإسلام)).

(1/64)


13-[حديث: اختيار الله تعالى زواج فاطمة من عليٍّ (ع)، وفيه أيضاً حديث تبشير الرسول لابنته فاطمة (ع)]
وحديث عيسى بن جعفر قال: حدثني علي بن [الحسن] العبدي عن سليمان الأعمش، عن عباية بن ربعيّ الأسدي - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم -:
عن أبي أيوب الأنصاري: أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مرض مرضاً شديداً، فاشتد عليه مرضه، فدخلت عليه ابنته فاطمة تعوده، وقد كان ناقهاً من مرضه، فلما رأت ما برسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الجهد خنقتها العَبرة حتى جرت دمعتها على خدها، فقال لها: ((يا فاطمة؛ أمَا علمت أن الله - تعالى ذكره - [اطلع إلى] أهل الأرض اطلاعة فاختار منهم أباك فجعله نبياً، ثم اطلع الثانية فاختار منهم بعلك فأوحى إليَّ أن أنكحه، وأتخذه وصياً؟
أما علمت يا فاطمة: أنِّي لكرامة الله إيَّاك زَوَّجَك أعظمهم حلماً، وأقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً؟)) .
فَسُرَّت بذلك، واستبشرت بما قال لها رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فأراد أن يزيد من مزيد الخير كله الذي قسمه الله لمحمَّد ولآل محمَّد فقال لها:((يا فاطمة؛ لعليٍّ ثمانية أضراس ثواقب: إيمانه بالله ورسوله، وعلمه، وحكمته، وزوجته فاطمة، وسبطاه الحسن والحسين، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وقضاؤه بكتاب الله.
يا فاطمة؛ إنَّا أهل بيت أعطانا الله سبع خصال لم يعطها أحداً من الأولين، ولن يدركها أحدٌ من الآخرين غيرنا: نبينا خير الأنبياء وهو أبوك، ووصينا (فهو) خير الأوصياء فهو بعلك، وشهيدنا خير الشهداء فهو حمزة عمّك، ومِنَّا من له جناحان خضيبان يطير بهما (في الجَنَّة حيث شاء) فهو جعفر بن أبي طالب بن عمّك، ومِنَّا سِبطا هذه الأُمَّة وهما ابناك الحسن والحسين، ومِنَّا والذي نفس محمَّد بيده مهدي هذه الأُمَّة)) .

(1/65)


14-[حديث: ((من كنت نبيه فعلي أميره))]
وحديث وكيع بن الجرَّاح يرفعه إلى النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((من كنت نبيه فعلي أميره)) .
15-[مسألة ربيعة السعدي وجواب حذيفة بن اليمان عليه في فضل أهل البيت (ع)]
وحديث علي بن [الحسن] العبدي قال: حدثني أبو هارون العبدي عن ربيعة السعدي - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم -:
عن حذيفة بن اليمان أن ربيعة قال: أتيتُ حذيفة فسلَّمتُ عليه، فرد عليّ السلام، ثم قال: من الرجل؟
قلت: أنا أخوك ربيعة السعدي.
قال: مرحباً بأخٍ لي قد سمعت باسمه ولم أر شخصه، ما حاجتك يا ربيعة أخبرني (بها)؟ فوالذي نفسي بيده إنِّي لأرجوا ألاَّ أمسي في يومي هذا حتى يقضي الله لك الحوائج على يدي إن شاء الله تعالى؛ فأذَن في ذلك.
فقال ربيعة: يا عبد الله! ما أتيتك أستعين بك على أحد من إخوانك، ولا (على) أن أطلب إليك من ذلك ديناراً ولا درهماً؛ ولكن أتيتك لاختلاف سقط بين أهل الكوفة.
فقال: وما ذلك يا ربيعة؟
فقال: إنِّي تركت النَّاس على خمس طبقات:
أمَّا طبقة فيزعمون أن أبا بكر خير الناس بعد رسول الله -عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ-؛ لأنه كان الصدِّيق وصاحبه في الغار.
وقالت الطبقة الثانية: إن عُمَر بن الخطاب خير من أبي بكر الصديق لأن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:((اللَّهُمَّ أعز [الإسلام] بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل))، فمن أعز الله الدين به فهو خير.

(1/66)


وقالت الطبقة الثالثة: إن أبا ذر كان خيراً من أبي بكر وعمر (وأفضل منها)؛ لأن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق عند الله من أبي ذر)) .
وقد كان أبو بكر وعمر تقلهما الغبراء والخضراء، فأخبر النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن أبا ذر أصدق منهما لهجة، وأصدق الناس خير الناس.
وقالت الطبقة الرابعة: إن سلمان الفارسي كان خيراً من أبي بكر، وعمر، وأبي ذر، لأن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:((سلمان ابن الإسلام)) ، و ((سلمان ابن الخير)) ، و ((سلمان مِنَّا أهل البيت)) ، و ((سلمان قد أُعطِي العلمين: العلم الأول والعلم الآخر)) ، فمن كان بهذه المنزلة فهو أفضل.
وأمسك ربيعة فلم يذكر شيئاً، فقال حذيفة: ما لك يا ربيعة لا تخبرني بمقالة الطبقة الخامسة وأكون الحاكم بينهم، والقاضي!؟
فقال ربيعة: يا أبا عبد الله! أنا من الطائفة الخامسة، وأنا أقول مثل مقالتهم، وأنا أمين القوم، ورسولهم إليك، والمرتاد لهم، ولست بقائل لك شيئاً حتى أسمع منك، فإن القوم قد أعطوا لله عهداً أن يرضوا بحكمك، ولا يردوا عليك شيئاً من قولك.

(1/67)


قال حذيفة: لا حول ولا قُوَّة إلا بالله العليِّ العظيم؛ إسمع، واحفظ، وبَلِّغ عني أنِّي رأيت رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما تراني، وسمعته كما تسمع مني: مَرّ به الحسين بن علي وهو غلام دون الخماسي، فأخذ رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعضده، ثم حمله حتى وضعه على منكبه الأيمن، فرأيت عقب الحسين بن علي في سُرَّة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يعبث بها، ورأيت كَفّ النبيّ --صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-- الطيّبة المباركة حيث وضعها على ظهر قَدَم الحسين ثم غمزها في سُرَّته لئلاَّ يعبث فيقطع على رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وينهره عند الكلام.
فنظر رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يميناً وشمالاً، ثم قال:((أيها الناس؛ ألا أُعرِّفكم ما اختلفتم فيه من الأخيار بعدي؟
هذا الحسين بن علي خير الناس جَدًّا وجَدَّة، جَدُّه رسول الله وسيِّد ولد آدم، وجَدَّتُه خديجة سابقة نساء العالمين إلى الإيمان بالله ورسوله.
وهذا الحسين خير الناس أباً وأُمًّا، أبوه علي بن أبي طالب شقيق رسول الله، ووزيره، وبابه الذي يؤتى منه، وعيبة علمه، وأول رجال العالمين إيماناً بالله ورسوله، أخوه في الدنيا، وقرينه في الآخرة، وموضعه في السنا الأعلى، وأُمّه فاطمة بنت محمَّد بضعة من رسول الله، وسيدة نساء العالمين.

(1/68)


وهذا الحسين بن علي خير النّاس عمًّا وعمَّة، عمَّه جعفر بن أبي طالب المزين بجناحين يطير بهما في الجنَّة حيث يشاء، وعمَّته أُم هانئ بنت أبي طالب من لحم محمَّد --صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-- وقرابته.
وهذا الحسين خير الناس خالاً وخالة، خاله القاسم بن محمَّد، وخالته زينب بنت محمَّد)).
ثم وضعه النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على منكبه فقال:((أيها النَّاس؛ إعرفوه، وفضلوه. هذا الحسين بن علي جَدُّه في الجَنَّة، وجَدَّتُه في الجَنَّة، وأبوه في الجنَّة، وأُمُّه في الجنَّة، وعمُّه في الجنَّة، وعمَّتُه في الجنَّة، وخاله في الجنَّة، وخالته في الجنَّة، وأخوه في الجنَّة، وهو في الجنَّة.
ألا إن الحسين بن علي قد أُعطِي من الفضل ما لم يُعطَ أحد من ذرية الأنبياء ما خلا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)).
ثم وضع يده [الشريفة] على هامة الحسين بن علي، ثم قال:((والذي لا إله غيره؛ لجَدّ هذا الغلام أحبُّ إلى الله وأكرم عليه من جَدّ يوسف بن يعقوب)). ثم قال:((إنَّه جَدّه محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-)).
16-[حديث: ((يدخل عليَّ أمير المؤمنين، وخير الوصيين))..إلخ]
وحديث الحارث بن محمد الأسدي قال: حدثني سفيان بن إبراهيم عن الحارث بن الحصين، عن القاسم بن جندب - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم -:
عن أنس بن مالك قال: دعا رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذات يوم بوضوء فتوضأ وصلَّى، ثم قال:((يدخل عليَّ أمير المؤمنين، وخير الوصيين، وأولى الناس بالنبيئين)).

(1/69)


قال: قلت: اللَّهُمَّ اجعله رجلاً من الأنصار.
قال: إذ ضرب إلى الباب، فدخل علي بن أبي طالب، فقام النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إليه فجعل يمسح من وجهه فيمسح به وجه علي، ويمسح من وجه علي فيمسح به وجهه، فدمعت عين علي فقال: يا رسول الله؛ ما لي؟ هل ترى [بي] شيئاً؟!.
قال: فقال:((ولم لا أفعل بك هذا وأنت تُسْمِع صوتي، وتؤدِّي عني، وتُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه من بعدي)) .
17-[حديث: ((هذا وصيي))]
وحديث سلمان الفارسي قال: سألت النبيّ عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ فقلت: يا رسول الله! إنَّه لم يكن نبي إلا وله وصيّ، فمن وصيك؟
فأقام ثلاثة أيام فلما كان في اليوم الثالث نظر إلى عليٍّ فقال:((هذا وصيِّي)) .
18-[حديث المنزلة]
وحديث عن أبي سعيد الخدري، قال أحمد بن جعفر عن عبدالرزاق بن همام، عن قتادة - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم - عن سعيد بن جبير:
عن عبد الله بن عباس: أن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خرج في سفر له - وهو في رواية أخرى: في غزوة تبوك - فاستخلف عليًّا على المدينة فقال: يا رسول الله؛ ما كنت أحب أن تخرج في سفر إلاّ وأنا معك.
فقال:((يا علي! أمَا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)) .
19-[حديث: إن المدينة لا تصلح إلا بي وبك]
وحديث:((إن المدينة لا تصلح إلا بي وبك)) .
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: ما كانت منزلة هارون من موسى بعد الأخوة إلاَّ الخلافة بقوله:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}[الأعراف/142] ؟

(1/70)


[وكذلك قال محمَّد عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لعليّ:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}][الأعراف/142].
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
تم الجزء الأول، والحمد لله ربِّ العالمين.
يتلوه في الجزء الثاني حديث الأصبغ بن نباته: أن علي بن أبي طالب قال يوم الجَمَل والخوارج حُضور: إن من أكرم الخلق على الله يوم القيامة سبعة...

(1/71)


الجزءُ الثَّانِي مِن كِتاب الكامل المنير([204])
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
اللَّهُمَّ إنِّي أسألك التوفيق والتسديد
20-[حديث: إنَّ من أكرم الخلق على الله يوم القيامة سبعة..]
وحديث الأصبغ بن نباته أن علي بن أبي طالب قال يوم الجمل والخوارج حضور: إن من أكرم الخلق على الله يوم القيامة سبعة كلهم من ولد عبد المطلب.
فقال له عَمَّار بن ياسر: مَنْ هم يا أمير المؤمنين؟
قال: نبيكم خير النبيئين، ووصيكم خير الوصيين، وحمزة سيد الشهداء، وجعفر الطيَّار في الجَنَّة، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجَنَّة، ورجل يخرج منا آخر الزمان يقال له المهدي.
21-[حديث الغدير]
وحديث أبي أحمد قال: حدثني من أثق به عن الحكم بن ظهير، عن أبيه وعبد الله بن حكيم بن جبير - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم - عن أبي الطفيل:

(1/72)


عن زيد بن أرقم، قال: لما فرغ رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من حجة الوداع أنزل الله:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاتهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}[المائدة/67] ، خرج مذعوراً نحو المدينة وأصحابه معه حتى قدم الجُحفة فنزل على غدير خم، ونَهَى أصحابه عن سمرات في البطحاء متقاربات، فنزل تحتها، وهي شجرات عظام، فلما نزل القوم في سَواِهن أرسل إليهم سبعين رجلاً من العرب والموالي والسودان ، فَشُكَّ شوكهن ، وَقُمَّ ما تحتهن، ثم أمر بالصلاة جامعة، فاجتمع المسلمون، وفيمن حضر يومئذٍ علي بن أبي طالب، والحسن والحسين ابنا علي، والعباس وولده عبد الله والفضل، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد بن نفيل، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعَمَّار بن ياسر، وعمرو بن العاص، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو حمراء مولى رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وعبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعامة قريش، ووجوه أصحاب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من عقبي ومهاجري وأنصاري، وغيرهم من بدوي وحضري، حتى امتلأ الدوح وبقي أكثر الناس في الشمس يقي قدميه بردائه من شدة الرمض، فصلى صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ تحتهن ركعتين، ثم قام خطيباً، فحمد الله وأثنى

(1/73)


عليه،0 ثم قال:
((أيها الناس؛ إنه نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعش نبي قط إلا نصف عمر النبي الذي يليه ممن قبله، وإنِّي أوشك أن أُدعى فأجيب، وإنكم مسؤولون، هل أبلغتكم ما أُرسلت به إليكم، فماذا أنتم قائلون؟)).
قالوا: والله لقد بلَّغت ونصحت فجزاك الله عنا أفضل ما يُجْزى نبيٌّ عن أُمَّتِه.
فقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((أتشهدون أن لا إله إلا الله، وأنِّي محمَّد رسول الله، وأن الجَنَّة حق، وأن النار حق، وأن البعث بعد الموت حق؟)).
قالوا: نشهد بذلك.
فرفع يده -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ثم وضعها على صدره، ثم قال:((وأنا أشهد بذلك، اللَّهُمَّ اشهد))، ثم قال:((ألا لعن الله من ادعى إلى غير أبيه، لعن الله من تولى غير مواليه، ألا ليس لوارث وصية، ولا تحل الصدقة لآل محمَّد، ومن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار .
أيها الناس؛ ألستم تشهدون أن الله مولاي، وأن الله مولى المؤمني،ن وأنا أولى بكم من أنفسكم؟)).
قالوا: بلى نشهد أنَّك أولى بنا من أنفسنا.
قال: فأخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها ثم قال:((من كنت أولى به من نفسه فهذا علي مولاه؛ اللَّهُمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحب من أحبَّه، وابغض من أبغضه، وأعن من أعانه، وانصر من نصره، واقتل من قاتله، واخذل من خذله)). ثم أرسل يده.
فقال رجل من القوم: ما بال محمَّد يرفع بضبُع ابن عمه؟!.

(1/74)


فسمعه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فتغير لذلك وجهه، فلما رأى ذلك الرجل أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد علم به واشتد عليه، أقبل عَلَى عَليٍّ فقال له: هنيئاً يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
ثم أخذ رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بيد علي الثانية فقال:((يا أيها الناس؛ اسمعوا ما أقول لكم: إِنِّي فرطكم على الحوض وإنكم واردون عليَّ الحوض، حوضاً أعرض ما بين صَنعاء إلى إيله، فيه كعدد نجوم السماء أقداح، إنِّي مصادفكم على الحوض يوم القيامة أَلاَ وإنِّي مستنقذ رجالاً ويخلج دوني آخرون فأقول: يا ربّ؛ أصحابي أصحابي!!.
فيقال: إنهم أحدثوا وغيَّروا بعدك.
وإنِّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفونني فيهما)).
قالوا: وما الثقلان يا رسول الله؟
قال:((الأكبر منهما كتاب الله سبب ما بين السماء والأرض، طرف بيد الله وطرف بأيديكم فتمسكوا به، لا تضلوا ولا تبدلوا، والأصغر منهما عترتي أهل بيتي فقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عَليَّ الحوض، فلا تُعلِّموا أهل بيتي فإنهم أعلم منكم، لا تسبقوهم فتمرقوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تتولوا غيرهم فتضلوا.
يا أيها الناس؛ أطيعوا قولي، واحفظوا وصيتي، وأطيعوا عليًّا فإنه أخي ووزيري، وخليفتي على أُمَّتِي؛ فمن أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن خالفه فقد خالفني. ألا لعن الله من خالف عليًّا)).
ثم أرسل يده فقال:((يا علي؛ أكتب بما أوصيتهم به عليهم كتاباً)) .

(1/75)


فَلمَّا أن كتب وأشهد الله عليهم رسول الله بإبلاغهم ذلك اليوم أخذ الكتاب فقال لهم بصوت له عالٍ:((أيها الناس؛ هل بلغتكم ما في هذا الكتاب؟)).
قالوا: اللَّهُمَّ نعم.
قال:((اللَّهُمَّ اشهد وكفى بك شهيداً)).
ثم رفع صوته فقال:(([هل] أقيلكم!؟)).
فقالوا: نعوذ بالله ثم بك يا رسول الله من أن تقيلنا أو نستقيلك.
فقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((اللَّهُمَّ اشهد أنِّي قد جعلت عليًّا عَلَماً يُعرف به حزبك عند الفرقة هادياً عليّ)). فناوله الكتاب.
22-[حديث: موالاة ما طاب من الشجر لآل البيت(ع)]
وحديث عبد الرزاق قال: أُخبرنا بخبر الخيل عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي هارون العبدي، عن أبي المعمر:
عن قنبر مولى علي بن أبي طالب، قال: كان علي لا ينام ليلة حتى يأكل جزيرة أو رمانة. وأمسى ذات يوم فطلب في المنزل فلم يقدر على شيءٍ، فأرسل إليَّ فقال: يا قنبر؛ اكسر.
فكسرت واحدة فوجدتها مُرَّة، فقلت: هذه مُرَّة!.
فقال: فألقها في النار.
ثم كسرت الثانية فقلت: هذه حلوة طيبة.
فأكل وأطعمني، وكان لا يأكل حتى يأكل جليسه، وأكلت وأطعمته، فقلت له: لقد سمعت منك كلاماً ما سمعته منك قط!.
قال: وما ذاك يا قنبر؟
قال: قلت لي: ألقها في النار.
قال: نعم؛ إن الله ألقى ولايتنا على الشجر فما كان منه حلواً طيباً فهو مما قَبِل ولايتنا، وكل ما كان [منه] متغيراً فهو مما أنكر ولايتنا يا قنبر، ولكن أكرموا النخلة فإنها أول شيءٍ قَبِل ولايتنا، وهي أول شجرة نبتت على وجه الأرض، وهي عَمَّتكم.
قلت: فكيف تكون عمتنا؟!

(1/76)


قال: إن الله [تعالى] لما خلق آدم فَضُل من التراب فَضْلَةً فخلق منها النخلة فهي عمتكم سمَّاها رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَمَّة بني آدم.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: كيف يلقي الله - تبارك وتعالى - ولاية محمَّد وعلي [عليهما وآلهما السلام] وآل محمَّد على الشجر، فما قبل الولاية طاب وحلى، وما أنكر الولاية تغيَّر، ولا ثواب للشجر ولا عقاب عليها، ولا نؤمن نحن بولاية محمَّد ونحن مأمورون منهيون لنا الثواب وعلينا العقاب؟!.
وهذه الرواية عن عبد الرزاق، وهو علم من الأعلام، ولو كنا نحن روينا هذا الحديث لكذبونا ولكنها روايتهم هم، وهم أهل الخلاف لنا ولكم.
23-[حديث: أفضليه النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأهل بيته على جميع الخلائق]
وحديث ربيعة السعدي عن حذيفة عن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الاختلاف في التفاضل في قوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب/33] :
قال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((فبيتي خير البيوت، وأنا وأهل بيتي مطهرون، وإن الله اختار منا أهل البيت أربعة: اختارني وعليًّا وحمزة وجعفراً، وإني لنائم في الأبطح؛ علي عن يميني ، وحمزة عن شمالي، وجعفر تحت رجلي، فما استيقظت إلا بخفيق أجنحة الملائكة وبَرد ذراع عليٍّ تحت خدي؛ وإذا أربعة أملاك، وإذا ملك يقول: يا جبريل؛ إلى أيّ هؤلاء الأربعة أُرسلت؟
فحركني وقال: إلى هذا.
قال: ومن هذا عن يمينه؟

(1/77)


قال: علي سيد الوصيين.
قال: فمن هذا عن شماله؟
قال: حمزة سيد الشهداء.
قال: فمن ذا عند رجليه؟
قال: جعفر ذو الجناحين المضربين يطير بهما حيث يشاء من الجَنَّة. فقال:{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}))[آل عمران/34] .
24-[حديث: علي قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين]
وقول رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((علي قاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين)) .
25-[إخباره(ص) للزبير وعائشة أنهما يقاتلان عليًّا(ع)]
وقوله للزبير:((لتقاتلنه وأنت له ظالم)) - يعني علياً عليه السلام-.
ولعائشة:((لتقاتِلنه وأنتِ له ظالمة)) و ((أيكن تنبحها كلاب الحوأب - يقوله لنسائه)).
26-[حديث : إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن..]
وقول رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((إن فيكم من يُقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله)).
فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟
قال:((لا؛ ولكنه خاصف النعل)). وبيد عليَّ نعل يخصفها لرسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
وكل هذا يثبت الوصية لعليٍّ عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: أليس قاتل علي هؤلاء كلهم؟
27-[قول أبي أيوب الأنصاري: أُمرنا بقتال الناكثين...]
وقول أبي أيوب الأنصاري: أُمرنا بقتال الناكثين فقاتلناهم يوم البصرة، طلحة والزبير وعائشة.
وأُمرنا بقتال القاسطين وهم هؤلاء، وأشار بيده إلى معاوية وأصحابه.
وأُمرنا بقتال المارقين، ولسنا ندري أندركهم أم لا.

(1/78)


وقد قاتل علي هؤلاء جميعاً والخوارج معه حتى نكثوا عليه.
فسل الخوارج: على ما قاتلوا مع علي طلحة والزبير وعائشة ومعاوية؛ أعلى حق كان قتالهم معه أم على باطل؟
فإن زعموا أنهم قاتلوا معه يومئذٍ على حق ولكنه أخطأ في قتال أهل النهروان حين كرهوا التحكيم لأنهم كانوا على الحق وقالوا: نقاتل الفئة الباغية.
فسلهم عن العلم الذي علموا أنه الحق إذ قاتلوا معه: أهو العلم الذي علموا أنه الباطل الذي زعموا أنه قاتل أصحاب النهروان حين نكثوا عليه وقاتلوا وأنكروا ولايته؛ إذ كان قتالهم معه أولاً، ونكثهم عليه أخيراً بلا كتاب من الله ولا سنة من رسول الله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ؟ وما الذي دلَّهم على أن هذا حق وهذا باطل؟
وإذا كان فِعل علي عندهم بغير أمر من الله ولا وصية من رسول الله فما الذي دلَّهم (على) أن أحكامه التي بها اليوم يأخذون، وآراءه التي عنها يصدرون هي حق؟
وما الذي يُؤمِّنهم إن كان مُخطئاً في حروبه وبحكمته التي أشركوه فيها وأسبابه أن يكون مخطئاً في أحكامه التي في أيديهم اليوم؟
وسلهم عن أسلافهم الذين قُتلوا مع عليٍّ يوم صفين والجمل؛إذ كانوا لا يعلمون أن طاعة علي عليهم مفروضة من الله ورسوله: أين مصيرهم أفي جَنَّة أم في نار؟!.
وما يدريهم لعلَّ أصحاب معاوية في الجَنَّة، ولعلَّ أصحابهم في النار إن كانوا في شكٍّ من أمر عليٍّ. ولم يشهدوا على عليٍّ أنه قتل المسلمين يوم النهروان؟
ولم يشهدوا على أنفسهم بقتلهم المسلمين يوم صفين والجمل؟

(1/79)


وما الفرق بين هؤلاء وهؤلاء إن كان قتالهم لهؤلاء ولهؤلاءِ جميعاً بغير أمر من الله ولا سنة من رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؟!.
[الجواب على من زعم أن علياً بايع طائعاً غير مكره]
زعموا أن علياً بايع طائعاً غير مستكره.
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بايع طائعاً غير مستكره وهذه منهم دعوى، والحكم المعروف أن كل من ادعى دعوى فلا بد له أن يقيم على دعواه برهاناً يصدق به دعواه.
فسلهم: ما دليلهم أنه بايع طائعاً غير مستكره؟
إن كان بايع طائعاً غير مستكره فَلِم ذكروا حديث سويد بن غفلة الذي يذكر فيه أن نفراً ينتقصون أبا بكر وعمر عنده راضٍ بذلك، فيتصل من ذلك بكلام كثير؛ من ذلك - زعموا - أنه قال: إن الناس بايعوا أبا بكر طائعين غير مستكرهين. وأنه قال: أنا أوّل من سنَّ ذلك من بني عبد المطلب.
وكان من قوله:(أغزوا إذا أغزاني، وآخذ إذا أعطاني، وأضرب بين يديه الحدود).
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: قد ادعيتم عليه قولاً زعمتم أنه قاله بلا فعل فعله، فصححوا لنا فعله حتى نصدقكم على قوله.
زعمتم أنه قال:(أغزوا إذا أغزاني). فما حجتكم على من خالفكم وأنكر ذلك وقد قال: أغزا أبو بكر وجاهد أهل اليمامة ، وأهل دنا، وغيرهم، وقتلهم وسباهم.. وكذلك عمر من بعده فقد غزا فارس، والأهواز، وبسر، وسرار.
فأخبرونا عن علي في هذه الغزوات أكان أميراً أم كان غير أمير في هذه المواطن، أو في غيرها قط، أو خرج معهم فيها أو كان له فيها موقف؟.

(1/80)


فمثل مواقف علي لا تخفى على الأُمَّة إلا كما لم تخف مواقفه في بدر، وأحد، وحنين، وقريضة، والنظير، وسلع، وخيبر، والخندق، التي قد فهمتها الأُمَّة، وقيلت فيها الأشعار، وتواترت فيها الأخبار، ونقلها الرواة من جميع الأُمَّة مخالفها وموالفها نصدِّق قولكم على فعلكم.
وأمَّا قولكم إنه قال:(آخذ إذا أعطاني). فما حجتكم على من خالفكم فقال: قد كان لعلي في العطاء سهمان؛ سهم في القرابة، وسهم في الهجرة، ولسائر الخلق لأبي بكر فَمَنْ دونه لِكل سهم لا غير؟
فإن دفع أبو بكر حقاً هو له فليس لأبي بكر في ذلك الحُجَّة على عليٍّ في أخذه حقاً هو له؛ بل الحُجَّة لعليّ والمنَّة في ذلك على أبي بكر إذ قبل حقاً هو له منه؛ لئلا يبقى إصراً في عنقه.
وقولهم:(أجلد بين يديه الحدود). فما حجتهم على من خالفهم فقال: لم يقل أحدٌ من الأُمَّة أن علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ جلد بين يدي أبي بكر أحداً قط، ولا بين يدي عمر، ولا بين يدي عثمان إلا الوليد بن عقبة بي أبي معيط ابن عم عثمان وأخاه لأُمِّه، فإنه وقع عليه حدٌ لله عَزَّ وَجَلَّ كره عثمان إنفاذه، وتحاماه المهاجرون والأنصار، وكره أحد أن يضربه كراهية أن يسوء عثمان بذلك، فلما أمكن أمير المؤمنين ذلك رأى ألا يضيع حداً من حدود الله عند إمكانه، فأخذ السوط فضربه.
فقل للخوارج ولغيرهم من أشكالهم: فتخبروا من جلد علي بين يدي أحد منهم حتى نُصدِّق قولهم عليه.

(1/81)


ولقد علمت الأُمَّة بأجمعها أن أبا بكر وعمر وعثمان قد استعملوا أقاربهم وغير أقاربهم على مواضع شتى مثل قنفذ بن خالة أبي بكر، وخالد بن الوليد، وأبي موسى الأشعري، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي سفيان بن الحارث، وعمرو بن العاص، ويعلى بن منية، وأبي سرحة بن أبي معيط، وغيرهم.
ولم يستعلموا علي بن أبي طالب ولا أحداً من أهل بيته، ولا استعانوا بهم في شيءٍ من أمورهم صغيراً ولا كبيراً.
وقد كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يشركه في جميع أموره، ويناجيه في أسراره، ويعده لكل شديدة ونازلة، ويبعثه في البعوث، ويوليه تهامة وغيرها، وأحق من استنَّ بسنة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- واقتدى بفعله من آمَن بالله ورسُله؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}[الأحزاب/21] ، {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ [هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]}[الحديد/24، الممتحنة/6] .
وفي الحديث القائم المشهور عن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:((أيما رجل ولي من أمور المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً هو يعلم أن فيهم خيراً منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) .

(1/82)


ولا خلاف بين الأُمَّة أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الله وقثم والفضل أبناء العباس، وسلمان الفارسي، وأبا ذرِّ الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعَمَّار بن ياسر؛ هؤلاء شيعة علي وخاصته أفضل ممن استعمل أبو بكر وعمر، فما معنى كراهيتهم لعلي وشيعته؟!.
وإن كان قد طلب ذلك منهم فكرهوا فما معنى كراهيتهم؟!.
ففي دون هذا دليل بمرض القلب.
[الدليل على أن علياً (ع) بايع كارهاً غير طائع]
فإن قال [قائل]: فما الدليل أن عليًّا بايع كارهاً غير طائع.
قلنا: الرواية المشهورة المجتمع عليها؛ من ذلك ما روى أبو بكر محمَّد بن الوليد عن ابن دأب - وهما علمان من أعلام العامة، وهما من المخالفين لنا ولكم -: أن علي بن أبي طالب حمل فاطمة ابنة رسول الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا (أَفْضَلُ) الْسَّلاَمُ، وقد رووا أنه أخرجها على حمار مخطوم بليف فسار بها ليلاً في مجالس الأنصار تطلب منهم النصرة لعليٍّ فكانوا يقولون: يا ابنة رسول الله - رَحِمَكِ اللهُ - سبقت بيعتنا لهذا الرجل، فلو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.
فقال علي: فكنت أدع رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ في بيته لم أجنه وأخرج أنازع الناس سلطانه؟!.
فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، وقد فعلوا ما الله حسيبهم فيه.
فقل للخوارج: ماذا طلبت فاطمة عَلَيْهَا الْسَّلاَمُ غير نقض بيعة أبي بكر.
وما روى أبو بكر محمَّد بن الوليد قال: لما اشتكت فاطمة عَلَيْهَا الْسَّلاَمُ شكواها التي توفيت فيها جاءها أبو بكر يعودها فاستأذن عليها فكرهت أن تأذن له.

(1/83)


فأُخبر أن عليّاً عندها، فأرسل إليه يسأله أن يأمرها أن تأذن له فأذنت، فكلمها فأبت أن تكلمه، فسأل عليًّا أن يأمرها أن تكلمه فكلمته.
وفي رواية أخرى:
قال لها: أعوذ بالله من غضَب الله، ومن غضب رسول الله، وغضب ابنة رسوله؛ غضبانة فأرضي، أم عاتبة فأُعْتِب.
فقالت: ما أزيدك على السلام شيئاً.
فلما توفيت صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهَا حملها عليٌّ في أهل بيتها معه المقداد بن عمرو حليف بني زهرة فصلّوا عليها ليلاً - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهَا - صلَّى عليها العبَّاس بن عبد المطلب.
فسل الخوارج: هذا فعل كاره أم فعل راض؟
السقيفة وبيعة أبي بكر
ومما روى أبو بكر بن الوليد عن ابن دأب قال: خرج العبّاس بن عبد المطلب على الناس قبل أن يُدفن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فوقف عليهم، هذا قبل بيعة أبي بكر، فقال: يا أبا بكر عندك عهد من رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أو أمر؟
قال: معاذ الله؛ لا والله.
فقال: وأنت يا ابن الخطاب؟!.
قال: لا والله.
قال: فهل عند أحد منكم عهد من رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؟
قال الناس: لا.
قال: فاشهدوا أيها الناس. ثم دخل.
قال: واجتمعت الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة ودعت سعد بن عبادة، واجتمع المهاجرون يقولون: لنا الأمر دُونهم.
فخرج أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فلما تَنَشّر عمر للكلام دفعه أبو بكر وقال: على رسلك ستكفى إن شاء الله ثم قُل بعد كلامي ما بدا لك.

(1/84)


قال: فتشهّد أبو بكر وأنصت الناس، فقال بعد كلام كثير: معاشر الأنصار؛ أنتم الذين آووا ونصروا ووازروا رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وأنتم أنصار الله، وأنتم إخواننا في كتاب الله، وشركاؤنا في الدِّين وفيما كُنَّا فيه من الخير.
والله ما كنا في خير قط إلا وأنتم شركاؤنا فيه ، وأنتم أحبُّ الناس إلينا ، وأكرمهم علينا ، وأنتم أحق الناس بإرضائنا.
وأنتم المؤثرون على أنفسهم يوم الخصاصة، والله ما زلتم تؤثرون إخوانكم من المهاجرين قط.
وأنتم أحق الناس ألاَّ يكون انتقاض هذه الأُمَّة واختلافها على أيديكم، وأبعد الناس أن تحسدوا إخوانكم خيراً ساقه الله إليهم، وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة بن الجراح أو إلى عمر بن الخطاب فكلاهما رضيت لهذا الأمر، فكلاهما أراه لها أهلاً.
فقال عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح: ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك، أنت صاحب الغار مع رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ثاني اثنين.
فأطريا في مدح أبي بكر، فقالت الأنصار بعد كلام كثير واختلاف من القول: نحن نحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلاً منكم بايعناه اليوم ورضيناه على أنه إذا هلك اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا هلك اخترنا رجلاً من المهاجرين أبداً ما بقيت هذه الأُمَّة.
فكان من قول عمر بن الخطاب: هيهات! لا يجتمع سيفان في غِمْدٍ.
فأطرأ المهاجرون في الدعاء إلى أبي بكر، فقالوا هذا: منا الأُمراء ومنكم الوزراء.
فقال أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوه.

(1/85)


فقالا: لا والله! ما نتولى عليك هذا الأمر، أنت خليفة رسول الله؛ أبسط يدك نبايعك.
فلما ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحُباب بن المنذر: يا بشير؛ عقتك عقوق، وما اضطرك إلى ما صنعت! أنفست على ابن عمِّك بالأمارة - يعني سعد بن عبادة -؟
ثم قام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذ بقائمة وبادره إليه، فأخذوه منه، فجعل يضربهم بثوبه في وجوههم حتى فرغوا.
وأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطأون سعداً وهو مريض، وقال ناس من أصحاب سعد: لا تطأوه.
فقال عمر: اقتلوا سعداً قاتله الله، إنه صاحب فتنة.
ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأ بطنك حتى أنثر حشوتك.
فقال سعد: أما والله لو أن لي ما أقوى به علي القيام لسمعتم مني في أقطارها وسككها زئيراً يزحزحك وأصحابك. احملوني من هذا المكان.
فحملوه وأدخلوه داره، ثم سألوه بعد ذلك البيعة، فكان سعد لا يُصلِّي بصلاتهم، ولا يجتمع معهم، ولا يقضي بقضائهم؛ حتى هلك أبو بكر وولي عمر.
فلقيه عمر في بعض طريق المدينة وهو على فَرَس وعمر على بَعير فقال: إيهاً يا سعد!.
فقال: إيهاً يا عمر!؟
فقال: أنت صاحب ما أنت صاحبه؟
قال: نعم! ذلك.
قال: أما والله ما جاورني بها جار قط أبغض إليّ جواراً منك.
قال عمر: إنه من كره جوار جاره تحول عنه.
قال: إذاً غيِّر فبشراً لك إنّي لأرجوا أن أخليها إلى من هو أحب إليّ منك ومن أصحابك.
وولَّى، فما لبث إلا يسيراً حتى خرج إلى الشام في أول خلافة عمر فمات بحوران ولم يبايع.

(1/86)


وقال في ذلك الحباب بن المنذر:
سعى ابن الحضير في الفساد لحاجةٍ .... وأسرع منه في الفساد بشيرُ
يظنان أنَّا قد أتينا عظيمةً .... وخطبهما فيما يراد صغيرُ
وما صغرا إلا بما كان منهما .... وخطبهما لولا الفساد كبيرُ
ولكنه من لا يراقب قومه .... قليلٌ ذليلٌ فاعلما وحقيرُ
فيا ابن حضير وابن سعد كلاكما .... بتلك التي تعني الرجال خبيرُ
ألم تعلما لله درّ أبيكما .... وما الناس إلا أكمَهٌ وبصيرُ
بِأنَّا وأعداء النبيء كأَننا .... أسود لها في الغابتين زئيرُ
نصرنا وآوينا النبي وما له .... سوانا من أهل المكّتين نصيرُ
فديناه بالآباء بعد دمائِنا .... وأموالنا والمشركون حضورُ
وكنا له في كل أمر يريده .... سِهاماً حداداً ضمّهنَّ جفيرُ
فكان عظيماً أنني قلت: منهم .... أميرٌ ومنا يا بشير أميرُ

وقال حسان بن ثابت:
لا تنكرنّ قريش فضل صاحبنا .... سعدٍ فما في مقالي اليوم من أودِ
قالت قريش لنا السلطان دونكم .... لا تطمعن بذاك [القول] من أحدِ
قلنا لهم ثوروا حقاً فنتبعه .... لسنا نريد سواه آخر الأبدِ
إن كان عندكم عهد به لكم .... من النبي لكم قلنا من الفندِ
أو لا يكن عندكم عهد فإن له .... من أهل بدر وأهل الشعب من أحدِ
نحن الذين ضربنا الناس عن عرَضٍ .... حتى استقاموا وكانوا بيضة البلدِ
في كل يوم لنا أمر نفوز بِه .... يُعطي الإله عليه جَنَّة الخلدِ
لستم بأولى به منا لأن لنا .... وسط المدينة فضل العِزّ والعددِ
وإننا يوم بعنا الله أنفسنا .... لم نبقِ خوفاً على مال ولا ولدِ
والناس حرب لنا في الله كلهم .... مثل الثعالب تخشى غابة الأسدِ

(1/87)


وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
بني هاشم لا تطمع الناس فيكم .... ولا سيما تيم بن مرَّة أو عدي
وما الأمر إلا فيكم وإليكم .... وليس لها إلا أبو حسنٍ عليّ
أبا حسنٍ فاشدد لها كفَّ حازمٍ .... فإنّك للأمر الذي يرتجى ملي

قال: واجتمعت بنوا هاشم إلى علي بن أبي طالب - كَرَّمَ اللهُ وَجَهَهُ - ومعهم الزبير بن العوام، والعاص بن الربيع زوج ابنة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، والمقداد بن عمرو حليف بني زهرة، واجتمعت بنو زهرة إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن وقاص، واجتمعت بنو أميّة إلى عثمان بن عفان، وكانوا جميعاً في المسجد إلا بني هاشم.
فلما أقبل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح قال لهم عمر: ما لي أراكم حلقاً؟ قوموا فبايعوا أبابكر فقد بايع الناس له.
فقام عثمان وبنو أميّة فبايعوا، وقام عبد الرحمن وسعد ومن معهما فبايعوا.
وقام علي بن أبي طالب ومن معه فدخلوا بيت أنس بن مالك، فأرسل أبو بكر إليهم عمر في عصابة فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم فقالا لهم: قوموا فبايعوا أبا بكر.
فكرهوا، فخرج الزبير بسيفه فقال عمر: عليكم الكلب. فوثب إليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار، وانطلقوا به وبني هاشم فبايعوا، وانطلقوا بعليّ بن أبي طالب وهو يقول:(أنا عبد الله وأخو رسول الله). حتى انتهوا إلى أبي بكر فقالوا: بايع.

(1/88)


فقال: أنا أحق بهذا الأمر؛ لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتُم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بنا وبقرابتنا، وتأخذونه منا غصباً!؟
وقال العباس وعلي لأبي بكر وللأنصار: ألستم زعمتم (للأنصار) أنكم أولى بهذا الأمر لمكان محمَّد عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، وأعطوكم المقادة، وسلَّمُوا لكم الأمر؟
فنحن محتجون عليكم بما احتججتم به على الأنصار: نحن أولى برسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ حيّاً وميتاً، فانصفوا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا ما عرفته الأنصار لكم، وإلا فبوءُوا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال عمر لعلي: أيّها الرجل؛ لست بمتروك أو تبايع.
فقال له علي: احْلِب حلباً لك شطره، اشدد له اليوم ليرده عليك غداً، والله لا أقبل قولك ولا أبايع له.
فقل للخوارج: أليس قد رد أبو بكر على عمر حين استخلفه بعد أن كره ذلك المهاجرون والأنصار عليه وقالوا: وليت علينا فضاً غليظ القلب ماذا أنت قائل لربّك إذا لقيته؟
قال أبو بكر: أبالله تخوفوني؟ أقول له: وليت عليهم خير أهلك.
فقل للخوارج: كيف يكون خير أهل الله وقد عُلِمَ من جهله ما سنوضحه؟
من ذلك ما رواه ابن شهاب قال: حدّثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنّه لما توفي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قام عمر بن الخطّاب فقال:

(1/89)


إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- توفي، وإنّ رسول الله ما توفي، والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم عاد إليهم بعد أن قيل: قُتل.
والله ليرجعنّ رسول الله كما رجع موسى فليقطعنَّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله مات.
وفي غير رواية ابن شهاب، قال: فقال له أبو بكر: يا أبا حفص؛ بلى قد مات رسول الله. أما سمعت الله يقول:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر/30] ؟
قال: وإن هذا لفي كتاب الله؟!.
قال: فضرب الأرض بدرَّته. قال: ومات والله رسول الله.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: أيكون خير أهل الله من جهل أن رسول الله يموت ومن لم يعلم ما في كتاب الله؟
وقل لهم: ألم يشكر عمر لأبي عبيدة مؤازرته له ولأبي بكر وقيامه معهما يوم بيعة أبي بكر، حتّى كان من قول عمر يوم الشورى متلهفاً على أبي عبيدة بعد وفاته:
لو أدركت سالماً مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة بن الجراح ما تخالجني فيهما الرأي.
يزعم أنه لم يخالجه الرأي في سالم، على أن سالماً لما كان لقيطاً لا يُعرف أبوه، ولا في أبي عبيدة لفضيلة كانت له ينال بها الخلافة. إنّ هذا لمن الأعاجيب بَيِّنٌ. وزعم أنّه يخالجه الرأي في علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.
رجع الحديث [عن السقيفة]
قال أبو بكر [لعليّ]: فإن لم تبايعني فلا أكرهك.

(1/90)


قال أبو عبيدة لعليّ: يا ابن عم؛ إنّك حدث السِّن وهؤلاء مشيخة قومك، وليس لك مثل معرفتهم وتجربتهم للأمور، وإنّي لأرى أبا بكر أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالاً، فارض وسلِّم فإنّك إن تعش ويطل بك العمر فإنّك بهذا الأمر خليق به حقيق في فضلك وسابقتك وقرابتك.
فقال علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا معشر المهاجرين؛ الله الله! لا تُخرجوا سلطان محمِّد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، وتدافعوا أهله عن مقامه في الناس؛ فوالله لنحن أحقُّ بهذا الأمر منكم ما كان مِنّا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، القائم بسنّته، المضطلع بأمر الرعيّة؛ فوالله إنّه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الله بعداً.
وفي رواية أخرى عن عبد الله بن يعقوب عن أبي الهيثم بن لهيعة وغيره - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم -:
أنَّ عليّ بن أبي طالب - رَحِمَةُ اللهُ عَلَيْهِ - لزم بيته وكره الخروج عليهم ومعه المقداد وسلمان والزبير، فجاء عمر بن الخطّاب بالحطب والنار ليحرق عليهم أو يخرجوا يبايعوا لأبي بكر.
فلمّا خافوا ذلك خرج عليّ ومن معه فذهبوا بهم إلى أبي بكر فبايعوا.
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أنّ عليّاً - رَحِمَةُ اللهُ عَلَيْهِ - بايع طائعاً غير مستكره.
وفي رواية أخرى: أن عليّاً [عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ] لم يبايع إلا بعد ما توفيّت فاطمة عَلَيْهَا الْسَّلاَمُ بستة أشهر، وذلك لما كان من أهل اليمامة الذي كان من ردتهم فيما زعموا فكره الناس الخروج إذ لم يبايع علي لأبي بكر، ولم يخرج في جهادهم.

(1/91)


فلمّا خشي الناس اضطراب الإِسلام مشى عثمان والمهاجرون والأنصار إلى علي فناشدوه الله والإِسلام فبايع على هذا الباب.
[رواية السلام على علي (ع) بإمرة المؤمنين]
وحديث عبد الله بن بريدة قال: جمع رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سبعة رهط وأنا ثامنهم فقال:((أنتم شهداء الله في الأرض أَدَّيتُم أم كتمتم)).
ثم قال:((قم يا أبا بكر فسلم على علي بإمرة المؤمنين)) .
فقال أبو بكر: أعن أمر لله وأمر رسوله؟
قال:((نعم؛ هو الذي أمرني)).
قال علي: اللَّهُمَّ اشهد.
ثم أمر عمر بن الخطاب فقال مثل مقالة أبي بكر: أعن أمر الله وأمر رسوله؟
قال:((نعم)).
فأتاه فسلَّم عليه، فقال علي: اللَّهُمَّ اشهد.
ثم قال للمقداد بن الأسود. فقال: فلم يقل مثل مقالة الأولين فأتاه - رَحِمَهُ اللهُ - فسلَّم عليه.
ثم قال لأبي ذَرّ فقام فسلَّم عليه، ثم قال لسلمان فقام فسلَّم عليه، ثم قال لحذيفة فقام فسلَّم عليه.
ثم أمرني فقمت فسلَّمت عليه، وأنا أصغر القوم، وأنا ثامنهم.
فلما قُبِضَ رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ وأنا غائب، فلما قدمت وجدت أبا بكر قد استُخلف فدخلت عليه فقلت: يا أبا بكر؛ أما تحفظ تسليمنا على علي بن أبي طالب بأمر رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ بإمرة المؤمنين؟
قال: بلى. فقلت: ما لك فعلت الذي فعلت؟!.
قال: إن الله يحدث الأمر بعد الأمر، ولم يكن ليجمع الخلافة والنبوة في أهل البيت.
وروى عباد بن عبد الله عن عمه المؤَمَّل بن إسماعيل وكانت العامة تسمية سيف السنة - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم - عن رجل قال:

(1/92)


دخلنا المدينة فدخلت مسجد رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فوجدت حَلَقَةً فيها أبي بن كعب حوله المهاجرون والأنصار يسألون عن الحلال والحرام فسألته فلم يجبني، ثم أعدت عليه فلم يجبني، ثم أعدت عليه فلم يجبني.
ثم قلت: سبحان الله! يا أصحاب محمَّد؛ نسألكم فلا تجيبون، فلست أدري أتحسدونا أم تحقرونا؟
فقال القوم: سبحان الله! أتقول هذا لسيد المسلمين أبي بن كعب؟
فقال لهم أُبَي: دعوا الرجل، فلئن سَلِمت إلى الجمعة لأقومنَّ مقاماً، ثم لأقولنَّ مقالاً لا أبالي أقُتِلت فيه أم استحييت.
هلك أصحاب العقيدة، هلك أصحاب العقيدة، أما إنِّي لا أبكي على ما ضيعوا من أمر دينهم ولكن أبكي على ما ضيعوا من أمر دين محمَّد.
قال الرجل: فلما كان يوم الخميس غدوت إلى المدينة لأشهد المقام وأسمع المقال، فوجدت أهل المدينة بين حزين وباك، فقلت لرجل بجنبي: هل حدث بالمدينة حدث؟
فقال لي: كأنك غريب؟
فقلت له: أجل.
قال: هلك سيد المسلمين أُبَي بن كعب.
فقلت في نفسي: سُتِر على الرجل.
فقل للخوارج ومن قال بمقالتهم: ما كان أُبَي يخاف في ذلك الوقت بقتله إن أقام المقام، أو قال المقال؛ وإنما كان في عصر أبي بكر وفيه هلك.
وسلهم عن أصحاب العقيدة، ومن عنا أنه لا يبكي على ما ضيعوا من أمر دينهم، ولكنه يبكي على ما ضيعوا من أمر دين محمَّد صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلَّم.

(1/93)


ويروون ما ذكرنا من رواية العامة يدل على كراهية علي - رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ -لمبايعتهم، والغزو معهم، والدخول في شيءٍ من أمورهم، وهجران فاطمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لأبي بكر، وقُبران عليٍّ إيَّاها ليلاً، وتمريضها سرًّا، وإخفاء قبرها - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - عليهم لو فهم وعقل.
[امتناعه عليه السلام عن مجاهدة الخلفاء الثلاثة]
وقد روى شريك بن عبد الله قاضي البصرة قال: قال الأشعث بن قيس لعلي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: إنك لم تقم فينا مقاماً قط منذ وليت هذا الأمر إلا وأنت تقول: والله ما زلت مظلوماً منذ قبض الله نبيه عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ.
فما منعك أن تضرب بسيفك دون ظلامتك؟!.
قال: يا أشعث! ما يمنعني من ذلك ما منع هارون إذ قال لموسى:{[يَبْنَؤُمَّ] لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}[طه/94] ، وكان قول موسى لهارون: إن ضلَّ قومي واتبعوا غيرك فجاهدهم ونابذهم، فإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك، واحقن دمك.
فكففت يدي وحقنت دمي أن يقول لي أخي: ألم أقل لك: إنك إن لم تجد أعواناً فاكفف يدك، واحقن دمك ؟ ولو أمرني بمجاهدتهم وحدي لجاهدتهم وحدي.
وقد روى أهل العلم من غير جهة أن هارون كان في ستمائة ألف، فأخبر الله بعذره في كتابه إذ يقول:{إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}[الأعراف/150] .

(1/94)


فإن قالت الخوارج: وكيف يخاف علي أن يقتله أبو بكر أو غيره من المهاجرين والأنصار وقد زعمتم أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أخبر أن عبد الرحمن بن ملجم يقتله؟ فزعمتم أن علياً كان يقول إذا نظر إليه في عسكره أو جاء لأخذ عطائه:
أريد حياته ويريد قتلي .... عذيرك من خليلك من مراد
أما والله لتخضبنَّ هذه من هذه، وأشار إلى لحيته ورأسه.
فلما كان في الليلة التي زعمتم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أخبره أنه يقتل فيها بات ليلته يصلي إلى أن كان عند طلوع الفجر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وهو في ذلك يختلف ويتمثل ويقول - رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانهُ:
أشدد حيازيمك للموت .... فإن الموت لاقيك
ولا تجزع من الموت .... إذا حلّ بواديك
قالت له ابنته أم كلثوم: يا أبة؛ لطال سهرك ليلتك هذه وتمثلك بهذا البيت؟
فقال لها رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا بنية؛ هذه آخر ليلة من الدنيا، وأول ليلة من الآخرة.
فخرج عند طلوع الفجر فلقيه ابن ملجم - عليه لعنة الله وسخطه - فقتله.
فقل للخوارج: أليس قول النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لعليّ:((أكفف يدك واحقن دمك)) لحجة على علي؟
ولا يوقع عليه القتل؛ إذ كان عليٌّ قد علم أن ابن ملجم يقتله، فقد كان النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قد علم أن المشركين لا يقتلونه؛ لأن الله تبارك وتعالى قد أخبره أنه ميِّت وأنهم ميتون، ولم يقل: إنك مقتول.

(1/95)


وقد حذّره الله القتل فأمره بالهرب إلى الغار، وذلك ما روى حفص بن عمر عن وكيع بن الجراح، عن ربيع بن صبيح عن عَنبسة الحداد عن مكحول:
عن ابن عباس قال: لما أجمع المشركون من قريش على قتل رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ اجتمعوا في دار بمكَّة يقال لها دار الندوة، فأجمعوا أمرهم على قتله.
[فـ]ـنزل عليه جبريل عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ فقال له :(يا محمَّد؛ إن الله يقرئك السلام ويقول لك: إن المشركين قد ائتمروا بقتلك فاخرج من مكَّة فإن فيها قتلك إلا ما شاء الله). فهرب إلى الغار - عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ - فاختفى فيه.
فقل للخوارج: لم جوَّزتُم لرسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ الإمساك عن المشركين فلم يقاتلهم وقد علم أنهم لا يقتلونه، ولم تجوِّزوا لعلي الإمساك عن أبي بكر وقد علم أنه لا يقتله؟
فإن قالوا: إن الله أمره بذلك.
فقل: وإن رسول الله أمر علياً بذلك، مع أن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب/21] ، فأي شيءٍ أحسن عند الله ممَّن اقتدى برسوله واتبع سنته؟
ومن ذلك ما روى طلحة بن عبيد الله، وكان داهية قريش؛ إذ قال لعلي بن أبي طالب: إنِّي سمعتك تقول يوم بويع أخو تيم تعدد فضائلك ومناقبك، فقام عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فشهدا أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:((إنَّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا فلم يكن ليجمع لنا الخلافة مع النبوة)) .

(1/96)


فقال علي بن أبي طالب: يا طلحة بن عبيد الله؛ قد قلت فاسمع: إنَّا والله لئن كان رسول الله صلى الله عليه وعلى أهل بيته قال هذا القول ما خلق الله قوماً شرًّا منكم يا أصحاب الشورى؛ إذ أدخلتموني في أمر زعمتم أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قال ليس لنا فيه شيءٌ.
ولئن كانا شهدا على رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- زوراً لقد خاب وأثم من قال الزور، فأيهما تقول؟
فما رد عليه حرفاً.
ومن ذلك: قول عمر بن الخطاب وشهادته على أبي بكر يوم وفاته وشهادته لعلي يوم الشورى دليل على أن بيعة أبي بكر كانت عنده خطأ وأن الحق في بيعة علي.
فأمَّا شهادته على أبي بكر فقوله عند وفاته إذْ وُلِّي الأمر فقام خطيباً فقال: أيها الناس؛ إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه.
وشهادته لعلي يوم الشورى: أما إنكم إن تولوها أصلع بني هاشم يحملكم على المحجة البيضاء ولو بالسيف - يعني علياً -.
وقوله حين أُغمي عليه: أما إنِّي لو أردت أن أولي عليكم رجلاً هو أحرى أن يحملكم على الحق ويهديكم الصراط المستقيم - وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب - غير أني قد رأيت في عشيتي هذه رؤيا والله بالغ أمره، ورأيت كأنِّي غرست جَنَّة فدخلها رجل فجعل يقطف كل غَضّة ويانعة وهو يجعلها تحت إسته؛ فأجعلها شورى.
ومن ذلك: أن عليّاً كان يدعي أنه وصي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وإنكار أبي بكر أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف يدل على قوليهما جميعاً.

(1/97)


[فضائله(ع)]
[علمه عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ]
ورواية العامة من الخوارج وغيرهم من المخالف والموافق قول أبي بكر: اللهمَّ إنِّي أقول في الجد برأيي فإن أخطأتُ فمن نفسي وإن أصبتُ فبتوفيقك.
وقوله: وليتكم ولست بخيركم.
وقوله: أقيلوني بيعتي.
فهذا سواءٌ ومن يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لقد علّمني رسول الله كل شيءٍ، حتى لقد علّمني أرش الخدش.
وقول أبي بكر: وليتكم ولست بخيركم، وقوله: أقيلوني بيعتي، فقالوا: لا نقيلك ولا نستقيلك.
وقوله: إن لي شيطاناً يعتريني؛ فإذا أنا مِلْت فقوّموني، وإذا ما رأيتموني مغضباً فجنبوني لا أميل بأشعاركم وأبشاركم.
فأخبر أنه يقول ما لا يعلم، وأنه ليس بخيركم، وأن له شيطاناً يعتريه.
وقال الله تبارك وتعالى:{بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة/14] ، وقد قال في نفسه ما هو به أعلم مِمَّن شهد له عليها.
وأمَّا قول علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بشهادة الخلق له برواية من يشير إليه الخوارج وغيرهم بالثقة من جهة المخالف لنا ولهم قول عليٍّ على منبر الكوفة: والله لو تبعتموني ما عال عائل الله، ولا طاش سهم من كتاب الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، ولأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم.
وقوله في غير موطن: لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم حتى يزهر، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى يزهر، وبين أهل الزبور بالزبور حتى يزهر، وبين أهل الفرقان بالفرقان حتى يزهر.

(1/98)


وقوله في غير موطن: سلوني قبل أن تفقدوني فإن بين الجوانح مني علماً جمًّا غرني به رسول الله غراً؛ فوالله لأَنا بطرق السماء أعلم من العالم منكم بطرق الأرض، وما نزلت آية من كتاب الله في ليل ولا نهار، ولا سهل ولا جبل إلا وأنا أعلم فيما أنزلت وفيما نزلت.
وسلوني قبل أن تفقدوني؛ فوالله ما من فتنة يهلك فيها مائة وينجو فيها مائة إلا نبأتكم بقائدها، وسائقها، وناعقها؛ إلى يوم القيامة.
وقول النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ فيه:((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها)) .
وقوله للخوارج خاصة والمسلمون حضور: تجدون من لو دفعت إليه هذا الأمر الذي تطلبونه بغير قتال أكان يحسن يحكم بكتاب الله؟
قالوا: لا.
قال: أفيكم من لو دفعت هذا الأمر إليه من غير قتال أيضع أموال الله في عباد الله حتى لا يضيع منها درهماً إلا حيث أمر الله به؟
قالوا: لا.
قال: فمن أعجب من قوم يطلبون أمراً بقتال إن دُفع إليهم بغير قتال لم يحسنوه؟
قالوا: فنسألك بالله أعندك علم ممَّا سألتنا عنه؟
قال لهم: نعم؛ وما سألتكم عن شيءٍ إلا وقد علّمنيه رسول الله صلى الله عليه وآله.
هذا روايتكم عنهما جميعاً، وفيهما ولهما بإقرارهما على أنفسهما، والله جل ثناؤه يقول:{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[يونس/35] ؛ فالهادي إلى الحق أحق أن يتبع.

(1/99)


[مجموع ما رواه أبو بكر واحداً وعشرين حديثاً]
وقد روت العامة أن جميع الأحاديث المسندات التي رويت عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- روى أبو بكر من ذلك إحدى وعشرين حديثاً قد أثبتناها في كتابنا هذا بإسنادها؛ منها:
[1-] حديث عكرمة عن ابن عبَّاس قال أبو بكر: يا رسول الله؛ إنَّا إذا كنا في بعض ليل سمعنا وجبة، فإذا أصبحنا أبصرنا بقولنا مقدوراً؟
فقال:((ذلك شيطان يكيدكم، فإذا أنت سمعته فقل: بسم الله أجب رسول الله. فإنك ستلزمه)).
فلزمته، فقال: دعني فإنِّي لا أعود.
فتركته، وأعلمت رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ بذلك فقال:((كذلك يا أبا بكر سيعود)).
قال أبو بكر: فلما أن كان في بعض الليل سمعنا وجبة فقلت: بسم الله أجب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فلزمته، فلما أقبلت أريد به رسول الله حلف لي أنه لا يعود، فتركته.
فلما أصبح غدوت إلى رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فأخبرته بما حلف لي أنه لا يعود، فقال:((كذلك يا أبا بكر إنه سيعود، إذا أخذته فلا تقبل منه يميناً)).
قال أبو بكر: فلما كان في بعض الليل سمعت وجبة فقلت: بسم الله أجب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فلزمته أريد به رسول الله عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ، فلما رأى ذلك قال: دعني؛ فأنا أخبرك بالذي يمنعنا من دخول بيوتكم: هذه الآية:{إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}[الأعراف/54] إلى قوله:{[تَبَارَكَ] اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف/54] .

(1/100)


[2-] وحديث عمرو بن حريث عن أبي بكر قال: حدثنا رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((أن الدجال يخرج من أرض المشرق يقال لها: خراسان يتبعه قوم كأن وجوههم المجان المطرقة)).
[3-] وحديث موسى بن سباع قال: سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأنزلت هذه الآية:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}[النساء/123] .
فقال له رسول الله عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ:((يا أبا بكر؛ ألا أقرئك آية نزلت عليَّ؟)).
فقلت: بلى يا رسول الله فاقرأنيها.
فلا أعلم إلا أنِّي وجدت انقصاماً في ظهري حتى تمطأت لها.
فقال [له] رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((ما لك يا أبا بكر؟)).
فقلت: يا رسول الله؛ [بأبي أنت وأمي]، وأينا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بكل [سوءٍ] عملنا؟
فقال رسول الله:((أمَّا أنت [يا أبا بكر] وأصحابك المؤمنون فتجزون في ذلك في الدنيا حتى تلقون الله ليس لكم ذنوب، وأمَّا الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزون به يوم القيامة)).
[4-] وحديث واسط النجار عن أبي بكر قال: سمعته يخطب فقال: إن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قام عام الأول مقامي ، وبكى أبو بكر، فقال:((نسأل الله العفو والعافية؛ فإن الناس لم يعطوا بعد اليقين شيئاً خيراً من العافية.
وعليكم بالصدق فإنه في الجَنَّة، وإيَّاكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار.

(1/101)


لا تقاطعوا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله به)).
[5-] وحديث أسماء بنت الحكم الفزاري قالت: سمعت علياً [عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ] يقول: كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله [-صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-] حديثاً ينفعني الله بما شاء أن ينفعني به، وإذا حدثني أحد من الصحابة استحلفته، فإذا حلف [لي] صدقته.
وإنَّه حدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، أنه سمع رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ يقول:((ما من عبد مؤمن يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي فيستغفر الله إلا غُفِرَ لَهُ)).
[6-] وحديث مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر، عن أبي بكر، عن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:((لا نُورَثُ ما تركناه صدقة)).
[7-] وحديث ثابت بن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ونحن في الغار: (يا رسول الله)؛ لو أن أحدهم نظر إلى قدميه [أبصرنا تحت قدميه!].
قال:((يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)).
[8-] وحديث مرة الطيب عن أبي بكر، عن النبي صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قال:((لا يدخل الجَنَّة سيء الملكة)).
[9-] وحديث عبد الرَّحمن بن القاسم عن أبيه قال: وَلَدَت أسماءُ محمَّد بن أبي بكر بذي الحليفة، فرفع ذلك أبو بكر إلى النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ فقال:((مُرها فلتغتسل ولتهلّ)).
[10-] وحديث أبي مليكة عن عائشة، عن أبي بكر: أن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان يدعوا:((اللَّهُمَّ خِر لي واختَر [لي])).

(1/102)


[11-] وحديث أبي رجاء العطار وأبي مرة قال:سمعت أبا بكر على المنبر يقول: سمعت رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يقول:((الوالي العادل المتواضع ظل الله وفيّه في أرضه، فمن نصحه في نفسه وفي عباد الله حشره الله في وفده يوم لا ظل إلا ظله، ومن غشه في نفسه وفي عباد الله خذله الله يوم القيامة)).
[12-] وحديث منصور عن أبي ليلى، عن أبي بكر قال لطلحة بن عبيد الله: ما لي أراك واجماً؟
قال: كلمة سمعتها من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنها موجبة، [فلم أسأله عنها].
قال: أنا أخبرك [عنها بما سمعته] يقول: ((لا إله إلاَّ الله)).
[13-] وحديث عبيد بن عمير [قال:] قال أبو بكر: عهد إليَّ رسول الله أنه ليس من نبي يموت إلا دفن في موضعه.
[14] وحديث هلال بن الصلت أن أبا بكر قال: قال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((ولله سورة يس تدعى في التوراة المُعِمَّة، قال: تَعُمّ صاحبها بخير الدنيا والآخرة، وتكابد عنه أنواع البلاء، وتدفع عنه أهاويل الآخرة.
وتدعى الدافعة القاضية؛ تدفع كل سوءٍ، وتقضي له كل حاجة.
من قرأها عدلت (له) عشرين حجة، ومن سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل الله، ومن كتبها ثم شربها دخل جوفه ألف دواء، وألف نور، وألف يقين، وألف بركة، وألف رحمة، ودفعت عنه كل غِلٍّ وداء)).
[15-] وحديث عبد الرَّحمن بن أبي ليلى (عن أبي بكر) قال: قال رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((رأيت في المنام غنماً سوداً تتبعها غنم عُفر حتى غمرتها، يا أبا بكر أعبر!!)).

(1/103)


[قال:] قلت: هي العرب تتبعك ثم العجم.
قال:((كذلك عبرها الملَك سَحَرا)).
[16-] وحديث أبي طلحة بن مصرف عن أبيه، عن أبي معمر، عن أبي بكر: عن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ [قال]:((من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بُنِي له بيت في الجَنَّة)).
[17-] وحديث أبي هريرة قال: قال أبو بكر: يا رسول الله؛ قل لي شيئاً أقوله إذا أصبحت، وإذا أمسيت.
قال:((قل: اللَّهُمَّ عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض ربّ كل شيءٍ ومليكه، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطان وشرّ كيده)).
فأمره أن يقولها إذا أصبح وإذا أخذ مضجعه.
[18-] وحديث أبي سيار ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل: عن أبي بكر، قال: سألت رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ عن الإزار؟ فأخذ بوسط العظلة، فقلت: زدنا يا رسول الله. فأخذ بمقدم العظلة، فقلت: يا رسول الله؛ زد.
فقال:((لا خير في أسفل من ذلك يا أبا بكر)).
فقلت: هلكنا والله يا رسول الله.
قال:((كلا؛ قارب وسدِّد يا أبا بكر تنجو)).
[19] وحديث عبد الرَّحمن بن أبي ليلى - أيضاً -: قال أبو بكر: أخذ بيدي النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؛ فمررنا بخباءٍ لأعرابية عجوز، فجلسنا قريباً منه، فرفعَت جانب الخباء ثم قالت: يا هذان؛ إن كنتما تريدان القِرى فعليكما بعظم الحي.
فسكتنا عنها، فلما أن كان مع المساء جاء ابن لها يفعة بأعنز، فدفعت إليه الشفرة وعنزاً، فأتانا بها وقال: أمِّي تقرئكما السلام وتقول: إذبحا وكلا وأطعمانا.

(1/104)


فقال له النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((أردد الشفرة، وأتني بقعب أو قدح)).
فقال: يا هذان؛ إنّ غنمنا قد عُرزت.
فقال:((ائتني بها)).
فأتاه بها، فمسح على ضرع العنز فحلب حلباً حتى ملأ القدح فقال:((انطلق به إلى أمِّك وائتني بأخرى)).
فأتاه بها، فمسح على الضرع فحلب حتى ملأ القدح فسقى الغلام، ثم أتى بأخرى فمسح الضرع فحلب حتى ملأ القدح فسقاني، ثم حلب فشرب.
قال: فَنَمَتْ غنم المرأة وكثرت، وأقبلت تقول: منذ رأينا المبارك، ومنذ مَرَّ بنا المبارك.
فقامت: فسلمت عليَّ، وقالت: يا هذا؛ من الرجل الذي كان معك، فوالله ما زلنا ننظر في خير منذ رأيناه؟
فقلت: ذلك رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
قالت: فدلني عليه.
فانطلقَت معي، وأهدت له شيئاً من إقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، ولا أعلمها إلا وقد أسلمت.
[20-] وحديث معقل بن يسار، عن أبي بكر قال: قال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((الشِّرك أخفى عليكم من دبيب النمل والذرَّة، ولكن سأدلك على ما يُذهب صغارَ الشرك وكباره، أن تقول عند الصبح: اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك بما لا أعلم)).

(1/105)


[في عدم احتياج الأُمَّة لعلوم أبي بكر]
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: هل يستقيم في المعقول، أو يحتمل في المجهول لرجل يَسُوس أمر أُمَّة محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يحفظ غير هذه الأحاديث، على أن الأُمَّة تحتاج إلى معرفة ما افترض الله عليها من الصلاة وتحليلها وتحريمها، والقول في ركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها، وعلى ما فيها من سهو وغير ذلك وما يجب فيه؟
وإلى معرفة ما افترض الله عليها من الزكاة في أموالها من المال الصامت والحلي؟
وما يجب في الإبل والبقر والغنم، وأصناف الحبوب؟
وما يجب على المسافر فيه، وفي كم يجب القصر؟
وإلى معرفة الحج وطوافه، وسعيه، والقول عند جميع المواقف، ورمي الجمار، والذبح، والحلاق، وما يُقدِّم وما يُؤخِّر، ومن أخر ما تقدم، وجميع علل ذلك؟ وما يجب على صاحبه مما لا يجب؟
وإلى معرفة الطلاق، والإيلاء، والظهار، ومن طلَّق لغير العدة، ومن طلَّق واحدة، ونصف واحدة، وثلث واحدة، وربع واحدة؟ وما يجب في ذلك، وما يجوز منه مما لا يجوز؟
وإلى معرفة المواريث والفرائض والأحكام في الدِّيات، والقصاص، والأرش، والحدود، وغير ذلك؟ وما يجب فيه وما لا يجب؟

(1/106)


فأي هذه الأحاديث بها يعلم حكم جميع ما تحتاج إليه الأُمَّة مما قد وصفنا حتى تستغني به الأُمَّة عمَّن سواه؟! على أن أبا حنيفة، وزفر، وابن أبي ليلى، ومحمَّد بن الحسن، وجميع من قال برأيه، وجميع النقالة للأحاديث ممن ينسب إلى الستة وغيرهم مثل سفيان الثوري، وسعيد القداح، وابن جريح، وعطاء، ومالك، وغيرهم، قد وضعوا من الأحاديث فيما نزل وفيما لم ينزل من الجوامع وغيرها مما لا يحيط به علم، ولا تشتمل عليه بصيرة بصير.
فإن كان يستقيم في المعقول أن يستحق الخِلافة أقل الناس علماً وأقلهم رواية عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للعلم جاز أن يكون عالم حديث واحد أحسن استحقاقاً للخِلافة من عالم حديثين، وعالم حديثين أحق من عالم ثلاثة، وعالم ثلاثة أحق من عالم أربعة، وهذا مما لا تحتمله العقول..
غير أن الذي تشهد عليه العقول وتستقيم عليه الأذهان عند جميع الخلق موافقهم ومخالفهم: أن عالم مائة حديث أحق وأولى بالخِلافة من عالم عشرة أحاديث، وعالم ألف حديث أحق وأولى من عالم مائة حديث، وعالم العلم كله حلاله وحرامه، وعلم ما يحتاج إليه الخلق مما قد نزل وما هو نازل تشهد له الأُمَّة بأنه كان يدَّعي ذلك أحق وأولى بالخلافة؛ لأن هذا لا تنكره القلوب؛ لأن الأمَّة نقلت عن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، وسُئِل من يَؤُم القوم إذا اجتمعوا؟
فقال:((أقرأهم لكتاب الله)).
قال: فإن كانوا في القراءة سواء؟ ((فأفقههم في الدين)).
قال: فإن كانوا في الفقه سواء؟
قال:((فأعلمهم بالسُّنة)). قال: فإن كانوا في [السنَّة] سواء؟ ((فأقدمهم هجرة)) .

(1/107)


[مسألة حول حديث : ((أرأفُ أمتي بأمتي أبوبكر))...]
(مسألةٌ) فإن قالوا: فإن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قال:((أرأف أمَّتي بأمَّتي أبو بكر، وأقوى أمَّتي على أمَّتي عمر، وأقضاهم عليٌّ، وأفرضهم زيدٌ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ومن أحب أن يقرأ القرآن غضاً جديداً فليقرأه بقراءة [ابن أم عبد])) .
(الجواب) فقل للخوارج وغيرهم: نحن نجد الأُمَّة تحتاج إلى القضاء وإلى الفرائض، وإلى معرفة الحلال والحرام، والقرآن، وهذا جميع الدين.
فهي تحتاج إلى علي [عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ]في القضاء، وإلى زيد في الفرائض، وإلى معاذ في الحلال والحرام، وإلى [ابن أم عبد] في القرآن، ولا نجد الأمَّة تحتاج إلى أبي بكر ولا عمر في شيءٍ من أمور الدين أكثر من الرأفة والقوة، وهما أقل شيء عائدة على الخلق.
فأخبرونا عن حاجة الخلق إليهما في دين الله ما هو؟! فإن الذي ذكرنا لا غِنى بالخلق عنه.
فإن قالوا: فإن زيداً أولى بالخلافة من علي؛ لأن الخلق يحتاجون إليه للفرائض، وفيها مواريثهم.
ومعاذ أولى بالخلافة من علي؛ لأن الخلق يحتاجون إليه لمعرفة الحلال والحرام، وفي معرفتهما طلب ثواب الله [تعالى]، والخوف لعقاب الله.
[وابن أم عبد] أولى بالخلافة من علي لمعرفة القرآن؛ لأن فيه الأمر والنهي، وما يحتاج الخلق إليه؟!.

(1/108)


فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: هذان رجلان قد سقطا عن الخلافة لغنى الخلق عنهما بإقراركم، وحاجة الخلق إلى هؤلاء [للذي فيهم]، ونحن مناظروكم فيهم وفي علي بن أبي طالب ليعلم [أيهم] أولى بالخلافة..
قد أقررتم أن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قال:((أقضاكم علي)) ، ولا اختلاف بين الأُمَّة أن القاضي لا يكون قاضياً إلاّ وهو عالم بالحلال والحرام، فمتى اختلف اثنان في حلال وَحَرام قَضَى بينهما في تلك الفريضة.
ولا يكون قاضياً إلاّ وهو حافظ لكتاب الله، فمتى اختلف اثنان في شيءٍ من كتاب الله قضى بينهما في ذلك، فإن لم يكن عالماً بهذا كله وإلا فبماذا يقضي؟!
وقد نراه انتظم هذه الأشياء وشرَّكهم فيها ولم يشرِّكوه في القضاء؛ لأن القاضي هو الحاكم.
وقد أمر الله الخلق أن ينقادوا إلى الحاكم الذي قد جمع له هذه الأشياء وهو قوله تبارك وتعالى:{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء/65] .
وقال:{[فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ] بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}[المائدة/48] ، و{بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}[النساء/105] ، وقال:{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[يونس/35] ؛ فأخبر الله تبارك وتعالى أنهم لا يؤمنون حتى يُحكِّموا رسوله فيما شجر بينهم.

(1/109)


ثم قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء/59] ؛ فأخبر أن طاعة ولي الأمر طاعة رسوله، وطاعة رسوله طاعة الله، والحاكم الله ورسوله وولي الأمر، يقول الله عَزَّ وَجَلَّ:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء/59] .
[الجواب على من قال: إن الشيعة كفَّرت أصحاب رسول الله(ص)]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: إن الشيعة كفَّرت أصحاب رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ.
وزعموا أنهم عصوا الله ورسوله إذ أمرهم بولاية علي فلم يطيعوه.
وزعموا أنه لو أمرهم لأطاعوه وما عصوه؛ لأنهم معصومون ، ولا يقع عليهم الخطأ ولا العصيان لما قد أنزل الله فيهم.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: ما الذي أنكرتم من قول من قال: إن المهاجرين والأنصار أخطؤوا وعصوا ولم ينكروا قول الله تبارك وتعالى في أنبيائه ورسله، فأخبر بخطئهم وعصيانهم في كتابه المنزل على نبيه المرسل؛ منهم صفوة الله من خلقه؛ خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جَنَّته، وأسجد له ملائكته، أمره ألا يقرب الشجرة فعصاه فأخرجه من جواره، ونوَّه به بعصيانه [لربِّ العالمين] إياه فقال فيه:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه/121] .

(1/110)


فآدم عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ خير من المهاجرين والأنصار، مع أنه تبارك وتعالى قد أخبر بعصيانهم لربِّ العالمين؛ إذ يقول:{[وَلَقَدْ] صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ }[آل عمران/152] ولم يقل:(وأطعتم).
فإن أنكرتم هذا فحوِّلُوه من المصاحف وصيِّرُوه (وأطعتم).
ثم أخبر بعد العصيان فقال:{مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران/152] - إلى [قوله]:{مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ}[آل عمران/154] ؛ فأخبر تبارك وتعالى بعصيانهم وتوليهم عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وبأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وأنهم يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لرسول الله.
فقل للخوارج: هل وبَّخ الله تبارك وتعالى آدم إذ عصاه [بمثل ما] وبَّخ فيه القوم إذ عصوا رسوله؟.
فإذا كانوا قد عصوا رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ في حياته فكيف يُؤمن منهم العصيان بعد وفاته؟!.
فإن قالوا: لا يجوز عليهم الخطأ ببيعتهم؛ لأن فيمن بايعه - زعموا - أخيار أصحاب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ منهم: سلمان الفارسي وكان يقرأ التوراة والإنجيل والقرآن وينتظر خروج النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

(1/111)


ومنهم: أبو ذر الغفاري الذي قال فيه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق عند الله من أبي ذر)).
ومنهم: عمَّار بن ياسر الذي قال فيه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((خليلي في الله عمَّار بن ياسر))، و((ربّ ذي طمرين لا يُوْبَهَ له لو أقسم على الله لأبر قسمه)).
ومنهم: أبو عبيدة بن الجراح الذي قال فيه رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ:((أبو عبيدة أمين هذه الأُمَّة)).
ومنهم: طلحة بن عبيد الله، والزبير. ولم يذكروا لهما فضيلة لعلَّة بينهم، ونحن مجيبوهم على هذا إن شاء الله تعالى.
(الجواب): فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: ما حجتهم على من خالفهم فقال: أخطأ القوم جميعاً؛ إذ ولَّوا رجلاً لم يأمنه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على أن يبلّغ عنه سورة من كتاب الله يقرأها على الناس يوم الحج الأكبر حتى أرسل خلفه علي بن أبي طالب فأخذها منه، وتركوا أبا عبيدة بن الجرَّاح الذي - زعموا - أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:((أبو عبيدة أمين هذه الأُمَّة))؟!
فما عذرهم عند الله عَزَّ وَجَلَّ إذ تركوا الأمين واستخلفوا غير الأمين؟
وما حجتهم على من خالفهم فقال: أخطأ القوم إذ تركوا رجلاً كان يقرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وولوا رجلاً لم يكن يقرأ القرآن، ولم يحفظه، ولم يؤلفه إلاَّ من أفواه الرجال وشهادة الشهود؟

(1/112)


وما حجتهم على من خالفهم فقال: أخطأ القوم إذ ولَّوا رجلاً قال:(وليتكم ولست بخيركم) أنه يقول بما لم يعلم، وتركوا أبا ذر الذي قال فيه النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق عند الله من أبي ذر))؟
وما حجتهم على من خالفهم فقال: أخطأ القوم إذ ولَّوا رجلاً كان يدعو إلى بيعة من كانت بيعته فلتة وقى الله المسلمين شرها، وتركوا عمَّار بن ياسر الذي قال فيه رسول الله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ:((موعدكم آل ياسر الجَنَّة))، و((مالهم ولعمَّار يدعوهم إلى الجَنَّة ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار))؟
فمن أضعف حجة، أو أسخف رأيا، وأبين خطأ من قوم يحتجون ببيعة هؤلاء لرجل ليس له من الفضائل ما لهم، ولا يعدُّوا له من المناقب ما لهم؟! [مع] معرفتهم ومعرفة الخلق ممن يفهم الحديث أن هؤلاء الذين احتجت بهم الخوارج أنهم كانوا شيعة علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خاصة دون الخلق، والقائمين بحجته، والدَّاعين إلى بيعته وقت بيعة أبي بكر، وبعد ذلك.
وأنهم كانوا معه في منزله يوم بيعة أبي بكر حين كرهوا البيعة وسألوه الخروج عليهم، حتى خرج الزبير بسيفه وكره إلاَّ بَيْعَة علي حتى كُسِر سيفه.
وأمَّا سلمان الفارسي فلم يبايع فوجئت عنقه، وكان من قوله:(كرداد وتكرداد) أي علمتم ولم تعملوا.

(1/113)


[الوصية في أحاديث الصَّحابة وكلام يدل على أن سلمان وأبا ذر وعمار بن ياسر من شيعة علي (ع)]
وروى في ذلك المخالف لنا ولكم من العامة عن أبي إسماعيل الكوفي عن زاذان عن سلمان الفارسي أنه قال في خطبته بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
(أمَّا بعد): أيُّها الناس؛ فإنِّي قد أوتيت علماً، ولو أنِّي أخبركم بكل ما أعلم لقالت طائفة منكم: مجنون. وقالت طائفة أخرى: رحم الله قاتل سلمان. ألا وإن لكم منايا تتبعها بلايا، ألا وإن عند علي بن أبي طالب علم المنايا والبلايا، وفصل الخطاب، وهو على سُنَّة هارون بن عمران حين قال له رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((أنت خليفتي ووصيي في أهلي، وأنت مني كهارون من موسَى)).
إنما وَاللهِ لو ولّيتموها عليّاً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم فابشروا بالبلاء، واقنطوا من الرخاء، فقد نابذتكم على سواء، وانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء.
أما والله لو أعلم أنِّي أدفع ضيماً أو أعز لله ديناً لوضعت سيفي على عنقي ثم ضربت به قُدماً) مع كلام له كثير في خطبته.
وأمَّا أبو ذر فلم يزل يدعو إلى بيعة علي قبل بيعة أبي بكر وبعدها، ويذكر فضائل علي وأفاعيل القوم فيذمها حتى أعقبه ذلك أنه نفي إلى ربذة على صعبة من الإبل بغير وطأ حتى قرحَتا إليتاه فمات فيها رَحِمَهُ الله.
وكان من قوله ما رواه أبو خراسَان محمَّد بن عبد الله بن عيسى قال: حدثنا أحمد بن زيد عن أبيه عن زيد بن السكن - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم - يرفع الحديث قال:

(1/114)


رأيت أبا ذر الغفاري محتبساً بحلقة باب الكعبة وهو يقول: أيُّها الناس؛ من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة، أنا أبو ذر الغِفاري، سمعت رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو يقول:((أيُّها الناس؛ لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا، ولقيتم الله بغير ولاية علي بن أبي طالب لكبكم الله في النار على وجوهكم)).
وأمَّا عمَّار بن ياسر فلم يزل يدعو إلى بيعة علي بن أبي طالب، ولم يزل معه في حروبه حتى قُتل في عسكره داعياً إلى نصرته مع قول رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((عمَّار يدور مع الحق حيثما دار))، و((ما لهم ولعمَّار يدعوهم إلى الجَنَّة ويدعونه إلى النار، قاتِلُه وسالِبُه في النار)).
فأخبر عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أن عمَّار بن ياسر يدعو إلى الجَنَّة، وكان داعياً إلى علي، ولم يقل أحد من الأُمَّة إن عمَّاراً دعا إلى غير علي.
فكيف يجوز على هؤلاء النفر خيار أصحاب رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ مجتمع عليهم بالفضل لم يطعن عليهم أحد من الأمَّة بشيءٍ من ثلاث وسبعين فرقة؟!.
وأمَّا أبو عبيدة بن الجراح فإنَّا قد أوضحنا عليه من العلَّة في وسط كتابنا هذا ما فيه الكفاية لمن عقل.
[زَعْم الخوارج أن العباس أقرب لرسول الله (ص) من علي فهو أولى بالإمامة]
وزعمت الخوارج أن العبَّاس أقرب برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ من علي، وهو أولى بالإمامة؛ لأن العَمَّ - زعموا - أقرب من ابن العم.

(1/115)


فَلعَمْرِي: إن العباس لأَقرب رحماً، فإذا كان الأمر عندهم كذلك فَلِم قدموا أبا بكر على العباس إذ كان عندهم أولى وأقرب من علي، غير أن علي بن أبي طالب أولى بالخلافة من العباس بما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: ما حجتهم على من خالفهم واحتج أن الأمَّة أجمعت أن عليّاً أول من آمن بالله ورسوله، ولم يشرك بالله طرفة عين، وأنه كان مع رسول الله، ويذب بسيفه دونه، والعباس في ذلك الوقت مشرك بالله لم يسلم إلا بعد الهجرة، واحتج بقول الله تبارك وتعالى أن عليّاً أولى برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ من العباس؛ وذلك قول الله تبارك وتعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}[الأحزاب/6] ؟
فالمؤمن المهاجر أولى برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ من المؤمن غير المهاجر.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: هل نسخ هذه الآية من كتاب الله شيءٌ؟ أم هل تقدرون على تغييرها؟!.
[عمر أفضل من أبي بكر على مقالة الخوارج والعامة]
مع أن الأمر عند الخوارج وعند العامة أن أبا بكر أفضل من عمر، وأن عمر أفضل من العباس، فنظرنا في روايتهم فإذا عمر أفضل من أبي بكر؛ لأنهم رووا أن أبا بكر قال: إن له شيطاناً يعتريه.
ورووا أن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قال:((إن الشيطان يفرّ من حسن عمر)).
فالذي يفرّ الشيطان من حسنه أفضل ممَّن يعتريه الشيطان، فعمر كان أولى بالخلافة.

(1/116)


[عمر يتقرب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بالعبَّاس ويستسقي به]
ووجدنا عمر - الفاضل عندهم الذي هو أفضل من العباس - قد تقرب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بالعبَّاس المفضول، فاستسقى به الغيث، وذلك أن عمر عام الرمادة قُحِطَ الناس من الغيث فتقرب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بالعباس إذ أخذه بيده وقدمه بين يديه شافعاً إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فقال:(اللَّهُمَّ إنا نتقرب إليك بعم نبينا)، فأسقاهم الله.
فينبغي أن تقدموا الفاضل للخلافة، ومن هاهنا ضلّت الخوارج ومن قال بمقالتهم.
[علي الصدِّيق الأكبر]
وأمَّا قولهم: إن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إختص أبا بكر وعمر باسمين لم يختص غيرهما بمثلهما، سمَّا أبا بكر:(صديقاً)، وعمر:(فاروقاً)، وقال الله تعالى في أبي بكر:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة/40] ، وأن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أمره بالصلاة.
وقال في عمر:((اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)) .
وأفضل من هذا كله فيما زعموا أنهما ضجيعا رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قُبرا في قبر واحد، وأنه أمر بسد الأبواب وترك باب أبي بكر.

(1/117)


[تفسير قوله تعالى:{أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ}]
الجواب: أما قولهم: إنه سمَّاه (صِدِّيقاً)؛ فما حجتهم على من خالفهم فقال: ليس لأبي بكر في هذا الاسم فضل على أحد من المؤمنين؛ لأن الله يقول في كتابه:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}[الحديد/19] . فكل من آمن بالله ورسوله فهو صِدِّيق؛ مع أن لعلي بن أبي طالب في هذا الاسم ما ليس لغيره قول النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((علي الصِدِّيق الأكبر، والفاروق الذي يفرق به بين الحق والباطل)) ولم يقل هذا في غيره، رواه أبو ذر الغفاري.
[تفسير قوله تعالى:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ..} الآية، ومعنى الصحبة]
وأما قولهم: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة/40] ؛ فما حجتهم على من خالفهم فقال: ليس من جماعة تنسب إلى رجل بالكون معه إلا قيل فلان ثاني اثنين، وثالث ثلاثة، ورابع أربعة، وخامس خمسة ما كان العدد.
وقد قال الله تبارك وتعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ..}[المجادلة/7] الآية، فالله تبارك وتعالى مع الكافر والمؤمن لا يخلو منه أحد.

(1/118)


وأما تسمية النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إيَّاه صاحباً؛ فما حجتهم على من خالفهم فقال: قد تكون الصحبة للكافر والمؤمن واحتج بقول الله تبارك وتعالى:{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ}[الكهف/37] ، فسمى المؤمن صاحباً للكافر، ونسبه إليه.
وقد كان في أصحاب رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ منافقون، وقد سمَّاهم النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أصحاباً؛ منهم: عبد الله بن أبي بن سلول صاحب الإفك، وقد كان بعض أصحاب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أشار عليه أن يقتله فكره ذلك عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وقال:((أخاف أن يقول الناس: إنّ محمَّداً يقتل أصحابه)).
وأما قوله:{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة/40] ؛ فقل لهم: إن كان النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ هو الذي حزن فنهاه أبو بكر عن الحزن فما كان ينبغي لأبي بكر أن ينهى النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ عن شيءٍ فعله؛ لأنه أعلم من أبي بكر بما فعل، وهو الآمر والناهي لأبي بكر وغيره.
وإن كان أبو بكر هو الذي حزن فما الذي أحزنه وهو مع النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وهو يعلم أن الله وملائكته معهما؟!

(1/119)


فما نهاه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلا عن معصية، فقد كان ينبغي له أن يتأسَّى برسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ مع أن آخر الآية تدل على ذم أبي بكر، قوله تبارك وتعالى:{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}[التوبة/40] يريد بذلك نبيه عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، ولم يقل: فأنزل الله سكينته عليهما كما سماهما {اثْنَيْنِ} فيجعلهما شريكين في السكينة كما أشرك بينهما في الاسمين، وكما أشرك بين المؤمنين في السكينة مع رسوله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ وأشركهم في السكينة مع رسوله، وأفرد رسوله بالسكينة في الغار، ولم يسم معه أحداً.
وقد علمت الأُمَّة أن علي بن أبي طالب ثبت معه بحُنين ولم يزل عنه، وأنه شريك في السكينة والنفر الذين وقفوا معه.
[حديث سد الأبواب]
وأما قولهم: إن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سدَّ أبواب أصحابه وفتح باب أبي بكر. فهذه دعوى منهم، ومن ادعى دعوى بلا برهان ولا دليل لم يجز ذلك له، ولو كان ذلك لما خفِي على الأُمَّة باب أبي بكر في المسجد.
فما حجتهم على من خالفهم فاحتج بالحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر أن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:((سدوا هذه الأبواب الشارعة إلا باب علي)).
فعُوتب النبي في ذلك فقال:((ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه؛ ولكن الله أمرني بذلك))، يدل ذلك على أن لعليٍّ معه منزلاً في المسجد.

(1/120)


ورواية حزام بن سعيد عن معاذ بن جابر بن عبد الله أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ دخل المسجد وفي يده عسيب رطب فقال:((أخرجوا من المسجد لا تناموا فيه))، وطفق يضربهم بذلك العسيب، فأجفل الناس وأجفل معهم علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ، فقال له النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((أما أنت يا علي فقد أحل الله لك ما أحل لي)).
ورواية أبي ميمون من جهة علي بن الحسين وهو ممَّن لا يطعن عليه أحد من الخوارج ولا من غيرهم خاصة دون أهل بيت محمَّد عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أنه قال: سألني عيسى الهلالي فقال: أخبرني عن الأبواب هل سمعت من أبيك فيها شيئاً؟
فقال: حدثني الحسين بن علي عن علي قال: أخذ رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ بيدي فقال:((إن موسَى سأل ربَّه أن يُطّهِّر مسجده لهارون وذريته، وسألت ربِّي أن يطهر مسجدي لك ولذريتك من بعدي)).
ثم أرسل رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إلى أبي بكر أن سد بابك؛ فاسترجع، ثم قال: هل فعل ذلك بأحد قبلي؟
قال: ((لا)).
قال: سمعاً وطاعة.
ثم أرسل إلى عمر أن سد بابك، فقال: هل فعل هذا بأحد قبلي؟
قال:((نعم)).
فقال: لي بأبي بكر أسوة. فسد بابه.
ثم أرسل إلى العباس أن سد بابك. فغضب غضباً شديداً ثم قال: إرجع فقل: أليس عم الرجل صنو أبيه؟
فقال:((بلى؛ ولكن سد بابك)).
فلما سمعت فاطمة عليها السلام سد الأبواب خرجت فجلست على بابها تنتظر متى يؤمر بسد باب علي.
فرأى فاطمة والحسن والحسين معها، فقال: [فخرجت] وبسطت ذراعيها مثل الأسد وأخرجت جرويها.

(1/121)


قال: وخاض الناس في سد أبوابهم وفَتْح باب علي، فلما سمع النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ بذلك صعد المنبر، فحمد الله فأثنى عليه ثم قال:((ما الذي خضتم فيه؟! ما أنا الذي سددت أبوابكم وفتحت باب علي؛ ولكن الله سد أبوابكم وفتح باب علي)).
وحديث إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر عن أبيه أن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمر بسد الأبواب التي في المسجد إلا باب علي بن أبي طالب.
وعنه أيضاً عن إسحاق، عن علي بن عباد، عن ابن عمر قال: أُخرجنا من المسجد إلاَّ النبي وعلي بن أبي طالب.
[دفن أبي بكر وعمر إلى جنب النبيّ (ص)]
وأمَّا قول الخوارج ومن قال بمقالتهم: إن أبا بكر وعمر ضجيعا رسول الله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وأنهم قُبِرُوا في قبر واحد.
فإن كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أوصَى إليهما أو إلى غيرهما أن يُقبرا معه في قبره فلعَمْرِي إنها لفضيلة، فمن الموصَى إليه بذلك حتى نعرفه؟!.
وقد زعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أنه صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لم يوص إلى أحد، [وإن كانا أمرا بذلك] من غير رأيه فما كان ذلك لهما ولا لغيرهما؛ لأن الله جل ثناؤه يقول في كتابه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}[الأحزاب/53] ، وحرمته بعد وفاته كحرمته في حياته صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً.

(1/122)


[شجاعته عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ورفعه لراية الإسلام]
وأمَّا قولهم: إن عمر أعز به الإسلام. فما حجتهم على من خالفهم في إنكار ذلك وقال:
إنه لم يكن في بيت عزّ، ولم يكن له منعة في عشيرة، ولا شجاعة في بلد، فبأي وجه عُزَّ به الإسلام؟!
أو ما حجتهم على من احتج عليهم فقال: قد حصر المشركون رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الشِّعب بمكَّة، ومعه بنوا هاشم مؤمنهم وكافرهم، ومعهم عمر بن الخطاب، فلم يُعزُّوا به، ولم يدفع عنهم ضيماً، ولم يشدوا به عضداً؟
وما حجتهم على من خالفهم فقال: إن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ صده المشركون عن دخول مكَّة، وصدوا هَدْيه وهو معكوف أن يبلغ مَحِلَّه ومعه عمر، فما باله لم يعزّهم ويمنعهم حتى يدخلوا مكَّة ومبلغ هَدْيَ النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ مَحِلَّه؟.
وما حجتهم على من خالفهم واحتج عليهم بقول الله تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}[آل عمران/123] حين دعاه سعيد بن العاص للمبارزة فلم يبرز إليه، فَلِم لم يُعزّ به الإسلام؟!
[حديث: الرَّاية]
وما حجتهم على من خالفهم فقال: إن عمر انهزم براية رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يوم خيبر حين ردها منكوسة؛ حتى قال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((لأعطين الرَّاية غداً رجلاً كراراً غير فرار يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)).
فوجَّه بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ففتح الله على يديه، وأعزّ به نبيه والإسلام.

(1/123)


فما بال عمر بن الخطاب لم يبلغ الكتاب والراية حتى يُعزّ به الإسلام؟!
وما حجتهم على من خالفهم فقال: إن ضرار بن الخطاب الفهري لحق عمر بن الخطاب وهو منهزم في بعض غزوات النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُُ فجعل ينقب رأسه بالرمح وهو يقول:(من أنت! فإنِّي [آليت] ألاَّ أقتل قُرشياً؟).
فقال: أنا عمر بن الخطاب.
فقال:(أُشكرها لي).
فَلِم لم يثبت حتى يعزّ به الإسلام؟!.
أو ما حجتهم على من خالفهم فقال: إن عمرو بن عبد ودٍّ طفر الخندق بفرسه، وهو بطل المشركين، فجعل ينادي للبراز عمر بن الخطاب وغيره من أصحاب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فجعل عمر يلوذ برسول الله من عمرو بن عبد ودٍّ حتى برز إليه أمير المؤمنين فقتله.
فَلِم لم يبرز إليه عمر بن الخطاب حتى يُعزّ به الإسلام؟.
أو ما حجتهم على من خالفهم فقال: إن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعث إلى ذات السلاسل أبا بكر فانهزم، ثم بعث عمر فانهزم، ثم بعث عمرو بن العاص فانهزم، فأنَّبَهم رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بانهزامهم، ثم بعث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ففتح الله على يديه.
فما بال عمر لم يفعل فِعل عليٍّ بذات السلاسل حتى يُعز به الإسلام؟!.

(1/124)


[حديث: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي]
فإن كان الإسلام إنما يعزّ بكل من انهزم فينبغي أن يذل بكل من هَزَم!!، ولكن قل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: بماذا يدافعون أفاعيل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ومناقبه ومبارزته للأقران، وكشف الكرب عن رسول الله، وعن المهاجرين والأنصار؛ التي لا يجحدها أحد من الأُمَّة بالرواية المأثورة القائمة؟
من ذلك نداء جبريل عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ يوم أحد؛ [إذ قال]:(يا محمَّد؛ من هذا الذي يضرب بين يديك قدماً، فقد أعجب ضربه ملائكة السماء؟
فقال:((يا جبريل؛ هذا علي بن أبي طالب)).
فعَرَج جبريل إلى السماء وهو يقول:(لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي).
وفي رواية أخرى في غير هذا الحديث في يوم أحُد وقد انهزم الخلق غير علي يضرب بين يدي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قُدماً، والعباس آخذ بلجام بغلة النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، وعلي لا يمر بكتيبة من كتائب المشركين إلا فلَّها، فقال جبريل: يا محمَّد؛ من هذا؟
فقال:((هذا علي بن أبي طالب)).
فقال: يا محمَّد؛ هكذا المواساة.
فقال:((يا جبريل؛ هذا مني وأنا منه)).
فقال جبريل عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ:(وأنا منكما يا محمَّد). فلذلك كان يقال: جبريل هاشمي الملائكة.
فإن قالت الخوارج وغيرهم: هذا حديث باطل، كيف يسأل جبريلُ محمداً:(مَن هذا)، وجبريل بعليٍّ أعرف، فكيف يجهله جبريل؟!

(1/125)


فقل لهم: لم يجهله؛ (بل) هو به عارف، وله غير منكر؛ ولكن أحب أن يُشهره ويُنوِّه باسمه، ويُعلم الخلق بفضله؛ كقوله تعالى لموسى بن عمران عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}[طه/17] ، وهو تبارك وتعالى بها أعلم.
فقال موسى عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ:{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}[طه/18] .
وإن أحق من يُعزَّ به الإسلام من افتتح خيبر واقتلع بابها فرمى به خلفه أربعين ذراعاً، وكان لا يفتحه إلا أربعون رجلاً.
وأحق من يعز به الإسلام من فَرَّج عن النبي - صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - وعن أصحابه من عمرو بن عبد ود حين جاز الخندق وجعل ينادي بعمر وأصحابه من أصحاب النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ للمبارزة ورسول الله يقول:((من يكفيني عمرو بن عبد ود أكفيه حر يوم القيامة؟))، فكفاه الله أمره بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.
وأحق من يعز به الإسلام من قتل عُتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد ومرحباً، ويأسر أبطال المشركين، وصناديد قريش، وقد أحجم عنهم عمر وغير عمر من أصحاب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
وأحق من يعز به الإسلام من له من المناقب والفضائل من لو قسمت بين أمَّة محمَّد - صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - لأوحلتهم.

(1/126)


[سبب امتناع الإمام علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ عن جهاد الخلفاء الثلاثة]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن عليّاً كان أشجع من أبي بكر وعمر، وأعز عشيرة، فما منعه أن يجاهدهم كما جاهد طلحة والزبير ومعاوية؟!.
فقل للخوارج (ومن قال بمقالتهم): إن القوم اضطروا إلى أمير المؤمنين بعد عثمان؛ إذ لم يجدوا غيره، وهم الذين طلبوه ولم يطلبهم.
فلما بايعوه ونكثوا عليه لم يسعه إلا جهاد من عَصَاه بمن أطاعه، ولم يكن أحد أطاعه يوم بيعة أبي بكر، فمن يجاهد العاصي إذا لم يجد مطيعاً؟!
فإن قالوا: يجاهد بنفسه حتى يكون ذلك له عُذراً.
فقل لهم: ما بال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يجاهد المشركين بنفسه حتى يكون ذلك له عذراً؟ وَلِمْ هرب إلى الغار وقد كان أشجع من علي قلباً وأقوى بدناً؟!
فإن قالوا: لأن الله أمره بذلك، حتى يجد من ينصره ويؤويه.
فقل لهم: وكذلك أمير المؤمنين أمره رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ألا يجاهد بنفسه حتى يجد من ينصره ويؤويه.
فإن قالوا: لو قام ودعا إلى نفسه يومئذٍِ لما عدل الناس به أبا بكر؛ لأنه إنما كان في بيت منعة وعِزٍّ في بني هاشم، وأبو بكر في بيت قلة وذلِةَّ في بني تِيم.
فقل لهم: قد احتججنا عليكم بالحجج القاطعة والبراهين النيرة بدعاء النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إليه في حياته.

(1/127)


ولسنا نقايسكم بهاشم وعزها، ولا تيم وذلها؛ ولكن انظروا في الإحَن والضغائن التي كانت في صدور القوم على علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ أن امرَأَةً أمرها رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بلزوم بيتها وتَقِرَّ فيه، ولا تبرج تبرج الجاهلية الأولى، وضرب رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ عليها حجاباً، فخرجت على علي تقاتله، وخرج معها من الخلق ما لا يحصيه إلا الله عَزَّ وَجَلَّ من قريش وغير قريش ممَّن وتره أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ، وممَّن لم يتره، فضربوا وجهه بالسيف، وقتلوا أصحابه، ومنعوا النصرة بأمر هذه وهي امرأة، فكيف لو رام أمير المؤمنين ذلك من أبيها أبي بكر؟!.
[ضغائن الناس لأمير المؤمنين (ع)]
فكيف ظن الخوارج كانوا صانعين بعليٍّ على تلك الإحن والضغائن التي كانت في صدورهم؟
فإن قالوا: لم تكن بينهم إحن ولا ضغائن.
* فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: فأين الرواية المشهورة التي نقلها أهل العلم أن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ ومعه علي بن أبي طالب بحديقة من نخل، ومعه غيره، فقال علي: يا رسول الله؛ ما أحسن هذه الحَدِيْقَة.
فقال:((يا أبا الحسن؛ حَدِيْقَتُكَ في الجنَّة أحسن منها)).
ثم مَرَّ بأخرى فقال: يا رسول الله؛ ما أحسن هذه الحَدِيْقَة.
فقال:((يا أبا الحسن؛ حَدِيْقَتُكَ في الجنَّة أحسن منها)).
ثم مَرَّ بأخرى فقال له النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ مثل ذلك حتى مَرَّ بسبع حدائق، كل ذلك يقول له علي مثل ذلك، فيقول له النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ مثل ذلك.

(1/128)


ثم بكى رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال له علي: ما يبكيك يا رسول الله؟
فقال:((ضغائن لك في صدور رجال من أُمَّتِي لن يبدوها لك حتى يفقدوني)).
* فقل للخوارج: أليس قد بدت تلك الضغائن لعلي بعد رسول الله عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ في غير موطن، ولقد جهرت به قريش ونساؤهم؟
من ذلك قول فاطمة بنت عتبة إذ خطبها علي بن أبي طالب فردته وتزوجت عقيلاً فقال علي لعثمان: ألا تعجب من قول فاطمة - أي خطبتها - فردتني وتزوجت عقيلاً؟!
فعاتبها عثمان في ذلك، وكان بينها وبينه دُر.
فقالت: إن عليّاً قتل الأحبَّة يوم بدر.
* ومما حفظ أهل العلم من المخالف لنا ولكم الحديث الذي يرفع إلى عبد الله بن عباس - وهو عندكم ممَّن طعن على علي يوم هرب بجباية البصرة إلى الطائف - عن عائشة عند وفاة النبي صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ؛ إذ ذكروا أنه أمر أبا بكر بالصلاة، أن عائشة قالت:
أقبل رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عاصباً رأسه يخط الأرض برجليه يتهادى بين أُسامة بن زيد، والفضل بن العباس، ورجل آخر كرهت عائشة أن تسميه.
فقيل لعبد الله بن العباس: من الرجل الذي كرهت عائشة أن تسميه؟
قال: هو علي بن أبي طالب.
فقيل له: وما الذي منعها أن تسميه؟!
قال: إن نفسها لم تطب له بخير.

(1/129)


* ومما روى أهل العلم المخالفون لنا ولكم: أن عبد الله بن عمر بن الخطاب أتى الحجاج بن يوسف ليلاً فَدَقَّ عليه بابه، فلما دخل قال: أبسط يدك أبايعك عن عبد الملك بن مروان؛ فإنِّي سمعت رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ يقول:((من مات ليلته وهو لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية)).
فلما بايعه وخرج من عنده قال الحجاج: العجب من عبد الله بن عمر!! [إنه] بالأمس يقول لعلي بن أبي طالب:(أقلني بيعتي فإني حمل رداح لا غدوّ له ولا رواح).
فأقاله بيعته، وأتاني يبايعني عن عبد الملك بن مروان!.
فكتب الحجاج بذلك إلى عبد الملك بن مروان، فأمر له بعشرة آلاف.
* ومما حفظه الخوارج وغيرهم ورواه أيضاً عن عبد الله بن عباس حين أرسله أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بعد وقعة الجمل إلى عائشة وهي نازلة في دار عبد الله بن خلف الخزاعي بالبصرة يأمرها بالخروج إلى المدينة فقالت: أفعل والله أخرج، [والله! أما والله] ما في الأرض أبغض إليَّ من بلدة أنتم فيها معاشر بني هاشم.
فقال لها عبد الله بن عباس: أما والله ما تلك بديَّا عندك؛ لقد سمّينا أباك:(صِدِّيقاً) واسمه: عتيق بن أبي قحافة.
وجعلناك للمسلمين أُمًّا، وأنتِ ابنة أمِّ رومان.
فقالت: أتمنّون عليَّ برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؟!
فقال: [إي] والله! إنِّي لأمُنُّ عليك بمن لو كان منك لمننتِ به عليَّ.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
تم الجزء الثاني [من الكامل المنير]
[وَصَلَّىَ اللهُ عَلَىَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَّ تَسْلِيْمَاً كَثِيْرًا]

(1/130)


الجزءُ الثَّالِثُ مِن كتاب الكامل المنير([124])
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
بسم الله الرحمن الرحيم

[جملة من قتلهم الإمام علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ببدر، وأُحد، والخندق]
(ومما رواه المخالفون لنا ولكم): أن عمر بن الخطاب قال يوم الشورى لبني هاشم: إن تُطَعْ قَوْمُكم فيكم لن تَلوا هذا الأمر أبداً.
وقول عثمان لعليٍّ [عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ]:(ما ذنبي إن كانت قريش لا تحبكم، وقد قتلتَ منهم ثمانين كأنهم شنوف الذهب (تشرب) أنوفهم قبل شفاههم)، وليس علي القاتل لأولئك.
وقد علمت الأُمَّة أن أبا سفيان لم يزل يكيد رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام، وأن معاوية لم يزل يكيد عليّاً، وأن يزيد بن معاوية لم يزل يكيد الحسين بن علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ، فهؤلاء أضداد [متعادون] الآباء للآباء، والأبناء للأبناء.
ولقد تَلَهَّفَ يزيد بن معاوية على قتل مَنْ قتل علي بن أبي طالب من بني أُميَّة يوم أُحُد، ويوم بدر مثل: عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة وغيرهم، فأورثتهم تلك الضغائن من بني أُميَّة أبناؤهم وفي سائر قريش، فما زال يطلب يزيد بتلك الأوتار، ويرجو إدراكها من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ حتى أوقع بِحرم رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام، وبأهل الحرَّة ما أوقع، ولم ينكر ذلك عليه أحد من قريش ولا غيرها؛ حتى تمثل في ذلك بشعر ابن الزبعرى بعد أن قتل الحسين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وثمانية عشر من أهل بيته فقال - عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين - متمثلاً مفتخراً بذلك:

(1/131)


ليت أشياخي ببدر شهدوا .... جزع الخزرج من وقع الأسل
يوم حلت بفناء بركها .... واستحر القتل من عبد الأشل
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً .... ثم قالوا يا يزيد لا شلل
لست من خُندف إن لم أنتقم .... من بني أحمد ما كان فعل

فأخبر - عدو الله وابن عدوه، وابن ابن عدوه - أنه قد أدرك ثأره من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في ولده وأهل بيته بقتل من قتله علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ من بني أُميَّة ببدر وأحُد، (و)لم ينكر ذلك على يزيد أحدٌ من الأُمَّة؛ لا من قريش، ولا من غيرها.
ولقد لقيت نساء بني أُميَّة ومواليهم وشيعَتهم علي بن الحسين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (وأتباعه) وبناتِ رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ إذ حُملوا إلى الشام كالسبي المجلوب على محامل بلا وطأ، وبنوا أُميَّة مسرورون فرحون يؤذون حرم رسول الله، ويقولون: الحمد لله الذي فعل بكم هذا قصاصاً كما فعل بالمظلوم عثمان بن عفان.
فلم ينكر عليهم أحد من الأُمَّة ولا على يزيد شيئاً من ذلك؛ لأنه ليس أحدٌ من قريش إلا وقد وتَرَه أمير المؤمنين بأخٍ، أو ابن عمٍّ، أو قريب، بين يدي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ أو ليس هو القائل لمن أُسَمِّي للخوارج ولغيرهم في كتابي هذا من صناديد قريش خاصَّة ليكون للخوارج ولغيرهم دليلاً على أن تلك الضغائن لا تزول، وتلك الأحقاد لا تحول؟!
قَتَل سعيد بن العاص، الحائد عنه عمر بن الخطاب وهو يدعو إلى البراز، وهو من بني أُميَّة.

(1/132)


ومن بني أسد: نوفل بن خويلد، وربيعة بن الأسود، والحارث بن الأسود.
ومن بني عبد الدَّار: طُعمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وطُعمة بن الحارث.
ومن بني تيم بن مُرَّة: عمير بن عثمان بن عمرو، وهو ابن عم أبي بكر.
ومن بني مخزوم: أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، ومسعود بن أبي أُميَّة، وأبا قيس بن الوليد بن المغيرة، وحذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة.
ومن بني عائذ بن عبد الله المخزومي: أبا المنذر بن رفاعة، وعبد الله بن المنذر بن رفاعة، والحاجب بن السائب.
وأبا العاص بن قيس بن عدي - من بني جمح - ونَيبة ومنَبِّه ابني الحجاج، والعاص بن أُميَّة.
ومن بني عامر بن لؤي: سعيد بن وهب.
ومن بني أُميَّة: معاوية بن المغيرة، والعاص بن أبي ديار وابن عم أبيه.
(وقتل يوم أحُد) من بني شيبة: طلحة بن أبي طلحة - كبش القوم -.
(ويوم الخندق): عمرو بن عبد ود، المشهور.
(ويوم بدر): عُتبة وشيبة ابني ربيعة جَدَّي معاوية.
ومن بني أُميَّة بن عبد العُزَّى: عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث.
ومن بني مخزوم: هاشم بن أُميَّة بن مغيرة، وأُميَّة بن أبي حذيفة بن المغيرة، والوليد بن العاص بن هاشم بن المغيرة.
ومن بني عامر بن لؤي: السائب بن مالك، وشعبة بن مالك.
ومن ثقيف: الحكم بن أبي الحكم، والأخنس.
(ويوم الفتح) من بني قصي: الحارث بن سعيد؛ الذي أمر رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يُقتل ولو وجد متعلقاً بأستار الكعبة.

(1/133)


وكان قتلى بدر سبعين رجلاً، قتل منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ أربعين رجلاً، هذا من قريش خاصَّة سوى من قتل من سائر الخلق، فَعُوْدِي أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ فيهم وأورثته تلك القتلى التي قتل في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ وطاعة رسوله ضغائن وأحقاداً (في) صدورهم لعلي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وعلى ولده، لا تُحل ولا تُبرأ؛ فلهذا كرهت قريش ولاية علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.
[إحتجاجه عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بفضائله يوم الشورى بالقرآن والسنة]
زعمت الخوارج أن عليّاً دخل في الشورى، وأنهم اختاروا عثمان دون علي، وأن عليّاً بايع عثمان ورضي به.
فقل للخوارج: إن كان الأمر على ما ذكرتم فَلِم خلعتم عثمان وقتلتموه، وطرحتموه على المزبلة، فأقام ثلاثة أيام مطروحاً لم يُقبر، يأتي إليه الصبيان فيضربون بطنه وهم يقولون:
أبا عمرو أبا عمرو .... رماك الله بالجمرِ
فما تصنع بالمالِ .... إذا أُدلِيت في القبرِ
هذا بعد أن أقام محصوراً أربعين ليلة يستغيث بعلي وبمعاوية وبالخوارج وغيرهم، لم يغثه أحد.
وزعمت الخوارج: أن عليّاً دخل في الشورى وكان أحدهم راضياً بذلك، فصيَّرُوا أمرهم إلى عثمان بن عفان.

(1/134)


فليس للخوارج ولا لمن قال بمقالتهم في دخول علي في الشورى حُجَّة؛ (بل) الحُجَّة كانت لعليٍّ رَحْمَةُ اْللهِ عليه بما قد احتج به على أصحاب الشورى، وبما نحن محتجون به، لا يدفعه إلا جاهل ومعاند؛ إذ لم تكن الشورى فرضاً من الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا سنَّة من النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ وإنما دخل عليٌّ معهم ليحتج عليهم ويذكِّرهم حقَّه الَّذي أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ فيه من الآيات الواضحات، التي لا يدعيها أحدٌ غيره، ولم يدعها أحدٌ لنفسه.
فمن ذلك: قول الله تبارك وتعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [وَالَّذِينَ آمَنُوا]..}[المائدة/55] الآية؛ لا اختلاف بين الأُمَّة أنها نزلت في علي [عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ]، ولم يدّعها أحد غيره.
وقوله تبارك تعالى:{[فَقُلْ] تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران/61] ؛ لا اختلاف بين الأُمَّة أنها نزلت في علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، لا يقدر أحد من الخلق (أن) يدعيها لنفسه ولا لغيره غيرهم صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ.
وقوله:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرعد/7] نزلت في علي لا يدعيها أحد من الخلق غيره.

(1/135)


وقوله في سورة {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}[الإنسان/1] في عليٍّ حين أطعم المسكين، واليتيم، والأسير؛ فحكى الله عن ضميره ما لم يتفوَّه به:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان/9-10] .
فأخبر تبارك وتعالى بما وقاهم وبما أعدّ لهم من الجَنَّة، والحَرِيْر والسُنْدُس، والإِسْتَبْرَق، وحلي الذَّهَب والفِضَّة ما لم يعدده لأحد من أهل الجنة غيرهم، ولا حكى تبارك وتعالى في القرآن لنبي ولا لصديق ولا لشهيد أنه أعدّ له في الجَنَّة مثل ما أعدّ لعليٍّ عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.
(والقوارير): ليس في جميع القرآن ذِكر قوارير إلاَّ ما ذُكِر لعليّ، فإن كان في الجنَّة نعت أحسن من نعت ما أعد لعليّ فليأتوا به، وهذا ما لا يدعيه أحد غيره.
وأشياء كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى؛ مع ما جاء فيه من الأحاديث عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- المجمع عليها، مثل: غدير خم، وحديث الطائر، وحديث الكهف، وحديث ليلة الجن، وحديث المرقاة، وغير ذلك.

(1/136)


[حديث المناشدة]
يدل عليه ما رواه محمد بن سليمان البصري قال: حدثنا يحيى بن صالح الحريري، قال: حدثنا الهيثم بن واقد، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبي الجارود - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم - عن عامر بن الطفيل وغيره، قال: كنا على الباب يوم الشورى؛ فسمعنا علي بن أبي طالب يقول: بايع الناس أبا بكر وأنا والله كنت أولى بها منه، وأحق بذلك. إن بيعتي في رقابكم جاءت عن الله وعن رسوله فنقضتم العهد والميثاق، والله بيني وبينكم.
ثم بايع الناس عمر وأنا والله كنت أولى وأحق بذلك.
ثم تريدون أن تبايعوا لعثمان؟! فالله بيني وبينكم يوم القيامة.
ثم قال: والله لأحتجنَّ علكيم بحجج لا يستطيع معاهدٌ منكم، ولا مشرك، ولا مصلِّ أن يرد حُجَّة منها.
ثم قال: ناشدتكم بالله أيها الخمسة وأنتم أيها الناس؛ أتعلمون أن فيكم من وحَّد الله قبلي؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من صلَّى القبلتين غيري؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.
قال: أفيكم من اتخذه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أخاً لنفسه حين قال:((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي))؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من له عم كعمي حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء، الذي غسلته الملائكة؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من له أخ مثل أخي جعفر له جناحان من جوهر يطير بهما مع الملائكة؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.
قال: أفيكم من له زوجة مثل زوجتي فاطمة سيدة نساء العالمين؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.
قال: أفيكم من له سبطان مثل سبطي: الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجَنَّة؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.

(1/137)


قال: أفيكم من يجري له سهمان غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من قدَّم بين يدي نجواه صدقة غيري؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.
قال: أفيكم من كان أعظم عناءً برسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقيه بنفسه غيري حين اضطجعت في مضجعه، وبذلت مُهجة نفسي فأنزل الله {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة/207] غيري؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.
قال: أفيكم من كان أقتل لصناديد العرب عند كل شدة تنزل برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام مني؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.
قال: أفيكم من قتل يوم بدر ستة رجال في المبارزة غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من ثبت مع رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام يوم أحد حين انهزمتم غيري؛ فأنزل الله في كتابه ما أنزل حين عاتبكم بالذي كان من انهزامكم عن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، وسمَّاني صابراً، وسمَّاني شاكراً؟
فقالوا: اللَّهُمَّ لا.
قال: أفيكم من قال جبريل يومئذٍ:(يا محمَّد؛ لقد تعجبت الملائكة من مواساة هذا الرجل لك منذ اليوم بنفسه). فقال رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام:((إنَّه مني وأنا منه)). قال جبريل:(وأنا منكما) [غيري؟]
قالوا: اللهمَّ لا.

(1/138)


قال: أفيكم من قال له رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ مثل الذي قال لي يوم بعثني إلى ذات السلاسل حين بعث إليهم أبا بكر فانهزم، ثم بعث عمر فانهزم، ثم بعث عمرو بن العاص فانهزم، فقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((لأبعثنَّ إليهم رجلاً طاعته كطاعتي، ومعصيته كمعصيتي، لا ينهزم كما انهزمتم حتى يفتح الله على يديه إن شاء الله))؟
قالو: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من قتل مرحباً اليهودي، وأسر أخاه، غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من أُمر رسول الله أن يباهل به غيري، وغير زوجتي، وابني؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.
قال: أفيكم من ترك بابه في المسجد عن أمر الله غيري؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.
قال: أفيكم من أحل له في مسجد الرسول ما أُحل لي غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من سَمَّاه الله في كتابه مؤمناً، وسمى عدوه وهو [الوليد بن] عُقبة بن أبي معيط فاسقاً، غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من قال جبريل لرسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ بأمر الله:(لا يؤدِّي عنك سورة براءة إلا رجل هو منك وأنت منه). قال النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((فمن يا جبريل ذلك؟)) قال:(علي بن أبي طالب). فدفعها إليَّ رسول الله وأمرني بردّ أبي بكر؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.
قال: أفيكم من قال له رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((هذا سيّد العرب)) غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من كان بايعه جبريل غيري؟
قالوا: اللَّهُمَّ لا.

(1/139)


قال: أفيكم من قال له النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((هذا أقدمكم سلماً، وأعلمكم علماً، وأقرأكم لكتاب الله)) غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من كلّمته الجن حين سرحنا رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أنا، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، إلى وادي الجن؛ فبدأ أبو بكر فسلم عليهم وكلّمهم فلم يجيبوه، ثم كلّمهم عمر فلم يجيبوه، ثم كلّمهم عثمان فلم يجيبوه، ثم قال القوم:(إنَّا لا نجيب إلا نبياً أو وصي نبي). فسلمتُ عليهم، فردوا السلام وقالوا:(تكلّم بما شئت نجبك عليه). فأجابوني على كل شيءٍ أمرني به رسول الله عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ، غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من أغمض رسول الله [-صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-] غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من غسَّل رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وحنَّطه، وكفَّنه، غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من كان أقرب عهد برسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حين وضعه في قبره غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
ثم قال: الله بيني وبينكم.
ثم قال: أفيكم مَنْ إذا قاتل قاتل جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
قال: أفيكم من قال الله عَزَّ وَجَلَّ:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة/55] غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.

(1/140)


قال: أفيكم من قال له رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ يوم الغدير عن أمر الله ما قال لكم:((أيُّها الناس؛ من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهُمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأعزّ من أعزه))، وقال:(( هذا وليكم من بعدي))، غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
ثم قال: أناشدك الله يا عثمان، وأنت يا طلحة، وأنت يا زبير، وأنت يا عبد الرَّحمن، أما كنتم عشرة رجال عند رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وأبو بكر، وعمر، وأنتم أيُّها الأربعة، وسلمان الفارسي، والمقداد، ويزيد بن الحصيب الأسلمي، فقال رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لأبي بكر:((قم يا أبا بكر فسلم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)).
فقال أبو بكر: أمن الله ومن رسوله؟
قال:((نعم)).
فقال لعمر، فقال مثل مقالة أبي بكر: أمن الله ومن رسوله؟
قال النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((نعم)).
ثم قال لك يا عثمان فقلتَ مثل ما قالا، ثم قال لجميعكم فلم تقولوا مثل ما قالوا؛ (بل) سلمتم ورضيتم؟
قالوا: اللَّهُمَّ نعم؛ قد كان ذلك جميع ما قلت، لا يُنكر ولا يُجحد.
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: بماذا تدافعون هذه الحجج؟!.
أمَا كان حُجَّة أصحاب الشورى على أمير المؤمنين يومئذٍ!؟

(1/141)


[الجواب على من قال : إن الشورى فرض من الله تعالى]
[فإن قالوا]: إن الشورى فرض من الله تبارك وتعالى لقوله:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى/38]؟
فقل لهم: ما حجتهم على من خالفهم فقال: إنما نزلت في الخلق عامة تأديباً لهم لا فرضاً عليهم، واحتج بقول الله تبارك وتعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ}[البقرة/277] ، {[وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ] وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الشورى/38] فكل من كان على هذه الشريطة - إذا آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأنفق ممَّا رزقه الله - فأمرهم شورى بينهم بالتأديب لا بالفرض، ولو كانت فرضاً لازماً ما جاز لأحدٍ من الأمَّة أن يبتاع ولا يبيع بدانق حتى يشاور الأمَّة جميعاً، وهذا ما لا يكون.
فإن قالوا: هذا في الخلافة.
فقل لهم: فلِم لم يسند رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمر الخلافة إلى ستة نفر حتى يختاروا منهم رجلاً - إن كان فرضاً - كما أسند عمر أمر الخلافة إلى ستة نفر، ولم يسند أبو بكر أيضاً إلى ستة نفر - إن كان فرضاً -؟!
أم كيف أصاب عمر الفرض ولم يصبه رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام، ولم يصبه أبو بكر؟!
ولكن زعموا: أن عمر أنكره أن يتقلد أمر الأُمَّة بعد وفاته خِيفة أن يحكم بجور فيجري عليه إثم ذلك الجور؛ فصيرها إلى ستة نفر ليتشاوروا في ذلك فدخل فيما كره من حيث علم، وجهلته العامَّة، فافهم من ذلك بما سنوضحه إن شاء الله تعالى من الحجة لنا في قوله [تعالى]:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى/38]

(1/142)


إنا نقول: إنما قال:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى/38] ؟ ولم يقل:(أمري شورى بينهم)، ولا:(أمر ديني شورى بينهم)، ولا:(فرضي شورى بينهم)، فافهم هذا إن شاء الله تعالى.
[حديث المؤاخاة]
رجع الكلام إلى قولنا: فيما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
الجواب في ذلك:
قد علمت الأُمَّة أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ آخا بين أصحابه فاختار بعضهم لبعض على قدر فضائلهم، وسوابقهم، ومنازلهم.
فآخا بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرَّحمن بن عوف وعثمان بن عفّان، وبين سعد بن أبي وقّاص ومعاذ بن جبل، وآخا بين نفسه صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وبين علي بن أبي طالب؛ إذ لم يكن له كفواً في جميع الأرض غيره، ولا نظير له فيهم غيره، وكان كل واحد منهم برًّا بأخيه، مصفياً له هواه، مائلاً إليه بودِّه، ولا يؤثر عليه غيره.
فكان النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام أبر الخلق بأخيه، لا يتقدمه عنده أحد في ثقته، وبره إيَّاه، وإفضائه بأسراره إليه أولى الخلق بذلك صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ؛ حتى إذا حضرته الوفاة أوصى إليه بقضاء دينه، وإنفاذ عدَّته، وغسله وحنوطه وكفنه، دون الأُمَّة كلها، لا يختلف في ذلك أحد.
فقام علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بهذا كله دون الخلق مع ما عهد إليه وإلى الأُمَّة فيه من الولاء في غدير خُمٍّ.

(1/143)


[اشتغال علي (ع) بجهاز رسول الله (ص)]
فلما توفي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- اشتغل علي بجهاز أخيه، واشتغل أبو بكر وعمر بطلب مقام علي من رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، فدعا كل واحد منهما الناس إلى بيعة أخيه كما دعا رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى بيعة عليٍّ أخيه، فلم يُطَعْ إذ دعا إليها، وأُطِيْع عمر إذ دعا إلى بيعة أخيه أبي بكر، فقام أبو بكر مقام عليٍّ، وكان طلب الخلافة عندهما أولى من جهاز رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ومواراته في قبره صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، والحزن عليه، وعظم المصيبة.
فلما حضرت أبا بكر الوفاة دعا الناس إلى بيعة عمر أخيه، ورد الأمر إليه، وكذلك قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ يوم بيعة أبي بكر لعمر حين قال عمر لعليٍّ: أيُّها الرجل لست بمتروك أو تبايع.
فكان من قول علي لعمر: احلب حلباً لك شطره، أشدد له الأمر اليوم ليرده عليك غداً.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: أليس قد حلب عمر لأبي بكر ورد عليه أبو بكر فقام عمر مقام أخيه بالخلافة.
فلما حضرته الوفاة نظر إلى من بقي من الأخوة الذين آخا بينهم رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ممَّن يصلح للخلافة عندهم، فإذا عثمان بن عفّان وعبد الرَّحمن بن عوف أخوان، وإذا طلحة والزبير أخوان، وإذا علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقّاص ليس واحد منهما لصاحبه بأخ.
فعلم عمر أن كل واحد من هؤلاء الأربعة؛ كل واحد منهم يدعو إلى أخيه ولا يؤثر عليه أحد.

(1/144)


وعلم أن عبد الرَّحمن بن عوف وسعد بن وقاص ابنا عم، زهريان، كل واحد منهما صِهر لصاحبه مع الأخوة.
فأمر الخمسة واحد من جهة الأخوة والقرابة والصهورة، وبقي على بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ليس له في القوم أخ، ولا صهر، ولا قريب، ولا من يعتضد به، ولا من يدعو إليه؛ غير أن الزبير قد كان دعا إلى علي يوم بيعة أبي بكر فخرج بسيفه وقال: لا أبايع إلا عليّاً.
فصاح عمر: اقتلوا الكلب -يعني الزبير-.
فوثب إليه أسيد بن الحضير وسلمة بن أسلم فانتزعوا السيف من يده.
فخاف عمر شذوذ الزبير وميله إلى علي لتلك الفعلة، ووثق بهؤلاء الأربعة أنهم لا يدعون إلى علي، ولذلك جعلها عمر شورى.
والدليل على ذلك قوله:(إن اجتمع ثلاثة وثلاثة فالحق في الفرقة التي فيها عبد الرَّحمن بن عوف)، وذلك أنه علم أنه يدعو إلى أخيه عثمان بن عفّان:(إن اتفق أربعة وخالف اثنان فاضربوا أعناق الاثنين)؛ لأنه علم أن علي بن أبي طالب والزبير سيخالفان، وأن عليّاً سيدعو إلى نفسه ويستجيبه الزبير كما خالفا عليهم يوم بيعة أبي بكر، وإلا فما دليل عمر أن الحق في الفرقة التي فيها عبد الرَّحمن بن عوف؛ إذ لم يكن أمراً من الله ولا من رسوله.
ثم حكم بحكم آخر: أن يصيروا الستة أصحاب الشورى في بيت ويتشاوروا فيه ثلاثة أيام، ولا يدخل عليهم أحد، (فإن مضت ثلاثة أيام ولم يقيموا رجلاً منهم فاضربوا أعناقهم جميعاً).
وصيَّر على ضرب أعناقهم ابنه عبد الله [بن عمر]، واستخلف على الصلاة صهيب الرومي، فكان يصلي بالمهاجرين والأنصار.

(1/145)


فإذا كانت الصلاة - فيما زعموا عندهم - عمود الدين، وهي أفضل الأعمال، وهي دليلهم على أبي بكر؛ إذ زعموا أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أمره بالصلاة فقد دلَّهم عمر على صهيب إذ أمره بالصلاة، فما كان حاجتهم إلى الشورى، مع أن تصحيح فعال عمر في الشورى وصرفه الخلافة عن علي بن أبي طالب، ومحبَّته أن يصيِّر إلى عثمان بن عفان من جهة عبد الرَّحمن بن عوف، أنهم لما اجتمعوا فاحتج عليهم أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بما قد ذكرنا فلم يقبلوا من قوله شيئاً، فقال عبد الرَّحمن - وقوله لأصحاب الشورى -:(صيِّروا الأمر في يدي على أنِّي أخرج منها نفسي وأصير الخلافة إلى رجل منكم ترضون به جميعاً، يعمل فيها بكتاب الله وسنة نبيِّه).
فصيَّروا الأمر إليه على هذه الشريطة، فلم يختلج أحد ممن له عقل ومعرفة أن عبد الرَّحمن بن عوف سيصيرها إلى علي؛ إذ ليس أحد من القوم أعلم بكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا بحلاله ولا بحرامه، ولا سنَّة رسوله منه.
فخلا عبد الرَّحمن بأخيه عثمان فقال له:(أصيِّرُها إليك على أن تعمل فيها بكتاب الله وسنة نبيه، وتسير فيها سيرة أبي بكر وعمر، وتجعل لي مصر طعمة ما بقيت).
فأجابه إلى ذلك، واستتر بقوله:(تعمل فيها بكتاب الله وسنَّة رسوله)، فأوضح سيرة أبي بكر وعمر، ولم يرد غير سيرتهما؛ لأنه علم أن علياً لا يسير بسيرتهما.
ثم خلا بسعد فقال له:(أصيِّرُها إليك على أن تحكم فيها بكتاب الله وسنة رسوله، وتسير فيها بسيرة أبي بكر وعمر، وتجعل لي مصر طعمة ما بقيت). فأجابه إلى ذلك.

(1/146)


ثم خلا بطلحة بن عبيد الله فقال له مثل مقالته لصاحبه، فأجابه إلى ذلك.
ثم خلا بالزبير بن العوَّام فقال له مثل مقالته لأصحابه، فأجابه إلى ذلك.
ثم خلا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلامُهُ فقال:(إنِّي أُصيِّرُها إليك على أن تحكم فيها بكتاب الله وسنة نبيِّه، وتسير فيها بسيرة أبي بكر وعمر، وتجعل لي مصر طعمة ما بقيت).
فقال أمير المؤمنين:(أحكم فيها بكتاب الله وسنة نبيِّه، وأنظر في شرطك في مصر؛ فإن كان يصير لكل رجل من المسلمين مثل مصر صيرت لك مصر وإلا فليس لك عندي إلا ما لأقصَى رجل من المسلمين وأدناهم).
فأعاد عبد الرَّحمن الشروط كلها على القوم فأجابوه بجوابهم الأول ما خلا أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ فلم يجبه إلاَّ إلى ما قد كان قال له.
فجعل يسألهم ثلاث مرات فيجيبوه بقول واحد، ويسأل أمير المؤمنين فيجبه بجوابه الأوَّل.
ثم قال عبد الرَّحمن لأخيه عثمان:(أبسط يدك أبايعك)، فبسط يده فبايعه.
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: في أي كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيِّه عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام كانت الشروط؟
وهل كانت سيرة أبي بكر وعمر بغير كتاب الله وسنة نبيه؛ إذ أجابه القوم إلى ذلك، وكره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ؟!.

[التحكيم]
وزعمت الخوارج: أن علياً حكَّم في دين الله ولم يكن ذلك له.
وزعموا: أنه حكَّم كافرين: أبا موسَى الأشعري وعمرو بن العاص، وكان الحُكم فيهم القتال، أو الفيء إلى أمر الله.

(1/147)


واحتجوا بقول الله تبارك وتعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات/9] .
واحتجوا بحكومة ذوي عدل بقتل عصفور قُتل في الحرم، وغير ذلك.
[الجواب في التحكيم]
سل الخوارج عن ذات أنفسهم؛ إذ كانوا في عسكر علي يقاتلون معاوية، وأهل الشام في عسكر معاوية يقاتلون معه، يضرب بعضهم رقاب بعض، أَفِئَة واحدة كانوا مؤتلفين أم مفترقين مختلفين؟
فإن قالوا: بل فئتين مختلفتين، تدَّعي كل واحدة منهما الحق، وتدَّعي كل واحدة منهما أن الأخرى عليها باغية.
فقل لهم: فإن كانوا كذلك فمن أي جهة نقَلت أن عليّاً كافرٌ؛ أمن الموافق لها أم من المخالف؟!
فإن قالوا: بل من الموافق من أصحابهم.
فقل لهم: كيف تُقبل شهادتهم على عليٍّ وهم أعداؤه وخصماؤه؟
فإن كانت تجوز شهادة الخصم على خصمه لم لا تجوز شهادة علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ أنهم كُفَّار كما جوَّزُوا شهادتهم على علي أنه كافر؟
وكيف تجوز شهادة أبي لهب - عدو الله - على رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ: أنه ساحر، وشاعر، ومجنون؟!.
فإن قالوا: لا تجوز شهادة العدو على عدوه.
فقل لهم: فكيف تجوز شهادة الخوارج على عليٍّ وهم أعداؤه؟
وإن كان لا تجوز شهادته عليهم ولا شهادتهم عليه دون ناظرٍ في أمره وأمرهم من غيره وغيرهم، وهو الناظر الذي افترض الله عليه الإصلاح بين الفئتين إذا اقتتلتا.
فإن قالوا: لا يجوز دون ناظرٍ بينهما ليعرف الباغي من المبغي عليه.

(1/148)


فقل لهم: أخبرونا عن هذا الناظر الذي ينظر بينكم؛ أليس طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله؟
فإن قالوا: بلى؛ وقد نظرنا نحن فلم يخف علينا ولا على أحد من الأُمَّة أن معاوية وأصحابه هم الباغون على علي وأصحابه، فلم نجد إلا القتال لمعاوية ولأصحاب علي حتَّى يفيئُوا جميعاً إلى أمر الله.
فقل لهم: ليس النظر إليكم، إنما النظر إلى غيركم فيكم وفي أصحاب معاوية؛ لأنكم فِئَتان اقتتلتم فأَمَرَ الله غيركم بالنظر فيما بينكم لأن يصلح بينكم أو يقاتل الفئة الباغية منكم؛ لأنه المأمور بالإصلاح بينكم، أو القتال لهم، أو لكم، فعليه الأمر والنهي لكم، وعليكم السمع والطاعة له، ليس لكم أن تنازعوه، ولا تُخَطِّئُوه في شيءٍ من أفعاله؛ لأنه هو المسئُول عمَّا أمر به يوم القيامة مطيعاً كان لله أو عاصياً، وأنتم المسئولون عن أمره ونهيه إيَّاكم، ناجين بطاعته، وهالكين بمعصيته؛ إذ كانت - زعمتم - طاعته طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، ومعصيته معصية الله.
فإن قالوا: إن من كانت طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله لم يقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، ولم يُحكَّم كافرين في دماء المسلمين، ونحن نرى علي بن أبي طالب قد حَكَّم كافرين في دين الله في سفك دماء المتهجدين في الأسحار، القائمين الليل، والصائمين النهار، لم يشهد عليهم أحد من الخلق أنهم سفكوا دماً، ولا استحلوا محرماً، ولم يجحدوا ربًّا، ولم يتركوا صلاةً ولا صياماً.

(1/149)


[قصة ذي الثدَيَّة بن ذي الخنيصرة التميمي]
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: أليس تشهدون أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله؟
فإن قالوا: بلى.
فقل لهم: فهل يشهد أحد من الخلق على ذي الثدية بن ذي الخنيصرة التميمي أنه قتل أحداً على عهد رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، أو استحل محرماً حين أمر النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام بقتله، وذلك أن الأُمَّة نقلت بالأثر المشهور أنهم قالوا:
بينا رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام يُقسِّم الغنائم في مسجده؛ إذ دخل عليه ذو الثُدَيَّة بن ذي الخنيصرة التميمي فقال له: إعدل يا محمَّد!.
قال:((ويْلك! إن أنا لم أعدل فمن يعدل؟)).
ثم دخل المسجد يصلي فدفع عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إلى أبي بكر سيفاً فقال:((إذهب؛ فاقتل المصلي)).
فذهب أبو بكر فوجده راكعاً يصلي فكره قتله، وتحرَّج من ذلك ورجع إلى النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ فقال: يا رسول الله؛ وجدتُ رجلاً يصلي راكعاً فكرهت أن أقتل مصلياً.
ثم دفع السيف إلى عمر وأمره بمثل ما أمر به أبا بكر، فوجده ساجداً فكره قتله فرجع إلى النبي فقال: يا رسول الله؛ وجدتُ رجلاً ساجداً فكرهت قتله.
ثم دفع السيف إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وقال:((إذهب؛ فاقتل المصلي، ولا أراك تجده، وأنت قاتله في عصبة يخرجون عليك معه)).
فذهب أمير المؤمنين فلم يجده حتى خرج عليه هو وأصحابه يوم النهروان، وقتله أمير المؤمنين وأصحابه.

(1/150)


فقل للخوارج: فلم لم تنكروا على رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أن يأمر بقتل رجلٍّ يصلي لم يشهد عليه أحد من الأُمَّة أنه قتل نفساً، ولا جحد فرضاً، وأنكرتم على أمير المؤمنين، فقال قوم:(بايعوه). فنكثوا بيعته، وخلعوا طاعته، وفارقوا جماعته، مع إقرارهم بأنه وصيّ رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
[قصة الصبي المتعبد الذي أمر النبيّ (ص) بقتله]
وقد روي عن أبي أويس قال: حدثنا عبد العزيز بن محمَّد بن أبي عبيد [الدراوردي] عن موسى بن عبيد بن عبد العزيز الزندي عن هود بن عطاء، عن أنس بن مالك قال:
كان صبي وجِدَ متعبداً على عهد رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام يعجبنا شأنه، فذكرنا ذلك للنبي عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام ذات يوم، فقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((لا أعرفه)).
فوصفناه فلم يعرفه، فبينا نحن على ذلك إذ طلع فقلنا: هو هذا.
فقال رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((إنِّي لأرى رجلاً عليه مقنعة من الشيطان)) .
فأقبل عليه حتى وقف علينا، فقال له النبي [-صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-]:((نشدتك بالله؛ هل قلت حين وقفت علينا: ما في هذا المجلس أحد خير مني؟)).
فقال: نعم.
ثم دخل يصلي، فقال النبي عليه وآله السلام:((من يقتله؟)).
فقال أبو بكر: أنا.
فقام ليقتله، فلما رآه يصلي تركه ورجع، فقال: يا رسول الله؛ نهيتنا عن قتل المصلين فكرهت أن أقتله وهو يصلي.
فقال رسول الله:((من يقتله؟)).
فقال عمر: أنا.
فوجده عمر ساجداً فقال: قد رجع من هو خير مني، وجدته ساجداً فلم أقتله.

(1/151)


فقال رسول الله:((من يقتله؟)).
فقال علي بن أبي طالب: أنا أقتله يا رسول الله.
فقال رسول الله:((أنت إن أدركته)).
فذهب فلم يقدر عليه، ووجده قد خرج.
فقال رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ:((لو قتل هذا لكان أولهم وآخرهم ما اختلف من أُمَّتِي رجلان)).
[قصة موسى عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ والعبد الصالح]
فإن أنكرت الخوارج هذا الحديث فقل: هل ينكرون ما حكى الله في كتابه المنزل على لسان نبيِّه المرسل عن موسى نبي الله عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ والعبد الصالح الذي قال فيه:{عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}[الكهف/65-70] .
فلما ركبا في السفينة خرقها العالم؛ فكان خرقها لله رضاً، ولموسى سخطاً، ولأهلها نجاةً.
فقال موسَى:{أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}[الكهف/71] .
ولا اختلاف عند ذوي العقول وأهل المعرفة أن خرق السفينة دليل على غَرَق أهلها، وعند العالم علم ما لم يطلع عليه ذووا العقول أن ذلك نجاة لأهلها.

(1/152)


فقال العالم لموسَى:{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}[الكهف/72] ، فقال موسى:{لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}[الكهف/73] .
{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا}[الكهف/74] فقتله العالم، فقال موسى:{ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}[الكهف/74] ، فكان قتل العالم [للغلام] لله رضاً، ولموسَى سخطاً، ولأبويه صلاحاً.
ولا اختلاف بين الأُمَّة أن من قتل نفساً بغير نفس دليل على الإثم الكبير، وعند العالم من العلم ما لم يكن عند موسى.
فقال له العالم:{أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}[الكهف/75] . فقال:{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}[الكهف/76] .
{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ}[الكهف/77] فأقامه العالم، فقال له موسَى:{لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}[الكهف/77] ، فكان إقامة الجدار لله عَزَّ وَجَلَّ رضاً، ولموسى سخطاً، وللغلامين صلاحاً؛ لأن يستخرجا كنزهما من تحته، فقال العالم لموسَى:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[الكهف/78] .
فأخبر العالم موسى بخبر السفينة وأخذ الملك السفن غصباً بأنه خاف عليها.

(1/153)


وبخبر الغلام وما خشي أن يرهق أبويه من الطغيان والكفر، وأن الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ أراد أن يبدلهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً.
وبخبر الجدار وبالكنز الذي كان تحته للغلامين حين أقامه؛ لأن يبلغ الغلامان أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربِّك.
ثم اعتذر العالم إليه فقال:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}[الكهف/82] إنما فعلته عن أمر الله.
وكذلك أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ كان عنده من العلم بقتال أهل النهروان ما لم يكن عند من نقم عليه ذلك، ولم يقتلهم إلا بأمر رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، ولم يأمر رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عليّاً بقتلهم وقتالهم إلا بأمر الله، فكان قتلهم لله رضاً، ولمن نقم ذلك سخطاً، وللأُمَّة صلاحاً.
[وصيَّة رسول الله (ص) لعليٍّ(ع) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين]
لكن الأُمَّة نقلت أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أوصى إلى علي وقال له:((قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)).
فلم يكن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام ليوصي إلى علي إلا بأمر الله تبارك وتعالى.
ولم يكن الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ ليأمر رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أن يوصي إلى عليٍّ وهو يعلم أنه يسفك الدماء التي حرم الله، ولا يُغيِّر، ولا يُبدِّل؛ لأنه ليس من فعل حكيم أن يرسل رسولاً وهو يعلم أن ذلك الرسول يخالف أمره، ولا يكون إلا معصوماً باختياره واستحقاقه، ولا يفعل إلا ما يُؤْمر به؛ لأنه تبارك وتعالى عالم بما الخلق عاملون، وما إليه صائرون.

(1/154)


وكذلك قال -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:{مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأحقاف/9] .
فإن زعموا: أن طاعته ليس لله بطاعة، وأن معصيته ليست لله بمعصية؛ وإنما أقاموه ضرورة من جهة التراضي بين المسلمين لا من جهة الفرض من الله؛ كالميتة يحل أكلها لمن اضطر إليها، وكالتيمم من الصعيد مباح لمن لم يجد ماءً.
فسلهم: ماذا يقولون في سفك ما سفكوا من دماء أصحاب معاوية، وأصحاب طلحة، والزبير، وعائشة، وما سفك أصحاب معاوية، وأصحاب طلحة، والزبير، وعائشة، من دماء أصحابهم على ضرورة كان ذلك؟
أم لم يجدوا الذي أمروا به كما لم يجدوا أصحاب الميتة طعاماً حتى اضطروا إلى أكلها والطعام موجود معروف؟!
وكما لم يجد المتيمم ماء في وقت حاجته إليه حتى اضطروا إلى الصعيد، والماء بعد ذلك قائم موجود معروف؟
فنحن نجد الماء والطعام بعد عدمهما في وقت الضرورة موجودين قائمين ليسا بمنقطعين أبداً.
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ أمر مصلحاً يصلح بين فِئَتين من المسلمين اقتتلتا طاعة من الله مفروضة وهو عندهم معدوم، وهذا من المحال، وليس من فعل حكيم أن يأمر تبارك وتعالى مصلحاً يصلح بين فِئَتين طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، وهو معدوم لا يعرف.
لقد أعظمت الخوارج ومن قال بمقالتهم في هذا الفرية على الله، سبحانه وتعالى عمَّا يقولون علواً كبيراً.
فما عذرهم عند الله في سفك دم من لم يؤمروا بسفك دمه؟

(1/155)


وما حجتهم على من خالفهم من أهل الشام فقال: معاوية كان إماماً من جهة التراضي بين المسلمين لا من جهة الفرض من الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن تراضوا به كما تَرَاضَى أصحاب عليّ بعليّ؟
وما حجتهم على من خالفهم من أهل البصرة فقال: إن طلحة والزبير كانا إمامين من جهة التراضي بين المسلمين كما تراضَى أهل العراق [بعلي]، وكما تراضَى أهل الشام بمعاوية لعنه الله؟
فإذا كان الأمر على هذا سقط الفرض عن الخلق، ومتى سقط الفرض عن الخلق سقط الاستعباد، ووقع التهارج، ولم يكن لقول الله تبارك وتعالى معنى؛ لأنه أمر بمعدوم لا يوجد، وحاشاه تبارك وتعالى عن ذلك.
وما حَاجَةٌ إلى قوله، وما معنى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات/9] ؛ إذ أمر تبارك وتعالى مصلحاً يصلح بين فِئَتين من المؤمنين اقتتلتا فلم يدل الخلق على المصلح الذي من أطاعه أطاع الله، ومن عصاه عصا الله.
فإن زعموا أن معاوية وأصحابه هم الباغون، وأن الخوارج هم المبغي عليهم، فمن المأمور بالإصلاح؟
[الجواب على طعن الخوارج في تحكيم علي (ع) أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص]
وما لهم رَضوا ببعث أبي موسَى إذ بعثه علي وأصحابه من قبل التحكيم؟ ولم دخلوا في فِئَة علي وأقاموا في عسكره رضي الله عنه سامعين لأمره مقتصرين على رأيه، يُصَلُّون خلفه، ويقتدون به، حتى فرغ الحَكَمَان من حكومتهما؟ أفلا اعتزلوا قبل ذلك ثم نظروا في أمر معاوية وأمر علي إن كانوا - زعموا - أنهم المأمورون بالإصلاح والقتال؟

(1/156)


فإن كان عليٌّ وأصحابه عندهم هم الباغون قاتلوهم مع معاوية، وإن كان معاوية وأصحابه هم الباغون قاتلوهم مع علي.
فإن قالوا: قد أخطأ وأخطأنا إذ حَكَّم كافرين في دين الله وفي دماء المسلمين: أبا موسَى الأشعري، وعمرو بن العاص، وأخرج الحكم من يده إليهما.
فقل لهم: إن كان من أنصف من نفسه فأخرج الحكم من يده إلى غيره وأمره أن يحكم بما أنزل الله فكان ذلك عندهم خلعاً لنفسه داخل في الكفر تجب البراءة منه، فرسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إِذَنْ خالع لنفسه من النبوءة، خارج من الدين، يوم الذي صيَّر الحكم إلى سعد بن معاذ حين أبت اليهود من بني قريضة أن تنزل على حكمه، وسألت أن تنزل على حكم سعد بن معاذ.
وحين دعا اليهود والنصارى إلى المباهلة فقال:{[فَقُلْ] تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران/61] .
وحين قال:{فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[القصص/49] .

(1/157)


فإن كان الحق عند الخوارج على ما فعل النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام من تصيير حكم بني قريضة إلى سعد بن معاذ، والمباهلة للنصارى، وسؤاله كتاباً هو أهدى من كتابه إنصافاً لهم، وإثباتاً للحجة عليهم، وقلة شك منه لما هو فيه، وثقة بما هو عليه، وعلمه أنهم لا يأتون بكتاب هو أهدى من كتابه، فِلَمَ عابت الخوارج أمير المؤمنين وقد فعل مثل فعل رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام عَلَى أن مع رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ملائكة منزلين ومردفين ومسومين يضربون من أدبر وتولَّى، فأعطاهم [رسول] الله أكثر مما فعل أمير المؤمنين.
فإن قالوا: قد أخطأ وأخطأنا إذ حَكَّم كافرين في دماء المسلمين.
فقل لهم: أخبرونا عن أبي موسى وعمرو متى كفرا أَقَبْل التحكيم أم بعده؟
فإن قالوا: قبل التحكيم.
فقل لهم: فابرؤُا إِذَنْ من رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام إذ ولّى أبا موسَى تهامة، وولى عمرو بن العاص غزوة ذات السلاسل على سرية من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر.
وابرؤا أيضاً من عمر بن الخطاب إذ ولّى أبا موسَى البصرة وهو كافر يحكم في دمائهم، وفروجهم، وأموالهم.
فإن قالوا: إنما كفر بعد الحكومة.
فقل لهم: فما يلزم أمير المؤمنين من كفر أبي موسَى إذ كفر بعد إيمانه، أَمره أن يحكم بما أنزل الله كما أمر الله أهل الكتاب النصارى وغيرهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه؛ إذ يقول:{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّه فِيه} [المائدة/47] ، فأمرهم أن يحكموا وهم كفار، فلو حكموا بالإنجيل لخرجوا من كفرهم.

(1/158)


وكذلك أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ما ذا عليه إذ أمر أبا موسى أن يحكم بما أنزل الله فلم يفعل؛ مع أن قولهم حَكَّم أبا موسَى وهذه لفظة تغليط؛ لأن بين التحكيم والحكم فرقاً في المعنى واللفظ.
[الفرق بين التحكيم والحكم]
فأمَّا التحيكم: فقول الرجل للرجل:(إحتكم في مالي ما شئت) على أنه لا يرده فيما طلب، وهذا معنى التحكيم.
[وأمَّا الحكم]: فقول الرجل للقاضي:(أحكم بالحق)، فليس للقاضي أن يعدو حكم الله؛ لأنه مؤتمن.
وكذلك أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ إنما أمر أبا موسى أن يحكم بالائتمان منه على الإيمان.
[الفرق بين الإيمان والائتمان]
فإن قالت الخوارج: ما الفرق بين الإيمان والائتمان، وما المعنى فيهما؟
فقل لهم: أمَّا الإيمان: فمثل الرَّجل يُوَكِّل الرَّجل فيما يثق به، فهو أمينهُ، والعدل عنده في كل ما صنع، راضياً بذلك عليه وله.
وأمَّا الائتمان: فمثل الرجل يأمر (اليهودي والنصراني) فيقول له:(اتق الله وانظر في وجه النظر، واحكم بما حكم الله)، واليهودي والنصراني عنده غير ثقتين ولا أمينين، فمتى حكما بحكم الله خرجا من كفرهما.
[الجواب على الخوارج في تحكيم علي(ع) الحَكمين وهو يعلم أنهما يخلعانه]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن الشيعة تقول: إن علي بن أبي طالب يعلم الغيب.
ولو كان يعلم الغيب لما حَكَّم الحكمين وهو يعلم أنهما يخلعانه.

(1/159)


وزعموا: أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يعلم الغيب، واحتجوا بقول الله عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ}[الأعراف/188] .
وزعموا: أن أحداً لو يعلم الغيب لعلمته ملائكة الله المقربون.
ولعَمْرِي ما قالت الشيعة ولا أحد من الخلق أن عليّاً يعلم الغيب.
الجواب في ذلك قول الشيعة:
إنَّ لله تبارك وتعالى عِلْمين؛ عِلم لم يُطْلِع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً.
وعِلم أطلع عليه من شاء من أنبيائه المرسلين.
وقد أعلم تبارك وتعالى من أنبيائه من الغيب ما لم يُعلمه ملائكته.
هذا آدم عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ نبي الله قد علم من الغيب ما لم تعلمه الملائكة، قوله تبارك وتعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة/31] وكانت الأسماء ممَّا غَيَّبَ الله علمها عن الملائكة، ثم عرضهم على الملائكة فقال:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة/31] ، فتبرؤا من علم الغيب الذي علمه آدم ولم يعلموه، فكان من قولهم:{سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة/32] .
قال الله:{يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة/33] ، فأعلمهم أن علم آدم من علم الغيب.

(1/160)


وأما قولهم: إن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يعلم الغيب، واحتجوا بقول الله عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ}[الأعراف/188] .
ففهمت الخوارج هذه الآية وتأويلها على الطعن على محمَّد صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وتركوا ما أكرمه الله به -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من اطلاعه إيَّاه على غيبه إذ يقول تبارك وتعالى؛ إذ تفرَّد بالغيب واستثنائه نبيّه في كتابه الناطق على لسان نبيِّه الصادق:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}[الجن/26] ، [ثم استثنى تبارك وتعالى فقال]:{إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن/27] .
فسل الخوارج: من هذا المستثنى في علم الغيب: أرسول الله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ؟ أم ذو الثدَيَّة؟.
وسلهم: من قال الله فيه:{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}[التكوير/20-21] من هذا المطاع الأمين الذي كانت تطيعه الشجر والوحوش والهوام ولا يعصيه شيءٌ ممَّا يدل الخلق عليه؟.
[بعض معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم]
من ذلك أنه قال للشجرتين حين أراد القعود بينهما:((أقبلا)) فأقبلتا تخطان الأرض خطاً حتى قعد بينهما، ثم قال:((ارجعا)) فرجعتا.
[1- قصة انشقاق القمر]
وقوله [-صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-]للقمر:((هات نصفك))، فسقط نصف القمر في يده حين سأله المشركون ذلك.

(1/161)


وفي رواية أخرى: أنه انشق في السماء نصفين ونزلت فيه السورة:{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر/1] وذلك حين سأله المشركون في ذلك.
[2- قصة أهيان بن الأكوع مع الذئب]
وحديث أهيان بن الأكوع الرَّاعي إذ أتاه ذئبٌ فاحتمل شاة من غنمه، فقال أهيان: يا عجباه! ذئب احتمل شاة أكبر منه؟
فقال الذئب: أعجب والله من ذلك: أن محمَّداً رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ ببطن مَكَّة بين أظهركم يدعوكم إلى الله فلا تجيبونه.
فقال أهيان بن الأكوع: وأعجب من ذلك كله كلامه.
فكان بينهما كلام كثير إلى أن قال له أهيان: والله لو كنتُ أجد من يرعى لي غنمي ويضمنها لي لخرجت إليه.
فقال له الذئب: أنا أضمنها لك.
فضمنها إيَّاه وخرج أهيان، فلما رآه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مقبلاً قال:((هذا أخوكم أهيان كان من شأنه وشأن الذئب كذا وكذا، وقد استودع الذئب غنمه)) فأخبره بقصته، فقال له النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((ارجع إلى غنمك فإن الذئب يرعاها لك))، فرجع وقد أسلم.
وزعمت الخوارج: أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يعلم الغيب، فمن أعلم رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بهذا الغيب؟.
[3- قصة بعير يشكو صاحبه بين يدي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-]
ويوم سار ببعير معقول فلما نظر إليه البعير خرَّ بين يديه فقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((من صاحب هذا البعير؟))
فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله.

(1/162)


فقال:((ما أعددت لخصومته؟ زعم أنك عقلته منذ اليوم لم تطعمه شيئاً، ولم تحله يطلب على نفسه؟)).
[4- قصة الذراع المسموم]
وقصة الذراع الذي وضع له المشركون فيه السّم، وكان يعجبه الذراع، فلما مد يده إليه أنطق الله الذراع فقال: يا رسول الله؛ لا تأكلني فإنِّي مسموم.
[5- الرسول يُعلم عمَّه العبّاس أن لديه مالاً أعطاه أم الفضل]
وقوله لعمِّه العبّاس ببدر يوم أُسِر؛ إذ طلب منه أن يفتدي نفسه، فقال: ليس عندي ما أفتدي به نفسي.
قال:(( بلى؛ من المال الذي أعطيته أم الفضل)).
فقال العباس: والله ما اطلع على ذلك غيري وغيرها. فأسلم العباس.
[6- المرأة اليهودية وبيعها سلمان الفارسي من رسول الله (ص)]
وحديث المرأة اليهودية التي كرهت أن تبيع سلمان الفارسي إلى رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إلا بأربعمائة نخلة موقرة مُطعمة، فأمر النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ عليّاً أن يأتيه بأربعمائة نواة، فأتاه بها، فجعل رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يأخذ النواة فيبلها بريقه، ثم يغرسها في الأرض، ثم يأخذ الأخرى فلا يغرسها حتى تطِلع الأولى بقنوانها موقرة ما بين صفراء وحمراء، صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَرَحِمَ وَكَرَّمَ، حتى أتى على آخرها فدفعها إلى الإمرأة ثمناً لسلمان.

(1/163)


[7- إخباره (ص) بما كان قبله وبما يكون بعده من الأعاجيب والفتن]
ومثل إخباره بما كان قبله من الأُمم الماضية، وبما يكون بعده من الأعاجيب والفتن التي قد شاهد الخلق بعضها ممَّا قد كان وممَّا سيكون، مثل قوله للزبير:((لتقاتلنه وأنت له ظالم-يعني عليًّا-)).
ـ ولعائشة:((لَتُقَاتِلِنه وأنت له ظالمة)).
ـ وبفتنة عثمان وقتله، وقتل الحسين عليه أفضل السلام.
ـ وظهور بني أُميَّة وملكهم رجلاً رجلاً، وكم يملك كل واحد منهم، وما يكون في زمانه، ومما تكون منيَّته.
ـ وبملوك بني العبَّاس رجلاً رجلاً، وبملك كل رجل منهم، وبما يكون في زمانه ، ومما تكون منيَّته.
ـ وبفتنة الدَّجَّال، وخروج السفياني، ومن يلحقهما، وفي أي وقت يخرجان.
ـ وكان يقول -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه:((سووا صفوفكم فإنِّي أراكم من خلفي كما أرى قبلتي أمامي)).
ـ وقوله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام:((من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي))، فكل زائر يزوره من الخلق بعد وفاته فهو يعرفه باسمه واسم أبيه، وفي أي بلد هو لا تنكر الأُمَّة هذا، وأنه يشهد له يوم القيامة.
ـ فإن أنكرت الخوارج ذلك فلم لم تنكر الحديث المشهور الذي نقلته الأُمَّة من أهل العلم: أن الله تبارك وتعالى أخذ مواثيق العباد فصيرها في الركن ليحتج به على الخلق يوم القيامة على أنه حجر لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينطق، فليس من أحد يطوف بالبيت إلا وهو يستلم الركن، أو يقوم بحذائه إن لم يقدر على استلامه فيشير إليه ويقول:(اللَّهُمَّ أمانتي أدّيتها، وميثاقي تعاهدته، ليشهد لي بالموافاة).

(1/164)


ولا اختلاف بين الأُمّة أنه يؤتَى بالركن يوم القيامة فيُقعد على منبر من نور فينطق بلسان ذلق، فيشهد لجميع من وافاه من الخلق منذ أنزله الله عَزَّ وَجَلَّ إلى البيت إلى يوم القيامة، يعرّفهم بأسمائهم وأنسابهم، هذا على أنه حجر لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينطق، ورسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ حُجَّة الله على خلقه، والشاهد على الأولين والآخرين يوم القيامة، يدل على ذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}[النساء/41] .
وقوله:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب/45-56] ؛ فهو الشاهد على الخلق، والمطلّع على أعمالهم حيّاً وميِّتاً صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ، يدل على ذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ:{وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التوبة/105] هذا في الدنيا.
ثم قال:{وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة/105] هذا في الآخرة.
فإن قالوا: قد نرى الله قد استثنى مع رسوله على الإطلاع على أعمال العباد المؤمنين، فَمَن هؤلاء المؤمنون الذين استثناهم الله؟

(1/165)


فقل لهم: أولئك حُجَج الله وأوصياء رسوله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ قد احتج بهم على خلقه خلفاء من بعد النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- واحداً بعد واحدٍ، فلذلك سمَّاهم فقال:{وَالْمُؤْمِنُونَ}.
فإن أنكروا ذلك على الأوصياء خاصة، وقالوا: هي في المؤمنين عامَّة.
فقل لهم: فليقصدوا لنا رجلاً منهم أو من غيرهم ممَّن لا يشكّون في إيمانه ليخبر رجلاً منا أو من غيرنا من عمله الذي يعمل في منزله في ليل أو نهار، أو سر أو علانية، حتى نعلم أنه من أهل هذه الآية الذي يطلعون مع الله ومع رسوله على أعمال العباد إن كانوا صادقين.
فإن قالوا: لسنا ننكرها عن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ وعلم ما أطلعه الله عليه؛ إذ كان حُجَّة الله على خلقه، ولكن ننكر قولكم إن علي بن أبي طالب يعلم الغيب، وإنكم إنما تأولتم فيه، وقلتم فيه ما ليس فيه ولا له، ولم يدّعه لنفسه.
قلنا لهم: أمَّا نحن فلم ندع أن عليّاً يعلم من الغيب شيئاً من تلقاء نفسه، أو أنه إله.
ونحن ننسبه إلى أبي طالب، فالإله ليس له أب، وننسب الحسن والحسين إليه ابنين، والإله لا ولد له، ونقول إنه [زوج] فاطمة [رضي الله عنها]، والإله لا صاحبة له، وهو بشر يناله من الملالة والضجر، والموت والحياة ما ينال مثله، وهو متعبد في صلاته وصيامه وحَجِّه وجهاده.

(1/166)


فمن كان على هذا الحال كيف يكون إلهاً؟ وَلِمْ أتعب نفسه بالعبادة، وَلِم خلق معاوية إن كان إلهاً حتى يقاتله، وَلِم خلق ابن ملجم حتى يقتله؟ إن هذا الإله ضعيف، وهذا قول الرعاع والهمج، ومن لا رَوِيَّة له، ولا معرفة عنده.
وكيف تقول الشيعة هذا وهم رجال الأُمَّة في أهل العلم والنظر، والتوحيد والعدل، ولولاهم لظهرت الزنادقة على الأُمَّة، ولا كان في سائر الفرق تمييز بين الحق والباطل، ولا من يعرف الخطأ من الصواب.
فهم رجال الإسلام، والذابون عن دين الله عَزَّ وَجَلَّ، وأهل الفتش والنظر والعلم بالقرآن والحجج المنيرة، والأقوال الرشيدة، والبيان الزاهر، ولله عَزَّ وَجَلَّ المِنَّة عليهم في ذلك؛ إذ هم الفرقة الناجية.
ولكن من قول الشيعة: إن رسول الله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ قد أطلعه الله من غيبه على ما يحتج به على عباده ليكون له عليهم بذلك شهيداً، ويكون له بتصديقهم إيَّاه حُجَّة، فلم يبق ممَّا تحتاج إليه الأُمَّة من قليل ولا كثير، ولا دقيق ولا جليل، ولا حلال ولا حرام، ولا ما قد كان ولا ما هو كائن إلى يوم القيامة إلا وقد علمه رسول الله عن الله.
وكذلك علي بن أبي طالب عَلِمَه عن رسول الله، فرسول الله حُجَّة الله، وعلي حُجَّة لرسول الله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
تم الجزء الثالث بمنّ الله وعونه وتوفيقه وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وآله وسلم.
يتلوه الجزء الرابع: وكذلك الأئمة من بعد علي الخلف منهم حُجَّة السلف، ولا تخلو الأرض لله عَزَّ وَجَلَّ من حُجَّة.
ـــــــــــــــ

(1/167)


الجزءُ الرَّابِعُ مِن كِتاب الكامل المنير([243])
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
بسم الله الرحمن الرحيم

[اطلاعه (ص) عليّاً عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ على بعض المغيبات، وذكر جملة من ذلك]
وكذلك الأئمة من بعد علي الخلف منهم حجة السلف، ولا تخلو الأرض لله عَزَّ وَجَلَّ من حجة، عِلْمُ آخرهم من علم أولهم، ولقد كان علي بن أبي طالب يدَّعي ذلك ويقول على رؤوس الخلائق، لا ينكر ذلك عليه منكر، ولا يدعيه عليه أحد؛ من ذلك أنه كان يقول: سلوني قبل أن تفقدوني؛ فوالله لأنا بطرق السماء أعلم من العالم [منكم] بطرق الأرض، وما من فتنة يهلك فيها مائة وينجو منها مائه إلا نبأتكم بسائقها، وقائدها، وناعقها إلى يوم القيامة.
وكان يقول: أنا يعسوب المؤمنين، وغاية السابقين، ولسان المتقين، وخاتم الوصيين، ووارث علم النبيئين.
فمن كان يقول هذه المقالة ويدعي هذه الدعوى؟ لا ينكرها أحد، ولا يدعي مثلها أحد، ما ينكر المنكرون عليه أن يكون الله ورسوله [صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] قد أطلعه على علم الغيب على ما لم يطلع عليه أحد بعد رسول الله مُبلِّغاً عن الله، وكان علي مُبلِّغاً عن رسول الله.
فإن قالوا: قد ادعيتم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد أطلعه على ما كان وعلى ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما باله حكَّم الحكمين وهو يعلم أنهما يخلعانه وقد أعلمه النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ بذلك؟

(1/168)


فقل لهم: ليس عليه بتحكيم الحكمين إن كان حكمهما حجة، ولا يلزمه في ذلك إلا ما يلزم أنبياء الله ( عليهم السلام ) بعلمهم لمن لا يؤمن بهم ثم يدعوهم إلى الإيمان.
وهذا نوح عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ لبث في قومه يدعوهم إلى الله [تعالى] ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما كان علمه أنهم لا يؤمنون إذ قال:{رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح/26-27] ؛ فمن أين علم أن مَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء من قومه لا يكونون إلا كفاراً؟ فما معنى دعائه إياهم وقد علم أنهم يضلون عباد الله وأنهم لا يجيبونه.
فليس يلزم [عليًّا] من الحجة بعلمه أن الحكمين يخلعانه إذ حكّمهما إلا ما يلزم نوحاً عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ إذ دعا قومه وهو يعلم أنهم لا يجيبونه.
ولِمَ أمر الله تعالى محمَّداً صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أن ينذر عشيرته الأقربين أبا لهب وغيره من أهل بيته، وقد أنزل الله عليه فيه:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}[المسد/1-3] فلم دعاه رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ وقد علم أنه لا يؤمن وأنه سيصلى ناراً ذات لهب؟؛ فليس يلزم عليّاً بعلمه أن الحكمين يخلعانه إلا ما يلزم رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إذ دعا أبا لهب وهو يعلم أنه لا يجيبه.
ولم أنذر رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ عشيرته وقد علم أنهم لا يؤمنون؟

(1/169)


ولم أمر الله موسى عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بدعاء فرعون وبني إسرائيل وهو يعلم أنهم لا يؤمنون؟
فإن قالوا: إن الله بعث رسله حججاً على الخلق لأن لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
فقل لهم: لسنا في الحجة؛ إنما نحن في العلم، زعمتم: لم حكّم علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وهو يعلم؟
فقلنا لكم: فلم فعل الله عَزَّ وَجَلَّ وأنبياؤه وهم يعلمون؟
الجواب: ولكن من قول الشيعة في أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، ووارث علم النبيئين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ: أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد عهد إليه بما لم يعهده إلى غيره، وأوصى إليه بما لم يوص به إلى غيره، وأطلعه من العلم الذي جهلته الخوارج وغيرهم مما عاينوه ولم يقدروا على إنكاره ولا على جحوده ما لم يطلع عليه أحد من الخلق.
فإن قالوا: لا يجوز أن يُطْلِع رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ علي بن أبي طالب على شيء من أمر دين الله ويكتمه عن الأمة؛ هذا منفي عن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ.
فقل لهم: أمَا ما يحتاج الخلق إليه مما افترض الله عليهم من الأمر والنهي؛ كالصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وما يكون الخلق فيه شرعاً فقد أعلمهم بذلك وأداه إليهم؟

(1/170)


وأمَّا أن يعلمهم ما يكون وما هو كائن فلم يكن ذلك عليه صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ واجباً؛ لأنه لو كان ذلك واجباً عليه لما ترك أن يعلم أهل المدينة بذلك رجلاً رجلاً، وأهل مكة رجلاً رجلاً، ثم يخرج إلى المدائن والقرى والآفاق، والمشرق والمغرب، ويأتي إلى الإمرأة في خدرها، وإلى الأعرابي في بدوه،وإلى الرَّاعي في مرعاه، فيعلمهم جميعاً، فيكون الله تعالى قد ألزمه ما لا يطيق.
وَلَمَا قبضه الله حتى يعلم الأولين والآخرين حتى يساوي بينهم في العلم، وهذا ما لا يكون.
وقد أخبرنا الله عَزَّ وَجَلَّ أن العلماء بعضهم أعلم من بعض حيث يقول:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف/76] .
وليس ما علَّمَه رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ عليّاً من العلم الذي لا يوجد علمه إلا عند عليّ بنقص على رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ولا خيانة، ولا تفريط؛ لأنه عائد نفع ذلك على الأمَّة؛ لأنها محتاجة إلى إمام يقوم لها بدينها، وشاهد ذلك قول رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها))، وقول الله تعالى:{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[يونس/53] .

(1/171)


وقد علمت الأمَّة أن جميع أصحاب محمد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كانوا يحتاجون إلى عليّ عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ في جميع النوازل والحوادث، ويسألونه عما لا يعلمون، فهذا يوجب أن الناس في العلم بعضهم أرفع من بعض.
فإن أنكروا ذلك؛ فقل لهم: فَلِم روى الآخر عن الأول؟
وما بال الآخر لم يساوِ الأول في العلم؟
ولم رووا عن أبي بكر علماً (لم يرووه عن عمر)، وعلماً لم يرووه عن عثمان؟
فلا أراه عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ ساوَى بينهم في المعرفة في العلم؛ (بل) أوصى إلى عليّ وعلَّمَه من العلم ما لم يعلم أحداً من جميع الأمَّة.
وقد أخبر الله عَزَّ وَجَلَّ عن نعمته وفضله على إبراهيم خليله عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ؛ حيث يقول ممَّا خص به أهل بيت إبراهيم:{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}[العنكبوت/27] ؛ إذ كانت ذارري الأنبياء عليهم السلام أكرم على الله من غيرهم.
[إخباره عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ما يجري من أمر خلافة بني أميَّة ومن بعدهم من بني العبَّاس قبل وقوعها، وكذلك إخباره عن ظهور المهدي عليه السلام]
وبعد: فإن أنكروا ذلك فليروُوا لنا عن أحد من الخلق ما قد روينا نحن وهم في علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وعنه مما لم تروه الأُمة عن غيره أول خلافة بني أمية رجلاً رجلاً، ثم خلافة بني العباس بعدهم.

(1/172)


هذا عبد الله بن عبد الرَّحمن روى عن أبيه، عن معمر قال: لما كان في اليوم الذي بويع فيه لأبي بكر دخل على عليّ المقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وعمَّار بن ياسر، ونفر من أصحاب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فقالوا له: أخرج بنا فنجاهدهم في الله.
فكره علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وقال: رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمرني [أني] لا أرتدي ثوباً حتى أفرغ من تأليف القرآن.
ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
سيكون من بعد ما ترون أمور كثيرة؛ إنه سيلي هذا الأمر من بعدي نفر من بني أُميَّة، يلي منهم رجل يجتمع عليه أمر الأُمة واسع الصدر، ضخم الحلقوم، يأكل ولا يشبع، لا يموت حتى لا يبقى له في السماء ناصر، ولا في الأرض عاذر.
ثم تفضي من بعده إلى رجل شرير، جريء على الله، مستحل لما حرم الله، يميز عقبي، ويقتل ولدي، ويذبح حرم رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، يتعدى على عباد الله، قليل العمر، كثير في سياسته شره.
ثم تفضى من بعده إلى رجل بخيل ذي حمية وعصبية، إمام جاهلية، ليس بمحمود في فعله وفي جنده، يختل دين الله، يقتل في حرم الله وأمنه.
ثم تفضى من بعده إلى رجل كثير المثالب، منتصر الكتائب، يذل العباد، ويدوخ البلاد، كثير الفساد والأعوان والأجناد.
ثم تفضى من بعده إلى رجل ليس بدونه في الشر، لا يقيل عثرة، ولا يستر عورة. يسير بسيرة أبيه، ليس له شبيه، ذي لسان طويل، ونَيْل قليل.
ثم تفضى منه إلى رجل متعاهد بجنده، مانع لرفده، قليل وفاؤه، نزير عطاؤه.

(1/173)


ثم تفضى من بعده إلى رجل متورع ممسك وليس كذلك ذي نفاق، ويقسم الزكاة والفيء، ويكثر الصوم والصلاة؛ يتصنع للرعية، ويقسم بالسوية، يقتله آمن خدمه عنده، وأحظى حشمه لديه.
ثم تفضى من بعده إلى رجل يحذو حذو آبائه بالفجور، ويغر عباد الله بالغرور، يملك أربع سنين، ثم تقوم عليه قيامته.
ثم تفضى من بعده إلى رجل فاجر مشوم، فاسق ظلوم، مارد غشوم، يقتل من ولدي وشيعتي أخياراً علماءاً، أحباراً أبراراً أتقياء.
ثم تفضى من بعده إلى رجل يقفو على أثره، ويتبعه على سيرته، ذو أمل طويل وعمر قليل.
ثم تفضى من بعده إلى رجل أقل منه عمراً، وأكثر منه شرًّا.
ثم تفضى من بعده إلى المخلوع من بني أُميَّة، كثير الغي، بعيد الرشد عند انقضاء مدتهم وتصرّم ملكهم.
ثم تفضى من بعده إلى رجل آخرهم سلطانا، وأكثرهم طغياناً، لا يلي بعده منهم إنسان، ولا يجتمع منهم اثنان.
ثم تفضى من بعده إلى رجل من بني العباس ذي همم كثيرة قبيحة، يأخذ بالجريرة ويقتل بالصغيرة، وملكه في نواحي الحيرة.
ثم تفضى من بعده إلى رجل خرب الطرائق، قليل المرافق، يقتل البر الصادق، ويستحي من الظلوم الفاسق، ولا يبقي خَيِّراً إلا قتله، ولا فاسقاً إلا موَّله وخوَّله، يصيب أهل بيتي منه بلاء طويل وعذاب أليم.
ثم تفضى من بعده إلى رجل حسود حقود، ظلوم غشوم.
ثم تفضى من بعده إلى رجل جميل الصورة، قبيح السيرة، تدين له البلاد، ويخضع له العباد، وتجتمع له الأجناد.
ثم تفضى من بعده إلى رجل ضعيف النحيرة، لئيم الغريزة، يُهراق دمه، ويقتله حشمه.

(1/174)


ثم تفضى من بعده إلى رجل متصنع متشيِّع، ذي دهاء وأدب، وكلام وخطب، يُظهر مودتنا ويضمر بغضنا.
ثم تفضى من بعده إلى رجل سائس للملك، مقرب للترك، شجاع القلب، مجتمع اللب.
ثم تفضى من بعده إلى رجل حسن الطريقة، سهل الخليقة، يحسن حال أهل بيتي وهو خير أهل بيته.
ثم تفضى من بعده إلى رجل فاسق، مارق، أحمق، صاحب لذات، وله خلوة، ويقتل في أمن خلافته وقد تفرد بلذّاته، وخلا بشهواته.
ثم تفضى من بعده إلى رجل ذي همم طويلة، وعقل راجح، ذي عمر قصير، وأمل طويل، مشهور أمره، قليل عمره، مرتفع ذكره.
ثم تفضى من بعده إلى المخلوع من بني العباس، المكبود المقهور، المقتنع باليسير.
ثم تفضى من بعده إلى رجل يقهره جنده، ويقتله عبيده.
ثم تفضى من بعده إلى رجل مارق، فاسق، غوي، يظهر الدَيَانة، ويخون الأمانة. ثم يقتله الغواة والجفاة.
ثم تفضى من بعده إلى رجل (عقله) ضعيف، ودينه سخيف.
ثم تفضى من بعد ذلك إلى رجل لا تصلح له ولا يصلح لها.
ثم تفضى من بعده إلى رجل متداهي غافل عمَّا يطرقه لاهي، لا يعلم حتى يأتيه هلكه ويزول ملكه، وهو آخرهم ملكاً، وأسرعهم هلكاً، وعند هلكه ..
يظهر أمر الله [سبحانه]، ويعز أولياءه، ويظهر الحق، ويزهق الباطل، ويظهر المهدي؛ اسمه اسم النبي واسم أبيه كاسم أبيه، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
يختم الله به وبولده أئمة الخلافة كما ختمت بمحمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- النبوءة، لا تزول عنهم الخلافة بعد أن تكون فيهم، ولا يزالون مع الحق والحق معهم حتى يردوا الحوض.

(1/175)


طوبى لمن أدركهم وجاهد معهم ونصرهم، المقتول معهم كالمقتول مع النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، والمجاهد معهم كالمجاهد معه.
لا يعرف بعد ظهورهم الجور، يتوارثون الحق آخراً عن أول، آخرهم يتبع سيرة أولهم، ليس معهم غوي ولا ذي جرأة، يتوارثونه إلى يوم القيامة.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: ما بال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خَصَّ عليّاً بهذا العلم ولم يساوِ بينهم فيه؟
وقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: أليس قد كان هؤلاء الملوك والخلفاء الذين ذكرهم عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وسيكون المهدي، فمن أعلم علياً بهذا الغيب؟
[إخباره عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ رشيد الهجري بما سيقع به من تمثيل وقتل على يد الدَّعِي عبيد الله بن زياد]
وحديث أبي حيَّان العوفي عن قنوى بنت رشيد الهجري قال: قلت لها: أخبريني بما سمعت من أبيك؟
قالت: سمعت أبي يقول: قال حبيبي أمير المؤمنين: يا رشيد! كيف صبرك إذا أرسل عليك دَعِي بني أميَّة فقَطَّع يديك ورجليك ولسانك؟
قلت: يا أمير المؤمنين أليس أجر ذلك الجنة؟ قال: بلى؛ يا رشيد أنت معي في الدنيا والآخرة.
قالت: فوالله ما ذهبت الأيام حتى أرسل إليه الدَّعِي عبيد الله بن زياد؛ فدعاه إلى البراءة من عليٍّ، فأبى أن يبرأ منه.
قال له: فبأي ميتة قال لك تموت؟
قال: أخبرني خليلي أنك تدعوني إلى البراءة منه، فلا أبرأ منه، فتقطع إذ ذاك يدي ورجلي ولساني، فقال: والله لأُكَذِبَنّ قوله فيك اليوم؛ قَدِّموه فقطِّعُوا يديه ورجليه واتركوا لسانه حامِلُه طوائفه.

(1/176)


فلما قُطعت يداه ورجلاه قالت له ابنته: جعلت فداك هل تجد لما أصابك ألماً؟
قال: لا يا بنية.
فكان الزحام بين الناس، فلما حملناه وأخرجناه من القصر اجتمع الناس حوله قال: ائتوني بصحيفة ودواة. فكتب الكاتب: بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيْمِ، وذهب اللعين. فأخبره أنه يكتب للناس ما يكون إلى أن تقوم الساعة، فأرسل إليه الحَجَّام حتى قطع لسانه فمات في ليلته تلك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرَحِمَهُ.
وكان أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ يسميه (رشيد المنايا). وكان قد ألقى إليه علم المنايا والبلايا، فكان إذا لقي الرجل قال: يا فلان أنت تموت موتة كذا وكذا، وتُقتل أنت يا فلان بقتلة كذا وكذا. فيكون كما قال رشيد.
قل للخوارج: أليس قد كان هذا؟ فمن أعلم علياً [عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ]بهذا الغيب؟
[إخباره صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ميتماً بما سيقع به من القتل والصلب على يد الدَّعِي عبيد الله بن زياد]
وحديث علي الخياط عن عبد الله بن الوضاح، عن يوسف بن عمران الميتمي، عن أبيه قال : قال سمعت أبي ميتماً يقول: دعاني أمير المؤمنين - رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ - يوماً فقال لي: كيف أنت إذا دعاك دعي بني أُميَّة عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟
فقلت: إذاً والله لا أبرأ منك يا أمير المؤمنين.
قال: إذاً والله يقتلك ويصلبك!!.
فقلت: إذاً والله أصبر وذلك في الله قليل.
قال: يا ميتم! إذاً تكون معي في درجتي.

(1/177)


قال: فكان ميتم يمر بعريف قومه فيقول : يا فلان كأني بك قد دعاك دعي بني أُميَّة بن دعيها فيطلبني منك فتقول: هو بمكَّة، فيقول لك: لا أدري ما تقول! لا بد لك من أن تأتيني به، فتخرج إلى القادسية فتقيم بها أياماً، فإذا أُقْدِمْتُ عليك ذهبت بي إليه فيقتلني على باب عمرو بن حُريث، فإذا كان اليوم الرابع ابتدر منخاري دماً عبيطاً.
قال: وكان ميتم يمر بالنخلة السمحة فيضرب بيده عليها ويقول: يا نخلة لك نبت ولك غذيت.
وكان يمر بعمرو بن حُريث فيقول: يا عمرو! إذا جاورتك فأحسن جواري.
فكان عمرو يرى أنه يشتري إلى جنبه داراً أو ضيعه لزق ضيعته، فكان عمرو يقول: ليتك قد فعلت.
فخرج ميتم إلى مكَّة وأرسل الطاغية عبيد الله بن زياد إلى عريف ميتم فطلبه من العريف فأخبره أنه بمكَّة، فقال له: لئن لم تأتني به لأقتلنك.
فأجَّل له أجلاً، وخرج العريف إلى القادسية ينتظر ميتمًا، فلمّا قدم ميتم أخذ بيده فأتى به عبيد الله بن زياد.
فلما أدخله عليه قال: ميتم!. قال: نعم!؟ قال: تبرأ من أبي تراب، قال: لا أعرف أبا تراب.
قال: فتبرأ من علي بن أبي طالب.
قال: فإن أنا لم أفعل؟
قال: إذاً والله أقتلك.
قال: أما إنه قد كان يقول: إنك تقتلني وتصلبني على باب عمرو بن حُريث، فإذا كان اليوم الرابع ابتدر منخاري دماً عبيطاً.
قال: فأمر به .
فقُتِل رَحِمَهُ اللهُ ، وصلب على باب عمرو بن حريث، فقال للناس: سلوني هو مصلوب قبل أن يموت!؟؛ فوالله لأخبرنكم بما يكون إلى يوم القيامة.

(1/178)


فلما سأله الناس عن حديث واحد أتاه رسول ابن زياد فألجمه بلجام من شريط، فهو أول من أُلجم بلجام، وهو مصلوب.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: أليس قد كان ذلك؟ فمن أعلم علياً بهذا الغيب؟
[إخباره عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بما يجري من أمر الخوارج، وطلبه لذي الثُّدَيَّة]
والحديث الذي روته العامة أن أمير المؤمنين لما سار إلى النهروان في قتال الخوارج شك رجل من أصحابة يقال له جندب الأسدي فبلغ أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ شكُّه في قتال الخوارج فقال له:(يا جندب! الزمني)، فلزمه.
فلما دنوا من قنطرة النهروان التي كانت من ورائها الوقعة خفق أمير المؤمنين عند زوال الشمس فأتاه قنبر - رَحِمَهُ اللهُ - يؤذنه بالصلاة، فانتبه فقال له:(ائتني بشيء من ماءٍ).
فقعد فتوضأ وأقبل فارس يركض فقال: قد والله يا أمير المؤمنين عَبر القوم القنطرة، قال:(كذبت والله ما عَبر القوم قنطرة، ولا يعبرونها، ولا يقتلون منا عشرة، ولا يفلت منهم عشرة).
فلما سمع جندب مقالة أمير المؤمنين قال: الله أكبر هذه والله علامة قد أعطانيها.
ثم أقبل فارس آخر يركض [بفرسه] فقال: والله يا أمير المؤمنين قد كاد القوم يعبروا. قال:(صدقت). ثم صلَّى بالناس الظهر وتوجه بمن معه من الناس نحو القنطرة.
قال جندب: والله لا يصل إلى القنطرة قبلي أحد من الناس. وكان تحته فرس جواد فركضه حتى أتى القنطرة ورجال القوم وراء القنطرة، وكان جندب أول من رمى1 بسهمه فيهم، وأول من طَعن برمحه وضرب بسيفه.
فلما أن قتلهم علي قال:(اطلبوا [لي] ذا الثدية).

(1/179)


فطلبوه فلم يصيبوه، فقالوا: يا أمير المؤمنين ما أصبناه.
فقال:( اطلبوه؛ فوالله ما كَذَبت ولا كُذِّبت، ولا ضللت ولا ضُلَّ بي، وإنِّي لعلَى بيِّنة من ربِّي بيَّنها لنبيئه فبيَّنها لي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ).
ثم توجه هو بنفسه مع أصحابه حتى أتى إلى ساقية فإذا فيها قتلى كثير - لا رحمهم الله - بعضهم على بعض فقال:(اقلبوهم) . فاستخرجوه من تحتهم، فقال:(هذا هو).
ثم قال:(الحمد لله الذي قتلك يا عدو الله وعجَّل بك وأصحابك إلى النار).
وقد كانت الخوارج خرجوا عليه قبل ذلك بحرورا بجانب الكوفة اثنَي عشر ألفاً فأتوه بخبرهم فخرج إليهم في الناس وعليه إزار ورداء راكباً بغلةرسول الله [-صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-]، فقال الناس: يا أمير المؤمنين: تخرج إليهم في إزار ورداء إن القوم شاكون في السلاح؟
فقال: إنه ليس يوم قتالهم؛ ولكنهم سيخرجون علي في قابل بالنهروان أربعة آلاف يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
فلما برز إليهم بحرورا قال لهم: ارضوا بمائة منكم.
ثم قال للمائة: ارضوا بخمسين منكم.
ثم قال: ارضوا بعشرين، ثم قال: ارضوا بعشرة، ثم قال: ارضوا برجل.
ثم قال: ليس اليوم أوان قتالكم، وستفترقون حتى تصيروا أربعة آلاف وتخرجوا عليَّ قليلاً في مثل هذا الشهر، في مثل هذا اليوم؛ فأخرج إليكم أنا وأصحابي فأقاتلكم حتى لا يبقى منكم مخبر؛ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لهكذا أخبرني أخي - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ .
قال: فافترقوا حتى صاروا أربعة آلاف كما قال أمير المؤمنين فقتلهم حتى ما بقي منهم رجل.

(1/180)


فسل الخوارج: من أعلم علياً عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بهذا الغيب؟
[إخباره عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بمصارع الحسين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بكربلاء]
ومن ذلك خروجه يريد صفين والخوارج معه فسار بكربلاء فقال: هاهنا مصارع الحسين وأصحابه، هذا مناخ ركابهم، هذا محل رحالهم، هذا مهارق دمائهم، فكان ذلك.
فقل للخوارج: من أعلم علياً بهذا الغيب؟
[خبر الراهب والعين]
ثم سار حتى انتهى إلى راهب في صومعته وقد انقطع الناس بالعطش فشكوا ذلك إليه عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وذلك أنه أخذ بهم طرق البر وترك الفرات عياناً، فدنا من الراهب فهتف به فأشرف إليه من صومعته فقال: يا راهب هل قرب قائمك من ماءٍ؟ فقال: لا.
فسار قليلاً حتى نزل في موضع فيه رمل فأمر الناس فنزلوا وأمرهم أن يبحثوا عن ذلك الرَّمل، فأصابوا تحت ذلك الرَّمل صخرة؛ فقلعها أمير المؤمنين بيده رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ونحاها فإذا فيها ماءٌ أرقُّ من الزلال، وأعذب من كل ماءٍ، فشرب الناس وارتووا وحملوا وردوا الصخرة والرَّمل كما كان.
ثم سار فقال أمير المؤمنين: بحقي عليكم إلا رجعتم إلى موضع العين فنظرتم هل تقدرون عليها.
فرجع الناس إلى موضع الرمل فبحثوا الرمل فلم يصيبوا العين.
فسل الخوارج: من أعلم علياً بهذا الغيب؟.
[إخباره عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ أن قاتله عبد الرَّحمن بن ملجم لعنه الله]
وقوله لعبد الرَّحمن بن ملجم كلما نظر إليه في عسكره:
أريد حياته ويريد قتلي .... عذيرك من خليلك من مراد

(1/181)


أما والله لتخضبن هذه من هذه، ووضع يده على صلعته ثم وضعها علي تحت لحيته، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين ألا تقتله؟
فقال: ومن يقتلني؟.
فسل الخوارج: من أعلم علياً بهذا الغيب؟
وفي الليلة التي قتل صبيحتها بات تلك الليلة يصلي و يدعو وجعل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يدور - رَحِمَهُ اللهُ وَغَفَرَ لَهُ - ويختلف ويتمثل ويقول:
أشدد حيازمك للـ .... ـموت فإن الموت لاقيك
ولا تجزع من الموت .... إذا حلّ بواديك
فقالت له ابنته زينب: لقد طال سهرك ليلتك هذه وتمثلك بهذا البيت! فقال لها: يا بنيَّة! هذه أول ليلة من الآخرة، وآخر ليلة من الدنيا.
فخرج عند طلوع الفجر، فخرج إليه ابن ملجم، - لعنه الله وأخزاه - فضربه بالسيف فقبض عليه أمير المؤمنين - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتُهُ - فقال له: [أنت] عبد الرَّحمن بن ملجم؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال له علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ: الله أكبر، الله أكبر، والله ما كذبت ولا كذبت.
فسل الخوارج: من أعلم علياً بهذا الغيب؟
[إخباره عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ عن ظهور نهر يخرج بالكوفة]
وقوله لأهل الكوفة: أنا أخبركم أنه [سيجري] هاهنا نهر [يكون] أوله ضراً على أهل الكوفة، وآخره منفعة لهم أكنتم مصدقي بما قلت؟!
قالوا: يا أمير المؤمنين! ويكون هذا؟ قال:(والله لكأني أنظر إلى نهر في هذا الموضع قد جرى فيه الماء وجرت فيه السفن يكون عذاباً على أهل هذه القرية أولاً، ورحمة لهم آخراً). فلم يلبث إلا أياماً حتى حُفر نهر الكوفة فكان كما قال لهم.
فسل الخوارج: من أعلم علياً بهذا الغيب؟

(1/182)


[إخباره عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بحرق وغرق البصرة]
ومثل قوله في البصرة:(يا بصرة، يا جند المرأة، وأتباع البهيمة لتحرقنّ ولتغرقنّ حتى لا يرى إلا منارة مسجدها)، كأنه جوجو سفينة، فقد حرقت [ونحن] ننتظر الغرق تصديقاً لقول أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.
فسل الخوارج: من أعلم عليّاً بهذا الغيب؟
[في قسمة مال بيت المسلمين بالبصرة]
ومثل حديث عبد الله بن عباس إذ أمره أمير المؤمنين أن يقسم ما في بيت المال في البصرة بين أصحابه لكل رجل خمسمائة درهم لا يزيد عليها ولا ينقص منها شيء، فقسم المال كما أمره فبقي ألف وخمسمائة درهم؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ أمرتني أن أقسم لكل رجل خمسمائة درهم، وذكرت أنها لا تزيد ولا تنقص، وأنه بقي ألف وخمسمائة درهم؟
قال: صدقت يا ابن عباس، هات أعطني خمسمائة وادفع إلى الحسن والحسين كل واحد منهم خمسمائة.
فسل الخوارج: من أعلم عليّاً بهذا الغيب؟
[خبر النبي دانيال]
وبما روي في كتاب ( فتوح عمر بن الخطاب ) أن قوّاده وجدوا قبراً فيه رجلاً طول أنفه شبراً، فلم يدروا ما شأنه، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب، فلم يجد عمر علمه عند أحد من جميع أصحاب محمَّد رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ؛ حتى أرسل إلى علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فسأله عنه وأخبره بما كتب إليه أبو موسى الأشعري من جهله للميت.
فقال علي لعمر: أو ما عرفت الرجل أنت ومن معك من أصحاب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؟!.
فقال عمر: ما عرفته؛ وهم هؤلاء ما عرفوه.

(1/183)


فقال علي بن أبي طالب: هذا نبيء من الأنبياء يقال له (دانيال).
فقال: ما علمك به؟
فقال: أعلمني به رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ.
وكتب عمر إلى أبي موسى بخبره ذلك، فأخبر أبو موسى؛ فأرسل بكتاب عمر فآمن القوم وقالوا: صدقتم؛ أنتم أصحاب نبي وصاحبكم وصي نبي.
فلما وصل كتاب أبي موسى إلى عمر قرأه على أصحابه [ثم قال] لعليٍّ: ما أعلمك يا أبا الحسن، وما أحلمك وأنبلك.
[علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ يفتي قاضي الجن أبي حازم في مسألة سأله عنها]
ومثل هذا حديث أبي حازم قاضي الجن رواه محمد بن إبراهيم بن محمد قاضي الجنَد فقال - وهو المخالف لنا ولكم - قال: بينَا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يخطب الناس على منبر الكوفة إذ أقبل ثعبان عظيم فجعل يتخلخل الناس وأجفلوا عنه وهم يريدون قتله، فقال لهم أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ: اتركوه.
ثم أتى إلى المنبر وارتقى حتى حاذى برأسه رأس أمير المؤمنين، ثم التقم أذنه، فسمعنا له نقيقاً كنقيق الضفدع، فأجابه أمير المؤمنين بمثل نقيقه، فسألوا عليّاً عن ذلك فقال: هذا أخي أبو حازم قاضي الجن يسألني عن مسألة فأخبرته بها.
وأشياء كثيرة ممَّا لا يعلهما إلا نبي أو وصي نبي.
[الجواب على من أنكر الدلائل والأعلام في أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ]
فإن أنكرت الخوارج وقالوا: لا تكن هذه الدلائل والأعلام إلا مع نبي، وقد انقضت النبوة والوحي بعد محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.

(1/184)


فقل للخوارج: إنا لم ندَّع هذه الآيات والدلائل لعليّ أنه نبي، ولا أنه أوحي بها إليه، ولا علمها من تلقاء نفسه؛ إنما ادعيناها له من جهة النبي - صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ - وأجازه [إيَّاها] إذ كان وصيّه وحجته على أُمَّته من بعده، وموضع أسراره، ومستودع علمه.
وقد علمنا وعلموا أن أحداً من جميع الأُمة لم يدَّع هذه الفضائل لنفسه ولا ادعاها أحدٌ لا من أصحابه ولا من غيرهم.
فإن أنكروا هذه الدلائل في أمير المؤمنين فقل لهم: هل تنكرون أن هذه الدلائل والأعلام مع وليّ من أولياء الله تعالى نالها بطاعة الله؟
فإن قالوا: قد يمكن، وقد ولا يمكن.
فقل لهم: هل يمكن أن يكون عدو من أعداء الله نالها بمعصية الله؟
فإن قالوا: نعم.
فقل لهم: هل تنكرون أن إبليس قد نال بمعصية الله - زعمتم - ما لم ينله ولي الله بطاعة الله، فأخبرونا بأي منزلة قال إبليس على أنه شخص واحد يتصور - زعمتم - في كل صورة، ويتجسم كل جسم في مشرق الأرض وفي مغربها، وفي بَرِّها وفي بحرها، لا يخلو منه مكان - زعمتم - ثم مكَّن الله له من جميع الخلق بقولكم وقول الحشوية حتى علم وساوس الصدور وخفقان القلوب، وهو أخس الأوهام، فهو - زعمتم - مع كل عبد وحر، وذكر وأنثى، ومؤمن وكافر، مشارك الخلق في الأموال والأولاد، لا يخفى عليه من ولد آدم شيء.
وقد روت الحشوية أن إبليس قال: ما ولد مولود قط من ولد آدم إلا وأنا أعلم متى حُمل به ومتى وُلِد إلا عيسى بن مريم عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ فإني لم أعلم متى حُمل به ومتى ولد.

(1/185)


هذا ما قويَ عليه - زعمتم - من شياطينه وأعوانه وجنده، وكيف لا تذكرون هذا الذي نال بمعصية الله على أنه نال هذا - زعمتم - منذ خلق الله آدم إلى يوم القيامة مما لا يحصيه إلا الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنكرتم البشير الذي ذكرناه عن وليّ من أولياء الله على أنه حجة الله على خلقه بما أفضَى بذلك العلم إليه رسول الله مع فضائله التي لم نذكرها في القرآن والرواية لكثرتها، وعجزنا عن إحصائها فتركناها خوف التطويل عن ذكر بعضها.
فإن قالوا: إن الله عَزَّ وَجَلَّ أعطى إبليس ذلك وقوَّاه عليه.
فقل لهم: فكذلك نقول أيضاً في عليّ إن الله عَزَّ وَجَلَّ أعطاه ذلك وقوَّاه عليه.
فإن قالوا: إن الله عَزَّ وَجَلَّ ابتَلى العباد بإبليس ونهاهم عن طاعته.
فقل لهم: وكذلك مَنَّ الله على العباد بعليٍّ [عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ] وأمرهم بطاعته؛ فلم يكن الله تبارك وتعالى ليحتج على عباده بحجة فيقطع عنهم ما يحتاجون إليه في ليل ونهار وساعة من الساعات مع أنه تبارك وتعالى أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، (وأعلم العَالمين) بمصلحة الخلق أجمعين، فلم يكن ليعطي عدوه ما ليس له على خلقه من الحجج والمعجزات ما يضل به خلقه ويمنعه وليّه، وحجته على خلقه ما هو لهم منفعة، وحجة له عليهم.
أم كيف لا تنكرون ما هو دون إبليس في المعرفة من أخبار الغيوب التي لا تكون إلا مع نبي أو وصي نبي وتصدقونهم على ذلك؛ مثل أقاويل الكهنة وأصحاب النجوم الذين يخبرونهم بمواليد الخلق وسعيدهم وشقيهم، وما يصيب أحداً في بدنه.
وعن الغائب ومتى يقدم، ومتى يموت، ومتى تكون منيَّته.

(1/186)


وعن الإمرأة وما في بطنها؛ أذكر هو أم أنثى، وكم تزوج من الرجال.
وعن الرجل كم يتزوج من النساء، وأسباب كثيرة لا تُحصَى.
فإن قالوا: هذه الأشياء لا نصدق بها؛ لأن الكهنة وأصحاب النجوم لا يعلمون الغيب.
فلعمري: إنهم كذلك، ويبطل من صَدَّقهم لقول الله عَزَّ وَجَلَّ:{قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل/65] .
فإن زعمت الخوارج: أن الكهنة وأصحاب النجوم إنما يتظننون ويتركنون، ويصيبون ويخطئون، بمنزلة الرؤيا يراها النائم فيأتي إلى المُعبِّر فيقصها عليه، فينظر المُعبِّر؛ فربما أصاب وربما أخطأ، ولا يُصدَّق إلا بما تأتي الأخبار القوَّية والروايات الصحيحة في الأنبياء المصطفين، والخلفاء الراشدين المهتدين.
[عمر يصيح: يا سارية الجبل الجبل]
فقل لهم: فإن كانت الروايات عندكم قويَّة والآيات صحيحة في الأنبياء المصطفين، والخلفاء الراشدين المهتدين فما حجتكم على من خالفكم في الروايات في عمر بن الخطاب حتى جاز ذلك له عندكم؛ إذ ليس بنبي ولا وصي نبي، فصدقتم قوله في ذلك؛ من ذلك أنه روي عنه أنه وجَّه جيشاً إلى نهاوند وأمّر عليه سارية، وبين نهاوند والمدينة مائة فرسخ، فزعموا أن عمر بن الخطاب صعد المنبر خطيباً فصاح: يا سارية: الجبل الجبل.
ثم استمر في خطبته. فلما نزل قال له المسلمون: يا أمير المؤمنين! سمعناك تقول في خطبتك: يا سارية: الجبل الجبل؟!.
قال: نعم؛ إني نظرت إلى سارية قد حظره المشركون فخفت عليه، فصحت به: الجبل الجبل .

(1/187)


فانحاز إليه فسلم هو وأصحابه. فكيف صدقوا سارية أيضاً على هذا الخبر!؟
[عمر يكتب رسالة يخاطب بها نهر النيل؟!]
وما حجتهم على من خالفهم وأكذبهم فيما رووا: أن وفد مصر قدموا على عمر فشكوا إليه قلة النيل، فأمر بدواة وقرطاس فكتب إلى النيل: بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيْمِ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر.
أما بعد: إن كنت تجري بحولك وقوتك فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت تجري بحول الله وقوَّته فإذا أتاك كتابي هذا فاجْرِ على اسم الله وبركته.
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إليهم وأمرهم أن يطرحوه فيه، ففعلوا ذلك فأصبح النيل يطفح بالمدينة، ولو كان هذا حقاً لما استسقى بالعباس.
[على باب عمر ستر بغير و تد، ورحى تطحن بغير يد]
وما حجتهم على من خالفهم وأكذب رواياتهم: أن رجلاً سار إلى باب عمر فوجد عليه ستراً معلّقاً بغير وتد وإذا رحى تطحن بغير يد!!.
فمر ذلك الرجل برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ فأخبره بذلك، فقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((أما علمت أن الله أخدم عمرَ ملائكته؟!)).
وأشياء كثيرة يجري بعضها على قد شرحنا في كتابنا هذا بما سنوضحه بإقرار عمر على نفسه إنشاء الله تعالى.
[إنَّ هذا لفي كتاب الله؟!]
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: ما حجتهم على من خالفهم فقال: بأي فضيلة استوجب عمر بن الخطاب هذه العلامات والدلائل والعجائب مع روايته في نفسه وإقراره عليها ما روته الأُمَّة عنه؛ من ذلك قوله يوم توفي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال الناس: مات رسول الله.

(1/188)


فقال عمر: لا والله! ما مات رسول الله؛ ولكنه أُرسِل كما أُرسِل موسى بن عمران فلبث في قومه أربعين يوماً، وإنِّي لأرجو أن يُقَطّع أيدي قوم وأرجلهم يقولون: إن رسول الله مات.
قال أبو بكر: يا أبا حفص؛ بَلَى قد مات رسول الله، أليس الله يقول في كتابه:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر/30] ؟
فقال عمر: إن هذا لفي كتاب الله؟!
قال أبو بكر: نعم.
فضرب عمر بدرته الأرض وقال: مات والله رسول الله.
[كلٌّ أفقه منك يا عمر!]
وقوله على المنبر: أَلاَ لاَ يَتزوجنَّ أحدٌ منكم على أكثر من أربعمائة درهم فأعاقبه على ذلك.
فقالت له امرأة من الناس: الله أعدل منك يا عمر؛ إذ يقول:{وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[النساء/20] ؛ فالقنطار أكثر من أربعمائة.
فقال لنفسه: كلٌّ أفقه منك يا عمر.
[لولا عليٌّ لهلك عمر]
ومثل التي وضعت لستة أشهر فأراد رجمها فقال له علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:((إن عذرها في كتاب الله بيِّن)).
قال: وفي أي كتاب الله؟
قال: قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}[البقرة/233] ، وقوله:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف/15] .
فقال عند ذلك: لولا علي لهلك عمر.

(1/189)


[عمر يقول : إن رسول الله لم يبين الخلافة والكلالة والربا]
ومثل قوله: ثلاث لم يكن رسول الله بيّنها لنا؛ ولو بيّنها لنا لكانت أحب إليَّ من الدنيا وما فيها: الخلافة، والكلالة، والربا.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: قد رويتم في عمر أنتم ومن خالفكم من الجماعة فضائل وعلامات ودلالات لا تكون إلا في نبي أو وصي نبي، فقد أخبر عن نفسه بخلاف ما رويتم عنه، ولو رويتم في علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ومن خالفكم من الجماعة فضائل وعلامات، وقد أخبر علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن نفسه بخلاف ما أخبر عمر عن نفسه مِمَّا قد شرحنا في كتابنا هذا.
فما حجة الخوارج ومن قال بمقالتهم على من خالفهم فقال:
أيُّهما أولى عندكم بنيل مصر إن كان حقاً؛ أرجل يدعي أنه وصي رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ [وخليفته] لا يدفعه عن ذلك أحد، ولا يدعيه غيره.
روي عنه: أنه أتاه رجل أعرابي فقال له: يا أبا الحسن! أنت وصي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وخليفته؟
فقال: نعم.
فقال: فإن رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ وعدني بمائتي ناقة حمُرًا عُشُرًا، فيها عبدان أسودان يستاقانها.
فنظر علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ إلى بساط كان رسول الله يقعد عليه؛ فدعا الحسن والحسين فقال: اذهبا إلى وادي فلان وادي من أودية الجن؛ فناديا: إنَّا رسولا حبيب حبيب الله.
فأجابهما الوادي بالتلبية، وقال: صدقتما.
فقالا: إن جَدَّنا وعد فلاناً الأعرابي بمائتي ناقة حمراً عشراً فيها عبدان أسودان يستاقانها. فدفعاها إلى الأعرابي.

(1/190)


أم من قام خطيباً فقال: أيها الناس لا يَتزوجنَّ أحدٌ منكم بأكثر من أربعمائة درهم فأعاقبه على ذلك.
فرده عن قوله امرأة من المسلمين فقالت: الله أعدل منك يا عمر؛ إذ يقول:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[النساء/20] .
فرد على نفسه: كلٌّ أفقه منك يا عمر؟
وما حجتهم على من خالفهم في الستر والرحى وخدمة الملائكة فقال: أيهما أولَى: أن يكون على بابه ستر معلّق بغير وتد، ورحَى تطحن بغير يد، أم مَنْ أمر برجم المرأة التي وضعَت لستة أشهر بغير علم منه ولا معرفة بعذرها في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ؟ أم مَنْ رده عن رجمها وقال: لا ترجمها يا عمر فإن عذرها في كتاب الله؟
فسأله: في أي كتاب الله؟
فقال: قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ]}[البقرة/233] ، وقوله:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف/15] .
فقال بعد ذلك: لولا عليٌّ لهلك عمر. وكفَّ عن ما أمر به من رجمها.
أو ما حجتهم على من خالفهم في حديث سارية فقال: أيُّهما أولى أن تفتح له الأرض حتى ينظر أقصاها وأدناها، أرجل سار بعسكره يوم صفين فأصابهم عطش شديد فلم يقدروا على ماءٍ فأمرهم أن يحتفروا في موضع، فاحتفروا فوجدوا صخرة مطبقة على عين ماءٍ فاقتلعها، فإذا فيها ماءٌ أرقُّ من الزلال، وأعذب من كل ماءٍ، فشربوا ووردوا، ثم أطبق الصخرة مكانها، فلما عاد عسكره إلى موضعها لم يقدروا على مكانها؟

(1/191)


أم رجل جهل معرفة الخلافة والكلالة والربا، وفي جهله لهذه الثلاثة هلاك أمة محمَّد عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ فتقلد هذا كله على الجهل منه؟!.
أمَّا الخلافة: ففيها الأمر والنهي لجميع الخلق بما أمر الله ونهى عنه وافترضه.
وأمَّا الكلالة: ففيها مواريث الخلق.
وأمَّا الربا: ففيه تجارات الخلق ومعايشهم ومعاملاتهم؛ فصدقتموه على هذا؟!.
وكيف صدَّقتم شيبان الرَّاعي وهو عندكم دون عمر بن الخطاب أنه سار من واسط إلى مكَّة في ليلة ومعه رغيفان حاران عليهما كَامخ فَوَافَى بهما عرفات؟!.
أم كيف صدقتم حبيباً أبا محمَّد أنه كتب كتاباً ضماناً لرجل اشترى له داراً من الله في الجَنَّة، فلما حضرت الرجل الوفاة أوصَى ابنه أن يضع الكتاب في كفنه، ففعل ذلك ابنه، وبات حبيب ليلته فإذا بهاتف يهتف به: يا أبا محمَّد! هاك الكتاب فإن صاحبك قد وَافَى الدار.
فأصبح الكتاب تحت وسادة حبيب، وأن ابن ذلك الرجل قدم البصرة فدخل على حبيب فسلم عليه فقال: من أنت؟
فقال: أنا ابن الذي اشترى منك الدار في ا لجَنَّة.
قال: فما فعل الكتاب؟
قال: أمرني أن أضعه في كفنه فوضعته.
فقال له حبيب: أتعرف الكتاب إذا رأيته؟
قال: نعم. فأخرج الكتاب إليه.
فقال: هو والله هذا.
فقال له حبيب: فإن أباك قد وَافَى الدار.
فجاز هذا لكم؟!.
ومثله خبر الرَّبيْع الذي ادعت العامة أنه نزل من السماءِ فيه مكتوب: براءة من الله لعمر بن عبد العزيز.

(1/192)


أم كيف صدَّقتم الخواض الذي كان يخوض النار في البصرة زمان أبي موسى، وقد احترقت البصرة فوجدوا شيخاً يسبح الحوض في بطن النار كما يخوض أحدكم الماء لا يناله منها شيء، فقال أبو موسَى: كيف لم تحترق؟!.
فقال له الشيخ: إنِّي عزمت على ربِّي أن لا يحرقني في النار.
فقال أبو موسَى:(عزمت عليك إلا ناظرت ربك أن يطفئ عنا هذه النار ). ففعل؟
أم كيف صدقتم إبراهيم بن أدهم أنه كان يُحَوِّل الحصى دنانير، وإذا أراد أن يتوضَأ صَبَّ أدواته فخرج منها الماءُ، وإذا أراد أن يشرب صبَّ فتحول ذلك الماء لبناً. وأشياء كثيرة لا تحصَى.
وما رووا من معجزات يحيى بن أبي كثير اليمامي، وأنه كان يقيم المقيم للصلاة فيخرج يسير في الهواء من اللهج إلى المسجد. مع أشياء كثيرة اختصرناها لكثرتها.
فكيف صدقتم في هؤلاء بهذه الآيات والمعجزات والأعاجيب، وأكذبتم ما جاء في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ الذي قال له رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((أنت مني وأنا منك، لحمك من لحمي، ودمك من دمي)).
وهو وصيّ الوصيِّين ووارث علم النبيئين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وصي محمَّد عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، ووزيره، وأخوه، وخليفته على أُمَّته، وحجته، والمجاهد في سبيل الله، والسابق إلى دين الله، وقاتل الأقران في الله، وكاشف الكروب عن رسول الله، والذي له من الفضائل الشريفة، والمناقب العظيمة، ما لو قُسِّمَتْ على أُمَّة محمَّد لأوحلتهم كثرة؛ وإنما عددنا منها القليل من الكثير الجليل، زاده الله شرفاً وأنصفه من ظالِمِيه.

(1/193)


وليس لهؤلاء الذين رويتم فيهم هذه العجائب والدلالات التي صَدَّقتموها فضيلة يستوجبون بها المنازل التي ذكرتم.
[شبهات وردود]
[زعم الخوارج أن الصلاة لا تجوز إلا على النبيين]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن الصلاة لا تجوز على أحد إلا على النبيئين لا على غيرهم.
فلعمري: ما قصدت الخوارج بهذا المعنى إلا بغضة لآل محمَّد عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؛ إذ أمر الله رسوله بالصلاة عليهم؛ لأن الصلاة من الله هي الرَّحمة، وكذلك قوله تبارك وتعالى:{رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}[هود/73] ؛ فهذا البيت الذي نزلت فيه الرَّحمة غير بيت محمَّد عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؟
وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:41-43] ، فإذا كانت الصلاة من الله على المؤمنين فما الذي أخرج أهل بيت النبيّ منها وهم المؤمنون وبهم أمن المؤمنون؟
فبماذا استوجبت الخوارج الدخول في الصلاة ويُخْرَجُ منها آل محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؟!

(1/194)


وقوله تبارك وتعالى:{وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة/155-157] ، فإذا كانت من الله الصَّلاة والرَّحمة والهُدَى على الصَّابرين فما الذي أخرج أهل بيت محمَّد منها وهم الصابرون الذين صبروا على المصائب في الله مع رسوله، ومنذ قبض الله نبيَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ على القتل، والصلب، والحريق، والظلم، ومنع الحقوق إلى يومنا هذا مع قول النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((لا تُصلُّوا عليَّ صلاةً بتراء)).
فقيل: يا رسول الله! وما الصلاة البتراء؟
قال:((أن تُصلُّوا عليّ وحدي؛ ولكن صَلُّوا عليَّ وعلى أهل بيتي فقولوا: اللَّهُمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، وبارك على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما صَلَّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد)).
[الجواب على زعم الخوارج: أن قول الشيعة في علي (ع) كقول النصارى في عسيى بن مريم عليهما السلام]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن مثل الشيعة في قولهم في علي بن أبي طالب كمثل النصارى في قولهم في عيسى بن مريم عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ؛ ادعت النصارى أن عيسى إله، وادعت الشيعة أن علياً إله؛ فقد نفى عيسى ذلك عن نفسه فتعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً.

(1/195)


فقل للخوارج: إن كانت النصارى قالت إن عيسى إله فقد نفى عيسى ذلك عن نفسه، فقال:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}[مريم/30] .
وإن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قد نفى عن الشيعة ما ادعت الخوارج عليهم من الكذب في عليٍّ وذلك قوله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ بالأثر المشهور الذي نقلته الأمَّة عنه - أنه قال لعليّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:((يا عليّ؛ لولا أن تقول فيك طوائف من أُمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم؛ لقلت اليوم فيك مقالاً لا تمر بمَلأٍ من الناس إلاَّ أخذوا التُّراب من تحت قدميك يتباركون به)).
فقول النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((لولا أن تقول فيك طوائف من أُمَّتي)) نفى عن أمَّته أنها لا تقوله؛ لأنه لو علم أنها تقول في عليٍّ ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لما قال :((لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي)).
فإذا علم عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أنها لا تقول ما قالت النصارى أمسك عن المقال الذي لو قاله فيه لأخذوا التراب من تحت قدميه يتباركون به.
فإن زعمت الخوارج: أن الشيعة تقوله فقد أكذبت رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، ومن أكذب رسول الله فقد أكذب الله وكفر به وبرسوله.

(1/196)


وإن كذبوا على الشيعة أنها مثَّلت علي بن أبي طالب بعيسى بن مريم فقد ضرب الله تبارك وتعالى عيسى بن مريم مثلاً بعليّ بن أبي طالب في كتابه الناطق على لسان نبيِّه الصَّادق المصدوق محمَّد صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ: أن المنافقين ومن كان يبغض أمير المؤمنين عليّاً لما سمعوا قول النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في علي:((لولا أن تقول فيك طوائف من أُمَّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم))، قالوا: ما بال محمد يرفع بضبع ابن عمه حتى مثله بعيسى بن مريم؟
فأنزل الله في عليّ وفيهم:{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ}[الزخرف/57-60] .
فسل الخوارج: من الذي ضرب الله مثلاً؟ ومن هذا الذي صد عنه قوم النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؟ ومن هذا العبد الذي أنعم الله عليه وجعله مثلاً لبني إسرائيل؟
هل ادعى أحدٌ من الأُمَّة، أو رُوِيَ في أحد من الأُمَّة وقال فيه رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ هذا المقال غير علي بن أبي طالب؟

(1/197)


[الجواب على من زعم أن سبب حديث الغدير منافرة وقعت بين علي(ع) وزيد بن حارثة]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يقل في علي:((من كنت مولاه فعلي مولاه)) يريد بذلك ولاء الدين؛ إنما كان سبب ذلك أنه كان بين عليٍّ و[بين] زيد منافرة وذلك في حَجَّة الوداع.
فقال له علي: أنت مولاي!.
فقال له زيد:أنا مولى رسول الله.
فقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((من كنت مولاه فعليٌّ مولاه)).
إن مولى الرجل مولى ابن عمه، فلذلك قال.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: هل أمر رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ لشيء ينزل عليه من الفرائض بالصلاة جامعة؟
فإن قالوا: نعم.
فسلهم: لأي فريضة في أي موضع؟ لا يجدون ذلك.
وإن قالوا: لا.
فقل: أَفليس قد أمر يوم غدير خم بالصلاة جامعة؟
فلا بد من قولهم: نعم؛ لأنهم وجميع الفرق الثلاث والسبعين قد أجمعت على ذلك.
فقل: هل يستقيم في المعقول، أو يجهله ذووا العقول: أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ يأمره بالصلاة جامعة لفريضة من فرائض الله ويأمر بها في منافرة رجلين جحد أحدهما صاحبه الولاء؟

(1/198)


إن هذا المقال لا تقبله القلوب مع أن هذا القول كان في حَجَّة الوداع، وزيد -رَحِمَهُ اللهُ- قُتِل يوم مُؤته حين وجهه النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إيَّاه وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة الأنصاري. إِلاَّ أن تكون الخوارج أَوْ غيرهم رووا أن زيداً بعث بعد ذلك فالله قادر على ما يشاء، مع أن في هذا الحديث:((من كنت مولاه فعليٌّ مولاه)) لفظ متسق قوله:((اللَّهُمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبَّه، وابغض من أبغضه)).
وقوله:((هذا وليكم من بعدي))، هذا في رواية أخرى. فما معنى هذا القول؟
وما معنى قول عمر بن الخطاب يومئذٍ:(يهنيك يا بن أبي طالب؛ أصبحت - أو قال -: أمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة)؟ أَلاَ قال: أصبحت مولى زيد، ولم يقل: مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. لولا أنه أراد ولاء الدين؟!.
فإن قالوا: فإن عنى بقوله وَلاء الدين فليس إذاً لعليّ في هذا فضل على غيره؛ لأن الله يقول:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة/71] فعلي وليٌّ، وهم أولياؤه.
فقل لهم: فإن لم يكن له عليهم فضل بأنه وليُّهم، وهم أولياؤه، فرسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ (ليس له إذاً) فضل على المؤمنين؛ لأنه وليُّهم، وهم أولياؤه.
فإن قالوا: فما فضل علي بن أبي طالب على المؤمنين إن كان رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أراد به ولاء الدين؟

(1/199)


فقل: أراد به أنه أولى بهم من أنفسهم كما أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أولى بهم من أنفسهم، وكما أن الله تبارك وتعالى أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ لأنه يقول في كتابه:{[ذَلِكَ بِأَنَّ] اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ}[محمَّد/11] ؛ فهو ولي المؤمنين ومولاهم في الدين، وليس بولي للكافرين ولا مولى لهم وهو مالكهم.
وقوله:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة/257] ثم قال:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة/257] ، فأخبر أنه ولي المؤمنين، وليس بولي للكافرين.
ثم أخبر أنَّ ولاءه الذي وَلِيَ به المؤمنين لرسوله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ فقال:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[الأحزاب/6] أي في الدين.
ثم أخبر رسوله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أن الولاَء الذي جعله الله له في الدين لعلي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فقال:((من كنت مولاه فعلي مولاه))، و ((من كنت وليَّه فعليٌّ وليُّه)).
فولاية الله تعالى، وولاية رسول الله، وولاية علي بن أبي طالب، على الخلق واحدة.

(1/200)


ولو كان الأمر على ما قالت الخوارج أنه في زيد، لم يكن رسول الله ليحابي عليّاً عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ بالولاء دون العباس؛ لأن العمَّ عند الخوارج - وعند من قال بمقالتهم - أولى من ابن العمِّ بالميراث، وأجمعوا في فرائضهم على رجل هلك وترك ابنته وعمه وابن عمه من عمٍّ آخر أن للبنت النصف، وللعمِّ النصف، وليس لابن العمِّ من عمٍّ آخر شيء.
فقل لهم: ما بالهم ورَّثُوا أعمامهم من بني إخوانهم من آبائهم، ومنعوا فاطمة ميراثها من أبيها صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا، والعباس ميراثه من ابن أخيه، ووثبوا على حيطانه فدك وغيرها في المدينة واحتجبوها لأنفسهم؟!.
فإن قالوا: إن الأنبياء لا يورثون، واحتجوا بأن النبيّ عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قال:((إنا معشر الأنبياء لا نورث)).
وقال:((ما تركناه صدقة)).
فقل لهم: لمن قال هذا؟ أو إلى من أوصى بماله صدقة؟؛ لأنه لا تجوز صدقة إلا بولي وشاهد.
[في نحل رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ابنته فاطمة فدك والعوالي]
وقد زعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ لم يُوْصِ إلى أحد.
فإن قالوا: إن وصيه أبو بكر والشاهدان على قوله:((ما تركناه صدقة)) عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجراح.
فقل لهم: أمَّا الوصيَّة فلم يدعها أبو بكر، ولم يدعها أحد من الأُمَّة برواية مأثورة.

(1/201)


وأمَّا شهادة عمر وأبو عبيدة فقد شهد عليٌّ، وابناه الحسن والحسين، وأم أيمن، في فدك بخلاف شهادة عمر، وأبي عبيدة، أنها لفاطمة نِحل من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
ولا خلاف بين الأُمَّة أن فدكاً من تركة رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؛ فلا تخلو أن تكونَ إحدى الشهادتين حقاً، والأخرى باطلاً، وأن يكون رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أشهد عمر وأبا عبيدة بخلاف ما أشهد به عليّاً، وفاطمة، والحسن، والحسين، وأم أيمن؛ فإن كان فعل - وحاشاه صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ - أن يُشهد قوماً بخلاف ما يُشهد به آخرين فيدعهم في التباس وشبهة يخرجون فيها إلى الخصومة.
فإن قالوا: فإن شهادة علي والحسن والحسين لا تجوز لأنهم يجرُّون إلى أنفسهم، وأم أيمن لا تجوز شهادتها وحدها لأنها امرأة.
فقل لهم: فأخبرونا عن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لو أشهده رجل من أُمته على وصيته وحده أكانت تجوز شهادته؟
فإن قالوا: لا. كفروا.
وإن قالوا: نعم؛ لأنه الشاهد على الخلق، والحاكم عليهم.
فقل: وكذلك عليٌّ الشاهد على الخلق، والحاكم عليهم؛ لأن عليّاً من رسول الله عليه وَآلِهِ السلام ورسول الله منه وذلك قول الله تبارك وتعالى:{[فَقُلْ] تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}[آل عمران/61] .
فدعا رسول الله [-صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-] من الأبناء الحسن والحسين، ومن النساء فاطمة الزهراء، ومن الأنفس علياً عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.

(1/202)


فنفس رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لا تشهد بالزُّور، ولا تعمل بالخطأ، ولا يفضلها أحد من المخلوقين.
وقد قال الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[الحجرات/1] ؛ فمن قدم على عليّ فقد قدم على رسول الله؛ إذ سماهما الله نفساً واحدة.
وقل لهم أيضاً: ما باله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ إن كان الأمر على ما قالوا أنه قال:((ما تركناه صدقة)) لم يعهد إلى فاطمة عَلَيْهَا الْسَّلاَمُ إذ لا تطلب ما ليس لها (وما هو) صدقة لغيرها!؟
وما باله أيضاً لم يعهد إلى علي بن أبي طالب، وإلى الحسن والحسين عليهم السلام، وإلى أم أيمن، أن لا يشهدوا لفاطمة عليها السلام بأن ما ترك صدقة إن كان أشهد عمر وأبا عبيدة دُون المهاجرين والأنصار؟!.
وأعظم من هذا كله: أنهم شهدوا على رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بخلاف قول الله تبارك وتعالى؛ زعموا أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:((نحن معاشر الأنبياء لا نورث))، والله تعالى يقول:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}[النمل/16] .
وقال أيضاً في زكريا:{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم/5-6] .
فإن قالوا: إنما ورث سلميان داود النبوَّة والعلم، وكذلك ورث يحيى بن زكريا النبوة والعلم.

(1/203)


فقل: إن النبوَّة والعلم ليسا بدنانير، ولا بدراهم، ولا بدُوْر، ولا بحيطان، تُوْرَثُ وتقسم، وليست بأموالٍ اكتسبوها؛ إنما النبوَّة والعلم لله تبارك وتعالى، يصطفي الله بهما من يشاء من عباده؛ فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، ومن يحبو بنبوَّته، ومن يُؤتي حكمته، مع أن داود وسيلمان عليهما السلام قد كانا في عصر واحد نبيئَين، وعالمين حاكمين، وذلك قوله تبارك وتعالى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}[الأنبياء/78] الآية {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}[الأنبياء/79] .
ثم قال:{وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}[الأنبياء/79] ، فإذا كان سليمان قد آتاه الله النبوة والحكم والعلم في حياة داود فما الذي ورث من داود غير ماله؟!.
وأما القول في زكريا عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ إذ يقول:{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم/5-6] ، فوهب الله له يحيى.
فزعمت الخوارج: أن يحيى ورث نبوة زكريا وعلمه، وقد سأل زكريا ربَّه أن يرثه ويرث من آل يعقوب؛ فدعوة الأنبياء مُجَابَة.
وقد قال الله تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}[الأنبياء/90] ؛ فما الذي ورث يحيى من آل يعقوب: أنبوتهم، أم غير نبوتهم؟!.
فقل لهم: كيف خاف زكريا الموالي من ورائه أن يرثوه النبوة والعلم، والنبوَّة والعلم ليسا في يده فيرثها مواليه وبنو عمه؛ إنما هما إلى الله يصطفي لهما من يشاء من عباده؟!.

(1/204)


[ جوابات على بعض مسائل متفرقة]
وأمَّا ما احتجت به الخوارج من مخاطبة حوشب ذي ظليم لعلي بن أبي طالب وسؤاله إياه أن يمسك عن الحرب، ويُصَيِّرُ لهم الشام، ويُصَيِّرُوْنَ له العراق، وجواب عليٍّ عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ إياه بالكراهة لذلك دون القتال والطاعة، وذلك - زعموا - قبل صِفِّين بأيام، فلم يلبثوا إلا بضعة عشر يوماً حتى افترقوا عن سبعين ألف قتيل.
والحجة على الخوارج في ذلك من الوجهين جميعاً؛ إن كانوا قاتلوا مع علي بن أبي طالب على غير الحق، وقتلوا أصحاب معاوية بغياً وظلماً وعدواناً.
فقل لهم: ماذا أعدوا لله تعالى من الجواب إذا سألهم عن قتل من قتلوا ظلماً وعدواناً؟
وإن كانوا قاتلوا معه على حق فإلى أنفسهم أحسنوا؛ إذ أمرهم الله بأمره فأطاعوه والمنَّة لعليٍّ عليهم في ذلك، فما معنى احتجاجهم في حوشب ذي ظليم؟!.
وأما قولهم: إن الحجاج بن يوسف -لعنه الله- سأل الحسن بن أبي الحسن البصري فقال له: ما تقول في عليّ، وعثمان، وطلحة، والزبير، أيُّهم كان على الحق، وأيُّهم كان على الباطل؟
فقال الحسن له: أقول كما قال من هو خير مني لمن هو شر منك؛ قال فرعون لموسَى:{فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}[طه/51] .
قال موسى:{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}[طه/52] .
فإن كان الحسن عند الخوارج قدوة فقد كان ينبغي لهم أن يقتدوا به وأن يمسكوا عن ذكر الشيعة ولا يكفروهم، وأن لاَ يقولوا فيهم الزور والبهتان.
ويمسكوا عن ذكر الخلافة، ولا يحتجوا لأبي بكر ، ولا لعمر، على علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.

(1/205)


ويمسكوا عن انتقاص عليٍّ، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وأن لا يخطئوهم.
وعن انتقاص معاوية، وأبي موسَى الأشعري، وعمرو بن العاص. وإذا سألوهم عنهم أن يقولوا فيهم كما قال الحسن للحجاج.
واحتجوا علينا بذلك: إذ سأله - فيما زعموا - عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وطلحة، والزبير، وعائشة، وأبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، والشيعة، فيجب أن يذكروا عندهم أن يقولوا:علمهم عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
ولا يبحثوا عن أمورهم، ولا ينظروا في مساوئ أخبارهم وأفعالهم؛ حتى يعلم الخلق أنهم قد اقتدوا بالحسن بن أبي الحسن البصري؛ إذ اتخذوه حُجَّة.
وكل حججهم منتقضة؛ لأن الباطل لا قوام له ولا صحة فيه، والحق يتلألأ مثل الشمس مُضيءٌ مُنير لا تَفْسُدُ حُجَجُه، ولا يَقطع صاحبه، ولا يُدخله البوار، ولا يُعقِّب النار.
وأما ما ذكروا عن الربيع بن خثيم وسؤال من سأله أن يُذكِّرَ الناس ويحضهم على الخير، فكان من قوله: ما أنا براضٍ عن نفسي حتى أفرغ من ذمها إلى ذم الناس.
وزعم أنه لا يخاف الله في ذنوب الناس، وأنه يخاف في ذنب نفسه.
وزعموا: أنه ينبغي للعاقل أن يكون له في نفسه شُغل عن الناس، ويحاسب نفسه، وأنه يخزن لسانه عَمَّا لا يحل له؛ فذلك خير له وأسلم لدينه.
فإن مثل الخوارج ومن قال بقولهم في هذا وأمرهم به غيرهم، وتركهم فعله؛ كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[البقرة/44] .

(1/206)


وقال الشاعر:
إذا عبت أمراً ثم جِئتَ بمثله .... فأنت ومن تزري عليه سواء
وقول آخر [في المعنى]:
لا تنه عن خُلق وتأتي مثله .... عار عليك إذا فعلت عظيم
فلو تدبرت الخوارج كتاب الله تعالى، واقتصروا على أمره ونهيه، وفزعوا بما لم يعلموا من العلم والدِّين إلى من أُمروا أن يفزعوا إليه عند اشتكال الأمور عليهم، وتشبهها لهم، ولم يقيموا أَئمةً لم يؤمروا بإقامتهم، وقلّدوا دينهم ما لم يؤمروا بتقليده رجالاً موَّهوا عليهم؛ يحلّون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال؛ كان أسلم لهم في دينهم ودنياهم، وأرضى لخالقهم؛ ولكن قول الله تبارك وتعالى أصدق إذ يقول:{وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}[يونس/101] .
* * * * * * * * * * * * *
وفقنا الله تعالى وإيَّاك لطاعته، وحجزنا وإيِّاك عن معصيته بعصمته، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وصلواتُ الرؤوف الرِّحيم ربنا على الرؤوف الرَّحيم نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آهل بيته الطَّيِّبِين الأخيار، الصَّادقين الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطَّهِّرهم تطهيراً.
تمّ كتاب الكامل المنير، بمنِّ الله وتيسيره، وعونه وتوفيقه وتسديده، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

(1/207)