الكتاب : الديباج الوضي |
www.izbacf.org
أعد هذا الكتاب إلكترونيا
قطب الدين بن محمَّد الشَرْوَني الجعفري
للتواصل
viva_intifada@hotmail.com
تصدير
لعل التساؤل الأول الذي يبرز إلى أذهان كثير ممن يطلع على "نهج البلاغة" هو سؤال الانتساب. هل هذا الكتاب حقاً يجمع بعضاً مما قاله وكتبه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام؟ أم أن الشريف الرضي رحمه الله قام بتأليفه كله ، أو أجزاء منه ثم قام بنسبته للإمام ؟
تعدد الإجابات إزاء هذا التساؤل المشروع بين "سنية" و"شيعية" و"معتزلية" تسعى جميعاً، على اختلاف أساليبها، وتباين منطلقاتها، إلى إثبات أن مضمون "نهج البلاغة" هو لعلي بن أبي طالب
وبين التساؤل والإجابة تختفي قضية في غاية الأهمية
هذا السؤال يخفي واقعاً مؤلماً نعيشه، يتعلق بطبيعة تفكير المسلمين اليوم، ومنذ أمد بعيد. وهي النظر إلى العلوم أولاً من خلال النظر إلى مصدرها، وليس إلى مضمونها. فلا يهم ما يقال، بقدر من قال. والسبب يعود إلى عنصر آخر يتعلق بدور العقل المسلم في معرفة وتقييم القضايا الدينية على وجه الخصوص. فبقدر ما يغيب العقل عن هذه الساحة، بقدر ما يكون أي موضوع ذا صبغة دينية معتمداً على القائل، وليس على القول. ولا شك في أن ما ينسب للإمام علي له صبغته الدينية المتفردة، إن مضموناً، لكثرة ما فيه من قضايا تعالج مفردات دينية متنوعة، أو انتساباً من حيث مقام الإمام علي الديني كصحابي جليل لدى بعض المسلمين، أو كوصي لدى بعض آخر.
هذه النظرة ستجعل الاستفادة من نهج البلاغة متوقفة بدرجة كبيرة على إثبات نسبة الكتاب إلى الإمام علي.
وواقع الحال، أن خطب وكلمات نهج البلاغة، لا يمكن أن تثبت كلها كلمة كلمة إلى الإمام علي باستعمال المناهج الصارمة للمحدثين باختلاف طوائفهم. وغاية ما يمكن أن نعمله هو أن نثبت الانتساب الإجمالي للنهج إلى الإمام علي، بحيث نقول إن مجموع الكتاب له نسبة إلى الإمام، وأما بعض مفرداته فقد تصح عنه، وقد لا تصح. وعليه، فإن هذا المنهج سيحرمنا كثيراً من الاستفادة من هذا السفر العظيم.
وأما إذا انطلقنا من حيث أن الكلام يستمد صحته وصوابيته من ذاته أولاً بذاته، من خلال العقل، وليس من خلال قائله، فإن نظرتنا إلى نهج البلاغة واستفادتنا منه ستختلف. حينها، سننظر إلى النهج من حيث مضامينه التي تفتح لنا آفاقاً للتأمل والتفكير. مضامين قد نختلف معها، كما قد نوافقها، ولكنها في نهاية الأمر تثير عقولنا لاستكشاف أبوابٍ لم نكن على اطلاع عليها.
إن نهج البلاغة من حيث مضمونه بحر متلاطم من المعاني الروحية، والصراعات السياسية، والحكم التأملية، والنظرات الفلسفية، والمشاهدات العلمية، يخوضه المرء فيجد نفسه ينتقل من موج إلى موج، كل ذلك من خلال أسلوب أدبي في غاية الرقي .
إن هذا السفر النفيس، يجسد شخصية الفيلسوف المتأمل لما وراء الطبيعة، من خلال الكلمات التي قيلت في الله تعالى، وفي أصل الكون. كما نجد فيه شخصية الفارس من خلال الخطب الحماسية التي تدفع أجبن الناس إلى خوض ساحات الوغى. وتلتفت هناك فتجد فيه شخصية الحكيم الذي اختبر الحياة قروناً من الزمان، فجاءت منه الكلمات التي تدلنا على طريقة الحياة بشكل منساب لا تكلف فيه، وبعمق لا نظير له. كما تجد فيه شخصية المنظر السياسي من خلال الكلمات التي أرشد بها عماله إلى طرائف الحكم. كما تجد العارف بالله الذي لا يرى لوجوده، بل ووجود كل ما حوله إلا تجلياً لعظمة الله ولقدرته. كما تجد الخاشع لله، الذي لا هم له إلا بأن يلتئم وجوده مع إرادة الله جل جلاله وعز سلطانه. وتجد أيضاً شخص المراقب الذي ينظر إلى ما حوله من الخلق، فيصفه. وتجد السياسي الذي يحاول أن يوازن بين مجموعة كبيرة من المتناقضات التي اتسم بها عصره، ولكن من خلال وسائل وطرائق لا تبعده عن أصل مراده، وأهم غاياته. ثم تجد أن كل تلك السمات تتداخل معاً بحيث تخرج بكثير منها من خلال خطبة واحدة أحياناً.
وفي كل ذلك تجد وحدة ووحشة لرجل لم يكن من حوله قادراً على استيعاب مراده، ولا على الوصول إلى مقامه. ولذلك تجد في خطابه لمن حوله، نفثة الحسرة، حسرة من يرى الآفاق كلها، ولكن بغير أن يقدر على أن ينقل الناس إليها. لقد كان يريد أن يسبح بهم في ملكوت الله، وأن يرتفع بهم إلى مقامات الكرامة والعزة، ولكن أرادوا الاستكانة، وطلبوا الدعة، فكانت عليهم الذلة في الدنيا والسخط في الآخرة.
لا شك، أن عظمة الكتاب، التي تكشف عن عظمة قائلها، تثير فينا الفضول نحو معرفة هذه الشخصية التي جمعت في آن واحد جملة من السمات المتضادة... ومن هذا المنطلق فحسب، قد نسعى لتحقيق نسبة الكتاب.. ولكن ليس من منطلق الاستفادة منه. هذه الشخصية التي يقف المرء أمامها حائراً، شخصية لا تنتمي إلى زمن من عرفناهم من البشر... شخصية من تلك التي تقف بين مليارات الخلق ممن مضى، وممن سيأتي...
وكأي عظيم، فإن نهج البلاغة بما فيه من معان وآفاق، كان بحاجة إلى دراسة، إلى تأمل، إلى قراءة لا تكون عابرة، وإنما قراءة مستلهمة، ومقارنة، ومتعمقة، بحيث لا تأخذ ما في النص أخذاً عجلاً ، وإنما تنظر فيه وتضعه في سياق الوقائع والمعاني ....
وقد تحصل لهذا الكتاب من الشروح والتعليقات والحواشي ما جعله نصاً متفرداً استطاع استيعاب الكثير من المدارس والتيارات والفهوم التي أخذت تجول وتصول بحثاً عن دقائق معانيه وفرائد مبانيه.
ومن تلك المحاولات الرائعة هذا الكتاب الذي بين يديك.
ومؤلفه من تلك الشخصيات التي اتسمت بكثير من السمات التي كانت للإمام علي عليه السلام. فقد جمع بين الشجاعة والإقدام وأخلاق الفارس الذي لا يداهن الظلمة مع ورع شديد وعبادة ووله وخشوع مع صدق نفس وديانة متينة فكانت قراءته للنهج قراءة من عاش جزءاً كبيراً من تجربة صاحب النهج بحيث سرت روحه في سلوكه وتجسدت صفاته في حياته حتى بات مثالاً يحتذي طيب الأصل وفرعاً يتدلى من سموق تلك الشجرة المباركة.
ولا شك أن خير من يقرأ تجربة ما هو من يعيش تلك التجربة بذاته ويجسدها بسلوكه العملي بين الناس .
فلنقرأ الشرح مع المؤلف بعقلية المتأمل والمُسائل والمحاور ... ولنتأمل في النهج معاً نحن وإياه، بحيث نقرأه من خلال عقله وعقولنا، لتثمر بذلك القراءة ، وتتعمق المطالعة...
لقد ترك النهج بصمات كبيرة على أجيال متتابعة ... وكل أملنا أن تستمر آثاره، وأن تتوسع آفاقه الرحبة بحيث لا يكون للصراعات الضيقة دور في صرف الناس عنه ، وفي حرمانهم من الاستفادة منه.
والشكر موصول للمحقق الذي لم يتوانَ جهداً في تحقيق النص وتتبع موارده وتخريج نصوصه وشواهده مما أضفى حلة بهية على العمل فجزاه الله خيراً وبارك في وقته وعمله.
مؤسسة الإمام زيد بن علي (ع) الثقافية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق العدل المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ونبيه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأطهار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى أصحابه المنتجبين الأخيار.
وبعد ..
إن الحديث عن فضائل ومناقب وخصائص الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يطول ويطول جداً، إذ أنها جمة كثيرة وشهيرة، وليس في وسع الباحث أو الكاتب ضبط ذلك وإحصاؤه في مثل هذه العُجالة، إذ أنه يحتاج في رقمه إلى مجلدات كبار، وتلك المناقب والفضائل قد اشتهرت بين الخاص والعام عند جميع المسلمين ومنذ العهد النبوي وبزوغ فجر الدعوة، على صاحبها وآله أفضل الصلوات والتسليم، فظهرت على الآفاق، وطارت كل مطار، وطفحت بذكرها المئات من المؤلفات والمصنفات، وتداولها الناس جيلاً فجيل، وخلفاً عن سلف، بين أوساط جميع المذاهب الإسلامية، وحسبك معرفة أنك لا تجد مذهباً من مذاهب المسلمين، إلا وقد ظهر من بين أبناءه من ألَّف وصنّف في ذلك الباب، فعمرت المكتبة الإسلامية بالمئات من المصنفات الحافلة.
قال ابن أبي الحديد في كتابه (شرح نهج البلاغة)1/16-17، تحت عنوان: القول في نسب أمير المؤمنين علي عليه السلام، وذكر لمع يسيرة من فضائله ما لفظه: (فأما فضائله عليه السلام؛ فإنها قد بلغت من العظم والجلالة، والانتشار والاشتهار مبلغاً يسمج معه التعرض لذكرها، والتصدي لتفصيلها، فصارت كما قال أبو العيناء لعبد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل والمعتمد: رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، فأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
قال: وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعّدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً، وحتى حظروا أن يسمّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما سُتِرَ انتشر عَرْفُه، وكلما كُتِمَ تَضَوَّع نشرُه، وكالشمس لا تستر بالرَّاح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيرة.
وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عُذْرِها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى). انتهى ما نقلته من ابن أبي الحديد رحمه الله.
وغاية ما يمكن أن أقوله هنا: إن قلمي ولساني لعاجزان ومقصران عن إيفاء الإمام علي عليه السلام حقه، ولو بضرب من الاختصار والإيجاز، لكنني أقتطف نبذة يسيرة من فضائله عليه السلام صاغها قلم العلامة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله في كتابه الروضة الندية في شرح التحفة العلوية ص392-410، حيث قال ما لفظه:
وكفاه كونه للمصطفى
ثانياً في كل ذكرٍ وصَفِيَّا
قوله: (وكفاه): أي كفاه شرفاً وفخراً أنه يذكر ثانياً وتالياً لذكره صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه صفي ومختار لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم لِمَا تقدم من إكرامه.
والبيت يشير إلى ما خصَّ الله الوصي عليه السلام من إبقاء ذكره الشريف على ألسنة العالم من صبي ومكلف وحر وعبد ذكر وأنثى، فإنهم إذا ذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكروه بذكره. وهذا من إكرام الله تعالى له فإنه ينشأ الصبي فيهتف: يا محمد، يا علي، والعالِمُ والعامي وغيرهما، وهذا من رفع الذكر الذي طلبه خليل الله، في قوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}[الشعراء:84]، وهو الذي امتن الله به على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}[الشرح:4]، (وكفاه شرفاً) أنه أول السابقين إلى الإسلام، (وكفاه شرفاً) أنه أول من صلى، وأنه الذي رقى جنب أبي القاسم لكسر الأصنام، (وكفاه شرفاً) أنه الذي فداه بنفسه ليلة مكر الذين مكروا به، (وكفاه شرفاً) أنه الذي أدّى عنه الأمانات إلى أهلها، (وكفاه شرفاً) أنه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة الرأس من البدن، (وكفاه شرفاً) أنه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله منه، (وكفاه شرفاً) أنه سَلَّمت عليه الأملاك يوم بدر، (وكفاه شرفاً) أنه الذي قطّر أبطال المشركين في كل معركة، (وكفاه شرفاً) أنه قاتل عمرو بن ود، (وكفاه شرفاً) أنه فاتح خيبر، (وكفاه شرفاً) أنه مُبلِّغٌ براءة إلى المشركين، (وكفاه شرفاً) أن الله تعالى زوّجه البتول عليها السلام، (وكفاه شرفاً) أن أولاده للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أولاد، (وكفاه شرفاً) أنه خليفته يوم غزوة تبوك، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى إلا في النبوة، (وكفاه شرفاً) أنه أحب الخلق إلى الله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفاً) أنه أحب الخلق إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفاً) أن الله باهى به ملائكته، (وكفاه شرفاً) أنه نودي من السماء: ((لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي))، (وكفاه شرفاً) أنه قسيم النار والجنة، (وكفاه شرفاً) أنه أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفاً) أن من آذاه فقد آذى رسول الله، (وكفاه شرفاً) أن النظر إلى وجهه عبادة، (وكفاه شرفاً) أنه لا يُبْغِضُهُ إلا منافق وأنه لا يحبُّه إلا مؤمن، (وكفاه شرفاً) أن فيه مثلاً من عيسى بن مريم عليه السلام، (وكفاه شرفاً) أنه ولي كل مؤمن ومؤمنة، (وكفاه شرفاً) أنه سيد العرب، (وكفاه شرفاً) أنه سيد المسلمين، (وكفاه شرفاً) أنه يحشر راكباً، (وكفاه شرفاً) أنه يسقي من حوض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين ويذود المنافقين، (وكفاه شرفاً) أنه لا يجوز أحد الصراط إلا بجواز منه، (وكفاه شرفاً) أنه يكسى حلة خضراء من حلل الجنة، (وكفاه شرفاً) أنه ينادي مناد من تحت العرش: نعم الأخ أخوك عليٌّ، (وكفاه شرفاً) أنه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قصره ومع ابنته سيدة نساء العالمين، (وكفاه شرفاً) أنه حامل لواء الحمد آدم وَمَنْ ولده يمشون في ظله، (وكفاه شرفاً) أنه يقول أهل المحشر حين يرونه: ما هذا إلا ملك مقرب أو نبي مرسل، فينادي منادٍ: ليس هذا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولكنه علي بن أبي طالب أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفاً) أنه مكتوب اسمه مع اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، محمد رسول الله أيدته بعلي، (وكفاه شرفاً) أنه يقبض روحه كما يقبض روح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفاً) أنها تشتاق الجنة إليه كما في حديث أنس:
((تشتاق الجنة إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان))، (وكفاه شرفاً) أنه باب مدينة علمه صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفاً) أنها سُدَّت الأبواب إلا بابه، (وكفاه شرفاً) أنه لم يرمد بعد الدعوة النبوية، ولا أصابه حرٌّ ولا برد، (وكفاه شرفاً) أنه أول من يقرع باب الجنة، (وكفاه شرفاً) أن قصره في الجنة بين قصري خليل الرحمن وسيد ولد آدم عليه السلام، (وكفاه شرفاً) نزول آية الولاية فيه، (وكفاه شرفاً) أن الله سماه مؤمناً في عشر آيات، (وكفاه شرفاً) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتجاه، (وكفاه شرفاً) أكله من الطائر مع رسول الله، (وكفاه شرفاً) بيعة الرضوان، (وكفاه شرفاً) أنه رأس أهل بدر، (وكفاه شرفاً) أنه وصي رسول الله، (وكفاه شرفاً) أنه وزيره، (وكفاه شرفاً) أنه أعلم أمته، (وكفاه شرفاً) أنه يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تنزيله، (وكفاه شرفاً) أنه قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، (وكفاه شرفاً) أنه حامل لوائه صلى الله عليه وآله وسلم في كل معركة، (وكفاه شرفاً) أنه الذي غسَّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتولى دفنه، (وكفاه شرفاً) ما أعطاه الله تعالى من الزهادة والعبادة والبسالة، (وكفاه شرفاً) ما فاز به من الشهادة والزلفى.
هذي المفاخر لا قعبان من لبن
شيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا
(وكفاه شرفاً) شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يحب الله ورسوله، (وكفاه شرفاً) شهادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كرّار غير فرّار، (وكفاه شرفاً) تهدده صلى الله عليه وآله وسلم لقريش بأنه يبعثه عليهم، (وكفاه شرفاً) شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأن الله امتحن قلبه للتقوى، وكفاه شرفاً أنه من أهل الكساء، (وكفاه شرفاً) أن الله سماه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (وكفاه شرفاً) أنه ثان لرسوله في كتابة اسمه في ساق العرش، (وكفاه شرفاً) أنه ثانٍ لرسول الله في سؤاله من الله كلما سأله لنفسه، واستعاذته له من كل ما استعاذ منه لنفسه، كما أخرجه الإمام المحاملي، عن عبيد الله بن الحارث، قال: قلت لعلي بن أبي طالب: أخبرني بأفضل منزلتك من رسول الله؟ قال: نعم، بينا أنا نائم عنده وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته، قال: ((يا علي، ما سألت الله عزَّ وجلّ شيئاً إلا سألت لك مثله، ولا استعذت بالله من شيء إلا استعذت لك مثله))، (وكفاه شرفاً) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدخله في ثوبه يوم توفي واحتضنه إلى أن قُبِضَ، (وكفاه شرفاً) أنه أعلم الناس بالسنة، (وكفاه شرفاً) أنه أكثر الأمة علماً وأعظمهم حلماً، (وكفاه شرفاً) أن الصحابة أحالت السؤالات -لما سئلوا- عليه، (وكفاه شرفاً) أنه لم يكن في الصحابة من يقول: سلوني قبل فقدي غيره، (وكفاه شرفاً) دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين ولاه القضاء بأن يُثبِّتَ الله لسانه ويهدي قلبه، (وكفاه شرفاً) قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه أقضى أمته، (وكفاه شرفاً) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قرر قضاؤه وأعجب به، وقال: ((الحمد لله الذي جعل فينا أهل البيت الحكمة))، (وكفاه شرفاً) أنه من سادات أهل الجنة، كما أخرجه ابن السري عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نحن بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة: أنا، وحمزة، وعلي، وجعفر، والحسن، والحسين، والمهدي)).
(وكفاه شرفاً) لعنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أبغضه، كما أخرجه أبو سعيد في شرف النبوة، عن أنس بن مالك، قال: صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر، فذكر قولاً كثيراً، ثم قال: ((أين علي بن أبي طالب؟ فوثب إليه، فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، فضمّه إلى صدره وقبّله بين عينيه، وقال بأعلى صوته: ((معاشر المسلمين، هذا أخي وابن عمي، وختني، هذا لحمي ودمي وشعري، هذا أبو السبطين الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، هذا مفرِّج الكرب عني، هذا أسد الله وسيفه في أرضه على أعدائه، على مبغضه لعنة الله ولعنة اللاعنين، والله منه بريء وأنا منه بريء، فمن أحب أن يبرأ من الله ومني فليبرأ من علي، وليبلّغ الشاهد الغائب، ثم قال: اجلس يا علي، قد عرف الله لك ذلك)).
(وكفاه شرفاً) اشتياق أهل السماوات والأنبياء في الجنة إلى علي عليه السلام، كما أخرجه الملا في سيرته عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما مررت بسماء إلا وأهلها مشتاقون إلى علي بن أبي طالب، وما في الجنة نبيء إلا وهو مشتاق إلى علي بن أبي طالب))، (وكفاه شرفاً) أن الله تعالى باهى به حملة العرش، كما أخرجه أبو القاسم في فضائل العباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفَّ المهاجرين والأنصار، وقال: ((هبط عليّ جبريل عليه السلام، وقال: إن الله عزَّ وجلّ باهى بالمهاجرين والأنصار أهل السماوات العلا، وباهى بي وبك يا علي وبك يا عباس حملة العرش))، فهذه والله هي الرتب التي لا يبلغها أحد من العجم ولا العرب.
رتبٌ ترجع الأمانيُّ حسرى
دونها ما وراءهنَّ وراءُ
(وكفاه شرفاً) أنه يخصم الناس بسبع، كما أخرجه أبو نعيم في الحلية، من حديث معاذ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: ((تخصم الناس بسبع لا يحاجَّك أحد من قريش: أنت أولهم إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسويّة، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية)).
(وكفاه شرفاً) أنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في انشقاق الأرض عنه، وفي وقوفه عند كفة الميزان، كما أخرجه السيوطي في جامعه، قال شاذان: (ثنا) أبو طالب عبد الله بن محمد بن عبد الله الكاتب بعكبرا، (ثنا) أبو القاسم [عبد الله بن محمد بن غياث الخراساني]، أبو جعفر بن غياث الخراساني، (ثنا) أحمد بن عامر بن سليم الطائي (ثنا) علي بن موسى الرضا "، حدثني أبي موسى، حدثني أبي جعفر، حدثني أبي محمد، حدثني أبي علي، حدثني أبي الحسين، حدثني أبي علي بن أبي طالب"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي، إني سألت ربي عزَّ وجلّ فيك خمس خصال فأعطاني: أما لأولى: فإني سألت ربي أن تنشق عني الأرض وأنفض التراب عن رأسي وأنت معي فأعطاني، وأما الثانية: فسألته أن يوقفني عند كفة الميزان وأنت معي فأعطاني، وأما الثالثة: فسألته أن يجعلك حامل لوائي وهو لواء الله الأكبر تحته المفلحون والفائزون بالجنة فأعطاني، وأما الرابعة: فسألت ربي أن تسقي أمتي من حوضي فأعطاني، وأما الخامسة: فسألت ربي أن يجعلك قائد أمتي إلى الجنة فأعطاني، فالحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بذلك)).
(وكفاه شرفاً) أنه ثانٍ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشرف الذكر وأعلاه وأطيبه، وأدومه وأبقاه، وذلك في صلاته وملائكته والخلائق عليه صلى الله عليه وعلى الآل؛ وأمير المؤمنين عليه السلام رأس الآل، وقد علّمهم صلى الله عليه وآله وسلم كيفية الصلاة، كما أخرج الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم المعروف بابن البيع في كتابه علوم الحديث: عدّهن في يدي أبو بكر بن أبي حازم بن دارم الحافظ بالكوفة، وقال: عدَّهن في يدي علي بن أحمد بن الحسين العجلي، قال: عدَّهن في يدي حرب بن الحسن الطحان، وقال لي: عدَّهن في يدي يحيى بن المساور الحناط، وقال لي: عدَّهن في يدي عمرو بن خالد، وقال: عدَّهن في يدي زيد بن علي بن الحسين، وقال: عدَّهن في يدي أبي علي بن الحسين، وقال: عدَّهن في يدي أبي الحسين بن علي، وقال: عدَّهن في يدي علي بن أبي طالب، وقال: عدَّهن في يدي رسول الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((عدَّهن في يدي جبريل، وقال جبريل: هكذا نزلت بهنّ من عند ربِّ العزة:
اللهم، صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم، بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وسلم على محمد وعلى آل محمد كما سلمت على إبراهيم وعلى إبراهيم إنك حميد مجيد)).
مع كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
من الخصائص التي تميز بها أمير المؤمنين علي عليه السلام القدرة الفائقة على نظم خطبه ومواعظه وكتبه ورسائله وحكمه بأسلوب بلاغي وإنشائي جذاب وبلفظ فصيح وقوي سريع التأثير في النفوس لا يرقى إليه أحد، فتعلم الناس منه علوم البلاغة، قال ابن أبي الحديد رحمه الله في شرح نهج البلاغة1/24 في تعداده لفضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام، ما لفظه: (وأما الفصاحة فهو عليه السلام إمام الفصحاء وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق، ومنه تعلم الناس الخطابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت.
وقال ابن نباته: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.
ولما قال مِحْفن بن أبي مِحفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس! فوالله ما سنَّ الفصاحة لقريش غيره). انتهى.
وقال الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه عبقرية الإمام علي ص143ـ144: (وليس الإمام علي أول من كتب الرسائل وألقى العظات، وأطال الخطب على المنابر في الأمة الإسلامية، ولكنه لا ريب أول من عالج هذه الفنون معالجة أديب، وأول من أضفى عليها صبغة الإنشاء الذي يقتدى به في الأساليب؛ لأن الذين سبقوه كانوا يصوغون كلامهم صياغة مبلِّغين لا صياغة منشئين، ويقصدون إلى أداء ما أرادوه، ولا يقصدون إلى فن الأداء وصناعة التعبير، ولكن الإمام عليًّا تعلم الكتابة صغيراً، ودرس الكلام البليغ من روايات الألسن وتدوين الأوراق، وانتظر بالبلاغة حتى خرجت من طور البداهة الأولى إلى طور التفنن والتجويد، فاستقام له أسلوب مطبوع مصنوع، هو فيما نرى أول أساليب الإنشاء الفني في اللغة العربية، وأول أسلوب ظهرت فيه آثار دراسة القرآن والاستفادة من قدرته وسياقه، وتأتَّى له بسليقته الأدبية أن يأخذ من فحولة البداوة ومن تهذيب الحضارة، ومن أنماط التفكير الجديد الذي أبدعته المعرفة الدينية والثقافة الإسلامية، فديوانه الذي سمي (نهج البلاغة) أحق ديوان بهذه التسمية بين كتب العربية). انتهى.
وهكذا نرى أن الإمام علياً عليه السلام استطاع بأسلوبه ذلك أن يصوغ الكلام صياغة بليغة في مختلف المناحي الدينية والفكرية، وفي شتى الميادين العلمية والعملية، وهو في كل ذلك يحافظ على الجمال في التعبير، وسرعة تغلغله في طوايا النفوس وتأثيره، وشمول مدلوله وتركيبه، وهاك على سبيل المثال قوله: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)، فهذه الحكمة الجامعة تلقى من علماء البيان أشد الإعجاب وأصدقه، فها هو الجاحظ المعروف بأدبه وعلمه عند الخاص والعام، ينقل عنه الشهيد مرتضى المطهري في كتابه (في رحاب نهج البلاغة) ص23، ينقل عنه ثناءه على هذه الحكمة في كتابه (البيان والتبيين): (فلو لم نقف من كتابنا هذا إلا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية، بل لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية، وكأن الله عزَّ وجلّ قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله).
هذا بالإضافة إلى المكانة السامية التي تبوأها الإمام علي عليه السلام في حياة المسلمين وتأريخهم منذ بزوغ فجر الدعوة النبوية، وموقعه من نفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وإيثاره له وإشادته بمناقبه وفضائله وإظهار خصائصه ومزاياه على جموع الملأ من الناس وفي مختلف المحافل، كل تلك العوامل مجتمعة وغيرها كانت دوافعاً قوية لالتفاف الناس حوله وإقبالهم على استماع كلامه ومواعظه والحرص الشديد على حفظها، ليشكل ذلك لهم منهجاً وسلوكاً يسيرون على ضوئه، ويحتذون على مثاله، فأمير المؤمنين علي عليه السلام مع الحق والحق معه، كما قاله الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
فحفظ الناس كلامه عليه السلام وتداولوه فيما بينهم، ونقله السلف للخلف رواية وتلقيناً، ودرساً وتدريساً، وألّفوا لجمعه وتدوينه الكتب، يقول الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم في مقدمة تحقيقه لكتاب (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد 1/5-6، بعد سياقه لسرد بعض خصائص الإمام علي عليه السلام، ما لفظه:
(كل هذه المزايا مجتمعة، وتلك الصفات متآزرة متناصرة، وما صاحبها من نفح إلهي، وإلهام قدسي، مكَّنت للإمام علي من وجوه البيان وملكته أعنة الكلام، وألهمته أسمى المعاني وأكرمها، وهيَّأت له أشرف المواقف وأعزها، فجرت على لسانه الخطب الرائعة، والرسائل الجامعة، والوصايا النافعة، والكلمة يرسلها عفو الخاطر فتغدو حكمة، والحديث يلقيه بلا تعمل ولا إعنات فيصبح مثلاً؛ في أداء محكم، ومعنى واضح، ولفظ عذب سائغ، وإذا هذا الكلام يملأ السهل والجبل، وينتقل في البدو والحضر، يرويه على كثرته الرواة، ويحفظه العلماء والدارسون؛ قال المسعودي: والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، تداول عنه الناس ذلك قولاً وعملاً.
ثم ظل هكذا محفوظاً في الصدور، مروياً على الألسنة، حتى كان عصر التدوين والتأليف؛ فانتثرت خطبه ورسائله في كتب التأريخ والسير والمغازي والمحاضرات والأدب على الخصوص، كما انتخبت كلماته ومأثور حكمه فيما وضعوه من أبواب المواعظ والدعاء، وفي كتابي الغريب لأبي عبيد القاسم بن سلام ، وابن قتيبة منه الشيء الكثير ).
قال: (وإذا كان لكلام الإمام علي طابع خاص يميِّزه عن غيره من الخطباء، ونهج واضح يخالف غيره من البلغاء والمترسلين، فقد حاول كثير من العلماء والأدباء على مرِّ العصور أن يُفردوا لكلامه كتباً خاصة ودواوين مستقلة، بقي بعضها وذهب الكثير منها على مر الأيام؛ منهم نصر بن مزاحم صاحب (صفين) ، وأبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي ، ومحمد بن عمر الواقدي ، وأبو الحسن علي بن محمد المدائني ، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، وأبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ، وأبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي ، وعبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد التميمي ، ورشيد الدين محمد بن محمد المعروف بالوطواط ، وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد ، وغيرهم كثيرون، إلا أن أعظم هذه المحاولات خطراً وأعلاها شأناً، وأحسنها أبواباً، وأبعدها صيتاً وشأواً هو مجموع ما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي في كتابه (نهج البلاغة)). انتهى.
وهذا يفسر لنا مدى الاهتمام الكبير الذي لقيه وحظي به كلام الإمام علي عليه السلام من قبل كوكبة من العلماء والمؤلفين والباحثين، ومنذ بداية عصر التدوين والتأليف، فجمعوا كلامه عليه السلام وأفردوا له كتباً خاصة به، ويوضح بدوره الأهمية العلمية الكبيرة المشتمل عليها كلامه عليه السلام، إذ أنه يشكل بدوره رافداً من روافد العطاء الديني والفكري والروحي والعلمي لدى جميع المسلمين، يشهد بصحة هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها))، وغير ذلك من الأحاديث النبوية الواردة في هذا الباب.
وإذا كان من سبق ذكره من العلماء والمؤلفين ممن قد اهتموا بتدوين وجمع كلام الإمام علي عليه السلام في مؤلفات وكتب خاصة، فهناك أيضاً طائفة أخرى كثيراً منهم، قد رووا وأوردوا كثيراً من كلامه عليه السلام في بعضٍ من مؤلفاتهم منهم: الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني المتوفى سنة 424ه الملقب بالناطق بالحق، فقد أخرج الكثير منه في كتابه الإمالي المسمى (تيسير المطالب في أمالي أبي طالب)، وسواء كان مذكوراً في كتاب نهج البلاغة أم في غيره، وهو في جميع ذلك يرويه مسنداً إلى الإمام علي عليه السلام، ومنهم الإمام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل الجرجاني المتوفى، سنة 430ه تقريباً، فقد أخرج وروى في كتابه (الاعتبار وسلوة العارفين) الكثير من كلام الإمام عليه السلام، وروى الأغلب والأكثر منه مسنداً، بل كان في بعض من ذلك يرويه مسنداً ومن عدة طرق، فيذكرها جميعاً، ومنهم الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الشجري المتوفى سنة 479ه، فقد أخرج وروى في كتابه المسمى (الأمالي الخميسية) كثيراً من كلام الإمام علي بن عليه السلام، رواه جميعه مسنداً إلى الإمام علي عليه السلام، ومنهم الحافظ ابن عساكر الدمشقي الشافعي المتوفى سنة 571ه، فقد أخرج وروى في (ترجمة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب من تأريخ دمشق) الكثير من ذلك، وهو في جميع ذلك يرويه مسنداً إلى الإمام علي عليه السلام، هذا ومتابعة هذا الموضوع يطول جداً والغرض الإشارة.
ولما ظهر كتاب (نهج البلاغة) الذي جمعه الشريف الرضي رحمه الله، وأورد فيه ما اختاره من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام، انبرى بعض من المتأخرين والمغرضين إلى التشكيك في صحة نسبته إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، وبنوا ذلك على أسس أوهى من خيط العنكبوت، ومزاعم نسجتها خيالاتهم وأوهامهم، لا تثبت بها أدنى حجة، ولا يقبلها عقل ولا لب، وهم في كل تلك التشكيكات والمزاعم لم يضيروا (نهج البلاغة) وصحة نسبة ما فيه إلى الإمام علي عليه السلام بشيء، ولم يرجع ضرر تلك التخرصات والتقولات إلا على أصحابها، فكتاب (نهج البلاغة)، لم تبله تلك المزاعم ولم تؤثر فيه، فهو باقٍ وموجود بين أيدي العلماء والدارسين منذ جمعه، يتناقلونه ويتدارسونه ويرويه خلف عن سلف، وتزداد شروحه والدراسات والكتابات والبحوث حوله يوماً فيوماً، وفي مختلف العصور منذ أن جمعه الشريف الرضي وإلى عصرنا الحاضر، وفي كل ذلك تظهر محاسنه فيزداد جمالاً وبهاءً، ويتسع ظهوره وانتشاره، وصدق من قال:
وبضدها تتبين الأشياء
وقول من قال:
والضد يظهر محاسنه الضد
فمما زعموا من ذلك، أن الشريف الرضي أو أخاه الشريف المرتضى هما أو أحدهما قام بوضعه ونسبته إلى الإمام علي عليه السلام، وزعمهم هذا يكذبه ويرده، أن من سبق الشريف الرضي وأخاه، وبأكثر من مائتي سنة أو أقل ممن سبق ذكرهم وغيرهم قد أوردوا أكثر مما في (نهج البلاغة) في مصنفاتهم، ففي كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الذي توفي قبل ولادة الشريف الرضي وأخيه الشريف المرتضى بأكثر من مائة وخمسين عاماً قد ذكر وأورد في كتابه ذلك بعضاً مما ورد في كتاب نهج البلاغة، وذكر أن قائله هو الإمام علي عليه السلام، ومثله ذكره المسعودي في كتاب مروج الذهب، وهو أي المسعودي قد توفي قبل ولادة الشريف الرضي ، ومن هذا القبيل ما ذكره ابن أبي الحديد رحمه الله في شرح نهج البلاغة 1/205 في شرحه للخطبة الشقشقية قال: (قال مصدق : كان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة -أي الخطبة الشقشقية- فقال: لا والله، وإني لأعلم أنها من كلامه كما أعلم أنك مصدق، قال: فقلت له: إن كثيراً من الناس يقولون: إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى، فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النَّفَسُ وهذا الأسلوب، قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر، ثم قال: لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب، قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.
قال ابن أبي الحديد: وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي، إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة، ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجوداً). انتهى.
أكتفي هنا بمثل هذا إذ تفصيل ومتابعة ذلك يطول جداً، وقد ظهرت حديثاً الكثير من الدراسات والكتابات حول هذا الموضوع وردَّت على المشككين وذكرت مصادر كلام الإمام علي عليه السلام وأسانيده، ومن أراد التوسع فلينظر كتاب (مصادر نهج البلاغة) لعبد الله نعمة، وكتاب (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) لعبد الزهراء الحسيني، وكتاب (دراسة حول نهج البلاغة) لمحمد جواد الحسيني الجلالي فجميع أولئك أعطوا جُلَّ اهتمامهم على البحث والمناقشة والنظر في مزاعم المشككين فردوا عليهم ذلك وفندوها، وأوضحوا بالبحث مصادر نهج البلاغة وأسانيده، فوثقوا كلام الإمام علي عليه السلام الوارد في كتاب النهج وعزوه إلى مصادره وتوسع البعض إلى ذكر أسانيده، وهؤلاء الباحثون المشار إليهم آنفاً هم من صفوف الشيعة الإمامية اهتموا بجميع ذلك، ولا زالت دراساتهم وبحوثهم تتوالى حول هذا الموضوع، لكنهم للأسف الشديد يهملون الرجوع إلى المصادر الزيدية التي حفلت بالكثير من كلام الإمام علي عليه السلام مسنداً، وعلى وجه الخصوص أمالي الإمام أبي طالب، والاعتبار وسلوة العارفين للإمام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل الشجري، والأمالي الخميسية للإمام المرشد بالله وغيرها، وقد أعذرهم بعض الشيء إذ لم يكن بعض هذه المصادر مطبوعاً، أما اليوم فهي أو أغلبها والحمد لله مطبوعة منشورة.
هذا وقد تصدى للمشككين في صحة نسبة ما في كتاب (نهج البلاغة) إلى الإمام علي عليه السلام ابن أبي الحديد رحمه الله تعالى في (شرح نهج البلاغة)، فقال ما لفظه: (كثير من أرباب الهوى يقولون: إن كثيراً من (نهج البلاغة) كلام محدث، صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيات الطريق، ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول:
لا يخلو أن يكون كل (نهج البلاغة) مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأول باطل بالضرورة، لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.
والثاني يدل على ما قلناه؛ لأن من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب، لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمُولَّد، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلا بد أن يفرّق بين الكلامين، ويميّز بين الطريقتين.
ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفحنا ديوان أبي تمام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسهِ، وطريقته ومذهبه في القريض، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه، لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نُواس شيئاً كثيراً، لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه، ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة.
وأنت إذا تأملت (نهج البلاغة) وجدته كله ماءً واحداً، ونَفَساً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعضٌ من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره، وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.
ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولاً وبعضه صحيحاً، لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قِبل له به، لأنّا متى فتحنا هذا الباب وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبداً، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول: هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع، وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك، وكل أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الراشدين، والصحابة والتابعين، والشعراء والمترسلين والخطباء، فلناصري أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من (نهج البلاغة) وغيره، وهذا واضح) .
شروح نهج البلاغة
لكتاب نهج البلاغة شروح كثيرة، ذكر الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم عن السيد هبة الله الشهرستاني في كتابه: ما هو نهج البلاغة، أنها تنوف على الخمسين شرحاً ما بين مبسوط ومختصر ، وذكر الأستاذ عبد الله نعمة أن شروح نهج البلاغة أربت على سبعين شرحاً منذ عصر الرضي إلى اليوم، ما بين عربي وفارسي وهندي ومسهب وموجز .
وأذكر هنا بعضاً من شروحه وأسماء مؤلفيها كما يلي:
1) أعلام نهج البلاغة، لعلي بن ناصر الحسيني، من أعلام القرن الخامس الهجري، وهو أول من شرح النهج، إلا أنه شرح مختصر جداً، كان يقتطف من بعض خطب أو كتب أو حكم أمير المؤمنين علي عليه السلام بعض الكلمات أو العبارات فيشرحها شرحاً مختصراً، وبين يدي نسخة منه مصورة صورت على مخطوط بمكتبة العلامة عبد الرحمن شايم، انتهى من نسخها يوم السبت لثلاث خلون من شهر شعبان سنة 635ه بخط منصور بن مسعود بن عباس بن أبي عمرو. (وانظر أعلام المؤلفين الزيدية ص573).
2) معارج نهج البلاغة، لعلي بن زيد بن محمد بن الحسين البيهقي، المعروف بابن فندق المتوفى سنة 565ه (ذكره الزركلي في الأعلام4/290، ومحمد حسين الجلالي في كتاب دراسة حول نهج البلاغة ص132).
3) شرح نهج البلاغة، لأحمد بن محمد الوبري، المتوفى سنة 565ه. (ذكره الجلالي أيضاً ص132).
4) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للقطب الراوندي سعيد بن هبة الله، المتوفى سنة 573ه. (ذكره الزركلي في الأعلام 3/104، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 1/5، والجلالي ص133).
5) شرح نهج البلاغة، لفخر الدين الرازي محمد بن عمر بن الحسن، المتوفى سنة 606ه. (ذكره أبو الفضل إبراهيم في شرح نهج البلاغة (مقدمة التحقيق) ص10، والجلالي ص136).
6) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي عبد الحميد بن هبة الله المدائني، المتوفى سنة 655ه، وهو شرح مشهور مطبوع ومتداول، وقد طبع عدة طبعات، وهو من أشهر شروح النهج وأفضلها وأكملها، قال العلامة المجتهد الكبير مجد الدين المؤيدي حفظه الله في لوامع الأنوار1/469 في الكلام على شروح نهج البلاغة، قال ما لفظه: وأشهر شروحه -أي النهج- وأبسطها وأجلها وأكملها وأبهجها شرح البحر المتدفق، والحبر المحقق المدقق، العالم النحرير، والحافظ الكبير عز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد المدائني، الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي. انتهى.
7) الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي، للإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة الحسيني الزيدي، المتوفى سنة 749ه. (وهو هذا الكتاب الذي بين يديك، ويعتبر واحداً من أهم الشروح،وأدقها وأغزرها).
8) شرح نهج البلاغة، لميثم بن علي بن ميثم البحراني، المتوفى سنة679ه، وله عليه ثلاثة شروح: كبير، ومتوسط، وصغير، وقد وقفت على أحدها وهو مطبوع. (وانظر دراسة حول نهج البلاغة للجلالي ص140، ومصادر نهج البلاغة لعبد الله نعمة ص42، والأعلام للزركلي 7/336).
9) شرح نهج البلاغة لعبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم العتائقي الحلي، فرغ منه سنة 780ه. (ذكره الجلالي ص144).
10) شرح التحفة العلية في شرح نهج البلاغة الحيدرية، لمحمد بن حبيب الله بن أحمد الحسيني، فرغ منه سنة881ه. (ذكره الجلالي ص147).
11) شرح نهج البلاغة، لقوام الدين يوسف قاضي بغداد المارديني، المتوفى سنة 917ه. (ذكره الجلالي أيضاً ص148).
12) شرح نهج البلاغة باسم: أنوار الفصاحة وأسرار البلاغة، لنظام الدين الكيلاني، المتوفى سنة 1036ه. (ذكره الجلالي أيضاً ص152)، وذكر الأستاذ عبد السلام الوجيه المجلد الثالث منه في كتابه: مصادر التراث في المكتبات الخاصة في اليمن1/512 في مكتبة العلامة محمد بن عبد العظيم الهادي برقم (398)، وهو بخط المؤلف واسمه: نظام الدين أحمد بن علي الجيلاني.
13) شرح نهج البلاغة، لحسين بن شهاب الدين محمد بن حسين الكركي العاملي الشامي، المتوفى سنة 1076ه. (ذكره الجلالي ص156).
14) شرح نهج البلاغة، للحسن بن المطهر الجرموزي، المتوفى سنة 1101ه. (ذكره الوجيه في أعلام المؤلفين الزيدية ص352، والشوكاني في البدر الطالع1/210).
15) إرشاد المؤمنين إلى معرفة نهج البلاغة المبين، ليحيى بن إبراهيم بن يحيى بن الهدى جحاف المتوفى سنة 1102ه. (ذكره الوجيه في المصدر السابق ص1087، والزركلي في الأعلام8/134، والجلالي ص159)، وقد طبع بتحقيق محمد جواد الحسيني الجلالي، وصدر في ثلاثة مجلدات كبيرة، الطبعة الأولى، من منشورات دليل ما، مطبعة نكارش -إيران- قم، وبين يدي حال كتابة هذه الأسطر نسخة منه مطبوعة بمجلداته الثلاثة هي ملك الأستاذ عبد السلام الوجيه.
16) شرح نهج البلاغة، لصدر الدين بن محمد بن باقر الموسوي الدزفولي، المتوفى سنة 1256ه. (ذكره الجلالي ص163).
17) شرح نهج البلاغة، للميرزا محمد تقي الكاشاني، المتوفى سنة 1297ه. (المصدر السابق ص164).
18) شرح نهج البلاغة، للشيخ محمد عبده بن حسن خير الله، مفتي الديار المصرية، المتوفى سنة 1323ه. (المصدر السابق ص166) وقد طبع عدة طبعات مع النهج.
19) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي، المتوفى سنة1324ه. (المصدر السابق ص166، وذكر فيه أنه قد طبع سنة 1386ه في (21) مجلداً بتحقيق إبراهيم الميانجي).
20) شرح نهج البلاغة، للمرصفي محمد بن حسن نائل المصري، طبع مع النهج بمصر سنة 1328ه. (المصدر السابق ص167، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد مقدمة التحقيق ص10).
هذا وأكتفي بما سبق إيراده من شروح كتاب نهج البلاغة إذ أن متابعة ذلك يطول، ومن أراد معرفة ذلك كاملاً فينظر كتاب دراسة حول نهج البلاغة لمحمد حسين الحسيني الجلالي ص126-175، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت- لبنان - ط(1) 1421ه/2001م.
هذا الكتاب
وهذا الكتاب الذي بين يديك هو أحد تلك الشروح المشار إليها لكتاب نهج البلاغة ألفه الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة الحسيني عليه السلام المتوفى سنة 749ه، وأسماه (الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي) (ليكون -كما قال- اسمه موافقاً لمسماه، ولفظه مطابقاً لمعناه، حيث كانت العلوم درراً وهو تاجها، وحللاً وهو ديباجها).
ويعتبر واحداً من شروح النهج المهمة، والمبسوطة الشرح لألفاظ وعبارات كل خطبة وكتاب وحكمة وردت فيه، والمشتملة على الفوائد الجمّة في شتى العلوم والمعارف، والكاشفة عن سعة أفق كتاب (نهج البلاغة) في شموليته واستيعابه لنواحي الحياة العلمية والعملية والفكرية المترامية الأطراف والجوانب.
انتهى المؤلف من تأليفه في شهر ربيع الآخر من شهور سنة ثماني عشرة وسبعمائة، وأوضح في مقدمة الكتاب دوافع التأليف وهي: (إيضاح ما وقع في كلام أمير المؤمنين من تفسير ألفاظه الغريبة، وإظهار معانيه اللطيفة العجيبة، وبيان أمثاله الدقيقة، ولطائف معانيه الرشيقة وغير ذلك مما يشتمل عليه كلامه عليه السلام، إذ كان كلامه قد رقى إلى غايتي الفصاحة في لفظه والبلاغة في معناه؛ إذ هو منشأ البلاغة ومولدها، ومشرع الفصاحة وموردها، وعليه كان تعويل أربابها وضالة طلابها، فلا وادٍ من أودية الفصاحة إلا وقد ضرب فيه بحظ وافر ونصيب، ولا أسلوب من أساليب البلاغة إلا وله فيه القدح المعلا والتؤم والرقيب) إلى أن قال: (وكان فيه غرضان:
أحدهما: الإبانة عن عظيم قدر أمير المؤمنين حيث كان سابقاً لمن تقدمه، وفائتاً لمن تأخر عنه، فعلى مثاله حذا كل خطيب مصقع، وعلى منواله نسج كل واعظ أروع.
وثانيهما: ما يكون في ذلك من مذخور الأجر من الانتفاع بالزواجر الوعظية، والحكم الأدبية، والحجج القاطعة، والبراهين النافعة، وجواهر اللغة العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، بحيث لا يلقى مجتمعاً في كلام من جميع السلف الأولين، ولا متسقاً في نظام من الخلف الآخرين، خاصة في علوم التوحيد والحكمة وتنزيه الله تعالى عن مشابهة الممكنات، وذكر المعاد الأخروي، بل إنما يؤثر عنهم القليل النادر، والشاذ الشارد، إذ كان كلامه عليه السلام عليه مسحة من الكلام المعجز السماوي، وفيه عبقة من رائحة الكلام النبوي).
حرص المؤلف في المقدمة على ذكر المنهج الذي التزمه وسلكه في كتابه هذا، فقال: (واعلم أني قد سلكت فيه أحد مسلكين:
المسلك الأول: أن أقتطع من كلامه عليه السلام قطعة، ثم أعقد عليها عقداً يكون محيطاً بأسرارها وغرائبها، ويحتوي على جميع معانيها وعجائبها، وهذه هي طريقة جيدة، وفائدتها هو إيضاح معاني الكلام بالعقود اللائقة، والترتيبات الفائقة، وهي طريقة يسلكها كثير من النَّظار فيما يريدونه من إبانة معاني الكلام، ولها آفة وهو الإسهاب في الكلام الذي يورث الملل وسآمة الخواطر.
المسلك الثاني: أن أذكر اللفظة المركبة من كلام أمير المؤمنين ثم أكشف معناها وأوضح مغزاها، من غير التزام عقد لها ولا إشارة إلى ضابط، وهذه طريقة يسلكها الأكثر من النَّظار، فهذان مسلكان يمكن ذكر أحدهما، وكل واحد منهما لا غبار عليه في تحصيل المقصد وتقرير البغية، لكن أرى المسلك الثاني هو أعجب، وإلى الاختصار والتحقيق أقرب لما ذكرناه من حصول التكثير في سلوك الطريقة الأولى، خاصة في مثل هذا الكتاب فإن شجونه كثيرة، ونكته غزيرة، فلا جرم كان التعويل عليها هو الأخلق).
ومن خلال هذا المنهج الذي التزمه المؤلف عليه السلام واستقراء الكتاب من أوله إلى آخره على ضوئه، نجده قد أتى في شرحه لكلام أمير المؤمنين علي عليه السلام الوارد في كتاب نهج البلاغة، بطراز رائع ونموذج جميل، وأداء تميز به عن غيره من شروح نهج البلاغة، فهو لا يقسم كلام أمير المؤمنين إلى فصول بحيث يشتمل كل فصل على قطعة كبيرة من الكلام المزمع شرحه ثم يردف كل فصل بشرحه، كما أنه أيضاً لم يقتصر على تفسير بعض الألفاظ ويترك بعضها، بل على العكس من ذلك يفسر ويشرح مفردات كل خطبة أو كتاب أو حكمة قصيرة من أولها إلى آخرها شرحاً دقيقاً، فهو أولاً يورد عنوان كل خطبة أو كتاب، ثم يورد على إثره النص والشرح، مراعياً في طريقته لتقسيم نصوص كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى فقرات أو عبارات غالباً ما تكون قصيرة أو كلمات مفردة، فيردف كل جزء منها بالشرح، وذلك بشكل منتظم ومتتابع من أول النص إلى آخره، فيبتدئ من أول النص بأن يورد منه قطعة أو لفظة مركبة -كما قال- فيشرحها حتى إذا انتهى من شرحها انتقل إلى التي تليها مباشرة فيوردها ثم يشرحها، وهكذا في جميع مراحل الكتاب من أوله إلى آخره، وكذا بنفس الطريقة في شرح الحكم القصار.
وهو في طريقته في الشرح يذكر ما عنده في ذلك، ملتزماً بمسلكه ومنهجه الذي أوضحه، واعتمد في شرحه على ناحيتين اثنتين هما: الأولى العقلية، والثانية النقلية، فمن الناحية الأولى نجده شأنه في ذلك شأن أئمة أهل البيت" وشيعتهم رضي الله عنهم في كون العقل مناط التكليف وبه يقع التمييز بين حقائق الأشياء وفهم أدلة الأحكام ومقاصدها، وهو العامل الرئيسي في سلامة البحث والنظر والتفكر والاجتهاد وغير ذلك، وتظهر الصبغة العقلية أكثر وضوحاً عند أهل البيت وشيعتهم وبشكل خاص من خلال الاطلاع على مؤلفاتهم الأصولية أو الكلامية أو المباحث النظرية والاحتجاجية والتي شاركهم في ذلك المعتزلة إلا في بعض المسائل خالف المعتزلة فيها، ولذا نجد أن تلك النزعة العقلية التي ورثها من طريقة أسلافه من أهل البيت قد اتخذت طابعاً خاصاً على كتابه هذا في كلامه على المباحث الكلامية والأصولية، إلا أنه يكاد يقترب في منهجه الاستدلالي في بحث ما أو قضية معينة من المعتزلة، فيسلك طريقتهم، والذي يبدو أن المؤلف قد تأثر بهم وبمذهبهم في مسائل معينة فشايعهم في ذلك، لكنه في الأصول المهمة كما حكاه العلامة الكبير مجد الدين المؤيدي في لوامع الأنوار 2/74 على منهاج أهل بيته، كما ذكر فيه أنه قد صرَّح بخلاف ما روي عنه من المخالفة. (انظر المرجع المذكور2/74-82).
أما من الناحية الثانية وهي الناحية النقلية فقد اعتمد المؤلف عليه السلام على ذلك كثيراً في كتابه هذا، فنقل الكثير من مواد العلوم المختلفة في القرآن الكريم والحديث والفقه واللغة والنحو والصرف والبلاغة والسيرة والتأريخ والأحداث والوقائع والطب والفلك والمواعظ والحكايات وأقوال الرجال والملل والنحل وغير ذلك. فهو في تناوله لموضوعات نهج البلاغة قد اعتمد على كتب اللغة ففسر الألفاظ اللغوية موضحاً للغريب منها، مستعيناً بإيراد الشواهد على ذلك من كلام العرب سواء كانت نثراً أم شعراً مبيناً لمعاني كل ذلك يسلك فيه طريقة اللغويين في الاستدلال والتوضيح والاحتجاج بأقوالهم، وفي شرحه للشواهد الشعرية التي تمثل بها أمير المؤمنين عليه السلام، يهتم بتوضيح المعنى والإعراب وموضع الشاهد منه كما يوضح ما عساه يشتبه من الناحية الإعرابية أو التصريفية، ولا يفوته في كثير من مواضيع الكتاب أن يبرز ما اشتمل عليه كلام الإمام علي عليه السلام من الأساليب البلاغية في علمي البيان والمعاني، والبديع، كل ذلك يفعله بمقدرة فائقة تكشف عن غزارة علمه وتبحره في اللغة وعلومها المختلفة.
وأورد في شرحه كثيراً من آيات كتاب الله العزيز والأحاديث النبوية التي تعضد استدلالاً ما، وحكى كثيراً من المواعظ والأمثال والحكم والأبيات الشعرية، وساق في طوايا شرحه عدداً جماً من الروايات في السيرة والتأريخ والأحداث والوقائع ومسائل كلامية وفلسفية، وهو بذلك يحتج ويستدل أو ينقد ويقيم أو يوافق أو يناقض أو يناقش ويحاور إلى جانب ذلك كله يهتم بكشف معاني كلام أمير المؤمنين وإيضاح مقاصدها ومراميها، وتبيين أسرارها وحقائقها.
وقد أورد في أثناء شرحه وفي مواضع كثيرة من الكتاب عدداً من السؤالات وإجاباتها في مختلف الأغراض، والتي تعطي المزيد من إيضاح المعنى وتكشف بدورها عن إشكالية ما قد ترد حول المعنى، فاستخدم في ذلك صيغة: سؤال، فيذكر السؤال ثم يردفه بقوله: وجوابه أو والجواب، وهذه طريقة نراها في كثير من المؤلفات.
وتعقب المؤلف عليه السلام بالنقد وفي مواضع عدة من الكتاب الشريف علي بن ناصر الحسيني رحمه الله مؤلف (أعلام نهج البلاغة) وهو كتاب شرح فيه مؤلفه كتاب (نهج البلاغة) شرحاً مختصراً جداً، ويعتبر أول (شروح النهج)، فتعقب المؤلف بعض آرائه التي أوردها فيه وناقضه فيها.
ورتَّب شرحه هذا، لكتاب (نهج البلاغة) على ترتيب الشريف الرضي رحمه الله حيث رَتَّبَه على أقطاب ثلاثة، وهي:
1) الخطب والأوامر.
2) الكتب والرسائل.
3) الحكم والمواعظ.
فابتدأه باختيار محاسن خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام، ثم محاسن كتبه، ثم محاسن حكمه ومواعظه، وكذا رتب المؤلف شرحه هذا على ذلك الترتيب المشار إليه، فابتدأ بشرح القطب الأول وهو الخطب والدلائل، ثم بشرح القطب الثاني وهو الكتب والرسائل، ثم بشرح القطب الثالث وهو الحكم والمواعظ القصيرة، وأضاف في نهاية الكتاب زيادة لم ترد في كتاب (نهج البلاغة) وأشار عليه السلام إلى ذلك، وقد تضمنت نقوش خواتيم أمير المؤمنين علي عليه السلام وما كتب فيها من الأذكار، وهي أربعة خواتيم: الأول للصلاة، ومكتوب فيه: (لا إله إلا الله، عدة للقاء الله)، والثاني: للحرب، ومكتوب فيه قول الله تعالى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}[الصف:13]، والثالث: للقضاء، ومكتوب فيه: (الله الملك)، والرابع: للختم، ومكتوب فيه: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فذكر تلك الخواتيم ومن أي معدن هي، والأذكار المكتوبة عليها موضحاً في ذلك ما اشتملت عليه من الفوائد.
وكان أسلوبه في جميع مراحل الكتاب بليغاً، ارتفع عن الركة في التعبير والخلل في اللفظ، فجاءت عباراته قوية وبلفظ عربي فصيح وأصيل، متوخياً فيه الجزالة والمتانة والدقة والفصاحة، مراعياً في ذلك التوضيح والسهولة والسلاسة.
مصادر المؤلف
كما سبقت الإشارة إليه من أن المؤلف قد نقل إلى كتابه هذا من العلوم النقلية الشيء الكثير، وشكَّل ذلك أحد أهم موارد الكتاب، إلا أننا نجده في الغالب لا يذكر اسم المصدر المستقى منه مادة شرحه، فقد يقتصر في ذلك على قوله: ويحكى، أو حكي، أو يروى، أو روي، ونحو ذلك، خصوصاً في سرده لروايات تأريخية أو وعظية أو حكمية أو نقل لأقوال في موضوع ما، وفي مواضع نادرة يذكر اسم قائل كلام ما، أو قول أو ما شابه ذلك بدون ذكر للكتاب المذكور فيه ذلك الكلام أو القول، فيقول مثلاً: وحكى قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد، ويورد الحكاية بدون ذكر الكتاب الذي وردت فيه، مما يشكل صعوبة في البحث عن ذلك، خاصة عن قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد صاحب المؤلفات الكثيرة، فلا يدري الباحث في أي من تلك المؤلفات ذكر ذلك، لكن تبين فيما بعد أن كتاب (المغني) لقاضي القضاة هو الذي اعتمد عليه المؤلف عليه السلام بشكل كبير وخصوصاً في مسائل الإمامة والأحداث الواقعة في أيام الخليفة عثمان بن عفان والتي انتهت بمقتله، وكذلك فيما يتعلق بطلحة والزبير وعائشة وأخبار الجمل، والخوارج، ومعاوية وأهل الشام وغيرهم.
وينقل أيضاً عن سيرة ابن هشام (عبد الملك بن هشام الحميري) وعن الشريف علي بن ناصر مؤلف أعلام نهج البلاغة، وبالنسبة لمصادره اللغوية نجده كما سبق يذكر أقوالاً لغوية منسوبة لقائلها بدون ذكر مصادرها، يقول: قال أبو عبيدة أو قال ابن السكيت، أو حكاه الزجاج، أو قال الفراء، أو الأخفش أو غيرهم، وذلك لا يتنافى مع مقدرة المؤلف الذهنية الفائقة وفهمه وتبحره في مختلف العلوم، وسعة وغزارة اطلاعه على الكثير من المصادر في جميع فنون العلم.
وعلى العموم فالمصادر المذكورة في كتابه هذا محدودة ويسيرة، منها: أعلام نهج البلاغة للشريف علي بن ناصر الحسيني، والشفاء في الطب لابن سينا، بالإضافة إلى المصادر التي ذكرها الشريف الرضي في كتاب نهج البلاغة، وكتاب الفضائل للبيهقي، والكشاف للزمخشري، ولعل من أهم مصادره اللغوية صحاح الجوهري كما تبين لي ذلك من خلال الرجوع إلى كتاب مختار الصحاح في مواضع كثيرة.
ترجمة المؤلف
1- اسمه ونسبه
هو الإمام المؤيد بالله أبو إدريس يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم بن يوسف بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إدريس بن جعفر الزكي بن علي التقي بن محمد الجواد بن الإمام علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن سيد العابدين علي بن الحسين السبط بن الإمام الوصي " .
وأمه الشريفة الفاضلة الثريا بنت السراجي، أخت الإمام الناصر لدين الله يحيى بن محمد السراجي الحسني .
2- مولده
ولد عليه السلام لثلاث بقين من شهر صفر سنة تسع وستين وستمائة بمدينة صنعاء .
3- دراسته ومشائخه
حفظ عليه السلام القرآن الكريم واشتغل بطلب العلم من صغره، ورحل إلى مدينة حوث، فقرأ فيها في أكثر العلوم كعلم الكلام وغيره، ثم أخذ في كتب الأئمة وشيعتهم وفي كتب غيرهم، ففاق أقرانه، وحقق وصنَّف، فمن مشائخه:
1) الإمام المطهر بن يحيى، المتوفى سنة 697ه، أخذ عنه كتاب (أصول الأحكام) للإمام أحمد بن سليمان، ذكر ذلك الإمام يحيى بن حمزة في إجازته لأحمد بن محمد الشغدري .
2) الإمام الواثق محمد بن المطهر بن يحيى، المتوفى سنة 728ه .
3) العلامة محمد بن خليفة بن سالم بن محمد بن يعقوب الهمداني، المتوفى سنة 675ه، قرأ عليه في أكثر العلوم كعلم الكلام وغيره بمدينة حوث .
4) العلامة علي بن سليمان البصير، أخذ عنه في كتب الأئمة وشيعتهم وذلك بمدينة حوث أيضاً .
5) العلامة محمد الأصبهاني، ومن جملة ما سمع عليه (أمالي أبي طالب) و(مجموع الإمام زيد بن علي) .
6) القاضي العلامة عفيف الدين سليمان بن أحمد الألهاني، سمع عليه (سنن أبي داود) و(سيرة ابن هشام) و(أمالي السيد أبي طالب) و(نهج البلاغة) .
7) العلامة شهاب الدين أحمد بن محمد الشاوري، أخذ عنه كتاب (الفائق في الحديث) .
8) العلامة إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطبري الشافعي المتوفى سنة722ه، أجازه في (كتاب البخاري)، و(كتاب الترمذي)، و(كتاب مسلم)، و(كتاب السنن للنسائي)، و(مسند أبي حاتم في الحديث)، و(كتاب النجم والكوكب في الحديث) لأحمد بن معد بن عيسى الإقليسي النجبي المصنف، و(شرح السنة) للبغوي، و(الناسخ والمنسوخ) لمحمد بن موسى الحارثي، و(الوسيط في تفسير القرآن) للواحدي .
9) العلامة محمد بن محمد بن أحمد الطبري، المتوفى سنة 730ه، أجاز له الكتب الذي أجازها العلامة إبراهيم بن محمد الطبري .
10) العلامة شهاب الدين أحمد بن عبد الله المعروف بابن الواطن، أجازه في كتاب (شمس العلوم) في اللغة لنشوان الحميري، وكتاب (التهذيب في التفسير) للحاكم الجشمي .
11) الفقيه حمزة بن علي، أجازه في كتاب (المهذب) في الفقه لأبي إسحاق الشيرازي .
3- تلامذته
أخذ على الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام علماء أعلام منهم:
1) العلامة الفقيه الحسن بن محمد النحوي، المتوفى سنة 791ه، قرأ على الإمام يحيى بن حمزة مؤلفه (الانتصار) جميعه، ولم يسمعه عليه غيره، وأجازه في جميع مسموعاته ومستجازاته وجميع مؤلفاته .
2) العلامة عبد الله بن يحيى بن حمزة (نجل الإمام) المتوفى سنة 788ه، أجازه مؤلفه (الانتصار) .
3) العلامة أحمد بن سليمان الأوزري، المتوفى سنة 810ه، أجازه أيضاً مؤلفه (الانتصار) .
4) العلامة إسماعيل بن إبراهيم بن عطية النجراني، المتوفى سنة 794ه، أجازه أيضاً مؤلفه (الانتصار) .
5) العلامة علي بن إبراهيم بن عطية النجراني، المتوفى بعد سنة 801ه، وهو من أجلِّ تلامذة الإمام، وأخذ عنه في كتب الأئمة وشيعتهم ك(مجموع الإمام زيد بن علي) و(أمالي أبي طالب) وغيرها، وأجازه الإمام يحيى بن حمزة في كتابه (الانتصار) .
6) العلامة محمد بن المرتضى بن المفضل، المتوفى سنة 732ه، قال في الطبقات في ترجمته: (ثم قرأ على الإمام يحيى فأسمعه المعقولات، وقرأ عليه المنقولات والمعقولات) .
7) العلامة أحمد بن حميد بن سعيد الحارثي، المتوفى في عشر الخمسين وسبعمائة، سمع على الإمام كتابي البخاري ومسلم .
8) العلامة أحمد بن محمد الشغدري، أجازه الإمام بإجازة ذكر فيها الكتب الحاصلة له سماعاً، وكذا الكتب الحاصلة له بطريق الإجازة، ذكر الإجازة بلفظها في طبقات الزيدية الكبرى القسم الثالث .
4- قيامه ودعوته
قام ودعا إلى الله سبحانه في اليوم الثاني من شهر رجب من سنة تسع وعشرين وسبعمائة ، وكان ظهوره في بلاد صعدة والظاهر وبلاد الشرف، وقام مناصباً للأعداء فنهض إلى صنعاء فقاتل الإسماعيلية، إلى أن مال الفريقان إلى الصلح، ولم تسعده الأيام إلى كل مرام، فسار إلى حصن هران المطل على ذمار، فاشتغل بالتأليف والتصنيف، وتقريب الشقة بين المسلمين .
5- علمه
كان الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام عالماً كبيراً، مجتهداً فذاً، فقيهاً أصولياً، لغويًّا، أديباً بليغاً، محققاً في شتى العلوم، يشار إليه في ذلك بالبنان، وكان مؤلفاً موسوعياً في شتى فنون العلم، وقد خلف مكتبة ضخمة من مؤلفاته، تدل على غزارة علمه وتبحره في أصول العلم وفروعه وسعة اطلاعه، فقد قيل: إن عدد مصنفاته بلغت مائة مجلد، وقيل: إن عدد كراريس تصانيفه بعدد أيامه.
وتطالعنا الكتب التي ترجمت له بقائمة طويلة من مؤلفاته ومصنفاته في شتى أنواع العلوم، ففي الفقه ألَّف اثني عشر كتاباً منها كتاب: (الانتصار الجامع لمذاهب علماء الأمصار) في ثمانية عشر مجلداً، لا زالت جميعها في عداد المخطوطات ما عدا المجلد الأول منه فقد طبع وجاء في (986) صفحة، وصدر عن مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية -عمان - الأردن، الطبعة الأولى 1424ه/2002م، بتحقيق الأستاذين الفاضلين عبد الوهاب المؤيد، وعلي بن أحمد مفضل، ويسعيان جاهدين في تحقيق بقية الكتاب كاملاً بمجلداته السبعة عشر المتبقية، وفقهما الله تعالى وكتب لهم أجر ذلك في ميزان حسناتهما.
هذا ومن الكتب التي ألَّفها الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام في الفقه كتاب (العمدة) ويقع في ستة مجلدات وغير ذلك، وفي أصول الفقه ثلاثة كتب منها كتاب: (الحاوي لحقائق الأدلة الفقهية وتقرير القواعد القياسية) في ثلاثة مجلدات، وألَّف في أصول الدين إحدى عشر كتاباً منها كتاب (الشامل لحقائق الأدلة وأصول المسائل الدينية) في أربعة مجلدات، وفي اللّغة والنحو والبلاغة والأدب ثمانية كتب منها: كتاب (المحصل في كشف أسرار المفصل) في أربعة مجلدات، و(المنهاج الجلي في شرح جمل الزجاج) في مجلدين، و(الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز) طبع في ثلاثة مجلدات، ومنها هذا الكتاب الذي بين يديك، وهو (الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي) في مجلدين، وفي الزهد كتاب (تصفية القلوب من درن الأوزار والذنوب) في مجلد، وفي الحديث: (الأنوار المضيئة شرح الأربعين الحديث السيلقية) في مجلدين وغير ذلك كثير سيأتي تفصيلها عند ذكر مؤلفاته في هذه الترجمة.
هذا وقد ذكر العلامة محمد بن علي بن يونس الزحيف الصعدي المعروف بابن فند، المتوفى بعد سنة 916ه في سياق ترجمة الإمام يحيى بن حمزة، أنه لم يبلغ أحد من الأئمة مبلغه في كثرة التصانيف، فهو من مفاخر أهل البيت"، وكذا قاله العلامة أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي المتوفى سنة 1055ه في اللآلئ المضيئة.
هذا وقد كانت له عليه السلام آراء خاصة حول بعض القضايا أوردها في بعض مؤلفاته، فكانت مثار نظر ومناقشة، فعقب عليها بالبحث والمناقشة بعض أئمة الزيدية وعلمائهم، وعلى سبيل المثال قضية فدك، حيث يذهب الإمام يحيى بن حمزة إلى أن قضاء أبي بكر فيها صحيح، ويناقش الإمام القاسم بن محمد عليه السلام المتوفى سنة 1029ه ذلك الرأي في كتاب (الأساس في عقائد الأكياس) في حكم أبي بكر في فدك، فقال ما لفظه: (الإمام يحيى والإمام المهدي عليهما السلام: وحكم أبي بكر في فدك صحيح؛ لأنه حكم باجتهاده).
يعقب الإمام القاسم على ذلك بقوله: (قلنا: هو المنازع، وأيما منازع حكم لنفسه فحكمه باطل إجماعاً، ولو لم يخالف اجتهاده، قال الشاعر:
ومن يكن القاضي له من خصومه
جضجض
أضرّ به إقراره وجحوده
وأيضاً فإن الإمام عندهما عليهما السلام علي عليه السلام، وهو لم يرض ولايته، فكيف يصح قضاؤه؟!
وأيضاً كانت اليد لفاطمة عليها السلام، لأن في الرواية أنها عليها السلام أتته تطلب حقها بعد أن رفع عاملها، فإيجاب البينة عليها خلاف الإجماع، وأيضاً اعتمد على خبره وهو: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما خلفناه صدقة)) مع احتمال أن يكون معناه: أن الصدقة [أي] الزكاة التي لا تحل لبني هاشم غير موروثة بل تصرف في مصرفها، ولفاطمة عليها السلام أن تعتمد على خبرها وخبر علي والحسن والحسين "، صح لنا ذلك من رواية الهادي عليه السلام، وأم أيمن أنه صلى الله عليه وآله وسلم أنحلها، مع أنه نص صريح لا يحتمل التأويل.
ثم لا يكون الأولى بترجيح دعواه لأنهما متنازعان، كل يجر إلى نفسه، مع أن الخبرين لا يكذب أحدهما الآخر، لأن خبره متضمن عدم استحقاقها الإرث بزعمه، وخبرها متضمن لعقد عقده لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وإذا ثبت الحكم من أبي بكر لنفسه بلا مرجح كما تقرر، فالعقل والشرع يقضيان ببطلانه)، ثم ساق الكلام في ذلك وأوضحه. (انظر الأساس ص157-159).
وقال العلامة المجتهد الكبير مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي حفظه الله تعالى في (لوامع الأنوار) في سياق ترجمة الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام، قال ما لفظه: (هذا واعلم أنه كثر التمسك من المائلين بما يجدون في بعض كتب الإمام يحيى عليه السلام من التليين لميل الإمام إلى المجاملة، ومحبته للملائمة، وقد صرح بخلاف ما روي عنه من المخالفة كما يتضح لك، وهو على منهاج أهل بيته في الأصول المهمة من الدين كمسائل التوحيد والعدل والنبوة، وإمامة الوصي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده الحسنين، وأهل البيت " بعدهم، ولزوم ولايتهم، وحجية إجماعهم، وأبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحاشاه عن خلافهم كما هو معلوم، وإنما وقعت فلتات في أثناء بعض المؤلفات من وراء تلك المهمات، والمعتمد الدليل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)، ثم ساق حفظه الله تعالى الكلام في ذلك وأورد كلاماً للإمام محمد بن عبد الله الوزير عليه السلام في (فرائد اللآلئ) في مسألة الذين تقدموا على أمير المؤمنين علي عليه السلام في الخلافة، أوضح فيه رأي الإمام يحيى بن حمزة بعدم ثبوت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، وقال فيه: (لكنا نقول قولاً واضحاً: هم قد استبدوا بالخلافة، وقد قام البرهان على
صحة إمامته عليه السلام، والخلافة عندنا غير الإمامة، ولم تقم دلالة على صحة إمامتهم، فهم خلفاء وهو الإمام، وهذا قول بالغ يكفي في الإنصاف). انتهى، ثم ساق الكلام في ذلك وأورد كلاماً للإمام يحيى بن حمزة في فدك أوضح فيه أنه رجوع من الإمام يحيى من قول سابق له في قضية فدك، ......ثم قال السيد مجد الدين: قال الإمام -أي الإمام محمد بن عبد الله الوزير-: (وقد عرفت كلام الإمام يحيى عليه السلام في هذين المهمين، ورجوعه إلى مقالة أسلافه الذين لا يقال لهم إلا ما قاله يوسف الصديق عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}[يوسف:38]، وما حكى الله في آية الاجتباء: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[الحج:78]).
ثم أورد العلامة مجد الدين كلاماً للسيد الهادي بن إبراهيم الوزير في (نهاية التنويه) يذكر فيه ترجيح الإمام يحيى بن حمزة لمذهب العترة النبوية واستيفاء أعاريض الكلام في ذلك، وذلك في كتابيه (الانتصار) و(مشكاة الأنوار). (انظر ذلك كاملاً في لوامع الأنوار 2/74-82).
6- قالوا فيه:
أ- قال الإمام المطهر بن يحيى عليه السلام المتوفى سنة 697ه، والذي صحبه الإمام يحيى بن حمزة في يوم تنعم، قال فيه: (في هذا الولد لله ثلاث آيات: علمه، وخلقه، وخطه)، ذكره الزحيف في مآثر الأبرار، والشرفي في اللآلئ المضيئة.
ب- وقال العلامة المؤرخ محمد بن علي بن يونس الزحيف المعروف بابن فند رحمه الله في مآثر الأبرار 2/972: (الإمام الصوّام القوَّام، علم الأعلام، وقمطر علوم العترة الكرام، حجة الله على الأنام، كان الإمام يحيى عليه السلام في غزارة علمه وانتشار حلمه حيث لا يفتقر إلى بيان، ولم يبلغ أحد من الأئمة مبلغه في كثرة التصانيف، فهو من مفاخر أهل البيت، وعلومه الدثرة من مناقب الزيدية) إلى أن قال: (كان كثير التواضع، عديم التبجح بمصنفاته، حتى كان لا يسميها إلا الحواشي).
ج- وقال القاضي العلامة الحسين بن ناصر بن عبد الحفيظ المهلا رحمه الله، المتوفى سنة 1111ه في مطمح الآمال ص253: (كانت أيامه بالعبادة عامرة، ولياليه بالقيام زاهرة، ومحافله بالعلوم نيرة باهرة، مع شدة إقباله على الآخرة، وإيثاره لما يؤثره أهل السجايا الطاهرة، فرضوان الله عليه وعلى آبائه أئمة الهدى ومصابيح الدجى).
د- وقال العلامة المجتهد الكبير مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي حفظه الله في التحف ص270: (هذا الإمام من منن الله على أرض اليمن، وأنواره المضيئة في جبين الزمن، نفع الله بعلومه الأئمة، وأفاض من بركاته على هذه الأمة، وله الكرامات الباهرة، والدلالات الظاهرة).
ه- وقال السيد العلامة المؤرخ محمد بن إسماعيل الكبسي الصنعاني رحمه الله، المتوفى سنة 1308ه في اللطائف السنية1/97: (كان هذا الإمام في غزارة علمه وانتشار فضله، وتقمصه ليعسوبات العلوم، وإحاطته بمنطوقها والمفهوم، وكثرة التصانيف، وجودة الأنظار في جميع التآليف، مع حسن العبارة ووضوح المعاني في إيراده وإصداره، ولم يبلغ مبلغه أحد من الأئمة في كثرة التصانيف، فهو من مفاخر أهل البيت حتى قيل: إن عدد الكراريس من مؤلفاته زادت على أيام عمره، مع أنه بسط له في العمر ثمانين سنة).
و- وقال القاضي العلامة أحمد بن عبد الله الجنداري رحمه الله، المتوفى سنة 1337ه، في الجامع الوجيز -خ- في حوادث سنة 749ه: (وفيها توفي الإمام عماد الإسلام، وحافظ الزيدية الكرام، المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن علي، من ذرية علي بن موسى الرضا الحسيني، وكان هذا الإمام من الآيات في حفظه وورعه وعلومه ومصنفاته، وأجمع على فضله الموالف والمخالف، وقيلت فيه القصائد من مصر وغيرها، وباعه في العلم بحر لا يساجل).
ز- وقال القاضي العلامة حسين بن أحمد العرشي رحمه الله، المتوفى سنة 1329ه، في بلوغ المرام ص51: (أما الإمام يحيى بن حمزة فهو الذي حاز المفاخر الدينية، والعلوم القرآنية والسنية، وكان أعرف الناس بالكتاب وبمذهب آبائه الكرام، له التصانيف العظام).
ح- وقال الأستاذ العلامة المؤرخ المحقق عبد السلام بن عباس الوجيه حفظه الله في أعلام المؤلفين الزيدية ص1124، ترجمة رقم (1193): (أحد أعلام الفكر الإسلامي في اليمن، ونجوم الآل الكرام، وأكابر علماء الزيدية، إمام، مجاهد، مجتهد، مفكر، زاهد).
7- وفاته وموضع قبره، ومدة عمره
وكانت وفاته عليه السلام بحصن هران، الواقع قبلي ذمار، وذلك في سنة تسع وأربعين وسبعمائة 749ه، فنقل إلى ذمار ودفن فيها، ومشهده بها مزور مشهور، وله إحدى وثمانون سنة، وقيل: اثنتان وثمانون سنة، قال العلامة أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي رحمه الله، المتوفى سنة1055ه في اللآلئ المضيئة: (ولم تظهر فيه علامة من علامات الشيخوخة، ولا حصل في جسمه شيء من أمارات الهرم لا في وجهه ولا في جسده ولا سمعه ولا بصره ولا أسنانه ولا قوته، وكان عليه السلام في غاية الجمال والكمال، وقيل: إن الفقيه حسن بن محمد النحوي رحمه الله كان يعجب من بياض لحيته وسواد حاجبيه، ويقول: هذه كرامة أكرم الله بها هذا الإمام عليه السلام، وصلى عليه السلام صلاة العشاء ليلة موته من قيام، ومات في آخر الليل من تلك الليلة). انتهى.
هذا وتذكر بعض المصادر وهي القلة ممن ترجمت له أن وفاة الإمام يحيى بن حمزة كانت في سنة 747ه، إلا أن الصحيح أنه انتهى من تأليف كتابه (الانتصار) في أواخر سنة 748ه كما ذكره محققا الجزء الأول منه تعقيباً على السيد يحيى بن الحسين مؤلف كتاب (غاية الأماني).
8- مؤلفاته
للمؤلف عليه السلام مؤلفات كثيرة كما ذكرنا، وإليك قائمة بهذه المؤلفات، منقولة من كتاب: أعلام المؤلفين الزيدية ص1124-1131 للأستاذ العلامة المؤرخ الأديب المحقق/ عبد السلام بن عباس الوجيه:
1) إجازة الحديث. قال الحِبشي: إجازة للفقيه أحمد بن سليمان، بخط المؤلف بجانب كتاب المعيار، بمكتبة الجامع رقم (84) (علم الكلام).
2) أجوبة مسائل الأوزري. قال الحِبشي: -خ- ضمن مجموع رقم (11) مكتبة الجامع، (كتب مصادره).
3) أجوبة مسائل شتى. (لعلها المذكورة في مصادر الحِبشي بعنوان جواب(38) سؤالاً -خ- سنة 832ه بخط حفيد المؤلف أحمد بن عبد الله بن يحيى بن حمزة رقم (10) (مجاميع مكتبة الجامع في خمس ورقات).
4) اختيارات المؤيد. قال الحِبشي: الاختيارات المؤيدية، ذكره زبارة في أئمة اليمن1/229، ولعله مخطوط بإحدى مكتبات الهند، وذكره السيد مجد الدين باسم (الاختيار) في الفقه مجلدان.
5) الأزهار الصافية شرح مقدمة الكافية (نحو) في مجلدين، وذكر باسم: الأنهار الصافية شرح الكافية. -خ- الجزء (1،2) برقم (1،2) المكتبة الغربية الجامع الكبير.
6) أطواق الحمامة في حمل الصحابة على السلامة. قال الحبشي: -خ- في 7 ورقات ضمن مجموعة في مكتبة آل يحيى بمدينة تريم حضرموت (فهرس المخطوطات اليمنية في حضرموت).
7) الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام في الرد عليهم في الأسرار الإلهية والمباحث الكلامية -خ- سنة 817ه ق155-203 برقم (690) مكتبة الأوقاف (طبع).
8) الاقتصار في النحو. مجلد (أئمة اليمن 1/229)، التحف).
9) إكليل التاج وجوهرة الوهاج -خ- سنة832ه ق146-175 برقم51 (مجاميع) أوقاف.
10) الانتصار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، في تقرير المختار من مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة في المباحث الفقهية والمضطربات الشرعية، موسوعة شاملة لأقوال مختلف المذاهب والعلماء في الفقه الإسلامي، في 18مجلداً كبيراً -خ- منه ج1،2،3 -خ- سنة 1052ه في 453ورقة برقم(981) مكتبة الأوقاف، ج2خط سنة784ه في 246ورقة رقم (983)، وأخرى منه رقم (982) وفي نفس المكتبة مجلدات أخرى وهي ج5 رقم (985) وأخرى منه رقم (986)، ج8 رقم (987)، وأخرى منه988، ج10 رقم (989)، ج11 رقم (990)، وأخرى منه برقم (991)، ج13 برقم (992)، ج15 برقم (993)، ج16 بخط المؤلف سنة 748ه رقم (994)، وهنالك الأجزاء 2، 3، 5، 6، 8، بخط المؤلف، و 9،16،17 في المتحف البريطاني. (انظر مصادر العمري ومصادر الحِبشي)، وجزء 5، 6 خط سنة 755ه بمكتبة السيد يحيى بن علي الذارحي، ونسخ مصورة بمكتبة السيد عبد الرحمن شايم، أخرى من1 إلى4 -خ- سنة 885ه، بمكتبة السيد عبد الله بن محمد غمضان، أخرى عشرة مجلدات مصورة بمكتبة السيد محمد بن عبد العظيم الهادي، وانظر فهرس الأوقاف، وقد جمعت أغلب أجزاءه بجهود الأستاذ علي بن أحمد مفضل والأستاذ عبد الوهاب المؤيد، وبدآ في تحقيقها وأنهيا المجلد الأول وهو معد للطبع، وانظر بقية مخطوطاته في كتابنا (مصادر التراث في المكتبات الخاصة)، نسخة من المجلد الثالث خطت سنة1052ه، مصورة بمكتبة معهد القضاء العالي، ومكتبة الأخ أحمد علي نور الدين.
11) الأنوار المضيئة في شرح الأربعين حديثاً السيلقية، شرح من أجلِّ وأوفى الشروح على الأربعين السيلقية، فرغ منه سنة736ه -خ- ج1 رقم(22) (حديث) غربية، أخرى بمكتبة العلامة محمد بن محمد الكبسي، ونسخة منه في مكتبة الوالد العلامة محمد بن قاسم الوجيه، كانت مُعَدَّة للطبع، نسخة خطية مصورة ج2 بخط حفيد المؤلف سنة 736ه مكتبة محمد بن عبد العظيم الهادي.
12) الإيجاز لأسرار كتاب الطراز في علوم البيان ومعرفة الإعجاز، -خ- سنة 744ه بخط المؤلف المكتبة الغربية رقم (1) (بلاغة)، أخرى رقم(1830)، ثالثة رقم(1610) مكتبة الأوقاف، رابعة ذكرها الأستاذ الحِبشي بمكتبة دار الكتب برقم (4299).
13) الإيضاح لمعاني المفتاح. (في علم الفرائض). (أئمة اليمن -الترجمان- التحف).
14) التحقيق في الإكفار والتفسيق -خ-. قال الحبشي -خ- سنة 724ه في حياة المؤلف في 140 ورقة بمكتبة الأستاذ حسين السياغي، أخرى بمكتبة الجامع (الكتب المصادرة). وقال الجنداري: في مجلدين. وقال السيد مجد الدين: التحقيق في التكفير والتفسيق مجلد في أصول الدين.
15) تصفية القلوب من درن الأوزار والذنوب، من روائع المؤلفات في بابه وهو مرجع هام لتزكية النفوس وبناء الشخصية الإسلامية طبع مراراً ونسخه الخطية كثيرة.
16) التمهيد في علوم العدل والتوحيد ويسمى التمهيد لأدلة مسائل التوحيد -خ- سنة 733ه في 112 ورقة برقم 734 مكتبة الأوقاف الجامع، وذكر الحبشي أخرى ضمن الكتب المصادرة، أخرى المجلد الثاني -خ- سنة707ه وعليها هامش بخط المؤلف بمكتبة السيد عبد الله بن محمد غمضان.
17) جواب على سؤال ورد من الشام يبحث عن أحواله ومقروءاته ومصنفاته. قال الحبشي -خ- رقم 10 مكتبة الجامع (الكتب المصادرة)، أخرى ضمن مجموعة بخط حفيده بمكتبة الجامع رقم 10 لعلها الأولى.
18) جواب مسائل وردت على الإمام -خ- 106 (مجاميع) ق95-101 مكتبة الأوقاف.
19) الجواب القاطع للتمويه عما يرد من الحكمة والتنزيه -خ- المجموع السابق ق 136-143.
20) الجواب الرائق في تنزيه الخالق عن مشابهة الممكنات والكون في الأرجاء والجهات -خ- المجموع السابق ق22-62، أخرى -خ- سنة 997ه بمكتبة السيد عبد الله بن محمد غمضان.
21) الجواب المصلح للدين الموضح لسنن سيد المرسلين -خ- المجموع السابق ق102-107.
22) الجواب الناطق بالصواب القاطع لعرى الشك والارتياب المجموع السابق ق 63-67، أخرى بمكتبة السيد عبد الله بن محمد غمضان ضمن مجموع.
23) الجوابات الوافية بالبراهين الشافية -خ- في 134 ورقة المجموع السابق، أخرى بمكتبة السيد عبد الله بن محمد غمضان نفس المجموع.
24) الحاصر في شرح مقدمة طاهر (في النحو) -خ- ق8 في 196 ورقة رقم 1700 مكتبة الأوقاف وذكر الحبشي نسخة في مكتبة عيدروس الحبشي، ونسخاً أخرى رقم 121، 122 (لغة) الجامع، أخرى بمكتبة المتحف البريطاني رقم 3824 والأمبروزيانا 102g في علم الإعراب ـ خ ـ سنة753ه بمكتبة السيد محمد بن محمد المنصور.
25) الحاوي لحقائق الأدلة الفقهية وتقرير القواعد القياسية في (أصول الفقه) -خ- سمعت أن طالباً من آل المحبشي يسعى لتحقيقه، ومنه نسخة مصورة من السفر الثاني خطت سنة 710ه في مكتبة مركز بدر (والحاوي في ثلاثة مجلدات).
26) خلاصة السيرة. لخص فيه سيرة ابن هشام.
27) خطب الشهور والسنة -خ- ببرط مصورة بمكتبة محمد بن عبد العظيم الهادي.
28) الدعوة العامة. -خ- (مجاميع) 106 مكتبة الأوقاف ق165-169.
29) الدعوة إلى سلطان اليمن -خ- (مجاميع) 106 مكتبة الأوقاف ق 170ـ173.
30) الدعوة إلى الأمراء من آل عماد الدين، -خ- (مجاميع) 106 مكتبة الأوقاف ق173-175.
31) الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي (ثلاثة مجلدات) شرح نهج البلاغة لأمير المؤمنين -خ- سنة 1073ه في472 ورقة يحتوي على المجلد الأول والثاني رقم 1976 مكتبة الأوقاف، أخرى ج1 مصورة مكتبة محمد بن عبد العظيم الهادي.
32) رأي الإمام يحيى بن حمزة في أبي بكر وعمر -خ- ضمن 106 (مجاميع) أوقاف 4 ورقات.
33) رسالة في بيان المصدر والحاصل له. قال الحبشي منه نسخة -خ- ضمن مجموع من ورقة 46 إلى ورقة53 بمكتبة الأستاذ حسين السياغي بصنعاء.
34) الرسالة المفيدة -خ- سنة 1025ه ق127-138 رقم 13 (مجاميع) مكتبة الأوقاف.
35) الرسالة الوازعة لذوي الألباب عن فرط الشك والارتياب. (جواب على السيد داود بن أحمد -خ- ضمن مجموع بمكتبة السيد حمود شرف الدين خط سنة 1043ه، أخرى -خ- سنة 797ه بمكتبة السيد عبد الله بن محمد غمضان في 106 (مجاميع) أوقاف ق113-121، وأخرى رقم 222 (مجاميع) أوقاف ت1-4.
36) الرسالة الوازعة لصالح الأمة عن الاعتراض على الأئمة ـ خ ـ 106 (مجاميع) أوقاف ق90-94 وباسم الكاشفة للغمة ق1-22، أخرى ـ خ ـ سنة797ه بمكتبة السيد عبد الله بن محمد غمضان.
37) الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد المرسلين طبع سنة1348ه بمصر ضمن مجموع الرسائل اليمنية ثم طبعت منفردة وصدرت عن دار التراث اليمني سنة 1410ه.
38) رسائل الإمام يحيى بن حمزة وكتبه وهي كثيرة ومنها رسالة إلى الإخوان بالظاهرية وشيخ بني أسعد بن حجاج أهل الظفير بحجة، (مجاميع) 106 أوقاف، وفيه كتاب تعزية إلى الفقهاء بني حبش ق199-201، وإلى الأمير عبد الله بن أحمد بن القاسم، ق 175-178، وإلى الشيخ محمد الرصاص ق193-196، وإلى سلطان اليمن المجاهد ق183-186، وإلى من بجهات الأهنوم وعذر، وكتاب له حول المنكر بثوبان ق186ـ190، ق 190-193 وغيرها.
39) الشامل لحقائق الأدلة العقلية وأصول المسائل الدينية (في أصول الدين) أربعة مجلدات -خ- ج2 رقم 88 (علم الكلام) غربية، ونسخة مصورة من السفر الثاني بخط المؤلف فرغ منه سنة 711ه في مكتبة مركز بدر، اخرى مصورة مكتبة محمد بن عبد العظيم الهادي، أخرى مصورة بمكتبة السيد عبد الرحمن شايم من نفس النسخة.
40) الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز فرغ منه سنة 728ه وطبع في ثلاثة مجلدات فاخرة بالقاهرة سنة1332ه وطبع بعدها مراراً (معاني وبيان).
41) العدة في المدخل إلى العمدة. قال زبارة في أئمة اليمن: في الفقه مختصر بالغ الأهمية يقع في جزئين.
42) عقد اللآلي في الرد على أبي حامد الغزالي، (رد عليه في مسألة إباحته للسماع) -خ- ق68-88 رقم 106 (مجاميع) أوقاف، أخرى رقم 37.
43) العمدة في مذاهب الأئمة في الفقه فرغ منه سنة 720ه ذكره زبارة في (أئمة اليمن) وقال: يقع في ستة مجلدات، اشتمل على جميع إيرادات المذاهب بالحجج والشواهد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والقياسات، منه ج2، ج3 مصورتان بمكتبة محمد عبد العظيم الهادي، الثاني من الصوم إلى الطلاق، والثالث من الطلاق إلى الشفعة.
44) الفائق المحقق في علم المنطق مجلد (أئمة اليمن - الترجمان)، وباسم القانون المحقق (مؤلفات الزيدية ومصادر الحبشي).
45) الفتاوى. قال الحبشي: منه نسخة -خ- سنة 832ه ضمن مجموع رقم (لم يذكره) مكتبة الجامع.
46) القاطع للتمويه عما يرد على الحكمة والتنزيه. (مؤلفات الزيدية) وهو السابق رقم(19).
47) القسطاس (في علم الكلام) جزءان ذكره زبارة وقال السيد مجد الدين: في أصول الفقه مجلدان.
48) الكوكب الوقاد في أحكام الاجتهاد -خ- 106 (مجاميع) أوقاف ق 122-128، وتوجد نقول منه ضمن مجموع بمكتبة السيد المرتضى الوزير.
49) اللباب في محاسن الآداب، -خ- منه نسخةضمن مجموعة ق 169-173 مكتبة الأمبروزيانا رقم 124g.
50) المحصل في كشف أسرار المفصل للزمخشري في أربعة مجلدات (إعراب، نحو، صرف) قال الحبشي: -خ- سنة 728ه بمكتبة الجامع رقم 98 أدب.
51) مختصر الأنوار المضيئة في شرح الأربعين السيلقية. (الأعلام 1/للزركلي، وقال أنه موجود بإحدى المكتبات).
52) مشكاة الأنوار الهادمة لقواعد الباطنية الأشرار. قال الحبشي: فرغ من كتابتها سنة 817ه بمكتبة الجامع برقم 131 (علم الكلام) مع كتاب المعالم الدينية (طبع بتحقيق محمد السيد بسيوني سنة 1972م القاهرة، أخرى -خ- بمكتبة محمد عبد العظيم مصورة، أخرى مكتبة السيد مجد الدين المؤيدي خطت سنة 893 خط نسخي ممتاز عليها قراءات كثيرة، أخرى -خ- سنة 797ه بمكتبة السيد عبد الله بن محمد غمضان.
53) مشكاة الأنوار للسالكين مسالك الأبرار -خ- مجلد رقم 67 (علم الكلام)، أخرى 13 (مجاميع) 18-42 غربية جامع.
54) المعالم الدينية في العقائد الإلهية. طبع بتحقيق السيد مختار بن محمد أحمد سنة1412ه.
55) المعيار لقرائح النظار في شرح حقائق الأدلة الفقهية وتقرير القواعد القياسية. (بدأ في تأليفه في جمادى الأولى وفرغ منه في رجب سنة 715ه) -خ- سنة766ه في 141ق رقم 1487 مكتبة الأوقاف، أخرى -خ- في عصر المؤلف أو بعده بقليل سنة 747ه في 104 صفحات بمكتبة العلامة المرتضى بن عبد الله الوزير هجرة السر، قال في أوله: هو المستولي على كتاب الحاوي في أصول الفقه والمشتمل على أسراره.
56) من كلام الإمام يحيى بن حمزة -خ- 106 (مجاميع) أوقاف وفيها (من كلامه في المنع بالفتوى بمذهب الإمام الناصر، وفي جواب سؤال رد عليه، ومن كلامه وقد طالع كتاب التصفية للفقيه محمد بن حسن الديلمي).
57) المنهاج الجلي في شرح جمل الزجاج. في النحو -خ- رقم 45 نحو غربية وهو مجلدان.
58) نور الأبصار المنتزع من كتاب الانتصار منسوب إليه في فهرس الغربية 316 رقم 316 فقه غربية. وكذلك في مكتبة جامع شهارة نسخة كاملة.
59) النهاية في الوصول إلى علم حقائق علوم الأصول. (أصول دين) ثلاثة أجزاء (أئمة اليمن) -خ- ج1 منه بمكتبة السيد سراج الدين عدلان 538 صفحة مصورة بمكتبة محمد عبد العظيم الهادي.
60) وصايا الإمام يحيى بن حمزة إلى أولاده وزوجاته 106 (مجاميع) أوقاف 150-164.
61) وصية أورد جزءاً منها زبارة في أئمة اليمن 231-233.
62) الوعد والوعيد وما يتعلق بهما. قال الحبشي منه نسخة مخطوطة في 38 ورقة بمكتبة الجامع (الكتب المصادرة).
9- مصادر الترجمة
1) مآثر الأبرار 2/972-991.
2) اللآلئ المضيئة -خ-.
3) طبقات الزيدية الكبرى (القسم الثالث) 3/1224-1232.
4) التحف شرح الزلف 270-272 ط3 مركز بدر.
5) لوامع الأنوار 2/73-82.
6) أعلام المؤلفين الزيدية، ترجمة رقم (1193) ص1124-1131.
7) مطمح الآمال 252-253.
8) اللطائف السنية 1/97-98.
9) الجامع الوجيز -خ- حوادث سنة 669ه، سنة 729ه، سنة 749ه.
10) بلوغ المرام 51.
11) تأريخ اليمن المسمى: فرجة الهموم والحزن، للواسعي 206-207.
12) الإمام المجتهد يحيى بن حمزة وآراءه الكلامية، تأليف الدكتور أحمد محمود صبحي.
13) الأعلام للزركلي 8/143-144، ومنه البدر الطالع 2/331.
14) الجزء الأول من كتاب الانتصار للمؤلف، (مقدمة التحقيق) بقلم الأستاذ عبد الوهاب بن علي المؤيد، والأستاذ علي بن أحمد مفضل.
وصف النسخ المعتمدة
اعتمدت بمعونة الله تعالى على نسختين من نسخ هذا الكتاب، والتي هي قليلة، بالإضافة إلى نسخة ثالثة، لكنها غير كاملة، اعتمدتها كنسخة مساعدة وذلك بالرجوع إليها فيما عساه يلتبس أو يشتبه في النسختين الرئيسيتين المعتمدتين وفيما يلي وصف هذه النسخ:
1) النسخة الأولى وهي التي رمزت لها بالرمز (أ) والكلام في وصفها بسفريها كالآتي:
أولاً: السفر الأول منها، توفرت لدي نسخة مصورة منه صورت على نسخة مصورة أيضاً بمكتبة السيد العلامة محمد بن عبد العظيم الهادي حفظه الله، بصعدة ولم أهتد إلى معرفة أصلها المخطوط، وعدد صفحات هذا السفر من هذه النسخة (402) أربعمائة وصفحتان بما في ذلك صفحة العنوان، وعدد أسطر الصفحة الواحدة (31) سطراً، ومقاس الصفحة 29×20سم، واسم ناسحها مجهول، وكذا تأريخ نسخها، ونوع خطها نسخي جيد جداً، لكنه لا يخلو كحال معظم المخطوطات من التحريف والتصحيف، والذي يرجع بدوره إلى سهو النساخ أو صعوبة الأم المنقول عليها، أو غير ذلك، وعلى العموم فالسهو وارد على كل إنسان، فلا يكاد يخلو منه أحد، هذا وقد أشرت إلى مواضع التحريف أو التصحيف في هذه النسخة في هوامش الكتاب.
وتتميز هذه النسخة من هذا السفر أن نص كلام أمير المؤمنين عليه السلام الوارد في (نهج البلاغة) يرمز له فيها قبل إيراده بالحرف (ص) وهو يعني الأصل، حتى إذا انتهى من ذلك رمز لشرحه بالحرف (ش) وهو يعني الشرح لكن لا يعلم هل ذلك جاء من جهة المؤلف أم من جهة الناسخ أم من بعض المتأخرين اجتهاداً ليتميز الأصل عن شرحه، لكن الذي ترجح عندي أنه ليس من جهة المؤلف، وإنما من غيره؛ لأن النسخة (ب) بسفريها خلت عن مثل ذلك، بالإضافة إلى النسخة الثالثة والتي اعتمدتها كنسخة مساعدة، بالإضافة أن السفر الثاني من النسخة (أ) قد خلت هي أيضاً من ذلك، وهي نسخة قديمة الخط جداً، ولعلها إحدى النسخ التي خطت في عصر المؤلف.
الصفحة الأولى من هذا السفر هي صفحة العنوان واسم المؤلف، ففي أعلاها عنوان الكتاب ونصه: (السفر الأول من كتاب الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي) وتحته اسم المؤلف قال فيه: (مما ولي نظم شذوره وجمانه، وتلخيص معانيه وبيانه، وحيد زمانه وفريد أوانه، تاج العترة المكلل، وطراز المجد الرفيع الأول: الإمام المؤيد بالله أبو الحسين يحيى بن حمزة بن علي الحسيني أيده الله).
يلي ذلك مباشرة هذه العبارة: (والحمد لله شكراً على نعمه وإفضاله، والصلاة على محمد وعلى آله وسلم تسليماً).
وتحت ذلك ستة أبيات شعرية، كل بيتين على حدة، ولم يحدد قائل كل منها، وهي بخط مختلف عن خط النسخة، قال فيها:
لله در القائل:
الصبر مفتاح كل خير ... وكل صعب به يهون
وطالما نيل باصطبار ... ما قيل هيهات لا يكون
غيره:
الصبر محمود إلى غاية ... وهذه الغاية حتى متى
ما أحسن الصبر ولكنه ... في ضمنه يذهب عمر الفتى
لله در القائل:
يا من أياديه عندي غير واحدة
ومن مواهبه تنمو على العدد
ما نابني في زماني قط نائبة
إلا وجدتك فيها آخذاً بيدي
ويظهر أن هذه النسخة قد انتقلت إلى عدة مالكين، ويظهر ذلك على صفحة العنوان حيث كتبت هذه التمليكات في زواياها وجوانبها، وجميع ذلك بخطوط مختلفة، ففي الزاوية اليمنى تحت اسم المؤلف تمليك لفظه:
(الحمد لله، من فضل الله والله ذو الفضل العظيم على عبده وابن عبده وابن أمته المؤتم بكتابه وسنة نبيه، المتمسك إن شاء الله بهما وبأهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أحمد بن محمد بن حسين الأكوع وفقه الله وغفر الله له ولوالديه وختم له ولهما بالحسنى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم). (وهذا التمليك بغير تأريخ).
وفي الزاوية اليسرى تمليك آخر لفظه:
(الحمد لله رب العالمين، من فضل الله سبحانه والله ذو الفضل العظيم على عبده وابن عبده وابن أمته المؤتم بكتابه وسنة نبيه والمتمسك إن شاء الله بهما وبأهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن أمير المؤمنين غفر الله له ولوالديه وختم له ولهما بالحسنى بمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم). (وهذا أيضاً بدون تأريخ).
وتحته تمليك آخر لفظه:
(من فضل الله تعالى على عبده وابن عبده الفقير إلى عفوه ورحمته وفضله السيد أحمد بن قاسم بن محمد العياني وفقه الله، بالشراء الصحيح). (وهذا بدون تأريخ).
وبجانبه من جهة اليسار بيع للكتاب قال فيه:
(بعت هذا الكتاب المبارك من سيدنا صفي الدين أحمد بن محمد بن حسين الأكوع، بثمن قبضته مستوفى، في تأريخ شهر شوال سنة 1108ه، الفقيه صلاح بن عبد الله الصعادي (لعله الصعدي)، وبجانب هذا البيع شهادة عليه قال فيها: شهد على بيع الفقيه صلاح الصعدي والله خير الشاهدين لهذا الكتاب إلى القاضي صفي الدين أحمد بن محمد بن حسين واستيفاء الثمن، محمد بن علي).
وفي أعلى الصفحة تمليك للسيد أحمد بن فايع قال فيه: (من مواهب (الله) في ملك السيد أحمد بن فايع). وبقية التمليك غير مفهوم لضعف الخط، وهذا التمليك مؤرخ سنة 1304ه.
وفي الجانب الأيسر من الصفحة في أعلاها تمليك آخر قال فيه: (للعبد الفقير إلى الله حسين بن أحمد الحيمي غفر الله له وصلى الله على محمد وآله رجب) وهو مؤرخ لكنه لم يتضح التأريخ جيداً لعدم وضوح التصوير في هذا الموضع.
يليه تمليك آخر قال فيه: (أفقر عباد الله وأحوجهم إليه السيد إسماعيل فايع عفا الله عنه). بدون تأريخ.
يليه هذه التعليقة: (أودعت هذا الكتاب شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أدّى الأمانة وبلغ الرسالة، وأن الموت حق، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الجنة والنار حق، والحساب يوم المعاد، على هذه أحيا وعليها أموت، وعليها أبعث إن شاء الله).
وفي أسفل الصفحة ثلاث شهادات أخرى علي بيع الكتاب تركتها اختصاراً، يليها تمليك آخر مجهول التاريخ قال فيه: (من فضل الله سبحانه على عبده الفقير إلى عفوه أحمد بن أحمد بن يحيى بن الحسن بن علي بن أمير المؤمنين المتوكل على الله إسماعيل بن الإمام المنصور بالله وفقه الله تعالى لصالح العمل بمنه وفضله).
هذا ويلي صفحة العنوان أول المخطوط من هذا السفر، قال فيه:
(بسم الرحمن الرحيم، اللهم أعن ويسر برحمتك يا أرحم الراحمين، الحمد لله الحكيم الذي أنطق لسان الإنسان فأفصح بوجوده وحقائق عرفانه، المنان الذي أوضح لنا منار البرهان، فكشف لنا عن باهر حكمته وعظيم سلطانه، القيوم الذي تضاءلت العقلاء عن الإحاطة بدقيق صنعه وإتقانه....إلخ).
وآخر المخطوط:
(وقد نجز غرضنا من شرح كلامه هذا، على ما اشتمل عليه من الأسرار والمعاني والحمد لله، ولله در نصائح أمير المؤمنين فيما بذله للخلق، وأعلاها وأحقها برضوان الله ومطابقة مراده وأولاها، فلقد نال من الله عظيم الزلفى وعلو الدرجات، وقام بما بذله في ذاته من عظيم الأجر ومضاعف الحسنات).
وكتب تحت ذلك: (الحمد لولي الحمد ومستحقه، وصلواته على خير خلقه). ويظهر أنها بخط ناسخ الكتاب.
وبقي في آخر صفحة منه فراغ مقدار ثلاثة أسطر كتب فيها هذا الحديث النبوي الشريف: عن أبي الدرداء، عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه))، رواه أحمد والطبراني، ورجاله ثقات. انتهى.
ثانياً: السفر الثاني من النسخة (أ): توفرت لدي نسخة مصورة منه صورت على نسخة مصورة أيضاً، توجد بمكتبة المعهد العالي للقضاء بصنعاء، برقم (212) بتأريخ 20/5/1415ه الموافق 24/10/1994م، صورت على مخطوط في ملك خزانة المدرسة العلمية بحوث، أحضرها للتصوير إلى مكتبة المعهد العالي للقضاء الأخ العلامة محمد بن عبد الله الشرعي (رئيس محكمة استئناف سيئون حالياً)، وفي أول هذه النسخة استمارة من المعهد العالي تحتوي على بيانات متعلقة بالنسخة، كرقمها في مكتبة المعهد وتأريخ تصويرها، وعنوانها واسم مؤلفها، وكاتبها، وتأريخ كتابتها، وعدد صفحاتها، ونوع خطها واسم مالكها، واسم من أحضرها للتصوير وغير ذلك من البيانات.
وهذا السفر من هذه النسخة عدد صفحاته (397) صفحة بما في ذلك صفحة العنوان، ومقاس الصفحة الواحدة 29×20سم، وعدد أسطر الصفحة تتفاوت ما بين 35 سطراً إلى 36 سطراً، واسم ناسخها مجهول، ونوع خطها نسخي قديم جداً، قليل التنقيط، وكثير من كلماتها متداخلة بعضها ببعض، بمعنى أن كلمة ما يتصل أولها بنهاية الكلمة التي قبلها، مما يعسر فهمها وتمييزها إلا بعد جهد مضن، وهذا أحد أهم الصعوبات التي واجهتني في التحقيق، بالإضافة إلى رداءة التصوير وعدم وضوح أطراف بعض الصفحات، ولكن النسخة (ب) والنسخة الأخرى من الكتاب كانتا بمثابة الفتح في تمييز ما أبهم من هذا السفر أو عدم وضوحه، فساعدتني هاتان النسختان على فهم ما التبس من ذلك ومعرفته.
وعناوين خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام وكتبه ووصاياه وعهوده كتبت في هذه النسخة بالخط الكبير فيسهل قراءتها بسهولة، ونص كلام أمير المؤمنين في هذه النسخة عليه علامة تميزه عن شرحه، وذلك بتلوين مكان كتابته بحبر أو مادة معينة لا تؤثر على وضوحه، فهو يبرز واضحاً جلياً من بين ذلك، وكما هو واضح من خلال النسخة هذه فلا أدري ما لون المادة المستخدمة في ذلك، فالذي بين يدي هو نسخة مصورة تصويراً عادياً.
وتتميز هذه النسخة بالدقة، والتحريف أو التصحيف لا يوجد فيها إلا على جهة القلة والندرة، وبعض الكلمات مكبرة مثل قوله: سؤال، وجوابه.
والصفحة الأولى من هذا السفر هي صفحة العنوان، وهو مكتوب بالخط الكبير ولفظه: (السفر الثاني من كتاب الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي).
وتحته اسم المؤلف فقال فيه: (للشريف الحسيني يحيى بن حمزة تجاوز الله عنه وعفا)، وتحت ذلك من الجانب الأيمن مقدار أربع كلمات لم يتضح لي مفهومها بسبب عدم وضوحها في التصوير، ثم كتب تحتها اسم المؤلف ثانياً وهو بخط كبير قال فيه: (ألفه وأنشاه وكشف غامضه وجلاه السيد الإمام الأفضل العلامة العَلَم الأطول شرف العترة جمال الأئمة عماد الدين، كعبة المسترشدين يحيى بن حمزة أطال الله بقاه، وحرس علائه).
ومن خلال هذا التعريف الثاني باسم المؤلف يتضح لنا من قوله: أطال الله بقاه، أن هذا السفر نسخ في حياة المؤلف وعلى عهده وأنه من أقدم نسخ الكتاب.
وفي أسفل صفحة العنوان عبارة بالخط الكبير في سطرين كتبت من الوسط لفظها: (الحمد لله على فضله وجوده ونعمائه، والصلاة على محمد رسوله وسيد أنبيائه وآله الطيبين).
وفي نهاية الصفحة وفي حدود ثلاثة أسطر كتبت من الوسط كتابة غير واضحة، ولم يتضح منها سوى قوله: (هذا الكتاب) ويرجع السبب في ذلك إلى عدم وضوح التصوير، ولعل ذلك تمليك للكتاب والله أعلم.
أول هذا السفر:
(بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم عونك يا أكرم الأكرمين ولطفك، ومن خطبة له عليه السلام في الوعظ: (انتفعوا ببيان الله): بالأدلة التي نصبها وقررها، فالأدلة العقلية دالة على وجوده وتوحيده، والأدلة الشرعية دلالة على المصالح والمفاسد من دينه).
آخره:
(وكان الفراغ منه في شهر ربيع الآخر من شهور سنة ثماني عشرة وسبعمائة).
وكتب بعد ذلك عبارة بالخط الكبير والتي تبدو أنها بخط الناسخ قال فيها: (الحمد لله على كل حال من الأحوال، والصلاة على محمد وعلى آله خير عترة وآل).
2- النسخة (ب)
وهي نسخة مصورة أيضاً على أصلها المخطوط الذي يوجد بمكتبة الأوقاف بالجامع الكبير بصنعاء، وهي نسخة كاملة بسفري الكتاب (الأول والثاني)، وحصلت عليها بعد جهد مضن، وهي نسخة جيدة جداً، وتقع في (472) ورقة أي (944) صفحة، السفر الأول منها يقع في (196) ورقة أي (392) صفحة، والسفر الثاني يقع في (278) ورقة أي (556) صفحة، وهي بخط ناسخ واحد، وهو عبد الحفيظ بن عبد الواحد بن عبد المنعم النزيلي، ونوع الخط نسخي جيد جداً، فرغ من نساخة السفر الأول ظهر يوم الجمعة الأغر ثاني وعشرين خلت من شهر رمضان سنة 1071ه، وفرغ من نساخة السفر الثاني ضحى يوم الإثنين المبارك ثامن شهر ربيع الأول سنة 1072ه.
ومقاس صفحات هذه النسخة: 20×17سم، وعدد أسطر الصفحة الواحدة تتفاوت من (29) إلى (30) إلى (31) سطراً، والغالب (31) سطراً.
وتتميز هذه النسخة أن جميع صفحاتها مسطرة من جميع الجوانب كما احتوت على كثير من الهوامش بين السطور أو على جوانب الصفحات والتي غالبيتها تتحدث عن الفروق بين النسخ سواء كانت نسخاً من الكتاب أم من متن النهج، وقد أثبتُّ ذلك في هوامش الكتاب.
كما تتميز هذه النسخة بنوع خطها فهو كما أشرت إليه جيد جداً، وهو واضح ومنقوط يسهل قراءته وقليلاً ما يوجد فيها تحريف أو تصحيف، وعناوين خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام وكتبه وعهوده ووصاياه مكبرة بالخط الكبير، وكذا بعض الكلمات مثل: سؤال، وجوابه، أو والجواب، وهكذا، وكلام أمير المؤمنين علي عليه السلام الوارد في كتاب نهج البلاغة مكتوب بالمداد الأحمر، والشرح بالمداد الأسود، عرفت ذلك من خلال وقوفي على أصلها المخطوط.
احتوت الورقة الأولى من السفر الأول على العنوان، وذلك في صفحة واحدة منها قال فيه: (كتاب الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي).
تحت ذلك مباشرة اسم المؤلف قال فيه: (نظم شذوره وجمانه وتلخيص معانيه وبيانه، وحيد زمانه وفريد أوانه، تاج العترة المكلل وطراز المجد الرفيع الأول: الإمام المؤيد بالله أبو الحسين يحيى بن حمزة بن علي الحسيني أيده الله).
وتحته كتب: (بخزانة سيدنا القاضي العلامة فخر الأمة صلاح بن عبد الله الحيي حفظه الله ومتع بحياته. آمين).
وعلى هذه الصفحة عدد من التمليكات، فعلى الزاوية اليسرى من تحت العنوان والمؤلف تمليك لفظه:
(هذا الكتاب ملك الوالد الحاج العزي محمد بن أحمد بن علي العرجبي أطال الله بقاه بالبيع الصحيح بتأريخه شهر محرم سنة1300ه).
يليه تمليك آخر وبخط مختلف عن التمليك الأول قال فيه: (الحمد لله، ملكه من فضل الله عليه محمد بن علي العزاني غفر الله له في شهر الحجة سنة1245ه).
يلي ذلك مباشرة بخط مختلف عن سابقه قوله: (ثم صار بالميراث إلى ولده عبد الله بن محمد بن علي العزاني، ألحقه الله بأبيه صالحاً مسلماً وأحسن ختامه، وجعل ما بقي من أيامه بالمشي على نهج أبيه عالماً أو متعلماً شهر شعبان سنة1264ه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه).
وبجانب ذلك التمليك بخط أكبر من سابقه تمليك آخر لفظه: (الحمد لله وحده، صار هذا الكتاب العظيم من فضل الله العلي الكريم ملكي بالشراء بواسطة علي دخان المنادي بالكتب بثمن واف مسلَّم إليه، والحمد لله رب العالمين، محب محمد وآله صلى الله وسلم عليهم يحيى بن صالح بن يحيى السحولي عفا الله عنهم) وهذا التمليك مجهول التأريخ.
وفي أسفل هذه الصفحة أيضاً تمليك آخر قال فيه: (الحمد لله، ثم صار بحمد الله سبحانه في نوبة الحقير إلى مولاه العلي الكبير، محمد بن يحيى مداعس وفقه الله تعالى، بطريق الشراء الصحيح بتأريخه ربيع الآخر سنة1334ه فلله الحمد وسبحان الله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم).
وفي الجانب الأيسر من هذه الصفحة أربعة تمليكات أخرى قال فيها على التوالي:
1- الحمد لله انتقل إلى ملك الفقير (الحقير) إلى ربه العلي محمد بن أحمد بن عبد السلام النزيلي بالوجه الصحيح الشرعي، والحمد لله رب العالمين. (وهذا التمليك بدون تأريخ).
2) من فضل الله على عبد الله بن محسن بن أمير المؤمنين بن المؤيد بالله غفر الله له ولوالديه بتأريخ ربيع الآخر 1140ه.
3- صار من كتب الفقير إلى الله الغني أحمد بن عبد الرحمن موسى. (وهذا بدون تأريخ).
4- أفقر العباد إلى رحمة الله السيد إسماعيل بن محمد فايع عفا الله عنه. (وهذا أيضاً بدون تأريخ).
وفي أعلى الصفحة أيضاً تمليك آخر لفظه:
(الحمد لله رب العالمين، من خزانة مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين يحيى بن المنصور بالله محمد بن يحيى حميد الدين أطال الله مدته، ذي القعدة الحرام سنة1353ه).
وفي أول صفحة من المخطوط وهي بدايته والتي تلت صفحة العنوان، على الجانب الأيمن منها وقفية للكتاب من الإمام يحيى حميد الدين وهي بخط ممتاز قال فيها:
(الحمد لله من وقف مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله يحيى بن أمير المؤمنين المنصور بالله محمد بن يحيى حميد الدين طول الله عمره، على مكتبة الجامع المقدس، من جملة الكتب الموقوفة هنالك بنظر الحافظ وعلى الشروط المحررة بالقلم الشريف في غرة السجل العام الموجود بيد الحافظ وصورته لدى ناظر أوقاف صنعاء، وقفاً صحيحاً شرعياً نافذاً من حينه، تقبل الله منه وجزاه خيراً، وحرر بتأريخه شهر ربيع الثاني سنة 1360ه).
أول السفر الأول:
(بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الحكيم الذي أنطق لسان الإنسان فأفصح بوجوده وحقائق عرفانه، المنان الذي أوضح لنا منار البرهان، فكشف لنا عن باهر حكمته وعظيم سلطانه، القيوم الذي تضاءلت عقول العقلاء عن الإحاطة بدقيق صنعه وإتقانه).
آخره:
(وقد نجز غرضنا من شرح كلامه هذا على ما اشتمل عليه من الأسرار والمعاني، والحمد لله، ولله در نصائح أمير المؤمنين فيما بذله للخلق، وأعلاها وأحقها برضوان الله وبمطابقة مراده وأولاها، فلقد نال من الله عظيم الزلفة وعلو الدرجات، وقام بما بذله في ذاته من عظيم الأجر، ومضاعفة الحسنات).
وقال الناسخ بعد ذلك ما لفظه:
(تم السفر الأول من كتاب الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي، والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً على تمامه وكتبه، والله المسئول أن ينفع به المؤمنين، وأن يأجر من أنشأه وجبر ينابيعه للناهلين، وأن يجعله يوم القيامة له نوراً، وأن يغفر لنا وله ولجميع المسلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الميامين وصحابته أجمعين. فرغ من رقم هذه النسخة الضنينة الجليلة الثمينة، الجديرة بأن تشرى بالمهج، فضلاً عن العرض الأحج، وأن يظن بها عن الحبيب ولا حرج، ظهر يوم الجمعة الأغر ثاني وعشرين خلت من الشهر الأشهر، ذي الفضل الأجزل الأكبر، شهر رمضان المعظم من عام إحدى وسبعين وألف، سنة (1071ه) من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، ما رقم حرف بالأقلام، بخزانة سيدنا القاضي الأعلم الأوحد الأمجد الأكرم، علي الهمة، فخر (كلمة غير مفهومة) ذي السؤدد الذي لا يضاهى، والفخر الذي لا يتناهى، والعناية التامة، والهمة السامية، تشييد أركان الوراثة النبوية وتأبيد بناها، من لا يضبط محامده القلم ولا بعضها، ولا يسامي سماها، ضياء الدين صلاح بن عبد الله الحيي أحيا الله ذاته وحياها، وبلغه من الآمال منتهاها، وحرس مهجته وأطال بقاها، وغمر ببركته وعلومه وسناها، على مر الدهور ومداها، بيد العبد الفقير المعترف بالتقصير عبد الحفيظ بن عبد الواحد بن عبد المنعم النزيلي تولاه الله وبلغه من الآمال أقصاها). انتهى.
وكتب في آخر هذه الصفحة ما لفظه:
(بلغ مقابلة وتصحيحاً على الأم المنسوخ عليها بحسب الطاقة والإمكان والاعتناء التام وإن كان في الأم بعض سقم والأغلب الصحة، وقل من ينجو من الخطأ والزلل إلا كتاب الله عزَّ وجلّ، بتأريخ نهار الإثنين سادس عشر شهر شوال سنة 1071ه، بخط مالكه الفقير الحقير صلاح بن عبد الله الحيي).
ومن الورقة (197) بدأ السفر الثاني من الكتاب، احتوت الورقة (197) على العنوان، واسم المؤلف كتبها داخل دائرة منقوشة جميلة الشكل، فقال:
(السفر الثاني من كتاب الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي). يليه اسم المؤلف فقال فيه: (ألفه وأنشأه وكشف غامضه وجلاه السيد الإمام الأفضل، العَلَم العلامة الأطول، شرف العترة، وجمال الأسرة، عماد الدين، كعبة المسترشدين، منهل شرب الصادين، وحيد زمانه وفريد أوانه، الإمام المؤيد بالله أبو الحسين يحيى بن حمزة بن علي الحسيني قدس الله روحه الطاهرة في الجنة، وأعاد من بركاته لوليه).
وكتب تحت ذلك داخل دائرة أيضاً جميلة الشكل وأصغر من سابقتها وبخط جميل قوله:
(بخزانة سيدنا القاضي العلامة خدن وحور عين الكتب، المملق لما فيها شوق وحب، ذروة الكمال وعين أعيان أهله، الفخر الذي لا ينال، وواسطة عقد اللآل، ضياء الدين صلاح بن عبد الله الحيي، أحيا الله بطول بقاه كل إحياء، وجمع له خيري الآخرة والدنيا، وأحسن له الآخرة).
أول السفر الثاني من هذه النسخة:
(بسم الله الرحمن الرحيم، ومن خطبة له عليه السلام في الوعظ، (انتفعوا ببيان الله): بالأدلة التي نصبها وقررها، فالأدلة العقلية دالة على وجوده وتوحيده، والأدلة الشرعية دالة على المصالح والمفاسد من دينه ...إلخ).
آخره:
(وكان الفراغ منه في شهر ربيع الآخر من شهور سنة ثماني عشرة وسبعمائة، تم كلام الإمام المؤيد عليه السلام، عظم الله أجره وشكر سعيه. اتفق الفراغ من زبر هذه النسخة الكريمة التي هي للمثل عديمة، البالغة في الرشاقة والعناية والرواقة الغاية، الوحيدة النسخ، العديمة المثل، الموصوفة بالنهاية التي لا يحاط بمحاسنها ذاتاً واسماً ومعنى، ويعيي ذلك أتم نعتها بما ذكره ليعرف قدرها ويضن بها عن الابتذال والسماحة، ولو كان فيه أعظم مطلب وإنجاحه، ضحى يوم الإثنين المبارك من يوم في شهر ربيع الأول من شهور عام اثنين وسبعين وألف عام من هجرة نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، أبرزها كريم السعاية وعظيم العناية والإيثار لها على سائر ضروريات اللوازم التي لا بد منها، واشتداد الرغبة وجعلها أعظم طلبة لا غنى عنها، من مالكها سيدنا القاضي العلامة الذي لم يدع فخراً إلا قصده وأمّه، واستولى عليه وزمّه، ولا علواً إلا احتمل في بلوغه إليه كل أزمة حتى يبلغ منه مرامه، ففاق أهل الآفاق، وراق تعبه في الأوراق، ولم يحص القلم بعض محاسنه الرشاق: صلاح بن عبد الله الحيي، بلغه الله من فضله ما يرجى ومتع المسلمين بطول مدته وبقاء وجهه الوضي وتقبل منه ذلك السعي الحميد والوصل المديد وجازاه عليه بالفضل الثري ليس عليه مزيد وجعله خالصاً لوجهه الكريم مقربا لنا وله من جنات النعيم وتشرف برقم الكتاب الجليل والسفر الجميل ذكرى بالدعاء الصالح من مالكه والناظر فيه الفقير إلى كرم مولاه القدير عبد الحفيظ بن عبد الواحد بن عبد المنعم بن عبد الرحمن بن الحسين النزيلي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين سائلاً الدعاء بحسن الخاتمة والتوفيق إلى
ما يرضي الله سبحانه والعصمة عن معاصيه، ورضوانه الأكبر، وبلوغ الأمل والوطر في الدنيا والآخرة، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر كلما كتب بكتب حرف وكلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون أبداً مضاعفاً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين).
وقال في آخر صفحة منه:
(الحمد لله، بلغ مقابلة وتصحيحاً على حسب الطاقة والإمكان على نسختين لم يكن فيهما قوة الصحة، ولكن فقد أفادت كل واحدة ما لم تفد الأخرى، فلله الحمد كثيراً بكرة وأصيلاً، في الليلة المسفر فيها صبح الخميس يوم 25 شهر جمادى الأولى سنة 1073ه بمحروس المحويت، ولله الحمد كثيراً بكرةً وأصيلاً، ونسأله أن يوزعنا شكر نعمه ويفتح علينا بالعمل بمقتضيات كلام أمير المؤمنين وحكمه، بحق محمد وآله، كتب مالكه الفقير صلاح بن عبد الله الحيي لطف الله به).
وفي جانب آخر صفحة منه كتب: (الحمد لله فرغ من قراءته عبد الله الفقير إليه في أوقات أخرى ضحوة يوم الجمعة 23جمادى الآخرة سنة 1286ه). ولم أعرف اسم كاتب هذه العبارة لأنه مطموس عليه.
3- النسخة الثالثة وهي نسخة مساعدة وهي نسخة مصورة أيضاً وقد أفادتني كثيراً، وهي نسخة غير كاملة ومتبور من أولها عدد كثير من الصفحات وكذا من آخرها بالإضافة إلى عدم الدقة في ترتيب صفحاتها عند التصوير، وهي متنوعة الخطوط بقلم أكثر من ناسخ، فجاءت خطوطها متفاوتة بين ضعيف وجيد، وعناوين خطب أمير المؤمنين وكتبه وعهوده ووصاياه مكتوبة بالخط الكبير، وناسخها مجهول، وتأريخ النسخ للسفر الأول سنة949ه، وقال في آخر السفر الأول منها: وقد نجز غرضنا من شرح كلامه هذا على ما اشتمل عليه من الأسرار والمعاني والحمد لله، ولله در نصائح أمير المؤمنين فيما بذله للخلق وأعلاها، وأحقها برضوان الله ومطابقة مراده وأولاها، فلقد نال من الله عظيم الزلفة وعلو الدرجات وفاز بما بذله في ذاته من عظيم الأجر ومضاعفة الحسنات).
وقال الناسخ بعد هذا: (تم السفر الأول من كتاب الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي في العشر الأواخر من جمادى الأولى من سنة تسع وأربعين وتسعمائة، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، والصلاة على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل).
عملي في التحقيق
1- قمت بمقابلة المصفوفة على النسخة التي تم عليها الصف وهي النسخة التي رمزت لها بالحرف (أ) وذلك لضبط النص وتصحيحه وتقويمه، ثم بعد الانتهاء من مقابلة المصفوف على النسخة (أ) قمت بمقابلته ثانية على نسخة أخرى من الكتاب وهي التي رمزت لها بالحرف(ب)، وفي خلال ذلك استعنت بنسخة ثالثة للمخطوط، وذلك بالرجوع إليها فيما اشتبه والتبس في النسختين، وأثبت الفروق بين النسخ وأشرت إلى ذلك في هوامش الكتاب، وفي حال وجود كلمة أدق وأوضح في النسخة (ب) أو في النسخة الثالثة أدرجت ذلك ضمن نص الكتاب وأشرت إلى ذلك في الهامش بجعل الكلمة الواردة في (أ) فيه مع توضيح السبب في ذلك مهما أمكن.
2- قسمت النص إلى فقرات، والفقرات إلى جمل، واستخدمت في ذلك علامات الترقيم المتعارف عليها.
3- خرجت أغلب ومعظم الأحاديث النبوية الواردة في الكتاب وهي كثيرة جداً، خرجت ذلك مهما أمكن وفي حدود المراجع التي بين يدي، واعتمدت في تخريج بعضها على الكمبيوتر.
4- قارنت كثيراً من نصوص كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام الواردة في الكتاب مع كتاب نهج البلاغة المطبوع، وأشرت إلى مواضع الفروق والاختلافات في الهامش.
5- قمت بتفسير الكثير من الكلمات اللغوية واعتمدت في ذلك على قواميس اللغة المشهورة والمتوفرة لدي.
6- ترجمت لكثير من الأعلام الواردة أسمائهم في الكتاب، وتركت كثيراً من المشاهير منهم لشهرتهم، وذكرت المصدر في كل ترجمة.
7- وثقت الكثير من الشواهد الشعرية اللغوية الواردة في الكتاب في الهامش، وذلك بذكر اسم الكتاب الوارد فيه كل شاهد على حدة، وذكر اسم قائله إن وجد، ولم يذكره المؤلف، أو روي لقائل آخر، وذكر شرحه من المصدر المذكور فيه مهما أمكن.
8- بحثت عن الكثير من الروايات التأريخية وغيرها التي ذكرها المؤلف، والتي لم يعزوها إلى مصدرها، فما وجدته من ذلك ذكرته في الهامش وذلك بذكر المصدر وغير ذلك مما يستلزم التوضيح.
9- رجعت فيما أمكنني إلى المصادر التي بين يدي والتي ذكرها المؤلف ورجع إليها وأشرت إلى ذلك في الهامش.
10- رقمت خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام أو ما يجري مجراها المذكورة في الكتاب وكذلك الكتب والرسائل والحكم القصيرة، ترقيماً متسلسلاً لتمييز كل خطبة أو كتاب أو حكمة قصيرة على حدة.
11- أثبت في النص بعض عناوين الخطب التي لم ترد عناوينها في الكتاب، ووردت في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، أو في كتاب نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده، أو أي كتاب لنهج البلاغة مطبوع تمكنت من مطالعته، وجعلت ذلك بين معقوفين وأشرت إليه في الهامش.
12- علقت في الهامش على بعض نصوص الكتاب وتوضيحها، وذكر بعض الفوائد المتعلقة بها، بغية إمتاع القارئ وخدمة للنص وطلباً للمزيد من الفائدة، وإبانة ما عساه يلتبس أو يشتبه، واعتمدت في ذلك على أقوال العلماء والباحثين.
13- جعلت نص كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام بين قوسين وميز النص بينهما بالقلم الكبير.
كلمة شكر
ولا يفوتني أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير لكل من مدّ لي يد العون والمساعدة في تحقيقي لهذا الكتاب الجليل وأخص بالذكر أستاذي العلامة المؤرخ المحقق الأديب الأستاذ الفاضل/ عبد السلام بن عباس الوجيه الذي قام معي بدور كبير في سبيل إنجاح هذا العمل وإخراجه ليرى النور، فأمدني بالمصادر والمراجع العديدة من مكتبته الخاصة في الحديث واللغة والتأريخ والتراجم، والتي رجعت إليها في جميع مراحل الكتاب فأفادتني كثيراً. كما أنه حفظه الله قد بذل معي جهداً كبيراً، فتفضل بمراجعة الكتاب وقراءته قبل طباعته وإخراجه الإخراج النهائي، وأتحفني بملاحظاته الموضوعية والمنهجية ولفت انتباهي إلى معلومات وتوضيحات وتصويبات واستدراكات لم تكن في الحسبان، وعلى العموم فإنني لا أستطيع أن أفيه بحقه، ولكني أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيه عني خير الجزاء وأن يكتب له عمله ذلك في صحيفة حسناته، إنه سميع مجيب الدعاء.
كما لا أنسى أن أتقدم بالشكر الجزيل لأخي الشقيق الأستاذ الفاضل/محمد بن قاسم بن محمد المتوكل الذي بدوره بذل معي جهوداً كبيرة في مقابلة النسخ ومتابعة التصحيحات، وكذلك أخي النبيل الأستاذ الفاضل/ أحمد بن محمد بن عباس إسحاق، والذي قام بدور كبير تمثل في توفير النسخ الخطية المصورة من الكتاب، وبذل جهداً قبل إخراج الكتاب الإخراج النهائي، وذلك بقراءته ومتابعة عمليتي التنسيق والإخراج، وأشكر كثيراً الأخ الأستاذ عبد الحفيظ النهاري على جهوده الكبيرة في الإشراف على إخراج الكتاب وكذلك أخي الطباع/ خالد الزيلعي والذي قام بطباعة الكتاب، وكان متميزاً في جميع مراحله بالدقة والإجادة.
كما لا يفوتني هنا أن أتقدم بالشكر الجزيل والعرفان الكبير والتقدير والاحترام للأخوة القائمين على مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، أولئك الجنود الأوفياء الذين يبذلون كل ما في وسعهم من وقت وجهد ومال في سبيل إنجاز مثل هذه الأعمال في طباعة كتب التراث الإسلامي في اليمن وإخراجه إلى النور، والذي لا يزال معظمه في عداد المخطوطات، وقابعاً في أدراج المكتبات الخاصة والعامة، فإلى جميع أولئك وإلى من عداهم ممن ساعدني في هذا العمل أبعث إليهم جميعاً ومرة أخرى أسمى آيات الشكر والعرفان والتقدير والاحترام سائلاً الله العلي القدير أن يكتب لهم ولي بكل حرف حسنة، وأن يجعل ذلك من أفضل ما يصعد إليه من العمل الصالح، وأن ينفع به الإسلام وأهله إنه ولي ذلك والقادر على ما هنالك.
وختاماً أسأل الله العلي العظيم أن يجعل عنائي في تحقيق هذا الكتاب خالصاً لوجهه الكريم، وأن يعتق رقبتي ورقاب والدي وجميع المؤمنين والمؤمنات من النار وأن يعز الإسلام وأهله، ويذل الشرك وحزبه، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، وحسبنا الله وحده، وصلوات الله وسلامه على سيدنا وحبيبنا ومولانا ونبينا محمد بن عبد الله وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
خالد بن قاسم بن محمد المتوكل
صنعاء بتأريخه 29/ ربيع الثاني/ 1424ه
الموافق 29/6/2003م
مقدمة المؤلِّف
بسم الله الرحمن الرحيم
[اللَّهُمَّ، أعن ويسِّر برحمتك يا أرحم الراحمين]
الحمد لله الحكيم الذي أنطق لسان الإنسان فأفصح بوجوده، وحقائق عرفانه، المنان الذي أوضح لنا منار البرهان، فكشف لنا عن باهر حكمته، وعظيم سلطانه، القيوم الذي تضاءلت [عقول] العقلاء عن الإحاطة بدقيق صنعه وإتقانه، وتلاشت أحلام ذوي النهى عن إدراك حكمته، ومعرفة حقيقة شأنه، وكلَّت ألسنة الفصحاء عن ضبط عوارفه وحصر مزيد إحسانه، المتعالي الذي قصَّ قوادم أجنحة الفكر عن التحليق إلى تعريف ذاته، وأحسر جياد أبصار ذوي البصائر عن التطلع إلى حقيقة صفاته، فسبحان من استغنى عن غيره في إحكام ما أبدع من المكونات وإثباته.
والصلاة على المنتجب من طينة العنصر الأطيب الراسخ، والمصطفى من سلالة المجد الأقدم الشامخ، مجد رسخ أصله فاستقر وأعرق، وعلا فرعه فطال وبسق، وطابت مغارسه فا خضر وأونق، وصفت مشاربه فأثمر وأورق، وعلى صنوه الأعظم، وطوده المكرم، المشتق من طينته، والمشارك له في أصله وأرومته، مستودع الأسرار النبوية، ومستند الحكم الدينية والدنيوية، وعلى آله الطيبين الهادين إلى منارات الدين وأعلامه، والموضحين لشرائعه وأحكامه، ما صدع فجر وأنار، وأظلم ليل وأسفر نهار.
أما بعد: فإني جردت همتي، وشحذت غرار عزيمتي، في هذا الإملاء بعد استخارة ذي الطول، والاستعانة بمن له القوة والحول، إلى إيضاح ما وقع في كلام أمير المؤمنين من تفسير ألفاظه الغريبة، وإظهار معانيه اللطيفة العجيبة، وبيان أمثاله الدقيقة، ولطائف معانيه الرشيقة، وغير ذلك مما يشتمل عليه كلامه عليه السلام، إذ كان كلامه قد رقى إلى غايتي الفصاحة في لفظه، والبلاغة في معناه، إذ هو منشأ البلاغة ومولدها، ومشرع الفصاحة وموردها، وعليه كان تعويل أربابها، وضالة طلابها، فلا واد من أودية الفصاحة إلا وقد ضرب فيه بحظ وافر ونصيب، ولا أسلوب من أساليب البلاغة إلا وله فيه القدح المعلا، والتؤم والرقيب ، وهذا مع اعترافي بكلول الجد عن بلوغ ذلك الحد في شرح مشكلاته، وإقراري بقصور باعي، وضيق رباعي عن كشف معضلاته، لكن ليس الغرض المعتمد أن أستولي على ذلك الأمد، ولا الغرض الأقصى هو الإحراز والإحصاء، ولقد صدق من قال: ومتى تبلغ الكثير من الفضل إذا كنت تاركاً لأقله.
مع أني عند شروعي في هذا الإملاء خيل لي أن المرام خطب عسير فجعلت أخطو خطو البطيء المتثاقل، وأنهض نهوض الحسير المتكاسل، لاشتماله على الأسرار الجمة الدثرة ، واحتوائه على النكت الغزيرة المتكاثرة، وهو البحر الذي لا يساجل ، والجمُّ الذي لا يحافل .
وقلت في نفسي: كيف أرد مشرعاً ضنك الموارد، صعب المقاصد، يكاد تتضاءل فيه الأحلام، ويضيق فيه المطلب، ويصعب المرام، فشجعت جَنَانِي ، واستحضرت فكرتي، وصقلت لساني، واثقاً بما عند الله لي من الإمداد بالألطاف الخفية، والإعانة بالتوفيقات المصالحية، وكان فيه غرضان:
أحدهما: الإبانة عن عظيم قدر أمير المؤمنين حيث كان سابقاً لمن تقدمه، وفائتاً لمن تأخر عنه، فعلى مثاله حذا كل خطيب مصقع، وعلى منواله نسج كل واعظ أروع.
وثانيهما: ما يكون في ذلك من مذخور الأجر من الانتفاع بالزواجر الوعظية ، والحكم الأدبية، والحجج القاطعة، والبراهين النافعة، وجواهر اللغة العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، بحيث لايلقى مجتمعاً في كلام من جميع السلف الأولين، ولا متسقاً في نظام من الخلف الآخرين، خاصة في علوم التوحيد والحكمة وتنزيه الله تعالى عن مشابهة الممكنات، وذكر المعاد الأخروي، بل إنما يؤثر عنهم القليل النادر والشاذ الشارد.
إذ كان كلامه عليه السلام عليه مَسْحة من الكلام المعجز السماوي، وفيه عبقه من رائحة الكلام النبوي، فلما سبكته نيارالفكرة في بوتق التحقيق، وصار ذهباً خالصاً يموج في قالب أنيق، سميته بكتاب: (الديباج الوضي، في الكشف عن أسرار كلام الوصي)، ليكون اسمه موافقاً لمسماه، ولفظه مطابقاً لمعناه، حيث كانت العلوم درراً وهو تاجها، وحللاً وهو ديباجها.
وأنا أسأل الله بجوده الذي هو غاية كل طالب وسائل، وكرمه الذي هو نهاية كل مطلوب ونائل، أن يوفق سعيي لما يرضيه، ويعينني على ما أقصده من ذلك وأبغيه، ويجعله [لوجهه] خالصاً، ونعم المسئول.
(قال الشريف المؤلف رضي الله عنه): واعلم أنَّا قبل الخوض في كشف الغطاء عن لطائف كلامه وإظهار الأسرار منه، نذكر مقدمة مشتملة على تقريرات ثلاثة تكون تمهيداً لما نريد ذكره من بعده بمعونة الله.
التقرير الأول
في بيان الكتاب الذي كان هذا الإملاء شرحاً له.
وهو كتاب: (نهج البلاغة) الذي ألفه السيد الإمام ذو الحسبين، أبو أحمد الحسين بن موسى الحسيني . وهو ما حدثني به شيخي سماعاً عليه بقراءته نفسه، عن شيوخه يبلغ بذلك إلى المصنف المذكور، وهو: كتاب بالغ في فنه، يحتوي على المختار من كلام أميرالمؤمنين، ويتضمن من عجائب البلاغة، وغريب الفصاحة ما لا يكاد يوجد في غيره من الكتب؛ لاشتماله على معاقده ومناظمه، واستيلائه على مقاصده وتراجمه، وإن وجد كلام لأميرالمؤمنين في غيره فإنما هو على جهة الندرة، ومؤلف هذا له فضل باهر وعلم واسع، وهو من فضلاء الإمامية والمشار إليه منهم.
وحكى الحاكم أبو سعد أنه كان زيدي المذهب يرى رأي الزيدية، وله تقدم سابق في العلوم الأدبية، واطلاع على علوم البلاغة، وإحاطة بعلوم البيان، ومن اطلع على نبذ من كلامه عرف مصداق هذه المقالة، ولم أظفر بشيء من مصنفاته سوى هذا الكتاب.
فأما (المجازات النبوية) فإنما هي للسيد الإمام صدرالدين علي بن ناصر الحسيني .
ومن اطلع عليها أيضاً عرف مكانه في الفضل، ومنزلته في الفصاحة، واطلاعه على العلوم العقلية والمباحث الأدبية، وقد قيل في (نهج البلاغة) سموط من الأبيات الشعرية مما يدل علىفضله واستحقاق المدح بما هو من أهله.
السمط الأول: للسيد الإمام علي بن ناصر الحسيني قال:
لله دَرُّكَ يَا نَهْجَ البَلاغةِ مِن ... نَهْجٍ نَجَا من مَهَاوِي الْجَهْلِ سَالِكُهُ
أُوْدِعْتَ زَهْر نُجومٍ ضلَّ مُنْكِرُهَا ... وَحَادَ عَن جُدَدٍ غَيًّا مَسَالِكُهُ
لأَنَْت درُّ وَيَا لله نَاظمُهُ ... وَأنتَ نَضرٌ وَيَا لله سَابكُهُ
السمط الثاني: ما قاله بعض المتوالين:
نهجُ البلاغة نهجٌ مَهْيَعٌ جُدَدٌ ... لِمَن يُريدُ علواً مَا لهُ أمدُ
يا عادلاًعنه تَبْغِيْ بالهوى رَشَداً ... اعدل إليه ففيه الخيرَ والرَّشَدُ
والله والله إنّ التاركِيهِ عَموا ... عن شافياتِ عِظَاتٍ كُلها سَدَدُ
كأنها الْعِقْدُ منظوماً جواهرها ... صلّى على ناظمنَّها ربُّنَا الصَّمَدُ
ما حالهم دونها إن كنتَ تُنْصفني ... إلا الْعَنُودُ وإلا البغيُ والْحَسَدُ
السمط الثالث: ما قاله بعضهم:
نهجُ الْبَلاَغَةِ رَوْضٌ زَهْرُهُ دُرَرٌ ... كُلُّ البلاغة تمّت فيه وانتظمتْ
من يسلكُ النهج لا يبقى له إربٌ ... إلا العلوم وإن جلّتْ وإن عَظُمَتْ
لِلَّهِ درُّ أميرِ المؤمنين لقد
... علت بِمَوضُوعه العلياءُ ثم سمتْ
من حاد عنه فقد مالت بصيرتهُ ... عَنِ الرشادِ وحِيْلَت دُونهُ وعمتْ وعمت
التقرير الثاني
في بيان المنهج الذي سلكته في شرحي لهذا الكتاب.
واعلم أني قد سلكت فيه [أحد] مسلكين:
المسلك الأول:
أن أقتطع من كلامه عليه السلام قطعة، ثم أعقد عليها عقداً يكون محيطاً بأسرارها وغرائبها، ويحتوي على جميع معانيها وعجائبها، وهذه هي طريقة جيدة [و] فائدتها هو إيضاح معاني الكلام بالعقود اللائقة، والترتيبات الفائقة، وهي طريقة يسلكها كثير من النظار فيما يريدونه من إبانة معاني الكلام، ولها آفة وهو الإسهاب في الكلام الذي يورث الملل وسآمة الخواطر.
المسلك الثاني:
أن أذكراللفظة المركبة من كلام أمير المؤمنين ثم أكشف معناها، وأوضح مغزاها، من غير التزام عقد لها ولا إشارة إلى ضابط، وهذه طريقة يسلكها الأكثر من النظار، فهذان مسلكان يمكن ذكر أحدهما، وكل واحد منهما لا غبارعليه في تحصيل المقصد وتقرير البغية، لكن أرى أن المسلك الثاني هو أعجب، وإلى جانب الاختصار والتحقيق أقرب؛ لما ذكرناه من حصول التكثير في سلوك الطريقة الأولى، خاصة في مثل هذا الكتاب، فإن شجونه كثيرة ونكته غزيرة، فلا جرم كان التعويل عليها هو الأخلق، ثم أقول قولاً حقاً: إن (نهج البلاغة) بالغٌ في فنه لكل مرام، وإنَّه لأميرٌ على فنون البلاغة وحاكم وإمامٌ؛ لاشتماله على مبادئ الفصاحة ونهاياتها، ومحرزٌ لقصب سبق البلاغة وغاياتها، قد أعجز أهل أوانه، وصار مفحماً لغيره في علومه وعلو شأنه، فلو كانت العلومَ كواكبَ لكان قمرها الزاهر، ولو كانت أقماراً لكان بدرها الباهر، ولو كانت بدوراً لكان شمساً في فلكها الدائر، ولو كانت أحاديثَ لكان مثلها السائر.
ولا يغررك ما ترى من الناس من إهماله وهجره ونبذه وراء ظهورهم، وطرح ذكره حيث كان، كأن في حكمة الهجر مأسوراً مقهوراً، ومن العلوم في أكثر أحوالها ممحواً مغموراً، قد استولت على أسراره يد النسيان والذهول، وانكسفت نجومه، وآلت أقماره وشموسه إلى الذهاب والأفول، ولله درُّ من قال:
حسدوه حين رأوه أحسنَ منهم
والبدرَ تحسدُه النجومُ إذا بدا
وما ذاك إلا لأجل ما اشتمل عليه من الغموض، واستولى عليه من دقة الأسرار والرموز، خاصة في الإشارة إلى أحوال المبدع وصفاته، ومعرفة الأزمنة الأزلية، وتقرير الخواص الإلهية، فإن أحداً من أفناء الخليقة لم ينسج على منواله، ولا سمحت قريحة بشكله في ذلك ومثاله، كما سننبه على تلك الأسرار، ونذكر تلك الحقائق بمعونة الله تعالى، ولقد صدق فيه من قال:
قل للذي بصروف الدهر عيَّرنا ... هل عاند الدهرُ إلا من له خطرُ
أما ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ ... وتستقر بأقصى قعره الدررُ
وفي السماء نجومٌ ما لها عددٌ عددي ... وليس يكسفُ إلا الشمسُ والقمرُ
التقرير الثالث:
في بيان العلوم التي تضمنها واشتمل عليها
واعلم أن هذا الكتاب وإن كان مشتملاً على فنون متفرقة، وأساليب في البلاغة متشعبة، لكن أكثرها جرياناً فيه وأعظمها استعمالاً، وهي الخطب والكتب والحكم، فلا جرم لما كان الأمركما قلناه رتبناه على هذه الأقطاب الثلاثة.
أولها: الخطب والدلائل.
وثانيها: الكتب والرسائل.
وثالثها: الحكم والأدب .
وكل واحد من هذه الأقطاب مشتملاً على نكت غريبة ولطائف عجيبة، نلحق بكل واحد منها ما يليق به منها، فهذا ما أردنا تقريره من الإشارة إلى ضبط قواعد الكتاب، واشتماله على ما ذكرناه من هذه العلوم، نعم مع تقريري له على هذا النظام وتنزيله على مثل هذه الضوابط، فإني لا أدَّعي أني قد أحطت بأقطاره واستوليت على غوائله وأغواره بحيث لا يشذ عني شيء من ذلك، فليس في ذلك وسعي، ولا يدخل تحت طوقي وإمكاني، فإن الذي يعزب عن فطنتي أكثر من الحاصل في ربقتي و الفائت عني أكثرمن الواصل إليَّ، وكيف أدَّعي حصره، وليس لمحاسنه حدُّ ولا غاية، ولا أمد لها ولا نهاية، فإن فيه حاجة كل عالم، وبغية كل متعلم، ومطلب كل بليغ، ومقصد كل زاهد، ومُنية كل عابد، وما عليَّ إلا بذل الوسع والاجتهاد، وعلىالله الإعانة والتكفل بالإرشاد، وهذا حين ابتدائنا في شرح كلامه بالهداية للصواب من الله وإلهامه، والرغبة إليه في التوفيق لإنجازه وإتمامه.
القطب الأول: في ذكر الخطب والدلائل
اعلم أن الخُطبة بضم الفاء عبارة عن المصدر، يقال: خطبت على المنبر خُطبة، وكأنه واقع على المصدر والكلام بلفظ واحد، بخلاف قولنا: غرفت غَرفةً، وغُرفةً، فالفتح المرة الواحدة وهو المصدر، والضم اسم للشيء المعروف، وهذا هو الأكثر الجاري أعني التفرقة بين المصدر والاسم، فأما هاهنا فإنهما جاريان بلفظ واحد كما ذكرناه.
فأما الخِطبةُ بالكسر في الفاء فهو: في حق المرأة، تقول: خطبت المرأة خِطبةً، ولم يرد فيه الفتح في الفاء، وهذا يؤكد ما قلناه من جري مضموم الفاء على الاسم والمصدر جميعاً، والخُطبة إنما تكون في المقامات المشهودة، والخطوب الواردة والأمور المعضلة، والحوادث المتفاقمة.
(1) [فمن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم]
قال الإمام أميرالمؤمنين، وسيد الوصيين، المختار من بين سائر الخلق للأخوة، والقائم مقام صاحب الشريعة في كل الأحكام ماخلا النبوة:
(الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون): واعلم أن الحمد والمدح يأتلفان من أحرف واحدة مع اختلاف نظامها ، وهما أخوان والمعنى فيهما واحد، وكلاهما من قبيل القول، وهو: الثناء الحسن بذكر الأوصاف الجميلة ، واستحقاقهما في مقابلة النعمة وغيرها، ولهذا فإن الرجل كما يحمد عند إنعامه، فإنه يكون محموداً على حسن الصورة وأصالة الحسب، وأما الشكر فهو يكون باللسان والقلب وأفعال الجوارح، وهو مخصوص بالنعمة، ولهذا قال:
أفادتكُمُ النعماءُ مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجَّبا
يشير به إلى أنه إنما يكون بهذه الأمور الثلاثة في مقابلة النعمة، فحصل من هذا أن الحمد خاص بالإضافة إلى جنسه وحقيقته فإنه مختص بالأقوال، وعام بالإضافة إلى ما يستحق عليه فإنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها، وإن الشكر عام بالإضافة إلى حقيقته؛ لاختصاصه بالأقوال والأفعال، وأعمال القلوب، وخاص بالإضافة إلى ما يستحق عليه؛ لأنه [إنما] يكون في مقابلة النعمة لا غير، والحمد وإن كان أحد شعب الشكر، فهو أبلغ منه لأمرين:
أما أولاً: فلقوله عليه السلام: ((الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لم يحمده)) .
وأما ثانياً: فلأن الله تعالى افتتح به كتابه الكريم بخلاف الشكر، وما ذاك إلا لأن ذكرالنعمة باللسان أدخل في الإشاعة بذكرها، وأكثر في الإشادة على مُوليها لما يكون في أفعال القلوب من الخفاء، وفي أفعال الجوارح من الاحتمال.
فأما النطق وهو: عمل اللسان، فإن فيه من التصريح بالمقصود والإفصاح عنه ما لا يكون في غيره، ومن ثم كان مبدوءاً بالحمد في أول كل منطوق به ومكتوب من سائر أنواع الكلام في الخطب والرسائل، وارتفاعه على الابتداء وخبره الجار والمجرور بغيره، ورفعه أحسن؛ لما يتضمنه من البعد عن التقييد بالأزمنة؛ لأنه إذا كان منصوباً فهو مشعربالفعل المقيد بها، بخلاف حاله إذا كان مرفوعاً فلا أثر للتقييد فيه بحال، ومن ثمًّ قال الجهابذة من أهل صناعة البيان: إن سلام إبراهيم كان أبلغ من سلام الملائكة حيث كان مرفوعاً، فانقطعت عنه آثار الفعلية، بخلاف سلام الملائكة فإنه لما كان منصوباً، كان نصبه مشعراً بالفعل المقيد بالأزمنة.
سؤال؛ لِمَ كانت اللام مختصة بوقوعها خبراً عن الحمد في كل موضع عنه، بخلاف سائر حروف المعاني من الباء وغيرها من حروف الجر؟
وجوابه؛ هو أن اللام معناه الملك والاستحقاق، فلما كان الحمد لا يستحقه أحد ولا يملكه على الحقيقة سوى الله [تعالى] كان موقعها ها هنا أحسن ودخولها أقعد، فلهذا كانت مختصة بالوقوع، بخلاف غيرها من أحرف المعاني فإنها لا تعطي هذا المعنى، واللام فيه دالة على الجنس، وهو مطلق الحقيقة من غير إشارة إلى عموم فيكون مستغرقاً، ولا إشارة إلى خصوص فيكون مُتَعيِّناً، وإنما هو موضوع بإزاء مطلق الحقيقة من غير إشارة إلى قيد من قيودها استغراقاً كان أو تعييناً كما أشرنا إليه، ومثاله قولنا: أكلت الخبز، وشربت الماء، فإن الغرض باللام إنما هو دلالتها على مطلق الحقيقة من غير إشارة [بها] إلى عموم فيكون مستغرقاً، ولا إلى خصوص فيكون متعيناً.
وخبر المبتدأ محذوف والظرف ساد مسده، والتقدير فيه: الحمد ثابت لله أو مستقر له.
(لله): هو اسم من أسماء الله تعالى، وقد وقع فيه اضطراب بين العلماء، فقال قائلون: هو اسم سرياني وليس عربياً والحق أنه عربي، لأن جميع ما في القرآن عربي إلا ما دلت عليه دلالة، وهذه اللفظة من جملة ما تضمنه القرآن، ثم إذا كان عربياً فهل يكون اسماً أو صفة، والحق أنه اسم؛ لأن الصفة إنما تدل على معنى واحد في موصوفها، كالعالم والرحيم، وهذا الاسم عند إطلاقه يدل على معاني كثيرة؛ لأن قولنا: الله، دال على جميع الصفات الإلهية عند إطلاقه ومفهومة منه، فلهذا كان اسماً جارياً مجرى الألقاب، ثم إذا كان اسماً فهل يكون جامداً أو مشتقاً، ومعنى الاشتقاق هو: اجتماع الكلمتين في معنى واحد يشملهما والحق أنه مشتق، وهذا موجود في قولنا: الله، فإن قولهم : أله الرجل، وقولنا: إله يجتمعان في معنى واحد، ثم اختلف مما يكون مشتقاً منه.
فقال بعضهم: من أله إذا تحير؛ لأن العقول متحيرة في معرفة الله تعالى وإدراك كنه حقيقته، وقال بعضهم: اشتقاقه من أله إذا احتجب؛ لأنه تعالى لا تدركه أبصار العيون، ولا تناله بصائر العقول، ثم إذا كان مشتقاً فهل يكون علماً أوغير علم؟ والحق أنه ليس علماً محضاً، وإنما هو جار مجراه فيما فيه من العلمية، [وهو] كونه دالاً على معنى في نفسه على جهة التغيير كزيد وعمرو، وبما فيه من مخالفة أمر العلمية لم يجز تغييره كتغيير الأعلام بالنقل والوضع، ولزوم اللام له؛ لأنه من الأسماء الغالبة كلزوم اللام في النجم للثريا، وتفخيم هذه اللفظة من السنة، هكذا قاله الزجاج ، وإنما التزموا تفخيمه دلالة على عظم حال مسماه وفخامة شأنه.
(الذي لا يبلغ): لما اعتاص عليهم وصف المعارف بالجمل الفعلية والاسمية؛ لما في الجمل من غاية التنكير فوضعوا (الذي) وصلة إلىذلك، وهذا على نحو صنعهم في (ذو)، فإنه لما كان يتعذر عندهم الوصف بالمصدر واسم الجنس لعدم الاشتقاق فيهما، توصلوا إلى الوصف بهما بإدخال ذو، فقالوا: هذا رجل ذو مال وذو علم، وبلغ المكان إذا وصله، قال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ }[البقرة:234] فنفى عليه السلام أن يوصل إلى كُنْهِ مدحه.
(مِدْحَتُه القائلون): المِدْحة: الضرب من المدح، كالعِذْرة تكون للضرب من الاعتذار، ويقال: فلان حسن الطِعْمة والرِّكْبة كل ذلك بكسرالفاء دلالة على ما قلناه، والْمَدْحة بالفتح للواحدة من المرات، وغرضه هو أن مدائحه تعالى لايمكن إحصاؤها ولا ضبطها.
(ولا يُحْصِي نعمآءه العادُّون): الإحصاء هو: الحصر والضبط، قال تعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُم ْ}[مريم:94] [{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاه ُ}] [يس:12]، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }[الجن:28]، النعمة: هي المنافع الواصلة إلى الغير على جهة الإحسان، والنَّعماء يروى بفتح النون وضمها، فإن فتحت مددت وهو سماعنا، وإن ضممتها قصرت، وفي بعض النسخ: (نعمه)، وهي: جمع نعمة كسدرة وسدر، والنعماء مصدر كا لسراء والضراء، وغرضه من ذلك عليه السلام هو أن آلاءه ونعمه لا تحصى بعدٍّ كما لا يوصل إليها بحدِّ.
(ولا يؤدِّي حقه المجتهدون): أدَّى دينه إذا قضاه، والمصدر فيه التأدية، والاسم منه هو الأداء، والحق: واحد الحقوق، والاجتهاد: بذل الوسع في تحصيل المقصود، فنفى عليه السلام في كلامه هذا أن يقضى حق الله تعالى وهو ما يستحقه بجلاله وعظم نعمه، وإن بلغ المؤدي كل غاية في الاجتهاد، وهذا صحيح؛ لأن حقه تعالى إذا كان بغير نهاية في كل أحواله، فما يختص بحال ذاته وما يختص نعمه فمحال تأديته وبلوغ حده.
(الذي لا يدركه بُعْدُ الهِمَمِ): أدرك إذ الحق، قال تعالى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }[الشعراء:61] وأدرك الغلام إذا بَلَغ، والهمم: جمع هِمَّة، يقال: فلان بعيد الهِمَّة، والهِمَّة بكسر الفاء وفتحها: إذا كان ذا عزيمة سامية، كأنه بلغ في النفاسة غاية بعيدة لاتنال، وغرضه عليه السلام هو أنه تعالى لا تبلغه الهمم، وإن بلغت في بُعْدِها وإعراقها، وتجاوزت في ذلك كل حد ونهاية.
(ولا يناله غَوصُ الفطن): ناله إذا أصابه ومسَّه، كما قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا }[الحج:37]. والغوص هو: النزول تحت الماء، ومعناه أن الفطن التي هي: الأفهام لا تصيبه ولا تقع على معرفته.
سؤال؛ أليس كان القياس في أسلوب هذا الكلام أن يقال فيه: لاتدركه الهمم على بُعْدِهَا، ولا تناله الفطن على غوصها، فَلِمَ عدل إلى هذا الأسلوب؟ ولهذا يقال: العشق هو المحبة المفرطة، ولا يقال فيه: إنه إفراط المحبة؟
وجوابه؛ أن الأمر كما ذكرت، ولكن إسناد الإدراك إلى البعد والنيل إلى الغوص يكون أبلغ وأدخل في المعنى من خلافه، ولهذا فإن قولنا: أعجبني شهامة نفسك وشرف طبعك أرقُّ وأدقُّ من قولنا: أعجبتني نفسك الشهمة، وطبعك الشريف، وهذه التفرقة تُدْرَكَ بالذوق الصافي.
فأما ما ذكره في العشق فإنما وجب ذلك لما كان المقصود هو تعريفه، فلابد فيه من الوفاء بالجنس والفصل [ولن يكون بما ذكر] .
(الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود): الحد: غاية الشيء ومنقطعه، فإذا كانت صفاته تعالى ثابتة في الأزل والأزمنة الأزلية ليس لها حد ولا لها غاية، وجب فيما كان ثابتاً فيها مستمر الثبوت ألاَّ يكون له حدٌّ أيضاً، وهكذا أيضاً أنه لا نعت لها؛ لأن النعت هو: الوصف أيضاً، وهو حاصل بعد أن لم يكن، وما كان هذا حاله فهو متناهي وصفاته بلا نهاية، فيستحيل فيما لا يتناهى أن يكون موصوفاً، فإنما يكون طريقاً إلى معرفة ذاته من الأوصاف المتناهية؛ لأن ما سوى الله لا يثبت في الأذهان إلا بالأوصاف؛ المعرِّفة لذاته، وثبوت الله تعالى إنما هو بالبراهين لا بالصفات.
فلهذا قال عليه السلام: (ولا له نعت موجود) يكون طريقاً إلى معرفة ذاته كما قررناه.
(ولا وقت معدود): يعني أن صفاته تعالى لاتكون مؤقتة بوقت أصلاً؛ لأنها حاصلة في الأزمنة الأزلية، ولا وقت هناك، أو يريد أنها غير متوقفة على الوقت فتكون منتهية بانتهائه.
(ولا أجل ممدود): يريد أنه لا أجل لها، فينقطع بانقطاعه، بل هي دائمة أزلاً وأبداً، وكلامه عليه السلام ها هنا مشعر بأن حقيقة ذاته غير معلومة للبشر، خلافاً للمعتزلة وغيرهم.
وما قاله عليه السلام هو مختارنا، وقد ورد في عدة من كلامه كما سننبه عليه في مواضعه اللائقة، وهذا الأسلوب الذي أورده يسمى: التعديد عند علماء البيان، وهو من البلاغة في أرفع قدر ومكان ، وهو الإتيان بالصفات الحسنى من غير توسط حروف عطف، كما ورد في التنزيل، كقوله تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ }[الحشر:23] إلى آخرها، وقوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ }[غافر:3].
(فطرالخلائق بقدرته): فطر الأشياء هو: إبداعها، واختراعها.
قال ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر السماوات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها .
والخلائق: جمع خليقة، وهو: عبارة عن جميع المكونات الحادثة بقدرته، كما تقول: كتبت بالقلم نزلها منزلة الآلة، وليس آلة في الحقيقة؛ لأن الفعل يستحيل وجوده من غير قدرة.
(ونشر الرياح برحمته): بسطها، من قولهم: نشرت المتاع إذا بسطته، أو نشرت الثوب بعد طيِّه، وكلاهما حاصل في حق الريح، فإنه تعالى يبسطها في جهاتها الواسعة، وينشرها بعد أن كانت مطوية أي راكدة.
وقوله: (برحمته) يروى بالباء، من قولهم: أكلت باللحم، أي أنها ملابسة للرحمة مصاحبة لها، ويروى باللام، أي أنه ما نشرها إلا للرحمة فهي الباعثة علىفعلها، والداعية إليها، كما تقول: جئت للسمن.
(ووتد بالصخور مَيَدَانَ أرضه): وتد العود يتده إذا ضربه على الأرض، الصخور جمع صخرة وهي: القطعة العظيمة من الأحجار، وميدان يروى بسكون الياء وهو واحد الميادين، وهي: الأرض الواسعة، وبتحريكها وهو: التحرك والاضطراب، ومقصوده هو أن الله تعالى جعل هذه الجبال الراسخة أوتاد الأرض، كما قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً }[النبأ:7] مانعة [لها] عن التحرك، أو أعلاماً منصوبة على مسطح الأرض، لمنافع عظيمة عن المنع من اضطرابها، لا يحيط بعلمها إلا الله تعالى، وقوله: (ووتد بالصخور) من باب بنيت بالحجر، فمن هذه حاله فلابد من أن يكون معروفاً ومعبوداً بدين.
(فأول الدين معرفته): الدين هو: الإسلام، لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ }[آل عمران:19]، والإسلام هو: الإيمان، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ }[آل عمران:85]، والمعلوم قطعاً أنه لو أتى بالإيمان لكان مقبولاً منه، وفي هذا دلالة على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، فإذا تقرر هذا فاعلم أن الإيمان عندنا اسم شرعي، وصار عبارة عن عمل القلب وهي المعرفة، وعن عمل اللسان وهو الإقرار، وعن عمل الجوارح وهو فعل الطاعات، والكف عن القبائح، فصار مقيداً لهذه الأمورالثلاثة عند إطلاقه، وهذا هو مذهبنا وعليه أكثر السلف، وقد خالفنا في ذلك فرق وطوائف، وقد قررنا نصرة ما قلناه، ورددنا على من خالفنا في الكتب العقلية، فإذا تمهدت هذه القاعدة، فإنما قال عليه السلام: إن أول الدين هو المعرفة؛ لأن ماعدا المعرفة مما يقع عليه اسم الدين من الإقرار وعمل الطاعات لاوقع له إلابعد إحراز المعرفة وتحصيلها، فالإقرار لاصحة له إلا بعد المعرفة ليكون خبراً صدقاً، والأفعال الشرعية فالمعرفة تمكين منها؛ لأن الصلاة والزكاة، وسائر العبادات الشرعية لاتفعل إلابعد المعرفة، وأما الواجبات العقلية فالمعرفة لطف فيها، فصار أمر الدين كله لايكون إلا بعد المعرفة وكمالها.
(وكمال معرفته التصديق به): أراد بعد حصول المعرفة فكمالها وإتمامها إنما يكون بالتصديق وهو الإقرارلأنه تلو المعرفة؛ لأن فائدة المعرفة صيانة النفس عن وعيد الآخرة وعقابها، وفائدة الإقرار إنما هو إحراز الرقبة عن السيف والمال عن السحت ، كما قال عليه السلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)) .
فلهذا كان الإقرار كمالاً للمعرفة.
(وكمال التصديق به توحيده): يعني أن الإقرارإذا وجب التصريح به لما ذكرناه، فكماله وتمامه إنما يكون بذكرالتوحيد، فلا يكفي أن نقر بوجود الله تعالى ، حتى نقول : إنه موجود، وإنه لا إله إلا هو، وإلا كان التصديق لا فائدة فيه.
(وكمال توحيده الإخلاص له): بعد وجود التوحيد وثبوته وكماله إنما يكون بتوجيه الأعمال كلها إليه، وإخلاصها لوجهه؛ لأن العبد إذا كان يعلم أنه لا إله في الوجود إلا الله، ولايستحق الإلهية سواه فهو المستحق للعبادة حقيقة، فلهذا وجب صرفها إليه وحده، وعرف بما ذكرناه أن الإخلاص من كمال التوحيد من الوجه الذي قررناه.
(وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه): اعلم أن الصفات التي يختص بها القديم تعالى في ذاته، للناس فيها أربعة مذاهب:
[أولها أمور سلبية] كما هو محكي عن جمهور الفلاسفة، وزعموا أنها لو كانت أموراً ثبوتية لكانت ذاته متكثرة بها، والكثرة دلالة الإمكان.
وثانيها: أنها أحكام إضافية، وهذا هو قول الشيخ أبي الحسين من المعتزلة .
وثالثها: أنها صفات حقيقية غير مستقلة بذاتها، وهذا هو قول الشيخ أبي هاشم وأصحابه من المعتزلة.
ورابعها: أنها معاني مستقلة بنفسها كالقدرة والعلم والحياة مغايرة لذاته تعالى، وهؤلاء هم الذين أثبتوا هذه المعاني، وهو قول الكرامية من المجبرة.
فأما الأشعرية المحققون منهم، فأقوالهم فيها على نحو من مذهب أبي الحسين.
فإذا تقررت هذه القاعدة، فاعلم أن أقرب ما يصرف إليه قوله عليه السلام: من أن كمال الإخلاص نفي الصفات عنه، إنما هو المحكي عن الكرامية فإنهم أثبتوها مغايرة لذاته تعالى.
(لشهادة كل صفة): لأن حقيقتها ومفهومها إذا كانت مستقلة بنفسها منفردة بحالها يقضي:
(بأنها غير الموصوف): لأن حقيقة الغيرية حاصلة فيهما جميعاً، أعني الصفة بهذا التفسير والموصوف؛ لأنهما معلومان ليس أحدهما هو الآخر.
(وشهادة كل موصوف): بحقيقته وما هيته.
(بأنه غير الصفة): لأن مع استقلال كل واحد منهما بنفسه، كل واحد منهما مشار إليه بالغيرية لصاحبه، فإذا كان هذا غيراً لذلك فذاك غير لهذا، فعلى ما ذكرنا من استقلال الصفات نفسها وكونها معلومة على انفرادها.
(من وصف الله سبحانه فقد قرنه): جعل له قرناً مساوياً له في الاستقلال بذاته، ومشاركته في الأزلية التي هي أخص صفاته كما تزعمه الكرامية.
(ومن قرنه): أثبت له كفواً مماثلاً له.
(فقد ثنَّاه): لأن حقيقة التثنية حاصلة فيه، وهو إثبات قديم ثاني مشارك لذاته في القدم.
(ومن ثنَّاه): أثبت له مثلاً كما قررناه.
(فقد جزَّأه): لأن الإله عبارة عن الذات المختصة بصفات الكمال، فإذا كانت هذه الصفات التي هي أصل في معنى الإلهية مستقلة بنفسها قديمة صارت الذات عبارة عن مجموع أجزاء، فلهذا كان تعالى على منهاج هذه المقالة متجزئاً.
(ومن جزَّأه): أثبت ذاته قابلة للتجزُّؤ والانقسام.
(فقد جهله) : اعتقده على خلاف ماهو عليه من كون ذاته تعالى واحدة من كل وجه، لا يتطرق إليها تجزؤ ، ولا يضاف [إليها] انقسام بحال.
(ومن أشار إليه): لما قرر عليه السلام تنزيه ذاته تعالى في نفسها عن اختصاصها بالصفات المساوية لها في القدم والغيرية، شرع في تنزيه ذاته تعالى عن الجهات والأمكنة وأنواع الشبهيات ، فعلى هذا من أشار إليه بعينه أو بيده:
(فقد حدَّه): جعل له حدًّا ونهاية؛ لأن كل ما كان مرئياً أو مشاراً إليه فلا بد فيه من المقابلة أو حصول في جهة الإشارة، فقد صار في جهة دون جهة، فلهذا كان محدوداً.
(ومن حدَّه): بإحاطة الجهات له وصيرورته فيها:
(فقد عدَّه): لأنه إذا صار في جهة فهو من قبيل الأجسام المركبة المعدودة.
(ومن قال: فيمَ): أتى بفي التي هي حرف يقتضي المكان والوعاء، كما يقال : فيم زيد في الدار أو في السوق.
(فقد ضمَّنه): المكان الذي دل عليه هذا الحرف، كما كان زيد مضمناً بالدار ، أي حاصلاً فيها.
(ومن قال: علام): أتى بالحرف الدال على الاستعلاء وهو على، كما يقال: زيد على الفرس، وعمرو على السطح.
(فقد أخلى منه): لأنه إذا كان في جهة العلو فقد خلت عنه جهة السفل، ومن كان في جهة السفل فقد خلت عنه جهة العلو، وهكذا القول في جميع الجهات، فقد أتى عليه السلام بهذه الرموز الحرفية واللطائف الحكمية دلالة على تنزيهه عن الفراغات المعبر بها بالجهات، وعن الأحياز المعبر بها بالأمكنة، ثم لما فرغ منها أشار إلى كيفية وجوده، بقوله:
(كائن): لأن الكائن هو الحاصل الثابت الموجود:
(لا عن حدث): ليس حاصلاً بغيره كما كان في غيره من الكائنات.
(موجود): له الوجود حقيقة.
(لا عن عدم): يريد أنه وإن كان موجوداً فلم يسبقه عدم، كما كان ذلك حاصلاً في جميع الموجودات، فهو وإن شاركها في الوجود والثبوت فقد باينها في أن وجوده بلا أول ووجودها له أول ونهاية.
(مع كل شيء): {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ }[الحديد:4]، لأن كل من كان منزهاً عن الجهة فإنه لايغيب عن كل شيء، ولا يغيب عنه كل شيء، والغيبة متحققة في حقه.
(لا بمقارنة): أراد أن هذه المعية وإن كانت ثابتة في حقه، فإنه لا يشابه الأشياء بمصاحبته لها وإحاطته بعلمها.
(غير لكل شيء): لأن حقيقته مخالفة لحقائقها، فإذا كانت الغيرية حاصلة في حق ما كان مثلاً فكيف إذا كان مخالفاً لها.
(لا بمزايلة): لا بمفارقة لها بل هو كائن معها، من قولهم: زايلته مزايلة وزيالاً إذا فارقته، قال تعالى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ }[يونس:28] أي فرقنا، فهو في هذه الكلمات يشير بها إلى إثبات القدم ونفي الحدوث عن ذاته والعدم.
(فاعل): لوجود الفعل من جهته بحسب الداعية، فإنه أوجد هذه المكونات بداعي الإحسان والمصلحة الحكمية.
(لا بمعنى الحركات والآلة): لأن كل فاعل غيره فإنما يفعل بتحركة واضطراب وتحصيل آلات وأدوات.
(بصير): أي مدرك للأشياء بحقائقها.
(إذ لا منطو عنه من خلقه ): فلا يغيب عن إدراكه شيء من أحوال المخلوقات؛ بل هي بعين منه ومرأى، وهو بكل شيء محيطٍ.
(متوحد): متفرد بالوحدانية، ومن هذه حاله في التفرد والتوحد.
(فلا سكن [يستأنس به، ولا يستوحش لفقده] ): بسكون الكاف هم الأهل، وبتحريكها كلما يسكن إليه، فبوجودهم لايستأنس بهم، وبعدمهم لا يستوحش من فقدهم.
(أنشأ الخلق): أوجد كل الموجودات.
(إنشاءً): من غير شيء كان أصلاً لها.
(وابتدأه): اخترعه.
(ابتداءً): من غير سبب.
(بلا رويَّة أجالها): من غير فكرة اضطربت في نفسه، والجولان ها هنا مجاز، وحقيقتها المجاولة في الحرب، تجاولوا إذا جال بعضهم على بعض كما يفعل غيره عند إحداث أمر من الأمور.
(ولا تجربة استفادها): من غيره لتكون مُعِيْنَةً له عليها يخلق؛ لأن كل من جرَّب الأمور وخبرها كان أدخل في إحكام ما يحكم من أفعاله.
قوله: (ولا حركة أحدثها): يريد أنه لا يحتاج إلى حركة ولا اضطراب في تحصيل شيء من أفعاله كما يفعله الواحد إذا أ راد فعلاً من الأفعال.
(ولا هامة نفس): الهامة والهمامة هي: الإرادة، وكلاهما صفة مضافة إلى فاعلهما.
(اضطرب فيها): يريد أنه تعالى ليس له إرادة يهمُّ فيها بالشيء ثم يتردد في ذلك، كما يعرض للإنسان من الإرادات المختلفة والدواعي المترددة في أفعاله.
(أحال الأشياء): بالحاء المهملة، إما من قولهم: أحال عليه بالدين؛ لأنه تعالى جعل لكل شيء وقتاً أحاله عليه وجعله موعداً لحصوله ووجوده، وإما من قولهم: أحال بالسوط، أي أقبل عليه، فإنه تعالى أحال الأشياء.
(لأوقاتها): أقبل على تصريفها وإحكامها بعد خلقها وإيجادها.
(ولاءَم [بين مختلفاتها] ): فاعل من الملاءمة مهموز من قولهم: لاءمت بين القوم إذا أصلحت حالهم ، فهو تعالى أصلح حال المختلفات حتى تلاءمت، ووافق بينها حتى تقررت.
(وغرز غرائزها): أقام طبعها على طبائع مختلفة، ومنه الغريزة وهي: الطبيعة ، وإما قررها وبينها من قولهم: غرزت رجلي في الركاب إذا وضعتها فيه متمكنة.
(وألزمها أشباحها): الشبح: الشخص، يريد أنه جعل لكل شيء شبحاً وصورة مركبة، لا تعقل تلك الحقيقة إلا بتلك الصورة كالأشباح الإنسانية والأشباح البهيمية وغير ذلك.
(عالم [بها] ): سبق علمه.
(قبل ابتدائها): لسبق وجوده وعلمه بوجودها.
(محيط بحدودها وانتهائها): لأن عالميته لذاته فهو عالم بمقاديرها وانتهائها.
(عارف بقرائنها وأحنائها): فالأحناء هي: الجوانب: والقرائن: ما يقترن بعضها ببعض، ومقصوده في هذا هو: أنه تعالى عالم بما يقارنها من خواصها وما يجانبها.
ثم تكلم في كيفية خلق الأرض، فقال:
([ثم] أنشأ سبحانه فتق الأجواء): فتق الشيء إذا شقه، وفتقه [كنقبه] إذا استخرجه، والأجواء جمع جو، فأراد بفتق الأجواء استخراجها، وهي: الفراغات التي بين السماء والأرض.
(وشق الأرجاء، وسكائك الهواء): الأرجاء: هي الجوانب، قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا }[الحاقة:17] وأراد جعلها قطعاً، وسكائك الهواء بالسين المثلثة التحتانية هي: فرجه.
(فأجاز فيها): بالجيم والزاي وما عداه خطأ، من قولهم: جاز الطريق إذا سلكها.
(ماءً متلاطماً تياره): التيار: الموج، المتلاطم: الذي يصك بعضه بعضاً من شدة اضطرابه، يعني أنه سلك في فرج الهواء بحراً متلاطم موجه .
(متراكماً زخاره): المتراكم: المجتمع ومنه سحاب متراكم، والزخار: الممتد المرتفع، يقال: بحر زاخر إذا كان ممتداً مرتفعاً وهو صفة الماء، وهو البحر يريد أنه مجتمع وله قوة وامتداد.
(حمله): الضمير للماء.
(على متن الريح العاصفة، والزَّعْزَعِ القاصفة): ظهرها لتمسكه في الهواء، ولا ينحدر إلى أسفل كما هو من لوازمه، والعاصفة من الريح هي: الشديدة الهبوب؛ كأنها تعصف كل شيء بحركتها، والزعزع: اسم من أسماء الريح، كأنها تزعزع كل شيء إلى الحركة، والقاصفة: الكاسرة، من قصف العود إذا كسره.
(فأمرها برده): فأمر الريح برد الماء على خلاف ما هو من طبعه؛ لأن طبعه النزول.
(وسلطها علىشده): قواها ومكنها على شدة وثاقه وضبطه.
(وقرنها إلى حده): يريد أن الله [سبحانه و] تعالى قرن الريح بالبحر لتعمل فيه العمل الذي تقتضيه الحكمة الإلهية إلى حده الذي علمه الله تعالى، فلا تقدر على مفارقته ومباينته من غير إذن لها في ذلك، فهذه حكمة بالغة وقدرة باهرة في خلق الأرض، ويؤيد هذا.
(الهواء من تحتها فتيق): يريد أن الهواء مستخرج من تحت الريح، فتيق أي مفتوق.
(والماء من فوقها دفيق): يعني بالماء البحر الذي ذكره بقوله: متلاطماً تياره، والضمير للريح، ودفق الماء إذا صبه فكأنه فوقها مصبوب، ودفيق بمعنى مدفوق، وهكذا دافق فإنه [بمعنى] مدفوق، وحيث وقع فعله فإنه مبني لما لم يسم فاعله، فيقال: دُفِقَ الماء، ولا يقال: دفقته.
(ثم أنشأ سبحانه ريحاً): اخترعها لما يريد من المصلحة.
(اعتقم مهبها): ريح عقيم: لا تلقح سحاباً ولاشجراً، واعتقم بمعنى أعقم؛ لأن افتعل به لا يكون إلا متعدياً فلا يقال: اعتقمته، ولكن يقال: أعقمته، إذا صيرته عقيماً والهمزة للتعدية، ومعنى اعتقم مهبها أي هبوبها، أي جعله ملتوياً لايكون في سمت واحد.
(وأدام مُرَبَّها، وأعصف مجراها، وأبعد منشاها): المرب: المجتمع للريح، ومراده من ذلك هو أن الله تعالى جعلها متصلة الهبوب على نسق واحد، لا ينفصل بعضها لما في ذلك من الشدة، فلما كانت بأمر الله [تعالى] على هذه الأحوال.
(أمرها ): أمر الإرادة والقدرة لا أمر القول، بعد أن أعصف مجراها أي جعله شديداً، وبعّد منشاها جعله بعيداً، لا يعلم حاله من شدة البعد ليعلم بذلك شدة البعد مع السرعة العظيمة في مجراها، وهذا من عجائب القدرة ولطف الصنعة.
(بتصفيق الماء الزخار): تصفيق الماء: اصطكاك بعضه ببعض من عظم حركة الريح وعنفها، وتصفيق الشراب تحويله من إناء إلى إناء لما يحصل في ذلك من التصفية للماء عن جميع الأقذار والأكدار.
(وإثارة موج البحار): لأن بالريح تكثر الأمواج وتعظم حركتها.
(فمخضته مخض السِّقَاء): فحركت الريح هذا الماء الموصوف لما يراد به من التكوين مخضاً يشبه مخض السقاء وهو: وعاء اللبن.
(وعصفت به): والعاصف هي: الريح الشديدة، قال الله تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ }[يونس:22] والضمير للماء.
(عصفها بالفضاء): يريد مثل عصفها بالفضاء، وهو: الفراغ الخالي مع ما فيه من الهباء؛ لأن الرياح إذا اختلفت مهابها لعبت به يميناً وشمالاً فلا يكون له قرار بحال، وكيفية عصفها له إنما يكون بأن.
(ترد أوله على آخره): بشدة اضطرابه وتحركه بها.
(وساجيه على مائره): والساجي هو: الساكن، لقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }[الضحى:2] والمائر هو: المتحرك، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا }[الطور:9].
(حتى إذا عبَّ عُبابه): حتى هذه هي الابتدائية، مثلها في قوله تعالى {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ }[يونس:24] وهي كثيرة في كتاب الله تعالى، وعبَّ: كثر وعظم، والعُباب بالضم هو: الماء الكثير المندفق المرتفع.
(ورمى بالزبد): لشدة ما يألفه من الحركة والاضطراب بالريح.
(ركامه): والركام هو: المتراكم المجعول بعضه على بعض، كما قال تعالى: {فَيَرْكُمَهُ}.
(فرفعه في هواء منفتق): فرفع الماء عن مستقره إلى هواء منفتق مشقوق، من فتق الشيء إذا شقه.
(وجو منفهق): والجو هو: المكان الخالي، والمنفهق: الواسع، فكان عاقبة هذا البحر، أن:
(سوى منه سبع سماوات): فهذه دلالة من كلامه عليه السلام على أمرين:
أحدهما: أن خلق الأرض كان قبل خلق السماء وتكوينها.
وثانيهما: أن ظاهر كلامه دال على أن خلق السماوات إنما كان من البحر الموصوف حاله، وليس مناقضاً ها هنا لما قاله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ }[فصلت:11]، لأنه يجوز أن يكون البحر بعد ما رمى بالزبد وعب صار دخاناً، لكنه لم يتعرض لذكره عليه السلام، واكتفى بما ذكره من صفة أحواله، فلا يكون ظاهره مناقضاً لما في الآية.
سؤال؛ أليس قد قال تعالى في سورة والنازعات بعد ذكره لخلق السماء: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }[النازعات:30]، وهذا يدل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء خلاف ما قررتموه؟
وجوابه؛ أنه يجوز أنه تعالى خلق كرة الأرض أولاً ثم أنه خلق السماء بعد ذلك، ثم بعد خلقه للسماء وتكوينها أقبل على دحو الأرض وبسطها، كما قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }[النازعات:30]، وعلى هذا لا تناقض فيه.
(جعل سُفْلاَهُنَّ): وهي التي تلينا جعلها.
(موجاً): من موج البحر.
(مكفوفاً): عن الحركة والهبوط إلى أسفل لما فيه من الثقل.
(وعُلْيَاهُنَّ سقفاً محفوظاً): والعليا منهنَّ كالسقف لما تحته محفوظاً محروساً عن تخطف الشياطين في استراق السمع.
(وسمكا مرفوعاً): والسمك: الرفع على الأرض وعلى ما تحته من السماوات، ثم من القدرة الباهرة والإحكام البديع مع الانبساط الكلي جعلها.
(بغير عمد): من غير عماد وهو ما يعتمد عليه من عود وحجر.
(يدعمها): يكون دعامة له فيستقر عليه كما في مصنوعات الخلق، فإن أقل قليله مفتقر إلى الدعامة ليستقر عليها.
(ولا دسار ينتظمها): والدسار: واحد الدسر، وهو: الخيوط التي يشد بها ألواح السفينة، كما قال تعالى: {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ }[القمر:13] يريد مع كثرة الانتظام في تأليفها فلا يحتاج إلى ما يضمها ويرأب بين أجزائها.
(ثم زينها بزينة الكواكب): ثم لما أكمل خلقها ونظمها على نظامها العجيب أتم خلقها بنور هذه الكواكب الجارية فيها، كما قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ }[الصافات:6] فأما سائر السماوات فيحتمل أن تكون مكوكبة وأن تكون غير مكوكبة، والكواكب هي: هذه النجوم كلها.
(وضياء الثواقب): المضيئة: الزاهرة، من قولهم: ثقبت النار إذا اتقدت وظهر نورها.
(وأجرى فيها سراجاً مستطيراً): أجراه إذا جعله جارياً، وأراد بالسراج الشمس، واستطارتها: حركتها، والمستطير: الطالب للطيران من شدة الحركة وعظمها.
(وقمراً منيراً): مضيئاً ذا نور، وإنما خص هذين الكوكبين من بين سائر الكواكب لما يختصان به من عظم النور فيهما، ولما جعل الله فيهما من كثرة المنافع للخلق في تصرفهم ومعايشهم.
(في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر): الظرف متعلق بأجرى، أي وأجرى الشمس والقمر في فلك دائر، دورانه على حركة معلومة ومقدار محكم، وأراد بالسقف الفلك؛ لأنه لها كالسقف لأنها جارية فيه، وهو متضمن لها حركتها بحركته، فأما الرقيم ها هنا فإنما أراد به الفلك، وإنما وصف بالمور لكثرة حركته وشدتها في السرعة، وقد فسر قوله تعالى: {إَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ }[الكهف:9] على أوجه ثلاثة كلها صالحة ها هنا:
أما أولاً: فالرقيم هو: الكتاب، فلما جعل الله حركة الفلك والأبصار الكوكبية أسباباً لتجدد الحوادث في العالم السفلي كان كالكتاب المرقوم، كما ذكره [السيد] الإمام علي بن ناصر الحسيني صاحب (أعلام النهج) .
وأما ثانياً: فبأن يكون الرقيم بنيان، كما حكي عن ابن عباس أنه قال: ما أدري ما الرقيم؟ أكتاب أم بنيان ؟
وهذا حاصل في الفلك فإنه مؤلف على نظام مخصوص.
وأما ثالثاً: فيحتمل أن يكون الرقيم لوحاً مكتوباً، وهكذا حال الفلك يحتمل ذلك.
ثم تكلَّم في خلق السماء والأرض، بقوله:
(ثم فتق ما بين السماوات العلا): يريد شق ما بين السماء والأرض، كما قال تعالى: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا }[الأنبياء:30] يريد فصلنا هذه عن هذه.
(فملأهنَّ أطواراً من ملائكته): فحشاهنَّ من الأطوار، يعني الخلق المختلفة، كما قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا }[نوح:14] ثم جعلهم أنواعاً ووصَّف لكل واحد منهم وصيفة في العبادة والقيام بأمره.
(منهم سجود لا يركعون ): واضعون جباههم على الأرض لا يرفعونها.
(وركوع لا ينتصبون): حانون أصلابهم لا يقيمونها.
(وصافُّون لا يتزايلون ): مستوية أقدامهم من غير تفريق ولا مزايلة.
(ومسبحون): شاغلون ألسنتهم بالذكر وأنواع التسبيح وضروب التحميد لربهم، قد شغلوا بهذه الوظائف وخلقوا لها.
[(لا يسأمون): لا يملون] .
(فلا يغشاهم): يعتريهم ويتلبَّس بهم.
(نوم العيون): إنما أضاف النوم إلى العيون لأن ظهور أوائله إنما يكون بالأعين ثم يتصل بسائر الأعضاء في الاسترخاء.
(ولا سهو العقول [ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان] ): ولا يعرض لعقولهم ما يعرض لعقول البشر من السهو؛ لتحفظها وتيقظها ، ولا تعتريهم فترة في أبدانهم لما خصوه من القوة وشدة البطش، ولا تلحقهم غفلة النسيان، بل هم على خلاف هذه الأحوال لما أراد الله بهم من الكرامة، وقرب المكان إليه، وعظم الزلفة عنده.
اللَّهُمَّ، اجعلنا ممن تدخل عليهم الملائكة من كل باب بالتسليم والبشارة بحسن عقبى الدار.
(ومنهم): أي ومن الملائكة من خلقوا لغير هذه الحالة.
(أمناء على وحيه [وألسنة إلى رسله] ): ينزلون بالوحي على ألسنة الرسل بالأحكام الشرعية والأخبار السماوية.
(ومختلفون بقضائه وأمره): بأنواع الرحمة وضروب البلاء لأهل الإحسان ولأهل الإساءة إلى غير ذلك من الخير والشر، والحياة والموت، وأنواع الأقضية والأوامر.
(ومنهم الحفظة لعباده): يريد الملائكة من يحفظ العباد، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }[الإنفطار:10] يحفظون أعمالهم ويضبطونها، ويحفظونهم بالليل والنهار عن الهوام وسائر المؤ ذيات حتى تنقضي آجالهم.
(ومنهم السدنة): يريد الحفظة والحجُّاب.
(لأبواب جنانه): كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا }[الزمر:71].
(ومنهم الثابتة في الأرض السفلى أقدامهم): خلق عظيم قد رسخت في الأرض أقدامهم.
(ومرقت ): خرجت.
(من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار): يعني أقطار السماء وهو: جوانبها.
(أركانهم).
(والمناسبة): يريد المساوية.
(لقوائم العرش أكتافهم): إما بالنون وهو: جوانبها؛ لأن الكنف هو الجانب، وإما بالتاء وهو: المنكب، وكلاهما محتمل ها هنا.
(ناكسة دونه أبصارهم): خافضون لأبصارهم هيبة لجلال الله وتعظيماً لسلطانه.
(متلفعون بأجنحتهم): التلفع هو: التغطي بالأجنحة على جهة التذلل.
(تحته ): الضمير للعرش فيكون التحت حقيقة، أو يكون الضمير للرب فيكون التحت مجازاً، أي تحت القهر والسلطان.
(مضروبة): أي مرخاة، من قولهم: ضربت الحجاب إذا أرخيته.
(بينهم وبين من هو دونهم): قوله: من هو دونهم، إما أن يريد به الملائكة غير هؤلاء الذين وصف حالهم، وإما أن يريد [به] من [هو] دونهم من الثقلين الجن والأنس.
(حجب العزة وأستارالقدرة): يحتمل أن تكون هذه الحجب والأستار حقيقة، وقد ضربها الله تعالى بينهم وبين من دونهم لما يعلم من المصلحة وتنبيهاً على علو الدرجة، ويحتمل أن تكون مجازات، ولا حجاب هناك ولا ستر، وإنما الغرض هو بعدهم عمن دونهم وتمييزهم عمن سواهم، لا يعلم حالهم، كأنهم مضروب عليهم بحجب وأستار، فلا يحيط بحقيقة حالهم إلا الله تعالى.
(لا يتوهمون ربهم بالتصوير، ولايجرون عليه صفات المصنوعين): [أي] لا يطلقون عليه شيئاً من صفات الخلق إذ هي غير صادقة عليه.
(ولا يحدونه بالأماكن): أي لايعتقدونه في مكان فيقال: هو هناك.
(ولا يشيرون إليه بالنظائر): أي لا يعتقدون أن له نظيراً ومثلاً، فيقولون: هو مثل هذا، فسبحان القاهر في سلطانه، والعظيم في علو مجده وشأنه.
ثم تكلم في كيفية خلق آدم، بقوله:
(ثم جمع من حزن الأرض وسهلها): أراد أن الله تعالى ألف هذه الصورة وجمعها من أنواع مختلفة وضروب متباينة ليدل بذلك على إظهار قدرته وباهر حكمته، فركبها من حزن الأرض وهو: التراب الحزن الغليظ، والسهل هو: اللين السلس.
(وعذبها وسَبَخِها): العذب: الطيب المنبت، والسَّبَخُ: الفاسد المسترخي، فلا يصلح للإنبات.
(تربة): مجموعة من هذه الأخلاط المختلفة.
(سنَّها بالماء): متَّنها به ورقَّقها، أو حكَّها، من قولهم: سننت الحجر إذا حككته.
(حتى خلصت): من كل كدر.
(ولاطها بالبَّلة): لاط الحوض إذا طيَّنه بالتراب وملسه، والضمير للتربة أي ملسها بالرطوبة.
(حتى لزبت ): أي لزقت بعضها ببعض، وكانت مختلطة، كما قال تعالى: {مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ }[الصافات:11] أي لازق.
(وأصلدها): صلَّبها، ومنه حجر صلد إذا كان صلباً.
(حتى صلصلت): أي صار لها صوت ليبسها وصلابتها ورقة تركيبها. والصلصال: الطين اليابس غير المطبوخ، فإذا طبخ فهو الفخار بعينه، ثم جعلها على هذه الهيئة وركَّبها على هذه التَّرْكبة:
(لوقت معدود، وأجل معلوم): اللام في قوله: لوقت معدود متعلقة بقوله: (جمع تربة) يعني أنه جمع هذه التربة على هذه الكيفية، لأجل معلوم وهو ما بين تركيبها ونفخ الروح فيها.
سؤال؛ لِمَ قال: (سنَّها بالماء)، وقال: (لاطها بالبّلة) وكلاهما محتاج إلى ما يضم الأجزاء من الرطوبة؟
وجوابه؛ هو: أن السنَّ يفتقر إلى كثرة الماء؛ لأن الغرض أن يخرج بين الحجرين شيء يسيل منهما، فلهذا قال: (سنَّها بالماء) بخلاف حال التربة إذا لاطها، فإن الغرض هو لونها لتكون مجتمعة فلهذا قال: (لاطها بالبلّة) لما كان لا يفتقر إليها كافتقار السن.
(ثم نفخ فيها من روحه): النفخ يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون المراد بالنفخ هو: الإحياء، ولا نفخ هناك أصلاً ولا منفوخ فيه، وإنما هو صادر على جهة التمثيل، وعبارة عن ما يحصل به الإحياء، وهو خلق الروح في هذه التربة المركبة على هذه الكيفية.
وثانيهما: أن يكون الإحياء حاصلاً عقيب هذا النفخ، ويكون فيه سر ومصلحة استأثر الله بعلمها، ويكون إيجاد هذه الواسطة وهي النفخ كسائر الوسائط التي يفعلها الله تعالى، وقوله: (ثم نفخ [فيه] ) يدل على أن بين تركيب الصورة ونفخ الروح فيها مدة متراخية؛ لأن ثم للمهلة والتراخي.
(فمثلت إنساناً): أي حصلت شخصاً تاماً، وإتيانه بالفاء هاهنا دلالة على عدم التراخي بين النفخ وصيرورتها إنساناً؛ لأن الفاء تدل على عدم المهلة، وإنساناً منصوب على الحال، أي مثلت على هذه الحالة مصورة على شكل الإنسانية .
(ذا أذهان يجيلها): أراد بالأذهان العقل وعلومه، [التي] يجيلها في كل جانب، ولهذا قال عليه السلام: ((قلب ابن آدم أشد تقلباً من الريشة على ظهر الماء )) .
(وفِكَرٍ يتصرف بها): الفِكَر هي: الأنظار والخواطر التي يتصرف بها في النفع ودفع الضرر.
(وجوارح يستخدمها ): كاليد والرجل فإنهما آلتان للكسب، وسائر الجوارح فإنها صارت مطيعة له في كلما استعملها على جهة الانقياد من غير مخالفة.
(وأدوات يقلِّبها): فرَّق عليه السلام بين الجوارح والأدوات، فجعل الجوارح ما تكون سبباً للاكتساب وطريقة له، وجعل الأدوات ما ليس كذلك كالعين، ولهذا قال في الأول: يستخدمها، وفي الثاني: يقلبها، لا غير.
(ومعرفة يفرق بها): أراد بالمعرفة القلب؛ لأنه محل العلم والمعرفة، فلما كان المراد منه هو التمييز.
(بين الحق والباطل): وضع المعرفة مكانه.
(والأذواق والمشام): يعني ويفرق بين ما كان مذوقاً فيدركه بآلة ذوقه، وبين ما كان مشموماً فيدركه بآلة شمه.
(والألوان والأجناس): فالألوان يُدرك التفرقة بينها بحاسة البصر لأنها متضادة، والأجناس ما عدا ذلك من التفرقة بين الإنسان والفرس، والظلمة والنور، والحجر والماء، وغير ذلك من الأجناس المختلفة، التي يعلم اختلافها بالضرورة.
(معجوناً بطينة الأكوان المختلفة، والأشباه المؤتلفة، والأضداد المتعادية، والأخلاط المتباينة، من الحر والبرد، والبِلَّة والجمود والمساءة والسرور): مركباً من أمور مختلفة، وانتصابه صفة لإنسان، ومنه العجين لأن المرأة تلويه وتجمعه حتى يكون مركباً من أجزاء، وقد أشار عليه السلام في كيفية تركيب خلقه، إلى أنواع أربعة:
فالنوع الأول: الأكوان المختلفة:
وغرضه بالأكوان المختلفة هي: الأعضاء المفردة، وجملتها عشرة وهي: العظام، والعصب، والأوتار، والعضلات، والعروق، والشحم، والغشاء، والجلد، والشعر، والظفر، فهذه هي الأعضاء المفردة، وكل واحد من هذا مختص بنفع وطبيعة تخالف غيره.
النوع الثاني: الأشباه المؤتلفة:
ويريد بالأشباه المؤتلفة ما كان مركباً من هذه الأعضاء، وجملتها ثمانية عشر: الدماغ، والعينان، واللسان، والأذنان، والقلب، والرئة، والحجاب الحاجز بين الصدر والبطن، والمعدة، والمعاء، والكبد، والمرارة، والطحال، والكليتان، والمثانة، والأنثيان، والذكر، والرحم. وهذه لها لطائف وخصائص ومنافع لايحيط بعجائبها إلا الله عز سلطانه.
النوع الثالث: الأضداد المتعادية.
والمراد بكونها متعادية هو أنها لا تجتمع في محل واحد، وإنما يكون اجتماعها على جهة التركيب بلطف الله ودقيق حكمته، وهذه هي الأمزجة، وجملتها تسعة، أربعة منها مفردة، وهذه هي: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وأربعة منها مركبة وهي: الحرارة مع اليبوسة، والحرارة مع الرطوبة، والبرودة مع اليبوسة، والبرودة مع الرطوبة، فهذه ثمانية، والتاسع هو: المزاج المعتدل من هذه.
النوع الرابع: الأخلاط المتباينة
ويعني بكونها متباينة هو: أن طبع كل واحد منها مباين طبع الآخر، وهذه هي أربعة أيضاً: الدم، وهو حار رطب، والصفراء، وهي حارة يابسة، والسوداء، وهي باردة يابسة، والبلغم، وهو بارد رطب، فهذه إشارة إلى ما قاله عليه السلام على جهة الإجمال، ومن أراد الإطلاع على عجائب القدرة في خلقة الإنسان فعليه بكتب التشريح، ومن أبلغها: (الشفاء) لأبي علي بن سينا .
(واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم، وعهد وصية إليهم، في الإذعان بالسجود له والجنوح لتكرمته فقال: {اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا })[البقرة:34]: استأدى الشيء إذا طلب أداءه، يريد أن الله تعالى قد كان عهد إلى الملائكة عهداً أودعه عندهم وقرره في نفوسهم، بقوله: {إِنّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ }[الحجر:28]، وأمرهم بالإذعان وهو: الانقياد للسجود عند تسويته، واستقامته بشراً سوياً وشبحاً آدمياً تكرمةً [له] إذ جعله قبلة يسجد لله نحوه، كما فعل القبلة مكاناً يسجد لله نحوه، فقال: {اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا }[البقرة:24] امتثالاً للأمر وانقياداً له.
({إِلاَّ إِبْلِيسَ} وقبيله): هو: استثناء منقطع؛ لأن إبليس لم يكن من الملائكة وإنما هو من الجن، وإذا كان مخلوقاً من نار والملائكة مخلوقون من نور فليس مندرجاً تحتهم فلهذا كان منقطعاً، وأنكر بعض الأصوليين الاستثناء المنقطع، وحمل الآية على أن التقدير فيها فسجد الملائكة ومن أمر بالسجود إلا إبليس، وعلى هذا يكون متصلاً، وهذا تعسف لا وجه له، فإن الانقطاع وارد في اللغة لايمكن دفعه، كقولهم: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ماضر، وقد ذكرنا ما هو الحق من ذلك في الكتب الأصولية.
(اعترتهم الحمَّية): الضمير له ولقبيله، اعتراه الأمر إذا غشيه، قال تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ }[هود:54] والحمَّية بالتشديد هو: الاحتماء وهي الأنفة، يقال: حمت عن كذا حمية، إذا أنفت عنه، وفعيل وفعيلة قلَّ ما يردان في المصادر، فإن اسْتُعْمِلَ فَعِيْلُ مصدراً فهو مخصوص بالأهوات كالزبر والوجيف وغيرهما، واستعمال فعيلة مصدراً قليل.
(وغلبت عليهم الشقوة): قهرتهم، وكانت هي المستولية بسلطانها بها عليهم، والشِّقْوَةُ بكسر الفاء هي: للضرب من الفعل كالجِلْسة والْقِعْدة، والشَّقوة بفتح الفاء والشقاوة بمعنى الشقاء.
(وتعززوا بخلقة النار): أضافوا عزتهم إلى ما عليه النار من الحركة الشديدة، والنور الكثير، والتسلط على كل شيء بالإتلاف.
(واستوهنوا خلق الصلصال): واستضعفوا من الوهن وهو: الضعف ما عليه الصلصال من اسوداد جوهره وبشاعة خلقته، وخشانة تأليفه، وضعف قوته يثقب باد في حركة تماسه، والمعنى في هذا هو أن إبليس وقبيله من الأبالسة والشياطين لما غلب عليهم التكبر واستحكم في أفئدتهم الاحتماء والأنفة عن السجود خالفوا أمرالله بالسجود لآدم فاستحقوا غضب الله وسخطه وإنزال العقوبة لأجل المخالفة:
(فأعطاه الله النظرة): يعني التأخر إلىالآخرة، وعلل تأخره بأمور ثلاثة:
(استحقاقاً للسخطة): ليكون مستحقاً للسخط بالمخالفة، ويكشف عنه اللبس فيه.
(واستتماماً للبلية): ولتكون العقوبة تامة بما يزداد من [كفره] المخالفة للأمر في الدنيا بسبب الإمهال.
(وإنجازاً لِلْعِدَةِ): حيث قال تعالى:
({إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ }[الحجر:37]): وهو الصادق فيما قال، والمنجز لما وعد.
(ثم أسكن سبحانه آدم عليه السلام داراً): وصلها بقصة إبليس لما بينهما من التلازم، وهي قصة واحدة، فلما أراد الله تعالى كرامة آدم بخلقه وإسكانه الجنة.
(أرغد فيها عيشته ): أطابه من قولهم: عيش راغد ورغد إذا كان طيباً.
(وآمن فيها محلته): المحلة: المنزلة بفتح العين، والمحل أيضاً بفتحها هو: المكان الذي يحل فيه، وهما واردان على القياس، فأما قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }[البقرة:196] فهو خارج عن قياس بابه وخروجه كخروج المسجد والمنسك، وأراد أنه جعله في عيش طيب، وأمن لا يخاف.
(وحذره إبليس وعداوته):
سؤال؛ في أي موضع قد قرر الله عداوة إبليس ومكره لآدم، حتى قال عليه السلام: (وحذره عداوته)؟
وجوابه؛ أنه من وجهين:
أما أولاً: فيحتمل أن يكون الله تعالى قد أبلغه ذلك على لسان جبريل مع غيره من أنواع الحكم.
وأما ثانياً: فلمكان ما وقع منه من المخالفة في الأمر بالسجود لآدم، فإذا كان قد اعتراه الحسد والأنفة في سجدة لايناله بها نفع عاجل إلا الكرامة، فأنف عنها، واستكبر عن تأديتها، فكيف حاله إذا فاز بالنعيم المقيم، والفوز الذي لا فوز وراءه، فعلى هذا يكون مكره أكثر، وعداوته له أعظم وأكبر فلهذا أعمل رأيه وضرب سهامه.
(فاغتره إبليس نفاسة عليه): فأتاه علىغرة، وأنفذ فيه مكره من حيث لا يشعر، كما قال تعالى: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ }[الأعراف:22]، ونفست فلاناً على كذا إذا حسدته إياه، ولم تره أهلاً له، وانتصاب نفاسةً على المفعول له، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، أي حاسداً له من فاعل اغتره، وهو إبليس حيث رآه ساكناً مستقراً:
(بدار المقام): موضع الإقامة حيث لايظعن الساكن، ولا يرحل المقيم وحيث وجده مطمئناً.
(ومرافقة الأبرار): من الأنبياء والصالحين والشهداء.
(فباع): يعني آدم أي فكان ما تقدم من الاغترار سبباً للبيع.
(اليقين): إما علمه بعداوة الشيطان وخدعه، وإما يقينه بما هو فيه من لذاذة العيش ورغده.
(بشكه): وهو: ظنه أن إبليس ناصح له في قوله: {إِنّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ }[القصص:20].
(والعزيمة): وهي الأخذ بالحزم في مخالفة أمر اللعين، ومجانبة خفي مكيدته.
(بوهنه): بما تحققه من بعد من ضعف رأيه في الانقياد لما قاله إبليس.
سؤال؛ لِمَ عدل عن اللام إلى الإضافة في قوله: (فباع اليقين بشكه، والعزيمة بوهنه) وهلا ساوى بينهما باللام بأن يقول: فباع اليقين بالشك، والعزيمة بالوهن؟
وجوابه هو؛ أن اليقين والعزيمة كأنهما من جهة الله بتوفيقه ولطفه فلا اختصاص له بهما، بخلاف الشك والوهن فإنما كانا باغتراره من جهة نفسه، فلهذا أضافهما إلى آدم لما لهما من مزيد الاختصاص به.
(فاستبدل بالجذل): وهو ما كان فيه من السرور واللذة والغبطة.
(وجلاً): وهو مفارقة اللذة، ورغد المعيشة، واستشعار لزوم العقوبة الدائمة لمخالفة الأمر من الله تعالى.
(وبالاغترار): وبما كان من تعويله على الاغترار.
(ندماً): وهو عضُّ الأنامل على ما نزع منه وفاته، ثم تداركه الله تعالى بما كان من لطفه [به] ورحمته إياه.
(ثم بسط الله سبحانه له في توبته): يعني أنه ألهمه للاستغفار بقوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23].
(ولقَّاه كلمة رحمته): بقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ }[البقرة:37] وقرئ [كلمات] بالنصب على أن آدم هو المتلقي لهن، وقرئ بالرفع على أنهن المتلقيات له بالتدارك والرحمة.
(ووعده المردّ إلى جنته): بقوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }[البقرة:37] ثم كان بعد الإقدام على مخالفة الأمر بأكل الشجرة.
(أهبطه إلى دار البلية): أهبطه أي أنزله من علو، يكون متعدياً لمكان الهمزة كأخرجه، وهَبَطَ يَهْبِطُ وَهَبَطَهُ يَهْبِطُه،بغير همزة يتعدى تارة ويلزم أخرى، دار البلية هي: الدنيا لما فيها من التكاليف الشديدة، ومقاسات الأمور الصعبة، والأمراض، والغموم، والأحزان الكثيرة.
(وتناسل الذرية): وحيث أذن الله بالتناكح الذي يحصل بسببه النسل والتوالد، وبعد وقوع ذلك وحصوله من جهة الله تعالى كلفهم بما قرره في عقولهم، وعهد إليهم بما ركبه في أفهامهم من معرفة توحيده، وتنزيهه عمَّا لا يليق بذاته.
(فاصطفى سبحانه من ولده أنبياء): الاصطفاء هو: الا ختيار، فاختار الله هؤلاء الأنبياء، واختصهم بالرسالة لما يريده من كرامتهم، وإبلاغ الحجة على الخلق، كما قال تعالى: {لئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }[النساء:165].
(أخذ على الوحي ميثاقهم): أخذ الميثاق هو: تأكيده وتحصيله ، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ }[آل عمران:81]، والميثاق: ما يستوثق به من ذمة ويمين، وقوله: على الوحي أي على حفظ الوحي وإبلاغه من غير خيانة [فيه] بزيادة، ولا تقصير في أدائه.
(وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم): الرسالة: مايرسل به من كلام وشريعة، والمصدر منه هو: الإرسال، والمعنى وأخذ على تبليغ الرسالة إلى الخلق ما ائتمنهم عليه من أنواع التكاليف وسائر ما تعبدوا به أمانتهم الأمانة والأمن والأمنة مصادر كلها بمعنى واحد، وقد تطلق الأمانة على الشيء المؤتمن عليه.
سؤال؛ ما المراد بالأمانة والميثاق اللذين أخذهما الله تعالى على الأنبياء، كما دل عليهما كلامه ها هنا؟
وجوابه؛ هو أن يبلغوا ما أرسلوا به، ولا يغيروا شيئاً بزيادة ولا نقصان ولا تحريف، والمواثيق ثلاثة:
أولها: ما أخذه الله تعالى على الخلق من الإقرار بربوبيته والاعتراف بوحدانيته، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [ذُرِّيَّاتَهُمْ] }[الأعراف:172].
وثانيها: ما أخذه الله على الأنبياء في تبليغ ما أرسلوا به، حيث قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ }[الأحزاب:7].
وثالثها: ما أخذه الله على العلماء من بيان ما علموه، حيث قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ }[آل عمران:187].
(لما بدل أكثر الخلق عهد الله [إليهم] ): يريد اصطفاهم حين بدل أكثر الخلق، خالفوا ما عهد إليهم من هذه المواثيق والعقود.
(فجهلوا حقه): وضيعوا ما يليق بأمره من توحيده والإقرار بمعرفته والقيام بعبادته، والقيام بواجباته، فخالفوا ذلك كله فتركوا التوحيد.
(واتخذوا الأنداد [معه] ): وهي الأصنام والأوثان المعبودة، وكل ما يعبد من دون الله من جماد وحيوان، وعبادة الأصنام قديمة، ولهذا فإنها واقعة في أيام نوح، ولم يبلغ إلينا التأريخ إلا من زمانه.
(واحتالتهم الشياطين عن معرفته): الاحتيال بالحاء المهملة افتعال من قولهم: حال عن العهد، إذا حوَّله وغيَّره، وبالخاء المعجمة افتعال من اختاله إذا غره وخدعه، والمعنى هو أن الشياطين ما زالت في المكر والخديعة بهم حتى غرتهم وحولتهم عن معرفة الله تعالى فأزلتهم عن معرفته إلى جحدانه، وعن شكر نعمته إلى كفرانه.
(واقتطعتهم عن عبادته): يريد أن الشياطين لما أزلُّوهم عن تحقق المعرفة وثبوتها، كأنهم اقتطعوهم عن العبادة التي هي ثمرة المعرفة.
(فبعث فيهم رسله): تقريراً لما ذكرناه وتحذيراً من خلافه.
(وواتر إليهم أنبياءه): يعني تابع بينهم نبياً على إثر نبي، إبلاغاً للحجة وقطعاً للمعذرة، والمواترة لاتكون إلا إذا وقعت هناك فترة، كما فعل في حق الأنبياء، فإن الفترات حاصلة على قدر ما علمه من المصلحة، فكان بين موسى وعيسى، قيل: ألف سنة، وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، قيل: ألف سنة ، فأما إذا لم تكن هناك فترة لم تكن مواترة، وإنما هي مداركة وبعثتهم على ما ذكرناه من هذه الفترات.
(ليستأدوهم ميثاق فطرته): ليطلبوا منهم ما ألزمهم من الميثاق الذي واثقهم عليه، وهو ما تقضي [به] الفطرة من الإقرار به، ومعرفته وحمدانيته ، واستحقاقه للعبادة، كما قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }[الروم:30] يعني الإقرار بالربوبية، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56].
(ويذكروهم منسيَّ نعمته): ويوقظونهم بالتذكير عن الغفلة التي كانت سبباً في نسيان النعمة، والمنسي مفعول وهو الشيء الذي ينسى.
(ويحتجوا عليهم بالتبليغ): يكون غايتهم في تقرير الحجة على الخلق هو: أنا قد أبلغناكم ما أُرْسِلْنَا به، وهو غاية جهدنا: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ }[الجن:28]، فأما الإلجاء بالقسر فلا وجه له لما فيه من بطلان الغرض المقصود بالتكليف.
(ويثيروا لهم دفائن العقول): أثار الشيء إذا أظهره، والدفين: المدفون وهو: ما يخبأ، ومراده عليه السلام بذلك هو أن الرسل صلوات الله عليهم أظهروا ما كان مخبوءاً من الدلائل العقلية، ونبهوا على الاستدلال بها، وكانت عقول الخلق قاصرة عن استثارة هذه الدفائن، وإظهار الأسرار العجيبة.
(ويروهم آيات المقدرة): ليستدلوا بها على معرفة الصانع وتوحيده، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ }[فصلت:53]، فالذي يكون في الآفاق أمور ثلاثة :
(من سقف مرفوع فوقهم ): وهو السماوات كلها.
(ومهاد تحتهم موضوع): وهي الأرضون السبع.
(ومعايش تحييهم): وهي الثمرات وأنواع الفواكه، وأما التي في أنفسهم فهي ثلاثة أيضاً:
(وآجال تفنيهم): فإنها مع طولها وقصرها موعدها الموت.
(وأوصاب تهرمهم): الأوصاب هي : الأمراض، يقال: وَصِبَ الرجل يَوْصَبُ إذا وجع، والهرم هو: ضعف القوى في جميع الحواس.
(وأحداث تتابع عليهم): من الرخاء والشدة، وأنواع المصائب العارضة، فقد أشار عليه السلام بهذه الأمور الستة إلى ما ذكرالله في قوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ[وَفِي أَنْفُسِهِمْ] }[فصلت:53]، بأحسن لفظ وأوجزه، فإن هذه الأشياء [كلها] دالة على وجود الصانع وباهر قدرته، وكل واحد منها دال على أنه لا بد له من فاعل وموجد ومقدر، لما يرى فيها من الاختلاف والتباين، فالأرض تخالف السماء، والماء يخالف الحجر، فلا بد لها من فاعل يخالف بين حقائقها، ولكونها حاصلة على هذه الكيفيات بعد أن لم تكن، وفي ذلك أبهر القدرة على وجود الصانع الحكيم المدبر العليم، والمقدرة هي: القدرة بفتح العين وضمها وكسرها.
فأما القدرة من القدر، فإنما تكون بفتح العين لاغير، ولهذا قيل: المقدرة بضم العين تذهب بالحفيظة لما كانت من القدرة، وكل هذه الآيات قد نبه عليها الأنبياء أعظم تنبيه، وأظهروها غاية الإظهار، فلأجل هذا.
(لم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل): النبي قد يكون مرسلاً وغير مرسل، والتفرقة بينهما ظاهرة، فإن الرسول من الأنبياء هو من جمع إلى المعجز الشريعة المبعوث بها، والنبي هو: الذي يظهر عليه المعجز من غير شريعة، وإنما أمر بالدعاء إلى شريعة من كان قبله من الأنبياء وتجديدها خلافاً لأبي هاشم وغيره من المعتزلة، حيث أحالوا بعثة النبي من غير شريعة جديدة، ولهذا فإن الرسول عليه السلام سئل عن الأنبياء؟ فقال: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ))، وسئل عن الرسل؟ فقال: ((ثلاثمائة وثلاثة عشر ))، وفي هذا دلالة بيَّنة على التفرقة بين الرسول والنبي، فلهذا قال: من نبي مرسل، إشارة إلى التفرقة التي ذكرناها، ولله درُّ كلام أمير المؤمنين فما أكثر فوائده، وأدق عند التفتيش معانيه.
(أو كتاب منزل): مضمن لما يصلحهم من فروض واجبة، وسنن واضحة، وأعلام بينة، والله تعالى يريد أن يهديكم سنن الذين من قبلكم، ومنزل يروى بالتشديد أي أنه نزَّل شيئاً بعد شيء على حسب المصلحة، كقولك: تجرَّع وتجشَّأ، ويروى بالتخفيف على معنى أنه نزل دفعة واحدة من غير تفريق.
(أو حجة لازمة): والحجة هي أكبر البرهان، وإنما وصفها باللزوم؛ لأنها لتحققها وثبوتها كأنها لاصقة بمن أقيمت عليه.
(أو محجة قائمة): المحجَّة بالفتح: جادة الطريق، وهو جار على قياس بابه في الفتح، وإنما وصف المحجة بالقيام لأنها لكونها دالة على الحق، مرشدة إليه لاتعوج أبداً.
(رسل): أي هم رسل، وإنما نكَّره لما في تنكيره من الفخامة، وعظم الموقع في النفوس، كأنه قال: هم رسل وأي رسل، ونظيره قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }[البقرة:179].
(لا تقصّر بهم قلة عددهم): أراد [أن] قلة عددهم لا تعجزهم عن إبلاغ ما حملوا من أداء الرسالة، من قولهم: قصَّرتُ عن الشيء إذا عجزت عنه، أو أراد أن قلة عددهم لا تخذلهم عن بلوغ أقصى الغاية في تحمل أعباء النبوة وأثقالها، من قولهم: قصر السهم عن الهدف إذا لم يبلغه، وكلاهما جيد لا غبار عليه.
(ولا كثرة المكذبين لهم): معناه ولايعتريهم ريب، ولا يخالجهم شك في صحة ما جاءوا به، وإن بلغ المكذبون بهم كل غاية في الكثرة.
(من سابق): بيان لقوله: رسل وتقسيم لهم، والسابق هو: المتقدم.
(سُمِّي له من بعده، أو غابرعرَّفه من قبله): يريد عليه السلام أن الأنبياء صلوات الله عليهم هم على قسمين:
إما: متقدم، سمى الله له من يأتي بعده من الأنبياء باسمه ولقبه.
وإما: غابر أي ماضي عرفه الله من قبله من الأنبياء.
سؤال؛ لم قال فيمن سبق: سمي، وفيمن غبر: عرَّف، وهلاَّ سوَّى بينهما في التعريف أو التسمية من غير مخالفة بينهما؟
وجوابه؛ هو أن تعريف الشيء بصفته أكثر وأوضح من تعريفه بلقبه، لما يقع في الاسم من اللبس دون الصفة، فمن سبق من الأنبياء لا يمكن تعريفه من يأتي بعده من الأنبياء إلاباللقب والاسم لاغير؛ لأنهم لم يوجدوا بعد فيعرفهم بصفاتهم، وذكر أحوالهم، وأما من ليس متقدماً من الأنبياء فتعريف الله له حال من قبله من الأنبياء إنما هو بالوصف لكونه أدخل لإمكانه في حقهم، فلهذا قال عليه السلام في الأول: سمي، وفي الثاني: عرف، إشارة إلى هذه الدقيقة.
(على ذلك نسلت القرون): ذلك إشارة إلى ما تقدم من الإرسال للرسل وبعثهم لإصلاح أحوال الخلق وإرشادهم، ونسلت القرون أي: توالدوا وكثروا، وقولهم: نسلت الدابة إذا ولدت بكثرة، وعلى متعلقة بنسلت، والقرون هم: الأمم الماضية جمع قرن.
(ومضت الدهور): تقضَّت، وإنما سمي الدهر دهراً؛ لاجتماعه من قولهم: دهورت الشيء إذا جمعته، فلما كان عبارة عن اجتماع الأيام والسنين سمي دهراً. والدهور جمع دهر، قال:
إن دهراً يلفُّ شملي بجُمْلٍ ... لَزَمَانٌ يهمُّ بالإحسانِ
(وسلفت الآباء، وخَلَفَتِ الأبناء): السلف بتحريك العين هم: آباء الرجل المتقدمون ولايسكَّن، والخلف هم: الأبناء المتأخرون، يقال: هذا خلف صدق من أبيه، وخلف سوء من أبيه، بالتحريك والتسكين فيهما جميعاً.
قال الأخفش: هما سواء منهم من يحرّك فيهما جميعاً، ومنهم من يسكِّن فيهما أيضاً، ومنهم من فرَّق فقال: خلف سوء بالتسكين، وفي خلف صدق بالتحريك .
(إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ): أراد أنه غاية للرسل وخاتم الأنبياء، وإلى متعلقه بما مضى قبلها من الأفعال مثل نسلت ومضت أي استمر ذلك إلى أن بعثه.
(لإنجاز عدته): نجاز العدة إتمامها بالإعطاء؛ لأن الله سبحانه قد كان عهد إلى الأنبياء قبله صلوات الله عليهم أنه يبعث نبياً يكون خاتماً للأنبياء، مقرون بالساعة، وعلى إثره القيامة، ولهذا قال عليه السلام: ((وجبت لي النبوة وآدم طينة )) والعدة والموعد والوعد سواء، واللام متعلقة ببعث.
(وإتمام نبوته): لأن البشارة المتقدمة ووجود البعث المتأخر عنها فيه تمام النبوة وإكمالها.
(مأخوذاً): حال من محمد.
(على النبيين ميثاقه): الضمير إما لله بمحمد ، ويكون معناه أن الله أخذ ميثاقه وهو الدعاء إلى توحيده والإقرار بربوبيته، وإما لمحمد ويكون معناه أن الله أخذ ميثاق محمد وهو تصديقه والاعتراف بنبوته .
(مشهورة سماته): ظاهرة علاماته، كما قال الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ }[الأنعام:20].
(كريماً ميلاده): الميلاد: اسم للوقت الذي يولد فيه الرجل، والمولد: اسم المكان الذي يولد[فيه] ، والوقت الذي ولد فيه عليه السلام كان كريماً لما ظهر فيه من الأسرار النبوية، وتجلت بسببه الأنوار الإلهية، وقد قيل: إنه لما ولد انكبت الأصنام على وجهها إيذاناً بمجيء الحق، وزهوق الباطل، وإشعاراً بانكساف نجومه، وتقلص ظله الزائل.
(وأهل الأرض): ومن كان على وجه البسيطة.
(يومئذ): يوم كان مولوداً، ويوم بعثته، لكن تركت هذه الجمل، وكان التنوين عوضاً عنها، ونظيره ساعتئذٍ وحينئذٍ.
(ملل): أي أهل ملل، والملة: الدين والشريعة، وهكذا النحلة وهو: ما ينتحله الإنسان، ويدين به من الأديان كلها حقاً كان أو باطلاً.
وقوله: وأهل الأرض، وملل، جملة ابتدائية في موضع نصب على الحال من بعث، كقولك: جاء زيد والشمس طالعة.
(متفرقة): فمن عابد لوثن أوساجد لصنم أونور أونار إلى غير ذلك من الأديان الضالة والملل المبتدعة.
(وأهواء منتشرة): الهوى: ما تدعو إليه النفس وتنزع إليه، وإنما وصفها بالانتشار، لأنهم حكموا فيها أهواءهم، واتبعوا في الانقياد لها آراءهم، فأوقعتهم في الحيرة، وضِلَّوا بها في كل مستاهة .
(وطرائق متشتتة): الطرائق: جمع طريقة، وهي: المذهب والنحلة، قال تعالى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا }[الجن:11] أي مللاً مختلفة أهواؤها، والتشتت: عبارة عن التفرق، مأخوذ من الشت وهو التفريق، يقال: كساء مشتوت إذا كانت خيوطه متباعدة، هم.
(بين مُشَبِّهٍ لله بخلقه): البين: يستعمل في الفصل والوصل، وهو من أسماء الأضداد، كالسدفة فإنها تستعمل للضوء والظلام، وقرئ قوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ }[الأنعام:94] بالرفع أي وصلكم، وبالنصب على حذف الموصول أي ما بينكم، وانتصابه على الظرفية ها هنا، والمشبِّه من قال: إن الله تعالى بصفة الجسم في الحصول في الحيز ، والأعضاء والجوارح، أو بصفة العرض في الحلول، وهذه مقالة لفرق وطوائف.
(أو ملحد في اسمه): ألحد في دين الله إذا عدل عنه، ومنه اللحد لأنه مشتق في غير سمت القبر، وإنما قال عليه السلام: ملحداً في اسمه؛ لأنهم عدلوا باسم الله إلى غيره، فسموا غيره باسمه، فقال للأصنام: آلهة، والإلهية على الحقيقة مختصة به، لا تطلق على غيره.
(أو مشير إلى غيره): الإشارة هاهنا إما بالإلهية، حيث قالوا: هذه الأصنام آلهتنا، كما قال تعالى حاكياً عنهم: {ءآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ }[الزخرف:58]، وإما بالعبادة كما قال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }[الزمر:3]، وإما بإضافة هذه الآثار والحوادث في عالمنا هذا إلى الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية، فكل هذه الأمور مختصة به، فإذا أضافوها إلى غيره فقد أشاروا بها إلى غيره.
(فهداهم به من الضلالة): الضمير لمحمد صلى الله عليه [وآله وسلم] ، والضلالة مصدر ضل يضل ضلالة.
(وأنقذهم بمكانه من الجهالة): الإنقاذ هو: التخلص، يقال: أنقذه من كذا إذا خلصه منه، والمكان ها هنا مجاز، مثله في قولك: ماكنت لأحسن إليك لولا مكان فلان، والجهالة مصدر يقال: جهل جهلاً وجهالة.
(ثم اختار سبحانه لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لقاءه): أراد أنه صلى الله عليه وآله [وسلم] لما بلغ الرسالة، واستقام كما أمر، أكرمه الله تعالى بملاقاة ربه، وإنما كان مختاراً لما فيه من الخلاص من بلوى الدنيا وكدرها، وما في ذلك من الفوز برضوان الله وكريم جواره.
(ورضي له ما عنده): من الدرجات العالية والنزل الكريم.
اللَّهُمَّ، أسعدنا برضوان من عندك، وبشارة بالفوز بثوابك.
(وأكرمه عن دار الدنيا): أراد أن نيل الكرامة كلها له ، إنما كان بنقله عن الدنيا وإراحته عن غمومها وأحزانها.
(ورغب به عن مقام البلوى): رغب في الشيء إذا أراد به، ورغب عنه إذا لم يرده ، ورغبت به عن كذا إذا لم ترده على تلك الحال، كما تقول: رغبت بفلان عن السفر، ورغبت بكتابي عن العارة إذا لم ترده على ذلك، والغرض أن الله تعالى رغب بنبيه أي لم يرده للدنيا، وإنما أكرمه بما عنده فنقله إليه، والمقُام: يروى بضم الميم من أقام وبفتحها من قام، والبلوى مصدر كالرجعى والبشرى ، أي مقام البلاء.
(فقبضه إليه كريماً): إما قبض كريماً من الرفق بروحه والسهولة في قبضها، وإما وهو كريم بما أجزل الله له من الثواب على إبلاغ الرسالة على وجهها واحتمال مشاقها.
(وخَلَّف فيكم ما خَلَّفت الأنبياء في أممها): يريد أنه صلى الله عليه ما مات إلا بعد إبلاغ الرسالة، وإيضاح كل مشكل، وبيان كل عمى.
(إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، ولا علم قائم): الطريق: يذكر ويؤنث، وهو ها هنا عبارة عن الأدلة الواضحة، والعلم هو: المنار في الطريق.
قال جرير :
إذا قطعنَ علماً بدا علمُ
والعلم في الثوب، والعلم هو: الراية؛ لأن المأخوذ على الأنبياء هو المناصحة للأمم كلها، والدعاء به لهم في بذل مايحتاجون له من أمر دينهم، ولا شك أن حاجتهم بعد موت الأنبياء أكثر من حاجتهم مع وجودهم إلى البيان والإيضاح.
(كتاب ربكم): بيان لقوله: ما خلفت الأنبياء، وبدل منه.
(مبيناً): حال من الرسول أي خلف مبيناً له.
(حلاله وحرامه): يعني ما تضمنه من التحليل والتحريم، فالحلال ما أمر به أو ندب إليه ، والحرام ما نهى عنه، أو ورد الوعيد على فعله.
(وفضائله): وهي جمع فضيلة، والفضيلة: إما الأمور التي تضمنها، وكان دالاً عليها من المعاني الدقيقة والأسرار العجيبة، وتضمنه للأخبار الغيبية، وغير ذلك مما هو مرشد إليه من الغرائب والعجائب، التي لا تزال مستنبطة منه غضة طرية على وجه الدهر، وإما أن تكون الفضائل هو أوصافه الممدوح بها، كقوله عليه السلام: ((كتاب الله فيه خبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل)) فالفضائل محتملة لما ذكرناه.
(وفرائضه): وهي ما دل على كونه فرضاً لازماً كالصلاة والزكاة وغير ذلك، مما كان فرضه من جهة الكتاب، نحو الفرائض المقدرة في الميراث وغيرها .
(وناسخه ومنسوخه): وهذا نحو آية السيف، فإنها ناسخة لأحكام كثيرة، وهي قوله تعالى: {اقْتُلُوهُمْ} فإنها نسخت قوله تعالى: {مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ }[الأنعام:107]، و{حَفِيظٌ} و{مُصَيْطِرٍ} وقوله[تعالى] : {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ }[الشورى:48]، ونحو قوله تعالى في عدة الوفاة ، فإنها ناسخة لقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ }[البقرة:240].
(ورخصه وعزائمه): الرخصة: ما جاز تركه مع قيام سبب وجوبه، نحو أكل الميتة للمضطر، [فإن سبب التحريم قائم وهو النص، لكنه رخص للمضطر] في أكلها، ونحو رخصة السفر في قصر الصلاة، والإفطار للمسافر وغير ذلك من الرخص الشرعية، فإن الأسباب الموجبة للتحريم والوجوب قائمة، ولكن الله تعالى بسعة رحمته للعباد رخص لهم في ذلك، وأما العزائم فهي: عبارة عن الأمور الواجبة يقال: عزم على هذا الأمر أي قطع على فعله وحتمه، فكل ما كان مقطوعاً بوجوبه علماً أو من جهة الظن فهو عزيمة.
(وخاصه وعامه): العام: ما كان مندرجاً تحته أفراد على جهة الاستغراق، وأكثر عمومات القرآن مخصوصة إلا القليل منها، وهذا كقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[البقرة:29]، وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا }[هود:6].
وأما الخاص فهو: عبارة عن الدليل الذي يخص العموم، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ }[التوبة:6]، فإنها مخصصة بقوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }[التوبة:5]، لأنه عام فيه لكنه خرج بما ذكرناه.
(وعبره وأمثاله): العبرة هي: الاسم من الاعتبار بكسر الفاء، وبفتحها استكاب الدمع، والعبرة: ما يعتبر به، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى }[النازعات:26]، و{لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ }[آل عمران:13]، وجميع ما حكاه الله تعالى من قصص الأولين فهي عبر لمن بعدهم، يعتبرون بها، ويجعلونها نصب أعينهم، والأمثال فهي جمع مثل وهي كثيرة في القرآن، كقوله: {[مَثَلُهُمْ]كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [نَارًا] }[البقرة:17] و {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ }[الأعراف:176] و {كَمَثَلِ الْحِمَارِ }[الجمعة:5]، وغير ذلك من الأمثال.
(ومرسله ومحدوده): يحتمل أن يكون المراد بالمرسل: ما ليس موقتاً كالحج وغيره من العبادات لا توقَّت بوقت بعينه، وبالمحدود : ما كان موقتاً كالصلاة والصوم وغيرهما؛ لأن الوقت يأتي عليه من جميع أطرافه، ويحتمل أن يكون المراد بالمرسل: ما كان مطلقاً، كقوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ }[النساء:92]، وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }[النساء:92]، والمحدود: ما كان مقيداً كتقييد الرقبة بالإيمان، والصوم بالتتابع، فهذا كله محتمل في الإرسال والتحديد.
(ومحكمه ومتشابهه): للعلماء في بيان ماهية المحكم والمتشابه أقوال كثيرة، وخبط عظيم، وليس من همنا ذكره، والحق فيه أن المحكم: ما دل على معناه بظاهره، والمتشابه: ما لا يعلم المراد من ظاهره، والسر في مخاطبة الله إيانا بالمتشابه هو أن القرآن لو كان كله محكماً، يفهم المراد من ظاهره، لكان ذلك داعياً إلى إهمال النظر وتعييه مسالكه وتعويلاً على التقليد.
(مفسِّراً): حال من الرسول.
(جمله): أي ما أجمل منه وكان مفتقراً إلى البيان، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ }[الأنعام:141]، وقوله تعالى: {ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ }[البقرة:228]، وغير ذلك من الأمور المجملة.
(مبيناً): حال ثانية .
(غوامضه): الغامض: الذي لايتضح معناه، ومنه أغمض عينه إذا لم يبصربها، وهذا كثير في كتاب الله تعالى، فإن أسراره لا تحصى، وعجائبه لا يمكن ضبطها، وما زال العلماء وأهل الفطانة من يوم نزوله إلى زماننا هذا مستخرجين لغوامضه، ومستثيرين لدفائنه فما أحصوها ولا حصروها، ولو لم يكن من عجائب إعجازه إلا هذا، لكان كافياً في الإحكام ، وعلى الجملة فإنما هو كتاب إلهي، ومعجز سماوي، ثم إن علومه وأحكامه:
(بين مأخوذ ميثاق علمه، وموسع على العباد في جهله): يعني أنها منقسمة إلى ما أخذ الله [على] المكلفين إحراز علمه والتحقق له، وهذا نحو العلم بكونه معجزاً ودالاً على صدق من ظهر عليه، وأن جميع ما دل عليه من الأحكام فكلها حق.
فهذا كله يجب إحرازعلمه على كل أحد، وإلى ما لا يتعلق بمصلحة التكليف، فيوسع على الخلق في جهله، وهذا نحو إدراك العلم بفواتح السور، والتحقق لأسرارها، [والمراد بها] ونحو العلم بسير الشمس والقمر وقطعهما للفلك، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَهَا }[يس:38]، وقوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ }[يس:39]، إلى غير ذلك من النظر في العالم العلوي، فإن هذه الأشياء كلها مما لا يجب علينا علمها، ولا يتوجه فيها تكليف، فلهذا وسع على الخلق في جهلها، كما أشار إليه عليه السلام في كلامه هذا؛ إذ لا مصلحة هناك .
(وَبَيْنَ مُثْبِتٍ فِيْ الْكِتَابِ فَرْضُهُ، مَعْلُوْمٌ فِيْ السُّنَّةِ نَسْخُهُ): وهذه صفة، إشارة إلى جواز نسخ الكتاب بالسنة خلافاً لما قاله الشافعي من منع ذلك، وإلى جواز نسخ السنة بالكتاب خلافاً للشافعي، فإنه منع من ذلك، وهذا فاسد، فإن القرآن والسنة أدلة للشرع كلها، وهي متلقاة من جهة الرسول عليه السلام، فإذا جاز نسخ القرآن بعضه ببعض [والسنة بعضها ببعض] ، جاز ذلك في القرآن والسنة أيضاً من غير فرق، والقرآن قد نسخ ما ثبت بالسنة، فإن استقبال بيت المقدس كان ثابتاً بالسنة ، فنسخ بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }[البقرة:144]، والسنة قد نسخت القرآن، فإن قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ }[النساء:15]، قد نسخ بقوله: ((البكر بالبكر جلد مائة ، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة) )) .
(وواجب في السنة أخذه، مرخص في الكتاب[تركه] ): يعني أن وجوبه كان معلوماً بالسنة، لكنه نسخ بالكتاب بأن رخص في تركه، وهذه هي فائدة النسخ ومعناه.
(وبين واجب لوقته، وزائل في مستقبله): إشارة بما ذكره إلى العبادات المؤقتة بأوقاتها، فإن وجوبها مشروط بحضور وقتها، وبعد زوال الوقت يزول الوجوب لا محالة، وهذا كالصلاة والصيام، فإن لهما أوقاتاً محدودة لا يتجاوزها فإن وجدت فيه وإلا زال وجوبها، فإن دل دليل [بعد ذلك] على وجوب القضاء وجب وإلا فلا.
(ومباين بين محارمه): يريد أن ما كان من ذلك محرماً فهو متباين في نفسه، تحريمه.
(من كبير أوعد عليه نيرانه): من ها هنا دالة على التبعيض، أي بعض ذلك من جملة الكبائر الموبقة الكفرية أو الفسقية التي استحق الوعيد على فاعلها بإدخاله النار وخلوده فيها.
(أو صغير أرصد له غفرانه): الإرصاد: الإعداد، وأراد بأرصد أعد، وهيأ لها الغفران، وهذا فيه دلالة على أن الكبيرة لا تكفرها إلا التوبة، وأن الصغيرة يكفرها الثواب، كما قاله المتكلمون، ودال أيضاً على تحقق الوعيد وعلى إيصال العذاب إلى مستحقيه من كافر أو فاسق خلافاً لأهل الإرجاء.
(وبين مقبول في أدناه ، [و] موسع في أقصاه): أراد أن بعض الطاعات أدناه وأحقره مقبول، وهذا نحو الصدقة وقراءة القرآن فإن أدناهما مقبول بكل حال كالتمرة من الصدقة، والحرف الواحد من القرآن، وأعلاه موسع في تركه فإن أقصاه بلا نهاية فلا ينال، فلهذا وسع الله في تركه، وكلمة بين في هذه التقسيمات ظرف مكان، وهو مجاز، وخبر لمبتدأ تقديره: أحكام القرآن وعلومه بين هذه الأقسام، ثم ختمها بإبانة فرض الحج، بقوله:
(فرض عليكم حج بيته): لأنه من فرائض الدين، وأحد شعائر الإسلام.
(الذي جعله قبلة للأنام): إما قبلة يستقبلونه في صلاتهم، كما قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }[البقرة:144]، وإما قبلة يأمونه في إحراز منافعهم، ومثابة يرجعون إليه في قضاء مآربهم.
(يردونه ورود الأنعام): ورد الماء إذا استقاه وأخذه، وإنما قال: ورود الأنعام؛ لأنها أسرع ما يكون سيرها للماء من شدة العطش، كما قال تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ }[الواقعة:55].
(ويألهون إليه ولوه الحمام): الوله: التحيُّر وذهاب العقل، قال الأعشى :
وأقبلت والهاً ثكلى على عجل ... كل دهاها وكل عندها اجتمعا
وفي الحديث: ((لا تُوَّله والدة بولدها ))، وإنما قال: ولوه الحمام؛ لأنها أشد الطيور وَجْداً على أولادها، ومنه ناقة وَلْها، وهي التي يشتد وجدها على ولدها.
(جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته): لما فيه من التواضع بكشف الرأس والكف والتبذل بلبس ما ليس بزينة، وتعفية الشعور، وهجران الطيب وغير ذلك، وكل هذا تواضع لعظمة الله تعالى، وانحطاط لجلاله وتقرباً إليه.
(وإذعانهم لعزته): الإذعان هو: الخضوع والذلة، والغرض أن فعل هذه الأمور كلها من أجل الخضوع والتذلل لعزة الله.
(واختار منهم سمَّاعاً أجابوا إليه دعوته): الضمير في قوله: منهم للأنام، أي اختار من الخلق سمَّاعاً وهم جمع سامع مثل جاهل وجهال، امتثلوا أمره حين أمرهم بالقصد إليه، كما قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }[الحج:29]، وأجابوا دعاءه ونداءه لما دعاهم بقوله: {وَأَذّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً }[الحج:27].
(وصدقوا كلمته): بالتلبية لما ناداهم، وبالانقياد لما أمرهم.
(ووقفوا مواقف أنبيائه): لأن جميع الأنبياء والرسل الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه الكريم، وبلغنا عددهم على لسان نبيه قصدوا هذا البيت، وعظموا شعائره.
(وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه): يعني أن طواف المؤمنين بالبيت وإحداقهم حوله تعظيماً له، شبه طواف الملائكة بالعرش تعظيماً له، وناهيك بهذا فضلاً تشبههم بالملائكة.
(يحرزون الأرباح في متجر عبادته): أراد أن من وصف حاله قد أحرز الأرباح، وهي الثوابات العظيمة في مكان العبادة، وهو متجرها الرابح.
(ويتبادرون عند موعد مغفرته): بدر الشيء وابتدره إذا أسرع إليه، وابتدروا بالسلاح أي سارعوا في أخذه، والغرض ها هنا هو المسارعة لمن ذكره موعد الله بالمغفرة، وهو حط الذنوب وتكفيرها عنهم، ثم استأنف وصفه بغير ذلك، بقوله:
(جعله الله للإسلام علماً): العلم: المنار في الطريق، قال:
كأنَّه علمٌ في رأسِهِ نَارُ
فالحج كالعلم في أركان الدين.
(وللعايذين حرماً): إما إنه لايدخل إليه إلا بإحرام لحج أوعمرة، وإما لأنه حرم لايصاد صيده، ولا يعضد شجره، وإما لأنه موضع إحرام المتمتع أو لأهله، فكل ما ذكرناه محتمل فيه، ولهذا خصه بالعايذين إشارة إلى ما ذكرناه.
(فرض حجه): بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }[آل عمران:97].
(وأوجب حقه): بقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }[الحج:29].
(وكتب عليهم وفادته): وفد الرجل يفد إذا جاء رسولاً وفداً ووفوداً، والاسم منه هو الوفادة بكسر الفاء وفتحها، والأكثر كسرها، وقد أوجب الله وروده، بقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }[البقرة:196]، وغير ذلك من الآيات، ثم تلى هذه الآية:
({وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران:97]): فحصلت في كلامه واسطة لعقده، وزيادة في رشاقة قدِّه .
(2) ومن خطبة له عليه السلام بعد منصرفه من (صفين)
(أحمده استتماماً لنعمته): مضى تفسير الحمد، واستتماماً منصوب على المفعول له أو حال منه؛ لأن الحمد على النعمة يكون سبباً لتمامها، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }[إبراهيم:7][والزيادة فيها] .
(واستسلاماً لعزته): انقياداً لعظمته.
(واستعصاماً من معصيته): عصمه إذا منعه، ومنه عصام القربة؛ لأنه يمنع الماء من الخروج، وهو الحبل الذي يسد به فوها، وهو مجاز ها هنا؛ لأن الحمد يكون سبباً في الامتناع من المعصية لما فيه من الطاعة لله تعالى، فلهذا كان سبباً ولطفاً في ذلك.
(وأستعينه فاقةً): الفاقة هي: الفقر والحاجة، وأستعينه أطلب إعانته، وقد جاء معدَّى بالباء، كقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ }[البقرة:45]، و{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ }[الأعراف:128]، وبنفسه كقوله ها هنا: وأستعينه، وكلاهما جار فيه، أعني التعدية واللزوم، وأسند فاقتي وحاجتي.
(إلى كفايته): والكفاية مصدر كفاه كفاية، إذا احتمل مؤنته.
(إنه لا يضل): عن طريق الحق ويميل عنها.
(من هداه): بفعل الألطاف الخفية.
(ولا يئل): ولا ينصلح من آل ماله يئله إذا أصلحه، ومن آل إذا نجا أي لا يئل لا يجد ملجأ أصلاً.
(من عاداه): والمعاداة من جهة الله تعالى، إنما هي إرادة إنزال المضار، كما قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ }[البقرة:98]، أي يريد إنزال المضار بهم والعقوبات، والموالاة لأحبائه هي إرادة إنزال المنافع لهم، كقوله تعالى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا }[الأعراف:155].
(ولا يفتقر): ولا يحتاج.
(من كفاه): من احتمل أمره ومؤونته.
(فإنه): الضمير للحمد.
(أرجح ما وزن): من الأعمال الصالحة في ميزان الخيرات.
(وأفضل ما خزن): خزنت المال إذا جعلته في الخزانة، والمعنى أن أفضل ما خبأه الإنسان ليوم حاجته.
اللَّهُمَّ، اجعلنا من الحامدين في السراء والضراء، والشاكرين على الشدة والرخاء.
(وأشهد أن لا إله إلا الله): شهادة لله بالوحدانية وإقراراً له بالربوبية، كما قال عليه السلام:
((الخطبة بلا شهادة كاليد الجذماء )) .
(شهادة): مصدر مؤكد لقوله: أشهد، كقولك: ضربت ضرباً.
(ممتحناً): امتحنت فلاناً إذا اختبرته ، والاسم منه هو الممتحن، والمصدر هو الامتحان، وممتحناً ها هنا يحتمل أن يكون اسم مفعول، منصوب على أنه صفة لشهادة، أي شهادة امتحن الله:
(إخلاصها): عن كل ما يشوبها من الرياء وغيره، ويحتمل أن يكون اسم فاعل أي [أني] اختبرت إخلاصها من نفسي فوجدته حاصلاً.
(معتقداً): أي رابطاً قلبي، ومنطوياً ضميري على.
(مصاصها): وهو خالصها الذي لا يشوبه شائب، ومعتقداً كما يصح أن يكون اسم فاعل أي أنا معتقد فقد يكون اسم مفعول أيضاً وفاعله، المصاص.
(نتمسك): مسك بالشيء، وأمسك به، واستمسك كلها بمعنى إذا اعتصم به.
(بها): أي بالشهادة.
(أبداً): على الاستمرار لا ينقطع ذلك.
(ما أبقانا): ما ها هنا زمانية مثلها في قولك : انتظرني ما جلس القاضي، أي مدة جلوس القاضي، والمعنى زمان بقائنا وأوقاته.
(وندخرها): دخره يدخره، وادَّخره [يدَّخِره] إذا خبأه وجعله ذخيرة له، وعلى الوجهين جميعاً يحمل قوله: وندَّخرها أي نخبأها .
(لأهاويل): جمع أهوال، وأهوال جمع هول نحو نعم وأنعام وأناعيم، وهو جمع الجمع، وهو يرد كثيراً في أبنية القلة.
(ما يلقانا): في مستقبل أعمارنا في الدنيا وفي الآخرة، فإنه يحتملهما جميعاً.
(فإنها): الضميرللشهادة.
(عزيمة الإيمان): قاعدة من قواعده، وأصل من أصوله.
(وفاتحة الإحسان): من عند الله تعالى بمضاعفة الثواب وإعظام الأجر عليها، بما يلحق ذلك من الإحسان تفضلاً منه تعالى.
(ومرضاة الرحمن): لما فيها من إخلاص التوحيد لله تعالى، والاعتراف بالإلهية، وفيها معظم الرضى.
(ومدحرة الشيطان): الدحور هو: الطرد والإبعاد، قال تعالى: {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا }[الصافات:8-9] أي دفعاً وإبعاداً، والمدْحرة مصدر دحر، كما أن المسعاة مصدر سعى، وهكذا المرضاة أيضاً مصدر رضى.
سؤال؛ لِمَ أدخل الفاء في مدح الشهادة في قوله: فإنها عزيمة الإيمان، وحذفها في قوله: إنه لايضل من هداه، وهما مستويان، وتوسطهما بين جملتين؟
وجوابه؛ هو: أن هذا الحرف وهو إن إذا كان متوسطاً بين جملتين، وكانت رابطة للأولى بالثانية كأنهما قد أفرغا في قالب واحد، فإنه يقبح دخول الفاء ها هنا، ولهذا لم يحسن دخولها في قوله: إنه لايضل من هداه، لما ذكرناه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }[الحج:1]، وقوله تعالى: {لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }[طه:46]، وهذا في كتاب الله تعالى أكثر من أن يحصى، فأما إذا كانت الجملة الثانية قد انقطعت عن الأولى وصارت منفصلة عنها، فإنه يحسن دخول الفاء، ولهذا حسن دخولها في قوله: فإنها عزيمة الإيمان، ومن هذا القبيل، قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ }[الحج:46]، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }[الأنبياء:98]، فإنها لما كانت منقطعة عمَّا قبلها جاز دخولها عليها، وفي كلامه هذا دلالة على أنه عليه السلام قد أحاط بعلوم البلاغة عقده وملكه، واستولى على أسرار الفصاحة سلطانه وملكه.
(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله): هاتان الشهادتان توأمان لا يكمل الإيمان إلا بهما، ولاتسلم الرقاب عن القتل والأموال عن التغنم والأخذ إلا بالإقرار بهما.
(أرسله بالدين): جعله رسولاً، الباء في قوله: بالدين يحتمل أن تكون للإلصاق مثلها [في قوله] : كتبت بالقلم، ويحتمل أن تكون للحال أي دالاً على الدين مثلها في قولك: خرجت بسلاحي أي متسلحاً.
(المشهور): الذي لا ينكره أحد بلغه، لما فيه من المصالح الملائمة للعقول، أو المقطوع بصحته لقوة براهينه.
(والعلم المأثور): أراد بالعلم توحيده تعالى والإقرار بربوبيته وغير ذلك، مما اشتمل عليه قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى }[النجم:10]، وأراد بالمأثور ما أبلغه من علم الأنبياء قبله، وفي بعض النسخ: (والَعَلَم) بفتح اللام، ولا معنى له هاهنا.
(والكتاب): يعني القرآن .
(المسطور): المكتوب، والسطر: الكتب.
قال رؤبة :
واعلم بأن ذا الجلال قد قدر ... في الصحف التي قد كان سطر
(والنور): مجاز ها هنا، وحقيقته الضياء، وهو هنا عبارة عن العلوم والأحكام التي جاء بها الرسول.
(الساطع): المرتفع، ومنه سطع الفجر إذا ارتفع وعلا.
(والضياء): وهو كل ما أضاء وظهر ضوؤه.
(اللامع): لمع البرق إذا ظهر ضوؤه مرة بعد أخرى.
(والأمر): وهو البيان العظيم، يقال: جاءهم الأمر لا قوة لهم به، يريد شأناً عظيماً لايوصف حده.
(الصادع): الذي يفرق بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ }[الحجر:94] فأصله الشق.
قال الفراء : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر }[الحجر:94] أي اظهر دينك.
(إزاحة للشبهات): زاحه وأزاحه إذا أماله، وانتصابه على المفعول [له] ، والشبهة: ما كان على خلاف الحق، وإنما سميت شبهة، لأنها تلبس بالحق، ولهذا زلَّ فيها من زلَّ.
(واحتجاجاً للبينات ): أي أرسله وبعثه محتجاً للأحكام الباهرة، وهو ما ظهر عليه من الشرائع.
(وتحذيراً بالآيات): أراد بالآيات إما آيات القرآن فإنها متضمنة للتخويف والإنذار لعقاب الآخرة، وإما الآيات المفتوحة على الأنبياء من أممهم، والمعنى أن الله تعالى قدمها تحذيراً لهم من العقاب، فإنهم [لما] لم يخافوا وقع عليهم العقاب لا محالة.
سؤال؛ لِمَ عدَّى مصدر الاحتجاج باللام، فقال: احتجاجاً للبينات ، وعدَّى مصدر التحذير بالباء، فقال: وتحذيراً بالآيات، وما وجه المخالفة بينهما؟
وجوابه؛ هو أن المراد بالبينات الأحكام والشرائع، والغرض هو الاحتجاج لها، والتقرير لقواعدها بالأدلة، فلهذا دخلت اللام دالة على أن الغرض هو إظهار الاحتجاج لأجل البينات، بخلاف التحذير فإن الغرض إلصاقه بالآيات، فلهذا جاءت فيه الباء، فلهذا فصل بينهما لما ذكرناه.
(وتخويفاً لِلْمَثُلاَتِ ): وهي العقوبات، كما قال الله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ }[الرعد:6] يعني عقوبات من مضى قبلهم بالرجفة، والصيحة، وأنواع البلايا.
(أرسله والناس في فتنة ): جملة ابتدائية في موضع الحال، كما تقول: جاء زيد والناس يضحكون، والفتنة هي: الابتلاء والامتحان من قولهم: فتنت الذهب إذا خبرت جودته ورداءته.
(انجذم فيها): انقطع، وسمي المجذوم مجذوماً لانقطاع أوصاله.
(حبل الدين): متمسكاً به ، وهي التي يتوصل بها إلى إثباته، فوضع الحبل مكانها لما كان وُصلة إلى غيره، وانقطاعه إنما كان من بعد الأنبياء واندراس آثارهم.
(وتزحزحت ): تنحت ومالت، كقوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ }[آل عمران:185].
(سواري): السواري هي: الدعائم والأساطين التي عليها قواعد البناء.
(اليقين): هوالأمرالمتيقن المتحقق [حاله] .
(واختلف النجر): النجار والنجر هو: الأصل والحسب، أراد أن أصل كل شيء من الأديان والشرائع مختلف، ليس موضوعاً في مستقره لاستيلاء الجهل بأهله.
(وتشتت الأمر): أي تفرق، وليس له جامع، ولا يشمله رابط.
(وضاق المخرج): عن ظلمة الجهل لفقد العلم.
(وعمي المصدر): وهو الذهاب بغير دليل ولا مرشد.
(فالهدى خامل): الذكر لعدم من ينشره.
(والعمى شامل): لا ستيلائه وكثرته.
(عصي الرحمن): بارتكاب محارمه، وترك أوامره.
(ونصرالشيطان): باتباعه وتحصيل مراداته.
(وخذل الإيمان): بترك التزام أحكامه.
(فانهارت دعائمه): أي تهدمت من هاره إذا هدمه، لأجل عدم ناصريه.
(وتنكرت): صارت منكورة لا تعرف.
(معالمه): المعالم هي: المعاهد والربوع، وإنما قيل لها: معالم لكثرة تحققها وثباتها.
(ودرست): امتحت، ومنه ثوب دارس، وطريق دارس إذا كان لا يُسْلَكُ.
(سبله): أي طرقه ومسالكه فلا يعرف لها أثر لعدم من يسلكها ويعبر فيها.
(وعفت): اندرست وهلكت.
(شُرُكُه): الشرك: جمع شركة مثل ملكه وملك، وهو معظم الطريق ووسطه، فإذا كان معظمه هالك مندرس فكيف حال جوانبه، ومراده من ذلك هو حصول هذه الأمور كلها لفقد الأنبياء ومن يدعو إلى الخير، وفيه شحذ للهمم في اقتفاء طريق الأنبياء، واتباع آثارهم، وتحريك لعزائم العلماء في ذلك.
(أطاعوا الشيطان): بتحصيل مراداته والانقياد لأمره.
(فسلكوا مسالكه): فاقتفوا آثاره، ونهجوا طرقه.
(ووردوا مناهله): وشربوا من حياضه، وكرعوا فيها، وارتووا من آجنها.
(بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه): سير الأعلام، وهي: البنود، وقيام الألوية وهي الرايات، استعارة ها هنا عن استقامة الأمر وثبوته وتمكنه واستحكام نفوذه؛ لأن هذه الأمور متى كانت مستقيمة فأحوال العسكر مستقيمة، وأمرهم نافذ، وعزيمتهم ماضية، وريحهم متحركة، فهذه الأمور كلها حاصلة.
(في فتن): جمع فتنة.
(داستهم): دقتهم.
(بأخفافها): كما يدوس البعير بخفه.
(ووطئتهم): همستهم.
(بأظلافها): كما تدوس البقر بأظلافها.
(وقامت): يعني الفتن.
(على سنابكها فيهم): الخف للجمل، والظلف للبقر، والسنبك للفرس وهو طرف مقدم الحافر، واستعار ذكر هذه الأشياء كلها ليدل بها على أن الفتن قد طحنتهم بكلاكلها واستقرت قواعدها فلا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً.
(فهم فيها تائهون): ذاهبون في الحيرة كل مذهب.
(حائرون): مقيمون في الفتنة، لا يجدون مسلكاً يسلكونه.
(جاهلون): بما يكون فيه النجاة، عمَّا هم فيه.
(مفتونون): ممتحنون بأنواع هذه البلاوي، ساكنون:
(في شر دار): إما الدنيا لكثرة ما يعرض فيها من ضروب المحن، وإما مواضعهم حيث كانوا في هذه الفتن مقيمون فيها.
(وشر جيران): حيث لم ينفعوهم فيما وقعوا فيه، وشر جار من لا ينقع الغصص عن اشتجارها .
(نومهم سهود): سهد يسهد سهوداً إذا قل نومه، فنومهم شارد قليل لما دهمهم من هذه الأمور.
(وكحلهم دموع): أراد ما يكتحلون من شدة الأمر وهوله إلا دموعهم، وقوله عليه السلام: وكحلهم دموع، مثل قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع، ومن قولهم: تعليقها الأسراج والألجام، ومن قولهم:
بدت قَمَراً ومالت خَوطَ بانٍ
وفاحت عنبراً وَرَنَتْ غزالاً
وهو من علوم البيان تلفت بالتدبيج أخذاً له من الديباج، مقيمون :
(بأرض): وإنما نكرها لما في تنكيرها من الفخامة، كأنه قال: بأرض وأي أرض في الشر واحتمال المكروه.
(عالمها ملجم): فلا ينطق استهانة بكلامه، وركة في حاله عندهم.
(وجاهلها مكرم): لانقيادهم لأمره واحتكامهم لقوله، كما قال عليه السلام في شعره:
فوزنُ كلّ امرئٍ ما كان يُحْسِنُهُ
والجاهلون لأهلِ العلمِ أعداءُ
ثم وصف [الآل ] بقوله:
(هم موضع سره): أراد أنهم مكانه ومحله؛ لأن السر إنما يكون في أهل النظافة والخاصة، ولهذا قيل في الأنصار: كانوا كرشاً وعيبة للرسول عليه السلام.
(ولجأ أمره): ومستنده في الأمور كلها، من قولهم: لجأت إلى كذا، أي استندت إليه.
(وعيبة علمه): العيبة: وعاء البز، واستعاره ها هنا لأنهم موضع علمه كما كانت العيبة موضعاً للبز، وحافظة له، منهم يؤخذ العلم، وإليهم يرجع فيه.
(وموئل حكمه): وآل إلى كذا إذا لجأ إليه، والموئل هو: الملجأ، ومعناه أنهم يلجأ إليهم في الأحكام كلها وتستنهض من جهتهم.
(وكهف كتبه): الكهف: النقر في الجبل كالخزانة، ومراده هاهنا أنهم موضع كتبه، وأراد بالكتب العلم؛ لأنه يحفظ بالكتابة، ويحرس عن الإهمال والضياع.
(وجبال دينه): أراد أنهم يلاذ بهم عن المهالك كما يلاذ بالجبال بالتحرز، أو أن جانبهم مرتفع كارتفاع الجبال، وعزهم شامخ شموخ الجبال، فلا مسامون حقاً في أديانهم، فالاستعارة محتملة لما ذكرناه.
(بهم أقام): الضمير في أقام يحتمل أن يكون لله تعالى، أي أن الله تعالى أقام بهم، ويحتمل أن يكون للرسول أي أنه أقام بهم، والأول أوجه الأمرين؛ لأن ذلك من جملة ألطاف الله تعالى بهم، حيث جعلهم على هذه الصفة.
(انحناء ظهره): اعوجاجه.
(وأذهب ارتعاد فرائصه): وأزال حركة فرائصه، والفريصة: اللحمة بين الجنب والكتف من الدابة التي لاتزال ترعد، والفرائص: عروق الأوداج في العنق، والغرض من هذا هو أن الله تعالى قوَّى أمره، وشدَّ عضده، وقوَّى أزره بالآل.
ثم أردفه بما يناقض هذه الصفات من حال غيرهم، وأظن أنه يشير به إلى بني أمية، فقال عليه السلام:
(زرعوا الفجور): جعلوا بذره في أراضي مكرهم وعنادهم.
(وسقوه الغرور): لأن البذر لاينبت إلا بالسقي، فجعلوا سقيه ماء الغرور بالأهواء، واستحكم الفجور في الأفعال، والغرور بالأهواء.
(فحصدوا الثبور): فكان الْجُذاذ هو الخسران والهلاك، يقال: ثبر ثبوراً أي خسر وهلك، كما قال تعالى: {لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا }[الفرقان:14].
وقوله عليه السلام: سقوا الغرور، فحصدوا الثبور، مع قوله: زرعوا الفجور من باب توشيح الاستعارة؛ لأنه لما استعارالزرع عقَّبه بما يلائمه من السقي والحصد، وهذا كقوله تعالى: {اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ }[البقرة:16] فإنه من علم البلاغة لبدرها المنير، وفلكها المستدير.
(لا يقاس بآل محمد [صلى الله عليه وآله] غيرهم من أحد من هذه الأمة ): يشير بكلامه هذا إلى بني أمية، وهيهات هيهات! أين الغَرَب عن النبغ! والحصى عن المرجان! ولا يستوي الخشب المعقد والدر المنضد! ، ولا الإبريز والإرزيز! وشتان ما بين رماد الكير، وخلاص الذهب الأكبر!
(لا يسوَّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ): يشير بذلك إلى أمرين:
أما أولاً: فلما عليهم من المنة به باصطفاء الرسول ودعاؤه لهم إلى الإسلام، فإن هذه منّة لاتشبه المنن، ونعمة لاتشبه النعم.
وأما ثانياً: فلما كان من رسول الله من المنِّ يوم الفتح، وإطلاقهم عن الرق والأسر والقتل، حيث قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء )) ، فمن هذه حاله لا يقاس بهم غيرهم، وكيف يقاس بهم غيرهم، والمشابهة من جميع الوجوه منتفية فلا وجه إذن للمقاسة، إذ لا بد لحقيقة القياس من أن تقع عِليَّة، تكون مستندة إليه.
(هم أساس الدين): قواعده التي عليها يبنى، وإنما كرر ذكر الضمير وهو قوله: هم، لما فيه من مزيد الاختصاص، كأنه قال: لايختص بهذه الصفات سواهم، وهذا كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}[النجم:43-44]، فكرر الضمير دالاً به على أنه لا يختص بهذه الأمور إلا هو.
(وعماد اليقين): العماد: جمع عمد، وهي: الأخشاب التي يشد إليها حبال الأخبية.
(إليهم يفيء الغالي): إنما قدم الضمير لما فيه من الإيهام بذكرهم فاء إذا رجع، والغالي هو: الذي يزيد في الشيء ويكثر منه، كقوله تعالى: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ }[النساء:171]، كما غلت النصارى في عيسى فاعتقدوه إلهاً، ومعناه أن الغالي يرجع إليهم لما يأخذ من البصيرة فيرجع عن غلوه.
(وبهم يلحق التالي): هذا تلو لهذا، أي تابعه، قال تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا }[الشمس:2]، أي تبعها يعني الشمس، والمعنى في هذا أنهم المتقدمون لكل الخلق ومن عداهم تابع لهم وقافٍ على إثرهم.
(ولهم خصائص حق الولاية): الخصائص: جمع خصيصة، وهي عبارة عما يكون الإنسان مختصاً به، الولاية: بكسرالفاء مصدر كالإمارة، وهي عبارة عن النصرة، والوَلاية: بالفتح هي الاسم، وهي عبارة عن السلطان، والولاية ها هنا مفسرة في كلامه بالوجهين؛ لأن المعنى أنهم المختصون بالإمارة والسلطنة، وبالنصرة والاحتماء من بين سائر الخلق.
(وفيهم الوصية): يشير بهذا إلى نفسه؛ لأن الرسول عليه السلام قال: ((ووصيي ووزيري وخير من أخلفه لقضاء ديني علي بن أبي طالب)) .
(والوراثة): إن أراد وراثة العلم فهو يعني نفسه؛ لأنه نازل منزلته صلى الله عليه وآله وسلم في العلم والولاية بالخلق، وإن أراد وراثة النسب فهو يعني فاطمة فإنها بنته ووارثة بنسبها منه، وغرضه بالآل الذين أشار إلى فضلهم هو نفسه وولداه وفاطمة، فإن هؤلاء هم الآل باتفاق أهل البيت على ذلك، ومن تلاهم من أولادهم.
(الآن): أي هذا الوقت يشير إلى زمان خلافته.
(إذ رجع الحق إلىأهله): إلى مستحقيه، ومن كان [مستحقاً] أهلاً له من قبل غيره.
(ونقل إلى منتقله): وحول إلى أصله الذي كان له وموضعه ، والمنتقل: ما ينتقل إليه كالمضطجع لما يضطجع فيه.
دقيقة: اعلم أن ذكره للآل بعد ذكر بني أمية كلام جار على جهة الاستطراد، وهو كل كلام خرجت منه وأخذت في ذكر غيره مما لا يناسبه، ولا يكون بينهما ملابسة، وهو جار في كلام الله تعالى في مواضع كثيرة، وفي كلام الفصحاء.
(3) ومن خطبة له عليه السلام
المعروفة بالشقشقية وهي: من جلائل الخطب النفيسة على الاستعارات الرشيقة، والتمثيلات الحسنة، وفيها تنبيه على علو همته وارتفاع قدره، قال فيها:
(أما والله): أما هذه هي المحققة وهي دالة على التنبيه، وهي نظيرة ألا المحققة، كما قال تعالى : {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ }[يونس:62] {أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ }[الصافات:151] و{أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ }[فصلت:54] وغير ذلك.
قال:
أَمَا وَالذِي أَبْكَى وأَضْحَكَ، وَالَّذِي
أَمَاتَ وأَحْيا والذي أَمْرُهُ الأَمرُ
ويستعمل القسم بعدها كثيراً.
(لقد تقمصها): الضمير للإمامة أي لبسها لبس القميص، وهذه استعارة حسنة فا شتمل عليها كا شتمال القميص على البدن.
(فلان ): يشير به إلى أبي بكر، اللام في لقد هي المحققة للجملة الواقعة [بعدها] ، الموضحة لأمرها وشأنها، كأنه قال: لقد اختص بها اختصاصاً ظاهراً، لايشك فيه أحد وانفرد بها قطعاً.
(وإنه ليعلم): ليتحقق تحققاً لاريب فيه.
(أن محلي منها): مكاني من الإمامة ومنزلتي منها، من ها هنا كالتي في قولك: منزلتك من فلان قريبة لابتداء الغاية.
(محل القطب من الرحى):مكان القطب: وهي حديدة تدور عليها الرحى للماء، ومن هذه حاله فإنه لأهل لها، وإني لها كالجبل الذي.
(ينحدر عني السيل): لارتفاعه وعلو سمكه، والسيل إنما يستقر على الحضيض وقرار الأرض.
(ولا يرقى إليَّ الطير): لشموخه وارتفاع حجمه، والطير إنما يحلق إلى مقدار الأبنية المتقاصرة، فلما رأيت ما رأيت من الاستبداد زعماً للأولوية والإعراض عني، وتركه اعتماداً على الأحقية.
(فسدلت عنها ثوباً): سدل الثوب إذا أرخاه على منكبيه، من غير أن يرده عليهما، أو على أحدهما.
(وطويت عنها كشحاً): والكشح: مابين الخاصرة والضلع الخلف، وهذا كلام جعله كناية عن الإعراض عنها، وتركها والإقبال على غيرها، كما جعل قوله: فلان يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، كناية عن التحير، وقولهم: فلان يخبط على الماء، وينفخ في غير ضِرَمِ، كناية عن الاشتغال بما لا يجدي ولايعود بنفع وغير ذلك، وهو يزيد الكلام بلاغة ويكسبه رونقاً وحلاوة.
(وطفقت): جعلت، قال الله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ }[الأعراف:22] أي جعلا.
(أرتئي): أفتعل من الرأي والتدبير، ومعناه جعلت أجيل رأيي، وأدبر في عاقبة أمري.
(بين أن أصول): صال عليه إذا استطال وعلا، وقد قيل: رب قول أشد من صول ، أي ربما كان الكلام أنفع في بعض الأحوال من المصاولة والاستطالة.
(بيد جذَّاء): اليد ها هنا هي: الجارحة، والجذَّاء هي: المقطوعة، والجذُّ: القطع، قال الله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }[هود:108] أي مقطوع، وهذاالكلام جعله كناية عن عدم الناصرله على ما يريده.
(أو أصبر): وأكظم غيظي:
(على طخية عمياء): الطخية: الظلمة، والطخية بالفتح: الكلمة التي لا يفهم معناها، وأراد بها ظلمة مظلمة وقضية مستعجمة لايفهم معناها، ولا يدرك منتهاها، وجعل هذا الكلام كناية عن صعوبة الحال وشدتها، واستفحال أمرها وامتداد زمانها ، حتى أنها.
(يهرم فيها الكبير): إذ ليس بعد الشيخوخة إلا الهرم.
(ويشيب فيها الصغير): إذ ليس بعد الكهولة إلا المشيب، وأراد بهذا الإبانة والإفصاح عن عظم حالها.
(ويكدح فيها ): يسعى ويعالج، كقوله تعالى: {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا }[الإنشقاق:6].
(مؤمن): أراد نفسه.
(حتى يلقى ربه): وهو على حالته، مستأثراً عليه بحقه، موَّلى عليه غيره، فلما كان أمري فيما أنا فيه لاينفك عن أحد هاتين الحالتين.
(فرأيت): فكان عاقبة نظري، ومنتهى تفكيري.
(أن الصبر على هاتا): وهي الطخية العمياء؛ لما فيها من سلامة الدين، وتسكين الدهماء، والإعراض عن زخرف الدنيا، ولذتها.
(أحجى): إما من قولهم: فلان أحجى بهذا، أي أخلق بها وأحق، وإما أخذاً لها من الحجا وهو العقل، أي أنها فعل ذوي الحجا؛ لأن من شأنهم الإعراض عن ما فيه شجار وخصومة.
(فصبرت): فحصل صبري على احتمال المكاره، والاصطبار لها.
(وفي العين قذى): القذى: ما يسقط في العين فيؤذيها، ومنه الحديث: ((يرى أحدكم القذى في عين صاحبه ، ولا يرى الجذع في عينه)) يريد أنه يتيقظ لصغير القبيح في غيره، ولا يتيقظ لكبير قبح فعله.
(وفي الحلق شجاً): الشجا: ما يعترض في الحلق
قال:
من يكدني بِسَبّي كنتُ منه ... كالشَّجا بَيْنَ حَلْقهِ والوريدِ
(أرى): أنظر بعيني، وأتحقق بقلبي:
(تراثي نهباً): التراث والورث واحد، والتاء بدل من الواو فيه، والنهب: ما ينتهب ويأخذه من شاء، ثم كانت هذه حالي وهجيراي، وعاقبة أمري:
(حتى مضى الأول): مات أبو بكر.
(لسبيله): لطريقه إلى الآخرة، وكان الموت طريقاً؛ لأن به يصل إليها لا محالة.
(أدلى بها): من قولهم: أدلى إليَّ بالقرابة، وغرضه أنه دفعها، وأدلى قد يأتي متعدياً بنفسه، كقوله تعالى: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ }[يوسف:19]، وتارة بحرف الجر، كقوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ }[البقرة:188]، وهاهنا استعمله متعدياً بالباء دلالة على ملاصقته لها بالدفع .
(إلى فلان بعده ): أراد عمر بن الخطاب، فإنه عقد له الخلافة بعده، وهذا لين عند المعتزلة أن الخمسة قد اختاروا أبا بكر وهو سادسهم، وعقدوا له، فلما صحت إمامته بالعقد، جاز أن يكون عاقداً لغيره، فلهذا صحت إمامة عمر عندهم عملاً على هذا؛ لأنه لما صار مختاراً بالعقد جاز أن يعقد ويختار لغيره، ثم تمثل ببيت الأعشى :
(شَتَّانَ ما يَوْمِي على كُورِهَا ... ويَوْمُ حَيَّانَ أَخي جَابرِ )
ولنذكر معنى البيت، وموضع الشاهد فيه:
أما معناه فقوله: شتان هو اسم من أسماء الأفعال، والمعنى إذا قلت: شتان زيد وعمرو، أي تباينا وافترقا، ويستعمل على وجهين:
أحدهما: وهو الأكثر الأعرف عند أئمة اللغة: شتان زيد وعمرو، وشتان ما زيد وعمرو، وعلى هذا ورد البيت للأعشى.
وثانيهما: أن يقال: شتان ما بين الزيدين، وشتان ما بينهما، أي بعد ما بينهما، وعلى هذا ورد قول من قال:
لَشَتَّان ما بين اليزيدين في النَّدى
يزيد سليم والأغرّ بن حاتم
فأما الأصمعي( ) فأنكر هذا ورده، ولم يستبعده آخرون؛ لأن الغرض من هذا بَعُدَ ما بينهما، وما زائدة، يومي فاعل شتان، والكور للناقة كالسرج للفرس، ويوم حيان عطف على ما قبله بالرفع أيضاً، وحيان وجابر كانا رئيسين من رؤساء بني حنيفة، والمعنى فيه ما أبعد ما بين اليومين اللذين مرا على رأسي، يوم ركبت ناقتي وعالجت مشقة السفر، ويوم استقر في المكان عند حيان في خفض العيش والدعة والكرامة والجائزة العظيمة من حيان، يمدحه بذلك ويشكره، وكان سيداً في بني حنيفة.
وحكي أنه عِيْبَ على الأعشى؛ لأنه نسبه إلى أخيه في الاشتهار، مع كونه غنياً عن ذلك لشرفه في نفسه من غير حاجة إلى ذكر أخيه، فاعتذر الأعشى بالقافية، فلم يعذره في ذلك .
فأما موضع الشاهد من البيت، فإنما أورده عليه السلام لأحد غرضين:
أحدهما: أن المراد ما أبعد ما بين حالتي مع رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] وفي إدنائي وتقربي منه، وبين حالتي الآن في إبعادي وإقصائي عن الأمر.
وثانيهما: أن يكون غرضه ما أبعد حالي عن حال عمر، فإذا عقدت له مع أن حاله لايبلغ إلى حالي، فكنت أحق بالعقد منه وأولى، وهذا جيد، ولهذا تمثل به عليه السلام عقيب قوله: فأدلى بها إلى فلان بعده، وهذا يقوي ما قلناه.
(فيا عجبا!): أصله إما يا عجبي وأبدلت الألف من الياء، وإما يا عجباه فطرحت هاء السكت عند الوصل، والمعنى: ياقوم عجباً لهذا الأمر، واستعجاباً منه.
(بينا): [هي بين] لكن أشبعت الفتحة فنشأت الألف، ويزاد عليها ما، فيقال: بينما، والمعنى تعجبي حاصل بين أوقات استقالته لها في حياته، وتليه الجملة الإبتدائية، ومنه قولهم: بينا رسول الله واقف، بينا زيد قائم إذ جاء فلان.
(هو يستقيلها في حياته): الضمير في يستقيلها للإمامة، وفي حياته يعني أبابكر، والاستقالة: طلب فسخ العقد السابق، كالاستقالة في البيع؛ لأن أبا بكر كان يقول في بعض الأوقات في خلافته: أقيلوني فلست بخيركم، فلهذا قال عليه السلام: العجب من حاله إذا كان يستقيلها في حياته، فكان من حقه ترك الأمر، وإهماله عند الموت من غير مثابرة إلى إمالتها إلى الغير وتخصيصه بها.
(إذ عقدها لآخر بعد وفاته): يشير إلى عهد أبي بكر إلى عمر، وقوله بعد ذلك: لشد ما تشطر، اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وأراد على جهة الإنكار لقوله: يستقيلها.
(لشدّ ما تشطر ضرعيها): شدَّ عضده إذا قوَّاه، قال الله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ }[ص:20]، واللام في قوله: لشد هي المحققة للجملة، مثلها في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ }[الحجر:97]، وما هاهنا مصدرية، وهي وما بعدها فاعلة لشدّ، وتشطر فعل وفاعله أبو بكر، وشطر الشيء: نصفه، وشطره: بعضه، وفي المثل: أحلب حلباً لك شطره ، وهو هاهنا مستعار من الناقة؛ لأن لها ضروعاً أربعة اثنان مقدمان ، واثنان مؤخران، كل ضرعين فيها يسميان خِلْفاً ، وكل خلف يقال: شطر، والمعنى [فيه] أن أبا بكر قد حلب شطرها ، يعني الخلافة برهة من الزمان ومزَّ أخلافها، وعصر بلالتها مدة حتى إذا دنا موته نحاها عني:
(فصيَّرها): جعلها:
(في حوزة خشناء): الحوزة: هي الجانب من الشيء، وإنما سمي الجانب حوزة؛ لأن الإنسان يحوزه بوقوفه فيه وشغله له، وأراد بالحوزة جانب عمر حين عهد إليه بالخلافة وجعلها له.
(يغلظ كَلْمُهَا): الغلظ: خلاف الرقِّة، والكَلْمُ: الجرح، قال:
وكَلْمُ السيفِ تدملَه فيبرا ... وكَلْمُ الدهرِ ما جَرَحَ اللسانُ
(ويخشن مسُّها): الخشن: خلاف الملاسة، والمسُّ: هو الجسُّ باليد، وهو مستعار ها هنا استعارة رشيقة، والمعنى هو أن عمر لما علا ذروة الخلافة وملك زمامها وقع في شدائد، وألم به خطوب عظيمة، تدهش الحليم، ويذهل عنها اللبيب، وكنى عن هذا بغلظ الكلم وخشن المس إشارة إلى ما قلناه، وهي كناية عجيبة، لايفطن لها إلا هو.
(ويكثر العثار [فيها] ): يشيربه إلى المطاعن التي وقعت في خلافته.
(والاعتذار منها): يريد أنه قد عثر واعتذر عن عثراته، ولنشر إلى طرف من ذلك:
أولها: أنه رجم حاملاً، فقال له أمير المؤمنين: هب أن لك سلطاناً عليها، فما سلطانك على مافي بطنها. فأمسك، وقال: لولا علي لهلك عمر .
وثانيها: أنه كان يمنع من المغالاة في المهور في خطبه فنبهته امرأة، فقالت له: إن الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا }[النساء:20]، فاعتذر عن ذلك وقال: كلكم أفقه من عمر، حتى المخدَّرات في البيوت .
وثالثها: أنه أخبر بقوم يشربون الخمر فتسور عليهم، فقالوا له: أخطأت في ثلاث: منها أن الله تعالى نهى عن التجسس وقد فعلته، ومنها أنك دخلت بغير أذن، ومنها أنك لم تسلم ، فا عتذر إليهم في ذلك، وغير ذلك من القضايا الاجتهادية التي ارتبك فيها، وأخذ الحكم فيها من أمير المؤمنين، وهي ظاهرة مروية في كتب الفقه ، فهذا هو مراده بقوله عليه السلام: ويكثر العثار والاعتذار منها، فإذا كان الأمر كما قلنا من مقاساة الأمورالشديدة والخطوب الصعبة بتحمل الخلافة، والقيام بأعبائها.
(فصاحبها): الضمير إما للحوزة؛ لأنه هو السابق في الذكر، وإما للخلافة؛ لأنها هي المعهودة بالذكر، فيما يلاقي من خطوبها وأثقالها:
(كراكب الصعبة): يشبه حاله حال من ركب ناقة نفوراً غير مذللة فهو فيما يكابد من عنائها، إما أشنق لها والإشناق: هو جذبها بزمامها، فإذا جذبها بزمامها وهي تنازعه رأسها خرم أنفها.
(إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحَّم): الأصل في تقحم تتقحم لكن حذف أحد التائين على جهة التحقيق، يقال: أشنق لبعيره وأشنقه يتعدى ولا يتعدى، وإما أرخى لها رسنها مع صعوبتها، فإذا فعل ذلك تقحمت عليه ولم يملكها وأسلس لها إذا أرخى زمامها، وسلس بوله وأسلسه يتعدى بكل حال، وإنما قال: أسلس لها، والقياس فيه التعدية ليطابق قوله: أشنق لها، لما كان فيه الأمران التعدية و تركها، وهذا الكلام يعني به عمر، وهو المراد بقوله: فصاحبها، والمعنى في هذا هو أنه لما صارت الخلافة إليه كان في معاملته للناس بين أمرين: إما حمل الناس على المكروه، وعلى خلاف ما يريدونه، أدى ذلك إلى فسادهم وتظالمهم، وإما تركهم وآراءهم أدى ذلك إلى بطلان أمره وفساده بتقحمهم عليه، وإنما حملناه على هذا ليكون المثال مطابقاً لممثوله في ركوب الصعبة التي أوردها، فلما عهد إليه أبو بكر في الخلافة وصيرها فيه:
(فمني الناس -لعمر الله-): ابتلي الناس في تلك المدة، ولعمر الله قسم، وهو مرفوع على الابتداء، وخبره قسمي وهو محذوف، ومعناه البقاء والدوام، يقال: عمر الرجل يعمر عمراً وعمراً إذا عاش طويلاً، فكأنه قال: أحلف ببقاء الله ودوامه.
(بخبط): سير على غير طريق.
(وشماس): شمس الفرس إذا منع صاحبه عن الركوب، والغرض من هذا هو أنهم عدلوا عنه فخبطوا في غير طريق وحالوا بينه وبين حقه ومنعوه، ولهذا قال: بخبط وشماس يشير به إلى ما ذكرناه.
(وتلَّون): فلان يتلوَّن إذا كان لا يستقرعلى حالة واحدة، ولا يثبت على خلق واحد.
(واعتراض): إما من قولهم: اعترضت فلاناً إذا وقعت به في الأذية، وإما [من] قولهم: اعترضت كذا، إذا جعلت نفسك حائلة دونه، والغرض من هذا هو أنهم أعطوه دون حقه وصيروا أهويتهم عارضة عنه، أو حصلت الوقعة من بعضهم لبعض، فكل هذا قد كان، فتلوَّنوا في أخلاقهم، يريد أنهم لم يثبتوا على خلق واحد في جعلها له وصيرورتها إلى جانبه، بل بعضهم يقول علي، وبعضهم يقول غيره، فلما كان فيهم من الاستبداد ما كان، وعرض منهم ما عرض.
(فصبرت على طول المدة): لأن خلافة أبي بكر كانت سنتين ونصفاً، وخلافة عمر كانت عشر سنين، وخلافة عثمان كانت قريباً من اثنتي عشرة سنة.
(وشدة المحنة): لمنعي من حقي، وانحطاطي عن مرتبتي، وكل ذلك من شدة البلوى وعظم المحنة.
(حتى إذا مضى لسبيله): مات عمر وهلك كغيره.
(جعلها): صيَّرها.
(في جماعة): علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
(زعم أني أحدهم): قال من جهة نفسه: إنها شورى بين هؤلاء الستة، وإني واحد منهم لا اختصاص لي بشيء دونهم.
(فيا لله): استغاثة منه بالله في هذا الصنيع منهم، واللام مفتوحة أينما وقعت للاستغاثة.
(وللشورى!): الرواية فيه بكسر اللام، وإنما كسرت لأمرين:
أحدهما: أن تكون الشورى مستغاثاً بها، وكسرت لامها لأجل زوال اللبس بوقوع الواو، ويكون معناه أستغيث بالله وبالشورى على هؤلاء حين عدوني من أهلها.
وثانيهما: أن تكون الشورى معطوفاً على شيء مستغاث من أجله، فلهذا كان لامها مكسوراً، فيكون تقديره: أستغيث بالله على هؤلاء وعلى الشورى حين صرت معدوداً من أهلها.
وزعم الشريف السيد علي بن ناصر صاحب (الأعلام) أن اللام في قوله: يالله للاستغاثة، وفتحت فرقاً بينها وبين اللام في المستغاث منه، وأن اللام في قوله: وللشورى لام التعجب ، وهذا فاسد؛ لأن لام التعجب لا تكون إلا مفتوحة كقولهم: يا للماء ويا للدواهي، وقولهم: يا للعجب.
(متى اعترض الريب فيَّ مع الأول ): أي زمان كان الشك معترضاً حاصلاً في ذاتي ومتى وقع النقص في همتي.
(حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر!): حتى هذه هي الابتدائية، ومعناها حتى صيروني مثلاً بهذه النظائر، والقرن والنظير هما: المثل.
(لكني أسففت إذ أسفوا): أسف الطائر إذا دنا من الأرض عند طيرانه.
(وطرت إذ طاروا): معناه حلقت حين حلقوا، والتحليق هو: ارتفاع الطائر في الجو، والتحليق إنما يكون في الطيور القوية كالنسر والعقاب، فأما صغار الطيور فلا تقوى عليه لضعفها.
سؤال؛ من حق لكن إذا كانت للاستدراك أن تكون متوسطة بين كلامين متغايرين، فأين التغاير في كلامه هذا؟
وجوابه؛ هو: أن التقدير فيه لما ضمَّوني إلى هذه النظاير فما حوَّلت ولا بدّلت شيئاً مما فعلوه أصلاً، لكني تركتهم على حالهم فيما زعموه، وفعلت ما قالوه فأسففت حين أسفوا، وطرت حين طاروا، فاجتهدوا، وأعملوا آراءهم في صرفها عني، وإيثار غيري بها.
(فصغا رجل منهم لضغنه): فمال واحد منهم عني لما في صدره من الحقد، وهو الضغن، وهو سعد بن أبي وقاص ، فإنه قتل أباه يوم بدر، وهو الذي توقَّف في إمامته بعد قتل عثمان وإجماع الناس عليها مع غيره.
(ومال الآخر لصهره): يريد عبد الرحمن بن عوف مال إلى عثمان؛ لأن زوجته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت أختاً لعثمان من أمه وأمهما أروى .
(مع هن وهن ): الهن: جعلوه كناية عن الأشياء القبيحة، ولهذا فإنهم لما استقبحوا التلَفّظ باسم الفرْج جعلوا مكانه الهن.
قال:
أرى ابن نزارٍ قد جفاني وملَّني
على هَنَواتٍ شأنُها مُتَشَاسِعُ
ويقال: كان بينهم هنات أي أشياء قبيحة، ولما أراد حسان مهاجاة قريش أمره الرسول عليه السلام بأن يسأل أبا بكر عن فضائحهم، وقال: ((اسأله، فإنه أعرف بتلك الهنات )) فصبرت على ما أنا فيه من الاستبداد والإيثار عليَّ:
(إلى أن قام ثالث القوم): يعني عثمان، أي واحد من القوم.
(نافجاً بحضنيه ): النافج بالجيم: صاحب الكبر والخيلاء، نفج الرجل إذا تكبر واختال، ومن رواه بالخاء المعجمة فإنما هو تصحيف لا وجه له، والحضن: ما دون الإبط إلى الخاصرة، وانتصابه على الحال من ثالث القوم، أي قام على هذه الحالة.
(بين نثيله ومعتلفه): النثيل: الزبل، والمعتلف: موضع العلف، وفعيل في نثيل بمعنى مفعول، مثل جريح بمعنى مجروح.
سؤال؛ إلى ما يشير بقوله: نافجاً حضنيه ، وقوله: بين نثيله ومعتلفه، فيكاد أن يكون كلاماً أجنبياً غير ملائم؟
وجوابه؛ هو: أنه أشار عليه السلام بقوله: نافجاً حضنيه إلى الكبر والتعاظم، ولهذا كان منه إلى جلة الصحابة وأكابرهم ما كان من ضرب عبد الله بن مسعود، وإحراق سائر المصاحف كلها إلا مصحفه، وأمره بإشخاص ابن مسعود لما طعن فيه وكفَّره، وما كان من ضربه لعمار بن ياسر وكان يكفّره ويطعن عليه، وأخرج أبا ذر إلى الشام إرضاءً لمعاوية، وضربه له، وغير ذلك مما يدل على تكبر وتعاظم على أهل الدين، وأشار عليه السلام بقوله: بين نثيله ومعتلفه إلى ما كان من تساهله في إعطاء أموال الله من ليس أهلاً لها ولا يستاهلها يخضمها ويقضمها من غير استحقاق، حتى روي أنه أعطى أربعة نفر من قريش أربعمائة ألف دينار، كانوا أزواجاً لبناته، إلى غير ذلك مما لو ذكرناه لطال ، فأشار بهذه الإشارة اللطيفة إلى ما ذكرناه.
(وقام معه بنو أبيه): أقاربه من بني مُعَيْط، ولهذا قال له عمر: إذا وليت هذا الأمر فلا تسلط آل معيط على رقاب الناس .
(يخضمون مال الله): الخضم هو: الأكل بجميع الفم.
(خضم الإبل نبتة الربيع): لما فيها من الطيب والرقة، لأن أكلها يعظم فيها، فلهذا شبه حالهم بأكل الإبل لها، ثم أقام على هذه الصفة، ومكث على هذه الحالة.
(إلى أن نكث غزله فقتله ): نكث الغزل إذا نقضه وغزله مرة ثانية.
(وأجهز عليه عمله): أراد أن عمله أسرع إلى قتله، أخذاً من قولهم: أجهز على الجريح إذا أسرع في قتله.
(وكبت به مطيته ): فسقط من ظهرها، فاستعار عليه السلام هذه الأشياء ودل بها على تغير حاله، وتفاقم الأمر عليه من كل جانب، حتى قال عمار بن ياسر: قتلناه كافراً.
وفي بعض النسخ: (كبت به بطنته) والبطنة هي: الإمتلاء، وهو خطأ لا معنى له.
(فما راعني): الروع هو: الفزع، قال الله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ }[هود:74] أي الفزع، ومعناه فما أفزعني.
(إلا والناس إليَّ كَعُرْف الضبع): إلا والناس يتوجهون إليَّ أرسالاً فريق بعد فريق، وإنما شبههم بعرف الضبع لكثرة شعرها، وترادف بعضه على بعض.
سؤال؛ أين [فاعل ] راعني وما بعده لايصلح أن يكون فاعلاً؟
وجوابه؛ أنه يحتمل أن يكون الفاعل له ما بعد إلا، والتقدير فيه: فما راعني إلا اجتماع الناس إليَّ، وعلى هذا يكون الاستثناء فيه مفرغاً، ويحتمل أن يكون فاعله محذوفاً، أي ما راعني شيء، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً، تقديره لكن الناس إليَّ مجتمعون.
(ينثالون عليَّ): ينصبُّون.
(من كل جانب): من كل جهة لكثرتهم، وتراكم عددهم.
(حتى لقد وطئ الحسنان): من كثرة الناس، وازدحامهم عليه.
(وشق عطافي ): تمزق ردائي لوطئهم له بأخفافهم ينثالون.
(مجتمعين): حال من الواو في ينثالون.
(حولي): من عن يميني، وشمالي، وخلفي، وقدامي محدقين بي.
(كربيضة الغنم): الربيضة: مكان ربوض الغنم، والمعنى أنهم محيطون بي كإحاطة الربيضة بالغنم واجتماعها فيها.
وحكي أن الناس فرحوا ذلك اليوم فرحاً شديداً، وصاروا يتباكون حوله خوفاً أن يعتذرهم عن البيعة، فقال: (أنا أطلع المنبر، فإن قال أحد: لا أرضى لم أدخل)، حتى قال ابن عباس: لقد خشيت أن يقول أحد ممن قتل أباه أو جده: لا أرضى فيتأخر، فلما صعد أمير المؤمنين المنبر خطب الناس، وخيرهم الأمر فيه، فما قال أحد: لا أرضى، إلا دخلوا في بيعته أفواجاً، وقاموا إليه فرادى وأزواجاً ابتهاجاً بما أسعدهم الله بخلافته وأكرمهم بتصرفه ، فرضوا بي، ودخلوا في بيعتي:
(فلما نهضت بالأمر): تحملت أعباء الإمامة، وأثقال الخلافة.
(نكثت طائفة): النكث: نقض العهد يعني طلحة والزبير؛ لأن بيعته قد تقدمت في رقابهما، فعليهما الحجة له في خروجهما من غير بصيرة بعد الدخول.
(ومرقت أخرى): أخذ المروق من قولهم: مرق السهم من الصيد، إذا خرج من الجانب الآخر، يعني بذلك الخوارج، فكان خروجهم من الدين شبيهاً بما قال في المروق.
(وفسق آخرون): أي خرجوا من الدين بعداوته وحربه، يعني بذلك معاوية؛ إعراضاً عن الآخرة والتفاتاً إلى عاجل الدنيا.
(كأنهم لم يسمعوا الله تعالى يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ .........}الآية [القصص:83]): وهؤلاء أرادوا الدنيا والعلو في الأرض والإفساد فيها فلا عاقبة لهم في الآخرة إلا النار لعدم التقوى.
(بلى والله): تكذيباً لهم، ورداً عليهم.
(فقد سمعوها): بآذانهم.
(ووعوها): بقلوبهم.
(ولكن حليت الدنيا في أعينهم): حلاَّها الله تعالى في أعينهم فتنة وامتحاناً وبلية واختباراً كسائر الامتحانات.
(وراقهم زبرجها): وأعجبهم زينتها، والزِبْرِجُ: الزينة، والزِبْرِجُ: الذهب أيضاً.
قال حسان :
ونجا ابنُ خضراء العِجَالِ حويرثٌ
يغلي الدماغ به كغلي الزِّبْرِجِ
سؤال؛ من حق لكن أن تكون واقعة بين كلامين متغايرين، فكيف تقديره وكلامه هذا؟
وجوابه؛ هو: أن التغاير فيها أكثر ما يأتي مقدراً، وتقديره ها هنا والله لقد سمعوها ووعوها، ولكن ما فعلوا ما يقتضيه حكم الوعي والسماع؛ لإكبابهم على الدنيا وزينتها، وإعراضهم عن الآخرة ونعيمها، وفي كلامه هذا دلالة على أن من نكث بيعته ومرق عنه وفسق ما كان إلا طامعاً في عاجل الدنيا وما كان عن بصيرة، ولا ارتياء في فكرة، ولا طلب روية.
(أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة): أما هذه مخففة، وهي للتنبيه، وفلق الحبة: شقها نصفين ، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى }[الأنعام:95].
وبرأ: خلق، ومنه البرية، والنسمة: هي النفس، وخلاف العقلاء في ماهية النفس فيه خبط عظيم، وقد ذكرناه في الكتب العقلية.
(لولا حضور الحاضر): يعني وجود الناصرين، وأراد أن قعوده في أول الأمر ما كان إلا لفقد الأنصار والأعوان، واليوم هم حاضرون فلا عذر لي في التأخر عن نصرة الدين.
(وقيام الحجة بوجود الناصر): وأن حجة الله تعالى قد قامت في إحياء الدين، وإشادة ما اندرس من معالمه وحججه.
(وما أخذ الله على العلماء): عطف على قوله: لولا حضور الحاضر، وما أخذ الله علىالعلماء من الميثاق حيث قال: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ }[آل عمران:187].
(أن لا يقاروا): يصبروا.
(على كظّة ظالم): الكظّة بالكسر: اسم لما يعتري الإنسان من كثرة الأكل، ومن رواه بالفتح فإنما هو المرة الواحدة كالضربة، والكسر فيه أفصح كالبطنة.
(ولا على سغب مظلوم): السغب: الجوع، قال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ }[البلد:14] أي مجاعة، والمعنى في هذا أي لا يصبروا على إمتلاء الظالم وأكله من الأموال الحرام، وجوع المظلوم بأخذ ماله، وهذا ما يهزُّ الأعطاف ويحرِّكُ الدواعي في حق العلماء وأئمة الدين في الإنكار على الظلمة، بتكدير لذاتهم وتغيير شهواتهم رضآءً لله وتقرباً إليه، كما كان منه عليه السلام في ذلك.
(لألقيت): هذا هو جواب القسم، وما قبله كلام عارض بين القسم وجوابه لفائدة جليلة قد رمزنا إليها.
(حبلها على غاربها): الغارب من الجمل هو: مقدم سنامه، وهو من الفرس المنسج والحارك والكاهل، وهو من الإنسان المنكب.
وقوله: ألقيت حبلها على غاربها، كناية عجيبة عن ترك الأمر وإهماله، ونظيره في الكناية: فلان كثير رماد القدر إذا كان كريماً، وفلان رحب المقلد إذا كان طويلاً، فحقائق هذه الأمور معروفة، ولكنهم وضعوها كناية عما ذكرناه، وقد عدها بعضهم من المجاز كالاستعارة، وهذا فاسد فإنها دالة على معناها الذي وضعت من أجله في الأصل وما هذا حاله، فليس مجازاً أصلاً.
(ولسقيت آخرها بكأس أولها): لفعلت الآن في الترك والإعراض مثل ما كان مني من قبل، ولكن ما وسعني عند الله إلا القيام بأمر الله، وإظهار شعار الدين وحكمه.
(ولألفيتم ): جواب القسم أيضاً، ومعناه لو جدتم.
(دنياكم هذه): عاجلتكم هذه المذمومة.
(عندي): في نفسي وضميري.
(أزهد): أقل وأحقر.
(من عفطة عنز): العفاط للمعزى: اسم لما يخرج من أدبارها، والعفاط في الشاء: اسم لما يخرج من خياشيمها.
وفي بعض النسخ: (عفطة عير): وهو الحمار وهو خطأ، فإن العفاط ليس مفعولاً في حق الحمير.
(فلما انتهى إلى هذا الموضع قام إليه رجل من أهل السواد، فناوله كتاباً فأقبل ينظر فيه، فلما فرغ من قراءته قال له ابن عباس: [يا أمير المؤمنين] ، لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت): اطرد الشيء إذا اتبع بعضه بعضاً، وأفضى فلان سره إذا أظهره. (فقال له عليه السلام: هيهات [يا ابن عباس] ): أي بَعُدَ ما تريد.
وجواب لو في كلام ابن عباس محذوف تقديره: لو اطردت مقالتك لكان حسناً.
(تلك شقشقة): والشقشقة: لحمة كالرئة تخرج من [فم] البعير إذا هاج.
(هدرت): هدر الجمل إذا ردد صوته في حنجرته غيظاً وتضجراً.
(ثم قرّت): سكنت وهمدت.
(قال ابن عباس: فوالله ما أسفت على شيء قط كأسفي على ذلك الكلام ألاَّ يكون أمير المؤمنين بلغ منه حيث أراد).
قال الشريف المؤلف:
فلهذا لقبت هذه الخطبة بالشقشقية لما ذكره عليه السلام، ثم مع اشتمالها على ما فسرناه من المحاسن، فلقد تضمنت من جزل الألفاظ ودقيقها وبلاغة المعاني ورقيقها ما فيه بلال كل غلة، وشفاء كل علة، فإنها دالة على فضل باهر وعلم حاكم قاهر، وقد أوردنا فضائله على جهة التفصيل في كتابنا الملقب ب(النهاية ) في علم الدين وغيره من الكتب العقلية، فمن أرادها فليأخذها منه، ولو لم يرد في فضله إلا مارواه أحمد البيهقي مسنداً إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في زهادته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب)) لكان هذا كافياً في فضله على غيره من سائر العالمين لمساواته لهؤلاء الأنبياء في هذه الخصال بخلاف غيره.
(4) ومن خطبة له عليه السلام
(بنا اهتديتم في الظلماء): هذا كلام يخاطب به من خالفه ويشيربه إلى ما منَّ الله به [من] نبوة ابن عمه ونعمة الله برسالته، فلهذا قال: بنا يشير إلى ذلك، يريد أنه هداهم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، وكل ذلك باصطفاء محمد واختياره.
(وتسنمتم العلياء): يعني علوتم على كل مرتبة بما كان من الإسلام والدين .
(وبنا انفجرتم عن السِّرار): انفجر الشيء إذا انفتح ، ومنه انفجارالصبح انفتاحه بالضياء والنور.
وقوله: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا }[القمر:12] أي فتحناها، والسرار هو: الخفاء، ومنه السر لخفائه، وسرار الهلال: يكون في الليلة الآخرة من الشهر، ومراده أن أمرهم كان خافياً مستتراً، حتى جاء الله بالرسول والإسلام.
(وُقِرَ سمع لم يسمع الواعية): الوقر: الصمم، قال الله تعالى: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ }[فصلت:5] السمع: الذي يدرك الإنسان به الصوت، كا لبصر بالعين، والواعية: الصارخة، وهذا الكلام خارج على جهة الدعاء، والمعنى فيه أصم الله أذن من سمع فضلي بالدلائل الظاهرة، وعلمه بالأخبار المأثورة، من جهة الرسول فكتمه وأنكره.
(كيف يراعي النبأة من أصمته الصيحة): النبأة: الصوت الخفي، والصيحة هي: الصوت العظيم، ولايدرك الأخفى مع الصوت العظيم، وهذا كلام خارج مخرج التعجب، ولهذا صدّره بكيف، ومراده من ذلك هو أن من لم يكفه في فضلي على غيري ما يعرفه من قرابتي من رسول الله، وما يقرع سمعه من أخباره في فضائلي، وكمال علمي، وبما كان من الرسول [ صلى الله عليه وآله وسلم] في إبانة فضلي في المشاهد المختلفة والمواقف العظيمة فلا يؤثر في حاله شيء آخر غير ذلك.
(ربط جنان لم يفارقه الخفقان): الربط هو: الشد على الشيء، قال الله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ }[الكهف:14]، والجنان هو: القلب، والخفقان: حركة القلب والريح، وهو: اضطرابهما، وهذا الكلام خارج على جهة الدعاء، ومعناه ربط الله كل جنان لا يفارقه الخفقان، وفيه تعريض بأصحابه الذين يخاطبهم في عدم سكوتهم إلى ما يقول، وانشراح صدورهم إلى معرفة حقه، وامتثال أوامره، ولهذا قال لهم عقيب هذا .
(ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر): الغدر هو: ترك الوفاء، ومراده من ذلك ذم أصحابه بأن دوام انتظاره لهم ليس لخير يرجوه منهم أصلاً، وإنما يرتقب الغدر منهم، وترك الوفاء بما يتوجه [من حقه] .
(وأتوسمكم بحلية المغترين): أتفرس في أحوالكم كلها فوجدتكم متحلين بحلية المغترين المخدوعين بالأماني الباطلة والتسويفات الكاذبة.
(سترني): غطاني.
(عنكم جلباب الدين): لباسه، والجلباب هو: الملحفة والرداء، والمعنى في هذا هو أن ديني وخوفي من الله تعالى منعني عن أن أريكم آثار قوتي وسلطاني، أو يكون المعنى منعني تستركم بالدين وإظهاره عن إنزال العقوبة بكم من جهتي.
(وبصرنيكم): عرفني حالكم، وما أنتم عليه من التخاذل، وترك النصرة في.
(صدق النية): صفاء عقيدتي ونور باطني، كما قال عليه السلام: ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله )) .
(أقمت لكم): أثبت نفسي، وثبت من أجلكم.
(على سنن الحق): السنن: الطريقة الموصلة إلى الحق.
(في جواد المضلة ): الجواد: جمع جادة، والمضلة بالكسر: موضع الضلال، وغرضه أني ثبت واستقمت على طريقة الحق، حين وقعتم في طريقة الضلال ومسالكها.
(حيث تلتفتون): من كثرة الحيرة يميناً وشمالاً.
(ولا دليل): يدلكم على النجاة.
(وتحتفرون): من حفر الأرض إذا شقها.
(ولا تميهون): تبلغون الماء لضلالكم عن مكانه وموضعه.
(اليوم): أي الزمان الذي أنا موجود فيه.
(أُنْطِقُ لكم العجماء): أظهر لكم الأدلة، وأكشف عنها، التي لم تكن مذكورة قبلي، ولا يكشف عنها أحد مثلي، والعجماء: البهيمة؛ سميت بذلك لأنها لا تتكلم، والحجة: ما لم يتكلم بها أحد ويظهرها فهي عجماء، والأعجمي: الذي لايفصح عن كلامه.
(ذات البيان): صفة للعجماء، يريد أن الحجة بعدما كشفها تصير ذات بيان، لما يظهر فيها من الإفصاح بالعلم بمدلولها.
(عزب رأي امرئ تخلف عني): عزب أي بَعُدَ أمره، وما أدى إليه نظره من لم يوافقني على ما أنا عليه ويبايعني ، وهذا عام أعني إنكاره على من تخلف عنه، سواء كان ذلك عن نكث ومشاقة، كما كان من طلحة والزبير وغيرهما، أو كان عن بصيرة كما كان من عبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسعد بن أبي وقاص؛ لأنه قائم على الحق، وما بعد الحق إلا الضلال.
(ما شككت في الحق مذ رأيته ): يشير أنه عليه السلام كان صافي الذهن، متقد القريحة، منور البصيرة من جهة الله تعالى، فلا يخالجه شك في معرفة الحق وتحققه، ولهذا قال: (علمني رسول الله ألف باب من العلم، فانفتح لي في كل باب ألف باب) .
ومن هذه حاله كيف لايدرك الحق عند رؤيته له.
(لم يوجس موسى خيفة على نفسه): الإيجاس: إضمار الخوف، وأراد أن موسى عليه السلام ما أوجس الخوف وأضمره إشفاقاً على نفسه وإنما أضمره خوفاً على قومه ألا يتبعوه، وهكذا حالي فإني [لم] أضمر الخوف إشفاقاً على نفسي فأنا على بصيرة من أمري، وهداية من ربي، ولكن إشفاقي خوفاً عليكم من الوقوع في الضلال بمخالفتي وعصياني [إنما] .
(أشفق من غلبة الجهَّال): أشفق الرجل إذا حذر خوفاً من غيره، وأشفق إذا صار ذا حذر وخوف، قال الله تعالى: {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا }[الأحزاب:72] أي حذرن [خوفاً] من تحملها يعني الأمانة، وقال: {مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ }[المؤمنون:57] أي حذرون خوفاً من عذابه، والمعنى أن من غلبه الجهال على رأيه وأمره صار ذا حذر وخوف من سوء عاقبة رأيهم وضلال أمرهم.
(ودول الضلال): حكى يونس : عن أبي عمرو بن العلاء : أن الدَولة بفتح الفاء تكون في الحرب، يقال: كانت الدَولة لنا عليهم، والدُولة بالضم في المال، يقال: هذا المال دُولة بيننا أي نتداوله.
وقال أبو عبيد : الدَولة بفتح الفاء هو: المصدر، وبضمها اسم للشيء المتداول.
وقال عيسى بن عمر : كلاهما يكون في المال والحرب، فأما يونس فقال: أما أنا فوالله ما أدري ما بينهما ، يعني ما حالهما، ومراده عليه السلام أن [من] غلبه أهل الجور والفساد من أرباب الدولة فهو حذر خوفاً من وقوعه في المتالف لما في رأيهم من الفساد.
(اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل): يريد بعضنا على الحق وبعضنا على الباطل موقعه، وهذا من أنواع البديع يسمى اللف والنشر، وحقيقته آيلة إلى أن المتكلم يجمع بين كلمتين بالواو، وهذا هو اللف، ثم يلحق بكل واحد منهما ما يناسبه من الحكم ويلائمه وهذا هو النشر، وهذا كقوله ها هنا: تواقفنا على الحق والباطل، فهذا اللف، ثم نشره بأن المعنى فيه فنحن على الحق، وأنتم علىالباطل، ونظيره من كتاب الله تعالى قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ }[الفرقان:62] فهذا اللف، ثم قال بعد ذلك: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ }[يونس:67] يعني الليل، {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا }[يونس:67] فهذا نشر.
(من وثق بماء لم يظمأ): أي من وثق بماء العلم لم يظمأ بعطش الجهل، ومراده من هذا هو أن من كان على بصيرة من أمره، وانشراح صدر في دينه، فهو ساكن القلب مطمئن النفس، ومن كان على غيربصيرة فهو قلق الأحشاء، مضطرب الفؤاد، كمن يكون في مفازة، ومعه ما يكفيه من الماء، فإن تحققه للماء يرفع عطشه، ويسكن التهابه، ومن ليس معه ماء في تلك المفازة فإن استشعاره لعدم الماء يذيب فؤاده، ويلهب أحشاءه، ثم إن هذه الخطبة مع صغرها، وتقارب أطواقها قد اشتملت على الحكم القصيرة، والمعاني البديعة، وإن أنهار البديع لتطَّرد على صفحاتها، وأنوار الحسن تجول على جنباتها.
(5) ومن كلام له عليه السلام لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله [وسلم] وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة
(أيها الناس، شقوا أمواج الفتن): أي هو المنادى، وهاء التنبيه مقحمة عوض عمَّا كان لأي من الإضافة، والناس صفة لأي، والشق هو: التفريق والانصداع، ومنه شق العصا وهو تفرقها، والأمواج: جمع موج، وهو ما يكون من زفير البحر عند هيجانه بالريح، وهو استعارة ها هنا؛ لأن إقبال الفتن لعظمها كإقبال أمواج البحر في عظمها وتراكمها.
(بسفن النجاة ): كما أن البحر لا يمكن أن يعبر إلا بالسفن، فهكذا لا يمكن الخلاص من أمواج الفتن إلا بسفن البصائر، وتمييز الحق فيها عن الباطل.
(وعرجوا عن طريق المنافرة): يقال: فلان عرج على كذا، إذا واظب عليه، وعرج عن كذا إذا تركه ومال عنه، والمنافرة هي: المفاخرة في الأحساب، يقال: نافره فنفره ينفره بالضم إذا غلبه وفخر عليه بحسبه، وغرضه من هذا ميلوا عن مسالك المفاخرات في الأحساب.
(وضعوا تيجان المفاخرة): وأسقطوها عن أن تكون منصوبة على رؤوسكم، وهذا الكلام يشبه أن يكون قد أخذه من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله [وسلم] يوم الفتح، لما أخذ بحلقة باب الكعبة وقريش حوله: ((إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وافتخاركم بالآباء، الناس كلهم من ولد آدم، وآدم من تراب)) فسبكه هذا السبك، فصار أنيق الديباجة، رقيق الزجاجة.
(أفلح من نهض بجناح): يريد من نهض لأمر من الأمور، وكان له أنصار يعينونه على تحصيل مطلوبه، فقد أفلح بالوصول إليه، استعارة من نهوض الطائر بجناحه.
(أو استسلم فأراح): يريد ومن لم يكن له أعوان على ما يطلب فانقاد لحكم المقادير وقعد، فقد أراح نفسه عن التشوف لما لا قدرة له عليه، وهذا كلام يخاطب به نفسه في أول الأمر، فإنه استسلم وانقاد لما لم يجد ناصراً على ما يريد.
(ماء آجن): أي هذا الذي أنا فيه أمر صعب، شبهه بالماء الآجن، وهو المتغير لونه وطعمه.
(ولقمة يغص بها آكلها): الغصة هي: الشجا، وغص باللقمة وأغصته إذانشبت في حلقه فلا تصل إلى معدته ولا ترتد إلى فِيهْ، يريد أن من خاض في أمر، ولم يتم له ذلك الأمر، كان كمن غص باللقمة فلا هو ردها ولا هو ابتلعها، فهكذا حاله لاهوتركه، ولاهو أتمه وأنفذه.
(ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها): جنى الثمرة واجتناها إذا أخذها، ومراده هو أن من اجتنى الثمار لغير وقتها، فإنه لايصل إلى مقصوده منها، ولا ينتفع بها، يصير حاله:
(كالزرّاع بغير أرضه): فكما أن الزراع بأرض الغير لايصل إلى مقصوده؛ لأن لصاحب الأرض رفعه وإفساده، وهذا منه عليه السلام تشبيه بحالة من تشوش الأمر عليه، وقلة الأنصار على ما يريده، وحصول الوحشة في حقه، وتنكر الأحوال له، فأنا فيما أعاني من هذه الأمور أكابد على الصعوبة لا أنفك عن حالتين.
(فإن أقل يقولوا: حرص علىالملك): يقول إن أمدد يدي للمبايعة كما طلبوها مني يتهموني بطلب الدنيا، والإقبال إليها، والإعجاب بزخرفها.
(وإن أسكت ، يقولوا: جزع من الموت): يقول: وإن أكفف يدي عن المبايعة، يقولوا: ما ترك ذلك إلا عجزاً عن الأمر، وفراراً من الموت، فما انفك عن هاتين الحالتين.
(هيهات بعد اللتيا والتي!): أراد بقوله: هيهات أي بَعُد ما قالوه من أن تأخري كان جزعاً من الموت، أو أن إقدامي إن أقدمت كان طمعاً [في الدنيا] ، واللتيا والتي هما اسمان من أسماء الداهية.
قال العجاج :
بعد اللتيا والتي ... إذا علتها أنفسُ تَرَدت
ومعناه بعد الشدة العظيمة والطاقة الكبرى أن أخوّف بالموت أو أطمع في زخرف الدنيا، وإنما حذفوا صلة اللتيا والتي ليوهموا أنها بلغت مبلغاً تقاصرت العبارة عن كنهه في الشدة والعظم، وقوله:
(والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه): إنما هو إنكار لقولهم: جزع من الموت، واستحضار لما أراده بقوله: بعد اللتيا والتي، فإنما جعلهما كناية عن استبعاد مقالتهم في طمعه في الدنيا وجزعه من الموت، فإقسامه بالله على ما ذكر من الأنس بالموت يرد مقالتهم ويكذبها، ولعمري إن من بلغ حاله في الأنس بالموت إلى هذه الحالة فإنه خليق بأن لا يجزع منه ولا يهابه إذا ورد عليه.
(بل اندمجت على مكنون علم): اندمج في الشيء إذا دخل فيه وتغطى به، وكننت الشيء وأكننته إذا سترته، والمعنى في هذا هو أن العلم مندمج في صدره قد استولى عليه.
(لو بحت به): باح بالسر وأباحه إذا أظهره.
(لاضطربتم): تحركتم حركة بعنف وشدة.
(اضطراب الأرشية): اضطراباً يشبه اصطكاك الأرشية، وهي الحبال الطويلة.
(في الطَّويَّ البعيدة): الطوى: البئر، وفعيلة ها هنا بمعنى مفعولة، والمقصود من هذا [هو] أني لو أظهرت لكم مكنون علمي لفشلتم، ولا ضطربت عقائدكم وتزلزلت، كما قال عليه السلام في بعض كلماته: (لو شئت أن أخبر كل واحد منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا برسول الله صلى الله عليه وآله [وسلم]) .
سؤال؛ ما وجه الملائمة بين قوله: بل اندمجت على مكنون علم، وبين قوله: والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الصبي حتى أورده على إثره، وبينهما تنافر كما ترى؟
وجوابه؛ إن هذا من باب الاستطراد، وله في البلاغة موقع عظيم، وهو أن يخرج من كلام إلى كلام آخر مغاير للأول، ألا ترى أنه ها هنا بينا هو يتكلم في أنسه بالموت إذ قد خرج إلى ذكر حاله في العلم، وهذا من غريب البلاغة وبديعها، ونظيره قوله تعالى: {أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ }[فصلت:39] ثم قال بعد ذلك : {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى }[فصلت:39] فبينا هو يدل على عظم قدرته بإنزال الغيث واهتزاز الأرض، إذ خرج إلى ذكر إحياءه الموتى، وليس لأحدهما تعلق بالآخر، وكم في كلامه من معنى بديع، وسرعجيب كما ترى.
(6) ومن كلام له عليه السلام لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير
(والله لا أكون كالضبع ينام على طول اللَّدْمِ): اعلم أن السبب في هذا الكلام هو أن أمير المؤمنين لما أراد الخروج إلى العراق تابعاً لطلحة والزبير، أشار عليه ولده الحسين بالرجوع عن ذلك، فقال مجيباً له: (والله لا أكون) واللدم: عبارة عن صوت الحجر إذا وقع على الأرض، قال الشاعر:
وللفؤادِ وَجِيْبٌ تحت أَبهره
لَدْمُ الغلام وراء الغيبِ بِالْحَجَرِ
واللَّدْمُ هو: أن يضرب الصائد بالحجر على جحر الضبع فيحسبه صيداً، فيخرج عند ذلك حياً يصاد، وغرضه من هذا المثل هو إنكاره على الحسين لما أشار إليه بالرجوع عن الخروج إلى العراق، فيقول: أتبعهم، ولا أقف حتى يقصدوني بالحرب، فأكون كالضبع [تكون] واقفة فتصاد في جحرها.
(حتى يصل إليها طالبها): بسبب وقوفها في جُحْرِهَا.
(ويختلها راصدها): الختل: الخدع، وختله إذا خدعه، والراصد هو: المترقب، وكل هذا حاصل بوقوفها، فأنا لا أتبع رأيك في هذا.
(ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق): أنتصر بالمتابع لي، والمتابع للحق المنقاد له، فجعل الضرب كناية عن الانتصار لما كان سبباً فيه، فأضرب به.
(المدبر عنه): المخالف [لي والآنف] عن متابعتي.
(وبالسامع): لأمري.
(المطيع): له.
(العاصي): المخالف لأمري وإرادتي.
(والمريب أبداً): الشاك المتردد.
(حتى يأتي عليَّ يومي): عبارة عن الموت، وانقطاع الأجل.
(فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي): مؤخراً عن أخذه واستيفائه، وهذا لشؤم الدنيا وتكدرها.
ويحكى أن ابن عباس تكلَّم يوماً في صفة أميرالمؤمنين، فقال: كان رجلاً مملؤاً حلماً وعلماً، عزته سابقته من رسول الله، فكان عنده أنه لا يمدُّ يده إلى شيء إلا فناله، فما مدَّ يده إلى شيء فناله.
(مستأثراً عليَّ): مستبداً به دوني كما كان في الإمامة وغيرها.
(منذ قبض رسول الله حتى يوم الناس هذا ): يريد أن أول الاستئثار كان بعد وفاة الرسول عليه السلام إلى هذه الساعة.
سؤال؛ أليس هو الآن الإمام والخليفة، فكيف قال: مستأثراً عليه بحقه؟
وجوابه؛ هو أن الاستبداد قد كان حاصلاً من قبل في تقدمهم عليه، وأخذهم لها بغير رضاه.
(7) ومن كلام له عليه السلام
(اتخذوالشيطان لأمرهم مِلاَكاً): الملاك: ما يقوم الشيء به ويستقر أمره معه، ولهذا قال صلى الله عليه وآله: ((ملاك الدين الورع، وملاك العمل خواتمه )) فوصف هؤلاء باتخاذهم الشيطان قوام أمرهم كله فلما اتخذوه هكذا:
(اتخذهم له أشراكاً): والأشراك تحتمل أمرين:
أما أولاً: فبأن تكون جمع شَرَك وهي الحبالة التي يصاد بها فجعلهم له مصايد، كما يحكى عن إبليس أنه قال [لله] : يارب، اجعل لي مصائد، قال: ((النساء)).
وأما ثانياً: فبأن تكون جمعاً لشريك مثل شريف وأشراف، والغرض هو اتخاذهم شركاء، كما قال تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولاَدِ }[الإسراء:64]، فالمشاركة في الأموال بالربا والظلم والتصرف بالمكاسب المحظورة، والمشاركة في الأولاد بالزنا، وادعائه له من غير وجهه، وتسمية الولد بعبد اللات والعزى وغير ذلك.
(فباض وفرخ في صدورهم): البيض والتفريخ لكل ما لا يلد من أنواع الطير كلها.
وحكي عنه عليه السلام أنه قال: (كل ما ظهر ت أذنه فنسله يكون بالولادة، وكل ما خفيت أذنه فنسله يكون بالبيض والتفريخ منها).
(ودبَّ ودرج في حجورهم): الدبيب على وجه الأرض أقل من المشي، والدروج أكثر منه أي مشى ومضى لسبيله في الإغواء والتزين، فالتبسهم من كل وجهة .
(فنظر بأعينهم): في جميع مطالع السوء.
(ونطق بألسنتهم): بالكذب، والزور، والإملاء، والخدع.
(فركب بهم الزلل): جرَّأهم على كل ما يزل به الإنسان عن الحق.
(وزين لهم الْخَطَلَ): المنطق الفاسد المضطرب، وفلان قد خطل في كلامه يخطل خطلاً إذا أفحش فيه، فجميع هذه الأمور كلها من الدبيب والتفريخ والدروج في الحجور، وهي: جمع حجرة وهي ناحية الدار.
(فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه): أي شاركه في أمره كله.
(ونطق بالباطل على لسانه): فصار مستولياً عليه في كل أحواله.
واعلم: أن كلامه هذا قد اشتمل على نوعين من أنواع البديع، وكل واحد منهما له موقع في البلاغة لايخفى:
أولهما: الترجيع وهو: أن تكون الكلمتان مستويتين في الإعجاز والأوزان وهذا كقوله: باض وفرخ في صدورهم، ودبَّ ودرج في حجورهم، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ }[الغاشية:25-26].
وثانيهما: التخييل وهو: تصوير حقيقة الشيء، حتى يتوهم أنه ذو صورة مشاهدة، وأنه مما يظهر في العيان، وهذا كقوله: نظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، ومن هذا قوله تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }[الزمر:67]، وقوله [تعالى] : {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ }[الصافات:65].
(8) ومن كلام له عليه السلام يخاطب به الزبير
(يزعم أنه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه): يريد أنه قد ظهر إعطاؤه البيعة، لأنه كان ذلك على ملأٍ من الناس، لكنه ادَّعى أن قلبه لم يرض ذلك وأنه كاره له.
(فقد أقرَّ بالبيعة): حيث قال: إني كنت مكرهاً.
وكما قال طلحة: بايعت واللجُّ يعني السيف على قَفَيّ .
وهذا إقرار صريح من جهتهما.
(وادعى الوليجة): الوليجة: الخاصة والبطانة، كماقال تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً }[التوبة:16] أي بطانة، وغرضه ها هنا أنه ادعى دخوله في البيعة مكرهاً، وأصله من البطانة لأنه يبطن ذلك ويسره.
(فليأت عليها): يعني الوليجة.
(بأمر معروف ): لاينكره أحد، وهو إقامة البينة عليها.
(وإلا فليدخل فيما خرج منه): وهو الإمامة التي دخل فيها أولاً.
(9) ومن كلام له عليه السلام
(وقد أرعدوا وأبرقوا): أبرق الرجل وأرعد إذا تهدد وأوعد.
قال الكميت :
أَبْرِقْ وأَرْعد يا يزي ... د فما وعيدُك لي بضائرْ
(ومع هذين الأمرين الفشل):يريد أن من حق من أبرق وأرعد أن يصدر ذلك عن تؤدة ورزانة وحصافة ، إذا كان صادقاً وقادراً على إنفاذه.
فأما إذا صدر ذلك عن فشل وارتعاد فرائص فهو دلالة على كذبه وبطلانه، فأما نحن:
(فلسنا نرعد حتى نوقع): أي أنّا لانرعد إلا بعد الإيقاع بالعدو، وأن فعلنا متقدم على قولنا؛ لأن القول إذا تقدم فربما لايوافقه الفعل وربما يوافقه، أما إذا سبق الفعل فالقول لايكون إلا صادقاً لامحالة.
(ولا نسيل حتى نمطر): اعلم أن الإسالة من دون مطر محال، والغرض أنا لا نفعل أمراً إلا بعد تقرير قواعده والفراغ من مقدماته.
(10) ومن خطبة له عليه السلام
(ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله وَرَجْلِهِ): حزب الرجل: أصحابه وأعوانه، والأحزاب: الطوائف والجماعات، والخيل: الخيالة، والرجل: اسم جمع كالصحب والركب.
سؤال؛ ما يريد بقوله: إن الشيطان قد أجلب بالخيل والرجالة؟
وجوابه؛ أنه يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك مجازاً، وارد على جهة التمثيل، مثلّت حالته في تسلطه عليهم بالإغواء واستيلائه عليهم بمنزلة من أغار على قوم، وصاح عليهم وأجلب عليهم بخيله ورجله، حتى استأصل شأفتهم وقطع دابرهم.
وثانيهما: أن يكون مريداً لحقيقة ذلك، وأن يكون الشيطان له خيل ورجالة يقهر بها ويغلب.
(وإن بصيرتي لمعي): البصيرة: الحجة، واشتقاقها من البصر؛ لأن الإنسان يميز بها بين الحق والباطل كما يميز ببصره بين الأشياء كلها، ويدل على ذلك أني.
(ما لبَّست على نفسي): فأكون غاشاً لها وخادعاً وغاراً في ارتكاب الخطأ بالتأويلات الباطلة والشبهات الكاذبة.
(ولا لُبِّس عليّ): ولا خدعني غيري بالانقياد له، والمتابعة له لقوله.
(وايم الله): الأصل في هذا ايمن الله، وهي جمع يمين، والهمزة فيه همزة وصل عند سيبويه، ولم تفتح الهمزة إلا هاهنا، وفي الهمزة مع لام التعريف.
وقال الفراء: إنها همزة قطع، ورفعه على الابتداء، وخبره محذوف، وتقديره: أيمن الله قسمي .
(لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه): فرطت القوم أفرطهم إذا سبقتهم إلى الماء.
قال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صَحَابتِنا
كما تعجَّل فرَّاطٌ لورَّادِ
ومثله قوله صلى الله عليه وآله: ((أنا فَرَطُكم علىالحوض )) أي متقدمكم، والماتح هو: الذي يستقي الماء، والمعنى في كلامه هذا: والله لأهيّئنَّ لهم حرباً أقيم عمادها، وأشب نارها وأريهم مقامي وموضعي فيها، ولأقطعن دابرهم بالقتل واستئصال الشأفة.
(لا يصدرون عنه): لا ينفكون حتى آتي على آخرهم بالقتل، والضميرللحوض.
(ولا يعودون إليه): لما يحصل عليهم من القتل والتفريق، ولقد بلغ تمثيله للحرب بالحوض مبلغاً يصرف الأفهام إلى قبوله، وتبتدر الخواطر إلى فهمه ومعقوله .
(11) ومن كلام له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل
(تزول الجبال ولا تَزُلْ): شبه رسوخ قدمه في نفوذ البصيرة وتحقق الأمر بثبوت الجبال ورسوخها.
(عَضَّ على ناجذك): النواجذ ليس هي الأنياب، وللإنسان منها أربعة، وإنما هي الأرحاء آخر ما ينبت، وعدتها ست عشرة رحاً، ويقال: إنها أسنان الحلم، وفي الحديث: ((ضحك رسول الله حتى بدت نواجذه )) ، يريد أنه استغرق في ضحكه، وجعلها هاهنا كناية عن الصبر عند تحمل المكاره، وأعظمها هو بذل الروح في سبيل الله.
(أَعرِ الله جمجمتك): الجمجمة هي: تدويرالرأس.
سؤال؛ لم قال ها هنا: أعِر الله، ولم يقل: هب من الله، والهبة أدخل في الملك من العارية؟
وجوابه؛ هو أن الغرض [هاهنا إنما هو الجودة والسماحة لله تعالى بالنفس، ولا شك] أن نفس الإنسان بالعارية أسمح؛ لأنها عن قريب تعود إليه، بخلاف الهبة فإنها تملك عليه فلهذا شبهها بالعارية مبالغة في السماحة والبذل لها.
(تِدْ في الأرض قدمك): وتد الوتد إذا ضربه في الأرض، والأمر من ذلك هو قولنا: تِدْ، وأصله اوتد ذهبت الواو حملاً له على المضارع، لأن الأمر والمضارع يتقاربان، وذهبت همزة الوصل لأجل تحرّك عين الكلمة فاستغني عنها، وغرضه إجعل قدمك كالوتد المضروب على الأرض فلا يزول أبداً.
(إرم ببصرك أقصىالقوم): لأن من رمى ببصره أقصى العسكر فإنه لاينتهي دون الوصول إلى أقصاهم، ومن كان همه إدراك أولهم نكص عن بلوغ آخرهم.
(وغض بصرك): عن الالتفات يميناً وشمالاً، فإن ذلك يكون أثبت للجأش وأقرب إلى الطمأنينة.
سؤال؛ كيف قال: غض بصرك، وقد قال من قبل: إنه يرمي ببصره أقصى القوم؟
وجوابه؛ هو أن الغرض بالكف للبصروغضه عن الالتفات يميناً وشمالاً وذلك يورث الفشل، فأما رؤية أقصى العسكر فهو خارج عن هذا لما فيه من القوة والثبات .
(واعلم أن النصر من عند الله): لأن له القوة والحول والقدرة والبسطة فلا يوجد ذلك من جهة غيره بحال، وقد ضمن هذا الكلام نوعين من أنواع البديع كل واحد منهما له موقع في البلاغة لا يخفى:
أولهما: إتيانه فيما علَّمه من أدب الحرب بهذه الجمل من غير حرف عطف ، وهو يسمى التجريد، فإن أتى في الصفات فهو تعديد، كقوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ... }إلى آخرها[التوبة:112]، وإن [كان] أتى في الجمل سمي التجريد، ومثاله قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}[النور:35] فحذف الواو من هذه الجمل وجردها منها.
وثانيهما: إتيانه بهذه الآية من القرآن في آخر كلامه، فكانت واسطة لعقدها، ودرة لتاجها، وقمر هالتها، وطراز غِلاَلَتِها .
وله كلام في آية الكرسي ذيّله بهذه الآية، فكانت غرة [فيه] ومتميزة عنه، وفي تميز القرآن عن كلامه عليه السلام دلالة على أنه ليس من كلام البشر، إذ كان كلامه في أعلى طبقات الفصاحة، فإذا تميز القرآن عنه دل على ما قلناه.
(12) ومن كلام له عليه السلام لما ظفر بأصحاب الجمل
وقد قال له بعض أصحابه: وددت أن أخي فلاناً كان شاهداً ليرى ما نصرك الله على أعدائك، فقال عليه السلام:
(أهوى أخيك كان معنا؟ فقال: نعم): يريد إذا كان أخوك يحبنا وموالياً لنا، فلما قال[له] : نعم.
(قال: فقد شَهِدَنا والله): يعني أن أمره إذا كان على ما قلناه من المحبة والولاية فهو كمن شَهِدَنَا في عسكرنا ونَصَرَنا، وفي هذا دلالة على أن الولاية توجب الكون من الجملة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }[المائدة:51].
(ولقد شَهِدَ نا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال، وأرحام النساء): أراد أن من كان موالياً لنا، وكانت عقيدته في حرب هؤلاء كعقيدتنا فهو في الحقيقة كأنه موجود معنا، وإن كان غير موجود الآن بأن يكون منياً في أصلاب الرجال، ونطفاً في قرارات أرحام النساء.
(سيرعف بهم الزمان): الرعاف: الدم الخارج من الأنف، ورعف القلم إذا سال منه المداد، وهذه استعارة رشيقة، وهي من لطائف استعاراته المعجبة.
(ويقوىبهم الإيمان): لما يقع بهم من نصرة الدين، وتقوية قواعده.
(13) ومن كلام له عليه السلام في ذم البصرة وأهلها
(كنتم جند المرأة): أراد بالمرأة عائشة، وفي هذا الكلام تعريض بضعف أحلامهم وركة عقولهم في انقيادهم لحكمها، وذلك من أوجه:
أما أولاً: فلما ورد عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )) .
وأما ثانياً: فلأنه إذا كان لا ولاية لها في بضعها فكيف يكون لها ولاية في غيره.
وأما ثالثاً: فلما يختصين به من ضعف العقل، ولهذا جعل الله شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد، فمن هذا حاله كيف يستحق أن يكون أهلاً للمتابعة أو يناط به شيء من الأمور الدينية، ونظير هذا في التعريض قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ }[الزخرف:18] أي لايزال متحلياً بأنواع الزينة {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ }[الزخرف:18]، أي أنه لايبين وجه حجته ولا يفهم له احتجاج، فمن هذه حاله كيف يجعل الملائكة الذين هم أكرم المخلوقات عند الله وأقربهم إليه وأعظمهم منزلة عنده بمنزلة الإناث.
(وأتباع البهيمة): يريد الجمل، فجعله متبوعاً لما ركبته، وأجابوها واحتكموا لأمرها في مخالفته، والدعاء إلى توهين أمره في خلافته، وهذه أتحف من الأولى ، وكل هذا منه مبالغة في قبح ما توسموه من مخالفته، وشقَّ عصا المسلمين، فنزَّلهم في عدم البصيرة فيما أتوه بمنزلة من بايع بهيمة لا عقل لها.
(رغا فأجبتم): يريد أنما بينكم وبين الإجابة [والانقياد] إلا أنه رغا أي صاح فأجبتم، والرَّغَاء في الإبل بمنزلة الخَوَارِ في البقر، والصَّهيل في الخيل، والنُّهاق في الحمير، والبَعاء في الماشية.
(وعقر فهربتم): أراد أنه لم يكن السبب في اجتماعهم إلا الجمل فلما عقر تفرقوا شذر مذر، وفيه تعريض منه بطلحة والزبير في اتباعهما لعائشة ونكثهما لبيعته.
وأقول: لقد هلكوا جميعاً واستحقوا الوعيد من جهة الله تعالى بمخالفته وشقاقه، لولا تداركهم الله برحمته بالتوبة والإنابة والرجوع إليه.
(أخلاقكم دقاق): الدقة من التراب هو: السحيق الذي جمعته الريح، والغرض أن كل ماكان دقيقاً فإنه ضعيف، لا يعتمد عليه لأنه يبطل ويتلاشى، ومعناه أن آراءكم وشيمكم لا يعتمد عليها
(وعهدكم شقاق): الشقاق هو: الخلاف والعداوة، فالعهود من حقها الوفاء والحفظ، وأنتم نقضتم حكمها بأن جعلتموها شقاقاً حيث نكثتم البيعة وخالفتم أمري.
(ودينكم نفاق): ليس الغرض أنهم صاروا بمخالفته كفاراً منافقين فإن سيرته فيهم تخالف ذلك، وإنما الغرض هو أنكم تدَّعون أنكم باقون علىالدين، ومستمرون عليه، مع ما يظهر منكم من مخالفتي وشقاقي ونصب العداوة لي، فظاهر دينكم لايوافق بواطنكم، وهذه هي صفة المنافق لأنه يظهر خلاف ما يبطنه في قلبه ويفارق ما يبدو من لسانه.
(وماؤكم زعاق): شديد الملوحة، لا يمكن لشدة ملوحته شربه، وكنَّى بذلك عن حالهم فإنهم مع شدة المخالفة والمعاداة له، لاتكون موالاتهم سائغة لأحد من المسلمين.
(المقيم بين أظهركم): المخالط لكم والراضي بأعمالكم والمتخلق بهذه الطباع فيكم.
(مرتهن بذنبه): واقع في الخطايا رهين بالذنوب، لما يلحقه بالإقامة بين أظهركم، كما قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }[الطور:21] شبهه بالرهن؛ لأن الإنسان إذا قارف المعصية فإنه يكون مرتهناً بنفسه، حتى يتخلصها بالتوبة.
(والشاخص عنكم): والمفارق لكم، والبعيد عنكم.
(متدارك برحمة من ربه): الرحمة: هي ما يكون من الألطاف الخفية من جهة الله تعالى، يشير إلى أن حصول الألطاف [الخفية] إنما تكون بالمفارقة لهم، ووقوع الخذلان يكون بالإقامة بين أظهرهم .
(كأني بمسجدكم هذا): يعني مسجد البصرة، وإنما قال هذا أي الذي تجتمعون فيه للآراء الفاسدة والأقاويل الباطلة في عداوتي وشقاقي.
(كجؤجؤ سفينة ): جؤجؤ الطائر وجؤجؤ السفينة هو: الصدر منهما، وإنما شبهه بالجؤجؤ لأمرين:
أما أولاً: فلما يبعث الله عليه من العذاب بالغرق، ولهذا قال في رواية أخرى.
(وايم الله، لتغرقن بلدكم هذه): يعني البصرة.
(حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة): وأما ثانياً: فلأنه أشار بهذا إلى أنه لا يبقى منه إلا أثر أو طَلَل أي يخرب ولا يبقى منه إلا ما ذكرناه، وما قاله عليه السلام يحتمل أن يكون قد وقع أو أنه سيقع بعد هذا.
(أرضكم قريبة من الماء): كنّى بما ذكره عن ركة أحوالهم ونزول هممهم حتى صارت في أسفل سافلين، ولهذا يقال: أنف في السماء، وقدم في الماء، يُضْرَبُ مثلاً لمن يدعي الحلم والوقار، وهو يفعل أفاعيل السفهاء، فيقال له ذلك.
(بعيدة عن السماء): أراد إما بعيدة عن الرحمة من الله تعالى؛ لأنها تنزل من السماء، وإما أن أحلامهم بعيدة عن عادة أهل الديانة وأهل الورع والنفاسة.
(خفَّت عقولكم): فلهذا تستفز بأدنى شيء لارزانة في حصاتها ولا ملاك لأمرها.
(وسفهت حُلومكم): أي صارت تشبه أخلاق السفهاء فيما تلبستم به من المخالفة.
(فأنتم غرض لنابل): الغرض: ما يرمى من قرطاس أو غيره، والنابل: صاحب النبال، ومراده أن كل أحد يرميكم بنباله، ويسدِّد إليكم سهامه.
(وأُكلة لآكل): الأكلة بالضم هي: ما يؤكل، ولهذا قال عليه السلام: ((فضل ما بينكم وبين اليهود أكلة السحور )) . والأكلة بالفتح: واحدة الأكلات، وبالكسر: الضرب من الأكل، وهي الحالة كالركْبة والجِلَسة، ومراده أنهم صاروا أكلة لأي آكل [كان] ، وإنما نكَّر الأكل لما فيه من الفخامة ما لايفيده التعريف لو عرَّف.
(وفريسة لصائل): الصائل: ما يصول من سبع أو جمل أوغيرذلك، ومراده من ذلك هو أنهم صاروا يأخذهم كل من استطال عليهم بمنزلة الفريسة المأكولة، لاينتصرون من أحد لذلهم وركة أحوالهم.
(14) ومن كلام له عليه السلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان
القِطاع والقَطاع بالكسر والفتح هو: المال الحرام. وأقطعت الرجل قطيعة أي طائفة من مال الخراج، وذلك أنه قد كان جرى في خلافته أحداث عظيمة وأمور منكرة من أخذ الأموال من غير حلها، وصرفها في غير وجهها، وإيثار أقاربه بها، مع عدم الاستحقاق منهم لها، فلما كان الأمر فيها كما قلناه، وانتهت النوبة إلى أمير المؤمنين ردها عن تلك المصارف، وقال:
(والله لو وجدته قد تُزوّج به النساء): أراد جُعل مهوراً لهن.
(ومُلِكَ به الإماء): بأن جُعِل أثماناً لهن، وإنما مثَّل بهذين الأمرين لأنهما أحق الأمور المباحة بالبذل، والزيادة فيهما لا تكون تبذيراً، ولهذا قال تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا }[النساء:20]، وقال في آية أخرى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }[النساء:4].
وعن أمير المؤمنين أنه قال: (إذا مس الإنسان وجع في بطنه، فليأخذ من مهر امرأته شيئاً، وليشتري به عسلاً، ويجعل عليه شيئاً من ماء السماء؛ ثم يشربه فيجمع بين الهنيء والمريء والشفاء والماء المبارك).
فلهذا مثله بما ذكرناه، يريد فلو صرف في هذه المصارف مع حلها وقلة التبعة فيها.
(لرددته): عن مصرفه هذا، ولصرفته في مصرفه الذي أمرالله بصرفه فيه.
(فإن في العدل سعة): في الدنيا راحة القلب عن مظالم الخلق، وضيق النفس منهم بكثرة المطالبة والمخاصمة.
وأما في الآخرة فإن فيه خلاصاً عن الحساب والوقوف بين يدي الله.
(ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد ومن ضاق عليه العدل مع ما فيه من السهولة والخفة على النفس بترك التبعات، فالجور عليه أضيق لما فيه من الصعوبة وضيق النفس.
وثانيهما: أن يريد ومن ضاق عليه العدل فلم يبسط يده في الأخذ؛ بل يحتاط ويتحرج في ذلك، فالأولى أن يفعل ذلك في الجور ويكف نفسه عنه.
(15) ومن خطبة له عليه السلام لما بويع في المدينة
(ذمتي): الذمة هي: العهد والميثاق.
(بما أقول): ما ها هنا إما موصولة أي بالذي أقوله، وإما مصدرية أي بقولي من صدق المقالة، والوفاء بالذمم والعهود كلها.
(رهينة): أي مرتهنة، فلا تخلص إلا بالوفاء بها.
(وأنا به زعيم): أي كفيل، والكفيل: زعيم، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((الزعيم غارم )) وأراد به الكفيل.
(إن من صرحت له العبر عمَّا بين يديه من المثلات): صرح الحق وانصرح، أي بان وظهر، والصرح بالتحريك: الخالص من كل شيء.
قال المتنخل الهذلي :
تَعْلُو السيوفُ بأيدينا جَمَاجِمَهُم
كَمَا نُفَلِّقُ مَرْوَ الأمعز الصَّرِحي
أي الخالص، ومنه المثل: صرَّح الحق عن محضه، أي: بان وانكشف، والعبر: جمع عبرة وهي الاسم من الاعتبار، واشتقاقها من عبرت عينه إذا بكت، ومراده من ذلك هو أن من كشفت له الأمور المعبر بها والمجعولة عبرة عمَّا تقدمه من العقوبات النازلة بالأمم الماضية والقرون الخالية.
(حجزه ) أي منعه، ومنه الحاجز، وهو: الحائل بين الشيئين.
(التقوى): التوقي، وهي مصدر كالدعوى.
(عن تقحم الشبهات): [عن] اقتحام المهالك والوقوع فيها.
(ألا وإن بليتكم هذه قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه): البلية والبلوى والبلاء واحد، وهي مصادر كلها، والبلية: الناقة التي تحبس عند قبر الرجل إذا مات، وغرضه من هذا الكلام هو أني قد ابتليت بكم في الاعوجاج، ومقاسات الأمور الشدائد مثل ما ابتلي به رسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم ] من قومه من ذلك.
(والذي بعثه بالحق): إقسام بالله جل جلاله، وإنما خص البعثة لما فيها من مزيد الاعتناء بحاله صلى الله عليه وآله ورفع مكانه عند الله.
(لتُبَلْبَلُنَّ بلبلة): البلبلة: التحرك والاضطراب، يقال: تبلبلت الألسنة إذا اختلطت، جعله هاهنا كناية عن تغير أحوالهم، وتبدلها عمّا هي عليه الآن.
(ولتُغَرْبَلُنَّ غربلة): أي لتنخلنَّ نخلاً بالغربال، وهو المنخل، وهو كناية عن القتل والاستئصال.
(ولتُساطُنَّ سوط القدر): السوط: الخلط، ساطه يسوطه سوطاً إذا خلطه بغيره، والمسواط: عود يحرك به القدر ليخلط ما فيها بعضه ببعض.
(حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم): من كثرة الاضطراب واختلاف الأهواء وتفرق الآراء كالشيء المسوط في القدر فإن هذه حاله.
(وليسبقَنَّ سباقون كانوا قصَّروا): أي وليتقدمن إلى نصرتي ومتابعتي أقوام كانوا قصروا في أول الأمر من خلافتي بالتأخر عني.
(وليقصِّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا): أي وليتأخرنّ عن مناصرتي ومعاضدتي أقوام كانوا سبقوا إليها في أول الأمركما كان من طلحة والزبير وغيرهما، وكل ما ذكره من هذه الأحوال دلالة على الفشل وكثرة الاضطراب في أمورهم كلها.
(والله ما كتمت وسمة ): الوسمة بثلاث من أسفل هي: الأثر.
يقال : وسمه يسمه سمة إذا أثر فيه، والوشمة بثلاث من أعلى هي: القطرة، يقال: ما أصابتنا العام وشمة.
قال ابن السكيت : ما عصيته وشمة أي كلمة، وكلاهما جيد ها هنا، أي ما كتم أثراً ولا كتم كلمة.
(ولا كذبت كذبة): أي واحدة من الكذبات، واختلفت الزيدية والإمامية في قوله هل يكون حجة أم لا؟ فمن قال [منهم] بعصمته من الخطأ وهم الأقل قال: إن قوله حجة فيما قاله، إلا أن يكون الخطأ في تلك المسألة يكون صغيراً فإنه لايكون حجة، ومن قال منهم: بأن قوله لايكون حجة قال: إنه غير معصوم وهم الأكثر، وهذا هو الصحيح، لأن الدليل إنما دلَّ على عصمة جماعتهم أعني علياً وفاطمة والحسن والحسين، فأما على انفراده فلا دلالة على ذلك .
(ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم): أراد بالمقام إما موضع الإقامة، وإما الإقامة نفسها وهو المصدر، أي مو ضع إقامتي فيكم بما كان منكم من التشتت والتفرق واختلاف الأهواء، وأراد باليوم ولايته عليهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كان أعلمه بأيام خلافته، وبما يكون عليه من التفرق والخلاف، وهذا من جملة الأمور الغيبية التي عهد إليه فيها ونبأه بها.
(ألا وإن الخطايا خيلُ شُمُسٌ): الأشمس من الخيل: الذي يمنع صاحبه الركوب.
(حُمِلَ عليها أهلها): أي حملتهم الأهواء والشياطين بالتزيين من جهتهم وغلبة الهوى واستحكامه.
(وخُلعت لُجُمها): أزيلت وأبعدت عن أفواهها.
(فتقحمت بهم النار ): قحم الفرس بفارسه وتقحم وانقحم إذا لم يملك رأسه، ولم يقف على مراده.
(ألا وإن التقوى مطايا ذلل): المطايا: جمع مطية وهو: الواحد من الإبل مذللة لصاحبها، يفعل فيها كيف أراد من إقدام وإحجام.
(حُمِل عليها أهلها): أعينوا عليها بالألطاف والصبر، وبإمداد من جهة الله تعالى.
(فأُعطوا أزمتها): يعني مكنِّوا منها في أيديهم، وأملك ما يكون الإنسان للدابة إذا كان آخذاً بزمامها يُصَرِّفُها كيف أراد.
(فأوردتهم الجنة): على سهولة ومشي سجح.
واعلم: أن في كلامه هذا من لطيف الاستعارة وغريبها ما لايقوم بوصفه لسان، ولا يطلع على سره إنسان، ومن بديع ذلك وعجيبه هو أنه لما استعار ذكر الخيل والمطايا، عقَّب كل واحد منها بما يصلح فيه من الاقتحام في حق الخيل؛ لأنه هو الغالب عليها، والتذلل في المطايا؛ لأنه هو الغالب عليها، وهذا يسمى توشيح الاستعارة لأنه يزيدها عذوبة وحلاوة، ويكسيها رونقاً وطلاوة.
سؤال؛ لِمَ استعار للخطايا الخيل، وللتقوى المطايا من الإبل، ثم قال: في الخطايا خلعت لجمها، وقال في الطاعة: أعطوا أزمتها، وقال في الخطايا: تقحمت بهم النار، وقال في الطاعة: أوردتهم الجنة؟
وجوابه؛ أن في كل واحد من هذه الأشياء المختلفة معنى يوافق ما هو بصدده، وما جيء به من أصله، فلما كانت المعاصي لا تُفعل إلا بمعاناة وكد وإتعاب الخاطر في تحصيلها، استعار لها الخيل، لما فيه من الشدة وشكاسة الأخلاق، بخلاف التقوى فإنها تحصل علىسهولة لما يحصل من المراد بالألطاف الخفية من الله تعالى، فلهذا استعار لها المطايا لما فيه من التذلل وسهولة الانقياد، وإنما قال في الخيل: خلعت لجمها إشارة إلى أن الفرس مع اللجام لايأمن راكبها التقحم عليه فضلاً عن خلع اللجام، فإن ذلك أيسر للتقحم وأدعىله، وغرضه بذلك تشبيه أهل المعاصي في الإسراع إلى الخطايا بالخيل إذا خلعت لجمها، بخلاف أهل التقوى فإنهم قبضوا وملكوها، والإبل ربما ساعدت في الانقباض بغير زمام فضلاً عن حالها مع قبض الزمام، فإنها تكون أطوع لا محالة، وإنما قال في حق الخيل: تقحمت بهم؛ لأن التقحم إنما يكون في المكروه وخلاف المراد.
وقال في المطايا: أوردتهم؛ لئن الورود أكثر استعماله في المحبوب، كما يقال: ورد على الأمير بعادته وعطيته، وطابق في هذا الاستعارات كلها الغرض المقصود، وجاء في كل شيء بما يليق به، وما ذاك إلا لأنه قد جُعِلَ على البلاغة أميراً، وصار لمعانيها وأسرارها ترجماناً وسفيراً.
(حق وباطل): أي أمرنا وما نحن فيه حق وباطل، فالحق ما أنا عليه، والباطل ما خالفه وهذا من علم البديع يسمى الطباق، ويقال له: التكافؤ أيضاً، وهو أن يأتي بالشيء ونقيضه، وهذا كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا }[التوبة:82].
ومنه قوله:
أيا عجباً كيف اتفَقْنا فناصحٌ ... وفيٌّ ومطويٌّ على الغلِّ غادرُ
(ولكل): من ذلك.
(أهل): يريد أن الحق له أقوام، يقيمون حده، ويشيدون أركانه، وأن الباطل له أقوام، يحيون معالمه، ويرفعون ستائره ، ونظير هذا قوله صلى الله عليه وآله: ((إن للدنيا أبناء، وللآخرة أبناء ، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا)) .
(فلئن أَمِرَ الباطل): أَمِرَ الشيء إذا كثر وفشا، يقال: أَمِرَ ماله إذا كثر.
(لقديما فعل): انتصاب قديماً على الظرفية أي لزماناً قديماً فعل، لكنه طرح موصوفه، وأقيم مقامه فانتصب انتصابه، ومن هذا قولهم: ستر عليه طويلاً وقديماً وحديثاً، اللام في قوله: لئن أَمِرَ، هي الموطية للقسم، مثلها في قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ }[الحشر:11]، واللام في قوله: لقديماً هي جواب القسم، ومراده أن الباطل إذا كثر فهذا هو الغالب من أحواله؛ لأن أنصاره كثيرون، وأعوانه جم غفير.
(ولئن قلَّ الحق لربما ولعل): لأن أنصاره قليلون، ومتبعوه في غاية الندرة، ومتعلق رب محذوف أي ربما كان ذاك ، ولعل اسمها وخبرها محذوفان، أي ولعل ذاك حاصل، وحذفه إنما ساغ للعلم به، وهو واقع في كلام الفصحاء كثيراً.
ويحكى عن عمر بن عبد العزيز، وكان بليغاً، ذكر له أعرابي حاجة فقال: لعل ذاك، أي لعل ذلك حاصل.
(ولقلَّما أدبر شيء فأقبل ): هذه من الحكم العجيبة، والآداب الحسنة، يريد أن الإنسان إذا كان في صحة ونعمة فليعمر ما هو فيه من الصحة والنعمة بالطاعة والشكر، ولا يغفل عن ذلك حتى إذا فاتت طلب ذلك وسأله وعوَّل فيه، فقلَّ ما أدبر شيء فعاد، كما كان من قبل، ويصلح أن تكون مفيدة لمعاني غير ما ذكرناه، وأشرنَا إليه، وهي من حكمه القصيرة المشتملة على المعاني الجمة، والنكت الغزيرة.
(16) ومن خطبة له عليه السلام
(شُغِلَ من الجنةُ والنارُ أمامه!): يريد أنه لا شغل أعظم حالاً ممن كانت الجنة أمامه طالباً لها، ولا من كانت النار أمامه محاذراً عنها، والأمام في قوله: أمامه، يحتمل أن يكون حقيقة؛ لأن الجنة والنار لا بد من مشاهدتهما، ولا يشاهدان إلا مع المقابلة، بأن يكونا أمام كل مبصر، ويحتمل أن يكون مجازاً، والغرض أنهما إذا كانا نصب عينيه واظب على الطاعة ليحرز الجنة، وكف عن القبائح وسائر المحظورات ليسلم عن النار.
(ساع سريع نجا، وطالب بطيء رجا، ومقصر في النار[هوى] ): يعني أن الناس بالإضافة إلى إحراز رضوان الله تعالى والانكفاف عن محرماته على هذه الأصناف الثلاثة: فمنهم من سعى سعياً عظيماً بجد واجتهاد، وأعرض عن الدنيا، وكان همه الآخرة، فهذا قد حاز النجاة لا محالة وأحرزها بجهده، ومنهم من يطلبها طلباً بطيئاً بتسهيل وتهاون من غير إخلال بواجب ولا إقدام على قبيح، ولكنه يتساهل في أمور، فهذا يرجى له المغفرة من الله تعالى والتجاوز بالعفو عن التقصير، ومنهم مقصر في النار بإقدامه على القبائح، وإخلاله بالواجبات، ونظير هذا التقسيم قوله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ }[الواقعة:8]، ثم قال: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ }[الواقعة:9]، ثم قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }[الواقعة:10]، وفي هذا دلالة على نجاة اثنين دون الثالث.
(اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة): يريد أن طريق النجاة هي الوسطى، ومن حاد عنها يميناً فهو هالك أوشمالاً فهو هالك أيضاً، وكل واحد منهما أعني اليمين والشمال مضلة، والمضلة بكسرالفاء هي: موضع الضلال، وبفتحها هي: المصدر أي ذات ضلال، والجادة: معظم الطريق، وفي المثل: من سلك الجواد أمن من العثار.
(عليها باقي الكتاب): الضمير للجادة، وهي: عبارة عن الاعتراف بالإلهية والإقرار لله بالوحدانية، والباقي هو: المستمر الثابت، والكتاب يحتمل أن يكون عاماً لجميع ما أنزل الله من السماء فإنها مستمرة ثابتة على التصريح بالتوحيد والإلهية، ويحتمل أن يكون خاصاً للقرآن فإنه مملوء من الأدلة على وجود الصانع وإثبات توحيده.
(وآثار النبوة): الآثار: جمع أثر بالتحريك، وهو: عبارة عما يبقى من رسم الشيء، وسير الرسول: آثاره، وغرضه من ذلك هو أن آثار النبوة حاصلة للجادة ، ويحتمل العموم في النبوة إذ لا نبوة حاصلة لأحد من الأنبياء إلا وهي متضمنة لتوحيد الله وإلهيته، ويحتمل أن تكون خاصة في نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فإنها متضمنة لما ذكرناه.
(ومنها): يعني الجادة.
(منفذ السنة): نفذ أمره إذا كان ماضياً، ونفذ السهم من الرمية، ومراده من ذلك هو: أن مضي السنة واستمرارها على ما ذكرناه من الحكم بالتوحيد والقضاء به.
(وإليها): يعني الجادة.
(المصير): مصدر من صار يصير وهو خارج عن قياس بابه وقياسه المصار ، وهكذا المرجع فإن قياس بابه بالفتح، ولكنهما خرجا عن القياس كما ترى، وهما مستعملان جميعاً في كتاب الله تعالى مع خروجهما عن قياس بابهما.
(مصير العاقبة): والعاقبة من كل شيء: آخره، وفي الحديث: ((أنا العاقب )) أي أنا آخر الأنبياء، وغرضه من ذلك هو أن إليها ترجع عاقبة كل أمر على الحقيقة، فإن كل أحد لا عذر له عن معرفة الله تعالى والعلم بإلهيته وحكمته.
(هلك من ادعى): خلاف ما تقضي به العقول من الاعتراف بوجود الله وإثبات وحدانيته، أو هلك من ادَّعى ما ليس حقاً له ؛ لأن ذلك يكون ظلماً منه بادعائه له.
(وخاب من افترى): خاب الرجل خيبة إذا لم ينل ما طلب، وفي المثل: الهيبة خيبة، وافترى الكذب إذا اختلقه وأوجده، وافترى علىالله كذباً، ومراده من ذلك هو أن من افترى فقد خاب ظنه، ولم ينل ما طلبه في كل شيء.
(من أبدى): بدا الشيء إذا ظهر، وبدأ خلقه أي ابتدأه.
(صفحته للحق): صفحة كل شيء: جانبه.
(هلك عند جهلة الناس ): فسد وبطل، ومراده من هذا هو أن من أبدى جانبه لمدافعة الحق وإنكاره ضل سعيه وبطل أمره.
(كفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدر نفسه ): يريد أن معرفة الإنسان بأحوال نفسه سابقة على معرفته بحال غيرها، فإذا كان لايعرف قدر نفسه من جميع الوجوه فهذا هو نهاية الجهل وقصاراه وغايته، أو يريد أن معرفة الإنسان نفسه هو من جملة العلوم الضرورية بل هو أقواها وأوضحها، فإذا كان لايعرف حال نفسه مع وضوحه وقوته فكيف يرجى فلاحه في غيرها.
(لا يهلك على التقوى سِنْخ أصل): السنخ: أصل الشيء، وسنخ السن: أصله، والتقوى هو مصدر كالاتقاء، ومراده من هذا هو أن من كان ملازماً على تقوى الله تعالى، وخوفه ومراقبته في كل أحواله فإنه لا يضعف أمره، ولا يفسد شيء من أحواله، والغرض بالأصل ها هنا هو الشيء أي لا يهلك على ملازمة التقوى أصل شيء أصلاً، بل يكون مع التقوى إلى نمو وزيادة.
(ولا يظمأ عليه زرع قوم): الضمير في قوله: عليه، للتقوى؛ لأنها بمعنى الاتقاء، وهذا من الاستعارات العجيبة، ومراده أن من كان همه ملازمة التقوى لله تعالى والخوف منه فإن زرعه لا يتغير بالظمأ، وإن أصله لايتطرق إليه الهلاك، وكيف لا والتقوى جوهر نفيس، وقد ورد القرآن بالثناء على أهل التقوى في غير آية:
أما أولاً: فالمصاحبة بالإعانة، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا }[النحل:128].
وأما ثانياً: فتيسير المخرج من كل همِّ، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }[الطلاق:2].
وأما ثالثاً: فتكفير السيئات، كقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ }[الأنفال:29].
وأما رابعاً: فالتذكر والإبصار، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف:201].
وأما خامساً: فالصدق، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }[التوبة:119]، وغير ذلك من الخصال الشريفة التي تحصل بملازمة التقوى ودوامها.
(فاستتروا ببيوتكم): الستر: ما يستر به، وأراد اجعلوها غطاء لجميع عوراتكم، أما في الدين فلو ارتكب الإنسان محظوراً في بيته وتستر به ستره الله، كما ورد في الحديث: ((من تضمخ بشيء من هذه القاذورات فليستتر بسترالله تعالى)) .
وأما في الدنيا فلأنه لو كان فقيراً أو عرياناً ففي البيت [ستره] ، ستره عن إظهار هذه الأشياء وانكشافها.
(وأصلحوا ذات بينكم): خصها عليه [السلام] بالإصلاح، كما خصها الله تعالى في قوله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ }[الأنفال:1]، والمراد حال ذات بينكم، أي الأحوال التي بينكم، حتى تكون أحوال إلفة ومحبة واتفاق على ذلك، ولما كانت تلك الأحوال خافية ملابسة لهم، قيل لها: ذات البين، كما قيل: ذات الصدور، أي بالأحوال التي بالصدور.
(والتوبة من ورائكم): وراء يستعمل بمعنى خلف، ويستعمل بمعنى قدام، [قال الله تعالى] : {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ }[الكهف:79] أي قدامهم، وهو من الأضداد، وكلامه ها هنا محتمل للأمرين جميعاً، فيحتمل أن تكون التوبة قدامهم لتكون خاتمة لأعمالهم وتكملة لها، ويحتمل أن تكون التوبة من خلفهم لتكون حاثَّة لهم على فعلها وعلى التلبس بها.
(ولا يَحْمَدُ حامدٌ إلا ربه): يريد انحصار الحمد في حق الله تعالى فلا يُحْمد سواه؛ لأنه [هو] المبتدئ بالنعم أوائلها وأواخرها وأصولها وفروعها، فكما أنه لا نعمة إلا منه فهكذا لا يحمد أحد إلا هو.
(ولا يلم لائم إلا نفسه): إذ لا يحصل عليه شر إلا من جهة نفسه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ }[النساء:79].
وكلامه عليه السلام في هذه الخطبة قد اشتمل على أنواع من الاستطراد، وهو من علم البديع بمكان محوط رفيع، وهو خروج من كلام إلى كلام آخر، لا مناسبة بين الأول والثاني، فبينا هو يتكلم في الجنة والنار إذ خرج إلى وصف الطريق الجادة، وبينا هو يتكلم في الطريق [إذ] خرج إلى وصف التقوى وإصلاح ذات البين، وبينا هو يتكلم في ذلك إذ خرج إلى الحمد لله والملامة للنفس، وهذا من بديع البلاغة وغريبها، وغرضنا من ذلك هو التنبيه على إحاطته بفنون البلاغة.
(17) ومن كلام له عليه السلام في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس أهلاً لذلك
(إن أبغض الخلائق إلى الله تعالى رجلان): البغض من جهة الله تعالى إنما يكون حقيقته إنزال المضار بالمبغوض لاغير،كما أن المحبة من جهته إنما هي إرادة إنزال المنافع بالمحبوب، والمحبة له هي إرادة الطاعات لوجهه وإخلاصها له، والبغض له يكون هو ملابسة المعاصي وإتيان المحظورات التي نهى عنها، فإذا قيل: فلان يبغض الله، فالغرض به إتيان معاصيه التي حظرها ونهى عنها.
(رجل وكله الله إلى نفسه): أي أحوجه إليها، وتركه عن الإعانة بالألطاف وسائر الاستصلاحات من جهته، من قولهم: فلان وَكَلة أي يكل أمره على غيره، ومن كانت هذه حاله.
(فهو جائر): بالجيم أي مائل.
(عن قصد السبيل): القصد: العدل، ومعناه عن الطريقة العدلة.
(مشغوف): الشغاف: علاق القلب، يقال: شغفه الحب، أي بلغ شغافه، ومنه قوله تعالى: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا }[يوسف:30] أي دخل حبه تحت شغافها.
(بكلام بدعة): البدعة: ما ابتدع، وهو ما كان مناقضاً للسنة، وهو الضلالة بعينها، فإن جعلنا الكلام مضافاً إلى البدعة فمعناه بكلام صاحب بدعة أي ضلالة، وإن جعلناه منوناً فمعناه بكلام ذي بدعة، أي ذي ضلالة يضل لأجله من سمعه.
(ودعاء ضلالة): أي وهو مشغوف بدعاء ضلالة، إما بأن يكون داعياً إليها وإما أن يكون مدعواً، وإذا كان على الحال التي وصفها.
(فهو فتنة): محنة، وبلوى.
(لمن افتتن به): لمن أراد الزيغ والضلال عن الحق بسببه ومن أجله.
(ضال): من قولهم: ضل عن الطريق إذا مال عنها، ولم يصبها، ومنه قوله تعالى: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ }[المائدة:77].
(عن هدي من كان قبله): منحرف عن هدي الأنبياء والأئمة والصالحين من العلماء.
(مضل لمن اقتدى به): من أضلَّه يُضِلُّه إذا أزاله عن الطريق لمن كان متابعاً له.
(في حياته): بقوله وأفعاله التي يشاهدها من كان مقتدياً به.
(وبعد وفاته): بأخباره التي تؤثر عنه، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)) .
(حمَّال خطايا غيره): بما كان من إضلاله وإغوائه له، كما قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ }[النحل:25]، ولا يحمل إلا على ذلك ليطابق: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }[الأنعام:164].
(رهن بخطيئته ): أي بما كسبت نفسه من الخطايا، فحاصل كلامه فيما قاله أن من وصف حاله مغرور بكلام البدعة، مشغوف بالدعاء إلى الضلالة، وهذا كثير ما يعرض لأقوام، فإذا وجد واحد منهم كلاماً وحشياً أو تهويلاً في عبارة عول عليه واعتمده واستند إليه، وهذا كم يغتر بما يقرع سمعه من وحشي كلام الفلاسفة وتهويلاتهم كإضافة هذه الآثار إلى الحركات الفلكية بعناية العقول السماوية، وبما يظهر من التفاعل في المواد العنصرية بالوسائط الفلكية، وغير ذلك من التهويلات، ونحو تعبيرهم عن الخالق بالمتحرك وعن الشريعة بالناموس، وعن النبوة بالقوة القدسية، وما شاكله مما ليس وراءه طائل، ولا ثمرة له ولا حاصل، فنعوذ بالله من غلبة الجهل واستحكام الضلالة.
(ورجل قَمَشَ جهلاً): قمش الشيء إذا جمعه من جهات متفرقة.
(مُوضِعٌ): أي مسرع، من قولهم: أوضع الجمل في سيره إذا أسرع فيه.
(في جهّال الأمة): أي أنه أسرع فيهم بالدعاء إلى الضلالة وأنواع كل جهالة، ويحتمل أن يكون موضّع بتشديد الضاد، من قولهم: رجل موضع إذا كان غير كامل الخلق، ومعناه ناقص في خلقه دعاءه في جهال الأمة.
(غارٍ): إما بمعنى غرُّ أي جاهل ليس له خبرة بالأمور ما يأتي منها وما يذر، وإما غار لغيره مدلس عليه.
(في أغباش الفتنة): الأغباش: جمع غبش، وهو ما يكون من الظلام آخر الليل، ومراده أنه غر وغار لغيره، ومع ذلك فإنه حاصل في ظلام الفتنة ودجائها.
(عَمٍ): من قولهم: رجل عم إذا كان غير مبصر، والمراد ها هنا إما عمى القلب فلا بصيرة له، وإما عمى العين فلا يبصر بعينه ما هو المعول عليه في الأمور كلها.
(بما في عَقْدِ الهدنة): الهدنة: الاسم من المهادنة، وهي السكون والدعة، ومنه قولهم: هدنة على دجن أي سكون على غل، والمهادنة: المصالحة، ومراده من ذلك هو أن مَنْ هذه حاله فإنه في غطاء عما يوجب الهدنة والمصالحة، وعما يوجب خلافها.
(قد سماه أشباه الناس).: لقبه من لا يشابه الناس إلا في الشبح والصورة الإنسانية، فأما المعاني المحمودة والصفات العالية فلا حظ لهم فيها.
(عالماً): سموه عالماً بزعمهم وجهلاً منهم.
(وليس به): أي ليس بالعالم؛ لأن مَن كانت هذه حاله فليس معدوداً من العلماء ولا محسوباً منهم.
(بكَّر): كل من بادر إلى تحصيل الشيء بسرعة وعجلة، يقال له: بكر، وأبكر، واستبكر.
(فاستكثر): فطلب التكثير.
(من جمع ما لو قلَّ منه خير مما كثر): وهذا صحيح؛ لأن كل ما جمعه فهو جهالات وضلالات، والزيادة من الجهل زيادة من العمى، فلهذا كان نقصانه خيراً من الزيادة فيه.
(حتى إذا ارتوى من آجن): حتى ها هنا حرف ابتداء، مثلها في قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ }[المؤمنون:64]، والإرتواء هو: الشرب الكامل، والآجن هو: المتغير الريح والطعم من الأمواه، واستعاره ها هنا للإكثار من الجهل.
(وأكثر من غير طائلٍ): ازداد من شيء ليس فيه فائدة، ولا له ثمرة، يقال : هذا أمر لا طائل فيه، إذا لم يكن فيه غنى ولا فائدة تعود على صاحبه، ولا يستعمل إلا في النفي كما قاله عليه السلام ها هنا.
(جلس): تمكن في مجلسه.
(بين الناس): والناس من ورائه، ومن خلفه وأمامه محدقون به، يطلبون مثل ما يطلب من العلماء.
(قاضياً): يقضي الخصومات والمسائل المعظلة بزعمه.
(ضامناً): متكفلاً.
(لتخليص): لإبانة الغامض من غيره وإزالة المشتبه.
(ما التبس على غيره): على من هو أوثق منه بحثاً، وأصلب ديانة، وأشد ممارسة للعلوم، وهذا منه تهكم واستهجان لمن وصفنا حاله.
(فإن نزلت به): حدثت وحصلت، من قولهم: نزلت به المنية، ونزلت به الحادثة، وقوله: به أي لاصقته وخالطت قلبه.
(إحدى المبهمات): واحدة من المسائل التي لا يعرف لها باب، أخذاً من قولهم: باب مبهم، إذا كان مغلقاً.
وفي نسخة أخرى: (المهمات) أي الشدائد، من قولهم: أمر مهم إذا كان شديداً صعباً.
(هيَّأ لها): أعد وأصلح من أجلها ومن سببها.
(حشواً من رأيه ): والحشو: أضعف الشيء، استعارة له من ضعاف الماشية، فإنها تسمى حشواً لضعفها، استمده من رأيه، وعول عليه، وصار إماماً له.
(رثَّاً): والرثُّ هو: الشيء البالي، والرثة: ما يسقط من متاع البيت من الأخلاق ، استقواه زعماً منه أنه على بصيرة.
(ثم قطع به): فعل الأكياس والأفاضل من أهل البصائر من العلماء.
(فهو من لَبْسِ الشبهات): من ها هنا لابتداء الغاية، والمعنى فهو من اختلاط الأشياء المشتبهة، وارتباكها عليه.
(في مثل نسج العنكبوت): في ضعف أمره، وهو أن رأيه وحكمه مشبه نسج هذه الناسجة، فإنه لا ضعف مثل ضعفه، فإنه ينقطع بتحريك الهواء فضلاً عما وراء ذلك من الأمورالشديدة، فجعل ما ينسجه مثالاً في الضعف لما يحصل من فكرة هذا الجاهل، فمن هذه صفته في عدم البصيرة.
(لا يدري أصاب أم أخطأ): لأن التمييز بين الخطأ والصواب إنما يكون لمن يعرف الصواب فيأتيه، ويعرف الخطأ فيجتنبه، فأما من لا يميز بينهما فهذا الذي وصفنا حاله، فإنه لا يمكنه معرفة واحد منهما بحال، فهو في لبس من أمره.
(إن أصاب): إن قدر الإصابة فيما هو فيه .
(خاف أن يكون قد أخطأ): فهو على إشفاق من أن يكون مخطئاً.
(وإن أخطأ): قدرالخطأ فيما فعل.
(رجا أن يكون قد أصاب): جوز أن تكون الإصابة حاصلة في فعله.
سؤال؛ لِمَ جعل متعلق الخوف الخطأ، وجعل متعلق الرجاء هو الإصابة، وهو في كل واحد منهما على غير قطع ويقين؟
وجوابه؛ هو أن الخوف إنما يكون في الأمور المكروهة، والخطأ من جملتها، والرجاء إنما يكون في الأمور المحبوبة، والصواب من جملتها، ولهذا يقال: أخاف الأسد، وأرجو الفرج، ولا ينعكس الأمر لما قررناه.
(جاهل): قد صارمن جملة الجهّال.
(خبّاط جهالات): قد تميز منهم بأن زاد عليهم حتى خبط في كل وادٍ من أودية الجهالة .
(عاش): العاشي هو: الذي لا يبصر في الليل لضعف في بصره، واستعاره ها هنا لمن يقدم على الأشياء بغير بصيرة.
(ركّاب عشوات): العشوة: أن تركب أمراً من غير بيان، يقال: أوطاني عشوة أي أمراً ملتبساً، وقد جعلت المبالغة في قوله: ركّاب، على أن معناه أن ركوبه كثير بمنزلة ضرَّاب لمن يكثر ضربه، وفي قوله: عشوات، يعني أنها ليست عشوة واحدة، وإنما هي عشوات كثيرة.
(لم يعض على العلم): يريد أنه ليس علىالحقيقة في أمره في فتواه.
(بضرس قاطع): ببصيرة نافذة، والعض بالضرس من الاستعارات الحسنة.
(يذري الروايات إذراء الريح): ذرت الريح التراب، وأذرته إذا أذهبته وطيرته ذرواً وذرياً، قال الله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا }[الذاريات:1] أراد به الريح، والإذراء مصدر أذرت، وذرواً وذرياً مصدران لذرت.
(الهشيم من النبات): المتكسر البالي، ومراده من ذلك أنه ينشرالروايات، ويذيعها كذباً وافتراء وتقولاً كنشر الريح لهشيم النبات ودقاقه ويابسه من غير ورع يَحْجُرُ، ولا بصيرة نافذة، وأبلغ مما ذكرته أنه:
(لا مَلِيءٌ والله بإصدار ما ورد عليه[ولا هو أهل لما فوض إليه] ): الْمَلِيءُ: الحقيق بالشيء، يقال: فلان مَليء بكذا، إذا كان حقيقاً به، والإصدار هو: الرجوع، يقال: أصدرته فصدر أي أرجعته فرجع، ومراده من ذلك أنه لجهله ليس حقيقاً بأن يرجع ما ورد عليه من الفتاوى على وجهها لما هو عليه من الغباوة.
(لا يحسب العلم في شيء مما أنكره): حسَب الشيء بفتح العين يحسُبه بضمها، إذا عدَّه وقدَّره، وحَسِبَه بكسرها يحسَبه بكسرها وفتحها إذا ظنَّه، قال الله تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ }[إبراهيم:47] بالكسر والفتح جميعاً، وسماعنا فيه بالضم هاهنا، ومراده أنه لم يقدر جهله وتهالكه في الإعجاب بنفسه، لايعد ما أنكره علماً بل يعتقد أن ما معه هو العلم بعينه وأن ما عداه جهل.
(ولا يرى أن من وراء ما بلغه منه مذهباً لغيره): إذا فتحت حرف المضارعة من يرى فهو يعني يعلم، وإن ضممتها فهو بمعنى يظن، والمعنيان متقاربان، والمعنى فيه هو أنه [لايعلم و] لا يغلب على ظنه أن من وراء ما يبلغه ويصل إليه رأياً لغيره قد سبق إليه فيقطع برأيه اعتماداً عليه، وغرض أمير المؤمنين تعويله على رأي نفسه، وترك الالتفات إلى ما سواه، وهذا إنما يكون منكراً على أحد وجهين:
أما أولاً: فبأن تكون المسألة اجتهادية، فيوجب علىالناس التزام قوله جهلاً منه، والمسألة خلافية وهو ظاهر كلامه، ولهذا قال: إن من وراء ما بلغه مذهباً لغيره.
وأما ثانياً: فبأن يكون خلاف ما قاله قد وقع عليه الإجماع، فتكون فتواه بعد ذلك خطأ لمخالفته للإجماع القاطع، فالإنكار عليه لا يليق إلا على ما ذكرناه.
(وإن أظلم عليه أمر اكتتم به): كتم الشيء وأكتمه إذا أضمره وستره، يقول: إذا وقع في معضلة، وانسدت عليه حميع مسالكها أضمرها في نفسه، ولم يذاكر بها العلماء ولم يطلب فيها وجه الحق من جهة غيره، وإنما أضمرها.
(لما يعلم من جهل نفسه): لأن جهله بوجهها وجهله بمعرفة نفسه، هو ضم جهل إلى جهل، فلو جهل وجهها وعرف حال نفسه في القصور عن إدراكها وفزع إلى من هو أفضل منه في حلها لكان قد سلم من أحد الجهلين.
(تصرخ من جور قضائه الدماء): الصراخ هو: الصوت، من جوره: من حيفه وظلمه، أي من أجل جور قضائه الدماء إما بالزيادة فيكون ظلماً، وإما بالنقصان فيكون فيه إهدار للدماء وإبطال لحقها.
(وتعج منه المواريث إلى الله): العجيج: رفع الصوت، وهو أبلغ من الصراخ، وعجيجها إنما يكون بإعطاء من لا يستحقها أو بحرمان من يستحقها، وهذا أنهى ما ذكره من الإنكار على مسألة قد وقع فيها الإجماع ثم حكم بخلافه، وإما أن تكون مسألة اجتهادية، وليس أهلاً للاجتهاد، ولا حاز منصبه فعلى أحد هذين الوجهين يتوجه إنكار حكمه، وإبطاله ، إسناد الصراخ إلى الدماء، وإسناد العجيج إلى المواريث واد من أودية الاستعارة، والغرض المبالغة في حيفه في المواريث والدماء، ومن بليغ الاستعارة قول ابن المعتز يمدح امرأة:
أثمرتْ أغصانُ رَاحَتِهَا ... لِجُنَاةِ الحسنِ عناباً
يريد أن أنامل هذه التي هي كالأغصان أثمرت لطالبي الحسن شبه العناب من أطرافها.
ومنه قوله:
إذ أصبحت بيد الشمال زِمَامها ... فهذا يدَّعي أنْ للشمالِ يدا
وهو الريح، وأن للسحابة زماماً، وغير ذلك من بديع الاستعارة وغريبها.
(من معشر ): أي هذا الذي قمش جهلاً.
(يعيشون جّهالاً): لا بصيرة لهم في حياتهم بالعلم.
(ويموتون ضُلاَّلاً): عن الحق بزيغهم عنه، وإضلالهم لغيرهم بتلبيسهم عليه وجه الصواب.
(ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي عليهم حق تلاوته): بار المتاع يبور بوراً إذا كسد، وفي الحديث: ((نعوذ بالله من بوار الأيم )) يريد أن هؤلاء يكون كتاب الله بينهم كالسلعة البائرة التي لا يريدها أحد؛ لكثرة إغفالهم واطراحهم لأحكامه وعلومه.
(ولا سلعة أنفق بيعاً، ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حرِّف عن مواضعه): يريد أنهم يعرضون عند تلاوة الكتاب، وإظهار أحكامه، ويقبلون إذا غُيِّر عن مواضعه بالتأويلات الكاذبة والتخييلات الباطلة التي توافق آراءهم وتطمئن بها قلوبهم، وتكون فسحة لهم فيما هم فيه من ارتكاب الفواحش، والانهماك في اللذات المحرمة.
(و لا عندهم أنكر من المعروف): إذ لا يعرفونه بفعله، ولا يأمرون به فهو منكر عندهم.
(ولا أعرف من المنكر): لكثرة وقوعهم فيه، وتلبسهم به، وأمرهم به فلا ينكرونه لأنسهم به، وفي كلامه هذا هزٌّ للأعطاف، وتحريك للهمم في إدراك العلم وتحصيل البصائر النافذة، وتحذير عن الفتوى بغير بصيرة.
(18) ومن كلام له [عليه السلام] في ذم اختلاف العلماء في الفتيا
الفتوى والفتيا مصدران، كلاهما من الياء؛ لأن فُعلى بضم الفاء تبقى ياؤها من غير قلب كالقضاء من قضيت، وفَعلى بفتح الفاء تقلب ياؤها واواً كالدعوى من دعيت، فلهذا تقول: الفتيا فتبقيها ياءاً على حالها، وتقول: الفتوى فتقلبها واواً كما ذكرناه فرقاً بينهما.
(ترد على أحدهم القضية في حكم): واحد:
(من الأحكام فيحكم فيها برأيه): أراد أنه إذا نزلت بأحدهم إحدى النوازل واحتيج إلى معرفة حكمها، فأعمل فيها رأيه، وراجع في حكمها خاطره، ثم حكم فيها بحكم.
(ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره): ثم يستفتي ويطلب فيها رأي غيره كما طلب منه.
(فيحكم فيها بخلاف قوله): بحيث لا يجتمعان على حكم واحد فيها.
(ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم): أراد ثم تعرض تلك القضية بعينها على الإمام، لأنه هو الغاية في ذلك كله، من حيث كان بيده الحل والعقد والأمر والنهي والإثبات والنفي، وهذه منه حكاية لحالهم في الفتوى وتعجب من حالهم لما كان على هذه الصفة.
(فيصوِّب آراءهم جميعاً ): فلا ينكر على أحد منهم مقالته، ولا ينبِّهه على خطإه.
(وإلههم واحد): فكيف يختلفون في حكمه من تحليل أو تحريم.
(ونبيهم واحد): فكيف يختلفون في شرعه، وقد ذم الاختلاف إليهم، وفهموا قبحه من جهته.
(وكتابهم واحد): فكيف يختلفون في معناه.
واعلم: أن إنكاره هذا إنما يكون على أحد وجوه ثلاثة:
أولها: أن تكون هذه المسألة التي فرض وقوع الخلاف فيها بين الإمام والقضاة فيها حكم قاطع ثم اختلفوا فيه، وإذ كان الأمر فيها كما قلناه فالحق فيها واحد وما عداه خطأ، فيكون تصويب الإمام لهم خطأ، واختلافهم فيها أيضاً خطأ.
وثانيها: أن يكون الإمام وقضاته ناقصين عن مرتبة الاجتهاد كلهم، والمسألة اجتهادية، لكنهم ليسوا أهلاً للاجتهاد، فهم إذا حكموا فيها برأيهم فهو خطأ، وإذا صوّبهم الإمام فهو خطأ أيضاً لقصورهم عن ذلك.
وثالثها: أن تكون المسألة اجتهادية، ويكون مذهب أمير المؤمنين أن الحق في المسائل الاجتهادية واحد كا لمسائل القاطعة، والوجهان الأولان اللذان عليهما التعويل في تأويل كلامه هاهنا؛ فإن القول بأن الحق واحد في المسائل المجتهدة ليس مأثوراً عنه، ولا حكاه أحد من أئمتنا " عنه، ولا أثره عنه أحد من العلماء، ولو كان لنقله الأصوليون [فيما نقلوه] من المسائل الخلافية الأصولية، وكيف يقال: بأنه مذهب له، وقد كانت مجالس الاشتوار للصحابة رضي الله عنهم في الأقضية والأحكام والفتاوى تفترق بهم على الاختلاف فيما بينهم في هذه الأشياء من غير نكير ولا ذم، ومرة يخالفهم أمير المؤمنين، ومرة يوافقهم، ولم يسمع من أحد منهم إنكار على صاحبه فيما ذهب إليه ولا ذم له، بل يعتذرون [في] المخالفة بأن يقولوا: هذا رأيي وهذا رأيك، فعلى هذا يكون تأويل كلامه فيما ذكره من اختلاف الفتوى.
(أفأمرهم الله بالاختلاف فأطاعوه! [أم نهاهم عنه فعصوه] ): أراد فكان اختلافهم الواقع عن أمر من جهة الله تعالى إذا وقع كانوا ممتثلين لأمره كسائر الأوامر الشرعية؟ وهذا الاستفهام وارد على جهة الإنكار.
(أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه!): أراد أو كان سبب الخلاف هو أن الدين لم يتم أمره فوكل بعضه إلى رأيهم فأتموه؟
(أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى!): يريد أو شاركوه في الإلهية ومعرفة المصلحة، فلهم أن يقولوا من جهة أنفسهم لما عرفوا المصلحة، وعليه أن يرضى بأقوالهم لما كان كأحدهم؟
(أم أنزل الله ديناً تاماً فقصر الرسول [صلى الله عليه وآله] عن تبليغه وأدائه؟): فلأ جل هذا استغنى بهم في إبلاغهم ، فإذا كانت الاحتمالات هذه لا وجه لها، ولا يمكن حصول واحد منها بطل الاختلاف في الدين، ولن يكون الحمل مستقيماً إلا على ما ذكرناه وتأولناه، ثم أورد آيات من القرآن مستدلاً بها على عدم الاختلاف في القرآن، كقوله تعالى : ({مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ })[الأنعام: 38]: ووجه الاستدلال بها أنا نقول: إذا كان القرآن مشتملاً على كل شيء في البيان فمن أين يقع الخلاف؟!
وقوله تعالى: ({تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ })[النحل:89] وإذا كان موضحاً لجميع الأشياء استحال وقوع الخلاف فيه لأن الاختلاف أمارة الاضطراب والارتباك، وهو مناقض لكونه بياناً فيجب نفي الخلاف بدلالته.
وقوله تعالى : ({وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرًا })[النساء: 82]): ووجه الدلالة من هذه الآية هو أن ظاهرها يؤذن بأنه لو كان من جهة غير الله لكان فيه الاختلاف، وقد تقرر بالبرهان القاطع أنه من جهة الله تعالى فيجب بطلان الاختلاف فيه، وهذا هو مقصودنا، ويجب حمل ما ذكره عليه السلام في ذم الاختلاف على ما كان فيه مخالفة للأدلة القاطعة، فأما ماعدا ذلك [من] وقوع الاختلاف في المسائل الاجتهادية فلا وجه للإنكار على الاختلاف فيها بحال، لما أوضحناه، من أنه عليه السلام قد خالف وخولف في المسائل الاجتهادية، ولم ينكر على الصحابة فيما خالفوه ولا أنكروا عليه، ولهذا قال: (اجتمع رأيي ورأي عمر على تحريم بيع أمهات الأولاد، وأنا الآن أرى بيعهنَّ) من غير نكير لأحدهما على الآخر، وهكذا القول في سائر الصحابة، فإن الاجتهاد فيهم مشتهر من غير نكير ولا مخالفة، وتقرير قاعدة القياس، والرد على منكريه، قد ذكرناه ونصرناه في الكتب الأصولية، وأوردنا مقالتهم في ذلك.
(وإن القرآن ظاهره أنيق): الأنيق: المعجب، يقال: أنق الشيء يأنق أنقاً، إذا أعجب، وإنما كان ظاهره معجباً لما فيه من الدلالة على الأسرار الدقيقة، والمعاني المعجبة، التي لا تزال غضة طرية على وجه الدهر باستنباط العلماء، وأهل الفطانة في كل زمان.
(وباطنه عميق): بئر عميق إذا كان قعرها بعيداً، ومراده أن كل ما يستخرج من بواطن القرآن وأسراره فإنه بعيد غوره لا يستخرج إلا بالقرائح الذكية والفطن الألمعية.
(لا تفنى عجائبه): فني الشيء إذا عدم وذهب، أي لا تزول عجائبه.
(ولا تنقضي غرائبه): تقضَّى الشيء إذا زال، فغرائبه لا زاول لها بحال.
(ولا تكشف الظلمات إلا به): كما يستعار النور للدلالة والحجة فقد تستعار الظلمة للجهل والبدعة، ومراده أن كل مجهول من الأحكام التي تضمنها لا ينكشف عماه إلا بوساطته، ولا يرفع حجابه إلا بدلالته.
(19) ومن كلام له عليه السلام قاله للأشعث بن قيس ، وهو على منبر الكوفة يخطب
فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث [فيه] فقال له: يا أمير المؤمنين، هذه عليك لا لك. فخفض بصره إليه: أي قبضه من التطلع إليه تصغيراً من قدره وحقارة له، ثم قال له:
(وما يدريك ما عليَّ ممّا لي): أراد أن قوله: هذه عليك لا لك، إنما هو كلام من يميز بين الأمور ويتفطن لها ببصيرة نافذة، ويعض على العلم بضرس قاطع، فأما من هو معدود في الأغمار وفي اختلالات أهل الجهل، دائم السقوط والعثار.
(عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين): اللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، واللعنة هي الاسم، والمصدر منه اللعن، كما قال تعالى في الاسم: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ } [الحجر: 35] وقال في المصدر: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [الأحزاب: 68] إنما أنت.
(حائك ابن حائك!): أراد بالحائك هاهنا النمام الذي يحمل الكلام بين الخلق لإدخال البغضاء.
(منافق ابن كافر!): يريد أنك تظهر الإسلام من لسانك، وباطنك مشتمل على خلافه، وأبوك أيضاً كافر لنعمة الله تعالى بما يظهر منه من المخالفة في الدين، أو أراد أنه كافر حقيقة لاحتمال الردة في حاله.
(والله لقد أسرك الإسلام مرة والكفر أخرى !): يريد أنه قد أسر في الكفر مرة وفي الإسلام مرة أخرى، وأخذك الكفار والمسلمون إلى أيديهم، وكنت فيئًا لهم وطعمة لرماحهم.
(فما فداك من واحد منهما مالك ولا حسبك!): يريد أنه بعد ما أسره ما استخلصه من أيديهم مال فيطمع فيه، ولا حسب فيهاب ويخاف سطوته؛ لأن الأسير في العادة إنما يطلق لأحد [هذين] الأمرين، وما فيك واحد منهما، وما أطلقت بعد الأسر إلا مَنًّا عليك بجز الناصية، إذ لا يرجى منك واحد منهما.
(وإن امرأً دلَّ على قومه السيف): يعني أعان عليهم فتك الأعداء، بأن دلَّهم حتى قتلوهم بالسيف .
(وساق إليهم الحتف): الحتف: الموت، وأراد بما ذكره [في ذلك] حديثاً كان للأشعث مع خالد بن الوليد غرَّ فيه قومه، حتى أوقع يوم اليمامة فيهم خالد وقعة عظيمة، وخدعهم، ومكر بهم .
(لخليق أن يمقته الأقرب): فلان خليق بكذا إذا كان حقيقاً به.
وفي نسخة أخرى: (لحري) والحري بالشيء هو الأحق به، والمقت: البغض، فيبغضه القريب بخدعه ومكره.
(ولا يأمنه الأبعد): لإساءته إلى قريبه.
سؤال؛ لمَ أضاف المقت إلى الأقرب، وأضاف عدم الأمان إلى الأبعد، ولم يعكس الأمر في ذلك؟
وجوابه؛ هو أن البغض أمر خاص، وهو إنما يكون لمن تعرف خلائقه في الرداءة فلهذا خصه بالقريب، وأما الأمان فهو أمرعام، وقد يكون حاصلاً في حق من لا يعرف حاله، فلهذا خصه بالأبعد.
(20) ومن خطبة له عليه السلام
(فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم): المعاينة من رؤية العين، كالمناصرة من النصرة ، أراد أنكم لو شاهدتم ما شاهده الأموات من رؤ ية الملائكة، وهول الموت، وتحقق الأحوال كلها، والتحفظ على الأعمال.
(لجزعتم): لقلَّ صبركم عن احتمالها.
(وولهتم ): الوله: الفزع، ولفزعتم مما ترون من شدة الأهوال.
(وسمعتم وأطعتم): أجبتم إلى تحصيل الواجبات، وترك المحرمات بالسمع والطاعة لمشاهدة الأمور العظيمة الموجبة للإلجاء، وفي ذلك بطلان التكليف.
(ولكن محجوب عنكم ما عاينوا ): من الأهوال لما يريد الله من بقاء التكليف عليكم، ولمصلحة استأثر الله بعلمها، والإحاطة بها.
(وقريب ما يطرح الحجاب): بهجوم الموت، ومعاينة ما عاينوا، ثم إن هذه الكلمة أعني قوله: وقريب ما يطرح الحجاب، مع اختصاصها بالجزالة في اللفظ، والبلاغة في المعنى لبالغة في الموعظة والزجر كل غاية، و(ما) إما زائدة، وإما مصدرية.
(ولقد بُصِّرتم): بما نصب لكم من الأدلة، وتخويف الرسل من عقاب الله باقتحام محارمه.
(إن أبصرتم): إن كان لكم من أنفسكم زاجر.
(وأُسمعتم): الوعيدات كلها، والقوارع العظيمة.
(إن سمعتم): إن أصغيتم آذانكم لها، ونجعت فيكم.
(وهُديتم): بنصب الأدلة وإيضاح الحجج، وبما ركب في عقولكم من اجتناب ما يردي، وحسن اتباع ما ينجي.
(إن اهتديتم): إن ظهر [لكم] على أنفسكم الهداية بتأدية الواجب عليكم، والانكفاف عن المحرمات.
(لحق أقول لكم ): أنطق بالحق الذي لاوصم فيه، وبالجد الذي لا هزل يتطرق إليه، ويحتمل أن يكون قسماً بصدق قوله، ولهذا جاء جوابه باللام .
(لقد جاهرتكم العبر): يريد أعلنت، من قولك: جهرالرجل بكلامه إذا أعلنه، أو أبدأت لكم حالها من قولهم: جاهربالعداوة إذا أبداها فهي معلنة أمرها[لهم] ، مبدية أحوالها في الوعظ والتذكير.
(وزجرتم): منعتم عن ارتكاب المحارم.
(بما فيه مزدجر): بما فيه نهاية الازدجار، وغاية الاتعاظ من القوارع والتخويفات على ألسنة الرسل والعلماء.
(وما يبلغ عن الله بعد رسل السماء إلا البشر): أراد أنه لا يبلغ عن الله تعالى ما فيه مصالح العباد إلا الملائكة أو الرسل ، فأما الملائكة فهم مخصوصون بإبلاغ ذلك إلى الأنبياء، والأنبياء يبلغونه إلى الخلق فهم مبلغون عن الله تعالى بواسطة الملائكة، فلهذا قال: لا يبلغ عن الله بعد رسل السماء إلا البشر، وهو يشير إلى نفسه أيضاً فإنه مُبَلِّغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما حمل من هذه المواعظ.
(21) ومن خطبة له عليه السلام
(فإن الغاية أمامكم): الغاية هي: منقطع الشيء وحدُّه، وأراد بذلك الجنة والنار، فإنهما الغايتان لكل مخلوق، فإن مصيره لا محالة [إما] إلى جنة وإما إلى نار، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ((وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أوالنار)) ، وهما أمام لكل واحد يأمُّهما .
(وإن وراءكم الساعة): أراد أن الجنة والنار قائدتان لكم بالأزمة، وأن الساعة سائقة لكم من ورائكم.
(تحدوكم): مأخوذ من حدو الإبل وهو سوقها، وقد حدوت الإبل أحدوها حدواً إذا سقتها، ويقال: لريح الشمال حَدْوَاء؛ لأنها تحدو السحاب أي تسوقه، فمن كان مقوداً بزمامه، مسوقاً من خلفه فخليق بأن يكون مسرعاً به، واصلاً إلى غايته.
(تخففوا تلحقوا): معناه: ليكن همكم التخفف من الأوزار، وطرح أثقال الدنيا تلحقوا بأهل النجاة، فإن الناجي من سبق، وإن الهالك من تأخر.
(فإنما ينتظر بأولكم آخركم): يريد أن من سبق فهو في مهلة الانتظار لمن تأخر عنه حتى يكمل الكل، فلينظر الناظر ما اشتملت عليه هذه الخطبة من الكلام[الذي] قصرت أطرافه، وطالت به بلاغته، وقلَّت كلماته، وكثرت معانيه، وعظمت فصاحته، حتى مال راجحاً بكل كلام، وصار إماماً له وأي إمام .
(22) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها أصحاب الجمل
(ألا وإن الشيطان قد ذمر حزبه): ذمر أي حث أعوانه واستلحقهم.
(واستجلب خيله ): أي طلب الإجلاب بها والانتصار، وما قصده بذلك إلا.
(ليعود): ليرجع.
(الجور): الظلم، وإنما سمي جوراً؛ لأنه يعدل به عن طريق العدل والإنصاف.
(إلى أوطانه): إلى أماكنه التي يستوطنها، ويجعلها مقاماً له.
(ويرجع الباطل إلى نصابه): النصاب هو: الأصل، يريد ليعود إلى أصله ومستقره من الإغواء والدعاء إلى الضلالة.
(والله ما أنكروا عليّ منكراً): أي ما وجدوا منكراً فينكرونه، وما غرضهم إلا البغي والصد عن الدين.
(ولا جعلوا بيني وبينهم نِصفاً): النصف بكسر الفاء هو الاسم من الانتصاف، والمصدر هو الإنصاف، أي ما أرادوا الانتصاف من نفوسهم فيقصدون أخذ الحق وإعطاءه.
(وإنهم ليطلبون حقاً): وهو المطالبة [لقتلة] عثمان بدمه :
(هم تركوه): تضييعاً لحقه، وإهمالاً لما يلزم من الذب عنه.
(ودماً هم سفكوه): يعتلون عليَّ بدم عثمان، وهم على الحقيقة سفكوه بالخذلان له، والتأليب عليه، وهو يخاطب بذلك طلحة والزبير، لأنهما تأخرا عن نصرته عند حصره وألبّا عليه.
(فلئن كنت شريكهم فيه): أراد إن كنت قد شاركتهم في قتله وكان رأيي معهم في ذلك.
(فإن لهم لنصيبهم منه): فنحن شركاء في ذلك، فما بالهم يضيفون قتله إليّ على انفرادي، وهم قد شاركوني فيه.
(وإن كانوا ولوه دوني؛ فما التبعة إلا عندهم): وإن كانوا استبدوا هم بقتله والدعاء إلى ذلك والتجميع [عليه] فما التبعة من الإثم وسائر التبعات في القتل إلا مستقره عندهم دوني، وعلى كلا الحالين فلم ينصفوا من نفوسهم الحق في ذلك، ولا أدلوا بحجة قاطعة يعذرون فيها، ولا قصدوا بذلك إلا أنهم.
(يرتضعون أماً قد فطمت): الأم إذا فطمت ولدها تقلص ما في ثديها من اللبن وزال، وأراد بذلك أنهم يجعلون قتل عثمان وطلب ثأره بزعمهم وصلة وذريعة إلى ما لايصلون إليه أبداً، وطلب ارتضاع الأم بعد فطامها، جعله استعارة لاستحالة ما طلبوه من ذلك.
(ويحيون بدعة قد أميتت): أراد بإحياء البدعة الميتة هو أن أهل الجاهلية كانوا يأخذون البريء بذنب المجرم، فمطالبتهم لي بدم عثمان إحياء لهذه البدعة وقد أماتها الله تعالى، وأزال آثارها بالإسلام.
(وإن أعظم حججهم ): فيما يأتون به، ويدلون من أباطيلهم.
(لعلى أنفسهم): يريدون بها الانتصار، وهي في الحقيقة نصرة عليهم؛ لأن الحجة التي يأتي بها المحتج تقريراً لمذهبه وإثباتاً له، ثم تكون حجة عليه فهذا هو الغاية في إدحاضه، وإبطال رونقه، وإذهاب جماله.
(يا خيبة الداعي!): خاب الرجل إذا لم ينل مطلوبه، والخيبة المصدر، وتارة تكون مرفوعة على الابتداء كقولك: خيبة لزيد، وتارة تكون منصوبة على المصدرية ، متصلاً بها حرف النداء كقولك: يا خيبة زيد ، ويا خيبة الداعي، والمنادى محذوف ، أي ياقومي، كقوله تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ }[يس: 30] وغير مصدر كقولك: خيبة لزيد، كقولهم: صدعاً له وعقراً.
قال الكسائي: ويقال: وقعوا في وادٍ يُخُيّب بضم الياء والخاء المعجمة أي في الباطل ، وأراد بالداعي معاوية وأهل الشام.
(من دعا!): من الأجلاف وأهل الغباوة الذين لا بصيرة لهم.
(وإلى ما أجيب!): من البدع والضلالات، وإقامة عمود الفتنة، ومن وما استفهام وارد على جهة التعجب، ومن في موضع نصب بدعا، وما في موضع جر بالحرف قبلها.
(وإني لراض بحجة الله عليهم): ببرهانه الذي احتج به عليهم، حيث قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ }[الأنفال: 1] ولا تقوى ولا إصلاح مع البغي والفساد.
(وعلمه فيهم): أراد حكمه، حيث قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }[الحجرات: 9] فإن أعطيت هذين الأمرين قبلتهما، لما يكون فيهما من المصلحة.
(فإن أبوا): أي كرهوا ما قلته، وخالفوا أمر الله في ذلك.
(أعطيتهم حدَّ السيف): حدُّ السيف: شباته ، وحدُّ الرجل: بأسه، يقول: مالهم عندي بعد الإدبار عما قلته إلا القتل بالسيف ، وهو من الكنايات الرفيعة.
(وكفى به شافياً من الباطل): لما فيه من هدم مناره.
(وناصراً للحق!): لما فيه [من] إشادة معالمه.
(ومن العجب بعثهم إليَّ أن أبرز للطعان!): من هاهنا دالة على التبعيض، والمعنى أن بعض ما يعجب منه ويكثر منه العجب أنهم أرسلوا [الرسل] ، والبعث: الإرسال، قال الله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ }[البقرة: 213] أي أرسلهم أن أبرز للرماح للطعن.
(وأن أصبر للجلاد): وأن أكره نفسي على الصبر لجلاد السيوف، والمجالدة: هي المضاربة بالسيف، يقال: اجتلد القوم وتجالدوا، إذا فعلوا ذلك.
(هبلتهم الهبول!): الهبول [جمع هبل و] هي: المرأة التي لا يعيش لها ولد، وهبلته أمه إذا ثكلته، وهذا وارد على جهة الدعاء عليهم، أي ثكلتهم أمهاتهم، ويحتمل أن يكون الهبول من أسماء الداهية، وهبلتهم الهبول أي ركبتهم الداهية [من قولهم] : هبله اللحم إذا ركبه وعظم فيه.
(لقد كنت): يحتمل في كان أن تكون هي الناقصة، ويكون معناه: لقد كنت على ما أنا عليه من الشدة والبسالة، ويحتمل أن تكون هي التامة، ويكون معناها: لقد وجدت وحصلت .
(وما أهدد بالحرب): لشدة ممارستي لها وولوعي بها.
(وما أرهَّب بالضرب): بالصوارم؛ لكثرة اشتياقي إلى الموت، فقد قال في كلام قد شرحناه من قبل: إنه آنس به من الصبي بثدي أمه.
(وإني لعلى يقين من ربي): فأنا مشتاق إلى لقائه.
(وفي غير شبهة من ديني): فأحب الانتقال إليه.
(23) ومن خطبة له عليه السلام، يحض فيها على صلة الرحم
(أما بعد؛ فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض): أما بعد كلمة يستعملها الفصحاء في الخطب والرسائل، وبعد فيها تستعمل مضافة، كقولك: أما بعد حمد الله، ومقطوعة عن الإضافة كقولك: أما بعد فإن الأمر كذا، والأمر في قوله عليه السلام: إن الأمر ينزل من السماء، فإنه عبارة عن التقدير والقضاء، ونفوذ الحكم والإمضاء من جميع الكائنات في العالم كله، فإنه ينزل من السماء على حسب المصلحة، كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }[الذاريات: 22].
(كقطر المطر): القطر: جمع قطرة كتمرة وتمر، وإنما شبهه بالقطر لما فيه من الكثرة، وتراكم العدد وانتشاره.
(إلى كل نفس ما قدِّر لها ): المراد يصل إلى كل نفس ما قدر لها، وسبق به العلم في الأزل.
(من زيادة): في أجل أو رزق أو جسم أو غير ذلك مما يكون مصلحة.
(أو نقصان): من هذه الأمور كلها، فإن كل شيء عنده بمقدار معلوم، وأمر مقدر محتوم: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }[يس: 12].
(فإذا رأى أحدكم لأخيه غفيرة): الغفيرة: الزيادة والكثرة، والرؤية هاهنا يحتمل أن تكون من رؤية العين، ويحتمل أن تكون من رؤية العلم.
(في أهل أو مال أو نفس فلا يكون له فتنة): أراد أن الواحد إذا رأى لغيره زيادة في النفس بكثرة الأولاد، والزيادة في الأجسام أيضاً بأن تكون كاملة عظيمة، أو زيادة في الأهل بكثرة العشائر والتكثر بالأصهار وسائر القرابات، أو زيادة في الأموال: العقارات، والدور، والحيوانات، وغير ذلك من الأموال، فلا يكون الضمير للأخ فتنة بأن يحسده على ما أوتي، فإن شغله بذلك شغل بما لا فائدة فيه، ولا ثمرة له، مع ما فيه من الوعيد والتعرض للأُثمة من جهة الله تعالى، وذلك يكون على وجهين:
أحدهما: أن يريد وصول تلك النعم بعينها إلى نفسه، وهذا هو الحسد بعينه، فيريد وصولها إليه وزوالها من أخيه، وقد ورد ذم الحسد في كتاب الله تعالى، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله، كقوله صلى الله عليه وآله: ((ما ذئبان ضاريان في زريبة أحدكم بأسرع من الحسد في حسنات المؤمن)) وهو مذموم على كل حال.
وثانيهما: أن يريد مثل ما لأخيه ولا يريد زوالها منه، فهذه هي الغبطة وليست حسداً، ومنه قولهم: اللَّهُمَّ، غَبْطاً ولا هَبْطاً، أي نسألك الغبطة، ونعوذ بك أن نهبط عن حالنا ، وهي محمودة.
(فإن المرء المسلم): السالم في إيمانه عما يشونه .
(ما لم يغش دناءة): ما شرطية، وغشي الشيء إذا تلبَّس به واختلط، ومنه قولهم: غشيهم الليل، وقد دنأ الرجل دناءة ودنؤة أي سقط في فعله، والدنيئة: النقيصة، ورجل دنيء إذا كان سافلاً خبيثاً، ومعناه تغشاها، أي يتلبس بها وتكون فعلاً[له] .
(تظهر): تكون مكشوفة، من ظهر الشيء إذا كان مكشوفاً.
(فيخشع لها إذا ذكرت): الخشوع: هو الذل والخضوع من أجلها إذا ذكرها ذاكر، يريد بذلك نقصه، وهو بالخاء المعجمة، وروايته بالجيم تصحيف لا معنى له؛ لأن الجشع هو: الحرص، ولا وجه له هاهنا.
(ويُغْرَى بها): غري بالشيء إذا ألصق به، ومنه الغِرَى لإلصاقه بما يغرى به.
(لئام الناس): جمع لائم كقائم وقيام، وهم: سفلة الناس، ونازلوا الهمة منهم.
(كان): هو جواب الشرط.
(كالفالج): الظافر الفائز بفلجه .
(الياسر): اليسر، والياسر واحد، وهو: اللاعب بقداح الميسر.
(الذي ينتظر أول فوزة من قداحه): انتظرت فلاناً إذا ترقبته ليأتي، وفاز فلان يفوز فوزاً إذا نجا، والفوز: الهلاك أيضاً، وهو من الأضداد، والفوز إنما يظهر من أجل القداح، ومن هاهنا لابتداء الغاية، مثلها في قوله تعالى: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ }[قريش: 4].
(توجب له المغنم): وهو النصب المسماة بهذا القداح .
(ويرفع عنه بها المغرم): ويزول عنه ويجاوزه بهذه القداح الفاتحة غرم الجزور الذي يحصل بالقداح الآخر.
سؤال؛ هذه منه عليه السلام إشارة إلى قداح الميسر، وأقلامه والاستقسام بها، فلا بد من بيانه وصفته؟
وجوابه؛ هو أن الميسر عبارة عن القمار وهو مصدر من يسره ييسره، واشتقاقه من اليسر؛ لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهوله، والأزلام: جمع زلم كصرد وهو الواحد من القداح، وجملتها عشرة: الفذّ، والتوءم، والرقيب، والنافس، والحلس، والمسبل ، والمعلّى، والمنيح، والسفيح، والوَغْد ، لكل واحد من هذه نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء، وقيل: ثمانية وعشرين إلا لثلاثة منها وهي:
المنيح، والسفيح، والوغد، فللفذ سهم، وللتوءم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللنافس أربعة، وللحلس خمسة، وللمسبل ستة، والمعلى سبعة، يجعلونها في الربابة ، وهي خريطة ويضعونها على يدي عدل منهم ثم يخلخلها ويدخل يده، فتخرج باسم كل رجل منهم قدحاً، فمن خرج له قدح من ذوات النصب المقدرة أخذه، ومن خرج له قدح مما لانصيب له لم يأخذ شيئاً، وغرم الجزور كلها بدفع قيمتها، وقوله عليه السلام: توجب له المغنم، إشارة إلى القداح التي لها السهام المقدرة، وقوله: ويرفع عنه المغرم ، إشارة إلى القداح التي لا نصيب لها، وهي توجب المغرم وهو دفع قيمة الجزور.
(وكذلك): الإشارة إلى ما تقدم ذكره.
(المرء المسلم البريء من الخيانة): الخالص من الخيانة، وهو ما ذكره من الحسد لأخيه المسلم.
(ينتظر من الله إحدى الحسنيين): يترقب إحدى الخصلتين الحسنيين تثنية الحسنى، كالفضليين تثنية فضلى، يريد أنه يترقب أحد أمرين حسنين من جهة الله تعالى:
(إما داعي): من جهة:
(الله ): وهو الموت، والانتقال إلى رحمة الله الواسعة.
(فما عند الله خير وأبقى ): من الثواب العظيم والدرجات العالية أفضل وأجزل وأدوم وأكثر استمراراً.
(وإما رزق الله): وهو النفع الذي يأتي من جهته.
(فإذا هو ذو أهل): أولاد، وعشيرة.
(ومال): من العقارات، وأنواع الذخائر كلها.
(ومعه دينه): بترك الحسد، والتلبس به.
(وحسبه): أصله، لأن من كان له أصل شريف وحسب فاخر فإنه يأنف عن الحسد والتضمخ برذائله.
(إن المال والبنين حرث الدنيا): متاع الدنيا وزينتها، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ }[آل عمران:14] إلى آخر جملهما ، ثم قال بعد ذلك: {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }[آل عمران:14].
(والعمل الصالح حرث الآخرة): فيحصل منه الفوز بالجنة ونجاة نفسه من النار من حرث الآخر ة، ويحصل من حرث الدنيا متاع أيام قلائل، والناس مقيمون، فمنهم من يحرث للدنيا، ومنهم من يحرث للآخرة، كما قال عليه السلام: ((إن للدنيا أبناء، وللآخرة أبناء، فكونوا من أبناء الآخرة )).
(وقد يجمعهما الله لأقوام): فيعطيهم الدنيا وزينتها، ولا ينقصهم من أجورهم في الآخرة، وكل ذلك مصلحة استأثر الله تعالى بعلمها والإحاطة بها.
(فاحذروا من الله): خافوه، وتحرزوا عن مواقعة سخطه، وملابسة غضبه.
(ما حذَّركم من نفسه): الذي أبلغه إليكم على ألسنة الرسل من جهة نفسه، من القيام بما أوجب وأمر، والكفّ عمَّا نهى [عنه] وحذَّر.
(واخشوه خشية ليست بتعذير): عذر في الأمر إذا كان مقصراً فيه، ومراده ها هنا أن يخافوا الله خوفاً لاتقصير فيه من جهتهم، ولا تهاون بحاله، وترك التقصير فيه القيام بحقه.
(واعملوا في غير رياء ولا سمعة): واعملوا الأعمال الصالحة سراً بينكم وبين الله، ولا تظهروها على أعين الخلق طلباً للرياء، ولا تحدثوا بها بألسنتكم فتكون سمعة.
(فإنه من يعمل لغير الله): وهو أن يقصد به الرياء والسمعة اللتين ذكرهما.
(يَكله الله إلى من عمل له): يجعل ثوابه إلى الناس الذين عمل من أجلهم، والمعنى يكل أمره إلى من لا يقدر على إعطائه الأجر.
(نسأل الله منازل الشهداء): التي أعدها الله تعالى لهم بما كان من استشهادهم في سبيله وصبرهم على ذلك، فإن لهم منازل عند الله لا يستحقها إلا هم.
(ومعايشة السعداء): المعايشة: مفاعلة من العيش، وهي غير مهموزة؛ لأن الياء فيها أصلية، بخلاف رسائل، وإسعاد المعيشة هو تيسيرها وتسهيلها، وهو المراد من قوله تعالى: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا }[النحل:75].
(ومرافقة الأنبياء): فإن مرافقة من هذه حاله حظوة عظيمة، ومنزلة رفيعة، أما في الدنيا فيهتدي بهديهم، وأما في الآخرة فالكون معهم في الجنة، وإنما خصَّ الدعاء بهذه الأمورالثلاثة؛ لأن من رزقه الله رزقاً هنيئاً في دنياه من غير كلفة يناله في طلبه، ورافق الأنبياء وكان معهم، ورفعه الله في منازل الشهداء ففد حاز الخير بأسره في الدين والدنيا، وأحرزه بحذافيره في الآخرة والأولى.
(أيها الناس، [إنه] لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال): لايزعم جهلاً منه وظناً بخلاف الصواب، وإن أحرز المال، وكان في سعة منه أن ذلك يغنيه.
(عن عشيرته ): أهله وبنو عمه الأقربون إليه، وإنما سموا عشيرة أخذاً من التعاشر، وهو: التخالط لاشتباك أنسابهم.
(ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم): أراد منعهم له بالأيدي عمّن أراد البطش به، وبما يكون من ألسنتهم من الدفع لمن أراد ثلم عرضه.
(وهم أعظم الناس حيطة من ورائه): حاطه حيطة وحياطة، إذا كلأه ورعاه، والحيطة مضافة إلى من، والمعنى في ذلك أن القرابة هم أشد الناس رعاية وكلاءة لمن وراءه من الأولاد، وحفظ ما يتعلق به في حال الغيبة والموت؛ لأن قوله: من ورائه يحتمل الأمرين جميعاً.
(وألمهم لشعثه): وأجمعهم لما تفرق من ذلك، والشعث: انتشار الأمر وتفرقه، يقال: لمّ الله شعثك أي جمع أمرك المنتشر.
(وأعطفهم عليه عند نازلة إن نزلت به): العطف هو: الرجوع، من قولهم: عطفت الناقة على ولدها إذا رجعت لإرضاعه، والنازلة: الواحدة من شدائد الدهر، يقال: نزلت بهم نازلة، إذا أهمهم أمر عظيم، وأراد أنهم أرجع الناس لتفريج ما ينزل عليه من الشدائد والأهوال لمكان الرحم ووشيج القرابة.
(ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس): لسان الصدق يحتمل أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته نحو مسجد الجامع على تأويل لسان القول الصدق، فيكون المعنى اللسان الصادق وهو الثناء الحسن والحمد العالي، وعبَّر باللسان عمّا يوجد به كما عبر باليد عمّا يكون فعله باليد، وهي العطية، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا }[مريم:50]، وقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ }[الشعراء:84].
(خير له من المال يورِّثه غيره): وإنما كان خيراً من المال لأمور ثلاثة:
أما أولاً: فلأن نفع المال عائد إلى غيره بعد موته، ونفع الثناء راجع إليه نفسه.
وأما ثانياً: فلأن المال يزول ويتغير، بخلاف الثناء فإنه لايزول ولا يتغير، ويبقى على وجه الدهر.
وأما ثالثاً: فلأن لسان الصدق لشرفه جعله الله ميراثاً للأنبياء كما حكيناه، والمال لحقارته جعله الله ميراثاً للفراعنة، فلا جرم كان ما قاله عليه السلام حقاً لما قررناه.
(ألا لا يعدلنَّ أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة): [الخصاص] والخصاصة: الفقر، قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }[الحشر: 9] ومراده هو النهي عن العدول عن القرابة إذا رأى بهم خصاصة.
(أن يسدَّها): أن يصلحها، من قولهم: سددت الثلمة إذا أصلحتها.
(بالذي لا يزيده إن أمسكه): بالما ل أو بالنفع الذي لا يزيده غنى إن هو تركه لنفسه.
(ولا ينقصه إن أهلكه): ولا يؤثر في حاله بالنقصان، إذ ما نقص مال من صدقة، إن أهلكه بإعطائه إياهم.
(ومن يقبض يده عن عشيرته): ومن يقبض عطاءه ونعمته؛ لأن اليد عبارة عن النعمة، عن أقاربه وأهل خاصته من أهله.
(فإنما تقبض [منه] عنهم يد واحدة): فحقيقة حاله أنه قبض يده لا غير وهي يد واحدة، وهم إذا قبضوا أيديهم بالتأخر عن نصرته، وإعانته على الأمور، ومرافدتهم له نقصوه وقلّوه.
(وتقبض منهم عنه أيد كثيرة): إذ هم آحاد وأشخاص عدة فلهذا كثرت أيديهم.
(ومن تلن حاشيته): لين الحاشية، جعلها عليه السلام كناية عن حسن الخلق ولين الجانب، كما جعلوا قولهم: فلان يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، كناية عن تحيره.
(تستدم من قومه المودة): لأنهم إذا ألفوه بخفض جناحه وسهولة أخلاقه دام الوداد؛ لأن سببه لايزال متجدداً، فلهذا وجب دوامه وبقاؤه، وما أحسن ما ضمَّنه هذه الخطبة من الحكم الوافية، وحشاه في أثنائها من المواعظ الشافية، وما يعقلها إلا العالمون.
(24) ومن خطبة له عليه السلام
(ولعمري ماعليَّ من قتال من خالف الحق، وخابط الغي): العمر إذا كان مجرداً عن اللام جاز في عينه الفتح والضم، تقول: عَمُرك طويل، وعُمرك طويل، فإذا أدخلت اللام فليس فيها إلا الفتح، فلهذا تقول: لعمرك ولعمري، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي لعمرك قسمي، ما عليَّ من حرج في قتال من خالف الحق بفسق وتمرد، وخابط الغي بجهل وضلالة، والخابط هو: الذي يسير على غير الجادة.
(من إدهان ولا إيهان): الإدهان هو: المصانعة، والإيهان هو: الضعف، وقوله: من إدهان ولا إيهان، بعد قوله: على من خالف الحق وخابط الغي من باب اللف والنشر في علم البديع، والمعنى في ذلك ما علي من قتال من خالف الحق من إدهان أي مصانعة، ولا على من خابط الغي من إيهان أي ضعف، فلف أولاً ثم نشر ثانياً بإلحاق كل واحد ما يليق به، أي لا يمنعني من قتال مخالفي الحق المصانعة له في ذلك، ولا يمنعني من قتال الخابط ضعفي عنه.
(فاتقوا الله عباد الله): فمن حق من كان متسماً بسمة العبودية أن يكون ملازماً لتقوى سيده ومولاه، ومراقبة أحواله في السر والجهر.
(وفروا إلى الله): إلجاءوا إليه بالأعمال الصالحة.
(من الله): من عذابه وسخطه وأليم عقوبته.
(وامضوا): أي استمروا، من قولهم: فلان ماضي على طريقته، أي مستمراً عليها.
(في الذي نهجه ): أي أوضحه وبيَّنه، ونهج الطريق إذا بيَّنها وأوضحها .
قال العبدي :
ولقد أَضَاءَ لَكَ الطريقُ وأَنْهَجَت
سُبُلُ الْمَسَالكِ والهدى يُعْدي
أي تُعِيْنُ وتُقَوِّي.
(وقوموا): أي انهضوا، من قولهم: قام بالأمر إذا نهض به.
(بما عصبه): أي ربطه من الأوامر والنواهي وأنواع التكاليف كلها.
(بكم): أي بنفوسكم وذواتكم.
(فعليٌّ): أي المشهور بالصفات والسمات، القائم بين أظهركم، يدعوكم إلى الله.
(ضامن): أي متكفِّل.
(بفلحكم ): فوزكم ونجائكم.
(آجلاً): في الآخرة بالثواب وإحراز المراتب العالية.
(إن لم تُمْنَحُوْهُ عاجلاً): في الدنيا بالنصر على الأعداء، والظفر بهم، والمنحة: العطية.
(25) ومن خطبة له عليه السلام، وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد
وقدم عليه عاملاه على اليمن، وهما: عبيد الله بن العباس ، وسعيد بن نمران ، لما غلب عليهما بسر بن أرطأة ، فقام عليه السلام إلى المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد، ومخالفتهم له في الرأي، فقال:
(ما هي): الضمير للقصة ، كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } [الأنعام: 29]، وقوله تعالى[{إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ }[الأعراف: 155]: وقد يرد مذكراً، ويراد به الأمر كقوله:] {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ }[المؤمنون: 25] وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ }[الزخرف: 59] وهوضمير يفسره مابعده، ويستعمل في الأمور التي عظم شأنها وفخم أمرها.
(إلا الكوفة): أي القصة المعجبة، وهي ولاية الكوفة وأمرها.
(أقبضها وأبسطها): لا أمر لي في بلدة سواها بالقبض، والبسط، والحل، [والعقد] ، والإبرام، والنقض، فوضع القبض والبسط فيها موضع القهر والسلطنة لما كانا من فوائدهما.
(إن لم تكوني أنت): إن لم يكن شأنك وأمرك في نفسك.
(تهبُّ أعاصيرك): هبت الريح إذا هاجت، والأعاصير: جمع إعصار، وهي ريح تثير الغبار، وترتفع [إلى السماء] كالعمود، قال الله تعالى: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ }[البقرة: 266] والمراد بذلك نهوض أهل الكوفة في نصرته والإقبال إليه، والريح قد ترد عبارة عن النصر، كما قال تعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }[الأنفال: 43] والمعنى في هذا إن لم يكن أمرك وشأنك نصرتي وإعانتي.
(فقبحك الله!): الفاء جواب الشرط في قوله: إن لم تكوني أنت، وقبحه الله أي نحاه [الله] عن الخير، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ }[القصص: 42].
ثم تمثل بقول الشاعر:
(لَعَمْرُ أَبِيْكَ الْخَيْر يا عمرُو إنَّني ... على وَضرٍ من ذا الألاءِ قَليلِ)
ولنذكر إعرابه، وموضع الشاهد منه:
أما إعرابه: فالعمر مبتدأ، وهو مقسم به، وخبره محذوف وتقديره: عمر أبيك قسمي، والمعنى: أقسم بعمر أبيك وبقائه.
والخير يجوز فيه الجر صفة لأبيك أي صاحب الخير، والرفع على إضمار مبتدأ، والنصب على المدح، كأنه قال: أمدح صاحب الخير، إنني هو جواب القسم.
والوضربالضاد المعجمة: ما يجده الإنسان من الرائحة في يده من طعام فاسد.
ذا: اسم إشارة.
الألاء: شجر خبيث الرائحة والطعم، وهو مجرور صفة لذا، وقليل مجرور صفة لوضر، ويروى: (من ذا الإناء)، وعلى هذا يكون ذا بمعنى صاحب، أي من صاحب الإناء أي الوضر من صاحب الإناء، وهو عبارة عما يوضع فيه.
وأما موضع الشاهد منه فإنما أورده مثلاً، على معنى أنه لم يبق معه من الولاية إلا أمر قليل فاسد رديء، ولهذا كنى عنه بالوضر لقلته ورداءته وفساده.
ثم قال [ عليه السلام] :
(أنبئت بُسراً قد اطَّلع على اليمن): أعلم بسراً مطلعاً على اليمن، واطلع افتعل من قولهم: اطلعت على باطن أمره، قال الله تعالى: {اطَّلَعَ الْغَيْبَ }[مريم: 78] ومراده إشرافه على اليمن بالقهر والاستيلاء.
(وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم): معاوية وأصحابه من أهل الشام.
(سيدالون منكم): الإدالة: الغلبة، أي يغلبونكم و يقهرونكم، لما أرى فيكم من التخاذل وفساد الآراء، وأدالنا الله من عدونا أي نصرنا عليه، وما ذاك إلا.
(بإجماعهم على باطلهم): إتفاق كلمتهم على نصرة الباطل الذي أتوه.
(وتفرقكم عن حقكم): وتشتت آرائكم عن الحق الذي دعيتم إليه.
(ومعصيتكم إمامكم في الحق): وترككم طاعة إمامكم فيما يأمركم به من إتيان الحق وفعله.
(وطاعتهم إمامهم في الباطل): وانقيادهم لما يأمرهم إمامهم من إتيان الباطل وفعله.
(وبأدائهم الأمانة): وبإيصالهم الأمانة كل ما أئتمنهم عليه.
(إلى صاحبهم): من يقوم بأمرهم ويتولى تدبير حالهم.
(وخيانتكم): لي في كل ما أمنتكم عليه.
(وبصلاحهم في بلادهم): من ترك البغي والظلم، والاحتكام لأمر صاحبهم.
(وفسادكم): بالبغي والتظالم، ومخالفة أمري.
(فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بِعِلاقته): القعب: إناء من خشب له علاقة، ومراده أن مصداق مقالتي فيما قلته من هذه الصفات الذميمة أني لو أئتنمت أحدكم على شيء حقير لم يؤده على حاله، وخان فيه، والِعِلاقة بالكسر هي: ما يحمل به القوس والقدح، والعَلاقة بالفتح هي: علاقة الحب وعلاقة الخصومة، فالأول هو اسم، والثاني مصدر.
[(اللَّهُمَّ، إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني)]
(اللَّهُمَّ): أصله يا الله، لكن طرح حرف النداء، وعوضت الميم المشددة منه.
(أمث قلوبهم): بتفرقها وتشتت أمرها.
(كما يماث الملح في الماء): ماث الملح يميثه إذا فتَّته، وأذهب أجزاءه.
(والله لوددت ): تمنيت.
(أن يكون لي بكم): عوضكم وأنتم ألوف مؤلفة وعدد جم.
(ألف فارس): هذه العدة عوضاً عن تلك العدة.
(من بني فراس بن غنم ): قبيلة من قبائل العرب مختصون بالشجاعة وجودة الفروسية، ثم تمثَّل:
(هُنَالِكَ لَوْ دَعَوْتَ أتاكَ مِنهمْ
فَوَارسُ مثلُ أَرْمِيةِ الْحَمِيْمِ)
ونذكر إعرابه، وموضع التمثيل:
أما إعرابه فاللام في هنالك للبعد كما في ذلك، والأرمية: جمع أرمى، وهو السحاب.
والحميم: المطر الذي يأتي في شدة الحر، والمراد بالسحاب: سحاب الصيف، لأنه يكون أكثر ملائمة لما أراد من حيث كان أشد جفولاً وأعظم حركة؛ لأنه لا ماء فيه فيثقل به؛ لأن ذلك إنما يكون في أيام الشتاء والربيع.
وأما موضع التمثيل: فأراد وصفهم بالسرعة إذا دعوا والإغاثة إذا استغيث بهم.
(26) ومن خطبة له عليه السلام
(إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله ): اصطفاه واختاره بما أيده من المعجزات.
(نذيراً للعالمين): بما أبلغه من الوعيد.
(وأميناً علىالتنزيل): فلا يكتم شيئاً منه، ولا يغيِّره بتحريف ولا تبديل.
(وأنتم معشر العرب): المعشر: جماعة الناس، والمعاشر هي: الجماعات، وانتصابه على الاختصاص، أي أخص معشر العرب.
(على شر دين): مقيمون علىعبادة الأوثان والأصنام، وهي شر الأديان لما فيها من تعظيم غير الله وعبادته.
(وفي شر دار): لا ظلال يظلكم إلا كهوف الجبال وأوراق الشجر.
(منيخون): من قولهم: أنخت الجمل فاستناخ، أي أبركته فبرك.
(بين حجارة خشن): غلاظ.
(وحيات صم): أي لاتسمع، يشير بذلك إلى أنهم أجلاف جفاة لا يسكنون إلا القفار، وموضع الوحش وأماكن الحشرات.
(تشربون الكدر): المتغير من الأمواه.
(وتأكلون الجشب): الجشب بالجيم هو: الطعام الغليظ، وقيل: هو الذي لا إدام معه، وسماعنا له بالجيم لاغير، ومنه الحديث: ((اخشوشبوا واجشوشبوا )) ، من قولهم: طعام خشبٌ بالباء إذا كان جرزاً، واجشوشبوا بالجيم من الجشب، وهو نقيض اللين.
(وتسفكون دماءكم): أراد إهراقها من غير حقها على غير وجهها.
(وتقطعون أرحامكم): لأن التواصل والتوادد إنما يكون بالإيمان ولا إيمان هناك، وأراد بقطع الأرحام عدم التوارث إذ كان لاميراث هناك [يومئذ] .
(الأصنام فيكم منصوبة): أراد الأحجار وغيرها مما لاحياة فيه ولا تمييز له بين أظهركم منصوبة للعبادة من جهتكم.
(والآثام بكم معصوبة): الآثام جمع إثم، وهو: الذنب، وأراد أن الذنوب ملتصقة بكم لتلبسكم ، بها، لازمة لكم لزوم العصابة.
(فنظرت): ففكرت في أمري، وتدبرت عاقبة حالي في الحرب والإقدام عليها.
(فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي): ناصراً إلا من يختص بي من أولادي وأقاربي وأرحامي.
(فضننت بهم): من الضنة وهي: البخل، وهي بالضاد، وظننت من التهمة وهو بالظاء، ولا وجه له ها هنا.
(عن الموت): عن أن أقاتل بهم فيقتلوا فتركت الحرب.
(وأغضيت على القذى): الإغضاء هو: إدناء الجفون على القذى وهو ما يؤذي العين، وهو كناية عن ترك الأمر على صعوبة ومشقة.
(وشربت على الشجا): الشجا: ما يعترض في الحلق من عود أو غيره، ومراده فشربت على مكابدة الشجا في حلقي.
(وصبرت على أخذ الكظم): يقال: أخذ بكظمه أي بمخرج نَفَسِه.
(وعلى أمرِّ من طعم العلقم): العلقم: شجر مر، ويقال أيضاً للحنظل، ولكل ما أمرَّ من الشجر: علقم.
(ولم يبايع): يريد عمرو بن العاص حين بايع لمعاوية.
(حتى شرط): إلا بشرط.
(أن يؤتيه على البيعة ثمناً قليلاً): من حطام الدنيا لايدوم في يده ولا يبقى هو له.
(فلا ظفرت يد المبايع، وخزيت أمانة المبتاع): المبايع يحتمل أن يكون اسم فاعل، وأن يكون اسم مفعول، وهكذا المتبايع فإنه صالح على لفظه بهما جميعاً، وسياق الكلام وارد على وجهين:
أحدهما: أن يكون وارداً على جهة الدعاء ، والمعنى فلا أظفر الله يد كل واحد منهما؛ لأن المبايعة مفاعلة فهي حاصلة منهما جميعاً، وأخزى الله أمانة كل واحد منهما أيضاً.
وثانيهما: أن يكون وارداً على جهة الإخبار، ويكون المعنىأن يد كل واحد منهما غير ظافرة بمرادها، لما في ذلك من بيع الآخرة بالدنيا، وأن أمانة كل واحد منهما خازية؛ لما في ذلك من البغي والإعانة على الفسوق بمخالفتي وشقاقي.
(فخذوا للحرب أهبتها): من السلاح والكراع.
(وأعدوا لها عدتها): من الصبر والشجاعة، واحتمالات المكاره.
(فقد شب لظاها ): حمى جمرها .
(وعلا سناها[واستشعروا الصبر، فإنه أدعى إلى النصر] ): وارتفع ضوؤها، والنار تستعار للحرب، لما فيها من الشدة والتوقد، قال الله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ }[المائدة: 64].
وهذه الخطبة على تقارب أطرافها، قد اشتملت على فنون متفرقة وأنواع مختلفة، لا تناسب بينها، فبينا هو يتكلم في ذكر الرسول، إذ خرج إلى ذكر حال العرب قبل البعثة، إذ خرج إلى ذكر ضِنَته بأهله، إذ خرج إلى [ذكر] بيعة عمرو، إذ خرج إلى أُهْبة الحرب، وهذا كله يسمى الاستطراد، وهو في كلامه واقع كثيراً، وقد نبهنا عليه.
(27) ومن خطبة له عليه السلام في ذكر الجهاد
(أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة): أراد أنه نوع من أنواع التكاليف الشرعية، بل هو أشرفها وأعلاها وأعظمها أجراً يستحق عليه الدخول من أبواب الجنة، فتجوَّز فيه بأن جعله باباً للجنة لما ذكرناه، كما قال عليه السلام: ((الجنة تحت أقدام الأمهات )) و((الجنة تحت ظلال السيوف )) إشارة إلى ما قلناه.
(فتحه الله لخاصة أوليائه): لأهل القرب من محبته.
(وهو لباس التقوى): شعار الخائفين من الله.
(ودرع الله الحصينة): الواقية لكل من لبسها عن كل سوء، استعارة من درع الحديد.
(وجُنته الوثيقة): الجُنة بالضم: ما استترت به من سلاح أو غيره، ومنه الْمَجَنَّة لأنها تواري من فيها، ومراده من ذلك أنها هي الحصينة المغطّية لكل عيب.
(فمن تركه ): الضمير للجهاد.
(ألبسه الله ثوب الذل): استعارة له من لبس الثوب، كما قال [الله] تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ }[النحل: 112].
(وشمله البلاء): أراد استولى عليه، والبلاء مصدر بلاه الله، والبلية واحدة البلايا.
(ودُيِّث بالصغار والقماء ): [ذُلِّل] بالامتهان، والتحقير.
(وضُرِب على قلبه بالأسداد): ضرب أي جعل، من قولهم: ضرب بينهم الحجاب، ومنه قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ }[الحديد: 13] الأسداد: جمع سدٍّ، وهو ما يجعل حاجزاً بين الشيئين، ومنه قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا }[الكهف: 94] على قراءة الفتح.
وفي بعض النسخ: (على قلبه بالإسهاب) ، والإسهاب هو: فساد العقل، يقال فيه: أُسْهِبَ الرجل مبنياً على ما لم يسم فاعله إذا ذهب عقله.
(وأديل منه الحق ): هو من المداولة أي غلبه الحق، وانتصر عليه.
(وسيم الخسف): أولي النقص، وفلان رضي بالخسف أي بالانتقاص في أمره.
(ومنع النَصفُ): النصف هو: الاسم من الانتصاف، ومراده حيل بينه وبين الانتصاف.
(ألا وإني قد دعوتكم): ناديتكم وصرخت في آذانكم.
(إلى قتال هؤلاء القوم): معاوية وأحزابه من أهل الشام.
(ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً): في جميع الأوقات من الليل والنهار، وعلى جميع الحالات في السر والإعلان.
(وقلت لكم:): أشرت عليكم.
(اغزوهم قبل أن يغزوكم): ابدأوهم بالوصول إلى بلادهم قبل أن يصلوا إلى بلادكم.
(فوالله ما غُزي قوم قط في عقر دارهم): قُصدوا إلى وسط دارهم، والعقر هو: وسط الدار، قط لاستغراق الأزمنة الماضية.
(إلا ذلوا): أصيبوا بالذل ورموا به إذ لا يرجى لهم فلاح بعد ذلك أصلاً.
(فتواكلتم): ووكل كل و احد منكم أمره إلى الآخر، ومنه قولهم : فلان وَكَلَة أي يكل أمره إلى غيره.
(وتخاذلتم): هذا يخذل هذا وهذا يخذل ذاك أي لايقوم على نصرته.
(حتى شُنَّت عليكم الغارات): شنُّ الغارات: إتيانها من جهات مختلفة، ومنه الحديث: ((أنَّ رسول الله شنَّ الغارات على بني المصطلق ))، أي وجهها عليهم من جهات شتى.
(وملكت عليكم الأقطار): استولي على النواحي من بلادكم وأطرافها.
(هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار): أمير من أمراء معاوية، قد أغار علىالأنبار، وهي من أعمال أمير المؤمنين وأهل ولايته.
(وقتل حسان بن حسان): هو العامل على الأنبار فلما دخلوها قتلوه.
(وأزال خيلكم عن مسالحها): وأزال أخو غامد: أبعد خيلكم عن الثغور، والمراقب التي تحفظ الأقطار، يقال لها: مسالح.
(ولقد بلغني): وصل إليَّ العلم.
(بأن الواحد منهم كان يدخل على من في القرية من المسلمين كالمرأة المسلمة ومن أهل الذمة كا لمرأة المعاهدة فينتزع ): يأخذ بعنف وشدة.
(حِجْلَها): وهو الخلخال.
(وقُلبَها): وهو السوار في اليد.
(وقلائدها): وهو ما في الحلق من الحلي.
(ورِعاثَها): جمع رَعْثة، وهي: الأقراط في الأذن.
(ما تمتنع منه): بشوكة ولا قوة ولا تمتنع منه إلا.
(إلا بالاسترجاع): وهو أن تقول : إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
(والاسترحام): [و] هو طلب الرحمة ممن أخذها، وفعل بها هذه الأفاعيل.
(ثم انصرفوا وافرين): ثم من جهد البلاء أنهم فعلوا ما فعلوه، انصرفوا رجعوا إلى أوطانهم وافرين، إما ذوي وفر لما أ صابوه من الغنائم وأخذوه من بلاد المسلمين من نسائهم وأهل العهد بين أظهرهم، وإما وافرين ماخدش لأحد منهم جلد.
(ولا نالهم كَلْمٌ ): ولا أصابهم جرح.
(ولا أريق لهم دم): ولاجرح واحد منهم جرحاً فخرج منه دم.
(فلو أن امرأ مسلماً): فلو أن واحداً ممن تلحقه عزة الإسلام وأنفة الدين.
(مات من بعد هذا): انقطع روحه من بعد رؤية هذا وإبصاره.
(أسفاً ما كان به ملوماً): الأسف هو: شدة الحزن، لم يلحقه بالموت لؤم من أحد أي ذم.
(بل كان به جديراً): بل لايبعد الأمر فيه أن يكون حقيقاً، والجدير هو: الحقيق، من قولهم: فلان جدير بكذا أي حقيق به.
(فيا عجبا): إما يا عجبا، وإما يا عجباه أتعجب [عجباً وطرح فعله، ولم يذكر معه لاستغنائهم بالمصدر عنه، فلا يجوز أن يذكر معه، فلا تقول: عجبت عجباً، وإنما يقال: عجباً لا غير] .
(عجباً والله يميت القلب): لامتلاء الصدر منه.
(ويجلب الهمَّ): لتعذر الانتصار منه.
(من اجتماع هؤلاء): من لابتداء الغاية وهي متعلقة بعجباً، ولاعبرة بالفاصل لأنه نازل منزلة الفعل وقائم مقامه، ويجوز تعلقها بفعل مضمر، أي أعجب من اتفاق كلمة هؤلاء واجتماع آرائهم.
(على باطلهم): علىالباطل الذي اقترحوه من غير بينة، ولا قيام برهان عليه، وإنما أضافه إليهم لما لهم به من مزيد الاختصاص.
(وتفرقكم عن حقكم!): وتشتت كلمتكم عن حقكم الذي تدعون إليه وقامت عليه البراهين.
(فقبحاً): بعداً عن الخير.
(وترحاً): أي حزناً، وهما من المصادر التي أضمرت أفعالها فلا ينطق بها معها.
(لكم): لأفعالكم هذه.
(حين صرتم غرضاً يرمى): الغرض هو: الذي يقصده الرماة بالإصابة قرطاساً كان أو غيره، أراد أن القبح والترح متعلق بكم زمان كنتم على هذه الصفة.
(يغار عليكم): تقصدون إلى بلادكم وتعلوكم العساكر.
(ولا تُغِيُرون): [و] لا تفعلون مثل ما فعلوا بكم.
(وتُغْزَون): إلى عقر دوركم.
(ولا تَغْزُون): من غزاكم، أقل أحوالكم واحدة بواحدة فواحدة بواحدة قصاص .
(ويعصى الله): بمخالفة أمره، وارتكاب مناهيه، وظهور الجور في الأرض والفساد فيها.
(وترضون): بترك النكير بمجاهدة من أتى ذلك وتظهر مخالفتكم لي ونكوصكم عن امتثال أمري بما أقوله الآن.
(فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر): فإذا أوجبت عليكم قتلهم وقتالهم وجهادهم في أيام الصيف اعتذرتم[إلي] و:
(قلتم: هذه حَمَارّة القيظ): الحمارَّة بتشديد الراء هي: شدة الحر وأعظمه.
(أمهلنا): اجعل لنا مهلة.
(حتى يسبَّخ عنَّا الحر): بسين منقوطة بثلاث من أسفل، وبباء بواحدة من أسفل، وبخاء بواحدة من أعلى، والباء مضاعفة، وسبَّخ الحر إذا فتر.
(وإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الشتاء): التي يكثر بردها.
(قلتم: هذه صبارَّة القُرِِّ): معظم البرد، بصاد مهملة، والراء مشددة.
(أمهلنا): اجعل لنا مهلة غايتها.
(حتى ينسلخ عنَّا البرد): يزول ويقلع .
سؤال؛ لم قال في الحر: حتى يسبَّخ أي يفتر، وقال في البرد: حتى ينسلخ، وكل واحد منهما مانع على زعمهم في الاعتذار؟
وجوابه؛ هو أنه يحمل أن يكون البرد في بلادهم شديداً، وإذا كان الأمر كما قلناه فالغزو لا يمكن في أيام الشتاء، حتى ينسلخ البرد ويزول بالكلية، بخلاف الحر فإن قليله لا يمنع من الغزو وإنما يمنع كثيره، فلهذا قالوا: حتى يسبَّخ أي يفتر عنا الحر، فلهذا قال في البرد: [حتى] ينسلخ أي يزول، وفي الحرِّ [حتى] يسبَّخ أي يفتر، وإن لم يزل بالكلية.
(كل هذا): الإشارة إلى هذا الجنس من الاعتذار الذي لا يعذر صاحبه، يفعلونه.
(فراراً): أي من أجل الفرار، وانتصابه على المفعول له.
(من الحرِّ والقُرِّ ): القُر بضم القاف هو: البرد، فإذا كان هذا حالكم في الفرار من الحر والبرد مع سهولة الحال فيهما .
(فأنتم والله من السيف أفر): لألمه وشدة مقاساته.
(يا أشباه الرجال): في الخلقة الإنسانية.
(ولا رجال): في الهمم العالية، والعزائم الطامحة.
(حلوم الأطفال): الحلم هو: الأناة والتؤدة في الأمور، وأراد أن أناتكم في الأمور كأناة الطفل؛ لأنه لا يتمالك في الشيء وتناوله على أي وجه كان، مصلحاً كان أو مفسداً.
(وعقول ربات الحجال): أي النساء؛ لأن عقولهنَّ ضعيفة جداً، ولهذا يقال: قلَّ ما أرادت امرأة أن تحتج لنفسها إلا كانت حجتها عليها، والحِجال: جمع حَجلة بفتح الحاء بيت يجعل للعروس من النساء، يزين بالثياب، وإشارته إلى ضعف الأحلام والعقول في وصفهم .
(قاتلكم الله!): تعجب من حالهم في كل ما ساقه من أمرهم واستظراف من سوء صنيعهم معه.
(لقد ملأتم قلبي قيحاً): لقد جرحتم صدري بشقاقكم وامتلأ قيحاً، والقيح: عبارة عما يخرج من الجرح عند فساده.
(وشحنتم صدري غيظاً): ملأتموه من الغيظ، وانتصاب الغيظ على التمييز بعد المفعول، كقوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا }[القمر:12].
(وجرعتموني): أسقيتموني.
(نُغَبَ التهمام أنفاساً): النُغبة بضم الفاء وغين معجمة هي: الجرعة، وقد يفتح أيضاً، وجمعها نُغَب، والتهمام مصدر همَّ يهمُّ تهماماً كقولهم: ذكر يذكر تذكاراً، وأنفاساً جمع نفس، وانتصابه على الحال من نُغَب أي متتابعات.
(لوددت): تمنيت، وهذه اللام لتوكيد الجملة وتحقيقها، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا }[الحديد:26]، وقولهم: ولنعم حشو الدرع أنت.
(أني لم أركم): بعيني.
(ولم أعرفكم): بقلبي، عرفتكم.
(معرفة والله): حقيقتها وشأنها وفائدتها أنها.
(جرَّت ندماً): إليَّ منكم، وكان منقطعاً قبل معرفتي لكم.
(وأعقبت سدماً): السدم: الحزن والهم، ومراده أنه كان عاقبة أمري بعد معرفتكم هو الندم والحزن.
(وأفسدتم عليَّ رأيي): وغيرتم ما رأيته صواباً ونتجته فكرتي من المصلحة في أمرالجهاد وإقامة عمود الدين.
(بالعصيان): فيما أمرت.
(والخذلان): بالتقاعد عن نصرتي إذا دعوت.
(حتى قالت قريش:): حتى كان عاقبة الأمر في ذلك أن تحدث أهل الرأي والتجربة من قريش، وأهل الحنكة في الحروب على جهة الانتقاص بحالي.
(إن ابن أبي طالب رجل شجاع): جريء عند المنازلة للأقران، ومبارزة الشجعان.
(ولكن لا علم له بالحرب): بمكائدها وأخذ الفرص فيها، وإحكام أمرها بالرأي الصائب، وربما قيل: الحرب خدعة .
وقال آخر:
الرأيُ قَبْلَ شجاعةِ الشجعان ... هو أولٌ وهي المحلُّ الثاني
فقد أحرز الشجاعة، ولكنه لا يحسن تدبيرها بزعمهم.
(لله أبوهم!): تعجبٌ مما قالوه من ذلك، وإنكار لما زعموه، مثل قولهم: لله دره.
(وهل أحد منهم): من قريش الذين زعموا أني لا أحسن تدبيرها.
(أشد لها مراساً): المراس والممارسة واحد، وهي: المعالجة والاختبار بحالها مرة بعد مرة.
(وأقدم فيها مقاماً مني): وأسبق فيها قدماً من أحد غيري.
(لقد نهضت فيها): قمت بأعبائها، من قولهم: نهض بالأمر إذا كفي فيه.
(وما بلغت العشرين): من عمري وهو سن البلوغ، وما زلت أمارسها وأعالجها من ذلك اليوم إلى الآن.
(وها أنا الآن قد ذرفت على الستين): ذرف أي زاد، ومن هذه حاله في معالجة الحروب وممارستها من زمن البلوغ إلى وقت الهرم والشيخوخة، كيف يقال: بأنه غير ممارس، فما قلتموه في ذلك غير صحيح.
(ولكن لا رأي لمن لا يطاع): ولكن السبب في ذلك هو أني أشرت فلم يقبل رأيي وخالفوه، فكان سبباً في تغيير الأمر واختلاله، لا ما زعمتموه من عدم ممارستي للحرب، وهذ الكلمة جارية مجرى المثل، ولم يسمع من أحد قبله، وهي من بديع الأمثال، وغرائب الحكم، والمعنى أن كل من لا يطاع في رأيه فكأنه في حكم المعدوم .
(28) ومن خطبة له عليه السلام
(أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت): تولت وانقضى آثارها، لأن ما مضى من الدنيا بالإضافة إلى ما بقي كلا شيء، ولهذا قال الرسول عليه السلام: ((بعثت أنا والساعة كهاتي ن )) يعني الوسطى والمسبحة، وأراد بذلك قرب الساعة وانقطاع الدنيا.
(وآذنت بوداع): الأذان: الإعلام، ومنه قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ }[البقرة:279]، وأذان الصلاة: الإعلام بها، والوداع: الاسم من التوديع بفتح الفاء، وإنما يكون عند الرحيل، والمراد أنها أعلمت بالارتحال.
(وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع): الإشراف والإقبال: عبارة عن الإسراع في الشيء، وقوله: باطلاع هو افتعال، من قولهم: اطلعت علىالشيء والباء فيه للحال أي مطلعة.
(ألا وإن اليوم المضمار): المضمار: عبارة عن الزمان والمكان الذي يضمر فيهما الخيل، واليوم منصوب بكل حال، فإن خرج عن الظرفية كان اسماً، لأن وما بعده الخبر، وإن بقي على الظرفية فما بعدها يكون اسماً لها منصوباً.
(وغداً السباق): أي المسابقة.
(والسَّبقة الجنة): السَبقة بفتح الفاء هي: الاسم من الاستباق، وقد تكون للمرة الواحدة من الفعل، والسُبقة بالضم هي: اسم لما يقع عليه السباق، وهو الخطر بين المتسابقين ، وكلاهما صالح ها هنا.
(والغاية النار): غاية الشيء: آخره ومنقطعه.
سؤال؛ لِمَ خصَّ السبقة بالجنة، وجعل الغاية للنار، وكل واحد منهما موصول إليه؟
وجوابه؛ أن الاستباق إنما يكون في أمر محبوب، وغرض مطلوب فلهذا خصه بالجنة، وجعل الغاية للنار؛ لأن الغاية هي منقطع الشيء، وقد ينتهي إليها من يسره الانتهاء، ومن لايسره الانتهاء، فلهذا خص الغاية بالنار كالمصير والمآل، فلا جرم خالف بين اللفظين لما يرى من اختلاف المعنيين.
(أفلا تائب من خطيئته): أفلا يوجد مقلع من عمل الخطايا.
(قبل منيته): قبل موته، والمنية: الموت، ومراده قبل حضور وقت موته فتنقطع توبته.
(ألا عامل لنفسه): بالاغتنام من الأعمال الصالحة.
(قبل يوم رمسه): قبل أن يكون مقبوراً، والرمس: القبر.
(ألا وإنكم في أيام أمل): وهو ما تستقبلونه فيما يأتي من أعماركم.
(من ورائها أجل): غايتها ومنقطعها آجال مقدرة بعدها يُنْتَهى إليه.
(فمن عمل في أيام أمله ): فمن عمل في هذه الأيام التي هي مضروبة للإمهال.
(قبل حضور أجله): وهو في سعة من عمره قبل حضورالموت، وإنما قال: قبل حضور أجله؛ لأن ما يكون من التوبة في حال الموت فهي غير مقبولة، لمكان الإلجاء بمشاهدة الملائكة وتحقق أحوال الآخرة، ولهذا سوَّى الله بين من يموت كافراً وبين من يتوب هذه التوبة، حيث قال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ ....}إلىآخرالآية [النساء:18].
(نفعه عمله): لما يلاقي من ثوابه الذي يكون عليه.
(ولم يضره أجله): لكونه جاء وهو علىالأُهبة وأخذ العُدّة.
(ومن قصَّر في أيام أمله): ومن هوَّن في طلب الأعمال الصالحة وفعلها.
(قبل حضور أجله): وهو في سعة من أمره ولم يحضر موته.
(خسر عمله): أي انتقص حيث لم يعمل خيراً لنفسه.
(وضره أجله): لموافاته له وهو على غير أهبة وعدِّة ، ولا ضرر أعظم من ضرر لا يمكن تلافيه.
(ألا فاعملوا في الرغبة): بجد واجتهاد وتأهب واستعداد.
(كما تعملون في الرهبة): لمثل ذلك.
سؤال؛ لِمَ جعل العمل في الرغبة مُشْبِهاً للعمل في الرهبة، وكلاهما في الوقوع على سواء؛ لأن الواحد منَّا كما يعمل الأعمال فراراً من العقوبة فقد يعملها طلباً للمنافع، فما وجه التفرقة بينهما؟
وجوابه؛ هو أن المراد بالرهبة هو القسر والإلجاء، والمراد بالرغبة هو الاختيار والإرادة، فشبه ما يقع بالاختيار والداعية في تنجيز حصوله وتوفيره بما يقع بالقسر والإلجاء في وجوب حصوله؛ لما كان ما يقع بالإلجاء والقسر لا ينفك عن الحصول لامحالة.
(ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها): أراد المبالغة في طلبها، لأن من بالغ في طلب شيء امتنع منه النوم، فلهذا تعجب ممن يطلبها وهو يحدث نفسه بالنوم، وقوله: كالجنة في موضع المفعول لأرى؛ أي لم أر مثل الجنة لما فيها من قرة الأعين.
(ولا كالنار نام هاربها): لأن من يهرب من شيء مبالغاً في الهرب [منه ] فإنه يمتنع نومه ويشذ لما أعدَّ [الله] فيها من أنواع النكال، أعاذنا الله منها برحمته.
(ألا وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل): أراد من لاينفعه الحق لتركه له والإعراض عنه، فإنه لا محالة يضره الباطل بالانقياد له والدخول تحت أمره.
(ومن لم يستقم به الهدى يَجُرُّ الضلال ): يعني أن كل من لم ينفعه الهدى في استقامة حاله وصواب أمره فإن الضلال يجرُّبه أي يعدل به، من قولهم: جار يجور عن كذا إذا عدل عنه ومال ، قال الله تعالى: {وَمِنْهَا جَائِرٌ }[النحل:9] أي عادل مائل.
(ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن): الآمر هو: الله على ألسنة الرسل بالصدور عن الدنيا والإقبال إلى الآخرة، والظعن: السير، يقال: ظعن يظعن ظعْناً [وظعَناً] بتحريك العين وسكونها.
(ودللتم على الزاد): الدال هو الله تعالى، حيث قال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }[البقرة:197].
(وإن أخوف ما أخاف عليكم: [اتباع] الهوى، وطول الأمل): وهذا كلام أخذه من رسول الله صلى الله عليه وآله [وسلم] فوضعه في أحسن مواضعه، وأوجز فيه غاية الإيجاز، فإنه قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن شر ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فاتباع الهوى يصدف بقلوبكم عن الحق، وطول الأمل يصرف هممكم إلى الدنيا، وما بعدهما لأحد خير في دنيا ولا آخرة)) فأخذ مقدار حاجته، وأهمل باقيه، وجعله طرازاً لكلامه وعلامة لكماله وتمامه.
(تزودوا في الدنيا من الدنيا): أراد [أن] موضع الزاد ومكانه هو الدنيا، وأخذ الزاد إنما يكون منها بفعل الأعمال الصالحة وادخارها.
(تحرزون به أنفسكم غداً): عن عذاب الله تعالى وأليم عقابه، وكفى بكلامه هذا في قطع علائق الاغترار والقدح لزيادة الاتعاظ والانزجار، وتحذيراً عن الغفلة، وترغيباً في عمل الآخرة.
(29) ومن خطبة له عليه السلام
(أيها الناس، المجتمعة أبدانهم ): لما يظهر في مرأى العين لاجتماعهم على بعض الحوادث إما لهواً وطرباً، وإما فرقاً وحزناً.
(المختلفة أهواؤهم): لكل واحد منهم غرض، لا يجمعهم جامع الدين في نصرته، ولا تتفق خواطرهم وقلوبهم على رفع مناره، وتشييد معالمه.
(كلامكم): قولكم بألسنتكم.
(يوهي الصم الصلاب): الوهي: الضعف، ومراده أنه يضعف الأحجار الصلبة لما تضمنه من الإبراق والإرعاد والوعيد الشديد لمن خالفكم.
(وفعلكم يُطِمعُ فيكم الأعداء): لما فيه من التخاذل وقلة التناصر بحيث لو رآكم الرائي لطمع في أخذكم وتغنمّكم، وعلامة ذلك وأمارته أنكم.
(تقولون في المجالس: كيت وكيت): وهما عبارتان عن الأحاديث المبهمة، ومراده أنكم في المجالس تذكرون أنكم تفعلون الأفاعيل من الجهاد، ومواقعة الأعداء، والقيام بثأر الدين، وتدمير من يريد مخالفته طعناً بالرماح وضرباً بالسيوف، ورشقاً بالنبال، إلى غير ذلك من الكلامات.
(فإذا جاء القتال): حضر وقته، وصدق حصوله.
(قلتم: حِيدي حَياد): حاد عن الشيء إذا مال عنه، والحيد: الميل، وهذه كلمة تقولها العرب عند اشتداد الأمر وعظم حاله، كقولهم للداهية صمي صمام، وفيحي فياح، وهو اسم للغارة .
(ما عَّزت دعوة من دعاكم): عز الرجل إذا صار عزيزاً، وعز إذا عظم، وعز إذا حق واشتد، والمعنى في هذا ما عظم ولا انتصر ولا صار عزيزاً نداؤه إذا ناداكم لنصرته لتخاذلكم وتفرق آرائكم.
(ولا استراح قلب من قاساكم): قاسيت الأمر إذا كابدت شدائده، ومراده أنه لا يطمئن قلب من كايد بكم الشدائد والحروب، وخاض بكم غمرات الموت لقلة ثقته بكم، وإشفاقه منكم، وحذره على نفسه معكم.
(أعاليل بأضاليل): جمع أُعْلُولة وأُضْلُولة كأُضْحُوكة وأُخْبُولة ، واشتقاقهما من التعلل والضلال، وغرضه أنكم تتعللون بمعاذير فاسدة وأقاويل كاذبة لا يصدق قائلها، ولا يعذر صاحبها.
(دفاع ذي الدَّيْن المطول): دفعته عن حقه إذا منعته وفاءه، ومطلت الحديدة إذا طولتها ومددتها، ومطلته دينه إذا مددت وفاءه إلى مدة، والدفاع: جمع دافع كتاجر وتجار، والمعنى أنكم تمنعون وفاء ذي الدين الذي قد مطل به، وطالت مدته على صاحبه، وإنما قال: ذي الدين المطول؛ مبالغة في ركة أحوالهم حيث منعوا وفاء دين قد تقادمت أزمانه، وطال عهده بالقضاء، فكان من حق ما هذا حاله المعاجلة بقضائه.
(لا يمنع الضيم الذليل): الضيم: الظلم، قال الشاعر:
وإنّي على الْمَوْلى وإن قلَّ نفعُهُ ... دفوعٌ إذا ما ضِيْمَ غير صَبُورِ
لأن ذله يمنعه عن الأنفة، واستحضارالشهامة في الانتصار عن الظلم.
(ولا يدرك الحق إلا بالجد): الجد: نقيض الهزل، ومراده أن الحق في الأمور كلها إنما ينال بالاجتهاد وإتعاب الخاطر لا بالتواني وراحة النفس.
(أي دار بعد داركم تمنعون): أراد أي خطة بعد خطتكم تمنعونها عن الظلم، وأن يغار عليها؛ فإذا كنتم لا تمنعونها فأنتم عن غيرها أعجز وأقصر.
(ومع أي إمام بعدي تقاتلون): لعلمي وبصيرتي ومكاني من رسول الله، وانعقاد الإجماع على صحة إمامتي ووجوب متابعتي.
(المغرور والله من غررتموه): المغرور على الحقيقة من كان سِيْقة لكم وتابعاً لأقوالكم.
(ومن فاز بكم): ومن ظفر بكم.
(فقد ظفر بالسهم الأخيب): خاب سعيه إذا لم ينل مقصوده، واستعار ما ذكره في السهام من سهام الميسر وقداحه لأن بعضها له نصيب وبعضها لا نصيب له ، فأراد ها هنا أن من ظفر بكم فقد ظفر بغير شيء وفاز بغير مطلوب .
(ومن رمى بكم فقد رمى بالأفوق الناصل ): الأفوق من السهام: الذي كسر فوقه، وهو ما يلي وتر القوس، والناصل: الذي خرج نصله، وما هذا حاله فلا نفع فيه لرامي بحال، وأراد المبالغة في بطلان النفع بهم فيما يريده منهم.
(أصبحت والله لا أصدق قولكم): لما عاينته من كذبكم ومحالكم.
(ولا أطمع في نصرتكم ): لما أتحققه من تخاذلكم وتقاعدكم عني.
(ولا أُوعدُ العدو بكم): لما يظهرلي من ضعفكم وهوانكم وركة أحوالكم في جميع أموركم.
(ما بالكم): البال: الحال، ومراده ما الذي عرض لأحوالكم حتى كانت على هذه الصفة.
(ما طِبُّكم): الطِبُّ بكسر الفاء: العادة.
قال الكميت:
فما إن طِبَّنا جبنٌ ولكن ... منايانا ودَوْلَة آخرينا
وهذا مراده ها هنا، أي ما جزاؤكم على هذه العادة التي تعودتموها، ورجل طَبّ بفتح الفاء إذا كان عالماً ماهراً، والحركات الثلاث في علم الطب.
(ما دواؤكم): أي شيء يكون فيه الشفاء لما أصابكم من هذا الداء.
(القوم رجال أمثالكم): أراد أن الإنسان لا يستوحش من شكله ولا يجبن عمن كان مساوياً له ، فما سبب ذلكم ونكوصكم عنهم؟!
(أقولاً بغير علم ): أراد أنكم تقولون قولاً لا تعرفون حقيقته، فأنتم تصرخون باللقاء لعدوكم، ولا تصدقون في هذه المقالة، ولا تعملون بها أصلاً.
(وغفلة من غير ورع): وتتركون قتالهم وتغفلون عنه ذلاً وجبناً لا ورعاً وتعففاً.
(وطمعاً في غير حق): وتطمعون في القعود، وتركنون إلى الدعة وراحة النفوس، وهو خلاف الحق لما فيه من إسقاط أمر الجهاد وتركه.
قوله عليه السلام: (أي دار بعد داركم....) إلى آخرالخطبة، من أنواع البديع يسمى التجاهل، وهو أن يستفهم عن شيء يجهِّله موهماً أنك لا تعرفه، وأنت مطلع على حقيقة الأمر فيه، كقول زهير :
وما أدري وَسَوْفَ إخالُ أدري
أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساء
ومنه قول آخر:
أيا ظبيةَ الْوَعْسَاء بين جُلاَجِلِ
وبين النَّقَاء أنت أم أم سالم
[يجهِّل نفسه حيث لم يفرق بين الظبية والوحشة وبين أم سالم]
ومنه قول آخر:
إذا ما تميميٌّ أتاك مفاخراً
[فقل] عرِّ عن ذا كيفَ أكلُكَ للضبِّ
ويسمى الهزل أيضاً وهو كثير.
ويكسب المعنى بلاغة، ويكسوه ديباجة، ولقد أبلغ في الوعظ لو كان ثمَّ أحلام، وأوقع في الزجر لو كان لهم أفهام، وأسمع في النداء ولكن القوم نيام!
(30) ومن كلام له عليه السلام في قتل عثمان
(لو أمرت [به] لكنت قاتلاً): أراد لو صدر من جهتي أمر بقتله لكنت مشاركاً لمن قتله في حكم القتل، وهو الإثم؛ لأن الدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله.
(أو نهيت [عنه] لكنت ناصراً): أو نهيت بالقتال والمجاهدة لقاتليه لكان في ذلك أبلغ النصرة له، لكني أرمز لكم إلى من نصره وخذله حقيقة، وأكني عنه بقول لطيف.
(غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خير مني): وأراد بهذا أن مروان نصره، وطلحة والزبير خذلاه، فليس لمروان أن يقول: أنا خير من طلحة والزبير، وليس لطلحة والزبير، أن يقولا: مروان خير منا.
سؤال؛ أي غرض لأمير المؤمنين في هذه الكناية؟ ولِمَ لم يصرح بالمقصود، ويقول: طلحة والزبير خير من مروان من غير حاجة إلى هذه الرموز؟
وجوابه؛ أن ذلك محتمل لأمرين:
أما أولاً: فيحتمل أن يشير بذلك إلى ضعف في أمر عثمان لما جرى في خلافته من الأحداث المنكرة بخذلان أهل البصائر له كطلحة والزبير، ونصرة من لا بصيرة له مثل مروان.
وأما ثانياً: فيحتمل أن يكون تعريضاً بمروان لركة حاله، ورفعاً لحال طلحة والزبير لما لهما من السابقة، فكنى بهذه الكناية اللطيفة عما ذكرناه، وهو أبلغ من التصريح.
(وأنا جامع لكم أمره): أختصر لكم حاله وحال من أنكر عليه وأضبطه وأقول لكم فيه:
(استأثر فأساء الأثرة): الأثرة بالتحريك هي: الاسم من الاستئثار وهو الاستبداد، ومراده بذلك الإشارة إلى ما كان منه من إيثارأقاربه من بني معيط بالأعمال على الأقاليم، وإعطائهم الأموال النفيسة التي فيها حقوق غيرهم مع عدم استحقاقهم لها، وكان شديد الحمية عليهم والأنفة لهم.
(وجزعتم فأسأتم الجزع): الجزع: نقيض الصبر، وإساءة الجزع، هي الزيادة على مقدار الاستحقاق في التجاوز إلى القتل، والعقوبة تكون على مقدار الجناية من غير زيادة وتجاوز حد.
(ولله حكم واقع): قول فصل وأمر عدل يوم القيامة.
(في المستأثر والجازع): عثمان وقاتليه، وكلامه عليه السلام ها هنا دال على خطأ قاتليه والإنكار عليهم فيما فعلوه من ذلك.
وحكى قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد ، عنه عليه السلام أنه قال:
(اللَّهُمَّ، العن قتلة عثمان في البروالبحر والسهل والجبل) . وهذا هواللائق بمثله لعلوه في الدين وشهامة نفسه في الورع؛ لأن إراقة دم امرئ مسلم حرام فضلاً عن من له مزية الصحبة وحرمة الإسلام.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: ((من أعان على قتل مسلم ولو بنصف كلمة، كان حقاً على الله أن يعذبه)) .
وفي حديث آخر: ((لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا )) .
(31) ومن كلام له عليه السلام قاله لابن عباس لما أنفذه إلى الزبير ليستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل
(لا تلقينَّ طلحة): لاتراوده بكلام، ولا تفاتحه في مخاطبته .
(فإنك إن تلقه): تخاطبه وتشافهه.
(تجده كالثور عاقصاً قرنه): العقص هو: اللي، ومنه قولهم: تيس أعقص، إذا التوى قرناه على أذنيه من خلفه، وعقص الشعر: ضفره، وجعله معقوصاً في قفاه.
وفي الحديث: ((نهى رسول الله صلى الله عليه عن عقص الشعر في الصلاة )).
(يركب الصعب ويقول: هو الذلول): يأتى الأمور الصعبة على حد إتيانه للأمور السهلة، وجعل ما ذكره مثالاً بحاله في لجاجه وتكبره وشكاسة طبعه وشرس خليقته.
(ولكن الق الزبير): فاتحه في الكلام وعاتبه.
(فإنه ألين عريكة): يقال: فلان لين العريكة، إذا كان سلساً منقاداً والعريكة هي: الطبيعة.
(فقل له:): أبلغه عني رسالة.
(يقول لك ابن خالك:): لأن الزبير أمه صفية بنت عبد المطلب عمة أمير المؤمنين.
سؤال؛ لِمَ قال ها هنا: يقول لك ابن خالك، ولم يقل: [يقول ]لك أمير المؤمنين فيخاطبه بإمرة المؤمنين، التي هي علامة الإمامة وأمارتها، والشأن في تقريرالإمامة وثبوتها؟
وجوابه؛ هو: أنه وإن كان الأمر كما قلته من إثبات الإمامة، لكن الغرض ها هنا هو تقريبه واستعطاف حاله وفيئه إلى الحق وتعريفه البصيرة، فلهذا كان ذكر الرحم التي بينه وبينه أقرب إلى الإصغاء وأدعى إلى الإقبال والانصراف عمّا هو فيه من البغي والشقاق.
(عرفتني بالحجاز): في المدينة حيث دفعت البيعة، والحال يومئذ حال مسالمة.
(وأنكرتني بالعراق): البصرة وما يليها وهو عراق العرب، وخوارزم ونواحيه وهو عراق العجم، وإنما قال بالعراق يذكره مكان البغي ومواضع المشاقة، لأنها كانت هناك.
(فما عدا مّمَا بدا!): أي ما أبعدك من قولهم: بعاداً عن كذا إذا بعد عنه، أو ما جاوزك من عدا يعدو إذا جاوز مما ظهر منه من أمر البيعة، وما الأولى استفهامية، والثانية موصولة، ومن لابتداء الغاية، وهذه الكلمة لم تسمع من أحد قبل أمير المؤمنين، فهو أبو عذرتها وابن نجدتها، وقد جرت مجرى الأمثال، ولقد بلغت هذه الكلمة في العتاب وحسن الاستعطاف وقطع المعذرة له مبلغاً لا أمد له ولا غاية وراءه.
(32) ومن خطبة له عليه السلام
(أيها الناس، إنا أصبحنا في دهر عنود): أي مائل عن الحق، من قولهم: عَند عن الطريق، إذا مال عنها، والمراد بذلك أهله، وإنما أضافه إليه لأن خلائق الناس وطبائعهم تابعة لأزمانهم التي هم فيها.
(وزمن شديد): لما فيه من مكابدة الشدائد، ومعاناة الفتن.
(يعدُّ فيه المحسن مسيئاً): المسيء كما يكون مسيئاً بفعل الإساءة فقد يكون مسيئاً بترك الإحسان، ومراده هاهنا هو أن يكون المحسن بمنزلة من ترك الإحسان لما يظهر من كفران نعمته.
(ويزداد الظالم فيه عتواً): تمادياً فيما هو فيه من الظلم لعدم من ينكره عليه، يقال: عتا يعتو عتواً وعتياً.
قال محمد بن السري : مصدر عتا يكون بالواو، فنقول فيه: عتواً، وأما عتياً جمع عاتي فقياسه الياء؛ لأن الجمع أثقل من المفرد فلهذا قلبوه إذا كان جمعاً، قال الله تعالى: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًاً }[الفرقان:21].
(لا ننتفع بما علمنا): أي لا نعمل بما علمنا، وذلك هو النفع.
(ولا نسأل عمّا جهلنا): بل نعمل بالجهل ولا نبالي.
(ولا نتخوف قارعة): ولا نتوقى حصول قارعة ولا نحذرها.
(حتى تحل بنا): تكون واقعة بنا، ولا ينفع الحذر بعد ذلك؛ لأن الحذر من الشيء بعد وقوعه وحصوله لا فائدة فيه ولا جدوى له، وعنى بما ذكره أهل زمانه.
(فالناس): بالإضافة إلى إقبالهم إلى الدنيا، وإعراضهم عن الآخرة.
(على أربعة أصناف: فمنهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه): أي لا يمنعه خوف الله وتقواه، وإنما منعه ذل نفسه وحقارتها وهونها.
(وكلالة حده): أي لا شوكة له لقلة الأتباع والعشيرة.
(ونضيض وفره): مال نضيض إذا كان قليلاً، وهو بالنون والضاد المعجمة، والوفر: المال؛ لأنه يفر ويجتمع.
(ومنهم المصلت لسيفه): صلت سيفه إذا جرده عن غمده.
(والمعلن بشره): علن الشيء علانية إذا ظهر، وأراد المظهربشره.
(والمجلب بخيله ورَجْله): والمجلب هو: الجالب، والخيل هم: الخيالة، والرجل هم: الرجالة.
(قد أشرط نفسه): أشرط نفسه بكذا إذا علمها بعلامة، ومنه أشراط الساعة أي علاماتها، وأصله الشرط، وهو: العلامة للشيء.
(وأوبق دينه): أي أهلكه، والإيباق: الإهلاك.
(بحطام ): أشرط نفسه وأوبقها من أجل حطام، وهو عرض الدنيا.
(ينتهزه): أي يستعجله ويغتنمه، ومنه الحديث: ((من فتح الله له باب خير فلينتهزه ؛ فإنه لا يدري متى يغلق عنه)).
(أو مِقْنِب يقوده): المقنب: ما بين الثلاثين إلى الأربعين من الخيل.
(أو منبر يقرعه ): من قولهم: قرعته بالعصا؛ لأن العادة ممن يعلو المنبر أن يتوكأ على سيف أو قوس يقرعه بها، ومن هذه حاله فهو خاسر الصفقة.
(ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً): اللام هذه في لبئس هي المحققة للجملة بعدها، والمعنى ولبئس التجارة أن تكون الدنيا مع انقطاعها وحقارة عيشها ثمناً لأنفس الأشياء عندك وهي نفسك.
(وممَّا لك عند الله عوضاً!): وأن ترى الدنيا عوضاً عمَّا أعد الله لك من الثواب الجزيل.
(ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة): فتظهر من نفسك النسك وتستعمل أنواع الزهاده توصلاً إلى زينة الدنيا وحطامها.
(ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا): وليس كدحه في طلب الدنيا من أجل صلة الأرحام واصطناع المعروف، وإنما يريد بذلك الفخر والرياء وطلب المحمدة من اللئام، فصار جامعاً بين محذورين: طلب الدنيا بعمل الآخرة فيصير مرائياً، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا فيصير مخادعاً لنفسه.
(قد طامن [من] شخصه): أي سكَّن نفسه عمل الأبرار وأهل الصلاح.
(وقارب من خطوه): عمل أهل السكينة والوقار.
(وشمَّر من ثوبه): تقشفاً وزهادة.
(وزخرف من نفسه): زين قوله بالوعظ والمواظبة علىالذكر.
(للأمانة): من أجل أن يؤتمن على الأمانات فيخون فيها.
(واتخذ ستر الله): جعل ما كان من إسلامه وزهده الساترين لما في ضميره .
(ذريعة): وسيلة يتوصل [بها] .
(إلى المعصية): كا لخيانة في الودائع والشهادة الكاذبة.
اللَّهُمَّ، إنَّا نعوذ بك من الاغترار بسترك، والإقدام على معصيتك لمكان حلمك.
(ومنهم من أقعده عن طلب الملك): الأمر والنهي والحل والعقد والتسلط على رقاب الناس وغير ذلك لايمنعه إلا.
(ضئولة نفسه): حقارتها وصغرها، من قولهم: ضأل جسمه إذا ضعف.
(وانقطاع سببه): من الأموال والتكثر بالعشائر وأنواع القوة.
(فقصر به الحال): الحال يذكر ويؤنث، وأراد قصره التقدير والقضاء وما سبق في علم الله له.
(على حاله): التي هو عليها من غير زيادة ولا نقصان فلما عجز عن ذلك أظهر حالة أخرى.
(فتحلى): أي اتصف، من قولهم: حليت الرجل إذا وصفته.
(باسم القناعة): أي صار متصفاً بها، وإنما قال باسمها تنبيهاً على أنه ليس له من القناعة إلا الاسم والعبارة دون الحقيقة والمعنى، والقناعة: هي الرضى بالدون من الأشياء.
(وتزيَّن): تفعل من الزينة.
(بلباس أهل الزهادة): ليقال: هو منهم ومندرج في غمارهم.
(وليس من ذلك): الإشارة إلى ما تقدم ذكره من الزهد والقناعة.
(في مراح ولا مغدى): المراح والمغدى كما يحتمل أن يكونا مصدرين، كما يقال : ليس من الأمر في ورد ولا صدر، فهما أيضاً يحتملان الموضع، والغرض من ذلك هو أنه لا نصيب له في شيء من ذلك.
(وبقي رجال): غير من تقدم ذكره.
(غض أبصارهم): خفضها، من قولهم: غض طرفه إذا خفضه.
(ذكر المرجع): ما يتذكرونه من الرجوع إلى الله، وكان قياس المرجع الفتح، ولكنه خرج عن قياس بابه كا لمصير.
(وأراق دموعهم): صبها من أرقت الماء إذا صببته.
(خوف المحشر): الورود إلى الله تعالى والوقوف بين يديه.
(فهم بين شريد): مطرود.
(ناد): الناد هو: النافر.
(وخائف): مشفق.
(مقموع): ذليل.
(وساكت): صامت.
(مكعوم): مشدود على فِيْه عن أن ينطق.
(وداع): إلى الله متضرع إليه.
(مخلص): لا يرجو غيره، ولا يخاف سواه.
(وثكلان): فاقد لولده، من الثكل وهو: فقد الولد.
(موجع): لما أصابه من ألم الثكل.
(قد أخملتهم): أسقطت ذكرهم، ومنه فلان خامل الذكر إذا كان ساقطاً.
(التّقيّة): وهي التقوى وخوف الله تعالى في كل الأحوال.
(وشملهم ): عمهم.
(الذلة): الهوان لأنفسهم.
(فهم في بحر أجاج): الأجاج هو: المالح الزعاق، الذي لا يستطاع شربه، وأراد أنهم في أمر هائل وخطب عظيم، كمن يكون في البحر المالح لا يستطيع أن يشرب منه فهو في قلق وإشفاق.
(أفواههم): من شدة الخوف والقلق.
(ضامرة ): جافَّة، لأن الإنسان إذا اشتدَّ خوفه وإشفاقه، جفَّت الرطوبة من فِيْهِ وتقلصت عنه.
(وقلوبهم): من ذكر الجنة والنار.
(قرحة): مجروحة، والقرح: هو الجرح.
(قد وعظوا): كررت على آذانهم الموعظة فوقعت في قلوبهم.
(حتى ملَّوا): من ذكرها في قلوبهم، وجعلها نصب أعينهم.
(وقهروا): فما لأحد منهم أمر ولا سطوة في شيء.
(حتى ذلوا): اعتراهم الذل وسلط عليهم.
(وقتلوا): على إقامة حدود الله، وإعزاز كلمته وإظهار دينه.
(حتى قلَّوا): فلا يوجد منهم إلا النادر القليل.
(فلتكن الدنيا أصغر في أعينكم): أذل وأحقر وأهون في مرائي بصائركم:
(من حثالة القرظ ): الحثالة من كل شيء هو: أردؤه وأهونه، والقرظ: شجر يدبغ به، وحثالته: ما بقي منه بعد الدبغ به.
(وقراضة الجلم): وهو ما ينحت عند القطع بالجلم وله شفرتان.
(واتعظوا بمن كان قبلكم): انظروا في أحوالهم وسيرهم، فالسعيد من وعظ بغيره.
(قبل أن يتعظ بكم من بعدكم): أراد قبل أن تموتوا فتصيروا موعظة لمن يأتي خلفكم.
(وارفضوها): اتركوها من قولهم: رفضه إذا تركه.
(ذميمة): مذمومة لنفادها، وانقطاع لذتها، وكثرة ما يكون من تبعتها .
(فقد رفضت): تركت.
(من كان أشغف منكم بها): ناس بلغ حبها شغاف قلوبهم، والشغاف: حجاب القلب.
وهذه الخطبة لم تترك لزاهد علة إلا شفتها، ولا حاجة لعابد إلا كفتها، وقد نسبها من لا علم له بالبلاغة، ولا عهد له بأساليب الفصاحة إلى معاوية، ولقد نقصَّها فيما قال وظلمها، وأزال عنها برهانها وعَلَمَها، وهيهات ثم هيهات! أين الإبريز عن الأرزيز! وشتان ما بين الدر المنضد والخشب المعقد! وقد دل على ذلك أستاذ البلاغة وسفيرها وحاكمها وأميرها عمرو بن بحر الجاحظ ، فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب (البيان)، وذكر من نسبها إلى معاوية، ثم قال:
إنها بكلام أمير المؤمنين أشبه، وبمذهبه في تصنيف الناس وتقسيمهم إلى ما هم عليه أحق وأليق، ثم أقول: ليت شعري متى وجدنا معاوية يرد هذه الموارد الصافية، ويقرع القلوب بهذه المواعظ الشافية، وأين عهدناه يحث على وظائف العبادة، ويحض على مسالك الزهادة.
(33) ومن خطبة له عليه السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بـ (ذي قار) وهو يخصف نعله، فقال لي:
(ما قيمة هذه النعل)، فقلت: لا قيمة لها.
فقال عليه السلام: (والله لهي أحب إلي من إمرتكم هذه ، إلا أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً).
ثم خرج عليه السلام فخطب الناس، فقال:
(إن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وآله): اصطفاه واختاره.
(وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة): أراد ذكر عظم موقع النعمة على الخلق ببعثة الرسول، حيث كانوا قبل مبعثه في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، لا كتاب بين أظهرهم يرشدهم إلى الخير، ولا رسول فيهم يدعوهم إلى الدين.
(فساق الناس): أراد أنه كان لهم بمنزلة السائق من ورائهم.
(حتى بوّأهم محلتهم): مكنهم في أماكنهم، وأنزلهم منازلهم، والمِحلة بالكسر في فائها: موضع الحلول، كما أن المنزلة موضع النزول.
(وبلّغهم منجاتهم): أوصلهم، من قولهم: أبلغته مأمنه أي أوصلته، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ }[التوبة:6] والمنجاة : مصدر من نجا ينجو منجاة كالمسعاة والمرضاة.
(فاستقامت قناتهم): بحميد سعيه، واستعاره من استقامة الرمح، وهو أن لا يكون فيه اعوجاج.
(واطمأنت صَفَاتُهم): أي استقرت ورسخت، والصفاة: صخرة ملساء واستعاره منها، [وفي المثل: فلان لا تبدى صفاته إذا كان بخيلاً، وإنما استعاره منها] لما فيها من الرسوخ والاستقرار في مقرِّها.
(أما والله إن كنت لفي ساقتها): الضمير في ساقتها للصفاة والقناة، والساقة: مؤخر الجيش، وإن هاهنا هي المخففة من الشديدة، واللام جيء بها للفرق بينها وبين النافية، واسمها محذوف وتقديره: إني لفي ساقتها.
(حتى تولت بحذافيرها): أراد حتى استقر الإسلام وتأيد الدين ورسخت أصوله، والحذافير: أطراف الشيء وأعاليه، والمراد بأسرها.
(ما عجزت): العجز: نقيض القدرة.
(ولا جبنت): ذللت عن ملاقاة الأعداء ومنازلة الشجعان من أهل الشرك وعبدة الأوثان.
(وإن مسيري هذا): أراد أن مغاري هذا وحربي لأهل الشام.
(لمثلها): الضمير للساقة التي تقدم ذكرها، وأراد أن قتال هؤلاء معي كقتالي لأولئك مع رسول الله.
سؤال؛ كيف قال: إن قتال هؤلاء معي مثل قتال من كان في زمن الرسول، والمعلوم أن هؤلاء من أهل القبلة، وأقصى ما في ذلك أنهم فسَّاق تأويل فكيف قال: إن قتالهم مثل أولئك؟
وجوابه؛ أنه لما أراد المماثلة في كونه حقاً مقطوعاً بقتالهم وواجب عليه، لا في كونهم كفاراً، فالمعلوم من حاله أنه ما عاملهم معاملة الكفار في السبي وسائر الأحكام الكفرية، وإنما عاملهم معاملة البغاة.
(فلأنقبن الباطل): نقب الشيء إذا خرقه.
(حتى يخرج الحق من جنبه): وهذا منه تمثيل؛ لأن يكون [الحق] مغطى عليه فلا يخرج إلا بالنقب والخرق، والجنب هو الجانب للشيء.
(ما لي ولقريش)!: تعجبٌ منه [من] اعتراضهم له، وتألبهم عليه في نصرة الباطل وإشادته.
(والله لقد قتلتهم كافرين): عابدين للأصنام والأوثان، منكرين للنبوة، وأراد ما كان في أيام الرسول عليه السلام من معارضة قريش له.
(ولأقاتلنَّهم مفتونين): يعني وأنا الآن أقاتلهم على بغيهم وفسقهم، وافتتانهم بالتأويل الذي لا ينفعهم عن حربي وقتالي.
(وإني لصاحبهم): الذي يعرفونه من قبل.
(بالأمس): أيام قتالي مع الرسول للكفار منهم.
(كما أنا اليوم صاحبهم ): كما أنا اليوم أقاتلهم فأقتل الناكثين والمارقين والقاسطين كما قتلت الكافرين.
(34) ومن خطبة له عليه السلام في الاستنفار إلى أهل الشام للجهاد
(أفٍّ لكم): أراد أتضجر من أفعالكم، وأتسخر من شيمتكم، وأستقذر صنيعكم في ترك الجهاد وإهماله، وهو منون دلالة على تنكيره، وفيه لغات ست، حكاها الأخفش: ثلاث مع الحركة، وثلاث مع التنوين .
(لقد سئمت عتابكم): العتاب هو: الاسم من المعاتبة، وهي مصدر عاتبته معاتبة.
قال الخليل بن أحمد : العتاب: مخاطبة الإدلال وذكر الموجدة، وأنشد:
أُعَاتِبُ ذَا الْمَوَدَّةِ مِن صَديْقِ
إذا ذهب العتابُ فليس وِدٌّ ... إذا ما رَابَنِي منه اجتنابُ
ويبقى الوِدُّ ما بَقِيَ العتابُ
ويقال: أصلح بينهم العتاب، والسآمة هي: الملالة، من سئم الشيء إذا ملّه، ومراده لقد كررت العتاب عليكم حتى مللته لكثرته.
(أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً): أراد ترضون بعيشة منقطعة عوضاً عن ثواب دائم في الآخرة.
(وبالذل): بترككم الجهاد وإعراضكم عنه.
(من العز): بجهاد عدوكم.
(خلفاً): يخلفه ويقوم مقامه.
(إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم): إذا ناديتكم وحببتكم إلى قتال هؤلاء البغاة أعدائي وأعدائكم في الدين.
(دارت أعينكم): فشلاً وجزعاً وتحيراً.
(كأنكم من الموت في غمرة): الغمرة هي: شدة الموت وكربه، مثّل حالهم عند الدعاء إلى الجهاد بمنزلة من يغشاه الموت وتغمره شدائده، فلا يكون من جهته إلا دوران العين في وجهك، ولا ينطق بحلوة ولا مرة.
(ومن الذهول في سكرة): ذهل عن الشيء إذاغفل عنه فلم يذكره؛ بمنزلة السكران الذي غلبه السكر وغطى على قلبه.
(يُرتج عليكم حواري): ارتج عليه الكلام إذا ختم على فِيْهِ فلا ينطق، مبنياً لما لم يسم فاعله، وباب مرتج إذا كان مغلقاً، والحوار والمحاورة هي: المجاوبة.
(فتعمهون): العمه: التحير والتردد، يقال: عمه الرجل يعمه فهو عامه أي متحير، ومراده أخاطبكم فتستغلق عليكم مجاوبتي تحيراَ وذهاباً في التردد كل مذهب.
(وكأن قلوبكم مألوسة): الألس: ذهاب العقل واختلاطه، والمألوس: المجنون.
(فأنتم لا تعقلون): ما يراد منكم، مثَّل حالهم في قلة تمييزهم وتحيرهم في مسالكهم بمنزلة من اختلط في عقله فلا عهد له بالتمييز.
(ما أنتم لي بثقة): فأتكل عليكم في جميع أموري بالنصح والمودة.
(سجيس الليالي): أبد الدهر وعمره.
(ما أنتم بركن): ركن الشيء: جانبه الأقوى.
(يمال به): يعتضد به ويستند إليه، وفلان يأوي إلى ركن شديد أي عز ومنعة، وأراد أنكم لستم أهلاً لمن يعتز بكم ويلوذ إلى جانبكم.
(ولا زوافر عِزّ): زفرالبحر [يزفر] إذا اشتد موجه وعلا، والزافرة هي: النار، والزافرة هي: عشيرة الرجل.
(يفتقر إليكم): يحتاج إليكم عند النوائب، وتكونون ملجأ عند وقوعها.
(ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها؛ فكلما جمعت من جانب انتشرت من جانب ): ما مثلكم فيما أدعوكم إليه من أمرالجهاد ومنابذة من خالف الحق في تفرقكم عمَّا أقول، وتشتت آرائكم فيما أريد، إلا كإبل تجتمع مرة وتفترق أخرى، تجتمعون عند سماع كلامي، ثم تتفرقون بعد ذلك عن مخالفة وتخاذل.
(بئس لعمر الله): بئس كلمة ذم، ولعمرالله قسم، وقد قررنا تفسيره من قبل.
(سعر[نار] الحرب أنتم): سعرالنار: لهبها وهيجانها، وسعر الحرب: شدته وحميه، وهو مأخوذ من استعار النار وهو تلهبها: قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ }[القمر:47] والسعير هو: اسم من أسماء جهنم، ومراده أنكم بئس قوماً يستنصربهم في الحرب، ويستعان بهم عند شدتها والتهابها.
(تُكَادُوْن): يمكر بكم، وتخدعون في الحرب.
(ولا تكيدون): ولا تفعلون كما يفعل بكم عجزاً منكم ونزولاً في هممكم ، ويحتمل أن يكون مراده تحاربون ولا يكون منكم حرب لغيركم، والمكيدة هي: الحرب. وفي الحديث: ((خرج رسول الله فلم يلق كيداً )) أي لم يصادف حرباً.
(وتنتقص أطرافكم): أراد بنقص الأطراف إما أخذ بعض البلدان، وإما قتل بعضهم، وفي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا }[الرعد:41] إما بموت العلماء، وإما بخراب أطرافها.
(فلا تمتعضون): بالعين المهملة والضاد بنقطة من أعلاها ، والمعض: الغضب، يقال: معضت من الأمر أمعض معضاً إذا غضبت منه، فأما المغص بالصاد المهملة والغين بنقطة من أعلاها فهو تقطيع في المعاء وهو محتمل ها هنا أيضاً، وسماعنا في الكتاب هو الأول.
(لا يُنَامُ عنكم): أراد [أن] أعدائكم قد أبطأهم السهر في إرصاد الحرب وطلب المكائد لكم.
(وأنتم في غفلة ساهون): غافلون عن مكايدة الحرب ومراصدها.
(غُلب والله المتخاذلون!): لأن مع التخاذل ذهاب الاجتماع والألفة وحصول الفشل، وهذه الأمور كلها مظنة الغلب، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }[الأنفال:46].
(وايم الله؛): هي كلمة تستعمل في القسم، وفيها لغات كثيرة ، وهي مرفوعة على الابتداء، وخبرها محذوف تقديره: ايم الله قسمي.
(إني لأظن بكم): ليغلب على ظني، وتصدق فيه فراستي لما أرى من تخاذلكم.
(أن لو خمش الوغى ): الوغى: الحرب، وقوله: خمش بالخاء بنقطة من أعلاها، وشين بثلاث من أعلاها أي توقدت الحرب وتلهبت، من قولهم: أخمشت القدر إذا اتسعت وقودها، فأما حمس بالحاء المهملة وبسين بثلاث من أسفلها، فهو: عبارة عن الشدة في الأمر، لكن الأول هو الأولى، وهو من سماعنا في الكتاب، وأن ها هنا هي المخففة من الشديدة، وهي سادة مسد مفعولي ظننت، ولا بد من اللام في خبرها جواب للو، لكن لفظه قد قامت مقامها في جوابها، وحالها ها هنا مثلها في قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ }[الجن:16].
(قد انفرجتم عن ابن أبي طالب): فرجت الأمر أفرجه فرجاً إذا كشفته، وانفرج إذا انكشف، والفرج بالتحريك هو: الاسم، والمصدر منه فرْجاً بسكون عينه.
(انفراج الرأس): انفراجاً يشبه انفراج الرأس، وأراد انفصالاً لا اتصال بعده أصلاً، إما بانفراج الرأس عن قبل المرأة فإنه لايرجع إلى مكانه أبداً عند الولادة، وإما انفراج الرأس عن العنق بالقطع فإنه لايرجع أيضاً؛ فكله محتمل كما ترى، وأراد أنهم عند افتراقهم عنه لايرجعون إليه كما يفعل الأبطال عند اللقاء.
(والله إن امرأ يمكِّن عدوه من نفسه): بالسكون عنه، والتغافل عن مكافأته.
(يعرق لحمه ): يأخذ اللحم الذي فوقه.
(ويهشم عظمه): يكسره، من قولهم: هشم العظم إذا كسره.
(ويفري جلده): يقدُّه.
(لعظيم عجزه): لقد بلغ في العجز وخساسة النفس وركة الطبيعة مبلغاً لا حد له ولا نهاية وراءه.
(ضعيف ما تضمنت عليه جوانح صدره): من الغيرة على ما فعل به والأنفة، وكل ذلك تأباه الطباع الشريفة، وتكرهه النفوس الأبية، وكل ما ذكره مبالغة في سقوط همة من هذه حاله وسخف طبعه.
(وأنت فكن ذاك): الضمير بقوله: أنت خطاب لبعض من يخاطبه من أصحابه، والإشارة بقوله: ذاك إلى من تقدم ذكره، وهو الموصوف بالعجز، وتمكين نفسه من عدوه.
(إن شئت): المشيئة هي: الإرادة، وأراد إذا شئت أن تكون مثل من وصفت حاله [في] العجز والتمكين فكن، فعاره عليك ونقصه على نفسك.
(فأما أنا فوالله): فهمتي أعلا وأشرف، وتأبى طباعي وتكره خلائقي أن أكون كذلك.
(دون أن أعطي ذلك): دون نقيض فوق، وهو تقصير عن الغاية، والمعنى أنه يحول بين إعطائي لذلك، يريد التواضع للعدو والتصاغر ليقضي فيَّ أغراضه وينفذ فيَّ أحكامه.
(ضربٌ): نكَّره لما فيه من المبالغة، كأنه قال: ضرب وأي ضرب.
(بالمَشْرَفيَّة): وهي السيوف، قال أبو عبيدة:
نسبت إلى مشارف وهي قرى تدنو من الريف للعرب .
(تطير): أي تذهب.
(منه): من أجله وبسببه.
(فراش الهام): عظام رقاق تلي قحف الرأس.
(وتطيح): أي تسقط.
(منه السواعد والأقدام): لشدته وعظم وقعه، فهذا هو الذي تدعو إليه نفسي وتقضي به عزيمتي.
(ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء): من الأقضية والمقادير في الخلق من العز والذل والنصر والخذلان وغير ذلك مما يريد.
(أيها الناس، إن لي عليكم حقاً): لكوني إماماً لكم وخليفة عليكم.
(ولكم عليَّ حق): لكونكم رعية لي، ((وكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته )) .
(فأما حقكم عليّ): وإنما قدم ما لهم على حقه لما في ذلك من الاهتمام بأحوالهم، والمواظبة على ما يكون متعلقاً بهم.
(فالنصيحة لكم): [في] الأمور الدينية والدنيوية فإن رأس الدين هو النصيحة، كما قال صلى الله عليه وآله: ((ألا إن الدين النصيحة )) قالها ثلاثاً.
(وتوفير فيئكم عليكم): الفيء: ما يغنم، ومراده أقسِّمه عليكم من غير خيانة مني فيه، ولا نقص لأحد منكم من نصيبه.
(وتعليمكم كيلا تجهلوا): معالم الإسلام والدين كلها كيلا تجهلوا شيئاً منها.
(وتأديبكم): بتعريف الآداب الحسنة.
(كيما تعملوا ): بها فهذا ما يتوجه من حقكم عليَّ.
(وأما حقي عليكم): ما أوجب الله عليكم، وفرضه من أمري.
(فالبيعة ): فبأن أكون منكم على ثقة فيما أورد وأصدر من أعباء الإمامة وإيالة السياسة.
(والنصيحة في المشهد والمغيب): عند حضوري وغيبتي لا يفترق الحال في ذلك، كما قال عليه السلام حين ذكر ((أن الدين النصيحة)) ثلاثاً، فقالوا: لمن؟ فقال: ((لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين )).
(والإجابة حين أدعوكم): للجهاد وقتال من ينبغي قتاله من مخالفي الحق.
(والطاعة حين آمركم): بشيء من الأوامر الدينية المصلحة لكم في دينكم ودنياكم.
(35) ومن خطبة له عليه السلام بعد التحكيم
اعلم أن ما كان من أمر التحكيم، وما جرى فيه من الفتنة، فأمير المؤمنين معذور فيه لأمرين:
أما أولاً: فلأنه لم يصدر عن رأيه ولا كان منه رضى به بل قد نهى عنه، كما سيأتي في [بعض] كلامه.
وأما ثانياً: فلأنه لو قدَّرنا أمره به فإنما أمر لما فيه من المصلحة من الاحتكام لأمر الله وأمر كتابه، وحصول الخديعة من بعد لا يمنع من حسن أمره به، والسبب في ذلك هو أنه لما استحر القتل في أيام صفين من أصحاب معاوية، وكان النصر لأمير المؤمنين وأصحابه، وهموا باستئصال شأفتهم وقطع الدابر فيهم؛ أعملوا الحيلة مكراً وخديعة في رفع المصاحف والتحكيم، فكان من أمرالحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص ما كان من المكر [والخديعة] والخيانة والخلع لأمير المؤمنين، وتقرير أمر معاوية، فقالت الخوارج: أبعد أن قتلنا معك بشراً كثيراً، وقتل منَّا معك بشر كثير [حكمت] في دين الله، فهل كنت شاكاً في أمرك،؟ قال: (لا)، قالوا: فهلا قاتلت علىالحق، ولم تحكم، قد أخطأت وكفرت فتب إلى الله تعالى؛ فقال لهم:
(أبعد إيماني بالله، وجهادي مع رسوله، أشهد على نفسي بالكفر قد ضللت إذاً، وما أنا من المهتدين)، ثم اختلف في التحكيم، فقالت الخوارج: كان كفراً، وقيل: كان خطأً، ولكن أمير المؤمنين أكره عليه، وقيل: كان صواباً لاختلاف أصحاب أمير المؤمنين فيه، والحق ما قلناه أولاً من أنه كان كارهاً له في أول الأمر ناهياً عنه، ثم لو أمربه فإنما أمر به لما فيه من ظن المصلحة الدينية والانقياد لأمر الله وأمر كتابه ، فلما انقضى أمر التحكيم على ما اشتمل من المكر والخديعة، قال عليه السلام بعد ذلك
(الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب): أعظم الأمور وأشدها.
(الفادح): فدحه [الأمر] إذا بهظه وأثقله، لا تنقل الهمزة فيقال: أفدحه.
(والحدث الجليل): الحدث: الأمر الحادث، الجليل: العظيم حاله، يشير بذلك إلى ما كان من عواقب أمر التحكيم من الخطوب العظيمة والأحداث الجليلة.
(وأشهد أن لا إله إلا الله، ليس معه إله غيره): {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ }[المؤمنون:91].
وقوله: ليس معه إله غيره بعد قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) استحضاراً للجملة الأولى وتأكيداً لها، ونظيره قوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[البقرة:33]، فإنها استحضار لما تقدمها من قوله تعالى:{إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[البقرة:30] وهذا من أسرار علوم البيان، ورموزه الدقيقة.
(وأن محمداً عبده ورسوله): شهادتان أثقل ما وزن، وأفضل ما خزن.
(أما بعد، فإن معصية الناصح): مخالفة الباذل للنصيحة لله تعالى وللرعية.
(الشفيق): المحب، من الشفقة، وهي: المحبة.
(العالم): بما يكون صلاحاً لهم في الدين والدنيا.
(المجرب): للأمور، المحنك بالتجارب.
(تورث الحسرة): الحسرة: أشد التلهف.
(وتعقب الندامة): ويكون عقباها لما فيها من المخالفة له الندم على ما فات من موافقة رأيه.
(وقد كنت أمر تكم في هذه الحكومة): التي كانت سبباً للخدع والمكر.
(أمري): الأمر الذي أرجو أن يكون صلاحاً [لكم] في دينكم.
(ونحلت لكم): أعطيتكم من النحلة وهي: العطية، يقال: نحلته ونحلت له يتعدى ولا يتعدى.
(مخزون رأيي): رأياً كنت خزنته لكم وحررته من أجلكم.
(لو كان يطاع لقصير أمر): هذا مثل مشهور، وكان ها هنا هي الناقصة، وفيها ضميرالشأن والقصة، وسبب ذلك هو أن جذيمة الأبرش قد كان قتل أبا الزباء عمرو بن الظرب، فأرسلت إليه الزباء تستدعيه إلى نكاحها وزينت له ذلك بانضمام ملكها إلى ملكه فاغتر جذيمة بذلك، وعزم على المسير إليها، واستصوب ذلك نصحاؤه إلا قصيراً مولاه فإنه نهاه عن ذلك فخالفه جذيمة، وسار نحو الزباء، فلما قرب من بلد الزباء استقبله جنودها مع الأسلحة وأحاطوا بجذيمة، فقال له قصير: انصرف فلم يقبل جذيمة قوله، وقتلوه، فقال قصير: لايطاع لقصير أمر، فصار مثلاً.
(فأبيتم عليَّ): فكرهتم ما قلته، ورددتم رأيي علي.
(إباء المخالفين الجفاة): الذين دأبهم المخالفة لأمرائهم فيما يقولونه من مصلحتهم، والجفاء: خلاف البر، يقال: جفاه إذا لم يبره.
(والمنابذين العصاة): المنازعين له في الرأي عصياناً وتمرداً منهم، واستمرت بهم هذه المنازعة والمخالفة.
(حتى ارتاب الناصح بنصحه): خالطت الريبة وهي الشك من كان ناصحاً، وأدخلت عليه الشك في قتاله معي والنصح لي.
(وضن الزند بقدحه): الضن من الضنة، وهي البخل، والزند: عودان أعلى وأسفل، فالأعلى منهما زند، والأسفل زندة يوريان النار، والقدح: ما يخرج منهما من النار، واستعاره ها هنا لما هو فيه من عدم قبول رأيه وبذله للنصح.
(فكنت أنا): فيما بذلته للنصيحة.
(وأنتم ): فيما خالفتم.
(كما قال أخو هوازن): دريد بن الصمة :
(أَمَرْتُكُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرِجِ اللِّوَى
فَلَمْ تَسْتَبِيْنُوا النُّصْحَ إلا ضُحَى الْغَدِ )
وكان من قصته أن أخاه عبد الله بن الصمة غزا قوماً، وغنم منهم، وساق إبلهم وأقام بمنعرج اللوى فنهاه دريد عن المقام بذلك الموضع، وقال له: إن القوم سيطلبونك ويتبعونك فلجّ أخوه وأقام، ثم ظعن دريد، ولحق القوم أخاه فقتلوه وأفلت دريد، فقال هذا البيت، فتمثل به أمير المؤمنين، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن إعرابه وموضع التمثيل منه ظاهران، فلا حاجة بنا إلى شرحه.
(36) ومن خطبة له عليه السلام في تخويف أهل النهر
هؤلاء قوم كانوا في معسكر أمير المؤمنين فتأخروا عن متابعته بغياً وعناداً، وهم القرَّاء، وكان عددهم إلى زهاء أربعة الآف فأبلغ إليهم في الإعذار والتخويف، فأبوا فقال لأصحابه:
(اقتلوهم، فوالله ما يقتل منكم عشرة، ولا يبقى منهم عشرة) وكان فيهم ذو الثُّديَّة، وكان من جملة ما خاطبهم به من التخويف والإبلاغ في المعذرة.
(فإني نذير لكم): النذير هو: المعلم، والإنذار هو: الإعلام، وهو لا يكون إلا في الأمور المخوفة، قال تعالى: {نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }[سبأ:46].
(أن تصبحوا صرعى): مقتولين في مصارعكم، وهي: أماكن القتل.
(بأثناء هذا النهر): جوانبه ونواحيه.
(وأهضام هذا الغائط): الأهضام: جمع هِضْمٍ بكسر الفاء، وهو: ما اطمأن من الأرض واستدق، والأهضم من الخيل: ما استدق أعلاه جنبيه.
قال ابن السكيت: ما استدق أهضم، وهو عيب فيها، والغائط: ما اطمأن من الأرض وكان واسعاً.
(على غير بينة من ربكم): من غير حجة واضحة أخذتموها من كتاب الله أو سنة رسوله.
(ولا سلطان مبين معكم): ولا برهان صاحبكم وأدليتم به في مخالفتكم هذه وبغيكم في تأخركم عن معسكري بغياً وعناداً.
(قد طوَّحت بكم الدار): أذهبتكم حالتكم هذه في داركم إلى مذهب من الحيرة، والتطويح: التحير.
(واحتبلكم المقدار): الاحتبال افتعال، واشتقاقه من الأحبولة، وهي: شرك الصائد، والمقدار هو: التقدير، قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }[الرعد:8] والمعنى: واصطادكم التقدير بسوء آرائكم .
(وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة): بلغت جهدي في المنع عنها لما فيها من الفتنة، ووقوع الشك والريبة، والفت في أعضاد المسلمين عن قتال عدوهم، وقطع دابره، واستئصال شأفته.
(فأبيتم عليَّ): فغلبتموني وعلا رأيكم على رأيي حيث كان سبباً لفتنتكم بتأخركم عني.
(إباء المخالفين المنابذين): فعل من يريد انشقاق العصا لمخالفته، ومنازعتي لما أنا فيه؛ فكان لكم الغلبة في أمر هذه الحكومة.
(حتى صرفت رأيي إلى هواكم): انقدت لما قلتموه، وساعدت إلى ما أردتموه من ذلك، وإنما ساعد إلى التحكيم لأمرين:
أما أولاً: فلما يرجوه من الصلاح، والتئام الشعب ، وقصده المتابعة لأمر الله وحكمه لما بذلوه.
وأما ثانياً: فإنما أجاب إليه ضرورة لما رأى من اتفاق الأكثر من عسكره عليه.
قال أبو جعفرالإسكافي : ويدل على أن أمير المؤمنين كان غير راض بهذه الحكومة أنه قال: (لقد أمسيت أميراً وأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً واليوم منهياً) كل هذا دلالة على عدم رضاه، وإنما كان لما ذكرناه.
(وأنتم معاشر [العرب] ): جمع معشر، أي أقوام من جهات كثيرة قد اجتمعتم.
(أخفَّاء الهام): يشير بذلك إلى ما يعتريهم من كثرة الطيش والفشل وعدم الاتئاد في الأمور كلها، والهام هو: موضع الدماغ وجعله كناية عن ذهاب الوقار عنهم.
(سفهاء الأحلام): والسفه: نقيض الحلم، وأصله من سفهت الريح الشجر إذا مالت به، والمعنىأن الجهل مال بهم عن الحق والاستقامة.
(ولم آت لا أبالكم بُجُراً): البُجرُ بضم الفاء هو: الشر والأمر الأعظم، قال:
اُرمي عليها وهي شيء بُجُر
أي عظيم، وقوله: لا أبا لك كلمة تستعمل تارة في المدح، والغرض به أنك منفرد لا يلد أب مثلك، وتارة في الذم ومعناه لا أبا لك تقر عينه بك، وغرضه هاهنا ذمهم مما فعلوه.
(ولا أردت بكم ضراً): ولا قصدت فيما أشرت به من ترك التحكيم مضارة بكم ولا إضراراً، وفي بعض النسخ: (ولا أردت بكم عُراً) والعُر بالضم: قروح تصيب مشافر الإبل، تكوى غيرها فتبرأ، وفي المثل:
كذي العُر يُكْوَى غيره وهو راتع
واستعاره هاهنا للشر، فحصل من كلامه هاهنا أنه عليه السلام لم يرض بالتحكيم لما ذكرناه، ثم إن رضي به فإنما رضي به لما يرجو فيه من الصلاح وانسداد الأمر، ثم إذا رضي به فإنما رضي بأن يكون الحكم هو ابن عباس، ولهذا قال: (قد رموكم بحجر الأرض) : يعني عمرو بن العاص: (فدعوني أرميهم بفتى من قريش ابن عباس)، قالوا: لا نرضى إلا برجل من أهل اليمن، فقال:
(هذا الأشتر من أهل اليمن).
فقالوا: لا، فقال: (من ترضون؟)، قالوا: نرضى بأبي موسى، وإنما رضوا به؛ لأنه كان واقفاً عنه متخلفاً عن مبايعته مع سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر ، ثم إنما رضي بأبي موسى إذا كان حاكماً بكتاب الله، فأما إذا حكم برأيه فلا، فلما ساعدهم إلى ما قالوه من أمر التحكيم، وخُدِعَ أبو موسى بما كان من عمرو، وردوا اللآئمة علىأمير المؤمنين، وقالوا له: أخطأت وكفرت، وتحزب هؤلاء، وجعلوا لهم أميراً واعتزلوه واعترضواالناس بالسيف، واجتمع إليهم أحزاب حتى بلغوا اثني عشر ألفاً، وكانوا يقتلون الأطفال فضلاً عن البالغين فقاتلهم بعد إبلاغ العذر إليهم وقتلهم عن آخرهم ، ولهذا قال عليه السلام:
(ما رأيت إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل علىمحمد) فهذا منه دلالة على توجه الأمر عليهم في قتالهم لما كان منهم من البغي والفسوق والتمرد بمخالفته وحربه .
(37) ومن كلام له عليه السلام يجري مجرى الخطبة
(فقمت بالأمر): أراد ما كان من إمامته واجتماع الناس إليه بعد قتل عثمان، قام بالأمر إذا نهض واستقل بأعبائه.
(حين فشلوا): وقت اعتراهم الفشل، وهو عبارة عن عدم الثبوت، وكثرة الانزعاج في تلك الحال، ومرج أمرهم مروج الخاتم في اليد.
(وتطلعت): تطلع للأمر وطالعه إذا أشرف عليه، وكان متحققاً له.
(حين تعتعوا ): تعتع في كلامه إذا تردد فيه، وتعتعت الرجل إذا أقلقته وأزعجته عن حاله.
(ومضيت): مضى في الأمر إذا نفذ فيه، من قولهم: سيف ماضي المضارب إذا كان نافذاً.
(بنور الله): بحجج الله، وما أعطاني من البصيرة النافذة.
(حين وقفوا): تحيروا، وغرضه بذلك حكاية ما وقع من الاضطراب قبل البيعة، والاستقرار بعد تقرير إمامته.
(وكنت أخفضهم صوتاً): أخفاهم كلاماً؛ لأن خفض الصوت أمارة صادقة على عظم اليقين وتحقق البصيرة، ورفع الصوت أمارة على الفشل والانزعاج.
وحكي عن الأصمعي أنه كالم المفضل بن سلمة في مسألة فطالت أصوات المفضل وعلت، فقال له الأصمعي: لو نفخت في الشؤم تكلم كلام النمل وأضب .
(وأعلاهم فوتاً): أرفعهم سبقاً إلى معالي الأمور الدينية كلها.
(فَطِرت بِعِنَانِها): الضمير للإمامة، والعنان هو: ما يمسك به الراكب يملك به رأس الفرس، واستعاره هاهنا لاستحكامه في الأمر وإتقانه لأحواله.
(واستبددت برهانها): الاستبداد هو: الإيثار، والرهان: جمع رهن، وهو ما يجعل من العوض عند السباق، وصرت في أمري كله واستقراري على الدين.
(كالجبل لا تحركه القواصف): مثل الجبل في الرسوخ فلا يضطرب، والقواصف: جمع قاصفة وهي الريح الشديدة، قال تعالى: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ }[الإسراء:69].
(ولا تزيله العواصف): ومستقراً في موضعه لا يزول عنه، والعواصف: جمع عاصف وهي الريح عند المطر.
(لم يكن لأحد فيَّ مهمز، ولا لقائل فيَّ مغمز): الغمز والهمز واللمز أمور واحدة، وهو: عبارة عن نقص الإنسان والغض فيه، ويكون بالعين ، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ }[المطففين:30]، ويكون باليد كقوله:
وكنتُ إذا غمزتُ قنَاةَ قومٍ ... كسرتُ كُعُوْبهَا أو تَسْتَقِيْمَا
وأراد أنه عليه السلام على نهاية الكمال في خصال الإمامة واستنهاض آلة الإيالة والسياسة.
(الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له): أراد أن من كان عاجزاً لا يقدر على أخذ حقه فهو عندي بمنزلة العزيز في أخذ حقه والانتصار له.
(والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه): يعني ومن كان قوياً فلا تمنعني قوته عن أخذ الحق منه وإنصاف غيره منه.
(رضينا عن الله قضاءه): طابت نفوسنا عن كل ما قضى الله فينا مِمَّا يسر النفوس ويكرهها.
(وسلمنا له أمره): في كل ما حكم به وأنفذه عن رسول الله صلى الله عليه وآله، حاكياً عن الله: ((من لم يرض بقضائي، ويصبر على بلائي ، فليتخذ رباً سواي)) .
(أتراني أكذب على رسول الله [صلى الله عليه (وآله) وسلم ] فوالله لأنا أول من صدقه) : أترى إذا كان مبنياً لما لم يسم فاعله فهو يفيد الظن، وإذا كان مبنياً لما يسمى فاعله فهو بمعنى الرؤية، وقد يكون مستعملاً في العلم، أني أكذب على رسول الله في كل ما أخبرني به وحكيته أنا عنه، فأنا أول من آمن به؛ لأن الرسول عليه السلام بعث يوم الإثنين، وأسلم أمير المؤمنين يوم الثلاثاء ، فمن كان أول من آمن كان أبعد من الكذب لا محالة.
(فنظرت في أمري ): تدبرت أمري وأعملت فكرتي.
(فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي): فيه تأويلان:
أحدهما: أن يكون مراده أن إمامتي ووجوب طاعتي كانت قبل البيعة بما كان من النص من جهة رسول الله عليَّ باستحقاقي للإمامة، وجعله لإياي وصياً وولياً، فلهذا كانت طاعتي سابقة لما كان من أمر البيعة، ولهذا قال: أتراني أكذب على رسول الله في ادعائي للإمامة بالنص منه.
(وإذا الميثاق في عنقي لغيري): يريد أن الرسول قد كان أخذ عليه الميثاق في أنه يفعل أموراً ووافقه عليها لما جعله إماماً للأمة، فالميثاق للرسول في عنقه.
وثانيهما: أن يكون مراده أن طاعتي للخلفاء قبلي قد سبقت بيعتي، ويكون مراده بأن الميثاق في عنقه لغيره أنه صار تحت حكم غيره تابعاً له، ولهذا قال: فنظرت إشارة إلى ما كان منه في أول الأمر من إزالته عمَّا كان مستحقاً له والاستئثار بما هو أولى به من غيره وأحق به لا محالة.
(38) ومن خطبة له عليه السلام
(وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق): أراد أن من أدلى بشبهة ونصر مذهبه بها فإنه يروجها ترويجاً، ويقربها تقريباً تشبه الحق، ولهذا يلتبس حالها على ضعفاء الأفهام، ومن قعد به العجز عن إدراك البصيرة.
(فأما أولياء الله): الذين اصطفاهم للولاية، ونوّر بصائرهم، وصفّى أذهانهم للتمييز بين الحق والباطل.
(فضياؤهم): فنورهم.
(فيها): الضمير للشبهة.
(اليقين): التحقق والقطع بهداية الله تعالى وحسن إلطافه لهم باتباع الحق.
(ودليلهم): رائدهم .
(سمت الهدى): طريق الهدى وقصده، ويحتمل أن يكون مراده الهدى المقطوع بصحته؛ لأن السمت عبارة عن السير بالحدس والظن، فلهذا قال: دليلهم سمت الهدى.
(وأما أعداء الله): الذين أراد إنزال الضرر بهم .
(فدعاؤهم فيها الضلال) أي هو دينهم لانهماكهم فيه وإكبابهم عليه.
(ودليلهم العمى): لانحرافهم عن الحق وانصرافهم عنه.
سؤال؛ لِمَ قال في حق الأولياء: فضياؤهم اليقين، وقال في حق الأعداء: فدليلهم العمى، ولم يعكس الأمر في ذلك؟
وجوابه؛ أن الغرض الأهم للأولياء التنوير لقلوبهم بنور الحق، واستيقان الأدلة الواضحة والقطع بها، والأهم الأعظم لأعداء الله هو الحض لمن اتبعهم على الضلالة وسلوك طريق الجهالة، فلهذا خصهم بالدعاء، وخص الأولياء بالضياء لما ذكرناه.
(فما ينجو من الموت من خافه): وضع الخوف مكان الهرب؛ لأنه سبب فيه، والمعنى لا ينجو من الموت من هرب منه.
(ولا يعطى البقاء من أحبه): وليس يكون البقاء واقفاً على اختيار مختار، وإنما هي آجال مقدرة وأمور مقضية في الموت والبقاء عند علاّمها: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ }[فاطر:11]، وقوله: فما ينجو من الموت، بعد قوله في صفة الأولياء والأعداء ما قاله، من باب الاستطراد، إذ كان لا ملاءمة بينهما.
(39) ومن خطبة له عليه السلام
(منيت بمن لايطيع إذا أمرت): أراد بليت، من قولهم: منيته إذا ابتليته بكذا، ثم لا يريد طاعتي إذا أمرته بها.
(ولا يجيب إذا دعوت): ولا يلبي دعوتي بالإجابة إذا ما ناديته.
(لا أبا لكم): قد قررنا شرحه، والمراد ها هنا فُهِمَ بتأخرهم عن الإجابة عن النداء ونكوصهم عن امتثال مراده عند أمره لهم.
(ما تنتظرون بنصرتكم لربكم): ما ترتقبون في القيام بأمر الله والنهوض للجهاد في سبيله؛ حيث قال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمد:7].
(أما دين يجمعكم): أراد أن الهوى وإن كان مختلفاً من حيث كان لكل واحد غرض؛ لكن الدين وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، هو الجامع للأغراض وهو جامع المختلفات لما في أهله من الغيرة والحمية والعزة.
(ولا حمية): الحمية هي: الاحتماء.
(تحمسكم ): بالسين والحاء المهملين أي تغضبكم.
(أقوم فيكم): أنادي في أمكنتكم.
(مستصرخاً): طالباً لمن ينصرني، ويكون عوناً لي على ما أريده.
(وأناديكم): وأهتف بكم.
(متغوثاً): مستجيراً في أنديتكم.
(فلا تسمعون لي قولاً): لميلكم إلى التخاذل، وجنوحكم إلى الراحة.
(ولا تطيعون لي أمراً): لعزمكم على المخالفة، وجدكم على المعارضة.
(حتى تكشفت الأمور): اتضحت، من كشفه إذا أوضحه.
(عن عواقب الإساءة): إساءتكم لي لمخالفتكم لأمري، فكان عاقبة ذلك المذلة والهوان.
(فما يدرك بكم ثأر): فانتهى بكم الذل إلى أنكم لا تدركون ذحلاً لأحد منكم، والثأر: الذحل، والثائر: الذي لا يترك ذحله حتى يأخذه.
(ولا يبلغ بكم مرام): ولا ينتهي بنجدتكم إلى مقصد من المقاصد الدينية والدنيوية.
(دعوتكم): وأمارة ما قلته فيكم من الهوان والذل أني ناديتكم.
(إلى نصر إخوانكم): إلى الإعانة لمن كان أخاً لكم في الدين.
(فجرجرتم): الجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته ضجراً به وكراهة للجمل.
(جرجرة الجمل الأشر ): الأشر بالشين المثلثة الفوقانية هي: البطر، ومنه أشر الرجل إذا بطر، والأسر بالسين المثلثة التحتانية: احتقان البول، ومنه قولهم: أسر الرجل إذا أصابه هذا الداء، وكله محتمل ها هنا؛ لأن الجرجرة تحتمل أن تكون من البطر، ومن شدة هذا الداء، ومراده المبالغة في تخاذلهم.
(وتثاقلتم): وجنحتم إلى الدعة من الثقل، وهو نقيض الخفة.
(تثاقل النضو الأدبر): النضو هو: البعير المهزول فإنه بطيء الحركة لهزاله وضعفه.
(ثم خرج إليَّ منكم جنيد متذايب ): ثم كان [في] عاقبة الأمر بعد مكابدة الشدة خرج إليَّ جنيد، وإنما حقَّره لضعفه وحقارته، ومن للتبعيض أي جنيد هو بعض منكم،
متذايب: مضطرب، من قولهم: تذايب الريح إذا اضطرب هبوبها، وسمي الذئب ذئباً لاضطراب مشيه.
(40) ومن كلام له عليه السلام في الخوارج لما سمع قولهم: لا حكم إلا لله
قال: (هذه كلمة حق يراد بها باطل): اعلم أن الخوارج لما طعنوا عليه في أمر التحكيم حاجَّه ابن الكوّاء وقال له: لِمَ حكَّمت الرجال في دين الله؟ فصرخ أمير المؤمنين بأعلى صوته، وقال:
(إني لم أُحكِّم الرجال، وإنما حكَّمت كتاب الله فإن حكموا به قبلت وإلا رددت).
فقال له ابن الكوّاء: فلمَ حكَّمت أبا موسى الأشعري؟ فقال لهم:
(إنكم جئتم به مترعاً ، وقلتم: لا نرضى إلا به) فقال ابن الكوَّاء: إنه قد ضل وأخطأ، فقال له أمير المؤمنين:
(أرأيتم لو أرسل رسول الله مؤمناً يدعو الكفار فارتد على عقبه كافراً هل كان يضر رسول الله شيئاً)؟
قالوا: لا
قال: (فما ذنبي إذا ضل أبو موسى).
قال ابن الكوَّاء: فَلِمَ تركت التسمي بإمرة المؤمنين في كتابك، وكتبت اسمك واسم أبيك؟ فقال أميرالمؤمنين:
(أليس رسول الله قد فعل ذلك، فإنه لما انعقد صلح الحديبية بينه وبين سهيل بن عمرو، وكتب النبي عليه السلام: ((هذا ما صالح عليه محمد رسول الل ه سهيل بن عمرو))، فقال سهيل: إنّا لو أقررنا أنك رسول [الله] ما حاربناك، فاكتب اسمك واسم أبيك، فقال لي : ((اكتب محمد بن عبد الله فإن ذلك لايضر نبوتي شيئاً )) فهكذا أنا).
فقال له ابن الكوّاء: خصمتنا ورب الكعبة .
فلما قالوا: لا حكم إلا لله، وغرضهم إبطال إمامته بالتحكيم، فقال:
هذه وإن كانت كلمة حق، فإن الخلق والأمر والقبض والبسط لله، ولكنكم قصدتم مقصداً فاسداً، وهو بطلان أمري بالتحكيم.
(نعم [إنه] لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة): ويبطلونها بما زعموه.
(وإنه لا بد للناس من أمير): مراعاة لمصالحهم، وإقامة لأمور دينهم.
(بر): عادل.
(أو فاجر): ظالم غشوم.
(يعمل في إِمْرَتِهِ المؤمن): يفرغ للأعمال الصالحة عن شواغل الفتن.
(ويستمتع فيها الكافر): ويفرغ لطلب المعيشة وإصلاحها، وهذه إشارة منه عليه السلام إلى أن إمرة الفاجر فيها صلاح عام كما ذكر، وقد أشار إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وآله بقوله:
((إمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم )) لما في ذلك من كفِّ البغاة وزمِّ المتسلطين على الخلق بالفتن وإثارتها.
(وَيُبَلِّغُ الله فيها الأجل): أراد الأجل الذي قدره الله تعالى وحتمه بالموت دون ما يحصل بالقتل، فإن المقتول كان يجوز بقاؤه ويجوز موته، فأما الميت فلا شك في كونه مستوفياً لعمره المقدر له، فأشار بذلك إلى ما قلناه.
(ويجمع الله فيها الفيء ): الضمير في قوله: فيها راجع إلى الإمرة، وأراد بالفيء المغنم؛ لأن أمره إلى الإمام يقسمه في أهله كما أمر الله.
(ويقاتل به العدو): أراد الإمام، والضمير له، إما أهل الحق ، وإما أهل البغي والفسوق وأهل التمرد.
(وتأمن به السبل): بقوته وشدة بسطته، وأراد الطرقات.
(ويؤخذ به): أراد بقوته ونفوذ سلطانه.
(للضعيف): حقه.
(من القوي): المتكبر عن أداء حقه بقوته.
(فيستريح برٌّ ): في ظله وكنفه.
(ويستراح من فاجر): بكفِّه وزمّه عمَّا أراد من التسلط على غيره من الضعفاء.
ثم لما سمع ولوعهم بذكر التحكيم، قال:
(حكم الله أنتظر فيكم): ما يقدِّره لي ويقوِّي عليه عزيمتي من سلامتكم إن رجعتم، أو قتلكم إن نكصتم على أعقابكم، ثم قال:
(أما الإِمْرَة الْبَرَّة): الصادرة على رضوان الله، والعاملة بأحكامه.
(فيعمل فيها التقي): فيفرغ وَيُقْبِلُ على عمله للآخرة وإصلاح دنياه.
(وأما الإمرة الفاجرة): المخالفة لأمر الله التي يكون مزاجها الظلم.
(فيتمتع فيها الشقي): فيكون فيه متاع لأهل الشقاء وبلغة لهم.
(إلى أن تنقطع مدته): ببلوغ أجله.
(وَتُدْرِكَهُ منيته): يعني الموت.
سؤال؛ لِمَ قال في الإمرة البرة: يعمل فيها التقي، وخص الإمرة الفاجرة يتمتع[بها] الشقي، وكلاهما [لا بد له] من المتعة؟
وجوابه؛ هو أن المؤمن ليس غرضه المتعة، وإنما غرضه التجارة بالأعمال الصالحة، المتاجر الرابحة بالجنة، وأما الشقي فأعظم أغراضه هو المتعة إذ لا همَّ له في الآخرة، فلهذا خالف بينهما لما ذكرناه، فذكر ما هو الأهم من مقصد كل واحد منهما.
(41) ومن خطبة له عليه السلام
(إن الوفاء توءم الصدق): أتأمت المرأة إذا ولدت ولدين في بطن واحد، وأراد أن الوفاء والصدق أخوان، وهذا صحيح فإنه لا وفاء لكاذب في كل ما قال أو عقد به، ويحمله الكذب على الغدر، والإخلال بقوله ووعده.
(ولا أعلم جُنة أوقى منه) الجُنة بالضم: ما سترك من لباس وغيره، أوقى من الوقاية، والمعنى أن الصدق أعظم ما يستتر به الإنسان من العيوب.
(وما غدر من علم كيف المرجع ): أراد ويستحيل الخدع والمكر ممن علم المعاد إلى الآخرة، وتحقق حالها في المناقشة.
(ولقد أصبحنا في زمان): صرنا إلى مدة، وأصبح من الأفعال التي يقترن مضمون الجملة بأزمانها مثل كان.
(اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً): الكيس هو: الظرف وحسن التصرف، وأراد أنهم استعملوه وعدوه من الظرف، وحسن التصرف في أمورهم.
(ونسبهم أهل الجهل[فيه] ): وعزاهم من لا بصيرة له بذلك .
(إلى حسن الحيلة): إلى جودة التصرف، والحيلة هي الاسم، والمصدر هو الاحتيال.
([مالهم] قاتلهم الله!): تعجب من جهلهم فيما زعموه من ذلك.
(قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ): أراد تكذيبهم فيما توهموه من ذلك بأنه يرى الحوَّل الذي حول الأمر، والقُلَّبُ الذي قلبها ظهراً لبطن، وحنكته التجارب.
(وجه الحيلة): الخديعة والمكر.
(ودونه مانع من الله ونهيه): ويحول بينها وبينه الترغيبات بالأوامر بالكف عنها، والترهيبات بالنواهي بالوقوع فيها.
(فيدعها): فيكفُّ عنها ويتركها.
(رأي عين): رؤية ظاهرة مكشوفة كرؤية المبصرات، وانتصابه علىالمصدرية، كقولك: ضربته ضرب السوط، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال أي منكشفة.
سؤال؛ أيُمّا أوقع في البلاغة تنكير العين كما وقع في كلامه هاهنا، أو تعريفها كما وقع في التنزيل، في قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ }[آل عمران:13]؟
وجوابه؛أن كل واحد منهما لا غبار عليه في البلاغة والفصاحة، [و] لكن ما جاء به القرآن أبلغ؛ لأن اللام دالة على البلاغة، لأن اللام إن كانت للعهد فالغرض مثل رؤية ما تعهدون من أعينكم المبصرة، وإن كانت للجنس فالغرض مثل رؤية جنس الأعيان المبصرة في التحقق والقطع، وتنكير العين لا يكون معطياً هذه المعاني، فمن ثمَّ كان التعريف أبلغ.
(بعد القدرة عليها): بعد تمكنه منها وقدرته على تحصيلها.
(وينتهز فرصتها): ويغتنم نوبته منها، من الفرصة وهي: النوبة، يقال: أخذ فرصته من البر أي نوبته.
(من لا حريجة له في الدين): من لا يضيق صدره بترك الدين، ولا يحتفل به، من الحرج وهو: ضيق الصدر.
(42) ومن خطبة له عليه السلام
([أيها الناس] إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان): إن أعظم ما يقع منه خوفي عليكم خصلتان.
([اتباع] الهوى): وهو ما تدعو إليه النفوس وتحبه.
(وطول الأمل): وهو إبعاد مدة الآجال وتنفسها.
(فأما اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق): لأن النفوس أمَّارة بالسوء فاتباع هواها مجانبة للحق وانصراف عنه.
(وأما طول الأمل فينسي الآخرة): لأن في طول الأمل اشتغالاً بالعاجل من الدنيا، ومن أقبل على الدنيا أدبر عن الآخرة لا محالة.
(ألا وإن الدنيا قد ولت): أدبرت.
(جذَّاء ): من الجذِّ وهو: القطع، والغرض إما تولية جذَّاء، وإما مدبرة جذَّاء، فالأول وصف للتولية، والثاني وصف حال الدنيا، ويروى بالحاء المهملة أي سريعة، وسماعنا بالجيم وهو الأول.
(فلم يبق فيها إلا صبابة[كصبابة الإناء] ): الصبابة: البقية القليلة لتوليها وإدبارها.
(اصطبَّها): افتعال من صبَّه إذا سكبه وأهرقه.
(صابُّها): المريد لصبها، وهذا الأسلوب من أنواع البديع يسمى الاشتقاق، وهو أن يأتي بألفاظ متعددة يجمعها أصل واحد، فإن الصبابة والاصطباب والصاب مأخوذة من صبِّ الإناء، ومن هذا قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ }[الروم:43]، وقوله عليه السلام: ((ذو الوجهين لا يكون وجيهاً عند الله تعالى )) .
(ألا وإن الآخرة قد أقبلت): جاءت مقبلة.
(ولكل واحد منهما): أراد الدنيا والآخرة.
(بنون): استعاره من الأولاد والأمهات لأجل ولوعهم بها.
(فكونوا من أبناء الآخرة): مريديها ومبتغيها .
(ولا تكونوا من أبناء الدنيا): طالبيها ومريديها.
(فإن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة): وهذا كله تمثيل بحال الأم والأولاد، وكل ما ذكره ترغيب عن الدنيا وتزهيد عن اتباعها.
(وإن اليوم): ما نحن فيه من أيام الدنيا.
(عمل): زمان عمل.
(ولا حساب): وليس زماناً للحساب.
(وغداً): عبارة عن زمن الآخرة.
(حساب): زمن حساب.
(ولا عمل): لانقطاع التكليف، ومشاهدة أمور الآخرة.
(43) ومن كلام له عليه السلام وقد أشار عليه أصحابه بالا ستعداد للحرب بعد إرسال جرير بن عبد الله إلى معاوية
(إن استعدادي): تأهبي وأخذي لعدة الحرب.
(لحرب أهل الشام): معاوية وإخوانه من أهل الفسق والشقاق.
(وجرير عندهم): رسول من جهتي بين أظهرهم يدعوهم إلى الله تعالى وإلى طاعتي.
(إغلاق للشام): رد لأهل الشام، من أغلقت الباب إذا رددته.
(وصرف لهم عن خير إن أرادوه): لأن في إظهار استعدادي وأخذي لأهبة الحرب تقوية لذلك وأمارة قوية [عليه] فأنا لا أفعله.
(ولكن قد وقَّتُّ لجرير وقتاً): ضربت له مدة معلومة، وأكدت عليه المواثيق، فهو:
(لا يقيم بعده): الضمير للوقت الذي وقته له.
(إلا مخدوعاً): بالأكاذيب الباطلة، والأطماع الفاضحة .
(أو عاصياً): لمخالفته لي فيما أمرته به.
(والرأي عندي): والأصوب في حدسي ونظري.
(مع الأناة): مصاحبة الأناة ومراعاتها والوقوف عندها، وفي الحديث: ((الأناة من الله، والعجلة من الشيطان )) .
وفي المثل: ((من تأنى في أمره أصاب أو كاد، ومن استعجل أخطأ أو كاد)) .
(فأرودوا ): فخذوا أمركم بالتؤدة والإمهال.
(ولا أكره لكم الإعداد): التأهب.
سؤال؛ ما التفرقة بين استعداده للحرب واستعدادهم، حتى أمرهم بالاستعداد، وأهمله في حق نفسه؟
وجوابه؛ هو أن استعداد الإمام مخالف لاستعداد الجند والرعية، فإن استعداده له شيار عظيم وأبهة كبيرة ، فيكون فيها الصرف الذي ذكره لأهل الشام لما يعلمون من ذلك، بخلاف استعداد الرعية فإنه لا يؤبه له فلأجل هذا أمرهم بالاستعداد وترك نفسه لما ذكرناه.
(ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه، وقلَّبت ظهره وبطنه): أراد بذلك إحاطته بمعرفة الخلافة واستيلاءه على كل أحوالها، وهو تمثيل لحاله بحال من يضرب سبعاً أو جملاً صائلاً في أنفه وعينه ثم يصرعه فيقلب ظهره وبطنه، ويستولي على جميع معانيه كلها.
(فلم أر إلا القتال أو الكفر): أراد فما وجدت لي إلا أحد أمرين ، إما القتال لهم على بغيهم وعنادهم، وإما ترك قتالهم والكفر، وإنما كان ترك قتالهم كفراً لأمرين:
أما أولاً: فيحتمل أن يكون مراده أن القتال في سبيل الله واجب، ومعاوية وإخوانه لا يخفى بغيهم وفسقهم فلو لم يحاربوا؛ لكان بمنزلة من لايصدق بأحكام الله ومقتضى واجباته التي أوجبها من ذلك.
وأما ثانياً: فيحتمل أن يكون مراده من ذلك أن الرسول عليه السلام قد قال: ((إن علياً يقاتل القاسطين )) فلو لم يقاتل معاوية، للزم من ذلك تكذيب الرسول في ذلك فما ذكره في الكفر موجه على ما ذكرناه من التأويل.
(إنه قد كان على الأمة والي): أراد بذلك عثمان.
(أحدث أحداثاً): وقع في سيرته أمور منكرة، أنكرها الخاص والعام.
(وأوجد الناس مقالاً): أي أغضبهم، فوجدوا في قلوبهم عليه موجدة عظيمة، والموجدة: الغضب، ومنه فلان يجد في قلبه موجدة.
(فقاموا ): عليه أظهروا الإنكار من قولهم: فلان يقوم حجته.
(ثم نقموا): أحداثه التي أحدثها
(وغيَّروا ): ما نقموه عليه، وانتهى الحال إلى ما كان من قتله، وما كان من أمر الجمل وصفين وإثارة الفتن من أجل ذلك.
(44) ومن كلام له عليه السلام لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية
وكان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين وأعتقهم، فلما طالبه بالمال خاس به أي غدر، وهرب إلى الشام:
(قبح الله مصقلة!): أي أبعده ونحاه عن الخير.
(فعل فعل السادة): من اصطناع المعروف بالمنة بالعتق على من أعتقه من السبي.
(وفر فرار العبيد!): من الإباق والغدر؛ لأن الغالب من حال العبيد هو الإباق.
(فما أنطق مادحه): فلم ينطق مادحه بما فعل من المعروف.
(حتى أسكته): لما كان من فعله المنكر.
(ولا صدق واصفه): بالصفات المحمودة.
(حتى بكَّته): التبكيت: التقريع والتعنيف، أراد أن ما بين الأمرين [إلا] زمان قريب.
(فلو أقام): فينا ولم يلحق بمعاوية.
(لأخذنا ميسوره): يُسره على رأي غير سيبويه ، أو شيء تيسر له على رأي سيبويه؛ لأن اسم المفعول عنده لا يكون مصدراً، وإنما يكون صفة على حاله.
(وانتظرنا به موفوره): على الوجهين الذين ذكرناهما في الميسور.
(45) ومن خطبة له عليه السلام
(الحمد لله غير مقنوط من رحمته): القنط: اليأس، قال تعالى: {لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ }[الزمر:53] أي لا تيأسوا.
(ولا مخلوِّ من نعمته): ومراده من ذلك هو أن رحمة الله واسعة، فلا سبيل لأحد إلى الإياس منها، وأن نعمته شاملة للخلق ، فلا يخلو أحد عنها.
(ولا مأيوس من مغفرته): الإياس: عدم الرجاء، أي أن الله واسع المغفرة فلا ييأس منها مذنب.
(ولا مستنكف عن عبادته): الاستنكاف هو: التكبر والعلو، وأراد أن الله تعالى أهل لغاية الخضوع، لمكان الإلهية فلا ينكف أحد عن ذلك.
(الذي لا تبرح منه رحمة): أي لا تزال دائمة متجددة على خلقه.
(ولا تفقد له نعمة): فقدت الشيء إذا عدمته، ومراده أن الخلق لا يعدمون نعمة الله في حالة من الحالات.
(والدنيا دار): مستقر.
(مني لها الفناء):قدر لها العدم والزوال؛ لأنها بلغة ووصلة إلى الآخرة.
(ولأهلها): ولمن كان مخلوقاً فيها.
(منها): من هاهنا لابتداء الغاية، والضميران للدنيا.
(الجلاء): بالجيم هو: الخروج من الوطن، والخلاء بالخاء المنقوطة المكان لا شيء فيه، وكلاهما متوجه هاهنا، وسماعنا بالجيم، والغرض أنهم خارجون عنها ومجلون عنها.
(وهي حلوة): المطعم لذائقها.
(خضرة): المرأى لمن ينظر إليها.
(قد عجلت): جعلت عجالة.
(للطالب): لمن يطلبها.
(والتبست): اختلطت.
(بقلب الناظر): من ينظر إليها ويلاحظها وتكون نصب عينه.
(فارتحلوا عنها ): ارتحل إذا فارق وطنه ومستقره، والغرض فارقوها.
(بأحسن ما يحضركم من الزاد): فخير الزاد ما بلَّغ إلى الآخرة، أو أراد بالتقوى فهي أحسن الزاد، كما قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }[البقرة:197].
(ولا تسألوا): تطلبوا.
(فيها): الضمير للدنيا.
(فوق الكفاف): فوق ما يكفيكم منها.
(ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ): ولا تريدوا منها أكثر مما يبلغكم إلى الآخرة، ولله در من قال:
ما زادُ فوق الزادِ خُلف ضائعٌ ... في حادثٍ أو وارثٍ أو عارِ
(46) ومن كلام له عليه السلام عند عزمه على المسير إلى الشام
(اللَّهُمَّ، إني أعوذ بك من وعثاء السفر): [عاذ] يعوذ عوذاً وعياذة، إذا لجأ، ومراده أني ألجأ إلى الله، ووعث السفر هو: مشقته وتعبه.
(وكآبة المنقلب): الكآبة: سوء الحال، والانكسار من الذل، والمنقلب هو: الانقلاب، وأراد بالمنقلب؛ إما المنقلب إلى الآخرة، وإما المنقلب من السفر، فاستعاذ من الوعثاء في الورود والصدور من المطر والخوف، لأنهما كثيراً ما يسنحان في السفر، وأراد الدعاء أن لا يرجع خائباً من سفره بإحراز مقصوده.
(وسوء المنظر في النفس والأهل والمال ): أراد وأعوذ بك أن أرى في أهلي ونفسي ومالي منظر سوء يحزنني، ويضيق به صدري وقلبي، والمنظر: هو النظر كالمخرج بمعنى الخروج.
(اللَّهُمَّ، أنت الصاحب في السفر): المصاحب الكائن معنا أمره وإعانته في كل جهة.
(والخليفة في الأثر ): والذي يخلفنا فيمن بعدنا من الأهلين والأولاد، وهذه الدعوة مأثورة عن رسو ل الله صلى الله عليه وآله ، وقد أتمَّها عليه السلام بأحسن تمام، وقفَّاها بأكمل تقفية، حيث قال:
(لا يجمعها غيرك): أي ذلك محال في العقول في سواك.
(لأن المستخلف لا يكون مستصحباً): أراد أن الواقف لا يكون سائراً.
(والمستصحب لا يكون مستخلفاً): والسائر لا يكون واقفاً، وإنما الذي يكون له هذه الصفة، هو الذي لا يكون في جهة ولا يحصل فيها هو الله تعالى، كما قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ }[الحديد:4].
(47) ومن خطبة له عليه السلام في ذكر الكوفة
(كأني بك يا كوفة): الخطاب للكوفة، كقوله تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ }[سبأ:10] وأراد استقراب ما يصيبها من هذه الأحداث.
(تُمَدِّينً مد الأديم العكاظيِّ): عكاظ: كان سوقاً في الجاهلية يجتمعون فيه للتفاخر، وإنشاد الأشعار، والبيع والشراء، قال أبو ذؤيب :
إذا بُنِيَ القِبَابُ على عُكَاظٍ ... وقام البيعُ واجتمع الألوفُ
وأديم عكاظي منسوب إليه، وأراد أنها تمد وتطوى ، جعله عبارة عما يكون فيها من الفتن.
(تعتركين بالنوازل): عرك الأديم يعركه عركاً، إذا دلكه، والنوازل: جمع نازلة وهي شدائد الدهر وحوادثه.
(وتركبين بالزلازل): ركبه الأمر إذا علاه وبهظه، والزلازل جمع زلزلة وهي: الشدة والاضطراب، وأراد بذلك ما يكون في أيامه، أو ما يحدث بعده.
(وإني لأعلم): أقطع وأتحقق، بما أعلمني رسول الله عمَّا أعلمه الله.
(أنه ما أرادك ): قصدك.
(جبار): ظالم متكبر.
(بسوء): ما تكرهه النفوس، وتنفر عنه من القتل والأخذ والخراب.
(إلا ابتلاه الله بشاغل): سهَّل له بلوى تشغله عمَّا يريده من ذلك.
(ورماه الله بقاتل): من قولهم: رمته قسيّ المنايا، والمعنى سلَّط الله عليه قاتلاً يقتله.
(48) ومن خطبة له عليه السلام عند مسيره إلى الشام
(الحمد لله كلما وقب ليل وغسق): كل هذه دالة على الشمول والإحاطة، وقب الليل إذا دخل، وغسق إذا أظلم، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }[الفلق:3] أي ومن شر الظلام إذا دخل.
(والحمد لله كلما لاح نجم وخفق): لاح النجم إذا طلع، وخفق إذا غاب.
(والحمد لله غير مفقود الإنعام): الفقد: هو العدم، يقال: فقد ولده إذا عدمه.
(ولا مكافإ الإفضال): وأراد أن الله تعالى مستحق للحمد، بحيث لا يعدم إنعامه، ولا يكافئ أحد فضله. وانتصاب غير على الحال من اسم الله، فله الحمد على هذه الحالة. وانتصاب كل في قوله: كل ما وقب على الظرفية للزمان، وما زمانيه، أي: أن الحمد لله في هذه الأزمنة المخصوصة الشاملة.
(أما بعد): كلمة تستعمل لقطع كلام، وخروج إلى كلام آخر.
(فإني بعثت مقدمتي): طليعة الجيش وأوله.
(وأمرتهم): عهدت إليهم.
(بلزوم هذه الملطاط): وهو ساحل البحر وشفير الوادي، قال رؤبة:
نحن جمعنا الناس بالْمِلْطَاطِ ... فأصبحوا في وُرْطة الإفراطِ
أمرتهم بالوقوف فيه.
(حتى يأتيهم أمري): فيوردون ويصدرون على حسبه.
(وقد رأيت): تحققت وانقدح لي من المصلحة.
(أن أقطع هذه النطفة): أراد به الفرات، وهو أحد الأنهار، التي يقال: إنها من أنهار الجنة -سيحون وجيحون ، ودجلة، والفرات-، وكنى بالنطفة عن هذا النهر مع عظمه، وهو من عجيب الاستعارة ولطيفها أن يكنى بالأقل عن الأكثر كما يكنى بدمع العين عن البحر، واستعاره فيه كقوله:
فعيناي طَوراً تغرقان من البكاء
فأعشو وطوراً تجزران فأبصر
فاستعار النطفة للبحر كما استعار البحر لدمعة العين.
(إلى شرذمة منكم): الشرذمة: عدد قليل.
(موطنين أكناف دجلة): اتخذوا أكناف دجلة موطناً ومستقراً.
(فأنهضهم معكم إلى عدوكم): فآمرهم بالنهوض مصاحبين لكم، تجتمعون للانتصار على عدوكم.
(وأجعلهم من أمداد القوة لكم): المدد: ما يمد به الجيش من الرجال، وجمعه أمداد، والاستمداد: طلب المدد.
قال أبو زيد : مددنا القوم؛ أي صرنا لهم مدداً ، وأراد أنهم يكونون أعواناً لكم في القوة والاستظهار على أعدائكم.
(49) ومن خطبة له عليه السلام
(الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور): بطن الخفيات؛ أي علم باطنها وأحاط بها علماً، والخفيات هي: السرائر.
(ودلت عليه أعلام الظهور): الأعلام: جمع علم، ومراده أن الأعلام ظاهرة، وهي المكونات من مخلوقاته دالة عليه فهي شاهدة على إثباته.
(وامتنع على عين البصير): وفات بتعاليه على أعين البصراء بالامتناع عن أن يكون مدركاً.
(فلا عين من لم يره تنكره): أراد أن العين وإن لم تره بأحداقها فإنها لا تنكره؛ لما تراه من براهين وجوده ودلالاتها.
(ولا قلب من أثبته يبصره): أراد أن القلوب وإن أثبتته، فإن إثباتها [له] لا يكون عن رؤية منها له.
(سبق في العلو فلا شيء أعلى منه): ليس الغرض من العلو هو الفوقية فإن ذلك مستحيل على الله، لما فيه من التشبيه والكون في الجهة، وله تأويلان :
أحدهما: أن يكون مراده أنه متقدم في الاستظهار والقهر والاستيلاء، فلا شيء أقهر منه ولا أقدر.
وثانيهما: أن يكون مراده أنه سبق في الانكشاف والظهور بالأدلة والبراهين، فلا شيء أظهر من وجوده وثبوته.
(وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه): يعني أنه قرب بالرحمة واللطف بالخلق، فلا شيء يساويه في ذلك، أو قرب في نفوذ الأمر وسرعته، فلا أمر يساويه في ذلك ويماثله.
(فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه): أراد أنه وإن بَعُدَ بتعاليه عن القرب والإدراك، فإن ذلك لا يحجبه عن الإحاطة بأحوالهم والتدبير لهم.
(ولا قربه ساواهم في المكان به): ثم إن قربه منهم بالرحمة والأمر لم يقتض أن يكون مساوياً أي لهم في [جهته] الأمكنة كالقرب في حقنا؛ فإن من كان قريباً من غيره اقتضى أن يكون مساوياً له في جهته ليدنو منه.
(لم يطلع العقول على تحديد صفته): أراد أن العقول وإن دلت على كونه قادراً وعالماً وحياً وسائر صفاته؛ فإنها قاصرة عن الاطلاع على كنه حقيقة القادرية والعالمية، وغيرهما من الصفات؛ لأن حقيقة الذات إذا كان غير معلوم للبشر ، فهكذا حالة الصفة أيضاً خلافاً للمعتزلة وأكثر المتكلمين، وقد رمزنا إلى ذلك في كتبنا العقلية، وذكرنا الحق فيه.
(ولم يحجبها عن واجب معرفته): الضمير للعقول، وأراد أنها وإن لم تطلع على حقيقة الصفة فإنها غير محجوبة عن واجب معرفته بما أظهر لها من البراهين على ذلك.
(فهو الذي تشهد له أعلام الوجود): فهو المعهود بشهادة الأدلة الوجودية.
(على إقرار قلب ذي الجحود): على أن قلوب الجاحدين مقرة بوجوده وإن كانت ألسنتهم منكرة لوجوده عناداً وجحوداً وتمرداً وضلالاً.
(تعالى الله عمَّا يقول المشبهون له): بالخلق في الجسمية، والأعضاء والجوارح، والكون في الأمكنة والحلول في المحالِّ.
(والجاحدون له): بنفي وجوده، وإثبات أمور كاذبة، وخيالات باطلة كالعقول والأفلاك كما تزعمه الفلاسفة، أو إثبات نجوم مؤثرة في هذه العوالم كما يزعمه أهل التنجيم، وغير ذلك من المذاهب الرديئة والأقاويل المنكرة.
(علواً كبيراً): تعالياً يكبر عن أن ينال بحد وصفه.
(50) ومن خطبة له عليه السلام
(إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع): أشار بما ذكره إلى الأسباب الموجبة لوجود الفتن ووقوعها فقال: هي أهواء تتبع أي: أنها أمور تفعل متابعة للهوى للنفوس، ويوافق بها مراداتها، والنفوس أمارة بالسوء.
(وأحكام تبتدع): تخترع من غير دلالة عليها.
(يخالف [فيها] كتاب الله): إما تخالفه بأن لا يكون فيه ما يدل عليها، وإما تخالفه بأن تكون مناقضة لحكمه.
(ويتولى عليها رجال رجالاً): أراد ويقهر فيها رجال لرجال آخرين بالاستيلاء والسلطنة، وهذه التولية تكون منحرفة عن الحق.
(على غير دين الله): على غير مراده وقصده، وعلى مخالفة أمره وكتابه.
(فلو أن الحق خلص من لبس الباطل): أراد أن الحق لو تميز عما يشوبه من التباس الباطل به وتعلقه به [و] من بعض وجوهه.
(انقطعت عنه ألسن المعاندين ): بتجلي وتوضح، وعند وضوحه وانكشافه ينقطع عنه ألسنة من عانده بالإنكار له والجحود.
(ولو أن الباطل خلص من مزاج الحق): أراد أن الباطل لو تميز عن أن يمازجه شيء من الحق.
(لم يخفَ على المرتادين): لم تلحقه خفية على الطالبين له، والمرتاد هو: الطالب، وفي الحديث: ((إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله )) أي يطلب له موضعاً ليناً.
(ولو أن الحق خلص من لبس الباطل): امتاز عن تعلقه وشموله له.
(انقطعت عنه ألسن المعاندين ): لأنه يصير واضحاً جلياً، لامطعن فيه لأحد ممن يخالف الحق ويعدل عنه.
سؤال؛ أراه في كلامه هذا سمى تعلق الباطل بالحق لبساً، وسمى تعلق الحق بالباطل مزاجاً وكل واحد منهما له اتصال بالآخر، فما وجه التفرقة بينهما؟
وجوابه؛ هو أن اتصال الباطل بالحق له تأثير عظيم، فله فيه موقع جليل بحيث يلتبسه ويغطي عليه، فلهذا سمى اتصاله به لبساً، بخلاف اتصال الحق بالباطل؛ فإن حكمه ضعيف لا يكاد يوجد فيه ، فلهذا سمى اتصاله بالباطل مزاجاً؛ لأن المزاج يكون أقله كمزاج الخمر بالماء والعسل فإنه يكون جزءاً قليلاً منها.
(ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث): الإشارة بقوله من هذا ومن هذا إلى الحق والباطل، والضغث: قبضة من حشيش، وفي مثالهم: ضغث على إبّالة، والإبّالة هي: الحزمة الكبيرة، ومراده يؤخذ من هذا نصيب ومن هذا نصيب.
(فيمزجان): يخلطان بعضهما في بعض بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر.
(فهنالك): إشارة إلى مو ضع الامتزاج؛ لأن هنا موضوع للإشارة إلى الأمكنة، واللام دالة على البعد.
(يستولي الشيطان): يشتد أمره، ويستحكم سلطانه.
(على أوليائه): أتباعه وأعوانه، بإيثار الباطل والانقياد له، وغمص الحق واجتنابه.
(وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى): بما كان منهم من إيثار الحق [واتباع] آثاره، والإعراض عن الباطل وإهداره، وفي كلامه هذا من الحث على طلب البصائر، والتشمير على ساق الجد في تحصيلها ما لا يخفى على الأذكياء.
اللَّهُمَّ، اجعلنا ممن آثر الحق على هواه، وترك الباطل وراء ظهره وتعدَّاه.
(51) ومن كلام له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابه على شريعة الفرات بصفين، ومنعوهم من الماء
والشريعة: مشرعة الماء، وهي: مورد من يشرب منه:
(قد استطعموكم القتال): سألوكم القتال وطلبوه منكم، من قولهم: استطعمت فلاناً إذا سألته أن يطعمك، يشير بذلك إلى بغيهم وعنادهم.
(فأقروا على مذلة): المذلة: الذل والهوان.
(وتأخير محلة): الْمَحَلَّة بالفتح هو: المنزل، يقال: هذه مَحَلَّةُ القوم أي منزلهم، والإقرار: من القرار، وهو نقيض الظعون، والتأخير: هو نقيض التقدم، والمعنى في هذا هو أن القوم قد طلبوا منكم القتال ودعوكم إليه، فإن لم تعطوهم إياه وتمنحوهم الضرب بالصوارم والطعن بالرماح فاقعدوا في أماكنكم على الذل، وتأخروا عن المراتب العالية، وهذا منه عليه السلام تهييج لهم على القتال، وإلهاب لأحشائهم في اقتحام موارد الموت، ولا يجوز أن يكون، قوله: فأقروا من الإقرار لأنه عدّاه بعلى، فلهذا كان من القرار.
(أرووا السيوف من الدماء): أوصلوها أكنافهم واقطعوا بها أوصالهم؛ لتكون السيوف شاربة من دمائهم راوية.
(ترووا من الماء): بقتلهم والوصول إلى ما حازوه من الماء فترووا منه.
(فالموت في حياتكم مقهورين): أراد أن حياتكم بالتأخر عن القتال وركوب المذلة هو الموت بعينه لما فيه من الخمول والنقص في الأعين.
(والحياة في موتكم قاهرين): أراد أن موتكم بالقتل هي الحياة في الحقيقة في الآخرة الدائمة لما فيه من العز ومنشور الذكر بقهركم لهم وإذلالكم إياهم.
(ألا وإن معاوية قاد لُمَّة من الغواة): اللُمَّة: الجماعة، حذفت لامه وعوض منها مثل كُرّة وقُلَّة، وإنما ذكره باسمه المعروف به، ولم يقل: ألا وإن صاحبهم ليدل بذكر لقبه على ما اشتمل عليه من لقب له في الصفات الخبيثة، والسمات السيئة، وقوله: قاد تعريض بجهلهم وأنهم لا يملكون بصيرة لأنفسهم في مخالفته بهم، عماة عن الحق، غواة عن طريقه، طغاة أجلاف.
ويصدق ذلك أن رجلاً من أهل الشام قاتل قتالاً شديداً، فقال له بعض أصحاب أمير المؤمنين: يا فتى، أتدري من تقاتل؟ قال نعم، إن أصحابي يخبروني أن صاحبكم هذا لا يصلي، فقال له: فكيف تقول ذاك، وهو أول من صلى وأجاب الرسول إلى الهدى، وأصحابه أهل القرآن والفقه، فرجع الفتى وترك القتال، ثم عاد إلى أصحابه فقالوا: خدعك العراقي، فقال: لا والله، ولكنه نصح لي، وخلّى المحاربة .
(وغمَّس عليهم الخبر): غمَّس بالسين المثلثة التحتانية والغين والعين جميعاً إذا لبس الأمر فلا يدرى من أين يؤتى، وأراد أنه لبَّس عليهم أمورهم وأتى لهم من كل جهة.
(حتى جعل نحورهم أغراض المنية): حتى أوردهم حياض الموت، والغرض بغين منقوطة هو: ما يرمى من قرطاس وغيره، وأراد أنه صير نحورهم هدفاً للنبال ودرَّية للرماح من أهل الحق.
واعلم: أن كلامه في هذه الخطبة مشتمل على نوعين من أنواع البديع:
أولهما: قوله: (أرووا السيوف من الدماء ترووا من الماء): وهذا يسمى التجنيس المزدوج، ونظيره قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ }[آل عمران:54]، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }[النساء:142]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ }[البقرة:194]، وهو كثير.
وثانيها : الطباق، وهو قوله: قاهرين، ومقهورين، وحقيقة الطباق؛ أن يأتي بالشيء وضده، ومنه قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا }[التوبة:82] ومنه قول دعبل :
لا تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ... ضَحِكَ الْمَشِيْبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى
وقول الجعدي :
فَيَا عَجَبا كَيْفَ اتَّفَقْنَا فَنَاصِحٌ ... وفيٌّ وَمَطْوِيُّ عَلَى الْغِلِّ غَادِرُ
وهذان النوعان لهما موقع عظيم في البلاغة.
(52) ومن خطبة له عليه السلام
(ألا وإن الدنيا قد تصرمت): التصرم هو: الزوال والتفرق، أي ذهبت قليلاً قليلاً، كقوله تعالى: {نَزَّلْنَا الذّكْرَ }[الحجر:9].
(وآذنت بانقضاء): الإيذان: هو الإعلام، والانقضاء: هو الذهاب، ومنه قولهم: انقضى الأمر أي ذهب.
(وتنكَّر معروفها): إما صار ما كان منها معروفاً منكراً لكثرة ما يعرض له من التغيير، وإما صار المعروف فيها منكراً لقلة من يفعله ويأتيه.
(وأدبرت حذَّاء): أي أنها ولت مسرعة، واشتقاقه من الحذذ وهو خفة شعر الَذنَب.
(فهي تحفز بالفناء سُكانَها): الضمير للدنيا، أراد أنها تعجل بالموت من كان لابثاً فيها.
(وتحدو): تسوق.
(بالموت جيرانها):من كان معمراً فيها.
(وقد أمرَّ منها ما كان حلواً): يعني أن حلاوتها ممزوجة بمرارة، فما يحلو منها شيء من لذاتها إلا وأعقبه مرارة من ضرائها.
(وكدر منها ما كان صفواً): فما يصفو منها شيء من نعيمها إلا وكان عاقبته الكدر من بؤسها.
(فلم يبق منها): لزوالها وتقضي الأكثر منها.
(إلا سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الإداوة): السَمَلة بالسين بثلاث من أسفلها هو: البقية من الماء، والإداوة: إناء من أدم للماء.
(أو جرعة كجرعة المَقَلة): والمَقَلة بفتح القاف والميم: حجرصغيرة توضع في أسفل الإناء، لقسمة الماء، وذلك يكون عند قلة الماء في المغاور.
(لو تمززها): يمصُّها .
(الصديان): المتقطع جوفه من العطش.
(لم ينقع): بالقاف، من قوله: نقع الماء العطش نقوعاً إذا سكَّنه.
(فأزمعوا عباد الله الرحيل): الإزماع هو: الثبات في الأمر.
قال الكسائي : يقال: أزمعت الأمر، ولا يقال: أزمعت عليه .
وأراد اثبتوا على الانتقال.
(عن هذه الدار): دار الدنيا.
(المقدور على أهلها بالزوال): المحكوم على من كان فيها من أهلها والساكنين [فيها] بالذهاب والعدم
(ولا يغلبنَّكم): ولا يقهركم، من غلبه إذا قهره.
(منها الأمل): ما تأملونه من الحياة والميل إلى لذاتها المنقطعة.
(ولا يطولنَّ عليكم [فيها] الأمد): ما نفس لكم من هذه الآجال فهي حقيرة بالإضافة إلى انقطاعها.
(فوالله لو حننتم حنين الُولَّه العِجَال): الحنين: هو شدة الشوق، والُولَّه: جمع واله وهو: الذي ذهب عقله من شدة الوجد والحزن، والعِجَالُ: جمع عجالة وهي الناقة التي تسرع إلى ولدها.
(ودعوتم بهديل الحمام): الهديل بدال منقوطة من أسفل هو: صوت الحمام، يقال: هدل هديلاً مثل هدر هديراً، وإنما قال عليه السلام: بهديل الحمام؛ لأن العرب تزعم أنه كان على عهد نوح عليه السلام فرخ اصطادته جوارح الطير قالوا: فليس حمامة إلا وتبكي عليه إلى الآن.
(وجأرتم جؤار متبتِّلي الرهبان): الجؤار: هو التضرع، والتبتل: هو الانقطاع من الدنيا وإهمالها إلى الله تعالى، والرهبان: جمع راهب، وهم هؤلاء الذين يكونون في الصوامع رغبة إلى الله وانقطاعاً إليه، وتخلياً عن الدنيا، فهم حابسون لأنفسهم فيها.
(وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد): أما الخروج من الأولاد فهجرهم، والخروج من الأموال بإنفاقها لله تعالى وفي سبيله.
(التماس القربة إليه): طلباً للزلفة.
(في ارتفاع درجة عنده): من رفيع المنازل التي أعدها لأوليائه.
(أو غفران سيئة أحصتها كتبته ): الملائكة الموكلون بالكتابة للأعمال.
(وحفظها رسله): الملائكة الموكلون بالحفظ، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ، كِرَامًا كَاتِبِينَ}[الإنفطار:10-11].
(لكان قليلاً فيما أرجو لكم من ثوابه): اللام هي جواب القسم، والمعنى أن تلك العناية منكم والاجتهاد يكون قليلاً بالإضافة إلى مثل ما أعد الله للأولياء من الكرامة وقرة الأعين.
(وأخاف عليكم من عقابه): الذي أعدَّ لأعدائه من النكال والويل.
(وتالله): قسم ثاني، والأول عام لكونه جاء بالواو، والثاني خاص لكونه جاء بالتاء احتكاماً في البلاغة، وتوسعاً في الفصاحة، وقد جاء الأمران في كتاب الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ} {وتالله}.
(لو انماثت قلوبكم انمياثاً): ذابت أفئدتكم ذوباً.
(وسالت عيونكم): دموع أعينكم جارية على خدودكم من العبرة.
(رغبة إليه): طمعاً فيما عنده من الثواب.
(ورهبة منه): لما عنده من أليم العقاب.
(دماً): انتصابه على التمييز أي سالت دماً، وما بينهما من الكلام عارض.
(ثم عمرتم في الدنيا): طالت أعماركم وأنتم على هذه الحالة من الرغبة والرهبة وذوب القلوب، وسيلان الأعين دماً خشية من الله.
(ما الدنيا): ما هذه هي: الظرفية، والتقدير مدة كون الدنيا.
(باقية لكم): دائمة لكم وأنتم فيها دائمون.
(ما جزت أعمالكم): ما هذه للنفي، وهي جواب القسم بالنفي، والأول كان بالإثبات، والمعنى ما كافت أعمالكم.
(-ولو لم تبقوا شيئاً من جهدكم-): ولو لم تتركوا غاية مما تقدرون عليه.
(نِعَمَه): منصوب على المفعولية بجزت ، وما بينهما متوسط عارض.
(عليكم ): الواقعة عليكم والشاملة لأحوالكم.
(وهداه إياكم إلى الإيمان): ونعمته باللطف إلى الهداية إلى الدين بما كان من إرسال الرسل، وبعث الأنبياء وغير ذلك من الألطاف الخفية.
(53) [ومن خطبة له عليه السلام في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية]
ثم ذكر صفة الأضحية وهي ما يذبح في أيام النحر، يقال لها: إضحية وأُضحية بكسر الهمزة وضمتها، وضحية وأضحاة:
(ومن تمام الأضحية): إكمالها لتكون مجزية عن السنة.
(استشراف أذنها): استشرف الشيء إذا رفع بصره إليه ووضع كفه على حاجبه ليتحقق أمره ويتيقنه فيطالع أذنها.
(وسلامة عينها): لا يعتريهما شيء من التغير الذي يطرأ عليهما.
(فإذا سلمت العين): من العوارض كالعمى والعور وغير ذلك.
(والأذن): من القطع والشق والخرم والثقب.
(سلمت الأضحية): أجزت.
(وتمت): السنة بذبحها.
(ولو كانت عضباء): قال أبو زيد: العضب كسر القرن الداخل، وهو المشاش .
(تجر رجلها إلى المنسك): أراد ولو كانت عرجاء فلا بأس بذبحها، وهذا يدل على اعتبار حالة العين والأذن في الأضحية لا غير، من غير زيادة على ذلك، والمنسك: موضع النسك، وقياسه الفتح، وكسره هو المسموع وإن خالف القياس.
(54) ومن كلام له عليه السلام
(فتداكوا عليَّ): تدافعوا عليَّ أي دفع بعضهم بعضاً، من الدكِّ وهو: الدفع. وقوله: عليَّ، أي: من فوقي.
(تداك الإبل): مثل تدافع الإبل.
(الهيم): جمع أهيم وهي: العطاش، قال الله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ }[الواقعة:55].
(يوم وردها ): وردها الماء لتشربه، يقال: هذا يوم وردي، أي يوم ورود الحمَّى علي.
(قد أرسلها راعيها): من غير ترتيب بينها، ولا مناوبة في شربها.
(وخلعت مثانيها): حبالها التي تثنى عليها للإمساك لها.
(حتى ظننت): خيل إليَّ من جهة الظن لكثرة ازدحامهم عليَّ.
(أنهم قاتلي): بالازدحام على أخذ كفي.
(أو بعضهم قاتل بعض):حيث [كان] بعضهم على بعض.
(لدي): في موضعي ومكاني وحوزتي .
(وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره ورأسه وعينه [حتى منعني النوم ]): إحاطة بأحواله، واشتمالاً على جميع أموره في الإقدام والإحجام.
(فما وجدت يسعني ): فما لقيت أمراً يكون لي فيه سعة عند الله وفسحة يعذرني بها.
(إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله): إلا أحد أمرين :
إما قتالهم لمخالفتهم الحق وبغيهم فيما جاءوا به، وإما الكفر بما أتاني به الرسول وأثرته عنه، وأخبرني به حيث قال لي: ((إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والما رقين عن الدين )) ، فإن لم أقدم على قتالهم كان ذلك رداً لما جاء به محمد صلى الله عليه وآله.
(فكانت معالجة القتال أهون عليَّ من معالجة العقاب): من حيث كان تعب القتال منقطعاً وتعب العقاب غير منقطع.
(وموتات الدنيا): [بما] يكون من الجروح ومعاناة الحرب موتة بعد موتة.
(أهون عليَّ من موتات الآخرة): لأن موتات الآخرة لا آخر لها، وموتات الدنيا لها آخر، وهو الموت الحقيقي، فلأجل هذا تجرعت حربهم وصبرت عليه.
(55) ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين
(أما قولكم أكل ذلك كراهية الموت؟): أراد أنه ليس الأمر كما زعمتم من ذلك، وإنما كان لأمور سأحكيها لكم.
(فوالله ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليَّ): هذا كلام أورده على جهة الاستعارة، ومعناه: ما أبالي دخلت على الموت بالوقوع بين أسنة الرماح ونصال السيوف، أو خرج الموت إليَّ فأزهق روحي وأنا على فراشي، وواضع خدي على الوسادة، فاستعاره لما فيه من البلاغة والوفاء بالمطابقة، والتكافؤ بذكر الشيء ونقيضه.
سؤال: لِمَ أضاف الدخول إلى نفسه، وأضاف الخروج إلى الموت فقال: (دخلت على الموت أو خرج الموت إليَّ) و[لِمَ] لم يعكس الأمر في ذلك، فما وجهه؟
وجوابه: هو أن الدخول في الحرب تغرير بالروح ووقوع في خطر عظيم ومهلكة كبيرة فلما كان الأمران عنده مستويين أضاف إلى نفسه أعظمهما وهو الدخول، لما فيه من الغرر وركوب الخطر والمسامحة بالنفوس التي هي أعز الأشياء وأغلاها.
(وأما قولكم: شكاً في أهل الشام): من أن تأخري كان من أجل شكي وأنا على غير بصيرة في حربهم.
(فوالله ما دفعت الحرب يوماً): أخرتها وتقاعدت عن إنجازها.
(إلا وأنا أطمع): أرجو وأؤمل.
(أن تلحق بي طائفة): تتبعني فرقة من هذه الفرق الباغية والأحزاب المختلفة.
(فتهتدي بي): فأكون سبباً لها في الهداية، واتباع الحق والصواب، وأكون إماماً لها في ذلك.
(وتعشو): لتستدل وتميل.
(إلى ضوء ناري): إلى هدايتي ونور بصيرتي، يقال: عشوت إلى النار أعشو عشواً إذا استدللت[بها] .
(وذلك): إشارة إلى ما ذكره من الهداية واللحاق به.
(أحب إليَّ من أن أقتلها على ضلالها): وهي ضالة بمخالفتي والبغي عليَّ ولو قتلتها فليس علي في ذلك من جناح في قتلها.
(وإن كانت تبوء بإثمها): أي يكون عليها وباله، ومنه قوله تعالى:{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ }[البقرة:61]، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ }[البقرة:90].
قال الأخفش: صار عليهم وباله.
(56) ومن كلام له عليه السلام
(ولقد كنَّا مع رسول الله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا): أراد جميع الأقارب، كما كان في بدر [وغيره] وسائر الغزوات مع الرسول عليه السلام تقرباً إلى الله تعالى وإرضاءً له.
(ما يزيدنا ذلك): القتل للآباء والأبناء.
(إلا إيماناً): بالله وتصديقاً به.
(وتسليماً): وانقياداً لأمر الله وحكمه.
(ومضياً): جرياً، من قولهم: مضى في طريقه إذا جرى فيها.
(على اللقم): أراد الطريق، وسمي لقماً؛ لأنه يلتقم الناس، كما يسمى سراطاً لأنه يسترطهم أي يبتلعهم بسلوكهم له.
(وصبراً على مضض الألم): وجع الألم، من قولهم: أمضني الجراح إذا أوجعك.
(وجداً): الجد: نقيض الهزل.
(في جهاد العدو): استئصال شأفته وقطع دابره.
(ولقد كان الرجل منَّا): ممن يكون على ديننا.
(والآخر من عدونا): ممن لا يدين ديننا.
(يتصاولان): يتواثبان بالسلاح، يصول كل واحد منهما على صاحبه يريد قتله.
(تصاول الفحلين): أي مثل تصاول الفحلين، وصؤل البعير بالهمز إذا صار يقتل الناس ويعدو عليهم.
(يتخالسان أنفسهما): يريد كل واحد منهما أن يختلس نفس صاحبه بالسيف.
(أيهما يسقي صاحبه كأس المنون): والمنون: هو الموت والسقي والكأس من باب الا ستعارة، كما قال تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }[البقرة:93].
(فمرة لنا ): تكون الريح والدائرة والغلبة لنا عليهم في الأخذ والقتل والسبي، كما كان في بدر وحنين وغيرهما من المغازي.
(ومرة لعدونا): في الانتصار علينا كما كان في أُحد ومؤتة من الأخذ والقتل.
(منَّا): بقتل بعضنا وسلامة الآخرين، صبراً منَّا واحتساباً.
(فلما رأى الله صدقنا): علم من باطن قلوبنا الصدق في نصرة دينه والصبر في جهاد عدوه.
(أنزل بعدونا الكبت): الإذلال والمهانة، ويقال: كبته لوجهه أي صرعه.
(وأنزل علينا النصر): عليهم والغلبة لهم.
(حتى استقر الإسلام): تبتت قواعده، وقامت دعائمه.
(ملقياً جِرانَه): الجِران هو: مقدم عنق البعير، وانتصاب ملقياً على الحال من الإسلام، يقال: ألقى بجرانه إذا استقر به المكان.
(ومتبوِّئاً أوطانه): تبوأت المكان إذا اتخذته مبآءةً ، وأراد أنه استقر في أماكنه التي بلغها.
(ولعمري): هو مبتدأ محذوف الخبر أي لعمري قسمي.
(لو كنَّا نأتي ما أتيتم): من المخاذلة وقلة التناصر.
(ما قام للدين عمود): استعارة له من أعمدة الخيمة التي لا تنتهض إلا به.
(ولا اخضرَّ للإيمان عود): استعارة من عود الشجرة فإنه لا يورق ولا يثمر إلا إذا اخضر.
(وايم الله): جمع يمين، حذفت نونه لكثرة الاستعمال، وهو مبتدأ وخبره محذوف أي قسمي.
(لَتَحْتَلِبُنَّها دماً): أي الأيام، والضمير يفسره شاهد الحال، ودماً انتصابه على التمييز بعد المفعول.
(ولتُتْبعُنَّها ندماً!): على خذلانهم لي وتأخرهم عن متابعتي، وليعلمن مكاني بعد استبدالهم لغيري، ولقد كان الأمر كما قال، أبدلهم الله بأمير المؤمنين مروان بن الحكم وبالحسن الأكبش الأربعة من أولاده فطغوا وبغوا وخالفوا وغيَّروا.
(57) ومن كلام له عليه السلام لأصحابه
(أما إنه سيظهر عليكم بعدي): يليكم على جهة الاستظهار عليكم بعد وفاتي.
(رجل رَحْبُ البلعوم): الخطاب لأهل الكوفة، والرحب: هو الواسع، ومنه الرحبة، والبلعوم هو: مجرى الطعام إلى المعدة.
(مندحق البطن ): الاندحاق هو: الظهور، يقال: دحقت رحم الناقة إذا ظهرت من الولادة، وأراد أنه ظاهر البطن، وعنى بذلك زياداً فكانت هذه صفته، ويجوز أن يكون كنى بذلك عن كثرة أكله، كما قال الله تعالى: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ }[المائدة:75]، جعله كناية عن قضاء الحاجة.
(يأكل مايجد): [يخضم ما وقع في يده وقدر عليه.
(ويطلب ما لا يجد)] : مما فات عن يده ولم يقدر عليه.
(فاقتلوه): فإنه مستحق للقتل لفجوره وفساده وبغيه على أهل الحق وعناده.
(ولن تقتلوه): نفى قتله منهم على جهة المبالغة بلن، لما يعلم من عجزهم عن ذلك وتسلطه عليهم بالقهر والا ستيلاء والغلبة منه، وكان أمير المؤمنين قد استعمله على بعض الولايات كالأهواز وغيرها من النواحي، فلما قتل أمير المؤمنين التجأ إلى معاوية ولحق به.
(ألا وإنه سيأمركم بسبي): يحكى أنه لما استولى على الكوفة واستظهر عليها بعد قتل أمير المؤمنين جمع الناس في مسجدها ليأمرهم بلعن أمير المؤمنين وسبه، فلما عزم على ذلك أصابه الله بالفالج ، وهي: ريح تصيب الإنسان تفسد أعضاءه كلها، فلما وقع عليه ذلك خرج حاجبه فأمرالناس بالانصراف فانصرفوا، وردَّ الله غيظه عليه، وكان وقحاً ، متحامقاً، ذا رأي في المكر والخديعة.
ويحكى عن معاوية أنه قال: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للأناة والبديهة معاً.
(وبالبراءة مني): مما أنا عليه من الدين والدعاء إلى الله تعالى.
(فأما السب فسبوني): إذا حملكم على ذلك بالقهر بالسيف.
(فإنه لي زكاة): تطهير من الذنوب لما يكفر الله به عني من الذنوب للصبر عليه الآن وكظم الغيظ.
وفي الحديث: ((ما جرع عبد قط جرعتين بأعظم عند الله من جرعة غيظ يلقاها بحلم، أو جرعة مصيبة يلقاها بصبر جميل)).
(ولكم نجاة): عن القتل بالسيف لأجل الإكراه، وهذا من أمير المؤمنين تساهل في حق نفسه وتواضع لله تعالى، وهضم بجانبه حيث أباح الأذية له بالإكراه، وقد تقرر أن ما كان ضرره راجعاً إلى الغير كالقتل والقذف فإنه لا يدخله الإكراه.
(وأما البراءة فلا تبرَّءوا مني): وإذا أمركم بالبراءة مني فلا تفعلوا؛ لأن البراءة مني خروج عن الدين وانسلال عن الحق.
سؤال؛ كيف أمرهم بسبِّه عند الإكراه، ونهاهم عن البراءة عنه، وكلاهما في باب الإكراه على سواء بل نقول: البراءة منه ضرر راجع إليهم فأبيح بالإكراه؛ بخلاف سبه فإن ضرره راجع إليه؛ فلهذا لم يدخله الإكراه؟
وحوابه؛ هو أنَّا قد ذكرنا أن إباحته لسبِّ نفسه إنما هو على جهة الهضم لنفسه وإسقاط حقها، وهو مما يدخله الإكراه، فأما البراءة منه فهو [في] الحقيقة ضرره راجع إلى الغير، وهو ما يحصل فيه من إيهام الخطأ على أمير المؤمنين، وأنه داعي إلى الضلالة بالتبري عنه ويحط من منصبه في كونه داعياً إلى الله تعالى، مستقيماً على دينه الحنيف وحجته الواضحة، وما هذا حاله فلا يباح بالإكراه لما يتضمن من نقص الدين وثلمه، وإبطال أبهته فافترقا.
(فإني ولدت على الفطرة): تعليل للمنع من التبري عنه، أي أني خلقت في أول حالتي على الإيمان والهدى من توحيد الله وتنزيهه، وذلك لأن الله تعالى [إذا] أعطى الإنسان العقل في أول الفطرة، فلو لم تعرض له أسباب الضلال بعد ذلك، فكان مقتضى ذلك معرفة الخالق وتوحيده ولزوم سبيل الهدى وطريقه.
(وسبقت إلى الإسلام والهجرة): أما الإسلام فظاهر، فإن الرسول عليه السلام بعث يوم الإثنين، وأسلم أمير المؤمنين يوم الثلاثاء، ما سبقه أحد من الخلق إلى الإسلام، وأما الهجرة فكذلك.
سؤال؛ كيف قال: سبق إلى الهجرة، وهو لم يهاجر مع الرسول يوم هاجر من مكة، ولم يكن مصاحباً له إذ ذاك؟
وجوابه؛ هو أن تخلفه ما كان إلا من أجل أمر الرسول له بالوقوف لقضاء ديونه ورد ودائعه، فلم يسعه مخالفة الرسول فيما أمر به، ولم يكن يتخلف عنه لولا ذلك، فلهذا وصف نفسه بالسبق إلى الهجرة بالقصد والداعي والإرادة والعزم على ذلك.
(58) ومن كلام له عليه السلام كلَّم به الخوارج
(أصابكم حاصب): الحاصب هي: الريح الشديدة التي تثير بشدتها الحصباء، كما قال تعالى في قصة قوم لوط: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا }[القمر:34].
(ولا بقي منكم آبر): وهذا دعاء عليهم، والآبر هو: الذي يؤبر النخل ويصلحه، كما يقال: ما بقي منهم نافخ نار، ويروى آثر وهو: الذي يأثر الحديث ويرويه، كما يقال: ما بقي منهم مخبر، فأما آبز بالزاي فمعناه بعيد فلا وجه له ، على أنه لما وقع من أمر التحكيم [ما وقع] ، وكان الدعاء إلى التحكيم خديعة ومكراً من معاوية بإشارة عمرو بن العاص، فقالت الخوارج بعد ذلك: هذا خطأ وكفر في دين الله، وقد كفرت يعنون أمير المؤمنين وكفرنا، فتب حتى نبايعك.
فقال عليه السلام مجيباً لهم:
(أبعد إيماني بالله): تصديقي به، واعترافي بوحدانيته.
(وجهادي مع رسول الله [صلى الله عليه] ): وبذل نفسي للمجاهدة مصدقاً لما جاء به الرسول ومعترفاً به.
(أشهد على نفسي بالكفر): أقرُّ بأني كافر بالله؛ لأن الإقرار شهادة على النفس.
(قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين): فالضلال حاصل لسبب الكفر الذي طلبوه منه وعدم الهداية حاصلة بترك الحق وإهمال الدين .
(فأوبوا شر مآب): دعاء عليهم، وآب الرجل إذا رجع إلى أهله، وشر مآب انتصابه على المصدرية كضرب السوط، وأراد جعل الله رجوعكم أشر حال عليكم.
(وارجعوا على [أثر] الأعقاب): في التولي عن الدين فساقاً خارجين عن الإسلام، يقال: فلان رجع على أعقابه إذا ارتد وكفر وفسق.
(أما إنكم ستلقون بعدي): تجدون بعد موتي وانقضاء خلافتي.
(ذلاً شاملاً): لا يبقى أحد منكم إلا ناله.
(وسيفاً قاطعاً): يقطع دابركم ويستأصل شأفتكم بالقتل .
(وأثرة يتخذها الظالمون سنة ): الأثرة بالتحريك هي الاسم، والمصدر منها هو الأثر بالسكون، وأراد يستأثر عليكم بالأموال، وتؤخذ منكم كرهاً، يتخذها الفسقة وأهل الجور سنة، يجرونها مجرى السنة، في الحث عليها والمواظبة على فعلها فيكم، بلوى من الله تعالى وامتحاناً لما كان من جهتهم من البغي والفسوق.
(59) ومن كلام له عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج، وقيل له: إن القوم قد عبروا جسر النهر
الجسر: القنطرة التي يعبر عليها.
يحكى أنهم لما شقوا العصا وتخلفوا عنه وعزموا على المشاقة والحرب له واعتراض الناس بالسيف والقتل للصغير والكبير، وكان متوجهاً إلى حرب معاوية وأهل الشام فرجع إليهم، وقال:
(إن مصارعهم دون النطفة): مقاتلهم حيث صرعوا بيننا وبين النطفة، أراد به الفرات، وهو من الكنايات الرشيقة التي استبدَّ بها وكان مقتضياً لها.
(والله لا يفلتن منهم عشرة): يقول لأصحابه بل يقتلون عن آخرهم.
(ولا يهلك منكم عشرة): بل تنقلبون وافرين مُسَلَّمِيْنَ بعد قتلهم، وهذا منه على الأمر إخبار بالأمور الغيبية المستورة بإعلام الرسول له بذلك وتسلية لأصحابه في الظفر بأعدائهم والانتصار عليهم، وتشجيع لهم على الحرب والإقدام، فلما قتلوا قالوا له: هلك القوم بأجمعهم، فقال:
(كلا والله؛ إنهم نطف في أصلاب الرجال): أراد أن هؤلاء الموجودين وإن هلكوا بالقتل فسيأتي بعدهم آخرون منهم نفوس لم تخلق، ولا وجدت نطفهم بل هي في أصلاب الرجال.
(وقرارات النساء): القرارة: مايستقر فيها الماء القليل.
قال ابن عباس رضي الله عنه: ما علمي بالقرآن في جنب علم أمير المؤمنين به إلا كالقرارة في المثعنجر ، أراد أنهم نطف مستقرة في قراراتها وهي أرحام النساء، والمعنى أنهم أجنة في بطون أمهاتهم، ونطف في أصلاب آبائهم.
(كلما نجم منهم قرن): نجم القرن إذا ظهر، ومنه نجم النبات إذا ظهر.
(قطع): استأصل الله شأفتهم بالسيف من أهل الحق.
(حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين): [حتى يكون في أعقابهم لصوص يأخذون أموال الناس خفية وسلابين] يأخذون أموال الناس جهرة [ثم] سلباً منهم كالطَّرارين والمختلسين.
(لا تقتلوا الخوارج بعدي): اعلم أن الخارجي اسم لمن يظهر على إمام الحق، ويمنعه عن القيام بأمر الله، مع اعتقاده لحق ما جاء به، ولا بد من اعتبار هذه القيود الأربعة : أن يكون المخروج عليه مقطوعاً بإمامته.
وأن يكون مانعاً له عن القيام بأمر الله مع أن له منعه.
وأن يكون معتقداً لحق ماهو فيه بالشبهة والتأويل، فمن هذه حاله فهو خارجي مستحق للأحكام التي سارها أمير المؤمنين في أهل البغي، كما قال أبو حنيفة : لولا سيرة أمير المؤمنين في أهل البغي ما كنَّا نعرف أحكامهم، فأما من عداهم من أهل الفسوق كالظلمة وأهل الجور فإنهم قد زادوا عليهم، والطرَّار والمختلسين، وغيرهم من أهل الفسوق، كما أن الكفَّار قد زادوا على الفسَّاق في الحكم، ولهؤلاء أحكام تخالف أحكام أولئك، موضعها الكتب الفقهية، فأراد لاتقتلوا الخوارج بعد موتي إلا مثل قتلي لهم، ولا تسيروا فيهم إلا مثل سيرتي، ولم يرد أنهم لا يقتلون بعده على الإطلاق، فإن حال غيره من الأئمة كحاله في ذلك بالإجماع من جهة الأمة.
(فليس من طلب الحق فأخطأه): بما عرض له من الشبهةوالتأويل، أراد بذلك الخوارج فإنهم تأولوا ما جاءوا به من البغي بشبهة عرضت لهم في ذلك.
(كمن طلب الباطل فأدركه): أراد معاوية، فإن فعله لما فعل من المحاربة ليس عن شبهة، وإنما كان على جهة المشاقة والتمرد والفسوق، فلهذا كان حاله مخالفاً لحال هؤلاء الخوارج، وهكذا الحال في الظلمة والفساق في عصرنا هذا، فإنهم زادوا على الخوارج في الحكم وأنافوا عليهم في ذلك، فلهذا لم يكونوا مشاركين لمن ذكرناه في الاسم والحكم.
(60) ومن كلام له عليه السلام لما خوِّف من أمر الغيلة
(وإن عليَّ من الله جُنة حصينة): الجُنة: ما يستر من درع أو غيره، والحصينة: المانعة، ومنه اشتقاق الحصن والحصان؛ لأنهما يمنعان صاحبهما عن السوء.
(فإذا جاء يومي): اليوم الذي قدر الله خروج نفسي فيه.
(انفرجت عني): الفرج هو: الشق، ومنه سمي الفرج لشقه، عني أي جاوزتني بانفراجها.
(وأسلمتني): من قولهم: أسلمه للقتل وزال عنه.
(فحينئذ): جاء يومي وانفرجت عني، والتنوين بدل من هذه الجمل السابقة.
(لا يطيش السهم): الذي أُرْمَى به بل يقع عليَّ.
(ولا يبرأ الكلم): الذي جرحت به، يقال: كلمه بالسيف إذا جرحه.
(61) [ومن خطبة له عليه السلام]
(ألا وإن الدنيا دار): يقام فيها مدة، ويلبث فيها أياماً.
(لا يسلم منها إلا فيها): أراد أنها موضع النجاة ومكان التجارة، و موضع التزود للآخرة، فلا تقع السلامة من شرها إلا فيها؛ لأن الآخرة ليست داراً للأعمال.
(ولا ينجى بشيء كان لها): يعني أن السلامة لاتكون بشيء من الأعمال التي تكون من أجلها أصلاً، وإنما تكون بما كان من أجل الله وطلب وجهه، فأما ما كان للدنيا فهو باطل ضائع.
(ابتلي الناس بها فتنة): امتحنهم الله تعالى بسببها محنة عظيمة، مزج حبها بأفئدتهم، وزين زهرتها في أعينهم.
(فما أخذوه منها لها): مما استهلكوه مما أعطاهم الله منها لطلب لذاتها، والتفاخر فيها.
(أخرجوا منه): نزعوا منه ولم يكن باقياً لهم دائماً.
(وحوسبوا عليه): لما أخذوه من غير حله، وأنفقوه واستعملوه في غير وجهه.
(وما أخذوه فيها لغيرها): وما استهلكوه مما أعطاهم الله منها لوجه الله تعالى، وطلباً للدار الآخرة.
(قدموا عليه): أحسن مقدم من الثواب والأجر العظيم.
(وأقاموا فيه): في الجنة حيث لا يظعن الساكن، ولايرحل المقيم.
اللَّهُمَّ، اجعلنا ممن أراد الآخرة وسعى لها سعيها مع الإيمان بك والتصديق برسلك.
(وإنها عند ذوي العقول): الضمير للدنيا عند ذوي الأبصار المنتفعين بعقولهم.
(كفيء الظل، بينا تراه سابغاً): والظل: عبارة عما يسقط عن كل منتصب، بينا هو بين نشأت عنه الألف ، والسابغ هو: الفايض، ومنه قولهم: درع سابغة إذا كانت فايضة.
(حتى قلص): ارتفع وشمر.
(وزائداً حتى نقص): وأراد بذلك من طلوع الشمس إلى زوالها، فإن الظل لايزال ينقص بعد زيادته إلى أول الزوال، ثم يزيد بعد ذلك، وسابغاً وزائداً منصوب على الحال من الضمير في تراه.
(62)ومن خطبة له عليه السلام
(واتقوا الله عباد الله): التقوى هي: الإتيان بالطاعات، والانكفاف عن المعاصي، واشتقاقها من الوقاية؛ لأنها تقي صاحبها عن العقاب.
(وبادروا آجالكم بأعمالكم): أجل الإنسان: منقطع عمره، والمبادرة هي: المعاجلة، وأراد عاجلوا بأعمالكم قبل حلول الموت بكم.
(وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم): يقال للشرِي: بيع؛ لأنه يقع للثمن، وأراد واشتروا الآخرة الباقية بالدنيا الزائلة عنكم.
(وترحلوا فقد حُد يَ لكم): ترحل وارتحل إذا انتقل، والحدو هو: السوق، يعني انتقلوا عنها، وقد سيق بكم، ونهاية من يستاق هو الوصول إلى الغاية.
(واستعدوا للموت فقد أظل بكم): اطلبوا أهبة الموت فقد أشرف ودنا، وقوله: أظل بكم، إما بالطاء بنطقة من أسفلها أي أشرف، وإما بالظاء بنقطة من أعلاها أي دنا وقرب، وكلاهما محتمل كما ترى.
(وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا): ومثِّلوا أنفسكم بحال قوم صرخ بهم صارخ وهم نيام، فانتبهوا على أفزع ما يكون وأسرعه، من شدة الخوف والفزع
(وعَلِمُوا أن الدنيا ليست بدار لهم فاستبدلوا): الضمير للقوم، وتحققوا عذائر الصارخ أن الدنيا ليست بدارٍ لهم على الحقيقة؛ لزوالها، فعملوا على الاستبدال بها غيرها.
(فإن الله لم يخلقكم عبثاً): وإنما دخلت الفاء ها هنا دالة على انقطاع الجملة التي بعدها عمَّا قبلها، ومشعرة بالمباينة، بخلاف ما إذا كانت الجملتان في حكم الجملة الواحدة فإن الفاء لاتدخل، كقوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ[شَيْءٌ عَظِيمٌ] }[الحج:1] {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى:43] وهذا كثير الوقوع في كتاب الله تعالى، وفيه تحريك للرغبات إلى إحراز علم الإعراب، وشرف موقعه، وأراد أن الله خلقكم إحساناً من جهته ولم يكن ذلك لغير غرض: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً }[المؤمنون:115] والغرض هو الوصول إلى منافع الآخرة ودرجاتها.
(ولم يترككم سُدى): السُدى بالضم والفتح هو: الإهمال، أي لم يترككم مهملين عن الرعاية والحفظ والعناية.
(وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت ينزل به): أراد أن الغاية التي بين الحصول في الجنة أو في النار، ليس إلا حلول الموت ونزوله، فإنه عند معاينته ونزوله يرى مكانه من الجنة أو من النار، نسأل الله حسن الاستعداد لنزوله وهجومه.
(وإن غاية تنقصها اللحظة): اللحظة هي: حركة العين للإبصار، يقال: لحظني بعينه إذا أبصرني بها، وإنما كانت اللحظة ناقصة لها؛ لأنها تقرب منها وتدلي إليها.
(وتهدمها الساعة): هدمه إذا أبطله وأفسده، والساعة: عبارة عن الوقت الحاضر.
قال القطامي :
وكنَّا كَالْحَرِيْقِ لِذِيْ نَفَاخٍ ... فَتَخْبُو سَاعَةً وَتَهُبُّ سَاعا
والنَّفَاخُ هي: الريح إذا جاءت بقوة وشدة.
(لجديرة بقصر المدة): فلان جدير بكذا أي حقيق به، والمعنى أنه حقيق بأن تكون مدته قصيرة.
(وإن غائباً يحدوه الجديدان الليل والنهار): وإنما قيل لهما: جديدان؛ لأنهما لا يَخْلَقان ولا يبليان عمر الدهر.
(لحري بسرعة الأوبة): الحري: الحقيق أيضاً بالشيء، والأوبة هي: الرجوع.
(وإن قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة): أراد وإن قادماً يقدم على ربه إما بالشقاوة لتفريطه، وإمابالسعادة لتأهبه.
(لمستحق لأفضل العدة ): لأهل أن يكون مستحقاً لأفضل العدة وأعلاها وأشرفها.
(فاتقى عبد ربه): هذا خبر في معنى الأمر، وأراد ليتق الله امرؤ.
(نصح نفسه): بالمعاملة بالتقوى، والنصيحة لله تعالى.
(قدَّم توبته): خوفاً من الموت أن يسبقه عليها.
(غلب شهوته): بالانكفاف عن المحرمات، وحذف الواو من هذه الجمل نوع من أنواع البديع يسمى التعدية، وهذا كقولك: فلان يهب الألوف، يكرم الضيوف، يقود الجيوش.
(فإن أجله مستور عنه): لا يعلم متى يرد عليه بالانقطاع.
(وأمله خادع له): بالتغرير والتسويفات الباطلة.
(والشيطان موكل به): مجعولاً لمكان المحنة وشدة البلية كالوكيل الملازم الذي لاينفك عنه.
(يُزَيِّن له المعصية ليركبها): يُحَسِّنها في عينه ويهوِّن أمرها ليواقعها ويكون مرتكباً لها بغروره.
(ويمنيه التوبة ليسوِّفها): أراد ويخدعه بالأماني الكاذبة في انتظاره للتوبة فيقول: سوف أفعل سوف أفعل.
(حتى تهجم عليه منيته): هجم عليه السيل إذا أتاه على بغتة، وأراد بالمنية الموت.
(أغفل ما يكون عنها): وهو في أشد ما يكون من الغفلة عنها، وانتصاب أغفل على الصفة للمصدر، أي هجوماً يغفل فيه عنها، وما نكرة موصوفة كقولك: ربما تكره النفوس.
(فيا لها حسرة): فيا للنداء ومناداها محذوف تقديره فيا قوم، واللام متعلقة بفعل محذوف تقديره اعجبوا لها، وحسرة منصوب على التمييز أي من حسرة.
([على] كل ذي غفلة): على كل صاحب غفلة.
(أن يكون عمره عليه حجة): من أن يكون عمره عليه من أعظم الحجج وأقوى البراهين حيث أمهل غاية الإمهال من غير تزود.
(وأن تؤديه أيامه إلى شقوة! ): وأن تكون أيامه المجعولة سبباً في نجاته إلى نيل الخسارة بالنفس والشقوة بالكسر هي: الحالة والشقوة بالفتح هو: الشقاء.
(نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة): لا تكسبه بطراً ولا أشراً.
(ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية): فإنه لا غاية من الطاعة إلا والله مستحق لها فما يقع من ذلك فهو تقصير في حق الله.
(ولا تحل به بعد الموت ندامة): حل به الغضب إذا خالطه وخامره، وأراد به أنه لا يخالطه بعد الموت ندامة إذ لاينفع الندم في تلك الحال.
(ولا كآبة): والكآبة: سوء الحال، وإنما نكَّر قوله: (شقوة، ونعمة، وغاية، وندامة، وكآبة) دلالة على ما لها من الموقع والمبالغة.
اللَّهُمَّ، أدخلنا برحمتك تحت هذه الدعوة المرفوعة، وتقبَّل منَّا ومنه هذه الكلمات المسموعة.
(63) ومن خطبة له عليه السلام
(الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً): أراد أنه تعالى منزَّه عن تجدد الأحوال والصفات عليه، وأن صفات ذاته تعالى أزلية ليس لثبوتها أول ولا غاية ، فليس شيء من أحواله متقدماً على غيرها من الحالات الثابتة لذاته، فلهذا قال: لم يسبق له حال حالاً، يشير إلى ما قلناه فلم تكن الأولية في حقه متقدمه على الآخرية، فيوصف بالقبلية، وتوصف الآخرية بالبعدية، ولا كان الظهور له سابقا فيكون موصوفاً بالقبلية ويكون وصفه بالبطون، يوصف بالبعدية، بل الأولية والآخرية ثابتان معاً في حالة واحدة؛ لأن أوليته بلا نهاية فهو أول لكل موجود، وآخريته بلا نهاية فهو آخر لكل موجود، وظهوره إنما هو بالأدلة، وبطونه إنما هو عن الحواس، وقوله: فيكون منصوب ؛ لأنه جواب للنفي .
(كل مسمى بالوحدة غيره قليل): أراد أنه موصوف بالوحدة من غير تعدد وما هذا حاله فإنه لايقال فيه: قليل؛ لأن القلة والكثرة إنما تكون فيما يكون متعدداً فلهذا يكون النقصان فيه قلة والزيادة عليه كثرة، وغيرمنصوب لأنه اسثناء موجب.
(وكل عزيز غيره ذليل): لأن كل عزيز سواه فعزه إنما يكون من جهة غيره إما بسيف قاهر [وإما بعشيرة غالبة وإما بمال ممدود، ومن كان عزه لا بغيره فعزه] لامحالة بذاته، وهو تعالى عزه من جهة ذاته، فلهذا لم يوصف بالذلة في حال.
(وكل قوي غيره ضعيف): لأن قوة غيره إنما كانت بأسباب عارضة، وأمور مكتسبة سواه فإن قوته لذاته.
(وكل مالك غيره مملوك): لأن ملك غيره من جهته تعالى، وأماملكه فإنما هو من جهة نفسه .
(وكل عالم غيره متعلم): لأنه هو العالم لذاته، وسواه لاعلم له إلاماكان من جهة الله .
(وكل قادرغيره يقدر ويعجز): أراد أن كل من عداه فهو قادر بقدرة ، ومن هذه حاله ربما عرض له العجز كماتعرض له القدرة، ومن كان قادراً لذاته فإنه لايعرض له العجز بحال
(وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات، ويصمه كبيرها ): أراد أن كل سميع سواه فإنه إنما يسمع بالآلات، والآلة مركبة على تركيب مخصوص، فربما لَطُفَ الصوت وخفي وبَعُدَ فلا يدركه لزوال شرط إدراكه، وربما كبر الصوت فغيَّر البنية عن حالها وأفسدها، فلهذا أصمه كبيرها ؛ لزواله عن حد الاستقامة.
فأما من إدراكه لذاته فلا يغيب عنه صغيرها وإن دق، ولا يصم حاسة عن إدراك كبيرها لما كان مفسداً لها.
(ويذهب عنه ما بَعُدَ منها): إما من لايشرط انتقال محال الأصوات، فإنما لم تدرك الأصوات البعيدة، لحصول السواتر بيننا وبينها وهذا هو قول أكثر المتكلمين، وإما على قول من يشترط انتقال محال الأصوات كما هو المحكي عن النظام فإنما لم يدرك البعيد منها لوجود المانع من انتقالها.
(وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام): لأن من عداه إنما يبصر بالآلة والحاسة، وربما كانت على صفة في الإدراك تزول عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، من القرب والبعد واستقامة البصر، وغير ذلك من الموانع وهو تعالى مبصر لذاته فلا يشترط في حقه إلا وجود المدرك لا غير.
(وكل ظاهر غيره غير باطن، وكل باطن غيره غير ظاهر): أراد أن كل من كان موصوفاً بالظهور، فهو غير موصوف بالبطون، لأنه يكون كذباً، وهكذا عكس ما قلناه؛ لأن من كان ظاهراً فإنما يكون ظهوره بالمشاهدة، ومن هذه حاله فلا يكون باطناً بحال، وما كان خفياً باطناً من الأمور فلا يكون ظاهراً بحال، لما في ذلك من المناقضة، فأما الله تعالى فإنه يصدق عليه وصفنا له بالظهور والبطون من غير مناقضة في ذلك لصلاحية ذلك في حقه.
(لم يخلق الخلق لتشديد سلطان): لأن السلطنة في حق غيره إنما تكون شدتها وكمال قوتها باجتماع الجند والأعوان من أرباب الدولة لنفوذ الأمر وتقوية الإيالة ولا يمكن تقدير ذلك لغيره بحال.
(ولا تخوف من عواقب الزمان): لطرؤ الطوارئ ووقوع الحوادث فيكون الخلق أعواناً له على ذلك وأصلاً في دفعه.
(ولا استعانة على ند مثاور): ولا فعل ذلك استعانة على مثل له يأخذ بثأره منه وينقم بِذَحْلهِ الذي هو عنده له.
(ولا شريك مكاثر): ولا استعانة على مشارك له في ملكه، متكاثر بما يخلق من الخلق فخراً على ذلك الشريك وتطاولاً عليه.
(ولا ضد مناف ): ولا له ضد فيقال: إنه يريد زواله ونفيه فيتكثر بالخلق إعانة له على ذلك، فما كان خلق هذه المكونات لشيء مما ذكرناه لبطلان ذلك.
(ولكن خلائق مربوبون): هم خلائق أوجدهم بقدرته مربوبون مملوكون في جميع أمورهم ومدبرون في كل أحوالهم، لايملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
(وعباد داخرون): مقهورون في حكم الرق، والدخور هو: الذل والصَّغار من دخره إذا صغره وأذله.
(لم يحلل في الأشياء فيقال: هو فيها): لو حلَّ في بعض المحالِّ كما يزعمه بعض الزنادقة، لقيل هو فيه ولو كان فيه لكان محدثاً؛ لا ستحالة سبق الحال على محله وهو بلا أول فبطل حلوله.
(كائن): أي ثابت غير مستقر في المحالِّ، وذلك باطل بالبرهان العقلي.
(ولم ينأ عنها فيقال: هو منها مباين): النأي: البُعْدُ، وقد نأى عنه أي بَعُدَ، وأراد لم ينأ عنها بالبُعْدِ الحسي الذي يكون بينه وبينها فراغات وأمكنة ولو كان الأمر هكذا لكان يقال [فيه] : إنه مباين لها أي بعيد عنها وهذ محال في حقه لأنه ليس حاصلاً في جهة فيشار إليه بالقرب والبعد.
(لم يؤده ما خلق ابتداء): أراد أنه لم يثقله والأود: الثقل يقال: آدَهُ يَؤدُهُ أَوْداً إذا أثقله، ما أوجده على جهة الابتداء له من غير سبب له في ذلك.
(ولا تدبير ما ذرأ): ولا أثقله أيضاً تدبير ما ذرأ من الخلق لكثرتهم، وبلوغهم مبلغاً عظيماً لا يعلمه إلا هو.
(ولا وقف به عجز عمَّا خلق): الواحد من الخلق إذا عجز عن فعل شيء وقف عنه وتوقف عن إتمامه، فلهذا قال: لم يقف به عجز؛ لأنه قادر من جهة الذات فلا يطرؤ عليه العجز بحال.
(ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدر): الولوج: الدخول في الشيء، يقال: ولجت المنزل ولوجاً إذا دخلت فيه ، وأراد أن الشبهة لم تدخل عليه فيما خلق، وأحكم خلقه من الأقضية العجيبة، والتقديرات المحكمة والأمور المتقنة، بل كل شيء عنده بمقدار، وصادر على منهاج الحكمة وقانون المصلحة.
(بل قضاء متقن): صادر على جهة الإحكام.
(وعلم مبرم ): قوي رصين لا يتغير، ومنه خيط مبرم أي مفتول طاقين لقوته وحصافته.
(المأمول مع النقم): المرجو للعفو مع القدرة على الانتقام.
(المرهوب مع النعم): المخشي سطوته عند إفضاله بالنعم على جهة الاستدراج، ولهذا قال عليه السلام:
((يا ابن آدم، إذا رأيت الله يتابع عليك النعم فاحذره))، ولهذا قال تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }[الأعراف:182]، بالإملاء وترادف النعم.
(64) ومن كلام له عليه السلام في بعض أيام صفين
(معاشر المسلمين، استشعروا الخشية): الشعار من اللباس ما يلي الجسد، والدثار: ما كان فوقه، وأراد البسوا الخشية واجعلوها ملاصقة لقلوبكم.
(وتجلببوا السكينة): الجلباب هو: الملحفة، قالت امرأة ترثي قتيلاً:
تَمْشِي النُّسُورُ إليه وهي لاهيةٌ ... مَشْيَ العَذَارَى عليهنَّ الْجَلاَبِيْبُ
وأراد اجعلوا السكينة جلباباً شاملاً عليكم.
(وعضوا على النواجذ): وضعه هاهنا كناية عن الصبر.
(فإنه أنبى للسيوف عن الهامّ ): نبا الشيء عني إذا بَعُدَ وتجافا، وأنبئته إذا رفعته، وأراد أن العضُّ على النواجذ أشد تجافياً وأكثر تباعداً للسيوف عن أن تعضُّ عليها الهام وتمسكها، والهامُّ: جمع هامة وهي الرأس.
(وقلقلوا السيوف): حركوها.
(في أغمادها): في قرابها ، ليكون ذلك أسرع لسلها عند الحاجة إليها.
(قبل سلها): قبل الحاجة إلى سلها.
(والحظوا الخزر): الخزر هو: النظر بمؤخرالعين ازدراءً للعدو واستصغاراً لحاله، ومنه قولهم:
تخازرت [عيني] ومالي من خزر
(واطعنوا الشزر): من شمال ويمين وخلف وقدام.
(ونافحوا بالظُّبا): المنافحة: مثل المكافحة، وهي استقبال العدو بالسيوف مسلولة في وجهه، واشتقاقه من نفح العرق بالدم إذا نزل .
(وصلوا السيوف بالخطا): أراد استعملوها مع كل خطوة فإنه أمضى لمضاربها، ومن هذا قال بعضهم:
إذا قصرت أسيافُنا كان وصلُها ... خطانا إلى أعدائِنا فنضارب
(وأكملوا اللامّة): آلة الحرب كلها لما فيه من مزيد النفع وكثرة التشجع وفي الحديث: ((ما كان لنبي إذا لبس لامة حربه أن ينزعها حتى يقاتل )) .
(واعلموا أنكم بعين الله): بحفظ من الله تعالى وكلايته ورعايته كما قال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }[الطور:48]، و{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }[القمر:14].
(ومع ابن عم رسول الله ): مصاحبين لمن هو أقرب الخلق إلى الرسول، وأنصرهم لدينه، وأكثرهم جهاداً في سبيله.
(فعاودوا الكر): ليكن منكم العودة إليه مرة بعد مرة، والكر هو: الرجوع إلى القتال والمواظبة على ذلك.
(واستحيوا من الفر): من الانكشاف عن المعركة وموضع القتال، إذ الثبوت لايدني أجلاًلم يحضر، والفرار لاينجي من أجل قد قرب.
(فإنه عار في الأعقاب): العارهو: السبة والملامة في الأعقاب، أراد من يعقب الإنسان ويخلفه، وكان الرجل إذا فعل فعلاً يلام عليه عُيِّر به أولاده بعده، قالت ليلى الأخيلية :
لَعَمْرُكَ مَا فِي الموتِ عارٌ على الفَتى ... إذا لم تُصِبُه في الحياةِ الْمَعَايِرُ
أي المعايب.
(ونار يوم الحساب): لما ظهر فيه من الوعيد، بقوله: {وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ }[الأنفال:16].
(وطيبوا عن أنفسكم نفساً): أراد ولتكن خواطركم منشرحة بتحقق البصيرة في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة، وطيبوا نفوساً بهذا، وانتصاب نفساً على التمييز بعد الفاعل.
(وامشوا إلى الموت مشياً سُجُحاً): وسيروا إليه سيراً سهلاً، والسجح: السهل، ومنه قولهم: ملكت فأسجح، أي سهِّل.
(عليكم بهذا السواد الأعظم): قوله: عليكم من باب الإغراء، كقولك: عليك زيداً ودونك عمراً ، وعليك ودونك اسمان من أسماء الأفعال ينصبان ما بعدهما، فعليك زيداً أي الزمه، ودونك عمراً أي خذه، وكان القياس هاهنا طرح حرف الجر، ولكنه أتى بالباء دالة على الملاصقة، كأنه قال: ألصقوا نفوسكم بهذا السواد الأعظم أي الجيوش المتكاثرة من أهل الشام وأحزابهم .
(والرواق المطنَّب): الرواق: الخيمة، والمطنب: المجعول له أطناب عظيمة، وأراد خيام معاوية ومضاربه، وفي الحديث: ((حيث ضرب الشيطان رواقه ومد أطنابه )) .
(فاضربوا ثبجه): الثبج من كل شيء: وسطه وثبج الرمل: معظمه.
(فإن الشيطان كامن في كسره): الكسر: الجانب، يقال: قعد في كسربيته، أي في جانبه، وأراد بالشيطان إما إبليس لإضلاله لهم وإغوائه إياهم فهو حاصل معهم أينما كانوا، وإما معاوية لخدعه بأصحابه ومكره بهم، فكلاهما محتمل.
(قد قدم للوثبة يداً): أراد إذا أمكنته فرصة وثب عليها متقدماً.
(وأخَّر للنكوص رجلاً): أراد وإذا لم يمكنه فرصة تأخر ليحصلها من بعد، وإنما علق الوثوب باليد لأنه عند الوثوب يعمل يديه ويتكل عليهما، وعلق النكوص على الرجل لأنه يعملها ويتكل عليها في التأخر لامحالة.
(فصمداً صمداً): أي اقصدوه قصداً، وإنما كرره لما فيه من مزيد التأكيد.
(حتى يتجلى لكم عمود الحق): يتضح لكم منار الحق عما يشوبه من تكدير الشبه، واستعاره من عمود الصبح عند تجليه عن ظلمة الليل.
(وأنتم الأعلون): لما معكم من الحق والبصيرة.
(والله معكم): بالتأييد والنصر.
(ولن يَتِرَكُم أعمالكم): ينقصكم أجور أعمالكم وثوابها على جهادكم.
وأقول: إن هذا لكلام من يقتحم موارد الموت، وينغمس في غمار الحرب مصلتاً سيفه، فيقطُّ الرقاب، و يجدل الأبطال، ويعود به ينطف دماً، ويقطر مهجاً كما كانت خلائق أمير المؤمنين وشيمه.
(65) ومن كلام له عليه السلام في معنى الأنصار
قالوا: لما انتهت أخبار السقيفة وأنباؤها إلى أمير المؤمنين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، قال عليه السلام:
(ما قالت الأنصار؟): أخبار ما كان في أمر السقيفة طويلة، وذلك أنه لما توفي رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] واختار الله جواره، تركوا أهم الأشياء وهو غسل رسول الله وجهازه ودفنه وبكَّروا إلى سقيفة بني ساعدة، وهي بالقرب من المدينة للاشتوار فيمن يقوم بالأمر فجرى هناك شجار طويل، وا دَّعاها كل واحد، وأمير المؤمنين لم يحضرها وغيره من جُلّة الصحابة وأكابرهم، فانتهت الأنباء إلى أمير المؤمنين بمقالة الأنصار في ذلك:
(منَّا أمير، ومنكم أمير ): يعنون قريشاً، فقال:
(هلا احتججتم عليهم بأن رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] وصى بأن يحسن إلى محسنهم ويُتجاوز عن مسيئهم!).
(قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟): أراد بذلك [أن] يبطلوا مقالتهم هذه ودعواهم فيما ادعوه من أن الإمامة كائنة فيهم: ويقال لهم:
(لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم): لأن من كان أميراً فالوصية إليه في الخلق وليس الوصية به.
سؤال؛ أرى أمير المؤمنين عوَّل في إبطال مقالتهم على الوصية بهم، ولم يذكرلهم الخبر عن الرسول ((بأن الأئمة من قريش )) كما احتج به أبو بكر عليهم وأبطل مقالتهم به، فأراه عدل عنه؟
وجوابه؛ هو أن ما ذكره أمير المؤمنين أقطع للجاجهم وأحسم لمادة شغبهم، لأنهم معترفون بصحة الوصية لما لهم فيه من مزيد النفع والشرف، ولعلهم ينكرون ما قاله أبو بكر من الحديث أو يعترفون به، لكن يحتاجون إلى صحته ونقله، فلهذا كان الاحتجاج عليهم بما يعترفون به ليكون إلزاماً، وهو أفحم للخصم وأقطع للمادة في الخصومة.
(ثم قال [ عليه السلام] : فما قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة): أراد أن مقالتهم هذه تلزمهم القول بإمامتي وأني أحق بها لأمرين:
أما أولاً: فإذا كانت غاية حجتهم أنهم من شجرة رسول الله لاغير وليسوا من الثمرة، ومن يكون جامعاً للشجرة والثمرة فهو أحق لامحالة بها باضطرار العقول على منهاج استدلالهم.
وأما ثانياً: فالثمرة لامحالة أطيب من الشجرة وأعلا حالاً وأعظم فضلاً، فإذا كانت الإمامة مستحقة بالأدنى، كيف لاتكون مستحقة بالأشرف والأعلا، فهذا هو مراده بما أشار إليه من كلامه هذا.
(66) ومن كلام له عليه السلام في محمد بن أبي بكر لما قلده مصر فملكت عليه وقتل رحمه الله تعالى
(وقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة ): وقد عزمت وتقوى في خاطري، تولية هاشم لما فيه من مزيد الصلاحيه والنهضة والقوة.
(ولو وليته إياها لما خلىَّ لهم العرصة ولا أنهزهم الفرصة): أراد أني لو عزمت على توليته إياها، فإنه كان شديد الأنفة، عظيم السطوة كثير الهيبة في أفئدتهم، وكان لا يترك لهم فسيحة فيما يتعلق بأمر الدين مما يتعلق بإصلاح الدولة وأمر السياسة، ولا يجدون له فرصة فيغنموها عليه، لشدة شكيمته، فجعل ما ذكره كناية عما فصلناه في أمرهاشم بن عتبة.
(بلا ذم لمحمد بن أبي بكر): أراد وليس ما ذكرته في هاشم، فليس تقصيراً في همة محمد بن أبي بكر، ولا تعجيزاً لحاله في ذلك، وكانت مصر من أهم الأعمال والولايات عنده، وقد كان ولاها الأشتر فمات في الطريق قبل وصوله، ثم ولاها محمد بن أبي بكرفا ستشهد فيها .
(فلقد كان لي حبيباً): يحبني وأحبه.
(وكان لي ربيباً): الربيب: ابن امرأة الرجل من غيره ، وهكذا الربيبة أيضاً.
(67) ومن كلام له عليه السلام في ذم أصحابه
(كم أداريكم): المدارة للناس هي: الملاينة، وأرادكم أليِّن لكم عريكتي ومعاطفي، وأسَّهل لكم خلائقي.
(كما تدارى البكار العمدة): البكار: جمع بكر وهو الفتى من الإبل، والعمدة هو: انشداخ داخل سنام البعيرمن الركوب وظاهره سالم، فإن البعير يشفق ويحاذر عن أن ينُالها بشيء.
(والثياب المتداعية): المسرعة إلى البلاء؛ لأن كل واحد منها يدعو الآخر إلى الانخراق.
(كلما حيصت من جانب): خيطت من جهة ولفقت.
(تهتكت من آخر): من جانب آخر لهونها ورثتها، فحالي معكم فيما أدعوكم إليه مشبه لما ذكرته.
(كلما أطل عليكم): أطل بالطاء والظاء جميعاً كما مضى في غيره .
(منسر من مناسير أهل الشام): الْمَنْسِر بالنون والسين منقوطة بثلاث من أسفلها: القطعة من الخيل من أصحاب معاوية.
(أغلق كل رجل منكم بابه): رده وصار محتجباً به.
(وانجحر انجحار الضَّبَّة في جحرها): الضب: حيوان يكون في الخبوت، يقال: إنه إذا رأى الماء مات، وقوله: انجحر انجحار الضبة في جحرها، من باب الاشتقاق، كقوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }[الروم:30] وغيره.
(والضَّبُع في وجارها): الوجار بالجيم هو: موضعها ومكانها، وأراد بما ذكره أن الجيوش من أهل الشام إذا رأوها فعلوا ما ذكره فشلاً عن القتل، وطيشاً عن ملابسة الحرب.
(الذليل والله من نصرتموه): لأن من حاله هذه فالمنتصر به يكون وحده لا محالة لتفرقهم عنه فهو ذليل لانفراده.
(ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل): الأفوق من النبال: الذي لا فوق له، والناصل: الذي ليس في أسفله نصله، وأراد قلة النفع به؛ لأن ما هذا حاله من السهام فلا نفع للرامي به.
(إنكم والله لكثير في الباحات ): الباحات: جمع باحة وهي ساحات الدور.
(قليل تحت الرايات): الرايات: جمع راية، وهو العلم يكون في الحرب.
(وإني لعالم بما يصلحكم): يجمع أغراضكم ويقوَّي دواعيكم إلى اتباعي.
(ويقيم أودكم): اعوجاجكم من أخذ المال من غير وجهه وصرفه فيكم على غير حله والا نقياد لأهوائكم كلها.
(ولكني والله لا أرى صلاحكم بإفساد نفسي): أراد أني إن تابعت أغراضكم خالفت الدين، وكان عليَّ ضرر ذلك، ولكم غنمه في اتباعي لما وافقكم، وفي ذلك فساد نفسي وإهلاكها.
(أضرع الله خدودكم): أي أذلها، من الضراعة، وهي: الذل والخضوع، وأراد بالخدود الوجوه؛ لأنها أعز ما يكون في الإنسان، فإذا ذل فغيره بالذل أحق وأولى.
(وأتعس جدودكم): الإتعاس هو: الإهلاك، وأصله الكبَّ، وهو ضد الانتعاش.
(لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل): أراد أن ولوعهم بالباطل أكثر من ولوعهم بالحق فلأجل هذا عرفوا ذاك وأنكروا هذا.
(ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق!): وأراد أيضاً أن إماتتهم للحق وإبطاله أكثر من إبطالهم للباطل لكثرة تعلقهم بالباطل، ونفورهم عن الحق.
(68) وقال عليه السلام في سحرة اليوم الذي ضرب فيه
السحر والسحرة هو: الوقت قبل الفجر.
(ملكتني عيني): غلبني النوم، وهو من لطيف الا ستعارة وعجيبها؛ لأن النوم إذا جاشت مراجله ملك الإنسان واستولى عليه وأضافه إلى العين لأنها أول ما يظهر فيه علامة النوم.
(فسنح لي رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] ): من السنوح وهو: العروض.
(فقلت: يارسول الله، ماذا لقيت من أمتك؟): من مكابدة الشدائد ومعاناة العظائم.
(من الأود): الاعوجاج في طرقهم.
(واللدد): وهو شدة الخصومة في مخاطبتهم.
(فقال عليه السلام: ((ادع عليهم ))): لاستحقاقهم لذلك.
(فقلت: اللَّهُمَّ، أبدلني بهم خيراً منهم): جوارك في الآخرة ومرافقة أوليائك والكون معهم في دار كرامتك.
(وأبدلهم بي شراً مني ): ممن يكون والياً عليهم، لايراعي لهم حقاً، ولا يعلِّمهم معالم دينهم.
وأقول: لقد استجاب الله منه هذه الدعوة فنقله إلى جواره، واختار له ما عنده، وأبدلهم به معاوية ويزيد وزياد والحجاج، وغيرهم ممن لا يعرج على صلاحهم، ومنهمك في الدنيا، ولا يخطر بباله خاطرة من الدين وأحواله.
(69) ومن كلام له عليه السلام في ذم أهل العراق
(أما بعد، يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمت أملصت ومات قيمها، وطال تأيمها): أراد بالعراق أهل الكوفة والبصرة، فإنما مثلكم، إما في قولكم بألسنتكم من نصرتي ومخالفتكم في أفعالكم بخذلاني، وإما في أمري لكم بالجهاد لعدوكم ونكوصكم على أعقابكم في ذلك، فكله محتمل كما ترى، كمثل الحامل التي علقت بولد فلما تمَّ عددها أملصت أي أسقطت، والملص: الزلق، ومات قيمها: زوجها، وطال تأيمها: مكثت زماناً طويلاً بلا زوج.
(وورثها أبعدها): القرابة الأبعدون بعد موتها.
(أما والله ما أتيتكم اختياراً؛ ولكن جئت إليكم شوقاً ): أراد ما جئت إليكم [إلا] بغير خبرتي لكم وتجربتي إياكم، فمن خبر أحوالكم وجربها لم يطمع في نصرتكم له، وإنما جئت إليكم شوقاً إلى نصرتكم لي، وإعانتكم على أموري كلها فانكشف الحال على خلاف ذلك.
(ولقد بلغني أنكم تقولون: [عليٌّ] يكذب): فيما يقوله من أخباره التي أخبرنا بها.
(قاتلكم الله!): استغراق في التعجب من مقالتهم هذه.
(فعلى من أكذب؟): فيما أخبرت به.
(أعلى الله؟): أتكون فريتي كما زعمتم على الله؟
(فأنا أول من آمن به): ومن سبق إيمانه بالله فليس مستحقاً أن يكون كاذباً عليه.
(أم على نبيه؟): أو تكون فريتي على الرسول.
(فأنا أول من صدَّقه): في نبوته فيستحيل أن أكذب عليه.
(كلا والله): ردع وزجر لهم عن هذه الفرية، وتهكم بهم في هذه المقالة.
(ولكنها لهجة): لسان صدق وكلمة حق.
(غبتم عنها): غابت أذهانكم عن ضبطها ومعرفة معناها.
(ولم تكونوا من أهلها): ممن يختص بها ويعرف قدرها، وأراد باللهجة، إما ما يأمر به من المصالح، ويذكره من المواعظ الشافية، وينهى عن المفاسد، وإما ما كان عَهِدَ إليه الرسول عليه السلام في أمر إمامته وتقريرها، وتعريفه بما يؤول إليه أمره في ذلك.
(ويل امِّه ): أراد ويل لأمه، لكنه حذف لا وجره، وحذف همزة أم، وفي حركة اللام الباقية الضم على الأصل؛ لأنه مرفوع، والكسر على الاتباع.
والويل: كلمة عذاب، وتستعمل تارة مضافاً، وليس فيه إلا النصب على المصدرية، كقولك: ويلك وويله وويل زيد، وتارة مفرداً، إما منصوباً كقولك: [ويلاً لك] وويلاً له، وإما مرفوعاً على الابتداء كقولك: ويل له وويل لزيد، قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }[الجاثية:7]، قال كعب بن زهير :
وَيْلُمَّهَا خلةٌ لو أنَّها صدقت
موعودُها أو لو ان النصحَ مقبولُ
(كيلاً): أي مكيلاً، وانتصابه على التمييز.
(بغير ثمن!): يعني من غير عوض ممن ابتاعه.
(لو كان له وعاء): فيه روايتان:
أحدهما: وعاء، أي لو كان لمن يسمعه أذن تعيه وتكون قابلة له.
وثانيهما: وعَّا جمع واعٍ نحو جاهل وجهَّال، أي لو كان رجال يقبلونه ويقرُّ في صدورهم.
({وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ })[ص:88]: فهذه الآية قد وقعت في هذه الخطبة أحسن موقع حتى صارت إنساناً لمقلتها، وطرازاً لحلتها، أبهى من الوشي المرقوم، وأذكى رائحة من المسك المختوم.
(70) ومن خطبة له عليه السلام علَّم الناس فيها الصلاة على الرسول [صلى الله عليه وآله]
(اللَّهُمَّ، داحي المدحوات): الدحو هو: البسط والمدُّ، قال الله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }[النازعات:30] وأراد باسط الأرضين المبسوطات.
(وداعم المسموكات): وممسك السماوات المرفوعات؛ لأن المسموك هو: المرفوع، والدعامة تمسك الأشياء عن السقوط.
(وجابل القلوب): جبله على الشيء إذا طبعه عليه، ومنه الجبلَّة، وأراد وطابع القلوب.
(على فطرتها شقيها وسعيدها): [و] جاعلها على فطرة أي خلقة تكون متمكنة معها من تحصيل الشقاوة والسعادة، وقادرة على ذلك، وهذا ظاهر في خلقة الإنسان، فإن الله تعالى ركَّبه تركيباً ينال به كل واحد من الأمرين على قدر ما يشاء ويريد.
(اجعل شرائف صلواتك): الصلاة من الله تعالى هي الرحمة، وأراد اجعل أشرف ما يكون من رحمتك.
(ونوامي بركاتك): وأزيد ما يكون من إحساناتك الفاضلة.
(على محمد عبدك ورسولك): الشاكر لنعمائك، والمتحمل لأداء رسالاتك.
(الخاتم لما سبق): من نبوة الأنبياء قبله، لقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }[الأحزاب:40].
(والفاتح لما انغلق): إما لما اندرس من الشرائع قبله فإنها كانت قد امحت آثارها واندرست أعلامها، وإما لما استعجم من المشكلات والأسرار البديعة.
(والمعلن): الإعلان هو: الإظهار، والمعلن هو: المظهر.
(للحق ): للدين القيم من إثبات الصانع وتوحيده.
(بالحق): بالمعجزات الباهرة، والأدلة القاهرة.
(دافع جيشات الأباطيل): المزيل، من دفع الشيء إذا أزاله عن موضعه، وجيشات: جمع جيشة، واشتقاقها إما من جاش البحر إذا زخر، أو من جاش القدر إذا غلت، والأباطيل: جمع لم يسمع له مفرد؛ كأنه جمع لإبطيل؛ لئن باطل لا يجمع على أباطيل، فلهذا قدر مفرده، وأراد أنه مزيل بما جاء به من الحق زواخرالشبه والتمويهات.
(والدامغ): الدمغ هو: هيض قِحْف الرأس وكسره.
(صولات): جمع صولة وهي: الاستطالة، يقال: صال الجمل إذا غلب وقهر عن أن يملك رأسه.
(الأضاليل): جمع لا واحد له؛ لأن الضلالة لا تجمع على أضاليل، وإنما يقدّر له واحد وهو إضليل.
(كما حمِّل فاضطلع): الكاف متعلقة باجعل، والضلاعة: القوة، واضطلع أي قوي، والمعنى اجعل شرائف صلواتك مشبهة في تقريرها وثبوتها، لما حُمِّل من أعباء النبوة، وقوي على حمله وقام به.
(قائماً بأمرك): ماضياً عزمه في إبلاغ ما أمر به.
(مستوفزاً في مرضاتك): الوفاز: العجلة، أي مستعجلاً في تحصيل الأمور المرضية لك.
(غير ناكل عن قُدُمٍ): نَكَلَ يَنْكُلُ إذا خاف وجبن، والناكل هو: الجبان، وأراد أنه غير جبان عن تقدم فيما أمر به وأجدَّ بإبلاغه.
(ولا واهٍ في عزمٍ): وَهَى أمره إذا ضعف، أي أن عزيمته فيما همَّ به من أمر الدين لا تضعف.
(واعياً لوحيك): حافظاً لما أوحيته إليه، غير مبدل ولا مغيِّر.
(حافظاً لعهدك): لما عهدته إليه عن الضياع والإهمال.
(ماضياً على نفاذ أمرك): مستمراً، من قولهم: مضى لحاجته إذا مر طالباً لها على إبلاغ ما أمر به وإيصاله، وهذه الأسماء كلها منصوبة على الحال من اسم الرسول.
(حتى أورى قبس القابس): أورى الزند: إذا ظهرت ناره، والقبس هو: شعلة النار ، والقابس هو: الفاعل لذلك، واستعاره ها هنا لما أتى به الرسول عليه السلام من الفوائد الدينية والآداب الحكمية.
(وأضاء الطريق): أنارها وأوضحها.
(للخابط): أي من أجل الخابط ، وهو الذي يمشي على غير طريق.
(وهديت به القلوب): أصابت هدايتها ببركته.
(بعد خوضات الفتن ): بعد أن خاضت إلى ذلك غمرات الحروب وتجرع غصصها.
(وأقام موضحات الأعلام): العلم هو: ما ينصب لمعرفة الطريق، وأراد أنه أقام الحجة الموضحة لأعلام الهداية وطرق النجاة.
(ونيرات الأحكام): وأقام الأحكام النيرة من علوم الشريعة وأخبار النبوة.
(فهو أمينك): الأمين من عذابك.
(المأمون): المجعول أميناً على خلقك من جهتك فيما أرسلته به، ويحتمل أن يكون الأمين والمأمون بمعنى واحد، مثل قولهم: أنا حبيبك المحبوب.
(وخازن علمك): حافظ علمك الذي علمته إياه عن الإهمال حتى يضعه حيث أمرته .
(المخزون): الذي خزنته عندك حتى بلغته إياه.
(وشهيدك يوم الدين): إشارة إلى قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا }[النساء:41] بعد شهادة الأنبياء على أممهم.
(وبعيثك بالحق): إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ }[البقرة:119].
(ورسولك إلىالخلق): إشارة إلى قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً }[النساء:79].
[اللَّهُمَّ، افسح له مفسحاً في ظلك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك]
(اللَّهُمَّ، أعلِ على بناء البانين بناءه): اجعل منزلته ومحله أرفع المنازل والمحال عندك في الدنيا والآخرة.
(وأكرم لديك منزله ): المنزل بفتح الميم والزاي: النزول والحلول، وأراد اجعل استقراره في الجنة أكرم نزوله .
(وأتمم له نوره): أكمل له هداه الذي بعثته به بكثرة الأتباع واتساع علم شريعته.
(واجزه من ابتعاثك له): واجعل له عندك جزاءً من أجل ابتعاثك له على صفات محمودة.
(مقبول الشهادة): فيما شهد به على أمته.
(مرضي المقالة): فيما قاله ونطق به، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }[النجم:3].
(ذا منطق عدل): صاحب لسان صدق، لا يزوغ في مقالته.
(وخِطة فصل): الخِطة بالكسر: ما يخطُّه الإنسان من الأرض ليعمره، والخُطة بالضم هي: الأمر والقصة ، وهو المراد ها هنا؛ لأن غرضه أنه ذو أمر فصل ليس هزلاً.
(اللَّهُمَّ، اجمع بيننا وبينه): وافق بيننا وبينه.
(في برد العيش): الذي لا أذية فيه ولا تكدير للذته.
(وقرارة النعمة): ومستقرالكرامة التي لا ظعون عنها لساكنها.
(ومنى الشهوات): وغاية الأماني المشتهاة.
(وأهواء اللذات): التي يهواها كل مخلوق.
(ورخاء الدَّعة): التي لا تنغيص فيها.
(ومنتهى الطمأنينة): وغاية القرارالمطمئن.
(وتحف الكرامة): ونفائس الإكرام وعظائمه، وأراد بما ذكره نعيم الجنة، فإنه جامع لما ذكره من أمر الأوصاف وأبلغ.
اللَّهُمَّ، أكرمنا بجوارك في دار الكرامة.
(71) ومن كلام له عليه السلام لمروان بن الحكم بالبصرة
قالوا: أخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل، فاستشفع فيه الحسن والحسين إلى أميرالمؤمنين "، فكلماه في ذلك فخلا سبيله، فقالا [له] : يبايعك ياأمير المؤمنين؟ فقال:
(ألم يبايعني بعد قتل عثمان؟): أراد ليس هذه البيعة بأولى من تلك، فإذا غدر في تلك فهو غادر في هذه.
(لا حاجة [لي] في بيعته): لقلة جدواها وعدم الفائدة فيها.
(إنَّها كفُّ يهودية): قيل: إن الحكم والد مروان كان يهودياً باليمامة، وقيل: أراد أن الغالب في اليهود هو الغدر ، فلهذا شبهه بأكف اليهود، وهذا هو الأقرب في كلامه.
(لو بايعني بكفه لغدر باسته): أراد إن وفى من جهة فهو يغدر من جهة أخرى، وقوله: لغدر باسته فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون الباء متعلقة بغدر كما هو الظاهر، وعلى هذا يكون معناه لو بايعني بكفه لغدر في دهره كله، أخذاً من قولهم: فلان ما زال على است الدهر مجنوناً.
قال أبو نخيلة :
ما زال مذْ كان على استِ الدهر
ذا حَمق ممرى وعقل يَحْرى
وثانيهما: ألا تكون الباء متعلقة بغدر ويكون قد تم الكلام من قوله : لغدر، وقوله: باسته، كلام مستأنف، وهي كلمة شتم للعرب، قال الحطيئة :
فباستِ بني قيْسِ واستاه طيّ
وباست بني دودان حاشا بني نَصر
وفي نسخة أخرى: (لغدر بسبته): السبة: الاست أيضاً.
(أما إن له إمرةً كلعقة الكلب أنفه): كانت خلافته عشرة أشهر، ويحكى أنه قال لخالد بن يزيد بن معاوية : يا ابن رطبة الاست، وكانت أم خالد زوجة له خلف عليها بعد يزيد، فبلغها ذلك، فيروى أنها قعدت على وجهه حتى قتلته ، وإنما قال: كلعقة الكلب أنفه إشارة إلى قرب مدتها وتقاصر أطرافها.
(وهو أبو الأكبش الأربعة): عنى بالأكبش الأربعة أعظم أولاده وهم: عبد الملك، وعبد العزيز، ومحمد والحكم، فهؤلاء هم أنفس أولاده، وكان له أحد عشر ذكراً.
(وستلقى الأمة منه ومن ولده موتاً أحمر): وكان أولهم عبد الملك بن مروان، وآخرهم مروان بن محمد بن مروان، وعلى إثره انقضت الدولة الأموية، ثم بويع للسفاح بعده، وكان مدتها من لدن معاوية إلى مروان بن محمد تسعين سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام، وكانت عدة خلفائها أربعة عشر رجلاً، جميعهم كانوا على الظلم والفسق والفجور والانهماك في أنواع اللذات المحظورة، وإهمال الخلق، فلهذا قال عليه السلام: تلقى الأمة منه موتاً أحمر، يشير إلى ذلك.
(72) ومن كلام له عليه السلام في بيعة عثمان
(لقد علمتم أني أحق بهامن غيري): أراد الخلافة لما كان [من الرسول في حقي من الأخبار ولفضلي وتقدمي وسابقتي وغير ذلك] من الأدلة الدالة على كونه أحق بها وأولى.
(والله لأُسْلَمَنَّ ): أمرها ولأبعدنَّ عن التلبس بها.
(مهما سلمت أمور المسلمين): أراد مهما كان الحيف عليَّ فلا أبالي مهما كان الدين مستقيماً، وأحكام الدين جارية على قانونها.
(ولم يكن فيها جور): ظلم وعدوان في مخالفة كتاب الله وسنة رسوله.
(إلا عليَّ خاصة): وفي هذا دلالة على تظلمه وتوجعه في نفسه.
(التماساً لأجر ذلك وفضله): بترك حقي وكظم غيظي، وتحمل الغيظ والصبر عليه.
(وزهداً فيما تنافستموه): أي علا قدره عندكم، من قولهم : نفس الشيء إذا علا قدره، وأراد تنافستم فيه ولكنه حذف الحرف وعداه بنفسه.
(من زخرفه): يعني الذهب.
(وزبرجه): أراد الزينة {كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ }[الزخرف:35].
(73) ومن كلام له عليه السلام في مقتل عثمان
(أولم ينه أمية علمها بي عن قرفي!): قرفه إذانقصه وعابه، وأراد أولم يمنع بني أمية ما يعلمون من حالي وخصالي التي انفردت بها، وصفاتي التي تميزت بها من بين الخلائق عن نقصي وعيبي.
(أما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي!): وزعه إذا كفَّه، وأراد أما كفَّ الجهال الذين لا علم لهم ولا دراية بسابقتي في الدين في نصرته والجهاد لمن خالفه، وقرابتي من الرسول عن أن يتهموني بما لايليق بي فعله مما زعموه من قتل عثمان، وأني راضٍ به!!
(ولما وعظهم الله به أبلغ من لساني): وللذي زجرهم الله به من قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }[النساء:112]، وغير ذلك من الآيات الوعيدية أبلغ مما أنطق به.
(أنا حجيج المارقين): أنا مخاصم من مرق من الدين كالخوارج ومفحم لهم بالحجة، وإنما أنا خابر لأمورهم وسابر لها بالفحص عن أحوالهم، من قولهم: حججت شجته بالميل ، إذا دريت بغورها لتعالجها، والمارق هو: الخارج من الدين، أخذاً له من مروق السهم إذا خرج من الجانب الآخر.
(وخصيم المرتابين ): خصمه إذا نازعه وشاجره، وأراد أنا منازع الشاكين في دين الله، وأهل الريبة في الصدق.
(على كتاب الله تعرض الأمثال): فمن وافقت صفته صفة الأبرار والصالحين فهو منهم، ومن وافقت صفته صفة الفجار وأهل الشقاوة فهو منهم، فهو الصادق الذي لا يكذب، والميزان الذي لا يحيف.
(وبما في الصدور تجازى العباد): أراد أن المجازاة إنما تكون بما في سراير القلوب وضمائرها دون ظاهرها، فربما كان ظاهر عمل سوءاً وهو عند الله زاكياً وعكسه، فالمجازاة على الحقيقة بما في القلوب من ذلك.
(74) ومن خطبة له عليه السلام]
(رحم الله امرأ سمع حكماً فوعى): الرحمة من الله تعالى في الدنيا بفعل الألطاف الخفية، كقوله: {ولولا رحمة ربي} وفي الآخرة ثواب، كقوله تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا }[الأنبياء:75] وأراد أعطي موعظة فحفظها قلبه ، وانتفع بها في دينه.
(ودعي إلى رشد فدنا): إلى ما يرشده في الدين والدنيا فقرب له وأصغى إلى داعيه.
(وأخذ بحجزة هاد فنجا): الحجزة بالضم هي: معقد الإزار، وهو استعارة هاهنا، ضرب بيده على معقد إزار داعي الخير، فأنجاه عن الحيرة والشبهات.
(راقب ربه): أي جعله رقيباً عليه، أي شاهداً في السر والعلانية.
(وخاف ذنبه): وأشفق من عقوبته.
(قدَّم خالصاً): سبَّق لنفسه عملاً خالصاً عن الرياء.
(وعمل صالحاً): وفعل فعلاً يصلح أن يكون مقبولاً، ويصلح أن يكون مثاباً عليه.
(اكتسب مذخوراً): طلب الاكتساب لما يصلح ادّخاره من الأعمال المرضية.
(واجتنب محذوراً): جانب من الأفعال السيئة ما يجب الحذر منه.
(رمى غرضاً): الغرض: ما يرمى، وأراد أصاب غرضاً أو رمى غرضاً فأصابه برميه، والمراد من هذا هو إحراز المقصود في أمره كله.
(وأحرز عوضاً): أي أحرز ما يكون عوضاً عن الأعمال الصالحة وهو أجرها وثوابها.
(وكذَّب مناه ): أراد لم يعرِّج على الأماني ولم يتكل عليها؛ لأنها دأب العجزة وأهل الكسل.
(جعل الصبر مطية نجاته): وهو استعارة، وأراد أنه ركب عليها فينجو من الأهوال والشدائد.
(والتقوى عدة وفاته): لأن لكل شيءٍ عدة، وعدة الموت هو التقوى لله والخوف منه.
(ركب الطريق الغراء): أي سار الطريق الواضحة، أخذاً لها من غرة الفرس.
(ولزم المحجة البيضاء): أي لم يسلك يميناً وشمالاً، وإنما استقام على المنهاج الواضح.
(وبادر الأجل): عاجل المدة التي قدَّرها الله له فاغتنمها وعمل فيها.
(واغتنم المهل): من الغنيمة، والمهل هي: أيام المهلة، وأراد جعلها زماناً لاغتنام الأعمال الصالحة.
(وتزوَّد من العمل): جعله له زاداً إلى الآخرة، وهو تقوى الله تعالى، كما قاله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }[البقرة:197].
(75) ومن كلام له عليه السلام يخاطب به بني أمية
(إن بني أمية): أراد من كان في أيامه من بني أمية، ومن يأتي بعده.
(ليفوقونني تراث محمد تفويقاً): أي يعطونني من المال قليلاً قليلاً كفواق الناقة، وهو: الحلبة الواحدة من لبنها، وأراد بتراث محمد ما كان لرسول الله الولاية في أخذه وصرفه في وجهه من جميع الأموال كلها فهو إليه، وتأكيده بالمصدر مبالغة في فعلهم لذلك.
(والله لئن عشت ): بقيت له مدة أعيش فيها.
(لأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللّحّامِ): أخرجها من أيديهم وأسلّها من تحت معاطفهم، كما يفعل القصَّاب الذي يقطع اللحم.
(في الوِذَامِ التَّرِبَة): في الأكراش، الواحدة منها وَذَمَةٌ، التي قد وقعت في الترب ونفضت منه فتساقط منها، ويروى: (في التراب الوذمة): وهو من القلب، و[هو] جعل الموصوف صفة والصفة موصوفاً، وهو من بديع البلاغة وغريب الفصاحة وقد يجيء القلب في الفاعل والمفعول، كما قال: بلغت سوأتهم هُجْر.
(76) [ومن كلمات كان عليه السلام يدعو بها]
(اللَّهُمَّ، اغفر لي ما أنت أعلم به مني): أراد أن الله تعالى محيط بجميع الصغائر والكبائر والسر والعلانية بحيث لا تخفى عليه خافية، فسأله غفران ما هو عالم [به] ليكون عاماً شاملاً، وهذا مبالغة في الدعاء وتضرع.
(فإن عدت): في الذنب جهلاً فيما يتوجه من حقك وغروراً من النفس.
(فعد لي بالمغفرة): إحساناً من عندك، وتفضلاً من جودك.
(اللَّهُمَّ، اغفر لي ما وأيت من نفسي): وأى إذا وعد، وأراد طلب المغفرة لما وعده من الإقلاع عنه، والتوبة منه.
(ولم تجد له وفاء عندي): أراد أني قد خالفت فيما وعدت، وعدت إليه مرة ثانية فاغفر لي.
(اللَّهُمَّ، اغفر لي ما تقربت به إليك): من فعل الطاعات وأنواع القرب والعبادات.
(ثم خالفه قلبي): إما بالشهوة والغفلة فيه أو في بغضه عن أن يكون مفعولاً لوجهك، وإما بالقصور عما تستحقه من التعظيم والجلال اللذين يجبان على من كان موصوفاً بالعبودية.
(اللَّهُمَّ، اغفر لي رمزات الألحاظ): الألحاظ: جمع لحظ ولَحَاظ بالفتح هو: النظر بمؤخر العين، والرمز هو: الإشارة بالشفتين والحاجب، وأراد اغفر ما لا يطلع عليه لدقته إلا أنت، كقوله تعالى : {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }[غافر:19].
(وسقطات الألفاظ): وما يسقط من رديء القول وخطأه وزلله.
(وشهوات الجنان): وما يشتهيه الجنان وهو القلب مما يكون مخالفاً لأمرك.
(وهفوات اللسان): الهفوة: الزلة، وهفوات اللسان زلاته في منطقه، اللَّهُمَّ، استجب له دعاءه وأدخلنا [فيه] برحمتك.
(77) ومن كلام له عليه السلام لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج،
فقال له : يا أمير المؤمنين، إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم، فقال عليه السلام:
(أتزعم أنك تهدي إلى الساعة): تدل عليها وترشد إلى طريقها.
(التي من سار فيها صرف عنه السوء): جنِّب المكروه وصرف عنه ما يسوؤه .
(وتخوِّف الساعة ): وتحذر الوقت.
(الذي من سار فيه حاق به الضر): أي أحاط به ما يضره من المكروه.
(فمن صدقك في هذا ): الإشارة إلى ما سبق من القول في إسناد النفع والضر إلى النجوم.
(فقد كذّب القرآن): لأن القرآن دال بصرائحه ونصوصه على أن كل ما نزل من السماء من نفع وضر فهو من جهة الله تعالى وقضائه وتقديره وبلائه، فخلاف ذلك يكون تكذيباً ورداً.
(واستغناء عن الا ستعانة بالله في نيل المحبوب، ودفع المكروه): لأن هذه الأمور كلها من النفع والضر إذا كانت مضافة إلى تأثير النجوم، والعقول والأفلاك السماوية، وحصولها من جهتها على جهة الإيجاب فلا حاجة بنا إلى الاستعانة بالله تعالى في ذلك ولا إلى طلب الألطاف من جهته.
(وينبغي في قولك هذا): فيما زعمته من تأثير هذه النجوم.
(للعامل بأمرك): بالذي أمرته، وقلت له به.
(أن يوليك الحمد دون ربه): أن يعطيك جميع المحامد من العبادة والشكر.
(لأنك زعمت أنك هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن من الضر ): فوجب له ذلك جزاء على ما فعله معك من الإحسان بدلالته لك على اكتساب النفع، ودفع الضرر.
(أيها الناس، إياكم وتعلُّم علم النجوم): تحذيراً عن ذلك لما فيه من الضرر على الأديان الإلهية، ويدخل شكاً في التوحيد بإثبات إله آخر مدبر معبود، كما هو مذهب الصابئة وأهل النجوم .
(إلا ما يُهْتدى به في بر أو بحر): فإن ما هذا حاله فلا بأس بمعرفة أحواله، وكيفية جريه لمافي ذلك من المنفعة بالاهتداء، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }[الأنعام:97].
(فإنها تدعو إلى الكهانة): وهي تعاطي علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وسبب ذلك هو أن الله عز سلطانه إذا أراد نفاذ أمر من أقضيته، أوحاه إلى سماء الدنيا فتسترقه الشياطين، ويأتون به إلى الكهان فيكذبون عليه أضعافه، فلما نزل القرآن، وحرست السماء بالشهب ارتفعت الكهانة وبطلت بعد النبوة.
(المنجم كالكاهن): لأن المنجم يدعي إضافة هذه الآثار كلها إلى النجوم، والكاهن هو: الذي يدعي تعاطي علوم الغيوب ، وكلاهما كاذب فيما يقوله.
(والكاهن كالساحر): لأن الساحر يدعي أنه يخلق، فهو في كذبه مثل كذب الكاهن.
(والساحر كالكافر): وأراد أنه كافر إذا كان يزعم أنه يخلق مثل خلق الله تعالى، فهو كفر وردة وإن اعترف بأن ما جاء به مخرقة وكذب فلا كفر هناك.
(والكافر في النار): لكفره خالداً فيها مخلداً بلا خلاف بين الأمة، إلا شذوذاً ذهبوا إلى خلاف ذلك، وهو قول مردود، فلا حاجة إلى إبطاله.
(سيروا على اسم الله وعونه): اغزوا وسافروا أي وقت شئتم، من غير تعريج على أقوال أهل التنجيم، واذكروا اسم الله عند خروجكم، واطلبوا منه المعونة في أسفاركم.
واعلم: أن القول بالنجوم يكون على وجهين:
أحدهما: أن يقال: بأنها أحياء ناطقة، وتضاف هذه الآثار إليها، وأنها معبودة خالقة رازقة كما هو مذهب الصابئة وغيرهم، وهذا كفر لا محالة.
وثانيهما: أن تكون هذه الآثار مضافة إلى الله تعالى، وأنها مسخرة مدَّبرة لما يريد الله فيها من المصالح، وأنه تعالى أجرى العادة بأنه لا يفعل بعض الأفعال إلا عند طلوعها وغروبها، فهذا لا بأس به، ولا يطرق خللاً في اعتقاد التوحيد.
(78) ومن كلام له عليه السلام في ذم النساء بعد حرب الجمل
(معاشر المسلمين ، إن النساء نواقص الإيمان): اعلم أن هذا الكلام يشير به إلى عائشة، والسبب في خروجها إلى البصرة محاربة لأمير المؤمنين هو أن طلحة والزبير ويعلى بن منية اجتمعوا في مكة وعائشة واقفة بها، فتلاوموا على قتل عثمان، وضربوا لسهام الرأي، وقالوا: كيف لنا بأن تكون معنا أم المؤمنين فأتوها، وقالوا لها : أنت قتلت عثمان لطعنها عليه وعيبها إياه،و ذكروا لها أنه لا توبة لها إلا بالمسير معهم حتى تقتل قتلة عثمان ويرد الأمر إلى أهله، فسارت معهم لهذه الشبهة من غير أن تكون على بينة من أمرها وبصيرة من حالها، ولهذا لما نبح عليها كلاب الحوأب همت بالرجوع حتى شهدوا لها بالزور ، ويقال: إنَّها أول شهادة في الإسلام بالزور ، ولا شك في فسقها، وهلاكها عند خروجها لحرب أمير المؤمنين بلا خلاف بين الأمة لبغيها عليه، لولا أن الله تداركها برحمة منه بالتوبة عن ذلك، وسبب ذلك مطاوعتها لغيرها، والانقياد له، ولهذا قال أمير المؤمنين:
(امتحنت بأربعة لم يمتحن بها قبلي أحد: عائشة، وهي أطوع الناس، والزبير مع شجاعته، وطلحة مع سخائه، ويعلى بن منية مع كثرة ماله) .
(نواقص الحظوظ، نواقص العقول): ومن هذا حاله كيف يكون زعيماً لغيره، و محتكماً لأمره.
ثم فسر عليه السلام ما ذكره من هذه الخصال فقال:
(أما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصوم أيام حيضهن): ومن نقص إيمانه نقص قدره عند الله تعالى.
([وأما نقصان] عقولهن؛ فشهادة الامرأتين منهنَّ بشهادة الرجل الواحد): لأن العقل إذا كان وافراً فصاحبه شديد التحفظ على ثقة في الأمر من الزلل، فعضد إحداهما بالأخرى إشارة إلى ذلك.
(وأما نقصان حظوظهنَّ فمواريثهنَّ على النصف من مواريث الرجال): إشارة إلى قوله تعالى: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ }[النساء:176] وهذا حيث يكون تعصيب الرجال لهن.
(فاتقوا شرار النساء): اللواتي لا دين لهنَّ؛ لأنه إذا انضمَّ إلى هذه الخصال قلة الدين ازداد الضرر وكثر لا محالة.
(وكونوا من خيارهنَّ على حذر): اللواتي فيهنَّ الصلاح لأن الغي والجهل إذا كان فيهنَّ طباعاً فإنه لا يؤمن شر هذه الخصال.
(ولا تطيعوهن في المعروف): أراد أنهن إذا منعن عما يكون معروفاً متواطئاً عليه بين الخلق كان صواباً حسناً.
(حتى لا يلغن في المنكر): لأن من مُنِعَ من الأمور المباحة، ولم يؤذن له في فعلها علم لا محالة أنه لا يطاع فيما يَهِمُّ به من الأمورالقبيحة المنكرة، وناهيك باسترذالهنَّ أن الله تعالى نقصهنَّ في هذه الأمور مع ما ينضاف إلى ذلك من المنع من القضاء والإمامة.
(79) [ومن كلام له عليه السلام]
(أيها الناس، الزهادة قصر الأمل): أراد أن غاية الزهد ونهاية أمره هو تقصير الأمل، لأن من قصر أمله زكا عمله.
(والشكر عند النعم): أراد أنه لا يستحق الشكر إلا لأجل النعمة.
(والورع عند المحارم): أي أنه لا يظهر الورع الصحيح إلا عند موافقة المحارم، فإن هو امتنع [عند] عروضها كان الورع متحققاً، وإن هو واقعها كان الورع باطلاً.
(فإن عزب ذلك عنكم): عزب عنه حكمه إذا بَعُدَ، وأراد إن بَعُدَ ذلك والإشارة إلى ما تقدم من الورع والشكر.
(فلا يغلب الحِمام صبركم): الحِمام بالكسر في الفاء هو قدر الموت، وأراد إن بَعُدَ عليكم الوفاء بما ذكره من هذه الأمور فلا يردن الموت عليكم وأنتم مخلُّون بهذه الواجبات عليكم، بل يأتيكم وأنتم صابرون على تأديتها وغير مُخِلين بها.
(ولا تنسوا عند النعم شكركم): ما يجب عليكم من شكرها، وإنما أضاف الشكر إليهم لما لهم به من مزيد الا ختصاص، كأنه قال: الشكر الذي يكون لائقاً بكم وتكونون أحق به.
(فقد أعذر الله إليكم): أعذرإليه إذا صار ذا عذر، ومنه المثل: أعذرمن أنذر، قال زهير:
على رِسْلِكمْ إنَّا سَنُعْدِي وراءكم
فتمنعُكم أرْماحُنا أو سَنُعْذَرُ
(بحجج مسفرة ظاهرة): بأعلام بينة واضحة لا لبس فيها.
(وكُتُب بارزة العذر واضحة): وكتب على ألسنة الرسل قاطعة لمعاذيركم، مو ضحة للحجة عليكم.
(فالدنيا دار أولها عناء): تعب وشدة ومكايدة الشرور.
(وآخرها فناء): زوال وتغير، إما بالإعدام على رأي أكثر المتكلمين في أن الله يعدم العالم ويعيده إلى حالته الأولى في العدم، وإما بالتغيير لنظامه كما هو المختار عندنا، وإليه تشير ظواهر الشريعة ونصوصها، وقد ذكرنا ما نختاره في الكتب العقلية.
(في حلالها حساب): من أين اكتسبه؟ وَفِيْمَ أنفقه؟.
(وفي حرامها عقاب): خلود في النار في عقاب دائم.
(من استغنى فيها فتن): بلذاتها وزخارفها، وكانت سبباً لفتنته بإعراضه عن الآخرة.
(ومن افتقر إليها حزن): لما يرى من تنعم أهلها بها، ومكابدته لشدائد الفقروعظائمه.
(ومن ساعاها فاتته): ومن جرى معها في حبها وطلب لذاتها سبقته ، ولم يدرك لها غاية.
(ومن قعد عنها واتته): تأخر عن طلبها، وصار مصاحباً لها بالرفق كفاه اليسير منها.
(ومن أبصر بها بصَّرته): جعلها له عبرة يتعظ بها ، وينظر إلى مصارع من رغب فيها أرته العجائب من ذلك.
(ومن أبصر إليها): بالرغبة إليها والاطمئنان.
(أعمته): عن إبصار المواعظ والا نتفاع بها.
(80) ومن خطبة له عليه السلام عجيبة تسمى [الغراء] وإنما سميت الغراء أخذاَ لها من غرة الفرس؛ لما فيها من المواعظ الدينية الظاهرة، والحكم البينة
(الحمد لله الذي علا بحوله): الحول هو: القوة، وأراد بالعلو ها هنا القهر والغلبة، وأراد أنه قهر بقوته.
(ودنا بطوله): الدنو هو: القرب، والطول هو: المن، وأراد أنه قريب من الخلق بما أنالهم من طوله، ونعمته عليهم، ولطفه بهم، ورحمته إياهم.
(مانح كل غنيمة وفضل): منحه إذا أعطاه، والغنيمة والفضل هو: العطاء من غير استحقاق.
(وكاشف كل عظيمة وأزل): الكاشف هو: الرافع، وأراد أنه الرافع لكل بلوى وشدةمن شدائد الدنيا وأهوالها، والأزل هو: الشدة.
(أحمده على عواطف كرمه): العواطف: جمع عاطفة، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يجعل اشتقاقها من العطف وهو الميل، يقال: عطفت أي ملت؛ لأن نعم الله مائلة إلى الخلق.
وثانيهما: أن يكون اشتقاقها من عطف إذا أشفق عليه، وتكون العاطفة ها هنا مصدر كالعافية والكاذبة.
(وسوابغ نعمه): السابغة هي: الكاملة، ومنه قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }[لقمان:20] أي أكملها.
(وأومن به أولاً بادياً): لكونه أولاً بلا بداية، وبادياً أي ظاهراً لا لبس في إثباته.
(وأستهديه قريباً هادياً): أطلب منه الهداية لكونه قريباً بالرحمة فاعلاً للهداية لمن أرادها.
(وأستعينه قاهراً قادراً): وأطلب منه الإعانة؛ لكونه قاهراً لمن عصاه، قادراً على فعل الإعانة.
(وأتوكل عليه كافياً ناصراً): أكل أمري إليه؛ لكونه كافياً لمن استند إليه ناصراً لمن استعان به.
(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله لإنفاذ أمره): أي لإخلاصه عما يقطعه، أخذاً من قولهم: نفذ السهم إذا خلص عن القوس، ومنه قولهم: نفذ السهم عن الرمية إذا خلص عنها، و أراد أنه خالص فيما أمر به من الطاعات.
(وإنهاء عذره): أنهيت الشيء إذا بلغته ، وأراد إبلاغ ما أعذربه إليهم وإيصاله .
(وتقديم نذره): وأن يكون إنذاره سابقاً إليهم، والنذر والعذر إما مصدران بمعنى الإعذار والإنذار، وإما جمع عذير ونذير.
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله): بخوفه ومراقبته في السر والعلانية.
(الذي ضرب لكم الأمثال): لتتعظوا بها وتكون زاجرة لكم عن الوقوع في المكاره، وحاثة لكم على الإتيان بمراداته.
(ووقّت لكم الآجال): جعلها منتهى للبثكم في الدنيا، ومتنفساً لفعل الأعمال الصالحة.
(وألبسكم الرياش): وأنعم عليكم من الفاخر من اللباس تلبسونه.
(وأرفغ لكم المعاش): الرفغ والرفاغة بالغين المعجمة هي: الرخاء والسعة في العيش.
(فأحاط بكم الإحصاء): أراد وجعل الإحصاء وهو: الحصر، محيطاً بأعمالكم صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ }[القمر:53].
(وأرصد لكم الجزاء): أعد لكم الجزاء على الأعمال كلها، من قولهم: أرصدت له كذا إذا أعددته له.
(وآثركم بالنعم السوابغ): آثرته بكذا إذا جعلته مستبداً به ، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }[الحشر:9] وأراد جعلكم مستبدين من جهته بالنعم الكوامل.
(والرفد الروافغ): أراد العطايا الواسعة، جمع رفدة وهي العطية، مثل نعمة ونعم.
(وأنذركم بالحجج البوالغ): التي لا أحد في البيان والوضوح إلا وقد بلغته.
(فأحصاكم عدداً): فأحاط بكم في جميع أحوالكم عدة وحصراً، كما قال تعالى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }[الجن:28].
(ووظف لكم أمداً ): وقدَّر لكم غاية تبلغونها، والوظيفة: ما يقدر للإنسان من كسوة ونفقة.
(في قرار خِبْرَة): موضع الاختبار وهي الدنيا.
(ودار عبرة): مكان الاعتبار.
(أنتم مختبرون فيها): أي ممتحنون بأنواع البلايا، وضروب المحن، أو مختبرون من يؤمن منكم ومن يكفر، كما قال تعالى : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }[هود:7].
(ومحاسبون عليها):ش: على ما كان منكم فيها من الأعمال القبيحة، أو محاسبون على ما أوصل إليكم من النعم فيها.
(فإن الدنيا رَنقٌ مشربها): رنق الماء إذا تكدر، ومشرب الماء: الموضع الذي يؤخذ منه للاستقاء.
(رَدِغٌ مَشْرَعُهَا): ردغ الماء إذا تغير بالطين والوحل، وفي الحديث: ((من سقى صبياً لا يعلم خمراً سقاه الله من ردغة الخبال )) ومشرع الماء: مورده.
(مُوْنِقٌ مَنْظَرُهَا): معجبة نضارتها وحسنها لمن رءاها.
(مُوْبِقٌ مَخْبَرُهَا): مهلك خبرها، والمخبر هو: الخبر وهو: التجربة، يقال: خبرت هذا إذا جرَّبته.
(غُرُوْرٌ): كثيرة الخديعة والمكر بأهلها، ويغترون بها كثيراً، فالمبالغة حاصلة من غرورها ، وكثرة اغترار أهلها بها.
(حائِلٌ ): أي متقلبة بأهلها إلى حال بعد حال، من قولهم: حال يحول إذا انتقل من موضع إلى موضع.
(وضوء آفل): ونور بينا تراه حاصلاً إذا غاب، من قولهم: أفلت الشمس إذا غابت.
(وظل زائل): ذاهب.
(وسناد مائل): السناد: ما يستند إليه، والمائل هو: المعوج، وأراد أنها مائلة عن حد الاستقامة في أحوالها كلها، واستعاره من السناد وهي: الناقة الشديدة الخلق، قال ذو الرمة :
جُمَالِيَّةٌ حَرْفٌ سِنادٌ يُقلُّها
وَظِيْف أَزَجُّ الْخَطْوِ ظَمآنُ سَهْوَقُ
فهذه أوصاف الدنياكما ذكر تها فإنها تغر الإنسان وتخدعه.
(حتى إذا أنس نافرها): سكن خاطر من نفر عنها بخدعها.
(واطمأن ناكرها): انشرح صدر من أنكرها بمكرها به.
(قمصت بأرجلها): قمص الفرس قموصاً إذا رفع يديه ووضعهما جميعاً، وأراد أنها وثبت عليه على هذه الهيئة، وهو عبارة عن شدة حالها في التغير والزوال.
(وقنصت بأحبلها): وصادت بشركها، وهي: الحبال.
(وأقصدت بأسهمها): أقصد السهم إذا أصاب وقتل في مكانه.
سؤال؛ أراه جمع السهام والحبال جمع قلة، والغرض ها هنا هو التكثير والإعلام، بأن حبال الدنيا وسهامها في غاية الكثرة، فما وجه ذلك؟
وجوابه؛ هو أن الغرض التنبيه على عظم حالها في الخدع والتغرير بأهلها ، وأن سهامها وإن قلت فهي قاتلة، وأن حبالهاوإن قلت فهي قابضة مهلكة، فلذلك لا يقال له : قليل.
(وأعلقت المرء أرهاق المنية ): العلق: الهوى والمحبة ، قال:
ولقد أردتُ الصبرَ عنكِ فعاقَنِي
عَلَقٌ بقلبي من هواكِ قديمُ
والأرهاق جمع رهق وهو: الدنو، يقال: رهقت فلاناً أي دنوت منه، والمعنى أنها صارت ذا محبة وهوى بإدنائه من المنية، وتقريبه منها، ويجوز أن يريد بأعلقت أي تعلقت به ونشبت، من قولهم: علق الظبي بالحبالة إذا نشب فيها.
(قائدة له إلى ضنك المضجع): الضنك: الضيق، وأراد أنها بمنزلة من يقوده إلى ضيق ما يضطجع فيه وهو قبره آخذة له بزمامه.
(ووحشة المرجع): الوحشة: الهم والخلوة، وأراد ووحشة ما يرجع إليه وهو وضعه في لحده.
(ومعاينة المحل): وإبصار محله بالعين إما في جنة وإما في نار.
(وثواب العمل): وتقوده إلى تحقق ثواب العمل وعقابه.
(وكذلك): وعلى مثل هذه الحالة، والإشارة إلى ما تقدم ذكره من ذكر حال المنية وفعلها بالإنسان.
(الخلف يعقب السلف): السلف هم : الماضون، والخلف هم: الذين يتلونهم، و يكون حالهم في الموت والفناء.
(لا تقلع المنية اختراماً): أقلع السحاب إذا ذهب، والخرم: نقص الشيء وإفساده، وخرم أنفه إذا قطع وترتها، ونصب الا خترام إما على أنه مفعول له أي لا تقلع من أجل الا خترام، كقولك: ضربته تأديباً، أو مصدر في موضع الحال أي لا تقلع مخترمة لهم قاطعة لآجالهم.
(ولا يرعوي الباقون اجتراماً): ارعوى عن الشيء إذا كف عنه، وامتنع منه، وغرضه هو أن من بقي لا يمتنع عن المنية وإنما هو بصدد ملاقاتها ، والاجترام هو: الامتناع، وانتصابه إما مفعول له أي من أجل الا متناع، وإما مصدر في موضع الحال.
(يحتذون مثالاً): حذا الشيء واحتذاه إذا كان مقتدياً به، وأراد أنهم يقتدون على مثال من مضىمن أسلافهم في الموت والقبر وسائر الأهوال.
(ويمضون أرسالاً): من قولهم: مضى في أمره إذا استمر على فعله وكان مقبلاً عليه، وأرسالاً جماعة بعد جماعة، وفوجاً بعد فوج، من قولهم: جاءت الإبل أرسالاً أي قطعاً بعد قطع.
(إلى غاية الانتهاء): وهي التي قدّرها الله تعالى وعلمها من انقطاع التكليف، وبطلان نظام العالم.
(وصيُّور الفناء): صيُّور كل أمر: آخره الذي يصير إليه، وتؤول إليه حالته، ووزنه إما فيعول مثل صيهود، وإما فعُّول مثل سَفُّود ، والقصد فيه المبالغة في الصيرورة.
(حتى إذا تصرَّمت الأمور): صرم الشيء قطعه، وأراد به انقطاع التكاليف، وطي الدنيا، وإقبال الآخرة.
(وانقضت الدهور): فرغت وانقطعت أيامها.
(وأزف الحشر والنشور): أزف الأمر إذا قرب وقته، الحشر هو: سوق الناس إلى المحشر، والنشور: إما نشر الصحف ، وإما نشر الأجسام بعد طيها وتفرقها.
(أخرجهم): العالم بأجزائهم بعد تفريقها ، والقادر على ردها بعد ذهابها.
(من ضرائح القبور): جمع ضريح، وهو: الشق على جهة الا ستواء، واللحد: ما كان مائلاً عن السمت، وفي الحديث: ((اللحد لنا، والضرح لغيرنا )) بالضاد المنقوطة.
(وأوكار الطيور): أماكنها.
(وأوجرة السباع): جمع وجار بالجيم وهو: مستقرها.
(ومطارح المهالك): المطارح: جمع مطرح، والمهالك: جمع مهلكة، والغرض من هذا هو أن الله تعالى يجمعهم على حالتهم الأولى وإن تفرقوا في هذه الجهات المتفرقة، وطرحوا في المهالك البعيدة.
(سراعاً): أي مسرعين، وانتصابه على الحال من الهاء في أخرجهم .
(إلى أمره): إلى امتثال أمره حيث أمرهم بالخروج.
(مهطعين): أهطع الرجل إذا مد عنقه وصوب رأسه، قال الشاعر:
تَعَبَّدَنِي نِمْرُ بن سَعْدٍ وقد أُرَى
ونِمْرُ بن سَعْدٍ لي مُطِيعٌ ومُهْطِعُ
(إلى معاده): المعاد هو: موضع العود، كالمدخل موضع الدخول، وأراد إلى معاد الله الذي جعله لهم.
(رعيلاً): جماعة بعد جماعة.
(صموتاً): لا ينطقون، كما قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ }[المرسلات:35].
(قياماً): على أرجلهم، لا يثنونها للاستراحة.
(صفوفاً): صفاً بعد صف.
(ينفذهم البصر): لتقارب أطرافهم وتلاصقهم.
(ويسمعهم الداعي): لكثرة تزاحمهم.
(عليهم لَبوس الاستكانة): اللَّبوس: ما يلبس نحو القميص والقَبَاء، قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ }[الأنبياء:80] أراد الدرع، والاستكانة هي: المسكنة، ولبسها من باب الا ستعارة، كما قال تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ }[النحل:112].
(وضرع الاستسلام والذلة): الضرع والضراعة: الذل، والاستسلام: الانقياد.
(قد ضلت الحيل): بطلت وانقطعت من كل وجه فلا سبيل إلى استعمالها.
(وانقطع الأمل): إما ما كانوا يأملونه في الدنيا ويسوفونه، وإما ما كانوا يرجونه في الآخرة من خلاف ما هم عليه الآن من تحقق الأمور ويقينها .
(وهوت الأفئدة كاظمة): أراد هوت أفئدتهم أي ذهبت عقولهم من شدة الفزع، وكثرة القلق، كما قال تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ }[إبراهيم:43] أي لا عقول فيها، والكاظم: المغتاظ، أي تعطلت مغتاظة من شدة الأمر وفزعه.
(وخشعت الأصوات مهينمة): الهينمة: الصوت الخفي، وأراد أن الأصوات ضعيفة لذهاب القوى وزوالها.
(وألجم العرق): يحتمل أن يكون أرادبه قد بلغ أفواههم حتى ألجمها، كما ورد في الحديث: ((إن منهم من يلجمه العرق ، ومنهم من يبلغ به إلى كعبه، ومنهم إلى أنصاف ساقيه)) ، ويحتمل أن يكون جعله كناية عن شدة الخوف وكثرة الا نزعاج حتى يصير ملجماً لا يتكلم.
(وعظم الشَّفَقُ): أشفق الرجل إشفاقاً إذا خاف، والاسم منه الشفق.
(وانهلت المدامع): انهلَّ الشحم إذا ذاب، وانهلَّت السحابة إذا سكبت ماؤها، وأراد سكبت الأعين دموعها.
(واستكت المسامع ): أي صُمَّت من عظم ما تسمعه، وضاقت عن قبوله، قال النابغة :
أتاني أبيتَ اللعنَ أنَّك لُمْتَنِي
وتلك التي تَسْتَكُّ منها المسامعُ
(لزأرة الداعي): شدة صوته، ومنه زأرة الأسد نهيمه، وأسد مزأرٌ إذا كان شديد الصيحة.
(إلى فصل الخطاب): قطع الشجار فيما بين الخلق، وإزالة الخصومة.
(ومقايضة الجزاء): قاضت السن تقيض قيضاً إذا سقطت، وأراد سقوط الثواب بالعقاب وسقوط العقاب بالثواب، وهذه إشارة إلى ما يقوله المتكلمون من الإحباط والتكفير الحاصلين في الثواب والعقاب، فإذا دلت الأدلة على بطلان اجتماعهما فلا بد فيهمامن التساقط لا ستحالة استحقاقهما مجتمعين.
(ونكال العقاب، ونوال الثواب): خير الثواب وشر العقاب، وأضاف النكال إلى العقاب لاختصاصه به، وأضاف النوال إلى الثواب لاختصاصه به.
(عباد): أي من وصفناه بهذه الصفات هم عباد ملك الله تعالى، يتصرف فيهم كيف شاء .
(مخلوقون اقتداراً): موجودون بقدرة الله تعالى ومضافون إلى إبداعه.
(ومربوبون اقتساراً): الرب هو: المالك، وأراد أنهم مملوكون قسراً بغير رضاهم لذلك.
(ومقبوضون احتضاراً): قبضهم بزوال نفوسهم بآفات كثيرة، والاحتضار بالضاد المنقوطة هو: الإصابة بالسوء، ومنه قوله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ }[المؤمنون:98] ومنه لبن محتضرإذا كان متغيراً بآفة طرت عليه.
(ومضمنون أجداثاً): الجدث: القبر، وتضمينه إياه إيداعه فيه، قال تعالى: {مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ }[يس:51].
(وكائنون رفاتاً): الرفات: المتحطم الهشيم، قال الله تعالى: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا }[الإسراء:49] وأراد أنهم صائرون في قبورهم لتطاول الأزمنة، وطول المكث على هذه الصفة.
(ومبعثون أفراداً): أراد أنهم يحشرون كل واحد منهم وحده، لا يجمعهم جامع، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }[عبس:37]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ }[الأنعام:94] والأفراد: جمع فرد.
(ومدينون جزاء): الدين: الجزاء والمكافأة، يقال: دانه يدينه أي جازاه، ويقال: كما تدين تدان، أي كما تجازي تجازى، ومنه قوله تعالى: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ }[الصافات:53] أي مجزيون محاسبون، وجزاء مفعول له أي مدينون من أجل الجزاء.
(ومميزون حساباً): التمييز: رفع اللبس عن الأشياء، وأراد أنهم في حسابهم متميزون، منهم من يحاسب ومنهم من لايحاسب، ومن حوسب فتارة يحاسب حساباً يسيراً، ومرة حساباً عسيراً، وانتصاب حساباً على التمييز بعد الفاعل.
(قد أمهلوا): المهل: المدة،أي جعلت لهم مدة.
(في طلب المخرج): عمَّا كلفوا.
(وهدوا): بُيِّن لهم بالأدلة الواضحة من جهة العقل والنقل.
(سبيل المنهج): طريق الحق الذي ينتهجه من كان على الطريقة المحمودة.
(وعُمِّروا): ومدَّ لهم في أعمارهم.
(مهل المستعتب): المستعتب: الطالب للرضى، وأراد أنه قد نفس لهم في الآجال التي تمكنهم بها طلب الرضى لله تعالى واستعتابه فيما كلفهم إياه.
(وكشف لهم سُدَفُ الرِّيبِ): السُّدْفة: تطلق على الضوء والظلام، وهي من الأضداد، وهي ها هنا للظلام، وأراد وأوضحت لهم بالأدلة الواضحة ظلم الشكوك في زمن التكليف، وقول من قال: إنهم إذا عاينوا يوم القيامة ترتفع شكوكهم، لا وجه له ها هنا؛ لأن كلامه إنما هو في حكاية حالهم في الدنيا.
(وخُلُّوا): تركوا، من قولهم: خليته ورأيه أي تركته.
(لمضمار الجياد): المضمار: مدة تضمير الفرس للمسابقة، ويقال للموضع أيضاً، وتضمير الفرس هو أن تعلف حتى تسمن، ثم ترد إلى القوت أربعين يوماً، وأراد أن الدنيا ومدة العمر هي كا لمضمار ليستفد منها للآ خرة بالأعمال الصالحة، والمتاجر الرابحة.
(ورَوِّيَة الارتياد): وفكرة الطلب، من قولهم: ارتاده إذا طلبه.
(وأناة المقتبس المرتاد): الأناة هي: التأني في الأمور، وأراد وتأني المستفيد الطالب لما يصلحه في كل أموره، فهم قد فعل لهم هذه الأفعال، وصرفوا على هذه التصاريف.
(في مدة الأجل): في زمان الآجال الموقتة لهم .
(ومضطرب المهل): المضطرب: موضع الا ضطراب وزمانه، وأراد ها هنا المكان، والمعنى أنهم قد مكثوا في زمان الأجل، وموضع الإمهال لبطلان حجتهم، وفساد عللهم:{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }[النساء:165].
(فيا): حرف للنداء ومناداه محذوف، تقديره: فياقوم اعجبوا.
(لها أمثالاً): واللام متعلقة باعجبوا، ونصب أمثالاً على التمييز أي من أمثال.
(صائبة): مطابقة للصواب، موافقة للحق.
(ومواعظ): جمع موعظة.
(شافية): فيها الشفاء لأمراض القلوب المعتلة بالإعراض عن الآخرة.
(لو صادفت): المصادفة: الملاقاة .
(قلوباً زاكية): طاهرة نقية عن الشبهات.
(وأسماعاً واعية): وعى الشيء إذا حفظه، وأراد حافظة لما يُلْقَى إليها ويُقَرُّ في أسماعها.
(وآراءً عازمة): وخواطر لها آراء قاطعة من غير تردد فيما تعزم عليه.
(وألباباً): اللب: العقل.
(حازمة): إما بالجيم من جزم الشيء إذا قطعه، وإما بالحاء أي أخذها بالحزم في جميع أحوالها، وكلاهما جيد ها هنا.
(فا تقوا الله): راقبوه.
(تقية من سمع فخشع): مراقبة من سمع هذه المواعظ والوعيدات، فخشع لها: ذل وخضع.
(واقترف): خالط المعصية واكتسبها غروراًمن نفسه وجهلاً.
(فاعترف): بكونها معصية، وفزع إلى التوبة والإنابة منها.
(ووجل): أشفق وخاف من الله تعالى.
(فعمل): الأعمال الصالحة ليأمن من خوف العقاب ووجله.
(وحاذر): الوقوع من المهلكات.
(فبادر): سارع في العمل بمايصلحه وينجيه.
(وأيقن): بالمجازاة وتحقق أمر الآخرة.
(فأحسن): الخلاص من أهوالها.
(وعُبِّر): في سلوك طريق الحق.
(فاعتبر): بمن سلف قبله من الأمم الماضية، والقرون الخالية.
(وحذّر): من العقاب.
(فازدجر): بهذه الوعيدات، وامتنع من مواقعة القبائح.
(وأجاب): دعاء الحق لما دعاه.
(فأناب): فرجع عن الغي والضلال.
(وراجع): نفسه ما كان منها من المواقعة للمعاصي، والإقدام عليها.
(فتاب): عنها ورجع إلى الصلاح في حاله.
(واقتدى): بأهل الصلاح ومتَّبعي الحق.
(فاحتذى): على مثالهم ونسج على منوالهم.
(وأري): الحق والبصيرة.
(فرأى): فعمل بمقتضى الرؤية في ذلك.
(فأسرع طالباً): فجد في الإسراع لما يطلبه.
(ونجا هارباً): ونجا بسبب هربه.
(فأفاد ذخيرة): إما استفاد ذخيرة يذخرها لنفسه من الأعمال الصالحة، وذخيرة منصوب على المفعولية، وإما أفاد ذخيرة أي حسنت ذخيرته ، وانتصاب ذخيرة على هذا يكون تمييزاً بعد الفاعل.
(وأطاب سريرة): أي طابت سريرته، وَصَفَتْ عما يكدرها ويشينها.
(وعمَّر معاداً): يرجع إليه في الآخرة بما كان منه من فعل الخيرات.
(واستظهر زاداً): أحرزه وجعله وراء ظهره.
(ليوم رحيله): انتقاله من الدنيا إلى الآخرة.
(ووجه سبيله): وجهة طريقه وسمتها.
(وحال حاجته): وفي الحال التي يكون محتاجاً فيها.
(وموطن فاقته): ومكان فقره إلى ذلك واحتياجه إليه.
(وقدم أمامه): فعل الخير.
(لدار مقامه ): لمنزل الإقامة الذي لا ظعون عنه ولا رحيل.
(فاتقوا الله عباد الله): فخافوا الله معاشر من اتصف بالعبودية.
(جهة ما خلقكم له): الجهة هي: الوجه، وأراد اتقوا الله، واطلبوا وجه ما خلقكم من أجله، وهو العبادة، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56] واجعلوها خالصة لوجهه من غير رياء فيها، ولا مشاركة لغيره.
(واحذروا منه كنه ما حذركم من نفسه): الكنه: نهاية الشيء، وأراد وخافوا من عقابه نهاية الأمر الذي خوفكم من جهة نفسه.
(واستحقوا منه): واطلبوا من عنده بفعل الطاعات.
(ما أعدَّ لكم): ما هيَّأ لكم من الكرامة، والدرجات العالية.
(للتنجز لصدق ميعاده): لأجل تصديق ما وعد به.
(والحذر من هول معاده): والزموا الحذر من فجائع ما أعدَّ لأعدائه في الآخرة.
(جعل لكم أسماعاً): حواس تسمعون بها المسموعات.
(لتعي ما عناها): لتحفظ ما أهمَّ بها، من عناه الأمر إذا همَّه، ووقع في نفسه.
(وأبصاراً): حواس تبصرون بها المبصرات.
(لتجلو عن عشاها): العشا: سوء البصر، وأراد لتكون متجلية عما يسوء بصرها، ومنه قولهم: ناقة عشواء إذا كانت سيئة البصر.
(وأشلاء): جمع شلو، وهو: العضو الواحد من أعضاء الإنسان، وفي الحديث: ((ائتني بشلوها الأيمن )).
(جامعة لأعصابها): العصب التي تربط بين المفاصل، وتلائم بينها، فالشلو مشتمل على العظام والأعصاب.
(ملائمة لأحنائها): الحنو بالكسر: واحد الأحناء، وهي الجوانب، وأراد أنها ملائمة جوانبها.
(في تركيب صورها، ومدد عمرها): أراد أنه جعل الأسماع والأبصار على هذه الكيفية في تركيب صورها العجيبة، وإمدادها بالأعمار الطويلة.
وقوله: في تركيب صورها، جار ومجرور في موضع الحال من الضمير في جعلها، والمعنى جعلها مستوية في صورها.
(بأبدان): الأشلاء موصولة بأبدان.
(قائمة بأرفاقها): الأرفاق هي: المنافع، ومنه قوله تعالى: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا }[الكهف:31]، و{وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا }[الكهف:29]، وأراد أنها مستقلة تجلب المنافع إلى أنفسها.
([وقلوب] رائدة لأرزاقها): الرائد هو: الذي يطلب الكَلأَ ، وفي المثل: الرائد لا يكذب أهله، وأراد أنها طالبة لأرزاقهامن الأماكن التي قدرها الله تعالى لها.
(في مجلّلات نعمه): إما بالجيم أي النعم السابغة العظيمة، من قولهم: مطر مجلل إذا طبق الأرض كلها، وإما بالحاء المهملة أي النعم التي أحلتهم في محالهم وأقرتهم في مواضعهم، أخذاً من قولهم: المحللات : القدر، والرحى، والدلو، والشفرة، فمن كانت عنده هذه الأشياء حل حيث شاء، وكلاهما جيد، وروايتنا فيه بالجيم.
(وموجبات مننه): بفتح الجيم أي التي أسقطها في أكفنا تفضلاً منه علينا.
(وحواجز عافيته): الحاجز هو: المانع، وهي جمع حاجزة، وأراد أنا نخوض في العافية التي تحجز عن الألم والفساد.
(وقدّر لكم أعماراً): إما من القدر، وإما من التقدير، والمعنى أنه قضى لكم أياماً تعمّرون فيها وأحكمها.
(سترها عنكم): حجب العلم بانقطاعها عنكم لما في ذلك من اللطف والحكمة التي استأثر بها.
(وخلَّف لكم عبراً): وجعل العبر خالفة بمن كان قبلكم تنظرون إليها، وتتعظون بها.
(من آثار الماضين قبلكم): مما أثر فيه من مضى من الأمم الماضية والقرون الخالية.
(من مستمتع خلاقهم): الخلاق هو: النصيب، قال الله تعالى: {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }[البقرة:102] أي نصيب، والمستمتع إما مصدر بمعنى الاستمتاع، وإما أن يكون اسماً للمتاع، وإما مو ضع الا ستمتاع ومكانه، فكلها محتملة ها هنا، والمعنى أنه جعل لكم العبر فيمن مضى في أرزاقهم وأماكنهم، وجميع أحوالهم.
(ومستفسح خناقهم): وزمان حياتهم، وعنى بالخناق الموت.
(أرهقتهم المنايا دون الآمال): أرهقه أي أغشاه، قال الله تعالى: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا [وَكُفْرًا] }[الكهف:80] أي يغشيهما، وأراد أن المنايا غشيتهم وركبتهم فحالت دون الآمال التي أمَّلوها، وقطعتهم عنها.
(وشذَّ بهم عنها تخرم الآجال): الشذوذ هو: البعد، وفي الحديث: ((من شذ شذ في النار )) أي من بعد عن الحق وزال عنه، وأراد أنه بعد بهم عن إحراز مآلهم عروض الآجال القاطعة عن ذلك، والحائلة دونه.
(لم يمهدوا في سلامة الأبدان): المهد هو: الإصلاح والتوطئة، وأراد أنهم لم يجتهدوا في إصلاح أديانهم واغتنام فعل الخيرات في زمان صحة الأبدان عن العوارض.
(ولم يعتبروا في أُنُف الأوان): أَنْفُ كل شيء: أوله، وجمعها أُنُفٌ، وأراد أنهم لم ينقدح لهم الاعتبار في أول زمانهم، وصدور أيامهم فيحصل الاتعاظ والزجر.
(فهل ينتظر أهل بضاضة الشباب): رجل بضٌّ إذا كان ممتلئاً ناعم الجسم، والبضاضة للشباب هي: رونقه وطلاوته، وأراد ما يترقب أهل البضاضة إلا عكسها.
(إلا حواني الهرم): رجل أحنى وامرأة حنواء إذا احدودب ظهرهما من الكبر؛ لأن صعدة الظهر تضعف فيكون سبباً لانعطاف الظهر.
(وأهل غضارة الصحة): الغضارة: طيب العيش، وأراد ما ينتظر أهل المعيشة الطيبة.
(إلا نوازل السقم): نوازل الأمور: شدائدها وعظائمها.
(وأهل مدة البقاء): ومن كان باقياً على وجه الأرض.
(إلا آونة الفناء): وقت الفناء وزمانه، والآونة جمع أوان كزمان وأزمنة، قال أبو زبُيد :
حَمَّال أَثْقَالِ أهلِ الودِّ آونةً
أُعْطِيْهُم الجهدَ مني بَلْه مَا أَسعُ
(مع قرب الزيال): زال عن مكانه يزول زوالاً وزيالاً إذا بَعُدَ عنه.
(وأزوف الانتقال): أزف الأمر إذا قرب ودنا، وأراد سرعة الزوال والنقلة إلى الآخرة.
(وعلز القلق): القلق هو: الفشل والا نزعاج، والعلز: خفة وضيق نفس تصيب الإنسان عند الأمراض والأوصاب، يقال: مات فلان علزاً إذا ضاقت نفسه وذهب نومه.
(وألم المضض): مضَّه الجرح وأمضَّه إذا أوجعه، حكاهما ثعلب.
قال الأصمعي: يقال: أمضني لا غير.
(وغَصص الجرض): الغَصص بفتح الفاء هو: همٌّ وغمٌّ، والجرض: الريق يغص به، يقال: جرض بريقه إذا ازدحم في حلقه ومنعه النفس.
(وتلفت الاستغاثة): أراد الالتفات؛ لأن الإنسان إذا أفزعه أمر ونزلت به فجيعة فإنه يلتفت يميناً وشمالاً لتفريج ما هو فيه وإساغة غصته.
(بنصرة الحفدة): بإغاثة الأعوان والخدم وهم الحفدة، وقيل: هم أولاد الأولاد جمع حافد، وهو قليل في جمع فاعل إذا كان اسماً، وهو كثير في الصفة منه كالكفرة والفجرة.
(والأقرباء): جمع قريب، ويحتمل أن يكون جمع أقرب على غير قياسه، وكأنه محمول على جمع أهوناء في جمع هين.
(والأعزة والقرباء !): الأعزة: جمع عزيز، قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً }[النمل:34] والقرباء: جمع قريب كيسراء في جمع يسير.
(فهل دفعت الأقارب): عنهم هذه النوازل.
(أو نفعت النواحب): الناحبة هي التي ترفع صوتها بالبكاء، وجمعها نواحب، وأراد هل عادت عليهم بواكيهم بشيء من النفع بحال.
(وقد غودر): أي ترك، والمغادرة: الترك.
(في محلة الأموات رهيناً): في منزل الأموات وحطتهم مرتهناً بذنوبه.
(وفي ضيق المضجع): وفي المكان الضيق لمن يضطجع فيه.
(وحيداً): منفرداً عن الأهلين والأولاد.
(قد هتكت الهوام جلدته): الهتك: الخرق، ومنه قولهم: هتك ستره إذا خرقه، والهوام: جمع هامة، وهو ما يخاف أذاه من الحر شات، وأراد قد خرقت الحرشات ما فوق اللحم من الجلدحتى وصلت إليه.
(وأبلت النواهك جِدَّتَهُ): نهكه المرض ونهكته الحمى إذا نقصت جسمه، وفي الحديث: ((انهكوا الأعقاب أو لتنهكنَّها النار )) أي بالغوا في غسلها، وأراد وأخلقت الأمور النواهك البالغة في القطع كل مبلغ ما كان جديداً منه.
(وعفت العواصف آثاره): عفا المنزل يعفو إذا اندرس، يتعدى ولا يتعدى.
قال:
أَهاجكَ رَبْعٌ دَارِسُ الرَّسْمِ باللِّوى
لأَ سْمَاء عَفَّى آَيَهُ الْمَوْرُ والقَطْرُ
والعواصف هي: الريح، وأراد ودرست الرياح ما كان من علاماته.
(ومحا الجديدان ): الليل والنهار.
(معالمه): ما يعلم من معاهده.
(وصارت الأجساد شحبة): أي متغيرة من تطاول عهدها في التراب، قال النمر بن تولب :
وفي جِسْمِ رَاعِيْهَا شُحُوبٌ كأنَّهُ
هُزالٌ وما مِنْ قِلَّةِ الطَّعمِ يُهْزَلُ
(بعد بضتها): رونقها وطلاوتها.
(والعظام نخرة): ضعيفة فاسدة.
(بعد قوتها): صلابتها لما أحييت به من الحياة.
(والأرواح مرتهنة): مجعولة رهائن.
(بثقل أعبائها): العبء: الحمل، وجمعه أعباء، قال زهير:
الحامل العبء الثقيل عن الـ
ـجاني بغير يدٍ ولا شُكْرٍ
وأراد أنها مرتهنة عنده بثقل أحمالها التي تحملته من الذنوب، والآصار في الدنيا.
(موقنة): متحققة بأن باعثها ومنشرها محيط عالم.
(بغيب أنبائها): بأخبارها المغيبة التي لا يعلمها سواه، فهي ميتة.
(لا تستزاد من صالح عملها): لا يطلب منها الزيادة على ما كان أسلفته في الدنيا من الأعمال الصالحة لاستحالة ذلك منها وبطلانه.
(ولا تستعتب): الاستعتاب: طلب الرضى لخالقها.
(من سيء زللها): من زلاتها التي قد أقدمت عليها في الدنيا.
(أو لستم أبناء القوم والآباء ): الا ستفهام ها هنا معناه التقرير، كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }[الشرح:1]، واللام في القوم والآباء هي لام العهد، وأراد ألستم أبناء القوم الذين وصفنا حالهم وآباءهم .
(وإخوانهم والأقرباء؟): وأهل الأخوة لهم، وأصحاب القرابة.
(تحتذون أمثلتهم): تقتدون الأمثلة التي وضعوها، والأمثلة جمع مثال.
(وتركبون قِدتهم): القدة بكسر القاف هي: الطريقة، وأراد تسيرون طرائقهم ، قال الله تعالى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا }[الجن:11] أي ذوي أهواء مختلفة.
(وتطَؤُون جادتهم): الجادة هي: أوسط الطريق، أراد وتسلكون طريقتهم.
(فالقلوب قاسية): معرضة لصلابتها فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
(عن حظها): عن أخذ حظها من المواعظ، والانتفاع بها.
(لا هية عن رشدها): إما ذات لهو، كقولهم: عيشة راضية، وإما أنها مشتغلة باللهو فاعلة له.
(سالكة في غير مضمارها): سائرة في غير طريقها التي أمرت باتباعها وسلوكها.
(كأن المعني سواها): مشبها حالها في إعراضها وتماديها في الغفلة عمَّا يراد بها بحال من تخاطبه وأنت تريد غيره.
(وكأن الرشد في إحراز دنياها): وكأن الرشد الذي أمرت باتباعه وإحرازه إنما هو في طلب الدنيا وادخارها لكثرة ملا حظتهم لها وإكبابهم على تحصيلها.
(واعلموا أن مجازكم): طريقكم التي تسلكونها.
(على الصراط): الذي هو أدقُ من الشعر، وأحدُّ من السيف.
(مزالق ): لا تثبت عليها الأقدام لملا ستها.
(دحضة): يَزِل عنها [من وطئها] ، من قولهم: دحض المذبوح برجله إذا ركض بها.
(وأهاويل): جمع أهوال، والهول هو: الأمر الشديد الذي يهول من رآه أي يفزعه.
(زلله): عظيمة، لا تستقر لها العقول لفخامتها.
(وتارات هائلة ): التارة: المرة الواحدة من الفجائع، قال : فالويل تاراً والثبور تاراً، من قولهم: عرق تيار إذا كان سريع الجرية بالدم، وأراد أنهم يلاقون فيه الأهوال مرة بعد أخرى.
(فاتقوا الله تقية ذي لب): فراقبوه مراقبة ذي عقل.
(شغل التفكر قلبه): فليس يلتفت إلى غيره، ولا يكون مصغياً إليه.
(وأنصب الخوف بدنه): النصب: التعب والمشقة، وأراد أنه أتعب نفسه بما كلَّفها في الأعمال الشاقة خوفاً من العقاب.
(وأسهر التهجد غرار نومه): التهجد هو: إزالة الهجود، كما قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً }[الإسراء:79] أي جانب به هجودك، وغرار السيف: شفرتاه، وكل شيء له حد فهو غرارة، وأراد وأسهر مجانبة النوم حد نومه وأذهبه.
(وأظمأ الرجاء هواجر يومه): الظمأ هو: العطش، والهاجرة هي: وسط النهار، وأراد أن الرجاء هو الذي أظمأه وهواجر يومه لما قطعها بالصوم والعبادة.
(وظلف الزهد شهواته): ظلف نفسه عن الشيء إذا منعها منه، قال:
لقد أُظْلِفُ النفس عن مَطْعَمٍ ... إذا ما تَهَافَتَ ذِبَّانُه
وهو بظاء بنقطة من أعلاها،وأراد أن الزهد في الدنيا ولذاتها هو الذي منعه من قضاء شهواته.
(وأوجف الذكر بلسانه): الوجيف: ضرب من السير للإبل والخيل، قال الله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ }[الحشر:6] وأراد وأسرع الذكر بلسانه كإسراع السير الوجيف.
(وقدَّم الخوف لأمانه): أراد أنه قدَّم الخوف في الدنيا فسارع في فعل الخيرات من أجل أمانه في الآخرة {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[يونس:62].
(وتنكَّب المخالج عن وضح السبيل): تنكَّبه إذا تجنبه، وخلجه أي جذبه، وأراد أنه تجنب ما يجذبه عن وضح السبيل أي محجته، والمخالج: جمع مخلج، والوضح: الضوء، والوضح: الدرهم، وجميعها دالة على الظهور.
(وسلك أقصد المسالك): قصد إذا عدل، وقصد إذا جار وهو من الأضداد، وأراد ها هنا وسار أعدل الطرق وأقومها.
(إلى النهج المطلوب): النهج والمنهاج كلها بمعنى واحد، وهي: الطريق الواضحة المقصودة، قال العبدي:
ولقد أضاء لك الطريقَ وأنهجت
سبلَ المسالك والهدى يعدي
أي تقوَّى وتعيَّن.
(ولم تفتله فاتلات الغرور): الغرور بالضم هو الاسم، والمصدر منه الاغترار من اغتر به اغتراراً، وأراد ما يغتر به من متاع الدنيا، والمعنى في هذا هو أن المهلكات بالغرور لم تفتله بغررها وهو بالفاء.
(ولم تعم عليه مشتبهات الأمور): أراد ولم تلتبس عليه مصادر دينه وموارده فيكون أعمى لأجل ورود الشبه عليه، وعنى بذلك نفوذ بصيرته وتحققه لما هو بصدده.
(ظافراً بفرجة البشرى): الفَرجة بالفتح هو: التفصي من الهمِّ وإزالة الغمِّ ، قال أمية بن الصلت :
ربما تكرهُ النفوسُ من الأمرِ
له فَرْجَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ
والفُرجة بالضم: فرجة الحائط، والأول هو مراده؛ لأن غرضه أنه قد ظفر بفرجة البشارة، هذا فيمن يرويها بالجيم، وأما من رواها بالحاء المهملة فأراد ظافراً بسرور البشارة بالخير من الله تعالى.
(وراحة النعماء ): ولذة النعيم في الدار الآخرة.
(في أنعم نومه): لأنه لا يخاف فيه تكدير السهر، ولا يلحقه تنغيص به.
(وآمن يومه): إذ لا يخاف فيه فزعاً كغيره من أيام الدنيا.
(قد عبر معبر العاجلة حميداً): قد خرج من الدنيا بالموت وآثاره محمودة بما أحرزه من الأعمال الصالحة.
(وقدّم زاد الآجلة سعيداً): وهيَّأ التقوى، وهي زاد الآخرة فسعد بذلك.
(وبادر من وجل): وعجل بأعماله من أجل خوفه ووجله، إما من العقاب، وإما من الموت عن أن يقطعه عن ذلك.
(وأكمش في مهل): الإكماش هو: الإسراع، وأراد وأسرع، إما في مهل عمره ومدته، وإما في تؤدة وتأن وتبصر وتحقق.
(ورغب في طلب): رغب في الشيء إذا أراده، قال النمر بن تولب:
وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فاصْبِرْ لَهَا
وإلى الذي يُعْطِي الرَّغَائبَ فارغبِ
وأراد أن الرغبة إذا حصلت مع الطلب كان أدعى ما يكون للفعل وأقرب شيء في حصوله ووجوده.
(وذهب عن هرب): الذهاب هو: المرور، وأراد أنه عجل في المرور هارباً؛ لأن الواحد إذا فر هارباً كان أعظم ما يكون للسرعة في الذهاب، وأراد في الأول المبالغة في طلب الجنة، وفي الثاني الفرار من النار.
(وراقب في يومه غده): أراد باليوم الدنيا، وأراد بالغد الآخرة، والمعنى فيه أنه رصد في الدنيا بالإعداد لفعل الخير للآخرة، وأراد بالترقب الخوف، أوأراد بالترقب الانتظاروكله محتمل.
ولله در كلام أمير المؤمنين، فما ألطف معانيه، وأكثر فوائده، وأغزر أسراره.
(ونظر قُدُماً أمامه): مضى قدماً أي لم يعرج على شيء، وقُدُماً بضمتين منصوب على الحالية أي متقدماً، قال الشاعر يصف امرأة فاجرة:
تمضي إذا زُجِرت عن سوءة قُدُماً
كأنَّها هَدَمٌ في الجفْر مِنْقَاضُ
والهدم: جانب البئر المنهدم، وأراد أنه مقبل على عمل الآخرة، غير معرج على غيرها.
(فكفى بالجنة): أراد أنها هي النهاية في الكفاية.
(ثواباً): على الأعمال وجزاء عليها.
(ونوالاً!): عطاءً من الله تعالى.
(وكفى بالنار): أي هي النهاية في الكفاية.
(عقاباً): على الأعمال السيئة وجزاء عليها.
(ووبالاً!): ثقلاً ووخامة، من قولهم: وبل المرتع وبلاً ووبالاً إذا كان وخيماً ثقيلاً.
(وكفى بالله): أي هو الكافي.
(منتقماً): لأعدائه أي معاقباً لهم.
(ونصيراً!): لمن كان من أوليائه في الدنيا بالغلبة والقهر، وفي الآخرة بالإثابة بالجنة.
(وكفى بالكتاب): القرآن.
(حجيجاً): قائماً بالحجة.
(وخصيماً!): مخاصماً لمن خالف أحكامه.
(أوصيكم عباد الله): من كان عبداً لله على الحقيقة، عاملاً بطاعته.
(بتقوى الله): باتقائه في جميع الأحوال كلها.
(الذي أعذر): قطع المعذرة فلا عذر لأحد في فعل طاعته، وسلوك طريقها.
(بما أنذر): بما قدم من النذر بالأنبياء والكتب.
(واحتج): وأقام الحجه.
(بما نهج): أوضح من المناهج والأعلام البينة.
(وحذركم عدوّاً): وقدم إليكم التحذير من عدو، وإنما نكَّره لمزيد المبالغة في عداوته، كأنه قال: أحذركم عدوّاً وأي عدو وعظم حاله:
(نفذ في الصدور خفياً ): نفذ إذا جاوز من قولهم: نفذ السهم من الرمية إذا جاوزها، وأراد أنه نفذ حتى بلغ الصدور، وانتصاب خفياً، إما علىالحال أي نفذ خافياً بمكره وخدعه، وإما على أنه صفة للمصدر أي نفذ نفوذاً خفياً.
(وبعث في الآذان نجياً): بعث أي أرسل، كقوله تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ }[الشعراء:36] وانتصاب نجياً، إما على المفعولية، ويكون نجياً، إما بمعنى النجوى، وإما بمعنى الجماعة، وأراد [أنه] أرسل نجواه بالخدع والمكر، وإما أرسل جماعة بعد جماعة للوسوسة، كما قال تعالى: {خَلَصُوا نَجِيًّاً }[يوسف:80] أي جماعات، ويحتمل أن يكون منصوباً على الحال أي بعث مناجياً ينفث في الصدور بوسواسه.
(فأضل): عن الطريق الواضحة.
(وأردى): من الردى وهو الهلاك لمن اتبعه.
(ووعد): الأكاذيب وزخرفها.
(ومنَّى): الأماني الباطلة.
(وزيَّن سيئات الجرائم): حسَّنها لمن فعلها، وسهَّل الأمر فيها لمن ارتكبها، والسيئات: جمع سيئة، والجرائم: جمع جريمة وهي: الأفعال القبيحة.
(وهوّن موبقات العظائم): وبق يبق وبوقاً، إذا هلك قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا }[الكهف:52] والموبقة: الفعلة المهلكة وجمعها موبقات، وأراد مهلكات الأفعال العظائم.
(حتى إذا استدرج قرينته): الاستدراج هو: الاستدناء باللطف والتقريب، والقرينة هي: النفس، وأضافها إليه لما له فيها من الملابسة بانقيادها له، وإسراعها إلى مراضيه.
(واستغلق رهينته): غلق الرهن غلقاً إذا أخذه المرتهن لا متناع الراهن عن افتكاكه، وفي الحديث: ((لا يغلق الرهن )) قال زهير:
وفارقتك بِرَهْنٍ لا فكاك له
يوم الوداع فأمسى الرهنُ قد غُلِقَا
أراد أن الشيطان إذا استحكم أغواه وظفر بما رجا منهم.
(أنكر مازين): حجد ما فعل من التزيين من الأفعال القبيحة.
(واستعظم ما هوَّن): من الكفر بالله والتكذيب برسله.
(وحذّر ما أمَّن): وخوّف ما كان قد أمنّهم منه وهو العقاب، وذلك إنما يكون منه إما في القيامة، وإما بعد الفراغ من المعصية، كما حكى الله تعالى عنه في قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ...}إلى آخر الآية[إبراهيم:22].
(أم هذا الإنسان): أم هذه هي المنقطعة، وهي بمعنى بل، وأراد بل هذا، وهو إعراض عن الكلام الأول والتفات إلى كلام آخر، ويرد في الاستفهام كقولك: أزيد عندك أم بكر في الدار، وفي الخبر كقوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ }[الزخرف:52] وكما وقعت في كلامه هذا، والمعنى بل انظروا في أعجب من هذا كله وهو خلق الإ نسان فإن فيه من لطائف الحكمة وعجائب الصنعة، ما تقصر [عن] حصر أسراره، وإدراك معانيه القوى البشرية، وعنى بالإنسان هو هذا المدرك علىهذه الصفة الصورة المخصوصة المعبر عنه بأنا وأنت، وهو خلاف لما يزعمه الفلاسفة من أن الإنسان هو أمر آخر مغاير لهذه البنية ليس جسماً ولا عرضاً، وقد ذكرنا كلامهم في الكتب العقلية ورددنا عليهم هذه المقالة، ونصرنا ما عوّل عليه علماء الدين من أهل الإسلام والحمدلله.
(الذي أنشأه): ابتدأه واخترعه.
(في ظلمات الأرحام): أراد بذلك خلق بني آدم، وإنما لم يذكر ابتداء خلقه آدم [ عليه السلام] ؛ لأنه قد ذكره في خطبة قبل هذه قد مرت وشرحنا كلامه هناك، فلهذا لم نكرره وشرع في وصف خلقه الآدميين والظلمات هي ثلاث كما قال تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ }[الزمر:6]: ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة، وهي التي تكون فيها الأجنة.
(وشغف الأستار): الشغف: جمع شغاف وهي: حجاب القلب، وأراد والشغف الساترة له.
(نطفة): منياً مصبوباً في الرحم.
(دهاقاً): دهقت الماء وأدهقته إذا أفر غته بشدة وعنف، وأراد بذلك سرعة انصباب الماء في الرحم، كما قال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ }[الطارق:6] يشير إلى ذلك.
(وعلقة): ثم كان بعد النطفة علقة نحيفة صلبة ، وهو الطور الثاني من أطوار الخلقة.
(محاقاً): ممحقة متلاشية، أخذاً لها من محاق الهلال، قال أبو عمرو بن العلاء: الامحاق أن يهلك الشيء كمحاق الهلال ، والرواية فيه بضم الميم وكسرها .
(وجنيناً): حاصلاً في البطن ومستتراً به.
(وراضعاً): ومتلقماً لثدي أمه يغتذي به.
(ووليداً): مولوداً على وجه الأرض.
(ويافعاً): مرتفعاً عن سن الطفولية، من قولهم: غلام يافع ويفعة إذا كان مرتفعاً.
سؤال؛ أراه ها هنالم يذكر أطوار الخلقة الإنسانية كما ذكرها الله تعالى في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً...}[المؤمنون:12-14]إلى آخر الأطوار التي ذكرها، واقتصر ها هنا على ذكر بعضها؟
وجوابه؛ هو أنه عليه السلام اقتصر على ذكر طرفين منها واضحين، فيهما دلالة على كمال القدرة وعجيب الحكمة، فذكر:
الطور الأول: وهو كونه نطفة وعلقة، ثم الطور الثاني : وهو كونه غلاماً يَفَعَة ، وفيهما تنبيه على ما بينهما من الوسائط، كما قال تعالى في آية أخرى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ }[الأنعام:99] فذكر طرفين وأهمل ذكر ما بينهما من هذه الوسائط منبهاً عليها بذلك.
(ثم منحه): أعطاه على سبيل الهبة.
(قلباً حافظاً): يحفظ ما أودع فيه من العلوم الحكمية والأنظار الفكرية.
(ولساناً لافظاً ): ولحمة يتكلم بها، وجعل فيها ثلاثين مخرجاً لهذه الأحرف ينفث السحر بها، ويلتقط الدر من أجلها، ويصوغ بها ديباج الكلام وحلله.
(وبصراً لاحظاً): اللحظ هو: حركة العين، يقال: لحظه بعينه إذا صوَّب حدقته نحوه.
(ليفهم معتبراً): ليكون فاهماً على جهة الاعتبار والتذكر لمن سلف قبله.
(ويقصِّر مزدجراً): وينقِّص عن التسوفات التي تدعو إليها النفس على جهة الانكفاف، والازدجار بالوعيدات الشرعية، فقد ركَّبه الله تعالى على هذه الخلقة، وأنشأه في هذه الأطوارليكون مزدجراً معتبراً.
(حتى إذا أقام اعتداله): سوَّى تركيبه وعدله، كما قال تعالى: {فَعَدَّلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ }[الإنفطار:7-8].
(واستوى مثاله): أي شبحه وتمثلت صورته، كما قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[التين:4].
(نفر مستكبراً): أدبر على جهة الاستكبار طالباً للتكبر والعلو.
(وخبط سادراً): السادر هو: الذي لايبالي بما صنع، وأراد أنه مشى من غير التفات متبختراً مختالاً.
(ماتحاً في غرب هواه): الماتح هو: الذي ينزع الماء، والغرب هو: الدلو العظيمة، وأراد أنه منكب على متابعة هواه ومنقاداً له.
(كادحاً سعياً لدنياه): الكدح هو: العمل بجد ومشقة على النفس، وأراد أنه يكدح طلباً للدنيا من غير احتفال بالآخرة، وانتصاب سعياً إما مفعول له أي من أجل السعي للدنيا، وإما على الحال أي ساعياً.
(في لذات طربه): أي أنه يدأب في تحصيل شهواته وإنفاذ أغراضه وحاجاته.
(وبدوات أربه): وما يبدو من أوطاره ومراداته.
(ثم لا يحتسب رزية): ثم مع ذلك لايحتفل بما يرزأه من فوات دينه، ولا يلتفت إلى وقوع الرزايا التي تفزعه لانهماكه في لذاته.
(ولا يخشع تقية): ولا يلين قلبه إتقاء لله تعالى وخوفاً منه، فبعد هذه الحالات وإعراضه عن جميع ما يلحقه من التبعات.
(فمات في فتنته غريراً): في هذه الحالات التي افتتن بها غافلاً مغتراً عما لا يعذر في الغفلة عنه.
(وعاش في هفوته يسيراً): وأقام في الحياة على هذه السقطة التي غبن فيها أياماً قليلاً ومدة يسيرة.
(لم يُفِد عوضاً): لم يحرز عوض ما فات عنه من أعمال الآخرة بما كان منه من تعجيل طيبات الدنيا.
(ولم يقض مفترضاً): ولم يؤدّ ما افترض الله تعالى من هذه الواجبات.
(دهمته فجَعَاتُ المنية): فاجأته فجائع الموت، وهو ما يحسُّه الإنسان عند تحققه بخروج نفسه، وفجعات: جمع فجعة.
(في غبَّر جماحه): الغبَّر هو: بقايا الشيء، يقال: غبَّر الحيض وغبِّر المرض أي بقاياه، وأراد أنها أتته الفجائع بالموت وهو على بقية من جماحه، وجمح الفرس جموحاً إذا غلب صاحبه على رأسه، والجموح من الرجال هو: الذي يركب هواه فلا يمكن رده عنه، قال الشاعر:
خَلَعْتُ عِذاري جامحاً ما يردّني
عن البيضِ أمثال الدُّمى زَجْرُ زَاجِرِ
(وسَنَنِ مراحه): المرح هو: شدة الفرح والنشاط، والسنن هو: الوجه والطريقة، يقال: امض على سَنَنَكِ أي على وجهك وطريقتك التي أنت عليها، وأراد على طريقته في الفرح والنشاط.
(فظل سادراً): أي أقام على ما هوعليه من غير التفات ولامبالاة.
(وبات ساهراً في غمرات الآلام): قد زال نومه مما اعتراه مما يغمره من شدة ما يلم به من الأوجاع والأوصاب.
(وطوارق الأوجاع والأسقام): الطوراق هي: التي تطرق الإنسان أي تأتيه، أخذاً من قولهم: أتانا طروقاً إذا أتى بالليل.
وفي الحديث: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي الرجل أهله طرقاً وطروقاً )) أي بالليل من غير شعوربه، وأراد مايأتي من حوادث الأمراض والبلايا.
(بين أخ شقيق): إنما قيل للأخ: شقيق لأنه هو وأخوه اشتقا من أصل واحد، وهو الأب والأم.
(ووالد وولد شفيق): مشفق عليه من الموت أن يناله.
(وداعية بالويل جزعاً): تقول: ياويلها! ياويلها! أي احضر ياويل فهذا أوانك، كل ذلك من أجل الجزع مما أصابها من ذلك.
(ولا دمة للصدر قلقاً): اللدم هو: ضرب الوجه بالكف، قلقاً أي فشلاً مما يفزع من المصيبة، وقد يكون للصدر وهو أهون، وفي حديث عائشة: فمن حداثة سني أني تركت رسول الله مسجى، وطفقت ألتدم مع النساء .
(والمرء في سكرة ملهية ): أراد الإنسان الذي وصف حاله في سكرة الموت التي ألهته عن كل شيء أراده.
(وغمرة كارثة): الغمرة: ما يغمر الفؤاد من شدة الوجع، والكارثة: الشديدة.
(وأنة موجعة): الأنة: الواحدة من الأنين، الموجعة: ذات الوجع الدالة عليه.
(وجذبة مكربة): من جذبه إذا أخذه بعنف وشدة، مكربة أي مانعة للنَفَس عن أن يجري، أخذاً من قولهم: كربت الدلو، إذا ضيقت رأسها بالحبل وأوثقتها به.
(وسوقة متعبة): أي مؤلمة، مثل بحال من يسوقه من خلفه سوقاً عنيفاً بشدة وخشونة.
(ثم أدرج في أكفانه): اشتقاقاً من الدّرَج الذي يكتب فيه؛ لأنه يطوى في أكفانه ويضم عليه كالكتاب إذا طوي، وأدرج بعضه في بعض.
(مبلساً): أي ساكتاً لاينطق قد ختم علىفيْه، من قولهم: أبلس الرجل إذا سكت ولم ينطق.
(وجُذِبَ منقاداً سلساً): أخذ بزمامه سلس القياد ، لا يعاصي من يقوده ولا يخالفه.
(ثم ألقي على الأعواد): وضع على السرير منعوشاً عليه.
(رجيع وصب): أي ينقل من وطنه الذي كان فيه في الدنيا إلى وصب آخر، والرجيع من الدواب: ما يرجع به من سفر إلى سفر آخر وهو الكالُّ .
(ونضو سقم): النضو هو: البعير المهزول، وأراد أنه أنضاه السقم أي أتعبه.
(تحمله حفدة الولدان): الحفدة: جمع حافد وهم أولاد الأولاد.
(وحشدة الإخوان): جماعة المحبين له والصادقين في مودته.
(إلى دار غربته): إلى موضع فظيع يكون فيه غريباً لانقطاع الأهل عنه، أو لأنه لم يسكنها قط مرة أخرى غير هذه.
(ومنقطع زورته ): أي أن زيارته منقطعة فلا يزار كما يزار الأحياء بالبشاشة والمودة.
(حتى إذا انصرف المشيع): الذي يواليه ويصاحبه، من قولهم: شايعه على أمره إذا والاه عليه.
(ورجع المتفجع): عليه من دفنه.
(أقعد في حفرته): في موضع قبره الذي حفر من أجله.
(نجياً): إما ذو نجوى، وإما مناجياً، وانتصابه على الحال من الضمير في أقعد.
(لبهتة السؤال): بهته بهتاً أي أخذه بغتة، قال الله تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ }[الأنبياء:40]، قال الشاعر:
وما هو إلا أن أُرَاها فجاءة
فأبهتُ حتى لا أكادُ أجيبُ
وأراد ما يلحقه عند السؤال من الدهشة والتحير وضيق المسلك.
(وعثرة الا متحان): وما يكون من العثار عند الامتحان بالمسآلة، ولهذا يقال: عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، لما يلحق ذلك من ضيق المجال، وارتعاد الفرائص.
(وأعظم ما هنالك بلية): أي وأعظم مماذكرناه ووصفناه من البلايا والفجائع.
(نزل الحميم): النزل: ما يهيأ للضيف عند قدومه من الطعام، واستعاره هاهنا لما يكون من تقديم العقاب .
(وتصلية الجحيم): صليت الرجل وأصليته ناراً إذا أدخلته فيها، وتصلية مصدر صلى يصليه مثل عرى يعريه، وأراد إدخاله الجحيم.
(وفورات السعير ): فار القدر يفور فوراً إذا غلى واشتد غليانه، وأراد نزواتها عند حميها ووقودها.
(لا فترة مريحة): لا يفتر عليهم العذاب فيستريحوا أوقات الفترة، كما قال تعالى: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }[الزخرف:75].
(ولا دعة مزيحة): الدعة هي: السكون في الراحة، يقال: هو في دعة وخفض عيش، مزيحة بالزاي أي تزيح [عنهم] العذاب وتزيله عنهم.
(ولا قوة حاجزة): ولا قوة تحجزهم عمَّا هم فيه من العذاب وانتصار عنه .
(ولا موتة ناجزة): نجز الشيء إذا فرغ وتقضى، ومنه إنجاز الوعد وهو حصول وقته، وأراد ولا موتة مفروغ عنها.
(ولا سِنَة مسلَّية): السِنْةُ هي: النوم، وأراد ولانوم هناك يسلي عنهم ما هم فيه من مقاساة العذاب ومعاناته.
(بين أطوار الموتات): الطور بعد الطور أي حالة بعد حالة، كما قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً }[نوح:14] أي قرن بعد قرن في حالة بعد حالة، ووقت بعد وقت.
(وعذاب الساعات): أي ما تنقضي ساعة إلا ويتلوها ساعة أخرى، ولا يزول وقت إلا ويتبعه وقت آخر، إلى غير غاية من الأبد وعذاب السرمد.
(إنا لله عائذون): عذت بفلان واستعذت به، إذالجأت إليه واستجرت به.
سوأل؛ الاستعاذة معداة بالباء، كقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ }[الأعراف:200] و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }[الفلق:1]، و{بِرَبِّ النَّاسِ }[الناس:1] وغير ذلك فأراه ها هنا عداه باللام، وما وجه ذلك؟
وجوابه؛ هو أن اللام ليست في لله متعلقة بعائذون، وإنما متعلقها محذوف تقديره: إنا مملوكون أو عبيد لله وعائذون به من عذابه، ويكون عائذون محمولاً على مستسلمين لله منقادين لحكمه، والأول أولى، كما حمل قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة:7] [على] مننت فعدي بحرف الجر.
(عباد الله): الموصوفين بالعبودية لله تعالى.
([أين] الذين عُمِّروا): في الدنيا.
(فنعموا): في لذاتها ونعيمها.
(وعُلِّمُوا): ما علمهم الله من الأحكام والشرائع.
(ففهموا): فتحققوا عن الله ما عرفهم به.
(وأنظروا): من النظرة، وهي: امتداد الوقت وفسحته.
(فلهوا): غفلوا عمَّا يراد منهم من أجل ما مدَّ لهم في الآجال.
(وسُلِّمُوا): عن الأوصاب والأسقام، وضروب النقمات التي كانت نازلة على الأمم الماضية، والقرون الخالية قبلهم.
(فنسوا).
(أُمهلوا طويلاً): بما فسح لهم في الآجال ومُدَّ لهم في الأعمار.
(ومُنحوا جميلاً): أعطوا شيئاً جميلاً من ضروب النعم وعظائمها.
(وحُذِّورا): خوفوا بما قرر في عقولهم، وبما وصلهم من الوعيدات الشرعية.
(أليماً): وهو العذاب المؤلم الموجع البالغ كل غاية في الألم.
(وَوُعِدُوا): بما قرر في عقولهم وبما وصل إليهم من المواعيد الشرعية.
(جسيماً!): أي بالغاً في الفخامة كل مبلغ.
(احذروا الذنوب المورطة): الورطة هي: الهلاك، وأصل الورطة هي: الأرض المطينة التي لا طريق بها ، وأذنب الرجل أي أساء في فعله، وأراد أخوفكم من الذنوب المهلكة لصاحبها.
(والعيوب المسخطة): العيب والعيبة والعاب والمعابة كلها بمعنى واحد، وهي: الرداءة والفساد، قال الشاعر:
أنا الرجلُ الذي قد عبتُمُوه
وما فيه لعيَّاب مَعَابُ
والسخط خلاف الرضى، وأراد إياكم والقبائح التي تسخط الله وتنزل بكم عذابه.
(يا أولي الأبصار والأسماع): أراد يا أهل الحواس السليمة والعقول الصحيحة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا }[الأحقاف:26] على جهة الاحتجاج عليهم بذلك وقطع معذرتهم.
(والعافية والمتاع): أراد يا أصحاب المعافاة من العلل والأوجاع المانعة من الطاعات، والمتاع: كلما تمتعت به في الدنيا، قال الشاعر:
تَمَتَّعْ يا مشعَّث إنّ شيئاً ... سَبقْتَ به المماتَ هو المتاعُ
وكما قال تعالى: {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا }[القصص:60].
(هل من مناص أو خلاص): النوص هو: التأخر، وقوله: {وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ }[ص:3] أي لاوقت للتأخر، ولا خلاص عن ما كان في الآخرة من الأمور المستحقة.
(أو معاذ أوملاذ): يعاذ أو يلاذ به من شدة تلك الأهوال.
(أو فرار أو محار!): أو شيء يستفرُّ فيه، والمحار: ما يرجع إليه، من حار إذا رجع، كما قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ }[الإنشقاق:14] أي يرجع.
(أم لا؟): أم هذه هي المنقطعة، وهي بمعنى بل، والمعنى بل لاشيء من هذه الأمور أصلاً.
(فأنى تؤفكون): الإفك هو: الكذب، قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }[الجاثية:7] والإفك: الصرف عن الشيء، قال الله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ }[الذاريات:9] وأراد من أي جهة يأتيكم الصرف عن سماع هذه المواعظ والانتفاع بها.
(أم أين تصرفون!): بل من أي مكان حصل لكم الميل عنها والإعراض.
(أم بماذا تغترون!): بل أي شيء يغركم في هذه الدنيا، وإدراك حقيقتها ومتاعها القليل المنقطع.
(وإنما حظ أحد كم من الأرض): نصيبه.
(ذات الطول والعرض): على سعة طولها وعرضها.
(قيدُ قَدِّه): القدُّ: القامة، وأراد قدر قامته وشكله.
(متعفراً على خده!): العفر هو: التراب، وأراد معفراً بالتراب واقعاً عليه على خده.
(الآن عباد الله): الآن عبارة عن الوقت الحاضر، وأراد اتعظوا الآن فإن ما مضى قد فات، لا رجوع له بحال.
(والخناق مهمل ): أراد وحبل الخناق وهو الموت مهمل منبوذ لما كان في الآجال بقية وامتداد.
(والروح مرسل): عن القبض، يأمر الملائكة بقبضه .
(في فينة الإرشاد): الفينة: الحين، وفي الحديث: ((لايزال المؤمن يواقع الذنب الفينة بعد الفينة )) وأراد في وقت إصلاح الأحوال بالإرشاد لها إلى نجاتها.
(وراحة الأجساد ): أراد وقت حياتها وتصرفها على الدنيا.
(ومهل البقية): أمهله إذا أبقاه مدة، وأراد في مدة الإبقاء وهي: زمان الحياة.
(وأَنْفِ المشيَّة): أنف كل شيء: أوله، وأراد ابتداء الإرادة بفعل الخيرات.
(وإنظار التوبة): وكون التوبة ينتظر وقوعها من جهتكم ويؤ مل وقوعها منكم.
(وانفساح الجوبة ): الجوبة بالجيم هي: المكان الواسع، وأراد وكون المكان فسيحاً، كنى به عن اتساع الأمر في ذلك وسهولته.
(قبل الضنك): صعوبة خروج النفس.
(والمضيق): أي الكون في القبر الضيق.
(والروع): الفزع من أهوال يوم القيامة.
(والزهوق): بالزاي أي خروج النفس.
(وقبل قدوم الغائب المنتظر): وهو الموت.
(وأخذة العزيز المقتدر): أي إهلاكه وتدميره، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود:102].
وفي الخبر أنه عليه السلام لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، وبكت العيون، ورجفت القلوب.
وأقول: إن هذه الخطبة مع اشتمالها على بديع المواعظ، ونفيس الزواجر، وقوارع الوعيد، فإنها مشتملة علىأفانين من علوم البلاغة، بحيث لا غاية إلا وقد بلغتها، ولا نهاية إلا وقد وصلتها.
(81) ومن كلام له عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص
(عجباً لابن النابغة!): انتصاب عجباً على المصدرية، وهو من المصادر التي لا تظهر معها أفعالها، فلا يقال: عجبت عجباً، كما لايقال: حمدت حمداً، وشكرت شكراً، وإنما تذكر المصادر مجردة؛ لأنها قد صارت عوضاً عن أفعالها، وأراد من أجل ابن النابغة يُقْضَى العجب، والنابغة اسم لمن لم يكن له إرب قد تمَّ في الشعر، ثم قال بعد ذلك وأجاد في الشعركالذبياني والجعدي، وإنما قيل لأم عمرو: نابغة ؛ لأنهالم تكن لرشده.
(يزعم لأهل الشام): يقول لهم ويناطقهم بذلك.
(أن فيَّ دعابة): مزاح ومجون.
(وأني امرؤ تَلعابة): التَّلعابة بفتح التاء هو: الكثير اللعب، وكسرها لحن.
(أعافس وأمارس): المعافسة والممارسة هي: المعالجة، وفي الحديث: ((وعافسنا النساء )) ، وهذا منه تعجب لمقالته وإنكار لها.
(لقد قال باطلاً): أي قولاً باطلاً.
(ونطق آثماً): أي نطقاً إثماً، أو ذا إثم فيما قاله، واللام في لقد هي المحققة للجملة بعدها.
(أما وشر القول الكذب): كما قال صلى الله عليه وآله: ((شر القول الكذب )).
(إنه ليقول فَيَكْذَبُ ): فيما حدث به وقاله، وفي الحديث: ((من أراد أن يلعن نفسه فليكذب )) .
(وَيَعِدُ فَيَخْلَفُ): فيما وعد به، وفي الحديث: ((من علامة المنافق ثلاث وعدَّ منها: الخلف في الوعد )) .
(ويسأل فَيُلْحَفُ): يكثر السؤال، وفي الحديث: ((المسألة كدوح وخدوش )) .
(ويسأل فَيَبْخَلُ): بما عنده وهو قادر عليه، وفي الحديث: ((خصلتان لا تجتمعان في مؤمن : البخل، وسوء الخلق)) .
(ويخون العهد): إذا عوهد، وفي الحد يث: ((من علامات المنافق ثلاث ، وعدَّ من جملتها: الخيانة في العهد)).
(ويقطع الإلَّ): الإلُّ: القرابة، وأراد ويقطع الأرحام والأقارب عن الصلة، قال حسان:
[لعمرك] إنّ إلَّك من قريشٍ ... كإلِّ السَّقْبِ من رَأْلِ النَّعَامِ
فهذه أسوأ الخصال موجودة فيه.
(فإذا كان عند الحرب): أراد إذا التقت الصفوف.
(فأي زاجر): لغيره عن التأخر.
(وأي آمر): لغيره بالتقدم.
(هو): أراد عمراً.
(ما لم تأخذ السيوف مآخذها): أراد الإعلام بحاله في الجبن، وهو أنه شجاع في حال المسالمة والتباعد عن الحرب.
(فإذا كان ذلك): أراد فإذا التحمت الحرب وتقارب الأبطال، ودنا كل واحد من صاحبه، واتصلت السيوف.
(كان أكبر مكيدته): كان غاية أمره وقصارى حاله في خدعة الحرب.
(أن يمنح القوم سُبَّتَهُ): السُّبّةُ هي: الحالة في الفعل كالطُّعمة والرّكبة، وأراد أن غايته في ذلك سلُّ لسانه بالسب والأذية.
ويحكى أن أمير المؤمنين دعا إلى البراز في صفين فبرز إليه عمرو بن العاص فتجاولا قليلاً، فلما تأمله عمرو أنه أمير المؤمنين وأنه لا طاقة له به، فحمل عليه أمير المؤمنين ليقتله فألقى نفسه عن فرسه واقتحم عنها، وكشف عورته مواجهاً بها أمير المؤمنين، فلما رآها عليه السلام غض بصره، وانصرف عمرو مكشوف العورة، ونجا بتلك المكيدة ، ولهذا قيل فيه:
ولا خيرَ في دفع الردى بمذلةٍ
كمَا ردَّها يوماً بِسَوأته عمرو
(أما والله إنه ليمنعني عن اللعب ذكر الموت): لأن اللعب إنما هو نشاط وفرح، وذكر الموت يُكدِّرالنفس، ويضجِّر الخاطر فلا نشاط معه للعب ولا لهو.
(وإنه ليمنعه من [قول] الحق نسيان الآخرة): أراد من قبول الحق نسيان الآخرة [أي] إعراضه عن الآخرة، واطراحها عن قلبه.
(إنه لم يبايع معاوية ): أي لم يكن منقاداً لمعاوية من أجل الدين، وإنما كان لغرض الحطام.
(حتى أتاه أتيَّة ): الأتية: العطية من المال.
(ورضخ له على ترك الدين رضيخة): الرضيخة: المال القليل، وإنما قال: على ترك الدين أي على الإعانة على البغي، والمخالفة التي فيها ترك الدين وإهماله.
(82) ومن خطبة له عليه السلام
(وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأول لا شيء قبله): أراد أنه المختص بالأولية والقدم والأزلية، ومن كان هذه حاله فلا شيء غيره يوصف بالقبلية؛ لأن كل ما سواه فهو محدث، فيستحيل أن يكون سابقاً له.
(والآخر لا غاية له): لأن بقاءه إذا كان حاصلاً لذاته، استحال أن يكون وجوده منقطعاً، ولهذا كان لا آخر لوجوده ولا غاية ولا انقطاع له.
(لا تقع الأوهام له على صفة): أراد أن الظنون لا تثبت واحدة من صفاته، من قولهم: وقعت على الأرض أي ثبت عليها.
(ولا تعْقدُ العقول منه على كيفية): أراد بعقد العقول استيلاءها عليه، من قولهم: عقدت على كذا إذا كنت مستولياً عليه، والمعنىأن العقول لا تحيط ولا تستولي بكيفية من كيفياته في كل أحواله.
(ولا تناله التجزئة والتبعيض): أي لا تجري عليه، ولا تتصل به الجزئية والبعضية، إذ لو كان ذا أجزاء لكان مؤتلفاً منها، ولو كان مؤتلفاً لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان محدثاً، وتقرر بالبرهان العقلي أزليته، وأنه لا بداية لوجوده.
(ولا تحيط به الأبصار): برؤيتها؛ لاستحالة كونه مدركاً.
(والقلوب): بمعرفتها؛ لأن حقيقة ذاته غير معلومة للبشر.
(اتعظوا عباد الله بالعبر): أراد انتفعوا بالمواعظ، وانظروا في العبر السالفة قبلكم.
(النوافع): لمن اعتبربها بإحراز الثواب والوقاية من العقاب.
(واعتبروا بالآلاء السواطع): الآلاء هي: النعم، وأراد [أن] في تكرار هذه النعم وتلاحقها عليكم أعظم الاعتبار، فإن من حق من هذه حاله في الإنعام بأصول النعم وفروعها، أن يُشْكَرَ فلا يُكْفَرُ وأن يُعْرَفَ فلا يُجْحَدُ، وأن يُقَامَ له بالطاعات ، وإنما قال: السواطع، لما فيها من الظهور والوضوح، من قولهم: سطع الفجر إذا ظهر وارتفع.
(وازدجروا بالنذر البوالغ): زجره إذا كفه ومنعه، وأراد امتنعوا عن المناهي كلها، بما أتاكم من النذر من الكتب والرسل البوالغ، إما الواصلة إليكم من جهة الله، وإما التي بلغت كل غاية في الإنذار.
(وانتفعوا بالذكر والمواعظ،): وحثوا نفوسكم على إحراز النفع الأخروي بالعمل على الذكر والمواعظ.
(فكأن قد علقتكم مخالب المنية): فكأن هذه لما خففت بطل عملها، ووليتها الجملة الفعلية، وأراد فعن قريب وقد أنشبت المنية فيكم مخالبها.
(وانقطعت عنكم علائق الأمنية): وزال عنكم ما كنتم تريدونه من الأماني، واحدتها أمنية.
(ودهمتكم): غشيتكم، من قولهم: دهمه الأمر، إذا غشيه وركبه.
(مفظعات الأمور): فظع الأمر إذا صعب واشتد، وأراد الأمور الفظيعة.
(والسياقة إلى الورد المورود): أشار إلى قوله تعالى: {بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ }[هود:98] والورد هو: المورود، والمورود: الذي يردونه، كأنه قال: بئس المورود موردهم الذي وردوه؛ لأن المورد إنما يراد لتسكين العطش، وتبريد الأكباد، والنار ضد ذلك.
({وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ })[ق:21]: انظر إلى موقع هذه الآية ما أعجبه ثم مع مالها من الموقع الحسن، فهي متميزة عن جميع ألفاظ الخطبة تمييزاً لا يمكن دفعه، ولا يسع إنكاره.
(سائق يسوقها إلى محشرها): إلى العرصة.
(وشاهد يشهد عليها بعملها): بما عملته من خير وشر.
(فأما الجنة فدرجات متفاضلات): كما قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ }[الزخرف:32] وهذا عام في الدنيا والآخرة.
(ومنازل متفاوتات): هذه تفوت هذه في الصفة فلا اجتماع بينها ، وفي حديث ابن عباس في قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }[المجادلة:11] أنه قال: مابين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام.
(لا ينقطع نعيمها): أي هو دائم لاآخرله، كما قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا }[النساء:57].
(ولا يظعن مقيمها): الظعون هو: الارتحال، أي لا يرحل من كان مقيماً فيها.
(ولا يهرم خالدها): خلافاً لنعيم الدنيا، فإن الخالد فيه يصيبه الهرم والضعف.
(ولا يبأس ساكنها): أي لا يصيبه بؤس، والبؤس هو: الضر والحاجة.
(83) ومن خطبة له عليه السلام
(قد علم السرائر): جمع سريرة، وهو: ما يُسَرُّ في القلوب.
(وخبر الضمائر): امتحنها وابتلاها.
(له الإحاطة بكل شيء): في العلم لعلمه بما لا يتناهى.
(والغلبة لكل شيء): فلايقهره قاهر.
(والقوة على كل شيء): فلا يخرج عن ملكه شيء.
(فليعمل العامل منكم في أيام مهله): المهل هو: الاسم من الإمهال، وأراد في تراخي أجله، أو يكون المهل هو: التؤدة والتأني.
(قبل إرهاق أجله): إغشاء الأجل إياه .
(وفي فراغه قبل أوان شغله): بالموت وأحوال القيامة فإنها ليست بأوقات عمل.
(وفي متنفسه): زمن التنفس في الدنيا بسعة الآجال.
(قبل أن يؤخذ بكظمه): أي بكظم، فتخرج نفسه بمشقة وصعوبة.
(وليمهِّد لنفسه): وليوطئ لراحة نفسه، أي من أجل راحتها ولذتها.
(وقدمه): أراد ويثبِّت لمستقر قدمه.
(وليتزود من دار ظعنه): الظعون هو: الانتقال أي من موضع ظعونه وهي الدنيا.
(لدار إقامته): وهي الآخرة.
(فالله الله): تكرير للمحذر منه، كقولهم: أخاك أخاك، والطريق الطريق، قال:
أخاك أخاك إن من لا أخاً له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وهو منصوب بإضمار فعل أي اتقوا الله واحذروه.
(عباد الله): ياعباد الله، فإن من كان عبداً فحقيق به أن يطيع سيده ويطابق غرض مولاه.
(أيها الناس، فيما استحفظكم من كتابه): أراد راقبوه فيما استحفظكم من كتابه من القيام بفروضه وأحكامه والوقوف عند حدوده.
(واستودعكم من حقوقه): وجعلها عندكم وديعة لتكون مؤدَّاة عند طلبها من جهته، والضميرفي حقوقه يحتمل أن يكون را جعاً إلى الله تعالى أو إلى كتابه.
(فإن الله لم يخلقكم عبثاً): بل خلقكم من أجل الإحسان من جهته والتفضل عليكم، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً }[ص:27]، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا }[المؤمنون:115].
(ولم يترككم سدى): أي مهملين، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى }[القيامة:36]، أي مهملاً من غير رعاية وحفظ.
(ولم يدعكم في جهالة وعمى): بل أوضح لكم السبيل بالبراهين العقلية والنقلية بحيث لا لبس هناك.
(قد سمَّى آثاركم): الأثر: ما يؤثر عن الإنسان بعد موته، كما قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ }[يس:12]، وفي الحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عنه سائر عمله إلا ثلاثة : ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به، أو صدقة تجري)) فهذه هي الآثار التي أرادها الله بقوله: {وَآثَارَهُمْ}.
(وعلم أعمالكم): من خير وشر وصغير وكبير، وظاهر ومستور على جميع صفاتها، وكل أحوالها: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }[الملك:14] وأراد التعجب من حال من ينكر ذلك، أي من يخلق خلقاً كيف يخفى عليه أفعاله وشيء من أحواله.
(وكتب آجالكم): قدرها وعلمها وخطها في لوحه المحفوظ من طويل وقصير.
(فأنزل عليكم الكتاب): أراد القرآن.
(تبياناً): بياناً لمصالحكم الدينية، وفصل خصوماتكم الدنيوية.
(وعمَّر فيكم نبيه أزماناً): مقدار ما يعلم الصلاح في بقائه، لتبليغ ما أرسله به إليكم وإتمام شرعه، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ... }إلى آخرها[المائدة:3].
(حتى أكمل له ولكم): فإكماله له إتمام شريعته التي بعث بها، وإكماله لهم إتمام مصالحهم الدينية.
(فيما أنزل من كتابه دينه الذي رضي لنفسه): مما علم أنه صلاح لهم وإكمال لأمره.
(وأنهى إليكم على لسانه): أراد جعل لكم الغاية في الا تصال، من قولهم: أنهيت إليه كذا إذا أوصلته إياه، على لسانه أي بواسطته.
(محابَّه من الأعمال): الضمير لله أي الذي يحبه من الأعمال ويريد وقوعه من جهتكم.
(ومكارهه): والذي نهى عنه وكرهه.
(ونواهيه وأوامره): وجميع ما نهى عنه وأمر به.
(وألقى إليكم المعذرة): نبذها إليكم فلا عذر لكم عنده بعد ذلك، من قولهم: ألق العصا، وألقِ ما في يمينك.
(واتخذ عليكم الحجة): أي أخذها وأقامها عليكم، فالحجة عليكم من جهته قائمة.
(وقدَّم إليكم الوعيد ): أي جعله مقدماً، من قولهم: قدمت الطعام إليه، وأراد وخوفكم بما قدَّم إليكم من هذه الوعيدات والقوارع الزجرية.
(وأنذركم بين يدي عذاب شديد): بقوله: إني لكم نذير بين يدي، أي بالقرب مني وعلى إثري عذاب شديد لمن خالف أمري فيما جئت به.
ويحكى أنه لما نزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ }[الشعراء:214] جمع الرسول جميع بطون قريش، وقال: (إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد) .
(فاستدركوا بقية أيامكم): استدراك الشيء: تلافيه وهو علىشرف الزوال، وأراد تلافوا ما بقي بالمبادرة إلى الطاعة والاهتمام بأمر الله وامتثال واجباته.
(وصبِّروا لها أنفسكم): وأكرهوها على الصبر.
(فإنها قليل في كثير الأيام التي تكون فيها الغفلة): أراد أن التفريط في حق الله أكثر من القيام به، والإعراض عن الطاعة أكثر لامحالة من التشاغل بها.
(والتشاغل عن الموعظة): أراد أن ما يعرض عن استماع المواعظ كثيرلا يمكن حصره.
(ولا ترّخصوا لأنفسكم): تهونوا لها اقتحام الرخص وترك العزائم.
(فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة): فتذهب منصوب على أنه جواب النهي، كقوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ }[هود:113] وذهب به إذا مرَّ به، وأراد أنكم إذا اتبعتم الرخص وانتحيتموها امَّحت أنوار الواجبات ، واندرست آثارها فحصلتم في ظلمة العذاب بذلك، فاستعار الظلمة من أجل ذلك.
(ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية): الإدهان هي: المصانعة، وهي: الرشوة، وفي المثل: من صانع المال لم يحتشم من طلب الحاجة، وأراد أن الرشوة تهجم بكم، أي تسرع بكم إلى الحكم بغير الحق فيكون إقداماً على المعصية من الراشي؛ لكونه أخذ ما ليس له، والمرتشي لكونه ظلم غيره وحكم بخلاف أمر الله وحكمه، وفي هذا دلالة على عظم موقع الرشوة في الدين وخطر المصانعة والإدهان.
(عباد الله، إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه): لأن مع الطاعة النجاة من النار، ولا نصح أعظم من ذلك لما فيه من الفوز برضاء الله ومجانبة عقابه.
(وإن أغشَّهم لنفسه أعصاهم لربه): لأن من غشَّ نفسه أسلس لها قيادها في اتباع هواها، ولا ضرر أعظم من ذلك لما فيه من الظفر بغضب الله وأليم عقابه.
(والمغبون من غبن نفسه): الغبن: الخدع، وغبنته إذا خدعته، وأراد أن المخدوع حقيقة من خدع نفسه؛ لأن من خدعه غيره فلومه يقل؛ لأنه ربما غرر في ذلك بكونه أدهى منه، فأما من غبن نفسه وخدعها بالأماني؛ فهو المغبون على الحقيقة.
(والمغبوط من سلم له دينه): الغبطة: هي الا سم من الاغتباط، وهي: عبارة عن حسن الحال، وأراد أن أحسن الناس حالاً في الدارين من سلم له دينه عما يشوبه.
(والسعيد من وعظ بغيره): يقال: سعد الرجل فهو سعيد، والسعادة هي خلاف الشقاوة، وأراد أن من وعظ بغيره فقد نفعته المواعظ ، فلهذا كان سعيداً، ومن كان موعظة لغيره فلا نفع له في ذلك.
(والشقي من انخدع لهواه وغروره): لأن الميل إلى الهوى والاغترار به فيه إهلاك النفس، كما قال تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:40-41]، وقال تعالى: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }[لقمان:33] أراد الشيطان والنفس.
(واعلموا أن يسير الرياء شرك): لأن المرائي ليس عمله خالصاً لوجه الله تعالى، وإنما يفعل ما يفعله رضاءً للخلق، وطلباً لمحمدتهم، والثناء من جهتهم فلهذا كان مشركاً لغير الله في عمله، فإذا كان الشرك ظلماً عظيماً لارتبة فوقه من المعاصي الكبيرة، فخليق بما يدانيه ويقاربه أن يحذر منه.
(ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان): لأن مِلاَكَ الإيمان وحقيقته إنما تكون في مخالفة الهوى ومجانبته، وإذا كان الأمر كما قلناه كان مجالسة من كان متبعاً للهوى إبطالاً لمناره وهدماً لقواعده.
(ومحضرة الشيطان ): والمحضرة: مكان الحضور، أي أنها منزله ومكانه الذي يحضره وفيه يوجد.
(جانبوا الكذب فإنه مجانب للإيمان): جانب الشيء إذا بَعُدَ عنه، وصار في جانب وهو في جانب آخر، وأراد أن الإيمان والكذب بينهما بُعْدٌ متفاوت لا يجتمعان بحال.
(الصادق على شفا منجاة وكرامة): الشفى من كل شيء حرفه ، قال الله تعالى: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ }[التوبة:109]، والمنجاة: النجاء، وأراد أن الصادق على طرف النجاة والكرامة بما أتى من الأفعال الحسنة.
(والكاذب على شرف مهواة ومهانة): المهواة: الحفير الذي يهوي فيه من وقع فيه، وأراد أن الكاذب قريب من الوقوع في المهواة، والسقوط فيها، ومهانة من العقلاء؛ لما ارتكبه من القبيح الذي يسقط صاحبه من منزلته، وفي المثل: الصدق نباهة، والكذب عاهة.
(ولا تحاسدوا، فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب): وأراد أن الحسد في إسقاط الحسنات وإحباطه لها شبيه بالنار في أخذها للحطب وإهلاكها له، وقد جاء عن الرسول [ صلى الله عليه وآله وسلم] هذا المعنى بلفظ آخر حيث قال: ((ما ذئبان ضاريان في زريبة أحدكم بأسرع من الحسد في حسنات المؤمن )) .
(لا تباغضوا فإنها الحالقة): الضمير في قوله: فإنها لهذه الخصلة والحال يدل عليها، والحالقة: اسم من أسماء الداهية، وقد جاء هذا المعنى عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ آخر، حيث قال: ((قد دبَّ إليكم داء الأمم أما إني لا أقول: إنها الحالقة للشعر، وإنما هي الحالقة للدين: الحسد، والبغضاء)) .
(واعلموا أن الأمل يسهي العقل): سها عن الشيء إذا غفل عنه، وأراد أنه يغفل العقل عمَّا هو المقصود من أمر الآخرة؛ لأن الآمال إذا كانت طامحة على الأفئدة غلبتها لامحالة.
(وينسي الذكر): لأن المقصود إذا كان هو بلوغ الأمل أغفله ذلك عن كل شيء.
(فأكذبوا الأمل فإنه غرور): أي خديعة.
(وصاحبه مغرور): أي مخدوع.
(84) ومن خطبة له عليه السلام
(عباد الله): أيها الموصوف بالعبودية.
(إن من أحب عباد الله إلى الله عبداً أعانه الله على نفسه): المحبة من الله تعالى: هي إرادة النفع لصاحبها، ولا يتصور سوى ذلك، وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }[المائدة:54] أي يريد نفعهم، وأراد بالإعانة هي التقوية على مخالفة الهوى بفعل الألطاف الخفية من أجله.
(فاستشعر الحزن): أي جعله له شعاراً، وهو أخص من الدثار.
(وتجلبب الخوف): أي جعله له جلباباً، والجلباب: ضرب من الثياب.
(فزهر مصباح الهدى في قلبه): أي توقد، وهو استعارة لما يظهر من حاله من الإيمان، واطمئنانه به ، وانشراح صدره بسببه.
(وأعدَّ القِرَى ليومه النازل به): أراد أنه أعدَّ الأعمال الصالحة لليوم الذي ينزل عليه فيه الموت، فهو في راحة ومسرة بملاقاة ذلك والبشارة به .
(فقرَّب على نفسه البعيد): فقصر آماله البعيدة بما كان منه من استشعار الموت وحضور وقته.
(وهوَّن الشديد): واستهون ما يكابد من الشدائد في الدنيا، بأن قرر في خاطره انقطاعها وزوالها.
(ونظر): بقلبه وتفكر في حاله.
(فأبصر): فأصاب البصيرة في دينه وعاقبة أمره.
(وذكر): الموت وأحوال الآخرة وأهوالها.
(فاستكثر): من التزود لتلك الأهوال بما يدفعها ويزيلها عنه.
(وارتوى من عذب فرات): العذب: الخالص من الملوحة، والفرات: الطيب، واستعارذلك لما يحصل له من الاهتداء بالأدلة، واقتفاء آثارها، والاقتداء بِعَلَمِهَا ومنارها.
(سُهِّلت موارده): المورد: الذي يؤخذ منه الماء، وأراد أوضحت أعلامه وحججه وبراهينه.
(فشرب نهلاً): النهل هو: الشرب الأول، وإنما خصه بالذكر دون العلل وهو الشرب الثاني لما فيه من تطفئة نيران العطش، وتسكين حركته في أول وهلة، بخلاف الشرب الثاني فليس له ذلك الموقع.
(وسلك سبيلاً جدداً): الجدد: هي الأرض الصلبة، وفي المثل: من سلك الجدد أمن من العثار، وأراد ها هنا الطريق المستقيم على الحق.
(فقطع سرابيل الشهوات) : أراد علائق ما تشتهيه النفس وتدعو إليه، واستعار السرابيل لذلك.
(وتخَّلى من الهموم): أزالها عن قلبه، وترك الشغل بها.
(إلا هماً واحداً): وهو خوف الله، والإقبال على الآخرة، والعمل لها.
(انفرد به): تخلّى له، وأقبل عليه.
(فخرج عن صفة أهل العمى): بما كان من إعراضه عما يعمي القلوب عن ذكر الله وخوفه من أمور الدنيا.
(ومشاركة أهل الهوى): وخرج عن أن يكون مشاركاً لمن كان متبعاً لهواه.
(وصار): لما كان بهذه الحالة، واتصافه بهذه الصفة.
(من مفاتيح أبواب الهدى): التي أغلقت على غيره.
(ومغاليق أبواب الردى): وهذا من أنواع البديع يسمى الطباق؛ وهو أن يذكر الضدين جميعاً، وقد ورد في كلام الرسول [ صلى الله عليه وآله وسلم ] ما يلائم هذا المعنى، حيث قال: ((هنيئاً لمن جعله الله مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر )) .
(قد أبصر سبيله): استبصر في أمر دينه.
(وسلك طريقه): التي أمر باتباعها.
(وعرف مناره): المنار: علم الطريق فأمَّه وقصده.
(وقطع غِماره): حتى بلغه ووصل إليه، والضمير للمنار ها هنا، وما قبله من الضمائر راجع إلى المذكور في أول الكلام، والغمِار بكسر الفاء لايكون إلا جمعاً، يقال: بحر غمر، وبحار غِمار، وبفتحها وضمها يكون مفرداً، [و] يقال: قطعت غَمار الناس وغُمارهم، أي كثرتهم، فقوله: غِماره، يصلح أن يكون مفرداً أومجموعاً، وروايتنا فيه بكسر الفاء على الجمع.
(واستمسك من العرى بأوثقها): وهي عروة الدين التي لا انفصام لها.
(ومن الحبال بأمتنها): أقواها لحصافته وهو أمرالدين، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا }[آل عمران:103].
(فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس): أراد فهو من البصيرة والتحقق، لما هو فيه من أمر الديانة، وانشراح الصدر، واطمئنان النفس، على قطع كقطعه بنور الشمس وتحققه له.
(قد نصب نفسه لله): وضعها.
(في أرفع الأمور): أعلاها وأحمدها وهو خوف الله وتقواه.
(من إصدار كل وارد عليه): من الشبهات في أمرالدين بردِّه وحلَّه، أو مما يلج في الخاطر من وسواس الشيطان وخياله.
(وتصيير كل فرع إلى أصله): ووضع كل شيء في موضعه، كما هو من شأن العقلاء.
ويحكى عن الإمام زيد بن علي أنه قيل له: صف لنا العاقل؟
فقال: هو الذي يضع الأشياء مواضعها.
فقالوا له: صف لنا الجاهل؟
فقال: قد فعلت.
(مصباح ظلمات): بنور علمه.
(كشَّاف عشوات): ناقة عشواء إذا كانت سيئة البصر، وأراد أنه رافع لكل عشوة.
(مفتاح مبهمات): وهو ما كان ملتبساً من أمورالدين.
(دفاع معضلات): أعضل الأمر إذا اشتد، وأراد أنه دافع للشدائد بصواب رأيه.
(دليل فلوات): الفلاة هو: المفازة الخالية، والقفر المنقطع، وأراد أنه خبير بطرق السلامة، والسبل المؤدية إلى الجنة، فاستعار ذلك له.
(يقول): يتكلم بكلامه.
(فيُفْهمُ): فينفع الله بكلامه من سمعه منه.
(ويسكت): عن الكلام الذي لاخيرفيه ولا فائدة تحته.
(فيسلم): عن وزره وإثمه.
(فهو من معادن دينه): جوهرها الصافي.
(وأوتاد أرضه): ومن أوتادها أقواها وأوثقها ، مثَّله بذلك لما يظهر من صفاء قلبه، ووثاقته في الدين وصلابته فيه.
(قد ألزم نفسه العدل): الإنصاف في جميع الأمور كلها، وألا يحيف في قول ولا فعل.
(فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه): فكان إنصافه إزالة الهوى؛ وهو كل ما تحبه النفس وتريده فذلك هو أول التوفيق من الله.
(قد أخلص لله): بالأعمال الصالحة.
(فاستخلصه): بإمداده بأنوا ع التوفيقات، كما قال تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ [ذِكْرَى الدَّارِ] }[ص:46].
(يصف الحق): بلسانه.
(ويعمل به): أراد ويطابق فعله قوله.
(لا يدع للخير غاية): للأعمال الصالحة طريقاً من طرقها.
(إلا أمَّها): قصدها وتبعها، كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ }[البقرة:148].
(ولا مظنة إلا قصدها): المظنة: موضع الشيء ومألفه الذي يظن كونه فيه، وروايتنا فيه بكسر الفاء، وهو مخالف لقياس بابه في الفتح.
(قد أمكن الكتاب من زمامه): فهو يقوده إلى الجنة، كما قال صلى الله عليه: ((من جعله أمامه قاده إلى الجنة )) .
(فهو قائده وإمامه): إلى كل خير.
(يحل حيث حل ثَقَلُهُ): الثَّقَلُ بوزن جَبَل ، هو: متاع المسافر وأثاثه، وأراد بالثقل أحكام القرآن وما تدل عليه من التكاليف الشاقة فلهذا سماها ثقلاً.
(وينزل حيث كان منزله): وغرضه في ذلك هو أنه موافق للقرآن في جميع أحواله وأموره.
(وآخر): أي ورجل آخر غير من ذكره.
(قد تسمى عالماً): أُطلق عليه هذا الوصف.
(وليس به): أي وليس الأمر كما زعم.
(فاقتبس): أي أخذ، من قولهم: اقتبس ناراً.
(جهائل): جمع جهالة مثل حمامة وحمائم.
(من جهَّال): من أقوام جاهلين.
(وأضاليل): جمع لا واحد له من لفظه، وفي التقدير كأنه جمع لإضليلة، لأن فعالة لاتجمع على أفاعيل، وإنما هو جمع لأفعال كأنعام وأناعيم.
(من ضلاَّل): من أقوام ضلَّوا عن الطريق.
(نصب للناس أشراكاً): الشَّرَكُ: ما يصطاد به.
(من حبال غرور): بسطها لهم ليقعوا فيها.
(وأقوال زور): قد زخرفها وزينها لهم ليغتروا بها.
(قد حمل الكتاب على رأيه): على مذاهبه الباطلة.
(وعطف الحق على أهوائه ): ردَّه عن مجراه الذي كان جارياً فيه على ما يوافق أهويته الفاسدة الحائدة عن الحق.
(يؤم العظائم): يؤم المخوفات العظيمة من القبائح.
(ويهون كبيرالجرائم): ويصغر ما كان من الأفعال المجترمة كبيراً ليكون مرتكباً لها.
(يقول:): بلسانه.
(أقف عند الشبهات): أحجم عن فعلها وارتكابها.
(وفيها وقع): أي تمكن واستقر.
(ويقول:): نطقاً بلسانه.
(أعتزل البدع ): أجانبها.
(وبينها اضطجع): أي وبين جوانبها كان مضطجعه ومستقر نومته.
(فالصورة صورة إنسان): لما فيه من التركبة الآدمية، وتأليف الصنعة الإنسانية.
(والقلب قلب حيوان): أراد قلب البهائم التي لاعقل لها ولا تمييز.
(لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصد عنه): أراد أن من هذه حاله فهو في حيرة من أمره، وضلال من رأيه، لا يدري أين الخير والشر لاستبهام الأمور عليه كلها لجهالته وعمى رأيه.
(فذلك ميت الأحياء): أراد فذلك الذي يعد ميتاً وهو من جملة الأحياء، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}[الأنعام:122]، ولقد صدق من قال :
ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميتٍ ... إنَّما الميتُ ميِّتُ الأحياءِ
(فأين تذهبون؟): عن طرق الحق أو عن هذه المواعظ الشافية.
(وأنى تؤفكون؟): تصرفون عن المسالك الواضحة.
(والأعلام قائمة): مستقيمة، لا يلحقها اضطراب.
(والآيات واضحة): جلية بينة لمن استوضح أمرها.
(والمنار منصوبة): هو علم الطريق، وإنما أنَّثه حملاً على معناه، وأراد به الطريقة .
(فأين يتاه بكم!): تاه إذا ذهب متحيراً في أمره.
(بل كيف تعمهون!): تترددون.
(وبين أظهركم عترة نبيكم): عترة الرجل هم: أقاربه الأدنون منه، بالقرب منكم مشبَّه بحال من يلي ظهرك في القرب والدنو.
(وهم أَزِمَّةُ الحق): يتمسك به الخلق فينجون بإمساكه.
(وألسنة الصدق): فيتكلمون به.
(فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن): أراد أحلَّوهم في أحسن المحالِّ التي أحلهم القرآن فيها، وهو قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }[الشورى:23] فالله تعالى أحلهم هذا المحل، وهو البعث على مودتهم وموالاتهم.
(وردوهم ورد الهيم العطاش): أراد وتعلموا منهم تعلم جاهل من عالم، شبههم بالمورد، وشبه من يأخذ منهم بالإبل الهائمة من شدة العطش؛ لما يعتريها من الهيام.
(أيها الناس، خذوها عن خاتم النبيين): الضمير في قوله: خذوها، أي هذه الكلمة وهو ما قلته في حق العترة، أوخذوا هذه الموعظة فإني مبلغها عن الرسول صلى الله عليه وآله.
(إنه يموت منّا من يموت وليس بميت): أراد أنه وإن مات فإن ما بعده من الآثار من العلوم والسير الصالحة التي يقتدى بها باقية بعده فهو حي ما دامت حية في أثره.
(ويبلى منّا من يبلى وليس ببال): لأن آ ثاره غضة طرية لا تخلق أبداً.
(فلا تقولوا): من أفواهكم بألسنتكم.
(ما لا تعرفون): حقيقة حاله بقلوبكم.
(فإن أكثر الحق فيما تنكرون): وهذا ظاهر، فإن الحق كله في مخالفة الأهواء، فلا جرم أنكرته الطباع لمخالفته لها، وأراد بهذا الكلام الإنكار على من جحد فضل العترة وأنكره.
(واعذروا من لاحجة لكم عليه): عذره إذا جعل له عذراً، وأعذره إذا صار ذا عذر عنده، واعتذر إليه إذا مهد إليه عذره، وتعذر منه واستعذر إذا لم يسعف بحاجته، والمعنى في هذا واجعلوا لي عذراً عند أنفسكم فإنه لا حجة لكم على من أنصف الحق من نفسه، وبذل الحق من عنده.
(وهو أنا): ومصداق ما قلته من وجوب الحجة لي عليكم، وزوال عذركم هو ما أقوله الآن.
(ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر! وأترك فيكم الثقل الأصغر!): أشار بذلك إلى قول الرسول عليه السلام: ((إني تارك فيكم الثقلين، فالثقل الأكبر هو كتاب الله، والثقل الأصغر هم العترة )) وإنما سميا ثقلين؛ لما تضمناه من أثقال التكاليف وتحمل أعبائها، وأراد أن سيرتي فيكم مطابقة لحكم كتاب الله، وجعلت أولادي الذين هم أولاد الرسول وعترته خلفاً عليكم بعدي.
(وركزت فيكم راية الإيمان): أراد أني أظهرت لكم معالم الدين وبينت أحكام الإيمان، والركز والراية، استعارة رشيقة لبيان ذلك.
(ووقفتكم على حدود الحلال والحرام): أي أطلعتكم على ما يحل لكم أخذه وفعله، ويحرم عليكم فعله وتناوله في جميع أحوالكم كلها، وحدد ته بحدود، وحجزته بحواجز عن الا ختلاط والاشتباه، أخذاً من قولهم: وقفته على أمره إذا أطلعته عليه.
(وألبستكم العافية من عدلي): أراد أني جعلت العدل لباساً لكم تتقلبون فيه كلباس العافية الشاملة.
(وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي): وجعلت الإحسان من جهتي فراشاً لكم ممهداً.
(وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي): أي لم تصادفوني فظاً غليظاً بل كنت لكم على خلاف ذلك من الرقة لكم، والرحمة والرأفة عليكم.
وأقول: إن هذا الكلام قد بلغ في النضارة والحسن حد الإعجاب، فكما هو دال على بذل المعروف بالقول والفعل والنفس، فقد دل على التجنيس العجيب ، واشتمل على المجاز الرشيق ،بذكر اللباس والفراش، كما قال تعالى لنبيه في هذا المعنى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }[الحجر:88] وقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }[التوبة:128] فقد بذل من نفسه للأمة ما أمر الله نبيه أن يبذله لأمته، ويسير فيهم به إبلاغاً في الحجة، وقطعاً للمعذرة.
(فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر): أراد فلا تضعوا آراءكم في الأمور المحالة في مخالفتي والاعتراض على سيرتي، فإن هذا مما لا قعر له أي غاية فتكون مبصرة مرئية.
(ولا يتغلغل إليه الفكر): الغلغلة: هي السير الشديد، وعنى بذلك أن الفكر وإن اشتد أمره وعظم دخوله فإنه لا يدركه ولا يصل إليه لعدمه وانتفائه، ثم خرج إلى ذكر بني أمية بقوله:
(حتى يظنَّ الظانُّ): لكثرة ما يرى من انبساط ملكهم وإحاطتهم بالأقاليم الإسلامية، واحتوائهم عليها، حتى قال سليمان بن عبد الملك وقد رأى سحابة: امطري حيث شئت فخراجك إليَّ، كل ذلك إعجاب باستيلائه وملكه.
(أن الدنيا معقولة على بني أمية): عقل ناقته إذا حبسها عن الذهاب، وأراد أنها محبوسة عليهم لا يزال ملكهم فيها ونعيمهم بلذتها.
(تمنحهم درها): تعطيهم خيرها من منحه إذا أعطاه.
(وتوردهم صفوها): الصفو خلاف الكدر، أراد أنها تدلهم على مواردها الصافية ومشاربها العذبة، ثم يقطع الله دابرهم ويستأصل شأفتهم.
(ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها): جورها وحيفها وعنفها بالخلق وإيلامهم بإزالتهم واقتلاع جرثومتهم.
(ولاسيفها): قتلهم للخلق من غير استحقاق ولا تقديم جريمة.
(وكذب الظان لذلك): فإن الله قادر على الانتقام كما فعل بمن كان أشد منهم بسطة وأعظم قوة.
(بل هي مَجَّةُ من قليل العيش): المَجَّةُ بفتح الميم: ما يضعه الإنسان في فِيْه ثم يرمي به، وشبه دولتهم بذلك لا نقطاعها وسرعة زوالها.
(يتطعمونها برهة): يذوقونها مدة يسيرة.
(ثم يلفظونها جملة): ثم تنقطع عنهم كأنها ما كانت في أيديهم، ولا نعموا فيها ساعة واحدة، وهذه من جملة الأخبار الغيبية التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وآله في أذنه وأودعها إياه، فكان الأمر كما قاله عليه السلام، فكانت خلافتهم من أولهم إلى آخرهم دون مائة سنة.
(85) ومن خطبة له عليه السلام
(أما بعد، فإن الله لا يقصم جبَّاري دهر إلا بعد تمهيل ورخاء): قصمه إذا قطعه، وأصل جبَّاري جبَّارين جمع جبَّار، لكن طرحت نونه للإضافة، وأراد الإعلام بأن الله تعالى ما قطع دابر قوم بالإهلاك، إلا بتمهيل في الأعمار، كما قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }[الأعراف:183] ورخاء في المعيشة، كما قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }[الأعراف:182] ليزدادوا إثماً بالإملاء، كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا }[آل عمران:178] يزدادوا غفلة بالإرخاء والدعة كما هو عادة أهل الرفاهية والفجور.
(ولم يجبر عظم أحد من الأمم إلا بعد أزل وبلاء): الأزل: الشدة، وأراد أن الله تعالى ما أرخى على قوم عيشهم وخوَّلهم إلا بعد اختبار منه وامتحان بالشدائد وأنواع الضَّيق في المعيشة.
(وفي دون ما استقبلتم من خطب ): أخطار الدنيا، وأهوال الآخرة.
(واستدبرتم من خطأ): ذنوب سالفة ، ومعاصي متقدمة.
(معتبر ): إما أمر يعتبر به ويتعظ، وإما اعتبار وموعظة لكم.
(وما كل ذي قلب بلبيب): اللبُّ: العقل، وأراد وما كل من كان له قلب فهو عاقل.
(ولا كل ذي سمع بسميع): ولا كل من كان له آلة السمع فهو يسمع بها.
(ولا كل ذي ناظر ببصير): ولا كل من كان له عين فهو يبصر بها ؛ لأن هذه الحواس ربما كانت حاصلة لأهلها، وبها آفة ويلحقها فساد، فلهذا لم يكن المقصود بها حاصلاً، وأراد التعريض بحالهم والتهكم بهم حيث كانت هذه الآلات حاصلة لهم وهم لم يستعملوها وينتفعوا بها على حدها اللائق بها.
(فيا عجباً!): أراد إما ياعجبي، وإما ياعجباه على ما قررنا شرحه من قبل.
(وما لي لا أعجب): وأي شيء يعرض لي عن الاستعجاب مع وجود أسبابه.
(من خطأ هذه الفرق): من زيغها وضلالها واتباع أهوائها.
(على اختلاف حججها في دينها): أراد أن الدين واحد، من حيث كان إلههم واحداً، ونبيهم واحداً، وشريعتهم واحدة، وكتابهم واحداً، فليت شعري من أين جاء الاختلاف بينهم، والحال هذه وما بالهم!
(لا يقتصون أثر نبي): قد أرسل إليهم لإصلاحهم.
(ولا يقتدون بعمل وصي): قد خُلِّف والياً عليهم من جهة النبي.
(ولا يؤمنون بغيب): ولا يصدِّقون بالأمور الغائبة التي قد قام البرهان على صحتها وبيانها، وأراد المنكرين للقيامة وأحوال الآخرة من هذه الفرق الضالة.
(ولا يعفون عن عيب): ولا يغتفرون ما يرونه من عيوب بعضهم لبعض، وأراد أنهم في أنفسهم ليسوا بأهل تناصح، بل كل [واحد] منهم يظهر عيب صاحبه لما يظهر بينهم من العداوة والبغضاء.
(يعملون في الشبهات): إما فيما يعتقدونه مما يكون مخالفاً للتوحيد والتنزيه ، وإما فيما يتصرفون فيه من هذه الأموال فإنهم يدخلون فيها مداخل الشبه.
(ويسيرون في الشهوات): أراد وتصرفهم في سيرهم وأعمالهم إنما هو بأعمال الشهوات، والتعويل عليها في جميع أحوالهم كلها.
(المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا): يعنى أنهم قد أعجبوا في أنفسهم بآرائهم كلها، فالمعروف فيهم ليس إلا ما قالوه من جهة أنفسهم، وإن لم يكن موافقاً للبراهين والأدلة، والمنكر ما امتنعوا من فعله وإن لم يكن منهياً عنه بالأدلة.
(وفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم): يعني أنهم إذافزعوا عند أمر شديد فلا يرجعون إلى بصيرة وإنما عمدتهم الأهواء
(وتعويلهم في المبهمات على رأيهم): وما يعوِّلون عند نزول الأمور المبهمة التي تفتقر إلى الأنظار ، وحكِّ القرائح، إلا على ما يكون من جهة أنفسهم لا غير، وهذا كله إنكار منه عليهم في ذلك.
(كأن كل امرئ منهم إمام نفسه): يقتدي بها كما يقتدى بالأئمة ويهتدى بآرائهم.
(قد أخذ منها فيما يرى بعرى موثقات ): قد استوثق منها فيما يزعم ويظن بأسباب وثيقة لا تنتقض.
(وأسباب محكمات): لا يتطرق إليها التغيير، وكلامه عليه السلام في هذا الإنكار يحمل على وجهين:
أحدهما: أن يريد من خالف التوحيد والأدلة العقلية فيما دلت عليه.
وثانيهما: أن يريد من خالف الشارع فيما نصَّ عليه من النصوص القاطعة العلمية، أوخالف الوصي فيما كان مقطوعاً به، فأما ما وراء ذلك فلا وجه للقطع بالخطأ فيه من مسائل الا جتهاد، كما قررناه في غير هذا الموضع.
(86) ومن خطبة له عليه السلام
(أرسله على حين فترة من الرسل): الفترة: المدة التي بين الرسل، وأراد تطاول الزمن ما بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وآله، فإن تلك المدة لتطاولها اندرست فيها الأعلام، وامَّحت فيها الشرائع، فلهذا قال: على حين فترة مشيراً إلى ما قلناه.
(وطول هجعة من الأمم): الهجوع هو: النوم ليلاً، قال قيس بن الأسلت :
قد حصَّت البيضةُ رأسي فما
أَطْعَمُ نوماً غير تَهْجَاعِ
وأراد كثرة هجوعهم على الجهل.
(واعتزام من الفتن): عزم الأمر إذا قطعه برأيه، وأراد واقتطاع من الفتن لأهلها ومن كان والجاً فيها.
(وانتشار من الأمور): إذ لا نظام يجمعها من نبي ولا وصي ولا من يدل على الحق ويرشد إليه.
(وتلظِّ من الحروب): فيما بين العرب؛ لأنهم كانوا قبل البعثة، لهم أيام في الحروب ووقائع عظيمة، كما كان في حرب داحس ، ويوم الفجار وغيرهما، من الأيام.
(والدنيا كاسفة النور): كسفت الشمس إذا ذهب نورها، وأراد أنها مكسفة لعدم من يدعو إلى الخير من الأنبياء والأولياء والصالحين، وانقطاع عهدها من ذلك.
(ظاهرة الغرور): لما يحصل فيها من البدع واتباع الأهواء الداعية إلى الاغترار والجالبة له.
(على حين اصفرار من ورقها): دنو من أجلها، واقتراب من انقضائها، وجعل اصفرار الورق كناية عن ذاك.
(وإياس من ثمرها): أيس مقلوب يئس ، والمصدر منهما واحد، تقول: أيست أاْيس منه يأساً، ويئست آيس منه يأساً، واليأس: هو انقطاع الرجاء عن الشيء.
(واغورار مائها ): إدبارها وذهاب رونقها.
(قد درست فيها أعلام الهدى) : امحت وبطلت بانقطاع الأنبياء.
(وظهرت أعلام الردى): أمارات الجهل والبدعة، وأراد ما كان من أمور الجاهلية وضلالتها وبدعها وجهالاتها.
(فهي متجهمة على أهلها): تجهم عليه إذا كلح في وجهه وعبس، قال:
فلا تَجْهَمينا أم عمرو فإنَّنا
بنا داءُ ظبْيٍ لم تَخُنهُ عَواملُه
وأراد أنه لا داء بنا كما أن الظبي لا داء فيه، فلأجل تغير أحوالها صارت كأنها كالحة عابسة، وقوله: لأهلها، أراد إما من أجل أهلها، فإن تغيرها ما كان إلا من جهتهم وإحداثهم البدع فيها، وإما أراد اختصاص العبوس بأهلها كما تقول: قلت له، وقال لي.
(عابسة في وجه طالبها): العبوس: هو انكساف الوجه وتغيره.
(ثمرها الفتنة): لما بذروا فيها الغفلة والشقاء، أثمرت لهم الفتن والبلايا.
(وطعامها الخيفة ): الطعام: ما يذاق في اللَّها وأراد أنه لما كان ثمرها الفتنة فمذاقها لاشك هو الخيفة والإشفاق والقلق.
(وشعارها الخوف):
سؤال؛ كيف قال: طعامها الخيفة، ثم قال: وشعارها الخوف، فهل بين الخوف والخيفة تفرقة؟ أو يكونان شيئاً واحداً؟
وجوابه؛ هو أن الخوف والخيفة شيء واحد، يقال: خاف خوفاً وخيفة، قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }[طه:67] وقال: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] }[البقرة:38] ولكنه أراد لكثرة ما علقهم من الخوف، وألمَّ بهم من ألمه وغشيهم، جعله تارة طعاماً لهم ، وتارة جعله لباساً يشملهم، في كلتا الحالتين مبالغة في ذلك.
(ودثارهم السيف): الشعار: ما يلي الجسد، والدثار فوقه.
سؤال؛ أراه جعل الشعار مضافاً إلى الخوف، والدثار مضافاً إلى السيف، وكلاهما حاصل فيهم ومتعلق بهم؟
وجوابه؛ هو أن الخوف لما كان متعلقاً بالقلب وحاصلاً فيه، جعله كالشعار لمخالطته لجلودهم، بخلاف السيف فإنه لا محالة منفصل، فلهذا جعله كالدثار.
(فاعتبروا عباد الله، واذكروا تِيَكَ): وليكن همكم الاعتبار والانزجار وتذكروا متعظين، وأشار بقوله: (تيك) إلى ما كان من الجاهلية في البدع والضلالات، وإنهماكهم في الردى والعمايات.
(التي آباؤكم وإخوانكم بها مرتهنون): أراد خطاياهم الموبقة وكبائرهم المهلكة في عبادة الأوثان والأصنام، واتخاذ الأنداد، وعبادة غير الله، وركوب الفواحش، وقطع الأرحام، وأكل الربا، كما قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }[الطور:21].
(وعليها محاسبون): لا يغادر منهم صغيرة ولا كبيرة إلا بالمحاسبة والمناقشة.
(ولعمري): قسم وخبره محذوف أي لعمري قسمي.
(ما تقادمت بهم ولا بكم العهود): العهد هو: الزمن الماضي، قال:
وما عهدي كعهدك يا أُماماً
(ولا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب والقرون): [الحقب: ثمانون سنة، وقيل: أكثر من ذلك وجمعه أحقاب] ، قال الله تعالى: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا }[النبأ:23] والقرن: هو الأمة وجمعه قرون.
(وما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد): أراد أن من كان من آبائهم وإخوانهم في زمن الجاهلية وأيامها، فإنهم على أثره وعلى القرب من عهده ، ما حالت بينهم وبينه عهود وأعصار فتمحي آثارهم، وتبلي أحاديثهم، وإنما هي غضة طرية.
(والله ما أسمعهم الرسول شيئاً): من القصص والأخبار والسير والأمثال على جهة الاتعاظ والزجر، وعلمهم من الأحكام والسنن على جهة الاستصلاح والشرع.
(إلا وها أنا مسمعكموه): مصرخاً به في آذانكم، ناطقاً به بين أظهركم، لا أترك منه شيئاً ولا أغادره.
(وما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم بالأمس): أراد أنها مستوية لا تفرقة بينكم وبينهم في الأسماع.
(ولا شقت لهم الأبصار): أراد الأعين؛ لأنها مشقوقة في الوجه أي مفتوحة.
(وجعلت لهم الأفئدة): العقول؛ لأن محلها الأفئدة، فجعل الأفئدة عبارة عنها.
(في ذلك الأوان): الوقت المتقدم.
(إلا وقد أعطيتم مثلها): من غير مخالفة.
(في هذا الزمان): وقتكم هذا الذي أنتم فيه الآن.
(ووالله ما بُصِّرتم بعدهم شيئاً جهلوه): أريتموه بأبصاركم.
(ولا أصفيتم به): خصصتم به.
(وحرموه): منعوه، وأراد بهذا الكلام أمرين:
أحدهما: أن يعلم أن حاله كحال الرسول في الإبلاغ والتعريف، والإنذار والتخويف، والزجر والوعظ.
وثانيهما: أن يعلم أن ما يلقى ممن كان في وقته من النكوص، وترك الانقياد لقوله، والاحتكام لأمره، مشابهاً لما كان الرسول يلاقي من أولئك الذين كانوا في زمنه.
(ولقد نزلت بكم البلية): أراد ولاية بني أمية وظلمها وجورها.
(حائلاً خطامها، رخواً بِطَانُها): الخطام: ما يكون في رأس البعير ، والبِطَان: ما يكون في صدره، وجعل ذلك كناية عن تلاشي الأمر وفساده، وأنه ليس مستوثقاً جارياً على حدوده وقوانينه.
(فلا يغرَّنكم ما أصبح فيه أهل الغرور): من ضحك الدنيا في وجوههم وزهرتها في أعينهم، فإن ذلك كذب وغرور لانقطاعه عنهم وزواله عن أيديهم.
(فإنما هو ظل ممدود): شبهه بالظل لسرعة تقلصه عن مكانه.
(إلى أجل معدود): إلى حيث علم الله من آجالهم المنقطعة وأيامهم الزائلة.
(87) ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد
([الحمد لله ] المعروف من غير رؤية): المتحقق حاله من غير بصر وإدراك، وأراد علمه بالأدلة والبراهين النظرية.
(الخالق من غير روية): المقدر لجميع ما أوجده من الإحكامات العجيبة من غير فكرة ولا نظر.
(الذي لم يزل قائماً دائماً): أراد بالقيام الوجود، وأراد بالدوام الاستمرار، فهو تعالى موجود بلا أول له، ومستمر الوجود لا آخر له.
(إذ لا سماء ذات أبراج): الأبراج: جمع برج، وجملتها اثنا عشربرجاً مشتملة على ثمانية وعشرين منزلة، ينزل فيها القمر في سيره.
(ولا حجب ذات إرتاج ): الرتج: واحد الإرتاج وهي المغالق، ومنه باب مرتج أي مغلق، وأراد حجب العزّ وسرادقات المجد المضروبة، تجوَّزاً واستعارةً، لا أن ثَمَّ حجباً هناك تستره على الحقيقة.
(ولا ليل داج): دجا الليل إذا أظلم.
(ولا بحر ساج): أي ساكن، وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }[الضحى:2] أي سكن بما فيه.
(ولا جبل ذو فجاج): شعاب وآخاديد وأودية.
(ولا فج ذو اعوجاج): التواء في أطرافه ومسالكه.
(ولا أرض ذات مهاد): مهد الشيء إذا وطَّأه وأحسن تقريره، ووصفت الأرض بالمهاد في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا }[النبأ:6] لما يظهر فيها من منافع الخلق واستقرارهم في تصرفاتهم .
(ولا خلق ذو اعتماد): ولا مخلوق له هذه الصفة، لأن كل مخلوق فهو معتمد على خالقه في إيجاده وتقريره فلهذا قال: ولا خلق تجب له هذه الصفة اللازمة.
(ذلك): إشارة إلى ما تقدم من ذكر صفاته تعالى.
(مبتدع الخلق): موجده من غير سبب يكون له.
(ووارثه): والموجود بعد إهلاكه وفنائه.
(وإله الخلق): المستحق للعبادة من جهتهم لإنعامه عليهم بفضله.
(ورازقه): والمتفضل عليهم بالرزق والمتاع.
(والشمس والقمر دائبان في مرضاته): مستمران على تكرير الجري لمصالح العباد وإحراز منافعهم، مرصدتين له لمطابقتهما لمراده بالتسخير.
(يبليان كل جديد): بالتكرر والجري حتى يَخْلِقَ ويفنى.
(ويقربان كل بعيد): لطي الأيام والليالي.
(قسم أرزاقهم): على حسب ما يراه من المصلحة من ضيق وسعة وتقتير وإرخاء.
(وأحصى آثارهم): ما يكون بعد موتهم من آثار الخير والشر.
(وأعمالهم): ما يكو ن في حال الحياة من ذلك.
(وعدد أنفاسهم ): إما عدد النفوس، وإما عدد التنفس الجاري من الرئة إلى الحلق، فكله معدود مقدر .
(وخائنة أعينهم): ملامحة البصر في خفية ومسارقة ، والخائنة بمعنى الخيانة كالكاذبة بمعنى الكذب والعافية بمعنى المعافاة.
(وما تخفي صدورهم من الضمير ): من أسرارها وضمائرها.
(ومستقرهم): موضع قرارهم.
(ومستودعهم): مكان استيداعهم.
(من الأرحام والظهور): فإن كل واحد منهما يصلح أن يكون موضعاً للقرار، ومكاناً للاستحفاظ؛ لأن الرحم كما هي موضع الاستقرار للنطفة فهي مكان لاستحفاظها، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ }[المؤمنون:13].
(إلى أن تتناهى بهم الغايات): بالموت والصيرورة إلى القيامة للمجازاة على الأعمال.
(هو الذي اشتدت نقمته): أي هو المخصوص بشدة الانتقام وهو العقوبة.
(على أعدائه): على من خالف مراده.
(في سعة رحمته): في طولها وانتشارها وانبساطها على الخلق.
(واتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته): أراد أنه لا يجتمع فيه الوصفان سوى الله تعالى، فهو تعالى عظيم الرحمة لمن والاه، مع ما له من شدة العقوبة والانتقام من أعدائه، وقوله: في سعة رحمته، وفي شدة نقمته في موضع الحال، مثلها في قولهم: أكرمني الأمير في جماعة.
(قاهر من عازَّه): عازَّني الفرس رأسه إذا غلب عليه، وأتى على أعز مراده، وأراد قاهر من غالبه.
(ومدمِّر من شاقه): أي مهلك من خالفه، والمشاقة: المخالفة.
(ومذلُّ من ناواه): أي عاداه.
(وغالب من عاداه): الغلبة: الاستطالة، وأراد أنه مستطيل بالقهر لمن خالفه من أهل عدواته.
(من توكل عليه كفاه): من أسند إليه أموره كلها فهو كفايته عن كل أحد، لا يحتاج معه غيره.
(ومن سأله أعطاه): ومن أباح إليه سؤاله أجابه بالعطية.
(ومن أقرضه قضاه): ومن تصدَّق لوجهه أعاضه عن صدقته وكافأه عليها، وذكر القرض مبالغة في لزوم الجزاء؛ لأن القرض مقضي لا محالة، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً }[البقرة:245].
(ومن شكره جزاه): أي كافأه على شكره ثواباً من عنده، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }[البقرة:152] أي أزيد لكم جودي وفضلي.
(عباد الله، زنوا نفوسكم ): راقبوها بالمحافظة في الأعمال والقيام بالواجبات محافظة الوزن.
(قبل أن توزنوا): توزن أعمالكم في القيامة، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا] }[الأنبياء:47] {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ }[الأعراف:8].
(وحاسبوها): في إتيانها للقبائح وإخلالها بالواجبات فتداركوا ما فرط منها من ذلك.
(قبل أن تحاسبوا): تناقشوا على القليل والكثير من ذلك.
(وتنفَّسوا): واعملوا وأنتم في نفس وسعة من أعماركم.
(قبل ضيق الخناق): الخناق هو: الحبل الذي يُخْنَقُ به، والمراد قبل الموت.
(وانقادوا): لما أنتم فيه من التكاليف.
(قبل عنف السياق): العنف هو: الشدة، وأراد قبل شدة السَّوق لكم إلى القيامة.
(واعلموا أن من لم يُعَنْ على نفسه): يجعل عليها معيناً.
(حتى يكون لها منه واعظ وزاجر): حتى هذه هي الابتدائية، مثلها في قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا }[يونس:24] ويجوز أن تكون بمعنى إلى، وتكون متصلة بما قبلها أي إلى أن يكون لها منه واعظ، والمعنى يعين [على] نفسه بالوعظ والانزجار عن القبائح.
(لم يكن لها من غيرها زاجر ولا واعظ): لأنه أرأف بنفسه وأرحم لها فإذا لم يكن من جهته صلاح لها لم يكن من جهة غيره ذلك.
(88) ومن خطبة له عليه السلام وتسمى خطبة الأشباح
و إنما سميت بالأشباح لما ضمَّنها من ذكر السماوات والأرض وصفتهما والملائكة وذكر أحوالهم.
روى مسعدة بن صدقة ، عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام أنه خطب أمير المؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة، وذلك أن رجلاً أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، صف لنا ربنا لنزداد له حباً، وبه معرفة، فغضب عليه السلام ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتى غُصَّ المسجد بأهله، فصعد المنبر وهو مغضب متغير اللون، وإنما غضب لأنه فَهِمَ من السائل تعنتاً في سؤاله، ثم قال:
(الحمد لله الذي لا يَفِرْهُ المنع ): وفر الشيء يفر وفوراً إذا كثر وزاد، وأراد أن المنع لا يوجب كثرة ولا زيادة في مُلْكِه.
(ولا يكديه الإعطاء): أي لا يقلل خيره الإعطاء، من قولهم: أكدى الرجل إذا قلَّ خيرُه، وأراد أن الإعطاء لا يمنع خيره، وقوله تعالى: {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى }[النجم:34] أي منع ذلك القليل.
(والجود): الفيض بالجود على جميع الخلائق.
(إذ كل معطٍ منتقص سواه): ومصداق ذلك من أنه الجواد على الحقيقة هو أن كل من أعطى فإنه ينتقص بإعطائه ما خلاه؛ لأن جوده بلا نهاية.
(وكل مانع مذموم ما خلاه): لأن من منع فإنما يمنع من أجل البخل ولئلا ينقص ماله، فهو تعالى يعطي بالمصلحة ويمنع بالمصلحة فلا يُذَمُّ على منع ولا على عطاء.
(وهو المنان بفوائد النعم): المعطي لفواضل النعم والمتفضِّل بها.
(وعوائد المزيد والقِسَم): العوائد: جمع عائدة، وهو: ما يعود من النعم بعد سبق غيرها، والمزيد: المجعول زيادة، والقسم: جمع قسمة، وهذا عبارة عن أنواع النعم وضروب الآلاء الواصلة من جهته إلى خلقه.
(عياله الخلق): الذي يعولهم ويكفلهم ويتولى إصلاح أحوالهم، وفي الحديث: ((الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله )) .
(ضمن أرزاقهم): أي صارت واجبة عليه، ومنه ضمان المال لما صار في ذمة الضامن يجب عليه أداؤه.
(وقدَّر أقواتهم): الأقوات: جمع قُوت بضم الفاء، وهو: عبارة عمَّا يُصلح بدن الإنسان من الأطعمة، وأراد وأحكم مصالحهم كلها، والمصدر منه قَوتاً بفتح الفاء يقال: قاته قَوتاً وقَياتة.
(ونهج سبيل الراغبين إليه): وأوضح الطرق لمن رغب فيما عنده من منافع الثواب العظيمة والدرجات العالية.
(والطالبين ما لديه): من عظيم رضوانه وكريم مآبه.
(وليس بما سئل أجود منه بما لم يسأل): يحتمل أمرين:
أحدهما: أن الإعطاء والمنع عليه مستويان، إلا ما كان متعلقاً بالمصلحة من هذا وذاك .
وثانيهما: أن الإعطاء لما كان لا ينقص ملكه ولا المنع يزيده، كانا مستويين بالإضافة إلى ذلك.
(الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيءقبله): أراد بأنه الأول بلا أول لأوليته ولا بداية لها، إذلو كان لها غاية لأمكن أن يكون شيء قبلها؛ لأن ما كان له نهاية أمكن في العقول وتصوَّر في الأوهام أن يسبقه غيره ويكون حاصلاً قبله، وهذالا يتصور في حقه تعالى، فلا جَرَمَ كانت أوليته بلانهاية، ولا يشار إليها بحدِّ ولا غاية.
(والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده): ومقصوده في هذا هو أنه كما قام البرهان العقلي على أنه لابداية لأوليته فقد قام أيضاً على أنه لا آخر لسرمديته؛ إذ لو كان لآخريته نهاية لتصورفي العقول أن يكون شيء بعدها، فلما كان لا انقطاع لوجوده لم يتصور أن يكون شيء بعده؛ لأن وجوده إذا كان سرمداً لم تعقل الآخرية له بحال.
(الرادع أناسيَّ الأبصار عن أن تناله وتدركه): ردعت الشيء أردعه ردعاً إذا كففته عن مجراه، وأناسيَّ: جمع إنسان، وأصله أناسين فأبدل من النون ياء وأدغمت في الياء، والأبصار حقيقتها في بصر العين ومجازها في العقول وكلاهما محتمل هاهنا، وأراد أنه كفَّ أناسيَّ أحداق العيون عن أن تكون مدركة له ، وكفَّ أبصار بصائر العقول وحقائقها عن أن تكون محيطة بحقيقته واقعة على كنهه؛ إذ هو المتعالي عن ذلك كله.
(ما اختلف عليه دهر): أي ليس حاصلاً في زمان، ولاهو محتاج إليه فيكون مختلفاً متكرراً.
(فيختلف منه الحال): لأجل احتياجه إلى الأزمنة؛ لأن ما كان محتاجاً إلى الأزمنة فإنه يكون متغيراً بتغيرها، ومختلفاً باختلاف أحوالها في الضيق والسعة والرخاء والشدة، وهو في غاية البعد عن ذلك.
(ولا يكون في مكان فيجوز عليه الانتقال): أراد كما أنه لا يحتاج إلى الأزمنة فهو غير مفتقر إلى الأمكنة؛ إذ لو كان في مكان لجاز أن يكون منتقلاً منه وحاصلاً في غيره؛ لأنه بحصوله في المكان يكون جسماً، وما كان جسماً فكما يحصل في هذا المكان يحصل في غيره، وهو يتعالى عن الجسمية، فلهذا بطل عليه الا نتقال.
(فلو وهب ما تنفست عنه معادن الجبال): استحضاراً لقوله: هو الجواد؛ لأن هذا تفصيل له، والتنفس: عبارة عمَّا يخرج من الأرض من هذه المعادن والركازات.
(وضحكت عنه أصداف البحار): الضحك: عبارة عمَّا يخرج من البحار من هذه الجواهر واللآليء، والأصداف: جمع صدفة وهو غشاء الدرة وكمامها.
سؤال؛ أراه أضاف التنفس إلى المعادن، وأضاف الضحك إلى البحار، مع أن كل واحد منهما نفيس القدر جليل الخطر؟
وجوابه؛ هو أن ما يخرج من البحار هو هذه الأحجار الجوهرية نحو اللؤلؤ والياقوت والزمرد، فوصفها بالضحك لما فيها من الصفاء والرقة والنعومة، بخلاف ما يخرج من المعادن من الذهب والفضة والكحل والمرتك والزرنيخ وغيرذلك فإنها لا توصف بكونها جواهر، فلهذا وصفها بالتنفس وهو الخروج دون الجوهرية.
(من فلز اللجين والعقيان): الفلز: ما يبقى بعد الخبث، واللجين هو: الفضة، والعقيان هو: خالص الذهب الذي لا يحتاج إلى إخلاص الكير، وجميعها راجع إلى ما يخرج من المعادن.
(ونُثَارَة الدر، وحصيد المرجان): النثار: ما ينتثر، وحصيد المرجان: ما أحكم منه وقدربالتدوير والتربيع، ومنه قولهم: حبل محصد إذا أحكم فتله، وجميع ذلك راجع إلى ما يخرج من البحار، وهذا الأسلوب من باب اللف والنشر، ألا تراه أجمله أولاً ثم ردَّ إلى كل شيء ما يليق به من ذلك.
(ما أثرَّ ذلك في جوده): ما كان له أثر في نقصانه.
(ولا أنفد سعة ما عنده): من عظائم الملكوت، كما قال تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[البقرة:107].
(ولكان عنده من ذخائر الإنعام): أي ولكان الذي عنده وفي ملكه من نفائس الكرم والجود.
(ما لا تُنْفِده مطالب الأنام): تفنيه مطالب الخلق كلهم على كثرتهم، وتفاوت عددهم.
(لأنه الجواد الذي لا يغيضه سؤال السائلين): غاض الماء إذا نقص، وأراد أن إعطائهم لما طلبوه من سعة جوده ورحمته لا ينقصه من ذلك؛ لأن قدرته على ذلك بلا نهاية، فلا يعقل في ذلك زيادة ولا نقصان، والغرض من قولنا: بلا نهاية هو أنه ما من وقت إلا ويمكنه الإعطاء لأضعاف ما أعطى وأضعافه مضاعفة، وليس الغرض من ذلك وجود ما لا نهاية له فإن ذلك من المحالات العقلية، كما إذا وصفناه بالقدرة على الضدين، فإن الغرض الوجه الممكن دون ما لا يمكن.
(ولا يبخِّلُه إلحاح الملحِّين): الإلحاح هو: عظم المطالبة وكثرتها، وأراد أنهم على إلحاحهم لا يكون سبباً للمنع فيكون بخيلاً، ولهذا فإنه متميز عن سائر الكرماء، فإنه لا يزداد على كثرة الإلحاح إلا كرماً وجوداً، وغيره بخلاف ذلك.
(فانظر أيها السائل): اللام للعهد، وأراد السائل الذي سأله أولاً.
(بعقلك): فإنه حجة الله عليك ووديعته عندك وبرهانه فيك.
(فما دلَّك القرآن عليه من صفته فائتم به): ليس الغرض من كلامه هذا هو أن القرآن دالٌّ على صفات الله تعالى الذاتية كالقادرية والعالمية والحيية وغير ذلك من الصفات الإلهية فإن ذلك يستحيل العلم به من جهة القرآن والشرع، وإنما غرضه عليه السلام ما انطوى عليه من العبارات اللفظية فإن مورد ذلك كله القرآن والشرع، فما دلَّ عليه الشرع جاز إطلاقه عليه، إذا كان معناه حاصلاً في حقه، وما لم يدلّ عليه الشرع فإنه لايجوز إطلاقه عليه، ولهذا وصفناه بالترك والفراغ في قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ }[البقرة:17] وقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ }[الرحمن:31] ولولا ورود الشرع بذلك لم يجز وصفه بذلك لما فيه من إيهام الخطأ في حقه، فعلى هذا يحمل كلامه، وأراد فائتم به أي اجعله إماماً لك فيما يجوز إطلاقه على الله تعالى من الأوصاف اللفظية.
(واستضئ بنور هدايته): فإنه يرشدك إلى كل خيرباتباعك لأنواره والاقتداء بآثاره.
(وما كلفَّك الشيطان عليه ): حملك عليه من الإغواء والتسويف.
(مما ليس في الكتاب عليك فرضه): مما لم يدل عليه القرآن ويصرح بوجوبه عليك.
(ولا في السنة للرسول وأئمة الهدى أثره): ولا أثر عن الرسول في سنته ولا نقله الأئمة، وأراد أن المعتمد من الأدلة الشرعية ليس إلا آية من كتاب الله، أو ما كان من جهة السنة، أو ما كان إجماعاً من جهة الأئمة من أهل البيت، أو ما كان إجماعاً من جهة الأمة، فهذه الأمور الأربعة هي المعتمدة من المسالك النقلية القطعية، وما عداها من أخبار الآحاد والأقيسة المظنونة فهو معتمد في المباحث الفقهية والمسالك الظنية، فما دلت عليه هذه القواطع وجب القطع به، وما كان منها مظنوناً فهو معتمد في الأمور المظنونة، وما لم تدلّ عليه هذه:
(فَكِلْ علمه إلى الله): أرا د فإن الله تعالى لم يكلِّف به واستأثر بعلمه والإحاطة به.
(فإن هذا منتهى حق الله عليك): أراد أنه غاية ما طلبه منك ؛ لأنه تعالى لا يكلف ما لا يعلم، وهذا كله خارج عن التصرفات العقلية فلم يتعرض لذكرها، وإنما تعرض للأدلة الشرعية الدالة على ما يجوز إجراؤه على الله من الأوصاف وما لا يجوز إجراؤه.
(واعلم أن الراسخين في العلم): أراد الذين أثنى عليهم الله تعالى في كتابه، حيث قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }[آل عمران:7] أي الذين اشتدت وطأتهم في العلوم، واستمسكوا منها بالعرى الوثيقة، واستقرت أقدامهم فيها.
(هم الذين أغناهم عن اقتحام السُّدد المضروبة دون الغيوب): الاقتحام هو: الدخول على الشيء من غيربصيرة، والسدد: جمع سدة وهو: الحائل بين الشيئين، وأراد أنه أغناهم بما قرره في عقولهم عن الدخول على الشيء من غير بصيرة ولا رويَّة في الأمور الغيبية التي طوى علمها عن الخلق، وحال بينهم وبين علمها بالسواتر المضروبة دونها.
(الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب): الإقرار مرفوع لأنه فاعل لأغناهم، وأراد أن الإقرار بالأمورالمجملة مما لا يعلم كنهه من العلوم الغيبية هو كافٍ عما سواه مما لا سبيل لأحد إلى العلم به مما حجب الخلق عن علمه والاطلاع عليه.
(فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً): فأثنى عليهم الله تعالى لأجل معرفتهم بحال نفوسهم في تصريحهم بعجزهم عما لا يقدرون على الإحاطة به والاطلاع على كنه أسراره.
(وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً): لأن معرفة الإنسان بعجز نفسه هو علم بحقيقة الحال وأنها لا تنال، وما عدا ذلك فإنه رمي بالعماية وخبط في الجهالة.
(فاقتصر على ذلك): الإشارة إلى ما دل عليه الأدلة الشرعية التي أسلفنا ذكرها في المسائل الإلهية مما ليس في العقل القطع عليه بل هو موضع احتمال، فما هذا حاله فالتعويل فيه على الأدلة النقلية كالأوصاف التي تجري على الله تعالى فإن مستندها الشرع، فأما العقل فلا تصرف له فيها.
(لا تقدِّر عظمة الله على قدر عقلك): يحتمل وجهين:
أحدهما: أن العقل له نهاية وحد، والعظمة لا نهاية لها ولاحد، فلو حكم فيها العقل وجعلها مثله لكانت متناهية وهذا محال.
وثانيهما: أن يريد بالعقل الوهم، أي لا تجعل عظمة الله على قدر الوهم، فإن الوهم كاذب يسبق إلى خلاف ما عليه الشيء.
(فتكون من الهالكين): فتكون منصوب لأنه جواب النهي، أي فتهلك باستحقاق العقوبة من جهته باعتقادك لذاته على خلاف ما هي عليه.
(هو القادر): استحضاراً لما قرره بقوله: لا تقدر عظمة الله على قدر عقلك، أي هو المخصوص بقدرة لا يمكن وصفها ولا تنال لها نهاية.
(الذي إذا ارتمت الأوهام): الارتماء هو: المرور في سرعة، ومنه ارتماء الفرسان وترامي السحاب أي جريه في سرعة، شبه مرور الخواطر في نظرها مثل مرّ السحاب في الجو.
(لتدرك منقطع قدرته): لتصل إلى غاية حقيقة كنه قدرته إحاطة بالعلم بها.
(وحاول الفكر): حاول الشيء إذا أراده.
(المبرأ من خطر الوسواس): السليم من الوساوس التي تعرض فيه على خلاف الصواب والحق.
(أن يقع عليه في عميقات): غايتها وقصاراها.
(غيوب ملكوته): الأمور الغيبية التي استولى عليها وملكها بالإحاطة بها.
(وتولهت القلوب): ذهبت انقطاعاً وحسرة، وتحيرت فشلاً ودهشة.
(إليه لتجري في كيفية صفاته): من أجل أنها تكون محيطة بجريها على غاية حقيقة صفاته الإلهية.
(وغمضت مداخل العقول): غمض الشيء إذا خفى ودق، وأراد وولجت العقول في المداخل الضيقة الدقيقة.
(في حيث لا تبلغه الصفات): في جهة لا يمكن وصفها من الدقة والغموض.
(لتنال علم ذاته): وغرضها وقصدها أن تبلغ وتصل إلى حقيقة علم الذات منه تعالى.
(ردعها): كفها عمَّا همت به من الإحاطة بألاَّ سبيل إلى الإحاطة به لأحد.
(وهي تجوب): جاب البلاد يجوبها إذا قطعها، ومنه قوله: هل عندك جائبة خبر.
(في مهاوي سدف الغيوب): المهواة: الشق بين الجبلين، والسدف: الظلم ها هنا.
(متخلصة إليه): أي خالصة عن الظلم والمهاوي، وانتصابه على الحال من الضمير في تجوب، والجملة الابتدائية وهي قوله: وهي تجوب في موضع الحال من الضمير في ردعها، والمعنى في هذا هو أنه تعالى كفها، في حال كونها قاطعة للمهاوي والظلم تريد التخلص إليه والوقوع على كنه حقيقته.
(فرجعت): على إثرها.
(إذ جبهت): جبهته إذا صككت جبهته، شبهها في الرجوع خاسئة حسيرة عن نيل علم ذاته بحال من يصك جبهة غيره ليرده عمَّا حاوله، وكل ذلك مبالغة في رجوعها عما أرادته من ذلك.
(معترفة): متحققة لذلك العجز عن معرفة ودراية.
(بأنه لا ينال بجور الاعتساف): الجور هو: الميل عن القصد، والاعتساف هو: الأخذ على غير طريق.
(كنه معرفته): غاية علم ذاته، والمعنى في هذا هو أن العقول وإن خرجت عن القصد وأخذت على [غير] طريق فإنها لا تناله.
سؤال؛ إذا كان علم حقيقة ذاته لا تنال بالطرق المستقيمة فهي لا تنال بالجور والاعتساف، فما مراد ه من هذا الكلام؟
وجوابه؛ هو أن الغرض من كلامه هذا هو أن العقول سواء جارت في سيرها أو عدلت أو استقامت على المنهاج أواعتسفت فإنها في جميع أحوالها لا تصل إلى حقيقة العلم بذاته أصلاً.
(ولا تخطر ببال أولي الرّويّات): يعرض في الخاطر، والبال هو: القلب، والروَّية: النظر، وأراد أنه لا يعرض في قلوب أولي الأنظار والتفكرات.
(خاطرة من تقدير جلال عزته): خطرة واحدة، وأراد التقليل من ذلك.
(الذي ابتدع الخلق): اخترع جميع ما خلق.
(على غير مثال امتثله): المثال: ما يقتدى به ويعمل مثله.
(ولا مقدار احتذى عليه): فيما يصنعه ويحكمه.
(من خالق معبود كان قبله): فيصنع له هذه الأمثلة فيكون سابقاً عليه ليصح ذلك في حقه.
(وأرانا من ملكوت قدرته): من التقدير والإحكام ومطابقة الأغراض والمصالح.
(وعجائب ما نطقت به آثار حكمته): من الإلهامات العجيبة في جميع العالم كله مما لو نطق لصرَّح بمبالغة الحكمية وعجيب الصنعة منه.
(واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوته): وأراد أن الخلق معترفون بحاجة هذه الآثار إلى خالق يمسكها بقوته؛ لأن العقول قاضية بذلك مشيرة إليه، والمساك بكسر الفاء: ما يمسك الشيء، ويقال للذي يقر فيه الماء: مساك.
(ما دلنا باضطرار قيام الحجة على معرفته): ما موصولة في موضع نصب مفعوله لأرانا، أي أرانا من هذه المخلوقات ما أوجب العلم الضروري على وجوب قيام الحجة على معرفته، فمتعلق العلم الضروري هو وجوب قيام الحجة على المعرفة، وبيان ذلك هو أنَّا إذا رأينا هذه الآثار من اختلاف الليل والنهار، وطلوع هذه الكواكب، وجري الريح وغيرها من الآثار،فإنا لا نأمن أن يكون لها فاعل ومدبِّر، وعند هذا يُعْلَمُ بالضرورة وجوب النظر في أحوالها، ليحصل لنا تسكين هذه الروعة بالوقوف على حقيقة الأمر في ذلك، وهذا هو مراد المتكلمين بقولهم: إن النظر يجب لما فيه من دفع الضرر عن النفس بالتقرير الذي ذكرناه.
(وظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته): أراد هذه الموجودات المخترعة بالقدرة، فكما أن فيها دلالة على صانع لها ففيها دلالة على قدرته.
(وأعلام حكمته): وبراهين دالة على علمه وإتقانه.
(فصار كل ماخلق حجة له): على كونه واحداً.
(ودليلاً عليه): على وجوده وكونه قادراً لمن يستدل به من أرباب العقول وأهل البصائر.
(وإن كان خلقاً صامتاً): ليس حيواناً ولا يعقل شيئاً.
(فحجته بالتدبير ناطقه): على أن له مدبراً وخالقاً، ناطقة بلسان الحال لما فيها من ظهور الأدلة ووضوحها.
(ودلالته على المبدع قائمة): على أن له مبدعاً مستمرة ثابته.
(وأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك): بأن أثبت لك ما يثبت للمخلوقات، من الأعضاء المتباينة التي كل عضو من أعضائها منفصل عن الآخر مباين له .
(وتلاحم حقائق مفاصلهم المحتجبة): التلاحم هو: التلاصق، ومنه قولهم: حبل ملحم، إذا كان جيد الفتل والإلصاق بعضه لبعض، وأراد تلاصق المفاصل بعضها لبعض المستترة، التي لا يدرك ما اشتملت عليه من الالتأم والحصافة .
(لتدبير حكمتك): أي من أجل تدبير حكمتك، واللام متعلقة بمحذوف، أي كل ذلك من أجل تدبير حكمتك ولايجوز تعلق اللام بتلاحم؛ لأنه لا يجوز وصفه، ولا وصف مضافه قبل تمامه بذكر متعلقاً به، وها هنا قد وصف ما أضيف إليه قبل تمامه بذكر متعلقه.
(لم يعقد غيب ضميره على معرفتك): أراد أن كل من شبه الله تعالى بخلقه فإنه جاهل بحاله؛ لأنه تعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء من المكونات أصلاً.
(ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لاندَّ لك): أي أنه لم يخالط قلبه العلم اليقين بأنه لا مثل لك؛ لأنه لو باشر قلبه ذلك وقطع به واطمأن إليه لم يقل بهذه المقالة.
(وكأنه لم يسمع تبرُّؤ التابعين من المتبوعين): إذ قال التابعون.
({تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ })[الشعراء:97]: لفي ميل عن الحق ظاهر لا لبس فيه.
({إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين })[الشعراء:98]: نجعلكم أمثالاً له وحاصلين على مثل صفته في استحقاق العبادة، وغير ذلك من الأحكام الإلهية، ولو كان مشبهاً لهم لكان جسماً مثل أجسامهم وذلك محال في حقه.
(كذب العادلون بك): في هذه المقالة التي اختلقوها.
(إذ شبهوك بأصنامهم): في كونك جسماً مثلها لك حصول في الجهة وكون فيها كما كان لها.
(ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم): النحلة: العطية، أي وأعطوك اعتقاداً منهم صفة هذه المحدثات وهماً منهم، ويجوز أن يكون مراده بالنحلة المذهب، أي وذهبوا إلى أنك متحلياً بحلية المخلوقات، واعتقدوه مذهباً لهم.
(وجزَّءوك تجزئة المجسمات بخواطرهم): وأضافوا إليك الانقسام اللازم من صفة الجسمية؛ لأن كل جسم فهو ذو أجزاء عند من اعتقد ذلك بخاطره.
(وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم): وتركوك على الخلقة التي من شأنها اختلاف قواها وتباينها، فإن قوة العقل مخالفة لقوة السمع والبصر، وقوة الرجل مخالفة لقوة اليد، وهكذا القول في جميع القوى فإنها على هذا الاختلاف، وكان هذا التقرير حاصلاً لهم من تلقاء معتقداتهم التي لم يقم عليها برهان ولا يعضدها دليل.
(فأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك): المساواة: هي المماثلة، وأراد أن كل من ماثل الله تعالى بشيء من صفات الجسمية والعرضية [كأن يقول: إنه جسم، أوله أعضاء وجوارح، أو أنه حالٌّ في محل، وكائن في جهة أو غير ذلك مما يكون دالاً على الجسمية والعرضية] ، وحكماً من أحكامها، فإنه قد عدل عن الله تعالى على معنى أنه شبهه بمن يخالفه في الحقيقة والماهية.
(والعادل بك كافر على ما تنزَّلت به محكمات آياتك): كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }[الأنعام:1].
(ونطقت به شواهد حجج بيناتك): من الأدلة الشرعية، والشواهد النقلية، وكلامه هذا دال على كفر هؤلاء المشبهة، سواء قالوا: إنه تعالى ذو أعضاء وجوارح، كما هو المحكي عن بعض الزنادقة، أوقال: إن الله تعالى حاصل في جهة وإن لم يكن جسماً، لأن ظاهر كلامه هو أن من ساواه في ذلك، وهذا عام في كل ما كان مقتضياً للتشبيه.
(وأنك أنت الله الذي لم تتناه في العقول): لم يكن لها نهاية في بداية العقول ومقتضياتها.
(فتكون في مهب فكرها مكَّيفاً): فلو كنت منتهياً لكنت مكيفاً في الخواطر والرويات ؛ لأن كل ما كان متناهياً فله كيفية، وحد ونهاية، والمهب: هو الفراغ الذي تجري فيه الريح، واستعاره ها هنا لجولان الخواطر في روياتها وأنظارها، وقوله: فتكون منصوب لأنه جواب النفي.
(ولا في روّيات خواطرها محدوداً مصرَّفاً): ثم لو كان متناهياً في العقول لكان في أفكارها وخواطرها له حد وله تصريف، فلما كان غير متناه في العقول استحال ذلك كله.
(قدّر ما خلق): في إحكامه وانتظامه ومطابقته للأغراض والمصالح.
(فأحكم تقديره): لم يغفل عن شيء من ذلك ولا اختل نظامه ومنفعته.
(ودبَّر ): [ما خلق] بأن علم ما يؤول إليه عاقبة أمره وقصارى حاله.
(فألطف تدبيره): فدق وغمض ما أحكم من ذلك بحيث لاننال غايته ولا نبلغ إليه.
(ووجهه لوجهته): الوجهة هي: الطريقة، قال الله تعالى: {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ }[البقرة:148] وأراد وصرفه لطريقته التي وضع لها من غيرمخالفة، كما قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }[الطلاق:3].
(فلم يتعد حدود منزلته): أراد أنه لم يتجاوز حده التي قدرله بالزيادة على ذلك.
(ولم يقصر دون الانتهاء إلى غايته): أراد ولم يخالف إرادته بالنقصان عمّا قدر له، كما قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }[الرعد:8].
(ولم يستصعب إذ أمر بالمضيِّ على إرادته): استصعب الأمر إذا اشتد، وأراد أن ما خلق من المكونات لم يكن له امتناع من نفوذ أمره فيه بالوجود والحصول على حسب داعيته وإرادته، وبقوله: {كُنْ فَيَكُونُ}.
(وكيف): يكون ثَمَّ امتناع منه.
(وإنما صدرت الأمور عن مشيئته!): فلا وجه لامتناعها مع أن الحال ما قلناه؛ لأن ما هذا حاله فلا يعقل في حقه امتناع عن نفوذ الأمر فيه.
(المنشئ أصناف الخلائق ): الموجد لجميع الأنواع من غير سبب كان هناك من الجمادات والحيوانات، على ما اشتملا عليه من أنواعهما وضروبهما.
(بلا روية فكر آل إليها): من غير روية وتفكر رجع إليها في الصنع والتقدير والإحكام والتدبير.
(ولا قريحة غريزة): القريحة: أول ما يخرج من ماء البير، ثم استعارها هنا لما يستنبطه الإنسان بطبعه، وأراد ولا ذكاء غريزة أي طبيعة.
(أضمر عليها): في قلبه واشتمل عليها خاطره.
(ولا تجر بة أفادها): التجر بة: هي العلم بالأمور وتكريرها مرة بعد مرة، وأفادها أي جعلها من جهة غيره.
(من حوادث الدهور): أراد أن التجربة إنما تحصل بممارسة الخطوب وتكرر الأزمنة على ذلك.
(ولا شريك): مشارك له في ملكه.
(أعانه على ابتداع عجائب الأمور): عضده على اختراع هذه العجائب، وإحداث هذه الغرائب في العالم فأبدعه وأحكمه، على أعظم إيجاد وأحسن إحكام.
(فتم خلقه بأمره ): الضمير في خلقه إما لله، أي تمَّ خلق الله لما خلقه، أو لما خلق أي تمَّ خلق ما خلقه.
(وأذعن لطاعته): لما أمره بالوجود، بقوله: {كُنْ فَيَكُونُ}.
(وأجاب إلى دعوته): لما دعاه إلى الوجود، أولما دعاه داعي الإحسان إلى إيجاده.
(لم يعترض دونه ريث المتبطىء): الريث: هو التوقف في الأشياء، ومنه المثل: رب عجلة وهبت ريثاً، والمتبطئ هو: الذي يبطئ في فعله للأمور، ولا يستعجل فيها، وأراد أنه تعالى أسرعه إذعان أفعاله في الوجود، وقوة امتثالها في التحصيل، لم يعترض دون ذلك الإيجاد توقف الإبطاء.
(ولا أناة المتلكئ): الأناة: هو التأني، والتلكئ: هو التثاقل في الأمر والتأخر عنه، وأراد أن التأني والتثاقل لم يكونا معترضين دون سرعة الامتثال في إيجاد الأفعال.
(فأقام من الأشياء أودها): الأود: الاعوجاج، أي أقام اعوجاجها بالإحكام العجيب، والتركيب الأنيق الذي لايتطرق إليه التثبيج .
(ونهج حدودها): أوضح ما تحتاج إليه في ابتدائها ومنتهاها وما يصلح عليه أمرها.
(ولاءم بقدرته بين متضادها): وجمع بالقدر الباهرة التي من شأنه أن يستحقها بين ما كان منها متضاداً، وليس الغرض أنه تعالى جعل الضدين مجتمعين وهما متضادان، وإنما الغرض أنه جمعهما على الوجه الممكن الذي يسوِّغه العقل ويجوِّزه، فأما على خلاف ذلك فهو غير ممكن ولا مقدور، ولهذا فإنك ترى بنية الحيوان مركبة من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وترى العود فيه الماء والنار، وحبة الرمان فيها الحلاوة والحموضة، وورقة الورد فيها الحمرة والبياض، فجمعها على الوجه اللائق في العقل بعجيب قدرته.
(ووصل أسباب قرائنها): القرينة: هي النفس، وأراد وألَّف إليها ما تحتاج إليه من الأسباب، ووصلها بها لإتقانها وإحكامها.
(وفرقها أجناساً مختلفات): وجعلها أجناساً مختلفة.
(في الحدود والأقدار): الحد: غاية الشيء ونهايته التي يقف عندها، والأقدار: جمع قدر، كما قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }[الطلاق:3] وأراد أنه أحكم غاياتها وأتقن أصولها ومقاديرها.
(والغرائز والهيئات): الطبائع من اللين في الطبع والشرس والرقة والغلظ فيه، والهيئات في الألوان من السواد والبياض، والسمرة والحمرة وغير ذلك، كما قال تعالى: {وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ }[الروم:22].
(برايا): موجودون من براه إذا أوجده.
(خلائق): مقدرون بالإحكامات، وهما جمع برية وخليقة.
(أحكم صنعها): أحكم الله صنعتهم في تراكيبهم.
(وفطرها): أوجدها.
(على ما أراد ): على وفق إرادته ومشيئته.
(وأبدعها ): من غير شيء سابق كان هناك.
ثم تكلم في عجيب خلق السماء بقوله:
(ونظم بلاتعليق): أراد أنه أحكم نظامها ورفع سمكها من غير أن يجعل لها متعلقاً يمسكها من فوقها، ولا قراراً تعتمد عليه من تحتها.
(رهوات فرجها): الرهوة: هي المكان المرتفع والمنخفض، وهي من الأضداد، وأراد ها هنا المنخفض، أي وأحكم ما انخفض من فرجها بالتئامه بغيره.
(ووشج بينها وبين أزواجها):الوشيجة : هي عروق الشجرة المشتبكة، ويقال للقرابة: وشيجة لا شتباكها، وأراد أنه ألَّف بين السماوات وجعلها مزدوجة.
(ولاحم صدوع انفراجها): الملاحمة: الالتصاق، أي وألصق بعضها إلى بعض بحيث لا يوجد هناك انفصال فيها.
(وذلك للهابطين): من الملائكة النازلين منها.
(بأمره): بما يأمر من القبض والبسط، والإحياء والإماتة، والإهلاك والرحمة، وغير ذلك من الأقضية.
(والصاعدين منهم بأعمال خلقه): الموكلين بحفظ الأعمال خيرها وشرها.
(حزونة معراجها): الحزن من الأرض: ما صعب مسلكه، والمعراج: ما يعرج فيه، وأراد أنه سهل طرقها للهبوط والصعود من الملائكة.
(وناداها بعد إذ هي دخان): أي قصدها بالأمر، حيث قال: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }[فصلت:11]بعد كينونتها دخاناً، حيث قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ }[فصلت:11] وذلك أن الله خلق الأرض أولاً على شكل الكرة، ثم خلق بعد ذلك السماء، ثم عاد بعد ذلك فبسط الأرض ودحاها.
(فالتحمت عرا أشراجها): فالتصقت العرا أي تداخلت، والأشراج: جمع شِرَج بالفتح في عينه هو عروة العيبة ، وأراد أنها مع سعتها العظيمة متلاصقة مندكة لا فرجة فيها.
(وفتق بعد الارتتاق): الفتق هو: الشق، والارتتاق هو: التلاصق، وأراد أنه شقها بعد أن كانت كلها متلاصقة بمثابة الطبق الواحد.
(صوامت أبوابها): باب مصمت أي مغلق، وأراد أنه جعل لها أبواباً مغلقة.
(وأقام رصداً من الشهب الثواقب): الرصد مصدر رصد يرصده رصداً ورصيداً، ولكونه موضوعاً على المصدرية استوى فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، وانتصابه ها هنا على المفعولية، وهو صفة في قوله تعالى: {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا }[الجن:9]، (من الشهب الثواقب)، الشهب: جمع شهاب، وهو: عبارة عن ما يرمى به من النجوم، والثاقب هو: المضيء لنوره ودرَّيته.
(على نقابها): والنقاب هو: الطريق في الجبل، وأراد على طرقها حراسة لها عن استراق السمع من جهة الشياطين والكهنة وأهل السحر.
(وأمسكها من أن تمور في خَرْقِ الهواء): أي وشدها عن أن تمور، والمور هو: التحرك والاضطراب في خرق الهواء، والخَرْقُ بسكون العين هو: الجو الذي لا أجسام فيه، وأراد أنه أمسكها على هذه الحالة.
(رائدة): الرود هو : المجيء والذهاب، وانتصاب رائدة على الحال من الضمير في أمسكها، وهو تفسير لقوله: تمور، والمعنى أنه أمسكها عن أن تمور تتحرك وتضطرب جائية وذاهبة.
(وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره): الأمر ها هنا يحتمل أن يكون من باب القول، فيقول لها: قفي على هذه الصفة، كما قال لها: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا }[فصلت:11] ويحتمل الأمر عبارة عن الداعي والإرادة، وهو أن الله تعالى علم أن المصلحة وقوفها على هذه الصفة، فأراده فكان على وفق إرادته من غير مخالفة، وأراد بالاستسلام الإذعان والانقياد.
(وجعل شمسها آية مبصرة): مضيئة، لها شعاع تُبْصَرُ فيه الأشياء ويُعْرَفُ حالها، ببصر الأعين.
(لنهارها): أي من أجل نهارها ليكون ذلك سبباً للانتفاع وتصرف الخلق في أشغالهم ومنافعهم.
(وقمرها آية ممحوة): أي لا شعاع لها كشعاع الشمس وإنما هي نور.
(من ليلها): أي من أجل ليلها ليكون ذلك سبباً للسكون من الأشغال والاستراحة فيه بالنوم، كما قال تعالى : {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}.
سؤال؛ أراه عدَّى في كلامه هذا مبصرة باللام، وعدَّى ممحوة بمن، فما وجه التفرقة في ذلك؟
وجوابه؛ هو أن الغرض بالنهار إنما هو لأجل الإبصار في النهار والتصرف فيه، فلهذا جاءت اللام مشعرة بذلك، فلهذا عدَّاه باللام إشعاراً بالتعليل، وأما ممحوة فمن فيها لابتداء الغاية، وأراد أنها ممحوة من الليل فصارت قريباً منه في عدم الشعاع والضياء، فلهذا عدَّاها بمن إشارة إلى هذا الغرض من كل واحد من الحرفين وتنبيهاً عليه، ومعنى الآية: العلامة.
(وأجراهما في مناقل مجراهما): أي وسيرهما في مجاري مسيرهما ، [يتنقلان فيها طوراً بعد طور، وحالة بعد حالة]
[(وقدر مسيرهما) ]: المسير هو: السير، وأراد وأحكم مسيرهما على ما فيه من الاختلاف في السير، فإن القمر يقطع فلكه في شهر والشمس لا تقطع فلكها إلا في السنة ، وذلك لبطئها وتثاقل مسيرها.
(في مدارج درجيهما ): في منافذهما ومجاري سيرهما في المنازل، وجملتها ثمانية وعشرون منزلة: النطح، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العوّا، السماك، الغفر، الزبانا، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، مقدم الدلو، المؤخر، الحوت.
ينزل القمر في كل [منزلة] ليلة واحدة من هذه، والشمس في المنزلة الثالثة من نزول القمر من هذه، وتقيم الشمس في المنزلة أياماً، والقمر لسرعة جريه يحل كل ليلة في واحدة منها.
(ليميز بين الليل والنهار بهما): فاليوم هو طلوع الشمس وغروبها، والشهر: عبارة عن مسير القمر في الثمانية والعشرين منزلة، ثم يكون سراره ليلتين أوليلة إذا نقص، والسنة اثناعشر شهراً.
(وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما): فالشهور بالقمر كما ذكرناه، والأيام بالشمس، والحساب في كل شيء من الأوقات الشرعية وغير ذلك من منافع الخلق، ولولا ذلك لما عرف الحساب أصلاً.
(ثم علق في جوها فلكاً ): أراد فلك القمر، لأنه هو الأقرب إلينا وذلك لأن الأفلاك تسعة:
أولها: الفلك الأقصى.
وثانيها: فلك البروج.
وثالثها: فلك زحل.
ورابعها: فلك المشتري.
وخامسها: فلك المريخ.
وسادسها: فلك الشمس.
وسابعها: فلك الزهرة.
وثامنها: فلك عطارد.
وتاسعها: فلك القمر.
فهذه الأمور لا ننكرها إذا كان لها فاعل مختار أحكمها وقدرها، وإنما أنكرناها على الفلاسفة لأمرين:
أما أولاً: فلأنهم قالوا بقدمها وأزليتها، وأنه لم يسبقها عدم، وأنها مع فاعلها فيما لا أول له.
وأما ثانياً: فلأنهم قالوا: إن الحوادث التي في عالمنا هذا السفلي صادر عنها وأثر لها، وأن هذه الاستقصآءات والتركيبات في عالمنا حاصل عن هذه الأفلاك بوسائط هذه العناصر، فهذه مقالتهم في هذه الأفلاك، ثم هي أيضاً آثار عن العقول السماوية، وهذه العقول حاصلة عن ذات الله تعالىعلى جهة الإيجاب على تقدير في التدريج لهم في التأثير، ذكرناه في كتبنا العقلية.
(ناط بها زينتها): علق بها ما يزينها.
(من خفيات دراريها): من هذه النجوم، فمنها ما هو خفي دري متوقد.
(ومصابيح كواكبها): ومنها ماهو مصباح مضيء يستضاء بنوره للسائرين.
(ورمى مسترقي السمع): من الشياطين.
(بثواقب شهبها): ومنها للرمي لمن أراد الاستراق، كما قال تعالى: {فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً }[الجن:9]، كما قال بعضهم:
منها معالمُ للهدى ومصابحُ
تجلو الدُّجى والأخرياتُ رجومُ
(وأجراها): يعني النجوم.
(على أذلال تسخيرها): على تسخير مذلل ينقاد من غير استعصاء ويذهب فيه من غير مخالفة.
(من ثبات ثابتها): والثوابت عند أهل التنجيم من البروج أربعة: الثور، والأسد، والدلو، والعقرب، أي أنها لا تتغير في سيرها ومجراها.
(ومسير سائرها): ما يستقيم في سيره ولا يرجع، وهو أكثر السيارة من البروج، ومنها ما يرجع في سيره وهي خمسة: زحل، والمشتري، والمريخ ، والزهرة، وعطارد، وهذه هي الخنس التي أراد الله بقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ }[التكوير:15] لأنها تخنس في مجراها أي ترجع.
(وهبوطها وصعودها): فمنها ما هو في لوح الفلك يكون مسيره، ومنها ما دون ذلك في جوانب الفلك.
(ونحوسها وسعودها): وما أجرى الله فيها من النحوس والسعود التي قرنها بها وجعلها واقعة بحسبها، وهذا أيضاً مما لاننكره أن يجري الله تعالى العادة بحدوث هذه الحوادث من المرض والصحة والأمطار والغيوم والنحوس والسعود بطلوع هذه الكواكب وغروبها لمصلحة استأثر بعلمها، وإنما أنكرنا أن تكون هذه الآثار مضافة إلى هذه الكواكب بالإيجاب من جهة ذاتها فهذا محال في العقل لدلالة ذكرناها في غير هذا الكتاب، فسبحان من أنافت حكمته على حكمة الحكماء، وحار في دقيق صنعته وأسرار فطرته عقول العقلاء.
ثم تكلم في صفة الملائكة وعجيب حالهم:
(ثم خلق سبحانه لإسكان سماواته): ثم أبدع وأوجد من خلقه خلقاً اختار أن يكون محلهم لكرامتهم عنده سماواته التي عمرها لهم.
(وعمارة الصفيح الأعلى من ملكوته): أي وليكون خلقهم عمارة، والمصفح من الأشكال: نقيض ما كان منها كري الشكل، وصفحة كل شيء وجهه، وأراد السماوات لأنها مبسوطة فإنها من أعجب ما يكون في الملكوت لما اشتملت عليه من بدائع الحكمة وعجائب الإتقان البالغ، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ }[غافر:57].
(خلقاً بديعاً من ملائكته): إما بديعاً لا يشبه خلق غيره من سائر الحيوانات، وإما محكماً متقناً أبلغ من إحكام غيره من المخلوقات.
(وملأ بهم فروج فجاجها): الفرج هو: الشق، وجمعه فروج، والفجاج: جمع فج، وهي: الطريق الواسعة، وأراد أنه جعلها مملؤة منهم في شقوقها وطرقها الواسعة.
(وحشى بهم فتوق أجوائها): الأجواء: جمع جو وهي: المكان المتسع، والفتق: الشق، وغرضه أنه حشى بهم مواضعها المتسعة المنخفضة.
(وبين فجوات تلك الفروج): التي هي ملأى بهم ومحشوة منهم.
(زجل المسبحين منهم): هينمة أهل التسبيح بأنواع التمجيد ، والزجل: الصوت العظيم، ولهذا يقال: سحاب ذو زجل أي رعد قوي.
(في حضائر القدس): في الأماكن المقدسة والمواضع الشريفة بما يحصل فيها من الذكر والخضوع.
(وسترات الحجب): والحجب المجعولة ساترة.
(وسرادقات المجد): كل بيت مجعولاً من الثياب فهو سرادق، وغرضه في هذا ذكر موضع الملائكة وأماكنهم وذكر ماهم مشغولون به من التقديسات العالية وأنواع التماجيد الرفيعة التي خصَّوا بها وجعلوا أهلاً لها.
(ووراء ذلك الرجيج): الاضطراب والحركة العظيمة.
(التي تستك منها الأسماع): استك سمعه إذا صم فلم يسمع، وأراد لعظمه يكاد أن يصم الآذان ، وترعد منه الفرائص.
سؤال؛ أراه عبر عن أصوات الملائكة في الأول بالزجل، ثم قال بعد ذلك: ووراء ذلك الرجيج، فما وجهه؟
وجوابه؛ هو أن الرجيج: عبارة عن الحركة مع الصوت، ومنه الحديث: ((من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له )) أي حين يضطرب ويهدر بالموج، ومنه قوله تعالى: {رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا }[الواقعة:4] فذكر الزجل أولاً، لما كان الغرض منه الهينمة وهو صوت التسبيح لا غير، فلما أراد حكاية أفعالهم وحركاتهم بالقيام والقعود في العبادة ورفع الأصوات بأنواع التمجيد عبَّر عنه بالرجيج لما كان شاملاً للأمرين جميعاً.
(سبحات نور): السبحات: عبارة عن الجلال والعظمة والكبرياء، وذكر النور استعارة.
(تردع الأبصار): تكفها من شدة الضياء.
(عن بلوغها): عن الوصول إلى حقائقها وغاياتها.
(فتقف خاسئة): متحيرة عن الذهاب، مطرودة عن الوصول إلى تلك النهاية.
(على حدودها): على ما ينبغي لها أن تقوى على بصره وإدراكه، فأما ما يبهرها من هذه الأنوار العالية فلا سبيل لها إلى إدراكه.
(أنشأهم على صور مختلفات): في الأشكال والهيئات، مع ما خصهم به من القدرة الكاملة، كما روي أن جبريل عليه السلام حمل مدائن قوم لوط وهي سبع على ريشة من جناحه، وكما روي أنه هبط في مبدأ الوحي على الرسول فملأ ما بين الخافقين بجناحيه .
(وأقدار متفاوتات): وفي الحديث: ((إن لله تعالى ملكاً ما بين كتفيه خفقان الطير المسرع خمسمائة عام )) وهم من المخلوقات الباهرة الدالة على سلطان العظمة وبرهان الحكمة.
(أولي أجنحة): يطيرون بنوافذ الأقضية، ويسارعون في امتثال الأوامر، كما قال تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ }[فاطر:1].
(تسبح جلال عزته): ينزهون عزة الإلهية وجلالها عما لا يليق بها، ويقدسونها بالتماجيد اللائقة بها، والتسبيح هو: التنزيه والبراءة عما لا يليق.
وعن أعرابية أنها جاءت إلى رجل فقالت له: اكتب: سبحان سهلة عن أينق، ادَّعاها عليها أخوها، أي تبرأت عنها.
(لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه ): انتحل الشيء إذا ادعاه لنفسه، وأراد أنهم لايدعون إضافة شيء من مخلوقات الله إلى أنفسهم التي أظهرها وأوجدها، ولا ينسبون وجودها إليهم.
(ولا يدَّعون أنهم يخلقون شيئاً معه): الخلق عند المعتزلة وأصحابنا هو: التقدير، وعند الأشعرية هو: الإيجاد، وهذا هو الأقرب، بدليل قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }[القمر:49]، وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا }[الفرقان:2]، ولو كان الخلق هو التقدير لكان تكراراً لا فائدة تحته، وأراد أنهم لايقدرون شيئاً من تقديرات الله تعالى.
(مِمَّا انفرد به): مِمَّا هو مختص به ومنسوب إليه.
سؤال؛ أراه قيد نفي الخلق عنهم بما انفرد الله به، وأطلق نفي الانتحال من غير تقييد، والغرض فيهما نفي المشاركة عنهم في ذلك؟
وجوابه؛ هو أن الغرض بالانتحال أن تعلم أن شيئاً لغيرك وتدعيه لنفسك، وأراد أن ما علموه من خلق الله بالبرهان القاطع فإنهم لا يدعونه فلهذا أطلقه، بخلاف الخلق فهو إما عبارة عن التقدير كما قال أصحابنا والمعتزلة، وإما أن يكون عبارة عن الإيجاد كما قاله الأشعرية، ولا شك أنهم موجدون لأفعالهم ومقدرون لها، فلهذا قيد نفي الخلق عنهم بما انفرد الله به من خلقه.
(بل عباد مكرمون): إضراب عما نزههم عنه من ادعاء المشاركة له في خلقه، وإثبات العبودية من جهتهم له، واستحقاقهم الكرامة من جهته.
(لا يسبقونه بالقول): فيجعلون كلامهم فوق كلامه وأمرهم أنفذ من أمره.
(وهم بأمره يعملون): أراد أنه لايصدر من جهتهم عمل إلا بأمر من الله تعالى ، أو أنهم لا يخالفون أمره فيما أمر به ويمتثلونه.
(جعلهم فيما هنالك): هنا إشارة إلى الأمكنة، وأراد في أمكنتهم الرفيعة العالية.
(أهل الأمانة على وحيه): فلا يخونون فيه بزيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تبديل.
(وحملهم إلى المرسلين): إلى أهل الرسالة من الأنبياء، إذ منهم من يكون نبياً من غير إرسال إلى أحد، ومنهم من يكون رسولاً، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيّ }[الحج:52] ففرق بين الرسول والنبي إشارة إلى ما قلناه.
(ودائع أمره ونهيه): ما استودعهم من الأوامر والنواهي.
(وعصمهم): منعهم بالألطاف الخفية والتوفيقات المصلحية.
(من ريب الشبهات): عن أن يرتابوا في عقائدهم الإلهية بشبهة ترد عليهم في ذلك.
(فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته): مائل عما يكون لله تعالى فيه رضى في جميع أحوالهم.
(وأمدهم بفوائد المعونة): وأعطاهم من الإمداد وهو الإعطاء ألطافاً يستفيدون بها الإعانة.
(وأشعر قلوبهم): إما جعل الخوف شعاراً لهم، وإما أشعر قلوبهم أي أعلمها.
(تواضع إخبات السكينة): التواضع هو: الخشوع، والإخبات هو: ذل النفس مع خشوعها، وأراد أنه جعل الخشوع والتواضع والتذلل لاصقة بقلوبهم لا تفارقها، أو أنه قرره في عقولهم قطعاً وتحقيقاً .
(وفتح لهم أبواباً ذللاً إلى تماجيده): أي ألهمهم إلى أقوال سهّل مواردها لهم دالة على تعظيمه.
(ونصب لهم مناراً واضحةً): أعلاماً بينة، وطرقاً مستنيرة، وأراد بالمنار هاهنا الأعلام، ولهذا أنث صفته .
(على أعلام توحيده): الى أنه واحد لاشريك له يساويه في صفاته .
(لم تثقلهم مُؤصِرَات الآثام): المؤصر: المثقل، وأراد أن فعلهم للذنوب لم يكن فيثقلهم حملها.
(ولم ترتحلهم عُقَبُ الليالي والأيام): الارتحال افتعال من قولهم: رَحَلَ البعير إذا شد َّعلى ظهره الرحل، والعقبة هي: النوبة، من قولهم: هما يتعاقبان البعير أي يركبه أحدهما مرة والآخر مرة أخرى، والمعنى في هذا هو أن من تداولته الليالي والأيام كان مثل البعير المسخر الذي يشد على ظهره الرحل، وتردد في الأسفار من موضع إلى موضع، فهكذا حالنا في الدنيا ننقل من الليل إلى النهار، ومن النهار إلى الليل، فلهذا كانت الأيام والليالي مرتحلة لنا بعقبها ، فإذا لم يكن في السماوات ليل ولا نهار لعدم طلوع الشمس وغروبها كان الملائكة منزهين عن اعتقاب الليل والنهار، وارتحالهم بعقبها.
(ولم ترم الشكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم): النازع: السهم، والعزيمة هي: القطع على الشيء، وأراد أن الشكوك الحاصلة عن الشبهات لم ترم بأسهمها إلى الأمور المقطوع بصحتها في أديانهم .
(ولم تعترك الظنون): أي تزدحم.
(على معاقد يقينهم): على ما قطعوا عليه باليقين فيكون مظنوناً لهم.
(ولا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم): الإحنة: العداوة، وجمعها إحن، قال الشاعر:
إذا كان في صدرِ ابن عمكَ إِحْنَةٌ
فلا تَسْتَثِرْهَا سَوف يبدو دَفِيْنُها
وأراد أن المعاداة والضغائن ليست حاصلة بينهم لعدم أسبابها وانقطاع وصلها.
(ولا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفتهم بضمائرهم): سلبه: إذا أخذ ما عليه من السلب، والحيرة هو: التحير والتردد أي أن التحير لم يُزِل عقائدهم اللائقة بمثلهم في التحقق واليقين من معرفة الله تعالى وتوحيده، المشتملة عليها أفئدتهم.
( ولم تطمع فيهم الوساوس): جمع وسواس، وهو: ما يقع في الصدور من أحاديث النفس.
(فتفترع بريبها على فِكْرِهِمْ): فتعلو بشكها، من قولهم: فرعت قومي إذا علوتهم بالشرف، والريب هو: الشك، وأراد أن الوساوس لم يعلُ ريبها على ما قد حصل في أفكارهم من العلوم القطعية بمعرفة الله تعالى.
(منهم من هو في خلق الغمام الدُّلَّح): الخلق: المخلوق، كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ }[لقمان:11] أي مخلوقه، وأصله أن يكون مصدراً، ولكنه جرى اسماًلما ذكرناه كقوله تعالى : {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ }[المائدة:95] فإنه في الأصل مصدر ثم استعمل فيماذكرناه، الدلح بالحاء المهملة: الثقال، [يقال] : دلح بالماء إذاحمله غير منبسط الخطو لثقله.
(وفي عِظَمِ الجبال الشُّمَّخ): وفي عظم الجبال الشامخة المرتفعة.
(وفي قترة الظلام الأيهم): القترة: الغبرة، قال الله تعالى: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ }[عبس:41] أي غبرة، الأيهم: شديد السواد، فلا تهتد ي فيه لشدة ظلامه، والأيهمان: السيل والنار، وفي الحديث: ((كان الرسول يتعوذ بالله من الأيهمين )).
(ومنهم من قد خرقت أقدامهم تُخُوم الأرض السفلى): التَخْم هو: قعر الأرض البعيدة، وجمعه تخوم، ويقال: تخومه أيضاً.
قال:
فإن أَفْخَرْ بِمَجْدِ بَنِي سُليم
أكُنْ فيها التَّخومة والسَّرارا
(فهن كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء): شبه استقرار أقدامهم في تخوم الأر ض ونفوذها فيها برايات أعلام بيض نافذة في مخارق الهواء.
(وتحتها): الضمير للأقدام.
(ريح هفَّافة): ساكنة طيبة، أخذاً لها من الهفيف وهو: طيب النسيم.
(تحبسها): أي تحبس الأقدام عن النفوذ.
(على حيث انتهت): أراد الريح؛ لأن الأقدام قد انتهت بالريح، لكونها من تحتها فلا وجه لرجوعه إلى الأقدام.
(من الحدود المتناهية): المقادير التي علم الله تعالى حالها، وعلم أن تناهيها كان بنفسها أو بأمر آخر غيرها.
(قد استفرغتهم أشغال عبادته): أراد أنهم فرغوا عن كل شيء من الأشغال، واشتغلوا بالعبادة وأنواع الطاعة.
(ووسَّلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفتهم ): الوسيلة: ما يتقرب به الإنسان إلى غيره، يقال: وسل فلان إلى ربه وسيلة إذا تقرب بعمل صالح، وأرادها هنا أن الأعمال الصالحة من جهتهم هي الوسيلة بينهم وبين معرفته وتحققه.
سؤال؛ كيف تكون الأعمال الصالحة وهي التي عناها بحقائق الإيمان وسيلة إلى معرفة الله تعالى ، وهي متوقفة عليها، ولا تعقل الأعمال الصالحة إلا بتقدم الإيمان لها، وسبقه عليها؟
وجوابه من وجهين؛
أما أولاً: فيحتمل أن يكونوا قد عرفوا الله تعالى بالنظر والاستدلال، لكنهم لما نَصِبُوا في الأعمال الصالحة ودأبوا فيها أفيضت عليهم العلوم الضرورية من جهة الله تعالى، فلهذا كانت وسيلة إلى خلق العلم الضروري.
وأما ثانياً: فبأن يكون علمهم الأول نظري، لكنهم لما شغلوا بالطاعات العظيمة وفعلوها وانشرحت أفئدتهم بفعلها، لا جرم تقوى علمهم النظري وازداد قوة ومكانة بالله تعالى، فتكون هذه الطاعة وسيلة إلى ما حصل من التحقق والتيقن من بعد علمهم النظري، فعلى هذا يحمل كلامه، والأول أولى وأحق، وعليه يدل كلامه في هذا الموضع وفي غيره، كما سنوضحه بمعونة الله تعالى.
(وقطعهم الإيقان به إلى الوله إليه): الوله: شدة الوجد، يقال: امرأة والهة ورجل واله، قال الأعشى:
وأقبلت والهاً ثَكْلَى على عَجَلٍ
كلٌّ دهاها وكلٌّ عندها اجتمعا
وأراد أن القطع بوجوده والإيقان به هو الذي أولههم أي شدد عظيم شوقهم إليه.
(ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره): أراد أن رغباتهم منقطعة عمَّا كان متعلقاًبغيره، وبطل رجائهم له، وصارت متعلقة بما عنده، إما برضوانه فهو أعظم مطلوبهم، وإما بما وعدهم من الزلفة لديه وعظيم الأجر من جهته.
(قد ذاقوا حلاوة معرفته): صاروا لشوقهم إلى معرفة الله تعالى وولوع قلوبهم وميل أفئدتهم إليها بمنزلة من طعم شيئاً حلواً فهو يتهالك في تناوله والاستمرار على أخذه.
(وشربوا بالكأس الروية من محبته): الروية هي: المملؤة التي يروى من شربها، وأراد أن المعرفة والمحبة قد صارا ملتبسين بهما، حتى صار أحدهما مطعومة وهي المعرفة، والأخرى مشروبة وهي المحبة، وهذا من المجازات الرشيقة العجيبة.
(وتمكنت من سويداء قلوبهم وشيجة خيفته): الوشيجة هي: العروق المشتبكة، وسوداء القلب هي: أعظمه بمنزلة سواد العين، وأراد أن وشائج الخوف الواقعة من جهات مختلفة قد رسخت [في] أفئدتهم رسوخاً عظيماً، وتشبثت به تشبثاً، وخالطته مخالطة كلية.
(فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم): الاعتدال هو: الاستواء، وأراد أنهم حنوا بها بالركوع والسجود تقرباً إلى ربهم وخضوعاً لجلاله.
(ولم ينُفد طول الرغبة إليه مادة تضرعهم): أراد أن انقطاعهم إلى الله بالرغبة في جميع أحوالهم لا يزيل كثرة تضرعهم إليه، بل هم في أشد ما يكون من التضرع مع استطالة الرغبة.
(ولا أطلق عنهم عظيم الزلفة رِبَق خشوعهم): الربقة: واحدة الربق، وهو: حبل فيه عرا تدخل رقاب صغار المعز في كل واحد منها، يعني أن عظيم خطرهم وارتفاع منازلهم عند الله لم يطلق رقابهم عن تلك الخشية له؛ لأن من كان ذا منزلة رفيعة وخطر عظيم عند بعض الملوك فربما يدعوه ذلك إلى الاستنكاف عن بعض خدمته، وليس هذه حالة الملائكة فإنهم مع عظم زلفتهم قيامهم بخدمته أكثر.
(ولم يتولهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم): التولي من الولاية وهي: الصداقة ضد العداوة، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }[المائدة:51] وأراد أن الإعجاب لم يصادقهم، أو يكون من ولاه يليه إذا قرب منه، أي أن الإعجاب لم يقاربهم ويخالطهم فيستكثروا ويعظم في أعينهم ما سلف منهم من العبادة والخوف والمراقبة.
(ولا تركت لهم استكانة الإجلال نصيباً في تعظيم حسناتهم): الاستكانة هي: المسكنة وهي: عبارة عن ضعف الحال، وأراد أن الاستكانة في ذاتهم وضعف حالهم بالإ ضافة إلى جلال الله وتواضعهم لكبريائه، لم يدع لهم نصيباً في تعظيم ما عملوا من الحسنات والأعمال الصالحة.
(ولم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم): دأب في عمله إذا جد فيه دأباً ودؤوباً، ولهذا يقال للنهار والليل: إنهما دائبان وأراد أن الفترات وهي الضعف عن العمل غير جارية في حقهم مع جدهم في الأعمال واجتهادهم في أدائها وتحصيلها.
(ولم تعص رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربهم): المعصية: خلاف الطاعة، وأراد هاهنا أن رغباتهم وكثرة شوقهم في غاية الطاعة لخالقهم والانقياد لأمره، ولأجل ذلك لم يخالفوا عن طلب ما يرجونه من جهة الله تعالى من الرغائب العظيمة.
(ولم تجف لطول المناجاة أسلات ألسنتهم): الأسلة: مستدق طرف اللسان، وجمعها أسلات، وأراد أن مناجاتهم لخالقهم في جميع أحوالهم لا تنفك ولا تزال غضة طرية، وعبر عن انقطاعها بجفاف الألسنة، وهي من المجازات التي لا يهتدي إليها غيره.
(ولا تمكنتهم الأشغال): استغرقتهم الأعمال التي لغير وجهه.
(فتنقطع بهمس الجؤار أصواتهم): الجؤار هو: التضرع بالدعاء، وجأر الثور يجأر إذا صاح، وقرأ بعضهم: {عِجْلاً جَسَدًا لَهُ جُؤَارْ}[الأعراف:148، طه:88] والهمس هو: الصوت الخفي، وأراد أن همسهم بالتضرع إليه غير منقطع؛ إذ لا شغل لهم في غير ذلك.
(ولم تختلف في مقاوم الطاعة مناكبهم): المقام بفتح الفاء: يجمع على مقامات سواء كان للزمان أو المكان أو المصدر وهكذا مقام بضمها أيضاً ، قال الله تعالى: {لاَ مُقَامَ لَكُمْ [فَارْجِعُوا] }[الأحزاب:13] وقوله تعالى: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا }[الفرقان:76] وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ }[الدخان:51] فأما قوله: مقاوم فيحتمل أمرين:
أما أولاً: فبأن يكون جمعاً لمقام على الأصل أيضاً.
وأما ثانياً: فبأن يكون جمعاً لمقوم كمقبض وهي: الخشبة التي يمسكها الحراث، واستعاره ها هنا، والمنكب من الإنسان مثل المنسج من الفرس، وكلامه هذا يحتمل وجهين:
أما أولاً: فبأن يكون المراد من ذلك هم حملة العرش فإنه محمول على مناكبهم فلا يتزايلون عن حمله باختلاف مناكبهم.
وأما ثانياً: فبأن يكون المراد من ذلك جميع الملائكة، أي أنهم قائمون بالعبادة على وجهها، لاتختلف أحوالهم في ذلك.
(ولم يثنوا إلى راحة التقصير في أمره رقابهم): ثنيت الحبل إذ عطفته، وأراد أنهم لم يأخذهم تقصير في حق الله تعالى فينعطفوا إلى إيثارالراحة ويجنحوا إليها، أو يكون مراده لم ينصرفوا عن طاعة الله إلى سواها من ثنيته عن حاجته إذا صرفته عنها، وإنما علق الراحة بثني الرقبة؛ لأن النوم أعظم لذات الجسم وراحاته، والرقاب تتثنى عنده، فلهذا علق الراحة بها.
(ولا تعدو على عزيمة جدهم بلادة الغفلات): عدا عليه، فيها وجهان:
أحدهما: أن يكون بالعين المهملة، من قولهم: عدا عليه الأسد إذا وثب عليه.
وثانيهما: أن يكون بالغين المعجمة، من قولهم: غدا عليه إذا سار نحوه بالمضرة، وأراد أن البلادة التي هي نقيض الفطنة لا تغفلهم عمَّا هم بصدده من الاهتمام بأمر الله والقيام بعبادته.
(ولا تنتضل في همهم خدائع الشهوات): ناضله إذا رماه، والخدع هو: المكر، وأراد أن المكر من جهة الشهوات لا يرمي في همَّهم بالتهاون والتقصير.
(قد اتخذوا ذا العرش ذخيرة): الذخيرة : أنفس ما يجده الإنسان عند حاجته، وأراد أنهم جعلوا الله أعظم الذخائر وأقواها، وإنما خص ذا العرش من بين أسماء الله تعالى لما في العرش من عظم الملك وباهر الخلق، وهو من أعظم المخلوقات.
(ليوم فاقتهم): الفاقة هي: الحاجة، وذلك اليوم هو يوم القيامة.
(ويمموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم): وأراد وقصدوه وانقطعوا إليه في طلب حوائجهم، وقضاء مآربهم وقت انقطاع الخلق إلى بعضهم بعض في قضاء حوائجهم، حيث كان لارغبة لهم عند غيره ولا حاجة لهم في سواه.
(لا يقطعون غاية أمد عبادته ): أراد أنهم قد وضعوا عند نفوسهم لما دلَّهم البرهان العقلي أنه لا نهاية لعبادته، فقد اعتقدوا وعلموا أنهم لا يقطعونها، وكيف يقطعونها وهي بلا نهاية ولاحد لها ولا غاية.
(ولا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته، إلا إلى مواد من قلوبهم غير منقطعة من رجائه ومخافته): الاستهتار: العجب والحمق، يقال: استهتر الرجل فهو مستهتر، إذا كان أحمق متكبراً، وفلان مستهتر بالشراب أي مولع به، وأراد ها هنا الولوع، والمعنى أن الولوع بطاعته لا يرجع بهم إلى العجب والكبر، وإنما يرجع بهم إلى ما أمنَّهم به من تحقيق رجائهم في كرمه، والإجارة مما خوفَّهم منه من عقابه.
(لم تنقطع أسباب الشفقة منهم فينأوا في جدهم): نأى بالحمل إذا أثقله، ونأى به إذا نهض، وهو من الأضداد، قال الله تعالى: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ }[القصص:76] أي تثقلهم، وأشفق الرجل إذا صار ذا شفقة وحب، وأشفق إذا صار ذا خوف، والشفقة هاهنا محتملة لهما جميعاً، وأراد أن أسباب الخوف والمحبة غير منقطعة عنهم، فلا جرم لم تثقلهم أعباء هذه التكاليف ونهضوابها، خفيفة عليهم مطمئنة بها أنفسهم.
(ولم تأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيك السعي على اجتهادهم): أسره يأسره إذا شدَّه بالإسار، وهو: القدُّ ، ولهذا سمي الأسير أسيراً لأنه يشد بذلك، ووشك الأمر إذا قرب وقته، وأراد أن الملائكة لما كانوا منزهين عن الأطماع مبرءين عن الشهوات، لا يرون قرب سعيهم وسرعته في نيل مطلوب و قضاء شهوة على بذل الوسع في طاعة الله، وطلب مرضاته، بل ذلك غرضهم وغاية مطلبهم.
(ولم يستعظموا ما مضىمن أعمالهم): على كثرتها وعظم موقعها عند الله تعالى في الإخلاص والقربة.
(ولو استعظموها ): استكثروا ذلك في حق الله تعالى.
(لنسخ الرجاء منهم شفقات وجلهم): أراد أنه لو كان من جهتهم استعظام واستكثار لما يفعلونه، لأ زال ما يرجونه على تلك الأعمال التي استكثروها من الإثابة والجزاء، حذرهم من الله وخوفهم من عقابه؛ لأن بعض العبيد إذا كان مستكثراً ما يأتي به من خدمة مولاه هوَّن ذلك موقع خوفه من سيده إدلالاً على ما فعل واعتماداً عليه.
(ولم يختلفوا في ربهم): فيثبته بعضهم وينفيه الآخرون، وهكذا القول في سائر الاختلاف في صفاته.
(باستحواذ الشيطان عليهم): بإدخال الشبه عليهم في ذلك، واستزلال أقدامهم بالإقدام على الاعتقادات المخالفة للتوحيد.
(ولم يفرقهم): أي لم يجعلهم فرقاًوأحزاباً.
(سوء التقاطع): التقاطع: الشيء الذي يكون حاصلاً بسبب الحسد والبغضاء، بل قلوبهم مجتمعة على حب الله واعتقاد توحيده.
(ولا تولاهم): استولى عليهم، من قولهم: توليت على كذا إذا استوليت عليه.
(غلُّ التحاسد): الغُل بضم الفاء: ما يكون في الرقبة، والغِل بكسرها: ما يكون في القلب، وهو المراد ها هنا، أي أنه لم يكن مستولياً عليهم إحن الصدور الحاصلة بسبب التحاسد.
(ولا شعَّبتهم ) جعلتهم متفرقين فرقاً.
(مصارف الريب): حوادث الدهر بصروفها ونكباتها.
(ولا اقتسمتهم ): ولا جعلتهم على أقسام مختلفة.
(أخياف الهمم): ليس من الخوف، وإنما هو من قولهم: الناس أخياف أي مختلفون، وأرد أن اختلاف هممهم لم تجعلهم علىأقسام مختلفة بل همهم واحد وهو خوف الله تعالى والتزام طاعته.
(فهم أسرى الإيمان ): الذين أسرهم الإيمان بحبله كالأسير المشدود بالحبل.
(لم يفكهم من ربقته زيغ ولا عدول): لم يطلقهم من عراه الوثيقة ميل عنه ولا تعلق بغيره.
(ولا ونى ولافتور): ولا ضعف عن القيام به، ولاتخاذل في القوى.
(وليس في أطباق السماوات موضع إهاب): طبقاتها السبع، الإهاب: الجلد.
(إلا وعليه ملك ساجد): حاني لظهره لا يرفعه.
(أو ساع): بأمر الله إلى حيث أمره.
(حافد): أي مسرع في الامتثال.
(يزدادون على طول الطاعة بربهم علماً): تحققاً ويقيناً .
(وتزداد عزة ربهم في قلوبهم عظماً): لمايشاهدون من عظم الملكوت وكمال الكبرياء.
ولما فرغ من بيان أحوال العالم العلوي في صفة السماء والملائكة فقرره على ما ذكر، ثم تكلم في عجيب خلق الأرض ودحوها على الماء، بقوله:
(كبس الأرض على مور أمواج): كبس الأرض: أي وضعها على الماء، من قولهم: كبس رأسه إذا وضعه بين أثوابه مغطياً له، والمور: الحركة والاضطراب، والأمواج: جمع موج وهو: ما تراكم من الماء بشدة الريح.
(مستفحلة): عظيمة، ومنه قولهم: استفحل الأمر إذا عظم.
(ولجج بحار): اللجة: معظم البحر.
(زاخرة): مرتفعة، من زخر البحر إذا ارتفع وعلا.
(تلتطم أواذي أمواجها): تضطرب من جانب إلى جانب، والأواذي: جمع آذي وهو أشد الموج وأعظمه.
(وتصطفق [بين] متقاذفات): تصطك، والمتقادفات: المترامية.
(أثباجها): الثبج هو: أعلى السنام، شبهها عند تراميها بالسنامات.
(وترغو زبداً): رغا اللبن رغواً إذا ظهر زبده، وزبداً منصوب على التمييز بعد الفاعل، أي: يرغو زبدها.
(كالفحول عند هيا جها): شبه الموج عند تقاذفه بالزبد بفحول الأبل عند هياجها، وهو ما يكون منها عنداشتداد غلمتها ونزوها على الإناث.
(فخضع جماح الماء المتلاطم): فذل وثوب الماء الذي يصك بعضه بعضاً من شدة اضطرابه.
(لثقل حملها): حمل الماء لها، والمصدر مضاف إلى مفعوله.
(وسكن هيج ارتمائه): شدة حركته واضطرابه.
(إذوطئته بكلكلها): إذ ها هنا زمانية، مثلها في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ، إِذْ رَأَى نَارًا}[طه:9-10] والكلكل: الصدر، وأراد أنها سكنت حركته حين استقرت عليه لما فيها من عظم الثقل.
(وذل مستخذياً): خاضعاً مستكيناً، وانتصابه على الحال على جهة البيان لقوله ذل؛ لأنه مفيد لفائدته، كقوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا[مِنْ قَوْلِهَا] }[النمل:19].
(إذ تمعكت عليه بكواهلها): إذ ها هنا وقتية أيضاً، والتمعك هو: التمريغ بالتراب، والكاهل من الإنسان: مجتمع ما بين الكتفين، وأراد أنها انبسطت منفتلة عليه بجوانبها.
(فأصبح بعد اصطخاب أمواجه): صياحها وزفيرها من شدة الاضطراب.
(ساجياً): ساكناً.
(مقهوراً): مستضعفاً.
(وفي حَكَمَةِ الذل منقاداً أسيراً): الْحَكَمَةُ من اللجام: ما يلي حنك الفرس، وأراد أنه حاصل في الحَكَمَةِ، منقاداً لا يتصعب، وأسيراً لا يفتدى فيتخلَّص.
(وسكنت الأرض مدحوة): وحصلت بعد ذلك ساكنة مبسوطة على وجهه.
(في لجة تياره): معظم تغيره وشدة موجه، وسمي الموج تياراً؛ لأنه يحصل تارة بعد تارة.
(وردَّت من نخوة بأوه واعتلائه): النخوة: العظمة ، والبأو: الكبر، والاعتلاء هو: العلو، وفي نسخة أخرى: (وغلوائه): بغين منقوطة وهو العلو أيضاً، ومفعول ردت فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون محذوفاً، ويكون تقديره: وردت من نخوة بأوه ما كان سيوجد لولاها.
وثانيهما: أن يكون مفعوله هو الجار والمجرور، ومن دالة على التبعيض أي وردت بعض ما كان من ذلك.
(وشموخ أنفه وسمو غلوائه): شموخ الأنف كناية عن التكبر، والغلو هو: العلو، وأراد وارتفاع صوته.
(وكعمته): شدت على فِيْهِ.
(على كظة جريته): الكظة هي: الامتلاء في البطن، وأراد أنها سكنته على شدة حركته وجريانه.
(فهمد بعد نزقاته): فسكن بعد طيشه وخفة حركته، والنزقات بالقاف هو: السرعة في الحركة.
(وبعد زيفان وثباته): زاف يزيف أي تبختر واختال، وأراد بعد تبختره في وثبه ونزوانه.
(فلما سكن هيج الماء): وثبه وتدافعه .
(من تحت أكنافها): جوانبها.
(وحمل شواهق الجبال): الشاهق: ما ارتفع من الجبال.
(البذَّخ) : الراسخة أصولها في الأرض.
(فجَّر ينابيع العيون): الينبوع واحد الينابيع، وهي: الأنهار الجارية.
(من عرانين أنوفها): عرنين كل شيء: أوله، وعرنين الأنف: تحت مجتمع الحاجبين، وأراد أنه أظهر هذه العيون من المواضع المرتفعة من الأرض.
(وفرقها في سهوب بيدها): السهب: الفلاة من الأرض، والبيد: جمع بيداء كحمراء وحمر وهي: الأرض المتسعة.
(وأخاديدها): جمع أخدود وهي: الأودية والشعوب.
(وعدَّل حركاتها): أقام الأرض عن الاضطراب.
(بالراسيات من جلاميدها): وهي الجبال، والجلاميد: واحدها جلمود وهي: الصخرة العظيمة.
(وذوات الشمِّ الشناخيب من صياخيدها): الشمم هو: الارتفاع، والشم جمع أشم، والشناخيب: واحدها شنخوب وهي: رؤو س الجبال، والصياخيد هي: الشديدة الصلبة، واحدها صيخود.
(فسكنت من الْمَيَدَان): من الحركة والاضطراب.
(برسوب الجبال): رسب في الماء إذا انغمس فيه، وأراد بانغماسها.
(في قطع أديمها): جوانبها وأركانها، وأديم الأرض: ظاهرها.
(وتغلغلها): أراد الأنهار، والضمير لها أي تخلخلها في الشجر.
(متسربة في جوبات خياشيمها): منصبة في فرجها، الجوبة بالجيم: الفرجة من الأرض، والخياشيم: ما ارتفع منها، وشبه نفوذ الماء في الأرض بما يقطر في الأنف فيذهب [في] الخياشيم متغلغلاً فيها مايعاً بينها.
(وركوبها أعناق سهول الأرضين): ما ارتفع من الأراضي، والضمير للأنهار.
(وجراثيمها): وأصولها، وجرثوم كل شيء: أصله.
(وفسح بين الجو وبينها): أراد أن الجو جعله واسطة بين السماء والأرض، وهو الفتق الذي أشار إليه تعالى بقوله: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا }[الأنبياء:30] بتوسط الجو بينهما.
(وأعدَّ الهواء): هيَّأه وسواه.
(متنسماً لساكنها): من الحيوانات، فإنه لولا هذا الجو لم يكن للأرواح بقاء، ولهذا فإن الحيوان متى غم نفسه ومنع عن التنفس بطلت حياته وذهبت.
(فأخرج إليها أهلها): من كان مخلوقاً فيها من الملائكة والجن وبني آدم.
(على تمام مرافقها ): إكمال منافعها التي هم يحتاجونها ولا بد لهم منها، ليكمل الغرض بخلقهم بالتمكين مما كلفوه، وعلى في موضع نصب على الحال أي وأخرجهم مستوية له المنافع مكملة.
(ثم لم يدع جرز الأرض): وهي التي لا نبات فيها.
(التي تقصر مياه العيون عن روابيها): ما كان مرتفعاً منها، لا تناله العيون والأنهار لارتفاعه عما يصلحه من سقيها.
(ولا تجد جداول الأرض ذريعة إلى بلوغها): الجداول هي: الأنهار الصغار، والعيون: ما كبر منها، أي لاتجد سبيلاً لارتفاعها وعلوها إلى أن تكون متصلة بها.
(حتى أنشأ لها ناشئة سحاب): خلق لها وابتدأ من أجلها، والناشئة: المرتفع من السحاب، وقوله: أنشأ مع قوله ناشئة من أنواع البديع الملقب بالاشتقاق، كقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ }[الروم:43] والبدعة شرك الشرك.
(تحيي مُوَاتَها): تنبت شجرها المنبث باليبس.
(وتستخرج نباتها): ما كان حاصلاً في بطن الأرض فإنه لا يخرج إلا بالمطر.
(ألّف غمامها): جمعه من جهات متفرقة، والضمير للناشئة.
(بعد افتراق لمعه): اللمع: القطع من السحاب المتفرقة.
(وتباين قزعه): القزعة: قطعة من السحاب رقيقة، أي جمع من السحاب ما كان منه غليظاً ورقيقاً.
(حتى إذا تمخضت): تحركت واضطربت، ومنه تمخض الجنين في الرحم وهو اضطرابه.
(لجة المزن فيه ): ماء السحاب العظيم المتراكم.
(والتمع برقه): ظهر سناه ونوره.
(في كففه): قطعه المستديرة، والكفة تطلق على ما كان مستديراً نحو كفة الميزان وغيره.
(ولم ينم وميضه): نما السعر إذا ارتفع وعلا، والوميض: لمعان البرق الخفي.
(في كَنَهْورِ ربابه): الكنهور: السحاب المتراكم، والرباب: السحاب الأبيض، وأراد أن البرق لم يكن لمعانه يميناً وشمالاً؛ لأنه إذا لمع واعترض في جوانب السحاب فهو الحفو وهو أمارة ضعف المطر، وإذا استطال في وسط السحاب وشقه فهو العقيقة، وهو أمارة على جود المطر وغزراة مائه.
(ومتراكم سحابه): الغليظ منه الأسود.
(أرسله سحاً): الضمير للماء، سحاً: متوالياً دفعة بعد دفعة.
(متداركاً ): متصلاً لا يقلع.
(قد أسَّف هيدبه): أسف الطائر إذا دنا من الأرض، والهيدب: شآبيب المطر التي كأنها خيوطه متصلة من السماء إلى الأرض.
(تمريه الجنوب): أَمرْت الناقة إذا در لبنها، والجنوب هي: الريح التي تهب من مطلع سهيل.
(دِرَرَ أهاضيبه): الدرر: جمع درة، وهي: عبارة عن كثرة المطر، والأهاضيب جمع أهضاب جمع هضب، وهي: عبارة عن تدارك القطر [بعد القطر] ، وانتصابه على البدل من الضمير في تمريه السحاب، أو مفعول لفعل محذوف تقديره: ويرسل درر أهاضيبه.
(ودفع شآبيبه): الدُّفعة بالضم مثل الدُّفقة، والشآبيب: جمع شئبوب، وهو ما يكون مثل الخيط الممدود من المطر.
(فلما ألقت السحاب برْكَ بوانيها): البرك: الصدر، والبواني هي: عظام الصدر، جعل للسحابة صدراً وعظاماً، كما جعل امرؤ القيس في الليل صلباً وكلكلا ًفي قوله:
فقلتُ له لما تَمَطّى بِصُلبِهِ
وأردفَ أعجازاً وَنَاءَ بِكَلْكَلِ
استعارة عجيبة.
(وبَعَاع ما استقلت به ): البعاع: الثقل، قال امرؤ القيس:
فألقى بِصحراء الغبيط بَعَاعَه
أي ثقل ما أقلته.
(من العبء المحمول عليها): العبء هو: الحمل، وأراد ما أقلت من الماء المحمول عليها.
(أخرج به من هوامد الأرض): صحاري الأراضي التي لا نبات فيها.
(النبات): وهو عبارة عن جميع ما تشققت عنه الأرض.
(ومن زعرالجبال): أماكنها التي لا نبات فيها.
(الأعشاب): وهو عبارة عن جميع الحشائش مما تأكله الأنعام.
(فهي تبتهج ): البهج هو: الحسن والنضارة، قال الشاعر:
كان الشباب ردآءً قد بَهِجْتُ به
فقد تطاير مني للبلى خِرَقُ
(بزينة رياضها): بما يحصل في متونها من الحسن بسبب الخضرة.
(ويزدهي ): يتكبر ويفخر.
(بما ألبسته): الأرض وأعشب إياه.
(من ريط أزاهيرها ): الرِّيْطُ جمع رَيْطَة وهي: الملاءة، قال:
درس الجديد جديد مَعْهَدِها
فكأنَّما هي رَيْطَةُ جَرْدُ
والأزاهير جمع لأزهار جمع زهر.
(وحلية ما سمطت به): خلطت.
(من نواظر أنوارها): الأنوار جمع نَوْرِ وهو: زهر الشجر.
(وجعل ذلك): الإشارة إلى ما تقدم ذكره مما تخرجه الأرض.
(بلاغاً للأنام): رزقاً يبلغهم إلى ما أرادهم له من العبادة وتستقيم أحوالهم معه.
(ورزقاً للأنعام): وقوتاً للمواشي وسائر الحيوانات، وإنما خص الأنام بالبلاغ، وجعل الرزق في حق الأنعام، وكل واحد منهما رزق إشارة إلى أن غرض الله تعالى ومراده بإعطائهم أعني بني آدم الرزق، إنما هو من أجل أن يبلغوا به إلىعبادته ويكون وصلة لهم إليها.
(وخرق الفجاج في آفاقها): سلك الطرق في جوانبها لطلب المنافع وسائر الا رتفاقات.
(وأقام المنار للسالكين على جواد طرقها): أعلام الطرق، وهو: ما يهتدى به إليها من الجبال والروابي والآكام، وغير ذلك مما يكون هداية إلى الطرقات، ودليلاً عليها، كما جعل النجوم في البحر أمارة لها.
(فلما مهد أرضه): بما جعل فيها من المنافع والأرزاق والخيرات لمن فيها.
(وأنفذ أمره): أمضاه وقدره بما يريده من خلق هذه العوالم كلها، ولما سبق في علمه من ذلك.
(اختار آدم): اصطفاه.
(خيرة من خلقه): الخيرة بسكون الياء الاسم من خار الله له خيرة، وبتحريكها الاسم من اختار الله، وكلاهما حاصل في حقه عليه السلام، والرواية بهما جميعاً.
(وجعله أول جِبلَّته): خليقته من بني آدم؛ لأن قبله قد كان غيره من الملائكة والجن.
(وأسكنه جنته): كما قال تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ }[الأعراف:19].
(وأرغد فيها أكله): هنَّأه، كما قال تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا }[البقرة:35].
(وأوعز إليه): أي قدم.
(فيما نهاه عنه): كما قال: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ }[البقرة:35].
(وأعلمه أن في الإقدام عليه): الضمير في عليه لما نهاه عنه من أكل الشجرة.
(التعرض لمعصيته): بالوقوع فيها.
(والمخاطرة بمنزلته): المخاطرة: الإشراف على الهلاك، وهو ما يكون من ذهابها وزوالها.
(فأقدم على ما نهاه عنه): بأكل الشجرة التي نهي عن أكلها.
(موافاة لعلمه السابق ): لأن الله تعالى قد علم في سابق أزله أنه يأمره بدخول الجنة، وينهاه عن أكل الشجرة، وأنه يأكلها لا محالة، وما علم الله وجوده فلا بد من وقوعه، وليس العلم بأنه يأكلها موجباً لأكلها، كما تزعمه المجبرة، وإنما أكلها بمعصيته وسوء اختياره لنفسه، وانقياده لإبليس واغتراره به، ولو كان العلم موجباً لمعلومه لبطل الأمر والنهي والمدح والذم، فتباً لهذه المذاهب ما أبعدها،وسحقاً لهذه الآراء، فما أسخفها!.
(فأهبطه بعد التوبة): أراد فأخرجه من الجنة مكافأة له على مخالفة ما نهي عنه، ثم تاب عليه رحمة من الله تعالى ولطفاً به، ثم أهبطه بعد ذلك إلى الدنيا.
(ليعمر أرضه بنسله): بأولاده الذين يخرجون من صلبه.
(وليقيم الحجة به على عباده): لأنه أهبطه بالنبوة والشريعة لمصالح الخلق وإزاحة عللهم كغيره من الأنبياء، وهو أولهم.
(ولم يخلهم بعد أن قبضه): يتركهم بعد موته.
(مما يؤكد عليهم حجة ربوبيته): توحيده وكونه رباً تجب عبادته.
(ويصل بينهم وبين معرفته): أي ولتكون بعثة الأنبياء سبباً إلى الحث بالنظر في معرفته.
(بل يعاهدهم ): إضراب عن الترك، وإثبات التعهد، والتعهد هو: التحفظ على الشيء، وهو أفصح من التعاهد؛ لأنه لا يقع إلا بين اثنين.
(بالحجج على ألسنة الخيرة من أنبيائه): بالأدلة الواضحة والتنبيه عليها من جهة الأنبياء الذين اختارهم الله تعالى لإبلاغ ذلك وإيصاله.
(ومتحملي ودائع رسالاته): والمؤتمنين على العلوم الغيبية التي أودعوا إياها.
(قرناً فقرناً): أي ما من قرن إلا ويُبعَثُ فيهم نبي من الأنبياء من أجل صلاحهم .
(حتى تمت بنبينا محمد صلى الله عليه وآله حجته): فختم به الرسالة، وجعله حجة على من بعث إليه كغيره من الأنبياء.
(وبلغ للقطع عذره ونذره): وبلغ غاية الأمر وقصاراه ما كان من جهة الله تعالى على لسانه من الإعذار بالحجج والإنذار للعقوبات الأخروية.
(وقدَّر الأرزاق): على ما يعلم من المصلحة.
(فكثّرها): لمن يعلم ذلك صلاحاً في حقه.
(وقللّها): لمن يعلم ذلك صلاحاً في حقه.
(على الضيق ): في بعضها.
(والسعة): في بعض آخر.
(فعدل فيها): فجعل ذلك عدلاً من جهته وحكمة بالغة.
(ليبتلي من أراد): ليختبر على حد إرادته في ذلك.
(بميسورها ومعسورها): الميسور والمعسور، إما صفتان على رأي سيبويه، وإما مصدران على رأي غيره، وكلاهما محتمل ها هنا.
(وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها): لأن صاحب اليسر يحتاج إلى الشكر على تمام نعمة الله تعالى، من إرخاء الرزق وإدراره عليه، وصاحب العسر يفتقر إلى الصبر على ما ابتلاه الله، من الحاجة وضر الفقر والمسكنة.
(ثم قرن بسعتها): ضم إلى السعة وألزمها.
(عقابيل فاقتها): آثار الفاقة، والعقبول: واحد العقابيل وهي آثار الشيء وبقاياه.
(وبسلامتها طوارق آفاتها): أراد أنه ألزم السعة بالفاقة والسلامة بالآفات.
(وبفرج أفراحها غصص أتراحها): الفرح: هو السرور، والترح: الغم، فهذه الأمور كلها متعاقبة بعضها في إثر بعض كما مر ذكره.
(وخلق الآجال فأطالها وقصرها): فإطالتها ببلوغ سن الهرم، وتقصيرها بلبث ساعة في الدنيا، ثم ما بين الأمرين أعمار مختلفة يعلمها علامها، ويقدرها محكمها.
(وقدّمها وأخرّها): فهذا يموت قبل هذا، وهذا يعيش بعد هذا.
سؤال؛ هل يمكن تفرقة بين الإطالة والتقصير، [وبين التقديم فيها والتأخير، أو يكون كلاماً مترادفاً] ؟
وجوابه؛ [نعم، فإن الإطالة والتقصير] بالإضافة إلى المدة نفسها، فمنهم من بلغ حد الهرم وبعضهم حد الشيخوخة، وحد الكهولة، وحد الطفولية، وأما التقديم والتأخير فهو بالإضافة إلى المعمرين أنفسهم، بتقديم بعضهم على بعض في الحياة والموت.
(ووصل بالموت أسبابها): وجعل منتهاها وغايتها، سواء طالت أو قصرت الموت.
(وجعله خالجاً لأشطانها): جاذباً لحبالها بالقطع، والأشطان: الحبال، قال عنترة :
كيفَ التَّقدّمُ والرماحُ كأنَّها
أَشْطَان بِئْرٍ في لَبانِ الأدْهَمِ
(وقاطعاً لمرائر أقرانها): المرير: الحبل الدقيق، والأقران: جمع قرن بفتح الراء وهو: الحبل الشديد الفتل.
وحين فرغ من الكلام في لطائف هذه المخلوقات، في القدرة وبديع خلق هذه المكونات ذكر دقيق علمه وكيفية إحاطته بكل المعلومات فقال:
(عالم السر من ضمائر المضمرين): فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون (من) لبيان الجنس، ويكون المعنى أنه يعلم السرَّ الذي هو ضمائر المضمرين.
وثانيهما: أن تكون (من) للتبعيض، ويكون معناه عالم السرِّ وهو بعض ما أضمره المضمرون؛ لأن ما في ضميرك بعضه تجهربه للغير، وبعضه تسرُّه في نفسك، وهذا كقوله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ }[طه:7] وهو ما تسرُّ به على غيرك {وَأَخْفَى}، وهو ما تضمره في نفسك.
(ونجوى المتخافتين): والمخافتة التي فوقها جهر ودونها لايسمع، قال الشاعر:
أخاطب جهراً إذ لهنَّ تخافت
وشتان بين الجهر والمنطق الخفت
(وخواطر رجم الظنون): وبرجيم الخواطر بظنونها الكاذبة.
(وعُقَدِ عزائم اليقين): وما قطع به من العقود اليقينية العلمية، وإنما عبَّر عمَّا يتعلق بالظن بالرجم والخواطر، وعبَّر عمَّا يتعلق بالعلم بالعقد والعزيمة، لما كان الظن على شرف الزوال فيخطر في حالة دون حالة، ولما كان ما يعلم ثابت لا يتغير عبَّر عنه بالعقد والعزيمة؛ إلحاقاً لكل شيء بما يليق به، وهذا من عجائب كلامه ولطيف أسراره.
(ومسارق إيماض الجفون): يقال: أومضت المرأة إذا سارقت نظرها ، وفلان يسارق النظر إذا كان مرتقباً للغفلة فينظر في حالها.
(وما ضمنته أكنان القلوب): حُجَبُهَا وأستارها المتضمنة بها.
(وغيابات الغيوب): غيابة البئر: قعرها، وأراد بعيدات الغيوب وأقاصيها.
(وما أصغت لاستماعه مصائخ الأسماع): الإصغاء في السماع بمنزلة التحديق في رؤية العين، ومصائخ الأسماع: إصاخاتها ، قال أبو داود:
ويصيخ أحياناً كما استم ... ع الْمُضِلُّ لصوتٍ ناشد
(ومصايف الذر): جمع مصيف.
(ومشاتي الهوام): جمع مشتى، وهما عبارتان عن زمن الصيف والشتاء، وإنما خص الذر بالمصايف لأنها لا تحتفل بالبرد، وإنما تهرب من الحر في أماكن مخصوصة حذراً على نفسها وعلى فساد أرزاقها من الحر، وأما سائر الهوام فتخاف من البرد فتفزع إلى المغارات والأمكنة الضيقة.
(ورجع الحنين من المولهات): وما ترجعه المولهة من البهائم وهي الثكلى شديدة الوجد بفقد ولدها من أصواتها من الحزن.
(وهمس الأقدام): أصواتها الخفية عند السير.
(ومنفسح الثمرة من ولائج غُلُف الأكمام): الوليجة: خلاصة الثمرة، والغلاف والكمام: وعاؤها التي هي فيه، ومنفسح الثمرة: انفصالها من كمامها.
(ومتقمع الوحش ): موضعه من القماع وهي: الأماكن المرتفعة.
(من غيران الجبال وأوديتها): وموضعه من المواضع المنخفضة كالمغارات والأجحرة.
(ومختبإ البعوض): موضع اختبائه.
(بين سُوْقِ الأشجار): جمع ساق.
(وألحيتها): بين أصل الشجرة وقشرها.
(ومغرز الأوراق): موضع اتصالها.
(بالأفنان): وهي الشماريخ وأعواد الشجر.
(ومحطِّ الأمشاج): وموضع قرار النطفة من الرجال والنساء.
(من مسارب الأصلاب): جمع مسرَبة بفتح الراء وضمها وهو: ما يوضع فيه، وأراد به النساء.
(وناشئة الغيوم): وهي السحائب.
(ومتلاحمها): ما اختلط بعضها ببعض.
(ودرور قطر السحاب ومتراكمها ): والمتفرِّق من قطر المطر والمجتمع منه.
(وما تَسْفِي الأعاصير): جمع إعصار وهي: الريح التي تثير الغبار وترتفع إلى السماء كالعمود.
(بِذُيُولها): شبَّه انسحابها على الأرض بالذيل المبسوط.
(وتعفو الأمطار بسيولها ): تمحوه بجري السيول عليه.
(وعوم نبات الأرض في كثبان الرمال): العوم: السباحة، وأراد ها هنا جري نبات الأرض وغوصه في الرمال والكثب منها، وكثبان جمع كثيب.
(ومستقر ذوات الأجنحة): من الطيور.
(بذرا شَنَاخِيْبِ الجبال): ذروة كل شيء أعلاه، وشناخيب الجبال: أعلاها.
(وتغريد ذوات المنطق): وإفصاح ما نطق من الطير بالأصوات المختلفة.
(في دياجيرالأوكار): في ظلام أماكنها ومستقرها.
(وما أودعته الأصداف): وهي أوعية اللؤلؤ وأغلاف الجواهر.
(وحَضَنَتْ عليه أمواج البحار): جعلته في أحضانها، استعارة لذلك، من قولهم: حضنه إذا ضمه إلى صدره، وحضن الطائر بيضه إذا ضمه إليه.
(وما غشيته سُدْفَةُ ليل): ظلام الليل.
(أو ذرَّ عليه شارق نهار): سمى النهار شارقاً لما فيه من الإشراق والنور لطلوع الشمس.
(وما اعتقبت عليه أطباق الدياجير):فيه وجهان:
أحدهما: أنه يريد بأطباق الدياجير ظلمات الأرضين على ما اشتملت عليه من المخلوقات.
وثانيهما: أن يريد بذلك ما اعتقبت عليه أي اختلفت عليه الليالي المظلمة وإطباقها عليه وهذا أحسن لقوله: واعتقبت.
(وسُبُحَاتُ النور): السابحة: دون الأشعة من الأنوار.
سؤال؛ ما ذكرالله تعالى النور والظلمة في كتابه إلاو جمع الظلمة، وأفرد النور كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ }[الأنعام:1] وغير ذلك، وهكذا في كلام أميرالمؤمنين فإنه جمع الدياجير وأفرد النور، فما وجه ذلك؟
وجوابه؛ هو: أن الظلمة عبارة عن عدم النور كما اخترناه في الكتب العقلية، فلما كان النور جنس واحد وحقيقته واحدة فلا جرم أفرد، وأما الظلمة فهي بحسب الإضافات أمور كثيرة؛ لأنه ما من شيء من الأجرام الجسمية إلا وله ظل، وظله عدم النور عنه، وهو نفس الظلمة فلأجل هذا كانت مجموعة.
(وأثر كل خَطْوَة): إما مقدارها في حجمها، وإما حكمها في ثوابها وعقابها.
(وحسِّ كل حركة): وحال كل متحرك بحركة.
(ورجع كل كلمة): جوابها، ومنه قولهم: أتاني رجع كتابي أي جوابه.
(وتحريك كل شفة): من خفيها وجهرها وفصيحها وأعجمها.
(ومستقر كل نسمة ): أين تكون في جميع الجهات والأمكنة.
(ومثقال كل ذرة): ما يثقلها في الحمل فلا يعزب عن علمه شيء، كما قال تعالى: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ}[سبأ:3].
(وهماهم كل نفس هامة): الهمهمة: ترديد الصوت في الصدر، وجمعها هماهم، والهامة هي: التي تهم بالفعل وتريده، أو التي تدب على وجه الأرض وتتحرك فيها.
(وما عليها): الضمير للأرض المتقدم ذكرها.
(من ثمرة شجرة ): من أشجارها المثمرة.
(أو ساقط ورقة): كما قال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا }[الأنعام:59] وساقط ورقة من باب إضافة الصفة إلى فاعلها نحو: حسن وجهه.
(أو قرار نطفة): مستقرها في رحم كل أنثى.
(أو ناشئة خلق): من كل ما ابتدأه واخترعه من جميع المكونات.
(أو نقاعة دم ): أو دم مجتمع [قد أريق] .
(أو سُلالة): وسلالة الشيء: ما استل منه وأخذ، فاستلال آدم من الطين، واستلال أولاده من النطفة.
(لم يلحقه في ذلك): الإشارة إلى جميع ما تقد م من المخلوقات المحكمة.
(كلفة): مشقة في صنعه واختراعه.
(ولا اعترضه في حفظ ما ابتدع من خلقه عارضة): الاعتراض: ما يمنع من الشيء ويحول دون فعله، والعارضة إما صفة أي حالة عارضة دون فعله للأشياء، وإما مصدر أي ولا عرض له [عروض] يصده عن ذلك.
(ولا اعتورته في تنفيذ الأمور): تداولته، من الاعتوار وهي: التداول في إمضاء الأمور.
(وتدابير المخلوقين): في جميع أحوالهم وأمورهم، وإنما جمع التدبير لاشتماله على الأنواع المختلفة، والضروب المتفاوتة على حسب مصالحهم.
(ملالة): وهو ما يلحق بالنفس من الإعراض والسآمة.
(ولا فتور ): وهو ما يلحق الأعضاء من الضعف والهوان.
(بل): إنما هو إضراب عن ذلك وإثبات لنقيضه.
(نفذهم): من قولهم: نفذ السهم بالصيد إذامرقه، وأراد أنه استولى عليهم.
(علمه، وأحصاهم عدُّه): كما قال تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }[الجن:28].
(ووسعهم عدله): أي لم يضق فيجاوزهم إلى الجور.
(وغمرهم فضله): من قولهم: غمره الماء إذا كان فائضاً على رأسه.
(مع تقصيرهم عن كُنْهِ ما هو أهله): قصورهم عن غاية ما هو أهله من الشكروالعبادة والقيام بحقه.
ولما فرغ من بيان كمال القدرة وباهر العلم في حقه تعالى أردفه بالجؤار إلى الله تعالى والتوسل إلى كرمه في الرغائب من عنده، بقوله:
(اللَّهُمَّ، أنت أهل الوصف الجميل): الحقيق بالأوصاف الحسنة والأسماء العالية.
(والتعداد الكثير): من أنواع التسبيح والتقديس، أو من النعم على خلقك والإفضال مما لا يمكن عدُّه لكثرته.
(إن تؤمَّل): في الإعطاء والكرم الواسع.
(فخير مأمول): فأعظم من يُعْطِي، وأكرم من يُفْضِلُ.
(وإن تُرجَ): لغفران الخطايا وقبول التوبة عن كل من أذنب.
(فخير مرجّو): لذلك؛ إذ لا يطلب من غيرك، ولا يرجى ذلك من سواك.
(اللَّهُمَّ، وقد بسطت لي): مكنتني من المدائح العظيمة والثناءات الحسنة.
(فيما لا أمدح به غيرك): في الذي لا ينبغي لي أن أمدح به غيرك لقصوره عن ذلك وعدم استحقاقه له.
(ولا أثني به): ولا أوجه الثناء به.
(على أحد سواك): لأنه في غيرك كذب، وفيمن سواك نقص عليَّ.
(ولا أوجهه إلى معادن الخيبة): مواضع الرجاءات الخائبة من الآدميين، وجعلهم معادن؛ لأنهم مظنة ذلك وموضعه الذي يطلب فيه.
(ومواضع الريبة): الشك والارتياب عن أن يكون حاصلاً.
(وعدلت بلساني): صرفتها.
(عن مدائح المخلوقين): لكونهم غير أهل لها، ولا مستحقين لشيء منها.
(والثناء على المربوبين): المملوكين لأن الرب هو المالك، وقوله: المخلوقين والمربوبين تعريض بحالهم؛ لأن من هذه حاله في كونه مخلوقاً مربوباً فحاله متقاصر في كل ما يؤمّل منه.
(اللَّهُمَّ، ولكل مثنٍ على من أثنى عليه): لكل مادح على ممدوحه الذي اختاره لمدحه وخصه به من دون غيره.
(مثوبة من جزاء): إنما سمي الثواب ثواباً لكونه جزاء على الطاعات، فلهذا قال: مثوبة من جزاء أي مثوبة من أجل الجزاء.
(وعارفة من عطاء): العارفة: هي المعروف، وأراد ومعروف من أجل العطاء.
(وقد رجوتك دليلاً): دالاً لي ومعيناً بالألطاف الخفية على الأعمال الصالحة التي تكون عوناً.
(على ذخائر الرحمة): تحصيلها واكتسابها من عندك.
(وكنوز المغفرة): التي ذخرتها وكنزتها للخواص من أوليائك وأهل الكرامة عندك.
(اللَّهُمَّ، وهذا مقام من أفردك بالتوحيد): مدحك بالمدائح الدالة على أنك واحد.
(الذي هو لك): بحيث تكون مختصاً به ولا يستحقه أحد سواك.
(ولم ير مستحقاً لهذه المحامد والممادح): المحامد: جمع محمدة، والمدائح: جمع مديحة، وكلاهما مصدر بمعنى الحمد والمدح.
(غيرك): سواك.
(وبي فاقة إليك): حاجة وفقر.
(لا يَجْبُرُ مسكنتها): ضعفها وهوانها.
(إلا فضلك): كرمك وخيرك.
(ولا يَنْعَشُ من خَلَّتِها): نعشه إذا نهضه من عثاره، والخَلَّةُ بالفتح هي: الحاجة.
(إلا مَنُّكَ وجُودُكَ): تفضلك الذي لم يكن عن استحقاق وعطاؤك.
(فهب لي في هذا المقام): أراد الذي قمت فيه بمدائحك.
(رضاك ): رضوانك وهو أعظم ما يُعْطَى لقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَر }[التوبة:72].
(وأغننا): بأن لا تجعل لنا حاجة إلى غيرك.
(عن مدِّ الأيدي إلى سواك): جعل مدَّ الأيدي كناية عن السؤال، وأراد عن سؤال غيرك.
({إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ })[آل عمران:26]: من ذلك كله، وقد ختم هذه الخطبة بهذه الآية فوقعت في أحسن موقع، وكانت أحسن ختام.
ثم إن كلامه عليه السلام مع ما له من التمييز على غيره من الكلامات فهي متميزة عنه بأن صارت قمر هالته، وفَلْكَ غزالته .
(89) و من كلام له عليه السلام لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان
(دعوني والتمسوا غيري): اتركوا مراودتكم لي على الإمامة، واطلبوا رجلاً آخر ترضونه.
سؤال؛ أليس هو منصوصاً عليه في الإمامة على مذهبكم، فما باله أمرهم بطلب غيره، ولا وجه للعقد مع النصِّ بالإجماع؟
وجوابه؛ هو أن الأمر كما ذكرته في كل ذلك، ولكنه أراد قد أخطأتم وجه النظر في النص بإثبات إمامة من قبلي، فاجروا على وهمكم هذا في بيان إمامة من يكون مخالفاً لي.
(فإنَّا مستقبلون أمراً): إما أن يكون من الموت، وأهوال القيامة، وإما أن يكون من الفتن المضلة الواقعة.
(له وجوه وألوان): لفزعه وكثرة أهواله.
(لا تقوم له القلوب): لعظمه.
(ولا تثبت عليه العقول): أي أحكام العقول من المدح والذم، والثواب والعقاب، على الطاعة والمعصية، لما يحصل فيه من الإلجاء وبطلان الاختيار ، بمشاهدة الأهوال العظيمة، وهذا يؤيد الاحتمال الأول.
(فإن الآفاق قد أغامت): فلم تظهر شمسها لما حجبها من الغيم.
(والمحجة قد تنكرت): والطريق قد التبست معالمها فلا يهتدى لسلوكها، فاستعار الغيم في الأفق، والتنكر في الطرق، منبهاً به على وقوع اللبس في الدين، وتغطية وجه الصواب.
(واعلموا): أمر لهم بالتحقق لما يقوله لهم.
(أني إن أجبتكم): إلى ما دعوتموني إليه من أمر الإمامة والبيعة.
(ركبت بكم): من قولهم: ركب فلان الأمور العسرة.
(ما أعلم): إما الذي يوجبه اجتهادي وتقتضيه بصيرتي، وإما طلب الآخرة والإعراض عن الدنيا، وكل ذلك مخالف لمقصودكم ومباين لأهواءكم.
(ولم أصغ): أميل، من قولهم: صغا إلى كذا إذا كان مائلاً إليه، كما قال تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ }[الأنعام:113].
(إلى قول القائل): ما لك فعلت كذا؟ ولِمَ لمْ تفعل كذا؟
(وعتب العاتب): مواجدة الواجد على ما في قلبه، فإني غير ملتفت إلى ذلك ولا مكترث به .
(وإن تركتموني): عن البيعة والقيام بالأمر.
(فأنا كأحدكم): لا سلطان لي عليكم، وما لي من الحق إلا كحق أحدكم على أخيه.
(ولعلي أسمعكم وأطوعكم): وأرجو أن أكون أخوفكم لله في الانقياد والاحتكام.
(لمن وليتموه أمركم): بايعتموه وقام بالأمر فيكم.
(وأنا لكم وزير): معاضد ومعين.
(خير مني لكم أمير !): حاكم عليكم لمكان الإمرة وحكم السلطنة.
سؤال؛ كيف قال: إنه وزير خير من كونه أميراً، والمعلوم خلاف ذلك، فإن الصلاح في إمرته ظاهر لا يمكن دفعه، خاصة على قولكم: إنه منصوص عليه، ثم لو لم يكن ثَمَّ نصٌّ عليه ، فكونه إماماً لا يخفى صلاحه على مسلم؟
وجوابه من وجهين؛
أما أولا:ً فلأنه إنما قال ذلك على جهة الهضم لنفسه والغض لها، كما قال عمر: كلكم أفقه من عمر حتى المخدَّرات في البيوت.
وأما ثانياً: فلأن المراد بقوله خير، أي أسهل؛ لأنه إذا كان وزيراً جازت مخالفته، بخلاف حاله إذا كان أميراً فإن مخالفته حرام.
(90) ومن خطبة له عليه السلام
(أما بعد، أيها الناس، فأنا فقأت عين الفتنة): فقأ عينه إذا أعورها، وأراد أنه الذي هدم منارها ومحا آثارها.
(ولم يكن لأحد غيري أن يجترئ عليها): وغرضه من ذلك هو قتل البغاة، وحرب أهل القبلة معاوية وأهل الشام، وحرب الجمل، فإن من كان قبله من الخلفاء كان حربهم مقصوراً إما على أهل الردة كما كان من أبي بكر، وإما على الروم والفرس وغيرهم كما كان من عمر، فأما أهل البغي فما أُخِذَتْ أحكام حربهم إلا منه، وإنما قال: ما كان لأحد أن يجترئ عليها غيره لما فيه من الخطر العظيم من قتل قائل: لا إله إلا الله، وإنما أقدم على ذلك لما خصه الله به من نفوذ البصيرة وتنويرالقلب وشرحه وتبحره في العلوم الدينية.
(بعد أن ماج غيهبها): اضطرب ظلامها ومنه الموج، وإنماسمي بذلك لكثرة اضطرابه.
(واشتد كَلَبُها): الكَلَبُ هو: الشر [من كل شيء، ومنه كلب النار وكلب الحرب لما فيهما من الشر] وهو بفتح اللام.
(فسلوني ): عن الحكم والآداب الدينية والدنيوية، وعن كل ما يصلحكم من مهمات الدين.
(قبل أن تفقدوني): بانقطاع أثري عن الدنيا بالموت.
(فوالذي نفسي بيده): إقسام [بما] لا يقدر عليه إلا الله، وهو إمساك الأرواح كقولك: لا والذي يعلم الخائنة للأعين.
(لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة): من الحوداث التي بينكم وبين يوم القيامة من الفتن والأهوال والمصائب والآفات، وهذا من العلوم الغيبية التي لا تعلم إلا بإعلام من جهة الله تعالى بواسطة الرسول، فإنه غيرممتنع أن يكون الرسول قد أخبره بذلك كله، وأقره في سمعه، ولهذا صرَّح به في كلامه هذا.
(ولا عن فئة): جماعة، قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ }[البقرة:249].
(تهدي مائة): ترشد هذا العدد إلى الخير.
(وتضل مائة): وتدعو هذا العدد إلى الخسارة.
(إلا أنبأتكم): أعلمتكم وأخبرتكم.
(بناعقها): النعق بالعين المهملة هو: ما يكون من الدعاء للبهائم، يقال: نعق للضأن إذا صاح بهن، والنغق بالغين المنقوطة هو: صياح الغراب يقال: نغق الغراب، وحكى ابن كيسان : نعق الغراب بالعين المهملة أيضاً ، وأراد بمن يصيح بها.
(وقائدها وسائقها): وبمن يكون قدّامها وإماماً لها، وبمن يكون خلفها يحثُّها من ورائها.
(ومُنَاخ رِكَابِها): وموضعها الذي تنيخ فيه ركايبها .
(ومحط رحالها): وأماكنها التي تلقي فيه أثقالها من الرحال وغيرها.
(ومن يقتل من أهلها قتلاً): بالسيف.
(ومن يموت من أهلها موتاً): حتف أنفه.
(ولو قد فقدتموني): بالموت والتولي عن الدنيا.
(ونزلت بكم كرائه الأمور): من الخطوب المكروهة والحوادث العظيمة.
(وحوازن الخطوب): حزنه الأمر إذا دهمه وأصابه، وأراد وحوادث الخطوب التي تصيب أهلها بالغم والحزن.
(لأطرق كثير من السائلين): حيرة ودهشاً وذهاباً عن السؤال، والإطراق: السكوت .
(وفشل كثير من المسئولين): أزعجوا وارتعد ت فرائصهم لما يعتريهم من القلق لعظم الأمر وكبره.
(وذلك): إشارة إلى ما ذكره من الإطراق والفشل وتغير الأحوال.
(إذا قلَّصت حربكم): قلص الما ء إذا ارتفع، وأراد ارتفع شرها وعظم أمرها، وقوله: حربكم أي التي أنتم بصددها
(وشمرت عن ساق): شمر في سيره إذا أسرع فيه، والساق: الشدة، قال الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }[القلم:42] ويقال: شمرت الحرب عن ساق أي شدة وجهد وبلاء.
(وضاقت الدنيا عليكم ضيقاً): لما يغشاكم من الغمِّ، وذلك لأن الإنسان إذا نزل به أمر وخطب عظيم ضاق عليه الواسع من الأرض، كما حكى الله تعالى عن الثلاثة المخلفين : {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ }[التوبة:118].
(تستطيلون أيام البلاء عليكم): تفسير لقوله: ضاقت عليكم الدنيا؛ لأن الا ستطالة لم تكن إلا من أجل الضيق لأن أيام الدعة تكون قصيرة.
(حتى يفتح الله لبقية الأبرار منكم): أهل الصلاح والتقوى فرجاً من عنده وفتحاً من جهته، وهذا كله إخبار بما هو كائن بعده وصفة لأحوالهم في ذلك الزمن.
(إن الفتن إذا أقبلت شبَّهت): لأن عند إقبالها يشتغل الناس ببليتها والسعي في دفعها وإصلاحها، ويلهون بذلك عن النظر في أسبابها فتشتبه عليهم الحال فيها.
(وإذا أدبرت نبَّهت): لأنها عند إدبارها وتوليها يفزعون للتفكر في أحوالها ويتنبهون لأسبابها ولدفعها والتحرز من ميلها .
(ينكرن مقبلات):لما يحصل عند إقبالهنَّ من الدهشة والقلق فلا يمكن النظر في حالهنَّ.
(ويعرفن مدبرات): لفراغ الخاطر عن بلاءهنَّ فلا جرم أمكن النظر عند إدبارهنَّ، (ومقبلات ومدبرات)، منصوبات على الحال أي في حال إقبالهنَّ وإدبارهنَّ ينكرن ويعرفن.
(يَحُمن حوم الحمام ): وحام الطيرحوماً إذا دار في طيرانه، وأراد أن دأبهنَّ التحويم على أفئدة الخلق بالإضلال لهم عن الحق.
(يصبن بلداً، ويخطئن بلداً): إما على ظاهره، فإنهنَّ إنما يقعن في بلد دون أخرى؛ لأن الفتن لا تعم الدنيا كلها، وإما أن يكون أراد بالبلد قوماًدون آخرين، فإنه قد روي عن الرسول أنه قال: ((سألت الله أن لايلبس أمتي شيعاً فمنعنيها )) وأراد ما بينهم من التفرق والخلاف والفتن في الدين.
(ألا وإن أخوف الفتن عندي عليكم): أكبرها وأعظمها خوفاً في الدين.
(فتنة بني أمية): لما ظهر فيها من الجور والظلم، وهو أول بغي كان في الإسلام وظلم وجور.
(فإنها فتنة عمياء): لايهتدى فيها لمنار الحق وسبيله.
(مظلمة): ذات ظلام لما يظهر فيها من الظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة على أهله.
(عمَّت خُطتها): الخُطة بالضم هو: الأمر الشديد، وأراد أن شدتها عمَّت الخلق بما كان منهم من ظلمهم وفسادهم.
(وخصَّت بليتها): أمير المؤمنين بما كان من معاوية وحزبه وخروجه عليه، وتأليب الناس على قتاله في صفين، ثم أولاده بعده ، أما الحسن بن علي فسمه معاوية على يد امرأة ، وأما الحسين بن علي فقتله يزيد على يد عبيد الله بن زياد، وغير ذلك مما كان من الأموية من الأفاعيل بالزيدية الزكية.
(وأصاب البلاء من أبصر فيها): من كانت له بصيرة مثل ما كان من الفاطمية من البصيرة في حربهم، فنالهم المكروه من أجل ذلك.
(وأخطأ البلاء من عمي عنها): من كان لا بصيرة له في الإنكار عليهم، فسلم من ضُرِّهم وقتلهم من أفناء الناس.
(وايم الله): كلمة تستعمل في القسم، وموضعها صدر الكلام، وهي مرفوعة على الابتداء، وخبرها محذوف، أي ايم الله قسمي، وهي جمع يمين كما مرَّ بيانه.
(لتجدُنَّ بني أمية لكم أرباب سوء بعدي): ولاة سوء بعد انقضاء مدتي، من أجل إبطالهم لقواعد الشرع ومحو رسومه وتعفية آثاره.
(كالناب): الناقة الْمُسِنَّة.
(الضروس): السيئة الخلق لما فيها من الشره والشَكَسِ.
(تعذم بِفِيْهَا): تعضُّ حالبها بِفِيْهَا.
(وتخبط بيدها ): والخبط: الضرب باليد.
(وتَزْبِنُ برجلها): الزَّبْنُ بالزاي: الدفع، وأراد أنها تركض برجلها.
(وتمنع درها): لهذه الأشياء فلايمكن الوصول إليه، ولاسبيل إلى الانتفاع بلبنها، وغرضه من هذا التنبيه على بني أمية بأن ضررهم على الخلق عظيم في جميع أحوالهم، وخيرهم مفقود لا ينال شيء منه أبداً.
(لا يزالون بكم): في أيامهم وزمان دولتهم .
(حتى لا يتركوا منكم أحداً إلا نافعاً لهم): معيناً لهم على ظلمهم وفجورهم.
(أو غير ضائر بهم ): أو معتزلاً عنهم، لا يضرهم في تغيير ما هم عليه.
(ولا يزال بلاؤهم عنكم ): محنتهم عليكم وضرهم بكم دائماً مستمراً فيكم.
(حتى لايكون انتصار أحدكم منهم إلا مثل انتصار العبد من ربه): أراد أن غاية انتصاركم من ظلمهم ليس إلا بالاسترحام والاسترجاع، كما يكون ذلك من جهة السيد لعبده، فإن انتصاره منه ليس إلا بذلك.
(والصاحب من مستصحبه): وانتصار الصاحب من صاحبه ليس إلا بالعتاب والمكالمة اللينة، فأما ما سوى ذلك من منعهم عن المناكر وإكراههم على تركها بالسيف، وزمِّهِم عن الظلم والضرب على أيديهم، فهذا مما لا سبيل إليه في أيامهم.
(ترد عليكم فتنتهم شُوْهاً ): قبيحة لاشتمالها على المنكرات العظيمة والأفعال الشنيعة.
(مخشنة): الخشن: خلاف اللين، وأراد أنها جرزة لميلانها عن الحق السلس، وانحرافها عن الحنيفية السمحة والطريقة السهلة.
(وقطعاً جاهلية): القطع: جمع قطعة وهي ظلمة آخر الليل، على دأب الجاهلية وعادتها في إشادة الباطل وهدم منار الدين وأعلامه.
(ليس فيهم منار هدى): داعٍ يدعو إلى دين الله.
(ولا علم يرى): يُدرك بالبصر فيُهتدى به، والمنار والعلم: شيئان يوضعان للاهتداء بهما للسابلة ، وقد استعارهما ها هنا، وأبان أنهم ليسوا أهلاً لذلك، ولا هم منه في ورد ولا صدر.
(نحن أهل البيت): منصوب على الاختصاص.
(منها بنجاة ): أي إنَّا برآء عمَّا يرتكبونه من الفواحش وناجون من تبعاته ووخامة عواقبه.
(ولسنا فيها بدعاة): أراد أنَّا لا ندعو المسلمين إلى ذلك ولا نحضهم عليه، وأراد بأهل البيت هو وأولاده؛ إذ ليس أهل البيت في ذلك الزمن إلا من ذكرنا .
(ثم يفرِّج الله عنهم ذلك): فرَّج الأمر إذا كشفه، وأراد أن الله يكشف ما أصابهم من الضر ومسهم من البلوى، والإشارة إلى ما تقدم من ورود الفتنة.
(كتفريج الأديم): عمَّا سلخ منه، فإنه لا يرجع كما كان أبداً، وأراد أنهم لا يرجعون عند حصول الفرج إلى ما كانوا فيه من هذه الفتنة أبداً.
(بمن يسومهم خسفاً): يقال: سامه خسفاً وخسفاً بضم الخاء وفتحها أي أولاه ذلاً.
(ويسوقهم عنفاً): العنف: نقيض الرفق، وخسفاً وعنفاً صفتان لمصدرمحذوف أي سوماً خسفاً وسوقاً عنفاً.
(ويسقيهم بكأس مصبَّره): أي مُرَّة قد ديف فيها الصَّبِر.
(و لا يعطيهم إلا السيف): ولا يجعل عطيتهم ومنحتهم من جهته إلا القتل بالسيف.
(ولا يجلسهم إلا الخوف): ولا يكون لهم مستقر ولا موضع يشتركون فيه إلا الخوف والطرد، وقوله: لا يعطيهم إلا السيف، ولا يجلسهم إلا الخوف، من أنواع البديع يسمى الإسناد المجازي ونظيره قولهم: عتابك السيف، وقولهم:
تحية بينهم ضربٌ وجيعٌ
وتعليقها الإسراجُ والإلجامُ
ومنه قول المتنبي :
بدت قمراً ومالت خوطبان ... وفاحت عنبراً ورنت غزالا
وأراد بما ذكره بني العباس، فإن مروان بن محمد وهو آخر الأموية هلكاً لما قتل تفرقوا في البلاد هرباً بأنفسهم عن السيف من بني العباس، فإنهم فعلوا بهم هذه الأفعال التي ذكرها أمير المؤمنين ، وشردوهم في البلاد، وهرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك إلى الأندلس وقتل هناك، ثم ولي السفاح بعد مروان بن محمد وهو أول العباسية ملكاً وخلافة فاستأصلهم قتلاً وتشريداً.
(فعند ذلك): الإشارة إلى ما ذكره من سوم الخسف وسوق العنف.
(تود قريش) : بني أمية ومن كان معهم من بطون قريش على رأيهم في البغي عليه.
(بالدنيا وما فيها): ببذل الدنيا وما فيها من النفائس.
(لو يرونني): عند لقائهم ما يلقون من ذلك.
(مقاماً واحداً): انتصابه على الظرفية أي في مقام واحد، وتعلقه بيرونني.
(ولو قدر جزر جَزُوْرٍ): ولو وقتاً واحداً تجزر فيه جزور.
(لأقبل منهم ما أطلب بعضه اليوم فلا يعطوننيه): واللام في قوله: لأقبل منهم هي لام كي وهي متعلقة بيرونني، وما موصولة، وجواب لو محذوف تقديره: لفعلوا، والمعنى في هذا أن بني أمية عند معاينتهم لما يفعله بنو العباس بهم، يودون لفرط تحسرهم وندامتهم أنهم يفعلون لي كل ما أطلبه منهم في ذلك اليوم، لو طلبت منهم الآن بعضه لامتنعوا عن فعله.
(91) ومن خطبة له عليه السلام
(فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم): البركة: هي النماء والزيادة، وتبارك الله له معنيان:
أحدهما: أن يريد كثرة خيره وتكاثر آلائه على خلقه.
وثانيهما: أن يريد تزايده على كل شيء في أفعاله وصفاته، والهمم: جمع همة، وأراد أنه لا تبلغ الهمم له غاية وإن بلغت أقصى جهدها.
(ولا يناله حدس الفطن): ولا يصل إليه ظنون الأفهام وتوهماتها.
(الأول فلا غاية له ): فلا بداية لهذه الأولية.
(فينتهي): أي لو كان له بداية لكان متناهياً.
(ولا آخر له): فلا انقطاع لهذه الآخرية.
(فينقضي): أي لو كان له آخر لكان مزايلاً منقضياً.
ثم شرع في وصف الأنبياء بقوله:
(فاستودعهم في أفضل مستودع): أراد أنهم أفضل الخلائق عنده وأعلاهم مكاناً.
(وأقرهم في خير مستقر): أراد أنه اختارهم من بين العالمين، ومستقر الشيء حيث يكون قراره، ومستودعه حيث يكون مخبوءاً فيه.
(تناسختهم كرائم الأصلاب): بيان لقوله: أقرهم واستودعهم، وأراد انتجاب الآباء.
(إلى مطهرات الأرحام): أي لم يزالوا ينتقلون في الكرم والتطهير من قِبَلِ آبائهم وأمهاتهم،لم يكونوا عن زنا، ولا كان في أحسابهم وِشْبٌ ، ولهذاقال عليه السلام: ((خلقت من نكاح لا من سفاح )) .
(كلما مضى منهم سلف): السلف هم: المتقدم.
(قام بدين الله منهم خلف): والخلف هو: الذي يتلوه بعده، وأراد أنهم دعاة إلى الله وإلى دينه من تقدم منهم ومن تأخر.
(حتى أفضت كرامة الله سبحانه إلىمحمد صلى الله عليه وآله): أفضى من قوله: أفضيت إليه بسري أي أو صلته إياه، وأراد حتى وصلت تلك الكرامة إلى نبينا وهي كرامة النبوة.
(فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً): المنبت: موضع النبات، كمضرب الناقة أي مكان ضربها.
(وأعز الأرومات مغرساً): الأرومة هي: الأصل، والمغرس: مكان الغرس أيضاً.
(من الشجرة التي صدع عنها أنبياءه): صدع الشيء إذا شقه، وأراد بالشجرة إبراهيم فإن أكثر الأنبياء بعد نوح من ولده.
(وانتجب منها أمناءه): على وحيه وعلى السيرة في خلقه.
(عترته خيرالعتر): عترة الرجل: أقاربه الأدنون منه.
(وأسرته خيرالأسر): الذين يعتضد بهم ويتقوى وهم الحفدة والأعوان.
(وشجرته خير الشجر): لأنها موضع النبوة ومكان الاصطفاء.
(نبتت في حرم): في مكة في الحرم المحرَّم.
(وبسقت في كرم): بسق الشيء إذا علا، وأراد أن كرمها عال على غيرها وشرفها.
(لها فروع طوال): ذرية طيبة ونسل طاهر.
(وثمر لا ينال): لعلوها واستطالتها وكرم أصلها.
(فهو إمام من اتقى): لاقتدائهم بآثاره.
(وبصيرة من اهتدى): لاهتدائهم بمناره.
(سراج لمع ضوؤه): فأنار وأضاء.
(وشهاب سطع نوره): فظهر واستعلى.
(وزَنْدٌ بَرَقَ لمعُهُ): فنفع وأورى .
(سيرته القصد): الوسط من الأمور كلها، كما قال عليه السلام: ((خير الأمور أوسطها )).
(وسنته الرشد): إلى مصالح الدين والدنيا، ومعالي الأمور كلها.
(وكلامه الفصل ): الجد لا الهزل، ولهذا قال عليه السلام: ((أوتيت جوامع الكلم )) ، وأراد بجوامع الكلم أنه يتكلم بالكلمات القصيرة وتحتها معان جمة ونكت غزيرة.
(وحكمه العدل): الذي لاجور فيه ولا حيف على صاحبه.
(أرسله على حين فترة من الرسل): تراخي من بعثة الرسل وإرسالهم.
(وهفوة من العمل): وذهاب من الأعمال والعبادات إذ لا داعي إليها.
(وغباوة من الأمم): جهل منهم لعدم من يرشدهم إلى الخير.
(اعملوا رَحمكم الله على أعلام بينة): أراد على بصيرة نافذة، وعن هذا قال عليه السلام: ((قليل في سنة خيرمن كثير في بدعة )) .
(فالطريق نهج): واضح بيَّن لمن سلكه.
(يدعو إلى دار السلام ): إلى الجنة، وهي موضع السلامة من النار.
(وأنتم في دار مستعتب): مسترضى من قولهم: استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني، ولهذا قال عليه السلام: ((فما بعد الموت من مستعتب )) .
(على مهل وفراغ): إرواد في العمر وفسحة فيه، وفراغ من الا شتغال قبل الموت، والاشتغال بأعمال الآخرة.
(والصحف منشورة): ممهدة للقراءة.
(والأقلام جارية): ممهدة للكتابة.
(والأبدان صحيحة): عن الأمراض والأسقام، قادرة علىالأعمال.
(والألسن مطلقة): عن الا عتقال فصيحة للنطق.
(والتوبة مسموعة): لمن نطق بها.
(والأعمال مقبولة): ممن فعلها.
(بعثه والناس ضلاَّل في حيرة): ضلاَّل عن الهدى، حائرون في ظلمات الجهل والعمى.
(خابطون في فتنة): عاملون في غير بصيرة، من قولهم: فلان يخبط في أمره أي يجري على غير هدى.
(قد استهوتهم الأهواء): استهواه الشيطان أي استهامه، والهيام: ضرب من الجنون، وأراد خالطهم أهواء النفوس فهم في حيرة وقلق.
(واستزلهم الكبرياء): أبعدهم الفخر والتكبر عمَّا يليق بالعقلاء فعله.
(واستخفتهم الجاهلية الجهلاء): استخفه أي أهانه، وأراد أن أعمال الجاهلية هي التي أهانتهم، وأسقطت منازلهم، والجهلاء مبالغة مثل قولهم: شيطان ليطان، وحسن يسن .
(حيارى): متحيرون في مذاهبهم، لا يدرون أين يوجهون.
(في زلزال من الأمر): وجل وإشفاق من أجل ما هم فيه من أمر الجاهلية.
(وبلاء من الجهل): وأعظم بلوى من أجل الجهل، ولعمري إنه من أعظم البلاوي.
(فبالغ صلى الله عليه وآله في النصيحة): لمن بعث إليهم بالهداية إلى ما يصلحهم وتعريفهم ما يفسدهم.
(ومضى على الطريقة): الدعاء إلى التوحيد وإقامة الحدود.
(ودعا إلى الحكمة والمواعظ الحسنة): كما أمره الله تعالى بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }[النحل:125] وأراد بالحكمة الهداية إلى الدين، والتذكير البالغ النافع لمن سمعه.
(قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار ): أراد أن الله تعالى مكنَّ محبته من قلوب أهل ا لصلاح فتمكنت من سوائد قلوبهم، وفي الحديث: ((لا يكون المؤمن مؤمناً حتى أكون أحب إليه من والديه )) .
(وثنيت إليه أزمة الأبصار): ثنيت الحبل إذا عطفته، وأراد أن الأزمة مصروفة عنه دون غيره.
(دفن به الضغائن ): التي كانت بينهم في الجاهلية، وصاروا كثيري التراحم والحنو على بعضهم بعض ببركته، كما قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ }[الأنفال:63].
(وأطفأ به النوائر): النوائر جمع نائرة، والنائرة بالنون هي: العداوة والشحناء، وبالثاء بثلاث نقط هي هيجان الغضب، وكله ها هنا محتمل، وأراد أن الله أطفى ببركته ما كان بينهم من هذه الثوائر .
(ألف به إخواناً): جمع بالدين جماعات كانوا مفترقين .
(وفرق به أقراناً): وفرق به جماعات كانوا مجتمعين على الباطل من عبادة الأوثان والأصنام.
(أعز الله به بعد الذلة ): رفع به أقواماً بالإسلام بعد استصغارهم في الكفر.
(وأذل به بعد العزة ): وخفض أقواماً بالكفر بعد أن كانوا أعزة في الجاهلية، وهذا ظاهر من حاله عليه السلام، فانظر إلى ما رفع الله حال سلمان وصهيب وبلال، وغيرهم من الضعفاء بالدين والإسلام،، وإلى ما وضع الله أبا لهب وعتبة وشيبة بالكفر والضلال.
(كلامه بيان): لكل ما تضمنه من الشرائع والأحكام، والحكم والآداب في الدين والدنيا.
(وصمته لسان): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن صمته بمنزلة قوله في كونه شرعاً يقتدى به، وهو أحد الأدلة الشرعية أعني السكوت من جهته.
وثانيهما: أن يريد أن صمته حكمة وصواب، وليس غفلة وذهولاً وحصراً وعياً مثل سكوت غيره.
(92) ومن خطبة له عليه السلام
(الحمد لله الأول فلا شيء قبله): لأن كل ما كانت أوليته بلا نهاية، فلايعقل أن يكون شئ متقدماً عليه ولا سابقاً له.
(والآخر فلا شيء بعده): لأن كل ما كانت آخريته بلا نهاية، فلا يمكن أن يكون شيء متأخراً عنه كائناً بعده.
(والظاهر): بالأدلة.
(فلا شيء فوقه): في الظهور والجلاء.
(والباطن): عن إدراك الأبصار.
(فلا شيء دونه): في استحالة الإدراك عليه.
(ولئن أمهل الله الظالم): نفَّس له في المهلة، ومدَّ له في العمر.
(فلن يفوت أخذه): فيستحيل أن يتعذر عليه أخذه والانتقام منه.
(وهو له بالمرصاد): بالطريق الذي يرقبه فيها.
(على مجاز طريقه): ممره فيها.
(وبموضع الشجا): وهو ما يعترض بالحلق .
(من مساغ ريقه): من مبلع الريق.
(أما والذي نفسي بيده): قسم بما لايقدر عليه إلا الله من إمساك الأنفس وتوفيها.
(ليظهرنَّ): من الظهور والغلبة.
(هؤلاء القوم ): معاوية وأهل الشام.
(عليكم): بالقهر والإذلال، وظهورهم عليكم.
(ليس لأنهم أولى بالحق منكم): ما كان لهذه العلة، فالأمر على خلاف ذلك من كونكم على الحق وهم على الباطل.
(ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم): انقيادهم لحكم معاوية ومتابعتهم له وامتثالهم لأمره.
(وإبطا ئكم عن حقي): بمخالفتكم لأمري وتثاقلكم عن نصرتي.
(ولقد أصبحت الأمم): من قبلكم وبعدكم .
(تخاف ظلم راعيها ): أميرها والمتولي لأمرها، وهذا هو الحكم في العادة على مجاري الدهر.
(وأصبحت أخاف ظلم رعيتي): تنقصهم بحقي وتخاذلهم عن نصرتي.
(استنفرتكم للحرب ): طلبت خروجكم لمحاربة عدوكم.
(فلم تنفروا): ذلاً وتخاذلاً ونكوصاً عن الجهاد والموت.
(وأسمعتكم): المواعظ والزجر والتهديد.
(فلم تسمعوا): فلم تكن منكم حقيقة السماع بالخروج والامتثال.
(ودعوتكم سراً وجهراً): على جميع الأحوال في الدعاء.
(فلم تستجيبوا): لما دعوتكم إليه من أمرالجهاد.
(ونصحت لكم): وأتيت بالنصيحة من أجلكم.
(فلم تقبلوا): إعراضاً منكم عن ذلك.
(أشهودٌ كغَّياب؟): أراد أنكم شهود بأشباحكم كغياب بقلوبكم، أو شهود في حكم من هو غائب في عدم الانتفاع والاستماع.
(وعبيد كأرباب؟): لأن من حق العبد الطاعة لسيده، وأنتم عبيد الله ولكن لا تطيعونه.
(أتلو عليكم الحِكَمَ فتنفرون عنها ): نفار من لا رغبة له فيها ولا أثر لها على قلبه.
(وأعظكم بالموعظة البالغة فتفرقون عنها): لا تجتمعون على معناها، ولا تحتفلون بها وتثنون قلوبكم عنها كأنكم ماسمعتموها.
(وأحثكم على جهاد أهل البغي): معاوية وأهل الشام وكل من نازعني [أمري] ، أو أراد مخالفتي، فهو مستحق لأن يكون باغياً عليَّ.
(فلا آتي على آخر قولي): موعظتي وكلامي لكم.
(حتى أراكم متفرقين): متشتتة آراؤكم.
(أيادي سبأ): أيدي سبأ وأيادي سبأ مثل يضرب في التفرق ، وهما اسمان جعلا اسماً واحداً في موضع نصب على الحال، حيث وقع، يقال: ذهبوا أيدي سبأ، أي متفرقين، وهو سبأ بن يشجب ؛ لأن أولاده تفرقوا في البلاد فضرب بهم المثل، وفيه مذهبان:
أحدهما: أن يكون مصروفاً وهو الأكثر، إما على أن الاسم الأول مضاف إلى الثاني وإعرابه النصب، وإنما سكنت ياؤه على جهة التخفيف، وإما على أن الاسم الأول مبني مع الثاني بمنزلة الجيم من جعفر فهذا كله شايع فيه.
وثانيهما: أن يكون غير مصروف؛ لأنه في التركيب والعلمية بمنزلة معدي كرب، وهذا قليل.
(ترجعون إلى مجالسكم): مطمئنين للوقوف والمحادثة من غير اكتراث .
(وتتخادعون عن مواعظكم ): المخادعة هي: المخاتلة، وهي أن توهم صاحبك خلاف ما تريده من المكر به، وأراد أنهم يفهمون الاتعاظ وما هم منه بطريق.
(كظهر الحنية): الخشبة المعوجة التي يريد صاحبها تقويم أَوَدِهَا .
(عجز المقوِّم): من أجل ضعفه عن إقامتها.
(وأعضل المُقوَّم): أعضل الأمر إذا اشتد فلا يهتدى لوجهه.
(أيها [القوم] الشاهدة أبدانهم): أراد الفرقة والجماعة الحاضرة أشباحهم في الأعيان.
(الغائبة عنهم قلوبهم ): فلا يفهمون ما يقال له ، وإنما قال: عنهم، تنبيهاً على مجاوزتها لهم وأنها غير حاضرة معهم.
(المختلف أهواؤهم): فلا يجتمعون على أمر واحد.
سؤال؛ أراه أنَّث الشاهدة والغائبة، وذكَّر المختلف مع أن فاعل الصفة جمع في كلها؟
وجوابه؛ هو أن هذه التاء إنما أتى بها دلالة على الحدوث، فإذا قلت: هذه امرأة حائض، فالغرض أنها ممن تحيض، فإذا قلت: هذه امرأة حائضة دل على تجدد حيضها الآن، فأراد أن الشهادة والغيبة متجددان، فأما الاختلاف في الأهواء فكأنها لهم صفة ثابتة لا ينفكون عنها ولا يزايلونها، فلهذا أسقط التاء منبهاً على ذلك.
(المبتلى بهم أمراؤهم): المجعولين بلوى لمن كان رئيساً عليهم.
(صاحبكم): أراد نفسه.
(يطيع الله): بالقيام فيكم بأمره وحكمه.
(وأنتم تعصونه): بالمخالفة له في جميع ما أمربه.
(وصاحب أهل الشام): أراد معاوية.
(يعصي الله): فيما أتى به من البغي والشقاق عليَّ.
(وهم يطيعونه): بامتثال أوامره .
(لوددت والله): اللام هذه المؤكدة للجملة، مثلها في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا}[الحديد:26].
(أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم): إن ها هنا جواب للقسم.
(فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم!): بيان لكيفية المصارفة، وهذا هو الغاية في ركة هممهم واسترذال أحوالهم.
(يا أهل الكوفة): استعمل نداء البعيد لغفلتهم عما يريد وتركهم التفطن لكلامه.
(منيت منكم بثلاث واثنتين): أي بليت بهذه الخصال، وإنما لم يقل بخمس خصال لأن الثنتين لا يطابقان الثلاث من وجهين:
أما أولاً: فلأنهما نفي، والثلاث إثبات.
وأما ثانياً: فلأن الثلاث راجعة إلى ما تختص الحواس، بخلاف الثنتين فإنهما لايرجعان إليها فلا جرم فرق بينهن.
(صم): عن سماع ما أقوله والعمل به.
(ذووأسماع): ولهم أسماع.
(وبكم): لاينطقون بالحق.
(ذوو كلام): وهم يتكلمون بما لاينفع ولا يجدي .
(وعمي): عن الحق فلا يتبعونه.
(ذوو أبصار): ولهم أعين غير نافعة لهم.
(لا أحرار صدق عند اللقاء): أي لا يصدقون عند الحرب في الاستقامة والصبر عند المكافحة والقتال، كما يصدق الأحرارالصابرون على القتل.
(ولا إخوان ثقة عند البلاء): ولا يوثق بهم عند حصول البلايا كما يفعله الأخوان المتحابون في الله، وقوله:(صم ذووأسماع، وبكم ذوو كلام ... إلى آخره) من أنواع البديع يسمى الطباق، وهو ذكر النقيضين معاً، ونظيره قوله تعالى: {لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا }[الأعراف:179] وقد طابق أبو تمام بأسماء الإشارة إذا كان أحدهما للحاضر والآخر للغائب عن الحضرة كقوله:
مها الوحش الا أن هاتا أوانسٌ ... قنا الخَط إلا أنَّ تِلْكَ ذَوابِلُ
وقد جاء الطباق بالنفي كقول البحتري :
تقيَّض لي من حيثُ لا أعلمُ النَّوى ... ويسري إليَّ الشوقُ من حيثُ أعلمُ
فقوله: لا أعلم، في موضع أجهل فلهذا كان طباقاً.
(تربت أيديكم!): دعاء عليهم، إما أماتهم الله حتى لصقوا بالتراب، وإما أفقرهم حتى لصقوا بالتراب.
(يا أشباه الإبل ضل عنها رعاتها): شبههم بالإبل لما فيهم من الجفاء والغلط عند فقد من يرعاها؛ لأنها أكثر المواشي شروداً إذا لم تكفُّ وتقبض.
(كلما جمعت من جانب تفرقت من جانب): لشدة تجميعها واعتياص ضمها.
(والله لكأني بكم فيما إخال): فيما أظن وأحدس، وإخال بكسر الهمزة هو الأفصح، وبنو أسد يفتحونها على القياس.
(لو حمس الوغى): اشتد الحرب، وحمس بشين منقوطة بثلاث من أسفلها وحاء مهملة.
(وحمي الضراب ): اشتد حره.
(قد انفرجتم عن ابن أبي طالب): انكشفتم عنه وأسلمتموه لعدوه.
(انفراج المرأة عن قُبُلِها): القُبُلُ بضمتين: نقيض الدُّبُرُ، وهما اسمان لما بين يدي الإنسان وما خلفه من العورة وكذلك المرأة، وأراد انفصال المرأة عما تلده فإنه انفصال لا يعود أصلاً، وإنما شبه انفراجهم عنه بفرج المرأة وما يخرج منه تنبيهاً على افتضاحهم بقبيح انهزامهم عنه وانخزالهم عن الثبوت معه.
(إني لعلى بينة من ربي): أدلة واضحة وبرهان بين.
(ومنهاج من نيتي ): وطريق مرضية فيما أنويه وأتقرب به إلى الله.
(وإني لعلى الطريق الواضح): في كل مادعوتكم إليه من الحرب والقتال.
(ألقطه لقطاً): آخذه عن الرسول وعن الله عن تحقق وبصيرة، وغرضه بهذا الكلام إنكار عليهم وتعريض بأحوالهم، واستركاك لبصائرهم، في التفرق عنه والمخالفة له وهو على هذه الحالة.
(انظروا أهل بيت نبيكم): أراد نفسه وأولاده، إذلم يكن ذلك الوقت أهل البيت إلا هو وأولاده .
(فالزموا سمتهم): [طريقهم] من غير مخالفة.
(واتبعوا أثرهم): في الأقوال والأفعال كلها.
(فلن يخرجوكم من هدى): أنتم عليه الآن.
(ولن يعيدوكم في ردى): قد خرجتم عنه.
(فإن لَبَدوا فالبدُوا): لبد بالمكان إذا أقام فيه.
(وإن نهضوا فانهضوا): نهض من المكان إذا تحول عنه.
(ولا تسبقوهم): لأن في السبق لهم العمل على غير قولهم وترك المتابعة لهم.
(فتضلوا ): عن الحق بالسبق لهم.
(ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا): لأن في التأخر ترك المتابعة وهي سبب الهلاك، وقوله: فتهلكوا وتضلوا منصوبان لأنهما جواب للنهي، كقوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }[الأنفال:46] وهذا محمول على أحد وجهين:
إما على المخالفة لهم في الأدلة القاطعة، وإما على المخالفة فيما أجمعوا عليه؛ لأن إجماعهم عندنا حجة قاطعة يجب متابعتها ويحرم مخالفتها.
(لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله): شاهدتهم بعيني.
(فما أرى أحداً يشبههم منكم ): في خوف الله والقيام بحقه وتعظيم حاله.
(لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً): الشعث يكون في الشعر يقال: خيل شعث إذا كان في شعورها كدر، والغبرة في الجلد، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ }[عبس:40].
(وقد باتوا سجداً وقياماً): يحيون ليلهم بالركوع والسجود.
(يراوحون بين جباههم وخدودهم): المراوحة بين العملين هو أن تعمل هذا مرة وهذا أخرى، يقال: راوح بين رجليه إذا قام على أحدهما مرة وعلى الأخرى مرة أخرى، وأراد أنهم يضعون جباههم على الأرض مرة وخدودهم مرة أخرى.
(ويقفون على مثل الجمر): قلقلة وزلزلة.
(من ذكر معادهم): خوفاً للقيامة وأهوالها.
(كأن بين أعينهم رُكَبَ المعزى): أراد أن جباههم قد تصلبت واشتدت حتى صارت مثل ركب المعز.
(من طول سجودهم): من دوام وضعها على الأرض.
(إذا ذكروا الله هملت أعينهم): صبوا دموعهم خوفاً منه وإشفاقاً من عذابه.
(حتى تبل جيوبهم): تنحدر على صدورهم من غزارتها.
(ومادوا): اضطربوا.
(كما تميد الشجر في اليوم العاصف ): شديد الريح؛ لنحولهم ورقة أجسامهم.
(خوفاً من العقاب، ورجاء للثواب): لأنهما أعظم ما يرجى ويخاف.
(93) [ومن كلام له عليه السلام]
(والله لا يزالون): أراد بني أمية فإن عادتهم وهجيراهم التهتك.
(حتى لا يدعون محرماً إلا استحلوه): أراد فعلوه وارتكبوه، كما يفعل ما هو ضلال، وليس الغرض أنهم اعتقدوا حله فإن الأول يكون فسقاً، وهذا كفر، ولم يكونوا كفاراً ولا عاملهم معاملة الكفار.
(ولا عقداً إلا حلوه): من العقود المؤكدة، وكل هذا تنبيه على ركوبهم لهذه القبائح الفسقية.
(وحتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله ظلمهم): يعني لاستيلائهم على الخلق بالظلم والجور، فلا يبقىأحد من البدو والقرار إلا ناله حقه من ذلك.
(ونبا به سوء رعيهم ): نبا من أرضه إذا خرج منها، وأراد أنه أظهره من وطنه سوء رعايتهم وميلها عن الحق.
(وحتى يقوم الباكيان يبكيان ): الناس كلهم يقومون رجلين رجلين.
(باكٍ يبكي لدينه): من أجل بطلان دينه وفساده، لما يظهر في الأرض من المنكرات العظيمة، ويبدو من الفساد في البر والبحر من غيرمراقبة لله تعالى في ذلك.
(وباكٍ يبكي لدنياه): من أجل فوات دنياه بالظلم والجور، وأخذ الأموال على غير وجهها.
(وحتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده): أراد أنهم يحتكمون عليكم احتكام السادة على العبيد، وتكون نصرتكم منهم مثل نصرة العبيد.
(إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه): أراد أن العبد حالته هذه، فهكذا تكونون إذا حضروا خدمتموهم بالجد منكم، والجهد خوفاً منهم، وإذاغابوا عن أعينكم كان غايتكم الغيبة لهم، وذكر مساوئهم سراً.
(وحتى يكون أعظمكم فيها غناءً): الغناء: النفع، والضمير للفتنة.
(أحسنكم بالله ظناً): أراد أن أعظم الناس دفعاً للفتنة وأكثرهم اجتهاداً في إزالتها، لا يكون من جهته إلا الدعاء إلى الله تعالى بإزالتها ودفعها عن الخلق لا غير ، وهو غاية جهده.
(فإن أتاكم الله بعافية فاقبلوا): منه نعمته بتسهيل من يقتلع جرثومتهم ويزيل نعمتهم بالقتل وقطع الدابر.
(وإن ابتليتم فاصبروا): على هذه البلوى، فإن فيها عظيم الأجر لمن صبر.
(ف {إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ })[هود:49]: أراد أنه لاعقبى أحسن من تقوى الله تعالى، فإن عقباها الصيرورة إلى رضوان الله والجنة، وهذه الآية في آخر كلامه من كتاب الله يلوح على وجهها أثر الإعجاز، فصارت في أثنائه كالعلامة في الثوب والطراز.
وذكر بني أمية عقيب ذكر أحوال الصحابة رضي الله عنهم من باب الاستطراد، إذ لا ملاءمة بينهما، وهو من علم البديع في المكان الرفيع.
(94) ومن خطبة له عليه السلام
(نحمده على ما كان): من النعم السابقة والبلايا المتقدمة.
(ونستعينه من أمرنا على ما يكون): أراد أنا نطلب منه التوفيقات والألطاف الخفية، على ما نستقبله من الإتيان بهذه الطاعات والكف عن المحرمات.
(ونسأله المعافاة في الأديان): عما يشوبها من ارتكاب البدع، وإحباط الأعمال بالمعاصي.
(كما نسأله المعافاة في الأبدان): من العلل والأمراض، وإنما شبهه بذلك لأن فزع الإنسان بالجؤار إلى الله تعالى برفع الألم أعظم من فزعه إلى ذلك، وما ذاك إلا لشدة وقعه وعظم تأثيره في النفوس، فكم ترى من شخص يفزع إلى الله تعالى في عافية جسمه كل ساعة وحين، ولا يخطر له على بال فزعه إلى الله في غفران ذنوبه.
(أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا): تركها والإعراض عنها.
(التاركة لكم): بزوالها ونفادها.
(وإن لم تحبوا تركها): شغفاً بها وركوناً إليها واستناداً إليها.
(والمبلية لأجسامكم): بالهرم والشيخوخة والترب .
(وإن كنتم تحبون تجديدها): بقاءها لكم واستمرارها عليكم.
(فإنما مثلها ومثلكم): في محبتكم لها وانقطاعها عنكم.
(كسَفْر سلكوا سبيلاً): طريقاً من الطرق، وإنما نكره لما فيه من الفخامة.
(وكأنهم قد قطعوه): بالسير إليه.
(وأمَّوا علماً): علم الطريق: شيء يوضع يكون هداية إليها.
(وكأنهم قد بلغوه): لأن غاية السير هو بلوغ الغاية لامحالة، وفي كلامه هذا تشبيه شيئين بشيئين، فشبه حالنا مع الدنيا كحال السفر مع الطريق، وهذا كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ... }[الجمعة:5]إلى آخر الآية فشبه حال اليهود مع حمل التوراة وإهمالهم العمل بها بحال الحمار يحمل كتباً، ومنه قول امرئ القيس:
كأنَّ قلوبَ الطير رطباً ويابساً
لَدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي
فشبه الرطب واليابس من أفئدة الطيور وأكبادها وهما أمران، بالعناب والحشف من التمر وهما أمران.
(وكم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها !): كم هذه الخبرية ومميزها محذوف، أي كم مرة وكم يوم، والْمُجري بضم الميم وفتحها هو: المصدر، وأن خبر عسى، وأرادكم من طالب لغاية يسعى إليها فهو يدركها لابد من ذلك.
(وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لايعدوه): أي وكل من كان له أجل مقدور محدود في علم الله تعالى وحكمه فإنه لا يبقى بعده أبداً.
(وطالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها): ومن له طالب حثيث يسوقه في الدنيا وهو الموت؛ فإنه يفارقها بلا شك ولا مرية.
(فلا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها): فلا ترغبوا في العز فيها بالتمكن من الأموال والفخر فيها بالأحساب وعلو المراتب.
(ولا تعجبوا بنعيمها وزينتها): ولا يأخذكم العجب بما يظهر من زينتها بالأموال والأولاد، وبما يحصل من نعيمها باللذات وأكل الطيبات.
(ولا تجزعوا من ضرّائها وبؤسها): ولا يقل صبركم ويعزب عمَّا يعتريكم من فقرها وحاجتها.
(فإن عزها وفخرها إلى انقطاع): بالتغير والزوال.
(وزينتها ونعيمها إلى زوال): بطلان وامحاق.
(وضراءها وبؤسها إلى نفاد): فناء وتغير.
(وكل مدة فيها إلى انتهاء): بالموت وإن طالت وكثرت.
(وكل حي فيها إلى فناء): إما إلى موت وتفرق، كما يقوله من لا يرى بالإعدام من حُذَّاق المتكلمين، وهو المختار عندنا وقد لخصناه في الكتب العقلية، وإما إلى إعدام ، كما يقوله أكثر المعتزلة.
(أوليس لكم في آثار الأولين): من الأمم الماضية والقرون الخالية.
(وفي آبائكم الماضين منكم ): الذين شاهدتم أحوالهم وعاشرتموهم أزماناً .
(تبصرة): عن عمى الغفلة.
(ومعتبر): واعتبار زاجر عن اللهو.
(إن كنتم تعقلون !): تعقلون أفعال العقلاء في أنهم إذا وعظوا انزجروا، وإذا خُوِّفُوا حَذِرُوا.
(أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون): من مضى منكم موتاً فإنه لا يرجع إلى الحياة أبداً.
(وإلى الخلف الباقي لايبقون!): يخرمهم الموت في كل حين.
(أو لستم ترون أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى): فكفى لكم عبرة في تغير ما أنتم فيه ، وإبطال ما أنتم عليه.
(فميت يُبْكى): يبكيه أهله وأولاده لا نقطاعه عن الدنيا.
(وآخر يعزّى): أي ومن كان حياً فإنه يعزّى له فيمن مات من أقاربه.
(وصريع مبتلى): ومصروع قد ابتلي بالألم والوجع.
(وعائد يعود): ورجل يزور إخوانه من الأمراض.
(وآخر بِنَفْسهِ يجود): أي يسمح بنفسه للموت لما يلاقي من جرضه وشدة غصصه.
(وطالب للدنيا): جاهد في تحصيلها.
(والموت يطلبه): لأخذ روحه.
(وغافل): عن أمور الآخرة مشغول بالدنيا.
(وليس بمغفول عنه): بل تشاهد أعماله وأفعاله ويحا فظ عليها {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }[الإنفطار:10]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق:18].
(وعلى أثر الماضي مايمضي الباقي!): أي وعلى هذه الأحوال والسلوك على هذا المنوال يكون حال من بقي من غير مخالفة، وماهاهنا زايدة، مثلها في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ }[آل عمران:159].
(ألا فاذكروا هادم اللذات): ألاهاهنا للتنبيه، وهدم الجدار إذا أسقطه.
(ومُنَغِّص الشهوات): نغَّصه إذا أذهب كمال لذته.
(وقاطع الأمنيات): واحدها أمنية، وهو مايتمناه الواحد منَّا في عمره، وهو الموت، فإنه فاعل لهذه الأشياء عند هجومه.
(عند المساورة للأعمال القبيحة): المساورة هي: المواثبة، فإنَّه يفتُّ في الأعضاد ويوهي القوى عن فعلها.
(واستعينوا بالله ):واطلبوا منه الإعانة بالألطاف.
(على أداء واجب حقه): ما أوجب عليكم من حقوقه.
(وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه): وعلى أداء شكر مالايحصى مما أقرَّ من النعم، وأرخى من الآلآء والمنن.
(95) ومن خطبة له عليه السلام
(الحمد لله النا شر في الخلق فضله): نشر الثوب إذا مدَّه.
(الباسط فيهم بالجود يده): بسط الثوب إذا فرشه، وأراد هاهنا أن فضل الله تعالى وجوده على الخلق منشور عليهم من فوقهم، ومبسوط من تحتهم، فهما شاملان لهم في كلِّ أحوالهم وتصرفهم .
(نحمده في جميع أموره): سرائه وضرائه وشدته ورخائه.
(ونستعينه على رعاية حقوقه): من أداء واجب أو كفٍّ عن محرَّم فنطلب الإعانة منه باللطف على ذلك.
(ونشهد أن لا إله غيره): أي أنَّ أحداً لا يستحق الإلهية وهي استحقاق العبادة سواه.
(وأن محمداً عبده): أهل لأن يكون عبداً له.
(ورسوله): ومستحق للرسالة من جهته.
(أرسله بأمره صادعاً): أي مظهراً ، من قولهم: صدع بكذا إذا أظهره.
(وبذكره قاطعاً ): إما قاطعاً على أن ذكره حقٌّ لا شكَّ فيه، وإما قاطعاً بذكره غير معرِّج على سواه، فالقطع مستعمل فيهما جميعاً، يقال: قطعت بكذا إذا تحققته، وانقطعت في حاجتي إذا كنت مشغولاً بها غير معرِّج على غيرها.
(فأدَّى): ما أرسل به من الشرائع والأحكام.
(أميناً): عليه، من غير زيادة فيه ولا تحريف ولا تبديل.
(ومضى): انقضى عمره.
(رشيداً): إما مرشداً لغيره هادياً له، وإما راشداً في أفعاله.
(وخلَّف فينا راية الحق): أراد القرآن.
(من تقدَّمها): خارج عنها غير معرِّج عليها.
(مرق): خرج، ومنه مرق السهم من الرمية إذا خرج من بطنها.
(ومن تخلَّف عنها): نكص عن اتباع أحكامها.
(زهق): إما اضمحل من قولهم: زهق الباطل إذا اضمحل، وإما جاوز الحد، من قولهم: زهق السهم إذا جاوز الهدف.
(ومن لزمها): لازمهاولم ينفك عنها.
(لحق): بالنجاة وكان متقدماً فيها.
(دليلها): أراد به الرسول عليه السلام فإنه الدالُّ على كون القرآن من جهة الله تعالى، ولا دليل لنا علىذلك سوى كلامه وخبره، ولولا ذلك لكنّا نجوِّز أنّ القرآن من جهته عليه السلام؛ لأنه كلام، والكلام مقدور للبشر.
(مكيث الكلام): كثير الأناة في الكلام والتؤدة، لا ينطق إلا بالحكمة، قليل البطش والانزعاج.
(بطيء القيام): أراد أنه إذا قعد لتعليم معالم الدين لم يقم على العجلة والفشل من غير إتمام لما هو فيه من التعليم للخلق وإرشادهم.
(سريع إذا قام): أراد أنه إذا قام فهو نشيط في قيامه خفيف في حركته ليس متثاقلاً بعد فراغه مما هو فيه.
(فإذا أنتم ألنتم له رقابكم): أراد ها هنا بلين الرقاب إسراعهم إلى أمره وامتثالهم لما يقوله، كما كان ليٌ الرؤوس عبارة عن التكبر والمخالفة، كما قال تعالى: {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ }[المنافقون:5] وهو مجاز رشيق واستعارة بديعة.
(وأشرتم إليه بأصابعكم): من بين سائر الخلائق وقلتم هذا هو.
(جاءه الموت فذهب به): لما استكمل عمره وبلَّغ ما أرسل به.
(فلبثتم بعده ما شاء الله): من الأوقات والأزمنة.
(حتى يطلع عليكم ): يشرف عليكم، من اطلع على القوم إذا أشرف عليهم.
(من يجمعكم): بعد التفرّق.
(ويضم شملكم): بعد التشتت، وفي نسخة أخرى: (يَضُمُّ نَشْرَكُم): أي ما انتشر من أمركم، ويحتمل أن يريد بهذا الكلام نفسه؛ لأن هذا هو حاله بعد وفاة الرسول عليه السلام في ضمِّ النشر ، وجمع المتفرّق، ويحتمل أن يريد بعض أولاده، وأن هذا سيكون بعده، فيطابق ما روي عن الرسول عليه السلام: ((أنه سيظهر من أولاده من يملاء العالم عدلاً ، ويقهر الظالمين، ويهلك القاسطين)) .
(فلا تطمعوا في غير مقبل): أي لا تطلبوا الخير إلا ممن كان مقبلاً من أولادي على اتباع الحق، عالماً مقيماً للطاعة، متمسكاً بحبل الديانة.
(ولا تيأسوا من مدبر): فمن زلَّ منهم عن سنن الهدى وارتكب المعاصي فإنه سيدَّاركه الله بالتوبة والإنابة .
(فإن المدبر عسى أن تزل إحدى قائمتيه): رجْليه لأنه يقوم عليهما.
(وتثبت الأخرى): على الطريقة المرضية.
(فترجعا حتى تثبتا جميعا): وفي هذا دلالة على حسن الرعاية لهم من الله واللطف لهم من جهته، وفي الحديث عن الرسول عليه السلام: ((سألت الله لكم يا بني عبد المطلب جوداً ومجداً ، سألت الله يا بني عبد المطلب أن يُثَبِّت قائمكم، ويَرْشُد ضالكم)) .
(ألا إن مثل آل محمد [صلى الله عليه وآله] كمثل نجوم السماء): إنما مثَّلهم بالنجوم لأمور ثلاثة:
أما أولاً: فلأنَّه يهتدى بهم في أحكام الدين كما يهتدى بالنجوم في البحار والقبلة.
وأما ثانياً: فلأنَّهم أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، كما جاء في حديث عن الرسول عليه السلام .
وأما ثالثاً: فلأنَّ الله تعالى شرَّفهم ورفع مراتبهم كما شرَّف النجوم ورفع مكانها فلهذا شبههم بالنجوم.
(إذا خوى نجم طلع نجم): خوى أي سقط، وهذا التشبيه الذي ذكره تشبيه مركب، وأراد أن مثل آل محمد في الأرض كمثل النجوم في السماء، ونظيره قول ذي الرمة:
وكأنَّ أجْرامَ السَّماءِ تواقعاً ... دُرَرٌ نُثِرْنَ على بِسَاطٍ أَزْرَقِ
وهو من محاسن التشبيه وغرائبه.
(فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون): من اطلاع من ذكره من أهل البيت، ممن يجمع الله به الشمل، ويضمّ به الشَّعَثَ، ويصنع الله به الأمر كله.
(96) ومن خطبة له عليه السلام مشتملة على ذكر الملاحم
(الحمد لله الأول قبل كل أول): الذي ثبتت له حقيقة الأولية فلا تعقل أولية قبله.
(والآخربعد كل آخر): وهو الآخر الذي تثبت له معقول الآخرية فلا تعقل آخرية بعده.
(بأوليته وجب أن لا أول له): أراد من أجل أن أوليته بلا نهاية ولا بداية لها ولا غاية وجب بحكم العقل أن لايكون له أول يشارإليه.
(وبآخريته وجب أن لا آخر له): ومن أجل أن آخريته بلا غاية وجب ببرهان العقل أن لا يكون له آخر يشار إليه، وكيف يمكن تحديد أوليته وآخريته، وقد دل البرهان العقلي على فقد التناهي فيهما.
(وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة): انتصابه على المصدرية المؤكدة.
(يوافق فيها السرُّ الإعلان): السرُّ: ما يُسَرُّ في النفوس، وتشتمل عليه جوانح الأفئدة، والإعلان: ما يظهر على الجوارح من الأعمال المطابقة لذلك.
(والقلب اللسان): أي ويطابق اعتقاد القلوب من التوحيد وانشراح الصدوربه ما يظهر على الألسنة من الإقرار منه.
(أيها الناس): خطاب عام.
(لا يجرمنَّكم): يكسبنكم، وهو يتعدى إلى مفعولين في قوله تعالى: {وَيَاقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ }[هود:89] وقد حذف ها هنا أحد مفعوليه، وتقديره لا يجرمنَّكم شقاقي أن تخالفوني.
(شقاقي): مشاقتكم إياي، وأصله من الشقِّ وهو: الانفصال؛ لأن المشاقَّة نقيض الملاءمة.
(ولا يستهوينَّكم عصياني): استهواه الشيطان إذا استهامه، والهيام: ضرب من الجنون، والمعاصاة هي: المخالفة.
(ولا تتراموا بالأبصار): رمى ببصره إذا حدق إليه، حيرة في أمركم وفشلاً وجزعاً.
(عندما تسمعونه مني): وقت سماعكم لكلامي ومواعظي وما آمركم به من صلاحكم.
(فوالذي فلق الحبة): إما خلقها، وإما شقَّها بنصفين، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى }[الأنعام:95].
(وبرأ النَّسمة): وخلق الإنسان، وهذان الأمران لايقد رعليهما إلا الله، فلهذا كان القسم بهما؛ لأن القسم إنما يكون بالذات أو بالصفات الذاتية أو بصفات الأفعال كالخالق.
(إن الذي أنبأتكم به): أخبرتكم به وأبلغتكم إياه.
(عن النبي صلى الله عليه وآله): أخذته عن الرسول، وأقرَّه في قلبي من جميع ما أمرتكم به ونهيتكم عنه.
(ما كذب المبلِّغ): في كل ما نقله وأبلغه.
(ولا جهل السامع): فيحرِّف ويبدِّل، وأراد نفسه في ذلك كله، أي أنه بريء من الكذب والجهل فيما رواه وحكاه عن صاحب الشريعة، أو أخبر به عن العلوم الغيبية.
(لكأني أنظر إلى ضليِّل قد نعق بالشام): الضلِّيل مبالغة وهو: كثير الضلالة كالشريب والضحيك لمن يكثر ذلك منه، والنعيق: تصويت للبهائم.
(وفحص براياته في ضواحي كوفان): فحص برجله التراب أي أثاره، وفي الحديث: ((من بنى مسجداً ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له قصراً في الجنة )) ، وضواحي البلد: ظواهره، وأراد أنه نصب راياته ومكَّنها في الأرض.
(فإذا فغرت فاغرته): فغر فاه إذا فتحه، وأراد ملأت فتنته الأرض
(واشتدت شكيمته): الشكيمة في اللجام هي: الحلقة التي فيها فأسه، وأراد استفحل أمره وعظم .
(وثقلت في الأرض وطأته): لتمكنه في الأرض واستطالته فيها .
(عضت الفتنة أبناءها بأنيابها): كنا ية عن شدة الأ مر وتفا قمه، ولهذا يرى الإنسان لايفعله إلا عند شدة الغضب وقوته، ويقال: فلان يعضض شفتيه إذا غضب .
(وماجت الحرب بأمواجها): أي اضطربت من أجل الأ مواج وهي الفتن التي فيها.
(وبدا من الأيام كُلُوحُها): الكُلُوح: تكشير في الشفة مع عبوس.
(ومن الليالي كُدُوحها): الكُدوحُ: آثار في الوجه وهو أكثر من الخدش، وفي الحديث: ((المسألة كدوح وخدوش في وجه صاحبها )) وأراد وظهر من الأ يام والليالي مكروهاتها وفجائعها من ذلك.
(فإذا ينع زرعه): استحكم وبلغ الحصاد.
(وقام على ينعه ): واستقام ساقه على نضاجه.
(وهدرت شقاشقه): الشقشقة قد فسرناها، وأراد عظم خطبه وغضبه؛ لأن الجمل لا يخرج شقشقته إلا عند هيجه وشدة أمره.
(وبرقت بوارقه): لاحت مخايل الضلال والفتنة فيه.
(عقدت رايات الفتن المعضلة): أعضل الأمر إذا اشتدَّ وتقوَّى.
(وأقبلن كالليل المظلم): الذي لايهتدى فيه لإبصار شيء.
(والبحر الملتطم): بالأمواج من جانب إلى جانب. وعندي أنه أراد بذلك ما يكون في آخر الزمان من فتنة الدجال التي كان الرسول عليه السلام تعوذ منها في دعائه بقوله: ((وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، ومن غلبة الدين وقهرالرجال)) ويدل عليه آخر كلامه.
(هذا): وهي كلمة فصيحة تستعمل بين جملتين يشار بها إلى جملة متقدمة من أجل تحقيقها، كقوله تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ }[ص:49]، وقوله: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ }[ص:55] ومعناها هذا على ما قررته.
(وكم يخرق الكوفة من قاصف): وهي: الريح الشديدة؛ لأنها تقصف الأشجار أي تكسرها، ولهذا قال فيها: يخرق الكوفة.
(ويمر عليها من عاصف!): وهي الريح التي تعصف الأشجار أي تميلها من جانب إلى جانب.
(وعن قليل تلتف القرون بالقرون ): يجمع الله الأولين من الخلق والآخرين، أراد على إثرذلك.
(ويُحْصَدُ القائم): من الزرع، استعارة لموت من كان باقياً من الخلق.
(ويحطم المحصود!): يدقُّ ما حصد من الزرع، وأراد ويفنى من كان ميتاً ويتفتت بالتراب .
(وذلك يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين): من سلف من أول الخلق إلى آخرهم.
(لنقاش الحساب): التحفظ فيه والاستقصاء، ومنه الحديث: ((من نُوْقِشَ الْحسابُ عُذّب )) .
(وجزاء الأعمال): من خيرها وشرها.
(قياماً خضوعاً): حالان من قوله: الأولين والآخرين، والخضوع هو: الذلة، وإنما كانوا قياماً؛ لأن القعود موضع استراحة.
(قد ألجمهم العرق): بلغ إلى أفواههم فصار ملجماً لهم عن التكلم.
(ورجفت بهم الأرض): أي تحركت تحركاً شديداً هائلاً، كما قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ }[النازعات:6].
(فأحسنهم حالاً): فأسهلهم وأخفهم.
(من وجد لقدمه موضعاً): يضعه فيه من شدة الازدحام.
(ولنفسه متسعاً): ينفذ فيه من شدة الكظم.
(فتن كقطع الليل المظلم): إنما مثلت الفتن بقطع الليل المظلم لخلوها عن نور الهداية والأدلة الواضحة لما يلحق القلوب فيها من الغم كما يلحقها بسبب الظلمة.
(لا تقوم لها قائمة): أي حجة واضحة.
(ولا تُرَدُّ لها راية): لعظمها، فلا يقدر أحد على دفعها لقوة أمرها.
(تأتيكم مزمومة مرحولة): ترد عليكم مستعدة أمورها، آخذة أهبتها، محزومة بزمامها، مجعولاًعليها رحالها لتمهيد الركوب عليها.
(يحفزها قائدها): يعجلها من يقودها.
(ويجهدها راكبها): ويتعبها بالاحتثاث من هو راكبها من الجهد وهو التعب، وأراد من هذا كله الإشارة إلى شدة هذه الفتنة وعظم حالها بما ذكر.
(أهلها قوم شديد كلبهم): االكَلَب بالفتح هو: التكالب على الخلق والتسلط عليهم بالشدائد.
(قليل سَلَبُهُمْ): يعني أنه لا يوجد فيهم وفر ولا هم أهله.
(يجاهدهم في الله): أي في سبيله وابتغاء وجهه.
(قوم أذلة عند المتكبرين): أراد أنهم يخالهم المتكبرون أذلة بالإضافة إليهم.
(في الأرض مجهولون): لتواضعهم وخمولهم.
(وفي السماء معروفون): لعلوهم وشرفهم عند الله تعالى، وأظن أن مراده بما ذكر هو المهدي وأصحابه فإنه هو الذي يقتل الدجال هو وأصحابه، وصفتهم عند الله كما ذكر.
(فويل لك يا بصرة ): الويل: كلمة دعاء، وقد قدمنا ذكر حكمه في الإعراب.
(من جيش من نقم الله!): من عقوباته.
(لا رهج فيه): الرهج: الغبار.
(ولا حس له): الحس: الصوت الخفي.
(وسيبتلىأهلك بالموت الأحمر): إنما يوصف بالحمرة لشدته، ومنه الحديث: ((كنَّا إذا أحمر البأس اتقينا برسول الله )) معناه اشتد الأمر.
(والجوع الأغبر!): الشديد الوقع، وقولهم: اغبرت السماء إذا اشتد وقعها.
(97) ومن خطبة له عليه السلام
(انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها): بالرفض لها واطراحها.
(الصادفين عنها): المعرضين عن لذاتها ونعيمها الزائل.
(فإنها والله عما قليل تزيل الثاوي): ثوى بالمكان إذا أقام فيه، فمن طبعها إزالة المقيم.
(الساكن): المستقرُّ فيها، المطمئنُّ إليها.
سؤال؛ كيف أجاب القسم بالفعل المضارع وهويزيل، وحذف منه اللام ونون التأكيد، وهو غير جائز؟
وجوابه؛ أن الجواب ها هنا ليس بالفعل المضارع، وإنما هو بإن المصدرة في أول الكلام، وجعل القسم حشواً كأنه قال: والله إنها تزيل.
(وتفجع المترف الآمن): فجعه الأمر إذا أوجعه، والمترف: الذي أطغته النعمة، والآمن نقيض الخوف والإشفاق.
(ولا يرجع ما تولى منها فأدبر ): ما انقضى فيها من خير وشر فيستحيل ردُّه وإعادته.
(ولا يُدْرَى ما هو آت منها فينتظر): أي أن الأمور المستقبلة مطوي عنَّا علمها، ولا ندري أهي خير فننتظر أو هي شر فنستعيذ منها.
(سرورها مشوب بالحزن): فلا مسرة من مسراتها إلا ويتبعها مضرة وألم، كما قال عليه السلام: ((ما من فرحة إلا وتتبعها ترحة )) .
(وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن): وقوة من كان فيها من أهل الغضارة والشباب آيلة إلى الشيخوخة والهرم.
(فلا يغرَّنكم كثر ما يعجبكم فيها): فلا يزدهيكم العجب بتكاثرها وترادف لذاتها فهي في الحقيقة حقيرة.
(لقلة ما يصحبكم منها): وهوالحنوط والأكفان.
(رحم الله امرأ تفكر): الرحمة من الله هي: الإمداد بالألطاف الخفية، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }[الأنبياء:107]، ومنَّا التعطف والرأفة والحنو، تفكر في عاقبة أمره.
(فاعتبر): اتعظ وانزجر .
(واعتبر فأبصر): إما من الإبصار وهو رؤية ما يصلحه، وإما من الاستبصار، وهو: تحقق أمر العاقبة.
(فكأن ما هو كائن من الدنيا): من زخارفها وحطامها وما جُمِعَ فيها.
(لم يكن): بالتغير والزوال والبطلان.
(وما هو كائن من الآخرة): من الجزاء على الأعمال بثوابها وعقابها.
(لم يزل): لدوامه واستمراره.
(وكل معدود منتقض ): بالموت والانقطاع.
(وكل متوقع آت): إما من أعمال الدنيا بطي الليل والنهار وتقريبهما له، وإما من أمور الآخرة بانقضائها وزوالها.
(وكل ما هو آت فهو قريب دان): يقرب دنوه وحصوله، من جميع ما ذكرناه من أعمال الدنيا والآخرة.
(العالم): في الحقيقة حتى لا عالم إلا هو.
(من عرف قدره): من أحاط بنفسه علماً ودراية، ومن حقيقة ذاك إحراز ما يصلحها والامتناع عما يفسدها.
(وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره): لأنه إذا جهل نفسه وهي أقرب ما يكون إليه وأقوى ما يكون إحاطة بها فجهله بغيرها أكثر وأعظم غباوة وأوفر.
(إن من أبغض العباد إلى الله تعالى ): البغض من الله تعالى إرادة إنزال العقوبة.
(لعبداً وَكَلَهُ الله إلى نفسه): جعل عمدته على نفسه، وسلبه ألطافه وإعانته.
(حائر عن قصد السبيل): فلا يمكنه السلوك لحيرته.
(سائر بغير دليل): فلا يأمن أن يضل عن الطريق لعدم من يدله عليها.
(إن دعي إلى حرث الدنيا): بالتجارات وأنواع التسلطات على جمع الأموال وادّخارها .
(عمل): أجاب إلى ذلك وأحبه وواظب على فعله.
(وإن دعي إلى حرث الآخرة): بالأعمال الصالحة وفعل المعروف واصطناعه.
(كسل): عن ذلك وتأخر عنه، فهو في صنعه هذا.
(كأنَّ ما عمل له): من أعمال الدنيا لكثرة اجتهاده في تحصيلها.
(واجب عليه): يستحق الذم إذا تركه.
(وكأن ما ونى فيه): من أعمال الآخرة لتساهله فيه.
(ساقط عنه): لا يستحق الذم بالإخلال به.
(وذلك زمان): إشارة إلى ماذكره من الإعراض عن الآخرة والإقبال على الدنيا.
(لا ينجو فيه): من الأخطار والتبعات.
(إلا كل مؤمن نومة): خامل الذكر.
(إن شهد لم يعرف): مكانه فيكون أهلاً للإنصاف ومستحقاً له.
(وإن غاب لم يفقد ): موضعه، فيقال: أين هو؟
(أولئك): الذين وصفنا حالهم.
(مصابيح الهدى): بمنزلة المصابيح لظلام الجهل.
(وأعلام السُّرى): السرى مصدر كا لهدى، وهذان الوزنان يقلان في المصادر؛ لأنهما من أوزان الجموع، ولهذا نوَّنهما بنو أسد كأنهم يتوهمون أنهما جمع هدية وسرية.
(ليسوا بالمساييح): جمع مسياح وهو: الذي يمشي بين الخلق بالفساد والنمائم، واشتقاقه من ساح الماء إذا فشا.
(ولا بالمذاييع): جمع مذياع وهو: الذي إذاسمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوَّه بها .
(البُذُر): بالذال بنقطة من أعلاها جمع بَذُوْرٍ، وهو: الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه.
(أولئك): إشارة إلى من ذكره من المؤمنين.
(يفتح الله لهم أبواب رحمته): إما ألطافه الخفية، وإما أبواب جنته جزاء على أعمالهم.
(ويكشف عنهم ضراء نقمته): إما بلاوي الدنيا وشدائدها، وإما عقوبات الآخرة وأهوالها.
(أيها الناس): خطاب عام.
(سيأتي عليكم زمان): يشير إلى خلافة بني أمية وبني العباس.
(يكفأ فيه الإسلام): تقلب فيه أحكامه وتغير [فيه] رسومه.
(كما يكفأ الإناء[بما فيه] ): يقلب على رأسه.
(أيها الناس، إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم): لما دل عليه برهان العقل من أنه لا يفعل ظلماً ولا جوراً، ولقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ }[غافر:31].
(ولم يعذكم من أن يبتليكم): يمتحنكم بضروب الامتحانات وأنواع البلاوي، ليكون ذلك زيادة في الآخرة ورفعاً في الدرجات.
(فقال تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ }[المؤمنون:30]): ممتحنين لمن خلقنا؛ لأن المحن ألطاف ومصالح وهي جائزة من جهة الله تعالى، والجور ظلم وفساد والله يتعالى عنه.
(98) [ومن خطبة له عليه السلام]
(بعث الله محمداً ): بالكرامة واصطفاه بالرسالة من بين سائر الخلق.
(وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدعي نبوة): لانقطاع الأنبياء وبعد عهدهم بالكتب وأخبارالسماء.
(ولا وحياً): لأن الوحي إنما يكون على ألسنة الرسل لاغير، وأراد أن مبعثه عليه السلام كان على حين فترة وانقطاع من الأنبياء فبعثه الله رحمة للخلق.
(فقاتل بمن أطاعه من عصاه): فمن أطاعه واتبعه وكان موافقاً له على أمره استعان به على من خالفه وعصاه بمقاتلته ومحاربته.
(يسوقهم إلى منجاتهم): المنجاة هي: النجاة كالمسعاة للسعي، وهي مصدر.
(ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم): ويعاجل بهم قيام الساعة أن تحصل بهم وهم كفار ضلال عن الحق، شفقة بهم وتعطفاً ورقة.
(يحسرالحسير): حسرالبعير إذا أعيا وقعد عن السير، وأحسر غيره يحسره إذا قعد له وتأنى بحاله.
(ويقف الكسير): الكسير هو: المكسور، والوقوف هو: الإرواد وترك العجلة.
(فيقيم عليه الحجة حتى يبلغ غايته): وأراد أن من كان في حيرة من أمره والتباس من حاله فإنه يرفق به ويوضح له الأدلة حتى ينقطع عذره، ويكون بعد ذلك إما شاكراً منيباً وإما كافراً خارجاً عن الدين.
(إلا هالكاً لا خير فيه): استثناء موجب من قوله: يسوقهم إلى منجاتهم إلا من أعرض عن ذلك لهلاكه وانقطاع خيره فساقهم على هذه الكيفية.
(حتى أراهم منجاتهم): مسالك النجاة إدراكاً بأعيانهم.
(وبوَّأهم مَحَلَّتَهم): تبوأ بالمكان إذا اتخذه مبآءة ومستقراً، والمحلة: مكان الحلول.
(فاستدارت رحاهم): بعد وقوفها بما أراهم من البصائر.
(واستقامت قناتهم): عن الاعوجاج، والقناة: الرمح، وأراد بما ذكره تمكنهم من الأدلة وإبلاغ الحجة عليهم في ذلك.
(وايم الله): قسم قد مر تفسيره في غير موضع من كلامه.
(لقد كنت بين ساقتها): ساقة الجيش: مؤخره، وأراد أنه كان مجتهداً في ذلك كلفاً بقوة الإسلام وامتداده وعلوه بسيفه وسنانه وقلمه ولسانه.
(حتى تولت بحذافيرها): جمع حذفار وهو: طرف الشيء وناحيته، يقال: أعطاه الدنيا بحذافيرها أي بأسرها، والضمير للقناة أوالرحى.
(فاستوسقت في قيادها): استوسق الشيء إذا اجتمع وتكاملت أحواله، والقياد: زمام الناقة.
(ما ضعفت): عن الجهاد.
(ولا جبنت): عن منازلة الشجعان ومبارز ة الأقران.
(ولا وهنت ): عن القيام بأمر الله والذب عن دينه.
(وايم الله): قسم.
(لأبقرنَّ الباطل): بقره إذا شقه.
(حتى أخرج الحق من خاصرته): الخاصرة: من مقطع الفخذ إلى أسفل الأضلاع.
(99) ومن خطبة له عليه السلام
(بعث محمداً صلى الله عليه وآله شهيداً): على الخلق بإبلاغ الحجة وقطع المعذرة، كما قال تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا }[النساء:41].
(وبشيراً): لأهل الأعمال الصالحة بالثواب والدرجات العالية، كما قال تعالى: {وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }[البقرة:97].
(ونذيراً): منذراً للعقاب، كما قال تعالى: {إِنّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ }[الحجر:89].
(خير البرية طفلاً): أفضلها وأشرفها، وانتصاب طفلاً على التمييز.
(وأنجبها كهلاً): النجابة: هي الكرم.
(أطهر المطهرين شيمة): طبيعة وسجية، أي أكرم أهل الطهارة طبيعة وخليقة.
(وأجود المستمطرين دِيمة): الدِّيمة: المطر الدائم، والمستمطرين يصلح أن يكون فاعلاً أي وأجود الماطرين، وأهل الكرم والإعطاء، ويصلح أن يكون مفعولاً أي وأكرم المأمولين المرجوين.
(فما احلولت لكم الدنيا في لذتها): احلولى الشيء مبالغة في حلاوته.
(ولا تمكنتم من رضاع أخلافها): الخلف وجمعه أخلاف: ضروع الناقة.
(إلا بعده): بعد موته وفراقكم له، وفي الحديث: ((متى لا تزال هذه الشدة؟ فقال: ما دمت فيكم ))وأراد بذلك ذكر ما شرفه الله تعالى به من إعراضه عنها وعيفته لها لنفادها وانقطاع لذتها كما قال تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى }[الضحى:4].
(صادفتموها): المصادفة: الملاقاة.
(جائلاً خطامها): جال الخطام إذا كان سلساً غيرمشدود.
(قلقاً وضينها): الوضين للهودج بمنزلة البطان للقتب وهو ما يكون في صدر البعير، وجعل ذلك كناية عن سهولة أخذها، وسموحة تناولهم لها، من غير تعب ولا مقاساة الشدائد، يشير بذلك إلى ما يسر الله لهم من الفتوحات وأنالهم منها بعده عليه السلام.
(قد صار حرامها عند أقوام): لقلة ورعهم وتهالكهم في جمعها وأخذها.
(بمنزلة السدرة المخضودة ): السدر: شجر النبق، والمخضود: المأكول بشدة، وخضده إذا أكله بسرعة وشدة في الأكل.
(وحلالها بعيداً غير موجود): لقلته وندوره وتعذر تحصيله.
(وصادفتموها والله ظلاً ممدوداً): نعيماً دائماً، لاكدورة فيه، ممهداً لأهله.
(إلى أجل معدود): مضبوط محصور، لا يمكن مجاوزته ولا تعديه، وهو ما يكون بالموت والإفناء.
(فالأرض لكم شاغرة): أي خالية عن المعارض، من قولهم: شغر البلد عن الناس إذا خلا عنهم.
(وأيديكم فيها مبسوطة): تتناولون ما شئتم من نفائسها ومنافعها لا تُمْنَعُوْنَ عن ذلك.
(وأيدي القادة عنكم مكفوفة): القادة جمع قائد، كالفسقة في جمع فاسق وهم: الرؤ ساء الذين يملكون الناس برئاستهم عليهم، والكف: المنع.
(وسيوفكم عليها مسلطة): الضمير للقادة، أي أنكم قاهرون لهم لا يستطيعون دفعكم.
(وسيوفهم عنكم مقبوضة): لا تنالكم بسوء، وغرضه من هذا هو أن المقدار مساعد لكم في ذلك فشركم عليهم واقع وشرهم مدفوع عنكم.
(ألا إن لكل دم ثائراً): طالباً يطلب به ويواثب على تحصيله.
(ولكل حق طالباً): ومن كان له حق فإنه لا محالة يطلبه ولا يسهَّل في تركه.
(وإن الثائر في دمائنا): الطالب لها والمنتصف من أجلها.
(كالحاكم في حق نفسه): لأن الله تعالى هو المتولي لتحريم سفكها، والموجب للا متناع من ذلك، وهو في الحقيقة حق له يطالب به ويحكم فيه بنفسه.
سؤال؛ أليس المعصية لها جهتان: أحدهما: ما يتعلق بالله تعالى وهو كونها معصية.
وثانيها : كونها إساءة وهو أمر يختص العبد، فالقتل ها هنا قد اشتمل على كونه معصية، وهو حق الله تعالى وعلى كونها إساءة إلى المقتول فكيف قال: كالحاكم في حق نفسه وفيه تعلق بالعبد كما ذكرناه؟
وجوابه؛ هو أن الأمر وإن كان كما قاله السائل، لكنه إنما ذكر الوجه الذي يكون في مقابله العقاب، وهو كون الفعل معصية، فأما كون الفعل إساءة فإنما يستحق في مقابلته الذم، والذم لا أثر له في الصرف عن المعصية، فلهذا قال: كالحاكم في حق نفسه لما كان يؤول إليه كما حققناه.
(وهو الله تعالى): من الوجه الذي لخصناه؛ وهو مبالغة في عدم الناصر، ومن يلحق بالثأر ويواثب عليه.
(الذي لا يعجزه من طلب): يفوته، ويمتنع عن الا نتقام منه.
(ولا يفوته من هرب): بالامتناع منه.
(فأقسم بالله يا بني أمية عما قليل): في المدة القريبة، والأيام القليلة.
(لتعرفنها): الضمير للدولة، والخلافة حاصلة متقررة.
(في أيدي غيركم): وهم بنو العباس، فإنهم أخذوها منهم قهراً، وقتلوهم عليها صبراً، فهي حاصلة لامحالة.
(وفي دار عدوكم): بالا ستيلاء والغلبة، والقهر لكم والطرد عنها، ولقد كان الأمركما قاله عليه السلام، فإن بني أمية أصبحوا كأنهم ما كانوا، وأصبح بنو العباس في دورهم ملوكاً.
(ألا وإن أبصر الأبصار): أنفذها في الإبصار، وأعظمها في الإدراك.
(ما نفذ في الخير طرفه!): الطرف: العين، ولا يجمع لأنه في الحقيقة مصدر، كما قال تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ }[إبراهيم:43] وأراد أن خير العقول ما كان نافذاً في إحراز الأعمال الصالحة، والاستكثار فيها.
(ألا وإن أسمع الأسماع ما وعى التذكير قلبه!): القلب هو: الواعي، وأراد أن أفضل الأسماع ما كان واعياً إذا ذكر وحفظ القلب منه.
(أيها الناس): خطاب لمن كان حاضراً في وقته، ولمن اتعظ بكلامه من الخلق.
(استصبحوا من شعلة مصباح): خذوا الهدى من مهتدٍ ، واستعار النور فيما ذكره من الشعلة والمصباح بذلك كما قال تعالى في القرآن: {نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ }[الأنعام:91].
(واعظ): مذكر بهذه المواعظ الحسنة.
(متعظ): عامل بما يقوله.
(وامتاحوا ): المايح: هو الذي ينزل البئر يملئ الدلاء بالياء بنقطتين من أسفلها، والماتح بالتاء هو: المستقي.
(من صفو عين): من خلاصة نهر.
(قد روَّقت من الكدر): روَّق الشراب إذا حسَّنه، وهيَّأه للشرب، من قوله: راقني الشيء إذا أعجبك.
(عباد الله، لا تركنوا إلى جهالتكم): عام في كل ما يفعله الإنسان، من غير بصيرة، ويقدم على فعله من غير نظر.
(ولا تنقادوا لأهوائكم): لأن اتباع الهوى يجر إلى كل فساد في الدين والدنيا، حسبك باتباع الهوى فساداً في الدين؛ أن الله تعالى ما حكم بالضلال علماً وقطعاً باستحقاقه، إلا فيمن اتبع هواه، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ }[الجاثية:23].
(فإن النازل بهذا المنزل): أراد اتباع الهوى، والركون إلى الجهالة.
(نازل بشفا جرف هار): الشفا: البقية من الشيء، يقال: ما بقي منه إلا شفا، أي قليل، والجرف: جرف الوادي وجانبه التي جرفته السيول، والهار هو: المتصدع الذي قرب سقوطه وانهدامه، ووزنه محتمل أن يكون فاعلاً، فيقال فيه: هاير، ثم أخرت عينه بعد لامه، على مثل شاكي في شائك، ولابي في لائب ، ويحتمل أن يكون وزنه فَعِلَ على مثل شَكِسَ وشَرِسَ ، وهو تمثيل بالغ في ما كان مبنياً على غير قاعدة محققة في الدين؛ فإنها سريعة الانهدام والتغير كالشفا الجرف في سرعة انهدامه.
(ينقل الردى على ظهره من موضع إلى موضع): تمثيل بحال من لا خبرة له بإيراد الأمور وإصدارها، وكنى به عن ذلك، كما كنى بقوله: فلان يقدِّم رجلاً، ويؤِّخر أخرى عن المتحير في أمره، لايدري كيف يصنع.
(لرأي يحدثه بعد رأي): أي من أجل رأيه، أراد أن اضطرابه وفشله بما كان من جهة رأيه واختلافها، وأنه على غير ثبات منها وقطع.
(يريد أن يلصق ما لا يلتصق): من الأماني الكاذبة، والخيالات الباطلة.
(ويتقارب ما لايقارب ): من الأمور البعيدة، والآراء المنقطعة.
(فالله الله): تكرير من أجل التحذير، كقولهم: أخاك أخاك، والصبي الصبي، أي احذروا الله تعالى عن ترك أوامره، والوقوع في مناهيه، وأحذركم أيضاً.
(أن تشكوا إلى من لايُشْكي شجوكم): أشكيته إذا أزلت شكواه، والشجا هو: الحزن، وأراد التحذير عن ذلك فإن ذلك يكون زيادة في المصيبة، وإثارة للأحزان، وجرحاً للصدور.
(ولا ينقض برأيه ما أبرم لكم): أي من أجلكم، وغرضه أنه لا يحدث رأياً من نفسه يكون فيه فرج عما أنتم بصدده، وراحة عن همكم.
(إنه ليس على الإمام): الذي أعطيتموه أكفكم، وقام فيكم بأمر الله.
(إلا ما قد حمَّل من أمر ربه): أخذه الله عليه، وأوجبه وفرضه.
(الإبلاغ في المواعظ ): الوعظ لكم، والتذكيربما يجب من حقوق الله تعالى.
(والاجتهاد في النصيحة): وبذل الجهد والوسع، في بيان ما يكون فيه نجاة لكم، ونفع في الدين.
(والإحياء للسنة): بالإظهار لأحكامها، والإبانة لمعالمها.
(وإقامة الحدود [على مستحقيها ]): على من ارتكبها من أهل الفسق والكفر، وفي كلامه هذا دلالة على أن إقامة الحدود موكولة إلى رأي الأئمة دون غيرهم، كما يقوله أصحابنا والأكثر من الفقهاء.
(وإصدارالسُّهمان على أهلها): من المقاتلة الذين حضروا الوقعة.
(فبادروا العلم): أي خذوه وأسرعوا في طلبه، من قولهم: ابتدرت كذا أي أسرعت في أخذه.
(من قبل تصويح نبته ): صوح النبت إذا يبس، وصوح العود إذا جفت رطوبته، وأراد انقطاع حامليه عن الدنيا بالموت.
(ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم): إما بعوارض الدنيا، وإما بالموت وأشغاله.
(عن مستثارالعلم من عند أهله): المستثار هو: الا ستثارة، وهو إخراجه بعد أن كان كامناً.
(وانهوا عن المنكر): امنعوا فاعله عنه، وألحقوه أحكام ما فعله من ذلك.
(وتناهوا عنه): أي لينه بعضكم بعضاً، ولا تواطئوا على فعله فتهلكوا.
(فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي): أراد أن نهيكم لغيركم عن المنكر إنما يكون فرعاً على تناهيكم عنه، ويصدق ذلك قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ }[البقرة:44].
(100) ومن خطبة له عليه السلام
(الحمد لله الذي شرع الإسلام): أي سنه ، ومنه قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا }[الشورى:13] أو أظهره من قولهم: حيتان شارعات، أي ظاهرات من قعر الماء.
(فسهَّل شرائعه): جمع شريعة وهي: مشرعة الماء أي مورده.
(لمن ورده): أي سهل موارده [لمن أراد أن يرده] ، وهو مجاز في حقه.
(وأعز أركانه على من غالبه): أي جعله عزيزاً يقهر من أراد مخالفته.
(فجعله أمناً لمن علقه): أي تعلق به، من قولهم: علق فلان بالأمر أي تعلق به.
(وسلماً لمن دخله): السلم بفتح السين وكسرها، وهو: الصلح، كما قال تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً }[البقرة:208]، وإنما سماه سلماً؛ لما فيه من السلامة في الدارين .
(وبرهاناً لمن تكلم به): دليلاً واضحاً ينطق بالحق فيما يقوله.
(وشاهداً لمن خاصم به): يحجُّ من شهد عليه، ويفحمه فيمايريده من مخالفته.
(ونوراً لمن استضاء به): من ظلمات الجهل، ومهامه الجهالات الكفرية، وطرق الإلحاد العميّة .
(وفهماً لمن عقل): وتفهم من عقل عنه ما يرشده، ويقوده إليه من السلامة.
(ولباً لمن تدبر): أحواله وما فيه من المصالح الدينية الدالة على كل خير.
(وآية لمن توسم): وعلامة دالة على إرادة الخير لمن أراده.
(وتبصرة لمن عزم): هداية لمن عزم على اتباع المصالح، وانتحاء المراشد.
(وعبرة لمن اتَّعظ): وفيه اعتبار لمن كان منزجراً بالمواعظ، معولاًعليها.
(ونجاة لمن صدَّق): نفسه وأرشدها، كما قال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }[محمد:21]، {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا }[النساء:66].
(وثقة لمن توكل): ووثوق واطمئنان وانشراح صدر لمن اتكل عليه، وجعله عمدة له في أحواله .
(وراحة لمن فوض): الأمر إليه؛ لأن تفويض الأمر إلى الله تعالى هو الانقياد لأمره والاحتكام لقضائه، وفي هذا راحة للقلوب والخواطر عن إتعابها بالتفكر في العواقب.
(وجنة لمن صبر): على مشقته، ومراعاة أحواله؛ فإنه يكون له جنة واقية عن جميع العوارض والآفات.
(فهو أبلج المناهج): واضح المسالك، ومنه قولهم: الحق أبلج والباطل لجلج .
(واضح الولائج): الولائج: جمع وليجة، وأراد إما أن بواطنه وخواصه ظاهرة منكشفة لمن أرادها، استعارة من قولهم: وليجة الرجل أي بطانته وخاصته، وإما أن يكون مراده أن مداخله وطرقه ومسالكه متضحة، أخذاً من قولهم: ولجت الدار أي دخلت فيها، ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً }[التوبة:16] أي دخيلة تخالف الدين وتضاده، وإما أن يريد أن أحكامه ولوازمه وتوابعه يدخل فيها ويتلبس بها من فعلها، أخذاً لها من الوليجة وهو ستر أو كهف ، وهذه المعاني كلها متقاربة محتملة كما ترى.
(مشرق المنار): أشرقت الشمس وشرقت، إذا ظهر نورها وفشا، وأراد أن أعلامه المنصوبة ظاهرة لمن أمَّها وقصدها.
(مشرف الجواد): عالي المركب، ومنه قولهم: جبل مشرف أي عال، قال ابن دريد يصف فرساً له:
ومُشْرِفُ الأقْطَارِ خَاضَ بِحضنِهِ
حاني القُصَيْرَى جُرْشُعٌ عَرْدُ النَّسا
أراد أنه عالٍ منتصب .
(مضيء المصابيح): أراد أن نجومه لا تخبو ، واستعار ذلك لو ضوح الأحكام والمسالك.
(كريم المضمار): إما أنه يكرم من تلبس به، أخذاً له من مضمار الفرس، وهو إكرامه في مدة المضمار، وهو أربعون يوماً، وإما أن مكانه ومستقره كريم، أخذاً له من مكان الإضمار، وهو موضع السباق للفرسان.
(رفيع الغاية): عال في الرفعة، وهو مجاز كما قال عليه السلام: ((الإسلام يعلو ولا يعلى )) .
(جامع الحلبة): الحلبة: أفراس تجمع للسباق، ولا تكون خارجة في مكان واحد، بل تجمع من جهات شتى للمسابقة، وأراد أنه أصلها وقاعدتها أي أنه جامع لجميع خصال الخير مؤلف بين أشتاتها.
(متنافس السُّبقة): السُّبقة بضم السين هو: الخطر في المسابقة، وأراد أن سُبقته نفيسة عالية، ليست حقيرة دانية، وهي الجنة لأنهاحضراً عليه.
(شريف الفرسان): مكان من تعلق به رفيع وجانبه عزيز، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }[المنافقون:8].
(التصديق منهاجه): الا عتراف بالله ورسوله وجميع أحكام الدين، طريقه الواضحة التي لا يمكن سلوكها إلا به.
(والصالحات): أعمال الخير، وأنواع الطاعة.
(مناره): أعلامه التي يهتدى بها إليه؛ كالمنار للطريق.
(والموت غايته): منقطعه، وغاية انقضائه.
(والدنيا مضماره): والمضمار: عبارة إما عن زمان السباق، وإما عن مكانه، والدنيا صالحة لهما جميعاً، فإنهما زمان فعل الخير ومكانه الذي يستقر لفعله عليها.
(والقيامة حلبته): لأنها هي المكان المجتمع فيه للجزاء على الأعمال، كما أن الحلبة موضع السباق للخيل.
(والجنة سُبْقَتهُ): الجزاء الذي يكون على فعله.
ثم ذكر حال الرسول صلى الله عليه وآله بقوله:
(حتى أورى قبس القابس ): وري الزند إذا خرجت ناره، والقبس: عود في رأسه نار، وأراد أنه أكمل به المقصد، ونيل به الغرض الأعلى.
(وأنار علماً لحابس ): أي وأظهر أعلام الطرق لمن كان محتبساً لضلاله عنها، وانحرافه عن مسالكها، فهو كناية عمَّا أوضح من أعمال الهدى، وأظهر من الحجج النيرة في الدين، وقد تقدم مختار هذه الخطبة فأغنانا عن تكريره.
(اللَّهُمَّ، اقسم له مقسماً من عدلك): من رضاك، وهو أعظم المقاسم وأعلاها قدراً، كما قال: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ }[التوبة:72] أخذاً من قولهم: رجل عدل إذا كان مرضياً في شهادته.
(واجزه مضاعفات الخير من فضلك): واجعل جزاءه مضاعفاً من الخير الذي مننت به عليه، وكرمته به.
(اللَّهُمَّ، أعلِ على بناء البانين بناءه): إما على الداعين إلى توحيدك، والا قرار بربوبيتك من سائر الرسل والأنبياء؛ فإنهم العامرون لأرضك، فاجعل بناءه من أرفع أبنيتهم وأقواها قاعدة، وإما على العاملين بالصالحات من جميع الأولياء والصالحين، فإنه أوفاهم عملاً، وأشكرهم سعياً، فارفع منزلته عليهم، وكله محتمل في حقه.
(وأكرم لديك نزله): النزل: ما يعدُّ للضيف عند نزوله، كما قال تعالى: {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ }[فصلت:32] وأراد اجعل نزله كريماً عندك.
(وشرف عندك منزلته): بما أعطيته إياه من القرب والزلفة لديك في المقام المحمود الذي وعدته.
(وآته الوسيلة): الدرجة العالية، كما ورد في الحديث: ((الوسيلة درجة في الجنة، لا ينالها إلا نبي ، فاسألوا الله لي الوسيلة)) .
(وأعطه السناء والفضيلة): الرفعة والفضل، الذي ليس لغيره من الأنبياء.
(واحشرنا في زمرته): الزمرة: الجماعة، وأراد في جماعته.
(غير خزايا): الخزي: الذل والهوان، والخزايا جمع خزيان، نحو عطشان وعطاشى وسكران وسكارى.
(ولا نادمين): على فعل، أو ترك مما ليس له فيه رضى.
(ولا ناكبين): تنكب عن الطريق إذا عدل عنها، وغرضه ولا عادلين عن الحق.
(ولا ناكثين): لعهد أخذته علينا، في الإقرار بربوبيتك، والتصديق بوحدانيتك.
(ولا ضالين):عن الطريق المستقيمة.
(ولا مضلين): لأحد من الخلق.
(ولا مفتونين!): ضالين عن الحق.
ثم خاطب أصحابه بقوله:
(قد بلغتم من كرامة الله لكم منزلة): أراد بما أعطاكم من الدين، وبما أعزَّكم به من الإسلام، ومكَّنكم فيه أن أحلَّكم مكاناً، ورفعكم منزلة عظيمة، بلغ من حالها أنه:
(تُكَرمُ بها إماؤُكم): تنالون بها الكرامة، بأن يقال: عبد فلان وخادمه فيلحقه بذلك كرامة لأجل ملكه له، فإذا كان هذا حال الأخدام والأرقاء فكيف حال السادة والملاَّك، فشرفهم لامحالة أكبر وحظهم أكثر وأوفر.
(وَتُوْصَلُ بها جِيرانُكم): من الصلة وهي : العطية، أو من الإكرام والإعظام، بأن يقال: هذا جار فلان.
(ويعظمِّكم من لا فضل لكم عليه): بالإحسان والعطية، التي هي سبب التعظيم من جهة الغير.
(ولا يد لكم عنده): ولا نعمة عليه من جهتكم.
(ويهابكم): لأجل الدين.
(من لا يخاف لكم سطوة): فتكون سبباً للخوف.
(ولا لكم عليه إمرة): سلطنة ودولة، فهذه الأمور كلها حاصلة بما أكرمكم الله به بالدين والإسلام؛ فإنهما هما الأصل في هذه الأشياء كلها وحصولها.
(وقد ترون عهود الله): وهو: ما أخذ على الأنبياء إبلاغه إلى الخلق ، وأخذ على الخلق العمل به، والوقوف عنده من جميع الأوامر والنواهي.
(منقوضة): محلولة عراها بالإهمال لها، والترك لحقوقها.
(فلا تغضبون): أي لا تأنفون من ذلك، وقوله: وقد ترون جملة ابتدائية، أي وأنتم ترون، وهي في موضع نصب على الحال من الضمير في بلغتم، أي بلغتم في حال رؤيتكم.
(وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون): أي أنكم تستنكفون عن أن تكون ذمم آبائكم منقوضة، فكيف لا تستنكفون عن نقض ذمم الله وحل عقوده.
(وكانت أمورالله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع): أحكامه في خلقه، ومصالحه في أرضه بالفتاوى ترد عليكم من جهة الخلق، والأجوبة والأقضية تصدر من جهتكم، والحل والعقد، وأحكام السياسة، وأمور الإيالة راجع إليكم.
سؤال؛ ما وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، وكيف الملاءمة بينهما؟
وجوابه؛ هو أنه عليه السلام لما ذكر نعمة الله في الدنيا، بإكرام العبيد والجيران، وشرفهم لأجل شرف من يضافون إليه، أردفه بذكر نعمة الله في الدين عليهم، بما مكن من الحل والعقد في الفتاوى والأقضية، وإصدارالأحكام، والإلزامات التي لاترد تعريفاً لمواقع النعمة وإعظاماً لحالها، وتقريراًلما يريد من الإنكار على مصافاة الظلمة ، والسكون لهم على ظلمهم.
(فمكنتم الظلمة من منزلتكم): وهي الإمرة التي جعلها الله لأهل الدين والعلم منكم، وتخاذلتم حتى اختصوا بها وملكوها عليكم قهراً.
(وألقيتم إليهم أزمتكم):بأن صارواملوكاًعليكم فقادوكم بالاستيلاء والقهر، كما يقاد الجمل بزمامه ويجذب بخطا مه.
(وأسلمتم أمور الله): أحكامه في الخلق الدينية والدنيوية.
(في أيديهم): يتصرفون فيها كيف شاءوا وليسوا أهلاً لإيراد شيءمنها ولا إصداره لبطلان الولاية وعدم الأهلية.
(يعملون بالشبهات): يتوصلون إلى قضاء مآربهم الدنيوية بالشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، الخارجة عن مراد الله ومقصوده.
(ويسيرون في الشهوات): جميع تصرفاتهم وسائر مضطرباتهم، ما هو إلا من أجل قضاء الشهوة وتنفيذ اللذة، لا يخطر لأحد منهم أمر الدين وحال الآخرة ببال، في وقت من الأوقات، وهذا الكلام إنمايشير به إلى بني أمية وسكوت من كان في عصرهم عن الإنكار عليهم، وتذكر حالهم في الظلم وقهرهم للخلق.
(وايم الله لو فرقوكم تحت كل كوكب): قتلاً في البلاد المتباعدة، والأمكنة المتفاوتة، وتشريداً في الأقاليم.
(لجمعكم الله لشر يوم لهم!): وهو يوم القيامة، وإنما كان أشر الأيام لما يلقون فيه من العقوبة الأبدية، والجزاء الأكبر، وفي الحديث: ((يوم المظلوم على الظالم أشر من يوم الظالم على المظلوم )) لأن غم المظلوم منقطع، وغم الظالم غير منقطع، وليس يخفى على ذي فطنة ما تضمنه هذا الكلام من الحث على البعد عن الظلمة، والركون إليهم، والتقرب إلى الله يإيحار صدورهم غضباً لله ومراعاة لحق الدين في ذلك.
(101) [ومن كلام له عليه السلام في بعض أيام صفين]
(وقد رأيتم جولتكم): تجاول الفرسان في الحرب إذا جال بعضهم على بعض بالكرِّ والفرِّ، قال الشاعر:
وأنا الذي ورد الكلاب مسوِّماً
بالخيل تحت عَجَاجَهَا الْمِنْجَال
(وانحيازكم عن صفوفكم): تأخركم عنها هرباً وتولية للأدبار.
(تحوزكم): تؤخركم عن مقاماتكم في الحرب.
(الجفاة): الذين لا تمييز لهم ولاعلم عندهم.
(الطغام): أوباش الناس وأوغادهم، وأنشد المبرد :
إذا كان اللبيب كذا جهولاً
فما فضل اللبيب على الطَّغَامِ
(وأعراب أهل الشام): أهل الغلظة والجفا.
(وأنتم لهاميم العرب): أهل الرئاسة والجودة.
(ويآفيخ الشرف): جمع يافوخ وهو: وسط الهامة.
(والأنف المقدّم): أنف كل شيء: أوله وأعلاه.
(والسنام الأعظم): سنام الجمل: أعلا ظهره، وسنام الأرض: نجدها، وأراد في هذا كله أنهم رؤساء الناس، وأعلاهم مرتبة وأقدمهم شرفاً.
(ولقد شفى وحاوح صدري): الغصص منه، والوحوحة: صوت معه بحح، يقال: وحوح الرجل إذا نفخ في يده من شدة البرد.
(أن رأيتكم بأخرة): بآخر الأمر، وأن في موضع رفع فاعل لشفا.
(تحوزونهم): حازه إذا ألجأه إلى مكان ضيق.
(كما حازوكم): من قبل.
(وتزيلونهم عن مواقفهم): طرداً لهم عنها وهرباً منهم.
(كما أزالوكم): فإن الحرب سجال مرة عليكم ومرة لكم.
(حساً بالنصال): الحس بالسين المهملة، هو: القطع والاستئصال، قال الله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ }[آل عمران:152] والحش بالشين المعجمة، هو: وقيد النار يقال: حشيت النار أحشيها حشياً، إذا أوقدتها، وكله محتمل ها هنا، والسماع بالشين المعجمة.
(وشَجْراً بالرماح): طعناً بها، وشجره بالرمح أي طعنه.
(تركب أولاهم أخراهم): هرباً وهزيمة منكم.
(كا لإبل الهيم المطرودة): الشاردة.
(ترمى عن حياضها): تزال بالعنف والشدة.
(وتذاد عن مواردها!): وهي: أماكن الشرب لها، مثَّل حالهم في الهزيمة بحال الإبل، لما يلحقهم في ذلك من الفشل في حال الهزيمة، وشدة الحال.
(102) ومن خطبة له عليه السلام من خطب الملاحم
(الحمدلله المتجلي لخلقه بخلقه): الظاهرلهم بالأدلة والبراهين، من إبداع المخلوقات، وإحكام هذه المكونات.
(الظاهر لقلوبهم بحجته ): فلا يحتك في صدورهم خلاف ذلك، من نفيه، ويختلج في أفئدتهم الشك فيه.
(خلق الخلق): اخترع هذه المخلوقات.
(من غير روية): تفكر ونظر في إبداعهم وإحكامهم.
(إذ كانت الرويات): الأفكار والأنظار.
(لا تليق إلا بذوي الضمائر): بأهل القلوب؛ لأن النظر إنما يكون بحكِّها ، وترتيب علومها.
(وليس بذي ضمير في نفسه): لأن ذلك إنما يختص من كان جسماً، وهو تعالى منزه عن الجسمية.
(خرق علمه باطن غيب السترات): نفذ علمه بما كان مستوراً، وشبهه بالخرق؛ لأن كل مخروق بالإنسان يبصر ما ورآه.
(وأحاط بغموض عقائد السريرات): واستولى على غامض ما كان حاصلاً في الصدور، من العقائد الصحيحة والفاسدة.
(واختار محمداً صلى الله عليه وآله من شجرة الأنبياء): وهي: ذرية إبراهيم وإسماعيل.
(ومشكاة الضياء): المشكاة هي: الكوّة، وهي فارسية معربة.
(وذؤابة العلياء): الذؤابة واحد الذوائب، وهي: الخصلة من الشَّعَر.
(وسرة البطحاء): أراد بطحاء مكة، وأراد أنه من خلاصتهم، ويقال: قريش البطاح، وهو لمن كان في مكة نفسها، وقريش الضواح لمن كان خارجاً عنها .
(ومصابيح الظلمة): لأن الظلمة مهما كانت مشتدة فضياء المصباح أشد وأكثر.
(وينابيع الحكمة): الينبوع: واحد الينابيع، وهو النهرالجاري، وهذه الأوصاف حاصلة في حقه صلى الله عليه وآله.
(طبيب دوَّار بطبه): بعرضه على كل أحد ممن كان به علة.
(قد أحكم مراهمه): أحكمها وأصلحها، وجعل لكل علة منها مرهماً يخصه.
(وأحمى مواسمه ): التي يضعها على الجراحة يحسمها بالنار.
(يضع ذلك حيث الحاجة إليه): أراد بذلك مثالاً في حق الرسول عليه السلام، فإن الطبيب الحاذق الماهر في علم الطب، لا يقصرعن علاج واحد ، واستعمال دواء مخصوص بل يعالج كل مريض بعلاج يليق به، ويستعمل في كل داء مايختص به من الأدوية؛ لأنه عليه السلام كان يكلم الناس على قدرعقولهم، وبحسب أمزجتهم ، فيضع الحكمة مواضعها حيث يحتاج إليها.
(من قلوب عمي): عن بصائرها فيوضح لها أمرها.
(وآذان صُمٌ): عمَّا ينجيها من سماع الكلمة، فيقرها في آذانهم.
(وألسنة بُكْمٌ): عن النطق لايكون نافعاً لها فينطقها بذلك.
(فيتتبع بدوائه مواضع الغفلة): أي يضع الحكمة بالاتعاظ والتنبيه حيث تكون القلوب الغافلة عمَّا ينجيها.
(ومواطن الحيرة): وحيث تكون الحيرة في أمر دينهم، فيفرج الأمر عنهم بحكمته.
(لم يستضيئوا بأنوار الحكمة): قبل ذلك، بل كانوا في جهالة الكفر وضلالة البدعة.
(ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة): فهم من أجل ذلك في ظلمة العمى، وحنادس الحيرة.
(فهم في ذلك): أراد جميع ما قدمه من الحيرة والغفلة.
(كالأنعام السائمة): التي لا راعي لها، فهي تتفرق من جانب إلى جانب.
(والصخور القاسية): بجفاء الطبائع وغلظها بالبدعة والكفر، كما قال تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }[البقرة:74].
(قد انجابت السرائر): أي انكشفت.
(لأهل البصائر): لأهل العقول المبصرة.
(ووضحت محجة الحق لخابطها): وظهرت طريق الحق لمن كان سالكاً غيرها، والخابط هو: الذي يأتي على غير طريق.
(وأسفرت الساعة عن وجهها): [بظهور علاماتها].
(وظهرت العلامة): [في الحق والباطل] .
(لمتوسمها): لطالبها، وغرضه من هذاالكلام أحد أمرين:
إما ما كان من الرسول عليه السلام فإنه قد أظهر الحق، وكشف عن الضلالة، وأرى الحكمة بما جاء به عليه السلام، وإما أن يريد بذلك مشيراً إلى نفسه، فإنه قد أبان الحق فيما هو بصدده، وكشفه وأبان الطرق الواضحة في حال هذه الفتن وغيرها.
(ما لي أراكم أشباحاً بلا أرواح): كأنكم جمادات، أو كأنكم أموات لا حراك بكم.
(أو أرواحاً بلا أشباح): أو كأنكم أرواح مجردة عن الأبدان، ولا تُقْبِلُون على ما فيه صلاح لكم، من العبادة والجهاد في الله لعدوكم، والروح والشبح لا انفصال لأحدهما عن الآخر، ولا يقومنَّ أحدهما ولا ينفع إلا مع صاحبه.
(ونُسَّاكاً بلا صلاح): النسك هو: العبادة، والصلاح هو: إصلاح الحال في مجانبة الكبائر، فالعبادة من دونها محال لا تنفع.
(وتجاراً بلا أرباح): والتجارة هي: التصرف، وكونه تصرفاً من غير ربح عناء وشقاء لامنفعة فيه.
(وأيقاظاً): تتصرفون تصرفات أهل ا ليقظة.
(نوماً): جمع نائم، لقعودكم عن الجهاد، فأنتم في حكم النائم.
(وشهوداً): مشاهدون بالأعين الناظرة.
(غيَّباً): بمنزلة الغائب في دفع النفع.
(وناظرة): أي وأنتم جماعة ناظرة بأعينها.
(عمياً ): عمَّا يراد بكم من أمر الجهاد، وأعمال الآخرة.
(وسامعة): للنطق وأجراس الكلام.
(صماً ): لإعراضهم عن المواعظ، وتركهم العمل بها بمنزلة الصم الذين لا يسمعون.
(وناطقةً): بالكلام في كل مايضرها، ولايكون نافعاً لها.
(بكماً ): عن الخطاب النافع في الأمر بمعروف ، أو نهي عن منكر، وهذا الأسلوب من علم البديع، وهو الملقب بالطباق، وهو ذكر الضدين جميعاً، قد أورده على هذا النمط العجيب واستاقه فصار بالغاً كل مبلغ في الحسن والرشاقة.
(راية ضلال قد قامت على قطبها): أراد بذلك ما يكون في آخر الزمان من فتنة الدجال، وغيرها من الفتن، وشبهها بالرحى في كمالها واستيساقها ، فإن الرحى إنما تكون مهيأة للطحن بذلك.
(وتفرقت شعبها ): صارت من جهات مختلفة، وأنحية متفاوتة.
(تكيلكم بصاعها): استعارة في الاستيلاء و الإحاطة.
(وتخبطكم بباعها): استعارة في القهر والغلبة، والباع: قدر مدِّ اليدين عرضاً.
(قائدها خارج عن الملة): بكفره لادّعائه أنه ربٌّ، وفي الحديث: ((إنَّ الدَّجّال أعور كأن عينه عنبة طافية ، وإنَّ ربَّكم ليس بأعور)) .
(قائم على الضَّلَّة): ثابت مستقيم على الضلال والزلل، والضِّلة بكسر الضاد: الحالة من الضلال، كا لرِّكبة، وبفتحها: الواحدة من الضلال، وبضمها: الباطل، ويقال له أيضاً: ضل بتضلال.
(فلا يبقى منكم يومئذ إلا ثُفالة كثُفالة القدر): الثفالة: ما رسب من كل شيء، وهو: عبارة عن الرديء، وأراد في زمان الدجال.
(ونُفاضة كنُفاضة العِكم): وهو ما يبقى في أسفل العِدْل من كل ما وضع فيه.
(يعرككم عرك الأديم): عند الدبغ له؛ لأنه لا يبقى منه جانب إلا نالته يد الدابغ.
(ويدوسكم دوس الحصيد): أي المحصود من الزرع، ودوسه: دقُّهُ حتى لا يبقى منه شيء قائم على ساقه، وجعل ذلك كله استعارة في عظمها، وشدة أمرها.
(ويستخلص المؤمن من بينكم): بالموت، أو بأمر يجعل الله له فيه فرجاً.
(كما يستخلص الطير الحبة البطينة من بين هزيل الحب): الهزيل من الأشياء: أضعفها وأردأها، وأراد بالبطينة: المملوءة النافعة الجيدة.
(أين تذهب بكم المذاهب): عمَّا أخاطبكم به، وأزجركم بسماعه.
(وتتيه بكم الغياهب): الظُّلَم بالسير في الشبهات، والإقامة عليها.
(وتخدعكم الكواذب؟): خدعه إذا أراه شيئاً، وغرضه خلافه، والكواذب: جمع كاذبة، وهي إما بمعنى الكذب، وإما صفة بمعنى الخصلة الكاذبة، وهو : الأماني والتسويفات.
(ومن أين تؤتون): في النكوص والتأخرعمّا أريده بكم وأتوسمه فيكم من قتال عدوكم.
(وأنى تؤفكون!): من أي طريق تصرفون، عمَّا أقول لكم من الحق، تقول: أَفَكَه يَأفِكُه إذا صرفه عن مراده.
({لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ })[الرعد:38]: فالآجال مكتوبة عند الله مقدرة، لا يزاد عليها ولا ينقص منها، فلأي شيء يكون التأخر عن الجهاد، وما أحسن ورود هذه الآية في هذا المكان؛ لما فيها من المطابقة له والملاءمة لمعناه.
(ولكل غَيْبَة إياب): أي لا غيبة إلا ويرجى له رجوع وَأَوْبَةٌ، فإلى متى تكون هذه الغفلة منكم، وأي حين ترجعون عنها.؟!
(فاستمعوا من ربَّانيَّكم): الربانيُّ هو: العالم بالله، المنقطع إليه في العبادة، كما قال تعالى : {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ }[آل عمران:79].
ولما مات ابن عباس، قال بعضهم : مات رباني هذه الأمة.
(وأحضروه قلوبكم): في الاستماع، وترك الغفلة.
(واستيقظوا إن هتف بكم): وانتبهوا إن دعاكم لأمر الجهاد.
(وليصدق رائد أهله): الرائد: الذي يبعثه القوم ليطلب لهم الكلأ، وهو من الأمثلة الجارية على ألسنة العرب، يقال فيه: الرائد لا يكذب أهله، وغرضه من هذا هو أني إنما أعظكم بهذه المواعظ، طلباً لنجاتكم، وسعياً في إصلاحكم .
(وليجمع شمله): فلا يشغله شيء عن ذلك.
(وليحضر ذهنه): حتى لايكون غافلاً عمَّا يقال له.
(فلقد فلق لكم الأمر): إما أراكم بصائركم في الدين، وإما فرَّق لكم بين الحق والباطل.
(فَلْقَ الخرزة): أراد أن الخرز إذا نظمت في العقد، فإن كل خرزة منه منفلقة عما يليها فلقاً لا يلتئم أبداً.
(وَقَرفَهُ قَرْفَ الصَّمْغة): القرف هو: القشر، وقرف الصمغة إذا أخذها مع شيء من العود، وفي المثل: تركته على مثل مقرف الصمغة ، يعني إذا أخذت جميع ما عنده، والضمير في فلق وقرف هو للربانيّ في أول الكلام.
(فعند ذلك): الإشارة إلى ما تقدم ذكره من هذه الفتنة.
(أخذ الباطل مآخذه): استقر، وثبتت قواعده، فقصد من كل جهة.
(وركب الجهل مراكبه): من كل شبهة وباطل.
(وعظمت الطاغية): إما الطغيان، وإما الضلالة الطاغية، وأراد اشتد أمرها، وجاوز حدها في العصيان والمخالفة كل حد ونهاية.
(وقلت الداعية): إما الدعاء إلى الخير، وإما الفرقة الداعية إلى الخير.
(وصال الدهر صِيَال السبع العقور): استطال على أهله، والمصاولة: المطاولة بالفساد والفجور، وشبهه بالسبع العقور لما يصيب أهله من ألمه.
(وهدر فنيق الباطل): الفنيق: الفحل المكرم عند أهله، وهديره: ترديده لصوته في حنجرته بطراً وأشراً.
(بعد كظوم): كظم البعير إذا أمسك عن الجرة، وأراد أنه كان مكظوماً من قبل بظهورالحق واستيلائه.
(وتواخى الناس على الفجور ): صاروا كالإخوة في التصافي والتداهن على المعاصي، من غير إنكار ولا منع كما يفعل الإخوة.
(وتحابُّوا على الكذب): إما أنه لا وجه للمحبة إلا أنه يكذب، وإما لأنه يمنِّيه الأماني الباطلة، ويَعِدُه بالمواعد المزخرفة، فيحبه من أجل ذلك، وكله محابة على الكذب.
(وتباغضوا على الصدق): إما لأنه لاوجه لبغضه إياه إلا لأنه صادق في مقالته، وإما لأنه يعظه ويخوِّفه بالله ويقرِّر عنده ما يؤول إليه أمره في الآخرة، ويصدقه هذه الأحاديث فيبغضه من أجل ذلك، فهذا هو مراده بقوله.
(فإذا كان ذلك): الإشارة إلى ماذكره من هذه الأهوال، وهي أمارة لوجود الساعة وقيامها.
(كان الولد غيظاً ): أي أن الولد إذا انعقد بطل بعد ذلك، وتلاشى أمره، كما قال تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ }[الرعد:8].
(والمطر قيظاً ): أي يأتي في غير وقته في أيام القيظ فلا ينتفع به.
(وكان أهل ذلك الزمان ذئاباً): في الضراوة والاستلاب.
(وسلاطينه سباعاً): في العداوة وشدة الافتراس لما صادفوه.
(وأوساطه أكالاً): أراد أدناهم منزلة يشبه الذئب في افتراسه، وأعلاهم يشبه السبع في شدة عداوته، وأوساطهم منزلة أكالاً بالتخفيف، وهو جمع أُكُل وهو ما يؤكل، كما قال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ }[الرعد:35] وأكَّالاً بالتشديد جمع آكل مثل جاهل وجهَّال.
(وفقراؤه أمواتاً): من شد ة الفاقة لاحراك بهم.
(وغار الصدق): أي ذهب، من قولهم: غارت عينه غوراً أي ذهبت، قال الله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا }[الملك:30] أي ذاهباً.
(وفاض الكذب): ظهر وانتشر.
(واستعملت المودة باللسان): أي أن المودة صارت نفاقاً، يظهر له من لسانه المودة وهو مبغض له بقلبه.
(وتشاجر الناس بالقلوب): أراد أن العداوة صارت في القلوب، نقيض الأمر وعكسه فإنها محل المصادقة والمحبة والمودة.
(وصار الفسوق نَسَباً): إما يتوارثونه قرناً بعد قرن، وإما ملازم لهم متصل بهم كا تصال الأنساب بعضها ببعض واشتباكها.
(والعفاف عجباً): لقلته فصار بمنزلة الطرفة والأعجوبة، يعجب منه كل أحد لقلته وندرته .
(ولبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً): بأن صارت أحكامه على عكس ما كانت عليه، فصار بمنزلة من لبس فروة على خلاف عادته، فقد أشار عليه السلام في هذه الخطبة إلى هذه العلوم الغيبية، وهي مأخوذة من جهة الرسول، وإعلامه له بمايكون من ذلك.
(103) ومن خطبة له عليه السلام
(كل شيء خاضع له): أي ذليل لأجل سلطانه وتكبره.
(وكل شيء قائم به): أي لولاه لما حصل، ولما كان موجوداً به .
(غنى كل فقير): أي هو الذي يغنيه.
(وعز كل ذليل): بالانتصارله، والأخذبحقه.
(وقوة كل ضعيف): بالانتصاف له ممن ظلمه.
(ومفزع كل ملهوف): الملهوف: المظلوم، واللهف هو: التحسر والحزن، أي أنه تعالى يُفْزَعُ إليه عند الظلم فيأخذ على يد الظالم وينصف منه.
(من تكلم سمع نطقه): لإدراكه لكل مدرك.
(ومن سكت علم سره): ما حواه صدره، وأكنته جوانحه لعلمه بكل المعلومات.
(ومن عاش فعليه رزقه): لأنه إذا كان مريداً لتبقية الحيوانات فلا بد من رزقها لدوام حياتها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا }[هود:6].
(ومن مات فإليه منقلبه): فيجازيه على أعماله خيرها وشرها: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا }[يونس:4].
(لم ترك العيون): بأحداقها كما ترى سائرالمرئيات.
(فتخبر عنك): بالمشاهدة، كما تخبر عن سائر المشاهدات الجسمية والعرضية.
(بل كنت قبل الواصفين من خلقك): لكونك أزلياً سابقاً على وجود كل موجود من المخلوقات.
سؤال؛ ما وجه تعلق قوله: بل كنت قبل الواصفين بقوله: لم ترك العيون حتى أورده على أثره؟
وجوابه؛ هو: أن المعنى لم ترك العيون، ولو رأتك لكانت واصفة لك؛ لأن كل من رأى شيئاً وصفه لا محالة، وأنت قبل الواصفين وجوداً فلا جرم وجب الحكم باستحالة كونك مرئياً، وقوله: (لم ترك العيون) مع ما قبله من أنواع البديع يسمى الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وله قدم راسخة في علم البيان، فمن الغيبة إلى الخطاب، كقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] }[الفاتحة:4-5] ومن الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ }[يونس:22] ومن الغيبة إلىالتكلم، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نُشْرًا }[الأعراف:57] ثم قال: {سُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ }[فاطر:9] وهو من أساليب الافتنان في الكلام؛ لأنه إذا نقله من أسلوب إلى أسلوب آخر كان ذلك أنشط للسامع، وأوفر في الإصغاء من جريه على أسلوب واحد.
(لم تخلق الخلق لوحشة): فيكون وجودهم للأنس بهم لك.
(ولا استعملتهم لمنفعة ): لك فيكون فقدهم إزالة لتلك المضرة، وإعداماً لها.
(ولا يسبقك من طلبت): بالهرب، فيكون ناجياً منك، وممتنعاًعليك.
(ولا يفلتك من أخذت): يذهب عنك من انتقمت منه بالعقوبة وأخذته بها، كما قال تعالى: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }[غافر:5].
(ولا ينقص سلطانك من عصاك): لأن إمهاله كان بغرض آخر غيرالعجز، فلهذا لم يكن تركه عجزاً ونقصاً.
(ولا يزيد في ملكك من أطاعك): لأن الزيادة إنما تعقل في حق من يتكثَّر بالزيادة، أو يلحقه بها نفع، والله تعالى منزَّه عن ذلك كله.
(ولا يرد أمرك من سخط قضاءك): أراد أن أمره نافذ في كل ما سبق به علمه، لا يرد ذلك عن مجراه سواء سخطه من وقع به أو رضي به، وكراهته لذلك لا يكون مانعاً من إنفاذه في حقه.
(ولا يستغني عنك من تولى عن أمرك): أراد أنه مع توليه عن الأمر وإدباره عنه، فإنه مفتقر إما إلى مغفرة الله تعالى بالتوبة والإنابة، وإما إلى رزقه وعافيته فلا يعقل استغناؤه بحال.
(كل سر عندك): بالإضافة إليك.
(علانية): في الظهور والإحاطة.
(وكل غيب عندك شهادة): في الكشف والإبانة.
(أنت الأبد): أي الدائم، والأبد: الدهر، وإنما سمي أبداً لدوامه.
(فلا أمد لك): أي لاغاية لدوامك، ولا انتهاء له.
وفي بعض النسخ: (أنت الأمد) بالميم، والأمد هو: الغاية، وأراد أنت الغاية لكل شيء فلا غاية ولاحد لأمدك.
(وأنت المنتهى): يرجع إليك كل شيء ويؤول.
(فلا محيص عنك): لا مهرب عنك ولا عدول، من قولهم: حاص عنه إذا عدل، ومنه قوله تعالى: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ }[ق:36].
(وأنت الموعد): يصلح للزمان، و المكان، والمصدر جميعاً، وأراد أنت صاحب هذه الأمور، ومالكها زمان الوعد ومكانه، ونفس الوعد.
(لا منجى منك): لا مفر منك.
(إلا إليك، بيدك ناصية كل دابة): استعارة في الإحاطة، والملك والاستيلاء، كما قال تعالى: {هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا }[هود:56].
(وإليك مصير كل نسمة): مرجعها ومآلها بالموت والنشر.
(سبحانك): ننزهك عمَّا لا يليق بك، وسبحان اسم للتسبيح علم له وليس مصدراً على الحقيقة، ومثله الكلام فإنه اسم، والمصدرمنه التكليم.
(ما أعظم ما نرى من خلقك!): تعجب من باهر الخلق وجلال القدرة.
(وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك!): تعجب آخر من صغره بالإضافة إلى ما هو أكبر منه وأبهر وهو القدرة؛ لأن من فكَّر في القدرة هان عليه وصغر ما يرى من المخلوقات على عظمها بالإضافة إليها.
(وما أهول مانرى من ملكوتك!): الملكوت من الملك، كما أن الرغبوت من الرغبة، والجبروت من الجبر، وهو مبالغة في تلك المعاني.
(وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك): السلطان هو: الجلال والعظمة، وأراد أنما ندرك بالأعين حقير هين، بالإضافة إلى جلال الله وعظيم سلطانه، الغائب عن الأفهام التي لا يمكنها إدراكه ولا تطلع عليه.
(وما أسبغ نعمك في الدنيا!): أجلها وأعظمها، كما قال تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }[لقمان:20].
(وما أصغرها في نعم الآخرة): كما قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ }[الزخرف:71] وقال عليه السلام: ((في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر)) لنسبة نعم الدنيا مع جلالتها إلى ما ذكرناه من نعيم الآخرةكنسبة القرارة إلى المثعنجر .
ثم ذكرحال الملائكة بقوله:
(من ملائكة أسكنتهم سماواتك): لعبادتك، واخترت لهم أشرف البقاع، لما تريد ه من كرامتهم.
(ورفعتهم عن أرضك): تكريماً لهم عن المواضع التي وقعت فيها المعصية من غيرهم.
(هم أعلم خلقك بك): لما عرفوه من ملكوتك، فازداد علمهم بك.
(وأخوفهم لك): ليقين علمهم بحالك، ولهذا ورد في الحديث: ((خوف الله على قدر معرفته، فمن عظم علمه بالله عظم خوفه منه )) ولهذا قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ }[النحل:50].
(وأقربهم منك): ليس الغرض قرب الجهة، وإنما المقصود هو القرب من الرحمة وقرب المكانة، ورفع المنزلة، ولهذا يقال: الوزير قريب من الملك، وإن كان منه على مراحل وبرد.
(لَمْ يَسْكُنُوا الأَصْلابَ): أي لم يكونوا نطفاً، ويخلقوا من الأمواه، فيكونون في أصلاب الرجال كسائر الأولاد.
(ولم يضمنوا الأرحام): لأن النطفة من الرجال، لابد من قرارها في أرحام النساء، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ }[المؤمنون:13].
(ولم يخلقوا من ما ء مهين): من مني خبيث الرائحة، غليظ الجوهرية، وقد تميزوا عن سائر المخلوقات بأن خلقوا من الأنوار الجوهرية ،وآدم خلق من الطين اللازب ، والجان خلق من المارج الناري.
(ولم يشعبهم ريب المنون): منَّ الشيء إذا قطعه، والمنون: المنية، وسميت منوناً؛ لأنها تقطع المدد وتنقص العدد، وشعبه إذا فرقه، والريب: كلما رابك من أمر تكرهه، وأراد أن الملائكة طولت الأعمار في حقهم، فلا يموتون كما يموت بنو آدم، وإنما يموتون دفعة واحدة عند انقضاء الدنيا وزوالها.
(وإنهم على مكانهم منك): في الرفعة، والعلو، والكرامة، والسمو.
(ومنزلتهم عندك): في القرب، والدنو.
(واستجماع هوائهم فيك): حتى أنه لاغرض لهم في غيرك، ولا حاجة لهم في سواك.
(وكثرة طاعتهم لك): في العبادة، وانقيادهم للأوامر كلها.
(وقلة غفلتهم عن أمرك): أي وأنهم يحافظون على الأمر بحيث لا يغفلون عنه ساعة واحدة، فإنهم مع اختصاصهم بهذه الأوصاف كلها.
(لو عاينوا كنه ماخفي عليهم): لو تحققوا غاية ماستر عنهم، من جلال الكبرياء وعظم الإلهية.
(لحقروا أعمالهم): لما يرون من ذلك ما يبهر عقولهم، وتحير فيه أفهامهم، ويرون أعمالهم حقيرة بالإضافة إلى الجلال الباهر.
(ولَزَرَوْا على نفوسهم ): أي صغروها بالإضافة إلى ذلك.
(ولعرفوا): عند معرفتهم لذلك.
(أنهم لم يعبدوك حق عبادتك): العبادة الواجبة لك على قدر عظمتك، وعلى قدر جلالك، وعظم نعمتك على الخلائق كلها.
(ولم يطيعوك حق طاعتك): الطاعة التي توجبها العقول لك على قدر حالك.
(سبحانك): تنزيهاً لك عمَّا لايليق بك، وعن التقصير في حقك.
(خالقاً): مخترعاً وموجداً، وانتصابه على التمييز.
(ومعبوداً): متقرباً إليه بكل طاعة.
(بحسن بلائك عند خلقك): بعجيب اختبارك، وامتحانك للخلق ودقيق حكمتك فيهم.
(خلقت داراً): يعني الجنة، وفي هذا دلالة على أنها مخلوقة، وهو قول النظام من المتكلمين، خلافاً لأصحاب أبي هاشم فإنهم زعموا أنها غيرمخلوقة، وما قاله أمير المؤمنين ها هنا هو الذي اخترناه في الكتب العقلية.
(وجعلت فيها مَأدَبة): أدب القوم يأدبهم إذا دعاهم إلى طعامه، والمأدَبة هي: خلاف الوليمة، وهو ما كان من غير سبب.
(مشرباً): كما قال تعالى: فيها أنهار من اللبن والعسل والخمر .
(ومطعماً): من الفواكه، وسائر المأكولات.
(وأزواجاً): من الحورالعين، كما قال تعالى : {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ }[البقرة:25].
(وخدماً): كما قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ}[الواقعة:17-18].
(وقصوراً): كما قال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ }[التوبة:72].
(وأنهاراً): كما قال تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ }[البقرة:25].
(وزروعاً ): كما قال تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ }[الرحمن:52].
(وثماراً): كما قال تعالى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ }[الرحمن:54] وغير ذلك مما لا يمكن وصفه.
(ثم أرسلت داعياً يدعو إليها): وهم الرسل، وسائر الأنبياء فإنهم بالغوا في الدعاء إلى توحيد الله، والإعلام بما أعد لأوليائه من النعيم الدائم، وبما أعد لأعدائه من العذاب المقيم.
(فلا الداعي أجابوا): فيرغبوا في الأعمال الصالحة، ليفوزوا بالجنة، ويتركوا الأعمال السيئة ليسلموا عن النار.
(ولا فيما رغَّبت رغبوا): من هذه اللذات الدائمة، والنعيم المقيم.
(ولا إلى ما شوَّقت إليه اشتاقوا): الشوق: منازعة النفس إلى الشيء، وأراد ولا نزعت نفوسهم إلى شيء مما وعدت به، من هذه الملاذ العظيمة.
(أقبلوا): بصرف نفوسهم وهمهم .
(على جيفة ): الجيفة هي: جثة الميت، وإنما شبهها بها لما فيها من النضارة والحسن في أول الأمر، ثم تكون عاقبتها فساداً وتغيراً كابن آدم.
(قد افتضحوا بأكلها): فضحه إذا ذكرمساوئه ومعايبه، وأراد أن مساوئهم ظهرت بأكلهم لها، من الأطماع الرديئة، والمكاسب السيئة.
(واصطلحوا على حبها): توافقوا وصالح بعضهم بعضاً على محبتها، وإرادتها من كل وجه.
(ومن عشق شيئاً أعشى بصره): العشق: إفراط المحبة، والعشا هو: سوء البصر، وأراد أن عشقهم أخرج بصرهم عن حد الا ستقامة والإدراك المستقيم؛ لما في ذلك من الإعراض عن الآخرة، التي عليها التعويل، والإقبال على ما لا تعويل عليه من اللذة المنقطعة.
(وأمرض قلبه): أخرجه عن حد الصحة بأن صار مقبلاً على الدنيا، وأعرض عن الآخرة.
(فهو ينظر بعين غير صحيحة): لأنه ينظر في غير سمت الآخرة وطريقها، فهي بمنزلة عين الأحول، الذي ينظر على غير الاستقامة والصواب.
(ويسمع بأذن غير سميعة): لإعراضه عن المواعظ، فهو بمنزلة من لا أذن له، نزل حال من لا يكون منتفعاً بهذه الآلات، من السمع والبصر في أمور الآخرة وأحوالها منزلة من عدمها، وكان فاقداً لها، وقد جاء على هذا النمط قوله تعالى: {لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا }[الأعراف:179] مبالغة للتنزيل، وحذواً على مثاله، واقتفاءً لآثاره ونسيجاً على منواله.
(قد خرقت الشهوات عقله): أفسدته بلذاتها، فصار بمنزلة الثوب المخروق، كما قال تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ }[إبراهيم:43] لا لب فيها ولا عقل لها.
(وأماتت الدنيا قلبه): غمرته فصار من ذلك بمنزلة من لا حراك به ميتاً عن ذكر الآخرة.
(وولهت عليها نفسه): الوله: ذهاب العقل، وأراد أن عقله ذاهب لشدة وجده عليها، وأسفاً على فراقها.
(فهو عبد لها): لانقطاعه في طلب شهواتها، وطلبه للتنعم فيها كانقطاع العبد في خدمة سيده، وعن هذا قال بعضهم: الشهوة أذلُّ من عبد الرقِّ.
(ولمن في يده شيءٌ منها): يؤمِّل معروفه ويراقب أحواله، ويتعرض لمنافعه.
(حيثما زالت زال إليها): أي جهة مالت الدنيا إليها، فهو مائل معها لا يفارقها طرفة عين.
(وحيثما أقبلت أقبل عليها): ومن إي جهة طلع نعيمها فهو مقبل عليه بوجهه، لا يعرض عنه، فهو مستغرق في جميع أحوالها بالشغل بها.
(لا ينزجر من الله بزاجر): لا تنفعه زواجر الله، وقوارع وعيده فلا يقلع عمَّا هو فيه.
(ولا يتعظ منه بواعظ): ولا يجدي في حقه تذكير الله له بقصص الماضين، وقرعها بسمعه .
(وهو يرى المأخوذين على الغرّة): المبهوتين بأخذ الموت على غفلة، وهذه الكلمة قد وردت بعينها في حديث الرسول عليه السلام، حيث قال: ((أما رأيتم المأخوذين على الغرّة، المزعجين بعد الطمأنينة )) .
(حيث لا إقالة ولا رجعة): لا تقال لهم عثرة، ولا يرجعون إلى ما كانوا فيستدركون التوبة، ويعاجلون في الإنابة.
(كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون): حاله ولا يخطر لأحد منهم على قلب كُنْهِ تصوره، وهو الموت.
(وجاءهم من فراق الدنيا): انقطاعها عن أيديهم، وزوالها عنهم.
(ما كانوا يأمنون): في أمان منه واطمئنان من وقوعه.
سؤال؛ كل أحد من الخلق يخاف وقوع الموت وهجومه على أي وجه كان، فكيف قال: ما كانوا يأمنون؟
وجوابه؛ هو أنه نزَّل إعراضهم عن الآخرة، وانهماكهم في حب الدنيا، وطلب لذاتها، وشغلهم بها بمنزلة من لا يخطر له الموت على بال، فهو آمن منه في دعة عن هجومه.
(وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون): من أهوالها، وعظيم ما أُعدَّ لهم من العذاب فيها.
(فغير موصوف ما نزل بهم): فلعظم ما نزل بهم، وحل بفنائهم يستحيل في العقول وصفه، ولا يمكنها ضبطه، ولنذكر طرفاً من ذلك تعريفاً بحالهم:
(اجتمعت عليهم سكرة الموت): شدته وعظمه، كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ }[ق:19].
(وحسرة الفوت ): أراد أنه اجتمع عليهم مصيبات سكرات الموت، وهوله وانقطاع الأفئدة تحسراً عما كان منهم من التفريط، وإنفاق الأعمار في غير فائدة يعود عليهم نفعها في الآخرة.
(ففترت لها أطرافهم): فلا يستطيعون حركة، ولا ذهاباً بيد ولا رجل.
(وتغيَّرت لها ألوانهم): ألماً، وخوفاً، وجزعاً.
(ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً): خالطهم مخالطة عظيمة مستولية.
(فحيل بين أحدهم وبين منطقه): فصار لا ينطق مع كمال عقله، وصحة حواسه، بأن ختم على لسانه.
(وإنه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأذنه): وهو لا يستطيع النطق لشدة ما نزل به.
(على صحة من عقله وكمال من لبه): أراد أن هذه الأشياء أعني العقل واللب، وسائر الحواس صحيحة، لا آفة بها، خلا أن لسانه قد اعتقل فهو لا يستطيع كلاماً، ولا يقدر عليه.
(يفكر فيمَ أفنى عمره! وفيمَ أذهب دهره!): يعني أنه عند نزول الموت به يفكر فيما ذكره، وفي الحديث: ((لا تزول قدم امرئٍ حتى يسأل عن ثلاث : عن عمره فيمَ أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن علمه فيمَ استعمله)) ؟
(ويتذكر أموالاً جمعها): لفها من جهات متفرقة.
(أغمض في مطالبها): تساهل في ذلك، يقال: أغمض عينه عن فلان فيم باعه منه، إذا تساهل في ثمنه، قال الله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ }[البقرة:267].
(وأخذها من مصرَّحاتها): مِمَّا هي صريحة في التحريم لا شك فيها.
(ومشتبهاتها): مما يكون فيه شبهة في كونه حراماً، وليس تصريحاً فهي غير منفكة من هاتين الحالتين.
(قد لزمته تبعات جمعها): مطالبها، من قولهم: تبعت الشيء إذا طلبته، وعن بعض الصالحين: تابعنا الأعمال فلم نجد شيئاً أبلغ في طلب الآخرة من الزهد في الدنيا، أي طلبنا ما هو أشد نفعاً عنها .
(وأشرف على فراقها): بدنو أجله، وقرب ارتحاله.
(تبقى لمن وراءه): من الأولاد، وسائر الورثة.
(يتنعمون فيها): بالخضم والقضم لها، وسائر اللذات.
(ويتمنَّعون بها ): إما يعتزون بها عمَّن يريد نقصهم، وإنزالهم عن مراتبهم من قولهم: امتنعت من الأسد إذا تحرزت منه، وإما من المنع وهو المروءة، أي يعطونها مروءة منهم وإحساناً على غيرهم من جهتهم، وأصله من المنعة وهي: العز.
(فتكون المهنأة لغيره): المهنأة مصدر هنأه الطعام يهنأه كالمسعاة من سعى مسعاة، وأكلة تهنأه نقيض لما يغص به من الطعام، ولا يجري في حلقه.
(والعبء على ظهره): أي الثقل، وهو: الوزر يحمله على ظهره، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ }[الأنعام:31].
(والمرء قد غلقت رهونه): غلق الرهن؛ إذا لم يكن يقدر صاحبه أن يفتكه لوقته المشروط، وهو يستعار لمن وقع في أمرٍ لا يرجو منه خلاصاً.
(دونها): تقصير للغاية، أي هلك من أجلها وبسببها.
(فهو يعض يده ندامة): عضَّ اليد جعل كناية عمَّن انقطعت نفسه حسرة على الشيء، وندامة على فواته من يده، قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ [مِنَ الغَيْظِ] }[آل عمران:119].
(على ما أصحر له عند الموت من أمره): ظهر وانكشف، من الإصحار والانكشاف، ومنه الصحراء لظهورها من الندامة والحسرة.
(ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره): زهد في الشيء وزهد عنه إذا رغب عنه، ولم يرده يعني أنه بعد الموت يود أنه ما ملك شيئاً من الدنيا، لما يرى من شدة انقطاعه عن ذلك، ووباله عليه.
(ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه): الغبطة: أن تتمنى مثل ما لصاحبك من النعمة، ولا تريد زوالها منه، والحسد: أن تريد زوالها منه إليك، وأراد أنه لفرط ندامته وتحسره، يود أن حاسده وغابطه استوليا عليها، ولم ينل منها شيئاً.
(فلم يزل الموت يبالغ في جسده): بإذهاب الحياة منه، والاستيلاء على بطلانها قليلاً قليلاً.
(حتى خالط سمعه ): اتصل به فأبطله.
(فصار بين أهله): حفدته، وأقاربه ملقى بينهم.
(لا ينطق بلسانه): لأنه قد ختم عليه.
(ولا يسمع بسمعه): لأنه قد بطل بالموت.
(ويردد طرفه في وجوههم): يقلب عينيه ذهاباً في كل جهة من القلق والحيرة، كما قال تعالى: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ }[الأحزاب:19].
(يرى حركات ألسنتهم): بعينيه التفاتهما.
(ولا يسمع رجع كلامهم): لذهاب سمعه، ورجع الكلام: جوابه.
(ثم ازداد الموت التياطاً به): التصاقاً بحواسه وجميع بدنه.
(فَقُبِضَ بَصَرُهُ كما قُبِضَ سَمْعُهُ): وإنما أخرّ قبض البصر؛ لأنه لابد من مشاهدة الملائكة، وهوآخر أوقات الدنيا.
(وخرجت الروح من جسده): للمتكلمين من علماء الدين خبط عظيم في بيان ماهية الروح ومحله، وكيفيته، وللفلاسفة أيضاً، وليس يتعلق به غرض ديني.
(فصار جيفة بين أهله): يُعَافُ قُرْبُهُ، وتُسْتَقْذَرُ مخالطتهُ.
(قد أوحشوا من جانبه): من الجانب الذي يليه، وهي: المخالطة والمباشرة.
(وتباعدوا من قربه): فرقاً منه ووحشة.
(لا يسعد باكياً): بأن يقول له: سعديك.
(ولا يجيب داعياً): بأن يقول له: لبيك؛ لأنه يندبه بأحسن أوصافه، ويناديه بأرحم أسمائه، وأحقها بالإجابة.
(ثم حملوه): أقلّوه على ظهورهم من غير حركة ولا نطق.
(إلى محطٍّ في الأرض): إلى موضع الحطِّ، والا ستقرار من بعض الأرض، وهي: البراري والأمكنة الخالية.
(وأسلموه فيه إلى عمله): خلوا بينه وبينه مستسلماً منقاداً، لا حائل في ذلك.
(وانقطعوا عن رؤيته ): لتغييبهم له بين أطباق التراب، فلا يمكن إدراكه.
(حتى إذا بلغ الكتاب أجله): الحد الذي قدره الله للدنيا، وأذن بانقطاعها وزوالها.
(والأمد مقاديره): مقدارالساعة ووقتها، وزمان القيامة وأوانها.
(وألحق آخر الخلق بأوله): في الموت والإفناء، أو في الابتداء والإنشاء.
(وجاء من أمر الله ما يريد ): مما نفذ في علمه، وسبق به قضاءه وحكمه.
(من تجديد خلقه): خلقهم مرة ثانية وإعادتهم.
(أماد السماء): ماد الشيء إذا تحرك واضطرب.
(وفطرها): شقها بنصفين، وأزال نظامها والتئامها، كما قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ }[الإنفطار:1].
(وأرجَّ الأرض): حركها بعنف وشدة.
(وأرجفها): الرجفة هي: الزلزلة، ورجف إذا تحرك واضطرب، وسمي البحر رجافاً لكثرة اضطراب أمواجه.
(وقلع جبالها): عن أصولها ومنابتها، وأضاف الجبال إليها لما لها من الاختصاص بها؛ لأنها خلقت تسكيناً لاضطراب الأرض كما سبق تقريره في كلامه.
(ونسفها): نسف البعير الكلأ إذا قلعه.
(ودكَّ بعضها بعضاً): أي جعلها مستوية من غير أنشاز ، كما قال تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا }[طه:106] وأراد إما دكَّ الله بعضها ببعض، فيكون الله هو الفاعل، وأما دكَّ بعضها بعضاً فيكون البعض هو الفاعل، وكله محتمل، وكل ذلك بفعل الله وأوامره.
(من هيبة جلاله): من أجل جلاله الذي يهابه كل مخلوق.
(ومَخُوف سطوته): التي لاقدرة لأحد بها، ولا يستطيع دفعها.
(وأخرج من فيها): من جميع المخلوقات كلها، من أنواع الحيوانات وغيرها.
(فجددهم بعد إخلاقهم): فسوَّى صورهم كما كانت، بعد أن كانوا تراباً.
(وجمعهم بعد تفريقهم ): ولاءم بين أجزائهم بعد ذهابها في الأرض وتفتيتها .
(ثم ميزهم): جعلهم متميزين، لا يلتبس شيء من أحوالهم عليه، ولا يخفى من أمورهم شيء.
(لما يريد من مسألتهم عن الأعمال): حسنها، وقبيحها، وإخلاصها، ومشوبها، وخيرها، وشرها.
(وخفايا الأفعال ): والأعمال المخفاة التي أخفاها أهلها، وظنوا أنه لايعلمها، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } [الزخرف:80]، أو التي أضمروها في قلوبهم عن غيرهم.
(وجعلهم فريقين): أولياء من المؤمنين، وأعداء من الفاسقين والكافرين.
(أنعم على هؤلاء): بالثواب العظيم، والدرجات العالية.
(وانتقم من أولاء ): بالعقاب الطويل، والنكال.
(فأما أهل الطاعة ): من أهل الإيمان، والأعمال الصالحة.
(فأثابهم بجواره): جعل ثوابهم إسكانهم بالقرب من رحمته.
(وخلدهم في داره): وجعل وقوفهم فيها لا انقطاع له ولا آخر لحصوله.
(حيث لا يظعن النزُّال): جمع نازل، أي حيث لا يُنْقَلُ من نزل فيه.
(ولا يتغير بهم الحال): الحال يذكر ويؤنث، وأراد أنه لايزول ماهم فيه من النعيم المقيم.
(ولا تنوبهم الأفزاع): تصيبهم المصائب التي يفزع منها ويخاف.
(ولا تنالهم الأسقام): لبعدهم عن الآلام بالصحة فلا تصلهم بحال.
(ولا تعرض لهم الأخطار): الخطر: هوالإشراف على الهلاك.
(ولا تشخصهم الأسفار): شخص من مكانه إذا فارقه ، وأراد أنهم لا يسافرون لغرض من الأغراض، فهم باقون في أماكنهم مستقرون فيها، فهذه حال أهل الطاعة من المؤمنين.
(وأما أهل المعصية): الذين فعلوها، وتلبَّسوا بها.
(فأنزلهم شر دار): لما أعدَّ لهم فيها من الويل، فلا شرَّ إلا هو فيها، فلهذا كانت شر دار.
(وغل الأيدي إلى الأعناق): بأن جعلها مشدودة إليها، فلا يستطيعون تصرفاً بها، كما قال تعالى: {إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ }[غافر:71].
(وقرن النواصي بالأقدام): كبَّهم فيها بأن ضمَّ النواصي إلى الأقدام وشدَّها، كما قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ }[الرحمن:41].
(وألبسهم سرابيل القطران): وهو شيء يستخرج من أشجار كثيرة، وأعظمها شجر العرعر، كما أن النار تستخرج من كل عود، وأعظمها في ذلك المرخ والعفار، قال:
في كل عُودٍ قَبَسٌ ونارٌ
وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ
يطلى به الإبل فيحرق الجرب بحرِّه وشدة لذعه، وهو أسود اللون منتن الرائحة، من شأنه إسراع النار فيه، وربما يستصبح به، فيطلى به جلود أهل النار ووجوههم، حتى يكون طلاؤه في حقهم كالسرابيل، وهي: القمص لتجتمع عليهم من ذلك مصائب وآلام كثيرة: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار فيه، واللون الوحش، والرائحة الخبيثة، مع أن ما بين القطرانين من التفاوت والبعد، شيء لا يمكن إدراكه، ولا يعقل وصفه.
(ومقطعات النيران): أراد أنهم قطعت لهم ثياب من النيران، كما قال تعالى: {قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ }[الحج:19].
(في عذاب قد اشتد حره): أي هذه حالهم، وصفتهم مقيمون في عذاب شديد الحر، لاغاية لوصفه.
(ونار قد أطبق على أهله): الغرض بالنار ها هنا هو العذاب، ولهذا ذكَّر ضميرها، ولو أراد ها لقال: أطبقت، وأراد بإطباقها إغلاقها على أهلها، كما قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ }[الهمزة:8] أي مغلقة.
(في نار لها كَلَبٌ ولَجَبٌ): الكلب: التكلب والشدة، واللَّجَب بالتحريك هي: الأصوات العظيمة.
(وَلَهَبٌ ساطعٌ): عالي لشدة حركته وتلهبه.
(وقصفٌ هائل): القصف: الكسر، وقصف العود إذاكسره؛ لأنها تقصف كل شيء أي تكسره، وأراد أن قصفها للأشياء يهول من أبصره، أي يفزعه لشدته.
(لا يظعن مقيمها): عمَّا هو فيه من عذابها، والظعون هو: الانتقال.
(ولا يفادى أسيرها): يستخلص بفداء وإن عظم خطره.
(ولا تفصم كبولها): الكبول: القيود، وأراد أنها لا تزال عن أرجلهم بالقطع.
(لا مدة للدار): لانهاية لعذابها، ولاغاية لانقطاعهم عنها.
(فيفنى ): فيكون له انقضاء وغاية وانتهاء.
(ولا أجل لهم ): وقت مؤجل من أعمارهم.
(فيقضى): عليهم بالموت، فهذه معرفة حال أهل الدارين.
اللَّهُمَّ، بكرمك الواسع ورحمتك العظيمة، نسألك الفوز برضوانك، والإجارة من عذابك يا أكرم الأكرمين.
(104) ومن خطبة له عليه السلام
(إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله تعالى): التوسل هو: التقرب، وأراد أن أقرب ما تقرب به المتقربون إلى الله تعالى.
(الإيمان به وبرسوله): فإن ذلك أول الإسلام وجوداً، وأعلاه حالة وأكثره ثمرة؛ لأن العلم بالله تعالى والتصديق به والعلم بحال رسوله؛ هما الأصل والقاعدة في المعارف الدينية، والوظائف الشرعية، فلايعقل إيمان من دون ذلك؛ لأن سائر العلوم الإلهية من الصفات والأفعال والسلوب، والإضافات التي يجب إضافتها إلى الله تعالى ونفيها عن ذاته، متفرع على معرفة ذاته، وهكذا الأعمال الشرعية وجميع الأمور الأخروية، متفرعة على صدق الرسول، فلهذا كان العلم بالله تعالى والتصديق به وبرسوله؛ هما الأصلان من أصول الديانة.
(والجهاد في سبيله): وهما جهادان: جهاد بالحجة، وهو إحياء العلوم بالتدريس، واستنهاض الحجج على المخالفين للدين، وجهاد بالسيف وهو قتل أهل الكفر، وسائر المنكرين للتوحيد وجميع الملل الكفرية.
(فإنه ذروة الإسلام): ذروة كل شيء أعلاه وأفضله.
(وكلمة الإخلاص): وهي لا إله إلا الله، وإنما سماها كلمة الإخلاص ؛ لأن من قالها عن علم ودراية، وشرح بها صدره، فإنها دالة على كونه مخلصاً لله بالتوحيد والإلهية، لأنه نفى كل إلهية وأثبتها لله تعالى خالصة، ولها أسماء كثيرة، وهي: الكلمة الطيبة ، كقوله تعالى: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً }[إبراهيم:24]، وهي: العروة الوثقى ، كقوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى }[البقرة:256]) وهي: كلمة التوحيد، إلى غير ذلك من الأسماء .
(فإنها الفطرة): إشارة إلى قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }[الروم:30] فإنه خلقها، أعني العقول قاضية له بالوحدانية، وشاهدة له بالربوبية .
(وإقام الصلاة): الإتيان بها وتأديتها على التمام لأركانها، والخشوع فيها.
(فإنها الملة): أي الدين، وأراد أن كل ما أتى بها فهو باق على الدين مستمر عليه، كما قال عليه السلام: ((الصلاة عماد الدين، فمن هدمها فقد هدم الدين )) ، وقال: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة )) .
(وإيتاء الزكاة): وتأديتها على الحقوق المفروضة، في الزروع والأموال والمواشي.
(فإنها فريضة واجبة): على كل مسلم ممن كان حائزاً لما تجب فيه من الأموال.
(وصوم شهر رمضان): والإمساك عما يكون مفطِّراً من المأكولات والوقاع.
(فإنه جنة من العقاب): حجاب عنه لما فيه من رضاء الله وإسخاط الشيطان، ولهذا قال عليه السلام: ((الصوم لي وأنا أجزي به )) ، وفي حديث آخر: ((من صام شهر رمضان صابراً محتسباً لله تعالى دخل الجنة )) .
(وحج البيت واعتماره): والإتيان بهذه المناسك في الحج والعمرة على ما هي مشروعة فيهما جميعاً.
(فإنهما ينفيان الفقر): عمن أتى بهما على وجوههما.
(ويرحضان الذنب): يزيلانه من رحض الدرن، إذا أزاله عن يده، فهذه جملة شرائع الإسلام قد أشار إليها عليه السلام، كما أشار إليها الرسول بقوله: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج إلى بيت الله الحرام، وصوم شهر رمضان)) .
(وصلة الرحم): وصلة من كان بينه وبينه قرابة، بالزيارة والمواساة وما يمكن من أنواع الصلة، كقوله عليه السلام: ((بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام )) ، فهو أدنى ما يوصل به الرحم، وقال عليه السلام: ((يقول الله تبارك وتعالى: الرحم اشتققت اسمها من اسمي ، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته)) .
(فإنها مثراة في المال): المثراة: مفعلة من ثرى المال إذا كثر وفشا، قال علقمة :
يُرِدن ثراء المال حيث عَلِمْنَهُ
وَشَرْخُ الشبابِ عِندهنَّ عجيبُ
(منسأة في الأجل): المنسأة: مفعلة من النسيان وهو خلاف الذكر، كما قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }[التوبة:67].
سؤال؛ كيف قال في صلة الرحم: إنها مثراة ومنسأة، والأرزاق والآجال مقدرة لا يزاد فيها ولا ينقص، وكلامه يدل [على] خلاف ذلك؟
وجوابه؛ من وجهين:
أما أولاً: فيحتمل أن الله لا يرزقه هذا الرزق، ولا يؤخره إلى هذا الأجل إلا بشرط صلته الرحم، ولا يستحقه إلا بذلك.
وأما ثانياً: فيحتمل أن يقال: إن الآجال والأرزاق لا نقص فيها ولا زيادة، ولكنه إذا وصل رحمه جعل الله له من الألطاف الخفية في أعمال صالحة وتقربات متقبلة مالولم يصلها لكان لا تحصل له تلك الأفعال إلا في أعمار طويلة فتكون منسأة الأجل متأولة على ماقلناه، وهكذا فإن الله تبارك وتعالى يبارك له فيما رزقه من الأرزاق وأعطاه منها إذا وصل رحمه، ما لو لم يصلها لكان لا يحصل ما حصل إلا بأموال كثيرة، فتكون المنسأة في الآجال، والمثراة في الأموال متأولتين على ما قلناه.
(وصدقة السر فإنها تكفِّرالخطيئة): أي تمحوها وتبطلها.
(وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء): وكان الرسول عليه السلام يعوذ بالله من ميتة السوء.
(وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان): انقلاب الحال وتغيره، ((وكان عليه السلام يعوذ بالله من الحور بعد الكور)) ، وهو النقصان بعد الزيادة.
(أفيضوا في ذكر الله): أكثروا منه، من قولهم: فاض الحوض إذا كثر ماؤه.
(فإنه أحسن الذكر): كما قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }[العنكبوت:45].
(وارغبوا فيما وعد المتقين): في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ... }إلى آخر الآية[محمد:15]، وقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }[آل عمران:133] وهم الذين اتقوا الله تعالى، وراقبوه في جميع أحوالهم في السر والعلانية.
(فإن وعده أصدق الوعد): من حيث كان حكيماً، لا يجوز عليه الكذب في وعده.
(واقتدوا بهدي نبيكم): سنته، وطريقه التي قررها لكم.
(فإنه أفضل الهدي): لأنه عليه السلام أفضل الأنبياء قدراً، وأوسعهم صدراً وأسهلهم شرعاً، وأوضحهم طريقة، كما قال: ((بعثت بالحنيفية السمحة )) .
(واستنوا بسنته): اسلكوا على طريقته، أخذاً لها من سنن الطريق.
(فإنها أهدى السنن): أعظمها بياناً، وأكثرها دلالة على الخير.
(وتعلموا القرآن ): اقرأوه، وفي الحديث: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها)) .
(فإنه ربيع القلوب): تحيا به القلوب كما تحيا الأرض بالربيع، أو أنها تظهر أنوارها به كما تظهر أنوار الأرض عند الربيع، وهي استعارة بديعة رائقة.
(واستشفوا بنوره): اطلبواالشفاء منه، لما نزل بكم من الأدواء في الدين والعاهات.
(فإنه شفاء الصدور): عن الشك والريب، والوسوسة.
(وأحسنوا تلاوته): بتقويم الأحرف، وإخراجها عن مخارجها وتحسين الأصوات، وسلامته عن اللحن.
(فإنه أنفع القصص): أدخلها في النفع والاعتبار، لما فيها من الاتعاظ بالقرون الماضية، والقصص فيه روايتان: بكسر القاف جمع قصة أي أنه أنفع الروايات المقصوصة، وبفتح القاف إما مصدر بمعنى الاقتصاص، وإما اسم عن مصدركأنه قال: أنفع الأخبار وأعلاها حالاً.
(وإن العالم): بالدين وأحكام الشريعة، وغير ذلك من العلوم.
(العامل بغير علمه): المخالف لما يعلمه من ذلك ولما أمر الله به.
(كالجاهل): لأن علمه غير نافع له كما أن الجاهل حاله ذلك.
(الحائر): المتحير في طريقه لايهتدي لسلوكها.
(الذي لا يستفيق من جهله): أي لاينهض من عثارجهله، من قولهم: فاق واستفاق من مرضه وسكره.
(بل): إضراب عمَّا ذكره من وصف العالم الذي لا يعمل بعلمه، ودخول في نوع آخر من صفاته مبالغة في ذلك، ونعتاً لفعله وتسجيلاً على صنيعه.
(الحجة عليه أعظم): لمخالفته لما يعلم من ذلك؛ لأن الجاهل ربما عذر، فأما العالم فلاعذر له في ذلك، فلهذا كان محجوجاً عند الله تعالى.
(والحسرة له ألزم): التلهف على ما فاته من العمل بعلمه أكثر لزوماً له.
(وهو عند الله ألوم): أكثر لوماً، وأُلام الرجل إذا فعل فعلاً يلومه الناس عليه ويمقتونه.
ثم أطال في ذكر حال الرسول وبيان أوصافه بقوله:
(قد حقَّر الدنيا وصغَّرها): التحقير من الحقارة، والتصغير من الصغار، وهو مبالغة في كثر ذلك وزيادته، وأراد أنه استرذلها في كل أحوالها وأحواله.
(وأهون بها وهوَّنها): أهون بها، أي صار ذاهون بها وتحقير لحالها، وهوَّنها: أي جعلها هينة عنده.
سؤال؛ أراه ها هنا عدى أحد الفعلين بنفسه، والآخر عداه بحرف الجر، وكلاهما فيه حرف التعدية، فما وجه ذلك؟
وجوابه؛ هو أن الهمزة في أهون بها ليست حرف تعدية، وإنما هي للدلالة على صيرورة الشيء ذا كذا كما قالوا: أحرب الرجل إذا صار ذا حرب في ماله، وألام وأرأب إذا صار ذا لوم وريب، فلهذا وجب تعديته بحرف الجر، كما قال تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ] }[يوسف:100].
(وعلم أن الله تعالى قد زواها): طواها وقبضها.
(عنه اختباراً): إما من الاختبار وهو الا متحان، وإما من الاختيار وهو الاصطفاء، وكلاهما حاصل في حقه صلى الله عليه وآله، فإن الله تعالى ما طواها في حقه إلا كرامة له بالامتحان، ليعظم الأجر وترتفع المنزلة له عند الله، وإما من أجل اصطفاء الله له وتشريفاً له عن التضمخ بها والتعلق بهدَّابها .
(وبسطها لغيره): تمكن من لذاتها والتنعم فيها غيره من سائر المخلوقين.
(احتقاراً): إما لأن خطرها حقير، و(( لو كانت الدنيا تسوى عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة))، وإما لمن أعطيت إياه فيشتغل بها، ويلهو عن الطاعة فَيْسْتَحْقَر حاله عند الله، من أجل تعلقه بها وانهماكه في حبها.
(فأعرض عن الدنيا بقلبه): لهوانها عليه، وانقطاع نعيمها.
(وأمات ذكرها عن نفسه): فهو لا يذكرها بلسانه، ولا يخطرها على قلبه.
(وأحب أن تغّيب زينتها عن عينه): إما بأن يغيبها الله فيكون الفعل مبنياً لما لم يسم فاعله، وإما أن يغيبها هو عن عينه فيكون مبنياً لما سمي فاعله .
(لكيلا يتخذ منها رياشاً): الرياش هو: اللباس الفاخر.
(و يرجو فيها مقاماً): أي إقامة أو لبثاً في موضع الإقامة، وعلى هذا يكون المقام موضع الإقامة.
(بلغ عن ربه): ما أرسله به من الشرائع، والأحكام، ووصف أمر الآخرة.
(معذراً): بالغاً في الإعذار كل غاية.
(ونصح لأمته): بالغ في النصيحة من كل جهة.
(منذراً): عن العقوبات العظيمة، والنكالات الشديدة.
(ودعا إلى الجنة مبشراً ): إلى ما يكون موصلاً إلى الجنة، من الأعمال الصالحة بتعريفها، والحث على الإتيان بها.
(نحن شجرة النبوة): وهذا من الاستطرادات العجيبة، وقد نبهنا عليها في مواضع كثيرة من كلامه، فبيناه يتكلم في وصف الرسول في ذم الدنيا وإهمالها، إذ خرج إلى ذكر نفسه وأولاده، ومعنى شجرة النبوة إما عاماً وأراد به شجرة إبراهيم وإسماعيل، وإما أراد نبوة الرسول وهو عبد المطلب، والشجرة هي: أصل ذلك الشيء، والأقرب أن مراده شجرة الرسول عليه السلام، وأراد أنه هو والرسول من شجرة واحدة أُخِذَا.
(ومحطُّ الرسالة): المحط: مكان الحط والوضع، أي حيث تكون الرسالة موضوعة.
(ومختلف الملائكة): أي حيث [كان] مكان اختلاف الملائكة، وهذا ظاهر فإن جبريل وغيره من الملائكة، كانوا يختلفون في حجرات الرسول وبيوته كلها.
(ومعادن العلم): التي يؤخذ منها، كمعادن الذهب والفضة.
(وينابيع الحكمة ): ينبوع الماء هو: تفجره.
(ناصرنا ): بقلبه ولسانه ويده.
(ينتظرالرحمة): وهو إرادته لنفعه، وإكرامه له.
(ومبغضنا): من يريد نزول الضرر بنا.
(وعدونا): المجانب لنا، والمظهرللعداوة.
(ينتظرالسطوة): من الله تعالى، وهي: المعاجلة بالعقوبة.
(105) ومن خطبة له عليه السلام
(أما بعد، فإني أحذركم الدنيا): التحذير: التخويف؛ لأن فجعائها متوقعة، وحوادثها منتظرة، فإذاً هي أخلق الأشياء بأن يحذر منها أي يخاف.
(فإنها حلوة): في فم ذائقها.
(خضرة): في عين من أبصر إليها تعجبه بنضارتها.
(حفت بالشهوات): أي أن الشهوات محيطة بها من جميع جهاتها، والمحفوف المستدارحوله فلا جانب منها إلا وهو مشتهى.
(وتحببت بالعاجلة): أراد أنها محبوبة لما فيها من العاجل، وخلقت النفوس على إيثارالعاجل وترك الآجل.
(وراقت بالقليل): راق الشيء يروق إذا كان معجباً، وأراد أن إعجابها قليل لما يتبعه من الانقطاع عنها، وبطلان لذاتها.
(وتحلَّت بالآمال): وأراد أن حلاوتها إنما ظهرت بالأمور المؤملة منها في المستقبل، فإنها هي التي حلّتها، فلهذا تهالك الناس في حبها وطلبها.
(وتزينت بالغرور): أي أن زينتها لم تكن إلا بالاغترار في حالها، فلو عقل حالها وانقطاعها ما اغتربها مغتر، ولكنها غرتهم فتزينت بذلك لهم.
(لا تدوم حَبْرَتُهَا): نعيمها، وسرورها.
(ولا تؤمن فجيعتها ): أي ليسوا منها على ثقة؛ في أنها تفجعهم في أنفسهم وأموالهم كلها، بالموت في الأنفس والزوال في الأموال.
(غرّارة): بالغة في الغرر كل غاية.
(ضرَّارة): لا تقصِّر عن الضرر في كل أحوالها.
(حائلة): تتقلب بأهلها من حال إلى حال، ولله دَرُّ من قال:
دَعِ الْمَقَادِيْرَ تَجْرِي فِيْ أَعِنَّتِهَا
واصْبِرْ فَلَيْسَ لَها صبرٌ عَلى حَالِ
يوماً تُرِيْكَ خَسِيْسَ الْقَدْرِ تَرْفَعُهُ
فَوْقَ السِّماكِ ويوماً تَخْفِضُ الْعَالِي
(زائلة): بيناك تراها حاصلة لفريق إذا تولت عنهم وأدبرت.
(نافدة): من النفاد، وهو: الهلاك.
(بائدة): وهو التغير؛ لأنها تبيد أهلها أي تزيلهم.
(أكّالة): كثيرة الأكل، وأكلها إذهابها لأهلها، بمنزلة البهيمة الأكولة.
(غوّالة):كثيرة الخدع، والمكر بأهلها.
(لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة): الأُمْنِيَة: ما يتمناه الإنسان، ويودُّ حصوله.
(والرضاء بها): أي وأهل الرضاء بها، والمعنى في هذا أنها لاتجاوز وإن بلغت كل غاية عند من رضي بها، ورغب فيها وتمنَّاها، وجدَّ واجتهد في التنافس فيها.
(أن تكون كما قال الله تعالى): أي يكون حالها مشبهاً لما وصفه الله تعالى بقوله:
({كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا... }إلى آخر الآية [الكهف:45]): فهي لاتعدو هذا التشبيه، وهذا التشبيه من التشبيهات المركبة فشبَّه الله الدنيا في سرعة انقضائها، وانقراض نعيمها وزواله بعد إقباله وغضارته وحسنه، بحال نبات الأرض عند نزول المطر عليه ، واختلاطه بها، فالتفَّ بسببه وتكاثف، واخضرَّ وأورق، ثم صار بعد ذلك هشيماً محطوماً مكسراً، تُفَرِّقُه الريح في كل جانب حتى لايبقى له أثر،كأن لم يكن، وقد أكثر الله تعالى تمثيل الدنيا بالزرع في غيرآية من كتابه، لما يظهر في أول حالها من رونقها، وطلاوتها وحسنها، وسرعة تغيّرها، ونفادها وزوالها.
(لم يكن امرؤ فيها في حَبْرَةٍ): نعيم وسرور.
(إلا أعقبته): على الفور والسرعة .
(بعدها): بعد الْحَبْرَةِ.
(عَبْرَة): إما اعتبار بتغيرحالها واتعاظ، وإما انسكاب دمعة، لما يعتري من أحزانها وآلامها.
(ولم يلق من سرّائها بطناً): أي يلاقي، والسراء هي: المسرة.
(إلا منحته من ضرّائها ظهراً): المنحة: العطية، ومنحه إذا أعطاه.
(ولم تَطلَّه فيها ديمة رخاء): الديمة هي : المطر الدائم.
(إلا هتنت عليه مزنة بلاء): المزن: [على وزن فعل] هو السحاب، وهتنت إذا أمطرت، وأراد في هذا كله أنه لا يكون فيها خير إلا وتعقَّبه شر، يكون مثله أو يزيد عليه.
(وحري إذا أصبحت له متنضِّرة): الحري: هو الحقيق بالشيء، والمتنضّر: كثير النضارة والحسن.
(أن تمسي له متنكرة): لما يلحق فيها من التغير في الأحوال، حتى ينكرها من عرفها.
(وإن جانب منها اعذوذب واحلولى): افعوعل لا يرد إلا للمبالغة فيما هو فيه، وجانب مرفوع على إضمار فعل يفسره ما بعده، من حيث كان حرف الشرط لا يليه إلا الأفعال.
(أمرّ منها جانب فأوبى!): أي أمرض من الوباء، وهو: المرض، وأرض وبّية.
(لاينال امرؤ من غضارتها رَغَباً): الغضارة هي: الحسن والإعجاب، والرغب: ما يُرْغَبُ فيه من الأشياء، وهو بمعنى مفعول أي مرغوب، كالنقص بمعنى المنقوص، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الرغبة، كقوله تعالى: {رَغَبًا وَرَهَبًا }[الأنبياء:90] أي رغبة ورهبة.
(إلا أرهقته من توآئها تعباً): الإرهاق: الإغشاء، أرهقته كذا إذا أغشيته إياه، والتوى: الهلاك، والتعب: نقيض الراحة وضدها.
(ولا يمسي منها في جناح أمن): ذكر الجناح استعارة، كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ }[الإسراء:24].
(إلا وأصبح على قوادم خوف): القوادم: جمع قادمة من الطير، وهي مقاديم ريشه، وهن عشر في كل جناح.
(غرارة): لكل من ركن إليها، واطمأن إلى شهواتها.
(غرور): كثيرة الغرور بأهلها.
(ما فيها): طرفها وعجائبها، أي أنها هي الغارَّة لمن انخدع بها.
(فانية): منقضية زائلة.
(فانٍ من عليها): زائل غير باقٍ، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }[الرحمن:26].
(لا خير في شيء من زادها ): لذهابه، وانقطاعه عن صاحبه.
(إلا التقوى): فإنها باقية نافعة لصاحبها.
(من أقلّ منها): من جمع حطامها، وادخار نفائسها، وأنفقها لوجه الله، وابتغاء مرضاته.
(استكثر مما يؤمّنه): من الثواب، ورضوان الله، والسلامة من عقاب الله والأمن منه.
(ومن استكثر منها): بجمع حطامها، وادخارها.
(استكثر مما يوبقه): يهلكه؛ لأن الإكثار منها اشتغال بجمعه، وغفلة عن الآخرة، وهذا هو نهاية الهلاك.
(وزال عمَّا قليل عنه): إما بتفرقه عن يده بالتلف، والاجتياح بضروب الآفات، وإما بالموت عنه والانقطاع.
(كم واثق بها قد فجعته): كثير لا يمكن إحصاؤه ممن اطمأن إليها، قد فجعته: أوجعته بمصائبها وحوادثها.
(وذي طمأنينة إليها): اتكال واستناد.
(قد صرعته): وضعته لجنبه، إما حقيقة بالموت بوضعه في لحده لجنبه، وإما مجازاً بإدبارها عنه وغلبتها عليه في كل أحواله.
(وذي أبَّهة): عظمة وتكبر.
(قد جعلته حقيراً): الحقارة هي: الصغار والقماءة .
(وذي نخوة): سلطان ورفعة.
(قد ردته ذليلاً!): بعد عزه وفخره الذي كان فيه من قبل.
(سلطانها): عزها وملكها.
(دول): جمع دَولة بفتح الفاء في الحرب، وبضمها في المال، وجمعها دول، أي تتداول مرة لهذه ومرة لذاك.
(وعيشها): العيشة: الحياة، والعيش: ما يعاش به، والمصدر منه معاشاً ومعيشاً، قال الله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ }[الحاقة:21].
(رَنِقٌ):كدر.
(وعذبها): وما يستحسن منها، ويعجب منه من لذاتها.
(أجاج): الأجاج: المالح، قال الله تعالى: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ }[الفرقان:53].
(وحلوها صَبِرٌ): وما يحلو منها فهو في الحقيقة مر يشبه مرارة الصبر.
(وغذاؤها سِمَام): وما يصلح الجسد منها من الأغذية فهو سم قاتل، وجمعه سُمُوْمُ وَسِمَامُ.
(وأسبابها رِمَام): الرُمة بضم الراء هي: قطعة الحبل، والرمة: العظم البالي، وأراد ما يتعلق منها من سائر التعلقات، فهو واهي منقطع لاقوة له، بمنزلة العظم الذي يتفتت من البلاء لضعفه.
(حَيُّهَا): من كان فيها من أهلها.
(بِعَرَضِ موت): أي يعرض له الموت عن قرب.
(وصحيحها): ومن كان فيها على منهاج الصحة والاستقامة فهو لا محالة.
(بِعَرَضِ سُقْمٍ): تعرض له الأسقام على القرب.
(ملكها مسلوب): من صاحبه يسلب عنه، إما بالموت، وإما بأن يقهره غيره عليه ويأخذه.
(وعزيزها مغلوب): ومن كان عزيزاً فيها من أهلها، فهو عن قريب يُغْلَبُ ويُقْهَرُ.
(وموفورها منكوب): النكب: الميل في الشيء، والنكبة: واحدة من نكبات الدهر، وأرادهاهنا وما يتوفر فيها من أهل أومال، فهو عن قريب إما مائل زائل عن استقامته، وإما بصدد الإصابة له من نكبات الدهر.
(وجارها): ومن كان سا كناً فيها مجاوراً لها.
(محروب): أي مسلوب من جميع ما في يده من خيرها، يقال: حربته ماله إذا سلبته إياه.
(ألستم في مساكن من كان قبلكم): استفهام من جهة من يعلم حقيقة الأمر في ذلك، وأراد فيه التقرير كالاستفهامات الجارية في كتاب الله تعالى،كقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح:1]، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى }[الضحى:6] وغير ذلك، وأراد جميع القرون الماضية، والأمم الخالية.
(كانوا أطول أعماراً): نفس في أعمارهم آماداً متطاولة.
(وأبقى آثاراً): وكانوا في غاية القوة فبقيت آثارهم، وهذا ظا هر في زماننا هذا، فإنَّا نجد أمكنة فيها آثار عظيمة، مثل (بينون) و(براقش) وغيرهما، مما لايقدر على مثله في هذه الأزمنة.
(وأبعد آمالاً): ولولا بُعْدُ آمالهم وتطاولها؛ لما أثرواهذه الآثار،فإنها تصلح أن تكون آثاراً لمن يُخَلَّدُ .
(وأعدَّ عديداً): أي وهم أكثر عديداًمن غيرهم، وأعظم كثرة.
(وأكثف جنوداً): تكاثف السحاب إذاركب بعضه بعضاً، وأراد أن الجنودكثيرة يركب بعضها بعضاً لعظمها.
(تعبدوا للدنيا): خضعوالها، وذلوا لخدمتها.
(أي تعبد): ذلاً لايمكن وصفه، ولايمكن الإحاطة بِكُنْهِهِ، واستفهم عن حاله ليدل على أنه غير معلوم.
(وآثروا الدنيا أي إيثار): آثرته بكذا إذا أوليته إياه، وجعلته أحق به، وأراد أنهم آثروها بالإقبال عليها، والعمارة لها والإخلاد إليها، والطمأنينة فيها.
(ثم ظعنوا عنها): ارتحلوا.
(بغير زاد مبلغ): تشبيهاً لحالهم بمن يقطع مفازة لا أنس فيها، وليس معه زاد يُبَلِّغه فإنه يهلك لامحالة عطشاً وجوعاً، وهؤلاء قد عدموا التقوى وهى الزاد على الحقيقة، فهم هالكون لا شك في ذلك.
(ولا ظهر قاطع): ولارواحل معهم يقطعون بها هذه المفاوز.
(فهل بلغكم): أتاكم في القصص، والأخبار المأ ثورة عنهم، وأحاديث قصص أخبارهم.
(أنَّ الدنيا سخت لهم نفساً): السخاء هو: الجود والبذل، أي أن الدنيا جادت نفساً لهم.
(بفدية): فيفدونها عما أوقعته بهم من الفجائع والتغيرات.
(أو أغاثتهم بمغوثة ): فيما نابهم وغيرَّ أحوالهم.
(أو أحسنت لهم صحبة!): فيما بقيوا من أيامها، وتنفَّسوا في مُهْلَتِها.
(بل): إضراب عمَّا ذكره أولاً من صنع الدنيا بأهلها، ودخول في وصف آخرتها بأهلها.
(أرهقتهم بالفوادح): أي أغشتهم، وألحقتهم بالأمورالفادحه، أي المثقلة، من قولهم: فدحه الدين إذا أثقله، وفي الحديث: ((وعلى المسلمين ألا يتركوا مفدوحاً في فداء ولا عقل )) وأمر فادح: إذا بهظ وأثقل صاحبه.
(وأوهنتهم بالقوارع): الوهن: الضعف، قال تعالى: {إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي }[مريم:4] أي وأضعفتهم بالمصائب التي تقرعهم، كما قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ }[الرعد:31].
(وضعضعتهم بالنوائب): ضعضعه إذاهدم بناءه إلى الأرض، وضعضعه الدهر إذا خضع وذل، وفي الحديث: ((ما تضعضع امرؤ لآخر يريد [به] عرض الدنيا إلا ذهب ثلثا دينه )) قال أبو ذؤيب:
وتجلّدي للشامتين أُرِيْهُمُ
أنّي لريبِ الدهرِ لا أَتَضَعْضَعُ
والنوائب جمع نائبة، وهو: مايحدث من مصائب الدهر.
(وعفَّر تهم المناخر ): عفَّره بالتراب تعفيراً، إذا مرَّغه فيه، وأراد أنها مرَّغتهم في التراب ووضعت مناخرهم فيه ، والْمَنخِرْ بفتح الميم: ثقب الأنف، وقد تكسر اتباعاً لكسر الخاء.
(ووطئتهم بالمناسم): المنسم: واحد المناسم، وهومن البعير بمنزلة الحافر من الفرس، والقدم من الإنسان، والظلف من البقر والغنم.
(وأعانت عليهم ريب المنون): المنون: المنية، وريب المنون: حوادث الدهر، أي كانت الدنيا عليهم عوناًلحوادث الدهر في تغيير أحوالهم، وتعفية آثارهم.
(فقد رأيتم): إماعاينتم بأبصاركم، وإما علمتم بقلوبكم، وسماعكم لأخبار الماضين قبلكم.
(تنكرها): تغيرها إلى صورة مجهولة لاتعرف.
(لمن دان لها): أطاعها، من قولهم: دان له إذا أطاعه في أمره.
(وآثرها): من قولهم: آثرت فلاناً على نفسي، إذا جعلته أولى منها.
(وأخلد إليها): أخلد إلى فلان إذا ركن إليه في أموره.
(حتى ظعنوا): حتى متعلقة برأيتم، أي قدرأيتموهم في هذا الوقت، وهو وقت الانتقال:
(عنها لفراق الأبد): الذي لايرجى له اجتماع أبداً.
(هل زودتهم إلا السغب): إلا الجوع، كما قال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ }[البلد:14] والاستثناء ها هنا يحتمل أن يكون متصلاً بما قبله، أي ما زودتهم [شيئاً إلا جوعاً قاطعاً لأفئدتهم، ويحتمل أن يكون منقطعاً، أي ما زودتهم] من معايشها إلا الجوع، والمعنى أنها مازودتهم شيئاً يعاش به؛ لأن الجوع كان زادهم، وهو في ظاهره مفرغ ، ولهذا كان محتملاً للاتصال والانقطاع، كما أشرنا إليه.
(أو أحلتهم إلا الضنك): الضيق، قال الله تعالى: {مَعِيشَةً ضَنكًا }[طه:124].
(أو نورت لهم إلاالظلمة): في لحودهم.
(أو أعقبتهم إلا الندامة): على ما أسلفوا، مما بخلوا به عن حقوقه، أو عمَّا أضاعوه من الواجبات، وفعلوه من الكبار الموبقات، وقوله : هل زودتهم إلا السغب إلى آخركلامه هذا، من أنواع البديع يسمى المجاز الإسنادي، ويسمىالتدبيج في الشعركقول الخنساء :
تَرْتَعُ مَا غَفَلَتْ حتى إذا ادَّكَرَتْ
فإنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ
وقد نبَّهنا عليه في مواضع من كلام أمير المؤمنين، وهو من لطيف أسرار علم البيان وغريبه .
(أفهذه): التي وصفنا حالها، وأظهرنا فضايحها.
(تؤثرون؟): من الإيثار، أي تؤثرونها على الآخرة الدائم نعيمها.
(أم إليها تطمئنون؟): تنشرح صدوركم، وتقرُّ نفوسكم.
(أم عليها تحرصون!؟): حرص على هذا الفعل، إذا كان مواظباً عليه.
(فبئست الدار): كلمة ذم، ومبالغة في وصفها بالرداءة.
(لمن لم يتهمها): أي لمن وثق بها، فأما من اتهمها، فلعله يكون على حذر وَوَجَلٍ منها.
(ولم يكن منها على وجل): خوف وإشفاق.
(فاعلموا): أمر لهم بالعلم، وَفَعَلَهُ لأنفسهم ليكونوا عالمين.
(وأنتم تعلمون): فيما تستقبلونه من أعماركم، وتخبركم به أحوال الدنيا وحوادثها.
(بأنكم تاركوها): لامحالة ولاشك في هذا.
(وظاعنون عنها): منتقلون إلى دار غيرها، هي دار الإقامة حيث لا ظعون.
(واتعظوا فيها): تذكروا.
(بالذين قالوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً })[فصلت:15]: وهم عاد ظنوا بجهلهم أن غيرهم من القادرين لاتبلغ قدرته قدرتهم، فأكذبهم الله في هذه المقالة بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً }[فصلت:15] فهؤلاء أعني قوم عاد على كمال قدرتهم هذه وعظيم قوتهم.
(حُملوا إلى قبورهم): على أعناق الرجال.
(فلا يُدْعَون ركباناً): ومع كونهم محمولين فليسوا ركباناً؛ لأن الراكب له حالة غير هذه الحالة في ركوبه، لما يركبه من الراحة والجمال، وليسوا كذلك.
(وأُنزلوا[الأجداث] ): في قبورهم، ولحودهم.
(فلا يُدْعون ضيفاناً): لأن النزل إنما يجعل للضيف على جهة الإكرام، وليس هذا منه.
(وجُعل لهم من الصفيح): الأحجار العريضة المصفَّحة.
(أجنان): بالجيم وهو: ما يوضع على اللحود منها؛ لأنها تُجِنَّهُمْ أي تُغَطِّيْهم.
(ومن التراب أكفان): يرد عليهم كما يرد الأكفان، من جانب إلى جانب.
(ومن الرفات جيران): الرفات: المتحطم، قال الله تعالى: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا }[الإسراء:49] وأراد أنهم جعل لهم العظام المرفوتة جيران.
(فهم جيرة): جمع جار.
(لا يجيبون داعياً): كما يفعل الجيران إذا تداعوا لأمر مكروه أو مسرور.
(ولا يمنعون ضيماً): ظلم من ظلمهم.
(ولا ينالون مندبة): المندبة والمأدبة هو: الطعام المصنوع من غير وليمة، قال الشاعر:
كأنَّ قلوبَ الطيرِ في قَعْرِ عُشِّها
نَوَى الْقَسْبِ مُلْقَى عِنْدَ بَعْضِ الْمَآدِبِ
يصف العقاب، والقسب بالسين المهملة: تمرٌ نواه فيه صلابة كبيرة .
(إن جيدوا): أصابهم الجود، وهو المطر الغزير.
(لم يفرحوا): به لأنه لا يلحقهم نفعه.
(وإن قحطوا): أصابهم الجدب.
(لم يقنطوا): لم ييأسوا، ولا يعتريهم غم بذلك.
(جميع): أي هم مجتمعون في المقابر.
(وهم آحاد): أي كل واحد منهم على انفراده في لحده، لا يستأنسون بالاجتماع.
(وجيرة): متقاربون في الأماكن.
(وهم أبعاد): متباعدون، كل واحد منهم في حفرة على انفراده.
(متدانون): قريب بعضهم من بعض.
(لا يتزاورون): لايزور بعضهم بعضاً، لتعذر ذلك في حقهم.
(وقريبون): في الأماكن والجهات.
(لا يتقاربون): بالتواصل والتحابِّ فيما بينهم.
(حلماء): متصفون بصفة الحلم، إذ من شأنه الإغضاء، والتوقر عن كل ما يكره.
(قد ذهبت أضغانهم): فلا تستفزهم عجلة الإضغان، ولا يزعجهم فشلها.
(جهلاء): متصفون بصفة الجهل، ولا ينطقون كما لاينطق الجاهل عياً.
(قد ماتت أحقادهم): فلا تثير الأحقاد ما يفعله الجهال من الأفعال السيئة.
(لا يخشى فجعهم): الفجيعة: الرزية، والفجع: الوجع أيضاً، وأراد أنها لا تخشى منهم فجعة لغيرهم، ولا يخشونها أيضاً في أنفسهم.
(ولا يرجى دفعهم): أي أنهم لا يدفعون ما اعتراهم من الشرور، ولا يدفع بهم شر غيرهم.
(استبدلوا بظهر الأرض بطناً): بما كان لهم على وجه الأرض من الجمال، ونشر الذكر والأبهة وغير ذلك، الخمول والتغير، وزوال النضارة في بطنها.
(وبالسعة ضيقاً): وبالقصورالفاخرة، والمجالس الرائقة، والأمكنة النيّرة، لحداً مظلماً، وهدفاً منهدماً، قد لصق به جلده وعظمه، وصار من جملته.
(وبالأهل غربة): تباعداً عنهم، وانقطاعاً عن رؤيتهم، كما يكون الغريب في غير بلده.
(وبالنور ظلمة): وبنور الحياة وإشراقها ظلمة اللحد وقتامه.
(فجاءوها): يعني القبور التي تقدم ذكرها.
(كما فارقوها): الضمير للدنيا، والمعنى أنهم دخلوا قبورهم لا شيء معهم من الدنيا، مما كان في أيديهم من حطامها، ولذاتها ونعيمها، كما فارقوها، ماتوا فيها ولم يكن معهم، ولا اشتحنوا شيئاً منها، ونظير هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }[الأنعام:94].
(حفاة): لا نعال في أرجلهم.
(عراة): لا لباس على أجسامهم، إلا الأكفان.
(قد ظعنوا عنها): خرجوا مفارقين لها فراق الأبد.
(بأعمالهم): الباء في موضع الحال أي مستصحبين لأعمالهم.
(إلى الحياة الدائمة): وهي الدار الآخرة.
(والدارالباقية): إما الجنة، وإما النار، فكل واحد ة منهما باقية لأهلها، لا انقضاء لها، ولا غاية لدوامها.
(كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا })[الأنبياء:104]: إلى آخر الآية) ، فجعل هذه الآية خاتمة لكلامه، دالة على رونقه، وحسن انتظامه، ولقد بلغ في تحقير الدنيا كل مبلغ، ووصل في تعريف حقيقتها وَمَيَدَانَها وقصاراها كل غاية، ولو كان كلام معجز بعد كلام الله تعالى، لكان هذا لاشتماله على البدائع والحكم النواصع.
(106) ومن خطبة له عليه السلام ذكر فيها مَلَكَ الموت وحاله
(هل تحسُّ به إذا دخل منزلاً): يقول انظروا إلى عجيب أمر هذا الملك، من جملة مخلوقات الله، وعجائب مكوناته، مع عظم حاله، وكبر جسمه، هل يمكن إحساسه إذا دخل منزلاً من المنازل الواسعة أو الضيقة.
(أم هل تراه إذا توفى أحداً!): أم هذه هي المنقطعة لتمام الجملة بعدها، كقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا }[الرعد:16]، وأراد ومع كثرته لتوفي هذه الأرواح الموكل بقبضها، فلا يمكن رؤيته لأحد أصلاً.
(بل): إضراب عن امتناع رؤيته وإحساسه، واستئناف تعجب آخر من حاله يقول: وأعجب من هذا كله.
(كيف يتوفى الجنين في بطن أمه): على أي حال يقبضه، وفي أي صورة يكون ذلك.
(أيلج عليه من بعض جوارحها!): ولج منزله، إذا دخل فيه، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ [فِي سَمِّ الْخِيَاطِ] }[الأعراف:40] أي هل يدخل عليه من بعض أوصالها.
(أم الروح أجابته بإذن ربها): يدعوها بالخروج فيكون ذلك سبباً لخروجها، بأمر الله تعالى وإذنه.
(أم هو ساكن معها في أحشائها): الحشا: ما اضطمت عليه الضلوع، وجمعه أحشاء، قال الشاعر:
بأيِّ الْحَشا أمسى الخليطُ المباينُ
فهذه الأمور كلها ممكنة في قدرة الله تعالى، ولكنه حجب علم ذلك عنَّا؛ لِسر ومصلحة لا يطلع عليها إلا هو.
(كيف يصف إلهه من عجز عن صفة مخلوق مثله!): يعني إذا كان مَلَكُ الموت وهو بعض مخلوقات الله، عجزنا عن معرفة حاله في قبض الأرواح، فضلاً عن حاله في علمه، وحاله في خلقه، وتصرفه وعبادته وخوفه، مع أنه مخلوق مثلنا ومدبرومحدث ومملوك ومربوب، فكيف حالة من له الخلق والأمر، والقبض والبسط، والإلهية، واستحقاق الأزلية، فنحن عن بلوغ صفته أقصر، وعلى الاطلاع على كُنْهِ حاله وحقيقة صفاته أذل وأحقر، وكلامه ها هنا عليه السلام يدلُّ على أن حقيقة ذات الله تعالى غير معلومة للبشر، كما هو المفهوم ها هنا، وفي عدة من كلامه في مواضع كثيرة، خلافاً لما يزعمه أكثر المتكلمين من المعتزلة البصرية والبغدادية، فإنهم زعموا أنهم مطلعون على كنه حقيقة ذاته تعالى، بل زعموا أنهم يعلمون من ذاته مثلما يعلم هو من ذاته، وهذا شيء فاسد لا تقبله العقول، فأهون بهذه الأنظار التي لا ثبوت عند التحقيق لها ولاقرار، لقد أسست على شفا جرف هار فانهار.
(107) [ومن خطبة له عليه السلام]
(وأحذركم الدنيا فإنها منزل قُلْعة): قلعه إذا أزاله عن مكانه، وأراد أنها تزيل أهلها عن القرار عليها، والقطون فيها.
(وليست بدار نُجْعة): النجعة: الانتقال لأمر محمود، ولهذا يقال: انتجعوا في طلب الماء والكلأ، والقلعة تكون من أمر مكروه، ولهذا يقال: قلعهم الجدب والقحط، وأراد أن الزوال إنما هو بالأمور المكروهة بالقتل والموت، وجميع المصائب، فلهذا كانت قلعة لا نجعة.
(قد تزينت بغرورها): لا سبب لها في الزينة سوى الغرور.
(وغرت بزينتها): ولاسبب لها في الغرور سوى التزيين ، فمن أجله حصل الاغترار لامحالة .
(دار هانت على ربها): كما ورد في الحديث: ((الدنيا عند الله لا تسوى جناح بعوضة )) وغير ذلك مما ورد من طريق الشرع من هوانها عند الله، وضعف حالها.
(فخلط حلالها بحرامها): يعني أنه جعل فيها شيئاً حلالاً، وشيئاً حراماً، ولو كانت مرضية عنده ما كان حالها هكذا.
(وخيرها بشرها): أي وجعل فيها الخير والشر.
(وحياتها بموتها): أي لاحي فيها إلاوهو يموت، ولا خير إلا ويعقبه شر.
(وحلوها بِمُرِّها): فما يحلو منها شيء، إلا ويمرُّ بعد ذلك على أهله.
(لم يُصْفِها الله تعالى لأوليائه): أراد لو كان لها خطر عند الله تعالى ونفاسة قدر إذاً لأصفاها وهنَّأها للأولياء من عباده؛ لأنهم كانوا أحق بذلك وأهله.
(ولم يضنَّ بها على أعدائه): لركتها وهوانهاعليه، وفي الحديث: ((لو كانت الدنيا لها قدر وثمن عند الله لما سقى منها كافراً شربة )) وفي حديث آخر: ((إنَّ الله يعطي الدُّنيا من يُحِبُّ ومن لا يُحِبُّ ، ولا يعطي الآخرة إلا من يُحِبُّ)) وهذا ظاهرفإن الأكثر ممن تمكن منها آثرالهوى وعصى وكفر وطغى.
(خيرها زهيد): قليل نزر.
(وشرها عتيد): أي قريب، كما قال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق:18].
(وجمعها ينفد): ما جمع فيها من حطامها إلى نفاد وزوال.
(وملكها يسلب): يؤخذ، ولهذا بينا ترى بعض الملوك في أبهة الدولة، والدنيا ناظرة إليه بالحفدة والعساكر، والأمر والنهي، إذ زال ملكه، إما بالموت، وإما بالقتل، وإما بانتقاله إلى غيره قهراً وبطل ذلك كله، كأن لم يكن، فسبحان من لا ينبغي لملكه زوال، ولا يجوز عليه تغير!.
(وعامرها منخرب ): وجميع ما عمر فيها يؤول إلى الخراب، بمضي الليالي والأيام.
(فما خيردار تنقض نقض البناء): أراد أي خير في دار يذهب عمرها يوماً فيوماً، كما ينقض البناء حجراً حجراً، أولبنة لبنة فتزول وتتغير.
(وعمر يفنى فيها فناء الزاد): الزاد: ما يتخذ للسفر؛ لأنه عن قريب وقد انقطع، لكثرة الحاجة إليه.
(ومدة تنقطع انقطاع السير!): لأن من سار طريقاً يوشك أن يصلها، وينقطع سيره، فما هذه حاله من الدور لا خير فيها، لانقطاع نعيمها على القرب، وبطلانه في سرعة.
(اجعلوا ما افترض الله عليكم): من الإتيان بهذه الواجبات من العبادات وغيرها، والانكفاف عن هذه المحرمات، بالأمر في هذه والنهي عن هذه.
(من طَلِبَتكم ): من أعظم المطلوبات، وأجل المقاصد التي تقصدونها، وفي الحديث: ((ما تقرب إليّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم )) والطلبة: ما يطلب.
(واسألوه من أداء حقه ما سألكم): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد واطلبوا منه الإعانة، على أداء حقه الذي سألكم القيام به، فيكون قوله: ما سألكم في موضع جر عطف بيان، أو بدلاً من قوله: حقه.
وثانيهما: أن يريد واطلبوا منه ما طلب منكم، فاطلبوا منه الإعانة مثلما طلب منكم القيام بحقه، وعلى هذا يكون قوله: ما سألكم في مو ضع نصب بقوله: واسألوه أي واسألوه مثل ما سألكم.
(وأسمعوا دعوة الموت آذانكم): أي اصغوا آذانكم إليها لتسمعوها، ولا تصموا عنها باستماع غيرها، فعن قريب وقد وقعت.
(قبل أن يدعى بكم): وأنتم غيرمتأهبين بسماعها .
(إن الزاهدين في الدنيا): المعرضين عنها، والتاركين لها.
(تبكي قلوبهم): خشية لله تعالى، وفَرَقاً من وعيده.
(وإن ضحكوا): في رأي العين، فقلوبهم مشغولة بالبكاء.
(ويشتد حزنهم): غمُّهم على التفريط في حق الله.
(وإن فرحوا): في نظر العين ورؤيتها فأفئدتهم مغمومة من أجل ذلك.
(ويكثر مقتهم لأنفسهم): المقت: البغض، أي وبغضهم في غاية الشدة لأنفسهم، على التهاون في حق الله تعالى، والتساهل في طاعته.
(وإن اغتبطوا): الغبطة: هي حسن الحال، وهي الاسم من الاغتباط، يقال: غبطه غبطاً و[اغتبط] اغتباطاً فهو مغتبط، اسم فاعل أي ذا غبطة، ومغتبط اسم مفعول أي مغبوط، قال:
وبينما المرءُ في الأحياءِ مغتبطٌ
إذ صار في الرَّمَسِ تَعْفُوْهُ الأعاصيرُ
فعلى هذا يكون المعنى يبغضون أنفسهم وإن اغتبطوا على ماسمي فاعله، أي صاروا ذا غبطة من حسن حالهم، (وإن اُغْتُبِطُوْا) على ما لم يسمَّ فاعله فهم ييغضون أنفسهم وإن غبطهم غيرهم.
(بما رزقوا): من خيرالله تعالى ومزيد فضله، فلا تنفك حالتهم عن بغضهم.
(قد غاب عن قلوبكم): امَّحى وزال، كأنه لا يخطر لها على حالة أصلاً.
(ذكرالآجال): تحقق الموت، وانقطاع العمر به، وهو الأجل وجمعه آجال.
(وحضرتكم): صارت حاضرة لكم لاتفارقكم.
(كواذب الآمال): جمع كاذبة، أي الآمال التي لا حقيقة لها ولا تصدق أبداً.
(فصارت الدنيا): أي فمن أجل ذلك سلطتم الدنيا على أنفسكم، حتى كانت.
(أملك بكم من الآخرة): ملك الشيء يملكه إذا تصرف فيه، وأراد أن الدنيا تصرفت في قلوبكم كما يتصرف المالك في ملكه، وصرفتكم عن الآخرة.
(والعاجلة): وهي الدنيا، سميت عاجلة لقربها.
(أذهب بكم من الآجله): أكثر ميلاً لقلوبكم من الآجلة، وهي الآخرة، وسميت آجلة لتأخرها، والمعنى أن الدنيا والعمل بها مستحكمة عليكم على جهة الاستيلاء فلا التفات لكم إلى عمل الآخرة.
(وإنما أنتم إخوان على دين الله): أراد أن الدين هو الذي يجمعكم مع اختلاف الأنساب، وتباين الوشائج، وتباعد الأرحام، وهو سبب الأخوة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }[الحجرات:10] فهذا هو حكم الدين.
(وما فرَّق بينكم): شتتكم حتى صرتم أحزاباً وفرقاً لايجمعكم جامع.
(إلا خبث السرائر): فسادها، ورداءتها.
(وسوء الضمائر): والخواطر المضمرة في القلوب التي تسوء من الظنون الكاذبة، والتوهمات الرديئة فاستحكمت فيكم، حتى أذهبت المودة والإلفة .
(فلا توازرون): تعاضدون، وتتعاونون، والموازرة هي : المعاضدة والمعاونة.
(ولا تناصحون): ينصح بعضكم بعضاً، يقال: نصحته ونصحت له ولزومه أفصح، قال الله تعالى: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ }[الأعراف:79] قال النابغة:
نصحتُ بني عونٍ فلم يتقبّلوا
رسولي ولم تنحج لديهم وسائلي
والنصيحة: الاسم من النصح، يقال: نصحه نصحاً ونصوحاً إذا لم يغدره.
(ولا تباذلون): يبذل بعضكم لبعض، إما النصيحة وإما المعروف، فهو عام في كل ما يحسن بذله من ذلك.
(ولا توادون): يودُّ كل واحد منكم أخاه ويحبُّه، والمودة: المحبّة.
(ما بالكم): البال: الحال، أي أن حالتكم هذه يتعجب منها ويضحك.
(تفرحون باليسير من الدنيا تُدْرِكُوْنه): إذا حصل لأحدكم شيء من يسير الدنيا وحطامها، لم يتمالك من حصول المسرة والفرح به والجذل من أجل حصوله وإدراكه له، مع انقطاعه عنه وزواله عن يده، والحساب عليه أيضاً في الآخرة .
(ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تُحْرَمُوْنه!): ولا يحزنكم ما يفوتكم من الأعمال الصالحة، ولا يقع ذلك على خواطركم، ولا يصيبكم جزع بفواته وحرمانه.
(ويقلقلكم اليسير من الدنيا يفوتكم): القلقلة: شدة التحرك والاضطراب، وهو مجاز ها هنا، شبه انزعاجهم وفشلهم عند فوت الحقير من الدنيا وأطماعها عن أيديهم بما يشتد حركته من الأجسام ويعظم اضطرابه.
(حتى يتبين ذلك في وجوهكم): يظهرأثره من الندامة والتحسر، واصفرار الأوجه وامتقاعها وتغيرها.
(وقلة صبركم عمَّا زوي عنكم منها): بالتلهف على فواته، وضيق النفس على عدمه، فصارحالكم معجباً يعجب منه كل من علم به، وتحقق حاله في تعويكم عليها، وتحسركم على مفارقتها.
(كأنها دار مقامكم): فتخلدون فيها ولا تنتقلون عنها.
(وكأن متاعها باقٍ عليكم): لايسلب عنكم، ولا تنقطعون بالموت عنه وتفارقونه، فلو كان الأمركذلك من بقاء متاعها وخلودها لكم لما زدتم على حرصكم، وتهالككم على حبها.
(وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه): فلشمول النقص لكم، وعمومه لأحوالكم كلها، لا يمنع أحدكم من النصيحة لأخيه، في ترك ما يعيبه وينقصه.
(إلا مخافة أن يستقبله بمثله): فلهذا يترك النصح من أجل ذلك، وفي هذا دلالة على ركة الحال، ونزول القدر وفساد الأمر، ولهذا ورد في الحديث: ((كلكم طف الصاع )) ، وفي حديث آخر: ((الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة )) ، وفي حديث آخر: ((الناس من عام إلى عام يرذلون )) .
(قد تصافيتم على رفض الآجل): ترك الآخرة وإهمالها.
(وحب العاجل): إرادة الدنيا ومحبتها حتى أنه لا وقع للآخرة ولا خطر لها.
(وصار دين أحدكم لعقة على لسانه): كنى به عن خفة الأمر في الدين فلا يبالي بأي شيء تركه، ولا على أي وجه استعمله ولاخطر له عنده، ولا يزن شيئاً على قلبه، فعملكم هذا وصنيعكم في أمور الديانة، واللعقة بالفتح واحدة اللعقات، وبالضم ما يلعق، وسماعنا فيه بالضم، ويؤيده قوله: على لسانه.
(صنيع من قد فرغ من عمله): بالقبول من الله، ورفعه له كما ترفع الأعمال الصالحة، كما قال تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }[فاطر:10] ويجازي عليه بالثواب العظيم، والدرجات العالية.
(وأحرز رضا سيده): فصار طيب الخاطر، منشرح الصدر بذلك ، وارتفاع صنيع على أنه خبر مبتدأ محذوف، قد دل عليه الكلام تقديره: صنيعكم هذا، من الإعراض عن الآخرة والتهالك في حب الدنيا، صنيع من قد فرغ من عمله.
ولقد بالغ في ذكر أحوال الخلق وصفاتهم، حتى كأنه يشاهدهم عياناً، وأظهر مايضمرونه من أنفسهم، ويكنونه في خواطرهم حتى كأنه يناطقهم لساناً.
(108) ومن خطبة له عليه السلام
(الحمد لله الواصل الحمد بالنعم): أراد الذي جعل الحمد متصلاً بالنعم.
(والنعم بالشكر): أي وجعل النعم متصلة بالشكر لا تنفك عنه.
سؤال؛ ما حقيقة هذا الكلام، وما معنى اتصال الحمد بالنعم، والنعم بالشكر، وما فائدة ذلك؟
وجوابه؛ هو أن معنى اتصال الحمد بالنعم أنه لا يمكن الحمد إلا بنعمة متجددة؛ لأن معنى الحمد هو الثناء الحسن، وهذا لايمكن إلا بخلق القدرة، وبقاء آلة الكلام وسائر ما يحتاج إليه من ذلك، فلهذا كان الحمد متصلاً بالنعم لايفارقها، ومعنى اتصال النعم بالشكر هو أنه تعالى جعل الشكر من ماهية النعمة، وجزءاً من حقيقتها، وملازماً لها غير منفك عنها، حتى كان ماهية الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم، مع ما يلحق من تعظيم المنعم لأجل إنعامه، فهذه معنى تعلق النعم بالشكر كما أشار إليه.
سؤال آخر؛ فأراه جعل الحمد متصلاً بالنعم، وجعل النعم متصلة بالشكر، من الوجه الذي ذكرته، ولم يجعل الشكر متصلاً بالنعم، مثل الحمد فما وجه التفرقة بينهما؟
وجوابه؛ هو أن الحمد مستحق في مقابلة النعمة وغير النعمة، بخلاف الشكر، فإنه لايكون مستحقاً إلا في مقابلة النعمة، فلا جرم جعل الحمد تابعاً للنعمة، متصلاً بها، والنعمة تابعة للشكر متصلة به إشارة إلى هذه التفرقة.
(نحمده على آلائه): نثني عليه بما هو أهله، من الثناء الحسن مكافأة له على نعمه، والآلآء: هي النعم، وواحدها أَلَّى بفتح الهمزة وكسرها.
(كما نحمده على بلائه): البلاء هو: الاختبار، ويكون في الخير والشر، يقال: أبلاه الله بلاءً حسناً أي اختبره اختباراً يكون مؤدياً إلى صلاحه، وفي الحديث: ((لأضربنَّ عبدي بالبلاء حتى أنقيه من الدرن )) ، وفي حديث آخر: ((لأمتحننَّ عبدي بالبلاء كما يمتحن الذهب بالنار )) .
قال زهير:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
فأبلاهما خيرَ البلاءِ الذي يبلُو
(ونستعينه على هذه النفوس): ونطلب منه الإعانة عليها، بالألطاف الخفية، والتوفيقات المصلحية.
(البِطاء): المتقاعدة، جمع بطية نحو طريفة وطراف.
(عمَّا أمرت به): من الطاعات.
(السراع): المتعجلة، من قولهم: أسرع في أمره إذا عجل فيه، جمع سريعة أيضاً.
(إلى ما نهيت عنه): من القبائح والمفاسد.
(ونستغفره): ونطلب منه المغفرة.
(مما أحاط به علمه): استغرقه على جهة الاستيلاء عليه، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات [ولا في الأرض] من المعاصي، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }[آل عمران:110].
(وأحصاه كتابه): حصره بالكتابة، كما قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }[يس:12].
(علم غير قاصر): عن الإحاطة بالمعلومات الكلية والجزئية.
(وكتاب غير مغادر): لصغيرة ولا لكبيرة، إلا وضعت فيه، والمغادرة: الترك، كما قال تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا }[الكهف:49] وقوله : (علم غير قاصر، وكتاب غير مغادر) كالاستحضار لماسبق، من قوله: (ما أحاط به علمه، وأحصاه كتابه) وفيه ردٌّ على من أنكر علم الله بالجزيئات المفصلة،كما هو محكي عن جمهور الفلاسفة، فإنهم أحالوا علم الله تعالى بها، وزعموا أنه إنما يعلم الكليات لا غير، وهذا مذهب نكير ، واعتقاد شنيع، وقول إدٍّ ، فأخزاهم الله في هذه المقالة، وأبادهم في ارتكاب هذه الجهالة، ثم إذا كان مستند علمه هو ذاته، فليت شعري أي مخصص للكلي عن الجزئي في الإحاطة بذلك، كلا وحاش عن ذلك.
(ونؤمن به): ونصدِّق به تصديقاً يشبه:
(إيمان من عاين الغيوب): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مراده عاين الأمور الغيبية، من جلال الله وعظمته، وَكُنْهِ كبريائه المعلوم للأنبياء والملائكة.
وثانيهما: أن يريد بالغيوب أمور الآخرة وأحوالها، وعظيم أمرها وأهوالها، فإن هذين الأمرين يؤكدان لامحالة المعرفة، ويقويان الإيمان تقوية لا يمكن وصفها.
(ووقف على المعهود): ثبت على العهود المؤكدة، من الإقرار بالتوحيد، ومعرفة الإلهية، واستحقاق العبودية، وتأدية سائر التكاليف.
(إيماناً نفى إخلاصه الشك): إيماناً مصدر مؤكد، نحو ضربت ضرباً، وأراد أن ما فيه من الإخلاص والتحقق للمصدَّق به فيه وقاية وحفظ عن دخول الشك عليه، ويمنعه عن ذلك.
(ويقينه الشرك): و يدفع ما فيه من التيقن والقطع اعتقاد أن يشاركه أحد في إلهيته وعبادته.
(ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له): إقرار بالوحدانية، ونفي المشارك له في إلهيته وعبادته.
(وأن محمداً عبده ورسوله): اصطفاه من بين سائر الخلق، وأرسله إلى الجن والإنس من خلقه.
(شهادتان ): أي هما شهادتان وأي شهادتين، وإنما نكّرهما مبالغة في عظمتهما، وارتفاع خطرهما، والتعريف لا يعطي هذا المعنى.
(تصعدان القول): كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ }[فاطر:10].
(وترفعان العمل): يشير به إلى قوله تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }[فاطر:10]
سؤال؛ ما فائدة قوله: تصعدان القول، وترفعان العمل، وما معناه؟
وجوابه من وجهين؛
أما أولاً: فيحتمل أن يكون مراده من ذلك هو أن كل قول وعمل لا يصاحبانه ولا يكونان معه، فإن الملائكة لا ترفعه إلى الله تعالى، ولا تصعد به الحفظة أبداً، وعلى هذا يكون الرفع والصعود على ظاهرهما.
وأما ثانياً: فيحتمل أن يكون غرضه، هو أن كل قول وعمل يخلوان منهما، فإنه لا يكون له قدرعند الله تعالى، ولايرتفع له خطر، وعلى هذا يكون الرفع والصعود مجازين لما ذكرناه.
(لا يخف ميزان توضعان فيه): وفي الحديث: ((إذا شال الميزان بأعمال صاحبها أتي بقرطاس فيه لاإله إلا الله فرجح )).
(ولا يثقل ميزان ترفعان منه): لأنهما هما الأصل والقاعدة في الإيمان، والإيمان أصل لسائر الطاعات كلها، فلايعقل إيمان من دونهما ولا ثبات له، ولا تعقل طاعة من دون الإيمان بالله، فهو كالقاعدة والأساس لسائر الأعمال الصالحة.
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله): باتقائه والخوف منه، ومراقبته في السر والعلانية.
(فإنها الزاد): المبلِّغ إلى الآخرة، كما قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }[البقرة:197].
(وبها المعاد) : الرجوع إلى الآخرة، أي لا رجوع نافع إلى الآخرة إلا بإحرازها.
(زاد مبلغ): أي هي زاد مبلغ لا زاد مثلها.
(ومعاد منجح): سهل متيسر ، من قولهم: نجحت حاجة فلان إذا كانت سهلة متيسرة.
(دعا إليها أسمع داعٍ): أي دعا إليها أحسن الخلق إسماعاً لهم، وأكثرهم نصيحة، وأوفرهم عقلاً، وهم الأنبياء والأولياء والصالحون، فإن هؤلاء لازيادة على حسن إسماعهم للخلق، وتوخي مصالحهم.
(ووعاها خير واعٍ): أراد أن من وعاها بأذنه، فهو أفضل الخلق وأكملهم عقلاً، لمايحصل فيه من الثواب الدائم، والنعيم السروري.
(فأسمع داعيها): أي صار ذا إسماع ، كما يقال: أكرم الرجل إذا صار ذا كرم.
(وأجاب واعيها ): أي صار ذا إجابة، وهذا الكلام واردٌ مورد المدح والتعجب، كأنه قال: أكرم بسامعها، وأكرم بمن أجابها ، فما أعظم حاله وأشرفه.
(عباد الله): خطاب لمن كان بحضرته ولغيرهم.
(إن تقوى الله حمت أوليائه محارمه): حماه عن الطعام، إذا جنَّبه أكله، وأراد أن خوف الله تعالى ووعيده، هما اللذان جنَّباهم الوقوع فيما حرم الله عليهم فعله، كما يحمى المريض الطعام الذي يضره.
(وألزمت قلوبهم مخافته): فلا ينفك عنها ساعة واحدة، فأسكن الخوف في قلوبهم، وحلَّ في جوانحهم، ولابسهم وخالطهم.
(حتى أسهرت لياليهم): فلا يكتحلون بالنوم خوفاً وفشلاً ، وإشفاقاً على أنفسهم.
(وأظمأت هواجرهم): الهاجرة: منتصف النهار عند اشتداد الحر، وأراد أنها أسهرتهم في الليالي، وأظمأتهم في الهواجر، ولكنه عدَّى الفعل إليهما على جهة المبالغة، كما أسند الفعل إليهما، في قولهم: فلان قائم ليله، وصائم نهاره، على جهة المبالغة والتأكيد.
(فأخذوا الراحة): طيب العيش في الآخرة.
(بالنَّصَب): بما أسلفوه من التعب في الدنيا.
(والرِّيَّ): في الآخرة.
(بالظمإِ): في الدنيا، وأراد أنهم أخذوا لذات الآخرة ونعيمها، بما لا قوه من مكابدة مشاق الدنيا وشدائدها.
(واستقربوا الأجل): أي جعلوه قريباً في أنفسهم.
(فبادروا العمل): فخف عليهم المبادرة في الأعمال من أجل ذلك؛ لأن الإنسان إذا قربت عليه المسافة في السفر وانقطاعه، هان عليه ما يلا قي من شدة السير وتعبه.
(وكذَّبوا الآمال ): أعرضوا عنها، فعل من كذَّبها، فهو غير ملتفت إليها.
(فلاحظوا الأجل): إما جعلوه نصب أعيانهم، وأبصروه بألحاظهم، وإما اعتمدوه وعوَّلوا عليه دون غيره، من قولهم: فلان يلاحظ على هذا الأمر، أي يراقبه ويعتمده.
(ثُمَّ إنَّ الدُّنيا دَارُ فناءٍ وعناءٍ وغِيَرٍ وعِبَرٍ): فهي جامعة لهذه الآفات الأربع، ولقد كانت الواحدة من هذه كافية في ويلها وشؤمها، فكيف حالها إذا كانت مجتمعة.
ثم أخذ في تفصيلها واحدة واحدة بقوله:
(فمن الفناء أن الدهر موتر قوسه): استعارة وتمثيل بمن هذه حاله، وهو مع ذلك:
(لا تخطئ سهامه): من أصابته ومن رمي بها.
(ولا تؤسى جراحه): لا تداوى، من قولهم: أسوت الجرح آسوه إذا داويته.
(ترمي الحي بالموت): بسهام الموت فلا تخطئه.
(والصحيح بالسقم): بمرامي السقم المتلفة.
(والناجي بالعطب): بالهلاك فلا ينجو منه أحد أبداً، فهو في كل أحواله:
(آكل): لجميع الأحياء.
(لا يشبع): فيقلع عن اخترامهم، ويكفُّ عن ذلك.
(وشارب): لدمائهم.
(لا ينقع): أي لا يروى، فهذه حالة الفناء.
(ومن العناء): الهمُّ، وفي الحديث: ((من حسن إسلام المرء تركه لما لايعنيه )) أي يهمُّه.
(أنَّ المرء يجمع ما لا يأكل): من كل مايدخره من أنواع المأكولات، بأن يموت عن ذلك وقد عني بجمعه.
(ويبني ما لا يسكن): من الأبنية الفاخرة، والقصورالمشيدة.
(ثم يخرج إلى الله): بالموت وقبض روحه.
(لا مالاً حمل): من جميع ما جمعه.
(ولا بناء نقل): من كل ما عمَّره وشيَّده، فهذا هو نهاية العناء يفعل ذلك كله.
(ومن غِيَرِها): الغَيرة، بغين منقوطة من أعلاها، وياء بنقطتين من أسفلها، وفتحها هي: الأنفة، من قولهم: فلان يغار على أهله غِيرة وغيراً [وغاراً] ، كلها مصادر، وجمعها غِيَرٌ، والغِيرة بكسر الغين، وهي اسم من التغير، والجمع غِيَرٌ أيضاً، وهذا هو المراد ها هنا.
(أنك ترى المغبوط مرحوماً، والمرحوم مغبوطاً): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد ومن تغيّرالدنيا وتقلّبها بأهلها، أنك ترى من تغبطه من الناس بكثرة ماله، ونعيمه في الدنيا، مرحوماً في الآخرة، لكثرة تبعاته، وترى من كان مرحوماً بالفقر والمسكنة مغبوطاً في الآخرة، لكثرة ثوابه وحسن مصيره.
وثانيهما: أن يريد بذلك في الدنيا، فكم يرى فيها من يغبطه الناس بكثرة المال والأولاد، إذ صار فقيراً معدماً، لا ولد له، يرحمه من رآه، وكم يرى من يرحمه الناس لفقره ومسكنته، إذ صار ملياً ذا تمكن ويسار، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }[آل عمران:140].
(ليس ذلك إلا نعيماً زلَّ أو بؤساً نزل): يشير إلى ما تقدم ذكره من الغبطة والرحمة، أي بجميع ذلك كله، إنه إما نعيم زلَّ أي أسدى، وفي الحديث: ((من أزلَّت إليه نعمة فليشكرها )) فتحصل الغبطة، أو بؤساً نزل وقع به، فتحصل الرحمة له.
(ومن عِبَرِهَا): العِبرة بالعين المهملة وباء بنقطة من أسفلها، هي : الاسم من الاعتبار، وجمعها عبر.
(أن المرء يشرف على أمله): يقارب حصول ما رجاه وأمَّله في الدنيا.
(فيقتطعه حضور أجله): أي يخترمه الموت من دون ذلك كله.
(فلا أمل يُدْرك): لانقطاعه بالموت.
(ولا مؤمَّل يُترك): أي ولا عمر باقٍ، فيكون متروكاً عن الموت.
(فسبحان الله!): تنزيهاً له تعالى عن أن يتهم في فعل من الأفعال، وتعجباً من حكمة الله تعالى، ومن هذه الأحوال.
(ما أقرب الحي من الميت!): ما أشدَّ قربه منه.
(للحاقه به): أي أن قربه من سرعة لحاقه به على الفور.
(وما أبعد الميت من الحي!): ما أشد بُعْدَه منه.
(لانقطاعه عنه): لبعد مابينهما من الانقطاع والتباين، وإنما قدَّم الحي على الميت في القرب لما يريد من وصفه بسرعة اللحاق، وقدَّم الميت على الحي في الْبُعْدِ، لما يريد من وصفه بكثرة الانقطاع عن الحي.
(فسبحان الله!): تكريراً للتنزيه، والتعجب من ذلك.
(ما أغرَّ سرورها): ماأعظم غروره لمن اغترَّ به.
(وأظمأ رِيَّها): وأكثر عطشها.
(وأضحى فيئها): أي أنه لا ظِلال في فيئها .
(لا جاءٍ يُرَدُّ): أي لا يردُّ ما هو واصل من الأقضية والبلاوي والمحن والمصائب.
(ولا ماضٍ يرتدُّ): من نعيمها وسرائها.
(ولا مؤمَّلٍ يريد): فيه وجهان:
أحدهما: أن المؤمِّل اسم فاعل، ويكون مريداً بالراء، ومعناه ولامؤمِّل يريد بلوغ ما أمّله في الدنيا.
وثانيهما: أن يكون المؤمَّل اسم مفعول، ويكون يزيد بالزاي، ومعناه والمأمول من الدنيا لا يزاد عليه، بل هو إلى نقصان وخسارة، فكله محتمل كما ترى.
(إنه ليس شيء أشر من الشر إلا عقابه): أراد أن الشر هو المعصية، وأشر منها عقابها، فعلى هذا أشر الشر العقاب.
(وليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه): لأن الخير هو الطاعة، وخيرمنها ثوابها، فعلى هذا خير الخير هو الثواب.
(وكل شيء من الدنيا): من كل ما يتعلق بها، ويحصل فيها من أحوالها.
(سماعه أعظم من عيانه): تسمع به فيهولك ويعجبك، فإذا رأيته نقص في عينك، وازدريته لهونها وحقارتها.
(وكل شيء من الآخرة): نعيمها وجحيمها.
(عيانه أعظم من سماعه): تسمع به فيهولك ويعجبك، فإذا رأيته وعاينته، كان أعظم هولاً، وأدخل في الإعجاب.
(فليكفكم من العيان السماع): في نزول قَدْرِالدنيا لما كان سماعها أكثر، وارتفاع خطر الآخرة وقدرها لما كان سماعها أحقر.
(ومن الغيب الخبر): وليكف عمَّا غاب من أحوالهما الخبر عنه، فإنه دالٌّ على نفاسة الآخرة، وحقارة الدنيا.
(واعلموا أنما نقص من الدنيا، وزاد في الآخرة): بالفقر والمرض، والامتحان بأنواع البلايا والمصائب، فإنه ثواب في الآخرة، وعلو في مراتبها، كما ورد به الشرع، وأخبربه الرسول عليه السلام كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، وقوله عليه السلام: ((إذا انقطع شسع نعل أحدكم فليسترجع فإنه من المصائب)) فهذه الأمور كلها نقص في الدنيا، وهو زيادة على الحقيقة في الآخرة؛ لما فيها من الثواب بالتمحيص والغمومات، فلهذا كانت زيادة في الآخرة.
(خير ممَّا نقص من الآخرة، وزاد في الدنيا): وهذا كالملاذ الواصلة إلى الكفار والفساق، بزيادة الأموال والأولاد، فإنها وإن زادت في الدنيا فهي نقصان في الآخرة؛ لانقطاعها وحصول العقاب لهم على ما يستحقونه، فلهذا لاخير فيها لهم.
(فكم من منقوص رابح): إما بأن يكون منقوصاً في الدنيا بالفقر، وثكل الأولاد والأهلين ، وهو رابح في الآخرة، بما كان له من الثواب بالاصطبارعلى ذلك، وإما بأن يكون منقوصاً في الدنيا لامال له ولا ولد، رابح فيها براحة النفس عن جميع الكُلف والمشاق كلها.
(ومزيد خاسر!): في الدنيا من الأموال وسائر النفائس، خاسرفي الآخرة للثواب بفسقه وتمرده.
(إن الذي أمرتم به): من العبادات المفروضة، والنوافل المندوبة في سائر أنواع البر وأعماله.
(أوسع من الذي نهيتم عنه): من جهة قيام بعضها مقام البعض ، ومن جهة قضاء مافات من الفرائض، ومن جهة رفع الْجُنَاح عن ترك هذه النوافل كلها، وليس كذلك المنهيات؛ لأن فيها تحريجات ومباعدةً عنها ووعيداً على تعدِّيها، ألا ترى أن الذي نُهِيْنَا عنه من مخامرة النجاسات، أمور معدودة محصورة، بخلاف الأمورالظاهرة، فإنها بغير نهاية، ولاحصر لها ولاغاية، فبان بما ذكرناه أن المأمورات أوسع مجالاً من المنهيات لامحالة.
(وما أُحلَّ لكم أكثر مما حُرِّم عليكم): أما في المنكوحات فظاهر فإن المحرمات محصورة، والمحللات لا حصر لها ولاعدَّ، وهنَّ ما عدا المحارم، وأما في المأكولات فالذي حرم أكله من اللحوم وغيرها محصور وما عداه باق علىالإباحة، وأما المشروبات فالمحرم منها محصوركالخمر والدم وسائر النجاسات وغير ذلك، وما عداها باق على التحليل، وأما اللباس فالمنهي عنه الحرير وما عدهَّ الفقهاء وما عداه حلال، وغير ذلك مما اشتملت عليه الكتب الفقهية، فظاهر بما حققناه أن ما أحل الله تعالى للخلق أكثر لامحالة، وأوسع مما حرمه عليهم، وفي هذا دلالة على لطف الله تعالى بخلقه، وعلى حسن هذه الشريعة، وارتفاع قدرها، كما قال عليه السلام: ((بعثت بالحنيفية السمحة )).
(فذروا ما قلَّ): من هذه المحرمات والمنهيات.
(لما كثر): من المأمورات والمحللات.
(وما ضاق): من المحرمات.
(لما اتسع): منها.
(قد تكفل الله لكم بالرزق): ضمنه،كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}[الذاريات:22-23] ما قلته.
(وأمرتم بالعمل): عبادة الله، وتأدية سائر واجباته عليكم.
(فلا يكونن المضمون لكم طلبه): بالاجتهاد والنَّصَب في تحصيله وهو: الرزق.
(أولى بكم من المفروض عليكم عمله): من تأدية حق الله، وامتثال أوامره في ذلك.
(مع أنه والله قد اعترض الشك): في قلوبكم.
(ودخل اليقين): صار مدخولاً فيه بالريب.
(حتى كأن الذي ضمن لكم): من الأرزاق.
(قد فرض عليكم): طلبه لما يظهر منكم من الجزع، وعظم الطلب وكثرته.
(وكأن الذي فرض عليكم): تأديته من الواجبات.
(قد وضع عنكم): لما يظهر من التساهل فيه، وترك الاجتهاد في تحصيله.
(فبادروا بالعمل ): بالتحصيل والفعل.
(وخافوا بغتة الأجل): أن يأخذكم الموت وأنتم على غير أُهْبَة.
(فإنه لا يرجى من رجعة العمر): بالتدارك.
(ما يرجى من رجعة الرزق): فإنهما مختلفان متباينان.
(ما فات اليوم من الرزق): بالعدم والزوال.
(رجي غداً زيادته): من جهة الله تعالى.
(وما فات من العمر أمس): بأن صارمنقضياً زائلاً.
(لم يرج اليوم رجعته ): لاستحالة ذلك وبطلانه.
(الرجاء): من جميع الأمور كلها، وسائر الأعمال.
(مع الجائي): الحاصل في المستقبل؛ لأنه ينتظرحصوله ووقوعه.
(واليأس): من جميع الأمور كلها.
(مع الماضي): لاستحالة رد الماضي وعودته.
(فاتقوا الله حق تقاته): على الحد الذي يتوجه من حقه، في القيام بواجباته، والانكفاف عن محارمه كلها.
(ولا تموتنَّ): على حالة من الحالات.
(إلا وأنتم مسلمون): إلا على حالة الإسلام، وهذا الاستثناء مفرغ، وتفريغه إنما هو في الصفات، كقولك: ما جاءني زيد إلا ضاحكاً.
وأقول: إن حكم هذه الآية لمن أصعب الأحكام وأثقلها؛ لما تضمنته من وجوب تقوى الله على حقيقتها وحدِّها، وهو أمر عظيم، ولكن الله تعالى من رحمته الواسعة ولطفه اللطيف، قد تدارك ثقلها بما خفف، من قوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[التغابن:16].
اللَّهُمَّ، اجعلنا من الفائزين بإحراز التقوى.
(109) ومن خطبة له عليه السلام في الاستسقاء
(اللَّهُمَّ، قد انصاحت جبالنا): صحت الثوب، بالصاد المهملة فانصاح أي شققته فانشق ، قال عبيد :
فأصبح الروض والقيعان مُمرعةٌ
من بين مُرْتَتِقٍ منها وَمُنْصَاحِ
أي متشقق، ويقال: تصوَّح الشجر إذا يبس أعلاه وجفَّ، قال الراعي :
وحاربت الهَيْف الشِّمال وآذنت
مذانب منها اللَّدْن والمتصوِّح
وأراد تشققت جبالنا، ويبس شجرها من المحول .
(واغبرَّت أرضنا): صار لونها أغبر لمايبس شجرها، وانحتَّ لعدم الماء.
(وهامت دوابنا): الهيام: العطش، قال تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ }[الواقعة:55].
(وتحيرت في مرابضها): وقفت في أماكنها، لا تجد مذهباً تذهب إليه، والمرابض للغنم كالأعطان للإبل.
(وعجت عجيج الثكالى على أولادها): العجُّ هو: رفع الصوت، والثكلى هي: التي فقدت ولدها، واشتد حزنها عليه، فلا يزال صوتها مرتفعاً بالبكاء عليه.
(وملت التردد في مراتعها): الملالة هي: السآمة من الشيء، والمرتع هو: مكان الرتوع، وهو التنعم والأكل بالاستراحة، يقال: رتعت الماشية إذا تنعمت بالأكل، وإنما ملَّته لما لم تجد فيه قضاء أغراضها من الشبع والري بالماء، فهي مترددة حيارى.
(والحنين إلى مواردها): الحنين هو : الشوق وتوقان النفس، والموارد: جمع مورد، وهي أمكنة الماء، وإنما ملَّته لما لم تجد غُلَّتَها تنقع .
(اللَّهُمَّ ، فارحم حيرتها في مذاهبها): تحيّرها في طرقها، فلا تجد مذهباً تذهب إليه.
(وأنينها في موالجها): الأنين هو: الصوت الضعيف، يقال: أنَّ الرجل أنيناً، قال ذو الرمة:
كما أنَّ المريضُ إلى عوّادهِ الوَصِبُ
والموالج : المداخل، ومنه تولج الوحش إلى كناسه .
(اللَّهُمَّ، خرجنا إليك): شخصنا من بيوتنا، وأنت غايتنا ومقصدنا.
(حين اعتكرت): اعتكر الظلام إذا اختلط بعضه ببعض، وتراكم وركب أعلاه أسفله.
(علينا حدابيرالسنين): جمع حدبار، وهي: الناقة التي يبس لحمها من الهزال الضامرة، أي قهرتنا بالجدب، وصارت مستعلية لنا.
(وأخلفتنا مخايل الجود): أخلف الوعد، إذا لم يصدق في وعده، والمخايل: جمع مخيلة، يقال: سحابة مخيلة، إذا كانت مرجوة للمطر، ومخيلة السحاب خلافته بالمطر، أي وتخلفت عنا مخايل الجود من كل ما نظن فيه الفرج لنا وكشف حالنا.
(فكنت الرجاء): إما على حذف المضاف، أي ذا الرجاء، وإماعلى المبالغة، كأنه جعله نفس الرجاء، كما قال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ }[البقرة:177]، قال زهير:
فهمُ رضًا وهم عدل
(للمبتئس): الحزين، قال تعالى: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[يوسف:69].
(والبلاغ للملتمس): أي للطالب ، من قولهم: تلمست الحاجة إذا طلبتها، أي وأنت بلاغ الطالب للحا جة ونها يته.
(ندعوك حين قنط الأنام): يئس الخلق عن اتصال الخير بهم.
(ومنع الغمام): ماؤه، وامتنع عليه، والمانع هو الله تعالى، وإنما أضاف المنع إلى الغمام تجوزاً ومبالغة، لما كان سبباًله، كما قالوا: (يداك أوكتا، وفوك نفخ)، وفيه من الرشاقة ما لايخفى.
(وهلك السَّوام): السائم والسَّوام بمعنى واحد، وهو الذي يرعى، يقال: سامت الماشية تسوم إذا رعت.
(ألاَّ تؤاخذنا بذنوبنا ): من المؤاخذة، وهي: المعاقبة، وأن في موضع نصب على نزع الجار، أي بأن لاتؤاخذنا، فلما حذف الحرف انتصب بالفعل.
(وانشر علينا رحمتك): مجاز ها هنا، وأراد شمولها وكثرتها.
(بالسحاب): أي بإنشاء السحاب الذي يكون سبباً للرحمة.
(المنبعق): المنشقُّ بالمطر، من قولهم: بعق بطنه إذا شقَّه، والبعاق هو: السحاب الذي ينصبُّ بشدة وكثرة.
(والربيع المغدق): وهو زمان الخير والنضارة، وأغدق إذا غَزُرَ فيه المطر، والعرب تجعل السنة ستة أزمنة، فشهران منها هو الربيع الأول، وهو الذي تأتي فيه الأزهار وينبت الكلأ والعشب، وشهران منها صيف، وشهران منها قيض وهو شدة الحر، وشهران منها هو الربيع الثاني، وهو الذي تدرك فيه الثمار، وشهران منها خريف، وشهران شتاء.
(والنبات المورق): عظيم الورق لكثرة ريِّه.
(سحاً): سححت الماء إذا صببته، قال دريد:
فربّت غارةِ أسرعت فيها
بسح الهاجريِّ جَرِيْم تمر
والجريم: النوى، وانتصابه إما على المصدرية، وإما على التمييز من المنبعق أو المغدق؛ لأنه في المعنى فاعل لهما كأنه قال: المنبعق سحة.
(وابلاً): الوابل: المطر الشديد، وقد وبل المطر يبل وبولاً، إذا كان شديداً.
(تحيي به ما قد مات): من الأشجار والزروع والكلأ.
(وترد به ما قد فات): بنقصان العطش وانقطاعه به.
(اللَّهُمَّ، سقياً منك): السقيا مصدر سقى، كاليسرى والعسرى من العسر واليسر، أي نطلب منك سقياً:
(محييةً): للأرض الميتة.
(مروية): لنا من العطش.
(تامة): لا يشوبها شيء من العاهات.
(عامة): لا تختص بجهة دون جهة.
(طيبة): خالية عن التنغيص من كل عاهة، من البرد والبرق.
(مباركة): مشتملة على النماء والزيادة.
(هنيئة مريئة): زاكية، من قولهم: هنأه الطعام ومرأه، إذا ساغ وكان زكياً.
(مريعة): أي خصيبة، وأمرع القوم إذا كانت مواشيهم في خصب، وفي المثل: أمرعت فانزل.
(زاكياً نبتها): كثيراً، من قولهم: زكا الشئ إذا كان كثيراً.
(ثامراً فرعها): ثمر الشيء إذا كثر، ومنه الثمرة لأنها تكثر وتفشو .
(ناضراً ورقها): من النضارة، وهي: الحسن.
(تنعش بها الضعيف): ترفعه من كبوته وَشَعَثِه.
(من عبادك): أهل الرحمة والفاقة.
(وتحيي بها الميت من بلادك): الذي هلك بالموت ، وقلة الأمطار.
(اللَّهُمَّ، سقياً منك): نستوهب منك سقياً:
(تعشب بها نِجَادَنا): يكثر عشبها، والنِّجاد جمع نَجْد، وهو: ما ارتفع من الأرض وكان منيفاً عالياً.
(وتجري بها وِهادنا): الوِهاد هي: الأمكنة المطمئنة، واحدتها وَهْدة.
(وَيُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا): الْجَنَابُ بالفتح هو: الفناء، يقال: جَنَابُ فلان خصيب، وأخصب جَنَابُه إذا كان كريماً.
(وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا): تكون جيدة، من قولهم: أقبل الزرع إذا كان تاماً.
(وتعيش بها مواشينا): الماشية: اسم يقع على البقر، والغنم، والإبل.
(وتندى بها أقاصينا): الندى هو: الكلأ، أي وتكون الأقاصي من أرضنا معشبة، أو من الندى وهو: البلل فالذي يكون في النهار فهو ندى، والذي يكون بالليل، يقال له: السدى.
(وتستعين به ضواحينا): ضواحي الأرض: ظواهرها، وأراد أنها تكون إعانة على زوال حرها، واخضرار نباتها.
(من بركاتك الواسعة): زياداتك التي اتسع خيرها، وفاض نماؤها.
(وعطاياك الجزيلة): العظيمة التي لاغاية لحدها.
(على بريتك المرملة): يقال: أرمل القوم، إذا نفد زادهم، وأراد الضعيفة أحوالهم.
(ووحشك المهملة): إبل همل، إذا كان لا راعي لها ليلاً ولا نهاراً، بخلاف النَّفَش فإنه اسم لإهمالها ليلاً لاغير، أي لاراعي لها سواك.
(وأنزل علينا سماءً): أي مطراً، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، قال معاوية بن مالك :
إذا سَقَطَ السَّماءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ
رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابَا
(مخضلة): أي كثير بللها، يقال: اخضلَّ الشيء اخضلالاً، إذا كثر بلله.
(مدراراً ): سماء مدراراً إذا كا نت تدر المطر، وارتفاعه على أنه فاعل بمخضلة ارتفاع السبب بالصفة.
(هاطلة): متتابع قطرها، يقال: مطر هَطِل، وسحاب هاطِل، أي كثير الهطلان.
(يدافع الودق منها الودق): ودق المطر: قطره، وأراد أن قطره متتابعة لغزارته وكثرته.
(ويحفز القطر منها القطر): حفزه إذا دفعه من خلفه، والليل يحفز النهار، أي يدفعه قال:
يحفزها الأوتار والأيدي الشعر
وأراد أن بعضه يدفع بعضاً لما فيه من الجودة والكثرة.
(غير خُلَّبٍ برقها): الْخُلَّبُ: البرق الذي لا مطرفيه.
(ولا جَهَامٍ عارضها): الجهام: السحاب الذي لا مطر فيه أيضاً.
(ولا قزع ربابها): القزع: قطع السحاب الرقيقة، والرباب هو: السحاب الأبيض، أي أن سحابها ليس متفرقاً وإنما هو متراكم أسود.
(ولا شفَّان ذِهابها): الشَّفَّان: ريح فيها برد وندوة ورطوبة، والذِّهاب بكسر الفاء: جمع ذِهْبَة، وهو المطر، التقدير فيه ولا ذات شفَّان ذهابها فحذف ذات لعلم السامع به.
(حتى يخصب لإمراعها): الخصب: خلاف الجدب، وإمراع السنة: كثرة شجرها ورِيفها .
(المجدبون): الذين أصابهم الجدب والقحط، وأراد أنه يعظم الرخاء من أجل إمراعها لمن أجدب.
(ويحيا ببركتها): بزيادتها ونموها.
(المسنتون): أسنى القوم إذا دخلوا في سنة جديبة أو خصيبة، وأسنتوا إذا دخلوا في سنة جديبة.
(فإنك تنشر رحمتك): تبسطها لخلقك فينعمون فيها.
(وتنزِّل الغيث): رحمة ولطفاً، وكرماً منك.
(من بعد ما قنطوا): يئسوا، وكثر قنوطهم.
(وأنت الولي): لذلك الأولى به، والأحق بفعله.
(الحميد): المحمود على كل نعمة.
(110) ومن خطبة له عليه السلام
(أرسله داعياً إلى الحق): التوحيد والإلهية، وإبلاغ ما أرسل به من الشرائع ، والحكم المصلحية كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا }[البقرة:119].
(وشاهداً على الخلق): بإبلاغ الحجة، وانقطاع المعذرة، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }[الأحزاب:45].
(فبلَّغ رسالات ربه): جميع ماأرسل به إلى الخلق، مما يقرِّبهم إلى الجنة ويبعِّدهم عن النار، كما قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ }[الشورى:48].
(غير وانٍ): ضعيف، من الونى وهو: الضعف.
(ولا مقصِّر): مهوِّن، من قولهم: قصَّر في أمره إذا كان مهوِّناً فيه.
(وجاهد في الله): أي لا غرض له في المجاهدة بالسيف والسِّنان ، والقلم واللسان؛ إلا وجه الله تعالى دون غيره من سائر الأغراض.
(أعداءه): الضمير في أعداءه، إما لله وإما للرسول، ومعنى عداوة الله تعالى، أي أنه يحب إنزال الضرر والعقوبة بهم، وأعداء الرسول: الناصبين له الحرب والمكائد .
(غير واهي): وَهَى الحبل إذا ضَعُفَ.
(ولا معذِّر): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معناه غير معتذر عن بلوغ الغاية في دين الله ونصرته، لكنها قلبت التاء ذالاً، وأدغمت في مثلها، ونقلت حركتها إلى العين.
وثانيهما: أن يكون معناه غير مقصِّر في إبلاغ الرسالة والنصح للخلق.
(إمام من اتقى): راقب الله تعالى وخافه في كل أحواله.
(وبصر من اهتدى): أي هو بصيرة من كان مهتدياً بهديه، سالكاً لطريقته، أو يكون بمنزلة بصر الإنسان الذي يبصر به المبصرات، لأنه عليه السلام كان سراجاً لظلام الجهل، وقمراً منيراً لسواد الضلالة.
(ولو تعلمون ما أعلم): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد من خوف الله تعالى وعظم جلاله.
وثانيهما: أن يريد أهوال القيامة، وما أعدَّ الله لأعدائه، من النَّكال والويل.
(مما طُوِيَ عنكم علمه ): حجب وستر، إذ كان لا مصلحة لكم بالتعريف به، لما يؤدي إلى الإلحاد أو لمفسدة غير ذلك.
(إذاً لخرجتم إلى الصُّعُدات): الصعيد: وجه الأرض، وجمعه صُعُد، ثم يجمع أيضاً على صُعُدات، مثل طريق، وطُرق، وطُرقات، وجمع الجمع في الكثرة قليل نادر.
(تبكون على أعمالكم): لما فيها من التقصير والتهاون بحق الله وما ينبغي من القيام بحقه، أو لأنكم أحبطتموها بارتكاب الكبائر، وأبطلتم ثوابها المستحق عليها.
(وتلتدمون على أنفسكم): اللدم هو: ضرب الوجه، أو الصدر باليد، كما تفعله النسوان عند المصائب في النياحة.
(ولتركتم أموالكم لا حارس لها): رغبة عنها، وزهداً فيها، لما يعتريكم من الأمور الهائلة في ذلك.
(ولا خالف عليها): يقوم بها ويحفظها فشلاً، وجزعاً، ودهشاً عنها .
(ولهمَّت كل امرئ نفسه ): أي لا يهم سواها، ولا يخطر بباله أمر آخر كما قال الله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }[عبس:37] عن النظر في شأن غيره، وكل ذلك أمارة على عظم الأهوال وشدتها.
(ولكنكم نسيتم ما ذكّرتم): من أمور الآخرة وأهوالها، أو من عظمة الله تعالى، وخوف سطوته.
(وأمنتم ما حذِّرتم): من جميع ذلك، فلا التفات إليه منكم في حالة واحدة.
(فتاه عنكم رأيكم): أي ذهبتم فيه متحيرين.
(وتشتَّت عليكم أمركم): أي تفرَّق وصار في جهات كثيرة.
(لوددت أن الله فرَّق بيني وبينكم): لما أقاسيه من اعوجاجكم، وأحتمله من مشاقكم.
(وألحق بمن هو أحق بي منكم): أعرف بقدري، وأكثر اعترافاً بحقي، أراد قرن الصحابة رضي الله عنهم، وإلحاقه بهم، إما ناصرين له على جهة التقدير لو كانوا أحياء، وإما إلحاقه بالموت، والكون معهم في الآخرة.
(قوم والله ميامين الرأي): آراءهم مباركة صادقة.
(مراجيح الحلم): أي أن حلومهم راحجة عن أن يعتريها الطيش ، أو يزعجها عن الحق الفشل.
(مقاويل الحق ): ولو على أنفسهم لا يخالفون فيه.
(متاريك الغي ): أي لايفعلونه، ولا يخطر لهم على بال قط.
(مضوا قُدُماً): بضمتين، أي متقدمين لم يسبقهم أحد غيرهم.
(على الطريقة): المرضية.
(وأوجفوا على المحجة): الوجيف: ضرب من سير الإبل والخيل، قال تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ }[الحشر:6] أي أعملتم فيه الوجيف.
قال العجاج:
ناجٍ طواه الأينُ فما وَجَفَا
طيَّ الليالي زُلَفاً فزُلفَا
(فظفروا بالعقبى الدائمة): وهي الدار الآخرة، سميت عقبى؛ لأنها في عقب الدنيا وعلى إثرها.
(والكرامة الباردة ): وهي الجنة؛ بسبب ما قدموه من الأعمال الصالحة.
(أما والله ليسلطنَّ الله عليكم): التسليط: هو القهر والغلبة.
(غلام ثقيف): أراد الحجاج، واستيلاءه على الكوفة.
(الذيَّال): الذي يستحب ذيله بطراً وأشراً، كما قال عليه السلام: ((من جر رداءه لا ينظر الله إليه يوم القيامة )) .
(الميَّال): الذي يميل في مشيه فخراً وتكبراً، ومشية خوزلى، وخيزرى فيها تخازل وتخازر ، وفي الحديث: ((إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمها أبناء فارس والروم فقد تودع منهم)) وكلها مكروهة
(يأكل خَضِرَتكم): أراد أموالكم الخضرة.
(ويذيب شحمتكم): أي يقهركم ويهزلكم.
(إيهٍ): اسم للفعل، فإن أردت به المعرفة، كتعريف أعلام الأجناس أسقطت تنوينه، وإن أردت به التنكير نوَّنته، وكلا الوجهين وارد في اللغة يستعملان كثيراً.
(أبا ودجة ): يروى بالجيم، وهو يخاطب به الحجاج، وسماه بذلك لما كان من سفكه للدماء، وقطعه للأوداج، وكان فاجراً أحمقَ، متسلطاً بالوقاحة، ويروى بالحاء المهملة أيضاً، وأبو وذحة هي كنية الخنفساء، وإنما كناه بذلك لأمرين:
أما أولاً: فلأنه حكى أبو سلمان الخطابي في (غريب الحديث): أن خنفساء مرت بالحجاج، فقال: قاتل الله أقواماً يزعمون أن هذه من خلق الله، فقيل له: ممَّ هي؟ فقال: من وذح إبليس ، فكني عنه بها.
وأما ثانياً: فلأن الوذح ما يتعلق بأذناب الشاء، وأرفاغها من أبوالها وأبعارها فيتصلب ويجفُّ، الواحدة منه وَذَحَة، قال جرير:
والتغلبيّة في أفواه عورتها
وَذَحٌ كثيرُ وفي أكتافها الوَضَرٌ
والخنفساء تعالج ذلك، وجمعها وَذَحٌ، فلهذا سميت وذحة، وكناه بذلك إشارة إلى ركة حاله، وسخف همته، ورذالة نفسه، ومعنى إيهٍ أي زد لهم من ذلك تهكماً بحالهم، وغيظاً عليهم، وأراد زد مما أنت فيه فإنهم يستاهلونه، وكان كثير الجرأة على الله تعالى، و اقتحام المحارم، وتغيير الأحكام.
سؤال؛ ما وجه الحكمة في تمكين الله تعالى للظلمة، وسائر المردة كالحجّاج وغيره، وفي تمكينهم ظلم الخلق، وتشويش أحكام الدين، وتعدي الحدود فكيف يحسن ما هذا حاله؟
وجوابه من أوجه؛
أما أولاً: فلأنه قد تقرر ببرهان العقل حكمة الله تعالى، وتنزيهه عن كل قبيح، فإذا تقرر كونه فاعلاً لهذا التمكين، وجب القضاء بحسنه لا محالة.
وأما ثانياً: فلأن تمكينهم إنما هو بالأموال، وكثرة الأتباع، من الحفدة والخدم، فهذا من فعل الله، ولاشك في حسنه، والتسلط والبغي إنما هو من أفعالهم، ولا شك في قبحه.
وأما ثالثاً: فلأنهم مأمورون بالإصلاح، ومنهيون عن الإفساد، فليس تمكينهم من ذلك بأبلغ من تمكينهم من القدرة والشهوة، فإذا كانت هذه حسنة فتمكينهم يكون حسناً لامحالة.
وأما رابعاً: فلأن تمكينهم من ذلك على جهة الابتلاء والامتحان من الله تعالى للخلق، كما كان من خلق إبليس وغيره، مما يكون فيه زيادة الأجر، وإعظام الثواب.
(111) [ومن كلام له عليه السلام]
(فلا أموال بذلتموها): أنفقتموها وجدتم بإعطائها.
(للذي رزقها): من أجل وجهه، ورجاء ثوابه، وشكراً على نعمة رزقه إياها.
(ولا أنفس خاطرتم بها): جعلتموها تعرض الخطر ، وهو الهلاك.
(للذي خلقها): جهاداً في سبيله، وإعزازاً لدينه، ولأن تكون كلمته هي العلياء.
(تَكْرُمُون بالله على عباده): أي أن الحجة لازمة لكم، ومتوجهة عليكم من أجل أن الناس يكرمونكم من أجل إيمانكم بالله، وإقراركم بتوحيده وعبادتكم له، فهذه الكرامة واصلة إليكم بسبب من الله.
(ولا تكرمون الله في عباده ): أي ولا ترون لله تعالى حقاً تكرمونه به، وهو القيام بأمره في عباده من التزام أوامره، والانكفاف عن مناهيه.
(فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم): إما أن يريد منازلهم في الدنيا ومساكنهم فيها، فإنهم ظعنوا عنها، وسيكون لبثكم فيها مثل لبثهم ، وترتحلون عنها كارتحالهم، وإما أن يريد القبور فإنَّا عن قريب نكون فيها، كما كان من قبلنا.
(وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم!): وهو عظيم المودة لكم بالموت وفراقكم له، وتفسير الانقطاع بالموت ها هنا كالمؤيد لتفسير النزول بالموت، كما سبق تقريره في أحد الاحتمالين.
(112) [ومن كلام له عليه السلام]
(أنتم الأنصار على الحق): هذا كلام يكلِّم به أصحابه، وهواستطراد بديع إذ لا ملاءمة بينه وبين الأول، والأنصار: جمع ناصر، وهو قليل في جمع فاعل كقلة صَحْب في جمع صاحب، وأراد أنهم الأنصار في إظهار كلمة الدين، والقيام بحق الله.
(والإخوان في الدين): أي أنه الجامع في الإخوة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }[الحجرات:10].
(والجُنَن يوم البأس): جمع جُنّة، وهو: عبارة عن كل ما وقى الإنسان، والبأس: شدة الحرب، وفي الحديث: ((كنَّا إذا احمرَّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله )) نزَّلهم في دفع الشر عنه بمنزلة الجُنَّة، وهي استعارة بديعة.
(والبطانة دون الناس): البطانة: ما يلي الجسد من الثياب، بمنزلة الشعار، وأراد أنهم الخواص به دون غيرهم من الخلق لعلوهم في الدين.
(بكم أضرب المدبر): من أجل طاعتكم لي، وانقيادكم لأمري، أستعين بكم على من خالفني وأدبر عني، وأقاتله بكم.
(وأرجو طاعة المقبل): أي ومن أجل إعانتكم لي يكون ذلك سبباً في استقامة من أقبل لي، وأرجو دوامها.
(فأعينوني بمناصحة): فلتكن منكم الإعانة لي ولا إعانة كالنصح من جهتكم لي، فإنها أعظم الأعوان من جهتكم لي، وفي الحديث: ((ألا إنما الدين النصيحة )) قالها ثلاثاً، قالوا: لمن يارسول الله؟ فقال: ((لله ولرسوله ولأئمة المسلمين )).
(خليَّة عن الغشِّ): لا يشوبها ما يكدِّرها من الغشِّ، وفي الحديث عن الرسول [ صلى الله عليه وآله وسلم] : ((ليس منَّا من غشَّ )) ، وفي حديث آخر: ((ملعون من خان مسلماً أو غرَّه )) .
(بريئة من الريب): الشك؛ لأن الشك يهوِّن النصيحة ويوهي أمرها.
(فوالله إني لأولى الناس بالناس): لأن الله تعالى قال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] }[الأحزاب:6]، ثم قال عليه السلام: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى )) فحصل من مجموع الآية والخبر، ثبوت الولاية على المؤمنين، كولاية الرسول، كيف وذلك يحصل من إمامته، سواء كانت ثابتة بالنصِّ أو بغيره.
ثم جمع أصحابه وحضهم على الجهاد، فسكتوا ملياً، فقال :
(ما بالكم!): البال هو: الخاطر، وهو استفهام وارد مورد التعجب والإنكار عليهم.
(أمخرسون أنتم!): أي أصابكم الخرس، فأنتم لا تسمعون كلامي وتجيبونه.
(فقال قوم: يا أمير المؤمنين): أي القليل منهم.
(إن سرت سرنا معك): أي إنا متابعون لخروجك، فلانتخلف عنك مهما خرجت.
(فقال: ما بالكم !): تكريراً للتعجب من حالهم، وإنكاراً لفعلهم وصنيعهم.
(لا سدِّدتم لرشد!): أي لا هديتم لأرشد الآراء وأصوبها.
(ولا هديتم لقصد!): ولا ثبتم لأعدلها وأعلاها، والقصد: العدل.
(أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج): إنكاراً عليهم، لما أشاروا بخروجه وأنهم لامحالة خارجون معه.
(إنما يخرج في مثل هذا): إنما الرأي الأرشد في مثل هذا خروج.
(رجل أرضاه من شجعانكم): يكون مرضياً عندي في شجاعته.
(وذوي بأسكم): وأن يكون صاحب تجربة في الحروب الشديدة ممن قد حنكته التجارب فيها، يقوم مقامي، فأما أنا فلا أرى لنفسي بالخروج.
(ولا ينبغي لي أن أدع الجند): أترك النظر في أحوال الجند وتقويتهم، والتعهد لأحوالهم بالخروج.
(والمصر): والنظر في أحوال أهل المصر من أهل الفاقة، والمسكنة والوقوف وأحوال الضعفاء والأرامل.
(وبيت المال): من معرفة ما يخرج منه، وما ينتصب فيه من الأموال، وإنفاقها على وجهها.
(وجباية الأرض): وإرسال من يخرص الأموال المأخوذة من الأراضي.
(والقضاء بين المسلمين): في خصوماتهم كلها، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه، وقطع شجارهم.
(والنظر في حقوق المطالبين): إن كان اسم فاعل، فالغرض إيفاء من وجب له حق على غيره، وهو مطالب غريمه بتحصيله بعد وجوبه، وإن كان اسم مفعول فالغرض النظر في حاله، هل يحبس حتى يوفي، أو يكون له أجل فلابد من انتهائه إليه، أو يكون مفلساً فيحكم بإطلاقه، وغيرذلك من الأحكام في الخصومات والمعاملات بين الخلق، فهذه الأموركلها لا يمكن إقامتها على الوجه اللائق إلا بوجودي وحضوري، وإحكامها بوالي ، فكيف يقال: بأني أتركها وأخليها.
(ثم أخرج في كتيبة): جماعة من الخيل.
(أتبع أخرى): لاحقاً لها ، وحاصلاً معها.
(أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ): القدح: الواحد من السهام، والجفير هو: موضعها وهو أوسع من الكنانة، والفارغ: الخالي عن السهام، مثّل حاله بخروجه عن المصر بحال القدح الواحد في الكنانة، فإنه يضطرب من جانب إلى جانب، لا يستقر حاله.
(وإنما أنا قطب الرَحى): قطب الرحى هو: المسمار الذي تدور عليه الأرحية، التي يطحن عليها بالحيوانات والماء، وهو بمنزلة السَّفُّود في رحى اليد.
(تدور عليّ): أي أني أصلها، وقاعدتها.
(وأنا بمكاني): مستقر في موضع غير خارج منه، وهي جملة ابتدائية في موضع نصب على الحال من الياء في عليَّ، أي تدور عليَّ مستقراً فيه.
(فإذا فارقته): بالخروج كما زعمتم.
(استحار مدارها): تردد ولم يجرِ على جهة الاستقامة، ومنه قولهم: حار في أمره إذا تردد فيه، والمدار إما مصدر أي دورها، وإما مكان الدور.
(واضطرب ثفالها): الثفال: جلد يبسط تحت الأرحية التي لأهل الخيام، يسقط عليه الدقيق، وربما سمي الحجر الأسفل من الرحى بذلك، قال زهير:
فَتَعْرِككم عَرْكَ الرِّحى بِثِفَالِهَا
وتلقح كشافاً ثم ترضع فتفطم
(هذا): إشارة إلى ما ذكره من التصويب للخروج.
(لعمرالله): قسمي.
(هو الرأي السوء): الذي يسوء به الحال ولا يصلح، والسوء: عبارة عن كل ما يسوء ويكره، قال الله تعالى: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ }[النحل:27].
(والله لولا رجائي للشهادة ): أي إن مقامي بين أظهركم، لولا أني أرجو به حصول الشهادة والفوز بها بالقتل جهاداً:
(عند لقائي العدو): مواجهتي له.
(لو قد حُمَّ لقاؤه لي): قُدِّر وقضي من جهة الله تعالى.
(لقرَّبت رِكَابي): الرِّكاب: عبارة عمَّا يركب من الإبل.
(ثم شخصت عنكم): يقال: شخص عن منزله، إذا خرج عنه.
(فلا أطلبكم ما اختلف جنوب وشَمَال ): فلا أريد وصالكم قط، والجنوب: ما كان هبوبها من ناحية القطب، والشمال من الريح: ما كان هبوبها من ناحية سهيل، واختلافهما تقابلهما؛ لأن هذه تقابل هذه وتعاكسها، لاختلاف المهوى فيهما، وهي المناوحة .
(113) [ومن كلام له عليه السلام يذكر فضله ويعظ الناس]
(تالله لقد علِّمت تبليغ الرسالات): إخبار عن نفسه بالعلم، بكيفية إرسال الرسل، إما عاماً في جميعهم بإعلام الرسول له ذلك، وإما خاصاً في حق الرسول عليه السلام فإنه أعلمه ذلك بوحي من جهة الله تعالى.
(وتمام الكلمات): يشيربه إلى قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ }[البقرة:124] وفيها قراءتان:
القراءة الأولى: في السبعة، المشهور بنصب إبراهيم ورفع الرب على أنه فاعل، أي امتحنه واختبره بأوامر من عنده ونواهٍ فأتمهنَّ، وقام بذلك وأدَّاه كما أمر.
والقراءة الثانية: في الآحاد، وهي عن ابن عباس، وأبي حنيفة برفع إبراهيم ونصب الرب، على أن إبراهيم فاعل، أي دعاه بكلمات فعل من يختبر هل يجيبه أم لا؟ {فَأَتَمَّهُنَّ}، أي أعطاه ما طلبه من ذلك وأجابه إليه ، واختلف العلماء في الكلمات ماهي؟ فقيل: هي خمس في الرأس: الفرق، وقص الشارب، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وخمس في الجسد: الختان، والاستحداد، والاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وقيل: ابتلاه بثلاثين خصلة من شرائع الإسلام والدين: عشرة في برآءة {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ... }[التوبة:112]إلى آخر هذه، وعشر في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ...}إلى آخرها[الأحزاب:35]، وعشر في المؤمنين، وسورة سأل إلى قوله: {...وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }[المؤمنون:9]، وقيل: هي مناسك الحج: كالطواف، والسعي، والرمي، وغيرها، وقيل: ابتلاه بالكواكب، والقمر، والشمس، والختان، وذبح ابنه، والنار، والهجرة، وقيل: الكلمات هي كقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا }[إبراهيم:35]، وقوله: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ }[البقرة:128]، وقوله: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً }[البقرة:129] فصرح من نفسه بأنه عالم بإتمامها، وحقيقتها ما هي .
(وإتمام العدات): ما وعد الله به على ألسنة الرسل، لأوليائه من أهل الإيمان وأهل الطاعات، من النعيم الدائم والخلد في الجنة، فأراد أنه عليه السلام محيط بعلم ذلك كله، منفرد به من بين كافة الخلق، بإعلام الرسول له ذلك.
ثم أجمل ما فصّله من ذلك، واستحضره، بقوله:
(وعندنا أهلَ البيت): يعني نفسه وأولاده؛ فإنهم هم أهل البيت ذلك اليوم مع زوجته، وانتصاب أهل البيت ليس على النداء، فإنه لا معنى للنداء ها هنا، وإنما هو منتصب على المدح، كما يقال: الملك لله أهل الملك.
(أبواب الحُكْم): فصل القضاء بين الخلق، وقطع شجارهم بالعلم النافذ، والبصيرة القاطعة، وفي الحديث: ((إنه لما بعثه قاضياً إلى اليمن دعا له بالتثبيت ))، فقال أمير المؤمنين: (فما زللت في قضية قط) .
فهذا فائدة هذه الرواية وهي سماعنا، وأما من رواه (أبواب الحِكَم)، فهي جمع حكمة، وأراد به الآداب و المواعظ.
(وضياء الأمر): في كل ما التبس على الخلق، فنحن نور ظلامه، وجلاء قتامه ، وهذا كله مجاز في تنوير بصائرهم، وتبحرهم في العلوم الدينية التي بها نجاة الخلق، ونفعهم في الآخرة.
(ألا وإن شرائع الدين واحدة): أراد ما كان متعلقاً بالمسائل الإلهية فإنها واحدة، لا تختلف أبداً في جميع الشرائع والأديان كلها، وهي أن الله تعالى واحد، وأنه حكيم في أفعاله، ومستحق للعبادة، وغير ذلك من الإلهيات.
(وسبله قاصدة): السبل هي: الطرق ، وهي جمع سبيل، والقاصد: العادل، أي أنها غيرمائلة عن الحق.
(من أخذ بها): سلك على جادها، ولم يعدل شمالاً ولا يميناً.
(لحق): ما يطلبه، وأدرك ما يريد.
(وغنم): بأخذ نصيبه الأوفر من حظّ الدين.
(ومن وقف عنها): بالتأخر عن سلوكها، والعدول إلى غيرها.
(ضل): مال عن الحق.
(وندم): تحسَّر، وعضَّ على أنامله على فواتها.
(اعملوا ليوم): وهو يوم القيامة، وإنما نكّره؛ ليدل بذلك على فخامته وعظم شأنه.
(تذخر له الذخائر): من الأعمال الصالحة، والمتاجر الرابحة.
(وتبلى فيه السرائر): تمتحن فيه أسرار القلوب وخباياها وتعرض على علاَّمها.
اللَّهُمَّ، إنا نعوذبك من الفضيحة، بالأسرار المكشوفة عندك.
(ومن لا ينفعه حاضر لبه فعازبه عنه أعجز): وهذا من كلام أمير المؤمنين، وحكمه التي جرت أمثالاً، واطَّردت على ألسنة الخلق، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن من لا ينتفع بما يحضره من عقله في أمر دينه، وصلاح عاقبته، فالذي يعزب عنه أي يتعذرمن ذلك أقل نفعاً وأبعد.
وثانيهما: أن يكون مراده أن من لا ينتفع بمايشاهده من الأمور، وتكون موعظة له، فما غاب عنه من ذلك يكون انتفاعه به أبعد، وتقاعده عنه أكثر.
(وغائبه عنه أعوز): أي وما يغيب عنه من ذلك، يكون أشد إعوازاً، وأعظم تعذراً.
(واتقوا ناراً): من الوقاية لخوف الله تعالى، والبعد عن محرماته، والإيمان بطاعاته، وإنما نكرها تعظيماً لشأنها، كأنه قال: نار وأي نار.
(حَرُّها شديد): وقودها الناس والحجارة.
(وقعرُها بعيد): وفي الحديث: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه، فيهوي بها ما بين الثريا إلى الثرى في النار)) .
(وحليتُها حديد): من الأصفاد، وهي القيود، والأغلال، والسلاسل.
(وشرابُها صديد): وهو: القيح المختلط بالدم.
(ألا وإن اللسان الصالح يجعله الله للمرء في الناس): وهذه أيضاً من الحكم البديعة التي اختص بها، وصار أباً لعذرتها، واللسان الصدق هو: الثناء الحسن، عبر عنه باللسان، لما كان مفعولاًبه، وأراد أن ما يجعله الله تعالى للإنسان بعد موته من الثناء الحسن على الأعمال الصالحة، والذكر الجميل في ألسنة الخلق، ليكون سبباً للرحمة ، والدعاء من الناس هو لا محالة:
(خير له من المال يورثه من لا يحمده): وفي قوله: يورثه من لا يحمده، تعريض بحال المال، وأنه لا خير في تخليفه؛ لأنه ربما أكله من لا يحمده، ووباله على من يجمعه ، فلهذا كان غيره أجدى نفعاً، وأحمد عاقبة.
واعلم: أن كلامه في هذه الخطبة قد اشتمل على نوع من أنواع البديع، هو إنسان مقلتها، ونور طلعتها، وهو حسن التصرف، و من أجله حصل التفاضل بين الخطباء، وأصحاب الرسائل والشعراء، وليس حصوله بكثرة علم، ولا بممارسة العلوم، وإنما يحصل بجودة القريحة، وحسن الطبع، فإنه أورد فيها فنوناً كثيرة، وأنواعاً مختلفة، تدل على حسن تصرف ومبالغة فيه، ومن ثَمَّ عظم موقع فصاحة القرآن؛ لاشتماله على البديع من ذلك، والعجيب من أحواله كالقصص والأخبار والمواعظ والأمثال، مما يدل على كونه إلهياً معجزاً للبشر، [و] سماوياً عز سلطان من أنشأه .
(114) ومن كلام له عليه السلام
وقد قام إليه رجل من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة، ثم أمرتنا بها، فما ندري أي الأمرين أرشد، فصفق إحدى يديه على الأخرى ثم قال:
(هذا جزاء من ترك العُقدة!): العُقدة: موضع العقد، بضم الفاء كغُرفة وهو ماعقد عليه، يقال: جبرت يده على عُقدة، أي على عَثْم وهو: انجبارالعظم على غير استواء عند كسره، أورد ها هنا مثالاً له ولأصحابه، أي كنتم في مخالفة أمري، واستمراركم على مقتضى هواكم، واغتراركم بمكر أهل الشام، ورفعهم المصاحف على رؤس الرماح، والدعاء إلى حكم القرآن، بمنزلة العظم المكسور المنجبر على عثم ، فلو ترك على حاله لبطلت الأفعال المتعلقة بذلك العضو، وعلاج ذلك وإصلاحه إنما يكون بأن يكسره مرة ثانية ثم يجبر ، فمن لم يفعل ذلك فقد ترك العقدة على حالهاولم يصلحها، وقد قرر هذا في آخر كلامه.
(أما والله لو أني حين أمرتكم): بما أمرتكم به من الثبوت على الحرب، والإعراض عن هذه الخديعة في حملهم المصاحف.
(حملتكم على المكروه): على ما تكرهونه، ويكون مخالفاً لهواكم.
(الذي يجعل الله فيه خيراً): في الدنيا بالنصر على العدو، وقطع الدابر منه، وفي الآخرة بإحراز الأجر وإعظام الثواب بالجهاد.
(فإن استقمتم): عليه وامتثلتموه.
(هديتكم): دللتكم على مصالح دينكم.
(وإن اعوججتم): مِلْتُم عن الدين وطريق الآخرة.
(قوَّمتكم): بالبصيرة.
(وإن أبيتم): كرهتم ما أقول لكم ورددتموه.
(تداركتكم): بالنصيحة مرة بعد مرة، فلو فعلت هذه الأشياء كلها ولم أصغ إلى كلامكم.
(لكانت الوثقى): أوثق ما يكون من المتمسكات ، وأصوب ما يكون من الآراء.
(ولكن بمن): انتصر إذا خالفتموني، ونبذتم رأيي.
(وإلى من!؟): أستند إذا خذلتموني، ومن في المو ضعين جميعاً موصولة، وحذفت صلتها للعلم بها كما فسرناه.
وحكي عن الأشتر أنه لما وردت عليهم الشبهة في أمر التحكيم، وكان ذلك مخالفاً لرأي أمير المؤمنين، فقال لهم : حدثوني عن أماثلكم وقرائكم هل كنتم محقين حين كنتم تقاتلون، وخياركم مقتولون؟ فإن كنتم كذلك فأنتم الآن بالإمساك عن القتال مبطلون، وإن كنتم الآن محقين فقتلاكم وخياركم يكونون في النار.
فقالوا عند ذلك قول من يجهل : قاتلناهم في الله، وندع قتالهم لله، إنا لا نطيعك ولا صاحبك، فقال لهم: خدعة ما خدعتم يا أهل الجباه السود .
(أريد أن أدواي بكم): أقيم بكم الحق، وأعتضد بكم عمَّن خالفني، وتكونون عوناً لي على ذلك.
(وأنتم دائي): أي ومنكم الاعوجاج، ومن المحال أن يكون الداء سبباً للبرء، ومنه يقع الفساد، ومن أجله يكون التغير، فكان حالكم وحالي في ذلك مشبهاً فيما هو فيه.
(كناقش الشوكة بالشوكة): نقش الشوكة، إذا شقها بالمنقاش.
(وهو يعلم أن ضلعها لهو معها): الضلع هو: الاعوجاج والميل، قال الشاعر:
وقد يحملُ السيفَ المجرّبَ ربُّه
على ضَلَعِ في قَيْنِه وهو قاطعُ
وهذا مثل يضرب للرجل يخاصم آخر فيقول: اجعل بيني وبينك فلاناً، يعني به رجلاً يهوى هواه، ويعضده على أمره، فيقال له تمثيلاً بحاله: لاتنقش الشوكة بالشوكة، فإن ضلعها معها، وأراد كيف أستعين بكم، وهواكم معهم، وأنتم أعوان لهم بتأخركم عني ومخالفتكم لي.!
(اللَّهُمَّ، قد مللت أطباء هذا الداء الدوي): الملل هو: السآمة من كل شيء، والأطباء جمع طبيب، الداء هو: المرض، والدوِيّ بكسر الواو وفتحها مخففاً هو: مبالغة، كما يقال: شيطان ليطان وحسن يسن، ويقال: رجل دوي ودوَى بكسر الواو وفتحها، إذا كان فاسد الجوف، فإذا فتحت واوه، استوى فيه المذكر والمؤنث؛ لأنه مصدر في الأصل، فإذا كسرت الواو، أجريته على تصريفه في التذكير والتأنيث، فتقول: رجل دويّ وامرأة دويّة، ويقال: رجل دوَي بفتحها إذا كان أحمق، ومن رواه مشدد الياء؛ فهو تصحيف لا وجه له؛ لأنه إنما يستعمل في الأصوات، كدوي الريح والطير، وغير ذلك من الأصوات.
(وكلّت النزعة بأشطان الرَّكيِّ!): النزعة: جمع نازع، كالفسقة في جمع فاسق، والأشطان هي: الحبال، واحدها شطن، والركية: البير،وجمعها ركايا، وركى أيضاً يكون من باب تمرة وتمر، وأراد في كلامه هذا أنه لم يأل جهداً في النصيحة، ودلالتهم على الأمر الذي فيه صلاحهم من عدم التحكيم، فأبوا إلا الإصرار عليه، والمخالفة لي فيما قلته.
ثم خرج إلى الإطناب في وصف أصحابه، انتقاصاً لهؤلاء، وتعريضاً بأحوالهم حيث خالفوه، بقوله:
(أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوا ): بالانقياد لحكمه، والتزام أوامره ونواهيه.
(وقرءوا القرآن فأحكموه): فأقاموا شرائعه وأحكامه، وحللوا حلاله، وحرموا حرامه.
(وهيجوا للجهاد ): هاج يهيج الشيء هيجاناً، إذا ثار، ومنه هاجت الريح، وهاجت الحرب.
(فولهوا اللقاح أولادها ): التوليه : التفريق، واللقاح: جمع لقحة، وهي الحلوب من الإبل، ومن عادة العرب أن لا يركبوا اللقاح، ولا يفرقوا بينها وبين أولادها، والمراد ها هنا بيان حرصهم على الجهاد، وسرعة إجابتهم للداعي إليه، وإنهم لعظم حاله يخالفون العرب، ويولهون اللقاح بأولادها، ويفرقونها استعظاماً لأمره.
(وسلبوا السيوف أغمادها): شوقاً إلى الجهاد، فلم يراعوا سلَّها عند الحاجة إليها، والغمد هو: قراب السيف.
(وأخذوا بأطراف الأرض): قعدوا بها، وتمكنوا في مواضعها.
(زحفاً زحفاً): أي يزحفون زحفاً، والزحف: الإقبال إلى العدو بالقتال له.
(وصفاً صفاً): أي متلاصقين في قتالهم صفاً بعد صف، وتكرير المصدر على جهة التأكيد، كما قال تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}[الفجر:21-22] وانتصابه على الحال.
(بعض هلك): قتلاً جهاداً في سبيل الله، وإعزازاً لكلمته.
(وبعض نجا): تأخر أجله.
(لا يبشرون بالأحياء): أي لا تلحقهم بشارة، ولا يسترون بحياة من حيي منهم.
(ولا يعزّون عن الموتى): ولا يلحقهم غم بموت من مات منهم، وأراد أنهم جادون في رضاء الله تعالى، مقبلون علىشأنهم من ذلك، لا يعرجون على شيء سواه.
(مُره العيون من البكاء): مرهت عينه إذا تغيرت من ترك الاكتحال، وفي الحديث: ((إن الله يبغض المرأة المرهاء )) وهي التي لا تكتحل في عينها.
(خمص البطون من الصيام): أراد أن الصيام هو الذي أخمص بطونهم لكثرته، والإخماص: ضمور البطون ، وسمي باطن كف الرجل أخمص لرقته وضموره.
(ذبل الشفاه من الدعاء): أراد أنها دقت من كثرة الدعاء، ومنه الذُّبالة لدقتها وضمورها، وفرس ذبل إذا أضمر.
(صفر الألوان من السهر): من أجل قيام الليل، فلا ينامون فيه، فألوانهم صفر من السهر، يُرى:
(على وجوههم غَبَرة الخاشعين): أي أنهم ليسوا من الزينة في شيء لنسيانهم ذلك، وإقبالهم على الآخرة، كما ورد في الحديث: ((رب أشعث ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره )) .
(أولئك إخواني): الإشارة إلى من وصف حالهم من قبل، الذين هم إخوان في الله تعالى.
(الذاهبون): إلى الله تعالى بالموت، أو الذاهبون إلى الجنة.
(فحق لنا أن نظمأ إليهم): إلى رؤيتهم، والظمأ ها هنا استعارة كما يقال: أحياني اكتحالي بطلعتك.
(ونعضَّ الأيدي على فراقهم): عضُّ اليد كناية عن كثرة الأسف، يقال: فلان يعض على أنامله، كما قال تعالى: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ }[آل عمران:119].
(إن الشيطان يسنِّي طرقه): أي يسهل مسالكه لتكون موطأة لمن يسلكها .
(ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة): بالمكر والخديعة، حتى يأتي على قواعد الدين، واحدة واحدة.
(ويعطيكم): من أعطاه كذا إذا منحه إياه.
(بالجماعة الفرقة): أي لا يزال مجتهداً في تشتيت شملكم بعد اجتماعه.
(وبالفرقة الفتنة): وبعد حصول الفرقة، حصول الفتنة لا محالة.
(فاصدفوا): صدف عن كذا إذا كان منصرفاً عنه، قال الله تعالى: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا }[الأنعام:157].
(عن نزغاته): نزغ الشيطان ينزغ نزوغاً، إذا دخل بالفساد، وأراد انصرفوا عن مداخله، التي يدخل بها لإفساد أحوالكم.
(ونفثاته): وساوسه التي ينفثها في النفوس، وتصغي لها الآذان، والنفثة هي: فوق النفخة ودون التفلة.
(واقبلوا النصيحة): أشعروا نفوسكم قبولها.
(ممن أهداها إليكم): إما أن يكون ذلك عاماً، وإما أن يشير به إلى نفسه في سماع مواعظه.
(واعقلوها على أنفسكم): من قولهم: عقل بعيره إذا حبسه، وسمي العقل عقلاً؛ لأنه يحبس عن فعل المقبحات.
(115) ومن كلام له عليه السلام
قاله للخوارج بعد خروجه إلى معسكرهم، وهم مقيمون على إنكار الحكومة فقال لهم:
(أكلكم شهد معنا صفين؟)
فقالوا له: منَّا من شهد، ومنَّا من لم يشهد.
فقال لهم: (فامتازوا فرقتين، فليكن من شهد معنا صفين فرقة، ومن لم يشهد فرقة حتى أكلّم كلاً بكلامه) يعني الذي يخصه ويكون قاطعاً لحجته.
ونادى الناس، فقال:
(أمسكوا عن الكلام، وأنصتوا لقولي): أنصت إذا لم ينطق ولا يتكلم، كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا }[الأعراف:204]، (لقولي) من أجل سماع قولي.
(وأقبلوا): من قولهم: أقبل عليَّ بالحديث، وأقبل عليه بالاستماع، قال الله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ }[الصافات:27].
(بأفئدتكم إليَّ): بتفريغها عن كل ما يشغل، ليكون ذلك أقرب إلى السماع، وأسرع للتفطن للكلام.
(فمن نشدناه شهادة): نشده إذا قال له: نشدتك بالله، أي سألتك كأنك ذكَّرته الله فنشد أي تذكَّر.
(فليقل بعلمه فيها): ولا يكتم شيئاً يعلمه، ولايقول شيئاً هو كاذب فيه.
ثم كلمهم بكلام طويل، ووبخهم توبيخاً كثيراً، ثم قال مبكتاً لهم ومقرعاً في مخالفتهم وعصيانهم لرأيه:
(ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف): وجعلوها على أسنة الرماح.
(حيلة): من جهة عمرو بن العاص.
(وغيلة): غاله إذا ختله.
(ومكراً): منهم بإظهار ذلك، وغرضهم خلافه.
(وخديعة): والمخادعة: هي أن تري صاحبك شيئاً وغرضك خلافه، والمكر والخديعة متقاربان، ثم قلتم مع هذا.
(إخواننا): أي هؤلاء إخواننا في الدين.
(وأهل دعوتنا): أي والذين نجتمع نحن وهم على دعوة الإسلام، والانحياز إلى كلمة التوحيد.
(استقالوا ): طلبوا منا الإقالة والرجوع عن بغيهم وعنادهم.
(واستروحوا إلى كتاب الله): استروحت إلى كذا، إذا كنت مائلاً إليه.
(فالرأي القبول منهم): ما بذلوه من جهة أنفسهم.
(والتنفيس عنهم؟): ما هم عليه من الضنك بالقتال والمحاربة، فهذا كله حكاية منه لكلامهم.
(فقلت لكم: هذا أمر): أي ما فعلوه من ذلك.
(ظاهره إيمان): لما فيه من الإظهار لانقيادهم للحق، والتحكم لأهله.
(وباطنه عدوان): لاشتماله على المكر والخديعة.
(وأوله رحمة): إما رحمة لهم عن القتل بالسيف، وإما رحمة لهم من أجل ما بذلوه من الرجوع إلى الحق.
(وآخره ندامة): عن إفلات الفرصة بعد إسعافها في قتلهم لما تبين حال مكرهم وخدعهم في ذلك.
(فأقيموا علىشأنكم): في الحرب وقتالهم.
(والزموا طريقتكم): في جهادهم، وقطع دابرهم.
(وعضوا على الجهاد بنواجذكم): جعل هذا كناية عن إحداث الصبر على القتال، والتجلد له، وقد قررنا تفسير الناجذ في كلام غيرهذا متقدم.
(ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق): النعق هو: الصوت الذي لايفهم، وإنما يكون للبهائم، يقال: نعق بغنمه إذا صاح لها.
(إن أجيب ضل ): مجيبه عن الصواب بإجابته لنعيقه، ومجانبته للحق، وانحيازه إلى الباطل.
(وإن ترك ذل ): بترك الإجابة له، لأنه يكون إذ ذاك قليل العدد فلا يكون لنعيقه وقع بحال.
(فلقد كنّا مع رسول الله[صلى الله عليه وآله ]): على الجهاد، وقتال أعداء الدين من أهل الشرك وسائر الكفار.
(وإن القتل ليدور بين الآباء، والأبناء، والإخوان، والقرابات): أي أن الواحد منَّا ربما اضطره القتال إلى ملاقاة أخيه، أو عمه، أو خاله، أو غير ذلك من سائر الأقارب والأرحام.
(فلا نزداد على كل مصيبة وشدة): مما يصيبنا من ذلك ومن غيره من الشدائد.
(إلا إيماناً): تصديقاً بالله وبرسوله.
(ومضياً على الحق): في الجهاد على الدين، وعلى التوحيد لله تعالى، وإخلاص العبادة له دون غيره.
(وتسليماً للأمر): ما قضاه الله تعالى، وقدَّره فينا من القتل وغيره.
(وصبراً على مضض الجراح): ألمه وتعبه.
سؤال؛ أي شيء يريد بهذا الكلام، وما وجه اتصاله بما قبله، حتى أورده على إثره؟
وجوابه؛ هو أنه لما حكى فتنتهم برفع المصاحف، ومخالفتهم لرأيه في قتالهم، ورحمتهم لهم عن القتل عقَّب ذلك بذكر أحوالهم مع الرسول تعريضاً بهم، وإبطالاً لما زعموه من الرحمة، ويذكر أن الواحد منهم في زمن الرسول كان يقتل أباه وابنه، لا رحمة منهم هناك لمن ذكرناه، ويذكرصبرهم على الجهاد، ويؤسيهم بما كان ممن هو أفضل من الصبر والبلوى على أعظم ما هم فيه وأكثر، فليس حالكم اليوم مشبه بحال من سلف.
(ولكنَّا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام): وإنما سماهم إخوة مع كونهم فسَّاقاً بالبغي توسعاً ومجازاً، كما سمَّى الله قوم صالح، وقوم شعيب إخوة له، مع كونهم كفاراً، كما قال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا }[الأعراف:73] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا }[الأعراف:85].
(على ما دخلوا فيه من الزيغ والاعوجاج): فالزيغ عن الدين، والاعوجاج عن مسلك الحق.
(والشبهة): في أمر التحكيم.
(والتأويل): يريد خطأهم فيه إنما كان من أجل التأويل.
(فإذا طمعنا في خصلة يلمُّ الله بها شعثنا): أي ما تفرق منَّا، يقال: لمّ الله شعثه إذا أصلح أمره.
(ونتدانى بها): أي يقرب بعضنا من بعض بالألفة والمحبة.
(إلى البقية): فنبقي عليهم، ويبقوا علينا،وأراد التصاون عن القتل وإهدار الدماء.
(فيما بيننا): في الأمر الذي نتجاذبه، ويكون سبباً للاختلاف.
(رغبنا فيها وأمسكنا عمَّا سواها!): من المحاربة والقتل وسفك الدماء.
واعلم: أنه في آخر الأمر قد رضي بالتحكيم دون ما كان منه في أوله؛ وذلك لأنه لما كان من الفشل والاختلاف، والتنازع العظيم، والشجار الطويل، فيما بين العسكر عند رفع المصاحف من أهل الشام فعند ذلك لم يخلُ الحالُ من أحد وجهين:
إما ترك التحكيم، والإصرار على المقاتلة، والانصراف من غير تحكيم، فهذا يعظم ضرره في الدين لما يبدو في ظاهره من مخالفة كتاب الله وهم يدعون إليه.
وإما التحكيم وهوأهون ضرراً لما يرجى فيه من عود الأمر إلى الصلاح، فمن أجل هذا رضي أميرالمؤمنين بالتحكيم، وكلامه ها هنا يشير إلى مصلحته وصوابه، لما أشار إليه من كونه لاماً للشَّعَثِ، وفيه تسكين الدهماء وحقن الدماء، وتقرير لقواعد الألفة والمداناة كما صرَّح به ها هنا، فمن أجل ذلك رضي به من الوجه الذي ذكرنا .
(116) ومن كلام له عليه السلام قاله لأصحابه في وقت الحرب
(وأي امرئ منكم أحسَّ من نفسه): علم من حاله، وتحقق من أمره:
(رباطة جأش): شدة قلب يقال: فلان رابط الجأش وربيط الجأش إذا كان شجاعاً شديداً قلبه، وجيش القلب هو: جزعه واضطرابه عند الفزع، ومنه قولهم: جاش الوادي إذا زخر، وكأن الشجاع يربط قلبه ويمنعه عن الفشل والإزعاج به.
(عند اللقاء): وهو الحرب، قال حسان:
ونشوبُها فتتركنا ملوكاً
وأسداً لا يُنَهْنِهُنَا اللقاءُ
(ورأى من أحد من إخوانه): أهل دينه.
(فشلاً): جبناً وخوراً.
(فليذبب عن أخيه): أي يدفع عنه الشر.
(بفضل نجدته): شجاعته وقوته.
(التي فضِّل بها عليه): فضَّله الله بأن جعلها فيه، وفي الحديث: ((إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل الحية )).
(كما يذبُّ عن نفسه): فكما وجب دفع الضرر عن نفسه عقلاً وشرعاً، فهكذا يجب دفع الضرر عن سائر المسلمين شرعاً على جهة الكفاية والسعة، وليجعل ذلك شكراً لنعمة الله تعالى عليه كما فضّله بما جعل فيه من النجدة والبسالة.
(فلو شاء الله لجعله مثله): فكان مستغنياً عنه، ولكن الله بلطف حكمته عرَّضه للتكليف بالذبِّ عنه.
(إن الموت طالب حثيث): مسرع في طلبه للأحياء في استلاب أرواحهم.
(لايفوته المقيم): يذهب عنه لأجل إقامته.
(ولا يعجزه الهارب): لأجل هربه.
(إن أكرم الموت القتل): يشير إلى أمرين:
أما أولاً: فإنما كان كريماً لما رفع الله من مراتب الشهداء، وعظّم من حالهم وأكرمهم بالقتل في سبيله، وخصهم بمصاحبة الأنبياء، حيث قال تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ }[الزمر:69].
وأما ثانياً: فلما في القتل من السهولة وخفة الحال في خروج النفس؛ وذلك لأن الأرواح طائشة والنفوس فشلة عند الحرب، فلايحس المقتول بخروج نفسه كما يحسها إذا كان على فراشه.
(والذي نفس ابن أبي طالب بيده؛ لألف ضربة بالسيف أهون من ميتة على الفراش[في غير طاعة الله ]): لما في ذلك من شد ة السرعة بإزهاق الروح وخروجها.
سؤال؛ فإذا كان خروج النفس بالقتل أسهل، فما بال هذا الفضل للشهداء، والثواب على قدر المشقة بالتكليف؟
وجوابه؛ هو أن من يموت على فراشه، فإنه إنما يأتيه الموت كرهاً وهو لا يريده، وهؤلاء الشهداء قد تحققوا الموت عياناً، ثم اقتحموا موارده، وأسرعوا إليه إسراعاً، يمشون مشياً سجحاً، وسعياً قد وطنوا نفوسهم عليه، ووضعوا بين أعينهم مصارع جنوبهم؛ فلأجل ذلك علت درجتهم، ولأمر ما يُسوّد من يسود.
(وكأني أنظر إليكم): استئناف خطاب لأصحابه في حضهم على القتال.
(تكشون كشيش الضبِّاب): الكشيش للأفاعي والضباب وسائر الحرشات إنما هو صوت جلودها، وليس ذلك من أفواهها، والضب: حيوان يسكن الخبوت وحيث يكون إعواز الماء وفقده، وأراد بذلك الجبن والتأخر عن القتال جزعاً وفشلاً.
(لاتأخذون حقاً): إما حقاً لله تعالى وهو إعزاز دينه، وإما حقاً قد أخذ لكم فلا تنتصرون على استرجاعه.
(ولا تمنعون ضيماً): إما ظلم من ظلمكم فلاتنتصرون منه، وإما ظلم أحد من الضعفاء فلا تقدرون على الدفع عنه.
(قد خلِّيتم والطريق): الواو ها هنا واو مع، والطريق منصوب بالفعل الأول بوساطتها، كما تقول: خلِّ زيداً ورأيه أي مع رأيه، وأراد أنه لا حائل بينكم وبين سكوكها .
(فالنجاة للمقيم): فالسلامة حاصلة لمن أقام عليها ولم يتنكب عنها.
(والهلكة للمتلِّوم): التلوم هو: الانتظار والمكث، أي والهلاك لمن تأخر ومكث عن سكوكها ، وليفكرالناظر، في قوله: (قد خلّيتم والطريق.....) إلى آخر كلامه مع قصره وتقارب أطرافه، فجرى مجرى الأمثال ، ولقد أوجز فأعجز، واستولى مع بلاغته ورشيق فصاحته على معاني يقصر عنها الحد، ويذهب عنها الحصر والعد، وهذا النوع من أنواع البديع يسمى المبالغة، وهو بلوغ الشاعر أوالمتكلم أقصى المراد، وغاية الإمكان في كلامه، ونظيره من القرآن قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل }[الأنعام:102]، وقوله تعالى: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ }[سبأ:3]، وكقول عمرو بن الأهتم :
ونكرمُ جارنَا ما دام فينا
ونتبعُهُ الكرامةَ حيثُ كانا
ثم عرَّفهم مصالح الحرب ، بقوله:
(قدِّموا الدارع): اللابس للدرع إذا كان معه ما يتقي به من السهام والرماح، فهو أحق بالتقدم للقتال.
(وأخرِّوا الحاسر): الذي لا مغفر له ولا درع، فهو أحق بالتأخرمن حيث كان يقاتل، ولا يصيبه شيء لوقاية الدارع له عن ذلك.
(وعضُّوا على الأضراس): [و]العض عليها [هو] : إيقاع بعضها على بعض.
(فإنه أنبى): نبا ينبو إذا كان مرتفعاً.
(للسيوف عن الهام): عن الرؤوس، وإنما قال ذلك؛ لأنه إذا اشتد الضرب بالسيف كان أقرب إلى ارتفاع السيوف عن الهامات، كيلا تعض عليها وتلزمها.
(والتووا في أطراف الرماح): فيه وجهان:
أما أولاً: فأراد انعطفوا فيها، وميَّلوا قدودكم عليها.
وأما ثانياً: فلعله أراد الطعن بها مقبلاً ومدبراً.
(فإنه أمْور للأسنة): الضمير للالتواء، والمور: المجيء والذهاب، وأراد أنه أمضى لشباها وأعظم لدخولها ومجاوزة نصالها.
(وغضوا الأبصار): احفظوها عن تطاولها.
(فإنها أربط للجأش): ربط الجأش هو: الشدة، عن أن يذهب بالفشلْ والإزعاج.
(وأسكن للقلوب): عن الفشل الذي يكون سبباً للفرار.
(وأميتوا الأصوات): أذهبوها عنكم.
(فإنه أصدد للفشل): الضمير للموت، وإنما كان الأمر كما قال لأن مع السكون تحصل المكيدة في الحرب بفكر وتأمل، ومع كثرة الأصوات يذهب أكثر ذلك ويعظم الخجل.
(ورايتكم): الراية هي: العَلَمُ، ولقد كان له عليه السلام رايات كثيرة في صفين، مع كل أمير من أمرائه راية على انفراده.
(فلا تميلوها): من جانب إلى جانب، فإنه أمارة للاضطراب وقلة الثبات ومع ذلك يوشك الانكسار.
(ولا تخلوها): تسلموها وتذهبوا عنها فتكون منفردة، فيطمع فيكم العدو.
(ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم): كثيري الشجاعة المعروفين بها.
(والمانعين للذِّمِار منكم): والذين يمنعون ذمارهم، والذمار: ما وراء الرجل من حريمه وماله مما يحق عليه أن يحميه بنفسه، ليكون ذلك أقرب إلى استقامة الأحوال.
(فإن الصابرين على نزول الحقائق): أراد فإن الذين من عادتهم الاصطبار عند حصول الشدائد، ووقوعها من الأمور.
(هم الذين يحفُون راياتهم ): أي يكونون حولها.
(ويكتنفون حفافيها ): كنفه واكتنفه إذا استولىعليه، والحفافان : الجانبان من عن يمينها وشمالها.
(ووراءها وقدامها ): أي ومن خلفها وأمامها، لا يتركون منها جانباً إلا أحاطوا به وكانوا فيه.
(لا يتأخرون عنها): وتكون متقدمة عليهم.
(فيسلموها): فيكون ذلك إسلاماً لها إلى الأعداء فيأخذونها.
(ولا يتقدمون عليها): وتكون متأخرة عنهم.
(فيفردوها): فتكون منفردة عن المقاتلة والأبطال، فيطمع بها العدو بالأخذ والا ستيلاء، وقوله: (فيسلموها، ويفردوها) منصوبان جواباً للنفي قبله كقولك: ما قمت فأقوم.
(أجزأ امرؤ قِرْنَه): القِرن بالكسر هو: الكفؤ في الشجاعة، وأجزأ أي كفى، وهوخبر في معنى الأمر، وأراد ليجزي كل أحد من كان كفواً له في شجاعته.
(وآسى أخاه بنفسه): المواساة: المعاونة في الأمر، أي وليواسِ أحدكم أخاه بنفسه، وليعاونه في القتال.
(ولم يكل قرنه إلى أخيه): وكلت أمري إلى فلان إذا كنت معتمداً عليه، أراد وليكن مقاوماً لقرنه وشاغلاً له، ولا يعتمد على أخيه في دفع قرن نفسه ويضعف عنه، (فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه): لأنه إذا لم يفعل ذلك وضعف عن قتال قرنه اجتمع على أخيه قرنان قرن نفسه وقرن أخيه، الذي عجز عن مقاومته فيصير لامحالة مغلوباً لاجتماعهما عليه.
سؤال؛ الواجب في الجهاد أن الواحد يقاوم اثنين من الكفار والفساق، كما قال تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ }[الأنفال:66] فكيف قال: أجزأ امرؤ قرنه؟
وجوابه؛ ليس غرضه بيان المقدار الواجب فيلزم ما قلته، وإنما ذكر المناصفة والمواساة في الحرب والمعاونة، وذلك إنما يحصل بما ذكره دون غيره.
(وايم الله): جمع يمين وهي تستعمل في القسم كثيراً، وارتفاعها على الابتداء، وخبره محذوف أي قسمي.
(لئن فررتم من سيف العاجلة): أي من قتل الدنيا بأيدي البغاة لأجل فراركم منه ونكوصكم على أعقابكم من أجلهم.
(لا تسلموا من سيف الآخرة): عقوبة الآخرة، وإنما جعل عقوبة الآخرة بالسيف توسعاً ومقابلة لما كان في الدنيا، كما قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }[البقرة:194] فسمى الجزاء عدواناً لما كان مقابلاً له، وهو حسن لأنه يكون انتصافاً، والجزاء من لا تسلموا لأنه جواب الشرط، وكان الأفصح إثبات النون؛ لأن اللام في قوله: لئن فررتم، هي الموطئة للقسم والممهدة لأمره، وصارفة للجواب إليه، كما قال تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ}[الحشر:12] فانظر إلى هذه الأشياء الثلاثة جعل الجواب للقسم دون الشرط، فهذا هو الأفصح وخلافه جائز، كما قاله أمير المؤمنين في كلامه.
(أنتم لهاميم العرب): أجواد الناس وأفاضلهم وساداتهم.
(والسنام الأعظم): السنام من كل شيء أعلاه وأرفعه.
(إن في الفرار موجدة الله): وجد فلان على صاحبه في قلبه موجدة ووجداناً، إذا غضب عليه قال:
كِلانا ردَّ صاحبَهُ بِغَيْظٍ
على حَنَقٍ ووجدانٍ شَدِيْدِ
وأراد ها هنا غضب الله تعالى وسخطه الشديدان، وفي الحديث أنه عليه السلام كان يقول إذا تأخرعنه بعض أصحابه: (( فلان يَجِدُ في قلبه مَوْجِدة علينا ، قوموا بنا إليه)) .
(والذل اللازم): لصاحبه في الدنيا بالعار وفي الآخرة بالنار.
(والعار الباقي): عليه وعلى عقبه، والعار: السُّبة والعيب، والمعاير: المعايب.
(وإن الفار لغير مزيد في عمره): يريد أن الآجال مقدرة، فمن يفرُّ وقد حضر أجله لا ينفعه فراره.
(ولا محجوز بينه وبين يومه): ولا ممنوع من يومه الذي قدره الله له وقضاه عليه.
(مَن رائحُ إلى الله): سمى جهاد هؤلاء البغاة رواحاً إلى الله تعالى أي إلى جنته ورضوانه.
(كالظمآن يرد الماء!؟): وجه التشبيه حاصل لأمرين:
أما أولاً: فلمكان ما يحصل من انشراح الصدر، والطمأنينة بالجهاد، ويرد اليقين كما يحصل لمن يشرب الماء على ظمأ وعطش.
وأما ثانياً: فلأجل ما يحصل للمجاهد من الراحة بالفوز بالجنة، كما يحصل لشارب الماء على ظمأ من الراحة، وهذا من التشبيهات الرائقة، وكيف ما كان التشبيه أغرب فالبلاغة به أتم وأعجب.
ومن بديع التشبيه قوله:
والشمسُ مُعْرِضَةٌ تَمورُ كأنَّها
ترْسٌ يُقلّبُهُ كميٌّ رامحُ
وقول آخر:
إذا ما الثريَّا في السماء كأنَّها
جمان وَهَى من سلكه فتبددا
(الجنة تحت أطراف العوالي): استعارة بديعة، والعوالي هي: الرماح، وأراد أن الجهاد موصل إلى الجنة، ومؤدٍّ إليها، فأدَّى هذا المعنى بهذه العبارة الحسنة، فلو قال: الجنة تجب لمن جاهد بالرماح، فقد عدل عن الاستعارة، وعزل البلاغة عن سلطانها، وعفى رسمها، وأزال معظم شأنها، وقد جاء مثل هذا عن الرسول صلى الله عليه وآله حيث قال: ((الجنة تحت ظلال السيوف ))) و((الجنة تحت أقدام الأمهات )) يشير به إلى ما ذكرناه من الاستعارة.
(اليوم تُبلى الأخبار): أي يمتحن أهل الأخبار، والأخبار: جمع خُبر بضم الفاء وهي الاسم من الاختبار ، يقال: لأخبرنَّ خبرك أي لأعلمنَّ علمك، ويقال أيضاً: صدق الْخُبْرُ الْخَبَرَ أي أصدق الكلام الفعل.
([والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم] اللَّهُمَّ، فإن ردوا الحق): الطاعة لله تعالى وامتثال أمري، وترك البغي عليَّ.
(فافضض جماعتهم): فرِّقهم، ومنه فضَّ القرطاس، وافتضاض البكر لأنه تفرق عذرتها، وكان عليه السلام كثيراً ما يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء بالانتصاف منهم، واللجأ إليه في هدايتهم، وهكذا يفعل المحق ومن كان على بصيرة من أمره وهداية من ربه، بخلاف حال معاوية فإنه مصرٌّ على بغيه لا يخطر بباله شيء من ذلك، وهيهات أين الذهب عن الرغام! وشتان ما بين الخف وذروة السنام،! ومتى رأينا معاوية مواظباً على خصال الدين،! ومريداً لجمع شأن كلمة المسلمين.!
(وشتت كلمتهم): فلا يجتمعون على رأي يكون فيه جمع لشملهم، أو تشتت كلمتهم فيحصل الفشل بكثرة التنازع.
(وأبسلهم بخطاياهم): الإبسال هو: الإسلام للهلكة، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا }[الأنعام:70].
قال الأحوص :
وإِبْسَالي بنيَّ بغيرِ جُرمٍ ... لغوناهُ ولا بِدَمٍ مُرَاق
أي وأسلمهم للنار بما اجترحوه من الذنوب والخطايا.
(إنهم لن يزولوا عن مواقفهم): إما عن أماكنهم في الحرب بغياً وعناداً، وإما عمَّا قد غلبوا عليه من البلاد وتمكنوا فيه، بأمر من الأمور التي يرجى إزالتهم بها.
(دون طعن دراك): إلا بطعن متدارك يتبع بعضه بعضاً، أو ذي دراك أي تتابع.
(يخرج منه النسيم): وهو روح الحياة الجاري في الحلق، لسعة الطعنة وانفتاحها ، ويروى النسم، وهو جمع نسمة وهي النفس.
(وضرب يفلق الهام): جمع هامة وهي: تدويرالرأس.
(ويطيح السواعد والأقدام ): أي يسقطها من شدة وقعه.
(حتى يرموا بالمناسر تتبعها المناسر): المنسر بالنون هو: القطعة من الخيل، وحتى ها هنا متعلقة بشيء محذوف، تقديره فلا يزال فعلكم بهم هذا الفعل من الطعن والضرب، حتى يرموا بالمناسر بالخيول تتبعها الخيول.
(ويرجموا بالكتائب): وهي: جماعة الخيل.
(تقفوها الحلائب): قفاه إذا تبعه أي تتبعها الجيوش.
(حتى يُجَرَّ ببلادهم الخميس): يمتد في بلادهم الجيش.
(يتلوه الخميس): أي يتبعه جيش آخر، وحتى هذه متعلقة بمحذوف تقديره أي لايزالون يفعلون بهم هذه الأفعال من الرمي بالمناسر، والرجم بالكتائب حتى تجر الجيوش في بلادهم استصغاراً، واستحقاراً بهم.
(وحتى تَدْعقَ الخيول في نواحر أرضهم): الدعق: الرمي بحوافر الخيل، والنواحر هي: المتقابلات من الأراضي، يقال: منازل بني فلان تتناحر أي تتقابل، والنواحر بالحاء المهملة.
(وبأعنان مساربهم): المسارب بالسين المهملة: المراعي، وبالشين بثلاث من أعلاها: العلالي، والأعنان جمع عنن وهو ما ظهر منها وكله صالح هاهنا، وسماعنا بالسين المهملة.
(ومسارحهم): التي يسرِّحون إليها أنعامهم.
(117) ومن كلام له [عليه السلام] يذكرفيه أمرالتحكيم وحاله
وقد تكرر ذكره في كلامه، وما ذاك إلا لأجل ما وقع فيه من الشبهة على أهل العراق من أصحابه، واتفق بسببه من الخدع والمكر من أهل الشام.
(إنَّا لم نحكِّم الرجال): خطاب لمن عاب عليه التحكيم، وأشد الناس غلواً فيه أقوام يقال لهم: أصحاب البرانس، حتى قال بعضهم: قد كفرت وكفرنا، وفارقوه من أجل ذلك، فقال معتذراً: (إنَّا لم نحكِّم الرجال) يشير إلى أن انخداع أبي موسى الأشعري، ومكر عمرو بن العاص به لايضرنا في الدين.
(وإنما حكَّمنا القرآن): حيث قالوا: بيننا وبينكم كتاب الله.
(وهذا القرآن): الذي حكَّمناه نحن وهم.
(إنما هو خط مسطور بين الدفتين): حروف وكلمات.
(لا ينطق بلسان): فيعبِّرعن نفسه، ولا يفتقر إلى غيره من الخلق كما ينطق من كان فصيحاً.
(ولابد له من تَرْجُمان): مفسِّر ومعبِّر، وتَرجمان فيه لغتان فتح الفاء وضمها للاتباع، قال الراجز:
وهنَّ تلفظن به ألفاظاً
كالتُّرْجُمان لُقِّيَ الأنباطا
ويقال: ترجم حديثه، إذا فسَّره بلسان آخر وهو عربي.
(وإنما ينطق عنه الرجال): العلماء به، المظهرون لأحكامه.
سؤال؛ كيف قال في أول كلامه: (إنَّا لم نحكِّم الرجال)، ثم قال بعد ذلك: (وإنما ينطق عنه الرجال) وهذا تحكيم الرجال، فقد ناقض كلامه؟
وجوابه؛ هو أن غرضه أنَّا لم نحكِّم الرجال الذي يحكمون من جهة أنفسهم، وإنما حكمنا الرجال الذين حكموا بما أنزل الله في كتابه، فالحكم في الحقيقة إنما هو بكتاب الله خلا أنهم نطقوا به، وعلى هذا يرتفع التناقض من كلامه.
(ولما دعانا القوم): بحمل المصاحف على رءوس الرماح يهتفون بتحكيم القرآن، ويقولون: هلموا:
(إلى أن يحكم بيننا القرآن): بأن نجعله حاكماً ونحتكم لما ورد فيه عن الله تعالى فأجبناهم إلى ما قالوا .
(ولم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله): فيكون اللوم علينا بالتولي عن حكم الله، ونكون كمن نبذه وراء ظهره وأعرض عن حكمه وأمره، وقد ندب الله إلى قبوله وأوجبه بقوله :
({فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ })[النساء:59]: مما شجر بينكم من أمر الدين.
({فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ })[النساء:59]: يفصلان أمره ويظهران الحكم فيه بما يكون فيه صلاح لأمركم وإرشاد لكم.
(فردُّه إلى الله أن نحكم بكتابه): لأن كلما كان في الكتاب فهو حكم الله علينا وأمره فينا.
(وردُّه إلى الرسول أن نأخذ بسنته): لأن كلما كان في السنة فهو حكم الرسول علينا، وهو في الحقيقة صادر عن أمر الله، لأنه عليه السلام لا ينطق عن الهوى، خلا أن الله تعالى علم أن المصلحة في الأحكام الجارية علينا، والمشروعة في حقنا، بعضها يكون متعلقه الكتاب، وبعضها يكون متعلقه السنة.
(فإذا حُكِمَ بالصدق في كتاب الله): ولم يتجاوز عنه إلى غيره، ولا غيِّرت أحكامه.
(فنحن أحق الناس به): باتباعه واقتفاء آثاره والعمل بها.
(وإن حُكِمَ بسنة رسول الله [صلى الله عليه وآله] ): ولم يكن هناك لها مخالفة ولا خديعة ولا مكر.
(فنحن أولاهم بها ): بالعمل بها، والاحتكام لأحكامها، فإذا كان الأمر هكذا فلأي وجه نقمتم عليَّ التحكيم والحال هذه، ومن تحقق كلامي هذا عذرني وصوَّب رأيي، مما أتيته من أمر التحكيم، فقد بطل ما قلتموه من إنكاره من أصله.
(وأما قولكم:لِمَ جعلتُ بينكم وبينهم أجلاً؟): وذلك لأنهم أنكروا عليه الأجل، فقال مبطلاً لشبهتهم هذه بقوله:
(فإنما فعلت ذلك): الإشارة إلى جعل الأجل في التحكيم ليكون فيها تأني وتنفس.
(ليتبين الجاهل): ما خفي عليه من الأمر.
(ويتثبت العالم): فيما يعلمه من مصلحة ذلك.
(ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة): التي وقع الكف فيها عن القتال منا ومنهم، والهدنة: الصلح؛ لأنه انعقد الحديث على ذلك أعني ترك القتال بهذه المدة المضروبة للتحكيم.
(أمر هذه الأمة): بالفيء والرجوع إلى الحق، وأرجو أن يجعل الله في ذلك بركة كما كان من الأمر في صلح الحديبية، فإنه لم يكن أعظم بركة على المسلمين منه لما كان فيه من النصر والظفر.
(ولا تؤخذ بأكظامها): مخارج أنفسها، وهو كناية عن ضيق النفس والانزعاج، أي وتكون في فسحة من أمرها.
(فتعجل عن تبين الحق): فتزل عنه بالإعجال.
(وتنقاد لأول الغي): تسابق الضلال والزلل عن الحق، والانقياد لأول الضلال إنما يكون سببه العجلة وترك التأني في الأمور كلها، فلهذ انقدحت المصلحة في ضرب الأجل في التحكيم، فقد بطل ماقلتموه من إنكار ذلك عليَّ وعيبه، فانظر إلى لطف هذه المخاطبة من جهته لهم، وإلى رفق هذه الملاطفة في مكالمتهم، كل ذلك يفعله تقريراً للحجة عليهم وإبطال ما عرض من الشبهة لهم.
(إنَّ أفضل الناس عند الله): أعلاهم عنده درجة، وأقربهم منه منزلة.
(من كان العمل بالحق أحب إليه): يريده ويهواه.
(وإن نقصه): في كل أحواله وأدخل عليه نقصاً.
(وكربه ): غمَّه غمّاً شديداً.
(من الباطل): أي هو أحب إليه من الباطل.
(وإن جر إليه فائدة): أوصلها إليه من مال أوغيره.
(وزاده): زيادة ظاهرة.
سؤال؛ ما وجه تعلق هذا الكلام بما قبله؟
وجوابه؛ هو أنه لما مهَّد عذره إليهم في أصل التحكيم وفي ضرب المدة فيه، وأجاب عن شبهتهم في ذلك، وحسم شغبهم بما قاله، أراد أن يقررعندهم موقع الحق فإنه يجب اتباعه وإن تعلقت به المكاره، وإن الباطل يجب اجتنابه وإن كان فيه أعظم المنافع، تحذيراً لهم عن مخالفته، حيث اعتزلوا معسكره وحثا لهم على وجوب اتباعه وامتثال أوامره .
(فأين يتاه بكم!): من أين وقعت الحيرة لكم في أمركم، مع ظهورالأمر فيما قلته وإقامة الحجة عليه .
(ومن أين أتُيتم!): في مخالفتي وترك متابعتي ، فهذا تمهيد عذره عند من أنكر عليه هذا التحكيم من أصحاب البرانس.
(فاستعدوا): يخاطب أصحابه غير هؤلاء.
(المسير إلىقوم): يشير إلى قلَّتهم وحقارة أمرهم.
(حيارىعن الحق): قد لبس الشيطان عليهم أمرهم، فلايدرون أي طريق يسلكون فهم عمي.
(لايبصرونه): فيتبعوه.
(وموزعين بالجور): أوزعته بالشيء إذا أغريته به، قال النابغة:
فهاب ضمران منه حيثُ يُوْزِعُه
طعنُ المعارك عند الْمُحْجِرِ النّجِد
وأراد أنهم مغرون بالجور.
(لا يعدلون عنه ): لكثرة ولوعهم به، وغلبته عليهم.
(جفاة عن الكتاب): مرتفعة قلوبهم عن إتقان أحكامه، وحفظ علومه، أخذاً له من قولهم: جفا السرج على ظهرالفرس إذا كان مرتفعاً عنه.
(نُكُبٌ عن الطريق): جمع أنكب، وهو: الذي يعدل عن الطريق، وأراد بذلك مخالفتهم للدين.
(ما أنتم بوثيقة يعلق بها): الوثيقة: ما يمسك به من حبل أوغيره، ويقال: فلان أخذ بالوثيقة من أمره أي بالثقة، أي ما أنتم أهل لأن يعتمد عليكم، ولا أن تكونوا متمسكاً لمن يستمسك بكم في أموره.
(ولا زوافر يعتصم إليها): زافرة الرجل: أنصاره وعشيرته، وإنما عدى الاعتصام بإلى لما كان على معنى الالتجاء، وقياسه التعدية بالباء، كما قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ }[آل عمران:103] {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ}[آل عمران:101] وكثيراً ما يقع التعويل على المعاني، قال الشاعر:
إذا تغنَّى الحمامُ الوَرْقُ هَيَّجَني
ولو يعزين عنها أمَّ عمَّار
فلما كان هيجني في معنى ذكَّرني نصب به أم عمار.
(لبئس حُشاش نار الحرب أنتم): الحش: الإيقاد، يقال: حششت النار أحشها حشاً إذا أوقدتها، ويقال: نعم محش الكتيبة أنت، وفي الحديث: ((ويلمِّه محش حرب لو كان معه رجال )) في قصة أبي بصير لما أسلمه إلى قريش، ورده إليهم ، واللام في لبئس هي المحققة لما بعدها، وسماعنا فيه بضم الحاء، وأراد بئسما ما تسعَّر به نيران الحرب أنتم، استعارة لجبنهم وخورهم.
(أفٍّ لكم!): اسم من أسماء الأفعال يفيد التسخر من الشيء، وفيه لغات كثيرة، قال الله تعالى: {أُفّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }[الأنبياء:67] موضوع للخبر أي أتسخر من ذلك، يقال : أفٍّ بالفتح والكسر والضم فهذه ثلاث، ويلحقه التنوين بالحركات الثلاث فهذه ست، وأفَّة وتُفَّة، وأفَّا بالألف، وتُفَّا.
(لقد لقيت منكم برحاً ): أي شدة، ويقال: لقيت منه برحاً بارحاً أي شدة عظيمة.
(نُوَّماً أناديكم): بمنزلة من يكون نائماً فأوقظه عن نومه .
(وَنُوَّماً أناجيكم): بمنزلة من لا لُبَّ له فأفهِّمه، وأراد أنه غير مقصِّر في علاجهم بالقرب والبعد، والسر والجهر، والليل والنهار.
(فلا أحرار صدق عند النداء): فتجيبون النداء وترتاحون عنده، كما يفعله الأحرار أهل الأنفة والحمية .
(ولا إخوان ثقة عند اللقاء! ): أي ولايوثق بهم عند الحرب، وملاقاة الأبطال، وأراد بهذا الكلام إما أصحاب البرانس من الخوارج، وإما أهل الشام من أصحاب معاوية، فكل واحد من هذين الفريقين قد وضع السيف فيه.
ثم التفت إلى تقريع الخوارج وتوبيخهم على فعلهم بقوله:
(فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت): اعلم أنهم لما افتتنوا بسبب الحكم ونكصوا على أعقابهم، أبلغ أمير المؤمنين الإعذار إليهم ولاطفهم في الخطاب نهاية الملاطفة، وأمر إليهم ابن عباس بالنصيحة، والارعواء عما هم فيه، وكالمهم مرة بعد مرة لئلا يهريق دماءهم إلابعد الإبلاغ فقال ها هنا: فإن كرهتم متابعتي والانقياد لأمري، وقلتم: إني قد أخطأت الحق في التحكيم، وضللت عن الطريق الواضحة فجرم ذلك عليّ وأنا المأخوذ به.
(فَلِمَ تضللون عامة أمة محمد صلى الله عليه وآله بضلالي): {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا }[الأنعام:164].
(وتأخذونهم بخطئي): {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }[الأنعام:164].
(وتكفرونهم بذنوبي): حيث قالوا: قد كفرت وكفرنا.
(وسيوفكم على عواتقكم): تعتر ضون الناس بالسيف، ولا تكفون عن ذلك.
(تضعونها في البراة والسقم): أراد في ذي البراة وذي السقم، ولكنه بالغ في كلامه حتى جعله نفس ذلك الشيء، كماقالوا: رجل لوم ورجل رضى، جرياً على عادتهم في أساليب البلاغة وفنونها.
(وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب): حيث قتلوا الأ طفال فضلاًعن البالغين، وأباحوا دار الإسلام.
(وقد علمتم أن رسول الله [صلى الله عليه وآله] رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه ثم ورَّثه أهله ): أراد أن يعلمهم أن الإكفار ، إنما يكون بدلالة قائمة وحجة واضحة، وأن مجرد الخطأ لو قدَّرنا وقوعه لايكون إكفاراً كما توهموه، فإن من جملة جهالاتهم اعتقادهم أن كل معصية كفر، والمعاصي على أوجه ثلاثة: كفرية كالشرك بالله وعبادة الأوثان، وفسقية كالزنا، ومعاصي لا يعلم حالها في كونها كفراً ولا فسقاً، وكل واحد من هذه له أحكام مخصوصة تخالف الآخر، فهذا ماعزٌ رجمه رسول الله لما زنى وكان محصناً، وصلَّى عليه وورثه أهله، ولو كان كافراً كما زعمتم لما كان ذلك ، كما فعل ذلك في سائر الكفار في ترك الصلاة، وعدم الميراث، فكيف تزعمون أن كل معصية تكون كفراً.
(وقطع يد السارق): في قصة المجن لما نزلت آية السرقة .
(وجلدالزاني غير المحصن): لما نزلت آية الجلد .
(ثم قسم عليهما من الفيء): نصيبهما لما كانا من جملة المجاهدين .
(ونكحا المسلمات): يريد أن التناكح كان مشروعاً بين مرتكبي الكبائر، وبين سائر المسلمين.
(فأخذهم رسول الله [صلى الله عليه وآله] بذنوبهم): من غير زيادة على ذلك.
(وأقام حق الله عليهم): وهو إقامة هذه الحدود المشروعة عليهم.
(ولم يمنعهم سهمهم من فيء الإسلام): وهومالم يوجف عليه بخيل ولاركاب فهو فيء، ونصيبهم حاصل فيه كما كان ذلك لغير هم من المسلمين.
(ولم يخرج أسماءهم من بين أهله): يعني أنه لايقال لهم: كفار، ولا يقال: إنهم مشركون، ولا تجري عليهم سائر الألقاب الدالة على الكفر، فهذه الأمور كلها دالة على بطلان مقالتكم، في أن من ارتكب معصية من هذه المعاصي سواء علم كونها فسقاً أولم يعلم أنه يكون كافراً، و يحكم عليه بأحكام الكفار، وتطلق عليه أسماؤهم كما زعموه.
(ثم أنتم شرار الناس): أدخل الناس في الشر، وأعظمهم تلبساً به.
(ومن رمى به الشيطان مراميه): إما صرتم مراميه التي يرمي بها فيصيب لا يخطئ ، وإماصرتم أغراضه التي يسدد إليها سهامه، وأراد المبالغة في استحواذ الشيطان عليهم، واستيلائه على أفئدتهم بالإغواء.
(وضرب به تيهه): أي وأنتم الذين تاه بكم، وضرب بقلوبكم كل جهة ولعب بها كل ملعب في الحيرة والزلل.
(وسيهلك فيّ): في أمري وشأني.
(صنفان): فريقان من الناس، وفي الحديث: ((يهلك فيك ياعلي اثنان: محبٌّ غالٍ، ومبغضٌّ قالٍ )) .
(محبٌّ مفرط): أدَّاه إفراط محبته إلى اعتقاده الربوبية، كما حكي عن بعض الغلاة كما كان ذلك في حق عيسى بن مريم .
(يذهب به الحبُّ إلى غير الحق): من اعتقاد الإلهية.
(ومبغض مفرط): أدَّاه إفراط بغضه إلى الكفربالله ونسبته إليه.
(يذهب به البغض إلى غير الحق): مثل هؤلاء فإنهم أفرطوا في بغضي حتى نسبوني إلى الكفر بالله جهلاً وضلالاً.
(وخير الناس فيّ حالاً): وأعدل الناس في أمري:
(النمط الأوسط): النمط: جماعة الناس الذين أمرهم واحد، وفي الحديث: ((خير هذه الأمة النمط الأوسط، يلحق بهم التال ي، ويرجع إليهم الغالي)) .
(فالزموه): أي خذوا حكمه وكونوا عليه، و[هو] إعطائي ما أستحقه من غير زيادة، فيكون ذلك غلواً، ولا نقصان منه فيكون تقصيراً في حقي.
(والزموا السواد الأعظم): أراد العدد الكثير، وهو: ما أجمعت عليه الأمة، واتفقت عليه الآراء من جهتهم، فإن ذلك يكون فيه السلامة.
(فإن يد الله على الجماعة): رحمته ولطفه واقع عليهم بالهداية والإعانة في أمرهم كله.
(وإياكم والفرقة): تحذير لهم عن التفرق في أمرالدين وافتراق الكلمة فيه ، وإيا منصوب بفعل مضمر، والفرقة عطف عليه، وتقديره احذروا نفوسكم واحذروا الفرقة.
(فإن الشاذ من الناس للشيطان): الخارج عن أمرهم ورأيهم بعد اتفاقهم عليه، يستولي عليه الشيطان ويكون من حزبه.
(كما أن الشاذة من الغنم للذئب): يستولي عليها بالأكل لانفرادها.
(ألا): حرف للتنبيه.
(من دعا إلى هذا الشعار): بكسر الفاء هو: العلامة، وأراد شعارهؤلاء الخوارج الذين اعتقدوا إباحة الدار وحل قتل الخلق.
(فاقتلوه): فذلك يكون حدّه وعقوبته على ما فعله.
(ولو كان تحت عمامتي هذه): يشير بذلك إلى نفسه، كما تقول لمن تذمه: أبعد الله حشو تلك الثياب.
(وإنما حُكِّم الحكمان): لا لغرض من الأغراض.
(إلا ليحييا ما أحيا القرآن): من الأحكام والسنن.
(ويميتا ما أماته القرآن): من البدع والضلالات.
(وإحياؤه الاجتماع عليه): منَّا ومن مخالفنا.
(وإماتته الافتراق عنه): فلا نأتيه ولا يأتوه اتباعاً لأمر الله وامتثالاً لحكمه.
(فإن جرّنا القرآن إليهم اتبعناهم): على ما قالوه وذهبوا إليه.
(وإن جرّهم القرآن إلينا اتبعونا): إلى ما قلناه وذهبنا إليه، وإنماقدَّم أمير المؤمنين ذكر اتباعه لهم على اتباعهم له جرياً على عادته في الملاطفة، واستمراراً على طريقته في المناصفة، مع أن اتباعه أحق، وتقديم ذكره أولى، ولله درُّه ما أسمح خلائقه وأوطئ أكنافه .
(فلم آت لا أباً لكم بُجراً): البُجر بضم الفاء هو: الشر، ويقال: الداهية أيضاً يقال: لا أب لك ولا أباً لك ولا أمر لك أيضاً، وأراد ذمهم ها هنا كأنه قال: لاراحم لكم ولا مشفق لكم كشفقة الأب.
(ولا ختلتكم عن أمركم): الختل: الخدع، أي لم أخدعكم عن أمر يكون لكم فيه صلاح.
(ولا لبسته عليكم): إما مخففاً من لبس الأمر إذا خلطه، ومنه قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ }[الأنعام:9] وإما مشدداً مبالغة في ذلك، ومصدرالأول لبساً، ومصدر الثاني تلبيساً، ولا فعلت أمراً ينقمه الله تعالى علي.
(وإنما اجتمع رأي ملئكم): خياركم والرؤساء منكم وأهل الرأي:
(على اختيار رجلين): حكَّمناهما في أمرنا هذا: عمرو، وأبو موسى.
(أخذنا عليهما): من قولهم: أخذت عليه ألا يخونني ، وأراد أنا أخذنا العهود والمواثيق وأمرناهما:
(أن لا يتعديا القرآن): يجاوزان أحكامه، ويعدلان عنه.
(فتاها عنه): أخذا في غير طريقه، وسلكا غير سبيله.
(وتركا الحق): وراء ظهورهما.
(وهما يبصرانه): أي أن عدولهما عنه ما كان عن تعمية ولا لبس جرى عليهما، وإنما كان زيغاً عن الحق، وصدّاً عن السبيل عمداً وقصداً، لا عذر لهما فيه.
(وكان الجور هواهما): عدولهما عن الحق وانصرافهما عنه.
(فمضيا عليه ): من غير تلوَّم ولا مراقبة لله تعالى، ولا خوفاً من وعيده ، وكأنهما لم يسمعا قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }[المائدة:44] وإلى قول الرسول عليه السلام: ((ملعون من خان مسلماً أو غرَّه )) فكيف حال إمام المسلمين، وأمير المؤمنين، ومن يليه من أهل الحق!
(وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكومة): أراد أنّا قد قلنا لهما: قد حكمناكما فلا تحكما إلا بحكم الله تعالى.
(بالعدل): وهو الإنصاف.
(والصمد للحق): والقصد إليه واتباعه.
(سوء رأيهما، وجور حكمهما): جار عن الطريق إذا عدل عنها، أي أن سوء الرأي وجور الحكم من جهتهما مسبوقان بما ذكرنا من الاستثناء، فلا حكم لهما في ذلك ولايلتفت إليهما مع الاستثناء، فخدعهما بعد ذلك ومكرهما إنما هو على أنفسهما ووباله عليهما ولايلحقنا فيه شيء:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت:46].
(118) ولما عوتب على التسوية في العطاء قال:
(أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور): قالوا: يا أمير المؤمنين، إن درجات الناس متفاضلة فلا تساوي الناس في العطاء، ولا تجعل من والاك كمن عاداك، ولا من نصرك بمنزلة من خذلك، فقال لهم ذلك، وأراد أني لا أطلب النصر بالمفاضلة كما زعمتم، فيكون ذلك حيفاً مني على من فاضلت عليه، وظلماً له وعدولاً في الحق في التسوية.
(فيمن وليت عليه!): من كانت لي عليه ولاية من المسلمين وأهل الديانة.
(والله ما أطور به): لا أقربه ولا أفعله.
(ما سمرسمير): ما هذه زمانية، مثلها في قولك: انتظرني ما جلس القاضي أي مدة جلوسه، وقوله: (سمرسمير) فيه وجهان:
أما أولاً: فيريد به السامر، وهو الذي يتحدث بالليل.
وأما ثانياً: فيريد به الدهر أي لاأفعله الدهر كله، وابنا سمير هما: الليل والنهار.
(وما أمَّ نجم في السماء نجماً! ): أي تقدم، ومنه الإمام لأنه يتقدم على غيره.
(ألا وإن إعطاء المال في غير حقه): الذي فرضه الله تعالى وقدَّره.
(تبذير وإسراف): وقد ورد النهي عنهما، كماقال تعالى: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً }[الإسراء:26] [وقال تعالى] : {وَلاَ تُسْرِفُوا }[الأنعام:141] لأنهما كلاهما إنفاق من غيرقصد وزيادة على الحق.
(وهو يرفع صاحبه في الدنيا): الضمير للإعطاء، والرفع في الدنيا هو: ما يظهر له في ألسنة الناس من المدح والثناء.
(ويضعه في الآخرة): لما فيه من ارتكاب النهي فينقص أجره بذلك.
(ويكرمه عند الناس): بتعظيمهم له وتبجيلهم إياه.
(ويهينه عند الله): ينقص أجره، ولايكون له حق عنده.
(ولم يضع امرؤ ماله في غيرحقه): بإنفاقه في المعاصي، والإسراف فيه والتبذير.
(وعند غير أهله): من أهل الفسوق، وأقران السوء، وأخدان الفساد.
(إلا حرمه الله شكرهم): إما بإلقاء العداوة في قلوبهم له فلايشكرونه، وإما بصرف شكرهم إلى غيره.
(وكان لغيره ودُّهم): أي وكانت محبتهم مصروفة إلى غيره.
(فإن زلت به النعل يوماً): أصابته نكبة من نكبات الدهر وسقطة من سقطاته، فجعل زلل النعل كناية عن ذلك لما كان زلل النعل يتلوه السقوط لا محالة.
(فاحتاج إلى معونتهم): بالمواساة وجبران حاله.
(فشر خدين): أي فهو شر صديق، والمخادنة: المصادقة، لتأخره عن نصرته.
(وألأم خليل): اللؤم: الشح، أراد وألأم صاحب.
سؤال؛ كيف يتأتى ما ذكره أميرالمؤمنين من حرمان الشكر وصرف المودة؟
وجوابه؛ هو أنه إذا أنفقه لغير الله وكان إنفاقاً في السرف والمعصية، فربما سهل الله العداوة بينهم وخذلهم حتى حصلت البغضاء، فكان سبباً لبطلان ذلك وانقطاعه ، وكثير ما يشاهد ما ذكره في أحوال جمع من الخلق يوجد ذلك في حقهم.
(119) ومن كلام له عليه السلام يخبر به عن الملاحم بالبصرة
الملاحم: جمع ملحمة، وهي: عبارة عن مواقع الحرب الشديدة، ولهذا قال حيي بن أخطب لما قتل الرسول بني قريظة عن آخرهم: بلاء وملحمة كتبت علي بني إسرائيل .
(يا أحنف): يخاطب الأحنف بن قيس ، وكان من أصحابه، ويضرب به المثل في الحلم.
(كأني به): الضمير لصاحب الزنج ، وحكي أنه كان رجلاً من قرية من قرى الري، يقال لها: ورزنين وكان يزعم أنه من أولاد أمير المؤمنين، شخص إلى البحرين، ودعا قوماً إلى طاعته فاتبعه جماعة، ووقعت بسببه عصبية قتل فيها جماعة، ثم انتقل إلى البادية، وادَّعى عليهم النبوة، فقال يوماً لأصحابه: إني أمرت أن أقصد البصرة فخرج إليها من حيث كان وتبعه أقوام من أهلها، وكان أهل البصرة يشترون الزنوج كثيراً ويستعملونهم في حوائجهم وزراعاتهم، وكان يدسُّ إليهم من يخدعهم ويمنِّيهم الأماني الكاذبة، حتى اجتمع إليه خلق عظيم وبشر كثير من غلمان الزنج فوعدهم أن يملِّكهم الأموال، ويبسط أيديهم فيما تهواه أنفسهم وتريده خواطرهم من أموال الناس، وحرمهم وحلف لهم الأيمان المغلظة، أن يفي لهم بما وعد وألا يغدرهم ولا يخذلهم، وكان كل غلام يتصل به فإنه يأخذ مولاه ويحبسه، فلما تمَّ له اجتماع الغلمان دعا مواليهم، فقال لهم: إني أردت أن أضرب أعناقكم لإساءتكم إلى هؤلاء الغلمان، استضعفتموهم وحمَّلتموهم ما لا يطيقون ، وقد كلمني أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم، فقالوا: إن هؤلاء الغلمان آبقون منَّا وهم يهربون منَّا ومنك فلا يبقون علينا ولا عليك، فخذ منَّا مالاً وأطلقهم علينا فأمرغلمانه وأحضروا عصا، ثم بطح كل غلام مولاه وضربه خمسمائة ضربة، وحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا
أحداً بموضعه ولا بعدد أصحابه ثم أطلقهم.
(وقد سار بالجيش): ثم جعل يجمع الناس حتى اجتمعوا إليه، من كل صنف خلق عظيم خاصة من الزنج.
(الذي لا يكون له غبار): يعلوهم لخفة مشيهم على الأرض.
(ولا لجب): أصوات عظيمة لصموتهم.
(ولا قعقعة لُجم): أراد أنه لاخيل معهم، وقعقعة اللجم هو: حركتها وحركة الأسلحة أيضاً، وفي المثل: فلان ممن لايقعقع له بالشنان .
(ولا حمحمة خيل): الحمحمة: أصوات الخيل إذا طلبت العلف، وعند الحرب أيضاً.
(يثيرون الأرض بأقدامهم): يحفرونها بشدة الوطئ منهم.
(كأنها أقدام النعام): في جدتها وسرعة سيرها، ثم إنه ساربعد ذلك لحرب البصرة فأخربها، واستولى على البلاد، وبنى الحصون والقلاع، ونهب الأموال، وسبى النسوان والذراري، وابتلي الناس منه بأشد البلاء وأعظمه، وله قصص طويلة، وحاش لله وكلا أن يكون من هذه حاله في الفسق وتسويس الدين من العترة الزكية، الذين جعل الله فيهم النبوة، ووضع فيهم الإمامة، وجعلهم أئمة للهدى ، وسادة لأهل التقوى، ثم امتد أمره إلى أيام المعتمد بن المتوكل فبعث أخاه أبا أحمد الموفق في جيش عظيم إلى ولايته، فجعل ينقض أطرافه ويأخذ قلاعه، وخرَّب بلاده وحرَّق دياره، ويعطي كل من خالف عليه وخذله الأموال النفيسة حتى قتله، وكان ذلك في المحرم سنة سبعين ومائتين من الهجرة .
(ويل لسكككم العامرة): السكك جمع سكة وهي: الأزقة والشوارع.
(والدورالمزخرفة): المنقوشة.
(التي بها أجنحة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة): شبه شُرَفاتها وبروجها في الدقة والطول والرشاقة بأجنحة النسور عند طيرانها، وخراطيم الفيلة.
(من أولئك): أي من خرابهم لها وهدمهم لهذه الدور، وتغيير هذه الزخارف.
(الذين لا يندب قتيلهم ): لضراوتهم بالحرب وشجاعتهم وكثرة الشطارة فيهم.
(ولايفقد غائبهم): لقسوة قلوبهم فلا يذكرون لهم غائباً ويقدرونه كأنه لم يكن.
(أنا كابُّ الدنيا لوجهها): كبَّه على وجهه إذا صرعه فأكبَّ على وجهه.
(وقادرها بقدرها): من الحقارة والانقطاع والتنغيص في لذاتها، والتغير في نعيمها، وقدره لها إعراضه عنها فلا يلتفت إليها بحال.
(وناظرها بعينها!): أي بالعين التي يصلح النظربها إليه من الإزدراء والحقارة، وإنما أضاف العين والقدر إليها تنبيهاً على ماذكرنا؛ لأن لها قدراً تختص به عنده وعيناً ينظر بها إليها فلهذا أضافهما إليها .
سؤال؛ ما وجه اتصال قوله: أنا كابُّ الدنيا بما قبله حتى أورده على أثره، وليس بينهما ملاءمة ولاتقارب؟
وجوابه من وجهين؛
أما أولاً: فلأنه لما ذكر صاحب الزنج وما حدث بسببه من تغير الدنيا، وتقلبها بأهلها وأن ذلك كله من محنها وبلواها، عقَّب ذكرمنزلة الدنيا عنده وقدرها في حقه.
وأما ثانياً: فيمكن أن يكون هذا من الاستطرادات البديعة في كلامه وهو أحسن، وهو أن يذكر كلاماً على إثركلام ليس بين الأول والآخر قرب ولامداناة وهذا منه، وهو نوع من أنواع البديع قد نبهنا عليه في مواضع من كلامه.
ومن بديع ما ورد في الاستطرادات قول السموأل :
ونحن أناسٌ لا نرى القتل سُبَّة
إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ
تقرِّب حبَّ الموتَ آجالُنا لنا
وتَكرهه آجالُهم فتطولُ
فالبيت الثاني كالدخيل على الأول، وأعجب منه قول آخر:
خليليَ من كعب أعينا أخاكما
على دهره إن الكريمَ مُعِيْنُ
ولا تبخلا بخل ابن فَرْعَة إنه
مخافة أن تُرجَى يديه حزينُ
فذكر في الأول الإعانة، وذكر في الثاني البخل، وليس بينهما تعلق ولا مداناة.
ثم أردف ذلك بوصف حال الأتراك وأمرهم:
الترك: جيل من العجم.
(كأني أراهم قوماً): جماعة.
(كأن وجوههم المَجَانُّ المُطْرقَة): الْمَجَانُّ جمع مِجَنّ وهو: الترس، والمطرق: المجعول بعضه على بعض كالنعل المطرقة طباقاً، شبَّه وجوههم بها لسعتها وكبرها، وقد ورد ذلك في كلام الرسول عليه السلام .
(يلبسون السَّرقَ): جمع سَرَقة مثل سَعَفَة وسَعَف وهي: ثياب الحرير.
(والديباج): وهو: نوع من أنواع الحرير أيضاً، والديباج والسرق فارسيان معربان.
(ويعتقبون الخيل العتاق): يحتبسونها للركوب والقتال، من قولهم: اعتقبت الرجل إذا حبسته، وفرس عتيق إذا كان ناعم الخلق كثير السبق.
(ويكون هناك استحرارقتل): حر القتل واستحر ، إذا اشتدَّ وكثر.
(حتى يمشي المجروح على القتيل): لكثرة القتلى.
(ويكون المفلت): الناجي من القتل والأسر.
(أقل من المأسور): كل ذلك مبالغة في شدة الأمر وعظمه، وكل ما ذكره إما قد كان بعده، وإما سيكون بعد ذلك، ولعله يشير إلى الدجال، كما قد مضىذكره في موضع غير هذا.
واعلم: أنما ذكره ها هنا من أخبار صاحب الزنج، ثم حال الأتراك إنما هو بإخبار الرسول إياه بذلك، وتعريفه به من جهته، ويدل على ذلك بأنه لما ذكرما ذكره من هذه الأمور قال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك عليه السلام وقال للرجل وكان كلبياً:
(يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب): أراد أن علم الغيب لايكون له سبب سحر ولا غيره من سائر الأسباب.
(وإنما هو تَعَلُّم من ذي علم): أي أني تَعَلَّمْتَهُ ممن أَعْلَم به من جهة أخبار السماء وهو رسول الله.
(وإنما علم الغيب): العلم الذي لا ينبغي لأحد أن يطلع عليه إلا الله تعالى.
(علم الساعة، وما عده الله تعالى بقوله : {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34]، فيعلم سبحانه ما في الأرحام): أي ما استقر فيها وما خلق فيها وقدر.
(من ذكر أوأنثى، وقبيح أوجميل، أو سخي أو بخيل): فذكر وأنثى من صفات الخلقة، وقبيح وجميل من صفات الصورة والتركبة، وسخي وبخيل من صفات الطبائع والخلايق.
(وشقي وسعيد ): من صفات الأفعال .
(ومن يكون للنار حطباً): من الكفار والفساق، وسائر أهل الضلالات والبدع والأهواء.
(وفي الجنان للنبيين مرافقاً): وهم الأولياء والصالحون وسائر الأبرار.
(فهذا علم الغيب الذي لايعلمه أحد إلا الله): لما في ذلك من المصلحة التي استأثرالله تعالى بعلمها من علم الآجال والأرزاق وغير ذلك، فإن في سترها عن الخلق مصالح وأسرار، وحكمة عظيمة قد أحاط الله بها.
(وما سوى ذلك): من سائرالمعلومات.
(فعلَّم علمه الله نبيه [صلى الله عليه وآله] ): لما فيه من المصلحة الغائب عنّا علمها.
(فعلمنيه): بأن ألقاه إليّ وأخبرني به.
(ودعا لي بأن يعيه صدري): فلا أنساه.
(وتضطَّم عليه جوانحي): الجوانح هي: عظام الصدر، الواحدة منها جانحة، وتضطم أي تشتمل عليه.
واعلم: أن ما ذكره عليه السلام من علوم الغيوب، كما نجوِّز أن يكون ذلك من جهة الرسول عليه السلام كما قال، وكنَّا نجوِّز أن يكون ذلك كرامة له من الله تعالى أكرمه بها، وعلم أن له في ذلك مصلحة استأثر بعلمها، خاصة إذا قلنا: يجوز إظهار الكرامات على الأولياء والصالحين كما هو مذهبنا، فأما سائر أصحابنا وأكثرالمعتزلة فقد منعوا من إظهار الكرامات، وقد قررنا ما نختاره في الكتب العقلية.
(120) ومن كلام له عليه السلام في ذكر المكاييل والموازين
(عباد الله، إنكم وما تأملون من هذه الدنيا): من هذه لابتداء الغاية، والواو في قوله: (وما تأملون) إما للعطف على الضمير فتكون [ما] موصولة، أي والذي تأملون، أو تكون واو مع أي مع الذي ترجونه من عاجلها وعيشها المنقطع.
(أثوياء): جمع ثوي؛ وهو الضيف، أو يكون اشتقاقه من ثوى بالمكان إذا أقام فيه، وأراد أنكم فيها بمنزلة الضيف و مقيمون إقامة حقيقة.
(مؤجلون): لكم آجال مقدرة لايزاد عليها ولا ينقص منها.
(ومدينون): إما من أدانه إذا أقرضه، وإما من دانه إذا أذله واستعبده، وإما من دانه بمعنى جزاه، وكلها صالحة ها هنا.
(مقتضون): أي يقتضى منكم ما أسلفتموه، وهذا يؤيد تفسير مدينون من دانه إذا أقرضه، ولهذا أورده على أثره.
(أجل منقوص): غيرمتطاول.
(وعمل محفوظ): مكتوب في الصحف على أيدي الملائكة .
(فرب دائب مضيّع): دأب في عمله إذا أجد فيه وأتعب نفسه، أي ربما جد في ذلك وهو في الحقيقة مضيع لإبطاله لعمله بالمعصية، أو لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى، فلهذا كان بمنزلة من ضيَّع العمل بل هو أخسر صفقةمنه؛ لكونه قد أتعب نفسه ولم ينفعه الله بعمله.
(ورب كادح خاسر): الكدح: السعي بالكد، أي أنه ربما كدح وخسرفي عمله؛ لأنه لما يأتِ به مطابقاً لرضوان الله ووجهه.
(وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً): يخاطب به أصحابه، وإذا كان الحال ما قاله في ذلك اليوم والخير كثير، والشريعة غضَّة طرية، ورسول الله [صلى الله عليه] لم يبل قميصه، فكيف حالنا في هذه الأزمان، فإنَّا با لله عائذون!
(ولا الشر فيه إلا إقبالاً): بالفتن في الأديان وسائرالضلالات.
(والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً): لما يكون هناك من الإعراض عن الله والرغبة في الدنيا، وعند ذلك يحصل الطمع، و يعظم رجاؤه في الانقياد له.
(فهذا أوان): وقت، والأوان: عبارة عن الزمان الذي يقع فيه كلام المتكلم، وجمعه آونة كزمان وأزمنة.
(قويت عدتة): الضمير للشيطان، وأراد بالقوة المكر والخديعة بالخلق وكثرة الإغواء لهم ، وهو استعارة لقوة الأمر في ذلك، والعائد محذوف تقديره فيه؛ لأن الجملة صفة لأوان، فلا بد فيها من ضميره .
(وعمَّت مكيدته): كاده يكيده كيداً ومكيدة إذا مكر به وخدعه.
(وأمكنت فريسته): أي استمكنت وصارت ممكنة لمن يفترسها، وأراد أنهم ليسوا ممتنعين منه متى شاء فرسهم، فبلغ هو الغاية في زللهم وإغوائهم، ومصداق ذلك وأمارته ما أقوله لك:
(اضرب بطرفك): أجل طرفك وفكرفي نفسك.
(حيث شئت): من الأماكن والجهات.
(من الناس): من لابتداء الغاية.
(فهل تنظر إلا فقيراً مكابداً فقراً): يعاني فقره، ويعالج أمره، وحاله في ذلك بالاحتيال على دهره والدخول في كل شبهة، لا يدع باباً إلا ولجه ، ولاشبهة له فيها مطمع إلا ارتكبها.
(أو غنياً بدَّل نعمة الله كفراً): أخرجه غناه إلى البطر والأشر، وتعدي حدود الله وارتكاب محرماته، بدل جزاء نعمة الله من الشكر لها والاعتراف بحقها؛ كفراً بالله وخروجاً عن أمره ونهيه.
(أوبخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً): البخل: منع الحق الواجب، والبخيل من فعل ذلك، وأراد أنه توصَّل بالبخل لحق الله ومنع واجباته عن الأداء، وجعله وفراً في ماله وزيادة فيه، ومانع الزكاة يسمى بخيلاً، كما ورد ذلك في شأن ثعلبة بن حاطب، في قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[التوبة:76] فسماه الله بخيلاً لما منع حقه الواجب عليه في ماله، والقصة فيه معروفة .
(أو متمرداً): خارجاً عن الحد على جهة العتو والاستكبار.
(كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقراً): يشبه في بُعْدِهِ عن سماع المواعظ والانتفاع بها من في أذنه صمم وثقل، فهو لا يعرِّج ولاينفعه سماعها.
(أين خياركم وصلحاؤكم): في الدين وأهل الصلاح منكم الذين اختاروا لأنفسهم الآجلة، وصلحت أعمالهم وسرائرهم.
(وأين أحراركم): أهل الأحساب والنفاسة.
(وسمحاؤكم): الذين جادوا بأنفسهم وأموالهم ابتغاء وجه الله تعالى وتقرباً إلى رضوانه.
(وأين المتورعون في مكاسبهم): الآخذين بالحزم في أبواب الكسب، وفي الحديث عن الرسول: ((الجهاد عشرة أجزاء، فتسعة منها في طلب الحلال ، وجزء منها في طلب العدو)) وكان من سلف يتركون أبواباً من المكاسب المباحة كي لايقعوا في المحظور من ذلك، وفي الحديث: ((من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه )) ، وهذا نحو الأموال الربوية، والدخول في الصناعات المكروهة، وتناول الأموال المشكوك فيها، وغيرذلك مما يكون تركه تورعاً، وأخذه دخول في الشبهة وتلبس بها.
(والمتنزهون في مذاهبهم): عن الاعتقادات الردية والخواطر السيئة، والمتنزهون في مذاهبهم أي تصرفاتهم في كل وجه من ذلك.
(أليس قدظعنوا): خرجوا، وأراد بذلك من سلف من قرن الصحابة فإنهم كانوا على هذه الصفة، وأبلغ منها في التحرز في الأموال والمكاسب، وكانوا يتركون سبعين باباً من الحلال لئلا يقعوا في الحرام.
(عن هذه الدنيا الدنية): سميت الدنيا دنيا لدنوها وقربها بالإضافة إلىالآخرة، والدنية صفة للدنيا إما غير مهموز بمعنى القريبة، كأنه قال عن هذه القربى القريبة، وإما مهموز بمعنى الدون أي الخسيسة المحقرة.
(والعاجلة): وإنما سميت عاجلة؛ لأنها تعجلت لصاحبها وقربت إليه، قال الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ }[الإسراء:18].
(المنغصِّة !): المكرِّهة إلى أهلها؛ لأنها لاتزال ترميهم بنوائبها ومصائبها، وتُنَغِّص عليهم لذاتهم وتقطعهم عن بلوغ أمنياتهم، فهي منغصة لا محالة.
سؤال؛ كيف قال ها هنا: إنها منغصة ووصفها بذلك، والله تعالى يقول: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ، وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:20-21]، ونراها محبوبة في أعين الخلق ولهذا آثروها على الآخرة، فكيف قال: إنها منغصة ؟
وجوابه؛ أنها لاتمتنع أن تكون محبوبة من وجه، مكروهة من وجه آخر، فمحبتها من أجل تعجلها ونضارتها وحسن زهرتها، وكراهتها من أجل انقطاعها، وما يعرض من الفجائع والتكديرات، وإذا كان الأمر كما قلناه حصلت الموافقة بين كلام الله تعالى وكلام أمير المؤمنين كما قررناه.
(وهل خُلِّفتم إلا في حثالة): في ناس حثالة من الخلق، وهم أردؤهم، والحثالة: الرديء من كل شيء.
(لا تلتقي بذمهم الشفتان): أي لاينطق أحد بذمهم ولا يفوه بذلك ولا يتكلم به.
(استصغاراً لقدرهم): أي أن أقدارهم نازلة فليسوا أهلاً لأن تقع العناية بذمهم
(وذهاباً عن ذكرهم): وتأففاً واستنكافاً عن أن يذكروا بذكر، وقوله: (لا تلتقي بذمهم الشفتان) من فصيح الكلام وغريبه، الذي لم ينسج أحد على منواله، [ولا سمحت] قريحة على حده ومثاله، وقد قال بعض علماء البيان، وأهل الفصاحة واللسان، أنه قد وجد لأمير المؤمنين ثلاث كلمات جرت مجرى الأمثال ووجد معناها حاصلاً في كتاب الله تعالى:
الأولى: قوله عليه السلام: (من جهل شيئاً عابه) ومثله من كتاب الله تعالى قوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ }[الأحقاف:11]، وقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ }[يونس:39].
والثانية: قوله عليه السلام: (المرء مخبؤ تحت لسانه)، وقريب من معناه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ] فِي لَحْنِ الْقَوْلِ }[محمد:30].
الثالثة: قوله عليه السلام: (ابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما، واحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما) ومثله قوله تعالى : {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً }[الممتحنة:7]، فانظر مابين هذه من المعاني من التقارب والتداني، ثم غير خاف عليك أنها وإن تقاربت فبينها وبين ألفاظ القرآن في الرقة واللطافة والجزالة والبلاغة بون لا يخفى، وبُعْدٌ لا يتقارب ولا يتدانى، وفضل القرآن عليها كفضل القمر على سائر الكواكب.
(فإنَّا لله): مملوكون ونحن عبيد مربوبون.
(وإنَّا إليه راجعون): بالإعادة بعد الإفناء من أجل المحاسبة على الأعمال والجزاء.
(ظهر الفساد): فشا في الأرض وكثر.
(فلا منكِّر مغيِّر): أي لا منكِّر له بقلبه، مغيِّر له بيده.
(ولا زاجر): عن فعله يكفّ عنه.
(مزدجر): ذو ازدجار وانكفاف عن فعله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ }[القمر:4].
(أفبهذا): إشارة إلى ظهور الفساد وعموم المنكر.
(تريدون أن تجاوروا الله): تزعمون أن يكون لهم الحصول في الجنة حائزين للرحمة.
(في دار قدسه): التقديس: التطهير ، كما يقال: حضيرة القدس، وقوله: {رُوحِ الْقُدُسِ }[البقرة:87]، {الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ }[المائدة:21] المطهرة، وأراد في دار الطهارة عن الأقذار والتنغيصات.
(وتكونوا أعز أوليائه عنده): الأولياء جمع ولي، ومعنى ولي الله أي الله أولى به، يريد كرامته وإثابته ونصرته وإعانته، والعزة: الكرامة أي تكونون بها أكرم أوليائه.
(هيهات): اسم من أسماء الأفعال موضوع للخبر أي بَعُد ذلك وفيها لغات كثيرة، قال الله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ }[المؤمنون:36] أي بَعُد ذلك، فيقال: هيهات بالحركات الثلاث وبالتنوين مع الحركات فهذه ست، وإيهاك وإيهان وغير ذلك.
(لا يخدع الله عن جنته): الخدع: المكر، وهو أن تريه المناصحة وغرضك غدره، وأراد أنه لايطمع فيها من ليس عاملاً لها فيكون ذلك خديعة لله تعالى، كما قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }[النساء:142].
(ولا تنال مرضاته): المرضاة: هي الرضى أي أنها لا تنال بشيء من الأشياء.
(إلا بطاعته): التي تجب له والتي هو أهل لها دون غيره ممن يكون مطاعاً.
(لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له): لأن أمرهم بالمعروف بعد فعلهم له، فإذا تركوه كان ذلك عكساً لأمره وقد ذمهم الله تعالى بقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ }[البقرة:44] وأراد اليهود.
(والناهين عن المنكر العاملين به): لأن نهيهم إنما يكون بعد تركه والتناهي عنه، وإذا نهوا عنه وفعلوه كان ذلك أدخل في الملامة وأبلغ في القبح، واللعن هو: الطرد عن الرحمة والإبعاد عنها، وقد صار بالشرع لا يستحقه إلا من كان فاسقاً خارجاً عن ولاية الله تعالى إلى عدوانه ، مستحق للعقاب من الله تعالى.
سؤال؛ أليس قد قال المتكلمون: إنه لا يمتنع أن يجب الأمر بالمعروف على الواحد منَّا وإن كان تاركاً له، ويجب عليه النهي عن المنكر وإن كان فاعلاً له، وفي كلام أمير المؤمنين ما يأباه؟
وجوابه؛ هو أن ما قاله المتكلمون غيرممتنع؛ فإن وجوب الأمربالمعروف مخالف لوجوب المعروف في نفسه، ووجوب النهي عن المنكر مخالف لوجوب الانتهاء عنه، ألا ترى أنه لايمتنع أن يجب عليه أمر غيره بالصلاة وإن كان تاركاًلها، وأن يجب عليه النهي عن القتل وإن كان فاعلاً له، وليس في كلامه ما يدفع هذا، ولكنه ذمَّ الآمرين بالمعروف مع تركهم له، وذمَّ الناهين عن المنكر مع فعلهم له، وليس ذلك دافعاً لما قاله أهل الكلام لتغاير الوجهين.
(121) ومن كلام له عليه السلام لأبي ذر رحمة الله عليه لما أخرج إلى الربذة
اعلم أن من جملة المطاعن التي طعن بها على عثمان في خلافته، وهو طرده لأبي ذر رحمه الله تعالى إلى الربذة، وكانت له قدم سابقة في الدين، ومحبة من الرسول، وإيوائه للحكم بن العاص وقد طرده رسول الله قبل موته.
فأما أبو ذر فقد اُعْتِذَر له في ذلك بأن خروجه إليها كان برضاه، وفي كلام أمير المؤمنين ها هنا ما يدل على خلاف ذلك.
وأما ردُّ الحكم بن العاص فقد اعتذر عثمان عن ذلك، بأنه قد كان استأذن في ردِّه من رسول الله .
(يا أبا ذر): هذه كنيته، واسمه: جندب بن جنادة الغفاري، وغفار: قبيلة من كنانة.
(إنك غَضبت لله): أي من أجله، وكان شديد الشكيمة في ذات الله، والتصلب في دينه.
ويحكى أن معاوية كتب إلى عثمان يشكوه، فكتب إليه عثمان أن صر إلى الخدمة ، فلما وصل إليه قال له: من أخرجك إلى الشام؟ فاعتذر إليه، فقال له: أي البلاد أحب إليك بعد الشام؟ فقال: الربذة، فقال له: صر إليها ، فكان لا يأخذه في الله لومة لائم، وكان يقول: لم يبق أصحاب النبي على ما عهدتهم.
(فارجُ من غضبت له): بالفوز منه والرضوان من جهته.
(إن القوم): يشير بذلك إلى عثمان وأصحابه.
(خافوك علىدنياهم): لما كان يظهر منه من الخشونة، والغلظة في أحواله لهم.
(وخفتهم على دينك): لما يظهر له في طرائقهم مما ينكره ولا يكاد يقبله
(فاترك في أيديهم ما خافوك عليه): من الدنيا؛ لأنهم ربما كانوا يخشون تغييره في أمر الدولة لما يظهر في نفسه من الحيرة.
(واهرب منهم بما خفتهم عليه): من أمر الدين؛ لأنه كان إذا رأى ما لايعجبه من طريقة أحد من الصحابة أنكر عليه ذلك، واشتد إنكاره عليه، وأغلظ له في أمره ونهيه.
(فما أحوجهم إلى ما منعتهم): أراد أن الذي منعتهم منه هو من أمورالدين، والذي يجب اتباعه ولايجوزلهم المخالفة له.
(وأغناك عمَّا منعوك!): من الدنيا؛ لأنهم ما أرادوا إلا إبعاده؛ ليتسق لهم أمرهم من غير معارض ولا ممانع.
(وستعلم من الرابح غداً): الفائز بالثواب من عند الله غداً يعني يوم القيامة.
(والأكثر حسداً): الحسد لا يكون في مؤمن، وأراد بالحسد ها هنا الغبطة لأنها محمودة، والحسد مذموم، أي أنه يكثر من يغبطه على ما حاز من أمر الدين، وعلى علو مرتبته عند الله يوم القيامة بالديانة والصحبة للرسول.
(ولو أن السماوات والأرض كانتا رتقاً على عبد؛ ثم اتقى [الله ] لجعل الله له منهما مخرجاً): هذا بعينه حديث مرفوع إلى الرسول عليه السلام استعمله في كلامه ها هنا، ومصداق هذا الحديث قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }[الطلاق:2] الرتق: السد، وهو مصدر من رتق يرتق رتقاً، ولهذا تركت تثنيته لما كان مصدراً، وترك تأنيثه أيضاً لذلك.
(لا يؤنسك إلا الحق): أي لا تأنس إلا بالحق فتعمل به؛ لأن من أنس بالشيء خالطه ولم ينفر عنه طبعه.
(ولا يوحشك إلا الباطل): أي لا تستوحش إلا منه فتترك العمل به؛ لأن كل من استوحش من شيء نفر عنه ولم يخالطه.
(فلو قبلت دنياهم): أخذت ما أعطوك منها، وسهلت الأمر عليهم في أحوال الدين.
(لأحبوك): أرادوك وقرَّبوك، وأدنوك منهم.
(ولو قرضت منها شيئاً): أخذت على جهة القرض، والعزم على الرد من غير خيانة.
(لأمنوك): على إعطاء ما شئت من ذلك .
وحكي عنه أنه قال: اختلفت أنا ومعاوية في آية الكنز ، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك، فكتب إليَّ عثمان: أن اقدم عليَّ فقدمت عليه ، فانثال الناس عليَّ كأنهم لم يعرفوني، فقال: انزل حيث شئت، فنزلت الربذة ، فكان متصلباً في الدين كما ترى، فمن أجل هذا نفرت طباعهم عنه، فأوحشوه من أجل ذلك.
(122) ومن كلام له عليه السلام عتاباً لأصحابه
(أيها النفوس المختلفة): في طباعها وطرائقها وأحوالها.
(والقلوب المتشتتة): في خواطرها وأنظارها وآرائها.
(الشاهدة أبدانهم): التي تشاهد الأشياء وتعلمها وتميز بينها.
(الغائبة عنهم قلوبهم ): لعدم انتفاعهم بها، ووعيها لما ينفعها من المواعظ والحكم، وقوله: (الشاهدة والغائبة) من الطباق المحمود في أنواع البديع من علوم البيان، وهو ذكر الضدين جميعاً.
ومن جيد ماقيل في المطابقة ما قاله بعض البلغاء: رب شبعان من النعم، غرثان من الكرم، فإن لم يرزق غنى ، لم يحرم تقوى، والمؤمن على خير من ربه، وفلاح من رشده، ترحِّب به الأرض، وتستبشر به السماء، ولن يساء إليه في بطنها، وقد أحسن على ظهرها.
فقوله: شبعان وغرثان، وذكر الإساءة والإحسان، من الطباق التي تحمد آثاره، ويعلو في فلك البلاغة مجده وفخاره.
(أظأركم على الحق): بظاء بنقطة من أعلاها، أعطفكم عليه من قولهم: ظأرت الناقة أي عطفتها على [غير] ولدها، وفي المثل: الطعن يظأره على الصلح أي يعطفه، وروايته بالطاء بنقطة من أسفلها لحن لا وجه له.
(وأنتم تنفرون عنه): تباعدون عنه، من نفر عن الشيء إذا كرهه، وَبَعُدَ عن فعله.
(نفور المعزى من وعوعة الأسد!): صوته، والوعوعة: صوت الذئب أيضاً، لأن المعزى أشد ما يكون نفارها عند سماعها لصوته.
(هيهات أن أطلع بكم سرار العدل): أي بَعُدَ ذلك، والسرار هو: اختفاء القمر ليلة أو ليلتين في آخره، واستعاره ها هنا، أي أنه يبعد أني أظهر بكم ما خفي من العدل.
(أو أقيم اعوجاج الحق): أي لستم أهلاً لذلك؛ بأن يكون الحق معوجاً فأقيمه بكم.
سؤال؛ الحق مستقيم، فكيف قال ها هنا: اعوجاج الحق، وهو لا يكون معوجاً؟
وجوابه؛ هو أن الأمر كما قلته من استحالة اعوجاج الحق، وإنما المقصود هو اتباع ما يخالف الحق من الباطل، فلهذا كان الحق معوجاً على معنى أنه لم يتبع وترك بالباطل واتباعه.
(اللَّهُمَّ، إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا): أراد الاستشهاد بعلم الله تعالى؛ لأنه أصدق ما يكون وأثبته، أي أنه لم يقع ما وقع منَّا من المحاربة، وطول المشاجرة بيننا وبين مخالفينا، وكثرة القتلى، وسائر الأحداث التي حدثت.
(منافسة في سلطان): رغبة في دولة أو اكتساب ولاية أوتقرير أُبَّهة.
(أوالتماس شيء من فضول الحطام): أو طلب شيء من فضلات الدنيا ولذاتها ونعيمها الزائل، وإنما سماها حطاماً؛ لزوالها ونفادها، أخذاً من الشيء الذاهب المنحطم.
(ولكن لنردَّ المعالم من دينك): إلى نصابها ، وتستقرفي قراراتها التي وضعتها لها، والمعالم: جمع معلم، وهي قواعد الدين المعلومة، وأركانه المتحققة.
(ونظهر الإصلاح في بلادك): بإحياء السنن، وإقامة الواجبات كلها، وإظهار المعروف، وكف المنكرات.
(فيأمن المظلوم من عبادك): عن أن يكون أحد ظالماً له، ويأمن في سِربه عن الأخذ والاستلاب ممن يكون قاهراً له.
(وتقام المعطَّلة من حدودك): تعطَّل الشيء إذا خلا وفرغ، قال الله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ }[الحج:45] لهلاك أهلها وانقطاعهم، ومعنى تعطيل الحدود خلوها عن أحكامها الواجبة عليها، يقال: تعطَّل الرجل إذا كان لا شغل له.
(اللَّهُمَّ، إني أول من أناب): إليك بالإنابة والخشوع.
(وسمع): داعيك إلى الحق.
(وأجاب): لم يلبث عن الإجابة ولا توقف عنها.
(لم يسبقني إلا رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] بالصلاة): يشير بذلك إلى أنه عليه السلام أول من اعترف بالوحدانية، وصدَّق بالرسول؛ لأن الرسول عليه السلام بعث يوم الاثنين، وأسلم أمير المؤمنين يوم الثلاثاء ، فلهذا كان أول من شرح الله صدره للهداية، لم يشرك بالله طرفة عين، ولا وجَّه عبادته لغير الله.
(وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج): مستولياً على الفروج الحرائر والإماء، والعُدَد وسائر أحكامها.
(والدماء): في القتل بالحرب والقصاص والحدود.
(والمغانم): وهو ما كان بالقتال، وإيجاف الخيل والركاب، والفيء وهو: ما كان من غيرقتال، ولا إيجاف الخيل ولا ركاب.
(والأحكام): الشرعية كالقضاء والآداب، والتعزيرات، وفصل الخصومات.
(وإقامة المسلمين): القيام بأمورهم كلها من غزو الكفار، وتجييش الجيوش، وحفظ البيضة، فهذه الأمور كلها لا يتولاها:
(البخيل فتكون في أموالهم نهمته): لأنه إذا كان بخيلاً فلا تكون النهمة له إلا فيها؛ لأن أكثر نهمة البخيل إنما هو في الضِّنة بالأموال وادخارها.
(ولا الجاهل): أي ولا يتولاها الجاهل.
(فيضلهم بجهله): عن الطريق، ولأنه لا يأتي جاهل بخير، وما أحوج الإمام إلى البصيرة النافذة، والقدم الراسخة في العلوم.
(ولا الجافي): غليظ الطبع كثير الفظاظة.
(فيقطعهم بجفائه): لأن مع الجفاء تحصل المقاطعة لا محالة، وتكون الوحشة والانزواء.
(ولا الخايف للدول): ولا من تكون معه هيبة الملوك.
(فيتخذ قوماً): وهم الذين يخاف من جهتهم السطوة.
(دون قوم): وهم الذين لايخاف من جهتهم نكاية، وفي ذلك حصول الحيف والميل من جهته.
(ولا المرتشي بالحكم ): وهو الذي يأخذ الرشوة في الحكم، سواء كان حاكماً بالحق أو بالباطل.
(فيذهب بالحقوق ): يفسدها ويبطلها؛ لأنه إذا كان مرتشياً أذهب الحقوق وأبطلها.
(ويقف بها دون المقاطع): مقطع الشيء: غايته التي ينتهي إليها، وأراد أنه يكون منقطعاً دون الغاية التي هي له، ومن كمال أمره.
(ولا المعطِّل للسنة): إما الجاهل بها؛ لأنه عطل نفسه عن العلم بها، وإما التارك للعمل بها مع كونه عالماً بها، فكل ذلك يكون تعطيلاً.
(فيهلك الأمة): لأنه إذا كان جاهلاً بالسنة؛ فإنه يحمل الأمة على البدع والضلالات؛ فيكون ذلك سبباً للهلاك في أمر الدين؛ بإتيان البدع واستعمالها.
(123) ومن كلام له عليه السلام يذكر فيه الموت وحاله
(نحمده على ما أخذ وأعطى): فإعطاؤه ما كان من النعم العظيمة من العافية والأموال والأولاد وغير ذلك، وأخذه ما كان من إماتة الأولاد، ونقص الأموال والثمرات.
(وعلى ما أبلى): من عوارف الإحسان، يقال: أبليته معروفاً إذا أسديته إليه.
(وابتلى): امتحن بضروب من الامتحانات، يقال: ابتلاه بكذا إذا اختبره وامتحنه.
(الباطن لكل خفية): العالم لها والمحيط بأمرها، يقال: بطنت هذا الأمر إذا عرفت باطنه.
(الحاضر لكل سريرة): المشاهد لها، والرقيب عليها.
(العالم بما تكنّ الصدور): أي تستره من المعتقدات، والكنُّ: الستر، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً }[النحل:81].
(وما تخون العيون): خيانة العين : مسارقتها بألحاظها، قال الله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ }[غافر:19].
(ونشهد أن لا إله غيره): أي لامستحق للعبادة والإلهية إلا هو.
(وأن محمداً نجيبه): النجابة: الكرم، والنجيب هو: الكريم في كل أحواله.
(وبعيثه [شهادة يوافق فيها السر الإعلان، والقلب اللسان] ): المبعوث من جهته بالأسرار الحكمية، واللطائف المصلحية.
(إنه والله): الضمير للشأن ها هنا؛ أي أن الشأن فيما نحن فيه:
(الجدُّ): والجدُّ مصدر من جدَّ في أمره يجدُّ جدّاً، ومنه قولهم: أجدُّك لا تفعل كذا.
(لا اللعب): عطف عليه.
(والحق): أراد إما نقيض الباطل، وإما الصدق.
(لا الكذب): عطف عليه.
(وما هو إلا الموت): الضمير للشأن أيضاً، وإنما كرر ضمير الشأن والقصة ها هنا إعظاماً للأمر وتهويلاً له ومبالغة في عظم شأنه، كما فعل الله تعالى في ذكرالقيامة، كقوله تعالى:{الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ }[الحاقة:1-2]، {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:1-3]، وغير ذلك من المواضع، وكقوله:
ما أرى الموت يسبقُ الموتَ شيءٌ
نغَّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا
(أسمع داعيه): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون داعيه مرفوعاً على الفاعليه لأسمع، أي صار داعيه ذا إسماع لمن دعاه.
وثانيهما: أن يكون منصوباً على المفعولية، أي أسمع الموت من دعاه.
(وأعجل حاديه): الحادي هو: الذي يسوق الإبل ويحدو بها، ويكون إما مرفوعاً أي صار حاديه ذا عجل، وإما منصوباًعلى أنه مفعول، أي أن الموت أعجل حاديه، وأزعجه في السوق.
(فلا يغرنَّك سواد الناس من نفسك): أي لاتغتر بكثر تهم عليك، فيكون ذلك سبباًلجهلك بحال نفسك، وإما لاتغتر بسوادهم عليك فيشغلوك عن المقصود الأهم من دينك، وإما لاتشتغل بأمورهم وأحوالهم فيشغلوك عما يخص نفسك.
(وقدرأيت من كان قبلك): من الأمم الماضية، والقرون الخالية.
(ممن جمع المال): من حلِّه وغير حلِّه وكنزه .
(وحذر الإقلال): وكان من الإقلال على وَجَلٍ وخوف منه.
(كيف نزل به الموت): على حالة عظيمة لا يمكن وصفها.
(فأزعجه): الإزعاج هو: السوق بشدة.
(عن وطنه): الذي هو مستقره، وموضع راحته.
(وأخذه): على غفلة، كقوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً }[الحاقة:10].
(من مأمنه): موضع أمانه الذي يستقر فيه خاطره، كما قال تعالى: {أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ }[التوبة:6].
(أَمِنَ العواقب):جمع عاقبة، وهي: التي تعقب من مكاره الدهر وفجائعه.
(طول أمل): أي أَمِنَهَا من أجل طول أمله، وانتصابه على المفعول من أجله.
(واستبعاد أجل): أي وأمنه لها من أجل ما يستبعد من أجله.
(كيف نزل به الموت محمولاً): حال من قوله: نزل به الموت.
(على أعواد المنايا): وهي الأسرَّة والنُّعوش.
(يتعاطى به الرجال الرجال ): أي يقومون به، من قوله: {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ }[القمر:29] أي قام على أصابع رجليه ثم رفع يده فضربها.
(حملاً على المناكب): جمع مَنْكِب، وهو: مجمع الكتف بمنزلة المنسج من الفرس.
(وإمساكاً بالأنامل): أي يشدونه لئلا يذهب من فوقهم، وكنى بذلك عن زوال القوة والتصرف، فلا يستطيع شيئاً من ذلك.
(أما رأيتم الذين يأملون بعيداً): أي من كانت آمالهم طامحة بعيدة لا ينالونها لبعدها.
(ويبنون مشيداً): أي يزخرفون القصور المشيدة، والأبنية العالية الرفيعة.
(ويجمعون كثيراً): أي معايش الأموال وكثيرها.
(أصبحت بيوتهم قبوراً): أي صارت خراباً أجداثاً بمنزلة القبور.
(وما جمعوا بوراً): أي هالكاً ، والبور هو: الرجل الهالك الذي لا خير فيه، قال الله تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً }[الفتح:12] أي هلكى وهو جمع بائر مثل حائل وحُول.
وحكى الأخفش: أنه لغة وليس جمعاً لبائر، وهذا جيد لأن فاعل صفة لا يجمع على فعل، قال عبد الله بن الزبعرى :
يا رسولَ المليكِ إنَّ لساني
راتقٌ ما فتقت إذ أنا بور
(وصارت أموالهم للوارثين): أي للذين ورثوهم من بعد موتهم من أقاربهم.
(وأزواجهم لقوم آخرين): نكحت بعدهم، وخلفوا عليها.
(لا في حسنة يزيدون): لانقطاع ذلك بالموت، وفي الحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عنه سائر عمله )).
(ولا من سيئة يستعتبون): استعتبته أي طلبت رضاه.
(فمن أشعر قلبه التقوى ): خوف الله ومراقبته في جميع أحواله.
(برز مهله): أي ظهر انتظاره الموت واستعدَّ لهجومه عليه، من الاستمهال: وهو الانتظار.
(وفاز عمله): الفوز: الظفر والنجاة؛ أي نجا بعمله وظفر بجزائه.
(فاهتبلوا هَبَلَها): الضمير للتقوى المذكور أولاً، وأراد فاغتنموا غنمها .
(واعملوا للجنة عملها): الذي يحق لها ويكون صالحاً؛ لأن تكون جزاءً له.
(فإن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام): لتسكنوا فيها، وتقيمون عليها.
(بل خلقت مجازاً): المجاز مفعل وهو ها هنا إما مصدر، أي خلقت من أجل تغريبكم عنها، وإما مكان أي خلقت مكاناً تجوزون منه إلى الآخرة.
(لتزوَّدوا منها الأعمال): لتأخذوا في زمانها ما ينجيكم من الأعمال الصالحة.
(إلى دارالقرار): وهي الجنة؛ لأنها موضع لا ينتقل عنه.
(فكونوا منها على أوفاز): الوفز: العجلة، والجمع أوفاز، قال الراجز:
أسوقُ عِيْراً مائل الجِهَازِ
صعباً يُنَزِّيني على أَوْفَازِ
(وقربوا الظهور للزيال): للانتقال عنها، وأراد بتقريب الظهور، سرعة الانتقال عنها، والظهر : الركاب الذي ينقل عليه الأثقال.
فانظر هذه الخطبة كيف اشتملت على جزل اللفظ ورقيقه، وبديع المعنى وغريبه، وهو باب من علوم البيان، أعني جزالة اللفظ لا يشق غباره، ولا تحصى محامده وآثاره، وأكثر القرآن مختص بما ذكرناه، ومنه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }[البقرة:179]، وقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ }[البقرة:194]، وقوله: {فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ }[البقرة:193].
ومن أحسن ماقيل في الجزالة قول بشار :
إذا ما غَضِبْنَا غضبةً مُضريَّةً
هتكنا حجابَ الشمس أومطرت دما
إذاما أعزي سيداً من قبيلةٍ
ذرا منبرٍ صلَّى علينا وسلَّما
(124) ومن خطبة له عليه السلام
(وانقادت له الدنيا والآخرة بأزمتها): يريد إما انقاد من فيهما لعزته بالخضوع والذلة، وإما أن يكون الانقياد كناية عن نفوذ الأمروسرعة الإجابة، كما قال تعالى: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهاً }[فصلت:11].
(وقذفت إليه السماوات والأرضون مقاليدها): أي بمقاليد خزائنها، والمقاليد جمع مقلاد وهو: المفتاح.
(وسجدت له بالغدو والآصال الأشجار الناضرة): الغدو هو: أول النهار، والآصال: جمع أصيل وهو: ما بين العصر إلى غروب الشمس، والنضارة هي: الحسن، وأراد بالسجود للأشجار، إما نفوذ الأمر فيها وانقيادها لأمره بمنزلة من يسجد خضوعاً وتذللاً، وإما أن يريد بسجودها هو تحركها وميلانها عند هبوب الريح بكرة وعشياً.
(وقدحت له من قضبانها النيران المضيئة): القدح هو: ظهور النار من العيدان، والقضبان: جمع قضيب وهوالشمراخ، وهذا من باهرالقدرة وعجيبها، الجمع بين النار والماء في هذه الأعواد كلها، كما قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}[يس:80].
(وآتت أُكُلَها بكلماته الثمار اليانعة): الأُكُلُ بالضم مايؤكل، كما قال تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ }[إبراهيم:25] وأراد بكلماته؛ إما بأوامره، وإما بأسمائه التامة الحسنة.
(وكتاب الله بين أظهركم): يقال: هو نازل بين ظهريهم، وظهرانيهم بفتح النون، ولا يقال بكسرها، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنكم لاتعملون بأحكامه، ولا تعولون عليه أخذاً من قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ }[آل عمران:187].
وثانيهما: أن يريد أنه غائب عنكم لا ترونه، بمنزلة ما يكون على الظهر، فأنتم لا ترون له حقاً لغيبته عنكم.
(ناطق لا يعيا لسانه): عيَّ في منطقه إذا لم يبين كلامه، وعيَّ في أمره إذا لم يهتد لوجهه، وفي المثل: هو أعيا من باقل .
(وبيت لا تهدم أركانه): جوانبه، والتهديم: التخريب.
(وعز لاتهزم أعوانه): الأعوان جمع عون ، وأراد أن كل من كان القرآن في صفِّه فإنه لا يهزم ولا ينكسر.
(أرسله على حين فترة من الرسل): يحكى أن الفترة التي كانت بين آدم ونوح ألفان ومائتان وأربعون سنة، ومن نوح إلى إبراهيم أربعمائة وست وثمانون سنة، ومن إبراهيم إلى موسى أربعمائة وست وثلاثون سنة، ومن موسى إلى عيسى ألف وسبعمائة وثلاث وسبعون سنة، وقد تقدمت رواية غير هذه في حال عيسى وموسى، وكان عمر آدم عليه السلام تسعمائة وثلاثين سنة، وعمر نو ح ألف وأربعمائة وخمسين سنة، وعمر إبراهيم مائة وخمسة وخمسين سنة، وعمر موسى مائة وستة وعشرين سنة، وعمرعيسى إلى أن رفعه الله ثلاثة وستين سنة، وعمر نبينا صلى الله عليه وآله ثلاثاً وستين سنة .
(وتنازع من الألسن): أراد إما اختلاف الشرائع؛ لأن كل شريعة إنما تكون بلسان ذلك النبي المرسل إلى قومه، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ }[إبراهيم:4] ليفهموا عنه ما يقول لهم، وإما أن يكون مراده اختلاف اللغات، واختلافها في الفصاحة والبلاغة، فكان القرآن هو الغاية والنهاية.
(قفَّى به الرسل): أي ختم به الرسالة، وجعله منتهاها وغايتها.
(وختم به الوحي): فلا يكون وحي بعده.
(فجاهد في الله حق جهاده): الاجتهاد الذي يكون منه رضاءً له، وهوتدمير أعدائه وإظهار دينه، كما قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ }[الحج:78].
(المدبرين عنه): المخالفين لدينه، والمتولين عن أوامره.
(والعادلين به): إلى غيره، إما إلىشريعة أخرى كأهل الكتابين من اليهود والنصارى، وإما إلى غير شريعة ولا كتاب نحو مشركي العرب وسائر المرتدين.
(وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى): أي هي غايته وقصاراه.
(لا يبصر من ورائها شيئاً): أي لا يلتفت إلى الآخرة، ولا يرعيها طرفاً.
(والبصير ينفذها بصره): أي يجاوزها إلى الآخرة، ولا يكون معرجاً عليها.
(ويعلم أن الدار وراءها): التي ينبغي التعويل عليها، والتي هي الدار على الحقيقة.
(فالبصير منها شاخص): أي خارج، من قولهم: شخص بصر من الدار إذا خرج عنها، ومن ها هنا لابتداء الغاية.
(والأعمى إليها شاخص): أي خارج، أي هي غايته فلا يشخص إلا إليها لا غير.
(والبصير منها متزود): أي المستبصر في أمر دينه متزود منها الأعمال الصالحة، ويرجو المتاجر الرابحة.
(والأعمى لها متزود): أي أنه لا يظعن إلا إليها فزاده لا يتجاوزها، بل إنما يكون عاملاً لها لا غير، وهذا من ضد الطباق، ومن رشيقه، حيث ذكر البصير والأعمى، وألحق بكل واحد منهما ما يليق به من معانيه التي تصلح فيه.
(واعلموا أنه ليس من شيء إلا ويكاد صاحبه يملُّ منه ): تلحقه منه سآمة، وملالة ويشبع منه.
(إلا الحياة): فإنها من بين سائر الأشياء المشتهاة، والأمور اللذيذة لا تمل أبداً.
(فإنه لا يجد له في الموت راحة): لانقطاع سائر المنافع واللذات عنه.
(وإنما ذلك بمنزلة الحكمة): إنما هذه تفيد الحصر حيث وجدت ، كما قال تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ }[طه:98] لأن المعنى ما إلهكم إلا الله، وذلك إشارة إلى القرآن المتقدم ذكره في أول كلامه، وإنما أتى باللفظ المستعمل في الإشارة لما كان بعيداً، لما تقضَّى تنبه ذكره، والمتقضي في حكم البعيد، وذلك مبتدأ، وقوله: بمنزلة الحكمة خبره ، ومعناه: وإنما القرآن بمنزلة الحكمة:
(التي هي حياة للقلب الميت): الغافل عن الموعظة، كما قال تعالى: {شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ }[يونس:57].
(وبصر للعين العمياء): التي ليس لها نظر إلى الآخرة فهي بمنزلة العين العمياء.
(وسمع للأذن الصماء): التي لا تصغي إلى ما ينفعها من المواعظ والآداب والحكم.
(وري للظمآن): العاطش.
(وفيها الغنى كله): الضمير للحكمة، أي أن فيها منافع الدين والدنيا، فلا يفتقر معها إلى شيء سواها.
(والسلامة): عن أخطار الدين والدنيا؛ لأن مع الحكمة تقع السلامة عن ذلك.
(كتاب الله [تبصرون به] ): أي هو كتاب الله، أو يكون بدلاً من اسم الإشارة، ويجوز نصبه مفعولاً لتبصرون.
(وبه تنطقون ): أي تتكلمون بما يكون مطابقاً له.
(وتسمعون به): أي ولا يكون حقيقاً بالاستماع من كلامكم كله إلا ما كان موافقاً له.
(وينطق بعضه ببعض): في الصدق في جميع ما تضمنه، أو يكون مراده وينطق بعضه ببعض في الصحة، وعدم المناقضة والفساد، كما قال تعالى: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ }[فصلت:42].
(ويشهد بعضه علىبعض): في تأييد الأحكام وتقريراتها من أن يعتريها نقص، أو يرتمى إليه خلف ومدافعة.
(ولا يختلف في الله): إما أن يريد نفي اختلافه فيما يكون منه دلالة على ذات الله كنفي الرؤية واستحالتها على الله تعالى، وإثبات الوحدانية له، وغير ذلك مما يكون مستنده الشرع من الإلهيات، وإما أن يريد به نفي اختلافه فيما أخبر به عن الله من العلوم الغيبية، من القصص وسائر الأخبار التي تضمنها.
(ولا يخالف بصاحبه عن الله): أي مهما كان الاعتماد على القرآن للإنسان في كل أحواله فإنه لا يخالف، ولا يكون مجاوزاً لمقصود الله تعالى ومراده منه، وقد ورد عن الرسول ما يطابق ما قاله ها هنا في القرآن، كقوله: ((هو أوضح دليل إلى خير سبيل ، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل)) .
(قد اصطلحتم على الغل): ما يكون في الصدورمن الأحقاد، وأراد أن أحوالهم جميعاً قد استوت على أن كل واحد منهم في قلبه حقد وغل على صاحبه، وهو لايحكم على قلبه ولا يرى له أثر على وجهه.
(فيما بينكم): في خاصة نفوسكم وذواتها.
(ونبت المرعى على دِمَنِكم): الدِّمَنُ جمع دِمْنَة، وهي: الحقد، وجعل نبات المرعى كناية عن دوامها، وثبوتها في أحوالكم.
(وتصافيتم على حبِّ الآمال): المصافاة مفاعلة، وأراد أن كل واحد منكم ودَّه لأخيه لأجل كثرة آماله وبُعْدها، أو أراد الموافقة، أي أنكم اتفقتم على الآمال الطويلة، والإعراض عن الآجال وقربها.
(وتعاديتم في كسب الأموال): أي أن كل واحد منكم يحسد أخاه على ما وصل إليه من رزق الله، حتى صار ذلك سبباً للمعاداة منكم، وحصول البغضاء فيكم.
(لقد استهام بكم الخبيث): ذهب بكم الشيطان مذاهبه الردية، من قولهم: هام إذا ذهب.
(وتاه بكم العدو ): أراد حيَّركم في المهالك.
(والله المستعان على نفسي): دفع شرنفسي.
(وأنفسكم): دفع شر أنفسكم.
وليس يخفى ما تضمنته هذه الخطبة من الاستطرادات العجيبة، فبيناه يتكلم في حال السماء، إذ خرج إلى حال القرآن، إذ خرج إلى وصف الرسول، إذ خرج إلى حال الدنيا.
(125) ومن كلام له عليه السلام وقد شاوره عمر في الخروج إلى الروم
(وقد توكل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة): صار معتمداً لأهل الإسلام يلجأون إليه في كل ما نابهم من الشدائد، من قولهم: اتكلت على رأي فلان أي اعتمده، والحوزة: الناحية، وحوزة الملك بيضته أي بإعزاز جانبهم وحماية خططهم.
(وستر العورة): العورة من الرجل والمرأة: سوآتهما، والعورة: كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب، وهذا هو مراده ها هنا.
(والذي نصرهم، وهم قليل لا ينتصرون): لأجل قلة عددهم فهم لا يمتنعون من كل أحد.
(ومنعهم): عن الأعداء.
(وهم قليل): أي عددهم قليل.
(لا يمتنعون): من أجله.
(حي): مرفوع على أنه خبر عن الذي في أول كلامه .
(لا يموت): يستحيل عروض الموت على حياته؛ لأنها حاصلة للذات فلا يتغير بحال.
(وإنك): خطاب لعمر.
(متى تسر إلى العدو بنفسك): بذاتك من غير استخلاف غيرك.
(فتلفهم ): الضمير لمن يقصدونه من الكفار.
(فتنكب): فيصيبك نكبة، وهما مجزومان عطفاً على فعل الشرط، وهو تسر.
(لا تكن للمسلمين): وهو جواب الشرط.
(كانفة): كنفت الشيء أكنفه إذا حطته ومنعته ، والكانفة إما مصدر بمعنى الكنف كالكاذبة بمعنىالكذب، وإما أن تكون صفة أي حالة كانفة.
(دون أقصى بلادهم): أراد أنه هوالغاية للمسلمين والنهاية، فإذا هزموه لم يستقتلوا نفوسهم إلا بالوصول إلى بلادهم، ولا يكون لهم عز ومنعة دونها.
(ليس بعدك مرجع): أي بعد خروجك مستند يلوذ به المسلمون إذا نابتهم نائبة.
(يرجعون إليه): يكون غاية لهم.
(فابعث إليهم رجلاً مجرباً): له تجربة وحنكة في الحروب، وتقدم فيها، أو (محرباً) بالحاء المهملة، والمحرب: كثير المعاودة في الحرب، والمعالجة لأحوالها، والجيم هو سماعنا.
(وأحفز إليه ): عجِّل إلى نصرته.
(أهل البلاء): إما أهل الاختبار [والتجارب] في الأمور، وإما أن يريد أهل الامتحان والصبر على الشدائد.
(والنصيحة): له ولك.
(فإن أظهرالله): عليهم بالنصر وأعانهم.
(فذاك ما تحب): من الأمور التي أردتها وقصدتها.
(وإن تكون الأخرى): بأن الدايرة عليكم.
(كنت ردءاً للناس): عوناً لهم يلجأون إليه، كما قال تعالى: {فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي }[القصص:34].
(ومثابة للمسلمين): يرجعون إليك، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ }[البقرة:125] أي يرجعون إليه من أجل تعظيمه بالحج والاعتمار.
(126) ومن كلام له [عليه السلام] يخاطب به المغيرة بن الأخنس
وقد وقعت مشاجرة بينه وبين عثمان، فقال المغيرة: أنا أكفيكه، فقال له أمير المؤمنين :
(يا ابن اللعين الأبتر): المغيرة هذا هو ولد الأخنس بن شريق، وهو أحد المقتسمين الذين حكاهم الله تعالى في قوله: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ }[الحجر:90]، وهم اثنا عشر رجلاً من أسنان قريش ورؤسائها ، وهو أنهم اقتسموا مداخل مكة وطرقها، فقعد كل واحد منهم في طريق من طرقها، ينفرِّون الناس عن التصديق برسول الله، وبهتاً له بأنه ساحر، ويقول بعضهم: إنه كذاب، وآخرون إنه شاعر، إلى غير ذلك من التقولات الكاذبة ، فأما المستهزؤن فهم خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة .
وأراد بابن اللعين المطرود عن رحمة الله تعالى، وإنما وصفه بالبتر؛ لأن كل أحد انقطع من الخير أثره فهو أبتر، ولا انقطاع أبلغ من انقطاعه من ثواب الله تعالى وخيره.
(والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع): شجرة الإنسان: قبيلته التي يعتزي إليها، وأراد أنه لاأصل لها فيعرف، ولا فرع لها فيثمر ويورق، كما قال تعالى: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ }[إبراهيم:26].
(أنت تكفيني؟): استفهام على جهة التوبيخ والتقريع وروده، وأراد أنه ليس كفواً له ولا مثله يقوم لمثله، وهيهات أين فتيت المسك عن الرغام!، وشتان ما بين أخمص القدم وذروة السنام!.
(فوالله ما أعز الله من أنت ناصره): أراد أنه ذليل فلا يعتز من كان ناصراً له.
(ولا قام): من عثاره وكبوته.
(من أنت ناهضه ): مقيم له عن عثاره، وهذا هو النهاية في ذله وهوانه.
([اخرج عنَّا] أبعد الله نواك): فيه روايتان:
أحدهما: أن يكون مهموزاً والنوء: المطر، وأراد أبعد الله نجم مطرك، وهو كناية عن إذهاب خيره وإعدامه.
وثانيهما: نواك من غير همز وهو سماعنا في الكتاب، وأراد بالنوى ما ينويه المسافر في سفره من قُرْبٍ وَبُعْدٍ.
(ثم ابلغ جُهدك): بضم الجيم وفتحها: الطاقة، وقيل: الجهد بالضم هو الاسم، وبالفتح المصدر من جَهَدَ يَجْهِدُ جَهْداً، وأراد أبلغ حيث يمكن طاقتك.
(فلا أبقى الله عليك): دعاء عليه، أي لا أبقى الله عليك شيئاً من الخير.
(إن أبقيت!): شيئاً مما تطيقه وتبلغ جهدك فيه.
(127) [ومن كلام له عليه السلام]
ثم خاطب أصحابه في حكم البيعة وأمرها، بقوله:
(لم تكن بيعتكم إياي فلتة): يشير بذلك إلى كلام لعمر قاله في خلافة أبي بكر قال: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة من عاد إلى مثلها فاقتلوه ، أراد أنها ما كانت هكذا، والفلتة: الفجأة، بل إنما صدرت عن تدبُّر وتفكُّر، ورضا المعتبرين من جُلّة الصحابة وأكابرهم.
(وليس أمري وأمركم واحداً): ليس الأهواء متفقة، ولا الخواطر ملتئمة.
(إني أريدكم لله): عوناً على ما أريد به وجه الله من الدعاء إلى الله وأمر بمعروف أو نهي عن منكر، وإقامة حدود الله.
(وأنتم تريدونني لأنفسكم): لأخذ الأموال والتنعم بها في الدنيا، وأكل الطيبات واستعمالها.
(أيها الناس، أعينوني على أنفسكم): بالانقياد لأمري، وترك المخالفة لي فيما أمرت به، ففي ذلك رضوان الله والفوز بالجنة.
(وايم الله): هي أيمن الله، لكن طرحت نونها تخفيفاً، وفيها لغات كثيرة، وخبرها محذوف تقديره قسمي.
(لأنُصفنَّ المظلوم ): بأخذ حقه له وإنصافه به.
(ولأ قُودنَّ الظالم بخزامته): الخزامة: هي حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير يشدُّ بها الزمام، ومعها ينقاد سلساً متذللاً.
(حتى أورده منهل الحق): في المناصفة وأخذ الحق منه وإعطاؤه.
(وإن كان كارهاً): على رغم أنفه، وعنى بذلك التشدد في الإنصاف وأخذ الحق للمظلوم من الظالم، وهذا هو الدين المرتضى والحق الذي لا غبار على وجهه، ولقد كان لايقف لظالم على ظلامة، ولا تأخذه في الله من لائم ملامة {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }[الزمر:3].
(128) ومن كلام له عليه السلام في معنى طلحة والزبير
(والله ما أنكروا عليَّ منكراً): أراد أن الذي نقموه عليَّ، وأنكروه من جهتي ليس منكراً ينقمة الشرع ويكرهه، وإنما كان ذلك تجنياً عليَّ، وطلب أمور لا عذر لهم فيها عند الله تعالى.
(ولا جعلوا بيني وبينهم نِصْفاً): بكسر النون، هو الاسم من الانتصاف، وأراد بيان ما حصل من جهتهم من الحيف عليه، والميل إلى غيره لغير وجه يكون مقتضياً لذلك.
(وإنهم ليطلبون حقاً هم تركوه): يشير إلى طلحة والزبير وعائشة بذلك، وأنهم هم الذين خذلوا عثمان، وتركوا حقه في القيام معه.
(ودماً هم سفكوه): أراقوه بأيديهم.
ويحكى أن أمير المؤمنين لما تصافا الفريقان يوم الجمل، خرج في إزار وعمامة متقلداً لسيف رسول الله، راكبا على بغلته دلدل، فنادى الزبير، فقالوا: تخرج إليه يا أمير المؤمنين حاسراً ، فقال: (ليس عليَّ منه بأس)، فخرج إليه الزبير، فقال:
(ما حملك على ما فعلت يا أبا عبد الله).
فقال: الطلب بدم عثمان.
فقال له : (أنت وأصحابك قتلتموه، أنشدك بالذي أنزل القرآن على محمد أليس رسول الله قال لك يوماً: ((أتحب علياً))، فقلت: وما يمنعني من ذلك وهو بالمكان الذي علمت؟ فقال لك: ((أما والله لتقاتلنه في فئة وأنت له ظالم ))).
فقال الزبير: اللَّهُمَّ، نعم، ثم قال له: (أمعك نساؤك)؟
قال: لا.
فقال له: (هذا قلة إنصاف أخرجتم حليلة رسول الله، وصنتم حلائلكم...) إلى كلام طويل.
قال: فبكى الزبير من ذلك، ثم أتى عائشة فقال لها: يا أمه، ماشهدت موطناً قط في جاهلية ولا إسلام إلا ولي فيه داعٍ غير هذا الموطن، مالي فيه بصيرة، وإني لعلى باطل، فقالت له: يا أبا عبدالله، حذرت سيوف بني المطلب وابن أبي طالب ، ثم قال له ابنه: لا والله ما ذاك زهداً منك، ولكن رأيت الموت الأحمر فلعن ابنه، وقال: ما أشأمك من ابن! .
وعن عمران بن الحصين ، أنه قال لعائشة لماقدمت البصرة: يا أم المؤمنين، أبعهد من الله خرجت من بيتك، فقالت: جئنا نطلب بدم عثمان، فقال لها: ليس في البصرة أحد من قتلة عثمان فلماذا جئتم إليها؟
فقالت: لكنهم مع علي فجئنا لنقاتلهم، فيمن يتبعنا من أهل البصرة؟
فقال لها: ما أنت وذاك! وقد أمرك الله أن تقرِّي في بيتك، وتلا عليها كتاب الله، وقال لها: اتقي الله يا أم المؤمنين ، واحفظي علياً وقرابته من رسول الله .
(فإن كنت شريكهم فيه): قاتلاً له معهم.
(فلهم نصيبهم منه): فأراهم يضيفونه إليَّ ويتهمونني به.
(وإن كانوا ولوه دوني): استبدوا به.
(فما الطلبة إلا قبلهم ): فهم الغرماء دوني.
وروي عن الزبير أنه قال عند نزول البصرة: والله ما كان أمرقط إلا عرفت أين أضع قدمي فيه، إلا هذا الأمر، فإني لاأدري أمقبل أنا فيه أم مدبر؟
فقال له ابنه: لا، ولكنك خشيت رايات ابن أبي طالب، ورأيت الموت الناقع تحتها، فقال له الزبير: مالك أخزاك الله! .
(وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم): أراد إن كانوايعدلون وينصفون من أنفسهم، فأول ذلك وأمارته الحكم على أنفسهم، والنظرفي القضية فإن الحجة عليهم قائمة.
وروي أن رجلاً من أهل البصرة قال لطلحة والزبير، فقال لهما: إن لكما فضلاً وصحبة فأخبراني عن مسيركما هذا وقتالكما، أشيء أمركما به الرسول عليه السلام، أم رأي رأيتماه؟ فأما طلحة فسكت، وجعل ينكت في الأرض، وأما الزبير فقال له: ويحك!، إن ها هنا دراهم كثيرة فجئنا لنأخذ منها .
وروي عن عمار بن ياسر أنه جاء إلى عائشة فقال: سبحان الله! ما أبعد هذا الأمر من الأمر الذي عهد إليك الله، أمرك أن تقري في بيتك.
فقالت: من هذا؟ أبو اليقظان ؟ فقال: نعم، فقالت: أما والله ما علمت إلا أنك لقوَّال بالحق.
فقال: الحمدلله الذي فضحك على لسانك .
(وإن بصيرتي لمعي): البصيرة هي: الاسم من الاستبصار؛ أراد أني عالم بما أنا فيه من ضلالهم واستصواب قتالهم.
(ما لبست): على أحد خدعته عن الدين واستزللته.
(ولا لُبِّسَ عليَّ): أمري ودخل في عقلي بالإضلال، وأراد أني ما خدعت أحداً ولا خدعني.
(وإنها للفئة الباغية): الضمير للقصة، وأراد من خالفه من أعدائه أي الجماعة التي خالفت أمرالله في حربي وقتالي، ويشير بكلامه هذا، إلى ما قاله الرسول لعمار: ((تقتلك ياعمار الفئة الباغية )) .
(فيها الحمى ): الحرارة.
(والحُمة): سم الأفاعي.
(والشبهة المغدفة ): والخطة المشتبهة على أهلها، والمحارة العظمى لهم فيما هم فيه من الأمر، والمغدفة بكسر الدال هي: المظلمة من أغدف الليل إذا كان مظلماً، وبفتحها المجعولة كثيراً، من قولهم: غدفت العين إذا كانت غزيرة ، وسماعنا بالكسر فيها.
ويحكى عن ابن عباس أنه قال لعائشة: ألست [إنما سميت] أم المؤمنين بنا؟
قالت: بلى، فقال: أولسنا أولياء زوجك؟
فقالت: بلى، فقال لها: فَلِمَ خرجت بغير إذن منَّا؟
فقالت له: أيها الرجل، كان فِصاداً من خديعة .
فهذه الروايات كلها دالة وموضحة أنهم فيما أتوا على غير بينة عادلة، ولا هم على حجة واضحة.
(وإن الأمر لواضح): في دعائي إلى الحق، ودعائهم إلى الضلالة.
(وقد زاح الباطل عن نصابه): بعد عن موضعه ومستقره .
(وانقطع لسانه عن شغبه): كثرة لجاجه بما لا يجدي، وأراد بذلك استظهاره عليه ، وغلبته إياهم بما أعطاه الله من النصر والظفر.
(وايم الله لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه): فرط الحوض إذا ملأه، والمتح: النزع للماء، وجعل ذلك كله كناية عما أوقعه بهم من القتل، ونصب لهم من الحرب العظيمة، والقتالات الشديدة.
(لا يصدرون عنه بريّ): لا يروون بعده؛ والري هو: زوال الشهوة للماء.
(ولا يعبَّون بعده في حسيّ): العبُّ هو: شرب الماء من غير مص، والحسي: جمع حسوة، وهو فعول لكنها قلبت فيه الواوان يائين على جهة التخفيف، كما فعلوا في نحو دلي وأصله دلو، يروى بضم الحاء وكسرها، والحسوة: حفير في الرمل ينشف الماء فإذا وصل إلى تراب صلب أمسك الماء فيحفر فيؤخذ منه الماء، وعنى بذلك استئصال شأفتهم بالقتل.
(فأقبلتم إليَّ): أراد بعد قتل عثمان للبيعة والقيام بالأمر.
(إقبال العوذ المطافيل على أولادها): العوذ جمع عائذ وهي: الناقة القريبة العهد بالنتاج، والمطفل: الظبية التي لها ولد وهي قريبة العهد بالولادة أيضاً، وأراد بذلك سرعة إقبالهم إليه للبيعة كإسراع العوذ والمطافيل إلى أولادها.
(تقولون: البيعة البيعة!): أي خذ البيعة علينا، وإنما ثنّاه تأكيداً ومبالغة كما يقال: الدرهم الدرهم.
ويحكى أن أميرالمؤمنين أمر ابن عباس إلى الزبير يوم الجمل، فقال له: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول لك: ألم تبايعني طائعاً غير مكره، فما الذي رأيت مني مما استحللت فيه قتالي .
(قبضت يدي): رغبة عن الأمر.
(فبسطتموها): لأخذ البيعة منكم.
(ونازعتكم يدي): مرة بعد مرة.
(فجاذبتموها): وأبيتم إلاالبيعة.
(اللَّهُمَّ، إنهما): يريد طلحة والزبير.
(قطعاني): إما قطعا رحمي بالمقاتلة، وإما قطعا الموالاة لي في الدين بالبغي عليَّ والمحاربة لي.
(وظلماني): أسقطا حقي.
(ونكثا بيعتي): التي أعطياني من قبل هذا.
(وألبَّا عليَّ الناس): جمعاهم من كل صُقْعِ ، ولبسا على الناس أمرهم في استصواب قتالي، وخروجهما بعائشة من أجل ذلك.
ويحكى عن عائشة أنها لما خرجت للقتال، أرسلت إلى أبي بَكْرة رجلاً فقالت له: ما منعك من إتياني، أعهد عهده إليك رسول الله أم أحدثت بدعة ؟ فأرسل إليها: لا هذا ولا هذاك، ولكن تذكرين يوماً كان رسول الله عندك فبشّر بظفر أصحاب له فخر ساجداً، ثم قال للرسول: حدثني.
فقال: كان الذي يلي أمرهم امرأة.
فقال عليه السلام: ((هلكت الرجال حين أطاعت النساء )) ، فلما رجع الرسول إليها بكت حتى بلَّت خمارها .
(فاحلل ما عقداه): من أمر الحرب والمناصبة.
(ولا تحكم ما أبرماه): من ذلك، حبل مبروم إذا كان جيد الفتل محكماً.
(وأرهما المساءة فيما أمَّلا وعملا): المساءة مفعلة من السوء، كالمسعاة من السعي، وأراد خيب آمالهما، وأذهب ما يعملانه من المكر والخديعة.
(ولقد استتبتهما عن القتال): لما كان قتالهما شبهة في الدين وفتنة فيه، وكان عليه السلام عظيم التأني في حرب أهل القبلة، لا يعجل عليهم بالقتال إلا بعد الاستتابة وإبلاغ المعذرة، كما فعل مع غيرهم من الخوارج وأهل الشام معاوية وأصحابه.
(واستأنيت بهما أمام الوقاع): تربصت بهما قبل القتال رجاء أن يعودا عن غيهما، ويرجعا عن بغيهما.
(فغمطا النعمة): حقرا نعمة الله عليهما بمخالفة أمره.
(وردّا العافية): وهي السلامة عما أصابهما من القتل.
(129) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الملاحم
(يعطف الهوى على الهدى): أي يرد الهوى ويميل إلى الهدى ويدعو إليه.
(إذا عطفوا الهدى على الهوى): إذا عطفوا الحق على الباطل.
(ويعطف الرأي على القرآن): لا يجعل للرأي مع القرآن حكماً، ويعتمد في أمره على كتاب الله تعالى.
(إذا عطفوا القرآن على الرأي): اعتمدوا آراءهم، وتركوا القرآن، يشير بما ذكره إلى خروج المهدي ويذكر حاله في ذلك اليوم.
(حتى تقوم بكم الحرب على ساق): عبارة عن شدتها وصعوبتها ، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }[القلم:42].
(بادياً نواجذها): النواجذ هي: الأسنان.
(مملوءة أخلافها): ضروعها، واحدها خلف.
(حلواً رضاعها ): لمن ارتضعه.
(علقماً عاقبتها): العلقم: نبت فيه مرارة عظيمة، وعاقبتها مرفوعة على الابتداء وهو خبرها، وأراد أن عاقبتها وخيمة.
(ألا وفي غد): ألا للتنبيه، وأراد والعجب في غد.
(وسيأتي غد بما لا تعرفون): من العجائب العظيمة، وإنما أظهره في موضع الإضمار دلالة على إعظام الأمر فيه.
(يأخذ الوالي من غيرها عمَّالها): أي يكون المتولي للكوفة من غير أهلها، يأخذ خراجها من عمالها.
(على مساوئ أعمالها): أراد بما فعلوامن الأعمال السيئة، والأفعال القبيحة.
(وتخرج له من الأرض أفاليذ كبدها): الأفاليذ جمع أفلاذ، والواحد منها فلذ وهي: قطع الكبد، واستعار الأفلاذ عبارة عن نفائس الدنيا وممالكها العظيمة، لما كانت الكبد أعز أعضاء الحيوان وأعلاها حالاً في الاغتذاء.
(وتلقي إليه سِلْماً مقاليدها): وسلماً أي استسلاما وانقياداً، وانتصابه إما على الحال أي منقادة متسلمة، أو على التمييز بعد الفاعل أي تلقي إليه مفاتيحها وأمورها العظيمة.
(فيريكم كيف عدل السيرة): حال السيرة العادلة، ويظهرلكم مواردها ومصادرها.
(ويحيي ميت الكتاب والسنة): ما اندرس من علومهما وأحكامهما.
(كأني به قد نعق بالشام): الضمير في به يحتمل أن يكون عائداً إلى الوالي الذي قد تقدم ذكره، ويحتمل أن يكون عنى به المختار بن أبي عبيد ، وقيل: أراد الحجاج بن يوسف، وقيل: أراد عبد الله بن الزبير . والله أعلم أي ذلك.
(وفحص براياته في ضواحي كوفان): الضواحي: جمع ضاحية وهي براري المدينة، وصحاريها المنكشفة.
(فعطف عليها عطف الضروس): كرَّ عليها ومال بالأخذ والقتل، والضروس: الناقة المتعصية السيئة الحال، وإنما شبَّهه بها لشدة غضبه على أهلها لسوء أعمالهم.
(وفرش الأرض بالرءوس): أراد به عظم قتله هناك، حتى صارت الرءوس كالبساط الممدود على الأرض.
(قد فغرت فاغرته): فغر فاه إذا فتحه، وأراد أن جنده ظهروا على الناس، وفتحوا أفواههم ليأكلوا الناس، ويأخذوا أموالهم، والفاغرة: نوع من الطيب، وذكروا أنها النيلوفر الهندي، وسميت بذلك لأنها حبُّ ينفح عند إيناعه ويبسه.
(وثقلت في الأرض وطأته): لعظم حاله وكثرة جنده، وامتداد عسكره.
(بعيد الجولة): تجاول الفرسان في الحرب إذاجال بعضهم على بعض، وأراد أنه لكثرة جنده فتجوالهم في أمكنة بعيدة الأطراف.
(عظيم الصولة): صال عليه إذا استطال، وكان مقتدراً.
(والله ليشردنَّكم): يفرقنَّكم.
(في أطراف البلاد ): أقصاها وأدناها.
(حتى لا يبقى منكم): بعد القتل والأسر، والتطريد والتشريد.
(إلا قليل): لا يلتفت إليه ولا يعبأ به.
(كالكحل في العين): في القلة، ولهذا فإنه لا يؤذيها لرقته وحقارته وخفته.
(فلا تزالون كذلك): على ما وصف من حالهم في القتل عقوبة من الله تعالى، وانتقاماً منه، كما قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ}[الرعد:31] فهذه العقوبات بالقتل والأسر والتسليط، لا يمتنع إنزالها من الله تعالى على جهة العقوبة والانتقام من معاصي قد أسلفوها.
(حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها): يرجع إليهم ما ذهب من عقولهم وأحلامهم وبعد عنهم وضل، فيجعلون التقوى وخوف الله تعالى شعارهم، ويفيئون إلى أمر الله باتباع أئمة الدين، وسلوك طريق الرشاد .
(فالزموا السنن القائمة): اجعلوها عمدة لكم، ولا تعرضوا عنها، ويمكن حمله على العموم في سنن الأنبياء، وإما على الخصوص في سنة الرسول عليه السلام فإنها كلها أجمع دالة على الرشد.
(والآثارالبينة): من أعلام الهدى.
(والعهد القريب): بالرسول عليه السلام.
(الذي عليه باقي النبوة): آثارها ومعالمها، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء:26] وهي أعلام التوحيد، وأحكام الإلهية، وعلوم الآخرة.
(واعلموا أن الشيطان إنما يسنِّي لكم طرقه): يقرِّبها ويجعلها سهلة عتيدة .
(لتتبعوا عقبه): تسلكوا على أثره فيما يريده من الإغواء، والصد عن الهدى بمبلغ جهده وإمكانه.
(130) [ومن كلام له عليه السلام في وقت الشورى]
ثم قال بعد ذلك:
(إنه لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق): أراد أنه أعظم الناس إسراعاً إلى مكارم الأخلاق، وحميد الشيم، وأنواع المعروف، وأن أحداًلم يسبقه إلى الدعاء إلى الحق إلا الأنبياء.
(وصلة رحم ): بالبر لها ، والإحسان إليها.
(وعائدة كرم ): وعطاء ونعمة تصل وتكون عائدة إلى الْمُحْسَنِ إليه.
(فاسمعوا قولي): سماع قبول وإجابة.
(وعوا منطقي): ما أنطق به من الحكم والمواعظ والآداب، واغتنموا أيامي وما فيها من إحياء السنن، وإماتة البدع.
(عسى أن تروا هذا الأمر): أراد الخلافة بعد موته.
(من بعد هذا اليوم): يشير إلى أيام خلافة بني أمية وبني العباس ومن بعدهم.
(تُنْتضَى فيه السيوف): أراد بالبغي، والفساد، والتجبر، والعناد.
(وتخان فيه العهود): بالفسق وسائر أنواع الفجور.
(حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة): يقتدى به.
(وشيعة لأهل الجهالة): أشاع الأمر إذا أظهره، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم بعضاً فهم شيع.
(131) ومن كلام له عليه السلام في النهي عن غيبة الناس
(وإنما ينبغي لأهل العصمة): المؤيدين بالألطاف الخفية عن فعل المعاصي.
(والمصنوع إليهم في السلامة): السالمين عن جميع العاهات إحساناً من جهة الله تعالى، واصطناع المعروف إليهم في ذلك، ومن هذا قوله تعالى لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }[طه:41] أي اختصصتك لما أريد من أغراضي ومقاصدي تشريفاً وإكراماً لك، وعناية بحالك.
(أن يرحموا): فاعل لقوله: ينبغي.
(أهل الذنوب والمعصية): لما يصيبهم من غضب الله تعالى، وسخطه في الدنيا، ولما أعد لهم من العقوبات السرمدية في الآخرة.
(ويكون الشكر هو الغالب عليهم): الكثير من أحوالهم، وطرائقهم على ما خُوِّلُوا من النعم وأكرموا بها.
(والحاجز لهم عنهم): الضمير الأول لأهل العصمة، والضمير الثاني لأهل الذنوب، والمعنى ويكون الشكر لأهل العصمة مانعاً عن أذاء أهل المعصية فيشتغلون بالشكر عن ذلك، فإذا كان هذا هو المتوجه لأهل المعصية على أهل الطاعة والعصمة.
(فكيف بالعائب الذي عاب أخاه): فكيف حال الْمُؤْمِنَيْنِ اللّذَيْنِ يغتب أحدهما صاحبه وينال من عرضه وينقصه بالغيبة له، فاللوم إلى العائب أكثر وما أصابه من النقص في دينه أوفر، فيما ذكر فيه.
(وعيَّره ببلواه): عابه بما ابتلاه الله به من فقر أو غيره من البلاوي في النفوس والأولاد والأموال، وسائر المصائب.
(أما ذكرموضع ستر الله عليه): قدر النعمة وحقها باطلاع الله تعالى على أمور كثيرة.
(من ذنوبه): التي اقترفها وأضمرها عن الخلق، ولو شاء الله لفضحه بها على رءوس الخلائق.
(وهو أعظم من الذنب الذي عابه به!): ربما كان أدخل في القبح ، وأعظم في المفسدة من الأمر الذي عاب به أخاه.
(فكيف يذمه بذنب قد ركب مثله!): تعجب من حال من يفعل ذلك، والمعنى أن العقول مشيرة وحاكمة بأن أحداً لا يعيب غيره بعيب مثله حاصل فيه، ولقد صدق من قال:
لا تَنْهَ عن خلقٍ وتأتي مثلَه
عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
ثم ولو سلمت تقديراً أنه خالي عن ذلك:
(فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه): لعصمة من الله تعالى في ذلك الذنب، أو لغير ذلك من الصوارف عنه.
(فقد عصى الله فيما سواه): بذنوب أخرى اجترحها وفعلها.
(مما هو أعظم منه): عند الله تعالى فهو العالم بصغائر الذنوب وكبائرها، وما يكون أدخل في الاستفساد من الذنوب من غيره، وطريق ذلك كله الشرع، ولا تصرف للعقول في ذلك.
(وايم الله): قسم وهو جمع يمين.
(لئن لم يكن عصاه في الكثير، وعصاه في القليل ): ولم يركب صغيرة ولا كبيرة من الذنوب ولا أقدم على شيء من محظورات دينه فعلاً كان أو كفاً.
(لجرأته): إقدامه، واجترأ على الشيء إذا أقدم عليه.
(على عيب الناس أكبر): أعظم جرماً عند الله، وأدخل في اللائمة من الله، وأراد بالكبر ها هنا إما أنه لا يمتنع ذلك عند الله تعالى أن تكون جرأته أكبر، فإن الأمر في ذلك مستورعنَّا لا نعلمه، وإما أن يريد بكبرها تفاحشها عند العقلاء، وعظم ما يكون من النقص بها.
(يا عبد الله): خطاب عام لكل أحد؛ لأن العبودية شاملة لجميع الخلائق ولم يرد أحداً بعينه، ولا شخصاً بنفسه.
(لا تعجل في عيب أحد): نقصه، ولا تسرع إلى ثلمه.
(بذنبه): بما اكتسب من الذنوب، وخالط من المعاصي.
(فلعله مغفور له): ما اكتسبه من تلك المعاصي، وإن كثرت وعظمت.
(ولا تأمن على نفسك): ارتكابك.
(صغير معصية): مما تستحقره في نفسك، ولا تبالي به.
(فلعلك معذب عليه): أراد ما تستصغره في نفسك وتستحقره، وهو عند الله كبير، ولا يحتمل سوى ذلك؛ لأن الصغائر على الحقيقة عقابها مكفَّر في جنب ما لصاحبها من الثواب، وفي الحديث: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنَّ لها من الله طالباً )) ، يشير إلى ما ذكرناه مما تستحقره النفوس منها.
(فليكفف من علم منكم عيب غيره): عن أن يذكره بلسانه أويحكيه لغيره، أو يشير إليه بالنقص، إشارة يفهم منها نقصه، أو يكني عن ذلك بما يفهم منه.
(لما يعلم من عيب نفسه): فيقبح في العقول أن تعيب غيرك بعيب مثله فيك، أو أقبح منه وأشنع.
(وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته): أراد وليكن همه الذي يشتغل به الشكر على العافية والقيام بالعبادة لله تعالى، التي هي الشكر على نعم الله تعالى.
(مما ابتُلي به غيره): من الفقر، ومن الآلام والأسقام، أو غيرذلك من المصائب.
(132) [ومن كلام له عليه السلام في النهي عن سماع الغيبة، وفي الفرق بين الحق والباطل]
(أيها الناس، من عرف من أخيه وثيقة دين): صلابة وتشدداً في ذات الله يوثق بها.
(وسَداد طريق): واستقامة على الدين في أحواله كلها من القيام بالواجبات، والانكفاف عن المحرمات.
(فلا يسمعنَّ فيه أقاويل الناس): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد النهي عن سماعها، أي لا يصغي إليها؛ لأنه مع الإصغاء يحصل سماعها لا محالة بالضرورة.
وثانيهما: أن يريد النهي عن تصديقها، أي لا يسمعها سماع قابل لها مصدِّق بها.
(أما إنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام): إذا كان الرمي على غير جهة الاستقامة، وأراد أن الخبر ربما صدر عن ثقة مع كونه كذباً، بأن يسمعه عمَّن لا يوثق به، فيحكيه كما سمعه.
(ويحيك الكلام): يؤثرفي النفوس تأثيراً عظيماً لا يمكن وصفه، وإن كان كذباً.
(وباطل ذلك يبور): الإشارة إلى ما تقدم ذكره من تصديق كلام الناس، والتعويل عليه في حق من ظاهره الستر والعفاف.
(والله سميع): لما يقال من ذلك من صدقه وكذبه، وسره وجهره.
(وشهيد): إما مشاهد لهذه الأشياء وعالم بها، وإما رقيب عليها وحافظ لها ليجازي عليها.
(أما إنه ليس بين الحق والباطل): فيما يفرق بينهما ويوضح أحدهما عن الآخر.
(إلا مقدار أربع أصابع): وهذا من الكنايات العجيبة، والإشارات الدقيقة التي لم يُسْبَقْ بها، ولم يُزَاحَم عليها.
(فسُئِلَ عن معنى ذلك): الكلام الذي ذكره، وجعله كناية عن غيره.
(فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه): مشيراً بذلك إلى طريق العلم والظن، ثم فسر ذلك بقوله:
(الباطل أن تقول: سمعت): لأن السماع ربما كان كذباً لاحتماله ذلك.
(والحق أن تقول: رأيت): لأن المشاهدة طريق من طرق العلم فلا يمكن كذبها بحال، وأما في قوله: (أما أنه ليس بين الحق والباطل) بمعنى حقاً، وأن مرفوعة على أنها فاعلة المصدر، أي حقاً أنه ليس بين الحق والباطل إلا ما ذكر من المسافة، وهكذا حالها حيث وقعت على هذه الصفة.
قال سيبويه: سألت الخليل عن قولك: أما أنك منطلق؟، فقال: على معنى حقاً أنك منطلق، وقد وقع في كلام الرسول ماهو بيان بالإشارة، كما قال عليه السلام: ((الشهر يكون هكذا وهكذا وهكذا ، وأشار إلى أصابع يديه ثلاث مرات، وهكذ وهكذا وهكذا وكفَّ واحدة منها)) ، يشير بالأولى إلى أنه يكون ثلاثين، وبالثانية إلى أنه قد يكون تسعة وعشرين.
(133) [ومن كلام له عليه السلام]
(وليس لواضع المعروف في غيرحقه): إعطاؤه على غير وجهه كالإسراف في الإعطاء.
(وعند غير أهله): ممن لايكون مستحقاً له، وليس من أهل من يكون محلاً للاصطناع.
([من الحظ فيما أتى] إلا مِحمدة اللئام): المِحمدة بكسر الميم هي: الحمد، كالمِعذرة من العذر، وأراد حمد اللئام وثناؤهم عليه لا غير.
(وثناء الأشرار): وإقرارهم بالثناء عليه من غير أمر وراء ذلك.
(ومقالة الجهال): تصريحهم بأنك منعم ومحسن.
(ما دام منعماً عليهم ومحسناً إليهم): بعطاياه، واصلة إليهم غضة طرية.
(ما أجود يده!): بالإعطاء والبذل.
(وهو عن ذات الله بخيل): لا يعطي لوجه الله تعالى شيئاً، وإنما عدَّاه بعن، وكان القياس تعديته بالباء، كماقال تعالى: {بَخِلُوا بِهِ} ولكنه حمله على المعنى؛ لأن البخل منع المال وصرفه في غير وجهه وعلى غيرطريقه، وعلى هذا وردت قراءة الأعمش، في قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ }[البقرة:249] بالرفع على معنى امتنع قليل منهم من الشرب فلهذا رفعه.
(فمن آتاه الله مالاً): مكَّنه منه، وجعله متوسعاً فيه.
(فليصل به القرابة): ينفعهم به ليكون ذلك صلة لهم.
(وليحسِن به الضيافة): قِرَاء الإخوان وإطعامهم الطعام، وفي الحديث: ((من لذذ أخاه بما يشتهيه رفع الله له ألف ألف درجة ، وكتب له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وأطعمه من ثلاث جنات: من جنة الخلد، ومن جنة الفردوس، ومن جنة المأوى)) .
(وليفك به الأسير): الموثق بالإسار: وهو القِدّ.
(والعاني): المقيم على الإسار، و الخضوع والذل، ومنه قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ }[طه:111] أي خضعت وذلت.
(وليعطِ منه الفقير): أراد ما يجب فيه من الزكاة، ويحتمل أن يكون أراد الإحسان، والتفضل به على ذي الفاقة.
(والغارم): المديون أو من لحقه غُرْمٌ من أجل نائبة أصابته، وفي الحديث: ((لا تحل المسألة إلا لثلاثة: لذي غُرْمٍ مُفْظِع، أو دم مُوْجِع ، أو فقر مُدْقِع)) ، والغرام: الهلاك، قال الله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا }[الفرقان:65]، وقال بشر :
ويوم النِّسارِ ويوم الجِفَارِ
كانا عذاباً وكانا غَرَاما
(وليصبِّر نفسه على الحقوق): على أدائها والقيام بها، حقوق الدين ومكارم الأخلاق.
(والنوائب): العظائم من الأمور.
(ابتغاء الثواب): على الصبر عليها، وفي الحديث: ((ما جرع عبد قط جرعتين أفضل عند الله من جرعة غيظ يلقاها بحلم، أو جرعة مصيبة يلقاها بصبر جميل)) .
(فإن فوزاً بهذه الخصال): التي أشار إليها.
(شرف مكارم الدنيا): حيازة الخصال الشريفة المحمودة.
(ودرك فضائل الآخرة): إحراز فضائلها ومراتبها العالية.
(134) ومن خطبة له عليه السلام في الاستسقاء
(ألا وإن الأرض التي تحملكم): [تقلكم على ظهرها، كما قال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }] [الإسراء:70].
(والسماء التي تظلكم): فوق رءوسكم كالظلة.
(مطيعتان لله ربكم): منقادتان لأمر الله تعالى، ومحتكمتان لمراده، كما قال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا }[آل عمران:83].
(وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما): بنموهما وزيادتهما، من جاده إذا أعطاه من نواله.
(توجعاً لكم): توجع له إذا رثى له من وجعه، ونصبه على أنه مفعول له.
(ولا زلفة إليكم): قرباً، وإسراعاً إلى نفعكم.
(ولا لخير ترجوانه منكم): نفع تظنان حصوله من جهتكم.
(ولكن أمرتا بمنافعكم): إصلاح أحوالكم، وقيام أقواتكم، وتحصيل أرزاقكم.
(فأطاعتا): لأمرالله تعالى من أجل ذلك.
(وأقيمتا على حدود مصالحكم): الدنيوية من المنافع.
(فقامتا): من الاستقامة على ذلك.
(إن الله تعالى يبتلي): يختبر.
(عباده عند الأعمال السيئة): المعاصي التي تسوء صاحبها بإسقاط منزلته عند الله.
(بنقص الثمرات): وهو ما يصيبها عند ذلك من المصائب بالإعصار، وإرسال الهوام من الجراد، وسائر الهوام التي تنقصها وتأكلها وتفسدها.
(وحبس البركات): قبض الزيادات من جهة الله تعالى؛ جزاء بما عملوا من ذلك.
(وإغلاق خزائن الخيرات): منها لطفاً من جهة الله، وتمحيصاً وتعريضاً، وبذلاً للألطاف.
(ليتوب تائب): من ذنبه.
(ويقلع مقلع): من معصيته.
(ويتذكر متذكر): ما أصاب من كان قبلهم من الْمُثُلاَتِ ، وحلَّ بهم من العقوبات.
(ويزدجر مزدجر): يتعظ متعظ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ }[القمر:4] متعظ لمن اتعظ به.
(وقد جعل الله سبحانه الاستغفار): طلب المغفرة بالجؤار إلى الله تعالى، والدعاء إليه بذلك، وذلك يكون على أوجه خمسة:
أولها: الرغبة إلى الله تعالى؛ بأن تجعل باطن كفك إلى السماء.
وثانيهما: الرهبة؛ بأن تجعل ظاهر كفك إلى السماء.
وثالثها: التبتل؛ بأن تجعل يديك على فخذيك، وتحرك جسدك مرة بعد مرة.
ورابعها: التضرع، وهو أن ترفع يديك، وتميلهما يميناً وشمالاً.
وخامسها: الابتهال، وهو لايكون إلا بالخروج، ورفع اليدين ومدُّهما أشد ما يقدر عليه، فهكذا يكون الأدب في الدعاء.
(سبباً للرزق ): إنزاله على الخلق، وإدراراه عليهم.
(ورحمة للخلق ): لطفاً بهم في الإقبال على الطاعة، وإرادة لمنافعهم من ذلك.
(كما قال تعالى): حكاية عن نوح عليه السلام.
({فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا })[نوح:10]: لخطاياكم .
({يُرْسِلِ السَّمَاءَ })[نوح:11]: غيثها ومطرها.
({عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ً})[نوح:11]: متتابعاً بعضه في إثر بعض.
({وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال })[نوح:12]: يوصلها إليكم من جهته، {وَبَنِينَ} .
(فرحم الله امرأً): الرحمة من الله هي اللطف.
(استقبل توبته): جعلها نصب عينيه غير غافل عنها، ولا معرض عن فعلها.
(واستقال خطيئته): طلب من الله الإقالة منها بالمغفرة، والعفو من جهته.
(وبادر منيته!): سابق الموت عن أن يحول بينه وبينها.
(اللَّهُمَّ، إنَّا خرجنا إليك): إلى ها هنا للانتهاء، أي وأنت الغاية لمقصدنا.
(من تحت الأستار والأكنان): من ها هنا لابتداء الغاية، والستر: ما يستر من البيت وما شاكله، والكنُّ: ما وقى من الشمس وغيرها.
(وبعد عجيج البهائم والولدان): عطشاً وفاقة، من ألم القحط والجوع.
(راغبين في رحمتك): حال من الضمير في خرجنا.
(وراجين فضل نعمتك): ومؤمِّلين إفضالك، وكريم نعمتك.
(وخائفين من عذابك ونقمتك): بالقحط وحبس المطر، والرجاء إنما يكون في الأمور المحبوبة، والخوف مخصوص بالأمورة المكروهة.
(اللَّهُمَّ، فاسقنا غيثك): المطر الذي تغيث به خلقك.
(ولا تجعلنا من القانطين): الآيسين من رحمتك.
(ولا تهلكنا بالسنين): المجدبة، فنهلك جوعاً وهزالاً.
(ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا ): الجاهلين بحقك، والغامصين لنعمتك.
(يا أرحم الراحمين): أعظم الراحمين رحمة، وأكثرهم لطفاً، وكيف لا ورحمتهم لما رحموه مأخوذة من رحمتك.
(اللَّهُمَّ، إنا خرجنا ): من البيوت شاخصين عنها.
(نشكو إليك): من أحوالنا:
(ما لا يخفى عليك منها): لإحاطة علمك، واشتماله على كل خفية، فخرجنا:
(حين ألجأتنا المضايق الوعرة): لجأت إليه إذا استندت إليه، والتجأت إذا اضطررت، والمضايق: جمع مضيقة، وهو: القفر، والوعرة: الصعبة.
(وفاجأتنا ):، من قولهم: فاجأه مفاجأة إذا قابله.
(المقاحط المجدبة): جمع مَقْحَط، و الجدب: نقيض الخصب.
(وأعيتنا المطالب المتعسرة): عيَّ بأمره إذا تحيَّرفيه، والمطالب: جمع مطلب، والعسر: نقيض اليسر.
(وتلاحمت علينا الفتن المستصعبة): [تلاحمت] التصقت بنا،، من قولهم: ألحمت الشيء بالشيء إذا ألصقته به [الفتن] : الحروب التي يصعب أمرها، ويعظم خطبها.
(اللَّهُمَّ، إنا نسألك): نوجه المسألة إليك، ونطلب إجابتها من جهتك.
(ألا تردنا خائبين): خاب الرجاء إذا بطل، ولم يكن له ثمرة.
(ولا تقلبنا): عن خروجنا هذا، وعن إقبالنا إليك.
(واجمين): وجم الرجل إذا اشتد حزنه، وعظم أسفه.
(ولا تخاطبنا بذنوبنا): تقررها علينا، وتذكرها لنا توبيخاً وتقريعاً.
(ولا تفايشنا بأعمالنا): تكشف غطاءنا بما عملناه ، وتزيل عنَّا سترك بأفعالنا.
(اللَّهُمَّ، انشر علينا غيثك): ابسطه ليكون شاملاً لبلادنا.
(وبركتك): زيادتك من عطائك الجمِّ ومنّك الذي عمَّ.
(ورزقك): الذي تفضلت به.
(ورحمتك): التي مننت بها.
(واسقنا سقيا نافعة): كثير نفعها في جميع أحوا لها.
(مروية): للسهل والجبل.
(معشبة): محيية لما قد مات، ورادّة لما قد فات.
(تنبت بها ماقد فات): من الزروع، والأشجار والكلأ.
(وتحيي بها ما قد مات): من الحيوانات برد عوضه، وهبة أمثاله من جودك وعطائك.
(نافعة الحيا): الحيا هو: المطر، وأراد مسكنة للعطش.
(كثيرة المجتنى): إما يكون المجتنى بالنون ومعناه كثير جناؤها وثمرها، وإما أن يكون بالباء بنقطة من أسفلها، أي كثير خراجها وعطاؤها ، والأول هو سماعنا.
(تروي بها القيعان): جمع قاع، وهي: الصحاري والأراضي المتسعة.
(وتسيل البُطنان): جمع بطن وهو: أجواف الأودية وعميقها.
(وتستورق بها الأشجار): من ريها وغضارتها.
(وترخص الأسعار): لكثرة الحبوب وسعتها من كثرة المطر.
(إنك على ماتشاء قدير): من ذلك كله.
(135) ومن خطبة له عليه السلام
(بعث الله رسله): إلى الخلق.
(بما خصَّهم به من وحيه): أيدهم به من المعجزات.
(وجعلهم حجة له على خلقه): لما عصمهم به عن القبائح بالألطاف الخفية.
(لئلا تجب الحجة لهم): للخلق على الأنبياء.
(بترك الإعذار إليهم): لولم يرسل الأنبياء.
(فدعاهم): الله.
(بلسان الصدق): وهم الأنبياء؛ لأنهم صادقون فيما قالوه من ذلك.
(إلى سبل الحق): إلى التوحيد والإلهية، والإقرار بالربوبية.
(إلا أن الله قد كشف الخلق كشفة [مكافاةٍ] ): إلا ها هنا للاستثناء المنقطع؛ لا نفصالها عمَّا تقدم، ويجوز أن تكون واردة للتنبيه، كقوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[يونس:62] فالأمران محتملان كما ترى، وكشفة منصوب على المصدرية، نحو: ضربت ضربة، وأراد بذلك أنه بيَّن المطيع من هو والعاصي كذلك.
(لا أنه جهل ما أخفوه): ليس كشفه ذلك؛ لأنه قد خفي عليه الأمر فيما أضمروه.
(من مصون سرائرهم ): صان الثوب يصونه صوناً، إذا لم يلبسه، وهومجاز ها هنا، وأراد أنه لم يعلمها سواه فهي مصونة عن غيره.
(ومكنون ضمائرهم): مستورها.
(ولكن ليبلوهم): من البلوى، وهي: الاختبار.
(أيهم أحسن عملاً): في الإخلاص والمراقبة، والعمل لوجه الله تعالى.
(فيكون الثواب جزاء): على الأعمال الصالحة.
(والعقاب بواءً) أي مساواة، والمعنى أن الحسنة مضاعفة لصاحبها، والعقاب مساو للمعصية من غير زيادة، كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا }[الأنعام:160] وهذا من لطف الله تعالى، وعظيم كرمه؛ لأن الجزء الواحد من الثواب يكون جزاءً، والباقي فضل من الله تعالى وزيادة من إحسانه، والبواء: المساواة، يقال: دم فلان بواء لدم فلان أي سواء، قال:
فإنْ تَكُنِ القتلى بَوَاءً فإنَّكُم ... فتَّى ما قَتَلْتُم آل عَوْفِ بن عَامِرِ
(أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا )؟: استفهام خارج مخرج الإنكار والتقرير، وأراد أنه يستحيل أن تكون أقدامهم راسخة في العلم بالله تعالى، ومعرفة أحكام الشريعة، ونحن لا نعلم ذلك، ويزعمون أنهم أحق منَّا به وأولى.
(كذباً): على أنفسهم في قولهم خلاف الحق.
(وبغياً علينا): حيث ادَّعوا ما ليس لهم، وانتصابهما على المصدرية الواقعة موقع الأحوال، كأنه قال: كاذبين في هذه المقالة، وباغين خلاف الحق في هذه الدعوى.
(أن رفعنا الله ووضعهم): من أجل أن رفعنا الله، أي ماكان كذبهم وبغيهم إلا أن الله رفع مراتبنا عليهم، ووضعهم بحيث لم يبلغوا تلك المراتب ولا وصلوها.
(وأعطانا): من فضله وجوده.
(وحرمهم): ذلك.
(وأدخلنا): في كرامته أو في الولاية على خلقه.
(وأخرجهم): عن ذلك فلا يدخلون فيه.
(بنا يستعطى الهدى): استعطى كذا، إذا طلب أن يعطاه، وأراد أنهم تطلب منهم الهداية، وتؤخذ أحكامها في كل أمر من الأمور الدينية والدنيوية.
(ويستجلى العمى): يطلب جلاؤه، وأراد أن الضلالة لاتُزال إلا بهم وحميد سعايتهم.
(إن الأئمة من قريش): أي في هذه القبيلة من دون سائر القبائل، خلافاً لجميع الخوراج وبعض المعتزلة، وبعض المرجئة ، وبعض الإمامية ، فإن هؤلاء زعموا أنها في سائر الناس، وهو قول إبراهيم النظام من المعتزلة.
(غرسوا في هذا البطن من هاشم): أراد أنها وإن كانت في قريش، فإنها في بني هاشم من قريش.
(لا تصلح على سواهم): لاتكون الإمامة صالحة على غيرهم.
(ولا تصلح الولاة من غيرهم): ولا يكون الأئمة صالحين من غيرهم، وهذا مبالغة، وأراد أن الإمامة والأئمة لا تكون صالحة فيمن سواهم.
ثم قال: (آثروا عاجلاً): أراد الدنيا.
(وأخَّروا آجلاً): أراد الآخرة، فإن الدنيا يقال لها: عاجل لحضورها وتعجلها، والآخرة يقال لها: آجل لتأخرها.
(وتركوا صافياً): لا كدر فيه.
(وشربوا آجناً): متغيراً، وعنى بذلك اشتغالهم بأمور الدنيا، وإعراضهم عن أمور الآخرة، فالدنيا آجن لما يعرض فيها من الكدر، وكثرة المحن والأسواء، والآخرة صاف لما يُحْمَد من عاقبتها.
(كأني أنظر): بقرب ذلك، وسرعته.
(إلى فاسقهم): أراد بذلك الحجاج بن يوسف، أو مروان بن الحكم، أو معاوية.
(وقد صحب المنكر فألفه): صاحبه، وتكررعليه فعله مرات كثيرة حتى صار مألوفاً له.
(وبسئ به ووافقه ): أنس به وصار موافقاً لطباعه، واستمر على ذلك أزمنةً متطاولة .
(حتى شابت عليه مفارقه): من طول فعله له وملابسته إياه.
(وصبغت به خلائقه): امتزجت به امتزاجاً عظيما، حتى لايكاد يبارحه.
(مزبداً كالتيار): أراد الموج، وإزباده: شدة اضطرابه وعظم حركته، وجعل ذلك كناية عن أنه يلابس المنكر بشدة وغلظ.
(لا يبالي ماغرَّق): فيه.
(أو كوقع النار في الهشيم): المتحطم من الزرع.
(لا يحفل ماحرَّق): وأراد بذلك المبالغة في عظم إتيانه المنكرات، وإسراعه إلى فعلها، ولهذا مثّله بالموج في تراكمه وبالنار في سرعة إحراقها لما تحرقه.
(أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى!): في سلوك طريق الدين، وإدراك علوم الآخرة في التوحيد، والعلم بالله والاعتراف بربوبيته.
(والأبصار اللامحة إلى منار التقوى!): المنار هو: علم الطريق، وهذا كله مجاز، وحقيقته هو العلم بالله تعالى وسلوك طريق الجنة.
(أين القلوب التي وهبت لله!): على ما لم يسم فاعله، وأراد التي وهبها أهلها من أجل ثواب الله، وإحراز رضوانه.
(وعوقدت على طاعة الله!): أي عقدها أهلها على القيام بطاعة الله، أي ألزموها ذلك، شبهها في لزومها للطاعة بمنزلة العقد المحكم الذي لا ينحلّ.
(ازدحموا على الحطام): إخبار عمَّن تقدم ذكرهم بقوله: آثرواعاجلاً، وأراد أنهم تزاحموا على متاع الدنيا ونعيمها، الذي لا بقاء له بمنزلة ما تحطَّم واندقَّ.
(وتشاحُّوا على الحرام): أي بخلت به أنفسهم، مع كونه حراماً لايحل لهم أخذه، ولا يجوز لهم تناوله.
(ورفع لهم علم الجنة والنار): طريقهما، شبههما بالعلم المنصوب للطريق، لما فيهما من الإيضاح، ومباينة أحدهما عن الآخر وانفصاله.
(فصرفوا عن الجنة وجوههم): بالإعراض عن أعمالها، والإقبال على الدنيا، فهم بإعراضهم عنها كمن صرف وجهه عن الشيء المبصر فهو لا يدركه.
(وأقبلوا إلى النار بأعمالهم): القبيحة، فلهذا كانوا بإيثارهم الأعمال القبيحة بمنزلة من أقبل عليها بوجهه، وقوله: (رفع لهم علم الجنة والنار) مع ما بعدها من تفاصيل أحوالهما، من علم البديع يسمى اللف والنشر، ألاتراه كيف ضمَّهما في الذكرأولاً، ثم ألحق كل واحدة منهما بما يليق بها من الأحكام، وله في البلاغة موقع عظيم، يعرفه الجهابذة من أهل صناعة البيان.
(دعاهم ربهم): بما قرر في عقولهم من الأدلة الواضحة على معرفته، ووجوب الطاعة له، وبما عهد إليهم على ألسنة الرسل من تصديق ما جاءوا به.
(فنفروا): [عن] سماعها.
(وولوا): مدبرين عن العمل بها.
(ودعاهم الشيطان): بالوسوسة والإغواء، والتزيين والكذب، والأماني الباطلة.
(فاستجابوا وأقبلوا!): لدعائه، وأقبلوا على فعل ما يدعوهم إليه من ذلك.
(136) ومن خطبة له عليه السلام
(أيها الناس): خطاب عام لكل أحد.
(إنما أنتم في هذ ه الدنيا غرض): الغرض: مايرمى من قرطاس وغيره .
(تنتضل فيكم المنايا): أراد إما ترميكم المنايا،، من قولهم: ناضله إذا رماه، وإما تختاركم بالهلاك،، من قولهم: انتضلت سهماً من كنانتي إذا اخترته ليرمى به.
(مع كل جرعة ): من جرعها .
(شَرَقٌ): شرق بريقه إذا غُصَّ به، وفي الحديث: ((يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى )) أي إلى أن يبقى من الشمس مقدار ما يبقى من حياة من شرق بريقه عند الموت، قال عدي بن زيد :
لَوْ بِغيْرِ الماءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنتُ كَالغَصَّان بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي
(وفي كل أكلة غصص): الأكلة بضم الفاء ما يؤكل، والغصص بالفتح مصدر غصص الرجل بالطعام إذا اعترض في حلقه فلا يدخل ولا يخرج، والغصص بالضم جمع غصة وهي: الشجا.
(لا تنالون منها نعمة): وهو إدراك ما كان من لذاتها ونعيمها، في مستقبل الأعمار وحاضرها.
(إلا بفراق أخرى): أي لاتقيمون وقتاً من أوقات الدنيا إلاوتفارقون مثله، فما كان في الأول من النعمة فقد مضى، والثاني لا يأتي إلا بعد زوال الأول، وانقطاعه من تلك النعمة، بتقضيها وزوالها.
(ولا يعمر معمر منكم يوماً من عمره): أي ما يقيم ساعة في الدنيا.
(إلا بهدم آخر من أجله): لأن الأوقات منقضية، والأزمنة متكررة فلا يمكن حصول الغد إلا بذهاب اليوم، فهو لايصل إلىغد من عمره إلا بعد ذهاب اليوم من عمره، فلهذاصدق قوله: (إلا بهدم آخر من أجله) كما ترى.
(ولا تُجدَّد له زيادة في أكلة): الأَكلة بفتح الفاء هي المرة الواحدة، والأُكلة بالضم ما يؤكل، وسماعنا بالفتح، وأراد أنه لايمكنه الوصول إلى أكلة واحدة.
(إلا بنفاد ما قبلها من رزقه): لأنه لا يصل إلى هذه إلا بعد نفاد ما سبقها من الأرزاق.
(ولا يُحْيَا له أثر): من الخصال المحمودة، والمناقب العالية.
(إلا ويموت له أثر): بالاندراس والامحاء؛ لتطاول الأزمان وتكررها، فلهذا يكون الأول منها ذاهباً.
(ولا يتجدد له جديد): من عمره من الأيام.
(إلا بعد أن يَخْلَقَ جديد): لأن غداً لا يأتي إلا بعد ذهاب اليوم، وهو الآن جديد وما بعده يكون جديداً كما ذكرناه، فلهذا قال: لا يتجدد غد إلا بعد أن يخلق اليوم ويكون ماضياً.
(ولا تقوم له نابتة): أي لا ينبت له شيء من أمور الدنيا من رزق ولا عمر.
(إلا وتسقط منه محصودة): إلا ويزول [عنه شيء آخر منها، وجعل النابت عبارة عمَّا ينبت منها، والمحصود عبارة عمَّا يزول] منها ويفنى.
(وقد مضت أصول): الآباء والأمهات والأجداد.
(نحن فروعها): لأنهم لولاهم ما كنّا، وهذا هو الفائدة يكون الشيء أصلاً لغيره.
(فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟): ما ها هنا استفهامية، وأراد كيف يبقى فرع مع ذهاب أصله، هذا مستحيل في العقول متعذر.
(وما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة): البدعة هي: الحدث في الدين، ثم منها ماهو محمود وما هو أبدع، وليس مضاداً للسنة، ولا مزايلاً لها، ومنها ماهو مذموم، وهوما كان مضاداً للسنة مناقضاً لها فلهذا قال: إحداث البدعة فيه ترك السنة، يشير به إلى ماقلناه.
(فاتقوا البدع): احذروها، وفي الحديث: ((من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة)) .
(والزموا المهيع): الطريق الواسع.
(إن عوازم الأمور أفضلها): أي ما كان منها متقدماً، وهوجمع عازمة وأراد ما عمل به الأفاضل من القدماء، والعيون من العلماء، فهو حق لا معزل عنه، أو يكون جمع عوزم، وهي: العجوز المسنة، استعارة من ذلك أي ما كان متقدماً معمولاً به من السلف الصالح، فهو حق فيجب اتباعه، ولا يجوز مخالفته.
(فإن محدثاتها شرارها): أي ما أحدث ولم يسبق به عمل أهل الصلاح فهو شر، وأراد ما أحدث مما يكون مخالفاً لما قد عمل عليه الأفاضل من أهل البصيرة، وفي الحديث: ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )) ، وقال: ((خير الأمور أوسطها ، وشرها محدثاتها )).
(137) ومن كلام له عليه السلام يخاطب عمر رضي الله عنه وقد استشاره في حرب الفرس بنفسه
(إن هذا الأمر): يشيرإلى الدين.
(لم يكن نصره لأحد ولا خذلانه): تأييده و لانقصة بعناية، من جهة أحد من الخلق.
(بكثرة ولاقلة): غلبة في الجيوش، ولاقلة منهم.
(وهو دين الله): توحيده، وأوامره ونواهيه.
(الذي أظهره): أعلنه على أَوْجِ الشمس، وعلى رءوس الأشهاد.
(وجنده الذي أعدَّه): للأعداءممن خالف أمره ونهيه.
(وأمدَّه): من عنده بالنصروالتأييد، والغلبة والتثبيت.
(حتى بلغ ما بلغ): إلى حيث لا يمكن حدُّه ولا وصفه، من الاستطالة والعلو.
(فطلع حيث طلع): من الرفعة إلى حيث علم الله.
(ونحن على موعود من الله): إما على وعد من الله إن قلنا: إن اسم المفعول في موضع المصدر، وإما على أمر موعود به من جهة الله تعالى في النصر لدينه، وخذلان ماعداه من الأديان ومحوها وإزالتها.
(والله منجز وعده): أنجز وعده إذا أتمَّه، وحصله وصدق فيه.
(وناصر جنده): وهم جند الإسلام.
(ومكان القيِّم بالأمر): القائم بأعباء الخلافة، الصادر عن رأيه جميع أحكام الشريعة والمنفذ لها.
(مكان النظام من الخرز): أراد بمنزلة الخيط الذي ينظم فيه الخرز واللآلئ، فإنه لا محالة:
(يجمعه ويضمه): مخافة ألا يتفرق ويتبدد.
(فإن انقطع النظام): الخيط الذي سلكت فيه هذه الخرز.
(تفرق وذهب): لفقد ما يضمُّه ويجمعه.
(ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً): الواحد حذفور، وهن: أعالي الشيء ونواحيه وجوانبه، وفي الحديث: ((إذا بدا علم من أعلام الساعة وأشراطها ، تتابعت كنظام انقطع سلكه)) ، فلهذا تناثر لعدم ما يمسكه.
(والعرب اليوم): أراد به الوقت الذي هم فيه.
(وإن كانوا قليلاً): عدداً قليلاً إذ لم يفش الإسلام، وتنشر حواشيه:
(فهم كثير بالإسلام): أراد أنهم وإن كان عددهم قليلاً فسلطانهم عظيم بالإسلام، وفي الحديث: ((الإسلام يعلو ولا يعلى )).
(عزيزون بالاجتماع): أراد بالتناصر والمعاضدة، والتعاون، والمرافدة من بعضهم ببعض .
(فكن قطباً): القطب هو: المسمار الذي تدور عليه الرحى.
(واستدر الرحى بالعرب): أراد إما اجعلهم رحى لك وأدرها أنت بنفسك، أو أراد كن أنت كالرحى، واطلب إدارتها بهم.
(وأَصْلِهم دونك نار الحرب): واجعلهم يصلونها ما خلاك أي يدخلونها ويلقون شرها،، من قولهم: أصليته النار إذا أدخلته فيها، قال الله تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا }[إبراهيم:29].
(فإنك إن شَخَصت): فارقت مكانك.
(من هذه الأرض): دار الإسلام وحيث إنفاذ حكم الله تعالى، والقيام بأمر المسلمين.
(انتفضت عليك العرب): يحتمل أن يكون بالفاء،، من قولهم: نفضت الثوب أنفضه إذا حركته، ومن نفضت المرأة كرشها إذا كثر ولدها، ويحتمل أن يكون بالقاف، من قولهم: تنقضت الأرض بالنبات إذا تشققت به، وأراد انتشارهم بالمخالفة عليه.
(من أطرافها): أقاصيها البعيدة.
(وأقطارها): جهاتها المتباينة، يطلبون اجتياح دار الإسلام، والغلبة عليها قهراً، ويعظم مكرهم، [وتكبر ] استطالتهم بعدك على من وراءك من المسلمين.
(حتى يكون ما تدع وراءك): من دار الإسلام، وحفظ من فيها من العلماء وكافة المسلمين.
(من العورات): الأمور المهمة التي يجب سترها وتغطيتها، وإنما قال لها: عورة لما يظهر عند انكشافها وتغيرها من القبح والمسآءة في الدين.
(أهمَّ إليك): أعظم موقعاً عندك؛ لأنها هي الأصل وماعداها كالفرع بالإضافة إليها.
(مما بين يديك): ممن غزوته وقصدته من هؤلاء.
(إن الأعاجم): جمع أعجم، وهو: الذي لا يبين كلامه.
(إن ينظروا إليك غداً): في هذه الأوقات المستقبلة.
(يقولوا): يجيلوا أنظارهم، ويضربوا سهام الرأي.
(هذا أصل العرب): قاعدة أمرهم، والذي تدور عليه الرحى، ويقولوا لأنفسهم:
(إذا اقتطعتموه): استأصلتموه قتلاً، وأخذتموه.
(استرحتم): عن الحرب وشنِّ الغارات من كل جهة إذ لا يبقى أحد منهم يقوم مقامه ويسدُّ مسدَّه.
(فيكون ذلك): يشير إلى ما قد قرروه في أنفسهم مما ذكره.
(أشد لكلَبهم): أعظم لمكرهم، وأدخل في جرأتهم.
(عليك): في قتلك واستئصال شأفتك.
(وطمعهم فيك): ويكون سبباً لأن يطمعوا فيك، فَقَبِلَ ما قاله أمير المؤمنين، وترك عمر الغزو بعد ذلك، وعرف أن هذا هو الأمر بالحزم، والوثيقة بالعزم، وأنه كلام عارف بالحرب ومكائدها، ومحيط منها بأسرارها ومقاصدها.
(فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين): لأن عمرقال: إن الفرس قد خرجوا لقتال المسلمين، يؤكد غزوهم إلى بلادهم، فقال له أمير المؤمنين:
(إن الله أكره لمسيرهم منك): فلو شاء لكفَّهم عن ذلك.
(وهو أقدرعلى تغيير ما يكره): ولكنه يريد البلوى والامتحان بالصبر على الجهاد ومشاقه، وعظيم تكاليفه.
(وأما ما ذكرت من عددهم): لأن عمرقال: إنهم عدد عظيم، وجمٌّ غفير، لا يحصي أعدادهم إلا الله، وهم زائدون على العدة التي حكى الله تعالى من أن الواحد يكون للا ثنين، وأراد أن الجهاد والحال هذه مع كثرة عددهم هل يكون واجباً أو يسقط وجوبه؟ فقال له أمير المؤمنين:
(فإنَّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة): أراد في زمن الرسول في جميع الغزوات كلها، كبدر، وحنين، والخندق، وغيرها من الغزوات.
(وإنَّما كنَّا نقاتل بالنصر): من جهة الله تعالى بإمداد الملائكة.
(والمعونة): بالألطاف الخفية، كإلقاء الرعب في قلوبهم، وخذلانهم بالفشل والطيش، والهيبة في صدورهم، وغير ذلك مما يكون سبباً في فشلهم، وإرعاد فرائصهم، فترك عمرما في نفسه من ذلك، ولم ير إلى مخالفة أمير المؤمنين في ذلك سبيلاً، لما تحقق وجه الصلاح، وعلم أنه هو الرأي الذي لا يسع مخالفته ، وكيف لا وقد لاحت على وجهه مخايل الصواب، وزالت عنه ترجيمات الظنون، وشكوك الارتياب، وقدكان استشاره في غزو الروم أيضاً، فأشار بخلاف ذلك، وقد قدمنا كلامه في ذلك، وقيصر هو ملك الروم، ولما وصل إليه كتاب رسول الله قَبِلَه ، وكسرى هو ملك الفرس، ولما وصل إليه كتاب رسول الله مزَّقه، فقال عليه السلام: ((تمزق ملكه )) ، ثم قال النبي عليه السلام: ((إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده)) ، يشير بذلك إلى قوة الإسلام، وإبطال أمرهم، فكان كماقال من أخذهم وقتلهم، واستئصال المسلمين لشأفتهم، فقتل الله هذا كسرى أنو شروان بجند الإسلام وأنصاره، وأخذت بنته بوران سبية، وضرب عليها بالسهام، فسألها عبد الله بن عمر أباه ليطأها فأبى، فأعطاها الحسن بن علي، وقال لابنه : إئتني بأب مثل أبيه، وأم مثل أمه، وأنا أعطيك إياها.
(138) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها القرآن
(بعث محمداً صلى الله عليه وآله بالحق): وهو علمه بما للخلق فيه من المصلحة والهداية إلى الدين القيِّم فبعثه الله.
(ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته): من الشرك إلى التوحيد، وأن تكون العبادة خالصة لله تعالى، [ولا تكون لغيره من وثن أو صنم، أو غير ذلك مما يُعْبَدُ من دون الله.
وقوله: (عباده من عبادة الأوثان) من أنواع البديع، يسمى بالتجنيس المطلق، كقوله تعالى] : {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ }[يوسف:84] وقوله تعالى: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ }[النمل:44]، وهوموجود في القرآن كثير، ومنه قول أبي فراس :
فما السُّلاف دَهَتْني بل سوالفُه ... ولا الشَّمول ازْدَهَتْني بل شمائلُه
أَلْوِي بِعَزْمِي أصداغَ لوينَ به ... وعِيْلَ صَبْرِي بما تَحْوِي حلائلُه
وفي الحريريات قوله:
وأحْوَى حَوَى رقِّي بِرقة لطْفِهِ ... وغَادَرني أَلِف السُّهادَ لغدرهِ
(ومن طاعة الشيطان): فعل ما يريده من القبائح كلها، والكف عن الواجبات كلها.
(إلى طاعته): إلى فعل ما يريده من ذلك.
(بقرآن): الباء متعلقة بقوله: بعث، أو بقوله: ليخرج، إما على على جهة الآلة، كقولك: كتبت بالقلم، وإما على جهة الحالية، كقولك: دخل علينا بثياب السفر أي لابساً لها.
(قد بيَّنه): إما أظهر مراده منه بما أوضحه فيه من الأحكام، وإما بَّين محكمه من متشابهه ومجمله من مبيّنه، وعامه بخاصه، وغيرذلك من الأحكام المبهمة فيه.
(وأحكمه): إما جعل محكماً لا لبس فيه، وإما جعل فيه الحكمة والشفاء والنور والهدى، كما قال تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ }[النحل:89].
(ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه): ليعلموا منه الأدلة [الباهرة ] على وجود الله تعالى، وتوحيده وحكمته، فإن الله تعالى رتَّب الأدلة على وجوده، وباهر حكمته وعجائب مخلوقاته على أكمل ترتيب، وساقها على أحسن سياق، بحيث لا يوجد تحريرها في كتب المتكلمين، ولا يخطر لأحد منهم على بال، وأكثر القرآن مملؤ من الدلالة على التوحيد، وإبطال إلهية غيره، وإثبات الحشر والنشر، وأحوال القيامة، وغير ذلك من العلوم الدينية، ولنذكر من ذلك آية منبهة على غيرها، وهي قوله تعالى في سورة البقرة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ...} إلىقوله: {خَالِدُونَ} فدلّ أولاً على وجوده بخلقهم، وبخلق آبائهم، وبخلق السماء والأرض، ثم بإنزال المطر، وخلق هذه الثمرات رزقاً للخلق، ثم خرج من ذلك إلى تقرير النبوة بإظهارالمعجز والتحدي به ، ثم حذَّر من النار وبشَّر بالجنة، فجمع في هذه الآية من أ صول الديانة، وأحكام الآخرة ما يشهد له ظاهرها بالترتيب اللائق، وتشهد له العقول بالصحة والثبات ، وهكذا حال غيرها من الآيات من سورة النحل، وغيرها من السور.
(وليقروا به بعد إذ جحدوه): بإثبات غيره إلهاً.
(وليثبتوه بعد إذ أنكروه): ونفوه، وعلَّقوا هذه الحوادث بغيره من عقل، أو فلك أو نجم، أو غيرذلك من التمويهات الباطلة.
(فتجلَّى لهم سبحانه في كتابه): ظهر بما أودع في كتابه من بيان هذه الأدلة الدالة على وجوده، وإثبات حكمته وباهر قدرته.
(من غير أن يكونوا رأوه): لم يشاهدوه اكتفاء بمشاهدة العقول له، وتحققها لوجوده.
(وبما أراهم من قدرته): من خلق هذه المكونات العظيمة الدالة على باهرالقدرة، كما قال تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }[الأنعام:102].
(وخوّفهم من سطوته): عذابه ونقماته، بقوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ }[البروج:12]، {َإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ }[الرعد:6].
(وكيف محق من محق بالمَثُلات): محقه إذا أبطله وأفسده، والمثُلات: العقوبات.
(واحتصد من احتصد بالنقمات!): حصده إذا قطعه، قال الله تعالى: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ }[هود:100] وأراد وقطع دابر من قطع من الأمم الماضية، والقرو ن الخالية.
(وإنه سيأتي عليكم من بعدي): بعد وفاتي وانقطاع أيامي.
(زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق):لاندراس أحكامه وامحاء رسومه وأعلامه.
(ولا أظهر من الباطل): لعلوه وارتفاعه.
(و لا أكثر من الكذب على الله وعلى رسوله): فيكذب عليهما، ويقال عليهما ما لا يقولانه.
(وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبورمن الكتاب): بار المتاع إذا كسد، ولم يكن له قيمة ولا وزن.
(إذا تلي حق تلاوته): إذا أقيمت حروفه، وأخرجت من مخارجها، وأظهرت أحكامه، وأقرّت في مواضعها، فمتى كان على هذه الصفة كان بائراً لا يلتفت إليه، ولايعول عليه.
(ولا أنفق منه إذا حرِّف عن مواضعه): أراد أن القرآن إذا بدِّلت أحكامه وغيِّرت رسومه، كانوا أشوق ما يكون إلىسماعه، وأقبل ما يكون عليه لماكان ذلك يوافق أهواءهم، وتطيب به نفوسهم، فهم يسرعون إليه غاية الإسراع.
(ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف): لقلة من يعمل به، ويدعو إليه فهو ينكر إذا قصد.
(ولا أعرف من المنكر): لكثرة العاملين به، وإقبال الناس عليه.
(فقد نبذ الكتاب حملته): كنى بذلك عن اطراح أحكامه وإهماله، كما قال تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ }[آل عمران:187].
(وتناساه حفظته): بترك درسه حتى امَّحى عن قلوبهم.
(فالكتاب يومئذ وأهله): عنى بالكتاب القرآن، وبأهله أهل البيت، هو وأولاده، وأراد بقوله: (يومئذ) أي زمان حصول هذه الحوادث التي ذكرها، والتنوين عوض من تلك الجملة المذكورة أولاً.
(منفيان): عن أماكنهما.
(طريدان): عن مستقرهما.
(وصاحبان): لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ لأنهما الثقلان فلايزالان مجتمعين على الحق، كما قال عليه السلام: ((قد خلفت فيكم الثقلين : كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)).
(مصطحبان): الاصطحاب: افتعال من الصحبة، وأراد أن اقترانهما من أجل دلالتهماعلى الحق فهما لا يفترقان أبداً.
[(في طريق واحد): وهي طريق الجنة والهداية إلى الدين والتوحيد والإقرار بأمور الآخرة] .
(لا يؤويهما مؤو): آواه إذا ضمَّه وكفله، قال الله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ }[المؤمنون:50] وأراد أنه لايعمل بهما عامل، ولا يميل إليهما مائل أصلاً.
(فالكتاب وأهله): يريد من ذكرناه من أهل البيت والقرآن.
(في ذلك الزمان في الناس): كائنان وحاصلان معهم.
(وليسا فيهم): لعدم من يعمل بهما، فكأنهما في الحقيقة مرتفعان عنهم.
(ومعهم): مصاحبان لهم في جميع الحالات.
(وليسا معهم): أي أنهما بين أظهرهم، وكائنان معهم، وليسا معهم لم يتفقوا على معرفة أحكامهما، وما يتوجه من حقهما فكأنهما في الحقيقة بائنان عنهم بعيدان.
(لأن الضلالة [لا] توافق الهدى): لأنهما يدعوان إلى الحق، ويدلان عليه، وهم مكبُّون على الباطل عاملون به، فلا يتلاءمون ولا يتقاربون.
(وإن اجتمعا): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن الضلالة لاتوافق الهدى، وإن اجتمعا فهما في الحقيقة مفترقان؛ لتباينهما في المعنى.
وثانيهما: أن يريد الا ستئناف بالشرط أي إن حصل اجتماعهما.
(واجتمع القوم على الفرقة): أي على مخالفة أمرالدين؛ لأن اجتماعهما على ذلك هوفرقة في الحقيقة.
(وافترقوا على الجماعة): أي وخالفوا ما يجب فيه الا جتماع من أحكام الله وأمره ونهيه، ففعلهم هذا من الاجتماع على الفرقة، والفرقة على الجماعة.
(كأنهم أئمة الكتاب): فيكون تابعاً لهم على ما يهوونه ويريدونه.
(وليس الكتاب إماماً لهم): فيحتكمون لأمره، ويتابعونه على مراده، وينقادون لأمره ونهيه.
(فلم يبق عندهم إلا اسمه): الفاء هذه هي جواب الشرط، أي إن اجتمعا الكتاب وأهله، فليس معهم إلا اسمه، وليسوا عاملين به، ولا يؤثرون شيئاً منه لمخالفتهم له في جميع أحوالهم.
(ولا يعرفون [منه] إلا خطه وزبره): ولا يتحققون منه إلا سواد المكتوب وتأليف أحرفه بعضها إلى بعض، فأما أحكامه فلا تخطر لأحد منهم على بال.
(ومن قبل): أي من قبل هذه الأشياء التي ذكرها، من نبذ الكتاب وأهله، واطراحهما من أيديهم.
(ما مثَّلوا بالصالحين): ما ها هنا مصدرية، أي وتمثَّلوا بالعلماء والأفاضل، وفعلوا بهم كل فعل قبيح من تشريدهم عن البلاد وطردهم، من قولهم: مثَّل به إذا نكَّل به، والمصدر مثلاً، والاسم منه الْمُثْلَةُ، وفي الحديث بعد قتل حمزة: ((والله لأن مكنني الله لأمثلنَّ بسبعين منهم )) فنزلت الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل:126] فما قام فينا مقاماً بعد ذلك إلا وهو ينهانا عن المثلة.
(كل مثلة): أنواعاً من المثل، وضروباً منها.
(وسمَّوا صدقهم على الله فرية ): وقالوا في كل ما صد قوا فيه: إنه كذب على الله افتروه عليه.
(وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة): أراد أنهم عاقبوهم، ومثَّلوا بهم كل مُثْلَة، لما كان دعاؤهم إلى الله واجتهادهم في دينه بمنزلة ما لو كانوا على خلاف ذلك، من تحريف أمر الله والدعاء إلى غيرهم ، فما ينالهم على الأول إلا مثل ما نالهم على الثاني من العقوبة.
(وإنما هلك من كان قبلكم ): من الأمم والقرون، إنما كان ذلك:
(بطول آمالهم): كثرتها عليهم، وغلبتها على عقولهم بالتغطية والإعماء.
(وتغيُّب آجالهم): حتى نسوها، وتوهموا الخلود فأعرضوا عن الآخرة، وأهملوها عن قلوبهم.
(حتى نزل بهم الموعود): الأمر الموعود به، وهو الموت الذي لا يكذب خبره، الذي وعدوا به واستيقنوه.
(الذي تُردُّ عنده المعذرة): أي الاعتذار فلا يكون مقبولاً.
(وترفع عنده التوبة): أي لا يكون لها حكم في القبول فهي مرفوعة، وإنما كان الأمر كما ذكر من بطلان الاعتذار، ورفع التوبة؛ لما فيه من الإلجاء بمشاهدة الملائكة وتحقق الأحوال كلها، فلأجل ذلك بطلت التوبة، وارتفع الاعتذار، ويصدِّق ما قلناه قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}[النساء:18]، فسوَّى الله ها هنا بين من سوَّى هذه التوبة عند الموت، وبين من يموت وهوكافر ، في استحقاق العقوبة، وفي هذا دلالة على استعجال التوبة، والتحفظ على تقديمها.
(وتحل معه القارعة والنقمة): وذلك ما يكون بعد الموت من عذاب الله ونكاله وأليم عقوبته.
(أيها الناس، إنه): الضمير هاهنا للشأن؛ لأنه موضع تفخيم ومبالغة.
(من استنصح الله): طلب النصيحة من جهته، بفعل الألطاف الخفية من جهته.
(وُفّق): إما للأعمال الصالحة، وإما للثواب الجزيل، ورفع المنزلة عند الله، وكل ذلك فيه إحراز رضوان الله وكريم مآبه.
(ومن اتخذ قوله دليلاً): جعل القرآن إماماً له فيما يأتي ويذر في جميع أموره فلا يورد ولا يصدرإلا به.
(هُدي للتي هي أقوم): هداه الله للخصلة المرضية عنده المستقيمة المؤدية إلى الجنة.
(وإن جارالله آمن): المستند إليه في أموره، المعتمد عليه في أحواله، المتوكل عليه آمن من كل ما يخافه من الشرور والبلاوي، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ }[الطلاق:3]، من كل ما يخاف ويحذر.
(وعدوه خائف): والمعادي لله بترك طاعته، الكائن من حزب الشيطان فهو خائف، إما من نقمةالله تعالى له؛ لأجل معصيته، وإما من تسليط من يقهره ويذله ويقطع دابره، وفي الحديث: ((من اتقى الله أخاف الله منه كل شيء ، ومن عصى الله خوفّه الله من كل شيء)) ومصداق ما قلناه من ذلك، قوله تعالى: {لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }[المنافقون:8]، وقوله تعالى في حق المنافقين: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ }[المنافقون:4] أي لا صيحة إلا وهم يخافونها إذا سمعوها كأنها واقعة بهم.
(وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظَّم): لأن عظمة الله تعالى بلا نهاية، ولا لها حد ولا لها غاية، فمن عرفها حق معرفتها فما سواها يكون حقيراً لامحالة، بالإضافة إليها، وفي الحديث: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري ، فمن نازعني أحدهما قصمته)) ، وفي حديث آخر: ((من تواضع رفعه الله، ومن تكبر أهانه الله )) فسبحان من يكون التكبرنقصاً إلافيه، ومن لايحمد على المكروه إلاهو!.
(فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمته): أي أن ارتفاع العالمين بقدر العظمة لله تعالى، ويتحققون كنه حقيقتها فنهاية أمرهم:
(أن يتواضعوا له): لأن هذا هو فائدة علمهم بالعظمة، وجدوى تحققهم لها.
(وسلامة الذين يعلمون ماقدرته): كيفية القدرة، وحقيقتها، والإحاطة بماهيتها، فغايتهم وكمال معرفتهم بها:
(أن يستسلموا له): أن ينقادوا لأمره، ويعترفوا بحقه، وإذا كان الأمر كما قلناه في ذلك، فعليهم الاحتكام لأمر الله.
(فلا ينفروا من الحق): أي لا يبعدون منه سواء كان عليهم أو لهم.
(نفار الصحيح من الأجرب): لأنه يعافه، وتشمئز منه نفسه، وتنفر طباعه.
(والبارئ من ذي السقم): لتباين حالهما ، وافتراق ما بينهما من ذلك.
(واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد): الرشد مصدر رَشَدَ يَرْشِدُ رُشْداً وَرَشَاداً، وهو: الهداية إلى دين الله، والعمل بمراضيه .
(حتى تعرفوا الذي تركه): موقعه من سخط الله، وما يحلُّ به من غضبه ونكاله.
(ولن تأخذوا بميثاق الكتاب): تمتثلوا بأحكامه، وتمتثلوا أوامره ونواهيه.
(حتى تعرفوا الذي نقضه): كيف حاله، وأين بلغ به نقض الكتاب، وتغييره وتبديله.
(ولن تمسَّكوا به): تواظبوا على فعل أحكامه، كما قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ }[الزخرف:43].
(حتى تعرفوا الذي نبذه): وراء ظهره، بإهمال أحكامه وإطراحها.
سؤال؛ الشيء في نفسه معروف بأحكامه وما هيته، فكيف قال: لا يُعْرَفُ الرشدُ إلا بعد معرفة من تركه، ولا يُعْرَفُ الميثاق إلا بعد معرفة من نقضه، وهكذا سائر ما ذكره؟
وجوابه؛ هو أن تعريف الشيء بلازمه وحكمه آكد، من تعريفه بذاته؛ لأن تعريفه بحكمه يفيد معرفة ذاته وحكمه، وتعريفه بذاته لا يفيد إلا معرفة ذاته لا غير، فإذا عرفنا حكم تارك الرشد وما تحقق به من فعله، ومايتعلق به من الذم واللائمة، كانت معرفتنا للرشد أبلغ، ويكون محله في النفوس آكد وأوقع، وهكذا القول في سائر ما قاله من الميثاق، والتمسك بالحق.
(فالتمسوا ذلك): يشير به إلى معرفة من ترك الرشد، والناقض للحق، والنابذ له وراء ظهره حتى يحصل العلم بنقائضها على كمال وتمام.
(من عند أهله): العالمين به المحيطين بحقائقه، والمستولين على أسراره، وأراد أهل البيت هو وأولاده.
(فإنهم عيش العلم): إما لا يحيا إلابهم، وإما أنهم الغذاء للقلوب ، كما أن العيش غذاء الأجسام.
(وموت الجهل): لأن حياة كل شيء إماتة لنقيضه، فما كان حياة للعلم كان إماتة للجهل.
(هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم): أي أمارة تبحرهم في العلوم، وإحاطتهم بها فحكمهم على الصواب يخبر عن باهرالعلوم ، ونفوذ البصيرة.
(وصمتهم عن منطقهم): أي أنهم لا يصمتون إلا عن حكمة وصواب، فهكذا يكون نطقهم إذا نطقوا، لأن الصمت ربما كان عن عيٍّ كما يكون عن حكمة، فإذا كان الصموت في حقهم حكمة، فالنطق أدخل في ذلك، وأدلُّ على فضلهم من الصمت.
(وظاهرهم عن باطنهم): وما يظهرعلى ألسنتهم من الصواب والحكمة، دال على ما ستروه من الحكمة، والاحتمال والإغضاء على المكاره كلها.
(لا يخالفون الدين): يجانبون طريقه بل يقتفون آثاره، ويسلكون طريقه ومنهاجه.
(ولا يختلفون فيه): يخالف بعضهم بعضاً في ذلك.
(فهو): الضمير للدين.
(بينهم شاهد مصدق ): لايخالفوه في كل ما شهدبه، ودلّ عليه.
(وصامت): لاينطق بلسان.
(ناطق): يخبر عن الله بما ركب في العقول من الدلالة على توحيده وإلاهيته وبما قرر الشرع من ذلك.
سؤال؛ كيف قال: لا يختلفون في الدين، والمعلوم أن الخلاف واقع بين أهل البيت فيما بينهم في كل عصر، في المجتهدات والصفات الإلهية، وغير ذلك من الاختلاف في المسائل الدينية؟
وجوابه؛ أما المجتهدات فلا مقال في جوازالخلاف فيها؛ لأن الإصابة لا تختص فيها بأحد دون أحد، وأما اختلافهم في الصفات الإلهية فذلك على وجهين:
أحدهما: أن يكون الخلاف واقعاًفي أصل حقيقة الصفة، في إثباتها ونفيها، كأن يقول واحد منهم: هو قادر، والآخر يقول: إنه ليس قادراً، فما هذا حاله فهم منزهون عن وقوع الخلاف بينهم فيه؛ لأن من نفاها على هذا الاعتبار فهوكافر لا محالة.
وثانيهما:أن يكون الخلاف واقعاً بعد إثبات حقائق هذه الصفات، ثم يقول بعضهم: القادرية حالة، وبعضهم يقول: هي حكم، وبعضهم يقول: هي نفس الذات، فهذا الخلاف، وإن كان أحد القولين خطأ لامحالة، لكنه لايكون خطاءً يوجب كفراًولا فسقاً، وإنما يحكم فيه بالخطأ لا غير؛ لأن الحق في هذه المسائل واحد لا غير، فغرض أمير المؤمنين نفي اختلافهم في الدين فيما يكون فيه خطر في الدين، وخروج منه، فأما هذا الخلاف فإنه ليس خطراً، ولا يكون صاحبه خارجاً عن الدين.
(139) ومن خطبة له عليه السلام في ذكر أمر أهل البصرة وحالهم
(كل واحد منهما): يعني طلحة والزبير.
(يرجو الأمر له): يريد بما فعله الخلافة والأمر له دون صاحبه
(ويعطفه عليه): ويرد الدولة على نفسه.
(دون صاحبه): فيضنُّ بها عليه، ولا يريدها له أبداً.
(لا يمتَّان إلى الله بحبل): المتُّ هو: التوسل بقرابة فيما أقدما عليه وأمَّلاه.
(ولا يمدان إليه بسبب): فيما رجواه من ذلك وأراداه، وإنما هو البغي والمخالفة، والنكوص على الأعقاب.
(كل واحد منهما حامل ضَبٍّ لصاحبه): الضَبُّ: الحقد، وأراد أن كل واحد منهما مبطن للعداوة والحقد لصاحبه، وكيف لا ولم يكن التئامهما إلا للدنيا، ومخالفة أمرالله وإيثار حطام عاجل!، وفي الحديث: ((كل صحبة تكون في غير الله، آخرها يكون عداوة )).
(وعمَّا قليل يُكشف قناعه به): وعلى قُرْبٍ من الزمان في أمرهما يظهرالحقد الذي كانا يضمرانه، ويكتمان حاله، ويبديان ما كانا يخفيانه منه، كما قال في موضع آخر:
(كل يدَّعي الأمر له دون صاحبه، لا يرى طلحة إلا أن الأمر له والخلافة؛ لأنه ابن عم عائشة، ولا يرى الزبير إلا أنه أحق به؛ لأنه خَتَن عائشة ): لأنه ابن أختها؛ لأن أم الزبير أسماء بنت أبي بكر وهي خالته.
(والله لئن أصابوا ما يريدون): من الاستظهار عليَّ والقهر لي.
(لينزعنَّ هذا نفس هذا): [بالقتل أحدهما لصاحبه.
[(وليأتينَّ هذا على هذا)] : بأخذ الروح ، كما قال في موضع آخر:
(والله لئن ظفروا بما يريدون، ولا يرون ذلك ليضربنَّ طلحة عنق الزبير، أو الزبير عنق طلحة، بغياً وحسداً، وإيثاراً للدنيا وعاجلها ) وفي هذا دلالة باهرة على أنهما فيما أقدما عليه على زلزال وقدم غير راسخة، ولهذا قال لهما في مو ضع آخر:
(والله إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان، وما يجهلان ذلك، ولربَّ عالم قتله جهله، ولم ينفعه علمه) .
(قد قامت الفئة الباغية): يشير إليهما، وإلى عائشة.
(فأين المحتسبون!): الباذلون نفوسهم لله ، والبائعون لها بالجنة منه.
(قد سُنَّت لهم السنن): أوضحت لهم الطرق، وأقيمت عليهم الحجج.
(وقُدِّمَ لهم الخبر): يشير بذلك إلى أمور ثلاثة:
أولها: ما روي أن أمير المؤمنين نادى الزبير يوم الجمل، فقال له: (أنشدك الله الذي أنزل الفرقان على نبيه، أما تذكر يوم قال لك رسول الله: ((يازبير، أتحب علياً )) فقلت: وما يمنعني يارسول الله من حبه، وهو ابن خالي؛ لأن أمه صفية بنت عبد المطلب، فقال لك: ((أما إنك ستخرج عليه وأنت له ظال م))).
فقال الزبير: اللَّهُمَّ، بلى قد كان ذلك .
وثانيهما: ما روي أن أمير المؤمنين قال له: (أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، أما تذكر يوم جاء رسول الله من بني عمرو بن عوف، وأنت معه وهو آخذ بيدك فاستقبلته أنا، فسلم عليَّ وضحك في وجهي، وضحكت إليه، فقلت : إنه لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله: ((مهلاً يازبير، فليس به زهو، ولتخرجنَّ عليه وأنت ظالم له ))) فقال الزبير: اللَّهُمَّ، بلى، ولكن أنسيت، فأما إذا ذكَّرتني ذلك، فوالله لأنصرفنَّ عنك ولو ذكرت ذلك لما خرجت عليك، ثم رجع عن حربه وترك القتال .
وثالثها: ما روي عنه صلى الله عليه أنه قال: ((تقتلك ياعمار الفئة الباغية )) فهذا مراده بقوله: (وقدِّم لهم الخبر) يشير إلى ما ذكرناه.
(ولكل ضلَّة علة): [أراد أن كل من أخطأ فلا بد له من علة في خطأه] .
(ولكل ناكث شبهة): النكث: نبذ العهد، أراد أن كل من نكث فهو يعتل بشبهة يدلي بها، وهويشير بذلك إلى بطلان معاذير أهل الجمل فيماأتوه، وأنه لاعذر لهم عند الله، وفي المثل: لن يعدم الخير فاعله.
(والله لا أكون كمستمع اللدم): اللدم هو: ضرب الوجه بالكف في النياحة، كما تفعله النساء.
(يسمع الناعي): وهو الذي يخبر بموت من مات.
(ويحضر الباكي): لميته، وقريبه، و صاحبه.
(ثم لا يعتبر): لا يكون له اتعاظ وتذكرة، وأراد بهذا أنه بعد بغيهم عليَّ وتأهبهم لقتالي، وإجماعهم على حربي، فلا أسكت بعد ذلك، وأنتظرقتلهم لأصحابي فأسمع نعيهم، وأحضر بكاءهم، ولكن أوقع بهم السيف، وأشرع نحورهم الأسنة، وأوجه إليهم الرماح وأقطع دابرهم، وأنكِّل بهم جزاءً على بغيهم وشقاقهم، كما فعل بنصر الله له وتأييده.
(140) [ومن كلام له عليه السلام قبل موته]
(أيها الناس، كل امرئ يلاقي ما يفر منه): من الموت الذي يخافه.
(في قراره ): في مستقره، ومكانه، ومستوطنه.
(والأجل): منقطع الحياة، وغايتها.
(مساق النفس إليه): الذي تساق إليه.
(والهرب منه موافاته): يعني أن الهرب منه إنما يكون بطول مدة الحياة، وطولها بنفسه هو نفس الوصول إليه؛ لأن الأيام مسير إليه، وقطع لمسافته.
(كم أطردت الأيام): فيه روايتان:
أحدهما: رفع الأيام، والتاء للتأنيث، أي كم تتابعت الأيام،، من قولهم: اطَّرد الليل والنهار، أي تتابعا.
وثانيهما: نصب الأيام، والتاء ضمير لنفسه، أي كم أتبعت الأيام نظري وفكري، وسماعنا بالثاني، والأول أقعد في المعنى، قد كان الرسول عليه السلام أخبره بأنه سيقتل، وقال له: ((أشقى الناس اثنان: عاقر الناقة أحيمر ثمود ،والذي يضربك على هذه فيبل منها هذه)) يشير إلى لحيته، ولكنه لم يبين له وقت ذلك على التعيين، فلهذا قال: كم أطردت الأيام.
(أبحثها): أستخبرها.
(عن مكنون هذا الأمر): عمَّا علم الله من أمرالقتل ووقته.
(فأبى الله إلا كتمانه): إخفاءه عني لسر ومصلحة استأثر بعلمها.
(هيهات!): بعد ذلك أن يعلم من علم الله مالم يعلمه أحد من خلقه، أو يطلع على سره ومكنونه، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}[الجن:26-27].
(علم مخزون): عند الله.
(وأمر مكنون): لا يطلع عليه إلا هو.
يحكى أنه لما ضربه اللعين عبد الرحمن بن مُلجم على قرنه، جاء الطبيب إليه، فأدخل رئة على رأس المجس، ثم أخرجها فوجد مخ الدماغ عليها، فقال له: يا أمير المؤمنين، اعهد عهدك، فإن عدو الله قد بلغ ، فعرف ذلك عليه السلام فقال:
(أما وصيتي فلا تشركوا بالله شيئاً ): أي لا تتخذوا من دونه شريكاً [له] في العبادة، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }[النساء:36].
(ومحمداً صلى الله عليه وآله فلا تضيعوا سنته): أي لا تتركوها ضائعة عن العمل بها فإن (( من رغب عن سنتي فليس مني)) ، قاله صلى الله عليه وآله.
(أقيموا هذين العمودين): جانب الله تعالى، وجانب رسوله.
(وأوقدوا هذين المصباحين): واستعار لهما اسم المصباحين؛ لما فيهما من النور والهداية في الدين والدنيا.
(وخلاكم ذم): أي والذم بريء عنكم لا يخالطكم، وجاوزكم .
(ما لم تشردوا): عنهما بالتفرق ، والخلاف فيهما.
(حمِّل كل امرئ مجهوده): أراد حمَّل الله كل أحد من التكاليف ما يطيقه وسعه من غير زيادة على ذلك {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة:286]، وطاقتها.
(وخُفَّف عن الجهلة): أي أن الله تعالى خفَّف عن الجهَّال من أجل جهلهم، وأن حالهم يخالف حال العلماء لأجل علمهم، وفي كلامه هذا دلالة علىأن حكم الله علىالجهَّال أخف، وأن حكمه على العلماء أثقل وأرزن، {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }[الزمر:9] ولهذا فإن جرم طلحة، والزبير، وعائشة، ليس كجرم غيرهم من أجلاف أهل الشام، وأهل الغباوة منهم عند الله.
(رب رحيم): مالك رءوف بهم.
(ودين قويم): مستقيم على الحنيفية، لا ميل فيه.
(وإمام عليم): يعني نفسه، إما عليم بمايصلحهم من ذلك، وإما ذو علم ودراية بما يأتي ويذر، فهذه الأمورالثلاثة، هي التي خففت على الجهَّال الأمرفي تكاليفهم رحمة من الله، ولطفاً بهم .
(أنا بالأمس صاحب لكم): يشير إلى ما مضى من عمره معهم، ونعم ما كانت صحبته لهم بالرفق بهم، والرحمة لهم، وبذل النصيحة من أجلهم.
(وأنا اليوم عبرة لكم): موعظة لانقلابي إلى الآخرة، والموت أعظم موعظة لمن اتعظ بها، واستيقظ من فجيعتها.
(وغداً مفارق لكم!): مفارقة لا يرجى لها اجتماع وموافقة.
(غفرالله لي): ما أسلفته من ذنوبي.
(ولكم): ما اجترحتم منها، ومقالته هذه تشبهاً بأخلاق الأنبياء، كما قال يوسف لأخوته: {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }[يوسف:92] فأكرم بهذه الخلائق فما ألطفها، وأرقها بالخلائق وأرحمها.
(إن تثبت الوطأة): أراد أنه إن استقرالقدم.
(من هذه المزلة): بالكسر والفتح، وهي: المكان الد حض الذي تزلق فيه القدم، وأراد بذلك خلاصه من ضربة اللعين، واستقرار قدمه وانتعاشه منها، وبرءه عنها.
(فذاك): إشارة إلى الثبوت، أي فذاك الذي أريده، وتهواه النفس، وتتوق إليه.
(وإن تدحض القدم): دحوض القدم: زلله وميلانه، وكنى بذلك عن نفاد العمر، وزواله.
(فإنَّا كنا في أفياء أغصان): الفيء هو: الظِّلال للشجر، ولكل غصن ظِلال يظل ما تحته، ويستره من الشمس.
(ومهاب ريح ): اختلاف جهاتها تارة بالقبول والصِّبا، وتارة بالدبور، وتارة من الجنوب والشمال.
(وتحت ظل غمام): جمع غمامة، وهي: القطعة من السحاب.
(اضمحل في الجو متلفقها): أي تقشَّع ما كان منها متلفقاً متلائماً، والضمير للغمام.
(وعفا في الأرض مخطها): أراد بذلك اندرس في الأرض أثرها؛ لأن ظل الغمام يقع على الأرض، فإذا تفرَّق امَّحى مكان الظل وتلاشى، وأراد بذلك لبثه في أيام الدنيا وبقاءه فيها، ثم صار بعد ذلك إلى تغيُّر هذه المحاسن بالبلاء وتحكُّم الهوام فيها، وتقطيعها بالتراب والثرى.
(وإنما كنت جاراً): لكم في الدنيا أياماً منقطعة.
(جاوركم بدني أياماً): وإنما قال: بدني؛ لأن مجاورته إياهم فيها؛ إنما كان بجسده وشبحه لا بروحه؛ لأن روحه عليه السلام كان متعلقاً بمحبة الله تعالى وشوقه إليه، لإعراضه عن الدنيا ومتاع غرورها وكذبها، وإقباله إلى الآخرة ونعيمها، فلهذا قال: جاوركم شبحي يشير به إلى ما قلناه، وسيأتي لكلامنا هذا مزيد تقرير عند وصفه للمتقين من عباد الله.
(وستُعقبون مني جثة): الجثة: عبارة عن الجسم بعد ذهاب روحه، وأراد ويعقبكم مني جسم لا روح فيه.
(خلاء): عن الروح الذي هو قوامها ومعناها.
(ساكنة بعد حراك): بعد تحرك، إما تحرك في القلب، وتيقظ في الخاطر ، وإما تحرك واضطراب في الجوارح.
(وصامتة بعد نطق): أي مختوماً على لساني بعد أن كان مفوهاً ينطق بالحكم والآداب والمواعظ نطقاً وأي نطق.
(ليعظكم هدوئي): أي ليكون موعظة لكم، بالغة في العظة، والهدوء السكون، يقال: هدأ إذا سكن.
(وخفوت إطراقي): الخفوت ضعف الصوت، والإطراق هو: السكوت يقال: أطرق إذا سكت مفكراً.
(وسكون أطرافي): أعضائي كلها وجوارحي.
(فإنه أوعظ للمعتبرين): أدخل في الموعظة، وأوقع في الزجر للمتعظين.
(من المنطق البليغ): البالغ في الموعظة.
(والقول المسموع): الذي يقرع الأسماع، ويسمع الآذان؛ لأن المنطق إنما هو خبر و هذا معاينة، وقد قيل في المثل: (ليس الخبر كالعيان) ، ولا ما يرى بالعين كالذي يسمع بالأذن.
(ودعتكم وداع امرئ مرصد للتلاقي!): معد للتلاقي، من أرصدته إذا أعددته لكذا، وأراد الملاقاة.
(غداً): يوم القيامة، كماقال تعالى: {يَوْمَ التَّلاَقِ }[غافر:15] لأن كل واحد من الخلائق يلقى غريمه.
(ترون أيامي): فيكم وإقامتي بين أظهركم.
(ويكشف لكم عن سرائري): عمَّا كنت أضمره من النصيحة لكم والاجتهاد في حقكم.
(وتعرفونني): وتحققون حالي وأمري.
(بعد خلو مكاني): انقطاعي عن الدنيا وتدبيري لأحوالكم فيها.
(وقيام غيري مقامي): ممن يليكم بعدي، وأراد أنه إنما يعرف كُنْهُ حاله في جميع ما ذكره ويمتحن إذا وليهم غيره؛ لأن امتحان العقلاء إنما يكون بمقارنة الجهلاء.
وأقول: لقد خلف عليهم بعده من لا يرشد نفسه، فكيف يرشدهم! ومن لا عهد له بخوف ومراقبة، معاوية ويزيد وغيرهما!
(141) ومن خطبة له عليه السلام في ذكر الملاحم
(وأخذوا يميناً وشمالاً): أراد أهل الفتن التي تأتي بعده، يشير إلى فتنة بني أمية وغيرها من الفتن.
(ظعناً في مسالك الغي): إسراعاً إليها، وأراد طرق المهلك.
(وتركاً لمذاهب الرشد): إعراضاً عنها.
(فلا تستعجلوا ماهو كائن مرصد): واقع منها معدٌّ لكم مهيَّأ.
(ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد): مما هو كائن في الأزمنة المستقبلة، وجعَل غداً عبارة عنها.
(فكم من مستعجل ما إن أدركه ودَّ أنه لم يدركه): أراد أن كثيراً ممن يستعجل شيئاً في إدراكه، ثم إذا حصل له تمنى أنه لم يكن حصل؛ لما يلاقي فيه من الألم والغم، وعظم المحنة، وسوء العاقبة.
(وما أقرب اليوم من تباشير غدٍ!): والتباشير هي : البشرى، وتباشير الصبح: أوائله، وهكذا في كل شيء.
(ياقوم، هذا إبَّان): أي وقت، وإبَّان الفاكهة: وقت إيناعها.
(ورود كل موعود): من حصول هذه الفتن ووقوعها.
(ودنو من طلعة ما لاتعرفون): واقتراب من طلوع ما لا تعرفون من أحوالها.
(ألا وإن من أدركها منَّا): الضمير راجع إلى قوله: طلعة ما لا تعرفون، وقوله: (منَّا) أراد أهل البيت.
(يسري فيها بسراج منير): بصيرة في الأمور نافذة.
(ويحذو فيها على مثال الصالحين): يقفو أثرهم ويقتدي بآرائهم الصائبة.
(ليُحِلَّ فيها ربقاً): قد أحكمت للضلالة، وهي: جمع رِبْقَة، وهو: حبل فيه عدة عرى تشدُّ فيها أولاد الغنم.
(ويعتق رقَّاً): قد أوثقوه في الجهالة.
(ويصدع شَعْباً): قد رأبوه بآرائهم الخاطئة.
(ويشعب صَدْعاً): قد فرقوه بأهوائهم المبتدعة؛ وعنى بذلك أنه يفرق جمع الضلالة، ويجمع شتات الهدى.
(في سترة من الناس): أي يعملون ذلك، ويصنعونه في خفية من الناس وسر.
(لا ينظر القائف أثره): القائف هو: الذي يشبِّه الولد بأبيه فيلحقه به، والقائف هو: الذي يعرف زجر الطير ، وأراد أن مكرهم وخدعهم دقيق لا يدرك لدقته بالكهانة والقيافة.
(ولو تابع نظره): ولو بالغ في نظره، وتابعه مرة بعد مرة لدقته وغموضه.
(وليُشحذنَّ فيها قوم): شحذ النصل: تحديده، أي ليضربنَّ بالبلاوي ويحك سرائرهم في هذه الفتن، والمراد بما ذكره ظهورقوم من عباد الله الصالحين.
(شحذ القين النصل): القين: الحداد، مبالغة في شدة ما يلقونه.
(تجلى بالتنزيل أبصارهم): يتلونه حق تلاوته، ويجلِّون بذكره بصائرهم، ويُصَفُّوْنَ به عقولهم عن أن ترين عليها الغفلة، أو يغلب عليها السهو.
(ويُرمى بالتفسير في مسامعهم): يسمعون كلام الله تعالى فيقع مراده في آذانهم فلا يخالفونه.
(ويغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح): أي يشربونها غدواً وعشياً، والغبوق: شرب العشي، والصبوح: شرب البكرة، وأراد أن الحكمة صارت غذاء لهم تطيب عليه أنفسهم وتنمو عليه أجسامهم.
(وطال الأمد عليهم): يعني أهل هذه الفتن المضلة.
(ليستكملوا الخزي): من الله تعالى بما فعلوه، وارتكبوه من هذه الآثام الموبقة.
(ويستوجبوا الغير): التغيير في أحوالهم، وإزالة ما هم فيه من النعم بحلول النقم عليه، وإدالتها بنقائضها من البلاوي.
(حتى إذا اخلولق الأجل): اخلولق السحاب إذا صار خليقاً بحصول المطر منه، وأراد قرب الأجل وإسراعه، وحتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره: فاستمروا على ذلك واطمأنوا إليه حتى جاء الأجل.
(واستراح قوم إلى الفتن): اطمأنوا إليها، وصارت أفئدتهم متعلقة بها ولا راحة لهم في غيرها.
(واشتالوا عن لقاح حربهم): اشتالت الناقة ذنبها إذا رفعته، ليعلم بذلك لقاحها، وأراد أنه لما طالت الآماد في الفتن استأنس الناس بها، وهيجوا أسباب الحرب حتى لقحت واشتالت.
(لم يمنوا على الله بصبرهم ): أراد هؤلاء الصالحين الذين قدّم ذكرهم.
(ولم يستعظموا بذل أنفسهم في حق): لما يعلمون من ثواب الله، وجزيل عطائه.
(حتى إذا وافق وارد القضاء): اتفق ما يرد من أقضية الله تعالى ومقاديره.
(انقطاع مدة البلاء): زوال ماهم فيه من البلاء بهذه الفتن، وحتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره فصبَّروا نفوسهم على ذلك حتى إذا وافق.
(حملوا بصائرهم على أسيافهم): وقاتلوا بالسيوف أمام البصائر.
(ودانوا لربهم): عاملوه بهذه المعاملة بالجهاد في ذاته، والقيام بأمره في ذلك، من قولهم: كما تدين تدان.
(بأمر واعظهم): [إمامهم، وصاحب أمرهم، وولايتهم] .
(حتى إذا قبض رسول الله رجع قوم على الأعقاب): حتى هذه متعلقة بأمر محذوف، كما مر في نظائرها تقديره: فأقاموا على ذلك حتى إذا قبض رسول الله [رجع قوم على الأعقاب] ارتدوا وكفروا.
(وغالتهم السبل): ختلتهم الطرق السيئة وخدعتهم.
(واتكلوا على الولائج): الدخائل السيئة، أراد أنهم اعتمدوا عليها فكانت سبباً للهلاك.
(ووصلوا غير الرحم): رحم الرسول عليه السلام.
(وهجروا النسب الذي أمروا بمودته): حيث قال: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }[الشورى:23].
(ونقلوا البناء عن رصِّ أساسه): إحكام بنائه، والرصُّ: إحكام البناء فلا يزيد بعضه على بعض، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ }[الصف:4].
(فبنوه في غيرموضعه): حوَّلوه إلى غير مكانه الذي وضعه الله فيه، وأقرَّه عليه.
(معادن كل خطيئة): فتطلب الخطايا فلا توجد إلا فيهم، وتفقد إلا عندهم.
(وأبواب كل ضارب في غمرة): أي أنهم لكل من كان في ذهول وغفلة من أمره؛ كالأبواب يدخل فيها من أي باب شاء.
(قد مَارُوا في الحيرة): مار يمور موراً إذا تحرك واضطرب، أي اضطربوا في تحيرهم في هذه الفتن.
(وذهلوا في السكرة): الذهول: فساد العقل وتغيِّره، وهم في ذلك:
(على سُنَّة من آل فرعون): أي هم فيما أتوه من ذلك يشبهون آل فرعون في كل أحوالهم، ثم هم أصناف:
(من منقطع إلى الدنيا راكن ): لايخطر على باله شيء من أمور الآخرة فهو راكن إلى الدنيا مطمئن إليها.
(أو مفارق للدين مباين): لا يلتفت إلى شيء من أحواله أبداً.
سؤال؛ من يعني بهذا الكلام، وما مراده منه؟
وجوابه؛ أنه أراد به قوماً كانوا أسلموا، ثم ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، وظهرت منهم الكراهة لأهل بيت النبوة فهلكوا بذلك.
(142) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها أمر الفتنة
(وأستعينه على مداحرالشيطان): المداحر: جمع مدحر، وأراد مدافعه التي يدفع بها، من قولهم: دحره إذا دفعه ومنعه.
(ومزاجره): التي تزجره عنا، أي تمنعه أن لايكون له سلطان بالإغواء علينا.
(والاعتصام): الامتناع، ومنه عصام القربة، وهو: ما يمنع الماء عن الخروج منها.
(من حبائله): التي يصطاد القلوب بها.
(ومخاتله): الختل: الخدع والمكر.
([وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله): اصطفاه على سائر الخلق بالرسالة.
(ونجيبه):كريمه من بين سائر العالمين.
(وصفوته): مختاره أيضاً من بينهم.
(لا يؤازى فضله): أي لا يماثل فضله فضل أحد من الخلق.
(ولا يجبر فقده): أي أن فقده عن الدنيا لا يجبر بشيء قط بل هو نقصان وثلم لا ينسدُّ أبداً.
(أضاءت به البلاد): أشرقت أنوارها بنور الإسلام والهداية.
(بعد الضلالة المظلمة): الكفر المسودِّ، وإضاءة البلاد، والإظلام بالكفر من باب الاستعارة، كما قال تعالى: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[إبراهيم:1].
(والجهالة الغالبة): وهي عبادة الأوثان، وقطع الأرحام، وحصول البدع، والضلالات الكثيرة.
(والجفوة الجافية): بالفتن العظيمة، وقوله: الجفوة الجافية مبالغة [في ذلك] ، ويقال: لهذا التجنيس المطلق، وقد مرَّ غيرمرة في كلامه.
(والناس يستحلون الحريم): المحرَّم من الفواحش كلها.
(ويستنزلون الحكيم): الفاضل من الأولياء والصالحين، لا يرون لهم قدراً، ولا يَزِنُون عندهم قلامة ظفر.
(يحيون على فترة): انقطاع من الرسل والوحي.
(ويموتون على كفرة): عبادة الأوثان والأصنام، والشرك بالله وغيره.
(ثم إنكم معاشر العرب): منصوب على الاختصاص.
(أغراض بلايا): الغرض: ما يرمى من قرطاس وغيره، والبلايا جمع بلية كرسالة ورسائل.
(قد اقتربت): دنا حصولها وهجومها عليهم.
(فاتقوا سكرات النعمة): عن أن تخرجكم إلى الأشر والبطر، فَتُزَالَ عنكم.
(واحذروا بوائق النقمة): البوائق: الدواهي، والنقمة هي: الاسم من الانتقام.
(وتبينوا): خذوا البيان.
(في قتام العشوة): القتام هو: الغبرة، والعشوة هو: ركوب الأمرعلى غير بيان ووضوح.
(واعوجاج الفتنة): لأنها تأتي على غير الاستواء فهي معوجّة.
(عند طلوع جبينها ): حدوث أوائلها.
(وظهور كمينها): ما كان منها كامناً أي مستوراً لايؤبه له، ولا يعلم حاله فيحذر منه.
(وانتصاب قطبها): استواء أمرها.
(ومدار رحاها): انتظام أحوالها كلها.
(تبدأ في مدارج خفية): المدارج هي: المذاهب، وأراد أن أوائلها تكون في أمور خفية دقيقة مسالكها، وقوله: تبدأ من بدأ في الأمر يبدأ على فَعَلَ يَفْعَلُ بالفتح للعين فيهما إذا شرع فيه، وإنما كان كذلك لأن لامه حرف حلق.
(وتؤول إلى فظاعة جلية): وترجع عاقبتها إلى أمر شديد واضح، من قولهم: فظع الأمر إذا اشتدَّ الخطب فيه وعظم، قال لبيد :
وهم السّقاة إذا العشيرة أَفْظَعَتْ ... وهمُ فوارسُها وهم حكَّامُها
(شَبَابُها كَشَباب الغلام): لزيادتها فهي إلى نمو واستعلاء؛ لأن الغلام عند مراهقته للبلوغ يظهرفيه الشباب ظهوراً واضحاً.
(وآثارها): في أهلها وزمانها، يعني الفتنة.
(كأكلام السِّلام): جمع سلمة، وهي: الحجارة من شدة كلمها لهم وتأثيرها فيهم، واحدها سَلِمة بكسر اللام، قال:
يرمي ورائي بِامْسَهمِ وَامْسَلِمه
(يتوارثها الظلمة): الضمير للدولة، والمعنى اتخذوها وراثة بمنزلة المال الموروث إذا مات واحد خلف عليها آخر.
(بالعهود): أي يعهد هذا إلى غيره عند موته، ويعطيها إياه كأنها تراث أبيه، أو كأن الحكم إليه فيها.
(أولهم قائد لآخرهم): إمام لهم يتّبعونه.
(وآخرهم مقتدٍ بأولهم): تابع له يسلك على أثره ويأتمُّ به.
(يتنافسون): أي يرغبون، ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }[المطففين:26].
(في دنيا دنية): حقيرة نازل قدرها.
(ويتكالبون على جيفة مريحة): التكالب: شدة المنازعة، وعظم الشجار، والجيفة: شبح الإنسان عند الموت، والمريحة: ذات الرائحة الخبيثة.
سؤال؛ ما وجه تشبيه الدنيا بالجيفة والرائحة الخبيثة، وكيف استعير لها ذلك؟
وجوابه؛ هو أنه لما وصف أهلها بالتكالب عليها، والتهالك في حبها، والحرص عليها وجعلهم بمنزلة الكلاب فيها، ألحق ذلك بما يناسبه، وهي الجيفة المنتنة التي تجتمع الكلاب عليها وتتهارش عند أكلها، وهذا من علم البيان يلقَّب بتوشيح الاستعارة، وله موقع عظيم في البلاغة، وهو مما يزيد الكلام حسناً ورشاقة.
(وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع): وبعد انقطاع الدنيا على القرب والسرعة، و يصيرون إلى الآخرة تنقطع العُلْقة ، ويتبرأ هذا من هذا كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166].
(والقائد من المقود): والداعي من المدعو، حتى صار كل واحد منهم منقطعاً عن الآخر غاية الانقطاع.
(فيتزايلون بالبغضاء): زيَّلته فتزيل إذا فرَّقته، والمزايلة: المباينة، أي يتزايلون بغضاً وعداوة فيما بينهم.
(ويتلاعنون عند اللقاء): هذا يلعن هذا وهذا يلعن ذاك، وإنما قال: عند اللقاء؛ مبالغة في سوء حالهم حيث أقاموا اللعن والأذية فيما بينهم مقام المسرة، والتحية عند المواجهة.
(ثم يأتي بعد ذلك): إشارة إلى حالتهم هذه المكروهة.
(طالع الفتنة): أولها ومبدأها.
(الرجوف): التي ترجف القلوب لها، أي تضطرب، ويشتد قلقها خوفاً منها.
(والقاصمة):، من قولهم: قصم ظهره إذا كسره.
(الزحوف): الزحف هو: المشي إلى قدام بسرعة ونشاط.
(فتزيغ قلوب ): تميل عن الدين وتزول عنه.
(بعد استقامة): ثبوت كان منهم قبل حصولها.
(وتضل رجال): عن سواء السبيل.
(بعد سلامة): عن الزيغ والضلال.
(وتختلف الأهواء): الخواطر والقلوب فزعاً منها.
(عند هجومها): عند وقوعها، والضمير للفتنة.
(وتلتبس الآراء): يختلط بعضها ببعض فشلاً وروعة.
(عند نجُومها): نجم القرن إذا طلع.
(من أشرف لها قصمته): خاض في أمرها قطعته.
(ومن سعى إليها): بالدخول فيها.
(حطمته): والحطم: الكسر، وسميت النار حطمة؛ لكسرها للظهور والعظام.
(يتكادمون فيها): الكدم: هوالعض بمقدم الأسنان.
(تكادم الحمير ): هذا يكدم هذا، وهذا يكدم ذاك.
(في العانة ): القطيع من حمرالوحش بمنزلة الثلة من الناس.
(قد اضطرب معقود الحبل ): تلاشى ما أبرم من الأمور المحكمة، والحبل المعقود من أجلها.
(وعَمِيَ وجه الأمر): فلا يهتدى للصواب في أمرها، ولايدرى من أين تؤتى.
(تغيض فيها الحكمة): غاض الماء إذا ذهب، وأراد إما تذهب فيها الآراء المحكمة، وإما تطيش فيها أحلام أهل الحكمة فزعاً منها.
(وتنطق فيها الظلمة): أي ويكون من يتكلم فيها هم الظلمة، وهذا مما يؤيد الاحتمال الثاني في الحكمة.
(وتدقُّ أهل البدو): الشطار وأهل السلاح والشجاعة، فإذا كان [هذا] حالها في هؤلاء فكيف في غيرهم من أهل الأمصار وغيرهم، ولهذا خص البدو.
(بمسحلها): المسحل هو: المبرد، ويقال أيضاً: للخطيب المصقع، ويقال أيضاً: للحمار الوحشي، ومراده ها هنا المبرد، وتدقهم أي تجعلهم دقاقاً كدقاقة الخشب، والحديد إذا برد بالمبرد .
(وترضهم): الرضُّ: الدقُّ، يقال: رضَّ النوى إذا دقَّه.
(بكلكلها):كلكل الجمل: صدره.
(يضيع في غبارها الوُحدان): أراد أنها لشدتها وعظمها، وفخامة شأنها تبطل في أثنائها أعلام الرجال، الوحدان: الذين كل واحد منهم واحد زمانه وإنسان أوانه.
(ويهلك في طريقها الركبان): فإذا كان حال الركبان فيها الهلاك؛ فكيف حال من يمشي على قدمه، هوأسرع لامحالة إلى العطب والهلاك.!
(ترد): تطلع على أهلها.
(بمرِّالقضاء): بما قد سبق في علم الله تعالى مما تكرهه النفوس، وتمرها من القتل والأخذ والسلب.
(وتحلب عبيط الدماء): دم عبيط إذا كان خالصاً لا يشوبه شيء من الكدورة؛ لما يكثرفيها من القتل، وإراقة الدماء على غير وجهها.
(وتَثْلِم منارالدين): المنار: علم الطريق، وأراد أنها تهدم أعلامه لما يحصل بسببها من الزيغ عنه وإهماله.
(وتنقض عقد اليقين): ما أبرم من العقود اليقينية.
(يهرب منها الأكياس): أهل الكياسة من المؤمنين الجامعين لخصال الفضل.
(ويديرها الأرجاس): ويتولى أمرها، ويدبِّرحالها الفسقة من الخلق.
(مرعادٌ مبراق): مبالغة فيما يحصل فيها من شدة الأمر، أخذاً لذلك من شدة الرعد والبرق والصواعق.
(كاشفة عن ساق): هذه الكلمة لا تستعمل إلا في الداهية العظيمة، والأمور المكروهة، كما قال تعالى في وصف القيامة: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }[القلم:42] كناية عن عظم الأمر وتفاقمه.
(تقطع فيها الأرحام): الأقارب بالهجران، وترك المواصلة لهم.
(ويفارق عليها الإسلام): أي من كان مجتهداً فيها فقد برئ عن الإسلام، وخلى عنه.
(بريئها سقيم): مهزول عن الدين لادين له.
(وظاعنها): الخارج عنها.
(مقيم): واقف عليها، وأراد أن الهارب عنها فهو مقيم فيها لا ينفعه هربه عنها؛ لا نتشارها وسعتها ، أو أن الهارب منها بجسمه وهو مريد لها بقلبه كا لمقيم لا ينفعه الهرب من الخطأ والخطر.
(بين قتيل مطلول): طل الدم فهو مطلول، إذا ذهب هدراً لا ثائر له.
(وخائف مستجير): بغيره لا يأمن وحده فيها.
(يختلون بعقد الأيمان): من الختل وهو: الخدع، يقال: ختله إذا خدعه؛ لما يظهرونه من التغليظ ، والتعقيد في الأيمان الكاذبة جمع يمين.
(وبغرور الإيمان): وبما يأخذون الناس من الغرر بإظهار النسك، والتقشف والعبادة والزهد، وغير ذلك مما يكون من أمارة الدين.
(فلا تكونوا): نهي وتحذير.
(أنصارالفتن ): ناصرين لها ولأهلها.
(وأعلام البدع): بمنزلة الأعلام لكل خصلة مبتدعة في الدين تضاد السنة وتخالفها.
(والزموا): أمر وحث.
(ما عُقد عليه حبل الجماعة): فإن يد الله مع الجماعة، وكما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً }[آل عمران:103] وأراد التمسك بالدين وأسبابه.
(وبنيت عليه أركان الطاعة): لله ولرسوله؛ فإنها إنما تؤسس على التقوى، والتزام العرى الوثيقة.
(واقدموا على الله): من قولهم: قدم علينا من سفره، وأراد القدوم على القيامة.
(مظلومين): مأخوذة أموالكم مستحلة أعراضكم، فإن الله تعالى يكون هو المنتصف لكم، وكفى به ناصراً لكم ومنتصفاً.!
(ولا تقدموا عليه ظالمين): لأحد من الخلق في عِرْضٍ ولا مال، فيكون الله تعالى هو المنتصف منكم، والآخذ لكم بإجرامكم.
(واتقوا مدارج الشيطان): مذاهبه التي يذهب فيها في الخدع للخلق والمكر بهم.
(ومهابط العدوان): إما المعاداة للخلق، وإما التعدي عليهم، فكله هلاك للدين، وإبطال له.
(ولا تدخلوا بطونكم لُعَق الحرام): اللعقة: ما يلعق أي مأكولاته ومطعوماته، وفي الحديث: ((كل مغصوب حرام )).
(فإنكم بعين من حرَّم عليكم المعصية) : لاتخفون عليه، وهذه اللفظة من كلماته البديعة القصيرة، التي أنافت على الغاية في وصف الإحاطة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط }[آل عمران:120]، وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }[يس:12]، وكما قال النابغة الذبياني:
وإنَّك كا لليلِ الذي هو مُدْرِكِي
وإن خلت أن الْمُنْتَأعنك واسعُ
ولقد أجاد فيما قال، ولكنه قاصر عن كلام أمير المؤمنين في المبالغة والرقة، فأما كلام الله تعالى فقد فاق على الكلامين جميعاً لذة وحلاوة، وبهجة وطلاوة.
(143) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الأئمة
(الحمد لله الدال على وجوده بخلقه): أراد أن الدلالة على وجود الله تعالى هو حدوث الخلق؛ لما قد تقرر في العقول وبدائهها أن الْمُحدَث، وهو : الحاصل بعد أن لم يكن فلا بد له من مُحدِث، إذ يستحيل في العقول أن يكون حاصلاً لا لأمر ولا من جهة مُحدِث، وكيف والعقول شاهدة بأن الواحد منَّا لو دخل منزلاً فوجد فيه كوزاً فيه ماءٌ بارد فإنه يضطر لا محالة أنه لا بد له من واضع، ولا يخالجه في ذلك شك، فكيف ما يشاهده من أحوال العالم العظيمة من اختلاف الليل والنهار، وجري الشمس والقمر، والزروع والفواكه، والغيوم والأمطار، فيضطر لامحالة أنه لا بد لهذه الأشياء من مدبِّر وفاعل، تعالى شأنه وعظم سلطانه.
(وَبِمُحْدَثِ خلقه على أزليته): يعني وإذا تقرر أنها مُحْدَثَةٌ وأن لها مُحدثاً فمُحدثُها لا بد من أن يكون أزلياً، وإلا كان مفتقراً مثلها إلى مُحْدِثٍ يُحدثه، و[في ذلك] تسلسل الأمر إلى غير غاية، وقد تقرر في العقول بطلان وجود حوادث لا أول لها، فإذا بطل ذلك وجب القضاء بقديم لا أول له، وهو الله خالقها ومدبرها.
(وباشتباههم على أن لا شبه له): المكونات الوجودية لا تنفك عن الاشتباه، ثم ذلك الاشتباه لا يخلو حاله إما أن يكون في الجنسية كاشتباه الإنسان والفرس والأسد في الحيوانية، أو يكون الاشتباه واقعاً في النوعية كاشتباه زيد وعمرو، وبكر وخالد في الإنسانية، أو يكون اشتباههما في الكمية والكيفية، وسائر المقولات العرضية، وكل هذه الاشتباهات مستحيلة على الله تعالى، لأنها كلها من توابع الجسمية والعرضية، وهما مستحيلان على الله تعالى، فلهذا قال: بجعله إياها مشتبهة لم يكن مشبها لها، إذ لوأشبهها لكان جسماً أو عرضاً مثلها، وذلك مستحيل عليه.
(لا تستلمه المشاعر): مشاعر الإنسان: حواسه؛ لأنها طريق للشعور، وهو العلم بمدركاتها كالسمع والبصر، وسائر الحواس فلهذا سميت مشاعر.
(ولا تحجبه السواتر): تغطيه الحجب الكثيفة المانعة عن البصر، والإدراك؛ لأن ذلك لو جاز لكان جسماً يحجب بغيره، وهو مستحيل عليه.
(لافتراق الصانع والمصنوع): اللام هذه هي لام التعليل، وأراد أن هذه الأحكام من امتناع الإدراك عليه، وامتناع الاشتباه به، وأنه لا تستلمه المشاعر من أجل أنها مصنوعات ومحدثات، ومن حق ما كان مصنوعاً أن يكون مخالفاً لصانعه، فإذا كانت المصنوعات أجساماً وأعراضاً، كانت العرضية والجسمية مستحيلة عليه تعالى.
(والحاد والمحدود): لأنه تعالى هو الذي حدَّ الأشياء، وجعل لها حدوداً تنتهي عندها، وتقف عليها فلا بد من مخالفته لها.
(والرب والمربوب): لأنه إذا كان رباً لها فلا بد من تميزه عنها، وإلا استحالت الربوبية له.
(الأحد): أي الواحد من كل جهة، وعلى كل وجه.
(لا بتأويل عدد): أي وليس معدوداً من جملة الأشياء؛ لأن الواحد أصل للأعداد من حيث كان يبتدأ به في عدد الأشياء، فهو وإن كان واحداً فلا يتناوله العد معها، وإلا لوجب أن يكون من جنسها.
(الخالق): إما الموجد كما تقوله الأشعرية، وإما المقدر كما يقوله أصحابنا المعتزلة .
(لا بمعنى حركة ونصب): أراد أنه وإن كان فاعلاً، فإنه في فعله لا يوجده بحركة في نفسه وتعب كما يكون غيره من الفاعلين.
(السميع): الحي الذي لا آلة له على ما يقوله المتكلمون، من أن السميع هو الذي يصح أن يدرك عند وجود مدركه، وظاهر كلامه ها هنا أنه لا فرق بين السميع والسامع، وظاهر كلام المتكلمين التفرقة بينهما، والكلام فيه قريب المأخذ.
(لا بأداة): أي لاأذن له فيكون سامعاً بها.
(البصير): إما الذي يصح أن يبصر على ما يزعمه أهل الكلام، وإما المبصر كما هو ظاهر كلامه.
(لا بتفريق آلة): تفريق الآلة ها هنا يعني به كيفية الإبصار، وفيه اختلاف بين المتكلمين، فعلى رأي أصحاب أبي هاشم لابد من تفريق الشعاع وامتداده نحو المرئي، وعلى رأي بعض النظَّار من المعتزلة لا بد من الانطباع للمرئي في الحاسة، وعلى رأي الفلاسفة لابد من تكيف الهواء بنور العين في الهواء المتوسط بين العين والمرئي، إلى غير ذلك من الاضطراب في كيفية الإدراك لما تدرك العين، وعلى كل حال فإنه تعالى مبصر لا على هذه الكيفيات؛ لأنها إنما تكون مختصة بالعين، وهو محال في حق الله تعالى، فلهذا قال: (مبصر لا بتفريق آلة) يشير إلى ما قلناه.
(الشاهد): الرقيب على كل شيء، والعالم به، والمختص بحقائقه.
(لا بمماسَّة): أي أنه وإن علم الأشياء كلها فإنه غير مفتقر إلى مماستها.
(البائن): البعيد عن الأشياء.
(لا بتراخي مسافة): أراد أن كل شيء بان عن شيء آخر غيره وبَعُدَ عنه، فإن ذلك إنما يكون لمسافة وَبُعْدٍ وتراخي، وبُعْدُه تعالى عن الأشياء ليس كذلك؛ وإنما هو يكون باختصاصه بأوصافه الثابتة له لا غير.
(الظاهر): المنكشف بالأدلة والبراهين، وما خلق من المصنوعات الدالة على ظهوره، وثبوته في الوجود.
(لا برؤية): لأن ظهور الأشياء إنما يكون بالرؤية لها ، وهو تعالى مخالف لها فيظهربالعلم، ولا يرى بالحاسة لاستحالتها عليه؛ لأنه لا بد فيها من المقابلة، وهي مستحيلة عليه.
(الباطن): أراد إما العالم ببواطن الأشياء، وخفياتها وسرائرها، وإما الباطن عن إدراك الأبصار فلا تدركه.
(لا بلطافة): بمعنى أنه وإن كان باطناً؛ فليس لطفة من أجل أنه أصغر المقادير وأَرقَّها ، كالجزء الذي لا يتجزَّأ، أو كالأشياء اللطيفة، كالهباء فإنها وإن كانت لطيفة لكنها أجسام، ويستحيل كونه جسماً.
(بان من الأشياء): تميَّز عنها وخالفها.
(بالقهر لها): بأن قهرها وكانت مطيعة له، واقفة على حسب إرادته، وعلى وفق داعيته.
(والقدرة عليها): بالإيجاد، والإنشاء، والاختراع.
(وبانت الأشياء منه): وكانت متميزة عنه على خلاف ذلك ونقيضه.
(بالخضوع له): الاستصغار لأمره، والتذلل له.
(والرجوع إليه): في الابتداء لها، والانتهاء منها، كما قال تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ }[هود:123]، {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ }[الشورى:53].
(مَنْ وَصَفَهُ): بالصفات التي تؤذن بالجسمية كالحصول في الجهة والكون فيها ، أو تكون ذاته محلاً للأعراض، أو بالصفات التي تؤذن بالعرضية نحو حلوله في محل، أو غير ذلك من صفات الأجسام والأعراض.
(فقد حدَّه): لأنه إذا كان بهذه الصفات صار محدوداً لا محالة، له غاية وله نهاية، وشكل ومقدار، وانحصار وتعدد.
(ومن حدَّه): جعل له حداً بما ذكرناه.
(فقد عدَّه): جعله واحداً من هذه الأشياء المحدثة، وجعله مجانساً لها كمجانسة بعضها لبعض.
(ومن عدَّه فقد أبطل أزله): لأنه إذا صار مجانساً لها مشاكلاً لماهياتها فقد صار مثلاً لها، فإذا كانت مُحدَثة كان مُحْدَثاً مثلها، وفي ذلك بطلان كونه أزلياً، فقد ظهر مصداق مقالته بهذا التقرير الذي ذكرناه.
(ومن قال: كيف): أي ومن سأل عنه بالكيفية فقال: كيف هو؟
(فقد استوصفه): إما طلب الوصول إلى كنه حقيقته وهو محال، وإما طلب أن يكيِّفه بشيء من هذه الكيفيات المحدثة الحسية ، وكله غير لائق بذاته.
(ومن قال: أين): أي ومن سأل عنه بالأينية، فقال: أين هو؟
(فقد حيَّزه): أي جعله مختصاً بالحيز، والمكان والجهة؛ لأن أين سؤال عن جهة.
(عالم): في الأزل بالحقائق كلها التي هي بلا نهاية فإنه سيوجدها، وأنها ستكون بتكوينه.
(إذ لامعلوم): موجود، لأن الأوقات الأزلية يستحيل حدوث حادث فيها.
سؤال؛ المعلوم من حقيقة كون العالم عالماً، فكيف أثبته عالماً، وأبطل معلومه؟
وجوابه؛ الأمر على ما قلته فإنه يستحيل في العقل عالم ولا معلوم هناك، وإنما أراد بالمعلوم في الأزل الأمور الموجودة؛ لاستحالة وجودها كما ذكرناه، فأما أن يكون مراده إثبات عالم ولا معلوم هناك مطلق فقدره أشرف وأعلا من أن يقصد ذاك، وكيف وهو شيخ الصناعة الكلامية، واستاذ هذه العلوم الإلهية، في فنائه كان محط رحالها، وعليه كان تعويل رجالها.
(وربٌّ): مالك للخلائق كلها وإله لهم.
(إذ لا مربوب): يعني أنه مستحق للربوبية، والإلهية في الأزل، ولا مربوب هناك يوجد لاستحالة وجوده.
(وقادر): موصوف بالقادرية ومن حيث كانت قادريته هي ذاته وذاته حاصلة في الأزل، فلهذا حكمنا عليه بالقادرية في الأزل.
(إذ لا مقدور): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد إذ لافعل هناك في الأزل؛ لا ستحالة وجوده هناك.
وثانيهما: أن يريد أنه لا مقدور هناك؛ لأن من حق المقدور أن يكون مما يصح إيجاده، ويكون ممكناً، وهذا غير حاصل في الأزمنة الأزلية فإنه لا يصح فيها حدوث حادث أصلاً، وفيه بحث دقيق يليق بالمقاصد الكلامية، وقد ذكرناه بالكتب العقلية، وأنهينا فيه القول نهايته.
(قد طلع طالع): أراد بذلك ظهور رسول الله صلى الله عليه وآله.
(ولمع لامع): بالخير والإرشاد إلى طريق الهداية.
(ولاح لائح): بمعالم الدين، وأحكام الشريعة.
(واعتدل مائل): أراد واستقام به من الدين ما كان مائلاً لولاه بتوحيد الله دون عبادة الأوثان، وبعبادته دون الإشراك بغيره، ولا اعتدال أعظم من هذا.
(واستبدل الله قوماً بقوم) : بالمؤمنين عن الكافرين، وبأهل الجاهلية أهل الشريعة المحمدية، وبمن عبد الطاغوت والأوثان من وحدَّ الله وعبد الرحمان.
(وبيوم يوماً): أيام الجاهلية وبدعها، أيام الإسلام وسننها، أوبأيام النيروز والسعانين يوم الجمعة وأيام العيدين، أوبيوم عاشوراء شهر رمضان.
(وانتظرنا الغير): أراد بأهل مكة في أول زمان النبوة فإنهم كانوا يومئذ في ضيق وضنك منهم، ومشقة من علاجهم، فانتظروا بهم غِيَر الدهر وتقلباته فأدال الله منهم وصغَّرهم، وأذلَّهم بالإسلام.
(انتظار المجدب المطر): فإن انتظاره له انتظار حاجة، والفرج يكون أكثر.
(وإنما الأئمة قوام الله على خلقه): يستقيم بهم أمر الله تعالى ونهيه، ويمضي بهم أحكام الشريعة، ويؤخذ بهم للضعيف من القوي، ويتقوى بهم الإسلام والدين قوة ظاهرة، ومن ثمَّ عظم أمرهم عند الله، وكانوا عنده في أعلى المراتب، وفي الحديث: ((السلطان ظل الله في الأرض ، يأوي إليه كل مطرود ملهوف)) .
(وعرفاؤه على عباده): العريف هو: الرئيس لكل جماعة، وفي الحديث: ((لكل قرية عريف، والعرفاء في النار )) .
(لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه): يشير بذلك إلى أن نصب الإمام واجب على المسلمين، فإنه يجب عليهم طلبه والاهتمام بأمره، ويجب عليهم معرفته لما عليهم فيه من التكاليف العظيمة، من نصرة الدين والجهاد معه لأعدائه، فمن قام بهذه الواجبات كان مستحقاً للجنة لا محالة.
(ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه): أراد أنهم إذا لم ينظروا في وجوب نصب الإمام أو يكون قائماً، ولا ينصرونه ويعضدونه ، ولا يعرفون حاله، فإن ذلك يكون منهم تركاً لما وجب عليهم، ويحصل لهم الإثم في ذلك، فلا يمتنع استحقاقهم للنار بذلك إذا كان عند الله كبيرة.
(وإن الله خصهم بالإسلام): بإظهار أحكامه، وتقوية قواعده، وتأسيس أركانه، والنصرة له، والذب عنه ، والجهاد لأعدائه.
(واستخلصهم له): إما اختصهم الله لنفسه بأن أكرمهم ورفع درجاتهم عنده، وإما اختصهم للإسلام وجعلهم أمناء عليه، وكل ذلك عناية من الله لهم في كلتا الحالتين، يقال: استخلص هذا لنفسه إذا كان مختصاً به .
(وذلك): إشارة إلى الاستخلاص.
(لأنه اسم سلامة): الضمير للإسلام، أراد أن اشتقاق الإسلام من السلامة فسمي إسلاماً من أجل ذلك.
(وجماع كرامة ): الجماع: ما ضمَّ أعداداً متفرقة، محمودة كانت أو مذمومة، كما ورد في الحديث: ((الخمر جماع الإثم )) أي أنه جامع لخصال كريهة.
(اصطفى الله منهجه): اختار الله طريقه فجعلها من أيمن الطرق وأوضحها، وجعل أسبابه أقوى الأسباب وأوضحها.
(وبيَّن حججه): أظهرها وأوضحها للناظرين في صحتها واستقامتها، وجعله على وجهين:
(من ظاهر علم): أي علم ظاهر لا يحتاج إلى نظر واستدلال.
(وباطن حكم): أي وحكمة باطنة تحتاج إلى استثارة بدقيق الأنظار وخفيها.
(لا تفنى غرائبه): أسراره ومعانيه الغريبة.
(ولا تنقضي عجائبه): أحكامه العجيبة، ومراتبه العالية، ومنازلة الشريفة.
(فيه مرابيع النِّعم): المرباع هو: الربع، والمعشار هو: العشر، ولم يرد في الأعداد على هذا البناء سواهما، وجمعه مرابيع هكذا، قال قطرب : وأحسب أن مراد أمير المؤمنين اشتقاقه من الربيع، وهو أحسن أيام السنة، والمربع هو: منزل القوم في الربيع.
قال لبيد:
رزقت مَرَابِيْعَ النجومِ وصابُّها ... وَدَق الرواعد جودُها ورهامُها
وأراد أنه أفضل النعم كما أن الربيع أفضل أيام السنة.
(ومصابيح الظلم): جمع مصباح، وهو: السراج.
(لا تفتح الخيرات إلا بمفاتحه ): جمع مفتح، أي أن الأعمال الصالحة لا يمكن تحصليها إلا به من حيث كان أصلاً لها، وقاعدة لمهادها.
(ولا تكشف الظلمات إلا بمصابحه ): جمع مصبح، وأراد أن الظلمات الكفرية لا يمكن إزالتها وإبعادها إلا بالتلبس به واستعماله.
(قد أحمى حِماه): أي جعله الله حمىً لا يمكن استباحته لأحد، وفي الحديث: ((لا حمى إلا لله ولرسوله )) .
(وأرعى مرعاه): أي جعله مرعى ينعم فيه أهله، من أهل الدين والتقوى.
(فيه شفاء المشتفي): أي الشفاء لمن اشتفىبه من كل داء يصيبه.
(وكفاية المكتفي): أي وكفاية لمن استكفى به عن غيره من الأديان.
واعلم: أن كلامه في هذه الخطبة فيه دلالة على وجوب نصب الأئمة، ولا خلاف في وجوبه إلا ما يحكى عن شذوذ لا عبرة بهم، مسبوقون بالإجماع، وإنما الخلاف في طريقها، فقائل: بالعقل، وقائل: بالشرع، وقائل: بهما جميعاً، ولا خلاف بين من أوجبها أنها واجبة بالشرع، وأقوى برهان على ذلك من جهة الشرع، هو أن الصحابة رضي الله عنهم تركوا ماهو الأهم من دفن رسول الله، وغسله وأبكروا إلى السقيفة، ثم أقبلوا على الاشتوار فلولا فهمهم لوجوب ذلك، وحرجهم بتركه لما فعلوا ذلك، فهذا دليل قاطع على وجوب نصبه لا محالة.
(144) ومن خطبة له عليه السلام يذكرفيها الآخرة
(وهو في مهلة من الله): إمهال نفَّسه الله له، وهو تأخر الأجل وامتداده، وأراد ابن آدم.
(يهوي): هَوِي بالكسر يهوى بالفتح، إذا أحبَّ، وهوى بالفتح يهوي بالكسر إذا سقط أو سار، وأراد ها هنا أنه يسير:
(مع الغافلين): عن الله وعمَّا يتوجه من الطاعة له.
(ويعدو): بالعين، والغين كلاهما وسماعنا بهما، وأراد أنه ينتقل.
(مع المذنبين): الجامعين للذنوب، الحاملين لها على ظهورهم فهو على هذه الحالة ينقلب:
(بلا سبيل قاصد): من غير أن يسير على طريق عادلة.
(ولا إمام قائد): له إلى الخير، والتزام أمر الله وطاعته.
(حتى إذا كشف لهم): حتى هذه متعلقة بمحذوف تقديره: فهم مستمرون على ما هم عليه من المخالفة حتى إذا ظهر لهم من الله.
(عن جزاء معصيتهم): من العقاب في الآخرة.
(واستخرجهم من جلابيب غفلتهم): جلابيب: جمع جلباب، وهو رداء غامر لمن ارتدى به، وأراد أن الله استخرجهم مع شمول الغفلة لهم في الدنيا، وانهماكهم في الذهول عمَّا يراد منهم فيها.
(استقبلوا مدبراً): إما أقبلوا إلى الدنيا مع إدبارها عنهم، وإما استقبلوا ندامة غير نافعة لهم الآن.
(واستدبروا مقبلاً): إما الآخرة أعرضوا عنها مع إقبالها، وإما تركوا الأعمال الصالحة مع تمكنهم من فعلها في الدنيا.
(فلم ينتفعوا بما أدركوا من طَلِبَتِهم): الطَلِبَة هي: الطلب، وأراد أنهم فيما أحرزوه من اللذات في الدنيا ما عادت عليهم بنفع.
(ولا بما قضوا من وطرهم): الوطر: الحاجة، أي ولا نفعهم ما قضوه من أوطارهم فيها؛ لفوات ذلك من أيديهم، وانقطاعه الآن عن أنفسهم.
(وإني أحذركم ونفسي هذه المنزلة): قدَّم في التحذير أنفسهم جرياً على عادته في المبالغة في النصيحة، وإبلاغ الموعظة، وعنى بهذه المنزلة ما أصبحوا فيه من انقطاع الدنيا ولذتها، وبقاء تَبِعَتِها، وإقبال الآخرة وثواب نعيمها، فنعو ذ بالله من الخذلان، وخسارة الأنفس.
(فلينتفع امرؤ بنفسه): ينفعها بالإقبال على ما يكون فيه إحراز الآخرة، والفوز بها.
(فإنما البصير): إما العاقل لأنه ذو بصر، وإما المبصر بعينيه العظات.
(من سمع): هذه المواعظ، أو أخبار الأولين من القرون الخالية.
(فتفكر ): فيها وفي عاقبة أمره، وما يؤول إليه حاله.
(ونظر): بقلبه في الأمور أو تأمل بعينيه إلى تصرفات الدهر، وتقلباته بأهله.
(فأبصر): إما استبصر بعقله، أو أبصر بعينيه.
(وانتفع بالعبر): جمع عِبْرة، وهو ما يراه من هذه المواعظ فإنها نافعة لمن اتعظ بها وتذكَّر لمن أقبل عليها بقلبه.
(ثم سلك جدداً): طريقاً مستوياً.
(واضحاً): جلياً من مسالك الهدى، وطرق السلامة عن الهلاك والردى.
(يتجنب فيه الصرعة في المهاوي): جمع مَهْواة، وهي: الحفرة العميقة.
(والضلال في المغاوي): جمع مَغْواة، من قولهم: غوى عن الطريق إذا لم يهتد لصوابها وسلوكها، وغرضه من هذا كله هو الاستقامة على الدين واتباع آثاره.
(ولم يعن على نفسه الغواة): أي أن السلامة إنما تكون بفعل ما ذكرناه، وبأن لا يكون عوناً لمن كان غاوياً، حائداً عن الطريق من الخلق، على نفسه بأفعال يفعلها إما:
(بتعسف في حق): بالعدول عن الحق، إما بأخذ حق غيره، وإما بالزيادة على حقه فيكون ظالماً في الحالين جميعاً.
(أو تحريف في نطق): كذب، إما في شهادة زور ، وإما يقول على الغير مالم يفعل .
(أو تخوف من صدق): أو يخاف خوفاً من الصدق فيدعوه ذلك إلى الكذب على الله، أو على رسوله، أو على المؤمنين فارتكاب هذه الخصال كلها مُعِيْنَةٌ لا محالة للغواة على النفس بإهلاكها.
(فأفق أيها السامع عن سكرتك): لهذه المواعظ الشافية عن سكرة الغفلة.
(واستيقظ عن غفلتك): اطلب اليقظة عن الإعراض بالتغافل عمَّا حذّرت منه.
(وأنعم الفكر ): من قولهم: نَعُمَ الشيء بالضم يَنْعَمُ نُعُوْمَةً إذا صار ناعماً ليناً، وأراد استقامة الفكر والتحذير عن الزلل فيه؛ فإنه كثير ما يعرض، ومن ثمَّ عظم الخطأ لسائر الفرق إلا من وفق الله وعصمه.
(فيما جاءك على لسان النبي الأمي): من الحكم والمواعظ والإخبار عمَّا كان وعمَّا هو كائن في الكتاب والسنة، فإنهما كلاهما مأخوذتان عنه.
(مما لا بد منه): من الأرزاق والآجال والأمورالكائنة.
(ولا محيص عنه): من الأقضية والمقادير.
(وخالف): جانب.
(من خالف ذلك): واتبع خلافه، وعدل عنه.
(إلى غيره): فإنه باطل لا ثمرة له ولا طائل تحته.
(ودعه وما رضي لنفسه): من ذلك، وهذا فيه دلالة على وجوب الالتفات إلى صلاح الإنسان لنفسه، ووجوب إصلاح الخلق؛ إنما هو على طريق الكفاية، كما قال تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }[المائدة:105].
(وضع فخرك): افتخارك على الناس، فإن الفخر كله في تقوى الله دون غيره، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }[الحجرات:13].
(واحطط كبرك): تكبرك وتعاليك على الناس، وفي الحديث: ((ما من آدمي إلا وفي رأسه حَكَمَة بيد ملك، فما تواضع إلا رفعه، ولا تكبر إلا وضعه)).
(واذكر قبرك): وحشته، وظلمته، ورائحته، ودوده، وبلاه وعظائمه.
(فإن عليه ممرك): بكرة وعشياً في الأرض، وعن قريب وأنت كائن فيه ومُضَمَّنٌ إياه.
(وكما تدين تدان): تجازي تجازى، أي كما تفعل من خيرأو شر يفعل بك مثله، قال تعالى: {أءِنَّا لَمَدِينُونَ }[الصافات:53] أي مجزيون محاسبون.
(وكما تزرع تحصد): فمن يزرع الشر يحصد الندامة، ومن يزرع المعروف يحصد الكرامة.
(وما قدمت اليوم): من عمل سيء، أو حسن في الدنيا.
(تقدم عليه غداً): على جزائه في الآخرة من ثواب أوعقاب.
(فامهد لقدمك): مهَّد المكان إذا وطَّأه، أي وطِّئ الأرض لتستقر قدمك عليها كيلا يعظم عثارك، وهو مجاز ها هنا في الأعمال الصالحة.
(وقدم ليومك): أراد وقدم أعمالك من أجل يومك الذي توعد به وهو يوم القيامة.
(فالحذر الحذر): إغراء بالتحذير في الأمور كلها، وانتصابه بإضمار فعل أي الزم الحذر.
(أيها السامع): لما قلته من هذه المزال المردية والوقوع فيها.
(والجدَّ الجدَّ ): جدَّ في الأمر إذا بالغ فيه، واهتم بحاله أي الزم الجدّ .
(أيها الغافل): عمّا يراد به من ذلك.
سؤال؛ أراه ها هنا خصَّ السامع بالتحذير، وخصَّ الغافل بالجدِّ، فما وجه التفرقة بينهما، وكل واحد منهما يحتاج إلى الحذر والجدِّ فيما هما بصدده؟
وجوابه؛ هو أن إغفال الموعظة بعد سماعها إعراض عنها، وترك لها بعد وجوب الحجة عليه بها، فلهذا خصَّه بالحذر لما فيه من مزيد المبالغة في التحرز عن ذلك، بخلاف الغافل عن سماعها، فإنه لا محالة أقلّ جرماً لمَّا لم تجب عليه الحجة بسماعها، فلهذا خصَّه بالجدِّ في إزالة الغفلة والتحفظ عنها.
({وَلاَ يُنَبِّئُكَ}): عن هذه اللطائف، ويكشف عن هذه الأسرار البديعة.
({مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:14]): بها، عالم بحقائقها وتفصيلاتها، ولله دَرُّ أمير المؤمنين فما أشفى مواعظه [وأجلاها] لصدأ القلوب، وأعظم إزالتها لتطخية الخواطر.
(إن من عزائم الله): عزم الأمر إذا قطعه، ولم يتردد فيه، قال الله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }[طه:115] أو من واجباته التي أوجبها.
(في الذكر الحكيم): الكتاب المحكم المتضمن للحكم، أو السالم عن الزلل والقبيح .
(التي عليها يثيب): يعطى ثوابه.
(وعليها يعاقب): يكون عقابه في الآخرة.
(ولها يرضى ويسخط): يكتب رضاه وسخطه.
(أنَّه لاينفع عبداً): أن هذه هي المفتوحة، وهي وصلتها في موضع رفع على الابتداء فلما دخلت أن كانت منصوبة بها، وعبداً منصوباً على المفعولية.
(وإن أجهد نفسه): بفعل الأعمال الصالحة وأتعبها بذلك وأنصبها.
(وأخلص فعله): عن كل ما يشوبه من الرياء وسائر المحبطات له.
(أن يخرج من الدنيا لا قياً ربه): أن هذه في موضع رفع على الفاعلية لقوله: ينفع.
(بخصلة من هذه الخصال): واحدة من هذه الكبائر.
(لم يتب منها): يكون نادماً على فعلها في الدنيا، لأن الندم والتوبة لا معصية معهما، وهما يمحوان كل كبيرة كفراً كانت أو فسقاً.
(أن يشرك بالله فيما افترض عليه من عبادته): أن في موضع جر بدلاً من قوله: (بخصلة من هذه الخصال) لأنه بيان له، أو عطف بيان عليه، ولهذا معنيان:
أما أولاً: فيريد الشرك بعبادة غير الله من وثن أو صنم.
وأما ثانياً: فيريد بالشرك الرياء بالعبادة فإنه يكون شركاً، لأنه إنما يفعل [من] تلك العبادة من أجل الغير فقد أشرك غير الله في عبادة الله؛ بأن فعلها لمكانه كالعابد لغير الله.
(أو يشفي غيظه بهلاك نفس ): كأن يقتل من لا جرم [له] تشفياً للغيظ ومساعدة للنفس في ذلك.
(أو يقر بأمرفعله غيره): كأن يقول: أنا قتلت فلاناً، وهو يعلم أن غيره قتله فيقتل به، فيكون كالقاتل لنفسه بذلك لما كذب على نفسه.
(أو يستنجح حاجة إلى الناس بإظهاربدعة): أو تكون له حاجة إلى غيره لأفناء الناس فيطلب نجاحها من جهته، فلايمكنه ذلك إلا بإظهار بدعة في الدين وارتكابها.
(في دينه): نحو تبديل دينه بالخروج إلى غيره أو ارتكاب فسق لا خلاف في كبره، أو يدعو إلى بدعة يكون فيها ترك للسنة وإبطال لها.
(أو يلقى الناس بوجهين): يحسِّن إلى هذا ما فعله من القبيح، ويقبِّح إلى هذا مافعله من الحسن، خدعاً ومكراً وتمرداً.
(أو يمشي فيهم بلسانين): يبلِّغ إليك من صديقك ما تكره سماعه منه، ويبلِّغ إلى عدوك فيك ما يحب سماعه منه، فهذه الخصال كلها مهلكة للدين قاطعة له، وظاهر كلامه ها هنا أنها كبائر؛ لأنه جعلها مع الشرك بالله، ولا يقرن بالكبيرة صغيرة ليس مثلها؛ لأنه قال: لا ينفع معها شيء من الأعمال، ولن يكون الأمركما قال إلا وهي كبائر مهلكة لمن ارتكبها، لا شك في ذلك.
(اعقل ذلك): أي افهمه وتدبره؛ فإن من ذكرناه لك ممن هلك أو نجا بأفعاله مماثل لك ومشابه، فخف مما خافوه من ذلك، وارجُ ما كانوا يرجونه منه.
(فإن الْمِثْلَ دليل على شبهِه): فلما بينهما من علقة المشابهة كان دليلاً عليه.
(إن البهائم همُّها بطونُها): لا همَّ لها في شيء من الأمور إلا قضاء أوطارها من الشهوات من الأكل والشرب، وحطَّ عنها ما سوى ذلك.
(وإن السباع همُّها العدوان على غيرها): لا همَّ لها سواه لما خلقت عليه من الضراوة، وشكس الخلقة، فطبعها التعدي على غيرها كالأسد فإن همَّه الافتراس، وهكذا سائر السباع.
(وإنَّ النساء همُّهُن زينة الحياة الدنيا): ولهذا قال صلى الله عليه وآله: ((النساء حبائل الشيطان )) ، وفي حديث آخر: ((ما خلفت على أمتي أضر من النساء )) ، ولقد صدق من قال :
يُرِدْنَ ثراءَ المالِ حيثُ عَلِمْنَهُ
وَشَرخُ الشبابِ عندهنَّ عجيبُ
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه
فليس له في ودِّهنَّ نصيبُ
فلا غرض لهنَّ إلا ما كان من زينة الدنيا، ومتاعها وغرورها.
(والفساد فيها): إما بالدعاء إلى أنفسهنَّ بالفجور والزنا، وإما بالدخول في الأطماع والمكاسب الخبيثة رغبة فيهنَّ، وإما من أجل تهييج الحرب بدعائهن، فالفساد في الدين يدخل من هذه الأوجه وغيرها.
(إنَّ المؤمنين مستكينون): خاضعون ذليلون، من الاستكانة وهي: الذلة لربهم.
(إنَّ المؤمنين مشفقون): خائفون لله وجلون منه.
(إنَّ المؤمنين خائفون): لعذاب الله وأليم سخطه.
سؤال؛ إنَّ المؤكدة إذا تكررت مصدَّرة في أول الجمل، فقد تأتي بالواو كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }[الأعراف:167] وقد تأتي بغير واو ، كما قاله ها هنا في هذه الجمل، فهل بينهما تفرقة؟
وجوابه؛ هو أن الواو إذا جاء ت فإنها دالة على الجمعية، وإن لم يُؤْتَ بها كان كل واحد من هذه الجمل على استقلال وانفراد، من غير إشعار بالجمعية، وهذا يسمى التجريد، وقد جاء التجريد في الصفات، كقوله تعالى: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ }[الحشر:24] وغير ذلك.
(145) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الظاهر والباطن
(وناظر قلب اللبيب): الناظرهو: الحافظ للشيء، أي قلب اللبيب حافظ للأشياء متقن لها بخلاف قلب الأحمق.
(به يبصر أمده): الضمير للقلب، أراد أنه يعرف غايته ومنتهاه به.
(ويعرف غوره ونجده): الإغوارهو: السير في بطون الأودية، والإنجاد هو: السير في الأماكن المرتفعة، وهو كناية ها هنا عن معرفته بحال نفسه في جميع أموره كلها.
(داعٍ دعا): إلى الحق ومنهاج الرشد.
(وراعٍ رعى): أحسن رعاية، وأعظم حياطة لمن يرعاه، وأراد بذلك نفسه فإنه دعا الخلق إلى طاعة الله تعالى، وسار فيهم أحسن السير وأعدلها، ورعاهم بالعدل وإكمال الحقوق، كما يشهد له ظاهر سيرته، وكرم سجيته، وشريف شيمته.
(فاستجيبوا للداعي): لما يدعوكم إليه.
(واتبعوا الراعي): فإنه يدلكم على الخير.
ثم قال:
(قد خاضوا بحارالفتن): حكاية عن حال قوم آخرين خاضوا بحارها بما ارتكبوه من الشبهة.
(وأخذوا): فيما هم عليه من الحال.
(بالبدع دون السنن): بالأمورالمبتدعة والأهواء الضالة، وتركوا السنن وراء ظهورهم.
(وأرز المؤمنون): أرز فلان بتقديم الراء على الزاي إذا تضامَّ وتقبَّض أَرْزاً وأُرُوزاً، وأراد أنهم تجمَّعوا وانقبضوا لضعف حالهم وعلو غيرهم عليهم، وفي الحديث: ((إن الإسلام ليأرِزُ إلى المدينة ، كما تأرِزُ الحية إلى جحرها )) أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها، قال أبو الأسود الدؤلي : فلان إن سئل أرز، وإذا دعي اهتز- يعني إلى الطعام- يذمه بذلك.
(ونطق الضالون): عن الطريق الواضحة.
(المكذبون): بالله ورسوله، واليوم الآخر.
(نحن الشِّعار): البطانة الخاصة وهي: ما يلي الجسم من الثياب.
(والأصحاب): أهل المودة والإخاء.
(والخزنة): للعلم الذي أودعه الله في قلب رسوله.
(والأبواب): لتلك الخزائن، إشارة إلى ما قاله الرسول: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها )) .
(لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها): إما لا تؤخذ العلوم إلا من أهلها، وإما لا تؤتى المدائن التي للعلم إلا من أبوابها.
(فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقاً): لتسلقه لها من غير بابها.
(فيهم): أراد أهل بيت النبوة.
(كرائم القرآن): إما فيهم نزلت آيات كريمة، وإما فيهم توجد معاني القرآن كريمة لا يطلع عليها أحد غيرهم.
(وهم كنوز الرحمن): معادن الجوهر، تؤخذ منهم كل نفيسة في الدين وعلومه، فلهذا أضافهم إلى الله تشريفاً لهم، وكرامة لما لهم فيه من الاختصاص بهداية خلقه، وإظهارأحكامه، كما يقال: بيت الله، وحرم الله.
(إن نطقوا): بالعلم، وأحكام الشريعة.
(صدقوا): فيما يحكمون، ويعلِّمون الناس من ذلك.
(وإن صمتوا): سكتوا عن الكلام حلماً وتوقراً.
(لم يسبقوا): فيما سكتوا عن حكمة لفقد علم غيرهم به، فلهذا يسكت عن الكلام في ذلك.
(فليصدق رائد أهله): الرائد هو: الذي يبعثه القوم ليطلب لهم الماء والكلأ، وأراد ها هنا أن الإ نسان إذا سمع الموعظة من أهلها فليتعظ بها، ولا يَخُنْ نفسه ولا يكذبها.
(وليحضر عقله): ليفهم ما يلقى إليه منها.
(وليكن من أبناء الآخرة): ممن عمل للآخرة، وجعله ابناً إنما هو تجوِّز واستعارة.
(فإنه منها قدم): أي من أجلها خلق، فإن الله تعالى ما خلق الخلق إلا من أجل عبادته ، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56] ليستحقوا بذلك الخلود في الجنة.
(وإليها ينقلب): لأجل الجزاء على الأعمال، كما قال تعالى: {إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ }[يونس:23].
(فالناظر بالقلب): في أمر دينه.
(العامل بالبصر): أي بالبصيرة النافذة.
(يكون مبتدأ عمله): أوائله.
(أن يعلم): يتحقق ويستيقن.
(أعمله عليه): باستعماله في غير وجهه.
(أم له): استعمله في وجهه، وعلى رضوان الله كان صدوره، فهذا أول ما جعله العاقل في عمله.
(فإن كان له): أي فإن كانت له ثمرة تعود عليه في الآخرة.
(مضى فيه): استمر عليه وأكمله.
(وإن كان عليه): لم يقصد به وجه الله تعالى.
(وقف عنه): أحجم عن فعله إذ لافائدة فيه.
(فإن العامل بغيرعلم): يهتدي به، ويكون مستضيئاً بنوره.
(كالسائر على غير طريق): فهو يخبط في سيره خبطاً لا غاية له، ولا منتهى لآخره.
(فلا يزيده بُعُده عن الطريق الواضح ): مجانبته لها، وانحرافه عنها.
(إلا بُعداً عن حاجته): لأنه إنما يصل إلى حاجته بسلوكه لطريقها، ومع المخالفة لا يقرب عنها، ولا يدنومن حصولها بحال.
(والعامل بالعلم): على البصيرة النافذة.
(كالسائر على الطريق الواضحة ): المؤدية إلى الغرض المقصود؛ لأنه قد بنى عمله على الأساس، وأحكمه غاية الإحكام.
(فلينظر الناظر): يتحقق حاله ويستيقن أمره.
(أسائر هو أم راجع): أراد أن كل من توجه إلى سفر من الأسفارفإنه يستعد للصدور، ويتأهب له أكثر من استعداده للرجوع، والمقصود من هذا هو أن الإنسان سائر إلى الآخرة، وليس راجعاً إلى الدنيا، فلا جرم فلتكن أهبته كثيرة إليها، ولا يخادع نفسه في ذلك.
(واعلم أن لكل ظاهر باطناً على مثاله): أراد أن الباطن يكون مناسباً للظاهر ودالاً عليه مماثلاً له وملائماً لحاله .
(فما طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه): أراد بذلك هو أن الله تعالى إذا أحسن ظاهرالإنسان بإكمال خلقه في حسن القَدِّ والرشاقة التامة، والنضارة المعجبة، فهذا دليل على حسن عناية الله تعالى به، وحبه له، ومن صدق العناية وكمال المحبة، أن يجعل باطنه موافقاً لظاهره، بإفاضة الألطاف الخفية عليه والتوفيقات المصلحية للعمل الذي يحبه ويرضاه، والاجتناب عمَّا يسخطه من الأعمال، وعكس هذا أن الله تعالى إذا قبَّح صورة الإنسان بأن جعل فيه الشناعة ، وسؤ المنظر ففيه دلالة على عدم عناية الله به، وبغضه له، واللائق بعدم العناية والبغض والكراهة له، أن يحرمه لطفه ويمنعه الألطاف من أعمال الخير، ويكله إلى نفسه بالخذلان له فيفعل الأفعال الخبيثة السيئة فيكون ذلك موافقاً لخبث ظاهره، ويؤيد ماذكرناه من هذا التأويل أمران:
أحدهما: استشهاده بكلام الرسول عليه السلام في قوله:
(حكاية عن الرسول ).
(((إن الله يحب العبد، ويُبْغِضُ عمله))): فمحبة العبد لأجل كمال خلقه وحسن صورته.
(((ويحب عمل العبد، ويُبْغِضُ بدنه))): ومحبته للعمل لكونه مرضياًله، وبغضه للبدن من أجل شناعته وسوء منظره، وبغضه للعمل من أجل مخالفته لأمره ومباينته لرضاه، فمحبة البدن وبغضه لا يعقلان في حق الله تعالى إلا بمعنى الكمال والنقص مجازاً، كما أشرنا إليه؛ لأن خلافه محال، ويحتمل أن [تكون] محبته للبدن بمعنى أنه حبَّبه إلى الغير، وبغضه للبدن بمعنى أنه بغَّضه إلى الغير مجازاً، ووجه الشاهد من كلام الرسول هو أنه تارة يحب العبد بحسن خلقه، ويكره عمله لقبحه، وتارة يكره بدنه لقبحه، ويحب فعله لحسنه، فإذا كان المحبة والكراهة منقسمة على هذا الاعتبار جاز أن يحبه ويحب فعله، وهذا هوالذي طاب ظاهره وباطنه، وجاز أن يكرهه ويكره عمله، وهذا هو الذي خبث ظاهره وباطنه، فالظاهر هو البدن، والباطن هو العمل.
وثانيهما: قوله بعد هذا:
(إن لكل عمل نباتاً): أراد ثمرة، وفائدة، ومنفعة.
(وكل نبات لا غنى له عن الماء): لأنه لا يبدو رونقه ولا يظهر حسنه إلا به.
(والمياه مختلفة): فمنها المالح الزُّعاق، وهو الذي لا ينبت، ومنها العذب الفرات وهو المنبت.
(فما طاب سقيه): الماء الذي يسقى به، ولم يكن مالحاً زُعَاقاً.
(طاب غرسه): الذي يسقى به، وكمل وبدت نضارته، وظهر حسنه.
(وحَلَت ثمرته): وكانت حلوة عذبة حسنة المطعم.
(وما خبث سقيه): ماؤه الذي يسقى به بأن كان مالحاً زُعَاقاً.
(خبث غرسه): الذي يشرب منه؛ لأنه يأخذ من أجزائه ويكتسب منه.
(وأمرَّت ثمرته): صارت مرَّة لا يمكن مذاقها؛ لما فيها من المرارة، ووجه الشاهد من هذا هو أنه جعل الماء والغرس والثمرة مثالاً للإنسان وعمله الصالح والطالح، ووجه المطابقة فيه لما قال في الباطن والظاهر واضح جلي، فجعل الغرس وطيبه [والسقي عبارة عن حسن خلقة الإنسان، وجعل حلاوة الثمرة عبارة عن صلاح فعله، وجعل خبث الغرس] والسقي عبارة عن قبح الصورة، وجعل مرارة الثمرة عبارة عن فساد فعله ورداءته ، فنزَّلناه على هذا التنزيل ليكون مطابقاً لماذكره أولاً، وليحصل التطابق بين كلامه وكلام الرسول ، كما ذكرناه، فهذا هو التأويل الذي تشهد له الأصول ويتطابق علىصحته المنقول والمعقول، وأين هذا عن هذيان الملاحدة من الباطنية حيث جعلوا كلامه هذا سُلماً يعرجون به إلى إبطال نصوص القرآن، وظواهر الشريعة ونصوصها، على تهويسات لفَّقوها، وزخارف كذبوها، لم تقم عليها دلالة ولا برهان، ولا أُيِّدت بحجة ظاهره ولا سلطان، فحملوا العصا على الحجة ، والثعبان على البرهان، في قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ }[الأعراف:107]، إلى كفريات مسترقة من الملاحدة الثنوية فتباً لتلك الأهواء! وبعداً وسحقاً لهذه الآراء! {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }[الإنشقاق:20]، {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْض ُ وَمَنْ فِيهِنَّ}[المؤمنون:71]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }[الصف:8]، ويأبى الله إلا إتمام نوره على رغم أنافهم.
و لقد أطنبنا عليهم في الرد لهذه المقالة، وأظهرنا فضائحهم ، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }[القصص:69].
(146) ومن خطبة له عليه السلام يذكرفيها بديع خلقة الخفاش
وهو حيوان يطير بالليل، وسمي خفاشاً: إما لصغر عينيه، وإما لأنه لا يظهر إلا بالليل، وإنما خصَّها بالذكر لما فيها من عجائب الخلقة، وبدائع الصنعة.
(الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف): انحسر الثوب عن الجسم إذا انكشف عنه، وأراد أن الأوصاف منكشفة ومتعطلة.
(عن كُنْه معرفته): الْكُنْهُ هو: الغاية، أي منقطعة عن الوصول إليها وإحراز ماهيتها.
(وردعت عظمته العقول): الردع هو: الكف، والعظمة هي: التعاظم والكبرياء، وأراد أنه كف العقول والبصائر عن الإحاطة به.
(فلم تجد مساغاً): مجرى يسهل الدخول فيه، والجري إليه والسعي.
(إلى بلوغ غاية ملكوته): ملكه أي بلوغ تلك الغاية متعذرفي العقول لا سبيل لأحد إليه.
(هو الله): الضمير راجع ها هنا إلى ما تقدم، أي الموصوف بالصفات الجليلة هو الله.
(الحق): الذي لا حق سواه وما عداه فهو باطل.
(المبين): إما الظاهر بالأدلة، وإما ذو البيان.
(أحق وأبين): أي هو أظهر وأكشف.
(مما ترى العيون): تدركه الأبصار بأحداقها؛ لأنه ربما جرى في المبصرات لبس واضطراب وتغيّر في الإدراك.
سؤال؛ كيف قال ها هنا: إن العلم بالله أعظم حالاً من المدركات بالأبصار، وبعضهم أثبته وبعضهم نفاه ، والمدركات لا سبيل لأحد من العقلاء إلى جحدانها ونفيها؟
وجوابه؛ هو أن المدركات القريبة يقع فيها الا ضطراب في الإدراك لها، ويحصل فيها اللبس الكثير، والمدركات البعيدة يستحيل إدراكها لبعدها، وحاله تعالى في القرب والبعد على سواء، بالإضافة إلى الأدلة العقلية، لا يختلف حال معرفته فلهذا كان أدخل في التحقيق، وأقوى من هذا الوجه.
(لم تبلغه العقول بتحديد): تناله وتصل إليه على جهة أن له حداً وغاية ومنتهى.
(فيكون مشبَّهاً): لسائر المكونات من حيث كان محدوداً مثلها، وقوله: فيكون منصوب لأنه جواب النفي.
(ولم تقع عليه الأوهام بتقدير): الأوهام هي: الظنون، أي ولم تقع عليه وقوع إحاطة على أن له قدراً.
(فيكون ممثَّلاً): بهذه المخلوقات في القدر والصورة، والباء في قوله: بتقدير وتحديد للمصاحبة، أي لم تبلغه ولم تقع عليه مصاحبة لتقدير فيه ولا تحديد لذاته مثلها في قولك: لم أبلغ هذا الأمر بجهد ولا تعب.
(خلق الخلق): أوجده واخترعه وقدَّره.
(على غير تمثيل): من خالق غيره، أو لم يخلق قبلها خلقاً فيكون خلق هذه على مثاله وشكله.
(ولا مشورة مشير): يكتسبها منه ويأخذها من جهته.
(ولا معونة معين): تقوية مقوي.
(فتم خلقه): كمل واستحكم.
(بأمره): بإرادته وقدرته وكمال علمه.
(فأجاب): حين دعاه للتكوين والوجود.
(ولم يدافع): أمره بالمخالفة له.
(وانقاد): من غير تصعُّب في انقياده.
(ولم ينازع): يمتنع، أخذاً له من منازعة الفرس لصاحبهارأسها، وهو يجذبها بعنانها، وقوله: (لم يدافع، ولم ينازع) من أنواع البديع، يلقب بالتجنيس الناقص؛ لأن الكلمتين لم يتجانسا إلا في بعض حروفهما لاكلها، وهذا كقول أبي تمام :
يمدُّون من أيد عواصٍ عواصم ... تَصُوْلُ بأسيافٍ قواضٍ قواضبِ
وكقول البحتري:
فيا لك من حزمٍ وعزمٍ طواهما
جديد البلى تحت الصَّفا والصَّفائحِ
وهو من نادرالبلاغة وعجيبها.
(ومن لطائف صنعته): دقائق مصنوعاته، ومن هنا للتبعيض، من قولهم: لطف الشيء إذا دق.
(وعجائب خلقته): والأمور المعجبة من مخلوقاته.
(ما أرانا من غوامض حكمته ): ما هذه موصولة، وغوامض الحكمة: خفاياها التي لاتنتهي العقول إلى معرفتها.
(في هذه الخفافيش): في هذه متعلقة بأرانا جعلها ظرفاً للرؤية.
(التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء): يكفها ويجمعها عن التصرف والاضطراب هذا النور الباسط، أرادبه إما المنبسط نوره على كل شيء، وإما الباسط لكل شيء في تصرفه وذهابه، وتحركه واضطرابه.
(ويبسطها الظلام): أي وتكون متصرفة فيه، محكمة لأرزاقها من أجله.
(القابض لكل حي ): إذ كل شيء يكون مكفوفاً فيه لاسوداده، واستحالة الذهاب فيه، فلا حي إلا وهو ساكن فيه واقف عن الذهاب، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً}[النبأ:10-11].
(وكيف عشيت أعينها): العشا: سوء البصر، يقال: ناقة عشواء إذا كانت لا تبصر.
(عن أن تستمد بالشمس المضيئة نوراً): أراد أن من العجب العظيم فساد أبصارها بما يكون من ملا قاتها للشمس، واستمدادها منها بخلاف سائر الأبصار فإنها لا يمكن إبصارها إلا باستمدادها من هذه الأنوار كلها.
(تهتدي به في مذاهبها): مداخلها ومخارجها، وطلب أرزاقها وإصلاح حالها.
(وتتصل بعلانية برهان الشمس): أي وأعشى أبصارها عن الاتصال بظهور سلطان الشمس.
(إلى معارفها): أوصالها وأطرافها، يقال: امرأة حسنة المعارف يعني الوجه واليدين.
(وردعها): كفَّها.
(بتلألؤ ضيائها): تلألأ البرق إذا لمع، والضياء هو: النور، والضمير للشمس.
(عن المضي في سبحات إشراقها): عن التصرف في أنوارها السابحة عند قوة نورها وغلبته.
(وأكنَّها في مكامنها ): غطَّاها في مواضعها الساترة لها.
(عن الذهاب): التصرف والاضطراب.
(في بلج ائتلاقها): البلجة: الإشراق، وفي الحديث: ((كان رسول الله أبلج الوجه )) أي مشرقه، والائتلاق: اللمعان، يقال: تألق البرق إذا لمع، وأراد أن إشراق الشمس ولمعان ضوئها هو المانع لها عن الذهاب.
(فهي مسدلة جفونها): مرخية، من أسدل ثوبه إذا أرخاه أهداب عيونها.
(بالنهار على أحداقها): لما يبهرها من ضوء الشمس ونورها.
(وجاعلة الليل سراجاً تستدل به): تجعله دلالة لها.
(في التماس أرزاقها): في تحصيل ما قسمه الله لها من الأرزاق.
(فلا يَرُدُّ أبصارها): يكفُّه ويرجعه.
(أسداف ظلمته): السدفة هي: الضوء والظلام، وهو من النقائض، وأراد ها هنا إطباق الظلمة وترادفها.
(ولا تمتنع من المضي فيه): لحوائجها وقضاء مآربها.
(لغسق دُجُنَّتِه): الغسق هو: أول الليل، والدُّجُنَّة: الظلام.
(فإذا ألقت الشمس قناعها): أراد طلوعها بمنزلة من يحسر عن رأسه قناعه.
(وبدت أوضاح نهارها): الوضح: الضوء والبياض، وأراد بدت أزاهيرها.
(ودخل إشراق نورها): أنوارها المشرقة المضيئة.
(على الضِّباب): جمع ضَبٍّ.
(في وِجارها): بالجيم وهو: موضعها لأنها تسكن في المغارات، والمداخل الضيقة، وأراد بذلك امتداد نورالنهار واستطالته.
(أطبقت الأجفان): أجفان أعينها وأشفارها .
(على مآقيها): جمع موق وهو: طرف العين مما يلي الأنف، واللحاظ: طرفها مما يلي الأذن.
(وتبلغت بما اكتسبته من المعاش): وجعلت لها بلغة ما تكتسبه مما يعيشها ويقيتها.
(في ظلم لياليها): في متعلقة بقوله: اكتسبته؛ لأن الا كتساب إنما يكون في الليل دون النهار.
(فسبحان): يُنزَّه تنزيهاً، وانتصابه على المصدرية.
(من جعل الليل لها نهاراً و معاشاً!): تتصرف فيها بالورود والصدور لاكتساب المعاش.
(والنهار سكناً وقراراً!): تسكن فيه وتقرُّ على عكس ما تكون عليه [سائر] الحيوانات غيرها.
(وجعل لها أجنحة من لحمها): بخلاف غيرها من سائر الطير، فإن أجنحتها قصب وريش وعظام مشتبكة.
(تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران): ترتفع بها عند طيرانها.
(كأنها شظايا الآذان): قطعها ، واحدتها شظية .
(غير ذوات ريش): أي لا ريش لها.
(ولا قصب): يتصل به الريش.
(إلا أنك ترى مواضع العروق): المتصلة بها.
(بينة أعلاماً): واضحة، وأعلاماً انتصابه على التمييز بعد الفاعل أي واضحة أعلامها أو يكون حالاً بعد حال، أي واضحة معلَّمة.
(لها جناحان): للطيران.
(لما يرقَّا): ليسا رقيقين.
(فينشقَّا): يتقطعا ويتخرقا، وحذف النون للنصب لأنه جواب النفي.
(ولما يغلظا): أي لا غلظ بهما.
(فيثقلا): عليها عند طيرانها.
(تطير): في الجو.
(وولدها لاصق بها): لا يفارقها أبداً كغيرها من الطير.
(لاجئ إليها): أي لا ملجأ له إلا هي.
(يقع إذا وقعت): يهبط معها إذا هبطت الأرض.
(ويرتفع إذا ارتفعت): عند طيرانها.
(لا يفارقها): لعدم استقلاله بحاله.
(حتى تشتد أركانه): تتقوى أوصاله كلها.
(ويحمله للنهوض جناحه): ويكون آلة له عند الطيران به.
(ويعرف مذاهب عيشه): كيف يهتدي لاصلاح معيشته.
(ومصالح نفسه): في النفع ودفع الضرر.
(فسبحان الباري لكل شيء): الموجد للأشياء كلها.
(على غير مثال): يحتذي عليه، ويكون إماماً له فيما خلق وقدَّر وابتدأ وأحكم وصوَّر.
(خلا من غيره!): سبق وتقدم من مخالف له، فانظر إلى عجيب وصفه لهذا الجنس من المخلوقات، ما ألطفه وأدله على إحكام القدرة الباهرة.
(147) ومن كلام له عليه السلام خاطب به أهل البصرة على جهة الملحمة
(فمن استطاع عند ذلك ): يشير إلى كلام قد ذكره فيه اقتصاص للملاحم .
(أن يعتقل نفسه على الله فليعتقل ): يحبسها في سبيل الله ولأجله، من قولهم: اعتقل لسانه إذا حبس عن الكلام، وأراد أنه يُقْتَلُ صابراً لله تعالى.
(فإن أطعتموني): [فيما آمركم به من أحكام الدين] .
(فإني حاملكم إن شاء الله): بمشيئة الله، وإرادته وتقديره.
(على سبيل الجنة): التي من سلكها أوصلته إليها.
(وإن كان ذا مشقة): صعوبة لما يعرض فيها من العوارض.
(شديدة): بالغة في الشدة مبلغاً عظيماً.
(ومرارة ): في طعمها.
(مريرة): مبالغة في مرارتها، كما يقال: كريم مكرم.
(وأما فلانة): يعني عائشة.
(فأدركها رأي النساء): أراد أنه استولى عليها لضعفها، وهو أنه كما قال صلى الله عليه وآله: ((شاوروهنَّ وخالفوهنَّ )) ، ولما فيهنَّ من ضعف العقل حيث كانت شهادة اثنتين منهنَّ بمنزلة شهادة رجل واحد.
(وضغن): حقد وغيظ.
(غلا في صدرها): تحرك واضطراب.
(كَمِرْجَلِ القَيْنِ): القين: الحداد، وإنما خصَّ مِرْجَلَهُ؛ لأنه يكون أغلى من سائر المراجل؛ لشدة وقيد النار تحته، يشير بذلك إلى ما كان قد وجدت في قلبها عليه في حديث الإفك على استشارة رسول الله إياه فقال: (لم يضيق [الله] عليك النساء) فلم يزل ذلك يحيك في صدرها حتى ماتت.
(ولو دعيت لتنال من غيري): من البغي عليَّ وقتالي، وتأليب الناس في حربي.
(ما أتت إليَّ): من ذلك الذي فعلته معي.
(لم تفعل): مخافة لله تعالى، وتعظيماً لحرمة الدين.
وروي أنه لما جاء ها الخبر وهي تطوف بالكعبة، فقالوا: قتل عثمان، فقالت: وَمَهْ؟ فقالوا: وبايع الناس أمير المؤمنين، فقالت: والله ليوم من عثمان خير من علي الدهر كله، مع أنها قد أنكرت على عثمان غاية الإنكار، وقالت لهم: اقتلوه .
(ولها بعد): الضمير لعائشة، وبعدها هنا ظرف مقطوع عن الإضافة، والتقدير فيه ولها بعد فعلها ما فعلته في حقي.
(حرمتها الأولى): وهو مكانها من رسول الله، وفضلها وتقدمها في العلم والصحبة.
(والحساب على الله!): فيما فعلته معي، ولله درُّه فما أكثر حلمه، وأكرم خلائقه {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ }[المائدة:54].
واعلم: أن هلاكها بخروجها على أمير المؤمنين غير خاف على أحد من العلماء، وأهل الفضل وفسقها بالبغي عليه وقتاله وحربه، لما قد تقرر بالبراهين ثبوت إمامته، والخارج عليه لا شك في بغيه وفسقه، ولكن الله عزَّ سلطانه تداركها بالتوبة والندامة رحمة من الله تعالى ولطفاً بها، ورعاية لحق رسول الله صلى الله عليه وآله.
وحكي أن رجلاً سأل الباقر عليه السلام عن عائشة؟ فاستغفر لها.
فقال: أتستغفرلها وتتولاها؟
فقال: نعم؛ أما علمت أنها كانت تقول: ياليتني كنت شجرة، ياليتني كنت مدرة، وذلك توبة وندامة .
وروي عن الحسن البصري أنه قال: قالت عائشة: لأن أكون جلست في منزلي من مسيري ذاك أحبُّ إليَّ من أن يكون لي عشرة أولاد من رسول الله، كلهم مثل ولد الحرث بن هشام وأثكلهم .
وروي عنها أنها قالت: لوددت أني عضو رطب ، وأني لم أسر في هذا الأمر تعني يوم الجمل.
فهذه الأمور كلها وغيرها مما روي عنها فيها دلالة ظاهرة على توبتها وندامتها؛ وكيف لا وقوله تعالى في آخر آية الإفك: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }[الأنفال:74].
وما روي عن عمار أنه قال: إنها زوجته في الدنيا والآخرة ؛ يدل على توبتها لامحالة قطعاً ويقيناً.
وقول أمير المؤمنين: لها حرمتها الأولى، ولوأصرت على فسقها لم يكن لما قاله وجه، فلا جرم وجب توليها والترضية عنها، والاستغفار لها رضي الله عنها وأرضاها وعفا عنَّا وعنها.
(سبيل أبلج المنهاج): أراد الإسلام والدين، وأراد واضح الطريق لمن سلكه.
(أنور السراج): سراجه منير لمن استضاء به.
(فبالإيمان يستدل على الصالحات): أراد أن من علمنا إيمانه فإنه دلالة لنا على أنه فاعل للأعمال الصالحة، [وآتٍ بها.
(وبالصالحات يستدل على الإيمان): ومن علمناه أتى بالأعمال الصالحة] فإنها تكون دلالة لنا على إيمانه لامحالة، فأحدهما دلالة على الآخر متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، وهذا يؤيد ماذهبنا إليه من أن الإيمان عبارة عن عمل القلب وعمل اللسان، وعمل الجوارح جميعاً، وهو مذهب أكثر السلف.
(وبالإيمان يعمر العلم): لأنه لاعمارة للعلم إلابالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وكل علم لم تكن هذه حاصلة فيه فهو خراب لافائدة وراءه، ولا طائل تحته.
(وبالعلم يرهب الموت ): أراد أن من علم الأمر وتحقق حال الآخرة واشتمالها على تلك الأهوال، وتضمنها للفجائع العظيمة؛ فإنه يرهب الموت لأنه هو أولها وبه يتحقق الأمر فيها.
(وبالموت تختم الدنيا): من حيث كان آخرها، وغاية أمرها ومنتهاها.
(وبالدنيا تحرزالآخرة): بالأعمال الصالحة التي يقع بها الفوز في الآخرة وإحراز ثوابها.
(وإن الخلق لا مَقْصَرَ لهم عن القيامة): الْمَقْصَرُ مَفْعَلُ من القصور، وهو: التأخر، وأراد أنهم لا يقصرون دون البلوغ إلى الآخرة، والحصول فيها.
(مرقلين): حال من الخلق، والإرقال هو: فوق السير ودون الجري.
(في مضمارها): المضمار: موضع ارتباط الخيل للسباق.
(إلى غاية القصوى): إلى منتهى الرجعة القصوى، أي أنها منتهى الغايات وقصاراها، وإضافة الغاية إلى القصوى مثل إضافة مسجد الجامع فلا بد من تأوليها، كما أشرنا إليه.
(قد شخصوا): ظهروا.
(من مستقر الأجداث): من أماكن القبور ومواضعها.
(وصاروا إلى مصائر الغايات): إلى موضع غاية كل شيء، وهو الآخرة والقيامة.
(لكل دار أهل): فأهل الجنة هم أهل الطاعة، وأهل النار هم أهل المعصية.
(لا يستبدلون بها): أما أهل الجنة فلا يستبدلون لما هم فيه من النعم، وأما أهل النار فلا يستبدلون لخلودهم فيها.
(ولا ينقلون عنها): إلى غيرها فهم خالدون فيهما خلوداً لا انقطاع له.
(وإن الأمر بالمعروف): وهو كل ما كان مأموراً به عقلاً أوشرعاً.
(والنهي عن المنكر): وهوكل ما كان منهياً من جهة العقل أو الشرع.
(يخلقان من خلق الله): إما بأن يقرر الله في العقول قبح هذا أأوحسن ذاك، وإما بأن يرد الشرع بآي محكمات بمثل ذلك، وما هذا حاله فهو من خلق الله.
(وإنهما لا يقربان من أجل): فيكون ذلك داعياً إلى التأخر عن إنفاذهما والقيام بهما.
(ولا ينقصان من رزق): فيكون ذلك داعياً إلى تركهما، والمصانعة فيه.
(وعليكم بكتاب الله): إغراء لهم بملازمة القرآن والتعلق به.
(فإنه الحبل المتين): الشديد فلا ينقطع.
(والنور المبين): الضياء المنكشف.
(والشفاء): من جميع الأدواء.
(النافع): من الأسقام.
(والري): من عطش الأكباد، وظمائها.
(الناقع): القاطع للعطش، يقال: شرب حتى نقع أي شفى غليله.
(والعصمة): المانعة من الزلل.
(للمتمسك): بها.
(والنجاة): من جميع الأسواء.
(للمتعلق): بها.
(لا يعوج): لا يعتريه الميل ويلحقه.
(فيقام): فيحتاج إلى مقوِّم يقيمه من عوجه.
(ولا يزيغ): عن طريق الحق.
(فيستعتب): يرجع عما يخالف الحق، من قولهم: أعتب فلان إذا رجع عن أمركان فيه إلى غيره.
(ولا يخُلقه): يدرسه.
(كثرة الرد): الترداد على الألسنة بخلاف سائر الكلامات، فإنه إذا كثر تكراره استركَّ وملَّ واسترذل.
(وولوج السمع): ودخوله في الأسماع لايخلقه أيضاً.
(من قال به صدق): أراد أن كل قول كان موافقاً له فهو صدق.
(ومن عمل به سبق): أراد ومن عمل على حكمه سبق إلى الجنة، أوكان سابقاً إلى الأعمال الصالحة المرضية المتقبلة ، والأفعال المبرورة.
وقام إليه رجل فقال له: أخبرنا عن الفتنة، هل سألت عنها رسول الله؟
(فقال عليه السلام: لما أنزل الله قوله: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون }[العنكبوت:1-2] علمت أن الفتنة لا تنزل فينا ومعنا رسول الله بين أظهرنا، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها)؟
فقال: (((يا علي، إن أمتي سيفتنون بعدي ))).
(فقال : يا رسول الله، (أليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من المسلمين من استشهد): قتل منهم من قتل في سبيل الله مثل حمزة، وغيره من الشهداء.
(وحيزت عني الشهادة): أخِّرت إلى حيث أراد الله وعلم من حالها.
(فشق ذلك عليَّ): تأخرها عني، وصرفها في ذلك اليوم.
(فقلت لي: ((أبشر فإن الشهادة من ورائك )) فقال لي رسول الله:
((إن ذلك لكذلك فكيف صبرك إذاً !)) فقلت: يا رسول الله: ليس هذا من مواطن الصبر): لأن الصبر إنما يكون على المكاره، والأمور المنفِّرة.
(ولكن هذا من مواطن البشرى): بالجنة.
(والشكر): على حصول الشهادة.
قال: ((ياعلي، إن القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة، والأهواء الساهية، فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع)).
(قلت: يارسول الله، فبأي المنازل أنزلهم؟): أي حكم أسير بهم، وأعاملهم به إذا كانوا على هذه الصفة.
(أبمنزلة ردة): كفر ورجوع عن الإسلام والدين.
(أو بمنزلة فتنة): افتتان بما ذكر والإسلام مسترسل عليهم.
(فقال لي ((بمنزلة فتنة ))) : وفي هذا وجهان:
أحدهما: أنَّ ارتكابهم لهذه المعاصي يكون فسقاً، وإن لم يكن كفراً.
وثانيهما: أن يريد أنَّها معصية يجب إنكارها على صاحبها، وإن لم تكن فسقاً ويعزّر على فعلها ، كما يقال في حال من جامع امرأة أو قبَّلها، فأما الكفر فقد قال: إنَّها لا تكون كفراً ولا رِدَّة، وكم من المعاصي ما لا يعلم حاله في كونه كبيرة كفراً أو فسقاً، فيجب التوقف في ذلك حتى يظهر دليل.
(148) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها أحوال الآخرة
(الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره): فيه وجهان:
أما أولاً: فأن يريد [أن] الإنسان إذا أراد ذكر الله تعالى بالصفات الشريفة، وتقديسه بالأسماء الحسنة، فلا بد من تقديم ذكر الحمد، كما يفعل في الخطب والمواعظ.
وأما ثانياً: فأن يريد أن الإنسان لا يمكنه أن يقول لله إلا بعد أن يقول الحمد.
(وسبباً للمزيد من فضله): إما بالزيادة من النعم، كما قال الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ }[إبراهيم:7]، وإما بالزيادة في الآخرة لأجل استحقاقه بالشكروالحمد.
(ودليلاً علىآلائه): لأن إيجاب الحمد إنما يكون في مقابلة النعم في أكثر أحواله وأغلبها، فلهذا كان دليلاً على الآلاء.
(وعظمته): لأن الحمد هو الثناء الحسن، وهو إنما يستحقه إما لمكان اختصاصه بالصفات الإلهية، وإما لمكان نعمته الظاهرة والباطنة، وكل هذا دلالة على عظمته وجلاله.
(عباد الله، إن الدهر يجري بالباقين): يذهب بهم إلى الموت والقبر.
(كجريه بالماضين): كما ذهب بالماضين من القرون إلى ذلك.
(لا يعود ما قد ولَّى منه): من أيامه الماضية أبداً.
(لا يبقى سرمداً ما فيه): هذا فيه تقديم وتأخير، ومعناه لا يبقى ما فيه من أموال ونفائس، وخير وشر، وغم وسرور، وفرح وترح، سرمداً أي ينقضي يوماً فيوماً، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، وحقباً بعد حقب إلى الغاية التي قدرها الله وقضاها.
(آخر أفعاله كأوله): في النقص والزوال، والعدم والانقطاع.
(متشابهة أموره): يرفع ناساً ويضع آخرين، ويعطي أقواماً ويمنع أقواماً، فهذا تشبيه في المنع والحرمان، وهذا يشبه ذاك في الزيادة والنقصان، فأموره وحوادثه متماثلة من هذا الوجه.
(متظاهرة أعلامه): إما حدوده وغاياته، ومقاديره ظاهرة لا لبس فيها على أحد، وإما أرادأعلامه وحوادثه في الناس ظاهرة لا يمكن كتمانها.
(فكأنكم بالساعة تحدوكم): تحثكم وتزجركم إلى القيامة، والحدو هو: حث الإبل على السير.
(حدو الزاجر لشوله ): مثلما يحدو الزاجر، وهو الذي يحث الإبل على السير ويزجرها، والشول هي: النوق التي قد خف لبنها، وارتفعت ضروعها وأتى عليها من مدة النتاج تسعة أشهر أو ثمانية أشهر، فهي خفيفة عند السير سريعة فيه من أجل ذلك، وهو: جمع شائلة على غير قياس . فأما الشائل بعدها فهي التي تشول ذنبها عند لقاحها، وجمعه شوَّل مثل راكع وركَّع.
(فمن شغل نفسه): جعلها مشغولة مستغرقة.
(بغير نفسه): بغير ما يعنيه أمره.
(تحير في الظلمات): لا يدري أين سلك ولا كيف توجه.
(وارتبك في الهلكات): الارتباك هو: الاضطراب في الأمر والتحير فيه، والهلكات: جمع هلكة وهي الأمور المتلفة.
(ومدَّت به شياطينه في طغيانه): إما من الإمداد، وهو: الزيادة من مدَّ الدواة وأمدَّها إذا أصلحها وهيَّأها للكتابة، وأراد على هذا أن الشياطين وأضافهم إليه لمزيد الاختصاص بهم في انقياده لهم واحتكامه لآرائهم، هم الذين زادوه تمادياً في الضلالة وإسراعاً إليها، وإما أن يكون من المدد وهو الإمهال والتسويف، وعلى هذا يكون معناه أن شياطينه قرَّبوا عليه الحال وطوَّلوا له المسافة، وهوَّنوا الأمر في التمادي في الضلالة والانهماك فيها.
(وزيَّنت له سيء أعماله): بالإغواء والوسوسة.
(فالجنة غاية السابقين): الذين سبقوا بفعل الخيرات، كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }[الواقعة:10] أي أنهم لا غاية لهم إلا هي، وأنهامنتهى البغية لهم.
(والنار غاية المفرِّطين): المتساهلين في أمر الدين، المخلِّين بأحكامه، التاركين لها.
(اعلموا عباد الله): الملتزمين للطاعة لله.
(أن التقوى دارحصن عزيز): من سكنها وتلبس بها كان عزيزاً، والحصن استعارة.
(والفجور دار حصن ذليل): من فعله وتلبس به كان ذليلاً عند الخلق، لا وزن له عند الله.
(لا يمنع أهله): عما ينالهم من ريب الدهر وحوادثه.
(ولا يحرز من لجأ إليه): اعتصم به واتكل عليه.
(ألا): هذه للتنبيه.
(وبالتقوى تقطع حُمَةُ الخطايا): الحُمَةُ بالتخفيف هي: حمة العقرب، والحية وهي: سمها ، والحُمّةُ بالتشديد هي: معظم الحر وأشده ، وسماعنا في الكتاب بالتخفيف، ولعله مراده.
(وباليقين تدرك الغاية القصوى): من إحراز رضوان الله وهي البغية والمراد، كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ }[التوبة:72].
(عباد الله، الله الله): تحذير، ونصبه بإضمار فعل تقديره خافوا الله.
(في أعز الأنفس): حرف الجر متعلق بفعل محذوف تقديره: واجتهدوا في أعز الأنفس.
(عليكم): أراد أن علو حقها مختص بكم ومتعلق بكم.
(وأحبها إليكم): و أكثرها محبة إليكم وهي نفس كل واحد منكم.
(فإن الله قد أوضح سبيل الحق): بما قرر من الأدلة، وأزاح العلل، ومهَّد ذلك تمهيداً بالغاً.
(وأنار طرقه): جعلها نيرة يستضيء فيها من سلكها.
(فشِقوة لازمة): الشِّقوة بالكسر هي: الحالة من الفعل كالرِّكبة، والشَّقوة بالفتح: المرة الواحدة من الشقاء، وسماعنا بالكسر، وأراد فشقوة لازمة لصاحبها، وإنما جاز الابتداء بها وهي نكرة لأجل وصفها، كما قال تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ }[البقرة:221].
(أو سعادة دائمة): لصاحبها، وأراد أنه لا بد من أحد الأمرين بعد إبانة الطرق وإيضاحها، كما قال تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }[هود:105]، وقوله تعالى : {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ }[التغابن:2].
(فتزودوا): فخذوا الزاد.
(في أيام الفناء): وهي أيام الدنيا المنقطعة.
(لأيام البقاء): وهي أيام الآخرة لأنها دائمة لا آخر لها.
(قد دللتم على الزاد): بما أوضح لكم من الطاعات واجبها ومسنونها، وأمرتم بالكف عن القبائح كلها.
(وأمرتم بالظعن): الارتحال من الدنيا، وأعلمتم بالانقطاع عنها.
(وحثثتم على المسير): بما أُرِيْتُم من اخترام الأعمار وانقطاعها بالآجال.
(فإنما أنتم كَرَكْبٍ وقوف ): جمع راكب مثل صاحب وصحب، وهو قليل في جمع فاعل.
(لا يدرون): (لا يشعرون) .
(متى يؤمرون بالسير): ينادى فيهم بالرحيل فيرتحلون.
(ألا): للتنبيه.
(فما يصنع بالدنيا من قد خلق للآخرة): أراد إذا كان مخلوقاً للآخرة لا للدنيا وهو مرتحل عنها وهي لامحالة منقطعة عنه، فأي شيء يصنع بها والحال هذه.
(وما يصنع بالمال من عمَّا قليل يسلبه): وإذا كان المال منقطعاً عنه مسلوباً عن يديه فليت شعري ما صنعه به.!
(وتبقى عليه تبعته): نقاش حسابه فيم أنفقه؟ ومن أين أخذه.؟
(وحسابه!): والمحاسبة عليه.
(عباد الله، إنه ليس لما وعد الله من الخير مَتْرك): الضمير للشأن، وأراد أن من تحقق ما وعد الله أولياءه من النعيم المقيم واللذة الدائمة ومرافقة أنبيائه في الجنة فإنه لا ينبغي لأحد أن يتركه، ويذهب عنه، والمترك هو الترك نفسه.
(ولا فيما نهى عنه من الشر مَرْغَب): أي من علم ما أعدَّه الله لأعدائه من العقاب الدائم والويل، ومرافقة الشياطين والأبالسة في النار، فإنه لا محالة لا يرغب في المنهيات ولا يقربها أبداً.
(عباد الله، احذروا يوماً تُفحص فيه الأعمال): فحصت عن الأمر إذا تحققته واستبينته ، وأراد أنه يوم تبلى فيه السرائر، وتتحقق فيه الأحوال كلها.
(ويكثر فيه الزلزال): الزَّلزلة وفَعلال بالفتح مصدر زلزل، وهو قليل لا يأتي إلا في المضاعف، ومن قلِّته أنه لا يأتي بالفتح إلا وقد أتى فيه الكسر نحو زِلزال وزَلزال وقلِقال وقَلقال.
(وتشيب فيه الأطفال): من هوله وفجيعته، كما قال تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا }[المزمل:17] وإذا أرادوا العبارة عن الأمر الهائل، قالوا: هو أمر تشيب منه الصبيان، كما قالوا: أشاب الصغير فراقه لثدي أمه.
(واعلموا عباد الله): وإنما كرر هذه اللفظة بالنداء والمخاطبة إيقاظاً لهم عن الغفلة، وتعريضاً لهم إلى أن من كان عبداً فمن شأنه وأمره المواظبة على خدمة السيد والحرص على ملازمة رضاه.
(إن عليكم من أنفسكم رَصَداً ): رقيباً وحارساً، وأصله المصدر، ولهذا لم يثنَّ ولا يجمع لذلك.
(وعيوناً من جوارحكم): العين هو: الحافظ أيضاً، وعين الأميرهو: الذي يخبره بأخبارالبلدان والأقاليم، ويكون رقيباً له، يشيربذلك إلى أن هذه الجوراح شاهدة على الإنسان بأفعاله، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النور:24].
(وحفَّاظ صدق يحفظون أعمالكم): يشير بذلك إلى الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ، كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}[الإنفطار:10-12].
(وعدد أنفاسكم): إما مقدار تنفسكم في الدنيا ومدة لبثكم فيها، وإما مقدار جريان النَفَسِ في الحلق ويعدُّونها واحدة واحدة.
(لا يستركم منهم ظلمة ليل داج): أي لا يغطيِّكم منهم ظلام الليل إذا أظلم.
(ولا يُكنُّكم منهم باب ذو رتاج): الكنُّ: ما ستر الإنسان وغطَّاه، وباب مرتج إذا كان مغلقاً أي لا يحول بينكم وبينهم باب ذو غلق.
(وإن غداً من اليوم قريب): يريد إما يوم القيامة، وإما الموت؛ لأن كل واحد منهما يكون في الأزمنة المستقبلة.
(يذهب اليوم بما فيه): من خير وشر، وعمل صالح وفاسد.
(ويجيء الغد لا حقاً به): على أثره، لا فاصل بينهما، بالمجازاة بالأعمال صالحها وطالحها.
(فكأنَّ كل امرئ منكم): جميع الخلائق.
(قد بلغ من الأرض منزل وحدته): وهو القبر؛ لأن كل واحد من الخليقة لا بد من حصوله فيه وحيداً لا أنيس معه.
(ومحط حفرته): وحيث يكون محطوطاً في حفرته.
(فيا): حرف نداء، والمنادى فيه محذوف تقديره: فياقوم.
(له من بيت وحدة ): اللام ها هنا متعلقة بفعل محذوف تقديره: اعجبوا له، ومن بيت تمييز كقولك: عجبت له رجلاً ، وعجبت له من رجل.
(ومنزل وحشة): يستوحش منه لفظاعته.
(ومفرد غربة!): ومكان يفرد فيه صاحبه غريباً عن أهله.
(وكأن الصيحة قد أتتكم): أراد إما نفخة الصور، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ }[الزمر:68]، وإما أن يريد ندآءهم من قبورهم، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ }[ق:41]، وهي الصيحة، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوج ِ}[ق:42].
(والساعة قد غشيتكم): بأهوالها وفجائعها وعظائمها.
(وبَرَزتم لفصل القضاء): ظهرتم لا تخفى فيكم خافية، كما قال تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[إبراهيم:48].
(قد زاحت عنكم الأباطيل): ذهب عنكم الأقاويل الباطلة و الزخارف الموهومة التي لا تنفع، ولا يجدي ها هنا إلا القول الحق، والأباطيل جمع لا واحد له ملفوظ به، وإنما كأنه جمع لإبطيل لأن باطلاً لا يجمع على أباطيل.
(واضمحلت عنكم العلل): الفاسدة والمعاذير الباطلة.
(واستحقت بكم الحقائق): أراد أنها ظهرت حقائق أعمالكم من خير وشر، فصيرتكم مستحقين لجزائها من ثواب أو عقاب، وجعلتكم مستوجبين لذلك من الله.
(وصدرت بكم الأمور مصا درها): وذهبت بكم الأعمال مذاهبها؛ مما يجازى عليها من ثواب أو عقاب، ويكون مستحقاً بها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا }[فصلت:46].
(فاتعظوا بالعبر): جمع عبرة، وهو: ما ترون من آثار من مضى قبلكم.
(واعتبروا بالغِيَر): بتغيرات الدهر وصروفه وعوارضه على أهله.
(وانتفعوا بالنذر): جمع نذير وهم: الأنبياء والعلماء، كما قال تعالى: {أَنْ أَنذِرُوا }[النحل:2] وقال تعالى: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ }[القمر:36].
(149) ومن خطبة له عليه السلام يذكرفيها القرآن
(أرسله على حين فترة من الرسل): يعني الرسول عليه السلام وقد ذكرنا حال هذه الفترة التي كانت بين الأنبياء فيما مضى، فلا وجه لتكريره.
(وطول هَجعة من الأمم): الهَجعة: نوم الليل، وأراد أن إرساله كان على طول نوم وغفلة عن الحق وانقطاع عن سبله.
(وانتقاض من المبرم): المبرم: الخيط الذي أحكم فتله، وأراد وبطلان أمرالدين كله وفساد [ما] أحكم منه.
(فجاءهم بتصديق الذي بين يديه): من الكتب السماوية كا لتوراة والإنجيل وما كان قبلها من الكتب المنزلة على الأنبياء.
(والنور المقتد ى به): الذي يكون إماماً لمن اتبعه واهتدى بهديه.
(ذلك): [إشارة] إلى قوله: الذي بين يديه.
(القرآن): أي هو القرآن الذي بين أظهركم وتتلونه في المحاريب وتقرأونه.
(فاستنطقوه): فاطلبوا منه النطق بالحكمة التي تضمنها.
(ولن ينطق): نفي على جهة الاستغراق، إذ لا آلة له فينطق بها لكونه جماداً.
(ولكن أُخبركم عنه): استدراك لما كان نفاه من النطق عنه، أي ولكن العلماء ينطقون عنه ويخبرون وأنا أخبركم عنه.
(ألا وإن فيه علم ما يأتي): من الأمور المستقبلة، والأحكام الحادثة.
(والحديث عن الماضي): عن الأمم الماضية، والقرون الخالية، وقصص أنبيائهم، وما فعلوه وفعل بهم.
(ودواء دائكم): والدواء الذي يتداوى به من الجهل ، وهو ما تضمنه من العلوم والحكم والآداب.
(ونظم ما بينكم): من التفرق في الأهواء والتشتت في المذاهب والآراء.
ثم ذكر حال بني أمية:
(فعند ذلك): يشير إلى استحكام أمرهم وقوة دولتهم.
(لا يبقى بيت مَدَر): في المدن والقرى.
(ولا وَبَر): هذه الخيام التي يستعملها البدو.
(إلا وأدخله الظلمة ترحةً): حزن وغمّ بأخذ الأموال على غير وجهها وسوم الخسف لأهلها.
(وأولجوا فيه نقمة): المصائب العظيمة.
(فيومئذ): التنوين ها هنا عوض من جملة محذوفة، و قد تقدم ما يرشد إليها، وأراد فيومئذ دخول الظلمة واستعظام أمرهم وغير ذلك.
(لا يبقى لكم في السماء عاذر): يقبل منكم العذرإذا اعتذرتم، من قولهم: عذره إذا قَبِلَ عذره.
(ولا في الأرض ناصر): من ينصركم على ما أنتم عليه من الذل والأخذ.
(أصفيتم بالأمر غير أهله): أصفاه بالأمر إذا آثره به، وأراد أعطيتم الخلافة غير أهلها.
(وأوردتموه غير مورده): وضعتموه في غيرموضعه.
(وسينتقم الله ممن ظلم): أي ويجعل الله النقمة على الظلمة.
(مأكلاً بمأكل، ومطعماً بمطعم): أراد [أن] النَّصَفَةَ من الله تعالى تكون على جهة المساواة والاقتصاص مثلاً بمثل، فيجازي بمآكل الظلم ومشارب الظلم.
(من مطاعم العلقم): وهو شجرطعمه مرّ.
(ومشارب الصبر والمَقِر): ما مرَّ من الأشربة، ويكون أيضاً لباسهم:
(لباس شعار الخوف): الشِّعار: ما يلي الجسم من الثياب.
(ودثِارالسيف): والدِّثار هو: ما فوقه من الثياب أيضاً.
(وإنما هم مطايا الخطيئات): الحمَّالون لأثقالها.
(وزوامل الآثام): الزاملة: بعير يستظهربه الرجل، يحمل طعامه ومتاعه عليه.
(فأقسم): أراد بالله؛ لأن القسم لايكون إلا به، وهو أجل من يحلف به، وفي حديث ابن عمر: ((من حلف بغير الله فقد أشرك )) ، وفي حديث آخر: ((إذا حلفتم فاحلفوا بالله أوفاصمتوا )) .
(ثم لأقسم): بالله مرة ثانية تأكيداً في اليمين ومبالغة فيها.
(لتَنَخْمَنَّها أمية من بعدي ): أراد بذلك خروج الخلافة من أيدي بني أمية وعدم عودها إليهم، والمعنى ليخرجونها ويلفظونها.
(كما تلفظ النخامة): [وأراد بذلك إما سرعة خروجها من أيديهم كخروج النخامة] ، وإما أن يكون سهولة خروجها من أيديهم أيضاً.
(ثم لا تذوقها ولا تتطعم بطعمها): أي لا يتنعمون فيها بمذاق ولا مطعم، كما كانوا من قبل.
(ما كرَّ الجديدان): ما اعتقب الليل والنهار، كما قال ابن دريد:
إنَّ الجديدين إذا ما استوليا ... على جديدٍ أَدْنَيَاهُ للبَلى
(ولقد أحسنت جواركم): مجاورتي لكم ببذل النصيحة لكم والقيام فيكم بأمر الله تعالى.
(وأحطت بجهدي من ورائكم): أي كان رعايتي لكم بمنزلة من جعل لكم حائطاً من وراء أظهركم يحوطكم به، لا تؤتون من ورائكم.
(وأعتقتكم من ربَق الذل): واحدتها ربقة، وهي: عرى تجعل لأولاد الضأن.
(وحَلَقِ الضيم): الضيم: الظلم، وأراد إما حلق الظلم وهي المعاملة به، وإما حلق الظلم جمع حلقة مثل نعمة ونعم.
(شكراً مني للبر القليل): أي فعلت ذلك معكم شكراً مني لما يلحقني من بركم القليل.
(وإطراقاً): أطرق إذا سكت وخفض بصره إلى الأرض.
(عمَّا أدركه البصر): رأته عيني.
(وشهده البدن): من سوء المعاملة والنكوص عند الأمر والمخالفة لي.
(من المنكر الكثير): من الأمر الذي ينكره العقل، وتأباه الطبائع العالية، والنفوس الأبية من المعاملة لمثلي به.
(150) ومن خطبة له عليه السلام يذكرفيها الدنيا
(أمره قضاء وحكمة): جميع ما أمر به فهو قضاء لا يمكن ردُّه، وحكمة لا خطأ فيها ولافساد يلحقها.
(ورضاه أمان): من سخطه وعقابه.
(ورحمة): لطف في فعل الصالحات من الأعمال.
(يقضي بعلم): بما يعلمه، والباء هذه إما للحال أي يقضي عالماً بكل ما يقضيه، وإما للمصاحبة كقوله: خذ هذا بهذا، وأراد أن علمه مصاحب لقضائه لا ينفك عنه.
(ويغفر بحلم): يجري على حد ما ذكرناه فيما قبله من تفسير الباء ومعناها.
(اللَّهُمَّ، لك الحمد على ما تأخذ): من الأموال والنفوس بالموت والإهلاك.
(وتعطي): من ذلك كله، أو على ما تأخذ من الأعمال وتقبلها، وعلى ما تعطي من جزائها بالثواب.
(وعلى ما تعافي): تمنُّ بالعافية وإعطائها.
(وتبتلي): بإنزال الآلام والأسقام.
(حمداً): منصوباً على المصدرية، وقد صار عوضاً عن الفعل بحيث لا يجوز ذكره معه كقولك: سقياً ورعياً وغير ذلك من المصادر.
(يكون أرضى الحمد لك): أدخل الثناءات الحسنة في رضاك.
[(وأحب الحمد إليك): أعظم ما يكون من المحبة إليك وأدخلها في ذلك] .
(وأفضل الحمد عندك): أدخله في الفضل، وأعلاه في الدرجة.
(حمداً يملأ ما خلقت): من السماوات والأرضين.
(ويبلغ ما أردت): من الثناء والإعظام لك.
(حمداً لا يحجب عنك): ثناؤه.
(ولا يقصر دونك): أمده.
(حمداً لا ينقطع عدده): على تكرر الأزمان والأوقات.
(ولا يفنى مدده): أي زيادته، من الإمداد وهو: الزيادة.
(فلسنا نعلم كنه عظمتك): لقصورنا عن ذلك وعجزنا عنه، وهذا منه تصريح بأن عظمة الله تعالى لا تعلم لأحد من البشر.
(إلا أنَّا نعلم أنَّك حي قيوم): هذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلاً على معنى أنه مندرج تحت الكنه، وهذا كقولك: أنا لا أعرف غاية حالك إلا أني أعرف أنك مؤمن، ويحتمل أن يكون منقطعاً على معنى أن الكنه غير معلوم لأحد من الخلق، ويكون المعنى، لكن العلم بأنك حي قيوم حاصل لنا، كقولك: ما له ابن إلا أنه باع داره.
(لا تأخذك سنَة ولا نوم): السِنَةُ: أوائل النوم وهو الذي يسمى النّعاس، والنوم هو: ذهاب العقل والإدراكات كلها.
وفي حديث موسى عليه السلام أنه سأل الملائكة، وكان السؤال من قومه كطلب الرؤية: أينام ربنا؟
فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً، ولا يتركوه ينام، ثم قال له: ((خذ بيدك قارورتين مملؤتين فأخذهما، وألقى الله عليه النعاس فضرب أحدهما بالأخرى فانكسرتا، ثم أوحى إليه: قل لقومك هؤلاء: إني أمسك السماوات بقدرتي، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا)) .
(لم ينته إليك النظر ): وهو تحديق الأعين ومقابلتها، إذ لو كان الأمر كذلك لكنت ذا جهة.
(ولم يدركك البصر ): إذاً لكنت من جنس هذه المرئيات، ولكنت مقابلاً لها في جهة من جهاتها كسائر المدركات منها.
(أدركت الأبصار): كما قال تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ }[الأنعام:103].
(وأحصيت الأعمال): أحاط بها بالكتب والعلم، كما قال تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً }[الجن:28].
(وأخذت بالنواصي والأقدام): عقوبةً وانتقاماً لأهل معصيتك وعداوتك، كما قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ }[الرحمن:41].
(وما الذي نرى من خلقك): تدركه أبصارنا من هذه المخلوقات الباهرة، وما هذه استفهامية، وما بعدها يكون خبراً لها، والتقدير: وما الذي نراه فهو حقير مستصغر بالإضافة إلى قدرتك.
(ونعجب له من قدرتك): وتعجب له العقول من كمال قدرتك.
(ونصفه من عظيم سلطانك): وتنطق الألسنة بوصفه من عظم استيلائك.
(وما تغيَّب عنَّا منه): من جميع ذلك كله وستر عنَّا.
(وقَصُرَت أبصارنا عنه): ورجعت متقاصرة عن بلوغ غايته.
(وانتهت عقولنا دونه): وكانت العقول متناهية دون غايته.
(وحالت سواتر الغيوب): وكانت العلوم الغيبية حائلة:
(بيننا وبينه): فلا سبيل إلى علمه، وما في قوله: ما تغيَّب موصولة بمعنى الذي، والتقدير: والذي تغيب عنَّا وتقصر عنه أبصارنا:
(أعظم): من ذلك وأكبر ، وإنما ترك ذكر متعلق أعظم للعلم به، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }[طه:7] وكقول القائل: الله أكبر أي أكبر من كل كبير.
(فمن فرَّغ قلبه): عن مزدحم الأشغال.
(وأعمل فكره): آناء الليل، وأطراف النهار.
(ليعلم كيف أقمت عرشك): ليتحقق على أي حال كانت استقامته، وكيف ها هنا معمولة لأقمت، والعلم ها هنا، إما بمعنى المعرفة فيكون له مفعول واحد، أو على ظاهره فيكون لها مفعولان، والجملة الاستفهامية سادة مسدهما أي ليعلم أن استقامة عرشك حاصلة.
(وكيف ذرأت خلقك): فرقتهم في أقطار الأرض وأقاليمها، وبرها وبحرها وسهلها وجبلها.
(وكيف علقت في الهواء سماواتك): من غير قرار يوثقها، ولا عمد يدعمها مع انبساطها العظيم، وامتداد أطرافها.
(وكيف مددت على مَوْرِ الماء أرضك): قد تقدم من كلامه أن الأرض مدحوة على الماء، وأن استقرار الماء إنما هو على الريح، وهذا من عجيب القدرة أن الماء ينافي الأجزاء الأرضية، وأن بلة الماء تفرق التئام الأرض، ومع ذلك فإنها استمسكت بقدرة الله عليه، فسبحان الجامع بين الأضداد، والمؤلف بين المتباعدات.!
(رجع طرفه حسيراً): كالّاً عن الإحاطة بذاك.
(وعقله مبهوراً): مغلوباً من بهره إذا غلبه، من قولهم: بهر النهار ضوء القمر، وبهر الشفق نورالهلال.
(وسمعه والهاً): دهشاً ذاهباً، من الوله وهو: ذهاب العقل.
(وفكره متحيراً): لا يستطيع ذهاباً ولا تصرفاً، في النظر والارتياء.
ثم قال:
(يدعي بزعمه أنه يرجو الله): أراد أن الإنسان يقول من جهة لسانه: إنه يرجو الله تعالى، ويؤمِّل خيره ومعروفه، وينتظر عوارف إحسانه.
(كذب والعظيم!): في مقالته هذه في زعمه هذا، فإن كان ما قاله حقاً ومقالته صدق :
(فما باله لايتبيَّن رجاؤه في عمله): أراد أن كل من كان رجاؤه صادقاً محققاً فإنه يعمل عملاً صالحاً يكون واصلاً به إلى مرجوه من عمل الطاعات، وكل من كان خائفاً خوفاً محققاً فإنه يكون عاملاً بما تقتضيه حقيقة الخوف من الانكفاف عن المعصية، وما ترى من يرجو إلا مقصراً في الطاعة، وما ترى من يخاف إلا موافقاً للمعصية، وفي هذا دلالة كافية على عدم التحقق فيهما جميعاً.
(فكل من رجا عرف رجاؤه في عمله، [وكل رجاء] إلا رجاء الله فهو مدخول): أراد أن كل رجاء فإنه يظهر حكمه وتثمر حقيقته من كل راجٍ -ما خلا رجاء الله-؛ فإنه لا حكم له ولا حقيقة لثبوته، فهو مدخول أي مشوب ليس خالصاً، أخذاً من قولهم: دخل في بني فلان أي ليس منهم، أو فيه مكر وخديعة، من قولهم: هذا الأمر فيه دخل أي خديعة ومكر، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ }[النحل:94].
(وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول): أي كل خوف فحكمه يظهر إلا خوف الله فإنه لا حكم له ظاهر، وهو معلول أي غير صحيح.
(يرجو الله في الكبير، ويرجو العباد في الصغير): أراد أن العبد إنما رجاؤه لله في الجنة والفوز بنعيمها ولذاتها، وذلك أكبر ما يكون وأعظمه، ويرجو العباد في أحقر ما يكون من الدنيا ومتاعها، ثم مع ذلك يختلف حال الإنسان فيخضع لمخلوق في طلب الحقير ويتواضع له، ولا يتواضع لله تعالى بالطاعة ويخضع لجلاله.
(فيعطي العبد): من التعظيم والإجلال.
(ما لا يعطي الرب!): من ذلك مع أنه كان أحق لذلك وأهلاً له.
(فما بال الله جل جلاله ): تعجب من صنع العبد في ذلك.
(يُقَصَّر به عمَّا يُصنَع لعباده!): يعطي دونما يعطي العباد من ذلك، ويكون حقه دون حقهم.
(أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً): فلأجل هذا قصَّرت في حاله لأنك على غير معلوم من رجائك.
(أو تكون لا تراه للرجاء موضعاً!): أو لا يكون أهلاً لإعطاء ما ترجوه، وكلاهما باطل لا حقيقة له فهذه حالة الرجاء.
(وكذلك إن هو خاف عبداً من عبيده): واحداً من أمثاله ومخلوقاً يشبهه .
(أعطاه من خوفه): من القلق والانزعاج وتغير الحال والفشل، وزوال النوم.
(ما لا يعطي ربه): من ذلك.
(فجعل خوفه من العباد نقداً): بمنزلة النقد في المواظبة عليه، والعمل بمقتضاه.
(وخوفه من خالقهم ضماراً): غير موثوق به، والضمار: كل ما لا يوثق به من وعد ودين.
(ووعداً): غير موثوق بصحته ، والسبب في صحة ماقاله من الخوف والرجاء، أما الخوف فلأمرين:
أما أولاً: فلأجل كرمه ورحمته الواسعة.
وأما ثانياً: فلأجل [ما] يُرَى من حلمه عن العصاة، وتأخير النقمة عنهم، فلهذا كان خوفه من الله تعالى رجاء لما ذكرناه، فأما العباد فإنما دأبهم تشفي الغيظ، وعدم الرحمة والرأفة ومعاجلة الا نتقام، وأما الرجاء فلأن الخلق إنما كانت عطيتهم مع حقارتها ليس مراعاة لمصلحة، وإنما هي لطلب النفع [فيفعل في مقابلة] تلك العطية ما يكون سبباً في مثلها وحصولها.
(وكذلك): أي ويشبه ما ذكرناه من إيثار حق غير الله على حق الله.
(من عظمت الدنيا في عينه): استعظمها وأكبرها في نفسه.
(وكَبُر موقعها من قلبه): حتى خالطته، والتبسته وعظمت عليه.
(آثرها على الله تعالى): استأثر بالشيء إذا اختص به، وآثر هذا على غيره إذا رأه أحق من غيره، قال الله تعالى: {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }[النازعات:38].
(فانقطع إليها): بالمحبة وتهالك في طلبها فلا غرض له سواها.
(وصار عبداً لها): مشغولاً بخدمتها، بمنزلة عبد مشغول بخدمة سيده.
(ولقد كان في رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] كاف لك): الكافي يحتمل أن يكون صفة على ظاهره أي أمر كافي لك، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الكفاية، قال:
كَفَى بِالنّأْي من أَسْمَاءَ كَافِي
(في الأسوة): أي القدوة، وأراد أن أمر رسول الله في الدنيا ونبذها واطّراحها هو الغاية في الا قتداء، والتأسي بأمره فيها.
(ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها): فإنه عابها وذمَّها بفعله وقلبه ولسانه لما فيها من بلاويها.
(وكثرة مخازيها): جمع مخزاة وهي الذل والهوان، قال جرير:
وإن حمًى لم نحمه غير فُرْتِنا
وغَيْر ابن ذي الكِيْرِيْن خزيان ضائعُ
[والْفُرَّةُ: الشدة] .
(ومساويها): جمع مسواة، وهي السوء
(إذ قُبِضَتْ عنه أطرافها): إذ ها هنا ظرف زمان، والعامل فيه قوله: كافٍ، إذا قلنا: إنه صفة، فأما إذا قلنا: إنه مصدر فلا يجوز تعلقه به؛ لما في ذلك من الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي، ولأنه لايعطف عليه إلا بعد تمامه بصلته ومتعلقاته، وإنما يكون متعلقاً بما تعلق به خبركان في قوله: في رسول الله.
(وَوُطِّئَتْ لغيره): ممن أوتيها من أهلها.
(أكنافها): جوانبها وأراد التمكن من لذاتها، والتنعم في طيباتها.
(وَفُطِمَ عنه رضاعها): منع عن ارتضاعها ، ولم يمكَّن منه.
(وَزُوِيَ عن زخارفها): الزخارف هي: الزينة، وأمره عليه السلام في رفض الدنيا واطّراحها ظاهر لا شك فيه من عيفتها ونبذها واطّراحها.
ويحكى أنه دخل يوماً على فاطمة فناولته رغيفاً من شعير، فقال: ((إنَّه لأول طعام دخل فمَّ أبيك منذ ثلاثة أيام )) .
وعن عائشة أنها قالت: (كانت تمضي علينا أيام وما لنا طعام ؛ إلا الأسودان: الماء والتمر) .
(وإن شئت ثنَّيتُ بموسى كليم الله): وإنما قال: كليم الله؛ لأن الله تعالى اختصه بأن كلمه من غير واسطة، بأن خلق الكلام فسمعه موسى وفهمه وعقل عن الله أمره، كما قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً }[النساء:164].
(إذ يقول: {رَبِّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }[القصص:24]، والله ما سأله إلا خبزاً يأكله): يعني لم يسأله شيئاً من زخارف الدنيا ولذاتها؛ وإنما سأل أحقر الأشياء وأدناها، وهو قرص خبز.
(لأنه كان يأكل بَقْلة الأرض): حشائشها ، فلهذا كان مشتهياً لأكل الطعام، وأراد إني لأجل شيء تنزله عليَّ غث أوسمين أوغيره من أنواع ما يؤكل مفتقر محتاج إلى أكله.
(ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه): شفَّ الشيء إذا رقَّ، والشفيف: الرقيق من كل شيء، والصفاق هي: الجلدة السفلى التي تحت الجلدة التي عليها الشعر.
(لهزاله) : ضعفه.
(وتشذب لحمه): تفرقه وتقطعه، والتشذيب: التقطيع، من قولهم: شذبت النخلة إذا قطعتها.
(وإن شئت ثلَّثْتُ بداود صاحب المزامير): صاحب الأصوات الحسنة الطيبة الرشيقة التي كأنها مزامير، لما يظهر من طيبها وسلوسة نغماتها.
(وقارئ أهل الجنة): أحسنهم قراءة، وأجودهم نغمة فيها.
سؤال؛ الجنة لا مشقة فيها، والقراءة يلحق بفعلها المشقة، فكيف قال: قارئ أهل الحنة؟
وجوابه؛ أنه يحتمل أن يقال: إن معناه أقرأ من يدخل الجنة، ويحتمل أن تكون القراءة من جملة ما يلتذ به أهل الجنة، ويرتاحون إليها، وتكون من جملة الملاذ الطيبة.
(فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده): السفيفة: إناء من خوص، والخوص: ورق النخل.
(ويقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها؟): عرضها في السوق لتبتاع.
(ويأكل قرص شعير من ثمنها): زهداً في الدنيا، ورغبة عنها، وتقرباً إلى الله تعالى أن يأكل من كدِّ يده.
ويحكى أن داود عليه السلام لما ملك على بني إسرائيل، كان يخرج متنكراً فيسأل الناس عن نفسه، فقيَّض الله له ملكاً على صورة آدمي، فسأله عن سيرته؟ فقال: نعم الرجل هو، لولا خصلة فيه، فريع داود فسأله عن ذلك فقال: لولاأنه يطعم عياله من بيت المال، فسأل ربه عند ذلك أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال، فعلمه صنعة الدروع .
(وإن شئت قلت في عيسى بن مريم): فإنه نبي من أنبياء الله أكرمه الله تعالى.
(فلقد كان يتوسد الحجر): عند نومه لا يوطئ له مهاد للنوم.
(ويأكل الخشن ): من الطعام، وهو خلاف الطيب النفيس.
(ويلبس الخشن): من الثياب، وهو الصوف.
(وكان إدامه الجوع): الإدام: ما يؤكل به الخبز من لحم أو غيره، وفيه وجهان:
أما أولاً: فبأن يريد أنه لا يأكل من الخبز شبعه، بل يأكل مقدار ما يبقى معه جوعه، فلما كان الجوع مصاحباً للأكل، كان الجوع كأنه إدام لما كان من حق الإدام أن يصاحب الخبز.
وأما ثانياً: فبأن يكون مراده أن يكون الإدام مما يرغب فيه عند الأكل، فلما كان عيسى راغباً في الجوع عند أكله للخبز كرغبة غيره في الإدام كان كالإدام له.
(وسراجه بالليل القمر): أراد أنه لابيت له فيسرج عند إيوائه إليه، وإنما سراجه ما ليس سراجاً لأحد وهو القمر، كما يقال: الدنيا مال من لا مال له.
(وظلاله في الشتاء): مسكنه في أيام البرد، والظلال: ما أظلك من سحاب وغيره، فيكون أكناناً له، وأراد أنه يقعد في أيام البرد في أول النهار.
(في مشارق الشمس): حيث تشرق، وفي آخرالنهار.
(في مغاربها): حيث تكون غاربة، وإنما خصَّ أيام الشتاء لفرط بردها المؤذي.
(وفاكهته وريحانه): الفاكهة: ما يستطرف ويأتي في نادر الأوقات، والريحان هو: الرزق، كما قال تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ }[الرحمن:12] فالفاكهة والرزق في حقه إنما هو:
(ما تنبت الأرض للبهائم): من الحشائش من أجل البهائم، وذكره للبهائم تعريف بأنه لافرق بينه وبين البهائم في المعيشة، واستحقاراً بها .
(ولم تكن له زوجة تفتنه): تكون فتنة له ومحنة وبلوى، أو يُفْتَنُ بها وتكون سبباً لشغله عن الآخرة.
(ولا ولد يحزنه): يلحقه الهم والحزن بسببه، ولأجل ما يصيبه من الألم والغم.
(ولا مال يَلْفِتُه): يصرف وجهه عن الإقبال إلى الآخرة، والاشتغال بها، من قولهم: لفت وجهه عني إذا صرفه، قال الله تعالى: {لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا }[يونس:78]، وفي الحديث: ((إن من أقرأ الناس للقرآن منافقاً لا يدع واواً ولا ألفاً إلا لفته بلسانه، كما$تلفت البقرة الخلى بلسانها)) أي يلويه بلسانه.
(ولا طمع يذله): إذ لا أذلّ للرقاب المتصعبة من طلب المطامع.
(دابته رجلاه): يمشي بهما بمنزلة المركوب من الدواب.
(وخادمه يداه): يستعمل بهما ما يعود عليه نفعه، فهذه حال هؤلاء الأفاضل من الأنبياء في الدنيا وحالها عندهم.
(فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر [ صلى الله عليه وآله وسلم] ): أي تعزَّى بهم، وتأسَّى بحالهم وليكونوا لك قدوة، والأسوة ها هنا [ما] تأسَّى [به] الحزين وتسلَّى به ، وأراد البالغ في الطهارة عن كل الأرجاس والبالغ في الطيب عن المدانس كل مبلغ، فلا غاية هناك إلا وقد وصلها.
(فإن فيه أسوة لمن تأسى): القدوة العظمى لمن اقتدى به، والهداية الكبرى لمن اتبعه.
(وعزاءً لمن تعزَّى ): وتسلية لمن تسلَّى بحاله.
(وأحب العباد إلى الله من تأسى بنبيه [والمقتص لأثره] ): أقربهم إليه وأرضاهم عنده، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }[آل عمران:31]، وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }[النساء:80]، والضمير إما لله، وإما للتأسي فكلاهما محتمل.
(قضم الدنيا قضماً): القضم هو: الأكل بأطراف الأسنان، وأراد منه قلة الأكل وقلة الرغبة؛ لأن كل من رغب في أكل طعام فإنه يأكله بجميع أسنانه.
(ولم يعرها طرفاً): ولم يلحظها بجفن عينه، أي لم يلتفت إليها في حالة من الحالات، وأراد أنه لم يسمح لها بإعارة نظرة مبالغة في ذلك.
(أهضم أهل الدنيا كشحاً): الكشح: ما بين الخاصرة إلى الأضلاع، وأهضمهم أي أدقّهم.
(وأخمصهم من الدنيا بطناً): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أضمرهم بطناً، ومنه قولهم: بطن مخمص إذا كان ضامراً.
وثانيهما: أن يريد أجوعهم، أخذاً من المخمصة وهي المجاعة.
(عرضت عليه الدنيا): حيث قيل له: ((أتحبُّ أن أجعل لك بعدد شجر تهامة ذهباً ، أو أعطيك جميع خزائن الأرض، ولا ينقص من أجرك شيئاً)).
(فأبى أن يقبلها): بقوله: ((أجوع يوماً فأسألك ، وأشبع يوماً فأشكرك)) .
(وعلم أن الله أبغض شيئاً): حيث يقول: ((ما تقرَّب إليَّ المتقربون بمثل الزهد في الدنيا )) .
(فأبغضه): حيث قال: ((حبُّ الدنيارأس كل خطيئة )) .
(وحقَّر شيئاً): بقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ }[العنكبوت:64].
(فحقَّره): حيث قال: ((لو كانت الدنيا تسوى عند الله جناح بعوضة ما سُقي منها كافر شربة)) .
(وصغر شيئاً): بقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }[آل عمران:185].
(فصغَّره): حيث قال: ((الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل قلعة)) إلى غير ذلك مما يؤذن من كلامه بحقارتها وهونها.
(ولو لم يكن فينا): من سقوط الهمة، وركة العزيمة.
(إلاحبنا ما أبغض الله): بالإرادة لها، والمثابرة على تحصيلها على أي وجه.
(وتعظيمنا): بما كبر في أعيننا من وزنها.
(ما صغَّر الله): من حالها وأمرها.
(لكفى به شقاقاً لله): مخالفة لأمره، والشقاق هو: الخلاف والعداوة.
(ومحادَّة عن أمر الله): [المحادة] : منعك مايجب عليك منه، ومنه إحداد المرأة و هو امتناعها من الزينة بعد موته، وحددته عن كذا إذا منعته عنه، ثم إنه مع تصريحه بكراهتها من لسانه يفعل أفعالاً تؤذن أيضاً ببغضها.
(ولقد كان صلى الله عليه وآله يأكل على الأرض): من غيرمائدة تنصب لطعامه، كما يفعله الأعاجم.
وعن بعض الصالحين أنه قال: (أربعة أحدثت بعد النبوة: الموائد، والمناخل، والأشنان ، والشبع).
(ويجلس جلسة العبد): وهو أن يجلس رافعاً لأخمص قدميه إلى فوق، ويضع إليتيه عليهما ويجعل بطنه على فخذيه ويحني ظهره، وقد قال عليه السلام: ((إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد )) .
(ويخصف بيده نعله): الخصف: تسوية ما انقطع من سيورالحذاء.
(ويرقع بيده ثوبه): لا يرقعه غيره من ورائه، كما يفعله المترفون.
(ويركب الحمار العاري): عن الإكاف والسرج.
(ويردف خلفه): المرأة من نسائه والصبي والرجل، كل ذلك يفعله تواضعاً لله، وإزالة للكبر عن نفسه والخيلاء.
(ويكون الستر على باب بيته): الستر: ثياب تستر بها الأبواب مبالغة في التستر، وعلى هذا حمل قوله تعالى: {حِجَاباً مَسْتُوراً }[الإسراء:45]، أي حجاباً مجعولاً عليه ستارة.
(فتكون فيه التصاوير): جمع تصوير [كتقدير] وتقادير، وأراد به صورة الحيوانات لأنه هو المكروه، وما عدا ذلك ليس مكروهاً.
(فيقول: يا فلانة ): لبعض نسائه.
(غيّبيه عني): أزيليه عن بصري ورؤيتي.
(فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا): زينة الدنيا المنقطعة.
(وزخارفها): الزخرف: الذهب، وكل مموّه يقال له: زخرف.
(فأعرض عن الدنيا بقلبه): صرف قلبه عن لذاتها وزينتها.
(وأمات ذكرها من لسانه): فلم يذكرها قط إلا بما يكون ترغيباً عنها، وتحقيراً لها وتصغيراً لحالها.
(وأحب أن تغيب زينتها من عينه): كما ذُكِرَ في هذه القصة في تغييب السترة.
(لكيلا يتخذ منها رِيَاشاً): الرِيَاش هو: اللباس الفاخر.
(ولا يعتقدها قراراً): [أراد] أن يكون موضع قرار يستقرفيه.
(ولا يرجو فيها مقاماً): لانقطاعها وزوالها.
(فأخرجها من النفس): بأنه لم يجعل لنفسه فيها ميلاً ولا محبة.
(وأشخصها من قلبه ): بنسيانها واطِّراحها والإعراض عنها.
(وغيَّبها عن البصر): فلا يحب رؤيتها.
(وكذلك): الإشارة إلى البغض لها أي ومن أجل ذلك:
(من أبغض شيئاً): كرهه ونفر عنه.
(أبغض أن ينظر إليه): بعينه.
(وأن يذكر عنده): ويبغض ذكره أيضاً.
(ولقد كان في رسول الله): في معاملته لها وإعراضه عنها، كما ذكرنا آنفاً.
(ما يدلك على مساوئ الدنيا): هونها وحقارتها.
(وعيوبها): جمع عيب: وهو ما ينقص به الإنسان، ويُذمُّ عليه من الأفعال.
(إذ جاع فيها): أصابه الجوع.
(مع خاصته): مع قربه إلى الله، ورفيع منزلته عنده.
(وزويت عنه): قُبِضَت، من زويته عنه إذا قبضته.
(مع عظم زلفته): الزلفة: القربة، وأراد منزلته القريبة.
(فلينظر ناظر بعقله): فيما ذكرناه من قبضها من رسوله، وزوالها عنه.
(أكرم الله محمداً بذلك): القبض والانزواء.
(أم أهانه!): أم هذه هي المتصلة، كقولك: أقام زيد أم قعد، وجوابها إنما يكون بتعيين أحد الفعلين لا غير، وليس جوابها بنعم أولى ها هنا.
(فإن قال: أهانه): بما فعله من ذاك.
(فقد كذب والعظيم): أراد قسماً بالعظيم، ولقد صدق فإن الله تعالى رفع منزلته على جميع منازل الأنبياء، وشرَّفه وكرَّمه، وأعطاه من الكرامة ما لم يعط أحداً من الأنبياء، وما هذا حاله فليس إهانة.
(وإن قال: أكرمه): بما فعل من ذلك، وإذا كان الأمر كما قلناه:
(فليعلم أن الله قد أهان غيره): أسقط رتبته عنده، ولم يجعل له وزناً عنده، ولا رفع له قدراً.
(حيث بسط الدنيا له): بما مكّنه من لذاتها، وأعطاه من طُرَفِها ومحاسنها.
(وزواها عن أقرب الناس إليه ): وهو رسوله، وأعظم من يكون عنده منزلة وأرفع قراراً .
(فتأسى متأسٍّ بنبيه [واقتص أثره] ): خبر ومعناه الأمر، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }[آل عمران:97].
(وولج مولجه): ودخل مدخله في طرح الدنيا، والإعراض عنها.
(وإلا): إذا لم يفعل ذلك من ترك التأسي، والإعراض عن اتباعه.
(فلا يأمن الهلكة): أن يهلك بالمخالفة، كما قال عليه السلام: ((من رغب عن سنتي فليس مني )) والهلكة تكون من وجهين:
أما أولاً: فلأنه بإعراضه عمَّا جاء به الرسول، وانحرافه عنه يكون مشاقًّا له ومخالفاً لما أتى به فيتناوله الوعيد، بقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ }[النساء:115].
وأما ثانياً: فلأنه باتباع الدنيا، والإغراق في حبها وطلبها، عكس ما جاء به الرسول، لا يأمن العطب بانهماكه في حبها، حتى يأتيه الموت وهو على غفلة من أمره، فإتيان الهلاك من هذه الجهة.
(فإن الله جعل محمداً علماً للساعة): هذا الكلام مخالف لما قبله وليس ملائماً له، ولهذا جاء بالفاء دلالة وإشعاراً بذلك، فإنها إنما تأتي فاصلة بين الكلامين، ومؤذنة بأن الثاني مخالف للأول مغاير له كما ترى، وإنما كان علماً لها لأنه خاتم الأنبياء، كما قال عليه السلام: ((بعثت أنا والساعة كهاتين )) وأشار إلى الوسطى والمسبحة.
(ومبشراً بالجنة): لأهل الطاعة، كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...}إلى آخر الآية [البقرة:25].
(ومنذراً بالعقوبة): لأهل المعصية، كما قال تعالى: {بَشِيراً وَنَذِيراً }[البقرة:119].
(خرج من الدنيا خميصاً): لاشيء معه من الدنيا، ومن لذاتها.
(وورد الآخرة سليماً): عن تبعاتها ومساويها.
(لم يضع حجراً على حجر): أراد لم يبنِ فيها بناءً، ولاشيَّد قصوراً، ولا عمرفيها عمارة.
(حتى مضى لسبيله): حتى ورد السبيل الذي لا بد لكل حي من سلوكه وهو الموت، وكان له صلى الله عليه وآله تسع حجر لكل واحدة من نسائه بيت، وكان الواحد ينال سقف كل بيت منها بيده؛ لقصر سمكه وخضوعه إلى الأرض.
(وأجاب داعي ربه): لما دعاه لجواره، والكون معه في داره.
(فما أعظم منَّة الله عندنا): نعمته علينا.
(حين أنعم علينا به): بعثه فينا، وكان هادياً لنا.
(سلفاً نتبعه): متقدماً نكون على أثره، وانتصابه على الحال من الضمير في قوله به.
(وقائداً لنا نطأ على عقبه!): نتبعه من غير مخالفة، وقوله: نطأ على عقبه من الكلام البليغ الذي جمع بين قصر اللفظ، وتقارب حجمه وبلاغة المعنى.
(والله لقد رقعت مدرعتي هذه): المدرعة: جُبَّةٌ من صوف، ورقعها تلفيقها مرة بعد مرة.
(حتى استحييت من راقعها): إما من تكرر ذلك عليه مراراً كثيرة، وإما من كونه ترقيع ما لايمكن رقعه، فلعل الحياء يقع على أحد الوجهين أو كلاهما.
(ولقد قال لي قائل!): من الناس لما كثر ترقيعها، وعافتها النفوس وكرهتها؛ لهونها وحقارتها.
(ألا تنبذها): تطرحها عنك، وتزيلها عن جسمك.
(فقلت: اعزب عني): ابعد شخصك عن مقابلتي، ثم تمثل بقوله:
(عند الصباح يحمد القوم السُرى): السُرى هو: سير الليل، وأراد عند أن يصبحوا في مكان بعيد [قد] قصدوه، يحمدون سيرهم لبلوغهم ذلك الموضع وبعده.
(ويتجلى عنهم غيايات الكرى): وليس المصراع الثاني من نسخة الأصل، والغياية بيائين كل واحدة منهما بنقطتين من أسفلهما، وهو : الظلمة، والكرى هو: النعاس، وأراد ويتجلى عنهم ظلم النعاس ونصبه وتعبه، وأما الغيابة بباء بنقطة من أسفلها فهو: قعر البئر، قال الله تعالى: {فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ }[يوسف:10] ولا وجه له ها هنا.
(151) ومن خطبة له عليه السلام يذكرفيها الدنيا
(بعثه بالنورالمضيء): بالهداية إلى الدين الواضح.
(والبرهان الجلي): الذي لالبس عنه على الناظرفيه.
(والمنهاج البادي): الطريق الظاهرالذي لا يخفى على أحد سلوكه.
(والكتاب الهادي): القرآن فإنه يهدي إلى كل خير من أمور الدين والدنيا، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ }[الشورى:52].
(أسرته خيرأسرة): أسرة الرجل: عشيرته ورهطه، والأَسْرُ: الشدة والقوة، قال الله تعالى: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ }[الإنسان:28] وإنما سموا أسرة لأن الرجل يتقوَّى بهم ويشتد أمره.
(وشجرته خير الشجر): لما حصل فيها من البركة، وأراد بني هاشم، ومن أجل هذا وضعت فيهم النبوة والإمامة.
(أغصانها معتدلة): مستقيمة ثابتة غير معوِّجة، من قولهم: اعتدل الشيء إذا كان مستقيماً، ومنه قوله: {فَعَدَلَكَ }[الإنفطار:7] على القراءتين جميعاً أي أقامك وثبتك.
(وثمارها متهدِّلة): متدلية لثقلها، وكثرة حملها وعظمها.
(مولده بمكة): موضع ولادته كان بمكة؛ لأنها موضع آبائه ومسقط رأسه، وفيها كان ابتداء نبوته، وكانت أحب البقاع إليه.
ويحكى أنه لما عزم على الخروج من مكة بالأذن له بالمهاجرة، خرج إلى الحزورة موضع بالقرب من الكعبة، التفت إلى البيت وقال: (([والله] إنَّك لأحبُّ البقاع إليَّ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت)) .
(وهجرته بطيبة): يريد بالمدينة، وكانت كثيرة الوباء، فلما هاجرإليها قال: ((اللَّهُمَّ، بارك لنا في مدِّها وصاعها ، وانقل حماها إلى الجحفة)) .
(علا بها ذكره): ظهر وفشا، وسار مع الليل والنهار، حتى طبق الأقاليم والآفاق.
(وامتدَّ بها صوته): قوي فيها أمره، وكل ذلك كناية عن ثبوت الوطأة، ونفوذ الكلمة واستحكام الأمر في الدين والإسلام؛ لأن ذلك ما كان إلا بعد مهاجرته، وسلِّه للسيف.
(أرسله بحجة كافية): لا زيادة عليها في البلاغ، أو كافية لمن استدلّ بها.
(وموعظة شافية): من أدواء الكفر والنفاق، أو من غِلِّ الصدور وجزعها.
(ودعوة متلافية): متداركة للخطايا، من قولهم: تلافيته عن السقوط، أي تداركته ، ورواية من رواه بالقاف خطأ لاوجه له.
(أظهربه): الضمير للرسول عليه السلام، ويحتمل أن يكون للقرآن أيضاً؛ لتقدم ذكرهما جميعاً، وهو إلى الرسول أظهر لأنه أقرب المذكورين.
(الشرائع المجهولة): أي ما كان يجهله الناس، ولا يعلمونه لولاه.
(وقمع به): أي أذلَّ وأخزى.
(البدع): الكفريات المخترعة.
(المدخولة): إما المعيوبة، وإما المشوبة بالاختلاط، وطعام فيه دَخَلٌ إذا كان مشوباً بغير جنسه.
(وبين [به] الأحكام): أنواع التحليلات، والتحريمات كلها.
(المفصولة): إما المنقطعة عن أحكام الشرك، من قولهم: فصل الأمر إذا قطعه، وإما الموضحة، من قولهم: فصَّل الأمر إذا أوضحه وبيَّنه، فأحكام الدين كلها محتملة للأمرين.
(فمن يبتغ غير الإسلام ديناً): يطلب ديناً مخالفاً له من الأديان، وانتصاب ديناً على التمييز، كقولك: مررت بغيرك رجلاً.
(تتحقق شِقوته): بكسر الشين أي تظهر حالته في الشقاء، وبفتحها يظهر شقاؤه وتتضح خسارته، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ }[آل عمران:85].
(وتنفصم عروته): ينقطع متمسكه، خلافاً لما قاله تعالى في الاستمساك به: {لاَ انفِصَامَ لَهَا }[البقرة:256].
(وتعظم كبوته): كبا إذا سقط، أي تكثر سقطته بذلك.
(ويكن مآبه): هذه الأفعال كلها مجزومة؛ لأنها جوابات للشرط، وهو قوله: ومن يبتغ، والمآب: الرجوع.
(إلى الحزن الطويل): الذي لا انقضاء له.
(والعذاب الوبيل): الشديد، وهو: الخلود في النار في أنواع العذاب وألوانه.
(وأتوكل على الله): إنما جاء بلفظ المضارع لأمرين :
أما أولاً: فيحتمل أن يكون أول الخطبة (أحمد الله) لكنه طرح، وعلى هذا يكون عطفاً عليه.
وأما ثانياً: فبأن يكون استئنافاً على تقدير : وأنا أتوكل على الله، فيكون جملة ابتدائية مستأنفة.
(توكل الإنابة إليه): انتصابه على المصدرية المؤكدة، والإنابة: الرجوع [ومعناه: أتوكل توكل رجوع وإنابة، أو توكل من رجع وأناب] .
(وأسترشده): أطلب الرشد منه.
(السبيل): الطريق الواضح .
(المؤدية إلى جنته): الموصلة إليها.
(القاصدة إلى محل رغبته): قصده إذ أتاه، وأراد التي تأتي بصاحبها إلى أمكنة الرغائب والخيرات.
(أوصيكم عباد الله): أعهد إليكم، وأحثكم وآمركم.
(بتقوى الله وطاعته): إتقاء الله وخوفه في السر والعلانية، والانقياد لأمره بالطاعة، وامتثال مراداته.
(فإنها النجاة غداً): أي الفوز يوم القيامة.
(والمنجاة أبداً): على جهة الدوام والا ستمرار، والنجاة والمنجاة مصدران من نجا ينجو نجاة ومنجاة إذا فاز.
(رهَّب): بالوعيدات الشرعية، وأراد الرسول.
(فأبلغ): بالغ في ذلك أشد المبالغة.
(ورغَّب): بما وعد من الوعود الثقيلة .
(فأشبع ): فأكثر، من قولهم: فلان متشبع بما ليس عنده أي مستكثر بما ليس معه.
(ووصف لكم الدنيا): بأوصافها الذميمة الدالة على حقارتها وهونها.
(وانقطاعها): عن أيديكم، وانفلاتها منكم، وزوالها عنكم.
(وانتقالها): إلى غيركم، وتابع ذلك وكرره على آذانكم مرة بعد مرة.
(فأعرضوا عما يعجبكم فيها): من لذاتها، ونعيمها، وغضارتها.
(لقلة ما يصحبكم منها): من أجل ما تعلمون من عدم ما يكون معكم منها، وليكن ذلك سبباً للكراهة والإعراض، فإنها:
(أقرب دار من سخط الله): إذ ليس يعقل إلا داران في الوجود الدنيا والآخرة، وهذه الدار هي أقرب من الآخرة، لأن الآخرة بعدها، ولم يُعْصَ الله تعالى إلا فيها، لأن الآخرة منزهة عن العصيان فلهذا كانت أقرب دار.
(وأبعدها من رضوان الله): لأنها إذا كانت قريبة من السخط فهي لا محالة أبعد من الرضوان.
(فغضُّوا عنكم عباد الله): انقصوا، من غضَّ بصره إذا نقصه، ولم ينظر به بكماله.
(غمومها): أحزانها، اخفضوها ، وأَطرحوها.
(وأشغالها): جمع شغل، أي وما يشغل منها عن طلب الآخرة وتحصيلها.
(لما قد أيقنتم به): اللام متعلقة بغضُّوا، أي وغضُّكم إنما هو من أجل ما قد تحققتم به:
(من فراقها): مفارقتها، وزوالها عنكم.
(وتصرف حالاتها): اختلافها، من تصريف الرياح وهو اختلاف مهابِّها.
(فاحذروها حذر الشفيق): أي كونوا منها على حذر، حذر من هو مشفقٌ على نفسه، محبُّ لنجاتها وخلاصها.
(الناصح): لها بالزجر والاتعاظ.
(والمجدِّ): غير الهازل.
(الكادح): الساعي بالكدِّ والجهد في ذلك.
(واعتبروا): واتعظوا.
(بما قد رأيتم من مصارع العرب قبلكم): كيف أهلكوا بالموت، وصرعوا في لحودهم ، ودفنوا فيها، وتعاقبت عليهم أحوال في التغير والبلاء.
(قد تزايلت أوصالهم): أعضاؤهم الموصلة بالتقطع.
(وزالت أسماعهم وأبصارهم): حواسهم التي يسمعون ويبصرون بها بالتراب والبلاء.
(وذهب شرفهم وعزهم): انقطعا بالموت، وخمول الذكر.
(وانقطع سرورهم ونعيمهم): ذهب ما كان يلحق أفئدتهم من السرور بالنفائس، والتحف والطُّرف، وما كان يلحق أجسامهم من النعيم والراحة.
(فَبُدِّلُوا بقرب الأولاد): فَجُعِلَ لهم، وعُوْضُوا عن قرب الأولاد، وفرحهم بهم بعدهم [عنهم] ، وهو:
(فَقْدَها، وبصحبة الأزواج): مصاحبتها والأنس إليها والمودة لها، زوالها وانقطاعها، وهو:
(مفارقتها): وهذا من الطباق المحمود عند فرسان علماء البيان، وهو ذكر النقيضين في القرب والبعد.
(لا يتفاخرون): بكثرة مال، ولاعدد عشيرة.
(ولا يتناسلون): بكثرة الأولاد، والصهور.
(ولا يتزاورون): مع قرب التجاور.
(ولا يتجاورون ): يفعلون أفعال الجيران من التباذل، والتناصر، والتعاضد.
(فاحذروا عباد الله): إنما كررذكرالحذر مبالغة في ذلك، وتأكيداً لأمره.
(حذر الغالب لنفسه): عن الانقياد لهواه والقاهرلها عن اتباعه.
(المانع لشهوته): عن أن تكون مستولية عليه فتهلكه.
(الناظر بعقله): في عواقب الأمور وأحوالها وما تؤول إليه.
(فإن الأمر): في جميع ما ذكرته من أحوال الدنيا وانقطاعها، ودوام الآخرة واستقرارها.
(واضح): جلي لالبس فيه على أحد.
(والعلم قائم): العلم واحد الأعلام، وهي: منارات الطرق، وأراد أن أعلام الدين واضحة قائمة لااعوجاج فيها، ولالبس على سالكها، وهو مجاز هاهنا.
(والطريق جدد ): أي مستوي لازيغ فيها ولاميل.
(والسبيل قصد): أي مستقيم عادل.
وفي هذه الخطبة من الوعظ المحيط بالأغراض الدينية، والمستولي على المقاصد الأخروية، في ذم الدنيا وصفة أحوال من مضى مافيه شفاء الأمراض والعلل، ويرتاح القاصد إليه في شربه بين العلِّ والنهل .
(152) ومن كلام له عليه السلام لبعض أصحابه، وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال له:
(يا أخا بني أسد): وكان السائل أسدياً.
(إنك لقلق الوضين): الوضين للهودج بمنزلة البطان للقتب، جعله ها هنا كناية عن خفة حلمه وطيش عقله، كما جعلوا قولهم: كثير الرماد كناية عن كرمه، ورحب المقلد كناية عن طول قامته.
(ترسل): كلامك.
(في غير سَدَدٍ): صواب ورشد.
(ولك بعد): هذا يعدُّ ظرف من ظروف الزمان مقطوع عن الإضافة وهو مبني على الضم، وتقدير مضافه: ولك بعد كل حق لك.
(ذِمامَة الصِّهر): الذِّمامة بكسر الذال المنقوطة من أعلاها هي: الحرمة، والصِّهر هم: أهل بيت المرأة وأقاربها.
عن الخليل قال: ومن العرب من يجعل الصهر من أقارب الزوج وأهله ، ويحكى أن السائل كان من أقارب ليلى بنت مسعود ابن خالة امرأة أمير المؤمنين .
(وحق المسألة): وفي الحديث: ((من كتم علماً وهو يعلمه ألجمه الله بلجام من نار )) ، والمعنى أن لك حق الصهورية والمسألة بعد كل حق، فلهذا توجهت إجابتك وتعيَّن علينا حقها.
(وقد استعلمت فاعلم): وقد طلبت الإعلام عمَّا سألت عنه، فافهم ما أقول لك:
(أما الا ستبداد علينا بهذا المقام): أما أخذهم علينا الإمامة.
(ونحن الأعلون نسباً): المختصون بأشرف الأنساب وأعلاها؛ لقربنا من رسول الله، وانتصاب نسباً على التمييز.
(والأشدون بالرسول نَوْطاً): النوط: ما يناط بغيره ويعلق به كالقدح والعلبة وغير ذلك، وأراد ها هنا وأعظم الخلق تعلقاً بالرسول، وأقربهم إليه.
(فإنها كانت): الضمير للإمامة.
(أثرة): الأثرة هي: الاسم من الا ستئثار.
(شحت عليها): حرصت عليها.
(نفوس قوم): ولهذا عداه بعلى؛ لأن الحرص من لوازم الشح.
(وسخت عنها): أي طابت عنها.
(نفوس آخرين): يشير بكلامه هذا إلى أن الصحابة بعد موت الرسول عليه السلام انقسموا، فقائلون: إن الإمام هو أمير المؤمنين، كالزبير، وسلمان، والمقداد، وأبي ذر، وغير هؤلاء من جلة الصحابة وأكابرهم، وآخرون قالوا: إن الإمام هو [أبو] بكر مثل عمر، وأبي عبيدة بن الجراح، وغيرهما من الصحابة، فلهذا قال:
(شحت عليها نفوس قوم، وسخت بها نفوس آخرين).
(ونعم الحَكَمُ الله): فإنه العالم بمن [هو] أهل لها، وقائم بأحكامها.
(والمعود إليه يوم القيامة): المرجع إليه هو الوقوف بين يدي الله في ذلك اليوم، وفيه قطع الخصومة وفصل الشجار، وكلام أمير المؤمنين دالٌّ على موجدة في صدره على القوم فيما كان منهم من الا ستئثار، من غير أن يصدر منه قول أوفعل يثلم الدين، ويكون قاطعاً للموالاة، وهذا هو الذي عليه أفاضل أهل البيت وعلماؤهم، و[هو] يحكى عن زيد بن علي أنه قال: البرآءة من أبي بكر وعمركالبرآءة من علي، إن شئت فتقدَّم، وإن شئت فتأخر.
ويحكى عن الباقر أيضاً أنه قال: من شكَّ فيهما كمن شك في السنة، بغض أبي بكر وعمر نفاق، وبغض الأنصار نفاق، إنه كان بين بني عديٍّ وبني تيم، وبين بني هاشم شحناء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تحابُّوا، حتى كان أبو بكر يشتكي خاصرته، فيسخن علي يده في النار، ثم يضمد بها على خاصرة أبي بكر حباً له، ونزل القرآن: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ }[الحجر:47].
وعنه أيضاً أنه سئل عن أبي بكر وعمر؟، فقال: مسلمان هما رحمهما الله، فقال له السائل: أتولاهما وأستغفر لهما؟، فقال: نعم، فقال: أتأمرني بذلك؟ فقال: نعم، ثلاث مرات، فما أصابك من ذلك فعلى عنقي، ووضع يده على عنقه.
وأحاديث كثيرة في توليهما، وهذا هو المعتمد عليه عند أكابر أهل البيت .
وعن سالم بن أبي حفصة قال: دخلت على جعفر بن محمد أعوده وهو مريض، فقال: اللَّهُمَّ، إنّي أحبُّ أبا بكر وعمر وأتولاهما، اللَّهُمَّ، إن كان في نفسي خلاف ذلك فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة.
فأين هذا عن هذيان الروافض والجارودية!، فالله حسبهم فيما قالوه، ومكافأتهم على ما نقلوه وكذبوه!.
ثم تمثل أميرالمؤمنين ببيت امرئ القيس:
(وَدَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِهِ ... وَلَكِن حَدِيْثاً مَا حَدِيْثُ الرَّوِاحِلِ)
يروى أن امرئ القيس هرب من عدو له، واستجار رجلاً آخر من طي، فأغير على إبل الطائي، فخرج مغيراً على رواحل لامرئ القيس في طلب إبله، فلما رجع الطائي وكان الأمر في رواحل امرئ القيس أهم عنده من رواحل الطائي، فقال هذا البيت، ولنذكر إعرابه وموضع الشاهد منه.
أما إعرابه فهو ظاهر، النهب: ما يؤخذ قهراً، صيح به: أي أعلم به وشهر، والحجرات: النواحي، وانتصاب حديثاً بفعل مضمر دلَّ عليه الكلام تقديره: اذكر حديث الرواحل، وما هذه زائدة، وحديث الرواحل بدل من حديثاً، أبدل المعرفة من النكرة.
وأما موضع الشاهد منه فإنما أورده أمير المؤمنين متمثلاً به، وغرضه من ذلك دع أمر الإمامة وحديثها فقد مضى وتقدم، ولكن أذكر حديث ابن أبي سفيان معاوية وأهل الشام؛ فإن ذلك أعظم في الدين وأدخل في الأعجوبة.
(وهَلمَّ الْخَطْب في ابن أبي سفيان): هلمَّ اسم من أسماء الأفعال يعدَّى تارة بنفسه، كقوله تعالى: {هَلُمَّ شهداءكم }[الأنعام:150] وتارة بإلى كقوله تعالى: {هَلُمَّ إلينا }[الأحزاب:18] وأراد ذكر الْخَطْب في ابن أبي سفيان فهو أعجب لوضوح الأمرفيه، ومنازعته لي وشقاقه وخروجه عليَّ محارباً.
(فلقد أضحكني الدهر): ضحكت من عجائبه.
(بعد إبكائه): بعد بكائي من حوادثه وفجائعه.
(ولا غرو والله): أي ليس عجباً مثل هذا العجب لفظاعته، وعظم شأنه.
(فياله خطباً!): يا هذه حرف للنداء، ومناداه محذوف أي ياقوم، وله متعلق بفعل تقديره: اعجبوا له من خطب ما أعظم حاله، وانتصاب خطباً على التمييز.
(يستفرغ العجب): أي يطلب فراغ العجب فلا يفرغه، وإن بذل مجهوده لعظمه، من قولهم: استفرغت مجهودي إذا بذلته، وهو مجاز لإضافة الفراغ إلى الخطب.
(ويكثر الأود): أي الا عوجاج لتفاحشه، من قولهم: تأود العود إذا كان معوَّجاً أو يكثرالثقل لتفاقمه، من قولهم: آدني الحمل إذا أثقلك.
(حاول القوم): معاوية وأهل الشام من أتباعه، والمحاولة هي: المزاولة للشيء والاشتغال به.
(إطفاء نورالله من مصباحه): عنى بذلك نفسه، وأرادإبطالهم قواعد الدين، وهدم مناره باستظهارهم عليَّ وقهرهم لي.
(وسدَّ فوَّاره من ينبوعه): وإذهاب ما يظهر من أحكام الشريعة من جهتي، ويحصل من ذلك من علمي واجتهادي، والفوَّار: عبارة عن حركة الماء، والينبوع: عين النهر، فالإطفاء، والنور، والمصباح، والفوَّار، والينبوع استعارات رشيقة لما ذكرناه.
(وجدحوا بيني وبينهم شِرْباً وبيًّا ): جدح الشراب إذا خاضه، والشِّرب بالكسر هو: المشروب، قال الله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ }[العشراء:155]، وسماعنا ها هنا به، والوبيء: المهلك، من شربه لوبائه، وجعل ذلك كناية عن اشتباك الحرب ونشبها بينهم فإنها مهلكة للأموال والأرواح، فلا وباء أعظم من ذلك ولا أوخم.
(فإن ترتفع عنَّا وعنهم محن البلوى): برجوعهم عن الحرب واستبصارهم الخطأ في ذلك.
(أحملهم من الحق على محضه): على صريحه وجيده مما أريهم من الصواب والسيرة الحسنة في قولي وفعلي، والهداية إلى الطريق الواضحة.
(وإن تكن الأخرى): وهو استمرارهم على البغي والشقاق لي ومخالفتي في الأمر كله.
({فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ })[فاطر:8]: أراد فلا تقطع نفسك وتذهبها تحسراً عليهم.
({إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ })[فاطر:8]: من ذلك، وهذه الآية وردت على جهة التسلية لرسول الله؛ لما علم من حاله التحزّن الشديد والأسف الكثيرعلى إيمان قومه، وهذا كقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ }[الكهف:6] أي مهلكها من أجل عدم إيمانهم، وقد استعملها أمير المؤمنين في أهل البغي، كما وردت في شأن الكفار، حذو النعل بالنعل من غير مخالفة، وهذه عادة له في استعمال القرآن ، كما مرَّ في مواضع.
(153) ومن خطبة له عليه السلام يذكرفيها بديع الخلقة الإنسانية، وعجيب تركيبها
(الحمد لله خالق العباد): إما موجدهم من العدم، و إما المقدِّر لتركيب هذه الصور العجيبة لهم.
(ساطح المِهَاد): باسط الأرض المجعولة مهاداً، كما قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْاداً } و{مهداً} [طه:53] أي سهلاً سلساً لا عناء فيه ولا تعب.
(ومسيل الوِهاد): جمع وهدة وهي: ما اطمأنَّ من الأرض، كالشعاب والأودية والأخاديد، أي وأسالها لمنافع الخلق.
(ومخصب النِّجاد): جمع نجد وهو: ما ارتفع من الأرض، وأخصبها أي جعل فيها الكلأ والمرعى نقيض الجدب، وهذا من القدرة الباهرة أي أنه جعله مخصباً مع أن الماء لا يستقر عليه لعلوه وارتفاعه.
(ليس لأوليته ابتداء): أي هو أول ومع كونه أولاً، فإنه لا ابتداء لأوليته، ولا نهاية لها ولا حد، إذ لو كان لأوليته ابتداء لكان محدَثاً، وهو محال حدوثه.
(ولا لأزليته انقضاء): أراد أنه إذا تقرر أنه لاأول له فليس له زوال، ولا له آخرفيكون منقضياً؛ لأن أوليته لذاته، وما كان موجوداً لذاته استحال عليه الانقضاء والعدم.
(هو الأول لم يزل): أي لم يتجدد له وجود.
(والباقي بلا أجل): والدائم الوجود الذي لا أمد لوجوده فيكون معدوماً عند وجود ذلك الأمد، ويكون غاية له.
سؤال؛ قوله: هو الأول لم يزل، والباقي بلا أجل، مثل قوله: ليس لأوليته ابتداء، ولا لأزليته انقضاء، فما الفائدة بالتكرار وما وجه ذلك؟
وجوابه؛ هو أن أمير المؤمنين صار فارس البلاغة وأمير حلبتها، وإمام الفصاحة وإنسان مقلتها، وليس أخلو إما أن أجعل كلامه هذا من باب التكرار، كقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }[القمر:16]، وإما أن أجعله من باب حسن التصرف، والتفنن في أساليب النظم، وكلاهما محتمل في كلامه هذا، وواقعان في البلاغة أحسن المواقع وأعلاها، فإن الله تعالى أورد قضية موسى وفرعون في غير آية في كتابه علىأنحاء [لهم] مختلفة، وأساليب متفرقة دالَّة على حسن التصرف وأنيق البلاغة.
(خرَّت له الجباه): بالسجود لعظمته.
(ووحَّدته الشِّفاهُ): أقرَّت له الألسنة بالتوحيد.
(حد الأشياء عند خلقه لها): جعل المكونات حدوداً تقف عليها، وغايات تنتهي إليها (لا تزيد عليها) ، فتكون مجاوزة لها، ولا تنقص عنها فتكون متأخرة عنها، كما أشار إليه في غير آية، كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }[القمر:49]، وقال: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }[الفرقان:2]، وقال: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }[الطلاق:3]، وقوله: عند خلقه لها، يشيربه إلى أن هذه التقديرات والإحكامات لازمة لوجودها، غير متأخرة عنها وقتاً واحداً، ولو تأخرت عنها لكانت غير محكمة فخلقها على هذه الكيفية.
(إبانة لها من شبهها): بان الأمر إذا ظهر، والإبانة مصدر بان[يبين إبانة] ، وانتصابها إما على المصدرية مفعولاً من أجله، وإما على الحال أي مبيناً، والمعنى خلقها لتكون متميزة عمَّا يشبهها.
(لا تقدِّره الأوهام): بكسر الدال وضمها من التقدير، وفي الحديث: ((إذا غمَّ عليكم الهلال فَاقْدِرُوا له ثلاثين )) بهما جميعاً، وأراد إما أنه ليس له تقدير فهي لا تقدره، وإما أراد أنه لا تقف على حقيقته.
(بالحدود والحركات): فإ ن من شأن مايقع عليه الوهم أن يكون من قبيل المحسوسات التي لها حدود وحركات.
(ولا بالجوراح والأدوات): أي وليس بذي جارحة، وجوارح الإنسان: أعضاؤه وأوصاله، ولاذي أدوات وأدوات الإنسان: سمعه وبصره؛ لأنها آلة في إدراك السمع والبصر فيكون مقدراً بالوهم بل هو خارج عن هذه الأشياء كلها، مباين لها بالحقيقة والماهية.
(لا يقال له: متى؟): لأنها سؤال عن الأزمنة المبهمة، وما كان سابقاً على الأزمنة وجوده، فلا يسأل عنه بمتى، وأيضاً فلو تعلقت الأوقات به لكان محدوداً بها فيكون له ابتداء، وإذا كان له ابتداء فله انتهاء وهو متعالي عن الحد بالابتداء والانتهاء.
(ولا يضرب له أمد بحتى): أراد أن حتى دالة على الغاية، ومعناها لا يصدق عليه؛ لأنه يعلم إذا كان دائم الوجود فلا أول لوجوده ولا آخر لوجوده، فلا وجه للأمد والغاية في حقه فهما منتفيان.
(الظاهر): في وجوده بالأدلة والبراهين.
(لا يقال له: ممَّ؟): فلا يسأل عن ذاته بما يدل على الجنسية وهو: ما ، إذ لاجنس له فلا يسأل عن جنسه، أو أنه ظاهر فلا يستفهم عنه بظهوره وتجليه.
(والباطن): عن إدراك العيون وتصور الأوهام.
(لا يقال: فيم): أي لايستفهم عنه بالمكان والجهة لتعاليه عنهما، فلا يقال: في أي شيء هو؟.
(لا شبح فيُتقصَّى): الشبح عبارة عن كل جسم، وقوله: فيُقتصَّى فيه روايتان:
أحدهما: بالصاد المهملة أي يطلب أقصاه، وأراد أنه ليس بشبح يطلب أقصاه أي غاية حده.
وثانيهما: بالضاد بنقطة من أعلاها، فيكون معناه يزول ويعدم لأن التقضي هو الزوال.
(ولا محجوب): أي وليس محتجباً بشيء من الأشياء.
(فيحوى): فيكو ن الحجاب حاوياً له محيطاً به.
(لم يقرب من الأشياء بالتصاق): أراد أنه لم يقرب منها من الجهة فيكون ملاصقاً لها، كملاصقة الأجسام بعضها لبعض.
(ولم يبعد عنها بافتراق): أراد أنه وإن بَعُدَ عنها [فليس بُعْدُه عنها بأن فارقها، وحالت الجهات والفراغات بينها وبينه ومع بُعْدِه عنها] فإنه:
(لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة): شخوص البصر وهو فتح العين من غير أن يطبقها، و اللحظة هو النظرة الواحدة بمؤخر العين.
(ولا كرور لفظة): فعلها مرة بعد مرة، قال الشاعر:
كَيْفَ البقاءُ مع اختلافِ طبائعٍ ... وكُرُوْرِ لَيْلٍ دَائمٍ وصَبَاحِ
(ولا ازدلاف ربوة): الازدلاف هو: التقدم، والربَّوة: الموضع المرتفع، بفتح الفاء وضمها.
(ولا انبساط خطوة): ولا خطوة ممتدة، والا نبساط هو: الامتداد، أي أن هذه الأمور كلها غير خافية عليه.
(في ليل داجٍ): الداجي هو: المظلم، قال الراجز:
فَقَدْ دَجَا الليلُ فهيا هيا
(ولا غسق ساج): الغسق: ظلمة أول الليل، والساجي هو: الساكن، قال تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }[الضحى:1-2] أي سكن.
(يتفيَّأ عليه القمر المنير): يتقلب عليه، قال تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ }[النحل:48] والضمير في عليه راجع إلى الليل، ومعنى منير أي ذو نور.
(وتعقبهُ الشمس ذات النور): أي وتكون عقيبه أي بعده طلوع الشمس ذات الضياء المشرق على الآفاق كلها، والضميرفي تعقبه راجع إلى الليل.
سؤال؛ أراه خالف بين وصف القمر والشمس، فقال: المنير في القمر، وقال: ذات النور في وصف الشمس، وكل واحد منهما موصوف بالإنارة؟
وجوابه من وجهين:
أما أولاً: فلأنه أراد المطابقة في التسجيع لأن الشمس مؤنثة، والقمر مذكر، فلو قال: والشمس المنيرة لم يتفقا في التسجيع فلهذا قال: ذات النور.
وأما ثانياً: فلأن قوله: ذات النور أبلغ من قوله: المنيرة، فلما كان نور الشمس أبلغ وأظهر وصفها بأبلغ الصفات، كما قال تعالى: {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ }[النمل:60]، وقال: {ذَاتَ لَهَبٍ }[المسد:3]، و {ذَاتِ الرَّجْعِ }[الطارق:11]، و{ذَاتِ الصَّدْعِ }[الطارق:12]، مبالغة في ذلك، بخلاف ما لو قال: ناراً متلهبة ، وحدائق متبهجة لم يكن كذلك.
(في الكرور والأفول): أي هي غير خافية عليه في طلوعها وغروبها.
(وتقلب الأزمنة والدهور): اختلافها وجريها.
(من إقبال ليل مقبل): من هذه مفسرة لتقلب الأزمنة، أي أن تقلبها يكون بإقبال الليل.
(وإدبار نهار مدبر): وقوله: إقبال مع قوله: مقبل، وإدبار مع قوله: مدبر، من أنواع البديع يلقب بالتجنيس المطلق، وقد مرَّ نظائره والاستشهاد عليه، ومنه قوله:
وَمَا زالَ معقولاً عِقَالٌ عن الندى ... وما زال محبوساً عن المجد حابسُ
وهو تعالى سابق:
(قبل كل غاية ومدة): متقدم عليها فلا غاية ولامدة إلا وهي متأخرة عن وجوده.
(وكل إحصاء وَعِدَّة): أي وهو متقدم على كل إحصاء وعلى كل عدة من الأعداد.
(تعالى): بالصفات الإلهية.
(عما ينحله المحددون ): يعطيه أهل التحديد من نحله إذا أعطاه، أي يعطونه من الصفات الدالة على كونه محدوداً، كا لمجسمة وأهل الجهة والمثبتين له في الأماكن، فهؤلاء كلهم قد حدَّوه ونحلوه.
(من صفات الأقدار): الأمور المقدرة المحدودة وهي الأجسام.
(ونهايات الأقطار): وما نحلوه أيضاً من أن تكون الأقطار محيطة به بجهاتها وحاوية له بنهاياتها.
(وتأثُّل المساكن): مجد أثيل أي راسخ، والتأثل هو: اتخاذ أصل المال، وأراد أن تنفى عنه اتخاذ هذه المساكن والرسوخ فيها والكون في جهاتها.
(وتمكَّن الأماكن): أي واستقراره في الأماكن وحصوله فيها على جهة المكانة والاستقرار.
(فالحد بخلقه مضروب): أرادبالحد إما الإحاطة، وإما التقدير، وكلاهما مضروبان بجميع المخلوقات، ولاشيء من المخلوقات إلا وهو مقدر بحد وغاية [تحتويه] وتكون مشتملة عليه.
(وإلى غيره منسوب): من سائر المكونات مضاف.
(لم يخلق الأشياء من أصول أزلية): يشير بذلك إلى مذاهب كثيرة للفلاسفة وغيرهم من الفرق كلها باطلة؛ كإبطال مذهب الفلاسفة في الهيولي والصورة، وإبطال مذهب الطبائعية في أن أصل العالم حركات أزلية تصادمت فنشأ عنها كالعالم ، وإلى مذهب الثنوية في النوروالظلمة، وغير ذلك من المذاهب الركيكة والآراء الردية، ومن أ راد الا طلاع على حصر هذه المذاهب فعليه بكتابنا الملقب بكتاب: (النهاية في المباحث الكلامية والمسائل الإلهية) .
(ولا من أوائل أبدية): تكون أصلاً لها وسبباً في تركيبها وائتلافها وانتظامها على حدودها وتقديراتها.
(بل خلق ما خلق): أراد بل خلق هذه المخلوقات العظيمة، والمكونات الباهرة، وأتى بما دالة على ذلك لما فيها من الإبهام، كما قال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ }[طه:69]، أي ألق هذا الأمر الباهر، وكما قال: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ }[يونس:80] أي هذه الأسحار الهائلة، أوجده اختراعاً وفعله ابتداء.
(فأقام حده): على جهة الاستقامة، ونعت الأحكام والتقدير.
(وصوَّر ما صوَّر ): من هذه الصور المختلفة، والأشكال المتباينة.
(فأحسن صورته): لما جعل فيه من الا نتظام المحكم، والمطابقة لمصلحته، والمراعاة لأحكام منفعته، فإيجادها كلها على وفق داعيته وانقيادها كلها بحسب أمره وإرادته.
(ليس لشيء منه امتناع): عن تكوينه إذا أراده، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }[يس:82].
(ولا له بطاعة شيء انتفاع): أي أن الأشياء وإن أطاعته بعضها بالانقياد لأمره والوقوف على حسن داعيته، وبعضها بالعبادة له والتذلل له، فإنه لاينتفع بشيء من ذلك وكيف يقال: بأنه ينتفع وهو مستحيل [عليه] جري المنافع لا ستحالة الملاذ والآلام عليه.
(علمه بالأموات الماضين): في التحقق والثبوت، وجزاء الأعمال، وتقديرالأعمار وكتابتها وحفظها، وجميع أحوالهم كلها.
(كعلمه بالأحياء الباقين): في ذلك كله لا يغادر شيئاً من أمورهم إلا أحصاها وحفظها.
(وعلمه بما في السماوات العلا): من أحوال العالم العلوي كالملائكة وما يتعلق بأحوالهم من العبادات، وأنواع الأقضية والتدبيرات.
(كعلمه بما في الأرضين السفلى): من عالم الحيوانات والجمادات وغير ذلك.
ثم أردفه بعجيب خلقة الإنسان، بقوله:
(أيها المخلوق السوي): المستوية أعضاؤه بالإحكام والتقدير، أو المخلوق في أحسن التقويم وأكمله.
(والمُنْشَأ المرعيُّ): الْمُوجَدُ من العدم، المحفوظ بالرعاية:
(في ظُلَمِ الأرحام): تعلق الحرف هذا إما بقوله: المنشأ أي أنه أنشئ في ظلم الأرحام، أو بقوله: المرعي، أي وحفظ في ظلم الأرحام، فكلاهما صالح للتعلق كما ترى، ويجوز أن يكون متعلقاً بهما على [حد] إعمال الفعلين كقولك: أكرمت رجاء طيب زيداً ، وظلم الأرحام: مستقرها، وما اشتملت عليه.
(ومضاعفات الأستار): أي والأستار المضاعفة: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة.
(بُدئت من سلالة من طين): يشير إلى خلق آدم عليه السلام، ولقد أشار الله تعالى في كتابه الكريم في خلقة آدم إلى أطوار سبعة:
أولها: التراب وهو المبدأ الأول ، كما قال تعالى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ }[آل عمران:59].
وثانيها: الطين بقوله: {مِنْ طِينٍ} وهو عبارة عن الجمع بين الطين والماء.
وثالثها: قوله: {مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ }[الصافات:11] إشارة إلى الطين الحاصل على ضرب من الاعتدال.
ورابعها: قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ }[الحجر:26] يشير به إلى الطين الصالح لقبول الصورة.
وخامسها: قوله: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ }[الحجر:26] إشارة إلى يبسه وسماع صَلْصَالِهِ.
وسادسها: قوله: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ }[الرحمن:14]، وهو الذي أُصلح بأثر النار فيه فصار كالخزف.
وسابعها: قوله: {إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ }[ص:71] إشارة إلى إكمال خلقته.
(ووضعت في قرار مكين): يشير به إلى كيفية خلقة أولاده، ولقد أشار الله في كتابه الكريم في خلقة بني آدم إلى أطوار سبعة أيضاً:
أولها: قوله تعالى: {مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ }[المؤمنون:12].
وثانيها: النطفة، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ }[يس:77].
وثالثها: العلقة، كقوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً }[المؤمنون:14]، وقوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ }[العلق:2].
ورابعها: المضغة، كقوله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً }[المؤمنون:14] والمضغة: القطعة من اللحم.
وخامسها: العظام، كقوله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً }[المؤمنون:14].
وسادسها: الجمع بين اللحم والعظم، كقوله تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً }[المؤمنون:14].
وسابعها: إكمال الخلقة بمجموع الأمور كلها، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ }[المؤمنون:14]، بما جعل فيه من قوة العقل والتفكر والنطق، فقد أشار عليه السلام إلى مبتدأ خلقة آدم بقوله: بدئت من سلالة خالصة صافية من الكدورة ، ومن الأولى لابتداء الغاية، ومن الثانية لبيان الجنس، على تلك الأطوار والدرج، ثم أشار إلى الخلق الثاني بقوله: (ثم وضعت في قرار مكين) أي ذا مكانة وهو الإحراز والتحصن عما يريب، وفي الحديث: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه نطفة أربعين يوماً وأربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فيكتب رزقه وأجله)) .
(إلى قدر معلوم): من أجله في الزيادة والنقصان، كما قال الله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }[الرعد:8].
(وأجل مقسوم): مقدار لبثه في الدنيا، ومدة عمره فيها من غير زيادة فيه ولا نقصان منه.
(تمور في بطن أمك): المور: الحركة والاضطراب، أي تختلج في أحشائها يميناً وشمالاً.
(جنيناً): محتجباً بالحواجب الكثيفة، والسواتر المضاعفة.
(لا تحير دعاءً): لا تجيبه، والتحاور هو: التجاوب، يقال: كلمته فما أحارني جواباً أي ما ردَّه.
(ولاتسمع نداء): من يناديك، وأراد أنك كنت جماداً فصيرك حيواناً، وكنت أبكم فأنطقك، وأصم فأسمعك، وأكمه فجعلك بصيراً، وأودع ظاهرك وباطنك مكنونات علوم، وخزائن أسرار لا يحصرها لسان، ولا يطلع على فجِّها إنسان، فسبحان الله ما أبعد حالة الا بتداء من حالة الانتهاء، كما قال تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ }[الأنعام:99] فإذا كان ذلك عجب، فهو في خلقة الإنسان أدخل وأعجب.!!
(ثم خرجت من مقرك): بطن أمك الذي كنت مستقراً فيه.
(إلى دار): وهي الدنيا.
(لم تشهدها): بعينك ولا خطرت لك على بال.
(ولم تعرف سبل منافعها): الطرق التي تهتدي فيها إلى تحصيل المنافع فهداك إليها، وألهمك إلى تحصيل ما ينفعك فيها، ولا هادي لك سواه، وإلا:
(فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك): ومصداق هذه المقالة، من هداك لالتقام ثدي أمك، لتعيش به ويكون غذاء لك؟
(وعرَّفك عند الحاجة مواضع طلبك): وألهمك عند الضرورات مواضع المطالب التي تحتاجها، فتطلب الماء من الكوز، ولا تطلبه من الحجر، وتطلب الخبز من السفرة، ولا تطلبه من الجدار، إلى غير ذلك من الإلهامات العجيبة.
(وإرادتك!): مراداتك المطلوبة من مواضعها .
(هيهات): اسم فعل من الأفعال الخبرية، أي بَعُدَ، وأراد ما أبعد الوصول إلى كُنْهِ حقيقة الخالق لهذه الأشياء، والإحاطة بحقيقة أوصافه.
(إن من يعجز عن صفات ذي الهيئات ): الهيئة: الشارة، يقال: فلان حسن الهيئة، وأراد الأحوال المختلفة، والشارات المتفاوتة.
(والأدوات): الجوارح والحواس؛ لمافيها من البدائع والعجائب فلا يمكن حصرها ولا إدراكها.
(فهو عن صفات خالقه): الذي أقدره وأحكمه.
(أعجز): أدخل في العجز وأبلغ فيه.
(ومن تناوله): الوصول إليه، من قولهم: نال الشيء إذا وصل إليه بيده.
(بحدود المخلوقين): بأوصافهم الموصلة إلى فهم حقائقهم.
(أبعد!): أدخل في البعد والمجاوزة.
(154) ومن كلام له عليه السلام في أمر عثمان
ولما اجتمع الناس على عثمان، وشكوا ما نقموه منه على أمير المؤمنين، وسألوه مخاطبته عنهم، واستعتابه لهم، فدخل على عثمان، فقال:
(إن الناس ورائي): يطالبونني أشد المطالبة، من قولهم: فلان ورائي إذا كان شديد الملاحقة في الحاجة، شُبِّه بمن يكون وراءك يحثك على السير من خلفك.
(قد استسفروني بينك وبينهم): جعلوني سفيراً فيما عرض بينكم من الخطوب، وقطع المشاجرة والأمر في ذلك صعب.
(ووالله ما أدري ما أقول لك!): مما يصلح الله به شأنك، ويجمع به الشمل.
(ما أعرف شيئاً تجهله!): فأعلمك به، وأحقق لك طريقه .
(ولا أدلك على أمر [لا] تعرفه): فأكون سبباً في الإعلام به، والتعريف بحاله.
(إنك لتعلم): عن الله وعن الرسول.
(ما نعلم ): من ذلك كله.
(ما سبقناك إلى شيء): من علوم الشريعة، وأحكام الدين وحزناه دونك.
(فنخبرك عنه): فيكون طريقك إلى العلم به إخبارنا عنه.
(ولا خلونا بشيء): أخذناه عن الرسول واستبددنا به.
(فنبلغكه): كما سمعناه منه، وقد جمع بين ضميري المفعولين ها هنا، كما قال تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا }[هود:28].
(وقد رأيت كما رأينا ): إما رأيت الرسول عليه السلام كرؤيتنا له، أو رأيت أفعاله وطريقه وسيرته كما رأيناها.
(وصحبت رسول الله كما صحبناه): فعليك التأسي بأفعاله، والاقتداء به كالذي علينا من ذلك.
(وما ابن أبي قحافة ولاابن الخطاب): يشير إلى أبي بكر وعمر مع تقدمهما، واعترافك بالفضل لهما.
(بأولى بعمل الحق منك): لأن عليك من التكليف مثل ماكان عليهما والنصيحة للأمة، وفي كلام أمير المؤ منين هذا دلالة على إتيانهما للحق وعملهما به.
وأنا أقول: اللَّهُمَّ، إني أحبهما وأتولاهما، وأبرأ إليك ممن يبغضهما، وآذنتك بحبهما وتواليهما ، وإن كنت تعلم مني خلاف ذلك فلا تغفر لي ذنوبي .
(وأنت أقرب إلى رسول الله وشيجة رحم منهما ): الوشيجة هي: القرابة المشتبكة، وإنما كان أقرب إلى الرسول؛ لأن منافاً يجمعهم، وكان له بنون أربعة: هاشم، وعبد شمس، وعبد الدار، وعبد العزى، فالرسول عليه السلام من أولاد هاشم، وعثمان من بني عبد شمس، بخلاف غيره من قريش فإن بينهم بُعْداً متفاوتاً، كأبي بكر وعمر فأراد بالقرب ما ذكرناه.
(وقد نلت من صهره ما لم ينالا): أراد أنه نكح رقية بنت رسول الله وماتت تحته، خلف عليها بعد أختها أم كلثوم أيضاً بنت رسول الله، وكان يسمى ذا النورين؛ لنكاحه لبنتي رسول الله.
(فالله الله في نفسك): تحذير له عما وقع فيه، والمعنى احذر الله، واجهد في نجاة نفسك.
(فإنك والله ما تبصّر من عمى): بمعنى أنت مبصر في نفسك ببصيرة العلم عن عمى الجهل، فيستحيل منَّا أن نبصرّك من عماه ، وأراد أنك لا تبصَّر من أجل عمى.
(ولا تعلَّم من جهل): أ ي ولا أنت جاهل فتعلَّم من أجل الجهل.
(وإن الطريق لواضحة): لمن يسلكها لا لبس فيها.
(وإن أعلام الدين لقائمة): العلم: منار الطريق، وأراد بقيامها ثبوتها.
(واعلم أن أفضل عباد الله عند الله): أعلاهم حالة في الدين، وأرفعهم درجة عند الله.
(إمام عادل): لا يحيف في سيرة ولا حكم، وفي الحديث: ((إمام عادل خير من مطر وابل )).
(هُدِي): هداه الله تعالى للأعمال المرضية له.
(وهدى): غيره بإرشاده إلى الخيرات والتقوى.
(فأقام سنة معلومة): أحياها، ودعا إليها، وحمل الخلق على ملازمتها، وحثهم على فعلها مما علم من حال الرسول المواظبة على فعله، وحال غيره من الأنبياء.
(وأمات بدعة مجهولة): ما ابتدع من الأمور المضادة للسنن مما يُجْهَلُ أمره، ولا يُعْرَفُ له طريق.
(وإن السنن لنيرِّة): ظاهر أمرها، بِّينٌ حالها.
(لها أعلام): ترشد إليها، وتكون دالَّةٌ عليها.
(وإن البدع): وهو ما كان مخالفاً للدين مما قد عرف حاله من الرسول، وَرَغِبَ عنه، وحذّرَ عن مواقعته.
(لظاهرة): جليٌّ أمرها، واضحة أعلامها.
(لها أعلام): قد أوضحها الرسول، وأرشد إليها؛ من أجل اجتنابها، كما أشار إليه بقوله تعالى: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }[النساء:26]، يعني من الأنبياء {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا }[النساء:27] مخالفاً للحق مخالفة ظاهرة لا لبس فيها.
(وإن شر الناس عند الله): أسخفهم طريقة، وأنزلهم رتبة عنده.
(إمام جائر): عن الحق إما لظلمه للخلق حقوقهم، وأخذها على غير وجهها، وصرفها في غير أهلها، وإما جائر عن الطريق المستقيمة عند الله تعالى ، وعادل عنها إلى ما يخالفها من الطريق الجائرة.
(ضَلَّ): عنها باتباع هواه، وإيثار دنياه على آخرته.
(وضُلَّ به): إما اقتدي به في الضلال ، وإما كان سبباً في وقوع الفتن، وإثارة الشبهات والمحن والضلالات.
(فأمات سنة مأخوذة): يعمل بها، ويهتدي الخلق بهديها.
(وأحيا بدعة متروكة!): نعشها بالعمل عليها، والمأخوذ عليه تركها وإهمالها وهجرها.
(وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر ))): يعني الذي جار على الخلق، وظلمهم الحقوق.
(((وليس معه نصير))): ينصره.
(((ولا عاذر))): يعني يعذره مما فعل.
(((فيلقى في جهنم))): أراد يرمى به فيها.
(((فيدور كما تدور الرحى))): أراد أنها تدور به.
(((ثم يرتبط في قعرها))) : وأراد بذلك أنه يشدُّ في قعرها، أخذاً من قولهم: ربطته إذا شددته، أو أنه يلازم قعرها، من قولهم: رابطت كذا إذا لازمته، ومنه رباط الخيل.
(وإني أنشدك الله): أي أسألك بالله كأنك ذكَّرته إياه، قال الأعشى:
رَبِّي كريمٌ لا يكدِّرُ نعمةً
وإذا تِنُوشِدَ في المهارقِ أنشدا
والمهارق: الصحف.
(أن تكون إمام هذه الأمة المقتول): الذي يقتل من الخلفاء، يكون أول قتيل في الإسلام فيهم.
([فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام] يفتح عليها القتل): إهراق الدماء على غير وجهها.
(والقتال): المحاربة وإثارة الفتن والحروب.
(إلى يوم القيامة): وتكون الفتنة به باقية إلى هذا اليوم.
(ويَلْبِسُ عليها أمورها): لما يقع في قتله من اللبس.
(ويبث الفتن فيها): ينشرها في جميع الأقطار والأقاليم.
(فلا يبصرون الحق من الباطل): لا يميزون باطلاً من حق بل يكون الحق ملتبساً بالباطل، لا خلاص له منه أبداً؛ لأجل ما وقع بينهم من الالتباس، واختلاط وإيثار الأهواء.
(يموجون فيها موجاً ): يضطربون في الآراء اضطراباً عظيماً، كاضطراب الأمواج بعضها ببعض، من كثرة الاختلاف والمنازعة.
(فلا تكوننَّ لمروان سيِّقة): السيقة: ما استاقه العدو، وأخذه من البلد من الدواب، أي لا تكن منقاداً له في أمره يصرِّفك على رأيه كيف شاء، وأراد ابن عمه مروان بن الحكم، وكان مساعداً له في الآراء.
(يسوقك حيث شاء ): من آرائه الرديئة، وقصوده في الإسلام والدين الخبيثة، وكان فاجراً أحمق.
(بعد جُلاَل السن): كبره، من قولهم: جلّت الناقة إذا كبر سنها.
(وتقضِّي العمر): نفاده وزواله.
فقال له عثمان: (كلِّم الناس في أن يؤجِّلوني، حتى أخرج إليهم من مظالمهم، فقال أمير المؤمنين:
(ما كان بالمدينة): يعني من المظالم التي أخذها على الناس.
(فلا أجل فيه): بل ينبغي توفيره على أهله لقربه، وانفصال الأمر فيه.
(وما غاب): بأن كان في جهات متباعدة.
(فأجله وصول أمرك إليه): بلوغ الكتب، والرسل بإعطائه أهله، وقبضه ممن يستحقه من أربابه.
واعلم: أن هذه الخطبة قد اشتملت على نوعين من أنواع البديع نذكرهما:
فالنوع الأول: يسمى الطباق، وهو ذكرالنقيضين معاً، وهذا كقوله: (أفضل عباد الله)، مع قوله: (أشر عباد الله)، وقوله: (جائر) مع قوله: (عادل)، وقوله: (أحيا سنة) مع قوله: (أمات بدعة)، وقوله: (مجهولة) مع قوله: (معلومة)، وقوله: (هدى) مع قوله: (ضلَّ) فهذه الأمور كلها تكافؤ و طباق.
النوع الثاني: الاستطراد، وهذا كقوله: (وإن الطريق لواضح ، وإن أعلام الدين لقائمة) بعد ذكره حال عثمان، فإنه لا تعلق له بالأول، وإنما وسَّطه على جهة الاستطراد.
(155) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فها عجيب خلقة الطاؤوس
(ابتدعهم خلقاً عجيباً): اخترع هذه الأشكال المتنوعة، والمكونات المختلفة على تقديرات عجيبة، وتأليفات محكمة.
(من حيوان): حساس متحرك بالإرادة، له أوصال وحس وإدراك.
(وموات): لا حياة فيه كالأشجار النامية، والأحجار والجبال وسائر الجمادات.
(وساكن): لا يزول عن موضعه، ولايباين مكانه كالصخور العظيمة.
(وذي حركات): وذي قدرة يتحرك بها، ويتصرف في منافعه.
(وأقام من شواهد البينات): أي أوجد من الحجج الواضحة، والأدلة الظاهرة.
(على لطيف صَنعَتِه): غامضها، ودقيقها.
(وعظيم قدرته): باهرالقدرة.
(ما انقادت له العقول): أذعنت، وأطاعت لجلاله.
(معترفة به): متحققة له.
(ومسلِّمة له): مستسلمة، كما قال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً }[آل عمران:83]، والضمير في قوله: (به) (وله) راجع إما إلىقوله: (ما انقادت له) أي انقادت له عالمة به ومنقادة له، وأراد الأدلة الظاهرة، وإما إلى الله تعالى، والمعنى منقادة لله ومستسلمة له بما أظهر من البراهين القاطعة.
(ونَعَقَتْ في أسماعنا دلائله): النعيق هو: الصوت الذي لا يفهم، ومنه نعق الراعي بغنمه، إذا صاح لها ، وأراد أنها بمنزلة من يهتف بأن لها فاعلاً ومدبِّراً، فهي دالّةٌ:
(على توحيده ): أنه واحد لاثاني له يشاركه في الخلق والإبداع.
(وما ذرأ من مختلف صور الأطيار): ما هذه موصولة، وهي معطوفة على قوله: (ما انقادت له العقول) وهما في موضع نصب على المفعولية لأقام، والذري : الخلق، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً }[الأعراف:179]، والذري: البثُّ، ومنه ذرأ الْحَبَّ إذا وضعه في الأرض، قال الشاعر:
شققت القلب ثم ذرأت فيه ... هواك فَلِيْمَ والتأم الفطور
واختلاف صورالطير ما فيها على اختلاف أنواعها من صغيرلا يدرك بالحس إلا عند تحركه، ومن كبير يعظم حجمه، وما بين ذلك.
(التي أسكنها أخاديد الأرض): الأخاديد: جمع أخدود، وهو: الشق المستطيل في الأرض، قال الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ }[البروج:4] لأنها إنما تسكن حيث تستقر وتمكَّن من إحراز منافعها واستراحتها من ذلك.
(وخروق فجاجها): الفجاج: جمع فجٍّ وهو الطريق الواسع بين جبلين، قال الله تعالى: {مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيقٍ }[الحج:27]، وأراد المخارق التي تكون في الجبال فإنها كثير ما تكون مساكنها فيها تحصيناً عن الأذى، وترفعاً عن كل مخافة.
(ورواسي أعلامها): الرواسي هي: الجبال، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا }[فصلت:10]، والضمير للأرض، والرواسي هي: الأعلام، وهومن باب إضافة الصفة إلى موصوفها، كقولهم: جائبة خير، على تأويل رواسي مواضع أعلامها.
(من ذوات أجنحة مختلفة): من ها هنا لبيان الجنس، واختلاف الأجنحة: في حجمها وألوانها وطولها وقصرها، وغير ذلك من الاختلاف .
(وهيئات متباينة): في ألوانها لا تشبه بعضها بعضاً ولا تتماثل.
(مصرَّفة): مختلفة أحوالها.
(في زمام التسخير): الزمام: الخيط الذي يوصل في أنف الجمل، وجعل هذا كناية عن عظم الاحتكام لأمرالله تعالى، والانقياد لأمره، والتسخير: التذليل ، كما قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ }[ص:36]، وقوله: {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ }[الأعراف:55].
(ومرفرفة بأجنحتها): رفرف الطائر بجناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه، والرفرفة هو كسر الجناح للوقوع:
(في مخارق الجوِّ المنفسح): الفسيحة خلاف الضيق، وأراد الواسع من ذلك، وأراد متنفسات الجوِّ الفسيحة.
(والفضاء المنفرج): الفضاء: المكا ن الخالي، والمنفرج هو: المنكشف الظاهر، يقال: رجل فرج، وهو الذي لا يزال يكشف عورته.
(كوَّنها بعد إذ لم تكن): خلقها بعد أن لم تكن مخلوقة أي أنشأها من العدم، والمعنى خلقها بعد زمان كانت غير كائنة فيه.
(في عجائب صور ظاهرة): حال من الضمير في خلقها، أي قدَّرها في تراكيب معجبة لمن رآها وتأمَّلها.
(وركَّبها في حِقَاق مفاصل محتجبة): الحِقَاقُ هي: الأشياء الصغيرة، ويقال للرجل إذا خاصم في الأشياء الصغيرة: إنه لنزق الحقاق، والمعنى أنه ألفَّها في مفاصل مستصغرة مستترة عمَّن يراها وينظر إليها لصغرها.
(ومنع بعضها بِعَبَالةِ خلقه): رجل عبل الذراعين، إذا كان ضخمهما، وفرس عبل الشَّوى غليظ القوائم، وأراد أنه أكبر بعض أجسامها، وضخَّمه فحجزه عن:
(أن يسمو في السماء خُفُوفاً): فيه روايتان:
أحدهما: أن يكون بالفاء، من قولهم: خف في حاجته إذا أسرع فيها، وأراد علوها على الأرض، وسموها في الجوِّ مسرعة.
وثانيهما: بالقاف، من قولهم: خفق الطائر إذا طار، وخفق إذا حرَّك جناحيه، والمعنى أنه منعها لضخامة أجسامها عن التحليق في جوِّ السماء.
(وجعله يَدِفُّ دَفيفاً): دفَّ الطائر إذا دنا في طيرانه إلى الأرض كالنسر، وما أشبهه في الكبر والفخامة.
(ونسقها على اختلافها في الأصابيغ): نسق الكلام إذا عطف بعضه على بعض ورصفه، وأراد ها هنا أنه ضمَّ إلى كل صبغ ما يليق به وتروق نضارته من مخالفه أو مماثله ويحسن في أعين النظار.
(بلطيف قدرته): على فعل ذلك.
(ودقيق صنعته): على إحكامه وإتقانه ، والأصابيغ: جمع أصباغ، جمع صبغ، وهي الألوان المختلفة.
(فمنها): الضمير للطيور.
(ما هو مغموس في قالب لون): غمسه في الماء فانغمس، إذا غطسه فيه، وأراد أن منها ما هو شامل له لون صرف من بياض خالص يَقق ، وهي طيورتكون بتهامة كأنهنَّ قطع العُطْبِ في البياض، أو سواد خالص كالغراب وماشاكله فهذه مختصة بلون خالص.
(لا يشوبه): يختلط به.
(غير لون ما غُمِسَ فيه): من سواد أو بياض.
(ومنها ما هو مغموس): مغطوس.
(في لون صبغ): من الأصابيغ المختلفة.
(قد طُوِّق): جعل له طوقاً في عنقه.
(بخلاف ما صبغ به): كالحمام، والقمري، والحجل، والقطا، وغير ذلك من ذوات التطويق بألوان تخالف سائر ألوانها.
(ومن أعجبها خلقاً): أبدعها في الخلق، وأغربها في الإحكام والصنعة:
(الطاؤوس): وهو نوع من أنواع الطير، وطاؤوس أيضاً مخنث كان بالمدينة، وفي المثل: أشأم من طاؤوس .
ويحكى عنه أنه قال: يا أهل المدينة، توقعوا خروج الدجال ما دمت حياً بين أظهركم، فإذا متُّ فقد أمنتم؛ لأني ولدت في الليلة التي مات فيها رسول الله، وولد لي في اليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين، وفطمت في اليوم الذي مات فيه أبو بكر، وبلغت الحلم في اليوم الذي قتل فيه عمر، وتزوجت في اليوم الذي قتل فيه عثمان، وكان يسمى عبد النعيم.
وقال في نفسه:
إنَّني عبد النعيم ... أنا طاؤوس الجحيم
Text Box: أنا أشأم من يمشي ... على ظهر الحطيم
(الذي أقامه في أحكم تعديل): أراد ركَّبه في قوامه واعتداله على أعدل صورة وأعجبها، ولم يجعله من الطير الصغار فَيُسْتَحْقَرُ وتزدريه الأعين، ولا جعله من الطيرالعظيمة الخلق فيجفو وَيُسْتَشْنَعُ، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[التين:4]، إشارة بذلك إلى قوام الخلق وتعديله في تسوية الأعضاء وتركيبها أحسن تركيب مطابقة لأحكام المنفعة.
(ونضَّد ألوانه): جعل بعضها على بعض، من قولهم: نضَّد متاعه إذا جعل بعضه على بعض، أي رصَّف ألوانه مزج بعضها ببعض، وقوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ }[الواقعة:29]، أي أن ثمره نضد من أسفله إلى أعلى، فليس له ساق ظاهرة.
(في أحسن تنضيد): أعجب ترصيف لما يظهرفيها للأعين من الرقة واللطافة وعجيب المرآى.
(بجناح أشرج): الباء هذه متعلقة إما بنضَّد، ويكون من جملة التنضيد حسن الجناح، وإما بأحكم ويكون من جملة الإحكام أيضاً، وكله جيد، وتعلقها تعلق الأحوال أي موصولاً بجناح أشرج، فيه روايتان:
أحدهما: أن يكون بالشين بثلاث من أعلاها، أي منضد مرصوف، من قولهم: لبن أشرج، وشرجت اللبن إذا نضَّدته.
وثانيهما: أن يكون بالسين بثلاث من أسفلها أي بجناح حسن، من قولهم: أسرج الله وجهه إذا حسَّنه، وكلاهما محتمل ها هنا؛ لأن قصب ريشه وقوائمه مستوية منضودة، وهي أيضاً في غاية الحسن والنضارة.
(قصبه): إما نضَّدها وإما حسَّنها ، كما ذكرنا من التفسيرين في أشرج.
(وذَنَبٍ أطال مسحبه): أي أطاله فهو يجرُّه على الأرض ويسحبه عليها من طوله.
(إذا درج على الأنثى): لأن يسفدها .
(نشره من طيِّه): من ها هنا لابتداء الغاية، وأراد نشره بعد أن كان مطوياً مضموماً إلى جوانحه.
(وسما به): قوَّسه ورفعه.
(مُطلاً على رأسه): إما مشرفاً على رأسه، من قولهم: أطل برأسه إذا أشرف به بالطاء بنقطة من أسفلها، وإما بالظاء بنقطة من أعلاها، من قولهم: أظل رأسه إذا جعل عليه الظلة، وأراد أنه إذا نشره من طيه أشرف على رأسه إذا جعله كالظلة يستظل به من حرِّ الشمس.
(كأنه قَلْعُ داريَّ): القلع: شراع السفينة، وهو شيء يستعمل من الحصير يرد الريح عن النفوذ في جهتها تجري بها السفن، ودارين: فرضة بالبحرين يحمل إليها المسك من ناحية الهند ، وتؤخذ منها هذه الأقلاع للمراكب في البحر.
(عَنَجَه نوتيُّهُ): والنوتيَّ هو: الملاح، وعنجه إذا عطفه؛ لأن الشِّراع إذا كان مطوياً ثم نشره [يرد الريح عن صوب جريانها النوتي، فقد عطف ما كان منه مطوياً إلى نشره] وبسطه.
(يختال بألوانه): اختال الرجل إذا كان ذا خيلاء وكبر ، قال الشاعر:
فإن كنت سيدنا سُدتَنا ... وإن كنت للخال فاذهب فَخَلْ
أي إن كنت سيدنا فعلت ما تقتضيه السيادة من التواضع والرفق بنا ، وإن كنت متكبراً فاذهب عنا، والباء هذه للحال أي يختال متلوناً.
(ويميس بِزَيْفَانه): يميل جانبيه متبختراً، والزيفان: التبختر، والباء للحال أيضاً، إذا أراد سفاد أنثاه:
(يفضي كإ فضاء الديكة): يباشرها مباشرة الديكة ويخالطها مثل تلك المخالطة، من قولهم: أفضى الرجل إلى امرأته إذا باشرها وخالطها.
(ويأرُّ بملاقحه أرَّ الفحول المغتلمة للضِّرابِ ): الأرَّ: النكاح، وأرَّ المرأة يأرُّها إذا نكحها، ولقحت الناقة إذا حملت، واغتلم الفحل إذا هاج للضراب، والمعنى في هذا أنه ينكح فتلقح أنثاه، كما تفعله الفحول من الإبل، ويغتلم كاغتلامها وهياجها على أنثاه.
(أحيلك): من قولهم: أحال غريمه بالدين.
(من ذلك): الإشارة إلى المذكور من عجائبه وغرائبه.
(على معاينةِ): ما تشاهده من تلك المعاني الظاهرة، والإحكامات الباهرة، في خلقه ولونه.
(لا كمن يحيل على ضعيف إسناده): ليس كمن يحيل على خبر يضعف إسناده، ويكذب مخبره ، و((ليس الخبر كالعيان)) ، وأراد أحيلك في كونه ملقحاً لأنثاه كإلقاح الفحول على ما يشاهد من حاله ويدرك بالبصر لا كمن يقول خلاف ذلك.
(ولو كان كزعم من يزعم أنه يُلْقح بدمعة تسفحها): يفيضها.
(تنشجها مدامعه): تظهرشيئاً بعد شيء.
(فتقف في ضفتي): الضفة بالضاد بنقطة هي: جانب النهر.
(جفونه): جفن العين: غطاؤها.
(وأن أنثاه تطعم ذلك ثم تبيض): تأخذه من جفن عينيه بمنقارها ثم تبيض من ذلك.
(لا من لقاح فحل سوى الدمع المنبجس): الظاهر من جفونه، من قولهم: انبجس الجرح إذا ظهر قيحه.
(لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب): أراد أن إلقاحه لأنثاه إنما هو بما ذكرناه كإلقاح الفحول المغتلمة بإيلاج ذلك منه في ذلك منها، وهذا هو الظاهر من حاله، ثم لو سلمت خلاف ذلك وليس بأعجب من مطاعمة الغراب لأنثاه، وفي الإتقان والصنعة ودقيق الحكمة فإنه يقال: إن الغراب لا يبيض ولا يفرخ إلا بالمطاعمة دون السفاد، وصورتها أن يدخل أحد الغرابين منقاره في منقار الآخر، كأنه يزقُّه فتلقح الأنثى من أجل ذلك وتبيض.
(تخال قصبه): أصول ريشه التي تتصل بها صفائح الريش عن يمينها وشمالها.
(مَدَاريَ من فضة ): الْمِدْرَى: شيء تصلح به الماشطة قرون النساء يشبه الْمِسَلّة من فضة في بياضها، ودقتها واستطالتها.
(وما أنبت عليها): الضمير للقصب أي وما استقر عليها.
(من عجيب دَاَرَاتهِ): تدويرالنقوش.
(وشموسه ): ما بين دارة خضراء ودارة حمراء.
(خالص العقيان): مفعول ثاني ليخال، والعقيان: ما وجد من الذهب خالصاً عن الخلط والغش.
(وفلذ): جمع فلذة، وهي: القطعة الواحدة من اللحم والكبد.
(الزبرجد): من أنواع الجواهر، يريد ما كان منه في تلك الدارات [أحمر فهو يشبه الذهب الأحمر، وما كان منها أخضر فهو يشبه الزبرجد هذا إذا] شبه بهذه الأحجار الجوهرية.
(فإن شبَّهته بما أنبتت الأرض): من أزهارها ونباتها.
(قلت: جنيٌّ جُنِي): هذا زهر جني، أخذ:
(من زهرة كل ربيع): في رونقه وغضارته، وحسن بهجته وطلاوته، ما بين أحمر قاني وأخضر ناضر، هذا إذا شبَّهته بهذه النباتات الأرضية، والزهور الوردية.
(وإن ضاهيته بالملابس): بما يلبس من رقيق الثياب وغاليها، والمضاهاة: المشابهة.
(فهو كموشِيِّ الحلل): المخلوط بالألوان المختلفة، و الصباغات الأنيقة، والحلل: جمع حُلَّة وهو شيء من رقيق الثياب الحريرية وأغلاها.
(أو مُونِقِ عَصْبِ اليمن): المونق: المعجب، والعصب: ضرب من برود اليمن بيض، ولهذا يقال في قطع السحاب البيض: عصب، هذا إذا ماثلته بهذه الثياب الموشية.
(وإن شاكلته بالحلي): بما يصنع من أنواع الحلي المركبة.
(فهو كفصوص ذات ألوان ): قطع من الجوهر .
(قد نُطِقَت): أدير حولها وجعلت في الوسط.
(باللجين المكلل): بالفضة، والمكلل: المحفوف، يقال: روضة مكللة أي محفوفة بالأنوار، فانظر إلى هذه التشبيهات ما أرقَّها، وأكثرها ملاءمة لما شبِّهت به وأوقعها مما قرنت منه، وحقيقة التشبيه هو: إنما يقع بين مشتركين في معنى واحد أو معاني ، وليس المرادمن ذلك الاجتماع في كل المعاني إذاً لكانا شيئاً واحداً، وقد أكثر الله التشبيهات في كتابه الكريم، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ }[الصافات:49]، وأراد في الصفاء والرِّقة، وقوله: {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ }[الطور:24]، وقوله تعالى: {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ }[النور:35]، وقوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ }[الرحمن:58]، وله قدم راسخة في البلاغة.
(يمشي مشي المَرِح المختال): يخطر إذا مشى خطور الفرح النشيط المتبختر والمرح هو: النشاط والسرور، قال الله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً }[الإسراء:37].
(ويتصَّفح ذَنَبَهُ وجناحه فيقهقه): القهقهة: الاستغراق في الضحك، قال رؤبة:
أَقَبٌّ قهقاه إذا ما قهقها
أراد أنه إذا ما نظر في جناحه وَذَنَبِهِ أغرق في الضحك والقهقهة.
(ضاحكاً): حال من الضمير في قهقه إعجاباً وسروراً.
(بجمال سرِباله): تفسير لتصفحه لِذَنَبِهِ.
(وأصابيغ وشاحه): تفسير لتصفحه لجناحه، نزَّلهما عليه السلام منزلة السربال، والوشاح: من الملبوسات، والوشاح: طوق ينسج من الأدم يرصَّع بالجواهر واللآلئ وأنواع الياقوت، تشدُّ به المرأة ما بين العاتق والكشح .
(فإذا رمى ببصره إلى قوائمه): طلع إلى رجليه ونظر إليهما وتصفحهما لما تصفح جناحه وذنبه.
(زقا مُعْولاً): صاح، تقول: زقا الديك يزقو زقاً إذا صاح، وهو بالزاي والقاف، ومنه المثل: أثقل من الزواقي وهي الديكة؛ لأنها تفرّق السُّمار عند صياحها؛ لأنهم كانوا يسمرون فإذا صاحت تفرَّقوا، والإعوال: رفع الصوت، وفي الحديث: ((المعول عليه يعذب )) .
(بصوت): يعني صوتاً حزيناً لما يلحقه من الغمِّ برؤيتها.
(يكاد يُبيِنُ عن استغاثته): يطلب الاستغاثة عن أن تكون متصلة به، وتكون بعض أطرافه لمخالفتها لسائر جسمه.
(ويشهد بصادق توجعه): بأسفه على ذلك.
(لأن قوائمه): رجليه الذي يقوم عليهما.
(حمش): دقاق، وامرأة حمشاء إذا كانت دقيقة الساقين.
(كقوائم الدِّيَكَةِ الخلاسيَّة): قيل: الهندية، وقيل: الخراسانية، وهو ضرب من الدِّيَكَةِ على هذه الهيئة.
(وقد نجمت): أي ظهرت، يقال: نجم قرن الماعز إذا بدا وظهر.
(من ظُنْبُوب ساقه): الظنبوب هو: العظم اليابس في قدم الساق.
(صِيصٍيَة خفَّيه): الصيصية هي: شوكة الحائك، وصيصية الديك هي: شوكة رجله.
(وله في موضع العُرف): موضع العرف هو: الرقبة من الفرس، وأراد ها هنا مؤخر الناصية، وسماه عُرفاً لاتصاله بالناصية.
(قُنْزَعةٌ): شعر ملتف.
(خضراء): لونها أخضر كأنها زبرجدة.
(موشَّاة): مخلوطة بأنواع الأصابيغ تميل إلى الخضرة.
(ومخر ج عنقه كالإبريق): لشدة مغرزه وحسن قوامه، شبهه بالإبريق في طوله واستقامته، والإبريق هو: إناء من صُفْر أو غيره طويل الرقبة.
(ومغرزها إلى حيث بطنه): أراد أنها ظاهرة، والضمير للعنق لأنه مما يذكَّر ويؤنث، وهي ملتصقة ببطنه:
(كصبغ الوسمة اليمانية): الوسمة بالسين بثلاث من أسفلها وكسرها، هي: صبغ أسود يقال له: العظلم، وأراد ها هنا أن أصل العنق أسود يشبه هذا الصبغ.
(أو حريرة ملبسة مرآة ذات صقال): أو قطعة من حرير قد وضعت على مرآة صقيلة قد أزيل طخاها فهي في غاية الصقالة.
(وكأنه متقنِّع بمعجرٍ أسحم): التقنع: لبس القناع، وأراد أنه لما يلحقه من السواد في عنقه كأنه لابس لمعجر أسود، والسحمة هي: السواد، قال الأعشى:
رضيعي لبان ثدي أمٍ تخالفا
بأسحم داج عوض لا يتفرق
والقناع: ما تغطي به المرأة رأسها وهو أوسع من المِقْنَعُه.
(إلا أنه يخَّيل لكثرة مائه): استثناء منقطع، أي لكن التخيل حاصل من أجل ما يلحقه من كثرة الماوية والرونقة، والضمير للطاؤوس.
(وشدة بَرْيِقهِ): لمعانه.
(أن الخضرة الناضرة): الخالصة .
(ممتزجة به ): بسواد، وأراد أن الخضرة لما يلحقها من المائية، وشدة الرونقة ربما يظنُّ الظانُّ والرائي لها أنها ممتزجة بسواد، ولهذا قال:(كأنه متقنع بمعجر أسحم) يشير إلى ذلك.
(ومع فتق أذنه ): ويصاحب شق أذنه.
(خط كمستدق القلم): خط دقيق يشبه جري القلم في دقته.
(في لون الأقُحوان): وهو شجر طيب الرائحة مشتمل على لونين، فالظاهر منه ورق أبيض شديد البياض، ووسطه أصفر شديد الصفرة، يغلو في التشبيه [به] الشعراء في لونيه، وأراد هاهنا ورقه الظاهر، ولهذا قال:
(أبيض يقق): شديد البياض.
(فهو في بياضه في سواد ما هنالك): يعني فالخط بما يلتصق به من البياض فيما يقترن به من سواد الرقبة المجعول فيها، وهنالك إشارة إلى الأمكنة.
(يأتلق): أي يلمع، ومنه تألق البرق هو: لمعانه، أي يلوح سواده مع بياضه.
(وقلَّ صِبغ): من جميع ألوان الأصباغ كلها.
(إلا وقد أخذ منه بقسط): أخذ منه بعضاً، [والاستثناء] هذا مفرغ في الصفات الجملية، كقولك: ما جاءني زيد إلا وهو ضاحك، قال الله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ }[الشعراء:208] ويرد في المفردات، كقولك: ما جاءني زيد إلا ضاحكاً.
(وعلاه): وزاد عليه باختصاصه.
(بكثرة صِقَاله وبَرِيْقهِ): بما يلاصقه من تلهبه بكثرة الصقال، وما يلوح فيه من البريق.
(وبصيص ديباجه ورونقه): نور جماله وحسنه، وما يظهرفيه من الطلاوة والنضارة المعجبة، فهو كا لديباج من الحرير المخلوط في نسجه باللجم المختلفة.
(فهو كالأزاهير المبثوثة): المتفرِّقة من أنواع مختلفة غضَّة طريَّة ناعمة.
(لم تُرَبِّها أمطار ربيع): الريب: ما رابك من كل أمر، وأراد أنها لم تغيِّرها عمَّا لحقها من النعومة والطلاوة أمطار الربيع فتغيرها عن حالتها؛ لمايلحقها من برد وعصف ريحه.
(ولا شموس قيظ): ولا لحقها ذبول بسبب حرشمس القيظ، وهو أشد ما يكون من حرارة الشمس في القيظ، وأراد أنها لصفائها وعظم رونقها تشبه الأزهار عند خروجها من أكمامها، لم يلحقها تغيِّر في حال.
(وقد ينحسر من ريشه): يزول، من قولهم: حسر عن وجهه اللثام إذا أزاله .
(ويَعْرَى من لباسه): ويسقط عن أن يكون لباساً له أو يكون متصلة به.
(فيسقط تترى): إما فَعَلَى من التواتر، وتاؤها بدل من واو، وانتصابها على الحال، وإما تَفْعَل وتكون التاء زائدة، وأراد أنها تسقط واحدة بعد واحدة.
(وتنبت تباعاً): تنشر متتابعة.
(فينحتُّ من قصبه): أراد أنها ملصقة بقصب الريش، وهو العمود الذي يكون في وسطها، فيزول منها بالسقوط.
(انحتات أوراق الأغصان): يعني كما تسقط الورقة من غصن الشجرة إذا عرض لها عارض يوجب انحتاتها.
(ثم يتلاحق نامياً): ثم يتدارك ما سقط بأن ينمو عوضه، ويخلفه غيره.
(حتى يعود كهيئته قبل سقوطه): في التمام والكثافة والإعجاب.
(لا يخالف سائر ألوانه): عند بدوه واستكماله في النبات.
(ولا يقع لون في غير مكانه): فيؤدي ذلك إلى الاختلاف والتباين.
(وإذا تصَّفحت شعرة من شعرات قصبه): بالنظرالصحيح والفكر الصافي.
(أرتك): إسناد الرؤية إليها مجاز، والغرض رأ يت عند إبصارك لها.
(حمرة وردية): تشبه لون الورد في اختلاط حمرتها ببياض مثل لون الورد، أو حمرة قانية لا لبس فيها بغيرها مثل لون الورد الأحمر.
(وتارة خضرة زبرجدية): مثل لون الزبرجد وهو: نوع من أنواع الجواهر شديد الخضرة.
(وأحياناً صفرة عسجدية): العسجد هو: الذهب، وأراد أنها تشبه لون الذهب في اصفرارها، فهذه الألوان كلها حاصلة في ريشة واحدة من ريشه، فإذا صوبت النظر وقررت البصر إلى واحد من هذه الشعرات، أرتك هذه الألوان لإقبالك عليها، ووجودها كلها في الشعرة الواحدة.
(وكيف تصل إلى صفة هذا): الطير من الحيوانات.
(عمائق الفطن): عميق الشيء: قعره وأقصاه، والفطنة: الفهم.
(أو تبلغه قرائح العقول): والقريحة: جودة الطبع، وصفاء الذهن، وصحة الغريزة.
(أو تستنظم وصفه): تطلب نظمه وتأليفه.
(أقوال الواصفين): على ما اشتمل عليه من هذه البدائع، واستولى عليه من هذه الحكم.
(وأقل أجزائه): شعرة من شعرات ريشه.
(قد أعجز الأوهام): العقول التي هي طريق للوهم.
(أن تدركه): تقع على كُنْهِ حقيقته.
(والألسنة أن تصفه): بالأقوال وتحرز كُنْه أوصافه، وإذا كان بعض أجزائه غير مدركة حقيقة، فمجموعها أبعد عن ذلك.
(فسبحان الذي بهر العقول): تنزه عن الإحاطة بجلاله، وبهرالعقول أي غلبها بتعاليه عن إحاطتها وقهرها.
(عن وصف خلق): من مخلوقاته وهوالطاؤوس.
(جلاَّه للعيون فأدركته): أظهره للأبصار فهي تراه كما ترى سائر المدَّركات.
(محدوداً): بحدود.
(مكَّوناً): مخلوقاً بعد أن لم يكن.
(ومؤَّلفاً): من أجزاء وأبعاض وأوصال.
(ملوناً): بهذه الأصابيغ العجيبة.
(وأعجز الألسن): أخرسها عن الإحاطة به وأفحمها.
(عن تلخيص صفته): بيانها وتحصيلها.
(وقعد بها): العجز.
(عن تأدية نعته!): إيجاده وإيقاعه في الوجود.
(سبحان من أدمج قوائم الذَّرَّة): ألَّفها تأليفاً منتظماً مدمجاً بعضه إلى بعض مدوراً ملساً ليس مضرساً.
(والهَمَجَة): وهي: ذباب صغير دون البعوضة.
(إلى ما فوقها من خلق الحيتان والفيلة!): وإنما ذكرها وخصَّها لاختصاصها بالكبر من بين سائر الحيوانات، هذا من حيوان البر، وهو أكبرها أعني الفيل، وهذا من حيوان البحر فإن بعض الحوت يختص بخلق عظيم.
وحكى ابن هشام في سيرته: أن الرسول عليه السلام بعث أبا عبيدة بن الجراح في سرية، وزودهم جراباً من تمر فأكلوه حتى نفد، حتى لقد كان قدر قوت واحد منهم تمرة واحدة كل يوم، فلما فرغ ذلك أجهدنا الجوع، فأخرج الله لنا دابة من البحر فأكلناها وسمنا عليها، فأخذ أميرنا ضلعاً من أضلاعها، فوضعها في طريقه ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منَّا فجلس عليه ثم خرج من تحتها، وما مست رأسه ، وغير ذلك من المخلوقات العظيمة.
(ووأى على نفسه): الوأي: الوعد، وتعديته بعلى حملاً علىالمعنى، كأنه قال: كتب على نفسه، وأقسم عليها، كما قال تعالى {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ }[الأنعام:12].
وفي بعض النسخ: (ورأى على نفسه): أي علم من حالها، وسبق ذلك في اللوح المحفوظ.
(ألا يضطرب): يتحرك وينصرف ، يميناًوشمالاً.
(شبح): من هذه الأشباح كلها.
(ممَّا أولج فيه الروح): الذي يكون قواماً لجسمه، وسبباً لتصرفه.
(إلا وجعل الحِمَام موعده!): الحمام بالكسر هو: قدر الموت، والموعد زمان الوعد، أي هو الوقت الذي لا يتجاوزه.
(والفناء غايته): التي يصل إليها.
وأقول ها هنا: إذا كان كلام أمير المؤمنين مؤذن بأن خلقة الطاؤوس على حقارتها وضعفها بالإضافة إلى المخلوقات الباهرة لاتنال، فكيف حال خالقها، إذاً نكون على الوقوف على حقيقته أبعد، وضَعُفَ بما ذكرناه كلام من زعم أن حقيقة ذات الله معلومة للبشر، كما حكينا عن المعتزلة وغيرهم.
ثم عقَّب ذلك بذكر حال الجنة وصفاتها بقوله:
(فلو رميت ببصر قلبك): أراد نظرت وتفكرت بقلبك.
(نحو ما وصف لك): إلى ما وصف الله في كتابه الكريم، وورد على لسان نبيه الرحيم.
(لعَزفتْ نفسك): أي زهدت، يقال: عزف نفسه عزوفاً في كذا إذا زهد عنه.
(عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها): إعراضاً عنها، وشوقاً إلى لقاء ما هو أغلى منها وأنفس.
(ولذاتها): جمع لذة وهو: ما يلذُّ الإنسان ويعجبه.
(وزخارف مناظرها): جمع منظر وهو: ما تروق النفس إليه وتشتهيه.
(ولذَهِلت بالفكر): تحيرت متفكراً.
(في اصطفاق أشجار): في الأشجار التي تصفقها الريح أي تحركها.
(غيِّبت عروقها في كثُبان المسك): أدخلت عروقها فغابت عن الرؤية، الكثيب هو: العمود من الرمل.
(على سواحل أنهارها): شواطئها وجوانبها.
(وفي تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب): كبائس: جمع كباسة، وهو العذق من التمر بمنزلة العنقود من العنب.
(في عساليجها): واحدها عسلوج وهو: الغصن الواحد من الشجر.
(وأفنانها): واحدها فَنَن وهو: الشمراخ الواحد، قال الله تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ }[الرحمن:48].
(وطلوع تلك الثمار مختلفة): في هيئاتها، وطعومها، وأجناسها.
(في غلف أكمامها): الغلف جمع غلاف، وهو: غطاء القارورة، والكمامة، والكِمِّ بكسر الكاف وهو: وعاء الطلع وغطاء النور الذي يكون فيه.
(تُجنى من غير تكلف): صعوبة ولا عسرة على جانيها.
(فتأتي على منية مجتنيها): على وفق إرادته وشهوته.
(ويطاف على نزُّالها): الضمير للمناظر، وهي: المساكن المتقدم ذكرها.
(في أفنية قصورها): ساحاتها وجوانبها.
(بالأعسال المصفقة): تصفيق الشراب: تحويله من إناء إلى إناء ليبقى الصافي منه.
(والخمور المروَّقة): راق الشراب يروقه روقاً أي صفا، والمروَّقة: المصفَّاة.
(قوم): أي هم قوم.
(لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلوا دار القرار): تمادى في فعله إذا فعله مرة بعد مرة، وأراد أنهم ما زالوا يكرمون بأنواع الكرامات، وتُحَفِها وَطُرَفِها إلى أن كان منتهاها وغايتها استقرارهم في الجنة وتوطّنهم لها.
(وأمنوا نُقَلَة الأسفار): عن أن يكونوا منتقلين عنها، كما ينتقلون في أماكن الأسفار.
(فلو شغلت قلبك أيها المستمع): لما نحكيه من هذه الأوصاف، ونذكره من هذه العجائب.
(بالوصول إلى مايهجم عليك): يرد عليك نعته وصفته.
(من تلك المناظر المونقة): المعجبة بنضارتها.
(لزهقت نفسك شوقاً): تعجلت نفسك شوقاً.
(إليها): إلى لذاتها وعجائبها وَطُرَفِها.
(ولتحملت من مجلسي هذا): نهضت منه.
(إلى مجاورة أهل القبور): أراد إلى الموت؛ لأنه لا يمكن الوصول إليها إلا بانقطاع التكليف، وذلك لا يحصل إلا بالموت.
(استعجالاً بها ): طلباً للعجلة إليها.
(جعلنا الله وإياكم ممن يسعى بقلبه): بالا جتهاد في الأعمال الصالحة لِيَعْبُرَ بها:
(إلى منازل الأبرار برحمته): في الجنة بلطفه الموصل إلى رحمته، وكريم مغفرته.
(156) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها بني أمية
(ليتأسَّ صغيركم بكبيركم): الأسوة هي: القدوة، وأردا أن الصغيرمنكم عليه الا قتداء بالكبير في أفعاله وأعماله من الخير، واصطناع المعروف.
(وليرأف كبيركم بصغيركم): أراد أن الكبير عليه الرأفة بالصغير، وإنما خصَّ التأسي بالصغير لأن الكبير هو أحق بالاقتداء، لما تقدم له من الخبرة والسبر للأحوال كلها، وظهور الحنكة في حاله، وإنما خص الرأفة بالكبير لأنه أحق بها لضعف حالة الصغير فهو أولى لا محالة بها، وهذا هو الذي ورد به الشرع وامتاز به المسلمون عن غيرهم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }[الحجرات:10]، وفي الحديث: ((المسلمون كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) .
(ولا تكونوا كجُفاة الجاهلية): كأهل الجفاء المختصون به من بين سائر الخلائق، وهم عبدة الأوثان والأصنام من العرب، وبيان جفائهم هو أنهم:
(لا في الدين يتفقهون): فقه الشيء إذا فهمه، أي أنهم لا يفهمون شيئاً من أمورالدين، ولايعرفون طرفاً من أحواله.
(ولا عن الله يعقلون): ما يصلحهم مما أَبْلَغَهُمْ إياه من أحوال الشرائع وتعريف الألطاف [الخفية] ، ومثلهم فيما هم عليه من الغفلة عن الله، وعدم التفقه والتعقل عن الله:
(كقيض بيض في أداحٍ ): القيض هو: القشر الأعلى من البيضة، والأداح: جمع أدحى وهو: موضع تفريخ النعامة، ومدحاها: موضع بيضها، ويقال: أدحى أيضاً على وزن أفعول لموضع مراحها أيضاً، لأنها تدحوه برجلها تبسطه وتفرخ فيه وليس لها عش كالطائر.
(يكون كسرها وزراً، ويخرج حضانها شراً): أراد أن البيض التي تكون في الأداحي ليس يخلو حالها، إما أن يكون للنعامة فإن كسرته كان عليك وزراً، إذ لاوجه يتيح كسره بغير غرض فيه، وإن كان ذلك البيض للحية وترك عن الكسر خرج حضانها شراً؛ لأنه يكون حيات، فهو لا يخلو عن هاتين الحالتين، فهكذا يكون حال جهَّال الجاهلية الذين يتعلمون أحكام الدين ممن يعلِّمهم، ولا يريد الله تعالى تعلّمهم ويخذلهم عن إدراكه؛ لإعراضهم عنه، إن قتلتهم فلا يعرى قتلهم عن إثم لتلبسهم بالإسلام، وإن تركتهم فلا ينشأ منهم إلا الشر والفتنة، كالبيض في الأداحي، ثم ذكر الأمرالذي جرى على بني أمية:
(افترقوا بعد ألفتهم): في أيام خلافتهم، يقال: ألف هذا الشيء إلْفاً وإلافاً إذا غري به وعشقه، والاسم فيه الألفة.
(وتشتتوا عن أصلهم): الذي كان يجمعهم، وهو أمرهم واستحكام الدولة لهم.
(فمنهم آخذ بغصن): يعني أن بعضهم يعتمد على غيره، ويتكل عليه، لما تفرَّقوا في البلاد ومزقوا كل ممزق التجأوا إلى غيرهم، واستندوا إليه وتمسك كل واحد منهم بغيره .
(أينما مال مال معه): حيث كان لا يستقل بنفسه، ولا يجد له ملجأً سوى تمسكه به، فلهذا كان واقفاً على حسب إرادته يكون حيث كان ويقع حيث وقع.
(على أن الله تعالى سيجمعهم لشر يوم لبني أمية): على هذه متعلقة بأمر محذوف تقديره أمرهم هذا زائد على جمع الله لهم لشر يوم، يريد أنهم وإن تفرقوا في البلاد وتبددوا [فيها] فإن الله تعالى يجمعهم ليوم عظيم، وهو يوم كان هرب مروان الحمار، وهزم عسكره وفرق جيشه .
(كما تجتمع قزع الخريف): القزع: قطع من السحاب رقيقة؛ لأنها في أيام الخريف تجتمع من كل ناحية.
(يؤلف الله بينهم): لمايريد بذلك من عذابهم، والنكال بهم.
([ثم] يجعلهم ركاماً): الركام هو: السحاب المتراكم الذي يكون بعضه على بعض.
(كركام السحاب): المترادف يركب بعضه بعضاً؛ لكثرته وعظمه، وأراد أنه يجمعهم حتىيكونوا خلقاً عظيماً متكاثفاً.
(ثم يفتح الله عليهم أبواباً): من أنواع بلائه، وعظائم نقماته لا تسدُّ عنهم ولا تغلق حتى يقضي الله فيهم أمره بالانتقام وقطع الدابر.
(يسيلون): يرتحلون .
(من مستثارهم): فيه روايتان:
أحدهما: بالثاء بثلاث من أعلاها، وأراد من حيث أزعجوا عن أماكنهم التي كانت لهم مستقراً ومستوطنات، أخذاً من قولهم: استثارالناقة أي أزعجها للنهوض.
وثانيهما: بالشين من أعلاها وأراد من المواطن التي نعموا فيها وسمنوا، أخذاً من قولهم: استشارالبعير إذا سمن.
(كسيل الجنتين): في الإسراع، يشير بها إلى ما كان من تغيير أحوالهم، وهربهم إلى بلاد الأندلس.
وحكي أن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك هرب إليها، وأقام هو وعقبه فيها مدة طويلة، وتابعه أهلها، ثم هلكوا هنالك شاردين عمَّا كانوا فيه من الخلافة والملك، فمثلهم فيماأصابهم بمافعل الله بسبأ لما طغوا وبغوا وأرسل عليهم سيل العرم فتفرقوا في البلاد، كما قال الله تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ }[سبأ:19] وضرب بهم المثل في التفرق، فقيل: تفرقوا أيدي سبأ، وسبب ذلك أن بلقيس جعلت عليهم سداً ما بين الجبلين، وسددته بالبناء الأكيد، وكان يجمع الأمواء من العيون والأمطار، وتركت فيه خروقاً يأخذون الماء منها على قدر حاجتهم في السقي فلما كفروا وطغوا وبغوا، أرسل عليهم الجرذ فنقبه، فأغرقهم به ، والجنتان هما ما حكاه الله تعالى في قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ }[سبأ:15]، وكل واحدة منهما مشتمل على عدة كثيرة من البساتين، ولم يرد بساتين؛ وإنما أراد الشطين العظيمين عن يمين وشمال، فأرسل الله عليهم من السيل ما غيَّر ذلك كله وهدمه.
(حيث لم تسلم عليه قارّة ): القارَّة بتشديد الراء هي: الحفير الذي يستقر فيه الماء، أي لم تسلم عن الخراب والهدم.
(ولم تثبت له أكمة): تردَّه عن النفوذ لقوته، وشدة أمره.
(ولم يَرُدُّ سَنَنَهُ): السنن: وجه الشيء الذي فيه يتوجه، يقال: جاء من الجبل ما لايرد سننه أي وجهه.
(رصُّ طود): الرصُّ: إلصاق البنيان بعضه ببعض، والطود هو: الجبل العظيم.
(ولا حِداب أرض): الحداب جمع حدب، وهو: ما ارتفع من الأرض، والمعنى في هذا أن السيل لقوتة، وفخامة حاله، لم ترده عما هو فيه الأطواد العظيمة من الجبال ولاالأكام الواسعة الطويلة، كما في سائر السيول التي أريد بها الرحمة، فأما ما أريد به النقمة والعذاب، فلا يدٌ لأحد تدفعه، فنعوذ بالله من قضائه النافذ، وقدره السابق!.
(يذعذعهم الله): أي يفرِّقهم، والذعذعة: التفريق، بذال منقوطة من أعلا ها، والضمير لبني أمية:
(في بطون أوديته): الضمير لله أو للسيل.
(ثم يسلكهم ينابيع في الأرض): إما جعلناهم متفرقين في الأوديه التي ينبع منها الماء هرباً وتشريداً، وإماأدخلناهم في بطون الأودية قتلاً وموتاً، من قولهم: سلكته في الأرض فانسلك أي أدخلته فدخل، وكل ذلك قدفعله الله بهم، ويحتمل أن تكون هذه الضمائر لسبأ، وحكاية ما فعل الله بهم لما أهلكهم بالسيل، وتمثيل حال بني أمية بحالهم في ذلك، إياك أعني فاسمعي يا جارة.
(يأخذ بهم من قوم حقوق قوم): أي من كان عندهم له حق أخذ منهم.
(ويمكّن لقوم في ديارقوم): ومن كان له قِبَلَهم ثأرأدركه في حقهم لما صاروا إليه من الذل والهوان، فكل واحد ممن قهروه يتذكر ما كان عليهم له فيأخذه منهم، إذ لا يخاف فيهم مكر ولا يخشى من جهتهم سطوة، ويحتمل أن يكون هذا على جهة العموم، والمعنى أن الله تعالى جعل الأيام مداولة بين الخلق فيعزُّ هذا ويذلُّ هذا، ويمكِّن هذا من هذا، ويرفع هذا ويضع هذا، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }[آل عمران:140].
(وايم الله ليذوبنَّ ما في أيديهم): يزول ويتفرق، يعني بني أمية.
(بعد العلو والتمكين): بعد الرفعة بالخلافة والملك، والاستيلاء على الخلق بالقهر والظلم.
(كما تذوب الأَلْيَةُ على النار): فيصير ماء متلاشياً بعد أن كان شحماً، وهذه من العلوم التي أعلمها إياه رسول الله وأقرَّها في نفسه؛ لأن مثل هذا يكون أمراً غيبياً لا يكون إلا بإعلام الله تعالى.
(أيها الناس، لولم تتخاذلوا عن نصر الحق): يخذل بعضهم بعضاً عن القيام بالحق، والانتصار بجانبه.
(ولم تَهِنَوا عن توهين الباطل): ولم تضعفوا عن خذلان الباطل وإهماله.
(لم يطمع فيكم من ليس مثلكم): من ليس حاله كحالكم في الشدة والقوة والبطش.
(ولم يقوَ من قَوِيَ عليكم): ولم ينصر عليكم من نصر [من] غيركم.
(لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل): فنصر عليكم عدوكم وخذلتم.
حكي أن التيه لبثوا فيه أربعين سنة، كما حكى الله ذلك في ستة فراسخ، يسيرون كل يوم مجدين في السير، حتى إذا كَلُّوا وملُّوا وأمسوا إذ هم بحيث ارتحلوا، وكان الغمام يظلهم من حر الشمس، ويطلع عليهم عمود من نور الليل يضيء لهم، وينزل عليهم المنُّ والسلوى ، فالمنُّ: هو الترنْجبَين مثل الثلج ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والسلوى: طائر يسمى السماني .
(ولعمري ليضعّفنَّ لكم التيه من بعدي أضعافاً): أراد الحيرة، والذهاب عن الحق.
سؤال؛ ماو جه تشبيههم بحال بني إسرائيل في التيه، وليس حالهم كحالهم في ذلك؟
وجوابه؛ هو أنه عليه السلام شبَّه حاله فيما أمر به أصحابه من الجهاد للبغاة بحال موسي وهارون في أمرهما لقومهما بدخول الأرض المقدسة، فخالفتم كما خالف بنو إسرائيل، ففعل الله بكم مثلما فعل بهم، فتهتم عن الحق وضللتم عنه خذلاناً من الله تعالى لكم، كما تاه بنو إسرائيل، وكان التيه عقوبة لهم على التأخر عن الدخول بيت المقدس، وأراد أن زيغكم بعدي عن الحق، وَبُعْدَكُم عنه أكثر من أيامي.
(بما خلفتم الحق وراء ظهوركم): تركتموه بمنزلة الشيء الذي يكون وراء الظهر فلا يلتفت إليه، ولا يعول عليه.
(وقطعتم الأدنى، ووصلتم الأبعد): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد نفسه بذلك لقربه منهم فقطعوه مع قربه منهم بمخالفته فيما يأمرهم به، ووصلتم الأبعد عنكم لموافقتكم له فيما يريد وإن كان بعيداً عنكم.
وثانيهما: أن يريد قطعتم الحق مع قربه إليكم، ووضوحه في أعينكم بالمخالفة له، ووصلتم الباطل مع بُعْدِه، وبطلان أمره لموافقتكم له واعتمادكم عليه.
(واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم): يشير إلى نفسه.
(سلك بكم منهاج الرسول): طريقه فيما أمر به ونهى عنه.
(وكفيتم مؤونة الاعتساف): وهو الأخذ على غيرطريق.
(ونبذتم الثِّقل الفادح عن الأعناق ): طرحتم الأمر المثقل الغالب لكم من فوق أعناقكم، وعنى بذلك أن اتِّباعهم له يزيل ما قد حملوه على ظهورهم من أوزار المخالفة، فلهذا قال: (ونبذتم الثقل الفادح) يشير إلى ذلك.
(157) ومن خطبة له عليه السلام في أول خلافته
(إن الله سبحانه أنزل كتاباً): وهو القرآن.
(هادياً): إلى كل خير.
(بيَّن فيه الخير والشر): الأعمال الصالحة والأعمال السيئة، أوالهدى والضلال، أو غير ذلك مما يكون خيراً وشراً، فإن القرآن مشتمل عليه.
(فخذوا نهج الخير): طريق الجنة.
(تهتدوا): إليها.
(واصدفوا): ميلوا.
(عن سمت الشر): طريقه.
(تَقْصِدوا): تصيبوا القصد من ذلك، أو تعدلوا أي تستقيموا، من قولهم: قصد إذا عدل.
(الفرائض الفرائض!): تحذير عن تركها، وأراد الزموا الفرائض، وفي الحديث: ((ما تقرب إليَّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم)).
(أدَّوها إلى الله): أحسنوا تأديتها على الوجه الذي أراده منكم.
(تؤدّكم إلىالجنة): توصلكم إلى ثواب الله بدخول الجنة إذ هي جزاء عليها.
(إن الله حرَّم حراماً غير مجهول ): أراد أن جميع ما حرَّم الله تعالى على عباده قد أوضحه وبيَّنه على لسان نبيه، وبما قرره في العقول من المنع منه فليس مجهولاً، وإنما فعل ذلك لئلا يكون للعباد حجة بعد ذلك، ولئلا يقولوا حرَّم علينا ما لا نعلمه من ذلك.
(وفضَّل حرمة المسلم على الحُرَم كلها): أراد أن المساجد لها حرمة، والكعبة لها حرمة، وغير ذلك مما وضع الله له حرمة، ولكن المؤمن حرمته فوق هذه الحرم عند الله تعالى؛ لمايريد من كرامته بالإيمان به، والإقرار بتوحيده، وفي الحديث: ((إن الرسول عليه السلام ضرب بيده يوماً على جدار الكعبة ، وقال: إن الله شرَّفك وعظَّمك، ولكنَّ حرمة المؤمن أعظم عند الله منك))، ومن هذه حاله فالواجب الانكفاف عن أذيته في كل ما يؤذيه، وفي الحديث: ((من آذى مؤمناً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله لعنه الله)) ثم تلا قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ }[الأحزاب:57] أو أن يقال فيه ما ليس فيه، وفي الحديث: ((من قال في مؤمن ما لا يعلمه أقامه الله على تلٍّ من تلال جهنم ، حتى يخرج عمَّا يقول وما هو بخارج)) وخليق بمن قرع سمعه هذه الوعيدات الشديدة ألا يقرب شيئاً من ذلك، وأن يكون على حذرمنه.
اللَّهُمَّ، اجعل حظَّنا من ذلك السلامة.
(وشدَّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها): أراد أن كل من كان موحِّداً لله تعالى مخلصاً لدينه عن الشرك، فإن الإخلاص والتوحيد يؤكدان حقه، ويكرمانه ويعظمانه عما يعتريه ويشدانه عن السقوط، ويوجبان وضع الحقوق على ما عقدت عليه، والوفاء بها من الذمم والعهود والمواثيق.
(فالمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ): أراد أن المسلم حقيقة من كفَّ يده عن أموال الناس بالظلم والتعدي، وكفَّ لسانه عن أعراضهم بالنقص والغيبة والنميمة.
(إلا بالحق): من ذلك فيؤخذ دمه قصاصاً، ويؤخذ ماله دَيْناً وعلى جهة الاستقراض بطيبة من نفسه.
(ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب): أي لايباح ذلك لأحد، وقوله: (إلا بما يجب) فيه روايتان:
أحدهما: أن يكون بالجيم، وعلى هذا يكون الاستثناء فيه متصلاً، ويكون المعنى لايباح أذى المسلم بشيء من الأشياء إلا بما يجب، وذلك نحو الجرح عند الحاكم فإن مثل هذا يكون واجباً لأجل الاحتياط في الشهادة.
وثانيهما: أن يكون بالحاء وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً، ويكون المعنى فيه لا يحل أذى المسلم لكن يذكر بما يحب من الذكر.
(بادروا أمر العامة): أي أحرزوا ما يعمُّ نفعه لكافة المسلمين، واتركوا ما يعمُّ ضرره على الكافة، وهذا نحو الجهاد وإصلاح الطرقات والمناهل والمساجد، فإن هذه الأمور إصلاحها مما يتعلق بالكافة، ولا يختص أحد بحق أحد، وما لحقها من الضرر فإنه يعمُّ الكافة أيضاً، ولهذا كان نفعها عند الله عظيماً لما يلحق فيها من الصلاح.
(وخاصة أحدكم وهو الموت): أراد وأصلحوا أمر الخاصة، وهو ما يختص الآحاد والأفراد، وهو إصلاح حال الآخرة قبل وقوع الموت فيقطع ذلك كله.
(فإن اليأس أمامكم): يريد أن الآجال منقطعة في الأزمنة المستقبلة، وفيها انقطاع كل أمر واليأس من كل شيء.
(وإن الساعة تحدو بكم من خلفكم): تسوقكم من ورائكم، وتحثكم على السير إلى القيامة.
(تخففوا تلحقوا): أراد تخففوا من أشغال الدنيا وأعمالها وتبعاتها، تلحقوا بأهل الصلاح التاركين للدنيا، والعاملين للآخرة.
(فإنما ينتظر بأولكم آخركم): أي أن من سبق منكم فإنه موقوف حتى يلحق به الآخرمن الخلق ليوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين وهو يوم القيامة.
(اتقوا الله في عباده): بترك الظلم لهم والرحمة لضعيفهم، والتوقير لكبيرهم.
(وبلاده): بترك الفساد فيها وإصلاح أحوالها بالعدل، وتطهيرها عن جميع المعاصي.
(فإنكم مسؤولون): عن كل شيء من الأعمال، كبيرها وصغيرها، وجليلها ودقيقها.
(حتى عن البقاع والبهائم): فالسؤال عن البقاع لِمَ ظُلِمَت؟ ولِمَ عصي الله فيها ؟، والسؤال عن البهائم: لِمَ صُبِرَتْ ؟ ولِمَ حُمِّلت ما لا تطيقه؟، وفي الحديث: ((إن الله تعالى عذب امرأة في حبس هرَّة ، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض)).
(أطيعوا الله): بامتثال ما أمر به .
(ولا تعصوه): بمواقعة ما نهى عنه.
(فإذا رأيتم الخير): أمكنكم فعله.
(فخذوا به): فافعلوا به، وهذا عام في جميع الخيرات كلها.
(وإذا رأيتم الشر): عاينتموه.
(فأعرضوا عنه): اتركوه ولا تشتغلوا به، وهذا عام في جميع أنواع الشر كلها.
(158) ومن كلام له عليه السلام بعدما بويع له بالخلافة
وقد قال أقوام من أصحابه: لو عاقبت قوماً ممَّن أجلب على عثمان، فقال لهم:
(يا إخوتا) : أي يا إخوتاه على جهة النداء لهم، أو يا إخوتي فأبدل من الياء ألفاً كما مرَّ في نظائره.
(إني لست أجهل ما تعلمون): من وجوب ذلك، والقطع على كونهم مخطئين فيما أتوه من القبيح والمنكر العظيم في قتله، وفي هذا دلالة على تنزيه ساحة أمير المؤمنين عن الرضا بما كان إليه.
نعم: قد كان وقع في خلافته أمور أنكرت عليه حتى طرق ذلك النكر في إسلامه في قلوب كثير من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم.
ويحكى عن الحسن بن علي، وعماربن ياسر، أنهما اختصما إلى أمير المؤمنين في إسلامه، فقال عمار: قتل كافراً، وقال الحسن بن علي: قتل مسلماً.
فقال أمير المؤمنين منكراً لذلك:
(يا عمار، أتكفر برب يؤمن به عثمان) فسكت عمار .
(ولكن كيف لي بقَّوة): أين القوة التي توصلني إلى ذلك، وهو إنما يتوجه بشرط التمكن من ذلك.
(والقوم المجلبون): على قتله.
(على حد شوكتهم): من النجدة والقوة في أمرهم.
(يملكوننا): بالقهر والغلبة.
(ولا نملكهم): ولا نقدر على أخذ الحق منهم، وقوله: (يملكوننا، ولا نملكهم) من غريب الكلام وبديعه الذي يقضى منه العجب، وتحار في كُنْهِ جزالته وبلاغته الأفهام.
(وهاهم هؤلاء): ها للتنبيه وهم اسم مضمر، وهؤلاء اسم للإشارة مع التنبيه أيضاً.
(قد ثارت معهم عِبدَانكم): قامت ووثبت، والعبدان: جمع عبد.
(والتفَّت بهم أغراركم ): اجتمعت وانضمَّت، والأغرار: جمع غرِّ وهو الجاهل.
(وهم جلالكم): أكثركم ومعظمكم ، والجلة: الخيارمن الجمع، وجلائل الأمور: عظائمها .
(يسومونكم): من أجل كثرتهم ونجدتهم.
(ما شاءوا): من الأمور المكروهة.
(وهل ترون): والحال على هذه الصفه.
(مو ضعاً لقدرة على شئ تريدونه!): مما في نفوسكم من ذلك.
(إن هذا الأمر): وهو ماكان من قتل عثمان، والإجلاب عليه.
(أمر جاهلية): يريد أن ذلك إنما كان من أجل ضغائن كانت في الجاهلية، وأحداث متقدمة فسكن أمرها في حياة الرسول ثم تذكروها بعد وفاته.
ويحكى ما نقله ابن هشام في سيرته: أن النبي صلى الله عليه لما شرع في عمارة مسجده عقيب قدومه من مكة، جعل عمار يرتجز بقوله:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائماً وقاعدا
ومن يُرَى عن الغبار حائدا
يعرِّض بذلك إلى عثمان وكان قريب عهد بعرس، فقال عثمان: والله لئن لا تسكت لأعرض بهذه العصا على عينيك، فبلغ ذلك الرسول فغضب، وقال: ((ما لهم ولعمار، عمار يدعوهم إلى الجنة، وهم يدعونه إلى النار)) ثم قال: ((عمار جلدة ما بين عيني وأنفي فإذا بُلِغَ ذلك من الرجل، فلن يُسْتَبقَ فا جتنبوه)) ، فتلك أمور كانت سابقة .
(وإن لهؤلاء القوم): قتلة عثمان.
(مادَّة): قوماً يمدُّونهم ويكونون عوناً لهم على من قاتلهم.
(إن الناس من هذا الأمر): وهو حربهم وقتالهم.
(إذا حُرِّك): عزم عليه وهمَّ به.
(على أمور): أحوال مختلفة، ومذاهب متفرقة عند الشروع فيه.
(فرقة ترى ما ترون): قوم يرون أن قتالهم صواب كما هو رأيكم.
(وفرقة ترى ما لاترون): وقوم آخرون لايرون ذلك صواباً، إما لأنهم يصوِّبون رأيهم في ذلك، وإما لأن القتال يؤدي إلى منكر كثير ، وقتل وقتال عظيم، ويفتح الشجار والخصومة.
(وفرقة ترى لا هذا ولا هذا): وقوم آخرون يزعمون أن ما فعلوه خطأ، وأن قتالهم يكون خطأً أيضاً، فهذه مذاهب الناس في ذلك.
(فاصبروا): عن حربهم.
(حتى يهدأ الناس): تسكن سورة غضبهم.
(وتقع القلوب مواقعها): في الحلم، والأناة وتبصرالعواقب، وترجع أحلام ذوي النهى إليهم، ويزول الطيش والفشل.
(وتؤخذ الحقوق): من أهلها، هذا وغيره من الحقوق.
(مسمحة): سهلة ذات سماحة، يقال: أسمح الرجل فهو مسمح إذا صار ذا سماح.
(فاهدؤوا عني ): اسكنوا عن مراودتي في [هذا] الأمر.
(وانظروا ما يأتيكم [به] أمري): ينتجه نظري من الحرب لهم أو الكفِّ عنهم.
(ولا تفعلوا فعلة): إما تجهلون جهلة أو تفعلون قضية بجهل.
(تُضَعْضعُ قوة): تهدم أموراً قوية قد شيِّدت ومهِّدت قواعدها.
(وتُسْقِط مُنَّة): قوة من قوى الدين وتزيلها.
(وتُورث وهناً): ضعفاً في الإسلام وأهله.
(وذلَّة): على المسلمين.
(وسأمسك الأمر): أسكِّن الأمور، وأقررها بجهدي.
(ما استمسك): مهما كان الدين سالماً وأمرالإسلام نافذاً.
(وإذا لم أجد بُدَّاً): من الحرب فعلته، وصبَّرت نفسي عليه إعزازاً لدين الله، وإعلاءً لكلمته.
(فآخر الداء الكيُّ): يقول الداء يعالج بكثير من الأدوية فإذا أعضل أمره وصعبت معالجته بالأدوية فآخر المعالجة هو حسمه بالنار وكيُّهُ بها، والحرب هو غاية الأمور وقصاراها.
واعلم: أنا قد حكينا عن أمير المؤمنين إنكاره على قتلة عثمان ما فعلوه، وقوله: (اللَّهُمَّ، العن قتلة عثمان في البر والبحر، والسهل والجبل) وليس تأخره عن الانتقام منهم إلا لما ذكره وهو عذر واضح مقبول عند الله، إذ لايصلح فعل معروف بارتكاب منكر أكبرمنه، فكلامه ها هنا مؤذن بالانتقام منهم متى وجد إلى ذلك سبيلاً، وخلا وجهه عن الأمور المهمة، والعوارض العظيمة التي تكون ثلماً في الدين.
(159) ومن خطبة له عليه السلام عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة
(إن الله بعث رسولاً هادياً): بعث وابتعث أي أرسل، كله بمعنى واحد، رسولاً أراد النبي [هذا] هادياً للخلق إلى معالم دينهم.
(بكتاب ناطق): يعني القرآن ينطق بالحق.
(وأمرقائم): مستقيم لا يعوِّج.
(لا يهلك عنه): أي لا يتخلف عنه، وسمي التخلف عنه هلاكاً لما كان يؤدي إليه، فلا ينكره ويتخلف عن إمضاء أحكامه:
(إلا هالك): بتخلفه عنه، مهلك لنفسه.
(وإن المبتدعات): الأمور المبتدعة في الدين التي لا يشهد لها برهان ولا حجة واضحة.
([من] المشّبَّهات): اللواتي يُشَبَّهْنَ بالحق، ولسن منه في ورد ولا صدر.
(هن المهلكات): للدين والمبطلات له.
(إلا ما حفظ الله منها ): بالتوبة والإقبال والإنابة.
(وإن في سلطان الله): الفيء إلى دينه والا عتصام به والاستمساك بحبله.
(عصمة لأمركم): منع لما أنتم فيه من أمر البغي والمخالفة.
(فأعطوه طاعتكم): الامتثال لأمره والانقياد لحكمه، وإنما أضاف الطاعة إليهم لما لهم فيها من الاختصاص، أي الطاعة التي تليق بكم من أجل أنكم عبيده وهو إلهكم، والْمُنْعِمُ عليكم بضروب النعم وجزيلها.
(غيرمُلوَّمَةٍ): فيه وجهان:
أحدهما: غير بطيّة وغير منتظر بها، من قولهم: تلوَّم أي انتظر.
وثانيهما: أن يريد أعطوه طاعة خالصة عن الرياء فلا يكون فيها شيء يلام عليه من ذلك.
([و] لا مستكره بها): ولا يلحقها إكراه فينقص أجرها، كما قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ }[البقرة:256].
(والله لتفعلنَّ): ما ذكرته من الطاعة لله تعالى، والانقياد لأمره.
(أو لينقلنَّ الله عنكم سلطان الإسلام): يحوِّل الله عنكم عزَّكم بالإسلام والسلطنة الذي لكم من أجله، والعزُّ الحاصل لكم بسببه.
(ثم لا ينقله إليكم أبداً): لأجل انتقاصكم له وعدم التفاتكم إليه.
(حتىَ يَأرِزَ الأمر إلى غيركم): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره فيزول عنكم حتى يأرز أي ينضم إلى غيركم، ويكون حاصلاً في حقهم.
(إن هؤلاء): يريد طلحة والزبير وعائشة، ومن كان معهم ممن أجلبوا به.
(قد تمالؤوا): اجتمعوا وتعاونوا، وكانوا إلباً واحداً .
(على سَخْطَة إمارتي): كراهتها وبغضها .
(وسأصبر): على تلك الكراهة تحملاً للغيظ وإكراهاً للنفس على ذلك، وفي الحديث: ((ما جرع عبد قط جرعتين أعظم عند الله من جرعة غيظ يلقاها بحلم ، أو جرعة مصيبة يلقاها بصبر جميل)) فالصبر عواقبه محمودة.
(ما لم أخف على جماعتكم): على تشتيت الشمل لأهل الدين، والنكاية لأهل الإسلام وإظهار البدع.
(فإنهم إن يمموا على قُبالة هذا الرأي): القُبالة بالضم: ما واجهك ويقال: اجلس قُبالتي أي مواجهي، والقَبالة بالفتح: الورقة للقبال ، والقِبالة بالكسر مصدر قِبَلَ قِبالة أي ضَمِنَ، وَيَمَّم الشيء إذا قصده، وأراد أنهم إذا عزموا على حربي وقتالي والبغي علي.
وفي نسخة أخرى: (إذا أتموا): من التمام أي إذا تمموا ما شرعوا فيه من القتال والبغي:
(انقطع نظام المسلمين): بانشقاق العصا وتفرق الشمل.
(وإنما طلبوا هذه الدنيا): أخذ الإمرة لنفوسهم يريد طلحة والزبير، فأما عائشة فما كان مسيرها ذلك إلا بمراودتهم لها واعتضاداً بمسيرها معهما، وإلا فهي لا تطلب الخلافة مثل طلبهما، وقد حكينا من قبل سبب مسيرها معهما ونزولها البصرة، فاجتماعهم جميعاً وتألبهم:
(حسداً): لأن حقيقة الحسد حاصلة، وهو أنهم يريدون أخذ الإمرة منهم لهما، وهذا هو فائدة الحسد، ومعناه وهو: أن تريد ما لأخيك ينزع منه ويكون لك بانفرادك.
(لمن أفاءها الله عليه): أعطاها إياه، يريد الخلافة بمنزلة الفيء وهو الغنيمة.
(فأرادوا ردَّ الأمور على أدبارها): إما ردُّ الخلافة إليهم، وقد تقدمته بها وسبقته إليها، وإما ردُّ ما كان صواباً من الا ستقامة على الدين، والنصرة إلى ما يكون خطأ وهو المخالفة للدين والبغي عليَّ بذلك.
(ولكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله[ صلى الله عليه وآله وسلم] ): في الإقدام والإحجام.
(والقيام بحقه): فيما أوجب من ذلك وندب إليه من أمور الخلق.
(والنعش لسنته): إظهارها.
سؤال؛ ما وجه اتصال قوله: (ولكم علينا العمل بكتاب الله) بما قبله، وليس بينهما مداناة ولا مقاربة؟
وجوابه من وجهين؛
أما أولاً: فيجوز أن يكون هذا من باب الا ستطراد، وهو أن يذكر كلاماً عقيب كلام ليس بينهما ملاءمة، وهو كثير الورود في كتاب الله تعالى، وفي ألسنة الفصحاء، وقد نبهنا على ذلك في أثناء كلامه.
وأما ثانياً: فلأنه لما ذكر بغي أهل الجمل وكراهتهم لإمرته، عقَّب ذلك بما يدل على كونه أهلاً لها، وأحق بها لكونه عاملاً بكتاب الله وسنة رسوله، وهما الأصل في ذلك.
ثم التفت إلى كليب الجرميِّ قبل وقعة الجمل، فقال له:
(بايع) ، فقال: إني رسول قومي ولا أحدث حدثاً دونهم، فقال عليه السلام:
(أر أيت الذين وراءك): من قومك الذين أرسلوك رائداً لهم وطليعة لأحوالهم، وفي استفهامه هذا معنى التقرير.
(لو بعثوك رائداً لهم تبتغي لهم مساقط الغيث): الرائد هو: الذي يرسله القوم يبتغي لهم الكلأ، ومساقط الغيث: جمع مَسْقَطٍ وهو مكان سقوطه.
(فرجعت إليهم وأخبرتهم): بما كان من أمرك، وبما وجدت.
(عن الكلأ والماء): فإنه حاصل في الأماكن التي أخبرتهم بها.
(ثم خالفوك ): فكذبوا خبرك فيما جئت به، وصدروا.
(إلى المعاطش): أمكنة العطش.
(والمجادب): أمكنة الجدب.
(ما كنت صانعاً؟): في أمرك بعد ما تحققت ذلك.
(قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، فقال [له] : امدد يدك إذاً، فقال الرجل: والله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة عليَّ فبايعته، والرجل مشهور في بني جرم).
(160) ومن كلام له عليه السلام لما عزم على لقاء القوم بصفين
(اللَّهُمَّ، رب السقف المرفوع): وهو السماء كما أقسم الله به في قوله: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ }[الطور:5]، وإنما أقسم بها لما لها من الشرف والكرامة؛ لأنها مواضع الرحمة ومستقر الملائكة.
(والجو المكفوف): عن التغيّر والزوال، والذهاب والانتقال.
(الذي جعلته مغيضاً لليل والنهار): مغيض الماء هو: الذي يجتمع فيه فينبت فيه الشجر، ومن هذا سميت الغيضة غيضة لاجتماع الماء فيها؛ لأنهما يجتمعان فيه، فالنهار عبارة عن طلوع الشمس، والليل عبارة عن غروبها، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ }[يس:37]، فهذا دليل على أن الليل هو عدم النهار لا غير.
(ومجرىً للشمس والقمر): يجريان فيه على ما قدَّر من مصالح الخلق في اختلاف جريهما، فالقمر يقطع الفلك في شهر، يقف في كل منزلة من منازل البروج ليلة، والشمس تقطعه في السنة مرة في كل برج من البروج الاثني عشر شهراً.
(ومختلفاً للنجوم السيارة): مكان اختلافها.
سؤال؛ أراه قال ها هنا: مجرى للشمس والقمر، وقال: مختلفاً للنجوم، فهل بينهما فرق أم لا؟
وجوابه؛ هو أن سير الشمس والقمر لا يختلف في الطلوع من المشرق، وغروبها في المغرب على جهة الاستقامة، بخلاف سير النجوم، فإن فيها ما يكون سيره على جهة الاستقامة، نحو هذه المنازل والبروج الاثني عشر، ومنها ما لايقطع الفلك نحو هذه الزهرة، فإنها لا تقطع الفلك، ولكن تنتهي إلى مقدار معلوم في السماء، تارة من المشرق وتارة من المغرب، وليس قاطعة للفلك، ثم بنات نعش فإنها تكون دائرة حول القطب لا غير، إلى غيرذلك من الاختلاف في سيرها، فلهذا جعله مختلفاً لها لما يظهر فيها من الاختلاف، وجعل ذلك مجرى لما كان على جهة الاستقامة.
(وجعلت سكانه): من يسكن فيه.
(سِبْطاً من ملائكتك): السِبط: البطن الواحد من القبيلة، قال الله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً }[الأعراف:160].
(لا يسأمون من عبادتك): لا تصيبهم سآمة ولا فتور على ذلك، ولا تأخذهم ملالة.
(ورب هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام): مستقراً للخلق يتصرفون عليها في منافعهم.
(ومدرجاً للهوام والأنعام): مكاناً تدرج فيه في غاراتها وأماكنها.
سؤال؛ أراه جعل الأرض قراراً، وجعلها مدرجاً للهوام، فما وجه الفرق بينهما، وكل واحد من الفريقين يستقرُّ عليها؟
وجوابه؛ هو أن القرار عبارة عما يكون فيه راحة، ويكون موطّئاً ممهَّداً لمن يكون عليه، [وهذا] إنما يكون في حق الأنام.
فأما البهائم والأنعام فإنه لا يفعل لها ذلك، وإنما الغرض هو حصولها في تلك الأماكن، فلهذا جعلها لها مدارج إشارة إلى ما ذكرناه من التفرقة بينهما بما ذكرناه.
(وما لا يحصر مما نرى وما لانرى): أي ورب ما لا نهاية له ولا غاية تحصره مما يدرك بالحواس، وما لا يدرك بها.
(ورب الجبال الرواسي): الراسخة.
(التي جعلتها للأرض أوتاداً): حافظة عن الْمَيَدَان بأهلها والتحرك والاضطراب.
(وللخلق اعتماداً): يعتمدون عليها في إحراز أنفسهم بالقلاع والحصون.
(إن أظهرتنا على عدونا): من بغى علينا وخالفنا، وأراد المشاقَّة والفتنة في الدين.
(فجنِّبنا البغي): الزيادة على الاستحقاق فنكون باغين عليهم.
(وسددنا للحق): ثبتنا لأخذه منهم وإعطائه لهم.
(وإن أظهرتهم علينا): بالنصر والظفر.
(فارزقنا الشهادة): الموت عليها والتثبت لها.
(واعصمنا من الفتنة): عن أن نفتتن في الدنيا ونميل عن الحق بحبِّها.
(أين المانع الذِّمار): الذِّمار: ما وراء الرجل مما يحقُّ عليه أن يحميه من حريمه ونسائه، وأراد أين هوفأعرفه الآن.
(والغائر): من الغِيْرة.
(عند نزول الحقائق): الأمور المكروهة والشدائد العظيمة، إذا حقَّ الأمر من ذلك.
(من أهل الحفاظ!): من أهل الأنفة.
(العار وراءكم): فلا تنكصوا على أعقابكم فيتصل بكم.
(والجنة أمامكم): فا قدموا عليها، فمن هذه حاله فإنه لا مطمع له في غير الديانة، ولا حظ له في خلاف النَّصَفَةِ، فأين حاله عن حال من يقاتله في إيثار الدنيا والإعراض عن الآخرة؟!.
(161) ومن خطبة له عليه السلام يذكرفيها طلحة والزبير
(الحمد لله الذي لا تُوارِي عنه سماء سماء): يعني لا تحجبه سماء تقوم بينه وبين سماء أخرى عن أن يكون رائياً لها.
(ولا أرض أرضاً): أي ولا تحجبه رؤية أرض عن أرض أخرى مثلها إذ ليس حاله كحال الواحد منَّا إذا قام بيننا وبين الأجسام المرئية جسم حاجز، فإنَّا لا ندركه لما كان إدراكنا للأجسام بآلة، فلهذا كان حاله مخالفاً لحالنا في ذلك.
(وقائل يقول لي: إنك يا ابن أبي طالب على هذا الأمر لحريص ، فقلت: بل أنتم والله أحرص وأبعد): الحرص هو: شدة الرغبة في طلب الشيء، وأراد أنكم إن زعمتم أني حريص على الإمارة لما ترون من منازعتي لكم وشدة شجاري إياكم فأنتم لا محالة أشد رغبة فيها، وأعظم طلباً لها، فأنتم تطلبونها وتشتدُّ رغبتكم في تحصيلها مع بُعْدِكُم عن استحقاقها وأن تكونوا أهلاً لها.
(وأنا أخص بها): لإحرازي لخصالها واستكمال شرائطها.
(وأقرب): إما إلى الرسول فأكون أحقُّ بمكانه منكم وأولى به من غيري ، وإما أقرب إلى حصول ما يشترط من الصفات فيها، فإنها فيَّ متكاملة دون غيري.
(وإنما طلبت حقاً لي): بقيام الحجة والبرهان على ذلك من جهة الرسول.
(وأنتم تحولون بيني و بينه): بالمنازعة والشقاق والبغي.
(وتضربون وجهي دونه): بسلِّ السيوف وإشراع الرماح.
(فلما قرَّعته بالحجة): بما كان من جهة الرسول من النصوص الواردة، أو بما كان من جهة الأفاضل من الصحابة من العقد لي والرضاء بي.
(في الملأ الحاضرين): حال من الضمير في قرَّعت مقطوعاً على إمامتى بالوجهين جميعاً، والقرع هو: التنبيه، وفي المثل: فلان ممن لا تقرع له العصا، قال المتلمس :
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما عُلِّمَ الإنسان إلا ليعلما
والأصل فيه أن رجلاً حكماً من حكام العرب عاش حتى كبر وأهتر ، فقال لابنته: إذا أنكرت من فهمي شيئاً عند الحكم، فاقرعي لي المجن بالعصا لأرتدع.
قال:
وزعمت أنَّا لا حلوم لنا ... إن العصا قرعت لذي الحلم
واعلم: أنه لا خلاف بين أهل القبلة في صحة إمامة أمير المؤمنين وثبوتها، وإنما وقع الخلاف بين الأمة في طريقها، فأثبتها فريق بالنصِّ، وأثبتها آخرون بالاختيار.
سؤال؛ كيف تزعمون أنه لاخلاف بين الأمة في إمامته، وقد حكي عن عباد أنه كان يقول: كان لا يصلح للإمامة، والخوارج كفَّروه، فكيف يصح ما ذكرتموه؟
وجوابه؛ أما عباداً فإنما غرضه بما قال قبل أن يعقد له بناءً على قوله: إن إمامته إنما ثبتت بالاختيار بزعمه، فأما على ما نقوله فإنما ثبتت بالنصوص ، وأما الخوارج فإنما مقالتهم هذه إنما كانت بعد التحكيم لظنهم أنه كفر، وهكذا ما يحكى عن الأصم والحشوية فإنما أتوا في إنكار إمامته من جهة ما اتفق من حربه لأهل القبلة لجهلهم بأنه لا يحل ذلك، وكلها آراء فاسدة لمخالفتها للإجماع.
(بهت): يعني القائل الذي قال له، ولعله يريد طلحة أوالزبير بهذا الكلام ، يقال: بُهِتَ الرجل بكسر الهاء إذا فشل وتحير، وبفتحها أيضاً وبضمها أيضاً، وعلى بناء ما لم يسم فاعله وهو أفصحها، قال الله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ }[البقرة:258].
(لا يدري ما يجيبني به): من الفشل والتحيروالدهشة، وأراد أنه أفحمه بما أورد عليه من الحجة.
(اللَّهُمَّ، إني أستعديك): أطلبك ناصراً من قولهم: استعدى فلاناً على غيره إذا طلب النصرة.
(على قريش): طلحة والزبير وعائشة.
(ومن أعانهم): على آرائهم وما هم عليه من البغي.
(فإنهم قطعوا رحمي): بالحرب والعداوة البالغة.
(وصغَّروا عظيم منزلتي): عند الله وعند الخلق بما رفع الله من قدري.
وروي عن ابن عباس أنه قال: ما نزلت آية منها : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلا وعلي بن أبي طالب رأسها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد على أشياء وما عاتبه على شيء أصلاً .
(فأجمعوا على منازعتي أمراً هولي): يريد أنهم اتفقوا وتواطؤوا عن آخرهم على إخراجه عن الإمامة، وقد تقررت له بما ذكرناه من النصوص والرضاء به.
(وقالوا: ألا إن في الحق أن نأخذه): نكون أولى منك بالإمامة.
(وفي الحق أن تتركه): تخرج عنها وتخلِّيها، وهذا منهم خطأ وغلط، فإنما قالوه إنما يكون في الحقوق المالية، فإن كل من كان له حق على غيره فإنه يجوز له تركه ويجوز له أخذه، فأما الإمامة فهي بمعزل عن ذلك، فإن الإمام إذا صارإماماً وثبتت إمامته واستحقها فإنه لا يجوز له تركها، ولا يسعه ذلك عند الله، إلا أن يؤ دي ذلك إلى خلل في الدين، كما كان منه تركها في أول الأمر، فأما بعد ذلك وحصول التمكن فلايجوز ذلك بحال.
(ثم خرجوا): من بيوتهم على جهة البغي، يريد أصحاب الجمل.
(يجرون حرمة رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] ): يعني عائشة رضي الله عنها.
(كما تجر الأمة عند شرائها): أراد أنها لا تملك لنفسها حيلة سوى ما قالاه أعني طلحة والزبير، فإنهما هما اللذان أخرجاها من بيتها، كما حكينا ذلك من قبل هذا.
(موجهين بها إلى البصرة): للحرب ورفع يده عنها؛ لأنها من أعماله وحيث ينفذ حكمه وأمره.
(فحبسا نساءهما في بيوتهما): تحشماً عن ذلك وكراهة له.
(وأبرزا حبيس رسول الله): [يريد أنه أمرها بالقرارفي بيتها والاحتباس فيه.
(لهما ولغيرهما): من أفناء الناس] ، يريد أنهما أظهراها على أعين الخلق والملأ.
(في جيش): فيمن أقبلوا به من الجيوش ممن غرُّوه وخدعوه.
(ما فيهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة): أنه سامع لقولي ومطيع لما آمر به من أمر الله وأمر رسوله غير مخالف في ذلك ولا ناكل عنه.
(وسمح لي بالبيعة): ضرب بكفي على كفه تأكيداً للأمر ومتابعة فيه.
(طائعاً): من نفسه غير مكره على ذلك.
(فقدموا على عاملي): عثمان بن حُنيف بضم الحاء، هكذا سماعنا، صاحب رسول الله.
(وخزَّان بيت مال المسلمين): الذين يحفظونه ويتولون إنفاقه وإخراجه.
(وغيرهم من أهلها): ممن يكون عوناً لي على ماأريده من إصلاح أمور المسلمين.
(فقتلوا طائفة صبراً): أي حبسوهم حتى قتلوهم، يقال: قتله صبراً إذا حبسه حتى يقتل.
(وطائفة غدراً): الغدر: خلاف الوفاء، يعني أنهم عقدوا لهم عقداً فلم يفوا به وقتلوهم.
ويحكى أنهم أخذوا هذا عثمان بن حُنيف ونتفوا لحيته وأطلقوه بعد ذلك، فلما ورد على أمير المؤمنين قال له: (فارقتنا شيخاً، ورجعت إلينا غلاماً) .
(فوالله لولم يصيبوا من المسلمين إلا رجلاً واحداً متعمدين): لو لم يصيبوا في قدومهم ذلك إلا على واحد من أفناء الناس؛ لقصدهم ذلك وعمدهم إليه.
(لقتله): جرأة.
(بلا جرم) : كان منه إليهم.
(لحل لي قتل ذلك الجيش كله): وهذا فيه دلالة من مذهبه على أن الجماعة الكثير إذا قتلوا شخصاً واحداً اجتراءً عليه عامدين لا شبهة لهم في قتله، ولا صدر قتله على جهة الخطأ أنهم يقتلون بأجمعهم به، وهو قول الجمهور.
ويحكى عن بعض أولاده أنه قال: يختار ولي الدم واحداً فيقتله، فأما من زعم أنه لا يُقْتلُ واحد منهم، فقول لم يصدر عن فطانة لما فيه من إبطال عصمة الدماء وإهدارها.
(إذ حضروه فلم ينكروا، ولم يدفعوا عنه بلسان ولايد): وهذه العلة تدل على أن تركهم الإنكار مع تمكنهم منه على أن حكمهم حكمه، ومشاركين له في الإثم والجناية لرضاهم بذلك وموالاتهم له عليه، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }[المائدة:51].
(دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم!): أراد أنهم لو لم يقتلوا وحضروا ثم سكتوا عن النكير لكان حكمهم ماذكرناه، فكيف وقد قتلوا جمعاً كثيراً.
اعلم: أنَّا قد ذكرنا توبة عائشة من قبل فلا وجه لتكريرها، والذي نذكره الآن توبة الزبير، ونذكر توبة طلحة بعدها في كلام يخصُّه، ولاخلاف في فسقه وبغيه، بما كان منه من الخروج على أمير المؤمنين، ولكن الله تعالى بعظيم رحمته تداركه بلطفه، فقد روي عنه ما يدلُّ على ندامته وتوبته أموركثيرة، قد قدَّمنا كثيراً منها، فمن ذلك ما روي أنه ولَّى عن المعسكرفتبعه عمار، فقال له: إلى أين أبا عبد الله؟، فوالله ما أنت بجبان، ولكني أراك شككت!، فقال: هو ذاك ، ثم أنشد هذين البيتين:
ترك الأمور التي تخشى عواقبها ... لله أسلم في الدنيا وفي الدين
اخترت عاراً على نار مؤججة ... أنى يقوم لها خلق من الطين
ومن ذلك قوله لعائشة بعد حجاج أمير المؤمنين له وتذكيره لقول رسول الله له: ((تحاربه وأنت له ظالم )) فقال لها: ما شهدت موطناً في جاهلية وإسلام إلا ولي فيه داع إلا هذا الموطن . ومن ذلك قوله: إني في هذا لعلى باطل .
وقوله لما نظرإلى عمار في أصحاب علي، فقال: وانقطاع ظهراه، فقال له بعض أصحابه: ممن؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار)) وعند ذلك لحق بأمير المؤمنين ثم انصرف .
فهذه الأخبار كلها دالة على ندامته وتوبته عماَّ كان فيه من حرب أمير المؤمنين والخروج عليه، ولولا ذلك لكان هالكاً مع الهالكين ممن حاربه وخرج عليه.
(162) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها حرب أهل القبلة
(أمين وحيه): يعني به الرسول عليه السلام.
(وخاتم رسله): إذ لارسول بعده.
(وبشير رحمته): المبشِّر بما أعدَّ الله لأوليائه من نعيمه في دار الكرامة.
(ونذير نقمته): والمنذر لعقاب الله تعالى ونقماته النازلة بأعدائه.
(أيها الناس): خطاب عام، وأصل الناس الأناس، لكنها طرحت همزتها تخفيفاً، ولهذا نقول في تصغيرها: أنيس مشدداً ومخففاً.
(إن أحق الناس بهذا الأمر): يعني الخلافة.
(أقواهم عليه): لأن مع القوة يتمكن صاحبه من القيام بأحواله والنهوض بأعبائه.
(وأعلمهم بأمرالله فيه): [بما أنزل الله فيه] من القيام بأحوال الخلق، والإعزاز للحوزة والحفظ لأمور المسلمين كلها.
(فإن شغب مشغب ): هاج من جهته شر وخصومة، يقال: تشغب الأمر إذا كثرت فيه الخصومة.
(اُستُعتب): طلب رضاه.
(فإن أبى قوتل): لبغيه بعد ذلك وعناده.
(ولعمري): قسم.
(لئن كانت الإمامة): على ما قالوه وزعموه.
(لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس): الخلق كلهم.
(ما إلى ذلك سبيل): لتعذره واستحالته.
(ولكن أهلها): من كان معتبراً في أن يكون عاقداً لها وكافياً في صحة ثبوتها.
(يحكمون على من غاب عنها): أراد أن أهل العقد إذا عقدوا لمن كان مرضياً عندهم، فإنه لا يلتفت بعد ذلك إلى مخالفته ولا يحتفل بإنكاره.
(ثم ليس للشاهد): للعقد منهم.
(أن يرجع): فيما فعله من ذلك.
(ولا للغائب أن يختار): خلاف ذلك، إذا بلغ إليه ما كان منهم من الاختيار.
(ألا وإني أقاتل رجلين): يريد أن حربه وتوجه القتال لايكون إلا لهذا العدد.
(رجلاً): انتصابه على التمييز أو على عطف البيان.
(ادَّعى ماليس له): من الحقوق فكان ظالماً.
(ورجل منع ما عليه): من الحقوق فكان ظالماً أيضاً، فهذا يؤمر بالكف عمَّا ليس له، وهذا يؤ مر بإعطاء ما عليه من ذلك فإن أبيا قوتلا على ذلك وقتلا عليه .
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله): إتقاه في كل الأحوال.
(فإنها خيرما تواصىبه العباد): أعظمها وأعلاها، وهي أصل الدين وقاعدة مها ده.
(وخير عوا قب الأمور عند الله): وأفضل كل شيء عاقبته؛ لأن لكل شيء عاقبة وحد وغاية وقصارى ونهاية، وإن غاية تقوى الله وعاقبتها هو إحراز رضوان الله وكريم ثوابه.
(وقد فُتحَ باب الحرب بينكم وبين أهل القبله): يعني فسَّاق التأويل الخارجين علىإمام الحق، ظناً منهم أنهم على حق، وانتصبوا للمحاربة، وكانوا في فئة وَمِنْعَةٍ كأهل الشام وغيرهم من أهل النهروان، فإن هؤلاء كلهم خوارج لما كان منهم من البغي على أمير المؤمنين والظهور عليه.
(ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر ): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون عاماً أي لا يحمل علم الشريعة، وما جاء به الرسول من العلوم الدينية إلا ذو البصائر والصبر على إبلاغها وتعليمها.
وثانيهما: أن يكون خاصاً، ويكون معناه لا يطلع على أحكام أهل البغي وما ينبغي فيهم من السيرة إلا ذو البصائر النافذة، وأهل الصبر على قتالهم، ولعله هو مراده؛ لأن قتال أهل البغي فيه من الصعوبة ما لا يخفى، ولهذا كان سبباً لأقوام في الشك في إمامة أمير المؤمنين كأهل الحشو وغيرهم، والتخلف عن الجهاد معه كا لذي عرض لعبد الله بن عمر وغيره ممن تأخر عنه.
(والعلم بمواضع الحق): كيف السيرة فيهم، وكيف يعاملون في قتالهم.
(فامضوا لما تؤمرون به): من ذلك في قتالهم وجهادهم، وأخذ ما يؤخذ منهم.
(وقفوا عند ما تنهون عنه): من ذلك، والذي تؤمرون به هو قتلهم مقبلين واستئصال شأفتهم والنصيحة لهم مرة بعد مرة، كما كان يفعل أمير المؤمنين في ذلك، والذي تنهون عنه هو سبيهم وقتلهم منهزمين والإنجاز على جريحهم وغيرذلك من الأحكام.
(ولا تعجلوا في أمر): من أمورهم في الجهاد.
(حتى تثبتوا ): إما من الثبات، وأراد حتى تكونوا على حقيقة من حاله، وإما من البيان وأراد حتى تستيقنوا أمره ويظهر لكم حكمه.
(فإن لنا مع كل أمر تنكرونه عَبْراً): العبر بفتح العين المهملة والباء بنقطة من أسفلها هو: التدبر، يقال: عبرت الكتاب أعبره عبراً إذا تدبرته، وأراد أن أمرنا وإن كان ظاهره ينكر فإن فيه سراً ومصلحة فقفوا عند الأوامر، وانتهوا عند المناهي.
(ألا وإن هذه الدنيا [التي] أصبحتم تمنونها): إما بأن يقول كل واحد منهم: ياليتها حيزت لي وكنت فيها متمكناً، وإما أن يريد تفرحون بحصولها لكم.
(وترغبون فيها): تنا فسون في جمعها وإحرازها.
(وأصبحت تغضبكم وترضيكم): فإغضابها لكم امتناعها عليكم فتغضبون من أجل ذلك، وإرضاؤها لكم انقيادها وإتيانها إليكم.
(ليست بداركم): التي تستقرون فيها.
(ولا منزلكم): ولاهي موضع لنزولكم.
(الذي خلقتم له ): من أجله وهي الجنة، فإن الله تعالى ما خلق الخلق إلا من أجل عبادته ليحوزوا ثواب طاعته ووراثة جنته.
(ولا الذي دعيتم إليه): وإنما دعيتم إلى الجنة، كما قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133].
(ألا وإنها ليست باقية لكم): دائمة.
(ولا تبقون لها): تدومون لها، بل تنقطع أعماركم بالموت، وتنقطع الدنيا بالزوال والانقضاء.
(وهي وإن غرتكم منها): بلذاتها، وتعجيل عاجلها.
(فقد حذرتكم شرها): إما بماكان من تغيرها وزوالها من غيركم، وإما بما كان من الحوادث والمصائب والتقلبات.
(فدعوا غرورها): الاغترار بها، والانهماك في حبها.
(لتحذيرها): لكم بالتغيروالزوال.
(وأطماعها): ودعوا ما تغري به أنفسكم من طمعها.
(لتخويفها): لما يلحق فيها من الخوف، إما بانقطاعها وبطلان نعيمها، وإما لما يلحق فيها من المخافات العظيمة والغموم الكثيرة.
(وسابقوا فيها): سارعوا إليها مسارعة من يسابق غيره إلى شيء نفيس يأخذه، والمسابقة إنما تكون بالأعمال الصالحة.
(إلى الدار التي دعيتم إليها): وهي الجنة، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ }[العنكبوت:64].
(وانصرفوا بقلوبكم عنها): بالإعراض عن شهواتها ولذاتها.
(ولا يحنن أحدكم حنين الأمة): الحنين هو: توقان النفس وتشوقها، وحنين الناقة: صوتها إذا نزعت إلى ولدها، ومنه حنين الأمة.
(على ما زوي عنه منها): قبض وجمع فلم يتناوله منها.
(و استتموا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعته): أراد اصبروا على الإتيان بالطاعة ليكون ذلك سبباً لتمام نعمة الله عليكم، وفي الحديث: ((إذا وصلت إليكم أوائل النعم ، فلا تنفروا أواخرها بقلة الشكر، فما كل شارد يعود)) .
(والمحافظة على ما استحفظكم): والتحفظ على ماطلب منكم حفظه.
(من كتابه): والتحفظ عليه، إما بمراعاة أحكامه والوقوف عند حدوده وتحليل حلاله وتحريم حرامه، وإما بألاّ يزاد فيه ولا ينقص ولا يحرَّف ولا يقع فيه تغيير .
(ألا إنه لا يضركم تضييع شيء من دنياكم): إهمالها واطِّراحها غير ضار لأحدمنكم.
(بعد حفظكم قائمة دينكم): وهو الدين المستقيم، العمل بالواجبات، والانكفاف عن المحرمات، والمحافظة على الحدود كلها.
(ألا وإنه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم): إهماله واطِّراحه.
(شيء حافظتم عليه): وإن غلا ونفس.
(من أمر دنياكم): لا نقطاعها منكم، وذهابها من أيديكم.
(أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق): صرفها إلى محبته والعمل بمقتضاه.
(وألهمنا وإياكم الصبر): على فعل الطاعة والقصد بها وجه الله تعالى، والانكفاف عن المعصية أيضاً.
(163) ومن خطبة له عليه السلام في معنى طلحة بن عبيد الله
(قد كنت وما أُهدَّد بالحرب): أراد أني على حالتي وعلو شأني فيما مضى، وقوله: (وما أهدد بالحرب) عطف على شيء محذوف تقديره: قد كنت على حالتي من قبل لا أبالي بما يمرُّ عليَّ من الحوادث، وما أهدَّد بالحرب أي ما أوعدته ، والتهدد: التوعد بالمكاره.
(ولا أُرهَّب بالضرب): ولا أخوَّف به.
(وأنا على ما وعدني ربي من النصر): حيث قال: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ }[الحج:60]، ولا بغي أعظم مما بليت به، من أخذ إمارتي الواجبة لي، وإنزالي من مرتبتي التي وضعني الله فيها، والبغي والفساد في الأرض.
(والله ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان): يخاطب بهذا الكلام طلحة، يقول: إنه ما نزل البصرة، وجاء مستعجلاً للحرب، محفزاً لها، قاصداً لها، متجرداً عن سائر الأشغال، يزعم أنه ثائر بدم عثمان فما فعل ذلك، واستحب فيه إرادة لوجه الله تعالى، وانتقاماً لعثمان، وما فعله:
(إلا خوفاً من أن يطالب بدمه): خوفاً منصوب على المصدرية مفعولاً من أجله أي من أجل خوفه عن أن يطالب هو بدمه .
(لأنه مظنته): موضع التهمة من أجل عثمان، يقال: فلان مظنّة كذا بكسر الظاء وفتحها أي موضعه الذي يظنُّ فيه.
(ولم يكن في القوم): الذين أجلبوا على قتل عثمان.
(أحرص عليه منه): أكثر ملاحقة لقتل عثمان من طلحة، فلهذا كان مظنَّة للتهمة وموضعاً لها لأجل ذلك.
(فأراد أن يغالط): المغالطة: مفاعلة من الغلاط، وهو أن يُري الحق من ظاهره وباطنه بخلاف ذلك، فإظهاره للحرب والاستعجال إليه بزعمه من أجل عثمان ظاهره الانتصار لعثمان، وباطنه خلاف ذلك، يغالط:
(بما أجلب فيه): الضمير إما لعثمان أي أجلب في كفر عثمان، وإما للعسكر الذي أجلب فيه، والجيوش التي حشدها وجمعها.
(ليلتبس الأمر): فلا يقال: إنه معين على قتل عثمان ولا يتهم بذلك لمايبدومن ظهورحاله بالانتصارله.
(ويقع الشك): في ذلك فيكون لقائل أن يقول: كيف يتهم طلحة بدم عثمان، وهاهو ذا في غاية الا نتصارله، بجمع العساكر، وقود الجيوش أخذاً بثأره، وقياماً بدمه فهذا وجه الشك.
(ووالله ماصنع): طلحة.
(في أمر عثمان): في طلبه بدمه، وانتصاره له.
(واحدة من ثلاث): خصلة من خصال ثلاث كان ينبغي له أن يفعل واحدة منها.
(لئن كان ابن عفان ظالماً): بما أحدث من الأحداث التي نقمت عليه واستنكرها الخلق.
(كما كان يزعم): طلحة، فإنه كان في حياته يتهمه بالظلم ويرميه به ، واللام في قوله: لئن كان هي الموطئة للقسم، مثلها في قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ }[الحشر:12].
(لما كان ينبغي له أن يوازر قاتليه): لما هذه هي جواب القسم، والمعنى إن كان عثمان ظالماً عندك فقد استحق ما وقع به من ذلك، فمالك والموازرة لقاتليه أي المغالبة لهم وقتالهم، من قولهم: وزرت فلانا ً إذا غلبته، فهم بزعمك على الحق في قتاله .
(أو ينابذ ناصريه): وكان من حقك المنابذة والمشاجرة لمن نصره؛ لأنهم قد نصروه على الظلم وأعانوه عليه.
(ولئن كان مظلوما ً): كما أنت تزعم الآن وتدعي.
(لقد كان ينبغي): يتوجه على طلحة من جهة الدين والمروءة.
(أن يكون من المنهنهين عنه): الذَّابّين عن حوزته، والصادِّين عن قتله.
(والمعذِّرين فيه): المنتصرين له، يقال: فلان معذِّر في فلان إذا قام في حقه، وذبَّ عنه ونصره.
(ولئن كان في شك من الخصلتين): أن يكون ظالماً، وأن يكون مظلوماً، ولم يعلم واحدة منهما ولا درى بحاله:
(لقد كان ينبغي له أن يعتزله جانباً ): اعتزلت جانب فلان إذا تركته وأهملته.
(ويتركه): فلا ينصره، ولا يخذله.
(ويدع الناس معه): ويترك الناس الذين اجتمعوا عليه ورأيهم فيه.
(فما فعل واحدة من هذه الثلاث): التي ذكرتها وأشرت إليها.
(وجاء بأمر): وهو طلبه بدم عثمان، وهومن القائمين [عليه] فأمره في ذلك أمر:
(لم يعرف بابه): فيدخل إليه.
(ولم تسلم معاذيره): غير الخطأ والمغالطة، ومخالفة الحق، وكما ذكرناه من قبل ماأنعم الله على الزبير وعائشة في إلهامهما للتوبة، وتداركهما عن الهلاك بها.
فلنذكر توبة طلحة كما وعدنا من قبل:
وأقول: إنه كان من الهالكين بما كان منه على أمير المؤمنين من البغي والخروج، ولكن الله لم ينس صحبته لرسوله، وكان من العشرة المبشرين بالجنة: علي، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، والمقداد، وعبد الرحمن بن عوف .
فمن ذلك أنه [لما] أصابه السهم في المعركة أظهرالندامة والتوبة، والتأسف على ما فعله، ثم قال [بعد ذلك] :
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكسْعِيّ لَمَّا ... رَأت عَيْناه مَا صَنَعَت يَدَاه
ومن ذلك أنه قال: ما رأيت مصرع شيخ أضل من مصرعي هذا، بعدما أصيب.
ومن ذلك أن أميرالمؤمنين لما وقف عليه وهو مقتول، فقال:
(يرحم الله أبا محمد) وترحمه عليه يدل على توبته وإنابته لامحالة.
ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين أنه قال:
(إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير، كما قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } )[الحجر:47]، ولولا علمه بالتوبة منهما لما جاز أن يقول ذلك؛ لأن هذا لايكون فيمن مات وهو مصرٌّ على فسقه وبغيه، فتقرر بما ذكرناه صحة توبة طلحة، وأنه مقطوع على نجاته وسلامته بعد ذلك من غضب الله وسخطه.
(164) ومن كلام له عليه السلام قاله لذِعلب اليماني، وقد سأله: هل رأيت ربك؟
وهو [ذعلب] بالذال بنقطة من أعلاها وبالباء بنقطة من أسفلها، وبالعين المهملة، وخلاف ذلك تصحيف لايوجد في الكلام، والذعلب هو: السريع في الأمور، والذعلبة: الناقة السريعة قال جرير:
وَقَدْ أَكُوْنُ عَلى الْحَاجَاتِ ذَا لبَثٍ ... وَأَحْوَذياً إذا انْضَمَّ الذَّعَالِيْبُ
والأحوذي هو: المشمّر في الأمور القاهر لها، ومراده بالذعاليب: قطع الخرق، فقال له أمير المؤمنين:
(أفأعبد ما لا أرى): منكراً [لأن] يكون الأمر على خلاف ذلك؛ لأن العقول تحيل عبادة ما ليس معلوماً ولا مرئياً لحقائق العقول، فقال له ذعلب: وكيف تراه؟ قال:
(لا تراه العيون بمشاهدة العيان): نفى رؤيته بهذه الأحداق، وإدراكه بهذه الحواس لما قد تقررفي العقول من خلاف ذلك واستحالته، وتكذيباً لمن خالفنا في ذلك من طوائف الأشعرية وغيرهم من الفرق الذاهبين إلى جواز رؤيته، وصحتها، ويلزمهم على شناعة هذه المقالة وبشاعتها أن يكون الله تعالى في جهة المقابلة؛ لأنه يستحيل إدراك ما ليس مقابلاً لهذه الحاسة، وإذا كان خالصاً في جهة فلا بد إذا حصل من الجهة، إما أن يكون له حظ الاستقلال في الكون في الجهة فيكون متحيزاً حاصلاً فيها، فيكون جسماً وجوهراً، أو لا يكون حاصلاً في الجهة على جهة الاستقلال فيكون عرضاً من جملة المرئيات، ولا محيص لهم إذا قالوا بالجهة والرؤية فيها من أحد هاتين الشناعتين، وهم لا يقولون بذلك، فإذاً العيون لا تراه.
(ولكن تدركه القلوب): تعلمه وتثبته.
(بحقائق الإيمان): أراد أن القلوب تعلمه من حيث كانت مؤمنة له، ومصدقة به ويستحيل فيمن يكون مؤمناً بالشيء مصدقاً به أن يكون غير عالم به فلأجل هذا قال: إن القلوب تدركه بحقائق إيمانها، يشير إلى ما قلناه من ذلك.
(قريب من الأشياء): بالعلم والإحاطة والتدبير.
(غير ملامس): أراد أنه مع قربه منها فإنه غير ملاصق لها؛ لا ستحالة ذلك، فإن الملاصقة إنما هي في حق الأجسام لاغير.
(بعيد منها): في الحقيقة والمماثلة لها، أو بعيد عن تصورات الأوهام، أوبعيد عن الإحاطة للعقول به.
(غير مباين): يريد أنه وإن كان بعيدا ً، فإنه لايقال: بأنه مباين لها، لأن المباينة هي البعد بين الشيئين، وهذا إنما يكون في الأجسام، وهو تعالى غير جسم.
(متكلم): فاعل للكلام وموجد له، إما في الهواء، وإما في الشجر أوغير ذلك من المحالِّ التي يوجد فيها الكلام.
(بلا رويَّة): فكر ونظر يوجد به الكلام كما يفعل الواحد منَّا.
(مريد): فاعل للإرادة على من يرى أن الإرادة [هي] جنس برأسه مخالف للداعية، وهو قول طائفة من المتكلمين من الزيدية والمعتزلة، أو يكون مراده من ذلك مريداً على معنى أن له داعياً إلى الفعل، وهي المصلحة وتكون الإرادة عبارة عن العلم لاغير، وهو قول النظام من المتكلمين.
(بلا همة): أي بلا مشقة عليه فيما يريده من الأفعال.
(صانع): إما فاعل لهذه المكونات العظيمة، والمصنوعات الباهرة في العالم، وإما محكم لها لما فيها من النظامات والتأليفات البديعة، وما اشتملت عليه من مطابقة المنافع فكل هذا صنع من جهته:
(لا بجارحة): يحكم بها هذه الإحكامات الدقيقة.
(لطيف): بالخلق راحم لهم في جميع أحوالهم، ومع لطفه بهم فإنه مع ذلك:
(لا يوصف بالخفاء[كبير لايوصف بالجفاء] ): لأن الخافي مايصغر حجمه فلا يدرك، وهو تعالى ليس بذي حجم فلايوصف بذلك.
(بصير): يدرك المبصرات كلها.
(لا يوصف بحاسّة): أراد أنه مع إبصاره لكل مبصر فلايكون إبصاره بحاسّة من هذه الحواس أصلاً.
(رحيم): للخلق، وفي الحديث: ((إن الله تعالى خلق مائة رحمة فادَّخر منها تسعة وتسعين رحمة عنده ، ثم أنزل رحمة واحدة يتراحم بها الخلق فيما بينهم)) .
(لا يوصف بالرقة): يريد ومع كونه موصوفاً بالرحمة فإنه لا يوصف بالرِّقة؛ لأن ذلك إنما يكون ممن كان ذا قلب وجارحة، وهو يتعالى عن ذلك.
(تعنو الوجوه): تخضع وتذل، كما قال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ }[طه:111].
(لعظمته): من أجل كونه عظيماً لا يمكن وصف عظمته.
(تجب القلوب): أي تضطرب وتشفق من قولهم: وجب قلبُه إذا اضطرب.
(من مخافته): خوفاً من سطوته، وإشفاقاً من عقوبته، وقد سرد هذه الصفات بغير نسق بحرف العطف، وهذا من علم البديع يسمى التعدية، كما قال تعالى: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ }[غافر:3] وله وقع في النفوس لا يخفى بخلاف ما لوكان بحرف العطف.
(165) ومن كلام له عليه السلام في معنى الحكمين
(فأجمع رأي ملئكم): الأفاضل من جمعكم ورؤسائكم لما فعل معاوية وأصحابه من أهل الشام، من إلقاء المصاحف وتحكيمها غدراً بكم ومكراً.
(على أن اختاروا رجلين): في الحكومة علينا وعليهم وفصلاً لشجارنا وشجارهم، وقد تكررحديثهما غير مرة في عدة من كلامه، ومواضع كثيرة من خطابه، وإنما تكرر ذلك لما وقع بسببهما من الفتنة العظيمة والضلال الكبير.
(فأخذنا عليهما): أوثقنا وربطنا.
(أن يجتمعا عند القرآن): يتفقان على حكمه، وأن لايخالفاه في حكم من أحكامه.
وفي نسخة أخرى: (أن يجعجعا عند القرآن): أي يقفا عنده، من جعجع البعير إذا برك واستناخ.
(لايجاوزاه ): أي لايتعديا حكمه.
(وتكون ألسنتهما معه): مصاحبة له، أي لايقولان إلاماقال، ولا يحكمان إلا بما حكم.
(وقلوبهما معه): يميلان معه حيث مال.
(فتاها): ذهبا عن أحكامه.
(عنه): بالمجاوزة لحده، والمخالفة لأمره.
(وتركا الحق): خلَّفاه وراء ظهورهما.
(وهما يبصرانه): معاينة لاسترة فيها، وأراد أنهما خالفا القرآن بالقصد إلى غير ذلك من غير شبهة، وفعلا ذلك تمرداً وعناداً.
(وكان الجور هواهما): الميل عن الحق ما هوياه، وفعلاه بهواهما وجهلهما.
(والاعوجاج): عن طريق الحق واتباع الهدى.
(دأبهما): في جميع أحوالهما كلها.
(وقد سبق استثناؤناعليهما في الحكم): أراد أنه قد عهد إليهما قبل الشروع فيه الاستقامة على كتاب الله وعلى الوفاء بأحكامه.
(في الحكم بالعدل): ألاَّ يحكما إلا بما يكون رضاً لله تعالى.
(والعمل بالحق): وبما لاحيف فيه من أمر الباطل، فسبق استثناؤنا بما ذكرناه.
(سوء رأيهما): الذي فعلاه من عند أنفسهما.
(وجور حكمهما): ومخالفته للحق.
(والثقة): أي الوثاق إما الوثيقة ، يقال: فلان أخذ بالوثيقة في أمره، والغرض الاستيثاق في الأمر.
(في أيدينا لأنفسنا): أي الوثيقة باقية في أيدينا بعدما فعلا ما فعلا من الخديعة، لا يضر فعلهما في ذلك شيئاً.
(حين خالفا سبيل الحق): ونكصا على أعقابهما وتركا طريقه.
(وأتيا بما لا يُعْرَفُ): جاءا بما لا يعرفه أحد من المسلمين من مخالفة ما قلناه، ومن قتير الأمر.
(من معكوس الحكم): من الحكم الباطل ، والهداية إلى الخطأ والعماية والضلال.
اعلم: أن المتخلفين عن أمير المؤمنين التاركين لمبايعته فريقان:
الفريق الأول:
الذين لم يقتنعوا بترك المبايعة له، بل نصبوا له العداوة، وظاهروا عليه وقاموا في وجهه بالحروب والمشاجرة، ثم هؤلاء صنفان:
فالصنف الأول:
طغوا عليه وبغوا بالمخالفة، ونصب الحرب، ولكن الله تعالى لطف برحمته تداركهم عن الهلاك بالبغي عليه، وهؤلاء هم أصحاب الجمل، طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم من أهل الشام، فإنه قد كان منهم ما كان من ذلك، لكن قد روينا توبتهم وندمهم ورجوعهم إلى أمير المؤمنين، واستقباح مافعلوه وقد توقف في حاله وحال طلحة والزبير وعائشة أقوام، وهو خطأ لأمرين:
أما أولاً: فلأنه قال فيه الرسول: ((تقاتل القاسطين والمارقين والناكثين )) .
وأما ثانياً: فلأنَّا لو وقفنا في حاله مع طلحة والزبير وعائشة، لوقفنا في حاله مع معاوية والخوارج؛ لأن أحوالهم كلها مستوية في البغي والخروج على إمام الحق، كيف وقد قال الرسول عليه السلام: ((ستكون بعدي هنات وهنات )) يريد أشياء قبيحة منكرة ((فمن أراد أن يفرِّق بين هذه الأمة ، وهم جميع فا ضربوه بالسيف كائناً من كان)) .
الصنف الثاني:
الذين استمرو ا على البغي والخلاف والشقاق، وهؤلاء هم معاوية وأحزابه من أهل الشام، والخوارج وأهل النهروان.
واعلم: أنه لا قائل من الأمة بالوقف في حاله، وحال الخوارج لظهورأمرهم في البغي والخلاف، وإن كان في الأمة من وقف في حاله وحال معاوية، وهذا جهل بما ذكرناه في حاله مع طلحة، والزبير وعائشة، ثم ما روي في حال عمار، أنه قال: ((تقتلك ياعمار الفئة الباغية )) وسبب ذلك أنه كان يحمل الْلبْنَ والتراب في عمارة مسجد رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] يوم قدومه من مكة، فقال عمار: يا رسول الله، قتلوني حمَّلوني اللّبْنَ، فأقبل الرسول عليه السلام ينفض وفرته من التراب والغبار، ثم قال له: ((ويح ابن سمية!، ليسوا بقاتليك، إنما تقتلك الفئة الباغية )) .
وحكي أن عماراً قال يوم صفين: الرواح إلى الجنة، يحثُّ أصحابه على القتال .
وحكي عنه أنه قال: ادفنوني في ثيابي، فإني رجل مخاصم. فهذه حال من حاربه.
الفريق الثاني:
الذين تخلفوا عنه بترك المبايعة من غير قتال له ولا محاربة، وهؤلاء هم: عبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، فهؤلاء قد تخلفوا عنه من غيرمحاربة منهم له، ولا خروج عليه لطرؤ الشبهة عليهم في حرب أهل القبلة، فإن كان أميرالمؤمنين طلب منهم الخروج معه للجهاد فتخلفوا، فقد أثموا لا محالة لمخالفتهم لأمره، والله أعلم بحال هذا الإثم أين يبلغ بهم، وإن كان لم يطلب منهم ذاك ، فالجهاد من فروض الكفاية فلا وجه لتأثيمهم من غير أن يطلب منهم الخروج، ثم هم صنفان:
فالصنف الأول:
منهم: من ندم على تخلفه عن أمير المؤمنين، وترك الجهاد معه، وهذا هو ابن عمر، فإنه حكى عنه سعيد بن جبير أنه قال له: يا ابن الدهماء، أما إني لا آسى على فراق الدنيا إلا على ظمأ الهواجر، وألاَّ أكون قاتلت الفئة الباغية .
وروى الزهري أنه قال: لما بويع لمعاوية قال: من أحق بهذا الأمر مني؟ فقال ابن عمر: من ضربك وأباك عليه .
الصنف الثاني:
الذين استمرت بهم الشبهة، وهم من ذكرناه غيرابن عمر، فإن أمير المؤمنين تركهم على حالهم ، ولم يضيِّق عليهم في الخروج معه؛ لاستغنائه بغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
وحكي عن أمير المؤمنين أن قال:
(والله ما لمن فارق الحق عندي إلا ضرب العنق) .
وحكي عنه أن قال لأصحاب النبي عليه السلام: (أنشدكم بالله، هل ترونني عادلاً)؟ قالوا: لو غيرذلك رأيناك لقوَّمناك بأسيافنا.
فقال: (الحمد لله الذي جعلني بين قوم، إذا أردت الميل من الحق قوَّموني بأسيافهم) .
ولله درُّهم جميعاً فما أقوى عزائمهم على الدين وأمضى شباهم فيه!، فانظر إلى إمامهم ما أكبر تواضعه للحق وإنصافه، وانظر إلى هؤلاء الأتباع في تركهم المداهنة في الدين، والمصانعة فيه، ومن هذه حاله ينعش الله به الدين، ويقوِّي به قواعده ، فإذا كان حالهم هذه مع أمير المؤمنين في الصلابة، والتشدد به في ذات الله من إظهار النصيحة، والقوة على الأمر، والشدة فيه والعزم، وتوطين النفس على ألاَّ تأخذهم في الله من لائم ملامة، فكيف حالهم فيمن رأوا منه ما ينكرونه من مخالفة الدين وابتغاء الدنيا، هم لا محالة أشد في الإنكار!، وأبلغ في الإعراض عنه والازورار!.
(166) ومن كلام [له] عليه السلام في ذم أصحابه
(أحمد الله على ما قضى من أمر): أي فرغ من قضائه، من قولهم: قضيت حاجتي إذا فرغت منها، فإن الله تعالى قد فرغ من قضائه للأمور كلها.
(وقدَّر من فعل): وأحكم الأفعال كلها من جميع مايصدر منه.
سؤال؛ أراه خصَّ القضاء بالأمر وخصَّ التقدير بالأفعال، وكل واحد منهما يمكن اختصاصه بالقضاء والقدر، ولم يقل: أحمد على ما قضى وقدَّر من أمر وفعل، فما وجهه؟
وجوابه؛ هو أن القضاء لما كان عبارة عن الفراغ وليس مختصاً بالأفعال، بل كما يكون في الأفعال يكون في غيرها، فإنه كما يقضي الخلق ويفرغ منه، فهو يقضي الأمر من هذا ويعلمه، فلأجل هذا خصَّ القضاء بالأمر لما كان عاماً في الأفعال و في غيرها، وأما القدر فهو التقديروالإحكام، وهو إنما يختص بالأفعال لا غير؛ لأن الإحكام إنما يكون إما بتأليف وانتظام عجيب، وإما أن يكون بمطابقة المنافع وهذا كله مختص بالأفعال، فلا جرم خص التقدير بالأفعال والقضاء بالأمرعلى الإطلاق لما ذكرناه.
(وعلى ابتلائي بكم): أي أحمده على ما قدّر لي من البلوى بعلاجكم، وامتحاني بتدبيركم والولاية عليكم.
(أيتها الفرقة): يعني بذلك أهل العراق من البصرة والكوفة.
(التي إذا أُمِرَتْ لم تُطِعْ): بلغ من حالها أنها إذا أُمِرَتْ بشيء من الأوامر الدينية لم تفعل ما يريده الآمر لها، والمتولي عليها، وهذا على رواية بناء الفعل لما لم يسم فاعله والتاء للتأنيث، فإن كان التاء فاعله فهو يعنى بها نفسه.
(وإذا دعوت): ناديتها إلى ما ينجيها من الأمور.
(لم تجب): دعائي ولا سمعت ندائي.
(إن أمهلتم): الإمهال: التؤدة والإنظار، أي إذا أخرَّتم وأجلَّتم.
(خضتم): فيما لا يلزمكم الخوض فيه، وفي الحديث: ((من طلب ما لا يعنيه فاته ما يعنيه )).
(وإن حوربتم): شنّت عليكم الغارات من جهات شتى، وتلظت عليكم نيار الحرب من كل جانب.
(خُرتم): إما جبنتم من الخورة وهي: الجبن، وإما صرختم من قولهم: خارالعجل فله خوار أي صياح.
(وإن اجتمع الناس على الإمام ): بإعطائه البيعة وبذلهم له السمع والطاعة من جهة أنفسهم، بالانقياد لأمره ، والا حتكام لحكمه.
(طعنتم): في أمره وقلتم: ليس صالحاً لها.
(وإن أجئتم إلى مشاقة): اضطررتم إلى المحاربة من قولهم: أجأته المجاعة إلى الميتة ، وفي المثل: شرما يجئك إلى مخة عرقوب.
قال زهير:
وجارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إِلَيْكُم ... أَجَاءتهُ الْمخافةُ والرجاءُ
(نكصتم): تأخرتم على أعقابكم جبناًوذلة وهواناً.
(لا أبا لغيركم!): قد قدمنا من قبل أن هذه اللفظة، قد يراد بها المدح ويراد بها الذم، وغرضه بها ها هنا المدح، ولهذا قال: (لاأبا لغيركم) يمدح بها غيرهم.
(ما تنتظرون بنصركم): لمن تنصرونه.
(والجهاد على حقكم!): مع من تجاهدون معه، وأضاف النصر والحق إليهم؛ لما لهم فيه من الاختصاص أي النصر المتوجه عليكم، والحق الذي يجب عليكم القيام فيه .
(الموت): هو حائل بينكم وبين النصرة والجهاد.
(أو الذل!): فمع الذل لا يمكن النصرة والجهاد.
(فوالله لئن جاء يومي): دنا أجلي.
(وليأتيني): أي وهو آتٍ إليَّ لامحالة.
(ليفرقنَّ بيني وبينكم): يقطع هذه الوصلة مني ومنكم.
(وإني لِصُحْبَتِكُم قالٍ): باغض كاره، ومنه قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }[الضحى:3].
(وبكم غير كثير): أي وأنا غير متكثر بكم، ولا أعدكم نصرة لي في وقت من الأوقات.
(لله أنتم!): مدحاً لهم، مثل قولهم: لله درُّه، ولله عملك، وأورده على جهة التهكم بهم والاستهجان لأحوالهم وهممهم، كقولك لمن يصدر منه اللؤم وأنواع البخل: لله أمرك فما أكرمك وأكثر جودك.
(أما دين يجمعكم): أي أن الدين هو يجمع المختلفات، فما بالكم لا تجتمعون على مراده، ويكون هو الجامع لشملكم في كل أمر.
(ولا محمية تشحذكم): المحميّة، والمحمية هي: الحميِّة تخفف وتشدد، فأما الحميّة فلا تكون [إلا] مشدداً، قال الله تعالى: {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ }[الفتح:26] والغرض هو: الأنفة، والشحذ هو: تحديد النصل للفري، يقال: شحذت السكين أشحذها.
(أوليس عجباً ): أوليس العجب يقضي من حالي وحالكم.
(أن معاوية يدعو الجفاة): الأجلاف.
(الطغام): الجهال والأرذال من الناس.
(فيتبعونه): ينقادون لأمره ويحتكمون لمراده.
(على غير معونة): منه لهم على أمورهم.
(ولا إعطاء): من الأموال لهم.
(وأنا أدعوكم): وفيه تعريض بمعاوية، أي أنه على ما هو عليه من قلة الدين والبغي والمكر والخديعة، وأنا على ما أنا فيه من قرابتي من رسول الله، ومكاني من الفضل والعلم والدين.
(وأنتم تريكة الإسلام): إما أن يريد التريكة التي هي روضة يغفلها الناس فلا ترعى، وإما أن يريد بيضة النعام لأنها تسمى تريكة، والغرض من هذا كله أنكم الأماثل من الطبقة.
(وبقَّية الناس): البقية: خيار الشيء ونفيسه، وقوله: وأنتم تريكة الإسلام، جملة في مو ضع النصب على الحال من الضمير في أدعوكم.
(إلى المعونة): بنفسي ورأيي.
(وطائفة من العطاء): من الأموال.
(فتتفرقون عني): تذهبون يميناً وشمالاً.
(وتختلفون عليَّ): إما في الآراء بأن يقول بعضكم: الجهاد والخروج حق، ويقول آخرون: لا وجه لذلك، وإما بأن يكون بعضكم موالياً لي، وبعضكم مباين بالخروج عن طاعتي.
(إنه لا يخرج إليكم من أمري رضاً): ما يكون لكم فيه رضا، ولكم فيه محبة وهوى.
(فترضونه ): فتحبونه وتريدونه.
(ولا سخط): ولا أمر يكون فيه سخط لكم، وشيء تكرهونه.
(فتجتمعون عليه): فيكون رأيكم مجمعاً على رده وكراهته، وهذا منه وصف لهم بكثرة الاختلاف فيما يحبونه ويكرهونه، ويشتهونه وينفرون عنه، أي أنهم لا يجتمعون على رأي أصلاً.
(فإن أحبَّ ما أنا لاقٍ إليَّ الموت): إما لصعوبة ما ألاقيه من ممارستكم، وإما لتعجيل رضوان الله وكرامته، فأستريح بالموت خلاصاً عن علاجكم أو بما ألاقيه من ثواب الله وخيره.
(قد دارستكم الكتاب): كررته على آذانكم، من قولهم: درس الكتاب ودارسه إذا قرأه مرات كثيرة.
(وفاتحتكم الحجاج): أي فتحته عليكم وخاطبتكم به، من قولهم: فاتحته بالحديث إذا شرعت فيه.
(وعرَّفتكم ما أنكرتم): من الآداب الحسنة، والمواعظ الشافية، وفيه تعريض بحالهم وجهلهم، حيث أنكروا ما هو حسن وأعرضوا عمَّا هو معجب.
(وسوغتكم ما مججتم): مجَّ الماء إذا وضعه في فِيْهِ ثم رمى به، وساغ الطعام إذا كان مشتهى، وأراد أني عرفتكم ما كنتم تجهلونه لولاي فقد أدَّبتكم وأحسنت رعايتكم، واجتهدت في صلاحكم.
(لو كان الأعمى يلحظ): يريد لو كان الأعمى له لحظ يلحظ.
(والنائم يستيقظ): لكان مستيقظاً عند تبصيري له، وإيقاظي إياه من نومه.
(وأَقْرِبْ بقوم إلى الجهل با لله): تعجب من حالهم، أي ما أقربهم إلى الجهل، وهي صيغة تستعمل في التعجب، قال الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ }[مريم:38] وهي مثل قولهم: ما أقربهم في الإفادة لما يفيده.
(قائدهم معاوية): رئيسهم وإمامهم هذا الرجل المعروف بصفاته، وفيه تعريض بحاله وأنه موصوف بالصفات الذميمة.
(ومؤدبهم ابن النابغة!): يريد عمروبن العاص، وفيه تعريض بحاله أيضاً، وقد قررنا وجه تلقيب أمه بالنابغة، فلا وجه لتكريره في كلام قد سبق.
سؤال؛ من أين يظهر جهلهم بالله بسبب أن معاوية قائد وابن النابغة مؤدب، وما وجه المناسبة بينهما في ذلك حتى جعل هذا لازماً لهذا؟
وجوابه؛ هو أن رئاسة الفاسق المنهمك وتأديبه كمعاوية وابن النابغة، وتحكيم أمرهما في الأمور الدينية وإنفاذ الأحكام الشرعية، مع ما هما عليه من الفسوق والركة في الدين فيه لامحالة استهانة بحق الله، وجهل به، وإعظام لما صغَّرالله من قدرهما، وتبجيل لما هوَّن الله من حالهما، حيث لم يجعلهما عضداً، حيث قال: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً }[الكهف:51] عوناً على شيء من أمورالدين، فضلاً عن أن يكون الحل والعقد معقوداً برأيهما ، والقبول والرد منوطاً بحالهما ، فهذا يكون أعظم في الجهل بالله، وأدخل في عدم الاعتراف بحقه.
(167) ومن كلام له عليه السلام لرجل أرسله إلى قوم ليعلمه علمهم من جند الكوفة هموا باللحاق بالخوارج
وكانوا على خوف منه، فلما عاد [إليه الرجل] قال له أمير المؤمنين رضي الله عنه:
(أأمنوا): استقرت قلوبهم واطمأنت أنفسهم، عمَّا كانوا يحذرونه من جهتي ويتوقعون من سطوتي.
(فقطنوا): فلبثوا في مساكنهم.
(أم جبنوا): خوفاً من الوعيد.
(فظعنوا): رحلوا إلى معاوية، ولحقوا به.
(فقال الرجل: بل ظعنوا يا أمير المؤمنين، فقال: بُعْداً لهم): أبعدهم الله عن الخير، وَبُعْداً من المصادر التي تضمر أفعالها فلا ينطق بها في حال أبداً، مثل: سحقاً وعجباً، وكأنهم وضعوها مع أفعالها، والتقدير فيها بَعدُوا بُعداً.
(كما بعدت ثمود!): فانظر ما أرقَّ هذه الكلمة وما ألطفها، وما أعظم مباينتها لما قبلها من الكلام، وإن كان في غاية البلاغة، و ما ذاك إلا لكونها آية من كتاب الله تعالى وقعت موقعاً ملائماً لما جيء بها في القرآن، وإبعادهم بما أهلكهم الله به من العذاب من أجل عقر الناقة وغيرهم.
(أما لو أُشْرِعتْ الأسنة إليهم): أشرع الرمح إذا وجَّهه نحوه ليطعنه.
(وصُبَّت السيوف على هاماتهم): وضعت على رءوسهم وجعل الصبّ تجوزاً واستعارة؛ لأنها بمنزلة إفراغ الماء على رءوسهم، والهامات: أعالي الرءوس، وأما هذه للتنبيه.
(لقد ندموا على ما كان منهم): يريد أنه لو قد أوقع بهم وقعة عظيمة لقد تأسفوا على ما فعلوه من اللحاق بمعاوية، والانتصاب لمحاربته والبغي عليه.
(إن الشيطان اليوم): في زمانهم هذا.
(قد استقلهم): استقلَّ القوم إذا رحلوا، وأراد أنه استقلَّ بهم أي مضى وانفرد بهم، وتمكَّن من إغوائهم، والتحكم فيهم.
(وهو غداً متبرئ منهم): يريد إما يوم القيامة؛ فإن الشيطان ينقطع تعلقه بهم في ذلك اليوم، وإما أن يريد عند تحققهم الوقائع العظيمة من جهته يعرفون حالهم، وانقطاع معذرتهم بتبصرهم للحق وعيانه.
(ومخلٍّ عنهم): مسلِّمهم إلى النار، من قولهم: خُلِّي عنه وذهب إذا سلَّمه لما هو فيه من الأمر، وانقطع عنه فلا ينفعه أبداً.
(فحسبهم): فيكفيهم جزاء ونكالاً وويلاً ووبالاً.
(بخروجهم من الهدى): الباء هذه زائدة، وخروجهم في موضع الخبر للمبتدأ وهو حسبهم، كزيادتها في قوله تعالى: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ }[الرعد:43] أي كفى الله.
(وارتكاسهم في الضلال والعمى): الركس: ردُّ الشيء مقلوباً، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا }[النساء:88] أي ردَّهم إلى كفرهم، وأراد ها هنا ردّهم إلى العمى والضلالة بعد الهداية،و هو عبارة عن إصرارهم على الضلال.
(وجماحهم في التيه): رجوعهم إلى الحيرة.
(168) ومن كلام له عليه السلام للبُرج بن مُسْهِر الطائي
وقد قال حيث يسمعه: لا حكم إلا لله، وكان من الخوارج، فقال له أمير المؤمنين:
(اسكت قبحك الله): أي نحَّاك عن الخير، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ }[القصص:42].
(يا أثرم!): الثرم: سقوط الثنية من أسنانه، ويقال: ثرمه الله أي أسقط ثنيته، وكان الرجل ساقط الثنية، فلهذا قال له ذلك.
(فوالله لقد ظهر الحق): بان واستقرت قواعده.
(فكنت منه ضيئلاً شخصك): رجل ضيئل الجسم، إذا كان نحيفاً.
قال السلولي :
فما قُدَّ قِدُّ السّيفِ لا مُتَضَائلٌ ... ولا رَهَلٍ لَباته وبآدلُهُ
وأراد أنه ضعيف في الحق.
(خفياً صوتك): لا يعلم بحسه، وهذا كله كناية لهوانه في الدين، وركة حاله فيه.
(حتى إذا نعر الباطل): نهض بقوته يقال: ما كانت فتنة إلا نعر فلان فيها أي نهض، وإن فلاناً لنعّار في الفتن، إذا كان ساعياً، أو يريد حتى إذا نعر الباطل أي فار وغلى مِرْجَلهُ، ومن قولهم: نعر الْعَرَقُ ينعر إذا فار بالدم فهو نَعار.
(نجمت): ظهر أمرك واستبان حالك.
(نجوم قرن الماعز): لأنه يسرع في ظهوره إذا ظهر، يقال: نجم السن والقرن إذا طلعا، وغرض البرج بما تكلَّم به من هذا الكلام، يشير به إلى ما وقعت فيه الفتنة بسبب التحكيم لهم، ويقررون الخطأ على أمير المؤمنين في ذلك فيما فعل من ذلك، وأن الحكم ليس يكون إلى واحد من الخلق، وإنما الحكم هو لله وهي كما قيل: كلمة حق يراد بها باطل، وقد مرَّ الكلام عليهم في التحكيم غيرمرة من الكتاب.
ونذكر الآن نكتة شافية في بطلان الطعن بالتحكيم على إمامة أمير المؤمنين، كما تزعمه الخوارج:
اعلم : أن التحكيم كان سبباً للطعن للخوارج في إمامة أمير المؤمنين، وإبطال ولايته وسبباً لإكفاره من جهتهم، وخطأهم في هذا، وضلالهم يظهر من أوجه:
أما أولاً: فلما قد تقرر من ثبوت إمامته باتفاق منهم، وإذا كان الأمر في إمامته مقطوعاً به فلا وجه لإبطالها بعد تقررها وثبوتها، بالأمور التي لا يقدح في بطلانها وثبوتها، وما ذكروه من [أمر] التحكيم، لايسلَّم قبحه فضلاً عن أن يكون موجباً لكفره، أو فسقه أو بطلان ولايته.
وأما ثانياً: فلما ورد في خبر عمار: ((تقتلك ياعمار الفئة الباغية )) وهو مقتول في صفه لا محالة.
وأما ثالثاً: فقوله: ((تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين )) وما قاتلهم أحد سواه.
وأما رابعاً: فقوله: في ذي الثُّديَّة : ((يقتله خير الناس )) .
وأما خامساً: فالأخبار الدّالّة على فضائله، فإنها دالَّة على سلامة العاقبة في حاله في كل حالة، وعلى كونه من أهل الجنة بلا مرية، فإذا كان الأمر كما قلناه بطل قولهم: إن أمرالتحكيم يكون كبيرة يوجب قطع الموالاة في حقه؛ لأن ما هذا حاله من الأفعال فهو محتمل لأن يكون حسناً، وأن يكون قبيحاً، ثم إذا كان قبيحاً فحاله محتمل لأن يكون صغيراً، وما هذا حاله من الأفعال فإنه لا يزيل الولاية، ولايقطع الموالاة الثابتة بالقطع، ولا الولاية المتقررة، ثم نقول: ليس يخلو ما ذكروه من الخطأ إما أن يكون واقعاً في نفس التحكيم من أصله، أو يقع في الحكمين أنفسهما، حيث حكمَّ من ليس أهلاً لذلك، أو يكون واقعاً في نفس الفعل الذي وقع من أجله التحكيم، وأنه لا يحل وقوع الحكم فيه، أو غير ذلك من الوجوه المحتملة فيه، وهذا كله فاسد، فإن الإمام إذا كانت إمامته ثابتة صحيحة، فأمور الأمة كلها منوطة إلى رأيه وموكولة إلى استصوابه، فإذا غلب على ظنه صلاح لهم في أمر من الأمور جاز فعله، ولا يعترض عليه في شيء من ذلك، ولا يكون ما فعله خطأ، وفيما ذكرناه دلالة كافية على حسن ما فعله أمير المؤمنين من التحكيم، وأن إعراض الخوارج خطأ وضلال، ومجانبة لطريق الحق وخروج وانسلال.
سؤال؛ إن كل من حاربه أمير المؤمنين من أهل القبلة كأصحاب الجمل، ومعاوية وأصحابه، وجميع فرق الخوارج كانوا مقرِّين بالتوحيدوالنبوة والقرآن، وجميع أحكام الإسلام والدين، ملتزمون لها فكيف لم يتركهم عن المحاربة، ويخلِّيهم وهذه الآراء وفي ذلك تسكين الدهماء وحقن الدماء؟
وجوابه؛ هو أن هذه هي شبهة من توقف في متابعته لما حارب أهل القبلة، وهذا خطأ، فإنه عليه السلام إنما التزم قتالهم دفعاً للمضارِّ الدينية والدنيوية؛ لأنه علم من حالهم أنه إن تركهم على ما هم عليه أدَّى ذلك إلى بطلان الإمامة، وبها يتعلق نظام الدين وبطلان ما يتعلق من أحكام السنة ، وفيه انتظام المصالح الدنيوية، ولهذا قال: (ما رأيت إلا حربهم أوالكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) ولهذا كان يبدأهم بالنصيحة قبل القتال، ويدعوهم إلى السداد والصلاح، وطريق الاستقامة على الدين ويلاطفهم غاية الملاطفة، وكان لا يبدأهم بقتال، ولما كان يوم صفين أنظرهم وتأنَّى في أحوالهم، فلما يئس من ذلك نادى بأعلى صوته:
(يا أهل الشام، قد توقفت لترجعوا إلى الحق وترجعوا إلى الله تعالى وتنيبوا واحتججت بكتاب الله تعالى، فلم تتناهوا، ألا وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) ثم تقدم للا ستعداد والمحاربة، وقال لأصحابه:
(اتقوا الله، وغضوا الأبصار ) ثم قال:
(اللَّهُمَّ، ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وعظَّم لهم الأجر) . فهذه الطريقة معروفة من سياسته تدل على ما قلناه من أن حربه لهم إنما كان على جهة دفع الضرر عن الدين والدنيا، وأن تركها يكون خطأ ومعصية فبطل ما قالوه .
(169) ومن خطبة له عليه السلام في ذم أصحابه
(أيها الغافلون): عن إتيان ما يصلحهم في الآخرة من الأعمال الصالحة.
(غير المغفول عنهم): أي وليس مغفولاً عنهم بالتحفظ على الأعمال، والمراقبة للأحوال كلها.
(والتاركون): لأخذ الأهبة من زاد الآخرة، والتأهب لها.
(والمأخوذ منهم): أي وقد أخذ عليهم شكر النعم، والاهتمام بالطاعات لله تعالى.
(ما لي أراكم عن الله ذاهبين): عن طاعة الله تعالى، والقيام بواجباته، والكفِّ عن محارمه، والمحافظة على حدوده كلها.
(وإلى غيره راغبين!): ولا ترغبون إليه كرغبتكم إلى غيره في منفعة يسيرة، ونيل حطام قليل، وغرضه من ذلك هو أن الواحد إذا طمع في نيل منفعة من غيره فإنه يتهالك في رغبته إلى ذلك الشخص، ويتواضع له تواضعاً كبيراً، وهي في الحقيقة من جهة الله تعالى، لأنه لولا الله ما كان ذلك النفع من جهة ذلك الشخص، ولا يرغب إلى الله تعالى في أمر عظيم، وهو الجنة كرغبته هنالك، فلهذا قال: (وإلى غير الله راغبين) يشيربه إلى ما قلناه.
(كأنكم نَعمٌ): النعم اسم جمع، ويجمع على أنعام، قال الله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ }[النحل:5] ويجمع على أناعيم، وهي: السوائم المرعية، وأكثر ما تقع على الإبل، قال الفراء: هو مذكر لا يؤنث يعني النعم، يقال : هذا نعم، وأراد وأما الأنعام فتذكر وتؤنث.
(أراح بها سائم إلى مرعى وبي): أراح الإبل إذا ردَّها إلى المُراح، والمُراح بضم الميم: مأوى الإبل، وبفتحها هو المصدر ويكون للموضع أيضاً، والسائم هو: الذي يسيمها أي يرعاها، والوباء هو: الوخم.
(ومشرب دويّ): أي ممرض، والدويّ مقصور هو: المرض، وغرضه من هذا كله أنه حصل لهذه الأنعام في مآكلها ومشاربها الوباء، ومع ذلك لا بقاء لها.
سؤال؛ ما وجه هذا التشبيه بالأنعام، ومشربها ومرعاها؟
وجوابه؛ هو أنه شبَّه الخلق في كثرتهم وإسراع الموت فيهم بمنزلة إبل كثيرةوقعت في مراعي وخيمة، ومشارب متلفة فأسرع إليهم المرض والهلاك، فهم على هذه الحالة في إسراع الموت فيهم، ومن بديع التشبيه قول بعضهم:
الشمسُ من مشرقِها قدبدت
كأنَّها بوتقةٌ أحميت
... مشرقةً ليس لها حاجبُ
يجولُ فيها ذهبٌ ذائبُ
فشبَّه الشمس في حركتها وصقالتها وتحركها وصفائها بالبوتقة؛ لمافي الذهب من النعومة.
(إنما هي كا لمعلوفة للمدى): الضمير للنعم، والمدى جمع مدية وهي: الشفرة، والمعلوف من البهائم: ما كان حاصلاً في البيت لا يفارقه.
(لا تعرف ما يراد بها!): أي وقت يكون ذبحها ونحرها ، فهكذا حالنا بالإضافة إلى الموت لا يدري واحد منَّا متى يقدم عليه، وفي أي وقت يكون هلاكه.
(إذا أُحْسِنَ إليها): بالإطعام والشرب، والتعهد لأحوالها.
(تحسب يومها دهرها): إما في الرخاء والدعة، وإمافي الدوام والبقاء والاستمرار، وأراد أنها إذا نعِّمت يومها هذا التي هي فيه تظن جهلاً أن دهرها يكون كذلك.
(وشَبعها أمرها): واكتفاؤها من الطعام، وهو الشبع هو نهاية أمرها وقصارى حالها في ذلك.
(والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم): أعلمه وأقرره في نفسه.
(بمخرجه ومولجه): المخرج والمولج يراد بهما الزمان والمكان جميعاً، وأراد مكان خروجه وولوجه أوزمانهما.
(وجميع شأنه): أحواله كلها.
(لفعلت): لكنت متمكناً من ذلك، إشارة إلى المذكور أولاً من المخرج والمولج.
(ولكن أخاف أن تكفروا برسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] ): فيه وجهان:
أحدهما: أنه إذا أخبرهم بها لحقهم غم شديد، و أسف عظيم علىذلك فلايمتنع أن يكون ذلك سبباً في الردة وإنكار النبوة للرسول، وجحدها لفرط ما يصيب من ألم ذلك الأمر وشدته.
وثانيهما: أنه لو أخبرهم بأمور لا يمتنع أن يلحقهم فيها تكليف عظيم من جهة الله تعالى، وأثقال وآصار بتحملها فيؤدي ذلك إلى ردِّها والإعراض عنها، فيكون في ذلك إنكار لما أمر به الرسول، وردُّ لمقالته فيكون ذلك كفراً، ومما يقرب من إفادة كلامه هذا، قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:101] تغمُّكم وتحزنكم أويصعب عليكم فعلها وأداؤها {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ }[المائدة:101] يأتي الوحي من جهة الله تعالى {تُبْدَ لَكُمْ} يظهرها الله {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا }[المائدة:101] عن مسألتكم [هذه] وصفح، وذلك ما روي أن سراقة بن مالك قال: يارسول الله، الحج علينا كل عام، فأعرض عنه رسول الله حتى أعاد ذلك ثلاث مرات، فقال رسول الله: ((ويحك! وما يؤمِّنك أن أقول: نعم، والله لو قلت: نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمرفأتوا به ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) .
(ألا وإني مفضيه إلى الخاصة): ذوي العقول والأديان، والعلوم الراسخة.
(ممن يؤمن ذلك منه): الإشارة إلى الكفر، يريد أني أُعلم به من لا يكفر ولا يرتدّ، بل يكون ثابتاً في الدين راسخاً فيه قدمه.
(والذي بعثه بالحق): بالتوحيد، والعلوم الدينية.
(واصطفاه على الخلق): اختاره منهم.
(ما أنطق): بكل ما قلته مما ذكرته لكم.
(إلا صادقاً): فيه لاأكذب أبداً.
(ولقد عهد إليّ بذلك كله): أخبرني به، وأقرّه في قلبي.
(وبمهلك من يهلك): أراد بقتل من يقتل، وبموت من يموت، وإما بهلاك من يهلك في النار.
(وبمنجى من ينجو): أراد إما من الفتن والمحن كلها، وإما من الناربدخول الجنة.
(ومآل هذا الأمر): المآل: المرجع أي وما يرجع إليه في عاقبته، وكيف يكون مصيره.
(وما أبقى شيئاً يمرُّ على رأسي): من أحوال هذه الفتن، وجري هذه الحوادث من مبدأها إلى منتهاها.
(إلا وفرغه في أذني): أقرَّه في سمعي فسمعته ووعيته.
(وأفضى به إليََّ): أظهره إليَّ، والفضاء هو: الظهور.
(أيها الناس): خطاب عام.
(إنّي والله ما أحثكم على طاعة): مما يراد به وجه الله تعالى، وابتغاء مرضاته، والتقرب إليه.
(إلا وأسبقكم إليها): بالفعل والتحصيل لها.
(ولا أنهاكم عن معصية): عمَّا ينكره الله، وينهى عنه.
(إلا وأتناهى قبلكم عنها): أنهي نفسي عنها قبل نهيكم عنها، واتصال قوله: ما آمركم بطاعة... إلى آخره بما قبله فيه وجهان:
أما أولاً: فبأن يكون من باب الاستطراد، وهو الإتيان بكلام بعد كلام لا تعلق له بالأول، وقد ذكرناه غير مرة في كلامه ونبَّهنا عليه.
وأما ثانياً: فلأنه لما ذكر ما عرَّفه به رسول الله من العلوم الغيبية عقَّب بالحث على الطاعة والفرار من المعصية، وعطفه عليه؛ لأنه نوع منه من حيث كان عليه السلام لا يُعَلِّم إلا بما يكون طاعة لله تعالى، ويكون سبباً للفرار من معصيته، فلهذا عطفه عليه.
وقد نجز غرضنا من شرح كلامه هذا على ما اشتمل عليه من الأسراروالمعاني، والحمدلله.
ولله دَرُّ نصائح أمير المؤمنين فيما بذله للخلق، وأعلاها وأحقها برضوان الله ومطابقة مراده وأولاها، فلقد نال من الله عظيم الزلفة، وعلو الدرجات، وفاز بما بذله في ذاته من عظيم الأجر، ومضاعف الحسنات.
(170) ومن خطبة له عليه السلام في الوعظ
(انتفعوا ببيان الله): بالأدلة التي نصبها وقررها، فالأدلة العقلية دالة على وجوده وتوحيده والأدلة الشرعية دلالة على المصالح والمفاسد من دينه.
(واتعظوا بمواعظ الله): التي جاءتكم في كتابه، وعلى ألسنة الرسل من إهلاك من سلف من القرون الماضية، والأمم الخالية، من أجل المخالفة بالعقوبات العظيمة، والنكالات الشديدة فاحذروا مثل حالهم.
(واقبلوا نصيحة الله): النصح: خلاف الغش، وأراد أنه تعالى بما قرر في العقول وأوضحه على ألسنة الرسل من الهداية إلى الخير، والتحذير من الشر كان في غاية النصح؛ إذ لا نصح أعظم من ذاك، ولا أبلغ.
(فإن الله تعالى قد أعذر إليكم بالجلية): بالغ في قطع المعذرة، والجلية فعيلة وهو: الخبر اليقين، ومنه قولهم: جلَّى لي الأمر إذا أوضحه.
(واتخذ عليكم الحجة الواضحة): الاتخاذ افتعال من الأخذ، يقال: أخذت عليه أن يفعل كذا أي ألزمته، وأراد أن الله تعالى أ لزمهم الحجة الواضحة، وأظهرها لهم وبيَّنها على ما أراد.
(وبيَّن لكم محابَّه من الأعمال): ما يحبه من الأفعال، فطلبه وأمركم بتحصيله من واجب أو مندوب.
(ومكارهه منها): والذي يكرهه من ذلك، فنهاكم عنه، وحذركم عن فعله من قبيح أو مكروه.
(لتتبعوا هذه) الإشارة إلى الأفعال المحبوبة.
(وتجتنبوا هذه): أي الأفعال المكروهة.
(فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ((حفت الجنة بالمكاره ))): أي أحيط حولها، (((والنار حفت بالشهوات))) : أي أحيط حولها، وإنما أورد عليه السلام كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بياناً لما ذكره من محابِّ الله ومكارهه، من الأعمال كلها، أي مما كان مكروهاً من الأعمال شاقاً فعله، فهو مما تطلب به الجنة؛ لما يقع فيه من الثواب، وما كان مشتهى لذيذاً فعله فهو من هوى النفس ومرادها، وهو مما يورد النار لا محالة.
(واعلموا أنه مامن طاعة الله شيء إلا يأتي في كره): أراد أنه لا طاعة لله تعالى في أمر من الأمور إلا وتلحقها المشقة في فعل أو كف، فتكون تلك المشقة سبباً للثواب.
(وما من معصية الله في شيء إلا يأتي في شهوة): يريد أن أكثر المعاصي كلها إيثار لهوى النفس، وهو من جملة ما يشتهى [ويودُّ] ، فلا جرم كانت المعاصي مشتهاة كما ذكر.
سؤال؛ كيف قال ها هنا: (إن الطاعة لا تأتي إلا في كره)، وقد يشتهي الإنسان فعل الصلاة، وقال: (إن المعصية لاتأتي إلا في شهوة) وقد يكون عاصياً بالظلم وفيه إتلاف النفس والتغرير بها في الهلاك؟
وجوابه؛ هو أن الغرض أن الطاعة لا تنفك عن الكراهة، والمعصية لاتنفك عن الشهوة، فالإنسان وإن اشتهى الطاعة في وجه، فالكراهة تتعلق بها من أوجه، وهكذا إنه وإن نفر عن المعصية من وجه فهي مشتهاة من أوجه أخر غير ذلك، ومراده من ذلك هو أن الطاعة غير منفكة عن الكراهة، وأن المعصية غير منفكة عن الشهوة، وهذا حاصل بما قررناه.
(فرحم الله رجلاً نزع من شهوة ): هذا دعاء بفعل الرحمة، وهي اللطف، ونزع أي زال عن الشهوة وأقلع، من قولهم: فلان قد نزع عن فعل الشر.
(وقمع من هوى نفسه): قهر هوى نفسه، بالمخالفة له والزوال عنه.
(فإن هذه النفس أبعد شيء منتزعاً ): يريد أنها بعيدة الانتزاع عمَّا يكون قبيحاً، وعمّا كانت تهواه إلا على من وفقه الله ورضيه؛ وذلك لأن النفس كثير ما تألف الهوى، والفطام عن المألوف عسير.
سؤال؛ ما هذه الفاء في قوله: (فإن هذه النفس)، وأراه لم يحذفها كما في قوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ }[الحج:1] وغيرها؟
وجوابه؛ هو أن الفاء إنما أتى بها ها هنا إشعاراً بأن الجملة المتصلة بها، مباينة للجملة التي قبلها لا تعلق لها بها، فإذا كانت الجملتان قد أفرغتا في قالب واحد لم تأت الفاء كا لآية.
(وإنها لا تزال تنزع إلى معصية): تتوق إليها، من قولهم: نفسه تنزع إلى وطنه إذا تاق إليه وتشوّق، ثم تلك المعصية حاصلة:
(في هوى): وفي هذا دلالة على أن مِلاك المعاصي وقاعدتها هو الهوى والانقياد لحكم النفس، فنعوذ بالله من غلبة الهوى واتباعه.
(واعلمواعباد الله): مفعولا العلم ها هنا محذوفان ظهوراً، وأن وما بعدها من تعلقاتها ، سادة مسدهما، وعبادالله منصوب على النداء.
(أن المؤمن لا يصبح ولا يمسي): أراد في جميع أحواله، وذكر الصباح والمساء لشمولهما وعمومهما لذلك.
(إلا ونفسه ظَنُونٌ عنده): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن المؤمن نفسه قليلة حقيرة عنده يقللها ويحقرها، من قولهم: بئرظنون إذا كانت قليلة الماء.
وثانيهما: أن يكون معناه أن المؤمن يسيء الظن بنفسه في رزقه وحال معيشته، فيظن أن قلة ماله ونقصان قدره من تقصيره في حق الله تعالى، من قولهم: رجل ظنون إذا كان يسيء الظن بنفسه.
(فلا يزال زارياً عليها): بتقديم الزاي على الراء، من زراه إذا نقصه وعابه، ومنه الازدراء وهو: النقص.
(ومستزيداً لها): من الأعمال الصالحة، وفعل الخيرات.
(فكونوا كالسابقين قبلكم): يشير إما إلى الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم بلغوا في الزهد في الدنيا الغاية، وإما أن يريد من كان قبلهم ممن زهد في الدنيا وأطرحها.
(والماضين أمامكم): ممن ذكرناه من هؤلاء، ويحتمل أن يكون مراده فأنتم صائرون إلى الموت وكائنون فيه لا محالة، كما كان من قبلكم من الأمم الماضية.
(قُوِّضوا من الدنيا): تفرَّقوا، من قولهم: تقوَّضت الصفوف إذا تفرَّقت وذهبت.
(تقويض الراحل): بمنزلة من رحل عن مكان، فهو يقوّض رحله إلى مكان آخر.
(وطووها): انقضت فيها أعمارهم ساعة بعد ساعة، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام.
(طيَّ المنازل): بمنزلة السَّفْرِ الذين يطوون سفرهم، فينزلون كل يوم في منزلة غير الأولى إلى أن ينقضي السفر.
(واعلموا أن هذا القرآن): يريد كتاب الله، وسمي قرآناً من أجل اجتماعه، يقال: قرأ الماء في الحوض إذا جمعه.
(هو الناصح): المعطي للنصيحة.
(الذي لا يغش): في نصيحته، يريد أن نصحه صِرْفٌ ، لا يخلط بغيره، ولا يمتزج به سواه.
(والهادي): لكل من اهتدى به إلى كل خير.
(الذي لا يضل): من اهتدى بهديه، وسلك منهاجه.
(وَالْمُحَدِّث): بالمواعظ الشافية، والقصص الصادقة.
(الذي لا يكذب): لا يدخل حديثه كذب، ولايتهم به كسائر غيره من الأحاديث.
(وما جالس أحد هذا القرآن): المجالسة هاهنا هي: المدارسة له، والنظر فيه والتفكر في عجائبه واستنهاض غرائبه، استعارة له من مجالسة الإنسان لغيره ومفاكهته له.
(إلا قام عنه بزيادة أو نقصان): الاستثناء ها هنا للتفريغ في الجُمَلِ، كقولك: ما جاء زيد إلا أكل وشرب، والغرض أن أحداً لا يفاكه القرآن ويعتلق به بكثرة الدرس، إلا وأثمر له ثمرة زيادة أو نقصان.
(زيادة في هدى): الإقبال على الخيرات، والأعمال الصالحة، والفوائد العجيبة والحكم البالغة، والآداب النافعة في الدين والدنيا.
(أو نقصان من عمى): من جهة أن الإنسان إذا ازداد من شيء انتقص من نقيضه، فالإقبال على الآخرة هو زيادة من الهدى، ونقصان من العمى وهوالزيادة في الدنيا، والشغل بها.
(واعلموا أنه ليس على أحد): من الخلق كلهم.
(بعد الفرقان من فاقة): جوع إلى غيره لما فيه من الكفاية عمَّا سواه، والاستغناء به في جميع أموره الدينية والدنيوية.
(ولا لأحد قبل القرآن من غنى): أي الغنى منتفٍ عن كل أحد قبل نزول القرآن، وهذا يصدق قوله تعالى في وصف كتابه الكريم: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام:38] وبأنه نور وشفاء، وأنه يهدي للتي هي أقوم والتي هي أحسن، وغير ذلك من الصفات.
(فاستشفوه من أدوائكم): أي اطلبوا منه الشفاء من جهته، ومن عنده عمَّا يصيبكم من الأدواء وهي: الأمراض.
(واستعينوا به على لأوائكم): أي واطلبوا منه الإعانة، على ما يعتريكم من الشدة في الأمور كلها.
(فإن فيه شفاء من أكبر الداء): أعظمه، وأكبره فساداً للدين.
(وهو الكفر): بالله والشرك به؛ لما تضمنه من الدلالة على التوحيد، وإبطال عبادة غيره، والرد عليهم في ذلك.
(والنفاق): وبما أكثر الله على المنافقين من الرد والا ستهانة لأحوالهم، في غير آية لما فيه من البشاعة والسماجة .
(والغي والضلال): الغي بالغين بنقطة من أعلاها: خلاف الرشد، قال الله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ }[البقرة:256]، والضلال هو: الميل عن الحق، وأراد أن في القرآن سلامة من هذه الأمور كلها وبُعْداً عنها، والوقوف على مراد الله تعالى، وسلوك منهاجه.
(واسألوا الله به): لمكان حرمته عنده، وحقه عليه.
(وتوجهوا إليه بحبه): اجعلوا محبة القرآن وجهة إلى الله في قضاء حوائجكم، أي اتخذوه وُصلة وذريعة إلى ذلك.
(ولا تسألوا به خلقه): لأمرين:
أما أولاً: فلأن ما يسأل به من جهتهم حقير من مطالب الدنيا، وقدره أعلى وأجلَّ من ذلك.
وأما ثانياً: فلأنهم لا يعرفون حقه، فلا ينبغي أن يسألوا به لجهلهم بحقه.
(إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله): في جلالة القدر والحرمة، وعظم الموقع له عند الله، وفي هذا دلالة على شرفه على غيره من المخلوقات التي عظَّمها الله تعالى وشرَّفها، ورفع مكانها نحو الكعبة والسماء، والأرض، والطور، والبيت المعمور، وغير ذلك من الأمكنة المشرفة، والأزمنة المباركة، والأشباح الفاضلة.
(واعلموا أنه شافع): لمن استشفع به.
(مشفَّع): فيما شفع فيه.
(وقائل مصدَّق): فيما نطق به، فما شهد به فهو صدق، وما قاله وتضمنه فهو حق.
(وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة) : برفع الدرجة والسلامة.
(شفِّع فيه): كان مقبولاً فيما قاله، ونطق به.
(ومن محل به القرآن يوم القيامة): سعى به أوجادله، والْمِحَالُ: الجدال، قال الله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }[الرعد:13].
(صُدّق عليه): كان ما قاله القرآن فهو الصدق لا محالة.
(فإنه ينادي [منادٍ] يوم القيامة): يعلن على رءوس الأشهاد:
(ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله): ممتحن في كدِّه وكدحه وسائر أعماله، تعرض له البلاوي والامتحانات كلها.
(غير حرثة القرآن): إلا العاملين بالقرآن، وأهل الدرس له، والمسهرين لياليهم في تلاوة ألفاظه، فإنهم لا تلحقهم البلوى ولا تعتريهم الامتحانات، بل في أمان من ذلك، لا يخافون خوفاً ولايتصل بهم.
(فكونوا من حرثته): العاملين به والمتعبين لأنفسهم فيه.
(وأتباعه): والتابعين له في امتثال أوامره ونواهيه.
(واستدلوه على ربكم): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد استدلوا به على أحكام الله تعالى التي تعبدكم بها من الإيجاب، والتحليل والتحريم والندب، وغير ذلك مما شرعه لكم.
وثانيهما: أن يريد استدلوا بالأدلة التي قررها فيه على وجود الصانع وتوحيده، فإن الله تعالى قد رصف الأدلة في القرآن الدا لة على وجوده وتوحيده رصفاً، وبيَّنها فيه بياناً، لا تتسع له القوى البشرية، ولا تقدر عليه الفطن الآدمية، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ}[آل عمران:190]، وهكذا ماقاله في سورة الروم في مثل قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا...}[النمل:61] إلى آخر هذه الآيات، فإن فيها دلالة باهرة على وجوده وإثباته، وهكذا ما ذكره الله تعالى في غير آية من ذلك، ولو ذهبنا نستقصي ذلك لطال الكلام فيه، ولم نقف له على غاية.
(واستنصحوه على أنفسكم): أي اطلبوا النصيحة منه، فهو دال عليها لأنفسكم.
(واتَّهموا عليه آراءكم): أراد أنه إذا دلَّ على شيء، ودلَّت الآراء على خلافه ونقيضه فهو الدال على الصواب، وهي متهمة بالإضافة إليه؛ لكونه حقاً وغيره غير حق.
(واستغشُّوا عليه أهواءكم): أي أنه إذا دلَّ على شيء فهو صريح فيما دلَّ عليه، ودلالة الهوى فيما تدلُّ عليه مغشوشة، بالإضافة إليه.
(العمل العمل): أي الزموا العمل الصالح وافعلوه.
(ثم النهاية النهاية): وهي إما القيامة، وإما الموت، فاعملوا من أجل ذلك وبادروه.
(ثم الاستقامة الاستقامة): على الدين والتزام أحكامه.
(ثم الصبر الصبر): إما على البلاوي، وإما على التكليف وأحكامه، فإن الله مع الصابرين بالإعانة والتأييد والنصر.
(والورع الورع!): فإنه أساس الدين وقاعدة مهاده، وفي الحديث: ((مِلاكُ الدين الورع )) ، وفي حديث آخر: ((لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار ، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا، ما قُبِلَ ذلك منكم إلا بورع حاجز)) .
(إن لكم نهاية): غاية تنتهون إليها وتقفون عندها.
(فانتهوا إلى نهايتكم): أراد أن الإنسان مأخوذ عليه في تزكية نفسه، وتحصيل أسباب السعادة الأبدية، والزلفى عند الله وأن له نهاية من ذلك ينتهي عندها، فينبغي منه الاجتهاد حتى يبلغ إليها ويصل.
(وإن لكم علماً): أدلة واضحة على الدين والإسلام.
(فاهتدوا بعلمكم): فَأْتَمّوا به من غير مخالفة له، وقد ورد مثل هذا عن الرسول عليه السلام:((إنَّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم )) .
(وإن للإسلام غاية): حداً لايكون الإنسان مسلماً إلا بإحرازه وتحصيله.
(فانتهوا إلى غايته): فصلوها وأحرزوها حتى تكونوا مسلمين.
(واخرجوا إلى الله مما افترض عليكم من حقه): اعطوه ما أوجب عليكم من هذه الواجبات، من قولهم: خرجت إلى فلان من دَيْنِهِ إذا أوفيته إياه وهو مجاز هاهنا، ومن الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض.
(وبيَّن لكم من وظائفه): وهو ما قدَّره عليكم من هذه العبادات في اليوم والليلة، وسنَّ لكم من هذه السنن المشروعة، إما بالإضافة إلى الأيام والليالي كالسنن الرواتب للصلاة المفروضة، وإما بالإضافة إلى الأسابيع في الأيام، نحو الغسل يوم الجمعة ، والصلاة المنقولة فيها ، وإما بالإضافة إلى الأعوام، نحو صلاة الرغائب في رجب، وصلاة الشعبانية ، وغير ذلك من الوظائف والتعبدات.
(أنا شاهد لكم): إما بالفوز والنجاة عند امتثال أوامري، والانكفاف عمَّا أنهى عنه، أو بالجنة على الله تعالى وتوفية أجوركم.
(وحجيج يوم القيامة عنكم): أدافع عنكم يوم القيامة إن قَبِلْتُم ما أقوله، واستمعتموه بوعي وإصغاء.
(ألا وإن القدر السابق قد وقع): أراد أن الأمور التي سبق في علم الله تعالى وقوعها في الأزمنة المستقبلة فما هو كائن قد وقع، وأراد نبوة الرسول وما كان قد وقع من ذلك من الخلافة.
(والقضاء الماضي قد تورد): وما كان من الأقضية السابقة الأزلية من ذلك فقد حضر وقته، وغرضه من هذا هو أن ما كان من الأقدار المنتظرة، والأقضية الماضية، فهو كائن وواقع لا محالة.
(وإني متكلم بِعَدِة الله وحجته): مصرِّح بما وعد الله أولياءه، وناطق بحجج الله على الخلق وموضحها لهم؛ لئلا يكون للخلق حجة على الله تعالى .
وفي بعض النسخ: (وإني متكلم بعد الله): أي بعد ما تكلم الله بكلامه ومبلِّغه إياكم.
وحجته أي وأنا حجة لله تعالى على الخلق كما كان الرسول حجة على الخلق في إبلاغ ما يبلِّغ من الشرائع والأحكام، ثم تلا عليه السلام عقيب كلامه قوله تعالى:
({إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا })[فصلت:30]: على ما أمروا به من الدين والتوحيد.
({تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}) [فصلت:30].
ثم قال:
(ولقد قلتم: {رَبَّنَا اللهُ}): يريد أقررتم لله تعالى بالربوبية.
(فاستقيموا على كتابه): بتقرير أحكامه، والائتمار بأوامره، والوقوف على حدوده.
(وعلى منهاج أمره): الطريقة التي أمر بسلوكها.
(وعلى الطريقة الصالحة من عبادته): بإخلاص العبادة له، وإقامة أمر الديانة لوجهه.
(ثم لا تمرقوا منها): تخرجوا، من قولهم: مرق السهم من الرمية إذا جاوزها وخرج عنها.
(ولا تتبدعوا فيها): تحدثوا فيها أموراً لم تدل عليها السنة، ولا أوضحتها دلالة، ولا قام عليها برهان واضح.
(ولا تخالفوا عنها): تنازعوا فيها وتختلف آراؤكم من أجلها، والضمير للطريقة.
(فإن أهل المروق): الخارجين عن الدين.
(منقطع بهم يوم القيامة): إما عن الجنة، وإما عن النجاة فيهلكون.
(عند الله): في علمه وحكمه.
(ثم إياكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها): التهزيع: التكسير، تقول: هزعت الشيء إذا كسرته، والتهزيع أيضاً: الإسراع في المشي، يقال: مرَّ يهزع، وأراد ها هنا تبديل الأخلاق والتردد فيها، وفي الحديث: ((نهى رسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] عن ذي الوجهين وذي اللسانين))، وتصريف الأخلاق: اختلافها، وكله مذموم في صاحبه.
(واجعلوا اللسان واحداً): في كل ما نطق به من غير مخالفة.
(وليختزن الرجل لسانه): عن الكلام فيما لايعني، ولا يعود عليه بفائدة.
(فإن هذا اللسان جموح بصاحبه): أي غالب له، وتعديته بالباء تعويلاً على معناه؛ لأن المعنى أنه ذاهب بصاحبه إلى الأخطاروالمهالك؛ كالفرس الجموح الذي لا يملك راكبه رأسه فربما ألقاه في مهلكة.
(والله ما أرى عبداً يتقي بتقوى حتى يختزن لسانه): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره: يتقي بتقوى، فيكون ناجياً عند الله؛ حتى يختزن لسانه: يستره عن الكلام وكثرته فيما لا يجدي، وفي الحديث: ((ألا وإن كلام العبد كله عليه لا له إلا ذكراً لله تعالى، أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر)) .
(فإن لسان المؤمن من وراء قلبه): أي أن قلبه مالك له، وآخذ بحجزته .
(وإن قلب المنافق من وراء لسانه): مالك له، وآخذ بحجزته.
ثم فسر كلامه هذا بقوله:
(لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام): إذا همَّ بكلام وأراد أن ينطق به، فإنه:
(يُدبِّره في نفسه): يكرره على فكره مرة بعد مرة، وساعة بعد ساعة، لا يمضيه إلا بفكر ونظر في عاقبته.
(فإن كان خيراً): مطابقاً للصلاح، موافقاً للدين.
(أبداه): أظهره وتكلَّم به.
(وإن كان شراً): فيه مفسدة وخلاف للدين.
(واراه): ستره ولم يظهره ولا ينطق به.
(وإن المنافق): وهو الذي يظهر الدين ويكتم الكفر ولا يظهره، فهذه أمارة النفاق وعلامته، وعلى هذا كانت عادة المنافقين في أيام الرسول عليه السلام فإنهم كانوا يظهرون الإسلام على ألسنتهم، ويتكلمون بالشهادتين، وإذا خلوا أظهروا ما يكتمونه من الكفر بالله، والجحدان لنبوة الرسول، وقد فضحهم الله تعالى في غير آية، وأظهر ما يكتمونه من ذلك، ولولم يكن من ذلك إلا ما تضمنته سورة التوبة لكان كافياً.
(يتكلم بما أتى على لسانه): عن وشيج من غير تفكر، وتدبّر لعاقبته، ولكنه يرمي به رمياً من غير فطانة وتثبت .
(لا يدري ما يقول): لا يعلم بقوله، ولا يتحقق حاله.
(وماذا له): فينطق به ويغتنمه.
(وماذا عليه): فيسكت عنه ويحجم، ولا يفوه به.
(وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) ): فإيراده عليه السلام لهذا الحديث من جهة الرسول، معتضداً به، مقوياً لكلامه به.
(فمن استطاع منكم أن يلقى الله سبحانه): يلاقيه يوم القيامة.
(وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم): سالماً عن قتلهم بغير حق، وأخذ أموالهم ظلماً وعدوانا.
(سليم اللسان عن أعراضهم): في الغيبة، والنقص لهم في ذلك.
(فليفعل): فإنه أسلم لدينه، وأحمد لعاقبته عند الله تعالى.
(واعلموا عباد الله أن المؤمن يستحلُّ العام ما استحلَّ عاماً أول، ويحرِّم العام ما حرَّم عاماً أول) : فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن المؤمن لما اعتقد أن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، فإنه لا يحدث في نفسه شيئاً مما يخالف ذلك، ولا يقبل ما أحدثه غيره.
وثانيهما: أن يكون كناية في حال المؤمن وهو أنه على حالة واحدة مستقيم على الطريقة المحمودة، لا يختلف حاله في أمر من الأمور. (فقد جربتم الأمور وضرستموها): خبرتموها، وأحكمتم أمرها، ومنه قولهم: رجل مضرس إذاكان محكماً للتجارب.
(ووعظتم بمن كان قبلكم): من الأمم والقرون الخالية.
(وضربت لكم الأمثال): من أجل الا تعاظ بها، والتيقظ لأحوالها.
(ودعيتم إلى الأمر الواضح): من التزام الدين، والرعاية لأحكامه وحدوده.
(فلا يصمُّ عن ذلك): يعرض عنه كأنه لا يسمع، وبه صمم عن سماعه.
(إلا أصم): لا يسمع أبداً.
(ولا يعمى عن ذلك ): لوضوحه، واستقامته.
(إلا أعمى): مستحكم العمى.
(ومن لم ينفعه الله بالبلاءوالتجارب): أراد أنه إذا لم يكن متيقظاً بما يوصله الله إليه من البلاوي، ويقرع سمعه من اختبار الأمور وتكريرها على أذنه.
(لم ينتفع بشيء من العظة): إما لأن التجارب أدخل في النفع، فإذا لم ينتفع بالأعلى لم يكن منتفعاً بالأدنى، وإما أن يريد أن التجارب إنما تكون من جهة نفسه، والموعظة من جهة غيره، ومن لم ينتفع بما يكون من نفسه لاختصاصه به لم ينتفع بما يكون من جهة الغير.
(وأتاه التقصير من أمامه): مما يكون مستقبلاً له في القيامة.
(حتى يعرف ما أنكر، وينكر ما عرف): يريد أنه إذا شاهد ذلك اليوم وتحقق ما فيه من العظائم، وتحقيق الأحوال كلها، فإنه يعرف ما أنكره من المواعظ ومخالفة التجارب، وينكر ما عرف من التقصير والتفريط.
(والناس ): على كثرتهم واختلاف أجناسهم.
(رجلان: متبع شرعة): طريقة، قال الله تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً }[المائدة:48] أي طريقة ينتهجها ويسلكها.
(ومبتدع بدعة): مخترعها ومنشئها.
(ليس معه من الله برهان سنة): يوضح ما هو عليه، وماجاءبه، ويكون دلالة عليها.
(ولا ضياء حجة): ولا حجة ظاهرة يستضيء بها.
(وإن الله لم يعظ أحداً قط ): بشيء من المواعظ الحسنة.
(بمثل هذا القرآن): لما فيه من البلاغ الظاهر، والوعظ الشافي الزاجر.
(فإنه حبل الله المتين): القوي الذي لا ينقطع من تمسك به، ولا يهي أمره.
(وسببه الأمين): الْوُصْلَةُ التي بينه وبين الخلق، المؤتمن على كل أمر في أخباره وسائر أحواله وما دلَّت عليه علومه.
(وفيه ربيع القلب ): لما كان الربيع هو خيار الأزمنة وأعلاها نفعاً، شبَّهه بها من أجل ذلك، يريد أنه بمنزلة الربيع للأرض يحييها بالنبات، فهكذا القرآن تحيا به القلوب عن موت الجهل.
(وينابيع العلم): الواحد منها ينبوع وهو: عين الماء وأصله.
(ماء القلب ): أي هو بمنزلة الماء للقلب، فكما أن الماء يحيا به كل شيء، فهكذا القرآن يحيا به كل جهل ويستقيم به كل معوج.
(جلاء غيره): من الشبهات كلها، وإنما جعله ماء للقلب وجلاء لغير القلب لما يختص الماء من الحياة، ولمكان موقعه منه، فلا جرم سماه ماءً للقلب، وجعله يحيا به، وما عداه فهو جلاء له كالأعمال وسائر التصرفات، فإن القرآن جلاء لها عن الرياء وإبعاد لها عن الشك، وغير ذلك من العاهات، فهذا على ما وصفته من حال القرآن، وما يختص به من هذه الفضائل.
(مع أنه قد ذهب المتذكرون): به لأمور الآخرة.
(وبقي الناسون): لأحكامه وعلومه.
(والمتناسون لها ): فالناسي: هو الذي يغفل التذكر، فيحصل النسيان من جهة الله تعالى عادة لإغفال أسباب التذكر، وأما المتناسي فهو الذي ليس ناسياً وإنما ترك أحكامه عمداً وتساهلاً، فهو مثل الناسي في إهمالها وإطراحها.
سؤال؛ ما فائدة المعية هاهنا ومامعناها؟
وجوابه؛ هو أن فائد ة الكلام ومعناه هو أنه قد حصل هاهنا أمران:
اختصاص القرآن بحياة القلوب وجلاء الأبصار، وذهاب المتذكرين به، وفي ذلك عظم المحنة وتأكد البلوى.
(فإذا رأيتم خيراً فأعينوا عليه): نوعاً من أنواع الخيرفكونوا من الداعين إليه، والمعينين على فعله.
(وإذا رأيتم شراً فاذهبوا عنه): نوعاً من أنواع الشر وأسبابه وطرقه، فانصرفوا عن فعله والدعاء إليه، ثم حكى ما قاله الرسول عليه السلام في ذلك، بقوله:
(فإن النبي عليه السلام كان يقول: ((يا ابن آدم، اعمل الخير ودع الشر، فإذا أنت جواد قاصد))): يعني جيد الفعل، قاصد إلى الخير وإلى العمل به.
(ألا وإن الظلم ثلاثة): أراد الظلم فيما بين الخلق.
(ظلم لا يغفر، وظلم لايترك، وظلم مغفور لا يطلب): فهو على هذه الأقسام الثلاثة، ثم أخذ عليه السلام في تفاصيلها بقوله:
(فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله تعالى: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:48]): ومراده بما قاله أنه لا يغفر من دون توبة وهذا باتفاق المرجئة، وجميع من خالف في غفران الكبائر من دون التوبة، فإنه قد وافقنا على أن الشرك وسائر الخصال الكفرية لا تغفر إلا بالتوبة، وإنما الخلاف في الكبائر الفسقية الصادرة من أهل الصلاة هل تغفر من دون توبة أم لا؟ فعندنا وهو قول المعتزلة: إنها لا تغفر إلا بالتوبة، وعند سائر فرق المرجئة: إنها مغفورة من دون توبة.
(والظلم الذي لا يترك ظلم العباد بعضهم لبعض ): فإن الله تعالى لا يغفره ولا بد من المؤاخذة عليه، وهذا نحو التظالم فيما بين الخلق في الأعراض والأموال، والغيبة والنميمة، وغير ذلك من المعاصي فإنه وإن تاب إلى الله في ذلك، فهي غير مغفورة ولا بد من الاعتذار إلى المجني عليه، وذلك لأن للمعصية وجهين وجهتين:
فجهة كونها معصية لله تعالى وهذه تصح التوبة منها.
وجهة كونها إساءة وهذه لا بد فيها من الاعتذار، ولا تكفي التوبة عن كونها معصية، بل لا بد من رفع جانب الإساءة بالاعتذار، فلهذا قال عليه السلام: (ذنب لا يترك).
(وأما الظلم الذي يغفر): يريد من دون توبة.
(فظلم العبد نفسه عند بعض الْهَنَاتِ): واحدها هَنَةٌ، وأراد بالهنات الأشياء القبيحة، وغرضه من هذا جميع الصغائر فإنها مغفورة، وعقابها مكفّر في جنب ما له من الثواب من دون توبة، ويجوز أن يكون مراده من ذلك كل ذنب لم يذكرالله تعالىفيه حداً ولاعقاباً، وهو الذي يقع فيه الإنسان الحين بعد الحين، وفي الحديث: ((لا يزال المؤمن يواقع الذنب الفينة بعد الفينة ))، فلا يبعد في هذه المعاصي أن يغفرها الله تعالى من دون توبة، وهذا هو المراد من قوله تعالى : {كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ }[النجم:32]، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً عمّا قبله، وعلى هذا يكون معناه الذين لا يواقعون ما يعذبون عليه، لكن اللمم ربما صدر من جهتهم، فيغفره الله تعالى، ويجوز أن تكون إلا صفة ولا تكون استثناء، ويكون معناها كبائر الإثم غير اللمم، أو يكون عطف بيان على كبائر الإثم.
(القصاص هناك شديد): في غاية الصعوبة وقوله: هناك، إشارة إلى الأمكنة، وأراد موضع القيامة وحيث تكون المقاصة؛ لما فيه من التحفظ والمبالغة في العدل والاستيفاء، كما قال بعضهم: وأصعب ما فيه أن يعدل الحاكم.
(ليس هو جرحاً بالمُدَى): كما يكون في الدنيا، والضمير للقصاص، والْمُدَى جمع مدية، وهي: السكين.
(ولا ضرباً بالسياط): فَيُضْرَب من ضَرَبَ، ويُجْرَح من جَرَحَ فيكون الحال فيه يسيراً.
(ولكنه ما يستصغر ذلك معه): أي يكون صغيراً في جنبه وبالإضافة إليه، وأراد من ذلك هو المقاصّة بالأعواض وأخذها من الظالم، وتوفيرها على المظلوم؛ لأن الثواب يستحيل توفيره على من ليس من أهله، ولا يعقل هناك شيء سوى هذه الأعواض، وهذا هو رأي النظار من المتكلمين وعليه تعويلهم في ذلك، خلافاً لبعض الظاهرية من أهل الحديث زعموا أن المقاصَّة تكون بالثواب، وإنما قال: إنه يستصغر في جنبه غيره؛ لما فيه من فوات المنافع العظيمة على صاحبها، وتقليلها في حقه بتوفيرها على غيره قصاصاً، فلهذا يعظم فواتها عليه.
(فإياكم والتلون في دين الله): يريد الاختلاف فيه وإظهار شيء وإبطان غيره، وهو من قولهم: فلان يتلون ألواناً إذا كان لا يقف على خلق واحد.
(فإن جماعة فيما تكرهون من الحق): يعني أن الاجتماع على الحق وإن كان فيه مشقة وألم على النفوس:
(خير من فرقة فيما تحبون من الباطل): أي أقرب إلى الله وأعظم في الدين من الا فتراق وإن كان فيه سهولة على النفوس، ولذة لها، فإن الحق لا يزال مكروها منفراً إلى النفوس، والباطل لا يزال محبوباً مشتهى إلى النفوس.
(وإن الله لم يعط أحداً بفرقة خيراً): ثواباً في الآخرة، وتمكن بسطة في الدنيا.
(ممن مضى): من الأمم والقرون الماضية.
(ولا ممن بقي): ممن يأتي بعدكم، وممن هو الآن حاصل.
(ياأيها الناس): خطاب عام، ويجوز أن يكون لمن يخاطبه من أهل وقته.
(طوبى): فُعلى بضم الفاء من الطيب والواو فيها منقلبة عن ياء، لكنها قلبت واواً لانضمام ما قبلها، نحو مؤمن، فيقال، طوبى له وطوباه، ولا يقال: طوبية، قال الله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ }[الرعد:29] وقيل: هي شجرة في الجنة .
(لمن شغله عيبه عن عيوب الناس!): أي النظر في إصلاحه وعلاجه، عن أن يكون عائباً للناس مغتاباً لهم، كثير النقص لأحوالهم، وفي الحديث: ((يرى أحدكم القذى في عين صاحبه، ولا يرى الجذع في عينه)) وغرضه من ذلك هو أنه يستكثر عيب غيره ويستقل عيب نفسه.
(وطوبى لمن لزم بيته): وكفَّ عن الخروج إلى المعاصي ونقل الإقدام إلى الآثام، والسعي بين الناس والإغراء فيما بينهم.
(وأكل قوته): ما رز قه الله تعالى، ولم يخلطه بغيره مما يكون أكله مكروهاً.
(واشتغل بطاعة ربه): وكان مشغولاً بتأدية ما كلفه الله تعالى، وطلبه منه فعلاً أو كفاً.
(وبكى على خطيئته): خوفاً من عقابها، والوقوف بين يدي الله، والخزي عنده بارتكابها.
(وكان من نفسه في شغل): أي وكان شاغلاً لنفسه عن غيرها بالإقبال على ما هو عليه من إصلاح دينه ودنياه.
(والناس منه في راحة): في أعراضهم وأموالهم لا يتعرض لها، وفي الحديث: ((المؤمن من نفسه في تعب، والناس منه في راحة )) .
فانظر إلى عجيب هذه الخطبة، واشتمالها على هذه الرقائق، واحتوائها على مكنون هذه الحقائق، من المواعظ والآداب البالغة، وذكر حال الآخرة.
(171) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الدنيا
(لا يشغله شأن): هو الأمر والحال، قال الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن:29] ويختص بالأمور الهائلة، ولهذا فإن من يأكل لقمة لا يقال: هو في شأن، ويقال لمن يدبِّر أمر الخلافة والحروب: هو في شأن، وأراد أنه لا يشتغل بتدبير أمر عمَّا سواه من الأموركلها.
(ولا يغيِّره زمان): يُخْلِقُه ويُذْهِب جِدَّته، كما يفعل بغيره من سائرالممكنات كلها بالإذهاب والإبطال لأحوالها.
(ولا يحويه مكان): يحتوي عليه إذ لوكان محتوياً له لكان حاصلاً فيه، وهذا إنما يكون في حق الأجسام، وهو تعالى منزَّه عن الجسمية وتوابعها من الكون في الأماكن، والحصول في الأحياز والجهات.
(ولا يصفه لسان): بالاحتواء على صفاته وحصرها والإحاطة بها.
(ولا يعزب عنه عدد): من الأعداد غير المتناهية، لإحاطة علمه بها واشتماله عليها، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
(قطر الماء): ما يفترق من أجزائه في الأرض.
(ولا نجوم السماء): في الإحاطة بأعدادها وكمياتها، واختلاف مطالعهاوجريها في أفلاكها، واختلاف سيرها.
(ولا سوافي الريح في الهواء): أراد إما ما تحمله في الترب وتسفي به في الهواء، وإما مجاريها واختلاف مهابها وعصفها، واشتداد هبوبها.
(ولادبيب النمل على الصفا): مدبُّ النمل ودبيبه هو: سيره، وكل ماشٍ على وجه الأرض فهو دابٌّ، وخص ذلك؛ لأنه يجري كثيراً في كتاب الله ذكر النملة، وعلى الألسنة، وإلاففي معلومات الله ما هو أخفى من سير النملة وأدقّ وأغمض، فسبحان من أحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً.
(ولا مقيل الذرة في الليلة الظلماء): القائلة: هي الظهيرة، يقال: أتانا عند القائلة، يقال فيه: قال يَقِيْلُ قَيْلُوْلَةً وقَيْلاً ومَقِيلاًوهو خارج عن قياس بابه، وقياسه مقالاً أي يعلمها، ويجوز أن يريد بذلك موضع القائلة بها فيكون جارياً على القياس.
(يعلم مساقط الأوراق): أي كل ورقة تسقط من منبتها.
(وخفي طرف الأحداق): وما يخفى من تحريك الأجفان للعيون في لحظها.
(وأشهد أن لا إله إلا الله غير معدول به ولا مشكوك فيه ): انتصاب غير على الحال من اسم الله أي لا معدولاً به إلى غيره في الإلهية، كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }[الأنعام:1] والمعنى غير معدول أي غير مكفور، أو غير معدول لا يساوى به أحد غيره.
(ولا مكفور دينه): أي ولا هو مكفور دينه بالرد والإنكار.
(ولامجحود تكوينه): ولا مُنكر ما يكوِّنه ويُوجده، فسوى عليه السلام بين جحد الخلق وجحد الدين في أن الا عتراف بهما حق وأنه واجب، وفي هذا دلالة على إكفار من زعم أن إيجاد هذه المكونات العالمية بوسائط، وأن الله تعالى غير فاعل لهابنفسه، كالزروع والثمرات، وتكوين الأجنة، وغير ذلك من الآثار؛ لأن ظواهر الشرع ونصوصه دالَّة على أن الله تعالى هو الفاعل لها والموجد.
(شهادة من صدقت نيته): في جميع ما يفعله من الواجبات، والأمور المقربة إلى الله تعالى.
(وصفت دُخلته): الدخلة بضم الفاء هي: باطن الأمر وسره، يقال: أنا عالم بدُخلته أي باطن سره وأمره، وأراد شهادة من صفا باطن أمره.
(وخلص يقينه): عن الشك والارتياب، أي فيما كان متيقناًله من علوم الدين .
(وثقلت موازينه): بأعمال الخير في القيامة.
(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله): المجعول عبداً لله ومرسلاً من جهته.
(المجتبى من خلائقه): بالرسالة والاصطفاء.
(والمعتام): بالعين المهملة المختار، ومنه العيمة وهي: خيار المال وأنفسه.
(لشرح حقائقه): من أجل إيضاح الحقائق الدينية، والحكم الدنيوية.
(والمختص بعقائل كراماته ): العقيلة من كل شيء: أكرمه وخياره، وأراد أن الله تعالى خصَّه إما بأعظم المعجزات وهو القرآن فإنه باقٍ على ممر الدهور، وإما بأنفس الكرامات وهو بعثه للمقام المحمود، وإعطاؤه الشفاعة، كل ذلك من بين سائر الأنبياء يختص به.
(والمصطفى لكرائم رسالاته): أعظمها وأعلاها.
(والموضحة به أعلام الهدى): طرقه ومناهجه.
(والمجلو به غِرْبِيْبُ العمى): أي شديد السواد ومعظمه.
(أيها الناس، إن الدنيا تغر المؤمِّل لها): تخدع الراجي لها بالأماني الكاذبة والزخارف الباطلة.
(المخلد إليها): الراكن عليها، من قولهم: أخلد إليه إذا ركن واطمأن، قال الله تعالى: {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ }[الأعراف:176].
(ولا تَنْفَسُ من نافس فيها): أي ولا ترفه، من التنفيس وهو: الترفيه على من نافس فيها، أي رغب.
(وتَغْلِبُ): تقهر بالموت والفناء.
(على من غلب عليها): من حازها وملك فيها.
(وايم الله): جمع يمين، أي وايمن الله قسمي.
(ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش): أي في نعمة وعافية، وأمن ولذة.
(فزال عنهم): ذلك النعيم بشيء من الأسباب .
(إلا بذنوب اجترحوها): بمعاصي اكتسبوها، وفعلوها وشغلوا نفوسهم بها، ومصداق ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الأنفال:53] بفعل السيئات، وارتكاب المعاصي المهلكة؛
(لأن الله ليس بظلام للعبيد): أراد أنه إذا أعطاهم هذه النعم، فلا وجه لسلبها منهم من غير جريمة؛ لأن الداعي إلى الإحسان حاصل وهو: التفضل بالجود، فلولا ما ذكره من هذه المعاصي وارتكابها لما كان لنزعها وجه لما ذكرناه.
(ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم): العذاب الشديد بأخذ النفوس، واجتياح الأموال، وغير ذلك من النقمات.
(وتزول عنهم النعم): ما خوَّلهم الله وأعطاهم من عظائم النعم كلها.
(فزعوا إلى الله ): لجأوا إلى الله تعالى، وأنابوا إليه.
(بصدق من نياتهم): الباء ها هنا للحال، أي صادقين فيما نووه وتقربوا به إليه.
(ووله من قلوبهم): حيرة وذهول فيما ألم بهم من ذلك.
(لرد الله عليهم): مما سلبه منهم، وأوصل إليهم.
(كل شارد): كل ما ذهب عنهم من تلك النعم.
(وأصلح لهم كل فاسد): من أمورهم وأحوالهم.
(وإني لأخشى عليكم): أخاف وأشفق.
(أن تكونوا في فَترة): ضعف ووهن في عقائدكم، وأحوال دينكم كلها.
(وقد كانت أمور قد مضت): تقدم حالها.
(ملتم فيها ميلة): عن الحق وعدلتم عنه عدولاً ظاهراً.
(كنتم فيها غير محمودين عندي ): غير مشكورين لمخالفتكم الحق فيها، وميلكم إلى سواه.
(ولئن رد الله عليكم أمركم إنكم لسعداء): فيه وجهان:
أحدهما: ما كان منهم من الإعراض عن خلافته، وتولية غيره ممن سلف من الخلفاء الراشدين كأبي بكر وعمر، وغرضه بقوله: (ولئن ردَّ الله عليكم أمركم) بولايتي وأن أكون إماماً لكم، إنكم لسعداء: بما يحصل لكم من الفوز والنجاة بسبب هدايتي لكم، وبيانِي لما التبس عليكم من أمور دينكم.
وثانيهما: أن يريد ما كان منهم من أمر الحكمين وميلهم عنه بترك الحرب معه، وكان رأيه ذلك ، فهاتان ميلتان عليه هم غير محمودين فيهما لمخالفتهما للأدلة الظاهرة، على خلاف ما مالوا إليه وزعموه.
(وما عليَّ إلا الْجُهْدُ): في السياسة لكم، والإصلاح لأموركم، والتصبر على مشاقكم كلها.
(ولو أشاء أن أقول لقلت): من الشكوى وإظهار العتاب بما كان من جهتكم من التسهيل في حقي وإيثار غيري بما كنت أولى به منه وأحق.
(عفا الله عما سلف): تقدم ومضى من تلك الجرائم.
ولقد كان عليه السلام صابراً لله محتسباً فيما أصابه لوجه الله تعالى[من المكاره العظيمة، والمشاق الشديدة الصعبة، تقرباً إلى الله تعالى] ، وطلباً لنيل الزلفة عند الله بإصلاح خلقه.
(172) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها من تقدم من القرون الماضية
روي عن نوف البِكالي بالنون، وبكال: قبيلة من حمير وهو رجل من أصحابه، قال: خطبنا أمير المؤمنين بهذه الخطبة وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، وعليه مِدْرَعَةٌ من صوف، وحمائل سيفه من ليف، وفي رجليه نعلان من ليف؛ وكأن جبهته ثفنة بعير ، فقال:
(الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق): مصائر جمع مصير وهو: المرجع وهو مصدر صار يصير، وقياسه مصار ولكنه خرج عن قياس بابه، قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }[إبراهيم:30].
(وعواقب الأمر): آخر كل شيء، كما قال تعالى: {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ }[الشورى:53] وقال تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ }[لقمان:22] وكأنه يشير في كلامه هذا إلى ما ذكره الله تعالى في الآيتين.
(نحمده على عظيم إحسانه): الذي لاغاية إلا وقد بلغها في العظم.
(ونيِّر برهانه): الذي هوالغاية في الوضوح والإنارة.
(ونوامي فضله وامتنانه): نما الشيء إذا زاد، وأراد ما لا ينفك عن الزيادة في الإعطاء والزيادة.
(حمداً يكون لحقه قضاءً): لما يستحقه من المدح والثناء.
(ولشكره أداء): ولما يستحقه من الشكر تأدية.
(وإلى ثوابه مقرباً): أي وليكون سبباً للقرب من نيل الثواب وأخذه؛ لأن بالحمد يستحق الثواب العظيم من جهة الله تعالى.
(ولحسن مزيده موجباً): أي وليكون موجباً للزيادة الحسنة من مزيده.
(ونستعين به استعانة راج لفضله): ونطلب الإعانة من جهته طلب من يرجو الفضل من أجل ذلك.
(مؤمل لنفعه): في جميع الأحوال كلها.
(واثق بدفعه): للشرور المصائب كلها.
(معترف له بالطول): الإحسان على الخلق.
(مذعن له بالعمل والقول): خاضع له ذليل من أجل ما يختص به من الاقتدار والبطش والقهر والا ستيلاء، بالعبادات كلها، ما كان منها قولاً، وما كان منها عملاً، فإنها إنما تُؤدَى على جهة الخضوع والإذعان، والانقياد لحكم الله وأمره.
(ونؤمن به إيمان من رجاه موقناً): ونصدِّق به تصديق من رجاه، قاطعاً في رجائه له.
(وأناب إليه مؤمناً): ورجع إليه مصدقاًبه.
(وخنع له مذعناً): الخنوع هو: الذل والخضوع والإذعان أيضاً، وهي أمور متقاربة المعاني، ويقال: اخنعتني إليك حاجة أي أخضعتني، قال الأعشى:
هُمُ الْخَضَارِمُ إِنْ غَابُوا وَإِنْ شَهِدُوا
ولا يُرَون إِلَى جَارَ اتهم خُنُعا
ذلاً ومهانة.
(وأخلص له موحداً): إذ لا إخلاص من دون توحيد.
(وعظَّمه ممجداً): التمجيد هو: نوع من التعظيم.
(ولاذ به راغباً ): أي لجأ إليه في أموره كلها، ورغب في الشيء إذا أراده وواظب على فعله، وهذه الصفات كلها منصوبة على الحال من الضمير قبلها وهي كالمؤكدة للجملة السابقة لها، ألاتراها كيف هي محققة لما تقدمها من الجمل، كقوله: (خنع له مذعناً) والإذعان هو: الخنوع، ونحو قوله: (عظمه ممجداً) لأن التمجيد هو ضرب منه، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً }[البقرة:91] وكقولك : جاء زيد يضحك متهللاً وجهه، وجاء زيد يسير يخطو بقدميه، إلى غير ذلك من الأحوال التي تكون بياناً لما سبقها من الجمل.
(لم يولد سبحانه): تحتمله البطون كسائر ما حمل به في البطون.
(فيكون في العز مشارَكاً): لأنه إذا كان مولوداً كان له أب، فأبوه سابق عليه باستحقاق العز قبله فيكونان على هذا شريكين في العز، وقد تقرر بالبراهين العقلية أنه لاثاني له في العز فبطل أن يقال: بأنه مولود.
(ولم يلد فيكون موروثاً): لأنه إذا كان له أولاد فهم يرثونه لا محالة بعد موته، لأن هذا حكم من كان له أولاد، وإذا كان تعالى دائم الوجود استحال كونه موروثاً لبطلان فنائه وعدمه.
(هالكاً): يريد ميتاً؛ لأن الموت هلاك لامحالة.
(ولم يتقدمه وقت ولا زمان): لأن الوقت والزمان عبارة عن حركة الشمس والقمر، وهما حادثان بلا مرية، وهو تعالى لاأول لوجوده فلهذا بطل تقدمهما عليه .
(ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان): يختلفان عليه، والمعاورة هي: التعاقب والاختلاف، يقال: الليل والنهار يتعاوران أي يختلفان.
(بل): إضراب عمّا ذكره من هذه الأحوال.
(ظهر للعقول): تجلَّى لها وبان.
(بما أرانا من علامات التدبير المتقن): الشواهد القائمة على إحكامه، وتدبيره وإتقانه لهذه المكونات في العالم الحيوانات كلها، وسائر النباتات والثمرات، وغير ذلك مما يظهر فيه الإحكام والاتساق في عجيب تأليفه، وظهور منفعته في العالم.
(والقضاء المبرم): أبرم الأمر إذا أحكمه وأتمه، وأراد وما أبرم من الأ قضية النازلة من السماء، من الإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، والقبض والبسط، والأمرو النهي، والقبول والرد {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }[الأعراف:54].
(فمن شواهد خلقه): فمن الأدلة الشاهدة على وجوده وتوحيده جميع ما خلق وأتقن، ومن أعظم ذلك:
(خلق السماوات موطدات) مثبتات، من قولهم: وطَّد الأمر إذا أثبته.
(بلا عمد): من غير عمد تقيمها على عظم انبساطها، وسعة دورها.
(قائمات) مستويات.
(بلا سند): تكون معتمدة عليه في استقامتها.
(دعاهن): حيث قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً }[فصلت:11].
(فأجبن طائعات): حيث قال : {أَتَيْنَا طَائِعِينَ }[فصلت:11].
(مذعنات): خاضعات لأمره وحكمه.
(غير متلكئات): متثاقلات عن أمره.
(ولا مبطئآت ): من أبطأ في أمره إذا تأنَّى فيه وتأخَّر عن تحصيله وإيجاده.
(ولولا إقرارهنَّ له بالربوبية): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون ذلك على جهة المجاز، فلظهور الدلالة فيهنَّ على الربوبية، كأنهنَّ يصرِّحن بالربوبية وينطقن بها.
وثانيهما: أن يكون من رآهنَّ أقرَّ بها ونطق، ونسب الإقرار إليهنَّ تجوُّزاً واستعارة.
(وإذعانهن ): خضوعهن.
(بالطواعية): هي: الطاعة والانقياد لأمره، كالكراهية من الكراهة.
(لما جعلهنَّ موضعاً لعرشه): مكاناً ومستقراً.
(ولا مسكناً لملائكته): يسكنون فيها، ويستقرون عليها للعبادة.
(ولا مصعداً للكلم الطيب): التسبيح والتحميد، وأنواع الذكر والتلاوة للكتاب ودرسه.
(والعمل الصالح من خلقه): وبالأعمال الصالحة المقصود بها وجه الله تعالى، فلم تكن أهلاً لما ذكره من هذه الفضائل، إلا لمكان ما حصل منها من الإقرار بالتوحيد له وإذعانها بالربوبية.
اللَّهُمَّ، نوِّر قلوبنا بالإيمان بك، وارفع درجاتنا بالاعتراف بتوحيدك.
(جعل نجومها أعلاماً): دلالات ظاهرة.
(يستدل بها الْحَيْرَان): المتحيِّر في طريقه عن السلوك.
(في مختلف فجاج الأقطار): حيث يختلفون في واسعات الطرق وفجاجها، والأقطار جمع قطر وهي: جوانب الأرض ونواحيها.
(لم يمنع ضوء نورها): يكفّه ويحجبه:
(ادْلِهْمَامُ سُجفِ الليل المظلم ): السُّجُفُ: الستر، وادلهمَّ الليل إذا أظلم، وأراد أن أنوارها لا تقدر لقلتها على كفّ ظلمة الليل، ومنع أستاره عن الإظلام.
(ولا استطاعت جلابيب): واحدها جلباب، وهو: ضرب من الثياب.
(سواد الحنادس): الحندس: شدة الظلام.
(أن ترد ما شاع في السماوات من تلألؤ نورالقمر): تلألأ البرق إذا لمع، وأراد أن ظلمة الليل وسواده، لا تكفّ نور القمر الذاهب المنبسط في السماوات كلها، فحاصل كلامه أن أنوار النجوم ودراريها لا تكفّ ظلمة الليل ثم تكون غالبة لها، فإن الظلمة في الليل لا تقدر على كفّ نور القمر، بل يكون هو الغالب لها والقاهر لظلامه.
(فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج) الغسق: الظلمة، ودجا الليل إذا اشتدت ظلمته أيضاً، وغرضه أنه لا تخفى على علمه خافية في شدة ظلام الليل وغسقه.
(ولا ليل ساج): سجا الليل إذا سكن بما فيه.
(في بقاع الأرضين): أماكنها، ومواضع مستقراتها.
(المتطأطئات) الطأطأ من الأرض: هو ما انهبط وكان منخفضاً، وطأطأ رأسه إذا خفضه، والأرضين: جمع أرض، وقياسها أرضات؛ لأنها مؤنثة، ولكنهم جمعوها بالواو والنون عوضاً عمَّا حذف منها من التاء، كما جمعوا ما حذف لامه بالواو والنون نحو: قلون وثبون، وفتحوا الراء في أرضون لئلا يظن أنه جمع سلامة على التحقيق ، والبقاع بالقاف: جمع بقعة وهي القطعة من الأرض.
(ولا في يَفَاعِ السُّفْعِ المتجاورات): الْيَفَاعُ بالفاء: ما ارتفع وعلا، و السُّفعة بالضم وبالسين بثلاث من أسفلها: هي سواد مشرب بحمرة، ويقال للحمامة: سفعاء لما في عينها من ذلك اللون، والمتجاورات: التي يتلو بعضها بعضاً في التلاصق.
(وما يتجلجل به الرعد) الجلجلة: هي صوت الرعد.
(في أفق السماء): جانبها ونواحيها.
(وما تلاشت عليه بروق الغمام): اشتملت عليه من السحاب المتراكم.
(وما تسقط من ورقة): تزول عن مغرزها ومستقرها.
(تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء): العصف: اشتداد هبوب الريح، والأنواء: جمع نوء، وهو مهموز يكون عبارة عن سقوط نجم من المنازل القمرية في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوماً، وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة ما خلا جبهة الأسد فإن لها في منزلتها أربعة عشر يوماً ، قال أبو عبيد: ولم يسمع في النوء أنه سقوط إلا في هذا الموضع، وكانت العرب تضيف الأمطار، والرياح، والحر، والبرد إلى الساقط منها ، وقال الأصمعي: إلى الطالع منها في سلطانه.
(وانهطال السماء): سكبها للماء.
(ويعلم مسقَط القطرة): زمان سقوطها، ومكان سقوطها، ونفس سقوطها، وعلى أي حالة تكون، وهو بفتح القاف في ذلك كله.
(ومقرها): مكان استقرارها من الأرض في جبل، أوشجر، أو مدر.
(ومسحب الذرة ومجرَّها): مكان ما تسحبه وتجرُّه من أرزاقها.
(وما يكفي البعوضة من قوتها) البعوضة: ذباب وقد مرَّ تفسيره، والقوت: ما يقتاته الإنسان من أنواع الرزق.
(وما تحمل من أنثى في بطنها): من الأجنة على اختلاف أحوالها.
(والحمد لله الكائن): تكرير للحمد، ومبالغة في ذكره في أول الصدر من الخطبة ووسطها وآخرها، الكائن: أي الثابت:
(قبل أن يكون كرسي، أو سماء، أو أرض، أو عرش، أو جان، أو إنس): يعني أن الله تعالى كائن وموجود قبل وجود هذه الأشياء كلها، وإنما خصَّها بالذكر؛ لأنها هي أعظم المخلوقات وأكبرها؛ لأنها كلها حادثة بعد أن لم تكن، وهو تعالى أزلي الوجود لا أول له، ولا نهاية لوجوده.
(لا يدرك بوهم): يريد أن حقيقته بعيدة عن الأوهام من أن تدركها.
(ولا يقدَّر بفهم): أي ولا يطلع على حقيقة ذاته فهم من الأفهام كلها على اختلافها.
(ولا يشغله سائل): بسؤاله وإن عظم وكثر.
(ولا ينقصه نائل): النائل هو: النول وهو: العطاء.
(ولا يدرك بعين): بحاسة بصر.
(ولا يُحدُّ بأين): بجهة من الجهات ولامكان من الأمكنة، فيكون حاصراً له محيطاً به.
(ولا يوصف بالأزواج): أي لا يقال: له زوج؛ لأن الأزواج هي الأنواع، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا }[يس:36] وهي متجانسة، والله تعالى لا يشبهه شيء من الأشياء فيكون زوجاً لها، وقال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }[ق:7].
(ولا يَخْلُقُ بعلاج): يوجد المخلوقات كلها بمعالجة لها وأدوات وآلات، وإنما هو الاختراع والتكوين من غير آلة.
(ولا يدرك بالحواس): رؤية، ولمساً، وشماً، ومذاقاً، وسمعاً؛ لأن هذه الحواس إنما تدرك بها الأشباح الجسمية، والأمور العرضية، ولقد تهالك في الحمق وأغرق في الوقاحة من قال من الأشعرية: إن الله تعالى مدرك بهذه الحواس كلها.
(ولا يقاس بالناس): في شيء من أحوالهم كلها؛ لأجل المباينة والمخالفة الكلية.
(الذي كلَّم موسى تكليما): يريد من غير واسطة، بل خلق الكلام، وسمعه موسى من غير وساطة أحد من الملائكة، وكانت هذه خاصة لموسى عليه السلام.
(وأراه من آياته عظيماً): نحو العصا، وفلق البحر، واليد البيضاء وغير ذلك من المعجزات الباهرة.
(بلا جوارح): الباء هذه متعلقة بقوله: وكلَّم الله، بلا جوارح أي من غير آلة للكلام.
سؤال؛ إذا كانت الباء متعلقة بقوله: كلَّم، فكيف جاز العطف قبل تمام الموصول بذكرمتعلقاته، وقد عطف بقوله: وأراه قبل التمام؟
وجوابه؛ هو أن قوله: وأراه، عطف على الصلة لاغير، والمحذور عند النحاة إنما هو العطف على الموصول قبل تمامه بذكر متعلقاته، فأما العطف على الصلة فهذا جائز، كقولك: الذي مررت به وقام ضاحكاً زيد، ويكون ضاحكاً حال من الضمير في به، وإنما الممتنع الذي مررت به، والذي جاءني ضاحكاً زيد على أن يكون ضاحكاً حالٌ من المجرور؛ لأنه عطف على الموصول قبل التمام بمتعلقاته.
(ولا أدوات) الأداة: هي الآلة في كل شيء كاليد للكتابة، والرجل للمشي، واللسان للكلام.
(ولا نطق): ولا لسان ينطق به.
(ولا لهوات): جمع لهاة، وهي: المضغة المطبقة في أقصى سقف الفم.
(بل): إضراب عمَّا ذكره أولاً من أنه لا يوصف بهذه الصفات.
(إن كنت صادقاً أيها المتكلف لوصف ربك): في وصف الله تعالى وبلوغ كُنْهِ حقيقة ذاته، وغاية صفاته.
(فصف جبريل): على عظم خلقه، وشدة قوته وبطشه، وما أعطاه الله من القوة.
(أو ميكائيل): وهو من حملة العرش، المخلوق للرحمة والرأفة.
(وجنود الملائكة المقرَّبين): من رحمة الله ورأفته، وكريم منزلته، وعظيم الزلفة عنده.
(في حجرات القدس مُرْجَحنِّيْن): مواضع العظمة والتقديس والجلال، وارجحن إذا اهتز، وأراد أنهم مهتزون لما أعطاهم الله من الكرامة، وجلال العظمة لخوفه وعبادته.
(متولهة قلوبهم ): متحيرة عقولهم، وذاهلة أفهامهم وحلومهم:
(عن أن يحدوا أحسن الخالقين): يقفوا على كُنْهِ حده، ونهاية حقيقته، وهذا كله إفحام لمن يزعم أنه يعرف حقيقة ذات الله، وأنه مطلع عليها، وقد مرَّ هذا الكلام بغير هذه العبارة، وحاصله إذا كنت يا هذا عاجزاً عن وصف بعض المخلوقات المكونة، وذاهلاً عن تكييفها، ومعرفة حقائقها، فكيف حال الخالق لها، أنت عن ذاك أبعد!
(وإنما يدرك بالصفات ذو الهيئات): يريد وإنما تكون الطريق إلى معرفة الشيء بصفاته من كان ذا هيئة بشكل مخصوص، ولون مخصوص من الأجسام.
(والأدوات): ومن كان يختص بالآلة في فعله لشيء من الأفعال، فأما من كان على خلاف هذه الحالة فلا يمكن الوصول إلى كُنْهِ حقيقته.
(ومن ينقضي إذا بلغ أمدَّ حدِّه بالفناء): ومن يكون زائلاً إذا بلغ مقدار أجله في الحياة بالموت والزوال، وهو الجسم.
(فلا إله إلا هو): يريد أنه إنما يستحق الإلهية والانفراد بالوحدانية لمكان تميّزه عن هذه الأشخاص، ومخالفة هذه الأجسام، ولهذا جاءت الفاء دالة على أن استحقاقه للإلهية كالمسبب عمَّا ذكره من اختصاصه بالصفات العالية، فجاء بالفاء دالاً بها على ذلك.
(أضاء بنوره كل ظلام، وأظلم بظلمته كل نور): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد هذه الأنوار، فإن الشمس والقمر إذا طلعتا أضاء بهما كل مظلم من أماكن الدنيا، وإذا غربتا ذهبت الأنوار كلها وبطلت وتلاشت، فقد أنار بهما كل ظلام عند طلوعهما، وأظلم عند غروبهما كل نور.
وثانيهما: أن يكون ذلك على جهة التجوّز والاستعارة في السعادة والشقاوة، فيكون النور عبارة عن سعادة الآخرة والفوز بها، وتكون الظلمة عبارة عن الشقاوة، وعلى هذا يكون معناه أنه أسعد بنورالهداية إلى الدين من كان مظلماًبسواد الكفر بالألطاف الخفية والتوفيقات المصلحية، وأظلم بسواد الكفر بالخذلان له من كان مضيئاً بأنوار الإيمان ردة وجحوداً وعناداً.
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله): واعلم أنه إنما كرر الوصية بالتقوى في كثير من خطبه ومواعظه لما كانت التقوى جوهراً شريفاً، وَعِقْداً نفيساً، وقد أثنى الله تعالى على أهل التقوى في غير آية من كتابه، فمرة بإعطاء الجنة، كقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }[آل عمران:133]، ومرة بالمصاحبة والمعية، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا }[النحل:128]، وتارة قبول الهداية، كقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ }[البقرة:2]، ومرة بالتذكر، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا }[الأعراف:201] إلى غيرذلك من الآيات الدالة على علو شأنهم، وارتفاع قدرهم ومكانهم، وأنهم قد فازوا بالنجاح والهداية والصلاح.
(الذي ألبسكم الرِّيَاشَ): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون حقيقة فيما تناوله، أي أفضل اللباس وأعلاه.
وثانيهما: أن يكون مجازاً، وأراد ما ألبسهم من الإيمان بالله ورسوله، وهدايتهم إلى ذلك، كما قال تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى }[الأعراف:26].
(وأسبغ عليكم الْمَعَاشَ): أعطاكم ما تأكلون من جميع الطيبات، كما قال تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ }[لقمان:20] أي أكملها.
(ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سلماً): يصعد به إليه فيكون دائماً خالداً في الدنيا.
(أو لدفع الموت سبباً ): وُصْلَة يتوصل بها إلى إزالته.
(لكان ذلك سليمان بن داود [ عليه السلام] ): فإن الله تعالى أعطاه ملكاً عظيماً كما قال: {مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي }[ص:35].
وحكي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ، فمنها خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحوش، وكان له ألف بيت من قوارير، فيها ثلاث مائة منكوحة وسبعمائة سرية ، وعلَّمه الله تعالى منطق الطير، وهو مايفهم بعضه من بعض من مقاصدها وأغراضها.
وحكي أنه مرَّ ببلبل في شجرة يحرِّك رأسه ويميل ذَنَبَهُ، فقال لأصحابه: تدرون ما يقول؟ فقالوا: الله ونبيه أعلم، قال : يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاؤوس، فقال: يقول: كما تدين تدان، وصاح هدهد، فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبون ، وصاح خُطَّاف ، فقال: يقول: قدموا خيراً تجدوه، وصاحت رخمة، فقال: تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري ، فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى، وقالت الحدأ: كل شيء هالك إلا الله، والقطاة: من سكت سلم، وقال الديك: اذكروا الله يا غافلون ، وقال النسر: يا ابن آدم، عش ما شئت فآخرك الموت، وقال العُقاب : في البعد من الناس أنس، وقالت الضفدع: سبحان ربي القدوس، إلى غير ذلك من مراداتها وكلاماتها ، ولهذا جعله من أعظم التفضلات وأكرم المنن ؛ حيث قال: {عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ }[النمل:16].
(الذي سخر له ملك الجن والإنس): كما قال تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ }[النمل:17] فكانوا يعملون له أنواعاً من الصناعات، كما قال تعالى : {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيب َ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}[سبأ:13].
ويحكى أن الجن نسجت له بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ ـ يريد مقداره ـ وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، ويقعد العلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصِّبا البساط فتسير به يوماً مسيرة شهر .
ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ، ويأمر الرخاء فتسير به كما قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ }[سبأ:12].
(مع النبوة): فإن الله اصطفاه بالإرسال، وجعله حجة على الملوك في تواضعه لله تعالى، وخضوعه لجلاله.
(وعظيم الزلفة): الإجلال والكرامة، كما قال تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَاب }[ص:39] فهذه حالة سليمان فيما أعطاه الله تعالى.
(فلما استوفى طُعمته): الطُّعمة بالضم كالأُكلة: عبارة عمَّا يُطْعَم ويُؤْكَلُ، وأراد فلما استكمل رزقه الذي أعطاه الله إياه.
(واستمكل مدته): أجله الذي قدَّره الله له.
(رمته قِسيُّ الفناء بنبال الموت): استعارة حسنة، فاستعار رمي القسي بنبال الموت، وعبَّر به عن قبض الروح، ولو قال: فلما استكمل مدته توفاه الله على يد بعض الملائكة، كان بينهما بُعْدٌ متفاوتٌ في الفصاحة والبلاغة، وإن للاستعارة لمدخلاً عظيماً في علوم البلاغة، ومنها قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }[الحجر:88]، وقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا }[مريم:4]، ومن بديعها قول الكميت:
خَفَضْتُ لَهُم مِنِّي الْجنَاح مَودَّةً
إلى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أَهْلٌ وَمَرْحَبُ
ويحكى أن بعض المتعاطين أنه لما سمع بيت أبي تمام:
لا تَسْقِني مَاءَ الْمَلاَمِ فإنَّنِي
صبٌّ قدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِي
عتب عليه وأمر إليه بإناء وسأله أن يهب له من ماء الملام، فأمر إليه أبو تمام بجلم ، وقال للرسول: يقصص له من جناح الذل ريشة .
(وأصبحت الديار منه خالية): يريد الديار التي كان فيها على الحالة والأُبَّهة.
(والمساكن معطلة): لا ساكن بها.
(ورثها قوم آخرون): سكنوها بعدهم، واطمأنوا إلى لذاتها بعدهم.
(وإن لكم في القرون السالفة): الماضية قبلكم.
(لعبرة!): مو عظة واعتباراً.
(أين العمالقة وأبناء العمالقة!): قوم من ولد عمليق بن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح ، تفرقوا في البلاد، ومنهم سبأ الذي حكاهم الله تعالى وضرب بهم المثل في التفرق، فقيل: تفرقوا أيدي سبأ، فلحق غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان.
(أين الفراعنة وأبناء الفراعنة!) فرعون: هو لقب الوليد بن مصعب صاحب موسى عليه السلام ملك مصر ، وقد قص الله من حديثه مع نبيه ما فيه كفاية، ومبلغ ونهاية، وكل من عتا وتكبر فهو فرعون، والفرعنة: هو التكبر والفساد في الأرض بغيرحق.
(أين أصحاب مدائن الرس) الرس: هي البئر، واختلف في أصحاب الرس، فقيل: هم قوم شعيب، كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيباً فآذوه، فانهارت بهم آبارهم، وخسف بهم في ديارهم، وقيل: الرس قرية باليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم الله وهم بقية ثمود، وقيل: الرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار، وقيل: إنهم كذبوا نبيهم فرسوه في بئر -أي حشوه إياها- فأهلكهم الله تعالى ، ولهذا قال عليه السلام:
(الذين قتلوا النبيين): وقد حكاهم الله في كتابه الكريم غير مرة.
(وأطفؤوا سنن المرسلين): بالرد والتكذيب والقتل.
(وأحيوا سنن الجبارين!): بعبادة الأوثان والأصنام وغير ذلك من أنواع المعاصي والكفر بالله، والشرك بوحدانيته.
(وأين الذين ساروا بالجيوش): للحرب والقتال.
(وهزموا الألوف): غلبوهم وكسروهم.
(وعسكروا العساكر): عقدوها.
(ومدَّنوا المدائن!): عمروها وأقاموا مثل كسرى وقيصر، وتُبَّع وحمير، وغيرهم من الملوك والجبابرة، والعصاة و الفراعنة.
ثم ذكر حال المؤمن بقوله:
(قد لبس للحكمة جُنَّتَها) الْجُنَّةُ: ما يستر الإنسان ويُجِنّهُ، وأراد أنه قد أعدَّ لها عُدتها ليحرزها.
(واتخذها بجميع أدبها ): الاتخاذ: افتعال من الأخذ وقد فسرناه، وأراد أنه فعلها لنفسه، وأكمل ما يحتاج إليه من آدابها.
ثم فسَّرها بقوله:
(من الإقبال عليها): شغل نفسه بها.
(والمعرفة بها): أي لم يجهلها فيكون ذلك سبباً في إهمالها واطراحها.
(والتفرغ لها): فقلبه خالٍ عن غيرها، وقد عظم قدرها عنده.
(فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها): كما قال عليه السلام:((الحكمة ضالة المؤمن )) التي ينشدها، فكلامه هاهنا يشير به إلى كلام الرسول.
(وحاجته التي يسأل عنها): حتى كأنه لا حاجة له في شيء سواها.
(فهو معترف ): الضمير لمن وصف حاله من قبل [وهو المؤمن] ، يريد أنه معترف بأحكام الدين وحقوق الله اللازمة له.
(إذا اغترب الإسلام): يعني إذا صار الإسلام غريباً لا تعرف أحكامه، فهو أهل لها، ومقيم لرسومها وأعلامها.
(وضرب بِعَسِيْبِ ذَنَبِهِ): هذا عطف على شيء محذوف تقديره: إذا اغترب الإسلام قام فيه وجدَّ واجتهد، وضرب بعسيب الذَّنَبِ فيه، وعسيب الذنَبِ: منبته من الجلد والعظم، وجعل هذا كناية عن شدة اجتهاده في الذبِّ عن الدين؛ لأن الحيوانات ذوات الأذناب إذا لحقه الأذى من ورائه من ذباب أوغيره فإنه يدفعه بفرع الذَّنَبِ، فإذا اشتد الأذى حرَّك جميع الذَّنَبِ من أصله.
(وألصق الأرض بِجِرَانِهِ): الْجِرَانُ: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره، وكنى بذلك عن ثباته في الأمر، وقوته عليه واستمكانه منه.
(بقية من بقايا حجته): أي هو بقية، والبقية: هي الخيار من الشيء من بقايا حجج الله وأعلامه.
(خليفة من خلائف أنبيائه): يريد أنه يخلف الأنبياء في بيان أحكام الله تعالى وتشييد معالم دينه.
ثم التفت إلى خطاب أصحابه على عادته في التفنن في أساليب الكلام وأنواعه، وهو من الاستطرادات العجيبة، فبينا هو في أسلوب إذ خرج إلى أسلوب آخر غير ما كان فيه، بقوله [ عليه السلام] :
(أيها الناس، إني قد بينت لكم المواعظ): أظهرتها لكم، وأوضحتها لقلوبكم.
(التي وعظ بها الأنبياء أممهم): يشير بكلامه هذا إلى أنه مبلغ عن الأنبياء، ومؤدٍ عن الرسول ما أودعه إليها.
(وأديت إليكم): من الحكم والمواعظ.
(ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم): ويشير بهذا إلى تبليغه ما عهده إليه الرسول من ذلك، ويحقق أمر الوصاة بالأمة إليه من جهة الرسول.
(وأدبتكم بسوطي): بزجري، ومواعظي الحسنة، وآدابي النافعة.
(فلم تستقيموا): لما أمرتكم به من المصالح.
(وحدوتكم): حثثتكم من قولهم: حدا البعير إذا حثه.
(بالزواجر): من الوعيدات العظيمة التي تزجر من سمعها عن القبائح ووعاها.
(فلم تستوسقوا): تجتمعوا عليها بامتثالها وفعلها، مثَّل حالهم بحال من يحدو الإبل ويزجرها في السير، وهي لا تجتمع عليه، بل تذهب يميناً وشمالاً عن الطريق.
(لله أنتم!): مدح لهم وتعجب من حالهم.
(أتتوقعون إماماً بعدي يطأ بكم الطريق): يريد أن العجب منكم ومن أحوالكم، مالكم لا تقبلون إلى كلامي وتسمعون أوامري وتمتثلونها فلا تحظون بمثلي ممن يعرفكم أحكام الله تعالى، ويظهر لكم أمره، ويعرفكم طريق الهداية إلى الجنة، وقوله: يطأ بكم الطريق، من غريب الكلام وفصيحه.
(ويرشدكم السبيل): التي أرادها الله بكم، وطلبها منكم.
(ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً): بانقضاء آثارها وامحاء رسومها، ونفاد أيامها.
(وأقبل منها ما كان مدبراً): من الفتن والمحن والزلازل بخروج الدجال وغيره من شروط الساعة وعلاماتها.
(وأزمع الترحال): قرب الرحيل إلى الآخرة، والكون فيها.
(عباد الله): خطاب لهم على الخصوص.
(أين الأخيار): الذين اختارهم الله لعبادته، واصطفاهم لولايته.
(الذين باعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى): بحقيرها وأيامها المنقطعة.
(بكثير من الآخرة لا يفنى): أيامها الدائمة ونعيمها الباقي، وأراد أنهم اعتاضوا عن هذا بهذا.
(ما ضر إخواننا): المؤاخين لنا في الدين.
(الذين سفكت دماؤهم بصفين): أُرِيْقَت، من سَفَكَ الدم إذا أراقه، يعني في حرب البغاة والمفتونين عن الدين.
(ألاَّ يكونوا [اليوم] أحياء): يكونون معنا.
(يسيغون الغصص): يتجرعونها شيئاً بعد شيء، والغَصَصُ بفتح الغين هو المصدر، وهو مراده هاهنا ليطابق قوله:
(ويشربون الرنق!): الرُّنَق بفتح النون هو المصدر، والرَّنْق: الكدر من الماء بالتسكين، وأراد أن ذلك كان من هواهم فيكونون معنا على حالتنا كيف كانت، ولكنهم قد أحبوا الشهادة وأكرمهم الله بها.
(قد والله لقوا الله): بما كان من استشهادهم في سبيله، وطلبهم ما عنده.
(فوفاهم [الله] أجورهم): على جهادهم.
(وأحلهم دار الأمن): الجنة كما قال تعالى: {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ }[الدخان:51].
(بعد خوفهم): في الدنيا من أعدائهم.
(أين إخواني الذين ركبوا الطريق): سلكوا طريق الجنة.
(ومضوا علىالحق !): في الجهاد للأعداء في الدين والبغاة.
(أين عمار بن ياسر!): وهو الذي قال فيه رسول الله: ((عمار جلدة ما بين عيني وأنفي )) ، وقال فيه: ((تقتلك يا عمار الفئة الباغية )).
(وأين ابن التيهان!): وهو أبو الهيثم مالك بن التيهان، وهو أول من ضرب على يد الرسول في بيعة العقبة .
(وأين ذو الشهادتين!): وهو خزيمة بن ثابت ، شهد لرسول الله في فرس ادَّعاها ولم يجد شاهداً، فلما شهد له خزيمة وهو لم يحضر القضية، ولكنَّه صدَّق رسول الله فيما ادَّعاه؛ لكونه معصوماً لا يدَّعي ما ليس حقاً، فلما كان الأمر كذلك قال رسول الله: ((من شهد له خزيمة فحسبه شهادته )) فجعل شهادته بمنزلة شاهدين، فهؤلاء كلهم من جلة الصحابة وفضلائهم.
(وأين نظراؤهم): أشباههم.
(من إخوانهم): في الدين.
(تعاقدوا على المنية): فأزهقت أرواحهم في حرب البغاة وجهادهم.
(وأبرد برءوسهم إلى الفجرة): حملتها البُردُ من موضع إلى موضع، والبريد اثنا عشر ميلاً، قال الشاعر:
فَدَتْكَ عُرَابُ اليَومَ أَمِّي وخَالتي ... وَنَاقتي النَّاجِي إِلَيْكَ بَرِيْدُها
يقال: قد أبرد إلى الأمير أي سار ت إليه البُرُدُ، وأراد أنها حملت رؤوسهم من حيث قتلوا إلى معاوية وأصحابه.
(ثم ضرب بيده على لحيته [الشريفة الكريمة] ): قبض بأصابعه عليها.
(فأطال البكاء): حزناً على مفارقة أولئك، وتأسفاً على ذهابهم.
ثم قال:
(أَوهِ): وهذه الكلمة تستعمل عند الشكاية، وهي اسم من أسماء الأفعال الخبرية، ومعناه أتوجع، قال الشاعر:
فَأَوْهٍ لِذكْرَاها إذَا ما ذَكَرْتَهَا ... وَمِنْ بُعْدِ أرضٍ بَيْنَنا وَسَمَاءُ
وفيها لغات، أوْه بسكون الواو، وبقلبها ألفاً فيقال: آه، وربما شددوا الواو فقالوا: أوِّه، وربما أدخلوا عليها التاء فقالوا: أوتاه، إلى غير ذلك من اللغات .
(على إخواني الذين تلوا القرآن): أي قرأوه.
(فأحكموه): بتدبر معانيه وتجويد أحرفه وإخراجها من مخارجها، فأما تلاوته من غير تدبُّر لمعانيه ولا تفكّر في تأويلاته، واستنهاض الأسرار البديعة من جهته، فإنما هو دأب العجزة والذين قعدت بهم البلادة في حضيض الفهاهة.
وعن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه، وضيَّعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً، وقد والله أسقطه كله، فما ترى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولابالورعة، لا كثّر الله في الناس مثل هؤلاء.
اللَّهُمَّ، اجعلنا من المتدبرين لمعانيه، المنتفعين بنوره وشفائه.
(وتدبَّروا الفرض): تفكّروا في الأمور الواجبة والأحكام اللازمة.
(فأقاموه): على الحد الذي أوجب، والوجه الذي فرض.
(وأحيوا السنة): بتشييدها وإظهار معالمها، والعمل بأحكامها.
(وأماتوا البدعة): بإبطالها وإنكارها، وقتل الداعي إليها وإذهابه.
(دُعُوا إلى الجهاد): للبغاة، وأهل البدع، والأهواء.
(فأجابوا): من دعاهم إلى ذلك، وتحققوا وجوب الإجابة إليه، وعلموا ذلك بما عرفهم الله وأعلمهم.
(ووثقوا بالقائد فاتبعوا ): يشير إلى نفسه في أنهم وثقوا بنفوذ بصيرته في حرب أهل القبلة، ويعرِّض بمن توقف عنه من الصحابة كالذين حكينا عنهم ممن تأخر عنه نحو عبد الله بن عمر وغيره ممن تخلَّف عنه لعارض.
(ثم نادى بأعلى صوته): تحريضاً لهم على الجهاد وحثاً لهم على المواظبة عليه:
(الجهاد الجهاد): أي الزموا الجهاد، وتكريره إنما يكون على جهة التأكيد، وإضمار الفعل هاهنا واجب لأجل التكرير فلا يبرز بحال.
(عباد الله!): أي يا عباد الله، من كان مقرّاً بالعبودية لله فليكن مؤتمراً بأوامره، ومن أعظم أوامره الجهاد في سبيله.
(ألا وإني معسكر): جامع للعساكر.
(في يومي هذا، فمن أراد الرواح إلى الله): بالشهادة عند خروج نفسه.
(فليخرج): معي.
(قال نوف: ثم عقد للحسين بن علي): يعني أعطاه الراية، وأمّره عليهم.
(في عشرة آلاف): وأمرهم باتباعه والاحتكام لأمره؛ لأن عند كثرة العساكر وازدحامهم فلابد لهم من الأمراء لينتظم الأمر، وتشتد النكاية للعدو، وتتسق أحوال الحرب وأموره.
(ولقيس بن سعد في عشرة آلاف): أمير من أمرائه.
(ولأبي أيوب الأنصاري [في عشرة الآف] ): وهذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو الذي قعد في بيته عند قدومه مهاجراً من مكة .
(ولغيرهم على أعداد أُخَر، وهو يريد الرجعة إلى صفين): يريد لإنجاز الحرب بينه وبين معاوية.
(فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله): لعناً وبيلاً، وفي الحديث: ((أشقى الناس رجلان : أحيمر ثمود عاقر الناقة واسمه قدار، والذي يضربك على هذه -يعني قرينة رأسه- فيبل منها هذه)) يعني لحيته.
قال: (فتراجعت العساكر) من حيث أرادوا، وحيث كانت بُغْيتُهم من الجهاد.
(فكنَّا كالأغنام فقدت رعاتها تخطفها الذئاب من كل مكان).
(173) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها صفة النار وحالها
(الحمدلله المعروف من غير رؤية): يشير إلى أن العلم به ليس من طريق الرؤية والمشاهدة، وإنما طريق معرفته غير ذلك، إما بالنظر والاستدلال والتفكّر في أفعاله، والشواهد الدالة على وجوده من أفعاله، وهذا عليه تعويل الأكثر من العلماء من المتكلمين، وإما أن يكون معلوماً بالضرورة غير الإدراك، وهذا هو قول طائفة من نُظَّار العلماء من أهل الكلام فإنهم جوَّزوا ذلك، أعني أن يكون العلم به ضرورياً.
(والخالق من غير مَنْصَبَةٍ): يريد أنه فيما خلق لا يلحقه نصب ولا تعب كما يلحق غيره من سائر الفاعلين لهذه الأفعال، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}[ق:38] نزلت تكذيباً لليهود، ورداً عليهم، حيث زعموا أن الله تعالى خلق السموات والأرض وما بينهما، من يوم الأحد إلى يوم الجمعة، ثم استراح يوم السبت .
(خلق الخلائق بقدرته): أنواع المخلوقات وضروب المكوّنات كلها بالقدرة الإلهية التي يستحقها ولا تكون لغيره، ولهذا أضافها إلى نفسه، تنبيهاً على ما قلناه.
(واستعبد الأرباب بعزته): أراد جعلهم عبيداً له، والرب: هو المالك، أي جعل كل رب ومالك عبداً له، يتصرف فيه كيف شاء؛ لاختصاصه بالعزة والعظمة والجلال والكبرياء.
(وساد العظماء بجوده): من كان عظيماً في حاله بما أعطاه من جوده وفضله، وفي هذا تنبيه على أن أحداً لا يسود غيره إلا بإفضاله وإنعامه عليه، والسيد: هو المالك المنعم، وفي بعض كلام أمير المؤمنين سنذكره من بعدُ: (أحسن إلى من شئت تكن أميره).
(هو الذي أسكن الدنيا خلقه): جعلها مسكناً لهم ومستقراً لأحوالهم؛ لما يريد من إنفاذ حكمته فيما كلفهم به وهو لا يمكن إلا بذلك، فلهذا عمرها وجعلها مساكن يسكنونها ، وإنما أعاد الضمير وهو قوله: هو الذي؛ ليدلَّ بذلك على أنه هو المختص بذلك، لا يقدر عليه غيره.
(وبعث إلى الجن والإنس رسله): يريد أنه أرسل إليهم الأنبياء.
(ليكشفوا لهم عن غطائها): الضمير للدنيا، وأراد ليعرفوهم بحالها، وزوالها، ونفادها.
(وليحذِّروهم من ضرَّائها) الضرَّاء: هي الضر، والسراء: هو السرور، وأراد ليحذِّروهم من الميل إليها فتضرهم .
(وليضربوا لهم أمثالها): كما قال تعالى في مثل الدنيا: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ }[يونس:24] وغير ذلك من الأمثال التي تؤذن بانقطاعها عن أيديهم، وزوالها عن أنفسهم.
(وليبصروهم عيوبها): ما فيها من الخدع لأهلها والمكر بمن ركن إليها، والغش لمن استنصحها، وفي الحديث: ((هي الغارَّة لمن استنصحها ، والخاتلة لمن اطمأنَّ إليها)) .
(وليهجموا عليهم): يدخلوا، من قولهم: هجمت عليه إذا دخلت، وهجم الشتاء إذا دخل.
(بِمُعْتَبَرٍ): تذكر الاعتبار، وإنما نكَّره مبالغة في حاله أي بمعتبر عظيم لا يمكن وصفه ولا حده.
(من تصرّف مَصاحِّها): جمع مِصَحة بكسر الميم، وفي الحديث: ((الصَّوم مِصَحة )) .
(وأسقامها): أي ما يعرض فيها من الصحة والسقم.
(وحلالها وحرامها): وما يكون فيها من الحلال والحرام، فأحوالها لا تزال متقلبة بأهلها، ومنتقلة بهم من حالٍ إلى حالٍ.
(وما أعدَّ الله سبحانه للمطيعين منهم والعصاة): أي وبما أخبر، أو بما وعد الله أهل الطاعة، وأوعد أهل المعصية من الجزاء على أعمالهم.
(من جنة): جزاءً على الطاعة.
(ونار): جزاءً على المعصية، حتى صار هذا -أعني العلم بالجنة والنار، واستحقاق الثواب والعقاب- ضرورة من دين الأنبياء صلوات الله عليهم، فلا يمكن تصديقهم إلا بالعلم بما ذكرناه.
(وكرامة): لأوليائه وأهل محبته.
(وهوان): لأهل عداوته.
(أحمده إلى نفسه): أي أن حمدي له إنما هو بالإضافة إلى ذاته لا غير، وكونه أهلاً له، وذلك لأن الحمد وهو الثناء على وجهين:
أحدهما: أن يكون بالإضافة إلى نفس الذات؛ لكونها مختصة بالصفات الحسنى، فيكون الثناء متوجهاً إليها لما اختصت به من الصفات لاغير، وهذا هو مراده عليه السلام بقوله: (أحمده إلى نفسه) أي لما اختص به في نفسه من الثناء.
وثانيهما: أن يكون بالإضافة إلى فعل الإحسان والابتداء بعوارف النعم والإفضال، وعلى هذا يكون استحقاقه للثناء؛ لأجل ما فعله من إعطاء هذه النعم وتخويلها من عنده، فاستحقاقه للحمد والثناء لذاته، واستحقاقه للحمد والثناء على فعله، فلا يخلو في استحقاق الثناء عن هذين الوجهين، والأول أبلغ ولهذا قصده؛ لأن استحقاقه إنما هو لمجرد الذات لا لعارض، بخلاف الثاني، فيكون المعنى أجعل غاية حمدي هي نفسه وذاته لا غير.
(كما استحمد إلى خلقه): كما طلب الحمد من خلقه لأجل إفضاله عليهم وإنعامه، فمن إحكاماته البديعة وإتقاناته العجيبة:
(جعل لكل شيء قدراً): لا يتجاوزه ولا يتعداه؛ حيث قال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }[الرعد:8].
(ولكل قدر أجلاً): لا يزيد عليه ولا ينقص منه، ولهذا قال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ }[الأعرف:34].
(ولكل أجل كتاباً ): مدون في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ }[الرعد:38].
(فالقرآن آمر زاجر): فعل من أفعال الله تعالى، وأمر من أموره الناجزة ، زاجر، إماذا زجر لاشتماله على هذه الزواجر والقوارع الوعيدية، وإما على المبالغة بإضافة الزجر إليه؛ كأنه الذي فعله، كما قالوا: صائم نهاره، وقائم ليله.
(وصامت ناطق): يعني أنه صامت؛ إذ لا آلة له من لسان فينطق به، وهو ناطق أيضاً لما فيه من الحجج البالغة والأدلة النافعة، وهو آمر أيضاً لما فيه من الحث على الطاعات، وزاجر لما فيه من المنع عن المعاصي، وهذا من الطباق الفائق، والتكافؤ اللائق، حيث ذكر النقيضين وأومئ فيه إلى الضدين جميعاً.
(حجة الله على خلقه): جعله حجة عليهم بما أودعه من الشرائع والأحكام، والأوامر والنواهي، والزجر والتهديد، وضمَّنه من الوعد والوعيد، وبيَّن فيه مراده فيما رغَّب وحذَّر.
(أخذ عليهم ميثاقه ): الضمير إما لله أي أخذ الله عليهم ميثاق نفسه، فيما كلفهم إياه من أمر ونهي، وإما أن يكون للقرآن أي أخذ عليهم ميثاق القرآن الذي أودعه فيه، على تأدية ما اشتمل عليه، وأضاف الميثاق إلى القرآن لتعلقه به.
(وارتهن عليهم أنفسهم): فيما كسبوه وعمَّا اجترحوه من السيئات، كما قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }[الطور:21].
(أتمَّ نوره): حيث قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام:38] فهو مستكمل لجميع العلوم كلها مما يحتاج إليه المكلفون.
(وأكمل به دينه): لأن الشريعة كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فهما أصلان لها، وقاعدتان من قواعدها، فلا كمال لها إلا به.
(وقبض نبيه [صلى الله عليه وآله] ): اختار الله له ما عنده من عظيم الزلفة، وقرب المنزلة، وشرف الجوار.
(وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به ): يريد أنه ماقبض الله نبيه إلا بعد أن أوضح لهم معالم دينهم وأكملها لهم، ولم يترك ملتبساً عليهم إلا أوضحه، ولا مبهماً إلا بيَّنه، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...}الآية[المائدة:3].
(فعظمِّوا منه سبحانه ما عظَّم من نفسه): يريد فاعطوه ما يستحق من التعظيم لما اختص به في نفسه من الصفات الإلهية التي يستحق لمكانها التعظيم، ولمكان نعمه الواصلة إليكم من جهته.
(فإنه لم يُخْفِ عليكم شيئاً من دينه): مما أحلَّ لكم أو حرَّمه عليكم، ولا كتم ذلك منكم، بل أظهره وتعبدكم به.
(ولم يترك شيئاً رضيه): من الأمور المقرِّبة إليه من الطاعة.
(أو كرهه): من الأمور المبعدِّة عنه، والمعاصي المسخطة له.
(إلا وجعل عليه علماً بادياً): دلالة واضحة من جهة العقل أو من جهة الشرع تبدو لكل من أراده أو طلبه، والعلم هو: منار الطريق.
(وآية محكمة): لا اشتباه فيها، ويظهر مراده منها.
(تزجر عنه): تمنع من فعله، إذا كان مكروهاً.
(أو تدعو إليه): تحث على فعله إذا كان مراداً.
(فرضاه فيما بقي واحد، وسخطه فيما بقي واحد): يريد أنه وإن بقي شيء لم يذكر في القرآن، وهو يُرْضِي الله فرضاه به هو رضاه بما ذكره من غير تفرقة بينهما، وهكذا القول فيما سخطه مما لم يذكره فيه، فإن سخطه به مثل سخطه عمَّا ذكره أيضاً.
سؤال؛ أليس قد قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام:38] فكيف قلتم هاهنا: إن هناك مرضياً ومسخوطاً من الأفعال لم يذكره في القرآن، وحكمه مثل حكم ما ذكره في الرضا والسخط؟
وجوابه؛ هو أن القرآن وإن لم يكن دالاًّ عليه بظاهره وصريحه؛ فإنه دالٌّ عليه بمعناه واستنباطه منه، ولهذا فإن الحوادث لا تزال غضة طرية على وجه الدهر، وكل واحد من المجتهدين، والعلماء الماهرين في النظر يأخذونها من رموزه وإشاراته، فهو وإن لم يتضمنها بظاهره فقد اشتمل عليها بمعناه ، فقد ظهر بما لخَّصنا مصداق قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام:38].
(واعلموا أنه لن يَرْضَى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم، ولن يسخط عليكم بشيء رضيه على من قبلكم ): يريد أن ما كان مرضياً من غيركم من الإعمال، فهو مرضي منكم، وما كان مسخوطاً من الأعمال من غيركم، فهو مسخوط منكم، وهذا كله محمول على وجهين:
أحدهما: أن يريد من الاعتقادات الدينية من التوحيد، والوعد والوعيد، والزجر وأحكام الآخرة، فهذه الأمور كلها مأخوذة عليكم الاعتقاد لها والتصديق بها، كما أُخِذَت على من غيركم من الأمم الماضية، فإن الكل منكم ومنهم فيها علىسواء من غير مخالفة فيها.
وثانيهما : أن يريد من ذلك من الأمور الشرعية ما لا تختلف فيه المصالح نحو القصاص، وتحريم المسكر، وأخذ الأموال واستحلال الفروج، فإن هذه الأمور كلها ثابتة باقتراحات الشرع، وتحكماته، ولا يخلو شرع عن ذلك لمافيها من مراعاة مصالح الخلق، وانتظام أمورهم كلها.
(قد كفاكم مؤونة دنياكم): بتكفله بأرزاقكم، وإعطاكموها عفواً من فضله.
(وحثكم على الشكر): لما أنعم به عليكم من هذه النعم.
(وافترض على ألسنتكم الذكر): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد الحمد والثناء، فيستحق بالنعمة الشكر والحمد والثناء.
وثانيهما: أن يريد بذلك ما افترض من هذه الأذكار الشرعية، الصلوات وأنواع العبادات كلها.
(وأوصاكم بالتقوى): أمركم بها غير مرة في كتابه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ }[البقرة:197].
(وجعلها منتهى رضاه): غاية مطلوبه وقصاراه، فلا مطلوب بعدها له، وهو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر.
(وحاجته من خلقه): ذكر الحاجة هاهنا مجاز واستعارة، وليس الغرض حقيقة الحاجة، فإن الله تعالى غني عن العالمين، وإنما الغرض أنها هي المطلوب من غير زيادة.
(فاتقوا الله الذي أنتم بعينه): فلا يخفى عليه من أموركم خافية، من طاعة ولا معصية.
(ونواصيكم بيده): يصرِّفها كيف شاء، كما قال تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا }[هود:56].
(وتقلبكم في قبضته): تصرّفكم في جميع أحوالكم وأموركم، وهو محتكم عليكم كما يحتكم الإنسان على ما في قبضة يده، واضعاً عليه أنامله.
(إن أسررتم): شيئاً من أعمالكم.
(علمه): أثبته وكتبه.
(وإن أعلنتم): أظهرتموها ،دونته الحفظة.
(كتبه ): أمر الحفظة بوضعها في الكتب، والصكوك والسجلات، حفظاً لها عن الإهمال والضياع.
(قد وكل بذلك): الإشارة إلى الكتب.
(حفظة كراماً): ملائكة مكرمون عنده، متحفظين على كل صغيرة وكبيرة، لا يعتريهم سهو في ذلك ولا غفلة.
(لا يسقطون حقاً): أي لا يهملون شيئاً مما قد تحققوا فعله.
(ولا يثبتون باطلاً): أي لا يكتبون مالم يكن، أو لا يجعلون مكان السيئة حسنة، ولا مكان الحسنة سيئة.
(واعلموا أن من يتقِ الله): يراقبة في جميع أحواله، بالخوف منه.
(يجعل له مخرجاً من الفتن): بالألطاف الخفية.
(ونوراً من الظلم): يريد من ظلم الجهل والعمى، والمحارات العظيمة.
(ويُخَلِّدْهُ فيما اشتهت نفسه): من الملاذ العظيمة، والتُّحَفِ النفيسة في الجنة، كما قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ }[الزخرف:71].
(وَيُنْزِلْهُ منزل الكرامة): بما يحصل له من الإجلال والتبجيل، كما قال تعالى: {وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ، سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}[الرعد:23-24] يشير بذلك إلى ما يحصل لهم من الإعظام.
(عنده): يشير به إلى ما يحصل لهم من الكرامة منه.
(في دار اصطنعها لنفسه): أي لمن يختصه ويكون ذا مكانة عنده، كأنه فعله من أجل نفسه؛ لأن كلما يفعله الإنسان لنفسه فهو في غاية الرصانة، والقوة والنصيحة.
(ظلها عرشه): تختص من الشرف والكرامة بأن صار العرش -وهو أشرف المخلوقات- سقفاً لها يظل من فيها.
(ونورها بَهْجَتُهُ): البَهْجَةُ هاهنا هي: الشرف والكرامة، والحسن والنضارة، قال الله تعالى: {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ }[النمل:60]، و{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }[الحج:5].
(وزوارها ملائكته): يردون عليهم بالكرامة، والمسرة من جهة الله تعالى.
(ورفقاؤها رسله): الرفيق هو: المرافق، يشير إلى قوله تعالى:{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً}[النساء:69].
(فبادروا المعاد): بالأعمال الصالحة، وأراد الانقلاب إلى الآخرة، والعودة إليها.
(وسابقوا الآجال): حذراً أن تحول بينكم وبين الأعمال.
(فإن الناس يوشك أن ينقطع بهم الأمل): وشُك الأمر بالضم يوشُك بالضم أيضاً، وَشكاً ووُشكاً بفتح الواو وضمها، ووُشكان بضم الواو، ووشَكان بفتحها إذا أسرع، والعامة تقول: وَشُكَ الأمر بضم الشين يوشَك بفتحها وهي لغة رديئة، وأوشَك فلان بفتح الشين يوشِك بكسرها إذا أسرع في السير، قال جرير:
إِذَا جَهِلَ الشَّقِيُّ وَلَمْ يُقَدِّر
بِبَعْضِ الأَمْرِ أَوْشَكَ أَنْ يُصَابَا
وأراد ها هنا أن الناس إذا عوَّلوا على الآمال انقطعوا دون بلوغها، وقرب ذلك لا محالة.
(ويرهقهم الأجل): يعجلهم عنها فلا يبلغوها.
(ويُسَدَّ عنهم باب التوبة): بحصول أشراط الساعة، فتبطل التوبة لمكان الإلجاء.
(فقد أصبحتم): في مهلة وزمان واسع للأعمال الصالحة.
(في مثل ماسأل إليه الرجعة من كان قبلكم): حيث قالوا: {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }[الأنعام:27].
(وأنتم بنو سبيل): رجال تعبرون طريقاً.
(على سفر): مسافرون ارتحالهم قريب سريعي الانتقال.
(من دار): يريد الدنيا.
(ليست بداركم): الدار التي خلقتم من أجلها، أوالدار التي هي دار إقامتكم.
(قد أوذنتم منها بالارتحال): حيث دلَّ الشرع على أن كل حي فهو ميت لا محالة.
(وأمرتم فيها بالزاد): أي أمرتم بأخذ الزاد، وإعداد العُدة للآخرة فيها، بما يكون من التقوى وأفعال الخير التي هي الزاد.
(واعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق): الضمير للشأن، والرقيق هو: الضعيف.
(صبر على النار): لضعفه وهونه.
(فارحموا نفوسكم): بالإزاحة عنها، والبُعْد منها.
(فإنكم قد جَرَّبْتُمُوها في مصائب الدنيا): القليلة الحقيرة.
(ورأيتم جزع أحدكم من الشوكة): حزنه عند إصابة الشوكة له، وقلقله وفشله عنها.
(تصيبه): تقع فيه.
(والعثرة تدميه): وإذا عثر فعن قريب خروج دمه.
(والرمضاء تحرقه): أي الحجارة المحماة تؤلمه بالإحراق، فهذه الأمور كلها حقيرة الألم بالإضافة إلى آلام الآخرة ومصائبها.
(فكيف إذا كان بين طابقين): الطابق: المتصل، وأراد بين المتصلين، أو يريد بالطابق الطبق أي أنه يكون بين طبقين:
(من نار): لا ينفك عنهما .
(ضجيع حجر): مضاجع لها.
(وقرين شيطان): مقارن له، والمعنى أنه يحصل بين طبقين من أطباق النيران، وانتصاب ضجيع وقرين على الحال أي مضاجعاً ومقارناً، أي ومع كونه حاصلاً بين الطبقين فهو لا ينفك عن مقارنة الشياطين، ومضاجعة الأحجار، عذاب مع عذاب، واستيثاق بعد استيثاق.
اللَّهُمَّ، أجرنا من عذابك ياخير مستجار به.
(أعلمتم أن مالكاً): خازن النار.
(إذا غضب على النار): زجرها وكفها.
(حطم بعضها بعضاً لغضبه): يريد تراجع بعضها على بعض فرقاً منه، وخوفاً من شدة غضبه.
(وإذا زجرها): حثَّها في الإحراق.
(توثبت بين أبوابها): تدافعت مسرعة من أبوابها.
(جزعاً من زجرته): إشفاقاً من ذلك، وخوفاً منه.
(أيها اليَفَنُ): الشيخ.
(الكبير): السن، و المتقادم عمره.
(الذي قد لَهَزَهُ القَتِير): خالطه الشيب.
(كيف أنت): على أي حال تكون:
(إذا التحمت): تمكَّنت، من قولهم: ألحمته السيف إذا مكَّنته من جسمه ليناله.
(أطواق النار): جمع طاق، وهو: ما تعطف من اللهب، والطاق أيضاً: ما يُعْطَفُ من الأبنية، وهو فارسي معرب.
(بعظام الأعناق): واتصلت بها اتصالاً كلياً.
(ونشبت الجوامع): جمع جامعة وهي: الغل، سميت بذلك؛ لأنها تجمع اليدين إلى العنق.
(حتى أكلت لحوم السواعد!): من شدتها وحرارتها.
(فالله الله): اتقوا الله.
(معشر العباد!): جميع الخلائق.
(وأنتم سالمون في الصحة): عن جميع العاهات في عافية من أبدانكم، وبقاء من أعماركم.
(قبل السقم): المرض، وسائر العاهات.
(وفي الفسحة قبل الضيق): أي وأنتم منفسحون في أموركم قبل الضيق، إمافي القبر، وإما في ضيق خروج الأنفس.
(فاسعوا في فكاك رقابكم): عن الوثاق في ربق الخطايا.
(من قبل أن تُغْلَقَ رهائنها): الرهائن جمع رهينة، وإغلاق الرهن: استحقاق المرتهن له بمافيه من الدين.
(أسهروا عيونكم): في عبادة الله تعالى، وطول التضرع إليه في الليل.
(وأضمروا بطونكم): في الصيام لوجه الله تعالى، وابتغاء مرضاته.
(واستعملوا أقدامكم): في طاعة الله تعالى، كالجهاد والحج، والخُطا إلى المساجد، وفي الحديث: ((من مات ولم يغزُ أو يُحَدِّثْ نفسه بالغزو، مات على شُعْبَةٍ من شُعَبِ النفاق)) ، وفي الحديث: ((الحجُّ هو جهاد الضعفاء )) وفي الحديث أيضاً: ((بشِّر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )) .
(وأنفقوا أموالكم): في سبيل الله، وابتغاء وجهه الكريم.
(وخذوا من أجسادكم): بإتعابها لله.
(تجودوا بها على أنفسكم): في إحراز الجنة، وطلب رضوان الله تعالى في ذلك.
(ولا تبخلوا بها عنها): ولا تَضِنُّوا بالأموال عن النفوس.
(فقد قال الله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمد:7]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ})[الحديد:11] فلم يستنصركم من ذُلٍّ): فيكون محتاجاً إلى نصرتكم له.
(ولم يستقرضكم من قُلِّ): فيكون مفتقراً إلى أموالكم، ويدل على ذلك هو أنه:
(استنصركم وله جنود السموات والأرض): ومن هذه حاله فليس مستنصراً بأحد.
(وهو العزيز): في ذاته.
و(الحكيم): في أفعاله فلا يحتاج إلى نا صر ينصره، وإلى من يعلمه أحكام أفعاله.
(واستقرضكم وله خزائن السموات والأرض): ومن هذه حاله فليس مستقرضاً من أحد.
(وهو الغني): عن كل مايفتقر إليه الخلائق.
(الحميد): المستحق للحمد من جهة الخلق، على ما أنعم عليهم من النعم العظيمة.
(وإنما أراد أن يبلوكم): يختبركم، ويمتحن أحوالكم.
(أيكم أحسن عملاً): أيكم يكون عمله مطابقاً لأمره، موافقاً لإرادته.
(فبادروا بأعمالكم): أراد إما أسرعوا فيها، وإما عاجلوا بها الموت، قبل أن يحول بينكم وبينها.
(تكونوا مع جيران الله في داره): أهل الصلاح والتقوى في الجنة التي هي داره، خلقها لأوليائه وأهل طاعته.
(رافق بهم رسله): جعلهم مرافقين لهم في الجنة.
(وأزارهم ملائكته): جعل الملائكة يزورونهم ، ويختلفون عليهم غدواً وعشياً.
(وأكرم أسماعهم): شرَّفها، وعظَّم أمرها وصانها.
(أن تسمع حسيس نار أبداً): الحس هو: الصوت الخفي، قال الله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا }[الأنبياء:102]، والأبد هو: استغراق الوقت، يقال: ما رأيته أبداً.
(وصان أجسادهم أن تلقى لُغوباً ونَصباً): اللغوب هو: الإعياء، والنَّصَبُ هو: التعب، كماقال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى ، وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى}[طه:118-119]
({ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21] أقول ما تسمعون): من مواعظي هذه، التي أكررها على آذانكم، وأرددها على أذهانكم.
(والله المستعان): المسئول أن يكون وكيلاً:
(على نفسي وأنفسكم): في الهداية والإعانة على مخالفتها، وردها إلى الحق.
(وهو حسبنا ونعم الوكيل).
(174) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها المتقين، ويصف أحوالهم
روي أن صاحباً له يقال له: همام ، وكان رجلاً عابداً ، فقال له: يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم، فتثاقل عن جوابه، ثم قال:
(يا همام، اتق الله وأحسن ف{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ })[النحل:128]: وأراد أن في هذه الآية كفاية له على جهة الجملة، وغرضه هو أن الله تعالى كائن باللطف والإعانة، والتوفيقات المصلحية مع من كان متقياً لله في جميع أحواله محسناً، فهاتان الخصلتان هما أعظم خصال التقوى: الخوف، والإحسان.
(فلم يقنع همام بذلك القول): لما فيه من الإجمال.
(حتى عزم عليه): جدَّ في التعويل.
فقال عليه السلام قولاً: (فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وصلى على الرسول عليه السلام) ثم قال:
(أما بعد؛ فإن الله سبحانه خلق الخلق): أوجدهم من العدم.
(حين خلقهم): في الوقت الذي أوجدهم فيه باقتضاء المصلحة، وتوجه الحكمة.
(غنياً عن طاعتهم): إذ لاتلحقه مضرة بفقدها.
(آمناً من معصيتهم): إذ لا يلحقه خوف بوجودها.
ثم علَّلَ ذلك بقوله:
(لأنه لاتضره معصية من عصاه): لا يناله ضرر بهذه المعصية، وإن كانت مخالفة لأمره.
(ولا تنفعه طاعة من أطاعه): ولا يلحقه بهذه الطاعة نفع مع موافقتها لأمره.
(فقسم بينهم معايشهم): على ما تقتضيه الحكمة، وتشير إليه المصلحة من الإكثار والتقليل، والاقتصاد والتقتير.
(ووضعهم في الدنيا مواضعهم): بعضهم في مراتب عالية، وبعضهم في الأسافل الدانية، وبعضهم في الطبقة الوسطى.
(فالمتقون فيها): يريد الدنيا.
(هم أهل الفضائل): الدرجات العالية، والخصال النفيسة.
(منطقهم الصواب): أي لا ينطقون بشيء من الأقوال إلا بما هو صائب، مطابق لرضوان الله تعالى.
(وملبسهم الا قتصاد): أي لا يلبسون اللباس الفاخر فيكون ذلك خيلاء، ولا يلبسون اللباس الداني فيكون ذلك إراءةً للزهد، وفي الحديث: ((إياكم ولباس الشهرتين )) يريد النهاية في العلو والنهاية في الدنو.
(ومشيهم التواضع): أي لا يمشون إلا وهم متواضعون لله تعالى، من غير خيلاء ولا تكبر في سيرهم.
(غضوا أبصارهم): نقصوها.
(عمَّا حرَّم الله عليهم): فلا يضعون أبصارهم إلا حيث أباح الله تعالى، من الدنيا في زوجة أو ملك يمين، ويجوز أن يكون جعل هذا كناية عن أنهم لا يتناولون شيئاً من الدنيا لا يحل لهم تناوله.
(ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم ): فما كأنهم يسمعون سواه، ولا يرون الإصغاء إلى خلافه، والعلم النافع ما أريد به وجه الله تعالى، وعلم الطريق إلى الآخرة.
(بذلت أنفسهم في البلاء كالذي بذلت في الرخاء ): يريد أنهم مستقرون على حالة في تقوى الله تعالى وخوفه، لا تختلف أحوالهم في ذلك، لا في الشدة ولا في الرخاء، فالذي تعطيهم أنفسهم وتبذله لهم من خوف الله تعالى وتقواه على سواء، في الشدة والرخاء.
(ولولا الأجل الذي كتب الله لهم): قدَّره وكتبه في اللوح لمحفوظ فلا يزاد عليه ولا ينقص منه.
(لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طَرْفَةَ عين): بل تزهق متعجلة، وطرفة العين: إطباق أحد الجفنين على الآخر.
(شوقاً إلى الثواب): إلى ما أعد الله لهم من الثواب.
(وخوفاً من العقاب): إشفاقاً مما أعد الله من العقوبة لأهل المعصية.
(عظم الخالق في أعينهم ): لما يتحققون من جلاله، وكنه كبريائه.
(فصغر ما دونه): فا ستحقروا ما دونه من مخلوقاته، بالإضافة إليه.
(في أعينهم): أي لا يرون لغير الله قدراً في أبصارهم.
(فهم والجنة كمن قد رآها): الجنة في إعرابها وجهان:
[أحدهما] : أن تكون مرفوعة عطفاً على قوله: هم، كما تقول: أنت وزيد كرجلين اصطحبا زماناً طويلاً.
وثانيهما: أن تكون منصوبة على المفعول معه أي هم مع الجنة، كما تقول: كيف أنت وقصعةً من ثريد، والمعنى أنهم بمنزلة من شاهد الجنة ورآها بعينيه.
(فهم فيها منعمون ): أي كأنهم قد دخلوها، والتذوا بملاذها.
(وهم والنار كمن قد رآها): ما ذكرناه في واو الجنة فهو حاصل في واو النارهاهنا من غير تفرقة بينهما.
(فهم فيها معذبون): خوفاً منها وإشفاقاً من الوقوع فيها، وأراد أنهم في غاية الشوق إلى الجنة، وفي غاية الحذر من النار.
(قلوبهم محزونة): لا يفارقها الحزن ساعة واحدة.
(وشرورهم مأمونة): أي أن أحداً لا يخافهم فهو آمن من جهتهم لا يتقي شرهم.
(وأجسادهم نحيفة): إما جوعى وهزالى ، وإما خوفاً وإشفاقاً، أو غماً وحزناً، فكل هذه الأشياء تنقص الجسم وتهزله.
(وحاجتهم خفيفة): في جميع أحوالهم، في طعامهم ومأكلهم وملبسهم، وفي الحديث: ((المؤمن خفيف المؤونة )) .
(وأنفسهم عفيفة): عن جميع شهوات الدنيا، ولذاتها.
(صبروا أياماً قليلة ): في الدنيا فإنها قليلة؛ لا نقطاعها ونفادها وزوالها.
(أعقبتهم راحة طويلة): عيش الآخرة، ونعيمها، وإنما كانت طويلة لأنه لا غاية لها، ولا انقطاع لعيشها.
(تجارة مربحة): التجارة في إعرابها وجهان:
فالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره تجارتهم تجارة، والنصب على المصدرية أي اتجروا تجارة، والمربحة ذات الربح.
(يسرها لهم ربهم): بالألطاف الخفية، ففعلوها، واطمأنت إليها نفوسهم.
(أرادتهم الدنيا): أقبلت إليهم، وجاءتهم من كل مكان
(ولم يريدوها): يطمأنوا إليها، ويطمعوا في حطامها، واكتساب لذاتها المنقطعة.
(وأسرتهم): بالتزين في أعينهم، والتحلي بأطماعها لهم.
(ففدوا نفوسهم منها): بتركها والإعراض عنها، فسمي التزين أسراً لأنه شبيه به وسمي الإعراض عنها فداء؛ لأن به يقع الخلاص عنها.
(أما الليل فصافون أقدامهم): يريد وهم مختصون بالوظائف والعبادات العظيمة، فعادتهم بالليل هو: صف الأقدام للصلوات.
(تالين لأجزاء القرآن): يقرأون القرآن في صلواتهم.
(يرتلونها ترتيلاً): أي لا يهذونه هذاً، ولا يسردونه سرداً، وإنما يكون ذلك على إرواد وتؤدة بتبيين الحروف، وإشباع الحركات.
وسئلت عائشة عن قرآءة الرسول؟ فقالت: لا يسرد سردكم هذا ، لو أراد السامع أن يَعُدَّ حروفه لعدَّها.
(يحزنون به نفوسهم ): يستجلبون الأحزان لما يرون من اشتماله على الوعيدات العظيمة، أو يعرضون أنفسهم عليه فيحزنون لما يرون من مخالفة أحوالهم، وصفاتهم له.
(ويستثيرون به دواء دائهم): استثار رأيه إذا طلبه وأوجده، وأراد أنهم يطلبون دواء دائهم وهي الذنوب من جهته بالفزع إلى الله تعالى، واللجأ إليه والاستغفار، أو أنهم يطلبون دواء قسوة قلوبهم من جهته لما فيه من الوعظ، والأمثال، والأخبار عن الأمم الماضية، والقرون الخالية.
(فإذا مروا بآية): فهم في أثناء قرآءتهم له، إذا مروا بآية.
(فيها تشويق): وعد من الله تعالى لأهل الطاعة.
(ركنوا إليها): اطمأنت إليها نفوسهم ثقة بوعد الله، وصدق كلامه.
(وتطلعت نفوسهم): أشرفت عليها بالرغبة، والإقبال.
(إليها شوقاً): محبة لها واشتياقاً إلى ما تضمنته من ذلك.
(وظنوا أنها نصب أعينهم): مبالغة في حالهم أي يكاد يخيل إليهم أن الجنة نصب أعيانهم، أو ما اشتملت عليه الآية من الوعد كذلك، فلأجل هذا يغلب على ظنونهم ذلك.
(وإذا مروا بآية فيها تخويف): وعيد من جهة الله، يخافه من سمعه، وعلم صدقه.
(أصغوا إليها): الإصغاء من السمع بمنزلة التحديق في بصر العين.
(مسامع قلوبهم): فوعتها وتحققتها.
(وظنوا): لمكان خوفهم العظيم، وإشفاقهم الشديد.
(أن زفير جهنم): فورانها وشدة غليها.
(وشهيقها): الشهيق: علو الصوت وارتفاعه، والزفير هو: إخراج النفس، والشهيق هو: ترديده.
(في أصول آذانهم): في مستقرها.
(فهم حانون على أوساطهم): يشير إلى حالة الركوع.
(مفترشون لجباههم، وأكفهم، وركبهم): يشير بذلك إلى حالة السجود.
(وأطراف أقدامهم): لما ورد عن الرسول [ صلى الله عليه وآله وسلم] أنه قال: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء : اليدان، والرجلان، والركبتان، والوجه)) .
(يطلبون إلى الله في فكاك رقابهم): لما كان يطلبون في معنى يتوسلون عداه بإلى، فهذه حالتهم في الليل .
(وأما النهار فحلماء): متصفون بالحلم عن كل ما يغيظهم.
(علماء): بالله وتوحيده، ورسله واليوم الآخر، وما يجب من رعاية حقه وعبادته.
(أبرار): أهل تقوى.
(أتقياء): خائفين لله تعالى.
(قد براهم الخوف): أنحل أجسامهم وبراها.
(بري القداح): في النحول والذهاب.
(ينظر إليهم الناظر): يطلع نظره إلى وجوههم وأجسامهم.
(فيحسبهم مرضى): لما يرى من اصفرار ألوانهم، وتغيرأحوالهم.
(وما بالقوم من مرض): أي لا ألم في أجسامهم، ولا وجع يلحقهم.
(ويقول: قد خولطوا): أصابهم مسُّ جنون من كثرة القلق والفشل.
(ولقد خالطهم أمر عظيم): هائل، وهو: ذكر الموت، والقيام بين يدي الله تعالى ، وتذكر أحوال الآخرة كلها.
(لا يرضون من أعمالهم القليل): يريد أن القليل من أعمالهم لا يرضونه شكراً لنعمة الله تعالى، ولا مقابلة لما يستحقه من التعظيم.
(ولا يستكثرون الكثير): أي والكثير من أعمالهم لا يرونه كثيراً؛ لأن الأعمال العظيمة وإن بلغت كل مبلغ في الكثرة، فإنها لا تقوم بحق الله تعالى.
(فهم لأنفسهم متهمون): في التقصير في حق الله تعالى، وأنهم لم يبلغوا مبلغ شكره، والقيام بحقه.
(ومن أعمالهم مشفقون): خائفون أن تردَّ عليهم، ولا تكون مقبولة.
(إذا زكي أحدهم): ذكر بأوصاف حسنة، وأثني عليه.
(خاف مما يقال له ): أشفق مما يقال فيه، مخافة أن يكون ذلك على خلاف ما قيل فيه.
(فيقول): فيكون جوابه عند ذكر الثناء عليه.
(أنا أعلم بنفسي من غيري): أكثر علماً بها، وبما يقال فيها منكم فلا تقولوا ما لا تعرفون.
(وربي أعلم مني بنفسي ): أكثر إحاطة بها فما أدري ما حالها عنده وبالإضافة إليه.
(اللَّهُمَّ، لا تؤاخذني بما يقولون) فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنهم يقولون قولاً ليسوا منه على حقيقة في الثناء، ويخبرون خبراً لايعلمون حاله، وربما كان على خلاف ذلك فلا تؤاخذني بما هذا حاله من الأقوال.
وثانيهما: أن يكون مراده أنهم يعتقدون أني زاهد، وأني عابد، ولست بذاك، فلا تؤاخذني بما يقولون، فأكون مرائياً عندك أظهر خلقاً كما يقولون وأنا على خلافه .
(واجعلني خيراً مما يظنون): فيّ، من الزهد والعبادة، والتخلُّق بأخلاق الصالحين.
(واغفر لي ما لا يعلمون!): من الخطايا التي غفلوا عنها وأنت مطلع عليها، ومحيط بها، فهذه أحوالهم بالإضافة إلى العبادة وخوف الله تعالى.
وأما علاماتهم:
(فمن علامة أحدهم): فمما يظهرفيهم من العلامات الصادقة، الدالة على ملازمة التقوى.
(أنك ترى له قوة): شدة وصلابة.
(في دين): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن الشدة والصلابة فيما يتعلق بأحوال الدين، وأموره، فالدين على هذا ظرف للشدة، ومكان لها.
وثانيهما: أن يكون مراده أن الشدة والصلابة في أفعاله وأحواله إنما هي من أجل دينه وخوفه لله تعالى، فلهذا يكون سبباً في الشدة والقوة، [وكل واحد منهما لا غبار عليه، والتفرقة بينهماغير خافية على من له أدنى ذوق وفطانة] .
(وحزماً): تحرزاً في الأمور، واحتياطاً فيها، وفي الحديث: ((الحزم سوء الظن )) .
(في لين): سَبَاطَةُ وجه، ولين عريكة؛ وإنما قال ذلك؛ لأن الغالب من عادة أهل الحزم شكس في الطريقة، وشرس في الخلائق، وهؤلاء بخلافه.
(وإيماناً): تصديقاً بالله وأنبيائه وكتبه، وما يتعلق بأحول الآخرة، وقد فسرنا ماهية الإيمان عندنا، فلا وجه لتكريره.
(في يقين): قطع واستيقان، وأراد أن إيمانه كله مقطوع به، وليس مظنوناً؛ وإنما هو على تحقق من حاله، ونفوذ من أمره.
(وحرصاً): مواظبةً واجتهاداً في أموره كلها.
(في علم): عارف من ذلك بما يكون موضعاً لتحصيله والاجتهاد فيه، وما لايكون الأمرفيه بخلاف ذلك.
(وعلماً): ومحرزاً للعلم، نافذاً للبصيرة فيه، ليس جاهلاً، ولا يعمل أعمال الجُهَّال.
(في حلم): في تؤدة وإرواد لا يعاجل بعقوبة على أحد، بل غايته من ذلك الصفح والعفو.
(وقصداً): أي وأمره الاقتصاد في أحواله كلها من غير تبذير ولاتقتير، وفي الحديث: ((ما عال من اقتصد )) .
(في غنى): أي استغناء، فهو في حاله يقتصد مع غنائه عن الخلق.
(وخشوعاً في عبادة): وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون خاصاً في الصلاة، وخشوعها هو: خشية القلب، والرمي بالبصر إلى موضع السجود، ويحتمل أن يكون خشوعها هو جمع الخاطر لها، والإعراض عمَّا سواها، واستعمال الأدب فيها من العبث باللحية وتنقية الأنف، والتثاؤب والالتفات والتغميض، وغير ذلك من الاشتغال بغيرها، وفي الحديث: ((كان رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] يصلي وهو رافع بصره إلى السماء، فلما نزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ }[المؤمنون:2] رمى ببصره موضع سجوده)) .
وثانيهما: أن يكون عاماً في جميع العبادات كلها، فيؤديها في غاية التذلل والاستكانة، والخوف والإشفاق عليها أن تكون مردودةً عليه.
(وتجملاً): إظهار أحسن الأحوال للناس.
(في فاقة): مع قلة ذات يد، وعدم وفقر.
(وصبراً): تجرعاً للغصص، وإغضاءاً على المكاره كلها.
(في شدة): إما صبراً على الشدائد، وإما صبراً وحاله مشتدة ماضية في ذلك، لا تغيّر فيها ولا اضطراب.
(وطلباً): ارتياداً للرزق وكسبه.
(في حلال): لا يتجاوز الحرام، ولا يلصق به أبداً مع شدة حاجته.
(ونشاطاً): أي وذا نشاط فيما يعمله من الأعمال الصالحة، والنشاط هو: الإسراع في العمل وإرادته.
(في هدى): أي وهو مع نشاطه في ذلك فهو ماضٍ على الهداية، لا يخالف طريقها.
(وتحرجاً): ضيق صدر.
(عن طمع): مخافة أن يقع في الأطماع، أو تخالط قلبه.
(يعمل الأعمال الصالحة): من العبادة والزهادة والتقوى، وأنواع البر كلها.
(وهو على وجل):خوف وإشفاق مخافة أن تكون مردودة عليه، أو أنه لم يقصد بها وجه الله تعالى، والتقرب إليه.
(يمسي): يدخل في المساء، وهو أول الليل.
(وهمه الشكر): على نعمة الله تعالى، وفواضل أياديه ، وهذه جملة ابتدائية في موضع الحال كأنه قال: يمسي شاكراً لله.
(ويصبح): يدخل في الصباح، وهو أول النهار.
(وهمه الذكر): لله تعالى، وتسبيحه، وتقديسه.
سؤال؛ أراه ها هنا خصَّ الشكر بالمساء، والذكر بالصباح، فما وجه ذلك مع صلا حية كل واحد من الوقتين، لكل واحد من الفعلين؟
وجوابه؛ هو أن الذكر يفيد فعله مرة بعد مرة، ولهذا وصف بالكثرة، حيث قال تعالى : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً }[الأنفال:45]، وقال: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً }[الأحزاب:41] وهذا إنما يكون في الصباح لأنه يمكن فيه التكرير، فلهذا خصَّه به.
وأما الشكر فلا يفيد التكرير، ومن ثمَّ خصَّه بالمساء حيث لا يمكن فيه التكرير؛ لأنه موضع للنوم والا ستراحة، ولعل هذا مقصوده، والله أعلم بغرضه من ذلك.
وليس منتهى الشارح لكلام أمير المؤمنين إلا التعويل على ظواهر ألفاظه، والحومان حول لطائفه، فأما الاطلاع على غوره، والاستيلاء على فهم حقائقه فهذا ما لا سبيل إليه.
(يبيت حذراً، ويصبح فرحاً): أراد أنه لا ينفك عن هاتين الحالتين، ومع اشتماله على الإغراق في الوصف، ففيه إشارة إلى الطباق، والتكافؤ بذكر الصباح والمساء.
(حذراً لما حذِّر من الغفلة): بيان لقوله: حذراً، أي يخاف أن يكون غافلاً عن ذكر الله تعالى، والقيام بحقه.
(وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة): بفضل الله تعالى له بما ألهمه من خوفه ورحمته له ، بما يسَّر له من الطاعة وهداه إليها بِمَنِّهِ.
(إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره): أراد أن نفسه إذا أكرهها على فعل الطاعة الشاقة المكروهة من جهة نفسه؛ لنفورها عن ذلك وصعوبتها عليها:
(لم يعطها سؤلها فيما تحب): من النفار عن الطاعة وتركها، بل يُكْرِهُهَا على فعلها لا محالة، أولم يُعْطِهَا ما سألته أيضاً في غيرذلك من الانقياد لشهواتها ومراداتها.
(قُرَّةُ عينه فيما لا يزول): إما في الآخرة ونعيمها؛ لأنه لا آخر له، أوفي الطاعة؛ لأن ثوابها دائم لا انقطاع له، وأراد ما تقرُّ به عينه وتطيب به نفسه.
(وزهادته فيما لا يبقى): يعني الدنيا؛ فإن نعيمها إلى نفاد وتقضي.
(يمزج الحلم بالعلم): أراد أن تركه معاجلته لعقوبة من أساء إليه، ليس من جهة هوان في نفسه، ولا ذُلّ في أمره، وإنما هو عن بصيرة نافذة، وتحقق بأن ما عند الله هو خير وأبقى، فلهذا لم يكن حلمه إلا عن علم، لا عن ذل ومهانة ، فهذه فائدة مزج الحلم بالعلم.
(والقول بالعمل): أي أنه لا يقول قولاً إلا ويعمل به، فلا يرغب في الخير إلا وهو آتٍ به، ولا ينهى عن الشر، إلا وهو كافٍ عنه.
(تراه): إذا فكرت في أحواله وشمائله:
(قريباً أمله): ليس آماله طامحة بل يقرِّبُها لما يعلم من انقطاعها بالموت.
(قليلاً زلله): قلَّما يَزِلُّ في قضية من القضايا لتثبيت الله إياه، وكثرة عنايته به.
(خاشعاً قلبه): بالإقبال إلى الآخرة، والإعراض عن الدنيا.
(قانعة نفسه): يرضى من دنياه بالحقير، وستر الحال وإمضاء وقته على حالة يسيرة.
(منزوراً أكله): قليل الأكل لا يتفكَّه بالمآكل الطيبة، ولا يتنعَّم بالملاذ الفاخرة، وإنما همُّه سدّ الفاقة بأي طعام، كما قال بعضهم:
وَمَا هي إِلا جَوْعَةٌ قَد سَدَدْتُها ... وكلُّ طَعَامٍ بَيْنَ جَنْبِيَّ وَاحِدُ
(سهلاً أمره): يريد أن أحواله كلها سهلة لا عسرة فيها، وفي الحديث: ((المؤمن سهل المؤونة )).
(حريزاً دينه): محتاطاً متحرزاً في أحواله كلها، ليس تابعاً للشبهات بل يأخذ بالأشق الأبلغ.
(ميتة شهوته): أراد إما أنه كلما عرض له عارض من شهواته أعرض عنها بالترك والإهمال، وإما أن يريد أنه لايذكرها بلسانه، ولا تجري على خاطره بمنزلة الميتة.
(مكظوماً غيظه): فلا يظهره بالتشفي، وقضاء الغرض منه.
(الخير منه مأمول): يؤمل الخير منه في جميع أحواله كلها.
(والشر منه مأمون): أراد أنه لا يخاف منه ظهور الشر ولا بدؤه من جهته.
(إن كان في الغافلين): واقفاً مع أهل الغفلة عن أمور الآخرة وعن الله.
(كتب في الذاكرين): بحياة قلبه وكثرة ذكره لله تعالى، وحاصل كلامه هاهنا أنه وإن كان مع أهل الغفلة فإنه لا تعتريه الغفلة معهم.
(وإن كان في الذاكرين): مع أهل التقوى، والصلاح والذكر لله .
(لم يكتب في الغافلين): أراد فهو من جملة أهل الذكر والتيقظ.
(يعفو عمَّن ظلمه): فلا يعاقبه على ظلمه له.
(ويعطي من حرمه): معناه ويجود على من بخل إليه وَمَنَعَهُ عن الإحسان.
(ويصل من قطعه): إما بالإحسان إليه، وإما بالمواصلة له وإن هجره، وفي الحديث: ((ثلاث من أخلاق أهل الجنة : العفو عمَّن ظلمك، والإعطاء لمن حرمك، والإحسان إلى من أساء إليك)) .
(بعيداً فحشه): الفحش هو: البذاء باللسان، والقول القبيح، وأراد هاهنا أنه لا ينطق بالمنطق السوء.
(ليناً قوله): ليس فيه شيء من الجفاء والغلظة، ولين القول هي: الملاطفة بالقول الحسن.
(غائباً منكره ): مفقود عنه، فهو لا يفعله في حالة أصلاً.
(حاضراً معروفه): يبذله لكل أحد ممن سأله إياه.
(مقبلاً خيره): فهو لا يزال إلى زيادة ونماء على تكرر الأيام ودوامها.
(مدبراً شره): فهو لايفعل شراً لكونه مدبراً عنه، ولا داعي له إليه.
(في الزلازل وقور): إذا وقع في الأمور الصعبة، والأحوال المكروهة [فهو متوقر فيها كثير الأناة لا يزعجه الطيش، ولا يدهشه الفشل] .
(وفي المكاره صبور): إذا وقع في أمر مكروه صبرله ابتغاء رضوان الله وطلباً لثوابه.
(وفي الرخاء شكور): أراد وإن وقع في رخاء شكر نعمة الله تعالى، ولم تؤده تلك النعمة إلى الأَشَرِ والبَطَرِ.
(لا يحيف): في الحق، ويميل عنه.
(على من يبغض): لأجل كونه مبغضاً له.
(ولا يأثم): بترك الحق.
(فيمن يحب): فيمن يهواه.
(يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه): أراد أنه إذا كان عليه حق فهو معترف به، لا يحتاج في ذلك إلى أن تقام عليه شهادة، ولا يحكم عليه حاكم.
(لا يضيع ما اسْتُحْفِظ): أراد إما ما استحفظه الله تعالى من أمور الديانة، وإما ما استحفظه الخلق عليه من سائر الودائع والأمانات التي اؤتمن عليها، وجعلت في يده أمانة.
(ولا ينسى ما ذكِّر): يريد إما من أمر الآخرة بالوعظ، وإما من حقوق الخلق الواجبة عليه.
(ولا ينابز بالألقاب): التنابز هو: التداعي بالأسماء السيئة، وهو الذي ورد النهي عنها في القرآن، كما قال تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ }[الحجرات:11].
فأما التداعي بالأسماء الحسنة فهو مندوب إليه، وفي الحديث أنه قال: ((من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب الأسماء إليه )) ولهذا كانت التكنية من السنة، وفي الألقاب الحسنة من الإشهار والإشادة بذكر الملقَّب ما لا يخفى فلهذا كانت مستحباً.
(ولا يُضارُّ بالجار): في مجاورته له، وفي الحديث: ((من آذى جاره أورثه الله داره )) وفي حديث آخر: ((من آذى جاره لم يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله على رءوس الخلائق )) .
وعن بعضهم: ((ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصينا في الجار حتى ظننا أنه سيورثه)) .
(ولا يشمت بالمصائب): الشماتة هي: الفرح بمايصيب العدو من البلايا، قال الشاعر:
وَتَجَلّدِي لِلشَّامِتِيْنَ أُرِيْهُم ... أَنّي لِرَيْبِ الدَّهرِ لا أَتَضَعْضَعُ
(ولا يدخل في الباطل): يَلِجُ فيه قولاً ولا فعلاً، ولا يتلبَّس به.
(ولا يخرج من الحق): يباينه، في قوله ولافعله، ولا في شيء من أحواله.
(إن سكت لم يغمه صمته): لأنه إنما صمت عن حكمة وصواب، فهو لايغتم بذلك.
(وإن ضحك لم يَعْلُ صوته): يريد أن سكوته لم يكن لعيّ وحصر، وإنما هو لوقار، وأن ضحكه ليس جهلاً وغفلة، وإنما هو التبسم، كما كان مأثوراً في ضحك رسول الله وهو أن تبدو نواجذه من غير استغراق في الضحك بالقهقهة.
(وإن بغي عليه صبر [حتى يكون الله تعالى هو الذي ينتقم له] ): ليكون الله تعالى هو المنتصف له، ولما في ذلك من هضم النفس وكسرها.
(نفسه منه في عناء): تعب وَنَصَبٍ من كظم غيظه، ومنعها عن مراداتها، وكفِّها عن مشتهياتها، فهو في ذلك في غاية المشقة والإتعاب لنفسه.
(والناس منه في راحة): لأن لسانه مخزون عن أعراضهم، ويده مكفوفة عن أموالهم، وقلبه سالم عن الحسد والحقد عليهم.
(أتعب نفسه): أنصبها، وشقَّ عليها بتكليفها الأعمال الشاقة.
(لآخرته): أي رجاء لثواب الآخرة، ولذتها ونعيمها.
(وأراح الناس من نفسه): بالكفِّ عنهم في جميع ما يخافونه من غيره.
(بُعْدهُ عمَّا تباعد عنه): يريد أنه لا وجه في بُعْدِه عمَّا تباعد عنه من أمور الدنيا، إلا:
(زهد): رغبة عنها لا نقطاعها.
(ونزاهة): وتنزهاً ، ورفعة عن التضمخ بأطماعها ورذائلها.
(ودنوه): قربه.
(مما دنا منه): في جميع ما قرب منه من أمور الدنيا.
(لين): من شيمته، وتعطف في خليقته.
(ورحمة): في قلبه.
(ليس تباعده): عن ذلك:
(تكبراً ): تعاظماً في نفسه.
(وعظمة): واستعظاماً لأمره.
(ولا دنوه): قربه:
(مكراً وخديعة): كما يفعله أهل التمرد، وأهل الفسوق، فهذه جملة ما ذكره في أوصاف المؤمنين المتقين.
قال: (قال: فصعق همام صعقة كانت فيها نفسه، فقال أمير المؤمنين:
أما والله لقد كنت أخافها عليه): لما يرى من رِقّة قلبه، وشوقه إلى الجنة، ومرافقة هؤلاء الذين وصف حالهم.
ثم قال:
(هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها): يريد تنفعهم نفعاً عظيماً، يُرَى أثره على أفعالهم.
فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال:
(ويحك! إن لكل أجل وقتا ): الويح مصدر يذكر على جهة الدعاء، ولا يذكر فعله، وغرضه الإنكار على القائل قوله، يريد أن النفوس لا يمكن إزهاقها الموت إلا بأمر من الله ووحي من جهته في قبضها الملائكة.
(لا يعدوه): يتجاوزه.
(وسبباً لا يتجاوزه): في زيادة ولا نقصان.
(فمهلاً): منصوب على المصدرية، ومعناه الكفُّ والإرواد عمَّا هو فيه.
(لا تَعُدْ لمثلها ): الضمير لهذه الفعلة، أي لا تفعل هذه الفعلة فهي خطأ.
(فإنما نفث الشيطان على لسانك!): يريد أن هذه الكلمة ما كان صدورها عن وقار وفطانة وتبين، وإنما وسوس لك الشيطان فنفثت بها، وأزلَّك فنطقت بها، وأضافها إلى الشيطان مبالغة لما كان هو الداعي إليها، وكان حصولها بسبب من جهته.
ويحكى عن الشبلي وكان من مشائخ التصوف أنه وعظ يوماً وبالحلقة صبي، فلما سمعه في وعظه صعق صعقة كانت فيها نفسه، فأحضروه إلى الخليفة، فقال: نفس حنت فرنت فدعيت، فسمعت فعلمت فأجابت، فما ذنبي! فخلوا عنه، وربما جرى هذا كثيراً على أيدي الزُّهَّاد وأهل الصلاح.
(175)ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها المنافقين
(نحمده على ما وفَّق من الطاعة): سهَّلها ويسرَّها، وفعل من الألطاف لها.
(وذاد عنه من المعصية): وحمى بالألطاف عن فعل المعصية، والضمير في عنه راجع إلى الأمر، أي وذاد عن الأمر من المعصية، ومن ها هنا لبيان الجنس أي من الأمر الذي هو المعصية.
(ونسأله لمنته تماماً): ونطلب منه الإتمام لما منَّ به علينا من نعمه.
(وبحبله اعتصاماً): أي ونسأله الاعتصام عن المعاصي بحبله، وهو لطفه، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً }[آل عمران:103].
سؤال؛ ما وجه المجاز في تعليق الاعتصام بالحبل، وهلا قال: وبحبله استمساكاً؟
وجوابه؛ هو أن العصام هو رباط القربة وسيرها، التي يُشَدَّ بها وتحمل به، قال ابن السكيت: أعصمت القربة إذا جعلت لها عصاماً، وأعصمت فلاناً إذا جعلت له ما يستمسك في الرحل والسرج؛ لئلا يسقط، وأراد ها هنا استعارته مما ذكرناه، لأنهم إذا لم يعتصموا بحبل الله وهو التعلق بالدين، سقطوا وهلكوا، وكان ذلك سبباً لهلاكهم، فلهذا قال: (وبحبله اعتصاماً) يشير إلى ما ذكرناه من هذه الا ستعارة.
(ونشهد أن محمداً عبده ورسوله): مضى تفسيره غير مرة.
(خاض إلى رضوان الله كل غمرة): الغمرة ها هنا هي: ما يغمر من الماء، وجعله ها هنا استعارة إلى تطلّب رضوان الله، باقتحام الشدائد العظيمة.
(وتجرَّع فيه كل غصة): الغصة: واحدة الغصص، وهي: الشجا، وجعله كناية عمَّا وقع فيه الرسول من العسرة باحتمال أعباء النبوة، والاضطلاع بأثقالها.
(وقد تلوَّن له الأدنون): يريد أن أقاربه، فعلوابه الأفاعيل، ودخلوا في الغدر والمكر به كل مدخل، فأهانهم الله تعالى وأنزل بهم نكاله، ولما نزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ }[الشعراء:214] صعد الصفا ثم قال: ((يا بني عبد المطلب، يابني هاشم، يابني عبد مناف، إنّي لا أملكُ لكم من الله شيئاً ، ياعباس، ياصفية عمة رسول الله)) ثم قال: ((ياعائشة بنت أبي بكر ، ياحفصة بنت عمر، يا فاطمة بنت محمد، افتدين أنفسكنَّ من النار، فإنّي لا أغني عنكنَّ [من الله] شيئاً)) .
(وتألب عليه الأقصون): تألب القوم إذا اجتمعوا، وكانوا إلباً واحداً، وأعظم ما تألبت عليه العرب قريش وأحلافهم من سائر العرب في يوم الأحزاب فإنهم كانوا يومئذ عشرة الآف، نزلوا بمجتمع الأسيال ، فأيَّده الله بالنصر وفرَّق جموعهم.
(وخلعت إليه العرب أعنتها): يقال: خلع فلان عذاره إذا بالغ فيما هو فيه من الفعل؛ لأن خلع العنان والعذار والرس من الفرس، هو: الغاية في استخلاص ما عنده من الجري، وجعل هذا كناية عن بلوغ جهدهم في العداوة.
(وضربت إلى محاريبه بطون رواحلها): المحاريب هي: المجالس الشريفة، والمساكن العالية الرفيعة، وقِبَلِ المساجد، وسميت محاريب لأنه يحارب دونها ويُذَبّ عنها من رامها، وأراد الوصول إليها، يقال: فلان تُضْربُ إليه آباط الإبل وبطون الرواحل وأكباد الإبل، وكله على اختلاف عباراته كناية عن السرعة والاجتهاد في تحصيل الشيء وإيقاعه.
(حتى أنزلت بساحته عداوتها): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره: فاجتمعوا من كل جانب حتى أنزلوا، والساحة هي: ناحية الدار، والغرض ها هنا بنزول الساحة هو: الإذلال للعدو، والتمكن من استئصال شأفته، كما قال تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ }[الصافات:177] ولهذا يقال: قلَّما غُزِيَ قومٌ إلى عقر دارهم إلا ذَلُّوا.
(من أبعد الدار): على تباعد أوطانها، وتنائي ديارها.
(وأسحق المزار): أبعد المكان، قال الله تعالى: {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }[الحج:31] وأراد أنهم رموه بالعداوة عن قوس واحدة.
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله): فإن حقكم متوجه عليَّ؛ لما وُلِّيته من إصلاحكم وهدايتكم.
(وأُحذِّركم أهل النفاق): الذين يظهرون الإسلام على ألسنتهم، وهم مُسِرُّوْنَ للكفر.
(فإنهم الضَّالُّون): ضلَّ عن الطريق إذا أخطأها، وأراد الضالّون عن الهدى وعن طريق الجنة.
(الْمُضِلُّون): لغيرهم عن الدين، وسلوك طريقه.
(الزالُّون): زلَّت رجله إذا زلقت عن مستقرها، وأراد أنهم مائلون عن الدين ومتنكبون عن طريقه.
(الْمُزِلُّون): لغيرهم عن الهدى، وطريق السلامة.
(يتلونون ألواناً): يدخلون كل مدخل، وأراد أنهم لا يثبتون على حالة واحدة.
(ويفتّنون افتناناً): الفتنة: المحنة، وافتتن الرجل إذا أصابته فتنة فذهب عقله وماله، وأراد أنهم يمتحنون الناس امتحاناً، ويذهبونهم بالمكر والخدع عن أديانهم.
(ويعمدونكم بكل عماد): يريد أنهم يحتالون في الفساد، وإعمال الآراء في الباطل كل حيلة.
(ويرصدو نكم بكل مرصاد): رصده إذا راقبه، وأراد أنهم يراقبون الأحوال يستمكنون من التوثب بالخدائع العظيمة، والأماني الكاذبة.
(قلوبهم دوية): فاسدة متغيرة، إما لمافيها من الكفر، وإما لما اشتملت عليه من الخدائع والمكر، فكل هذا يفسد القلب ويغيِّره.
(وصفاحهم نقية): النقاء هو: النظافة، يقال : فلان نقي الجيب ونقي الراحة، [ويقال: بيت فلان أنقى من الراحة] ، إذا كان لا متاع فيه، وأراد ها هنا أن ظواهرهم نقية، والبواطن منهم خبيثة لا خيرفيها.
(يمشون الخفاء): الخفاء منصوب على المصدرية، وهو في موضع الحال أي متخفين، كما قالوا: أرسلها العراك أي معتركة، وهل يكون قياساً أوسماعاً؟ فيه خلاف بين النحاة، وغرضه أنهم يمشون على جهة التستر لما يريدون من المكر بالخلق، والخديعة لهم.
(ويدبُّون الضراء): الضراء هو: الشجر الملتف المستتر، يقال: فلان يمشي الضراء لصاحبه، ويدبُّ الخَمر إذا بالغ في الخدع والمكر بصاحبه.
(وصفهم دواء، وقولهم شفاء): يريد ما يظهرون من الأوصاف فهو حسن، وما يصدر من أقوالهم فهو شفاء لمن سمعه، لمافيهم من الرقة، وحسن الموعظة.
(وفعلهم الداء العياء): أي وما يفعلون من أعمال الحيل في الاستزلال للخلق، فهو داء يُعْيِّي من عالجه، واجتهد في إصلاحه.
(حسدة الرخاء): جمع حاسد، كالكفرة والفسقة ، وأراد أنهم يحسدون كل نعمة أنعمها الله على عباده.
(مؤكِّدوا البلاء): أي يعظمون المصائب على الخلق ليستدرجوهم عن الثقة به ، والاطمئنان إلى خيره.
(وَمُقْنِطُوا الرجاء): القنوط هو: اليأس، وأراد أنهم يؤيسون الخلق عن رجاء الرحمة من الله تعالى، وتلقي الخير من جهته.
(لهم بكل طريق صريع): صرعت الرجل: إذا أوقعته لجنبه وخده، والصريع بمعنى المصروع كالقتيل [بمعنى المقتول] ، وأراد أن لهم في كل جهة أعمال مكر، وحصول خديعة.
(وإلى كل قلب شفيع): يريد أن إعمالهم الحيل لاتكون على حالة واحدة؛ وإنما تختلف أحوالهم في ذلك، فيأتون لكل أحد من طريق مخالفة لطريق غيره.
(ولكل شجو دموع): الشجا هو: الحزن، وقد شجي الرجل أي حزن.
(يتقارضون الثناء): أي يستعيرونه من جهة بعض لبعض بالألسنة؛ لما يبدو من ظاهر أحوالهم.
(ويتراقبون الجزاء): على الصنائع من بعضهم لبعض، وأراد أن صنائعهم فيما بينهم ليس فيها شيء لله، وإنما هي مصانعات لا خيرفيها.
(إن سألوا): غيرهم مسألة من المسائل.
(ألحفوا): ألحوا في المسألة، وبالغوا فيها.
(وإن عذلوا): الْعَذْلُ بذال منقوطة من أعلاها هو: الملامة، والعَذَلُ بالتحريك هو: الاسم منه، يقال: عَذَلَهُ عذلاً أي لامه ملامة.
(كشفوا): الحال، وأظهروا الفضيحة بصاحبها.
(وإن حكموا): بحكم بين الناس.
(أسرفوا): في الحكم بالحيف والبطلان بزيادة كان أو نقصان.
(قد أعدَّوا): أعددت الشيء إذا هيَّأته، قال الله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }[آل عمران:133] أي هُيِّئتْ.
(لكل حق باطلاً): لكل ما يظهر من الحق ما يمحوه من الباطل المخالف له، والمعاكس لأمره.
(ولكل قائم مائلاً): ولكل ما كان مستقيماً على الحق ما يناقضه من المحال.
(ولكل حي قاتلاً): يبطل ما فيه من الحياة ويذهبها.
(ولكل باب مفتاحاً): يستخرجون ما فيه ويذهبونه بباطلهم ومكرهم .
(ولكل ليل مصباحاً): يسيرون فيه إلى قضاء مآربهم، وأراد من هذا كله أنهم دخلوا كل مدخل وأعدُّوا لكل شيء ما يناقضه ويبطل ماهيته، ويفسد حقيقته من أمور الدين والدنيا.
(يتوصلون إلى الطمع باليأس): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنهم يتوصلون إلى الأطماع الباردة بالمحالات الباطلة وبما ليس وصلة فيتوصلون إلى الشيء بنقيضه؛ إغراقاً في الباطل، وتهالكاًفي طلب المحال، فوضع قوله: إلى الطمع باليأس موضع ذلك.
وثانيهما: أن يريد أنهم يتوصلون إلى هذه الأطماع بإيئاس الخلق عن النفع من غيرهم، وأنه لا يوجد إلا في أيديهم فَيَطْمَعُون أموالهم بهذا الإيئاس، ولعل هذا مراده، ولهذا قال بعد ذلك وعلله بقوله:
(ليقيموا به أسواقهم): يحيونها وتستقيم صورتها؛ لأنهم إذا أيأسوهم من خير غيرهم جاءوا إليهم في طلب المنافع فاستقوت الأسواق عن الكساد، وظهرت قوتها بذلك.
(وَيُنْفِقُوا به أعلاقهم): العلق: الشيء النفيس، يقال: هذا ثوب علق إذا كان غالياً.
(يقولون فيشبِّهون): في مقالتهم الحق بالباطل،والصواب بالخطأ.
(ويصفون فيموهون): موَّهت الشيء إذا طليته بذهب أو فضة، وتحت ذلك نحاس أو حديد، ومنه التمويه؛ لأنه يظهر فيه شيئاً وباطنه بخلافه، ومراده من هذا هو أنهم يقولون قولاً ليس باطنه مثل ظاهره، ولهذا كان تمويهاً.
(قد هينوا الطريق): فيه روايتان:
أحدهما: بالنون وأراد أنهم جعلوها هينة، وسهَّلوها في الإباحة لكل شيء وإزالة لجام التكليف وتسهيل مشاقه بتركها.
وثانيهما: بالباء بنقطة من أسفلها أي جعلوا عليه شيئاً يهابه من سلكه فيكون مانعاً للسلوك والعبور، وأراد ها هنا طريق الجنة ومسالك السلامة.
(وأضلعوا المضيق): الضلَعُ: الميل والا عوجاج، وأراد المبالغة في منع السلوك في الطرق؛ لأن الضيق في الطريق مانع من سلوكها، فكيف إذا كانت معوَّجة مائلة مع ضيقها، فذلك يكون أبلغ في تعذر سلوكها، ونظيره في المبالغة قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ }[الهمزة:8] أي النار {مُؤصَدَةٌ }[الهمزة:8] أي مطبقة {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ }[الهمزة:9]، جمع عمود أي أنها مطبقة عليهم بإغلاق الأبواب عليهم، ومدَّ العمد على الأبواب وثاقاً بعد وثاق.
(فهم لُمّة الشيطان): اللُّمة هم : الثلاثة إلى العشرة، وأراد أنهم جماعة الشيطان وأعوانه وأحزابه.
(وحمَّة النيران): الْحَمَّة بالتشديد هي: أشد الحر.
({أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }[المجادلة:19]): فانظر إلى هذه الآية ما أحسن موقعها حيث أوقعها، وما أرشق وضعها في موضعها.
وقد ذكر هذه الخطبة في شأن أهل النفاق، بعد ذكره لأهل التقوى وصفاتهم، جرياً على عادته المألوفة في كلامه من الملاءمة، وحسن الطباق، وجودة النظم لألفاظه وبديع الاتساق.
(176) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها أحوال القيامة
(الحمد لله الذي أظهر من آثار سلطانه): السلطان الوالي، والسلطان: القدرة والولاية، والسلطان: الحجة والبرهان، والمراد ها هنا هو القدرة، وأراد أن الله أظهر من آثار القدرة وبدائعها وعجائبها، ومن ها هنا للتبعيض.
(وجلال كبريائه): الجلال: العظمة، والكبرياء هو: التكبر، وأراد ومن عظيم تكبره:
(ما حيَّر مُقَلَ العقول): الْمُقْلَةُ: عبارة عن تدوير العين وحجمها، وهو الذي يجمع السواد والبياض، وما ها هنا موصولة، وهي في موضع نصب مفعولة لأظهر، وحيَّرها أي أدهشها من الحيرة وهي: دهشة العقل وذهابه.
(من عجائب قدرته): من هذه بيان لقوله: (ما حيَّر) ولهذا يحسن مكانها التمييز، فيقول: ما حيَّر العقول إعجاباً واقتداراً.
(وردع خطرات هماهم النفوس): الردع: الكفُّ، والخطرات: جمع خطرة وهو ما يلم بالقلب من الأمور، والهماهم: ما يتردد في الصدر من الصوت.
(عن عرفان كُنْهِ صفته): عن تحقق غاية صفته.
(وأشهد أن لا إله إلا الله): الشهادة: المعاينة، والشهادة هي: الإخبار عن القطع، وهذا هو مراده ها هنا.
(شهادة إيمان): تصديق بأنه لا إله في الوجود إلا هو.
(وإيقان): أيقن بالشيء إذا قطع به، وأراد وتحقق بذلك.
(وإخلاص): عن الشكوك والشبهات العارضة في ذلك، أو إخلاص عن إشراك غيره في الإلهية.
(وإذعان): وذلة وخضوع، لأن من كانت هذه حالته وهو الانفراد بالوحدانية فيحق له أن يذعن لأمره وينقاد لحكمه.
(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله): قوله: (أرسله) مع قوله: (رسوله) من باب التجنيس من أنواع البديع، وهو أن تجتمع لفظتان أو أكثر في الاشتقاق من أصل واحد، ومنه قول بعضهم:
لَقَد عَلِمَ الْقَبَائِلُ أنَّ قَومِي ... لَهُم حَدٌّ إِذَا لَبِسُوا الْحَدِيْدَا
(وأعلام الهدى): الشرائع والأحكام وسنن المرسلين.
(دارسة): مطموسة ممحوة.
(ومناهج الدين): طرقه ومسالكه.
(طامسة): إما مطموسة أي ممحوة، وإما ذات طمس وذهاب.
(فصدع بالحق): أظهره، من قولهم: صدع الفجر إذا ظهر.
(ونصح للخلق): بذل النصحية من أجل الخلق فيما دلهم عليه.
(وهدى إلى الرشد): من التوحيد وإزالة الأوثان وكسر الأصنام، وإلى الحكم والآداب الدينية.
(وأمر بالقسط ): العدل في كل شيء.
( صلى الله عليه وآله وسلم، اعلموا عباد الله أنه لم يخلقكم عبثاً): من غير غرض له في خلقكم ولا صلاح لكم في إيجادكم، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً }[ص:27].
(ولم يرسلكم هَمَلاً): يقال: إبل فلان هَمَل إذا كانت بغير راعي ولا حافظ لها، والْهَمَل والعبث مصدران، وانتصابهما إما على الحال، وإما على الصفة لمصدر كأنه خلقاً ذا عبث، وإرسالاً ذا إهمال .
(علم مبلغ نعمه عليكم): قدرها ومنتهاها وغايتها وقصاراها.
(وأحصى إحسانه إليكم): حصره وضبطه فلا يغادر من ذلك شيئاً.
(فاستفتحوه): ما عنده من الخيرات.
(واستنجحوه): مطالبكم كلها، فإنه لا لانجاح لها إلا من جهته.
(واطلبوا إليه): حوائجكم كلها في أمور الدين والدنيا.
(واستمنحوه): استعطوه من فضله من الْمِنْحَة وهي: العطية.
(فما قطعكم عنه حجاب): فما قطع سؤالكم عنه حجاب بينكم وبينه.
(ولا أغلق عنكم دونه باب): فيكون مانعاً عن سؤالكم ونفوذ حوائجكم إليه.
(وإنه لبكل مكان): يريد أمره، وليس على ظاهره لأنه تعالى غير مختص بجهة فضلاً عن أن يقال: إنه في كل الأمكنة والجهات.
(وفي كل حين وأوان): أراد أنه دائم الوجود من حيث كان وجوده لذاته،و ليس الغرض تحديده بوقت من الأوقات، فإنه سابق للأوقات وجوده.
(ومع كل إنس وجان): المراد بهذه المعية هي معية المراقبة والحفظ، فإن الله تعالى حافظ لكل شيء ورقيب عليه، وليس الغرض من ذلك المصاحبة، فإنه تعالى لا يكون في جهة كغيره من هذه المتحيزات، فأراد أنه رقيب على الإنس والجن في أعمالهم وحفيظ عليها.
(لا يثلمه العطاء): الثلم: الكسر، يقال: بسيفه ثلم إذا كسر بعضه، وأراد أنه لا يثلم جوده العطاء أي لا ينقصه عطاؤه على كثرته، والثلم ها هنا استعارة لأنه لا يعقل في حقه نقصان.
(ولا ينقصه الحِبَاء): حباه يحبوه إذا أعطاه شيئاً من نائله وجوده، وأراد أنه لا ينقص ملكه حباؤه للخلق، وإعطاؤهم من فضله.
(ولا يستنفده سائل): يطلب نفاد ما عنده من الخزائن سؤال سائل وإن عظم سؤاله وطلبه.
(ولا يستنقصه نائل): أي ولا يطلب نقصانه وذهاب ما عنده مستعطي، فإن كان النائل هو النول فهو على حذف مضاف، أي ذو نائل.
(ولا يلويه): يكفّه، من لوى الحبل إذا كفَّه وعطفه.
(شخص عن شخص): حاجة شخص عن شخص آخر.
(ولا يلهيه صوت عن صوت): سماع صوت عن سماع صوت آخر، كما يكون ذلك في حق الواحد منَّا، فإنه إذا اشتغل بحاجة اشتغل عن غيرها، وإذاسمع صوتاً شغله ذلك عن استماع آخر مثله.
(ولا تحجزه هبة): تمنعه أن يهب شيئاً من المواهب العظيمة.
(عن سلب): ناس آخرين نعمتهم .
(ولا يشغله غضب): انتقام من قوم قد استحقوا النقمة من عذابه.
(عن رحمة): قوم آخرين قد استحقوها لطاعة فعلوها.
(ولا تولهه رحمة): تحيره وتدهشه رحمة قوم.
(عن عقاب): عن إنزال عقوبة بقوم آخرين.
(ولا يجنُّه البطون عن الظهور): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنه لا تستره، والجنَّة: ما سترك من ثوب وغيره، يعني بالبطون والظهور أغوار الأرض وأنجادها، لأن ذلك إنما يكون في حق من كان جسماً.
وثانيهما: أن يكون غرضه من ذلك أن يكون البطون والظهورمصدرين، من قولهم: بطن بطوناً وظهر ظهوراً، وأراد أنه يكون باطناً وظاهراً لا يمنعه أحدهما عن الآخر، فالأول يكون بالتاء بنقطتين من أعلاه في قوله: ولا تجنه، والثاني بالياء بنقطتين من أسفلها؛ لأنهما مذكران.
(ولا يقطعه الظهور عن البطون): ما ذكرناه من الوجهين في الإجنان فهو حاصل ها هنا في القطع من غير تفرقة بينهما، ويقطعه بالياء والتاء أيضاً.
سؤال؛ أراه في الأول أضاف الإجنان إلى البطون، وفي الثاني أضاف القطع إلى الظهور؟
وجوابه؛ هو أن غرضه بالإجنان هو الستر، فأراد أن البطون من الأودية لا يجنُّ ظهورها عن إدراكه ورؤيته مع انخفاضها وشدة عمقها، وغرضه أن إدراكه للبطون غير مانع من إدراكه للظهور، وهكذا أيضاً أنه إذا أدرك ما على ظاهر الأرض ووجهها، فإن ظاهرها لايقطعه عن إدراك ما بطن في جوفها وتزيل رؤيته؛ بل هما سيان في ذلك، فلهذا أسند الاجتنان إلى البطون لما كانت مانعة من الإدراك بالإضافة إلينا، وأضاف القطع إلى الظهور لما كانت قاطعة للرؤية في حقنا، استعارة لذلك وتوسعاً، وهذا يؤيد أن يكون غرضه بالبطون والظهور هو المعنى الأول دون المعنى الثاني.
(قرب فنأى): يريد قرب بالعلم والإحاطة دون الجهة، فَبَعُدَ أن تناله الأوهام، أو تدركه الألحاظ.
(وعلا): بالقدرة والقهر.
(فدنا): بالرحمة والطَّوْل.
(وظهر): بالأدلة الباهرة على وجوده.
(فبطن): عن الرؤية وسائر الإدراكات كلها لاستحالتها عليه.
(وبطن): عن إدراك حقيقته للعقول ، وأن تكون واقعة على كُنْهِهَا.
(فعلن): للمستدلين على ثبوته بالمخلوقات الموجودة والإحكامات البديعة.
(ودان): أذل واستعبد جميع الخلق.
(ولم يُدَنْ): يفعل به ذلك لا ستحالته في حقه.
(لم يذرأ الخلق باحتيال): أراد لم يخلقهم بحيلة أعملها، ولا وُصْلَة توصل إليها.
(ولا استعان بهم لكلال): الكلال هو: السآمة والملل، وأراد أنه لم يستعن بهم في شيء من مخلوقاته لملالة أصابته، ولا فتور لحقه في خلق هذه المكونات على عِظَمِها واتساعها وكثرتها.
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله): اتَّقاه وحفظ حدوده، ومراقبة ذلك كله.
(فإنها الزمام): المتمسك الذي يحفظ به الإنسان نفسه عن ارتكاب الفواحش واقتحام المعاصي، استعارة من زمام الفرس والناقة، فإن من ركب فرساً بغير زمام لم يملك رأسها، فيوشك أن توقعه في مهلكة شديدة، وهكذا من لم يتقِ الله يوشك أن يقع في النارلإهماله لها.
(والقِوام): يروى بكسر القاف وفتحها، فالكسر أخذاً من قولهم: هذا قِوام الأمر أي نظامه وعماده، وبالفتح، أخذاً من قولهم: مافعله فهو قَوام أي عدل وقسط لا حيف فيه، قال الله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }[الفرقان:67] أي عدلاً، وكلاهما لا غبار عليه ها هنا .
(فاستمسكوا بوثائقها): الوثيقة: الثقة، يقال: [فلان] أخذ بوثيقة أمره أي بالثقة منه.
(واعتصموا):من المعاصي وكل ما يكره إتيانه وتركه من الدين .
(بحقائقها): بما يحق أن يكون معتصماً فيها.
(تؤول بكم): ترجع بكم، من قولهم: آل إذا رجع .
(إلى أكنان الدّعة): جمع كِنّ وهو: ما يستر ويُغَطّى من الشمس وغيرها، والدَّعة: الراحة.
(وأوطان السعة): الوسع: خلاف الضيق، وأراد بذلك الجنة.
(ومعاقل الحرز): الأمكنة المنيعة المحرزة لصاحبها عن أن ينال بمكروه.
(ومنازل العز): حيث لا يضام صاحبها ولا يقهر.
(في يوم): متعلق بتؤول.
(تشخص فيه الأبصار): شخص الرجل بصره إذا فتح عينيه فلم يطبقهما، وهذا إنما يكون في الأمورالعظيمة كما يقع عند الموت، وعند رؤية أهوال القيامة، كما قال : {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ }[إبراهيم:42].
(وتظلم له الأقطار): إذ لا شمس هناك ولا قمر ولا نجوم لذهابها وتغيرها عن حالتها؛ لتكوير الشمس وخسوف القمر، وانكدار النجوم، وغير ذلك من الأهوال.
(وتعطَّل فيه صُرُومُ العشار): الصروم جمع صرم، وهي: الجماعة من الإبل، والعشار من الإبل: جمع عشراء وهي: التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، وأراد وتعطلت الجماعات من الإبل العشار، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطّلَتْ }[التكوير:4].
(وينفخ في الصور): قال الكلبي: لا أدري ما الصور، وقيل: هوجمع صورة مثل: بُسرة وبُسر ، يريد أن الله ينفخ في صور الموتى أرواحهم فيقومون، وقيل: هو قرن ينفخ فيه إسرافيل ، وقيل: ميكائيل.
(فتزهق كل مهجة): تخرج من الجسم التي كانت فيه.
(وتَبْكَمُ كل لهجة): أي كل ذي لهجة، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ }[يس:65]، واللهجة هي: اللسان، يقال: فلان فصيح اللهجة.
(وتذل الشم الشوامخ): الجبال العالية المرتفعة.
(والصم الرواسخ): الصخور الثابتة المستقرة من هول ذلك اليوم، وشدة فزعه.
(فيصير صلدها): الصلد: الحجر الأملس.
(سراباً رقرقاً ): السراب: الذي يُرَى بالنهار كأنه ماء، الرقرق: المضطرب الذي يجيء ويذهب وفيه لمعان.
(ومعهدها): مكانها الذي تعهد فيه أهلها.
(قاعاً سملقاً): المستوي من الأرض، وهو كالصفصف، كما قال تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ، لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً}[طه:106-107].
(فلا شفيع يشفع): لمن كان مستحقاً للعذاب من الله تعالى.
(ولا حميم يدفع ): عنهم ذلك العقاب المستحق.
(ولا معذرة تنفع): فيخرجون من العذاب، كما قال تعالى : {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ }[غافر:52]، {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ }[المرسلات:36].
(177) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الدنيا
(بعثه حين لا علم قائم): العلم: منار الطريق، وقيامه: نصبه.
(ولا منارساطع): أي ظاهر، ومنه سطع الفجر إذا ظهر نوره.
(ولا منهج واضح): طريق ظاهرة لمن يسلكها.
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله): مراقبته في السر والعلانية، وخوفه في كل الأحوال.
(وأحذِّركم الدنيا): أبعدِّكم منها، والتحذير: التبعيد من الشيء.
(فإنها دار شُخُوص): شخص من المكان إذا فارقه، وأراد أنها دار مفارقة وزوال إلى غيرها.
(وَمَحلَّة تنغيص): تنغيص: تكدير، وتنغَّص نومه إذا تكدر، قال:
لا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوتَ شَيءٌ
نَغَّصَ الْموتُ ذَا الْغِنَى والْفَقِيْرا
(ساكنها): المستقر فيها.
(ظاعن): خارج، من قولهم: ظعن عن مكانه إذا كان خارجاً عنه.
(وقاطنها): المقيم فيها.
(بائن): إما ذا بينونة عنها، وإما مفارق، من قولهم: بان عن موضعه إذا فارقه.
(تميد بأهلها): تضطرب بهم، وعنى بذلك تقلبهم فيها من حال إلى حال، فبينا ترى الإنسان فيها غنياً قد صار فقيراً، وعزيزاً حتى صار ذليلاً، إلى غير ذلك من الحالات والتنقلات.
(مَيَدَانَ السفينة): شبَّه اضطرابهم وتباين أحوالهم على الدنيا باضطراب السفينة الواقعة على الماء.
(تصفقها العواصف): تضربها الريح الشديدة من موضع إلى موضع.
(في لجج البحار): معظمها وأعمقها.
(فمنهم الَغرِقُ الَوبِقُ): وعند ذلك أحوالهم منقسمة إلى من غرق في الماء وهلك فيه، والوباق: الهلاك.
(ومنهم الناجي): المتخلص.
(على متون الأمواج): متن الشيء: أشده وأصلبه، ومتنا الظهر: مُكْتَنِفَا الصلب من عن يمين وشمال.
(تحفزها الرياح): تسوقها، وحفزه إذا دفعه من خلفه.
(بأذيالها): ذيل الرياح: ما انسحب على الأرض منها.
(وتحمله على أهوالها): الضمير للناجي، والأهوال جمع هول وهو: ما يروع الإنسان ويخجله .
(فما غرق منها فليس بمستدرك): أي لا نجاة له بعد ذلك ولا يُرْجَى له فرج.
(وما نجا منها): سلم من أهوالها.
(فإلى مَهْلَكٍ): أي فلابد من هلاكه بغير ذلك، والْمَهْلَكُ: الهلاك كَالْمَضْرَب من الضرب، وهذا من التشبيه المركب، شبه حالهم في الدنيا، ونجاة من ينجو منهم بالأعمال الصالحة، وهلاك من يهلك بالأعمال السيئة، واختلاف أحوالهم فيها وتباين أمورهم، بحال قوم ركبوا سفينة، وضربتها الريح واشتدبهم الموج، فمنهم الغارق ومنهم الناجي، فمن غرق منهم فلا يُرْجَى له نجاة إلى البر، كما أن من هلك في النار فلا خلاص له عنها، ومن نجا منهم فإنما ينجو على شدة وصعوبة، وأهوال عظيمة وأخطار يلاقيها في معاناة الأمواج واضطرابها، كما أن من ينجو بالأعمال فإنما ينجو على مكابدة الشدائد ومقاساة العظائم.
اللَّهُمَّ، نجنا من هذه الأخطار، وسلّمنا من هذه الأهوال يا أكرم مسئول، وأعظم مرجو.
(عباد الله): إيقاظ وتنبيه عن هذه الغفلة، وتذكير بحال العبودية وما ينبغي لهم من ملاحظة شأنها، ومراقبة أحوالها.
(الآن): وهو عبارة عن الوقت الذي أنت فيه، وقد وقع في أول حاله، بالألف واللام، وعند النحاة أنه مبني على الفتح، والحق أنه معرب إلا لعارض يعرض في بنائه.
(فاعملوا): فاجتهدوا في تحصيل الأعمال الصالحة.
(والألسن مطلقة): عن الاعتقال وما يعرض لها من التغير عند الموت.
(والأبدان صحيحة): عن الأمراض والأوعاك.
(والأعضاء لَدْنةٌ): رمح لدن إذا كان رخواً يسهل عطفه، وأراد بذلك الإشارة إلى زمن الشباب فإن الأعضاء فيه لينة رخوة يسهل عطفها ومدَّها وبسطها، بخلاف الشيخوخة فإن ذلك متعذر فيها، وكما توصف الأعضاء باللدونة، توصف الخلائق أيضاً، يقال: فلان له خلق لدنٌ إذا كان سلساً سهلاً ، قال:
لَدنٌ إذَا لُويِنْتُ سَهَلٌ مِعْطَفِي
أَلْوِي إذَا خُوشِنْتُ مَرْهُوب الْشَدى
(والمنقلب فسيح): يريد إما المكان وهي الدنيا قبل ضيق القبر، وإما يريد الزمان قبل حضور الموت.
(والمجال عريض): التجاول هو: الاضطراب، ومنه تجاول الفرسان إذا جال بعضهم على بعض، وأراد موضع التجاول، وإنما وصفه بالعرض مبالغة في سعته؛ لأن الغالب في العادة أن العرض هو أقل من الطول، فإذا كان العرض فسيحاً فكيف حال الطول، وهذه الجمل الابتدائية واقعة في موضع الحال من الضمير في اعملوا.
(قبل إرهاق الفوت): متعلق بقوله: اعملوا، وأراد قبل أن يغشاكم الأمر الذي يفوت عنكم معه كل شيء، وأرهقه إذا أغشاه.
(وحلول الموت): نزوله واتصاله بكم.
(فحققوا عليكم نزوله): ليكن عندكم حقاً لا مرية فيه، فكأن قد وقع، وما هذا حاله فهو حق لا محالة فيه، وافعلوا الخيرات كلها.
(ولا تنتظروا قدومه): بفعلها فإن ذلك متعذر.
(178) [ومن خطبة له عليه السلام]
(ولقد علم المستحفظون): الذين سألهم الله حفظ علوم الشريعة، وطلب ذلك من جهتهم، كما قال تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ }[المائدة:44].
(من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أني لم أرد على الله ولا على رسوله): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أني لم أَرَدَّ خبراً من جهة الله تعالى ولا من جهة رسوله، فيما أخبرني به عن نفسه أو عن الله من أمور الدين وأحوال القيامة، وغيرذلك من الأخبار.
وثانيهما: أن يكون غرضه أني لم أخالف شيئاً مما أمر الله به ورسوله بل صدَّقت الأخبار كلها، وامتثلت الأوامر جميعها.
(ساعة قط): في وقت من الأوقات، ولا وقع ذلك في ساعة من الساعات، وقط موضوعة لا ستغراق الأوقات الماضية، تروى بفتح القاف وتشديد الطاء، وفتح القاف وتخفيف الطاء.
(ولقد واسيته بنفسي): آسيت فلاناً بمالي أي جعلته أسوتي فيه.
(في المواطن التي تنكص فيها الأبطال): نكص على عقبيه إذا تأخر، قال تعالى: {فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ }[المؤمنون:66]، وأراد المواضع الصعبة في الحرب، فمن ذلك نومه على فراش رسول الله حين همَّ المشركون بقتله عند خروجه من مكة، ومسيره إلى الغار ، ومن ذلك انهزام الناس يوم أحد، وأنه لم يبق في المعركة سوى أمير المؤمنين والعباس ، ولهذا قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }[آل عمران:165] عتاباً لهم على ذلك، ومن ذلك ما كان منه في حنين حين انهزم المسلمون وقتل أمير المؤمنين ذا الخمار صاحب راية المشركين ، ولهذا قال : {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ }[آل عمران:153]، ومن ذلك ما كان منه في فتح خيبر حين رُدَّ غيره وفتح الله على يديه بعد أن حزن رسول الله حزناً عظيماً لما لم يفتح على يد غيره ، ومن ذلك ما كان منه في قتل عمرو بن عبد ود.
ثم قال رسول الله: ((ضربة علي تعدل عبادة الثقلين )) يريد قتله لعمرو، وغير ذلك من المواساة في المضايق التي يصعب الخلاص منها.
(وتتأخر فيها الأقدام): جبناً وذلاً.
(نجدة): شجاعة وجرأة.
(أكرمني الله بها): جعلها كرامة لي وفضَّلني بها على غيري ممن ليس حاله مثل حالي، ونجدة يُروَى منصوباً على أنه مفعول له، ويُروَى مرفوعاً أي هذه نجدة.
(ولقد قبض رسول الله): يعني وقت موته.
(وإن رأسه لعلى صدري): يريد أنه كان مُتَّكئاً للرسول عليه السلام عند موته وقبض وهو على هذه الحالة.
(وسالت نفسه من كفي): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد بالنفس الدم، وقد كان ذلك يوم أحد، فإن الرسول عليه السلام لما جرح في وجهه جعل أمير المؤمنين يزيل الدم عن وجهه، وفي الحديث: ((كل ما ليست له نفس سائلة، فإنه لا ينجس الماء موته فيه )) .
وثانيهما: أن يكون غرضه أنه قبض روحه عليه السلام، وجعلت في سرقة من حرير الجنة عند نزعها، فيجوز أن يكون ملك الموت وضعها في كفه كرامة لأمير المؤمنين وتشريفاً لحاله، ومثل هذا غير ممتنع فإن الله تعالى قد أكرمه بأمور عظيمة، ولعل هذا من جملتها، وهذا هو المطابق لظاهر كلامه، ولهذا قال بعد ذلك:
(فأمررتها على وجهي): يريد أنه مسح وجهه بها تبركاً بذلك، وهذا هو المعمول عليه من غير حاجة إلى تعسف التأويلات.
(ولقد وليت غسله): يريد توليته.
(والملائكة أعواني): على غسله وتجهيزه بالإعطاء والمناولة لما يحتاجه في ذلك؛ لأنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترددوا فيمن يغسله فقيل: لا يغسله إلا رجل من أهل بيته ولا يجرَّد من ثيابه، فغسَّله أمير المؤمنين في قميصه لم ينزعه .
(فضجت الدار والأفنية): الضجيج: ارتفاع الأصوات وكثرتها، والغرض أهل الدار، والأفنية: جمع فناء وهو: جانب الدار.
(ملأ يهبط): الملأ من الناس هم: الأفاضل والأشراف، والهبوط: النزول.
(وملأ يعرج): يصعد إلى السماء، كل ذلك عناية بأمر الرسول وقدوم روحه إلى السماء، ومواراة جثته في الأرض، وفقده من الدنيا، وارتفاع أخبار السماء، وزوال أحد الأمنين ، فلهذا كان الضجيج من أجل ذلك.
(وما فارقت سمعي هينمة): الهينمة: الصوت الخفي.
(منهم ): من جهتهم.
(يصلون عليه):
سؤال؛ ما الفرق بين الصلاة من جهة الله تعالى ومن جهة الملائكة والثقلين، وما حكمها؟
وجوابه؛ هو أن الصلاة من الله تعالى على الرسول إنما هي الرحمة واللطف، ومن الملائكة إنما هي الاستغفار، ومن الثقلين إنما هو الدعاء، ويجمع هذه الأشياء كلها العناية بأمر الرسول صلوات الله عليه من جهة الكل، وعلى هذا يكون لفظ الصلاة من الألفاظ المتشابهة التي تدل على المعاني المختلفة بجامع واحد، كالنور فإنه دال على نور العقل ونور الشمس، وهما مختلفان.
وأما حكم الصلاة على الرسول فليس يخلو الحال، إما أن تكون في الصلاة أوفي غيرها، فإن كان في الصلاة فالذي عليه أئمتنا " أنها واجبة ولا تكون مجزية من دونها، وهو رأي الشافعي ، وذهب أبو حنيفة إلى أنها غير واجبة فيها، وأما في غير الصلاة فمنهم من أوجبها في العمر مرة، ومنهم من أوجبها في كل مجلس مرة إذا تكرر ذكره، ومنهم من أوجبها عند جري ذكره وإن تكرر مرات كثيرة في المجلس الواحد، وهو ظاهر ما تقضي به الأخبار، وفي الحديث: ((تعس وانتكس ، وإذا اشتاك فلا انتقش من ذُكِرْتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ))، وفي حديث آخر: ((من ذُكِرْتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ فدخل النار فأ بعده الله )) .
(حتى واريناه في ضريحه): لحده، وفي الحديث: ((اللحد لنا، والشق لغيرنا )).
(فمن ذا أحق به مني ): أولى به وأخص في الأمور كلها.
(حياً وميتاً!): في حال حياته بالنصرة والتأييد والمعونة والإخاء والمودة، وفي حال موته بالخلافة في أمته والوصية في قضاء ديونه، وحياً وميتاً انتصابهما على الحال من الضمير في قوله: به.
(فانفذوا على بصائركم): فيه روايتان:
أحدهما: بالقاف، من قولهم: نقدت الدراهم إذا أخرجت زيوفها.
وثانيهما: بالفاء والذال بنقطة من أعلاها، من قولهم: نفذ أمر فلان إذا كان ماضياً، وأراد أعرضوها عليَّ لأنقدها وأخرج رديئها أو لأمضيها أو أردها.
(ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم): في الصبر والإبلاء، والنصيحة والألفة.
(فوالذي لا إله إلا هو): أي المتفرِّد بالإلهية.
(إني لعلى جادة الحق): الجادة هي: أوسط الطريق.
(وإنهم): يعني معاوية وأهل الشام وأهل الجمل، وغيرهم ممن خالفه.
(لعلى مزلة الباطل): مكان الزلل.
(أقول ما تسمعون): من هذه المواعظ الواضحة.
(وأستغفر الله لي ولكم): من جميع الذنوب و المعاصي.
(179) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الإسلام
(الحمد لله الذي يعلم عجيج الوحوش في الفلوات): العجيج هو: رفع الصوت، والفلاة هي: الموضع القفر، والوحوش: جمع وحش، وهو عبارة عن جميع حيوان البر، يقال: حمار وحش، وحمار وحشي.
(ومعاصي العباد في الخلوات): في الأمكنة الخالية التي لا يشعر بها أحد.
(واختلاف النينان في البحارالغامرات): النينان: جمع نون وهو: الحوت، وبحر غامر إذا كان كبيراً واسعاً.
(وتلا طم الماء بالأمواج العاصفات): واصطكاك الماء بعضه ببعض، بتحريك الرياح الشديدة، والموج: عبارة عن حركة البحر وزفيره.
(وأشهد أن محمداً نجيب الله): مختاره من بين الخلائق كلها.
(وسفير وحيه): المتوسط بالصلاح بين الله وخلقه.
(ورسول رحمته): المبشّر بالرحمة من جهة الله تعالى.
(أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله الذي ابتدأ خلقكم): أوجدكم من غير شيء، كما قال تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ }[النساء:1].
(وإليه معادكم ): مرجعكم، كما أشار إليه تعالى بقوله: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }[الحج:1].
(وبه نجاح طَلَبِتكُمِ): فراغ ما تطلبونه، وترجون حصوله من جهته.
(وإليه منتهى رغبتكم): أي وهو الغاية فيما يرغب إليه مما عنده من الفضائل.
(ونحوه قصد سبيلكم): النحو ها هنا: ظرف مكان، أي وعنده مقاصد الطرق إلى النجاة ونجاحها، بالهداية إليها واللطف فيها.
(وإليه مراقي مفزعكم): المراقي: جمع مرقاة وهي الدرجة، أي لا يُرْتَقَى في الفزع من النوائب والعظائم إلا إليه.
(فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم): من الوَحَر والصدأ الذي يلحقها بكثرة الذنوب، وارتكاب الخطايا.
(وبصر عمى أفئدتكم): أي وهو بمنزلة البصر لعمى الأفئدة.
(وشفاء مرض أجسامكم ): أراد أن الأجسام إذا عرض لها المرض فلا شفاء لها عن الأجرام المؤلمة لها إلا بالتقوى.
(وصلاح فساد صدوركم): فإن الصدور إذا فسدت بالقسوة، فصلاحها إنما يكون في تقوى الله تعالى وخوفه.
(وطهور دنس أنفسكم): أي أن النفوس إذا كانت متدنسة بما يلحقها من الخطايا فطهورها يكون بتقوى الله.
(وجلاء عشا أبصاركم): العشا: فساد البصر، وأراد أن بالتقوى يزول العشا ويذهب عمى الأعين.
(وأمن فزع جأشكم): الجأش: القلب، يقال: فلان واسع الجأش، وأراد أنها أمنٌ من فزع القلوب.
(وضياء سواد ظلمتكم): من ظلم الكفر والشبَه، وغير ذلك مما يُعَبَّر عنه بالسواد، والإخبار عن الله تعالى بكونه قصد السبيل ونجاح الطَّلِبة، إما على حذف المضاف أي ذو، وإما على جهة المبالغة على طريقة: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ }[البقرة:177] وهو الأخلق بالبلاغة، وأرق في المسموع، وهكذا وصف التقوى بأنه بصر العمى، وشفاء المرض، وجلاء الأبصار على جهة المبالغة أيضاً، كأنه جعلها نفس ذلك الشيء لحصوله عندها بكل حال.
(فاجعلوا تقوى الله شعاراً دون دثاركم): الشعارمن الثياب: مايلي الجسم، والدثار: فوقه، وأراد أنها تكون مباشرة لكم في الأحوال كلها خاصة بكم.
(ودخيلاً دون شعاركم): الدخيل والدخلل هو: الذي يداخل الرجل ويلابسه في جميع أموره، والدخيل من الثياب: ما كان دون الشعار الملاصق للجسم.
(ولطيفاً بين أضلاعكم): أي وأمراً لطيفاً يدخل تحت أضلاعكم، بالغ فيها حتى جعلها شعاراً ثم دخيلاً، ثم بالغ في ذلك حتى جعلها داخلة بين الضلوع في باطن الجسد.
(وأميراً فوق أموركم): أي يريد مالكة لأموركم، كما أن الأمير ملك للجند والعسكر يتصرف فيهم كيف شاء .
(ومنهلاً لحين وُرْدِكم ): تشربون منه عند عطشكم، والمنهل: مكان الماء، والورد: وقت ورود الماء لأهله، يقال: هذا وُردك أي يوم وَردك.
(وشفيعاً لِدَرْكِ طَلِبَتِكُم): وذريعة إلى إدراك ما تطلبونه من ذلك.
(وجُنَّة ليوم فزعكم) الجُنَّة: ما يستر الإنسان من ثوب ودرع وغيره، وقت خوفكم من كل ما تخافونه.
(ومصابيح لبطون قبوركم): تضيء لكم القبور لمكانها.
(وسكناً): تسكنون فيه، وتطمئن إليه نفوسكم.
(لطول وحشتكم): في القبور ونزولها.
(ونفساً لكروب مواطنكم): النفس: المتنفس، والكرب: ضيق الخاطر وتعبه، والمواطن: مواضع الحرب.
(فإن طاعة الله حرز من متالف مكتنفة): الحرز: ما يُلاذ به من جبل وغيره، والمتالف هي: المهالك، والاكتناف هو : الاشتمال، وأراد أنها مُسَلِّمَةٌ لصاحبها من شرور كثيرة شاملة من خلفه وقدامه، وعن يمينه وشماله.
(ومخاوف متوقعة): يتوقع حصولها، ويظن وقوعها.
(وأُوار نيران موقدة ): الأُوار بالضم هو: حرُّ النار والشمس والعطش، تمثيله للتقوى بالأوار لأمرين:
إما لإحراقها للشبهات، وإبطالها كإبطال لهب النار وحرها للأشياء، وإما من إضاءتها ونورها، كإضاءة النيران ولهبها.
(فمن أخذ بالتقوى): في جميع أموره.
(عزبت عنه الشدائد): زالت وذهبت.
(بعد دنوها): قربها إليه قبلها.
(واحلولت له الأمور بعد مرارتها): وإنما كانت الأمور مرة من غير تقوى؛ لأدائها إلى المرارة في الآخرة.
(وانفرجت له الأمواج بعد تراكمها): شبَّه كثرة الشُّبَه ومواقعة المعاصي بالأمواج العظيمة إذا تراكمت، فإذا حصلت التقوى زالت هذه الأمور كلها.
(وأسهلت له الصعاب): أي وصارت الأمور الصعبة سهلة يسهل فعلها، ويقرب أخذها على سهولة.
(بعد إنضائها ): تصعبها، وهو بالضاد المنقوطة.
(وهطلت عليه الكرامة): هطلت السماء إذا دام مطرها، وأراد الكرامة من الله تعالى ومن خلقه.
(بعد قحوطها): القحط: ذهاب المطر.
(وتحدَّبت عليه الرحمة): من قولهم: فلان حَدْبٌ على أقاربه إذا كان مشفقاً عليهم كثير الرحمة لهم.
(بعد نفورها): شرودها عنهم وزوالها.
(وتفجرت عليه النعم): من كل جانب بالخيرات.
(بعد نضوبها): نضب الماء إذا زال عن البئر وذهب.
(وثلت عليه الكرامة): أَثُل الرجل بالثاء بثلاث من أعلاها، إذا كثر ماله، وكثرت عنده الثُّلّة وهي: الضأن الكثيرة.
(بعد إرذاذها): الرذاذ هو: قليل المطر، قال:
يوم رذاذ عليه الدجن مغيوم
(فاتقوا الله الذي نفعكم بموعظته): وغاية النفع الوصول إلى الجنة، والعمل لها .
(ووعظكم برسالته ): على ألسنة أنبيائه، وخاصة أوليائه.
(وامتن عليكم بنعمته): إما بالهداية إلى الدين، وإما بما أعطى من هذه النعم الجزيلة في الدنيا.
(فعدوا أنفسكم لطاعته): من العدد، كقولهم: فلان يعد نفسه للحروب والعظائم، ويجوز أن يكون من الإعداد وهو التهيئة، من قولهم: فلان قد أعدَّ للحرب عدته أي هيَّأ له ما يحتاج إليه فيه، ومنه قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }[آل عمران:133] وأراد هيئوها للطاعة لله تعالى.
(واخرجوا إليه من حق طاعته): اعطوه ما يستحق منها، أخذاً من قولهم: خرجت إلى غريمي من دَيْنِه إذا أعطيته إياه.
(ثم إن هذا الإسلام دين الله ): الذي هو الدين والإيمان، وهي أمور واحدة عبارة عن القول والعمل والاعتقاد.
(الذي اصطفاه الله لنفسه): أي هو حقه الذي أخذ على عباده فعله، والقيام بأمره، كما قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ }[الزمر:54]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ }[النساء:136] وغير ذلك من الآيات الدالة علىذلك .
(واصطنعه على عينه): أي جعله بمرأى منه ومراقبة في كل أحواله، كما قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }[طه:41] أي من أجل نفسي.
(وأصفاه خيرة خلقه): إما آثره به، وخيرة خلقه يعني الرسول عليه السلام، والخيرة بسكون الياء هو: المختار، كما قال تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ }[الإسراء:40] يريد آثركم بهم، وإما أخلصه من الشوائب له بأن جعله صافياً لا كدر فيه.
(وأقام دعائمه ): أشادها وقوَّاها ومكنها وأعلاها.
(أذل الأديان بعزِّه ): صارت ذليلة لا يلتفت إليها كاليهودية، والنصرانية، وسائر الملل بعزِّه، وتعلق الباء على وجهين:
أما أولاً: فبأن يكون عزه آلة في ذلها، وذلك لأنها صارت منسوخة أحكامها به، والإسلام ثابت الأحكام فذلها: نسخهابه.
وأما ثانياً: فبأن يكون على جهة التعليل، أي أنه أذلها من أجل عزه، كما تقول: أعطيتك بالمعروف والإحسان أي من أجل المعروف والإحسان إليك.
(ووضع الملل برفعه): أي لا وجه في وضعها إلا رفعة له وإشادة منزلته.
(وأهان أعداءه بكرامته): صغَّرهم وأقل أعدادهم تكريماً له وتشريفاً بحاله، وهذا ظاهر فإن الاستخفاف بعدوك والإهانة له هو رفع من منزلتك وغيرة عليك لا محالة.
(وخذل محاديه بنصره): أهان بالخذلان وترك النصر المعادين له والمشاقين لأمره بما جعل له من النصر والتأييد، وقوة الأمر والمكانة.
(وهدم أركان الضلالة ): من اليهودية والنصرانية، أو من عبادة الأوثان والأصنام وسائر الملل الكفرية.
(بركنه): بقوة جانبه، وظهور حاله.
(وسقى من عطش): أروى أهل العطش، وهو استعارة ها هنا في إنقاذ أهل الضلال عن ضلالهم به.
(من حياضه): لما استعار ذكر العطش [والسقاء منه ذكر على عقبه الحياض؛ لمناسبتها للعطش] ، وهذا من أنواع البلاغة يسمى توشيح الاستعارة.
(وأتأق الحياض): ملأها.
(بمواتحه): الماتح: المستقي، وأراد من أجل الجماعات المواتح له، وهو جمع لماتحة، وهي: الجماعة والفرقة.
(ثم جعله): خروج من نوع من الثناء إلى نوع آخر مخالف لما ذكره أولاً.
(لا انفصام لعروته): فصم الشيء إذا كسره من غير أن يبين، قال الله تعالى: {لاَ انفِصَامَ لَهَا }[البقرة:256]، قال ذو الرمة يصف غزالاً:
كأنَّهُ دُمْلُجٌ مِن فِضَّةٍ نَبَهُ
فِيْ مَلْعَبٍ مِنْ جَوَارِي الْحيِّ مَفْصُومُ
(ولا فك لحلقته): فككت الشيء إذا خلصته، ومنه فكُّ الرهن، وهو: خلاصه.
(ولا انهدام لأساسه): الأس والأساس هو: الأصل.
(ولا زوال لدعائمه): عن القرار والثبوت والدوام.
(ولا انقلاع لشجرته): عن أصلها وثباتها في منبتها.
(ولا انقطاع لمدته): بالنسخ والتغيير، كما عرض لغيره من الأديان.
(ولا عَفَاءَ لشرائعه): أي لا اندراس لأحكامه ومعالمه.
(ولا جَذَّ لفروعه): قطع لأ غصانه العالية المنيفة، والْجَذُّ: القطع، قال الله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }[هود:108].
(ولا ضنك لطرقه): الضنك: الضيق، قال الله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً }[طه:124].
(ولا وعوثة لسهولته): الوعث: المكان الرخو الذي تغيب فيه الأقدام، فإن المشي فيه يكون شاقاً، وأراد أنه لا يكون صعباً على من سلك طريقه، والوعث: المشقة، ومنه وعوثة السفر أي مشقته.
(ولا سواد لوضحه): الوضح: البياض، وأراد أنه لا سواد لبياضه، وهو مجاز في ظهور حجته وبيان أمره.
(ولا عوج لانتصابه): فيحتاج إلى مقوِّم.
(ولا عصل في عوده): العصل بالصاد المهملة: التواء في عسيب الذَّنَبِ ، حتى يبدو بعض باطنه، وروايته بالضاد بنقطة من أعلاها تصحيف لا وجه له.
(ولا وعث لفجه ): الفج: الطريق في الجبل، والوعث: المشقة والتعب، وغرضه أنه لا مشقة على من تلبَّس به.
(ولا انطفاء لمصابحه ): المصابح: جمع مصبح، وغرضه أن أنواره مضيئة لا يتعرض لها الذهاب والانطفاء: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ }[الصف:8].
(ولا مرارة لحلاوته): إنما أطلق عليه لفظ الحلاوة؛ لكونه مؤدياً إلى ذوقها وهو الجنة.
(فهو دعائم): أقامها الله تعالى، وقوَّى أركانها.
(أساخ في الحق): ساخ الماء في الأرض إذا ذهب فيها، وأراد أذهب في الأرض.
(أسناخها): السنخ بالسين بثلاث من أسفلها ونون هو: الأصل، يقال: سنخ هذا العود قوي إذا كان أصله متمكناً في الأرض.
(وثبَّت لها آساسها): قرَّر أصولها.
(وينابيع): جمع ينبوع، وهو: عين الماء.
(غزرت عيونها): كَثُرَ ماؤها وعَظُمَ.
(ومصابيح): جمع مصباح.
(شُبَّتْ نيرانها): فلا تطفئ لهبه، ولا تخبو أنواره.
(ومنارات اقتدى بها سُفَّارها): أعلام للطريق يهتدي بها القاصد لها من أهل السفر؛ لأن الضلال كثيراً ما يعرض في الطريق لأهل الأسفار.
(وأعلام قصد بها فجاجها): طرقها المستوية التي لا اعوجاج فيها،
(ومناهل رَويَ بها ورَّادها): فلايحتاجون معها إلى شيء سواها.
(جعل الله فيه منتهى رضوانه): غاية المطلوب من رضاه فلا غاية بعده .
(وذروة دعائمه): أعلاها.
(وسنام طاعته): السنام من كل شيء: أفضله وأعلاه، تشبيه له بسنام الناقة.
(فهو عند الله وثيق الأركان): أشدها وأصلبها.
(رفيع البنيان): مبانيه عالية، وقواعده مرتفعة.
(عزيز السلطان): إما عزيز الحجة والبرهان لا يردُّها راد، وإما عزيز الولاية لا يضام أهله.
(منير البرهان): أدلته واضحة.
(مضيء النيران): أنواره مضيئة ، لا يلحقها قترة ولا غبار.
(مشرق المنار): من الإشراق وهو: الإضاءة.
(معوز المثار): فيه روايتان:
أحدهما: بالعين المهملة والزاي أي لا يقدر أحد على تحريكه وإزالته عن مكانه.
وثانيهما: مغور بالغين المنقوطة والراء، وغور كل شيء قعره، والمثار: مكان الإثارة، وأراد أن الأمكنة التي يستثار منها دقائقة وأسراره بعيدة؛ لاشتماله على الأسرار، والرموز الدينية.
(فشرِّفوه): عظِّموا قدره وارفعوه.
(واتبعوه): وكونوا تبعاً له في جميع أموركم وأحوالكم.
(وأدُّوا إليه حقه): من التزام أحكامه، والوفاء بها.
(وضعوه مواضعه): في الأمكنة التي رفعه الله بها، وأعلا حكمه وشرَّف اسمه.
واعلم: أنه فيما ذكره ها هنا من الحث على تقوى الله تعالى، وشرف حال الإسلام والإيمان، قد بالغ في ذلك غاية المبالغة، وذكر ذلك على أنحاء متفرقة، وفنون متفاوتة من ذكر المدائح والأوصاف فيهما جميعاً، فبيناه يتكلم في أسلوب من ذكر المدائح، إذ خرج إلى أسلوب آخر، دالاً بذلك على كثرة مدائحهما، وبرهاناً قاطعاً على تبحره في فنون الكلام وأساليب البلاغة.
(ثم إن الله بعث محمداً [صلى الله عليه وآله] بالحق): بالتوحيد وإبطال الشرك بالله، وبما أودعه من هذه الأحكام المنيرة، والشرائع الحسنة.
(حين دنا من الدنيا الانقطاع): قَرُبَ زوالها، وأشرف نفادها.
(وأقبل من الآخرة الاطلاع): قَرُبَ طلوعها، وآن وقوعها.
(وأظلمت بهجتها): ضياؤها ونورها.
(بعد إشراق): بعد أن كانت مشرقة منيرة.
(وقامت بأهلها على ساق): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد بذلك الشدة، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }[القلم:42].
وثانيهما: أن يكون غرضه استعدادهم للزوال عنها؛ لأن من استعدَّ للمسير، يقال فيه: قام على ساق.
(وخشن منها مهاد): الضمير للآخرة، والمهاد: المستقر.
(وَأَزِفَ منها قِياد): الأزوف هو: الإسراع والعجلة، والقِياد: مصدر من قاده يقوده قياداً وقَوْداً إذا جذبه بزمامه، ومنه قولهم: فلان حسن القِياد إذا كان ليِّن العريكة .
(في انقطاع من مدتها): في تعلق الظرف وجهان:
أما أولاً: فبأن يكون متعلقاً بدنا في قوله: حين دنا من الدنيا الانقطاع.
وأما ثانياً: فبأن يكون متعلقاً بقامت، أي وقامت على الشدة في انقطاع عمرها ومدتها.
(واقتراب من أشراطها): أعلامها وأماراتها الصادقة الدالة على وقوعها.
(وتَصَرُّم من أهلها): بالموت والقتل.
(وانفصام من حلقتها): انكسار، من فصمه إذا كسره، وأراد تغيُّر من حالها.
(وانتشار من سببها): انتشر الأمر إذا تفرَّق وتشتت.
(وعفاء من أعلامها): دروس واضمحلال من آثارها.
(وتكشف من عوراتها): الغرض من ذلك بدؤ المساءات منها بما تظهر من الحوادث والتغيرات العظيمة.
(وقصر من طولها): يشير إلى نقصانها الآن بعد أن كانت تامة من قبل بالتجدد والإقبال.
(جعله الله): يريد حين بعثه إلى الخلق من الجن والإنس.
(بلاغاً لرسالته ): إما مُبَلِّغاً لما أرسل به، كما قال تعالى: {بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ }[المائدة:67]، وإما كفاية بها لا يحتاج معه إلى غيره في الهداية إلى الدين والشريعة، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ }[الأنبياء:106].
(وكرامة لأمته): لما خصه من الرأفة والرحمة والحنو عليهم، والتعطف على هدايتهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ }[التوبة:128] والعنت: التعب والمشقة {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }[التوبة:128] ويقال: إن الله تعالى ما جمع اسمين من أسماء نفسه إلا هاهنا في حق الرسول ؛ رفعاً لمكانه وإشادة لمنزلته عنده.
(وربيعاً لأهل زمانه): لما فيه من الحياة للقلوب بالعلم، وتزكية النفوس بالتذكير لأمور الآخرة، كما كان الربيع حياة للنفوس بحصول الأقوات والأرزاق والثمرات.
(ورفعة لأعوانه): إعلاءً لمنزلة من أعانه، وإشادة لمنزلته.
(وشرفاً لأنصاره): بالإسلام والمتابعة له، والتمسك بشريعته، ولا شرف أعلا من ذلك.
(ثم أنزل عليه كتاباً ): يريد القرآن.
(نوراً لا تُطْفَأُ مصابيحه): انتصاب نوراً إما على عطف البيان، أوعلى البدل من كتاب قبله ، وأراد أن ما اشتمل عليه من الأحكام والأسرار والدقائق، فلا سبيل إلى تغيرها وزوالها.
(وسراجاً لا يخبو توقده): خبت النار تخبو إذا انطفت، والتوقد: التلهب للنار، وأراد أن نوره لا ينطفي استعارة في ذلك.
(وبحراً لا يدرك قعره): لا ينال منتهاه، ولهذا فإنك تجد جميع العلماء وسائر الفضلاء في كل فن على ممر الأزمنة، وتكرر الدهور من يوم نزوله إلى يومنا هذا لا يزالون يستخرجون منه الأسرار والدقائق والرموز، فهي لا تزال غضة طرية .
(ومنهاجاً لا يضل من نهجه): وطريقاً لا يضل عن الحق من سلكها.
(وشعاعاً لا يظلم ضوؤه): أي لايزول نوره.
(وفرقاناً لا يخمد برهانه): وتفرقة بين الحق والباطل لا يطفئ، من قولهم: خمدت النار إذا انطفت وزال لهبها.
(وبنياناً لا تهدم أركانه): بالتغير والزوال.
(وشفاء لاتخشى أسقامه): أي لا يخاف عليه طرؤ الأسقام والأمراض.
(وعزاً لا تهزم أنصاره): يُغلبون ويُقهرون.
(وحقاً لا تخذل أعوانه): يُغلَبُ الناصرون له، ولا يقهرهم أحد .
(فهو معدن الإيمان): يريد القرآن؛ لأن منه تؤخذ أعلامه وأحكامه.
(وبحبوحته): وسط الشيء وخياره، قال جرير:
قومي تميم هم القوم الذين هم
ينفون تغلب عن بحبوحة الدار
(وينابيع العلم وبحوره): أي أنه صار للعلوم بمنزلة الينبوع الذي لا ينزف، والبحور التي لا تساحل .
(ورياض العدل وغُدرانه): بمنزلة الروضة في راحة النفوس إليه، والغدير المملؤ في نشاط القلوب إلى رؤيته.
(وأثافيُّ الإسلام): جمع أثفية، وهي: أفعولة، وهي: عبارة عن أحد الأحجار التي يستقرعليها الْقِدرُ.
(وبنيانه): الذي تستقر عليه أركانه.
(وأودية الحق): التي فيها يسلك لأخذه.
(وغيطانه): الغايط هو: المكان المطمئن، وجمعه غوط وغيطان.
(وبحر لا ينزفه المستنزفون): يُذْهِبُه ويُزِيْلَه الطالبون لإنزافه.
(وعيون لا ينضبها الماتحون): المستقون له، وقد مر تفسير الماتح.
(ومناهل لايغيضها الواردون): غاض الماء إذا ذهب، وأراد أنه لا يذهبه الواردون له وإن كثروا.
(ومنازل لا يضل نهجها المسافرون): النهج هو: الطريق، وأراد أنه بيِّن واضح لا يخفى على أحد.
(وأعلام لا يعمى عنها السائرون): إليها، والسالكون طريقها.
(وإمام لا يجور عنه القاصدون ): لا يعدل عنه من قصده وأراده.
(جعله الله رياً لعطش العلماء): يرتوون منه عند عطش أكبادهم في العلوم كلها، فيأخذون منه هذه الأسرار، فتروى أكبادهم بأخذها منه.
(وربيعاً لقلوب الفقهاء): يأخذون منه الأحكام الشرعية التي يرتاحون إليها كارتياح الخلق إلى الربيع.
(وفجاج لطرق الصلحاء): يسلكون فيها إلى الجنة.
(ودواء): عن أمراض الذنوب والخطايا.
(ليس بعده داء): لمن استعمله وتداوى به.
(ونوراً ليس معه ظلمة): تخالطه وتلتبس به، وأراد أنه حق لا باطل معه.
(وهدى لمن ائتم به): اقتدى به في جميع أحواله وأموره، وجعله هداية له حيث كان.
(وحبلاً وثيقاً عروته): لا تنقطع بمن استمسك بها، وكان القياس وثيقة عروته، لكن لما كان تأنيث العروة غير حقيقي جاز تذكير وثيقة.
(ومعقلاً منيعاً ذروته): المعاقل: الحصون، والذروة: أعلا الشيء، وأراد أنه حصن من الذنوب ذروته عالية منيعة.
(وعزاً لمن تولاه): تبعه، وانقاد لأمره وحكمه .
(وسلماً لمن دخله): أي سلامة لمن تلبس به عن جميع ما يخشاه، أو على جهة التشبيه؛ لأن السلم هو الصلح، [أي هو الصلح] لمن دخل فيه عن الحرب والقتل وغير ذلك من عواقب الحرب.
(وعذراً لمن انتحله): انتحل فلان كذا إذا ذهب إليه، ومنه النحلة وهي: المذهب، وأراد أنه غاية الحق لمن تلبس به وذهب إليه.
(وبرهاناً لمن تكلم به): أي حجة قاطعة لمن تكلم على وفقه من غير مخالفة له.
(وشاهداً لمن خاصم به): يشهد له بالفَلْجِ، والصحة في الأمر والدعوى.
(وَفَلْجاً لمن حاجَّ به): أي أنه لمكان قوته واستمراره على الحق يَفْلُجُ كل من حاجَّ به وجعله حجة له.
(وحاملاً): على الحق والطريقة المرضية، والحجة الواضحة.
(لمن حمله): اقتدى به، واهتدى بهديه.
(ومطية لمن أعمله): في طريق الحق، والمسيرإليه.
(وآية لمن توسم): للناظر الحاذق المتفرس الماهر، وأراد أنه علامة لمن أراد معرفة سمة الشيء وعلامته عن تحقق واستبصار.
(وجُنَّة لمن استسلم ): إليه في جميع أموره فهو حجاب له وستر عن كل مكروه في دينه ودنياه.
(وعلماً لمن وعى): حفظه لا علم أنفع منه.
(وحديثاً لمن روى): أي لا حديث أحسن منه ولا أعجب، كما قال تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ }[الزمر:23].
(وحكماً لمن قضى): أي يحكم به من أراد إنفاذ الأشياء على وجهها وطريقها.
(180) ومن كلام له عليه السلام يوصي به أصحابه
(تعاهدوا أمر الصلاة): اجعلوها على خواطركم وأذهانكم.
(وحافظوا عليها): إما على أركانها بالتمام، وإما على أوقاتها بالمراقبة.
(واستكثروا منها): من فعلها وأدائها.
(وتقربوا بها): إلى الله تعالى وإلى الفوز برضوانه وثوابه وغفرانه.
(فإنها كانت على المؤمنين كتاباً): مكتوبة مفروضة على من صدّق بالله، وصدّق برسوله، فلا ينكرها إلا مرتد كافر.
(موقوتاً): إما موقتة لها أوقات تخصها، وأزمنة تُؤَدَّى فيها من غير مخالفة، وإما معلومة بأعلام، ومشروطة بشرائط وكيفيات مخصوصة، لا تكون مجزية إلا بتمامها وإكمالها.
(ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ })[المدثر:42]: يعني النار وهي : اسم من أسمائها، ولها أسماء: كالجحيم، وجهنم، وسقر، ولظى، إلى غير ذلك من الألقاب.
({قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ })[المدثر:43]: أراد التنبيه على أن استحقاقهم للنار إنما كان من أجل تركهم للصلاة، ولولا قوله: {وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ }[المدثر:46] لكان فيه دلالة قاطعة، وبرهان واضح على بطلان من زعم من المرجئة أن الفسَّاق بترك الصلاة [لا] يدخلون النار ويعذبون فيها، فالكون في سقر إنما هو في حق من جمع هذه الخصال لا غير، فلهذا لم يكن ذلك حجة عليهم.
(وإنها لتحتُّ الذنوب حتَّ الورق): أراد أنها تسقط ما كان من الذنوب الصغار، وتزيله كما تزول الأوراق اليابسة عن منابتها وتمحوها، فأما العقوبات المستحقة على الكبائر الموبقة فلا سبيل إلى إسقاطها إلا بالتوبة.
(وتطلقها إطلاق الرِّبَقِ): أراد وتزيلها عن الكتب والدواوين التي دونت فيها كإطلاق أولاد المعز عن الربق التي وضعت رءوسها فيه، والرِّبَقة: حبل تُجعل فيه حِلَقٌ تُدْخَل فيه رءوس أولاد الضأن والمعز.
(وشبهها رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] بالحَمَّة تكون على باب الرجل): الحمة هي: العين الحارة، وقوله: تكون على باب الرجل مبالغة في القرب؛ حتى لا يمشي لها مكاناً بعيداً.
(فهو يغتسل منها كل يوم خمس مرات ): يريد صلاة اليوم والليلة، فإنها خمس صلوات: صلاتان بالليل، وهو: المغرب، والعشاء الآخرة، وثلاث بالنهار: الظهر، والعصر، والفجر.
(فما عسى أن يبقى عليه من الدرن): من عُفونة الذنوب ودرن الخطايا، كما لا تُبْقِي الحمة من الكدر والوخم شيئاً، والحديث من جهة الرسول في ذلك مشهور، فإنه قال: ((مثل هذه الصلوات كمثل نهرٍ جارٍ على باب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن)) .
(وقد عرف حقها من المؤمنين ): المصدِّقين بوجوبها، والقائمين بحقها، والعارفين بفائدتها ومنفعتها.
(الذين لا تشغلهم عنها): عن تأديتها وتحصيلها.
(زينة متاع): من الدنيا ولذاتها وما تزين منها.
(ولا قرة عين): ما يقر العين ويلذها .
(من ولد ولا مال): وهما أعظم ما تقرُّ به النفوس وتطرب إليه، ثم تلا قوله تعالى: ({رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ})[النور:37].
(وكان رسول الله [صلى الله عليه وآله] نَصِباً بالصلاة): النصب: التعب، وأراد أنه كان متعباً لنفسه بالصلاة.
ويروى ((أنه صلى حتى اسمغدت قدماه))، وروي ((حتى انتفخت قدماه))، فقيل له: يارسول الله، أليس قد غفرالله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال: ((أولا أكون عبداً شكوراً )) : يريد فهذه نعمة عظيمة فيكون شكرها العبادة لله تعالى، والقيام بحقه.
(بعد التبشير له بالجنة): بعد أن أعطاه الله الجنة وبشَّره بها، حيث قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }[الضحى:5] وغير ذلك من الآيات.
(لقول الله تعالى): تعليل لما حكاه من نَصبِ الرسول بالصلاة.
({وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ })[طه:132]: بالقول والوعظ، والزجر لهم عن تركها.
({وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا })[طه:132]: بالأداء، افتعال من الصبر، فكان الأمر لأهله باتخاذها وأدائها، وأمره بالا صطبار عليها والمداومة لها.
(فكان يأمر أهله ): امتثالاً لأمرالله.
(ويصبر عليها نفسه): بالفعل والإكثار منها.
(ثم إن الزكاة جعلت مع الصلاة): أراد بهذه المعية من حيث أن الله تعالى قرنهما في كتابه الكريم، فما أمربالصلاة إلا وأمر بالزكاة معها في أكثر الآيات، كما قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }[البقرة:43] وغيرذلك، ومن ثمَّ أردف الفقهاء مسائل الزكاة على مسائل الصلاة في المصنفات الفقهية، مع تباعد أمرهما من حيث كان إحداهما عبادة متعلقة بالأبدان، والأخرى عبادة متعلقة بالأموال، فجعلها الله تعالى:
(قرباناً لأهل الإسلام): القُرْبَان: اسم لما يُتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى من الطاعات، كما قال تعالى: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً }[المائدة:27].
(فمن أعطاها): أهلها، ومستحقيها من أهل المصارف الثمانية التي ذكرها الله في كتابه.
(طيبة بها نفسه ): سخية بها نفسه، من غير إكراه ولا إجبار من أحد له.
(فإنها تُجْعَلُ له كفارة): من خطاياه وذنوبه.
(ومن النار حجازاً ووقاية): الحجاز: ما يكون حائلاً بين الشيئين، والوقاية: اسم لما يقي من حر أو برد أو غير ذلك.
(فلا يتبعها أحد نفسه): يريد أنه إذا أ عطاها فلا ينظرها بعين الاستكثار ولا يمدنَّ عينيه نحوها استعظاماً لأمرها، وقوله: فلا يتبعها أحد نفسه، من غريب الكلام وفصيحه.
(ولا يكثرن عليها لهفه): حزنه وتأسفه.
(وإن من أعطاها): أهلها من إمام أو مستحق لها.
(غير طيب النفس بها ): عن كرهٍ، وشحٍّ وبخلٍ.
(يرجو بها ما هو أفضل منها): يزعمه من كثرة مال، وزيادة فيه ومحمدة الأشرار، وصرفها إلى من ليس من أهلها.
(فهو جاهل بالسنة): حيث صرفها في غير أهلها، وأعطاها من لا يكون مستحقاً لها.
(مغبون الأجر): منقوص الأجر والحظ.
(ضال العمل): لكونه عمل لغير الله فهو خاسر الصفقة.
(طويل الندم): على ذلك لكونه نادماً، ولا ينفعه ندمه لبطلانه وخسران أمره وذهابه.
(ثم أداء الأمانة): ما اؤتمن عليه الإنسان من وديعة أو رسالة، أو غير ذلك من أنواع الأمانات.
(فقد خاب من ليس من أهلها): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن من ليس مؤدياً لها وهو خائن فيها، فهو خائن خاسر بالخيانة في أمانته.
وثانيهما: أن يكون غرضه أن من ليس يصلح أن يكون أميناً على وديعة، فقد خاب وخسر سعيه؛ لأن ذلك إنما كان من أجل فسادٍ في ديانته، وركةٍ في حاله.
(إنها عرضت على السماوات المبنية): بناءاً عظيماً، والمحكمة إحكاماً لطيفاً بديعاً، كما قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] }[الذاريات:47] وقال: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً }[البقرة:22].
(والأرضين المدحوة): المبسوطة، من قولهم: دحاه إذا بسطه، كما قال تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }[النازعات:30].
(والجبال ذات الطول): البالغة في الطول كل غاية.
(المنصوبة): الذاهبة في الجوّ ذهاباً شديداً.
(فلا أطول، ولا أعرض، ولا أعلى، ولا أعظم منها): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد بذلك السماء والأرض والجبال، فإنها مختصة بطول وعرض وعلو وعظم، لا يعلم حاله ووصفه إلا الله تعالى.
وثانيهما: أن يريد بذلك الجبال وحدها؛ لكونه أقرب المذكورين، والأول أولى؛ لأن ذلك هو المقصود.
(ولو امتنع شيء لطول ، أو عرض، أو قوة، أو عز): لا ختصاصهنَّ كلهنَّ بهذه الأشياء.
(لا متنعن): عمَّا يعرض من الأمور، والحوادث العظيمة.
(ولكن أشفقن): خِفْنَ من تحمل الأمانة، والإشفاق هو: الخوف.
(من العقوبة): على التسهيل فيها، والخيانة في تحملها وأدائها.
(وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن): أراد وعَقَلْنَ عاقبة الأمر في ذلك، وهو الذي جهله من هو أشد منهنَّ ضعفاً في كل أموره وأحواله، بحيث لا نسبة لقوته إلى قوة أحدهن .
(وهو الإنسان): فإنه حملها.
({إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً })[الأحزاب:72]: فظلمه لنفسه بالمخالفة والمعصية، وجهله كان من حيث تحمَّل ما لا يقدر عليه، ولا يعلم حاله.
سؤال؛ ماهي الأمانة، وما وجه وصف الإنسان بكونه ظلوماً جهولاً بحملها، وما موقع هذا التمثيل، وحقيقة حاله؟
وجوابه؛ أما الأمانة فهي الطاعة لله تعالى بجميع ما كلف به، من أمر أو نهي من فعل أو كفٍّ، وسميت الطاعة أمانة لأنها لا زمة الوجود، كما أن الأمانة لا زمة الأداء، ووصف الإنسان بكونه حاملاً للأمانة؛ لأنها كأنها راكبة له وهو حامل لها، من قولهم: فلان ركبه الدين، فإذا أدَّاها لم تبق راكبة له، ولا هو حامل لها.
وأما وصف الإنسان بكونه ظلوماً جهولاً، فاعلم: أن الله تعالى وصفه بهذه الصفة على جهة المبالغة في حالة متمكنة، في هاتين الصفتين، فوصفه بكونه ظلوماً لتركه لأداء الأمانة، وإبطائه عن القيام بأمرها، ووصفه بكونه جهولاً؛ لإعراضه عن أدائها، وهو صلاح أمره وسعادة حاله.
وأما وجه التمثيل في ذلك فهو أن هذه الأجرام السماوية، والأرض والجبال لا شك في انقيادها لأمر الله انقياد مثلها من الوقوف على حسب إرادته، وإيجادها على حسب الداعية، فهذا هو القدر اللائق بالجمادات من الانقياد.
وأما الإنسان فانقياده لأمر الله بما يكون صحيحاً من جهته؛ لكونه عاقلاً مكلفاً، وهو امتثال الأوامر وإيجادها، وغرضه من هذا التمثيل هو أن الإنسان لم يكن حاله في الا نقياد لأمر الله فيما يصح منه، مثل حال الجمادات فيما يصح منها؛ لانقيادها، وإعراضه، وكما نلقب ما ذكرناه بالتمثيل في أنواع البديع، فقد يقال له: التخييل، وله موقع عظيم في كتاب الله تعالى، خاصة في الآيات الواردة بلفظ اليد والعين واليمين، وغير ذلك من الآيات، فإنها واردة مورد التخييل، ومن اشتم رائحة من علوم البيان، وذاق حلاوة أنواع البديع، لم يَخْفَ عليه ذلك، وتنزيله عليه، ومن ضاق عَطَنُهُ ، ولم تتسع حوصلته لهذه الأسرار، أعرض عمَّا ذكرناه، وجاء بالتأويلات الباردة، كتأويل اليد بالنعمة، واليمين بالقدرة، والعين بالعلم.
ومن العجب تعويل النَّظار من المتكلمين على هذه التأويلات، وإكباب المفسرين على نقلها وتدوينها، وإعراضهم عمَّا هو اللائق بكتاب الله، والخليق بمعجزة رسوله، وما ذاك إلا لأنهم من علم البيان على مسافات، ومن الاطلاع على أغواره على مراحل وبُردٍ .
(إن الله سبحانه لا يخفى عليه): يغيب عن علمه، ويذهب عن حفظه ومراقبته.
(ما العباد مقترفون): ما هذه موصولة، أي الذي العباد مكتسبون له من أعمال الخير والشر، والطاعة والمعصية صغيرها وكبيرها.
(في ليلهم ونهارهم): ما يفعلونه في هذين الزمانين، وإنما سماهما؛ لأنهما هما أعم الأوقات، فلا وقت سواهما، واتصال هذا بما قبله هو أنه لما ذكر حال هذه الواجبات من الصلاة والزكاة، وبيَّن حالها في الوجوب، وذكر الأمانة أيضاً، أراد أن يعرفك أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال هذه الواجبات من فعل أو كف في ليل أو نهار.
(لَطُفَ به خبراً): أي يخبر عنه، وإن لَطُفَ حاله وصَغُر مقداره، وانتصاب خبراً على التمييز بعد الفاعل، كقولك: طاب زيد نفساً.
(وأحاط به علماً): اشتمل عليه علمه، فلا تخفى عليه منه خافية.
(أعضاؤكم شهوده): هذا تفسير لإحاطة علمه وشموله، بأن جعل الأعضاء شهوداً على ذلك.
(وجوارحكم جنوده): المراقبون لها، والحافظون.
(وضمائركم عيونه): التي يُبصركم بها، فلا يخفى عليه منكم شيء.
(وخلواتكم عيانه): يدركها بعين منه ومرأى.
(181) ومن كلام له عليه السلام يذكر فيه عقوبة من مضى من الأمم والقرون
(أيها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله): أراد من هذا الكلام التنبيه على أن متبعي الحق هم قليل فلا يكون سبباً في الإعراض عنه.
(إن الناس اجتمعوا على مائدة): يعني الدنيا.
(شبعها قصير): أيام شبعها قصيرة، قليلة لا نقطاعها وزوالها.
(وجوعها طويل): يريد في الآخرة؛ لأنها باقية غير منقطعة.
سؤال؛ ما وجه حذف الفاء من إن في قوله: (إن الناس اجتمعوا) وكان القياس إثباتها بعد قوله: أيها الناس، للتنبيه على انقطاع الجملة الأولى من الثانية؟
وجوابه؛ هو أن الجملة الثانية ليس منقطعة عن الأولى، وإنما هي متصلة بها، فلهذا حذفت دلالة على ذلك، وإثباتها على جهة التعليل للأولى؛ لأن السبب في قلة أهل الهدى اجتماعهم على الدنيا، فلهذا لما كانت الجملتان كأنهما قد أفرغا في قالب واحد، لا جرم وجب طرح الفاء منها من أجل ذلك.
(أيها الناس، إنما يجمع الناس الرضا والسخط): يعني في العذاب والرحمة، فإذا ارتكب أحدهم جرماً ورضي به الباقون كانوا مشتركين في ذلك الجرم، وسخط الله عليهم جميعاً، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً }[الأنفال:25] وإذا فعل أحدهم معروفاً، ورضي به الآخرون كانوا شركاء في ذلك الأجر، أو سخط شيئاً من القبائح ورضوا بسخطه رفع الله عنهم النقمة من أجل ذلك.
ثم ذكر ما يصدق ذلك، بقوله:
(وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد منهم): وهو قدار .
(فعمهم الله بالعذاب): بالرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين.
(لما عموه بالرضا): فلم يضربوا على يده ويكفوه عن عقرها، ثم تلا قوله تعالى: ({فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ })[الشعراء:157]: لما فعلوه من الرضا، ولا ينفعهم الندم
(فما كان): عقيب ما فعلوه من العقر والرضا.
(إلا أن خارت أرضهم بالخسفة): صوتت، ومنه خُوَارُ العجل، وهو تصويته، وذلك أن الأرض إذا خسف بها صوتت كما تصوت النار عند إطفائها بالماء، وقيل: خارت انخفضت إلى أسفل، والخور: الانخفاض إلى الأرض، وهو مثل الغور.
(خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة): السكة: حديدة تُحرث بها الأرض، وأراد أن أرضهم ذهبت في الأرض كذهاب السكة في الأرض الرخوة اللينة، وهذا يؤيد تفسير الخوران بالذهاب والا نخفاض والغور في الأرض، دون التصويت كما حكيناه.
روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت، وكانوا ألفاً وخمسمائة دار ، ولما مرَّ رسول الله بالحجر في غزوة تبوك، قال: ((لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح، فأخذتهم الصيحة فلم يبقَ منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله تعالى )) قالوا: من هو؟ فقال: ((ذاك أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه)) .
ومرَّ رسول الله بقبره في المغمس فقال: ((هذا قبر أبي رغال دفن ومعه غصن من ذهب فابتدروه فوجدوا الغصن فأخذوه)) .
(أيها الناس، من سلك الطريق الواضح): وهي الطريق المؤدية إلى الحق باتباع الأدلة العقلية، وما جاءت به الرسل.
(ورد الماء): وصل إلى غرضه من النجاة والجنة.
(ومن خالف): الطريق وجاء يميناً وشمالاً.
(وقع في التيه!): ذهب في التحير والضلال.
(182) [ومن كلام له عليه السلام]
(والله ما معاوية بأدهى مني): الدهاء هو: الحذق والفتاكة في الأمور، وأراد به أنه ليس أعظم حذقاً ولافتاكة مني.
(ولكنه يغدر): الغدر: خلاف الوفاء.
(ويفجر): والفجور: إبطال العقود والمواثيق، وأراد أنه لا يفي بما يقول ويبطل ما عقد، فهذا هو الوجه في حذقه ودهائه، والدين يأبى ذلك وخوف الله.
(ولولا كراهة الغدر): لوبال عاقبته عند الله، وإهانة صاحبه عند الخلق.
(لكنت من أدهى الناس): أعظمهم غدراً ومكيدة.
(ولكن كل غُدَرَة فُجرَة): يريد أن الواحدة من الغدر هي لا محالة واحدة من الفجور؛ لأنه لا يتم إلا به، وهو من حقيقته وجزء من أجزائه.
(وكل فجرة كُفَرَة): والواحدة من الفجور هي واحدة من الكفر، وهذا إنما يكون فيما كان الفجور فيه كفراً، نحو تكذيب الرسل والجحدان لله تعالى، فأما ما يكون فسقاً نحو البغي على إمام الحق، فإنه لا يكون كفراً، وإنما يكون فسقاً وخروجاً عن الدين.
(ولكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به ): وهذا حديث مشهور عن الرسول قد استعمله ها هنا، والغرض أن الله تعالى يرديه رداءً يوم القيامة يكون علامة للخلائق يعرفونه به.
(والله ما أُسْتَغْفَلُ بالمكيدة): الكيد والمكيدة واحد، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أني لا أكون غافلاً بالكيد فأكون خاسراً مغبوناً.
وثانيهما: أن يريد أني لا أستغفل لأجل سبب من الأسباب، فأكون مكيداً من جهة الرجال.
(ولا أُسْتَغْمَرُ بالشديدة): وفيه روايتان:
أحدهما : أن يكون أُستغمر بالراء، وأراد أنه لا يكون غمراً في الوقائع الشديدة، والغمر: الذي لم يجرب الأمور، ولا حنكَّته التجارب.
وثانيهما: أن يكون بالزاي، وغرضه أني لا أستغمز بالقرعة الشديدة لأني حازم يقظ، فيكفيني أدنى تنبيه، ولهذا يقال: فلان لا تقرع له العصا؛ لتيقظه وكثرة فهمه.
(183) ومن كلام له عليه السلام عند دفن [سيدة النساء] فاطمة عليها السلام
(السلام عليك يا رسول الله عني و عن ابنتك): السلام قد يرد نكرة ومعرفة، فالنكرة يرد فيها منصوباً، كما في سلام الملائكة في قوله تعالى: {قَالُوا سَلاَماً }[هود:69]، ومرفوعاً كما في سلام إبراهيم، كما قال تعالى حاكياً عنه: {قَالَ سَلاَمٌ }[هود:69] وهو أبلغ لا نقطاعه عن التقييد بالأزمنة، وإذا كان معرفة فتعريفه قد يقال: إنه للعهد الذهني، كما يقال: أكلت الخبز وشربت الماء، وقد يكون للعهد الوجودي، وهو السلام في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيماً }[الأحزاب:56]، وقد يكون التعريف للجنس كأنه قال: وجنس السلام عليك خاصة، ومعاني التعريف متوجهة ها هنا عنه وعن فاطمة على جهة النيابة عنها.
(النازلة في جوارك): يريد في بطن الأرض أو بالقرب منك؛ لأنه عليه السلام دفن في بيت عائشة حيث مات ، وهي مدفونة في البقيع على ميل من المدينة .
(والسريعة اللحاق بك): لأنها أول من مات بعد الرسول من أهله ، وروي أن الرسول قال لها: ((أنت أول من يلحق بي من أهل بيتي )) فَسُرّت بذلك، وقد كان في دفنها ما كان من الإسرار والدفن ليلاً .
(قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري): الصفية إما المختارة عندك من بين بناتك، وإما الخالصة بالمودة أيضاً من بينهنَّ، وأراد الإخبار عن قلة صبره بفراقها.
(ورقَّ عنها تجلدي): التجلد: تكلف الجلادة، ورقة الشيء: ضعفه وهوانه.
(إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك): استثناء منقطع عن الأول، يعني لكن في الاقتداء بما كان من عظيم فرقتك.
(وفادح مصيبتك): فدحه السير إذا أثقله، وأراد ما أثقل من المصيبة بفقدك .
(موضع تعزٍ): مكان للتسلي عن فراقها؛ لأنه أعظم منه وأدخل في البلوى والمصيبة.
(فلقد وسدتك في ملحودة قبرك): الملحودة هي: اللحد، وهو شق في أحد جانبي القبر.
(وفاضت بين نحري وصدري نفسك): واللام في لقد محققة للجمل بعدها، وأراد فهذه الأمور كلها تقطَّع الكبد وتصدعها حزناً وحسرة، وهي موضوعة بيان لقوله: موضع تعز ومفسرة له.
ثم تلا قوله تعالى: ({إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ })[البقرة:156]: لأنها أعظم ما يقال عند حلول المصائب كما أشار إليه تعالى بها.
(فلقد اسْتُرْجِعَتِ الوديعة): يحتمل أن يكون ذلك في حق فاطمة وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد هو الرسول.
(وأُخِذَتِ الرهينة): ممن كانت حاصلة عنده.
(أما حزني) عليكما.
(فسرمد): لا ينقطع أبداً.
(وأما ليلي فمسهد): التسهيد: ذهاب النوم، وأراد أني حزين مستمر الحزن، وأنا ذاهب النوم لا أنام، وإضافة التسهيد إلى الليل على جهة المبالغة، والسرمد إلى الحزن مبالغة أيضاً، كما قالوا: (صائم نهاره، وقائم ليله) .
(إلى أن يختارالله لي دارك): الدار الآخرة بالموت.
(التي أنت بها مقيم): مستقر حتى يأذن الله بخلاف ذلك.
(وستنبئك ابنتك ): أبهم الحال في المنبأ والمخبّر به، وأراد بما كان بعدك من الأمور العظيمة، والحوادث المهمة في أمر الخلافة والا ستئثار بها.
(فأحفها السؤال): الإحفاء هو: الاستقصاء في السؤال.
(واستخبرها الحال): عن الحال، لكن حذف الجار وعدى الفعل إليه.
(فإن أنصرف): عن القبر.
(فلا عن ملالة): لمن أخاطبه فيه.
(وإن أُقِمْ): أستمر على الإقامة.
(فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين!): أراد إن إقامتي لو أقمت فإنما هي إيناس عن وحشة القبر، وليس ذلك شكاً فيما وعد الله من صبر على تحمل المكاره والأحزان وتجرعها.
(هذا ولم يَطُل العهد): هذا هي كلمة فصيحة، والغرض الإشارة بها إلى ما فعلوه من تلك الأفعال، والعهد بك قريب لم يَطُلْ فيقال: نسوه، كما قال الزبير لما ذكَّره أمير المؤمنين حديث بغيه عليه وقتاله له ظلماً، قال: إني أنسيت هذا الحديث.
(ولم يخلُ منك الذكر): فيما ذكرته في حقي، وقلته في أمري من رفع المنزلة وإشادة الرتبة.
(والسلام عليكما): التعريف فيه قد سبق تفسيره.
(سلام مودع): بالرأفة والرحمة والرقة.
(لا قالي ): غير باغض.
(184) ومن كلام له عليه السلام في ذكر الدنيا
(أيها الناس، إنما الدنيا دار مجاز): جاز إلى موضع كذا إذا عبر إليه، وأراد أنها معبر إلى الآخرة، أو يريد أن الدنيا مجاز لا حقيقة لها؛ لكونها منقطعة غير دائمة.
(وإن الآخرة دار قرار): لا انتقال عنه ولا زوال.
(فخذوا من ممركم): إما من مروركم، وإما من مكان مروركم.
(لمقركم): لموضع استقراركم، وإنما ظهرت اللام لفوات المصدر.
(ولا تهتكوا أستاركم): بارتكاب المعاصي، وتعدي الحدود، والهتك: الخرق للستر، يريد أن الطاعة لله تعالى ستر شامل، وغطاء مسترسل، فإذا ارتكب المعاصي خرق ذلك الحجاب، وهو تمثيل بديع واستعارة حسنة.
(عند من يعلم أسراركم): ما تضمرونه في خواطركم، وتجترحونه في ذات صدوركم من كبير وصغير.
(وأخرجوا من الدنيا قلوبكم): بالرفض لها، والإهمال لأطماعها.
(قبل أن تخرج منها أبدانكم): أراد أن ذلك الإخراج إنما يكون نافعاً قبل الموت، وحين كان العمل مقبولاً، فأما بعد خروج الأبدان من الأرواح بالموت فذلك غير نافع.
(ففيها اختبرتم): الضمير للدنيا، يريد امتحنتم بالشدائد، وسائر أنواع التكاليف.
(ولغيرها خلقتم): للآخرة، وأراد أن الله تعالى خلق الخلق من أجل العبادة، فيستحقون بذلك الخلود في نعيم الآخرة ولذتها، كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56].
(إن المرء إذا هلك، قال الناس: ما خلَّف ؟ وقالت الملائكة: ما قدَّم؟): وهذا قد ورد عن الرسول عليه السلام في بعض الأحاديث ، وإنما أورده ها هنا بياناً لقوله: أخرجوا من الدنيا قلوبكم واستحضاراً لفائدته؛ لأن الناس إذا هلك المرء يسأل الناس عمَّا خلَّف بعده من الأموال، وأنواع النفائس لشغلهم بالدنيا وتهالكهم في حبها، والملائكة يسألون عن أعمال الآخرة، وعمَّا ينبغي السؤال عنه وهو تقديم الأعمال الصالحة وأعمال النفس في المتاجر الرابحة، فكل واحد من الفريقين سائل عن مقصوده.
(لله آباؤكم): مدح لهم في معرض التعجب.
(فقدموا بعضاً): من أموالكم.
(يكن لكم قرضاً ): عند الله تعالى، كما قال تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }[المزمل:20]، وإنما سماه قرضاً من أجل المجازاة عليه فهو بمنزلة ما يُقترض ويُقضى.
(ولا تُخْلِفُوا كُلاً): أراد كل الأموال، فطرح المضاف إليه، وجعل التنوين عوضاً عنه، كما قال تعالى: {وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً }[الفرقان:39] أراد كلهم.
(فيكون عليكم كَلاًّ ): ثقلاً وهو حمل وزرها بمنع حقوقها، وصرفها في غير وجوهها .
وقوله: ولا تخلفوا كُلاً فيكون عليكم كَلاًّ، من أنواع البديع، يقال له: التجنيس الناقص، ثم هو على أنواع، فحيث كان متفق الأحرف، متباين الحركات يلقّب بالمختلف وهو هذا ، مثل قولهم: لا تُنَال الغُرَر إلا بركوب الغَرر.
(185) ومن كلام له عليه السلام يخاطب به أصحابه، وكان كثيراً ما يناديهم به
(تجهزوا رحمكم الله!): التجهز هو: أخذ الأُهبة للسفر.
(فقد نودي فيكم بالرحيل): عن الدنيا والانتقال عنها، شبَّههم بحال قوم اجتمعوا في معسكر ثم صيح فيهم بالرحيل، فإنهم مرتحلون لا محالة.
(وأقلوا العُرجة على الدنيا): العُرجة بضم الفاء وفتحها هو: الإقامة على الشيء والالتفات إليه، يقال: مالي على هذا الأمر عُرجة وتعريج وتعرُّج أي إقامة والتفات، وأراد أنكم لا تلتفتوا إلى الدنيا.
(وانقلبوا): إلى الآخرة.
(بصالح ما يحضركم من الزاد): وهي الأعمال الصالحة.
(فإن أمامكم عقبة كؤوداً): شاقَّة المصعد فيها.
(ومنازل مَخُوفة): يخاف فيها العطب .
(مهولة): مفزعة يفزع فيها من عاينها.
(لا بد من الورود عليها): إتيانها، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }[مريم:71]، وغرضه في كلامه هذا أهوال القيامة.
(والوقوف عندها): للمساءلة والحساب.
(واعلموا أن ملاحظ المنية فيكم دانية): لحظه لحظاً وملحظاً، إذا نظر إليه بمؤخر عينه.
(وكأنكم بمخالبها): الْمِخْلَبُ هو: ظُفُرُ البُرثُن، وهو من ذوات المخلب من الطير بمنزلة الناب من السَّبُع، وفي الحديث: ((نهى رسول الله عن أكل كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير)) .
(وقد نشبت فيكم): تعلقت بكم فلا يمكن الخلاص منها، فهذه أوصاف المنية، وكان القياس أن تكون هائلة وخائفة، أي ذات هول وخوف، فتكون على بناء اسم الفاعل، ولكنه عدل إلى بناء اسم المفعول مبالغة في ذلك؛ لتمكن الخوف والهول فيها، كأنه يخافها ويهالها من رءاها ووقع فيها.
(وقد دهمتكم منها مفظعات الأمور): فَظُعَ الرجل وأفظع بالفاء والظاء بنقطة من أعلاه إذا نزل به أمر عظيم، وفَظُعَ الأمر إذا غلب واشتدَّ.
(ومضلعات المحذور): ضَلِعَ يَضلَع إذا مال، والمضلعات: المميلات، أي تميل ما تحذرونه إليكم وتقصدكم به.
(فقطِّعوا علائق الدنيا): وصلها وحبائلها.
(بزاد التقوى ): بالا شتغال بالأعمال الصالحة فهي زاد التقوى.
وأقول: إن هذا الكلام قد بلغ في التهييج في الإقبال على الآخرة وإلهاب الأحشاء في قطع علائق الدنيا كل غاية من ذلك.
(186) ومن كلام له عليه السلام كلَّم به طلحة والزبير بعد أن بايعه الناس بالخلافة، وقد عتبا من ترك مشورتهما والاستعانة في الأمور بهما
(لقد نقمتما يسيراً): يريد أن هذا الأمر الذي أردتموه ليس أمراً واجباً عليَّ، ولا فيه إخلال بالإمامة إن لم يفعل فهو يسير لا أثر له ولا خطر لموقعه.
(وأرجأتما كثيراً): أخَّرتما أمراً عظيماً لا ينبغي تأخيره، وهو متابعتي والا نقياد لأمر الله وأمري، من قولهم: أرجى الأمر إذا أخَّره ولم ينظر فيه، كما قال تعالى: {أَرْجِهِ وَأَخَاهُ }[الأعراف:111] {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ }[التوبة:106] وما أخلق ما قالاه بقولهم في المثل: أريها السها وتريني القمر ، والسها: كوكب صغير تمتحن فيه الأبصار، وهو مثل يضرب لمن تذَّكر أدق الأمور ويغفل عن أجلاها وأوضحها.
(ألا تخبرانني ): استفهام واقع موقع التقرير.
(أي شيء لكما فيه حق دفعتكما عنه!): فأكون ظالماً لكما ، وأكون مستحقاً للعتاب من جهتكما.
(وأي قسم استأثرت عليكما به!): من الأقسام التي جعلها الله لكما، وخصكما بها من الأموال.
(أم): هي: المنقطعة، وأراد الإضراب عمَّا يتعلق بحالهما، وذكر حال غيرهما من المسلمين.
(أي حق رفعه إليَّ أحد من المسلمين): مما يتعلق بأحوالهم، وفصل شجارهم في خصوماتهم وغير ذلك، مما يكون موقوفاً على أمري وأُحكِّم فيه نظري.
(ضعفت عنه ): فلم يمكني أخذه من الظالم، وإيفاء المظلوم حقه من ذلك.
(أم جهلته): فلم أتمكَّن من إمضائه على حكم الشريعة، وأمر الله تعالى ورسوله.
(أم أخطأت بابه): فلم أضعه في موضعه، أو يريد أخطأت في مسألة فلم أعرف وجهها ودليلها، فهذه الأمور كلها يتوجه فيها النقم والعتاب، وليس منها واحد حاصل في حقي.
(والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا فيها إِرْبَةٌ ): الإِرْبَةُ: الحاجة، قال تعالى: {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ }[النور:31] وأراد أن السبب فيما نقمتماه عليَّ واجترأتما عليَّ به من المعاتبة؛ إنما هو لأجل دخولي في الخلافة، وقيامي بأعبائها، فكان ذلك سبباً للطعن وتطلباً للمعائب والمثالب؛ زعماً منكما أن لي فيها رغبة وأن لي فيها حاجة، فمالي فيها رغبة وشوق، ولا لي فيها حاجة من الحوائج الدنيوية.
(ولكنكم دعوتموني): دعاء مضطر إلى ولايتي، محب لتصرفي وخلافتي.
(وحملتموني عليها): بما أعطيتموني من الطاعة فوجبت الحجة عليَّ بذلك.
(فلما أفضت إليَّ): أفضى إلى فلان بسره إذا أعطاه ما عنده منه، وأراد فلما ألقت إليَّ أمورها وأعباءها.
(نظرت إلى كتاب الله): اعتمدت في جميع أموري كلها، من قولهم: لما دهمني أمر كذا نظرت إلى فلان أي اعتمدته في كل أحوالي.
(وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتبعته): من غير مخالفة في ذلك.
(وما استسن رسول الله فاقتديته): أراد أني جعلت الكتاب والسنة إمامين لي أقتدي بهما، وأقرر سيرتي عليهما، ولا أقدم ولا أحجم في الأمور كلها إلا بهما.
(فلم أحتج): في ذلك .
(إلى رأيكما): فآخذ به، وأصدر الأحكام عنه.
(ولا رأي غيركما): استغناء بماذكرته من الكتاب والسنة عن كل ما عداهما.
(ولا وقع حكم جهلته): في الفتاوى والأقضية.
(فأستشيركما وإخواني من المسلمين): في إصداره على وجهه.
(ولو كان ذلك): يشير إلى أنه لو وقع الجهل في حكم أو قضية.
(لم أرغب عنكما ولا عن غيركما): رغب عن الشيء إذا لم يرده، ورغب فيه إذا أراده، وغرضه أنه لو افتقر إلى رأيهما ورأي غيرهما لم يتركه زهداً فيه ورغبة عنه.
(وأما ما ذكرتما من الأسوة ): الأسوة هي: القدوة، وهي الاسم من التأسي، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }[الأحزاب:21] فإنهما نقما ترك الاقتداء بهما وعدم التأسي بأحوالهما.
(فإن ذلك): الإشارة إلى ما هو عليه من الأمر والحل والعقد.
(أمر لم أحكم أنا فيه برأيي): فأحكِّم آراءكما فيه.
(ولا وليته هوى مني): إرادة مني له ، ومحبة فيه.
(بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] ): وإنما ذكر اسمهما مع اسمه ملاطفة في الخطاب لهما، وإشارة إلى إنصافهما، وأنه لم يستبد بشيء غير ما معهما كما أُلِفَ في خلائقه السبَطة ، وعُهِدَ من شمائله السَلْسَة.
(قد فُرِغَ فيه ): بالأمر والنهي، والحث والزجر، وتعريف المصالح كلها والمفاسد.
(فلم أحتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه): وإمضائه على ما قدَّره، وإحصائه على ما علمه وفرضه.
(وأمضى فيه حكمه): أنفذه على قدر ما رآه من المصلحة.
(فليس لكما والله عندي في هذا ولا لغيركما عتبى): العتبى هي : الاسم من المعاتبة، يقال: تعاتبوا فأصلح بينهم العتاب، ويقال: استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني، قال بشر بن أبي خازم:
غضبت تميم أن تقتَّل عامر ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
أي أعتبناهم بالسيف، يريد أرضيناهم به.
(أخذ الله بقلوبنا وبقلوبكم إلى الحق): أي جعلها مائلة إليه في كل أحوالها.
(وألهمنا وإياكم الصبر!): على ما نحن بصدده من هذه الأمور المهمة، والخطوب النازلة.
(رحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان عليه): على فعله وأدائه.
(ورأى جوراً فردَّه): ظلماً فأنكره وغيَّره.
(وكان عوناً): معيناً.
(بالحق): من غير حيف ولا عصبية.
(على صاحبه): الضميرللجور، أي على صاحب الجور ليرجع عن جوره، وإنما عقَّب الدعاء عقيب ذكره للعتاب لهما؛ جرياً على عادته في الجؤار إلى الله تعالى، واللجأ إليه في إلهام الحق لمن يقاتله كيلا يقتله على بغيه وظلمه، وقد مرَّ في كلامه غير مرة، وهكذا يكون عادة أئمة الحق والداعين إلى نصرة دين الله بالجهاد في سبيله.
(187) ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين
(إني لا أرى لكم أن تكونوا سبابين): يريد أن السبَّ والأذية لا يجديان شيئاً، ولا يعودان بنفع في دين ولا دنيا، وفي الحديث: ((المؤمن لا يكون لعاناً )) .
(ولكن لو وصفتم أعمالهم): وهو ما كان منهم من الجرأة على الله تعالى بقتال إمام الحق والخروج عليه، ومنعه عن إنفاذ أحكام الله.
(وذكرتم حالهم): وهو ما كان من التباس الحق عليهم، وغلبة الشبهات على قلوبهم.
(كان أصوب في القول): من السبِّ واللعن والأذية.
(وأبلغ في العذر): عند الله تعالى؛ لما فيه من النصيحة.
(وقلتم مكان سبِّكم إياهم): ما يكون إصلاحاً لحالكم وحالهم، وهو الدعاء بأن تقولوا:
(اللَّهُمَّ، احقن دماءنا ودماءهم): عن أن تكون مهراقة على غير وجهها، وعلى خلاف رضوان الله وجهاداً في سبيله.
(وأصلح ذات بيننا وبينهم): بالفيء إلى الحق والارعواء إليه.
(واهدهم من ضلالهم ): ميلهم عن الحق، وإصرارهم على خلافه.
(حتى يعرف الحق من جهله): منَّا ومنهم.
(ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به!): ارعوى عن الغي إذا كفّ عنه، والعدوان: التعدي، ولهج بالشيء إذا ولع به، ووزن ارعوى افعول، والواو فيه زائدة، وحكي عن بعضهم أن أصله ارعوو بواوين، وهذا لا وجه له؛ لأنه من الرعاية ولامها ياء، والصحيح أن لامه ياء وأن واوه زائدة، فلهذا كان وزنه افعول، وأصله افعلل كاقشعرَّ.
(188) وقال عليه السلام بصفين وقد رأى الحسين يتسرع للحرب
أي يسارع إلى القتال، ويريد الكر عليهم:
(املكوا عني هذا الغلام): أراد يحفظونه عن القتال، من قولهم: ملكت زمام الناقة إذا حفظته في يدك، واقتدرت عليه.
(لا يهدَّني): إذا قُتِل، أي يكسر عظامي، من هدِّ البناء وهو كسره وإيهاؤه.
(فإني أنفس بهذين -يريد الحسن والحسين- عن الموت) : أي أضنَّ بهما، من قولهم: نَفِسَ بهذا الأمر إذا كان ضنيناً به.
(على الموت ): يريد عن أن يقتلا فيموتا.
(لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] ): مخافة أن يكون ذلك سبباً لانقطاع ذرية رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له عقب من صلبه، ولم يكن له أولاد إلا أربعة: عبد الله، وإبراهيم، والطاهر، والطيب، كلهم من خديجة، إلا إبراهيم فهو من مارية درجوا صغاراً لما يعلم الله في ذلك من المصلحة، وإنما كان عقبه من ذرية فاطمة، وفي الحديث: ((لكل نبي ذرية، وذريتي من صلبك يا علي )) يشير إلى ما ذكرناه.
(189) وقال عليه السلام لما اضطرب عليه أصحابه في أمرالحكومة
(أيها الناس، إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب): من الجهاد والنصيحة، وقبول الأمر والإعانة.
(حتى نهكتكم الحرب): بالغت في أخذكم بالقتل، يقال: نهكت الثوب إذا لبسته حتى تقطَّع.
(وقد والله أخذت منكم وتركت): أراد أنه قُتِل منكم بعضكم وبقي الأكثر، ويحكى أن عدة القتلى في عسكر أمير المؤمنين سبعة عشر ألف قتيل.
(وهي لعدوكم أنهك): أقطع وأكثر قتلاً.
ويحكى أن عدة القتلى من عسكر معاوية كانوا أربعة وعشرين ألف قتيل.
(لقد كنت أمس أميراً): ينفذ أمري، ويُحْتَكَمُ لقولي.
(فأصبحت اليوم مأموراً): تابعاً لغيري، سيقة لكلامه.
(وكنت أمسِ ناهياً): مانعاً لما أردت.
(فأصبحت اليوم منهياً): ممنوعاً عمَّا أردت، وأراد بالأمس ما مضى، وأراد باليوم ما يُسْتَقْبَلُ.
(وقد أحببتم البقاء): على ما أنتم عليه من تصويب التحكيم، والرضاء به.
(وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون): إذ لاطاقة لي على ذلك مع مخالفتكم لي، وعصيانكم لأمري، وفي كلامه هذا دلالة على أنه قد بلغ الغاية في ترك الحكومة وإهمالها، فما كان منهم إلا المكابرة على خلاف رأيه، والاعوجاج عنه ونبذ رأيه واطِّراحه.
(190) ومن كلام له عليه السلام بالبصرة، لما دخل على العلاء بن زياد [الحارثي] يعوده
وكان من أصحابه، فلما رأى سعة داره، فقال له:
(ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا): يشير إلى أن البناء فوق الكفاية لا حاجة إليه، وفي الحديث: ((من بنى فوق ما يكفيه طوقه الله به إلى سبع أرضين )).
(أنت إليها في الآخرة كنت أحوج): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن التوسع في عمارة المساكن إنما يكون في الآخرة؛ لأنها موضع استقرار وتوطن واستمرار، فأما الدنيا فهي دارقلعة.
وثانيهما: أن يريد أن إنفاق ثمنها والذي بنيت به ابتغاء وجه الله تعالى، وإصلاح أمر الآخرة كان أحسن وأعجب؛ لكونه دائماًباقياً.
(وبلى): إضراب عما قاله من أنه لا حاجة إليها في الدنيا، وإثبات الحاجة.
(إن شئت بلغت بها الآخرة): كانت طريقاً إلى الآخرة، ووُصلة إليها.
(تَقْرِي فيها الضيف): تطعم فيها الطعام من جائع ومسكين، وغريب وابن سبيل، وغير ذلك مما يكون قربة إلى الله تعالى، وطلباً لثوابه.
(وتصل فيها الرحم): بإعطائهم فيها ومواساتهم، وكهفهم واستقرارهم فيها.
(وتطلع الحقوق مطالعها!): وتضع الحقوق فيها مواضعها، من شرائف الخصال، ومحامد الشيم، ومكارم الأخلاق، فإن هذه الأمور كلها مما يقرب إلى الله تعالى، ويرفع الدرجات عنده، وفي الحديث: ((إن الله يحب مكارم الأخلاق، ويكره سفسافها )) يعني الدنيء منها.
ويحكى أن بنت حاتم الطائي لما أتي بها سبية إلى الرسول عليه السلام فجعلوها مع غيرها من السبايا في حظيرة، ومرَّ الرسول عليه السلام للصلاة فأومؤا إليها أن تكلمه في إطلاقها عن الإسار، فلما بصرت به قالت: يارسول الله، إن أبي كان يطعم الجائع ، ويفك العاني، ويقري الضيف، ويحب مكارم الأخلاق، فقال لها: ((ياجارية، ومن أبوك؟ هذه صفة المؤمنين)) فقالت له: أنا بنت حاتم الطائي ، فقال لها: ((لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عليه))، ثم قال لهم: ((أطلقوا إسارها)) وكساها وألحقها بأخيها عدي بن حاتم بعد أن هرب وتركها فأخذوها، فإذا فعلت ذلك:
(فإذاً أنت قد بلغت الآخرة بها): لأن هذه الأشياء إذا كانت مفعولة على هذه الأوجه، فهي من أعمال الآخرة والمقربات إليها.
(فقال له العلاء ): يعني العلاء بن زياد:
(يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد): شكوت فلاناً أشكوه إذا أخبرت عنه بسوء فعله معك شكواً، والاسم منه الشكوى.
(فقال: ماله ): أي شيء عرض في حاله حتى شكوته.
(فقال: لبس العباء): جمع عباءة على حد تمرة وتمر، وهو: جبة من صوف.
(وتخلى عن الدنيا): تركها واطَّرحها زهداً فيها.
(فقال: عليَّ به): أي أحضروه، وعلي اسم فعل كما تقول: عليك زيداً أي ألزمه، وعليَّ زيداً أي أولنِيه.
(فلما جاء): قعد بحضرته.
(فقال له: يا عُدَّي نفسه!): العدي: تصغير العدو، وإنما كانت عدواً له، لأن غاية العدو وقصارى أمره هو الاجتهاد في إتلاف النفس، والنفس حالها هذا، فإنها أمَّارة بالسوء، وهو هلاك الدين وإفساده، وفي ذلك استحقاق العذاب السرمد، فلا عداوة أعظم من ذاك .
(لقد استهام بك الخبيث): هام على وجهه من شدة العشق، والهيام: أشد العطش، والهيام كالجنون من العشق، والخبيث: الشيطان، وسمي خبيثاً لكثرة خبثه ورداءته.
(أما رحمت أولادك وأهلك! ): فتهجرهم وتستوحش منهم، وتكدِّر عليهم معيشتهم وتنغّصها.
(أترى أن الله أحل لك الطيبات): من الأكل والشرب، والملاذ الحسنة وأباحها بما قرر من الأدلة العقلية والنقلية.
(وهو يكره أن تأخذها!): تستعملها، وتتنعم فيها.
(أنت أهون على الله من ذاك ): من أن يبيح الله لك شيئاً ثم ينهاك عنه، أو من أن يحل شيئاً ثم يحرمه، أو غير ذلك مما يكون مناقضة في الحكمة، وطعناً فيها، أو يبدو له من ذلك خلاف ما علمه، فهذه الأمور كلها مستحيلة على الله تعالى، فأمرك أقل وأحقر من أن يجري فيه ذلك.
(قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك): فيما تلبسه من ملابسك الخشنة، كالْمِدْرَعَةِ التي رقعها حتى استحيا من راقعها .
(وجشوبة مأكلك): فكان يأكل الشعير بغير نخل، فقيل لخادمته يوماً: ألا تنخلينه؟ فقالت: يأكله وهو المهنأ قد أمرني ألاَّ أنخله .
(قال: ويحك!): كلمة دعاء، وهي منصوبة على المصدرية.
(إني لست كأنت): أي إن حالك مخالف لحالي في ذلك؛ لأني إمام للخلق، وأنت لست إماماً لهم.
(إن الله فرض على أئمة الحق): من اختصه بالإمامة، واصطفاه لها.
(أن يقدِّروا نفوسهم): أن يجعلوا حالهم مثل حال الضعفاء في لباسهم وأكلهم، وسائر تصرفاتهم ويمثلوا حالهم:
(بضعفة الناس): أهل الفاقة والمسكنة، ويكون في ذلك غرضان:
أحدهما: أن يكون ذلك طريقاً للخلق إلى ترك الدنيا والزهد فيها.
وثانيهما: تهوين الحال على الضعفاء وأهل المسكنة، في التأسي بالأفاضل من الخلق؛ لأن ذلك يهوِّن ما في نفوسهم من الفقر والحاجة، فإذا ضاقت عليه المسالك كان له أن يقول: هذا الإمام على عظم قدره، وارتفاع خطره عند الله على مثل حالتي، فيسكن عند ذلك جزعه وتطمئن نفسه.
(كيلا يتبيغ على الفقير فقره! ): فيه روايتان:
أحدهما: يتبيغ من قولهم: تبيغ الدم إذا هاج، وكثر به .
وثانيهما: يتسيع بالسين بثلاث من أسفلها، والاتساع: خلاف الضيق، أي لا يكبر عليه حال فقره فتضيق نفسه من أجله.
(191) ومن كلام له عليه السلام وقد سأله سائل عن أحاديث البدع، وعما في أيدي الناس من اختلاف الأخبار، فقال:
(إن في أيدي الناس حقا وباطلاً): يريد من أحاديث الرسول ما هو حق يعمل به، وما هو باطل مكذوب على الرسول فيه.
(وصدقاً وكذباً): بعضها على ما هو به، وبعضها على غير ما هو به.
(وناسخاً ومنسوخاً): أي وبعضها ناسخ لغيره تستمر فيه المصلحة، وبعضها منسوخ لا مصلحة فيه.
(وعاماً وخاصاً): فالخاص: ما لم يكن مندرجا فيه غيره، والعام: ما كان شاملاً لأفراد متعددة، وصور متماثلة.
(ومحكماً): أريد به ظاهره، فلا يحتاج إلى تفسير وبيان.
(ومتشابهاً): يحتاج فيه إلى تفسير.
(وحفظاً): أُخِذَ على جهته وقصده.
(ووهماً): أُخِذَ على غير وجهه.
(وقد كذب على رسول الله): أُبْلِغَ عنه ما لا يقوله، ولهذا قال عليه السلام: ((إنه سيكذب علي )) .
(على عهده): مفي زمنه من غير مبالاة ولا مراعاة لجلالة منصبه في النبوة.
(حتى قام خطيباً): حتى هذه متعلقة بكلام تقديره: فأزعجه ذلك حتى قام خطيباً:
(فقال: ((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ))) .
(وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال): أراد أن الرواة وإن كثروا واضطربوا فيما نقلوه من هذه الأخبار، فلا يخرجون عن هذه العدة، وهي جامعة لكثرة أعدادهم.
(ليس لهم خامس): مبالغة في الحصر والضبط.
(رجل منافق مظهر للإيمان): بلسانه، وهو يبطن الكفر.
(متصنِّع بالإسلام): التصنّع: إظهارحسن السمت ، وأراد أنه مظهر للإسلام، والأمر على خلاف ذلك.
(لا يتأثم ): لا يجانب الإثم.
(ولا يتحرَّج): أي لا يجانب الحرج، وهو الإثم، بل يقع فيهما من غير مبالاة.
(يكذب على رسول الله متعمداً): من غير شبهة له في ذلك.
(فلو علم الناس أنه منافق لم يقبلوا منه): قوله ولا خبره الذي يخبر به.
(ولم يُصَدِّقُوا قوله): فيما نقل إليهم.
(ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله): كان معه مدة من الزمان ورافقه.
(رآه): بعينه.
(وسمع منه): أخباره التي نقلها.
(ولقف عنه): لقف الشيء وتلقفه إذا أخذه بسرعة.
(فيأخذون بقوله): يقبلونه ويعملون عليه في هذه الأحكام كلها، في التحليل والتحريم لما قرر من حاله، وبما يظهر من أمره، ثم أخذ في شرح حال المنافقين، وبيان حالهم، بقوله:
(وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك): حيث كانوا نهاية في الخبث والرداءة والعداوة في الدين والفساد.
(ووصفهم بما وصفهم به لك): فتارة بالكذب، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون:1] ومرة بالعداوة، حيث قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ }[المنافقون:4] ومرة بالخدع، حيث قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }[النساء:142] وغير ذلك من الصفات الدالة على فساد بواطنهم، واشتمال قلوبهم على الغل والحسد والعداوة.
(ثم بقوا بعده عليه السلام): يريد من كانت هذه صفته من رواة الأحاديث من إظهار الدين، وإبطان النفاق.
(فتقربوا إلى أئمة الضلالة): إلى أئمة الجور، وأخدان الظلم وأعوانه، وأهل البدع، وسائر الأهواء الضالة.
(والدعاة إلى النار): بالبدع، وسائر الضلالات.
(بالزور والبهتان): متعلق بقوله: تقربوا، أي تقربوا إليهم بتزويرهم لهم الأحاديث الكاذبة، والبهتانات الباطلة، ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله: الدعاة إلى النار، بما كان من جهتهم من الكذب والباطل.
(فولوهم الأعمال): الخراجات العظيمة والجبايات من الأقطار والأقاليم.
(وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس): بأن جعلوهم أمراء على الخلق، وملكوهم رقاب الناس بالقهر، والاستظهار عليهم في ذلك.
(وأكلوا بهم الدنيا): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن الآكلين هم أئمة الضلال من الملوك والسلاطين، وسائر الجورة وأعوان الظلمة، والمعنى: أن العلماء وأهل الرواية سهَّلوا لهم الحال، وجرّأوهم على أخذ أموال الناس بالباطل، والشُّبَه الفاسدة.
وثانيهما: أن يكون الآكل هم الرواة، والمعنىأن الرواة أكلوا بالملوك الدنيا، لما استندوا إليهم، وعوَّلوا في أمورهم عليهم.
(وإنما الناس مع الملوك والدنيا ): يريد أن أكثر ميل الناس إلى من كان ملكاً لأجل قهره ودولته، وإلى من كان معه شيء من الدنيا فتراهم حوله، وكلمتهم قوة لكلمته، وفي كلامه هذا نعي على علماء السوء أفعالهم، وتسجيل عليهم بسوء صنيعهم، وتحذير عن الوقوع في مثل هذه المزال الزلقة، والعظائم الموبقة، ومبالغة في الحث على منافرة الظلمة والبُعد عنهم بمبلغ الجهد؛ لما في مخالطتهم من الفساد في الدين وهلاكه.
واعلم: أن كلام أمير المؤمنين ها هنا دالٌّ على ردِّ أخبار أهل التصريح بالكفر، كأهل النفاق والملاحدة والثنوية وغيرهم، والمصرِّحين بالفسق، فأما أهل التأويل من أهل الكفر كالمجبرة والمشبهة عند القائلين بإكفارهم، فهي مسألة خلاف بين أهل القبلة، وهكذا القول فيمن كان فسقه من جهة التأويل، والمختار تفريعاً على القول بالإكفار في التأويل، إذ لا تهمة لهم في أديانهم، قبول أخبارهم في تأويلهم بالكفر والفسق.
(ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه): إما بالزيادة عليه، وإما بالنقصان منه.
(فَوَهِمَ فيه): فتطرق إليه الوهم فيه في بعض وجوهه.
(ولم يتعمد كذباً): يقصد رواية ما لم يكن قط، ولكنه روى شيئاً وأخطأ فيه من غير قصد إلى الخطأ فيه.
(فهو في يديه): من قولهم: حديث فلان على يديك، أي أنه حافظ له، ومحتكم عليه.
(يرويه): يأثره عن الرسول.
(ويعمل به): في الإقدام والإحجام من أفعاله.
(ويقول): من لسانه :
(أنا سمعته من رسول الله): ينطق به ويتكلم.
(فلو علم المسلمون أنه وَهِمَ فيه): بزيادة أو نقصان، أو تحريف أو تبديل أو تغيير أو غير ذلك ممَّا يُطرق تهمة في حقه:
(لم يقبلوه منه): لم يرووه عنه، ولا عملوا به؛ حراسة لحديث رسول الله عن النقص والتغيير.
(ولو علم ذلك ): يشير إلى الوهم الذي وقع منه في الحديث.
(لرفضه): تركه عن الرواية والعمل به، وكلامه ها هنا دال على أن كل من كان من الرواة يتطرق إليه الوهم في روايته بالزيادة والنقصان، فإنه مردود لا محالة، وهذا محصول كلام الأصوليين على الجملة في ردِّ من كان يعتريه الوهم.
(ورجل ثالث): يريد من الأربعة الذي ذكرهم أولاً.
(سمع من رسول الله شيئاً يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم): النهي فيرويه، أو يكفُّ عن رواية ما أمربه.
(أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم): الأمر فيرويه، أو يكفُّ عن رواية المنهي عنه.
(فحفظ المنسوخ): ورواه، وحدَّث به غيره.
(ولم يحفظ الناسخ): لأنه لم يعلمه ولا طرق سمعه، وهذا كثير ما يعرض في الأخبار، ومن ثَمَّ كثر اختلاف الفقهاء، ونشأ النزاع في المسائل الشرعية.
سؤال؛ فإذا كان الشرط في العمل على الخبر، هو ألاَّ يكون منسوخاً، فمتى يعلم كونه غير منسوخ فيعمل عليه ؟
وجوابه؛ هو أن مستند العمل على الأخبار الأحادية إنما هو غلبة الظن بالصدق فيما تناولته من مخبراتها، وإذا كان الأمر كما قلناه فلا بد من ضرب من العناية ليغلب على الظن، كون الخبر غير منسوخ خاصة مع ضبط الأخبار، وتدوينها في هذه الصحاح، فإنه يسهل إدراك ذلك مع العناية والاجتهاد في طلبه.
(فلو علم أنه منسوخ): أراد الراوي له.
(لرفضه): تركه عن الرواية.
(ولو علم المسلمون إذ سمعوه ): وقت سماعهم له.
(أنه منسوخ لرفضوه): تركوا العمل به أيضاً، لما قد فهموه من جري النسخ في هذه الشريعة في الكتاب والسنة، وأن كل ما كان قد نسخ، فلا وجه للعمل به بحال.
(وآخر رابع لم يكذب على الله تعالى، ولا على رسوله، مبغض للكذب).
سؤال؛ ليس لكلام الله تعالى ها هنا ذكر، فما وجه قوله: لم يكذب على الله تعالى، وإنما كلامنا في كلام الرسول وأخباره؟
وجوابه؛ هو أنه عليه السلام لا ينطق عن الهوى، ولا يقول ما يقول إلا عن وحي من الله تعالى وعصمة فيما يقوله وتأييد، فهو في الحقيقة مخبر عن الله، فالكذب عليه في الحقيقة هو كذب على الله تعالى، كما أن الطاعة له طاعة لله تعالى، كما قال تعالى: و{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }[النساء:80].
(خوفا لله تعالى ): عن أن يكذب عليه.
(وتعظيماً لرسوله [ صلى الله عليه وآله وسلم] ): في أن يكذب عليه، وإنما قال: خوفاً لله تعالى؛ لأن الله هو المتولي للعقوبة على ذلك والإهانة العظيمة، وأما الرسول فترك الكذب في حقه إنما يكون تعظيماً له أن يقال عليه ما لم يقله، ولا يخطر له على بال.
(ولم يَهِمْ): يتطرق إليه الوهم في شيء من روايته.
(بل حفظ ما سمع على وجهه):من غير زيادة فيه ، ولا نقصان عنه.
(فجاء به على ما سمعه): من غير تحريف، ولا تبديل.
(لم يزد فيه، ولا ينقص ).
سؤال؛ ظاهر كلامه هاهنا يدل على تأدية الحديث بلفظه على ما سمعه من الرسول، وأنتم تجيزون الرواية بالمعنى؟
وجوابه؛ هو أن ماقاله مسألة خلاف بين العلماء، فأما من منع من ذلك فهو مطابق لما قاله، وأما من جوَّز الرواية بالمعنى فليس في كلامه ما يخالف ذلك؛ لأن الرواية بالمعنى ليس فيها زيادة ولا نقصان، وللنظار من الأصوليين فيه تفاصيل مذكورة في كتبهم.
(وحفظ الناسخ فعمل به): يريد اعتمده فيما تناوله من الأحكام تحليلاًكان أو تحريماً.
(وحفظ المنسوخ فَجَنَّبَ عنه): زال عنه وعدل، من قولهم: جنب عن كذا إذا مال عنه، ونزل فلان جنبه إذا اعتزل الناس وتركهم .
(وعرف الخاص والعام): ماهيتهما، فالعام: ما اندرج تحته أفراد متعددة على جهة الاستغراق لها، كالناس والرجال، والخاص: ما كان موضوعاً على معنى واحد، كزيد وعمرو.
(فوضع كل شيء موضعه): فجعل العام محكوم عليه بالشمول، إلا لدلالة تخص، والخاص محكوم عليه بألاَّ يتجاوز معناه الذي وضع من أجله، ثم إذا كانا مجتمعين فالعام حجة فيما تناوله، والخاص معمول على حكمه فيما تناوله أيضاً.
(وعرف المتشابه ومحكمه): فالمتشابه: ما أريد به غير ظاهره، والمحكم: ما أريد به ظاهره، فيحمل قوله صلى الله عليه وآله: ((سترون ربكم )) على قوله: ((لن يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة)) وغير ذلك من الأحاديث المتشابهة.
(وقد كان يكون من رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] الكلام له وجهان):
كان الأولى ناقصة، والثانية تامة، أي وقد كان يقع من رسول الله إطلاق الكلام على وجهين:
(فكلام عام): يكون شاملاً لغيره.
(وكلام خاص): لا يتجاوز معناه الذي وضع له، وربما يطلق العام، والغرض به الخصوص.
(فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله ، ولا ما عنى به رسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] ): أراد على خلاف مرادهما، وغرضهما منه.
(فيحمله السامع): له على غير معناه.
(ويُوَجِّهُهُ على غير معرفة بمعناه، وما قصد منه ): من المقاصد اللائقة بالحكمة، وما خرج من أجله هل كان حكاية عن قوم، كما روي أن الرسول عليه السلام قال: ((الطيرة في ثلاث : الفرس، والمرأة، والدار)) ولم يجعل هذا شرعاً، وإنما حكاه عن سفاهة الجاهلية، فسمعه الراوي له ولم يعرف غرضه فيه، وما روي عنه عليه السلام أن قال: ((ولد الزنا شر الثلاثة)) فإنه لم يقصد به عمومه، وإنما أراد ذلك في رجل خاص، لم يكن لرشده، فقام من فوره فسبَّ أمه، فقال عليه السلام: ((ولد الزنا شر الثلاثة)) يشير به إلى هذا المخصوص، أو كان منسوخاً فلم يعلم ناسخه، أو غير ذلك من الاختلافات والمقاصد والأغراض.
(وليس كل أصحاب رسول الله كان يسأله ويستفهمه): إجلالاً له وتعظيماً لحاله، وامتثالاً لما قاله وأمر به، حيث قال: ((اتركوني ما تركتكم )) يريد من السؤال، وإنما يكون الاستفهام والاستعلام للفضلاء من الصحابة، وأهل الفطانة كأمير المؤمنين وغيره.
(حتى إنهم كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ): الجلف من الأعراب أو الوارد المحتاج إلى المسألة.
(فيسأله): ويلحف في سؤاله، ويغلظ عليه.
(حتى يسمعوا): كلامه، فيعلموا ما قال، كما كان من حديث ضمام بن ثعلبة، فإنه لماورد إلى الرسول عليه السلام قال له : إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجد في نفسك، قال له الرسول: ((سل عمَّا بدا لك )) ثم إنه أخذ يكرر عليه شرائع الإسلام واحدة واحدة، ويستنطقه عن صحتها، والرسول يقول: ((اللَّهُمَّ، نعم)) فلما فرغ، قال: فوحقك لا أزيد عليها ولا أنقص، فقال له النبي: ((أفلح وأبيه إن صدق )) .
(وكان لا يمر بي شيء إلا سألت عنه وحفظته): يشير إلى مكانته عند الرسول، وإلى حسن إتقانه للعلوم، وتفهمه لها.
(فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم): في الأحاديث.
(وعللهم في رواياتهم): لها على هذه الأوجه المتفاوتة.
واعلم: أن لله تعالى سراً ومصلحة في تعبدات خلقه بغلبة الظنون لا يطلع عليها سواه، فهذه النكتة التي ذكرها أمير المؤمنين جامعة لأكثر أحكام الأخبار التي يذكرها الأصوليون، ويطنبون في تفصيلها قد جمعها بأخصر لفظ وأقلّه، ومن أجل هذه الاختلافات في روايات هذه الأخبار نشأ الخلاف في الأحكام الفقهية، وصعب نيل منصب الاجتهاد خاصة في مثل زماننا هذا، لكثرة ما يحتاج إلى العلوم، وتطويل الطرق، ومعرفة أحوال الرجال، وتمييز ما يُرَدُّ منها وما يُقْبَل. وبالله التوفيق.
(192) ومن كلام له عليه السلام يذكر فيه خلق السماء
(وكان من اقتدار جبروته): الجبروت: من التجبر، كما أن الملكوت من الملك، وزيدت الواو والتاء من أجل المبالغة.
(وبدائع لطائف صنعته): دقائقها وأسرارها التي عجز عنها الوصف.
(أن جعل من ماء البحر ): أن هذه هي المصدرية، وصلتها هو الفعل الماضي، ورفعها على أنها اسم لكان ، ومن هذه هي المبعضة.
(الزاخر): المرتفع موجه.
(المتراكم): الذي يكون بعضه فوق بعض.
(المتقاصف): المتكسِّر، من قولهم: قصف العود إذا كسره، وأراد المتكسر في حركته واضطرابه.
(يَبَساً جامداً): جسما صلباً.
(ثم فطر منه أطباقاً): خلقها، والفطر هو: الخلق.
(ففتقها): شقَّها.
(سبع سماوات بعد ارتتاقها): تلاؤمها حتى كانت كالطبق الواحد.
(فاستمسكت بأمره): الباء ها هنا تعلقها إما على جهة الآلة، كما تقول: كتبت بالقلم، فالأمر ها هنا كأنه آلة لا ستمساكها، كما أن القلم آلة للكتابة، وإما على جهة الحالية، كأنه قال: خاضعة لأمره كقولك : جاء بسلاحه، أي متسلحاً.
(وقامت على حده): الذي قدَّره لها، وعلمه من صلاحهافيه.
(يحملها): الضمير للسماوات، وأراد أنها مع عظم خلقها واشتمالها على المكونات العجيبة، والمخلوقات العظيمة فإنها محمولة يحملها:
(الأخضر): يعني البحر؛ لأن ماء البحر لصفائه ورقته يُرَى كأنه أخضر.
(الْمُثْعَنْجِرُ): أراد بالْمُثْعَنْجِرُ إما المنصبُّ من أعلى إلى أسفل، وإما الكثير المتدافق.
(والقَمْقَام): اسم من أسماء البحر.
(المسخَّر): للحمل أي المذلل له، والتسخير: التذليل.
(قد ذلَّ لأمره): أي من أجل أن أمره بالحمل، ولا يستطيع مخالفة.
(وأذعن لهيبته): انقاد من أجل ذلك.
(ووقف الجاري منه بخشيته ): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنه كان قبل ذلك -أعني وضع السماوات عليه- جارياً مضطربا اضطراباً عظيماً، فلما حمل ما فوقه من هذه السماوات، سكن من أجل حمله لها.
وثانيهما: أن يريد إنما كان منه ذا حركة، فإنه إذا أمره بالسكون سكن لا محالة امتثالاً لأمره.
سؤال؛ كيف جعل البحر حاملاً للسماوات كلها، والهواء متوسط بينهما؟
وجوابه؛ هو أن هذا الجو وإن كان متوسطاً، فإنها تؤول في الا ستقرار إلى البحر بلا إشكال؛ لأنه هو الغاية والمستقر لها.
(جبل جلاميدها): أي خلق صخورها، واحدها جلمود.
(ونشوز متونها): النشز: المكان المرتفع، وجمعه نشوز، والمتن: جانب الظهر، وهما متنان.
(وأطوادها): جبالها، أي وخلق أطوادها.
(فأرساها مراسيها ): أقرَّها في مواضعها، كما قال تعالى:{وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا }[النازعات:32].
(وألزمها قراراتها): مواضعها التي هي مستقرة فيها من غير أن تنتقل وتزول.
(فمضت رءوسها في الهواء): نفذت أعاليها في الجو، من قولهم: مضى في حاجته، إذا نفذ فيها لا يلوي على شيء ولا يعرِّج عليه.
(ورست أصولها في الماء): استقرت على البحر كاستقرار السماء عليه كما ذكره أولاً.
(فأنهد جبالها عن سهولها): رفع جبالها على ما كان سهلاً من الأرض ووطئا من مواضعها.
(أساخ قواعدها): أدخلها في الأرض.
(في متون أقطارها): جوانب أنحائها.
(ومواضع أنصابها): جمع نُصُب، وهو: المنصوب، أي وخلق المواضع المنتصبة منها.
(فأشهق قِلاَلَهَا): أعلا رءوسها، والقُلّة: الموضع المرتفع ، ومنه قُلّة الجبل أي أعلاه.
(وأطال أنشازها): أي ورفع ما كان منها طويلاً.
(وجعلها): الضمير للجبال.
(للأرض عماداً): تعتمد عليها كيلا تتحرك وتضطرب، كما قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً }[النبأ:7].
(وأرّزَهَا فيها أوتاداً): أدخلها في الأرض، وانتصاب أوتاداً على الحال أي وأدخلها فيها شادة لها.
(فسكنت على حركتها): فيه وجهان:
أحدهما: فأسكنها وهي خليقة بالتحرك، لما كانت على وجه الماء ومن طبعه الحركة.
وثانيهما: أن يريد فسكنت ومن طبعها الحركة؛ لثقلها، فقال: على حركتها، يشير به إلى ما ذكرناه.
(من أن تميد بأهلها): من هذه لابتداء الغاية، وأراد فسكنت بقدرته مع استحقاقها للحركة مخافة أن تميد بأهلها، وتضطرب عليهم من فوقها.
(أو تسيخ بحملها): ساخ إذا ذهب في الأرض، أي بما فوقها مما حمل عليها من جميع المخلوقات من الحيوانات وغيرها.
(أو تزول عن موضعها ): مستقرها، ومكانها التي هي فيه.
(فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها): فتنزَّه من هذه حاله، يشير إلى ما حكاه من اضطراب البحر وزفيره، واختلاف أمواجه.
(وأجمدها): صيرها جامدة في غاية الصلابة، لا يستطاع الحفر عليها إلا على صعوبة وتعب.
(بعد رطوبة أكنافها!): يشير به إلى قوله: (كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة)، وقد تقدم شرحها فلا وجه لتكريره، والأكناف: الأنحاء والجوانب.
(فجعلها لخلقه مهاداً): يتصرفون عليها، وقد فسرنا المهاد من قبل، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً }[النبأ:6].
(وبسطها): مدَّها كما يمدُّ البساط.
(لهم): من أجلهم.
(فراشاً): يفترشونه.
(فوق بحر لجي): عظيم الماء.
(راكد): ساكن.
(لا يجري): ممنوع عن الجريان.
(وقائم): أي منتصب على حاله لا يتغير.
(لا يسري): لا يذهب عن حالته ولا يزول عنها، من قولهم: سرى الثوب عن الجنب إذا ذهب وزال، قال العجاج:
في بئر لا جور سرى وما شعر
(تكركره الرياح[العواصف] ): ترده من جانب إلى جانب، والعواصف: الشديدة الهبوب.
(وتمخضه الغمام الذوارف): تحركه، والذوارف: التي تذرف بالماء أي تسكبه، من قولهم: عين ذارفة أي ساكبة الدمع ، ثم تلا قوله تعالى:
({إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى })[النازعات:26]): أي معتبراً ومتعظاً لمن يخشى عقاب الله، وقد وقعت هذه الآية من كلامه هذا موضع المقلة من إنسانها، واليد من كفها وبنانها.
(193) [ومن خطبة له عليه السلام، كان يستنهض بها أصحابه إلى جهاد أهل الشام في زمانه]
ثم قال حضاً لأصحابه على الجهاد:
(اللَّهُمَّ، أيما عبد من عبادك سمع مقالتنا): وهي الأمر بالجهاد والحث عليه، وقتال الأعداء وجهادهم.
(العادلة): السالكة مسلك الحق، والمستقيمة أحوالها في الدين.
(غير الجائرة): المخالفة لغيرها في الجور، والظلم والفساد واتباع الهوى.
(والمصلحة في الدين والدنيا): إما وذات الصلاح في الأمور الدينية والأمور الدنيوية، من إقامة حدود الله تعالى ، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه، وإما الفاعلة للصلاح والعدل على جهة المبالغة.
(غير المفسدة): المخالفة لغيرها في الفساد، والبغي والهلاك في الدين.
سؤال؛ غير الجائر إنما هو العادل، وغير المفسدة إنما هي المصلحة، فما وجه اتباع أحدهما بالآخر، وهلا كان أحدهما مغنياً عن الآخر؟
وجوابه؛ هو أن قوله: العادلة، والمصلحة، وصف لما هي عليه من الاستقامة على الدين، واتباع رضوان الله تعالى، وقوله: غير الجائرة، وغير المفسدة، تعريض بحال من خالفه ونكص على عقبيه في مخالفته، ورده عمَّا هو أهل للتصرف فيه، فلأجل هذا أتى بالوصفين جميعاً دلالة على ما ذكرناه من المعنيين.
(فأبى بعد سمعه لها): توجه الحجة عليه بها.
(إلا النكوص): التأخر على عقبيه، وهو مجاز ها هنا، والغرض تركه للجهاد والتخلف عنه.
(عن نصرتك): قتال البغاة من أعدائك، والمتمردين عن الدين ممن خالفك.
(والإبطاء عن إعزاز دينك): التثاقل عن الجهاد الذي هو إعزاز للدين بتدمير من يخالفه ويضاده، ويظهر من نفسه خلافه.
(فإنا نستشهدك عليه): نطلب أن تكون شهيداً، وهذا كلام وارد على جهة التقرير على من خالفه، وغاية في إيجاب الحجة عليه، وبذلاً للنصيحة له.
(يا أكبر الشاهدين شهادة): إشارة إلى ما قاله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ }[الأنعام:19].
(ونستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك وسماواتك): ونطلبهم أن يكونوا شهداء معك؛ لأنهم أفضل خليقتك وأعدلهم عندك، من الملائكة والأنبياء، وسائر الأولياء والصالحين.
(ثم أنت بعد): هذا الظرف مقطوع عن الإضافة ولهذا بُنِيَ، أي وأنت بعدما ذكرته من هذه الشهادة:
(المغني عن نصره): بإمدادك لنا بالنصر، وهو كافٍ عن ذلك.
(والآخذ له بذنبه): المكافئ له على قدر ما تراه من معصيته، وتعلم استحقاقه من ذلك، ومع اشتمال هذا الكلام على غاية الإنصاف، وبذل النصيحة والمبالغة في أخذ الحق وإعطائه مَنْ طلبه، فإنه مشتمل أيضاً على أنه كلام من لارغبة له في غير الحق، ولا طمع له في غير العدل، والإفراط والتهالك محبة وإرادة في نجاة الخلق، وحملهم على أحسن المسالك وأرشد الطرق.
(194) ومن خطبة له عليه السلام
(الحمدلله العلي عن شَبَهِ المخلوقين): علا وتعالى إذا ارتفع، وأراد المرتفع عن مشابهة الممكنات في أحوالها كلها فلا تجري بينهما مشابهة على حال؛ لكونها حادثة، وهو تعالى لا أول له.
(الغالب لمقال الواصفين): فلا يستولي عليه مدح مادح، ولا يحصره وصف واصف.
(الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين): يريد أنه لمكان ما خلق من عجائب المكونات، وبدائع التدبيرات في غاية الظهور لمن استدل بها عليه، وجعلها برهاناً على وجوده وحكمته.
(الباطن بجلال عزته عن فِكَرِ المتوهمين): يريد أنه وإن ظهر بالبراهين الباهرة، فإنه في غاية البطون عن أن تقع عليه وتحيط به أفكار أهل الظن والتوهم، فتكون مستولية على كُنْهِ حقيقة ذاته.
(العالم بلا اكتساب ولا ازدياد): المختص بالعالمية الكاملة، المحيطة بكل المعلومات الكلية والجزئية من جهة ذاته، فلا يكسبها من غيره، ولا تكون متكاثرة بممارسة العلوم وتعاطيها.
(ولا علم مستفاد): أي وليس بذي علم، فيكون علمه هذا مستفاداً من غيره؛ كما أن من كان له علم من الحيوانات فإنه مستفاد من جهة غيره لا محالة.
(المقدِّر لجميع الأمور): إما الخالق لها، من قولهم: قدَّره إذا خلقه، وإما المحكم لجميع أفعاله كلها، الموقع لها على وفق المصالح من غير زيادة ولا نقصان.
(بلا روية): تفكر وتأمل.
(ولا ضمير): ولاحدس يقع في ضميره، ويقدره في نفسه.
(الذي لا تغشاه الظلم): تستولي عليه بظلامها، من قولهم: غشيهم الليل، قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ }[لقمان:32] لأن الا ستيلاء إنما يكون في حق من كان جسماً، وهو يتعالى عن الجسمية.
(ولا يستضيء بالأنوار): أي لا يكون منتفعاً بها في الإضاءة في الإدراك وسائر التصرفات؛ كغيره من سائر المخلوقات، فإن تصرفهم من دون هذه الأنوار متعذر لا محالة.
(ولا يرهقه ليل): يغشاه بظلامه.
(ولا يجري عليه نهار): إما لا يخالطه ولا يلابسه، من قولهم: جرى عليه الموت إذا خالطه، وإما لا يقدر وجوده بنهار؛ لتقدمه على وجود النهار والليل.
(ليس إدراكه بالأبصار): ليس رؤيته لما يرى من هذه المرئيات، وإحاطته به بحاسة ولا حدقة.
(ولا علمه بالإخبار): ولا كان علمه المحيط بكل المعلومات، حاصلاً بالخبر من جهة غيره.
(أرسل محمداً بالضياء): بالشرائع والأحكام المضيئة، واستعار الضياء لها بياناً لما اشتملت عليه من الهدايات والمصالح العظيمة.
(وقدَّمه في الاصطفاء): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد تقديم الفضل، فإن الله تعالى قد رفع منزلته على منزلة سائر الأنبياء وشرَّفه وكرَّمه.
وثانيهما: أن يكون غرضه علو أمره وإشادة ذكره، وكثرة أتباعه، بخلاف غيره من الأنبياء فإنه لم يكن له مثل ما كان للرسول من ذلك.
(فرتق به المفاتق): الرتق: التلاؤم، والفتق: الشق، وأراد أنه لأم به ما كان متخرقاً من أمور الدين، وأحكام الشريعة، وأحيا به مَوَاتَها، وعَمَرَ به دَارِسَها.
(وساور به المغالب): المساورة: المواثبة، وأراد أنه واثب به من غالبه وقهره.
(وذلل به الصعوبة): ما كان من القوة من الشرك، وعبادة الأوثان والأصنام.
(وسهل به الْحُزُوْنَة): الْحُزْنُ: المكان الجُرُز، وغرضه أنه مهَّد به ما كان جُرُزاً، وهو استعارة فيما حصل ببر كته من العناية، والخير والبركة.
(حتى سرَّح الضلالة): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره: فجاهد في أمر الله وصابر في إيضاح الحق، حتى فرَّق ما كان من أمر الضلالة من مخالفة التوحيد، وعبادة غير الله.
(عن يمين وشمال): هاهنا وها هنا، وإنما عبَّر باليمين والشمال لتفاوت الجهتين وبُعْدِ ناحيتهما.
(195) [ومن كلام له عليه السلام يصف جوهر الرسول ويصف العلماء ويعظ بالتقوى]
(وأشهد أنه عدل): أي موصوف بالعدل.
(عَدَلَ): فعل ماض أي لم يَحِفْ في أفعاله، ولا جار على أحد من عباده، هذا على هذه الرواية، وعلى الأخرى:
(وأشهد أنه عَدْل عَدِلٍ): بإضافة المصدر إلى اسم الفاعل، أي وأشهد أن الأمر عدل عادل.
(وَحَكَمٌ فصل): فيه روايتان:
أحدهما: أن يكون حَكم بفتح الكاف، أي حاكم فصل أي ذو فصل، وأراد به الله، والضمير له في قوله: أنه.
وثانيهما: أن يكون حُكم بضم الحاء، أي وأشهد أن الأمر حُكْمٌ مقطوع به مفصول عليه، لايمكن فيه تغيير ولا تحريف.
(وأشهد أن محمداً عبده وسيد عباده): أعظمهم حالاً عنده، وأرفعهم منزلة لديه.
(كلما نسخ الله الخلق فرقتين): النسخ هو: الإزالة، وأراد كلما خلق الله الخلق وأزالهم قرناً قرناً.
(جعله في خيرهما): أفضلهما وأكرمهما، وأعلاهما قدراً ومنزلة.
(لم يُسْهِم فيه عاهر): أي لم يكن للعاهر وهو الزاني نصيب فيه ولا شَرِكَة.
(ولا ضرب فيه فاجر): بنصيب ولا حق، وقد روي أنه لم يكن في أسلافه عاهر ولا فاجر .
(ألا وإن الله جعل للخير أهلاً ): يقتدى بهم في أخذه، ويكونون أئمة في الاهتداء بهم.
(وللحق دعائم): ينبني عليها، وتشيَّد أركانه على أساسها.
(وللطاعة عِصَماً): جمع عِصْمَة، والعصمة إما المنع، من قولهم: عصمه إذا منعه، وإما الحفظ، يقال: عصمته فانعصم أي حفظته، وأراد أن الطاعة تفتقر إلى منع وحراسة لها ، وحفظ عن أن يشوبها ما يبطلها ويزيل ثوابها من ملابسة المعاصي.
(وإن لكم عند كل طاعة عوناً من الله سبحانه ): لطفاً من ألطافه الخفية.
(يقول على الألسنة): ينطق عنها كأنها لا تنطق إلا به .
(ويُثَبِّت به الأفئدة): عن أن تزيغ عن الحق وتميل عنه، وفيه مبالغة في شرح حقيقة هذا العون، وبيان حكمه، وظهور أثره.
(فيه كفاية لمكتفي ): لمن استكفى به، وجعله نهاية لأمره.
(وشفاء لمشتفي): لمن استشفى به من العاهات.
(واعلموا أن عباد الله الْمُسْتَحْفَظِيْنَ علمه): اسم فاعل أي الحافظين لعلمه، وما تعبد به من الشرائع والأحكام كلها، أو اسم مفعول أي المجعولين حفظة.
(يصونون مصونه): يحفظون ما حفظَّهم الله منه.
(ويفجِّرون عيونه): تمثيل بحالهم في أخذ ما يأخذونه من هذه العلوم، ويحتكمون في تحصيلها وإيجادها، بحال من يفجِّر نهراً فيأخذ منه ما أحب وما أراد.
(ويتواصلون بالولاية): يريد أن الموالاة فيما بينهم هي السبب الداعي إلى التواصل فيما بينهم والتحابّ.
(ويتلاقون بالمحبة): أي يلقى بعضهم بعضاً ملاقاة محبة ومصافاة.
(ويتساقون بكأس رويَّة): من المودة، والمؤاخاة الصادقة.
(ويصدرون بريِّه): أي بالإرتواء، والضمير للعلم.
(لا تشوبهم الريبة): يريد لا يلحقهم الشك، ولا يختلط بهم.
(ولا تسرع فيهم الغيبة): ولا يبادرون إلى ذكر بعض منهم، بما يكون نقصاً له، وبهتاناً عليه.
(على ذلك): الإشارة إلى المذكور أولاً، من المواصلة والمحابّة، والتباذل والموالاة.
(عَقَدَ خلقتهم ): كأنهم لاستمرار داعيتهم إلى ذلك، ووجود صارفهم عن خلافه عقدت خلائقهم عليه ، وطبعت سجاياهم على التزامه فكأنه خلقة فيهم.
(وخلائقهم ): الخلقة: ما فطر عليه الإنسان من أصل وجوده، والخليقة هي: هذه السجايا والطبائع، من الشرس واللين، والنشاط والضيق، وغير ذلك من الخلائق.
(فعليه يتحابون): الضمير لله أي فعلى الله تكون محبتهم، والغرض أن الباعث على تحابِّهم فيما بينهم، هو لطف الله وحسن رعايته لهم.
(وبه يتواصلون): أي ومن أجله كانت مواصلتهم لبعضهم بعضاً .
(فكانوا كتفاضل البذر): كالحب الذي يبذر في الأرض، المتفاضل بعضه على بعض.
(يُنْتَقَى): يُختار ويُطلب أفضله، وأغلاه.
(فيؤخذ منه): أغلاه وأطيبه، والأفضل منه.
(ويُلْقَى): أي ويُلْقَى ما عدا ذلك.
(قد ميَّزه التلخيص ): التلخيص هو: التبيين، أي قد ميَّزه عن غيره بيانه، وعظم قدره ومعرفته.
(وهذَّبه التمحيص): جرَّده عن جميع الشوائب كلها، والتمحيص: الا بتلاء والاختبار.
سؤال؛ قوله: قد ميَّزه التلخيص، وهذَّبه التمحيص، منافر لما تقدمه من الكلام الأول قبله، فما وجه الملاءمة بينهما؟
وجوابه؛ هو أنه لما ذكر أولياء الله المستحفظين علمه، ووصفهم بالتحابّ والموالاة والتناصر وغير ذلك من الصفات، فكأنه قال على أثر ذلك: فالواحد منهم قد ميَّزه التلخيص، وهذَّبه التمحيص، ومع هذا يرتفع التنافر بين الكلامين، ويصير كأنهما أفرغا في قالب واحد.
(فليقبل امرؤ كرامة): أراد فليقبل ما أكرمه الله به من النعمة العظيمة بالإسلام، والهداية إلى الدين اللتين هما النهاية في الكرامة.
(بقبولها): بما ينبغي لها من القبول، ويستحق لمثلها منه.
(وليحذر قارعة): أي وليكن خائفاً من نوازل الدهر، وحوادثه فيستعد لنزولها.
(قبل حلولها): وقوعها وحصولها؛ لأن المحذور إنما يكون محذوراً قبل وقوعه، فأما بعد وقوعه فليس محذوراً، فلهذا قال: يحذرها قبل حلولها.
(ولينظر امرؤ في قصير أيامه): في أيام دنياه القليلة المتقاصرة، وإنما سماها قصاراً، لأن الأيام الكثيرة إذا كان لها غاية وانقطاع فهي متقاصرة، فضلاً إذا كانت حقيرة قليلة، فوصفها بالقصر أحق وأولى.
(وقليل مُقَامُه): لبثه في الدنيا.
(في منزل): وهو الدنيا.
(حتى يسبتدل به منزلاً): وهو الآخرة.
(فليصنع لمتحوله): إما لمكان متحوله وهو القبر، وإما لزمان متحوله وهو القيامة، وأراد فليصنع الأعمال الصالحة من أجل ذلك.
(ومعارف منتقله): أي وليصنع للأهوال المعروفة المتحققة بانتقاله إليها ومعرفته لها.
(طُوْبَى لذي قلب سليم): طُوْبَى فُعْلَى من الطيب وقد مرَّ تفسيره، لصاحب قلب سالم عن الغل والحسد، وسائر ما يلحق القلوب من العاهات.
(أطاع من يهديه): باتباعه والا قتداء بآثاره.
(وتجنَّب من يُرْدِيْهِ): جانبه: عدل عنه، مخافة أن يقع في الرَّدى.
(فأصاب طرق السلامة ): سلكها واهتدى إليها.
(ببصر من بصَّره): بهداية من هداه إليها، ودلّه عليها.
(وطاعة هادٍ أمره): ومن أجل طاعته لذي هدى أمره بذلك، وحثه عليه.
(وبادر الهدى): عاجله وواثبه.
(قبل أن تغلق أبوابه): استعارة وتمثيل بحال من له متاع قد غلقت عنه الأبواب، ووضعت عليه الأقفال فلا يمكن نيله.
(وتُقَطَّعَ أسبابه): فلا يمكن الوصول إليه.
(واستفتح باب التوبة): طلب انفتاحها عليه.
(وأماط الحوبة): أزال الحوب والإثم عنه، بما كان منه من استعمال التوبة وفعلها.
(وقد أقيم على الطريق): على المحجة الواضحة لو سلكها.
(وهدي نهج السبيل): ودُلَّ على أبين الطرق وأوضحها، بما قُرر في عقله من الأدلة العقلية، وبما كان من جهة الأنبياء من البيان والإيضاح للخلق في أمر دينهم، وإرشادهم إلى أمر الآخرة وطريقها.
(196) ومن دعاء له عليه السلام كان كثيراً ما يتضرع به
(الحمدلله الذي لم يصبح بي ميتاً، ولا سقيماً): يصبح ها هنا له وجهان:
أحدهما: أن تكون تامة، وانتصاب ميتاً وسقيماً على الحال، أي لم أصبح على هاتين الحالتين.
وثانيهما: أن تكون ناقصة، وانتصابهما على الخبرية لها.
سؤال؛ فهل من تفرقة بين المعنيين في كونها ناقصة وتامة؟
وجوابه؛ هو أنها إذا قُدِّرت تامة كان معنى أصبح أي دخل في الصباح، وأراد أني لم أدخل في هذا الوقت وأنا على هاتين الحالتين، فأما إذا كانت ناقصة كان معناها اقتران مضمون الجملة بزمنها لا غير من غير حاجة إلى الحال كما ترى.
(ولا مضروباً على عروقي بسوء): ضربه المرض وضربته الريح إذا أصابته، وأراد ولامصاباً في عروقي بعاهة من العاهات المبطلة لها، المفسدة لصحتها.
(ولا مأخوذاً بأسوإ عملي): ولا معاقباً بنوع من العقوبات من أجل ما اجترحته من أسوإ الأعمال، وأحقها بالجزاء والعقوبة من الله تعالى.
(ولا مقطوعاً دابري): الدابر: آخر من يبقى من الأهل، فإذا قيل: قطع الله دابرهم أي آخر من بقي منهم.
(ولا مرتداً عن ديني): خارجاً عن دين الإسلام مدبراً عنه.
(ولا منكراً لربي): جاحداً له نافياً لوجوده.
(ولا مستوحشاً من إيماني): كلام فيه مبالغة، وذلك أن من استوحش من شيء فإنه ينفر عنه ولا يلابسه، وأراد أن من جملة ما أنعم الله عليَّ أني لست نافراً عمَّا يكون حقيقة في الإيمان وأصلاً فيه من الأعمال الصالحة، والقربات المتقبلة.
(ولا ملتبساً عقلي): أي مختلطاً بغيره، من قولهم: التبس الأمر إذا اختلط، والتباس الظلام: اختلاطه أيضاً، وأراد أنه لم يصبه الله بجنون ولا مسٍّ من الشيطان فيفسد ويتغير.
(ولا معذباً بعذاب الأمم من قبلي): من المسخ والصاعقة، والرجفة والخسف، وغير ذلك من أنواع البلايا التي أصاب الله بها الأمم الماضية جزاء على ما فعلوه من تكذيب أنبيائه فيما جاءوا به، وما ذاك إلا رحمة من الله تعالى لهذه الأمة بهذا الرسول وإكراماً لهم ببركته، وقد أشار تعالى بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ }[الأنفال:33] ولن يزال فينا قد كان حياً مع الأحياء، وقد صار ميتاً مع الأموات من أمته، فلن يصابوا بعذاب حتى يأتي أمر الله.
(أصبحت عبداً مملوكاً): لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، ولا تدبيراً ولا مصلحة، كما يكون حالة العبد المملوك مع سيده.
(ظالماً لنفسي): بما كان مني من ملابسة المعاصي، وإهمالي لتقوى الله، وطلب مراده من الطاعة الواجبة له عليَّ لمكان نعمته.
(لك الحجة عليَّ): بما أوضحت من الأدلة وقررته من البراهين، وأزحت العلل كلها.
(لا حجة لي): لا أجد حجة أحتجّ بها عليك، كما قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ }[الأنعام:149].
(لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني): مما قسمته لي من الأرزاق، ومكنتني من أخذه من غير أن أقدر أن أزيد عليه، أو أنقص منه ذرة أو شعيرة.
(ولا أتقي): [من الشرور والبلاوي، والمصائب] .
(إلا ما وقيتني): كفيتني وجنَّبته عني.
(اللَّهُمَّ، إني أعوذ بك): ألجأ إليك.
(أن أفتقر في غناك): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن أفتقر وأنت غني، ومن المحال أن يكون عبد ذليل له مولى عزيز، بل يُعَزُّ بعزِّه.
وثانيهما: أن يكون غرضه أن أفتقر وأنا في غناك أتقلَّب، ومنه أسأل وعليه أُعوِّل.
(أو أَذلّ في عزك): أي أَذل وأنت عزيز.
(أو أَضِلَّ في هداك):أي أضل وأنت الهادي عن الضلال.
(أو أُضام في سلطانك): الضيم: الظلم أي وأظلم ولك السلطنة والقدرة والإلهية.
(أو أُضطهد والأمر لك!): أُقهر، والأمر في الانتصاف والأخذ وغيره لك لا أمر لأحد معك، من قولهم: فلان له الأمر في رعيته، أي ما شاء أمضاه في حالهم.
(اللَّهُمَّ، اجعل نفسي أول كريمة): الكريمة: المال النفيس، وفي حديث المصدِّق: ((إياك وكرائم الأموال )) يريد نفائسها، وأغلاها وأشرفها، فعبَّر بها عن النفس ها هنا لشرفها وكرمها.
(تنتزعها من كرائمي): التي أودعتنيها، وأكرمتني بها .
(وأول وديعة ترتجعها من ودائعك عندي!): من النعم العظيمة.
(اللَّهُمَّ، إنا نعوذبك أن نذهب عن قولك): بالرد له، والمخالفة لما تضمنته أوامرك ونواهيك.
(أو أن نفتتن عن دينك): فنرتدّ عنه وننقلب على أعقابنا عنه خاسرين.
(أو تتايع بنا أهواؤنا دون الهدى): التتايع بالياء المثناة من أسفلها، هو: التهافت في الشر، وأراد أن تجذبنا أهواؤنا فتنقطع بنا دون أخذ الهدى واستعماله.
(الذي جاء من عندك!): إما بتقريره في العقول من التوحيد والإقرار بالإلهية له، وإما بما بلَّغته الرسل، وجاءنا على ألسنة الأنبياء صلوات الله عليهم من ذلك.
فليعمل الناظر نظره في هذا الدعاء يجده دعاء من خضع لربه بالاستكانة، وبخع له بالمذلة والضراعة، عائذاً به، لاجئاً إليه.
(197) ومن خطبة له عليه السلام بصفين
(أما بعد، فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً): أمراً مقدراً، وحكماً نافذاً.
(بولاية أمركم): من أجل قيامي بأموركم، وعنايتي في إصلاحكم، والباء ها هنا للمعادلة، كقولك: أخذت هذا بهذا.
(ولكم عليَّ من الحق مثل الذي عليكم): أي لا حق نطلب منكم، وتؤخذون بفعله إلا ولكم مثله.
(فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف): التواصف هو: أن يصف كل واحد من القوم شيئاً، وتناصف القوم إذا أنصف بعضهم بعضاً من نفسه، والمعنى في هذا هو أن الناس كلهم يصفون الحق بألسنتهم، ويقولونه بأفواههم، ولكن لا ينصف الحق أحد من نفسه من الخلق إلا قليل، وذلك من خشي الله وخاف مقام ربه.
(ولا يجري عليه إلا جرى له): ولا يؤخذ منه حق، إلا ويؤخذ عليه مثله لاستوائهم في ذلك، ولأن حكم الله هو جري المناصفة في كل شيء من حقوق الخلق.
(ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجرى عليه): فيكون مُسْتَحِقاً لذلك، ولا يكون مُسْتَحَقاً عليه، أو يكون آخذاً ولا يكون معطياً.
(لكان ذلك خالصاً لله تعالى دون خلقه): يريد أن هذا إنما يكون على جهة الفرض والتقدير لا غير، وإلا فالأمر على خلاف ذلك في حقه تعالى، فإنه لما أوجب لنفسه حقاً، أوجب عليه حقاً آخر كما أشار إليه في آخر كلامه، فهو تعالى مختص بهذا الفرض دون غيره من الخلق.
(لقدرته على عباده): لكونه رباً لهم، وهم عبيد له، والمالك له أن يفعل في عبيده ما شاء .
(ولعدله فيما جرت عليه ضروب قضائه): ولكونه مختصاً بالحكمة فلا يقع في أفعاله إلا ما هو حكمة وصواب، فإذا أوجب لنفسه حقاً ولم يوجب عليها مثله، فهو حق لا محالة لا يمكن مخالفته ولايسع إنكاره.
(ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه): بفعل مراده في كل ما طلب منهم فعله، أو الكفّ عنه، وأن يجعلوا ذلك من جهة أنفسهم خالصاً لوجهه.
(وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب منه ): أي: وأوجب على نفسه بعد ذلك مكافأتهم عليه بما وعدهم من الثواب على الطاعة، والكف عن المعصية على جهة الاستحقاق الواجب، والفرض اللازم.
(تفضلاً منه وتوسعاً): يريد إنعاماً واحساناً، وليس أمراً واجباً عليه.
سؤال؛ أليس قد ذكرت أن الله تعالى لا يجب عليه حقاً إلا ويجب له، فكيف قال هاهنا: توسعاً وتفضلاً، وهذا يناقض كونه واجباً، فإنما كان واجباً لا يقال فيه: إن حصوله على جهة التوسع والتفضل؟
وجوابه؛ هو أن قوله: تفضلاً وتوسعاً، يتعلقان بقوله: مضاعفة الثواب، فإنهما يرجعان إليه، إذ ليس يكون التفضل والتوسع إلا فيما كان على جهة المضاعفة، فأما القدر المستحق من الثواب فإنه أمر واجب وفرض حتم، لامقال فيه للتوسع والتفضل، كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }[الأنعام:160] وعن هذا قال النَّظار من المتكلمين: إن تسعة أجزاء تكون تفضلاً، وجزءاً واحداً يكون واجباً جزاءً على العمل.
(بما هو من المزيد أهله): الباء متعلقة بتفضلاً وتوسعاً، وأراد من أجل أنه أهل للزيادة على القدر الواجب؛ لعموم إحسانه وعظيم تفضله.
(ثم جعل سبحانه من حقوقه): مما اختصه لنفسه، وارتضاه من خلقه.
(حقوقاً افترضها): أوجبها وأوعد على تركها بالعقوبة.
(لبعض الناس على بعض): كالوالد على الولد، والولد على والده، والقريب على قريبه في الأنكحة والمعاوضات، وسائر أنواع المعاملات، فإنهم لا ينفكون عن وجوب واجب لبعضهم على بعض.
(فجعلها تتكافأ في وجوهها): يعني في كونها واجبة؛ لأن من عليه حق لغيره فله مثل ذلك، فإذاً هما متكافآن في ذلك.
(ويوجب بعضها بعضاً): كما أن النكاح يوجب المهر ويوجب النفقة، والعقد على البيع يوجب تسليم الثمن، واستيفاء المنافع يوجب تسليم الإجارة ، إلى غير ذلك من الأسباب الموجبة.
(ولا يستوجب بعضها إلا ببعض): يريد أنه لولا وجوب الزكاة في نفسها من جهة الله تعالى لما وجب دفعها إلى الفقراء، ولولا وجوب الصلاة لما وجب قضاؤها إذا فاتت وغير ذلك.
(وأعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق): التي فرض وجوبها على الخلق.
(حق الوالي على الرعية): في الانقياد لأمره، والاحتكام لما قاله من غير مخالفة.
(وحق الرعية على الوالي): في النصيحة لهم، والتعهد لمصالحهم.
(فريضة فرضها الله سبحانه ): يجوز نصبها على المصدرية، كما قال تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ }[النساء:11] ويجوز رفعها على: هذه فريضة من الله.
(لكل على كل): أي: لكل واحد منهم على كل واحد، ما من واحد إلا وكما فرض له فرض عليه.
(نظاماً لألفتهم ): أي من أجل انتظام الألفة، وهي اتفاق الخواطر، واجتماع الدواعي في نصرة الدين والإسلام، يقال: أَلِفَ هذا الموضع إِلْفاً وإلافاً، والاسم منه الأُلْفَة، ومنه قوله تعالى{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ }[الأنفال:63].
(وعزاً لدينهم): قوة له، وهيبة عليه.
(فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة): بجمع شملهم، وإنصاف مظلومهم من ظالمهم، وكفّ أعدائهم بما يكون من اجتماعهم، وقد أشار الشرع إلى ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }[الأنفال:46].
(ولا تصلح الولاة إلا بصلاح الرعية): لما في ذلك من إنفاذ أمره، وتقوية سلطانه بانضمامهم إليه، فإن أمرهم بالمسير ساروا، وإن أمرهم بالوقوف وقفوا، لينتظم الأمر بذلك وينصلح الحال.
(فإذا أدَّت الرعية إلى الوالي حقه): الذي أوجبه الله عليهم من امتثال أمره، والنصيحة له في كل الأمور.
(وأدَّى الوالي إليها حقها): الذي فرضه الله عليه من الرفق بهم، وتعليمهم معالم دينهم.
(عزَّ الحق بينهم): كان الحق عزيزاً لا يمكن أن يضام.
(وقامت مناهج الدين): استقامت طرق الدين عن اعوجاجها.
(واعتدلت معالم العدل): عن أن تكون مائلة، أو يجري فيها نقص.
(وجرت على إذلالها السنن): جرت الأمور على مجاريها وطرقها، منقادة سلسلة غير متصعبة، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً }[الملك:15]، وقوله تعالى: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً }[النحل:69]، فذللاً حال إما من النحل، وإما من السُّبُل، وقوله: على إذلالها بكسر الهمزة من فصيح الكلام وغريبه.
(فصلح بذلك الزمان): يشير إلى استقامة الرعية والوالي، وصلاحه سلامته عن الفتن والمحن، والحروب وسائر العوارض.
(وطُمِعَ في بقاء الدولة): [وطمع الطامع في بقاء الدولة] ؛ لانتظام أحوالها بالعدل ورعاية السياسة، واستقامت الإيالة.
(ويئست مطامع الأعداء): بطلت وتلاشت فلم ينبض منها عرق؛ لما يرون من استقامة الأحوال.
(وإذا غلبت الرعية واليها): بالمخالفة له، والعصيان لأمره.
(أو أجحف الوالي برعيته): بالظلم لهم والجور، ونقص الحقوق وغير ذلك.
(اختلفت هناك الكلمة): يريد كان لكل واحد منهم غرض ومقصد خلاف الآخر.
(وظهرت معالم الجور): في الرعية بأخذ ما ليس مستحقاً عليهم.
(وكثر الإدغال في الدين): الفساد فيه بدال منقوطة من أسفل، يقال: أدغل في الأمر إذا أدخل فيه ما ليس منه.
(وتركت محاجُّ السنن): المحاجُّ: جمع محجة، وهي الطريق، وأراد تُرِكَت عن السلوك لها .
(فَعُمِلَ بالهوى): اتَّبع كلٌّ رأيه فعمل به.
(وعُطِّلت الأحكام): خلت عن العمل بها، واندرست أعلامها.
(وكثرت علل النفوس): صار لا ختلاف أهوائهم ،وتشتت الكلمة يعتل كل واحد منهم بعلة فيما هو فيه يخالف علة الآخر، فصارت على خلائق سيئة، وطبائع فاسدة.
(فلا يُسْتَوْحَشُ لعظم حق عطِّل): فلا تلحقها وحشة لما تراه من تعطيل الحقوق العظيمة الدينية.
(ولا لعظم باطل فُعِل): ولا تلحقها مشقة لظهور الباطل وعلوه.
(فهنالك): أي في ذلك المقام، وفي تلك الحالة:
(تذل الأبرار): بسبب ذل الحق، وضعف دولته.
(وتعزُّ الأشرار): لقوة أعوانهم، وكثرة أنصارهم.
(وتعظم تبعات الله سبحانه على العباد): مآخذه التي تَخِذها عليهم، ومناقمه التي ينكرها بفعلهم لها، وتسلطهم عليها ظلماً وعدواناً.
(فعليكم بالتناصح في ذلك): يريد إما في ذلك الزمان، وإما في ذلك الأمر.
(وحسن التعاون عليه ): على تأدية الواجبات فيه، أو على التخلص منه.
(فليس أحد وإن اشتد على رضا الله حرصه): هذا نفي على جهة العموم والا ستغراق، واشتداد الحرص إنما يكون بفعل الأعمال الصالحة، والانكفاف عن كلما يكرهه الله تعالى.
(وطال في العمل اجتهاده): وامتد في تحصيل العمل المرضي لله تعالى جده واجتهاده، فمن هذه حاله وأبلغ فيها ليس:
(ببالغ حقيقة ما الله أهله من الطاعة ): إما بالإضافة إلى استحقاقه الصفات الإلهية فلا يبلغ كُنْهَ ذلك لمكانها، وإما لمكان نعمته في الدين والدنيا، فهو لمكان هذين الأمرين لا يبلغ غاية طاعته، ولا يقدرها أحد من الخلق.
(ولكن من واجب حقوق الله على العباد ): من أعظمها وجوباً، وآكدها في التحصيل والفعل.
(النصيحة لله): في كلما تعبدهم به وإتيانهم به على أعظم الوجوه وأبلغها، في التعظيم لحاله، سواء كان ذلك حقاً له خالصاً كالعبادات كلها، أو كان حقاً متعلقاً بالعباد كالطاعة لأهل الأمر، والا نقياد لحكمهم، كما أشار إليه تعالىبقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }[النساء:59].
(بمبلغ جهدهم): لا يتركون غاية من ذلك يمكنهم الوصول إليها إلا فعلوها.
(والتعاون على إقامة الحق بينهم): على نصرته حتى يقوم وتشتد أركانه بين أظهرهم، وحيث يكونون.
(وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته): بالدعاء إليه والمثابرة على فعله.
(وتقدمت في الدين فضيلته): وكان إماماً فيه يُقتدى به ويُؤتم بفعله.
(بفوق أن يُعان على ما حمَّله الله من حقه): من واجباته التي كلَّفه فعلها والعبادات التي أمره بأدائها، وفي هذا دلالة على صعوبة أمر التكليف وعسرة الخلاص عنه، وعلى ضعف حال الإنسان وكثرة عجزه عن ذلك، ولهذا قال هذه المقالة مشيراً بها إلى ما قلناه.
(ولا امرؤ ولو صغرته النفوس): لهوانه لاحتقاره وذله عندها.
(واقتحمته العيون): ازدرته وهان عندها.
(بدون أن يعين على ذلك): يَنْصر هو عليه.
(أو يعان عليه ): يُنْصر هو عليه.
فأجابه رجل من أصحابه بكلام طويل يذكر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له، فقال عليه السلام:
(إن من حق من عَظُمَ جلال الله سبحانه في نفسه): كبر موقعه عنده لمكان قدرته الإلهية، ونعمته الكاملة الوافية البالغة كل نهاية في الكمال.
(وجلَّ موضعه من قلبه): رسخ وتمكَّن.
(أن يصغر ذلك عنده كل ما سواه) ؛ لأن الله تعالى لا يشبهه شيء في العظمة والكبرياء واستحقاق الشكر على النعمة، فلهذا أطلق ذلك على جهة العموم، وأتى بما دون من ليكون شاملاً في أولي العلم وغيرهم من المخلوقات مما عبد من دونه وعظم أمره جهلاً بحاله.
(وإن أحق من كان كذلك): يريد على تعظيم حال الله تعالى، واطِّراح ما عداه.
(من عظمت نعمة الله عليه): إما لمكان إنعامه عليه فلهذا لم ير أحداً مستحقاً للتعظيم مثل ماله منه، وإما لمكان إنعام الله تعالى عليه بتقرير عظمته في قلبه وتحقيق كُنْهِ كبريائه في نفسه، وهذه من أعظم النعم وأعلاها.
(ولطف إحسانه إليه): يريد إما ما يقربه إلى الطاعة من الألطاف المتفضل بها عليه، وإما يريد دقيق النعم وأخفاها وأغمضها فإن المنَّة بها أيضاً عظيمة على الإنسان.
(فإنه): الضمير للشأن والأمر، وتفسيره بالجملة بعدها.
(لم تَعْظُمْ نعمة الله على أحد، إلا ازداد حق الله عليه عِظَماً): يريد أن كل من كثرت نعم الله عليه في الدين والدنيا توجه عليه حقوق كثيرة لله تعالى في ماله ونفسه، ولهذا ترى العلماء وسائر الأفاضل الذين أنعم عليهم بالبصيرة ومعرفة الله تعالى أعظم حالاً في التكليف من غيرهم من سائر العوام، ولا من كان ذايسار وبسطة في المال كحال من هو فقير لا يملك البلغة لنفسه ولا لمن تحت يده.
(وإن من أسخف حالات الولاة): أنقصها وأسفلها منزلة.
(عند صالح الناس): أهل التقوى والدين، وإنما خصَّ هؤلاء لأن من عداهم لا عبرة بكلامهم ولا أثر لمدحهم ولا ذمهم.
(أن يُظَنَّ بهم حب الفخر): إرادة التفاخر لما في ذلك من النقص عند الله وإسقاط الحالة.
(ويوضع أمرهم على الكبر): يكون أمرهم في جميع تصرفهم مؤسساً ومقرراً على التكبر والخيلاء.
(وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم): قوله: جال، فيه روايات:
إما بالجيم من قولهم: جال كذا في ظني إذا تحرك واضطرب، وإما بالحاء المهملة والكاف، من قولهم: هذا الأمر يحيك في صدري، وإما بالخاء المنقوطة، من قولهم: خلت هذا الأمر صواباً.
(أني أحب الإطراء): المدح والتفاخر.
(واستماع الثناء): ممن يذكره لي من أصحابي وأهل ولايتي.
(ولست بحمدالله كذلك): كالذي توهمتموه من ذلك.
(فلو كنت أحب أن يقال ذلك): على جهة الفرض والتقدير.
(لتركته): نهيت عن فعله وكرهته.
(انحطاطاً لله تعالى): تواضعاً لجلاله، وتصاغراً عن ذلك.
(عن تناول ما هو أحق به): أخص وأولى، فلا إنفاذ له ولا يجري في حقي.
(من العظمة والكبرياء): اللذين يختصانه ، ولا يكنفان بغيره.
(وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء): يريد بالبلاء الشر والمحنة، ويريد بالثناء إما العطاء وإما المدح، وغرضه من ذلك هو أن موقعهما بعد البلاء يكون أشد وأعظم.
(فلا تثنوا عليَّ بجميل ثناء): عظيمه وأعلاه.
(لإ خراجي نفسي إلى الله سبحانه وإليكم): من أجل أني لم أخرج نفسي إلى الله بما يخصه، وإليكم بما يخصكم.
(من التقية ): يريد التقوى والورع.
(في حقوق): عليَّ لله تعالى ولخلقه.
(لم أَفْرُغْ من أدائها): تحصيلها على الوجه المرضي لله تعالى.
(وفرائض): عبادات وغيرها.
(لابد من إمضائها): تأديتها وتحصيلها، والمعنى أن الثناء إنما يكون حقيقة وصدقاً في حال من اتقى الله تعالى في تأدية الحقوق وتحصيل الفرائض، فأما من لم يُعْلَم ذلك من حاله فالثناء عليه يكون مشكوكاً فيه.
(فلا تكلموني بما تُكَلَّمُ به الجبابرة): أهل الغلظة والتجبر، فإنه يقال لهم قول العظمة، ويخاطبون خطاب العزة، وذلك كله خاص لله لا يصلح لغيره.
(ولا تتحفظوا مني ): التحفظ هو: التيقظ في الأمور والمراقبة لها.
(بما يتحفظ به عند أهل البادرة): الشدة والحدة؛ لأن الغالب فيمن كان يخاف منه الحدة والسطوة، فإنه يتحفظ في مكالمته؛ مخافة أن يزل في بعض النطق بما يكره فلا يأمن سطوته وعقابه.
(ولاتخالطوني بالمصانعة): يريد بالرشوة كما يفعل للولاة .
وفي بعض النسخ: (ولا تخاطبوني): يريد ولا تكلموني بتقديم الأطماع وتحصيل الرشا.
(ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي): أي لا تحك في ظنونكم ويَلِجُ في صدوركم وأسماعكم أني أتأذى بقول الحق لي وأنه يثقل عليَّ.
(ولا التماس إعظامٍ لنفسي): ولا أطلب تكبيراً لنفسي وتعظيماً لها منكم.
(فإنه): الضمير للأمر والشأن.
(من استثقل الحق أن يقال له): يريد من كان قول الحق عليه صعباً.
(والعدل أن يعرض عليه): واستثقل أيضاً إذا عرض عليه العدل والإنصاف.
(كان العمل بهما أثقل عليه): لأن فعلهما والاجتهاد في الصبر على أدائهما أشق لا محالة من سماعهما فإذا كان السماع يشق فالفعل أشق.
(فلا تكفوا عن مقالة بحق ): عن أن تقولوا لي في حق أفعله، ولا تتأخروا عن ذلك.
(أو مشورة بعدل): أو أن تشيروا عليَّ بالعدل في الرعية أو في الأمور كلها.
(فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ) : لم أبلغ إلى حالة العصمة عن الخطأ.
(ولا آمن ذلك من فعلي): يريد لا آمن الخطأ أن يكون واقعاً في فعلي وفي تصرفي، وفي هذا دلالة على كونه غير معصوم؛ لأنه لو كان معصوماً كما يقوله بعض الزيدية، وليست مقالة المحققين منهم لكان آمناً لذلك في قوله وفعله، كما كان ذلك في حق الرسول عليه السلام.
(إلا أن يكفي الله من نفسي): من شرها وأمرها بالسوء.
(ما هو أملك به مني): أقدر عليه وأقوى على إنفاذه.
(فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب): حالي وأحوالكم بمنزلة عبيد رقٍ لمالك:
(لا رب غيره): لا إله سواه.
(يملك منّا): من التصرف والقبض والبسط والأخذ والكف.
(ما لا نملكه من أنفسنا): من ذلك كله.
(فأخرجنا ممَّا كنَّا فيه): قبل النبوة من البدع والضلالة.
(إلى ما صلحنا عليه): إلى ما يظهر صلاحنا فيه.
(فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى): يريدبالضلالة ما كان قبل النبوة وقبل نزول القرآن والوحي، وبالهدى يشير إلى هذه الأمور كلها.
(وأعطانا البصيرة بعد العمى): بالقرآن والنبوة عوضاً عن أعمال الجاهلية وضلالاتهم .
(198) ومن كلام له عليه السلام على جهة الدعاء
(اللَّهُمَّ، إني أستعديك على قريش): أطلبك أن تكون ناصراً لي، من قولهم: استعدى فلان الأمير إذا طلب منه أن ينصره على عدوه، يريد به جميع من خالفه من قريش، وأجمع على حربه ومنابذته.
(فإنهم قطعوا رحمي): بما كان منهم من الشقاق والخلاف والعداوة لي، فإن هذه الأمور كلها تؤذن بقطيعة الرحم وتشهد لها بالمباينة.
(وأكفؤوا إنائي): كفأ الإناء وأكفأه إذا قَلَبَه، وجعل هذا كناية عن إهدار حقه الذي يستحقه وإذهابه.
(وأجمعوا): واتفقت كلمتهم.
(على منازعتي حقاً): أخذهم لحقٍّ مني.
(كنت أولى به من غيري): من جميع من تولاه قبلي.
(وقالوا): بعد المنازعة والشجار الطويل.
(ألا إن في الحق أن نأخذه ): إن الدين والبصيرة وتقوى الله أن نستبد به دونك.
(وفي الحق أن تتركه ): والأقرب عند الله تعالى إعراضك عنه، ثم قالوا:
(فاصبر مغموماً): على ما يلحقك من ذلك من الغمّ.
(أو مت متأسفاً): الأسف: شدة الحزن.
(فنظرت): تفكرت في أمري وما يؤول إليه حالي.
(فإذا ليس لي رافد): معين ولا من أستند إليه في أموري، وأجعله ملاذاً لي عند الشدائد.
(ولا ذابٌّ): ولا من يزيل عني المساوئ والشرور، والآفات والعوارض.
(ولا مساعد): ولا من يسعدني على رأيي، وتكون كلمته موافقة لي.
(إلا أهل بيتي): يريد بني هاشم، وبني عبد المطلب.
(فضننت بهم عن المنية): من الضِّنة وهي: البخل، عن أن أجعلهم بصدد المنايا، وأعرضهم للموت بالقتل في الحرب.
(فأغضيت على القذى): الإغضاء هو: إدناء الجفون وإطباقها، والقذى: ما يقع في العين فيؤلمها، وجعله كناية عن كتمانه لما يؤلمه في قلبه ويجرح صدره.
(وجرعت ريقي): ازدردته.
(على الشجا): وهو ما يعترض في الحلق فيكون مانعاً عن جري المأكول في الحلق.
(وصبرت من كظم الغيظ): أي من أجل كظم الغيظ.
(على أمرِّ من العلقم): نبت فيه مرارة شديدة.
(وآلم للقلب من حزِّ الشفار): جمع شفرة وهي: السكين الطويلة.
(199) [ومن كلام له عليه السلام في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السلام]
ثم ذكر حال السائرين إلى البصرة منهم:
(فقدموا على عمالي): المتصرفين في البلاد للجباية لخراجات الأموال.
(وخزان مال المسلمين ): والمجعولين خزنة لهذه الأموال التي وضعها الله في المسلمين.
(الذي في يديّ): أتصرف فيه بالقبض والبسط والإعطاء والمنع.
(وعلى أهل مصر): من الأمصار وناحية من النواحي.
(كلهم في طاعتي): مستقيم عليها.
(وعلى بيعتي): غير ناكث فيها ولا خائن ولا غادر.
(فشتتوا كلمتهم): فرقوا آراءهم.
(وأفسدوا عليَّ جماعتهم): بالطرد و التشريد، والإخراج عن المصر الذي كانوا فيه مجتمعين.
(ووثبوا على شيعتي): المتابعين لي على ما أنا فيه، والمناصرين لي عليه.
(فقتلوا طائفة منهم غدراً): أمَّنَوهم أولاً فلما اطمأنوا إلى أمانهم قتلوهم فذاك هو الغدر.
(وطائفة عضُّوا على أسيافهم): أراد عضُّوا نواجذهم، والعضُّ على الناجذ إنما يكون عند شدة الأمر، وفي الحديث: ((عضُّوا عليه النواجذ )) .
(فضاربوا بها حتى لقوا الله صادقين): النية في جهاد عدوهم، أو صادقين الأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى.
(200) [ومن كلام له عليه السلام لما مرَّ بطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وهما قتيلان يوم الجمل]
ثم قال عليه السلام يوم الجمل وقد مر بطلحة وعبد الرحمن بن عتَّاب بن أسيد وهما قتيلان:
(لقد أصبح أبو محمد): يعني طلحة، كنَّاه بابنه محمد بن طلحة، وكان من أصحاب أمير المؤمنين ومتابعيه، بخلاف عبد الله بن الزبير فإنه كان خارجاً على أمير المؤمنين مع أصحاب الجمل.
(بهذا المكان غريباً): وهذه منه عليه السلام إشارة إلى ندامته وتوبته، وأن مصرعه هذا مخالف لمصرع غيره ممن قتل على الفتنة والبغي، والشبهة الفاسدة في التأويل، ولهذا قال: أصبح غريباً، أي لاأحد معه مثل ما هو عليه من الندامة.
(أما والله لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى): حمية وغِيرَةٌ عليهم وأنفة عن أن يلحقهم الصغار والذلة بالقتل بالسيف والطرد.
(تحت بطون الكواكب): يريد في الصحاري والمعارك وتجاول الخيول.
(أدركت وَتْرِي من بني عبد مناف): الوَتَرُ هو: الذَّحْلُ ، وأراد ما كان من قتل طلحة وعبد الرحمن .
(وأفلتني أعنان بني جمح): الأعنان جمع عنن: وهو ما يعرض في السماء، واستعاره ها هنا للأشراف والرؤساء منهم، وأراد بذلك الزبير ؛ لأنه نجا هارباً وأفلت، وتداركه الله تعالى.
(لقد أتلعوا أعناقهم): مدُّوها وأطالوا مدَّها.
(إلى أمر): وهو الخلافة والإمامة.
(لم يكونوا أهله): لنقصانهم عن دركه ، وتقاعدهم عن أحواله.
(فَوُقِصُوا دونه): فكسرت أعناقهم دون الوصول إليه.
(201) [ومن كلام له عليه السلام]
ثم قال عليه السلام في صفة بعض المؤمنين:
(قد أحيا عقله): بالإيمان وخوف الآخرة وذكر العرض على الله تعالى.
(وأمات نفسه): بالخضوع والذلة والصغار لنفسه.
(حتى دق جليله): يريد نَحُفَ عَظْمُهُ همّاً وهرماً.
(ولطف غليظه ): من ذكر أهوال الآخرة.
(وبرق له لامع ): أراد إما الاستبصار بماقرره الله في عقله، ومنحه من الألطاف الخفية، وإما أن يريد ما كان من العناية بالخلق بالرسول عليه السلام.
(فأبان له الطريق): طريق السلامة ومنهاج الفوز.
(وسلك به السبيل): طريق الحق.
(وتدافعته الأبواب): انسدت عنه بلطف الله سائر الأبواب المردية.
(إلى باب السلامة): حتى دخل باب السلامة وسلك طريقها.
(ودار الإقامة): واستوطن دار الإقامة.
(وثبتت رجلاه): استقرتا ورسختا.
(بطمأنينة بدنه): فاستقر شبحه من أجل ذلك؛ لأن الرِّجْلَيْنِ مهما كان الحال بهما مستقراً فالجسم مستقر، ومتى كانتا على غير قرار فالجسم كذلك، وهذا كله جعله كناية عن ثبوت أصول الديانة، فلا جَرَم كانت فروعها مستقيمة.
(في قرار الأمن والراحة): حيث لا خوف ولا تنغيص وهي الجنة.
(بما استعمل قلبه): في الإفكار في عظمة الله وجلال ملكوته.
(وأرضى ربه): بالأعمال الصالحة.
(202) ومن كلام له عليه السلام بعد تلاوته:
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:1-2]
(يا له مراماً ما أبعده! ): التقدير فيه: يا قوم انظروا مراماً أي مقصداً ما أبعده.
(وَزَوْراً ما أغفله!): الزَّوْرُ: البئر البعيدة القعر، قال الشاعر:
إذ تجعل الجار في زوراء مظلمة
زلخ المقام وتطوي دونها المرسا
وأراد وأمراً بعيداً ما أغفله أي ما أعظم غفلتهم عنه.
(وخطراً ما أفظعه!): الخطر: الإشراف على الهلاك، وأراد وهلاكاً ما أصعبه وأعظمه، والمعنى من هذا كله هو إكبار الأمر وإعظامه حيث افتخروا وتكاثروا بأهل القبور.
ويحكى أن بني عبد مناف وبني سهم تماروا أيهم أكثر عدداً وأعظم جمعاً، فكثرهم بنو عبد مناف، فقالت بنو سهم: إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعاودونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم، يريد أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بها، ثم عبَّر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكماً بهم .
(لقد استخلوا منهم أي مُدَّكر): يقال : استخلاه مجلسه إذا سأله أن يخليه، يريد أن كل من مات وأخلى مكانه عنه فهو مُدَّكر قوي للباقين بعده، وأي هذه صفة لموصوف محذوف تقديره: استخلوا منهم أمراً أي مُدَّكر.
(وتناوشوهم من مكان بعيد): التناوش: التناول، وأراد أنهم تناولوهم بالذكر والافتخار، وأراد بالمكان البعيد الغاية التي بين الحي والميت، فإنه لا غاية أبعد منها لعظم الانقطاع بينهما.
(أفبمصارع آبائهم يفخرون): عنى بالمصارع في الموت والقتل أي يجعلونها فخراً، ولأن تكون استهانة أحق من أن تكون مفخراً.
(أم بعديد الموتى يتكاثرون): إنكار عليهم حيث جعلوا الموتى مما يكاثرهم .
(يرتجعون منهم أجساداً): افتعال من الرجوع، وأراد إما أنهم يسألون رجوع أجساد خلت ومضت، وإما أن يريد يطلبون منهم جواباً لخطابهم، والجواب يسمى رجعاً.
(خوت): خوى النجم إذا سقط، وأخوت الدار إذا أقوت ، قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً }[النمل:52].
(وحركات سكنت): أي وذوي حركات قد سكنت بالموت والبلاء.
(ولأن يكونوا عبراً): جمع عبرة وهي: الاتعاظ والانزجار.
(أحق من أن يكونوا مفتخراً): كما زعموا؛ لأن من هذه حاله فلا مفخر بحاله، وإنما الاتعاظ واقع به.
(ولأن يهبطوا بهم جَنَاب ذلة): الهبوط: يكون عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل، والجَنَابُ: فناء الدار، وأراد ولأن يكونوا بذكرهم الموتى هابطين إلى أمكنة الذلة ومواضعها.
(أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزة): أدخل في الحجى وهو العقل من أن يقوموا بهم معتزين مكاثرين .
(لقد نظروا إليهم بأبصارالعشوة): ناقة عشواء إذا كانت سيئة النظر، وأراد لقد نظروا إليهم بأبصار سيئة البصر حيث لم يتحققوا حالهم ولا تيقَّنوا أمرهم.
(وضربوا منهم في غمرة ): ضرب في الأرض إذا ذهب فيها، وأراد أنهم ذهبوا عمَّا هم فيه من الشدة في حالهم.
(ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخالية ): يريد التي كانوا سكاناً فيها، وناعمين بها ومطمئنين إليها.
(والربوع الخاوية): التي لا أنيس فيها بعدهم.
(لقالت): لنطقت مجيبة بلسان حالها وموضحة لمقالها:
(ذهبوا في الأرض ضُلاَّلاً): ضل في الأرض إذا ذهب فيها، قال الله تعالى: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }[السجدة:10] وأراد بذلك تلاشيهم وبطلانهم فيها.
(وذهبتم في أعقابهم جُهَّالاً): إما بأحوالهم التي كانوا عليها في الحياة، وإما بما هم عليه في قبورهم.
(تطئون في هامهم): يعني رءوسهم إذا صارت تراباً.
(وتستنبتون في أجسادهم): أي تطلبون الزراعة وما يستنبت من الأشجار في أجسادهم التي صارت تراباً.
(وترتعون ما لفظوا ): أي تأكلون ما رموه وخلَّفوه لكم بالميراث.
(وتسكنون فيما خربوا): بالاستعمال والسكنى فيه، أو فيما خربوه وعمروه بعد خرابه.
(وإنما الأيام بواك بينكم وبينهم ونوائح عليكم): يريد أن الأيام التي بينكم وبينهم وهي مدة الحياة لا تزال باكية عليكم، ونوائح حتى تلحقكم بهم وتكونون على مثل حالهم وطريقتهم.
(أولئك): يريد من ذكرنا حاله من الأموات، ووصفناه بهذه الصفات.
(سلف غايتكم): المتقدمون إلى غايتكم وهي الموت.
(وفرَّاطُ مناهلكم): الفارط: السابق إلى الماء.
(الذين كانت لهم مقاوم العز): مقاوم: جمع مقوم جمعه على أصله، وقياسه مقامات.
(وحَلَبَات الفخر): جمع حَلَبَة، والحَلَبَة: خيل تجمع للسباق من جهات مختلفة، ولا تخرج من مكان واحد.
(ملوكاً): حال من الضمير في لهم.
(وسُوَقاً): جمع سوقة، وهم خلاف الملوك، وأراد ذكر النوعين جميعاً السوقة والملوك.
(سلكوا في بطن البرزخ سبيلاً): البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة إلى البعث، وقيل: هو القبر.
(سلطت الأرض عليهم): سلطها الله عليهم وأقدرها.
(فيه): يريد البرزخ، يعني هذه المدة المقدرة المعلومة.
(فأكلت من لحومهم): من ها هنا للتبعيض.
(وشربت من دمائهم): أي بعض دمائهم.
سؤال؛ المعلوم من حال الأرض أنها آكلة لكل اللحوم وشاربة لكل الدماء، فما معنى التبعيض ها هنا؟
وجوابه؛ هو أن الغرض أنها أكلت منه قليلاً قليلاً، وبعضاً بعضاً حتى أتت على آخره، كما تقول: أكلت من الرغيف وإن كنت مستولياً عليه أجمع، والمراد أنك أكلت منه لقمة لقمة حتى أتيت على آخره.
(فأصبحوا في فجوات قبورهم): الفجوة: الشق بين الشيئين.
(جماداً لا يَنْمُوْنَ): بمنزلة الحجارة في كونها لا تزيد ولا تنقص.
(وضماراً): الضمار: كل أمر لاتكون منه على ثقة من وجوده، ودين ضِمَار إذا كان لا يرجى قضاؤه.
(لا يُوْجَدُوْنَ): أي لاتوجد أشباحهم؛ لذهابها وزوالها بتقطيع الأرض لها.
(لا يفزعهم ): ينالهم خوف وفزع.
(ورود الأهوال): حصولها ووجودها.
(ولا يحزنهم): يغمُّهم.
(تنكر الأحوال): تغيرها عما كانت عليه.
(ولا يحفلون بالرواجف): الراجفة هي: الصوت الشديد، واحتفل بالشيء إذا كان له عنده موقع ومحل، وأراد أنهم لا يجدون لها وإن عظمت واشتد أمرها موقعاً لا شتغالهم بما هو أعظم من ذلك.
(ولا يأذنون للقواصف): القاصفة هي: الريح الشديدة؛ لأنها تقصف ما قابلته أي تكسره، وأراد أنهم لا يسمعون الريح الشديدة.
(غيَّباً): جمع غائب، أي هم أغياب عن كل مشهد.
(لا يُنْتَظَرُوْنَ): بخلاف كل غائب فإنه ما من غائب إلا وَيُنْتَظَرُ إيابه ووروده، إلا من غاب بالموت فإنه لا يُنْتَظَرُ إيابه.
(وشهوداً): أي وهم حاصلون في قبورهم شهود فيها.
(لا يحضرون): لنفع ولا دفع ضرر كما تحضر الأحياء وينتفع بحضورهم.
(وإنما كانوا جميعاً): وحقيقة حالهم هو أنهم كانوا على صفة الا جتماع والألفة والصحبة، والتحابّ والتناصر.
(فتشتتوا): بالموت، فصار كل واحد منهم في موضع غير موضع الآخر.
(وألاَّفاً): إما وأعداداً كثيرة، وإما مؤتلفين في القلوب.
(فافترقوا): عن هذه الألفة وزالت عنهم هذه المودة، ثم عميت أخبارهم واندرست آثارهم.
(وما عن طول عهدهم): تطاول الأزمان لهم.
(ولا بُعَد محلتهم ): تنائي ديارهم.
(عميت أخبارهم): فلا يوجد منها خبر، ولا يحسُّ لها حسّ.
(وصمَّت ديارهم): فلا ينطق منها ناطق بما كانوا فيه من آثارهم.
(ولكنهم سقوا كأساً): يريد الموت.
(بدلتهم بالنطق خرساً): يريد أنهم كانوا قبل الموت في غاية الفصاحة في النطق، فصاروا عجماً لا ينطقون.
(وبالسمع صمماً): أي وكانوا يسمعون أي سمع، فصاروا صمّاً لا يسمعون شيئاً.
(وبالحركات سكوناً): وبالتصرفات العظيمة في الأعضاء والجوارح سكونها فلا تستطيع حراكاً.
(فكأنهم في ارتجال الصفة): ارتجل فلان الخطبة والشعر، إذا قالها من غير رويَّة، وأراد أن الواصف إذا وصفهم من غير تأمل لأحوالهم ولابحث عنها فإنه يقول: هم:
(صرعى): على وجوههم وجنوبهم:
(سُبَات): لا حراك بهم ولا حياة فيهم، من السبت وهو: القطع.
(جيران لا يتأنَّسون): أي أنهم متلاصقوا البيوت، ومع ذلك فإنهم لا أنس لبعضهم من بعض لفوات ذلك بالموت.
(وأحباء): أهل مودة وإخاء.
(لا يتزاورون): كما يفعل أهل المودة والأخوة والصحبة.
(بليت بينهم عرا التعارف): العُرا: جمع عروة وهو: كل ما تُمسك به، وما أرشقها من استعارة وأعجب موقعها.
(وانقطعت عنهم أسباب الإخاء): فلا يصلون تلك الحبال ولا يجددون تلك العُرا، فهي في غاية البلاء والدروس والامحاء.
(فكلهم وحيد): أي في قبر وحده على انفراده لا أنيس معه.
(وهم جميع ): إما مجتمعون في الْمَجنَّة ، وإما مجتمعون في البلاء.
(وبجانب الهجر): على حظ من الهجر ونصيب منه، وغاية الهجر أن كل واحد منهم لا يرى صاحبه بعينه ولا يحسه بطرفه.
(وهم أخلاء): إما كانوا أخلاء في الدنيا، وإما وهم الآن أخلاء إذ لايسمع أحد من صاحبه ما يؤذيه.
(لا يتعارفون لليل صباحاً): فليلهم كله لا انقضاء لآخره.
(ولا لنهار مساءً): أي نهارهم كله لا انقضاء لآخره.
(أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً): هذا أورده على جهة البيان لقوله: (لا يتعارفون لليل صباحاً ولا لنهار مساء) والجديدان هما: الليل والنهار، فمن مات في الليل فليله لا انقضاء له، ومن مات في النهار فنهاره لا انقضاء له، فلهذا أورده على إثره لما فيه من البيان لمعناه.
(شاهدوا من أخطار دارهم): يعني دار الآخرة التي صاروا فيها حقاً.
(أفظع): أعظم.
(مما خافوا): في الدنيا منها.
(ورأوا من آياتها): مشاهدة الملائكة، وأمكنتهم من الجنة والنار.
(أعظم مما قدروا): كانوا يتوهمونه في الدنيا.
(فكلا الغايتين): يعني الليل والنهار الذين ذكرهما بلفظ الجديدين.
(مدَّت لهم): طوِّلت، والضمير للموتى الموصوف حالهم بهذه الصفات.
(إلى مباءات): جمع مباءة وهي: المكان، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ }[يونس:93] وأراد أمكنة في الآخرة ومنازل.
(فاتت مبالغ الفوت والرجاء): أي بلغت مبلغاً لا يعلم حال ما يفوت منه وما يُرْجَى لفظاعة أمره وشدة حاله.
(فلو كانوا ينطقون فيها ): على جهة الفرض والتقدير.
(لعيوا): لخرسوا وتحيروا فشلاً وعياً.
(بصفة ما شاهدوا): عن أن يصفوا ما شاهدوا من تلك الأحوال.
(وما عاينوا): من تلك الأخطار.
(ولئن عميت آثارهم): فلا يمكن سلوكها.
(وانقطعت أخبارهم): فلا يسمع منها نبأ ولا أثر، واللام في لئن هي الموطئة للشرط، وقوله:
(لقد رجعت فيهم): اللام فيه جواب القسم المضمر المدلول عليه باللام.
(أبصار العبر ): بالنظر في أحوالهم والا عتبار بها.
(وسمعت عنهم آذان العقول): لوعقلت ذلك ووعته.
(وتكلموا من غير جهات النطق): أي ليس ذلك من ألسنتهم وأفواههم ولكن بلسان الحال وما يظهر من مشاهدة أحوالهم.
(فقالوا: كلحت الوجوه النواضر): الكلوح: تكشُّرٌ في عُبُوس، والنواضر: النواعم الحسان.
(وَخَوَت الأجساد ): سقطت وتزايلت قطعاً، أو ذهبت وتفرقت بلاء ودروساً.
(النواعم): الطيبة.
(ولبسنا أهدام البلى): الأهدام جمع هدم، وهو: الثوب البالي، والاستعارة ها هنا في رشاقتها وحسنها، مثلها في قوله تعالى:{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ }[النحل:112] فجعل للبلى أهداماً كما جعل للخوف والجوع لباساً.
(وتكاءدنا ضيق المضجع): تكاءدني الشيء إذا شقَّ عليَّ فعله، وأراد شقَّ عليهم ضيق المضجع.
(وتوارثنا الوحشة): وقعنا فيها من غير كلفة ولا مشقة ولا طلب كالمال الموروث.
(وتهكمت علينا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ): التهكم: شدة الغضب، والربوع: القبور، وصفها بالصمت لأنها لا تنطق، وأراد اشتد ضجرها عليهم لسآمتها لهم وتشجرها عنهم.
(فامحت محاسن أجسادنا): زالت غضارتها ورونقها.
(وتنكرت معارف صورنا): وصار ما كان من صورنا لمن أبصره معلوماً لا يجهله عند إبصاره منكراً لما يلحقه من كثرة التغيرات، والاستحالات اللاحقة به، ومن ثَمَّ كان سبب الزلل لمنكري الإعادة فيما كان تراباً كيف يعود خلقاً آدمياً لكثرة ما بينهما من الاختلافات.
(وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا): يريد القبور فإنهامنازل الوحشة لعدم الأنس بها.
(ولم نجد من كرب فرجاً): ولم نجد مما لحقنا مما لحق نفوسنا من الضيق الذي يكربها ويرد نَفَسَهَا من شدته ما يفرج عنها ذلك الكرب.
(ومن ضيق متسعاً): ولا وجدنا مكاناً واسعاً فنكون فيه عوضاً عنه.
(فلو مثلتهم بعقلك): لما فرغ من أسلوب الوصف بالقول لأحوالهم وصفاتهم، وقرره بما نقلناه . شرع في أسلوب آخر على جهة التمثيل للعقول، وأراد فلو مثَّلتهم بمثال يفهمه عقلك، ويستولي عليه لبُّك.
(أو كشف لك محجوب الغطاء عنهم): أو أزيلت الحوائل والموانع عن الإدراكات والرؤية لكان أكثر علماً وأعظم تحققاً، ثم أخذ في أوصافهم، حتى كأنها مرئية لكثرة تحققها وصدق ما أخبر به عنها وعن أحوالها المتغيرة وأوصافها المتنكرة.
(وقد ارتسخت أسماعهم بالهوام): رسخ الشيء وارتسخ إذا ثبت واستقر، والهوام:جمع هامة وهي الأحناش والأفاعي، وأراد أنها ثابتة مستقرة لا زوال لها عن منافذ أسماعهم.
(فا ستكت): سكَّ سمعه إذا صم فلا يسمع، وأراد أنها سكتها فأصمَّتها لشدِّها لها.
(واكتحلت أبصارهم بالتراب): أي صار التراب كحالاً لها مملؤة منه.
(فخسفت): أي غارت وذهبت في الأرض، وكأنها من جملة أجزائها.
(وتقطعت الألسنة في أفواههم): أي ذهبت قطعاً قطعاً ومزعة مزعة بتحكم الأرض عليها حتى صيَّرتها كذلك.
(بعد ذلاقتها): حدِّتها وتسلطها على الكلام الغريب الوحشي الفصيح، وتوجدّها له على سهولة من طبعها.
(وهمدت القلوب في صدورهم): همدت النار إذا خبت وسكن تلهبها وفورانها، وأراد أنها هامدة عن التفكرات و الاستنباطات والتخيلات الكثيرة التي تكون سبباً في تحركها.
(بعد يقظتها): اليقظة: الهبوب من النوم، وأراد أنها صارت هامدة ساكنة بعد أن كانت متيقظة نابهة.
(وعاث في كل جارحة ): عاث الذئب في الغنم إذا أفسدها.
(جديد بلىً): من باب إضافة الصفة إلى موصوفها أي بلى جديد، نحو قولهم: سحق عمامة وجرد قطيفة، ووصفه بالجد إشارة إلى قوته وشدته.
(سمجَّها): إما بالجيم، من قولهم: صورة سامجة أي قبيحة، وإما بالخاء، من قولهم: طعام سمخ إذا كان رديئاً، والرواية فيه بالجيم.
(وسهَّل طرق الآفة إليها): يريد أن جديد البلى قد صار طريقاً لكل آفة فهي تسرع إليه لا محالة لما يظهر من عظم تأثيرها فيها وتغييرها لها على القرب والسرعة.
(مستلمات ): يريد الأسماع والأبصار وسائر الحواس أو الأجسام وما تشتمل عليه.
(فلا أيدي تدفع): ما يعتريها ويلم بها من الآفات والمصائب والتغيرات.
(ولا قلوب تجزع ): تخاف وتشفق مما أصابها، كما يفعل الأحياء عند أن يصيبهم ذلك.
(لرأيتم أشجان قلوب): أحزانها وما يؤلمها ويقطِّعها ألماً.
(وأقذاء عيون): القذى: ما يؤلم العين ويؤذيها.
(لهم في كل فظاعة صفة حال): أي لهم في كل تغير من أحوالهم صفة حال فظيعة لا يمكن وصفها فلا يطلع على حدها وحقيقتها.
(لا تنتقل): عن حالتها تلك لدوامها واستمرارها.
(وغمرة): شدة عظيمة في أحوالهم.
(لا تنجلي): ينكشف غمُّها ويزول عذابها.
(وكم أكلت الأرض): مثَّل تغييرها للأجسام بما يؤكل لكثرة تغيره في البطون واستحالته إلى حالات مختلفة.
(من عزيز جسد): كانت الفرش ممهَّدة له واللباسات الرقيقة موطأة لمستقره في جميع حالاته.
(وأنيق لون): إما بياض جسم ورونقه وطلاوته، وإما سواد مقلة وشعر، وإما خضرة الشارب في رشاقة الخد، وغير ذلك من أنيقات الألوان ورشيقها.
(كان في الدنيا غَذىَّ ترف): حالته في الدنيا مغذى بترفه العيش ورقيقه من أكل الطيبات والتنعم فيها.
(وربيب شرف): له عز شامخ، ومجد أثيل ، ورئاسة سامية.
(يتعلل بالسرور): تعلل الصبي بشيء من الطعام إذا تجزّأ به عن اللبن، وأردا أنه يتلهى بالسرور.
(في ساعة حزنه): عند نزول الأحزان به.
(ويفزع إلى السلوة): يلجأ إلى ما يسليه.
(إن مصيبة نزلت به): إن أصابته حادثة من حوادث الدهر وفجائعه.
(ضناً): أي بخلاً، وانتصابه على المفعول له ولم تبرز اللام لكونه مصدراً.
(بغضارة عيشه): أطيبه وأهناه.
(وشحاحة بلهوه): عن أن يكدِّره ويغيِّره شيء من الحوادث فهو يحاذر ذلك.
(ولعبه): ومخافة على لعبه أن يتغيّر ويزول.
(فبينا): هي بين أشبعت الفتحة فنشأت عنها الألف، وقد يزاد عليها ما فيقال: بينما ، وأراد بين أوقات ضحكه إلى الدنيا وضحكها إليه، وطئه الدهر وهو مضاف إلى ما بعده من الجملة الابتدائية، وهي قوله:
(هو يضحك إلى الدنيا): بلهوه ولعبه وشدة طربه وعلو مراحه وزهوه .
(وتضحك إليه): بالإقبال عليه من إعارة البهجة وانفتاح الزهرة.
(في ظل عيش غفول): إنما وصف العيش بالغفلة مبالغة في هنائه كأنه غافل عن أكثر الحوداث التي تكدِّره، فلا يلتفت إليها ولا يحتفل بها، وظل العيش: أنعمه وأهنأه.
(إذ): وقت لما مضى، والمعنى بين أوقات ضحكه إلى الدنيا وضحكها إليه وقت وطئ الدهر فيكون الوقت المقدرة به إذ مبتدأ، وبين وما بعده خبر له، وبين متعلقه باستقرار محذوف.
(وطئ الدهر به حسكه): جعل الدهر ها هنا هو الواطئ كأنه أوطأه حسكه، والحسك هو: الشوك، ومنه حسك السعدان يضرب به المثل في حدة شوكه.
(ونقصت الأيام قواه): غيّرتها وأزالتها عن تركيب الصحة والاعتدال.
(ونظرت إليه الحتوف): يريد الموت، وإنما أنَّثه لكونه جمعاً لحتف.
(من كثب): أي من قرب.
(فخالطه): اتصل به ومازجه حتى صار ملا بساً له.
(بثُّ لا يعرفه): حزن لا يعرف حاله، ولا يدرك حقيقته لما فيه من الغم، أوحزن لم يصبه قط، فهو جاهل لأمره.
(ونجيُّ همٍّ): إما اسم فاعل ومعناه وهمٌّ مناجي له، وإما بمعنى المصدر وهو التناجي كأنه قال: وتناجي همٍّ، والغرض مناجاة الهمِّ ومسارته له.
(ما كان يجده): قبل هذه الحالة أصلاً.
(وتولدت منه فترات علل): الضمير للبثِّ أوالنجيِّ، وتولَّدت أي حصل بعضها من بعض، والفترات: جمع فترة وهي العلة المفترة للأعضاء المرخية لها، وفترات علل من باب إضافة الصفة إلى موصوفها أي علل مفترة للعظام.
(آنس ما كان بصحته): يريد أن مخالطته للبثّ والهمّ وتولَّد الفترات آنس أي أعلم شيء كان من حال صحته وقوة حاله.
(ففزع): عند إصابة هذه الأشياء.
(إلى ما كان عودَّه الأطباء): إلى ما كان يعتاده منهم في أمراض متقدمة قد حدثت عليه من قبل هذا.
(من تسكين الحار بالقار): يعني البارد، وتسكينه إطفاء حرارته به.
(وتعديل البارد بالحار): التعديل: التسوية بينهما لئلا يغلب أحد هما الآخر؛ لأن مع التعديل فقوام الصحة باقي ومع غلبة أحدهما للآخر يختل الأمر في ذلك.
(فلم يطف ببارد): فانعكس الأمر في ذلك، فما أراد الإطفاء بالبارد.
(إلا ثوَّر حرارة): هيَّجها وأقامها.
(ولا حرَّك بحارّ): ولا أراد تحريك الحرارة لنفع.
(إلا هيَّج برودة): يكون من أجلها زوال الصحة وذهابها.
(ولا اعتدل): هذا المريض.
(بممازج): بأمر يكون ممازجاً معدلاً .
(لتلك الطبائع): الصفراء والسوداء والبلغم والدم.
(إلا أمدَّ منها كل ذات داء): أمدَّ من الإمداد، ومنه أمدَّه بالمال إذا أعانه وقوَّاه به، وفي فاعل أمدَّ وجهان:
أحدهما: أن يكون مضمراً يرجع إلى الممازج؛ كأنه قال: إلا أمدَّ الممازج كل علة ذات داء.
وثانيهما: أن يكون فاعله مظهراً وهو كل، وتقديره: إلا أمدّ كل ذات داء ذلك الممازج بالفساد والتغيّر.
(حتى فتر معلله): حتى هذه متعلقة بشيء محذوف تقديره فلم ينفك عن هذه الحالة، والفترة: ذهاب القوة لكثرة الاعتمال ، وأراد أنه أصابه الضعف لكثرة المعالجة.
(وذهل ممرضه): فشل وتحير لكثرة ما يصيبه من ذاك ويعتريه.
(وتعايا أهله): من العيِّ وهو: الفهاهة، وأراد أنه أعياهم وأدهشهم لصعوبته.
(بصفة دائه): من أجل صفتها، أي لم يمكنهم وصف هذا الداء لاختلاطه وذهابه في كل أعضائه وحواسه، إذ ليس مرضاً واحداً وإنما هي أمراض كثيرة لا يستطاع وصفها.
(وخرسوا عن جواب السائلين عنه): كلما سألهم سائل عن حاله لم يعيدوا عليه حلوة ولا مرة لتحيرهم في ذلك.
(وتنازعوا دونه): أي وأخذوا أخباراً يذكرونها لمن يسأل عن حاله يخبر كل واحد منهم بخبر كأنهم يتنازعونها، ويغفلون:
(شَجيَّ خبرٍ يكتمونه): الشجا: ما يعترض في الحلق، والشجا: ما يشجي أيضاً ويبكي، وأراد أنهم لا يذكرون الخبر الصحيح من حاله المورث للشجا والحزن بفقده، وإنما يذكرون أموراً ثانية غير ذلك:
(فقائل: هو لما به): أي هو على حاله من غير زيادة أي خالطه هذا المرض ولم يزدد فيه.
(وممنٍّ لهم إياب عافيته): يقول لهم: مرضه خفيف وهو إلى عافية ولعله يزول، وغير ذلك من الأماني.
(ومصبِّر لهم على فقده): ومن الناس من قد يئس من حاله وعرف تلافه فهو يقول: اصبروا على موته، فإن الله عنده حسن الجزاء وعظيم الأجر.
(يذكِّرهم أسى الماضين قبله): الأسى جمع أسوة وهي: القدوة، وأراد أنه يذكر لهم من مضى من الأنبياء والصالحين وأهل القدوة.
(فبينا هو كذلك): أي حالته التي هو عليها.
(على جناح من فراق الدنيا): مثَّل حاله بما يكون على طرف الجناح؛ لأنه على قرب في السقوط والزوال.
(وترك الأحبة): إهمالهم وإطراحهم من ولد وأخ وصاحب وغيرذلك.
(إذعرض له عارض من غصصه): الأحزان والغموم اللاحقة بالقلب، وأضافها إليه لما لها من الاختصاص به.
(فتحيرت نوافذ فطنته): جزعاً وفشلاً من شدة ما لحقه من ذلك.
(ويبست رطوبة لسانه): وذلك لأن الإنسان إذا وقع في أمر يزعجه انقطعت الرطوبة من شفاته ولسانه.
(فكم من مهم من جوابه): كم هذه هي الخبرية، ومن هذه للتبيين، وانجرار مهم إما بكم، ومن ها هنا زائدة وهي في التقدير غيرمنونة، وإما يكون جره بمن، وكم ها هنا في التقدير منونة على خلاف بين النحاة، وليس فيه كثير فائدة، أي كثير من الأجوبة:
(عرفه): تحققه في خاطره.
(فعيَّ عن ردِّه!): تحيَّر عن إجابته وبيانه.
(ودعاء مؤلم لقلبه): موجع له من أجل دعاء من يدعوه.
(سمعه بأذنه فتصام عنه): لم يقدر على إجابته فكأن به صمم عنه.
(من كبير): بيان لقوله: ودعاء مؤلم لقلبه.
(كان يعظمه): أي له عظمة وقدر عنده.
(أو صغير كان يرحمه): تلحق قلبه من أجله رقِّة ورأفة.
(وإن للموت لسكرات ): إنما أتى بالواو ها هنا دون الفاء لما كانت هذه الجملة كالمنقطعة عما قبلها من غير إشارة فيها إلى تسبيب ، والفاء وإن أشعرت بالانقطاع كالواو، ففيها دلالة على السببية، وقد مرَّ في نظائره.
(هي أفظع): أعظم وأبلغ.
(من أن تستغرق بصفة): يستولي على صفاتها أحد.
(أو تعتدل): تستوي بالتحقق والثبوت.
(على عقول أهل الدنيا): لفظاعتها وعلو أمرها.
(203) ومن كلام له عليه السلام عند تلاوته
{رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }[النور:37]
(إن الله سبحانه جعل الذكر جلاء للقلوب): الذي يزيل عنها ما علقها من الكدورة والدَّرَنِ.
(تسمع به بعد الوقرة): يعني الصمم.
(وتبصربه بعد العشوة ): وهي فساد البصر، وحكى السيد على بن ناصر الحسيني عن بعض الشارحين لهذا الكتاب: أن المراد بالعشوة هي الربع الأول من الليل ، وهذا ركيك، فإنه لا يناسب قوله: بعد الوقرة.
(وما برح لله عزت آلاؤه): يريد أن الله تعالى سبق في علمه، أن يكون:
(في البرهة بعد البرهة): يعني مدة طويلة بعد مدة طويلة.
(وفي أزمان الفترات): المدد التي تكون خالية عن بعثة الأنبياء.
(عباد): إنما جاء به على جهة التنكير مبالغة في شأنهم كأنه قال: عباد وأي عباد.
(ناجاهم في فِكَرِهِم): هذه المناجاة ليس من قبيل الكلام كما كان في حق الأنبياء، وإنما الغرض أن الله تعالى ألقى في فِكَرِهِم أموراً اطمأنوا إليها وسكنت خواطرهم إليها، وانشرحت صدورهم بها.
(وكلَّمهم في ذات عقولهم): الكلام ها هنا مجاز، والغرض ها هنا هو: خلق العلوم في العقل لهم، بمعرفته وتقرير جلاله في أفهامهم؛ بحيث لا يخالطهم فيه شك ولا يعتريهم من أجلها ريب.
(فاستصبحوا بنور يقظة): استعارة ممن يستصبح في طريقة عظيمة بنور يمكنه السير معه، وإنما قال: يقظة؛ لأن الغرض بالنور هو المعرفة، فلهذا أنَّثها حملاً على معناها.
(في الأسماع والأبصار والأفئدة): يريد أن أسماعهم واعية لما سمعته من أمر الوعيد وأحوال الآخرة، وأبصارهم نافذة فيما رأته دلالة على توحيد الصانع ومعرفة عظمته وجلاله، وأفئدتهم مطمئنة إلى ما قد عرفوه من خوف الله، والفرار عن معصيته والتزام ما يستحقه من الطاعة التي هو أهل لها.
(يذكِّرون بأيام الله): يريد وقائعه في الأمم الماضية، والقرون الخالية بما أهلكهم بضروب الْمثُلاَتِ وأنواع العقوبات، ويحذرون وقوع مثلها، ومنه قولهم: أيام العرب يريدون أياماً كانت لهم فيها ملاحم وحروب كيوم الفجار ، ويوم الهباءة ، ويوم ذي قار ، وغيرها من الأيام.
(ويخوِّفون مقامه): الوقوف بين يديه للحساب، كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }[النازعات:40] ولهذا ترى كثيراً من الأشخاص يحضر إلى بين يدي بعض الجبابرة والظلمة وأهل البغي والفسوق، فلا يثبت في كلامه وترعد فرائصه خوفاً من مقامه وفشلاً، ويقف بين يدي ربه للصلاة، فلا يُرَى عليه من تلك الحالة أثر ولا خبر، ومن عَظُمَ جلال الله عنده فإنه لا يحتفل بأحد وإن جلَّ قدره.
(بمنزلة الأدلة في الفلوات): أي هم بمنزلة الأعلام المنصوبة في القفار والبراري التي يضل فيها من سار لولاها.
(من أخذ القصد): من الأمور كلها الدينية والدنيوية.
(حمدوا إليه طريقه): أثنوا عليه بحسن الثناء وبشَّروه بالنجاة من النار، وأمَّنوه من الوقوع في المهالك.
(ومن أخذ يميناً وشمالاً): يريد غير الطريق المعلومة المسلوكة للدين كما قد تقدم في كلام مضى.
(اليمين والشمال مضلتان، وما بينهما هو الجادة): يريد النجاة فيه.
(ذموا إليه الطريق): التي سلكها.
(وحذروه من الهلكة): الوقوع في النار من أجل ذلك.
(وكانوا كذلك): يريد على هذه الحالة من غير مخالفة لها ولا مجانبة عنها.
(مصابيح تلك الظلمات): يريد أن كلما أظلم من أمور الدين فهم فيه بمنزلة المصباح .
(وأدلة تلك الشبهات): يريد أنه لا شبهة واردة في الدين إلا وهم أدلتها وهم الذين يستوضح منهم مسالكها.
سؤال؛ لم يسبق شيء من ذكر الظلم، ولا تقدم شيء من ذكر الشبه، فما وجه الإشارة بقوله: تلك الظلمات وتلك الشبهات؟
وجوابه؛ هو أنه ليس الغرض بهذه الإشارة إلى شيء معين موجود، وإنما هي إشارة إلى معهود في الذهن، كما تقول: أكلت الخبز، فليس غرضك العموم لا ستحالة ذلك، ولا غرضك أمراً معيناً إذ لم يكن هناك شيء، وإنما الغرض الحقيقة المعقولة في الذهن، فلهذا أشار إليها بقوله: (تلك): فيهما جميعاً.
(وإن للذكر أهلاً ): ناساً اختصوا به حتى صاروا أهلاً له.
(أخذوه من الدنيا بدلاً): جعلوه نصيبهم من الدنيا، فلا نصيب لهم منها سواه.
(فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه): أي فكان اشتغالهم به دون سائر الأغراض من البيع والشراء وأنواع التجارات.
(يقطعون به أيام الحياة): أي أنهم لا شغل لهم بغيره فأيامهم ولياليهم مستغرقة فيه منقطعة به.
(يهتفون بالزواجر): يصيحون بالوعيدات العظيمة، والقوارع الشديدة.
(عن محارم الله): عن مواقعتها، والتلبس بها وتعدي حدود الله، وانتهاك حرم الله.
(في أسماع الغافلين): لولوجها في أسماعهم من أجل وجوب الحجة عليهم.
(ويأمرون بالقسط): وهو العدل في الأمور.
(ويأتمرون به): إما يفعلونه، وإما يأمرون به أنفسهم.
(وينهون عن المنكر): عمَّا أنكره الله على الخليقة وكرهه لهم، ونهاهم عنه، وأوعدهم على ارتكابه.
(ويتناهون): يمتنعون.
(عنه): فلا يفعلونه.
(فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها): يريد أنهم فيما هم فيه من القيام بأمر الله والخوف منه، وتحذير الناس من وعيده، بمنزلة من قد قطع الدنيا ثم جازها إلى الآخرة وهو فيها معاين لأحوالها كلها.
(فشاهدوا ما وراء ذلك): ممَّا أعد الله فيها لأوليائه، وممَّا هيَّأ لأعدائه.
(وكأنما اطلعوا غيوب أهل البزرخ): أي وكأنهم لمكان قلقهم وفشلهم قد علموا ورأوا ماكان من علوم البرزخ، وهو ما بين الدنيا والآخرة أو القبر كما مرَّ شرحه، غائباً عن غيرهم.
(في طول الإقامة فيه): أي وعلموا طول الإقامة في البرزخ.
(وحققت القيامة عليهم عداتها): أي وتحققوا ما كان من أخبار القيامة وما وعدتهم من أهوالها وفجائعها.
(فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا): بالإخبار والوصف.
(حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره: إنهم بالغوا في ذلك، وحققوه حتى كأنهم يرون ما لا يرونه.
(ويسمعون ما لا يسمعونه): فيحثهم ذلك على ما فعلوه.
(فلو مثلتهم لعقلك): حيث لم تكن مدركاً لهم بعينك فتكون كافياً عن ذلك.
(في مقاومهم المحمودة): التي يحمدهم الله تعالى عليها.
(ومجالسهم المشهودة): التي يشهدها غيرهم.
(وقد نشروا دواوين أعمالهم): صحفها وقراطيسها.
(وفرغوا لمحاسبة أنفسهم): تحقيق الحساب عليها.
(على كل صغيرة وكبيرة): من الأعمال.
(أمروا بها فقصَّروا عنها): إما عن تأديتها مطلقاً، وإما عن تأديتها على الوجه المرضي منهم لله تعالى.
(أو نهوا عنها ففرطوا فيها): في الانكفاف عنها.
(وحمَّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم): ولم يُحَمِّلُوهَا غيرهم ممن لا جرم له فيها.
(فضعفوا عن الا ستقلال بها): عن حملها خفيفة مقلين لها.
(فنشجوا نشيجاً): يريد غصُّوا بالبكاء في حلوقهم من غير انتحاب.
(وتجاوبوا نحيباً): هذا ينحب فنحبته هذا أيضاً ناحباً، والنحيب: علو الصوت بالبكاء.
(يعجون إلى ربهم من مقام ندم واعتراف عجيجاً ): يتضرعون إلى ربهم رافعين أصواتهم معتذرين من مقام ندموا على قيامهم فيه واعترفوا بالخطأ في ذلك.
(لرأيت): اللام هذه هي جواب لو في قوله: فلو مثلتهم لعقلك.
(أعلام هدى): يهتدي بها السائر في الظلمات والقفار من الأرض.
(ومصابيح دجى): الدجى هي: الظلمة أي وهم مصابيح كل ظلام، وكل هذه الأمور استعارات رشيقة يعقلها من ضرب في صناعة البيان بنصيب وافر، وكان له فيه قدح قامر .
(قد حفت بهم الملائكة): المحفوف هو: المستدار حوله تعظيماً لحاله وتبجيلاً له.
(وتنزلت عليهم السكينة): من الله تعالى كرامة لهم، كما قال تعالى: {وأنزل السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ }[الفتح:18] في معرض المدح.
(وفتحت لهم أبواب السماء): إما عند موتهم، أو عند دخولهم الجنة في الآخرة.
(وأعد لهم مقامات الكرامات): كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ }[الدخان:51] و{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ }[القمر:55] وغير ذلك مِمَّا يصدِّق ما قاله فيهم.
(في مقعد اطلع الله عليهم فيه، فرضي سعيهم): إما في الدنيا وإما في الآخرة كل ذلك محتمل.
(وحمد مقامهم): ورضيه لهم وأعطاهم إياه من جوده.
(يتنسَّمُون دعاءه): أي يتنفسون من أجل دعائه، وفي الحديث: ((لما تنسَّمُوا رَوْحَ الحياة )) أي وجدوا نسيمها.
(رَوْحَ التجاوز): ألذَّ ما يكون من الأشياء وأطيبها.
(رهائن فاقة إلى فضله): يريد كأنهم لكثرة طلبهم وإلحاحهم على جوده مرتهنين من أجل الحاجة إلى كرمه وجوده.
(وأسارى ذلة): وبمنزلة من هو أسير في رِبْقَة الذل.
(لعظمته): التي ينبغي لكل شيء أن يذل لها ويتصاغر لجلالها.
(جرح طول الأسى قلوبهم): الأسى بفتح الهمزة اسم للصبر.
(وطول البكاء عيونهم): فالقلوب مجروحة، والأعين مجروحة، رغبة إلى الله تعالى وشوقاً إلى لقائه.
(لكل باب رغبة إلى الله منهم يد قارعة): يريد أنه لا باب من أبواب الرغبة وأنواع الفضائل وضروب المزيد من فضله إلا ولهم فيه سؤال ورغبة، لا يكتفون بباب دون باب ولا بإحراز فضيلة دون فضيلة.
(يسألون من لا تضيق لديه المنادح): المنادح هي: المواضع المتسعة، وفي حديث أم سلمة لعائشة: قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه ، أي توسعيه بالخروج إلى البصرة، تنصحها وتعظها عن الخروج على أمير المؤمنين، وأراد من لا تتسع لعطاياه الأراضي والمفاوز العظيمة، والغرض أن عطاياه بغير نهاية، وما هذا حاله فليس يتسع له شيء.
(ولا يخيب عليه الراغبون): أي لا ينقطع رجاؤهم عنه.
(فحاسب نفسك لنفسك): يريد فحاسب نفسك من أجل عافية نفسك؛ لأن مع المحاسبة تحصل المراقبة، ومع ذلك ظنّ النجاة ووقوع السلامة.
(فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك): يريد كما كان في حقك، والغرض من هذا التنبيه على أن أعظم ما على الإنسان وأضر ما يكون عليه نفسه لا غير، وانظر إلى قوله: (فحاسب نفسك...) إلى آخره مع قصره كيف جمع إلى حسن البلاغة فيه أبلغ الوعظ وأحسنه.
(204) ومن كلام له عليه السلام قاله عند تلاوته:
{يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ }[الإنفطار:6]
(أدحض مسؤول حجة): دحضت حجته إذا كانت باطلة لا سلطان عليها.
(وأقطع مغتر معذرة): يريد أن عذره منقطع فاسد، والغرض من هذا هو المبالغة في أن الإنسان أعظم ما يكون في إدحاض الحجة، وأبلغ ما يكون في الاعتذار وانقطاع المعذرة، فجاء به على هذا السياق ليكون أبلغ وأوقع.
(لقد أبرح جهالة بنفسه): إما لقد اشتدت جهالة الإنسان بنفسه، من قولهم: قتلوهم أبرح قتل أي أشده، وإما لقد أعجب الإنسان جهالة بنفسه، من قولهم: ما أبرح هذا الأمر أي أعجبه.
(يا أيها الإنسان): تنويهاً بذكره وتشهيراً بجرأته واعترافاً بانقطاع عذره، وقد مر تفسير أي وإعرابها غير مرة.
(ما جرَّأك على ذنبك): مع ما يقرع سمعك من القوارع الشديدة.
(وما غرك بربك): مع علمك باطلاعه عليه وإحاطته بعلمك .
(وما أنسك بهلكة نفسك؟): لإقدامك على ما يهلكها في كل ساعة من المعصية.
(أما من دائك بلول): أي برء، من قولهم: بلَّ الرجل من مرضه إذا شفي منه.
(أم ليس من نومتك يقظة): تيقّظ وتنبّه.
(أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك!): يريد أن نفسك أخص من نفس غيرك فنزلها في هذه الحال منزلة الغير من غير أن تكون مختصة بك ولازمة لك.
(فربما ترى الضاحي بحرِّ الشمس فتظله): الضاحي هو: المتكشف لحرِّ الشمس.
(أو ترى المبتلى بألم يمضُّ جسده): حكى ثعلب: مضّني الجرح وأمضني إذا أوجعك وهو: بالضاد المنقوطة، يريد فمن تراه على هذه الأحوال ترقّ له وترحمه.
(فتبكي رحمة له): إما من أجل الرحمة له، وإما راحماً له فيكون نصبها إما على المفعول له، وإما على الحال كما ترى.
(فما صبرك على دائك): استفهام فيه معنى التعجب من صبره على فعل المعاصي التي هي بمنزلة الداء.
(وجلدك على مصابك): إما على الإصابة لك، وإما على موضع الإصابة.
(وعزَّاك عن البكاء على نفسك): أي وما صبَّرك عن البكاء على نفسك.
(وهي أعز الأنفس عندك ): من باب قولهم: أتضرب زيداً وهو أخوك.
(وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة): أيقظه إذا أنبهه، والبيات: ما كان لاحقاً من المصائب بالليل، يقال: جاءوهم بياتاً إذا هجموهم ليلاً، قال الله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى }[الأعراف:97] ثم قال بعد ذلك: {بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ }[الأعراف:97].
(وقد تورطت في معاصيه): الورطة: الهلاك، وقد تورّط أي وقع في المهالك.
(مدارج سطواته): المدرجة هي: المذهب والمسلك، وأراد أنك قد وقعت في مسالك سطواته ومذاهبها باقتحامك الحدود، ووقوعك فيها.
(فتداو من داء هذه الفترة في قلبك بعزيمة): أي فقابل هذه الفترات والتواني بما يعاكسها و يناقضها من العزائم الحاملة على محافظة حدود الله، ومراقبة خوفه.
(ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظه): أي ومن نوم الغفلة في عينيك بانتباه يشذ به النوم في ذلك.
(وكن لله مطيعاً): تقرير لما سبق من هذه الجمل وتوكيد لها وإعطاء لمعناها لأن حاصلها وإن كانت مختلفة هو الأمر بالطاعة على كل وجوهها.
(وبذكره آنساً): في كل الأوقات وعلى جميع الأحوال.
(وتمثَّل في حال توليك عنه، إقباله عليك): يقول في كلامه هذا: مثِّل حالك وحاله كيف أنت مُوَلِّي عنه مصرٌّ على عصيانك له وإدبارك عنه، وهو مع ذلك في غاية الإقبال عليك.
(يدعوك): يستدنيك بالملاطفة.
(إلى عفوه): صفحه وغفرانه عنك.
(ويتغمدك): إما يغمرك، وإما يسترك.
(بفضله): تفضلاً منه عليك وإنعاماً عليك.
(وأنت متولٍ عنه إلى غيره): يريد أنه معرض عن الله تعالى بالمعصية إلى مساعدة نفسه وموافقة الشيطان.
(فتعالى من قوي): ارتفع عن كل ما نسب إليه مما لا يليق به من أجل قوته.
(ما أكرمه !): ما أشد كرمه وأعظمه عليك.
(وتواضعت): انحططت.
(من ضعيف): من هذه لابتداء الغاية.
(ما أجرأك على معصيته! ): ما أعظم إقدامك من غير مراقبة على مواقعة معصيته فخالفته في كل أمر.
(وأنت في كنف ستره): الكنف: الجانب، وأراد وأنت في جانب من ستره.
(مقيم): واقف مستقر.
(وفي سعة فضله متقلب): وفي جوده وعافيته وأمنه مضطرب يميناً وشمالاً.
(فلم يمنعك فضله): من أجل مخالفتك له وتركك لأمره.
(ولم يهتك عنك ستره): يزل عنك رداء العافية وغطاء الستر من أجل شرودك عنه ومواقعة حدوده.
(بل لم تخل من لطفه): بك في كل أحوالك وجميع أفعالك.
(مطرف عين): مضى تفسيره.
(في نعمة): متجددة من جهته.
(يحدثها لك): من غير استحقاق منك لها.
(أو سيئة يسترها عليك): يغطِّيها بحلمه عن أن يؤاخذك بعقوبتها جهراً.
(أو بلية): محنة من المحن، وعظيمة من العظائم.
(يصرفها عنك): يزيلها وينحِّيها عنك.
(فما ظنك به لو أطعته): يقول عليه السلام: فكِّر في نفسك وانظر في أمرك هذا إذا كان الله تعالى حاله في إدرار النعم واللطف والرحمة والرأفة، ودفع البلاء والشر في كل جهة بالإنسان وهو في غاية ما يكون من الإصرار على المعصية، والمحادّة لله وارتكاب محارمه، فكيف حاله إذا كان منقاداً لأمره موافقاً لطاعته يكون لا محالة هذا أكبر، والرحمة والرأفة أعظم وأوفر.
اللَّهُمَّ، اجعلنا ممن فاز بطاعتك، وكان من أهل محبتك.
(وايم الله): مضى تفسيره.
(لو كانت هذه الصفة): وهي قُرْبُ الله باللطف والرحمة، وبُعْدُ العبد بالمخالفة والمعصية.
(في مُتَّفِقَيْنِ في القوة): لامزية لأحدهما على الآخر في البطش والتقوّي.
(متوازيين في القدرة): متماثلين فيها.
(لكنت أول حاكم على نفسك بذميم الأخلاق): أسوأها وأدناها، حيث قابلت الإحسان بالإساءة، والمعروف بالقطيعة، والمودة بالبغض والقلا وغير ذلك من النقائص.
(ومساوئ الأعمال): وبالأعمال السيئة الشنيعة البشعة.
(وحقاً): انتصابه على المصدرية.
(أقول: ما الدنيا غرتك): ما هي الفاعلة للغرور بك فليس لها مُكْنَةٌ في ذلك، ولاقدرة عليه، ولا لها في ذلك ورد ولا صدر.
(ولكن بها اغتررت): فظننت دوامها فعملت لها وهي زائلة، فلهذا كان هذا سبباً في الاغترار.
(ولقد كاشفتك العظات): أي أظهرت لك المواعظ من أحوال الأمم الماضين ومن يكون فيه متعظ ومعتبر لمن يعتبر ويتعظ.
(وآذنتك على سواء): من قوله تعالى: {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ }[الأنبياء:109] أي مستوين في الإعلام لم أخدع بإعلام بعضكم دون بعض.
(ولهي بما تَعدُك من نزول البلاء): الضمير للدنيا يريد أنها بما تمسّك من نزول المصائب.
(بجسمك): كالأمراض وسائر الأسقام.
(والنقض في قوتك): إما بالشيخوخة إن طال العمر، وإما بالمرض.
(أصدق وأوفى من أن تكذبك): في هذه الأشياء كلها.
(أو تغرك): تقول قولاً وعندها خلافه، وأراد أن هذه الأمور كلها حق من جهتها لا كذب فيه.
(ولرب ناصح لها عندك متهم): يريد أنها قد نصحت بما يحصل فيها من البلاوي و المحن وسائر الآفات من جهتها، ولكنَّها متهمة؛ لأنّا لا نستنصحها.
(وصادق من خَبَرِها): وكم أخبرتنا عمَّن مضى من الأمم الماضية بإهلاكها لهم.
(مكذَّب):لم نصدّقه، وكنَّا في غاية الولوع بها والمحبة لها.
(ولئن تعرفتها في الديار الخاوية): يريد تعرفت فعلها بأهل الديار المتهدمة الساقطة.
(والربوع الخالية): والمواضع المندرسة.
(لتجدنها من حسن تذكيرك): لتعرفنها بالوجدان من نفسه في غاية الحسن والمبالغة في التذكير.
(وبلاغ مو عظتك): وعظم البلاغ للموعظة لك.
(بمحلة الشفيق عليك): في محل من هو محبٌّ لك مشفق عليك كالوالد وغيره.
(والشحيح بك!): عن أن تهلك.
(ولنعم دار من لم يرض بها داراً): المخصوص بالمدح محذوف تقديره: هي، وقوله: دار من لم يرضَ بها هو فاعلها، ومن لعمومها جاز أن تكون فاعله لها كقولك: نعم من جاءك زيد.
(ومحل من لم يوطنِّها محلاً!): يريد من لم يستوطنها ويجعلها مستقراً له، لأنه إذا كان فيها على نية الانتقال عنها والإعراض إلى دار أخرى سواهافرغبته فيها قليلة، وأمره فيها على عجلة ووفاز ، فإنه يستكثر فيها الأعمال الصالحة، ويغتنم فيها المتاجر الرابحة فيفوز بها في الآخرة، فلهذا كانت نِعْمَ الدار في حقه لما كان أمره فيها كما ذكرناه، ولعمري إن من كانت هذه حاله فهو الفائز فيها بعينه.
(وإن السعداء بالدنيا غداً): يريد وإن الأكثرين فيها سعادة:
(هم الهاربون منها اليوم): لأنهم إذا هربوا منها قل تعلقهم بها فكان ذلك سبباً للإقبال إلى الآخرة والتعلق بها.
(إذا رجفت الراجفة): يشير بذلك إلى الأفزاع العظيمة يوم القيامة، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ }[النازعات:6].
(وحقت بجلائلها القيامة): وتحققت: أي علمت وقطع على القيامة بجلائلها وهي أمورها العظيمة الصعبة الجليلة.
(ولحق بكل مَنْسَكٍ أهله): الْمَنْسَكُ: الطريقة، أي ولحق كل أهل طريقة بطريقتهم.
(وبكل معبود عبدته): نحو عُبَّاد الشمس، وعباد القمر والنجوم وغيرذلك من سائر المعبودات من دون الله، ولحق العابدون لله والساجدون لوجهه به، فأنجاهم حيث لا نجاة إلا من عنده وبأمره، وعند هذا تعظم نعمة الله على الموحِّدين بما ألهمهم من حسن توحيده وهداهم إلى طريقه.
اللَّهُمَّ، اجعلنا ممن زينته بعبادتك، وشرفته بالخضوع والذلة لوجهك وعظمتك.
(وبكل مطاع أهل طاعته): فأهل الضلال والزيغ يلحقون بالشياطين والأبالسة، وأهل الطاعة يلحقون بالأنبياء والأفاضل.
(فلم يجر في عدله وقسطه): في حكمته البالغة وأمره المحكم عند وقوع هذه الأهوال كلها.
(يومئذ خرق بصر في الهواء): مقدار ما ينفذ فيه البصر.
(ولا همس قدم في الأرض): الهمس: الصوت الذي لا يدرك حسُّه.
(إلا بحقه): من غير زيادة فيه ولا نقصان، والغرض بذلك هو الكناية عن شدة التحفظ.
(فكم حجة): كم هذه للتكثير، وهي الخبرية.
(يوم ذاك): الإشارة بذلك إلى ما تقدم من وجود هذه الأهوال.
(داحضة): ساقطة باطلة.
(وعلائق عذر منقطعة): لا أثر لها عند الله، ولا تزن عنده قلامة ظفر، ولا مثقال ذرة.
(فتحرَّ): أمر بالتحري.
(في أمرك): شأنك كله.
(ما يقوم به عذرك): عند الله يمضي ويكون ثابتاً غيرمردود كغيره من الأعذار.
(وتثبت به حجتك): قوِّ به ما تحتج به.
(وخذ ما يبقى لك): في الآخرة أجره.
(مما لا بقاء له): وهي الدنيا.
(وشم برق النجاة ): شمت البرق إذا نظرت إلى سحابه حيث تمطر، وهو ها هنا مجاز واستعارة، وأراد تبيَّن مسلك النجاة.
(وارحل مطايا التشمير): أي اجعل عليها رحالها لتكون على الأُهْبة للمسير، وهذه كلها استعارات رشيقة في الحثِّ على الإقبال على الآخرة، والإعراض عن الدنيا بمقدار الوسع.
(205) ومن كلام له عليه السلام يخاطب به أخاه عقيل بن أبي طالب
(والله لأن أبيت): أمسي بائتاً.
(على حسك السعدان): شوكه، وهو: يضرب مثلاً في الحدة.
(مسهداً): السُّهاد: الأرق، وهو: قلة النوم.
(وأجر في الأغلال): الأغلال: جمع غُلّ، وهو بالضم عبارة عمَّا يكون في العنق.
(مصفداً): والأصفاد: القيود.
(أحبُّ إلي من أن ألقى الله ورسوله): أحبُّ مرفوع؛ لأنه خبر لقوله: لأن أبيت؛ لأنه مبتدأ.
(يوم القيامة ظالماً لبعض العباد): آخذاً لحقه من غير وجه ولا استحقاق، وهذا هو الظلم حقيقة؛ لأن حاصله إنه إضرار بالغير من غير جناية سابقة ولا عوض لاحق.
(وغاصباً لشيء من الحطام): يريد ما في الدنيا، فإنه يسمى حطاماً لسرعة زواله وتحطمه وهلاكه، والغصب أيضاً: أخذ مال الغير من غير استحقاق في ذلك.
(وكيف): تعجب عظيم من حاله في ظلمه لغيره.
(أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها): كيف يتصور أن آخذ متاع أحد لنفع نفس تكون في غاية الإسراع إلى البلى إقفالها، يقال: قفل إلى بلاده إذا أسرع إليها، ومنه القافلة، وحقيقة القفول هو: الرجوع من السفر.
(ويطول في البلاء حلولها): الطول هو: كثرة الإقامة، وأراد أن حلولها في البلاء كثير لا يعلم مقداره إلا الله.
(والله لقد رأيت عقيلاً): يريد أخاه.
(وقد أملق): افتقر واحتاج.
(حتى استماحني): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره: فكثر إملاقه وحاجته حتى استعطاني.
(من بركم صاعاً ): إنما أضافه إليهم لأنه حق لهم، وأراد به الزكاة وسائرالأموال المحرَّم أخذها على بني هاشم كالصدقات والكفارات وغير ذلك من الأموال المصروفة في الفقراء في المصارف الثمانية في كتاب الله تعالى .
(ورأيت صبيانه): أولاده الصغار.
(شعث الألوان ): الأشعث هو: الأغبر، في لسان العرب.
(من فقرهم): يريد من الجوع اللاحق لهم، وذلك لأن الجوع إذا كثر مع الإنسان فإنه ربما يغبَّر لونه ويتغيَّر حاله وصار إلى صفات كثيرة.
(كأنما سودت وجوههم بِالْعِظْلِمِ): الْعِظْلِمِ: نبت يسودُّ به، ويقال له بالفارسية: نيل ، ويقال له: الوسمة التي يصبغ بها.
(وعاودني مؤكداً): يريد أنه عاود عليه الكلام في الاستماحة مؤكداً فيها.
(وكرر عليَّ القول مردداً): يردده ساعة بعد ساعة، ومرة بعد مرة.
(فأصغيت إليه سمعي): الإصغاء في السماع بمنزلة التحديق في البصر.
(فظن ): لما أصغيت إليه سمعي.
(أني أبيعه ديني): أصانعه فيما أعطيه، كما قال تعالى: {اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى }[البقرة:16] فليس ثَمَّ مبيع ولا مشترى ولكنه على جهة الاستعارة.
(وأتبع قياده): أي وأنقاد له فيما قال لي.
(مفارقاً طريقي ): لما أنا فيه من الورع، وحماية النفس عن الدنيا وعمَّا يشونها في الآخرة.
(فأحميت له حديدة): أصليتها النار لتكون حامية.
(ثم أدنيتها من جسمه): قربتها منه.
(ليعتبر بها): لتكون له عبرة ومثالاً فينزع عما هو فيه.
(فضج ضجيج ذي دنف): فصاح صيحة مُدْنَفٍ قربت نفسه من الخروج .
(من ألمها): من أجل حرِّها وألمها.
(وكاد أن يحترق): قرب احتراقه.
(من ميسمها): وسمها وتأثيرها في جسمه.
(فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل!): امرأة ثكول إذا فقدت ولدها، وحاصل الدعاء جعلك الله ميتاً فتثكلك الثواكل من أمهاتك.
(أتئنُّ من حديدة أحماها إنسانها للعبة): الأنين هو: الصوت عند الألم، وأراد الإنكار عليه في الأنين من نحو هذا الألم الضعيف الذي يستحقر بالإضافة إلى ما هو أعلا منه.
(وتجرني إلى نار سجرها جبَّارها لغضبه!): جعل الإقدام على المعصية والدعاء إليها جرّاً إلى النار؛ لما كان يؤدي إليه، والتسجير: الإحماء، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ }[التكوير:6]، ومنه تسجير التنور وهو: إحماؤها، وإنما قال: جبارها، يشير بذلك إلى عظم حالها وحال خالقها، وأراد لغضبه أي من أجل غضبه.
(أتئنُّ من الأذى): أيعلو صوتك من الأحقر في الألم.
(ولا أئنُّ من لظى): أي ولا أئنُّ من الأعظم ألماً، ولظى: اسم من أعلام جهنم، واشتقاقه من التلظي والتلهب.
(وأعجب من ذلك): يشير إلى قصة عقيل يقول: وأدخل منها في العجب.
(طارق طرقنا): الطارق: الذي يأتي أهله بالليل، وقوله: طارق طرقنا من باب قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ }[الروم:43] وهو من باب الا شتقاق، وقد مرَّ غيرمرة.
(بملفوفة في وعائها): أي بخبيص، وهو نوع من أنواع الحلوى ، وإنما أغفل ذكرها استهانة بحالها.
(ومعجونة كأنما عجنت بريق حية أو قيئها): عجنه إذا ردَّ بعضه على بعض شبهها فيما عجنت به كأنه لعاب الحية أو ما تخرجه من بطنها في كونه قاتلاً؛ لأن كل ما يؤدي إلى الهلاك فهو مهلك لا محالة، فلما كانت هذه الحلوى مؤدية إلى النار صار كأنهاسماً قاتلاً.
(فقلت له): يريد الْمُهْدِي لها، والواصل بها.
(أصلة): هدية يوصل بها، وإنما سميت الهدية صلة لما يحصل فيها من التواصل والتحابِّ، وفي الحديث: ((تهادوا تحابُّوا )) وفي حديث آخر: ((الهدية تذهب سخيمة القلب )).
(أم زكاة): مما يكون موضعه الفقراء.
(أم صدقة؟): من أنواع الصدقات.
(فذلك محرَّم علينا أهل البيت!): يشير إلى نفسه وزوجته وولديه إذ ليس أهل البيت في ذلك اليوم سواهم.
سؤال؛ الصدقة والزكاة لا يحلان لأهل البيت، فما بال الهدية لا تحل لهم؟ فَلِمَ حرمها عليهم ها هنا، وما وجه ذلك؟
وجوابه؛ هو أن الهدية في مثل هذه الحالة محظورة لكونه عليه السلام والياً لأمور المسلمين، وقد قال الرسول عليه السلام: ((هدايا الأمراء غلول )) فلهذا كرهها لما ذكرناه، فأما الهدية على خلاف هذه الصفة فهذا مما لا خلاف فيه، ولهذا فإن الرسول عليه السلام قبل الهدية، كما كان من حديث المقوقس فيما أهدى له ، وردّه لما ردَّ من أجل الهدية.
(فقال: لا ذا ولا ذاك): يريد لا صدقة ولا زكاة.
(ولكنها هدية): ظنَّ بجهله أن بين الصلة والهدية تفرقة، ولم يدرِ أنهما شيء واحد، ولهذا أنكر عليه.
(فقلت: هبلتك الهبول!): أي ثكلتك الثكول، والإهبال: الإثكال، وإما أن يريد أن الهبول من أسماء الداهية أي أخذتك الهبول.
(أعن دين الله أتيتني لتخدعني!): بالإيقاع في المعصية بالرشوة وأكل ما لا يحل أكله أو أن أدخل بطني لقمة حراماً لاأرضاها، ولقد بالغ عليه السلام في التحفظ فيما يأكله ويدخله بطنه حتى كان يختم وقال: (والله ما ختمت عليه ضنة به، ولكن مخافة أن ينزل عليه ما لا أرضاه).
(أمختبط): الخابط هو: الذي يمشي بلا توق في مشيه لما يكره، وقد يكون في الفعل والقول أعني الاختباط، وفي العقل أيضاً، وأراد الكلام ها هنا.
(أم ذو جنة): أي جنون، كما قال تعالى: {بِهِ جِنَّةٌ}[المؤمنون:25].
(أم تهجر!): هجر يهجر هجراً إذا قال فحشاً وقولاً باطلاً.
(والله لو أعطيت الأقاليم السبعة): يشير إلى جميع أقطار الدنيا، ونواحيها.
(بما تحت أفلاكها): أعمالها ومتصرفاتها.
(على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته): الجلب: جلدة رقيقة بين القلب وبين سواد البطن، وأراد ها هنا بجلب الشعيرة الغشاوة الرقيقة فوق ظهرها، ولقد بالغ عليه السلام فيما ذكر في ضعف النملة وفي حقارة ما يؤخذ منها، وفي عظم ما يبذل في مقابلة الأخذ، فالمبالغة ظاهرة من هذه الأوجه الثلاثة.
(وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها): وفي هذا دلالة منه على تحقير الدنيا وهونها؛ إذ لا أحقر من ورقة في فم جرادة قد استهلكتها أكلاً بِفِيْها، وكم له في هذه الأمثال الزهدية والأشباه المحقرِّة للدنيا في عينه.
(ما لعلي ولنعيم لا يفنى ): يريد نعيم الآخرة.
(ولذة لا تبقى): يريد ما كان في الدنيا، وأراد كيف يليق بحال علي على ما اختص به من العقل الوافر والذهن الصافي والورع الشحيح الحاجز، والتوفيق التام من جهة الله بأن يؤثر نعيماً لا يفنى على لذة حقيرة منقطعة، مثل هذا لا يصدِّقه عقل ولا يقبله ذهن.
(نعوذ بالله من سُبَاتِ العقل): تغيِّره، والسُّبات: النوم أيضاً، وهو مفسد للعقل.
(وقبح الزلل): في إيثار ما يفنى على ما يبقى.
(وبه نستعين): على شرور الأنفس وسيئات الأعمال، وحق لمن تولى شيئاً من أمور الدين وكان والياً على رقاب المسلمين وأموالهم، إماماً كان أو أميراً أوحاكماً أن يكتب هذا الكلام على كفه، محافظة عليه فيكون نصب عينيه كيلا يسارع إلى أموال المسلمين بالإتلاف بالخضم والقضم.
(206) ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو به
(اللَّهُمَّ، صن وجهي باليسار): المعنى في هذا مكَّني مما أحتاج إليه في الدنيا، واجعلني ذا يسار من المال لكي يكون وجهي مصوناً عن سؤال الخلق في حوائجي.
(ولا تبذل جاهي بالإقتار): الإقتار: الفقر والحاجة ، وأراد لا تجعلني فقيراً فأبذل وجهي فيستخف بحالي وأكون ملوماً عند الناس مستحقراً.
(فأسترزق طالبي رزقك): فاسترزق منصوب على أنه جواب لقوله: ولا تبذل جاهي أي فأكون طالباً لمن يطلب من خيرك.
(وأستعطف شرار خلقك): أطلب انعطافهم علي بالخير وإقبالهم إلى جهتي بالرزق.
(وأُبْتَلَى بحمد من أعطاني): لأن إسداء الإحسان يفتقر إلى الشكر، وشكر المنعم واجب، وما كان زيادة في التكليف فهو من جملة البلوى.
(وأفتتن بذم من منعني ): يكون لي فتنة في تركه وفعله.
(وأنت من وراء ذلك كله): أي وأنت المرجو للإغناء فلا أحتاج مع معروفك وسعة إحسانك إلى حمد لأحد من الخلق، ولا إلى ذمه، فقوله: (وأنت من وراء ذلك كله) متكفل بما شرحناه من هذه الفوائد، ومشير إليه وما أشرفها من كلمة، وأعظم موقعها، ولله در منشئها ومعيدها ومبديها.
(ولي الإعطاء والمنع): فما أعطاه فلا ما نع له، وما منعه فلا معطي له فمن أجل هذا كان ولياً لهما أي مستولياً عليهما قادراً عليهما.
(إنك على كل شيء قدير): من المقدورات كلها وسائر الممكنات.
ولم يذكر الشريف على بن ناصر الحسيني شيئاً من هذا الدعاء في شرحه ولكنه أغفله كله، وليس يذكر في شرحه لهذاالكتاب إلا نتفاً يسيرة، ويشرح ألفاظاً قليلة، لا ينفع من علة، ولا ينقع من غلة.
ونِعْمَ ما قال خلا أنه ربما ذكر في بعض كلامات أمير المؤمنين الجارية في خلق السماء، وربما جرى في بعض كلامه إضافة شيء من هذه الآثار إلى الأمور السماوية من العقول والنفوس الفلكية، والمواد العنصرية، وهذا ليس مذهباً لأحد من أئمة الآل، ولا عليه أحد من الآباء "، وإنما مذهبهم إضافة هذه الآثار الأرضية كلها إلى قدرة الله تعالى ومعلَّقة بها، من حدوث الأمطار والزروع والثمرات والفواكه وغير ذلك من الحوادث، لا يختلفون في ذلك، وإليه تشير النصوص القرآنية، والظواهر الشرعية مع ما له من استمداد العقل والبرهان عليه من جهته، وهذا وإن لم يكن عندنا إكفاراً، أعني إضافة هذه الآثار إلى هذه الوسائط؛ لأن صاحب هذه المقالة معترف بالاختيار لله تعالى ومقرٌّ بالفاعلية له، وإنما يقول: إنه وكل هذه الآثار إلى وسائط، هي حادثة عنها وهي تنتهي في التأثير إليه، فلهذا لم يكن كفراً، وقد ذهب إليها طوائف، ولكني أردت لهذا السيد ألاَّ يخالف رأي أهل البيت في ذلك.
فأما القول المنكر والمذهب الشنيع فهو ما عليه الفلاسفة أولهم وآخرهم، وهو القول بالإيجاب عن ذاته تعالى لهذه العقول، ثم هذه العقول مو جبة لهذه الأفلاك، ثم هذه الأفلاك موجبة لهذه العناصر الأرضية، إلى غيرذلك من الهذيانات الفاحشة، والمذاهب الوحشة التي استحقوا بها من الله النيار {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ }[إبراهيم:29].
(207) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الدنيا
(دار بالبلاء محفوفة): مستدار حولها بالمصائب والآفات من كل جانب.
(وبالغدر معروفة): أي أنها تغدر بأهلها، بينا هم فيها في أطيب عيش وأهنأه، إذ غيَّرت أحوالهم وكدَّرت معائشهم، وهذا هو غاية الغدر .
(لا تدوم أحوالها): في غنى ولا فقر ولا مرض ولا صحة، ولكن تنتقل في أحوالها تنقلاً من حالة إلى حالة.
(ولا يسلم نزّالها): النازل فيها من أهلها من إصابتها لهم بحوادثها وفجائعها.
(أحوال مختلفة): أي لها أحوال مختلفة.
(وتارات متصرفة): مرات، تتصرف من ها هنا إلى ها هنا.
(العيش فيها مذموم): لانقطاعه وزواله على أهله وتغيّر حاله عليهم.
(والأمان فيها معدوم): أي مستحيل لا يوجد، وكيف حالها وهي لا تزال في كل ساعة خادعة لأهلها ماكرة بهم بالموت وسائر الحوادث.
(وإنما أهلها أغراض مستهدفة): الغرض: ما يرمى، ومستهدفه أي منصوبة في الهدف.
(ترميهم بسهامها): المجعولة للإصابة فلا تخطئهم برميها.
(وتفنيهم بحمامها): الحِمام بالكسر هو: الموت، وأراد أنها تفنيهم بالموت.
(واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم عليه من هذه الدنيا): ما هذه موصولة والواو قبلها واو مع، وما في موضع نصب على المفعول معه، ومن هذه لا بتداء الغاية.
(على سبيل من قد مضى قبلكم): يريد على مثل حالهم وطريقهم من غير مخالفة.
(ممن كان أطول منكم أعماراً): أكثر مدة ولبثاً فيها.
(وأعمر دياراً): من تشييد القصور المزخرفة، والأبنية القوية الشديدة.
(وأبعد آثاراً): يريد أن آثارهم لكثرتها وطولها متباعدة الأطراف كما كان من عاد وغيرهم من القرون.
(أصبحت أصواتهم هامدة): أي ساكنة لا حس لها.
(ورياحهم راكدة): ركدت الريح إذا سكن هبوبها، وكنى بذلك عن بطلان ما كانوا فيه من التصرفات العظيمة.
(وأجسادهم بالية): يتحكم التراب فيها بأكلها.
(وديارهم خالية): لا أنيس بها.
(وآثارهم عافية): أي زائلة، من قولهم: عفت الرياح آثارهم إذا أزالتها فلايوجد لها أثر.
(فاستبدلوا بالقصور المشيَّدة): المزخرفة العالية.
(وبالنمارق الممهَّدة): النمارق هي: الطنافس، الممهَّدة: المرصوفة.
(الصخور والأحجار المسندة): على اللحود لتكون ساترة لها.
(والقبور اللاطئة): بالأرض المشقوقة فيها.
(الملحدة): المجعول فيها لحود مائلة عن صوب شقها.
(التي قد بني على الخراب فناؤها): الفناء: ساحة الدار، وأراد بها جانب الدار، سماه فناءً لاتصاله به، وأراد بني على الخراب جانبها.
(وشيَّد بالتراب بناؤها): يشير إلى أنها لا تحتاج إلى أحجار ولازخرفة في التشييد، وإنما يكون إشادتها بالتراب لا غير وهو تسنيمها .
(فمحلُّها مقترب): يريد أن سمك القبر قريب لا محالة.
(وساكنها مغترب): بعيد الغربة لكثرة الانقطاع عنه.
(بين أهل محلَّة موحشين): بين أهل القبور، موحَشين بفتح الحاء أي مجعولين في مكان وحش، وبكسرها أي ذوي وحشة في أحوالهم.
(وأهل فراغ): بحيث لا شغل لهم.
(متشاغلين): بما هم فيه من خير وشر.
(لا يستأنسون بالأوطان): لأن كل وطن فالإنسان آنس به ونفسه قارَّة به.
(ولا يتواصلون تواصل الجيران): بالتناصر، والمباذلة، وإعطاء المعروف وأخذه وغير ذلك.
(على ما بينهم من قرب الجوار): تلاصق البيوت وهي القبور.
(ودنو الدار): قربها من بعضها بعض.
(وكيف يكون تزاور ): تعجب من حالهم، أي وكيف يكون بينهم التواصل والتودد والتراحم.
(وقد طحنهم بكلكله البلى): الكلكل: الصدر، واستعاره ها هنا.
(وأكلتهم الجنادل والثرى): الجنادل جمع جندل وهي: الصخور والحجارة، والثرى: التراب.
(وكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه): من تلك الأحوال التي وصفناها من غير مخالفة.
(وارتهنكم ذلك المضجع): [المضجع] : مكان الا ضطجاع، وأراد مرتهنين فيه.
(وضمكم ذلك المستودع): حيث تكونون فيه بمنزلة الوديعة.
(فكيف بكم): أي فهذه حالكم في الدنيا، فكيف حالكم ليت شعري:
(لو تناهت بكم الأمور): انتهت الأمور إلى حدها وميقاتها الذي قدره الله تعالى.
(وبعثرت القبور): أخرج من فيها من الموتى.
ثم تلا قوله تعالى: ({هُنَالِكَ}): أي في ذلك المقام؛ لأن هنا إشارة إلى الأمكنة.
({تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ})[يونس:30]: ومن لا يصغي سمعه إلى هذا الكلام، ويرق طبعه عند سماعه، ويُمِيْلُ قلبه إليه، فذاك معدود في عساكر الموتى، وبالله التوفيق.
(208) ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو به
(اللَّهُمَّ، إنك آنس الآنسين لأوليائك): أراد أنك أعظم المؤنسين للأولياء لك، والمراد بالأنس ها هنا هو اللطف والتقرب إليهم بما منحهم من الألطاف الخفية.
(وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك): وأعظمهم إحضاراً لما يكفيهم أعني المتوكلين عليك، فأهل التوكل مخصوصون من بين الخلق بأن الله تعالى قد ضمن لهم وأحضر ما كان يغنيهم من الدنيا ومكَّنهم منه.
(تشاهدهم في سرائرهم): تشاهد ما هم عليه في السرائر من ضمائرهم، وتعلمها وتحيط بها، وتعلم موقع أمورهم منها.
(وتطلع عليهم في ضمائرهم): أي وتكون مطلعاً عليهم في ذات قلوبهم لا يخفى عليك منها خافية.
(وتعلم مبلغ بصائرهم): منتهى عقائدهم.
(فأسرارهم لك مكشوفة): لا يسترها عنك ساتر، ولا يحجبها لديك حاجب.
(وقلوبهم إليك ملهوفة): اللهف: أشد الحزن، وأراد أنهم كثيرون في أحوالهم كلها ما يفزعون إلىالله تعالى، ويلجأون إليه في مصادر أمورهم ومواردها.
سؤال؛ هذه الصفات من المشاهدة للضمائر، ثم الاطلاع على السرائر، ثم الإحاطة بالأحوال كما هي حاصلة في حق الأولياء، فهي حاصلة في حق غيرهم، فما وجه تخصيصها بحال الأولياء مع وجودها في غيرهم؟
وجوابه؛ لا ولا كرامة ما نسلم ذلك، فإن الأُنس من الله تعالى، وإحضار الكفاية إنما هو خاص في حق الأولياء من عباده الصالحين، وهكذا لهف القلوب فإنه خاص في حقهم أيضاً، فأما مشاهدة السرائر والاطلاع على الضمائر فإنها وإن كانت حاصلة في حق غيرهم، فإن الله تعالى مطلع على كل سر، لا يخفى عليه خافية، ولكن الغرض أن تلك السرائر والمطالعة على تلك الضمائر إنما هي في حق الأولياء، خاصة فيما يتعلق بعظمته ومعرفة خوفه وجلال هيبته، وليس متعلقه بغيره، بخلاف غيرهم من العباد فإن ضمائرهم وسرائرهم أمور غير ما ذكرناه، فلا جرم وقع الاختصاص في حق الأولياء بما ذكرناه دون غيرهم من سائر الخلق بما قررناه.
(إن أوحشتهم العزلة ): انعزالهم عن الناس ومجانبتهم لهم.
(آنسهم ذكرك): فزعوا إلى ذكرك فأنسوابه.
(وإن صبت عليهم المصائب): توالت عليهم أحزان الدنيا ومتاعبها.
(لجؤوا إلى الاستجارة بك): فغايتهم اللجأ إلى الاستجارة بك.
(علماً): تحققاً منهم وقطعاً.
(بأن أزمة الأمور): الزمام ها هنا استعارة، وأراد كثرة الا نقياد والمطاوعة؛ لأن الجمل إذا كان مخزوماً بزمامه فهو أطوع ما يكون وأسلس للقياد في سيره، فلهذا استعار الزمام ها هنا.
(بيدك): ممسكة بيدك مشدودة بها.
(وأن مصادرها): تصديراتها أوزمان صدورها.
(عن قضائك): عن علمك وأحكامك، وحفظك لها في كتابك.
(اللَّهُمَّ، فإن فههت عن مسألتي): فههت بالكسر إذا عييت بالأمر، والفهاهة: العي، قال الشاعر:
فلم تلفني فهاً ولم تَقْفُ حجتي
ملجلجة أبغي لها من يقيمها
(وعمهت عن طلبتي): العمه: التحير، قال رؤبة:
ومهمه أطرافه في مهمه
أعمى الهدى بالجاهلين العُمهِ
(فدلني على مصالحي): على ما يكون صلاحاً لي في أمور الدين والدنيا.
(وخذ بقلبي): كما يقال: خذ بناصيتي، والغرض أقمني من عثار الزلل، شبَّه حاله بمنزلة من تعثر فيأخذه غيره بناصيته ليقيمه عن عثاره، والغرض ها هنا الإلهام للقلب.
(إلى مراشدي): إلى ما يرشدني في أمور ديني ودنياي، والمراشد جمع مرشد، وهو الرشاد إلى الخير.
(فليس ذلك): الإشارة إلى الأخذ بالناصية، والأخذ بالقلب.
(بنكر من هداياتك): يريد أنَّا لا ننكره؛ لأنه مفعول على جهة الاستمرار، وهو أن الله تعالى مرشد للعبد إلى أحمد الطرق وأوضحها، وأبين السُّبُل وأرشدها.
(ولا ببدع من كفاياتك): أي ليس أمرا مبتدعاً وإنما هو جاري على جهة الاستمرار من جهتك، وهذا الكلام يصلح أن يسوَّد به وجوه المجبرة، [وأن ترجم به أقفيتهم] {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، دُحُوراً}[الصافات:8-9] لزعمهم أن الله تعالى خذل الكفار عن الإيمان، وعقد الكفر بنواصيهم، وسدَّ عليهم السُّبُل، وحال بينهم وبين الإيمان.
(اللَّهُمَّ، احملني على عفوك): لأن مع العفو فالقلب مطمئن بالنجاة والسلامة لا محالة.
(ولا تحملني على عدلك): ومع العدل والإنصاف لا يُؤْمَنُ العطب لا محالة؛ لأن الحجة لله على خلقه، ولا يقام له بحق، ومن العدل القيام بحقه فيحصل الهلاك مع المعادلة والإنصاف.
(209) ومن كلامه عليه السلام
(لله بلاد فلان ): مدح له بحسن بلاده، كما يمدح الإنسان بحسن أصحابه وحسن جيرانه.
وفي نسخة أخرى: (لله بلاء فلان): أي حسن أفعاله.
(فلقد أقام الأود): المعوج من الأمور بحسن نظره وصبره.
(وداوى العمد): وهو داء ينشدخ باطن سنام البعير وظاهره باقٍ على الصحة، وقد فسرناه في الجزء الأول في خطبة غير هذه.
(أقام السنة): سار على منهاجها وسلك طريقها.
(وخلف الفتنة): لم يكن له في هذه الفتن أمر ولا ورد ولا صدر، وأراد به بعض أصحابه ممن مات قبل ظهور الفتن بقتل عثمان وحرب الجمل وصفين وغيرها.
(ذهب نقي الثوب): هذا كلام يقال على جهة الكناية عن التلبس بالقبائح، كما يقال: شريف المئزر إذا كان محصناً لفرجه.
(قليل العيب): يقلُّ خدعه ومُنْكَرُه وخيانته في أمور دينه.
(أصاب خيرها): الضمير للأمور، وإصابته للخير بسلوك منهاج السلامة.
(وسبق شرها): مات قبل وقوع هذه الشرور، واختاره الله تعالى قبل وقوعها.
(أدى إلى الله طاعته): سلَّمها إليه تسليماًتاماً على ما أمر وعلى الحد الذي نهى.
(واتقاه بحقه): الذي فرضه عليه وأوجبه.
(رحل): عن الدنيا بالموت.
(وتركهم في طرق متشعبة): وترك من وراءه في طرق صعبة منتشرة ، لا تُهتدى لها سبيل، ولا يعرف لها طريق.
(لا يهتدي فيها الضال): أي لا ينجو فيها من لابصيرة له لضنكها وصعوبة مسلكها.
(ولا يستيقن للهدى ): فيسلكه ويكون من أمره على قطع.
(210) ومن كلام له عليه السلام في وصف بيعته بالخلافة، وقد تقدمت هذه بغير هذه الألفاظ
(وبسطتم يدي فكففتها): رغبة عنها وزهداً فيها، فكففتها أريد بذلك زوالها عني والراحة عنها.
(ومددتموها): على كره مني.
(فقبضتها): أريكم أنه لا رغبة لي فيها.
(ثم تداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم): تداكت الإبل إذا ركب بعضها بعضاً.
(على حياضها) : حين تسقى؛ لأن أعظم ازدحامها إنما يكون هناك.
(حتى انقطعت النعل): يريد نعله من كثرة وطئهم لها على أعقابه.
(وسقط الرداء): فشلاً ود هشاً وازدحاماً عليه.
(ووُطِئَ الضعيف): من كثرة الازدحام
(وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي): وفرحهم بذلك ونشاطهم إليه.
(أن ابتهج بها الصغير): البهجة هي: الحسن والنضارة.
(وهدج إليها الكبير): مشية الكبير، يقال لها: الهدجان.
(وتحامل نحوها العليل): يقال: تحامل في سيره إذا تكلفه على مشقة.
(وحسرت إليها الكعاب): أي كشفت وجهها ، والكعاب: الامرأة الناعمة الحسناء.
(211) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الموت
(فإن تقوى الله مفتاح سداد): تسدد بها الأعمال الصالحة ويكثر خيرها.
(وذخرة معاد): وأعظم ما يذخر ليوم المعاد وهو يوم القيامة.
(وعتق من كل ملكة): يشير إلى قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }[المدثر:38] فالنفوس أسرى للذنوب، فمن عمل صالحاً فكأنه قد فكَّ نفسه عن هذه الوثيقة.
(ونجاة من كل هلكة): وفيها النجاة من كل ما يخافه الإنسان ويحذره من الأمور.
(بها ينجح الطالب ): ما يطلبه؛ لأنها هي غاية المطالب فإذا حصلت فلا مطلوب وراءها.
(وتنال الرغائب): الدرجات العالية المرغوب فيها.
(فاعملوا والعمل يرفع): ترفعه الحفظة إلى الله تعالى، ويصعدون به.
(والتوبة تنفع): في إسقاط الذنوب ومحوها.
(والدعاء يسمع): من جهة الله بالتضرع إليه.
(والحال هادية): أي ساكنة من قولهم: هدأ في صوته إذا سكن، وأراد هاهنا والقوارع والزلازل غير متحركة ولا مضطربة، ومنه قولهم: فلان له هَدْي الصلحاء هذا برواية اليا ء بنقطتين، وإما على رواية النون فهو ظاهر أيضاً، ومنه هدن البعير إذا سكن عن زفيره، ومنه الهدنه، ومنه المثل: هدنة على دُجْنٍ، أي سكون على غلٍّ.
(والأقلام جارية): بالكتابة للخير والشر.
(وبادروا بالأعمال عمراً ناكساً): أراد قبل الكبر فإنه ينكس الرءوس أو ذا نكس للحالة والصورة، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الْخَلْقِ }[يس:68] يريد يرجع إلى حال الطفولية في قلة العقل والمعالجة لأحواله، ومعاناتها في ضعفها.
(أو مرضاً حابساً): يحبسكم عن الأعمال الصالحة، ويربطكم عن فعلها.
(أو موتاً خالساً): سالباً يختلس الأرواح أي يستلبها.
(فإن الموت هاذم اللذات ): مسقطها ومزيلها عن مستقرها.
(ومكدِّر شهواتكم): مانع لها عن الكمال والاستيفاء.
(ومباعد طياتكم): الطية: النية، والطية: الحاجة، وأراد أنه في غاية البعد لما تنوونه من أنفسكم، ولكل حاجة تقصدونها من أموركم.
(زائر): يأتي على غفلة.
(غير محبوب ): لمن زاره،؛ لأنه لا يَرِدُ إلا بالمكروه من الأمور.
(وقِرْن): القِرن بالكسر: المثل.
(غير مغلوب): لا يقهره أحد ولا يغالبه.
(وواتر): الواتر: القاتل، يقال: وتره فلان إذا قتل له قتيلاً يخصُّه.
(غير مطلوب): يريد أنه لا يطلب في وتره هذا، ولا يمكن ذلك في حقه.
(قد أعلقتكم حبائله): صارت متعلقة بكم لا تبارحكم، أو صارت ذا اعتلاق بكم.
(وتكنفتكم غوائله): أي أحاطت بكم واستولت عليكم، والغوائل من قولهم: غال واغتاله إذا خدعه من حيث لا يدري ولا يشعر.
(وأقصدتكم): الإقصاد هو: القتل.
(معابله): بالعين المهملة والباء بنقطة واحدة، جمع المعبل وهو: نصل طويل عريض.
(وعظمت فيكم سطوته): السطوة: واحدة السطوات، بالقهر والبطش.
(وتتابعت عليكم عدوته): عدا يعدو إذا وثب، ومنه عدوة الأسد أي وثبته، وأراد لا تزال هذه العدوات مرة بعد أخرى متتابعة.
(وقلت عنكم نبوته): أي لم توافقكم، من قوله: نبا بفلان منزله إذا لم يوافقه.
(فيوشك): من أفعال المقاربة، وقد مرَّ تفسيره.
(أن تغشاكم): تختلط بكم وتلتبس، من قولهم: غشيه الليل.
(دواجي ظلله): دجى الليل إذا أظلم، وأراد قَرُبَ أن تغشاكم ظُلَمُهُ وظُللُه.
(واحتدام علله): إسراعها من قولهم: حدم في قراءته إذا أسرع فيها، قال أبو عمرو: إذا أذنت فترسل في أذانك، وإذا أقمت فاحدم أي أسرع فيها.
(وحنادس غمراته): الحندس: أشد الظلمة، والغمرة هي: الكرب التي تغمر قلب المريض.
(وغواشي سكراته): وهي ما يغشى عند الموت.
(وأليم إرهاقه): وشدة الوجع، إما إعجاله من قولهم: أرهقه إذا أعجله، وإما غشيانه من قولهم: أرهقته إذا غشيته.
(ودجوِّ إطباقه): وظلم تراكمه، وأراد أنه يطبق على الإنسان حتى يستلَّ روحه.
(وخشونة مذاقه): إما بالخاء والنون من قولهم: طعام خشن إذا كان ضعيفاً، وإما بالجيم والباء بنقطة [من أسفلها] من قولهم: طعام جشب إذا لم يكن ناعماً، وكله قريب، وأراد أن المذاق منه كريه.
(فكأن قد أتاكم بغتة): كأن هذه لما خففت بطل عملها، وقد تعمل مع الخفة على القلة، قال النابغة:
وكأن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
والبغتة: ما كان من غير شعور ولا تفكر.
(فأسكت نَجِيَّكم): ذا النجوى فيكم والمفوَّه بالكلام
(وفرَّق نديَّكم): النديّ: هو النادي، وهو مجلس القوم الذي يتحدثون فيه.
(وعفى آثاركم): محاها وأزال أثرها.
(وعطَّل دياركم): عن الساكن فيها وأخلاها عمَّن كان فيها من الأنيس.
(وبعث ورَّاثكم): حرَّكهم وأمرهم من أقاصي البلاد.
(يقتسمون تراثكم): ما خلفتموه وراء ظهوركم بعد موتكم.
(بين حميم خاص): تفسير للوراث، أي هم بين حميم محب مختص بالميت لقرب من يكون إليه .
(لم ينفع): يرد عنه ما أصابه.
(وقريب محزون): قد قطَّعه الحزن.
(لم يمنع): منه ما دهمه من الموت.
(وآخر شامت): مُسْتَرٌّ فارحٌ بهذه المصيبة.
(لم يجزع): لم يحزن لها ولا لها وقع على قلبه.
(فعليكم بالجد والا جتهاد): جدَّ في الأمر واجتهد إذا بالغ فيه بجهده وطاقته.
(والتأهب والاستعداد): أخذ الأهبة وأخذ العدة.
(والتزود في منزل الزاد): وأخذ الزاد من موضعه ومكانه وهو الدنيا فإنها موضع العمل، ومنزلة التجارة الرابحة.
(ولا تغرَّنكم الدنيا ): تخدعكم بأمانيها الكاذبة.
(كما غرت من كان قبلكم من الأمم الماضية، والقرون الخالية): كخدعها لمن كان قبلكم ممن عرفتموهم بالأخبار من الأمم العظيمة، والقرون الجمَّة الذين مضت أخبارهم، وخلت آثارهم، وقرع أسماعكم ما كانوا فيه وكيف كانوا.
(الذين احتلبوا درتها): أخذوا مختارها، وكنى عن ذلك بالدرة؛ لأنه أعظم اللبن وأكثره، والدرة بالكسر : هي الحالة من الحلب كالجِلسة.
(وأصابوا غِرَّتها): الغِرة بالكسر: هي الغفلة، وهي الاسم من الاغترار.
(وأفنوا عدتها): أفسدوا آلاتها بكثرة استعمالهم لها.
(وأخلقوا جدَّتها): ما كان منها جديداً.
(أصبحت مساكنهم): التي كانوا يسكنونها المعمورة والمزخرفة، والأبنية المشيدة العالية.
(أجداثاً): قبوراً خالية ضيقة، وَحِشَة مدعثرة.
(وأموالهم ميراثاً): مقتسمة بين الورثة.
(لا يعرفون من أتاهم): للزيارة ولا من مرَّ بهم لغير الزيارة، كما كانوا في الدنيا أحياءً.
(ولا يحفلون من نكاهم ): أي يبالون بمن نكاهم من النكاية، أو (بكاهم): سالت دموعه عليهم، وعدد صفاتهم.
(ولا يجيبون من دعاهم): إلى خير أو شر، أو لمكرمة أو لغيرها.
(فاحذروا الدنيا فإنها غرارة خدوع): كثيرة الغرر لأهلها، والخدع لهم والمكر.
(معطية منوع): إما لقوم دون آخرين، وإما في حالة دون حالة، وإنما ذكر فعولاً لأنه مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، إذا كان بمعنى فاعل كقولك : امرأة ضحوك ورجل ضحوك.
(ملبسة نزوع): تلبس هذا رونقها وتكسوه طلاوتها، وتنزع من هذا ما كانت أعطته من لباسها ورونقها.
(لا يدوم رخاؤها): نعومة عيشها وغضارته.
(ولا ينقضي عناؤها): مشقتها وتعبها.
(ولا يَرْكُدُ بلاؤها): أي لا يسكن بل يتحرك في كل حالة.
ثم ذكر الزهاد ووصف حالهم بقوله:
(كانوا قوماً من أهل الدنيا): من الذين خلقوا فيها، ومشوا عليها، وتزودوا منها.
(وليسوا من أهلها): في جمعها وادخارها، والمنافسة فيها.
(وكانوا فيها): في لبثهم فيها وتصرفهم عليها.
(كمن ليس فيها): في خفة الحال وشدة العجلة عنها.
(عملوا فيها بما يبصرون): إما بما يكون بصيرة لهم في الآخرة، وإما على حد ما يبصرون من انقطاعها وزوالها.
(وبادروا فيها ما يحذرون): وهو الموت أن يكون حائلاً بينهم وبين الأعمال الصالحة.
(تقلَّب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة): يقال: هو نازل بين ظهراني القوم بفتح النون، ولا يقال بكسرها أي بين جوانبهم، يريد أنهم لبُعدهم عن الدنيا كأنهم مع أهل الآخرة.
(يرون أهل الدنيا يعظِّمون موت أجسادهم):ترتفع أصواتهم على من مات ونزعت روحه عنه، وكان جسده خالياً عن روحه، ولا يحتفلون بموت الأفئدة وحياتها.
(وهم): الضمير للزهاد.
(أشد إعظاماً لموت قلوب أحبائهم ): يريد أن حزنهم على موت الأفئدة، والقلوب في حق الأحبة وأهل المودة أكثر من حزن أهل الدنيا على موت الأجساد، ومفارقة الأرواح لها.
(212) ومن خطبة له عليه السلام بذي قار ، وهو متوجه إلى البصرة، ذكرها الواقدي في كتاب (الْجَمَلِ)
(فصدع بما أمر به): يريد الرسول عليه السلام وصدع به أي أظهره ، وأعلن به.
(وبلغ رسالة ربه): ما أرسله الله به من الشرائع كلها، وأودعه من الأحكام.
(فلمَّ الله به الصدع): يعني ما كان من صدع الدين، وانشقاقه قبل بعثته.
(ورتق به الفتق): ولأم به الشق وهو ما كان من تخرم الدين، وانهدام أركانه.
(وألف به الشمل ): جمع به.
(بين ذوي الأرحام): الأقارب.
(بعد العداوة الواغرة في الصدور): الوغرة: شدة توقد الحر، ويقال: في صدره عليَّ وَغَرٌ أي حقد، والمصدر منه وغر بالتسكين، والواغرة: اسم فاعلة، إما بمعنى الوغر كالكاذبة بمعنى الكذب، وإما صفة على حالها أي ذات الوغر، وهي ها هنا صفة لتقدم موصوفها عليها فلا يحتمل سواه.
(والضغائن): وهو: عبارة عمَّا يكنُّه الواحد ويستره من العداوة في صدره.
(القادحة في القلوب): يريد كأنها من فرط تمكنها وعظمها كأنها تقدح النار في الأفئدة غيظاً وحنقاً.
(213) ومن كلام له عليه السلام كلم به عبد الله بن زمعة وهو من شيعته، وذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالاً
فقال له عليه السلام:
(إن هذا المال ليس لي ولا لك): أي لا هو ملك لي [ولا هو ملك لك] فأعطيك منه، أو تكون أنت الآخذ له.
(وإنما هو فيء للمسلمين): أفاءه الله عليهم، وأطعمهم إياه، وأباحه لهم.
(وجلب أسيافهم): الجَلَبُ بالتحريك: ما يجلب، وأراد أن سيوفهم جلبته إليهم وحازته عليهم، وليس لأحد شيء فيه إلا من شاركهم في سبب الاستحقاق.
(فإن شركتهم في حربهم): شاركتهم في أن حاربت معهم أعداءهم من الكفار.
(كان لك مثل حظهم): مثل قسم من أقسامهم.
(وإلا): يريد إذا لم تكن أنت مشاركاً لهم في حربهم فلا نصيب لك فيه، ولا حظ لك منه .
(فجناة أيديهم): أي فما تجنيه أيديهم.
(لا تكون لغير أفواههم): بل من اجتنى شيئاً فهو أحق به، ويقال: لكل مجتني جناته، ولكل قدح نصيب، ولكل عمل أجر، لا يستحقه سواه، ولا يكون أحد أولى به منه.
(214) ومن كلام له عليه السلام
(ألا إن اللسان بَضْعَةٌ من الإنسان): الْبَضْعَةُ: القطعة من اللحم، وفيه من عجائب الحكمة ولطائف الصنعة ما لا يحيط بوصفه إلا الله، فانظر إلى كونها قطعة واحدة من لحم، وقد اشتملت على مدارج ومخارج للأحرف المختلفة، كل واحد منها له مخرج يخالف مخرج الآخر، ولو لم تكن من الدلالة على حكمة الله من خلقة الإنسان إلا لسانه لكان ذلك كافياً.
(فلا يسعده القول إذا امتنع): أراد أن اللسان إذا وقع فيه عارض عن الكلام إما لعدم الداعي إليه، وإما لمكان حصول عاهة فيه، وعاهاته كثيرة، فإنه لايساعده القول ولايمكنه بحال، وذلك لأن اللسان هو الآلة في الكلام كالعين للبصر والأذن للسماع، فإن تعذرت تعذر ماهو وصلة إليه لا محالة.
(ولا يمهله النطق إذا اتسع): يريد أن اللسان إذا كان مفوهاً ذرباً لا عاهة به وكان له داعي إلى الكلام فإنه يتسع الكلام، وتطول ذيوله ، ولا يتوقف عن النطق، بل يكون ملجئاً له إلى الكلام لما ذكرناه.
ويحكى أن الفصيح هو الذي يرمي بالبيت الكامل من أوله إلى آخره دفعة واحدة من قريحته، ومن هو دونه فإنه يرمي بنصف البيت وبمصراع دون مصراع، وأما المتكلف فهو الذي يضم كلمة إلى كلمة حتى يستكمل البيت الواحد.
(وإنّا لأمراء الكلام): أهل التمكن فيه، والبسطة واليد الطولى فيه.
(وفينا تنشبت عروقه): نشب عرق الشجرة إذا رسخ في الأرض، وتعذر نزعه.
(وعلينا تهدلت أغصانه ): تهدلت أغصان الشجرة إذا مالت.
واعلم: أن أمير المؤمنين قد بلغ مكانة في البلاغة مبلغاً عظيماً إلى حدٍّ لم يزاحم عليه، ولم ينافس فيه، حتى صار أباً لعذرتها ، ودعي ابناً لنجدتها، وحتىصار كلامه إماماً لكل كلام، وحائزاً لقصب السبق في كل مقصد ومرام.
ولولوع الناس بالبلاغة ووصفها حكى الشيخ أبو إسحاق بن علي الحصري أنه اجتمع قوم من أهل الصناعات فوصفوا البلاغة على قدر صناعاتهم، وأخذوا معانيها من معاني تلك الصناعات.
فقال الجوهري: أحسن الكلام نظاماً ما ثقبته يد الفكرة، ونظمته الفطنة، وفصَّلت جواهر معانيه في سموط ألفاظه فاحتملته نحور الرواة.
وقال العطَّار: أحسن الكلام ما كان لعوقه الأفهام، وذروره الحلاوة، ولا بسه جسد اللفظ، وروح المعنى.
وقال القزَّاز: أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مفوفاً منيراً، وموشحاً محبَّراً.
وقال الجمَّار: أبلغ الكلام ما طبخته في مراجل العلم، وصفيته من راووق الفهم، وضمنته ديوان الحكمة، فتمشت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقته، وفي العقول جدته .
وقال الطبيب : خير الكلام إذا باشر بيانه سقم الشبه استطلقت طبيعة الغباوة، فشفي من سوء التوهم، وأورث صحة التفهم.
وقال الجمَّال: البليغ من أخذ بخطام كلامه فأناخه في مبرك المعنى، ثم جعل الاختصار له عقالاً، والإيجاز له مجالاً، لم يند عن الآذان، ولم يشذ عن الأذهان.
وقال الكحَّال: كما أن الرمد قيد الإبصار فهكذا تكون الشبهة قيد البصائر، خير الكلام ما كحل عين اللكنة بميل البلاغة، وحل رمص الغفلة بمرود اليقظة.
وقال القفاعي: خير الكلام ما روجت ألفاظه غبآءة الشك، ورفعت رقته فضاضة الجهل، فطاب حسا قطره، وعذُب مصُّ جرعه.
ثم أجمعوا عن آخرهم على أن الكلام البليغ هو الذي إذا شرقت شمسه كشفت لبسه.
فانظر إلى أهل هذه الصناعات كيف فسروا البلاغة على حد ما يفهم كل واحد منهم من جيد صناعته، وما من واحدة من هذه الصفات إلا وتراها في كلام أميرالمؤمنين على أوفى شيء، وأتمه وأبلغه وأكمله.
وقوله في الخطبة: اتسع وامتنع، من باب التجنيس الناقص، وهو في كلامه كثير لا يمكن عده ولا إحصاؤه.
(واعلموا رحمكم الله): الرحمة من الله تعالى: لطف للخلق، ودعاء لهم إلى الخير.
(أنكم في زمان القائل بالحق فيه قليل): لصعوبة الحق ومرارته على كل أحد، فلا يكاد يقوله إلا موَّفق منصف على نفسه، وعلى غيرها.
(واللسان عن الصدق كليل): كلَّ السيف إذا لم يكن ماضياً في مضاربه ونبا عنها، وأراد أن اللسان غير ماضٍ في الصدق.
(واللازم للحق ذليل): يريد أنه لايقدر على إمضائه لقلة من ينصره ويعينه.
(أهله معتكفون على العصيان): الضمير للزمان، وغرضه أنهم دائمون على المنكرات لا يقلعون عنها وعن فعلها.
(مصطلحون على الإدهان): يريد أنهم تواطئوا من جهة أنفسهم على المصانعة، يريد أن أفعالهم ليس حاصلها لله وإنما هم متداهنون فيها، وحقيقة المصانعة آيلة إلى أنك إنما تفعل الفعل ليس لوجه الله تعالى، وإنما هو لما ترجوه من نفع أو دفع ضر لا غير.
(فتاهم عارم): يريد الصغير سِنه منهم سيء الخلق شكيس الخلائق.
(وشابهم آثم): يريد ومن كان سنه منهم بالغ فهو راكب للمعاصي وأنواع الفسوق.
(وعالمهم منافق): يظهر من أفعاله خلاف ما يبطنها.
(وقارئهم مماذق): أي ليس إيمانه خالصاً لله تعالى.
(لا يعظم صغيرهم كبيرهم): كما هو المأخوذ على الصغير ذلك، وأراد أن كل واحد منهم جاهل بحق صاحبه لفرط جهلهم.
(ولا يعول غنيهم فقيرهم): لأن هذا هو المأخوذ علىالأغنياء الرحمة للفقراء وصلتهم بما أمكنهم من الصلة، وفي الحديث: ((الفقراء عالة الأغنياء )).
(215) ومن كلام له عليه السلام
روى اليماني عن أحمد بن قتيبة، عن عبد الله بن يزيد، عن مالك بن دحية ، قال: كنا عند أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه وقد ذكر عنده اختلاف الناس، فقال عليه السلام:
(إنما فرق بينهم مفارق طينهم): الطين: جمع طينة على حد تمرة وتمر، يشير بهذا الكلام إلى أن الله تعالى جمع خلقة آدم عليه السلام من أنواع من الترب مختلفة كما قررنا من قبل كيفية خلقتها، والتُربيَّة جامعة لها فهم متفقون فيها ومختلفون في خلائق أُخَر، فلهذا قال عليه السلام:
(وذلك): أي والأمر في خلقهم واختلافه هو:
(أنهم كانوا فِلْقَةً من سبخ أرض): السبخ بالباء: ما لا ينبت، والفلقة: بعض الشيء، وأراد أنهم مجموعون من أصل الأرض وهو التراب.
(وعذبها): العذب: خلاف المالح.
(وحزن تربة): الحزن: المكان الجرز.
(وسهلها): لينها ورخوها.
(فهم على حسب قرب أرضهم): يريد أنهم على حسب قربهم في أصل الخلقة من الأجزاء التُربيَّة الأرضية.
(يتقاربون): في الخلائق والأوصاف، والطباع والهيئات، والأشكال، والمقادير والحالات.
(وعلى قدر اختلافها): في سبخها وعذبها، وسهلها وحزنها كما أشار إليه.
(يتفاوتون): في الخلائق والطباع، والأشكال والحالات.
ثم إنه أخذ عقيب ذكر التقارب والتفاوت على جهة الإجمال يذكر التوافق والاختلاف بضرب من التفصيل فقال:
(فتام الرواء): فيه روايتان:
أحدهما: الرواء بالراء المهملة مخففاً، يقال: رجل له رواء إذا كان له منطق حسن، وفي هذا المعنى قال بعضهم:
لا تغررنك الثياب والصور ... تسعة أعشار من ترى بقر
في خشيب السرو منهم مثل ... له رُوَاء وماله ثمر
وثانيهما: الزواء بالزاي، يقال: هذا زوٌّ علينا أي قدر وحتم وقضاء، فعلى الرواية الأولى فتامُّ المنظر، وعلى الرواية الثانية فتامَّ القدر، والرواية الأولى أعجب وهي أقعد في المعنى وأتمَّ.
(ناقص العقل): لا تمام في عقله، ولا رجحان فيه، أي منهم من له منظر حسن ولا عقل له.
(ومادَّ القامة): أي ذو مدد في قامته، يريد طويلها.
(قصير الهمة): لا همة له في أعالي الأمور ونفائسها، والسامي فيها.
(وزاكي العمل): يريد أن عمله طيب زاك، مرضٍ لله تعالى في كل أحواله.
(قبيح المنظر): صورته قببيحة في رأي العين.
(وقريب القعر): أي ومنهم من يفهم من ظاهره أنه ليس له باطن يخالف ظاهره ولا غور له.
(بعيد السبر): السبر: الامتحان، وأراد أن الامتحان لسره يوجب خلاف ذلك من خلائقه ويعرفك أن باطنه ينطوي على أشياء لا يمكن الوقوف عليها.
(ومعروف الضريبة، [منكر الجليبة] ): الضريبة هي: السجية والطبيعة، والجليبة بمعنى المجلوبة أي المكتسبة، والمعنى في هذا أن منهم من تكون سجيته الفطرية حسنة ولكنه اكتسب أخلاقاً رديئة.
(وتائه القلب): تاه: إذا تحيَّر، أي ومنهم من هو في غاية التحيّر في أعمال قلبه، وترددات خاطره.
(متفرق اللبِّ): اللُّبُّ: العقل، وأراد أنه ليس له فطانة في أموره، ولا يقف منها على حد واحد، بل هو كثير الفشل والطيش، والعجلة في الأمور.
(وطليق اللسان): فصيحه، لا لْكْنَة في لسانه، ولا شيء من العاهات العارضة.
(حديد الجنان): شجاع القلب لا يبالي بما وقع من المخافات والأمور الهائلة، وهذه أمور وسجايا يجعلها الله تعالى من الشجاعة والجبن، والفصاحة والبلاغة واللكُنَة والعي والفهاهة من عباده على حد ما يعلم من المصلحة، وقد أشار الله تعالى إلى ما ذكره بألطف إشارة وأوجزها حيث قال: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ }[فاطر:1] وفيها أقوال كثيرة للمفسرين، والآية مطلقة فلا حاجة بنا إلى تخصيصها بنوع من الزيادة دون نوع، بل تتناول كل زيادة فاضلة، من تمام الخلقة وطول القامة، وحسن العقل، وتمام التدبير، وجودة الفطنة، وملاحة الفم، وحسن القد، إلى غير ذلك من الصفات الفاضلة التي لا يحيط بها الوصف.
(216) ومن كلام له عليه السلام قاله وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيزه
(بأبي أنت وأمي يا رسول الله ): أراد أني أفديك بأبي وأمي، وهي كلمة تستعمل كثيراً على جهة الترحم في كلام الرسول وكلام غيره.
(لقد انقطع بموتك): زال وبطل من أجل موتك.
(مالم ينقطع بموت غيرك): يشير إلى أن حاله في ذلك بخلاف حال غيره، وأنه انقطع بموته أمور كثيرة كانت حاصلة في حياته.
(من النبوة): المرتبة العالية من جهة الله تعالى، والشرف الذي لا شرف فوقه، ولا منزلة وراءه.
(والإنباء): وهو الإعلام بجلائل الأمور وأعلاها من الحكم الدينية، والأسرار الإلهية وغير ذلك.
(وأخبار السماء): وما يقضي الله في السماء من الأقضية التي يريد إنفاذها في الأرض من الأمر والنهي، والنسخ والتثبيت، والقبض والبسط لقد:
(خصصت حتى صرت مسلياً عمَّن سواك): يريد أن الله تعالى خصك بأمر وأعطاك فضيلة حتى صار من صحبك لا يرضى بصحبة غيرك، ويسلو بك عمن سواك، وهذه خاصية لا توجد في سواك، ولم يعطها الله أحداً غيرك.
(وعممت حتى صار الناس فيك سواء): أراد وعمَّت مصيبتك الخلق؛ إذ لا أحد يقوم مقامك، فكان الناس في مصيبتك سواء لا يختص أحد منهم بزيادة دون الآخر فيها.
(ولولا أنك أمرت بالصبر): على مصائب الدهر وقوارعه، وحوادثه العظيمة.
(ونهيت عن الجزع): الجزع: شدة الوجد في المصيبة، وفي الحديث: ((الصبر عند الصدمة الأولى )) ، وفي حديث آخر: ((الإيمان نصفان : نصف شكر ، ونصف صبر)) وفي حديث آخر: ((الصبر أمير جنود المؤمن )) .
(لأنفدنا عليك ماء الشؤون): نفد العمر: إذا ذهب وزال، والشؤون هي : مواصل قبائل الرأس وملتقاها، ومنها تكون الدموع وانحدارها.
(ولكان الداء مُمَاطِلاً): يريد ولكان ما يصيبنا من التغير والفساد بفقدك مماطلاً أي طويلاً لا انقضاء له، من قولهم: مطلت الحديدة إذا طوَّلتها، وكل ممدود ممطول، ويحتمل أن يكون من المطال وهو تأخير الموعد يعني أن الداء مماطل غير ذاهب عنا ولا زائل.
(والكمد محالفاً): الكمد: هو الحزن المكتوم بالحاء المهملة، وأراد أنه لا زوال له ولا انقضاء لوقوعه.
(وقلاَّ لك!): يريد الداء والكمد، فإنهما حقيران بالإضافة إلى ما يتوجه لك من الحق.
(ولكنه): الضمير للأمر أي ولكن الأمر من ذلك من الأسف عليك، والفقد لك.
(ما لا يمكن رده): لعظمه وتفاقمه.
(ولا يستطاع دفعه): عمَّن وقع به.
(بأبي أنت وأمي): نفتديك أنت بالآباء والأمهات التي هي أعزُّ ما يكون، وأعلا قدراً ومنزلة.
(اذكرنا عند ربك): بالشفاعة والرحمة.
(واجعلنا من بالك!): أراد إما اجعلنا من الأمور التي تبالي بها وتهتم بأمرها وتكترث لها، وإما اجعلنا على خاطرك واخطرنا بقلبك عند ربك، فأنت مسموعُ الدَّعوة، مجابُ الكلمة.
(217) ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد
(الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد): يريد بالشواهد هذه الحواس كلها، فإن الله يتعالى عن أن يكون مدركاً بها من حيث كان الإدراك إنما يكون في حق الأمور الجسمية أوالعرضية وهو متعالي عنهما بحقيقة ذاته.
(ولا تحويه المشاهد): المشاهد: جمع مشهد وهو المحضر، وإنما سمي ما يجمع الناس مشهداً لأنه يجمعهم ويشاهدونه، وإنما كان لا يحويه شيء من ذلك ؛ لأن الاحتواء إنما يكون في حق الأجسام، فأما من كان غير جسم فلا يضاف إليه الاحتواء في مكان دون مكان، ولا جهة دون جهة.
(ولا تراه النواظر): جمع ناظرة وهي العين المبصرة.
(ولا تحيط به السواتر): الساتر: ما كان مُغَطِّياً عن الإدراك، وإنما جمعه على فواعل؛ لأنه قد صار اسماً غير صفة فهو بمنزلة حواجز، وأراد أنه لا يحيط به ما كان ساتراً من هذه السواتر العظيمة كالسماء والأرض والجبال فإنها على عظمها وكبرها لا تحيط به؛ لأن الإحاطة إنما تكون في حق من كان جسماً فإنه ولو عظم حاله فإنه مما يمكن الإحاطة به.
وفي نسخة أخرى: (ولا تحجبه السواتر) وهما قريبان فإن الحجبة والإحاطة إنما تجوز في حق الأجسام لا غير.
(الدال على قدمه بحدوث خلقه): يريد أن هذه الحوادث لابد من انتهائها إلى قديم خالق لها.
(وبحدوث خلقه على وجوده): يريد أن الحادث لا بد له من مُحْدِثٍ موجود؛ لأنه يستحيل فيما كان معدوماً أن يكون موجداً خالقاً مُحْدِثاً.
(وباشتباههم على ألاَّ شبه له): يريد أنه لأجل مماثلته بين الخلق ومشابهته بين خلوقهم وصورهم، فإنه يعلم بذلك من جهة البرهان على أنه لايشبههم؛ إذ لو كان مشبهاً لهم لم يكن قادراً على خلقهم، وقد قدَّمنا شرح هذا الكلام في خطبة أخرى.
(الذي صدق في ميعاده): في جميع ما وعد به وأوعد، وإنما كان موصوفاً بالصدق لاستحالة الكذب على ذاته تعالى؛ لأن من كان حكيماً في أفعاله كلها وأقواله فإنه لا يجوز عليه القبيح ويستحيل في حقه، فلهذا استحال أن يكو ن كاذباً في أخباره كلها.
(وارتفع عن ظلم عباده): الغرض بالارتفاع هاهنا هو التعالي والامتناع دون علو الجهة وارتفاعها، فذلك مستحيل في حقه كما مضى غير مرة، وأراد أنه متعالي لمكان الحكمة عن ظلم أحد من العباد، كما قال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ }[غافر:31].
(وقام بالقسط في خلقه): من قولهم: قام فلان علينا بالرفق والرحمة، فأراد أن الله تعالى هو المتصرف على خلقه بالعدل في حقوقهم والإنصاف في أمورهم من غير حيف، ولا ميل من جهته.
(وعدل عليهم في حكمه): بمعنى أنه لا يصدرعليهم شيء من الأحكام إلا بحكمة وتقدير وإتقان، وليس ذلك جارياً على جهة الحدس والاتفاق.
(يستشهد بحدوث الأشياء على أزليته): أراد أنه يطلب الشهادة على كونه أزلياً من جهة حدوث الأشياء كلها، لأنه لو لم يكن أزلياً بل كان محدثاً مثلها استحال أن تكون حادثة من جهته، وقد قررنا هذا الكلام بأبلغ من هذا التقرير فيما سلف.
(وبما وسمها من العجز على قدرته): الوسم والسمة هو: العلامة، وأراد أنها بما قرر فيها من العجز على إبداع هذه المكونات وجعلها مستحيلة من جهتها فذلك من أقوى ما يكون من الأدلة على باهر قدرته.
(وبما اضطرها من الفناء على دوامه): يريد وبما ألزمها بالضرورة من الحكم عليها بالفناء والعدم، فهو بعينه دلالة على كونه دائماً، لأنه لو لم يكن دائماً لجاز عليه العدم مثلها.
(واحد لا بعدد): أي هو في نفسه واحد وليس من جملة الآحاد، وإنما هو خارج عنها؛ لأن من شرط العدد الجنسية وهو غير مجانس المعدودات.
(ودائم): لا انقضاء لوجوده.
(لا بأمد): أي ليس لدوامه غاية ولا حد ولا نهاية.
(وقائم): ثابت الوجود.
(لا بعمد): أي ليس مستنداً إلى شيء ولا يفتقر إليه.
(تتلقاه الأذهان): يريد أن العقول قابلة لوجود الله تعالى وثبوته.
(لا بمشاعرة): يريد أن الأذهان تثبته وتتلقاه لا بواسطة شعور الحواس، لأن ذلك مستحيل في حق الله تعالى، وإنما قال: مشاعرة لأن الحواس مشتركة في الشعور بالأشياء، فلهذا كان اشتراكها في الشعور مشاعرة.
(ويشهد له المرأى ): المرأى: مكان الرؤية وموضعها، من قولهم: فلان مني بمرأى ومسمع أي حيث أراه وأسمع قوله، ويجوز أن يكون المراد بالمرأى النفس؛ لأن المرأى موضع الرؤية، والنفس مرأى الأشياء أي موضع رؤيتها.
(لا بمحاضرة): يريد أن الأذهان والعقول وإن شهدت له بالوجود فإن ذلك من دون أن تكون حاضرة له أو يكون حاضراً لها؛ لأن المحاضرة إنما تكون في حق الأجسام لا غير.
(لم تحط به الأوهام): يريد أن العقول لا تدرك حقيقة ذاته ولا تتصل إلى ذلك.
(بل): إضراب عن عدم الإحاطة وإثبات علمها به.
(تجلى بها لها): يريد أنه بخلقه إياها ظهر لها بالوجود والثبوت.
(وبها امتنع منها): يريد أن الأوهام من حقها أن تكون مدركة لهذه المحسوسات، وهو تعالى ليس من قبيل المحسوسات، فلهذا كان ممتنعاً بها منها على هذا الوجه، ويجوز أن يكون مراده أيضاً أنها لما كانت محدثة امتنع بها عن الحدوث في نفسه لما كا نت محدثة، فهو ممتنع عن الحدوث لأجل حدوثها.
(وإليها حاكمها): هذا من باب التخييل والتمثيل، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن الله تعالى لو سأل هذه الأذهان وقال لها بلسان الحال: هل أنت مدركة حقيقة ذاتي وكنهها؟ لاعترفت بالعجز عن ذلك، وقالت: لا يبلغ إلا أني أعرف وجودك، فأما معرفة حقيقة ذاتك فذاك ليس من شأني ولا أقدر عليه.
وثانيهما: أن يكون غرضه أنه قال للأذهان مثلاً إن كنت مدركة حقيقة نفسك فأنت مدركة بحقيقة ذاتي، فإذا كانت معترفة بأنها غير مدركة حقيقة نفسها فهي عن إدراك حقيقة ذات الله أعجز لا محالة.
(ليس بذي كبر): في حجمه.
(امتدت به النهايات): طالت به نهايات الكبر.
(فكبرته تجسيماً): فعظم كبره من جهة الجسمية.
(ولا بذي عظم): فخامة وكبر.
(تناهت به الغايات): بلغت كل غاية في العظم والفخامة.
(فعظمته تجسيداً): فعظم من جهة التجسيد والحجمية.
(بل): إضراب عما ذكره ها هنا من الكبر والعظم، ونصبهما على ما ذكره من هذا الوجه.
(كبرشأناً): إنما كبر من جهة كبرشأنه لا من جهة كبر حجمه.
(وعظم سلطاناً): وعظمه إنما كان من جهة سلطانه لا غير.
(وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ): المختار من بين سائر الخلق للنبوة والإرسال إلى الخلق.
(وأمينه الرضي [صلى الله عليه وآله] ): إما على جهة المبالغة كما قالوا: رجل عدل وثوب زور، وإنما يكون على حذف مضاف تقديره: ذو الرضى.
(أرسله بوجوب الحجج): إثباتها وإظهارها من جهة العقل والشرع.
(وظهور الفلج): الفَلْجُ بالسكون وفتح الفاء هو: الفوز والظفر، وبالضم هو الاسم من التفلج، وفي المثل: من يأت الحكم وحده يفلج .
(وإيضاح المنهج): وبيان الطريق الواضح.
(فبلغ الرسالة صادعاً بها): صادعاً منصوب على الحال من الضمير في بلَّغ، وأراد أنه بلغها على جهة الظهور والا نكشاف.
(وحمل على الحجة دالاً عليها): حملته على كذا إذا أكرهته على فعله، وأراد أنه أكره على سلوك طريق الدين من تخلَّف عنها.
(فأقام أعلام الاهتداء): شيَّدها وقرَّر قواعدها، والأعلام: جمع علم وهو منار الطريق.
(ومنار الضياء): أي وأوضح منار الضياء، والمنار: ما يهتدى به عند الالتباس.
(وجعل أمراس الإسلام متينة): الأمراس: جمع مرس وهو الحبل.
(وعرا الإيمان وثيقة): العرا: جمع عروة وهو ما يمسك به الإناء، وأراد أنه قوَّاها، وهذا كله من باب التمثيل والتخييل وإلا فالحقيقة ألاَّ مرس ولا عروة.
ثم ذكر عجائب أصناف الحيوانات:
(ولو فكروا في عظيم القدرة): يريد لو أنهم أخطروا على قلوبهم عجائب هذه المصنوعات الباهرة.
(وجسيم النعمة): وما منَّ الله به علىالخلق من عظائم النعم وجسيمها.
(لرجعوا إلى الطريق): طريق خوف الله تعالى وتعظيمه، والقيام بواجباته، والكف عن مناهيه.
(وخافوا عذاب الحريق): وتفكروا في عظيم عذاب الله المؤلم الذي لا يمكن وصف ألمه، ولا مزيد عقابه.
(لكن القلوب عليلة): معتلة لا قوام لصحتها ولا لثبوتها.
(والأبصار مدخولة): يريد أن بصرها ليس حاصلاً على جهة الاستقامة وإنما فيه خلل وفساد.
(ألا ترون إلى صغير ما خلق الله): ما قدره من هذه المخلوقات الحيوانية الصغار.
(كيف أحكم خلقه): قدَّره وصوَّره.
(وأتقن تركيبه): على أكمل شيء وأحسنه.
(وفلق له السمع والبصر): أي شقَّهما، فله سمع وله بصر يهتدي بهما إلى منافعه، وإحراز قُوْتِه.
(وسوَّى له العظم والبشر): ليمكنه التصرف؛ لأنه لو كان عظماً على انفراده أولحماً على انفراده لما أمكنه الوصول إلى المنافع وإتقانها.
(وانظروا إلى النملة في صغر جثتها): في الحيوانات ما هو أدق وأصغر حجماً من النملة، ولكنها جارية على الألسنة كثيراً فلهذا مثلَّ بها.
(ولطافة هيئاتها ): أطرافها وأوصالها.
(لا تكاد تنال بلحظ النظر ): لمحة، واللحظ هو: مؤخر العين.
(ولا بمستدرك الفكر): ولا بما يكون للفكر فيه مجال.
(كيف دبت على أرضها): الدبيب لكل حيوان على الأرض المجعولة مستقراً لها ولغيرها من الحيوانات.
(وصُبَّت على رزقها): دُلَّت عليه.
(تنقل الحبة إلى جحرها): إلى مغاراتها ومواضع استقراراتها.
(وتعدُّها في مستقرها): أي تخبئه لوقت حاجتها من ذلك.
(تجمع في حرها لبردها): يريد أنها تجمع الأرزاق كلها في أيام الحر لأنه سهل عليها التصرف في هذه الأوقات، وتأكله في أيام بردها حيث يصعب عليها التصرف في أيام البرد.
(وفي ورودها لصدرها): يريد أنها تدخل هذه الأوقات فإذا همت بالخروج إلى مكان لشيء من مآربها وحوائجها فإنها تقتات من ذلك المدخر عند خروجها.
(مكفول برزقها): أي أن الله تعالى قد تكفل بأرزاقها وضمنه، فلا يفوت منه شيء وإن خفي ودقَّ.
(مرزوقة بوفقها): أي على حسب حاجتها ومصالحها.
(لا يغفلها المنَّان): أي لا يتركها عن تحصيل المصالح وإحراز الأرزاق والأقوات.
(ولا يحرمها الديَّان): عمَّا قدَّره وفرضه لها.
(ولو في الصفا اليابس): الذي لاندى فيه ولا بلل.
(والحجر الجامس): بالجيم هو: الصلد الجامد، يريد فإنها وإن كانت في هذين الموضعين فإن الله تعالى لا يغفلها عمَّا يصلحها، ويوفي عليها برزقها.
(ولو فكرت في مجاري أكلها): مسالكها لِقُوْتِها، ومجاري أقواتها إلى بطنها.
(وفي علوها): أحوال الرأس وما حوى من الإحكام العجيب، والإتقان البليغ.
(وسفلها): وانصباب غذائها إلى آلات قابلة ومنافذ معتدلة.
(وما في الجوف من شراسيف بطنها): الشراسيف: أطراف الأضلاع، واحدها شرسوف.
(وما في الرأس من عينها وأذنها): يريد من عجائب هذه المنافذ وأسرار هذه المخارق التي يقع بها السمع والبصر، والإدراك والنظر.
(لقضيت من خلقها عجباً): لقلت: هذا هو العجب كله.
(ولقيت من وصفها تعباً): مشقة من حيث رُمْتَ ما لا يمكن حصوله ولا حصره.
(فتعالى): ارتفع حاله عن كل ما لا يليق نسبته به .
(الذي أقامها على قوائمها): شدَّها حتى استقامت على أرجلها.
(وبناها على دعائمها): جعل إمساكها على قوائمها بمنزلة البناء مبالغة في ثبوتها واستقرارها وتمكنها من التصرفات عليها.
(لم يشركه في فطرها ): يريد غيره لم يكن مشاركاً فيما خلق من ذلك ولا أعانه عليه.
(فاطر): أي خالق من قولهم: فطرت هذا إذا خلقته.
(ولم يعنه على خلقها): تقديرها وإحكامها.
(قادر): واحد من القادرين.
(ولو ضربت في مذاهب فكرك): أخذت في ذلك، من قولهم: ضربت في الأرض أبغي التجارة.
(لتبلغ غاياته): منتهاه وقصاراه وغايته.
(ما دلتك الدلالة): ما حصلت منها على شيء ولا وقفت منها:
(إلا أن فاطر النملة هو فاطر النخلة): يريد أن المبدع لهذه الأشياء كلها كبيرها وصغيرها ودقيقها وجليلها هو فاعل واحد ومقدر واحد، وأن خالق أصغر الأشياء وهو النملة هو الخالق لما هو أعظم منها من المخلوقات وهي النخلة.
(الباسقة في السماء): الطويلة العظيمة الطول، وأن خالق العصفور هو خالق الفيل.
(لدقيق تفصيل كل شيء): تعليل لقوله: ما دلتك الدلالة، والاستثناء في قوله: (إلا أن فاطر النملة) هو استثناء مفرغ، وأن في موضع نصب بنزع الجار كأنه قال: ما دلتك الدلالة إلا بأن فاطر النملة من أجل أن الدقة في خلقهما واحدة.
(وغامض أخلاف كل حي): الخلف: أطراف الضلوع من الحيوانات كلها، وأراد وما غمض من أخلاف الحيوانات كلها.
(وما الجليل واللطيف): كالجبال والصخور، والفيلة والجمال وغير ذلك مما كان خلقه عظيماً، واللطيف أيضاً كالحيوانات الصغار التي لا تدركها الأبصار إلا على صعوبة.
(والثقيل ): كالأرض والسماء والعرش والكرسي.
(والقوي): كالملائكة من حملة العرش وغيرهم فإن الله تعالى أعطاهم من القوة ما لم يعط أحداً من المخلوقات كلها، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه رأى جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح )) .
وحكي أنه سأل جبريل أن يتراءى له في صورته، فقال له: ((إنك لن تطيق ذلك))، فقال: ((إني أحب أن تفعل))، فخرج رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] في ليلة مقمرة، فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] ثم أفاق وجبريل إحدى يديه على صدره، والأخرى بين كتفيه، فقال: ((سبحان الله ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا ))، فقال جبريل: ((فكيف لو رأيت إسرافيل له اثنا عشر جناحاً، جناح منها بالمشرق وجناح بالمغرب، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوَصَع وهو العصفور الصغير)) .
(والضعيف): من الحيوانات كلها.
(في خلقه) : بالإضافة إلى إيجاده وتقديره.
(إلا سواء): مستوية في ذلك لأن من كان أمره بين الكاف والنون، فليس الجليل وإن جلَّ بالإضافة إليه في نفسه إلا كالحقير بالإضافة إليه في نفسه.
(وكذلك السماء والهواء): على اختلافهما وتباين أحوالهما.
(والرياح والماء): على تشاكلهما في الرقة واللطافة.
(فانظروا إلى الشمس والقمر): في تنورهما وطلوعهما وغروبهما، وجريهما على هذه المجاري المقدرة، وما اشتملا عليه من هذه المنافع العظيمة للخلق.
(والنبات والشجر): وجميع أنواع النباتات المأكولة وغير المأكولة وجميع ضروب هذه الأشجار.
(والماء والحجر): وما في الأمواء من الحكم البديعة فمنها العذب الفرات، ومنها الملح الزعاق، ومنها ما ينزل من السماء، ومنها ما ينبع من الأرض كالأنهار والعيون والآبار وغير ذلك.
(واختلاف هذا الليل والنهار): تكررهما وجريهما إتقاناً لمصالح العباد، ورعاية لحقوقهم واستدامة لمصالحهم واستمراراً لقوام التكاليف، ومعرفة الأزمنة والحسابات إلى غير ذلك من اللطائف.
(وتفجُّر هذه البحار): أراد إما العيون الجارية فإنها تسمى بحاراً لعظمها، وإما أن يريد هذه البحار العظيمة التي تُعْبَرُ بالسفن والمراكب العظيمة.
(وكثرة هذه الجبال): عظمها وما فيها من المنافع العظيمة للخلق.
(وطول هذه القلال ): القلة: أعلى الجبل.
(وتفرق هذه اللغات): فمنها العربية، ومنها الفارسية، والتركية، والرومية، والحميرية إلى غير ذلك من الاختلافات العظيمة في الألسنة.
(والألسن المختلفات): التي لا يجمعها جامع ولاتتفق على لغة واحدة.
(فالويل): بعذاب الله وأليم عقابه.
(لمن أنكر المقدّر): الفاعل لهذه التقديرات، وأنواع هذه الإحكامات.
(وجحد المدبِّر): المسخِّر لهذه الأشياء العظيمة من أجل هذه المصلحة للخلق، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ }[إبراهيم:33] وهذه الإشارة منه عليه السلام إنما تليق بمن أنكر الفاعل المختار وأثبت موجباً، أولم يكن مثبتاً لشيء كما هو المحكي عن الفلاسفة عن آخرهم فإنهم متفقون على إبطال الفاعل المختار، وإضافة هذه المبدعات والمكونات إلى العقول السماوية والنفوس الفلكية، والمواد العنصرية، وزعموا أن الفاعل المختار لا يعقل أصلاً ولا له ثبوت بحال، وهكذا من نحا نحوهم، وقال بهذه المقالة من الدهرية ، وأنواع أهل التنجيم، وأصحاب علم الهيئة وغير ذلك من أهل البدع والضلالات، فأما من خالف في أمور أخر مع إثبات الفاعل المختار المتقن لهذه الأشياء فكلامه عليه السلام لا يتناوله ها هنا، وإنما يبطل بأمور أُخر غير ذلك.
(زعموا): قالوا بألسنتهم.
(أنهم كالنبات ماله زارع): أراد بما ذكره من هذا المثال إبطالاً لمقالتهم وتهكماً بحالهم، وغرضه فهل يمكن في بداية العقول وحقائق الأفهام أ ن يوجد زرع لا زارع له!
(ولا لاختلاف صورهم صانع): أراد وهل يمكن في الصور المختلفة التي تأتي على أشكال وهيئات وتقديرات متفاوتة أن تكون من غير فاعل ولا مقدر، ولا صانع لها، هذا من المحال أيضاً التي لا تقبله العقول ولا يعرج عليه.
(لم يلجؤوا إلى حجة فيما ادعوا): يريد أن أمارة كذبهم على أنفسهم وتزويرهم على عقولهم وأفهامهم، هو أنهم لم يستندوا فيما ادعوه من بطلان إضافة الفعل إلى غير صانع ولا إضافة الإحكام إلى غير محكم إلى حجة قاطعة، ولا برهان واضح.
(ولا تحقيق لما وعوا ): ولا إيضاح لما اعتقدوه ووعوه في صدورهم من ذاك.
(وهل يكون بناء من غير بان): يريد انظر في عقلك وفكِّر، وهو أنك إذا دخلت بعض القفار وجدته عرصة بيضاء لا بناء فيها، ثم جئت بعد ذلك بمدة إلى تلك العرصة فوجدت فيها قصراً عالياً فيه من أنواع البناء وضروب الأفنية ، والمنازل الرفيعة العالية، والقصور المشيدة، أليس يضطرك عقلك إلا أنه لابد لهذه الأبنية من بانٍ بناها ومقدِّر قدَّرها؟ وأنها لا تحصل من جهة ذاتها ولا بفعل نفسها، فهذا أمر ضروري لا ينكره إلا من لا سلامة في عقله!
(أوجناية من غير جاني ): ثم فكِّر في عقلك أيضاً وهو أنك إذا رأيت رجلاً شاباً مليح المنظر ناعم الجسم، ثم رأيته مرة ثانية وقد قطعت أوصاله واحتز رأسه، فإن بديهة العقل قاضية على أن هذه الجناية لا بد لها من جاني وفاعل لها، ومؤثر فيها.
(وإن شئت قلت في الجرادة): يريد وإن أردت إعمال النظر والفكر في الجرادة واشتمالها على الإحكام البديع في خلقها، وإلهامها لمنافعها.
(إذ خلق لها عينين حمراوين): تهتدي بهما إلى منافعها واجتناب المضار.
(وأشرج لها حدقتين قمراوين): أي شقَّ لها حدقتين، من قولهم: انشرجت القوس إذا انشقت، أو جعلهما لها كالسراجين تهتدي بهما في تصرفاتها، ووصفهما بالحمرة لما فيهما من حدة البصر، ووصفهما بالتقمر لما فيهما من الضياء والتلألؤ، وموضعهما فوق مغرز الجناحين فيها، ولهذا تراها في طيرانها تطير على نحو بصرها عرضاً وليس على جهة الاستقبال كما يفعله ما كان عينه في رأسه من الطير.
(وجعل لها السمع الخفي): أراد إما أنها تسمع ما خفي من الأصوات وكان دقيقاً، أو يريد أن موضع سمعها خفي لا يمكن الاطلاع عليها من أعضائها.
(وفتح لها الفم السوي): الحاصل على جهة الاستقامة في تحصيل المنفعة.
(وجعل لها الحس القوي): إما القدرة القوية، وإما الإحساس القوي؛ لأنها تختص بهذين الأمرين اختصاصاً كلياً لا يعلم حالهما في ذلك إلاخالقها .
(ونابين بهما تقرض): تقطع الزروع والأثمار وسائر ما ينبت في الأرض، وهما نابان أسودان اشتملا على حصافة عظيمة وشدة قوية.
(ومنجلين بهما تقبض): ما تأكل وتهشمه، والمنجل: ما يحصد به الزرع من شريم وغيره.
(يرهبها الزُّرَّاع في زروعهم ): أي من أجل أكل زرعهم واستئصاله، يقال: رهبته في كذا إذا كان خشيتك من أجله.
(ولا يستطيعون ذبَّها): أي دفعها.
(ولو أجلبوا بجمعهم): أي ولو اجتمعوا بالجموع الكثيرة، كما قال تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ }[الإسراء:64].
(حتى تَرِدَ الحرث في نزواتها): حتى هذه بمعنى إلى أن، والمعنى إلى أن ترد الزرع في وثباتها مبادرة إليه، وحتى هذه متعلقة بيستطيعون، وإذ في قوله: (إذ خلق لها) متعلقة بما دل عليه قوله: (وإن شئت قلت) لأن المعنى وإن شئت تفكرت ونظرت.
(وتقضي فيه شهواتها): أي تأكل منه حتى لا يكون لها إليه إرب ولا حاجة.
(وخلقها كله لا يُكَوِّن إصبعاً مستدقة): يريد ومع هذه الصفات والقوة والبطش، فإن خلقها ليس حجماً عظيماً، وإنما هو مقدار الإصبع الدقيقة طولاً وعرضاً.
(فتبارك الذي يسجد له من في السماوات والأرض): البركة: كثرة الخير وزيادة، وقد مضى تفسيره في حق الله تعالى، خصَّ العقلاء ها هنا بقوله: من؛ لأن حقيقة السجود حاصلة من جهتهم بالخضوع والذلة، والخشوع لجلاله وعظمته من الإنس والجن والملائكة.
(طوعاً): بالاختيار والإرادة من جهة المكلفين بالسجود من الملائكة والثقلين.
(وكرهاً): ممن لا يكون مكلفاً به وهو سائر الجمادات، لأن معنى سجودها انقيادها لأمر الله ومطاوعتها لداعيته في الإيجاد.
سؤال؛ هل يكون قوله: (يسجد من في السماوات والأرض) عام في العقلاء وغيرهم، أو يكون خاصاً في العقلاء لا غير؟
وجوابه؛ أنه وارد على جهة العموم لمن يعقل ولمن لا يعقل، وعبَّر عنه بمن على جهة التغليب لحال العقلاء على غيرهم، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}[الرعد:15].
سؤال؛ فإذا كان عاماً هذا السجود في العقلاء وغيرهم، فلا شك أن سجود العقلاء مخالف لسجود غيرهم، فكيف جازت العبارة عنهما بلفظة واحدة وهما مختلفان؟
وجوابه؛ هو أن السجودين وإن كانا مختلفين، فالعقلاء سجودهم طاعتهم وعبادتهم، وسجود غير العقلاء موافقتهم لداعيته، لكنهم يجتمعون في معنى الانقياد لأمره، فلهذا جاز أن يعبِّر عن ذلك بلفظة واحدة؛ لاجتماعهم في معنى واحد وهو الانقياد.
(ويُعَفِّر له خدّا ووجهاً): تعفير الوجه والخد: تمريغهما بالتراب، وهذا خاص في حق العقلاء؛ لأن ذلك لا يتأتى إلا فيهم.
(ويلقي بالطاعة إليه): أي يسلِّمها إليه، من قولهم: ألقى إليه بأمره إذا سلَّمه إليه.
(سلماً وضعفاً): حالان من قوله: يلقي بالطاعة أي في حال سلامته وضعفه.
(ويعطي القياد رهبة وخوفاً): فلان يعطي القياد إذا خضع وذل، وانتصابهما على المفعول له أي من أجل الرهبة والخوف، ويجوز أن يكون نصبهما على الحال أيضاً أي راهباً وخائفاً، فأما سلماً وضعفاً فلا وجه فيهما إلا الحال؛ لفساد المفعولية فيهما.
(فالطير مسخرة لأمره): التسخير هو: التذليل، وأراد أنها تدفُّ بين السماء والأرض بالطيران من أجل أمره لها بذلك، ومن أجل إمساكه لها في الجو، كما قال تعالى: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ }[النحل:79].
سؤال؛ التسخير هو نفوذ الأمر والقضاء في كل ماسخر، وهذا عام في كل الحيوانات، فما وجه تخصيص الطير؟
وجوابه؛ هو أن الله تعالى لما كان هو المتولي لإمساكهنَّ في جو السماء، كما أشار إليه، بخلاف سائر الحيوانات، فإن تصرفه من جهة قدرته على ذلك فهو متصرف لنفسه للنفع ودفع الضرر، فلهذا كان التسخير فيها أتمَّ وأوقع.
(أحصى عدد الريش منها): القوادم منها والخوافي، فالقوادم عشر في كل جناح، والخوافي ما عدا ذلك.
(والنَّفَسَ): أي ومقدار متنفسها في الجو، أو وعدد أنفاسها الجارية في حلوقها.
(وأرسى قوائمها): أسكن أرجلها حين تدنو من الأرض لطلب المتاع لها.
(على الندى واليَبَسِ): على ما كان مبتلاً بالماء وعلى ما كان يابساً فإنها تدبُّ فوقه لا يضرها ذلك، أو يريد أن منها ما يكون متاعه في الماء، ومنها ما يكون متاعه في البر، فأجرى أقواتها وثبَّتها على الماء لتأخذ متاعها منه مثل حيوان الماء كلها على اختلاف أنواعها، فإنها تمشي على ظهره مشياً ظاهراً لا يمنعها رقته ولا رخاوته، ومنها ما يكون متاعه في البر وحيث لاماء وهو المراد باليبس.
(قدَّر أقواتها): على حسب ما يعلم من مصالحها واستقامة أحوالها، فمنها ما يكون معاشه اللحوم وهذه هي ذوات المخلب كالنسر والعقاب والشاهين، وغير ذلك، ومنها ما يكون معاشه الحبوب وما أنبتت الأرض، وهو ما عدا ما ذكرناه.
(وأحصى أجناسها): حصرها مع اختلاف أنواعها، وافتراق أجناسها، فلا يغيب عن علمه وحفظه منها شيء وإن دق وصغر.
(فهذا غراب، وهذا عُقَابٌ، وهذا حمام، وهذا نعام): أشار بما ذكره إلى أكثر أنواعها، فذكر من ذوات المخلب العقاب، وذكر مما يلتقط الحب الغراب، وذكرمن ذوات الأطواق الحمام، وذكرالنعام من جملة الطير، وفيه نظر، لأن حقيقة الطير ما كان مرتفعاً في الجو غير واقع على الأرض، سواء كان دافًّا أو مُحَلِّقاً في الجو، وأما النعام فهو في سيره السريع تقع رجلاه على الأرض، فأما إذا كان متردداً فهو مما يدبُّ على وجه الأرض برجليه، ولعل أمير المؤمنين قصد أن الحقيقة في الطير ما كان له جناحان يستعملهما، ولهذا في أمثالهم: كاد النعام يطير مبالغة في سرعة جريه ولو كان طيراً على الحقيقة لم يقولوا: كاد يطير، ولهذا لا يقولون: كاد الحمام يطير لما كان طيراً على الحقيقة.
(دعا كل طائر باسمه): يريد إما سمى كل جنس منها اسماً يخالف اسم الجنس الآخر، وإما أن كل واحد منها وكل فرد من أفرادها له اسم عنده لما يرى في ذلك من المصلحة.
(وكفل برزقه): وضمن برزقه حتى أوصله إليه، وأبلغه إياه.
(وأنشأ السحاب الثقال): الحاملة أوقارهنَّ من الماء بقدرته.
(فأهطل دَيِمَها): الديمة: المطر الدائم، والديم جمع ديمة، وسحاب هطَّال أي يسكب الماء كثيراً.
(وَعَدَّدَ قِسَمَهَا): يشير إلى السحاب أي أنه قسمه على حسب المصلحة، وساقه على قدر الحاجة، كما أشار إليه: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ}[الأعراف:57].
(فبلَّ الأرض): الضمير في بلَّ إما لله تعالى، وإما للسحاب [المتقدم ذكره أي ماء السحاب] .
(بعد جفوفها): [جفَّ الماء إذا يبس] ، وأراد أنها صارت مبتلة بالماء بعد أن كانت جرزاً يابسة.
(وأخرج نبتها): ما تختص به من النبات على اختلاف أنواعه وضروبه.
(بعد جدوبها): الجدب: نقيض الخصب، أي بعد إقحالها وذهاب خضرتها ونضارتها.
(218) ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها، قال فيها:
(ما وحَّده من كيَّفه): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد بالكيفية المثلية، ولا شك أن المثلية رافعة للوحدة.
وثانيهما: أن يكون مراده أن الكيفية هيئة قارَّة في الأجسام، وكل هيئة تتمكن في ذات شيء فإنها تكون أمراً وراء ذاته فيلزم من تعقلها الأثنينية وذلك رافع للوحدة.
(ولا إياه عنى من شبَّهه): لأن الله تعالى حقيقته مخالفة لسائر الحقائق كلها فمن مثَّله بغيره من سائر المخلوقات فقد أخرجه شَبَهُهُ ذلك عن أن يكون هو الْمَعْنِي بما يشار إليه من الإلهية والمعبودية، فلهذا قال: ولا إياه عنى من شبهه، يشير إلى ما ذكرناه.
(ولا حقيقته أصاب من مثَّله): يريد أن حقيقة الله تعالى ممتازة من بين سائر الحقائق كلها، فمن جعل لها مثلاً فهو جهل بها وبحالها، فمن مثَّلها فما وقع على حقيقة حالها في اعتقاده وتصوره لها.
(ولا صمده من أشار إليه): الصمد هو: القصد، فإذا كانت الإشارة إنما تليق بما يختص الأمكنة والجهات، والله تعالى منزه عن ذلك كله، وإذا كان الأمر هكذا فمن أشار إليه، فهو لاشك غيرقاصد إلى ذاته وحقيقته.
(وتوهمه): والتوهمات أيضاً منفية عنه؛ لأن الوهم إنما يكون متعلقاً بالأمور المحسوسة، والله تعالى بخلاف ذلك فلا يتعلق به الإحساس بحال.
(كل معروف بنفسه مصنوع): أراد في هذا أن كل ما كان طريق معرفة ذاته من جهة نفسه فهو مصنوع كالإنسان مثلاً، فإن طريق معرفته إنما هو من جهة الحد والحقيقة، وهو كونه حيواناً ناطقاً فقد حصل معرفة حاله من جهة ذاته إذ ليس للإنسان حقيقة سوى ما ذكرناه، فلهذا كان معروفاً من جهة ذاته ونفسه، فأما الله تعالى فذاته تعالى ليس طريق معرفتها الحد والحقيقة، وإنما طريق معرفتها هو البراهين والأدلة، فلهذا لم يكن معروفاً بنفسه كسائر المخلوقات، فلهذا قال: (كل معروف بنفسه فهو مخلوق) يشير إلى ما قلناه.
(وكل قائم في سواه معلول): يريد أن كل ما كان محتاجاً في وجوده إلى محل أو مكان أو جهة فإنه معلول يفتقر إلى غيره كافتقار المعلول إلى علته، وهذا إنما يكون في الأجسام والأعراض لافتقارها إلى المحل والجهة والمكان، فلهذا كانت معلولة.
(فاعل لا باضطراب آلة): موجد للأشياء كلها ومخترع للمكونات من غير أن يكون مضطرباً في فعله لها إلى آلة يفعلها بها ويزاولها لمكانها.
(مقدِّر لا بجول فكرة): محكم لأفعاله كلها من غير أن يكو ن محتاجاً في إحكامها إلى جولان الفكرة وجريها ساعة بعد ساعة.
(غني لا باستفادة): أراد أنه غني في ذاته ولا يكون غنياً باستفادة شيء يكون به غنياً، إذ لو كان الأمر كذلك لكان فقيراً إلى ذلك الشيء الذي يكون به غنياً، وفي ذلك وصف ذاته بالحاجة وهو محال.
(لا تصحبة الأوقات): أي لا تكون مصاحبة لذاته مقارنة لها، وكيف تكون مصاحبة له وهو سابق عليها وهي متأخرة عن وجوده.
(ولا ترفده الأدوات): تعينه وتقويه الآلات على ما يفعله من الأفعال المحكمة.
(سبق الأوقات كونه): لأن الأوقات عبارة عن حركات الأفلاك، والأفلاك مخلوقة حادثة، وذاته تعالى واجبة الوجود، فلهذا كانت ذاته سابقة للأوقات.
(والعدم وجوده): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مراده أن وجوده سابق على العدم سبق الرتبة، لا سبق الزمان كما نقوله في سبق العلة على معلولها، وسبق الشمس على نورها؛ لأن ذاته تعالى متحققة المعلومية والوجود، بخلاف العدم فإنه نفي صرف ليس أمراً متحققاً معلوماً فإذا كان تعالى متحقق الوجود في الأزل كان العدم مضافاً إلى ذاته؛ لأن حقيقته آيلة إلى وجوده تعالى ولا شيء معه، والعدم لا يعقل استقلاله بنفسه، وإنما يعقل مضافاً إلى غيره، فلا جرم كانت ذاته سابقة بالرتبة عليه لما ذكرناه.
وثانيهما: أن يكون مراده أن ذاته سابقة سبق الأزمنة؛ لأن العدم لايخلو حاله إما أن يسبقه غيره أو لا يسبقه، فإن سبقه غيره فهو ممكن وإن لم يسبقه غيره وكان بلا أول، فما من معدوم من الممكنات عدمه لا أول له إلا ويمكن وجوده فيكون متناهي العدم من جهة أخرى، وإن كان لا ابتداء له من جهة أوله، والقديم تعالى وجوده، بلا أول على الإطلاق لا يسبقه غيره، فلهذا قال: سبق العدم وجوده.
(والابتداء أزله): لأن الابتداء في كل شيء له أول، فأما الأزل فإن حقيقته نفي الأولية عنها بكل حال.
(بتشعير المشاعر): أي بجعله الحواس شاعرة مدركة لهذه المدركات.
(عرف أنه لا مَشْعَرَ له): علم أن علمه وإدراكه للمعلومات والمدركات ليس بوساطة الحواس ولا هو حاصلاً من جهة، وإنما ذلك حاصل من جهة ذاته لا غير.
(وبمضادته بين الأمور): يعني أنه جعل التضاد بين أمرين يتعاقبان على محل واحد، وبينهما غاية المخالفة، والله تعالى وإن كان مخالفاً لها في الحقيقة والماهية فليس ضداً لها، ولايعاقبها في محالها لاستحالة ذلك على ذاته.
(عرف أنه لاضد له): إذ لو كان ضداً لها لم يمكن اجتماعها في الوجود، فكان يلزم على هذا عدم ذاته، وهي واجبة الوجود، فلهذا استحال أن يقال له: ضد.
(وبمقارنته بين الأشياء): المقارنة بين الأشياء لا يخلو حالها، إما أن تكون في الزمان أو في المكان، أو في المعنى، والزمان والمكان أحوال عارضة، وإما المقارنة في المعاني وهي المشابهة، فالمقارنة لا تخلو من هذه المعاني أو ما شاكلها.
(عرف أنه لا قرين له): لأن هذه المعاني كلها منتفية في حقه فلهذا قارنها واستحالت المقارنة في حقه لما ذكرناه.
(ضاد النوربالظلمة): يريد أنه جعل هذا ضداً لهذا فلا يمكن أن يكون الشيء الواحد مظلماً مضيئاً ولا يكون أسوداً أبيضاً.
(والوضوح بالبهمة): درهم وضح إذا كان أبيض خالصاً، والبهمة: السواد، ومنه قولهم: ليل بهيم إذا كان شديد السواد.
(والجمود بالبلل): أي وجعل الجامد ضداً لما يكون مائعاً يظهر بلله ورقته.
(والحر بالصرد): يريد والحر بالبرد، والصرد: البرد فارسي معرب.
(مؤلف بين متعادياتها): أي هو مؤلف جامع بين المتعاديات وهي التي لا تجتمع لأشياء عارضة فيها، وليس استحالة اجتماعها من جهة ذاتها، ولكن من أمور عارضة، أخذاً لهذا من العداوة؛ لأن كل واحد من العدوين في جانب.
(مقارب بين متبايناتها): يريد أنه ملائم بين ما كان منها في غاية المباينة لصاحبه.
(مقرِّب بين متباعداتها): أراد أن هذا في غاية البُعْدِ من هذا، وذاك في غاية البُعْدِ من هذا، ولكنه جمع بينهما بلطيف حكمته وعجيب صنعته.
سؤال؛ هل يمكن تفرقة بين قوله: (مقارب بين المتباينات، ومقرِّب بين المتباعدات) حتى جعل بناء أحد هما مخالفاً لبناء الآخر ، فأحدهما على لفظ المفاعلة والآخر على لفظ التفعيل؟
وجوابه؛ هو أن التفرقة بينهما ظاهرة، فإن المباينة كما يكون هذا مبايناً لذاك فذاك مباين لهذا، فلهذا خصهما بما كان من المفاعلة؛ لأ ن كل واحد منهما مختص بالتقريب مع صاحبه، فلما كانت أضداداً متباينة فلا بد في كل واحد منهما من دقيق صنعة وحكمة بها يكون قريباً من الآخر، بخلاف المتباعدات فإنها ليست أضداداً فلهذا كان التقريب من أحدهما هو قرب من الآخر، وقرب أحدهما كافٍ عن قرب الآخر فلهذا لم يكن للمفاعلة ها هنا وجه.
(مفرِّق بين متدانياتها): يريد أن الأشياء وإن كانت قريبة متدانية، فإنه يجعلها على حالات وصفات تكون مفترقة لا يمكن تلاؤمها واجتماعها.
(لا يشمل بحد): إما لا تحصره الأمكنة والجهات، وإما لا يشمله الحد المعرف لما هيته؛ إذ يستحيل معرفة حقيقته من جهة ذاته كما قدمناه .
(ولا يحسب بعدٍّ): أي لا يقال فيه: إنه واحد من هؤلاء ولا واحد من أولاك، ويجوز أن يكون مراده أنه لاتركيب في ذاته ولا اثنينية فلا يجري فيها العدُّ بحال.
(وإنما تحد الأدوات أنفسها): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مراده بالأدوات الآلات التي تدرك بها الأشياء، فإن لكل آلة حداً فهي تحد نفسها أي تدركها.
وثانيهما: أن يكون مراده تعريف الأشياء بالحدود المعرِّفة لحقائقها، وحقيقة ذات الله تعالى خارجة عن الحدود فلا يمكن تعريفها بها وإنما تعرف بالبراهين.
(وتشير الآلات إلى نظائرها): يريد أن كل من كان لا يفعل شيئاً من الأفعال ولا يدرك شيئاً من المدركات إلا بالآلات، فهو جسم لا محالة مثلها، والله تعالى منزَّه عن الفعل والإدراك بآلة.
(منعتها منذ القِدمة): الضمير في منعتها للآلات والأدوات وسائر المكونات المذكورة من قبل، وإنما كان الأمر كما قاله في منذ؛ لأن وضع منذ ومذ لابتداء الغاية في الزمان، ولهذا تقول: ما رأيته منذ يومان، ومذ شهران، أي إن أول انقطاع الرؤية هو يومان، وما كان مشاراً إلى أوليته فهو منافي للقدم؛ لأن القدم بلا أول، (والقِدمة) الرواية فيها بكسر القاف وسكون الدال، وهي الحالة من التقدم، كما أن الضِربة والجِلسة حالتان من الضرب والجلوس.
(وحمتها قد الأزلية): لأنها مختصة بالأزمنة، والأزمنة حادثة لا محالة لها غاية ونهاية، والأزلية بلا أول ولا نهاية لها، وأيضاً فإن وضعها لتقريب الماضي من الحال تقول: قد قام زيد، ومنه قولهم: قد قامت الصلاة لمن ينتظر ذلك، يريدون أن زمنها وإن كان ماضياً فهو قريب من الحال.
(وجنبتها لولا التكملة ): لأنها دالة على تعليق الشيء بغيره، ولهذا يقال: لولا علي لهلك عمر ، وما كان معلَّقاً بغيره فهو مفتقر إليه، وما كان هذا حاله فليس من الكمال في شيء.
(تجلى صانعها للعقول): بما أبرز من المكونات الدالة على وجوده وقدرته.
(وبها امتنع من نظر العيون): يريد أن كل ما يدرك من الأجسام والأعراض المخلوقة فلا بد من وجوده في جهة المقابلة، إما على جهة الاستقلال كالجسم، وإما على جهة التبعية لغيره كالعرض، وإذا كان الله تعالى يستحيل عليه أن يكون في جهة على أحد هذين الوجهين بطل أن يكون مرئياً، فكان استحالة رؤيته وامتناعها إنما هو من جهة الأجسام والأعراض لما كان حكمها غير حاصل في ذاته، فكأنه امتنع بها.
(لا يجري عليه السكون والحركة): لا ختصاصهما بالجهات والأمكنة، وهو تعالى يستحيل عليه الحصول فيهما لما قررناه غير مرة، أو لأن الحركة والسكون من توابع الأزمنة، ويستحيل فيه تعالى مقارنة الأزمنة، أو لأن معقول الحركة هو النقلة، والنقلة إنما تكون في حق من كان جسماً، والسكون أيضاً من مفهومه اللبث في جهة وقتين، ولا وقت في الأزل ،فلهذا استحال جري الحركة والسكون عليه لما ذكرناه.
(وكيف يجري عليه ما هو أجراه): يريد أن الحركة والسكون إذا كانتا جائزين على ذاته فهما من لوازمها، وإذاكانا من لوازمها فلا شك في حدوثهما وقدم الذات، فلهذا قال: كيف يلازمه ما هو متأخر عن وجود ذاته بأوقات كثيرة.
(ويعود فيه ما هو أبداه): أي وكيف يعود إلى ذاته ما هي سابقة عليه، وكيف يلازمها وهو حاصل بعد أن لم يكن.
(ويحدث فيه ما هو أحدثه): أي وكيف يحدث في ذاته ما هو موصوف بالحدوث من جهته، وذاته تعالى يستحيل فيها كونها محلاً للحوادث، وحاصلة فيها مما يكون دالاً على حدوثها وبطلان قدمها.
(إذاً لتفاوتت ذاته): يريد اختلفت أحوالها فبينا هي قديمة إذ هي حادثة، وبينا هي لا أول لها إذ صار لها أول، إلى غير ذلك من الاختلافات.
(ولتجزأ كنهه): الكنه: غاية الشيء التي ينتهي إليها، وأراد أنه إذا كان له أجزاء وأوصال وأبعاض، وتؤلف، فلابد من لزوم التجزئة لذاته لأن ما هذا حاله غير منفك عنها.
(ولامتنع من الأزل معناه): من حيث أن ما قارن الحادث وهو الحركة فهو أبداً حادث، وفي ذلك امتناع كونه أزلياً.
(ولكان له وراء إذ وجد له أمام ): يريد أن الحركة إذا كانت مقارنة له فلا بد من القضاء بحدوثه، وفي ذلك ثبوت الأولية له، وهو المعبَّر عنها بقوله: إذ وجد له أمام، وإذا كان له ابتداء فلا بدله من انتهاء، وهو المعبَّر عنه بقوله: ولكان له وراء.
(ولا التمس له التمام إذ لزمه النقصان): يعني أنه إذا ثبت حدوثه فلا بد من لزوم النقصان له؛ لأنه لانقصان أعظم من افتقاره إلى مُحْدِثٍ يُحْدِثُه ويُوجده وإذا تقرر نقصانه من الوجه الذي ذكرناه، طلب له التمام؛ لأنه لو كان تاماً في ذاته لم يطلب له التمام، وإذ في هذه الأمور كلها ظرف معمولة لما قبلها.
(وإذاً لقامت آية المصنوع فيه): لأن المصنوع آيته وعلامته ما كان مفتقراً إلى صانع يصنعه، ومحكم يحكمه، فإذا كان مُحْدَثاً ظهر ذلك فيه.
(ولتحول دليلاً): يريد أنه إذا كان مُحْدَثاً فهو دالٌّ على مُحْدِثِهِ ومُدَبِّره.
(بعد أن كان مدلولاً عليه): يريد بعد أن كان فاعلاً لفعله للأفعال المحكمة المتقنةً فهو مدلول عليه بها، وليس دلالتها عليه إلا لأنه فعلها وأوجدها.
(وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره): كلام مستأنف وارد على جهة الفخامة والمبالغة في عظم شأن الله وجلال كبريائه، وأراد أنه لمكان سلطان امتناعه من سمة الحوادث وجريها عليه واتصالها بذاته، خرج عن أن يكون مؤثراً عما يؤثر في غيره من سائرالحوادث، إما في إخراج ذاتها عن العدم، وإما في تحصيل صفاتها وإثباتها لها، فهذا كله أخرجه جلال الامتناع وسلطانه عنه لمكان عدم الأولية في ذاته، واستحالة تناهيها في كل أحوالها.
(الذي لا يحول ولا يزول): التحول والزوال: هو التنقل والذهاب، وأراد أنهما مستحيلان على ذاته لأن التنقل والذهاب من مفهومهما ولوازمهما الحصول في الجهة والكون فيها، وما كان يستحيل في حقه الجهة فهما لا محالة مستحيلان.
(لم يلد فيكون مولوداً): يعني أن كل مولود فإنه يلد، فلما لم يلد لم يكن مولوداً، وقوله: (فيكون): منصوب لأنه جواب النفي قبله.
(ولم يولد فيكون محدوداً): ولو كان مولوداً لكان لوجوده أول ونهاية فيصير محدوداً في وجوده.
(جل عن اتخاذ الآباء): تعالى حاله عن أن يكون له أب، إذ لوكان له أب لكان موجوداً منه، ولكان لوجوده أول، وقد تقرر أنه لا نهاية لوجوده.
(وطهر عن ملامسة النساء): لأن ذلك إنما يكون في حق من غلبت عليه الشهوة، وكان مائلاً طبعه إلى ذلك، وهو يتعالى عن الشهوات وميل الطباع.
(لا تناله الأوهام فتقدِّره): لا تستولي على كُنْهِ حقيقته وحاله، فتقدِّره من التقدير أي فيكون مقدراً بالإضافة إليها له غاية ونهاية.
(ولا تتوهمه الفطن فَتُصَوِّرهُ): أي وليس حاصلاً في أوهام العقول فيكون مدركاً في حقها بالتصورات المستحيلة على ذاته؛ لأن كل ما يصوَّر في الوهم فالله بخلافه؛ ولأن التصورات إنما يكون مبناها على الأمور المشاهدة، والله تعالى لا نظير له في الشاهد ولافي الوهم والتصور.
(ولا تدركه الحواس فتحسه): يعني السمع والبصر والذوق والشم واللمس، ولو أدركته لكانت محسة له عالمة به من طريق الإحساس.
(ولا تلمسه الأيدي فتمسه): أي ولاتناله الأيدي فتكون ممسكة له.
(لا يتغيَّر بحال): إما لا يتغيَّر في حالة من الحالات ولا وقت من الأوقات، وإما لا يتغيَّر بطرؤ حال عليه فتغيِّره.
(ولا يتبدل في الأحوال): أي ولا تتغير ذاته على تكرير الأحوال وجريها عليه.
(لا تبليه الليالي والأيام): بتكررها عليه وتجددها على ذاته كما تفعل بسائر المكونات فإنها مبلية لها مُخْلِقَة لجدتها .
(ولا يغيره الضياء والظلام): فيزداد بكثرة الظلام سواداً، وبكثرة الضياء نوراً.
(ولا يوصف بشيء من الأجزاء): أراد إما أنه ليس جزءاً من شيء فيوصف بالجزئية، وإما أنه ليس مؤتلفاً فيوصف بالتجزئة.
(ولا بالجوارح والأعضاء): يعني هذه الآلات، ولا له أعضاء كاليد والرجل والوجه والقدم وغير ذلك.
(ولا بعرض من الأعراض): أي ولا يعرض عليه شيء من هذه الأعراض كالحركة والسكون، والانتقال والهبوط، والمجيء والذهاب.
(ولا بالغيرية): المقتضية للمساواة والمشابهة والمماثلة.
(والأبعاض): ولا يقال: إنه بعض من شيء، ولا هو بعض لشيء .
(ولا يقال: له حد ولانهاية): لأن الحدود والنهايات إنما تكون للأشياء الحادثة والأمور الممكنة، فأما من كان يشار إليه بواجبية الوجود، فإنه لا يقال فيه حد ولا نهاية.
(ولا انقطاع لوجوده): ولا غاية لسرمديته.
(ولا أن الأشياء تحويه): أي ولا يقال في الأشياء: إنها مستولية على ذاته محيطة بها من جميع جهاتها.
(فتقله): منصوب لأنه جواب النفي، ومعنى تقلُّه: أي تحمله، من قولهم: أقلَّ هذا إذا حمله.
(أو تهويه): تسقطه.
(أو أن شيئاً يحمله): أي ولا يقال في حقه: إن شيئاً يحمله:
(فيميله): أي فيكون مائلاً به لثقله عليه.
(أو يعدله): أو يكون معتدلاً به في حمله من غير ثقل ولا خفة.
(ليس في الأشياء بوالج): أي ليس مداخلاً للأشياء ملابساً لها، فيكون معها مقارناً لها.
(ولا عنها بخارج): أي ولا هو بمباين لها، فيكون ذلك إغفالاً عن تدبيرها والقيام بحالها وحفظها، وفي هذا دلالة على صحة ما يقوله المتكلمون من أنه تعالى لا يقال فيه: إنه داخل العالم ولا خارج عنه؛ لأنه لو كان داخلاً فيه أو خارجاً عنه لكان حاصلاً في جهة وهو يتعالى عن الجهة وهو محال في حقه.
(مخبر لا بلسان ولهوات): مخبر عن جميع ما سلف من الأمم الماضية والقرون الخالية، أو مخبر عن الأمور الغيبية التي لا يعلمها سواه، أو مخبر عن الحكم الإلهية والأسرار العلمية، من غير آلة كما يخبر عنه، وذلك هو اللسان، واللهاة وجمعها لهوات.
(ويسمع بلا حروف وأدوات ): أي ويسمع جميع الأصوات كلها خفيها ونابهها، وأعلاها وأدناها وإن لم يكن المسموع حرفاً، ويروى بالقاف ، وأراد أن سماعه للأصوات ليس بمنافذ في الآذان ، وكلاهما جيد، ولا يسمع ذلك بآلة هي الأذن وما شاكلها.
(يقول): بالأمر والنهي والإعطاء والمنع والقبض والبسط.
(ولا يلفظ): بلسان ولا جارحة.
(ويحفظ): الأشياء كلها، وتكون صادرة عن حفظه وإتقانه.
(ولا يتحفظ): يكتسب التحفظ من غيره.
(ويريد): تصدر الأفعال عن داعيته وإرادته.
(ولا يضمر): أي وليس ذا قلب فيضمر فيه ما يقع في نفسه من ذلك.
(يحب ويرضى): الأفعال الصالحة أي يريدها ويأمر بها، أو يحب الأولياء والصالحين ويرضاهم على معنى أنه يريد النفع لهم.
(من غير رقّة): تكون لاحقة به؛ لأن ذلك إنما يكون في حق من كان له قلب فيرقُّ لمكانه.
(ويبغض ويغضب): يبغض الأعمال السيئة، ويغضب على فاعليها، أويبغض الكفرة وأهل الفسوق على معنى أنه يريد إنزال الضرر بهم والعقوبة.
(من غير مشقة): تلحقه في ذلك؛ لأن المشقة إنما تكون في حال من لا يقدر على الانتقام وتغيير ما يكره فيلحقه من ذلك مشقة وألم.
(يقول لما أراد كونه: كن فيكون):حكاية لكيفية إيجاده للمكونات، وذلك بأن يقول لها: كوني فتكون على السرعة من غير مخالفة له في أمره ولا تأخر عن إرادته، ولا تلبث عن إجابة داعيته .
(لا بصوت يقرع): أي لا تقرع له الأصوات فتنبهه، أو لا بصوت يفزعه فيلحقه به مشقة لأجل فزعه منه، وكلا الروايتين صحيح المعنى، وسماعنا هو الأول.
(ولا نداء يسمع): أي ولا بنداء يكون سامعاً لأجله، ففي كلامه هذا دلالة على أن إدراكه لما يدرك وغضبه ورضاه ومحبته وبغضه، مخالف لسائر المخلوقات، وإنما تكون على الحد اللائق بذاته والخليق بحكمته من ذلك على ما ذكرناه.
(وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه): يريد أنه من جملة أفعاله فعله بالداعية، وأنشأه على بعث الحكمة وقانون الإتقان والمصلحة.
(ومثَّله، لم يكن من قبل ذلك كائناً): هذا بعينه إشارة إلى هذيان الأشعرية من أن كلام الله صفة حقيقية قائمة بذاته وأنها غير حرف ولا صوت، وأنها حاصلة فيما لا أول له، وأنها قديمة مع ذاته، فلهذا قال بهذه المقالة يشير بها إلى حدوثه من أوجه:
أما أولاً: فقوله: إنه كلامه والكلام ما فعله المتكلم.
وأما ثانياً: فقوله: بأنه فعله وهذا تصريح بحدوثه.
وأما ثالثاً:فقوله: إنه أنشأه.
وأما رابعاً: فقوله: لم يكن من قبل كائناً، ولو كان قديماً لكان كائناً في الأزل.
فهذا كله يدفع وجوههم ويدرأ به في نحورهم عن شنيع هذه المقالة، وقبيح هذه الجهالة.
(ولوكان قديماً لكان إلهاً ثانياً ): ثم أخذ في إبطاله على أسلوب آخر على جهة الإلزام فقال:
لو كان قديماً يريد كلام الله تعالى، لكان إلهاً ثانياً، وهذه منه إشارة إلى خلاصة ما يقوله المتكلمون من العدلية في إبطال مذهبهم من أن القدم إن كان أمراً زائداً على الذات فهو وصف خاص، والاشتراك فيه يوجب الاشتراك في الأوصاف الإلهية فيلزم كونه إلهاً، وإن كان هو نفس حقيقة الذات فقد شارك الله في نفس حقيقته، فيلزم من هذا كله أن يكون إلهاً، فأهون بمذهب هذه خلاصته، وأبعد باعتقاد هذا نخبه ونقاوته.
(لا يقال: كان بعد أن لم يكن): خروج إلى حال وصف القديم تعالى فإنه لايقال فيه: كان بعد أن لم يكن؛ لأنه لو كان الأمر فيه كما قلناه لكان محدثاً، ولهذا قال بعد هذا:
(فتجرى عليه الصفات الْمُحْدَثَات): يريد أنه يصير متجدداً فيحتاج إلى مُحْدِثٍ وصانع كما كان ذلك لازماً في سائر الأمور المتجددة الحادثة.
(ولا يكون بينه وبينها فصل):يريد أنه إذا كان متجدداً فلا فصل هناك بينه وبينها لاشتراكهما أجمع في كونهما حادثين .
(ولا له عليها فضل): لأنهما إذا كانا حادثين معاً، فأي فضل لأحدهما على الآخر، مع استوائهما في وجه الحاجة إلى غيرهما وهو الحدوث.
(فيستوي الصانع والمصنوع): لأن الإله إذا كان حاصلاً بعد أن لم يكن، والمخلوقات كلها حاصلة بعد أن لم تكن استويا لامحالة في نظر العقول، ولم يكن لأحدهما مزية على الآخر.
(وتكافأ المبدع والبديع ): المبدع: هو الفاعل للإبداع والخلق، والبديع هو: المخلوق على جهة الإبداع والاختراع.
(خلق الخلق على غير مثال خلا من غيره): أراد أنه أوجد الخلائق كلها على غير مثال حذا عليه ومضى، وكان سابقاً له في الإيجاد فيأخذ فعله للإيجاد منه.
(ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه): يعني أنه مستبدع في جميع ما خلق وقدَّر، وأحكم وصوَّر من هذه الإحكامات الغريبة، والبدائع العجيبة من غير إعانة من جهة أحد من الخلائق له في ذلك، وقد مضت هذه المعاني كلها في مواضع متكررة على أنحاء مختلفة، وألفاظ متباينة.
ثم إنه خرج في وصف حال الأرض وخلقها بقوله:
(وأنشأ الأرض): ابتدأها واخترعها.
(فأمسكها من غير اشتغال): بإمساكها عن إمساك ماهو أعظم منها وأبلغ، كالسماوات والعرش والكرسي وغيرها من المخلوقات ، أو من غير اشتغال عن تدبيرها وتدبير غيرها من سائر المكونات العظيمة.
(وأرساها على غير قرار): أسكنها على غير مستقر ولا على ما أشار إليه من كونها مدحوة على البحر إلى منتهى علم الله تعالى في ذلك.
(وأقامها بغير قوائم): تدعمها وتكون مستقرة عليها.
(ورفعها بغير دعائم): عن الوقوع أو عن الماء والحصول فيه من غير دعامة هناك ولا اسطوانة.
(وحصَّنها من الأود): يريد منعها من الاعوجاج.
(والاعوجاج): يريد وأزالها عن الميل والاضطراب في وقوفها على الماء.
(ومنعها من التهافت): الوقوع.
(والانفراج): التصدع.
(أرسى أوتادها): أسكن جبالها فيها؛ لتكون مانعة لها عن التحرك والزوال.
(وضرب أسدادها): أرسل الحواجز فيها ؛ لتكون حاجزة لها.
(واستفاض عيونها): أي جعلها فائضة يسقى بها.
(وخدَّ أوديتها): لمجاري سيولها، وسلوك طرقها، وعمارتها بالأشجار والزروع العظيمة.
(فلم يَهِنْ ما بناه): يضعف ما شيَّده وقرَّره.
(ولا ضعف ما قوَّاه): بالخراب والبطلان والتهدم.
(هو الظاهرعليها): الضمير في عليها لجميع المكونات المذكورة أولاً.
(بسلطانه وعظمته): أي هو المستظهر عليها بالملك والقهر والاستيلاء.
(وهو الباطن لها بعلمه): يريد أن علمه محيط ببواطنها وأسرارها وضمائرها.
سؤال؛ أراه أضاف الظهور إلى السلطان والعظمة، وأضاف البطون إلى العلم، وكما هو يعلم الظاهر من الأمور، فسلطانه أيضاً مستولٍ على الخفايا والدقائق؟
وجوابه؛ هو أن السلطان والعظمة إنما يتناولان جلائل الأشياء وأعلاها، فلهذا أسنده إلى ظهوره عليه، وبطونه تعالى إنما يستعمل في الخفايا والدقائق، فلهذا أضافه إلى العلم إسناداً إلى كل شيء ما يليق به وإلى ما هو أحق به.
قوله: كما يعلم الظاهر من الأشياء، فهو يستولي بسلطانه على أدق الأشياء، قلنا: هذا مُسلَّم، ولكن ما ذكرناه أحقُّ وأدقُّ، وأظهر وأكشف وأرشق.
(ومعرفته): أي ومن أجل معرفته تكون الإحاطة والاستيلاء.
(والعالي على كل شيء منها): العلو ها هنا: هو القهر كما مرَّ في غيره، فإن الجهة مستحيلة على ذاته.
(بجلاله وعزته): الجلال: هو الحال المستحق بالإلهية والربوبية، والعزة: هو التعزز بالقهر والاستيلاء.
(لا يعجزه شيء منها طلبه): الطلب مرفوع على بدل الاشتمال من شيء، أي لا يعجزه طلب شيء منها، كما تقول: أعجبني زيد علمه، والمعنى أنه لا يعجز عمَّا أراد من إيجاده منها.
(ولا يمتنع عليه شيء فيغلبه): أي ولايتعذر عليه شيء منها، فيكون غالباً له بالامتناع عن نفوذ قدرته فيه.
(ولا يفوته السريع منها): إلى مخالفة مراده فيما أراده منه.
(فيسبقه): على النصب لأنه جواب للنفي ، والمعنى فيكون سابقاً له بالفوات عن أمره ومراده، وإنما قال: السريع مبالغة؛ لأنه إذا لم يسبقه السريع فما ظنك بخلافه هو إلى عدم السبق أقرب.
(ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه): يريد وليس فقيراً فيكون محتاجاً إلى ذي يسار يعطيه الرزق، بل هو الرَّازق، المغني، القابض، الباسط.
(خضعت الأشياء له):انقادت لأمره فذلَّت، فكانت جارية على نعت الذلة.
(مستكينة): معترفة بالمسكنة.
(لعظمته): من أجل ما اختص به من العظمة.
(ولا تستطيع الهرب من سلطانه): يريد أن أوامره ونواهيه نافذة فيها، فلا يمكنها الامتناع والهرب من قهره وقدرته، وعبَّر بالسلطان عن ذلك.
(إلى غيره): إلى من يجيرها منه ويمنعها عن نفوذ أمره.
(فتمتنع): فتكون ممتنعة بذلك الغير والاعتزازبه.
(من نفعه وضره): من نفعها إذا أراد نفعها، أو من ضرها إذا أراد ضرها، كما يفعل من اعتزَّ بملك من الملوك عن غيره، فإنه يمتنع لا محالة عمن هرب عنه بالاستجارة بالآخر، ويعجز عن إيصال الضرر والنفع إليه، كل ذلك لضعف حاله وعدم قدرته، والله تعالى بخلاف ذلك كله لا ستيلاء قدرته وكمال سلطانه، كما قال: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ }[المؤمنون:88] يشير إلى هذا المعنى.
(ولا كُفْءَ له فيكافئه):الكفؤ: المثل، أي وليس له مثل فيكون مكافئاً له يفعل مثلما يفعل.
(ولا نظير له فيساويه): النظير: المماثل أيضاً، أي ولا نظير له فيساويه في كل أحواله جميعها.
(هو المفني لها بعد وجودها): الضمير إما للأرض، وإما لجميع المكونات وهو أحسن وأعجب، يريد أنه هو المُعْدِم لها بعد وجودها، إن قلنا: إن الإفناء هو الإعدام، وإن قلنا: إنه هو التفرّق، فأراد أنه هو المفرِّق لأجزائها بعد أن كانت مجتمعة، كما أشارت إليه ظواهر الشريعة في ذكر أحوال القيامة.
(حتى يصير موجودها كمفقودها): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره: فتذهب وتعدم حتى يصير ماكان منها موجوداً مثل ما كان مفقوداً، إما في العدم، وإما في التفرّق.
(وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها): يريد أن إعدامها مثل إيجادها بالإضافة إلى القدرة الإلهية، كما قال تعالى رداً على منكري الإعادة: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }[الإسراء:51] فما فناؤها:
(بأعجب من إنشائها واختراعها): ومن ها هنا أكثر الله الاحتجاج في كتابه الكريم على جهال منكري الإعادة في استبعاد ذلك، وضرب لهم الأمثلة، وكرر عليهم البراهين والأدلة، وأفحمهم فيما جاءوا به من الاستبعاد من أجل ذلك.
(وكيف): تعجب من إنكار ذلك، ثم دلَّ عليه بما هو أبهر في القدرة وأعجب منه بقوله:
(ولو اجتمع جميع حيوانها): الضمير للكائنات كلها.
(من طيرها وبهائمها): تفصيل لأجناس الحيوانات.
(وما كان من مُراحها وسائمها): المراح: موضع الإبل، وعبَّر به ها هنا عمَّا كان معلوفاً منها، والسائم: ما كان يرعى.
(وأصناف أشباحها ): الشبح: ماكان له حجم يرى.
(وأجناسها): المختلفة المشتملة على ضروب كثيرة، فالحيوان جنس لاشتماله [على حقائق مختلفة كالأسد والفرس والحمار، وكل واحد من هذه نوع لاشتماله] على أفراد متعددة متماثلة.
(ومتبلد أممها): وما كان من الأمم في غاية العي واللُّكنة.
(وأكياسها): جمع كَيِّس، وهو ما كان في غاية الذكاء والفطنة.
(على إحداث بعوضة): إيجادها حية واختراعها على ماهي عليه الآن دون المثال والتصوير.
(ما قدرت على إحداثها): نفي على جهة العموم والشمول، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ }[الأنبياء:34] وغيره.
(ولا عرفت السبيل إلى إيجادها): خلقهم لها بشراً سوياً من جهتهم.
(ولتحيرت عقولها): ذهلت وتاهت.
(في علم ذلك): في إدراك حقيقته ومعرفة كنه الإحكام فيها وكيفية الصنعة.
(وتاهت): تحيرت أفهامها.
(وعجزت قواها): عن إدراك ذلك وتحصيله.
(وتناهت): عرفت أن لها نهاية تقف عندها ولا تبلغ ذلك ولا تقدر عليه.
(ورجعت خاسئة): الخسؤ هو: زجر للكلب .
(حسيرة): منقطعة حسرة.
(عارفة بأنها مقهورة): متحققة عن علم ومعرفة بأنها مغلوبة عن ذلك.
(مقرَّة بالعجز): مصرِّحة به.
(عن إنشائها): عن أن تكون قادرة على إيجادها وتحصيلها.
(معترفة بالضعف): عن أن تكون مُوْجِدة لها.
(وعن إفنائها): إعادتها بعد إعدامها، ففي كلتا الحالتين العجز حاصل عن الإيجاد والإعدام، وفي كلامه هذا إشارة إلى أمرين:
أحدهما: عظيم قدرة الله تعالى على ما يقدر من هذه المكونات، واختراعه لهذه الموجودات العظيم أمرها، الباهر قدرها.
وثانيهما: عظم ضعف حال الخلق على القدرة على أحقر بعض مخلوقاته وأدناها، وإنما مثَّل بالبعوضة لما مثَّل الله وضربها مثلاً في كتابه الكريم، وإلا فهم عاجزون لا محالة عن أحقر من ذلك عن إيجاد الجوهر من الواحد من بعض جناحها، إذ لا أصغر منه في المقادير، ولو قدروا عليه لقدروا على ما هو أبلغ منه وأكبر.
ثم إنه عليه السلام خرج إلى أسلوب آخر من تحقيق حاله تعالى ووصف جلاله بقوله:
(وإنه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده): ليس الغرض بالعودة تغير عن حالة كان عليها، وإنما مراده أنه يصير بعد فناء الدنيا وإعدامها، وإذهاب أحوالها كلها منفرداً لا أحد معه من الملائكة والثقلين.
(لا شيء معه): من هذه المكونات.
(كما كان قبل ابتدائها): إيجادها واختراعها، الكاف في موضع الحال في قوله: كما كان من الضمير في يعود أي يعود بعد الإفناء مشبهاً بحالته في الابتداء من غير تفرقة.
(كذلك يكون بعد فنائها): بيان لقوله: إنه يعود بعد فناء الدنيا وحده واستحضار له.
(بلا وقت ولا مكان): يشير إلى الابتداء والانتهاء لبطلان ذلك كله.
(ولا حين ولا زمان): لأن الأحيان والأزمان عبارة عن حركات الأفلاك، ولا أفلاك هناك ولا شيء من المكونات أصلاً.
(عدمت عند ذلك الآجال): الإشارة بقوله: ذلك، إلى حالة الإفناء، وأراد أنه لا آجال هناك لانقضائها وبطلانها.
(والأوقات): يريد أنه لا حقيقة لها ولا وجه لكونها.
(وزالت السنون والساعات): لبطلان أصولها وما هي حقيقة فيها من جري الشمس والقمر، وطلوعهما وغروبهما؛ لأن ذلك كله تقدير للساعات والسنين.
(فلا شيء): هناك حينئذ، ولا يمكن له وجود.
(إلا الواحد): في ملكه.
(القهار): في سلطانه وعزته.
(الذي إليه مصير جميع الأمور): قد فسرنا المصير وبينا خروجه عن قياس بابه وأن قياسه الفتح، وأراد أن إليه مرجع الأمور كلها وهو غايتها ومنتهاها.
(بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها): يريد أنها في كلتا حالتيها من الابتداء والإفناء فلا قدرة لها على واحد منهما، فلا تقدرعلى ابتداء خلقها واختراعه.
(وبغير امتناع منها كان فناؤها): يريد أنه وإن أفناها فهي غير ممتنعة عن ذلك.
(ولو قدرت على الامتناع): من الإعدام والإفناء والتفرق.
(لدام بقاؤها):لعدم ما يغيره ويقهره عن دوام الوجود؛ لأن الباقي بعد وجوده بقاؤه لذاته إلا لطرؤ طارئٍ يقهره، إما بطرؤ ضد له، وإما لزوال شرط لوجوده ، فلما لم تكن باقية عند إرادته لإعدامها دل ذلك على فوات القدرة على الامتناع من جهتها.
(لم يتكاءده): تكاءدني كذا إذا شقَّ عليك فعله.
(صنع شيء منها إذ صنعه): يريد أنه لم يشق عليه فعل ما يفعله عند فعله، أو في زمان فعله وإيجاده له لذاته.
(ولم يؤُده منها خلق ما برأه وخلقه): أي ولم يثقله ما برأه وأوجده من خلقها وتكوينها وإيجادها.
(ولم يكوِّنها): أراد إما لم يقل لها: كوني، وإما لم يوجدها.
(لتشديد سلطان): من أجل أن سلطانه يكون عظيماً شديداً بخلقها كما تفعل الملوك بجمع العساكر، وحشد الخلائق من أجل تقوية أمرهم ونفوذ سلطانهم.
(ولا لخوف من زوال ونقصان ): ولا أوجدها من أجل خوفه على زوالها عن ملكه، ولا عن نقصانها بملك غيره لها.
(ولا للاستعانة بها على ندٍّ مكاثر): الند: المثل، أي وما خلقها من أجل أن يستعين بها على من هو ندٌّ له مكاثر له في ملكه.
(ولا للا حتراز من ضد مثاور): ولا من أجل أن يحترز ممن يضاده عليها ويثاوره على أخذها، واستئصال أمره فيها.
(ولا للازدياد بها في ملكه): ولا من أجل أن يكون ملكه زائداً على ملك غيره بكثرتها.
(ولا لمكاثرة شريك في شركه): ولا كان ذلك من أجل المكاثرة لمن هو شريك له، فيكون ما في يده أكثر مما تحويه يد شريكه.
(ولا لوحشة كانت منه): حصلت من جهته، فتكون باعثة على خلقها وإيجادها.
(فأراد أن يستأنس بها ): فيكون الأنس هو الداعي إلى خلقها.
(ثم هو يفنيها بعد تكونها ): ثم أعجب من هذا أنه يُعْدِمُها بعد إيجادها كما مر تقريره.
(لا لسأم دخل عليه في تصريفها):يريد أن الإفناء ليس الداعي إليه هو السآمة والملل، وثقل التصرف، والتدبير عليه في أحوالها كلها.
(وتدبيرها): وإحكام ما يحكم من أمورها.
(ولا لراحة واصلة إليه): يريد أنه لا يستريح بالترك لتدبيرها وإغفال الأمر عنها.
(ولا لثقل شيء منها عليه): ولا كان ذلك من أجل أنه ثقل عليه أمرها وتدبير الأمر فيها.
(ولا يملّه طول بقائها): أي ولايكون مالاًّ من أجل كونها باقية فيحتاج إلى نفوذ الأقضية، والتدبيرات العظيمة، فتلحقه ملالة ببقائها ودوامها.
(فتدعوه): تلك الملالة وتكون باعثة له على الإفناء.
(إلى سرعة إفنائها):ليفرغ عن ذلك.
(لكنه): إضراب عمَّا قرره فيما مضى.
(سبحانه): تنزيهاً له عمَّا لا يليق بأفعاله.
(دبرها بلطفه): أحكم أمرها بلطيف حكمته ودقيق رأفته ورحمته.
(وأمسكها بأمره): عن السقوط والتغير والزوال.
(وأتقنها بقدرته): أحكمها في أمورها كلها بالقدرة المختصة به.
(ثم يعيدها بعد الفناء): يُوْجِدُها بعد الإعدام لها.
(من غير حاجة إليها): فتكون سبباً في الإيجاد بعد الإعدام.
(ولا استعانة بشيء منها عليها): يعني ولا استعان بشيء من حال هذه المكونات على إعادتها بعد إفنائها.
(ولا لانصراف من حال وَحْشَةٍ): يريد ولم يُوْجِدها بعد الإعدام؛ لأن يكون منصرفاً بذلك من حال وحشة بعدمها .
(إلى حال استئناس): بوجودها.
(ولا من حال جهل وعمى إلى علم والتماس): أي ولا كان إيجادها؛ لأن إعدامها كان عن جهل وقلة بصيرة بالأمور فيعود بإيجادها إلى علم بالإحكام، والتماس الهدى فيه.
(ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكثرة): أي ولا كان إعدامها من أجل فقره فلا يقدر على رزقهم، وإفضال القوت عليهم، فيكون بإيجاده لهم عن زيادة مال وكثرة فيه، ويحتمل أن يقال: ولا كان إيجادها من فقر وحاجة فيوجدهم ليستغني بهم ويأخذ من عطائهم، ولا عدمهم كان منه ليستغني بما كان من ورائهم.
(ولا من ذل وَضَعَة): صَغَار وضعف في حاله، فيكون إيجادهم من جهته:
(إلى عز وقدرة): أي فيكون عزيزاً يإيجادهم، ومقتدراً على غيره بهم.
وأقول: إنه قد بلغ في هذه الخطبة في وصف حال الله تعالى، وعجيب اقتداره على خلقه في الإفناء والإعادة، وإظهار الاستغناء عنهم في كل أمر من الأمور، وذكر باهر القدرة في عجيب الخلق مبلغاً عظيماً بحيث لا يبلغه أحد من الخلق، ولا يقدر على وصفه، ولا يمكن الإحاطة بعجائبه.
(219) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الملاحم
(ألا بأبي وأمي من عدة أسماؤهم في السماء معروفة): يشير بما ذكره ها هنا إلى الخطبة التي قدمنا شرحها، حيث قال عليه السلام:
(وما برح لله عزت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فِطَرِهم، وكلمهم في ذات عقولهم): إلى غير ذلك من ذكر أولياء الله في خطبه، المخصوصين من عنده بالكرامة، وأراد أنهم لشرفهم عند الله وقرب منازلهم بالإضافة إليه يفديهم بأبيه وأمه إكراماً لهم، وإعظاماً لما عظَّم الله من أمرهم، وغرضه أن أسماءهم عند الله معروفة لايلتبسون بغيرهم، ولا لأحد منزلة مثل منزلتهم.
وزعم الشريف علي بن ناصر الحسيني: أن مراده عليه السلام مما ذكره هو الإشارة إلى أحد عشر من الأئمة المعصومين بعده ، والثاني عشر هو الإمام المنتظر بزعمهم، فلهذا لم يذكره وإنما ذكر هؤلاء لتقدم إمامتهم، وهذا من هذيان الإمامية وهوسهم، وقد رددنا عليهم في كتبنا العقلية مقالاتهم هذه الفاسدة، وتحكماتهم الجامدة من إيجاب الإمامة عقلاً لكونها لطفاً، ومن حصر الإمامة في اثني عشر إماماً من غير زيادة، ومن دعواهم العصمة في هؤلاء، ولهم تهويسات في الإمامة وتحكمات باطلة لم يشر إليها عقل، ولا دلَّ عليها نقل، ومن أرادها باستيفاء، فليطالعها من كتاب (الشامل) في الإمامة.
(وفي الأرض مجهولة): أي أنهم لا يعرفون في الأرض من أجل إخباتهم وتواضعهم، فيكاد لا يؤبه لأحوالهم ولا يشعر لها.
(ألا فتوقعوا ما يكون من إدبار أموركم): يعني في آخر الزمان، وقرب أحوال القيامة، فإن الأمور الدينية تكون لا محالة إلى نقصان عظيم.
(وانقطاع وُِصلكم): بينكم وبين الله تعالى لكثرة الفساد والظلم في الأرض.
(واستعمال صَغَاركم): يريد وتؤخذون بالصغار والذلة في أحوال دينكم.
(ذلك ): إشارة إلى ما ذكره من إدبار الأمور وانقطاع الوصل:
(حيث تكون ضربة السيف على المؤمن أهون من الدرهم من حله): حيث ها هنا ظرف مكان متعلق بكلام مقدر تقديره: ذلك الصغار واقع حيث يكون الظلم فاشياً، والحلال قليل ، ويكون ذاك الذي ذكرته إذا صار اكتساب درهم حلال أصعب من احتمال ضربة السيف، وفي الحديث: ((طلب الحلال فريضة على كل مسلم )) ، وفي حديث آخر: ((من أكل الحلال أربعين يوماً نوَّر الله قلبه، وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه)) .
(ذلك ): الذي ذكرته من قبل.
(حيث يكون الْمُعْطَى أعظم أجراً من الْمُعْطِي): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مال الْمُعْطِي حراماً وهو يعلم حرامه، والْمُعْطَى لا يعلم ذلك وهو أهل لما يأخذه من ذلك، فالإعطاء يكون حراماً ظلماً لما فيه من الغرر، والآخذ يؤجر عليه؛ لأن غرضه سدُّ حاله.
وثانيهما: أن يكون الْمْعِطي إنما يعطي رياء وسمعة، والْمُعْطَى إنما يأخذه لسدِّ فاقة أو ستر عورة أو بلغة إلى الآخرة.
(ذاك حيث تسكرون من غير شراب): يريد حين تشتد الغفلة ويعظم السكر باللهو والطرب، وإغفال أمر الآخرة والدين.
(بل): إضراب عمَّا ذكره من إثبات السكرة لهم من غير شراب، وإثباتها:
(من النعمة والنعيم): هما لفظان متطابقان على معنى واحد كالغم والغمة، والكرب والكربة، ويجوز أن يكون مراده بالنعمة واحدة النعم، ويريد بالنعيم الجنس.
سؤال؛ ما هو المحذورمن النعمة و الذي يخشى ضرره في الآخرة، وما من أحد من الخلق إلا وعليه نعيم من الله تعالى ؟
وجوابه؛ هو أن المحذور من ذلك هو من يعكف همه على استيفاء اللذات، واستغراق وقته في الخضم والقضم، ولبس الطيب وأكل الطيب، ويقطع أوقاته باللهو والطرب، ولا يخطر بباله أمر الآخرة وأحوالها، فهذا هو المحذور، فأما من يظهر نعمة الله التي خلقها من أجل عباده للتجمل وللتقوّي بها على درس العلم، والقيام بالعمل به، فذاك بمعزل عنه.
اللَّهُمَّ، اجعلنا ممن أقرَّ بنعمتك وشكرها، ولا تجعلنا ممن أبطرته فأعرض عنها وكفرها.
(وتحلفون من غير اضطرار): يريد أنهم جعلوا الله تعالى نصباً لأعيانهم فلا يزالون يرددون الحلف بالله في كل ما عنَّ وسنح، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ }[البقرة:224] أي نصباً لأعيانكم، من قولهم: فلان عرضة للناس أي يقرضونه بألسنتهم، واليمين إنما شرعت من أجل الضرورة، وهو أن من في يده المتاع فإنه يحلف على جهة الاضطرار ليرفع بها دعوى من يدَّعيه.
(وتكذبون من غير إحراج): ويصدر من جهتكم الكذب من غير إلجاء إليه، يقال : أحرجه إلى الشيء إذا ألجأه إليه.
(ذلك): إشارة إلى المذكور أولاً من جميع ما أشار إليه.
(إذا عضكم البلاء): الامتحان بهذه الأشياء والاختبار من جهة الله تعالى.
(كما يعضُّ القتب غارب البعير): القتب للجمل مثل السرج للفرس، والعضُّ ها هنا مجاز في حق البلاء، وأراد أن هذه المحن والبلاوي تأخذ منكم وتنقصكم كما يأخذ القتب من غارب البعير فإنه يأكله، والغارب من الجمل مثل المنسج للفرس ، وهو أعلى الكتف.
(ما أطول هذا العثار ): تعجب من طول عثارهم في المعاصي وأنواع الفسوق في ذلك الزمان.
(وأبعد هذا الرجاء): يريد وما أبعد رجاءهم عن الخلاص عمَّا هم فيه من هذه المحن والبلاوي، فهذا هو مراد أمير المؤمنين بما ذكره من عدة الأسماء، وبما ذكره في هذه الملحمة.
والعجب من هذا الشريف في تنزيله لكلامه عليه السلام على الأئمة الأحد عشر، ومع ما فيه من البعد والإفراط في التجاوز عن الحد، فهو مخالف لما عليه أئمة الزيدية، والجماهير من المعتزلة، وغيرهم من السلف، والمختص بهذا المذهب إنما هو الإمامية الاثنا عشرية لا غير، وأبعد من هذا إمامهم هذا المنتظر، فإنه بزعمهم محيط بجميع أسرار العلوم، مستولي على الإحاطة بالعلوم الغيبية، ومع ذلك فإنه ليس له في الدنيا أثر ولا يُرَى له شخص، ولا يُسْمَعُ له خبر، حتى قال بعضهم مستهزئاً بهم:
ثلاثة ليس لها إنباء ... إمامكم والغول والعنقاء
(أيها الناس، ألقوا هذه الأزِمَّة): يقال: ألقى زمام هذا الأمر من يده إذا تركه وأهمله، وأراد اتركوا هذه الفتنة التي جنتها أيديكم، واستعملتم أنواع الشبه وضروبها، مشبهة بمن يلقي زمام ناقته فلا يملك رأسها.
(التي تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم): استعار الظهور ها هنا للإبل أي تحمل أثقال الفتنة، وأعباءها وآثامها، ومن أيديكم متعلق بقوله: ألقوا هذه الأزمة، ومن لابتداء الغاية.
(ولا تصدَّعوا على سلطانكم): تصدَّع الأمر إذا تفرَّق وذهب، وأراد ولا تفرَّقوا عن رأي من يجمع شملكم، وهو إمامكم.
(فتذموا غِبَّ أفعالكم): الغبُّ: عاقبة الشيء، فيقبح عندكم عواقب ما فعلتموه من ذلك، وتذموا منصوب لكونه جواباً للنهي في قوله: ولا تصدَّعوا.
(ولا تقتحموا ما استقبلكم من فور نار الفتنة): قحم فرسه فاقتحم النهر إذا أدخله فيه، والفور: شدة حرارة النار وقوتها، من قولهم: فارت القدر إذا جاشت، وأراد نهيهم عن الدخول في عظيم ما يستقبلهم من الفتن وعواقبها الوخيمة، وأمور ها العظيمة.
(وأميطوا عن سَنَنِهَا): أمطت عنه الأذاء إذا أزلته، وفي الحديث: ((أمطه عنك بإذخرة )) وأراد هاهنا وزولوا عن جهتها وطريقها كيلا تقعوا فيها فتهلكوا.
(وخلوا قصد السبيل لها): أي اتركوا سواء السبيل التي تكون فيه وتسلك سَنَنَهُ، واهربوا منه كيلا تقعوا فيه.
(فقد لعمري يهلك في لهبها المؤمن): يريد أنها تناله باستطالة لهبها وقوة شررها فيقع فيها فيهلك مع شدة حذره منها.
(ويسلم فيها غير المسلم): ويحذر منها الفاسق والكافر فينجوان من لهبها، وشدة حرها.
(إنما مثلي بينكم): مع جهلكم ونفوذ بصيرتي واتقاد قريحتي، وجمود فطنكم .
(مثل السراج في الظلمة): فإنه لا محالة رافع لظلمتها، مزيل لسوادها.
(يستضيء به من ولجها): ينتفع به من ظلامها من دخل فيها وكان سائراً في طريقها.
(فاسمعوا أيها الناس وعوا): فأصغوا إليه آذانكم لتسمعوه، وأوقعوه في أذهانكم لتعوه.
(وأحضروا آذان قلوبكم تفهموا): يريد أن القلوب إذا أقبلت آذانها إلى المسموع، فإنه يكون أقرب إلى الفهم والوقوع في القلب .
(220) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الموت
(أوصيكم أيها الناس بتقوى الله): اتقائه وخوفه.
(وكثرة حمده على آلائه إليكم): يشير بهذا إلى أن آلائه قدبلغت كل غاية في الكثرة، فالحمد لا بد من أن يكون كذلك.
(ونعمائه عليكم): وما يتكرر من نعمه عليكم.
(وبلائه لديكم): امتحانه واختباره لكم.
سؤال؛ الآلاء والنعم هي من جملة المسارّ والملاذ العظيمة، والبلاء هو من جملة الآلام والمحن والمصائب، فمن أين اتصال أحدهما بالآخر، حتى جاز العطف له على ما تقدم ذكره من النعم والآلاء؟
وجوابه؛ هو أن البلاء وإن كان مكروهاً للنفوس وهي لا تريده وتكرهه فإن فيه ألطافاً عظيمة، واستصلاحات بالغة، فلهذا كان داخلاً في جملة النعم، ولهذا عطفه عليها لما بينهما من الملائمة.
(فكم خصكم بنعمة):كم هذه هي الخبرية، وإنما حذف مميزها مبالغة في الإبهام بحالها، والمراد بها التكثير، وتقدير مميزها تارة يكون بالزمان أي كم يوماً، وتارة بالمكان أي كم مرة، وتارة بالمصدر أي كم دفعة، وتنكير النعمة مبالغة في حالها أي كم خصكم بنعمة وأي نعمة.
(وتدارككم برحمة!): التدارك هو: التلافي، وأراد وتلافاكم عن الوقوع في المعصية بما كان من جهته من الألطاف الخفية والصوارف المصلحية التي لا تشعرون بها.
(أعوزتم فستركم): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون الإعواز هو الفقر، وأراد افتقرتم فستركم عنِ سؤال الخلق والتكفف عليهم بما أغناكم به من اليسار.
وثانيهما: أن يكون مراده من ذلك هو استحقاق العقوبة، من قولهم: أعوز الرجل إذا ظهر منه موضع خلل للضرب ، وهذا من تعسفات الشريف على بن ناصر، ومع ما فيه من البعد فهو مخالف لوضع اللغة، فإن الإعواز بالمعنى الذي ذكره غير وارد .
(وتعرضتم لأخذه فأمهلكم): التعرض ها هنا إنما هو بفعل المعاصي للأخذ بالانتقام وإنزال العقوبة، وقطع الدابر، كما فعل بمن كان قبلكم من الأمم والقرون، والإمهال: تنفيس المهلة، وكل ذلك من جهته على جهة العفو والرحمة.
(وأوصيكم بذكر الموت): لا يزال نصب أعينكم، وجارياً على ألسنتكم.
(وإقلال الغفلة عنه): أراد وأحذِّركم عن إقلال الغفلة عنه فإن بذكره تزكو الأعمال الصالحة، ويقرِّب الآجال البعيدة، وتقل الرغبة في الدنيا، وفي الحديث: ((أكثروا من ذكر هاذم اللذات )) فما رغَّب الشرع فيه إلا من أجل اشتماله على المصالح العظيمة الدينية.
(وكيف غفلتكم): تعجب من غفلتهم، وإعراضهم عن ذكره.
(عمَّا ليس يغفلكم): أراد عمَّا ليس بغافل عنكم، فإن من شأن العقول الراجحة أن كل من كان يرقب إنزال المضرة بك؛ فإنه لا ينبغي الغفلة عنه والتحصن عنه بكل ممكن تجد إليه سبيلاً.
(وطمعكم فيمن ليس يمهلكم): أي وكيف تطمعون فيمن لا ترجون من جهته إمهالاً وتنفيساً في أعماركم، فمثل هذا يكون طمعاً كاذباً، ورجاءً خائباً.
سؤال؛ أراه عبَّر في الغفلة بما، وعبَّر في الطمع بمن، وكلاهما في حق الموت، فكان قياسه بما في كل واحد في الموضعين، فما وجه ذلك؟
وجوابه؛ هو أن قوله: عمَّا ليس غافلاً عنكم، يريد به الموت خاصة ولهذا أتى بما؛ لما كانت لمن لا يعلم، وأما قوله: وطمعكم فيمن ليس يمهلكم، فإنما أتى على جهة العموم في حق العقلاء وغيرهم، فلهذا عبَّر عن العقلاء وعن الموت بمن على جهة التغليب، كما كان ذلك في غير موضع، فالأول يكون خاصاً للموت، والثاني يكون عاماً للموت وغيره من العقلاء.
(فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم): واعظاً منصوب علىالتمييز وفاعله مضمر فيه يفسره واعظاً، والباء في موتى: زائد مثلها في {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً }[الرعد:43]، وهي المقصودة ها هنا أي كفى الواعظ موتى أبصرتموهم بأعيانكم، وأخرجتموهم من مساكنهم عن تحقق ويقين في ذلك، وليس الخبر كالمعاينة في جميع الأمور كلها.
(حملوا إلى قبورهم): وضعوا على مناكب الرجال وأقلُّوهم حملاً.
(غير راكبين): في موضع نصب على الحال، والمعنى أنهم في الحقيقة غير راكبين؛ لأن الراكب من شأنه الإعزاز والاستراحة، وحالهم ليس كذلك.
(وأنزلوا فيها): وضعوا في لحودهم.
(غير نازلين): لأن من نزل بقوم توجه عليهم إكرامه، وليس إنزالهم كرامة لهم بحال.
(كأنهم لم يكونوا للدنيا عُمَّاراً): يريد لكثرة نسيانهم وعظم إغفالهم، كأنهم ما عمروا شيئاً ولا سكنوه بمنزلة من لم يكن فيها أبداً.
(وكأن الآخرة لم تزل لهم داراً): أي ولسرعة انقلابهم إلى الآخرة، ودوام لبثهم فيها كأنها ما زالت داراً لهم لا ينتقلون عنها، وهذا كلام بالغ في حسن التشبيه، وديباجة البلاغة يلوح على وجهه.
(أوحشوا): أراد أنهم أقفروا من الدنيا.
(ما كانوا يوطنون): أي يتخذونه وطناً من القصور والمساكن النفيسة، فصارت خالية بعدهم وَحِشَة.
(وأوطنوا): أراد وتوطنوا من الآخرة والقبور.
(ما كانوا يوحشون): ما كان وحشاً خالياً عن الأنيس والصاحب والخليل.
(واشتغلوا بما فارقوا): إما بحساب الأعمال والمناقشة عمَّا فعلوه في الدنيا، وإما اشتغلوا بالحساب على ما خلفوه في الدنيا من الأموال المجموعة من حلِّها وغيرحلِّها.
(وأضاعوا ما إليه انتقلوا): أخلُّوا بالأعمال الصالحة فكان ذلك سبباً لضياعهم في الآخرة وأحوالها.
(لا عن قبيح يستطيعون انتقالاً): أراد لاعن جزاء الأعمال القبيحة يمكنهم أن يزولوا عنها.
(ولا في حسنٍ يستطيعون ازدياداً): بل انقضى الأمر في ذلك فلا يستطاع الزيادة من هذا ولا النقصان من ذاك.
(أنسوا بالدنيا): اطمأنوا إليها وسكنت أفئدتهم إلى محبتها ولذاتها.
(فغرتهم): بالمكر والخديعة وسائر أنواع الغرور.
(ووثقوا بها): استمسكوا بعراها فانقطعت في أيديهم.
(فصرعتهم): ألقتهم على جنوبهم، وهذا كله من باب التخييل والتمثيل بحال من أوثق بعروة فانقطعت تلك العروة فصار واقعاً لجنبه وخده، وهو تخييل بالغ يفطن له من له حظ وافر في علوم البيان، ومن لا حظ له فيه فلا مطمع له في فهمه.
(فسابقوا رحمكم الله): سارعوا مسارعة أهل السبق لأقرانهم في مضمار الحلبة.
(إلى منازلكم): يريد التي خلقت من أجلكم، وصارت ممهدة من أجلكم، كما قال تعالى: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ }[آل عمران:133] يريد التي أعدَّها لكم، وأراد منازل الآخرة.
(التي أمرتم أن تعمروها): الله تعالى هو العامر لها والخالق لذواتها، وإنما الغرض استحقاق ما هو معمور بالأعمال الصالحة، فلما كان الله تعالى لم يخلقها إلا معمورة من أجلهم لأجل أعمالهم صاروا كأنهم هم العامرون لها.
(والتي رُغِّبْتُم فيها): رغَّبهم الله تعالى فيها بما دعاهم، وبما وصف لهم من أحوالها، وبما ندب من فعل الأعمال الصالحة التي تستحق لأجلها، فلهذا كان مرغباً من أجل ذلك.
(ودعيتم إليها): الداعي لهم إليها هو الله، وبما جاء على ألسنة الأنبياء في وصفها، والترغيب في سكونها والكون فيها.
(فاستتموا نعمة الله عليكم): اطلبوا تمامها من جهة الله تعالى بالإمداد باللطف والإعانة.
(بالصبر على الطاعة له): على فعل الأعمال الصالحة التي أمركم بها وتكونون مطيعين بفعلها.
(والمجانبة لمعصيته): جانب كذا إذا كان بمعزل عن مخالطته، وأراد وتكونون بمعزل عمَّا يكون معصية له من الأفعال.
(فإن غداً من اليوم قريب): أراد إما أن كل ما ينتظر فهو قريب حصوله، وإما أن يكون مراده أن منقطع أعماركم إنما يكون في الأزمنة المستقبلة وهي قريبة من اليوم.
(ما أسرع الساعات في اليوم): يريد أن الساعات هي أجزاء اليوم وبكماله يكون يوماً، وعن قريب وقد استكملت، وهي عند المنجمين: عبارة عن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من الليل والنهار، كل واحد منهما اثنا عشر ساعة.
(وأسرع اليوم في الشهر): واليوم: عبارة عن طلوع الشمس إلى غروبها، وهو جزء من ثلاثين إذا كمل الشهر أو جزء من تسعة وعشرين إذا نقص، وأراد وعن قريب وقد تمَّ الشهر بها.
(وأسرع الشهر في السنة): لأن السنة عبارة عن اثني عشر شهراً، بالأشهر القمرية، وعن قريب وقد تمت وتكاملت بها.
(وأسرع السنين في العمر): لأن العمر عبارة عنها، ويبلغ الإنسان استكمال عمره بما قدر الله له منها، وهذا منه عليه السلام مبالغة واستغراق في التعجب من مداركة العمر، وسرعة تقضيه، وإن كان هذا الحال في الأعمار الطويلة المنيفة على الغاية، فما حال من يكون معترك المنايا في حقه ما بين الستين إلى السبعين .
اللَّهُمَّ، اجعل أعمارنا متجراً للأعمال الصالحة يا أكرم مسئول.
(221) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الهجرة
(فمن الإيمان ما يكون مستقراً ثابتاً في القلوب): قد شرحنا من قبل هذا حقيقة الإيمان، وبيَّنا المختار فيه، وأنه عبارة عن الإقرار وعمل القلب والجوارح، وغرضه أنه منقسم إلى ما يكون راسخاً منشرحاً به الأفئدة قد خالطها واتخذها مبآءة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ }[الحشر:9] وصارت القلوب ممتزجة به، وهذا هو الإيمان الحقيقي.
(ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور): صدر الإنسان معروف، والقلب هو: الفؤاد، وقد يعبَّر به عن العقل، وفسَّر به الفراء قوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ }[ق:37] أي عقل ، وأراد هاهنا أن من الإيمان ما ليس راسخاً في الأفئدة، وشبَّهه بالعارية مبالغة في عدم استقراره؛ لأن العارية على شرف الزوال، و المفارقة بالرد إلى صاحبها.
وقوله: (بين القلوب والصدور)، يشير إلى كونه مرتدياً بهما .
(إلى أجل معلوم): يريد أيضاً أنه لا دوام له وإنما مدته منقضية زائلة تزول بانقضائها، وكل ما ذكره مبالغة في عدم رسوخه.
(فإذا كانت لكم براءة من أحد): البراءة: مصدر برئت منه براءة، وغرضه وإذا عزمتم على التبري من أحد ممن ظاهره الإسلام:
(فقفوه حتى يحضره الموت): فانتظروا به الموت، ومنه قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ }[الصافات:24] إلى أن ينقطع عمره بالموت فهناك يظهر أمره ويستبين حاله بخروجه من الدنيا، وفي الحديث: ((إن من أهل الجنة من يعمل بعمل أهل النار حتى إذا لم يكن بينه وبين النار إلا ذراع أوباع، ثم يختم له بعمل أهل الجنة فيكون من أهل الجنة، وإن من أهل النار من يعمل بعمل أهل الجنة حتى إذا لم يكن بينه وبين الجنة إلا ذراع أو باع، فيختم له بعمل أهل النار فيكون من أهل النار)) .
(فعند ذلك يقع حد البراءة): بما يعلم من حاله ويختم له به، وفي الحديث: ((مِلاَكُ العمل خواتمه ))، فيتحقق الأمر هناك وَيُسْتَيْقَن، وفي الحديث: ((لا تعجبوا لعمل عامل حتى تدروا بِما يختم له)) .
(والهجرة قائمة على حدها الأول): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن من كان في دارالكفر والشرك فلا يحل له المقام فيها سنة كاملة، كما أشار إليه الرسول [ عليه السلام] بقوله: ((أنا بريء ممن أقام في دار الشرك سنة )).
وثانيهما: أن يكون غرضه أن المسلم إذا كان في دار الشرك ولا يمكنه إظهار الإسلام، فإن الهجرة واجبة عليه دفعاً لما يلحقه من الضرر في نفسه، والنقص في حاله بالتباسه بأهل الشرك، والكون من جملتهم، وقد شرفه الله بالإسلام، ورفع قدره بالتلبس به، فلا يحل له المقام والحال هذه، فهذا كان حال الهجرة في أيام الرسول، فلهذا قال: (قائمة على حدها الأول)، يشير به إلى ما ذكرناه.
(ما كان لله في أهل الأرض حاجة ): أي ما كان له في خلقهم من غرض ولا إِرْبٍ يرجع إلى نفسه، فإنما خلقهم لداعي الإحسان إليهم وإكمال النعمة عليهم.
(من مستسر الأمة ومعلنها): أراد إما ممن كان خامل الذكرفيها أو جليل الذكر، أو يريد من كان مسراً لأعماله أو مظهرها، وغرضه أنهم مع اختلاف أحوالهم هذه فإنه لا غرض له في خلقهم أصلاً.
سؤال؛ قوله: (ما كان لله في أهل الأرض...) إلى آخره كلام منافر لما قبله غير ملائم له، فما وجه توسطه ها هنا مع عدم تعلقه بما قبله وما بعده؟
وجوابه؛ هو أن ما ذكره ها هنا من باب الاستطراد، وله موقع في البلاغة، وهو أن يأتي بكلام يُوَسِّطُه بين كلامين، لا تعلق له بالأول ولا بالآخر، وإيراد كلام يكون فيه دلالة على تعلقه بالأول فيه ضرب من التعسف فلا حاجة بنا إليه.
(لايقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة في الأرض): يريد أن الهجرة لا تجب ولا تكون متوجهة على أحد إلا على من بلغته دعوة الرسول عليه السلام، وعلم المعجزات الظاهرة عليه، وكيفية دلالتها على صدقه، فعند هذا يكون مدركاً لمعرفة الحجة عليه في الأرض.
(فمن عرفها وأقرَّ بها فهو مهاجر): أراد فمن عرف ذلك وقطع به وجبت عليه الهجرة من دارالكفر إلى دار الإسلام للتفقُّه في الدين، وتعليم ما كلَّفه الله تعالى، وتعبَّده به من سائر التكاليف والعبادات.
(ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة): أراد ولايصدق اسم الاستضعاف على من سمع الدعوة وكان متمكناً من إعزاز نفسه ودينه من القعود مع أهل الشرك، فإذا بلغته الحجة من جهة الرسول عليه السلام:
(فسمعتها أذنه، ووعاها قلبه): وجب عليه المهاجرة لا محالة، إلا من عذره الله تعالى، ممن لا حيلة له في نفسه وكان عاجزاً، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97] فهذه حال من تمكَّن من الهجرة ولم يهاجر مع تحققه لوجوبها عليه، ثم قال: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ ...}إلى آخر الآية[النساء:98]، فعذرهم الله عن الهجرة لعجزهم.
(إن أمرنا هذا): يشير إما إلى سلوك طريق الآخرة، وإما إلى الجهاد عن الدين عموماً، وإما إلى جهاد أهل القبلة، وإما إلى الإمامة والتحمل لأثقالها.
(صعب): في غاية الصعوبة.
(مستصعب): مبالغة في صعوبته، أو يريد صعب في نفسه مستصعب على من احتمله وتعلق به، ومن ركيك ما قيل في تفسير قوله: (أمرنا هذا)، ما قاله الشريف علي بن ناصر: إن المراد منه إمامته وإمامة المعصومين من أولاده ، فإنه مغرم بذكر الاثني عشر، فإنه لم يجر لهم ذكر في كلامه، فلا وجه لحمله عليه.
(لا يحتمله إلا عبد امتحن الله قلبه بالإيمان): اختبره حتى وجده صالحاً للتصديق به، والامتحان: الاختبار، وامتحنه أي وسَّع قلبه، من قولهم: محن الأديم إذا مدَّه ووسَّعه،أو أخرج ما فيه من الدغل والخبث، من قولهم: محن البير إذا أخرج طينها وترابها.
(ولا يعي حديثنا): ما نقوله من هذه المواعظ الشافية، والحكم العظيمة، والآداب النافعة.
(إلا صدور أمينة): مؤتمنة غير خائنة فيه بتبديله، وتحويله وتغيير حاله.
(وأحلام رزينة): لا يستفزها الطيش ولا تنزعج للفشل، ومنه قولهم: فلان رزين الحصاة، إذا كان له عقل وافر وحلم راسخ.
(أيها الناس، سلوني): كلام وارد على جهة التنويه والإشهار والإعلان بحاله ومزيد فضله، وأمره لهم بالسؤال عِلْمٌ بقدر حاجتهم إلى سؤاله وأن أحداً لا يقوم مقامه في ذلك، ولهذا قال بعده:
(قبل أن تفقدوني): بانقطاع أجلي فلا ترونني بعد ذلك أبداً.
(فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض): تعليل لقوله: (سلوني) يريد فأحق المسئولين من كان عالماً بما يسأل، أهلاً للإيراد والإصدار، قد قلب العلوم ظهراً لبطن، واستولى على أسرارها وحقائقها، وفيه معنيان:
أحدهما: أن يكون ذلك على ظاهره، وأن الله تعالى أكرمه بأن أعلمه من جهة الرسول بطرق السماء، ويصدقه ما قاله عليه السلام في كلام قد مرَّ: (ما في السماء موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد أو راكع) وهذا ممكن في حقه عليه السلام.
وثانيهما: أن يريد أنا بالحجج الواردة على أهل السماء، والدلائل على ملكوت الله تعالى، وعظم سلطانه، وجلال كبريائه؛ لأن الله تعالى جعل في السماء آيات باهرة دالة على عظم ملكوته وجلال جبروته، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ }[الأنعام:75] لاختصاصها بالأمور الباهرة.
(أعلم مني [بطرق الأرض] ): بالحجج الواردة في الأرض، فأبان عليه السلام اختصاصه بالعلم بهما، لكنه خص المبالغة في العلم بالسماء إشارة إلى ما قلناه.
(قبل أن تشغر برجلها فتنة): شغر الكلب برجله إذا أراد أن يبول فيرفعها، وإنما كنى عن الفتنة بشغور الرِّجْلِ لأمرين:
أما أولاً: فلأنها مرتفعة عن الحق في جميع أحوالها؛ أخذاً لهذا من شغورالكلب إذا رفع رجله ليبول.
وأماثانياً: فلأنها بعيدة عن مناهج الصواب والحق، أخذاً لها من قولهم: اشتغر المنهل عن البلد إذا كان بعيداً منه، وتعليق الشغور بالرِّجْلِ يدل على إرادة المعنى الأول، وقيل: هذه بيان للأولى وبدل عنها .
(تطأ في خطامها): جعل هذا كناية عن عظمها وأن أحداً لا يملك إيرادها وإصدارها؛ لأن الجَمَلَ إذا تُرِكَ خطامه ولم يكن معقولاً به وطئه وذهب حيث شاء.
(وتذهب بأحلام قومها): ذهب بكذا إذا أخذه واستولى عليه، وكلامه عليه السلام ليس صادراً على جهة الإعجاب بعلم نفسه، وإنما هو صادر على جهة النصح، وأخذ البصائر لهم ممن يكون عالماً، بها مرشداً لهم إلى صلاحهم في أمر الديانة، فلهذا قال لهم هذه المقالة.
وإنما العجب ما حكي عن قتادة أنه دخل الكوفة فالتفَّ الناس به محدقين عليه، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة حاضراً وهو غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان هل كانت ذكراً أم أنثى؟
فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: ممن عرفت ذلك؟ فقال: من كتاب الله تعالى وهو قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ }[النمل:18] ولو كان ذكراً لقال: قال نملة ، فاسم النملة يقع على الذكر والأنثى منهم ، فإثبات التاء دلالة على أنه أراد الأنثى، كما يقال: حمامة ذكر، وحمامة أنثى فلابد من علامة هناك.
(222) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الموت وأهواله
(أحمده شكراً لإنعامه): انتصاب شكراً على المفعول له، أو يكون مصدراً في موضع الحال، فعلى الأول أحمده من أجل الشكر لإنعامه، وعلى الثاني أحمده شاكراً لإنعامه.
سؤال؛ الشكر أعم من الحمد لكونه حاصلاً بالأقوال والأفعال والاعتقادات، والحمد خاص في الأقوال ، فكيف جعل الشكر علة في الحمد؟
وجوابه؛ إن مثل هذا لا مانع منه فإن حاصل السؤال أنه يلزم تعليل الشيء بنفسه، وليس الأمر كما توهمت، فإنهما متغايران العموم والخصوص فالتغاير حاصل، كما تقول: زرته من أجل إنعامه وإفضاله، وأكرمته لأجل فضله.
(وأستعينه على وظائف حقوقه): الوظيفة: ما لازم الإنسان على فعله، وغرضه وأطلب منه الإعانة على ما أوجب من عباداته، وحقوقه اللازمة المفروضة.
(عزيز الجند): أراد أن جند الله هم الأعزون فلاغالب لهم، كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات:173].
(عظيم المجد): يريد أنه عظيم الكرم، فلا يدرك وصف كرمه، ولا يمكن حصره.
(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله): علام عطف قوله: (وأشهد أن محمداً) وعطفه إنما كان على قوله: (أحمده) أو على شهادة توحيد مضمرة تقديرها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأحمده وأشهد، وإنما ترك ذكرها استغناء بما ذكر من أوصاف التوحيد والإلهية.
(دعا إلى طاعته): في أول أمره باللسان، وفي عاقبة أمره بالسيف والسَّنان .
(وقهر أعداءه): الضمير يحتمل أن يكون لله أي أعداء الله، وأن يكون للرسول أي وقهرمن ناواه وناصبه أي أذلهم وصغرهم.
(جهاداً عن دينه): من أجل الجهاد عن دينه، أو مجاهداً.
(لا يثنيه): يعطفه، من قولهم: ثنيت الحبل إذا عطفته.
(عن ذلك): يشير به إلىالجهاد.
(اجتماع على تكذيبه): يريد تألبهم عليه واجتماع كلمتهم عليه، وأراد بذلك دلالة على نفوذ بصيرته واستقرار قدمه فيما دعا إليه.
(والتماس لإطفاء نوره): الالتماس هو: الطلب، وغرضه أن طلبهم لإطفاء نور الله لا يصده عما هو فيه.
(فاعتصموا بتقوى الله): اجعلوها عصاماً في أوساطكم.
(فإن لها حبلاً وثيقاً عروته): فلا سبيل إلى انقطاعه لمن يكون متسمكاً به.
(ومعقلاً منيعاً ذروته): الذروة: أعلا الشيء، والمعقل: الواحد من الحصون، والمنيع: ما كان لا ينال أمره، والغرض من هذا كله الإشعار بأن تقوى الله تعالى حاصلة على هذه الأوصاف من جهة المعنى، وإن كان ظاهرها على جهة التجوز والاستعارة.
(وبادروا الموت): استبقوه بإحراز الأعمال الصالحة.
(وغمراته): الواحد منها غمرة، وهو: ما يذهل العقل ويدهشه، ويخرجه عن التثبت والاستقامة.
(وامهدوا له): التمهيد هو: التوطئة في كل الأمور.
(قبل حلوله): بساحاتكم أو بأجسامكم.
(وأعدوا له): خذوا له أمر العُدَّة والأُهْبَة.
(قبل نزوله): بأفنيتكم، أو بأجسامكم.
(فإن الغاية القيامة): أي فإن الأمر الذي ينتهى عنده بكم إنما هو القيامة.
(لا محيص لكم عنها): وفي ذلك معنيان:
أحدهما: أن يريد بذكر القيامة الإشارة إلى ما اشتملت عليه من الأهوال العظيمة، وإظهار الفضائح الكبيرة.
وثانيهما: أنه لما ذكر الموت وحاله أراد أن يذكربعده ما هو أطمَّ منه وأهول، تنبيهاً على أن الموت وإن عظم حاله فليس غاية لأحوالكم، وإنما الغاية هي القيامة.
(وكفى بذلك واعظاً لمن عقل): الإشارة إلى المذكور أولاً من الموت والقيامة، أي فيه موعظة لأهل العقول الوافرة.
(ومعتبراً لمن جهل): أي ومنعاً للجهال من الخلق، ومزجراً لهم عن القبائح.
سؤال؛ أراه خصَّ الوعظ بالعقلاء، وخصَّ الزجر بالجهال؟
وجوابه؛ هو أن الوعظ إنما يكون بالأقوال الرقيقة والتمثيلات الرشيقة، وذلك كافي في حق من له ذهن وفطانة، وذلك يختص العقلاء، بخلاف الجهال فإنه إنما ينفع في حقهم إنما هو الزواجر العظيمة، والقوارع المهمة، وذلك لفرط إعراضهم واستحكام الغي على أفئدتهم، فلهذا خصَّهم بالزجر، والاعتبار لذلك.
(وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون): أبهم ذلك لما اشتمل من شدة الأمروصعوبته.
ثم أخذ في تفسيره وبيان حاله لما في ذلك من المبالغة وعظم الشأن في حقه:
(من ضيق الأرماس): جمع رمس، وهو: القبر.
(وشدة الإبلاس): يريد وعظم اليأس من جميع الأمور كلها، فلا يبقى في يده شيء من الدنيا أصلاً.
(وهول المطلع): من باب إضافة الموصوف إلى صفته، كقولهم: مسجد الجامع، وأراد هاهنا وهول الزمان الذي يطلع فيه على الشدائد أو وهول المكان أيضاً، والهول هو: الأمر الذي يهولك ويفزعك، وفي الحديث: ((وأعوذ بك من هول المطلع )).
(وروعات الفزع): الروعة: ما يروع الإنسان ويغيِّرأحواله، والفزع أيضاً: ما يدهشه، وأراد عن الروعات المفزعة.
(واختلاف الأضلاع): أراد بضم اللحد، وفي الحديث: ((إن للحد ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها سعدبن معاذ )) ، وفي الحديث: ((إنها تكون على الكافر بمنزلة البيض تحت الصخر، وتكون على المؤمن بمنزلة ضمِّ الوالدة الشفيقة لولدها)).
اللَّهُمَّ، إنا نستجير برحمتك الواسعة ياخير مستجاربه من أليم عقابك.
(واستكاك الأسماع): استكَّ سمعه إذا كان لا يسمع أصلاً، وأراد واستكاك الأسماع بالتراب.
(وظلمة اللحد): اسوداده ووحشته.
(وخيفة الوعد): أراد إما الإشفاق من فوات وعد الله الذي وعد أولياءه، وإما أراد بالوعد الوعيد بالعقاب وآلامه ودوامه.
(وغم الضريح): الضريح هو: القبر، والضرح هو: الشق في وسط القبر، وأراد وما يصيب منه من الغم عند الوضع فيه.
(وردم الصفيح): أي والسدُّ بالأحجار العريضة على اللحد قبل هَيْلِ التراب.
(فالله الله): كررذلك مبالغة أي اتقوا [الله] واحذروه.
(عباد الله): السالكين مسلك العبيد في طاعة سيدهم.
(فإن الدنيا ماضية بكم): مضىبه إذا مرَّ غير متلوم ولا متوقف، وكنى بذلك عن سرعة زوالها وأزوف رحلتها عن الخلق.
(على مسير ): أي على طريق مستقيمة المرور من غير تعريج على شيء.
(وأنتم والساعة في قَرَنِ): الْقَرَنُ: الحبل الذي يُضَمُّ به البعيران معاً، وأراد أنكم مجتمعون أنتم وهي فكأنكم بها وقد حصلت معكم من غير مفارقة لكم.
(وكأنما قد جاءت بأشراطها): الأشراط هي: العلامات، وأراد كأنها قد حصلت مستكملة لشروطها وأعلامها وأهوالها.
(وأزفت بأفراطها): أزف الشيء إذا قرب وقته، والأفراط هم: جمع فارط وهو الذي يتقدم ليرد الماء.
(ووقفت بكم على سراطها ): السراط هو: الطريق، وقد سبق تقرير اشتقاقه.
(وكأنها قد أشرفت بزلازلها): الزلازل: جمع زلزلة وهي: الشدة العظيمة، والقلقلة الفظيعة.
(وأناخت بكلاكلها): الكلكل: الصدر، وأراد أنها أقبلت بكمال آلتها، واجتماع أمورها.
(وانصرمت الدنيا بأهلها): صرمه إذا قطعه، وغرضه أنها عن قريب منقطعة بأهلها بتقضي أيامها وانقطاع وقتها.
(وأخرجتم من حضنها): الحضن: ما دون الإبط إلى أسفل الأضلاع، شبَّه استقرارهم بمنزلة من يكون محمولاً في حضن الحاضنة.
(فكانت): بعد زوالها وتقضيها.
(كيوم مضى): مثل مدة يوم ذهب ولم يبق له أثر.
(وشهر انقضى): تقضت أيامه ولياليه، مثَّل باليوم في القلة وبما يجتمع منه وهو الشهر.
(وصار جديدها رثًّا): أي خَلِقاً بالياً بانقطاعها وتغيرها.
(وسمينها غثاً): أي مهزولاً.
ثم هذه الأمور كلها والشدائد العظيمة التي ذكرناها حاصلة:
(في موقف ضنك المقام): الضنك هو: الضيق، وأراد بذلك إما القبر أو القيامة للحساب.
(وأمور مشتبهة): يشبه بعضها بعضاً في الشدة والعظم من المسآلة والحساب، ورؤية أهوال القيامة،و نشر الصحف والموازين ومعاينة الجنة والنار وغير ذلك من الأهوال.
(عظام): لا يشبهها حال في الشدة والألم.
(ونار شديد كَلَبُهَا): الْكَلَبُ بالتحريك هو: الشدة والتوثب، وهم يتكالبون على كذا أي يتواثبون عليه.
(عالٍ لجبها ): اللجب: هو شدة الصوت، وأراد أنه ظاهر فاشي.
(متغيظ زفيرها): الزفير هو: الصوت العظيم، ومنه زفيرالبحر، وزفير القدر: غليانها، وجعلها كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم، يقال: فلان يكاد يتقد من الغيظ ويتقصف من الغضب، وإضافة التغيظ إلى الزفير من باب الإسناد المجازي، وهكذا ما بعده إلى قوله:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا }[الزمر:73].
(متأجج سعيرها): السعير هو: شدة الحر، وتأجج النار ارتفاع لهبها.
(بعيد خمودها): خمدت النار إذا انطفت، وأراد أنها لا تطفئ ولا يفتر حرها.
(ذاكٍ وقودها): أذكيت النار وذكيَّتها إذا أوقدتها، وغرضه أن وقودها ذكت به واشتد حرها، وهي مخالفة لسائر النيران، فإن غيرها من النيران ذكاؤه بالحطب، وهذه ذكاؤها باتقاد الناس والحجارة فيها.
(مخوف وعيدها): يخافها من كان موعوداً بها.
(عميق قرارها): بعيد قعرها لا يدرك له نهاية على القرب.
سؤال؛ الموقف الذي أشار إليه في كلامه هذا هل يكون واحداً أو أكثر، و هكذا النار التي وصفها هل هي واحدة أو أكثر؟
وجوابه؛ إنها مواقف كثيرة ولهذا نكَّره، ولهذا قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ }[المرسلات:35]، وقال في موضع: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ }[الصافات:27]، وفي بعض الأخبار: ((إنها مواقف خمسون موقفاً في الآخرة)) ، وأما النيران فلعلها نيران كثيرة ولهذا نكَّرها، فمنها ما يكون وقودها الناس والحجارة وهي التي لكفار الإنس من عبدة الأوثان والأصنام وسائر الملل الكفرية، ومنها ما وقودها الشياطين والجن جزاءً لكل فريق بما يشاكله من العذاب، وللفساق من أهل الصلاة نيران غير هذه، كما قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ، [لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى] }[الليل:14-15]، وقال في موضع آخر: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً }[التحريم:6] إلى غير ذلك.
(مظلمة أقطارها): أنحاؤها وجوانبها، وفي الحديث: ((أوقد عليها ألف عام حتى احمرَّت ، وألف عام حتى اسودَّت، فهي سوداء مظلمة)) .
(حامية قدورها): من شدة الإيقاد عليها، وفي الحديث: ((لو أن غرباً من غسلين جهنم أخرج إلى الدنيا، لآذى حرّه من بين المشرق والمغرب)) .
(فظيعة أمورها): فظع الأمر إذا اشتد وفات حصره، وأراد أن أمورها فاتت على الحد فلا يمكن الإحاطة بها، ولا الاستيلاء على كُنْهِ ضبطها، وفي الحديث: إنه لما نزل قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ }[الفجر:23] تغير وجه رسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] ، وعرف ذلك في وجهه حتى اشتد على أصحابه، فأخبروا أمير المؤمنين بذلك ، فجاءه فاحتضنه من خلفه وقبل بين عاتقه ، ثم قال: (يا نبي الله، بأبي وأمي، ما حدث اليوم؟ وما الذي غيَّرك؟ فتلا عليه الآية)، فقال أمير المؤمنين: (كيف يجاء بها)؟ قال: ((يجيء بها سبعون ألف ملك، يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردةً لو تركت لأحرقت أهل الجمع)) .
سؤال؛ هل من تفرقة بين فتح الواو في الوقود وضمها؟
وجوابه؛ هو أن الوقود بالفتح ما يوقد من حطب و غيره، والوقود بالضم هو المصدر كالدخول والخروج، وقرئ بهما في قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }[البقرة:24] فالفتح على القياس، والضم على المبالغة من الإسناد المجازي كقولهم: فلان فخرُ قومه.
({وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً })[الزمر:73]: من عادته عليه السلام في كلامه في أغلب حالاته إذا ذكر ترغيباً أن يشفعه بالترهيب، وإذا ذكرالبشارة عقَّبها بالتحذير تحريكاً لرغبات أهل الخير في الازدياد من الخير، وتثبيطاً وتخذيلاً لأهل الشر عن ملابسة قبيحهم، فصدَّر ما يريد ذكره من أهل الخير بهذه الآية.
(قد أمنوا العذاب): أمَّنهم الله منه.
(وانقطع العقاب ): عنهم لأجل فوزهم بالأعمال الصالحة.
(وزحزحوا عن النار): أميلوا عنها وأبعدت عنهم.
(واطمأنت بهم الدار): اطمأنوا وسكنت نفوسهم بالوقوف فيها.
(واستقرت أعيانهم): بما شاهدوا فيها، وأضاف الطمأنينة إلى الدار مبالغة في ذلك.
(ورضوا المثوى والقرار): المثوى هو: الإقامة، وأراد ورضوا بالإقامة فيها والاستقرار.
(الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية): إنما كرر الموصول بيان وتوضيح لماسبق في قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ }[الزمر:73] وإشادة بذكر أعمالهم الحسنة، وأراد بزكاتها طهارتها عن الرياء والتصنّع، وإرادة خلاف وجه الله تعالى.
(وأعينهم باكية): إشفاقاً من عذاب الله، وخوفاً على أعمالهم أن تكون مردودة عليهم.
(وكان ليلهم في دنياهم نهاراً): يشير بما ذكره إلى أن الله بلطفه وعجيب حكمته جعل الليل لباساً وسكوناً ، وجعل النهار معاشاً ونشوراً، وهؤلاء الذين وصف حالهم من أجل قلقهم وفشلهم، وتذكرهم أحوال الآخرة جعلوا أعمال النهار في الليل، بأن جعلوا الليل:
(تخشعاً): خضوعاً وذلة لربهم، واستكانة لعزتة وجلاله.
(واستغفاراً): وطلب الغفران لخطاياهم من جهة الله تعالى.
(وكان نهارهم ليلاً): أي وجعلوا النهار ليلاً فجعلوه على هذه القضية:
(توحشاً): عن الخلق ونفاراً عنهم.
(وانقطاعاً): إلى الله تعالى في إنجاز حوائجهم وقضاء مآربهم من عنده.
(فجعل الله لهم الجنة ثواباً ): أراد فكانوا لأجل هذه الأعمال مستحقين لأن تكون لهم الجنة جزاء على أعمالهم.
(وكانوا أحق بها): أولى الخلق بها.
(وأهلها): والذي يصلح في الحكمة أن يكونوا مختصين بها دون غيرهم من سائرالخلائق.
(في ملك دائم): الظرف متعلق إما بقوله: {وَسِيقَ} وإما بقوله: (وجعل لهم الجنة)، وهو في موضع نصب على الحال أي حاصلين في ملك، كما تقول: دخل الأمير المدينة في بهجة عظيمة ومحفل كبير.
(ونعيم قائم): إما لا يبلى، وإما لاانقطاع له بحال.
(فارعوا عباد الله) الرعاية: هي حسن التصرف فيما يتولاه الإنسان ويقوم بحاله.
(ما برعايته يفوز فائزكم): ما ها هنا موصولة، وأراد بها إما للتقوى ، وإما ما يكون من الأعمال الموفقة، فإن بهذين يقع الفوز لا محالة.
(وبإضاعته يخسر متطلبكم ): وبإهماله وإبطاله، والخسران هو: النقص، وأصله من خسران التجارة وهو نقصانها عن الربح، والمتطلب أي: ما تطلبونه من الجنة، وإحراز رضوان الله.
(وبادروا آجالكم بأعمالكم): أسرعوا بالأعمال قبل أن تنقطع بانقطاع الآجال.
(فإنكم مرتهنون بما أسلفتم): من الأعمال القبيحة السيئة، ولافكاك لها عن الرهن إلا بتسليم ما يتوجه عليها من ذلك.
(ومدينون بما قدمتم): محاسبون أو مجزيون بما قدمتموه من خير وشر.
(وكأن قد نزل بكم المخوف): ما تخافونه من الموت وأهوال القيامة.
(فلا رجعةً تُنَالون): أي فلا يمكن نيل الرجعة إلى الدنيا ولا سبيل إليها.
(ولا عثرةً تُقَالون): ولا يمكن الاستقالة من عثاركم.
(استعملنا الله وإياكم بطاعته وطاعة رسوله): أراد جعلنا عاملين بما أمر به الله تعالى ورسوله من أنواع البر وأفعال الخير.
(وعفا عنا وعنكم بفضله ورحمته ): العفو هو: إسقاط الذنوب ومحوها من جهة الله تعالى بالتوبة والإنابة، والفضل والرحمة إنما تكون بفعل الألطاف الخفية في تحصيل التوبة وإيجادها.
(الزموا الأرض): أراد إما تأنّوا في أموركم كلها وأصدروها من غير طيش ولا فشل، فإن مع الأناة الصواب، ومع العجلة الخطأ، وإما أن يريد التحذير عن تولية الأدبار في الجهاد، والهرب عن قتال أعداء الله.
(واصبروا على البلاء): على ما يصيبكم من بلاوي الدنيا ومشاقها.
(ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم هوى قلوبكم): فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون الباء في بأيديكم زائدة، ويكون هوى مفعولاً من أجله، ومعناه ولا تحركوا ألسنتكم وأيديكم من أجل هوى أنفسكم، فيبعثكم على فعل الشر باليد والسيف بأمانيها الكاذبة بقولها: يا ليت كذا، ياليت كذا.
وثانيهما: أن تكون الباء غير مزيدة ، ويكون هوى مفعولاً به، ومعناه ولا تحركوا هوى النفوس ومراداتها وشفاء غيظها بإطلاق الأيدي وسل السيوف على غير وجهها وفي غير حقها.
(ولا تستعجلوا بما لم يعجلِّه الله لكم): إما لا تستعجلوا من الأرزاق بما لم يعجله الله لكم، وبمالم يقضه ويسبق في عمله إعطاءكم إياه، وإما أن يريد لاتستعجلوا الحرب وتفتحوها ما لم يوفق الله ذلك ويقضيه.
(فإن من ما ت منكم على فراشه): يريد من غير قتل ولا شهادة في معركة.
(وهو على معرفة حق ربه ): بالطاعة والانقياد لأمره، والاعتراف بتوحيده، والإقرار بالربوبية له.
(وحق رسوله): بالتصديق له.
(وأهل بيته): بالموالاة والمحبة، والنصرة.
(مات شهيداً): محرزاً للشهادة وإن لم يكن مقاتلاً، وهذا يؤيد التأويل الثاني في قوله: لا تستعجلوا.
(ووقع أجره على الله): ثبت ووجب واستحق.
(واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله): لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
(وقامت النية): في ذلك.
(مقام إصلاته لسيفه): يريد أن النية هي التي صيرت هذه الأفعال في مقام الجهاد، وهذا لا يقوله إلا عن توقيف من جهة الرسول؛ لأن هذا أمر يرجع إلى معرفة مقاديرالثواب، وهو أمر غيبي لا يعلمه إلا الله تعالى أو رسوله، أو من أعلماه بذلك.
(وإن لكلٍ مدَّةٌ وأجلاً ): يريد إن لكل شيء آخراً وانقضاءً، وغاية وانتهاءً.
(223) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الدنيا
(الحمد لله الفاشي حمده ): فشا الأمر إذا ظهر، وأراد أن حمده ظاهر لظهور نعمته على كل حي، وأن نعمته لا يمكن إخفاؤها، فهكذا يكون حمده ظاهراً لا يمكن ستره.
(الغالب جنده): أراد أن الله هو الناصر لجنده فلا غالب لهم، ولا يدين لأحد ولا قوة بقتالهم، لما سبق في علمه أنه لا يغلب، كما قال تعالى : {كَتَبَ اللَّهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }[المجادلة:21].
(المتعالي جده): الجد: العظمة، والسلطان والملك، والمعنى في هذا أنه متعالي عمَّا لا يليق به من ذاته من اتخاذ الصاحبة والأولاد، وعما لا يليق بحكمته عن الظلم والكذب وسائر القبائح.
(أحمده على نعمه التوامّ ): التي تمت في جميع وجوهها فلا يلحقها نقصان.
(وآلائه العظام): التي بلغت كل غاية في الكمال.
(الذي عظم حلمه): زاد على كل غاية في ترك المعاجلة بالعقوبة على مستحقيها.
(فعفا): أي فكان ذلك سبباً للعفو؛ لأنه لا وجه للعفو إلا ترك العقوبة لمن كان مستحقاً لها من أهلها.
(وعدل في كل ما قضى): أي وكان صدور الأقضية من جهته على قانون الحكمة ومقتضى العدل، من غير زيادة ولا نقصان ولا حيف.
(وعلم ما يمضي وما مضى): ما تقدم من الأمور [و] الكائنات، وما سيكون ماضياً من الأمور المستقبلة، والحوادث المتجددة.
سؤال؛ أراه لم يقل: يعلم ما مضى وما يستقبل، ولِمَ عدل إلى هذه العبارة، فهل له وجه في ذلك؟
وجوابه؛ هو أن غرضه الإشارة إلى تحقق علمه وثبوته، وأن علمه بالمستقبل وإن لم يكن واقعاً في تحققه مثل علمه بالماضي وإن كان واقعاً متحققاً، فلهذا عبَّر عن المستقبل بقوله: (علم ما يمضي) يشير به إلى ما ذكرناه.
(مبتدع الخلائق بعلمه): منشئها ومخترعها عن علم وإتقان بما في إيجادهم من المصلحة لهم، وتعلق الباء في: (بعلمه) إما تعلق الأحوال أي ابتدعهم عالماً بحالهم، وإما تعلق الآلات كما تقول: كتبت بالقلم، أي أن العلم ملابس للابتداع كالآلة فيه من أجل الإحكام والإتقان من أجله.
(ومنشئهم بحكمه): بما سبق في علمه من إيجادهم، وحكمه في الأزل بذلك لما كان موافقاً للحكمة، وجارياً على قانون المصلحة.
(بلا اقتداء ولا تعليم): يريد أنه فعل ما فعل من الإحكامات الباهرة، والإتقانات العجيبة من غير أن يكون متابعاً لأحد في ذلك، ولا آخذاً له بالتعليم من جهة غيره.
(ولا احتذاء): احتذى على كذا إذا فعل مثله.
(بمثال صانع حكيم): يقتدي به في كيفية إيجاده، وفي إحكام أفعاله.
(ولا إصابة خطأ): أي أنه في هذه الإحكامات البديعة لم يوافق خطأ فيما فعله، وأحكمه ودبَّر خلقه.
(ولا حضرة ملأ): إما فيصدر عن رأيهم، وإما ليستعين في الإحكام والخلق بهم.
(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله): استغنى بما ذكره من هذه الأوصاف والتمجيدات الدالة على التوحيد عن ذكر الشهادة بالتوحيد لما فيها من الدلالة عليها.
(ابتعثه): بعثه وابتعثه سيان في الدلالة، والغرض هو: الإرسال.
(والناس يضربون في غمرة): من قولهم: فلان يضرب في الجهالة، ويخبط في الضلالة، وأراد أن تصرفاتهم جارية على خلاف مراده، وغرضه في التوحيد والأحكام كلها.
(ويموجون في حيرة): الحيرة: الذهاب عن الصواب، وماج الأمر إذا اضطرب وعظم حاله.
(قد قادتهم أزمَّة الْحَيْنِ): الْحَيْنِ بالفتح هو: الهلاك، يقال: حان الرجل حيناً إذا هلك، وأراد أنه لمكان فقد الأنبياء، وحصول الفترة جذبتهم أزمة الهلاك فهلكوا.
(واستغلقت على أفئدتهم أقفال الرين): صارت أقفال الرين مستغلقة فلا يمكن فتحها عن أفئدتهم، والرين هو: الطبع والدنس، كما قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }[المطففين:14] أي غلب، وقيل: الرين هو اسوداد القلب ، وقيل: كلما غلبك فقد ران عليك ، قال أبو زيد: رين بالرجل إذا وقع به ما لايستطيع الخروج منه .
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله ): اعلم أنه عليه السلام في أول كل خطبة لا بد له من ذكر الوصية بالتقوى، وما ذاك إلا لعلمه بشرف حالها، وعلو درجتها، ونفاسة أمرها.
(فإنها حق الله عليكم): يريد أنها أعظم حقوقه عليكم، أو أنه لا حق من الحقوق الواجبة عليكم مثلها.
(والموجبة على الله حقكم): لأن ثمرة التقوى هو: الفوز بالجنة، وحيازة رضوان الله تعالى.
(وأن تستعينوا عليها بالله): على تأديتها وعلى القيام بها بالألطاف والتوفيقات فيها، والهداية إليها.
(وتستعينوا بها على الله): إما على تحصيل ثواب الله ومزيد فضله، وإما على اللطف في جميع الخصال التي أشار الله بوجودها عند التقوى كالفلاح والرشد والصلاح، وغير ذلك من الخصال النفيسة الغالية .
(فإن التقوى في اليوم): يريد في الدنيا.
(الحرز): من غضب الله وأليم سخطه.
(والجنة ): ويستحق بها الجنة.
(وفي غد): يريد يوم القيامة.
(الطريق إلى الجنة): أي هي الطريق الموصلة والهادية إلى الجنة.
(مسلكها واضح): أي بيِّن ظاهر لا لبس فيه على من أراده وقصده.
(وسالكها رابح): الضمير للطريق أي ومن سلكها فهو رابح بالفوز.
(ومستودعها حافظ): فيه روايتان:
أحدهما: بفتح الدال، ومعناه هو أن كل قلب أودع التقوى فهو حافظ لصاحب التقوى من جميع الآفات.
وثانيهما: بكسر الدال ومعناه أن كل من استودع نفسه التقوى كان حافظاً لنفسه عمَّا يتلفها ويسقط حالها.
(لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين والغابرين): في فعلها وقبولها، والتلبس بها، وأن يكونوا من أهلها، ومن القائمين بحقها، ومن المستغرقين لأوقاتهم في استعمالها، والغابر هو: الماضي، يقال: غبر يومه إذا مضى.
(لحاجتهم إليها غداً): أي من أجل حاجتهم إليها في الآخرة، ومن أجل ما يحصل من النفع بسببها، وما يقع من الشرف والكرامة بالتعلق بها.
(إذا أعاد الله ما أبدى): من الأمم الماضية، والقرون الخالية.
(وأخذ ما أعطى): إما أخذ الأرواح بعد إعطائها، وإما أخذ سائر النعم واستردَّها بعد إعطائهم إياها.
(وسأل عما أسدى): من النعم الظاهرة والباطنة، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }[التكاثر:8] والإسداء هو: الإفضال.
(فمن أقل من قلها ): القُل والقِل بالضم والكسر هو: الشيء القليل، وفي الحديث: ((الربا وإن كثر فهو إلى قُلٍّ )) .
وقال الشاعر:
قد يقصر القُلُّ الفتى دون همِّه
وقد كان لولا القلُّ طَلاَّعَ أَنْجُدِ
وأراد فمن ترك متاعها القليل المنقطع.
(وحملها حق حملها): إما بالتشديد وغرضه وجعلها حاملة من أمره ما يقدر على حمله من ذلك، وإما بالتخفيف ومعناه وحمل هو من متاعها ما يقدر على حمله من ذلك ولا يثقله.
(أولئك الأقلون عدداً): الإشارة إلى قوله فمن؛ لأنه جمع في المعنى أي الذين عددهم عند الله قليل.
(وهم أهل صفة الله تعالى): المستحقون لما وصف الله تعالى في كتابه الكريم إذ يقول:
({وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ }[سبأ:13]): وأراد أن من هذه حاله فإنه يقل طلبهم، ولايكونون في الخلق إلا على القلة والندور؛ وذلك لما في سلوك طريقهم من الصعوبة فلا يكاد يسلكها إلا النادر القليل، وقد قيل: مهما عظم المطلوب قلَّ المساعد.
(فانقطعوا بأسماعكم إليها): الضمير للتقوى أي كأنكم لا تسمعون شيئاً سواها، ولا يجري على أذهانكم غيرها.
(وواكظوا بجدكم عليها): المواكظة: المداومة، وأراد داوموا بالجد والاجتهاد على فعلها، والتخلق بأخلاقها، وعمارة قلوبكم بفعلها.
(واعتاضوها): الاعتياض افتعال من المعاوضة.
(من كل سلف خلفاً): أي اجعلوها عوضاً وخلفاً عن كل ما مضى من أموركم وسلف منها فهي خير عوض.
(ومن كل مخالف موافقاً): واجعلوها موافقة لكم عن كل ما خالفكم من الأمور واعتاص عليكم فعله وتحصيله.
(أيقظوا بها نومكم): أي أزيلوا بها ما تعلق بكم من النوم والغفلة، واجعلوها سبباً في الانتباه عن الغفلة.
(واقطعوا بها يومكم): أراد اشتغلوا بفعلها في أيام الدنيا؛ لتكون منقطعة عنكم وأنتم ظافرون بالتقوى محصِّلون لها، وعبَّر باليوم عن أيام الدنيا.
(وأشعروها قلوبكم): الشعار من الثياب: ما كان ملاصقاً للجسد، لا حائل بينه وبينه، وأراد ألصقوها بقلوبكم، وهو استعارة ومجاز حسن.
(وارحضوا بها ذنوبكم): رحض الشيء إذا أزاله، وأراد اجعلوها مزيلة لما وقع من الذنوب باكتسابكم لها.
(وداووا بها الأسقام): السقم هو خلاف الصحة، فلما كانت الذنوب مورثة للأسقام العظيمة، والهلاكات الجسيمة ، جعل التقوى كأنها تزيل أسقام هذه المعاصي أي عقوباتها وآلامها المستحقة في الآخرة.
(وبادروا بها الحمام): الحمام: الموت؛ لأن بعد الموت فلا يستفاد بها، وهو مانع عنها، وقاطع لأمرها، وحقيقة حالها.
(واعتبروا بمن أضاعها): كيف حلت بهم العقوبات وأعقبتهم الندامة، وأفضوا إلى الخسران الدائم، والعقوبة السرمدية.
(ولا يعتبرنَّ بكم من أطاعها): أراد ولا تضيعوا حقها وتسقطونه من أيديكم فتصيروا موعظة يعتبربها ويتعظ من كان مطيعاً لها منقاداً لأمرها، سالكاً لطريقها غير مخالف لحقيقتها وأمرها.
(ألا وصونوها ): امنعوها عن مخامرة الذنوب، واكتساب المعاصي فإنه لاتقوى مع ملابسة ذلك وفعله.
(وتَصونوا بها ): أي وكونوا صائنين لأنفسكم بها، فإن مع التقوى تحصل صيانة النفوس، ومنعها عما يهلكها.
(وكونوا عن الدنيا نُزَّاهاً): أي متنزهين عن أطماعها، وسائر تعلقاتها المهلكة.
(وإلى الآخرة وُلاَّهاً): وَلَهِ في الشيء إذا رغب فيه، وتحيَّر عقله ولعاً به، وأراد بذلك شدة الرغبة في الآخرة.
(ولا تضعوا من رفعته التقوى): لأن ذلك يكون إسقاطاً لحق الله تعالى؛ لأن إيضاع حقه إنما كان من أجل اتقائه لله وخوفه له، وفي حديث عائشة: ((ما أعجب رسول الله بشيء من الدنيا ولا أعجبه أحد إلا ذو تقوى)) ، ووجد مكتوباً في التوراة: يا ابن آدم، اتق الله، ونم حيث شئت.
(ولا ترفعوا من رفعته الدنيا): لأن ذلك يكون مضاداً لأمر الله، ومخالفة لحكمه.
(ولاتشيموا بارقها): شمت البرق إذا نظرت إلى سحابة حيث تمطر، وأراد لا تلتفتوا عليها في حالة من الحالات.
(و لاتسمعوا ناطقها): مجازاً عن سماع ناطقها، والغرض هو تركها.
(ولا تجيبوا ناعقها): يريد أنها إذا أقبلت عليكم فأعرضوا عنها.
(ولا تستضيئوا بإشراقها): فيه روايتان:
فتح الهمزة، وهوجمع شَرْق وهو: الشمس، وبكسرها وهو مصدر أشرق الشيء إشراقاً، إذا ظهر نوره، وأراد أنكم لا تنتفعوا بشيء منها.
(ولا تفتتنوا بأعلاقها): العِلْقُ هو: الشيء النفيس، وأراد أنكم لا تزولوا عن طريق الحق والاستقامة بما يظهر لكم من نفائسها، وزهرة حطامها.
(فإن برقها خالب): برق خُلَّب إذا كان لامطر تحته.
(ونطقها كاذب): يريد أنها لو نطقت لما نطقت إلابالكذب والغرور والأماني، أو يريد نطقها بلسان الحال عن ذلك.
(وأموالها محروبة): أي مأخوذة.
(وأعلاقها مسلوبة): يستلبها آخر بعد آخر، بينا هي لقوم إذ صارت لآخرين.
(وهي المتصدية ): أصله المتصددة أي المتعرضة لكنه أبدل من أحد حرفي التضعيف ياء كما قيل: في تسررت تسريت.
(العنون): عنَّ الشيء إذا عرض، وأراد أنها متعرضة لفعل كل مكروه وخديعة، وإما عارضة أي زائلة وزائل ما فيها لامحالة.
(والجامحة): الجموح من الدواب هي: التي لا تقف على غرض صاحبها، بل تركب به الصعب والذلول.
(الحرون): من الخيل ما كان إذا أراد راكبه مشيه تأخر على أعقابه، ووقف تارة أيضاً.
(والمائنة): الكاذبة، والمين: الكذب؛ لأنها تكذب بأهلها.
(الخؤون): فلا وفاء عندها لأحد.
(و الجحود): جحد الشيء إذا أنكره، وأراد أنها جاحدة للخير لعزمها على الشر.
(الكنود): الكفور، وكند النعمة إذا كفرها.
(والعنود): عن الحق المائلة عنه، من قولهم: عند عن الطريق إذا سلك خلافها.
(الصدود): من قولهم: صدَّ عن الشيء إذا أعرض عنه، فوصفها بالصدود لما تراه من إعراضها عن أهلها وتركها لهم صرعى على جنوبهم.
(والحيود): المائلة عن الرشد، من قولهم: حاد عن كذا إذا مال عنه.
(الميود): المضطرب حالها، من قولهم: ماد البحر إذاتحرك واضطرب اضطراباً شديداً.
(حالها افتعال ): أي كذب وزور، وسمي الكذب افتعالاً واختلاقاً لأنه يزوره في نفسه، ويأتي به بإعمال فكرته من غير اعتمادمنه على مطابقة مخبره، ولا التفات إليه.
(ووطأتها زلزال): أراد إما من وطئته الدنيا زلزلته وأزعجته عن مكانه، وغيرت أحواله، وإما أن يريد أنها سريعة الزوال بأهلها بقطع الدابر واستئصال الشأفة منهم.
(وعزها ذل): أي ومن اعتز فيها فهو عن قريب صائر إلى الذل، بتغير أحوالها عليه.
(وجدها هزل): لأن الهزل ما لايعتمد عليه من الحديث، وأمورها كلها لا اعتماد عليها ولا التفات إليها.
(وعلوها سفل): أراد أن من كان فيها عالياً بالأمر والنهي، وبالحسب والشرف فعن قريب وقد أذلته وأوضعته وحطته عن شرفه، وأزالته عن نفوذ أمره ورئاسته.
(دار حرب): غضب وتلهف، من قوله : حرب الأسد إذا اشتد غضبه.
(وسلب): أي هذا يسلب هذا وذاك يسلب هذا.
(ونهب): تنهب فيها الأموال والنفوس وتختطف فيها الأرواح.
(وعطب): وهلاك، من قولهم: عطب الرجل إذا هلك.
(أهلها على ساق): أي على شدة، من قولهم: قامت الحرب على ساق إذا حمي أمرها، وظهر حالها.
(وسياق): بأهلها إلى الموت والقيامة في سرعة وقلق وإزعاج.
(ولحاق): لهم بمن مات من قبلهم.
(وفراق): للأحياء الباقين بعدهم.
(قد تحيرت مذاهبها): المذهب هو: المسلك والطريق، وغرضه أن طرقها فيها صعوبة فلا يمكن سلوكها.
(وأعجزت مهاربها): يعجز طالبها عن وجدانها، فلا يمكنه منها مهرب ولا حيلة.
(وخابت مطالبها): ضلت وفسدت، فلا سبيل إلى نيل مطلب من مطالبها.
ثم خرج إلى وصف حال أهلها بعد فراغه من وصف حالها بما تقدم بقوله:
(فأسلمتهم المعاقل) يريد أنهم نزلوا عنها خاضعين لم تكن مانعة لهم عن المنون وإصابة الموت.
(ولفظتهم المنازل): لفظه إذا دفعه، وأراد أنها دفعتهم عن الاستقرار فيها والسكون في جوانبها وحافاتها.
(وأعيتهم المحاول): المحاول جمع محالة وهو: التصرف، واشتقاقه من التحول والتصرف، وأراد أنها انسدت عليهم جميع أنواع الحيل والتصرفات كلها.
(فمن ناجٍ): ثم قسَّمهم وذكر أنواعهم فمن ناجي، الناجي هو: المسرع.
(معقور): أي مقطوعة رجله.
(ولحم مجزور): أي مقطع، وقد يقال: المجزور هو المنحور.
(وشلو): أي عضو من أعضاء اللحم.
(مذبوح): أي مشقوق، والذبح: الشق للأوردة.
(ودم مسطوح ): أي مصبوب.
(وعاضّ على يديه): ضيقاً وحزناً، يقال: فلان عاضٌّ على يديه إذا امتلأ غيظاً وحنقاً، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ }[آل عمران:119].
(وصافق لكفيه ): جاعل لأحدهما على الأخرى ندامة على فعله.
(ومرتفق لخديه ): أي جاعل مرفقيه حذاء خديه يبكي وهو مضيف إليهما خديه؛ لأن المحزون يفعل ذلك.
(وزار على رأيه):زريت عليه زراية إذا عبت عليه رأيه وفعله.
(وراجع عن عزمه): عمَّا كان عازماً عليه ندامة وتحسراً.
(فقد أدبرت الحيلة): أي ذهبت وصارت غيرنافعة.
(وأقبلت الغيلة): غاله إذا خدعه، والغيلة مصدر غاله غيلة أي خدعه خديعة، وأراد في هذا كله أنه ذهب الوفاء وزال بأهله، وبقي الخدع والمكر.
(ولات حين مناص): لا هذه هي النافية للجنس مثلها في قولك: لارجل في الدار، وهي تؤنث كما يؤنث ثَمَّ وَثَمَّت وربَّ وربَّت، وحين اسمها، والمناص: المخرج، ويجوز أن تكون هي المشبهة بليس، أي ليس الحين حين مناص.
(هيهات هيهات): اسم من أسماء الفعل، ومعناه بَعُدَ ذلك.
(قد فات ما فات): من الدنيا كلها.
(وذهب ما ذهب): وإنما أُبْهِمَ مبالغة في الذاهب والتالف، وإعظاماً للأمرفيه، وأنه بلغ مبلغاً لا يمكن إحاطة العقول به واستيلاؤها عليه.
(مضت الدنيا): ولَّت مدبرة.
(لحال بالها): البال: القلب، وأراد لحال خاطرها وماهي عليه، ثم تلا هذه الآية: ({فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ }[الدخان:29]): مشيراً بها إلى ما أشار الله بها من تغير الدنيا على أهلها وانقطاع نعيمها عنهم، وانتقالها إلى غيرهم، فيحتمل أن يكون ذلك تهكماً بحالهم حيث لم يلتفت إلى مصارعهم ومهالكهم ولا بكى عليهم أحد، وقيل: ما بكت عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين ، وأراد فما بكى عليهم أهل السماء والأرض ممن ذكرناه.
وقد ختم هذه الخطبة بهذه الآية، وفيها من المناسبة لمعانيها والملاءمة لأوضاعها ومبانيها ما يدريه كل عاقل ذكي، ويتقاعد عن فهمه كل غافل عن الأسرار غبي.
(224) ومن خطبة له عليه السلام تسمى: (القاصعة)
سميت قاصعة إما من قولهم: قصع الماء عطشه إذا أذهبه؛ لأنها أذهبت ما في الصدور من الوحر والغيظ، وإما من قولهم: قصعت القملة إذا هشمتها وقتلتها؛ لأنها هشمت مكر إبليس وخدعه بالخلق.
وهي خطبة طويلة ذكرفيها ذم إبليس علىاستكباره وتركه السجود لآدم عليه السلام، وأنه أول من أظهرالعصبية وتبع الحمية، وتحذير الناس عن سلوك طريقه :
(الحمدلله الذي لبس العزَّ والكبرياء): العزّ: نقيض الذلّ، والكبرياء: التكبرو العظمة، واللبس ها هنا مجاز واستعارة، مثله في قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ }[النحل:112] ومن جيد ما يقال في المعنى قول من قال:
هما يلبسان المجد أحسن لبسه
شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما
(واختارهما لنفسه دون خلقه): يريد أنهما لا يصلحان إلا له لاستحالة معناهمافي حق غيره، أو يريد أنهما لا يقعان على جهة الحقيقة إلا في حقه، وإن أطلقا في غيره فعلى جهة التجوّز لا غير.
(وجعلهما حمى): أي محظور لا يقرب، وأحميت المكان جعلته حمى، وفي الحديث: ((لاحمى إلا لله ولرسوله )) ، وسمع الكسائي في تثنيته حموان والقياس فيه حميان؛ لأنه من الياء، ولكنهم قلبوا ياءه واواً كما فعلوه في جباوة.
(وحرماً): أي حراماً لايحل انتهاكه ولا تعدِّيه، ومنه قوله: مكة حرم الله.
(على غيره): أي لايصلحان في حق غيره لأنهما لا يصدقان إلافيه، فلهذا اختصا به.
(واصطفاهما): اختارهما، والاصطفاء هو: الاختيار.
(لجلاله): أي من أجل أنهما لايصلحان إلا لمن له الجلال، وهو الاختصاص بالصفات الإلهية والعظمة.
(وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده): اللعنة: الإبعاد من الرحمة في الآخرة، وغرضه أن كل من نازع الله تعالى في عزِّه وكبريائه كان مستحقاً للإبعاد من الرحمة، والتقريب من الويل والعذاب، وفي الحديث عن الله تعالى: ((الكبر ردائي، والعظمة إزاري ، فمن نازعني في أحدهما قصمته)) .
(ثم اختبر بذلك): الاختبار: الامتحان، والإشارة إلى المذكور أولاً وهو الاعتراف لله تعالى بالعز والكبرياء.
(ملائكته المقربين): من رحمته، أو المقرَّبين إلى المواضع الشريفة المقدَّسة كالعرش والكرسي وغيرهما.
(لِيَمِيْزَ المتواضعين منهم من المستكبرين): فمن أطاع للأمر ونفوذه فهو المتواضع للجلال والمعترف بحاله، ومن عصى في ذلك وأنكره فهو المتكبر المستحق للوعيد.
(فقال سبحانه): مخبراً عمَّا سبق في علمه من طاعة من يطيع ومعصية من يعصي من هؤلاء المأمورين الملائكة وإبليس.
(وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب): هذه الجملة واردة على جهة الاعتراض لا محل لها من الإعراب، وإنما وردت منبهة على أن سبق العلم ونفوذه من قبل ليس موجباً للسجود في حق من أطاع به، ولا مانعاً وحائلاً عن السجود في حق من عصى بتركه، ثم تلا هذه الآية:
({إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ })[ص:71]: يريد آدم عليه السلام.
({فَإِذَا سَوَّيْتُهُ })[ص:72]: أحكمت صنعته.
({وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي })[ص:72]: لانفخ هناك، وإنما هو استعارة في إجراء الروح في هذه الصورة الطينية.
({فَقَعُوا}): أمر بالوقوع والإسراع فيه.
({لَهُ}): أي من أجله تعظيماً له لخلقي، وتشريفاً لما خلقت بيدي.
({سَاجِدِينَ}): متواضعين لجلالي في سجودكم، وإكراماً لآدم من أجلي.
({فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ })[ص:73: أذعنوا للأمر وأطاعوا بالسجود.
({كُلُّهُمْ}): ما تخلف منهم واحد انقياداً لله وامتثالاً لأمره .
({أَجْمَعُونَ}): تأكيداً بعد تأكيد، تعظيماً لحالهم، وتعريضاً بحال إبليس في تأخره مع سجود من هو أعز منه وأفضل وأشرف منزلة عند الله وأعظم تقدماً وهم الملائكة.
({إِلاَّ إِبْلِيسَ}): الأكثر على أنه استثناء منقطع؛ لأنه من غير جنس الملائكة، وإنماهو من الجن.
(اعترضته الحمية): الاحتماء على أصله، وإنما قال: (اعترضته) على أنه لعنه الله تعالى آثرها وحرَّك داعيها وأقبل إليها.
(فافتخر على آدم بخلقه): بأن قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }[ص:76].
(وتعصب عليه لأصله): بأن قال: أنا جوهر نوراني مشرق رقيق، ذو لهب عالي، وأنت من جوهر تربي لاصفاء له فيه مختصاً بعكس صفائي هذا، ويزعم بعد ذلك أنه لا تداني بين الفضلين، ولا تقارب بينهما.
(فعدو الله): العداوة في حق الله إنما تعقل على معنى إنزال الضرر بالغير والإهانة.
(إمام المتكبرين ): متقدمهم؛ لأنه هو الذي سنَّ هذه الخصلة، وأول من دعا إليها وتلبس بها.
(وسلف المستكبرين): السلف: من تقدم، وأراد أنه الغاية في ذلك.
(الذي وضع أساس العصبية): الأساس هو: أصل البناء، وهو مجاز هاهنا.
(ونازع الله رداء الجبرية): المنازعة: المخاصمة، والأصل هو منازعة رأس الفرس لراكبها والتصعب عليه، والجبرية هو: التجبُّر والعظمة، وأراد بالمنازعة هو أن الله تعالى أمره فأبى، وحكم عليه بالسجود فتمرد وعصى، فهذا هو وجه المنازعة.
(وادَّرع لباس التعزز): ادَّرعه إذا جعله له درعاً، والتعزز: العزة والتكبر.
(وخلع قناع التذلل): أزاله وطرحه عن جسمه، والخلع مع الادراع كلها من باب المجازات والاستعارات العالية، فكان ذلك سبباً في ذُلِّه وذريعة إلى حقارته وهونه.
(ألا ترون كيف صغَّره الله بتكبره): أعطاه الله الصَّغار من أجل ما احتمل من نفسه من الكبر واكتسبه.
(ووضعه بترفعه): وخصَّه بالضّعة وحقارة الرتبة، وخسة المنزلة من أجل ما فعل من الترفع بحاله والتعظيم لنفسه.
(فجعله في الدنيا مدحوراً): الدحر: الطرد والإبعاد، كما قال تعالى: {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً }[الصافات:8-9] أي دفعاً.
(وأعدَّ له): هيَّأ ومكَّن.
(في الآخرة سعيراً): في القيامة ناراً متسعرة، وسعرت النار إذا أحميتها.
ثم شرع عليه السلام في النقض لشبهته والرد عليه فيما تعلق به، بقوله:
(ولو أراد الله): سبق في علمه، واقتضته حكمته.
(أن يخلق آدم من نور): أن تكون خلقة آدم أعظم خلقة من خلق إبليس، بأن يخلقه من نورعظيم.
(يخطف الأبصار ضياؤه): أي يزيل ضوءها من كثرة شعاعه ونوره، لأن كل ما عظم نوره فإنه يقال فيه: يخطف الأبصار، كما قال تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }[البقرة:20] من كثرة ضوئه ونوره.
(ويبهرالعقول رُوَاؤُهُ): بهره إذا غلبه، وأراد يغلب العقول حسن منظره وبهائه.
(وطيب يأخذ الأنفاس عَرْفُه): العَرف: ما يشم من رائحة طيبة كانت أو خبيثة، وأراد ها هنا الطيبة التي يعظم وقعها في النفوس، ويعظم تأثيرها في الخياشيم من عَبْقَةِ ريحها ونفوذه.
(لفعل): اللام جواب لو، أي لكان ذلك، ووقع من جهة القدرة، فإن من كانت قدرته لذاته فلا يعجزه شيء، ولا يخرج عن قادريته شيء من المقدورات.
(ولو فعل ذلك): على جهة الفرض والتقدير؛ لكونه خلاف ما وقع.
(لظلت الأعناق خاضعة): خضع عنقه إذا ذلّ وخضع، وأراد قسراًوإلجاءً كما قال تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء:4].
(ولخفَّت البلوى فيه على الملائكة): وبعد حصوله على هذه الصفات ، إذ صار أعظم منهم حالاً، وأشرف خلقة.
(ولكن الله تعالى سبحانه): استدراكاً لما قدَّره من جهة خلقة آدم التي لم تكن أصلاً.
(يبتلي خلقه): يختبرهم ويمتحنهم بضروب الامتحانات والاختبارات.
(ببعض ما يجهلون أصله): ما الحكمة فيه؟ وما لله فيه من غرض؟
(تمييزاً بالاختبار لهم): في إطاعة من يطيع منهم، ومعصية من يعصي.
(ونفياً للاستكبار عنهم): وإزالة للتكبر ألاَّ يخالطهم ويستولي عليهم.
(وإبعاداً للخيلاء منهم): الخال والخُيَلاَء والمَخْيَلَة هي: التكبر والتعاظم والفخر، قال رؤبة:
والخال ثوب من ثياب الجهال
(فاعتبروا): في ترك الكبر والتعاظم والفخر، والتلبس بها والارتداء بأثوابها.
(بما كان من فعل الله بإبليس): لما فعل هذه الأشياء، ودعا إليها وتلبس بها.
(إذ أحبط الله عمله الطويل): إذ ها هنا ظرف، والعامل فيه (فاعتبروا)، وقت إحباط الله، والإحباط هو: الإزالة للثواب وإبطاله، بارتكاب المعاصي الكبائر.
(وجهده الجهيد): أي واجتهاده العظيم في عبادة الله تعالى وطاعته، وإرداف الجهد بالجهيد من باب الاشتقاق، كقوله تعالى: {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ }[يوسف:84] وآية ذلك وعلامته أنه لبث مدة عظيمة في العبادة:
(وقد كان عبد الله ستة آلاف سنة): هذا أمر لايكون إلا توقيفاً من جهة الرسول عليه السلام؛ لأن هذه الأمور لا تعلم إلا من جهة الله تعالى أو من جهته.
(لا يُدْرَى من سني الدنيا أو من سني الآخرة) : شك أمير المؤمنين في تحقيق ذلك.
(على كبر ساعة): وهو أمره بالسجود فأبى عن ذلك.
(فمن بعد إبليس ): من الإنس والجن إذا فعل مثل هذه المعصية.
(يسلم على الله بمثل معصيته): أراد يكون سالماً عند الله تعالى بمثل معصيته من غير تفرقة بينهما من وجه واحد.
(كلا): ردع عن هذا وزجر، فإنه يستحيل في العقول، وفي الحكمة أن الله تعالى يعاقب مكلفاً على ذنب، ثم يصدر من جهة غيره مثل ذلك الذنب لا يعاقبه عليه ويعفو عنه، وهما على حالة واحدة.
(ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها مَلَكاً): يشير بكلامه هذا إلى أن الكبر والعزة والفخرو التخايل كلها قبيحة، ويستحيل في الحكمة أن الله تعالى يهلك إبليس بتكبر في حاله هلاكاً لايمكن وصفه، ولا ينال حده، ثم يصدر مثل ذلك التكبر بعينه من غير إبليس، فيغفره الله له، ويدخله الجنة مع فعله له، فمثل هذا محال في العقول وفي الحكم الإلهية، ولهذا أتى بالجحد في أول الجملة مبالغة في الأمر، وأن مثله غير كائن، كما قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ }[البقرة:143] {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ }[الأنفال:33]، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ }[آل عمران:179]، إلى غير ذلك من الجمل المؤكدة بالجحد.
واعلم: أن كلام أمير المؤمنين ها هنا يشير إلى أمرين:
أحدهما: أن بعض المعاصي الكفرية لا تصدر من جهة شخص وتكون كفراً، إلا وتكون إذا صدرت من شخص آخر على ذلك الوجه كفراً لا محالة من غير تفاوت، فلو أُمِرَ الآن بعض الشياطين بالسجود لبعض الأنبياء ثم تكبر عن ذلك، وردَّ الأمر لكان حاله مثل حال إبليس لا محالة، وهذا على ظاهره مسلَّم مع فرض المماثلة من جميع الوجوه كلها، فأما مع فرض المخالفة في بعض الوجوه فهذا غير مسلَّم وظاهره يقضي بالمماثلة.
وثانيهما: أن ظاهر كلامه يوهم أن إبليس من الملائكة، وهذا مخالف لما ورد به التنزيل، حيث قال تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ }[الكهف:50] فإن قوله: (كان من الجن) تصريح بأنه ليس من جملة الملائكة، وهي جملة واردة على جهة التعليل لتركه للسجود وإعراضه عنه ، وفيه تعريض بحال الجن في كثرة فسقهم وتمردهم، وهذه الرواية أيضاً محكية عن ابن عباس ، وأظن أن كلام أمير المؤمنين هو أصلها وقاعدتها، فإنه منه أخذ، وهو أستاذه وله تلمَّذ.
ويمكن تأويل كلام أمير المؤمنين بأن مراده بقوله: (ما كان الله ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً) أن ذلك وارد على جهة التمثيل دون التعيين في هذه القصة، فإن قدر أمير المؤمنين أشرف وأعلا أن يخفى عليه حال إبليس ومن أي جنس هو.
(إن حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد): يريد فلا تختلف حال المعاصي بحال من فَعَلَهَا إذا كانت الأوجه والمفاسد فيها واحدة.
(وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة): يريد أن المقرِّب إلى الله تعالى إنما هو الأعمال الصالحة، والمبعد عنه هو الأعمال السيئة من غير أمر وراءهما، والهوادة هي: المصالحة والميل، وهما مستيحلان على الله تعالى.
(في إباحة حمى حرَّمه الله): حظره ومنع منه وأوعد عليه العقوبات الأليمة.
(على أحد من العالمين): بل كلهم مستوون في تحريم ما حرَّم، وإباحة ما أباحه مع استواء وجه المصلحة في حقهم.
(فاحذروا عباد الله ): أمر لهم بالحذر وملك نفوسهم عن نفوذ مَكْرِهِ.
(أن يعديكم بدائه): أعدى فلان فلاناً بدائه وَخُلُقهُ إذا وصل ذلك إليه، وسرت إليه علته بسبب من الأسباب، وأراد التلبس بما هو عليه من المكر والخديعة، وإلا فا لإعداء لا وجه له، وفي الحديث: ((لا عدوى، ولا هامة، ولاصفر )) .
(وأن يستفزكم بخيله وَرَجْلِهِ): أراد يغير عليكم بالخيل والرجال، وهو تمثيل بحال من يغار عليهم فيستفزون وتضيق أحوالهم من أجل ذلك.
(فلعمري): مضى تفسيره غير مرة.
(لقد فوَّق إليكم سهام الوعيد): سدَّد إليكم سهام الوعيد، بقوله: {لاََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}[الأعراف:16-17]، وقال في آية أخرى: {لاَُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[الحجر:39].
(وأغرق لكم بالنزع الشديد): يقال: أغرق في نزع قوسه إذا بلغ الغاية من جذبها ، وكنى بذلك عن شدة العناية والاجتهاد في الإغواء.
(ورماكم): بأسهمه، ونصاله.
(من مكان قريب): أراد إما قرب من الأرض فإن إضلاله حاصل فيها، وإما القرب المجازي وهو الإيحاء بالوسوسة، والنفث في الخاطر بالإغواء:
(وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي })[الحجر:39]: خذلتني حتى صرت غاوياً.
({لاَُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ })[الحجر:39]: أعمالهم القبيحة.
({وَلأُغْوِيَنَّهُمْ })[الحجر:39]: آتيهم من طرق كثيرة ليغووا.
({أَجْمَعِينَ }): بأجمعهم لا يبقى منهم أحد.
(قذفاً بغيب بعيد): قذفه بالحجر إذا رماه بها، والغيب البعيد هو قوله: (لأغوينَّهم) ، (ولأزيننَّ)، (ولآتينَّهم)، وغير ذلك، وانتصابه على المصدرية أي يقذفهم بما ذكره قذفاً بأمور مغيَّبة لا يُدرى حالها، بعيدة الوقوع لا يُظَنُّ حصولها.
(ورجماً بظنٍ غير مصيب): أي ويرجمهم رجماً بالظنونات الكاذبة المتوهمة التي لا إصابة له بحال، ها هنا كلام محذوف تقديره: فمن عصمه الله بلطفه، وتداركه بألطافه الخفية حماه عن كيد إبليس وإغوائه، ولم يصدِّق عليه ظنه، فأما من خذله الله تعالى فإنه يصدِّق عليه ظنه، والغرض بصدق الظن ها هنا هو أن كل ما حدسه وسبق إلى وهمه من فعل الموبقات من جهتهم فهو واقع لا محالة، وقد:
(صدَّقه أبناء الحمية): أهل الكبر والفخر من الجاهلية.
(وإخوان العصبية): وأهل التعصب لأحسابهم وفخرهم.
(وفرسان الكبر والجاهلية): من استحكم أمره في شيء قيل: هو فارس فيه، وأراد من عظم أمره في التكبر.
(حتى إذا انقادت له الجامحة): حتى هذه متعلقة بمحذوف، تقديره: فما زال بخدعه وعظيم مكره وختله يفتل في الذروة والغارب حتى أطاعته النفس الجامحة، وإنما سماها جامحة لصعوبة علاجها وجموحها بالإنسان إلى كل مكروه، ومنه فرس جموح وهي: التي تغلب صاحبها.
(منكم): من ها هنا للتبعيض، وأراد من ساعده في ذلك الإغواء.
(واستحكمت الطَّماعية): الطماعية: الطمع كالكراهية والعَلانية، واستحكام الطمع: رسوخه وغلبته.
(منه): من جهته.
(فيكم): صرتم مكاناً لها، وظرفاً يستقر فيه.
(فنجمت الحال ): نجم الشيء إذا ظهر، وأراد ظهر الأمر .
(من السر الخفي) من ها هنا لابتداء الغاية أي مما كانوا يسرونه ويكتمونه وانتقل:
(إلى الأمر الجلي): الظاهر الذي لا شك فيه.
(استفحل سلطانه عليكم): عظم قهره واستيلاؤه، وإنما جاء بغيرواو لأنه جواب إذا، وأراد أنه إذا انقادت له النفوس عظم مكره لا محالة.
(ودلف بجنوده نحوكم): أي تقدم بأنصاره وأعوانه لقضاء غرضه منكم .
(فأقحموكم ولجات الذل): فأوقعوكم في مداخل المهالك، والوَلْجَةُ: المدخل.
(وأحلوكم ورطات القتل): الورطة: المهلكة، وأراد أنهم مكَّنوهم منها حتى حلُّوها، كما قال تعالى: {وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ }[إبراهيم:28].
(وأوطئوكم إثخان الجراحة): أي حملوكم على أن تُجْرَحُوا الجرح المثخن الغليظ الواسع.
(طعناً في عيونكم): بالرماح، وطعناً ينتصب على المصدرية، أي يطعنونكم طعناً.
(وحزاً في حلوقكم): بالشفار والسيوف.
(ودقاً لمناخركم): المنخر : مكان النخر وموضعه، وغرضه أنهم يدقون مناخركم ويهشمونها.
(وقصداً لمقاتلكم ): أي لا يتركون سبيلاً وذريعة إلى قتلكم إلا فعلوه وأمَّوه.
(وسوقاً بخزائم القهر إلى النار المعدَّة لكم): أراد ويسوقكم سوقاً من أجل قهره بخزائمكم إلى النار المهيأة من أجلكم، وذكر الخزائم إنما هو على جهة الاستعارة؛ لأن الإنسان أمنع ما يكون بخزائمه، فإذا أخذت الخزائم قهراً، فلا خير بعد ذلك، فهكذا صنعه هو وجنوده بكم .
(فأصبح أعظم في دينكم جرحاً): أصبح إذا دخل في الصباح، وغرضه فأصبح على أعظم ما يكون من الجرح والإبطال لأديانكم.
(وأورى في دنياكم قدحاً): وري الزند إذا ظهرت ناره، والقدح: ما تستورى به النار، وأراد أنه لم يألُ جهداً في تغيير أحوال دنياكم وتكديرها.
(من الذين أصبحتم لهم مناصبين): يريد أنه أعظم عليكم ضرراً وأدخل مكراً من هؤلاء الذين نصبتم لهم العداوة، والمناصبة: المعاداة.
(وعليهم متألبين): مجتمعين في المحاربة.
(فاجعلوا عليه حدَّكم): أي شباتكم وشدة بأسكم.
(وله جهدكم ): اجتهادكم في كل وجه ترجون به النكاية له.
(فلعمر الله): قسم مضى تفسيره.
(لقد فخر على أصلكم): بقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ })[الأعراف:12].
(ووقع في حسبكم): اغتا بكم بما تكرهون ذكره فيكم، وفي الحديث: ((الوقيعة في العلماء من الكبائر )) يشير به إلى ما يعتقده من أن النار جوهر لطيف، والتراب جوهر كثيف .
(ودفع في نسبكم): إما بافتخاره على أبيكم حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ }[الأعراف:12]، وإما بما يجري منه من الاحتيال على الزنا وركوب الفروج على غير وجهها، كما أشار إليه بقوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولاَدِ }[الإسراء:64] وقد قررنا تفسيره من قبل.
(وأجلب بخيله عليكم): يريد أنه بلغ الغاية القصوى في الإغواء لكم، والاجتهاد في إزلالكم.
(وقصد بِرَجْلِهِ سبيلكم): معناه وأقعد رَجْلَه رصداً للإغواء لكم في مواضع السبل وطرائق الهدى تلبيساً عليكم وتعمية.
(يقتنصونكم بكل مكان): الاقتناص: الاصطياد، وغرضه أنهم يصطادونكم بكل طريق يجدون إليها سبيلاً لايفترون عن ذلك.
(ويضربون منكم كل بنان): يريد الأطراف والأوصال، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ }[الأنفال:12].
(لا تمتنعون بحيلة): لكثرة استيلائهم، وعظم تسلطهم.
(ولا تدفعون بعزيمة): بجد واجتهاد وإن بلغ كل غاية.
(في حومة ذل): الحومة: معظم القتال، وغرضه أعظم ما يكون من الذل فيكم.
(وحلقة ضيق): إذا وقع الرجل في أمر صعب قيل: وقع في حلقة.
(وعرصة موت): مكان الموت وموضعه الذي لا يزال فيه.
(وجولة بلاء): الجولة واحدة الجولات، وهي: المصاولة في الحرب، فهذه الأمور كلها حاصلة من جهته مكراً وعداوة.
(فأطفئوا ما كمن في قلوبكم): استكنَّ واستتر.
(من نيران العصبية): التعصب.
(وأحقاد الجاهلية): الحقد: عبارة عما يكنّه الصدر من العداوة.
(وإنما تلك الحمية في المسلم): أراد أن المسلم لا يخلو عن ذلك، وإنما يكون سببها وانقداحها:
(من خطرات الشيطان): ما يخطره ويحركه من قلب الإنسان، وما يولجه في نفسه.
(ونخواته): من عزته.
(ونزغاته): النزغة من الشيطان هي المرة الواحدة من الفساد والإغواء من جهته.
(ونفثاته): وما يلقيه في الآذان من الوسوسة، فهذه كلها من مكر الشيطان وخدعه.
(واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم ): أي اجعلوه عمدة في أموركم كلها، شبَّه التذلل بشيء يكون فوق الرأس كالتاج والعمامة ونحوهما.
(وخلع التكبر من أعناقكم): نزله ها هنا منزلة الغل لما يلحق بحمله من وخيم العاقبة، ولهذا قال: فاخلعوه من أعناقكم.
(واتخذوا التواضع مُسلَّحة): المسلحة بضم الميم وتشديد اللام: قوم ذوو سلاح، والمَسلحة بفتح الميم وتخفيف اللام: الثغر والمرقب، وكلاهما لائق ها هنا، وغرضه أن يُجْعَلَ بمنزلة العسكر أو بمنزلة الثغر الحافظ.
(بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده): فإن عداوته لكم ظاهرة لا شك فيها.
(فإن له من كل أمة جنوداً): يصول بهم.
(وأعواناً): يستعين بهم.
(ورَجْلاً وفرساناً): يغالب بهم من ناواه، ويقهر بهم من عاداه، ويستظهر بهم على من خذله الله، وسلبه ألطافه فانقاد لدعائهم، وأوقع في أذنه وقلبه حسن ندائهم.
(ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه): يريد قابيل، فإن الله تعالى حكى قصتهما في كتابه الكريم، روي أنه أول قتيل قُتِلَ في الدنيا ، وما حمله على قتله إلا البغي والحسد، وقد نعى الله إليه فعله، وحكى وقوع ندامته.
(من غير ما فضل جعله الله فيه): أراد أن الله تعالى لم يزد هابيل فضلاً زائداً على ما أعطاه قابيل بل هما سواء في ذلك.
(سوى ما ألحقت العظمة بنفسه): أثارته الكبرياء والتعاظم، وكانا كامنين.
(من عداوة الحسد ): حيث رُفِعَ قُرْبَانُ أخيه ولم يُرْفَعَ قُرْبَانُهُ.
(وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب): قدح النار إذا أوراها، والحمية: الاحتماء، وأضاف القدح إلى الحمية؛ لأنها هي المؤثرة في ذلك والأصل فيه، ومن هذه للتبعيض، وغرضه أنها حرَّكتها.
(ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكير): النفخ والريح ها هنا استعارات حسنة، والغرض تحريك الداعية له على ما فعله بأخيه من القتل، ومن ها هنا للتبعيض.
(الذي أعقبه الله به الندامة): أي من أجله وبسببه.
(وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة): إذ كان أول من قتل، وأول من سنَّ هذه السنة القبيحة السيئة ، وفي الحديث: ((من سنَّ سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة))، فلهذا قال: (وألزمة آثام القاتلين إلى يوم القيامة) يشير إلى ما ذكرناه لا غير، ويؤيده قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}[يس:12] يريد ماكان من عمل صالح أو سيء.
اللَّهُمَّ، اجعل أعمالنا مرفوعة متقبلة عندك قبل المو ت وبعده، يا أكرم مسئول.
يحكى أنه لما قتله اسودَّ جسمه وكان أبيض، فسأله آدم [ عليه السلام] عن أخيه؟ فقال: ما كنت عليه وكيلاً، فقال: بل قتلته، ولهذا اسودَّ جسدك ، وقيل: إن آدم [ عليه السلام] مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك .
ثم لما فرغ من ذكر الكبر التفت إلى أصحابه الذين يقاتلهم من أهل البغي، بقوله:
(ألا وقد أمعنتم في البغي ): بالغتم فيه ووصلتم فيه إلى كل غاية، وغرضه ها هنا المبالغة في الإنكار عليهم وبغيهم عليه ، ولهذا أتى بحرف التنبيه في أول الجملة منبهة على ذلك.
(وأفسدتم في الأرض): بالقتل والقتال على غير الحق ووجهه.
(مصارحة لله): إظهاراً وتصريحاً.
(بالمناصبة): أي المعاداة.
(ومبارزة للمسلمين بالمحاربة): يريد إما خروجاً، من قولهم: برز الرجل إذا خرج، وإما أن يريد المنازلة في الحرب، وهو أن يبرز أحد الرجلين للآخر في القتال.
(فالله الله في كبر الحمية): تكريراسم الله تعالى يرد على وجهين:
أحدهما: أن يكون في الإغراء وهو أكثر وقوعاً كقولك: الله الله في تقوى الله وطاعته، يريد في الحث عليهما والإتيان بهما.
وثانيهما: أن يكون وارداً في التحذير عن المعصية، كقولك: الله الله في البغي والعدوان، وأراد الترك لهما ومجانبتهما، ومنه ما ذكره ها هنا كقوله: الله الله في الحمية أي الكبرة والعظمة، يريد اتركوهما ولا تعرِّجوا عليهما.
(وفخر الجاهلية): لا تقربوه وهو تعاظمهم على غيرهم بحسب أو بمال ، وهذا كان عادة في الجاهلية حتى وضعه الله بالإسلام.
ويحكى أن الرسول عليه السلام لما دخل يوم الفتح الكعبة وقريش حوله، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((إن الله تعالى قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وافتخارها بالآباء، الناس كلهم من ولد آدم وآدم من تراب)) ثم تلا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ [مِنْ تُرَابٍ ] } إلى قوله: {... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13].
(فإنه): يريد المذكور أولاً من الكبر والفخر .
(ملاقح الشنآن): جمع مَلْقَح، والشنآن: البغض، قال الله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ }[المائدة:2] أي بغضهم.
(ومنافخ الشيطان): جمع منفخ، وهو الذي تنفخ فيه، وهو مجاز كما ذكرناه أولاً.
(اللاتي خدع بها الأمم الماضية): فأزلَّهم عن الحق ونكبهم عن طريقه.
(والقرون الخالية): ممن طغى وبغى وتمرد وعصى، مثل عاد وثمود، وقوم إبراهيم، والمؤتفكات وغيرهم.
(حتى أعنقوا في حنادس جهالته): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره: فأصروا على ما فعلوه من الكفر والتمرد حتى أعنقوا، والعنق: ضرب من السير للإبل والخيل مسبطر تمدُّ فيه أعناقها ويزجيها ، والحنادس: الظلم، وقيل للحق: نور وضياء لما فيه من التحقق والقطع، وانشراح الصدر، وقيل للجهل: ظلم وحنادس لما فيه من الشك والتردد الذين يورثان الغمّ والضيق.
(ومهاوي ضلالته): المهاوي: جمع مهواة، وهي: الحفرة التي يتردى فيها الإنسان.
(ذللاً): متصاغرين مقهورين.
(عن سياقه): لما ساقهم وقهرهم فلا يخالفون أمره في ذلك.
(سُلسُاً في قياده): من غير مدافعة ولاممانعة ولا مجاذبة، يقال: فلان سلس القياد إذا كان يسير من غير استصعاب ومعاصاة في سيره.
(أمراً): أي احذروا أمراً.
(تشابهت القلوب فيه): أي تماثلت في قبوله فهذا يشبه هذا، وذاك يشبه هذا في كونه مفعولاً به لا ينكره منهم منكر .
(وتتابعت القرون عليه): في الاعتراف به والفعل له، يقال: تتابعوا على هذا إذا فعلوه عن آخرهم.
(وكبراً): أي واحذروا كبراً.
(تضايقت الصدور به): أي ضاقت عن كتمانه وإسراره فأظهرته ولم تكتمه.
(ألا فالحذر الحذر): هذا منصوب على الزموا الحذر، وأوجب النحاة فيه إضمار الفعل فلا يظهر بحال لأجل التكرير؛ لأن أحدهما عوض عن الفعل فلا يجمع بينهما أصلاً.
(من طاعة ساداتكم): في مخالفة أمر الله والترفع عن طاعته.
(وكبرائكم): الكبراء: جمع كبير كنذراء في جمع نذير، وأراد والكبار ذوو الأسنان فيكم والحنكة في أموركم.
(الذين تكبروا): تعاظموا وفخروا.
(عن حسبهم): أي ترفعوا عنه، وأرادوا الزيادة عليه تكبراً وفخراً.
(وترفعوا فوق نسبهم): خالفوه وأرادوا الزيادة عليه والمخالفة لماعليه أصلهم حقيقةً.
(وألقوا الهجينة على ربهم): العيب والنقص، وأراد أنهم يقولون: إن الله تعالى جعل فلاناً معيباً منقوصاً لكونه مستحقاً لذلك، فالله تعالى جعله مستوجباً لئلا يخالط لحقارته ويتكبر عليه، ويترفع عن مكالمته، فهذا معنى رد الهجينة على الله تعالى وهو الاستهجان والاستقباح كما أشرنا إليه.
(وجاحدوا الله على ما صنع بهم): أراد أن أحدهم إذا حصل له جاه عند الناس ومحمدة قالوا: إنما حصل له ذلك من جهة نفسه، وذلك إنما كان من أجل جوده وسماحته، وفخره بآبائه، وما كان لهم من المجد والرفعة، وهذا كله جهل، فإن ذلك حصوله إنما هو من جهة الله تعالى، فلهذا قال: (جاحدوا الله على ما صنع بهم) يشير به إلى ما قلناه.
(مكابرة لقضائه): حيث قضى بحصول النقص والعيب على بعضهم.
(وردّاً لآلائه): حيث أنعم عليهم بما فعله لهم من المجد والسناء والرفعة، وزعموا أن كل هذا من جهتهم.
(فإنهم قواعد آساس العصبية): أصولها التي هي مبنية عليها، والقرارات التي هي متفرعة عنها.
(ودعائم أركان الفتنة): التي شيدت عليها.
(وسيوف اعتزاء الجاهلية): الاعتزاء هو: الانتساب، وأراد أن اعتزاءهم إلى الجاهلية وانتسابهم إليها بمنزلة السيوف القواطع للحق المهلكة للدين.
(فاتقوا الله): في ترك المتابعة للرؤساء في مخالفة الحق وموافقة الهوى.
(ولا تكونوا لنعمه عليكم أضداداً): في غمصها وترك الاعتراف بحقها، والإقرار بشكرها؛ لأن من هذه حاله فهو مضادٌّ للنعمة غامص لها.
(ولا لفضله عندكم حسَّاداً): تحبون زواله عنكم، وتريدون ذلك بترك الشكر له، وهذه حقيقة الحاسد، ويحتمل أن يقال: إذا أنعم الله على بعضكم نعمة فلا يحل له أن يضادَّ من لا نعمة له، وإن من كان عنده فضل من الله فلايحل له أن يحسد من ليس عنده ذلك الفضل.
(ولا تطيعوا الأدعياء): الأدعياء جمع دعي وهو: الذي ينسب إلى غير أبيه، ويدعي ما ليس له فيه حق.
(الذين شربتم بصفوكم كدرهم): أراد أنكم خلطتم عقائدكم الصحيحة بعقائدهم الفاسدة، ومزجتموها بها، أو يريد أنكم خلطتم أعمالكم الصالحة بأعمالهم السيئة.
(وخلطتم بصحتكم مرضهم): المقصود من الصحة ها هنا هو الصلاح في الحال والاعتقاد، والمقصود من المرض هو الفساد في الحال والاعتقاد.
(وأدخلتم في حقكم باطلهم): شبتم الباطل بالحق وخلطتموه به، والمقصود من هذا الكلام النهي عن طاعة الذين يدَّعون الولاية من غير استحقاق لها، وعن مصاحبة الذين ينسبون إلى غيرآبائهم، وادّعاء ما ليس لهم أن يدَّعوه؛ لأن من كانت هذه حاله ودأبه وشأنه فلا يتقي شيئاً ولا يخا ف محذوراً يقع فيه، وللصحبة لامحالة أثر في تعدي الأخلاق، واكتسابها لا يمكن إنكاره.
(وهم أساس الفسوق): قاعدته ومهاده.
(وأحلاس العقوق): الحلس: كساء من صوف يكون تحت برذعة البعير لا تفارقه، وكنَّى بهذه الكلمة عن شدة ملازمتهم للعقوق الذي هو خلاف البر، لما كان الحلس لاينفك عن ظهر البعير.
(اتخذهم إبليس مطايا ضلال): إما يغير بها إلى حيث شاء من الإغواء، وإما يرحل عليها أنواع الشبه وضروب الجهالات.
(وجنداً بهم يصول على الناس): في أخذ الباطل والتوصل إلى الظلم.
(وتراجمة ينطق على ألسنتهم): أراد أنهم يترجمون عن إبليس ويظهرون مراده، وكأن ألسنتهم لسانه، ولهذا قال: ينطق هو على ألسنتهم، ويقول:
(استراقاً لعقولكم): نهباً لها واستلاباً وإفساداً عن قبول الحق.
(ودخولاً في عيونكم): بتغطيتها عن الحق وتعميتها عن سلوك طريقه، هذا على رواية النون، وأما على رواية الباء فالغرض بالدخول في العيوب هو إظهارها وبثَّها وإفشاؤها .
(ونثاءً في أسماعكم):النثآء ممدود هو: الإشاعة، من قولهم: نثا الخبر إذا أشاعه وشهره، وفي بعض نسخ الكتاب: (نثى) مقصور بالنون والثاء المثلثة وهو مثل الثناء، خلا أن الثناء بتقديم الثاء خاص في الخير، والنثاء بتقديم النون يكون في الخير والشر جميعاً، ويروى أيضاً: (بثًّا) و(نثًّا)، والبثُّ والنثُّ بالباء بنقطة من أسفلها ونون هو: الظهور.
(فجعلكم مرمى نبله): المرمى يصلح أن يكون مو ضعاً، وأراد الغرض الذي يصيبه بسهامه، ويصلح أن يكون نفس الرمي أي سهام الرمي الذي يكون من جهته فلا يخطئ من أصابه.
(ومَوطِئَ قدمه): أراد تحت رجله، يحتكم فيكم كيف شاء وأراد.
(ومأخذ يده): يتصرف فيكم كيف شاء فيأخذ ويترك ما أراد.
(فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين): الذين جعلوا الكبر لهم أساساً ومهاداً.
(من قبلكم من بأس الله وصولاته): من عذابه ونقماته، وقوله: من قبلكم، يريد ليكونوا لكم عبرة وأسوة وقدوة.
(ووقائعه): التي أوقعها بهم وأحلَّها بديارهم، وأنزلها بساحاتهم.
(ومَثُلاَته): عقوباته.
(واتعظوا بمثاوي خدودهم): واجعلوها موعظة فإنها من أكبر المواعظ، وأعظمها وأجلها وأفخمها، والمثوى: مكان الثوى والإقامة.
(ومصارع جنوبهم): والأماكن التي صرعهم الله فيها بعذابه لهم، كما قال تعالى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }[الحاقة:7]، وقوله: {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }[الأعراف:78].
(واستعيذوا بالله من ملاقح الكبر): أي مما يولده الكبر من المقت والبغض في قلوب الناس، وقيل للرياح: لواقح لأنها تبشر بالمطر، كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ }[الحجر:22] {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً } [الأعراف:57].
(كما تستعيذونه من طوارق الدهر): حوادثه التي تحدث ليلاً، فالكبر لا خير فيه لأحد، ولا مصلحة فيه في دين ولا دنيا.
(فلو رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه): يريد أن الله لو أذن في شيء من التكبر والعظمة لغرض من الأغراض، ومقصد من المقاصد لكان ذلك لا ئقاً بالأنبياء؛ لكونهم أشرف خلق الله وأعلاهم منزلة عنده وأقربهم مكاناً إليه.
(ولكن الله كرَّه إليهم التكابر): بغَّضه إليهم ونفَّرهم عن قبوله، والتلبس به.
(ورضي لهم التواضع): فحبَّبه إليهم وكرَّه إليهم خلافه، وزيَّنه في قلوبهم، فهم يقولون به ويفعلون وينطقون.
(فألصقوا بالأرض خدودهم): خضوعاً لعظمة الله وانحطاطاً لكبريائه.
(وعفروا بالتراب وجوههم): التعفير: التمريغ، وأراد أنهم فعلوا ذلك تواضعاً لله تعالى.
(وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين): استعار هذا من خفض الطير لجناحه وهو كسره إذا همَّ بالانحطاط على الأرض، ومدَّه إذا أراد الارتفاع للطيران.
(وكانوا أقواماً): من جهات متفرقة.
(مستضعفين): طالبين للضعف والمسكنة.
(وقد اختبرهم الله): ابتلاهم.
(بالمخمصة): وهي المجاعة؛ لأنها تخمص البطن فلهذا سميت بذلك.
(وابتلاهم بالمجهدة): مكابدة الأمور الصعبة، واحتمالها، وبذل الجهد فيها.
(وامتحنهم بالمخاوف): جمع مخافة، وخوفهم بما كان من أجل من يبعثون إليه من أجل تغيرأحوالهم، واتباعهم فيتهددونهم بالقتل، والأخذ والحبس، وغير ذلك من أنواع البلاء، فلا يزالون أعمارهم خائفين.
(ومَحَّصهم بالمكاره): يروى بالحاء والصاد المهملتين، أراد اختبرهم وابتلاهم بما كانوا يكرهون، أو بما كانت النفوس تكرهه، فصبروا على إمضائه حتى أمضوه ، ويروى بالخاء المنقوطة والضاد المنقوطة من مخض اللبن إذا استخرج منه الزبد.
(ولا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد): فتظنون أن إعطاءهما رضا من الله تعالى، وأن منعهما سخط من عنده، فليس الأمر كذلك، فكم من مُعْطَى أموال وبنين والله تعالى ساخط عليه، وكم من محروم لهما والله راضٍ عنه، وإنما ذلك كله على قدر ما يعلم من حال المصلحة في الإعطاء والمنع، فذلك يكون منكم:
(جهلاً بمواقع الفتنة والاختبار): فيما يكون منها صلاحاً، وما يكون منها فساداً.
(في مواضع الغنى والإقتار): يريد الفقر، ثم تلا قوله تعالى : ({أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ})[المؤمنون:55-56]: يريد أن الأمر ليس على ما ظنُّوه، وإنما هوعلى حكمة منَّا في ذلك وعلم بحاله.
(فإن الله تعالى يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم): يريد المتعاظمين أهل الكبر والخيلاء والفخر فيما يكنونه في أنفسهم ويبطنونه في قلوبهم، فاختبرهم وامتحنهم:
(بأوليائه المستضعفين في أعينهم): الذين تزدريهم أعينهم وأنهم بزعمهم لا يَزِنُوْنَ في أعينهم قلامة ظفر، فجعلهم الله تعالى عبرة وامتحاناً لهم ليعلم كُنْهَ حالهم في التواضع.
(ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون [عليهما السلام] على فرعون): لما أرسلهما الله إليه، وأوجب عليهما ذلك حيث قال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }[طه:43].
قوله: (ومعه أخوه هارون) جملة حالية من موسى، كقولك: جاء زيد وريحه ينفح من المسك.
(وعليهما مدارع الصوف): الْمِدْرَعَةُ: جُبَّة من صوف قصيرة الأكمام.
(وبأيديهما العِصيُّ): كل واحد منهما له عصاة من عود، فأخذ العَصِيّ أمارة للضعف والمسكنة، ولبس الصوف أمارة لكسر هوى الأنفس واستحقاراً لها.
(فشرطا له -إن أسلم- بقاء لملكه ودوام عزه): أراد فدعواه إلى الله تعالى وإلى التوحيد والإقرار بالربوبية له، فأنكر ذلك ولم يصغ إلى قبوله، فشرطا ما ذكره رحمة من الله تعالى ولطفاً به، وتقريباً لنفسه كيلا يظن أنه إذا أسلم سلب ما هو عليه من تلك الحال في الملك والقهر والعزة؛ قطعاً من الله لمعذرته وإبلاغاً في الحجة عليه، فاستهون أمرهما واستضعف حالهما.
(فقال: ألا تعجبون من هذين): نبَّههم على الاستغراق في الأعجوبة من هذين الضعيفة أحوالهما المستركة هممهما.
(يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك): إن أنا آمنت وأسلمت، واتبعتهما على أديانهما.
(وهما بما ترون): على ما تشاهدون.
(من حال الفقر): بلبس المدارع التي لا يلبسها إلا الفقراء.
(والذل): بأخذ العصا في أيديهما التي لا يأخذها إلا أهل الذل والمسكنة ومن ضعفت حاله، فمن هذه حاله كيف تصدر عنه هذه المقالة، أو كيف تحمله نفسه على التصريح بذلك، فإذا كان لابد من هذه الدعوى لهما:
(فهلاَّ ألقي عليهما أساورة من ذهب): الأساورة أصله أساوير جمع أسوار لكنها حذفت ياؤه وعوض عنها الهاء، وأسوار جمع سوار، وأراد بإلقاء الأسورة إلقاء مقاليد الملك، لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل وتمليكه سوَّروه بسوار في يده وطوَّقوه بطوق من ذهب في عنقه، والمعنى فهلا إذا كان صادقاً ملَّكه ربُّه وسوَّده، وجعل الذهب حاصلاً له.
(إعظاماً للذهب وجمعه): حيث جعله دلالة وأمارة على الملك والعظمة.
(واحتقاراً للصوف ولبسه): استضعافاً بحالة الصوف، وإهانة لمن يلبسه.
(ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حين بعثهم): أن يكرمهم بما ذكر من أنواع الحلي.
(أن يفتح لهم كنوز الذهبان): الذهبان جمع الذهب، وإنما جمع مع كونه جنساً لاختلاف أنواعه.
(ومعادن العقيان): العقيان: الذهب الخالص الذي لا يحتاج إلى إخلاص بالكير.
(ومفارش الجنان): جمع مفرش، وهي: الْبُسُطُ والطنافس.
(وأن يحشر معهم طير السماء): جميع ما يطير في جوِّها.
(ووحوش الأرض):و ما فيها من الوحوش إكراماً لهم وإعظاماً لأحوالهم.
(لفعل): اللام جواب لو؛ لأنه قادر عليه ومتمكن من فعله لقدرته على كل المقدورات وأجناسها وأنواعها
(ولو فعل لسقط البلاء): لبطل الامتحان والاختبار.
(وبطل الجزاء): على ذلك الامتحان والاختبار لعدمهما.
(واضمحل الابتلاء ): بطل الاختبار وتلاشى.
وفي نسخة أخرى: (واضمحلت الأنباء): والمراد بطلت الأخبار، ما ورد من الوعد والوعيد، وأخبار الجنة والنار.
(ولما وجب للقابلين): للبلوى.
(أجور المبتلين): الممتحنين.
(ولا استحق المؤمنون): الذين ليسوا بمحسنين.
(ثواب المحسنين): الذين صدر من جهتهم الإحسان.
(ولا لزمت الأسماء معانيها): يريد ولزالت عن مسمياتها فلا يسمى الكافر كافراً ولا المؤمن مؤمناً، وهكذا القول في المتقي والعاصي والمطيع والبر والفاجر إلى غير ذلك من الأسماء، والمعنى في هذا كله أن الله تعالى لو أرسل الرسل والأنبياء على وجه، لا يشك كل من رآهم في أول الأمر بالاضطرار والإلجاء، أنهم صادقون فيما جاءوا به من أمر الرسالة والنبوة، وهو أن يبعث الله معهم الملائكة والطيور والوحوش ، ويبعث معهم كنوز الدنيا ومعادن الذهب والفضة، والياقوت والزمرد لارتفع الابتلاء والاختبار والتعبد، وزالت التكاليف كلها لأنها تكون ضرورية لا محالة، وفي ذلك بطلان التكاليف.
(ولكن الله): استدراك لجميع ما ذكره أولاً من وجوه الفساد والبطلان.
(جعل رسله أولي قوة في عزائمهم): فيمضون فيما أمروا به من غير مخالفة سواء كان ذلك سهلاً سلساً أو صعباً جرزاً، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ }[الأحقاف:35].
ويحكى أن نبياً من الأنبياء أوحى الله تعالى إليه، فقال له : ((أول ما يلقاك فكله )) فعزم على امتثال الأمر وتهيَّأ له، فإذا الذي لقيه جبل أسود فلم يتمالك في تشمير الهمة، وتجدد العزيمة على أكله وتقرير في النفس أن الله تعالى لا يأمر إلا بما فيه مصلحة، فلما سار إلى الجبل الأسود كان كلما دنا منه خطوة صغر وتلاشى حتى صار لقمة أحلى من العسل، فقال: ((يا رب، بيَّن لي))، فقال له: ((إن ذلك الجبل هو الغيظ، فإذا كفه الإنسان وَحَلُمَ وجده بعد ذلك لقمة أحلى من العسل؛ لما يكون من لذيذ عاقبة الصبر فيه)).
(وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم): من البذاذة واللباس الذي تعافه النفوس وتكرهه.
(مع قناعة تملأالقلوب والعيون غنى): يريد ومع ماوصفناه من ركِّة المنظر، فإن الله تعالى خصَّهم بقناعة غناؤها يملأ القلوب والأعين، حتى يوهمون أنهم ملوك الدنيا لا ستغنائهم عن أهلها.
(وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً): يريد وفقراً تكاد الأسماع والأبصار تكون مملتئة منه لكثرة أذائه، وعظم مشقته وبلائه، ولقد كانت حالة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على قرب المكانة وعظيم الزلفة عند الله تعالى، لا تخفى على أحد في شدة الحاجة إلى الطعام، وصبره على مشقة الجوع .
(ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام): لا يبلغ كنهها ولا يطاق على وصف حالها.
(وعزة لا تضام): الضيم هو: الظلم، وأراد أنهم معتزون لا يظلمون.
(وملك تمتد نحوه أعناق الرجال): لطلبه والتواضع لتحصيله واكتسابه.
(وتشد إليه عقد الرحال): يريد أنه يوصل إليه من البلدان القاصية والمواضع البعيدة.
(لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار): أسهل لا محالة عند النظر في الحقيقة، وعند العبرة والتفكر .
(وأبعد لهم عن الاستكبار): عن أن يلحقهم التكبر، لأن مع هذه الحالة فلا وجه للتكبر والترفع؛ لأنهم أعظم حالاً، وأكبر أُبْهَة وعظمة، ممن بعثوا إليه، إذا كانوا على الصفة التي ذكرناها.
(ولآمنوا): أي ولكان إيمانهم وإقرارهم بجميع الأمور الإلهية.
(عن رهبة قاهرة ): من شدة بأسهم وبطشهم.
(أو رغبة): في إنعامهم وإحسانهم إلىالخلق.
(مائلة ): تميل إليها أعناقهم، وتخشع لها أفئدتهم.
(ولكانت النيات مشتركة): أراد أن الأنبياء لو كانوا على الحال التي وصفناها من العظمة والملك؛ لكان جميع الأعمال المفتقرة إلى النيات مشتركة، بين الله تعالى وبين الأنبياء؛ لأن الرغبة والرهبة كما هي حاصلة من جهة الله تعالى فهي أيضاً حاصلة من جهة الأنبياء.
(والحسنات مقتسمة): أي وما يفعل من الأعمال الصالحة مقتسمة بين الله وبين أنبيائه.
(ولكن الله أراد أن يكون الاتِّباع لرسله): بما أظهر عليهم من المعجزات الظاهرة والحجج النيرة.
(والتصديق لكتبه): التي جاءوا بها من أجل الشرائع واتباع الأحكام.
(والخشوع لوجهه): من أجل وجهه في جميع العبادات كلها.
(والاستكانة لأمره): الذلة والصّغار من أجل امتثال أمره.
(والاستسلام لطاعته): الانقياد لها والاحتكام بسببها.
(أموراً خاصة ): لوجهه منفرداً بها عن غيره، لا يشاركه فيها مشارك.
(ولا يشوبها من غيرها شائبة): ولا يخالطها من أمور أخر غيرها مخالط فيغيِّرها عن مجراها، ويزيلها عن وجهتها.
(وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم): يعني في صدق الأنبياء ومعرفة أحوالهم بالنظر والتفكر.
(كانت المثوبة والجزاء أجزل): أكثر ثواباً، وأجزل إعطاءً منه إذا لم يكن الأمر كذلك.
(ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين [من لدن آدم صلوات الله عليه] ): يريد من لدن آدم إلى يومنا هذا امتحنهم.
(إلى الآخرين): إلى أن يطوي الله أيام الدنيا ويفنيها.
(من هذا العالم): من هذه لبيان الجنس، أي الذين هم من جنس هذ العالم.
(بأحجار): بتعظيمها والطيافة حولها تبركاً بها.
(لا تضر): لا يحصل من جهتها ضرر لأحد.
(ولا تنفع): ولا تكون نافعة له بنفع.
(ولا تبصر): تدرك بأعيان.
(ولا تسمع): بآذان تكون لها، يشير بذلك إلى أنها لا فضل لها من أي نوع من الفضائل المحمودة، ويعرِّض بعبادة الأوثان والأصنام في عبادة مثل هذه الأحجار على ما وصف من حالها.
(فجعلها بيته الحرام): الذي حرَّمه أن يدخل إلا بإحرام، وجعل له شرفاً على غيره بخصال وأمور.
(الذي جعله للناس قياماً): عماداً لأمورهم، ومِلاَكاً لأحوالهم ونظاماً لشملهم.
(ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً): الوعر: نقيض السهل، وانتصاب حجراً على التمييز، أراد أن وعورته من جهة خشن أحجاره وصلابتها وجرزها.
(وأقل نتائق الدنيا مدراً): النتائق: جمع نتيقة، وهي بمعنى منتوقة أي مخرجة، تقول: نتقت الحجر إذا قلعتها، وأراد أن غيره من البلاد إذا قلعت عنها الأحجار حصل عند القلع تراب جيد ناعم كثير يصلح للزرع، بخلاف حال مكة فإنها إذا قلعت عنها حجر فلا تراب هناك يلحقها، وإن لحقها فعلى القلة مع ما فيه من الدماثة والحال التي لا تصلح أن تكون منبته.
(وأضيق بطون الأودية): أدخلها في الضيق وأعظمها حالاً فيه.
(قطراً): يريد مطراً، فإنه لا أقلَّ من مطر مكة ونواحيها.
(بين جبال خشنة): يريد جرزة متخشنة لا سلاسة فيها كسائر الأحجار.
(ورمال دمثة): رخوة.
(وعيون وشلة): قليلة الماء ونزرة المنبع.
(وقرى منقطعة): يريد أنها عن القرى على مسافات كبيرة لا يتصل بها إلا على صعوبة، وقطع مفاوز وخبوت .
(لا يزكو فيها خف ولا حافر): أراد أنه لا ينمو ولا تكثر بركته من الإبل والخيل، والبغال والحمير، وغير ذلك من ذوات الحافر، وإن أقام فيها فعلى حالة ضعيفة، وأمور غير مستقيمة.
(ولا ظلف): من البقر والغنم، فهي على هذه الحال التي وصفها من ضيق عيشها،وصعوبة أمرها.
(ثم أمر آدم وولده): الآمر هو الله، فإنه أمر آدم عليه السلام بحجه، فحج من أرض الهند، من أرض يقال لها: سر نديب حيث قبره الآن مشهور، أربعين حجة على رجليه، فتلقته الملائكة وقالت له: (يا آدم، برَّ حجُّك، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام) ، فاستمر على هذه الحالة حتى رفعه الله في أيام الطوفان، وقيل: كان من ياقوتة من يواقيت الجنة، له بابان من زمرد شرقي وغربي ، فلما رُفِعَ أمر الله جبريل أن يُرِيَ إبراهيم موضعه، فأراه ذلك فأسس القواعد عليه.
(أن يثنوا أعطافهم): يقال: ثنى عطفه إذا توجه إليه وقابله.
(نحوه): جهته وقبالته.
(فصار مثابة): مرجعاً، من قولهم: ثاب إلى كذا إذارجع إليه، يتفرَّق عنه الحجاج والمعتمرون ثم يرجعون إليه.
(لمنتجع أسفارهم): المنتجع هو: الموضع الذي يطلب فيه الكلأ، ويجوز أن يكون مصدراً أي لا نتجاع أسفارهم وهوبعدها.
(وغاية لملقى رحالهم):تنتهي إليه رحالهم فيلقونها عنده؛ لما كان هو البغية والمقصد إذ لا مقصد وراءه.
(تهوي إليه ثمار الأفئدة): هوى الشيء إذا سقط، وثمرة الشيء هي: أعلاه وأنفسه، يقال: ثمرة الفؤاد وثمرة القلب، وأراد تسقط عنده أغلى الأشياء وهي الأفئدة.
(من مفاوز قفار سحيقة): المفاوز جمع مفازة، وهي: الأرض الخالية، والقفار: المواضع التي لا أنيس بها، والسحيقة: البعيدة.
(ومهاوي فجاج): ومساقط طرق، والفجُّ: الطريق الواسع بين جبلين.
(عميقة): بعيدة الغور.
(وجزائر بحار): وأقطار وأقاليم بحرية، إما محيط بها البحر من جميع جوانبها، وإما لايمكن الوصول إليها إلا بركوب البحر.
(منقطعة): عن مواضع العمارة.
(حتى يهزوا مناكبهم): المنكب مضى تفسيره، وأراد بهزِّها تحريكها عند السير، وحتى هذه تصلح أن تكون بمعنىكي تعليل للأمر أي أمرهم من أجل أن يهزوا، وبمعنى إلى أن وتكون غاية له، والتعليل فيه أدق.
(ذللاً ): أذلاء خاشعين، وانتصابه على الحال من الواو في يهزوا.
(ويرملون على أقدامهم): الرَّمل: فوق المشي وهو دون السعي.
سؤال؛ أراه خصَّ الرَّمَل من الطواف، وخصَّ الأقدام مع أنه يجزي وإن كان راكباً؟
وجوابه؛ هو أنه ها هنا بصدد ذكر التواضع والخشوع والتذلل، فذكر الرَّمل لما فيه من مزيد الاعتناء على السير، وذكر تأديته على الأقدام لما فيه من زيادة الخضوع والتصاغر لعظمة الله وجلاله.
(شعثاً): موفرين للشعور ، لا ينقصونها للزينة.
(غبراً): ألوانهم مغبرَّة، لما يلحقهم من مشقة السفر، وتجنّب الزينة، وما يكون سبباً في تطرية الأجسام وتحسينها.
(قد نبذوا السرابيل): نبذه إذا طرحه عن يده وظهره، والسرابيل: جمع سربال، وهو: عبارة عن القميص والسروايل وسائر أنواع ثياب الزينة واللباسات الفاخرة.
(وراء ظهورهم): كناية عن عدم الالتفات إليها لمكان التحريم، يقال: نبذ هذا وراء ظهره إذا كان لا يحتفل به ولا يرعيه طرفاً.
(وشوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم): أراد أنها ازدادت قبحاً في المنظر والصورة بإعفاء الشارب عن قصه، وترك نتف الإبط، وحلق العانة، والمره في الأعين، وكل ما ذكرناه يزيد الخلقة تشوهاً، ولهذا ورد الشرع بهذه الآداب في غير هذه الحال؛ لما فيها من مزيد النظافة وحسن المنظرفي الخلقة، وفي الحديث: ((عشر من سنن المرسلين ، خمس في الرأس، وهي: الكحل، والمفرق، والسواك، وقصُّ الشارب، والمضمضة، وخمس في الجسد، وهي: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، والغسل، والختان)) .
(ابتلاءً عظيماً): اختباراً من الله تعالى لخلقه؛ ليعلم سرَّ أحوالهم وكُنْهَ حقائق أمورهم، في طاعة من ينقاد لما أمر به، وإعراض من يعرض عن ذلك.
(وامتحاناً شديداً): في صعوبة التكليف وعظم حاله.
(واختباراً مبيناً): ظاهراً مكشوفاً لا لبس فيه على أحد؛ لما فيه من الوضوح بالغرض المقصود.
(وتمحيصاً بليغاً): لما فيه من المبالغة في المشقة بتأدية هذه الأمور الشديدة الصعبة.
(جعله الله): الضمير إما للبيت، وإما للحج.
(سبباً لرحمته ): إما وصلة إلى ثوابه لما وعد عليه من عظيم الأجر، وإما جعله لطفاً إلى نيل الغرض بتأدية أمور واجبة يكون مقرِّباً إليها وداعياً إليها لما فيه من مزيد الحث عليها، والحض على أدائها.
(ووصلة إلى جنته): لأنه وعد على تأديته بالجنة جزاءً عليه، وعوضاً عنه إذ لا جزاء إلا بها.
(ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام):يعني أنه لو شاء أن يجعله على غير الحال التي هو عليها، وعلى غير الصفة التي اختارها له.
(ومشاعره العظام): وأن يجعل المشاعر على غيرحالها، والمشاعر هي: المناسك، والمشعرالحرام هو أحدها، وسميت مشاعر لما جعل فيها من شدة التحفظ على أدائها والمواظبة على فعلها، والتحقق لذلك، أخذاً لذلك من شعور الإنسان وهو علمه، أو من مشاعر الإنسان وهي حواسه.
(بين جنات وأنهار): أشجار ملتف شجرها وأنهار مطردة مياهها.
(وسهل وقرار): لاحزونة ولا جرز في مسالكه.
(جم الأشجار): كثيرها.
(داني الثمار): قريبة المجتنى، لا يحتاج في تناولها إلى تكلف.
(ملتف البنى): متلاصق البنيان، لا تفريق بين الأبنية لتزاحمها.
(متصل القرى): لا حائل بينها عكس ما ذكره من صفته الأولى.
(بين بُرَّة سمراء): وهو لون الأسمر، وهو بياض فيه حمرة.
(وروضة خضراء): الروضة: الشجر المجموع.
(وأرياف محدقة): الريف: كثرة الكلأ، وأحدق به إذا أحاط.
(وعراص مغدقة): أي كثيرة الماء ، وأغدق الماء إذا كثر وكان غزيراً.
(وزروع ناضرة): أي حسنة من النضارة وهو: الحسن.
(وطرق عامرة): بالسالك لها لما فيها من كثرة الاختلاف، وعمارة الطريق كثرة المارة فيه، أو يريد أنها سهلة للماضين فيها، والسالكين لها لا خراب فيها.
(لكان): اللام هذه هي جواب لو.
(قد صغر قدر الجزاء): أراد نقص الثواب عمَّا كان عليه لو لم يكن على هذه الحالة.
(على حسب ضعف البلاء): يريد على ضعف التكليف وهونه؛ لأن الجزاء إنما يكون على قدرالمشقة وصعوبتها فيضاعف الله الأجر من أجل ذلك.
(ولو كانت الأساسات المحمول عليها): يعني القواعد التي وضع عليها البيت.
(والأحجار المرفوع بها): التي شيدت فوق الأساسات.
(بين زُمُرُّدة خضراء): نوع من الأحجار النفيسة له خضرة عالية.
(وياقوتة حمراء): إنما ذكر هذين الحجرين لتفاوت لونهما، ولأنهما أرفع هذه الأحجار النفيسة قدراً وأعزها ثمناً، ولهذا لا يكاد يوجد منهما إلا الفصوص القليلة.
(ونور وضياء): عوضاً عن الظلمة والسواد.
(لخفف ذلك مصارعة الشك): يريد نوازع القلوب، وتردد الشك.
(في الصدور): فيما يقع في القلب ويهمس في الخاطر من ذلك.
(ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب): إذ لايبقى له مدخل مع زوال تلك الصفات، وحصول هذه الصفات.
(ولنفى): النافي إما الله تعالى لما فعل ما فعل، وإما أن يكون جعل البيت على هذه الصفات التي ذكرها.
(معتلج الريب من الناس): ما يقع في نفوسهم ويعتلج بها من وساوس الصدور والظنون المتوهمة، والمعنى في هذا كله أن الله تعالى لو وضع بيته في أطيب البقاع وأحسنها وأعظمها حالة في النضارة والإعجاب، وزيَّنه بالجواهر واليواقيت واللآلئ، والذهب والفضة لكان توجه الناس إليه راغبين إلى حالته هذه من غير أن يكون ذلك لوجه الله تعالى.ولقلَّ الشكُّ الذي يَعْرُضُ للإنسان في تكليفه بالمسير إلى بلد لا ماء فيه ولا نبات ولا زرع، وتحمل المشاقِّ العظيمة، وارتكاب الأخطار الجسيمة؛ لأن الشكوك إنما تنشأ في النفوس إذا كُلِّفُوا ما يخالف أهواءهم ويشق عليهم فعله، فهم يطلبون لذلك علة تكون فيها رخصة لترك ما هم بصدده من التكليف، وأراد باعتلاج الريب منازعة النفس لليقين، ودفعه بالشك، يقال: اعتلجت الأمواج إذا التطمت، واعتلجت الريح إذا اختلفت مهابُّها.
(ولكن الله ): استدراك عمَّا ذكره أولاً.
(يختبر عباده بأنواع الشدائد): يمتحنهم بضروب الأمور الشديدة .
(ويتعبدهم بألوان المجاهد): الجهد: المشقة، وأراد بأنواع المشاقِّ العظيمة.
(ويبتليهم بضروب المكاره): بما يكرهون من الأفعال والتروك.
(إخراجاً للتكبر عن قلوبهم): انتصاب إخراج على المفعول له أي فعل ذلك من أجل إخراج ما يقع من الكبر والعظمة من قلوبهم، ويعتقدونه ويفعلون به.
(وإسكاناً للتذلل في نفوسهم): أي وليكون الذلة والصغار لجلاله ساكناً في نفوسهم، لا زوال له ولا انقضاء لحاله ودوامه.
(وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله): وكما فيه تلك الفائدة التي أشار إليها، ففيه فائدة أخرى وهو كونه باباً وذريعة إلى الا زدياد من فضله وخيره، والفتح بضمتين هي: الأبواب المفتوحة كالذُّلُل أي المذللة.
(وأسباباً دللاً لعفوه): أي وتكون أسباباً دليلة لمن يسلكها ويريد فعلها من أجل تحصيل عفوه.
(فالله الله في عاجل البغي): أراد التحذير عنه وأنهم لايقربوه، لما فيه من المعاجلة بالعقوبة والإسراع فيها.
(وآجل وخامة الظلم): والتحذير أيضاً عما يكون في الآجل، وما يدخر ليوم القيامة من وخيم الظلم، والوخامة والوخومة: ما يستكرهه الإنسان من الأشياء، ولا يستطيبها.
(وسوء عاقبة الكبر): في الآخرة من الخزي من الله تعالى والنكال عليها.
(فإنها): يريد الكبر، والظلم، والبغي.
(مصيدة إبليس العظمى ): القياس فيه الإعلال وأن يقال: المصادة كا لمقالة والمقامة، ولكنه شذَّ كما شذَّ قولهم: استحوذ، واستصوب، وأراد أنها أعظم الخصال التي يصيد بها الرجال.
(ومكيدته الكبرى): وأكبر ما يخدع به من المكائد التي أعدَّها وهيّأها.
(التي تساور قلوب الرجال): تواثبها وتغالبها.
(مساورة السموم القاتلة): مواثبتها، فإن من شربها فإنه لا محالة هالك لا برء له ولاخلاص عنها.
(فما تكدي أبداً): أكدى الحافر إذا بلغ موضعاً لا يمكنه حفره لصلابته، وأراد لا يصعب عليها علاج أحد ولا إهلاكه.
(ولا تشوي أحداً): يقال: رماه فأ شواه إذا لم يصب المقتل، وغرضه أن رميها لا ينفك عن إصابة المقاتل.
(لا عالماً لعلمه): أي لا يترك عالماً فيهابه من أجل علمه.
(ولا مقلاً في طمرة): أي ولا يزدري مقلاً متلفعاً في طمرة لا يملك سواه، وغرضه أن مكيدته لاتبقي أحداً ولا خلاص لأحد عنهاإلا بتوفيق الله ولطفه.
(وعن هذا ): يشير إلى المذكور أولاً.
(ما حرس الله عباده المؤمنين): الذين أخلصوا إيمانهم لوجهه.
(بالصلوات والزكوات): بافتراض هذه العبادة، وإخراج هذه القطعة من المال المخصوصة.
(ومجاهدة الصيام): بالتحفظ عليه وترك الطعام والشراب.
(في الأيام المفروضات): وهو صيام شهر رمضان وما شاكله من الصيامات الواجبة، فجعل الله هذه العبادات أمارة للخضوع والتذلل والتسكين.
ثم شرع في تفاصيلها ، بقوله:
(تسكيناً لأطرافهم): لليد والرجل عن البطش، وإسكان جميع الجوارح كلها.
(وتخشيعاً لأبصارهم): فلا ترتفع إلى خلاف ما هو لها النظر إليه.
(وتذليلاً لنفوسهم): فلا تكون مشتاقة إلى ما أباح الله لها.
(وتخفيضاً لقلوبهم): فلا تسرع إلى غير ذلك.
(وإذهاباً للخيلاء عنهم): يريد الكبر.
ثم بيَّن تصديق ما ذكره من هذه العبادات، بقوله:
(لما في ذلك): واللام متعلقة بقوله: حرس الله، من أجل ما فيه من المصالح العظيمة.
(من تعفير عتائق الوجوه بالتراب): عند الصلاة وعند التيمم إذا عدم الماء، والعتاقة هي: الرشاقة والحسن.
(تواضعاً): أي من أجل التواضع لله والخضوع لجلاله.
(وإلصاق كرائم الجوارح بالأرض): وهي الوجوه عند السجود.
(تصاغراً): أي من أجل التصاغر.
(ولحوق البطون بالظهور من الصيام): أراد أن الإنسان إذا جاع صار بطنه كظهره في الاجتماع والاستواء من شدة الجوع بالصيام والذبول.
(تذللاً): أي من أجل التذلل.
(مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الأرض، وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر): يريد أن الزكاة مع ما فيها من التواضع وتزكية النفس، وفيها فائدة جزيلة وهي مواساة الفقراء وأهل المسكنة، من أهل الإيمان والصلاح وأهل التقوى، فهذه التكاليف كلها مشتملة على ما ذكره من هذه المصالح العظيمة، والتوقي بها من هذه المكاره الوخيمة.
ثم أخذ في أسلوب آخر، بقوله:
(انظروا إلى ما في هذه الأفعال): التي أوجبها الله عليكم من المصالح التي قصصتها، وثبت حالها وأمرها.
(من قمع نواجم الفخر): قمع رأسه إذا ضربه بالمقمعة، والنواجم جمع ناجمة، وهو: ما يظهر من هذه الأمور وأعظمها التفاخر.
(وقدع طوالع الكبر): القدع بالقاف والدال بنقطة من أسفلها هو: الكفُّ، يقال: قدع نفسه إذا كفَّها عن هواها، والطوالع: جمع طالعة، وهو ما يكون من تعاظم النفس بتكبرها.
(ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين): خبرت الأشياء ومارستها، فما وجدت أحداً يدعي من أهل العلم والشعور بحاله.
(يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة): يظهر العصبية من نفسه لشيء من الأشياء إلا عن داعٍ يدعوه إلى ذلك، وإرادة له لغرض من الأغراض.
(تحتمل تمويه الجهلاء): تتضمن وتشتمل على زخرفة الْجُهَّال ، وسمي الباطل تمويهاً؛ لأنه عن قريب وقد تلاشى وبطل كأنه شبيه بالماء.
(وحجة تليط بعقول السفهاء): لاط بكذا إذا لزق به، فهذه أنواع الدواعي يتعلق بها كل أحد ممن له غرض.
(غيركم): إلا إياكم.
(فأنتم تغضبون لأمر لايعرف له سبب): فيكون ذلك السبب هو الداعي إليه، والحامل في الفعل عليه.
(ولامس يد علة): يريد ولا لابس يد علة فلمسها، ومس اليد للعلة من غريب الكلام ولطيفه، ويبيِّن ما قلته في حالكم ويوضحه:
(أما إبليس فتعصب على آدم): فكانت عصبيته وحميته ، استظهاراً على آدم:
(لأصله): أي من أجل ما رُكِّب منه وخلق.
(وطعن عليه في خلقته): فرأى الفضل لنفسه على آدم من هذه الأوجه.
(فقال: أنا ناري): أي مخلوق من النار.
(وأنت طيني): مخلوق من الطين.
(وأما الأغنياء من مترفة الأمم): الذين طغى بهم الغنى، وبلغ بهم الإتراف في النعم إلى الإعجاب والتفاخر.
(فتعصبوا [لآثار مواقع النعم] ): فكان السبب في تعصبهم لما هم عليه من كثرة الأموال وجمعها، ثم تلا هذه الآية:
(فقالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ:35]): وأنتم عادمون لهذه الخصال التي وقع فيها التعصب ليس فيكم واحدة منها.
(فإن كان لابد من العصبية): وأنتم عازمون عليها موطنون لنفوسكم على إتيانها.
(فليكن تعصبكم): فأخص المواقع به وأعظمها اختصاصاً به تعصبكم:
(لمكارم الخصال): من الكرم والبذل، وإغاثة المضطر، وَقِرَى الضيف، وصلة الأقارب.
(ومحامد الأفعال): أي والمواظبة على الأفعال المحمودة من البر والإحسان وأنوع القرب.
(ومحاسن الأمور): أحسن الأمور وأعلاها في المنقبة.
(التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء): تنافس فيها أهل المجد والفضل، وأهل النجدة والرئاسة، وأراد بالمجداء الكرماء، والنجداء الشجعان.
(من بيوتات العرب): أهل الرفعة والكرم، وجعل البيوتات عبارة عن بطون العرب.
(ويعاسيب القبائل): واحدها يعسوب وهو: أمير النحل وكبيرها، وقد استعير لسيد القوم ورئيسهم.
(بالأخلاق الرغيبة): الباء ها هنا متعلقة بتفاضلت بهذه الأشياء من الأخلاق التي يرغب فيها من سمع بها ورآها.
(والأحلام العظيمة): التي بلغت كل نهاية في الصفح والتجاوز والاغتفار لكل سيئة.
(والأخطار الجليلة): في موارد الأمور ومصادرها.
(والآثار المحمودة): التي تكون في حياة الإنسان وبعد وفاته من المكارم العظيمة.
(فتعصبوا): إذا كان لابد لكم من ذلك وأنتم فاعلوه:
(بخلال الحمد): جمع خلة وهي: الخصلة الواحدة.
(من الحفظ للجوار): مراقبة حاله ومراعاة جانبه.
(والوفاء بالذمام): يريد أن من جملة الخصال العالية، والمناقب الشريفة هو الوفاء بما عقد به الإنسان من العقود التي تشتمل على الذمة، والعقد أي عقد كان، ويصدق ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ }[المائدة:1] وهي عبارة عما كانوا يتعاقدون فيه من عقود الأمانات والمبايعات.
قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا [عقداً] لجارهم
شدوا العِناجَ وشدّوا فوقه الكرَبَا
والعناج: حبل يشدُّ من أسفل الدلو إلى أعلاها، والكَرَبُ: الحبل الذي يكون في عراقيِّ الدلاء، وغرضه في هذا المبالغة في شدة ما عقدوا ووثاقه، وأنه لا ينتقض أبداً.
(والطاعة للبر): أراد وتكونون منقادين للبر كأنه آمر لهم فيطيعونه.
(والمعصية للكبر): كأنه ناهي لهم فلا يخالفونه ولا يعصونه، وهذا من غريب الكلام وعجيبه حيث جعلهم مطيعين للبر كأنه آمر ، والمعصية للكبر فلا ينقادون له.
(والأخذ بالفضل): في جميع الأمور كلها فلا تكون جميع تصرفاتهم مستعملة إلا بالتفضل والإحسان.
(والكف عن البغي): فلا يتلبسون به في حالة من الحالات لتعجيل عقوبته، وسخف طبيعة من يتعلق به.
(والإعظام للقتل): يريد أنه إذا كان عظيماً عندهم لم يتجاسروا عليه لما فيه من المفسدة العظيمة، وهلاك الدين وفساده.
(والإنصاف للخلق): إما بإعطائهم ما يستحقونه، وإما بترك أخذ ما لايكون مستحقاً عليهم فهذا كله إنصاف.
(وكظم الغيظ ): عن التشفي، وفي الحديث: ((من كتم غيظه وهو يقدر على إنفاذه، ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة)) .
(واجتناب الفساد في الأرض): بقتل الخلق ونهب أموالهم، وإخافة السبل، وغيرذلك مما يكون ضرره عائداً إلى جملة المسلمين.
(واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات): العقوبات العظيمة المهلكة.
(بسوء الأفعال): أسوأها وأعظمها دخولاً في المفسدة من تكذيب الرسل، وسائر أنواع المعاصي التي حكاها الله تعالى في كتابه الكريم.
(وذميم الأعمال ): يريد الأعمال التي يُذَمُّ صاحبها على فعلها.
(فتذكروا في الخير والشر أعمالهم ): فإنكم إذا ذكرتموها في النعمة كان ذلك لطفاً في الازدياد من شكر الله على نعمه، وإفضاله عليكم، وإن ذكرتموها في الشر كان ذلك داعياً إلى العياذة بالله أن يكفيكم شر ما أصابهم، ولصق بهم من أنوع العقوبات، وضروب النقمات.
اللَّهُمَّ، إنا نستجير بك من غضبك، وشر انتقامك ياخير مجير، وأكرم مستجار به.
(واحذروا أن تكونوا أمثالهم): حذرهم من أن تصدر من جهتهم المعاصي فيكونون أمثالاً لهم في العقوبة.
(فإذا تفكرتم في تفاوت حالتهم) : في دوام النعمة عليهم، وحلول النقمة به.
(فالزموا كل أمر لزمت العزة به حالتهم):انظروا في أحوالهم، فكل أمر تجدون العزة والهيبة والجلالة لازمة لهم من أجله فالزموه، وحثوا عليه، وواظبوا على فعله.
(وزاحت الأعداء له عنهم): ومالت أعداؤهم بسببه ومن أجله.
(ومدت العافية فيه بهم): أي وصارت العافية ممدوداً عليهم ظلالها في تلبسهم به.
(وانقادت النعمة له معهم): وصارت النعمة منقادة لهم، ومصاحبة لحالهم من أجله.
(ووصلت الكرامة عليه حبلهم): وصارت الكرامة والعيش الهنيء الطيب واصلة حبلهم على سببه وأمره.
(من الاجتناب للفرقة): من هذه لابتداء الغاية، وتعلقها يكون بفعل محذوف تقديره: واحذروا من الوقوع في الفرقة وجانبوها، أو تكون من خبر مبتدأ محذوف تقديره: أي وذلك كله حاصل، أعني جميع ما عدده من اجتناب الفرقة.
(واللزوم للألفة): المصاحبة، وأن كل واحد منكم يألف صاحبه.
(والتحاضَّ عليها): التحاض تفاعل من حضه إذا حثه على الفعل، وأراد أن كل واحد منكم يحض صاحبه على التوالف والترافق والتعاون.
(والتواصي بها): يوصي كل واحد منكم صاحبه بها.
(واجتنبوا كل أمر كسر فِقْرَتَهُمْ): الفِقْرَةُ: واحدة فقرات الظهر وهو منتظم الظهر، يقال: هذا أمريكسر فِقَرَ الظهر وفِقَارَهُ، إذا كان عظيماً لا يقدر عليه.
(وأوهن مُنَّتَهُمْ): الْمُنَّةُ: القوة.
(من تضاغن القلوب): أوحارها وشدائدها التي تتضمنها.
(وتشاحن الصدور): التشاحن: التحاسد.
(وتدابر النفوس): إدبارها عن بعضها بعض بالنصرة والموالاة، والبغضاء.
(وتخاذل الأيدي): كفَّها عن النصرة عند الشدائد، والاضطهاد.
ثم لما فرغ من خطاب من يخاطب من أصحابه ذكر أحوال الماضين، بقوله:
(وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم): ممن آمن من القرون الماضية، والأمم الخالية من المؤمنين الذين صدَّقوا بالله، واعترفوا بحقه وحق رسله.
(كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء):يريد الابتلاء والاختبار والامتحان.
(ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء): الأعباء هي: الأحمال والأثقال.
(وأجهد العباد بلاء): أي وأكثرهم مجاهدة للبلاء، وانتصاب أعباء وبلاء على التمييز.
(وأضيق أهل الدنيا حالاً): في معائشهم وأمورهم.
(اتخذتهم الفراعنة عبيداً): الفراعنة: عبارة عن كل من تشيطن وشوش الدين، وحادَّ الله تعالى، ومعنى اتخاذهم عبيداً عبارة عن الامتهان والاستصغار.
(فساموهم سوء العذاب): أي أولوهم أشد العذاب وأعظمه.
(وجرَّعوهم المُرار): المُرار: نبت من الشجر شديد المرارة، وهو بضم الميم مخففاً إذا أكلته الإبل ارتفعت مشافرها لما فيه من العفوصة والقبض، والتجريع: شرب الشيء جرعة بعد جرعة.
(فلم تبرح الحال بهم): أي لم تزل دائمة.
(في ذل الملكة ): الملك وخضوع الرق.
(وقهر الغلبة): والغلبة القاهرة لهم.
(لا يجدون حيلة في امتناع): يعدمون الحيلة يمتنعون بها عما يصيبهم.
(ولا سبيلاً إلى دفاع): ولا يهتدون طريقاً إلى دفع ما هم فيه.
(حتى إذا رأى الله منهم جد الصبر): حتى هذه متعلقة بمحذوف تقديره: فصبروا على ما هم فيه عليه من البلاء حتى إذا رأى الله، علم من أحوالهم، أو شاهدهم في تقلباتهم، (حد الصبر): يُروى بالحاء المهملة أي منتهاه وغايته، ويُروى بالجيم، أي صريحه لا هزله.
(على الأذي في محبته): على المكروه من الأذية في فعل ما يحبه ويريده منهم.
(والاحتمال للمكروه): ويحتملون ما يكرههم ويشق فعله عليهم.
(من خوفه): خوفاً على أنفسهم من عقابه.
(جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً): جعل ها هنا جواب لإذا، وأراد أنه جعل لهم من مواضع الضيق، وعوَّضهم عنها إفراجاً من جهته بتفريج الغصص عنهم.
(فأبدلهم العز مكان الذل): فأزال عنهم الذل بلطفه، وجعل عوضه العز.
(والأمن مكان الخوف): وأزال الخوف عنهم، وجعل مكانه الأمن.
(فصاروا لما فعل بهم): ما فعل من رحمته ولطفه بهم.
(ملوكاً): مقتدرين على الخلق، مالكين لهم.
(حكاماً):حاكمين على الناس في أمورهم، لا يوردون ولا يصدرون إلا عن أمر منهم وَأُذْنٍ.
(وأئمة): يقتدون بهم في الدين.
(أعلاماً): يهتدى بهم في المحارات العظيمة، وتُحَلُّ بهم الشبهات المبهمة.
(وبلغت الكرامة من الله لهم): مبلغاً لا يمكن وصفه ولا تدرك غايته.
(ما لم تذهب الآمال به إليهم ): ما لا يؤمل حصره ولا يبلغه الأمل فيكون مدركاً له.
(فانظروا كيف كانوا): تفكروا في حالتهم.
(حيث كانت الأملاء مجتمعة): الأملاء: جمع ملأ وهم: جماعة الرءوساء من الناس، واجتماعهم اتفاق آرائهم وأهوائهم.
(والأهواء مؤتلفة): غير مفترقة.
(والقلوب معتدلة): على الحق غير مائلة إلى الباطل والمخالفة.
(والأيدي مترافدة): الترافد هو: التعاون.
(والسيوف متناصرة): ينصر بعضها بعضاً .
(والبصائر نافذة):في كل إقدام وإحجام، لا يقدمون عن شك ، ولا يكون تأخرهم عن تردد.
(والعزائم واحدة): كل ما عزموا فيه فهو عن اجتماع واتفاق من غير افتراق.
(ألم يكونوا): مع حصول ما ذكرناه من المرافدة والمعاونة والمعاضدة.
(أرباباً): مالكين سادة مقتدرين.
(في أقطار الأرضين): في الجهات المتباعدة والأقاليم النائية.
(وملوكاً): كلمتهم غالبة نافذة.
(على رقاب العالمين): لهم الحكمة كيف شاءوا من أخذ وترك.
(فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم): في منتهاها وغايتها وقصاراها.
(حين وقعت الفرقة): الاختلاف في الأهواء والنفوس.
(وتشتت الألفة): تباينها وتزايلها وانقطاعها .
(واختلفت الكلمة): إما بأن يأمر هذا بشيء فلا يطاع ولا يلتفت إلى أمره، وإما يأمر هذا بشيء ثم ينهى عنه الآخر، فهذا هو الاختلاف والتفرق.
(والأفئدة): بما أوقع فيها من العداوة والبغضاء.
(وتشعبوا مختلفين): صار كل واحد منهم في جهة، على سبيل الاختلاف والتنازع لا يجمعهم جامع.
(وتفرقوا): في البلدان والأقاليم.
(متحاربين): كل واحد منهم يريد قتل صاحبه وإهدار دمه.
(قد خلع الله عنهم لباس كرامته): بما علم من حالهم من البغي والفسوق وأنواع المعاصي كلها، فلأجل هذا خلع عنهم ما ألبسهم من العز والمهابة.
(وسلبهم غضارة نعمته): وأزال عنهم أحسن النعمة وأعجبها، وألذَّها وأطيبها، والغضارة من كل شيء: خلاصته وأطيبه، ومنه غضارة الشباب.
(وبقي قصص أخبارهم): القصص جمع قصة، وغرضه أن ما بقي من ذلك كله إلا ما يقتصه القصَّاص من سيرهم الماضية.
(فيكم): تسمعونها.
(عبراً للمعتبرين ): مواعظ لمن اتعظ بها وانتفع، وكان ذلك مزجراً له عن أمثالها.
(فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل["] ): هؤلاء كلهم أنبياء صلوات الله عليهم وسلامه على أرواحهم الطيبة، وهم أولاد إبراهيم، فإسماعيل وإسحاق هما ولدان لإبراهيم مشهوران، فإسماعيل هو أبو العرب، كما يزعمه نسَّاب اليمن، وأما إسرائيل فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
(فما أشد اعتدال الأحوال): تعجب من شدة اعتدالها عند تلاومها وتقاربها.
(وأقرب اشتباه الأمثال): لأن كل واحد منها يماثل صاحبه ولهذا يقع بينهما التشابه، ألا تراك تأخذ تمرتين متماثلتين ثم تعطي أخاك واحدة منهما ثم إذا جمعت بينهما ثم أردت أن تعطيه ما كان حقاً له اشتبه عليك الحال، إلا أن يكون فيها علامة تميزها من صاحبتها.
(تأملوا أمرهم في حال تفرقهم وتشتتهم): يريد أولادهم ومن كان بعدهم من خلفهم، فأما زمان آبائهم فكان جارياً على نعت الصلاح والاستقامة، من جهة الله تعالى بالتأييد بالوحي، والتشريف بكرامة النبوة.
(ليالي كانت الأكاسرة والأقاصرة ): الأكاسرة: من كان من ملوك الفرس، والأقاصرة: من كان من ملوك الروم.
(أرباباً لهم): مالكين لرقابهم بتسليط الله لهم عليهم.
(يحتازونهم عن ريف الآفاق): أراد أنهم يجمعونهم ويخرجونهم عن الريف والخصب إلى المواضع المجدبة.
(وبحر العراق): يريد ما يسقيه دجلة والفرات، أو سيحون وجيحون، فكل هذه أنهار، وهي بحار الدنيا؛ لأنها تعبر بالسفن وتحاز عنها بالقناطر لعظمها وفخامة شأنها، وهي مياه عذبة حلوة.
(وخضرة الدنيا): عجائبها ونضارتها .
(إلى منابت الشيح): وهو نبت طيب الرائحة.
(ومهافي الريح): مذاهبها ومهابّها المختلفة.
(ونكد المعاش): مواضع العيش المنكد التي لا راحة فيه ولا طيب في أكله، وأراد أنهم ألجأوهم إلى المواضع النكدة، والمعايش الخشنة الضيقة الضنكة.
(فتركوهم): على هذه الحالة.
(عالة): فقراء جمع عائل مثل كافر وكفرة، وفاسق وفسقة.
(مساكين): قد غشيتهم الاستكانة، وركبتهم الذلة.
(إخوان دبر ووَبَر): الدبر بالتحريك: جمع دبرة وجمعه أدبار، وهو الجرح من القتب ، والوبر بالتحريك للبعير، وأراد أنهم صاروا بدواً يعالجون جروح الإبل وأوبارها، وزالوا عن الثروة والملك والرئاسة.
(وأذل الأمم داراً ): إذ لا منعة لهم فيها، ولا يقدرون على منعها عن الضيم لمن يريدها به.
(وأجدبهم قراراً): والمواضع التي يسكنونها جديبة لا رخاء فيها.
(لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها): أي ليس لهم ملجأ فيدعوهم ليحميهم في ظل جناحه.
(ولا إلى ظل ألفة يعتمدون على عزها): يعني ولا قلوبهم مؤتلفة فيتفيئون في ظلها، ويلجأون بأمورهم ويعتزُّون بها.
(فالأحوال): مع ما ذكرناه منهم.
(مضطربة): لا تستقر على قاعدة ولا تؤول إلى حالة مستقيمة.
(والأيدي مختلفة): كل واحد منهم في جانب غير جانب الآخر.
(والكثرة متفرقة): فهي غير نافعة مع التفرق.
(في بلاء نازل ): من الله عليهم لأجل مافعلوه، وارتكبوه من المعاصي.
(وأطباق جهل): وجهل مطبق عليهم لا يفيقون من سكرته.
(من بنات موؤدة): تفسير للجهل، ومن هذه للبيان، والمراد أنهم يوؤدون البنات، وهو دفنهنَّ وهنَّ أحياء خيفة عن العار، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:8-9].
(وأصنام معبودة): يعبدونها من غير بصيرة، ولا ثبات قدم ، وإنما هو جهل ابتدعوه، وغرور ارتكبوه.
(وأرحام مقطوعة): لا يبالون بها ولا يلتفتون إلى صلتها، ولا يراقبون أحوالها.
(وغارات مشنونة): من كل ناحية ملاحظة للكبر، ومراعاة لجانب الفخر لا يقاتلون لله، ولا يجاهدون أحداً من أعداء الله.
(فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم): يعني أولاد إسماعيل بعد تفرقهم في البلاد، وتشتتهم فيها كيف لحظهم الله تعالى بعين الرحمة ، ورعاهم بأحسن الرعاية.
ثم أردف ما ذكره بالمنة ببعثه الرسول عليه السلام فيهم وجعله فيهم، بقوله:
(حين بعث إليهم رسولاً): خصَّهم ببعثته، وشرَّفهم بأن جعله من صلب أبيهم إسماعيل ووشيجته .
(فعقد بملته طاعتهم): أراد فجعل من جملة ما بعث به الانقياد لأمرهم، والاحتكام لطاعتهم.
(وجمع على دعوته ألفتهم): يعني حصل ائتلافهم واجتماعهم ببركته، فاجتمعوا على إجابة دعوته، والإشارة بهذا الكلام إلى بني هاشم، وأمير المؤمنين وأولاده، فإن الله تعالى عز سلطانه أوجب طاعتهم على غيرهم بما فعل لهم من الولاية، وجمع الله شملهم بدعوة الرسول عليه السلام.
(كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها): لا جناح هناك ولانشر، وإنما الغرض الاستعارة وهو عبارة عن التمكين والبسط في الرزق، وقرار الخاطر.
(وأسالت لهم جداول نعمتها): الجدول هو: النهر الصغير، والضمير في قوله: نعمتها راجع إلى الكرامة.
(والتفت الملة بهم في عوائد بركتها): أراد أن اجتماعهم على ملة الرسول وشريعته هي العائدة عليهم بالبركة، والجامعة لشملهم.
(فأصبحوا في نعمتها غرقين): الضمير للملة، وأراد أنهم أصبحوا في غزارتها وعظيم أُبَّهتها، وعبَّر بالغرق عن ذلك.
(وعن خضرة عيشها فكهين): الفكه: طيب النفس، ولذتها بما هي فيه، وهكذا خضرة العيش كناية عن طيبه ولذاذته وهنائه.
(قد تربعت بهم الأمور): استحكمت وتمكَّنت، استعارة من تربع الإنسان وهو استحكامه في جلوسه.
(في ظل سلطان قاهر): وهو ما أعطاهم الله من الولاية على الخلق والرئاسة عليهم، واستحكام الملك لهم من جهة الله تعالى.
(وآوتهم الحال): رجعت بهم الأحوال.
(إلى كنف عز غالب) : لمن غالبه ومذلٌّ لمن ناواه.
(وتعطفت عليهم الأمور ): التعطف هو: الرقة والحنو، وهو مأخوذ من تعطف الوالدة على ولدها.
(في ذرى ملك ثابت): الذروة: أعلا الشيء، والثابت: المستقر الثابت القواعد.
(فهم حكام العالمين ): لا يصدرون إلا عن حكمهم وقضائهم.
(وملوك في أطراف الأرضين): أقاصيها، والمواضع البعيدة منها.
(يملكون الأمور): حلّها وعقدها وقبضها، ومدَّها وبسطها.
(على من كان يملكها عليهم): يشير بهذا إلى ما حكاه من قبل من كونهم كانوا مملوكين، فردَّ الله عليهم ما فات من ملكهم، ومكَّن بسطتهم.
(ويمضون الأحكام): يلزمونها فتكون ماضية.
(فيمن كان يمضيها فيهم): فصاروا قادرين عليه محتكمين فيه، يفعلون فيه مثلما كان يفعل فيه، وأبلغ من ذلك:
(لا تغمز لهم قناة) الغمز هو: مسُّ الشيء والدرية بِكُنْهِ حاله في الرخاوة والصلابة.
(ولا تقرع لهم صفاة): هذا جار مجرى الكناية عن شدة الجانب وقوة الشوكة، وشهامة الأنفس وعزتها.
(ألا وإنكم قد نقضتم أيديكم عن حبل الطاعة): يخاطب أصحابه بذلك كأن أيديهم كانت مربوطة بحبل الطاعة لله تعالى، وبالاستمساك بعروته، فنقضوها بما كان منهم من الخروج عن الطاعة، والتهالك في المخالفة للدين وأحكامه.
(وثلمتم حصن الله المضروب عليكم): الحصن هو: الإسلام، والمراد بثلمه هو نقصه برفض أحكامه، وإحياء ما اندرس من أحكام الجاهلية.
(وإن الله سبحانه قد امتنَّ على جماعة هذه الأمة): تفضل عليهم وجعل من أعظم المنن عليهم.
(فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة): فجعل الإسلام جامعاً لألفتهم، والإيمان حافظاً لجماعتهم، فهم في ظل هذه الألفة.
(التى ينتقلون في ظلها): من جهة إلى جهة، ومن مكان إلى مكان آخر.
(ويأوون إلى كنفها): يرجعون، والكنف: الجانب، وكنفا الطائر جناحاه؛ لأنهما يكتنفان جسمه من عن يمين وشمال.
(بنعمة): الباء متعلقة بقوله: امتنَّ.
(لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة): لا يقع في نفسه مقدار قيمتها وإن جد في ذلك غاية الجد، وكيف يقوم ما لاقيمة له، أو كيف يوزن ما لا يتزن بحال.
(لأنها أرجح من كل ثمن): يوازنها ويقوم مقامها.
(وأجل من كل خطر): الخطر: السبق الذي يكون بين المتراهنين، وأراد أنه لاأجل من خطرها ولاأعظم.
(واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً): يريد أنكم هاجرتم بزعمكم، وأقمتم في دار الحرب وموضع الحرب فصرتم أعراباً جفاة لا تمييز لكم.
(وبعد الموالاة أحزاباً): وبعد موالاة أهل الإسلام تحزبتم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتألبتم عليه يوم الخندق وغيره.
(ما تعلقون من الإسلام إلا باسمه): أي مالكم من الدين شيء من الأحكام الدينية، ولا يلحقكم شيء من الأحكام الشرعية، إلا أن يقال لكم: إنكم مسلمون بإطلاق هذا القول لا غير.
(ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه): علامته، وما حظكم منه إلا أن تقولوا: من حق المؤمن كذا، وله حكم كذا من غير تخلّق بأخلاق المؤمنين، ولا تلبس بأفعال الصالحين.
(تقولون: النار ولاالعار): أي الزموا النار ولا تقبلوا العار، والغرض ها هنا هو المبالغة في دفع العار بالتزام النار والدخول فيها، فلاأنتم دفعتم العار كما ينبغي الدفع منكم، ولا أنتم سَلِمْتُم من النار.
(تريدون ): بما قلتموه من هذا الكلام.
(أن تكفئوا الإسلام على وجهه): كفأت الإناء إذا قلبته وكببته على وجهه، يريد بترك النصرة له ، والتخاذل عن القيام بحقه.
(انتهاكاً لحرمته): نهكته الحمى إذا أتعبته وأضعفته، وأراد إضعافاً لحرمته، وإسقاطاً لما رفع الله من مكانه ومنزلته.
(ونقضاً لميثاقه): حيث أخذ الله ميثاقهم في نصرة دينه، حيث قال: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ }[البقرة:218] وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ }[التوبة:123] وغير ذلك.
(الذي وضع الله لكم حرماً في أرضه): تعتزون به وتلجأون إليه.
(وأمناً بين خلقه): من تلبس به فهو آمن على نفسه، وأهله وولده.
(وإنكم إن لجأتم إلى غيره): في الانتصار وأسندتم أموركم في الاعتضاد.
(حاربكم أهل الكفر): رموكم عن قوس واحدة، واستظهروا عليكم من أجل خذلانكم الدين، وإعراضكم عن الإسلام .
(ثم لا جبريل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار): يريد كما كان في أيام الرسول، فإن هؤلاء كانوا أعواناً له على أعدائه، وهم الناصرون له على من خالفه، وأما الآن فلا شيء من ذلك بموجود، فلهذا يستحكم أمر الكفر عند ذلك وتستقوي حالته، ويظهر أمره.
(ينصرونكم ): ويكونون ردأً لكم عند المقاتلة والمصافة.
(إلا المقارعة بالسيف ): إلا الضرب والقتال الشحيح.
(حتى يحكم الله بينكم): بما كان عنده من الصواب.
(وإن عندكم الأمثال من بأس الله): يريد إن بين أظهركم أخبار الأمم الماضية وما صنع الله بهم بإنزال البأس، وهو: العذاب.
(وقوارعه): وعقوباته التي تقرع.
(وأيامه): كما قال تعالى: {وَذَكّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ }[إبراهيم:5].
(ووقائعه): في القرون الماضية كعاد وثمود، وَمَدْيَن وغيرهم ممن طغى وكذَّب وأبى.
(فلا تستبطئوا وعيده): تراخيه، فإن التعجيل إنما يكون في حق من يخشى الفوت ، فأما من هو قادر في كل حالة على ما يشاء ويريد، فلاوجه للاستبطاء.
(جهلاً بأخذه): نصبه إما على المفعولية أي من أجل الجهل بأخذه، وإما مصدراً في موضع الحال أي متجاهلين.
(وتهاوناً ببطشه): البطش هو الأخذ بالعنف والاستئصال.
(ويأساً من بأسه): وأياساً من مجيء عذابه ووقوعه.
(فإن الله لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم): في الكتاب الذي يتلى بين أظهركم، كما قال تعالى: {لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً }[المائدة:13]، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ }[المائدة:78] وغير ذلك مما ورد في لعن اليهود وغيرهم.
(إلا لتركهم الأمر بالمعروف): وهو الإتيان بالواجبات على وجوهها.
(والنهي عن المنكر): والكف عن المحرمات.
(فلعن السفهاء): وبخهم وأكثر من الوعيد عليهم.
(لركوب المعاصي): إتيانها وفعلها، والتلبس بها.
(والحلماء ): ولعن الحلماء وأهل العقل.
(لترك التناهي): يعني من أجل أنهم لم ينهوهم عن ارتكاب القبائح، وإتيان المنكرات.
(ألا وقد قطعتم قيد الإسلام): واسترسلتم في إتيان القبائح، وألقيتم حبالكم على الغوارب، فما يمنعكم منها مانع، وإنما قال: قطعتم قيد الإسلام؛ لأنه هو المانع عن أكثر المحرمات، وعن ارتكابها وفعلها، وفي الحديث الشريف: ((الإيمان قيد الفتك )) أي أنه يمنع عن الفتك والغدر، وعن كل مكروه يحذر وقوعه.
(وعطّلتم حدوده وأمتم أحكامه): فلا يرى منها حكم قائم على وجهه.
ثم لما فرغ من هذا ذكر حال نفسه، بقوله:
(ألا وإني قد أمرني الله): حيث قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ }[الحج:78] وغير ذلك من الآيات الدالة على الأمر بالجهاد والمواظبة عليه، ثم هو أحق الناس بالجهاد، وأحقهم بالدعاء لما خصَّه الله من الولاية التي ليست لغيره، والإمامة التي لم يختلف فيها اثنان، والفضائل التي لم يشاركه فيها أحد، فلهذا كان أحق الناس بالأمر لما ذكرناه.
(بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض): فهذه الأمور الثلاثة أعظم ما تكون خللاً في الدين، وأحق من قام بها وعنى في تغييرها هم الأئمة.
(فأما الناكثون فقد قاتلت): نكث بيعته إذا طرحها، وعنى بذلك طلحة والزبير ومروان بن الحكم، فإنهم بايعوا أمير المؤمنين في أول خلافته، ثم نكثوا العهد، وخرجوا إلى البصرة وهيجوا الفتن والحروب ، ومالوا لعائشة، وأوقعوا الجمل، فقاتلهم أمير المؤمنين حتى كان ما كان من أمرهم.
(وأما القاسطون فقد جاهدت): القاسط هو: العادل عن الحق، وهؤلاء هم معاوية وأتباعه، جاهدهم أمير المؤمنين ، وأبلى معهم في صفين.
(وأما المارقة فقد دوخت): يريد بالمارقة الخوارج، قتلهم أمير المؤمنين بالنهروان وغيره من مواضعهم التي كانوا فيها، وإنما سموا مارقة، لقول الرسول: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )) ، ومروق السهم من الرمية: خروجه من الجانب الآخر، دوَّخت إما أهلكت من قولهم: دوَّخت الرجل إذا أهلكته ، وإما دوَّخت أي أذللت، يقال: داخ الرجل إذا ذلَّ وتصاغر.
سؤال؛ أراه قال في الناكثين: قاتلت، وفي حق القاسطين: جاهدت، وفي حق المارقين: دوَّخت، فخالف بين هذه العبارات، وهم كلهم مستوون في إتيانهم بالباطل ومخالفتهم للحق؟
وجوابه؛ هو أن الأمر وإن كان كما ذكرت لكن الأمر في شأن طلحة والزبير، ومن تابعهما من عائشة وغيرها أخف حكماً من أجل التباس الحق عليهم، ولهذا تداركهم الله بالتوبة كما قررناه من قبل، فلهذا قال في حقهم: قاتلت؛ حتى رجعوا إلى الحق واستبانوا الباطل.
وأما معاوية فما كان حربه إلا فسقاً وتمرداً ، ونكوصاً عن الحق بعد ظهوره، ولكنه أبى إلا الفسق والمخالفة، والبغي على أمير المؤمنين، مع معرفته بالحق أين هو ومعرفته بحال نفسه وفسقه، فلهذا قال في حقه: جاهدت، لما علم من حاله التمرد والفسق.
وأما الخوارج فلمكان تهالكهم في الفتنة، وضلالهم عن الحق، ومكابرتهم له في المتابعة، والنصيحة لهم في كل موطن، فلما أبوا غاية الإباء أنفذ أمر الله فيهم، ولم يأل جهداً في ذلك كما قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ }[الزخرف:55].
(وأما شيطان الردهة): الردهة: حفرة في صخرة يستنقع فيها الماء، واختلف في شيطان الردهة، فقيل: هو ذو الثُّديّة من الخوارج، وقيل: هو شيطان من الجن الكفار .
(فقد كُفِيْتُهُ بصعقة): يريد كفاه في القتل، وقطع الدابر بصعقة، إما من الله بسبب أمير المؤمنين، وإما من جهة أمير المؤمنين.
(سمعت لها وجبة قلبه): أي حركته واضطرابه.
(ورجة صدره): زلزلته وقلقلته.
(وبقيت بقية من أهل البغي): جماعة قليلة.
(ولئن أذن الله لي): أذن بمعنى علم، قال الله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }[البقرة:279] وأذن له إذناً أي استمع، قال الشاعر:
صمٌ إذا سمعوا خيراً ذكرت به
وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
أي سمعوا، وفي الحديث: ((ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن )) .
(في الكرة عليهم): العودة عليهم بالحرب، وقطع الدابر والاستئصال.
(لأديلنَّ منهم): يعني لأنصرنَّ المؤمنين من بغيهم وباطلهم، يقال: أدالنا الله من عدونا أي نصرنا عليه.
(إلا ما يتشذَّر في أطراف الأرض تشذراً): هذا استثناء منقطع، والتشذُّر هو: التفرُّق والتبديد، يقال: تفرقوا شذر مذر أي ذهبوا في كل جهة.
(أنا وضعت بكلاكل العرب): الكلكل: الصدر، وأراد بوضع الكلاكل هو قتل الرءوساء من العرب قريشاً وغيرهم، يشير إلى ما كان منه في بدر من قتل الصناديد من قريش، وما كان في حنين وغيره من المشاهد التي أبلي فيها، وخصَّه الله بما خصَّ من قَتْلِ من قَتَلَ من الأعزة وأهل الشهامة.
(وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر): النواجم: جمع ناجم وهو: الظاهر الطالع، وأراد بقرون ربيعة ومضر عبارة عن الرءوساء والأرحاء الذين عليهم مدار الأمر في كل الأحوال، يقال: نجم القرن إذا ظهر وبدا، وكنَّى عن ذلك بالقرون؛ لأن القرن هو سلاح الحيوان وبه يصول ويستظهر.
(وقد علمتم موضعي من رسول الله [صلى الله عليه وآله] ): مكاني من نسبه وموضعي من شجرته وأرومته ، فإني أخصُّ به من بين سائر الناس:
(بالقرابة القريبة): التي لا شيء أقرب منها، لأن أبا طالب أب أمير المؤمنين، وعبد الله أب رسول الله كانا أخوين من الأم .
(والمنزلة الخصيصة): المختصة التي لامنزلة لأحد أخص منها.
(وضعني في حجره وأنا وليد): مولود عند خروجي من بطن أمي.
(يضمني إلى صدره): شفقة وحنواً.
(ويكنفني في فراشه): أي يصونني ويحفظني في فراشه.
(ويمسني جسده): يشير إلى حصول التبرك بملامسة جسم الرسول، ويشير إلى قوله: ((من مسَّ جسمه جسمي لم تمسّه النار )) .
(ويشمني عَرْفَه): العَرْفُ هو: الرائحة الطيبة.
(وكان يمضغ الشيء): أراد يَلُوْكه بلسانه.
(ثم يلقمنيه): إلى فِيَّ يشير بذلك إلى عظم العناية من جهة الرسول بحاله، وإلى اشتمال البركة فيه من جهة الرسول أيضاً، بما وصل إليه من ريقه ولعابه.
(وما وجد لي كذبة في قول): يعني الرسول فإنه ما نقم عليَّ كذبة من جهة القول، وإن كان مبنياً لما لم يسم فاعله فهو عام في حق الرسول وغيره أي أن أحداً ما وجد لي شيئاً من ذلك.
(ولا خطلة في فعل): أي ولا زللاً في فعل من الأفعال.
(ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لدن كان فطيماً): يريد أن الله لعظم عنايته بالرسول وشدة رعايته له لما يريد به من الكرامة والشرف بالرسالة إلى الخلق:
(أعظم ملك من ملائكته): أقربهم عنده، وأشرفهم لديه، فجعله مقارناً له من عند فطامه، ولدن من ظروف الأمكنة، وفيها لغات كثيرة وهي مضافة إلى ما بعدها.
(يسلك به طريق المكارم): أي لا مكرمة إلا وهو يلهمه لها ويأمره بفعلها.
(ومحاسن أخلاق العالم): أي ويرشده إلى أعظم خصال العالم المحمودة.
ويحكى أنه كان يوماً يلعب مع الصبيان فكشفوا عوراتهم، وأخذوا أُزُرهم على عواتقهم يشيلون عليها الأحجار، فلما رآهم صلى الله عليه وآله فعل مثل ما فعلوا، قال: ((فجاءني رجل فلكمني لكمة شديدة وقال: ائتزر بإزارك)) .
(ليله ونهاره): أي حافظاً له في ليله ونهاره عن الإهمال والضياع.
وحكى ابن هشام في سيرته عن الرسول عليه السلام أنه قال: ((كنت ذات يوم ألعب مع الصبيان ، فجاءني رجلان، ومع أحدهما طست مملؤة ماء فأضجعني أحدهما، ثم شقَّ بطني فأخرج منه علقة ثم غسله بذلك الماء، ثم قال لصاحبه: زنه بعشرة من أمته فوزنه فرجح، ثم قال: زنه بمائة منهم فوزنه فرجح، ثم قال: زنه بألف فوزنه فرجح، فقال: لو وزن بجميع أمته لرجح)) .
(ولقد كنت أتَّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه): لا أفارقه في أي مكان يكون فيه.
(يرفع لي كل يوم علماً ): جديداً من الحكم الأدبية، والآداب النبوية.
(ويأمرني بالاقتداء به): بالمتابعة له في أقواله وأفعاله؛ لما فيها من الحكمة والصواب، ومنافع الدين والدنيا.
(ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء): اختلف العلماء في حاله عليه السلام قبل النبوة، فقيل: كان متابعاً لغيره من الأنبياء، وقيل: لم يكن متابعاً لأحد منهم، ثم اختلف القائلون بالمتابعة، فبعضهم نسبه إلى نوح، وبعضهم إلى إبراهيم، وبعضهم إلى موسى، وبعضهم إلى عيسى إلى غير ذلك من الاختلاف والتفرق في الأقاويل، وبعضهم يذهب إلى أن الجهل بحاله هو أبلغ معجز في حقه، فكان عليه السلام يحب الخلوات ويكره الأصنام وعبادتها، وكان يخلو بنفسه في حراء أياماً، وحراء: جبل قريب من مكة، وما أتاه الوحي إلا فيه، ولا بدئ بالرسالة إلا في أوقات هذه الخلوة، والله أعلم أي حال كان يفعل، وأي قول كان يقوله، فأما العلم بالله تعالى وانشراح صدره بالصانع وصفاته، والاعتراف بنبوة الأنبياء، والتصديق بهم، فهو عالم بهذا لامحالة، ولكن يبقىالكلام هل كان متعبداً يشيء من الشرائع قبل النبوة أم لا، فالله أعلم بحاله في ذلك .
(فأراه ولا يراه غيري): لاختصاصي وكرامة لي من الله وتشريفاً لي من جهته بمشاهدتي لذلك وانشراح صدري به، فلم يزل على هذه الحالة حتى أتاه الله بالوحي، ونزل عليه جبريل بصدر سورة إقرأ، وأعطاه الله النبوة، ورفع له الشأن العظيم .
(ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام): يريد أنه لا قائل بالتوحيد لله تعالى في ذلك من أهل الدنيا:
(غير رسول الله [صلى الله عليه وآله] وخديجة وأنا ثالثهما) : إلا رسول الله [صلى الله عليه] لما شرح الله به صدره، وأمير المؤمنين؛ لأن الرسول تنبئ يوم الإثنين، وكان إسلامه يوم الثلاثاء، ثم خديجة بنت خويلد، وكانت تحت الرسول عليه السلام ذلك اليوم، ثم تتابع الناس بعد ذلك فكان بعدها ولاء إسلاماً زيد بن حارثة، ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن وقاص ، ثم أبو عبيدة بن الجراح، ثم دخل الناس في دين الله أفوجاً .
(أرى نور الوحي ): يريد إذا نزل جبريل به من السماء.
(وأشم ريح النبوة): بمخالطتي للرسول ومجالستي له ومفاكهتي بحديثه.
(ولقد سمعت رنَّة الشيطان): الرّنَّةُ: صوت، وعن بعضهم في وصف روضة: أطيارها مُرِنَّة، وأشجارها مُغِنَّة.
(حين نزل الوحي ): على الرسول وأتى به جبريل.
(فقلت: يارسول الله، ما هذه الرّنَّة): التي سمعتها وأنكرتها.
(فقال: ((هذا الشيطان قد أيس من عبادته ))): أراد أنها رنَّة توجّع وتحزّن عن الأياس عن أن يكون معبوداً.
سؤال؛ كيف قال ها هنا: إن الشيطان قد أيس من عبادته، وليس الشيطان هو المعبود، وإنما المعبود هي الأوثان والأصنام، وغيرها من سائر الجمادات؟
وجوابه؛ هو أن الشيطان لما كان هو الأصل في عبادتها بالدعاء إلى ذلك، والتزيين له بحليتها في أعينهم، وتغريرهم بها، وإغوائهم إلى عبادتها صار كأنه هو المعبود، وقد صرَّح الله بذلك في كتابه الكريم في كونه هو المعبود، كما حكى في قصة إبراهيم لأبيه آزر: {يَاأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ }[مريم:44]، وقال في آية أخرى: و{لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ }[يس:60] فسماه الله معبوداً لما كان داعياً إلى عبادتها، وفي هذا من الإيقاظ والتنبيه على أن من دعا إلى بدعة وأحياها وحث عليها فهو بمنزلة المبدع لها والفاعل لأصلها ما لا يخفى حاله على ذي فطنة.
(((إنك تسمع ما أسمع ))): حيث سمع الرنة من جهة الشيطان.
(((وترى ما أرى))): من نور الوحي.
(((إلا أنك لست بنبي ))): لأن الرسالة مختومة بي فلا نبي بعدي.
(ولقد كنت معه صلى الله عليه وآله لما أتاه الملأ من قريش): الأشراف والرءوساء منهم.
(فقالوا له: يا محمد، إنك قد ادعيت أمراً عظيماً): عظم في أذهانهم لما فيه من مخالفة الآباء من إزالة هذه الأوثان، وخلع هذه الأصنام من بين أيديهم والكف عن عبادتها، وإسناد الإلهية إلى الله تعالى وحده لا إله معه، لما دلَّ عليه العقل وقامت عليه البراهين النيرة، فمن أجل هذا استعظموه.
(لم تدَّعه آباؤك): لأنهم كانوا مستمرين على عبادة الأوثان، وهم أهل الرئاسة في مكة: هاشم ثم عبد المطلب، ثم أبو طالب، فهؤلاء كلهم سادوا الناس بمكة، وهم عاكفون على عبادة الأوثان، داعون إليها بالجد والاجتهاد .
(ولا أحد من بيتك): لاأحد من بني هاشم، ولا أحد من بني عبد المطلب، فهؤلاء هم بيت الرسول عليه السلام، والملتصقون به بالقُعدد .
(ونحن نسألك أمراً): نمتحنك بامتحان، ونستعجزك بشيء من المعجزات.
(إن أجبتنا إليه): بأنك تفعله لنا، ويفعله الله تعالى لك تصديقاً لما أنت فيه.
(وأريتناه): عياناً ومشاهدة لا شك فيه.
(علمنا أنك نبي): رفع الله درجتك علينا، وأعطاك مالم يعطنا.
(ورسول): إلينا من جهة الله بما أرسلك من الشرائع، وإزالة الأصنام هذه.
(وإن لم تفعل): ما اقترحنا عليك فعله مما نقوله لك.
(علمنا): تحققنا وقطعنا.
(أنك ساحر): بيِّن السحر فيما جئت به من غير هذه المعجزة.
(كذاب): على الله في زعمك أنه أرسلك.
(فقال لهم رسول الله ): لما سمع مقالتهم وأنهم ما طلبوافيها شططا، حملاً لهم على كاهل السلامة، وإبلاغاً للحجة عليهم وقطعاً لمعذرتهم.
(((وما تسألون))): ما مطلوبكم من المعجزات التي تريدون حصولها من جهة الله تعالى.
(قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة): تناديها بصوتك فتجيبك.
(حتى تنقلع بعروقها): الراسخة في الأرض.
(وتقف بين يديك): على جهة الطاعة لأمرك، والانقياد لمرادك.
(فقال صلى الله عليه وآله: ((إن الله على كل شيء قدير ))): يريد أن الذي طلبتموه سهل عند الله؛ لأن قادريته لا يعجزها شيء، وهو قادر على كل الممكنات، لكني أشرط عليكم شرطاً:
(((فإن فعل الله ذلك لكم ))): وشاهدتموه معاينة مطابقة لأغراضكم، وإبلاغاً للحجة عليكم.
(((أتؤمنون))): بي وتصدقونني في كل ما جئت به إليكم.
(((وتشهدون بالحق!))): من عبادة الله وحده، وإزالة هذه الأوثان والأصنام من بين أيديكم.
(قالوا: نعم): إقراراً على أنفسهم بالحجة.
(قال: ((فإني سأريكم ما تطلبون))): من ذلك بإذن الله.
(((وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير))): لا ترجعون إليه، وأنكم تصرون على ما أنتم عليه من التكذيب، وهؤلاء الذين اقترحوا إتيان هذه الشجرة هم: الأسنان من قريش، وأهل الحنكة منهم.
(((وأن منكم من يطرح في القليب))): القليب هي: البئر قبل أن تطوى، وهي بئر كانت في بدر من آبار الجاهلية طرح فيها القتلى من قريش، كالوليد بن عتبة، وعتبة وشيبة ابنا ريبعة، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، وأبو جهل بن هشام، فهؤلاء وغيرهم من قريش سحبوا لما قتلوا إلى القليب، وناداهم الرسول بندائه المشهور .
(((ومن يحزِّب الأحزاب))): يعني أبا سفيان بن حرب فإنه كان رئيساً للأحزاب، قريشاً وأحابيشها، وكانوا يومئذ عشرة الآف، نزلوا بمجتمع الأسيال، فأهلكهم الله بالصَّبا .
(ثم قال عليه السلام) : مخاطباً للشجرة، إتياناً بما اقترحوه من ذلك لهم.
(((ياأيتها الشجرة))): التي عرفوها وعلموا مكانها وأمرها.
(((إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر))): تصدقين بالإلهية والوحدانية له، وتقرين بأن الله يجمع الخلائق ليوم لا ريب فيه.
(((وتعلمين أني رسول الله))): وتتحققين أني مرسل من عند الله تعالى إلى الخلق، بما أمرني بإبلاغه إليهم.
(((فانقلعي بعروقك))): الراسخة في الأرض.
(((حتى تقفي بين يدي))): خاضعة مستكينة لما أمرت به.
(((بإذن الله)) ): إما استماعاً لأمر الله إذا أمرك، وإما بعلم من جهته إذا أعلمك بذلك.
سؤال؛ كيف خاطب الشجرة مخاطبة العقلاء، ولا عقل هناك؟
وجوابه؛ هو أن خطاب العقلاء بالأمر إنما هو على جهة فهمه، والإيتان بالمأمور على الوجه الذي أمربه، فأما أمر الجمادات فإنما يكون على جهة الوقوف على حسب الداعية والإرداة، فمتى أراد وجودها، ودعاه الداعي وجب لا محالة، ومتى لم يردها لم توجد أبداً فهذا وجه أمرها، وكونها ممتثلة للأمر.
(فوالذي بعثه بالحق): قسم ببعض صفات الله تعالى التي لا يختص بها غيره، وهي بعثة الأنبياء، وإنما ذكره ها هنا تشريفاً لمكان الرسول ورفعاً لمنزلته.
(لا نقلعت بعروقها): إذا كان جواب القسم بالفعل الماضي فتارة يكون باللام وقد، كقولك: والله لقد جاء زيد، وقد يأتي بغير اللام كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ}، وقد يأتي باللام من دون قد، كما قال ها هنا: لانقلعت، قال امرؤ القيس:
حلفت بالله حلفة فاجر لناموا
فما إن من حديث ولا صالي
(وجاءت): إلى الرسول عليه السلام: كما أمرها من غير مخالفة لأمره.
(ولها دوي شديد): الدويُّ هو: الصوت العظيم.
(وقصيف كقصيف أجنحة الطير): والقصيف: الصوت الهائل، يقال: رعد قاصف إذا كان شديد الصوت، وريح قاصف أيضاً كأنها تقصف ما قابلها أي تكسره، وهذه الجملة ابتدائية في موضع نصب على الحال من الضمير في جاءت.
(حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرفرفة): أراد أن أوراق أغصانها متدلية على الرسول، مضطربة من الريح، يقال: رفرف الطائر بجناحيه إذا حركهما للوقوع.
(وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله[صلى الله عليه وآله] ): أراد الأعظم من أغصانها وضعته عليه، متدلية شجونة ومتهدلة أوراقه عليه.
(وببعض أغصانها على منكبي): المنكب هو: ملتقى الكتفين من الإنسان، وإنما قال: بغصنها فأفرده في حق الرسول، وببعض أغصانها فجمعه في حقه لأنه أوسطها ربما كان غصناً عظيماً هو أعظمها، فلهذا ألقته على الرسول وسائر أغصانها القليلة وضعتها على منكب أمير المؤمنين يريد أطرافها.
سؤال؛ أراه قال: ((أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر، وتعلمين أني رسول الله)) فذكر هذه الأمور الثلاثة من بين سائر علوم الدين التي يجب على الإنسان الإقرار بها، والتصديق، كصفات الله تعالى، ومعرفة حال الثواب والعقاب، والإقرار بسائر الأنبياء، فلم خص هذه الأمور الثلاثة من بين سائر العلوم الدينية؟
وجوابه؛ هو إنَّما خصَّ هذه الأشياء الثلاثة تعريضاً بحال هؤلاء الكفرة في كونهم منكرين لها غاية الإنكار بإثبات الشركاء لله، ونفي الوحدانية، وإنكار اليوم الآخر، وهو غايتهم وهجيراهم، ثم إنكار النبوة أيضاً، وهو الذي عليه تعويلهم في هذه الحالة، فلا جَرَمَ خصَّ هذه الأمور الثلاثة مبالغة في أنه لا بد لكل أحد من التصديق بها، وتنبيهاً على أنها هي التي وقع فيها معظم خلاف الملل الكفرية من المشركين وغيرهم، وتعريضاً بحال هؤلاء الكفرة في إنكارها، فأراد أن خلاصة هذه المعجزات من جهة لا تكون إلا بعد الإقرار بها.
(وكنت عن يمينه [صلى الله عليه وآله] ): أشاهد هذه المعجزة، وأنظر كُنْه حالها، وعجيب دلالتها على تصديقه وتقرير نبوته.
(فلما نظر القوم إلى ذلك): نظر إعجاب بما رأوا وتفكر حيرة من لطيف صنع الله تعالى.
(قالوا علواً): عن الاعتراف بالنبوة، وتمادياً في ضلال الكفر والجحود.
(واستكباراً): عن قبول الحق وأنفة منه، وعلى جهة التعنت، ومساعدة الأهواء.
(فمرها فليأتك نصفها): تنقسم نصفين فيأتي نصفها.
(ويبقى نصفها): في مكانه وعلى ما كان مستقراً ثابتاً.
(فأمرها): بذلك إبلاغاً للحجة وقطعاً للمعذرة ومساعدة لهم فيما اقترحوه من هذه الآية.
(فأقبل إليه نصفها): متصاغراً لأمر الله، وممتثلاً لما أراده.
(كأعجب إقبال وأشده): في الحضور والوجود، والكاف هذه متعلقة بمحذوف، إما في موضع الحال، وإما أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي إقبالاً كأعجب ما يكون من الإقبالات.
(دوياً): تخرُّ مصوِّتة بصوت عظيم إجابة للأمر، ومسارعة في مطابقة المراد.
(فكادت تلتف برسول الله[صلى الله عليه وآله] ): تشتمل عليه من عن يمينه وشماله.
(فقالوا كفراً): إغراقاً في الكفر وإسراعاً فيه.
(وعتواً):قصد المكابرة ورد الحق بعد ظهوره.
(فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان): فتكون الشجرة على حالتها الأولى من غير مخالفة في حالها.
(فأمره رسول الله [صلى الله عليه وآله] فرجع): فاستمرت حالة الشجرة كما كانت من قبل.
واعلم: أنهم ما كان مرادهم بهذه الاقتراحات إلا العناد واللجاج، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا } [الأنعام:25] وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ }[الحجر:14] وقوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ }[الأنعام:7] إلى غير ذلك من الآيات، ولهذا قال عبد الله بن أمية لرسول الله صلى الله عليه وآله: لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلماً، ثم ترقى فيه، وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصكٍّ منشور، معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول .
(فقلت أنا): لما رأيت ما هالني من هذه المعجزة.
(لا إله إلا الله): شهادة له بالوحدانية، ولو كان معه إله غيره لم يكن الأمر هكذا.
(أنا أول مؤمن بك يارسول الله): لما ظهر من المعجزة الباهرة على صدق نبوتك.
(وأول من أقرّ بأن الشجرة فعلت ما فعلت): من الامتثال لأمر الله في مجيئها وذهابها، وانقسامها بنصفين، إلى غير ذلك من أحوالها العجيبة التي شاهدت.
(بأمر الله تعالى ): لا بسحر من جهة أحد، ولا بعمل من جهة الشياطين والكهَّان؛ لأن مثل هذا لا يمكنهم فعله على هذه الحالة، مع أنه لم يحضر واحد منهم.
(تصديقاً لنبوتك ): من جهة الله تعالى.
(وإجلالاً لكلمتك): عن المخالفة والرد.
(فقال القوم كلهم): لما رأوا ما رأوا من ذلك، وبهرهم الحال وأعجزهم ذلك، وما وجدوا وجهاً في ردّه وإبطاله.
(بل): إضراب عمَّا تضمنه الكلام، والتقدير فيه: ليس بنبي بل:
(ساحر): من جملة السحرة.
(كذاب): على الله في دعوى الرسالة من جهته له.
(عجيب السحر): دقيق السحر داخل في الإعجاب كل مدخل، أو يعجب من رآه وسمعه.
(خفيف فيه): قد صار ماهراً، فيده خفيفة في ذلك.
(وهل يصدقك في أمرك): هذا الذي ادَّعيته وهو النبوة من عند الله تعالى .
(إلا مثل هذا يعنونني ): يشيرون بذلك إلى ضعف عقله حيث كان صغيراً في تلك الحالة، أويريدون من كان من أهلك لا يحب جري النقص عليك في التكذيب.
(وإني لمن قوم لاتأخذهم في الله لومة لائم): يشير بذلك إلى كونه من أفاضل الصحابة، وأعظمهم حالاً وأشرفهم منزلة، وأخوفهم بالله ، وأعرفهم بحقه.
(سيماهم سيما الصديقين): علامتهم علامة الصدق والوفاء.
(وكلامهم كلام الأبرار): لا ينطقون إلا فيما يكون صلاحاً في الدين والدنيا كما يفعله أهل الصلاح والبر.
(عُمَّارالليل): بالركوع والسجود، والتلاوة وأنواع الخضوعات والتذللات.
(ومنار النهار): يستضيء بهم الخلق في نهارهم عن الشُّبه، ويهتدون بهم عن ظلمات الجهل.
(متمسكون بحبل القرآن): لا يخالفون أحكامه في تحليل ولا تحريم، ويطابقونه في جميع أحواله.
(يحيون سنن الله): يظهرونها، ويحثون الخلق على فعلها.
(وسنن رسوله): وما كان من جهة الرسول من السنن.
واعلم: أن أحكام الشريعة التي فرضها الله تعالى، وأنزلها على الخلق منقسمة إلى ما يكون واجباً، وتعريف وجوبه من جهة الله في كتابه، وهكذا القول في التحريم والندب، يكون طريقه من جهة الكتاب، وربما كانت هذه الأحكام من جهة السنة على لسان الرسول عليه السلام، فالكتاب حاكم على السنة، والسنة حاكمة على الكتاب، وكله موكول إلى لسان الرسول عليه السلام، فلهذا قال: (سنن الله)، يريد ما كان معلوماً من جهة الكتاب، (وسنن رسوله)، يريد ما كان معلوماً من جهة السنة كماقررناه.
(لا يستكبرون): عن أخذ الحق وإعطاءه من جهة أنفسهم.
(ولا يعلون): بالعين المهملة أي لا يترفعون على أحد، وبالغين المنقوطة أي لا يصيبهم غلو فيما هم فيه؛ لأن الغلو هو: إفراط عن الحق وتجاوز له.
(ولا يفسدون ): بما يعرض من الفسادات كالحسد والبغض وغير ذلك من الخصال المفسدة للقلوب، ولا يفسدون في الأرض بالبغي والقتل والقتال، وإهلاك الحرث والنسل.
(قلوبهم في الجنان): ترتاح بذكر الله، وتشتاق إلى ثوابه، وعظيم ما أعدَّ لأوليائه.
(وأجسادهم في العمل): دائبة في عمل الطاعات، وأنواع العبادات كلها.
وليس يخفى على من له أدنى فطانة ما اشتملت عليه هذه الخطبة من الأنواع الوعظية، وتعليم الحكم الدينية، والإشارة إلى تعريف الآداب الدنيوية بحيث لا يوجد مجتمعاً في كتاب، ولا يحيط به ويستولي على أسراره رمز ولا خطاب.
(225) ومن كلامه عليه السلام لعبد الله بن العباس
وقد جاءه برسالة من عثمان بن عفان، وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع، ليقل هتف الناس باسمه للخلافة، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل:
ينبع هذه: قرية من قرى الحجاز على ثمان مراحل من مكة، وعلى ثلاث مراحل من المدينة ، والحصر هو: المنع.
واعلم: أنا قد ذكرنا من قبل عند عروض ذكر عثمان طرفاً مما طعن الناس عليه في خلافته في مواضع متفرقة من الكتاب ، ونزهنا أمير المؤمنين عن الرضا بقتله، ولهذا لعن قاتليه، وأنهم لما قالوا له: قتلوه قال:
(تباً لهم آخر الدهر) ولم يتصد لقتله وحصره إلا أسافل الخلق وأراذلهم. وما أقدم على قتله إلا نفسان أو ثلاثة من الغوغاء، والأوباش، والموالي، وقد كان حصروه في داره ومنعوه عن الشراب والطعام، فأراد الاستعانة بأمير المؤمنين ليخرج إلى ينبع ليسكن الدهماء، ويقلَّ كلام الناس عليه وطعنهم عليه في الخلافة، وقد كان قبل ذلك سأل أمير المؤمنين مثل ذلك ولم يَجِدْ عليه فيه.
فقال أمير المؤمنين:
(يا ابن عباس ، ما يريد عثمان): في مقالته هذه لي، وهو أن يسألني أن أحول بينه وبين الناس، ثم أمرني بترك ذلك.
(أن يجعلني الا جملا ناضحاً بالغرب): الناضح: هو البعير الذي يسنى به، والغرب هو: الدلو العظيمة.
(أقْبِلْ وأَدْبِرْ): أراد أقبل عن رأيه وأدبر عن رأيه، ما أملك من التصرف في نفسي شيئاً.
(بعث إليَّ أن أخرج): إلى ينبع لإصلاح الحال في ذلك.
(ثم): لما خرجت من أجل ذلك.
(بعث إليَّ أن أقدم): واترك الخروج.
(ثم هو الآن يبعث إليَّ أن أخرج!): كلام من لايملك رأيه، ولا يثبت في أمره، ولا يدري ما يورد ويصدر من الأمور كلها.
(والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً): أراد أنه جادل عنه غاية المجادلة، وخشية الإثم التي ذكرها أمير المؤمنين إنما هو من جهة أن الناس نقموا عليه مظالم أخذها عليهم فدافع عنه حتى خشي أن يكون دفاعه منعاً للناس عن أخذ مظالمهم منه، فلهذا قال: خشيت أن أكون آثماً، يريد من هذه الجهة.
واعلم: أن إهراق دمه لاشك في كونه خطأ، ويدل على خطأهم في قتله، أوجه ثلاثة.
أما أولاً: فلأن ما عرض من هذه الحوداث إنما توجب عزله ولا توجب قتله، فإقدامهم على قتله يكون خطأً لا محالة.
وأما ثانياً: فلأنه لو قدَّرنا وجوب القتل عليه، فلأي شيء كان منعه من الطعام والشراب في داره وحصره.
وأما ثالثاً: فلأنه لو استحق القتل، فالمتولي لذلك لا يكون هم سفلة الناس وأوباشهم، وإنما يكون من جهة أهل الدين والمسلمين إذا رأوا لذلك صلاحاً، فبان أن قتله خطأ لا محالة.
(226) ومن كلام له عليه السلام يحث فيه أصحابه على الجهاد
(والله مستأديكم شكره): أي طالب منكم تأدية شكر أياديه ونعمه عليكم.
(ومورثكم أمره): يريد الأمر والنهي، والإيراد والإصدار، والحل والعقد، والتصرف في الناس بالحق، والسيرة فيهم بالمصلحة العامة، والأمر الذي يرضيه، كما أشار إليه بقوله تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ }[النمل:62].
(وممهلكم في مضمار ممدود): الإمهال هو: التوقف والتلبث، والمضمار هي: المدة تجعل لسباق الخيل، والغرض بمدة تطويله، وغرضه المدة المضروبة في الدنيا.
(لتتنازعوا سبقه): السبق بالتحريك: ما يوضع بين أهل السباق من الأخطار، والتنازع هو: التخاصم، أي كل واحد يدعي أنه السابق فيأخذ السبق.
(فشدوا عقد المآزر): الغرض الجد والتشمير في أمر الجهاد، من جهة أن الواحد إذا أراد استنهاض أمر من الأمور ، شدَّ عُقْدَة إزاره كيلا ينحلَّ فيشغله عن المقصود.
(وأطروا فضول الخواصر): أراد اقطعوا التنعم بالمآكل الطيبة والتلذذ بها، ولا يشغلكم عن الجهاد، والاطرار هاهنا: القطع، من قولهم: ضربه فأطرَّ يده أي قطعها، وهو بالطاء بنقطة من أسفلها.
(لا تجتمع عزيمة ووليمة): العزيمة هو: القطع وتوطين النفس على إمضاء الفعل، وترك التردد فيه، والوليمة: طعام العرس، والغرض من هذا هو أن الجد في الأمور والترفه والتنعم بالطيبات لا يجتمعان، فكنى بهذا الكلام عما ذكرناه.
(ما أنقض، النوم لعزائم اليوم!): أراد أن الإنسان إذا كان عازماً على أمر يفعله في الغد ثم نام واستراح في تلك الليلة، فإنه ينقض لا محالة النوم ما كان قد قطع على فعله في الغد، والغرض من هذا هو أن الراحة وتذكرها تفتر عن تحمل المشاق العظيمة.
(وأمحى الظُّلَمَ، لتذاكير الهمم!): يعني أن ظلمة الليل تدعو إلى النوم والاستراحة، وتمحو ما تذكره الهمم من تحمل المشاق في طلب معظمات الأمور وكفاية المهمات.
(227) ومن كلام له عليه السلام اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد الهجرة ويذكر لحاقه به
(فجعلت أتبع مأخذ رسول الله[صلى الله عليه وآله] ): يريد أني خرجت من مكة أقتص أثره وأسلك طريقه التي سلكها.
(فأطأ ذكره): أراد بوطئ الذكر هو أنني كنت أُغطِّي خبره وأعلم به من بدء خروجي من مكة إلى أن انتهيت إلى هذه الغاية، فكنى بقوله: (أطأ ذكره) عن هذا المعنى، وهو من لطيف الكناية وغريبها، وأبلغها في الفصاحة وعجيبها.
(حتى انتهيت إلى العرج): وهو قرية بين مكة والمدينة، وإليه ينسب الشاعر العرجي ، وهو من أولاد عثمان بن عفان، والسبب في ذلك هو أن الرسول عليه السلام لما أذن الله له في الهجرة أمر أمير المؤمنين بالإقامة بعده لردِّ الودائع، وقضاء الديون التي عليه بعده، فلما فرغ من ذلك تبعه يقتصُّ أثره ، فكنى بهذه الكناية العجيبة عن ذلك.
وزعم الشريف علي بن ناصر الحسيني أن مراده بقوله: (أطأ ذكره): أي أني أذكر ما وصاني به من أني لا أسلك الجادة خوفاً من قريش ، وهذا من تعسفاته، فإن هذه الكناية لا تستعمل فيما ذكره، والأحق في معناها ما ذكرناه، والله أعلم.
(228) ومن خطبة له عليه السلام
(فاعملوا وأنتم في نَفَسِ البقاء): يريد سعة الحياة ومتنفسها، ومدة الآجال المضروبة.
(والصحف منشورة): لأن الإنسان ما دام حياً تكون صحيفة أعماله منشورة في يد الملك الموكل بها، يكتب فيها كل مافعل وإذا مات طويت.
(والتوبة مبسوطة): لا يزال من لطف الله ورحمته على هذه الحالة حتى يغرغر بالموت ويزول الاختيار، فعندها ينسدُّ بابها، ويطوى بساطها.
(والمدبر يُدْعَى): والمتولي عن الله تعالى، وعن الإقبال إلى طاعته يدعى بالرجز والوعيد، والتخويف الشديد.
(والمسيء يرجى): له العودة والإسراع إلى التوبة.
(قبل أن يجمد العمل): يروى بالجيم، وأراد بجمود العمل انقطاعه، وذهابه بالموت، كالماء إذا جمد فإنه ينقطع عن الجريان، ويروى بالخاء بنقطة ، وهو السكون من خمدت النار إذا سكن لهبها، والمعنى فيهما قريب.
(وينقطع المهل): المهل التؤدة والإرواد، وهوالاسم من الإمهال والاستمهال.
(وتنقضي المدة): مدة الأعمار المضروبة لها.
(ويُسَدُّ باب التوبة): بحضور أمارات الساعة، وزوال الاختيار بالإلجاء.
(وتصعد الملائكة): عن الكتابة والحفظ للأعمال، وتطوي الأعمال كلها.
(فأخذ امرؤ من نفسه): هذا خبر في معنى الأمر، وأراد فليأخذ امرؤ من نفسه، أراد أنه إذا أخذ في طاعة الله تعالى ورضاه، ومنعها عن اتباع الشهوات واستيفاء اللذات في حياته فإنه يكون آخذاً من نفسه ما ينفعها في الآخرة.
(لنفسه): أي من أجل نفسه وهو تمهيد حالها عند الله تعالى، واستحقاق الثواب العظيم من جهة الله تعالى فيحصل له الفوز به.
(وأخذ من حي لميت): أراد وأخذ من حياته بالاجتهاد في الأعمال الصالحة وهو حي لما يكون بعد الموت.
(ومن فاني ): أراد إما من الدنيا فإنها فانية منقطعة، وإما مِمَّا في يده من الأموال فإنها فانية منقطعة.
(لباقي): أراد إما الآخرة فإنها باقية لا نهاية لها، وإما الثواب فإنه أيضاً لا انقطاع له.
(ومن ذاهب): ومما يذهب عن يديه ويزول بالموت، والتفرق والانقطاع.
(لدائم): وهي الآخرة أو الجنة.
(امرؤ خاف الله): أراد ليخف الله امرؤ.
(وهو معمَّر إلى أجله): يعني والعمر حاصل إلى الأجل الذي قدَّره الله تعالى وحتمه.
(ومنظور إلى عمله): لابد من عرضه على الله تعالى وتحققه وانتقاده، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ }[الحاقة:18].
(امرؤ ألجم نفسه بلجامها): يعني ليلجم امرؤ نفسه بلجامها، وهو كناية عن زجرها بالوعيد وكفَّها بالتخويف.
(وزمَّها بزمامها): أخذاً لذلك من زمام البعير، وهو عبارة عن الخيط الذي تشد بها البُرَة في أنف البعير.
(فأمسكها بلجامها): يريدقبضه إليه.
(عن معاصي الله): مناهيه التي نهى عنها، وقبحها من جهة العقل، وعلى لسان نبيه [ صلى الله عليه وآله وسلم] .
(وقادها بزمامها): كما يقاد الجمل المخشوش بزمامه.
(إلى طاعة الله تعالى ):
سؤال؛ أراه جعل اللجام في حق المعاصي، وجعل الزمام في حق الطاعات، وكل واحد منهما يحتاج إلى إكراه النفس على فعل الطاعة، والكفُّ عن المعصية؟
وجوابه؛ هو أن اللجام لامحالة أملك لرأس الفرس من الزمام لرأس الجمل، فلهذا خصَّ المعاصي باللجام لما في النفوس من محبتها والتقحم عليها، وإيثار الشهوات العاجلة من أجلها، فلا بد من أن يكون في مقابلها زاجر قوي.
فأما الطاعات فانجذاب النفس إليها يكون بداعي الترغيب، فلهذا خصَّها بالزمام لكونها دون ذلك، فالتكليف تارة يكفُّها عن التوثب عن المعصية، وتارة يكون بإكراهها على عمل الطاعة.
(229) ومن خطبة له عليه السلام في شأن الحكمين، وذم أهل الشام
(جفاة): يشير بذلك إلى قسوة قلوبهم وغلظتها وفظاظتها .
(طغام): أسافل الناس وأراذلهم، وأنشد المبرد:
إذا كان اللبيب كذا جهولاً ... فما فضل اللبيب على الطغام
وهم أوغاد الناس.
(عبيد): ليس الغرض أنه جرى عليهم الرق، فإن المعلوم خلافه من حالهم، لكن العرب تكني عن شرار الناس بالعبيد إذ لا حسب لهم، ولا خُلُق يردهم عن اللؤم والقبيح.
(أقزام): جمع قَزَم بالتحريك، وهم: حثالة الناس، قال الشاعر:
وهم إذا الخيل جالوا في كواثبها
فوارس الخيل لا ميل ولا قَزَمُ
(جمعوا من كل أوب): أي من كل ناحية.
(وتلقطوا من كل شوب): أي من كل مكان ذي شوب، وأراد أنهم مشوبون في أنسابهم لا يرجعون إلى حسب صميم .
(ممن ينبغي أن يفقَّه ويؤدَّب): يشير إلى جلافتهم فيحتاجون إلى الأدب، وإلى جهلهم بأحكام الله فيحتاجون إلى التفقه في دينه.
(ويعلَّم): الآداب الحسنة، أو معالم الدين إذ هو جاهل بها.
(ويدرَّب): يروى بالدال بنقطة من أسفلها، من الدربة بالشيء وهو اعتياده وتكريره مرة بعد مرة للحكمة، قال الشاعر:
وفي الحلم إدهان وفي العفو دربة
وفي الصدق منجاة من الشر فا صدق
ويروى بالذال بنقطة من أعلاها، واشتقاقه من الذربة، وهي حدة اللسان، والأول أقوى.
(ويولَّى عليه): جعل هذا كناية عن نقصان عقله، كما يولَّى على الصبي والعبد والسفيه.
(ويؤخذ على يديه):كما يؤخذ على أيدي السفهاء عن عمل القبيح، لفقد تمييزهم وتوخيهم للمصالح .
(ليسوا من المهاجرين والأنصار): أهل التقوى والورع، والأحساب العالية، الذين علموا عن الله وفهموا عن رسوله، وفازوا بالخير كله، وأحرزوا الفلاح بحذافيره.
(ولا من الذين تبوءوا الدار): توطَّنوا دار الإيمان والهجرة.
(والإيمان): واتخذوا الإيمان مباءة يسكنون فيها فلا يرتحلون عنها.
(ألا وإن القوم اختاروا): من الرجال في التحكيم.
(لأنفسهم): من أجل ما يتعلق بخاصتهم في ذلك.
(أقرب القوم مما يحبون): يعني أن أهل الشام معاوية وأصحابه اختاروا للتحكيم عمرو بن العاص، وهو يدير الحيلة لهم فيما يحبونه ويكون مصلحاً لحالهم.
(وإنكم اخترتم لأنفسكم): من أجل إصلاحها.
(أقرب القوم مما تكرهون): يعني وأنتم اخترتم أبا موسىالأشعري وليس هذا بسديد الرأي، لأن أبا موسى شاكٌّ أو متهم في صلاح أحوالكم، ومن أجل هذا كان منه من الخدع والمكر في التحكيم ما كان.
(إنما عهدكم بعبد الله بن قيس): يشير إلى تحقيق الشك والتهمة في حقه.
(بالأمس): يعني أبا موسى، فإنه:
(قال ): بالأمس.
(إنها فتنة): يشير إلى أنهم ليسوا على بصيرة في قتالهم مع أمير المؤمنين.
(فقطِّعوا أوتاركم، وشيموا سيوفكم): شام السيف إذا رفعه وغمده في قِرَابِه ، يقول: فمن هذه حاله لا يستنصح، ولا يكون حكماً فيما يتعلق بالأمور الدينية، فقد وقع منكم الخطأ أولاً بتحكيمه، وهو على خلاف رأيي ومشورتي.
(فإن كان صادقاً): فيما قال من قطع الأوتار، وإغماد السيوف.
(فقد أخطأ بمسيره غير مستكره): أراد فإذا كان شاكاً في قتالهم فَلِمَ سار ولا أحد هناك يكرهه.
(وإن كان كاذباً): فيما قاله من ذلك.
(فقد لزمته التهمة): كيف يأمرهم بتقطيع أوتارهم، وإغماد سيوفهم وهم على الحق وبصيرة الجهاد، فمن ها هنا صار متهماً في دينه، فإذا كان ولا بد من التحكيم وأنتم على عزمه:
(فادفعوا في صدر عمرو بن العاص): الدفع في الصدر كناية عن الخصام والمحاجّة.
(بعبد الله بن العباس):فإنه يقاومه ويصاوله، ولا يغدره ولا يخدعه، فإن عبد الله بن العباس كان في غاية الذكاء والكياسة، فلا يجوز عليه مكر عمرو ولا خديعته.
(وخذوا مهل الأيام): سكونها، وإروادها بكم.
(وحوطوا قواصي الإسلام): أراد احفظوا من كان بعيداً منكم من أهل الدين.
(ألا ترون إلى بلادكم تغزى): يشير إلى ما اختصوا به من الذل؛ لأنه لو كانت لهم هيبة لم يغزوا إلى عقر دارهم، وربما قيل: ما غزي قوم إلى عقر دارهم إلا ذلوا.
(وإلى صَفَاتِكُمْ ترمى): الصفاة: الحجر الأملس الصلب، يشير بذلك إما إلى نفسه؛ لأنه هو عمدة أمرهم، وإما إلى أفنية الدور أي ترمى بالحجارة.
(230) ومن خطبة له عليه السلام، وهي آخرخطبة يذكر فيها آل محمد، صلوات الله [عليه و] عليهم أجمعين
(هم عيش العلم): استعارة بالغة، نزَّلهم فيها منزلة العيش، فكما أن الحيوان لا يمكن قوام حياته إلا بالعيش،فهكذا لا يمكن قوام العلم إلا بهم.
(وموت الجهل): لأن من كان حياته في شيء، فموته يكون في نقيض ذلك الشيء.
(يخبركم حلمهم): ما هم عليه من الصفح والتغاظي، وكظم الغيظ.
(عن علمهم ): الواسع؛ لأن هذه الأمور إنما تكون حاصلة في حق من علم حقيقة الحال، وأحاط بعلوم الآخرة، أو يريد عن علمهم بما في الحلم من الخصال العظيمة، والآراء المحمودة.
(وصمتهم عن حكم منطقهم): لما كان صمتهم لا يكون إلا عن حكمة وصواب، فإذا انتقلوا عن الصمت كان أدخل في الحكمة أيضاً وأوقع؛ لأنهم ينتقلون من الصواب إلى الأصوب، ومن الحق إلى الأحق.
سؤال؛ النطق أدل على الصواب من السكوت والصمت، فأراه ها هنا جعل الصمت هو الدليل، ومن حق النطق أن يكو ن أحق بالدلالة؛ لكونه أظهر وأقوى، وأدل على المقصود؟
وجوابه؛ هو أنه أراد المبالغة بما ذكره، فإن الصمت إذا كان دليلاً على صوابهم، وأنهم لا يصمتون إلا عن حكمة، وعصمة من الله تعالى، فكيف حال النطق فهو لا محالة بالدلالة على الصواب أحق، وبه أولى وأخلق.
(لا يخالفون الحق): فيعدلون عنه إلى غيره.
(ولا يختلفون فيه): فيقول بعضهم: هذا حق، ويقول الآخر عكسه وخلافه.
(هم دعائم الإسلام): أساطينه التي يرتفع عليها أساسه وأبنيته، وعليها يظهر مناره.
(وولائج الاعتصام): دخائله الحسنة التي يعتصم بها كل أحد، ويلجأ إليها وتكون عمدة له في إسلامه وديانته.
(بهم عاد الحق في نصابه): يشير إلى نفسه، بعد اضطراب الأمر في خلافة عثمان، وظهور الفتنة بقتله، واضطراب أمر المسلمين في ذلك.
(وانزاح الباطل عن مقامه): ذهب وزال ما كان من الأحاديث الباطلة، أو يشير بذلك إلى حرب معاوية والخوارج، وما كان من الفتنة، بسبب حربهم وحرب أهل الجمل؛ فإن الفتنة هناك كانت عظيمة، ولكنها صغرت بالإضافة إلى ما كان من عنايته في الدين بحربهم، وتحصيل البصيرة في أحكامهم، فزالت تلك الأمور كلها ببركته، وحميد سعايته، فلهذا قال: انزاح الباطل عن مقامه، يشير إلى تلك الحالات العظيمة، وارتباك الأمر وعظمه من أجل ذلك.
(وانقطع لسانه عن منبته): عن أصله الذي نبت منه، بما كان من اقتطاع الدابر لمن ذكرناه، واستئصال الشأفة.
(عقلوا الدين): فَهِمُوه وأحكموا المراد منه وأوضحوه.
(عقل وعاية ): فَهْمَ من وعى وتدبَّر الأمر في أوله وعاقبته، واستبان الرشد في بدايته ونهايته.
(لا عقل سماع ورواية): وليس الغرض مما فهموه هو روايتهم له، وسماعهم لألفاظه؛ فإن مثل هذا لايكون نافعاً، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ }[ق:37] وبقوله تعالى: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }[الحاقة:12].
(وإن رواة العلم كثير): لا يُحْصَوْنَ، يريد قُصَّاص الآثار، ورواة الأخبار.
(ورعاته قليل): الرعاة: جمع راعي، وهو الذي يرعى العلم بالعمل به، ويحوطه بالتفقه فيه.
وبتمام ما ذكرناه وقع الانتهاء من شرح خطب أمير المؤمنين، وهو القطب الأول من أقطاب الكتاب المؤسس عليها كما ذكرناه في صدره.
وأقول: إنها قد اشتملت على الترغيب والترهيب، وبيان صفات الثواب والعقاب، وأحوال الجنة والنار، وأهوال القيامة، وذكر الموت، وغير ذلك من أمور الآخرة وأحوالها ما لا يوجد في كلام الخطباء، ولا تسمح به قريحة واحد من البلغاء، ومصداق هذه المقالة: إن أبلغ من وعظ من المتقدمين الحسن البصري، وأحسن من خطب منهم واصل بن عطاء .
وأعجب من خطب من المتأخرين يحيى بن نباتة ، وأبلغ من وعظ من المتأخرين أيضاً هو ابن الجوزي ، فهؤلاء الأربعة ممن تقدم وتأخر قد فاقوا أهل زمانهم في الخطب والوعظ، وأنت إذا أعملت الفكرة في ذلك، وحققت النظر وجدت كلاماتهم كلها لاتداني أقصر خطبة من خطب أمير المؤمنين، ولا أحقر موعظة من مواعظه الشافية، وما ذاك إلا لأنه سبق وقصروا، وتقدَّم وتأخروا، وآتاه الله من ذلك ما لم يؤت أحداً من العالمين.
القطب الثاني من كلام أمير المؤمنين في الكتب والرسائل والعهود والوصايا
ويدخل في ذلك رسائله إلى أعدائه، وأمراء بلاده، وما اختير من عهوده إلى عماله ووصاياه لأهله وأصحابه.
واعلم: أن الكتاب عبارة عن القرطاس المكتوب فيه، والكتاب: الفرض والحكم، قال الله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }[النساء:24] أي فرضه، قال الشاعر:
يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني
عنكم وهل أمنعنَّ الله ما فعلا
والعهد أيضاً عبارة عن الأمان والموثق، وهو ها هنا عبارة عمَّا يوصي به أمراءه، والذين يقلدهم أمر البلاد والخراجات.
وأما الرسالة فهي: عبارة عمَّا يرسل به من موضع إلى موضع، والرسول أيضاً الرسالة، قال:
ألا أبلغ أبا عمرو رسولاً ... بأني عن فتاحتكم غني
وأما الوصية فهي: عبارة عن الكلام الذي يعهده إلى الأمراء والعمال، والكل من هذه الأشياء معانيها متقاربة، والغرض هو التعويل على المعاني.
ونشرع الآن في شرح كتبه مستعينين بالله وهو خير معين.
(1) ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة
(من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة): هكذا كانت التعريفات في الكتب والرسائل والعهود، أن يذكر اسمه واسم من يكون إليه الكتاب من غير زيادة، وعلى هذا مضى الصدر الأول من الصحابة وخلفائها وجميع خلافة بني أمية، معاوية ومن بعده منهم على هذا، وما حدثت هذه الألقاب إلا من أيام أبي الدوانيق أبي جعفر، فإنه تسمى بالمنصور بعد أخيه عبد الله بن محمد بن علي، ثم جرى ذلك بعده في أولاده المهدي بن المنصور، ثم الهادي بن المهدي، ثم الرشيد هارون بن المهدي، ثم المأمون والأمين، إلى آخر خلفاء بني العباس، ما زالت هذه الألقاب فيهم إلا أن انقرضوا واقتلع الله جرثومتهم ، فبعداً لقوم لا يؤمنون، ثم هي الآن جارية، وليس ورائهاكثير فائدة، ولو كان فيها خير سبق إليها الصدر الأول.
(جبهة الأنصار): الجبهة يكنى بها عن أحسن الشيء وخياره وأعلاه؛ لأنه أوردها ها هنا مورد المدح والثناء على الأنصار، فلهذا وجب حملها على ما قلناه، وأراد أنهم أعظم الناصرين له وأكثرهم جهاداً في حقه.
(وسنام العرب): والسنام أيضاً: عبارة عن خيار الشيء ووسطه، ومنه سنام الناقة والجمل لكونه وارداً مورد المدح، ولا وجه بحمل السنام والجبهة على غير ذلك لفساد معناه.
(أما بعد): وهذه كلمة فصيحة تراد للقطع للكلام الأول عمَّا يأتي بعده.
(فإني أخبركم عن أمر عثمان): وما جرى فيه من الفتنة والخصومة العظيمة.
(حتى يكون سمعه كعيانه): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف، تقديره: أخبركم خبراً عظيماً جامعاً للقول فيه واضحاً جلياً، السامع له بمنزلة المعاين.
(إن الناس طعنوا عليه): في سيرته مطاعن كثيرة، ونقموا عليه أشياء أحدثها.
(فكنت رجلاً من المهاجرين): أراد واحداً منهم، وغرضه تميزه عن المهاجرين في حقه.
(أكثر استعتابه): الاستعتاب: الاسترضاء، وأراد أنه يكثر من طلب الرضا له.
(وأُقِلُّ عتابه): والعتاب هو: ذكر الخطأ الذي أخطأه، وغرضه من هذا كله أنه يسترضيه، ولا يذكر له ما يكرهه.
(وكان طلحة والزبير): في حقه وبالإضافة إليه.
(أهون سيرهما الوجيف ): الوجيف: ضرب من سير الإبل والخيل كثير السرعة والعجلة، وغرضه من هذا أن سعيهما في قتل عثمان أبلغ من سعي غيرهما من أفناء الناس.
(وأرفق حدائِهِمَا العنيف): العنف: الشدة، وجعل هذا كناية عن مبالغتهما في قتله ومحبتهما لذلك وتأليب الناس عليه.
(وكان من عائشة فلتة غضب فيه): يقال: كان هذا الأمر فلتة إذا لم يكن عن تدبُّر وتحقق، وكان صدوره فجأة، فكانت تسبُّه وتؤذيه، وتحرض الناس على قتله، حتى أنها قالت يوماً: اقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً، بالعين المهملة والثاء المثلثة ، والنعثل: ذكرالضباع، وقيل: اسم رجل كان طويل اللحية، وكان عثمان إذا نيل من عرضه شبه به، وهو مراد عائشة ها هنا.
(فأتيح له قوم فقتلوه): أي قُدِّر له أقوام قليلون قتلوه من غيربصيرة في قتله.
(وبايعني الناس): بعد قتله.
(غير مُسْتَكْرَهِيْنَ): لم يكن من أحد لهم إكراه ولا حمل.
(ولا مُجْبَرِيْنَ): مقهورين على البيعة، وإنما جاءوا من جهة أنفسهم بالطوع والاختيار دون الإكراه.
(بل طائعين مُخَيَّرِيْنَ): تأكيد ومبالغة في ذكر حال بيعته، وأن إمامته لا مغمز فيها لأحد، ولا فيها وجه من وجوه الاعتراض الحاصلة في إمامة غيره.
(واعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد بدارالهجرة الكوفة، ومعنى قلعت بهم أي أخلتهم وطردتهم، وقلعوا بها أي أخلوا عنها وأهملوها فصارت خالية بعدهم.
وثانيهما: أن يكون المراد بدار الهجرة المدينة، وهو السابق إلى الأفهام من دار الهجرة؛ لأن ما عداها من المدائن والأمصار لا يقال فيه: دار الهجرة، وأراد أنهم أخلوها وخلوا عنها، وغرضه أيام الفتنة بقتل عثمان.
(وجاشت جيش المِرْجَل): جاش القدر إذا عظم غليانه، واشتدت حركته، وَالْمِرْجَلُ: القدر.
(وقامت الفتنة على القطب): أراد استقرت رحاها على قطبها؛ لأن كل ما يدور على القطب إذا لزم القطب وقام عليه، و استوسق واستقر.
(فأسرعوا): بالإقبال فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
(إلى أميركم): من جعله الله والياً عليكم، وسلطاناً قائماً على أموركم كلها.
(وبادروا جهاد عدوكم): أن يحال بينكم وبينه بعارض من العوارض.
(2) [ومن كتاب له عليه السلام إليهم بعد فتح البصرة]
ثم كتب إليهم بعد فتحه للبصرة:
(جزاكم الله من أهل مصر): يريد أهل الكوفة لما بالغوا في النصيحة، وأخذوا في امتثال أمره، ومن هذه لابتداء الغاية.
(عن أهل بيت نبيِّكم): يريد نفسه وأولاده إذ هم أهل البيت في ذلك الزمان لا شيء غيرهم.
(أحسن ما يجزي العاملين بطاعته): من الثواب العظيم ورفع الدرجات العالية.
(والشاكرين لنعمته): أي وأحسن ما يجزي الشاكرين على نعمته، كما قال تعالى: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران:144] إشارة إلى عظم ما أعدَّ الله لهم من كرامته من جزيل ثوابه وحسن عطائه.
(فقد سمعتم): ما أقوله من المواعظ والآداب.
(وأطعتم): أمري بما أمرتكم به من أمر الجهاد.
(ودعيتم): إلى الطاعة أو إلى مقاتلة العدو وجهاده.
(فأجبتم): إلى ذلك مسرعين منقادين.
(3) ومن كتاب له [عليه السلام] كتبه لشريح بن الحارث قاضيه
روي أن شريح بن الحارث قاضي أمير المؤمنين اشترى على عهده داراً بثمانين ديناراً، فبلغه ذلك فاستدعاه وقال له :
(بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ديناراً، وأشهدت شهوداً، وكتبت كتاباً) .
فقال شريح: قد كان ذلك ياأمير المؤمنين.
قال: فنظر إليه [ عليه السلام] نظر مغضب ثم قال له:
(ياشريح، أما إنه سيأتيك): يصل إليك، ويحلُّ بفنائك.
(من لا ينظرفي كتابك): الذي كتبته تقريراً لملكك، وخوفاً عن دعوى من يدَّعيها.
(ولا يسألك عن بيتك ): إما عن بيتك الذي جعلت هذه العناية من أجله ، وإما عن بينتك التي تقيمها من عندك لو جحدها جاحد، فلا يزال بك:
(حتى يخرجك منها شاخصاً): شخص عن البلد إذا خرج عنها.
(ويسلمك إلى قبرك خالصاً): من قولهم: أسلمته إلى كذا أي خلَّيت بينه وبينه، وأراد بقوله: خالصاً عن العلائق كلها لا شيء معك من الدنيا، وأراد بما ذكره ملك الموت، فإنه يأتي إلى الإنسان، فيفعل به هذه الأفاعيل كلها.
(فانظر يا شريح): تفكَّر في أمرك وشأنك، وحقِّق النظر فيما أنت فيه.
(لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مَالِكٍ): أراد أن مالكها الذي أخذتها منه، لعله غصبها أو أخذها على غيره وباعها منك، فانظر في هذا.
(أو نقدت الثمن من غير حلالك): وكان نقدك للثمن من غير مال تملكه، بأن تكون قد أخذته من غير حله، فانظر فإن تطرق الشبهة يكون إما في المبيع، وإما في الثمن، وكل واحد منهما يكون محرماً للبيع، ويقع الخطأ والإثم بالوقوع في أحدهما لامحالة.
(فإذاً أنت): بالوقوع في أحد هذين الشبهتين أو كلاهما.
(قد خسرت دار الدنيا): بكونك شريت ما لا يحل لك شراؤه.
(ودارالآخرة): بالوقوع في معصية الله تعالى وإثمه، والمراد بالخسران هو فوات الدارين كلاهما، وذهابهما عن يده كما قررناه.
(أما إنك لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت):من هذه الدار بثمنها المعلوم.
(لكنت كتبت لك كتاباً) : حررت فيه ألفاظاً وعظية، وقوارع شافية مرغِّبة عن الدنيا.
(على هذه النسخة): التي سأذكرها بعد هذا بمعونة الله تعالى.
(فلم ترغب): عند معرفتك بها.
(في شراء هذه الدار بدرهم فما فوقه): لاشتماله على الزهد في الدنيا، والترغيب في الآخرة.
(والنسخة: هذا ما اشترى عبد ذليل): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد بذلك على جهة العموم، والغرض أن كل الخلق عباد الله ذليلون لأمره، خاضعون لجلاله.
وثانيهما: أن يكون مراده على جهة الخصوص، وأراد بالعبد شريحاً؛ لأنه كان عبداً، ولهذا فإنه يحكى أنه نقم عليه نَقْماً في بعض الأقضية التي قضاها، فقال: ائتوني بهذا العبد الأبظر والبظر بظاء منقوطة من أعلاها: لحمة ناتية في الشفة العليا، وكان شريح بهذه الصفة.
(من ميت قد أزعج بالرحيل ): ممن يموت ويستعجل الرحيل إلى الآخرة، والتولي عن الدنيا، فهذه حالة البائع والمشتري وأوصافهما.
(اشترى منه داراً من دار الغرور): الدار الأولى هي المشتراة، والدار الثانية هي الدنيا، فإنها دار المكر والخديعة بأهلها.
(من جانب الفانين [وخطة الهالكين] ): مِمَّا يجري عليه الفناء، والخطة: ما يُخْتَطُّ للعمارة، وأراد من مكان الهالكين، وأراد بذلك ذكر هذه الأوصاف مبالغة في تخليتها وإظهار أمرها، كما يقول أهل الشروط: من خطة بني فلان، وشارع بني فلان لئلا تكون ملتبسة بغيرها تهكماً لأمرها واستركاكاً لحالها.
(وتجمع هذه الدار): بحيث لاتلتبس بغيرها على مشتريها.
(حدود أربعة): مشتملة على أقطارها، ومستولية عليها من جميع نواحيها.
(الحد الأول ينتهي إلى دواعي الآفات): يريد أن هذه الدار لايخلو أمرها أصلاً عن طرو الآفات وعروض المتالف لها.
(والحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات): وهكذا أيضاً فإن هذه الدار لا تخلو عن المصائب الجارية على الخلق، والذين هم بصددها، ولا خلاص عن ذلك.
(والحد الثالث ينتهي إلى الهوى المردي): في الهلاك فإنه لا ضرر على الإنسان أضر من اتباع الهوى، وإليه الإشارة بقوله:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }[النازعات:40].
(والحد الرابع ينتهي إلى الشيطان المغوي): للخلق عن مصالحهم الدينية، وعمَّا أراد الله بهم من مسالك الخير والصلاح.
(وفيه يشرع باب هذه الدار): أي يسلك.
سؤال؛ أراه جعل مشرع باب الدار من جهة حد الشيطان، دون غيره من سائر الحدود التي ذكرها، مع أنها كلها مستوية في الإهلاك للإنسان؟
وجوابه؛ هو أن باب الدار إنما شرع من أجل دخولها، ولما كان الشيطان له مداخل عظيمة في الإنسان، ويأتي له في الإغواء من أبواب متفرقة، وجهات مختلفة حتى يستولي عليه ويستحكم من أي باب وجده يهلك فيه، فلهذا جعل مشرع باب الدار من جهة الشيطان وإغواءه وزلله واستحواذه.
وعن إبليس أن الله لما لعنه، قال: يارب، قد جعلتني رجيماً، وأنظرتني إلى الوقت المعلوم فاجعل لي بيتاً.
قال: ((الحمام)).
قال: فاجعل لي مجلساً.
قال: ((الأسواق ومجامع الطرقات)).
قال: فاجعل لي حديثاً.
قال: ((الغنا )).
قال: فاجعل لي كتابة.
قال: ((الوشم )).
قال:فاجعل لي مؤذناً.
قال: ((النوائح)).
قال:فاجعل لي مصائد.
قال: ((النساء)).
(اشترى هذا المغتر بالأمل): حيث شرى منزلاً يطمأنَّ إلىالسكون إليه والمقام فيه، والاستقرار عليه ثقة بالدنيا واطمئناناً إليها، وفي الحديث: ((ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر ما يرجع إليه)) .
(من هذا المزعج بالأجل): يريد البائع فإن الليالي والأيام تحثه لا محالة إلى الآخرة، وفي الحديث: ((الدنيا حلم، وأهلها مجازون ومعاقبون وهالكون )).
(هذه الدار): المخصوصة بهذه الصفات، والمحدودة بهذه الحدود التي ذكرناها.
(بالخروج من عز القناعة): كأنه جعل ثمنها الخروج من عز القناعة، يشير إلى أن هذا المشتري لو تقنَّع ما شراها ورضي بالحقير عنها؛ لأن فيه كفاية عن الجليل، وفي الحديث: ((من أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته ،ومن أحبَّ آخرته أضرَّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)) .
(والدخول في ذلِّ الطلب والضراعة): الضراعة هي: الذلة والمسكنة، فقد دخل بشرائها في الذل، وخرج عن العزِّ بالتقنع .
(فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى من درك): الدرَك والدرْك بالفتح والسكون هو: التبعة، وأراد فما اتبع فيما اشتراه من هذه الدار.
(فعلى مبلبل أجسام الملوك): البلبلة: القطع والاستئصال، أخذاً من قولهم: تبلبلت الإبل الكلأ إذا قطعته فلم تُبْقِ منه شيئاً، وأراد فإنه موكول إلى الله تعالى الفاعل لهذه الأشياء، وذكرها إنما هو على جهة التهويل وإعظام الأمر وإكباره.
(وسالب نفوس الجبابرة): مزيلها عن أجسامهم.
(ومزيل ملك الفراعنة): من تشيطن في البلاد بإكثار الفساد في الإرض فهو فرعون، وقد أزال الله كل من تفرعن في الأرض وأهلكه.
(مثل كسرى): ملك الفرس.
(وقيصر): ملك الروم.
(وتبَّع): والتبابعة هم ملوك اليمن، وكانوا ثمانين تبعاً.
(وحمير): وملوك حمير، كانوا في اليمن.
(ومن جمع المال على المال فأكثر): من جمعه، وكنزه وادخاره.
(ومن بنى): القصور العظيمة.
(فشيَّد ): بناءها وزخرفها وزينها.
(وزخرف): نقش.
(ونجَّد): والتنجيد: التزيين، قال ذو الرمة:
حتى كأن رياضَ القفرِ ألبسها
من وشي عبقر تجليلٌ وتنجيدُ
(وادخر): الأموال النفيسة.
(واعتقد): أن ليس أحداً مثله، أو أنه لا جمع كجمعه.
(ونظر بزعمه للولد): أراد إما ونظر بزعمه فيما جمعه أنه مصلحة لولده، وإما كان منتظراً للولد فيسترُّ به كما يسترُّ بالمال إذا جمعه.
(إشخاصهم ): هذا على حذف مضاف تقديره: وقت إشخاصهم، والعامل فيه ما تعلق به على في قوله: فعلى مبلبل، أي فهو حاصل وقت إشخاصهم لكن حذف الوقت، وترك المصدر لما فيه من الدلالة على الوقت، كما قالوا: انتظرتك نحر جزور، ومنه قوله تعالى: {فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ }[الطور:49].
(جميعاً): مجتمعين بكليتهم.
(إلى موقف العرض والحساب): العرض على الله تعالى والمحاسبة على الأعمال.
(وموضع الثواب والعقاب): وفي هذا الوقت أيضاً، وأراد عند هذه الأحوال الهائلة، والأمور الخطرة.
(إذا وقع الأمر بفصل القضاء): إذا متعلقة أيضاً بما تعلق به الظرف المقدر، أو يكون هذا بدلاً من ذاك ؛ لأنهما مستويان.
({وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ })[غافر:78]: لأعمالهم بإحباطها بالسيئات، أو ذوو البطلانات والجحود في اعتقاداتهم.
(شهد على ذلك): الذي ذكرناه في هذه الأشياء كلها.
(العقل): وهو الذي ركَّبه الله في الإنسان قاضياً بصحة هذه الأمور كلها ومعترفاً بها، وأنها كلها حق وصواب، وهو إنما يشهد بها إذاكان باقياً على الخلقة الغريزية والفطرة الإلهية التي جعله الله عليها، وذلك إنما يكون:
(إذا خرج عن أسر الهوى): لأن الهوى إذا [كان] آسراً للعقل ، وصار موطؤاً بقدم الهوى فلا حيله له هناك ولا وقع لتصرفه، ولا يقدر على التخلص عن وثاق الهوى، وعند هذا لا نفع فيه لصاحبه.
(وسلم من علائق الدنيا): وكان أيضاً سالماً عن أطماع الدنيا وعوارضها، فمهما سلم عن هذين الأمرين فإنه قاضٍ بما ذكرناه، ومهما فسد بأحد هذين الأمرين فإنه يبطل أمره، ويخرج عن النظام الذي ركَّبه الله عليه.
اللَّهُمَّ، إنا نعوذبك من أسر الهوى، والانقياد لحكمه.
واعلم: أن هذا الكتاب حذا عليه كتَّاب الشروط في البياعات والإجارات والمزارعة وغير ذلك، وجعلوه إماماً لهم يحتذون عليه كتب شروطهم.
(4) ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض أمراء جيشه
(فإن عادوا إلى ظل الطاعة): استعار الظل للطاعة لما فيه من موافقة مراد الله تعالى، ورضوانه عليهم، فعاقبة ذلك راحة ولذة، فلهذا جعل عودتهم مما يلتذ به لما كان يؤول إلى ذلك.
(فذاك الذي نحب): الإشارة إلى العود إلى الطاعة، أي فهو الأمر المحبوب منهم، والمطلوب حصوله من جهتهم.
(وإن توافت الأمور بالقوم): أي تطابقت الأمور بالقوم بتمامها وكمالها.
(إلى الشقاق): المشاقة والعصيان لأمري والمخالفة عليَّ.
(والعصيان): لأمر الله وأمري.
(فانهد بمن أطاعك): نهد الرجل في الأمر إذا نهض إليه بجد وسرعة، وأراد فانهض مستصحباً بمن أطاعك.
(إلى من عصاك): إلى جهاد من خالفك وبغى عليك.
(واستعن بمن انقاد معك): اجعله عوناً لك وبصِّره واستصحبه، واجعله غنىً عن غيره لك.
(عمن تقاعس عنك): أي تأخر بتكبر وعتو.
(فإن المكره ): الآتي إلينا كرهاً لا عن خيرة من نفسه، ولا انجذاب منها خوفاً من ربه.
(مغيبه خير من شهوده ): لأنه ربما بكراهته أفسد غيره، وخذله عن النهوض، وفتَّ في عضده.
(وقعوده): في بيته عن الجهاد والقتال.
(أغنى): أكثر غناءً ونفعاً.
(من نهوضه): بزعمه مكرهاً للجهاد، لما في ذلك من الضررو حصول المفسدة، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى الذي ذكره أمير المؤمنين في كتابه، حيث قال في حق أهل النفاق: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ }[التوبة:47] يريد في تبوك {مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً }[التوبة:47] فساداً وشراً، {وَلاََوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ }[التوبة:47] بالمكر والخديعة، والسعي بها بينكم، وإفساد ذات البين، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ }[التوبة:47]: يطلبون فتنتكم، وإفساد نياتكم في مغازيكم هذه، ومن هذه حاله فقعوده خير من مسيره، كما أشار إليه ها هنا.
(5) ومن كتاب له عليه السلام إلى الأشعث بن قيس [وهو] عامل أذربيجان
(وإن عملك ليس بطعمة لك): يعني أنه ليس أمراً سهلاً ولا تبعة عليك فيه، فلا تظننَّ أنه بمنزلة الطعمة الهنية.
(ولكنه في عنقك أمانة): يريد فيه تكليف عليك وأمانة في عنقك حتى تؤديها إلى من ائتمنك عليها.
(وأنت مسترعى لمن فوقك): يريد جعلك راعياً من هو فوقك في الأمر ووجوب الطاعة.
(ليس لك أن تفتات في رعية): الافتيات : افتعال من الفوت، وهو السبق إلى الشيء من دون أمر من له الأمر فيه، يقال: فلان لا يفتات عليه أي لا يعمل شيء دون أمره، وفي الحديث: ((أمثلي يفتات عليه في أمر بناته )).
(ولا تخاطر إلا بوثيقه): أي ولا تركب خطراً من الأمور تكون مغروراً فيه من دون أن تستوثق، وأراد أن هذه الأمور كلها واجبة على المتولي فيما ولي عليه.
(وفي يدك مال من مال الله عز وجل): إنما نكَّر المال، إما لجلالته وكثرته كأنه قال: مال وأي مال، وإما لقلته كأنه قال: ما يقع عليه اسم المال.
(وأنت من خزاني ): ممن جعلته خازناً له، والواجب عليه حفظه ورعايته.
(حتى تسلمه إليَّ):وعند هذا قد أدَّيت أمانتك، والفرض الواجب عليك لله فيه.
(ولعليَّ ألاَّ أكون شر ولاتك لك ): وأرجو من الله تعالى أن أكون خير من تولى عليك بحفظ ما أديت من المال وصرفه في أهله، وإنما قال: ولعليَّ، جرياً على عادته في الأدب عند الدعاء، كما قال الرسول عليه السلام: ((وأرجو أن أكون أخوفكم بالله، وأعرف بما آتي وأذر )) .
(6) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية
(إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان): الضمير للشأن والقصة، والجملة بعده مفسرة له، وأراد أمير المؤمنين الملاطفة له في الخطاب والنزول معه، وإفحامه بالإلزام على قرب، وتقريره أن يقول: هب أن إمامتي ليس منصوصاً عليها بالبراهين الواضحة، والنصوص الواردة، فالذين كانوا قبلي هم أئمة على زعمك، وما كانوا أئمة إلا من أجل من عقد لهم من المهاجرين والأنصار، والذين عقدوا لهم ورضوهم قد عقدوا لي ورضوا بي إماماً لهم وبايعوني:
(على ما بايعوهم عليه): من امتثال أمرالله، وأمر رسوله، والقيام بالواجبات كلها، وليس الغرض اجتماع الناس بأجمعهم، وإنما انعقاد الإمامة بالعدد المعتبر من الأعيان والجماهير.
(فلم يكن للشاهد أن يختار): أمراً خلاف ما أجمعوا عليه واختاروه، ولكن الواجب الانقياد لهم والمتابعة لما فعلوه.
(ولا للغائب أن يرد): ما قد فعلوه من ذلك ويزعم أني لم أحضر.
(وإنما الشورى): المشاورة في الأمر، وهي فُعلى بضم الشين.
(للمهاجرين والأنصار): تعريض بحال معاوية، يريد أن المشاورة في هذا الأمر، وعقد الإمامة إنما يكون لرجال أهل الدين من المهاجرين والأنصار الذي تبوأوا الدار والإيمان دونك، فليس لك فيها ورد ولا صدر، ولا أنت ممن يستشار في هذا الأمر، وإنما الحكم والأمر لهم.
(فإن اجتمعوا على رجل): ورأوه صالحاً لهذا الشأن وعقدوا له ورضوه.
(وسموه إماماً): وقالوا: هذا إمام المسلمين وأميرهم.
(كان ذلك لله رضاً): لأن ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن))، وبعد إجماعهم عليه فهو الحق الذي لا يُعْدَلُ عنه، إذ لا يجتمعون على ضلالة.
(فإن خرج من أمرهم خارج): يريد مما أجمعوا عليه هاهنا.
(بطعن): في الإمام على غير بصيرة وحق.
(أو بدعة): فسق وتمرد.
(ردوه): بالمراجعة والمناظرة و إيضاح الخطأ لماهو عليه.
(إلى ما خرج منه): وهو إمامة الإمام المجمع على إمامته.
(فإن أبى): إلا الفسق والتمرد والطعن
(قاتلوه): حاربوه.
(على اتباع غير سبيل المؤمنين):على فسقه وخرقه للإجماع، وخروجه عمَّا عليه المسلمون.
(وولاَّه الله ما تولَّى): من عذابه ونكاله في الآخرة لأجل فسقه، وهذا كله تعريض بحال معاوية، وتحذير له عن البغي والتمرد والمخالفة للحق، وإيضاح للأمر له.
(ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك): العمر قسم قد مرَّ تفسيره، لئن كان نظرك عن عقل وبصيرة وتروي في الحق واتباع له وانقياد لأمره.
(دون هواك): يريد ولم تحكِّم هواك ولم تكن سِيْقَةً له.
(لتجدنَّي أبرأ الناس من دم عثمان): لأنه لم يكن تعويلة ولا ديدنه الذي يصول به إلا أنه ثائر بدم عثمان، فلهذا كان سبباً للخروج والبغي على أمير المؤمنين.
(ولتعلمن أني كنت في عزلة منه ): جانب ومعزل لا علقة لي به، وكيف يظن بمثلي أن يكون من جهتي أمر يكون فيه إهدار دم رجل من أفناء المسلمين فضلاً عن دم عثمان كلا وحاشى!.
(إلا أن تتجنى): تتجرَّم عليَّ بجرم لم أجترمه، وهذا الاستثناء يكون منقطعاً لعدم اتصاله بما قبله، وفي المثل: أجناؤها أبناؤها ، أي الذين جنوا على هذه الدار بالخراب والهدم هم الذين كانوا بنوها، وهذا المثل خارج عن القياس لأن فاعل لا يجمع على أفعال، ولعل المثل: جناتها بُناتُها، فإن كان هذا فالمثل مستقيم، وإن كان على الرواية الأولى فقد يغتفر في الأمثال ما لا يغتفر في غيرها من الخروج عن القياس.
(فتجنَّ ما بدا لك!): ما هذه يحتمل أن تكون موصولة، أي فتجرَّم الذي تحبّ وتريده، ويحتمل أن تكون نكرة موصوفة، وتقديره: فتجرَّم شيئاً ظهر لك.
(7) ومن كتاب له عليه السلام إليه أيضاً
(أما بعد، فقد أتتني منك موعظة موصَّلة): يريد موعظة طويلة يتصل بعضها ببعض لطولها.
(ورسالة مُحَبَّرة): تحبير الكلام: تزيينه وتحسينه.
(نَمَّقتها بضلالك): التنميق: التزيين أيضاً، قال النابغة:
كأن مجر الرامسات ذيولها
عليه قضيم نَمَّقَته الصوانع
وأراد زينتها بما أودعتها من المكر والخديعة بزعمك.
(وأمضيتها بسوء رأيك): وجعلتها ماضية فيما دلت عليه من المخالفة، والخروج عن الحق بالرأي السوء، المخالف للدين،والناكب عن طريقه.
(وكتاب امرئ): أي وكتابك كتاب امرئٍ.
(ليس له بصر يهديه): بصيرة ترشده إلى الحق.
(ولا قائد يرشده): يأخذه بزمامه إلى طريق الرشاد.
(قد دعاه الهوى فأجابه): أراد أن هواه صار مالكاً له، يصرِّفه كيف شاء فلا حيلة له معه.
(وقاده الضلال فاتَّبعه): يريد وضلاله عن الحق هو القائد له، ومن كان مقوداً بزمامه في يد غيره فلا ملك له في نفسه، ومن كانت هذه حالته ملكه الشيطان واستولى عليه.
(فهجر لاغطاً): الهجر: الهذيان، واللغط: الأصوات الكثيرة واللجبة .
(وضلَّ خابطاً): وضلَّ عن الطريق يخبط على غير جهة مستقيمة، كمن تخبط من غير هداية ولا إرشاد، وانتصاب لاغطاً وخابطاً على الحال من الضميرفي الجملة قبلها، وهي حال مؤكدة؛ لأنها معطية فائدة الجملة قبلها، كهي في مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا }[البقرة:91].
ثم خرج إلى ذكرالبيعة بقوله:
(لأنها بيعة): أراد ليست من عقود المعاوضات، وإنما نكَّرها مبالغة في عظم شأنها، أي بيعة وأي بيعة لما ينشأ عنها من الأمور المهمة، ويتفرع عليها من الفوائد الدينية.
(واحدة): لا يكون فيها تكرير.
سؤال؛ التاء في بيعة دالة على الوحدة، فلِمَ أردفه بقوله: واحدة؟
وجوابه؛ هو أن دلالة التاء على الوحدة ليس أمراً قاطعاً، ولهذا فإنها قد ترد والغرض فيها الجنس لا الوحدة كالزلزلة، فلهذا وصفها بالوحدة رفعاً لهذا الوهم، وإزالة له، كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ }[الحاقة:13].
(لا يُثنّى فيها النظر): يرجع إليه مرة بعد مرة.
(ولا يستأنف فيها الخيار): ولا يبتدأ فيها خيار لمن بلغته.
(الخارج عنها ): بالرد لها، والتكذيب.
(طاعن): أي ذو طعن على المسلمين، ومريد لتفريق كلمتهم، وتبديد شملهم.
(والمروِّي فيها): والمتفكر فيها بعد جريان العقد لصاحبها، وانبرام الأمر له من جهة أهل الدين.
(مداهن): المداهنة: المصانعة.
وأقول: إن هذا هو غاية النصح والرشد لمعاوية لو قَبِلَهُ.
(8) ومن كتاب له عليه السلام إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية
(أما بعد، فإن أتاك كتابي): بلغك وقرأته.
(فاحمل معاوية على الفصل): بالصاد المهملة أي على القطع والحتم فيما هو فيه، واالجد الذي لا هوادة له ولا مهازلة فيه.
(وخذه): عامله، من قولهم: فلان يأخذ اليهود بالصَّغار أي يعاملهم.
(بالأمر الجزم ): فيما يجري بينكما من المحاورة بالأمر بالجزم، يروى بالجيم، أي بالأمر المقطوع به، ويروى بالحاء أي ضبط الأمر وشده ، وأراد أنه إذا فعل ذلك فلعله يَسْلَمُ من مكر معاوية وخدعه، ولعل أمير المؤمنين أراد ذلك؛ لأنه إذا عامله معاملة الجد لم يجد سبيلاً إلى الخديعة.
(ثم خيِّره): بعد فعلك ما أمرتك به من الجزم .
(بين حرب مجليَّة): أراد إما أنها تجلي القوم عن أوطانهم أي تخرجهم عنها، وإما ينفرجون بسببها أي يتفرقون، من قولهم: أجلوا عن القتيل إذا تفرقوا عنه .
(أو سلم مخزية): أو وضع الحرب على الخِزي والذلة.
سؤال؛ قد فهمنا أن الحرب يصاحبها الجلاء والتفرق، فكيف قال: أو سلم مخزية، والسلم مسالمة، ومصالحة فمن أين يلزمها الخزي؟
وجوابه؛ هو أن أمير المؤمنين لو سالمه ووضع الحرب عنه، لم يكن ذلك إلا على ما يُهينه ويُذِلُّه ويسقط حاله وقدره، وهو ألاّ يكون له أمر ولا حلٌّ ولا عقد، ولهذا قال: أو سلم مخزية، يشير إلى ما ذكرناه.
(فإن اختار الحرب فانبذ إليه): العهد الذي جرى بيننا وبينه، وأظهر أنه لا مصالحة واقعة الآن.
(وإن اختار السلم): وضع الحرب بيننا وبينه.
(فخذ بيعته): على السمع والطاعة والانقياد لأمر الله، والاحتكام لي من غير مخالفة منه.
(والسلام): أراد والسلام على من اتبع الهدى، أو والسلام منَّا على أهله، والسلام هو تحية من عند الله، ومعناه السلامة جارية عليك أيها المخاطب، ولم يفعل ذلك في أوائل كتبه إلى معاوية وغيره ممن يخالفه ويضاد أمره؛ لأن من هذه حاله فليس أهلاً للسلامة من الله تعالى.
(9) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية
(فأراد قومنا): سائر بطون قريش ما خلا بني هاشم.
(قتل نبينا): إهدار دمه بغياً وحسداً.
واعلم: أن الرسول عليه السلام قد هُمَّ بالفتك في روحه في مواطن أربعة من قريش وغيرهم:
أولها: ما كان من قريش حين اقتعدوا له يريدون قتله على بابه، فجاءه جبريل فأخبره بمقامهم، وأنزل عليه صدر سورة يس، فخرج يقرؤها وحثا التراب على رؤوسهم .
وثانيها: ما كان من اشتوارهم في أمره في دارالندوة، وإجماعهم على الرأي الذي جاء به إبليس، وهو أن يجتمع فتيان من قريش، من كل قبيلة واحد فيضربونه ضربة ضربة فيتفرق دمه في قبائل قريش، فلا يطالب به أحد .
وثالثها: ما كان من عمرو بن جحاش وقد قعد رسول الله تحت جدار، فأراد أن يلقي عليه صخرة من فوق ، فجاءه جبريل فأقامه من تحت ذلك الجدار .
ورابعها: هو أن رجلاً استلَّ سيف الرسول فلما صار في يده هَمَّ بقتله، وقال: من يمنعني منك؟ فقال: ((الله)) ثم نزلت الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا...}الآية[المائدة:11] .
(واجتياح أصلنا): اجتاحه إذا استأصله، يريد بني هاشم، فإن سائر بطون قريش وأحلافها نصبوا لهم العداوة العظيمة بسبب الرسول عليه السلام.
(وهموا بنا): أي قصدوا.
(الهموم): أراد إما إنزال الهموم بنا والغموم من جهتهم، وإما يريد وقصدوا بنا فعل كل ما يهم في نفوسهم، ويخطر على قلوبهم من الأفعال الرديَّة.
(وفعلوا بنا الأفاعيل): أراد إما الأفاعيل القبيحة، وإما الأفاعيل ذات الألوان في القبح والشناعة.
(ومنعونا العِذَاب ): أراد العيش الطيب، يشير بهذا إلى ما كان من حديث الصحيفة، وهو أن قريشاً تعاقدوا حلفاً على إخراج بني هاشم إلى الشعب، وهو مكان من أودية مكة، فاحتلفوا أن لا يصلهم أحد بطعام ولا شراب، وكتبوا بينهم صحيفة متضمنة لما ذكرناه، ثم وضعوها في الكعبة، والكاتب لها منصور بن عكرمة، ثم استمر الأمر في ذلك حتى قام في نقضها جماعة من قريش، فجاءوا وإذا الصحيفة قد أكلتها الأرضة، ومنصور هذا شلت أنامله .
(وأجلسونا الخوف): أي مجالس الخوف، وهذا من باب الإسناد المجازي كقولك: فلان بحر، وتعليقها الأسراج والألجام.
(واضطرونا إلى جبل وعر): أراد إما الحقيقة وهو ما كان من حديث الشعب، وإما أن يريد المجاز أي إلى الأمر الصعب الشديد.
(وأوقدوا لنا نار الحرب): أي ورمونا عن قوس واحدة بالحرب، واجتمعت آرائهم عليه حتى مابقي منهم بطن واحد إلا وهو محارب لنا، وناصب للعداوة من أجلنا.
(فعزم الله لنا): أي أراد لنا وقطع على ذلك، من قولهم: عزمت على الشيء إذا قطعت عليه، قال الله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }[طه:115] أي قطعاًعلى ذلك.
(على الذب عن حوزته): المنع عن حوزة الإسلام، وهي: بيضته.
(والرمي من وراء حرمته ): الحرمة: ما يمنعه ويكون العار عليه باجتياحه وأخذه من مال أو حريم أو غيرذلك، وأراد بالرمي إما حقيقته وهي المحاماة بالنبال، وإما أن يريد بالرمي الدفع، والضميران في الحوزة والحرمة إما لله تعالى، وإما لرسوله.
(مؤمننا يبتغي بذلك الأجر): يشير إلى نفسه، وإلى من آمن في ذلك اليوم من بني هاشم، فإن دفاعه إنما كان من أجل الله تعالى، وطلباً لما عنده من مذخور الأجر.
(وكافرنا يحامي على الأصل): أراد من كفر من بني هاشم نحو حمزة والعباس وأبو طالب وغير هؤلاء، ممن كان كافراً في ذلك اليوم، فإنه لا غرض له بالدفاع إلا محاماة على الأصل والجرثومة أن تضيع أو ينهدم أصل من أصولها، وتزول قاعدة من قواعدها، ونذكر من ذلك أموراً ثلاثة:
أولها: ما كان من عناية أبي طالب في حق الرسول، وكان كافراً مظهراً للكفر وعبادة الوثن، وما كان من حديث قريش إليه من أنه يسلِّم إليهم الرسول يفعلون به ما شاءوا ويعطونه عمارة، فأبى عن ذلك، وشرح الله صدره،وقال: أعطيكم ابن أخي تقتلونه، وتعطونني صاحبكم أكفله وأربيه، ماهذا إلا الرأي السوء .
وثانيها: ما كان من حديث حمزة لما نال أبو جهل بن هشام من عرض رسول الله بالسبِّ والأذية، فبلغه ذلك، وكان يصطاد على يد امرأة، وقالت له: لقد نال أبو الحكم من ابن أخيك نيلاً عظيماً، فدخل مغضباً، فلما رآه في فناء الكعبة علاه بقوسه فشجَّه شجَّةً منكرة، فتواثب الناس، فقال أبو جهل: إنه معذور، إني نلت من عرض ابن أخيه، وكان ذلك سبباً في إسلام حمزة .
وثالثها: ما كان من حديث العباس واجتهاده في أمر رسول الله في بيعة العقبة، ومبايعته للأنصار ، وهو باقٍ على الشرك و الكفر، ووصيته لهم في حقه والحثُّ لهم على منعه، والتأكد عليهم في ذلك ، فكل بني هاشم كان حريصاً على الرسول عليه السلام عن أن تجرى عليه نكبة، أو يضام بضيم.
(ومن أسلم من قريش خِلَّوٌ عما نحن فيه): أي والذين أسلموا من سائر بطون قريش خالين عن مثل هذه العناية، وهذا الاجتهاد والخوف والبلاء والتمحيص، وإنما خصَّ المسلمين من قريش لأنهم ربما تلحقهم أنفة الإسلام، فإذا كانوا خالين عن ذلك، فالكفار أعظم خلواً وأبعد عن ذلك، فلا ناقة لهم في هذا ولا جمل.
(بحلف يمنعه):كما كان من حديث أبي بكر فإنه كان جاراً لابن الدُّغَنَّة، وما أمكنه المقام في مكة إلا بجواره، وهو حليف لقريش ، وأما عثمان بن مظعون فإنه استجار بالوليد بن المغيرة، ثم أبو سلمة بن عبد الأسد كان في جيار أبي طالب إلى غيرذلك ، ممن كان مستضعفاً فاستجار .
(أو عشيرة تقوم دونه): كما كان في حق الرسول فإن بني هاشم منعوه عن أن يسام خسفاً أو يحمل ضيماً.
وحكى ابن هشام في سيرته: أن ناساً من أسنان قريش ورؤسائها منهم أبو سفيان واسمه صخر، وأبو جهل بن هشام، وأبو البختري بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، مشوا إلى أبي طالب وقالوا له: إن ابن أخيك هذا سفه أحلامنا وعاب آلهتنا، فإما أن تكفّه عنَّا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فقال أبو طالب لرسول الله: يا ابن أخي، إن قومك جاءوني فقالوا هذه المقالة فَأَبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني ما لا أطيق من الأمر، فظنَّ رسول الله أن عمه قد بدا له في نصره وأنه مُسلّمه إليهم، وأنه قد ضعف عن نصرته، فأقبل الرسول على عمه وقال: ((والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى أظهره أو أهلك فيه ما تركته)) ثم استعبر رسول الله فبكى، ثم قام، فلما ولى ناداه عمه أبو طالب فقال له: أقبل يا ابن أخي فأقبل، ثم قال: إذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبداً .
وهكذا ما كان من عثمان وعمر، فإن بني عبد شمس وبني عدي كانوا يمنعونهما عن أن يجري عليهما نقص، فمن عدانا من سائر بطون قريش:
(فهو من القتل بمكان أمن): إذ لا غرض لهم في قتلهم ، وما تصدوا بالقتل والعداوة البالغة إلا لنا يا بني هاشم.
(فكان رسول الله [صلى الله عليه وآله] إذا احمرَّ البأس): يريد اشتدَّ الحرب وقامت على ساق.
(وأحجم الناس): عن التقدم في القتال لشدة الأمر وصعوبة الحال.
(قدَّم أهل بيته): من يليه من أقاربه وبني عمه وخاصته.
(فوقى بهم أصحابه): تمحيصاً لأهله ومبالغة في زيادة أجورهم، ورفع درجاتهم، واجتهاداً في صيانة أصحابه فلهذا وقاهم به.
(حرَّ السيوف والأسنة): إكراماً لأهله بالشهادة، وإعظاماً لأمر أصحابه.
(فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر): يريد ابن عبد المطلب، وكان الحارث أكبر أولاد عبد المطلب، وكانوا عشرة ، قتل يوم بدر عن مبارزة لبعض المشركين .
(وقتل حمزة يوم أحد): قتله وحشي .
(وقتل جعفر يوم مؤتة): وكان معه الراية فقطعت يداه، ثم قطع بنصفين .
(وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة): يشير إلى نفسه؛ لأنه قد كان محباً في حصول الشهادة في تلك الأيام، ولكن الرسول عليه السلام أخبره أنه يستشهد من بعد، فقرَّ خاطره بذلك.
(ولكن آجالهم عجلت): فأزهقت أرواحهم إلى الجنة.
(ومنيته أخرِّت): لم تحضر، أجلها إلى وقت آخر.
(فيا عجبا للدهر!): أراد يا عجباه أو يا عجبي، أبدلت الياء ألفاً، من أجل صنع الدهر هذا الصنع.
(إذ صرت يقرن بي): العامل في إذ هاهنا هو المصدر، وهو قوله: فيا عجباً لأنه نازل منزلة الفعل وعوض عنه، ولهذا فإنه لا يجوز ذكره معه، أي وقت أن صرت أقرن إلى غيري وأكون مثلاً له، لئن معاوية ربما جرى في كلامه حال عثمان وغيره من الخلفاء قبله، وذكر مناقبهم وتفضيلهم على أمير المؤمنين، فلهذا قال: كيف يقرن بي، ويُفَضَّلُ عليَّ.
(من لم يسع بقدمي): في الفضل وإحرازي لقصب السبق دون غيري في العلوم وسائر خصال الفضائل.
(ولم تكن له كسابقتي): من القرب إلى رسول الله، وجهاد أعدائه، واستئصال شأفتهم، وقطع دابرهم.
(التي لا يدلي أحد بمثلها): فمن يزاحمني في هذه الدرجة؟! أو فمن ترمز إليه يا معاوية بزعمك، وتدَّعي أنه أفضل مني؟!.
(إلا أن يدَّعي مدَّعي ما لا أعرفه): مما ذكرت اختصاصي به دونه.
(ولا أظن الله يعرفه): وأراد أنه قاطع على أنه لم يكن وأن مدّعيه كاذب فيما ادَّعاه من ذلك؛ لأنه لو كان يعلمه، لعلمه الله تعالى فإن علمه محيط بكل المعلومات، وعدة من قتله أمير المؤمنين كرم الله وجهه من بني أمية خمسة نفر:
العاص بن سعيد، وعقبة بن أبي معيط، وحنظلة بن أبي سفيان، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
ومن حلفائهم: عامر بن عبدالله من بني أنمار، ومن بني أسد أربعة نفر: نوفل بن خويلد، وزمعة بن الأسود، [والحرث بن الأسود] ، وعقيل بن الأسود بن المطلب، وقتل من بني نوفل: طعيمة بن عدي.
ومن بني عبد الدار: النضر بن الحرث، [وطعيمة بن الحرث] .
ومن بني تيم بن مرة: عمير بن عثمان، ومن بني مخزوم: أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، ومسعود بن لعبة .
وأبو قيس وحذيفة بن أبي حذيفة [و] من بني عائذ أبو المنذر المخزومي، وعبد الله بن المنذر، والحاجب بن السائب.
ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج، والعاص بن منبه، وأبو العاص بن قيس.
ومن بني عامر: سعيد بن وهب .
ومن بني جمح : أوس بن سعيد .
فانظر إلى ما خصَّه الله به من إظهار الدين على يديه بقتل أعدائه قبل النبوة وبعدها.
(فالحمدلله على كل حال): من نقص حق أو إيفائه أو اعتراف به أو إنكاره، أو إقراركم بفضلي أو جحوده، فالله تعالى مشكور على كل هذه الأحوال.
(وأما ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك): اعلم أن معاوية بخدعه ومكره ما وجد ما يعتلُّ على أمير المؤمنين في البغي عليه إلا ثأره بدم عثمان، وتسليم قاتليه إليه يتحكم فيهم كيف شاء ، خدعاً ومكراً، وإراءة لطلب الحق، وهو عنه بمعزل.
(فإني نظرت في هذا الأمر): يشير إلى إمامته وقتلة عثمان، وطلب معاوية لتسليمهم.
(فلم أره يسعني): عند الله تعالى من جهة الدين.
(دفعهم إليك): كما زعمت، ولا إلى غيرك، أما إليك فلأمرين:
أما أولاً: فلعل أمير المؤمنين كان لا يعلمهم بأعيانهم لأنه قتله من لا يؤبه له، ولا هو أهل للذكر من أوباش الناس وأخلاطهم.
وأما ثانياً: فلأنك لست بولي لدم عثمان فيجب الدفع إليك، والمطالبة بالدم إنما تكون في حق الأولياء والأقارب على جهة الاختصاص، وأما غيرك فلا يتوجه ذلك أيضاً لأمرين:
أما أولاً: فلأنهم وإن كانوا أقرباء فلعلهم لم يطالبوا أمير المؤمنين بالتسليم، ولو قدَّرت أنه عرفهم بإقرار أو بيِّنة، فإنه لا يجب تسليمهم إلا عند المطالبة من جهة الأولياء لا غير.
وأما ثانياً: فلأن بعض أولياء الدم كانوا في غاية النكوص والإدبار عن أمير المؤمنين، والبعد عن إمامته، والقول بها، ولابد في ذلك من حكمه، وإصداره عن رأيه، وإذا كان لايقول بإمامته فلا وجه لوجوب القول بتسليمهم إليهم والحال هذه، فهذا وجه المعذرة لأمير المؤمنين عن تسليمهم، وإبطال دعوى معاوية الفاسدة.
(ولعمري لئن لم تنزع عن غيك): تهدد وإرعاد بالفيء إلى الحق، والانكفاف عن القول الخطأ والمكابرة.
(وشقاقك): تمردك وعنادك، وطلبك ما ليس لك أن تطلبه.
(لتعرفنهم عن قليل): يريد قتلة عثمان، تعرفهم على القرب:
(يطلبونك، لا يكلفونك طلبهم): يبحثون عنك أشد البحث من غير حاجة لك إلى طلبهم كما زعمت.
(في بر ولا بحر، ولا جبل ولا سهل): ولعل مراد أمير المؤمنين بطلبهم لمعاوية على أحد وجهين:
أما أولاً: فبأن يكونوا في معسكر أمير المؤمنين طالبين لمعاوية لفسقه وبغيه.
وأما ثانياً: فبأن يأمرهم على الخصوص بطلب معاوية، وإحضاره لفصل الخصومة فيما بينهم، وقطع الشجار.
(إلا أنه طلب يسوءك وجدانه): وجوده وحصوله، أما على الوجه الأول فلأنه طلب لإزهاق روحه، وأما على الوجه الثاني فلأنه طلب لإنصاف الحق منه، وكلاهما طلب لا يسره.
(وَزَوْرٌ لا يسرك لقيانه): مكان زور أي بعيد، وأراد أنه لا يسره لما فيه من إيحار صدره، وضنكه عليه.
(والسلام لأهله): أراد عدم استحقاقه للسلام، وبطلان أهليته له، فلهذا قال: والسلام لأهله من الملائكة والصالحين، ثم أخَّره إلى آخر الكتاب، يريد بذلك التنبيه على ركة حاله، وأنه ليس أهلاً لشيء من ذلك.
(10) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية أيضاً
(وكيف أنت صانع إذا انكشفت عنك جلابيب ما أنت عليه): الجلباب: الملحفة من الثياب، وهذا استفهام وارد على جهة الإنكار، والمعنى ليت شعري ما حالك عند انكشاف هذه الجلابيب عنك عند الموت، أو في يوم القيامة التي أنت لابس لها، والتي أنت مقيم عليها.
(من دنيا قد تَبَهَّجَتْ بزينتها): البهجة: الحسن والنضارة، ومن هذه مفسرة لإبهام قوله: ما أنت عليه.
(وخدعت بلذتها): يريد آثروا لذتها، فكان سبب الخدع بهم من جهتها.
(دعتك): بزخرفها وزهرتها.
(فأجبتها): مسارعاً في تحصيلها، ومنهمكاً في لذاتها.
(وقادتك): جذبتك بزمامك.
(فاتبعتها): من غير مخالفة لها، ولا اعتياص منك لها.
(وأمرتك): بمراداتها وشهواتها ولذاتها.
(فأطعتها): في ذلك كله.
سؤال؛ أراه أطلق الخطاب في الابتهاج والخدع، ولم يظهر فيه الكاف، ثم أظهرها بعد ذلك في سائر الأفعال؟
وجوابه؛ هو أن الابتهاج والخدع عام في جميع أبناء الدنيا، لا يختص به واحد دون واحد، فلهذا أطلقه لعمومه، فأما الدعاء والانقياد والأمر فربما يختص به بعض الأشخاص بكثرة المثابرة عليها، والتعلق بها، وكثرة الانهماك في حبها والإصغاء إليها، فمن أجل هذا وصل به الكاف.
(وإنه يوشك): أي يقرب.
(أن يقفك واقف): أراد إما الله يقفه عند الموت على حقائق أعماله، وأسرارها وخفاياها، وإما أن يريد نفسه بأن يقفه في الحرب، ويلجيه إلى مضائق صعبة، وأمور هائلة.
(على ما لا ينجيك منه منجي ): لا خلاص لك عن أحد الأمرين اللذين ذكرناهما، ولا ينفعه عنهما نافع.
(فَاقْعَسْ عن هذا الأمر): اخرج، من قولهم: تقعوس الرجل عن الأمر إذا ظهر منه، وغرضه أنه لا حق لك فيه بزعمك ولا ولاية لك عليه في حال، وأراد الخلافة فإنه أخذها من غير أهلية، وطلبها من غير استحقاق.
(وخذ أهبة الحساب): لعدته في الآخرة، فإنك لا محالة مسئول عن أمورك كلها، وإقدامك فيها وإحجامك.
(وشَمِّر لما قد نزل بك): من جلائل الأمور، وعظائمها بقطع الدابر بالحرب واستئصال شأفتك.
(ولا تمكِّن الغواة من سمعك): فيولجوا فيه العُجْبَ، فيكون سبباً في هلاكك في الدين والدنيا، وغرضه الإصغاء إلى مقالات الناس، وفتح أذنه لسماع كلامهم.
(وإلاَّ تفعل): إما خروجك عن الأمر ، وإما تمكين الغواة من سمعك.
(أُعْلِمْك، ما أَغْفَلْتَ عن نفسك): من أمر الآخرة ونسيانك الوقوف بين يدي الله للمحاسبة على القليل والكثير.
(فإنك مترف): أراد كثير التنعم وإيثار اللذة العاجلة، فلهذا أطغتك النعمة إلى الأشر والبطر والورود في كل مكروه، وإليه الإشاة بقوله تعالى: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }[المؤمنون:33].
(قد أخذ الشيطان منك مأخذه ): أي سلك بك طرقه وساربك مواضعه، قال أبو عمرو: ويقال: استعمل فلان على الشام وما إخذه .
(وبلغ فيك أمله): أي ما كان يؤمِّلُه فيك ويصدِّق ظنّه عليك، ويحدسه بفراسة رأيه من المساعدة والانقياد لما أراده.
(وجرى فيك ): خالطك، وباشرك.
(مجرى الروح والدم): أراد إما مخالطة الروح والدم للجسم؛ فإنهما يجريان فيه جميعاً ويخالطانه معاً، وإما أن يكون غرضه مخالطة الروح مع الدم؛ فإن الروح مخالط للدم غاية المخالطة، حتى لقد قال بعض الناس لما بينهما من المناسبة: إن الروح هو الدم.
بلغ أمير المؤمنين أن معاوية يقول: إنهم الولاة لأمور الناس، وإنهم ساسوا الخلق، وجمعوا أمر قريش وغيرها وسادوهم، فلهذا قال أمير المؤمنين:
(ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية): أراد أعلمني متى كنتم على هذه الحالة، فإني لا أعرف ذلك، ولا يعرفه أحد غيري، والساسة: جمع سائس وهم: الذين يدبرون الأمر، ويحسنون إيالته .
(وولاة أمر الأمة): والمتولين بالقيام على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والحافظين لحوزة الإسلام، والحامين عن ذِماره .
(بغير قدم سابق): يريد رتبة عالية في الذين يستأهلون أخذ الولاية لأجلها.
(ولا شرف باسق): أي عالي، من قولهم: بسق فلان على قومه أي علاهم، وأراد ولا حصل لكم شرف عالي تستحقون به الولاية، وهي لا تستحق إلا بأحد هذين الأمرين وأنتم خالون عنهما.
(ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء): غلبتها واستحكامها، بدعوى ما ليس حقاً، ولا قام عليه برهان، ولا أوضحته دلالة.
(وأحذرك أن تكون متمادياً في غرة الأمنية): الغرة: الغرور والانخداع، وأراد التحذير عن الاستمرار في غرور الأماني الكاذبة، والتسويفات الباطلة.
(مختلف السر والعلانية ): أي وأحذِّرك عن اختلاف السر والعلانية فإن هذه هي علامات أهل النفاق، وفي الحديث: ((نهى رسول الله عن ذي الوجهين، وذي اللسانين))؛ لأن من هذه حاله فلا يوثق بكلامه ولا وقع له بحال.
(وقد دعوت إلى الحرب): أسرعت إليها وحشدت جموعك مواظبة عليها، وإذا أردت الإنصاف وركوب غارب التحقق والاعتراف:
(فدع الناس جانباً): أي في جانب ومعزل، وانتصابه على الظرفية أو على الحال من الناس أي منعزلين .
(واخرج إليَّ): من بين هذه الجموع التي أنت متوسط بينها بالمكر والخديعة.
(وأعفِ الفريقين): من جانبي وجانبك عن القتل وإهراق الأرواح، وإراقة الدماء وأسكنهم عن ذلك وصنهم:
(من القتال): الذي قد تأهَّبوا له، وشَمَّروا من أجله.
(لتعلم): تعليل للخروج، أي لتكون متحققاً بعد خروجك وشخوصك:
(أينا المرين على عقله ): المطبوع على قلبه، والرين: الطبع بالغفلة والقسوة، أو المغلوب على عقله من ران على قلبه أي غلب، وهو أن يرين الذنب على القلب فيكون مسوداً.
(والمغطَّى على بصره): بحجاب الغفلة وأكنة الفساد والقسوة، وأغشية العناد والشقوة.
(فأنا أبو حسن): أراد فأنا أب للولد الذي تعرفون، وقد يعظم الأب باعتبار حال الابن، ويعظم الابن باعتبار حال الأب، وأراد ها هنا عظم حال الأب والابن جميعاً، فيكون مقصود التعريف والإعظام من مجموع الأبوة والبنوة معاً، وأراد بهذا الإيقاظ والتنبيه لمعاوية عن سكرة ضلالته ، وغمرة جهالته في تعاطيه ما ليس أهلاً له، وارتقائه مكاناً ليس يناله، ثم أزيدك تعريفاً آخر إن كنت جاهلاً بحالي:
(قاتل جدك): عتبة بن ربيعة، وهو أب هند أم معاوية، وهي الآكلة لكبد حمزة تشفياً عمَّا لحقها من الغيظ بقتل من قتل من أقاربها .
(وخالك): الوليد بن عتبة.
(وأخيك): حنظلة بن أبي سفيان، فهؤلاء وغيرهم من أهل الشرك قتلهم أمير المؤمنين، وكان هو المستولي على قتلهم باتفاق أهل التأريخ وأهل السير، وما شاركه فيهم مشارك إلا على الندرة والقلة .
(شدخاً): الشدخ: كسر الشيء المجوَّف كالهامة وما شاكلها، وانتصاب شدخاً على المصدرية، وهو في موضع الحال أي قاتل هؤلاء شادخاً لهاماتهم، وكاسراً لها.
(يوم بدر): في اليوم العظيم الذي أعزَّنا الله فيه وأذلَّكم، ورفعنا ووضعكم، وشيَّد أمورنا وصغَّركم، وحمى به الحوزة، ودوَّخ من أجله الصناديد منكم والأعزة، وقتل فيه الرؤوس والأكابر، وأورثنا فيه المجد ببلائنا وصبرنا، كابراً عن كابر.
(وذلك السيف): الذي شدخت به الهامات من أعزتك وأهل ولايتك ومحبتك.
(معي): مصاحباً لي لا يزال، ولا أفارقه أبداً.
(وبذلك القلب): الذي لقيتهم به يوم بدر، وكافحتهم بالنصال بحدته .
(ألقى عدوي): أنت وغيرك من أعداء الله وأعداء دينه والخارجين عن أمره، والنابذين لطاعته وأمره.
(ما استبدلت ديناً): يخالف التوحيد وما جاء به الرسول إليَّ وأقرَّه في سمعي، ووعته أذناي وقلبي.
(ولا استحدثت نبياً): خلاف من جاء بالرسالة، وعرفت صدقه بالمعجزات الظاهرة عليه.
(وإني لعلى المنهاج): الطريق.
(الذي تركتموه طائعين): يشير بذلك إلى من قتل كافراً من بني عبد شمس مثل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهما من رهطهما، فإنهم ولَّوا الإسلام ظهورهم، واختاروا الكفر لأنفسهم، فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدينا بالقتل، ولعذاب الآخرة أخزى.
(ودخلتم فيه مكرهين): يشير [بذلك] إلى من بقي منهم من القتل كأبي سفيان، فإنما دخل مكرهاً يوم الفتح حيث جاء به العباس رديفاً على بغلة رسول الله قد أَمَّنه والمهاجرون والأنصار يتبادرون إلى قتله، لولا إجارة العباس له، فأسلم لذلك، وشهد شهادة الحق على جهة الإلجاء والضرورة عن حزِّ الرأس واصطلام المال، فلما رأى ما دخل به رسول الله من العساكر يوم الفتح، التفت إلى العباس وقال: لقد أعطي ابن أخيك ملكاً عظيماً، فقال له: ويحك! إنها النبوة .
(وزعمت أنك جئت ثائراً بعثمان): الزعم: القول الذي ليس على حقيقة من حاله، فإنه كان كثيراً ما يقول معاوية: ما أريد إلا طلب الثأر بدم عثمان.
(ولقد علمت حيث وقع دم عثمان): يريد من غريمه، وأين صار، ومع من هو، فطلبك لي بدم عثمان مع معرفتك بحاله مكر وخديعة وإظهار لشيء، وباطنك مشتمل على خلافه نفاقاً وتمرداً، والثائر هو: الذي يطلب بالدم.
(فاطلبه من هناك): هنا إشارة إلى الأمكنة، وغرضه من الأمكنة التي يعرفها، ووقوعه فيها.
(إن كنت طالباً): أراد إن كنت طالباً على الحقيقة فاطلبه في موضعه، فإن كنت غير مطالب فلاتخدع نفسك بالأكاذيب في الطلب والطمع في غير مطمع من ذاك.
(فكأني قد رأيتك): فعن قريب وقد أبصرتك.
(تضج من الحرب): الضجيج: رفع الصوت خوفاً وجزعاً.
(إذا عضَّتك): كنى بالعضِّ عن القتل الكثير واجتياح الأموال.
(ضجيج الجمال بالأثقال): مثل صياح الجمال عند حملها ما يثقلها؛ لأنه إذا كان الأمر كما قلناه ظهرت لها أصوات عظيمة من ثقل ما حمِّلت، وانتصاب ضجيج على المصدرية.
(وكأني بجماعتكم): المجتمعين من أوباش أهل الشام وأجلافهم الذين خدعتهم فانقادوا بزمامك، وزيَّنت لهم الأكاذيب فأحاطوا بك من خلفك وقدامك.
(يدعونني جزعاً من الضرب المتتابع): يشير إلى ما كان من الخديعة من رفع المصاحف لما رأوا الموت عياناً، وبلغت الأرواح منهم التراقي ، فلأجل هذا صاحوا خوفاً مما حل بهم من الضرب، المتتابع فيه روايتان:
أحدهما: متتابع أي متدارك بعضه في إثر البعض تابعاً له.
وثانيهما: بالياء بنقطتين من أسفلها، والتتايع: التهافت، وسكران متتايع أي يرمي بنفسه، والريح تتايع بالنفس، قال أبو ذؤيب:
وَمُفْرِهةٍ عَنْسٍ قَدَرْتُ لِسَاقِها
فخرَّتْ كما ريح تَتَّايعُ بالقفلِ
(والقضاء الواقع): الحاصل من جهة الله تعالى على أيدي أوليائه من المؤمنين؛ قطعاً لدابر البغاة.
(ومصارع بعد مصارع): أي يصرعون جماعات بعد جماعات، وجيلاً بعد جيل، لا يرفع عنهم السيف، ولا تكفُّ عنهم الرماح.
(إلى كتاب الله ): يكون حاكماً بيننا وبينهم خديعة ومكراً من معاوية وعمرو في ذلك لما طاشت حلومهم من إزهاق الأرواح، وأرعدت فرائصهم من أفاعيل الصوارم والرماح، {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}[غافر:84-85].
(وهي كافرة): أراد إما كافرة بأنعم الله تعالى في البغي والظهور على إمام الحق، وهذا هو الذي عليه التعويل، فإنه ما عاملهم معاملة الكفار في حال أصلاً، وإنما هم بغاة، وقد صرَّح بذلك غير مرة وفي غير موطن، أو أراد من يعلم من حاله النفاق والكفر بالله لوجه غير البغي.
(جاحدة): للنعم غير وافية بشكرها.
(أو مبايعة): أعطوني أيمانهم وعقودهم على الطاعة لله تعالى ولي.
(حائدة): مائلة عن الحق والطريق الواضح، فأهل الشام على كثرتهم لا يخلون عن الحال التي ذكرها، وقررها هاهنا.
(11) ومن وصية له عليه السلام أوصى بها جيشاً له
(فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم عدو ): أراد أنكم إذا نزلتم ببعض أعدائكم، وأردتم حصارهم، أو نزل بكم بعض الأعداء يريد حصاركم فالرأي الحزم لكم، والأمر الذي يكون نافعاً لكم حسن التصرف في الحرب والمكيدة.
(فليكن معسكركم في قُبُل الأشراف): أراد أن العساكر تكون قدام الأماكن العالية، والأشراف: جمع شَرَف وهو المكان العالي.
(وأسفاح الأجبال ): سفح الجبل: أسفله، والأجبال: جمع جبل كفرس وأفراس.
(أو أثناء الأنهار): غضونها ومعاطفها، وأراد أن العساكر لا تكون مجتمعة في مكان واحد، وإنما تكون متفرقة في هذه المواضع على اختلافها أعلى وأسفل، ورفع وخفض.
ثم قرر ذلك وأبان وجه المصلحة فيه، بقوله:
(كيما يكون لكم ردءاً): أي عوناً تستظهرون بهم.
(ودونكم مَرَدًّا): أي ويردون عليكم من جاءكم يريد القتال، وهؤلاء كلهم عن معظم العسكر وأكثره .
(ولتكن مقاتلتكم): أي قتالكم.
(من وجه أو اثنين): لأن الجموع والعساكر إذا كثرت، وغلبت الحد في الكثرة، كان قتالهم على هذا الوجه أنفع وأوقع من حاله إذا كان من جهة واحدة.
(واجعلوا لكم رقباء): حفاظاً يحفظونكم عن أن تُؤْتَوا على غِرّة أو تخدعون بخديعة لا تشعرون بها.
(في صياصي الجبال): أعاليها.
(ومناكب الهضاب): الهضبة هي: الأكمة المرتفعة، ومناكبها: أعلاها.
ثم ذكر وجه المصلحة في ذلك، بقوله:
(لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن): لأنكم إذا فعلتم ما ذكرته لكم فلا سبيل للعدو إليكم، لا من مكان تخافون منه هجومه عليكم، ولا من مكان تأمنون فيه على أنفسكم لتحصنكم عنه؛ لأن من فعل هذه الأفعال فقد أحرز نفسه عن مكر العدو في المواضع الآمنة والخائفة.
(واعلموا أن مقدِّم القوم عيونهم): أراد أن مقدمة العساكر بمنزلة العيون لها تنظرون ما قدامهم، وهم بمنزلة الأعين لمن يتلوهم من سائر العساكر.
(وعيون المقدمة طلائعهم): أراد والطلائع أيضاً وهم : الفرسان القليلة الذين يطالعون الجيوش نحوهم هم أيضاً، بمنزلة الأعين للمقدمة ، وهم العالمون بِكُنْهِ حقائق الجيوش وتفاصيلها ليعلموا ذلك من ورائهم.
(وإياكم والتفرق): عند النزول؛ لأن التفرّق يورث الذلة ويكثر الفشل والدهشة عند إلمام ملمة أو حدوث حادثة .
(فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً): أي مجتمعين.
(وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً): مجتمعين .
سؤال؛ قال هنا: (إذا نزلتم فانزلوا جميعاً، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً) وقد قال فيما تقدم: (إذا نزلتم بعدو أو نزل بكم عدو فليكن معسكركم في قُبُل الأشراف، وأسفاح الجبال وأثناء الأنهار) فيكف يمكن أن يجمع بين الكلامين؟
وجوابه؛ هو أن في كلامه ما يزيل المناقضة، وذلك أنه إنما أمر بالتفرق في أشراف الجهات والجبال والأنهار إذا نزلوا بعدو أو نزل بهم عدو لا غير، فالتفرق هناك مصلحة، فأما ما عدا ذلك فالاجتماع هو المصلحة لما أشار إليه من تلك الحكم والمصالح في ذلك.
(وإذا غشيكم الليل): بظلمته شبه دخول الليل واشتماله على كل شيء بالشيء يكون غاشياً لغيره مشتملاً عليه، كما قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى }[الليل:1].
(فاجعلوا الرماح كِفةً): الكفِة من كل شيء: ما كان مستديراً، وانتصابها على الحال من الرماح.
(ولا تذوقوا النوم إلا غِراراً أو مضمضة): الغِرَارُ: قلة النوم، ويقال: ما مضمضت عيني بنوم أي ما نمت؛ لأن ذلك يكون أعظم للحزم، وأبعد عن الغفلة، وأكثر ما يكون الأخذ والاستئصال في مواطن الغفلة.
(12) ومن وصية له [عليه السلام] لمعقل بن قيس الرياحي حين أنفذه مقدمة إلى الشام في ثلاثة آلاف
(اتق الله الذي لا بد لك من لقائه): بدَّ الشيء يبدُّه إذا فرَّقه، والتبديد: التفريق، وأراد ها هنا أنه لا تفرّق يبطل التلاقي ويحول دونه بحال حتى يلاقيه، ويجوز أن يكون المراد بقوله: لا بد أي حقاً أنه لا بد من لقائه.
(ولا منتهى لك دونه): أي ولا تنتهي إلى غاية إلا إليه، فإن إليه مصائر الأمور كلها، كما قال تعالى: {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ }[الشورى:53].
(ولا تقاتلنَّ إلا من قاتلك): أراد أن دماء الناس محرَّمة لا اعتراض إليها، والإسلام مسترسل على الخلق، ودار الإسلام عامة فلا سبيل إلى إهراق الدماء إلا من بغى واعترضك بالقتال.
(وسر الْبَرْدَيْنِ): يعني أول اليوم وآخره؛ لأن فيهما ترويحاً على النفوس وتنفيساً عليها من قائم الظهيرة، أو ظلمة الليل.
(وغوِّر بالناس): أراد بالتغوير القيلولة، من قولهم: غار النهار إذا اشتدَّ حرُّه.
(ورفِّه في السير): أراد سِرْ سيراً ليناً سلساً لا عناء فيه ولا إملال.
(ولا تسر أول الليل): يريد عند دخول الليل، وغشيانه، ثم علل ذلك بقوله:
(فإن الله جعله سكناً): يسكن فيه كل من غشيه وأجنه، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ }[الأنعام:13].
(وقَدَّره مُقَاماً): يقيم فيه المقيم.
(لا ظَعْناً) أي أنه لم يجعل ظعناً، والظعون هو: التحرّك والانتقال من مكان إلى مكان، ((وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السير في أول الليل، وأومئ أن ذلك وقت تنشر فيه الشياطين ))، ويقال: أفحموا من الليل أي لا تسيروا في أول فَحْمَته .
(فأرح فيه بدنك ): عن النصب والتعب.
(وروِّح ظهرك): أعفها يريد الخيل والإبل عن الرواح، وهو اسم للوقت ما بين زوال الشمس إلى الليل.
سؤال؛ هل من تفرقة بين بنائي الفعلين حيث جعل في البدن أراح، وفي الخيل والإبل روح، مع أن المقصود بهما جميعاً هو الاستراحة؟
وجوابه؛ هو أن المعنى فيهما واحد، وهو الأمر بالاستراحة، لكن اختلافهما من جهة تصريف الفعل، فأراح من قولهم: أراح الرجل إذا رجعت إليه نفسه من الإعياء والتعب، وروح من قولهم: روح إبله ترويحاً إذا تركها عن السير في الرواح.
(فإذا وقفت حين ينبطح السحر): السحير، والسحر: اسم للوقت قبل طلوع الفجر، يقال: بطحه أي ألقاه على وجهه فانبطح ، وأراد أنك إذا عرفت انبساط السحر وامتداده؛ لأن المنبطح ينبسط على الأرض.
(أو حين ينفجر الفجر): يطلع الفجر يريد أحد هذين الوقتين، وقوله: ينفجر الفجر من باب الاشتقاق، كقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ }[الروم:43] ولا يخفى عليك موقعه في البلاغة.
(فسر على بركة الله): يُمْنه وتيسيره إلى حيث تريد.
(فإذا لقيت العدو): الذي تريد طلبه.
(فقف من أصحابك وسطاً): أي في وسطهم وهم عن يمينك وشمالك مكتنفون لك.
(ولا تَدْنُ من القوم): تقرب منهم.
(دنو من يريد أن ينشب الحرب): بين الناس، يقال: نشبت الحرب بينهم إذا غشي بعضهم بعضاً، أراد أن ذلك ليس مصلحة لأجل القلة فيخاف الكثرة عليكم.
(ولا تباعد عنهم): تتأخر عمن تريد قتاله.
(تَبَاعُدَ من يهاب البأس): لأن ذلك يورث الذل والفشل ويفت في أعضاد الناس، وقف على ما أمرتك وأدبتك من هذه الآداب، وأريتك من هذه المصالح في الحرب، ولا تحدث شيئاً:
(حتى يأتيك أمري): بما تفعل من ذاك ؛ لأن هذا هو نهاية المقدمة وغايتها، وبعد وصول الإمام والعساكر يقضي الله على لسانه ويده ما قضى.
(ولا يحملنَّكم سبابهم على قتالهم): نهاهم أن يكون سبب الجرأة عليهم ما يسمعونه من الأذى.
(قبل دعائهم): إلى الله تعالى وإلى دينه، وترك البغي وإهماله.
(والإعذار إليهم): أعذر إليه إذا بالغ في المعذرة إليه.
ولله درُّ أمير المؤمنين فإنك إذا تصفحت كلامه، وأوامره ونواهيه فيما يتعلق بأهل البغي وجدته كلام من يريد نجاة الخلق وتقريبهم إلى الله تعالى، وبلوغ الغاية في المناصحة وبذل الحق بجهده.
(13) ومن كتاب له إلى أميرين من أمراء جيشه
(وقد أمَّرت عليكما): أي جعلت عليكما أميراً يكون أمركما موكولاً إليه، ورأيكما مفوضاً إلى رأيه، لا أمر لكما معه.
(وعلى من في حيزكما): خطتكما وناحيتكما.
(مالك بن الحارث الأشتر): الشتر: انقلاب في جفن العين، ورجل أشتر إذا كان بهذه الصفة، والأشتران: مالك، وابنه، وكان أميراً من أمرائه، وهو عنده بمكان عظيم، ومنزلة رفيعة وسيأتي ذكره.
(فاسمعا له وأطيعا): فيما أمركما به ونهاكما عنه من غير مخالفة.
(واجعلاه درعاً): تتحصنان به عن كل مكروه.
(وَمَجِنَّاً): المجن: الترس، أي واجعلاه سترة بينكما وبين الأمور العظائم.
(فإنه ممن لا يخاف وَهْنُه): ضعفه عمَّا إليه القيام به وعمَّا له تولّيه، والوَهْنُ: الضعف، قال تعالى: {إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي }[مريم:4].
(ولا سقطته): عثاره وزلله في أمره وحاله.
(ولا بُطْؤُه عمَّا الإسراع إليه أحزم): أي ولا يخشى منه التواني والتثاقل عما يكون الإسراع فيه أخذاً بالحزم وأبعد عن التساهل.
(ولا إسراعه عمَّا البُطء عنه أمثل): أي ولا يخشى إسراعه في أمر من الأمور يكون التثاقل فيه والتأني أحسن وأجود، يشير بما ذكره إلى عظم الخبرة، وكثرة الحنكة، وثبات الرأي والحزم.
(14) ومن وصية له عليه السلام لعسكره بصفين
(لا تقاتلوهم حتى يبدءوكم): بالقتال ليتحقق فيهم أمر البغي، فإن ذلك يكون سبباً للاستظهار لكم والنصر من عند الله.
(فإنكم بحمد الله على حجة): بينة ظاهرة في قتالهم بما أتوه من المنكر، وركوب غارب البغي في مخالفة أمري، ومنعي عما أريده من القيام بأمر الدين وأهله.
(وترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى): ثم حربهم لكم، وقتالهم إياكم عمداً حجة أخرى تُسْتَحَلُّ بها دماؤُهم لو لم تتقدم الحجة الأولى، فإذا اعتضدا كان ذلك أقوى في الأمر وأعظم عند الله حجة:
(لكم عليهم): بين يدي الله، فإذا سألكم الله تعالى عن قتالهم كان إدلاؤكم بهذين الأمرين أقوى عند الله، وأدخل في العذر، فأجهدوا نفوسكم في قتالهم لله تعالى، وإعزازاً لدينه.
(فإذا كانت الهزيمة): وقعت وحصلت.
(بإذن الله): عن علم من الله ومصلحة في ذلك، فإن لهم أحكاماً تخالف أحكام أهل الحرب، فلا تغفلوا عن علمها وتحفظها، فإن الله بلطفه قد جعل لكل جريمة عقوبة.
(فلا تقتلوا مدبراً): يريد من ولى مدبراً عند الهزيمة، فلا يتبع بالقتل؛ لأن توليته مدبراً فيه كفاية عن بغيه؛ ولأن توليه عن مقامه ذلك تركٌ للبغى ورجوع عنه، فلا يقتل من غير سبب يوجب قتله لما ذكرناه.
(ولا تصيبوا معوراً): المعور بالعين المهملة والراء، وله معنيان:
أحدهما: أن يريد بالمعور الربيئة للقوم، يعني ولا تقتلوا إلا من تعلمون أنه من جملة العدو، فأما الربيئة فلا قتال من جهتهم يوجد فيكفُّ عنهم.
وثانيهما: أن يكون مراده بالمعور الرَّكيّة أي لا تفسدوها بالإصابة فيزول ماؤها وينضب عنها .
(ولا تجهزوا على جريح): أجهز على الجريح إذا أسرع في قتله، ولا يقال فيه: أجاز، وغرضه أنه بعد جرحه لا يسارع في قتله؛ فإن في جرحه كفاية عن بغيه، وزوال عنه، وفعيل بمعنى مفعول، يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا ذكر معه موصوفه، فيقال: هذا رجل جريح، وهذه امرأة جريح، فأما إذا طرح الموصوف جرى على قياسه، فيقال فيه: هذا جريح وهذه جريحة بني فلان.
(ولا تهيجوا النساء بأذىً): هاج الرجل إذا ثار غضبه، وأراد أنكم لا تحركوا غضبهن بذكر أذاهن.
(وإن شتمن أعراضكم): بالذم وذكر القبيح.
(وسببن أمراءكم): بإظهارالكلام السوء، ثم علل ذلك بقوله:
(فإنهن ضعيفات القوى): لا صبر لهن على الحرب؛ ولهذا رفع الله عنهن حكم الجهاد من أجل الضعف.
(والأنفس): ونفوسهن أيضاً ضعيفة عن احتمال المكاره، والضيم.
(والعقول): وعن هذا كانت شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد.
(وإن كنا لنؤمر بالكف عنهن): يعني القتل والضرب وهن بين أظهركم في المعركة.
(وإنهن لمشركات): فبين العلة التي لها أبيحت دماء الرجال فلا يقتلن ، وفي الحديث: ((نهيت عن قتل النساء )) .
ويحكى أن هند بن عتبة خرجت يوم أحد وغيرها من النسوان يسقين الرجال، ويضربن بالدفوف، قالت هند:
إن تقبلوا نوافق ... ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
ومع ذلك فإن أحداً ما اعترض لها أصلاً، مع ما في كلامها من التهييج للرجال، وحملهم على اقتحام موارد الموت.
(وإن كان الرجل): في الجاهلية في حروبها ووقائعها.
(ليتناول المرأة بالِفهْرِ): الحجر الطويل.
(والهراوة): العصا فضلاً عما وراء ذلك من الأسلحة.
(فيعيَّر بها): الضمير للفعلة هذه.
(وعقبه بعده ): ومن يأتي من أولاده ويكون سبة لهم، والعار: السبة والعيب، وفي أخبار أحد: وكان الرجل منَّا يدنو من هند، فإذا حمل عليها السيف والهراوة صاحت وولولت، فيكف عنها ذلك .
(15) وكان عليه السلام يقول إذا لقي العدو محارباً
(اللَّهُمَّ، إليك أفضت القلوب): أفضى إليه بسره إذا أباحه، وأراد أفضت القلوب بسرائرها وضمائرها التي لا تخفى عليك.
(ومُدَّت الأعناق): خضعت وذلت لعظمتك وجلالك.
(وشخصت الأبصار): شخص البصر إذا انفتح جفن العين وجعل لا يَطْرِفُ ، ومنه شخوص بصر الميت فإنه لا يطرف أبداً حتى يفارق الحياة.
(ونقلت الأقدام): طالبة لرضوانك، واتباع أمرك وموافقة مرادك.
(وأنضيت الأبدان): الإنضاء هو: الإتعاب؛ رجاءً لما وعدته من كريم ثوابك، ورفيع مآبك.
(اللَّهُمَّ، قد صرّح مكنون الشنآن): أي ظهر مستور العداوة والبغض.
وفي رواية أخرى: (مكتوم) وهما متقاربان في معناهما.
(وجاشت مراجل الأضغان): جاش القدر إذا غلا، والأضغان هي: الأحقاد، والْمِرْجَل: واحد المراجل، وهي: القدور، وهذه كلها استعارة لما هم عليه من إظهارالعداوة والأحقاد والضغائن الشنيئة لسبب الدين، وأراد بذلك فلا يخفى عليك حالهم وما يريدون من البغي، وإظهار خلاف أمرك، وهدم منار دينك، وتعطيل أحكامك.
(اللَّهُمَّ، إنا نشكو إليك غيبة نبينا): فقده عن الدنيا وزواله عنها.
(وكثرة عدونا): تألبهم علينا من كل جانب يريدون اجتياحنا، وقطع دابرنا.
(وتشتت أهوائنا): افتراقها، كل واحد منها في جانب، لا تجتمع على أمرك ولا تكون متفقة على نصرة دينك.
سؤال؛ هب أن قوله: (كثرة عدونا، وتشتت أهوائنا) له اتصال بما نحن فيه وتعلق، فما وجه اتصال قوله: (وغيبة نبينا) بما نحن فيه من قتال البغاة، وفقده عليه السلام عن الدين ثلمة لا تنسد؟
وجوابه من وجهين؛
أما أولاً: فلأن بحضوره لا ينبض من هذه العروق عرق ، ولا ينهض من رءوس هؤلاء الشياطين ناهض إجلالاً لهيبته، وامتثالاً لأمره ومقالته.
وأما ثانياً: فلما في حضوره من النصرو التأييد والظفر، كما كان في غير هذه المواطن؛ لما يعرفون من نصر الله له وتأييده له بالملائكة من عنده، وعلى الجملة فإن غيبته عن الدنيا وعن هذا العالم مصيبة لا تجبر، وحزن لا ينفك أبد الدهر.
ثم تلا هذه الآية عقيب كلامه: ({رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ })[الأعراف:89]: ولهذه الآية من الفخامة وحسن الموقع ها هنا، وجيد الملائمة لما نحن فيه ما يحلو في الألسنة مذاقه، ويروق في أعين النظار ترتيبه وسياقه.
(16) وكان عليه السلام يقول لأصحابه عند الحرب
(لا تشتدَّن عليكم فرَّةٌ بعدها كرَّةٍ): الفرُّ: الهرب، والكرُّ هو: الرجوع، وأراد أنه لا يكبرنّ في نفوسكم ذلك؛ فإن هذه تكفر هذه وتمحوها، فلا وقع لها معها.
(ولا جولة بعدها حملة): الجولة: واحدة الجولات، وتجاول الفرسان: رجوع بعضهم على بعض، والحملة هي: الكرة أيضاً، أي ولا تضركم جولاتهم لكم، وتأخرهم لكم عن مقاماتكم في الحرب إذا حملتم عليهم حملة فأزحتموهم عن مواضعهم.
(وأعطوا السيوف حقوقها): الضرب بها حتى تنحني، وفي الحديث أن الرسول عليه السلام أخذ سيفاً فقال: ((من يأخذ هذا السيف مني بحقه يوم أحد)) فجاءه رجال من الصحابة فأبى أن يعطيهم إياه، فجاء أبو دجانة فقال: يارسول الله، وما حقه؟
فقال : ((أن تضرب به حتى ينحني)) فأعطاه إياه.
[وقال: نعم] : وكان من شجعان الصحابة، وأهل البأس منهم.
(ووطنِّوا للجنوب مصارعها): فيه روايتان:
أحدهما: بالنون، والموطن: المشهد من مشاهد الحرب، قال الله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ }[التوبة:25] وأراد ها هنا اجعلوها للجنوب مواطن تصرع فيها.
وثانيهما: [بالياء] من التوطية أي مهدوا للجنوب أمكنة تصرع فيها، والغرض في هذا كله العزم وتصميم النفس على لقاء الله، ومفارقة الدنيا.
(واذمروا نفوسكم ): حثوها وازجروها.
(على الطعن الدَّعْسِيِّ): طريق دعس إذا كان بيِّن الآثار ظاهرها، وأراد على الطعن الذي تظهر آثاره وكلومه.
(والضرب الطِّلَحْفِيّ): ضرب طلحف إذا كان شديداً بالغاً.
وقوله : الدعسيّ فيه مبالغة من وجهين:
أما أولاً: فلأنه وصف بالمصدركما قالوا: رمي سَعْر، وضرب هبر .
وأما ثانياً: فإلحاق ياء النُّسْبَة به، كما قالوا: جزئي وجزء وكلي وكل، وكله دلالة على المبالغة وعلامة عليها.
(وأميتوا الأصوات): أراد لا تكثروها.
(فإنه): يعني موتها.
(أطرد للفشل): أذهب به فلا يبقى إلا الثبوت والاتئاد.
(والذي فلق الحبة): بنصفين.
(وبرأ النسمة): خلقها وأوجدها.
(ما أسلموا): عن طمأنينة وانشراح صدر بالدين وأحكامه، يشير بهذا إلى معاوية وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، وغيرهم من أخدان الغي، وأعوان الظلم والبغي.
(ولكن استسلموا): انقادوا خوفاً من السيف.
(وأسروا الكفر): أبطنوه في أنفسهم، وكتموه في أفئدتهم.
(فلما وجدوا أعواناً عليه أظهروه): من أوباش أهل الشام وأجلافهم ومن لا معرفة له ، ولا ميز بين الحق والباطل.
والظاهر من كلامه هذا أنه تفطَّن بحال هؤلاء وتفرَّس في أمورهم، فلهذا أثبت لهم مزية على الفسق، وصار هذا هو الحكم بالكفر على هؤلاء، والمعلوم من حاله أنه لم يعاملهم بالأحكام الكفرية من السبي وغيره فلا بد من تأويل كلامه على مطابقة فعله فيهم وعلى ما قام الدليل الشرعي عليه وهو الفسق لا غير، فيمكن أن يكون في مراده من ذلك وجهان:
أحدهما: أشخاص معدودين قد علم كفرهم بإعلام الرسول له ذلك، وهذا لامانع منه.
وثانيهما: أن يكون غرضه أنه أخبر عن كفرهم عند الله تعالى دون ظاهر الشرع، فمن أجل هذا أخبر عنهم به.
(17) ومن كتاب له عليه السلام جواباً لمعاوية
(وأما طلبك إليَّ الشام): أي ولاية الشام؛ لأن معاوية كان طلب من أمير المؤمنين أن يوليه الشام، ويجعله أميراً عليه في جباية الأموال، وتأدية الخراجات كلها.
(فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك بالأمس): أراد أنك قد سألتني ذلك من قبل فمنعتك، وما كنت لأعطيك اليوم ما منعتك من قبل، والحال مستوية، فما تغير في حالك من المكر والخديعة ولا تغير حالي في وثاقة الدين والتصلب فيه.
(وأما قولك: إن الحرب قد أكلت العرب): أفنتهم با لقتل، وسحت الأموال.
(إلا حُشَاشَات أنفس قد بقيت): الحشاشة والحشاش: بقية الروح في الجسد، وأراد إلا أنفساً أُخِّرَتْ آجالها فبقيت.
(ألا ومن أكله الحق فإلى الجنة): أراد أن من قُتِلَ مجاهداً في سبيل الله صابراً محتسباً فمصيره إلى الجنة.
(ومن أكله الباطل فإلى النار): أي ومن كان مقاتلاً على البغي والمخالفة لإمام الحق فمصيره إلى النار، وهذا كله تعريض بحال معاوية، وإصراره على البغي والفساد والتمرد، ويومئ بذلك إلى هلاكه وهلاك من قتل معه.
(وأما استواؤنا في الحرب والرجال): لأن معاوية قال: قد توافت بنا الحرب، والعساكر منَّا ومنكم متساوية، وغرضه بهذا أن أمير المؤمنين غير نايل غرضاً منه، ولا مدركٌ ثأراً.
(فلست بأمضى على الشك مني على اليقين): يريد أنا ولو استوينا كما زعمت، فأنا فيما أنا فيه على بصيرة، وأنت فيما أنت فيه على شك، وصاحب اليقين أشرح صدراً وأوثق قلباً من صاحب الشك؛ فإنه متردد قلق الأحشاء مضطرب الفؤاد، فإذا مضيت على ما أنت فيه من الغي وجريت عليه، فأنا أمضى منك على الحق، ونفوذ البصيرة.
(وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا): يريد معاوية ومن كان معه ما هو بأكثر حرصاً على الدنيا والتوطن فيها، والإخلاد إليها.
(من أهل العراق على الآخرة): يريد نفسه وأصحابه، وإذا كان الأمر هكذا فانظر أينا أشد صبراً على الحرب، وأكثر رجاءً لثواب الله، وأعظم حالةً عنده.
(وأما قولك: إنَّا بنو عبد مناف!): أراد معاوية أن عبد مناف يجمعنا؛ لأن له أولاداً أربعة: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل، فهؤلاء أولاد عبد مناف، ومعاوية من بني عبد شمس.
فقال أمير المؤمنين:
(فكذلك نحن): يريد إنَّا لا ننكر أن عبد مناف يجمعنا كما ذكرت، ولكن أين الغرب عن النبع! وأين الحصى عن المرجان!، وأين السنام عن المنسم! ، وشتان ما بين الآباء!، فهب أن عبد مناف قد جمعنا كما زعمت:
(ولكن ليس أمية كهاشم): في فخره ولا فضله ولا في كرمه وجلالة قدره.
(ولا حرب كعبد المطلب): أراد ولا جدك مثل جدي في الرئاسة، واجتماع أمر مكة إليه وسيادته للناس.
(ولا أبو سفيان كأبي طالب): أراد ولا أبوك مثل أبي؛ فإن أبا طالب شرفه لا يخفى، وأمره لا ينكر.
(ولا المهاجر كالطليق): أراد أنه ليس من هاجر إلى الله تعالى تطوعاً واختياراً من جهة نفسه، كمن يُمَنُّ عليه ثم يُطْلَقُ بعد ذلك، وكان معاوية وأبوه من الطلقاء، وقد تقدم حديث الطلقاء وسبب ذلك فيهم، فلا وجه لتكريره.
(ولا الصريح كاللصيق): أراد ولا من هو خالص النسب كمن هو دَعِيّ مؤتشب، يلصق نفسه بنسب قوم وليس منهم، ولعله يشير بذلك إلى حديث كان لأبي سفيان في حق زياد، وعلى هذا يكون فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد ما كان من أبي سفيان من ادِّعاء زياد ابناً له.
وثانيهما: أن يريد ما كان من معاوية من ادّعاء زياد أخاً له، فقوله: ولا الصريح كاللصيق، محتمل لما ذكرناه من هذين الوجهين، وسنذكر ما يدل على احتمال الوجهين في كلام لأمير المؤمنين كرم الله وجهه بعد هذا، كلَّم به معاوية وزياد بن أبيه، وليس هذا موضع ذكره.
(ولا المحق كالمبطل): أراد ولا من كان مستقيماً على الحق داعياً إليه؛ مثل من هو مكبٌّ على الباطل لا ينفك منه، يشير إلى نفسه ومعاوية.
(ولا المؤمن كالمُدْغِل): ولا من هو مصدِّق بالله تعالى كمن هو مُدْغِلُ في الدين، مُدْخِلٌ فيه ما يفسده ويبطله.
(ولبئس الخلف خلف يتبع سلفاً ): السلف: المتقدم، والخلف: الذين يتلونهم، وأراد بذلك بني أمية فإنه ما منهم إلا كافر مشرك عابد وثن، أو فاسق خارج عن الدين مارق.
(وفي أيدينا بعد): ما ذكرته، وأشرت إليه من الرئاسة والفخر بمن ذكرت من الآباء.
(فضل النبوة): التي تفضَّل الله بها على الخلق، وجعلها مصلحة لهم، أو يريد شرف النبوة التي جعلها الله شرفاً لنا على الخلق، وأعطانا بها فخراً وعلواً لم يسبق إليه أحد.
(التي أذللنا بها العزيز): أنزلنا بها مراتب الأعزة ممن خالفها، كما كان من الأعزة من قريش آبائك وغيرهم من أفناء الناس.
(ونعشنا بها الذليل): رفعنا منزلة من وافقها، وامتثل أمرها، وإن كان ذليلاً في نفسه لا شرف له، مثل ما كان من الضعفاء نحو صهيب وبلال وسلمان، وغيرهم من فقراء الصحابة ومساكينها، فإن الله تعالى أركس أبا لهب وغيره كالوليد والنضر بن الحرث لما ضادوها وخالفوها بالمكابرة، مع شرفهم وعلو مراتبهم عند قومهم، وأعزَّ بها هؤلاء مع ضعف حالهم ومسكنتهم.
(ولما أدخل الله العرب في دينه أفواجاً): أي فريقاً بعد فريق.
(وأسلمت له): الضمير إما لله تعالى، وإما للرسول.
(هذه الأمة طوعاً وكرهاً): بالاختيار من جهة أنفسهم، وهداية الله لهم إلى ذلك، أو بالكراهة خوفاً من السيف، كما كان من أقوام كثيرين.
(كنتم): يريد بني أمية.
(ممن دخل في الدين إما رغبة): بالاختيار من جهة أنفسكم طمعاً في التألف.
(وإما رهبة): حذراً من السيف كما كان من أبي سفيان يوم الفتح.
(على حين فاز أهل السبق بسبقهم): يريد بعدما تقدم إسلام [من أسلم من] المهاجرين والأنصار، وحازوا الفضل بأسره، وأحرزوا الخير بحذافيره.
(وذهب المهاجرون والأنصار بفضلهم ): بتقدمهم في الإسلام، كما قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[الحديد:10].
وأقول: إن معاوية كان غنياً عن هذا الافتخار على أمير المؤمنين، وما كان له غنى عن تعريف حاله وإعلامه بفخره من أين كان، وعلى أي وجه هو!
ويحكى أن معاوية يوماً افتخر والحسن بن علي عنده بقوله: أنا ابن بطحاء مكة، أنا ابن أغزرها جوداً، وأكرمها جدوداً، أنا ابن من ساد قريشاً فضلاً ناشئاً وكهلاً.
فقال الحسن: أعليَّ تفتخر يا معاوية، أنا ابن عروق الثرى، أنا ابن مأوى التقى ، أنا ابن من جاء بالهدى، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالفضل السابق، والجود الرائق، والحسب الفائق، أنا ابن من طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، هل لك أب كأبي تباهيني به، وقدم كقدمي تساميني به، قل: نعم أو لا!، قال معاوية: بل أقول: لا، وهي تصديق لك، فأقرَّ له معاوية، ثم تَمَثَّل الحسن بن علي عليهما السلام:
الحق أبلج ما تخيل سبيله ... والحق يعرفه ذوو الألباب
(فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا): بانقيادك له واتباعك لطريقه.
(ولا على نفسك سبيلاً): السبيل: الطريق، قال الله تعالى: {يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً }[الفرقان:27] وهو مما يذكر ويؤنث، وأراد لا تجعل للشيطان عليك طريقاً، يسلكها في نفسك فيغويها ويضلها.
(18) ومن كتاب له عليه السلام إلى ابن عباس وهو عامله على البصرة
(اعلم أن البصرة مهبط إبليس): الْمَهْبِطُ بالكسر: موضع الهبوط، كما أن المنزل موضع النزول، والْمَهْبَطُ بالفتح هو: الهبوط، ومنه مهبَط جبريل وهو: نزوله، وغرضه أنها لكثرة نحوسها وشرورها كأنها منزل له، ومكان يستقر فيه.
(ومغرس الفتن): حيث تكون ناشئة عنها ومتفرعة منها.
(فجاذب أهلها بالإحسان إليهم): في جاذب روايتان:
أحدهما: بالجيم والباء بنقطة، ومعناه أجذبهم إليك بالمعروف وإسداء الإحسان، وعاملهم بالعطاء كيما تنجذب قلوبهم إليك.
وثانيهما: بالحاء المهملة، والثاء بثلاث، وأراد فاكههم بالأحاديث الحسنة بما يكون فيه تقرير لخواطرهم، وتسكين لأنفسهم.
(واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم): أسلس لهم القياد بالملاطفة ولين العريكة، وسهولة النفس.
(وقد بلغني تَنَمُّرك لبني تميم): تنمَّر إذا تغيَّر وتنكَّر له؛ لأن النمر لا تلقاه أبداً إلا وهو غضبان متنكراً، قال عمرو بن معدي كرب:
قوم إذا لبسوا الحديد
... تنمَّروا حَلَقاً وقدّا
أي تشبهوا بأخلاق النمر.
(وغلظتك عليهم): في أخلاقك ومعاملتك.
(وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع آخر ): فيه معنيان:
أحدهما: أن يريد أن رجلاً منهم لايموت ممن يكون مخلصاً في مودتنا، وداعياً إلى محبتنا، إلا ويبدلنا الله به غيره ممن يكون أدخل في ذلك وأصدق موالاة.
وثانيهما: أن يكون مراده أنه لا تمضي منهم مكرمة في حقنا إلا ويجددونها بأخرى، وإنما أظهر اسمهم في موضع الإضمارمبالغة في ذكرهم، وهم بطن من بطون نزار.
(وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام): الوغم: الحقد، والوغم بالغين المنقوطة: الغيظ، وأراد أنهم لم تكن لهم سابقة سوء قبل النبوة ولا بعدها.
(وإن لهم بنا رحماً ماسة): أي قرابة قريبة، وتلك القرابة من جهة الأجداد البعيدة، وذلك أن النضر بن كنانة هو قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، وكانت أم النضر هي أخت لتميم بن مر ، وتميم خاله، ولهذا قال جرير بن عطية أحد بني تميم يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان:
فما الأم التي ولدت قريشاً
بمقرفة النجار ولا عقيم
وما قَرْم بأنجب من أبيكم
ولا خال بأكرم من تميم
(وقرابة خاصة): مختصة بنا من الوجه الذي ذكرناه.
سؤال؛ كيف قال: رحماً ماسة، وقرابة خاصة، وأكَّد ذلك، وبينهم هذه الآباء الكثيرة، والقرون المتباعدة؟
وجوابه؛ هو أن الأخلاق الشريفة والشيم الكريمة قاضية بهذا، وهو رعاية حق الرحم، وإن كانت الوشيجة متباعدة، وعن هذا قيل: المعارف في أهل النُّهَى ذِمَمُ.
ويحكى عن صاحب الشريعة صلوات الله عليه أنه قال: ((إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها، فإن لهم ذمة ورحماً)) .
وفي حديث آخر: ((الله الله في أهل المدرة السوداء، السحم الجعاد، فإن لي فيهم نسباً وصهراً)) .
فأما النسب فإن أم إسماعيل كانت منهم، وأما الصهر فإن مارية أم إبراهيم التي أهداها له المقوقس، كانت منهم أيضاً، فانظر كيف لاحظ هذا النسب على بُعْدِه، وهذه الصهارة على تباينها وانقطاعها، مواظبةً على أخلاق النبوة، واستمراراً على شرف الرسالة.
(نحن مأجورون على صلتها): نرجو الأجر من جهة الله تعالى على وصلها بالمعروف والخير.
(ومأزورون على قطيعتها): الوزر: الإثم، وأراد أنَّا آثمون عند قطعها.
(فَارْبَعْ أبا العباس): أي ارفق بنفسك وحالك، وكف عمَّا أنت فاعل له.
(رحمك الله): ملاطفة له بالدعاء والكنية، وتمجيد له ورفع لمنزلته، وتحريك لعزيمته في المواظبة على الخصال الشريفة، والأفعال المحمودة، وتعريض بالقول اللطيف في ذلك.
(فيما جرى على يدك): من قطع الإحسان، ومنع المعروف منهم.
(ولسانك): من بذل الإنصاف واستعمال المداراة والإتحاف.
(من خير): أي من منع الخير منك.
(وشر): أي ومن إيصال شر.
(فإنَّا شريكان في ذلك): الضمير في قوله: فإنَّا يصلح للواحد العظيم، وللاثنين والجماعة، وأراد ها هنا فإني وإياك شريكان في ثواب ما فعلته من خير، أو في إثم ما فعلته من شر، فيقسم لك من الثواب بقدر ما فعلته، وأردت فيه وجه الله تعالى، ويقسم لي من الثواب مثله؛ لأنك تُصْدِرُ عن رأيي وتقوم مقامي، وهكذا الحال في الإثم والمعصية، فإن الإمام هو سلطان الله في أرضه، وظله الممدود فيها، والولاة والعمال أعوان له.
(وكن عند صالح ظني بك): أي لا أظن صلاحاً إلا وأنت فاعله.
(ولا يفيلن رأيي فيك): أي ولا يضعفنَّ ما حدسته فيك من أعمال الصلاح.
(19) ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله
(أما بعد، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك): الدهقان: واحد الدهاقين، وهو فارسي معرب فيحتمل أن تكون نونه أصلية أو زائدة، وأراد بذلك التجَّار من اليهود والنصارى ممن يكون معك، وفي بلد ولايتك.
(غلظة): فظاظة في الطبع.
(وقسوة): شكساً في الخلائق .
(واحتقاراً): لأحوالهم، واستصغاراً لمقاديرهم.
(وجفوة): إعراضاً عن إنصافهم وإيحاراً لصدورهم.
(ونظرت ): تفكرت في الأمر في صنعك معهم، ونفار طباعهم عنه.
(فلم أرهم أهلاً لأن يُدْنَوْا): يستأهلون الإدناء والتقريب، ولين العريكة والإنصاف.
(لشركهم): من أجل كونهم كفاراً بالنبوة مشركين مع الله غيره، حيث قال تعالى حاكياً عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ }[التوبة:30].
(ولا أن يُقْصَوْا ): يُبْعَدُوا.
(وَيُجْفَوْا): يُفْعَلُ بهم أفعال الجفاء.
(لعهدهم): أي من أجل ما صنع الرسول معهم من المصالحة على الجزية والذمة من جهته لهم.
(فالبس لهم جلباباً): الجلباب: نوع من أنواع الثياب، وهو استعارة ها هنا.
(من اللين): إسلاس الطبيعة وتهوينها.
(تشوبه بطرف من الخشونة ): تخلطه بطرف من الشدة لهم في حالك.
(وداول لهم بين القسوة والرأفة): أراد استعملهم مرة ببسط الخلق ولينه، ومرة بقبضه وانزوائه، ومنه المداولة، وهي: المناوبة، والأيام دول أي مرة لهؤلاء ومرة لأولئك.
(وامزج لهم بين التقريب والإدناء): أي اخلط لهم في الأفعال والمعالجة بين ما يكون منها تقريباً لهم، وبين ما يكون منها تبعيداً.
(والإبعاد والإقصاء): وبين ما يكون فيه إبعاد وإقصاء وبين ما لايكون كذلك؛ فإن الأمور إذا فعلت على هذه الحالة كانت أقرب إلى الاعتدال والتوسط بين خطتي التفريط والإفراط، وأميل إلى جانب الرفق، كما قال عليه السلام: ((عليك بالرفق يا عائشة، فإنه ما نزع من شيء إلا شانه، ولا وضع في شيء إلا زانه)) .
(20) ومن كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه
وهو خليفة عامله عبد الله بن العباس على البصرة، وعبد الله عامل أمير المؤمنين يومئذ عليها وعلى كُوَر الأهواز ، وفارس، وكِرْمَان :
(وإني لأقسم بالله قسماً صادقاً): انتصاب قسماً على المصدرية المؤكدة للفعل، كقولك: ضربت ضرباً.
(لئن بلغني أنك خنت في فيء المسلمين): وهو ما أفاءه الله عليهم من هذه الغنائم، أو أراد من هذه الأموال التي تحت يدك والخراجات، فإنها كلها فيء من عند الله تعالى.
(شيئاً صغيراً أو كبيراً): شيئاً مما يصغر أمره، أو يكبر خطره وحاله.
(لأشدنّ عليك شَدةً): أثب عليك وثبة، أو أراد أحمل عليك حملة، كما قال:
سائل فوارس يربوع بشدتنا
أي بحملتنا عليهم.
(تدعك قليل الوفر): تتركك قليل المال.
(ثقيل الظهر): بتحمل الأوزار والمآثم.
(ضئيل الأمر ): ضعيف الأمر في كل حالة من الحالات؛ حتى لا أمر منك إلا وهو في غاية الضعف والهوان.
سؤال؛ إذا كان عاملاً لعبد الله بن العباس وخليفة له في عمالاته، فأمره في الجباية والاستقامة إليه، والعهدة في ذلك على من استخلفه، فكيف كالمه أمير المؤمنين هذه المكالمة، وأوعده بهذه الوعيدات العظيمة؟
وجوابه؛ هو أن الأمر وإن كان كما ذكرت، لكن يد أمير المؤمنين قاهرة على كل الأيدي، وهي مستولية عليها فهو يراقبهم بالأعين الكالية، ويحرسهم بالألحاظ الساهرة، سواء كان عاملاً له أو عامل عامله، وما فعل ذلك مع زياد بن أبيه إلا لعلمه بتهوره في أخذ لأموال وتساهله في حقها، فلأجل هذا أخشن له القول ليعرف ما عنده من ذلك وليكن في تصرفه على وَجَلٍ وحذر، لئلا يقع فيما أوعده به من هذه الوعيدات.
(21) ومن كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه أيضاً
(فدع الإسراف مقتصداً): الإسراف: هو إنفاق الأموال في غير وجهها وعلى غير مستحقها، وهو نقيض التقتير، وهو: منعها عن أهلها، وحجرها عن مصرفها، وأراد فاترك إنفاق الأموال في غير وجهها، وكن مقتصداً في أمور ك كلها، أو في إنفاقها على وجهها.
(واذكر في اليوم غداً): أراد واذكر اليوم ما تستقبله من الشدائد والأهوال في الغد، أو يكون معناه واذكر في اليوم يوم القيامة، وما يكون فيه من المحاسبة على القليل والكثير.
(وأمسك من المال بقدر ضروراتك ): بقدر ما يضطرك الحال إلى إمساكه، من غير أن يكون هناك ادخار له وكنز.
(وقدِّم الفضل ليوم حاجتك): أراد وقدِّم ما يفضل منه بالصدقة، وإنفاقه في سبيل الله، وابتغاء ثوابه.
(أترجو أن يؤتيك الله أجر المتواضعين): بإعطاء الأموال وإنفاقها، وترك التلذذ بها مع وجدانها.
(وأنت عنده من المتكبرين!): المتفاخرين بجمع الأموال، والمتباهين بكثرتها وجمعها.
(وتطمع وأنت متمرغ في النعيم ): كنى بالتمرغ عن استعمال اللذات والترفه فيها، والتمرغ هو: التمعك في التراب.
(تمنعه الضعيف والأرملة): أراد أن ذلك التنعم ما كان سببه إلا من أجل منع الضعيف والأرملة حقهما مما قسم الله لهما من هذه الأموال، والأرملة التي لا زوج لها، والضعيف هو: الذي يضعف حاله عن التكسب، فتطمع وأنت على هذه الحالة.
(أن يوجب الله لك ثواب المتصدقين): وأنت مانع لهذه الأموال مدخر لها.
(وإنما المرء مجزي بما أسلف): أراد ليس الأمر كما تحسبه مما أنت فيه، وإنما الجزاء يكون على قدر ما سلف من الأعمال، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
(وقادم على ما قدّم): قدم من سفره فهو قادم، وأراد أنه واصل إلى ما كان سبق منه من هذه الأعمال محمودها ومكروهها، وقوله: قادم على ما قدَّم، من باب الاشتقاق، وهو غرر في كلامه، وأوضاح في قلائد نظامه.
(22) ومن كتاب له عليه السلام إلى ابن عباس رضي الله عنه
وكان ابن عباس يقول: ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانتفاعي بهذا الكلام:
(أما بعد، فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته): يريد أن الإنسان يسترُّ ويلحقه فرح وَجَذَل لإ دراك ما قدَّر الله له حصوله ووقوعه، وما ليس فائتاً عنه بحال.
(ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه): أي ويلحقه ألم وغم بفوت ما لم يقدِّر الله له إدراكه وتحصيله، وما ذاك إلا بقلة الثقة بالله، ومن أجل ذلك لحقه السرور، بما ضمنه الله تعالى وقدَّره من الأرزاق والأقوات، وكثرة الهلع في الدنيا، ولهذا لحقه الغم بفوات ما لم يقدر الله له نيله، ولا قسم شيئاً من حصوله.
(فليكن سرورك بما نلت من آخرتك): أراد فالسرور الحقيقي إنما يكون بإحراز الآخرة وأعمالها.
(وليكن أسفك على ما فاتك منها): الأسف: أشد الحزن، وأراد وليكن غمك على ما فاتك من أعمال الآخرة، فالسرور والغم إنما يكونان على الحقيقة فيما ذكرته من أعمال الآخرة، لا على ما كان منهما فيما ذكره أولاً مما ضمن وجوده للإنسان أو منع وجوده منه.
(وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحاً):لأنه على شرف الانقطاع والزوال، وما هذا حاله فلا يليق بعاقل الفرح به والسرور.
(وما فاتك منها فلا تأس عليه جزعاً): التأسي: التعزي، وتآسوا أي آسى بعضهم بعضاً، والأسى: الحزن، وأراد ها هنا وما فاتك من الدنيا فلا تحزن عليه جزعاً أي جازعاً، وانتصابه على المصدرية في موضع الحال.
(وليكن همُّك فيما بعد الموت): أراد وما الهمُّ حقيقة إلا لما كان بعد الموت من الأهوال العظيمة والطامات.
ولله در ابن عباس أي أسد فرَّاس، لقد أنافت فراسته على فراسة إياس ، حيث أحاط بأسرار هذا الكلام ونهايته، واستولى على البغية من إحراز مقاصده وغايته، ولهذا قال فيه ما قال.
(23) ومن كلام له عليه السلام قبل موته على جهة الوصية
الوصايا: جارية مجرى الكتب، ولهذا أوردت الوصايا ها هنا من أجل ذلك.
(وصيتي لكم ألاّ تشركوا بالله شيئاً): في عبادته ولا تتخذوا إلهاً غيره، وانتصاب قوله: شيئاً على المصدرية أي لا تشركوا به إشراكاً.
سؤال؛ إذا كان نصبه على المصدرية، فأراه عدل عن لفظ الفعل وهو مشتق منه، ولِمَ لم يقل: ولا تشركوا به إشراكاً؟
وجوابه؛ أنه إنما عدل عنه إلى غير لفظه ليكون مندرجاً تحته غيره فيكون عاماً في النهي عن الإشراك نفسه وعن المشرك به، فيكون النهي متناولاً لهما جميعاً، وهذا كثير الورود في كتا ب الله تعالى كقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً }[الإسراء:74].
(ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا تضيعوا سنته): أراد والوصية بمحمد هو ألاَّ تهملوا ما سنّ لكم من معالم الهدى، وطرق الصلاح.
(أقيموا هذين العمودين ): يريد التوحيد والسنة؛ لأنه لم يسبق الذكر إلا فيهما، وقيل: أراد القرآن والعترة ، وليس شيئاً لأنه لم يجرلهما ذكر، ولا حاجة إلى التعسف.
(وخلاكم ذم): أراد زال عنكم الذم وبرئتم عنه،يقال: افعل هذا وخلاك ذم أي سقط عنك وأعذرت.
(أنا بالأمس صاحبكم):إمامكم والمتولي لأموركم والقائم بها.
(واليوم عبرة لكم): أراد موعظة تتعظون بها؛ لقرب أجلي وانقطاع مدتي.
(وغداً مفارقكم): بالموت وهو أبلغ ما يكون من الانقطاع.
(إن أبقَ): من جرحي هذا ويكون في أجلي بقية.
(فأنا ولي دمي): أفعل فيه ما أشاء من عفو أو غيره .
(وإن أَفنَ): أموت وينقطع أجلي.
(فالفناء ميعادي): أراد فالموت لا بد منه، وهو ميعاد لا خلف فيه ولا كذب.
(فإن أعف): عما أصابني وأدخره عند الله.
(فالعفو لي قربة): قد ندب الله إليها وحث على فعلها، وهو من أجل القرب وأعظمها عند الله تعالى، وفي الحديث: ((ينادي مناد يوم القيامة: يقوم من له أجر على الله، فيقوم العافون عن الناس)) .
(وهو لكم حسنة): تؤجرون عليها من عند الله.
(فاعفوا): يحتمل أن يكون عاماً أي اعفوا عن كل مذنب وتجاوزوا عن ذنبه، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما هو فيه وهو أمر لهم بالعفو إذا صار مستحقاً لهم بموته، ثم تلا هذه الآية: ({أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ })[النور:22]: أراد بسبب العفو.
ونزولها في مسطح بن أثاثة وامتناع أبي بكر عن الانفاق عليه لأجل مقالته في الإفك، فقال تعالى : {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ }[النور:22]، ثم قال: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ }[النور:22] فعاد أبو بكر عليه بالإنفاق .
سؤال؛ أراه قال: العفو قربة لي، وهو لكم حسنة، ففرق بين حاله وحالهم بالإضافة إلى العفو، فهل له وجه في ذلك؟
وجوابه؛ هو أن القربة إنما تكون بفعل الإنسان خاصة ليصح أن يقصد بها وجه الله تعالى، وأما الحسنة فقد تكون جزاء على فعله، وقد تكون الحسنة تفضلاً من جهة الله تعالى كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }[الأنعام:160] والذي بالاستحقاق ليس إلا جزء واحد، وما عداه فضل، فلهذا سمى أمير المؤمنين العفو من جهته قربة لما كان الألم واصلاً إليه، وسمى عفوهم حسنة لما كان المستحق على الألم واصلاً إليهم من جهة الشرع إشارة إلى هذه التفرقة.
(والله ما فجأني من الموت وارد كرهته): فجئه الأمر فجأه فُجَاءة بكسر العين وفتحها، وغرضه هو الوارد الذي يأتي من غير شعور به، والمعنى فيه ما ورد عليَّ الموت وأنا أكرهه.
(ولا طالع أنكرته): الطالع هو: الذي يأتي القوم ويطلع عليهم، وفي الحديث: ((لا يهيدنكم الطالع المصعد )) وهو الفجر الكاذب، أي لا يمنعكم عن السحور، وأراد ولا جاءني الموت وأنا منكر له .
(وما كنت): بالإضافة إلى حالة الموت.
(إلا كقارب ورد): القارب هو: الذي لم يبق بينه وبين الماء إلا ليلة واحدة، وقيل: هو الذي يطلب الماء ليلاً دون من يطلبه نهاراً، وأراد ما أنا فيه إلا كطالب الماء ورده، ووجد بغيته.
(وطالب): لما يطلبه من الأمور.
(وجد): مطلوبه، وغرضه من هذا كله تشوقه إليه ومحبته للقائه، ثم تلا هذه الآية: ({وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ })[آل عمران:198]: يشير إلى أن ما عند الله خيرمما في الدنيا بأسرها، ولقد طابق بهذه الآية المجر، وأصاب بها المفصل.
(24) ومن وصية له عليه السلام بما يعمل في أمواله كتبها بعد منصرفه من صفين
(هذا ما أمر به عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين): اعلم أن هذا اللقب أعني لقب أمير المؤمنين لا يصدق على أحد كصدقه عليه، لما خصه الله به من الفضائل الباهرة، وإحراز صفات الإمامة على أكمل حد، ولهذا فإن الرسول عليه السلام أمر الصحابة رضي الله عنهم بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين ، وما ذاك إلا لاستحقاقه لها وخلافته بها.
(في ماله): فيما يملك التصرف فيه من الأموال كلها.
(ابتغاء وجه الله): أي من أجل التقرب إلى الله وطلب ما عنده من مذخور الأجر ومزيد الثواب.
(ليولجني الله به الجنة): أي يدخلني فيها من أولجه في كذا إذا أدخله فيه.
(ويعطيني به الأمنية ): الأمنية: أفعولة من قولهم: تمنى كذا إذا أراد وصوله إليها، وغرضه أن يعطيه الله تعالى ما تمناه من رضاه، وإحراز ثوابه وأجره.
ويحكى أن أمير المؤمنين كرم الله وجهه وقف عامة أمواله بينبع وغيرها، وقال: (ليولجه الله الجنة، ويصرف وجهه عن النار في سبيل الله وذوي الرحم القريب والبعيد) .
وعن فاطمة عليها السلام أنها وقفت مالها على نساء رسول الله، وعلى فقراء بني هاشم وبني المطلب .
وعن عمر أنه وقف ماله للسائل والمحروم ولذوي القربى والضيف وفي سبيل الله وابن السبيل .
(وإنه يقوم بذلك الحسن بن علي): يصرفه في وجهه ويقوم على عمارته.
(يأكل منه بالمعروف): من غير إسراف ولا تقتير.
(وينفق منه بالمعروف): من غير تبذير ولا منع لحق فيه.
(فإن حدث بحسن حدث): هجم عليه الموت، وانقطع عن الدنيا.
(وحسين حي، قام بالأمر بعده): في هذه الوقوفات.
(وأصدر مصدره): فعل ما كان أخوه يفعل لو كان حياً، يقال: فلان يصدر الأمور في مصادرها إذا كان يأتي بها على أوجهها .
(وإن لابني فاطمة): يعني الحسن والحسبن.
(من صدقة علي): يريد هذه الوقوف التي جعلهاصدقة لوجه الله تعالى.
(مثل الذي لبني علي):أراد أن يكون لهما على انفرادهما من هذه الصدقة مثل الذي يستحقه الكل من أولاده، وعلى هذه تكون أصولها موقوفة وغلتها تقسم نصفين، فنصف يكون للحسنين، ونصف يكون مقسوماً على كل أولاده على الرؤوس بعد ذلك.
(و إنما جعلت القيام بذلك [إلى ابني فاطمة] ): حفظه وصرفه في مصرفه، والتولي لأحواله، وأعطيتهماأيضاً هذا القسم الذي ذكرت.
(ابتغاء وجه الله):طلباً لثوابه.
(وقربة إلى رسول الله [صلى الله عليه وآله] ): وصلة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث كانا ولديه ابني بنته، وفي الحديث: ((لكل نبي ذرية، وذريتي من صلبك يا علي )) .
(وتكريماً لحرمته): أراد إما تكريماً لبنته حيث كانت تحتي، وإما أن يريد تكريماً لما جعل الله له من الحرمة والجلالة والأبهة بالنبوة.
(وتشريفاً لوصلته): وإكراماً للوصلة التي بيني وبينه بالنسب القريب الملاصق، وبما كان من المصاهرة.
(وأشترط علي الذي جعلته إليه ): بتولي إنفاقه وإخراجه وهو الحسن بن علي وبعده الحسين كما ذكره.
(أن يترك المال على أصوله): من غير تفريط في بيع شيء منه أوإعطاء بعضه مزارعة أو مغارسة أو مساقاة أو غير ذلك من عقودالمعاوضة الموجبة لا نتقال أصله عن كونه موقوفاً.
(وينفق من ثمره حيث أمر به): يصرفها في مصارفها ولا سبيل له إلى الأصل بحالة من الحالات.
(فهذا له): الإشارة بقوله: هذا إلى النفقة التي ذكر، وصرفه في المصارف التي عينها.
(وألاَّ يبيع من نخيل هذه القرى وديَّة): الوديَّة هي: الواحدة من صغار النخل، وجمعها ودي من باب ثمرة وثمر، وأراد أنه لا يباع من ثمر نخيل هذه القرى؛ لأن الأراضي كلها موقوفة، فلا بد من حمله على ما ذكرناه كيما يصح ويستقيم.
(حتى تُشْكِلَ أرضها غراساً): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها.
وثانيهما: أن يكون غرضه حتى تطيب، قال الكسائي: يقال: أشكل النخل إذا طاب رطبه وأدرك، وغرضه أنه لا يباع حتى يكون يانعاً طيباً.
(ومن كان من إمائي اللاتي أطوف عليهن): كنى بالطواف ها هنا عن الوطئ وهو من غريب الكناية وبديعها، كما كنى الله تعالى عن ذلك بالملامسة حيث قال: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ }[النساء:43].
(لها ولد أوهي حامل): قد بان أثر حملها.
واعلم: أن الذي عليه أكابر أهل البيت وجماهيرالعلماء أن من استولد جارية فولدت ولداً تاماً أو ما يظهر فيه أثر الخلقة فإنها تعتق بموته، ولا يجوز بيعها قبل الموت، وهذا هو رأي أمير المؤمنين أولاً ورأي جلة الصحابة، ثم حكي عنه بعد ذلك جواز بيعها في حال حياة السيد وهو رأي بعض ولده، وقول قديم للشافعي، فهذا هو المذكور عن العلماء في الخلاف فيها، وظاهر كلامه ها هنا يخالف هذه الأقاويل؛ لأنه قال: إن كان لها ولد أوهي حامل ثم مات السيد عنها.
(فتمسك على ولدها وهي حظه ): فظاهر هذا يقضي بأنها تمسك عن البيع ويأخذها من حظه من ميراث أبيه.
(فإن مات ولدها وهي حية): أراد تأخر موتها عن موت ابنها.
(فهي عتيقة): لا سبيل لأحد إلى ملكها.
(فقد أفرج عنها الرق): زال وذهب بموته، من قولهم: فرجت عنه كربة إذا أزلتها عنه.
(وحررها العتق): قضى بحريتها العتق، وظاهر هذه المقالة يخالف آراء العلماء من أهل البيت، وغيرهم من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأنه جوز بيعها في حال حياة سيدها.
وأما ثانياً: فلأنه قال: تمسك على ولدها بعد موت سيدها، وهي حظه من الميراث.
وأما ثالثاً: فلأنه قال: إذا مات ولدها فهي حرة، وظاهر كلامه أنه إذا لم يمت فهي باقية تحت الرق، وهو أمة وحده، لا يقول إلا عن دلالة، ولا يحكم إلا عن بصيرة، وهو رأس المجتهدين وإمامهم.
(25) ومن وصية له عليه السلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات
وإنما ذكرنا منها جملاً ليُعلم بها أنه عليه السلام كان يقيم عماد الحق ويشرع أمثلة العدل في صغير الأمور وكبيرها، ودقيقها وجليلها:
(انطلق): فيما أمرتك به من أخذ حقوق الله الواجبة على خلقه، وقبضها منهم.
(على تقوى الله): مراقبته في الأمور كلها.
(وحده لا شريك له): لا يخطر ببالك مراقبة غيره ولا مشاركة سواه له في الأمر والملك والإلهية.
(ولا تروِّعنَّ مسلماً): تفجعه بورودك عليه، والروع: الفزع، وفي الحديث: ((وَدَى أمير المؤمنين للقوم الذين قتلهم خالد جميع ما فات عليهم، حتى مِيلَغَة الكلب وعلبة الحالب ، ثم أعطاهم بروعة الخيل)) أي بإفزاعها لنسائهم وصبيانهم ما يجبر ذلك من المال.
(ولا تجتازنَّ عليه كارهاً): جاز البيت إذا دخله، وأراد أنك لا تدخل عليه ماله وضيعته إلا بأذنه.
(ولا تأخذن منه أكثر من حق الله): لأن ذلك يكون ظلماً وعدواناً.
(في ماله): أي وخذ مقدار ما فرضه الله عليه في ماله من غير زيادة فتكون ظالماً، أو نقصان فتكون خائناً لإمامك ولله في نقصان حقه.
(فإذا قدمت على الحي): على القبيلة من قبائل العرب وأحيائها.
(فأنزل بمائهم): حيث يسقون وحيث تكون المواشي مجتمعة.
(ولا تخالط أبياتهم ): لغير حاجة، وربما شق عليهم ذلك لما فيه من الاحتراس والانزواء.
(ثم امض إليهم بالسكينة والوقار): من غير انزعاج ولا فشل في حالك وطريقتك؛ لأن ذلك يكون أقرب إلى تقرير خواطرهم، وتسكين نفوسهم.
(حتى تقوم بينهم): متمكناً من خطابهم مقبلاً بوجهك إليهم.
(فتسلم عليهم): تفاتحهم أولاً بالتحية، وتسرهم بها، وفي الحديث: ((السلام قبل الكلام )) .
(ولا تخدج التحية): أي لا تنقص التحية ، [وأكملها لهم] من قولهم: أخدجت السحابة إذا قل مطرها، وأخدجت الشاة إذا ولدت لغير تمام، وفي الحديث: ((كل صلاة لا تقرأ فيها الفاتحة فهي خداج)) أي ناقصة التمام.
(ثم تقول: عباد الله): بالملاطفة والقول اللين السهل.
(أرسلني إليكم ولي الله وخليفته): المتولي عليكم بأمر الله، والمستخلف عليكم من جهته، من صلاح أحوالكم وانتظام أموركم.
(لآخذ منكم حق الله في أموالكم): الذي فرضه الله وقدره في أموالكم، كما جاء ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله.
(فهل لله من حق ): فأخبروني هل عندكم من ذلك شيء.
(فتؤدونه إلى وليه): تؤدونه هو مرفوع على القطع، وكان القياس حذف النون، ونصبه جواباً للإستفهام، ولكنه رفعه على وأنتم تؤدونه، كما قال:
ألم تسأل الرَّبْع القَواء فينطق
فلم يجعل استقرار الحق سبباً للتأدية، ولكنه جعلهم مؤدين بكل حال كما جعل الربع ناطقاً بكل حال.
(فإن قال قائل: لا): يعني أنه لا حقاً عندنا لله في أموالنا.
(فلا تراجعه): إذ لا سبيل إلى توجه الحق عليه إلا بإقراره أن له مالاً، إذ لا وجه لإقامة بينه من جهة المصدق على ذلك، وكيف يقيم المصدق بيَّنة لغير مدعي، فلهذا قال: لا تراجعه إذا أنكر، يشير إلى ما ذكرناه.
(وإن أنعم منعم لك): أي قال لك: نعم عندي حقوق لله.
(فانطلق معه): لقبضه لما أقر به ولزمه فرضه.
(من غير أن تخيفه ): بظلم من جهتك له بالزيادة.
(أو توعده): على ما ليس حقاً لك عنده.
(أو تعسفه): عسف الطريق واعتسفها إذا خبط فيها على غير صواب، وأراد الطلب له فيما لا يتوجه عليه ولا يلزمه لله.
(أو ترهقه): إما تظلمه وإما تكلفه أمراً عسيراً.
(فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة): إذا كان ماله ذلك بعد أن تعرّفه ما يتوجه عليه في ذلك المال كيلا يزيد جهلاً بالحق المفروض من جهةالله تعالى، فربع العشر يكون في أموال التجارة عند حلولها حولاً كاملاً، وفي الركاز الخمس، ولا زكاة في هذه الأموال الناضَّة حتى تبلغ الفضة مائتي درهم قفلة، والذهب عشرون مثقالاً إلى غير ذلك من الأحكام التي لابد من معرفتها.
(وإن كانت له ماشية): بقراً أو غنماً.
(أو إبل): فإطلاق الماشية على هذه الأنواع الثلاثة.
(فلا تدخلها): للعدِّ والدرية بحالها وحال ما يؤخذ منها.
(إلا بإذنه): عن رضًا منه واستئمار.
(فإن أكثرها له): تعليل للمنع من الدخول، وأراد إن لك شيئاً حقيراً فيها، والأمر كله فيها إليه.
(فإذا أتيتها): طالباً للحق وقابضاً له منه.
(فلا تدخلها دخول متسلط عليه): قاهر له، والسلطنة: القهر.
(ولا عنيف به): العنف: ضد الرفق، وأراد أنه لا رحمة له عندك.
(ولا تنفرن بهيمة): تزعجها عن مكانها فشلاً وجزعاً من دخولك.
(ولا تفزعنَّها): بما يكون منه من الخشونة وشكس التصرف.
(ولا تسوءن صاحبها):تدخل عليه غماً وضيقاً في ماله بالتنفير، والتشديد وتغيير الحالة التي هو عليها.
(فيها): أي من أجلها وبسببها.
(واصدع المال صدعين): أي أقسمه نصفين.
(ثم خيِّره): أن يختار أحدهما فلا يعترض ولا يؤخذ الحق منه.
(فإذا اختار): أحدهما.
(فلا تعترض لما اختار): ولا تأخذ منه شيئاً من حق الله.
(ثم اصدع الباقي صدعين): أي اقسم النصف الثاني نصفين.
(ثم خيِّره): أحدهما.
(فإذا اختار): واحداً منهما.
(فلا تعترض لما اختار ): فتأخذ حق الله منه.
(فلا تزال بذلك ): عاملاً بما قلت لك من تقسيم المال وصدعه قسمين قسمين.
(حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله): من المال على قدر ما تراه من الحساب، ويعرفه المالك للمال .
(في ماله): على حد قلته وكثرته.
(فاقبض حق الله منه): الذي يعطيه من ماله وتخبره بما يتوجه عليه فيه.
(فإذا استقالك):فيما تأخذه منه، وقال لك: أعد القسمة.
(فأقله): أعد له القسمة إذا طلبها.
(ثم اخلطها): أراد اخلط الزكاة التي كانت معه بماله كما كانت من قبل.
(ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً): من صدع المال وقسمه وتخييره، حتى ترضى نفسه وتطيب، وافعل ذلك وكرره.
(حتى تأخذ حق الله في ماله): عن رضىً منه، وطيبة خاطر من جهته.
(ولا تأخذن عَوْداً): العَوْدُ هو: الجمل المسن الذي قد أعيا، وهو الذي قد جاوز سنه البازل ، وفي بعض النسخ: (ولا تأخدن عوراء): وهو فاسد، فإن قوله: ولا ذات عوار يغني عنه فلا وجه لذلك.
(ولا هرمة):الكبيرة السن.
(ولا مكسورة): قد كسرت إحدى قوائمها.
(ولا مهلوسة): وهي التي قد هلسها المرض وأذهب لحمها، والهلاس هو: السل من الأدواء والعاهات.
(ولا ذات عوار): في عين ولا طرف، ولا ما يكون مُشَوِّهاً لها، وإذا أخذتها وصارت في كفك وقبضتك.
(فلا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه): أراد فلا تولي حالها في سقي ولا مرعى إلا من يكون موثوقاً بدينه، وخوفه لله تعالى.
(رافقاً بأموال المسلمين): كثير الرفق وعظيم الشفقة، والتعطف على ما كان متعلقاً بالمسلمين، ثم اجتهد في حفظه ورعايته.
(حتى يوصّله إلى وليهم): وهو الإمام والمتولي عليهم.
(فيقسمه بينهم): على ما فرضه الله تعالى وقدره، فما كان من أموال المصالح فمصرفه ما كان مصلحة في الدين، وما كان من غيرها فمصرفه الفقراء على حد ما يراه الإمام ويقتضيه رأيه ويوجبه اجتهاده.
(ولا توكِّل بها): في سوقها وحفظها.
(إلا ناصحاً): لله وللإمام ولك.
(شفيقاً): رحيماً لها في جوعها وعطشها، وسيرها ومواضع مراحاتها.
(وأميناً): عليها فلا يخون في شيء منها.
(حفيظاً): محافظاً على مصالحها، وتفقد أحوالها ,
(غير معنِّف): العنف: نقيض الرفق، وأراد غير آخذ لها بالجُرْز .
(ولا مجحف): بأحوالها أي ذاهب بما يقيمها، من قولهم: أجحف به إذا ذهب بصلاح أموره.
(ولا ملغب): الإلغاب هو: الإتعاب والإعياء، كما قال تعالى : {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ }[ق:38].
(ولا متعب): التعب هو: المشقة العظيمة.
(ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك): أرسل إلينا، ومنه الانحدار وهو الانصباب إلى أسفل، وإنما قال: احدر مبالغة في سرعة الإرسال والإعطاء تشبيها بمن ينحدر في سيره إذا كان مسرعاً.
(نصيَّره حيث أمر الله به): أن نصيره فيه ونقضه في أهله وأهل استحقاقه من جهاد وفقراء ومصالح وغير ذلك مما قد فرضه الله، وعينه وقدره وأحكمه.
(فإذا أخذها أمينك): أعطيتها من تستأمنه فيها.
(فأوعز إليه): أي قدم إليه الحديث في الوصية:
(ألاَّ يحول بين ناقة وفصيلها): أراد إما بأن يأخذ من رب المال الناقة ويترك فصيلها، فنهاه عن ذلك ولكن يأخذ الناقة عن الفرض، ويأخذ الولد بالقيمة يدفعها له، وإما أن يريد إذا صارا زكاة من جهة رب المال فلا يفصل بينهما لغرض من الأغراض ومقصد من المقاصد.
(ولا يَمْصُرْ لبنها): يستوعب جميع ما في ضرعها من اللبن.
(فيضر ذلك بولدها): لأنه هو قوته وبلغته.
(ولا يجهدها ركوباً): أي لا يتعبها بالركوب، وانتصاب ركوباً إنما هو على التمييز .
(وليعدل بين صواحبها في ذلك وبينها): أراد أن الركوب لايكون مختصاً بها وحدها، وليجعل الركوب مناوبة بالقسط والعدل.
(وليرفه على اللاغب): على الذي لغب وأعيا، وأراد باللاغب أي الجمل اللاغب، ويحتمل أن يكون أراد الناقة، وإنما طرح التاء لأنه في معنى النسب كما قالوا: جمل ضامر وناقة ضامر أي ذات ضمور .
(وليستأن بالنقب): من الأناة والتوقف بالنقب وهو: الذي رقت أخفافه من السير، أو أصابه نقب في خفه وظلفه، فلا يستطيع السير.
(والظالع): وهو الذي يعرج من أحد قوائمه.
(وليوردها ما تمر به من الغُدُر): كي تشرب فيها ولا يقطعها العطش.
(ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطريق): وأراد أن من جملة الرعاية لأحوالها هو أنه لا يعدل بها عن المراعي الحسنة في السهول والأوطان إلى جواد الطريق، وهي أوسطها، حيث لا كلاء ولا شجر، ولكن يجنبها عن الجواد كيما تستريح بالأكل للشجر.
(وليروحها في الساعات): يريح عليها في ساعة بعد ساعة، ووقتاً بعد وقت.
(ليمهلها عند النطاف والأعشاب): النطاف هو: الماء القليل، والأعشاب: جمع عشب، وهو: كثرة الشجر والتفافه، وغرضه أن يتوقف بها للأكل والشرب حتى تعطى أغراضها.
(حتى تأتينا بإذن الله): بأمره وعلمه.
(بُدَّناً): سماناً.
(منقيات): ذوات نِقْى أي دهن، والنقى هو: مخ العظم.
(غير متعبات): قد أعياهن التعب والإقصاء.
(ولا مجهودات): قد أصابهن الجهد.
(لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه [صلى الله عليه وآله] ): أراد نقضها بين المسلمين على ما حكم الله به في كتابه، وعلى ما كان مأ ثوراً في سنة الرسول.
(فإن ذلك): جميع ما ذكرته لك من الترفيه والرفق في حالها.
(أعظم لأجرك): أكثر وأوفر لثوابك عند الله.
(وأقرب لرشدك): لأن تكون راشداً مصيباً للحق، فإذا كانت هذه حاله بالإضافة إلى البهائم ومن لا عقل له، فكيف حاله بالإضافة إلى علماء الأمة وأعيان الأئمة، وأهل الفاقة والمسكنة يكون لا محالة رفقه أعظم، ورحمته أكمل وأتم.
وفي الحديث: ((ما من نبي إلا وقد رعى )).
قالوا: وأنت يارسول الله.
قال: ((وأنا)) .
وعن هذا قال العلماء: وجه الحكمة في ذلك هوأن الله تعالى يختبرأحوالهم ورحمتهم بالبهائم، فإن علم من حالهم الرفق بها، والحنو عليها فهم لا محالة للخلق أرحم، فلهذا تنباهم بعد ذلك، وأرسلهم إلى الخلق، ولأمر ما يسود من يسود.
(26) ومن عهد له عليه السلام لأهل الخراج
(آمُرُهُ بتقوى الله في سرائر أمره): أن يكون متقياً لله في السرائر الحاصلة في القلوب.
(وخفيات عمله): وفي الأعمال التي تخفى على العباد، ولا يمكنهم الاطلاع عليها فإن المراقبة فيها لله تكون أعظم وأكبر موقعاً عند الله تعالى.
(حيث لا يشهد غيره): لا يشاهدها أحد سواه، ولا يراقبها إلا هو.
(ولا وكيل دونه): أي ولا حفيظ عليه أحد غيره.
(وآمره أن لا يعمل بشيء من طاعة الله فيما ظهر): أراد بذلك النهي عن أن يعمل شيئاً من الطاعة فيما يظهر الناس، ويبدو لهم من ذلك؛ لأنه إذا فعل الطاعة ظاهراً فربما غيَّر ذلك.
(فيخالف إلى غيره فيما أسر): أي أنه يفعل خلاف ما فعل من الطاعة سراً وهو معصية لا محالة، ولكن يفعل الطاعة لوجه الله تعالى من غير التفات إلى ظهور للناس بشيء من ذلك، فيؤدي إلىالمحذور الذي ذكره.
(ومن لم يختلف سره وعلانيته): ما يظهر من أفعاله وما يبطنها.
(وفعله ومقالته): وقوله وفعله.
(فقد أدى الأمانة): وهو التكليف الذي ائتمنه الله تعالى عليه، والواجبات التي أوجبها عليه.
(وأخلص العبادة): أدَّاها خالصة لوجه الله تعالى؛ لأن من لم يختلف حاله في الظهور والإسرار والأقوال والأفعال فهذا هو المخلص حقيقة.
اللَّهُمَّ، إنا نعوذبك من مخالفة القول للفعل، والسر للعلانية.
(وآمره ألا يجبههم): أي يستقبلهم بما يكرهونه من الكلام، والضمير للمولى عليهم.
(ولا يعضههم): عضهه إذا رماه بالبهتان وقول الأثم.
(ولا يرغب عنهم): أي لا يكون زاهداً فيهم.
(تفضلاً بالإمارة): أي من أجل تفضله بكونه أميراً، فإن مثل هذا يكون زيادة في التواضع لهم، كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }[الحجر:88].
(فإنهم الأخوان في الدين): إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:10] أي أن هذه الأخوة ما حصلت إلا من أجل الدين.
(والأعوان على استخراج الحقوق): ممن كتمها، وأراد خلاف الحق فيها.
(وإن لك في هذه الصدقة): يخاطب به المصدق والمتولي لجباية الأموال .
(نصيباً مفروضاً، وحقاً معلوماً): فرضه الله تعالى وقدره، فلا يزاد عليه ولا ينقص منه.
(وشركاء): أي ولك شركاء فيها.
(أهل مسكنة): أي هم أهل مسكنة، ضعف في أحوالهم.
(وضعفاء): أي وهم ضعفاء.
(ذوي فاقة): الفاقة: الفقر.
(وإنا موفوك حقك): معطوك نصيبك لا نقصان عليك فيه.
(فوفهم حقهم ): أعطهم نصيبهم موفراً.
(وإلا فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة): أي وإلاَّ تفعل ماأمرتك به من ذلك من التوفير والإيفاء فإن خصومك لامحالة يكونون كثيراً يوم القيامة.
(وبؤساً ): بئس الرجل بؤساً إذا اشتدت حاجته، وعظم فقره، وانتصابه علىالمصدرية، وفعله مضمر لايظهر.
(لمن خَصْمُهُ عند الله الفقراء): أهل الفاقة.
(والمساكين): الضعيفة أحوالهم.
(والسائلون): كثيروا المسألة من أجل فقرهم.
(والمدفوعون): وهم الفقراء؛ لأن كل أحد يدفعهم عن نفسه من أجل إلحاحهم .
(والغارم ): وهو: الذي لحقه الدين من أجل خاصة نفسه، أو من أجل مصلحة فعلها في الدين.
(وابن السبيل): المنقطع في السفر، وإن كان موسراً في بلده.
(ومن استهان بالأمانة): خف موقعها في نفسه ولم يلتفت إليها.
(ورتع في الخيانة): تمكن فيها واستحكم أمره في أخذها، ورتعت الماشية إذا أكلت ما شاءت، ويقال: خرجنا نرتع ونلعب أي نلهو وننعم.
(ولم ينزِّه): يبعِّد عنها:
(نفسه ودينه): والتنزُّه: التباعد عمَّا يسوء ويسقط النفوس، قال الهذلي:
أقبَّ طريد بنزه الفلا ... ة لا يرد الماء إلا ائتيابا
ونزه الفلاة: ما تباعد عن المياة.
(فقد أحل بنفسه في الدنيا الذل والخزي): حلَّ به كذا إذا أصابه وخالطه، وأراد أن من حاله هكذا فقد أصابه الخزي وهو المذلة في الدنيا.
(وهو في الآخرة أذل وأخزى): أحقر وأدنئ؛ لأن ما كان في الدنيا من الخزي والعذاب والهوان فإنه لا نسبة له إلى ما يستحق في الآخرة.
(وإن أعظم الخيانة): عند الله.
(خيانة الأمة): خانه يخونه خوناً وخيانة ومخانة إذا لم يَفِ له، قال تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ }[البقرة:187].
(وأعظم الغش): حالة عند الله.
(غش الأئمة): والغش: خلاف النصح، وفي الحديث: ((ليس منَّا من غشَّ )) ، وقوله: خيانة الأمة، وغش الأئمة، مصدران مضافان إلى مفعولهما، والفاعل فيهما محذوف وتقديره خيانة الأمة وغش الأئمة غيرهم.
(27) ومن عهد له عليه السلام كتبه لمحمد بن أبي بكر [رضي الله عنه] حين قلَّده مصر
(فاخفض لهم جناحك): هذه كناية حسنة دالة على الأمر بالتواضع، وأخذها من خفض الطائر جناحه إذا دنا للوقوع.
(وألن لهم جانبك): لين الجانب كناية عن البشاشة وحسن المودة.
(وابسط لهم وجهك): المراد ببسط الوجه لين العريكة، وسعة الخلق.
(وآس بينهم في اللحظة والنظرة): أراد أنهم يكونون بالإضافة إلى إنصافك على جهة الاستواء، لا تفضيل لأحد منهم على أحد، فيكونون أسوة في ذلك.
(حتى لا يطمع العظماء في حيفك): الحيف: الميل.
(ولا ييأس الضعفاء عن عدلك): العدل: الاستقامة على الحق، وأراد أنك إذا فعلت ما ذكرته من المؤاساة بينهم كان أقرب إلى بطلان طمع أهل العظمة والتكبر في أن تحيف وتميل عن الحق، وأبعد عن إياس أهل الفاقة والمسكنة عن عدلك واستقامتك على الحق.
(وإن الله يسائلكم معشر عباده): يباحثكم ويناقشكم.
(عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة): عما يكون صغيراً مكفراً، وعما يكون كبيراً محبطاً للثواب مهلكاً.
(والظاهرة): المكشوفة للناس.
(والمستورة): التي لا يعلمها إلا الله تعالى .
(فإن يعذب): على أفعالكم وعلى ما أنتم مصرون عليه من الأعمال السيئة.
(فأنتم أظلم): أعظم ظلماً وأكثر إثماً.
(وإن يعف): عما اجترحتموه من الأفعال القبيحة.
(فهو أكرم): من أن يستوفي له حقاً.
(واعلموا عباد الله): علماً لا شك فيه، وتحققاً لا ريب يخالطه.
(أن المتقين): لله تعالى والخائفين له في جميع أ حوالهم.
(ذهبوا بعاجل الدنيا): نعيمها ولذاتها.
(وآجل الآخرة): وما يكون في الآخرة من اللذة والنعمة أيضاً.
(فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم): بما كان بإعطاء الله لهم من راحة النفوس وقرار الخواطر، وتعجيل أرزاقهم الهنية، وطمأنينة أنفسهم إلى ذلك.
(ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم): فيما يستحقون من جهة الله تعالى من الثواب والدرجات العالية بصالح أعمالهم.
(سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت): من قرار الأنفس وطيب الخواطر، وثلج الصدور وراحة الأبدان.
(وأكلوها بأفضل ما أكلت): في مآكلهم ومشاربهم، ومناكحهم وجميع لذاتهم فيها.
(فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون): رجل حظي إذا كان ذا حظوة، ومكانة وشرف ومنزلة واستحقاق لما هو فيه، وأراد أنهم امتازوا فيها بما امتاز به أهل الترف والنعمة من أهل الدنيا.
(وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون): من التنعم بلذاتها، والتفكه بغضارتها، وإحراز رونقها.
(ثم انقلبوا عنها): يريد إلى الآخرة.
(بالزاد المبلغ): لهم إلى الجنة.
(والمتجر الرابح): بالفوز برضوان الله تعالى وكريم ثوابه.
(أصابوا لذة): ظفروا بها وأحرزوها.
(زهد الدنيا في دنياهم):أراد الرغبة عن الدنيا، والانقطاع عنها في عاجلتهم المتقدمة.
(وأيقنوا أنهم جيران الله) : قريبون من رحمته، ولا تعقل المجاورة في حق الله تعالى إلا القرب من الرحمة كما ذكرناه.
(في آخرتهم): في الدار الآخرة.
(لا ترد لهم دعوة): لقربهم إلى الله وعلو درجتهم عنده فلا يخالفهم في تنجيز مراداتهم.
(ولا ينقص لهم نصيب من لذة): جزاء على أعمالهم وتوفيراً عليهم ما يستحقونه.
(فاحذروا عباد الله الموت وقربه): هجومه على غفلة، وقرب نزوله على فجعة.
(وأعدوا له عدته): من الأعمال الصالحة والتوبة النصوح، وحسن الظن بالله تعالى ، وفي الحديث: (([لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو محسن للظنِّ بالله، فإنَّ الله يقول] : أنا حيث ظنَّ عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء)) .
(فإنه يأتي بأمر عظيم): هول لا أعظم منه، ومصيبة لا أطم منها من استلاب الروح ودخول القبر، وملاقاة أهوال الآخرة
(وخطب جليل): جل الخطب إذا عظم واتسع.
(بخير لا يكون معه شر أبداً): بخير في موضع البيان، لقوله: يأتي بأمر عظيم، إما على البدلية وإما على عطف البيان، وأراد بالخير لأهل ولاية الله وأهل العمل بطاعته.
(و شر لايكون معه خير أبداً): لأهل عداوة الله وأهل العمل بمعصيته.
اللَّهُمَّ، اجعلنا من أهل طاعتك والولاية لك يا أكرم مسئول.
(فمن أقرب إلى الجنة من عاملها!): استفهام على جهة التقرير، وغرضه أن أقرب الناس من الجنة هم العاملون لها الأعمال المبرورة والقربات المتقبلة.
(ومن أقرب إلى النار من عاملها!): أراد أنه لا أقرب إلى النار من أهل العمل لها، بأعمالها من ارتكاب المناهي وفعل المحظورات.
(وأنتم طرداء الموت): جمع طريد وهو: الذي يساق بالعنف والشدة فيذهب كل مذهب.
(إن أقمتم له): على طريقه.
(أخذكم): تناولكم.
(وإن فررتم منه): هربتم من أجله خوفاً منه.
(أدرككم): لحقكم ولم تفوتوه.
(وهو ألزم لكم من ظلكم): لأن الظل لا ينفك عن الإنسان بحال؛ لأنه حاصل على جهة الوجوب عن الشبح.
(الموت معقود بنواصيكم): لا يحل أبداً.
(والدنيا تطوي خلفكم): أراد أن الأيام والليالي تمضي مستمرة كل ما مضى منها لا يعود البتة، فكأن طاوياً يطوي كل ساعة من خلفنا.
(فاحذروا ناراً): إنما نكرها لعظم شأنها، كأنه قال: نار وأي نار، لا يمكن وصفها.
(قعرها بعيد):لا ينال ولا يوقف له على غاية في البعد، منتهاه حيث أراد الله وعلمه.
(وحرها شديد): عظيم بالغ في الشدة كل مبلغ.
(وعذابها جديد):لا يندرس أبداً أو لا يفنى.
(ليس فيها رحمة): لأحد ممن هو كائن فيها.
(ولا تسمع فيها دعوة): لمن يدعو منهم أبداً.
(ولا تفرِّ ج فيها كربة): لا يزول ما هم فيه من الغصص، والكرب اللاحقة بهم والغموم، وقد وصف الله تعالى ماهم فيه من الويل والعذاب فيها على أوجه مختلفة، وضروب متفاوته.
(وإن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله): من أجل جلاله وعظم سلطانه، واقتحامكم على مناهيه، وتضييعكم لأوامره.
(وأن يحسن ظنكم به): لرحمته الواسعة، وعفوه الكثير.
(فاجمعوا بينهما): لما في ذلك من المصلحة، فالخوف يحمل على الانكفاف عن المعاصي، والرجاء يحمل على الاتكال على رحمة الله وسعة عفوه، وعن عمر: الرجاء والخوف بعيران لا أبالي أيهما ركبت.
(فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه): اعلم أن الرجاء والخوف إنما يكونان في الأمور المنتظرة، فإن كان مما يتألم به القلب فهو الخوف، وإن كان ممن يفرح به القلب فهو الرجاء، وهما كلاهما ينشأن عن المعرفة بجلال الله تعالى ، وتكون سبباً فيهما، فمن عرف الله تعالى كان على قدر حاله في المعرفة يكون خوفه منه ورجاؤه له، وهما من المقامات العظيمة لأولياء الله، وفي الحديث: ((دخل الرسول عليه السلام على رجل وهو في النزع))، فقال: ((كيف تجدك))؟
قال: أجدني أخاف ذنوبي، وأ رجو رحمة ربي.
فقال: ((ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجا ، وآمنه مما يخاف)) .
(وإن أحسن الناس ظناً بالله أشدهم خوفاً لله): لأن المرء إذا اشتد خوفه من الله بعثه ذلك على الاضطرار إلى الله وحسن الرجاء له.
وروت عائشة: ((أنه عليه السلام كان إذا اشتدَّ عصف الريح تغيَّر وجهه فيقوم ويتردد في الحجرة، ويدخل ويخرج، كل ذلك خوف من عذاب الله)) .
(واعلم يا محمد بن أبي بكر، أني قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي): أحبهم إليَّ وأعظمهم موقعاً عندي، وأقواهم حالة وأشدهم أمراً.
(أهل مصر): فإني قد جعلتك عليهم والياً، واخترتك لمصالحهم أميراً.
(فأنت محقوق أن تخاف على نفسك): أراد إما أنه يحق عليك لله تعالى أن تخاف على نفسك من عذابه، وإما أن يريد أنت جدير وقمين بأن تكون خائفاً منه.
(وأن تنافح على دينك): المنافحة: المخاصمة، والمنافحة أيضاً مثل المكافحة، وغرضه من هذا كله الاجتهاد في الدين، والمنابذة عنه عما يسوؤه ويثلمه في هذه الأعمال والولايات.
(ولو لم يكن لك إلا ساعة واحدة من الدهر): فيه وجوه ثلاثة:
أما أولاً: فبأن يريد لو لم يكن لك إلا ساعة واحدة لا فتقرت فيها إلى رضوان الله، والخوف من عذابه.
وأما ثانياً: فبأن يكون غرضه لو لم يكن لك إلا ساعة واحدة في الولاية لافتقرت إلى مراعاة أحوالها، وإصلاح حالك فيها.
وأما ثالثاً: فبأن يكون مراده لو لم يكن إلا ساعة واحدة لا فتقرت إلى معاملة الناس، وإصلاح حالك معهم.
(فلا تسخط الله برضى أحد من خلقه): فإن من هذه حاله فهو أخسر الناس صفقة؛ لأنه في غنى عن الخلق بالله، وليس له عن الله غنى.
وأيضاً:
(فإن في الله خلفاً من غيره): عوضاً عنه.
(وليس من الله خلف في غيره): أحد يسد مسده، ويقوم مقامه في الأمور كلها.
(صلِّ الصلاة لوقتها المؤقت لها): المضروب المحدود لها المقدر، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً }[النساء:103]، أي مؤقتاً مقدراً لا زيادة عليه ولا نقصان منه.
(ولا تعجِّل وقتها لفراغ): أراد أنك لا تعجلها في أول وقتها، لأن تفرغ للاشتغال بغيرها، فتكون قد استعجلت بأدائها وتأنَّيت في تأدية غيرها، وهي أحق بالأناة والتؤدة.
(ولا تؤخرها عن وقتها بشغل ): يريد ولا يكون سبب تأخيرها انشغالك بغيرها فتكون قد قدَّمت عليها غيرها اهتماماً به وتركاً لها.
(واعلم أن كل شيء من عملك تبع لصلاتك):يريد أن جميع الأعمال كلها متوقفة على الصلاة، فإن قبلت فهي مقبولة، وإن ردت فهي أحق بالرد، وفي الحديث: ((خير أعمالكم الصلاة )) ، فإذا كان الأفضل مردوداً فكيف حال الأدنى يكون لا محالة أخلق بالرد.
(فإنه لا سواء، إمام الهدى وإمام الردى): أراد بذلك تهييجاً له إلى فعل الخير، وأنه لا يستوي الحال فيمن يكون داعياً إلى الله تعالى ودليلاً على الخير، ومن يكون داعياً إلى الشر، وعاملاً في الخلق بغير رضاء الله وتقواه.
(وولي النبي وعدو النبي): أراد ومن يكون موالياً للنبي في العمل بمراده، ومن يكون مضاداً مخالفاً لهواه على جهة المعاداة، فهذان لا يستوي حالهما، وبينهما لا محالة بعد متفاوت.
(ولقد قال لي رسول الله [صلى الله عليه وآله] : ((إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً ))): يشير بهذا لمحمد بن أبي بكر، إما على جهة العموم وهو تعريفه بضرر من هذه حاله، وإما على جهة الخصوص وهو تحذيره من حال معاوية؛ لأن من كان حاله على جهة واحدة فعلاجه يكون سهلاً وأمره يكون أيسر.
(((أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه))): عن الإقدام على ما ليس له فعله، ويبعثه إيمانه على فعل كل خير من ذلك.
(((وأما المشرك فيقمعه الله بشركه))): قمعه إذا كفه، وأراد أن الله تعالى يكفه عما يريد وعما يخطر على باله من الأعمال المكروهة، فهذان علاجهما لامحالة أسهل لكونهما على حالة واحدة.
(((ولكني أخاف عليكم كل منافق الجَنَان))): أراد كل من كان نفاقه في جنانه وهو القلب يظهر الإيمان ويبطن خلافه من الكفر.
(((عالم اللسان))): يصف الإيمان بلسانه ولا يعمل به.
(((يقول ما تعرفون))): من الأمر بالحق والوصف له.
(((ويفعل ما تنكرون))) : من أعمال السوء، فمن هذه حاله فهو لا محالة مخوف على الدين وإفساده.
(28) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية [جواباً] وهو من محاسن الكتب
(أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر اصطفاء الله محمداً [صلى الله عليه وآله] لدينه): صدَّر معاوية كتابه بذكر اختيار الله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، من أجل إحياء دينه وتقرير معالمه.
(وتأييده إياه بمن أيده من أصحابه): ومن جملة ما ذكره معاوية أن الله تعالى أيده بأصحاب وأعوان.
(فلقد خبَّأ لنا منك الدهر عجباً): ستره وكتمه ولم يظهره، والعجب: ما يعجب منه.
(إذ طفقت): إذ هذه معمولة لما قبلها وهي معمولة لخبأ، وطفق من أفعال المقاربة طفق يفعل كذا إذا أخذ في فعله.
(تخبرنا ببلاء الله عندنا):البلاء هو: الا ختبار والامتحان.
(ونعمته علينا في نبينا): وتذكر ما منَّ الله به علينا من بعثة هذا النبي فينا وبيننا.
(فكنت في ذلك): أي في كلامك هذا.
(كناقل التمر إلى هجر): هذا مثل يضرب لمن يجلب الشيء إلى موضعه ومكانه ليبيعه فيه، هجر: بلد يذكر ويؤنث .
(وداعي مسدده إلى النضال): وهذا أيضاً مثل لمن يعلم غيره صنعة من الصناعات، أو أدباً من الآداب، فلما تمَّ تعليمه له طفق يباريه في ذلك ويعترض عليه، والمسدد هو: المعلم لتسديد السهم نحو الغرض، والنضال هو: المناضلة، وهي: الرمي على خطر وسبق، وعن هذا قال بعضهم:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما شد ساعده رماني
(وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام): أعلاهم درجة، وأكثرهم عند الله ثواباً وأرفعهم عند الله مكانة ومنزلة.
(فلان وفلان): يريد معاوية أبابكر وعمر، ولكن أمير المؤمنين كنى عنهم بهذه الكناية.
(فذكرت أمراً): ليس لك ذكره، ولا أنت أهلاً لأن تكون خائضاً فيه لأمور ثلاثة:
أما أولاً: فلأن درجات الفضل بين الفضلاء إنما تكون بعلم من جهة الله ومن جهة ر سوله؛ لأن ذلك كله بالإضافة إلى كثرة الثواب وزيادته، وهذا أمر غيبي لا يطلع عليه إلا الله أو من أطلعه عليه.
وأما ثانياً: فلأن الخوض في درجات الفضل بين الفضلاء إنما يكون من جهة من يكون في مراتبهم، وعارفاً لمقاديرهم، وأنت خارج عن هذا.
وأما ثالثاً: فلأن هذا أمر:
(إن تمَّ اعتزلك كله): أي لم تكن منه في ورد ولا صدر، ولا له تعلق بك بحال.
(وإن نقص لم يلحقك ثلمه): أراد وإن لم يتم فلا يلحقك فيه نقص لا نفصالك عنه.
(وما أنت والفاضل والمفضول): أي وما أنت وذكر من هو فاضل وذكر من هو مفضول.
(والسائس والمسوس!): أراد وذكر من هو حسن السياسة للأمة ممن ليس حاله كذلك، لأن كتاب معاوية فيه ذكر ذلك.
(وما للطلقاء): يريد أبا سفيان بن حرب.
(وأبناء الطلقاء): يريد معاوية؛ لأنهما أطلقا يوم الفتح عن الأسر والقتل والاسترقاق.
(والتمييز بين المهاجرين الأولين): في المهاجرة مع الرسول، والمتقدمين فيها.
(وترتيب درجاتهم): وأن هذا أفضل من ذاك، وأن ذاك أفضل من هذا كما فعلت.
(وتعريف طبقاتهم!): في العلو والرفعة.
(هيهات): بَعُدَ ما قاله عن الصحة.
(لقد حنَّ قدح ليس منها ):الضمير في منها للقداح التي يستقسم بها، وحنَّ أي ظهر له صوت يخالف أصواتها، فلما كان الأمر كذلك عرف المفيض بها والمجلجل لقداحها أنه خارج عنها وليس من جملتها.
(وطفق يحكم فيها): الضمير في فيها إما لهذه القضية، وإما للطبقات لما تقدم ذكرها، وأراد يحكم فيها بالفضل لبعضهم على البعض.
(من عليه الحكم لها!): الذي كانوا أحق بالحكم عليه في ذلك، والمعنى في هذا هو أن معاوية لم يكن أهلاً لما ذكر من التمييز بين من ذكر حاله، وأنهم كانوا هم الأهل لأن يميزوا بينه وبين غيره.
(ألا تَرْبعُ أيها الإنسان على ظلعك): هذا مثل يضرب لمن يقدم على أمر لا يطيقه، ومعناه ارفق بنفسك، ولا تحمل عليها أكثر مما تطيق.
(وتعرف قصور ذرعك): القصور هو: العجز عن تحمل الشيء والنهوض به، وأراد أن ذرعه قاصر عما يحمله من هذه الأعباء ، يقال: ضقت بالأمر ذرعاً إذا لم يطقه، وقال آخر يصف ذئباً:
وإن بات وحشاً ليلة لم يضق بها
ذراعاً ولم يصبح لها وهو خاشع
(وتتأخر حيث أخرك القدر!): أراد حيث وضعك الله تعالى، ولاتكن متطلعاً إلى مراتب الأفاضل ممن هو فوقك في الدين والفضل وعلو الرتبة.
(فما عليك غلبة المغلوب): أراد أن كل من كان مغلوباً مقهوراً بفضل غيره فما يلحقك نقصه، ولا ينالك ما لحقه منه.
(ولا لك ظفر الظافر): وأن كل من ظفر بالفضل وعلابه فما ينالك منه فائدة ولا تحصل لك منفعة، وإن هذا الكلام مع اشتماله على الحق الواضح ففيه غاية الإنصاف لمن كان له قلب.
(وإنك لذهاب في التيه): تاه إذا تحيّر، وأراد أنك لذاهب في أودية الحيرة.
(رواغ عن القصد): الروغان هو: الميل، والقصد هو: الطريق، وغرضه أنه مائل عن مسالك الحق في كل أحواله.
(ألا ترى): إلى ما أقول لك وأحدثك به.
(غير مخبر لك): أراد إما أني أذكره لك ليس على جهة الإخبار لأنك عارف به فلا فائدة في إخبارك به، وإما أن يريد غير مخبر لك على جهة الافتخار.
(ولكن بنعمة الله أحدث): يشير إلى قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }[الضحى:11]، وفي الحديث: ((التحدث بالنعمة شكر )) .
(أن قوماً استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين): يسرت لهم الشهادة في مجاهدة المشركين على إعزاز دين الله.
(ولكل منهم فضل): يستبد به ويحوزه دون غيره، وهو على حظ عند الله تعالى منه، على حد ما يعلم من الإخلاص والإبلاء.
(حتى إذا استشهد شهيدنا): من يختصنا ويتعلق بنا ومن هو منا تميز على غيره من الشهداء وعظم، وارتفعت درجته عند الله تعالى، حتى :
(قيل سيد الشهداء):يريد حمزة بن عبد المطلب، فإنه أعلم نفسه بريش نعامة يوم أحد، وقتله وحشي شهيداً ، وسيد كل شيء أعلاه وأعظمه، وفي الحديث: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر )) ، وفي حديث آخر: ((أنا سيد العالمين، وعلي سيد العرب )) ، وفي الحديث: ((سيد الكلام القرآن ، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الطعام الثريد)) .
(وخصه رسول الله [صلى الله عليه وآله] ): عند الصلاة عليه.
(بسبعين تكبيرة): لأنه يوم أحد صلى على الشهداء بأحد، ومن كملت عليه الصلاة رفعوه إلا حمزة، فإنه استوفى عليه هذه التكبيرات تشريفاً له ورفعاً لمكانه في الشهادة .
(عند صلاته عليه!): من بين سائر الشهداء .
(أولا ترى أن قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله): صبراً واحتساباً لله تعالى.
(ولكل فضل): يعلمه الله، ويوفي عليه أجره.
(حتى إذا فعل بواحدنا):أراد إما عظيم الشأن فينا، كما يقال: فلان واحد زمانه، وإما أن يريد شخصاً من آحادنا وأفرادنا.
(كما يفعل بواحدهم): بالشخص الواحد منهم.
(قيل: الطيار في الجنة وذو الجناحين) : يريد جعفر بن أبي طالب فإنه قتل في مؤتة، اقتحم عن فرس له أشقر، ثم ضرب عراقيبه، ثم أخذ الراية بعد زيد بن حارثة فقاتل بها فقطعت يداه، فاحتضنها، ثم قطع بنصفين بعد ذلك يرحمه الله، ثم أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل، فاستشهد الثلاثة يوم مؤتة ، وأكرمهم الله بما نالوا منها .
(ولولا ما نهى الله عن تزكية المرء نفسه ): حيث قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }[النجم:32].
(لذكر ذاكر فضائل جمة): يشير إلى نفسه، والجم: الكثير.
(تعرفها قلوب المؤمنين): يتحققها من حسن إيمانه، وصدق يقينه، ولم يكن غامصاً لفضل، ولا منكراً له.
(ولا تمجها آذان السامعين): مج الشراب من فِيْهِ إذا رمى به ودفعه، وأراد أنها مقبولة في أذن من سمعها لا يدفعها.
(فدع عنك من مالت به الرمَّية): الرمية: الصيدة ترمى فتصاب، وهذا تعريض بمعاوية، وأراد فدع عنك ذكر من أعمته الدنيا وأمالته إليها عن صراط الله، وطلب مرضاته، وخض في حديث آخر غيره، كما قال زهير:
فدع ذا وعد القول في هرم
واذكر ما خصنا به الله وكرَّمنا به.
(فإنَّا صنائع ربنا): أي إحساناته، واصطنعنا بنفسه، لا إحسان لأحد علينا سواه.
(والناس بعد): أي بعدنا وهو مقطوع عن الإضافة.
(صنائع لنا): إحساننا عليهم، وهم مصطنعون لنا، ومصداق هذه المقالة هو أنا:
(لم يمنعنا قديم عزنا): ما تقادم لنا من العز والفخر عليكم.
(وعادي طولنا ): وقديم كرمنا منسوب إلى عاد، يقال: مجد عادي إذا كان متقادماً.
(أن خلطناكم بأنفسنا): أن ها هنا في موضع نصب على المفعولية أي لم يمنعنا ما تقادم من العز المخالطة لكم.
(فنكحنا): يشير إلى نكاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان.
(وأنكحنا): يشير إلى ما كان من نكاح عثمان لرقية وأم كلثوم بنتي رسول الله .
(فعل الأكفاء): أراد فعلنا معكم فعل من يعتقد الكفاءة، وانتصابه على المصدرية.
(ولستم هنالك): هنا إشارة إلى الأمكنة، وأراد ولستم في ذلك المقام يعني مقام الكفاءة لما يظهر من شرف بني هاشم على غيرهم من سائر بطون قريش قديماً قبل النبوة بحيث لا يمكن جحوده، ومتأخراً بعد النبوة بما شرفهم الله تعالى وجعل فيهم النبوة.
(وأنى يكون ذلك[كذلك] ): أي ومن أي جهة تكون المماثلة والمساواة بيننا وبينكم.
(ومنا النبي): الذي رفع الله قدره على مراتب الأنبياء، وأظهر شرفه في الأولين والآخرين.
(ومنكم المكذب): يعني عبد الله بن أمية ، وهو جد عبد الملك بن مروان، أمه عائشة بنت عبد الله، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله لو صعدت السماء وأنا أنظر إليك وأتيت بصكٍ والملائكة شهود فيه على أنك نبي ما صدقتك، فقد أغرق في التكذيب كما ترى،أو يريد بذلك الوليد بن المغيرة.
(ومنا أسد الله): يريد حمزة بن عبد المطلب، فإنه كان يقال له: أسد الله وأسد رسوله .
(ومنكم أسد الأحلاف): يريد عتبة أيضاً، فإنه لما قال حمزة: أنا أسد الله، قال: أنا أسد الأحلاف، وغرضه أسد الحلفاء .
(ومنا سيدا شباب أهل الجنة): يريد الحسن والحسين .
(ومنكم صبية النار): يريد أولاد مروان بن الحكم لصلبه ، ثم أولاد ابنه عبد الملك بن مروان: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام، فهؤلاء وغيرهم من أولاده طغوا وبغوا في الأرض، ولقيت الأمة منهم موتاً أحمر، وقد سبق ذكرهم.
(ومنا خير نساء العالمين): يريد فاطمة بنت رسول الله، فإنها سيدة نساء عالمها .
(ومنكم حمالة الحطب): يريد عمة معاوية أم جميل أخت أبي سفيان، كانت تحمل حزم الشوك فتنثره في طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل: كانت تمشي بالنمائم بين الناس فتورث بينهم الشحناء والعداوة، أخزاها الله تعالى، وما نقص فعله عن الجميل من توسل إلى الله بسبِّ أم جميل .
(في كثير مما لنا): من المناقب العالية والمدائح الشريفة.
(وعليكم): من المساوئ والأذكار السيئة، وقوله: في كثير، خبر مبتدأ محذوف تقديره: ذلك الذي ذكرته في كثير.
(فإسلامنا ما قد سمع): به وظهر حاله واشتهرأمره بحيث لا ينكره أحد سبقنا إليه.
(وجاهليتنا لا تدفع): أي لا ينكر حالها من اصطناع المعروف وبذله بحيث لا يعد فيها عدوان، ولا تقصير على أحد، كما كان من غيرنا.
(وكتاب الله يجمع لنا): من المحامد والفضائل.
(ما شذ عنا ): ما غاب عني ولم أذكره، ثم تلا قوله تعالى: ({وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ }[الأنفال:75]، وقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:68]).
(فنحن مرة أولى بالقرابة): أراد أن الأولوية لنا من جهة قرب النسب بالرسول، واختصاصنا به.
(وتارة أولى بالطاعة): فإنا أعظم الناس انقياداً لأمره، ومتابعة له في كل أحواله، فالأولوية حاصلة لنا من هذين الوجهين.
(ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله [صلى الله عليه وآله] فلجوا عليهم): يشير بما ذكره ها هنا إلى ما كان من حديث السقيفة، وهو أن المهاجرين والأنصار لما بكروا للاشتوار في الأمر إلى سقيفة بني ساعدة، فقالت الأنصار: منَّا أمير، ومنكم أمير، فقال المهاجرون: نحن أحق برسول الله، والبيضة التي تفقأت عنه، ففلجوا عليهم، أي غلبوهم بما قالوا، وسكت الأنصار عن مقالتهم هذه لما عرفوه من الحق ولم ينكروه .
(فإن يكن الفلج به): يريد بما ذكره المهاجرون من ذكر الاختصاص والقرابة.
(فالحق لنا دونكم): أراد فنحن أولى به وأحق منكم.
(وإن يكن بغيره): أراد وإن تكن الغلبة بغير ما ذكره المهاجرون من ذلك.
(فالأنصار على دعواهم): أراد فحجة الأنصار باقية لم تبطل على زعمك هذا.
(وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت): يشير إلى أبي بكر وعمر وعثمان؛ لأن معاوية يزعم أنه كان حاسداً لهم الخلافة، وأنه يريد تحويلها إلى نفسه.
(وعلى كلهم بغيت): أردت خلاف الحق بأخذها منهم وهم أحق بها.
(فإن يكن ذلك كذلك): فإن يكن البغي مني كما ذكرت حاصلاً.
(فليس الجناية عليك): فيما ذكرته من البغي والحسد.
(فيكون العذر إليك): فأوجِّه العذر في ذلك إليك وتكون مختصاً به.
ثم تمثل ببيت أبي ذؤيب:
(وعيَّرها الواشون أني أحبها
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها):
ولنذكر إعرابه وموضع الشاهد منه.
أما إعرابه فهو ظاهر، وأني أحبُّها: في مو ضع نصب على نزع الجار أي بأني أحبها.
والشكاة: هي الشكاية، وظاهر عنك عارها أي زائل.
وأما موضع الشاهد منه فإنما أورده متمثلاً به بأن الجريمة التي ذكرتها هي بمعزل عنك فلا حاجة إلى توجيه العذر فيها إليك.
(وزعمت أني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش): خششت الجمل أخشه إذا جعلت في أنفه الخشاش، وهي: الخزامة، وأراد بذلك أن يجعله كناية عن بيعته وهو مُكْرَهٌ من غير اختيار من جهة نفسه.
(حتى أبايع): أعطي في الطاعة والانقياد لمن له الأمر في الخلافة.
(فلعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت): يريد أنك جعلت هذا القول منك وارد على جهة الذم لي، وهو حقيقة مدح ومنقبة، وزيادة في الفضل وعلو في المرتبة.
(وأن تفضح فافتضحت): وأن تجعله عاراً علي في المخالفة وذماً لي، فكانت الفضيحة عليك إما بنقصك من لا ينبغي نقصه، وإما بذمك لي من غير جناية ولا استحقاق، وإما لجهلك بحاله وعدم تمييزه، فكانت الفضيحة عليك حاصلة من هذه الأوجه.
ثم أخذ في بيان ما قاله من ذلك بقوله:
(وما على المسلم من غضاضة): أي مذلة ومنقصة.
(في أن يكون مظلوماً): أي عار يلحقه في كونه مظلوماً.
(ما لم يكن شاكاً في دينه): على شك وزلزال من عقيدته.
(ولا مرتاباً بيقينه!): ولا ريب يلحقه فيما هو متيقن له متحقق بحاله.
(وهذه حجتي إلى غيرك قصدها): أراد وهذه الحجج التي ذكرتها هي في الحقيقة متوجهة إلى غيرك؛ لأن الحق هو له على زعمك.
(ولكني أطلقت لك منها): أظهرت وجه الحجة منها.
(بقدر ما سنح من ذكرها): سنح الشيء إذا عرض، وأراد بمقدار ما عرض من لسانك في ذكرها.
(ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان): في خذلانه ونصرته والنصيحة له والاجتهاد في حقه، وغير ذلك مما يكون شداً لعضده وقياماً في حقه.
(فلك أن تجاب عن هذه): أي فأنت مستحق للجواب فيما قلته فيه.
(لرحمك منه): أي لقرابتك منه واختصاصك به، فإذا كنت منصفاً فانظر في حالي وحالك معه نظر منصف،
(فأينا كان أعدى له): أعظم له في العداوة وأدخل فيها.
(وأهدى إلى مقاتله!): وأوضح طريقاً يهتدى بها ويسلكها من يريد مقاتله، والمقاتل: جمع مقتل، وهي أمكنة القتل.
(أمن بذل له نصرته): عرضها عليه.
(فاستقعده واستكفه): طلب قعوده وكفه عن النصرة، وذلك هو الذي وقع من أمير المؤمنين، فإنه أراد الخروج في نصرته والذب عنه، فأرسل إليه بترك الخروج وكفه عنه.
(أم من استنصره فتراخى عنه): طلب النصرة من جهته، وحثه عليها فلم يفعل شيئاً من ذلك، بل تراخى، أي تقاعد عنه بإهمال النصرة وتركها.
(وبثَّ المنون إليه): المنون هو: الموت، وبثه أي نشره ، ووجهه إليه فخذله وأعمل رأيه في خذلانه.
(حتى أتى قدره عليه): وهو الموت بالقتل الذي قدره الله له وحتمه عليه.
(كلا والله): ردع وزجر أي ليس الأمر كما قال معاوية وزعم من أنه ناصر وأني خاذل بل الأمر في ذلك كما حققته وأشرت إليه.
(لقد علم الله {الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ })[الأحزاب:18]: أورد هذه الآية إلى آخرها مثالاً بحاله وحال معاوية فيما نقم من أمر عثمان، وأراد لقد علم الله المثبطين عن رسول الله وهم المنافقون، ({وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ }[الأحزاب:18]): من أهل الكفر والنفاق ({هَلُمَّ إِلَيْنَا }[الأحزاب:18]): اقربوا إلينا، واقعدوا معنا عن الرسول ({وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ }[الأحزاب:18]): أي الحرب ({إِلاَّ}): إتياناً ({قَلِيلاً}): لقعودهم عن ذلك وتثبيطهم عنه، وما أحسن موقعها في حال أمير المؤمنين وحال معاوية ومطابقتها لما هما عليه.
(وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً): منها توليته لأمور المسلمين من لا يصلح أن يكون متولياً لها نحو استعماله للوليد بن عقبة وقد ظهر منه شرب الخمر، واستعماله سعيد بن العاص وعبد الله بن أبي سرح مع ما يظهر من هؤلاء من قلة الدين وأنواع الفسق.
ومنها إعطاؤه لمروان ألف ألف دينار على فتح أفريقيه، وهذا تبذير في مال الله وإعطائه من لا يستحقه.
ومنها إقدامه على أكابر الصحابة بالاستخفاف نحو ما كان منه إلى عبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، وغيرهم من فضلاء الصحابة، وغير ذلك من المطاعن ، فهذه أحداث قد نقمها أمير المؤمنين عليه.
(فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له): إلى الحق ونصيحتي له في الله.
(فرب ملوم لا ذنب له): فهذا مثل يضرب فيمن توجِّه إليه اللوم وهو عنه بريء.
ثم تمثل بالبيت:
(وكم سقت في آثاركم من نصيحة
وقد يستفيد الظنة المتنصحُ):
ولنذكر إعرابه وموضع الشاهد منه:
أما إعرابه فهو ظاهر، كم هذه هي الخبرية، وأراد كم يوم وكم سوق، ونصيحة تمييز، وقد هذه مفيدة للتقليل عند دخولها على الفعل المضارع، كقولهم: إن الكذوب قد يصدق، والظنة: التهمة، والمتنصح هو: الآتي بالنصيحة لغيره.
وأما موضع الشاهد فإنما أورده شاهداً على أني قد بذلت غاية النصح ولكني في ذلك متهم، فأشبه حالي فيما بذلته من النصح وجري التهمة حال هذا القائل من غير مخالفة، ثم تلا هذه الآية: (وما أردت {إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}) : مبلغ جهدي وطاقتي.
({وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ })[هود:88]: فما أعجب موقعها في كلامه! وأحسن مكانها فيه! .
(وذكرت أنه ليس لي ولأصحابي عندك إلا السيف): يريد أن العتاب والمناصحة في جقهم لا ينفعان؛ وإنما النافع في حقهم هو السيف.
(فلقد أضحكت بعد استعبار): الاستعبار هو: ظهور العبرة والبكاء، وأراد أنك أضحكت بكلامك هذا كل من سمعه من جهتك، بعد بكائه على الدين لتصرفك فيه، وكونك أميراً عليه.
(متى أُلْفِيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكلين): نكل عن عدوه إذا جبن عن لقائه، وأراد متى لقوا يوماً متأخرين عن لقاء الأعداء ومكافحتهم.
(وبالسيوف مخوفَّين): ومتى ألفوا مخوفين عن لقاء السيوف ومزاحمتها.
ثم تمثل عليه السلام بقوله:
(لبِّث قليلاً يلحق الهيجا حمل ... لا يأسَّ بالموت إذا حان الأجل)
ولنذكر إعراب هذا الرجز، وموضع الشاهد منه:
أما إعرابه فهو ظاهر، الهيجا: هي الحرب تمد وتقصر، ويوم الهياج : يوم القتال، وحمل فيه روايتان:
أحدهما بالحاء المهملة، وذلك أن مالك بن زهير توعد حمل بن بدر، فقال حمل هذا البيت .
وثانيهما: بالجيم وذلك أن جمل بن سعد أغير على إبله في الجاهلية، فاستنقذها ممن أخذها، وهو يقول:
لبث قليلاً... ... البيت
وأما موضع الشاهد منه فإنما أورده متمثلاً به كما كان حال من أنشأ البيت، وأراد أمير المؤمنين أرود بنفسك فكأنك ببني عبد المطلب، وقد وافوك عن قريب.
(فسيطلبك من تطلب): أراد أنك إذا اجتهدت في طلبهم ولقائهم فسيطلبونك أيضاً ويحبون لقاءك.
(ويقرب منك ما تستبعد): من وقوع الحرب، فأتى في الأول بمن لما كان مراده بني عبد المطلب، وأتى في الثاني بما لما كان مراده الحرب.
(وأنا مرقل نحوك): الإرقال: ضرب من الخبب يكون في الخيل والإبل.
(في جحفل من المهاجرين والأنصار): الجحفل هو: الجيش العظيم، وقوله: من المهاجرين والأنصار يشير إلى ما هو عليه من الحق باتباع أهل البصائرله ، ويعرِّض بحال أهل الشام من أهل الجلافة والغلظة والجهل بالحال.
(والتابعين لهم بإحسان): في صحة البصائر وصدق الأسرار والضمائر عند الله تعالى.
(شديد زحامهم): أراد أن ازدحامهم شديد لكثرتهم.
(ساطع قتامهم): مرتفع غبارهم.
(متسربلين سرابيل الموت): السربال هو: الملحفة الواسعة، واستعار ذلك ها هنا لما يكون في صدورهم من السعة والانشراح بالقتال.
(أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم): كنى بذلك عن شوقهم إلى الله تعالى وسماحتهم بمفارقة الدنيا.
(قد صحبتهم ذرية بدرية): أراد قد صحبهم أولاد آباؤهم من أهل بدر.
(وسيوف هاشمية):من بني هاشم أيضاً.
(قد عرفت مواقع نصالها): مواقع ضربها في هاماتهم ورءوسهم.
(في أخيك): حنظلة قتل يوم بدر.
(وخالك): الوليد بن عتبة.
(وجدك): عتبة بن ربيعة.
(وأهلك) من بني أمية بن عبد شمس ، ثم تلا قوله تعالى:
({وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ })[هود:83]: يشير بذلك إلى معاوية وأحزابه من أهل الشام، ولقد صدَّق الله قوله بما كان في صفين وغيره من المشاهد.
(29) ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل البصرة
(وقد كان من انتشار حبلكم): كنى بذلك عن تفرقهم وتشتت آرائهم ، ومخالفتهم له.
(وشقاقكم): عنادكم وبعدكم.
(ما لم تَغْبُوا عنه): أي ليس خافياً عليكم ولا بكم عنه غباوة.
(فعفوت عن مجرمكم): بالصفح وتداركته عن العثور والزلل.
(ورفعت السيف عن مدبركم): ولم أجهز عليه، وأراد في هذا أني لم أتبعكم العساكر في آثاركم ولم أجهز الجيوش نحوكم.
(وقبلت من مقبلكم): ممن أقبل منكم بالعذر ولم أكذبه فيما قاله.
(فإن خطت بكم الأمور المردية): خطت بخاء بنقطة، وطاء منقوطة من أسفلها، أي تجاوزت بكم الأمور المهلكة.
(وسفه الآراء الجائرة): السفه: نقيض الحلم، وأراد نقصان الآراء المائلة عن الطريقة المستقيمة.
(إلى منابذتي): بالحرب.
(وخلافي): إلى الباطل والغي.
(فها أناذا): على القرب منكم والملاصقة.
(قد قربت جيادي): الخيل المسومة، وسميت جياداً لما فيها من النفاسة.
(ورحلت ركابي): يريد جعلت على الإبل رحالها.
(ولئن ألجأتموني): اضطررتموني.
(إلى المسير إليكم): من أجل خلافكم وشقاقكم.
(لأوقعن بكم وقعة): اللام الأولى هي الموطئة للقسم، واللام الثانية هي الجواب للقسم.
(لا يكون يوم الجمل إليها): يريد ما كان من حرب عائشة وطلحة والزبير ، وركوب عائشة الجمل.
(إلا كلعقة لاعق): يشير إلى سهولة الأمر في اللعقة، فإذا كان يوم الجمل على عظمه، وتفاقم أمره هو بالإضافة إليها كلعقة لاعق، فكيف يكون حالها في ذلك.
(مع أني عارف لذي الطاعة فضله): أراد وإن كنتم على خلافكم هذا فإني لا أنكر فضل أهل الطاعة منكم ولا أجحده.
(ولذي النصيحة حقه): يعني ومن كان ناصحاً لله تعالى وللمسلمين ولي، فإني أوفيه حقه من غير نقص له في ذلك، كما قال تعالى: {يُمَتّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}[هود:3] فمعرفة الفضل لأهل الفضل حث لهم على فعله، وترغيب لغيرهم في مثل حالهم.
(غير متجاوز متَّهماً إلى بريٍّ): أراد أني لا أتجاوز عمن كان مطيعاً وناصحاً ولاأعدل عن أهل الطاعة والنصح إلى من كان متبرئاً عني.
(ولا ناكثاً إلى وفيِّ): يريد ولا أنكث بمن كان وافياً لي في عقوده ومعاملاته.
(30) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية
(فاتق الله فيما لدنك ): لدن من ظروف الأمكنة، وفيها لغات كثيرة، وقد تكون مضافة، قال الله تعالى: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ }[هود:1] {مِنْ لَدُنَّا}، ولا يدخل عليه من حروف الجر إلا من، وأراد
هاهنا اتق الله فيما في جهتك، ويتعلق بك من الأمور التي أنت مطالب بها ومحاسب عليها.
(وانظر في حقه عليك): من تأدية ماأوجبه عليك، والانكفاف عما نهاك عنه، فإن حق الله على العباد هو أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر.
(وارجع إلى معرفة ما لا تعذر في جهالته ): يريد وارجع عن جهلك الذي استبدلته عما هو واجب عليك علمه والإحاطة بمعرفته، وغرضه من هذا الرجوع إلى طاعته والكف عن البغي والتعرض لسخط الله بإقامته، والدعاء إليه، والإصرار على الجهل فيه.
(فإن للطاعة أعلاماً واضحة): لا تلتبس على من أراد سلوكها.
(وسبلاً نيرة): منيرة لمن سار فيها.
(ومحجة نهجة): جادة ينهجها من أرادها.
(وغاية): الغاية: منتهى الأشياء.
(مطَّلبة): أي ذات طلب يطلبها من كان قاصداً لها، ومعنياً بتحصيلها وفعلها.
(يردها الأكياس): جعلها ها هنا كالمورد من الماء، ولهذا قال: يردها أي يقصدها، الأكياس: أهل الكياسة والعقل، وفلان كيس أي عاقل، والكيس: الظرف أيضاً، وفي الحديث: ((إن أكيس الكيس من نظر لنفسه ، وعمل لما بعد الموت)) .
(ويخالفها الأنكاس): أي ينكب عن طريقها الأراذل من الخلق، والنكس هو: الرجل الضعيف.
(من نكب عنها):عدل وجانبها.
(جار عن الحق): انصرف عنه ومال.
(وخبط في التيه): تاه إذا تحير وذهب في كل جهة.
(وغيَّر الله نعمته): من أجل صدوده عن الحق، وإعراضه عنه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الأنفال:53] من القيام بحدود الله وواجباته.
(وأحل به نقمته): أصابه بها وأوقعها به.
(فنفسك نفسك): إما تحذير أي أحذر نفسك أن تولجك في المكاره، واحذر اتباع هواها فإنه مهلكة لك، وإما إغراء، وأراد الزم نفسك عن التهور في العظائم والموبقات.
(فقد بيَّن الله لك سبيلك): أوضحه لك غاية الإيضاح.
(وحيث تناهت بك أمورك): في تعلق حيث وجهان:
أحدهما: أن يريد وقف حيث تناهت بك أمورك، ولا تتعدى ذلك وقف عنده.
وثانيهما: أن يكون مراده فقد بين الله لك سنتك ، وبين لك حيث تناهت بك الأمور أيضاً، وكشفه لك.
(فقد أجريت إلى غاية خسر): أراد فقد أجريت نفسك، أو يريد فقد أجريت خيلك إلى غاية الخسارة، وهي خسارة النفس بالبغي وركوب غاربه.
(ومحلة كفر): بنعم الله تعالى وكتمان سائر آلائه عليك.
(فإن نفسك قد أوحلتك شراً): الوحل بالتحريك والحاء المهملة هو: الطين الرقيق، وأراد أن نفسك قد أوقعتك في وحل الشر ومكروهه.
(وأقحمتك غياً ): قحم نفسه وأقحمها قحوماً وإقحاماً إذا رمى بها من غير روية، وأراد أنه باتباع هواها أوقعته في خلاف الرشد وفي كل عماية.
(وأوردتك المهالك): جمع مهلكة وهي: موضع الهلاك.
(وأوعرت عليك المسالك): فلا يمكنك سلوكها لوعورتها، وامتناع المضي فيها، وفي هذا غاية النصح والبيان لمعاوية لو أفلح، ورجع عن جهله وأصلح {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً}[النساء:119].
(31) ومن وصيته للحسن بن علي عليهما السلام كتبها له بحاضر قنسرين منصرفاً من صفين
وهي من أعجب الوصايا؛ لاشتمالهاعلى غرائب الحكم، وبدائع الأدب ، وقد قيل: إنه لو كان كلام يكتب بالذهب لكان هذا :
[بسم الله الرحمن الرحيم]
(من الوالد الفانِ): أي الهالك، وطرح الياء من الفان من أجل المشاكلة في التسجيع .
(المقر للزمان):بالتغير والنفاد والتحول والانقلاب.
(المدبر العمر): الذي قد تولَّى عمره، وذهب يوماً فيوماً، وساعة فساعة.
(المستسلم للدهر): المنقاد له وما يحدث فيه من التغيرات، والتقلُّبات العظيمة.
سؤال؛ هل من تفرقة بين الدهر والزمان كما أشار إليه ها هنا؟
وجوابه؛ أما من جهة اللغة والشرع فلا فرق بينهما؛ فإن ماهية أحدهما هي ماهية الآخر، وذكر بعضهم تفرقة عقلية وليس ورائها كثير فائدة، وحاصل كلامه هو أن الزمان عبارة عن حركة الفلك، ويعرض لها أمران:
أحدهما: يكون باعتباره زماناً، وذلك يكون باعتبار تقدمها وتأخرها، فهي من هذا الوجه زمان لانقسامها في نفسها باعتباره إلى متقدم ومتأخر.
وثانيهما: يكون باعتباره دهراً، وذلك بالإضافة إلى مطلق استمرار الحركة، وأنها لا تنفك، فهي من هذا الوجه دهر.
(الذام للدنيا): الناقص لها في كل أحوالها، والمزري عليها في جميع أمورها، وإليه الإشارة بقوله: (أناً كابُّ الدنيا)، وقد شرحناه.
(الساكن مساكن الموتى): يعني القبور؛ لأنه عن قريب وقد صار إليها.
(الظاعن منها غداً): المنتقل منها على القرب.
وقوله: من الوالد الفان، خبر مبتدأ متعلق بمحذوف تقديره: كتابي هذا من الوالد.
(إلى المولود): وهذا هو الخبر، وأراد بالمولود يشير إلى أنه بعضه بالولادة منه؛ لكونه مخلوقاً من مائه.
(المؤمل ما لايدرك): من أغراضه ومقاصده من الدنيا.
(السالك سبيل من قد هلك): الحاصل في طريقهم، والعابر في معابرهم .
(غرض الأسقام): الغرض بالغين والضاد المنقوطين هو: ما يُرْمَى، وأراد أنه كالغرض ترميه الأسقام بسهامها.
(ورهينة الأيام ): أراد أن كل نفس فهي مرتهنة عند الأيام لا يفكها إلا الموت.
(ورمية المصائب): أي لا تزال المصائب ترميه حتى تهلكه.
سؤال؛ أراه ذكَّر الغرض وأنَّث الرهينة والرمية، وكلها راجعة إلى المولود فهل له وجه في ذلك؟
وجوابه؛ أما الغرض فإنه اسم مذكر لامحالة فلا وجه لتأنيثه، وأما الرهينة والرمية فليستا بتأنيثي رهين ومرمي، لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث نحو: جريح وقتيل، وإنما هما اسمان بمعنى الرهن والرمي كالشتيمة بمعنى الشتم، ويمكن أن يقال: إنه أراد بالمولود النفس وهي مؤنثة، وفعيل بمعنى مفعول إنما يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا كان معه موصوفه، كما يقال: امرأة جريح ورجل جريح، فأما إذا لم يكن معه موصوفه أُنِّث لا محالة، ولهذا تقول: مررت بقبيلتهم فتؤنثه بلا مرية، فلما أراد بالرهينة والرمية النفس،ولم يذكر موصوفه أنَّثه كما ترى.
(وعبد الدنيا): لكونه ساعياً بالجد والاجتهاد في شهواتها، كما يسعى العبد في خدمة سيده ومولاه.
(وتاجر الغرور): يريد أن تصرفه فيما هو فيه تصرف المغرور.
(وغريم المنايا): فهي لا تزال طالبة له حتى تأتي عليه.
(وأسير الموت): يأسره ويقبض عليه بالإهلاك والفناء.
(وحليف الهموم): أخوها والملازم لها، وفي الحديث: ((أنه عليه السلام حالف بين قريش والأنصار)) أي آخا بينهم؛ لأنه لا حلف في الإسلام.
(وقرين الأحزان): المقارن لها حتى لا تنفك منه أبداً؛ لكثرة ما يعرض من البلايا والأسقام.
(ونَصْب الآفات): النصب بتحريك العين هو: التعب والمشقة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ} [التوبة:120]، والنصْب بسكون العين: ما نصب لِيُعْبَدَ من دون الله ، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ }[المعارج:43]، والنُصب بضم الفاء: الشر والبلاء، قال تعالى {أَنّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ }[ص:41] ونصبت الشيء نصباً إذا أقمته، وسماعنا ها هنا بفتح الفاء وسكون العين أي أنه منصوب لعروض الآفات عليه.
(وصريع الشهوات): أراد أنها تلقيه على وجهه لكثرة المواظبة عليها .
(وخليفة الأموات): على ما كان بعدهم من تراثهم؛ لأن أكثر ما في يده حاصل من جهة غيره خلَّفه له وصدر عنه.
(أما بعد، فإن فيما تبيَّنت من إدبار الدنيا عني): توليها وانقطاعها من يدي بالموت والإسراع إلى الفناء.
(وجموح الدهر عليَّ): جمح الفرس إذا لم يملك صاحبه رأسه، وأراد أنه متوثب عليه كثير النزو بالبلايا والفجائع والشرور.
(وإقبال الآخرة إليَّ): بأعباءها وأهوالها، والعظائم التي تكون فيها.
(ما يزعني عن ذكر من سواي): ما هذه موصولة، وهي في موضع نصب اسماً لأن قبلها، ويزعني يكفني عن أن أكون ذاكراً لغيري، وأراد أن في نفسه شغلاً له عن التعلق بغيرها من أفناء الخلق.
(والاهتمام بما ورائي): الاهتمام افتعال من الهمِّ، وأراد أن همَّ نفسي يكفيني عن همِّ من بعدي.
(غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي): غير ها هنا منصوبة على الاستثناء المنقطع، وأراد لكن حيث كنت متفرداً بذكر هموم نفسي وما يعنيني أمره من أمر نفسي وحدها.
(فصدَّقني رأيي): لما شغلت نفسي بأمرها.
(وصرفني عن هواي): ذكري لأحوالها وأمورها .
(وصرح لي محض أمري): المحض من الشيء: خالصه، وأراد أنه تمحض لي خالص أمري من ذلك، واستظهرت على حقيقة الأمر فيه.
(فأفضى بي): الفاعل في أفضى مضمر تقديره: عائد علىالرأي، أي أخرجني، من قولهم: أفضينا إلى الصحراء، وأفضيت بسري إلى فلان، وأراد أخرجني بعد ذلك:
(إلى جد): من الأمر.
(لا يكون فيه لعب): يخالطه ويمازجه بل هو خالص عن ذلك.
(وصدق لا يشوبه كذب): يتعلق به زُوْرٌ ولا يخالطه.
(وقد وجدتك بعضي): يشير بها إلى أن ولد الإنسان هو كبده وفؤاده ، وعن بعضهم: من أراد أن ينظر إلى كبد تمشي على الأرض فلينظر إلى ولده ، ولقد أحسن من قال:
وما ولد الإنسان إلا فؤاده
يرفرف ما بين الجوانح والصدر
إذا مات ولى القبر نصف فؤاده
وعاد بنصف القلب والنصف في القبر
(بل وجدتك كلي): نفسك نفسي، وأمرك أمري.
ثم بيَّن مصداق ذلك على جهة التعليل، بقوله :
(حتى كأن شيئاً لو أصابك): من خير وشر، ومحمود ومكروه.
(أصابني): وقع فيَّ وضامني.
(وكأن الموت لو أتاك): با شرك وخالطك.
(أتاني): باشرني وخالطني.
(فعناني): أي أهمَّني، من قولهم: اعتنيت بحاجتك أي اهتممت بها، وفي الحديث: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) أي يهمُّه.
(من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي): أي من حالك وإصلاحه ما يهمني من إصلاح أمري وشأني.
(فكتبت إليك كتابي هذا): عهدت إليك هذا العهد، وأوصيت إليك بهذه الوصية.
(مستظهراً به): أي مستعيناً، من قولهم: استظهرت بفلان على الأمر إذا استعنت به عليه.
(إن أنا بقيت أو فنيت): فهو في كلتا الحالتين استعانة واستظهار، وقوة على أمرك في الدين والدنيا، وإصلاح في الآخرة والأولى، وإنه لكتاب بالغ في استنهاض الحكم الدينية، وغاية في الوصول إلى المنافع الأخروية، ولا يكاد يبلغ كُنْهِ حاله ويستولي على أسراره ويقع في نفسه غاية الوقوع؛ إلا من ظفر من الزهادة وخوف الله بحظ وافر، وكان له في الإعراض عن الدنيا، والإقبال إلىالآخرة نصيب كابر .
(فإني أوصيك أي بني): التصغير ها هنا إما للترحم كقوله عليه السلام: ((أصيحابي أصيحابي)) ، وإما لتقريب ما بينهما من المنزلة، كقولك : هذا أصيغر من ذاك.
(بتقوى الله ولزوم أمره): مراقبته في السر والعلانية، وملازمة أمره بامتثاله والمسارعة في فعله.
(وعمارة قلبك بذكره): يشير إلى قوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }[الرعد:28] وقوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }[الزمر:23]، وفي الحديث: ((ذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراء في وسط الهشيم)) ، وفي حديث آخر: ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ أعظم منه)) ، وفي حديث آخر: ((أفضل ما قلته وقاله الأنبياء قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له)) .
(والاعتصام بحبله): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد تمسكوا بالدين الذي هو حبل الله وامتنعوا به عن عذابه ، ومنه عصام القربة وهما ما تشد به لِتُحمل ، وهو السير الذي تُحْمَلُ به.
وثانيهما: أن يكون مراده تحفظ بلطف الله الذي هو حبله عمَّا يعرض لك من الأمور الهائلة، أخذاً من قولهم: عصمت المال فانعصم أي حفظته فاحتفظ، وأراد في هذا كله اللجأ إلى الله تعالى في كل أموره، والاستناد إليه، ولهذا قال بعده:
(وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله): لأن سائر الأسباب كلها منقطع إلا هو، وإنها يخشى عليها التغير إلا ما كان من جهة الله تعالى.
(إن أنت أخذت به!): في أمورك كلها، واعتمدت عليه في كل أحوالك، وعوَّلت عليه.
(أحي قلبك بالموعظة): يريد أن إغفاله عن الموعظة إقبال على الدنيا وهو موت، وتذكيره أحوال الماضين والاتعاظ بهم هو إقبال على الآخرة وهو نفس الحياة.
(وأمته بالزهادة): عن ذكر الدنيا والإقبال عليها، والتعرض لها.
(وقوِّه باليقين): بالتحقق للأمر والقطع به، وأن المقصود هوالآخرة والعمل لها.
(ونوِّره بالحكمة): باكتساب الآداب والتخلق بها والمواظبة عليها.
(وذللِّه بذكر الموت): عن جموحه ونزواته، وفي الحديث: ((لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه : الفقر، والمرض، والموت)) وهو أعظمها وأهولها وأدخلها في الصِّغار والذلة.
(وقرره بالفناء): سكّنه عمَّا ينزع إليه.
سؤال؛ أي قرار للقلب في ذكر الفناء كما أشار إليه هاهنا؟
وجوابه؛ هو أن الإنسان إذا تذكر حاله في الفناء فإنه يُنْزِعُ عمَّا يختلج في قلبه من الإسراع إلى الدنيا، والإقبال عليها، ويسكن ما يضطرب في جوانح صدره من ذلك، فلهذا قال: قرره بالفناء، يشير إلى ما ذكرناه.
(وبصِّره فجائع الدنيا): أعرض عليه ليرى مصائب الدنيا بأهلها وأخذها لأرواحهم وسلبها لما في أيديهم من النعم واللذات، وتغيرها عليهم في كل أحوالها.
(وحذِّره صولة الدهر): صال الجمل يصول إذاغلب وقهر، وأراد كن على حذر من قهره وغلبانه، فإن له صولات لا تُرَدُّ، ووثبات لا تُدْفَعُ.
(وفحش تقلب الليالي ): كل شيء جاوز الحد في المبالغة فهو فاحش، ومنه الفاحشة لأنها جاوزت الحد في القبح والشناعة، قال طرفة:
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أراد الذي جاوز الحد في البخل.
(وأعرض عليه أخبار الماضين): من الأمم الماضية والقرون الخالية ممن ترأس وساد، وجمع الجيوش والعساكر وقاد.
(وذكِّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين): من العقوبات العظيمة، والنوازل الباهرة ، والحوادث المفرِّقة.
(وسر في بلادهم وآثارهم): فالبلاد مُدَعْثَرَة، والآثار منطمسة.
(فانظر ما فعلوا): من الأفعال، فإنها مكتوبة محفوظة عليهم، ما يغادر منها صغيرة ولا كبيرة.
(وعمَّا انتقلوا): من المساكن الرفيعة، والقصور المشيدة، والمراتب العالية، والأموال والكنوز والذخائر.
(وأين حلوا ونزلوا): في القبور والأجداث، ثم أوضح ذلك بقوله:
(فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة): من الأولاد والبنين والزوجات والأمهات والآباء.
(وحلوا ديار الغربة): حيث لا أنيس معهم ولا مصاحب يؤنسهم، في قبور خالية وأماكن وحشة.
(وكأنك عن قليل وقد صرت كأحدهم): كالواحد منهم في الموت والفناء والتغيروالزوال.
(فأصلح مثواك): موضع إقامتك.
(ولا تبع آخرتك بدنياك): أراد ولا تجعل دنياك عوضاً عمَّا يحصل لك في الآخرة، فإن الدنيا منقطعة، والآخرة باقية دائمة.
(ودع القول فيما لا تعرف): أراد أن القول فيما لا يعرف الإنسان حاله هو الجهل بعينه.
(والخطاب فيما لا تكلّف): فإن الخطاب فيما لم يرد على الإنسان فيه تكليف يكون لا محالة رمي في العماية، وخبط في الجهالة، وعبث لا فائدة تحته.
(وأمسك عن طريق): تترك السلوك لها.
(إذا خفت ضلالته): إذا كنت لا تأمن وقوعك منها في المحذور في الدين.
(فإن الوقف عند حيرة الضلال): عند التحير والارتباك في المكاره العظيمة.
(خير من ركوب الأهوال): أهون من الخوض في الأهوال العظيمة وارتكابها.
(وأمر بالمعروف): حض على فعله، وحث على الإتيان به.
(تكن من أهله): من المنسوبين، والمعزوين إليه، وفي الحديث:((أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة )) .
(وأنكر المنكر): إِنْهَ عنه وأبعد غاية البعد.
(بيدك): أي وغيَّره بيدك وهو الكفُّ عنه.
(ولسانك): بالنكير عليه، والتعنيف على من فعله.
(وباين من فعله بجهدك): المباينة هي: المباعدة، وأراد البعد عنه بقدر الطاقة، والإمكان منك.
(وجاهد في الله حق جهاده): القدر الذي يتوجه من جهتك من حقه من جهاد النفس على فعل الطاعة، وجهادها على الانكفاف عن المعصية، والجهاد بالدعاء إلى الله تعالى بالعلم، وجهاد أعداء الله بالسيف، فهذه الأوجه كلها جهاد.
(ولا تأخذك في الله لومة لائم): أراد أنك لا تخشى فيما يكون متعلقاً بحق الله من أحد ملامة، فتترك حق الله من أجل ما يلحقك من اللوم، ولقد مدح المؤمنين في جهادهم بقوله:
{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ }[المائدة:54].
(وخض الغمرات إلى الحق): الغمرة: كثرة الماء، والغمرة: الزحمة من الناس، وأراد اقتحم الأمور الشديدة إلى نيل الحق وبلوغه.
(حيث كان): لايحجزك عن نيله بُعْدُ مكان، ولا حزونة طريقة .
(وتفقَّه في الدين):تفهَّم ما يهمك ويعنيك من أمره، وفي الحديث: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )) أي يعلِّمه معالمه، ويرشده إلى طرائقه .
(وعوَّد نفسك الصبر على المكروه): أراد تعويد النفس وتمرينها على احتمال الأذى، وتحمل المكاره فإن ذلك يقود إلى كل خير، وفيه التشبُّه بأخلاق النبوة، وفي الحديث: ((الصبر أعظم جنود المؤمن )) لأنه يغلب به كل من قاومه، وأراد المكر به.
(ونعم الخلق التصبُّر): التصبُّر هو: تكلُّف الصبر.
وسئل عليه السلام عن الإيمان؟ فقال: ((الصبر، والسماحة)) ، وفي الحديث: ((التصبُّر كنزٌ من كنوز البر )) .
وعن ابن عباس رضي الله عنه: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه:
صبر على أداء الفرائض لله وله ثلاث مائة درجة.
وصبر عن محارم الله، وله ثلاث مائة درجة.
وصبر في المصيبة عند الصدمة الأولى وله تسعمائة درجة .
وإن نفَّس الله لي في المهلة، وزاد لي في الأجل ذكرت حقيقة الصبر وأسبابه، وكيفية اكتسابه، في شرحي لكتاب (المصباح) للصادق عليه السلام، في علم التصوف، وسلوك طريق الآخرة، فالنية صادقة في ذلك بمعونة الله تعالى .
(ألجئ نفسك في الأموركلها إلى إلهك): أراد فوّضها في التدبير إليه، ولا تكلِّف نفسك ما لا تطيقه من تدبيرها ، فهو كافيك في ذلك كله.
(فإنك تلجئها إلى كهف حريز): لا يمكن الوصول إليه.
(ومانع):لك عن كل محذور.
(عزيز): لا يضام ولا يهضم من كان ناصراً له.
(وأخلص في المسألة لربك): أراد أنك إذا سألت الله مسألة، فمن آداب الدعاء فيها هو الإخلاص فيها، والعلم بأنه لا قضاء لها إلا من جهته، ولا يقدر عليه أحد سواه، أو أراد إذا سألت مسألة من جهة الله فاقطع واجزم ولا تردد نفسك، وفي الحديث: ((إذا سأل الله أحدكم مسألة فليجزم فيما يسأل فيه)) .
(فإن بيده العطاء): لمن يحب.
(والحرمان): لمن يريد، قال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}[فاطر:2] أبداً.
(وأكثر الاستخارة): يروى بالخاء أي اطلب الخيرة من الله تعالى في جميع أمورك كلها.
وفي الحديث: ((أن الرسول عليه السلام كان يلقننا الاستخارة؛ كما يلقننا السورة من القرآن)) .
وبالجيم أيضاً، وأراد وأكثر ما تستجير بالله في جميع أحوالك من مهمات الدين والدنيا؛ فإنه لا تُسْتَدْفَعُ البلايا إلا بلطفه وحفظه.
(وتفهم وصيتي): تحققها وتعقَّل ما تضمنتها.
(ولا تذهبن عنك صفحاً): ذهب عن الشيء صَفْحاً إذا أعرض عنه.
(فإن خيرالقول ما نفع): صاحبه وظهرت فيه علاماته.
(واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع): صاحبه في دينه ولادنياه، ولهذا فإن الرسول [ عليه السلام] كان يعوذ بالله من العلم الذي لا ينفع، فكان يقول في دعاءه: ((أعوذ بك من علم لا يَنْفَعُ ، ومن قلب لا يَخْشَعُ، ومن عين لا تَدْمَعُ، ومن دعاء لا يُسْمَعُ، أعوذ بك من شرِّ هذه الأربع)) .
(ولا يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لا يَحقُّ تَعَلُّمُهُ): أراد أن كل ما لا يجب تعلُّمه من العلوم؛ فإنه لا ينتفع به صاحبه، وعلى هذا يكون أنفع العلوم أوجبها فرضاً، وأعظمها وجوباً.
ثم حثَّه بعد ذلك على فعل خصال ينتفع بها، بقوله:
(أي بني ، لما رأيتني قد بلغت سناً): أفعال القلوب نحو: علمت ورأيت يجوز الجمع فيها بين ضميري الفاعل والمفعول، فتقول: رأيتني وعلمتني، وأراد أني قد كبرت، والسنُّ: أكبر العمر.
(ورأيتني أزداد وَهْناً): ضُعْفاً كلما دخلت في السنِّ ونقصت أيامي.
(بادرت): عاجلت.
(بوصيتي إياك خصالاً ): الخصلة هي: الخلة من خير أو شر، قال الكميت:
سبقت إلى الخيرات كل مناضل
وأحرزت بالعشر الولاء خصالها
(منها أن يعجل بي أجلي): يسبق عليَّ الموت.
(دون أن أفضي إليك بما في نفسي): أظهره لك وأحثك على فعله.
(وأن أنقص في رأيي): بالضعف والوهن.
(كما نقصت في جسمي): بالهزال والشيخوخة والهرم.
(أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى): بعض الأهواء الغالبة.
(وفِتَن الدنيا): ما يفتتن به الإنسان من خير يلهي أو شر أو غير ذلك من البلاوي.
(فتكون كالصعب النفور): كالبعير الذي صار فحلاً غير ذلول لا يطاق عليه.
(وإنما قلب الحدث): الصغير من الرجال.
(كالأرض الخالية): عن سائر النباتات الطيبة.
(ما ألقي فيها من شيء قَبِلتُهُ): نبت فيها على أحسن هيئة وأجملها وأحمدها في المنظر والمرأى.
(فبادرتك بالأدب): بالتذكير والموعظة.
(قبل أن يقسو قلبك): عن قبول المواعظ ، فلا يقبل شيئاً منها.
(ويشتغل لبك): أي عقلك بغيرها مما لا فائدة فيه ولا منفعة وراءه.
(لتستقبل): تعليل لقوله: بادرتك من أجل أن تستقبل.
(بجد رأيك من الأمر): أعلاه وأقواه وأعظمه تبصرة في الأمور.
(ما كفاك أهل التجارب بغيته ): ما هذه موصولة في موضع نصب على المفعولية، أي تستقبل ما قد فرغ أهل الخبرة عن طلبه وتحصيله.
(وتجربته): الخبرة فيه والتحقق بحاله .
(فتكون): نصب عطفاً على قوله: لتستقبل، أو رفع على الاستئناف، أي وأنت تكون:
(قد كفيت مؤونة الطلب): المؤونة فعولة من الأوْن، وهو: الخُرج ؛ لأنها تثقل الإنسان وتتعبه، وفي الحديث: ((تكون المعونة على قدر المؤونة )) ، تهمز ولا تهمز، وأراد أنك تكفى ثقل الطلب وكلفته.
(وعوفيت من علاج التجربة): المعافاة هي: المسالمة، وأراد أنك قد سولمت من علاج أهل التجارب.
(فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه): أراد فجاءك على سهولة من غير مشقة وعلاج، ما قد كنَّا نعالج ويشقُّ علينا مقاساته وتعبه.
(واستبان لك): أي اتضح.
(ما ربما أظلم علينا فيه ): ما كان مظلماً علينا عند طلبه وتحصيله.
(أي بني، وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي): من الأمم والقرون.
(فقد نظرت في أعمالهم): الحسنة والسيئة.
(وفكرت في أخبارهم): قصصهم وسيرهم.
(وسرت في آثارهم): أماكنهم التي عمروها ومساكنهم التي زخرفوها، وطرقهم التي سلكوها.
(حتى عدت كأحدهم): كالواحد منهم في تحققها وتبينها.
(بل): إضراب عما ذكره من أنه كالواحد منهم.
(كأني بما انتهى إليّ من أمورهم): قرع سمعي وتحققته من أحوالهم كلها.
(قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم): في شدة التحقق وعظم التبصر.
(فعرفت صفو ذلك من كدره): خيره من شره، فأخذت ماهو خير، وتركت ما هو شر.
(ونفعه من ضره ): وما يضر من ذلك وما يكون نافعاً منه.
(فاستخلصت لك من كل أمر جليله ): أعظمه وأسناه، وأحسنه موقعاً.
(وتوخيت لك جميله): طلبت لك من ذلك أجمله وأحمده.
(وصرفت عنك مجهوله): ما يكون مجهولاً من أموره، لا يعرف حاله.
(ورأيت حين عناني من أمرك): وعرفت وقت ما أهمني من إصلاح حالك وأمرك.
(ما يعني الوالد الشفيق): ما هذه موصولة في موضع رفع فاعلة لعناني، والشفقة: المحبة، والمشفق: المحب لما يوده.
(وأجمعت عليه من أدبك): يقال: أجمعت أمري إذا عزمت عليه، ولا يقال: جمعته، قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ }[يونس:71]، أي وادعوا شركاؤكم؛ لأنه لا يقال: أجمعت شركائي حكاه الكسائي.
(أن يكون ذلك): أي الأدب، والتثقيف مني.
(وأنت مقبل العمر): أي في أول أوانه.
(مقتبل الدهر): أي ذو إقبال منه وبُلَهْنِيَة .
(ذو نية سليمة): عما يعرض لها ويشوش حالها وأمرها.
(ونفس صافية): عن المكدرات والعوارض.
(وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله وتأويله): أول ما أضعه في صدرك هو فهم كتاب الله تعالى، وفهم تأويله فيما كان منه مفتقراً إلى التأويل.
(وشرائع الإسلام): التي شرعها الله لخلقه، وعرَّفهم مصالحهم فيها.
(وأحكامه) ما حكم منها وفرض.
(وحلاله وحرامه): ومعرفة ما أحلَّه لعباده، وحظره عليهم.
(لا أجاوز ذلك بك إلى غيره): لا أعدل عما ذكرته من العلوم إلى غيرها لما في ذلك من المصلحة العامة.
(ثم أشفقت أن يلتبس عليك): الإشفاق ها هنا هو: الخوف، وأراد أني أتخوف عليك أن يلتبس عليك.
(ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم): يريد اختلافهم في هذه المذاهب وميلهم إلى هذه الأهواء، واستحداثهم لهذه الآراء، وغرضه بذلك اختلافهم في الديانات، ومسائل الاعتقاد مما يكون الحق فيه واحداً ومما يعظم فيه الخطر، ويحصل بسببه الهلاك في هذه المسائل الإلهية، والاعتقادات الدينية.
(مثل الذي التبس عليهم): أراد أن تقع في مثل ما وقعوا فيه من اللبس واختلاف الآراء.
(فكان إحكام ذلك): الإشارة إلى ما ذكره أولاً من الأمر الملتبس.
(على ما كرهت من تنبيهك): الكره بالضم والفتح هو: المشقة، يقال: فعلت هذا على كره أي مشقة، وغرضه فكان إحكام ذلك من جهتي على ما يلحقني من المشقة بترك تنبيهك في ذلك.
(له): أي من أجله وسببه .
(أحب إليّ من إسلامك): أعظم إليّ محبة من تسليمك.
(إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة): أن تكون هالكاً مع من هلك فيه، واتبع رأيه ولم يعول على حجة واضحة، ولا كتاب منير.
(ورجوت): إذا فعلت لك ذلك.
(أن يوفقك الله فيه): يريد الأمر الذي تخوض فيه.
(لرشدك): لما قضاه لك من الرشد من جهته.
(وأن يهديك): يدلك.
(لقصدك): للطريق المستقيمة التي تقصدها.
(فعهدت إليك وصيتي هذه): لتكون إماماً لك في أمورك، وعوناً لك على مصالحك الدينية.
(واعلم أي بني أن أحب ما أنت آخذ به من وصيتي هذه): أعظم ما أحبه وأريد لك أخذه منها.
(تقوى الله): اتقاه ومراقبته في الأمور كلها.
(والاقتصار على ما فرضه الله عليك): تأدية هذه الأمور المفترضة من جهة الله تعالى، فإن هذه الفروض مصالح عظيمة، وحالها عند الله عظيم، ولهذا وعد على فعلها الجنة، وأوعد على تركها النار.
(والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك): يريد بهذا من كان من ولد إسماعيل من الأنبياء وأهل الصلاح منهم، فإن الأخذ بطرائقهم فيه النجاة لا محالة.
(والصالحون من أهل بيتك): ممن كان سالكاً لطريق الصلاح من أولاد هاشم، ويحتمل أن يريد بذلك نفسه عليه السلام، فإن الاقتداء به والاهتداء بهديه هي الطريقة الحسنى، والمنقبة المثلى.
(فإنهم لم يَدَعُوا): لم يتركوا أنفسهم.
(أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر): في خواص دينهم وما يتعلق بتكاليفهم.
(وفكروا كما أنت مفكر): فيما يعنيهم أمره من ذلك.
(فردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا): أراد فرجع الأمر في عاقبة أمرهم إلى الأخذ بما تحققوه وعقلوه.
(والإمساك عما لم يكلفوا): أراد وترك الخوض فيما لا حاجة لهم فيه، ولا غرض لهم فيه.
(فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك): الإباء هو: الكراهة، وأراد فإن كرهت نفسك قبول ترك الخوض في مذاهب الناس، والاطلاع على ما هم عليه في هذه الاعتقادات، والدرية بأحوالهم فيها ولم تقف على غرضك.
(دون أن تعلم كما علموا): تحيط بما أحاطوا به، وتدرك غوره.
(فليكن طلبك ذلك بتفهّم): إدراكك له بعلم ودراية.
(وتعلُّم): ومعرفته شيئاً فشيئاً، وافعل ما قلته لك، وأشرت إليك به.
(لا بتورط الشبهات): الورطة: الهلكة، وأراد من غير أن تكون هالكاً في اتباع الشبهات واقتفاء آثارها وسلوك مناهجها.
(وعلو الخصومات): ارتفاعها وكثرتها، والمعنى في هذا هو أنك إذا أردت الخوض في مذاهب الناس فاحبس نفسك على تقوى الله والورع، ولا ترسلها في هواها فتهلك، وتقع في المتالف.
(وابدأ قبل نظرك في ذلك): الإشارة إلى خلاف الناس.
(بالاستعانة بإلهك): بطلب الإعانة منه في كل أحوالك، وأمورك.
(والرغبة إليه في توفيقك): وأن تكون راغباً إليه في تحصيل اللطف لك بموافقة الحق من ذلك، ومطابقته.
(وترك كل شائبة): واسأل منه أن يوفقك لترك ما يشوب دينك، أو ترك كل خصلة شائبة له أيضاً.
(أولجتك في شبهة): أدخلتك في الشبهات، وأورطتك في كل عظيمة وهلكة.
(أو أسلمتك إلى ضلالة): أو كانت مسلمة لك إلى ضلالة عن الحق ومخالفة له إلى الباطل.
(فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك): عن كدورة التعصب، ومال عن اتباع الهوى.
(فخشع): وكان خاشعاً لله متواضعاً لقبول الحق وإعطائه.
(وتمَّ رأيك): في تقوى الله.
(واجتمع): على فعلها والاحتكام لها.
(وكان همك في ذلك هماً واحداً): ليس متفرقاً إلى جهات مختلفة وشعوب متشتتة.
(فانظر فيما فسرت لك): يريد أنك تأخذ بما عرفت من الأمور كلها، وتمسك القول عما لا تعرفه، ففي هذا سلامة عن كل محذور في الدين، وأمن من الوقوع في المهالك.
(وإن لم يجتمع لك ما تحب من نفسك): ولم تملكها عند الخوض، ولم تكن آمناً عليها في ذلك.
(وفراغ فكرك ونظرك): فما أديا إليه فاعمل به من غير مخالفة.
(واعلم أنك إنما تخبط العشواء): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنك بمخالفتي فيما أمرتك به، ونهيتك عنه.
وثانيهما: أن يكون مراده أنك إن نظرت في مذاهب الناس وما هم عليه من الخلاف من غير تثبت وتسديد من الله، فإنما تخبط العشواء، وهو مثل فيمن لا يكون من أمره على بصيرة، وأصله من سير الناقة التي لا تبصر، وانتصابه على المصدرية.
(وتتورط الظلماء): الورطة: الهلاك، وغرضه أن تقع في الظلمات وهي الأمور الملتبسة.
(وليس طالب الدين من خبط): يريد وليس يطلب الدين من كان خابطاً في أموره على غير بصيرة فيها.
(أو خلط): فيه ما ليس فيه من الضلالات والوقوع في العمايات.
(والإمساك عن ذلك أمثل): في الطريقة وأقوم للدين لا محالة.
(فتفهم يا بني وصيتي): أحط بها حقيقة، وكن عارفاً بها.
(واعلم أي بني أن مالك الموت هو مالك الحياة): أنه إله واحد، كما أشار إليه تعالى بقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ }[الملك:2].
(وأن الخالق هو المميت): الموجد للأجسام وجميع العالم هو القابض لأرواحها، والمتولي لذلك.
(وأن المفني): لها والمعدم لتأليفاتها ، والمبطل لنظامها.
(هو المعيد): لها على حقائقها وتفاصيل أحوالها.
(وأن المبتلي): بجميع أنواع البلايا من الغنى والفقر، والألم والغم وسائر الشرور والمصائب في العالم.
(هو المعافي): فيها كلها، والصارف لها أجمع.
(وأن الدنيا ما كانت لتستقر): تنتظم أحوالها ويحصل المقصود منها في الحكمة.
(إلا على ما جعلها الله تعالى ): طَبَعَهَا:
(عليه): وجعل أحوالها منتظمة فيه.
(من النعماء والابتلاء): أراد بالنعماء على قوم والابتلاء لآخرين، وإما بالنعماء في حالة والابتلاء في حالة أخرى.
(والجزاء في المعاد): يريد والمجازاة بالخير والشر في الآخرة.
(وما شاء): من هذه الأحوال والاختلافات العظيمة.
(مما لا يُعلم): يحيط به علم عالم ولا تستولي عليه معرفة عارف، وفي كلامه هذا إشارة إلى أن أحوال العالم لا تنتظم إلا بما ذكره من إثبات الصانع، وعدله وحكمته والرغبة في الثواب، والرهبة من العقاب، وإثبات المعاد الأخروي.
(فإن أشكل عليك شيء من ذلك): مما ذكرته لك وأوضحته.
(فاحمله على جهالتك به): أراد فاتهم فيه نفسك، وأنه لم تحط به علماً، ولا بلغت كنه حاله وحقيقته.
(فإنك أول ما خلقت جاهلاً ثم عُلِّمت): أراد لا تأخذك أنفة في أنك تجهل أكثر الأمور، فإنك مولود على الجهالة وعدم العلم ، ثم علمك الله بعد ذلك كما قال تعالى : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ}[النحل:78]،.
(وما أكثر ما تجهل من الأمور): إخبار عن كثرة الجهل بالأمور في معرض التعجب من ذلك والاستطراف له.
(ويتحير فيه رأيك): فلا تجد سبيلاً إلى حله وكشفه.
(ويضل فيه بصرك): تذهب عنه بصيرتك وعقلك.
(ثم تبصره بعد ): بإلهام الله لك ودلالتك عليه من جهته.
(فاعتصم بالذي خلقك ورزقك): إما تمسك به في جميع أمورك، وإما امتنع بألطافه عن كل ما تكره من الأمور وتحذر .
(وسواك): أقام صورتك وعدل قوامك وأحكم خلقك.
(وليكن له تعبدك): إما مصرف عبادتك، وإما تذللك وتصاغرك.
(وإليه رغبتك): في جميع الأمور العظيمة، وتحصيلها واكتسابها.
(ومنه شفقتك): أي لا تخف أحداً غيره، ولا تراقبنَّ أحداً سواه.
(واعلم يا بني أن أحداً لم ينبئ عن الله تعالى ): يخبر عنه من الأخبار الغيبية والأسرار الحكمية.
(كما أنبأ عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم): فإنه نصح في ذلك غاية النصح، وأبلغ نهاية البلاغ، ولم يكتم شيئاً مما ينفع الخلق، ويقربهم إلى النجاة، ويكون طريقاً لهم إلى الجنة.
(فارض به رائداً): الرائد هو: الذي يبعثه القوم ليطلب لهم الكلأ.
(وإلى النجاة قائداً): أراد وهادياً إلى كل خير مما يكون فيه نجاة لك.
(فإني لم آلك نصيحة): أي لم أقصر في نصحك ولا منعتك منه شيئاً.
(وأنك لم تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت): أي لا تبلغ غاية في النظر لنفسك إلا وأنت مقصر فيها فلا تبلغ.
(مبلغ نظري لك): في الأمور الدينية، والآداب الدنيوية.
(واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك): ثان مشارك له في الوحدانية.
(لأتتك رسله): أنبياؤه يدعونك إليه، ويعرفونك حاله، وما أمر به ونهى عنه، كما كان ذلك في حق الله تعالى، وهذه إشارة منه إلى برهان عقلي على أنه لا ثاني مع الله تعالى، وتقريره على مثال ما قاله هو أن الله تعالى لو كان معه إله آخر لكان داعي الإحسان متوفراً من جهته إلى الإحسان إلى الخلق، والتفضل إليهم، فكان من حقه بعثة الرسل إلى خلقه؛ ليكون متفضلاً عليهم بهذه التكاليف، وينعم بها عليهم ليحصل لهم بها الفوز في الآخرة، وإحراز النعيم المقيم بها، فإذا كان داعي الإحسان متوفراً بحيث لا مانع له عنه وجب فعله، فلما لم يفعله دل على بطلانه وزواله، وأنه لا إله إلا إله واحد.
(ولرأيت آثار ملكه وسلطانه): وهذه منه إشارة إلى برهان آخر عقلي، وهو أن الله تعالى لو كان معه إله آخر لكان داعيه متوفراً إلى الإحسان إلى الخلق بخلقهم وإكمال حياتهم، ليلتذوا بها، ويصلوا بها إلى إدراك هذه المنافع، ولن يتم ذلك إلا بإيجاد عوالم غير هذه العوالم ليكون دلالة عليه، وليكون معها منعماً متفضلاً، فلما لم يكن شيء من ذلك دل على بطلانه وزواله.
(ولعرفت أفعاله وصفاته): وهذه أيضاً إشارة إلى برهان عقلي، وهو أن الله تعالى لو كان معه إله آخر لوجب أن يكون عالماً قادراً، حكيماً في أفعاله، ولو كان الأمر كذلك لوجب أن يدلنا على هذه الأفعال دلالة لتكون حاصلة بالبرهان العقلي في حقه ليكون إلهاً لأجل اختصاصه بها.
(ولكنه إله واحد كما وصف نفسه): يشير إلى ما وقع في الكتاب الكريم من صفة الله تعالى، بكونه واحداً، كما أشار إليه تعالى في ثلاثين موضعاً من كتابه، كلها دالة على توحيده، وأنه إله واحد، والأدلة النقلية أصرح بالمراد، والأدلة العقلية فلا غبار عليها كما أشرنا إليه.
(لا يضاده في ملكه أحد): التضاد في الملك هو أن يأمر هذا بما ينهى عنه ذاك وعكسه، أو يريد هذا ما يكرهه ذاك أو غير ذلك من الأحكام المتضادة، وأراد أنه ليس له مثل، فيكون مضاداً له، ومخالفاً له في مراداته، وهذا لأن هذه قضية واجبة أعني الاختلاف في الدواعي بين الملوك، والتعالي لبعضهم على بعض، كما أشار إليه تعالى بقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى }[الأعراف:26].
(ولا يزول أبداً): أراد أن وجوده إنما كان لذاته، وما كان هذا حاله استحال أن يكون لوجوده آخر وانقضاء، فلهذا قال: لا يزول أبداً.
(ولم يزل أولاً): أراد أن وجوده بلا أول؛ إذ لو كان لوجوده أول، لكان حاصلاً بعد أن لم يكن، فيحتاج إلى مؤثر وفاعل، وهذا محال في حقه.
(قبل الأشياء): لأن جميع الأشياء كلها سواه محدثة، ولها أول، فلهذا قال: إنه قبل الأشياء.
(بلا أولية): يريد أنه وإن كان قبل الأشياء فهذه القبلية ليس لها حد، ولا لها غاية.
(وآخر بعد الأشياء): يريد أن وجوده سرمدي، فلهذا كان متأخراً بعدها.
(بلا نهاية): له في الآخرية كما لا بداية له في الأولية.
(عظم أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب): أراد أن من هذه حاله في عدم الأولية لوجوده، وعدم الآخرية لوجوده أيضاً ، وأنه مختص بالصفات الإلهية، فإنه يتعالى في ذاته عن أن تكون ربوبيته يشتمل عليها قلب في الإحاطة والاستيلاء.
(أو بصر): أو يكون إدراك يستولي على ذلك، أو عقل، إن حملنا الإدراك على العقل، فكلاهما بعيد عن الاستيلاء عليه؛ لأنه تعالى في ذاته غير متناه في جميع أحواله، وما لا نهاية له فلا يمكن الاستيلاء على حقيقته والإحاطة بها.
(فإذا عرفت ذلك): ما وصفته لك من خالقك واختصاصه بما ذكرته لك من الصفات.
(فافعل ما ينبغي لمثلك أن يفعله): من التذلل لجلاله والتصاغر لعظيم سلطانه، ولما يظهر عليك من قدرته وقهره.
(في صغر خطره): ضعف حاله.
(وقلة مقدرته): وحقارة قدرته على ما يقدر عليه.
(وكثرة عجزه): عن أكثر الأشياء وإيجادها.
(وعظيم حاجته إلى ربه): في قليل الأمور وكثيرها وجليلها ودقيقها.
(في طلب طاعته): فعلها وتحصيلها، والاجتهاد في أدائها.
(والرهبة من عقوبته): وأن تكون راهباً عن الوقوع في المعاصي الموجبة لعقوبته.
(والشفقة من سخطه): والخوف مما يوجب الوقوع في سخطه وغضبه، وهو أحق بذلك وأولى به.
(لأنه لم يأمرك إلا بحسن): مصلحة في دينك، فلهذا وجب امتثال أمره.
(ولم ينهك إلا عن قبيح): ما يكون ارتكابه مفسدة، فلهذا وجب الانكفاف عما نهى.
(يا بني، إني قد أنبأتك عن الدنيا): أخبرتك عنها وأعلمتك.
(وحالها): في التغير والزوال والتقلب بأهلها، والتحول.
(وزوالها): عن أهلها.
(وانتقالها): إما نفادها مطلقاً، وإما انتقالها من قوم إلى آخرين.
(وأنبأتك عن الآخرة): أعلمتك وعرفتك.
(وما أعد لأهلها فيها): من النعيم المقيم لأهل الجنة والعذاب الأليم لأهل النار.
(وضربت لك فيهما الأمثال): يريد الدنيا والآخرة.
(لتعتبر بها): تتعظ بما ذكرته.
(وتحذو عليها): تتبع آثارها وتسلك على طريقها.
(إنما مَثَلُ من خبر الدنيا): عرف حالها، وقلبَّها ظهراً لبطن.
(كمثل قوم سَفْرِ): السفر: اسم للجمع كنفر ورهط، ويجوز أن يكون جمعاً لسافر نحو راكب وركب، وصاحب وصحب.
(نبا بهم): نبا الشيء: إذا ارتفع، وأراد أنه لم يوافقهم فارتفع عن الموافقة.
(منزل جديب): مكان لا خصب فيه ولا مرعى لأنعامهم.
(فأمَّوا منزلاً خصيباً): قصدوا مكاناً خصيباً فيه الخصب، وهو المرعى لأنعامهم.
(وجَنَاباً مريعاً): الْجَنَابُ بالفتح هو: فناء الدار، وما قَرُبَ من محلَّة القوم، والمريع: الممرع، يريد كثير الشجر.
(فاحتلموا وعثاء الطريق): الوعثاء: ما يصيب في الطريق من المطر وألم السفر ، وفي الحديث في دعائه عليه السلام: ((أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب )) . وفي حديث آخر: ((السفر قطعة من العذاب )) .
(وفراق الصديق): وما يصيب من ألم بفراقه أيضاً.
(وخشونة السفر): الخشونة بالخاء بنقطة والنون هي: خلاف اللين.
(وجشوبة المطعم): بالجيم والباء بنقطة، وهو خلاف السلس، وفي الحديث: ((اجشوشبوا )) يريد كلوا الجشب من الطعام، وهو خلاف الطيب.
(ليأتوا سعة دارهم): اللام هذه متعلقة باحتملوا، وأراد ليأتوا الواسع من هذه الدار المقصودة.
(ومنزل قرارهم): والمنزل الذي يستقرونه ويجعلونه موطناً لهم.
(فليس يجدون لشيء من ذلك ألماً): أي مما أصابهم واختص بهم ألماً ينفرون عنه، ويتوجعون من إصابته.
(ولا يرون نفقة فيه مغرماً): ولا يرون لما أنفقوا فيه من النفقات أنها من جملة المغارم المثقلة، والأمور المتعبة.
(ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم): هذا الذي يقصدونه؛ لما لهم إليه من الشوق.
(وأدناهم من محلتهم): التي يأتونها، ويريدون الوقوف فيها، فهذا مثل من عرف حالها وتحقق أمرها، وأمر الآخرة كما ذكرت.
(ومَثَلُ من اغتر بها): الغرر: الخديعة، وأراد من انخدع بلذاتها.
(كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب): كثير المرعى لأنعامهم وأنفسهم.
(فنبا بهم إلى منزل جديب): ارتفع إلى منزل مجدب لا مرعى فيها ولا شجر.
(فليس شيء أكره ولا أفظع عندهم من مفارقة): الفظاعة: هي الشدة في الأمر.
(ما كانوا فيه): من الرخاء والنعمة والراحة والدعة، وطيب المآكل والمشارب لهم ولأنعامهم.
(إلى ما يهجمون عليه، ويصيرون إليه): هجم على الشيء: إذا طلع عليه على بغتة، وأراد إلى ما تصير عاقبتهم إليه من الجوع والعطش، ومفارقة الراحة وحصول الألم، فهذا مثال من اغتر بها وخدعته.
(يا بني، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك): أراد اجعلها معياراً صادقاً فيما بينك وبين من تعامله من الخلق.
(فأحب لغيرك ما تحب لنفسك): من جميع المحبوبات كلها.
(واكره له ما تكره لها): من جميع المكروهات كلها.
(ولا تظلم): أحداً من الخلق.
(كما لا تحب أن تظلم): يجري عليك ظلم من أحد من الخلق.
(وأحسن): إلى من أمكنك الإحسان إليه من الخليقة.
(كما تحب أن يحسن إليك): يحسن إليك الناس، وتريد ذلك وتهواه.
(واستقبح من نفسك): استنكره وكف عنه نفسك.
(ما تستقبح من غيرك): تكرهه وتنفر عنه من جهته.
(وارض من الناس): من المعاملة وإنصاف الحق.
(بما ترضاه لهم من نفسك): بما تحب أن يعاملوك به من جهة أنفسهم.
(ولا تقل ما لا تعلم): فتكون ممقوتاً عند الله، كما قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف:3].
(وإن قَلَّ ما تعلم): فإن قليل القول مما يكون معلوماً مفهوماً واضحاً أحسن من كثير القول الذي ليس معلوماً ولا يفهم.
(ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك): أراد ولا تقل في أحد قولاً لو قيل لك من جهة غيرك لكنت كارهاً له.
(واعلم أن الإعجاب ضد الصواب): يريد أن إعجاب الرجل بنفسه في مال أو جمال أو علم أو فضل، أو غير ذلك من أوصاف الفضل مضاد للصواب ومباين له، فلا يصاحب الإعجاب صواب قط في حالة من الحالات.
(وآفة الألباب): أراد وهو آفة العقول، ومفسد لها ومغير لأحكامها.
(فاسع في كدحك): أراد اجتهد في صلاح ما أنت فيه من أمر معيشتك ورمّها .
(ولا تكن خازناً لغيرك): بجمع المال فيأتي من يأخذه بعدك فتكون قد جمعته وأخذه غيرك، فتكون خزاناً على الحقيقة؛ لأن علامة الخزان أن يكون حافظاً لمال غيره حتى يأتي له ويأخذه.
(وإذا أنت هديت لقصدك): للطريق الموافقة لرضاء الله تعالى فاشكر ذلك.
(فكن أخشع ما تكون لربك): أخوف ما تكون وأخضع وأذل له.
وأقول: إن هذه الكلمات مع قلتها، وتقارب أطرافها، قد بلغت في الحكمة أقصاها، وصارت مستولية على حدها وقصاراها.
ثم أخذ في نوع آخر من الموعظة بقوله:
(واعلم أن أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة): يريد الطريق إلى العرصة والقيامة، ويحكى أن بعد النفخة الثانية يساقون إلى أرض المحشر وهم حفاة عراة قد غرقوا في العرق، كل واحد منهم على قدر ذنبه، فيقفون في طول يوم القيامة شاخصة أبصارهم.
(ومشقة شديدة): لما يلقون من الأهوال، ولما هنالك من الشدائد.
اللَّهُمَّ، أجرنا من هولها برحمتك الواسعة.
(وأنه لا غنى لك فيه): يريد الطريق.
(عن حسن الارتياد): الطلب لما يصلحك، ويكون عدة لك من هوله.
(وقدر بلاغك من الزاد): ومقدار ما يبلغك إليه ويوصلك من الزاد.
(مع خفة الظهر): عن ثقل الأوزار وتحمل المآثم.
(فلا تحملن على ظهرك): من الخطايا والمعاصي.
(فوق طاقتك): أزيد مما تحتمله قوتك ومنّتُك ، فإن فعلت ذلك واخترته صعب الأمر عليك.
(فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك): الوبال: الهلاك، وأراد أنه يكون مهلكاً لك في الآخرة بتحمله لا محالة.
(وإذا وجدت من أهل الفاقة ): وهم أهل الفقر والمسكنة.
(من يحمل عنك زادك إلى يوم القيامة): يتحمل ثقله ويكون عليه إيصاله.
(فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه): الموافاة: هي الملاقاة، وأراد يلاقيك به وأنت في غاية الافتقار إليه.
(فاغتنمه): اجعله كالغنيمة وأعطه إياه.
(وحمله إياه): اجعله حاملاً له دونك.
(وأكثرمن تزويده): من إعطائه ما يكون لك زاداً.
(وأنت قادر عليه): الآن ومتمكن منه.
(فلعلك تطلبه): بعد هذا.
(فلا تجده): لأنه ربما عرض فقر بعد غنى.
(واغتنم من استقرضك): أراد من طلب منك قرضاً بإعطائه على جهة الصدقة، فإنها في الحقيقة قرضاً لله تعالى ليجازي عليها أضعافها، كما قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ }[الشعراء:214]، وقال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ }[الشعراء:214]، والأظهر أنه يريد الصدقات كلها، وأراد بكونه حسنة إخراج أنفس المال ، ومراعاة وجه الله تعالى، وجودة النفس بها.
(في حال غناك): ما دمت متمكناً من المال ومن إخراجه.
(لتجعل قضاءه لك في يوم عسرتك): لتجعل أنت بإعطائك له، أو ليجعل الله قضاءه في موضع الحاجة العسيرة.
(واعلم أن أمامك عقبة كؤوداً): شاقة صعبة.
(المخف فيها أحسن حالاً من المثقل): لما يكون في الخفة من السلامة، ولما يخشى في الثقل من العطب والهلاك.
(والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع): لأن مع التأخر والبطء لا يأمن الهلكة.
(وإن مِهْبَطَهَا ): الْمِهْبطُ بالكسر هو: موضع الهبوط، كالمِضْرَب لموضع الضرب.
(لا محالة): بلا شك ولا مرية، والمحالة: مفعلة من الحيلة، يقال: الموت آتٍ لا محالة، أي لا بد من وقوعه.
(على جنة أو على نار): أراد أنه لا بد من أحد المنزلين، فإن الإجماع منعقد على أن كل من كان من المكلفين، فلا بد من كونه في الآخرة في جنة أونار .
(فارتد لنفسك): اطلب لها ما يصلحها من الأعمال الصالحة، وتزود التقوى.
(قبل نزولك): في حفرتك التي هي منزلك ومستقر وطنك.
(ووطئ المنزل قبل حلولك): أراد مهده، وقرر قواعده قبل استقرارك فيه.
(فليس بعد الموت مستعتب): استعتبته إذا طلبت رضاه، والمستعتب هاهنا هو: الاستعتاب، وهو طلب الرضا، وأراد أنه لا يطلب رضا أحد بعد الموت بل هو الغاية.
(ولا إلى الدنيا منصرف): مرجع ولا رد بعد الموت، وإنما المرجع إلى الدار الآخرة.
(واعلم أن الذي بيده خزائن السموات والأرض): ملكهما وما فيهما من الخزائن والممالك.
(قد أذن لك في الدعاء): أمرك بالسؤال له، وحثك على الدعاء.
(وتكفل لك بالإجابة ): ضمن لك بذلك، والكفيل: الضامن.
(وأمرك أن تسأله): حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }[غافر:60].
(ليعطيك) من خزائنه ما سألته إياه.
(وتسترحمه): تطلب منه الرحمة.
(ليرحمك ): يلطف بك.
(ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه): من هذه الوسائط، وإنما سؤالك هو الشفيع، وطلبك هو الذريعة.
(ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه): يضطرك إلى واسطة شفيع إليه.
(ولم يمنعك إن أسأت من التوبة): يسدها عليك عن فعل المعصية، وتدارك ما سلف من جهتك.
(ولم يعاجلك بالنقمة) أراد ولم يعاجلك بالعذاب عند إقدامك على فعل المعصية.
(ولم يفضحك حيث الفضيحة ) فضحه: إذا كشف مساوئه وأظهرها للخلق، وغرضه أنه لم يكشف مساوئك عند انكشافها من جهتك بهتك سترك بفعلك للقبيح.
(ولم يشدد عليك في قبول الإنابة): أراد أنه جعل الإنابة والتوبة أسهل ما يكون من الأمر وأيسر، من غير مشقة من جهة الله تعالى، ولا تعسير في حالها.
(ولم يناقشك بالجريمة): المناقشة هي: الاستقصاء في الحساب، وفي الحديث: ((من نوقش الحساب عذب ))، وغرضه هاهنا هو أن الله تعالى من جهة عظيم لطفه وسعة رحمته لم يستقص عند فعله المعصية من جهته على المناقشة، بل عفا وسمح حقه في ذلك.
(ولم يؤيسك من الرحمة): اليأس هو: القنوط، وهو غلبة الظن على عدم حصول الشيء، وغرضه أنه لم يقنطك عن رحمته مع التهالك في المخالفة.
(بل): إضراب عما ذكره أولاً من هذه التفضلات الكاملة.
(جعل نزوعك عن الذنب): إقلاعك عنه، وفلان قد نزع عن الإساءة إذا أقلع عنها وانصرف.
(حسنة): من جملة الحسنات التي يضاعف عليها الأجر، ويوفر عليها الثواب.
(وحسب سيئتك واحدة، وحسب حسنتك عشراً): حيث قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}[الأنعام:160]،.
(وفتح لك باب المتاب ): يريد التوبة، كما قال تعالى: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ }[الرعد:30]، أي توبتي، وأراد أنها غير مغلقة عن العبد في حالة من الحالات، وفي الحديث: ((باب التوبة مفتوح لا يغلق؛ حتى تطلع الشمس من مغربها)) .
(فإذا ناديته سمع نداك): بجميع حوائجك، وكشف كربك وقضاء حوائجك من جهته كلها.
(وإذا ناجيته علم نجواك): النجوى هو: التناجي، وأراد أنه محيط بما تناجيه من مهماتك، وعالم بها، كما قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}[المجادلة:7].
(ومتى شئت دعوته فلباك): وأي وقت دعوته أجابك بالتلبية التي هي نهاية الإنصاف في الإجابة.
(فأفضيت إليه بحاجتك): أظهرتها عنده وكشفتها لديه.
(وأبثثته ذات نفسك): بث إليه السر إذا كشفه له، وأظهرت له حقيقة حالك.
(وشكوت إليه همومك): أعلمته بحالك فيما يهمك من الأمور ويعييك.
(واستكشفته كروبك): طلبت منه كشفها وإزالتها عنك.
(واستعنته على أمورك): طلبت منه الإعانة على كل ما يعرض لك، ويخصك من أحوالك.
(وسألته من خزائن رحمته): ألطافه الخفية، وعطاياه الجزيلة.
(ما لا يقدر على إعطائه غيره): لأن الأمر إذا كان على هذه الصفة كان سؤاله أحق والتواضع له أجدر؛ لأن من هذه حاله فهو حقيق بذلك وأهل له.
(من زيادة الأعمار): تطويلها والتنفيس فيها.
(وصحة الأبدان): عافيتها واستقامتها.
(وسعة الأرزاق): كثرتها والبركة فيها.
سؤال؛ أليس هذه الأمور كلها -أعني الأعمار، والأبدان والأرزاق- أمور مقدرة مفروضة، وأحوال معلومة لا يزاد عليها ولا ينقص، وتجري على مقادير معلومة، فما فائدة الدعاء والحال ما قلناه؟
وجوابه من وجهين؛
أما أولاً: فلأنه وإن كان الأمر كما ذكرت؛ لكنه قد ورد الشرع بذلك لمصلحة لا يُعْلَم حالها، فلهذا جاز وإن كان الحال كما قلت .
وأما ثانياً: فلأنه لا يمتنع أن يعلم الله تعالى من حاله أنه إذا دعا مد الله عمره إلى مدة مقدرة، لو لم يدع لم يستحق ذلك، وهكذا القول في الرزق والصحة، وإذا كان العلم عندنا يجوز دخول الشرط فيه جاز ماذكرناه، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ}[الأعراف:96]، ولأن العلم يتعلق بالشيء على جميع وجوهه ومن جملتها الشرط، وإذا جاز ذلك جاز ما ذكرناه.
(ثم يجعل في يديك مفاتيح خزائنه): يمكَّنك منها ويجعلها كأنها حاصلة في يديك ، أي وقت أردت فتحها أطاعتك.
(بما أذن لك من مسألته): حيث أمرك بسؤاله وندبك إلى ذلك، وحثك عليه.
(فمتى شئت): أردت وطلبت.
(استفتحت بالدعاء): لا يعتاص عليك، ولا يؤخر عنك:
(أبواب نعمته): أنواعها.
(واستمطرت شآبيب رحمته): الشؤبوب: واحد الشآبيب، وهو الدفعة الواحدة من المطر، قال كعب بن زهير يصف حماراً يتبع الأتن :
إذا ما انتحاهنّ شؤبوبه ... رأيت لجاعرتيه غضونا
أراد أنه إذا عدا رأيت لجاعرتيه تكسراً وتعطفاً عند عدوه.
(فلا يقنطك ): يؤيسك.
(إبطاء إجابته): تأخرها عنك.
(فإن الإجابة على قدر النية): على حد ما يعلم الله من ذلك، ويعلم المصلحة فيه.
(وربما أخِّرت الإجابة ): عن التعجيل على إثر الدعاء.
(ليكون ذلك أعظم لأجر السائل): أكثر لثوابه لما يحصل من الإلحاح بالدعاء وتكريره.
(وأجزل لعطاء المسئول ): أعظم في عطيته وأوسع.
(وربما سألت الشيء فلا تؤتاه ): يعني أنك ربما سألت، وفي تأخيره مصلحة لك فلا تسعد بالإجابة إليه.
(وأوتيت خيراً منه): أفضل وأعظم حالاً.
(عاجلاً): على الفور.
(أوآجلاً): إما متأخراً بعد ذلك بأزمنة، وإما مؤخراً إلى الآخرة.
(أو صرف عنك لما هو خير لك): إما لأن الله تعالى يريد أن يدخره لك إلى الآخرة، وإما لأن الله تعالى يعلم أن في تعجيله مفسدة لك فلهذا لم يعجله لك.
(فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته): لما يعلم الله فيه من المفسدة بالإعطاء والتمكين.
(فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله): خيره ومصلحته.
(ويُنْفَى عنك وباله): ويزول عنك ما يهلكك منه، يريد مما يعلم الله أن لك فيه صلاحاً في الدين والدنيا.
(والمال لا يبقى لك): لأنه فانٍ متفرق.
(ولا تبقى له): لأنك منطقع عنه بالموت، وفي الحديث:((إنَّ المؤمن إذا دعا إلى الله تعالى في حاجة له ، فإنَّ الله تعالى يقول لملك الإجابة: أخِّر دعوته، فإنّي أحبُّ أن أسمع صوته، وإذا دعا الفاجر في حاجة له، يقول الله لملك الإجابة: عجِّل له دعوته، فإنِّي أكره أن أسمع صوته))، فالدعاء لا محالة قدورد به الشرع، وكثرة الإلحاح على الله تعالى، والإجابة وعدمها إنما يكون على حد ما يراه من المصلحة ويعلمه منها، والدعاء بجميع المنافع كلها، ودفع المضار كله مشروط بالمصلحة، وهي مضمرة في الدعاء بلا إشكال.
ثم أخذ في نوع آخر من الآداب والحكم، بقوله:
(واعلم أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنك إنما خلقت لغرض الآخرة وهو العبادة لله تعالى المستحق بها منافع الآخرة، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]، لا من أجل منافع الدنيا ولذاتها وطيباتها.
وثانيهما: أن يريد أنك إنما خلقت للأمر الدائم، وهو ما كان في الآخرة، لا لما يكون منقطعاً بالزوال والفناء، وهوالدنيا.
(وللفناء): أي ولأن يكون منتهاك الفناء.
(لا للبقاء): أي وليس الغرض بقاءك في الدنيا.
(وللموت): أي ولأن تموت.
(لا للحياة): أي لأن تحيا في الدنيا، والمقصود من هذا كله هو العلم بأن المطلوب هو الآخرة لا الدنيا.
(وأنك في منزل قُلْعَة): يقال: هذا منزل قلعة إذا كان ليس مستوطناً، ومجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج فيه إلى أن يقوم مرة بعد مرة، ويقال: هم على قلعة، أي على رحلة.
(ودار بُلْغَة): إلى الآخرة، وإلى الدرجات العالية من الجنة بالأعمال الصالحة.
(وطريق إلى الآخرة): توصل بها إليها.
(وأنك طريد الموت): الطريد: ما يتبع من الصيد وغيره، وأراد أن الموت تابع لك وهو في أثرك.
(الذي لا ينجو منه هاربه ): من يهرب منه.
(ولا بد أنه مدركه): لابد من كذا أي لا فراق عنه، وغرضه أن الموت لا يفارقه، فإذا كان ملازماً لك لا محيص لك عنه.
(فكن منه على حذر أن يدركك): مخافة أن يدركك.
(وأنت على حالة سيئة): قبيحة عند الله غير مرضية.
(قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة): تأمل الإقلاع عنها، والخروج عن عهدتها بالإنابة إلى الله تعالى.
(فيحول بينك وبين ذاك ): يريد فاحذر أن يكون الموت حائلاً بينك وبين الإنابة، والإقبال إليه.
(فإذا أنت قد أهلكت نفسك): بالتساهل حتى أخذ الموت بعنقك.
(أي بني ، أكثر من ذكر الموت): أخطره على بالك وكرر حاله على ذهنك، واذكره بلسانك، ولا تغفله عن قلبك ولسانك.
(وذكر ما تهجم عليه، وتفضي بعد الموت إليه): هجم علينا إذا طلع بغتة، وأراد أحوال الآخرة كلها وما تؤول إليه عاقبة أمره بعد الموت.
(فاجعله أمامك): مقابلاً لك.
(كأنك تراه): بعينك لا يستره عنك شيء.
(حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك): أي تحرزت منه بمبلغ جهدك وطاقتك.
(وشددت له أزرك): الأزر: القوة، قال الله تعالى:{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي }[طه:31]،.
(ولا يأتيك بغتة): من غير تيقظ له ولا تحفظ عنه.
(فيبهرك ): أراد يغلبك.
(وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها): تحذير له عن أن ينخدع بما يرى من ركون أهل الدنيا إليها.
(وتكالبهم عليها): التكالب: هو التواثب عليها.
(فقد نبأك الله عنها): أخبرك في كتابه الكريم بأخبارها، ووصفها بصفاتها من كونها متاعاً وغروراً ولعباً ولهواً وزينة، وغير ذلك مما يؤذن باستحقارها وهونها عند الله تعالى وانقطاعها.
(ونعت إليك نفسها): بأنها فانية، وأنها منقطعة غير باقية ولا دائمة.
(وتكشفت لك عن مساويها): أبانت عيوبها وأظهرت مساوئها؛ بما كان من خدعها لأهلها ومكرها بمن اطمأن إليها، فهذه هي المساوئ، إذ لا مساوئ أعظم منها.
(واذكر الآخرة): أخطرها ببالك، وأجرِ ذكرها على لسانك.
(وما فيها من النعيم المقيم): لأهل الطاعة، وأهل ولاية الله تعالى ومحبته.
(والعذاب المقيم ): لأهل المعصية، وأهل عداوة الله تعالى.
(فإن ذلك): يريد ذكر الآخرة.
(يزهدك في الدنيا): يزيدك فيها زهادة وإعراضاً عنها.
(ويصغرها في عينك): فلا ترى لها قدراً ولا وزناً.
(فلا تركن إليها): أراد لا تستند إليها.
(فإنما أهلها كلاب عاوية): يشبهون فيما هم فيه الكلاب العاوية.
(وسباع ضارية): ضرا يضري بكذا إذا كان متعوداً له، وأراد أنها متعودة للأكل والافتراس.
(يهر بعضها على بعض): هرير الكلب: صياحه، قال آخر يصف شدة البرد:
إذا كَبَّدَ النجم السماء بشتوة
على حين هرَّ الكلب والثلج خاشف
أي ذاهب في الأرض.
(ويأكل عزيزها ذليلها): تسلطاً عليه وقهراً له .
(ويقهر كبيرها صغيرها): ذلاً واستهانة.
(نعم معقَّلة): أي معقولة، فلا تقدر على الذهاب والتصرف.
(وأخرى مهملة): من غير عقال سائبة على رءوسها.
(قد أضلت عقولها): أي ذهبت حيرة وفشلاً فلا يُنْتَفَعُ بها.
(وركبت مجهولها): أراد إما دخلت مواطن تجهلها ولا تدري حالها، وإما احتملت أموراً لا تعرف مواردها ومصادرها لجهلها بها.
(سروح عاهة): أعاه القوم إذا أصابت ماشيتهم العاهة، والسروح: جمع سرح وهو قطعة من الماشية، وكنى بذلك عن أهل الدنيا وتغير أحوالهم كلها.
(بوادٍ وعث): الوعث: الرمل الرخو الذي تغيب فيه الأقدام لرخاوته.
(ليس لها راعٍ يقيمها): على مصالحها، ويسلك بها مراعيها.
(ولا مسيم يسيمها): والمسيم هو: الراعي، وأراد ليس لها راعٍ يكون حافظاً لها عن المحذورات، فجعل ما ذكره مثالاً للدنيا وأهلها وما هم عليه من عدم التحفظ والإهمال.
(سلكت بهم الدنيا طريق العمى): باتباعهم لها وانقيادهم لأمرها، وانهماكهم في لذاتها.
(وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى): أمالت أبصارهم عن أعلام الهداية إلى الدين وطرق السلامة.
(فتاهوا في حيرتها): تحيروا في ضلالها.
(وغرقوا في نعمتها): استعارة لما هم عليه من الاشتغال فيها بالرفاهية والتنعم، وطلب اللذات فيها.
(واتخذوها رباً): هذه مبالغة عظيمة في الخضوع لها، وأنها بلغت مبلغ من يُعْبَدُ، ويكون رباً يُخْضَعُ له، ويكون ذليلاً من أجله، ونظير هذا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }[الجاثية:23]، فلما انقاد لأمره واحتكم له، صار هواه بمنزلة إله يعبده، فلما صار أمرها كما ذكرناه واستحكمت فيهم.
(فلعبت بهم): باحتكامها عليهم واستعبادها لهم وإنفاذ أمرها عليهم.
(ولعبوا بها): في استعمال لذاتها والتنعم في طيباتها، وشغل أنفسهم بها.
(ونسوا ما وراءها): من الأهوال العظيمة والأمور المفظعة، والأخطار الجليلة.
(رويداً يسفر الظلام): انتصاب رويداً على المصدر، وهو تصغير إرواد على الترخيم، وأراد أمهل، يسفر الظلام أي ينكشف ، وأراد أمهل قليلاً فعن قريب وقد انكشف عن حقيقته الأمر، ورجعت الأشياء إلى حقائقها وأصولها.
(كأن قد وردت الأظعان!): الأظعان: جمع ظَعْن، والْظَّعْنُ: اسم للجمع كالْنَّفْرِ والْرَّهْطِ، فأما قوله تعالى: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ }[النحل:80]، فهو مصدر، والأظعان: الإبل التي عليها الهوادج، والمعنى في هذا أنا مسافرون، وكأن قد وردت الأظعان مناهلها، وكأن قد قدمنا منازلنا، وانقطعت هذه الأسفار.
(يوشك من أسرع يلحق ): يقرب، أي من أسرع في سيره يلحق بمن كان متقدماً عليه، وأراد أنا عن قريب لاحقون بمن تقدمنا من الأموات، مسرعون إليهم.
(واعلم أن من كانت مطيته الليل والنهار، يسار به وإن كان واقفاً): شبه جري الليل والنهار بالمطايا المسرعة في سيرها، وهما في غاية السير والإسراع بمن فيهما، وإن كان واقفاً لا يشعر بالسير.
(ويقطع المسافة): إلى الآخرة.
(وإن كان مقيماً وادعاً): أي ساكناً، من قولهم: ودع الرجل فهو وديع أي ساكن، وقيل لبعض الصالحين: كيف أصبحت؟ وكيف حالك؟ فقال: ما حال من ينتقل كل يوم مرحلة إلى الآخرة .
ثم أخذ في بيان حال الرزق والتفويض إلى الله بقوله:
(واعلم يقيناً): إما علماً يقيناً، وإما متيقناً، فالأول يكون صفة لمصدر، والثاني على الحال.
(أنك لن تبلغ أملك): يريد ما كنت تأمله في الدنيا، وأنه لا بد من انقطاعه بالموت لا محالة، فكل أحد من الخلائق ليس بالغاً أمله بحال.
(وأن الله قد أذن في خراب الدنيا وعمارة الآخرة): إذنه علمه بخرابها، أو أمره بذلك وترغيبه عنها، وأن الآخرة قد أمر بعمارتها لكونها دائمة غير منقطعة وأنها دار الجزاء.
(فإن زهدت فيما زهدتك فيه): زهد في الأمر إذا انصرف عنه، وأراد إن أعرضت عن زخارف الدنيا ولذاتها.
(ورغبت فيما رغبتك فيه): رغب في الأمر إذا أراده، وغرضه إن رغبت في الآخرة ونعيمها كما أشرت إليك في هذا وهاذاك .
(فأهل ذاك أنت): أراد فهو المرجو فيك والمؤمل من عندك.
(وإن كنت غير قابل نصحي): غير ملتفتٍ إلى ما أودعتك من النصيحة في أمرك كله.
(فاعلم يقيناً): لا شك فيه.
(أنك لن تبلغ أملك): وأن الموت حائل بينك وبينه، وقاطع لك عن إتمامه.
(ولن تعدو أجلك): الذي قد فرض الله لك وقدره من أجلك، فلا يزاد عليه ولا ينقص منه.
(وأنت في سبيل من كان قبلك): يريد سالكاً لطرائقهم، تابع لآثارهم.
(فخفض في الطلب): أراد هون الطلب في الأمور كلها.
(وأجمل في المكتسب): أراد إما في الاكتساب، وإما في تحصيل الأمر بكسبه، ولا تجهد نفسك، ولا تكلفها فوق طوقها في ذلك.
(فإنه): الضمير للشأن.
(ربَّ طلب جرَّ إلى حرب): الحرب هو: استلاب المال من صاحبه ظلماً وعدواناً، وأراد أن الطلب ربما كان سبباً في أخذ المال واصطلامه من صاحبه، وهذا كثير ما يعرض.
(وليس كل طالب بمرزوق): أراد كم من مجدٍ في الطلب ومع ذلك فإنه لا يرزق ما في نفسه، ولا يبلغه أصلاً.
(ولا كل مجمل): ساع في طلب الرزق على الإجمال والسهولة في حاله.
(بمحروم): ممنوع ما قدر له عند الله تعالى.
(وأكرم نفسك عن كل دنيَّة): الدنيَّة من الأمور: ما يسقط الهمة وينزل القدر، وأراد نزّه نفسك عن الوقوع في كل خصلة مسقطة لقدرك عند الله وعند الخلق.
(وإن ساقتك إلى الرغائب): وإن كانت مؤدية لك إلى كل ماترغب فيه النفوس وتدعو إليه.
(فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً): أراد أنك إذا أسقطت نفسك وهونَّت منزلتك في طلب شيء من حقير الدنيا وحطامها، فإنه لا يكون عوضاً وإن عظم خطره وكان نفيساً، عما فات من نقص نفسك وإنزالها عن قدرها.
(ولا تكن عبداً لغيرك): أراد أنك لا تذل نفسك بطلب طمع من أحد فتكون عبداً له بملكه لك بما كان من جهته من الإحسان إليك، والتذلل له في طلبه.
(وقد جعلك الله حراً): مالكاً لنفسك غنياً بإحسانه إليك عن إحسان غيره، فلا تذل نفسك وقد أعزك بما أعطاك من خيره.
(وما خير خير لا يوجد إلا بشر): استفهام فيه معنى التعجب، وأراد أي خير في الخير الذي لا يمكن تحصيله إلا بتحمل الشر والتلبس به.
(ويسر لا ينال إلا بعسر): وما حال يسر لا يمكن إيجاده إلا بتحمل العسر.
(وإياك أن توجف بك مطايا الطمع): الوجيف: هو ضرب من السير السريع، يقال: وجف البعير يجف وجوفاً إذا سار سيراً سريعاً، وأراد تحذيره عن أن تسرع مطايا الأطماع بك، أي بسببك ومن أجلك، ومطايا الطمع في موضع رفع على الفاعلية لتوجف.
(فتوردك مناهل الهلكة): الورود مع المناهل من باب توشيح الاستعارة، وأراد تحقق العطب مع المواظبة على الأطماع.
(وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل): أراد أنه إن أمكنك الاكتفاء بما قسم الله لك من جهته، والاستغناء عما في أيدي الناس، وكف السؤال عنهم؛ كيلا يكونوا منعمين عليك، فيكون الله قد قسم على أيديهم نعمة منه عليك.
(فإنك مدركٌ قسمك): ما قدره الله لك وحتمه من الرزق من غير وساطة أحد من خلقه.
(وآخذٌ سهمك): الذي فرضه الله لك.
(فإن اليسير من الله سبحانه): من الرزق.
(أكثر وأعظم من الكثير من خلقه): أجزل وأحمد عاقبة مما يكون على أيدي الخلق، وقد ظهر ذلك من أوجه:
أما أولا: فلأن عطاء الله تعالى ليس فيه منِّة من جهة مخلوق، بخلاف ما يكون من جهة بني آدم فإن فيه المنّة.
وأما ثانياً: فلأن عطاء الله تعالى أهنأ وأمرأ بخلاف عطاء غيره من جهة الخلق، فإن فيه تعباً ونصباً.
وأما ثالثاً: فلأنهم يرجون بما ينعمون به من النعم المكافأة والمصانعة، والله تعالى لا يرجو شيئاً من ذلك.
وأما رابعاً: فلأن عطاءهم حقير هين، وعطاؤه جل جلاله لا يمكن حصره ولا عده.
وأما خامساً: فلأن في سؤال الخلق إراقة ماء الوجه عند المسؤل، وليس أهلاً لذلك، بخلاف سؤاله تعالى فإنه مستحق لأكثر من ذلك.
وعلى الجملة فإن إحسانه تعالى مخالف لإحسان جميع الخلق من جميع الوجوه، فلا وجه لطلب المخالفة في ذلك.
(وإن كان الكل منه): يريد أن الإحسان وإن حصل لك من جهة الغير فهو في الحقيقة من جهة الله تعالى ؛ لأن الله تعالى هو الذي أعطاه ومكنه من فعل الإحسان ورغبه في فعله، ووعده العوض في الدنيا، وإجزال الثواب له في الآخرة، فلهذا قال: الكل منه لأجل ما قررناه.
(واعلم أنك لست بايعاً شيئاً من دينك وعرضك بثمن وإن جل إلا كنت مغبوناً): أراد أن تحصيل شيء من الدنيا وإن جل حاله وعظم خطره بنقص في الدين أو نقص من العرض بإهراق ماء الوجه في المسألة، أو التواضع لمخلوق، فإنه لا محالة يكون الغبن فيه كبيراً؛ لأن ما يحصل من ذلك حقيراً بالإضافة إلى ما يفوت من الدين والعرض.
(فالمغبون من غبن نصيبه من الله): أراد أن المنقوص حقيقة هو من نقص نصيبه من ثواب الله وجزيل ما عنده.
(خذ من الدنيا ما آتاك): ما قسمه الله لك من غير كلفة ولا مشقة؛ لأن كل ما قدره الله لك منها فهو آتيك لا محالة على أيسر الوجوه وأسهلها.
(وتول عمَّا تولاك): وأعرض عمَّا أعرض عنك منها، ولا تذهب نفسك على ذلك حسرة وجزعاً.
(وإن أنت لم تفعل): ما أشرت إليه من أخذ ما جاءك منها، والإعراض عما لم يأتك منها.
(فأجمل في الطلب): اطلب ما طلبت منها على سهولة، وتيسير حال من غير تهالك في طلب وإتعاب النفس في تحصيلها.
(وإياك ومقاربة من ترهبه): تخافه وتشفق منه.
(على دينك وعرضك): فإن من هذه حاله لا خير في خلطته لما فيها من الضرر على الدين بالثلم والنقص، وعلى العرض بالإهدار.
(تباعد من السلطان الجائر): ففي بعدك عنه سلامة للدين وراحة للقلب عن التكلف؛ لأن في خلطته إيناساً له والواجب إيحاشه وفيها تقريب له وقد أمرنا بالإبعاد له، وفي الحديث: ((إذا مدح الفاسق اهتز العرش )) .
(ولا تأمن خدع الشيطان): ختله ومكره وإدلاؤه بالغرور في الخلطة لهم، والقرب منهم، وتقريب الحال منه في ذلك.
(فيقول لك: متى أنكرت): عليهم ما يفعلونه من الظلم والجور.
(أو علمت): بمنكر فأزلته، أو ظلم فغيرته.
(أو تشفعت): في حال ضعيف أو في إزالة منكر، أو غير ذلك من الأمور المقربة إلى الله تعالى.
(أجرت): أعطاك الله الأجر العظيم، وكان له ثواب عند الله تعالى.
(فإنه هكذا أهلك من كان قبلكم): الضمير للشيطان، يعني أنه خدعهم بهذه الأماني، وقرب لهم الحال بهذه التسويفات، وزين لهم ذلك بهذه الأكاذيب حتى وقعوا فيما وقعوا.
(وإن أهل القبلة): ممن آمن بالرسول وصلى إلى قبلته.
(آمنوا بالمعاد): أحكام الآخرة، وصدقوا بيوم القيامة، وما اشتمل عليه من الأهوال.
(ولو سمعت أحدهم يبيع آخرته بدنياه): يعني ولو خوطب الواحد منهم، وكلم على أن يبيع آخرته بشيء من حطام الدنيا ورغائبها النفيسة.
(لم يفعل): ما دعاه إلى ذلك داعي ولا أراده.
(ولم يطب بذلك نفساً): ما ساعدته نفسه ولا طابت به، لما فيه من القوة والصلابة على دينه.
(ثم قد يختله الشيطان): الختل هو: الخدع والمكر، وغرضه أنه لا يزال يمنيه الأماني، ويرغبه فيها بخدعه ومكره وبأمانيه وأكاذيبه.
(حتى يورطه): يهلكه في كل ورطة، والورطة: الهلكة.
(في هلكته): الضمير إما للشيطان أي في هلكاته التي يهلك بها غيره، وإما للواحد منا أي في هلكته التي قد قدرت له، وأحكم فيها رأيه من أجله.
(بعرض من الدنيا): شيء.
(حقير يسير): فَيُطْمِعُهُ فيه، ويُمَنِّيه أخذه وتناوله على قرب وسهولة.
(وينقله من شيء): من المعاصي.
(إلى شيء): فوقه وأعلا منه، أو ينقله من درجة في ترك الدين وإهماله إلى درجة أسفل منها.
(حتى يؤيسه من رحمة الله): حتى هذه متعلقة بكلام، أي فلا يزال يفعل ذلك به حتى يزيل رجاه عن الرحمة، فينقطع عنها ولا تخطر له على بال، وعند ذلك يقتحم العظائم وهي سهلة عليه لا يكترث بها، ولا يبالي بالدخول فيها.
(فيجد الراحة إلى ما يخالف الإسلام وأحكامه): فيسهل عليه الحال بعد ذلك إلى ترك الدين وراء ظهره، ولا يبالي عن ذلك، فهذه حال من اطمأن إلى قرب الظلمة وساعد نفسه إلى ذلك.
(فإن أبت نفسك إلا حب الدنيا): بالتقرب إليهم ومخالطتهم.
(وقرب السلاطين): أهل الأمر والدولة على الخلق.
(وخالفتك عما فيه رشدك): سلامتك ونجاتك في الآخرة.
(فأملك عنك لسانك): احفظه عن الكلام بحضرتهم، والمحاذرة عن إكثاره معهم.
(فإنه لا بقيَّة للملوك عند الغضب): الرواية في قوله: بُقَيَّة بالتصغير [تحقير بَقيَّة] ، وله معنيان:
أحدهما: أن يكون مراده أنه لا انتظار لهم عند الغضب، ولا مراعاة أصلاً، من قولهم: بقيت فلاناً إذا انتظرته.
وثانيهما: أن يكون مراده أنه لا استبقاء لهم عند الغضب، وأخذه من بقية الماء في الكوز، أي أنهم لا يتركون شيئاً يبقى عند الغضب، بل يهلكون هلاكاً باستئصال.
(ولا تسأل عن أخبارهم): عما يتعلق بأحوالهم الخاصة فإن ذلك يبعث على الغيرة والغضب من جهتهم.
(ولا تنطق بأسرارهم): فإن فيه مخالفة لمقاصدهم، وآرائهم.
(ولا تدخل فيما بينهم): فإن فيه تغريراً بالنفس ومخاطرة بها.
(وفي الصمت السلامة عن الندامة): عما فرط من الكلام، وعن بعضهم:
ما إن ندمت على سكوتٍ مرة ... ولقد ندمت على الكلام مرارا
(وتلا فيك فيما فرط من صمتك): يريد أنك إن فرطت في الصمت فإنه يمكنك تداركه بأن تتكلم فيما بدا لك منه فهو لا محالة.
(أيسر من إدراك ما فات من منطقك): يعني وأنت إذا تكلمت بكلام فإنه لا يمكنك تداركه بأن تصمت عنه، فإنه يستحيل استرجاع ما خرج من الكلام ورده، ولهذا قال بعضهم: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وعن بعضهم: أنا على ما لم أقل أقدر مني على ما قلت، وقال آخر: أنا إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، وإذا لم أتكلم بها ملكتها .
ولقد أشار صاحب الشريعة إلى هذه الأسرار بقوله: ((من صمت نجا )) ، وبقوله: ((من سكت سلم )) ، وبقوله: ((الصمت خير، وقليل فاعله )) ، فهذه الكلم كلها من جهته قد اشتملت على جميع أسرار الصمت، واحتوت عليها.
(وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء): وكاء القربة: الخيط الذي يشد به رأسها، وفي الحديث: ((احفظ عفاصها ووكاءها )) وغرضه من هذا التحفظ عن عورات الكلام بالصمت.
(وحفظ ما في يديك): من الأموال وما تحتاج إليه في الدنيا.
(أحب إليك من طلب ما في يد غيرك): والمعنى في هذا هو أن حفظ ما في يدك عن الإتلاف بالهبة، وسائر أنواع التفضلات أحب وأقرب إلى الله من إتلافه، وطلب ما في أيدي الناس، والخضوع لهم بالسؤال والطلب.
(ولا تحدثن إلا عن ثقة): عمَّن يغلب على الظن صدقه وأمانته في الحديث، فإذا حدثت عمن يغلب عليه الكذب.
(فتكون كذاباً): لأن نقل الحديث عن الكاذب يكون كذباً لامحالة.
(والكذب ذل): لصاحبه وعار عليه لما فيه من المقت عند الله تعالى، وعند الخلق.
(وحسن التدبير مع الكفاف): [الكفاف] هو: الذي يكون فيه كفاية من غير إسراف ولا تقتير، وفي الحديث: ((اللَّهُمَّ، اجعل رزق آل محمد كفافاً )) وأراد أن الاقتصاد في المعيشة وإن كان كفافاً.
(أكفى لك): أعظم كفاية لمآقي وجهك.
(من الكثير مع الإسراف): لأن مع الاقتصاد فالكفاية حاصلة، ومع الإسراف لا كفاية، فلهذا كان ذلك أحق وأولى.
(ومرارة اليأس خير من الطلب إلى لئام الناس): المعنى في هذا هو أن اليأس وإن كان مراً عما في أيدي الخلق، فهو خير من الرجوى والطلب إلى أسافل الناس وأراذلهم.
(والعفة مع الحرفة): أراد أن التعفف عن كل ما يشين المرء ويسقط منزلته مع الحرفة، وهو نقصان الحظ والحرمان.
(خير من الغنى مع الفجور): أعود لا محالة، وأحسن حالاً؛ لأن الفجور فيه نقصان الدين وهدمه، والعفة مع نقصان الحظ لا نقص فيه على الدين ولا هدم له.
(والمرء أحفظ لسره): أراد أن المرء إذا كان معه سر فهو أحفظ لسره وأملك به، فإذا أباحه وأفشاه إلى غيره، فذلك الغير لا محالة أكثر إظهاراً له، وعن هذا قال بعضهم:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق
(رب ساعٍ فيما يضره): في الدين والدنيا، وبيانه هو: أنا نرى من يكون مجتهداً في التعلق بالملوك، ومحباً في خدمتهم ومع ذلك يضره في دينه، وهكذا فإنا نرى كثيراً ممن يتعلق بطلب الأموال فيولع بالأسفار، ويعلم ما فيها من النقص بجسمه بالمرض، فلهذا قال: رب ساعٍ فيما يضره، يشير به إلى ما ذكرناه، ونرى من هذا شيئاً كثيراً.
(من أكثر): من الكلام فيما لا يعنيه.
(أهجر): الإهجار: هو الإفحاش في المنطق، وغرضه أن كثرة الكلام تؤدي إلى ذلك، وترشد إليه.
(ومن تفكر أبصر): أراد أن كل من تفكر في عواقب أمره وما يؤول إليه حاله استبصر في أمره، وكان منه على حقيقة وبصيرة.
(خير حظ المرء قرين صالح): الحظ: ما يقدره الله للإنسان ويقسمه من سعادة وشقاوة، وأراد أن خير ما يقدره الله تعالى للمرء مقارنة أهل الصلاح؛ لما في ذلك من السعادة والنفع في الآخرة.
(قارن أهل الخير تكن منهم): أراد أن المقارنة والخلطة تكسب البعضية، فمن قارن أهل الخير، واختلط بهم كان من جملتهم ونسب إليهم، وفي الحديث: ((المرء من قرينه )) أي أنه يكتسب من خلائقه، ويأخذ من شيمه.
(باين أهل الشر تبن عنهم): اعتزل عنهم تكن مخالفاً لهم في كل أحوالك.
(لا يغلبن عليك سوء الظن): يعني كن في أكثر أحوالك محسناً للظن بكل أحد، ولا يغلبن عليك سوء الظن بكل أحد، فيؤدي إلى التهمة وانقطاع الألفة.
(بئس الطعام الحرام): وفي الحديث عن الرسول عليه السلام أنه قال: ((طلب الحلال فريضة على كل مسلم )) ، وفي حديث آخر: ((كل لحم نبت من الحرام فالنار أولى به )) .
وعن ابن عباس: لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام.
(ظلم ضعيف أفحش الظلم): أعظمه وأعلاه، وكل شيء جاوز حده فهو فاحش، وفي الحديث: ((اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري)) .
(الفاحشة كاسمها): أراد أن لفظها مطابق لمعناها، فلما كان الزنا عظيماً عند الله وأجل الكبائر، ولهذا جعل في مقابلته عقوبة لا تشبه العقوبات، فلما عظم أمره وكبر خطره عند الله، لا جرم سمي فاحشة، وهكذا كلما عظم حاله أطلق عليه هذا الاسم.
(التصبر على المكروه): على ما تكرهه النفس وينفر عنه الطبع من احتمال الأذى وكظم الغيظ، وغير ذلك مما يعد تصبراً.
(يعصم القلب): عن الميل عن الحق، وعن الطيش والفشل، والعجلة، وغير ذلك من الأمورالمكروهة.
(ربما كان الدواء داء، والداء دواء): يعني ربما أهلك الدواء الذي ترجا منه الصحة للإنسان، وربما كان الشيء الذي يؤلم ويؤذي دواءً مفيداً للصحة، مثل: الكي وقطع بعض الأعضاء لسلامة الروح، وهكذا ما يحكى عن بعض الأطباء أن من الأمراض ما يكون سبباً لزوال مرض آخر، وهذا نحو المالَنْخُوليا فإنه يذهب وينجل بالبواسير.
(إذا كان الرفق خرقاً، كان الخرق رفقاً): الخَرَقُ بالخاء المعجمة بفتحتين هو المصدر، والاسم منه الْخُرُق بضمتين هو: الجهل، والرفق: هو نقيضه، وفي الحديث: ((عليك بالرفق يا عائشة، فإنه ما حصل في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه))، ومثال ما يكون فيه الرفق خرقاً أنه إذا أقدم عليك العدو في الحرب فتأنيت في دفعه وقتله، فهذا يكون رفقاً بالإضافة إلى العدو، وهو بالإضافة إليك خرقاً؛ لأنه يؤدي إلى هلاك نفسك.
ومثال ما يكون الخرق رفقاً: هو أنك إذا خاطرت وعاجلت في قتل العدو، وكان هذا خرقاً بالإضافة إلى العدو، ورفقاً بالإضافة إلى نفسك، وحاصل المعنى فيما ذكر هاهنا هو أن الرفق في بعض المواضع قد يكون خرقاً، والخرق في بعض المواضع قد يكون رفقاً على أوجه مختلفة، لا يخفى حالها على الأذكياء.
(سوف يأتيك ما قدرِّ لك): أراد وإن بعد الأمر في ذلك وتراخت المدد، فإنه لا بد من وصوله إليك من خير وشر.
(رب يسير أهنئ من كثير): من الرزق؛ لأنه ربما حصل في الكثير ما يكدره من كثرة العوارض والآفات والغموم والأحزان، واليسير لا يلزمه شيء من هذه الأمور، فلهذا كان أهنئ.
(ساهل الدهر ماذل لك قَعُوْدُهُ): القَعود بفتح القاف من الإبل: ما يقتعده الراعي في جميع حوائجه، وهو الذي تمت له سنتان إلى أن يثنى ، فإذا أثنى فهو جمل، وغرضه من هذا الأمر بمواتاة الدهر، وأخذ أموره بالسهولة مهما كان مذعناً منقاداً، فأما إذا اعتاص أمره فلا سبيل إلى مساهلته.
(ربما نصح غير الناصح): الجاري على الأكثر النصيحة ممن طلبت منه ، وفي الحديث: ((المستشار مؤتمن )) وربما جرى على القلة أن يُسْتَنْصَحُ إنسان فتأتي النصيحة من غيره.
(وغش المستنصح): أي وحصل الغش والخديعة ممن طلبت منه النصيحة، ومهما كان الأمر هكذا فلا ينبغي لعاقل الاتكال على نصح الناصح، وغش الغاش؛ لأنه ربما جرى منهما خلاف ذلك.
(إياك والاتكال على المنى): المنى: جمع منية، وهو: ما يتمناه الإنسان من جميع الأشياء، فحذَّره عن الاعتماد عليها.
(لأنها بضائع النوكى): البضاعة: ما يتوصل بها إلى الربح، وغرضه أنها بضائع أهل الحمق والجهل، والنوكى: جمع أنوك وهو الأحمق.
(وفي تركها خير الدنيا والأخرى): يريد أنك إذا تركتها، وآثرت ما هو الصحيح المعتمد عليها دونما هو أمر موهوم لا تدري هو يحصل أم لا، فقد اعتمدت في أمرك على ما هو الحق من أعمال الدنيا والآخرة، وعملت على ما هو الأفضل منهما.
(ذكِِّ قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب): ذكت النار تذكو ذكواً: إذا اشتعلت، وأراد نوِّر قلبك بتذكر الآداب الدينية والدنيوية، وأشعل فيها نيرانها كما تشعل النار وتذكو وقودها بإيراد الحطب عليها.
(لا تكن كحاطب ليل): نهاه عن أن يكون جامعاً بين غث الأمور وسمينها، وقويها وضعيفها، وجيدها ورديئها، وإنما يأخذ من الأمور أحسنها وأعلاها وأرفعها من أمور الدين والدنيا، وفي الحديث: ((إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)).
(وغثاء السيل): الغثاء: ما يحمله السيل من بطون الأودية من الأخلاط المجتمعة، قال امرؤ القيس:
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة ... من السيل والغثاء فلكة مِغْزَل
ويكون مثقلاً ومخففاً.
(كفر النعمة لؤم): اللَّومُ بفتح الفاء: العذل، يقال: لامه لوماً إذا عذله، واللُوْمُ بضم الفاء هو: الاسم من الملامة واللائمة، وألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه، واستلام الرجل إلى الناس أي استذمَّ.
(صحبة الجاهل شؤم): الشؤم هو: نقيض اليمن، وأراد أن كل من صحب الجهال فإنه يكون لا محالة مشئوماً لا خير فيه ولا معه.
(العقل حفظ التجارب): وهي جمع تجربة، وهي خبرة الأمور والحنكة فيها، ومعاناتها مرة بعد مرة، وفيه معنيان:
أحدهما: أن يريد أن من حكم العقل وقضيته حفظ ما جربه الإنسان وعالجه مرة بعد أخرى.
وثانيهما: أن يكون غرضه أن العاقل لا يكون عاقلاً، ولا يكون عقله كاملاً، إلا بعد أن يكون مجرباً للأمور، ذا حنكة فيها، وأما من يأتي الأمور ويفعلها من غير تجربة فيها، فليس على حد العقلاء، ولا ذاك من حقيقة شأنهم.
(وخير ما جربت ما وعظك): وأفضل ما عالجت من الأمور كلها، ما كان سبباً في اعتبارك وموعظتك، وانتفاعك في أمر الدين وحال الآخرة.
(بادر الفرصة): يقال : أفرصتني الفرصة أي أمكنتني، وأراد الأمر بالإسراع والمعاجلة في إحراز الخيرات من جميع الأمور، والمواثبة عليها قبل فواتها، وعروض ما يعرض من أخذها وتناولها.
(قبل أن تكون غصة): الغصة: واحدة الغصص وهي: الشجا في الحلق، وأراد أن إهمالها وترك المعاجلة في أخذها يكون شجاً في الحلق لا محالة.
(من الحزم العزم): أراد أن العزم على أخذ الشيء، وتناوله هو أحد أجزاء الحزم؛ لأنه إذا أخذه وقطع على تناوله فهو آخذ بالحزم لا محالة، مخافة أن يفوت أو يعرض عن أخذه عارض، فلهذا قال: من الحزم العزم.
ثم أخذ في تقرير الحكم وبيان أسرارها وغرائبها بقوله:
(سبب الحرمان التواني): اشتقاق التواني من الونى، وهو: الضعف، وغرضه أن السبب في امتناع بعض الأشياء وحرمانها هو الضعف عن طلبها والتساهل في إدراكها، ولهذا نجد الإنسان إذا جدَّ في طلب شيء حصل، وإذا توانى فيه فات لا محالة.
(ليس كل طالب يصيب): مطلوبه، ويحصل له، فكم من طالب ولا ينال مطلوبه، ولا يكون حاصلاً وإن جد واجتهد.
(ولا كل غائب يؤوب): فكم من غائب يعرض دون إيابه الموت، فلا يؤوب أبداً.
(من الفساد): في الدين والإعراض عن الآخرة:
(إضاعة الزاد): وهو التقوى وما بلغ إلى الآخرة، ولا فساد كهو؛ لأن كل فساد يرجى صلاحه إلا ما كان من فساد الزاد في الآخرة فإنه لا رجوى لصلاحه بحال.
(وهو مفسدة المعاد): يعني أن من أضاع زاده في الآخرة فقد أفسد لا محالة معاده إلى الله تعالى، ومرجعه إليه؛ إذ لا معاد من دون زاد.
(لكل أمر عاقبة): يؤول إليها ويرجع، وإلى الله عاقبة الأمور كلها وصيرورتها.
(رب دائب مفرط): الدأب: المداومة على الشيء وتكراره، وأراد رب مداوم على فعل شيء وهو في الحقيقة مفرط في فعله، كأنه بمنزلة من لم يفعله، إما لفساد قصده وتغير نيته، وإما لإيقاعه له على غير الوجه المأمور به.
(ورب ساعٍ مضيع): أي رب من يكون ساعياً في تحصيل شيء ومجتهداً في فعله وهو في الحقيقة مضيع له ؛ لكون سعيه غير موافق للأمر، ولا مطابقاً له، وما ذكره أمير المؤمنين يقع كثيراً.
(التاجر مخاطر): في اضطرابه في تجارته وركوب البر والبحر، فهو على غير حقيقة في تجارته هل تسلم أو لا؟ وهل يربح أو يكون خاسراً؟ فلا يزال في خطر في تصرفاتها كلها، ولا يزال راكباً للأخطار.
(لا خير في معين مهين): الإعانة إنما تراد من أجل تحصيل المقصود وإيقاعه، فإذا كان المعين في غاية الضعف والهوان فلا فائدة فيها، ولا نفع واقع بها.
(ولا في صديق ضنين): أراد بالضنين إما البخيل، وإما المتهم، وكلاهما يشوبان الصداقة، ويقطعان حالها، ويبطلان أمرها.
(ولا تبنينَّ في أمر على غرور): الغرور هو: الخدع والمكر، وأراد أن كل أمر قررت قواعده على خديعة ومكر، فهوباطل متلاشي لا ثبات له، فلهذا نهى عنه.
(من حلم ساد): أراد أن الصبر على المكاره وتحمل أذى الخلق والاصطبار على ما يأتي منهم من المكروه، يورث السؤدد عليهم، وعن هذا قال بعضهم:
تحلم عن الأدنين واستبق ودهم ... فلن تستطيع الحلم حتى تحلمّا
(ومن تفقه ازداد): التفقه: التفهم لمراد الله وإصلاح حاله في الدين والدنيا، ومن فهم عن الله ازداد خيره وكثر صلاحه.
(لقاء أهل الخيرات عمارة القلوب): لأن عمارة القلوب لا تحصل بأعظم من ذكر الموت وأحوال الآخرة، ولقاء أهل الصلاح يكون فيه أبلغ ذلك وأعظمه.
(إياك أن تجمح بك مطايا اللجاج): جمح الفرس براكبه، إذا خالفه في مراده ولم يملك أمره، وأراد التحذير عن أن يكون اللجاج والشجار طامحين بالإنسان إلى المكاره السيئة والمداخل الضيقة، والمعنى في هذا هو كف النفس وزمها عن الورود في اللجاج والخصومات.
(إن قارفت سيئة فعجِّل لها توبة ): القرف: الاكتساب، يقال: فلان يقترف لعياله إذا كان يكتسب عليهم، وأراد أنك إذا اكتسبت سيئة فلا تمَّالك في تعجيل توبة من أجلها تمحوها.
(لا تخن من ائتمنك وإن خانك): أراد أن الواجب عليك أن لا تخون أحداً، وخيانته لك لا تبطل هذا الواجب، ولأنه إذا خانك فقد أسقط حقك، وإذا أسقط حقك فلا تسقط حقه بالخيانة من جهتك.
(لا تذع سره وإن أذاع سرك): الإذاعة: هي الإفشاء، وفلان خدَّاع مذَّاع أي يفشي الأسرار وينشرها، وغرضه أنك لا تفش سره وإن أساء في إفشاء سرك.
(لا تستوثق بثقة رجاء): يقال: فلان أخذ بالوثيقة في أمره، أي بالثقة، وأراد هاهنا أنك إذا طلبت وثيقة في أمر فلا تجعلها على جهة الرجاء، وكن فيها على قطع فيطمئن بها القلب، ويكون الصدر إليها منشرحاً.
(لا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه): يعني أن حفظ القليل في يدك خير من بذله على غير حقيقة من حاله لرجوى ما هو أكثر منه، وأراد بهذا حيث لا يكون ظن السلامة أكثر، فأما إذا كان ظن السلامة أكثر فالعقول مشيرة إلى حسن ذلك لا محالة.
(جد بالفضل ): في جميع أحوالك، وغرضه كن مفضلاً على من قدرت عليه.
(وأحسن البذل): أي ليكن بَذْلُكَ [وعطاؤك حسناً] متوسطاً من غير إسراف في حالك، ولا إضرار به، كما قال تعالى: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ }[الإسراء:29]،.
(قل للناس حسناً): أي قولاً ذا حسن، وأراد قولاً لطيفاً لا خشونة فيه، ولا يجوز حسناً بغير تنوين، على أن يكون تأنيث الأحسن؛ لأن المؤنث من ذلك لا يجوز إتيانه بغير اللام أو الإضافة إلا على جهة الشذوذ، فلهذا وجب حمله على المصدر كما ذكرناه.
(قلَّ ما تسلم ممن تسرعت إليه): بالمكروه والأذى، وغرضه أن كل من بادرت إليه بفعل القبيح فإنه لا يزال مجتهداً في المبالغة، [في المكر] والخديعة، والكيد لك لا محالة، فلا تكاد تسلم من كيده.
(أو تندم إن تفضلت عليه): أي أن الإحسان يقود إلى كل خير، فلا تكاد تندم على فضل على أحد بحال.
(من الكرم): في الطباع، واتباع محامد الشيم.
(الوفاء بالذمم): بالعقود والمواثيق، والمكر والخديعة هو اللؤم بعينه.
(الصدود آية المقت): صدَّ عنه صدوداً إذا أعرض عنه، والمقت: البغض والكراهة، وأراد أن الإعراض علامة للبغض لا مرية فيه.
(الانقباض يجلب العداوة): لأن مع الانقباض البعد، والبعد يورث الوحشة والقطيعة، وهذه كلها أسباب جالبة للعداوة.
(والخلطة تورث المحبة): لأن مع الخلطة الألفة، والألفة تورث البشاشة، والبشاشة حِباَلَةُ المودة.
(كثرة العلل): أراد أن المرء إذا كان كثيراً ما يكثر العلل على صاحبه في أحوال معاشرته له، فإن ذلك كله.
(آية الملل): علامة السآمة له، والنفرة عن خلطته ومفاكهته.
(من الكرم): في الطباع والشيم.
(صلة الرحم): برها وكرامتها بالمواصلة والتعهد، ولهذا ترى ذلك كثيراً في أفاضل الناس وأهل الشهامة منهم.
(التجني وجه القطيعة): التجني هو: التجرم وهو ادعاء ذنب لم يذنبه الغير، وأراد أنه وجه المقاطعة عن التواصل، وحقيقتها وعلامتها، ومعه حصولها لا محالة.
(احمل نفسك في أخيك عند صرمه على الصلة):أراد أنه إذا صرمك فأكره نفسك على صلته واحملها على ذلك، وقوله: احمل نفسك، يدل على أنه إكراه للنفس على ذلك؛ لأنه خلاف هواها ومرادها.
(وعند صدوده): إعراضه عنك.
(على اللطف والمقاربة): الرفق به والتقرب إليه.
(وعند جموده): بخله ومنع جود نفسه.
(على البذل): على إسداء المعروف إليه، وإنالته بخيرك.
(وعند تباعده على الدنو): على القرب منه ، والتعهد لحاله.
(وعند شدته): بخله بما في يده أوعلى ضيق أخلاقه وضنكها.
(على اللين): إما على المسامحة، وإما على بسط الأخلاق ولينها له.
(وعند جرمه): إساءته إليك.
(على العذر): على قبول عذره إذا اعتذر في ذلك.
(حتى كأنك له عبد): أراد أنك تفعل ذلك وتستمر عليه حتى كأنك في منزلة العبد له.
(وكأنه ذونعمة عليك): تفضل وعطاء في اصطبارك على ذلك، وإكراه النفس عليه.
(وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه): يعني أن خضوعك وقربك ودنوك ولينك، إنما يكون ذلك مستحقاً ومندوباً إليه في حق من يعرف ذلك، ويتحققه ويكون موضعاً له.
(أو أن تفعله في غير أهله): لأن فعلك ذلك في غير موضعه، وفي غير أهله سقوط في الهمة، وركة في الطبيعة، وذل في النفس.
(لا تتخذَّن عدو صديقك صديقاً): لأن الأعداء ثلاثة: عدوك، وعدو صديقك، وصديق عدوك، والأصدقاء ثلاثة أيضاً: صديقك، وصديق صديقك، وعدوعدوك، فإذا اتخذت عدو صديقك صديقاً.
(فتعادي صديقك): باتخاذ عدوه صديقاً، وهو أحد الأعداء لك.
(ولا تعمل بالخديعة): في أحوالك كلها فتري صاحبك النصح وغرضك خدعه.
(فإنها خلق اللئام): جمع لئيم وهو: الدني الأصل الشحيح [الفعل وأراد أن] ذلك دال على لآمة أصله، وسخافة فعله.
(امحض أخاك النصيحة): [محضته الود أخلصته] له ويقال: هو عربي محض أي خالص نسبه، أي أخلصها له، وكل شيء [أخلصته فقد] أمحضته، قال الشاعر:
قل للغواني أما فيكنَّ فاتكةٌ ... تعلو اللئيم بضربٍ فيه إمحاض
(حسنة كانت أو قبيحة): يعني مراده كانت حسنة عنده أو مكروهة، فعبَّر عن الحسن عما يكون مراداً، وعن القبيح بما يكون مكروهاً، وليس الغرض أن النصيحة تكون قبيحة، فإن كل ما كان قبيحاً فلا وجه للأمر به.
(لا تصحبن الإخوان بالإيهان): الوهن: الضعف، وأراد لا تصحبهم بالإفساد والضعف، والركة في الحال.
(صاحبهم بالتذكير عند الزلة): تذكير التوبة ليتوب عنها، أو تذكير كونها خطيئة فيقلع، أو تذكَّر عظمة الله وخوفه، فيكون ذلك سبباً للانزجار عنها.
(وأمحضهم المودة): أي أخلصها لهم، وود محض إذا كان خالصاً لا شوب فيه.
(عند الهَبَّةِ): يُروى مفتوحاً، وهي واحد الهبات، يقال: هب البعير هبة وهباباً إذانشط في سيره، قال لبيد:
فلها هَبَابٌ في الزِّمام كأنَّها
صهباء راح مع الجنوب جهامها
ويُروى بالكسر وهي: الحالة، يقال: هب البعير هِبَة إذا هاج للضراب، وكلاهما صالح هاهنا، فإن الغرض محض المودة عند شدة الأمر وصعوبته.
(كم من أخ ثقة): تثق به في جميع أحواله، ويطمئن صدرك إليه وينشرح.
(بعث العتب بحقه ): البعث: الإرسال، قال تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا }[الإسراء:5]، وأراد أزال العتب حقه وأرسله، وغرضه من هذا كله هو أن كثرة عتاب الصاحب تزيل حقه وتبطله.
(ساعد أخاك على كل حال): في أمور الصحبة والإخوة، فإن مع المساعدة تكون استقامة الأحوال كلها وانتظامها.
(وزل معه في الحق حيث زال): أي لا تفارقه مهما كان على الحق، وكن معه عليه على أي وجه كان.
(جد على عدوك بالفضل): عامله بالتفضل عليه في أحواله كلها.
(فتسخير العدو بالإحسان إليه أجلى الظفرين): التسخير: هو التذليل ، وأراد أن تذليل العدو بإعطائه المعروف والإحسان من جهتك، فإن الظفر بالعدو يكون بوجهين:
أحدهما: القهر له والغلبة.
وثانيهما: الإحسان إليه، لكن تذليله بالإحسان إليه أجلى من قهره، وأحمد عاقبة في مذاهب الكرام؛ لكونه أخف حالاً وأسهل من القهر لا محالة، ولأنه بالإحسان ينجذب من جهة نفسه، وبالقهر إنما ينجذب بداعية الإكراه لا غير، فلهذا كان ذلك أجلى وأجود.
(بصر صديقك): أره البصيرة في أمره، واهده إلى الرشد.
(وتجرع الغيظ): اصبر على ما يغيظك من أمرك، واكظم غيظك فيه.
(فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة): يريد أن عاقبتها حلوة المطعم.
(ولا ألذ منها مغبة): مغبة كل شيء: عاقبته، وهي بفتح الغين المصدر، وبالكسر أيضاً كالمحمدة والمعذرة.
(لن لمن غالظك): قاساك وناواك، والغلظة: الفظاظة، قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ }[آل عمران:159].
(يوشك أن يلين لك): أراد أنك إذا لنت له في أول الأمر فيقرب لا محالة أن يلين لك في آخره.
(تفضل على عدوك): بالإحسان إليه وإسداء المعروف عليه.
(فإنه أجلى الظفرين): إما القهر له، وإما الإحسان إليه، ولا شك أن الإحسان هو أجلاهما وأعظمهما نفعاً وجدوى.
(وإن أردت قطيعة أخيك): يقول: إذا عزمت يوماً على قطعه عن المواصلة، وإيحاشه عن الألفة.
(فاستبق له من نفسك بقية): اجعل عند نفسك له بقية من المواصلة، ولا تبالغ في القطيعة والوحشة.
(إن بدا لك): عن ذلك من المواصلة، واستقبحت أمرك.
(يوماً ما): يوماً من الأيام على القلة والندور وهذه إشارة منه إلى أن الإنسان لا يستمر على حالة واحدة، فليكن من أمره على ثقة في التبقية لنفسه من ذلك.
(ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه): من قصدك في طلب حاجة وظن فيك قضاءها، أو قصدك في عطية، وظن بك غنى، أو غير ذلك من الظنون الحسنة فلا تخيب رجاءه فيما قصد من ذلك، وصدِّق رجاءه في ذلك، ولا تخالفه فيما أمَّل فيك من قضائها.
(ما أقبح القطيعة بعد الصلة!): أي أن القبح فيها يعظم حاله، ولهذا أتى به على جهة التعجب من حاله، لما فيه من زيادة القبح وشناعته .
(والجفاء بعد الإخاء): الجفاء: خلاف البر، والإخاء: المودة.
(والعداوة بعد المودة): وإنما عظم القبح لما تقدم قبل ذلك مما ينافيه ويعاكسه، فلهذا ازداد قبحاً؛ لأن العداوة ابتداءً ليس حالها مثل حالها إذا تقدمها مودة وموالاة، فإن ذلك يكون أدخل في القبح لا محالة.
(لا تضيعن حق أخيك): تسقطه وتزيله.
(اتكالاً على ما بينك وبينه): من الإدلال والألفة والصحبة.
(فإنه ليس بأخ لك من ضيعت حقه): يعني أن ذلك كله يبطل ويسقط حكمها ويبطل حقيقتها.
(لا ترغبنَّ فيمن زهد فيك [ولا تزهدنَّ فيمن رغب فيك] ): لأن رغبتك في زاهد فيك دلالة على هون النفس وركتها، وسقوط حالها، وزهدك فيمن رغب فيك أيضاً نقصان حظ في حقه.
(لا يكن أهلك): قرابتك ومن يختص بك من أهلك.
(أشقى الناس بك): أعظم الناس شقاء بك، يشير إلى حسن المعاشرة لهم والتوسيع في حالهم، والمواساة لهم، فإذا فعلت ذلك كانوا أسعد الناس بك حالاً، وأعظمهم حظاً بك.
(لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على مواصلته ): أراد أن أخاك وإن قطعك عن المواصلة وقوي على ذلك، فكن أقوى منه، على خلاف ذلك من المواصلة والقرب، لتكون أفضل منه وأعلى حالاً.
(ولا على الإساءة أقوى منك على الإحسان): وإذا كان قوياً على الإساءة إليك، فكن أقوى منه على الإحسان إليه.
(ولا على البخل أقوى منك على الجود): وإذا كان قوياً على البخل فكن أقوى منه على الجود والتفضل .
(ولا على التقصير أقوى منك على التفضل): وإذا كان قوياً على التقصير في الأحوال كلها، فكن أقوى على الإفضال والإعطاء منه.
(وليس جزاء من سرك أن تسوءه): ليس من خلائق الكرام ولا من خصال أهل الشيم الشريفة؛ أنه إذا صدر من جهة أحد إليك مسرة أن تكافئ صاحبها بمكروه، ولا أن من فعل فعلاً من الإحسان يكون جزاؤه الإساءة إليه.
(لا يكبرنَّ عليك ظلم من ظلمك): أي لا يَعْظُمَنَّ عليك، إما في العفو عنه والصفح، وإما في وقوع الغم فيه.
(فإنما سعى في مضرته): بما يحصل عليه من اللوم من الخلق في الدنيا، والعقوبة من الله تعالى في الآخرة.
(ونفعك): بما يحصل من الثواب على كظم الغيظ عنه أو بالعفو عنه أيضاً، وما يحصل من محمدة الناس لك في ذلك كله.
(الرزق): الذي قدَّره الله لك وحتمه، وجعله بلغةً لك.
(رزقان): نوعان، ووجهان:
(رزق تطلبه): بالاجتهاد في طلبه بحرفة أو سفر، أو عمل أوكدٍّ على أي وجه كان ذلك في إيجاده.
(ورزق يطلبك): يسوقه الله تعالى إليك من غير كد ولا تعب، ولا نصب في ذلك.
(وأنت إن لم تأته أتاك): يعني أن الله تعالى قد قدر وقوعه وحصوله إليك، فأنت وإن لم تأته بالطلب فهوآتٍ إليك لا محالة لا يتخلف عنك.
(والزمان): الذي خلقه الله تعالى مصلحة للعباد ومقداراً لآجالهم.
(يومان: يوم لك): نفعه.
(ويوم عليك): ضره.
(فما كان لك): فيه من المنافع والأرزاق المقدرة لك.
(أتاك على ضعفك): وصلك وإن كنت ضعيفاً عن تناوله وأخذه.
(وما كان عليك): وباله من الهموم، والغموم، والآلام المقدر وصولها إليك.
(لم تقدر على دفعه): إزالته عنك وإبعاده.
(بقوتك): وإن كنت قوياً.
(ما أقبح الخضوع عند الحاجة!): أتى به على قضية التعجب، لما فيه من المبالغة في القبح والشناعة، وهو أن تكون خاضعاً عند حاجتك لغيرك، لا وجه للخضوع سوى الحاجة.
(والجفاء عند الغنى!): أي وما أقبح الجفاء، وهو خلاف البر عند الاستغناء، وأراد أن التذلل إذا كان عند طلب الحاجة، ثم يكون الجفاء بعد الاستغناء، فهذا يكون أقبح ما يكون.
(ما أقبح المعصية لمن لم يزل بره عندك): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون خاصاً في حق الله تعالى، فإذا كان الله تعالى لا يزال بره واصلاً إلى الخلق في كل ساعة، فمعصية من هذه حاله لها مدخل عظيم في القبح.
وثانيهما: أن يكون عاماً في حق الله تعالى وفي حق غيره، وهو أن كل من كان بره واصلاً إليك على الدوام فمعصيته تعظم لا محالة، سواء كان في حق الله أو حق غيره من المخلوقين.
(إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك): يشير إلى ما في الدنيا فهو فانٍ، ولا بقاء لشيء منها إلا ما كان صلاحاً للآخرة من الأعمال الصالحة، وجميع أنواع البر كلها، والمثوى: موضع الإقامة والثوى.
(إن كنت جازعاً على ما نقل من يديك): يشير إلى أن الجزع كله مذموم، وبيانه أنك لا يخلو جزعك، إما أن يكون على ما هو حاصل في يديك شحاً عليه وبخلاً أن يفوت، أو يكون جزعك على ما نقل من يديك، [فإن كان على ما نقل من يديك] من الأموال والأولاد وسائر النفائس:
(فاجزع على كل ما لم يصل إليك): لأنهما سيان في الفوات عن يديك، لا مزية لأحدهما على الآخر في ذلك، وإن كان جزعك على ما هو حاصل في يديك، فهو إساءة ظن بالله تعالى وقلة ثقة بكرمه ومزيد إحسانه، فلا فائدة فيه كما قال.
(استدلل على ما لم يكن بما قد كان): فيه وجوه:
أحدها: أن يكون مراده في الدنيا، وهو أن ما كان من الدنيا فهو زائل فانٍ، فهكذا ما يحصل منها من بعد، يكون حاله هكذا.
وثانيها : أن يريد ذلك في خطوب الدهر وحوادثه، وهي لا تزال حادثة في كل أوان، فافعل فيما يحدث منها من الصبر وكظم الغيظ مثلما فعلت فيما مضى منها.
وثالثها: أن يكون ذلك بالإضافة إلى الله تعالى، وعلى هذا يكون مراده استدلل على لطف الله وحسن رعايته بالخلق بما فعل من ذلك فيما مضى، فهو لا محالة يفعل مثله فيما يستقبل، وهو يحتمل لغير ما ذكرناه من المعاني، ولكنها مندرجة تحت هذا.
(فالأمور أشباه ): أي أن الأمور متشابهة يشبه بعضها بعضاً، ويستدل ببعضها على بعض.
(لا تكونن ممن لا ينتفع بالموعظة إلا إذا بالغت في إيلامه): يحث في هذا على أن الإنسان ينتفع بالذكر القليل، وينهى عن أن يكون لا ينتفع إلا بالمبالغة في الإيلام، وكدّ القلوب وجرح الأفئدة بالزواجر الوعظية، والقوارع الوعيدية.
(فإن العاقل يتعظ بالأدب): أدنى الموعظة وأيسرها وأسهلها.
(والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب): وهذا تعريض بأن من هذه حاله في كونه لا ينتفع إلا بعظيم الموعظة، مشبه للبهائم في أن انقيادها والانتفاع بها لا يكون إلا بالضرب، ومن ينقاد بأسهلها فهو مشبه بالعاقل في ذلك، وبين العاقل والبهيمة من التفاوت بون لا يدرك حده، ولا ينال أمره وقصده.
(اعرف حق من عرفه لك ): أراد أن من جملة الإنصاف معرفة الحق لمن اعترف به لك، ولا تلتفت إلى حاله.
(رفيعاً كان أو وضيعاً ): سواء كان قدره مرتفعاً أو متضعاً فذاك بمعزل عنه.
(استعد للموت): خذ العدة لوقوعه وهجومه، فإنك لا تدري أي وقت يهجم عليك، وما هذا حاله خليق بإحضار عدته والتأهب لوقوعه.
(اطَّرِحْ عنك واردات الهموم): أزل عن نفسك جميع ما ورد عليك من المهمات كلها.
(بعزائم الصبر): بالجد في الصبر والإعتماد عليه.
(وحسن اليقين): على ما يحصل في ذلك من الأجر والثواب، وتعلق الباء في قوله: بعزائم الصبر تعلق الآلة، كما تقول: كتبت بالقلم، أو تعلق الأحوال أي اطرحها أعني الهموم معتزماً بالصبر.
(من تعدى الحق ضاق مذهبه): أي من خالف الحق ضاق عليه تصرفه في أموره كلها وذهابه فيها، ومنه قولهم: لفلان في الأمور مذهب حسن أي تصرف معجب.
(من اقتصر على قدره كان أبقى له): يعني من قصر نفسه على قدرها كان أبقى لما هو عليه من الزوال والتغير؛ لأن الجهل بالحال يؤدي إلى ذلك، ولقد أحسن من قال في ذلك:
من طال فوق منتهى بسطته
أعجزه نيل الدنى بَلْهَ القضاء
من لم يقف عند انتهاء قدره
تقاصرت عنه فسيحات الخطاء
فهذا كله يشير إلى ما قلناه من تغير الحال عند جهل الإنسان بقدر نفسه، وسيأتي لأمير المؤمنين فيه كلام بالغ نشرحه في موضعه بمعونة الله تعالى.
(أوثق سبب ما بين الله وبينك ): يريد أن الأسباب والوُصَل وإن كانت كثيرة بينك وبين غيرك، لكن أحقها بالوثاق والربط هو السبب الذي بينك وبين الله، لما فيه من محمود العاقبة وجميل السلامة في الدنيا والآخرة، وكيف لا يكون أحق الأسباب بالإيثاق، وفيه صلاح الحال كله، والبغية المقصودة، المعول عليها.
(ليس كل عورة تظهر): أراد أن بعض العورات وإن حسن اطلاع غيرك عليها، فليس هذا حاصلاً في كلها، وإنما يكون ذلك في بعضها دون بعض.
(ولا كل فرصة تصاب): الفرصة: النهزة، وفي الحديث: ((من فتح له باب خير فلينتهزه )) أي يعاجله بالأخذ قبل فواته، فهكذا حال الفرصة ينبغي معاجلتها قبل فواتها، وليس هذا في كل فرصة، فربما ساعد فيها القدر فأخذت، وربما كان الأمر على خلاف ذلك
(فربما أخطأ البصير قصده): أكثر تصرفات البصير على نعت الصواب لموافقة المقادير، وربما خالفت المقادير فأخطأ ما قصده من ذلك.
(وأصاب الأعمى رشده): [وأكثر تصرفات الأعمى لا تجري على قانون الاستقامة، وربما أذعنت المقادير له فأصاب رشده] ، وهو ما يطلبه من ذلك.
(أخِّر الشر): يريد تأنَّ فيه ولا تعجل على فعله، فالعجلة إنما تنبغي في أعمال الآخرة، فأما الشر فلا عجلة فيه.
(فإنك إن شئت تعجلته): يريد أنما كان يمكن فعله في كل حالة فلا حاجة به إلى العجلة.
(قطيعة الجاهل): يريد مقاطعته، وعدم الإتصال به.
(تعدل صلة العاقل): يشير إلى أن النفع بمقاطعة الجاهل يساوي ما يحصل من النفع بصلة العاقل؛ لأنه لا يحصل بمواصلة الجاهل إلا ضرر، كما لا يحصل بانتفاء خلطة العاقل إلا نقص، فلهذا كان قطيعة هذا توازي صلة هذا .
(نعم حظ المرء القنوع): يشير إلى أن الله تعالى ما رزق المرء من الحظوظ والعطايا أفضل ولا أعظم من القناعة، وسيأتي له في القناعة كلام غير هذا، نورده في موضعه بمشيئة الله.
(شر أخلاق المرء الحسد): يشير إلى أنه لا شر أعظم في الخلائق من الحسد، وحقيقته: أن تريد إزالة نعمة غيرك إليك فتكون لك دونه، فهذا هو الحسد المذموم، وقد أكثر الله من الوعيد على صاحبه، وفي الحديث: ((الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب )) ، وفي حديث آخر: ((ما ذئبان ضاريان في زريبة أحدكم ؛ بأسرع من الحسد في حسنات المؤمن)).
(الشح يجلب الملامة): يريد أنه أعظم أسبابها وأقواها، وفي الحديث: ((أخوف ما أخاف على أمتي: شح مطاع ، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)) .
(الصديق من صدق غيبه): أراد أن الصديق حقيقة من كان صادقاً في حال الغيبة، فيكون حاله في حضورك كحاله في حال غيبتك من النصيحة والمواساة والذب عن العرض.
(الهوى شريك العمى): يعني أن العمى في البصيرة كماهو مهلك للإنسان، فهكذا أيضاً الهوى فإنه مشارك للعمى في هلاك المرء باتباعه وإيثاره.
(من التوفيق الوقوف عند الحيرة): التوفيق: هو اللطف الذي يكون معه موافقة رضاء الله تعالى، وسمي توفيقاً من أجل ذلك، ومن حكم هذا اللطف هو التوقف عند التحير في الأمور العظيمة؛ لأن مع الوقوف السلامة، ومع التهور العطب.
(طارد الهمِّ اليقين): يريد أن الهمَّ إذا عرض لك وتراكم فلا طارد له من الأمور شيء سوى اليقين بما قدر الله تعالى لك وعلم أنه لا يفوتك، وأنه لا محيص لك عنه، ومع هذا التحقق لا يبقي للهمِّ وجه أصلاً.
(رب بعيد): يعني أن من الأمور ما يستبعده الإنسان، ويحيِّل وقوعه وحصوله، ومع ذلك فإن المقادير تقضي بوجوده وحصوله وأنه:
(أقرب من قريب): أي أقرب ما يستقربه الإنسان ويظن وقوعه.
(الغريب): على الحقيقة.
(من ليس له حبيب): يوده، ويحنو عليه ويتعطف دون غيره من سائر الغرباء، فمن ليس حاله هذه [فليس بغريب] .
(أوثق العرى التقوى): يريد أن سائر العرى منقطعة بصاحبها إلا عروة التقوى، فإنه لا انقطاع لها ولا انفصام.
(من أعتبك): أي أرضاك من نفسه، وأعتبت فلاناً إذا أرضيته.
(فهو منك): أي موافق لك على ما أنت فيه، أو راعي لحقك منصف لك في إعطائك ما تستحق.
(من لم يبالك): يحتفل بأمرك ولا يطول بحالك، ولا يرعيك طرفاً.
(فهو عدوك): لأن هذه حالة العدو وحكمه.
(قطيعة الجاهل): قطع الوصل بينك وبينه، وسائر الأسباب.
(مصلحة): إصلاح لحالك ومراعاة لجانبك، إذ لا خير في مواصلته.
(بر الوالدين): بجميع أنواع البر من المعروف، وإسداء الخير إليهما وإنصافهما بكل ممكن تجده.
(كرم): أي من كرم النفوس وجودتها.
(المخافة): يعني الخوف من عدو أو لصٍّ أو سَبُعٍ أو غير ذلك من أنواع المخافات كلها:
(شر لحاف ): أقبح ما تردَّى به الإنسان والأم للقلب من كل شيء؛ لأن مع الخوف تتغير أكثر الحالات، وتضيق فرائص الإنسان ويشذُّ نومه، ولهذا قال الله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ }[النحل:112]، مبالغة في عظم ما أصابها ونالها من ذلك.
(لا خير في لذة): أراد لا فائدة ولا جدوى في لذة.
(تعقب ندماً): لأن ما يحصل بعدها من الندم يوفي ويزيد على ما يحصل منها من اللذة ويربي على ذلك.
(العاقل): أراد العاقل حقيقة.
(من وعظته التجارب): التجربة هي: خبرة الأمور والدرية بأحوالها حتى صار عارفاً ماهراً فيها، فمن هذه حاله فهو العاقل دون غيره.
(رسولك): بأي رسالة كانت وإلى أي رجل كان.
(تَرْجُمانُ عقلك): الترجمان هو: الذي يفسر كلامك ويظهر معناه بلغة أخرى، وأراد أن الرسول هو الذي يُعَبِّرُ عن عقلك ويظهر مقصودك، ويبين عن غرضك، فاختر من شئت يكون رسولاً لك، فهذه حاله.
(ليس مع الاختلاف ائتلاف): يعني أن كل ما وقع فيه مخالفة وتفرق كلمة وتشتت آراء، فلا وجه للموافقة فيه بحال.
(ينبئ عن كل امرئ دخيلته): الدخيل والدُّخْلُلُ هو: الذي يختص بالإنسان ويداخله في أموره كلها، وأراد أن كل من يختص بالإنسان فهو دليل عليه من جودة ورداءة.
(رب باعث عن حتفه): الحتف: الموت، وأراد رب من يبعث الموت على نفسه ويجره عليها، وترى هذا كثيراً، ومنه قولهم: فلان باعث عن حتفه بظلفه.
(رب هزل عاد جدّاً): من الطلاق والحرية وغير ذلك من الأمور؛ لأنه ربما وقع في أول الأمر أحاديث ليس لها وقع، ثم كان عاقبة الأمر الجد في ذلك وبلوغ غايته.
(من أمن الزمان خانه): يعني أن طبع الدهر هو الخيانة، فهو لا يزول عن طبعه وما هو من مقتضى ذاته، فإذا أمنه أحد فهو يرجع إلى طبعه الأول في المكر والخديعة والخيانة.
(من تعظَّم عليه أهانه): يعني من صاوله ولم يجنح له أذله وصرعه لجنبه.
(ليس كل من رمى أصاب): جعل هذا كناية، وأراد به أن كل من توصل بسبب إلى غرض من الأغراض فليس يكاد يناله، وربما عرض دونه عارض فحال بينه وبينه.
(إذا تغيَّر السلطان): في العدل والقيام بالأمر، وإنصاف كل ذي حق حقه.
(تغيَّر الزمان): إما بفساد الرعية من جهة أنفسهم لما يلحقهم في ذلك من الضرر، وإما بتغير من جهة الله تعالى يسلطه الله عليهم، وفي الحديث: ((خمس بخمس )) قيل: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ فقال: ((ما نقض قوم العهد إلا سلَّط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال والميزان إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس [الله] عنهم القطر)) . وإذا كان الأمر هكذا فلا يمتنع مع تغير الزمان أن يصيبهم الله بشيء من البلاوي عند تغير السلطان.
(خير أهلك من كفاك): أراد إما من كفاك نفسه فلم تشتغل به، وإما أن يريد من كفاك بعض أمورك وأعانك بها.
(اعتذر من اجتهد): أراد أن كل من اعتذر إليك فقد بالغ في الاجتهاد في زوال العتب عنه، أو من اعتذر عن الإساءة فقد بالغ في الاجتهاد في محو الذنب.
(رأس الدين): أعلاه وأكمله، كما قال عليه السلام: ((رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس )) .
(صحة اليقين): الإيقان بالله، والقطع بوجوده، والتصديق بما جاءت به رسله.
(تمام الإخلاص): في العبادة لله تعالى والوفاء بحقه.
(تجنب المعاصي): البعد عنها ومجانبتها، فلا إخلاص لله فيما عمل لوجهه مع فعل المعاصي وارتكاب المناهي.
(خير المقال): أجوده عند الله، وأعلاه حالة عنده.
(ما صدَّقه الفعال): يريد ما كان مطابقاً له، فمن قال قولاً ثم صدقه فعله فذلك القول هو أنفس الأقوال وأعلاها وخيرها.
(السلامة مع الاستقامة): أراد أن الدين مهما كان راسخاً في النفس فالاستقامة حاصلة، ومهما كانت الاستقامة موجودة فالسلامة عن الأخطار كلها موجودة أيضاً، ومع الاضطراب حصول الفشل والتغير في الحال، ولا سلامة مع ذلك، ولما نزل قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }[هود:112]، شق ذلك على الرسول عليه السلام لما فيه من الصعوبة .
(الدعاء مفتاح الرحمة): يريد اللطف من الله للخلق، ولولا أنه مفتاح الرحمة لما أمر الله به عباده حتى قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }[غافر:60]، وندبهم إلى ذلك وحثهم عليه حتى قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }[البقرة:186]، وفي الحديث: ((الدعاء يرد القضاء )) ، وفي حديث آخر: ((الدعاء سلاح المؤمن )) شبهه بالسلاح؛ لأنه يصاول به كل من غالبه، ومن آدابه تربص الأوقات الشريفة، واستقبال القبلة، وأن يكون على وضوء وخفض الصوت، والتضرع والإيقان بالإجابة، وافتتاح الدعاء بذكر الله والصلاة على الرسول .
(سل عن الرفيق قبل الطريق): يعني إذا سافرت سفراً فاسأل أولاً عمن يرافقك فيها قبل سلوكها، فإن الرفيق لا بد منه في الطريق، وفي الحديث: ((الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة رفقة )) .
(والجار قبل الدار): وسل عن جيرانك قبل الشروع في شرائها، فإن كانوا صالحين وإلا فلا.
(احتمل ممن أدل عليك): فإن إدلاله عليك لأحد أمرين:
أما أولاً: فلما يظنه من سعة الخلق، ولين الجانب.
وأما ثانياً: فلما يعهد من كرم النفس وشرف الطبع، وكل هذه الأمور موجبة للاحتمال في الإدلال.
(واقبل عذر من اعتذر إليك): لأن اعتذاره عما فرط منه دلالة على ندمه على ذلك، وفي الحديث: ((من لم يقبل العذر لم يرد عليَّ الحوض )) .
(أطع أخاك وإن عصاك): لأن في ذلك دلالة على حسن الشمائل، وشرف الخلائق، وهذا كله في الطاعة التي لاخلل على الدين بها .
(خذ العفو من الناس): يعني ما سمحت به أنفسهم من غير إكراه لهم على ما يشق ويكره، وهو من محاسن الشمائل، ولهذا أمر الله به نبيه حيث قال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }[الأعراف:199]،.
(إياك أن تذكر من الكلام قذراً): القذر: ما تستقذره النفس من هذه العقوبات، والقذر: الكلام الفاحش، وإنما حذر عن ذكره؛ لأن في ذكره ولوع اللسان به، وفيه أيضاً سقوط الحالة وركة النفس وهونها، والقياس هاهنا، ورود الواو في أن، وأن يقال: إياك وأن، كما مر في مواضع من كلامه، ولكن الواو حذفت عن أن ها هنا لما كان التقدير فيه: إياك عن أن تذكر أو من أن تذكر، وطرح حرف الجر يكثر في أن المخففة والثقيلة.
(وأن تكون مضحكاً): أراد وإياك أن تكون مضحكاً لجلسائك أو للناس لما في ذلك من ركة الهمة وسخف الطبيعة، وفي الحديث: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه فيهوى بها من الثريا إلى الثرى)).
(وإن حكيت ذلك من غيرك): فإنه لا خير فيه أيضاً؛ لأن يجري على لسانك لا محالة.
(عوِّد نفسك السماح): يعني إن كان السماح غريزة من الله فهي خصلة محمودة، وإن لم تكن غريزة فتعودها فإنها تأتي بكل خير، وفي الحديث: ((السخي قريب من الله ، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، قريب من النار)) .
(تخيَّر من كل خلق أحسنه): معناه تبصَّر الخلائق كلها، فما رأيته يزينك فخذه واعمل عليه، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا }[الأعراف:145]، وقال تعالى : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }[الزمر:18]، فالأحسن من كل شيء هو: أفضله وأعلاه.
(فإن الخير عادة): يريد أن فعل الخير على حسب ما تعوده الإنسان فإن تعود خيراً فعله، وإن تعود شراً فعله.
(إياك ومشاورة النساء): في أمورك في الدين والدنيا واقتباس الرأي منهنَّ في ذلك، فحذره من ذلك.
(فإن رأيهنَّ إلى أَفْنٍ): الأفن: مصدر قولك أفنه الله أفناً بسكون العين، والاسم منه: الأفَن بتحريك العين، والأفن: ضعف الرأي والعقل جميعاً، ورجل مأفون أي ضعيف.
(وعزمهنَّ إلى وهن): الوهن: الضعف أيضاً، وأراد وما عزمن عليه فهو يؤول إلى الضعف والهوان.
(اكفف أبصارهنَّ بحجابك إياهنَّ ): يشير إلى أن أبصارهنَّ طوامح، ولا يكف أبصارهنَّ مثل الحجاب لهنَّ، فإن فيه خلاصاً عن تشوف أبصارهنَّ.
(فشدة الحجاب خير من الارتياب ): يعني فما يلحقهنَّ من الغم بشدة الحجاب خير من لحوق الريبة، وهي الخوف عليهنَّ من الفتنة وركوب الفاحشة.
(وليس خروجهنَّ بأضر من دخول من لا تأمنه عليهنَّ): يشير بذلك إلى مصلحة الحجاب لهن، يعني فإذا كنت لا ترضى دخول أحد عليهنَّ لأجل الريبة، فهكذا حالهنَّ في الخروج أيضاً من غير تفرقة بينهما.
(فإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل): لأن معرفتهنَّ بحال غيرك آنس به ولا حاجة إلى ذاك ، وكل هذا تبعيد عن الريبة، وتحرز في النزاهة، ومواظبة على الشهامة ومبالغة في الغيرة.
(ولا تُمَلِّكِ المرأة من أمرها ما جاوز نفسها): لأنها إذا مُلِّكت أمراً آخر فإنه يجرُّ إلى التسلط والشطارة، وهو خلاف ما هي مأمورة به من الستر والوقوف في قعر البيوت ، ومهما كانت لا تملك إلا ما يتعلق بإصلاح حالها في نفسها لا غير كان أقرب إلى الخِفارة والستر عليها.
(المرأة ريحانة): يشير إلى أنها بمنزلة الريحانة المشمومة، فيجب أن تقتصر على التمتع بها، ولا تكون متمكنة من خلاف ذلك من أمر ولا نهي ولا تصرف في الأمور.
(وليست بِقَهْرَمَانَة): الْقَهْرَمَانُ: فارسي معرب، وهو الذي يملك التصرف في الأمور بالإيراد والإصدار عن رأيه.
(لا تَعْدُ بكرامتها نفسها): يعني احجرها عن أن تكون متكرمة على غيرها، وأقصر كرامتها على نفسها؛ لأن قصر كرامتها على نفسها فيه السلامة، وتعدي الكرامة فيه الريبة.
(ولا تطمعها أن تشفع لغيرها): أي لا تكون طامعة في هذا منك؛ لأنه يكون فيه تشجيع لها على غير هذا واعتقاد أمر في نفسها.
(إياك والتغاير في غير موضع غَيْرَةٍ): الغيرة: الأنفة، وهي مصدر غار الرجل على أهله غيرة، وأراد التحذير عن وضع ذلك في غير موضعه، وهو أن يأنف في غير موضع الأنفة .
ثم علل ذلك بقوله:
(فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم، والبريئة إلى الريب): لأن المرأة إذا رأت الرجل يأنف من غير موضع الأنفة كان ذلك جرأة لها على اقتحام الريبة، ظناً منها وعملاً على أنه إنما ينكر ما لا ريبة فيه، ويترك ما فيه الريبة.
سؤال؛ أفليس إذا كان ينكر ما لا ريبة فيه، ويغار في غير موضع الغيرة ، فغيرته في موضع الغيرة أحق، وإنكاره لما فيه الريبة أولى، فمن أين تكون الجرأة في ذلك والحال هذه؟
وجوابه؛ هو أن التغاير في غير موضعه جهل منه، وتوهمها لترك الإنكار لما فيه غيرة جهل منها أيضاً، فلا يؤمن أن يتولد هذا من ذاك.
(أقلل الغضب): لأن مع قلة الغضب فالإنسان مالك لأمره كله، ومع كثرته لا يملك أمره، وفي ذلك حصول الفساد وتغير الأحوال كلها، وفي الحديث: ((الغضب توقد في فؤاد ابن آدم من النار )) وفي حديث آخر: ((أقرب ما يكون الشيطان إلى ابن آدم في حال غضبه )).
(ولا تكثر العتاب في غير ذنب): لأن فيه إيحاراً للصدور ووقعاً في النفوس حرجاً وضيقاً، ويحرك أموراً ساكنة.
(أحسن للمماليك الأدب): أي ليكن الأدب لهم مقدراً بمقدار محكم لا يزيد فيفسد، ولا ينقص فيكون سبباً للجرأة على التهاون في الخدمة، وعلى الإقدام على ما نهوا عنه.
(وأحسن العفو عنهم إذا أجرموا مع العذل): يريد أن حسن العفو أنجع في الانكفاف إذا صاحبته الملامة لهم على ما فعلوه، وارتكبوه من الجرم؛ لأنهم يتوقعون ماهو أشد من ذلك وأعظم منه، فلا تجاوز ما ذكرته في حقهم.
(فإنه أشد من الضرب): أبلغ منه وأنفع؛ لأنهم لا يتوقعون حالة بعده.
(لمن كان له قلب): فطانة وفهم منهم، فأما من كان منهم على خلاف ذلك فقد جاوز الحد.
(وخف القصاص): في ضربهم من غير جرم وعلى غير ذنب.
(حيث لا مناص): مخلص وهو يوم القيامة.
سؤال؛ كيف قال هاهنا: وخف القصاص، ولا قصاص بين الحر والعبد، ولا بين السيد وعبده؟
وجوابه: هو أن الغرض المقاصة في الآلام والأعواض بينهما، والشرع إنما أباح إيلامهم على ترك الخدمة والاهتمام بأمر السادة في ذلك، فأما إذا كان الأمر في الإيلام من غير جرم ولا تسهيل في الخدمة فالقصاص كائن لا محالة، والانتصاف واقع إذ لا وجه في ذلك.
(واجعل لكل امرئ منهم عملاً يأخذ به): وضف بكل واحد منهم عملاً تكون عهدته عليه ، ويكون أمره مفوضاً إليه.
(فإنه أحرى أن لا يتواكلوا): يريد أن ذلك أقرب إلى أن كل واحد منهم لا يكل عمله إلى صاحبه، ويقول: هو يعمله دوني.
(في خدمتك): التي أردتهم من أجلها.
(أكرم عشيرتك): أقاربك الذين يلصقون بك وتعتزي إليهم.
(فإنهم جناحك الذي به تطير): استعارة رشيقة، يشير بذلك إلى أنهم بمنزلة جناح الطير الذي به يملك التصرف لنفسه في جميع أحواله.
(وأصلك الذي إليه تصير): من حيث كان استنادك إليهم، واعتمادك في الأمور كلها عليهم.
(فإنك بهم تصول): الصولة: القهر والغلبة، وأراد أنك تقهر بهم كل أحد.
(وبهم تطول): إما من الطَّوْلِ وهو: الكرم، فإن كرامتك إنما كانت بهم، وإما من الطُّول وهو: نقيض القصر، فإن علّوه على غيره إنما هو من أجلهم، ولهذا ترى كثيراً من الشعراء ما يفتخر إلا بعشيرته وأهله في أكبر مفاخره، ولهذا قال بعضهم:
ولو أن قوماً لارتفاع قبيلة ... دخلوا السماء دخلتها لا أحجبُ
(وهم العدة): للشر والمكافحة للأعداء.
(عند الشدة): مواضع الشدائد والعظائم.
(أكرم كريمهم): اعترف له بالفضل، وارفع حاله وشرف أمره.
(وعد سقيمهم) في مرضه، وأظهر الشفقة عليه.
(وأشركهم في أمرك وأمرهم): يشير إلى إيناسهم بالمشاورة في الأمر والمشاركة لهم في ذلك لما يكون فيه من تقرير خواطرهم وتأنيسهم وانجذاب خواطرهم وإعظام أمرهم.
فهذا تمام هذه الوصية.
وفي نسخة أخرى تكرير من قوله: (واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك إلى آخرها): وليس فيها مخالفة لما سبق إلا في قوله:
(من ترك القصد جار): أي من ترك الطريق المستقيم مال عن الحق وعدل.
وقوله: (قد يكون اليأس إدراكاً): للمقصود والبغية؛ لما فيه من سلامة الدين.
(إذا كان الطمع إهلاكاً): أراد إما مهلكاً للخلق، وإما ذا إهلاك لهم، وما عداه مذكور فيما أوردناه من هذه الوصية فلا فائدة في تكريره.
ثم قال في آخرها: (واستعن بالله على أمرك كله): اطلب من جهته الإعانة، واللطف بك في كل أحوالك.
(فإنه أكرم معين): أعظم من يسمح بالإعانة، وأولاه بذلك.
(واستودع الله دينك ودنياك): أطلب منه أن يحفظ عليك دينك، وأمورك في الدنيا.
(وأسأله خير القضاء لك): أن يقضي لك بكل خير.
(في العاجلة): فيما تتعجله.
(والآجلة): وما يتأجل فيه.
(والدنيا والآخرة): وأسأله أن يصلحك في الدارين جميعاً.
(إنه قريب): لمن دعاه.
(مجيب): لمن ناداه.
(فعال لما يريد): من ذلك كله.
ثم أقول: لولا أن القرآن قد سبق بالإحاطة بالمصالح الدينية والأسرار الربانية، والحكم الأدبية والزواجر الوعظية، والقوارع الوعيدية، والأوامر المؤكدة، والنواهي المشددة، لكانت هذه الوصية هي الجامعة لهذه الأسرار؛ لاشتمالها على مثل ما ذكرناه، فكتاب الله سابق بذلك، وهي تلوه.
(32) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية
(وأرديت جيلاً من الناس): أرداه إذا جعله بصدد الردى، كما يقال: أقبره إذا جعل له قبراً، والجيل: الكثير من الناس، وغرضه أنك أوقعتهم في الردى، وأوردتهم المهالك.
(كثيراً، خدعتهم بغيِّك): الغيُّ: خلاف الرشد، وأراد بأمانيك وخدائعك وتسويفاتك ومواعيدك الكاذبة لهم في ذلك.
(وألقيتهم في بحر موجك ): استعار ذلك لما هم عليه من اضطراب الأمر، وتراكم الإزعاج والفشل.
(تغشاهم الظلمات): العمايات من كل جانب.
(وتتلاطم بهم الشبهات): لما استعار في حقهم الموج والبحر أردفه بما يليق به، فعقَّب ذكر البحر بغشيان الظلمات لكثرة سواده، وعقَّب ذكر الموج بتلاطم الشبهات لغلبة اضطرابه، ويسمى توشيح الاستعارة، وقد ذكر فيه لمعاً وفصوصاً في كلامه، ونبهنا عليها في مواضعها.
(فجاروا عن وجهتهم): الوجهة: الطريقة، قال تعالى: {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا }[البقرة:148]، أي طريقاً، فجاروا إن روي بالجيم فالغرض أنهم عدلوا عن طريقهم التي أوضحت لهم، وإن روي بالحاء فالمراد أنهم وقفوا من أجل التحير عن سلوكها.
(ونكصوا على أعقابهم): النكوص: هو الرجوع، وأراد أنهم رجعوا عن الدين إلى خلافه، وتركوه وراء ظهورهم.
(وتولوا على أدبارهم): عن متابعة الحق وملازمته.
(وعولوا على أحسابهم): أراد أنهم اعتمدوا على حفظ مفاخر آبائهم في الجاهلية، فهذه حال من اتبعك من هؤلاء.
(إلا من فاء من أهل البصائر) الاستثناء من قوله : أرديت جيلاً من الناس، هذه صفتهم، إلا من رجع من أهل العلم، ونفذت بصيرته، والفيء هو: الرجوع، يشير بذلك إلى انقياد أهل الجهل لمعاوية؛ لأجل خدعه لهم ومكره بهم، ويشير إلى أن ناساً رجعوا عما هو عليه بتدارك الله تعالى لهم، وإنقاذه لهم عن وُرَطِ العمى، ومن أجل استبصارهم وعلمهم بمعرفة حاله.
(فإنهم فارقوك بعد معرفتك): بأنك خارج عن الدين، ناكص على عقبك.
(وهربوا إلى الله من موازرتك): الموازرة: المعاضدة والمعاونة، وجعل فيئهم عنه هرباً إلى الله، تنبيهاً على أنه مُنْكِبٌ عن الطريق المستقيم، مستمر على المخالفة لله.
(إذ حملتهم على الصعب): إذ هذه معمولة لقوله: فارقوك وقت حملك لهم على الأمور العسيرة.
(وعدلت بهم عن القصد): ملت بهم عن الطريق المستقيمة، والقصد: هو العدل، أي الطريق ذات العدل والاستقامة.
(فاتق الله يا معاوية): مبالغة في النصح، وملاطفة في الفيء إلى الحق.
(في نفسك): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون الجار متعلقاً بقوله: اتق الله، ويكون معناه راقبه في نفسك أن تهلكها، وتوقعها في المكاره.
وثانيهما: أن يكون متعلقاً بمحذوف تقديره: فاتق الله، واجتهد في إصلاح نفسك.
(وجاذب الشيطان قيادك): القياد: الحبل الذي تقاد به الدابة، وأراد أنك لا تسلط الشيطان عليك ونازعه قيادك، واجذبه إليك كيلا يقودك به ويملكه عليك.
(فإن الدنيا منقطعة عنك): ذاهبة عن يدك.
(والآخرة قريبة منك): لأنك سائر إليها.
وما أحسن ما ختم به هذا الكلام من قوله في انقطاع الدنيا وقرب الآخرة، وما أوقع معناه.
(33) ومن كتاب له عليه السلام إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة
قثم: اسم معدول عن قاثم، واشتقاقه من قولهم: قثم له من المال إذا أعطاه عطية جيدة، ويقال للرجل إذا كان كثير العطاء: مائح قثم ، قال الشاعر:
ماح البلاد لنا في أوليّتنا ... على حشود الأعادي مائح قُثَمُ
(أمابعد، فإن عيني بالمغرب كتب إلي): عين الإمام: هوالرجل الذي يستعمله؛ لأن يرفع إليه أعلام الأقطار والأقاليم وأخبارها.
(يعلمني أنه وُجِّهَ إلى الموسم): يعني مكة.
(أناس من أهل الشام): من أصحاب معاوية.
(العمي القلوب): الذين أعمى الله قلوبهم عن بصر الحق ورؤيته.
(الصم الأسماع): الذين أصم الله أسماعهم عن سماع الحق وإدراكه.
(الْكُمْهِ الأبصار): الذين لا أعين لهم في الحقيقة فيدركون بها الحق ويرونه.
(الذين يلتمسون الحق بالباطل): إن كانت الراوية: يلتمسون فالمراد به يطلبون الحق بزعمهم بالتعلق بالباطل، يشير بهذا إلى خلافهم عليه ظناً منهم أنهم فيه على حق، وإن كانت الرواية: (يلبسون) فالمراد منه يخلطون الحق بالباطل، حتى لا يتميز حقهم من باطلهم.
(ويطيعون المخلوق في معصية الخالق): يشير إلى انقيادهم لمعاوية، وأمره مخالف لأمر الله من حيث كان متعدٍ بالحدود بالخدع والمكر وإعمال الحيل.
(ويحتلبون الدنيا درها): أي لبنها.
(بالدين): بما يظهرونه من التمسك بالدين وإظهار الحق والعمل عليه.
(ويشترون عاجلها): ما يحضر منها ويتعجلون حصوله.
(بآجل الأبرار المتقين): بما يكون مؤجلاً في الدار الآخرة للأبرار أهل التقوى والصلاح، وهو الثواب العظيم والدرجات العالية عند الله تعالى، فهذه الأماني كاذبة والتسويفات باطلة لا محالة.
(ولن يفوز بالخير إلا عامله): الذي كدَّ نفسه في تحصيله، وأبلى جسمه لله تعالى، وجدَّ في اجتهاده.
(ولا يُجْزَى جزاء الشر إلا فاعله): من مضاعفة العقاب والإهانة من جهة الله تعالى ، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه}[الزلزلة:7-8]، وقوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}[النساء:123]، وغير ذلك.
(فأقم على ما في يديك): أراد إما استقم على ما تحت يديك من الولايات والاجتهاد في تحصيل الخراجات المفوضة إليك، وإما اثبت على ما أمرت به من الطاعة لله تعالى ولإمامك فيما وليت عليه مما في يدك.
(قيام الحازم): في أموره.
(الصليب ): في ذات الله تعالى وفي دينه.
(والناصح): الذي لايعتريه الغدر والخيانة في عمالاته كلها.
(اللبيب): العاقل لأمر الله وخطابه.
(والتابع لسلطانه): في جميع أوامره كلها من غير مخالفة منه في شيء منها.
(المطيع لإمامه): الفاعل لما يريده منه .
سؤال؛ هل من تفرقة بين الإمام والسلطان كما ذكره هاهنا؟
وجوابه؛ أما من جهة الشرع فلا فرق بينهما، فإن سلطان الإسلام هو الإمام، وهو المراد بقوله عليه السلام: ((السلطان ظل الله في الأرض )) ، وفي حديث آخر: ((السلطان ولي من لا ولي له )) وغرضه في هذه الأحكام هو الإمام، وأما العرف فظاهر، فإن السلطان يطلق على من له ولاية الحق وعلى غير ذلك، ولهذا يقال: سلاطين الجور وأمراءوه، وقد أشار إلى التفرقة بينهما بقوله: التابع لسلطانه؛ لأن المتابعة قد تكون على الحق وعلى غير الحق، المطيع لإمامه لأن الطاعة أغلب أحوالها تستعمل في الحق.
(وإياك وما يعتذر منه): احذر من كل أمر يفتقر إلى الاعتذار؛ لأن ما هذا حاله فهو متفق على قبحه، ولهذا فإنه مفتقر إلى الاعتذار، ولو كان حسناً ما افتقر إليه، وهذا من أبلغ الحكم وأعجبها.
(ولا تكن عند النعماء بطراً): البطر: الطغيان عند كثرة النعم.
(ولا عند البأساء فشلاً): البأس والبأساء: الحرب، والفشل: الخور والجبن، فإن هاتين الخصلتين من خصال اللئام: البطر عند النعمة، والجبن والخور عند لقاء الأبطال.
(34) من كتاب له عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر
لما بلغه توجده من عزله بالأشتر، ثم توفي الأشتر في توجهه إلى مصر قبل وصوله إليها:
(وقد بلغني موجدتك): وجد مطلوبه يجده وجوداً، ووجدضالته وجداناً، ووجد في نفسه موجدة، وهو عبارة عما يلج في الصدر من الغم، وفي الحديث: ((فلان يجد في قلبه موجدة علينا، قوموا بنا إليه )).
(من تسريح الأشتر إلى عملك): التسريح: هو الإرسال، وأراد من إرسال الأشتر ليقوم مقامك في أعمالك كلها.
(وإني لم أفعل ذلك): يشير إلى عزله، وإقامة الأشتر مقامه.
(استبطاء لك في الجهد): الجهد بفتح الجيم وضمها هو: الطاقة، أي لأنك أبطأت في الاجتهاد فيما أنت [بصدده.
(ولا ازدياداً لك في الجدّ): ولا فعلت ذلك؛ لأن تزداد في جدك فيما أنت فيه] فيكون ذلك سبباً للموجدة في نفسك، واختلاطها بك.
(ولو نزعت ما في يدك): من الولايات وأزلتها.
(من سلطانك): ونفوذ أمرك فيها بالقهر والسلطنة.
(لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة): أسهل حملاً، وأخف تعباً ومشقة.
(وأعجب إليك ولاية): لما يظهر فيها من الجمال، وحسن الهيئة والمنظر.
(وإن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر): يعني الأشتر من أمرائه.
(كان رجلاً لنا ناصحاً): في جميع أموره وعمالاته كلها، والنصح: خلاف الغش والغدر.
(وعلى عدونا شديداً): متشدداً في أموره كلها.
(ناقماً): نقمه إذا كرهه، ونقم عليه إذا عتب، وأراد أنه كان كارهاً للأعداء، عاتباً عليهم ما يفعلونه من العداوة.
(فرحمه الله): أوصل الله إليه الرحمة من عنده، وهي الثواب من جهة الله تعالى.
(فلقد استكمل أيامه): العمر الذي قدَّره الله له وحتمه.
(ولاقى حمِامه): الحمِام: الموت وقدره.
(ونحن عنه راضون): هذه الجملة الإبتدائية في موضع نصب على الحال، مثلها في قولك: جاء زيد والشمس طالعة.
(أولاه الله رضوانه): أي أعطاه، من قولهم: أولاني معروفاً من عنده.
(وضاعف له الثواب): جعله أضعافاً زائدة على مقدار المستحق تفضلاً وإحساناً من جوده.
(فأصحر لعدوك): المصاحر: الذي يقاتل عدوه في الصحراء ولا يخاتله، وأراد أظهر له نفسك وتكشف له.
(وامض على بصيرتك): على معرفتك بالحق وعلمك به.
(وشمر لحرب من حاربك): عن ساق الجد، والأمر بالتشمير هاهنا كناية عن الاجتهاد في الحرب للأعداء، والجد فيه من غير تهوين.
(وادع إلى سبيل ربك): إلى صراطه وطريقه بالنصرة والسيف.
(وأكثر الاستعانة بالله): إن كانت الرواية بالنون فالمراد اطلب العون من الله تعالى، وإن كانت الرواية بالثاء فالمراد به طلب الغوث من عند الله، واستغاثني فلان فأغثته إغاثة، والاسم منه الغياث.
(يكفك ما أهمك): ما أنت مهموم به من الأمور كلها.
(ويعينك على ما ينزل بك): يلطف لك فيما ينزل بك من المهمات العظيمة.
(35) ومن كتاب له عليه السلام إلى عبد الله بن العباس بعد قتل محمد بن أبي بكر بمصر رحمه الله تعالى
(أما بعد، فإن مصر قد افتتح): أعاننا الله تعالى حتى فتحناه، وصارت من جملة أعمالنا، وما ينفذ فيه أمر الله وأمرنا.
(ومحمد بن أبي بكر رحمه الله قد استشهد): حيزت له الشهادة، ولقي الله تعالى شهيداً.
(فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً): يقال: فلان نحتسبه ولداً إذا مات وهو كبير، فإن مات وهو صغير قيل: افترطه، وفي الحديث: ((أسقاطكم أفراطكم )).
(وعاملاً كادحاً): الكدح: جهد النفس في العمل وكدها فيه، من: كدح جلده إذا خدشه.
(وسيفاً قاطعاً): يقال: فلان سيف قاطع إذا كان ماضياً في أموره.
(وركناً دافعاً): أي عظيماً، من قولهم: سيل دفاع إذا كان يدفع ما قابله.
(وقد كنت حثثت الناس على لحاقه): للنصرة له والدفاع عنه.
(قبل الوقعة): واشتباك الحرب والتحامها.
(وأمرتهم بغياثه): بالإغاثة له والإسراع إلى نصرته.
(ودعوتهم سراً وجهراً): أراد أني كالمتهم على أعيان الملأ مرة، وخفية فيما بيني وبينهم مرة أخرى.
(وعوداً وبدءاً): وأعدت عليهم المراجعة بعد أن ابتدأتها، فتحزبوا عند ذلك أحزاباً، وتفرقوا فرقاً.
(فمنهم الآتي كارهاً): من غير رضا من نفسه.
(ومنهم المعتل كاذباً): يعني يعتل بعلة وهو كاذب فيها أنه معذور، وما له عذر يعذر به.
(ومنهم القاعد): من غير علة.
(خاذلاً): متقاعداً عن نصرة الحق وهو متمكن منها .
(أسأل الله أن يجعل لي منهم فرجاً عاجلاً): لطفاً من عنده معجلاً لمخالفتهم لأمري، ونكوصهم عن نصرة دينه.
(فوالله لولا طمعي): الطمع: شدة الرغبة في مطلوب الطامع.
(عند لقاء عدوي في الشهادة): شدة رغبتي فيها، وانقطاع نفسي في محبتها.
(وتوطيني نفسي على المنية): وعزمي على موافاة الأجل ولقائه.
(لأحببت ألاَّ أبقى مع هؤلاء): هذا جواب القسم، وهوفي الحقيقة جواب لولا، ولكنه مع لولا نازل منزلة جواب القسم وساد مسده، وأراد أنه لا يحب الدوام معهم.
(ولا يوماً واحداً): على قلته وحقارته.
(ولا ألتقي بهم): ألاقيهم.
(أبداً): زماناً لا ينقطع.
(36) ومن كتاب له عليه السلام إلى عقيل بن أبي طالب
(فسرحت إليه جيشاً كثيفاً من المسلمين): الكثيف: الغليظ يقال: كثف الشيء كثافة إذا غلظ، وأراد جيشاً متكاثفاً لكثرة عساكره، وقد كان أرسله في هذه العساكر لحرب بعض البغاة وأظنه معاوية.
(فلما بلغه ذلك): يريد وصول العسكر وخروج عقيل فيهم.
(شمر هارباً): جزعاً وفشلاً عن اللقاء.
(ونكص): على عقبيه، يعني رجع عما أراد.
(نادماً): على ما فعل من اللقاء، أومن استمراره على المخالفة لما رأى ما رأى.
(فلحقوه ببعض الطريق): تداركوه بعد توليته هارباً.
(وقد طفَّلت الشمس للإياب): تطفيل الشمس: ميلها إلى الغروب، وإيابها: رجوعها إلى مكانها الذي تستقر فيه.
(فاقتتلواشيئاً): أي اقتتالاً.
(كلا ولا): أي ليس بالقليل ولا بالكثير أي متوسطاً بين الأمرين، كما قال تعالى: {لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ }[النور:35]، أي لا هي في مضحاة للشمس، ولا في مقنأة للظل .
(فما كان): بعد الاقتتال الذي كان منهم.
(إلا كموقف ساعة): كساعة قليلة يوقف فيها.
(حتى نجا): عن القتل والأسر والسلب.
(حريصاً) : في غاية الحرص على الذهاب، وانتصابه على الحال من الضمير في نجا.
(بعدما أُخِذَ منه بالْمُخَنَّق): المخنَّق بالتشديد هو: موضع الخنق من العنق، أورد هذا كناية عن شدة الحال التي بلغوها، وصعوبة الأمر هناك.
(ولم يبق معه غير الرمق): آخر النفس، ومنه عيش رمق أي يمسك الرمق لقلته.
(فلأياً بلأي): أي شدة بعد شدة وإبطاء، وانتصابه على المصدرية تقديره: لأى لأياً أي اشتد شدة وإبطاء.
(ما نجا): ما هذه زائدة للإبهام أي شدة بعد شدة عظيمة كان نجاؤه.
(فدع عنك قريشاً): اترك أخبارهم وأحاديثهم.
(وَتَرْكاضَهُم في الضلال): التفعال من أبنية المصادر الموضوعة للمبالغة كالتسيار والتضراب.
(وتَجْوَالهُم في الشقاق): التجوال: الاضطراب، ومنه: تجاول الفرسان.
(وجماحهم في التيه): جمح الفرس: إذا اشتد رأسه فلا يملك، وأراد بهذا كله إصرارهم على ماهم فيه من الضلال، وركوب الشقاق في مخالفته، يشير به إلى طلحة والزبير وعائشة ومعاوية ممن تحزب عليه من قريش.
(فإنهم أجمعوا على حربي): اجتمعوا عن آخرهم على شقاقي ومخالفتي.
(كإجماعهم على حرب رسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] قبلي): يريد في الاجتماع والتألب دون الحكم؛ لأن حرب رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] كان كفراً وشركاً ونفاقاً، وحربه إنما هو فسق وبغي ومخالفة.
(فجزت قريشاً عني الجوازي): الجوازي: جمع جازية، وأراد إما الأرحام، وإما الخصال المحمودة، وإما الفعلات المذمومة على ما فعلوه معي وأسندوه إلي.
(فقد قطعوا رحمي): بما كان منهم من الشقاق والمخالفة، والحرب بيني وبينهم التي تؤذن بقطع الأرحام.
(وسلبوني سلطان ابن أمي): أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما عبَّر عنه بابن الأم؛ لأمرين:
أما أولاً: فلأن فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين كانت تربي رسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] في حجر أبي طالب فكانت كالوالدة له .
وأما ثانياً: فلأن أبا طالب وعبد الله أب رسول الله كانا أخوين من الأب والأم، وأم الأب أم، فلهذا قال: ابن أمي يشير إلى ما ذكرناه، وأراد بالسلطان الولاية بعد رسول الله كانت مستحقة له.
وزعم الشريف علي بن ناصر أنه أراد بقوله: ابن أمي، نفسه، وهذا بعيد لا يعهد مثله، والوجه فيه ما ذكرناه .
(وأما ما سألت عنه من رأيي في القتال): لأن عقيلاً سأل أمير المؤمنين عن رأيه في قتال أهل القبلة، فأجابه بقوله:
(فإن رأيي قتال المحلِّين): بالحاء المهملة أي إن الذي أذهب إليه، وأقوله بالحجة الواضحة، والدليل القاطع أن أقاتل من أحل قتالي وأباحه، وبغى عليَّ، وخالف أمري من هؤلاء.
(حتى ألقى الله): ألاقيه عند انقضاء أجلي بالشهادة في حربهم وقتالهم.
(لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة): أي أني لا أعتز باجتماع الناس إليَّ، وإنما عزتي بالله ونفوذ بصيرتي في ذلك.
(ولا تفرقهم علي وحشة): ولا يزيدني بعدهم عني وحشة، ولا نكوصاً عما أنا فيه من قتالهم ومنابذتهم.
(ولا تحسبن أن ابن أبيك -ولو أسلمه الناس-): إنما قال: ابن أبيك، ولم يقل: ولا تحسبني ملاطفة في أدب الخطاب، وتذكيراً للرحم الباعثة على المواصلة والنصرة، وتشجيعاً له على معاضدته في الخطوب العظيمة، ونظيره قول إبراهيم لآزر: {يَاأَبَتِ}، وقول لقمان: {يَابُنَيَّ}، وقول هارون: {يَبْنَؤُمَّ}، وغير ذلك، وأراد ولا تظننَّ ابن أبيك عند إسلام الناس له وانقطاعهم عن نصرته وانفلاتهم عن يده.
(متضرعاً): ذليلاً خاضعاً.
(متخشعاً): إن كانت الرواية فيه بالخاء المنقوطة، فالغرض بالخشوع هو: الخضوع والتصاغر، وإن كانت الرواية بالجيم ، فالغرض بالتجشع هو: أشد الحرص على الدنيا والبقاء فيها.
(ولا مقراً للضيم): أي ولا معترفاً بالظلم.
(واهناً): أي ضعيفاً من الوهن ، وهو: الضعف.
(ولا سلس القياد للقائد): ولا سهلاً لمن أراد قياده.
(ولا وَطِئَ الظهر للراكب): استعار هذا من الجمل الذي تكون فيه صلابة وخشونة، فلا ينجذب لمن يقوده بزمامه، ولا يتوطئ ظهره لمن أراد ركوبه.
(المقتعد): الذي يقعد عليه عند ركوبه له.
(ولكنه كما قال أخو بني سليم): سليم: قبيلة من قيس غيلان، وسُليم: قبيلة من غطفان.
(فإن تسألني كيف أنت فإنني
يعز عليَّ أن ترى بي كآبة ... صبور على ريب الزمان صليب
فيشمت عادٍ أو يساء حبيب)
ولنذكر إعرابهما وموضع الشاهد منهما:
أما إعرابهما فهو ظاهر، والكآبة: سوء الحال وشدة الحزن، والشماتة: الفرح ببلية العدو ووقوعه في المكاره، وقوله: أن ترى بي في موضع رفع على الفاعلية ليعز.
وأما موضع الشاهد منهما: فإنما أوردهما تمثلاً لما هو فيه من التجلد وإظهار حسن الحال، والصبر على المكاره، وإمضاء العزم على الاصطبار عند كل مساءة .
(37) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية
(فسبحان الله!): تنزيهاً له وبراءة له عما أنت فيه من خبث السريرة، وفساد العلانية وقبح الأعمال.
(ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة): تعجب من شدة ملازمته لما ابتدعه من جهة نفسه من الأهواء وضلال الآراء التي افتعلها بالمكر، وأعمل فيها رأيه بالخديعة.
(والحيرة المتَّبعة): واتباعك للمذاهب التي هي مواطن للحيرة والارتباك، وتعمقك فيها من غير بصيرة هناك ولا رأي مسدد.
(مع تضييع الحقائق): الحقائق: جمع حقيقة، وهي ما ينبغي للإنسان أن يحرسه عن الإهمال والضياع، وأراد أن معاوية مهمل لما يتوجه عليه حراسته من حقائق الدين والقيام بواجباته وامتثال أوامره، والانكفاف عن الوقوع في مناهيه.
(واطّراح الوثائق): الوثائق: جمع وثيقة وهي واجبات الدين ومهماته.
(التي هي لله طِلْبَةٌ): أي مطلوبة من جهة كونه آمراً بها وحاثًّا على فعلها، وإرساله للرسل اعتناء بها.
(وعلى عباده حجة): إن هم أتوا بها استحقوا الجنة، وإن هم أعرضوا عنها استحقوا النار، وحال معاوية لا يخفى في إهماله لهذه الأشياء وإعراضه عنها.
(فأما إكثارك الحجاج في عثمان وقتلته): اعلم أن معاوية لكثرة غدره وعظم محاله ومكره، لا يزال تكرير أحاديث قتلة عثمان وأمره إغراقاً في مخالفة الحق، وإعراضاً منه عن المسالك الواضحة، واتخاذ ذلك طعناً في الدين ومخالفة لسبيل المؤمنين.
(فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك): يشير بكلامه هذا إلى أنه ليس من عثمان في ورد ولا صدر، وأن كلامه هذا ليس انتصاراً من أجل عثمان، وإنما هوتقرير لما هو فيه من البدعة والضلالة والبغي؛ لأن عثمان لا ينتفع بانتصاره له الآن، وإنما هو انتصار من أجل نفسه فلهذا قال: نصرته حيث كان النصر لك.
(وخذلته حيث كان النصر له): يريد أن خذلانك له ظاهر يوم كان محاصراً في داره، فتركت نصره، ولو نصرته ذلك اليوم؛ لكان النصر له؛ لأنه يكون تفريجاً لما هو فيه، فأما الآن فلا ينفعه نصرك بحال.
فانظر إلى كلامه هذا ما أشمله للمعاني، وأفحمه للأفئدة، وأقطعه للشغب واللجاج.
(38) ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصرلما ولَّى عليهم الأشتر
(من عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى القوم): من هذه لابتداء الغاية، وهي في موضع رفع خبر لمبتدأ تقديره: هذا الكتاب من عبد الله، والخبر إلى القوم.
(الذين غضبوا لله): أي من أجل الله.
(حين عصي في أرضه): بارتكاب المناهي وإضاعة الحدود.
(وذُهِبَ بحقه): ذهب بكذا إذا أخذه، وأراد أنهم أخذوا بها كل جهة في تضييعها وإبطالها.
(فضرب الجور سرادقه): السرادق: هو الخيمة من القطن، واستعاره هاهنا لدخول الناس في الجور واندراجهم تحته.
(على البر والفاجر): المسلم والفاجر، والفاجر يُظْلَمُ وَيَظْلِمُ، والمؤمن يُظْلَمُ ولا يَظْلِمُ.
(والمقيم والظاعن): والقاطن في بيته، والمرتحل عنه، وغرضه بذلك عمومه وشموله لكل أحد.
(فلا معروف يستراح إليه): أي يحث عليه ويفعل، فتستريح إليه قلوب المؤمنين الأولياء، وتطمئن أفئدتهم بفعله وتميل نفوسهم إليه.
(ولا منكر يتناهى عنه): ينهى كل واحد صاحبه عن فعله والإقدام عليه، فهذه حال أهل مصر على ما ذكره من الثناء عليهم في ذلك.
(أما بعد، فإني قد بعثت إليكم عبداً من عباد الله): ولياً من أوليائه، والبعث هو: الإرسال.
(لا ينام أيام الخوف): لشدة تيقظه وتحفظه من الأعداء، فيذهب نومه إذا كان خائفاً.
(ولا يَنْكُلُ عن الأعداء): ولا يجبن عن ملاقاة الأعداء.
(ساعات الروع): أحيان الفشل من شدة الخوف والفزع.
(أشد على الفجار من حريق النار): في هيبته وشدة انتقامه، وتسلطه عليهم بالقهر والتطاول، يشبه النار عند حريقها في سطواته عليهم، وهو مالك بن الحارث.
(أخو مَذْحَجٍ): قد ذكرنا تفسير الأشتر فيما سبق، ومذحج : قبيلة من اليمن.
(فاسمعوا له): قوله فيما يقوله من الدعاء إلى الله تعالى وإلى دينه.
(وأطيعوا أمره): فيما يأمركم به من القيام بالواجبات، والمحافظة على حدود الله.
(فيما طابق الحق): يريد أن سماع قوله، والطاعة له إنما هو في موافقة الحق لا غير، وفي الحديث:((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )) .
(فإنه سيف من سيوف الله): شبهه في العزيمة الماضية، والحدة البالغة بمنزلة السيف، وإنما أضافه إلى الله؛ لأن مضاه في عزمه وتصلبه في أمره إنما كان من أجل الله وغضباً لدينه وانتصاراً له، فلهذا أضافه إليه لما له في ذلك من الاختصاص .
(لا كليل الظُّبة): الظُبة: طرف السيف، وأصلها ظبو ، لكنها حذفت الواو وأبدل منها التاء، قال الشاعر:
إذا الكماة تنحوا أن ينالهم ... حد الظبات وصلناها بأيدينا
وكل حد السيف يكل كلولاً إذا لم يكن قاطعاً.
(ولا نابي الضريبة): يقال: نبا السيف إذا لم يعمل عند الضرب، والضريبة هي: المضروبة بالسيف، وإنما برزت الياء في فعيل بمعنى مفعول لما كان غير مصحوب بموصوفه كما مر بيانه، وأراد أن سيفه لا ينبو عما ضرب به، يشير بذلك إلى أنه كامل في أمره، مُعْجِبٌ في أحواله كلها.
(فإن أمركم أن تنفروا): إلى جهاد أحد من المخالفين له، وأهل العداوة في الدين.
(فانفروا): معه حيث أراد ووجه.
(وإن أمركم أن تقيموا): في مصركم وبلدكم.
(فأقيموا): فيها من غير مخالفة له في أمره.
(فإنه لا يقدم): في أمر من أموره.
(ولا يحجم): يتأخر عن إمضائه.
(ولا يؤخِّر): شيئاً من الأمور.
(ولا يقدِّم): شيئاً منها.
(إلا عن أمري): ما آمره به من ذلك.
(وقد آثرتكم به على نفسي): آثرت فلاناً بكذا إذا أوليته ذلك دونك وجعلته مختصاً به، ومنه قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }[الحشر:9].
(لنصيحته لكم): في أمور الدين وصلاح أحوالكم الدنيوية.
(وشدة شكيمته على عدوكم): الشكيمة: حديدة تجعل في فم الفرس تتصل بها فأس اللجام، يقال: فلان شديد الشكيمة إذا كان عظيم الأنفة قوي النفس.
(39) ومن كتاب له عليه السلام إلى عمرو بن العاص
(فإنك قد جعلت دينك تبعاً لدنيا امرئ): يريد أنك أسلست القياد في اتباعك لمعاوية، وجعلت دينك تبعاً لدنياه، فأصلحت له دنياه بفساد دينك وبطلان آخرتك، واتبعت بزعمك رجلاً.
(ظاهر غيُّه): الغي: خلاف الرشد، وأراد أن مجانبته للرشد ظاهرة، لا تخفى على أحد.
(مهتوك ستره): هتك الستر: خرقه، وأراد أن الله تعالى مسبل لستر الدين على أهل الإيمان بإيمانهم، ومعاوية قد خرق هذا الستر بما كان منه من البغي والفسوق.
(يشين الكريم بمجلسه): الشين: النقص، وقد شانه إذا نقصه، وأراد أنه إذا جالس الكرام وخالطهم نقصتهم خلطته.
(ويُسَفِّه الحليم بخلطته): سفهه إذا نسبه إلى السفاهة، وأراد أنه يكسب الحليم سفاهة باختلاطه به، ومرافقته له.
(فاتبعت أثره): تابعته في أقواله وأفعاله وسلكت سبيله.
(وطلبت فضله): أراد إما إفضاله وإنعامه عليك، وإما ما تفضل عليه من المتاع، ويزيد على كفايته، وهذا هو مراده، ويدل عليه ما بعده.
(اتباع الكلب للضرغام): يريد الأسد، ومثَّله بالكلب لخسته وحقارته، ولما له به من المشابهة فيما ذكره.
(يلوذ إلى مخالبه): المِخْلَبُ: ظُفُر البرْثُن ، وأراد أنه يميل إلى ما يشب بمخلب الأسد من الفريسة فيأكله.
(وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته): وهكذا حاله مع معاوية، فإنه لا غرض له في اتباع معاوية إلا حطام الدنيا، والالتذاذ بلذاتها المنقطعة والتهالك في جمعها.
(فأذهبت دنياك): بانقطاعها عنك، وفواتها من يدك,
(وآخرتك) بما كان من إعراضك عنها؛ باتباع معاوية على فسقه وغيه.
(ولو بالحق أخذت): في اتباعي وترك مخالفتي ونزاعي.
(أدركت ما طلبت): من إحراز رزقك في الدنيا، والفوز برضوان الله في الآخرة.
(فإن يمكّن الله منك ومن ابن أبي سفيان): بالاستظهار عليكما، والتمكن من استئصال الشأفة وقطع الدابر.
(أجزكما بما قدمتما): من المخالفة والبغي والتمرد، وتغيير أحكام الله تعالى، وإيثار الدنيا وترك الآخرة.
(وإن تُعْجِزا): ولا أتمكن منكما.
(وتبقيا): في حياتي معجزين لي وبعد وفاتي أيضاً .
(فما أمامكما): أي فالذي أمامكما من خزي الله تعالى وعذابه المعد لأعدائه والخارجين عن مراده وطاعته.
(شر لكما): أدخل في الشر وأعظم في الويل مما هوقبله، كما قال تعالى:{وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى }[فصلت:16].
(40) ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله
(أما بعد؛ فقد بلغني عنك أمر): الأمر: واحد الأمور، ويستعمل عند إطلاقه في العظائم، قال الله تعالى:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ }[النحل:77]، {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ }[القمر:50]، وإنما أبهمه لعظمه.
(إن كنت فعلته): وكان صادقاً ما قيل في ذلك، وما نقل عنك.
(فقد أسخطت ربك): أي صار ذا سخط عليك.
(وعصيت إمامك): بمخالفتك له في فعلك.
(وأخزيت أمانتك): ظهر الخزي على ما كنت مؤتمناً عليه وهي الخيانة فيه.
(بلغني أنك جردت الأرض): أراد إما قشرتها بقطع أشجارها، وتركها فضاء، وإما أن يريد بالجرد مجازاً، وجعله كناية عن إذهاب ما فيها واستغراقه، وهذا هو مراده بدليل قوله:
(فأخذت ما تحت قدميك): من غلات الأراضي والعقارات والزروع وأنواع الثمار بالإتلاف والتبذير، وإنفاقها في غير وجهها، ووضعها في غير أهلها.
(وأكلت ما تحت يديك): مما يرتفع إليك من الجبايات والخراجات، ومما يكون حاصلاً في يدك بالإنفاق في المأكل والتنعم باللذات، وغير ذلك من الخضم والقضم .
(فارفع إليَّ حسابك): كمية ما يرتفع إلى يدك، وكيفية خروج ما يخرج من ذلك ومعرفة ما يفضل.
(واعلم أن حساب الله): لك في ذلك، وعلمه بما أخذت ومقدار ما خنت فيه.
(أعظم من حساب الناس): أبلغ من محاسبة الناس بعضهم لبعض؛ لأنهم ربما جرى عليهم الغلط والنسيان والذهول عن بعض ذلك، أو عن أكثره، والله تعالى محيط بكل شيء، وعالم به، فلا تخفى على علمه خافية [سبحانه وتعالى] .
(41) ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله عبد الله بن عباس
(أما بعد؛ فإني كنت أشركتك في أمانتي): أراد فيما أنا مؤتمن عليه من حفظ أموال المسلمين، والتعهد لمصالحهم والقيام عليها .
(وجعلتك شعاري وبطانتي ): الشعار من الثياب: ما يمس الجسد، وأراد أني جعلتك من خاصتي وبطانتي.
(ولم يكن في أهلي رجل أوثق منك): الأهل: هم العشيرة والأقرباء، يشير إلى أنه لم يكن في إخوته وبني الأعمام أثبت منه في الأمور، ولا أوثق منه في الديانة.
(في نفسي): فيما أعرفه ويسبق إلى خاطري واعتقده.
(لمواساتي): من أجل مواساتي، جعل نفسك أسوة لي في الشدائد والعظائم.
(وموازرتي): معاونتي بالنفس والمال من جهتك.
(وأداء الأمانة إليَّ): مما ائتمنتك عليه من أمور المسلمين، وأموالهم فتؤديها إليَّ كما وليتك إياها.
(فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كَلِبَ): اشتد شره، ومنه قولهم: كلب الشتاء اشتد برده.
(والعدو قد حرب): اشتد غضبه، وكلب وحرب بكسر العين.
(وأمانة الناس قد حزبت ): أي قلّت والحزب: القليل من الشيء، ويقال للطائفة من الرجال: حزب.
(وهذه الأمة قد فتكت): خدعت ومكرت.
(وشَغَرَت): أراد إما بعدت عن الحق، من قولهم: منهل شاغر عن القرية إذا كان بعيداً، وإما ارتفعت عن العمل بالحق، من قولهم: شغر الكلب برجله إذا رفعها ليبول.
(قلبت لابن عمك ظهر الْمِجَنِّ): هذا يقال لمن بدا منه خلاف ما يعهد من أخلاقه من الغلظة بعد اللين، والجفاء بعد المودة، وهذا هو مراده هاهنا.
(ففارقته): بنت عنه وأوحشته.
(مع المفارقين): المباينين له.
(وخذلته): بما كان من جهتك من الخيانة وتأخرت عن نصرته بتأخرك عن أداء الأمانة.
(مع الخاذلين ): مع الذين خذلوه، وتألبوا عليه بالعداوة والحرب.
(فلا ابن عمك آسيت): جعلته أسوتك، وأعنته بنفسك.
(ولا الأمانة أديت): ولا ما ائتمنك عليه أديته إليه على الوجه المرضي أداؤه.
(وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك): يريد ومع ما فعلته من الخيانة ما أردت وجه الله بالجهاد الذي كان منك، وإبلاءك ما أبليت فيه.
(وكأنك لم تكن): فيما أتيته وفعلته من هذه الخيانة.
(على بينة من أمرك): على أمر واضح، وبصيرة نافذة فيما تأتي وتذر.
(وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة): ترصد لها الحيل، وتعمل لها المكائد.
(عن دنياهم): لتخدعهم عنها، وتسلبهم إياها.
(وتنوي غرتهم عن فيئهم): الغرة بالكسر: الغفلة، وأراد وتقصد غفلتهم لتأخذ فيئهم وتكون مستولياً عليه.
(فلما أمكنتك الشدة): شد يشد شدة إذا حمل حملة واحدة، وقد تقدم في كلام لزياد بن أبيه: لأشدَّن عليك شدة.
(في خيانة الأمة): بما أخذته من أموالهم، واقتطعته من خراجهم.
(أسرعت الكرة): الكر: خلاف الفر، وأراد عاجلت في الرجوع، واجتهدت في إيثاره.
(وعاجلت الوثبة): أمعنت نفسك في معاجلتها مخافة الفوات.
(واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم): الاختطاف: أخذ الشيء في سرعة وعجلة، وأراد أنه عاجل في أخذ ما قد أُحْرِزَ من الأموال .
(المصونة لأراملهم): صان الشيء إذا حجزه عن الإهمال من أجل صلاح أراملهم، وسد خَلّتهم بها .
(وأيتامهم): ومن أجل الضعفاء الذين مات عنهم آباؤهم، وتركوهم عالة.
(اختطاف الذئب الأزلّ): ذئب أزل إذا كان خفيف الوركين.
(دامية المعزى الكسيرة): الدامية من كثرة الجرب، والكسيرة: المكسور أحد أطرافها، وإنما مثَّل ذلك؛ لأن الذئب إليها أسرع أكلاً من غيرها؛ لهزالها وضعفها واقتداره عليها.
(فحملته إلى الحجاز): مكة ونواحيها، والمدينة وما حولها، وسمي حجازاً؛ لأنه حاجز بين نجد وتهامة.
(رحيب الصدر بحمله ): الرحيب: الواسع، ومنه رحبة الدار وهو: فناؤها، ورحبة المسجد أي متوسع الصدر من غير ضيق يلحقه.
(غير متأثم من أكله): معتقداً أنه لا يلحقك في ذلك إثم بأخذه وأكله، ولا لوم من جهة الله تعالى.
(كأنك -لا أبا لغيرك-): قد ذكرنا أن قولك: لا أبا لك كلمة يراد بها المدح، فقال هاهنا: لا أبا لغيرك صرفاً لها عن وجهها في المدح إلى غيره.
(حدرت على أهلك): الحدر هو: الإرسال من فوق، وغرضه هاهنا سهولة الأمر فيه.
(تراثك من أبيك وأمك): ميراثك منهما من غير حرج عليك فيه.
(فسبحان الله!): براءة لله تعالى عما لا يليق به، وتنزيهاً له عن أفعالك هذه.
(أما تؤمن بالمعاد!): تصدق بالرجوع إلى القيامة، وأما هذه للتنبيه.
(أما تخاف من نقاش الحساب!): من المناقشة في الحساب، والتحفظ على القليل والكثير، والحقير والجليل.
(أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب): تشهير له بندائه، وإعلان بحاله، وتحقيق بزواله عن حالته التي كان عليها، بقوله: كان، وإخراج له عما يتسم به أهل اللب والفطانة، وإدخال له بما فعل في أهل الجهل.
(كيف تسيغ طعاماً وشراباً): تعجب من حاله في إساغة الطعام والشراب.
(وأنت تعلم): حقيقة لا شك فيه، وقطعاً لا ريب في حاله بما يظهر من الأدلة والبراهين.
(أنك تأكل حراماً، وتشرب حراماً): غصباً لا حق لك فيه.
(وتبتاع الإماء): الجواري النفيسة.
(وتنكح النساء): الحرائر، فأنت في جميع أحوالك هذه تدفع هذه الأثمان وتنقد هذه المعاوضات .
(من مال اليتامى، والمساكين، والمؤمنين، والمجاهدين): فكل واحد من هذه الأصناف وغيرها له حق في المال الذي أخذته لا محالة، وهم:
(الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال): جعلها فيئاً لهم، وأعطاهم إياها، وجعلها مصروفة فيهم.
(وأحرز بهم هذه البلاد!): بجهادهم عليها بالسيف حتى صارت حقاً لهم، ومحرزة برماحهم، لا ينالها أحد سواهم، ولا يأخذ خراجها أحد غيرهم.
(فاتق الله): راقبه في جميع أحوالك كلها.
(واردد إلى هؤلاء القوم): الذين وصفت لك حالهم في الإيمان، والضعف، والمسكنة.
(أموالهم): التي غصبتها عليهم، وأخذتها خيانة لهم.
(فإنك إن لم تفعل): ما أمرتك به من ذلك، وحثثتك على فعله وإتيانه.
(ثم أمكنني الله منك): مكنني من الانتصاف منك، وأقدرني عليك، من المكنة وهي: القدرة.
(لأعذرنَّ إلى الله فيك): لا أبلغن حالة في النصفة يعذرني الله تعالى فيها من أجلك.
(ولأضربنَّك بسيفي): المشهور المعروف بذي الفقار.
(الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار): يشير بما ذكره إلى أنه على الحق، وأن من خالفه على الباطل، مستحق للوعيد بالنار لا محالة، وليس في هذا دلالة على عصمته؛ لأن هذه الحالة أعني المخالفة لإمام الحق والقطع بهلاك المخالف له، والسالّ للسيف في وجهه حاصلة لغيره ممن لا يُدَّعَى عصمته؛ فلهذا لم يكن ذلك دليلاً على كونه معصوماً.
(والله لو أن الحسن والحسين): مع عظم قدرهما، وقربهما من الرسول، وارتفاع حالهما عند الله تعالى، وأنهما سيدا شباب أهل الجنة بنص أبيهما .
(فعلا مثل الذي فعلت): من الخيانة، وأخذ المال الذي لا عذر لك في أخذه ولا شبهة.
(ما كانت عندي لهما هوادة): تهوين في الأمر، ولا مصالحة لهما ولاميل إليهما فيما فعلاه من ذلك، وفي الحديث: ((أسرعوا المشي بالجنازة، ولا تهوِّدوا كما تُهَوَّد اليهود )) لأنهم يهونون في السير ويدبون دبيباً.
(ولا ظفرا مني بإرادة): فيما طلباه من ذلك، ولا حللت من ذلك عقدة.
(حتى آخذ الحق منهما): ما كان مستحقاً عليهما لغيرهما.
(وأزيح الباطل من مظلمتهما): فيه روايتان:
أحدهما: أريح بالراء، أي أرد الباطل فيما ظلماه ، وأخذاه من غير حقه، من قولهم: أرحت على الرجل حقه إذا رددته عليه.
وثانيهما: بالزاي وغرضه أبعد الباطل من ظلمهما الذي ظلماه، من قولهم: زاح الشيء يزيح إذا بعد وذهب.
(وأقسم بالله رب العالمين): العالمين: جمع عالم، وهم اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وفيه تعريض بحاله حيث كان ظالماً لمن هذه حاله من الخلائق.
(ما يسرني أن ما أخذت من أموالهم حلال لي، أتركه ميراثاً لمن بعدي): يريد أنه ما يسرني أن الذي أخذته من هذه الأموال حلال لي لا تبعة علي فيه أخلفه ميراثاً بعدي، فهذا لا يسرني فضلاً عن أن تكون هذه الأموال فيئاً للمسلمين لا أملكها لا أنا ولا أنت، فالغم علي فيها أكثر لكوني مطالباً بها.
(فضحِّ رويداً ): أي ضياحاً رويداً، وأراد هون على نفسك الحال ولا تعجل.
(فكأنك قد بلغت المدى): غاية أجلك ومنتهى عمرك.
(ودفنت تحت الثرى): حيث لا ينفع مال ولا عشيرة.
(وعرضت عليك أعمالك): نشرت عليك دواوينها، وقرئت عليك صحائفها.
(بالمحل): في الموضع، وهو: يوم القيامة في العرصة.
(الذي ينادي فيه الظالم بالحسرة): على ما فعل من الأفعال وغصبه من الأموال.
(ويتمنى المضيع): الذي أضاع أوقاته، وفرط في حياته.
(الرَّجعة): الرد ليعمل صالحاً، كما قال تعالى:{رَبِّ ارْجِعُونِي ، لَعَلّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون:99-100]،.
(ولات حين مناص!): المناص: الملجأ، وأراد ليس الوقت وقت فرار وتأخر، ولقد بالغ في عتاب ابن عباس وشدد النكير عليه، وخشن له في القول، وأغلظ عليه في الوعيد؛ لما يعلم من حسن بصيرته وشدة ورعه، وتحرزه في أمور الديانة، واتقاد قريحته في العلم، ولما بلغه الكتاب على ما اشتمل عليه من الخشونة والمبالغة في العتاب وإظهار اللائمة، لم يتمالك في الإذعان والانقياد، ورد المال، وإظهار الندم عمَّا فعل من ذلك، والاعتذار إلى أمير المؤمنين كرم الله وجهه في هذه الزلة، وهكذا يكون حال أهل البصائر النافذة، ومن يرده الله بتوفيقه، وحقيق بمن كان حاله كحال ابن عباس في التقدم في العلم وإحراز الفضل أن يتداركه الله بالتوفيق من عنده، فما قصد أمير المؤمنين بما فعل؛ إلا تشنيعاً للقضية عليه لفضله وتمييزه، وليكون ذلك وازعاً لمن يكون في درجته عن اقتحام مثل هذه الشبه، والورود على مثل هذه الموارد الضنكة القبيحة عند الله.
(42) ومن كتاب له عليه السلام إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي ، عامله على البحرين
كل نهر عظيم فهو: بحر، ولهذا يقال لدجلة وسيحون وجيحون: بحور، وإن كانت أنهاراً جارية، قال الشاعر:
سره ماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضاً والسدير
يعني الفرات، والبحران اللذان ذكرهما: واديان في اليمن، يقال لهما: الحسا والقطيف، وقيل: غيرهما، والله أعلم بذلك.
(أما بعد، فإني قد وليت النعمان بن عجلان الزرقي على البحرين): جعلت أمرهما إليه، وأوليته العقد والحل فيهما.
(ونزعت يدك): أزلت ولايتك فيهما.
(بلا ذم لك): في ولايتك، ولا خيانة لاحقة بك في عمالتك.
(ولا تثريب عليك): لا عتب لا حق بك، ولا تأنيب، والثرب: شحم رقيق يغشى الكرش والمعاء، ومعناه إزالة الثرب؛ لأنه إذا ذهب كان ذلك أمارة على غاية الهزال، فضرب مثلاً للتقريع الذي بلغ الغاية في تمزيق العرض وإهداره، قال الشاعر:
فعفوت عنهم عفو غير مُثَرِّبٍ ... وتركتهم لعقاب يوم سرمد
(فلقد أحسنت الولاية): في وضعك لها مواضعها، وإعطاها حقها.
(وأديت الأمانة): أوصلت ما اؤتمنت عليه على وجهه، وقمت فيه بحكمه.
(فأقبل): إلينا وَزُلْ عن عملك الذي كان تحت يدك بأمرنا.
(غير ظنين): متهم فيما أنت فيه، ولا بخيل بما كان من حقوقه.
(ولا ملوم): على تفريط كان هنالك منك ولا خيانة.
(ولا متهم): في أمر من أمور الولاية.
(ولا مأثوم): في جناية في يد ولا لسان.
(فقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام): معاوية وأصحابه، وإنما كانوا ظلمة إما لأنهم ظلموا أنفسهم بتعاطيهم البغي والمخالفة، وإما لما أخذوه من البلاد والجبايات على غير وجهه وصرفوه في غير أهله، فهم ظالمون لا محالة، فلهذا سماهم ظلمة.
(وأحببت أن تشهد معي): حربهم وقتالهم، وتكون معي في المشاهد كلها والمواطن المشهودة.
(فإنك ممن أستظهر به على جهاد العدو): أجعله ظهيراً وعمدة ألجأ إليها عند الشدائد، والحاجات المهمة والأمور العظيمة.
(وإقامة عمود الدين): عن أن يكون مضطرباً، وأن يكون فيه اعوجاج، وما ذكره مجاز، والحقيقة جري أحكام الشريعة على مجاريها، وتقريرها على قواعدها.
(43) ومن كتاب له عليه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني
وهو عامله على أزدشير خرته ، وأزدشير خرَّة وهو اسم قرية:
(بلغني عنك أمر): على أيدي النقلة ولم يتحققه أمير المؤمنين، ولهذا أتى بإن، وهي موضوعة للشك، وهذا فيه دلالة على جواز الإنكار مع غلبة الظن، إذا كان هناك قرائن مؤذنة بذلك.
(إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك): صار ذا سخط عليك.
(وأغضبت إمامك): أي صار غاضباً عليك.
(أنك تقسم فيء المسلمين): أن هذه هي المصدرية في الأسماء، وهي في موضع رفع، إما بدلاً، وإما عطف بيان على قوله: أمر.
(الذي حازته رماحهم وخيولهم): أحرزوه بالقوة بالخيل والرجال.
(وأريقت عليه دماؤهم): باستشهاد من استشهد منهم عليه.
(فيمن اعتامك): أي اختارك، من قولهم: اعتام الشيء إذا اختاره، والعِيمة هي: خيار المال.
(من أعراب قومك): أجلافهم، وأهل الغباوة منهم.
(فوالذي فلق الحبة): شقها بنصفين.
(وبرأ النسمة): خلق النفس.
(لئن كان ذلك حقاً): يشير إلى ما ذكره من الأمر الذي بلغه عنه.
(لتجدنَّ بك علي هواناً): ليهوننَّ عندي أمرك، وينزلنَّ قدرك.
(ولتخفَّنَّ عندي ميزاناً): انتصاب ميزان يكون على التمييز، من باب قولهم: طاب زيد نفساً.
(فلا تستهن بحق ربك): الاستهانة من الهوان، وأراد فلا تهونه.
(ولا تصلح دنياك بمحق دينك): أي ولا يكن همك إصلاح دنياك وتسديدها بما يكون مَحْقاً عليك في الدين وتغييراً في حاله.
(فتكون من الأخسرين أعمالاً): من الذين خسروا أعمالهم بإحباطها بالسيئات، وإسقاط أجورها باقتحام الموبقات.
(ألا وإن حق مَنْ قِبَلَكَ): من في جهتك.
(وقِبَلَنَا): ومن في جهتنا.
(من المسلمين): أهل الدين والصلاح.
(في قسمة هذا الفيء سواء): مستوية لا فضل لأحد منهم على الآخر، وفي هذا دلالة على أن رأيه عليه السلام كان التسوية في العطاء، كما كان رأي أبي بكر قبله، وأما عمر فكان رأيه التفضيل في العطاء على مقادير الحقوق في الدين، وعلو المراتب في الإسلام .
(يردون عندي عليه): يأخذونه.
(ويصدرون عنه، والسلام ): ويذهبون به في قضاء حوائجهم، ويصرفونه في مآربهم كلها.
(44) ومن كتاب له عليه السلام إلَى زياد بن أبيه
وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه:
(وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزلُّ لبك):يريد استزلالك في لبك ويطلب ذلك منك.
(ويستفلُّ غربك): الغرب: حد السيف، وأراد يكفه ويرده عن حده كالاً.
(فاحذره): عن أن يخدعك بأمانيه، ويستزلك بأكاذيبه.
(فإنما هو الشيطان): أراد إن كنت تعرف الشيطان فهو معاوية بعينه لا مخالفة بينهما في حال.
(يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه): كما يفعل الشيطان.
(ومن عن يمينه وعن شماله): كما حكى الله ذلك عن إبليس بقوله: {ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}[الأعراف:17].
(ليقتحم غفلته): تقحيم النفس إدخالها في الأمر من غير روية وثبات، وأراد يقتحم على الإنسان في حال كونه غافلاً.
(ويستلب غرته): أي يستلبه في حال كونه مغتراً بما يقع فيه من ذلك، أي يخدعه ويمكر به.
(وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة): أي فجأة لا عن تدبر وروية.
(من حديث النفس): التي لا يلتفت إليها ولا يعول عليها.
(ونزغة من نزغات الشيطان): النزغ من جهته هو: الإفساد والإغواء.
(لا يثبت بها نسب): أي لا يكون لاحقاً بمن ألحق به .
(ولا يستحق لمكانها إرث): لبطلانها وفسادها شرعاً، وقد كان أبو سفيان ادَّعى زياداً في عهد عمر بن الخطاب، وزعم أنه ولد له، وحاكم إلى عمر، فلم يقض عمر له بشيء من ذلك .
(والمتعلق بها): يريد بهذه الدعوة الباطلة.
(كالواغل): بالغين المنقوطة، وهو: الذي يهجم على الشربة ليشرب معهم وليس منهم.
(المدفَّع): بالعين المهملة، وهوالذي لا يزال مدفوعاً في صدره، محاجزاً عن الكون من جملة الشربة.
(والنوط): وهو ما يعلَّق بعد تمام الحمل من قدح، أو غير ذلك.
(المذبذب): لأنه أبداً لا يزال يتقلقل إذا حثَّ الجمل ظهره واستعجل في سيره.
(فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها ورب الكعبة): أراد أن كلام أمير المؤمنين على زعم زياد موهم للشهادة على أبي سفيان بالدعوة له.
(ولم يزل): ذلك.
(في نفسه): يريد كلام أمير المؤمنين ونقله عن أبي سفيان ما نقله، فما كان بعد ذلك إلا أياماً قليلة.
(حتى ادَّعاه معاوية): يباعد تلك المقالة التي ذكرها أمير المؤمنين.
(45) ومن كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري
وهو عامله على البصرة ، الرواية فيه حُنيف-بضم الحاء-.
[بسم الله الرحمن الرحيم]
(أما بعد، يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة): الفتية: جمع فتى، قال الله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ }[الكهف:10].
(دعاك إلى مأدبة): المأدبة: ما كان طعاماً من غير وليمة، والوليمة: كالعرس، والإعذار وهو: طعام الختان وغير ذلك.
(فأسرعت إليها): من غير سؤال عن حالها، ومعرفة بحقيقتها، وطيب مكسبها.
(تستطاب لك الألوان): يُطْلَبُ لك أطيبها فيقدَّم نحوك.
(وتنقل إليك الجفان): أراد إما واحدة بعد واحدة لاختلافها وتباين أطعمتها، وإما تقدم هذه وتؤخر هذه ترفهاً بالمعايش، وتأنقاً في اللذات.
(فكرعت): في حياضها، والكروع: هو تناول الماء بالفم من غير واسطة الكف.
(وأكلت): من ألوانها ومختلفات أنواع طيباتها.
(أكل ذئب نَهِمٍ): النهم: بلوغ الغاية في حفظ الشيء وضبطه، وفلان منهوم على كذا إذا كان مولعاً به، وفي الحديث: ((منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا )) وإنما أضاف النهم إلى الذئب؛ لأنه مولع بكثرة الافتراس.
(أو ضيغم قَرِمٍ): الضيغم: اسم من أسماء الأسد، وسمي بذلك لشدة ضغمه لما يفترسه من الحيوانات، والقرم: شدة شهوة اللحم، وإنما شبهه بهذين الحيوانين؛ لكثرة ولوعهما بأكل اللحوم.
(وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم، غنيهم مدعوّ ، وفقيرهم مجفوّ): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أو لم تعلم أنهم في ولائمهم هذه يدعون الأغنياء ويتركون الفقراء، ومن هذه حاله فإن إجابته مكروهة من أجل ذلك.
وثانيهما: أن يكون مراده أنه لا غرض لهم في هذه الولائم إلا الرياء والسمعة والذكر، ومن هذه حاله فإنه لا يجب إجابة دعوته، ولا ينبغي لأحد من أهل الدين حضورها، ولهذا فإنهم يتركون الفقراء ويدعون الأغنياء من أجل ذلك.
ووجه آخر أهم مما ذكرته كله وهو: أنك إذا دعيت إلى وليمة قوم:
(فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقْضَمِ): المقضم: بمقدم الأسنان، وأراد ما تأكله من هذه المآكل.
(فما اشتبه عليك علمه): ولم تدر حاله، ومن أي وجه حصل مكسبه، وانقدحت الشبهة فيه.
(فالفظه): إن كان حاصلاً في فِيْكَ، أو أراد فاتركه إن لم تكن قد تناولته.
(وما أيقنت بطيب وجوهه): بكونه مأخوذاً من أوجه طيبة لا حرج في أخذها وتناولها.
(فَنَلْ منه): أي خذ مقدار الكفاية منه من غير حاجة إلى الزيادة.
(ألا وإن لكل مأموم إماماً): ألا هذه للتنبيه، وأراد أن كل مأموم فلا بد له من إمام.
(يقتدي به): في جميع عباداته، وأحوال دينه.
(ويستضيء بنور علمه): في ظلمات الجهل، وقتام الغباوة، وحنادس الضلالة.
(ألا وإن إمامكم): يشير إلى نفسه.
(قد اكتفى من دنياه بِطِمْرَيْه): الطمر: الثوب الخلق، وأراد إزاراً ورداء من غير زيادة.
(ومن طُعِمه بِقرصيه): ومما يطعم من ملاذ الدنيا وطيباتها برغيف بكرةٍ، ورغيف عشياً من غير زيادة.
(ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك): لصعوبته ومشقة الحال فيه، وكونه منافراً للنفوس في غاية الكراهة له.
(ولكن أعينوني بورع): عن الأمور المحرمة والملاذ القبيحة.
(واجتهاد ): في الطاعة لله، والانقياد لأمره.
(فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً): الكنز: الادخار، والتبر: ما كان من الذهب غير مضروب، فإذا ضرب فهو عين، ولا يقال ذلك في الفضة، وبعضهم يطلقه عليها.
(ولا ادخرت من غنائمها وفراً): ادخره إذا خبأه، والغنيمة: ما يؤخذ من الكفار، والوفر: المال الكثير، سمي بذلك؛ لوفوره وكثرته.
(ولا أعددت): أراد إما للتجمل، وإما أراد من زينة الدنيا ولذاتها.
(سوى بالي ثوبي طِمْراً ): انتصاب طِمْراً على المفعولية لأعددت، أي ولا أعددت طمراً للتجمل إلا بالي ثوبي هذا من غير زيادة.
سؤال؛ كيف قال هاهنا: سوى بالي ثوبي، وقال فيما تقدم: قد قنع من الدنيا بطمريه، فما وجه ذلك؟
وجوابه؛ لعله تارة يلبس الرداء، وتارة يلبس الإزار، فعبَّر على ما يقتضيه الحال من لباسه لأحدهما دون الآخر.
(بلى): تصديق لكلام محذوف منفي تقديره: أليس قد كان في أيديكم شيء من الأموال، فقال مصدقاً له: بلى:
(قد كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء): فدك : قرية قريب من المدينة نحلها رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] فاطمة +، وأعطاها إياها، وكانت مما لم يوجف عليه بخيل ولا بركاب ، فكان رسول الله يأخذ منها لخاصة نفسه ما يحتاجه، ثم أعطاها بعد ذلك فاطمة .
وقوله: (من جميع ما أظلته السماء)، تعريض إلى ما كان منهم من الاستئثار عليه بالخلافة وبغيرها.
(فشحَّت عليها نفوس قوم): يشير إلى ما كان من تيم وعدي وبني أمية، وإنما عدى شحَّت بعلى؛ لأن الشح في معنى الحرص، فإن فاطمة عليها السلام أخبرت بأن أباها نحلها إياها، فمنعها أبو بكر ذلك ، وكان هذا من أقوى ما يذكر في مطاعن خلافته مع ما كان من حديث الميراث ، وغير ذلك من المطاعن، فإنها لما ادَّعتها قال لها أبوبكر: اثبتي برجلين أو برجل وامرأتين، فقد قيل: إنها جاءت بأمير المؤمنين فأبى ذلك ، ولعله كان يذهب إلى بطلان الحكم بالشاهد واليمين للمدَّعي، وفاطمة تذهب إلى جواز ذلك .
(وسخت عنها نفوس أخرين): يشير إلى نفسه وفاطمة والحسن والحسين، وإنما عدَّاه بعن؛ لأن السخاوة متضمنة لانقطاع الرغبة عن الشيء المسخو به، فلهذا عدَّاه بعن؛ لأنهم لما رأوا من كثرة المطالبة فيها أهملوها وتركوها.
(ونعم الحكم الله): بين الخلائق، أو فيما ندَّعي من فدك وغيرها.
(وما أصنع بفدك وغير فدك): استفهام وارد على جهة التقرير عند النفوس، وفيه معنى التعجب، وأراد وما تنفعني فدك وأضعافها من الدنيا.
(والنفس مظانها في غدٍ جدث): الجدث: القبر، قال الله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً }[المعارج:43]، ومظنة الشيء: موضعه الذي يظن حصوله فيه ، وأراد أن القبر مكانها وموضعها لا موضع لها سواه.
(ينقطع في ظلمته آثارها): فلا يوجد لها أثر بعد صيرورتها فيه.
(وتغيب أخبارها): فلا يسمع لها بخبر، وأراد امحاء جميع رسومها وأعلامها.
(وحفرة): أي ومظانها حفرة.
(لو زيد في فسحتها): لوبلغت كل غاية في السعة والفسحة.
(وأوسعت يدا حافرها): وكان غرض الحافر لها توسيعها .
(لأضغطها الحجر والمدر): الضغط: هو الزحم، يقال: اللَّهُمَّ، ارفع عنا هذه الضغطة، وفي الحديث: ((إن للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد )) يريد سعد بن معاذ.
(وسد فرجها التراب المتراكم): الفرجة: الخلل في الشيء، وأراد أنها وإن فسحت في نفسها فإنها تزدحم بالأحجار المهيلة، وتسد ما فيها من الخلل بالتراب المحثي فيها.
(وإنما هي نفسي): أراد لا أملك سواها، ولا أمارس إلا إياها.
(أروضها بالتقوى): أعالجها بالرياضة كما يعالج المُهْرَ المروض بمراقبة الله تعالى وخوفه، والانكفاف عن محرماته، والمواظبة على القيام بواجباته.
(لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر): أراد يوم القيامة كما سماه الله الفزع الأكبر ، إذ لا فزع أطمَّ منه.
اللَّهُمَّ، نجنا من أهواله وعظائمه بكرمك الواسع.
(وتثبت على جوانب المزلقة ): المزلقة والمزلق: موضع لا يثبت عليه قدم يقال: مكان زلق، قال الله تعالى:{فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً }[الكهف:40]، أي أرضاً ملساء لا ثبات فيها، وإنما قال: على جوانب المزلق مبالغة في الاستقرار والثبوت؛ لأن المزلقة لا تثبت في وسطها قدم فضلاً عن جوانبها، فإذا كانت قدمه ثابتة على طرف المزلقة كانت في غاية الرسوخ والاستقامة والثبوت، وكثيراً ما يرمز إلى مثل هذه الأسرار في كلامه، ويتفطن لها أولو البصائر.
(ولو شئت لاهديت الطريق إلى لباب هذا القمح): لباب كل شيء: خلاصته ونقاوته، وأراد خلاصة البر ومخ الحنطة.
(ومصفى هذا العسل): وأعلا هذه الأعسال عندكم.
(ونسائج هذا القز): والثياب الغالية المنسوجة من القز، يريد أعلا الإبريسم من الديباج وغيره.
(ولكن هيهات): هيهات: اسم من أسماء الأفعال دال على الخبر، والغرض منه بَعُدَ ذلك، ولكن هذه الاستدراك عما ذكره من قبل، والمعنى بَعُدَ الإيثار مني لهذه الأشياء.
(أن يغلبني هواي): فأكون منقاداً له.
(ويقودني جشعي): الجشع بالجيم هو: الحرص، وأراد أني غير مغلوب للهوى، ولا سلس القياد للحرص.
(إلى تخيّر الأطعمة): انتقاء أطيبها، وأعلاها فآكله، وأغتنم قضمه.
(ولعل بالحجاز أو اليمامة ): اليمامة: اسم لجارية كانت تبصر على مسافة ثلاثة أيام، يقال لها: الزرقاء، يقال: أبصر من زرقاء اليمامة، واليمامة: قرية أيضاً ، وكانت تسمى الجو فسميت باسم هذه الجارية وغلبت عليها.
(من لا طمع له في القرص): لشدة الفقر والحاجة.
(ولا عهد له بالشبع): لا يكاد يذكر الشبع، ولا يخطر بباله لقلته وندوره.
(أو أبيت مبطاناً): البطنة: هي الامتلاء من العيش، وفي الحديث: ((البطنة تذهب الفطنة )) والمبطان: وصف للمبالغة، وهو: كثير الشبع.
(وحولي بطون غرثى): الغرث: الجوع.
(وبطون حرى): رجل حران وامرأة حرى أي عطشى، والحِرة بالكسر: العطش، ومنه المثل: أشد العطش حرة على قرة، إذا عطش في يوم بارد.
(أو أن أكون كما قال القائل:
وحسبك داءً أن تبيت ببطنة ... وحولك أكباد تحنُّ إلى القدِّ)
ولنذكر إعرابه وموضع الشاهد منه.
أما إعرابه فهو ظاهر:
أن: في موضع رفع خبر لحسبك ، وداءً: نصب على التمييز، وإن رفعت داء على أنه خبر لحسبك، وأن في موضع رفع عطف بيان على داء أو بدل منه.
والقدُّ: جلد تحرقه العرب في الجدب، ويستفون رماده.
وأما موضع الشاهد منه: فإنما أورده تمثلاً به لما له في حالته التي هو عليها من المناسبة والملائمة في الإيثار على نفسه، والمواساة لغيره.
(أأقنع من نفسي بأن يقال: أمير المؤمنين): استفهام فيه معنى التعجب، والمعنى في هذا كيف يطلق عليَّ هذا اللقب، ويضاف إليَّ هذا الاسم، وأتسمى بإمرة المؤمنين والرئاسة لهم، ويأمر رسول الله بتلقيبي به ، وكيف أنال هذه الحالة، وأترقى إلى هذه الدرجة العالية.
(ولا أشاركهم في مكاره الدهر): يعني وأنا غير مشارك لهم فيما يأتي به الدهر من الحوادث المكروهة، والجملة السلبية في موضع نصب على الحال من الضمير في أقنع، والمعنى أقنع غير مشارك لهم.
(أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش): الأسوة: ما يتأسى به الحزين ويتعزى به، والجشوبة: غلظ العيش وجرزه، والمعنى في هذا كله أني لا أكون أمير المؤمنين وراعياً لهم، ولا يصدق عليَّ إطلاق هذا اللقب إلا مع مشاركتهم في المكاره، والتأسي بهم في غلظ العيش وجشوبته.
(فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات): لأن أكون مشتغلاً بالمأكولات الطيبة، أخضمها وأقضمها وأن أكون:
(كالبهيمة المربوطة همها علفها): لا هم لها سوى أكل ما يؤتى لها به من العلف حيث كانت مربوطة غير مرسلة.
(أو المرسلة): حبلها على غاربها من غير ربط.
(شغلها تقممها): التقمم: جمع البهيمة للمرعى والنبات بمقمتها وهي: شفتها.
سؤال؛ أراه قال في المربوطة: همها علفها، وقال في المرسلة: شغلها تقممها؟
وجوابه؛ هو أنها إذا كانت مربوطة فلا شغل لها تشتغل به، وإنما غايتها هو الهم لما تأكله ولما يوضع بين يديها من الأعلاف والحشائش، فأما إذا كانت مرسلة فهي مشتغلة لا محالة بإصلاح حالها فيما تجده، وتهتدي إليه من رزقها وتأخذه بمقمتها، وتستولي على إحرازه بها.
(تكترش من أعلافها): أي تجمع في الكرش، ومن هاهنا للتبعيض، أي تأخذ ما يكفيها من بعض الأعلاف.
(وتلهو): بالأكل وطلب المتاع لها.
(عما يراد بها): من التكاليف العظيمة، وتحصيل الأعباء المهمة.
(أو أترك سدى): عطفاً على قوله: ليشغلني أكل الطيبات، أي أترك مهملاً من غير هم وشغل ، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى }[القيامة:36].
(أو ألهو عابثاً) : أو أكون مشتغلاً باللهو من غير حاجة وأرب.
(أو أجر حبل الضلالة): على غير بصيرة من أمري، ولا طريقة رشد.
(أو أعتسف طريق المتاهة!): الاعتساف هو: الأخذ على غير طريق، والمتاهة: هو التحير، والمتاهة: مفعلة من التيه.
(وكأني بقائلكم يقول): عند معرفته بحالي وتحققه بسيرتي في ذلك، وعلمه بمأكلي ومشربي.
(إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب): في الخشونة، ورقة العيش، وهونه وركته.
(فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران): أي حبسه، والقرن: المثل بالكسر، من قولهم: ما يقعدني عنك إلا شغل أي ما يحبسني، وأراد فقد حبسه الهزال والضعف عن أن يقاتل قِرْناً مثله.
(و منازلة الشجعان): المنازلة: من النزول، وذلك يكون في الحرب، وهو أن يقتحم كل واحد عن فرسه، ويتجالدون بالسيوف على الأقدام، قال:
ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل
(ألا وإن الشجرة البريَّة): النابتة في البراري.
(أصلب عوداً): الصلابة: القوة، وأراد أن عودها صليب ليس دهساً .
(والروائع الخضرة): أي والأشجار الرائعة، يريد المعجبة، من قولهم: راعني الشيء أي أعجبني، ومنه الأروع من الرجال، وغرضه أن المخضرة من الأشجار المعجبة التي يبدو لها رونق وطلاوة، ويظهر لها رواء ونضارة.
(أرق جلوداً): يريد أنها تنخدش بأدنى مس، ويزول رونقها بأدنى تغير.
(والنابتات العذية ): يعني والأشجار النابتة بماء المطر دون غيره من الأمواء.
(أقوى وقوداً): الوَقود بالفتح هو: ما يوقد من حطب وغيره، والوُقود بالضم هو: المصدر.
(وأبطأ خموداً): يريد أن خمودها لا يكاد يذهب؛ لقوتها وصلابة عودها، وأراد من هذا كله بياناً لحاله، وأنه وإن كان على ما ذكر من القوت اليسير وأكل الطعام الخشن، فإن بنية جسمه قوية، وعظامه أقرب إلى الصلابة والشدة، فلا يضرها ذلك، وما ذكر من تنويع الأشجار تمثيل لحاله ، وبيان لصفاته في ذلك.
(وأنا من رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] كالصنو من الصنو ): يعني أن منزلته ومكانه من رسول الله مكان الصنو من صنوه في الدنو والمقاربة، فإذا خرج غصنان من أصل واحد فكل واحد منهما صنو، وأراد أنه هو ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غصنان خرجا من أصل واحد، فهو منه بمنزلة الصنو من صنوه من غير مخالفة، وهذا ظاهر فإن عبد الله وأبا طالب لأب وأم أخوين ، ثم إن أبا طالب كفل رسول الله بعد جده عبد المطلب ورباه في حجره ، فهو بمنزلة الولد له؛ [لأنه ابن أخيه، ولأنه كفله ورباه فهو بمنزلة الولد له] ، فلهذا قال أمير المؤمنين: إنه من الرسول بمنزلة الصنو من الصنو يشير إلى ما ذكرناه.
(والذراع من العضد): يريد أن الذراع متصل بالعضد لا حاجز بينهما ولا حائل، وهذا يضرب به المثل في شدة الاتصال.
قالت امرأة من العرب ترقص ولدها:
يا بكر بكرين يا خِلْب الكبد ... أصبحت مني كذراع من عضد
(والله لو تظاهرت العرب على قتالي): تظاهروا أي تعاونوا، وصار كل واحد منهم ظهراً للآخر يستند إليه عند الحوادث الكريهة، قال الله تعالى: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }[البقرة:85]، وقال تعالى:{وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً }[التوبة:4]، والمظاهرة: المعاونة.
(لما وليت عنها): فراراً، وذلة وجبناً.
(ولو أمكنت الفرص من رقابها): الفرص:جمع فرصة وهي: النهزة ، يقال: فلان ينتهز الفرص أي يغتنمها ولا تفوته، وأراد أني لو تمكنت من رقابها لاغتنمت فرصها.
(لسارعت إليها): من غير تلبث ولا ترتب في حالها، وأراد بذلك من كان من العرب مرتداً عن الدين أو باغياً عليه، مخالفاً بالفسق والخروج والتمرد.
(وسأجهد في أن أطهر الأرض): أطلب الاجتهاد، ولا أوثر عليه شيئاً حتى أنقي وجه الأرض، وأزيل عنه ما يطخيه ويكدره.
(من هذا الشخص المعكوس): يعني معاوية ومن قال بقوله وذهب إلى مذهبه في المخالفة والبغي، وإنما وصفه بالعكس؛ لأن العكس هو: رد الشيء مقلوباً، فإنه كان في أول حاله في أيام الرسول عليه السلام على حالة مستقيمة في الدين، وكان من جملة رواة الحديث، ثم انعكس أمره بعد ذلك بالفسق والبغي والخروج على أمير المؤمنين.
(والجسم المركوس): الركس: القذر، وفي حديث الاستجمار أنه أوتي بروثة فرمى بها وقال: ((إنها ركس)) ، وأراد الجسم الخبيث من الذين قال الله تعالى فيهم:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ }[المائدة:41].
(حتى تخرج المذرة من بين حب الحصيد): المذرة: الحبة الفاسدة، ومنه بيضة مذرة أي فاسدة، والمذر: الفساد والتغير، والحصيد: المحصودمن الزرع وهو الجيد الذي قد حضر استحصاده، وهو البالغ في الجودة، وأراد حتى يتميز الجيد من الردي والصحيح من الفاسد، والإشارة بما قاله من ذلك إلى تطهر الأرض من أهل الزيغ في العقائد، التاركين لأحكام الدين، والماحين لرسومه وأعلامه.
(إليك عني يا دنيا): إليك هذه اسم من أسماء الأفعال في معنى الأمر، أي ارجعي عني وابعدي، كما تقول: إليك زيداً أي خذه، وعندك عمراً أي الزمه، وعني متعلق بما دل عليه إليك من الفعل، كما نصب الظاهر في قولك: عليك زيداً وإليك عمراً.
(فحبلك على غاربك): الغارب: من الجمل ما بين السنام والعنق، يقال: فلان حبله على غاربه، استعارة له من إلقاء خطام البعير على غاربه ليذهب حيث شاء، وقولك: حبلك على غاربك، كلمة كانت العرب يطلِّقون بها نساءهم في الجاهلية، والمراد بها اذهبي حيث شئت، ثم شرع في الإسلام الطلاق الصريح، وبقيت هذه كناية إذا نوى بها الطلاق الآن كانت طلاقاً.
(قد انسللت من مخالبك): خلصت وخرجت، والمخالب: جمع مخلب وهو ظُفُرُ البُرْثُن في سباع الوحش كالأسد والنمر، وهو المنقار الذي يخلب به في سباع الطير كالصقر والشاهين، وغير ذلك، فكل واحد منهما مخلب في حقه.
(وأفلت من حبائلك): أفلت بمعنى فلت وتخلص، والحبائل : جمع حبالة وهي الشبكة للصيد.
(واجتنبت الذهاب في مداحضك): جانبت المضي والسير في المزالق، ومنه دحضت رجله إذا زلقت وزلت، أخبريني حين أسألك:
(أين القوم الذين غررتهم): الغرر : المكر والخديعة.
(بمداعيك!): فيه روايتان:
أحدهما: بالياء بنقطتين من أسفلها، وهوجمع مدعاة إلى اللهو واللعب، وسائر أنواع الطرب.
وثانيهما: بمداعبك بالباء بنقطة من أسفلها جمع مدعبة، وهي الدعابة والمزاح، والمعنى فيهما متقارب.
(أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك!): الفتنة: الاختبار والامتحان، والزخرف: الذهب في الأصل ثم شبه به كل مموه مزور، والمزخرف: المزين، وأراد أن الله تعالى جعلها في حقهم بلوى واختباراً لهم وامتحاناً، فكان سبباً للضلال والهلاك.
(هاهم): ها هذه للتنبيه، مثلها في قولك: هاذاك، كما قال تعالى: {مَا هَذَا بَشَراً }[يوسف:31]، والضمير هاهنا منفصل راجع إلى من تقدم من القرون والأمم.
(رهائن القبور): موثقين بأعمالهم لا يفك رهنهم إلا بأدائها كاملة [عند الله تعالى] .
(ومضامين اللحود): قد ألصقوا إليها.
(والله لو كنت شخصاً مرئياً): شبحاً يرى ويدرك بالحاسة الناظرة.
(أو قالباً حسِّياً): القالب بالفتح: ما يطبع على مثاله وحذوه، ومنه قالب النعل، وأراد أنك لو كنت مما يحتذى على مثاله ويحسه الراؤون له.
(لأقمت حدود الله عليك): أراد بالحد التعزير والأدب؛ لأن من يَغِرُّ ويخدع لا يستحق إلا الأدب والتعزير، ويحتمل أن يكون مراده الحد بالقتل؛ لأنها لا محالة قاتلة لمن سبق من الأمم، ملقية لهم في المهالك العظيمة والمتالف المردية.
(في عباد): من خلق الله.
(غررتهم بالأماني): الكاذبة.
(وأمم): الأمة: الجماعة من الناس.
(ألقيتهم في المهاوي): جمع مهواة وهي: الحفرة العميقة يقع فيها الجاهل بها.
(وملوك): من الجبابرة.
(أسلمتهم): من الاستسلام وهو: الانقياد.
(إلى التلف): إلى الهلاك المتلف.
(وأوردتهم موارد البلاء): المورد: الموضع الذي يورد منه الماء، وقد استعاره هاهنا في نقيضه من الهلاك والردى.
(إذ لا ورد ولا صدر!): الورد هو: الوصول إلى الماء، والصدر: هو الصدور عنه بالارتواء، وهو هاهنا كناية عن عدم الحيلة في الأمر، يقال: فلان لا يملك في هذا الأمر ورداً ولا صدراً، هذه إذ معمولة لما قبلها من الفعل، وهو قوله: أسلمتهم إلى التلف وقت لا حيلة لهم ولا تصرف.
(هيهات!): بَعُدَ ما يرجى منك من الخير وفيك لراحته، وبرهان ذلك وعلامته هو أن:
(من وطئ دحضك): الدحض هو: المكان الزلق، وأراد أنه من تمكن منك، وتوطن في حالك .
(زلق): أي زلت به رجله فلم تثبت ولم تستقر.
(ومن ركب لججك): اللجة هو : معظم الماء، وأراد ومن ركب سفن لججك.
(غرق): في بحارك.
(ومن ازوَّر عن حبالك ): ازورَّ عن الشيء إذا مال عنه وعدل، وغرضه مال عن الاصطياد بحبالك.
(وفق): للنجاة في أمره وللسعادة في عمله.
(والسالم منك): والذي سلم من خدعك وغرورك، وكان بمعزل عن كذبك وأباطيلك.
(لا يبالي أن ضاق به مُنَاخُه): غير ملتفت على ضيق مجلسه، وضنك موضعه، والمناخ: موضع الإناخة، واستعاره لموضع الاستقرار والكون في الأماكن.
(والدنيا عنده): بالإضافة إليه.
(كيوم حان انسلاخه): مثل يوم قد ذهب أكثره، وصار منسلخاً بورود الليل عليه.
(اغربي عني!): أي تباعدي بالغين المنقوطة والراء المهملة.
وفي بعض النسخ: (اعزبي): بالعين المهملة، والزاي المنقوطة، وهوتصحيف لا وجه له.
(فوالله لا أذل لك): أخضع وأكون في غاية الهوان لك.
(فتستذليني): أي فأكون ذليلاً عندك، ونصبه على أنه جواب للنفي في قوله: لا أذل لك.
(ولا أسلس لك القياد): القياد: الحبل الذي يقاد به الحيوان، وأراد ولا أرخيه لك.
(فتقوديني): به عند إرخائه، ولكن أملكه حذراً من ذلك.
(وايم الله): جمع يمين، وقد مر تفسيره.
(يميناً أستثني فيها بمشيئة الله): إشارة إلى قوله تعالى:{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً }[الكهف:23]، وانتصاب يميناً إما على المصدر كأنه قال: أحلف حلفاً، وإما على التمييز أي وايم الله من الأيمان العظيمة، والمعنى فيه: ولا تقولنَّ قولاً من الأقوال كبيراً كان أو صغيراً إلا متلبساً بمشيئة الله تعالى قائلاً فيه: إن شاء الله، فلهذا قال أمير المؤمنين: أستثني بمشيئة الله، يشير إلى هذا الأدب من الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
(لأروضنَّ نفسي رياضة): لأسوسنَّها سياسة في أكلها وشربها، وقد تقدم رياضتها بالتقوى، فرياضتها في المطعم هو أن:
(تهش معها): الضمير للرياضة، وتهش أي ترتاح، من قولهم: فلان يهش إلى سماع الشعر أي يرتاح له.
(إلى القرص): الواحد من الخبز.
(إن قدرت عليه): بشرط أن تكون قادرة عليه أيضاً.
(مطعوماً): أي طعاماً، وانتصابه على التمييز أي ممَّا تتطعم.
(وتقنع بالملح): أي وتكون قانعة بالملح من غير زيادة إن وجدته أيضاً.
(مأدوماً): أي إداماً، وانتصابه على الوجه الذي ذكرناه في مطعوماً، ويجوز أن يكونا منصوبين على الحال من القرص وبالملح، أي في حال كون القرص مطعوماً، وفي حال كون الملح مأدوماً به.
(ولأ دعنَّ مقلتي): المقلة: عبارة عن شحمة العين الجامعة لسوادها وبياضها.
(كعين ماء): كالعين التي ينبع منها الماء ويستقر فيها.
(نضب معينها): غار ماؤها وذهب، وأراد لأبكِينَّ حتى استفرغ دموعي كلها حتى لا أبقي منها شيئاً من خشية الله، وخوفاً من عذابه.
(مستفرغة دموعها): استفرغ الإناء إذا أذهب ما فيه وصار فارغاً.
(أتمتلئ السائمة من رعيها): السائمة هي: الأنعام التي تهمل على رءوسها من غير راعٍ لها، والرعي هو: النبات المرعي.
(فتبرك): للاستراحة عند الشبع، والبروك إنما هو في الإبل خاصة.
(وتشبع الربيضة): وهي الغنم، برعائها.
(من عشبها): وهو الحشيش.
(فتربض): والربوض للغنم والبقر.
(ويأكل عليُّ من زاده فيهجع!): الهجوع: النوم ليلاً، وأراد ويأكل عليُّ من زاده قرير العين ناعم العيش لذيذ النوم، لا يكدر ذلك مكدر، ولا ينغصه منغص.
(قرَّت إذاً عينه): عما يسوءها ويزيل لذتها.
(إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة): إذا كان متابعاً بعد تكرير السنين والأيام على الرياضة للنفس، وتأديبها على التقوى.
(بالبهيمة الهاملة): وهي المرسلة لترعى ليلاً ونهاراً من غير راعٍ لها، ولا حافظ يكلأها ويحفظها.
(والسائمة المرعية!): والتي هي غير معلوفة.
(طوبى): من الطيب كالكوسى من الكيس، لكن قلبت ياؤها واواً لانضمام ما قبلها، وهي فعلى بضم الفاء، وأراد الطيب حاصل.
(لنفس أدت إلى ربها فرضها): أوصلت إليه ما افترض عليها على الوجه الذي افترضه عليها، وفعلته فعلاً مطابقاً مرضياً.
(وعركت بجنبها بؤسها): البؤس: الضر والشدة يقال: بئس الرجل يبئس بؤساً إذا اشتدت حاجته وفقره، وأراد وقلبت جنبها في المضرة والحاجة تقرباً إلى الله تعالى، وطلباً لثوابه وفوزاً برضاه.
(وهجرت في الليل غمضها): الغمض: قلة النوم، وأراد أزالت نومها في عبادة الله وقياماً بحقه، وداومت على ذلك.
(حتى إذا غلب الكرى): يريد النوم.
(عليها): غشيها واستولى بجنده على حواسها.
(افترشت أرضها): يشير إلى أن الأرض صارت مهاداً لها من غير توطئة فراش، ولا تقرير قاعدة للنوم.
(وتوسدت كفها): لا وساد لها سواها، وغرضه من هذا كله خفة الحال وعدم الرفاهية عند النوم، وفي الحديث: ((أنه عليه السلام كان له فراش من أدم حشوه ليف، طوله ذراعان، وعرضه ذراع وشبر أو نحوه)) .
(في معشر): جماعة من الناس.
(أسهر عيونهم): أذهب نومها وأزال هجودها.
(ذكر معادهم): ما يذكرون من أمر القيامة، وذكر العودة إلى الله تعالى.
(وتجافت جنوبهم عن مضاجعهم ): التجافي هو: الارتفاع والتنحي عنها، أعني المضاجع، وهي الفرش ومواضع الاستراحة للنوم، وفي الحديث: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء منادٍ ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل)) .
وعن أنس بن مالك أن ناساً كانوا من أصحاب رسول الله يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، [فنزلت فيهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ }[السجدة:16]، وقيل: هم الذين يصلون صلاة العشاء الآخرة] لا ينامون عنها .
(وهمهمت بذكر ربهم شفاههم): الهمهمة: تردد الصوت في الصدر.
(وتقشعت بطول الاستغفار ذنوبهم ): قشع السحاب وانقشع إذا زال وتفرق، وأراد أن الله تعالى أزال عنهم الذنوب وقشعها بما كان من جهتهم من العناية، والاستغفار لربهم والتضرع إليه.
(46) ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله
(أما بعد، فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين): أطلب تكون ظهراً لي، وأستند إليه على إقامة حدود الله، وتأدية واجباته والقيام بفروضه.
(وأقمع به): قمعه إذا ردَّه وكفَّه عما أراد.
(نخوة): العظمة والتكبر.
(الأثيم): كثير الآثام.
(وأسد به أفواه الثغر المخوفة ): الثغر هو: موضع المخافة من فروج المدينة والبلدان، والسد للأفواه من الثغور من باب الاستعارة.
(فاستعن بالله): اطلب منه الإعانة.
(على ما أهمك): من أمور الدين والدنيا.
(واخلط الشدة بضغث من اللين): الضغث: الحزمة الصغيرة من حطب أو حشيش، وفي المثل: إنها لضغث على إبَّالة ، قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ }[ص:44]، وأراد تأديبه في سيرته بأن يمزج بين لين الأخلاق وشدتها، ولقد أحسن من قال:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له
... ... ... بوادر تحمي صفوه إن يُكَدَرا
(وارفق ما كان الرفق أرفق): يريد أن الرفق إنما يستحسن في مواضع يدريها العاقل، ويتفطن لها الذكي.
(واعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلا الشدة): عزمت على الشيء واعتزمت عليه إذا قطعت على فعله، وأراد اعتمد على فعل الشدة في المواضع التي لا يقوم غيرها مقامها.
(واخفض للرعية جناحك ): أي ضعه عن الارتفاع، من خفض الطائر جناحه إذا كسره للوقوع.
(وأَلِنْ لهم جنابك ): الجناب هو: الجانب، وغرضه سعة الخاطر واحتمال الأذى عنهم.
(آسِ بينهم في اللحظة والنظرة): اللحظة هي : النظرة بمؤخر العين، والنظرة هي: المرة من المقابلة.
(والإشارة): بيدك وعينك، وغير ذلك مما يفهم منه.
(والتحية): أي ولتكن التحية مستوية بينهم من جهتك ، كل هذا تفعله معهم:
(كيلا يطمع العظماء في حيفك): في أن تميل معهم.
(ولا ييأس الضعفاء من عدلك): ينقطع رجاؤهم، والمعنى في هذا هو أنه إذا ساوى بينهم فيما ذكر عرف العظماء حقهم، فلا يطمعوا من جهتك بالحيف معهم وإعطائهم أكثر من حقهم، ولا ييأس أهل المسكنة من أن تعدل بينهم فتنقصهم عن حقهم، وقد تقدم هذا في خطبة قد ذكرت.
(47) ومن وصية له عليه السلام للحسن والحسين عليهما السلام لما ضربه ابن مُلْجَم لعنه الله وأخزاه
[بسم الله الرحمن الرحيم]
(أوصيكما بتقوى الله): المراقبة بالإتيان بأوامره، والانكفاف عن مناهيه، وحقيقتها آيلة إلى أنه لا يفقدك حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك.
(وألاَّ تبغيا الدنيا): تطلباها، وترغبا في تحصيلها، وجمعها وادِّخارها.
(وإن بغتكما): طلبتكما وأرادتكما، فإن طلبكما لها شغل وغرور، وطلبها لكما مكر وبور.
(ولا تأسفا على شيء منها): يشتد حزنكما على أمر من الأمور منها.
(زوي عنكما): قبض وأخفي لمصلحة لا تعلمانها.
(وقولا بالحق): في تعلق الباء وجهان:
أحدهما: أن تكون للآلة كما تقول: كتبت بالقلم، ونجرت بالقَدُوْمِ، وأراد أن يكون الحق آلة في قولهما، حتى لا يمكنهما القول إلا به، كما لا يمكن الكتابة إلا بالقلم.
وثانيهما: أن تكون للحال، ويكون المعنى وقولا ملتبسين بالحق في جميع أحوالكما كلها.
(واعملا للأجر): أي من أجل الأجر، ولا يكون عملكما رياء ولا سمعة، ولا مخالفاً لمراد الله وثوابه.
وفي نسخة أخرى: (واعملا للآخرة): أي من أجل الآخرة وثوابها ونعيمها، كما قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ }[الأحزاب:29].
(وكونا للظالم خصيماً ): أي ذوي خصام وإنكار، ورداً له عما هو فيه من الظلم.
(وللمظلوم عوناً):أي ذوي عون له على أخذ حقه وإيصاله إليه.
سؤال؛ القياس في قوله: خصيماً وعوناً التثنية لكونهما خبرين عن مثنى، فأراه ترك تثنيتهما هاهنا؟
وجوابه: أما قوله: عوناً؛ فلأنه مصدر، وهو على حذف مضاف، أي ذوي عون، كما تقول: الزيدان رضى والعمران زور، وأما قوله: خصيماً فإنما ترك التثنية فيه؛ لأن فعيلاً وفعولاً مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع فيه، قال الله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ }[ق:17]، وقوله: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }[التحريم:4]، وقوله تعالى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الشعراء:16].
(أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي): ممن يتوجه عليَّ نصحه، وتجب عليَّ موعظته، وتعريفه بما يجب عليه، من ولد وأهل والإخوان من المسلمين الذين يسمعون كلامي ويبلغهم كتابي هذا.
(بتقوى الله ونظم أموركم): انتظامها وجمع الشمل فيها.
(وصلاح ذات بينكم): أحوال ما بينكم من المعاملات في المعاوضة والأمانات، وإيفاء الحقوق، والألفة والمحبة والقيام بطاعة الله تعالى في كل الأحوال.
(فإني سمعت جدكما صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ))) : وإنما كان ذلك لأمرين:
أما أولاً: فلأن في إصلاح ذات البين إصلاح القلوب والسرائر، ومتى صلحت كانت هذه الأعمال البدنية أقرب إلى الصلاح والسداد.
وأما ثانياً: فلأن ذات البين عبارة عمَّا ذكرناه من معاملات الخلق فيما بينهم، وما ذكره من الصلاة والصيام معاملة فيما بينهم وبين الخالق، وما هذا حاله فالأمر فيه أخف والحال فيه أسهل، فلأجل هذا كان إصلاح ذات البين أفضل لما ذكرناه.
(الله الله في الأيتام فلا تُغبُّوا أفواههم): الغب: أن ترد الإبل الماء يوماً وتدعه يوماً.
قال الكسائي: أغببت القوم إذا جئتهم يوماً وتركت يوماً ، وعن هذا يقال: زر غباً تزدد حباً، يريدون أنه في الزيارة في كل أسبوع يوماً، وأراد هاهنا إطعامهم كل يوم.
(ولا يضيعوا بحضرتكم): أي وأنتم حاضرون، لا يقع في حقهم تسهيل.
(الله الله في جيرانكم): والجار هو: من يكون بالقرب من دارك.
وحد ذلك: ما قاله الرسول عليه السلام فإنه أمر منادياً ينادي على باب المسجد: ((ألا إن أربعين داراً جار، أربعون هكذا ، وأربعون هكذا، وأومئ إلى أربع جهات)) ، وفي الحديث: ((الجيران ثلاثة، : فجار له حقوق ثلاثة: وهو الجار المسلم ذو الرحم، وجار له حقان: وهو الجار المسلم، وجار له حق واحد، وهو الجار المشرك، فله حق الجيرة لا غير)) .
(فإنهم وصية نبيكم): يشير إلى قوله عليه السلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرمنَّ جاره )) ، وقوله عليه السلام: ((إذا رميت كلب جارك فقد آذيته )).
(ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه يورثهم ): كما قال عليه السلام: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه )) ، وفي الحديث: ((لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه )) .
(الله الله في القرآن): يريد في إقامة حقه وتلاوته حق تلاوته، وتعظيمه، ورفع منزلته.
(لا يسبقكم إلى العمل به غيركم): أراد أن تكونوا أول من دعا إلى امتثال أوامره والانكفاف عن مناهيه، والانزجار بوعيداته كلها، والعمل بمقتضياته.
(الله الله في الصلاة): في المحافظة على أوقاتها والحث عليها وإتمام ركوعها وسجودها، وتمام هيئتها، وفي الحديث: ((مثل الذي لا يتم صلاته كمثل الحامل حملت حتى إذا دنا نفاسها أملصت ، فلا هي ذات حمل، ولا هي ذات ولد)) ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ }[الماعون:4-5]، يريد أنهم ينقرونها نقراً من غير خشوع ولا إخبات، ولا استيفاء أركان، يعبث أحدهم بلحيته، ويكثر التثاؤب والالتفات يمنة ويسرة، ولا يخطر على باله تعظيم من يناجيه، ويقوم بين يديه.
(فإنها عمود دينكم): يشير إلى قوله صلى الله عليه وآله: ((الصلاة عماد الدين، فمن هدمها فقد هدم الدين ))، وفي حديث آخر: ((لا خير في دين لا صلاة فيه )).
(الله الله في بيت ربكم): يريد الكعبة وكل مسجد فهو بيت الله، ولكنها أشرفها وأعظمها، ولهذا جعلت مثابة للناس وأمناً، ومطافاً للخلق يطوفون حولها تعظيماً لحالها، وتشريفاً لقدرها.
(لا تُخْلُوه ما بقيتم): عن الحج والاعتمار، والتطواف حوله.
(فإنه إن ترك): عن القصد إليه وتعظيمه بالحج والقيام بالمناسك كلها.
(لم تناظروا): في الهلاك وإنزال العذاب عليكم، وفي الحديث: ((إذا ترك هذا البيت أن يؤم لم يناظروا)) .
(والله الله في الجهاد): الجهد هو: الطاقة، وأراد إبلاغ الطاقة وبذل الوسع في حق الله تعالى.
(بأموالكم): إنفاقها بالصدقات لوجه الله تعالى، أو في إعزاز دين الله ببذلها في الجهاد.
(وأنفسكم): تعريضها للقتل بسبب أن تكون كلمة الله هي العليا.
(وألسنتكم): بقول الحق، ولا تأخذكم في الله لومة لائم؛ بقول الحق ولو على أنفسكم.
(وعليكم بالتواصل): التواصل: تفاعل من المواصلة بالخير والإحسان، وبذل المعروف واصطناعه.
(والتباذل): من المباذلة، وهو: أن يبذل كل واحد منكم معروفه لأخيه ما كان قادراً عليه.
(وإياكم والتدابر): من المدابرة وهو: التولي والإعراض عن المواساة والإعانة.
(والتقاطع): يقطع كل واحد أخاه عن معروفه وإحسانه.
(لا تتركوا الأمر بالمعروف): الحظ عليه والحث.
(والنهي عن المنكر): المنع منه بكل ممكن تجدون إليه سبيلاً باللسان واليد والقلب، وفي الحديث: ((القلب إذا لم ينكر المنكر نكس فجعل أعلاه أسفل)) يريد إما أنه يصير بمنزلة من لا قلب له لعدم انتفاعه به، وإما أن يريد أن الله تعالى يخذله، فمن أجل خذلانه ينقلب حاله في ذلك، فيصير منكراً للمعروف معترفاً بالمنكر مبالغة في ذلك وزيادة فيه.
(فَيُوَلَّى عليكم شراركم): فَيُوَلَّى إما منصوب؛ لأنه جواب النهي بالفاء، وإما مرفوع على الاستئناف فهو يولي، وغرضه أن الله يسلِّط عليكم شراركم بالقهر والاستيلاء عليكم، والضيم.
(ثم تدعون): بعد ذلك لكشف ما أنتم فيه من البلاء والضر.
(فلا يستجاب لكم): عقوبة على فعلكم ومكأفأة على ما ضيعتموه من تضييع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
(يا بني عبد المطلب): تشهير وإعلان بحالهم.
(لا ألفينَّكم): ألفاه إذا وجده، قال الشاعر:
فألفيته غير مستعتبٍ ... ولا ذاكر الله إلا قليلا
(تخوضون دماء المسلمين): تقتلون الجاني وغير الجاني.
(خوضاً): تأكيد ومبالغة في شأنهم في ذلك.
(تقولون: قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين): يريد تسفكون دماء المسلمين على غير وجهها، وتعتذرون بقتلي، يريد أن الغيظ والحنق والتشفي تحمل على الزيادة في القتل في أقارب القاتل وأهله، حتى لا يبقى منهم مخبر، وهذه كانت عادة العرب قديماً وحديثاً، إذا قتل منهم رئيس المبالغة في قتل قاتله، وإهدار دماء أهله وأقاربه كما كان في قتل بني بكر لكليب، وما فعله فيهم أخوه، فأراد عليه السلام النهي عن ذلك والكف عنه بقوله:
(ألا لا يقتلنَّ بي إلا قاتلي): من غير زيادة في ذلك كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ }[البقرة:178]، وكيف لا يكون ذلك وهو الذي شرع أمثلة العدل ليحتذى عليها وأوضح مسالك الحق ليهتدى إليها.
سؤال؛ أراه قال: (يا بني عبد المطلب) هاهنا، ولم يقل: يا بني هاشم، مع كون هاشم أجمع لكثير من بطون قريش؟
وجوابه؛ هو أن غرضه هاهنا ذكر من يعنيهم القتل، ويلحقهم عاره ويتعلق بهم ثأره، فلا جرم ذكر بني عبد المطلب لما كانوا أقرب رحماً وأكثر تلاصقاً بالرحم الماسة والقرابة الخاصة.
(انظروا إذا أنا مت): تفكروا في الأمر بعد موتي.
(من ضربته هذه): يحكى أن أمير المؤمنين خرج ليلة لتهجده فضربه ابن ملجم الملعون على قرنه، فجاءه الطبيب فأدخل رية على رأس المجس فخرج دماغه على رأس المجس، فقال الطبيب: يا أمير المؤمنين، اعهد عهدك؟ فإن عدو الله قد بلغ ، يريد أنه قد بلغ فيك مبلغه في إنفاد روحك وإهراقه.
(فاضربوه ضربة بضربة): يشير إلى المماثلة في القصاص من غير زيادة في ذلك.
(ولا يمثل بالرجل): في القتل.
وروى ما سمعه عن رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] أنه قال: (((إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ))) .
ويحكى أنه عليه السلام لما رأى عمه حمزة قد مُثِّلَ به يوم أحد، فرآه مبقور البطن قد أُكِلتْ كبده، فقال: ((أما والذي أحلف به لئن أظفرني الله بهم لأمثلنَّ بسبعين فنزلت الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ....}إلى آخرها[النحل:126])) .
سؤال؛ كيف جاز قتل الحسن بن علي لابن ملجم لعنه الله قصاصاً، ولأمير المؤمنين يومئذٍ أولاد صغار، ومذهبكم أنه لا يجوز استيفاء القصاص إلا إذا كبروا؟
وجوابه عند أصحابنا من وجهين؛
أما أولا: فلأنه حكموا بردته؛ بقول الرسول عليه السلام: ((أشقى الأولين عاقر ناقة ثمود ، وأشقى الآخرين قاتلك يا علي)) وأشقى الناس لا يكون إلا كافراً.
وأما ثانياً: فلأنه كان ساعياً في الأرض بالفساد، ولافساد أعظم من قتل أمير المؤمنين، فقتله عندهم إنما كان من جهة هذين الوجهين، لا بالقصاص، والظاهر من كلام أميرالمؤمنين أنه فاسق وليس كافراً، وأن قتله إنما كان على جهة القصاص لا غير.
(48) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية
(وإن البغي والزور يوتغان المرء في دينه): الإيتاغ: الإهلاك، يقال: فلان يوتغ دينه بالإثم إذا أهلكه.
(ودنياه): أي وهما يهلكان حاله في الدنيا، ويكدران ما هو عليه، وهذان الوصفان يختصان بمعاوية لما هو عليه من المخالفة لأمير المؤمنين، وتزويره في أقواله وأفعاله.
(ويبديان خلله عند من يعيبه): ويظهران نقصه ومعائبه عند من يريد نقصه.
(وقدعلمت أنك غير مدرك ما قُضِيَ ): يعني وأنت تعلم قطعاً ويقيناً أنك لا تقدر بالتحيل ولا بالقوة ما قدر الله.
(فواته): منك، وقضي بامتناعه عليك، ولا لك قدرة على تحصيله وإيجاده.
(وقد رام أقوام أمراً بغير الحق): يريد طلب قوم ولاية أمر الأمة بغير حق لهم في ذلك من الله، ولا من جهة رسوله.
(فتأولوا على الله): أول وتأول بمعنى، وهو: صرف الظاهر إلى غير وجهه لوجه ما، وفيه معنيان:
أحدهما: أن يريد أنهم تأولوا القرآن تصديقاً لما قالوه، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ }[النساء:59]، فقالوا لمن نصبوهم: أنتم أولوا الأمر بنص الله.
وثانيهما: أن يكون غرضه أنهم حلفوا على الله تعالى وتحكمواعليه بالأيمان، وفي الحديث: ((من يتألَّ على الله تعالى يكذِّبْه )) أي من يقسم على الله متحكماً لم يصدقه فيما حلف عليه، وخيب مأموله.
(فأكذبهم الله): إما على الوجه الأول فبقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة:124]، وإما على الثاني فبقوله: ((يكذبه الله)).
(فاحذر يوماً): يريد يوم القيامة.
(يغتبط فيه من حَمِدَ عاقبة عمله): الغبطة هي: حسن الحال، أي يحسن حال من كانت عاقبة أعماله فيه محمودة من أهل الدين، والصلاح والخير.
(ويندم): فيه.
(من أمكن الشيطان من قياده): من تمكن الشيطان من جذب زمامه.
(فلم يجاذبه): يملكه عليه ويأخذه من يده مخافة أن يملكه عليه.
(وقد دعوتنا إلى حكم القرآن): أي بما كان منك من الخديعة والمكر بالدعاء إلى كتاب الله تعالى وحكمه.
(ولست من أهله): الضمير إما للقرآن أي لست من أهل القرآن؛ لأن أهله الذين يعملون بأحكامه ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، وإما للحكم أي ولست أهلاً لحكمة لمخالفتك له في كل أمورك وأحوالك.
(ولسنا إياك أجبنا): بما كان من كفنا للحرب والمقاتلة، واستئصال الشأفة لك.
(ولكن أجبنا القرآن إلى حكمه): لما دعينا إليه فأجبناه محتكمين لأمره، واقفين عنده.
(49) ومن كتاب له عليه السلام إلى غيره
(أما بعد؛ فإن الدنيا مشغلة عن غيرها): المشغلة هي: الشغل، وأراد أنها ذات شغل عن الآخرة، فمن كان همه الدنيا لاجرم اشتغل بها عن طلب الآخرة، وإرادتها والعمل لها .
(ولم يصب صاحبها منها شيئاً): من لذاتها ونعيمها.
(إلا فتحت له حرصاً عليها): الحرص: أشد الرغبة في الشيء، قال الله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }[يوسف:103].
(ولهجاً بها): ولوعاً وكثرته طلباً لها.
(ولن يستغني صاحبها مما نال منها عما لم يبلغه منها): يعني أن كل ما لم يدركه الإنسان ولا يناله منها فهو مفتقر إليه، وما قد أحرزه منها لا يكفيه عما لم يدركه.
(ومن وراء ذلك): ما أدركه وما لم يدركه منها.
(فراق ما جمع): من حطامها ومتاعها.
(ونقض ما أبرم): ما أحكمه من أموره وأتقنه بالموت وذهابه عنه، وانقطاعه عن يده وانفلاته عنه.
(ولو اعتبرت بمن مضى): من الأمم الماضية، والقرون الخالية كيف تفرق ما جمعوه، وبطل عنهم ما توهموه، من إخلادهم إلى الدنيا، وانقطاعهم إليها.
(حفظت ما بقي): من عمرك وتداركته في فعل الأعمال الصالحة وإحرازها، أو يريد لو اتعظت بمن مضى؛ لكنت أحفظ على ما بقي في الاتعاظ والانزجار به.
(50) ومن كتاب له [عليه السلام] إلى أمرائه على الجيوش
[بسم الله الرحمن الرحيم]
(من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب المسالح): المسالح: جمع مسلحة وهي: الثغر والمرقب، قال الشاعر:
بكل قياد مسنِفة عنود ... أضرَّبها المسالح والغِوار
والمسنفة: بكسر النون هي: الفرس التي تتقدم الخيل في سيرها، وبفتحها: الناقة التي يُشَدُّ عليها بالسِناف وهو: الحبل.
(أما بعد؛ فإن حقاً على الوالي أن لا يغيِّره على رعيته فضل ناله): أراد أن الحق الواجب لله تعالى على من تولى أمر هذه الأمة وتصرف عليهم، أن الله تعالى إذا خصه بفضل وأعطاه كرامة من عنده لم يتغير عمَّا كان عليه قبل ذلك، من التواضع والرفق والنصيحة.
(ولا طَوْلٌ خُصَّ به): أي ولا يغيره ما خصه الله به من الكرم والطَّوْل، عن أن يزيده ذلك رفقاً وتواضعاً لهم.
(وأن يزيده ما قسم الله له من نِعَمِهِ): وأن يكون ما أمده الله به من النعم وخوله من العطاء.
(دُنُوّاً من عباده): قرباً منهم.
(وعطفاً على إخوانه): عوداً عليهم بالمصلحة، ورجوعاً عليهم بالمنفعة، من قولهم: عطفت الناقة على بوِّها إذا رجعت عليه بالإرامة .
(ألا وإن لكم عندي): المتوجه من حقكم، والواجب علي لله من أجلكم.
(ألاّ أحتجز دونكم سراً): أي لا أمنعه بل أفضيه إليكم وأطلعكم عليه.
(إلا في حرب): إلا ما كان مصلحة في تدبير الحرب، ومصالح الجيوش، فإنه لا ينبغي إفضاؤه إلى كل أحد؛ لما في ذلك من المصلحة في الأمر العام وهو الجهاد.
(ولا أطوي دونكم أمراً): أسرُّه، ويكون مطوياً لا يعلم بحاله.
(إلا في حكم): فإن إخفاءه مصلحة لما يرجع إلى الخصومة والتنازع فيها، وفي هذا دلالة على أن الحاكم لا ينبغي منه أن يكون مفتياً، وإنما يحكم في القضية بما أداه إليه رأيه فيها.
(ولا أؤخر لكم حقاً عن محله): محل الدين: أجله، ومحل الهدي: موضعه الذي يُنْحَرُ فيه، وأراد لا أؤخره عن موضعه الذي يستقر فيه .
(ولا أقف به دون منقطعه): يعني ولا أقطعه قبل وقت انقطاعه، وغرضه من هذا كله الوفاء بما يجب الوفاء به من حقوقهم، وإتمامها وإكمالها لهم.
(وأن تكونوا عندي في الحق سواء): لا فضل لأحدكم على الآخر في ذلك، ضعيفاً كان أو قوياً.
(فإذا فعلت ذلك): من نفسي لكم والتزمته.
(وجبت لله عليكم النعمة): بما هداكم إليه من الأحكام، وتعليمكم ما لا تعلمون من سنن من كان قبلكم.
(ولي عليكم الطاعة): بما وفيت به من الحقوق لكم.
(وألاَّ تنكصوا عن دعوة): ترجعوا على أعقابكم عند دعائي لكم، وتتأخروا عن مرادي.
(ولا تفرطوا في صلاح): تهاونوا في إصلاح حال تقدرون على إصلاحه وتتحققون وجوبه عليكم.
(وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق): الغمرات: جمع غمرة وهي: الماء الكثير، وأراد أنكم تجاوزا في الوصول إلى الحق الأمور الصعبة والأهوال العظيمة.
(فإن أنتم لم تستقيموا لي على ذلك): الذي أشرت إليه من امتثال الأمر والمناصحة في كل شيء.
(لم يكن أحد أهون عليَّ ممن اعوجَّ منكم): أراد أنه قد بلغ في الهوان كل غاية من أجل اعوجاجه عن الاستقامة على ما قلته والميل عنه.
(ثم أعظم له العقوبة ): التعزير البالغ والإهانة العظيمة، وفي هذا دلالة على جواز التعزير عند مخالفة الإمام لما يأمر به من أوامر الدين ومصالح الشرع.
(ولا يجد عندي فيها رخصة): أي ولا أتركها طلباً للرخصة في ذلك.
(فخذوا هذا من أمرائكم): أي الذي أشرت إليه ممن كان أميراً عليكم فهو حق واجب عليهم لكم.
(وأعطوهم من أنفسكم): ما فرض الله عليكم من طاعتهم، والامتثال لما أمروا به، وهو:
(ما يصلح الله به أمركم ): في الدين وجهاد أعداء الإسلام.
(51) ومن كتاب له عليه السلام إلى عماله على الخراج
(من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج): والخراج: هو عبارة عما يؤخذ على هذه الأراضي التي تجعل في يدي أهلها على خراج يؤدونه، افتتحها عمر وجعلها على هذه الصفة ، وهي سواد العراق، وهي ما بين عُبَّادان إلى الموصل في الطول، وما بين القادسية إلى حلوان في العرض ، واستمر ذلك بعد عمر فلم يغيره أمير المؤمنين.
(أما بعد؛ فإن من لم يحذر ما هو صائر إليه): من الأهوال العظيمة كالموت والقبر والإفضاء إلى القيامة، وغير ذلك من الفجائع.
(لم يقدِّم لنفسه ما يحرزها): عن هذه المخافات؛ لأنه إذا كان آمناً لها لم تخطر له على بال ولا هو في شيء منها.
(واعلموا أن ما كلفتم يسير): بالإضافة إلى نعم الله تعالى عليكم، وبالإضافة إلى ما يستحقه من التعظيم.
(وأن ثوابه): الذي جعله الله جزاء عليه.
(كثير): بغير نهاية لا يعلم حاله إلا الله.
(ولو لم يكن فيما نهى الله عنه من البغي والعدوان عقاب يخاف): يريد لو فرضنا فرضاً على جهة التقدير أنه لا يستحق في مقابلة هذه المناهي من البغي والعدوان شيء من العقوبات المخوفة.
(لكان في ثواب اجتنابه ما لا عذر في ترك طلبه): لكان ما وعد الله على اجتنابه من الثواب العظيم ما لا يعذر أحد في ترك طلبه، فكيف به وقد أوعد عليه هذه العقوبات العظيمة، وفي كلامه هذا دلالة على أن لطلب النفع موقعاً عظيماً في النفوس لا يخفى حاله،وينبغي المواظبة على تحصيله،وتشير إليه العقول، ويدل على أن توقي الضرر أدخل في الاجتناب من طلب النفع لا محالة، ولهذا لو لم يكن في ذلك إلا فوات النفع فكيف بحاله وقد اختص بضرر عظيم لا يقوم له شيء، فهو بالانكفاف لا محالة أحق.
(فأنصفوا الناس): حقوقهم.
(من أنفسكم): وأعطوهم إياها سمحة من جهتكم.
(واصبروا لحوائجهم): أي من أجل قضائها وإنفاذها.
(فإنكم خزان الرعية): تحفظون ما أعطوكم من أموالهم.
(ووكلاء الأمة): يشير إلى العامل على الصدقة هو وكيل صاحب المال، وأمينه على ما دفعه إليه، ولهذا فإن القول هو قوله على ما دفعه إليه.
(وسفراء الأئمة): الذين يختلفون بين الإمام ورعيته، ويسفرون في حوائجهم فيأخذون من الرعية ما أعطوهم، ثم يؤدونه إلى الإمام.
(ولا تحسموا أحداً عن حاجته): بالسين منقوطة من أسفلها، أي لا تقطعوه بما يشغله عنها، وفيه رواية أخرى: بالشين المنقوطة من أعلاها أي ولا تغضبوه ولا تؤذوه عن حاجته.
(ولا تحبسوه عن طَلِبَتِهِ): الطلبة: ما يطلب، أي ولا تمنعوه عن إدراك مطلوبه وإحرازه.
(ولا تبيعنَّ للناس في الخراج): لا تكلفوهم إذا طلبتم منهم الخراج.
(كسوة شتاء): يتوقون به البرد عند شدته.
(ولا صيف): ولا ما يتوقون به الحر عند فورته.
(ولا دابة يعتملون عليها): كالبقر للحرث والزراعة، والإبل للحمل، والدواب التي للاعتمال والاضطراب، فأما ما عدا ذلك من الدواب كالخيل والسوائم، وغير ذلك مما لا مضرة عليهم في بيعه فيؤخذ منه.
(ولا عبداً): للخدمة يضر بصاحبه فقده.
(ولا تضربنَّ أحداً سوطاً لمكان درهم): حاصل كلامه هذا أن طلب الخراج فيه سهولة من جهة الشرع ورفاهية لما ذكره من هذه الآداب، وتقرير هذه الوظائف، ولكن إن أعطى صاحب الخراج قُبِلَ منه وإلا فضربه حرام، لا يحل لمكان آدائه .
(ولا تمسنَّ مال أحد من الناس): لما ورد عن الرسول: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه )) .
(مصلٍ ولا معاهد): من أهل الصلاة والإسلام فإنه قد أحرز ماله بإسلامه، ولا معاهد من أهل الذمة كاليهود والنصارى، فإن هؤلاء لا يحل شيء من أموالهم لأحد.
(إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً): في أيدي البغاة عند قتالهم، ولهذا قال:
(يعدى به على أهل الإسلام): يتعدى عليهم بالقتال به، ويبغي عليهم:
(فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام): فيكون سبباً للقوة والاستظهار على المسلمين، ولا يُتْرَكُ في أيديهم.
(فيكون شوكة عليه): أي قوة.
(ولا تدِّخروا أنفسكم نصيحة): ولكن ابذلوها لله تعالى ولرسوله، وللأئمة ولسائر المسلمين، فالدين هو النصيحة.
(ولا الجند حسن سيرة): أي ولا تكتموا الجند تعليم حسن السيرة.
(ولا الرعية معونة): أي وأعينوا الرعية بما أمكن في أمورهم.
(ولا دين الله قوة): ولا تتدخروا عنه ما يكون قوة في حاله.
(وأبلوا في سبيل الله): أي أعطوا، من قولهم: أبلاه الله بلاءً حسناً إذا أعطاه، ومنه قولهم: أبليته معروفاً أي أعطيته.
(ما استوجب عليكم): ما طلب وجوب الإعطاء فيه، وهي الأمور المفروضة في الأموال، وقد عرفها وأعلم بها.
(فإن الله سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم): أي وضع صنائع ونعماً عندنا وعندكم، يعني معاشر الأئمة بما فضلهم، وأوجب طاعتهم، ومعاشر الرعية بما رزقهم، وأعطاهم من الخيرات.
(أن نشكره بجهدنا): أي من أجل أن نؤدي شكره على حد طاقتنا.
(وأن ننصره ما بلغت قوتنا): ننصر دينه مقدار القوة في ذلك.
(ولا قوة): لنا على ذلك الذي أوجبه علينا.
(إلا بالله): بتقوية الله لنا، وإعانته ولطفه بنا.
(العلي): المتعالي بنعمه، أو المتعالي عن شبه الممكنات بذاته.
(العظيم): فلا يمكن وصفه، أو لا يمكن بلوغ غاية شكر نعمه [جلّ وعلا] .
(52) ومن كتاب له عليه السلام إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة
وإنما فعل ذلك ليعلم أنه لم يبق شيئاً من معالم الدين إلا أوضحه، ولا طريقاً في تعليم الخير إلا سلكه، ولقد أبان لمن تحقق وأبصر، ورمز إلى المواعظ لمن اتعظ واعتبر.
(أما بعد؛ فصلوا بالناس الظهر حين تفيء الشمس مثل مربض العنز): اعلم أن المعتمد في تقرير الوقت المشروع للصلاة، ما رواه ابن عباس عن الرسول أنه قال: ((أمَّني جبريل عند باب البيت مرتين ، فصلَّى بي الظهر حين زالت الشمس، وصلَّى بي العصر حين صار ظلُّ كلِّ شيء مثله، وصلَّى بي المغرب حين أفطر الصَّائم، وصلَّى بي العشاء حين غاب الشَّفق الأحمر ، وصلَّى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، ثم عاد فصلَّى بي الظهر حين صار ظلُّ كلِّ شيء مثله، وصلَّى بي العصر حين صار ظلُّ كلِّ شيء مثليه، وصلَّى بي المغرب كصلاتي بالأمس، وصلَّى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل، وصلَّى بي الصبح حتى كاد حاجب الشمس يطلع، ثم قال: يا محمَّد، الوقت ما بين هذين الوقتين )) فهذه هي الأوقات المشروعة من جهة الرسول للصلاة.
فأما أمير المؤمنين فقد اختار هاهنا أموراً على قدر المصلحة نذكرها ونظهر وجهها، فبدأ بالظهر تأسياً بجبريل، فقدَّر فيها رجوع الشمس مثل مربض العنز في ناحية المشرق ، فاختار إدخال نصف الذراع في الوقت، ووجهه ما ورد عن الرسول: ((أبردوا عن الصلاة بالظهر، فإن شدة الحرِّ من فيح جهنم)) ، فالإبراد سنة على هذا خاصة في الحجاز، فإن الحرِّ فيه شديد.
(وصلوا بهم العصر والشمس بيضاء): ليس فيها اصفرار.
(حية): لم يضعف ضوؤها.
(في عضو من النهار): أي في بعض كثير منه.
(حين يسار فيه فرسخان): [ستة أميال] يأتي نصف بريد؛ لأن البريد أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، فيأتي الفرسخان ستة أميال من اثني عشر، وهي البريد، فكلامه في العصر يدل على بعض تأخر ليس بالكثير.
(وصلوا بهم المغرب حين يفطر الصائم): يعني حين تغيب الشمس، ولا خلاف أن وقت وجوبها متعلق بغروب الشمس، ولكن الخلاف إنما هو في أمارة الغروب.
(ويدفع الحاج ): يسير من عرفة إلى مزدلفة، فإنه أيضاً يتعلق بالغروب.
(وصلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق): يريد الأحمر.
(إلى ثلث الليل): يشير إلى أن وقت اختيارها إلى ثلث الليل.
(وصلوا بهم الغداة): يعني صلاة الصبح.
(والرجل يعرف وجه صاحبه): يشير إلى أن الإسفار هو المستحب، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر )) ، وقد ورد أنه كان في آخر عمره [يداوم] على التغليس بها، ثم لأصحابنا وللفقهاء في هذه الأوقات اضطراب عظيم، وليس من همنا ذكره.
(وصلوا بهم صلاة أضعفهم): يريد في صلاة الجماعة، كما جاء عن الرسول:((صلوا بهم صلاة أضعفهم )) .
(ولا تكونوا فتانين): تفتنون الناس بإطالة الصلاة عليهم جماعة، والفتنة: البلوى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ }[الدخان:17].
(53) ومن عهد [له عليه السلام] كتبه للأشتر النخعي حين ولاه مصر وأعمالها، لما اضطرب أمرمحمد بن أبي بكر رضي الله عنه وهو أطول عهد كتبه، وأجمعه للمحاسن
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين): اسم الله مكتوب في صدر كل كتاب من كتبه، وكل وصية من وصاياه، ولكنها أسقطت لما كانت مجموعة في كتاب واحد، وكيف لا وهو أحق الناس بالعمل على السُّنة وملاحظة أدبها.
(مالك بن الحارث الأشتر): يحتمل أن يكون تلقيبه بالأشتر؛ لانقلاب جفن عينه، ويحتمل أن يكون ذلك أخذاً له من لقب الديك، فإنه يسمى أشتر، وإنما لقب بذلك وصفاً له بالشجاعة، وتشبيهاً له في لقط الرجال في الحرب بالديك في لقط الحبوب وانتقائها.
ويحكى أن الطرمِّاح دخل يوماً على معاوية، وكان من أصحاب أمير المؤمنين، فقال له معاوية: قل لابن أبي طالب: إني قد جمعت من العساكر بعدد حبات جاورس الكوفة، وها أنا قاصده، فقال له الطرمِّاح: إن لعلي ديكاً أشتر يلتقط جميع ذلك، فانكسر معاوية لكلامه .
(في عهده إليه حين ولاَّه مصر): جعله أميراً فيها ووالياً على أمورها.
(جبوة خراجها): الجبوة والجباوة هو: أخذ الخراج، والواو فيهما على غير قياس، والوجه فيهما الياء.
(وجهاد عدوها): من كان معادياً لها.
(واستصلاح أهلها): القيام فيهم بما يصلحهم في أمور الدين والدنيا.
(وعمارة بلادها): بالعدل فيهم والسيرة الحسنة.
(أمره بتقوى الله): اتَّقاه في ملاحظة أمره ونهيه.
(وإيثار طاعته): آثرته بكذا إذا جعلته أحق به، وأراد إيثارها على كل شيء من الأعمال.
(واتباع ما أمر به): فعله والاحتكام له.
(في كتابه من فرائضه وسننه): مما أوعد على تركه بالعقاب، وهو الفرض، وما لم يكن حاله كذلك وهو عبارة عن السنة، والفرض والواجب أمر واحد، ومن خالف في ذلك فخلافه متعلق بالعبارة لا غير.
(الذي لا يَسْعَدُ أحد إلا باتِّباعها): امتثالها والإتيان بها، والسعادة هي: إحراز الجنة.
(ولا يشقى أحد إلا مع جحودها): إنكارها.
(وإضاعتها): إهمالها واطّراحها، والشقاوة: الخسارة بالوقوع في النار.
(وأن ينصر الله بيده): في تغيير المنكر.
(وقلبه): بأن يكون كارهاً له.
(ولسانه): بالنهي عنه والذم لمن فعله.
(فإنه جلَّ اسمه قد تكفَّل بنصر من نصره): حيث قال تعالى : {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ }[الحج:40].
(وإعزاز من أعزَّه): برفع درجته، وإعلاء كلمته وإنفاذها.
(وأمره أن يكسر نفسه عند الشهوات): كسرالنفس: وضعها عن العلو وإنزالها عند السمو، ومخالفتها في كل ما تريده وتهواه.
(ونزعها عند الجمحات ): كفَّها عند تقحمها والوثبات لها على ما يهلكها، ثم تلا قوله تعالى: (ف{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ })[يوسف:53]: في جميع حالاتها.
({إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي })[يوسف:53]: بالتدارك بالألطاف الخفية، والحماية عن الشر بالتوفيقات المصلحية.
واعلم: أن رياضة النفس هي من أهم المقاصد، وأجل المطالب بتصفيتها عن الأخلاق المذمومة؛ لتكون واصلة إلى سعادة الأبد، ونعيم السرمد.
(ثم اعلم يا مالك): ناداه باسمه على جهة الملاطفة.
(أني قد وجهتك إلى بلاد): مصر وأعمالها.
(قد جرت على أهلها دول قبلك): الدول: جمع دولة بالفتح، وهي: ما يتداوله الناس بينهم مرة لهذا ومرة لذاك.
(من عدل وجور): يريد من استقامة طرقهم في العدل، واعوجاجها في الجور.
(وأن الناس ينظرون من أمورك): أفعالك وأحوالك كلها.
(في مثل ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك): من المعاملة وحسن السيرة، وطيب المعاشرة، وغير ذلك من الأحوال.
(ويقولون فيك ما كنت تقوله فيهم): من الثناء الحسن أو خلافه.
(فإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسنة عباده): من الثناء الحسن والذكر الجميل، وفي الحديث: ((لو أطيع الله من وراء سبعين باباً لأظهره الله )) وهكذا حال المعصية.
(فليكن أحب الذخائر إليك): الذخيرة: واحدة الذخائر، وهو : ما يخبأ.
(العمل الصالح ): إما الذي أصلح حال صاحبه في القيامة، أو الصالح الذي يصلح للقبول عند الله تعالى.
(فاملك هواك): أراد لا تكون سيقة له، ولا يكون مالكاً لك فتهلك.
(وشُحَّ بنفسك عمَّا لا يحل لك): أراد اقبضها عن فعل ما لا يحل فعله، ولا تبذلها فيه.
(فإن الشح بالنفس): وهو منعها.
(الإنصاف منها فيما أحبت و كرهت): أراد أنك إذا ملكتها وشححت عليها فقد انتصفت منها في مرادها ومكروهها.
(وأشعر قلبك الرحمة للرعية): اجعل الرحمة شعاراً له تلاصقه في حالاته كلها.
(والمحبة لهم): الشفقة والحنو عليهم.
(واللطف بهم): في جميع أمورهم.
(ولا تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً): في معاملتك لهم، التي من طبعها العداوة والافتراس.
(تغتنم أكلهم): تجعل أكلهم بمنزلة الغنيمة التي لا تبعة في أخذها.
(فإنهم صنفان): يريد على تفاوت أخلاقهم وبيان طرقهم، لا ينفكون عن نوعين:
(إما أخ لك في الدين): وإن كانت رتبتك فوق رتبته، فأنتما سواء من جهة الأخوة في الدين.
(وإما نظير لك في الخلق): مماثل لك في الطبائع والسجايا.
(يفرط منه الزلل): يتقدم منه، ومنه الفارط وهو: الذي يتقدم القوم لطلب الماء.
(وتعرض لهم العلل): في أجسامهم ومقاصدهم وأغراضهم.
(ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ): ويعرض لهم الزلل والخطأ في تصرفاتهم عمدها وخطئها، وفي الحديث: ((الناس كإبل مائة، لا تجد فيها راحلة )) .
(فأعطهم من عفوك): عن زللهم.
(وصفحك): عن خطأهم.
(مثل الذي تحبُّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه): يريد اجعل حالهم بالإضافة إليك على مثل حالك بالإضافة إلى الله تعالى، فإذا كنت تحبُّ عفوه وصفحه مع استغنائه عنك، فهم أيضاً يحبُّون عفوك وصفحك، مع افتقارك إليهم في أكثر الأمور.
(فإنك فوقهم): بما جعل لك من الولاية عليهم، والتصرف في أمورهم.
(ووالي الأمر عليك فوقك): يريد والإمام الذي ولاَّك مَالِكٌ لتصرفك أيضاً.
(والله فوق من ولاّك): وهذه الفوقية هي فوقية القهر والسلطنة، والاحتكام والولاية، لا فوقية الجهة في جميع مواقعها هاهنا.
(وقد استكفاك أمرهم): طلب منك، والضمير لله تعالى أو للإمام، أن تكون كافياً فيما يحتاجون إليه من أمور دينهم.
(وابتلاك بهم): امتحنك بالتصرف عليهم واختبرك في ذلك.
(لا تنصبن نفسك لحرب الله): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد لا تفعل شيئاً من المعاصي التي تكون مؤدية لحرب الله تعالى، نحو أكل الربا، فإن الله تعالى أوعد عليه بالمحاربة، كما قال تعالى : {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }[البقرة:279].
وثانيهما: أن يكون غرضه لا تحاربنَّ أولياء الله من المؤمنين وأهل الصلاح، فتكون في الحقيقة محارباً لله بحرب أوليائه .
(فإنه لا يَدَىْ لك بنقمته): أي لا طاقة لك بعقوبته، وإنما حذفت النون للإضافة، واللام هاهنا مقحمة مؤكدة للإضافة.
(ولا غنى لك عن عفوه ورحمته): أي لا يعقل لأحد غناء من دون رحمة الله وعفوه لكل مخلوق، فكل غنى ليس فيه رحمة من الله ولا عفو فهو باطل كذب.
(ولا تندمنَّ على عفو): عن عقوبة عن جريمة لأحد من الخلق، فإن الله تعالى قد ندب إليه مطلقاً، ولا حالة يمكن قبحه فيها.
(ولا تبجحنَّ بعقوبة): التبجح: إظهار التكبر والفرح بما أصابه من تلك العقوبة، وأراد لا تفرح بذلك.
(ولا تُسْرِعنَّ إلى بادرة): البادرة: ما تسرع النفس إليه.
(وجدت عنها مندوحة): المندوحة: السعة، وأراد لا تعجل إلى ما تدعو إليه النفس من بوادر السوء من فعل أو قول، ما دام لك عنها سعة في تركها، والتغاضي عنها.
(ولا تقولن: إني مؤمر آمر فأطاع): يعني لا تحدثك نفسك وتزين لك الإسراع إلى البوادر، وتوقع في نفسك أن تقول: أنا أمير على ما تحت يدي من هذه الولاية، وأمير على هذه الرعية، فلا بد لهم من الانقياد لي في كل ما أمرت به.
(فإن ذلك إدغال في القلب): إفساد له وإبطال لقاعدة أمره.
(ومنهكة للدين): إضعاف له، يقال: نهكته الحمى إذا أضعفت قواه وحواسه.
(وتقرُّبٌ من الغِيَرِ): دنو من حوادث الدهر ونوازله.
(وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك): يريد وإذا وجدت في نفسك وانقدح في فؤادك لما ترى من العظمة والإمرة والحالة الجليلة بالسلطنة، ونفوذ الأمر لك :
(أُبَّهةً): العظمة والكبر.
(أو مَخِيلَةً): خُيَلاءَ في حالك.
(فانظر إلى عِظَمِ ملك الله فوقك): تفكَّر في نفوذ ملك الله عليك وقهره لك وسلطانه عليك.
(وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك): وأنه قادر من تدبيرك وتصريفك على ما لا يمكنك القدرة عليه من جهة نفسك.
(فإن ذلك): التفكر.
(يُطَامِنُ إليك): يخفض إليك.
(من طِمَاحِكَ): الطماح: علو النفس وارتفاعها ، وهو مثل الجماح.
(ويكف عنك من غَرْبِكَ): غرب الشيء: حدّه، وأراد يكفُّ حدَّة النفس وشرتها .
(ويفيء إليك ما عزب عنك من عقلك): فاء الشيء إذا رجع، وأراد يرجع إليك ما بَعُدَ من فهمك، وينبِّهك على خطئك في ذلك.
(وإياك ومساماة الله في عظمته): الترفع عليه في عظم كبريائه، من قولهم: سما إذا ارتفع وعلا، و إياك والعلو عليه والتكبر في ذلك.
(والتشبه به في جبروته): والمشابهة له فيما اختص به، وجعله رداءً له وهو الكبرياء.
(فإن الله يُذِلُّ كلَّ جبَّار): بما ادَّعى من تجبُّره وتكبُّره.
(ويُهِيْنُ كل مختال!): أهانه إذا أذلَّه، وأراد يُهِيْنُ كلَّ من تكبّر وتعاظم.
ثم إنه شرع في نوع آخر من الأدب، بقوله:
(أنصف الله): من نفسك في أداء حقوقه الواجبة عليك، وفروضه اللازمة.
(وأنصف الناس من نفسك): بأداء حقوقهم التي هي واجبة عليك.
(ومن خاصَّة أهلك): من يقرب إليك من أهلك وعشيرتك .
(ومن لك فيه هوى من رعيتك): يريد ومن تميل إليه ولك به اختصاص وميل، واتركهم في الحق على سواء ولا تميل عن الحق لأجل اختصاصهم بك.
(فإنك إلاَّ تفعل): ما أمرتك به فيهم من الإنصاف للحق منهم.
(تظلم): لا محالة من كان له حق عندهم.
(ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه): مخاصماً له على مخالفته لما نهى عنه من الظلم.
(دون عباده): أي يتولى خصومته بنفسه دونهم؛ لأن الأمر لله ذلك اليوم.
(ومن خاصمه الله): كان خصيماً له.
(أدحض حجته): حجة داحضة أي باطلة منقطعة عن الحق.
(وكان لله حرباً): لا ينزع عن محاربته.
(حتى ينزع): يقلع عما هو فيه من الظلم.
(ويتوب): يرجع إلى الله تعالى.
(وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله): إزالتها وتحويلها.
(وتعجيل نقمته): عقوبته وعذابه.
(من إقامة على ظلم) : سواء كان ذلك ظلماً في عِرْضٍ، أو ظلماً في حق، أو مال، أو غير ذلك من أنواع الظلامات، ولهذا نكَّره أي ظلماً أي ظلم كان.
(وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق): لما ورد في الحديث:((خير الأمور أوساطها ))، ولأن الوسط أقرب إلى جانب الإنصاف من غير إفراط في الأمر ولا تفريط فيه.
(وأعمَّها في العدل): أجمعها لمعانيه، وأشملها لمقاصده.
(وأجمعها لرضاء الرعية): فإن في رضاهم صلاح الأمر، وقوام قانونه.
(فإن سُخْطَ العامة يجحف برضاء الخاصة): الإجحاف: الإذهاب، ومنه سيل جحاف أي يذهب بكل شيء، وأراد أن العامة مهما سخطت عليك تغير الأمر، ورضا الخاصة لا وقع له مع ذلك لذهابه عند سخط العامة.
(وإن سُخْطَ الخاصة يغتفر مع رضاء العامة): الغفر: التغطية، ومنه المغفر، وغفر الله ذنوبه إذا غطاها وسترها، وأراد أن أهل البطانة والخاصة إذا غضبوا فإنه لا يضر مع كون العامة راضين.
(وليس أحد أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء): لأنهم يسألون الكثير ولا يقنعهم.
(وأقل معونة له عند البلاء): لنكوصهم وإعراضهم.
(وأكره للإنصاف): من أنفسهم الحق.
(وأسأل بالإلحاف): يريد الإلحاح، وألحف السائل في سؤاله إذا ألح، وعن هذا قيل: ليس للملحف مثل الرد .
(وأقل شكراً عند الإعطاء): لما يظهر في نفوسهم من استقلاله، وازدراء النعمة عليهم.
(وأبطأ عذراً عند المنع): يريد أنهم إذا منعوا عن العطاء فهم أبطأ الناس وأعظمهم تأخراً عن العذر عند منعهم، وحرمانهم عن المعروف والإحسان.
(وأضعف صبراً عند ملمات الدهر): ألم الخطب إذا خالط وعظم، وأراد أنهم لا يصبرون عن الخطوب العظيمة، والنوازل الكريهة.
(من أهل الخاصة): الأقارب والعشيرة، والبطانة من الأصحاب والأخدان.
(وإنما عمود الدين): الذي يستقيم به.
(وجماع المسلمين): معظم أمرهم، ومجتمع رأيهم.
(والعدة لأعداء الملة): والأمر الذي يعد ويهيأ لمن كان عدواً للدين والإسلام.
(العامة من الأمة): هم العامة من الأمة، فإنهم الأساس للدين، وعليهم تدوار عموده.
(فليكن إليهم صِغْوُك): صغا إلى كذا إذا مال إليه، ومنه قولهم: صغت النجوم إذا مالت عند غروبها، وأراد الإصغاء إلى أحاديثهم، والتفطن لما تقوله من غير إعراض عن ذلك.
(وميلك معهم): أراد أنك تكون مصاحباً لهم في أكثر حالاتك.
(وليكن أبعد رعيتك منك): أقصاهم مكاناً، وأكثرهم تأخراً.
(وأشنأهم عندك): أبغضهم إليك، والشناءة: هي البغض.
(أطلبهم لمعايب الناس): المعاب والمعيبة: العيب، وهو ما يكون فيه الذم واللوم.
(فإن في الناس عيوباً): وفي الحديث: ((إذا أراد الله بعبد خيراً بصَّره عيوب نفسه )) .
ولما قدم سلمان على عمر رضي الله عنه، قال له: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟ فاستعفى، فألحَّ عليه.
فقال له: سمعت أنك تجمع بين إدامين على مائدتك، وأن لك حلتين: حلة بالليل، وحلة بالنهار.
فقال: وهل بلغك غيرهما؟
قال: لا، فقال: أما هذان فقد كفيتكهما، فالعيوب كثيرة في الخلق.
(الوالي أحق من سترها): لأمرين:
أما أولاً: فلأن ذلك من حسن الرعاية، وقد استرعي وهذا من أعظمها.
وأما ثانياً: فلما في ذلك من المصلحة؛ لأنه إذا كان هو الساتر لها مع قدرته وقهره فغيره بذلك أحق وأولى.
(فلا تكشفنَّ عمَّا غاب عنك منها): بَعُدَ عنك خبره، ولم يظهر لك أمره.
(فإنما عليك تطهير ما ظهر لك): بالحدود المشروعة، والآداب المفوضة إلى آراء الولاة، ومصالح استصوابهم في الزيادة والنقصان.
(والله يحكم على ما غاب عنك): بما قد شرع من الوعيد العظيم عليها، والعقوبة في الآخرة.
(فاستر العورة ما استطعت): بقدر إمكانك وقوتك على ذلك، وفي الحديث: ((أنا ستار، فمن ستر على أحد من خلقي سترت عليه )).
(يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك): من العيوب التي تلام عليها، وعن هذا قال بعضهم:
لا تَكْشِفَنْ عن مساوى الناس ما ستروا
فيكشف الله ستراً من مساويكا
(أطلق عن الناس عقدة كل حقد): الحقد: الضغن الكامن، وأراد هاهنا أطلقه عن قلبك بإظهار البشاشة في وجهك، والسرور في قلبك.
(واقطع عنك سبب كل وتر): وتره حقه إذا نقصه إياه، قال تعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }[محمد:35]، والموتور هو: المقتول الذي لم يؤخذ بدمه، واستعاره من ذلك، وغرضه قطع التذكار لما سلف من الجرائم، والذحول المتقدمة.
(وتجاف من كل ما لا يضح لك): مما يوجب الحد، أويوجب التعزير والأدب، وفي الحديث أنه جاءه رجل فقال: يا رسول الله، إنّي قبَّلتُ امرأة فأعرض عنه، وقال: ((توضأ وصلِّ معنا)).
(ولا تعجلنَّ إلى تصديق ساعٍ): بمكر أو وشاية.
(فإن الساعي غاش): لك لا محالة بإيصاله إليك معائب الناس، ونقصهم عندك.
(وإن تشبه بالناصحين): لك لأنه في الظاهر يريد نصحك بما أهدى إليك من ذكر معائب الناس، وهذا هو الغش بعينه لما فيه من الفساد والرذالة .
(لا تدخل في مشورتك بخيلاً): يريد إذا جمعت جمعاً من إخوانك للاستشارة فيما يعرض من أمورك وإصلاح حالك وقوام دولتك، فلا يكن من جملتهم بخيل في معروفه وفضله، فإنه لا محالة.
(يعدل بك عن الفضل): إما عن أفضل الأمور وأعلاها، وإما عن الإحسان والمعروف، وكله نقص وخطأ.
(ويعدك الفقر): من أجل بخله وضنته، فلا يزال يتوهم الفقر، ويعمل عليه.
(ولا جباناً): الجبن: الخور والفشل، وأراد ولا تدخل من يغلب عليه الجبن والفشل، فإنه لا محالة:
(يضعِّفك عن الأمور): أي يقل جسرتك على الأمور المهمة، ويفتِّرك عن مقاساة الشدائد العظيمة مما يكون زيادة في قدرك، وعظماً في أمرك.
(ولا حريصاً): الحرص: التهالك في الحفظ والضِّنة.
(يزين لك الشره بالجور): يحسن في عينيك الحرص، فيكون ذلك سبباً في التسرع إلى الجور.
(فإن البخل والجبن والحرص): وغير ذلك من المساوئ.
(غرائز شتى ): طبائع وشيم وخلائق.
(يجمعها سوء الظن بالله): لأن من وثق بالله وبعطائه وخيره جاد بكل ما تحويه يده، اتكالاً على عوض الله وخيره، ومن أساء الظن بالله أقدم على هذه الخلائق .
(شر وزرائك من كان وزيراً للأشرار قبلك ): الوزير: هو الذي يتحمل الأثقال وينهض بالأعباء، وغرضه هو أن أبعدهم عن الحق وأعظمهم شراً عليك، من مارس الظلمة قبلك، وكان متحملاً لأثقالهم، فمن هذه حاله لا تعدم مضرة من جهته.
(ومن شركهم في الآثام): بدخوله معهم فيها، واتخاذهم إياه ذريعة إلى المآثم والمظالم.
(فلا يكوننَّ لك بطانة): لفساد دينه وإهلاك آخرته بما فعل من ذلك لغيره.
(فإنهم أعوان الأثمة): أعوانهم على تحصيل الآثام وكسبها.
(وإخوان الظلمة): المؤاخين لهم على أخذ المظالم وخضمها وقضمها، فإن فعلت ذلك كنت شريكاً لهم.
(فأنت واجد منهم): في الظلم والإثم.
(خير الخلف): بعدهم وأفضلهم في السيرة، وأحرزهم في الديانة.
(ممن له مثل آرائهم ونفاذهم): في الأمور، وحسن تدبيرهم وإتقان سياستهم.
(وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ): الآصار: جمع إصر، والأوزار: جمع وزر، وهي: الأعباء والأثقال عليهم ، فهؤلاء خير الخلف بعد السابقين لهم.
(ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه): يكون عوناً له وقوة لعضده، وردفاً له عند حاجته إليه في ذلك.
(ولا آثماً على إثمه): ولا يكون عوناً له فيما يكسبه من المآثم والأوزار.
(أولئك أخف عليك مؤونة): لسهولة الحال فيهم، وقلة أثقالهم.
(وأحسن لك معونة): في تدبير الأمور والإرشاد إلى الطاعة، والقربة إلى الله تعالى.
(وأحنى عليك عطفاً): الحنو: هو الشفقة، والعطف: الرحمة، وأراد أعظم عليك رحمة وشفقة.
(وأقل لغيرك إلفاً): يريد أنهم لا يألفون غيرك، ولا يخالطون سواك.
(فاتخذ أولئك خاصة بخلواتك ): عند المخاضة في الأمور المهمة في الأوقات الخالية والساعات الخفية.
(وحفلاتك): وعند المحافل العظيمة، والمشاهد المجتمعة.
(ثم ليكن آثرهم عندك): أحقهم بالإيثار والتمكن وعلو المنزلة.
(أقولهم بمرِّ الحق لك): أنطقهم بالحق، وإن كان مرّا على من سمعه؛ لأن من هذه حاله فهو ناصح لله ولك.
(وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه): وأكثرهم تأخراً عنك في الأمور التي كره الله لأوليائه فعلها والتلبس بها.
(واقعاً ذلك من هواك حيث وقع): يعني افعل ذلك وواظب عليه سواء كان مخالفاً لهواك أو موافقاً له، وانتصاب واقعاً على الحال من فعل مقدر تقديره ما فسرنا به كلامه، ومن هذه لابتداء الغاية.
(والصق بأهل الورع والصدق): كن لاصقاً بهم في جميع أحوالك وتقلباتك، وأكثر المخالطة لهم حتى كأنك ملاصق لهم.
(ثم رُضْهُمْ على ألاَّ يطروك): أدبهم بأدبك واجعلهم مرتاضين على ترك المدح لك، وإنما قال: رضهم، ولم يقل: انههم يشير بذلك إلى حسن الممارسة وجودة السياسة لما في النهي من الخشونة والانزواء مع الوحشة.
(ولا يبجحوك بباطل لم تفعله): التبجح: الفرح والسرور، وأراد ولا يدخلون عليك المسرة بالأباطيل والأكاذيب تقرباً إليك.
(فإن كثرة الإطراء): المدح.
(تحدث الزهو): الخيلاء والفخر.
(وتدني من العزة): التكبر والأنفة.
(ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء): يعني لا يكونان بالإضافة إلى تعظيمك وقربك وإنصافك وإدنائك وجميع تصرفاتك، على السوية من غير تفرقة بينهما، ولا فضل لأحدهما على الآخر.
(فإن في ذلك): يشير إلى المساواة لهما.
(تزهيداً لأهل الإحسان في إحسانهم): ترغيباً لهم عنه، لأنهم موقعون في أنفسهم عدم ثمرته وإبطال فائدته، فيدعوهم ذلك إلى تركه وترك التعلق به لما ذكرناه.
(وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة): التدريب : بدال بنقطة من أسفلها هو العادة، يقال: فلان له دُرَبَةٌ بالخير أي عادة، وبذال بنقطة من أعلاها هو: الحدة في الأمر، من قولهم: فلان ذرب اللسان أي حديده، والأول هو الوجه، وهو سماعنا في الكتاب، وأراد إما يكثر اعتيادهم لها، وإما يزيدهم حدة فيها وجرأة عليها.
(وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه): من ذلك يعني خصهم بحكم ما خصوا به أنفسهم من أحكام الإحسان أو بأحكام الإساءة.
(واعلم أنه ليس شيء بأ دعى إلى حسن ظن والٍ برعيته): أراد أن الذي يدعو الوالي إلى أن يكون محسناً للظن بالرعية، وإلى عدم التهمة لهم في جميع أحوالهم وأمورهم.
(من إحسانه إليهم): لأنه إذا كان محسناً عليهم دعاه ذلك إلى تحسين الظن بهم والمحبة لهم.
(وتخفيفه المؤونات عليهم ): يعني ولا تحملهم الأمور الصعبة، ولا تكلفهم الأشياء الشاقة.
(وترك استكراهه إياهم على ما ليس قِبَلَهم ): أي ولا يكرههم على أخذ ما لا يتعلق بهم ولا يكون متوجهاً عليهم، فإن هذه الأمور كلها تكون داعية إلى حسن ظنه بهم، وسلامة خاطره وقلبه في حقهم.
(فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك): يعني فاجتهد في تحصيل ما يكون سبباً في حسن ظنك بهم.
(فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً): يريد أن حسن الظن يسد عنك أبواباً كثيرة في المحتملات، لو اجتهدت في العناية في سدها وعلاجها لكان ذلك يحصل بنَصَبٍ عظيم ومكابدة شديدة، وحسن الظن يرفع ذلك عنك، ويغلق عنك تلك الأبواب والاحتمالات.
(وإن أحق من حَسُنَ ظنك به): من كان ظنك في حقه صالحاً لا ميل فيه ولا اعوجاج في طريقه.
(لمن حَسُنَ بلاؤك عنده): هو الذي أحسنت إليه وأعطيته وأوليته المعروف؛ لأنه يقع منه موقعاً عظيماً.
(وإن أحق من ساء ظنك به): من كان ظنك سيئاً في حقه.
(لمن ساء بلاؤك عنده): هو الذي حرمته إحسانك ومنعته معروفك.
(ولا تنقض سنة صالحة): تبطل العمل بها وتمحو رسمها بإهدارها.
(عمل عليها صدور هذه الأمة): الصدور: جمع صدر وهو العالم النحرير، وأراد أهل الصلاح من هذه الأمة المتقدمون في أوائلها، فإن عملهم عليها هو الحق.
(واجتمعت بها الألفة): يعني كانت سبباً في الألفة واتفاق الكلمة وجمعها.
(وصلحت عليها الرعية): وكانت سبباً في صلاح الرعية وجمع شملهم.
(ولا تحدثنَّ سنة تضر بما مضى من تلك السنن): تبطلها وتفسدها.
(فيكون الأجر لمن سنها): فعلها ودعا إليها.
(والوزر عليك): يعني الإثم متعلق بك.
(بما نقضت منها): في إبطالها وتغييرها، وأراد في جميع هذا كله ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنه لا سبيل لأحد إلى نقضه وإبطاله، وكيف لا وإجماعهم قاطع فيما تعلق به ، فيكون ما عداه خطأ وضلالة، وبدعة وجهالة.
(أكثر مدارسة العلماء): أراد إما الوقوف معهم والدرس عليهم، وإما أن يريد مناطقتهم في المسائل ومراجعتهم عليها، فإن مجالسة العلماء زيادة في الدين وإصلاح للبصيرة، وبعد عن الزلل، وتذكر لأحوال الآخرة.
(ومثافنة الحكماء ): المثافنة: المجالسة والقعود معهم، أخذاً لها من ثفنة البعير، وهو ما يقع على الأرض من أعضائه كالصدر والركبتين وغيرهما.
سؤال؛ من هم العلماء، ومن هم الحكماء، حتى فرق بينهما ها هنا؟
وجوابه؛ هو أن الحكماء هم الزهاد؛ لأنهم أحكم الناس، لأنهم آثروا الآخرة على الدنيا وأعرضوا عن الفاني، وقيل: هم العالمون العاملون بما علموا، فمن جمع إلى العلم العمل به فهو الحكيم بعينه.
(في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك): في معاملاتهم ومقدار ما يؤخذ منهم من الأموال في الضيق والسعة والرخاء والقحط، وغير ذلك من الأمور المصلحة للأحوال.
(وإقامة ما استقام به الناس قبلك): من الخلفاء في أمر الرعية، واعتمد ذلك في سيرتك معهم ومعاملتك لأحوالهم، فإن فيه صلاحاً لما أنت فيه.
ثم أردف ما ذكره بالرعية وبيان طبقاتهم بقوله:
(واعلم أن الرعية طبقات): يريد أنهم وإن اشتركوا في الرعاية وأنهم تحت حكم الله تعالى وحكمك، فهم على أنواع مختلفة وطبقات متفاوتة.
(لا يصلح بعضها إلا ببعض): أي أن كل واحد من هذه الطبقات صلاح في الطبقة المخالفة.
(ولا غنى ببعضها عن بعض): يريد أن كل واحد منها مفتقر إلى الأخرى كما قال تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً }[الزخرف:32]، فكل واحد منهم يعود بالمنفعة على صاحبه من غير عناية منه لذلك ولا إرادة.
(فمنها جنود الله): وهم عساكر الإسلام وأهل الإيالة ، وإنما قدمهم على سائر الطبقات لما يحصل للإسلام بسببهم من القوة والأبهة العظيمة، ولما يقع في نفوس أعدائه من أجلهم من الخيفة والمهابة، فإن بهم قوام الدين وشدة أمره.
(ومنها كُتَّاب العامة والخاصة): فأما العامة فهم الزرعة وأهل الحرف والصناعات، وأما الخاصة فهم البطانة والشعار المتولي من أهل دولته، والحافظين لأمره، والمتولين لإصلاح أحواله.
(ومنها قضاة العدل): الحكام والمتولين للفصل لشجار الخلق وقطع لجاجهم ودفع خصوماتهم، العادلين في أحكامهم من غير حيف ولا ميل فيها.
(ومنها عمال الإنصاف والرفق): أراد الكتاب والعمال على الخراج والصدقات وكُتَّاب الشروط وغير ذلك.
(ومنها أهل الجزية): وهم الذين أقروا على أديانهم مع التزام الجزية، إذا كانوا أهل كتب نحو اليهود والنصارى.
(والخراج من أهل الذمة): وهو ما يؤخذ من أموالهم على جهة الخراج مما يضطرب فيه من هذه الأموال.
(ومسلمة الناس): الضعفاء والمساكين، والمسلمين من الأمة.
(ومنها التجار): المضطربين في البلدان لزيادة الأموال ونمائها.
(وأهل الصناعات): العائدين بهذه الارتفاقات على الناس من أجل صناعاتهم.
(ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة): وإنما أخرهم لضعفهم، وازدراء الأعين لهم، ولهذا سماهم الطبقة السفلى إشارة إلى ما ذكرناه من حالهم.
(وكل قد سمى الله سهمه): وكل من ذكرت من هؤلاء قد أعطاه الله تعالى حظه من ماله.
(ووضع على حده وفريضته): يعني أنه أعطاه ما يستحقه من ذلك على قدر حاله وحاجته.
(في كتابه أوسنة نبيه [صلى الله عليه وآله] ): يعني تحديد نصيبه مذكور في الكتاب أو في السنة.
(عهداً منه عندنا محفوظاً): الضمير للرسول أي عهده إلينا، وعهده محفوظ عندنا لا نخالف في ذلك.
(فالجنود بإذن الله): بأمره في تجنيدهم وعلمه بما فيهم من النفع للإسلام.
(حصون الرعية): يلجأون إليهم عند النوائب، ويحرزون بهم أنفسهم عن أعداء الله وأعداء الإسلام.
(وزين الولاة): لما يحصل لهم فيهم من الجمال وحسن الهيئة والمنظر ونفوذ الأمر.
(وعز الدين): عن أن يضام أو تبطل قاعدة من قواعده، وتمحى رسومه وأعلامه.
(وسبل الأمن): طرق الأمان للخلق، وحراس الإسلام وحفظته.
(وليس تقوم الرعية إلا بهم): إذ لا سبيل إلى حفظ الرعية إلا بقوة الجند وشدة أمرهم وحالهم.
(ثم لا قِوَامَ للجنود): لا تنتظم أحوالهم ولا تستقيم صورتهم .
(إلا بما يخرج الله لهم من الخراج): فرضه من هذه الحقوق في جميع الأموال وأصنافها، ما أخرجت الأرض مكيلاً أو غير مكيل، وما وصف على هذه النقود وأموال التجارة، وغير ذلك من أصناف الأموال.
(الذي يتقوون به في جهاد عدوهم): يصرفونه في السلاح والكراع وآلة الحرب.
(ويعتمدون عليه فيما أصلحهم ): مما يحتاجون إليه من ذلك.
(ويكون من وراء حاجتهم): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن يكون ذلك زائداً على مقدار الكفاية لما يحصل في ذلك من التقوي؛ لأن مقدار الكفاية من غير زيادة لا تحصل به قوة ولا نهضة أصلاً.
وثانيهما: أن يريد أن يكون ذلك مهيئاً معداً، حتى إذا ندب إليه الحاجة كان حاصلاً من غير طلب.
(ثم لا قوام لهذين الصنفين): يعني الجند والرعية.
(إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكُتَّاب): فهؤلاء أيضاً الحاجة إليهم ماسة والنفع بهم كثير.
(لما يحكمون من المعاقد): يبرمون من هذه العقود من المعاوضات والأنكحة والإجارات وغير ذلك.
(ويجمعون من المنافع): بحفظ أموال الناس وضبطها حذراً من النزاع وخيفة من التظالم والتشاجر.
(ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها): يعني الحكام في حكوماتهم وأحوال الشهادات التي يسمعونها، والعمال بالإضافة إلى ما تحت أيديهم من الجبايات والخراجات العظيمة، والكتاب بالإضافة إلى كتابة الشروط وحفظها للأموال.
(ولا قِوَامَ لهم جميعاً): من جميع من ذكره من الجند، والرعية، والقضاة، والعمال، والكتاب.
(إلا بالتجار وذوي الصناعات): فالتجار يخوضون البر والبحر في تأدية المنافع من بلد إلى بلد، بحيث لا يمكن ذلك إلا بتصرفهم وعنايتهم، وأهل الصناعات عنايتهم وجهدهم في تحصيل هذه الارتفاقات للخلق، بحيث لا تنقام لهم صورة إلا معهم.
(فيما يجتمعون عليه من مرافقهم): يعني من تحصيل هذه المنافع بالاجتماع من جهتهم.
(ويقيمونه من أسواقهم): لأن إقامة الأسواق لا تقوم إلا بأهل الحرف والصناعات.
(ويكفونهم عن الترفق بأيديهم): يعني أن أهل الصناعات فيهم كفاية في صناعتهم عن أن يكون المنتفع بها هو المتولي لعملها، وهم كفاة في ذلك.
(مما لا يبلغه رفق غيرهم): يعني بحيث لا يمكن غيرهم أن يبلغ مبلغهم في ذلك، وهذا ظاهر لا يمكن دفعه، فإن أهل كل صناعة قد مهروا في تلك الصناعة، وحصَّلوا علومها والاطلاع على دقائقها بحيث لا يمكن حصول تلك الصناعة على وجهها ممن ليس من أهلها.
(ثم الطبقة السفلى): وهم آخر الطبقات، وأضعفهم حالاً، وأنزلهم قدراً.
(من أهل الحاجة): يعني الفقر، فإنه هو الحامل على الحاجة لهم إلى غيرهم.
(والمسكنة): وخمول القدر وركة الهمة.
(الذين يحق رفدهم): مواساتهم وإعطائهم.
(ومعونتهم): وإعطاءهم ما يستعينون به على حاجاتهم ومصالحهم.
(وفي الله لكل سعة): يعني وفي كرم الله تعالى وفضله وسعة جوده ما يسع الكل من هذه الطبقات، ويقيم حالته ويستغني به عن غيره.
(ولكل): من هؤلاء الذين ذكرناهم.
(على الوالي حق بقدر ما يصلحه): نظر خاص معه تصلح أحواله وتستقيم أموره، وليس يخفى ما يختص كل واحد من هذه الطبقات من النظر في مصالحه، فليس النظر في أحوال العلماء وأهل الفضل مثل النظر في أحوال الحاكة، والحدادين وسائر أهل الصناعات، وهكذا فإن أهل كل طبقة يخالف نظرهم سائر الطبقات، ولا استمداد لبعضها من بعض.
(فولِّ من جنودك): من رعيتك وأهل أمانتك.
(أنصحهم في نفسك): أعظمهم نصحاً لك ولمن وليته عليه، وأدخلهم في ذلك مراقبة.
(لله ولرسوله ولإمامك): فإن هذه الخصلة من أعظم ما يراعى في الولاة.
(وأنقاهم جيباً): أكثرهم أمانة، يقال: فلان نقي الجيب إذا كان غير خائن في أموره.
(وأفضلهم حلماً): أعلاهم في الحلم، وهو الانكفاف عند الغضب عن المحرمات.
(ممن يبطئ عند الغضب): لا يعاجل إليه ويتأخر عنه.
(ويستريح إلى العذر): يقبله إذا قيل له، وإنما قال: يستريح إليه مبالغة في قبوله؛ كأنه بحصول الاعتذار إليه عن الخطيئة يحصل له لذة ومسرة يستريح إليهما.
(ويرأف بالضعفاء): يكون في قلبه لهم رأفة ورحمة ورقة وتعطف.
(وينبو على الأقوياء): يرتفع حكمه عليهم ولا يُهِنْ ولا يضعف من أجلهم في ذات الله تعالى.
(ممن لا يثيره العنف): يحرك غضبه غلظته وقساوة قلبه وجرز أخلاقه.
(ولا يقعد به الضعف): عن استيفاء الحقوق وإبلاغها غايتها.
(ثم الصق بذوي الأحساب ): خالط واتصل بأهل الرئاسة ومن كان له حسب فاخر.
(وأهل البيوتات الصالحة): أهل التقوى والصلاح والعفاف والديانة، والبيوتات: جمع بيوت جمع بيت، ولا يجمع جمع الكثرة إلا بالألف والتاء، وذلك نحو دورات وطرقات وغيره، وهو: عبارة عن القبيلة والجماعات المجتمعة.
(والسوابق الحسنة): والعنايات المرضية في الدين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ }[يونس:2]، أي سابقة حسنة، وسميت المسعاة الجميلة قدماً لما كان السبق بالقدم، كما سميت النعمة يداً لما كان إعطاؤها باليد.
(ثم أهل النجدة): أراد الصق نفسك بأهل النجدة: أهل النفاسة في الحرب.
(والشجاعة والسخاء والسماحة): وغير ذلك من الخصال المحمودة وشرائف الخصال العالية.
(فإنهم جماع الكرم ): منتهاه وغايته ومجتمعه.
(وشعب من المعروف ): وأنحاء وأودية من المعروف والإحسان.
(ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما): يشير إلى كثرة الحنو والتعطف على هؤلاء، ويأمر بإصلاح أمورهم وأحوالهم كلها، وأن ينزَّلوا منزلة الأولاد في البر والكرامة.
(ولا يتفاقمنَّ في نفسك شيء قويتهم به): ولا يعظمنَّ في نفسك ويكبرنَّ، من قولهم: تفاقم الخطب إذا عظم وكثر، فإن ذلك يقلُّ من حق من هذه حاله .
(ولا تُحَقِّرنَّ لطفاً تعاهدتهم به): أي ولا تستقل شيئاً يكون عوناً لهم على أمورهم.
(وإن قلَّ): أي وإن كان حقيراً فهو عند الله كثير، وفي الحديث: ((لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً، لا تحقرنَّ من المعروف ولو أن تلقى أخاك بوجه منطلق)) .
(فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك): في كل أمورك عن اجتهاد في ذلك.
(وحسن الظن بك): ويدعوهم ذلك إلى حسن المعاملة والظنون الصادقة الحسنة فيك.
(ولا تدع تفقد لطيف أمورهم): أصغرها وأحقرها وأقلها قدراً عندك وعندهم.
(اتكالاً على جسيمها): أعلاها وأعظمها، والاتكال: هو الاعتماد، وفلان يتكل على كذا أي يعتمد عليه.
(فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به): يشير إلى أن اليسير من جهة الوالي له موقع عظيم تقر به نفسه، ويطمئن إليه خاطره، وينشرح به صدره.
(وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه): يريد ولما عظم من إحسانك وجليل امتنانك محل ومكان لا غنى لهم عنه.
(وليكن آثر رءوس جندك عندك): أعلاهم حالة وأحقهم بالأثرة والنفع من عظماء الجند وأكابرهم وأهل المكانة منهم.
(من واساهم في معونته): الضمير في واساهم لمن قدم ذكرهم من أهل الشجاعة والنجدة؛ فإنه في ذكرهم وذكر حكمهم، من جعلهم أسوته فيما يستعين به على نفسه ومن تحت يده وجعل لهم قسطاً منه.
(وأفضل عليهم من جَدتِهِ): وأعطاهم مما يجد من جهة نفسه.
(بما يسعهم ويسع من وراءهم): بما يكون فيه كفاية لهم وكفاية لما يموّنون من ورائهم.
(من خُلُوفِ أهليهم): الخلوف: جمع خلف وهو: من يخلف عليه الرجل من أهله ويموِّنه.
(حتى يكون همُّهم همَّاً واحداً في جهاد العدو): يشير أنه إذا فعل هذه الآداب مع من ذكرنا حاله من أهل النجدة، لم يتفرق همهم، مرة في طلب القوت وهم العيال، ومرة في جهاد الأعداء، فإذا كُفِيْتِ عنهم هذه المؤن أقبلوا على همٍّ واحد هو جهاد عدو الإسلام ونفع الله بهم.
(فإن عطفك عليهم): بالإحسان والتفقد والتعاهد بما ذكرته.
(يعطف قلوبهم عليك): بالمودة والنصيحة وحسن الظن بك، والعطف: هو الميل بالشفقة، ويقال للناقة: تعطف على البوِّ إذا كانت مائلة مشفقة عليه.
(ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم): أي ولا يحصل لك التمكن من نصيحتهم لك وإشفاقهم عليك إلا بالشفقة والتحنن على ما يحوطونه ويشفقون عليه من الأهلين والأولاد.
(على ولاة أمورهم): ما يلونه من المهمات في أنفسهم.
(وقلة استثقال دولتهم ): يعني ولا تستثقل بقاء أيامهم ودوام أمرهم ودولتهم.
(وترك استبطاء انقطاع مدتهم): يعني واترك الاستبطاء لانقطاع أيامهم، ولا تستعجل ذلك من نفسك.
(وافسح في آمالهم): أوسع فيما يرجونه من جهتك، ويحبون وصوله من عندك.
(وواصل في حسن الثناء عليهم): مرة بعد مرة؛ ليكون ذلك فضلاً على الاستمرار.
(وتعديد ما أبلى الله ذوي البلاء منهم ): يعني وعدد ما أعطى الله أهل الصبر منهم والابتلاء من حسن الثناء ومزيد الذكر، وجميل الأحدوثة في المواقف المشهودة والمشاهد المجتمعة.
(فإن كثرة الذكر بحسن أفعالهم): لما فعلوه من بذل الأرواح والسماحة بالمهج لوجه الله تعالى.
(تهز الشجاع): تحرك نشاطه على فعل أمثال ذلك، وتحمله على الازدياد منه.
(وتحرِّض الناكل ): وتجرِّئ الجبان على القتال والإقدام عند الحرب، والناكل: هو المتأخر عن القتال.
(ثم اعرف لكل امرئ منهم بلاء ما أبلى): يريد أن واحداً منهم إذا فعل مكرمة في الدين من قتال عدو أو إقداماً في حرب أو إصابة في رأي أو غير ذلك من البلاءات في الإسلام الحسنة، فاعرف ذلك له في نفسك وتحققه واذكره به، وأشهر أمره في ذلك، ولا تكتم له كل خصلة محمودة فعلها.
(ولا تضم بلاء امرئ إلى غيره): يعني إذا فعله على انفراده فلا تضم غيره معه؛ فإن ذلك يوقع في نفسه ويكسر همته عن فعل أمثاله، مع ما فيه من الكذب والتقول والافتراء.
(ولا تقصرنَّ به دون غايته ): يريد وإذا كان يستاهل مدحاً عظيماً وإشادة في ذكره كثيرة فلا تحسده ذلك، ولا تنقصه عما أعطاه الله؛ فإن ذلك عطية من جهة الله تعالى، فلا يقصر دون الوصول إلى غايتها، فإنه حقيق بذلك يستاهله.
(ولا يدعوك شرف امرئ أن تعظِّم من بلائه ما كان صغيراً): يعني أن بعض الجند وإن كبر مكانه عندك وعظم قدره في نفسك، وكانت عنايته قليلة في الدين وجهاد العدو؛ فليس كبر مكانه مما يكبِّر ما كان صغيراً من عنايته، ولا يزيد مكانه عند الله مع كونها حقيرة.
(ولا ضعة امرئ):كونه وضيعاً مستحقراً في العيون.
(إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً): فلا يدعوك صغر قدره إلى استحقار ما فعله مع عظمه عند الله وشدة حاله في موقعه الذي وقع فيه، ولهذا فإن الله تعالى لم ينس صنيع بلال وصهيب وغيرهما من الموالي، وخباب بن الأرت وكثير من ضعفاء المسلمين فيما فعلوه في بدر، وأثنى عليهم الثناء العظيم، ولم يحتقر أقدارهم في ذلك، وأعطاهم الجنة مع رضوانه الأكبر.
ولقد بالغ أمير المؤمنين في الوصية بحال هؤلاء، وأنزلهم هذه المنازل الكريمة، وما ذاك إلا لعظم موقعهم في الدين، وشرف مكانتهم في العناية فيه.
(واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب): ومن جملة ما تراعيه من الآداب أن الأمور التي تقهرك، وأمر مضلع إذا كان قاهراً لصاحبه، والضلع: العرج، فاردده إلى من هو أعلم بحاله، وأقدر على إصداره منك.
(ويشتبه عليك من الأمور): فلا تدري كيف تصيره، ولا تعلم حاله في إيراده وإصداره.
(فقد قال الله سبحانه لقوم أحب إرشادهم): يشير إلى الصحابة رضي الله عنهم، فإن الله خاطبهم خطاب من يريد الرشاد بهم، حيث قال، ثم تلا هذه الآية:
({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ })[النساء:59]: بامتثال أوامر الله والانكفاف عما نهى عنه ورسوله .
({وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ })[النساء:59]: يعني المتولين لإصلاح أحوالكم والقيام بأموركم.
({فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ })[النساء:59]: من أمور الدين ولم تعلموا حاله وحكمه.
({فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ })[النساء:59]: تعالى .
({وَالرَّسُولِ}).
(فالرد إلى الله أن نأخذ بمحكم كتابه ): يعني إن اعتاص على أفهامكم أمر من الأمور الدينية فلم يمكنكم اقتباسه من أفهامكم واجتهاده بآرائكم الصائبة، فارجعوا به إلى كتاب الله، فإنه شامل لحكمه، لا يغيب عنه، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام:38].
(والرد إلى الرسول الأخذ بسنته): يعني فإن لم تجدوه في الكتاب لغموضه ودقة استنباطه منه فردوه إلى السنة.
(الجامعة): للأحكام كلها، أو الجامعة لكتاب الله تعالى .
(غير المفرقة): التي لا تفريق فيها ولا تناقض في شيء من أحكامها لما في كتاب الله تعالى.
سؤال؛ فِيْمَ هذا التنازع الذي ذكره الله، وكيف يكون الردُّ إلى الكتاب والسنة، وهل فيه إشارة إلى بطلان العمل على القياس ؟
وجوابه؛ أما التنازع فيحتمل أن يكون في المقدرات التي لا مجال للقياس فيها وهي أكثر العبادات، فإن معظمها محكمات من جهة الشارع، لا اهتداء لنا إلى معانيها، ولا تجري فيها الأقيسة، ويحتمل أن يكون ذلك في جميع الأحكام كلها.
وأما كيفية الردِّ فما كان مقدراً فالحكم فيه موكول إلى الكتاب والسنة ونصوصهما، وما يجري من جهتهما، ولا أصل لها سواهما، إذ لا يعلم التقدير إلا بأمر غيبي، وليس ذلك إلا ما يكون من لفظ الشارع واقتراحه ، وما كان من الأحكام غير مقدر فهو موكول إليهما أيضاً، بالنظر في ظواهرهما ونصوصهما وأخذ الحكم من ذلك.
قوله: هل في الآية إشارة إلى ردِّ القياس وإنكاره؟ فهو فاسد؛ لأن العمل بالقياس مردود إلى الكتاب والسنة وأخذه منهما، فكيف يقال: إن فيها إشارة إلى بطلانه.
ثم ذكر حال القضاء وما يجب مراعاته فيه، بقوله:
(ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك): يريد أنه لابد للناس من حاكم يفصل شجارهم، ويقطع مواد خصوماتهم، ويوِّصل إلى كلٍ حقه ؛ لأن ترك ذلك يؤدي إلى دوام التخاصم ويثير التظالم بين الخلق، وهو من أهم قواعد الشريعة وأعلاها بالمحافظة والمراقبة، فاختر له أحق الناس بالفضل من الرعية التي تحت يدك، وأعلاهم همة في الدين، وأعظمهم:
(في نفسك): بالإضافة إليك وإلى فراستك فيه وتفكرك في حاله، لا تكليف عليك سوى ما ينقدح في نفسك من ذاك.
(ممن لا تضيق به الأمور): ينزعج ويفشل عند ازدحام الأحكام والأقضية وتشاجر الخصوم وكثرة الدعاوي فتضيق نفسه.
(ولا تمحكه الخصوم): المحك هو: اللجاج، يقال: محكته فامحك كما يقال: خاصمته فخصمته.
(ولا يتمادى في الزلة): يعني أنه إذا زلَّ فليس يتمادى فيها بالإصرار، بل لا يتمالك في تداركها والرجوع عنها.
(ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه): الحصر هو: العي، وأراد أنه لا يعيا عن الرجوع إلى الحق إذا تحقق ذلك وتيقنه.
(ولا تشرف نفسه على طمع): يعني ولا تتطلع نفسه إلى تحصيل الأطماع، من قولهم: أشرفت على كذا إذا كان مطلعاً عليه، والغرض أنه بعيد عن الورود في المطامع.
(ولا يكتفي): في قضائه وحكمه.
(بأدنى فهم دون أقصاه): بسابق النظر والفهم من دون أن يكون تابعاً لمنتهى ذلك وغايته بالتدبر والتفهم والإبلاغ.
(أوقفهم في الشبهات): أكثر توقفاً في الأمور المشتبهة.
(وآخذهم بالحجج): أي وأقطعهم عند ظهور الحجة الواضحة.
(وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصوم ): البرم هو: السآمة والملل، وأراد أنه لا يكون سائماً بمراجعة أهل الخصومات مالاًّ لها؛ لأن ذلك يؤدي إلى تغير حاله وطيشه وفشله.
(وأصبرهم على تكشف الأمور): بالملمات والدواهي العظيمة، وأراد عند ظهورها وبدوها، يقال: كشفته فانكشف وكاشفته بالعداوة إذا بدأته بها، وفي الحديث: ((لو تكاشفتم ما تدافنتم )) أي لو أظهر بعضكم لبعض عيبه.
(وأصرمهم عند اتضاح الحكم): أفصلهم للقضية، وأقطعهم للجاج الخصوم عند قيام البينة، ووضوح الحجة، والمعنى في هذا أنه لا يقدم من غير بصيرة، وإذا حصلت البصيرة فهو غير متردد في الإنفاذ لقضائه وحكمه.
(ممن لا يزدهيه إطراء): أي لا يستخفُّه مدح.
(ولا يستميله): إلى الحكم بالباطل.
(إغراء): من يغري، وحث من يحثه على ذلك.
(أولئك قليل): يريد المستحقين لهذه الأوصاف العاملين على ما قلته من هذه الوظائف، ولقد صدق عليه السلام في مقالته هذه، فإن أكثر أئمة الزمان يعدم فيهم مراعاة هذه الصفات فضلاً عن حكامهم وولاة أمر حكمهم.
(ثم أكثر تعاهد قضائه): تفقده مرة بعد أخرى، والمطالعة لأحكامه الصادرة من جهته وإنفاذاته، وراقبها بعين كالية.
(وأفسح له في البذل): أمدَّه من جهتك بالعطاء وارزقه رزقاً غامراً له.
(ما يزيح علته): أي يزيلها عن الرشوة والتباعد عن الأطماع الباردة والتهور فيها.
(وتقل معه حاجته إلى الناس): يريد أنك إذا أعطيته عطاء فاضلاً لم يحتج إلى أحد من الخلق في قليل ولا كثير.
(وأعطه من المنزلة لديك): من رفع المكانة وإشادة المنزلة من جهة نفسك.
(ما لا يطمع فيه أحد من خاصتك): الضمير في قوله: فيه له معنيان:
أحدهما: أن يكون عائداً إلى الحاكم، وأراد ما لايطمع أحد من الخاصة في السعاية به إليك، ويأمن ذلك.
وثانيهما: أن يكون عائداً إلى نفس المعطي، وغرضه وأعطه من الإنصاف ما لا يطمع فيه أحد من الخاصة فيكون له مثل حقه.
(ليأمن بذلك): ليكون على ثقة وأمن من وقوع إنصافك له ورفع منزلته عندك.
(اغتيال الرجال ): غدرهم ومكرهم به من حيث لا يشعر ولا يدري.
وفي نسخة أخرى: (اغتياب الرجال): أي أن يغتابوه بحضرتك وفي وجهك؛ لما يرون من شدة إنصافك له وارتفاع درجته عندك، فلا ينطقون فيه بما يكرهه منهم.
(فانظر في ذلك نظراً بليغاً): الإشارة بقوله: في ذلك يريد أمر القضاء؛ لأنه يتكلم فيه، ويحتمل أن يكون عاماً لجميع ما أسلفه من الآداب كلها، والأول هو الوجه.
(فإن هذا الدين قد كان أسيراً): يشير إلى ما كان قبل النبوة من أمر الجاهلية، يعني لا حكم له .
(في أيدي الأشرار): من حكَّام الجاهلية نحو عامر بن الظرب وغيره من الكهان، نحو شق وسطيح وغيرهما.
(يعمل فيه بالهوى): من غير هدى من الله بنبي ولا كتاب منير من عنده.
(وتطلب به الدنيا): حطامها والرئاسة فيها نحو ما كان من حديث الحمس ، وما كان من وضع القيافة في بني مدلج، ونحو البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغير ذلك من الجهالات والضلالات، حتى جاء الله بالنور والضياء بالرسول والقرآن، فأمات هذه البدع ومحاها، وأحيا ما اندرس من السنن وأعلاها.
ثم ذكر حال العمال على جباية الخراجات، بقوله:
(ثم انظر في أمور عمالك): جباة الخراج إليك والكتَّاب وأهل الديوان وحفَّاظ الجيوش، ومن كان مستعملاً على عمل من الأعمال لك.
(فاستعملهم اختياراً): من جهة نفسك لما ترى من صلاحيتهم لتلك الأعمال ومطابقتهم لإتقانها وعملها.
(ولا تولهم محاباة): مصانعة لهم ومداهنة وميلاً عن الحق في ذلك.
(وأثرة): الأثرة هي: الاسم من الاستئثار، وأراد وإيثاراً لهم على ذلك العمل من غير استتحقاق، ومحبة لا ستبدادهم به.
(فإنهم أجماع من شعب الجور والخيانة): الأجماع جمع جمع، ويروى:
(جماع): أخذاً له من قوله عليه السلام: ((الخمر جماع الآثام ))، وأراد أنهم مجموعون من شعب الجور والخيانة، يشير بذلك إلى أنهم مطبوعون على ذلك مجبولون عليه، فما أحوجهم إلى المراقبة لأحوالهم والمطالعة لتصرفاتهم.
(وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء): فاختر منهم وتحرى ممن كان له تجربة في ذلك وحياء، فلعل من يكون بهذه الصفة بمنعة عن التهور في المطامع والوقوع في المآثم بالخيانة، والإقدام على الأمور المحظورة.
(من أهل البيوتات الصالحة): ممن يشار إليه بالصلاح من القبائل وأهل المنازل الرفيعة.
(والقدم في الإسلام المتقدمة): ومن له عناية في الدين وقدم راسخة .
(فإنهم أكرم أخلاقاً): عن أن تتطرق إليهم التهمة.
(وأوضح أعراضاً ): عرض واضح إذا كان نقياً، وأراد أنهم أبعد عن الخيانة فيما اعتملوا عليه من الولايات.
(وأقل في المطامع إسرافاً ): أراد وإن بدا منهم يوماً مطمع من المطامع فهو قليل لا إسراف فيه، لما يحذرون من اللوم ويخافون من الفضيحة.
(وأبلغ في عواقب الأمور نظراً): يعني وأنظارهم فيما يؤمل من العواقب بالغة في الجزالة والحصافة مبلغاً عظيماً.
(ثم أسبغ عليهم الأرزاق): أفضلها على مقدار كفايتهم وأوسعها عليهم.
(فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم): في القيام بأعمالهم التي يختصون بها وزيادة في عظم حالهم؛ لما يحصل بالقوة من الشيار والأُبهة.
(وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم): ويكون فيه استغناء عن الخيانة فيما هم فيه؛ لأن أكثر ما تحصل به الجرأة على الخيانة لمن هذه حاله، هو الفقر إليه والحاجة الماسة من أجله.
(وحجة عليهم إن خالفوا أمرك): ومبالغة في وجوب الحجة عليهم مع المخالفة فيما أؤتمنوا عليه من ذلك، إذ لا عذر لهم في ذلك مع الغنى والتمكن والبسطة في الرزق.
(وثلموا أمانتك): بالخيانة التي هي خلاف الاستقامة، والتي هي ثلم في الدين والأمانة.
(ثم تفقد أعمالهم): راقب ما وضعت لهم من تلك الأعمال وأرصدتهم لحفظها وأخذها.
(وابعث العيون): الحراس وأهل الحفظ.
(من أهل الصدق والوفاء ): ممن لا يكذب فيما ينقله إليك من أفعالهم، ولا يخون عهداً فيما قلته له من أجلهم، وعهدته إليه من إبلاغ أسرارهم إليك.
(فإن تعاهدك في السر لأمورهم): تفقدك لها في الخفية والاطلاع عليها سراً.
(حدوة لهم): بعث لهم عليها وحث على حفظها وصيانتها.
(على استعمال الأمانة): التي تحت أيديهم لك واستصحابها ومدوامتها، وكفاً لهم عما يخطر لأحد منهم على باله من خلاف ذلك.
(والرفق بالرعية): أي وحث على الرفق بالرعية؛ لأن أحوالهم إذا كانت على هذه الهيئة من المراقبة كان ذلك أدعى إلى ما ذكره، وأبعد من الخيانة وعن تطرق التهمة.
(وتحفَّظ من الأعوان): من الخدم والجند والكتاب وسائر أعوان الدولة، وغرضه أنه يملك حذره في ذلك ويراقب أحوالهم.
(فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة): فيما اعتملته عليه من العمالات، أو في غيرها مما يتعلق بالدولة والرعية في مال أو خان في أي وجه من الخيانات.
(اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك): يشير إلى أن العمل في ذلك على سابق الرأي، وأول الظن لا وجه له؛ لأنه يطرق خللاً عظيماً، ويؤدي إلى بطلان النظام واختلال أحوال العمال، ولابد في ذلك من غلبة ظن قوية تكون حاصلة من جهة العيون بأخبار مختلفة، بحيث لا يتطرق إليهم التواطؤ في ذلك.
(اكتفيت بذلك شاهداً): على صحة ما جنى، ولم يراع قيام البينة العادلة وتعديل الشهادة عند الحاكم، بل ذلك يكون كافياً في الإقدام على الأدب عليه.
(فبسطت عليه العقوبة): أذقته وبالها.
(في بدنه): بالضرب وصبِّ جلدات النكال عليه.
(وأخذته بما أصاب من عمله): يعني أنك تخمِّن الأمر في مقدار ما خان في تلك الولاية وأتلف من أموال الله، فتأخذه به وتقتطعه من ماله.
ويحكى أن عمر بن الخطاب استعمل خالد بن الوليد في بعض الولايات، فاتهمه في الخيانة فيها، فضرب بسهام الرأي في ذلك، فرأى أنه قد استغرق في تلك الولاية نصف ماله فقاسمه في نصفه، حتى لقد أخذ منه فردة نعله ونصف عمامته ، حراسة لأموال الله عن الإهمال، ومراقبة للولاة بالأعين الكالية.
(ثم نصبته): بعد ذلك.
(بمقام المذلة): الصغار والمهانة.
(ووسمته بالخيانة): علمته للناس بأنه خائن في عمالته حتى لا يعتمل على عمل قط، ولا يؤمن في قليل ولا كثير.
(وقلدته عار التهمة): جعلته بمنزلة القلادة في عنقه، وكل ذلك مبالغة في الأمر، وحفظ للدولة ومراعاة لأحوال السياسة والإيالة.
ثم عقب ذلك بذكر الخراج والتعهد لأحواله، بقوله:
(وتفقد أمر الخراج): وهو عبارة عن جميع الأموال المأخوذة من الخلق من أموال المصالح وغيرها، ثم هو ضربان:
فالضرب الأول من ذلك:
أموال المصالح وهي الفيء، والأموال المضروبة للخراج، والجزية، واللقط، والأموال التي لا مالك لها، فهذه كلها مصروفة في مصالح الدين، في العلماء، وإصلاح الطرقات، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة، وما تكون مصلحته راجعة إلى جملة الدين، وهل يعطى الفقير الذي لا مصلحة فيه؟ فيه تردد للنظر، وقد كان ابن عمر يعطيه.
الضرب الثاني من ذلك:
أموال الفقراء وهي عبارة عن الزكوات، والفطر، والكفارات، والنذور المطلقة، فهذه لا يجوز صرفها في المصالح، وإنما هي مصروفة في الأصناف الثمانية التي ذكرها الله في كتابه، ولها أحكام مخصوصة ليس هذا موضع ذكرها.
(بما يصلح أهله): بما يكون نظراً في صلاح أهله، وتعهد لأحوالهم من أجله.
(فإن في صلاحه): بالحفظ والصيانة.
(وصلاحهم): بالتخفيف والرفق في أحوالهم.
(صلاحاً لمن سواهم): من الجند والديوان بحفظ بيضة الإسلام.
(ولا صلاح لمن سواهم): من الجند والضعفاء والمساكين وغيرهم من أهل الخراج.
(إلا بهم): بسبب قوتهم وإصلاح أحوالهم .
(لأن الناس كلهم): من أجناد الإسلام وأعوانه وسائر الفقراء والمساكين وغيرهم ممن له حظ في الخراج ونصيب فيه.
(عِيَالٌ على الخراج): ثقل عليه وَكلٌّ.
(وأهله): ومن يؤخذ الخراج منه.
(وليكن نظرك في عمارة الأرض): يعني اجعل أهم أنظارك في عمارة البلدان والأراضي بالقوة لأهلها.
(أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج): في تحصيله وكثرته.
(لأن ذلك لايدرك إلا بالعمارة): يعني أن كثرة الخراج وقوته لا يدرك إلا بالعمارة للأرض .
(ومن طلب الخراج من غير عمارة أخرب البلاد): يريد أن الوالي إذا كان همه تحصيل الخراج على أي وجه كان من غير نظر في عمارة الأراضي وتقويتها، فإن ذلك إخراباً للأرض وإفساداً لها؛ لأنهم إذا كانوا يطلبون الخراج من أهله من غير عمارة ضعفوا بأخذ أموالهم وهانوا عن عمارة الأرض، فيكون ذلك سبباً في خرابها لا محالة، وهذه عادة كثير من الظلمة وأهل الجور، يطلبون ما في الأيدي من غير التفات حتى تهلك الأرض، وتبطل عمارتها، ويهلك أهلها فقراً وهزالاً بما يلحقهم من الظلم في ذلك.
(وأهلك العباد): بالظلم والجور.
(ولم يستقم أمره إلا قليلاً): لأمرين:
أما أولاً: فلإسراع الله تعالى له بالعقوبة وتعجيل النقمة بما كان منه من الظلم والجور.
وأما ثانياً: فلأن قوامه ودوامه إنما هو بما يحصل من الخراج وقوة أهله، فإذا بطل الخراج وضعف أهله فلا بقاء له بحال، فلهذا قال: لم يستقم أمره إلا قليلاً.
(فإن شكوا ثقلاً): يعني الموظف عليهم الخراج من الرعية زيادة تثقل عليهم أداؤها وتضعف أحوالهم.
(أو علة): أصابت الزرع من المصائب المتلفة له والناقصة لأحواله كالبرد والدود أو غير ذلك من الآفات.
(أو انقطاع شرب): يريد فيما كان شربه بالعيون والآبار فينقطع الماء عنه.
(أو بالّة): يعني إما جعله كناية عن الماء القليل قدر ما يبل، ولهذا يقال: لا تبل فلان عندي بالَّة أي لا يصيبه مني خير ولا ندى، وإما أن يريد السحب البالَّة، والأمطار تكون قليلة، فيضعف الزرع لأجلها.
(أو إحالة أرض): تحولَّها عما كانت عليه من الصلاح للزراعة، ثم فسر ما حولها غير ذلك بقوله:
(اغتمرها غرق): أي علاها ودام عليها حتى أهلكها.
(أو أجحف بها عطش): أذهبها وأزال ما زرعته.
(خففت عليهم ): الخراج المطلوب منهم ورفعته.
(بما ترجو أن يصلح به أمرهم): يريد أن التخفيف على قدر الحال في ذلك، فإن اقتضى رفع الكل أو رفع البعض كان ذلك على قدر ما يراه الوالي مصلحاً لأحوالهم وأمورهم.
(ولا يثقلنَّ عليك شيء خففت به المؤونة عنهم ): أراد ولا يصعبنَّ عليك إزالة ما تزيله عنهم من المطالب وتخففه عنهم من الغرامات والمؤن.
(فإنه ذخر): كأنك ذخر ته عندهم وخبيَّة خبأتها في أيديهم.
(يعودون به عليك): يرجعون بها إليك، وينفقونها:
(في عمارة بلادك): إصلاح أحوالها وتهيئتها للزراعة والقوة.
(وتزيين ولايتك): لأن البلاد إذا كانت عامرة وأهلها في دعة ورخاء وبُلَهْنِيَةٍ من العيش وأمن من السبل؛ فإن ذلك كله يزين الوالي ويحسِّن ظن الخلق فيه.
(مع استجلابك حسن ثنائهم): بما فعلته معهم من التخفيف والرفق.
(وتبجَّحك باستفاضة العدل عليهم ): يعني وظهور ما يظهر من جهتك من النشاط والفرح بما أسبلته عليهم من ستر عدلك.
(معتمداً): فيما فعلته من رفع المطالب وإزالة الغرامات.
(أفضل قوتهم): أعظم ما يتقوون به ويكون سبباً في قوة أمرهم.
(بما ذخرته عندهم من إجمامك لهم): خبأته عندهم من ترفيهك وإراحتك لهم عن هموم المطالب وعموم الغرم، يقال: فرس جامُّ إذا كان متروكاً عن السير ، مقيماً على الراحة.
(والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم): وواثقين بما ألفوه من بسط العدل من جهتك إليهم.
(في رفقك بهم): وبالرفق الواصل إليهم من عندك والرحمة لهم في ذلك، فطابت خواطرهم إلى ذلك، واطمأنوا إليه، وانشرحت به صدورهم.
(فربما حدث من الأمور): العظيمة والنوائب الهائلة.
(ما إذا عوَّلت فيه عليهم): الذي إذا طلبتهم لأجله من الأموال العظيمة والخراجات الكثيرة.
(من بعد): يعني من بعد ما قد فعلت ما فعلته من التخفيف والرفق.
(احتملوه طيبة أنفسهم به ): حملوه ودفعوه على طيب من أنفسهم وثلج من خواطرهم، لا يتضررون به لقوتهم وعمارة أوطانهم.
(فإن العمران محتمل ما حمَّلته): يريد أن البلدان والأقاليم وسائر الأقطار كلها إذا كانت قوية عامرة، فهي محتملة لما حمَّلتها من الخراجات الواسعة لا تحتفل بها، ولا تشغر بما دفعوه من ذلك.
(وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها): الإعواز: الفقر والإملاق، وأراد أنهم إذا كانوا فقراء عوزين محتاجين ضعفوا عن عمارة الأرض، فلهذا كان ذلك سبباً في خرابها ودمارها.
(وإنما يعوز أهلها): يكون السبب في فقرهم.
(لإسراف أنفس الولاة على الجمع): لتجاوزهم الحد في الجمع والادخار للأموال وكسبها من غير حلها، هذا إذا كانت الرواية بالسين المنقوطة من أسفلها، فأما من رواه بالشين منقوطة من أعلاها، فالغرض إقبالهم على جمع الأموال، من قولهم: فلان مشرف على أمره إذا كان مقبلاً عليه بإصلاحه.
(وسوء ظنهم بالبقاء): يعني أنهم موطنون نفوسهم على الزوال والذهاب فلا يلتفتون إلى العاقبة للأمر في ذلك.
(وقلة انتفاعهم بالعبر): بالمواعظ، هذا على رواية من رواه بالعين المهملة، فأما من رواه بالغين المنقوطة ، فالغرض به تغيرات الدهر وحوادثه أي لا يحتفلون بها، ولا يكنزون من أجلها، ولقد بالغ في تعليم كيفية أخذ الخراج من أهله مخافة تجرِّي الظلم في حق الخراج، ومحافظة على الترفيه بالرعية والرفق بأحوالهم، رعاية من كان همه خوف الله وإشادة قوانين العدل، ووضع موازين القسط، ورفقاً بالأمة وحماية لهم.
ثم أردف ذلك بذكر أحوال الكتَّاب، بقوله:
(ثم انظر حال كتَّابك): يعني الذين يكتبون الرسائل ويصدرون الأجوبة، مما يرد من العمال والأسرار وأحوال الحوادث في الأقاليم والبلدان وغير ذلك، مما يستدعيه أمر الكتابة.
(فولِّ على أمورك): فيما يكون متعلقاً بها.
(خيرهم):أفضلهم في الدين والتقوى.
(واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكايدك وأسرارك): الكيد هو: الخدع، والمكايد: المخادع والمراصد، ومنه قولهم: عرف فلان ما يكاد به أي ما يخدع به ويرصد له، وأراد ها هنا تخصيص الرسائل التي تُضَمِّنُها مراصد الحرب، ومكايدها وأسرارك التي تضمرها لمصالح دولتك وإصلاح أمرك.
(بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق): بالذي تجتمع فيه الخلائق المرضية والشمائل الشريفة.
(ممن لا تبطره الكرامة): يخرج بها عن الحد، والبطر: المرح وشدة الاختيال.
(فيجترئ بها عليك): فيكون سبباً للإقدام في الأمور المكروهة عليك.
(في خلاف لك): فيما يخالفه من أمرك الذي أمرته به.
(في ملأ): في مجمع من الخلق ومحفل من محافلهم.
(ولا تقصِّر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك): يعني ولا يتهاون بأمرك تقصيراً منه وتغافلاً عن إيراد المكاتبات الواصلة من العمال؛ لأن في تأخيرذلك ضرراً عظيماً وخللاً في الدولة بإغفال ذلك.
(وإصدار جواباتها على الصواب عنك): من غير مخالفة لرأيك فيما يصدره من الأجوبة.
(وفيما يأخذ لك): على الرعية والولاة من الحل والعقد والقبض والبسط.
(ويعطي عنك ): من الجوائز والإنعامات والذمم والعهود والأمانات، فإن الكتاب هم حفظة الأسرار، وبأيديهم ملاك الأمور ومقاليد الدولة.
(ولا يُضْعِفُ عقداً اعتقده لك): ولا يهوِّن ما أخذ لك من العقود، ويبلغ فيها كل مبلغ من تأكيدها والتحفظ فيها والمبالغة في وثاقها.
(ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك): وإذا عقد عليك عقداً من ذمة أو وفاء بأمر، أو غير ذلك فلا يتأخر عن إطلاقه لمن هو له، فأنت أحق الناس بالوفاء بالعهد وأصونهم للميثاق.
(ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور): يعني وليكن عالماً بمنتهى قدره في الأمور فيما يأتي منها وما يذر، وفيما يكون له التصرف فيه، وفيما لا يكون كذلك.
(فإن الجاهل بقدر نفسه): [في الأمور] الذي لا يعرف حالها في الإقدام والإحجام والأخذ والترك.
(يكون بقدر غيره أجهل): لأن نفسه أخص، فإذا جهلها فغيرها أدخل لا محالة في الجهالة، ومهما جهل حالك لم يكن داخلاً في مرادك ولا كان على وفقه، وفي ذلك ما لا يخفى فساده وضرره عليك.
(ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك): الفراسة في الشيء هي: الخبرة بحاله والانتقاد لأمره، يعني وإذا اخترت واحداً منهم للكتابة فلا تختره على تفرسك في حاله.
(واستنامتك): الاستنامة: السكون والاطمئنان إلى الشيء، يقال: استنام إليه إذا سكن واطمأن، ومنه النوم.
(وحسن الظن منك): بأحوالهم وما يبدونه من حسن سيرهم وطرائقهم.
(فإن الرجال يتعرفون فراسات الولاة بتصنعهم): التصنع: تكلف حسن السمت وإظهار جميل الحال، وغرضه أن الرجال يزورون الولاة ويتطلعون على خلائقهم بما يظهرونه لهم من حسن الهيئة في أول الأمر بإظهار السمت الحسن.
(وحسن خدمتهم ): ليخبروا كنه حالهم.
(وليس وراء ذلك من النصيحة شيء والأمانة ): وليس يفعلونه نصحاً وإنما غرضهم الاختبار، فلا ينبغي للوالي أن يغتر بمثل ذلك ولا ينخدع به.
(ولكن) استدراك عما نفاه أولاً.
(اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك): يعني وإذا أردت الامتحان الصادق في حقهم فامتحنهم بما قد كانوا تولوا لأهل الصلاح قبل دولتك.
(فاعمد): في التولية والاستخدام.
(لأحسنهم في العامة أثراً): لمن كانت آثاره حسنة جميلة، محمودة طرائقه، وإنما قال: في العامة؛ لأنهم لسان العالم وعنهم حصول الخبرة الصادقة والفراسة المؤكدة .
(وأعرفهم بالأمانة وجهاً): وأكثرهم علماً ومعرفة بالوجوه التي تحتملها الأمانات وتؤدى عليها .
(فإن ذلك): يريد ما قدمه من حسن النظر والتفرس في أحوال الكتَّاب والتعهد لأحوالهم كلها.
(دليل على نصيحتك لله): بامتثالك لأمره، وحسن رعايتك لخلقه واحتياطك في ديانتك، وبلوغك أقصى الجهد في رعاية أمورهم.
(ولمن وُلِّيت أمره): ولإمامك الذي مكَّنك من هذه الولاية، فعملت فيها على ما يريده منك ويرجوه من حالك.
(واجعل لرأس كل أمر من أمورك): يحتمل أن يكون هذا عاماً في جميع أحوال الدولة، وأراد أن إيالات الدولة كثيرة وأمورها متشعبة، فاجعل على كل نوع من أنواعها من يصلحه ويقوم به، ويحتمل أن يكون خاصاً في الكتَّاب، وغرضه أن أنواع الكتابة كثيرة منتشرة فاجعل على كل نوع من أنواعها ومرتبة من مراتبها.
(رأساً منهم): يعني الكتَّاب يدري بأحوالها ويتعهد أمورها.
(لا يقهره كبيرها): فيضعف عن إتقانه وضبطه.
(ولا يتشتت عليه كثيرها): فيغيب عنه ويغفل عن مهماته ويتقاصر عن إدراكه.
(ومهما كان في كتَّابك من عيب فتغابيت عنه): يريد وتحقق أنه مهما اطلعت على عيب ومكر في كتَّابك، فتغافلت عنه وأغضيت عن إنكاره وتغييره:
(أُلْزِمْتَه): كان الله هو الملازم لك والآخذ عليك في ترك إنكاره وتغييره.
ثم أخذ في ذكر الوصية بالتُّجّار، بقوله:
(استوص بالتجَّار وذوي الصناعات): مفعولا استوص محذوفان تقديرهما: استوص بالتجار نفسك فيهم خيراً، وفي الحديث: ((استوصوا بالنساء خيراً ، فإنهنَّ عوارٍ عندكم)) .
(وأوص بهم خيراً): أي وأوص الولاة بهم خيراً.
(المقيم): يريد من التجُّار؛ لأن منهم من يقيم في بلده لا يخرج منها أبداً، وإنما تقلباته كلها فيها إيثاراً للدعة وشهوة للراحة وعجزاً عن الأسفار.
(منهم والمضطرب بماله): المختلف بالأموال في الأقاليم والأقطار لطلب الأرباح والفوائد.
(والمترفق بيديه ): الارتفاق باليد هو: العمل بها والانتفاع بسببها؛ لأن أكثر أعمال المحترفين من ذوي الصناعات تكون بأيديهم.
وفي نسخة أخرى: (ببدنه) بالنون، وهو أن يؤجر نفسه للمنافع العظيمة كالرعاية وحفظ الأموال وغير ذلك مما لايكون فيه عمل باليد.
(فإنهم مواد المنافع): يمدون الخلق بما يأتون به من البلدان، ويكتسبونه من أقاصي الأرض وأطرافها.
(وأسباب المرافق): الانتفاعات كلها.
(وجلاَّبها من المباعد): والجالبون لها من الأماكن البعيدة.
(والمطارح): جمع مطرح وهو: المكان البعيد، واطَّرحه أي أبعده، والطرَحُ بالتحريك: البعيد من الأمكنة، قال الأعشى:
تبتني الحمد وتسمو للعلى
وتُرَى نارك من ناء طَرَحْ
أي بعيد.
(في برك وبحرك، وسهلك وجبلك): وإنما أضاف هذه الأمور إليه لاستيلائه عليها وكونها في ولايته وتحت أمره وحكمه، فلهذا أضافها إليه.
(وحيث لا يَلْتِهمُ الناس لمواضعها): يعلمون بها فيؤدونها ولكنهم يتصلفون على أدائها وتحصيلها، وفي نسخة أخرى: (يلتئم الناس): أي يجتمعون على أدائها وتحصيلها.
(ولا يجترئون عليها): لما في أماكنها من المخافة والوحشة، وطرو الآفات الكثيرة، فلهذا تأخروا عن أدائها، واجترى التجار عليها طلباً للفوائد.
(فإنهم سلم لا تُخاف بائقته): يعني التجار سلم إما ذوو سلم أي مسالمة، وإما على جهة المبالغة كقولك: رجل رضى وعدل، لكثرة ما يحصل منهم من المسالمة، وكف الشرور من جهتهم، والبائقة: الداهية، فإنها مأمونة من نفوسهم، لا يخشاها أحد من جهتهم.
(وصلح لا تخشى غائلته): إما وذوي صلح، أو على طريق المبالغة، والغائلة: الشر والخديعة والمكر.
(وتفقد أمورهم بحضرتك): يريد في البلد التي أنت فيها.
(وفي حواشي بلادك): أطرافها ونواحيها البعيدة، والحاشية هي: طرف الثوب وجانبه.
(واعلم -مع ذلك-): الذي أمرتك به وحققته لك من حالهم، وما ينبغي من مراعاة جانبهم من الرحمة والشفقة عليهم.
(أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً): على نفسه وأهله وولده وغيرهم.
(وشحاً قبيحاً): بخلاً لا يمكن وصفه.
(واحتكاراً للمنافع): ما ينتفع به الناس في الأقوات نحو الحنطة والشعير والزبيب والتمر وغير ذلك من أنواع المأكولات، يدخرونها من أجل التربص لغلاء أثمانها، وكلامه ها هنا دال على أن الاحتكار كما يكون في الأقوات فقد يكون في غيرها كالزعفران والفلفل وغير ذلك؛ لأنه عمم المنافع من غير تخصيص لبعضها عن بعض، وأن حكم الاحتكار جار فيها كلها.
(وتحكماً في البياعات): لا يريد أن يبيع شيئاً من هذه إلا بحكمه وهواه من غير مراقبة للدين ولا مراعاة لأمر الله في ذلك.
(وذلك باب مضرة ): الإشارة إلى الاحتكار لما فيه من المضرة بالمسلمين وسائر الخلق.
(للعامة): يشير إلى عموم مضرته بالخلق أجمع، لا يختص واحداً دون واحد.
(وعيب للولاة ): مدخل للطعن عليهم عظيم لما يلحق بسببه من المضرة.
(فإن رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] منع منه): يشير إلى قوله عليه السلام: ((من احتكر أربعين يوماً فقد برئ الله منه )) ، وفي حديث آخر: ((المحتكر ينتظر اللعنة، والمنفق ينتظر الرحمة )) .
واعلم: أن الاحتكار إنما يكون حراماً على فاعله، مستحق للنكير، باعتبار أمور ثلاثة:
أما أولاً: فبأن يكون زائداً على قوته وقوت من تحت يده.
وأما ثانياً: فبأن يكون بالمسلمين إليه حاجة ماسَّة.
وأما ثالثاً: فبأن لا يكون موجوداً إلا معه، فإن كان يوجد معه ومع غيره وبذله غيره حتى استغني عنه، فلا يكون بذلك محتكراً، فإن امتنعوا كلهم كان حكمهم حكم واحد في الإنكار والوعيد.
(وليكن البيع سمحاً ): من غير غلاء فيضر بالمشتري، ولا رخص فيضر البائع.
(بموازين قسط وعدل ): لاحيف فيها بزيادة ولا نقصان.
(وأسعار): وجري أسعار.
(لا تجحف بالفريقين من البائع والمشتري ): أي لا تضر بهما جميعاً، وإنما بالغ في أمر البيع بالكيل والوزن، وحرم الاحتكار؛ لأن الله أنزل فيهما سورة وافتتح أولها بالويل، حيث قال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ }[المطففين:1]، وعقب ذلك بالوعيد العظيم بالبعث بقوله: {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ }[المطففين:4]، وذكر اليوم الهائل بقوله: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ }[المطففين:5]، وهو يوم القيامة، وذكر المحاسب بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }[المطففين:6].
(فمن قارف حُكْرَةً): خالطها ولابسها، والمقارفة: المخالطة.
(بعد نهيك إياه): بعد أن سمع المنع في ذلك من جهتك وبلغه ذلك ليتحقق جرمه.
(فنكِّل به): اجعله نكالاً وعبرة لغيره يُتَمَثَّلُ بها وتكون وازعة له.
(وعاقب): أدِّب وعزِّر.
(من غير إسراف): تجاوز حد في جنس العقوبة، بأن تكون مخالفة لعقوبة من سلف من الأفاضل في الصدر الأول، نحو جدع الأنف واصطلام الشفة ، فإن مثل هذا لا وجه له، أو في مقدار العقوبة فيكون الضرب بالغاً مبلغ الحد، فهذا أيضاً لا وجه له، وفي الحديث: ((من ضرب الحد فهو من المعتدين )) يريد من ضرب الحد من غير حد.
وعن أمير المؤمنين: أنه مر برجل يبيع الزعفران وقد أرجح، فقال له: أقم الوزن، ثم أرجح بعد ذلك، كأنه أمره التسوية ليعتادها ، ويرجح بعد ذلك ما شاء.
وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول له: اتق الله، وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن .
ثم عقب ذلك بذكر حال أهل المسكنة، بقوله:
(ثم الله الله في الطبقة السفلى): وإنما كرر ذكرهم مبالغة في الاهتمام بهم والتعهد لأمورهم.
(من الذين لا حيلة لهم): لايستطيعون التحيل لاكتساب المعيشة، ولا يهتدون لها.
(والمساكين والمحتاجين): أهل الفاقة والفقر.
(والبؤسى): إما ذوي البؤسى وهي ضد النعمى، وإما جمع بأس وبؤسى نحو وجع ووجعى.
(والزمنى): جمع زَمِن وهم: المرضى وأهل الزمانة.
(فإن في هذه الطبقة): الذين سميت لك.
(قانعاً ومعتراً): القانع هو: السائل، من قولهم: قنعت إليه إذا خضعت له، والمعتر هو: المتعرض من غير سؤال، وقيل: القانع هو الراضي بما عنده من غير سؤال، والمعتر هو: المتعرض بالسؤال .
(فاحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم): الحفظ: الحراسة، والحفظ: المراقبة، وأراد واحرس من أجل الله وراقبه ما طلب منك من الحق في حفظ هؤلاء وحراستهم، ومنه قولهم: استحفظته كذا إذا طلبت منه حفظه.
(واجعل لهم قسماً من بيت مالك ): نصيباً يغنيهم من أموال المصالح، وفي هذا دلالة على جواز إعطاء الفقراء من بيت المال الذين لا مزية لهم على الفقر، وهو ظاهر كلامه ها هنا.
(وقسماً من غلات صوافي الإسلام): الصوافي: جمع صافية وهو: الأراضي المغتنمة من أيدي الكفار.
(في كل بلد): حيث كانوا من بلدان الإسلام، وحيث كانت الصافية في جهتهم أو في غيرها.
(فإن للأقصى منهم): للأبعد.
(مثل الذي للأدنى): الأقرب بالإضافة إما إليك، وإما بالإضافة إلى هذه الصوافي، فإن أحداً لا يختص بها دون أحد، بل هم فوضى فيها.
(وكل): من هؤلاء الذين ذكرت لك حالهم وحققت لك أوصافهم.
(قد اسْتُرْعِيْتَ حقه): طلب منك رعاية حقه، والطالب لها هو الله لا إله غيره.
(فلا يشغلنك عنهم نظر ): يلهينك عن أحوالهم والتعهد لها نظر في غيرها.
(فإنك لا تعذر بتضييع التافه): يعني الحقير.
(لإحكامك الكثير المهم): يعني أن الأمور كلها تحتاج إلى تفقد وتعهد صغيرها وكبيرها، ولا يكفي شيء منها عن شيء؛ لاستوائها كلها في كونها مطلوبة من جهة الله تعالى.
(فلا تشخص همَّك عنهم): أي لا تغيِّب عنهم اهتمامك بهم، وعنايتك من أجلهم.
(ولا تصعِّر خدك لهم): الصعر: الميل في الخد خاصة من الكبر، قال الله تعالى: {ولا تصاعر خَدَّكَ لِلنَّاسِ }[لقمان:18].
(وتفقد أمور من لا يصل إليك ): لحقارة أمره ورثة هيئته.
(ممن تقتحمه العيون): تزدريه وتصغِّره ولا ترى له حقاً.
(وتحقره الرجال): تذله وتستخف بحاله.
(ففرِّغ لأولئك ثقتك): فوجه إليهم من تفرغه عن مزدحم الأشغال من أهل الثقة والديانة والصلاح والأمانة.
(من أهل الخشية): لله والمراقبة له.
(والتواضع): لعظمته وجلاله.
(فليرفع إليك أمورهم): كلها دقيقها وجليلها فتصفحها وانظر فيها نظراً ثاقباً.
(ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه): بإقامة العذر عنده، وما يكون فيه خلاص لك عن عهدة ذلك عند موتك أو في يوم القيامة.
(فإن هؤلاء من بين الرعية): من أجل ضعفهم ومسكنتهم، ونزول هممهم وأقدارهم.
(أحوج إلى الإنصاف من غيرهم): لأمرين:
أما أولاً: فلأن إنصافهم يكون خالصاً لوجه الله تعالى لا غرض فيه دنيوي، ولا صنيعة فيه لآدمي.
وأما ثانياً: فلأجل ما هم عليه من ركة الحال وضعف الأمر، فلأجل هذين الوجهين كانوا أحق بالإنصاف من جهتك.
(وكل): ممن ذكرت لك وسميته ووصفت حاله.
(فأعذر إلى الله): فأقم عذرك عنده.
(في تأدية حقه إليه): الذي فرض الله له وفرضه عليك من ذلك.
(وتعهد أهل اليتم): الذين مات آباؤهم، وخلفوهم عيلة لا أموال لهم، فحقوقهم حاصلة في بيت المال، ومؤونتهم متعلقة بك.
وفي الحديث: ((من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك عَيْلَةً فإليّ )) .
(وذوي الرقة): يعني الشيوخ الذين بلغوا في السن غاية، يرق لهم كل أحد رآهم.
(ممن لا حيلة له): فيوكل إلى حيلته.
(ولا ينصب للمسألة نفسه): أي ولا يظهر نفسه بأن يجعلها منصوبة للسؤال.
(وذلك): الذي ذكرته لك.
(على الولاة ثقيل): لعظمه وصعوبة الأمر فيه.
(والحق كله ثقيل): على كل أحد من الخلق.
(وقد يخفِّفه الله على أقوام): مخصوصين بالتوفيق من عنده، ومقصودين بالصلاح من جهته.
(طلبوا العاقبة): المرضية عند الله تعالى، حيث قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }[الأعراف:128].
(فصبَّروا أنفسهم): على المكاره طلباً لوجه الله وابتغاءً لمرضاته.
(ووثقوا بصدق موعود الله لهم): الموعود ها هنا إما بمعنى الوعد على غير رأي سيبويه، وإما بمعنى شيء موعود به على رأيه؛ لأنه لا يقول بأن المصدر يأتي على وزن مفعول، وإن أتى بوزن فاعل كالعاقبة والدالة.
(واجعل لذوي الحاجات منك قسماً): أي وقتاً تسمع فيه شكواهم، وتجيبهم عن فتاويهم.
(تُفَرِّغ لهم فيه شخصك): عن ازدحامات الأشغال.
(وتجلس لهم فيه مجلساً عاماً): لا يختص به أحد منهم دون أحد، بل يكونون فوضى فيه.
(فتتواضع فيه لله الذي خلقك): بما يكون من جهتك فيه من الإقبال عليهم والإنصاف من نفسك لهم وقضاء حوائجهم، والإصغاء إلى جميع أحاديثهم، وإجابتهم عن كل واحد منها جواباً شافياً فيه قضاء لأغراضهم، وإبقاءً لما قد توجه عليك من حقهم.
(وتقعد عنهم جندك وأعوانك): من يكون متعلقاً بالدولة من هؤلاء.
(من أحراسك وشُرَطِك): الحرس: خدم السلطان، الواحد منهم: حرسي، والشرط: الأسافل من الخلق، وقد يطلق على الرؤوساء أيضاً، وهو من الأضداد، الواحد منهم شرطي.
قال أبو عبيدة: وإنما سموا شرطاً؛ لأنهم أُعِدّوا لمنافع الدولة، والشريط: حبل يُعَدُّ مفتولاً من الخُوص .
(حتى يكلمك متكلمهم ): يواجهك بكلامه.
(غير متعتع ): التعتعة في الكلام هي: التردد من حصر أو عي أو فشل أو دهشة، يروى: مُتَعْتِع بكسر التاء اسم فاعل أي ذا تعتعة، وبفتحها اسم مفعول إذا تعتعه غيره.
(فإني سمعت رسول الله [صلى الله عليه وآله] يقول في غير موطن ((لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي ))): التقديس: التطهير، وأراد لن تطهر أمة عن الدنس والعيب، يضام فيها الضعيف فلا يؤخذ له حقه من القوي.
(((غير متعتع ))): فشل ولا قلق.
(ثم احتمل الخُرْق): الجهل.
(منهم والعِيَّ): الفهاهة والحصر، والخُرْق على وزن فُعْل.
(ونح عنك الضيق): إما ضيق الصدر؛ لأنه يتعذر معه استيفاء الحوائج، وإما البخل.
(والأنفة ): الكبر والخيلاء.
(يبسط الله عليك بذلك): يريد الذي فعلته معهم مما ذكرته.
(أكناف رحمته): جوانبها، والكنف: الجانب.
(ويوجب لك ثواب طاعته): ويعطيك ثواب ما فعلته من هذه الطاعة، وحصلته من هذه القربة.
(وأعط ما أعطيت هنيئاً): يريد أن عطيتك تكون سمحة بها نفسك، من غير تكدير ولا صَخَب في الإعطاء ولا ملالة ولا تقتير.
(وامنع من منعت في إجمال وإعذار): يعني وإذا منعت من العطية فليكن منعك من غير أذية، ولكن أجْمِل العذر في ذلك، فإن إجمال العذر يكتب الله به الأجر عوضاً عما كان من الحسنة إذا كان العذر صادقاً.
ثم أردفه بذكر خاصة أحواله ومراعاتها، بقوله:
(ثم أمور من أمورك): لا تغفل عن حفظها ومراقبتها.
(لا بد لك من مباشرتها): تعهدها حالة بعد حالة، ومرة بعد مرة.
(منها إجابة عمالك): بما يرد من جهتهم من السؤالات و الحوادث في الأقطار والأقاليم، فإنه لا يزال منها حادثة تحدث تحتاج إلى جواب منك فيها من المعضلات والحوادث والمشكلات.
(بما يعيا عنه كتابك): يريد عهدك الأول الذي عهدته له في أول مرة فإنه إنما يتضمن جملة، وليس فيه شيء من هذه التفاصيل المتجددة في كل يوم، أو يريد كُتَّابُكَ جمع كاتب، فإنهم لا يطلعون على مثل هذه الأمور، وهذا أحسن.
(ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك): فراعها لهم وقضاء حوائجهم فيها.
(مما تحرج به صدور أعوانك): أي تضيق؛ لأنهم لا يطيقونه ولا يقدرون على علاجه، والمعنى أن هذه الأشياء لا يتولاها إلا أنت دون الكتَّاب والأعوان لعدم هدايتهم إليها وقصور أفهامهم عن إتقانها.
(وأمض لكل يوم عمله): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنك لا تحيل عمل يوم إلى يوم آخر، فيؤدي ذلك إلى ازدحام الأشغال عليك وتراكمها على قلبك، فلا تأمن جري الزلل لكثرتها وازدحامها.
وثانيهما: أن يكون مراده أنك إذا وطنت نفسك على أن لكل يوم عملاً كان ذلك أقرب إلى الإخلاص في الأعمال لوجه الله تعالى وأعظم في الازدياد، رغبة في الثواب، ترى أنك لا تمهل ليوم آخر بعده، كما قال عليه السلام: ((يا أنس، صلِّ صلاة مودع ، ترى أنك لا تصلي بعدها شيئاً)) .
(فإن لكل يوم ما فيه): من خير وشر وفساد وصلاح، فلا تدخل عمل يوم في يوم آخر.
(واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت): يشير إلى أني قد وقَّت لكل عمل وقتاً، لكني أقول: اجعل أعلاها أفضلها عندك ما كان متعلقاً لله تعالى من جهة نفسك من العبادات الفاضلة، والأوراد المباركة في الأوقات الشريفة المتقبلة.
(وأجزل تلك الأقسام): واجعل أجزل الأقسام التي قدرتها لك لله تعالى خالصاً لا يشاركه فيها غيره من الأعمال، من المناجاة والابتهال إليه في إصلاح عملك وقضاء حوائجك من جهته.
(وإن كانت كلها لله، إذا صلحت فيها النية): يريد أن جميع قواعد الولاية كلها وجميع هذه الآداب التي أشار إليها إنما هو من الجهاد وانتظام أحوال الأمة، وجري أوامر الله على قواعدها واستقامتها على حدودها ، وهذه الأمور كلها لله تعالى عند صلاح النية فيها وسداد القصد من أجله، وعند هذا تكون من جملة الأعمال المقربة إلى الله تعالى.
(وسلمت فيها الرعية): عن الظلم وفساد أحوالهم واختلال قواعدهم.
وفي نسخة أخرى: (وسلمت فيها الرغبة): يعني وخلص القصد ولم يشبه شائب يكدره.
(وليكن في خاصة ما تخلص لله به دينك): أراد وليكن من جملة خواص الأعمال الخالصة لله:
(إقامة فرائضه): من الصلاة والصيام وغير ذلك من العبادات المفترضة.
(التي هي له خاصة): لا تتعلق بغيره، وفي الحديث: ((ما تقرب إلىَّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم )). وإقامتها إتيانها على الوجه المأمور به من الإخلاص فيها، وأدائها على الخضوع والتذلل والخشوع.
(فأعط الله من بدنك): من أعمال الطاعة المتعلقة بالأبدان نحو الصلاة والصيام والحج.
(في ليلك): ما يكون مختصاً به منها.
(وفي نهارك): ما يكون مختصاً به.
(ووفِّ ما تقربت به من ذاك ): اجعله وافياً وائتِ به كما أمرك الله به.
(كاملاً): بشروطه وحدوده.
(غير مثلوم): ساقط بعض أركانه.
(ولا منقوص): من إيفائه بشرطه الذي يكون واقعاً عليه.
(بالغاً من بدنك ما بلغ): يعني أده على ما ذكرته، وإن بلغ في نقص بدنك واختلاله كل مبلغ، فإن ذلك يكون أدخل في الإثابة وأعظم في الجزاء من الثواب عليه.
(وإذا قمت في صلاتك للناس): بأن تكون إماماً لهم فيها وداعياً لهم إليها.
(فلا تكوننَّ منفراً): بتطويلها وصعوبة الأمر فيها.
(ولا مضيعاً): لأوقاتها وحدودها وشروطها، ولا يكوننَّ منك فيها إفراط في أمرها فتنفر عنها، ولا تفريط فتخل بها.
(فإن في الناس من به العلة): من مرض وعجز وسلس بول وغير ذلك من العِلل.
(وله الحاجة): إلى الخروج في قضاء مآربه وحوائجه أو يكون حاقناً أو حاقباً فيريد الخروج لقضاء الحاجة.
(وقد سألت رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] حين وجَّهَنِي إلى اليمن كيف أصلِّي بهم؟): في التطويل والتقصير والإطالة وعدمها.
(فقال: ((صلِّ بهم كصلاة أضعفهم )) ): يعني مثل صلاة الضعفاء الذين يريدون التخفيف لأجل ضعفهم وهوانهم.
(((وكن بالمؤمنين رحيماً))): كثير اللطف والرفق بهم في جميع أحوالهم كلها.
(وأما بعد هذا؛ فلا تُطَوِّلَنَّ احتجابك من رعيتك): يريد ومن جملة الآداب المرعية في الولاية إزالة تطويل الحجاب عن أهل الحوائج من الرعية.
(فإن احتجاب الولاة عن الرعية): غيبتهم عنه، وضرب الحجب والحراس على أبوابهم.
(شعبة من الضيق): نوع من أنواع الحرج والمشقة.
(وقلة علم بالأمور): المتعلقة بالولاة من التعهد والتفقد، وكفّ أيدي الطغاة وزمِّ الأفواه عن التعلق بالأطماع، والاطلاع على أكثر الأحوال ومراقبتها، وفي هذا فساد لاخفاء به.
(والاحتجاب منهم): الضمير للرعية.
(يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه): يعني فلا يتصل إليهم شيء من علوم أحوال الرعية.
(فيصغر عندهم): الضمير للولاة.
(الكبير): الأمر الكبير لجهلهم بكيفية وقوعه وإحاطتهم بحقيقة حاله، فلا يعلمونها.
(ويعظم الصغير): لمثل ذلك فلا يدري بكيفية وقوعه.
(ويحسن القبيح، ويقبح الحسن): للجهل بحال وقوعهما، فلا يعلم حالهما.
(ويشاب الحق بالباطل): أي يخلط أحدهما بالآخر، وكل هذا إنما ينشأ من غيبة الولاة عن الرعية وعدم افتقادهم لأحوالهم واطلاعهم عليها.
(وإنما الوالي بشر): من جملة الخلق.
(لا يعرف ما توارى به الناس عنه من الأمور): يعني أن كل ما غاب عنه الإنسان وتوارى عنه بصره وإدراكه له فإنه لا يعرف كنه حاله ولا حقيقة أمره، وإنما يعرف ذلك من الأمور بالاطلاع عليها ومشاهدتها ومراقبة أحوالها، فمن لايرى الشيء لا يمكنه معرفة حاله بحال.
(وليس على الحق سمات): علامات وأمارات ظاهرة مكشوفة.
(يعرف بها ضروب الصدق من الكذب): أنواع كل واحد من هذين.
(وإنما أنت): في احتجابك عن الخلق واستتارك عنهم.
(أحد رجلين): لا ثالث لهما.
(إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق): أعطيت كل ذي حق حقه، وسخت به نفسك وسمحت به.
(ففيم احتجابك): لأي وجه يكون؟ وما الداعي إليه؟
(من واجب حق تعطيه!): فهل هو امتناع من حق واجب تعطيه أهله؟
(أو فعل كريم تسديه!): أو هل هو من أجل فعل حسن تجعله صنيعة إلى غيرك؟ فكل هذا يمنع منه الحجاب، فلا فائدة فيه على هذا الوجه.
(أو مبتلىً بالمنع): أو أنت رجل قد بلي بالشح الخالع .
(فما أسرع كف الناس عن مسألتك): امتناعهم منها وإعراضهم عنها.
(إذا أيسوا من بَذْلِكَ): من إعطاء معروفك.
(مع أن أكثر حاجات الناس إليك): معظم حوائجهم منك ليس من أجل إعطاء ولا منع، فيكون الحجاب حاصلاً منك، وإنما هو:
(ما لا مؤونة فيه عليك): ثقل ولا كَلّ عليك.
(من شكاة مظلمة): فتنتصف لصاحبها ممن ظلمه.
(أو إنصاف في معاملة ): بقطع الشجار فيها وإبطال المخاصمة.
(ثم إن للوالي خاصة وبطانة): ناس يختصون به وينزلون منه منزلة البطانة، وهو ما يلي الجسم من الثياب كالشعار.
(فيهم استئثار): استبداد بالحقوق والأموال.
(وتطاول): على الخلق اعتماداً على قهر الدولة وعلو الولاية.
(وقلة إنصاف ): من أنفسهم للخلق تعاظماً وتكبراً على قبول الحق وإعطائه.
(فاحسم مادة أولئك): امنع ما يمدهم.
(بقطع أسباب تلك الأحوال): التي تكون سبباً في ذلك، وتكون وصلة إليها، وحاصل الأمر في قطع مادتهم، إما بإزالتهم عن التعلق بك، وإما بقطع مواد ذلك، فبانقطاع تلك الأسباب يزول المحذور من ذلك.
(ولا تقطعنَّ لأحد من حاشيتك وخاصتك قطيعة): يعني إذا أدررت لأحد من هؤلاء إدراراً أو وصلته بصلة فلا تقطعها من غير سبب موجب للقطع، لما في ذلك من إيحار الصدور.
(ولا يطمعن منك في اعتقاد عُقْدة تضر بمن يليها من الناس): يعني ولا تعقدنَّ عقداً ولا تذمنَّ ذمة لأحد من خاصتك يكون فيها ضرر على أحد من المسلمين ممن يكون متصلاً بها ويليها.
(في شرب): نحو أن تعطيه ذمة على أن يسقي له ضيعته من النهر الفلاني، وفيه إضرار بمن يليه ممن يكون له فيه حق الشرب لِضَياعه وعقاراته.
(أو عمل مشترك): كأن يكونا معاً مشتركين في شركة عنان أو مفاوضة مما يضطربان فيه على سواء، فتعطي أحدهما عقداً وذمة على أنه لايتصرف مع الآخر، فيكون في هذا إضرار بالشريك من جهة أنهم:
(يحملون مؤونته على غيرهم)، لأن العمل كله صار على الشريك الآخر من غير معاونة، وهذا هو الحيف والميل.
(فيكون مهنأ ذلك لهم دونك): يريد أن فائدة ذلك وهنآءة عيشه لهم من غير أن يكون لك فيه شيء.
(وغبته عليك): عاقبته تختصك دون غيرك، ومغبة كل شيء عاقبته، وفي رواية أخرى: (وعيبه عليك): أي ذمه ونقصه.
(في الدنيا): بالذم واللوم على ظلمك لغيرك.
(وفي الآخرة): بالعقاب وسخط الله.
(وألزم الحق من لزمه): يعني من كان عليه حق لغيره ألزمته أدائه وتسليمه، وخروجه منه إلى صاحبه وأهله.
(من القريب): خاصتك، وأهل دولتك، ومن يتعلق بك.
(والبعيد): منك من سائر الناس وجميع الرعية.
(وكن في ذلكً): يعني إعطاء الحق صاحبه.
(صابراً): لله تعالى على مشقة ذلك وعلاجه.
(محتسباً): ذلك لوجه الله تعالى وابتغاء رضوانه.
(واقعاً ذلك من قراباتك وخاصتك حيث وقع): يريد وإن بلغ ذلك سخط أهلك ومن يقرب إليك، فإن رضاء الله أبلغ من رضاهم وأحق.
(وابتغ عاقبته): آخر أمره وغايته من ثواب الله وعظيم أجره.
(بما يثقل عليك منه): بتحمل ما يتعب نفسك من أجل ثقله، واصبر عليه:
(فإن مغبة ذلك محمودة): عاقبة الصبر عليه لما فيها من الفوز بالجنة، وجوار الله في دار كرامته التي اصطفاها لأوليائه.
(وإن ظنت بك الرعية حيفاً): ميلاً عليهم في الخراج، وظلماً لهم فيما يؤدونه من الأموال.
(فأصحر لهم بعذرك): أظهر لهم عذرك في ذلك ظهوراً واضحاً، والإصحار: الإظهار، وسميت الصحراء لظهورها وانكشافها.
(وأعزل عنك ظنونهم): أزلها عنك، وأذهبها عن التعلق بك.
(بإصحارك): إظهارك للعذر لهم.
(فإن في ذلك إعذاراً): إبلاغاً في العذر إليهم.
(تبلغ به حاجتك): مقصدك ومطلوبك.
(من تقويمهم على الحق): بإسقاط عذرهم وتوجه اللوم عليهم إذا لم يقبلوه.
(ولا تدفعنَّ صلحا دعاك إليه عدوك): يعني إذا طلب العدو مسالمة فيما بينك وبينه بعقد الصلح فلا تردنَّه.
وفي الحديث: ((أن الرسول عليه السلام لما دعاه المشركون إلى صلح الحديبية، أجابهم إلى ذلك مع ما كان فيه من الميل على المسلمين والتحكم من جهة أهل الشرك، وكان عقده بين الرسول وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين، وأنها عيبة مكفوفة من غير إسلال ولا إغلال ))، أي لا سرقة ولا خيانة، فكانت عاقبته أبرك عقبى على المسلمين.
(لله فيه رضاً): يريد ليس فيه نقص على الدين، ولا ترك لشعاره وأبهته.
(فإن في الصلح دعة لجنودك): خلاص عن مشقة الحرب وتحمل أثقالها وسلامة عن القتل والقتال وكفاً عنه.
(وراحة من همومك): بتدبيرها وتقرير قواعدها.
(وأمناً لبلادك): عن تغير ها وفسادها، فإن هذه الأمور كلها من عواقب الحرب وأحكامها، وغير ذلك من الهموم العظيمة والأخطار الكثيرة، وإهراق الدماء وبذل الأموال.
(ولكن الحذر كل الحذر): أي خذ الحذر من نفسك والحذر من عدوك، والتحرز غاية التحرز.
(من عدوك بعد صلحه): يشير إلى أنك إذا عقدت هدنة وصلحاً بينك وبين من تحاربه من الأعداء، فلا تهوننَّ في الحزم من العدو، ولا يغرنَّك بما عقده من الصلح.
(فإن العدو ربما قارب ليتغفَّل): يريد أن العدو قارب الأمر بالصلح أو قاربك، واختلط بك بالهدنة؛ ليخبر حالك، ويأخذ غفلتك، وينكث على غرتك، فاحذره في أيام الصلح وكن على وجل من أمره وحاله.
(فخذ بالحزم): بالتحرز في أمورك كلها.
(واتهم في ذلك حسن الظن): يعني إذا راودتك نفسك على تحسين الظن فاتهمها في ذلك فإنما هو خدعة.
ثم أردف ذلك بالذمم والعهود ومراعاتها، بقوله:
(وإن عقدت بينك وبين عدو لك عقدة): في صلح أو هدنة أو غير ذلك من العقود اللازمة والعهود المؤكدة.
(أو ألبسته منك ذمة): على أهل أو مال، واستعار اسم اللباس من أجل ذلك؛ ليكون ذلك دالاً على الشمول والإحاطة، مبالغة في ذلك.
(فحط عهدك بالوفاء): عن الخيانة والمكر والخديعة، وصنه عن تهمة الغدر .
(وارع ذمتك بالأمانة): إما من الرعاية وهي: الحياطة، وإما من المراعاة وهي: المراقبة والحراسة، وكان قياسه، وراع ذمتك إذا كان من المراعاة، لكنه حول إليه.
(واجعل نفسك جُنَّةَ): الجُنَّةُ: ما كان يستر من ثوب أو درع أو قميص.
(دون ما أعطيت): تكون نفسك ساتره لك عن كشفه وإباحته وإهداره، وهذا من لطيف الكلام وبليغه.
(فإنه ليس شيء من فرائض الله): التي فرضها على عباده، وأكدها على خلقه.
(الناس عليه أشد اجتماعاً): أعظم التئاماً وأكثر اتفاقاً.
(مع تفريق أهوائهم): في كل جهة.
(وتشتت آرائهم): في كل موضع.
(من تعظيم الوفاء بالعهود): تأكيدها والمواظبة على فعلها، ولقد تمدح الله تعالى بذلك حيث قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ }[التوبة:111]، وافتتح الله سورة المائدة بالأمر بذلك حيث قال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ }[المائدة:1].
(وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم): من الذمم والعهود والمواثيق وأكدوها، وأكرهوا نفوسهم على الوفاء بها، واقتحموا العظائم من أجل خرمها، وخاضوا غمرات الموت من دون ذلك، حتى أن رجلاً منهم ليذهب أهله وولده وماله من أجل الوفاء بذمته وعقده، وإذا اخترمت له ذمة أو أبيح له حمى أو جوار اقتحم كل عظيمة من دون ذلك، حتى يبلغ فيه مبلغه، فهم على ذلك من:
(دون المسلمين): يعني هم أهل الشرك مؤكدون لذلك فضلاً عن المسلمين، فهم أحق بذلك وأولى.
(لما استوبلوا من عواقب الغدر): استوخموا منه ما يكون في آخر الأمر منه واستثقلوا ذلك، واللام: في لما استوبلوا متعلقة بقوله: لزم أي لزموا الوفاء من أجل استيخامهم لعاقبته.
(فلا تغدرنَّ بذمتك): بالخيانة والخديعة.
(ولا تخيسنَّ بعهدك): تنكثنَّ، من قولهم: خاس بعهده إذا نكث فيه.
(ولا تختلنَّ عدوك): أي تخدعه، والمخاتلة: المخادعة.
(فإنه لا يجتري على الله إلا جاهل): الاجتراء هو: الإقدام على الشيء من غير بصيرة ولا خبرة بحاله، وأراد أنه لايقدم على الله في مخالفة أمره والوقوع في مناهيه إلا جاهل بحاله وبعظم قدرته على نكاله والانتقام منه.
(شقي): الشقاوة: خلاف السعادة.
(وقد جعل الله عهده وذمته أمناً): ما شرع من العقود والمواثيق أمراً يأمن به كل أحد ممن عقد في حقه.
(أفضاه بين العباد برحمته): أظهره بين عباده رحمة من جهته، ولطفاً بهم، وصلاحاً لأحوالهم.
(وحريماً يسكنون إلى منعته): المنعة: بالتحريك: جمع مانع مثل كافر وكفرة، والمنعة بالسكون هو: المنع، وأراد أن الله تعالى جعل العقد شيئاً محترماً لايمكن تخطيه ولا مخالفته، ومن فعل في حقه فهو ساكن النفس إليه، مطمئن القلب إلى ما تضمنه واشتمل عليه، وإلى منعته، من قولهم: فلان في عز ومنعة أي لايضام له جانب.
(ويستفيضون إلى جواره): فاض الخبر واستفاض إذا ظهر وعلا، وأراد أنهم يظهرون أمورهم ويستندون إليه ويعتمدون في كل أحوالهم عليه.
(فلا إدغال): المداغلة: الفساد والمخادعة.
(ولا مدالسة): التدليس هو: التزوير.
(ولا خداع فيه): مخادعة في العقد الذي يُعْقَدُ.
(ولا تعقد عقداً تجوّز فيه العلل): يعني إذا عقدت فلا تعقد عقداً يكثر فيه الالتواء والتعلل، أو يريد إذا عقدت عقداً فلا تعقده على الاستثناءات الكثيرة والشروط، وإنما يكون منبرماً مقطوعاً عن هذه الأشياء كلها.
(ولا تعولنَّ على لحن القول): أي لا تتكلم بكلام يفهمه عنك من تخاطبه، ويخفى على غيره ممن سمعه، وأراد ها هنا لا تعدل عن الصواب.
(بعد التوكيد): الوثاقة في العقود والعهود.
(والتوثقة): وهي تفعله من الوثاقة.
(ولايدعونَّك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله تعالى ): يعني وإذا ضاق صدرك وحرجت نفسك من أمر عارض، وقد أعطيت فيه عهد الله وذمته على نفسك، ودعتك:
(إلى طلب انفساخه بغير الحق): فلا تفعل شيئاً من ذلك.
ثم علل ذلك، بقوله:
(فإن صبرك على ضيق ترجو انفراجه ): من جهة الله بلطف من عنده وتيسير أمر من جهته.
(خير من غدر): بمخالفة ما أعطيت من العقود على ألا تخالفه.
(تخاف تبعته): ما يتبع من العقوبة من الله من أجله.
(وأن تحيط بك من الله): تشملك وتستولي عليك.
(فيه طِلْبَةٌ): يطلبك الله من أجله طِلْبة.
(لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك): أي لا ينهض منها عثارك في الدنيا ولا في الأخرة، ففي الدنيا بالهلاك، وفي الآخرة بالعقوبة.
(إياك والدماء وسفكها): إهراقها على غير وجهها وفي غير حلها.
(بغير حلها): من غير أن يكون ثَمَّ وجه مبيح لإهراقها من عدوان أو بغي أو ردة أو قصاص أو غير ذلك، وفي الحديث: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث :
كفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بنفس)) .
(فإنه ليس شيء أدعى لنقمة): عقوبة.
(ولا أعظم لتبعة): وهو ما يتبع من ضرر العقوبات لأجل ما تقدم من المعصية.
(ولا أحرى بزوال نعمة): أحق بزوال النعم وإبطالها.
(وانقطاع مدة): يريد ذهاب العمر وانقطاعه.
(من سفك الدماء بغير حقها): من إهراقها من غير حق ولا بصيرة في ذلك يكون معذوراً عند الله بها.
(والله تعالى مبتدئ للحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء): إهراقوه على غير وجهه من بغي بعضهم على بعض وغدر بعضهم ببعض.
وفي الحديث: ((أول ما يقضى بين الناس في الدماء )) .
(إلى يوم القيامة): يعني من أول قتيل قتل وهو قابيل إلى أن يقيم الله القيامة عليهم .
(فلا تقوينَّ سلطانك): تشددنَّ قواعده وتشيد أركانه.
(بسفك دم حرام): بإهراق دم على غير وجهه.
(فإن ذلك مما يضعفه): يهون أمره عند الله تعالى .
(ويُوْهِيه ): إما من الوهي وهو الضعف، قال الله تعالى: {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ }[الحاقة:16]، أو من الوهن وهو الضعف أيضاً، قال الله تعالى: {إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي }[مريم:4].
(بل يزيله): يذهبه، وفي الحديث: ((لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا )) .
(وينقله): إلى غيرك كما كان مع غيرك من قبلك، وفي الحديث: ((لو أن أهل السماوات والأرض اشتركوا في قتل مؤمن لعذبهم الله)) .
(ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد): يعني وإن قتلت مؤمناً متعمداً فلا عذر لك عندي ولا عند الله في تسليمك للقتل لأوليائه.
(لأن فيه قود البدن): تسليم البدن للقتل والانقياد لحكم الله تعالى وحكمهم في القتل.
(وإن ابتليت بخطأ): وإنما جعله بلوى لكثرة ما يفرط من الولاة في ذلك.
ويحكى أن عمر تهدد مومسة فألقت جنيناً، فجمع الصحابة واستشارهم، فقال عبد الرحمن: أنت مؤدب ولا شيء عليك، فالتفت إلى أمير المؤمنين فقال له: (إن لم يجتهد فقد غشَّك، وإن اجتهد فقد أخطأ، أرى أن عليك الغُرة) ، فأما الإثم فمحطوط عنه لا محالة؛ لأنه إنما قصد بذلك وجه الله تعالى والتقرب إليه في كل ما يفعله من ذلك مصلحة للخلق وكفاً لهم عن المعاصي، وعن هذا قال الفقهاء: إن جناية الإمام والحاكم غرمها في بيت المال.
(وأفرط عليك سوطك ويدك): يريد تجاوزت الحد فيما تفعله بيدك وتؤدب بسوطك.
(بعقوبة): فزادت على حدها ومبلغها، فإن ذلك كله فيه الدية.
(فإن في الوكزة): وهي ما كان بطرف الأصابع، وقيل: بجُمْع الكف.
(فما فوقها): من الجنايات.
(مقتلة): يريد أنها قاتلة فما فوقها، ولهذا فإن موسى وكز القبطي فقتله بها.
(فلا تطمحنَّ بك نخوة سلطانك): طمح مثل جمح، والغرض منه التعدي ومجاوزة الحد.
(أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم): يريد وإن كنت ذا سلطان وأبهة ودولة فلا يتطاولنَّ بك سلطانك ويعلو بك أمرك عن أداء ما جنت يدك وسوطك من دية من تقتله إلى أوليائه وورثته.
ثم عقَّب ذلك بذكر ذم الإعجاب وغيره من الآداب، بقوله:
(وإياك والإعجاب بنفسك).
اعلم: أن حقيقة العجب راجعة إلى تكبر يحصل في الإنسان بتخيّل كمال في علم أو عمل، فإن كان خائفاً على زواله فهو غير معجب، وإن كان فارحاً بكونه نعمة من الله تعالى فهو غير معجب أيضاً، وإن كان ناظراً إليه من حيث أنه صفة له متكبر به غير ملتفت إلى إمكان زواله، ولا إلى كونه نعمة من الله فهو العجب حقيقة وهو من المهلكات، قال تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ }[المجادلة:18]، وفي الحديث: ((ثلاث مهلكات : شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)) ، وعلاج زواله إنما يكون بتأمل العاقبة في الأمر، وأن بلعام كيف ختم له بالكفر مع عظم عبادته وتبحره في العلم، وأن إبليس كان منه ما كان في العبادة ثم ختم له بالشقاوة، فمن تأمل إمكان سوء الخاتمةلم يعجب بشيء من أعماله ولا من صفاته.
(والثقة بما يعجبك منها): يشير بذلك إلى ما ذكرناه من أنه إذا كان خائفاً على زواله فلا عجب.
فأما إذا وثق بدوامه وأنه لا يتغير فهو عجب لامحالة، ولهذا نهاه عن الثقة به واستمراره.
(وإياك وحب الإطراء): يعني المدح وهو: الذبح، وأن الله تعالى يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً}[القصص:83].
واعلم: أن النفس ترتاح للمدح وتهتز له وتطيب من أجله؛ لأن فيه شعوراً بالكمال، وتكره الذم؛ لأن فيه شعوراً بالنقصان، وتَوَلُّدهُ يكون من حب الجاه والرئاسة وهما مذمومان، وفي الحديث: ((إن حب الجاه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل )) ، وشبَّه رسول الله حبَّ الجاه بذئبين ضاريين في زريبة غنم ، وعلاجه يكون بكسر النفس وهضمها وذكر الموت، وإشعار النفس بأنه لو سجد لك من فوق بسيطة الأرض لانقطع ذلك عن قريب، فالإطراء خطر كما ترى.
(فإن ذلك): يعني الإطراء.
(من أوثق فرص الشيطان): من أقوى علائقه وأمتن أسبابه ومداخله في إغواء الخلق.
(في نفسه): الضمير للشيطان أي بالإضافة إليه في نفسه، من قولهم: هذا الأمر أمكن في نفسي من غيره.
(ليمحق ما يكون من إحسان المحسن): المحق هو: الإبطال والإفساد، وأراد أن حب الإطراء والمدح اللذين يكونان في مقابلة النعمة يبطلان ما يكون في مقابلتها من الثواب؛ لأن الإنعام في الحقيقة يصير كأنه ما كان لوجه الله تعالى، وإنما هو من أجل الثناء والمدح فيبطل من أجل ذلك.
(وإياك والمنُّ على رعيتك بإحسانك): اعلم أن المنَّ هو ذكر النعم وبيان موقعها في حق المُنْعَمِ عليه، وهو من الخلائق المذمومة، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ }[البقرة:264].
ومنشأه الشغف بجب العلو والرفعة، وعلاجه ودفعه يكون بتحقير النعمة وتضعيفها، وأن الله عز سلطانه هو في الحقيقة المنعم بها؛ لأنها منه حصلت، وهو الباعث على أدائها والمخلف لعوضها في الدنيا وفي الآخرة، فإذا عرف ذلك هان عليه موقعها فلا يذكرها على جهة المنِّ بها.
(والتزيد فيما كان من فعلك): يريد وإياك والتزيد يعني الكذب، وإنما سماه تزيداً؛ لأنه زيادة من جهة نفسه اختلقها ولم يكن لها حقيقة.
وفي الحديث: ((من أراد أن يلعن نفسه فليكذب )).
وفي حديث آخر: ((ثلاث من علامات النفاق : إذا حدث كذب)) وقد مضى تعديدها
وفي حديث آخر: ((الكذب مجانب للإيمان )).
(أو أن تعدهم فتتبع موعودك بخلفك): الموعود إما الوعد، وإما الشيء الموعود على ما سلف تقريره في غير موضع، والخلف: الإبطال لما وعد به.
(فإن المنَّ يبطل الإحسان): يشير إلى الوجه الذي ذكرناه.
(والتزيد يذهب بنور الحق): يعني الكذب، وإنما كان الأمر فيه كما قال؛ لأن الصدق ينوّرُ الحق ويزيده بهاءً وجمالاً، والكذب يُذْهِبُ ذلك ويُبْطِلُه لا محالة.
(والخلف يوجب المقت عند الله وعند الناس): لأن في الوعد إلزام نفسه فعل ذلك الموعود به، فإن أخلفه كان سبباً للمقتة من الناس ومن الله، ثم تلا هذه الآية: ({كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ })[الصف:3]:
وسبب نزولها: أن الله تعالى لما أخبر بثواب شهداء بدر قالوا: لئن لقينا قتالاً لنفرغنَّ فيه وسعنا، ففروا يوم أحد، ولم يفوا بما قالوه ، فنزلت عتاباً لهم، واقعاً في المبالغة في ذلك كل موقع.
(إياك والعجلة في الأمور قبل أوانها): حضور وقتها، يريد أن العجلة على الإطلاق مذمومة، وفي الحديث: ((الأناة من الله، والعجلة من الشيطان )) ثم إن طلبها قبل أوانها، نقض لها وتعرض لبطلانها؛ لأن طلب الشيء في غير وقته جهل في النفس وخَوَر في الطبيعة.
(والتساقط فيها عند إمكانها): يعني التثبط والتراخي عن فعلها عند إحفاز وقتها وحضوره، وإنما سمى خموله عن الحاجة عند إمكانها تساقطاً؛ لأن الساقط لاينتفع بنفسه كما أن من تثبط عن الحاجة لاينتفع بها أصلاً.
(أو اللجاجة فيها إذا تنكرت): التنكر:التعذر، وأراد تحذيره عن الإلحاح في طلب الحوائج عند ظن تعذرها وتعلقها وانقطاع أسبابها، فإن اللجاجة في ذلك لا تثمر إلا نقصاً ولوماً.
(أو الوهن عنها إذا استوضحت): الوهن: الضعف ، والوضوح: الظهور، وأراد تحذيره عن الضعف عن الأمور عند ظهورها؛ لأن في ذلك تعرضاً لبطلانها.
(فضع كل أمر موضعه): الذي جعله الله له من غير مخالفة، وما أعجب هذه من كلمة وأجمعها للفوائد الجمة، كماقال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }[الطلاق:3]،لأن ذلك يدل على كمال العقل.
وقيل لزيد بن علي: صف لنا العاقل؟
فقال: هو الذي يضع الأشياء في مواضعها.
فقالوا له: صف لنا الجاهل؟
قال: قد فعلت، يشير إلى أن الجاهل هو الذي يكون على خلاف ذلك، من وضع الأشياء في غير مواضعها.
(وأوقع كل عمل موقعه): أراد إما من أعمالك في اللين والشدة والقبض والسماحة، واعرف قدر كل واحد من هذه الأشياء، وإما من أعمال غيرك فمن كان عمله خيراً فأنزله بمنزلته، ومن كان عمله على خلاف ذلك فأنزله منزلته.
(وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة): تحذير عن الاستبداد بما الناس فيه متساوون، كما يفعله أهل الجور والظلمة نحو منعهم الماء إلا ما يفضل عن حوائجهم، ومنعهم الكلأ، فإن الناس كلهم شركاء في هذه الأشياء.
وفي الحديث: ((المؤمن أخو المؤمن يسعهما الماء والكلأ ، ويتعاونان على الفتَّان)) يعني الشيطان.
(والتغابي عما تُعْنَى به): يريد التغافل عما وجب عليك من جهة الله تعالى والعناية به والاهتمام بأمره والقيام بحقه من الأمور كلها.
(مما قد وضح للعيون): ظهر لها وجوب توجهه عليك بحيث لايخفى منه شيء.
(فإنه مأخوذ منك لغيرك): يريد أن الله تعالى مطالبك في النظر في مصالح غيرك لأجل ولايتك عليهم، وتدبيرك لأمورهم.
(وعما قريب تنكشف عنك أغطية الأمور): يريد بما يكون في الآخرة والقيامة، وحضور وقتها، فإن الأمور في الدنيا مستورة عن أهلها، وكشف الغطاء عنها يكون في القيامة.
(وينتصف للمظلوم منك ): يريد بما كان من ظلمك له وأخذك لحقه.
(أملك عليك حمية أَنْفِكَ): يعني الأنفة، والحمية: الاحتماء، وأراد املكها كيلا تؤديك إلى التكبر والفخر، يقال: فلان أحمى أنفاً وأمنع ذماراً .
(وسورة حدّك): سورة السلطان: سطوته، وسورة الأسد: وثبته، وأراد احذر سطوة حدّة نفسك وشِرّتها .
(وسطوة يدك): في غير حق وبغير وجه بسيف أو سوط.
(وغَرْبَ لسانك): أي حدته وطوله في الكلام فيما لا وجه له، وإيقاعه فيمن ليس أهلاً له.
(واحترس من كل ذلك): أي كف نفسك من جميع ذلك لما فيه من الهلاك للنفس عند الله تعالى في القيامة.
(بكفِّ البادرة): ما تسرع النفس إليه من الشر والسقطة في ذلك.
(وتأخير السطوة): يعني إذا أخرتها ففي تأخيرها انكفاف عنها وإبطال لحدتها في أوائلها.
(ويسكن غضبك ): سكون الغضب وسكوته في قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ }[الأعراف:154]، عبارة عن ذهاب شدته وزوال فورته.
(فتملك الاختيار): في أمورك كلها، ومعرفة ما تأتي منها وما تذر.
(ولن تحكم ذلك من نفسك): يريد الاحتراس من جميع ما ذكره من شدة الغضب وكف البادرة.
(حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك): يعني أن ذلك لا يستحكم غاية الاستحكام إلا بذكر الموت والمعاد إلى الله تعالى، لأن ذلك كله يهون ما ذكره من مقاساة هذه الأشياء وصعوبتها.
(والواجب عليك): لله تعالى في سيرتك وفي جميع معاملاتك كلها وأحكامك وفتاويك.
(أن تذكر ما مضى لمن تقدمك): من الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم في جميع أحكامهم كلها وفتاويهم، وما فعلوه فيما يرد عليهم ويصدر من الحوادث كلها.
(من حكومة عادلة): أمضى فيها الحكم على جهة العدل من غير حيف فيها.
(أو سنة فاصلة ): بين الحق والباطل.
وفي نسخة أخرى: (فاضلة): بالضاد المنقوطة أي التي لها فضل على غيرها من السنن.
(أو أثر عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم): تعمل عليه فيما تناوله.
سؤال؛ الأثر والسُّنة هما كلاهما صادران عن الرسول عليه السلام، فكيف فرَّق بينهما؟
وجوابه؛ هو أن السّنَّة ما كان الرسول مواظباً عليه في أكثر أوقاته كلها ومكرراً للعمل به، والأثر ما ورد عنه وليس متكرراً، ولهذا يقال: بأن ركعتي الظهر والفجر سنة لما داوم على فعلهما كثيراً، وصلاة الضحى مأثورة لما لم يدوام على فعلها، ولم يكثر من جهته ذلك.
(أو فريضة في كتاب الله): أو أمر مفروض، دل على كونه مفروضاً كتاب الله.
(فتقتدي بما شاهدت مما عملنا فيها): يعني أن أصول الأدلة للأحكام هو ما ذكره من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله، وما كان من جهة الصحابة في ذلك فيكون لك قدوة عملهم من إثبات أو نسخ أو تخصيص أو غير ذلك، فإن العمدة هو على إجماعهم في ذلك، فما أجمعوا عليه وأصدروه عن آرائهم جميعاً فهو المعمول عليه، وإن كان مخالفاً لظاهر الكتاب أو مخالفاً لظاهر خبر من جهة السنة، فإنَّا نعلم قطعاً أنهم لا يعرضون عن ظاهر ما في الكتاب والسنة تهاوناً بالله وبرسوله؛ لأن ذلك يكون كفراً، وقدرهم أعلا وأشرف من ذلك، وإنما يعرضون لأمور أخر تقتضي ذلك وإن لم يمكن نقلها، فلهذا وجب التعويل في ذلك على ما كان من جهتهم.
(وتجتهد لنفسك): من أجل صلاح نفسك وسلامتها.
(في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا): ما أمرتك فيه من الأوامر، ونهيتك عنه، وزجرتك بالمواعظ، وأدبتك فيه بمحاسن الآداب كلها.
(واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك): يريد وما ذكرت من العهود والمواثيق عليك، والحجج البالغة في امتثال ما قلته فيه.
(لكيلا تكون لك علة عند تسرُّع نفسك إلى هواها): يشير إلى أني قد بالغت في الوعظ والنصيحة لقطع العلة مخافة إسراع نفسك إلى ما تهواه من مخالفة الحق وإبطاله.
(وأنا أسأل الله بسعة رحمته): الشاملة لكل الخلائق.
(وعظيم قدرته): باهرها وكمالها.
(على إعطاء كل رغبة): ما يُرْغَبُ إليه من جميع الأشياء.
(أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه): للطاعات المرضية عنده.
(من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه): من هذه لابتداء الغاية، وأراد حسن العذر في الخروج إلى الله في حقوقه الواجبة له، وحقوق العباد الواجبة لهم.
(من حسن الثناء في العباد): بحسن السيرة فيهم، أو لتأدية حقوقهم إليهم.
(وجميل الأثر في البلاد): إما لبسط العدل فيها ، وإما لإظهار الرفق بأهلها.
(وتمام النعمة): يريد في الدنيا بالسلامة عن العاهات وطروّ الآفات، أو بخاتمة الخير في الآخرة.
(وتضعيف الكرامة): بثواب الله في الآخرة، أو مضاعفة النعم في الدنيا والإكرام بها.
(وأن يختم لي ولك بالسعادة): الأخروية وهي خاتمة الخير والتوفيق لرضوان الله تعالى .
(والشهادة): قتلة مرضية في سبيل الله.
(إنا إلى الله راغبون): في جميع ذلك كله من كرمه وسعة رحمته.
(والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ): رحمته ورضوانه.
وأقول: إن هذا العهد لكافي لأئمة الدين في تدبير أمورهم، ولأهل الدول في سياسة دولهم؛ لما فيه من جميع الفوائد الجمة والنكت الغزيرة وآداب الدين والدنيا.
(54) ومن كتاب له [عليه السلام] إلى طلحة والزبير
ذكره أبو جعفر الإسكافي في كتاب (المقامات) له.
وأبو جعفر الإسكافي هذا هو من جملة الثقات في النقل والمعتمد عليهم في الروايات، وله ثقة وأمانة فيما يرويه ومعرفة ودراية، وعليه تعويل الأكثر من أئمة النقل في الأخبار والتواريخ.
(أما بعد، فقد علمتما): علماً لاشك فيه، قطعياً لامرية به.
(وإن كتمتما): أخفيتما ذلك وأسررتماه.
(أني لم أرد الناس): على ما كان من أمر الإمامة والبيعة، ولا دعوتهم إلى ذلك.
(ولكن أرادوني): طلبوني وحملوني على ذلك.
(ولم أبايعهم): أطلبها من جهتهم.
(حتى بايعوني): طلبوني.
(وإنكما ممن أرادني): للخلافة.
(وبايعني): عليها من جملة الناس كلهم، من غير إكراه مني على ذلك لأحد منكم.
(وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب غاصب): أراد أن انقيادهم لي في البيعة وطاعتهم لي فيها ما كان لمكان سلطان، وأمر نافذ عليهم، ولا أني غصبتهم على ذلك.
(ولا لغرض خاطر ): من أغراض الدنيا، وهذا أمر ظاهر أعني ما ذكره من عدم الغصب والقهر لهم، بل جاءوا مضطرين إلى إقامته ، وفزعوا وجلين إلى خلافته، لما خلا عقد أمر المسلمين من غير رابط، ولا حافظ لهم هناك ولا حائط.
(فإن كنتما بايعتماني طائعين): من جهة الاختيار من أنفسكما.
(فارجعا): إلى الله تعالى عن النكث والخروج عن الحق والفسق بالبغي عليّ.
(وتوبا إليه ): من هذه المعاصي الموبقة.
(من قريب): والذنوب قليلة والحال منجبر، أو من قريب قبل التمادي في الباطل والغي.
(وإن كنتما بايعتماني كارهين): من غير اختيار من جهة أنفسكما.
(فقد جعلتما لي عليكما السبيل): يريد الحجة الواضحة عليكما بما كان من تلبيسكما.
(بإظهاركما الطاعة): لي والاتباع لأمري.
(وإسراركما المعصية): بما كان من المبايعة كرهاً، وفي ذلك عدم الانقياد لأمري والمخالفة لي.
(وما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن المهاجرين على كثرتهم وجموم أعدادهم بايعوني، لم يخافوا مني سطوة ، ولا هم في تقية من أمري، فكيف تخافان أنتما.
وثانيهما: أن يكون مراده أن المهاجرين ليس لأحدهم من الفضل وعلو الرتبة مثل مالكما، ومع ذلك فإنهم ليسوا في خوف ولا تقية فيما فعلوه من البيعة، فكيف يكون حالكما مخالفاً لحالهم، وأنتما أحق بعدم التقية لما لكما من الفضل والسابقة وعلو المحل.
(وإن دفعكما هذا الأمر): امتناعكما من البيعة وتأخركما عنه.
(من قبل أن تدخلا فيه): بما كان من إعطاء البيعة والانقياد للأمر .
(كان أوسع عليكما): مجالاً وأفسح مضطرباً.
(من خروجكما منه): من غير بصيرة لكما في ذلك.
(بعد إقراركما به): تصريحكما بصحته.
(وقد زعمتما أني قتلت عثمان): بما كان من تخلفي عن نصرته وخذلاني له، أو يكون غرضهما بأمري بذلك، فإن ظاهر كلامه فيما نقله عنهما محتمل لذلك.
(فبيني وبينكما): متوسط وحاكم.
(من تخلف عني): وتخلفه عنه، إما عن البيعة فلم يبايع، مثل ما كان من عبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسعد بن أبي وقاص وغير هؤلاء، وإما عن الخوض في أمر عثمان فإن منهم من وقف في حاله عن خذلانه ونصرته، ولم يتكلم فيه.
(وعنكما): بترك المتابعة لكما في النكث لبيعتي وخروجكما عنها، وإما عن النصرة لعثمان كما هو رأيكما.
(من أهل المدينة): التي هي موضع الهجرة ومهبط الوحي ودار الإسلام والإيمان.
(ثم يُلْزَمُ كل امرئ بقدر ما احتمل): من ذلك من الجرم.
(فارجعا أيها الشيخان ): عما أنتما فيه من البغي والخروج عن الحق، وما عليه أهل الدين.
(عن رأيكما): الخطأ وعزمكما المخالف للحق.
(فإن الآن أعظم أمركما العار): يريد أن الذي ينقم عليكما من جهة الدين إنما هو العار بما ركبتما من مخالفة المؤمنين واتباع غير سبيلهم، وسلوك غير طريقهم.
(من قبل أن يجتمع العار والنار): فالعار ما يلحق به الذم من المخالفة بالبغي، والنار من جهة الله تعالى بالعقوبة على ذلك.
(55) ومن كتاب له [عليه السلام] إلى معاوية
(أما بعد؛ فإن الله سبحانه جعل الدنيا لما بعدها): أراد إما طريقاً إلى الجنة، وإما جعل ما يكون في الآخرة جزاء لما يكون في الدنيا من الطاعة والمعصية بالثواب والعقاب، وإما أن يريد جعل الدنيا وصلة إلى رضوان الله والفوز بجواره.
(وابتلى فيها أهلها): أراد إما بالخير والشر، وإما أن يريد بأهلها بعضهم ببعض، أو أراد بما يكون من فتنة الشيطان والنفس والهوى وغير ذلك من أنواع البلايا والمصائب اللاحقة فيها.
(ليعلم أيهم أحسن عملاً): أكثر مطابقة لرضاه مع هذه البلايا وشدة هذه الفتن.
(ولسنا للدنيا خُلِقْنَا): إنما خُلِقْنَا من أجل العبادة، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]، وأيضاً فالخلق إنما يكون لأمر دائم وهو الثواب المستحق على العبادة.
(ولا للسعي فيها أُمِرْنَا): للاجتهاد والاضطراب وإحرازها كان أمر الله لنا.
(وإنما وُضِعْنَا فيها لنبتلى بها): من أجل البلوى والامتحان والاختبار.
(وقد ابتلاني الله بك): بأن أحاربك على مخالفتك لي وبغيك عليَّ، وعصيانك لله، وطلبك الفساد في الأرض بغير الحق.
(وابتلاك بي): كما ابتلى إبليس بآدم، فجعل طاعتي واجبة عليك وأمري لازم لك فخالفت الأمر، وخرجت عن الطاعة.
(فجعل أحدنا حجة على الآخر): أنا حجة عليك في وجوب الاتباع والانقياد وترك المخالفة، وأنت حجة عليَّ في وجوب جهادك على مخالفة الله تعالى وتعدي حدوده.
(فغدوتَ على طلب الدنيا): أي تجاوزت الحد في إحراز الدنيا والتهالك في حبها.
(بتأويل القرآن): بأن تأولت القرآن على غير وجهه، فأوهمت أهل الشام أني قاتل لعثمان، وأنك طالب بدمه، محتجاً بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ}[البقرة:178]، فطلبت الدنيا بتأويلك الفاسد.
(فطلبتني بما لم تجن يدي): من القتل.
(ولا لساني): ولا أمر به لساني.
(وعصبته أنت وأهل الشام): بما كان منكم من المخالفة.
(بي): بسببَي ومن أجلي.
(وألَّب عالمكم جاهلكم): أي جمع عليَّ وحرض من كان عالماً بحالي وفضيلتي من كان جاهلاً بها بالحرب والمخالفة.
(وقائمكم قاعدكم): أي وحثَّ من كان قائماً بمعاداتي من كان قاعداً عنها، وساكتاً عن النطق بها.
(فاتق الله في نفسك): بالانقياد لأمره، وترك المخالفة له في أحوالك كلها.
(ونازع الشيطان قيادك): القياد: الحبل الذي يقاد به الحيوان، وأراد وأملكه على نفسك ولا تمكِّن الشيطان منه فيقودك به.
(واصرف إلى الآخرة وجهك): يشير بهذا إلى إدباره عن الآخرة، وتهالكه في حب الدنيا، وطلب الرئاسة فيها، وأخذها من غير حلها، وعلى غير وجهها.
(فهي طريقنا وطريقك): إما إلى الآخرة وأهوالها، وإما إلى النار والجنة، وإما إلى الأعمال الصالحة وخلافها.
(واحذر أن يصيبك الله بعاجل قارعة): ببلية شديدة لا يمكن وصف حالها.
(تمش الأصل): أي تقلعه، وهو بالشين المنقوطة من أعلاها.
قال الأصمعي: المش: مسح اليد بالشيء الخشن بقلع الدسم منها.
قال امرؤ القيس:
نمش بأعراف الجياد أكفنا
إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب
ذ
(وتقطع الدابر): أي العقب؛ لأنه يدبر الإنسان ويخلفه بعده.
(فإني أولي لك بالله أَلِيَّةً غير فاجرة): أي أحلف حلفاً صادقاً، واليمين الفاجرة: هي المائلة عن سمت الحق وطريقه.
(لئن جمعتني وإياك جوامع الأقدار): ما سبق به علم الله ونفذ به قضاؤه من قتل من يقتل وأخذ من يؤخذ.
(لا أزال بساحتك ): أي بناحيتك وجهتك، ولا أقلع عن ذلك.
(حتى يحكم الله): بما أراد من حكمه إما علي وإما لي.
(وهو خير الحاكمين ): أعلمهم بما فيه مصلحة لي ولك وأحقهم بذلك.
(56) ومن كلام له أوصى به شريح بن هانئ لما جعله على مقدمته إلى الشام
(اتق الله في كل صباح ومساء): في جميع أوقاتك كلها، وخصَّ الصباح والمساء لشمولهما طرفي النهار، كما قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}[طه:130].
(وخف على نفسك الدنيا الغَرُورَ): أي كن خائفاً في أحوالك كلها لغرورها وخدعها ومكرها.
(ولا تأمنها على حال): فإن من كان من طبعه الخدع والمكر لا يؤمن في حالة من الحالات.
(واعلم أنك إن لم تردع نفسك): ردعه إذا كفه عما يريد .
(عن كثير مما تحب مخافة مكروهه): المعنى أنك إذا كففت نفسك عن كثير من محبوباتها مخافة أن تقع في الأمور المكروهة.
(سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر): علت بك إلى معظم الضرر وكثيره.
(فكن لنفسك مانعاً رادعاً): فالمنع عن الشرور، والردع عن هواها .
(ولنزوتك عند الحفيظة): النزوة: الوثبة، والحفيظة: الغضب، ومن أمثالهم: الحفيظة تذهب الحقد؛ لأن الحقد شيء يسير يقع في القلب قليل، لا تأثير له، فإذا وقعت الحفيظة فهي أشد من الحقد وأقوى حكماً منه، ولا جرم كان الحقد لضعفه ذاهباً عندها، لما كانت أعظم حالاً منه، ولهذا فإن من كان في قلبه حقد على غيره ثم قتل ولده فإن القتل يذهب ما كان من الحقد بحصول ما هو أعظم منه جرماً، فهذا مرادهم بقولهم: الحفيظة تذهب الحقد.
(واقِمًا): الوقم: أشد الرد.
(قامعاً): قمعه إذا كفه بعنف وشدة، وأراد كن لها عند هذه أشد كافٍّ وأعظم رادٍّ.
(57) ومن كتاب له إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة
(أما بعد، فإني خرجت مخرجي هذا إما ظالماً وإما مظلوماً): إما هذه هي المكسورة المكررة التي تأتي للعطف، كقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً }[محمد:4] وهذه كلها ومابعدها أحوال منصوبة من التاء في خرجت.
(وإما باغياً أو مبغياً عليه ): وغرضه من هذا إيجاب الحجة على من بلغه وسمعه، وأنه غير منفك من هذه الأحوال.
(وأنا أذكِّر الله من بلغه كتابي هذا): أراد إما أذكِّره وعيده ووعده على الطاعة والمعصية من ذاك، أو أراد أسأله بالله وأناشده به.
(لما نفر إليَّ): لما إن كان مخففاً، فما ها هنا زائدة، واللام هذه جواب القسم داخلة على الفعل الماضي، وإما أن تكون مثقلة بمعنى إلا، وهي في وجهها كهي في قوله تعالى:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ }[الطارق:4]، على القرآتين جميعاً ، وأراد إلا أتى على عجلة نحوي.
(فإن كنت محسناً أعانني): على إحساني فله الأجر مضاعفاً على ذلك.
(وإن كنت مسيئاً استعتبني): طلب عتابي عما أنا فيه وكفني عنه.
(58) ومن كتاب له إلى أهل الأمصار يقتص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين
(وكان بدء أمرنا أنَّا التقينا والقوم من أهل الشام): وكان مبدأ الأمر وأوله أن المقادير جمعتنا، وقوله: (والقوم من أهل الشام): عطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد له، ولا ما يقوم مقامه، كقولك: قمت وزيد، وإلى جوازه من غير تأكيد، ذهب علماء الكوفة.
(والظاهر): من حالنا وحالهم في ذلك.
(أن ربنا واحد، ونبينا واحد): لانعدل عن أحدهما لغيره .
(ودعوتنا في الإسلام واحدة): وهي كلمة التوحيد، المشار إليها بقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ}[آل عمران:64].
(لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله): أي لا نطلب منهم الزيادة على ما هم عليه من ذلك لتمكنهم فيه وانقطاعهم إليه.
(ولا يستزيدوننا): في الإقرار به والثبات عليه شيئاً.
(والأمر واحد): بيننا وبينهم في الدين والإسلام، لا مخالفة بيننا وبينهم في ذلك.
(إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان): الاستثناء هذا متصل، وهو منصوب على الإيجاب، أي وكل أمورنا مستوية إلا ما كان من الخلاف في قتل عثمان.
(ونحن منه بَرَاءٌ): البَراء بفتح الباء هو: المصدر، والبُراء بضم الباء هو: جمع بريء كنذير ونذراء.
(فقلنا لهم: تعالوا): أي فكان من قولنا لهم وخطابنا إياهم أن قلنا لهم: أقبلوا، وتعالوا اسم من أسماء الأفعال تقول فيه: تعال يا زيد، تعالي يا هند، تعالوا يارجال، تعالين يانساء بفتح اللام في هذا كله، قال الله تعالى: {تَعَالَوْا}، وقال: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ }[الأحزاب:28]، وأراد أقبلوا.
(ندواي ما لا يُدْرَكُ اليوم): نصلح بالدواء ما لا يلحق اليوم لعظمه وتفاقمه، والإدراك: اللحوق.
(بإطفاء النائرة): الباء متعلقة بيُدْرَك، والنائرة بالنون هي: الحرب.
(وتسكين العامة): عن الفشل والاضطراب.
(حتى يشتد الأمر): يقوى ويستفحل.
(ويستجمع): يكون مجتمعاً أمره.
(فنقوى على وضع الحق في مواضعه): وأراد أخذ قتلة عثمان بجرمهم، وإنصاف الحق من جهتهم؛ لأنهم قد كانوا سألوه ذلك، وهو أن يمكِّنهم من قتلة عثمان للقصاص وأخذ الحق، فقال لهم هذه المقالة، وحاصلها ترك الأمر حتى تقوى قواعده وتشتد أركانه، ويجري الشرع في ذلك مجراه، فهذا كان رأيه في أول أمره.
(فقالوا: بل ندوايه بالمكابرة): أي بالتكبر والتعاظم علينا في ذلك، ومنه الكبرياء وهو: التعاظم.
(فأبوا): فكرهوا ما أشرنا إليهم من المصلحة، فكان من أمرنا وأمرهم في الحرب ما كان، وانتهت حالنا وحالهم إلى ما عرف.
(حتى جنحت الحرب): أي مالت.
(وركدت): أي ثبتت، وذكر هاتين الحالتين لشمولهما لها؛ لأنها لاتزال بين ميلان على قوم وركود على آخرين، ومنه قولهم: الحرب سجال أي يوم لك ويوم عليك.
(ووقدت نيرانها): توقدت وعظمت، وهم يستعيرون للحرب صفات النار من التوقد والالتهاب لعظمها وصعوبة الأمر فيها.
(وحمشت): بالحاء المهملة والشين بثلاث من أعلاها أي التهبت غضباً.
(فلما ضرَّستنا وإياهم): عضتنا بأضراسها، وهو كناية عن اشتدادها، يقال: ضرَّسه الزمان إذا اشتد عليه.
(ووضعت مخالبها فينا وفيهم): مخالب الأسد هي: براثنه، وهي أظفاره، وأراد أنها أخذت منا ومنهم.
(أجابوا عند ذلك): الإشارة إلى ما كان من الحرب من التأثير في الفريقين.
(إلى الذي دعوناهم إليه أولاً): وهو كف الحرب، وتسكين الدهماء، وحقن الأموال عن السحت وصيانة الدماء، وهو يشير إلى التحكيم وندبهم إليه.
(فأجبناهم إلى ما دعوا): من ذلك وأسعدناهم إليه.
(وسارعناهم إلى ما طلبوا): أي كانوا سريعين إلى ذلك، عجلين إليه، لكنا أسرع منه إليه طلباً منا للمناصحة في الدين وسعياً إلى إصلاح الأمر في ذلك.
(حتى استبانت عليهم الحجة): ظهر أنهم مغلوبون بما أوضحنا عليهم من الحجج في ذلك وأفحمناهم فيه، يشير إلى طلبهم لدم عثمان.
(وانقطعت فيهم المعذرة): يعني العذر، وصار كأنه لا عذر لهم فيما طلبوه من ذلك، إذ كان طلباً لاوقع له، وخصاماً لا فائدة ورائه، ولكنه تجني على من لا ذنب له، ولوم على من لا لوم عليه.
(فمن تمَّ على ذلك): يريد المبغي ، واستمر عليه مع ظهور ما قد ظهر له من البصيرة في رجوعه عما كان عليه من البغي.
(منهم): من أهل الشام معاوية وأحزابه.
(فهو الذي انتقذه الله من الهلكة): أي نجاه الله منها، والهلكة هي: الهلاك، وانتقذه وأنقذه بمعنى واحد، وكلاهما قد روي، وسماعنا فيه: (انتقذه).
(ومن لجَّ): فلان لجَّ في العداوة إذا ولع بها وأكثر من فعلها.
(وتمادى): أي أكثر من مداها، ولم يقف على غاية من ذلك.
(فهو الراكس): الراجع في غيه، ومنه قولهم: ارتكس فلان إذا رجع في أمر قد كان نجا منه.
(الذي ران الله على قلبه): أي غلب الله على قلبه بالخذلان والفساد، والرين: الطبع والدنس، وغرضه أن القلوب منهم قد رانت عليها الذنوب فسودتها وغلبت عليها بالتطخية والقساوة.
(وصارت دائرة السوء على رأسه): المراد بالدائرة هي: البلية الدائرة عليهم، شبهت بالدائرة في الخط لاستيلائها عليهم وإحاطتها بهم من جميع الجهات والجوانب، كما قال الله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ }[التوبة:98]، وقد حكينا من أمر التحكيم في أثناء الخطب المتقدمة ما فيه كفاية.
(59) ومن كتاب له [عليه السلام] إلى الأسود بن قطبة صاحب حلوان
(أما بعد، فإن الوالي إذا اختلف هواه): يريد باختلاف الهوى هو أنه تارة يكون مع هذا على غيره، وتارة يكون مع ذاك على من سواه، من غير التفات إلى النصفة، ولا مواظبة على تحري المعدلة بين الخلق، ومراعاة الإنصاف بينهم، فمن فعل هذا في رعيته ومن تحت يده.
(منعه ذلك كثيراً من العدل): لأن العدل هو مخالف للهوى ومضاد له، فإذا كانت عمدته الهوى منعه ذلك عن العدل في كل أحواله لما ذكرناه.
(فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء): من غير حيف ولا ميل اتباعاً للهوى؛ لأن الله جعلهم بالإضافة إلى الحق على سواء، ولا تفضيل لأحد على أحد فيه.
(فإنه ليس في الجور عوض عن العدل): يعني أن الجور لا يقوم مقام العدل في شيء من أحكامه؛ لأن عوض الشيء يكون سادَّاً مسدَّه، وقائماً مقامه، والجور لايسدُّ مسدَّ العدل.
(فاجتنب ما تُنْكر أمثاله): من غيرك وتكون رادّاً له عليه من جهة نفسك، هذا على أن تنكر مبني لما سمي فاعله، فأما على من رواه مبنياً لما لم يسم فاعله، فالغرض فيه فاجتنب ما تنكر من غيرك أمثاله.
(وابتذل نفسك فيما فرض الله عليك): التبذل بالذال بنقطة من أعلاها هو: الامتهان وخلاف التصون، وأراد امتهن نفسك واستخدمها في أداء ما فرض الله عليك من فروضه وأداء واجباته
(راجياً ثوابه): امتهان من يكون راجياً للثواب.
(ومتخوفاً من عقابه): أن يلحقك ويتصل بك.
(واعلم أن الدنيا دار بلية): أي فتن ومحن وشرور.
(لم يفرغ صاحبها فيها ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة): يعني أنه لم يفرغ ساعة عن اكتساب الأعمال الصالحة إلا ندم عليها لا محالة، حيث لم يكن اغتنمها، وفعل فيها أفعال الخير.
(وإنه لن يغنيك عن الحق شيء أبداً): يعني أن عملك على الحق واشتغالك بالحق لا يقوم مقامه شيء، ولا يعتاض عنه شيء .
(ومن الحق حفظك نفسك): عن كل ما يهلك الدين، ويوقع النفس في غضب الله تعالى وسخطه وعذابه.
(والاحتساب على الرعية بجهدك): الاحتساب هو: الأجر على العدل من جهة الله تعالى.
(فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك): يريد أن الذي يصل إليك من الثواب بسبب حفظك نفسك، وجزاء على عدلك في الرعية أفضل لا محالة مما يصل بسبب عدلك إلى الرعية من الأمن والرفاهية وطيب العيش وقرار النفوس؛ لأن ذلك منقطع حقير بالإضافة إلى أجر الله وثوابه.
(60) ومن كتاب له عليه السلام إلى العمال الذين يطأ عملهم الجيش
(من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من مرَّ به الجيش): يخاطب بذلك أهل ولاياته، والذين يتصرفون عن أمره.
(من جباة الخراج): الذين يأخذونه ممن وجب عليه، والأرض الخراجية هي سواد العراق كما ذكرناه من قبل.
ويحكى أنها اثنان وثلاثون ألف ألف جريب، والجريب: ثلاثة آلاف ذراع وستمائة ذراع، ويؤخذ الخراج من كل جريب شعير درهمان، ومن كل جريب حنطة أربعة دراهم، ومن كل جريب القصب ستة دراهم، ومن كل جريب نخل عشرة دراهم، ومن كل جريب كرم ثمانية دراهم، ومن كل جريب زيتون اثني عشر درهماً.
ويحكى أن عمر رضي الله عنه جبا الأرض الخراجية في أيامه مائة ألف ألف درهم وسبعة وثلاثين ألف ألف درهم، ولا يُغيَّر عما فعله عمر فيها لإجماع الصحابة على فعله ، فلهذا كان حجة واجبة القبول.
(وعمال البلاد): جبات الصدقات، وما يأخذه الإمام، ويتصرف فيه.
(أما بعد، فإني قد سيَّرت جنوداً): للغزو والجهاد في سبيل الله تعالى .
(وهي مارَّة بكم إن شاء الله تعالى ): مجاوزة لكم.
(وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كف الأذى): من أنفسهم إلى سائر من يمرون به من سائر الضعفاء والمساكين، ومن لا قدرة له عليهم.
(وصرف الشذى): بشين منقوطة من أعلاها وذال بنقطة من أعلاها أيضاً وهو: الشر.
قال ابن دريد:
لدن إذا لوينت سهل معطفي
ألوي إذا خوشنت مرهوب الشذى
(وأنا أبرأ إلى الله وإلى ذمتكم): برئ من الشيء إذا خلى عنه، وأراد أني بريء من الإثم إلى الله وإليكم.
(من معرة الجيش): المعرة: المساءة، قال الله تعالى: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ }[الفتح:25]، وأراد ضرهم ومساءتهم.
(إلا من جوعة المضطر الذي لا يجد عنها مذهباً إلى شِبَعِهِ): والمعنى في هذا أني أبرأ إلى الله من مضرة أو مساءة تلحقكم من جهة الجيش وسببه، إلا من جوعة يضطر إليها ولا يجد إلى سدِّ جوعته طريقاً، وفي كلامه هذا دلالة على أنه إذا بلغ إلى هذه الحالة جاز له تناول ما يسدُّ به رمقه وينهض به حاله.
(فنكِّلوا من تناول منهم ظلماً): اجعلوه نكالاً وعبرة من همَّ منهم بأخذ المال ظلماً، وأزيلوهم:
(عن ظلمهم): عما يظلمون به الخلق ويأخذونه غصباً.
(وكفوا أيدي سفهائكم): اقبضوها عن أن يصلوا إليهم شراً وزمُّوها .
(عن مضادتهم): المضادة: المنافاة، وهو أن تريد فعلاً ويريد غيرك أن يفعل ما يناقضه ويخالفه، فيكون فعله هذا مضادة.
(والتعرض لهم فيما استثنيناه): يعني وإذا فعلوا ما ذكرنا في الاستثناء من سدهم الجوعة على جهة الاضطرار، فلا يعترضون في ذلك.
(وأنا بين أظهر الجيش): يقال: هو بين أظهرهم وبين ظهرانيهم إذا كان حاصلاً بينهم ومعهم.
(فارفعوا إليَّ مظالمكم): الظلامة والظليمة والمظلمة: اسم لما يأخذه الظالم منك.
(وما عراكم): أي وما غشيكم من ذلك، يقال: فلان تعروه الضيوف أي تغشاه.
(مما يغلبكم من أمرهم): غلبه الأمر إذا قهره ولا يستطيع دفعه.
(ولا تستطيعون دفعه): إزالته عنكم.
(إلا بالله وبي): بمعونة الله وعنايتي.
(أغيِّره بمعونة الله): بالإزالة والإماطة بلطف الله وإعانته لي في ذلك.
(إن شاء الله تعالى ): يعني أن ذلك كله موقوف على مشيئة الله تعالى وإرادته ومعونته ولطفه.
(61) ومن كتاب له عليه السلام إلى كميل بن زياد وهو عامله على هيت
(أما بعد؛ فإن تضييع المرء ما ولِّي): من هذه الولايات، واستؤمن عليه من هذه الأمانات من الرعاية للنفوس والأموال.
(وتكلفه لما كفي): وتعاطيه المشقة في رعاية ما قد كفى من ذلك.
(لعجز حاضر): غير منتظر.
(ورأي متبر): أي مهلك.
(وإن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا ): فلان يتعاطى الشجاعة أي يأخذها من جهة نفسه، وليس أهلاً لها، وأراد ها هنا أنه تعاطاها ولم يكن رأياً صواباً.
(وتعطيلك مسالحك): المراقب التي يُخَافُ منها دخول العدو، وهي التي تكون في مفاتح الطرقات.
(التي وليناك): إصلاحها والنظر في أمرها.
(ليس لها من يمنعها): عن العدو بعدك.
(ولا يرد الجيش عنها): إذا قصدها وهمَّ بها بعد صدورك عنها.
(لرأي شعاع): أي متفرق، يقال: ذهبوا شعاعاً أي متفرقين في البلاد.
(فقد صرت): بعد انتقالك عن مواضعك، وبعدك عن ولاياتك للغزو في غيرها.
(جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك): الجسر بفتح الفاء وكسرها هو: الذي يعبر عليه، وأراد أنك لما أخليت مواضعك صرت كالآلة، وكالجسر الذي يكون طريقاً للمضي والعبور إلى قضاء الحوائج لأعدائك على من يكون من خاصتك وأوليائك.
(غير شديد اَلمنْكِب): المَنْكِب من الإنسان هو: مجتمع الكتفين، وهو الكاهل أيضاً، وهو كناية ها هنا عن ضعف الأمر وهون الحالة.
(ولا مهيب الجانب): أي ولا يهاب جانبك، والهيبة : الخوف.
(ولا ساد ثُغْرَة): الثُغْر: المكان الذي يخاف من جهته العدو.
(ولا كاسر لعدو شوكة): الشوكة: الحد، وغرضه أنه غير مجتهد في نكاية عدو وإزالة حدته.
(ولا مغنٍ عن أهل مصره): بإصلاح أحوالهم، وذبَّ العدو عن حوزتهم.
(ولا مجزٍ عن أميره): ولا كافٍّ عن أميره فيما ولاَّه أمره، ولا مصلح حاله، وظاهر كلامه ها هنا إنكار له على تخليته للمصر وأعماله المقصودة بالولاية والحفظ، وأنه لا ينبغي فعل ذلك وأمثاله إلا بإذن من جهة إمامه، فلهذا أنكر عليه صنعه في ذلك.
(62) ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر [رحمه الله] لما ولاَّه إمارتها
(أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمداً [صلى الله عليه وآله ] نذيراً للعالمين): ما بين أيديهم من العقاب العظيم والألم البالغ الشديد، كما قال تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ }[المدثر:2].
(ومهيمناً على المرسلين): المهيمن أصله مأ أمن بهمزتين فاستثقل اجتماعهما فقلبت الأولى هاء كما في نحو: أرقت الماء هرقت الماء، ولينوا الثانية ثم قلبوها ياءً فصار مهيمن أي شاهداً ورقيباً عليهم.
(فلما مضى [صلى الله عليه وآله] ): إلى الله بعد إبلاغ الرسالة وتأدية الأمانة.
(تنازع المسلمون الأمر بعده): يعني الولاية في الأمة والقيام بأمرهم بعده.
(فوالله ما كان يلقى في رُوْعِي): الرُوع بالضم هو: القلب.
(ولا يخطر ببالي ): ولا يعرض بخاطري.
(أن العرب تزعج هذا الأمر ): أي تزيله وتعدِّيه.
(عن أهل بيته): أقاربه وأهله.
(ولا أنهم يمنحونه غيري ): أي يعطونه سواي، والمنحة: العطية.
(من بعده): ومصداق ما قاله عليه السلام أمران:
أما أولاً: فلأن أقارب الرجل وأهل بيته أحق برئاسته، وإحراز مرتبته من غيرهم من الأجانب، وهذا ظاهر في عرف الخلق لا ينكره أحد.
وأما ثانياً: فبما كان قد علم من الأخبار بما يقضي له بالولاية والإمامة ويصرِّح بذلك، فلهذا قال: ما كان يخطر له ببال ما فعلوه من ذلك لما تقضي به القرائن وتشهد به الأحوال.
(فما راعني إلا انثيال الناس): أي فما هالني من ذلك إلا انصباب الناس وإجماعهم.
(على فلان): يعني أبا بكر.
(يبايعونه): يعقدون له الخلافة.
(فأمسكت يدي): عن البيعة له، وقد مرَّ ذكر الخلاف في المدة التي تأخر عن البيعة فيها فلا وجه لتكريره، وهذا كله يشير به إلى ما كان من أمر السقيفة، وما وقع فيها من الخبط والخلاف.
(حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام): يعني أهل الردة ، وهم بنو حنيفة رهط مسيلمة.
(يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم): إلى تغييره وزواله.
(فخشيت أني إن لم أنصر الإسلام وأهله): أقوم معه، وأشد أركانه، وأقوي أنصاره من أهله.
(أن أرى فيه ثلماً): نقص ينقصه.
(أوهدماً): في أركانه وقواعده وأساساته.
(تكون المصيبة عليَّ أعظم من فوت ولايتكم): من بطلانها عني وفواتها عن يدي.
(التي هي متاع أيام قلائل): ثم تزول بالموت، وتنقطع آثارها وتمحى رسومها.
(يزول منها ما كان، كما يزول السراب): من الأمكنة التي يكون فيها، والسراب هو: ما يكون في الأمكنة الخالية المتسعة، شيء يشبه الماء، وعن قريب يبطل كأنه ما كان، فلهذا شبه زوال الولاية به.
(وينقشع كما ينقشع السحاب): أي يزول ويتفرق.
(فمضيت في تلك الأحداث): مضى في حاجته إذا قصدها غير ملتفت على غيرها، وأراد أنه سار مع أبي بكر إلى قتالهم، وكان من جملة الناصرين للدين في قتالهم، فقطع الله دابرهم، واستأصل شأفتهم .
(حتى زاح الباطل): أي بعد وذهب عن مستقره وموضعه.
(وَزَهَقَ): أي اضمحل وزال وتلاشى أمره.
(واطمأن الدين): سكن واستقر.
(وتنهنه): أي كفَّ، من قولهم: نهنهته فتنهنه أي كففته فكفَّ.
ثم إنه التفت إلى ذكر أهل الشام بقوله:
(إني والله لو لقيتهم واحداً): منفرداً لا أحد معي.
(وهم طلاع الأرض ): أي ملؤها فوق ظهرها.
(ما باليت ولا استوحشت ): ما وجدت في نفسي خيفة ولا وحشة من القتل ومن لقائهم.
(وإني من ضلالهم الذي هم فيه): ميلهم عن الحق الذي هم متلبسون به وساكتون عليه.
(والهدى الذي أنا عليه): والنور الواضح والبصيرة النافذة.
(لعلى بصيرة من نفسي): لا أشك فيها ولا أستريب من أجلها.
(ويقين من ربي): قطع فيما أنا عليه.
(وإني إلى لقاء الله لمشتاق): فلهذا لم أبال بالقتل ولا ألتفت عليه.
(ولحسن ثوابه لمنتظر راجٍ): لما أعد لأوليائه من كرامته وجزيل عطائه.
(ولكني آسى): الأسى هو: الحزن، وأراد إنه ليحزنني:
(أن يلي هذه الأمة سفهاؤها): خلاف ذوي الأحلام منها.
(وفجارها): الخارجين عن الدين والمائلين عن طريقه، يشير بذلك إلى معاوية وبني أمية.
(فيتخذوا مال الله دُولاً): الدُولة بالضم في المال، يقال: صار الفيء دولة بينهم أي يتداولونه مرة لهذا ومرة لذاك .
وقوله: فيتخذوا منصوب بإضمار أن أي فأن يتخذوا إذ لم يسبق قبله ما يكون موجباً لنصبه من الأمورالثمانية ، ولهذا كان نصبه بإضمارها، وربما جرى كثيراً.
(وعباده خولاً): أي خدماً، وكلامه هذا يشير به إلى حديث أبي ذر رضي الله عنه.
ويحكى أن عثمان أمر معاوية بإشخاص أبي ذر من الشام على أغلظ المراكب وأوعرها، فحمله معاوية على جمل بغير وطأ، وبعث معه دليلاً عنيفاً يعنف به في السير، فلما قدم المدينة دخل على عثمان فقال له: لا أنعم الله بك عيناً ياجنيدب.
فقال له أبو ذر: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً، وعبيده خولاً، ودين الله دخلاً، ثم يريح الله العباد منهم)) .
فقال عثمان لمن بحضرته: أسمعتم هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فقالوا: ما سمعناه.
فقال عثمان: ادعوا علي بن أبي طالب، فدعي، فلما جلس قال عثمان لأبي ذر: اقصص حديثك في بني العاص.
فأعاد أبو ذر الحديث.
فقال عثمان: يا أبا الحسن، هل سمعت هذا من رسول الله؟
فقال أمير المؤمنين: (لم أسمعه، ولكن قد صدق أبو ذر).
فقال عثمان: وبماذا صدقته؟
فقال: لحديث الرسول عليه السلام فيه: ((ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر )) .
فقال جميع من حضر من الصحابة: صدق أبو ذر .
(والصالحين حرباً): أي عدواً يحاربونه.
(والفاسقين حزباً): الحزب: الجماعة، وأراد يجتمعون إليهم، والتحزُّبُ: التجَمُّع.
(فإن فيهم من شرب فيكم الحرام): يريد المغيرة بن شعبة فإنه شرب الخمر في عهد عمر، وكان والياً من قِبَلِه فصلى بالناس سكران، وزاد في الركعات وقآء الخمر، فشهدوا عليه وضرب الحد ، وقيل: هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، كان والياً على الكوفة من قِبَلِ عثمان، فخرج إلى صلاة الفجر وهو سكران فصلاها أربعاً، ثم أقبل على الناس، وقال: هل أزيدكم؟ فقال غيلان بن غيلان الثقفي: لا بارك الله لك أي شيء تزيد، ما نرى هذا إلا من أمير المؤمنين - يعني عثمان- إذ يؤمر علينا مثل هذا المفسد، وأنهي ذلك إلى عثمان فعزله، وأراد الناس أن يقيموا الحد على الوليد، وكان عثمان لا يأذن، فبعث علي الحسن عليهما السلام حتى دخل المجلس وأقام الحد عليه .
(وجلد حداً في الإسلام): يشير إلى المغيرة بن شعبة أو الوليد كما ذكرناه من قبل.
فأما المغيرة بن شعبة فقد كان شهد عليه بالزنا في أيام عمر، فلم يزل يتلطف بالشهود، ويحتال في إسقاط حد المحصن عنه حتى سقط، وقد كانت الشهادة كاملة، لولا ما كان من تردد أبي بُكْرة في ذلك .
(وإن منهم لمن لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ): يشير بذلك إلى عمرو بن العاص إذ كان من المؤلفة ، والرضيخة: شيء قليل يرمى به على جهة الرشوة لأمر يُدْخَلُ فيه.
(فلولا ذلك): يشير إلى ما كان من بني أمية من الأحداث العظيمة في الدين.
(ما أكثرت تأليبكم): تجميعكم للحرب.
(وتأنيبكم): أي لومكم على ترك الجهاد.
(وجمعكم وتحريضكم): وضمكم وحثكم على القتال، والتحريض: الحث والزجر، قال الله تعالى : {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ }[الأنفال:65].
(وترككم إذ أبيتم): وإهمالكم إذ كرهتم ما أدعوكم إليه.
(وونيتم): ضعفتم عن ملاقاة عدوكم.
(ألا ترون إلى أطرافكم): يريد أقاصي البلاد.
(قد أخذت ): بالاستيلاء عليها.
(وإلى أمصاركم قد فتحت): استفتحها اعداؤكم وأخذوها قهراً عليكم من غير مبالاة.
(وإلى ممالككم تُزْوَى): الممالك هي: الأموال والنفائس، تُزوى: أي تُجمع وتُقبض.
(وإلى بلادكم تغزى): تقصد بالغزو وتشنُّ الغارات عليها من الأمكنة المختلفة، والأقطار المتباعدة، لايخافون منكم خوفاً.
(انفروا رحمكم الله إلى قتال عدوكم): والنفر: الخروج من المساكن والأوطان لغرض من الأغراض، كما قال تعالى: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً }[التوبة:41].
(ولا تثَّاقلوا إلى الأرض): كنى بهذا عن القعود عن الجهاد والتبطئ عنه، كما قال تعالى: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ }[التوبة:38].
(فتنفروا بالخسف): يروى (فتنفروا): وأراد أنكم إذا تثاقلتم عن الجهاد نفرتم بعد ذلك بالذل والمشقة، ويروى: (فتقرُّوا): من الإقرار أي فتقبلوا الخسف؛ لأن من أقرَّ بالشيء فقد قَبِلَهُ.
(وتبوؤوا بالذل): أي تستحقوه، من قولهم: باء بكذا إذا كان مستحقاً له.
(ويكون نصيبكم الأخس): أي الأنقص الدني، يقال: فعل فلان خسيس إذا كان دنياً.
(إن أخا الحرب الأَرِقُ): الأرق: السهر، وأراد هاهنا أن من كان مدارياً للحروب مداوساً لها فإنه لاينام ويسهر عند ملاقاتها.
(ومن نام لم يُنَمْ عنه): يعني أنكم وإن ضعفتم وجبنتم عن ملاقاة أعدائكم، فليسوا بالموهنين للأمور وإنما هم مجدِّون فيها.
(63) ومن كتاب له عليه السلام إلى أبي موسى الأشعري، وهو عامله على الكوفة، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل
(من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس):
يروى أنه لما كتب أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة يستنفرهم إلى حرب أهل الجمل طلحة والزبير وعائشة بالبصرة، أخذ في تخذيل الناس، وتثبيطهم عن اللحاق به، لأغراض مفهومة ومقاصد معلومة، لم يغب حالها على أمير المؤمنين، فكتب إليه:
(أما بعد، فقد بلغني عنك قول): خاطبت به أهل الكوفة.
(هو لك): أي قلته من أجل نفسك، وليس للدين فيه ورد ولا صدر، ولا قصدت به وجه الله تعالى .
(وعليك): مضرته في الآخرة لما فيه من التخذيل عن نصرة الله والجهاد في سبيله.
(فإذا قدم عليك رسولي): بكتابي هذا.
(فارفع ذيلك): ما استحب من ثيابك، وفي الحديث: إن النساء كنَّ يجررن ذيولهنَّ على الأرض ، فقلن: يا رسول الله، كم نُرخي؟
فقال: ((شبر)) فقلن: إذاً ننكشف، فقال: ((ذراع)) .
(واشدد مئزرك): إزارك، وهذا كله كناية عن العجلة وخفة السير والاستعجال فيه.
(واخرج من جحرك): أي من بيتك، وفي الحديث: ((لو كان المؤمن في جحر فارة ، لقيض الله له فيها من يؤذيه)) .
(واندب من معك): من أصحابك وخاصتك وأهل بلدك على الجهاد في سبيل الله والحث عليه.
(فإن خففت): في السير واستعجلت فيه.
(فانفذ): إلينا على العجلة، يقال: خف القوم إذا استقلوا ونهضوا، هذا على من رواه بفائين، فأما من رواه بقافين فوجهه أنه يقال: حققت الأمر أي تحققته وتيقنته.
(وإن تفشلت ): جبنت.
(فابعد): أراد إما فابعد عنّا، والبعد: خلاف القرب، أو أراد فأهلك من بَعِدَ بالكسر يَبْعَدُ بالفتح إذا هلك.
(وايم الله لتؤتينَّ حيث أنت): أراد ليوصلنَّ إليك حيث كنت من الجهات لا يمنعك منها مانع.
(ولا تترك حتى تخلط زبدك بخاثرك): الزبد: ما صفا وطلع، والخاثر: ما ركد في أسفل الإناء.
(وذائبك بجامدك): وهذا كله كناية عن الإحاطة بمعرفة مقاصده ومراداته.
(وحتى تعجل عن قعدتك): القعدة بالفتح: واحدة القعدات، وبكسر القاف: الحالة من القعود، يقال: فلان حسن القعدة، وأراد تعجل عن توطنك وراحتك.
(وتحذر من أمامك، كحذرك من خلفك): أي ويأتيك ما تكرهه من أمامك كما يأتيك من خلفك، وغرضه من هذا كله تنبيهه على عظم ما هو لاق من شدائد الأمر وعظائمه.
(وما هي بالهوينا): أي وما القصة أو الحالة بالهينة، يريد حرب الجمل، وفيه تعريض بحاله حيث لم يخف عند وصول كتابه إليه، ويستعجل أمره في اللحاق به، والهوينا: تصغير الهونا، تأنيث الأهون.
(التي ترجو): تقع في ظنك وتتحقق في نفسك.
(ولكنها الداهية الكبرى): المصيبة العظيمة والفتنة الشديدة، التي لا غاية في الشدة إلا وهي بالغة لها وزائدة عليها.
(يركب جملها): ركوب الجمل جعله هاهنا كناية عن تفاقم الأمر وصعوبته؛ لأن الجمل إذا كان مركوباً عليه كان ذلك أشد ما يلاقي من التعب ومقاساة البلاء، لأنه يلحقه من ذلك الغم بترك الراحة والأكل والوقوف.
(ويذل صعبها): ما يصعب من أمورها العظيمة.
(ويسهَّل جبلها): ويوطئ ما كان وعراً لا يمكن وطئه.
سؤال؛ قد فسرت قوله: ويركب جملها بشدة الأمر وصعوبته، لكن قوله: ويذل صعبها ويسهل جبلها يمنع من ذلك، فكيف يمكن الملاءمة بينهما؟
وجوابه؛ هو أن غرضه في هذا كله من ركوب الجمل وذلة الصعب منها، وسهولة جبلها، أن هذه الفتن في أوائل أمرها ومبادئ أحوالها يركب جملها لسهولتها، ويُذَلُّ ما كان منها صعباً، ويسهل ما كان منها وعراً، فإذا كان في عواقب أمرها انقلبت هذه الأحوال كلها، وبدت نقائضها من الصعوبة والوعورة فيما رُكِبَ منها من الأهوال، ويُوطئ من الأمكنة الوعرة الجرزة، وعن هذا قال أمير المؤمنين في كلام سيأتي شرحه: (الفتن إذا أقبلت شبَّهت، وإذا أدبرت نبَّهت).
(فاعقل عقلك): أي احبس عقلك بالعقال واحفظه عما يغيِّره، ويكون سبباً في تخبطه.
(واملك أمرك): عن أن تذهب به الرجال عن يمين وشمال.
(وخذ نصيبك وحظك): من الدنيا، وأقبل على ما يهمك من أمر الآخرة.
(فإن كرهت): ما أقول لك من هذه الآداب، وأعلمك من هذه الحكم للدين والدنيا والنافعة في الآخرة والأولى.
(فتنحَّ): أي ابعد عني.
(إلى غير رحب): سعة في أمرك.
(ولا في نجاة): عن الشرور والعواقب السيئة.
(فبالحريَّ لتكفينَّ وأنت نائم): يقال: فلان حري بكذا إذا كان حقيقاً به، وفيه استعمالان:
أحدهما: بفتح الراء أي هو حري أن يفعل، وعلى هذا لا يثنى ولا يجمع.
وثانيهما: بكسرها وعلى هذا يثنى ويجمع، فيقال: هو حر بكذا وهما حريان وهم حريون، وهن حريات وحرايا، وفيه معنى القسم كأنه قال: فبالحري والله، ولهذا جاء باللام والنون المؤكدة جواباً له.
وقوله: وأنت نائم في موضع نصب على الحال، ويسد غيرك مسدك.
(حتى لايقال: أين فلان!): أراد أنه لايبقى موضع لذكرك أصلاً؛ لأن الرجل إنما يذكر عند الشدائد، إذا كان لايغني عنه أحد فيها ، ولايقوم مقامه، فأما إذا كان هناك من يقوم مقامه فلا وجه لذكره.
(وإنه لحق ): أي إن الذي ذكرته في شأنك وأمرك لحق سيأتيك نبأه وتفصيله.
(مع مُحِقٍّ): آخذ بالحق، فاعل له، وأراد به نفسه.
(ولايبالي ما صنع الملحدون): ما أبالي كذا أي لا أكترث به، ولا ألتفت إليه، أي لا يحتفل بما صنعه أهل الإلحاد في الدين والميل عنه، وفي هذا تعريض بحال أبي موسى لا يخفى على من له أدنى فطنة وكياسة.
(64) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية جواباً
(أما بعد، فإنا كنا نحن وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة): يعني بني هاشم وبني أمية؛ لأن معاوية ذكر ذلك في كتابه من أن بني هاشم وبني أمية كانوا مؤتلفين مجتمعين، فأجابه أمير المؤمنين بقوله: إن ما قلته حق من الألفة والاجتماع.
(ففرق بيننا وبينكم أمس): يريد من الأفعال بالأمس، وكنى بقوله: أمس عن جميع الحوادث المتقدمة، وهي كناية لطيفة عجيبة، يتفطن لحالها أهل البصائر النافذة والقرائح المتقدة.
(أنَّا آمنا وكفرتم): يعني صدقنا بالرسول وكذبتموه.
(واليوم أنَّا استقمنا وفتنتم): يعني وفرق بيننا ما كان من الحوادث الآن، وهو أنَّا استقمنا على الدين، وعلى ما جاء به الرسول عليه السلام، وفتنتم بإعراضكم عنه واختياركم البغي والفسق والمخالفة، والخروج عما عليه السلف الصالح من الأمة.
(وما أسلم مسلمكم إلا كرهاً): يشير إلى أبيه أبي سفيان بن حرب، وقد ذكرنا من قبل سبب إسلامه، وما كان من حديثه والعباس يوم الفتح، وأن إسلامه ما كان إلا عن ضرورة وكرهاً وخيفة من القتل، ولهذا فإن العباس لما أدخله على الرسول [ صلى الله عليه وآله وسلم] قال له: ((ويحك يا أبا سفيان!، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ))، فقال: بأبي وأمي، ما أوصلك وأكرمك وأحلمك، والله لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى، فقال: ((ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله))؟ فقال: بأبي وأمي أنت، أما هذه ففي النفس منها شيء، فقال له العباس: ويلك! تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك فتشَّهد، وظاهر هذه القصة أن إسلامه كان لامحالة عن كره، وأي إكراه أعظم من ضرب العنق.
(وبعد أن كان أنف الإسلام كله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حزباً ): الحزب: الجمع، وأراد بأنف الإسلام اجتماع المهاجرين والأنصار معه، وكانوا تحت ركابه وهم عشرة آلاف، وهذا أيضاً دليل آخر على إكراه أبي سفيان؛ لأنه رأى ما هاله من هذه العدة مع الرسول صلى الله عليه وآله، لا يخالفون أمره.
(وذكرت أني قتلت طلحة والزبير): أما طلحة فلا شك في قتله يوم الجمل، وقد ذكرناه من قبل، وذكرنا حديث قتله، وما كان فيه من ندمه وتوبته.
وأما الزبير فلم يقتل في ذلك اليوم ولكنه ولَّى هارباً، وذكرنا إنشاده لما أنشد من الشعر دلالة على ندامته، وذكرنا ملقى عمار بن ياسر له.
(وشردت عائشة ): التشريد: الطرد والإبعاد.
(ونزلت المصرين): يعني البصرة والكوفة.
(وذلك أمر غبت عنه): يعني لم تشاهده.
(فلا عيب عليك فيه ): هل تكون فيه كاذباً أو غير كاذب؛ لأنك لو أخبرت عن المشاهدة أو كنت حاضراً له لأمكن تطرق التكذيب إليك فيه، ولكن أنت غائب عنه.
(ولا العذر فيه إليك)، فنوجه الاعتذار إليك، إذا كان فيه وجه من وجوه القبح.
(وذكرت أنك زائري في المهاجرين والأنصار): يعني بالمهاجرين من كان من أهل مكة وانتقل إلى المدينة، وبالأنصار من كان من أهل المدينة الأوس والخزرج، والزيارة هاهنا القصد للحرب والانتقام.
(وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك): يشير إلى قوله عليه السلام: ((لا هجرة بعد الفتح )) ؛ لأن أخا معاوية يزيد بن أبي سفيان أسر بعد الفتح، أسره خالد بن الوليد حتى تجمع معه الأحابيش في أسفل مكة ، وكان إسلام معاوية أيضاً بعد الفتح بستة أشهر .
سؤال؛ قوله: وقد انقطعت الهجرة بعد قوله: وذكرت أني زائرك في المهاجرين والأنصار، كلام متنافر، فما وجه الملاءمة بينهما؟
وجوابه؛ هو أنه لما حكى قول معاوية: إنه زائر له في المهاجرين والأنصار، أجابه بكلام مشتمل على فائدتين:
الأولى منهما: تكذيبه بأن في حزبه المهاجرين وهم أنصاره وأعوانه على حربه، فقال: منكراً؛ لأن يكون معه المهاجرون أن الهجرة قد انقطعت يوم أسر أخوك، فلا تذكر الهجرة ولا من هاجر، وهذا بمثابة من يقول لك: إني أريد أن ألقاك في بني تميم، فتقول له: إن بني تميم قد قطعت دابرهم، وفرقت شملهم، يوم قتلت أباك وأخاك.
الثانية: أنه أراد أن يعرض بأن إيمانه كان متأخراً بعد الناس، وأن الناس قد سبقوه إلى الله تعالى، وأنه كان مع قتل أخيه، وكلاهما بعد الفتح.
(فإن كان فيك عجل فاسترفه): الرفاهية: الإرواد، وأراد إن كانت تستحثك العجلة، فاطلب الرفاهية، فإنه ليس فائتاً عليك شيء.
(فإني إن أزرك فذلك جدير): الإشارة إلى المصدر، أي فذلك الزور حقيق وأهل، وأن وما بعدها في موضع نصب على نزع الجار أي حقيق بأن يكون، والمعنى في هذا فيحق على الله ذلك.
(أن يكون الله إنما بعثني للنقمة منك): أنشأني للانتقام منك، وإيصال العقوبة إليك، والبعث هو: الإرسال، وهو هاهنا من قولهم: بعثته من منامه أي أنشأته.
(وإن تزرني فكما قال أخو بني أسد): وأنشد:
(مستقبلين رياح الصيف تضربهم
بحاصب بين أغوار وجلمود)
ولنذكر إعرابه وموضع الشاهد منه:
أما إعرابه فهو ظاهر، فقوله: مستقبلين حال مما قبله من القصيدة.
تضربهم: أي تصيبهم، من قوله: ضربه الله بالبلاء أي أصابه به.
والحاصب: هو الريح الشديدة التي تثير الحصباء.
والجلمود: الصخر.
والأغوار: جمع غور، وهو عبارة عما انخفض من الأرض.
وأما موضع الشاهد منه فإنما أورده متمثلاً به، وهو أنه شبه حال معاوية بتوجهه إليه بحال قوم مسافرين وقعوا في أرض منخفضة ذات حجارة تستقبلهم رياح الصيف، وخصها لما فيها من شدة الهبوب والحركة، فتقذف عليهم تلك الأحجار وتصيبهم بها، ولا حال أعظم من ناس يرمون إلى أسفل بالأحجار والصخر رمياً شديداً، فهكذا يكون حاله إذا زاره.
(وعندي السيف الذي أعضضته): أعضضت السيف إذا جعلته عاضاً، والعضُّ بمقدم الأسنان، شبه ضرب السيف ولصوقه بالمضروب بمنزلة العضِّ بطرف الأسنان.
(بجدك): يريد عتبة.
(وخالك): الوليد بن عتبة.
(وأخيك): حنظلة بن أبي سفيان.
(في مقام واحد): موطن يوم بدر وفي وقعة واحدة.
(وإنك والله ما علمت الأغلف القلب): ما في قوله: ما علمت يحتمل أن تكون موصولة أي الذي عرفته وتحققته، ويحتمل أن تكون مصدرية أي في علمي ومعرفتي، والأول هو الأشبه؛ لأنه كأنه جعله من قبل ما لا يعلم، ولهذا أتى بما لما كانت موضوعة لما لا يعلم، والأغلف هو: الذي يكون في غلاف وغطاء فلا يعي شيئاً، كما قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ }[البقرة:88].
(المقارب العقل): يريد أنه ضيق الفؤاد، غير متسع للأمور ولا منشرح القلب، وشيء مقارب إذا كان بين الجيد والردي، وإنما أضاف ما فيه الألف واللام إلى مثله؛ لأنه من باب الحسن الوجه، والكريم الحسب.
(والأولى أن يقال لك): والأحق أن يقال لك من الأقوال كلها هو:
(إنك رقيت سلماً أطلعك مطلع سوء عليك لا لك): شبه حاله فيما أتى من هذه الأمور الصعبة، ودخوله في هذه الأشياء الضنكة من فسقه وتمرده، وخروجه عن الحق ومخالفته بنصب المحاربة والمقاتلة له، بحال من رقى سلماً فأطلعه على أمور يكرهها، ولا يحب الاطلاع عليها، فكانت كلها وبالاً عليه، وليس له من فوائدها شيء.
(لأنك نشدت غير ضالتك): التي ضيعتها وأهملتها.
(ورعيت غير سائمتك): وتصرفت بالرعي فيما لا تملكه من السوائم.
(وطلبت أمراً لست من أهله): أراد إما طلبه بدم عثمان وليس أهلاً له، وإما أن يريد طلب المحاربة وليس صالحاً لها والبغي والمخالفة في ذلك.
(ولا في معدنه): معدن الشيء: مكانه وموضعه، ومنه معدن الذهب أي مكانه.
(فما أبعد قولك من فعلك!): يريد أنك تقول: إني مسلم بلسانك وتصرح بذلك، وأفعالك ليس من أفعال المسلمين.
(وقريب ما أشبهت من أعمام): أي والمشابهة بينك وبين الأعمام قريبة، فالأعمام هم الأخوة لأبي سفيان.
(وأخوالٍ): الوليد بن عتبة، فهذان قتلا يوم بدر.
(حملتهم الشقاوة): الكفر والطغيان.
(وتمني الباطل): تسويفه، وهو رد الحق والمكابرة على مخالفته.
(على الجحود بمحمد صلى الله عليه وآله): تكذيبه ورد ما جاء به من المعجزات الباهرة.
(فصرعوا مصارعهم حيث علمت): شاهدت ورأيت، وبلغك منها مالا يمكن رده.
(لم يدفعوا عظيماً): مما أصابهم من ذلك.
(ولم يمنعوا حريماً): من مال ولا نفس؛ لأنهما محترمان، بل أبيحت الدماء وأخذت الأموال من غير مانع لها، ولا دافع عنها.
(بوقع سيوف ما خلا منها الوغَى): من أجل مواقع نصال سيوف حاصلة في الوغى، يعني الحرب، وسميت الحرب وَغَى لما تشتمل عليه من الجلبة والأصوات، والوغى: كثرة الأصوات.
قال الهذلي:
كأنَّ وَغَى الخَمُوش بجانبيه
مَآتِمُ يَلْتَدِمْن على قتيل
والْخَمُوش: ذباب البعوض.
(ولم تماشها الْهُوَيْنى): أراد هاهنا السكينة والوقار، يمدح السيوف بأنها في غاية الخفة والعجلة عند الضرب لم تصاحبها السكينة، وفي أحاديث بدر أنه لما أمر المشركون من يحرزهم ويدري بعددهم، فرجع وقال : والله لقد رأيت ناساً ما لهم عهدة إلا قوائم السيوف، وأنه لا طاقة لكم بهم فارجعوا عمَّا أنتم فيه .
(وقد أكثرت في قتلة عثمان): من ذكرهم والخوض في أمرهم.
(فادخل فيما دخل الناس فيه): أراد إما في الإمامة والبيعة، وهذا هو الظاهر من كلامه، وإما أن يريد اطلب الشيء من وجهه، واقصد ما يحق لك أن تطلبه من ذاك.
(ثم حاكم القوم إليَّ): فيما تطلبه من ذلك، وإنما قال: إليَّ؛ لأن المحاكمة إنما هي في أمر الدم والقصاص فيه، ولابد فيه من حكم الإمام وأمره.
(أحملك وإياهم على كتاب الله): على حكم كتاب الله وأمره في ذلك، من غير مداهنة لك ولا لهم في ذلك ولا مصانعة.
(فأما تلك التي تريد): يعني الخصلة التي تطلب وترمز إليها، وتشير في أحوالك كلها، وكان قد طلب منه أن يتركه والياً على الشام كما ولاه عثمان ومن قبله ثم يبايعه، فقال له عليه السلام:
(إنها خدعة الصبي عن اللبن في أول الفصال): يريد أنها خدعة منك لي ومكر، كما تخدع الصبي أمه إذا فطمته عن رضاع ثديها، وتعلله بشيء يأكله ويلعب به فيلهو عن رضاعها، وقد مر في أثناء الخطب المتقدمة منعه لمعاوية التولية، وقال له عليه السلام في ذلك: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً }[الكهف:51].
سؤال؛ كيف ولَّى زياداً ولم يولِّ معاوية، وليس حال أحدهما إلا قريباً من حال الآخر؟
وجوابه؛ هو أن الأمر في ذلك مفوَّض إلى رأيه وموكول إليه، ولا يتهم في حال، فلعله رأى مصلحة في تولية ذاك ومنع هذا لمصلحة لانعلمها، وهو أعرف بها، ولا يمتنع أن يكون معاوية أدخل في الخدع والمكر وقلة المبالاة والجسرة من زياد.
ومن العجب أنه يحكى أنه كان كاتباً للوحي، وهذه رواية لم يرد صاحبها بها وجه الله تعالى، فإن كتَّاب الوحي: أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وعثمان بن عفان، فإن غابا كتب أبي بن كعب وزيد بن ثابت، ومتى كان معاوية أميناً على التافه اليسير من أمور الدين فضلاً عن أن يكون أميناً على أجلّها حالاً وأعلاها مرتبة، وهو وحي الله النازل من السماء، على يد الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين!
(65) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية أيضاً
(أما بعد؛ فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأمور): آن الشيء إذا حضر وقته، واللمح الباصر هو: النظر بتحديق شديد نحو المرئي، والباصر بمعنى ذو البصر، وكان معاوية كثيراً ما يقول لأمير المؤمنين: لك العراق ولي الشام، فأجابه بما ذكر، وعيان الأمور: معاينتها وإدراكها.
(فقد سلكت مدارج أسلافك): مذاهب من مضى من عشيرتك وأهلك الماضين.
(بادعائك الأباطيل): الأمور الباطلة وهو قوله: لي العراق كما كان من أسلافك من التكذيب للرسول، ورده وإنكار ما جاء به من الحق.
(واقتحامك غرور الْمَيْنِ): وإدخالك لنفسك في مخادع الكذب.
(والأكاذيب): والأحاديث المكذوبة.
(وانتحالك ما قد علا عنك): وادعائك ما ليس لك ولا أنت بالغه في حالة من الحالات.
(وابتزازك لما قد اختزن عنك): واستلابك مال الله الذي قد خزن عنك، وصرت ممنوعاً منه فلا تناله.
(فراراً من الحق): أي فعلت ذلك من أجل الفرارعن الحق والنكوص عنه، وانتصابه على المفعول له.
(وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك): وهو القول بإمامتي، والتزام وجوب ما أمرت به، وإنما قال: ألزم لك من لحمك ودمك مبالغة في ذلك؛ لأن وجوب المبايعة لازم كما أن اللحم والدم لزومهما لا يخفى.
(مما قد وعاه سمعك): وهو ما كان من الأدلة الظاهرة من جهة الرسول على وجوب إمامتي، مثل حديث الغدير ، وغيره من الأحاديث.
(وملئ به صدرك): شحن به صدرك حتى امتلأ، كقوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه ))، وقوله: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) وغير ذلك.
(فما بعد الحق إلا الضلال): أي ما بعد الشيء في الثبوت إلا نقيضه، فإذا كان الحق ثابتاً فليس بعده إلا نقيضه من الضلال.
(وبعد البيان إلا اللبس!): وإذا كان البيان ثابتاً فليس بعده إلا نقيضه وهو الالتباس، كما قال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ }[يونس:32]، فأراد أنه لا واسطة بينهما، فإذا لم يكن ما قلته حقاً فهو منك ضلال.
(فاحذر الشبهة واشتمالها على لبستها): أي دع الشبهة وما هي مشتملة عليه من الالتباس، واللبسة بالفتح: واحدة اللبسات، وبالكسر: الحالة من الالتباس، وأراد اترك الأمور المشتبهة واشتمالها على أحوالها الملتبسة وأمورها المختلطة.
(فإن الفتنة طالما أغدفت جلابيبها): الجلباب: نوع من أنواع اللباس، وأغدف الثوب إذا استرخى، جعله هاهنا كناية عن اشتداد أمرها.
(وأعشت الأبصار ظلمتها): العشا: ضعف البصر، وناقة عشواء إذا كانت لا تبصر، وهو استعارة إما عن تغطيتها على الأبصار، فلا تنظر مواقع الصواب، وإما عن تغطيتها على العقول فلا تهتدي لذلك أيضاً، فإن الإبصار صالح لهما جميعاً.
(وقد أتاني منك كتاب ذو أفانين): الأفانين: جمع أفنان، أي أساليب مختلفة، قال الله تعالى: {ذَوَاتَى أَفْنَانٍ }[الرحمن:48]، وأراد أنه ليس مشتملاً على أسلوب واحد.
(ضعفت قواها عن السَّلم): أي أنها متقاصرة عن إصلاح الحال غير بالغة له، والسَّلم: الصلح.
(وأساطير): جمع أسطورة وهي: الخرافات والأباطيل.
(لم يحكها منك علم): الحوك: النسيج، وأراد أنك لم تنسجها عن علم ومعرفة ودراية.
(ولا حكم ): أي ولا أحكمتها برأي صائب من جهتك.
(أصبحت فيها كالخائض في الدهاس): وهو المكان السهل اللين، الذي لا يبلغ أن يكون رملاً ولا تراباً، والخائض هو: المقتحم للشيء، يقال: خاض الغمرات إذا اقتحمها، وإنما قال: الخائض في الدهاس لصعوبة المشي فيها لرخاوته.
(والخابط في الدِّيماس): وهو المكان الخالي نحو القبر والسرب ، والخابط هو: الذي يضرب بيده على الأرض إذا مشى، وأراد أن الخابط في الديماس ليس على حقيقة ومعرفة بحال ما يفعله من ذلك.
(وترقيت مرقبة ): المرقبة: الموضع المشرف، يعلوها من يرقب شيئاً ويراعيه.
(بعيدة المرام): مطالبها بعيدة لا يمكن نيلها.
(نازحة الأعلام): النازح هو: البعيد، وأراد أن أعلامها منتزحة عن الحق بعيدة عن طرقه.
(تقصر دونها الأنوق): وهو طائر يقال له: الرخم، يكون وَكْرُهُ فوق الأماكن الصعبة من رؤوس الجبال الشامخة.
(ويحاذى به العَيُّوق): المحاذاة: المساواة والمماثلة، والعيُّوق: كوكب أحمر مضيء يتلو في مكانه الثريا لا يتقدمها، ومن طرف العرب وتحفها أنهم قالوا: إنما سمي العيُّوق عيوقاً لأنه عاق سهيلاً عن نكاح الثريا، ولهذا قال شاعرهم:
أيها المنكح الثريا سهيلاً
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل يماني
(وحاش لله أن تلي للمسلمين بعدي صدراً أو ورداً): حاش حرف جر على رأي سيبويه، واللام مقحمة فيه، وهو على رأي المبرد فعل وينصب به، ومعناه على كلا المذهبين براءةً لله عن أن تكون والياً على شيء من أمور الدين، والصدر هو: الصدور عن الماء، والورد: هو الورود لأخذه، وهما يستعملان كناية لأكثر حالات الشيء، يقال: ليس فلان من أمرك في ورد ولا صدر.
(أو أجري على أحد منهم لك عقداً ): في إعطاء شيء من المال وقبض العمالات كلها.
(أو عهداً!): في الطاعة والانقياد لأمره.
(فمن الآن فتدارك نفسك): الآن هو: الوقت الذي أنت فيه، والغرض فمن هذا الوقت فالحق نفسك وتلافها عن الهلاك بالإقبال على الأعمال المرضية، وسلوك الطريقة الحسنة في الاحتكام، وترك البغي والمخالفة.
(وانظر لها): نظر ناصح مشفق عليها عن أن تهلك.
(فإنك إن فرطت حتى ينهد إليك عباد الله): توانيت في الأمر حتى تنهض إليك جنود الله من المسلمين وأهل الدين، ومنه نهود ثدي الجارية أي نهوضته .
(أُرتجت عليك الأمور): باب مرتج إذا كان مغلقاً، والإرتاج هو: الإغلاق، وأراد اتغلقت عليك الآراء الصائبة، وأقفلت عنك الآراء المحمودة.
(ومُنِعْتَ أمراً): يعني الاعتذار والتوبة والإقبال.
(هو منك اليوم مقبول): يشير إلى أنه لو أقبل بالتوبة والإنابة قُبِلَ منه الآن، قبل الوصول إلى ساحته بالجنود والعساكر، فأما إذا أظلتهم السيوف، وصاروا تحت حكمها فربما لا تقبل منه التوبة، وهذه منه إشارة إلى أنه في تلك الحال لا يقبل منه ما يكون من جهته في حال الرفاهية.
(66) ومن كتاب له [عليه السلام] إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنه
وقد تقدم بخلاف هذه الرواية: وإنما أعاده هاهنا، لأن فيه أمراً لم يتقدم ذكره، وأكثره قد فسرناه وشرحنا معانيه من قبل، فلا وجه لتكريرها.
(أما بعد؛ فإن المرء ليفرح بالشيء الذي لم يكن ليفوته): يريد أن من بلوى الدنيا وفتنها وما فيها من المحن، هو أن الأمر المحتوم وصوله إلى ابن آدم يفرح به ويصيب قلبه منه سرور من أجل استيلائه عليه.
(ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه): ويصيبه الأسف والحزن على ما كان المعلوم من حاله أنه لا يصل إليه أصلاً، وكان من حكم العقل وإيثار المصلحة ألا يكون فارحاً بما وصل؛ لأنه لابد منه، وألاَّ يحزن على ما تعذر وصوله لأنه يستحيل وصوله، وهو في كلامه هذا يشير إلى هلع النفس وشؤمها، وأن هواها مخالف لحكم العقل وأصله.
(فلا يكن أفضل ما نلت من دنياك في نفسك بلوغ لذة): يعني لا يكن همك في الدنيا هو المواظبة على حصول اللذات والانهماك فيها، فإن في هذه الحالة تشبهاً بالبهائم.
(أو شفاء غيظ): من عدو لك، وأخذ الثأر منه.
(ولكن إطفاء باطل): إزالته، استعارة له من إطفاء النار، وهو إزالة تلهبها.
(وإحياء حق ): إشادة ذكره وإعلاء أمره عن أن يكون ميتاً خاملاً ذكره.
(67) ومن كتاب له [عليه السلام] إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة
(أما بعد، فأقم للناس الحج): الأمر بإقامته هو بيان فروضه وسنن مناسكه وتتبعه الناس فيها وبتعليمها من لا يعلمها، وإشادة أمر الله بإظهار شعائره وإعلاء مناره.
(وذكرهم بأيام الله): أراد أيام عقوباته في الأمم الماضية، وما أصاب من خالف أمره من ذلك، أو ذكرهم أيام طاعاته وهي أيام الحج، وما ينبغي فيها من المناسك وأنواع القرب.
(واجلس لهم العصرين): العصران هما: الغداة والعشي؛ لأن الحر في الحجاز عظيم فلا يكاد ينتفع فيه بقضاء الحوائج إلا فيهما.
(فأفت المستفتي): في أمر دينه، وبصِّره جهله، وعلِّمه ما جهل من أمره.
(وعلم الجاهل): ما غبي عليه.
(وذكر العالم): ما نسيه من ذلك.
(ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك): السفير هو: الذي يختلف لقضاء الحوائج، وغرضه من هذا مباشرة الناس لقضاء حوائجهم بنفسه من غير واسطة إلا لسانك، فلم يستثن من الوسائط إلا إياه مبالغة في التحذير عن ذلك.
(ولا حاجب إلا وجهك): مبالغة في الظهور للناس والتكشف لقضاء حوائجهم، كما يقال: لا تكنُّ لأحد منهم عقوبة إلا عفوك ولا سوط إلا رضاك.
(ولا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها ): أراد فإذا كان لأحد من أهل ولايتك حاجة إليك، فلا تحجبن نفسك عن أن تكون ملاقياً له بها.
(فإنها إن ذيدت): صرفت الحوائج ومنعت.
(عن أبوابك في أول وردها ): ورودها إليك ووصولها إلى ناحيتك.
(لم تحمد فيما بعد على قضائها): لم يكن لك فضل على إتمامها من بعد؛ لأن الحمد والشكر في قضائها إنما يكون بإكماله وتحصيله على أحسن وجه، وبعد الرد قد نقص حالها لما يقع في نفس صاحبها من الانكسار والحقارة والذل بالرد.
(وانظر إلى ما اجتمع معك من مال الله): الذي أمرناك بقبضه وجعلنا لك ولاية على أخذه.
(فاصرفه إلى من قِبَلَكَ): يليك ويكون مختصاً بك وساكناً معك.
(من ذي العيال): صاحب العولة والأولاد.
(والمجاعة): وذي المجاعة، يعني الجوع من الفقراء وأهل الفاقة.
(مصيباً): متوخياً بالإصابة .
(مواضع المفاقر ): أي الفقر، يقال: سد الله مفاقره أي أغناه.
(والحاجات): وذوي الحاجات من الفقراء أيضاً.
(وما فضل): من ذلك أي بقي من قولهم: فضل الماء في الإناء يفضل.
(عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قِبَلَنا): من المسلمين وأهل الفقر والحاجة أيضاً.
(ومر أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجراً): يعني في الدور والبيوت المعمورة، والخانكات والربط، وسائر المنازل التي ينتفع بها للوقوف والسكون، فلا يأخذوا في مقابلة منافعه عوضاً عيناً ولا منفعة أصلاً.
(فإن الله تعالى يقول:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ })[الحج:25]: أي سواء المقيم فيه من أهله وأهل البادية من غير أهله فإنهم مستوون فيه، ثم اختلف رأي العلماء في ذلك، فأما أبو حنيفة فمنع من بيع الدور وكرائها محتجاً بالآية، وجوَّز ذلك الشافعي ، ولم يحضرني مذهب لأصحابنا فأنقله في هذه المسألة، والظاهر من مذهبهم هي مقالة أمير المؤمنين في ذلك، ثم فسر العاكف والباد بقوله:
(فالعاكف: المقيم، والبادي: الذي يحج إليه من غير أهله): ويحكى عن عمر أنه اشترى في مكة داراً للسجن.
(وفقنا الله وإياكم لمحابه): للأعمال التي يحبها ويريدها ويرضاها.
(68) ومن كتاب له عليه السلام إلى سلمان الفارسي رحمه الله قبل أيام خلافته
(أما بعد؛ فإن مثل الدنيا مثل الحية، لين مسها، قاتل سمها): يعني أنها معجبة لنظارتها وحسنها، فهي لينة إذا مسها أحد، وهي مهلكة لمن انخدع بها، واللين والمس والقتل بالسم من الاستعارات الرشيقة لما هي عليه من الخدع، ولما فيها من الغرور.
(فأعرض عمَّا يعجبك منها): يروقك، ويليق بخاطرك ونفسك من زخارفها ونفائسها.
(لقلة ما يصحبك منها): أي يصاحبك ويكون معك عند فراقها.
(وضع عنك همومها ): ما يُهَمُّ منها ويلصق بالخاطر من تعبها وعنائها.
(لما أيقنت به من انقطاعها): لليقين الحاصل لك بكونها منقطعة فانية.
(وكن آنس ما تكون بها ، أحذر ما تكون منها): أراد المبالغة في الأمر في التحذير منها، وأبعد ما يكون الحذر عند الأنس بها، فإذا جعل الحذر هو الأنس بها نفسه، فقد بلغت مبلغاً عظيماً لا يمكن وصفه.
(وإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلىسرور): سكنت نفسه واستقر خاطره إلى شيء من سرورها.
(أشخصته إلى محذور): أظهرته إلى مكروه من مكروهاته يحذره وتنفر عنه نفسه.
وقد مضى في كلامه في ذم الدنيا ما هو أبلغ من هذا.
(69) ومن كتاب له عليه السلام إلى الحارث الهمداني
همدان أكثر أهل اليمن من حاشدها وبكيلها، وهو بالدال بنقطة من أسفلها.
فأما همذان بالذال بنقطة من أعلاها فهم نوع من العجم.
(أما بعد، فتمسك بحبل القرآن وانتصحه): مضى تفسيره غير مرة.
ويحكى أن أعرابياً دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: التبس عليَّ معنى آية من القرآن ففسرها لي، وتلا قوله تعالى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً }[آل عمران:103]، فقال: وما الحبل الذي أمر الله بالاعتصام به؟ وكان أمير المؤمنين إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله، فوضع النبي عليه السلام يده على كتف أمير المؤمنين، وقال: ((هذا حبل الله فاعتصموا به )) .
(وأحل حلاله، وحرم حرامه): يريد امتثال أوامره فيما تناوله من الانكفاف عما حرم الله فيه، والتحليل لما كان متناولاً له ومبيحاً له.
(وصدق بما سلف من الحق): أراد إما نبوة الأنبياء كلهم والكتب السالفة [المنزلة عليهم، أو يريد نبوة الرسول وما جاء به من العلوم الغيبية السالفة] ، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ}[البقرة:3].
(واعتبر بما مضى من الدنيا ما بقي منها): يريد اتعظ بذلك، فإن ما يأتي منها في الزوال والتقضي والنفاد مثل ما مضى من غير تفرقة.
(فإن بعضها يشبه بعضاً): في التغير والانقطاع.
(وآخرها لاحق بأولها): في الذهاب وسرعة التقضي.
(وكلها حائل): أي جميع ما فيها زائل لا محالة.
(مفارق): لمن هو في يده ومباين له.
(وعظم اسم الله أن تذكره إلا على حق): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنه لا ينبغي ذكر القسم بالله تعالى وصفاته إلا على حق لك أو عليك، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}[البقرة:242]، أي تعرضونه وتذكرون اسمه في الأمور الحقيرة النازلة.
وثانيهما: أن يكون مراده المنع من ذكر اسم الله تعالى على جهة الحلف والإقسام في الأمور المباحة كأكل الطعام، فلا ينبغي أن يقسم ولا يسأل بالله.
وعن الحسن أنه قال: العيش أهون من أن يحلف عليه.
(وأكثر ذكر الموت): فإنه يُهوِن حال الدنيا، ويكسر النفس عن الهمة بأمور كثيرة.
(وما بعد الموت): من الأهوال العظيمة والأخطار الجسيمة.
(ولا تتمنَّ الموت إلا بشرط وثيق): إلا أن تكون واثقاً بشيء من أعمالك الصالحة بما يكون سبباً في نجاتك وحسن عاقبتك، وفي الحديث: ((لا يتمنين أحدكم الموت ، فإن كان لابد فليقل: اللَّهُمَّ، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وأمتني ما كانت الوفاة خيراً لي)) .
(واحذر كل عمل يعمل به في السر، ويستحيى منه في العلانية): أراد أنك لا تعمل شيئاً من الأعمال سراً إلا ما تقدر ظهوره ولا يضرك شيء منه، فما هذا حاله فهو خير الأعمال.
(واحذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره): لأنه لا ينكره إلا من أجل اشتماله على القبح والشناعة، فمن أجل هذا يزيله عن نفسه ويدفعه عنها.
(واعتذر منه): ووجَّه العذر نحوه.
(ولا تجعل عرضك غرضاً لنبال القول ): الغرض: ما يرمى، وأراد أنك لا تفعل ما تلام عليه فتكون متعرضاً بذلك للطعن بالألسنة من جهة الخلق.
(ولا تحدث الناس بكل ما سمعت، فكفى بذلك كذباً): يعني ما غلب على ظنك صدق قائله فانقله على جهة الحكاية عنه، وما لم يكن الأمر فيه كذلك فلا تحدث به ولا تنقله، فإنه ليس كل ما يقال صدقاً وحقاً، وإذا كان القول بعضه صدق وبعضه يكون كذباً فنقله كله يكون كذباً لامحالة، والمخبر بالكذب يكون كاذباً فيما أخبر به منه.
(ولا تَرُدَّ على الناس في كل ما حدثوك به ): يعني لا يكن كلما قيل لك بشيء من الأقوال رددته وأنكرته.
(فكفى بذلك جهلاً): لأن ردك له وإنكارك لحاله كله أمارة الجهل والغباوة بأمره وحاله.
(واكظم الغيظ): أي كلما عرض لك جانب من الغيظ فكف عن إنفاذه، وصبِّر عليه نفسك، ولا تظهره فإن عواقبه محمودة، والأجر عليه عظيم.
(واحلم عند الغضب): أي كف عن العقوبة، وتصبَّر على ذلك.
(وتجاوز عند القدرة ): يريد وإذا قدرت على الانتقام فالتجاوز والصفح هو أفضل.
(واصفح عن الزلة تكن لك العاقبة): يريد إذا زل إنسان في حقك فاصفح عنه فإن ذلك أقرب للظفر به بعد ذلك.
(واستصلح كل نعمة أنعم الله بها عليك ): اطلب إصلاحها، والإصلاح لها من جهتك، أعظم من تأدية شكرها، والاعتراف بموقعها وحالها.
(ولا تُضِّيعنَّ نعمة من نعم الله عندك): وإضاعتها إغفالها عما يتوجه لها من الشكر وكفرها، ولا إضاعة لها أبلغ من ذاك.
(وَلْيُرَعليك أثر ما أنعم الله به عليك): يريد لا تكثر التباؤس، وإظهار الفقر، وتكتم النعمة، بل إذا كانت عندك نعمة الله تعالى فأظهرها في حالك، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }[الضحى:11]، وإذا أظهرت فحسن الحال خبر عنها وحديث بها.
(واعلم أن أفضل المؤمنين): أعظمهم في الفضل وأعلاهم درجة عند الله تعالى.
(أفضلهم تقدمة من نفسه وأهله وماله): بإنفاق النفس بالجهاد في إعزاز دين الله وإعلاء كلمته، وإنفاق المال لوجهه وتقديمه أمامك، وهكذا الحال في الأهل بإكرامهم وإسداء المعروف إليهم، والصبر على ما فرط من الأذى منهم.
(وإنك ما تقدِّم من خير): من الأعمال الصالحة في جميع وجوهها.
(يبق لك ذخره): عاقبته وأمره، والذخر: ما يذخر ويخبأ.
(وما تؤخِّر يكن لغيرك خيره): يعني وما تؤخِّره من أموالك بعد موتك يأخذه الوارث بعدك ، فيكون له ثوابه بالصدقة والتقرب إلى الله به.
(واحذر صَحَابَةَ من يفيل رأيه): الصحابة مصدر صحبه صحابة، ويفيل رأيه أي يضعف.
(وينكر عمله): أي ويكون عمله منكراً.
(فإن الصاحب معتبر بصاحبه): يشير إلى من صاحب الأشرار فهو منهم، ومن صاحب الأخيار فهو منهم، وفي الحديث: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل )) .
(واسكن الأمصار العظام): البلدان العظيمة والمدن الكبيرة.
(فإنها جِماع المسلمين): الجِماع بالكسر: ما يجمع عدداً، ومنه قوله عليه السلام: ((الخمر جماع الآثام )).
(واحذر منازل الغفلة): عن الله وعن أمر الآخرة.
(والجفاء): ومواضع الجفاء والقسوة والبلادة،، يعني القرى المنفردة عن أهل الخير والصلاح، والدعاء إلى الله والتذكير به.
(وقلة الأعوان على طاعة الله): من الإخوان المحبين للخير والفاعلين له.
(واقصر رأيك على ما يعنيك): أراد أنك لا تشتغل بأمر لا يهمك حاله، واقصر نفسك على أمرها من غير زيادة، ففيه شغل لك عن غيره.
(وإياك ومقاعد الأسواق): والقعود فيها.
(فإنها محاضر الشيطان): يعني أنه يحضرها في أكثر حالاته؛ لما يحصل فيها من مراداته ودعائه لأهلها إلى الانقياد لأمره.
(ومعاريض الفتن): يعني أنه كثير ما يسنح فيها المقاتلة والشجار الطويل، والخصومات العظيمة، وهذه الأمور كلها أعظم وُصَل إبليس، وأقوى حبائله.
(وأكثر أن تنظر إلى من فضلت عليه): يريد إذا تفكرت في نعم الله تعالى وفضائله عليك، فتعمد في ذلك بأن تنظر إلى من أنت فوقه في النعمة، وأعظم منه حالة فيها.
(فإن ذلك من أبواب الشكر): يريد إذا فعلت ذلك، فإنه يدعوك لا محالة إلى شكر النعمة التي أنت فيها، ويعظم قدرها عندك، وقد ورد مثل ما ذكره عن الرسول عليه السلام: ((انظر إلى من هو دونك ، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فإنه أجدر ألا تزدري نعمة الله عليك)) .
(ولا تسافر في يوم جمعة): يريد لاتتعمد بالسفر في يوم الجمعة؛ لأنه يوم عيد للمسلمين واستقرار ورفاهية على الأنفس، وإذا كان ولابد من ذلك فلا تسافر فيه:
(حتى تشهد الصلاة): لأن شهودها أفضل لامحالة مما تخرج له من طلب الأرزاق وإصلاح أحوال المعيشة.
(إلا فاضلاً في سبيل الله): مهاجراً في سبيل الله، وهو بالضاد المنقوطة .
(أو في أمر تعذر به): يكون عذراً لك في الخروج من غير صلاة الجمعة، نحو خوف عند التخلف عن الرفقة، أو غير ذلك من الأعذار في ذلك.
وفي الحديث إن الرسول عليه السلام لما جهز أهل مؤتة [إلى غزاة مؤتة] ، ومن جملتهم عبد الله بن رواحه، فخرج الناس وتخلف عبد الله، فلما رآه الرسول قال له: ((ما خلفَّك))؟
فقال: أحببت صلاة الجمعة معك يا رسول الله، فأنكر عليه وقال: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)) .
فكلام أمير المؤمنين يشير إلى هذا.
(وأطع الله في جمل أمورك): يريد أن المواظبة على طاعة الله تعالى أمر عسير صعب، فإذا كان كذلك، فليكن ذلك في جمل الأمور، فلعل الله أن يصلحها بذلك.
(فإن طاعة الله تعالى فاضلة على غيرها ): يريد أنها أفضل الأعمال.
(وخادع نفسك في العبادة): يعني اخدعها عن اتباع الشهوات واشغلها بعبادة الله بترغيبها في حسن عاقبتها وطيب عيشها في الآخرة، ونعيمها في الجنة.
(وارفق بها): من الرفق، وهو: السهولة.
(ولا تقهرها): بتكليفها للأعمال الشاقة القاهرة.
(وخذ عفوها): أي ما تيسر من حالها من غير ملالة لها ولا سآمة عليها.
(ونشاطها): أي وخذ منها ما تكون ناشطة إليه، فإن ذلك أقرب إلى المداومة وأعظم في الاستمرار على الطاعة.
(إلا ما كان مكتوباً عليك من الفريضة): من هذه الفرائض الواجبة، والفروض اللازمة لك.
(فإنه لا بد من قضائه): سواء كان ذلك بسهولة أو عسرة في ذلك؛ لأن المصلحة هو في أدائها مطلقاً، ولهذا فرضت.
(وَتَعَاهُدِهَا): الضمير للفرائض المكتوبة من هذه الصلوات.
(عند محلها): أوقاتها التي تؤدى فيها، وتأهب لها وواظب عليها.
(وإياك أن ينزل بك الموت): يرد عليك ويأتيك فجأة.
(وأنت آبق من ربك): استعارة من إباق العبد وهو : هربه من سيده من غير رضاه.
(في طلب الدنيا): طالباً للدنيا ومنهمكاً في طلب لذاتها وتحصليها، فالظرف هاهنا في موضع الحال كما قررته.
(وإياك ومصاحبة الفساق): الخارجين عن الدين باقتحام الكبائر، والورود في العظائم، فإنهم لا محالة شر، وهم أهل الشر، فلا شر أعظم مما هم فيه، ولا مما وُعِدُوا به من العقاب العظيم.
(فإن الشر بالشر مُلْحَقٌ): يشير إلى أنهم شر ومصاحبتهم أشر، ومن صاحبهم فهو لاحق بهم في الشر.
(ووقَّر الله): التوقير: التعظيم والترزين ، وأراد إما عظم الله تعالى بفعل ما يجب له من الطاعة والانكفاف عن المعصية، وإما عظم الله تعالى بتعظيم أوليائه، كما يقال: أحب الله أي أحبه بمحبتك لأوليائه.
(وأحب أحباءه): أي الذين يحبهم، فإن محبتك إياهم محبة له.
(واحذر الغضب، فإنه جند عظيم من جنود إبليس): يتقوى به ويتسلط، كما يكون الجند للسلطان تنفذ بهم أوامره، ويتسلط بهم على الخلق.
(70) ومن كتاب له عليه السلام إلى سهل بن حُنيف الأنصاري عامله على المدينة
(أما بعد، فقد بلغني أن رجالاً ممن قِبَلَكَ): من أصحابك وممن يختص بك.
(يتسللون إلى معاوية): يذهبون إليه في خفية منك وسراراً من أنفسهم.
(فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم): أي تحزن على بطلان ما فات عنك من الانتصار بهم، والاعتضاد في أعظم أمورك باجتماعهم.
(ويذهب عنك من مددهم): المدد هو: الإمداد، وأراد ما يزول عنك من إمدادهم لك في النصرة.
(فكفى لهم عناء ): أي تعباً بالعين المهملة، وانتصابه على التمييز بعد الفاعل.
(ولك منهم شافياً): ما يشفي غيظك.
(فرارهم من الهدى والحق): هذا أعني فرارهم فاعل لكفى، وأراد هربهم من الحق الذي يريده الله والهدى الذي رضيه.
(وإيضاعهم إلى العمى والجهل): الإيضاع: ضرب من السير، وغرضه وإسراعهم إلى الأمور المعمية عن الحق والجهالات الصارفة عنه.
(وإنما هم أهل دنيا يتقلبون عليها): يريد وما حملهم على ذلك إلا أنهم أهل دنيا يتصرفون فيها.
(ومهطعون لها ): أي مسرعون إلى ما يحصل من أطماعها باللحاق بمعاوية، فكان ذلك سبباً للخروج إليه.
(قد عرفوا العدل ورأوه): تحققوه بأفئدتهم ورأوه بأبصارهم.
(وسمعوه): بآذانهم.
(ووعوه): بقلوبهم.
(وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة): لافضل لأحد منهم على الآخر، ولا زيادة لأحد على غيره في الحق، والأسوة: القدوة.
(فهربوا إلى الأثرة): وهي الاسم من الاستئثار.
(فبعداً): من قولهم: بعد يبعد بعداً.
(لهم وسحقاً!): وهما مصدران من المصادر التي تضمر أفعالها ولا تظهر، وقد مر بيانه.
(إنهم والله لم ينفروا من جور): ما كان هربهم من جور لحقهم مني.
(ولم يلحقوا بعدل): من جهة معاوية، وإنما طمعوا في الدنيا ونظارتها وزهرتها وغضارتها، ونفروا من مرارة العدل وكون الناس مستويين فيه.
(وإنا لنطمع في هذا الأمر): يعني الخلافة.
(أن يذلل الله لنا صعبه): ما يصعب فيه فيكون ذليلاً.
(ويسهل لنا حزنه): الحزن: المكان الجرز .
(والسلام عليك ): منَّا.
(71) ومن كتاب له عليه السلام إلى المنذر بن الجارود العبدي ، منسوب إلى بني عبد الله أو بني عبد ، وقد خان في بعض ولاياته من أعماله
(أما بعد؛ فإن صلاح أبيك غرَّني منك): يريد أن أباك لما كان صالحاً سالكاً لطريق السلامة والخير، وربما غلب على الظن سلوك الولد طريق والده في الصلاح.
(وظننت أنك تتبع هديه): الهدي هو: السمت الحسن.
(وتسلك سبيله): تأتي على طريقته .
(فإذا أنت فيما رقِّي إليَّ عنك ): ارتفع إليَّ من أخبارك واطلعت عليه من ذلك، ومنه قولهم: رقى السُلَّم إذا طلعه، قال الله تعالى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ }[الإسراء:93].
(لا تدع لهواك انقياداً): إلا سلكته وأخذت في طريقه.
(ولا تبقي لآخرتك عتاداً): أي شيئاً تُعِدُّه لها، وتهيِّئه من أجلها، كما قال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً }[النساء:37]، أي هيأنا ذلك لهم.
(تعمر دنياك بخراب آخرتك): أراد أنك تنعم في الدنيا بأكل الطيبات، وخضمها وقضمها، وهذا هو عمارة الدنيا، وخراب الآخرة بإبطال العمل لها، والإعراض عنها في كل حالة.
(وتصل عشيرتك): بأموال الله المتروكة على يدك.
(بقطيعة دينك): إبطاله وهدمه، وإنفاق أموال الله تعالى في غير وجهها، وصرفها في غير أهلها.
(ولئن كان ما بلغني عنك حقاً): من الخيانة في أموال الله، وإعطائها من لا يستحقها.
(لَجَمَلُ أهلك): جعل هذا كناية عن ذله واستحقاره، لأن جمل الأهل هو الجمل الذي يكون ميراثاً بينهم من أبيهم، يستعمله كل واحد منهم، ويمتهنه كل منهم في حاجته من غير صيانة.
(وشِسْعَ نعلك): الشسع: واحد الشسوع للنعل، وهو سيره الذي يشدُّ به إلى السير الجامع لها في ظهر الكف.
(خير منك وممن كان بصفتك): في قلة الأمانة، وعدم الثقة فيما هو بصدده، وفيما هو مولى عليه من ذلك.
(فليس بأهل أن يُسَدَّ به ثغر ): الثغر مرَّ تفسيره، وأنه أبداً لا يؤهل لأمور الحرب.
(أو يُنْفَذَ به أمر ): من الأمور الدينية.
(أو يعلى له قدر): ترفعه على غيره.
(أو يشرك في أمانة): يستحفظ وديعة، أو يكون شريكاً في حفظها.
(أو يؤمن على جباية): على ما يجبى من الأموال، ويكون حفيظاً عليها.
(فأقبل إليَّ حين يصلك كتابي هذا إن شاء الله): وهذه أمارة عزله عن الولاية؛ لأن ما تقدم من الكلام يدل عليه ويرشد إليه، والمنذر هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين:
(إنه لنظَّار في عِطْفَيْهِ): عطفا الرجل: جانباه من لدن رأسه إلى وَرِكه ، ويقال: فلان ثنى عطفه عني إذا أعرض عنك.
(مختال في بُرْدَيْه): اختال الرجل في مشيه من الخيلاء.
(تفَّال في شِراكَيْهِ): يعني إذا ركب شراكه غبار تفل فيه فأزاله، والتفال هو: البزاق، وأراد في هذا كله بيان رعونته وحمقه، وتخايله وتكسره واسترخائه عند سيره.
(72) ومن كتاب له [عليه السلام] إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنه
(أما بعد؛ فإنك لست بسابق أجلك): يعني أنك لا تتقدم عنه ولا تتأخر، تصديقاً لقوله تعالى: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }[الأعراف:34].
(ولا مرزوق ما ليس لك): يعني ولا ترزق ما لم يكن رزقاً لك عند الله تعالى.
(واعلم بأن الدهر يومان: يوم لك، ويوم عليك): يريد أن الدهر لاينفك عن ذلك، وأن حكمه جار على هذه الحالة، واليوم الذي يكون عليه هو ما يلحقه فيه من الضر والبؤس، واليوم الذي له هو ما يلحقه فيه من النعماء والخير.
(وأن الدنيا دُوَلٍ): أحوال متداولة بين الخلق، وأمور متعاقبة.
(فما كان منها لك أتاك على ضعفك): يريد ما كان مقدَّراً لك وصوله أتاك وإن ضعفت عن نيله.
(وما كان منها عليك): تكرهه وتحذر من وصوله.
(لم تدفعه بقوتك ): يعني من المصائب والبلاوي، وقد مر هذا الكلام في غير هذا الموضع.
(73) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية
(أما بعد؛ فإني على التردد في جوابك): أقلب رأيي ظهراً لبطن.
(والاستماع إلى كتابك): أرجعه مرة بعد مرة.
(لموهِّن رأيي): الوهن: الضعف.
(ومخطِّئ فراستي): ثاقب نظري ونافذ فكرتي وصدق ظني وحسنه، وأراد من هذا كله استضعاف رأيه في الإجابة لمعاوية، إذ لم يجعل جوابه السكوت والإعراض عنه والاستحقار بحاله، كما قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً }[الفرقان:63].
(وإنك إذ تحاولني الأمور، وتراجعني السطور): يعني وإنك فيما تحاول من الأمور، وتطلبها مني، وتريد مني المساعدة لك فيها، وتراجعني بكتبك طالباً لأغراضك فيها:
(كالمستثقل النائم): الثقيل: المسترخي لكثرة نومه وتهالكه فيه.
(تكذبه أحلامه): يرى في نومه أحلاماً كاذبة.
(والمتحير القائم يبهظه مقامه): والمتردد في حال قيامه لا يدري ما يفعل من أموره، يثقّله مكانه الذي هو فيه فلا يستقر فيه، والمعنى في هذا هو أنه شبه حال معاوية بما يطلب من الأمور ويراجع بالكتب بمن استثقل في نومه، وغلبه النوم، فهو يرى أحلاماً كاذبة لا حقيقة لها، ولا يصدق منها شيء بحال، فأنت فيما أنت فيه مشبه بحال من:
(لا يدري أله ما يأتي): من الأمور.
(أم عليه): وهذا منه عليه السلام استجهال آخر بحال معاوية، فإن من لايدري ما يأتي من الأمور وما يذر فهو في غاية الجهالة، وركوب أعظم ما يكون من الضلالة.
(ولست به): يعني أنك لست نائماً.
(غير أنه بك شبيه): يعني أنما قلت ليس على جهة الحقيقة، وإنما هو على جهة التشبيه.
سؤال؛ أراه قال ها هنا: ولست به غير أنه بك شبيه، وكأن قياسه غير أنك به شبيه؛ لأن حال معاوية مشبه بالنائم كما قال؟
وجوابه؛ هو أن غرضه في جميع ما ذكره المبالغة في جهل معاوية والتهالك في وصفه بالغباوة، فشبهه أولاً بالنائم المستثقل، ثم قال: ولست به يعني حقيقة، ثم استأنف المبالغة في حاله بقوله: إنك شبيه به، كأنه هو النائم على جهة الحقيقة، وما ذكره مشبه بحال معاوية ، ومن قرع سمعه التشبيهات للشعراء وإغراقهم فيها، ودخولهم في معانيها كل مدخل عرف صدق مقالة أمير المؤمنين، وعرف مراده من ذلك.
(وأقسم بالله لولا بعض الاستبقاء): أراد إما طلب البقاء لأحواله رجاء أن يعود عن غيِّه، ويرجع عن فسقه، وإما أن يريد المباقاة تحلماً عنه وتكرماً عن سرعة الانتقام منه.
(لوصلت مني إليك نوازع ): النوازع هي: الخصومات في الحق، يقال: كان بينهم نوازع أي خصومات ومشاجرة عظيمة، أو يكون مراده قوالع من انتزع الشيء عن أصله إذا قلعه.
(تقرع العظم): أي تقطع ما فوقه من اللحم [حتى تبلغه] فتكسره، والمراد بقرعه كسره.
(وتلهس اللحم): أي تذهبه، ولهسه المرض إذا أذهب قواه.
(واعلم أن الشيطان قد ثبطك عن أن تراجع أحسن أمورك): أبطأ بك عن الوقوف على أحسن الآراء، وأحمدها عاقبة وأرضاها لله تعالى .
(وتأذن لمقال نصيحك): وتسمع لمن يناطقك بالنصح ويشافهك به.
(74) ومن حِلْفٍ [له عليه السلام] كتبه بين اليمن وربيعة
نقل من خط هشام بن الكلبي ، يريد قبائل اليمن من همدان وقحطان وقبائل نزار، وهما ربيعتان : ربيعة الكبرى وهي ربيعة بن مالك بن زيد مناة، وربيعة الصغرى ربيعة بن عامر بن صعصعة، وفي عُقَيْلِ أيضاً ربيعتان: ربيعة بن عُقَيْلِ، وربيعة بن عامر، والله أعلم بمراده من ذلك .
(هذا ما اجتمع عليه أهل اليمن حاضرها وباديها): يعني بأجمعهم من يسكن منهم القرى ومن يكون في البداوة.
(وربيعة حاضرها وباديها): بأجمعهم أيضاً بدوهم وقرارهم.
(أنهم على كتاب الله): يريد مجتمعة آرائهم على حكم كتاب الله تعالى، يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويوردون ويصدرون عن أمره، لا يخالفونه في أمر من الأمور.
(يدعون إليه): أي إلى إحياء أحكامه من بلغه وسمعه.
(ويأمرون به): أي يأمرون بما تضمن من الأحكام، أو أراد لا يصدرون أوامرهم إلا على وفقه ونحوه.
(ويجيبون من دعا إليه وأمر به): أراد وإذا دعاهم داعٍ إلى كتاب الله تعالى أجابوه ونصروه وأعانوه على أمره كله، وهكذا حال من أمر به يعضدونه على ذلك.
(ولا يشترون به ثمناً ): أي ولا يبيعونه بأبخس الأثمان وأهونها، ولا يخالفونه بشيء من حقير الدنيا وحطامها.
(ولا يرضون به بدلاً): ولا يتبدلون به غيره من سائر الكلامات وسائر الكتب المنزلة، مع غيرهم كاليهود والنصارى.
(وأنهم يد واحدة على من خالف ذلك وتركه): يعني أنهم مجتمعون على حرب من خالف ذلك وأهمله، لايفترقون عن تغييره وهدمه.
(أنصار بعضهم لبعض ): هذا ينصر ذاك، وذاك ينصر هذا على دين الله وكتابه، ولا يحرف ولايبدل.
(دعوة واحدة): أي دعوتهم على ذلك دعوة واحدة، لا اختلاف فيها، ولا تفريق.
(لا ينقضون عهدهم): ما تعاهدوا عليه من ذلك.
(لمعتبة عاتب): لرضاء من يسترضي.
(ولا لغضب غاضب): ولا يخالفونه لمكان غضب من يغضب منهم.
(ولا لاستذلال قوم قوماً): ولا من أجل أن قوماً يستذلون قوماً ويستضعفونهم فيقهرونهم.
(ولا لمشية قوم قوماً): ولا لأن قوماً يريدون قوماً بالمكروه ، فلا يخالفون كتاب الله من أجل هذه العوارض، ولا يكون ذلك سبباً لتغيير أحكامه وإبطال أعلامه.
(على ذلك شاهدهم وغائبهم ): أي أقرَّ على ذلك من شهد منهم ومن غاب.
(وحليمهم وجاهلهم): ومن كان منهم كبيراً يوصف بالحلم والعقل، ومن كان صغيراً يوصف بالجهل.
(ثم إن عليهم بذلك عهد الله وميثاقه): في الوفاء به والاستمرار عليه، وعهود الله: تأكيداته وتوثيقاته على الوفاء بما عقدت عليه، ثم تلا هذه الآية:
({إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً })[الإسراء:34]: أي مسؤلاً عنه يوم القيامة في الوفاء به، وفي حفظه على ما عقد عليه، ثم إن آخر العهد مكتوب: (وكتب علي بن أبي طالب): شهادة على ذلك، وتوكيداً لأمره، وتوثيقاً لحاله.
(75) ومن كتاب له عليه السلام إلى معاوية في أول خلافته، ذكره الواقدي في كتاب (الجمل)
(من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان):وهذا الكتاب إنما كان في أول خلافته، وقبل حدوث الحوادث من معاوية، فلهذا لاطفه فيه، وأجمل فيه عتابه.
(أما بعد؛ فقد عرفت إعذاري فيكم): بلوغ الغاية في نصيحتي لكم وقبول المعذرة منكم.
(وإعراضي عنكم): عن المكافأة لكم، واستلحاقكم في كل ما فعلتموه من الأفاعيل المكروهة.
(حتى كان ما لا بد منه): أي ما علم الله وقوعه، وما سبق في علمه.
(ولا دفع له ): من الحروب والوقائع.
(وقد أدبر ما أدبر): ممَّا كان ووقع وحدث.
(وأقبل ما أقبل): مما نريد استقباله من الأمور كلها.
(فبايع من قِبَلَكَ): من سائر المسلمين الموافقين لأمري والمتابعين لي.
(وأقبل إليَّ في وفد من أصحابك): الوفد: الجماعة من الناس.
(76) ومن وصية له عليه السلام لعبد الله بن عباس عند استخلافه إياه على البصرة
(سع الناس بوجهك): جعل هذا كناية عن سعة الأخلاق ولين الجانب والعريكة.
(ومجلسك ): أي لاترد أحداً من بابك وموضعك الذي أنت فيه.
(وإياك والغضب): احذره وجانبه أشد المجانبة.
(فإنما هو طَيْرَةٌ من الشيطان): يقال: فلان طَيْرة وطَيْرُوْرة أي ذو طيش وفشل، قال الكميت:
وحلمك عزٌّ إذا ما حلمت
وطيرتك الصاب والحنظل
(واعلم أن ما قربك من الله يباعدك عن النار): من أعمال البر والتقوى وإصلاح الحال.
(وما باعدك من الله يقربك من النار): من الأعمال القبيحة، واتباع الهوى، والانقياد للشيطان واتباعه.
ثم قال له للاحتجاج على الخوارج:
(لا تخاصمهم بالقرآن): اعلم أن الخوراج لما نقموا عليه ما نقموا بعث عبد الله بن العباس يقرر عليه ما التبس عليهم ويوضحه لهم، ويفحمهم بالحجج والبينات، فنهاه أولاً عن المخاصمة بالقرآن.
(فإن القرآن حمَّال ذو وجوه): محتمل للتأويلات الكثيرة، يمكن أن يفسره كل واحد بوجه له من التأويل يخص مذهبه.
(تقول): أنت بقول من جهة القرآن.
(ويقولون): بقول آخر يخالفه ويعارضه.
(ولكن حاجهم بالسنة): بنصوص الرسول صلى الله عليه وآله فإنها أقطع للاحتمالات وأصرح بالمقصود، وأشفى للغرض.
(فإنهم لايجدون عنها محيصاً): أي معدلاً يعدلون إليه ويستمدون منه.
سؤال؛ كيف قال: لاتخاصمهم بالقرآن، والقرآن كلام الله، وهو أبهر الحجج وأعظمها حالاً، فكيف منعه من ذلك، وأمر بالمخاصمة بالسنة وهي أضعف حالاً من القرآن؟
وجوابه؛ هو أن الكتاب والسنة حجتان من حجج الله تعالى على خلقه، وعليهما التعويل في جميع اقتباس الأحكام من التحليل والتحريم، وغير ذلك من الأحكام الشرعية، خلا أن القرآن لما كان المقصود منه الإعجاز والإفحام لمن تحدي به من سائر الفصحاء، وكان لا محالة لاشتماله على البلاغة والفصاحة، اللفظة الواحدة محتملة لمعاني كثيرة، وتحمل على أوجه متعددة، ومن أجل هذا قد بلغ في الفصاحة والبلاغة كل مبلغ، والسنة ليس المقصود منها الإعجاز والإفحام، وإنما المقصود منها البيان والإيضاح للمقاصد، فلا جرم لم يكن احتمالها كاحتمال القرآن، فلا جرم أمره بما ذكرناه، لما كانت تصريحاتها أكثر في ذلك.
(77) ومن كتاب له عليه السلام في أمر الحكمين جواباً لأبي موسى الأشعري
ذكره سعيد بن يحيى الأموي في (المغازي) :
(فإن الناس قد تغير كثير منهم عن كثير من خطهم ): يعني أن كثيراً من الخلق قد غيَّروا كثيراً من طرائقهم المحمودة التي كانوا عليها.
(فمالوا مع الدنيا): إلى أطماعها وزهرتها.
(ونطقوا بالهوى): من جهة أنفسهم وآرائهم، وليس نطقهم بالحق ولا على موافقته، وإنما [كان ذلك] لما تابعوا الدنيا نطقوا وتكلموا بما يهوونه من أنفسهم.
(وإني نزلت من هذا الأمر منزلاً معجباً): يريد إن إمامتي وخلافتي أمر يستطرف منه ويعجب كل أحد، لما فيه من اتباع الحق وترك الانقياد للأهواء.
(اجتمع به أقوام):قالوا به ودخلوا فيه.
(أعجبتهم أنفسهم): أعجبوا بآرائهم، واستهواهم الإعجاب بأنفسهم، يشير بذلك إلى أبي موسى، فإنه من جملة أصحابه وأعوانه، ولكنه أعجب برأيه.
(فإني أداوي منه قرحاً): أي جرحاً عظيماً، قال الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ }[آل عمران:140].
(أخاف أن يكون عَلَقاً): أي لازماً، والعلق بالفتح: ما لزم، يقال: أصاب ثوبي علق وهو ما يمسكه ويكون لازماً له.
(وليس رجل أحرص على جماعة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم): على اجتماعهم وكونهم مؤتلفين.
(وألفتها): أن تكون قلوبهم واحدة على الحق.
(مني): فإني أعظمهم محبة لذلك، وأقواهم شهوة له.
(أبتغي بذلك حسن الثواب): الدرجات العالية عند الله.
(وكرم المآب): وعظم المنزلة الرفيعة عند الله تعالى.
(وسأفي بالذي وأيت من نفسي): أوفي لله تعالى بما وعدته من ذلك،والوأي: الوعد.
(وروَّأت): يقال: روَّأت في الأمر إذا نظرت فيه وتفكرت في أحواله، وأراد أنه وافٍ بما وعد، وبما نظر فيه وتفكر في عاقبته من أمور الأمة.
(وإن تغيَّرت عن صالح ما فارقتني عليه): يشير إلى أبي موسى، وظاهر كلامه أنه كان يوم فارقه على الطريقة الحسنى، ولازم للخصلة المثلى.
(فإن الشقي من حرم نفع ما أوتي من العقل والتجربة): أراد أن أعظم الشقاوة في الإنسان أن يؤتيه الله تعالى عقلاً وافراً وتجربة في الأمور عظيمة ، ثم يحرم نفع ذلك، ولا يلحقه خيره.
(وإني لأَعْبَدُ): لآنف وأحتمي.
(أن يقول قائل بباطل): أن في موضع نصب على نزع الجار، أي عن أن يقول أحد من الأمة بباطل مخالف للحق.
(وأن أفسد أمراً قد أصلحه الله): وأن يكون ساعياً بفساد أمر قد أذن الله بصلاحه واستمراره.
(فدع ما لاتعرف): من الأمور، فإن خوض الإنسان فيما لا يعرفه جهالة لأمره وخبط في حاله.
(فإن شرار الناس طائرون إليك بأقاويل السوء): شبه حالهم بما يسعون به من النميمة، والإغراء بالباطل، والسعي بالفساد في الإسراع والخفة والعجلة بسرعة الطيران.
(78) ومن كتاب له عليه السلام إلى أمراء الأجناد لما استخلف
(أما بعد، فإنما هلك من كان قبلكم): يريد من الأمم والقرون الماضية.
(أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه): يعني من جهة أخذ الحق وتناوله، فاشتروه منهم بدفع الأعواض النفيسة ليصلوا إليه.
(وأخذوهم بالباطل فافتدوه ): يعني وقهروهم فأخذوا منهم الباطل فافتدوه، والضمير في قوله: فافتدوا للباطل أي فافتدوا الباطل عن أن يكون مأخوذاً منهم.
وبتمامه يتمُّ الكلام في الكتب والوصايا وهو آخر القطب الثاني، ونشرع الآن في شرح القطب الثالث [إنشاء الله] .
القطب الثالث في المختار من الحكم والأجوبة
للمسائل والكلام القصير من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه الخارج في سائر أغراضه ومقاصده
اعلم: أن الحِكَمَ جمع حكمة نحو سِدْرَة وسدر، والحكمة هي: العلم، والحكيم هو: العالم بالأمور كلها المتقن لها، وقد حكُم الرجل بضم الكاف أي صار حكيماً، قال الشاعر:
وابغض بغيضك بغضاً رويداً
إذا أنت حاولت أن تحكما
يريد إذا طلبت أن تكون حكيماً عالماً، واشتقاق الحكمة من قولهم: أحكمت الشيء فاستحكم أي صار محكماً، ومنه حكمة اللجام؛ لأنها مانعة لها عن التقحم على خلاف مراد الفارس، وإنما سميت حكمة لأنها مانعة عن فعل كل قبيح، قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم
إني أخاف عليكم أن أغضبا
يقال: حكمت السفيه إذا أخذت على يده، فمن أخذ بالحِكَم وكان منقاداً لها سامعاً لأقوالها منعته عن أكثر الهوى.
ونحن الآن نورد ما أَثُرَ عنه عليه السلام من الحكم النافعة والآداب البالغة ما فيه بلاغ لمن اتعظ به، وشفاء لمن اعتمد عليه، وهو آخر الأقطاب الثلاثة المقرر عليها (نهج البلاغة).
من كلامه عليه السلام (1-25)
قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه:
[1] (كن في الفتنة كابن اللبون): أراد بابن اللبون ولد الناقة إذا استكمل سنتين ودخل في الثالثة؛ لأن أمه قد وضعت ولداً غيره فصار لها لبن، واللام فيه لتعريف الجنس، وغرضه من هذا كن في الحرب مستضعفاً غير جامع للمال، بحيث لايطمع فيك لأجل قوتك، ولا في مالك لقلته.
(لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب): أي أنه لم ينته إلى حالة الركوب فيكون مركوباً، ولا هو مما يحلب فيكون ذا لبن.
[2] (أزرى بنفسه من استشعر الطمع): الشعار من الثياب: ما يلي الجسم، وأراد تهاون بنفسه من جعل الطمع شعاراً له.
(ورضي بالذل من كشف ضره): أراد أن من أظهر ضعف حاله للناس فقد ذل في أعينهم.
(أهان نفسه من أمرَّ عليها لسانه ): يعني من جعل لسانه أميراً على نفسه بحيث لايقدر على ضبطه وكفِّه فقد أهان نفسه، إما بأن يتكلم كلاماً يورده في المتالف العظيمة والمهالك الخطرة، وإما بأن يؤذي الناس فلا يبقى له عندهم قدر، وربما آذوه كما آذاهم، وفيه ما لا يخفى من الهوان بالنفس وإسقاطها.
[3] (البخل عار): العار: كل أمر يكسب صاحبه الذم واللوم، وهذا حال البخل، فإن صاحبه مذموم ملوم في كل حال.
(الجبن منقَصة): نقصته إذا عبته، والمنقَصة بفتح القاف هي : العيب، وأراد أن الجبن الذي هو خلاف الشجاعة ونقيضها، وفي الحديث: ((الولد مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ )) ، وأراد أنه من أعظم العيوب في الإنسان:
(الفقر يخرس الفطن عن حجته ): أراد أن الرجل إذا كان فقيراً فربما تقاعد عن نصرة حقه؛ لما يلحقه من المذلة بالفقر، وتهاون الناس به، وعن هذا قال بعضهم:
عبيد ذي المال وإن لم يطمعوا
من غمرة في جرعة تشفي الصدى
وهم لمن أملق أعداء وإن
شاركهم فيما أفاد وحوى
(الْمُقِل غريب في بلدته): لأن الغريب تعتريه المذلة لا محالة لمكان وحشته بالغربة، وهكذا حال الْمُقِل يلحقه مثل ذلك، وإن كان في بلده وبين عشيرته، ولهذا قال بعضهم: المال في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة، يشير به إلى ما ذكرناه.
[4] (العجز آفة): يعني أن كل من عجز عن حفظ نفسه ومنعها عن اتباع الشهوات، وعن كسب الأموال من وجهها، وعن مكافأة الأعداء فقد لحقته الآفة.
(والصبر شجاعة): لما فيه من تحمل المشاق العظيمة، فلا بد من أن يكون شجاعاً عليها.
(الزهد ثروة): الثروة: كثرة المال، وأراد أن نفوس الزهَّاد قانعة بالزهادة مطمئنة إليها، كما أن نفوس أهل الأموال قانعة بالثروة وساكنة إليها، فلهذا قال: الزهد ثروة، يشير إلى ما ذكرناه، أو يريد أن من كثر زهده في اللذات الدنيوية عظم ثراؤه في المال وكثر لقلة الإنفاق فيها ، والوجه هو الأول.
(الورع جُنَّة): الْجُنَّة:ما سترك من ثوب أو قميص، وأراد [أنه ساتر عن جميع مداخل الشك، أو أراد] أنه من أعظم الجنن عن النار وأجودها حالاً في الوقاية عنها.
(نعم القرين الرضا): يشير إلى أن الرضا من أجود ما يقارن الرجل من الخلائق والشيم؛ لأنه إذا كان راضياً بحاله كان أقر الناس عيناً وأهنأهم عيشاً؛ لرضاه بما هو فيه، ولهذا قيل لبعض الحكماء: من أهنئ الناس عيشاً؟
فقال: أرضاهم بحاله كائناً من كان، وفي الحديث: ((إن الله بلطفه جعل الرَوْحَ والراحة في الرضا واليقين ، وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسخط)) .
[5] (العلم وراثة كريمة): يعني أنه لا ميراث أفضل من ميراث العلم، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((العلماء ورثة الأنبياء )) ، وغرضه أنه يشرف صاحبها بوراثتها، ويعظم حاله، ويكمل أمره.
(الآداب حلل مجددة): يشير إلى أنه بمنزلة الملابس كلما دخل في أدب وألزمه نفسه كان بمنزلة من يلبس خِلْعَة جديدة، وأنواعه كثيرة، وضروبه مختلفة.
(الفكر مرآة صافية): ولهذا يطلع به على كل ما خفي من الأمور الدقيقة، كما أن المرآة ترى فيها عند الاطلاع كل صغير وكبير من المحسوسات المدركة.
[6] (وصدر العاقل صندوق سره): يعني أن كتمان السر من شروط العقلاء؛ لما فيه من ملك الأمر والحكم على النفس.
(البشاشة حبالة المودة): رجل بش إذا كان طلق الوجه.
قال ابن السِّكيِّت في (إصلاح المنطق): يقال: لقيته فتبشبش بي، وأراد هنا أن طلاقة الوجه وسَبَاطَة الخلق هو وصلة المودة وحبالتها التي يُصطاد بها، ومنه حبالة الصائد وهي: شَرَكَه التي يصيد بها.
(الاحتمال قبر العيوب): يعني أن من كان من شيمته الاحتمال للأذى والصبر على مكارهها فهو تغطية لذكر المعايب؛ لأنه مهما كان محتملاً فإنه لايبدو منه شيء منها فهي بمنزلة المقبورة.
وفي رواية أخرى في العبارة عن هذا المعنى:
(المسالمة خَبْءُ العيوب): أراد أن المصالحة بين الناس إذا وقعت فعيوبهم لا محالة مستورة؛ لأنهم مع ذلك لايذكر بعضهم عيب بعض.
[7] (ومن رضي عن نفسه كثر الساخط عليه): يعني أن كل من أرضى نفسه باتباع هواها والانقياد له، فإنه يكثر من يسخط عليه ويمقته من الخلق، ومن جهة الله تعالى؛ لأنها لا تهوى إلا ما يكرهه الله ويكرهه الخلق، فلهذا سخطوا عليه.
(الصدقة دواء منجح): للمرضى، وفيه غاية الشفاء، وفي الحديث: ((داووا مرضاكم بالصدقة )) .
(أعمال العباد في عاجلهم): يعني أن كل ما فعله الإنسان من الأعمال في الدنيا العاجلة، فهو:
(نصب أعينهم في الآجلة ): فكأنه شيء منصوب بين أعينهم، ينظرون إليه ولا ينظرون إلى سواه، ولا ينفعهم في الآخرة إلا هو.
[8] (اعجبوا لهذا الإنسان): تفكروا في عجيب خلقته ، ودقيق الإحكام في تركيبه وصنعته، وما اشتمل عليه من البدائع الغريبة، والإتقانات المحكمة العجيبة في خلقته كلها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }[الذايات:21].
(ينظر بشحم):وهما العينان فإنهما شحمتان مركبان على جهة التدوير من طبقات سبع، وثلاث رطوبات مختلفة ، هكذا شرحه الأطباء، وفيها لطائف ودقائق في الإدراك لا يحيط بعجائبها إلا الله تعالى ، وهي آلة في الإدراك.
(ويتكلم بلحم): وهو اللسان، وهو مركب من لحم وعصب، وهو متصل بالمعدة، ومنفعته: الكلام وتقليب الطعام، والإعانة على بلع الغذاء.
(ويسمع بعظم): وهو الأذن، وهي مركبة من هذا الغضروف ، ومنفعتها: لرد الصوت إلى الصِّماخ ؛ لأن السماع إنما هو به.
(ويتنفس من خرم): وهي الأنف، فإنها مركبة على هذه الاستطالة، ومنفعتها: الشم للروائح، إلى غير ذلك من هذه الأعضاء كالرئة والكبد والطحال والمعدة والمعاء، وكل من هذه الأشياء مركب تركيباً بديعاً يليق بمنفعته، يخالف تركيب الآخر، فسبحان من نفذ في الإتقان علمه، ومضى بعجيب القضاء أمره وحكمه!
[9] (إذا أقبلت الدنيا على قوم): يعني مكنتهم من منافعها وجمالها وهيئتها ونظارتها.
(أعارتهم محاسن غيرهم): يشير إلى أنها كانت قبلهم مع غيرهم، فإذا جاءتهم فإنما هو على جهة العارية لهم من غيرهم أياماً قليلة.
(فإذا أدبرت عنهم سلبتهم محاسن أنفسهم): لأنهم إذا نعموا فيها، وتحلوا بما كان معهم من زينتها، وأعجبوا بحالها فصارت هذه الزينة مختصة بهم منسوبة إلى أحوالهم ، فإذا زالت عنهم أزالت ما كان عليهم منها، من المحاسن مما اختصوا وصار لهم، فلهذا قال: سلبتهم محاسن أنفسهم بإدبارها عنهم، يشير إلى ما قررناه.
[10] (خالطوا الناس مخالطة): تكون صلاحاً لأحوالهم، وعوداً عليهم بالمنافع الحسنة في الدين والدنيا.
(إن متم معها بكوا عليكم): فقداً لما كانوا يعهدون من ذلك.
(وإن عشتم حنوا إليكم): اشتاقوا إلى ما يألفون من أخلاقكم، ويتحققونه من شيمكم.
[11] (إذا قدرت على عدوك): يريد بالانتصار عليه، والقهر له.
(فاجعل العفو عنه شكراً للمقدرة عليه): يريد فإن إقدار الله لك عليه بالانتصار هو من أعظم النعم وأعلاها حالاً، ولا بد لهذه النعمة من شكر، فاجعل العفو عنه هو شكرها، والوافي بحقها لله تعالى.
[12] (أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان): يشير إلى أنه لا عجز أعظم منه؛ لما فيه من المنفعة الدنيوية، وهو المناصرة والمعاضدة على من أرادك بسوء وهمَّ بقهرك، ولما فيه من منفعة الآخرة بالمعاونة على الطاعة ومحادثة القلوب بذكر الله، والاجتماع على ما يرضيه.
(وأعجز منه من ضيَّع من ظفر به منهم): يعني أن الأول وإن كان عاجزاً لما أشرنا إليه من المصلحة بذلك، لكن هذا يكون لامحالة أدخل في العجز لتفريطه في الإضاعة، ولجهله بالموقع من أحوالهم، ولهذا ضيعهم من أجل جهله.
[13] (إذا وصلت إليكم أطراف النعم): أوائلها ومبادئها، فأعدوا لها الشكر وبالغوا في تحصيله، وبعد وصولها إليكم:
(فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر): يعني إذا أسقطتم شكر الأوائل من النعم السابقة كان أدعى إلى عدم وصول النعم التالية، ومنفراً عنها لكفرانها وإسقاط شكرها.
[14] (من ضيَّعه الأقرب): من عشيرته وأقاربه في نصرته ومعاضدته.
(أتيح له الأبعد): قدَّر الله له من لطفه به ورعايته لحقه من يكون منه رحماً بعيدة تنصره وتعاونه وتعضده.
[15] (ما كل مفتون يعاتب): يريد أن كل من أوقع نفسه في فتنة ومحنة شديدة باختيار نفسه، فمنهم من ينفع فيه العتاب فيكف عن ذلك ويرجع عنه، ومنهم من لاينفع فيه العتاب ولا يزيده إلا إصراراً وتمادياً في ذلك، فلهذا قال: ما كل مفتون ينفع فيه العتاب.
[16] (تذل الأمور للمقادير): أي تخضع التصرفات، ويضيع أمرها، ويهون حالها لما قد قدره الله وحتمه، وما كان لا محيص عنه حتى يكون الحكم للمقادير ويبطل أمر التصرفات والعنايات كلها.
(حتى يكون الحتف في التدبير): يعني إذا كان الله تعالى قد أذن بقضاء وقدر فلا بد من إنفاذه، فإذا أراد ذلك أبطل كل عناية وأذهب كل حيلة حتى يجعل الهلاك إذا أراده وقدره في أجمل الأمور وأبعدها عن الهلاك، وهو التدبير، ومع هذا فلا حيلة بعده لأحد من المحتالين.
[17] وسئل أمير المؤمنين عن قول الرسول عليه السلام:
((غيَّروا الشيب، ولا تشبَّهوا باليهود )) ؟
فقال عليه السلام: (إنما قاله صلى الله عليه وآله والدين قُلٌّ): أي قليل حقير ضعيف حاله.
(فأما الآن وقد اتسع نطاقه): النطاق هو: الحبل الذي تشد به المرأة حقوها وتنتطق به، وقيل لأسماء بنت أبي بكر: ذات النطاقين ؛ لما شقت نطاقها بنصفين في جهاز أبيها للخروج إلى الغار مع الرسول.
(وضرب بِجِرَانه): الجران: مقدم عنق البعير، وهو كناية عن التمكن والاستقرار؛ لأن البعير إنما يفعل ذلك عند القرار والتوطن والاستراحة.
(فامرؤ وما اختار): يعني أن الخضاب أمر مباح، وليس واجباً كما هو في ظاهر الأمر، وفي هذا دلالة على أن مذهب أمير المؤمنين أن الأمر متى كان مطلقاً فهو دال على الوجوب كما هو مذهبنا ومذهب المعتزلة، ولهذا تأول الأمر في ذلك بما ذكره، والخضاب إنما يكون بالحمرة، فأما السواد والزرقة فهي مكروهة.
[18] وقال في الذين اعتزلوا القتال معه، يعني عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة :
(خذلوا الحق): يريد بتركهم القتال معي والكون في صفي، ونصرة الحق بهم ظاهرة، فإذا تركوها فهو خذلان لامحالة.
(ولم ينصروا الباطل): يعني لم يكونوا في حزب معاوية متألبين عليّ معه كما كان من أهل الشام، ويحتمل أن يكون مراده من ذلك الأحنف بن قيس، والزبير ومن تابعهما، فإنهم خذلوا الحق بمخالفتهم لي، ولم ينصروا [الباطل] أصحاب الجمل بتأخرهم عنهم.
[19] (من أرخى عنان أمله عثر بأجله): أراد أن كل من استرسل في طلب الدنيا والتعلق بآمالها وما يطمح به من ذلك وقع في عثار الأجل وقطعه عمَّا يأمله منه، فاستعار إرخاء العنان والتعثر بالأجل لهذا المعنى الذي أشرنا إليه.
وفي نسخة: (من جرى في عنان أمله) وكله متقارب.
[20] (أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم): يعني إذا وقع بعض أهل الكرم والمرؤة في عثرة وهفوة وسقط سقطة في شيء من أفعاله وأعماله، فارفعوه عن تلك السقطة، وتداركوه بالصفح والاحتمال عنها.
(فما يعثر منهم عاثر إلا ويد الله بيده ويرفعه ): فإذا برزت العثرة من بعضهم رفعه الله ونهضه وتداركه.
وقوله: يد الله بيده، من باب التخييل، وإلا فلا يد هناك لله تعالى، وإنما هو تمثيل بحال من تكون يده في يدك فتعثر فيقيمك بيده، فهكذا حال الله تعالى مع أهل الكرم والمروءة بالتدارك بالألطاف الخفية.
[21] (قُرِنَتْ الهيبةُ بالخيبةِ): يعني أن كل من هاب أمراً من الأمور عن الوقوع فيه فإنه لا محالة منقطع عن ثمرته وفائدته، ولا يناله لأجل خوفه وفشله عن الوقوع فيه بشيء من ذلك.
(والحياء بالحرمان): يعني ومن استحيى من شيء فهو لا محالة محروم من نفعه، فإذا استحيى عن أخذ العلم حرمه فائدته ومنفعته، وإذا هاب عن الوقوع في الخطر خاب عن ارتفاع الخطر والقدر، فأحدهما كما قال مقرون بالآخر.
(الفرصة تمرُّ مرَّ السحاب): يعني سريعة العجلة لا وقوف لها ولا مهلة، فمن أحرزها أخذها، ومن فوَّتها ذهبت عنه، كما قال عليه السلام في الشفعة: ((إنها كنشطة عقال، وإنها لمن واثبها )) .
(فانتهزوا فرص الخير): استعجلوها وأحرزوها بالتدارك.
[22] (لنا حق): يريد الإمامة.
(فإن أعطيناه): فهو لنا ونحن أهله.
(وإلا ركبنا أعجاز الإبل): عجز البعير هو: مركب شاق.
(وإن طال السُّرى): وهو سير الليل، وأراد أنَّا إن مُنِعْنَا حقنا تحملنا المشقة وصبرنا عليها، وهذا من الكنايات اللطيفة، فإٍنه جعله هاهنا كناية عن الذلة، وذلك أن الرديف يركب عجز الإبل كالعبد والأسير ومن يجري مجراهما.
[23] (من أبطأ به عمله): قعد به.
(لم يسرع به حسبه): وأراد أن كل من لم تكن أعماله حسنة مرضية لله تعالى لم ينفعه شرف آبائه وعلو منصبه.
[24] (من كفارات الذنوب العظام إغاثة المظلوم ): أراد أن الواحد إذا أعان مظلوماً أو أغاث ملهوفاً، واللهف هو: الحزن والتحسر على الشيء، فإن الله تعالى يلطف له ويوفقه لتحصيل التوبة عن الذنوب العظيمة، والكبائر الموبقة، ولا بد من حمله على ما ذكرناه؛ لأن شيئاً من الطاعات وإن عَظُمَ حاله فإنه لايكفرها؛ لأن ثوابها ينحبط لأجل الكبيرة فكيف يكفرها .
(والتنفيس عن المكروب): يكون مكفراً أيضاً على التقرير الذي ذكرناه، ونفس عليه الكرب إذا سهله، والكرب: الضيق.
[25] (يا ابن آدم، إذا رأيت الله يتابع عليك نعمه): يوصلها إليك كاملة مرة بعد مرة.
(فاحذره): فكن منه على وجل وحذر، يريد أن ذلك لا يمتنع أن يكون استدراجاً للأخذ، وإملاءً كما قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[الأعراف:182-183].
من كلامه عليه السلام (26-50)
[26] (ما أضمر أحد شيئاً): أسره في نفسه وكتمه.
(إلا ظهر في فلتات لسانه): أي عثراته وسقطاته.
(وصفحات وجهه): صفحة الوجه: بشرته.
[27] (امش بدائك ما مشى بك): يعني إذا لم يقعدك الداء ولم يعجزك عن المشي فامش وتجلد، وهو خارج مخرج الأمثال في الإغضاء عن أكثر ما يعرض من المشاق، وترك الالتفات إليها مهما أمكن.
[28] (أفضل الزهد): أعلاه حالة عند الله تعالى، وأعظمه فضلاً.
(إخفاء الزهد): وهو زهد القلوب؛ لأنه هو النافع بخلاف ما يظهر منه فإنه لايؤمن فيه الرياء، ولهذا ترى كثيراً ممَّن يدعي التصوف بزعمه، يلبس المرقعات، ويظن أن هذا هو غاية الزهد، وهذا هو الغرور بعينه، وفي الحديث: ((حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغلبون سهر الحمقى واجتهادهم)) .
[29] (إذا كنت في إدبار): بذهاب عمرك يوماً فيوماً وساعة فساعة.
(والموت في إقبال): عليك، تقطع المسافة إليه.
(فما أسرع الملتقى): لأنك تسير إليه، وهو في غاية السرعة إلى لقائك.
ويحكى أنه صلى الله عليه وآله أخذ ثلاثة أعواد - أعني الرسول عليه السلام- فغرز عوداً بين يديه والآخر إلى جنبه.
وأما الثالث فأبعده، ثم قال: ((تدرون ما هذا؟))
فقالوا: الله ورسوله أعلم.
فقال: ((هذا هو الإنسان، وهذا الأجل إلى جنبه، وذاك الأمل يتعاطاه ابن آدم، فيختلجه الأجل دون الأمل)) .
[30] (الحذر الحذر): يريد ترك الاغترار بحلم الله وجميل ستره.
(فوالله لقد ستر): على ابن آدم المعاصي، وأسبل عليه الغطاء.
(حتى كأنه غفر ): لأن الستر كما يكون مع المغفرة، فهو يكون أيضاً مع الحلم والإغضاء.
[31] وسئل عليه السلام عن الإيمان؟ فقال:
(الإيمان على أربع دعائم) .
سؤال؛ قال ها هنا: الإيمان على أربع دعائم، وعن الرسول أنه قال: ((بني الإسلام على خمس :
شهادة أن لا إله إلى الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والصوم)).
وقال أمير المؤمنين: (الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد)، فما التفرقة بينهما فيما قالاه؟
وجوابه؛ هو أن الإيمان على وجهين: عام، وخاص.
فالعام: هو الذي يكون فيه إحراز الرقبة عن القتل وإحراز الأموال عن الأخذ، وهذا هو مراد الرسول صلى الله عليه وآله، فإن غرضه ذكر الإيمان الذي يكون حاله ما ذكرناه.
وأما الخاص فهو إنما يكون بالأعمال الصالحة، وهو الذي أراده أمير المؤمنين بما ذكره، ولهذا قرره على هذه الخصال الأربع، وهي عمدة التقوى وقاعدتها ومهادها على ما يندرج تحتها من الشعب والتفاريق، كما سنوضحه في شرح كلامه بمعونة الله تعالى، فحصل من هذا أن كلام الرسول وأمير المؤمنين في غاية الملائمة، وأن مراد الرسول ذكر الخصال في الإيمان التي يحرز بها نفسه عن السيف ويتميز به عن الكفار، وأن غرض أمير المؤمنين ذكر خصال التقوى وما يكون به محرزاً لدرجتها.
(فالصبر منها على أربع شعب): يريد أن أصل قواعد الإيمان الخاص هو الصبر، وهو مقرر على أمور أربعة:
(على الشوق): إلى لقاء الله والجنة.
(والشفق ): من غضب الله والنار.
(والزهد): في الدنيا والإعراض عنها.
(والترقب): للموت وأهوال يوم القيامة.
(فمن اشتاق إلى الجنة): طرب إلى الخلود فيها، ومرافقة الأنبياء والأولياء والصالحين.
(سلا عن الشهوات): أعرض عما يشتهيه في الدنيا، وأقبل بوجهه إلى الآخرة.
(ومن أشفق من النار): خاف من مواقعتها، والكون مع الشياطين والمنافقين وأهل الكفر والفسوق.
(اجتنب المحرمات): جميع ما نهى الله عنه، وأوعد على فعله بالنار.
(ومن زهد في الدنيا): أعرض عن لذاتها وصرف وجهه عن طيباتها.
(استهان بالمصيبات): هون في نفسه ما يصيبه منها ويلم بحاله ويغشاه.
(ومن ارتقب الموت): انتظره وراعاه حتى يصل إليه وتحقق وصوله.
(سارع في الخيرات): حث في فعلها والإكثار منها، فهذه كلها دعامة الصبر، مشتملة على هذه الخصال.
(واليقين منها على أربع شعب): أراد أن تحقق الأمر وهو أمر الآخرة والنجاة مبني:
(على تبصرة الفطنة): على أن يكون ذا بصيرة في الأمور وفطنة فيها، ليس مغفلاً عما يراد به من ذلك، ولا لاهياً عنه بغيره.
(وتأول الحكمة): وأن يكون موءوِّلاً للحكم، مصرِّفاً لها على وجهها.
(وموعظة العبرة): وأن يكون معتبراً بالمواعظ، مقبلاً إليها.
(وسنة الأولين): من الأنبياء وأهل الصلاح ممن تقدم، كما قال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا }[الإسراء:77]، وقال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }[غافر:85].
(فمن تبصَّر في الفطنة): تفكر وكان فطناً لأخذها والعمل بها، والمواظبة على فعلها.
(تبيَّنت له الحكمة): عرفها واستبانت له من وجوهها، وظهرت له علومها، والحكمة هي: العلم بالله تعالى، وسلوك طريق الآخرة وتحققها، والإقبال عليها، فمن أحرز هذا فهو الحكيم بعينه.
(ومن عرف الحكمة): قطع بها، وكان مبصراً لها بعينه.
(عرف العبرة): كان متيقناً للموعظة منتفعاً بها.
(ومن عرف العبرة): أحرز الاتعاظ لنفسه وخاض فيه، وكان على حقيقة من حاله.
(فكأنما كان مع الأولين): من الأنبياء والأولياء، لأن هذه هي حالتهم، فمن أحرزها وعمل بها فكأنما كان مشاهداً لأحوالهم وطرائقهم في ذلك، فهذه الأمور كلها دعامة اليقين.
(والعدل منها على أربع شعب): يعني أن الاستقامة على الأحوال الدينية كلها ومراقبة النفس، وحفظها عما يهلكها مبنية:
(على غائص الفهم): غاص في الشيء إذا خاضه، وغوص الفهم هو: التبحر في العلوم والدقة فيها.
(وغور العلم): غارت عينه إذا دخلت، وأراد و الدخول في أغوار العلوم ، وإظهار ما هو كامن فيها والانتفاع به.
(وزهرة الحِكَمِ): المراد بالحِكَمِ الحكمة ها هنا، وأراد غضارتها وحسنها ونور بهجتها، وزهرة النبات: نوره.
(ورساخة الحلم): وأن يكون حلمه راسخاً متأصلاً ليس مسرعاً إلى الطيش والفشل وكثرة الانزعاج.
(فمن فهم): تحقق وتيقن، واستبصر في أموره كلها.
(علم غور العلم): أقصاه وخلاصته، وكان مشتملاً على الصفو منه والنقاوة.
(ومن علم غور العلم): أحاط بالأسرار منه.
(صدر عن شرائع الحكم ): أصدر أمره على الحكمة، وكان قائماً بشريعتها وأمرها؛ لأن هذا هو شأن الحكيم، والأمر الذي يكون عليه أمره.
(ومن حكم لم يُفرِّط في أمره): يعني ومن كان حكيماً فإن من شأنه ألا يكون مفرطاً مسهلاً في إتقان حاله وإصلاح نفسه.
(وعاش في الناس حميداً): محمودة آثاره، مشكورة أفعاله، فهذه كلها دعامة العدل، مقررة على هذه الخصال.
(والجهاد على أربع شعب): ليس الغرض ها هنا جهاد النفس، وإنما الغرض هو جهاد أعداء الدين بالسيف، وذلك لأن الجهاد أمران:
أحدهما: جهاد النفس بالكف عن هواها، وهو أعظم الجهاد، وقد أشار إليه بما ذكره من الخصال المتقدمة.
وثانيهما: جهاد أعداء الله بالسيف، وهو مبني:
(على الأمر بالمعروف): على إتيان الواجبات كلها، وما أمكن من المندوبات.
(والنهي عن المنكر): الكف عن القبائح كلها.
(والصدق في المواطن): يعني إبلاء العذر في القتال والصدق فيه، كما أشار إليه تعالى بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا }[الأنفال:45].
(وشنآن الفاسقين): بغضهم وكراهتهم لله تعالى، ولمخالفتهم للدين وإهمالهم له، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }[المائدة:51].
(فمن أمر بالمعروف): حضّ عليه وحث واجتهد في أدائه.
(شد ظهور المؤمنين): قواها لما فيه من تكثير أعدادهم، وتقوية أحوالهم في ذلك.
(ومن نهى عن المنكر): منع منه وكف من وقوعه.
(أرغم أنوف المنافقين): يقال: أرغم الله أنفه أي ألصقها بالتراب.
(ومن صدق في المواطن): ثبتت قدمه في مواضع الحرب، ولم يفر عنها، وينكص على قدمه متأخراً.
(قضى ما عليه): من الواجب لله تعالى في جهاد أعدائه.
(ومن شنئ الفاسقين): أبغضهم وكره أحوالهم كلها.
(وغضب لله): أي من أجل دينه.
(غضب الله له): أي من أجله، وغضب الله عبارة عن إنزال العقوبة وإيصال العذاب.
(وأرضاه يوم القيامة): إما بإعطائه رضوانه كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ }[التوبة:72]، وإما بالفوز بالجنة ونجاته من عذابه، فهذه هي دعائم الإيمان مقررة على ما ذكرناه، وفيما ذكره ها هنا من حقيقة الإيمان إشارة إلى ما يقوله أهل التصوف من حقائق المعاملة وسلوك طريق المكاشفة.
(والكفر على دعائم أربع ): يعني أن الكفر هو نقيض الإيمان وضده، وهو مقرر على صفات تعاكس ما ذكره في الإيمان.
(على التعمق): في الأشياء، وهو التقعر فيها، والتعسف في أحوالها.
(والتنازع): المنازعة واللجاج، والخصومة.
(والزيغ): الميل عن الطريق، والإعراض عن سلوك الحق.
(والشقاق): المعاداة، والمخاصمة الشديدة.
(فمن تعمق لم يُنِبْ إلى الحق): تقعر وتعسف الأشياء كلها، فليس براجع إلى الحق، ولا منقلب إليه.
(ومن كثر نزاعه): خصومته، ولجاجه.
(بالجهل): متجاهلاً.
(دام عماه عن الحق): لأن المنازعة بالجهل لا تزيد إلا عماء عن الحق وزيغاً عنه.
(ومن زاغ ساءت عنده الحسنة): مال عن الحق، جهل حال الحسنة فاعتقدها سيئة.
(وحسنت عنده السيئة): لجهله بحالها، وعدم معرفته بأمرها.
(وسَكِرَ سُكْرَ الضلالة): أراد أن الضلالة هي التي أسكرته حتى لم يدر ما هو فيه، كما يكون حال السكران من الخمر فإنه لايشعر بحاله، ولا يدري بأمره في ذلك.
(ومن شاقَّ): خاصم ونازع الناس.
(وعرت عليه طرقه): استصعبت عليه المسالك، وتوعر عليه سلوكها.
(وأعضل عليه أمره): أعضل الأمر إذا اشتد وصعب حاله.
(وضاق عليه مخرجه): عما هو فيه من الحيرة، فلا يستطيع ذهاباً ولا حيلة في ذلك.
(والشك على أربع شعب): يريد الشك في الدين مبني:
(على التماري): وهو المماراة، والمجادلة بالباطل.
(والهول): وهو ما يهول من الأمور، ويعظم حاله.
(والتردد): وهو التحير.
(والاستسلام): الانقياد في المهالك.
(فمن جعل المراء ديدناً): الديدان: الدأب والعادة، قال الراجز:
ولا تزال عندهم ضيفانه
ديدانهم ذاك وذا ديدانه
وأراد أن من جعل المِرَاء عادة له وَدَأْباً :
(لم يصبح ليله): يعني لم يُرجَ له فلاح، ولا كان له صلاح في حاله.
(ومن هاله ما بين يديه): من أمور الدين وأحوالها، وصعوبة الأمر فيها.
(نكص على عقبيه): يعني تأخر عن الإتيان بها والوصول إليها.
(ومن تردد في الريب ): تحير في شكه ولم يزل عنه.
(وطئته سنابك الشياطين): السنبك في ذوات الحافر بمنزلة الخف للبعير والظلف في الأنعام، وجعل هذا كناية عن استحكام أمرها عليه وانجذابه لها، وإجابته لداعيها.
(ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة): يعني انقاد للأمور المهلكة فيهما، وتعرض للأخطار الواقعة من أجلهما .
(هلك فيهما ): بالصيرورة إلى العذاب والوقوع فيه.
[32] (فاعل الخير خير منه): لأن أحكام الخير راجعة إلى فاعله ومستحق لجزائه من الله تعالى بالجنة والفوز برضوانه، ونفس الخير لا يلحقه ذلك.
(و فاعل الشر شر منه): لأن أحكام الشر راجعة إليه، ويستحق من الله الويل بالعذاب.
[33] (كن سمحاً): يعني كريماً، باسطاً لكفك.
(ولا تكن مبذراً): يعني ومع السماحة فلا تكن مبذراً؛ لأن ذلك هو الغالب.
(وكن مقدراً): لأمورك، متقناً لإصلاحها وعلاجها.
(ولا تكن مقتِّراً): مضيِّقاً، يعني ومع التقدير فلا يغلب عليك التقتير، فإن ذلك هو الغالب من حاله.
[34] (أشرف الغنى): أعلاه وأفضله.
(ترك المنى): إماتة الأماني عن قلبه وعدم التعلق بها، فإن التعلق بها حمق وجهل.
[35] (من أسرع إلى الناس بما يكرهون): عجل إليهم بالأقوال المكروهة.
(قالوا فيه ما لايعلمون): يريد أنهم يكذبون عليه إذا بدأهم بالمكروه، وتكلفوا ذلك.
[36] (من أطال الأمل): أبعده وكان على غاية بعيدة فيه.
(أساء العمل): جعله سيئاً، إما لتغطية الأمل على فؤاده وقلبه، وإما لأنه يسوف من الأعمال ما لايبلغه فيقطعه الأجل دونها.
[37] وقال [ عليه السلام] وقد لقيه دهاقين العراق فترجَّلوا بين يديه :
(ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلقٌ نعظم به أمراءنا، فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم): أي أنه لا يزيدهم علواً عند الله ولا رفعة.
(وإنكم لَتَشُقُّون به على أنفسكم [في دنياكم] ): لما فيه من التعب عليكم.
(وَتَشْقَوْنَ به في آخرتكم): لما فيه من مخالفة الشرع والكبر والخيلاء.
وقوله: تَشُقُّونَ، وتَشْقَوْنَ من باب الاشتقاق، كقوله تعالى: {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ }[يوسف:84]، على ما مر في نظائره.
(وما أخسر المشقة): أدخلها في الخسارة، وأعظمها فيها.
(وراءها العذاب ): يأتي بعدها عذاب الله ونكاله.
(وأربح الدعة): أعظمها في الربح وأدخلها فيه، والدعة: السكون.
(معها الأمان من النار!): فإن ذلك فيه نهاية الربح وعظيم الفوز.
[38] وقال لابنه الحسن عليهما السلام:
(احفظ لي أربعاً وأربعاً): يعني خصالاً ثمانية.
(لا يضرك ما عملت معهنَّ): يعني أنك إذا أحرزتهنَّ وواظبت على العمل عليهنَّ فلا يضرك إهمال ما عداهنَّ.
(إن أغنى الغنى العقل): يعني لاغنى كهو، ومن أعظم غنائه إتيانه بكل خير في الدين والدنيا، واحترازه عن كل ضرر في الدين والدنيا، وهو ملاك الأمور كلها وغاية الخيرات، وعن هذا قال بعضهم: ما أعطي أحد أفضل من العقل.
(وأكبر الفقر الحمق): يريد الجهل، وإنما كان أعظم الفقر؛ لأنه عدم الغنى كله وهو العقل، فلهذا كان أعظم الفقر.
(وأوحش الوحشة العجب): وفي الحديث: ((ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه)).
(وأكرم الحسب حسن الخلق): أعلاه وأعظمه سلاسة الخلائق ولين الطبيعة.
(يا بني إياك ومصادقة الأحمق): يعني أن يكون لك صديقاً وتوده وتحبه.
(فإنه يريد أن ينفعك فيضرك): يشير إلى أن الجاهل لايؤمن شره فإنه ربما فعل شيئاً بجهله يريد أن ينفع به، فإذا هو سبب للمضرة ؛ لكونه جاهلاً بأحوال مواضع النفع والضر .
(وإياك ومصادقة البخيل): تحذيراً له عن أن يتخذه صديقاً.
(فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه): يعني أنه لمكان لؤمه وبخله يتأخر عنك في المواطن التي تحتاجه فيها، وتكون مفتقراً إليه لأجلها.
(وإياك ومصادقة الفاجر): نهى عن صحبته واتخاذه صديقاً.
(فإنه يبيعك بالتافه): بأيسر الأثمان وأقلها وأبخسها، وأراد أنه إذا بذل له في مضرتك شيء حقير من حطام الدنيا لم يأسف في الدلالة على مضرتك وتوليها، ويعتاض شيئاً حقيراً على ذلك.
(وإياك ومصادقة الكذاب): اتخاذه صاحباً.
(فإنه كالسراب): يعني ما يكون في المواضع الخالية، الذي يشبه الماء.
(يقرِّب عليك البعيد): بكذبه ومينه .
(ويبعِّد عليك القريب): بخلفه ، فإنه لايبالي في الإخبار عن الأشياء بما يكون مناقضاً لما هي عليه من صفاتها وأحوالها، فهذه أمور ثمانية، أربعة على جهة التحذير، وأربعة على غير ذلك كما أوضحناها.
[39] (لا قربة بالنوافل): أي لايُتْقَرَبُ بها ولا تفعل، أي ولا تكون مقبولة عند الله تعالى.
(إذا أضرت بالفرائض): يشير إلى وجهين:
أما أولاً: فبأن يتنفل حتى يستغرق الوقت في فعل النوافل، ثم يؤدي الفرائض على إدبار من أوقاته.
وأما ثانياً: فبأن يكون متنفلاً حتى تفتر أعضاؤه، ثم يؤدي الفرائض بعد ذلك على نقصان وفتور في أركانها، فما هذا حاله لا وجه للنوافل معه لما فيه من الضرر بها.
[40] (لسان العاقل وراء قلبه): يعني أن العاقل لايطلق لسانه إلا بعد مشاورة الرويَّة ومؤامرة الفكرة الصائبة بما يقول وينطق، فلهذا كان لسان العاقل تابعاً لقلبه.
(وقلب الأحمق وراء لسانه): يشير إلى أن الأحمق نفثات لسانه وفلتات كلامه سابقة لمراجعة فطنته ومتقدمة على مراودة فكرته، فلهذا كان قلبه تابعاً للسانه، وقوله: وراء قلبه، ووراء لسانه -أي بين يديه-، كما قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ }[إبرهيم:16]، أي من بين يديه، وأراد لسان العاقل بين يديه يتصرف فيه كيف شاء، وقلب الأحمق وراء لسانه يتصرف فيه كيف شاء.
وقد روي عنه عليه السلام هذا المعنى بلفظ آخر، وهو قوله: (قلب الأحمق في فِيْهِ، ولسان العاقل في قلبه)، والمعنى فيهما واحد كما أشرنا إليه.
[41] وقال عليه السلام لبعض أصحابه في علة اعتلها:
(جعل الله ما كان من شكواك حطاً لسيئاتك): تكفيراً لها وإزالة لعقابها.
(فإن المرض لا أجر فيه): يريد لا ثواب يستحق عليه؛ لأنه ليس من جملة الأعمال.
(ولكنه يحط السيئات): يكفرها ويزيلها.
(ويحتُّها حتَّ الأوراق): حتَّه إذا فرَّقه، وأراد حتَّ الريح للأوراق، فإنها تزيلها وتفرق أجزاءها، ومصداق ما قاله عليه السلام في كلامه هذا هو أن الأجر هو الثواب، والمرض هو من قَبِل الله فلا يستحق عليه إلا العوض؛ لأن العوض إنما يستحق على ما كان في مقابلة فعل الله بالعبد من الأمراض والآلام والغموم، والأجر والثواب إنما يستحقان على ما كان في مقابله فعل العبد، ثم يفترق الحال في إسقاط العوض للسيئة وإسقاط الثواب، هو أن العوض إنما يسقط السيئة ليس على جهة الدوام، وإنما يسقطها وقتاً واحداً، بخلاف الثواب فإنه يسقطها على جهة الدوام فيعود ما كان مستحقاً من العقاب في الوقت الثاني في الألم، ولا يعود في إسقاط الثواب، وإن اشتركا في مطلق الإسقاط، فبينهما هذه التفرقة ، ولهذا نبَّه عليها في كلامه هذا، ثم قال:
(وإنما الأجر في القول باللسان): يعني في جميع الأذكار كلها من القرآن وأنواع التسبيح والذكر.
(والعمل بالأيدي والأقدام): كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك من العبادات المتعلقة بالجوارح، فحصل من هذا أن الثواب إنما يستحق على ما يلحق العبد نفسه من الآلام لتأدية الواجبات والمندوبات، ويستحق العوض على ما يلحقه الله تعالى وعلى ما يلحق نفسه من غير أن يكون واجباً أو مندوباً، نحو شرب الأدوية وغير ذلك.
(و إن الله سبحانه يدخل بصدق النية): خالص الإرادة في الفعل لوجهه.
(والسريرة الصالحة): وهو عبارة عما يسره الإنسان في نفسه من الأعمال الصالحة.
(من يشاء من عباده الجنة): وهذا غير ممتنع، فإن الإنسان مهما كان مؤدياً للواجبات، منكفاً عن المنهيات، وعلم الله تعالى من حاله ما ذكرناه فإنه يكون سبباً في دخول الجنة.
سؤال؛ ليس يخلو الحال في ذلك إما أن يدخله الله الجنة بالسريرة الصالحة لاغير من غير فعل هذه التكاليف أو مع فعلها، فإن كان الأول فهو خطأ، وليس مذهباً لكم، وإن كان الثاني فهي كافية في دخول الجنة، فما فائدة كلامه في ذلك؟
وجوابه؛ هو أن السريرة الصالحة لايمتنع أن تكون سبباً في القيام بهذه التكاليف كلها ولطفاً في الإتيان بها، وإذا كان الأمر كما قلناه جاز إضافة دخول الجنة إليها لما كانت سبباً.
[42] ثم قال عليه السلام في ذكر خباب بن الأرت :
(يرحم الله خباباً ! فلقد أسلم راغباً): في الدين والإسلام، وكان إسلامه متقدماً على إسلام عمر.
(وهاجر طائعاً): من غير إكراه إلى الله ورسوله.
(وعاش مجاهداً): في الله.
ويحكى أن إسلام عمر بن الخطاب كان بسببه، وذلك أنه دخل على أخته فاطمة بنت الخطاب وخباب يقرئها سورة طه لما نزلت، فلما دخل عليهما بطش بها، فقال له خباب: اتق الله ياعمر، والله لأرجو أن يكون قد خصَّك بدعوة نبيئه، فإني سمعته يقول بالأمس: ((اللَّهُمَّ، أيّد الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام)) .
(طوبى لمن ذكر المعاد): فخاف من هوله، والطوبى: من الطيب.
(وعمل للحسنات): أي كان عمله من أجل اكتسابها وإحرازها.
(وقنع بالكفاف): من الرزق، وهو أن يكون لا عليه ولا له.
(ورضي عن الله!): ما أعطاه من خير وشر، وعافية وبلوى، وقبض وبسط.
[43] (لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا): الخيشوم: أقصى الأنف، وهو أصعب ما يكون في الضرب.
(على أن يبغضني): يكرهني بقلبه.
(ما أبغضني): ما فعل ذلك أصلاً.
(ولو صببت الدنيا بجمَّاتها على المنافق): الجمُّ هو: الكثير، والجمّة هو : المكان الذي يرتفع ماؤه، والجمَّات: جمع جمَّة، قال الله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا }[الفجر:20]، أي كثيراً، والْجَمُوم من الخيل هو: الذي كلما ذهب منه جري جاء آخر ، قال الشاعر:
جَمُومُ الشدِّ شَائِلة الذُّنَابى
تخالُ بياضَ غُرَّتِهَا سِرَاجَا
وأراد ها هنا الكثير من الدنيا.
(على أن يحبني ما أحبني): على أن يريد نفعي ما أراده، ثم ذكر السبب في ذلك بقوله:
(وذلك): إشارة إلى محبة المؤمن له، وبغض المنافق.
(أنه قُضِيَ): قُدِّر وحُتِمَ.
(فانقضى): ففرغ الأمر فيه.
(على لسان النبي الأمي[صلى الله عليه وآله] ): أنطق الله به لسان نبيه، وما قاله فهو حق لا محيص عنه.
(أنه قال: ((يا علي ، لا يبغضك مؤمن ))): يريد مضرتك.
(((ولا يحبك منافق ))): أي يريد نفعك.
[44] (سيئة تسوءك عند الله): أي يلحقك بها السوء وهو المضرة عند الله ومن جهته.
(خير من حسنة تعجبك): يلحقك بها العجب؛ لأن السيئة إذا ساءتك كان ذلك يدعوك إلى التوبة منها، والإعجاب بالحسنة يكون داعياً إلى إحباطها وإسقاط ثوابها عند الله تعالى، وفي هذا دلالة على عظم خطر الإعجاب، وكثرة المقت به، فنعوذ بالله من العجب وشر إهلاكه للأعمال، ونسأله العصمة عن الموبقات والعظائم.
[45] (قدر الرجل على قدر همته): يعني أن كل من كان من الرجال له همة عالية ونفس طامحة إلى معالي الأمور ونفائسها فقدر حاله يعظم من أجل ذلك، ويكون له خطر عند الناس ومكانة عظيمة، ومن كانت همته دانية خسيسة فقدره على حسب ذلك من غير زيادة.
(وصدقته على قدر مروءته): المروءة: هي البذل، وغرضه أن من كان كثير العطاء سخي النفس فصدقته نافعة، ومن كان قليل العطاء فصدقته نزرة قليلة لا تنفع صاحبها.
(و شجاعته على قدر أنفته): الأنفة: الاستنكاف، وغرضه هو أن إقدامه على الأخطار والمخافات على قدر ما يكون فيه من النَكَفَة .
(وعفته على قدر غَيْرَتهِ): وانكفافه عن القبائح وسائر الأمور المكدرة للأعراض على قدر ما يكون فيه من الاحتماء، يقال: غار الرجل غيرة إذا احتمى.
[46] (الظفر بالحزم): أي أن الظفر بالأمور لا يكون إلا بإعمال الحزم وإيثاره.
(والحزم بإجالة الرأي): يعني أن الحزم لا يمكن إلا بإجالة سهامه وإمعان النظر فيه.
(والرأي بتحصين الأسرار): أي وخلاصة الرأي وجمال أمره وكماله إنما يكون بصون الأسرار عن الإذاعة والنشر.
[47] (احذروا صولة الكريم إذا جاع): يشير بهذا إلى أن عزة نفس الكريم تأبى عليه أن يحتمل ضيماً أو أذى فهو لا يعتاد الجوع، فإذا جاع غلب على مزاجه الحدّة والغضب.
(واللئيم إذا شبع): لأن الليئم وهو: الدنيء الخسيس، معتاد للجوع، أَلِفٌ له بخسته وبخله، فإذا شبع استنكر حاله وخالف ما هو عليه، فلهذا يستولي عليه البطر والأشر.
[48] (قلوب الرجال وحشية): مستوحشة نافرة، من طبعها الشرود.
(فمن تألَّفها): بالمداراة لها والإحسان إليها.
(أقبلت إليه ): بالمودة والمحبة والألفة.
[49] (عيبك مستور): خفي كامن، لا يذكره أحد.
(ما أسعدك جَدُّكَ): إسعاد الجد هو: إذعان الأيام ومساعدة المقادير؛ لأن مساعدة الجد تمنع الإنسان عن فعل القبيح، فلهذا بقي مستوراً عنه عيبه لإقبال الدهر وإذعانه له، ألا ترى أن الملوك وأكابر الناس لا تذكر عيوبهم، وإن كانت كبيرة عظيمة لأجل مساعدة المقادير لا غير.
[50] (أولى الناس بالعفو): أحقهم به، وأعظمهم حالة فيه.
(أقدرهم على العقوبة): لأن من لا يقدر فلا وجه لعفوه؛ لأنه يكون عجزاً لا عفواً.
من كلامه عليه السلام (51-73)
[51] (السخاء ما كان ابتداء): يعني أن الكرم إنما يكون على جهة الابتداء من غير سؤال؛ لأنه يكون تفضلاً محضاً.
(فأما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم): يعني فأما إذا كان الإعطاء بعد المسألة فإنما هو حياء عن الرد، واستنكاف عن رد السائل ومنعه.
[52] (لا غنى كالعقل): يريد أنه لايشبهه شيء في كون الإنسان مستغنياً به عن غيره.
(ولا فقر كالجهل): يعني أنه لايشبهه شيء في حاجة الإنسان، وإن حصل له كل شيء.
(ولا ميراث كالأدب): يريد أنه لاميراث أفضل منه من جميع ما يورث.
(لا ظهير كالمشاورة): الظهير والظهريِّ هو: المعين والمرافد، وأراد أنه لا معين كالمشاورة في الرأي وتحصيله من جهة غيرك.
[53] (الصبر صبران): يعني أنه يقع على وجهين: وكله صبر.
(صبر على ما تكره): من المصائب والأحزان والآلام.
(وصبر عما تحب): من اللذات المحرمة والمشتهيات الطيبة المكروهة.
[54] (الغنى في الغربة وطن): يشير إلى أن ذا المال وإن كان غريباً فهو في الحقيقة مستوطن بماله متمكن به في تحصيل ما يشتهيه.
(والفقر في الوطن غربة):يعني أن الفقير وإن كان في وطنه فإنه لا يمكنه تحصيل أغراضه، وقضاء مآربه لقلة تمكنه من ذلك للفقر.
[55] (القناعة مال لا ينفد): لأن القناعة هو ألا تكون طالباً للمشتهيات والملاذ للتعفف عنها، وصاحب المال متمكن من تحصيلها، فلهذا لم يكن طالباً لها، فلهذا قال: هي مال؛ لأن حكمها حكم صاحب المال في ذلك، وإنما قال: لا ينفد مبالغة في استمرار الاستغناء عن المطلوبات.
[56] (المال مادة الشهوات): يعني أن كل من كان ذا مال ويسار فشهواته لاتزال غضة طرية متجددة على ممر الأيام، من قولهم: أمده بكذا إذا أمكنه منه.
[57] (من حذَّرك): عن الوقوع في الأمور المكروهة والشدائد العظيمة.
(كمن بشَّرك): بالأمور السارة؛ لأنهما بالإضافة إلى النفع على سواء.
[58] (اللسان سَبُعُ): يعني بمنزلة السبُع في المضرة بالكلام والسب والأذية.
(إن خلي عنه عقر): إن أطلقه صاحبه ضرَّ غيره وأتلفه بعقره له بما يكون منه من التسلط بالإيذاء، وسمي ما يكون من جهة الذم باللسان عقراً لدخوله في الألم، وعن هذا قال بعضهم:
وكَلْمُ السيف تَدْمُلُهُ فيبرا
... وجرحُ الدهرِ ما جرحَ اللّسانُ
[59] (المرأة عقرب): يشبه حالها حال العقرب.
(حلوة اللَّسْبة): أي اللدغة، يقال: لسبته العقرب إذا لدغته، وغرضه أن صحبة النساء لذيذة حلوة تميل إليها النفس وتشتهيها، ولكن فيها مضرة لما في مباشرتهنَّ من نقصان مادة الحياة وتحلل القوة وإذهابها بالجماع.
[60] (الشفيع جناح الطالب): لأن به تنجح المسألة، وهو آلة فيها كما أن جناح الطائر آلة في طيرانه.
[61] (أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام): يشير إلى أنه يسار بهم إلى الآخرة، بجري الليل والنهار وهم لا يشعرون، بمنزلة من هو نائم.
[62] (فقد الأحبة غربة): يريد إلى أنه يألم بفقدهم كما يألم بالغربة ويحزن بها.
[63] (فوت الحاجة): تعذرها وبطلانها.
(أهون من طلبها إلى غير أهلها): وإنما كان أهون؛ لأنها إذا تعذرت فليس فيها إخلاق للوجه، وإبطال لمائه وإذهاب لجماله بخلاف طلبها إلى غير أهلها، ففيها ذلك كله.
[64] (لا تستحيي من إعطاء القليل): يعني أنك لا يلحقك تأفف عن أن تكون معطياً للعطاء القليل.
(فإن الحرمان أقل منه): لأن القليل وإن قل فهو عطاء وبر ومكرمة فيك، والحرمان إبطال لذلك كله، وفي الحديث: ((لا تردوا السائل ولو بشق تمرة )) أي ببعضها.
[65] (العفاف زينة الفقر) : التعفف هو: الانكفاف عن المسألة، وغرضه أن الانكفاف عن السؤال هو جمال في حق الفقراء وزينة في أحوالهم.
[66] (إذا لم يكن ما تريد): يعني إذا لم تكن لك قوة وطاقة على تحصيل مرادك.
(فلا تُبَلْ كيف كنت!): ظالماً أو مظلوماً؛ لأن من لا قدرة له على نيل مراده، فلا ضير عليه في تحمل ما يجري عليه من صروف المقادير.
[67] (لا ترى الجاهل إلا مُفْرِطاً أو مُفَرِّطاً): يعني أنه في جميع أحواله مخالف لجهة الإصابة، فتارة يكون مفرطاً في الأمور مبطلاً لها، وتارة يكون متجاوزاً للحد في طلبها وتحصيلها، وفي الحديث: ((الجاهل إما مُفَرّطُ أو مُفْرِط )).
[68] (إذا تم العقل نقص الكلام): لأن من كمل عقله أفكر في الأمور وأحكمها، ولا حكمة مثل الصمت عن أكثر الكلام.
[69] (الدهر يُخْلِقُ الأبدان): أي يذهب جمالها ويبطل رونقها من الشباب إلى المشيخ، ومن القوة إلى الهزال، ومن الحياة إلى الموت.
(ويجدد الآمال): لأن بالكبر تكثر آمال الإنسان، وفي الحديث: ((يكبر ابن آدم ويشب فيها اثنتان : الحرص، وطول الأمل)) .
(ويقرب المنية): بذهاب العمر ونفاده.
(ويباعد الأمنية): يقطعها ويزيلها لتعذرها وانقطاعها عن صاحبها.
(المأمول من ظفر به نصب): كل ما يرجى حصوله في مستقبل الزمان فمن حصل له وظفر به، أصابه النصب بمعاناته وتحصيله.
(ومن فاته تعب): بانقطاعه عنه وتعذره عليه.
[70] (من نصب نفسه للناس إماماً): يقتدون به ويهتدون بهديه ويسلكون على أثره.
(فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه): تهذيبها، وأراد أن الواجب عليه في ذلك هو البداية بتهذيب نفسه وهدايتها إلى الخيرات.
(قبل تعليم غيره): من أفناء الخليقة؛ لأن خلاف ذلك يكون نقصاً في حاله.
(وليكن تأديبه): لغيره ممن يقتدي به.
(بسيرته): بما يكون من أفعاله.
(قبل تأديبه بلسانه): يشير إلى أن التأديب بالأفعال والاقتداء بها أنجع وأعظم من التأديب باللسان وأدخل في الموعظة، لأن الفعل أشق من القول وأعظم موقعاً.
(ومعلّم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال): يعني ومن أدب نفسه وعلمها فهو أحق بالتعظيم.
(من معلم الناس ومؤدبهم): لأن نفسه أحق بذلك، ومهما عني بالأحق فهو أولى بما ذكره من الإجلال.
[71] (نَفَسُ المرء): يعني تنفسه وبقاؤه في الدنيا.
(خطاه إلى أجله): بمنزلة من يخطو إلى الأجل فيقطع الغاية التي بينه وبينه.
[72] (كل معدود ينقص ): يريد كل ما كان له وفرة وتجمع وكمال فهو لا محالة لابد من انتقاصه وزوال عدده وتفرقه.
(وكل متوقع آت): يعني أن كل ما توقع وجوده وكان له وجود فالأيام والليالي يأتيان به.
[73] (إن الأمور إذا اشتبهت): التبست فلم يعلم حالها وحكمها.
(اعتبر آخرها بأولها): يعني ما حدث الآن بما مضى من قبل، فخذ منه حكمه.
[74] ومن خبر ضرار بن ضمرة الضبابيّ عند دخوله على معاوية، وسؤاله عن أمير المؤمنين
فقال له ضرار: (فأشهد لقد رأيته وهو قائم في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله): استعارة من سدول الهودج وهو ما أُسْبِلَ عليه من الأستار لِتُغَطِّيه.
(وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته يتململ): يعني يتحرك، ويضطرب.
(تململ السليم): وهو اللديغ.
(ويبكي بكاء الحزين): يعني الذي فقد أهله بالموت.
( ويقول: يادنيا يادنيا): نداء تحقير وتوبيخ وتهكم بحالها، كما تقول لمن توبخه: يا فلان يا فلان باسمه ولقبه.
(إليك عني): إليك ها هنا اسم من أسماء الأفعال أي خذي نفسك عن التعلق بي، وقوله: عني متعلق بفعل محذوف تقديره: وارجعي عني؛ لأن كل من رد غيره عن نفسه ويئس المردود منه فإنه لا محالة يرجع إلى نفسه.
(أبي تعرضت): أي أتصديت من أجلي وبسبَبْي لتغريني.
(أم إليّ تشوفِّت!): يروى بالفاء، والتشوف: التطلع، ويروى بالقاف من الاشتياق، وهو: النزوع إلى من تحبه، وكلاهما صالح ها هنا.
(لا حان حَينُك): أي لاحضر وقتك.
(هيهات): أي بَعُدَ رجاؤك مما تطلبينه مني.
(غري غيري): اخدعي غيري، فأما أنَّا فلست من أهل الخديعة بك.
(لا حاجة لي فيك): فأكون ملاحقاً على طلبك ومطالباً فيك.
(قد طلقتك ثلاثاً): وهو كمال الطلاق وتمام نصابه.
(لا رجعة لي فيك ): بعد هذا الطلاق، وكلام أمير المؤمنين ها هنا فيه دلالة وإشعار على أن الطلاق تابع للطلاق، ولهذا قال: لا رجعة بعده، وعليه تعويل أكثر العلماء.
(فعيشك قصير): أياماً قليلة مقدار الحياة التي يعاش فيها.
(وخطرك يسير ): أي قدرك حقير لا يزن شيئاً.
(آه): صوت يقال عند التوجع والتحزن، ومعناه: أتوجع.
(من قلة الزاد): المبلغ إلى الآخرة، وهو التقوى.
(وبعد السفر): وهو السير إلى العرصة.
(وعظم المورد!): على القيامة وأهوالها.
[75] ومن كلام له عليه السلام للسائل وهو الأصبغ العدواني
قال لأمير المؤمنين: (أكان مسيرك إلى الشام): يعني لحرب معاوية وأصحابه (بقضاء من الله وقدر): فكلمه بكلام طويل هذا مختاره:
(ويحك!): كلمة دعاء بمنزلة ويلك.
(لعلك ظننت قضاء لازماً): أي واجباً لا يجوز خلافه.
(وقدراً حتماً ): لا محيص لأحد عنه.
(ولو كان ذلك كذلك): يعني على ما قلت من القضاء الواجب والقدر الحتم.
(لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد): لأن هذه الأمور إنما تكون متوجهة إذا كان لنا أفعال هي واقعة على حسب القصد والداعية من جهتنا، فيقال: إن الوعد متوجه إلى فعل الطاعة، والوعيد متوجه إلى فعل المعصية، ويكون الثواب والعقاب متوجهين عليهما أيضاً، فأما إذا كانت الأفعال من خلق الله تعالى، حاصلة بقضائه، ومتعلقة بقدرته فلا وجه لذلك، كما هو مذهب هؤلاء المجبرة، فإنهم مجمعون على أن الأفعال كلها واقعة بقدرة الله تعالى ومتعلقة بإرادته.
(إن الله سبحانه أمر عباده تخييراً): يعني على جهة الاختيار إن شاءوا فعلوا ذلك وإن شاءوالم يفعلوه، فالقدرة حاصلة على كل واحد من الوجهين.
(ونهاهم تحذيراً): أي على جهة التحذير، وليس على جهة القسر والإلجاء.
(وكلف يسيراً): فعلاً هيناً يمكن فعله على سهولة.
(ولم يكلف عسيراً): ما يبهظ النفوس ويثقلها ويفدحها.
(وأعطى على القليل): من فعل الطاعة.
(كثيراً): من جزيل ثوابه.
(ولم يُعْصَ مغلوباً): يريد أن فعل المعصية لم يكن موجوداً على جهة الغلبة له، وأنه لم يكن قادراً على منعها.
(ولم يُطَعْ مُكْرِهاً): يعني أن الطاعة له ما كانت على جهة الإكراه من جهته بطريق الإلجاء.
(ولم يرسل الأنبياء لعباً): لغير فائدة، بل لهداية الخلق، وتعريفهم مصالح دينهم.
(ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً): لغير مقصد أو يريد عابثاً ولاعباً.
(ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً): الباطل هو: الذي لا حقيقة له، وأراد وما كان خلق هذه الأشياء إلا لأغراض حكمية ومصالح دينية استأثر الله بعلمها واستبد بالإحاطة بها.
واعلم: أن هذه الأمور التي أوردها إلزامات للمجبرة ورداً لمقالتهم المنكرة، فإن عندهم أن الله يجوز أن يفعل هذه الأشياء لا لغرض فيكون عابثاً لاعباً في بعث الأنبياء، وإنزال الكتب وخلق السماء والأرض إلى غير ذلك من الهذيان، وأن يكلف ما ليس في الطاقة والوسع، ثم ختم كلامه بتلاوة هذه الآية:
({ذَلِكَ}): أي ما قالوه من أن المعاصي بخلق الله تعالى وإيجاده لها فيهم.
({ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ }[ص:27]): جزاء على هذه المقالة ووعيداً عليها.
ومن كلامه عليه السلام (76-99)
[76] (خذ الحكمة أنى كانت): يريد احفظها من أي جهة أتت، فإن النفع الديني إنما هو فيها وليس في قائلها.
(فإن الحكمة تكون في صدر المنافق): مستقرة حاصلة متمكنة.
(فتختلج في صدره): أي تضطرب.
(حتى تخرج ): من قلبه، وإنما كان ذلك لأمرين:
أما أولاً: فلأن المنافق من شأنه الرياء والإظهار باللسان لما يضمره في قلبه، فلهذا لم تستقر الحكمة في قبله لعادته في ذلك.
وأما ثانياً: فلأن الحكمة مناسبة لصفاء النفوس وزكائها وحسن عقيدتها، فهي تنمو بذلك وتستقر.
فأما النفوس الخبيثة فإنها لا تناسب الحكمة لميلها إلى الشر، وتمكن الهيئات الردية، فلأجل هذا لم تكن الحكمة مستقرة فيها، بل تكون على شرف الزوال والمفارقة.
(فالحكمة ضالة المؤمن): ومثل هذا قد ورد عن الرسول ، وأراد أنه لا يزال ينشد عنها حتى يجدها فيحفظها في قلبه.
(فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق): يريد أن نفاقهم لا يضرك، فإن الأشياء الرفيعة الغالية لا يضرها إيداعها في الأوعية الخبيثة.
[77] (قيمة كل امرئٍ ما يحسن ): فانظر إلى ما كان يفعله، فإن كان له قيمة ووزن فقيمته من أعظم القيم وأعلاها، وإن كان ما يحسنه لا قيمة له فقيمته من أخس القيم وأنزلها.
وأقول: إن هذه الحكمة من الحكم التي بلغت كل غاية وجاوزت كل نهاية، فلا يصاب لها ولا قيمة، ولا توزن بها حكمة، ولا تقرب إليها كلمة، وقد نظمها عليه السلام بقوله:
فوزن كل امرئ ما كان يحسنه
والجاهلون لأهل العلم أعداء
[78] ثم قال:
(أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلاً): ضرب آباط الإبل كناية عن الأسفار البعيدة، وتحمل المشاق الشديدة، والإبط: هو ما يلاصق مرفق البعير.
(لا يرجونَّ أحد منكم إلا ربه): يشير إلى أنه يكون منقطعاً إليه في جميع أموره ومعلقاً لها إلى قدرته وقضائه، فإن ذلك أحمد للعاقبة وأقوى للثقة بالله.
(ولا يخافنَّ إلا ذنبه): لأنه إذا كان خائفاً من ذنبه كان أدعى له إلى الإقلاع والانكفاف عن المعاصي.
(ولا يستحينَّ أحد إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم): لأن في خلاف ذلك إقداماً على الجهالة، وتقحماً على الدخول في الضلالة، فإذا قال: لا أعلم خلص من درك ذلك كله.
(ولا يستحينَّ أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه): فإن خلاف ذلك فيه الإصرار على الجهل، والوقوف عليه.
(وبالصبر ): على الأمور كلها، فإنه ملاكها وقاعدة أصلها.
(فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد): يشير إلى أنه أعلا خصال الإيمان وأعظمها، كما أن الرأس أشرف أعضاء الإنسان وأعلاها.
(لا خير في جسد لا رأس معه): أي لا منفعة فيه بحال.
(ولا في إيمان لا صبر معه): لأنه يكون ناقصاً.
[79] وقال لرجل أفرط في مدحه وكان له متَّهماً:
(أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك): يشير إلى بطلان مقالته فيما قال ، وإلى إيحار صدره فيما توهم من ذاك، فأنا دون مدحك لإفراطه، وأنا فوق ما في نفسك لحسدك ونقصك لي.
[80] (بقية السيف أبقى عدداً): يعني ما بقي بعد القتل والاستئصال فإن الله تعالى ينميه ويكثر عدده ويبقيه.
(وأكثر ولداً): أوفرهم في الولادة.
وما أحق هذا الكلام وأخلقه بحال الفاطمية، وما كان من العباسية والأموية إليهم في القتل والاستئصال وقطع الدابر، ومع ذلك فإن الله تعالى بلطفه أبقى عددهم وأكثر أولادهم، وقطع دابر أولئك، فلا يوجد منهم إلا حُثالة على الندرة والقلة.
[81] (من ترك قول: لا أدري أصيبت كلمته): ويروى: (مقاتله) : والمراد بالأول هو أن من سئل عما لا يعلمه ولم يقل لا أدري، بل أجاب بما لا يدري، فإنه يكذب ويخطئ فيصير كلامه مصاباً بالخطأ والزلل، والمراد بالثاني أن الإنسان ربما كان عالماً بشيء لو سئل عنه فأخبر به لكان في ذلك هلاكه وقتله، ولو قال: لا أدري لسلم، وأولهما هو الوجه.
[82] (رأي الشيخ أحب إليّ من جلد الغلام): الجلد هو: القوة والشدة، وأراد أن رأي الشيخ ربما كان أدخل في النفع وأبلغ من شدة الغلام وصلابته.
ويروى: (من مشهد الغلام): يعني حضوره.
[83] (عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار): القنوط هو: الأياس، يعني كيف ييأس عن الرحمة والمغفرة للذنوب مع كونه مستغفراً، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا }[الزمر:53].
[84] وحكى عنه أبو جعفر محمد بن علي الباقر “ أنه قال: (في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به.
أما الأمان الأول: فهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الأمان الثاني: فهو الاستغفار)، ثم تلا هذه الآية تصديقاً لما قاله: ({وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ })[الأنفال:33]، وهذا من محاسن استخراجاته، ومن لطيف استنباطاته للأسرار الدقيقة، والمعاني الغريبة.
[85] (من أصلح ما بينه وبين الله): بالتقوى لله تعالى وخوفه ومراقبته في أحواله كلها.
(أصلح الله ما بينه وبين الناس): بالحفظ له والدفاع عنه.
(ومن أصلح أمر آخرته): بالأعمال الصالحة، والتزود لها من الدنيا لها.
(أصلح الله له أمر دنياه): بالكفاية له وإصلاح حاله.
(ومن كان له من نفسه واعظ): يعظها، ويهديها إلى فعل الخيرات، ويجنبها المضار المكروهة.
(كان له من الله حافظ): إما حافظ يحفظه عن الوقوع في الهلكات، وإما لطف يحفظه عن الوقوع في المعاصي والخطايا.
[86] (الفقيه كل الفقيه): الفقه هو: الفهم، وأراد أن الفاهم كل الفاهم حتى لا فاهم إلا هو.
(من لم يقنط الناس من رحمة الله): يؤيسهم من الرحمة، بل يعدهم إياها ويقربهم إليها ولا يباعدهم عنها.
(ولم يؤيسهم من روح الله): رحمته وفرجه عليهم.
(ولم يؤمنهم مكر الله): بهم وعذابه إياهم، وغرضه من هذا التوسط بين الحالتين هو غاية الإصلاح لأحوال الخلق، ولهذا فإن من حكمة الله تعالى خلطه لآيات الوعد بآيات الوعيد، وآيات التحذير بآيات التبشير، فما ذكر آية من ذلك إلا عقبها بنقيضها، فلو كان وعداً محضاً لأمنوا من العذاب، ولو كان وعيداً محضاً لأيسوا من الرحمة، فلهذا وعد بعثاً على الرحمة، وأوعد حثاً على الأعمال الصالحة.
[87] (أوضع العلم): أدناه حالة، وأنزله قدراً.
(ما وقف على اللسان): يعني ما كان قولاً من غير عمل، كما يحكى عن بعض فرق المرجئة أن الإيمان قول بلا عمل.
(وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان): يريد ما صدقته الجوارح باستعمالها في الخدمة واشتغالها بالأعمال الفاضلة.
[88] (إن هذه القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان): يعني تسأم وتفتر كما تصيب الأبدان السآمة والفتور.
(فابتغوا لها طرائف الحكمة): الطريف من المال: ما كان مستحدثاً، وهو نقيض التليد ، وأراد فاطلبوا لها مستحدثات الحكم ومستجداتها لتكون نشيطة مقبلة على الأعمال، وفي الحديث: ((القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد )) ، وفي حديث آخر: ((عليكم من العمل بما تطيقون ، فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا)) ، وأراد من هذا أن أفضل ما يكون من الأعمال ما كان بالإقبال والنشاط دون الإكراه.
[89] (لا يقولنَّ أحدكم: اللَّهُمَّ، إني أعوذ بك من الفتنة ؛ لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة) : ثم تلا هذه الآية: ({وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ }[الأنفال:28]).
(ولكن من استعاذ فليستعذ من مُضِلاَّت الفتن): عظائمها وجلائلها.
(والمعنى في هذه الآية هو أن الله تعالى يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبيَّن حال الساخط لرزقه، والراضي بقسمه ، وإن كان الله أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب؛ لأن بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث، وبعضهم يحب تثمير المال، ويكره انثلام الحال) : فامتحنهم الله بما ذكره ليبلو حالهم في ذلك.
[90] وسئل عليه السلام عن الخير ما هو ؟
فقال: (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك): بالزيادة والنمو في الأموال وكثرة الأولاد، فإن هذا هو خير منقطع يزول ويفنى.
(ولكن الخير أن يكثر علمك): بالله وبطريق الآخرة.
(وأن يعظم حلمك): احتمالك وإغضاؤك عن أكثر المكاره كلها.
(وأن تباهي الناس بعبادة ربك): المباهاة: المفاخرة، وأراد أنك تفاخر الناس بما كان من عبادتك لله وحسن بلائك عنده.
(فإن أحسنت حمدت الله): على ما وفقك للإحسان.
(وإن أسأت استغفرت الله): على ما كان من جتهك من الإساءة.
(ولا خير في الدنيا إلا لرجلين): يعني لا خير في عيشها، ولا في المقام فيها.
(رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة): التدارك هو: التلاحق، وأراد أنه يمحوها بما كان من جهته من التوبة والإنابة إلى الله تعالى.
(ورجل يسارع في الخيرات): في عمل الأعمال الصالحة، كما قال: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ }[الأنبياء:90]، أي في أعمالهم الفاضلة.
(لا يقلُّ عمل مع التقوى): أراد أن كل عمل وإن قل فهو كثير إذا صاحبته التقوى.
(وكيف يقلُّ ما يُتَقَبَّلُ!): يشير إلى قوله تعالى: ({إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ })[المائدة:27]، وغرضه أن كل عمل قُبِلَ فإنه لا يُعْدُّ قليلاً ولايوصف بالقلة.
[91] (إن أولى الناس بالأنبياء): أخصهم بالولاية، وأحقهم بالاختصاص.
(أعلمهم بما جاءوا به): من عند الله من العلوم الشرعية والأسرار الغيبية، (ثم تلا): قوله تعالى: ({إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا}[آل عمران:68]): ثم قال:
(إن ولي محمد من أطاع الله): في أوامره ونواهيه.
(وإن بعدت لحمته): اللحمة بالضم هي: القرابة الخصيصة، وأراد أنه أولى الناس به وإن كانت قرابته بعيدة.
(وإن عدو محمد من عصى الله): خالف أمره ونهيه.
(وإن قربت قرابته): يعني وإن كان في غاية الاختصاص بالقرابة.
[92] (وسمع رجلاً من الحرورية): وهم فرقة من الخوارج ينسبون إلى قرية يقال لها: حروراء بفتح الحاء والراء بها، كان فيها أول اجتماعهم.
(يتهجد ويقرأ، فقال: نوم في سنة ): يريد على موافقة السنة من غير بغي ولا خروج ولا فسق.
(خير من صلاة في شك): في الحال التي هو عليها، وكلامه هذا إنما هو تعريض بالحروري وفعله، وأن قراءته وصلاته وتهجده لا تغني شيئاً مع ما هو عليه من المخالفة والمعصية، وفي الحديث: ((نوم العالم خير من عبادة الجاهل )) لأن النائم يرفع عنه القلم، والعابد مع الجهالة لا يمتنع أن يكون مخطئاً في عبادته، فلهذا كان نومه خيراً من العبادة.
[93] (اعقلوا العلم إذا سمعتموه): يريد إذا قرع أسماعهم شيء من العلوم الدينية، فافهموه عند سماعه:
(عقل رعاية): لحقه في الحفظ، والعمل على وفقه ومقتضاه.
(لا عقل رواية): لا لأنكم تروونه ويحفظه أحد منكم.
(فإن رواة العلم كثير ): يعني الذين يجرونه على ألسنتهم من غير عمل.
(ورعاته قليل): يريد الذين يعملون به.
[94] وسمع رجلاً يقول: ({إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ })[البقرة:156]، فقال:
(إنَّ قولنا: {إنَّا لله} إقرار على أنفسنا بالملك): يريد لأن اللام دالة على الملك، كما تقول: المال لزيد والفرس له، ومن حق من كان مملوكاً أن يقيم على طاعة سيده من غير مخالفة له.
(وقولنا: {وإنا إليه راجعون} إقرار بالهُلْكِ ): يعني بالزوال والفناء؛ لأن الرجوع لا يكون إلا مع الإفناء والإعادة، ومن حق من كانت هذه حاله أن يكون متأهباً للرجوع إلى مولاه ليعلم كنه حاله فيما أمره به، ونهاه عنه.
[95] ومدحه قوم في وجهه، فقال:
(اللَّهُمَّ، إنك أعلم بي من نفسي): أكثر إحاطة بها مني، وأعرف بأحوالها.
(وأنا أعلم بنفسي منهم): أكثر إحاطة بها من غيري.
(اللَّهُمَّ، اجعلنا خيراً مما يظنون): مما يسبق إلى نفوسهم من اعتقاد الخير وظنه.
(واغفر لنا ما لا يعلمون!): من الذنوب التي تعلمها.
[96] (قضاء الحوائج لا يستقيم إلا بثلاث): أراد أن المعتبر في قضاء الحوائج لمن أراد أن يقضيها هو ما نذكره الآن من هذه الخصال:
(باستصغارها): من جهة من طلبت منه، فإنه إذا صغرها في عينه لم يعجز عن قضائها.
(لتعظم): في عين من طلبها عند قضائها.
(وباستكتامها): وبأن يكتمها من يطلبها ليكون ذلك أقرب إلى قضائها، وفي الحديث: ((استعينوا على أموركم بالكتمان )) .
(لتظهر): بعد أن تكون مقضية يظهرها صاحبها.
(وبتعجيلها ): من جهة المسؤول لها.
(لتهنأ): لأن تعجيلها يكون أدخل لا محالة في المسرة بها، والمماطلة فيها تكون أدخل في تنغيصها وتكديرها، واللام في قوله: لتعظم، ولتظهر، ولتهنأ لام التعليل، وأراد أن الداعي إلى عظمها وظهورها وهنائها هو الاستصغار والاستكتام والتعجيل، كما تقول: قمت لتقوم، والمؤثر في وجود هذه الأشياء هو ما اتصلت به اللام.
[97] (يأتي على الناس زمان): يشير إلى أنه ليس الزمان الذي هو فيه.
(لا يُقَرَّبَ فيه إلا الماحل): المحل هو: المكر والكيد.
(ولا يُظَرَّفُ فيه إلا الفاجر): ظرَّفه إذا نسبه إلى الظرف والكياسة، أي لا يقال لأحد هو ظريف إلا من كان فاجراً.
(ولا يُضَعَّفُ فيه إلا المنصف): ضعفه إذا نسبه إلى الضعف والمهانة، وأراد أن كل من أنصف من نفسه الحق وأداه قيل: إنه ضعيف لا يقدر على الانتصاف.
(يعدون الصدقة فيه غرماً): المغرم والغرم: ما يلزم أداؤه، وأراد أنهم لا يؤدونها صدقة، وإنما هي ثقيلة عليهم تأديتها، ليس تسمح بها أنفسهم.
(وصلة الرحم مَنَّاً): يمنون بالصلة على أرحامهم، ليس يأتون بها على جهة القربة إلى الله تعالى.
(والعبادة استطالة على الناس): تعاظم على الناس، وتفاخر بما كان منهم من العبادة.
(فعند ذلك): الإشارة إلى وجود ما كان من هذه الخصال.
(يكون السلطان بمشورة الإماء ): أراد يكون تدبير الأمر وسياسة الدولة بمشورة الجواري والنسوان.
(وإمارة الصبيان): ويتأمَّر فيه أهل الحداثة في السن، ومن لا عقل له من الصبيان.
(وتدبير الخصيان): أي ويدبر الأمر في ذلك الخصيان، وهم جمع خصي، وهو الذي ذهب أنثياه، وقد جاء هذا في زمان بني أمية، وأكثر جريه في زمن الدولة العباسية، ولهذا قال الأمير أبو فراس:
بنو علي غراثى في بيوتهمُ
والأمرُ تملكُه النسوانُ والخدمُ
ويحكى أن الجارية المسماه شارية كانت لإبراهيم بن المهدي، ولما مات ابتاعها المعتصم بثلاث مائة ألف درهم، ثم تملكها بعده جماعة منهم كالواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعين، والمهتدي، والمعتمد، وكان يحبها محبة شديدة، ويحكى أنها غنته أبياتاً من الشعر فوهب لها ألف ثوب من الثياب النفيسة.
[98] ورئي يوماً على أمير المؤمنين إزار مرقوع، فقيل له في ذلك، فقال:
(يخشع له القلب): الخشوع هو: الخضوع.
(وتذل له النفس): تصغر عن أن تكون متكبرة.
(ويقتدي به المؤمنون): يكون قدوة لهم؛ لأن كل من كانت له هذه المكانة في الدين والزهد والورع كأمير المؤمنين فهو حقيق بالاقتداء.
[99] (إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان): يعني أنهما لا يجتمعان، وهما متضادان كتضاد الأعداء واختلافها.
(وسبيلان مختلفان): يريد طريقان لا يشبه أحدهما الآخر.
(فمن أحب الدنيا وتولاها): أرادها وسالمها، ووالاها، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }[المائدة:56]، أي يواليهما.
(أبغض الآخرة وعاداها): كرهها وكان في جانب منها، كما يكون العدو في جانب من عدوه.
(وهما بمنزلة المشرق والمغرب): في التباعد.
(وماش بينهما): ورجل يمشي بينهما.
(كلما قرب من واحد بعد من الآخر): إذ لا فاصل بينهما في ذلك.
(وهما بعد ضَرَّتان): أي بعد ذلك الذي وصفته من حالهما بمنزلة الضرَّتين، [ما أرضى أحدهما أغضب الأخرى، والضرَّتان هما: الزوجتان للرجل الواحد، سميتا ضَرَّتين] لما في أحدهما من الإضرار بصاحبتها.
[100] وعن نوف البكالي :
بالباء الموحدة، وبِكَال : اسم قبيلة من حمير، وهم رهط نوف صاحب أمير المؤمنين، وروايته بالنون تصحيف، وهو بالنون مأخوذ من قولهم: رجل نكل إذا كان قوياً مجرباً، وفي الحديث: ((إن الله يحب النَّكَلَ على النْكَل )) يعني الرجل القوي المجرِّب على الفرس القوي المجرَّب.
(قال: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة وقد خرج من فراشه، وقد نظر إلى النجوم، فقال: يا نوف، أراقد أنت أم رامق؟): والرامق هو: المستيقظ.
(فقلت: بل رامق يا أمير المؤمنين، فقال: يا نوف، طوبى للزهاد في الدنيا): التاركين لها بقلة الرغبة فيها، يقال: زهد في هذا إذا كانت رغبته فيه قليلة.
(الراغبين في الآخرة): رغب في كذا إذا كثرت إرادته له.
(أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً): يشير إلى أنهم ليس لهم فراش يبسطونه سواها.
(وترابها فراشاً): يفترشونه لا فراش لهم غيره.
(وماءها طيباً): لا طيب لهم سواه.
(والقرآن شعاراً): الشعار من اللباس: ما يلي الجسد ، وأراد أنهم لاصقوا به قلوبهم وجعلوه شعاراً لها .
(والدعاء دثاراً): وابتهالهم إلى الله دثاراً، والدثار: ما فوق الشعار من الثياب، فكأنه عليه السلام جعل اختصاصهم بالقرآن أعظم، وملابستهم له أتمَّ وأبلغ؛ لما فيه من النفع في القلوب والشفاء للصدور.
(ثم قرضوا الدنيا قرضاً): قرضه الله إذا قطعه، ومنه المقراض؛ لأنه يقطع به، وأراد أنهم ساروا في آفاقها، وقطعوا جهاتها للتفكر والنظر.
(على منهاج المسيح): سالكين لطريقته في ذلك، فإنه يحكى أنه سمي المسيح؛ لسيره في الأرض ومسحه لها، ويقال أيضاً: إن المسيح لقب من الألقاب الشريفة، وأصله مشيحاً بالعبرانية، ومعناه المبارك .
وحكي عنه أنه قال: دابتي رجلاي، وسراجي الشمس والقمر، وطعامي ما أنبتت الأرض.
(يا نوف، إن داود عليه السلام قام في مثل هذه الساعة من الليل، فقال: إنها ساعة لايدعو فيها أحد إلا استجيب له إلا أن يكون عشَّاراً): وأراد بالعشَّار، من يأخذ عشر مال المارة في الطريق، أو يأخذ في البلد عشر مال الطارئ كما يفعله الظلمة في زماننا هذا.
(أو عريفاً): هو الشيخ للبلد، والنقيب على أهلها، وفي الحديث: ((لكل قرية عريف ، والعرفاء في النار)).
(أو شرطياً): الشرط: أعوان الظلمة، سموا بذلك من جهة أن الشرط هو العلامة، وهم قد جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، الواحد منهم: شرطي.
(أو صاحب عَرْطَبَةٍ): بفتح العين، والعرطبة: هي الطبل يضرب عند اللهو والطرب، وقيل هو: البربط .
(أو صاحب كوبة): وهي الطبل أيضاً.
ومن كلامه عليه السلام (101-125)
[101] (إن الله افترض عليكم فرائض): أوجب واجبات من جهة العبادات ومن غيرها كالصلاة والزكاة والحج وسائر العبادات، وفي المعاملات أيضاً، وهو ما أوجب في المعاوضات وفي غيرها، مما هو مدون في كتب الفقهاء.
(فلا تضيعوها): بالإهمال والترك.
(وحدَّ لكم حدوداً): أراد وحرَّم محرَّمات كالقتل والزنا والربا، وغير ذلك من أنواع المحرَّمات.
(فلا تعتدوها): تُجاوزوها بالفعل والإقدام عليها.
(ونهاكم عن أشياء): منعكم عنها بالنهي.
(فلا تنتهكوها): انتهاك الحرمة: تلقيها بالهتك وإبطالها، واشتقاقه من: نهكه المرض إذا أبطل قوته وأذهبها.
(وسكت لكم عن أشياء): لم يذكرها لكم.
(ولم يدعها نسياناً): لأنه عالم بكل المعلومات.
(فلا تتكلَّفُوها): تُحمِّلوها أنفسكم، وتُشِقوا بها على أبدانكم.
سؤال؛ ما هذه الأشياء التي سكت عنها، وطوى علمها عنَّا، ونهانا عن تكلفها؟
وجوابه؛ أن ها هنا أشياء لا تعلق لها بمصلحة التكليف، فلا حاجة بنا إلى البحث عنها، وهذا نحو الخوض في كمية ما مضى من عمر الدنيا، وكم مقدار عمرها، ونحو التطلع إلى العلم بأن الملائكة أفضل أو الأنبياء، ونحو إعمال الفكرة فيما يحدث في الأرض من الحوادث، وغير ذلك مما لا مدخل للتكليف فيه، فمثل هذا لاحاجة لنا إلى البحث عنه.
[102] (لا يترك الناس شيئاً من دينهم): يهملونه ويطرحونه.
(لاستصلاح دنياهم): لإصلاحها واستقامتها.
(إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه): أدخل في المشقة وأعظم في التعب، والضمير في قوله: منه للمتروك من الدين.
[103] (رب عالم قتله جهله): كان سبب هلاكه من جهة جهله.
(وعلمه معه لا ينفعه): والمراد بهذا هو من يعلم علماً لا ينفعه، وجهل ما يضره جهله به، وهذا نحو من يشتغل بعلم الحساب والطب والنجوم والهندسة، ويترك العلم بأصول الديانة وما يتوجه عليه من العلم بأحكام الشريعة واجبها ومحرمها، وغير ذلك.
[104] (لقد عُلِّق بنياط هذا الإنسان): النياط: عرق علق به القلب فإذا قطع مات صاحبه.
(بَضْعَةٌ): البَضْعَةُ: القطعة من اللحم بالفتح، وفي الحديث: ((فاطمة بَضْعَةٌ مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها)) .
(هي أعجب ما فيه): أدخل في الإعجاب من سائر الأعضاء.
(وذلك القلب): الإشارة إلى ما في قوله: هي أعجب ما فيه.
اعلم: أن القلب هو أمير أعضاء الجسم والمطاع في تصرفاتها، ولفظ القلب يطلق ويراد به معنيان:
أحدهما: عبارة عن المضغة المشكلة على صورة الصنوبرة، وموضعه الجانب الأيسر من الصدر، وفي باطنه تجويف يحصل فيه دم أسود.
وثانيهما: أن يكون عبارة عن هيئة لطيفة لمكانها يكون عالماً بالله وبصفاته، مدركاً للمعقولات، عارفاً بالحقائق، وهو أرقُّ الأعضاء وألطفها، وبهذه اللطيفة تميز الإنسان عن سائر الحيوانات؛ لأن المضغة اللحمية موجودة في البهائم، وفي الحديث: ((في جسد ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح لها سائر البدن ألا وهي القلب)) ، ولعظم مكانه وشرف محله وجلالة قدره غلا فيه بعض الصوفية، وقال: القلب هو : العرش، والصدر هو: الكرسي، وجميع ما ورد من الأحاديث في القلب إنما تناوله بالمعنى الثاني دون الأول، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ }[ق:37]، وقوله تعالى: {فإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }[الحج:46].
وفي الحديث: ((القلوب أربعة :
قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود منكوس، فذلك قلب الكافر.
وقلب أغلف مربوط، فذلك قلب المنافق.
وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه مثل البقلة يمدُّها الماء الطيب، ومثل النفاق كمثل القرحة يمدُّها القيح والصديد، فأي المدتين غلبت حكم له بها)) .
(له موادٌّ من الحكمة): إمدادات من حكمة الله تعالى، أي لطائف خصه بها وجعله حاصلاً عليها، يريد صفات كاملة.
(وأضداد من خلافها): يشير بذلك إلى أن الإنسان في أصل فطرته وتركيبه قد اجتمع فيه خصال محمودة ومذمومة.
فأما الخصال المحمودة فبما فيه من العفو والصفح، والحلم، وكظم الغيظ، وإسداء المعروف، وحسن الخلق، وطيب المعاشرة، ولين العريكة، والإيثار، يشبه في ذلك أخلاق الأنبياء، وبما فيه من إماتة الشهوة، والإعراض عن اللذة، وإيثار الطاعة على المعصية، والانكفاف عنها، والعصمة عن الأشياء القبيحة، يشبه في ذلك أخلاق الملائكة.
وأما الخصال المذمومة فبما فيه من الغضب يتعاطى أفعال السباع، وبما فيه من الشهوة يتعاطى أفعال البهائم، وبما فيه من تسلط من إيثار الغضب والشهوة يتعاطى أفعال الشياطين من القهر والغلبة والمكر والخديعة، ولهذا قال أمير المؤمنين في كلام له:
(إن لله في أرضه آنية، وهي القلوب، فأحبها إلى الله تعالى أرقَّها وأصفاها وأصلبها).
ثم فسَّر ذلك بقوله:
(أصلبها في الدين، وأصفاها في اليقين، وأرقَّها على الإخوان)، إلى غير ذلك من شرح عجائب القلب وحقائق أسراره، فصار بحكمة الله تعالى ولطيف صنعه، ودقيق إتقانه مختصاً بهذه الصفات من بين سائر الأعضاء.
(فإن سنح له الرجاء): عرض له الرجاء لكل ما يرجوه من الأغراض والمقاصد، ونيل الشهوات العظيمة.
(أذله الطمع): صار ذليلاً مستصغراً لمكان ما علق بقلبه من تخيل الأطماع.
(وإن هاجه الطمع): أثار داعيته، وأزعجه.
(أهلكه الحرص): أفسد حاله المواظبة على الجمع والكسب، وإحراز المنافع، وتهالك في حبها وإيثارها.
(وإن ملكه اليأس): استولى عليه بالملك والقهر، يعني وإن كان اليأس عما في أيدي الخلق مستولياً عليه.
(قتله الأسف): أهلكه التأسف على ما فاته باليأس من ذلك، والندم عليه.
(وإن عرض له الغضب): سنح له من الأمور ما يغضبه ويُحْمي معه مزاجه، وتشتد معه حرارة قلبه.
(اشتد به الغيظ): عظم التلهف في فؤاده من حرارة الغيظ.
(وإن أسعده الرضا): لأحواله وساعده؛ كونه راضياً بما هو فيه من الهيئة في الضيق والسعة.
(نسي التحفظ): أنساه رضاه بحاله عن التيقظ، وملكته الغفلة عمَّا لا بد له منه.
(وإن عاله الخوف): يروى بالعين المهملة، من قولهم: عاله الأمر إذا غلبه، وأراد وإن غلبه الخوف، ويروى بالغين المنقوطة، من قولهم: غاله إذا أخذه من حيث لا يدري، وأراد وإن أتاه الخوف من حيث لا يشعربه.
(شغله الحذر): عن أكثر ما يعاني، وعما لا بد له من الاشتغال به.
(وإن اتسع له الأمن): يريد وإن كان معه فسحة في الأمان من جميع ما يحذره ويخافه.
(استلبته العزة ): يروى بالعين المهملة والزاي، أي صار شامخاً بأنفه غير ملتفت، ويروى بالغين المنقوطة والراء من الغرر، أي صار مغتراً بالأمن، ينخدع بأدنى شيء يعرض له.
(وإن أصابته مصيبة): في نفسه أو أهله أو ماله أو قرعته قارعة.
(فضحه الجزع): أظهر مساوئه بشدة أسفه على ما فات من ذلك.
(وإن أفاد مالاً): استفاده وجمعه.
(أطغاه الغنى): تجاوز الحد في المعصية لأجل غناه، وبلغ فيها كل غاية.
(وإن عضته الفاقة): العض بمقدم الأسنان، جعله ها هنا كناية عن شدة الفقر وألمه.
(شغله البلاء): الضر بالحاجة والفقر وصار في شغل به ومكابدته.
(وإن جهده الجوع): شق عليه وآلمه، وصار مثقلاً لطاقته.
(قعد به الضعف): أذهب قواه حتى صار ضعيفاً.
(وإن أفرط به الشبع): تجاوز الحد على قدر الحاجة.
(كَظَّتْهُ الْبِطْنَةُ): كظَّه الأمر إذا أجهده، والْبِطْنَةُ هي: الامتلاء من الطعام، وأراد أتعبه الامتلاء، وفي الحديث: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه )).
(فكل تقصير به مضر): به في أحواله لنقصانه عما يصلحه منه .
(وكل إفراط له مفسد): بالزيادة على مقدار الحاجة، وفي هذا إشارة إلى ضعف حاله.
[105] (نحن النُّمْرُقَةُ الوسطى): النُّمرقة بضم النون وكسرها: وسادة صغيرة ، وربما جعلوها عبارة عن الطنفسة التي فوق الرحل، قال الله تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ }[الغاشية:15]، والوسط من كل شيء: أعدله وأنفسه وخياره، وعنى بذلك نفسه وأولاده، فإنهم أفضل الناس وأعدلهم سيرة.
(بها يلحق التالي): أي التابع.
(وإليها يرجع الغالي ): المجاوز للحد في أمره، وأراد أن التابع لنا يلحق بنا ويكون من جملتنا ممن يكون موالياً لنا، ومن يغلو في محبتنا فإنه يرجع إليها لامحالة، إذ لا مرجع له سواها، ولا يجد ملجأ غيرها، وهذا ظاهر.
وزعم الشريف علي بن ناصر أن المراد من قوله : النُّمرقة جعلها كناية عمن يوضع له الرأس على ما يرسمه ويحكم به طاعة وانقياداً له ؛ لأن النُّمرقة وسادة يوضع عليها الرأس، وأن المراد من قوله: الوسطى ولايته؛ لأنها متوسطة بين الرسول و[بين] من بعده من أولاده ، وهذا من التعسفات الباردة ، والتحكمات الجامدة، ويكاد أن يكون كالرقم على الماء، والكتابة على الهواء.
[106] (لايقيم أمر الله): حدوده وأوامره ونواهيه.
(إلا من لا يصانع): المصانعة: الرشوة.
(ولا يضارع): المضارعة: الخضوع المفرط والذلة، وضرع الرجل ضراعة إذا خضع وذل.
(ولا يتبع المطامع): جمع مطمع، وهو: الشيء يرجى حصوله.
[107] وقال وقد توفى سهل بن حنيف الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكوفة [بعد] مرجعه [معه] من صفين، وكان من أحب الناس إليه:
(لو أحبني جبل لتهافت): التهافت هو: التساقط قطعة قطعة، والمعنى في هذا هو أن المحنة تغلظ عليه فتسرع المصائب إليه، ولا يفعل ذلك إلا بالأتقياء الأبرار والمصطفين الأخيار، وهذا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلباباً ))، فإن هذا الحديث قد حمل على أوجه خمسة:
أولها: ما ذكره السيد الرضي رضي الله عنه، وهو أن المصائب تكون مسرعة إليه، الفقر وغيره من أنواع المحن اختياراً من الله تعالى واصطفاء له .
وثانيها : ما قاله أبو عبيد: وهو أن المراد من أحبَّنا فليعد لفقره يوم القيامة ما يجبره من الثواب والقرب إلى الله تعالى، ولم يرد الفقر في الدنيا، فإنَّا نرى كثيراً ممن يحبهم مثل ما نراه في سائر الناس من الغنى والفقر.
وثالثها: ما ذكره ابن قتيبة : وهو أن من أحبنا فليصبر على التقلل في الدنيا والتقنع فيها.
ورابعها: ما قاله المرتضى : وهو أن من أحبنا فليزم نفسه وليقدها إلى الطاعات، وليذللها على الصبر على ما تكرهه، واشتقاقه من الفقر وهو أن يخزم أنف البعير فيلوي عليها حبل، يذلل به ما يصعب منها، والجلباب هو: الثوب.
وخامسها: ما قاله السيد علي بن ناصر صاحب (الأعلام): وهو أن الفقر ها هنا من الفاقرة وهي الداهية، يقال: فقرته الفاقرة -أي كسرت فَقَارَ ظهره -، وتقدير الكلام: من أحبنا فليعد من أجل فقر الدواهي التي يوجهها إليه أعداء أهل البيت، جلباباً أي لباساً يقيه منها ؛ لأن محبنا أهل البيت يكون دائماً يكابد الأعداء ويقاسي بغضاءهم وكيدهم له، فهذه أقاويل في تأويل هذا الحديث ، وكله لا يخلو عن ضرب من التعسف، والأخلق هو الجري على ظاهر الحديث من غير حاجة إلى ما قالوه، وهو أن المراد أن ذلك جارٍ على الأغلب، فإن الغالب في محبِّ أهل البيت الفقر والفاقة، كما أن الغالب من حال أهل البيت الفقر، ومن أحبَّ قوماً فهو منهم، وحاصلاً على مثل صفاتهم، ويؤيد ما ذكرناه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللَّهُمَّ، اجعل رزق أهل محمد كفافاً ))، وهكذا حال من أحبهم الغالب عليه الفاقة .
[108] (لا مال أعود من العقل): أراد أنه يعود على صاحبه إذا كان مستعملاً له بالخيرات في الدنيا والآخرة، ويكفيه عند استخدامه له جميع المضار، وذلك نعم الفائدة.
(لا وحدة أوحش من العجب): يريد أن من كان معجباً بأفعاله فإنه يدعي أنه لا أحد يفعل مثل فعله فهو معتقد للوحدة، ولا شك أن الوحشة ملازمة للوحدة وكائنة معها، فلهذا قال: لاوحدة يستوحش منها مثل العجب، يشير إلى ما قلناه.
(لا عقل كالتدبير): يشير إلى أن التدبير هو أعظم العقل وأعلاه لما فيه من إصلاح المعيشة وإتقانها.
(ولا كرم كالتقوى): يعني أنها من أعظم خصال الكرم، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }[الحجرات:13].
(لا قرين كحسن الخلق): القرين هو: المقارن المصاحب الملازم، وأراد أنه لا يلازم الإنسان أعظم من حسن الخلق، فإنه نعم ما يقارن من الخلائق العالية الشريفة.
(لا ميراث كالأدب): فإنه أحسن ما يخلفه الإنسان، ويرثه بعده من خلفه.
(لا قائد ): إلى الأعمال الصالحة، أو إلى رضوان الله، أو إلى الجنة.
(كالتوفيق): لذلك كله.
(لا تجارة كالعمل الصالح): فإنها تجارة لا يخشى كسادها، ولا بوار بضاعتها.
(ولا ربح كالثواب): فإنه لا نهاية لأمده، ولا غاية لسرمده مع اشتماله على شريف المنافع، ورفيع الدرجات.
(لا ورع كالوقوف عند الشبهة): لأنه ورع الصالحين المؤمنين، وفي الحديث: ((الحلال بيَّن والحرام بيَّن، وبين ذلك مشتبهات )) .
(لا زهد كالزهد في الحرام): يريد أن الزهد فيه سلامة للدين عن إهماله، وفرار عن النار، ولا شيء أعظم فائدة من ذاك .
(ولا علم كالتفكر): أراد إما لأنه يؤدي إلى العلم بالصانع وصفاته، والعلم بحكمته وصدق أنبيائه، وهذا هو أعظم العلوم وأعلاها، وإما لأن ما يحصل عقيبه من العلوم في غاية الرصانة والتحقق، وليس كالظنون والحسبانات والأوهام.
(لا عبادة كأداء الفرائض): لأنها أعلاها رتبة، وأقربها إلى تحصيل رضوان الله تعالى، فإن باقي العبادات لا يضر تركها، وما كان واجباً فتركه فيه العقاب لا محالة.
(ولا إيمان كالحياء والصبر): فإنهما الإيمان كله، أو لأنهما أعظم قواعده وأقوى أركانه.
(لا حسب كالتواضع): لأن بعلو الحسب وارتفاعه تعلو رتبة الإنسان، وتواضعه أيضاً فيه غاية العلو والرفعة.
(لا شرف كالعلم ): لأنه يشرف به كل أحد شريفاً كان أو وضيعاً.
واختصم إلى ابن عباس في أن المال أفضل أو العلم؟
فقال: العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة.
(لامظاهرة): التظاهر هو: التعاون والتعاضد.
(أوثق من المشاورة): ولهذا أمر الله نبيه بها في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ }[آل عمران:159]، وهو المؤيد بالوحي من السماء، فكيف حال غيره في ذلك!
[109] (إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله): يعني كان الصلاح والأمانة هو الأغلب عليهم والديانة.
(ثم أساء رجل الظن برجل): إساءة الظن هي: التهمة في الدين، وأراد فاتهمه في أمور الديانة.
(لم تظهر منه حربة ): أي فساد ولصاصة، والحارب هو: اللص .
(فقد ظلم): أي أساء بالتهمة.
(وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله): كان هو الأغلب فيهم.
(فأحسن رجل الظن برجل فقد غرَّر): أي حمل نفسه على الغرور، وهو الخطر في الدين.
[110] وقيل له عليه السلام: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟
فقال: (كيف يكون حال من يفنى ببقائه): أي كيف حال من يكون بقاؤه في الدنيا وتعمره فيها طريق إلى ذهابه وانقطاعه عنها.
(ويسقم بصحته): وتكون صحته طريقاً إلى سقمه.
(ويؤتى من مأمنه): أي ويؤخذ في حال كونه آمناً من حاله بالموت.
[111] وقال عليه السلام:
(كم من مستدرج بالإحسان إليه): كم هذه هي الخبرية، وأراد كثير ممن يتواتر عليه الإحسان من الله بالنعمة والعافية والإمداد بالأموال على جهة الاستدراج له إلى النار ليزداد بذلك كفراً وتمادياً في المعصية.
(ومغرور بالستر عليه): وكم من مخدوع بالستر من جهة الله تعالى عليه، يسبل الله تعالى عليه ستره ، فيكون ذلك ذريعة إلى تهالكه في المعصية وإغراقه فيها.
(ومفتون بحسن القول فيه): يريد كم من واحد إذا أثني عليه كان ذلك سبباً للفتنة والضلالة، إما بالإعجاب بنفسه وحاله، وإما بالتكبر والتفاخر على غيره أو بغير ذلك من أنواع الهلكة.
(وما ابتلي أحد بمثل الإملاء): لما فيه من الانخداع والغرور، ولهذا قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }[الأعراف:183]، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ}[المؤمنون:55ـ56].
[112] (هلك فيَّ رجلان): أي بسببي ومن أجلي.
(محب غال): رجل غلا في محبته حتى هلك، كالذين اعتقدوا فيه صفات الإلهية، والذين ذهبوا إلى أنه أفضل من الرسول، وأنه ناسخ للشرائع إلى غير ذلك من الهذيان.
(ومبغض قالٍ): ورجل أفرط في بغضي حتى كفرني، وأخرجني عن الدين بضلاله وبغضه.
[113] (مثل الدنيا كمثل الحية): شبهها بالحية.
(لين مسها): يشير إلى ما فيها من النضارة واللذة والإعجاب بحالها.
(والسم القاتل في جوفها): يريد من اعتلق بها وانغمس في تحصيل لذاتها، وسارع إلى الوقوع في شهواتها.
(يهوي إليها الغر الجاهل): يريد أنه يسارع إليها من غلب عليه الجهل والاغترار بها.
(ويحذرها ذو اللب العاقل): ويمتنع من خدعها وغرورها من كان ذا عقل وبصيرة.
[114] وسئل عن قريش فقال:
(أما بنو مخزوم): وهم رهط الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبي جهل بن هشام.
(فريحانة قريش): هم في قريش بمنزلة الريحان في الأشجار.
(تحب حديث رجالهم): لما فيه من الحلاوة والفصاحة، وحسن المعاني.
(والنكاح في نسائهم): للكمال فيهنَّ، وطيب المعاشرة.
(وأما بنو عبد شمس): رهط معاوية وعثمان.
(فأبعدها رأياً): إما أن يريد عن الإصابة، وإما أن يريد ليس الرأي يؤخذ منهم على جهة السرعة، يشير بذلك إلى كثرة الغباوة، وعدم الذكاء والكياسة فيهم.
(وأمنعها لما وراء ظهورها): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد بذلك النجدة والشجاعة وشدة الاحتماء، والتعطف، وهذا هو الأقرب.
وثانيهما: أن يريد بذلك الإشارة إلى بخلهم وكثرة ضنتهم بما في أيديهم من المال.
(وأما نحن): يعني بني هاشم.
(فأبذل لما في أيدينا): يعني أنهم كرماء لايخبئون شيئاً يقدرون عليه.
(وأسمح عند الموت بنفوسنا): يشير إلى كثرة الشجاعة فيهم.
(وهم أكثر): في العدد.
(وأمكر): وأكثر مخادعة.
(وأنكر): إما للمعروف، وإما للدين ولما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
(ونحن أفصح): ألسنة.
(وأنصح): لله، ولرسوله، وللمسلمين، ولمن استنصحنا.
(وأصبح): أحسن خلوقاً، وأكمل رجالاً.
[115] (شتان بين عملين ): تباينا وافترقا ، وشتان هذه من أسماء الأفعال، والكثير فيه: شتان زيد وعمرو، وقد روي: شتان ما بين الزيدين، وأجازه بعضهم ومنعه آخرون، فأما شتان بين زيد وعمرو، وشتان بين عملين كما قاله ها هنا، فهو غير مسموع، مع بعده عن القياس والاستعمال.
(عمل تذهب لذته، وتبقى تبعته): يعني عمل الدنيا، فإنه يفنى نعيمها، ويبقى ما يتبع منها من العقاب على تلك الأفعال .
(وعمل تذهب مؤونته، ويبقى أجره): يزول ثقله، ويبقى ما كان مستحقاً عليه من الثواب، وهذا هو عمل الآخرة، وأراد شتان ما بين عمل الدنيا وعمل الآخرة.
[116] وتبع جنازة فسمع رجلاً يضحك، فقال:
(كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب): يعني لو تحققنا الحال في ذلك ما كان منا لهو ولا طرب.
(وكأن الذي نرى من الأموات سفر): مسافرون ليسوا أمواتاً.
(عما قليل إلينا راجعون): من أسفارهم.
(نبوئهم أجداثهم): نقررهم في قبورهم.
(ونأكل تراثهم ): ما خفلوه ميراثاً.
(قد نسينا كل واعظة ): أراد إما الكلمة الواعظة، وإما أن يريد الوعظ نفسه، كقوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ }[الحاقة:8]، أي بقاء، وإتيان المصدر على وزن الفاعل كثير في كلام العرب.
(ورمينا بكل جائحة): آفة مهلكة لنا.
(طوبى لمن ذل في نفسه): عن تعاطي الكبر والفخر والخيلاء.
(وطاب كسبه ): ما يأكله.
(وصلحت خليقته ): حسنت أخلاقه.
(وأنفق الفضل من ماله): ما زاد على قوته وقوت أولاده، وفي الحديث: ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى )) .
(وأمسك الفضل من لسانه): فضلات قوله، وما لاحاجة له في ذكره والنطق به.
(وعزل عن الناس شره): فلا يؤذيهم ولا يسمعون منه ذماً لهم.
(ووسعته السنة): أي كان في جميع أموره وأحواله على سنة رسول الله من غير مخالفة إلى بدعة.
(ولم يُنْسَبْ إلى البدعة): يكون مبتدعاً لشيء من البدع المخالفة للسنة المضادة لها: (ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ): وهذا هو الصحيح، فإن هذا الحديث مشهور في (الأربعين السليقية ).
[117] (غيرة المرأة كفر): المراد أنها تنكر أن يكون لها مشاركة في زوجها، وإنما كانت كفراً؛ لأن فيها إنكار لما أحل الله لكل حر أربع حرائر.
(وغيرة الرجل إيمان): المراد به أنه ينكر أن يكون له شريك في امرأته، وإنما كانت من الإيمان؛ لأن الله تعالى حرم ذلك، وحرم النظر إليها والاستمتاع بها.
[118] (لأ نسبنَّ الإسلام نسبة): المراد من النسبة ها هنا تعريف أصله؛ لأن من أراد تعريف شيء نسبه إلى أصله إن كان إنساناً نحو هاشمي وتميمي، أو إلى بلده نحو بصري وكوفي، أو إلى صناعته نحو جوهري وحريري.
(لم ينسبها قبلي أحد ): من العلماء والأئمة والفضلاء.
(الإسلام هو التسليم): أراد أن الإسلام هو الانقياد، ولا يعقل الانقياد إلا بالتسليم لأمر الله وقضائه وتصرفه.
(والتسليم هو اليقين): ولا يقع التسليم إلا إذا كان الشك مرتفعاً عن ذات الله وصفاته وحكمته، وصدق رسله.
(واليقين هو التصديق): ولا يعقل يقين إلا إذا صاحبه التصديق باللسان.
(والتصديق هو الإقرار): أي ولا يتحقق التصديق إلا بالإقرار باللسان .
(والإقرار هو الأداء): يعني ولا يكون للإقرار ثمرة إلا بأداء الواجبات والانكفاف عن المحرمات.
(والأداء هو العمل): أراد ولا يعقل أداء من غير عمل؛ لأن الغرض هو تأدية الأعمال، فإذا كان لا عمل فلا أداء، فإذا كان لابد من أداء فالعمل موجود لا محالة.
[119] (عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب): أراد في هذا أن بخله إنما كان فراراً من الفقر فيمسك الذي في يده خيفة منه، وهو في غاية الحاجة إليه، وليس الفقر إلا هذه الحاجة لا غير، فقد استعجل الفقر واختاره بما صنع.
(ويفوته الغنى الذي إياه طلب): يعني أنه ما طلب بضنته بما في يده إلا أن يكون غنياً مع شدة حاجته إليه، ومن حق من كان غنياً ألا يكون مفتقراً إلى شيء قد فاته الغنى من حيث لا يشعر به.
(ويعيش في الدنيا عيش الفقراء): لبخله على نفسه، وشدة ضيقه على من تحت يده.
(ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء): من أين جمع ماله؟ وأين أنفقه؟ فيسأل عن جميع ذلك كله.
(وعجبت للمتكبر): لمن يشمخ بأنفه تكبراً، ويختال في برده تفاخراً.
ويحكى أن قارون لبس ثوباً فاختال فيه فخسف الله به، كما قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ } [القصص:81]، وكيف يتكبر مع علمه وتحققه بأنه:
(الذي كان بالأمس نطفة): أراد نطفة وأي نطفة في الخسة والقذارة، ركيكة المنظر والهيئة، خبيثة الرائحة، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ }[السجدة:8]، أي ممتهن ضعيف الحالة.
(وغداً جيفة): يعني بعد نزع الروح منه، يعافه كل من رآه .
واعلم: أن الكبر صفة عارضة في النفس تنشأ مما يظهر في النفس من الإعجاب والترفع، وفي الحديث: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر )) ، وقال عليه السلام: ((أعوذ بك من نفخة الكبرياء ))، ثم وقوعه على أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فبأن يكون تكبراً على الله تعالى؛ بأن لا يذعن لأمره ويتكبر عنه، كما كان من إبليس فهذا كفر لا محالة.
وأما ثانياً: فبأن يكون على الرسل لئلا يذعن لأمر بشر مثله، فهذا كفر أيضاً.
وأما ثالثاً: فبأن يتكبر على الخلق ويدعوهم إلى خدمته، فهذا خطأ أيضاً، وينبغي علاجه بحمل حاجته من السوق، وتقديم الأقران في مجامع الخلق، ولبس الخشن من الثياب، وتعاطي الأشغال في البيوت، والأكل مع الخدم وغير ذلك.
(وعجبت لمن شك في الله): في وجوده، كما هو مذهب أهل التعطيل، وفاعليته كما هو مذهب الفلاسفة، وحكمته كما هو مذهب المجبرة.
(وهو يرى خلق الله): فبحدوثه يبطل قول من عطله عن وجود صانع له، وباختلاف أحواله يبطل قول من قال: إنه صادر على جهة الإيجاب من غير اختيار له فيه، وبإتقانه وصدوره على جهة الإحكام البالغ يدل على علمه وحكمته، ويبطل مقالة من نفى الحكمة، فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه الإشارة من كلامه، من الرد على هذه الفرق على كثرتها.
(وعجبت لمن نسي الموت): حتى لا يخطر له على بال.
(وهو يرى الموتى ): يشاهدهم أمواتاً، يدفنون في قبورهم، يشير بكلامه هذا إلى تغير هذه البنية وفسادها يعلم عقلاً فضلاً عن الشرع، وهذا قريب.
(وعجبت لمن أنكر النشأة الأخرى ): كما هو مذهب منكري المعاد، وهو أكثر من مضى من القرون الماضية والأمم، فإن أكثر ما أنكروه هو النشأة في الآخرة.
(وهو يرى النشأة الأولى): وتقرير الدلالة من ذلك هو أن الوجود ثانياً مثل الوجود أولاً، ومن قدر على شيء فهو قادر على مثله لامحالة.
(وعجبت لعامر لدار الفناء): بالإقبال إليها، والعناية في أمرها، يعني الدنيا.
(وتارك لدار البقاء): بالإعراض عنها وإهمالها، يعني الآخرة.
[120] (من قصَّر في العمل): يعني عمل الآخرة.
(ابْتُلِيَ بالهمِّ): يعني همُّ الدنيا؛ لأن تقصيره في عمل الآخرة، يلفت أمره إلى الإقبال على عمل الدنيا، فيكون مهموماً به وبتحصيله.
[121] (ولا حاجة لله): لا غرض له ولا إرادة بمحبة ولا مودة ولا إصلاح لحاله.
( فيمن كان ليس لله في نفسه وماله حق ونصيب): ففي نفسه بالعبادة وتأدية الواجبات البدنية، وفي ماله بتأدية الحقوق الواجبة المالية فروضها ومندوباتها؛ لأن الأمر والتكليف شامل لهما جميعاً، وطلبهما من جهة الله تعالى متوجه.
[122] (تَوقَّوا البرد في أوله): يشير إلى أنه شديد المضرة في أول وقوعه، لأنه يأتي والأبدان لينة رطبة عقيب زمان الخريف والصيف، فإنها تلين فيهما لما فيهما من الحرارة والرطوبة.
(وتلقَّوه في آخره): لأنه إذا كان في أوائل حدوث الصيف تلين الأجسام وترطب لمقابلتها لأزمان اللين والحر.
(فإنه يفعل بالأجسام ): من القساوة والصلابة.
(ما يفعل بالأشجار): في حتِّ ورقها وإبطال رونقها وصلابة أعوادها، وقساوة أصلها.
(أوله يُحْرِقُ): من شدة البرد، فالأجسام والأوراق تحرق وتجف وتصلب.
(وآخره يُورِقُ): تبدو فيه ورق الأشجار وثمارها.
وقوله: أوله يُحْرِقُ، وآخره يُورِقُ، بيان وتفسير لقوله: توقوا أوله، وتلقوا آخره.
[123] (عُظْمَ الخالق عندك): تصور العظمة والجلال للخالق.
(يُصَغِّرُ المخلوق في عينك): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن من نظر إلى جلال الله وعظمة ملكوته هان عليه غيره من المخلوقين، فلا ينبغي لأحد أن يكون له تعظيم كتعظيمه.
وثانيهما: أن يريد من نظر إلى جلال الله تعالى وباهر قدرته وعظم إحكامه هان عليه ما يرى من هذه المخلوقات الباهرة، بالإضافة إلى باهر القدرة وعظم الإتقان.
[124] وقال بعد رجوعه من صفين وقد أشرف على القبور بظاهر الكوفة:
(يا أهل الديار الموحشة): لما أخلوها وارتحلوا عنها.
(والْمَحَالِّ الْمقفرة): لما سكنوا في غيرها وأهملوها ورائهم.
(والقبور المظلمة): بتراكم التُّرَبِ عليها، ووضعهم في لحودها.
(يا أهل التربة): المغبرَّة أجسادهم بالتراب.
(يا أهل الغربة): عن الأوطان والأهلين.
(يا أهل الوحدة): إذ لا أنيس معهم، كل واحد منهم وحده، وإن اجتمعوا.
(يا أهل الوحشة): بفراق الأهل والأزواج والأولاد والأصدقاء والأقارب.
(أنتم لنا فَرَطٌ): الفارط هو: المتقدم أي متقدمون، من مات فهو متقدم على من كان حياً.
(سابق): تسبقوننا إلى الآخرة.
(ونحن لكم تبع لاحق): تابعون لكم على الأثر، ونحن نقصُّ عليكم الأخبار بعدكم:
(أما الدور فقد سكنت): سكنها آخرون غيركم.
(وأما الأزواج فقد نكحت): افترشها غيركم واطمأنوا إليها.
(وأما الأموال فقد قسمت): بين الورثة، والغرماء من أهل الدين والوصايا.
(هذا خبر ما عندنا): أي هذا خبر ما كان بعدكم من الأحوال.
(فما خبر ما عندكم): من أمر الآخرة، وما آلت إليه أحوالكم فيها.
ثم التفت إلى أصحابه وقال:
(أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى): فما أشبه هذا النداء منه عليه السلام بنداء الرسول لأهل القليب في بدر حيث نادى كل واحد منهم باسمه، فلما قيل له: كيف تنادي جيفاً لا أرواح فيها، فقال: ((ما أنتم بأسمع منهم )) .
ومن كلامه عليه السلام (125-140)
[125] وقال وقد سمع رجلاً يذم الدنيا، فقال له عليه السلام:
(أيها الذام للدنيا ): أراد الشاتم لها والرزاي عليها.
(أتغترُّ في الدنيا ثم تذمها!): الاستفهام ها هنا للإنكار، وأردا كيف يصدر من جهتك الانخداع بها، والميل إليها، وأنت مع ذلك تذمها وتنكر صنيعها معك.
(أأنت المتجرِّم عليها): المدعي عليها الذنب بزعمك.
(أم هي المتجرِّمة عليك!): بإدعائها أنك المذنب بعينك؛ لأنك المغتر بها، فليت شعري أيكما يكون المتجرم في الحقيقة!.
(متى استهوتك): أي أي وقت طلبت سقوطك، وهونك إلى أسفل.
(أم متى غرَّتك): خدعتك ومكرت بك، وهذا الاستفهام وارد على جهة التقرير والتهكم، ولهذا قال بعده:
(أبمصارع آبائك من البلى): من هذه؛ لابتداء الغاية في المكان، أي من مواضع البلى.
(أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى!): أضجعه إذا وضعه لجنبه، وغرضه أن هذه الأشياء فيها غاية النصح لك والموعظة من أجلك، فأين الغرر منها!، وأين الخديعة من جهتها!.
(كم عَلَّلت بكفيك): عالجت في حال اعتلالهم.
(ومرَّضت بيديك ): وقمت عليه في مرضه وزاولته بالقيام والقعود والسهر والمطاولة لأحوالهم.
(تبغي لهم الشفاء): من هذه الأمراض.
(وتستوصف لهم الأطباء ): تطلب منهم الصفات لهذه الأمراض.
(لم ينفع أحدهم إشفاقك): خوفك عليه من الموت، ولا كان فيه سبب لبراءته من مرضه.
(ولم تُسْعَفْ فيه بِطَلِبَتِكَ): ولم يساعد ما طلبت من أجله.
(ولم تدفع عنه): ما وقع فيه من البلاء وفوات الروح وذهابها عنه.
(بقوتك): من أجل قوتك وشدة جلدك.
(قد مثَّلت لك به الدنيا نفسك): جعلته مثالاً لك، وإماماً تقتدي به في غد.
(وبمصرعه مصرعك): أي وعن قريب يكون مصرعك مثل مصرعه.
(إن الدنيا دار صدق لمن صدقها): فيما أبدته من المواعظ، ودلت عليه من العبر، فمن هذه حاله فهي عنده دار صدق.
(ودار عافية): أراد إما دار عافية أي معافاة ومسالمة، وإما دار عافية يصلح فيها أمر الآخرة التي تعقب.
(لمن فهم عنها): انتفع بمواعظها الشافية، فحصلت له بذلك المعافاة والمسالمة، أو كانت سبباً في إصلاح عاقبته وآخرته.
(ودار غنى لمن تزود منها): للآخرة التي يغنى فيها، ويسعد حاله بإحرازها.
(ودار موعظة لمن اتعظ بها): أراد أنها يحصل بالاتعاظ فيها الفوز في الآخرة برضوان الله، والسلامة من عقوبته.
(مسجد أحباء الله): مكان الأولياء في السجود والعبادة، والقيام بحق الله، وتلاوة كتابه وغير ذلك.
(ومصلى ملائكته): من كان منهم في الأرض مكلف بالعبادة فيها، أو يريد الحفظة على الأعمال والموكلين بكتبها، أو غيرهم ممن يعلم الله تعالى وقوفه في الأرض لضرب من الصلاح لأهلها.
(ومهبط وحي الله): كتبه المنزلة على أنبيائه التي تعبَّد بها الخلق، وجعل صلاحهم متضمناً لها.
(ومتجر أوليائه): مكان التجارة بالأعمال الصالحة، والقربات المتقبلة فيها.
(اكتسبوا فيها الرحمة): من الله تعالى بما كان من جهتهم من العناية في الخدمة.
(وربحوا فيها الجنة): جزاء على تلك الأعمال.
(فمن ذا يذمها): وفيها من الخصال المحمودة ما ذكرته.
(وقد آذنت ببينها ): إما أسمعت بانقطاعها أو عرفت وأعلمت بذلك.
(ونادت بفراقها): صاحت بينهم بأنهم مفارقوها إلى غيرها.
(ونعت نفسها وأهلها): أخبرت بعدمها وموت من فيها، يقال: نعاه نعياً ونُعياناً بالضم إذا أخبر بموته، وجاء نعيُّ فلان على فعيل أي خبر موته.
(فمثَّلت لهم ببلائها البلاء): أراد أنها شبهت لهم بلاوي الآخرة وعذابها بما يصيبهم في الدنيا من الآلام والمصائب، وعَرَّف البلاء باللام مبالغة في شأنه وحاله، أي البلاء المعهود في الآخرة الذي لايبلغ كنهه، ولا يطاق وصفه ونعته.
(وشوقتهم بسرورها): جعلتهم مشتاقين بما يلحقهم فيها من هذه المسرات بالملاذ من المناكح والمآكل والمشارب والملابس.
(إلى السرور!): اللاحق بهم في الآخرة، وعرَّفه باللام مبالغة في شأنه كما ذكرناه في البلاء.
(راحت بعافية): أي تقضت وزالت بمعافاة لأهل الطاعة وسلامة عن الأهوال.
(وابتكرت بفجيعة): لأهل المعصية لما رأوا من وخيم أفعالهم.
سؤال؛ أراه خصَّ الرواح بالعافية، وخصَّ الابتكار بالفجيعة، فما وجه ذلك؟
وجوابه؛ هو أنه جعل الرواح عبارة عن زوالها وتقضيها، وليس يختص يوماً ولا ليلة في حق الأولياء؛ لأن منهم من يموت ليلاً، ومنهم من يموت نهاراً، فلهذا عبر به بالرواح ليعم ذلك، وجعل الابتكار عبارة عن صبيحة يوم القيامة وبكرتها حيث تحصل الفجيعة لأهل المعصية، فلهذا خصها بالابتكار، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُستَقر }[القمر:38]، وقوله: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ }[الصافات:177]، وقوله: {فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ }[الأحقاف:25]، فصار الصباح خاص في البلاء.
اللَّهُمَّ، أجرنا من أهوال صبحة يسفر عنها يوم القيامة.
(ترغيباً): في أفعال الخير رجاء لثواب الله.
(وترهيباً): لأفعال السوء خيفة من عقاب الله.
(وتخويفاً): لمضار الآخرة وبلاويها.
(وتحذيراً): عنها، وانتصاب هذه الأسماء على المصدرية، إما مفعولاً لها ، وإما مصادر في موضع الأحوال.
(فذمها رجال غداة الندامة): يعني لما ندموا على ما فعلوه من الأعمال السيئة أخذوا في ملامتها، وتقبيح صنيعها .
(وحمدها آخرون يوم القيامة): وهؤلاء حمدوها لما أوصلتهم إلى النعيم الدائم يوم القيامة، فذمها أولئك لما كان عقباهم النار، وحمدها هؤلاء لما كان عقباهم الجنة منها.
(ذكَّرتهم الدنيا): إما مضار الآخرة، وإما من سلف من الأمم الماضية.
(فذكروا): اتعظوا بما ذكرتهم إياه من ذلك كله.
(وحدثتهم): بما كان من أخبارها وآثارها فيمن كان قبلهم.
(فصدَّقوا): بأخبارها وأحاديثها، ولم يكذبوها فيما قالته، ونطقت به من ذلك.
(ووعظتهم): بمواعظها الشافية ومَثُلاتِها [بأهلها] المتقدمة.
(فاتعظوا): انتفعوا بمواعظها وأخبارها.
[126] (إن لله ملكاً ينادي كل يوم: لِدُوا للموت): أراد من أجل الموت.
(واجمعوا للفناء): أي من أجل الزوال والعدم.
(وابنوا للخراب): أي من أجل خرابها، يعني المساكن.
سؤال؛ أراك فسرت هذه اللام ها هنا بالغرض، وليس يمكن ولا يعقل أن يكوت الموت غرضاً في الولادة، ولا يكون الفناء علة للجمع، ولا يكون الخراب سبباً للبناء، ثم هذا يخالف ما عليه جمهور المتكلمين؟
وجوابه؛ هو أنها إذا كانت للتعليل كان الكلام أبلغ وأوقع، وذلك أنه لما كان الموت لازماً لمن وُلِدَ، والفناء لا ينفك عمَّا جُمِعَ، والخراب لازم لما كان مبنياً، فلما كان الأمر كذلك صار لملازمته، كأن هذه الأشياء عِلَلٌ في تلك، فلهذا كان تفسيرها بالتعليل أحق، وقد ورد ذلك في كتاب الله تعالى كما قال تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ }[الأعراف:179]، وقوله: {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ }[يونس:88]، إلى غير ذلك، فأما من يتأوَّل هذه اللامات على أنها لام العاقبة فبمعزل عمَّا عليه النُّظار وأهل التحقيق من علماء البيان، كما هو مروي على بُعْدِه عن جُلَّةِ المتكلمين من المعتزلة، ومخالفته لما عليه أئمة اللغة والعربية من تأويلها على لام العاقبة.
[127] (الدنيا دار ممر): إلى الآخرة.
(لا دار مقر): وليست دار استقرار وتوطن، والممر والمقر هما مكان المرور والاستقرار.
(والناس فيها رجلان): على كثرتهم وتفاوت أعدادهم، فهم لا ينفكون عن ذلك.
(رجل باع نفسه): عبر عن التساهل والانقياد للأهواء بالبيع؛ لأنه كأنه لمكان تعجله لهذه اللذات المنقطعة، جعلها ثمناً لنفسه وعوضاً عنها، فلهذا قال: باع نفسه.
(فأوبقها): أهلكها بما فعل من ذلك، والإيباق: الإهلاك.
(ورجل ابتاع نفسه): اشتراها، جعل كفه لنفسه لاتباع هواها بمنزلة الشراء، كأنه بذلك تدراكها عن الهلاك.
(فأعتقها): بفعله ذاك.
[128] (لا يكون الصديق صديقاً): أراد أن صديق الصحبة إنما يظهر بالاختبار والامتحان في أفعاله وأقواله، فلا يكون كذلك.
(حتى يحفظ أخاه في ثلاث): فمتى حفظه فيها كان صديقاً على الحقيقة.
(في غيبته): يعني إذا غاب حفظه في ماله وولده وأهله، وما يحفظه من ذلك.
(ونكبته): وإذا جرت عليه مصيبة من مصائب الدهر ونكباته [كان عوناً له] .
(ووفاته): وإذا مات كان عظيم الحياطة لما وراءه من ذلك.
[129] ثم قال عليه السلام:
(من أعطي أربعاً لم يحرم أربعاً):
سؤال؛ ما وجه التلازم بين هذه الأربعة وهذه الأربعة، هل هو من جهة الاقتضاء، أو من جهة التسبيب ، أومن جهة أخرى غير ما ذكرناه فلا بد من بيانه؟
وجوابه؛ هو أن الغرض من ذلك هو أن من وفقه الله تعالى ولطف له في تحصيل [أحد هذه] الأربعة من هذه الأمور التي ذكرها، فهي بنفسها داعية إلى تحصيل تلك الأربعة الباقية.
قوله: من جهة الاقتضاء أو من جهة التسبيب .
قلنا: من جهة داعي الحكمة، ومن جهة الاستصلاح.
(من أعطي الدعاء): في أي حاجة أرادها من حوائج الدين والدنيا.
(لم يحرم الإجابة): بالإعطاء لما طلب من جهة الله تعالى.
(ومن أعطي التوبة): عن جميع الذنوب والإنابة إلى الله تعالى منها.
(لم يحرم القبول): من الله تعالى.
(ومن أعطي الاستغفار): طلب غفران ذنوبه من جهة الله تعالى.
(لم يحرم المغفرة): لم يمنعه الله إياها.
(ومن أعطي الشكر): على النعم.
(لم يحرم الزيادة) من النعم.
سؤال؛ هب أنا سلمنا ما ذكر هنا في الاستغفار والتوبة لما كان في ذلك مستوراً عنَّا، فما وجه ذلك في الدعاء والشكر، ونحن نعرف كثيراً من أهل الدعاء يجتهدون فيه فلا تحصل لهم الإجابة، وكثيراً من أهل الشكر يحصل من جهتهم الشكر، ولا تحصل لهم الزيادة، فكيف أطلق الأمر في ذلك؟
وجوابه؛ هو أن الأمر في هذه الأشياء كلها وإن ورد مطلقاً فإنه مشروط بالصلاح، فإنه لا يمتنع أن يدعو بما تكون الإجابة فيه مفسدة في أمر دينه ودنياه، فلهذا لا يجاب من أجل ذلك، وهكذا فإنه لا يمتنع أن تكون الزيادة في النعمة مفسدة، فلهذا يمتنع من فعلها لما ذكرناه، فهذه اللطيفة لابد من التنبه لها، وفي ذلك بطلان ما أورده السائل.
(وتصديق ذلك في كتاب الله سبحانه ): الإشارة إلى ما ذكره أولاً وعدده من هذه الأمور الأربعة.
(قال الله تعالى في الدعاء : {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ })[غافر:60].
وقال في الاستغفار: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً})[النساء:110].
وقال في الشكر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ })[إبراهيم:7].
وقال في التوبة: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا})[النساء:17].
[130] (الصلاة قربان كل تقي): القربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى من جميع النوافل والأعمال المبرورة، وفي الحديث: ((الصلاة خير كلها )).
(والحج جهاد كل ضعيف): يعني من لايستطيع الجهاد بالسيف فالحج هو جهاده.
(ولكل شيء زكاة): أي وكل شيء فيه حق لله يتوجه أداؤه وإخراجه.
(وزكاة البدن الصيام): يعني حق الله من البدن هو الصيام واجبه ومندوبه، وفي الحديث: ((الصوم لي، وأنا أجزي به )).
(وجهاد المرأة حسن التبعل): البعال والمباعلة والتباعل كله عبارة عن ملاعبة الرجل امرأته وملاعبتها له، وفي الحديث: ((إنها أيام أكل وشرب وبعال )) ، وأراد بحسن التبعل حسن الملاعبة والدعابة له لتطييب نفسه.
[131] (استنزلوا الرزق بالصدقة): يعني إذا قل رزق أحدكم فليتصدق؛ فإنها تكون سبباً لإنزاله وقسمته من عند الله تعالى.
[132] (من أيقن بالخلف): بالعوض من الله تعالى.
(جاد بالعطية): بالإعطاء لوجه الله تعالى.
[133] (تنزل المعونة): من الله تعالى.
(على قدر المؤونة): وهذا معلوم لا شك فيه، فإن من يمون عشرة لا يكون حاله كحال من يمون واحداً في الإعانة من جهة الله تعالى ، واللطف به وقسمة الرزق من عنده.
[134] (ما عال من اقتصد): عال في الحكم إذا جار فيه، وعال إذا كثر عوله، وعال إذا مال، وأراد ها هنا ما كثر عول من اقتصد في معيشته، كما قال تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا }[النساء:3]، أي يكثر عولكم.
[135] (قلة العيال أحد اليسارين): لأن اليسار كما يكون بالمال وهو اليسار الأعظم، فقد يكون بقلة العيال؛ لأن عياله إذا كانوا قليلين لم يحتج إلى كثير المؤونة .
[136] (التودد نصف العقل): يعني التحبب إلى الناس هو نصف العقل؛ لأن العاقل هو الذي يأتي بالواجبات وينكف عن المقبحات، ويحسن المحبة للناس، فكان القيام بالأحكام العقلية نصف، والتودد نصف كما ذكر.
[137] (الهمُّ نصف الهرم): يريد أن الهرم وهو ضعف القوى، كما يكون من أجل طول العمر، فقد يكون بالهمِّ، فصار الهمُّ نصفاً له من هذا الوجه.
[138] (ينزل الصبر على قدر المصيبة): أراد أن نزول اللطف من جهة الله تعالى للصبر إنما يكون على عظم المصيبة وخفتها، فإن كانت عظيمة احتاجت إلى لطف قوي من جهة الله، وإن كانت خفيفة احتاجت إلى لطف خفيف من عنده أيضاً، فهو على قدر حالها في ذلك.
(ومن ضرب يده على فخذه عند مصيبة ): نزلت به حسرة وندامة وتلهفاً.
(حبط أجره): يعني ذهب ثوابه الذي كان يستحقه على الصبر على هذه المصيبة، ولا يحمل على خلاف ذلك؛ لأن حمله على الفسق خطأ لا وجه له.
[139] (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ ): أراد أن بعض الصائمين لا يسلم صومه عما يحبط ثوابه عليه، فلهذا لا يكون له منه إلا مجرد الامتناع عن شرب الماء البارد، وهذا بعينه قد روي عن الرسول عليه السلام حيث قال: ((كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش )) يشير إلى ما ذكرناه.
(وكم من قائم ليس له من قيامه إلا العناء ): وهذا من ذاك فإنه لا يمتنع لبعض المصلين إبطال أجره على الصلاة بما يعرض منه من المعاصي الموجبة لإحباط عمله، ونقصان أجره.
(حبذا نوم الأكياس): يشير إلى أهل البصائر وأهل الظرف، فإنهم ينامون على السنة ويصلون على السنة من غير إفراط ولا تفريط.
(وإفطارهم!): يعني وحبذا صومهم وإفطارهم، وحبذا هذه كلمة دالة على المدح مثل نعم.
[140] (سوسوا إيمانكم بالصدقة): السياسة هي: حسن التدبير للأمور، وأراد ها هنا أن الصدقة هي نهاية تقرير قواعد الإيمان وإثباتها.
(وحصنِّوا أموالكم بالزكاة): يعني عن الآفات والمصائب، وفي الحديث: ((إذا منعت الزكاة هلكت المواشي )).
(وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء): فإنه يرد القضاء، وفي الحديث: ((الدعاء يرد القضاء )).
[141] كلامه لكميل بن زياد النخعي
(قال كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فأخرجني إلى الجبَّان): يعني الصحراء.
(فلما أصحر) : أي خرج إلى الصحراء.
(تنفس الصُّعَداء):، أراد استطلع نفسه من جوانح صدره، وهذا إنما يكون في حق من كان منقطعاً في الحزن والأسف.
ثم قال:
(يا كميل بن زياد، إن هذه القلوب أوعية): لما أقر فيها من العلوم والمواعظ والآداب والحكم.
(وخيرها أوعاها): أدخلها في النفع، وأعظمها قدراً عند الله تعالى ما كان منها واعياً لما أودع فيه من ذلك.
(احفظ عني ما أقول لك): أنطق به من لساني من أجل نفعك وتقريبك إلى الخير.
(الناس ثلاثة): أراد أن الناس على كثرتهم وتباين أحوالهم وطبقاتهم لا يخرجون عن هذه العدة.
(عالم رباني): الرباني هو: العالم بأحوال الربوبية وأحكامها وما يجب لها، وما يجوز عليها، وما يستحيل، وإدخال الألف والنون في النسبة إلى الرب على جهة المبالغة في ذلك، كما تقول: في النسبة إلى الروح: روحاني.
(ومتعلم على سبيل نجاة): أراد لينجو في الدنيا من الجهل وفي الآخرة من العذاب، وهذا هو دون الأول في الرتبة، فإن الأول يشير إلى عظم حاله في العلم بالله تعالى وبصفاته، وهذا ليس له في التعلم إلا مقدار ما يصل به إلى النجاة في الدنيا والآخرة كما أشرت إليه.
(وهَمَجٌ رِعَاعٌ): الهَمَجَة: ذباب صغير كالبعوض يقع على وجوه الحمير، وقد فسرناه، حيث مرَّ في كلامه من قبل، والرِّعَاعُ: الأحداث من الناس والطغام.
(أتباع كل ناعق): يعني من هتف أجابوه من غير بصيرة لهم في أنفسهم.
(يميلون مع كل ريح): يشير بذلك إلى قلة بصائرهم وضعف أحوالهم في الديانة والعلم، فلا قوة لهم على شيء من أمورها بحال.
(لم يستضيئوا بنور العلم): في طريقهم إذا مشوا إلى طريق الآخرة.
(ولم يلجأوا إلى ركن وثيق): فيما هم فيه من أمر الديانة، واللجأ: الاستناد، يقال: لجأ في أمره إلى كذا إذا كان مستنداً إليه.
(ياكميل): تصغير كامل أو أكمل على طريقة الترخيم.
(العلم خير من المال): أعلا منه حالاً عند الله تعالى، وأجل قدراً، ومصداق هذه المقالة هو أن:
(العلم يحرسك): عن آفات الدين وأعظمها الجهل، وآفات الدنيا وأعظمها الزلل في التصرفات كلها.
(وأنت تحرس المال): بالقلاع المشيدة، والأبواب المغلقة، والأقفال الأكيدة، وكثرة الحفاظ والحراس له.
(والمال تنقصه النفقة): كلما أنفق منه نقص لا محالة، ويقل عدده سواء أنفق لله أو لغيره، خلا أن كل ما أنفق لله فإن الله تعالى يخلفه، بخلاف ما أنفق لغيره، فإنه لا عوض له من الله تعالى.
(والعلم يزكو على الإنفاق): يزيد على كثرة التعليم، ويزداد قوة ونفوذاً.
وعن هذا قال بعضهم: العلم كامن وظهوره بالمناظرة والمراجعة، فإذا ظهر فهو ميت وحياته بالتعليم، فإذا حيَّ فهو عقيم، ونتيجته العمل به.
(وصنيع المال يزول بزواله): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن صاحب المال إذا أعطى غيره شيئاً منه وجعل ذلك صنيعة إليه، فإنما يكون ذلك باقياً ما بقي المال في يده، فإذا زال امَّحى ذلك الصنيع ونسي أمره.
وثانيهما: أن يكون مراده أن كل من كان صاحب مال فإن صنيعه بالمال وإعطائه من يستحقه إنما يكون حكمه باقياً مهما بقي على اليسار والتمكن، فأما إذا صار فقيراً فإنه لا يبقى صنيعه أصلاً، ولا يستحق مدحاً بعد ذلك على ما فعله من الصنائع، بخلاف العلم فإن حاله مخالف لذلك كله.
(ياكميل بن زياد، معرفة العلم دين يدان به الله): أي يطاع به، بل هو من أعظم الطاعات وأفضلها؛ لأن كل طاعة فهي مفتقرة إلى العلم، والعلم لايحتاج إلى الطاعات، فلهذا شرف حاله، ونزل العلماء منزلة الآباء، كما قال بعضهم:
من علَّم الناسَ ذاك خيرُ أبٍ
ذاك أبو الروح لا أبو النطف
(به يكسب الإنسان الطاعة في حياته): يعني أنه يكون سبباً في طاعة الله والانقياد لأمره، ولهذا قال ابن عباس: إن العلم يتعلم لغير الله تعالى فيأبى الله إلا أن يجعله لله، يشير بما ذكره أمير المؤمنين إلى أنه يكون لطفاً في كثرة الطاعة والانكفاف عن المعصية.
(وجميل الأحدوثة بعد وفاته): يعني ويفيد صاحبه الثناء الجميل عليه بعد موته.
(والعلم حاكم): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن صاحب العلم حاكم على كل أحد في الإقدام والإحجام والعقد والحل بيده على حسب ما يراه، ويصوِّبه في الأمور كلها.
وثانيهما: أن يكون مراده أن رتبته عالية على كل رتبة، وأمره مرتفع على كل أمر، فلا أمر ينفذ عليه لأحد، وأمره نافذ على كل أحد.
(والمال محكوم عليه): نقيض لما ذكرناه من الوجهين في العلم.
(ياكميل بن زياد، هلك خزان المال وهم أحياء): يعني أن أذكارهم في القلوب ماتت واندرست وهم باقون على الحياة، لا يلتفت إليهم ولا يجري ذكرهم على الألسنة بحال؛ لنزول أقدراهم وركة هممهم.
(والعلماء باقون ما بقي الدهر): يعني ذكرهم باقي في الحياة وبعد الموت، على المنابر والمساجد والمواضع الشريفة والكتب والدفاتر، فلا تسمع على المنابر إلا كلامهم، ولا ترى مع الخلق إلا فتاويهم وأحكامهم، فلهذا بقي ذكرهم على وجه الدهر.
(أعيانهم مفقودة): بالموت والإدبار عن الدنيا.
(وأمثالهم في القلوب موجودة): لا تزال مصوَّرة في الأفئدة لتكرر أذكارهم على الآذان.
(ها): للتنبيه، كقوله تعالى: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ }[آل عمران:119].
(إن هنا لعلماً جماً): هنا إشارة إلى الأمكنة، يقال فيه: هنا مخففاً، وهَنَّا مضاعفاً بفتح الهاء، وأشار به إلى صدره، والجم هو: الكثير.
(لو أصبت له حملة): وجدت له من يحمله على ما أريد من الاستقامة على حدوده وشرائطه.
(بلى): موضوعة للإيجاب بعد النفي.
(أصبت لقناً): أي سريع الفهم، جيد القريحة.
(غير مأمون عليه): في تغييره وتحريفه وتبديله.
(مستعملاً آله الدين للدنيا): لا غرض له فيه إلا طلب الدنيا، واستعمال لذتها، يتوصل به إلى ذلك.
(ومستظهراً بنعم الله على عباده): يجعل نعم الله ظهراً له وقوة على البغي على عباده، والظلم لهم، والتسرع إلى مضرتهم.
(وبحججه على أوليائه): أي ويجعل حجج الله ذريعة ووصلة إلى مخاصمة أوليائه وجدالهم.
(أو منقاداً لجملة الحق): أو أصبت رجلاً منجذباً سلس القياد للأمور الظاهرة، وجمل الدين دون تفاصيله ودقائقه.
(لا بصيرة له في أحنائه): جوانبه، الواحد منها: حنو.
(ينقدح الشك في قلبه): يحصل الشك في قلبه على سرعة، ومنه انقداح النار.
(بأول عارض من شبهة): بأول ما يعرض له من الشبه والخيالات.
(ألا): للتنبيه، كقوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ }[يونس:62].
(لا ذا ولا ذاك): أي لا أريد من كان خائناً، ولا أريد من كان منقاداً لجمل هذا العلم، ولا أرضاهما أهلاً له.
(أو منهوماً باللذة): أي مولعاً باكتساب اللذات واستعمالها.
(سلس القياد للشهوة): يأتي لها بسهولة، لا يصعب عليه أمرها وحالها.
(أو مغرماً بالجمع والادخار): الغرام: شدة الولوع بالشيء، وأراد أنه مولع بجمع الدنيا وادخار حطامها وكسبها على أي وجه كان، ومن أي وجه حصلت.
(ليسا): الضمير للمنهوم والمغرم.
(من رعاة الدين): من الذين استرعاهم الله خلقه وأئتمنهم على حقائق دينه وأسراره.
(في شيء): لا في ورد ولا صدر، ولا مغدى ولا مراح، يقال: فلان ليس من أمر الدين في شيء إذا كان لا يعرِّج عليه في وقت من الأوقات.
(أقرب شيء شبهاً): أقرب ما يشابه من الأشياء، ومماثلاً له في خلائقه وطرائقه.
(بالأنعام السائمة): بالبهائم المرعية، كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ }[الفرقان:44]، وما قنع بهذا الشبه بل زاد بل هم أضل منها حالاً.
(كذلك): الكاف هذه متعلقة بيموت.
(يموت العلم بموت حامليه): والمعنى مثل ما ذكرته من حال هؤلاء يموت العلم بموت من يكون حاملاً له منهم، وذا إشارة إلى المذكور من حالهم .
(اللَّهُمَّ): هذه كلمة تستعمل متوسطة بين كلامين متغايرين، كقولك: والله لأزورنك اللَّهُمَّ إلا أن تجد مني ملالة، ولألزمنك اللَّهُمَّ إلا أن تكون لي كارهاً.
(بل ): للإضراب عما سبق من الإعراض عمن ذكر من هؤلاء الحملة.
(لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة): تعريف أحكام الدين، والقيام بواجباته، والمواظبة على أدائها.
(إما ظاهراً): للخلق يرونه، ويتعلمون منه شرائعه ورسومه.
(مشهوراً): فيما بينهم يتواصفونه من أجل ذلك، ويعرفونه لا يغبا على أحد منهم حاله ونعته.
(أو خاملاً): مدفون الذكر.
(مغموراً): بغيره في الاشتهار والظهور، وفي كلامه هذا دلالة على أن الواجب في حكمة الله تعالى هو حراسة الدين بالعلماء والقائمين لله تعالى بالحجج على عباده من أهل الفضل، إما بأن يكونوا ظاهرين للخلق يشاهدونهم ويرونهم ويتعلمون منهم، وإما بأن يكونوا بحيث لا يؤبه لهم لمكان البذاذة ورثة الهيئة.
(لئلا تبطل حجج الله وبيناته): على الخلق يعني أوامره ونواهيه وأحكامه اللازمة لخلقه.
(وكم ذا): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون ذا راجعاً إلى ما ذكره ممن يقوم بحجج الله، والمعنى وكم ذا أعدِّد من لطف الله تعالى، وعنايته في الدين، واهتمامه بإصلاح خلقه.
وثانيهما: أن يكون راجعاً إلى المذكور أولاً من الذين لا يصلحون لحمل العلم ولا يكونون أهلاً له ولحمله، والمعنى وكم ذا أعدِّد ممن لا يصلح لذلك.
(وأين أولئك !): أي لا يوجدون إلا على القلة والندور.
(أولئك والله الأقلون عدداً): في الخلق فلا يوجد أمثالهم.
(والأعظمون عند الله قدراً): لعلوهم في الدين وارتفاع درجتهم عند الله.
(يحفظ الله بهم حججه): على الخلق في أمر دينه.
(وبيناته): وبراهينه على ذلك.
(حتى يودعوها نظراءهم): يحفظونها حتى يدفعوها إلى أمثالهم، يقال : أودعته مالاً إذا دفعته إليه.
(ويزرعونها في قلوب أشباههم): يشير إلى الحجج على الدين، والزراعة ها هنا استعارة لتمكنها في أفئدتهم.
(هجم بهم العلم): يعني دخل بهم العلم بغتة.
(على حقيقة البصيرة): على التحقق والاستبصار.
(وباشروا روح اليقين): أي خالطوا، والرُّوح بضم الراء هو: النفس الجاري، والرَّوح بفتحها هو: الراحة، قال الله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا }[الأنبياء:91]، وقال: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ }[الواقعة:89]، والمعنى في هذا هو أنه أطلعهم العلم بالله تعالى، وبما أفاضه عليهم من الأنوار الإلهية واختصهم به من الأسرار على حقيقة أمر الدين وعلم طريق الآخرة، وخالط قلوبهم اليقين بذلك والتحقق له، فاستراحوا إليه واطمأنت قلوبهم عليه، وانشرحت صدورهم به، فتجاوزوا من أجله كل غاية، واحتملوا لإحرازهم له كل مكروه.
(واستلانوا ما استوعره المترفون): المترفه هو: صاحب التنعم باللذات، وأراد أنهم استسهلوا ما وجده أهل النعمة وعراً من أجل ما عرفوه من حاله.
(وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون): يعني ووجدوا الأنس بما كان أهل الجهل يجدون منه الوحشة لجهلهم بحاله وعاقبة أمره.
(وصحبوا الدنيا): أراد إما أهل الدنيا لمخالطتهم لهم، أو أراد الدنيا نفسها.
(بأبدان): يعني أن أشباحهم حاصلة مع أهل الدنيا، أو تتصرف في أحوال الدنيا.
(أرواحها معلقة بالمحل الأعلى): والأرواح المودعة في هذه الأشباح معرضة عن ذلك متعلقة بالله تعالى، والتفكر في أحوال المعاد وطريق الآخرة، والشغل بعظمة الله تعالى، ومعرفة جلاله وكنه كبريائه، وكنى بالمحل الأعلى عن ذلك.
(أولئك): الذين وصفت حالهم ، وقررت طرائقهم.
(خلفاء الله): في دينه وعلى خلقه.
(في أرضه): التي هي مسكنهم، وموضع اجتهادهم في حقه.
(والدعاة إلى دينه): والمجتهدون في دعاء الخلق إلى دين الله وإحيائه.
(آه آه): صوت يستعمل للتوجع والتحزن، ينون تارة للتنكير، وتارة غير منون.
(شوقاً إلى رؤيتهم!): إلى الاطلاع عليهم، والانتفاع بمخالطتهم.
(انصرف إذا شئت): لقضاء حوائجك، وإصلاح أمورك.
فأما ما زعمه الباطنية من أن كلامه هذا إشارة إلى كلبهم المعصوم المنتظر وجوده وظهوره، فمن تهويساتهم وكذبهم في الدين وهذيانهم، فتباً لها من ظنون كاذبة!، وسحقاً لها من آراء غير صائبة! فمالهم أنى يؤفكون! مالهم لا يؤمنون! {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:71].
ثم رجع إلى ذكر الحكم والآداب، بقوله:
[142] (المرء مخبؤ تحت لسانه): وهذه من الحكم التي أناف فيها على حكمة الحكماء، وسبق بها على بلاغة البلغاء، وغرضه منها هو أن الإنسان مستور لا يعرف حاله ما لم يتكلم، فإذا تكلم عرف حاله في الفطنة والكياسة، أو في اللكنة والفهاهة.
[143] (هلك امرؤ لم يعرف قدره): أراد أن كل من لا يعرف حاله وقدره فإنه عن قريب لا محالة يرد في المهالك، ويوقع نفسه في المتالف، ولشرف هذه الحكمة ولطيف جوهرها وردت في كلامه على أوجه مختلفة، وعبارات متفاوتة.
[144] وقال لرجل سأله أن يعظه:
(لا تكن ممن يرجو الآخرة ): أي يتوقع الوصول إلى ثواب الآخرة، ويأمل ذلك.
(بغير العمل ): الذي يرجى حصول الثواب به، وإنما عرفه إشارة إلى العمل الصالح المرضي لله تعالى والمفعول لوجهه.
(ويُرجّي التوبة): يأملها ويظنها.
(بطول الأمل): وهو مع ذلك طويل الآمال بعيدها، ومن حق راجي التوبة قصر أمله ليحسن عمله بعد ذلك.
(يقول في الدنيا بقول الزاهدين): أي يظهر الرغبة عنها بلسانه، وينطق بالزهد فيها.
(ويعمل فيها بعمل الراغبين): وإذا نظرت إلى أعماله وجدتها عمل من هو راغب فيها مجتهد في تحصيلها، مكبٌّ على التحيل في طلبها.
(إن أعطي منها لم يشبع):لم تنقطع شهوته عنها وإن عظم إعطاؤه منها.
(وإن منع منها لم يقنع):لم يكن ذلك قنوع منه ولا رغبة في الآخرة؛ لشدة تلهفه على الدنيا.
(يعجز عن شكر ما أوتي): لا يقوم بشكر ما خوّل من نعم الدنيا.
(ويبتغي الزيادة فيما بقي): أراد إما فيما بقي من عمره، وإما فيما بقي فيما لم يعط إياه من قبل.
(ينهى ): غيره عن فعل المنكر وعن الإتيان بالمعصية.
(ولا ينتهي): عن ذلك كله.
(ويأمر بما لا يأتي ): من الطاعات وفعل الأعمال الصالحة.
(يحب الصالحين): بإظهار ذلك من قلبه ولسانه.
(ولا يعمل عملهم): بالطاعة لله والانقياد لأمره.
(ويبغض المذنبين): يكرههم بقلبه ولسانه.
(وهو أحدهم): يعني من جملة من أتى بالذنوب، وجاء بالمعاصي، فلهذا قال: وهو أحدهم.
(يكره الموت): لا يحب أن يموت قط.
(لكثرة ذنوبه): من أجل ما يسوءه عقيبه من كثرة ذنوبه، والعقاب عليها.
(ويقيم على ما يكره الموت له ): ومع كراهته للموت فهو مقيم على المعصية التي يكره الموت من أجلها وبسببها.
(إن سقم ظل نادماً): على مافاته من اللهو والطرب والمعصية لأجل سقمه.
(وإن صحَّ ظل لاهياً): في لذاته منهمكاً في طلب شهواته.
(يعجب بنفسه إذا عوفي): يصيبه العجب العظيم بنفسه إذا تنعم بالعافية وترفه في لذاتها.
(ويقنط إذا ابتلي!): وييأس من رحمته إذا أصابه بلوى في جسمه.
(إن أصابه بلاء): ألم في جسمه أو مصيبة وجائحة في ماله.
(دعا مضطراً): على جهة الاضطرار لكشف ما هو فيه من الاضطرار.
(وإن ناله رخاء): تمكن في المعيشة.
(أعرض): عن الله، وشمخ بأنفه.
(مغتراً): مخدوعاً بالأماني الكاذبة والتسويفات الباطلة، وكأنه عليه السلام يشير بكلامه هذا إلى قول الله تعالى : {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَسَّهُ}[يونس:12]، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ }[فصلت:51]، {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ }[فصلت:49]، وفي آية أخرى: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}[فصلت:51].
(تغلبه نفسه على ما يظن): أراد أنه ينقاد للأطماع المظنونة، وتغلبه نفسه على اتباعها من غير قطع عليها.
(ولا يغلبها على ما يستيقن): يعني أن الثواب مقطوع به مستيقن حصوله، ومع ذلك فإنه لا يقهرها على الأعمال الصالحة التي تكون سبباً في الوصول إليه.
(يخاف على غيره): من أفناء الناس.
(بأدنى من ذنبه): يريد أن ذنبه عظيم وهو لا يخافه، وذنب غيره دون ذنبه، وهو مع ذلك يشفق عليه من النار مخافة أن يقع فيها.
(ويرجو لنفسه بأكثر من عمله): يعني أنه يأمل لنفسه من الثواب وارتفاع الدرجات عند الله تعالى، بأكثر مما يستحق من جزاء عمله إذا عمل.
(إن استغنى): عن الناس بأن أغناه الله تعالى.
(بطر): تجاوز الحد في كفران النعمة.
(وفتن): في دينه بالخروج عنه.
(وإن افتقر): إلى الناس، واحتاج إلى ما في أيديهم.
(قنط): يئس عن خير الله تعالى.
(ووهن): ضعف في أحوال دينه، ويزلّ فيه.
(يُقَصِّر إذا عمل): يعني إذا عمل شيئاً من الأعمال التي يرجو بها وجه الله تعالى فهو في غاية التقصير في تأديتها على الوجه المرضي عند الله تعالى .
(ويبالغ إذا سأل): يعني ويلح في المسألة إذا سأل غيره شيئاً من حطام الدنيا.
(إن عرضت له شهوة): سنحت وعنَّت في مأكل أو مشرب أو ملبس.
(أسلف المعصية): قدّمها من أجل حصوله على شهوته.
(وسوَّف التوبة): عما أتاه من المعصية، وقال: سوف آتي بها بعد حين.
(وإن عَرَته محنة): التبسته وخالطته، من قولهم: عراه الجنون إذا خالطه، وأراد إذا خالطه شيء من البلاوي والامتحانات.
(انفرج عن شرائط الملة): انكشف وزال عن رسوم الدين وحدوده.
(يصف العبرة): بلسانه.
(ولا يعتبر): يظهر الاتعاظ في أفعاله ولا يُرَى عليه أثر الاعتبار.
(ويبالغ في الموعظة): لغيره من أفناء الناس.
(ولا يتعظ): ينزجر عن فعل القبائح في نفسه.
(فهو بالقول مُدِلُّ): أي فهو بما يقوله من جهة لسانه من الدين واثق مستظهر.
(ومن العمل مُقِلُّ): يعني ومن عمل الآخرة وطاعاتها في غاية الإقلال.
(ينافس فيما يفنى): المنافسة هي: الرغبة في الشيء على جهة المباراة للغير فيه، والمزاحمة له في فعله.
(ويسامح فيما يبقى): أي ويستسهل فيما يكون خيره باقياً، وغرضه من هذا كله منافسته في أعمال الدنيا، وتساهله في أعمال الآخرة.
(يرى الغنم مغرماً): يعني أنه إذا أعطى الزكاة والصدقة فهو غنم في الحقيقة؛ لما فيها من إعظام الأجر، ويراها غرماً لثقلها عليه وكراهته لإخراجها.
(والغرم مغنماً): ويرى منع الزكاة والصدقة غنيمة بخلاً وضِنّة بهما، وذلك مغرم في الحقيقة لما فيه من العقاب والوعيد.
(يخشى الموت): يخاف هجومه عليه ويشفق من موافاته.
(ولا يبادر الفوت): أي ولا يعاجل ما يفوته من الأعمال الصالحة عند موته وينقطع عنه من ذلك.
(يستعظم من معصية غيره): يستكبر ذلك في نفسه ويهول في وقوعه ويستنكر.
(ما يستقلُّ أكثر منه من نفسه): ما يكون أكثر منه قليلاً إذا وقع من جهة نفسه، ولا يُرى لذلك أثر.
(ويستكثر من طاعته): يعده كثيراً في نفسه، ويستعظم:
(ما يحقِّره من طاعة غيره): يعني إذا وقع من ذلك في حق غيره استحقره واستقله.
(فهو على الناس طاعن): في أفعالهم وطاعاتهم، مولعاً بالاعتراض عليهم في جميع أحوالهم.
(ولنفسه مداهن): المداهنة: المصانعة، وأراد أنه غاش لنفسه في ذلك، يقال: أدهنت في الأمر إذا غششت فيه.
(اللهو مع الأغنياء): إفراط المزاح والطرب بأنواع الملاهي.
(أحب إليه من الذكر مع الفقراء): أميل إلى قلبه من أن يكون ذاكراً لله تعالى مع أهل الفقر والمسكنة.
(يحكم على غيره لنفسه): يريد أنه يستوفي حقه ممن كان عليه لنفسه ويوفيها إياه.
(ولا يحكم عليها لغيره): يعني وإذا كان عليه حق لغيره من الناس فهو غير موف له من جهة نفسه.
(ويرشد غيره): يدله على مواضع الرشد.
(ويغوي نفسه): بسلوك طريق الضلال، وتعمية الحق على نفسه.
(فهو يطاع): فيما قال وأمر وحكم على غيره بشيء من الأحكام.
(ويعصي): أي ويخالف في جميع ما أمر به ونهي عنه.
(ويستوفي) حقه في كيل أو وزن أو غير ذلك.
(ولا يوفي): من جهة نفسه بشيء من ذلك.
(ويخشى الخلق): يخافهم ويشفق منهم.
(في غير رَبِّه): يريد أن خشيته للخلق ليس في أمر من أمور الدين، ولا من الأمور المتعلقة بالله تعالى، وإنما كانت من أجل ما بينه وبينهم من المعاملة.
(ولا يخشى رَبَّه في خلقه): أي ولا يخاف الله في خيانته في معاملة الخلق ونقص حقوقهم، فصار خائفاً للخلق، وخوفه لغير الله، وإنما خوفه لما يلحقه من مضرة الخلق، ولا يخاف الله فيما يفعله بالخلق.
وأقول: لقد عظم هذا الكلام وأوفى، وأغنى عن غيره في النفع وكفى، وبالغ في الزجر والموعظة وشفى، ولو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذا الكلام لكان خليقاً بأن يكون تبصرة لمبصر، وعبرة لناظر مفكر، وكيف لا وهذا بالإضافة إلى ما اشتمل عليه من الأسرار والرموز، وتضمنه من الجواهر والكنوز كغرفة من بحر لجي كما قررناه.
[145] (لكل أمر عاقبة): أي منتهى وغاية يصل إليها ولا يتجاوزها.
(حلوة): تشتهيها النفوس وتميل إليها.
(أو مرة): تنفر عنها الطباع ولا تلائمها.
[146] (لكل مقبل): من جميع الأمور كلها.
(إدبار): تقضي وزوال، وذلك لأن الدنيا كلها إلى نفاد فما أقبل منها من علم أو عمل أو عمر أوسعادة أو بلوى، فلا بد من تقضيه وزواله.
(وما أدبر): تقضَّى وزال .
(كأن لم يكن ):كأنه في الحقيقة ما كان ولا كان له حصول ووجود، وهذا كله من شؤم الدنيا وهوانها، أن كل ما أقبل منها فلا بد له من إدبار، وما أدبر منها كأنه ما وجد في حال أصلاً.
اللَّهُمَّ، اجعل عاقبة أمرنا، وقصارى أحوالنا رضوانك والفوز بكرامتك.
[147] (لا يَعْدَمُ الصبور الظفر): أراد أن كل من كان صابراً على تحصيل مراد وغرض في الدين والدنيا، فعن قريب وقد حصل له الظفر بمراده.
(وإن طال به الزمان): وإن تراخت الأيام والليالي فعاقبته ذلك.
[148] (الراضي بفعل قوم كالداخل معهم ): أراد أن كل من كان راضياً بأفعال قوم فحكمه حكمهم، وظاهر كلامه هذا دالٌّ على أن الرضا بالكفر يكون كفراً، والرضا بالفسق يكون فسقاً، فمن رضي بأفعال الكفار، فقد دخل معهم في الكفر، وهكذا حال الفُسَّاق، ومن رضي بأفعال قوم فقد تولاهم لأجل ذلك، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }[المائدة:51]، وكثرة الخوض في مثل هذا يحرك علينا قطباً من أسرار الإكفار وذكر حقيقة الموالاة وحكمها، وفيه خروجنا عن مقصد الكتاب، وقد رمزنا إلى حقائق القول فيه في الكتب الدينية.
(وعلى كل داخل في باطل إثمان): أراد أن كل من فعل معصية فسقاً كانت أو كفراً أو غير ذلك مما ليس كفراً ولا فسقاً، فلابد فيها من وجهين في الإثم.
(إثم العمل به): الإقدام على فعله وقد نهي عنه.
(وإثم الرضا به): إرادته.
سؤال؛ كلام أمير المؤمنين ها هنا مخالف لما قالته المعتزلة وغيرهم من المتكلمين من أن أقل المعاصي يستحق عليها جزءان من الإثم، وها هنا قال: لا يستحق عليها إلا جزء واحد، على الفعل جزء، وعلى الرضا جزء فما وجهه؟
وجوابه؛ هو أنه عليه السلام ليس غرضه ذكر ما يستحق على المعصية من أجزاء العقاب، فيكون ما قاله السائل طعناً في كلامهم، وإنما غرضه أن الفعل لا يفعل إلا مع كونه مرضياً، فأراد أن يبين أن على مطلق الفعل إثم، وعلى مطلق الرضا إثم آخر غير ذلك الذي على الفعل، ولم يرد تقرير مقدار أقل ما يستحق على المعصية من الآثام والعقاب.
[149] (إعتصموا بالذمم): يعني العهود والمواثيق، وعصمتها: منعها عن النقض والإخلاف فيها.
(في أوتادها ): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد المواظبة على ما يعلق على العقود والمواثيق من الأفعال والتحفظ بها، كما يكون الوتد حفظاً لما يعلَّق عليه من الأمتعة.
وثانيهما: أن يكون مراده التشدد في العهود والمواثيق، استعارة له من شدة الوتد وضربه في الجدار.
[150] (عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته): يشير بذلك إلى معرفة الله تعالى، فإنه لا عذر لأحد في الجهل به ، لما فيه -أعني العلم به- من اللطف، والمصلحة والتقريب من الطاعة، والانكفاف عن المعصية؛ لأن مع معرفته يحصل الداعي إلى الطاعة وهو الثواب عليها، ويحصل الانكفاف عن المعصية بما يستحق عليها من العقاب.
ومن كلامه عليه السلام (151-200)
[151] (قد بصرتم): إما من البصر وهو رؤية الأدلة الباهرة على وجود الصانع وتوحيده، وإما من البصيرة بما عرَّفنا به من الهداية، والآداب والحكمة.
(إن أبصرتم): إن استعملتم أبصاركم وبصائركم في ذلك.
(وقد هديتم): إلى الدين.
(إن اهتديتم): طرقه وأحكامه.
[152] (عاتب أخاك بالإحسان إليه): يعني إذا سمعت ما تكرهه من أخيك المؤمن فاجعل العتاب له هو الإحسان إليه.
(واردد شره بالإنعام عليه): أراد واردد ما وصل منه من الشر إليك بالإفضال عليه من جهتك، فإن ذلك يكون أدعى إلى انكفافه عن الشر إليك، وأقرب إلى ارعوائه عما كان فيه من إيصال الإيذاء.
[153] (من وضع نفسه مواضع التهمة): في الأماكن التي تكون سبباً في التهمة وطريقاً إليها.
(فلا يلومن من أساء به الظن): يعني فلومه من جهة نفسه لكونه فعل ذلك، ولا لوم على من ساء ظنه فيه بالتهمة له في ذلك، وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم )) .
[154] (من ملك): أمراً من الأمور، أو كان له قدرة على غيره.
(استأثر): أي استبد بما يملكه من ذلك، ولم يرض المشاركة فيه.
[155] (من استبد برأيه هلك): يشير إلى أنه يتطرَّق إليه الزلل فلا يأمن الهلكة في بعض آرائه.
(ومن شاور الرجال): أخذ آرائهم في القضايا، واستمد منهم المصالح في الرأي.
(شاركها في عقولها): يريد أن الرأي هو غاية فهم الإنسان ونهاية عقله، فإذا أخذته من صاحبه فقد شاركته فيما يُوصِّل إليه عقله من ذلك.
[156] (ومن كتم سره كانت الخِيَرَةُ بيده): يعني أنه إذا كتم السر كان مخيراً في الإقدام والإحجام، وكان مالكاً لأمره، وبعد إفضائه لسره لا يكاد يملك ذلك من حاله وأمره.
[157] (الفقر هو الموت الأكبر): إنما كان أكبر لوجهين:
أما أولاً: فلأن الفقر في بعض الأحوال يتمنى صاحبه عنده الموت، وهو خروج الروح، وما كان يتمنى عنده الموت فهو أخف لا محالة وأصغر عنده مما يلاقيه من ذلك.
وأما ثانياً: فلأن الموت الذي هو خروج الروح فيه راحة للأبدان والخواطر والقلوب والجوارح، والفقر فيه عذاب لهذه الأشياء، فلهذا قال: هو الموت الأكبر يشير إلى ما ذكرناه، وفي الحديث: ((ما من بر ولا فاجر إلا وبطن الأرض خير له من ظهرها ))، فهذا فيه إشارة إلى الراحة التي ذكرناها بالموت، وعن هذا قال بعضهم:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الموت في سؤال الرجال
وفي الحديث: ((كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوذ بالله من الفقر)) .
اللَّهُمَّ، أدخلنا في دعوته المباركة، وأشملنا ببركتها.
[158] (من قضى حق من لا يقضي حقه فقد عبَّده): يعني إذا كنت مساعداً لغيرك في قضاء حوائجه، ومبادراً إليها في تحصيلها، وهو لا يقضي لك حاجة قط، فهذه هي العبودية والذل والتصاغر الذي هو من شأن العبيد.
[159] (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق): يعني أن طاعة أولي الأمر فيما يأمرون به إنما هو فيما هو طاعة لله تعالى، ووجوب ذلك إنما هو بإيجاب الله تعالى، فإذا كان معصية ومخالفة لله فلا تتوجه طاعتهم بحال.
ويحكى أن خالد بن الوليد أمَّره الرسول على سرية، فأجج لهم ناراً وأمرهم بالاقتحام فيها، فمنهم من اقتحم لما أمره ومنهم من أبى ذلك، فلما بلغ ذلك الرسول قال: ((لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق )) ، فهذه هي من كلام الرسول كما أوضحناه.
[160] (لا يعاب الرجل بتأخير حقه): يعني لا نقص عليه في ذلك، بل ذلك يكون من جملة التفضلات بتأخير الآجال وتراخيها، وفيه إشارة إلى أنه لا نقص عليه في تركه للقيام بالإمامة؛ لأنه كما لا يعاب بالتأخير فلا يعاب أيضاً بالترك؛ لأنه إسقاط لحقه لا غير.
(إنما يعاب من أخذ ما ليس له): لأنه يكون ظالماً لا محالة، فلا جرم توجه اللوم والذم إليه.
[161] (الإعجاب يمنع الازدياد): [يعني أن من دخله] الإعجاب في عمله فقد استكثره ورآه عظيماً في عينه، ومع هذا يفتر عن الزيادة وتكبر عليه، وتصور الكثرة يمنع من الزيادة.
[162] (الأمر قريب): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن أمر الدنيا قريب هين فلا حاجة إلى التعريج عليها، وفي الحديث: أن الرسول رأى ابن عمر يصلح جداراً، فقال: ((الأمر أقرب من هذا)) .
وثانيهما: أن يكون مراده أن أمر الآخرة قريب، فينبغي الالتفات إليها والمواظبة على إحرازها.
(والاصطحاب قليل): يعني في ذات الله قليلة، والاصطحاب هو: المصاحبة، وهو افتعال، لكن الصاد إذا لاقت تاء الافتعال تقلب طاء، ومع الضاد في نحو اضطرب ، ومع الطاء في نحو اصطلم، ومع الدال ذالاً في نحو اذدكر.
[163] (قد أضاء الصبح لذي عينين): هذا مثل يضرب لمن اتضح له معرفة الشيء ثم تغافل عنه، وأعرض عن رؤيته، والمعنى أن الصبح يدرك إضاءته من كان مهتماً بإدراكه، وله عينان يدرك بهما.
[164] (ترك الذنب أهون من طلبة التوبة): لأمرين:
أما أولاً: فلأن في ترك الذنب إهمالاً عن الاشتغال بالتوبة وفعلها وإراحة للنفس عن ذلك.
وأما ثانياً: فلأن في ترك الذنب سلامة؛ لأنه لا يدري إذا فعل التوبة هل يؤديها بشروطها فتكون مقبولة أو لا، وفي ترك الذنب سلامة عما ذكرناه كله، وهو يضرب مثلاً فيمن يفعل أمراً كان له عنه مندوحة وسعة.
[165] (كم من أكلة منعت أكلات): يشير إلى أن الإنسان إذا أكل أكلة زائدة على ما يعتاده فربما لم تتسع لها معدته، فتصيبه هيضة فتمنعه عن أكلات كثيرة، وربما يضرب مثلاً لمن يفعل فعلاً فيمنعه تعاطي أفعال كثيرة، لو لم يفعله لأمكنه فعلها.
[166] (الناس أعداء ما جهلوا): ما عرفه الإنسان وأحاط به علماً فهو ملائم له موافق لمزاجه، فلهذا تكثر مراجعته له، ويزداد النظر فيه، وما جهله فهو نافر عنه مخالف لطبعه، ويكون هاجراً له لا يعلق بخاطره كأنه عدو له في المهاجرة وقلة الاحتفال بأمره.
[167] (من استقبل وجوه الآراء): بالنظر الصائب والفكر المستقيم .
(عرف وجوه الخطأ): عند تصفحه لها واستعمال الفكرة الصائبة فيها.
[168] (من أخذ سنان الغضب لله): أخذ السنان استعارة، وأراد من تسلح الغضب من أجل إعزاز دين الله وإعلاء كلمته.
(قوي على قتل أشداء الباطل): الأشداء: جمع شديد كنبي وأنبياء، وأراد قوَّاه الله ونصره على قتل من كان شديد الشكيمة في الباطل وناصراً له، ويروى: (آساد الباطل): وهو: جمع أسد أي شجعان الباطل، وأهل الشطارة فيه.
[169] (إذا هبت أمراً فقع فيه): يعني إذا كنت خائفاً من أمر ومشفقاً من الوقوع فيه فافعله، وادخل فيه وتلبس به.
(فإن توقيه أعظم مما تخاف منه): أراد فإن محاذرتك من الوقوع فيه أدخل ألماً وأعظم خوفاً من فعله.
[170] (آلة الرياسة): يعني قاعدتها، والأصل الذي تكون مبنية عليه.
(سعة الصدر): احتمال كل مكروه للخلق والصبر على علاجهم، والتغمد لما يجري منهم.
[171] (ازجر المسيء بثواب المحسن): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد اذكر للمسيء العاصي ثواب المحسن المطيع فلعله بذكرك لثوابه ينقرع عن إساءته ويكف عنها، ويغار على تركه لثواب المحسن.
وثانيهما: أن يكون مراده كفَّ من أساء إليك بالإحسان إليه، فإن كفَّك له بالإحسان إليه يكون زجراً له عن الإساءة إليك.
[172] (اقلع الشر من صدر غيرك، بقلعه من صدرك): يريد إذا كانت الشحناء بينك وبين غيرك وأردت زوالها وإبعادها، فَأَزِلْهَا أولاً عن قلبك فإنها لا محالة تزول من صدر صاحبك ثانياً، وهذا ظاهر فإنه لا يمكنه علاج نفس غيره، وإنما قدرته على علاج نفسه، وعند إزالة ذلك الوَحَر من صدره، تنجذب نفسه وتسلس خلائقه فيكون من ذاك مثله لا محالة، وفي ذاك زواله بالكلية.
[173] (اللجاجة تسل الرأي): أي تزيله بسهولة، من قولهم: سللت الشعرة من العجين إذا أخرجتها، وأراد أن اللجاج إذا عظم وكثر زالت معه الإصابة وفسد الرأي كله.
[174] (الطمع رقُّ مؤبد): يريد مهما كان الإنسان طامعاً فلا يزال في رق العبودية لمن هو طامع منه، لا فكاك لرقه، ولاخلاص له عنه.
[175] (ثمرة التفريط الندامة): أي لكل شيء ثمرة، وثمرة من فرط في عمل من أعمال الدنيا والدين هو الأسف على ذلك العمل، وإحراز فرصته.
(ثمرة الحزم السلامة): أراد أن كل من حَزُمَ في أحواله وبناها عليه، فإنه يسلم لا محالة مما كان يحاذره ويخافه.
[176] (لا خير في الصمت عن الحكم): المراد بالحكم ها هنا الحكمة، وأراد أنه لا فائدة في الصمت عن التكلم بالحكمة، فالنطق بها خير من الصمت عنها، وما ورد من جهة الشرع في إيثار الصمت إنما هو فيما لا حكمة فيه، وإليه تشير ظواهر الآي والأخبار إلى ما ذكره ها هنا.
(كما أنه لا خير في القول بالجهل): يريد أنهما سيَّان، فترك الكلام بالحكم مثل النطق بالقول الجهل في الضرر والمفسدة.
[177] (ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة): فيه روايتان:
أحدهما: بالياء بنقطتين من أسفلها وهو تثنية دعوى، وأراد من ادَّعى شيئاً وادَّعى آخر خلافه في المسائل الدينية والأحكام العقلية، وما يكون طريقه القطع، فلا بد من أن تكون أحدهما لا محالة خطأ وباطلاً.
وثانيهما: بالتاء بنقطتين من أعلاها، وهي تثنية دعوة، وغرضه من دعا إلى حق ودعا غيره إلى خلافه، فلا بد من أن تكون أحدهما ضلالة، وهي التي تخالف الحق.
[178] (ما شككت في الحق مذ أُرْيِتُه ): يشير بهذا إلى استقامة طبعه وسلامة نظره عن الميل عن الحق، وعصمة الله له عن الخطأ في الدين والاعتقاد، وغرضه من هذا كثرة الانقياد منه للحق عند معرفته بكونه حقاً وصواباً.
[179] (ما كَذَبْتُ): كذبة على الله تعالى ولا على رسوله، ولا نقلت حديثاً يخالف ما هو عليه.
(ولا كذبت): فإن كان مبنياً لما سمي فاعله فالغرض أني ما كذَّبت الرسول ولا أحداً من الأنبياء قبله فيما جاءوا به من عند الله، وإن كان مبنياً لما لم يسم فاعله ، فالغرض أني ما نقلت شيئاً من الرسول ولا عن غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم ولا عن الله فكذبني فيه أحد ممن رويته له ونقلته إليه.
سؤال؛ أليس الخوارج قد كفروه وخطاؤه فيما فعل من التحكيم، وهذا تكذيب له في مقالته؟
وجوابه؛ هو أن إكفارهم له ليس تكذيباً له فيما أخبر به عن نفسه، ولا فيما أخبر به عن الله وعن رسوله، فيكون طعناً على ما ذكرناه، وإنما كفَّروه لاعتقادهم أنه أخطأ فيما حكَّم من الحكمين، وكل خطأ فهو كفر، فإكفارهم له من هذا الوجه، لا من جهة التكذيب، وفي ذلك صحة ما قلناه.
(ولا ضللت): عن الحق، وزغت عن طريقه.
(ولا ضُلَّ بي): أي ولا كان من جهتي بسبب فعلته مما يضل به أحد من الخلق، ولا بد من تأويله على ما ذكرناه.
فأما كونه سبباً لضلال كثير من الخلق مثل الخوارج وغيرهم من غير فعل سبب من جهته ضلوا به، فهذا قد وجد وحصل، وإنما الغرض تأويله على ما ذكرناه ليستقيم.
[180] (للظالم ): بإيلام غيره أوبأخذ حقه.
(البادِي): السابق لغيره بالظلم في ذلك.
(غداً): يعني يوم القيامة.
(بكفه عضة): عض الكف كناية عن الندم، وأراد أنه يندم على ما فعله يوم القيامة من البداية بالظلم، ومصداق ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ }[الفرقان:27]، أي يندم على ما فعله حسرة وتأسفاً على إقدامه عليه.
[181] (الرحيل وشيك): وشك الأمر إذا قرب، وأراد أن الارتحال إلى الآخرة يقرب حاله.
[182] (من أبدى صفحته للحق هلك): صفحة كل شيء جانبه، وأراد من جاهر بالجدال بالباطل، وأعرض عن قبول الحق فسد وبطل أمره.
[183] (من لم ينجه الصبر): على الأمور كلها.
(أهلكه الجزع): أراد أنه إذا لم يكن في الصبر على المصائب وجميع البلاوي نجاة عن الشرور، فالجزع فيها هو الهلاك بعينه، كما قالوا: من لم ينجه الصدق أوبقه الكذب.
[184] (واعجبا أتكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة): هذا الكلام وارد على جهة الرد على من زعم تقرير إمامة أبي بكر وعمر بالصحبة، فقال متعجباً من ذلك كيف تكون ثابتة بالصحابة فقط! ولا تكون ثابتة لمن ثبت في حقه الصحابة والقرابة جميعاً! فهو لا محالة يكون أحق وأولى لأمرين:
أما أولاً: فلأن ما ثبت في حق غيره فهو ثابت في حقه، على أكمل وجه وأتمه.
وأما ثانياً: فلأن القرابة إن لم تكن سبباً في استحقاق الخلافة وتقريرها، فلا أقل من كونها عاضدة ومقوية للصحبة، فلهذا كان أحق بالخلافة على ما يزعمونه من ذلك.
(وقد روي له في هذا شعر وهو قوله يخاطب أبا بكر:
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم
فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم
فغيرك أولى بالنبي وأقربُ):
الشورى هي: المشاورة في الأمر، وأراد أخبرني بما حصلت لك الخلافة، وملك أمور الأمة والرئاسة عليها، فإن كان بالمشاورة من جهة الفضلاء من الأمة وجماهير الصحابة فالأكثر منهم كان غائباً لم يحضر هذه المشورة، فكيف تدَّعي الإجماع في ذلك من بعض الأمة دون بعض، وما هذا حاله لا يُعدُّ إجماعاً، وٍإن كان بالقربى من جهة الرسول حججت من قال من الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وقلت: هذا الأمر لا يكون إلا في هذا البطن من قريش، ومن كان يقرب إلى الرسول ويدنو منه في نسبه وقرابته منه، فإن كان الأمر كما قلته، فغيرك يشير إلى نفسه أدنى منك قرابة وأولى منك اختصاصاً ومودة، وهذا كلام بالغ في قطع لاحتجاجه بما ذكر من دعوى الإجماع واختصاصه بالقرابة، ولا زيادة على ما ذكره وقرره.
[185] (إنما المرء في الدنيا غرض): الغرض: ما يرمى.
(تنتضل فيه المنايا): أي ترميه بسهامها.
(ونهب تبادره المصائب): النهب: اسم للمنهوب تسمية له بالمصدر كالصيد فيما يصاد أي تسابقه المصائب.
(ومع كل جرعة شَرَقٌ): الشَرَقُ: عبارة عما يشتجر في الحلق فلا يسوغ.
(وفي كل أكلة غصص): إما جمع غصة إن كان بضم الغين، وإن كان بفتحها فهو مصدر غصه، وهو عبارة عما يكون في الحلق أيضاً.
(لا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى): يشير إلى أن النعمة في الوقت الثاني مغايرة للنعمة في الوقت الأول من القدرة والحياة والشهوة وإكمال العقل، وهذه كلها لا ينالها في الوقت الثاني إلا بعد مفارقتها للوقت الأول؛ لاستحالة خلاف ذلك.
(لا يستقبل يوماً من عمره إلا بفراق آخر من أجله): أراد أن كل ما يستقبله الإنسان من الأيام فهو معدود من عمره، وما يمضي عليه من الأيام فهو معدود من أجلهِ، وإنما كان الأمر كما قلناه؛ لأنه لا يصل إلى أجله إلا بعد انقطاع عمره وذهابه، وليس الذاهب إلا ما يمضي دون ما يكون مستقبلاً، فلهذا قال: بفراق آخر من أجله، يشير إلى هذا.
(فنحن أعوان المنون): أراد أنا نعين المنية على ذهاب الأرواح بما يكون من تقضي الآجال وذهابها.
(وأنفسنا نصب الحتوف): أراد أنها منصوبة لما يعرض لها من الحتف وهو الموت.
(فمن أين نرجو البقاء، وهذا الليل والنهار): أراد كيف نتصور الدوام لأحد من الخلق مع جري هذا الليل والنهار وإسراعهما وقطعهما للأعمار، اللذين لا يزالان جديدان على ممر الدهور وتكرر الأعوام.
(لم يرفعا من شيء شرفاً): يعني ما رفعا لأحد حالاً من شرف أو كرم، أو ارتفاع قدر وخطر.
(إلا أسرعا الكرة): كانت العودة من جهتهما سريعة.
(في هدم ما بنياه): من ذلك.
(وتفريق ما جمعاه!): وغرضه من هذا إشارة إلى تغير الأحوال بتكرر الليل والنهار وجريهما، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }[آل عمران:140].
[186] (يا ابن آدم، ما كسبت فوق قوتك): يعني ما زاد من الجمع فوق مقدار القوت لك، ولمن تحت يدك وتمونه من الأولاد.
(فأنت فيه خازن لغيرك): يعني ادخارك له تكون فيه بمنزلة الخزان لمن يأتي فينفقه؛ لأنك لا تنتفع به وإنما ينتفع به غيرك.
[187] (إن للقلوب شهوة): للشيء ونفرة عن غيره من جميع ما يُشتهى ويُلتذ به.
(وإقبالاً، وإدباراً): تقبل تارة، وتدبر أخرى.
(فأتوها): على جهة الاغتنام لها والرغبة من جهتها.
(من قِبَلِ شهواتها): في الأوقات التي تشتهي فيه.
(وإقبالها): وفي حال إقبالها.
(فإن القلب إذا أكره عمي): يعني إذا أتي له في حال كراهته عمي، فلا يستطيع البصر لما هو فيه.
وعن الحسن: اطلبوا نفوسكم عند التهجد في الصلاة، وعند قراءة القرآن، فإن لم تجدوها فامضوا فإن الباب مغلق، يشير إلى ما يجده الإنسان من الرقة والإقبال إلى الله تعالى، والرغبة، وأحق ما يجد الواحد إقبال نفسه في هذه الأوقات الثلاثة.
[188] (متى أشفي غيظي إذا غضبت!): أي أخبروني متى يكون الشفاء من الغيظ والحدة من جهة النفس.
(أحين أعجز عن الانتقام): يعني العقوبة، وأراد أحين لا أكون قادراً على عقوبة من أريد عقوبته، فهذا لا وجه له.
(فيقال لي: لو صبرت!): على هذا الغيظ؛ لأنك لا تقدر على إنفاذه، وقضاء غرضك منه.
(أم حين أقدر عليه): على الانتقام والأخذ بالثأر، فهذا أيضاً لا وجه له.
(فيقال لي: لو غفرت !): تجاوزت وصفحت عن ذلك، فإذاً لا وجه لشفاء الغيظ لكل متدين، ولهذا قالت عائشة: وهل تركت التقوى لأحد أن يشفي غيظه.
[189] وقال وقد مرَّ بقذرٍ على مزبلة:
(هذا ما كنتم تنافسون عليه بالأمس! ): تحاسدون عليه، من نَفِسَهُ إذا حسده.
وروي: (هذا ما بخل به الباخلون!): يعني أن كل أمر تحسد عليه وتبخل به النفوس يصير إلى هذه الحالة إنه لحقير.
[190] (لم يذهب من مالك ما وعظك): ما هذه: نكرة موصوفة، والتقدير فيها لم يذهب من مالك شيء هو واعظ لك، وفي إعرابها وجهان:
أحدهما: أن تكون مرفوعة على الفاعلية على أنه هو الذاهب.
وثانيهما: أن تكون مفعولة على أنها هي المذهوب بها، أي لم تُذْهِبْ أنت من مالك شيئاً واعظاً لك، والمعنى في هذا أنه لا يقع اعتبار بما ذهب من المال، إنما الاعتبار النافع ما يكون في القلوب.
[191] وقال لما سمع قول الخوارج: لا حُكْمَ إلا لله:
(كلمة حق يراد بها باطل): يريد أن قولهم: لا حُكْمَ إلا لله هو الحق لا محالة، فإن الحكم والقبض والبسط والخلق والأمر والإبرام والنقض إنما هو لله لا لغيره، كما قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر }[الأعراف:55]، ولكن أرادوا بهذه الكلمة غرضاً قبيحاً، وهو أن يجعلوها ذريعة إلى البغي والمخالفة وإبطال ولاية أمير المؤمنين، وهذا كله باطل، فلهذا قال: هي كلمة حق، يشير إلى ما قلناه، ولكنهم أرادوا بها مقصداً باطلاً.
[192] وقال في صفة الغوغاء:
وهم: أخلاط الناس، والسفلة منهم:
(هم الذين إذا اجتمعوا غلبوا): يشير إلى أنهم إذا اجتمعوا غلبوا بالكثرة على حق كان أو باطل، فإن كثرتهم تكون سبباً للغلبة في ذلك.
(وإذا تفرقوا لم يعرفوا): يعني أن كل واحد منهم لا يؤبه له ولا يدرى حاله، ولكن الاجتماع هو الذي جاء من جهته النصرة، وعند الافتراق يبطل حالهم كله.
وقال: (بل هم الذين إذا اجتمعوا ضروا): يشير إلى أن اجتماعهم لا خير فيه، وإنما هو مضرة محضة؛ لأنه إنما يكون اجتماعهم على اللهو واللعب وأنواع الملاهي وضروب الطرب، أو أراد إذا اجتمعوا ضروا على ما كان اجتماعهم عليه، فإن اجتماعهم لا يأتي بخير.
(وإذا تفرقوا نفعوا فقيل له: قد عرفنا مضرة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم؟
فقال: يرجع أصحاب المهن): يعني الحرف.
(إلى مهنهم): وإنما سميت الحرفة مهنة؛ لأنه يمتهن فيها نفسه وجوارحه، أي يستخدمها.
(فينتفع الناس بهم، كرجوع البنَّاء إلى بنائه، والنسَّاج إلى منسجته، والخبَّاز إلى مخبزه).
[193] (وأتي بجان): يعني برجل جنى جناية استحق بها الأدب أوالحد.
(ومعه غوغاء، فقال: لا مرحباً بوجوه لا ترى إلا عند كل سوأة): انتصاب مرحباً على المصدرية، والرحب: السعة، قال تعالى: و{َضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ }[التوبة:118]، وأراد لا سعة لها؛ لأنها لا ترى إلا عند كل أمر قبيح يسوء صاحبه ويكسبه العار، فيجتمعون يشاهدون ما يجري عليه، وليسوا أهلاً للستر ولا أهلاً للحلم والأناة.
[194] (إن مع كل إنسان ملكين يحفظانه): عن كل سوء، ويكتبان عمله، قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق:18].
(فإذا جاء القدر خلَّيا بينه وبينه): يعني فلم يدفعا عنه ما هو واقع به من المحذورات.
(إن الأجل جُنَّةٌ حصينة): يعني أن الأجل الذي قدر الله للإنسان بلوغه لا بد من استيفائه له، لا يعرض له عنه عارض حتى يستكمله، فهو مختص به عن كل سوء يخافه ويحذره.
وزعم الشريف على بن ناصر صاحب (الأعلام): أن للإنسان أجلين:
طبيعي، واخترامي.
فالأجل الطبيعي وهو الضروري لا يمكن دفعه، ويزيل الله عنه سائر العوارض حتى يبلغه.
وأما الأجل الاخترامي فإنه يتعلق بأسباب عارضة، يمكن دفعها من القتل وغيره من سائر الآلام.
ثم قال: وغرضه ها هنا هو الأجل الضروري، فيدفع الله عنه سائر أسباب الهلاك حتى يَبْلُغَهُ، فلهذا كان جنة يتحصن بها ، وهذا الذي ذكره، وإن كان جائزاً من جهة العقل تصوره وإمكانه، لكنه لم يدل عليه دلالة، فلهذا كان موقوفاً حتى تدل عليه دلالة سمعية قاطعة.
[195] وقال له طلحة والزبير:
(نبايعك على أن نكون شركاؤك في الأمر).
فقال لهما:
(ولكنكما شريكان في القوة والاستعلاء ): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن كل ما حصل للمسلمين من القوة والاستعلاء على غيرهم بالقهر والغلبة فلكما نصيبكما من ذلك.
وثانيهما: أن يكون مراده أن العناية في القوة والاستعلاء مشتركة بين المسلمين فيشتركون في قوة الدين وإعلاء كلمته.
(وعونان على العجز والأود): أي ويستعان برأيكما وأنفسكما عند العجز عن الأمور العظيمة في الدين، وعلى تقويم المعوج من الآراء .
[196] (أيها الناس، اتقوا الله): المحيط بأحوالكم كلها.
(الذي إن قلتم سمع): أقوالكم كلها بحيث لا يخفى عليه منها شيء.
(وإن أضمرتم): شيئاً في صدوركم وأسررتموه.
(علم): عرفه وتحققه.
(وبادروا الموت): اسبقوه قبل أن يحول بينكم وبينها.
(الذي إن هربتم أدرككم): الإدراك ها هنا: اللحوق، قال الله تعالى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }[الشعراء:61]، أي ملحقون.
(وإن أقمتم): في مواضعكم من غير هرب.
(أخذكم): من قولهم: أخذته الحُمَّى وأخذه السيل، قال الله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ }[النحل:113]، أي استولى عليهم .
(وإن نسيتموه): تغافلتم عنه بالنسيان لأحواله.
(ذكركم): بوروده عليكم وهجومه عن قريب.
[197] (لا يزهدنَّك في المعروف من لا يشكره لك): أراد أنه لا يمنعك من اصطناع المعروف إضاعة شكره من جهة من فعل في حقه.
(فقد يشكرك من لا يستمتع بشيء منه): فإن الشكر لك عليه ربما حصل من جهة من لا يناله نفعك ولا يصل إليه معروفك، وهو سائر الخلق؛ فإن جميعهم يحمدونك على فعله ويشكرونك على إسدائه.
(وقد يُدْرَكُ من شكر الشاكر): يعني ومن لطف الله وحسن صنيعه في حق من فعل معروفاً أن يناله من شكر الشاكر عليه:
(أكثر مما أضاع الكافر): أعظم قدراً مما أضاعه من كفره ممن وصل إليه، ثم تلا هذه الآية: ({وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ })[آل عمران:134]: لما لها ها هنا من الملائمة وعظم الموقع وحسنه، ومعناها والله يريد إيصال النفع إلى من كان محسناً إلى غيره.
[198] (كل وعاء يضيق بما جعل فيه): يعني أن كل وعاء وضع فيه شيء من الموضوعات فإنه يضيق مكانه لا محالة.
(إلا وعاء العلم): وهو القلب والصدر.
(فإنه يتسع ): يعني كلما ازداد العلم في الصدر فإنه يكون أوسع وأبلغ عند الزيادة فيه، وهذا من عجائب تركيب القلب، ولطيف حكمة الله فيه، وأعضاء ابن آدم مشتملة على أسرار ودقائق في الحكمة، والقلب من بينها مختص بأعجبها وأعلاها وأدخلها وأسماها.
[199] (أول عوض الحليم من حلمه): أول ما يحصل للحليم من النفع على صبره وكظم غيظه.
(أن الناس أنصاره على الجاهل): يعينونه على تقبيح فعله وعلى الإنكار عليه.
[200] (إن لم تكن حليماً فتحلَّم): أراد أن الحلم ربما كان بالاكتساب، فإذا تكلف الحلم من لا يعتاد الحلم كان حليماً وعُدَّ في الحلماء.
(فإنه قلَّ من تشبَّه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم): أوشك: أي قرب، وأراد أن كل من تشبه بقوم فإنه يكون من جملتهم.
ومن كلامه عليه السلام (201-225)
[201] (من حاسب نفسه ربح): بالمحاسبة؛ لأنه إذا حاسب نفسه عرف ما يأتي من ذلك وما يذر.
(ومن غفل عنها خسر): أراد ومن غفل عنها بترك المحاسبة لها في جميع أحوالها خسر عمله.
(ومن خاف): من الله تعالى ومن عقوبته، أو خاف من أهوال القيامة.
(أمن): مما يخافه؛ لأنه إذا خاف من ذلك اجتهد في تحصيل ما يؤمنه من القيام بأمر الله وامتثال أوامره.
(ومن اعتبر أبصر): ومن اتعظ بالمواعظ أبصر في أمر دينه.
(ومن أبصر): استبصر في الأمور.
(فهم): عن الله تعالى ما يريده منه.
(ومن فهم): عن الله ما يقوله.
(علم): ما يصلحه مما يفسده من ذلك.
[202] (لتعطفن الدنيا علينا): ترجع إلينا بعد ذهابها عنا، وتعود إلينا.
(بعد شِمَاسِها): شَمَسَ الفرس إذا منع صاحبه عن ركوبه ، وأراد بعد امتناعها علينا.
(عطف الضروس على ولدها): الضروس هي: الناقة السيئة الخلق التي تعض حالبها عند حلبها، وأراد من هذا أن الله تعالى يمكنِّهم من الدنيا، ويعطيهم من لذاتها بعد أن كانوا على خلاف ذلك في زمن الرسول عليه السلام؛ لأنهم كانوا في غاية الشدة في أيامه، وفي الحديث أنهم قالوا: متى لا نزال في هذه الشدة؟ فقال: ((ما دمت فيكم))، ولهذا فإن الله تعالى فتح عليهم الفتوحات العظيمة بعد وفاته، وأعطاهم الأموال الجمة، ومكَّنهم من النفائس الكثيرة، ثم تلا عقيب ذلك هذه الآية: ({وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ})[القصص:5].
[203] (اتقوا الله): خافوه في جميع أحوالكم كلها.
(تقية من شمَّر تجريداً): شمَّر في الأمر إذا نهض فيه بسرعة، والتجريد هو: الخفة عن العلائق، وغرضه من هذا السرعة فيما هو فيه.
(وجد تشميراً): وكان مجداً في تشميره غير هازل فيه.
(وأكمش): أي عجل.
(في مهل): في إرواد وتُؤدَة.
(وبادر): عاجل فيما هو فيه من أمر الآخرة.
(عن وجل): خوف وإشفاق.
(ونظر في كرة الموئل): تفكر في رجوعه ومآله إلى الله تعالى.
(وعاقبة المصدر): وما يكون آخر أموره وعاقبتها عند الله.
(ومغبة المرجع): عاقبته، وما تؤول إليه حالته.
[204] (الجود حارس الأعراض): المعنى في هذا هو أن من كان جواداً فإن جوده وسخاءه يمنعه ويحرسه عن الزلل، ويحمي مقاصده عن الزيغ والفساد.
(الحلم فدام السفيه): الفدام: ما يوضع في فم الإبريق ليخرج منه الماء صافياً، والفدام أيضاً: خرقة يجعلها المجوسي على فِيْهِ ، وأراد أن حلم الحليم يمنعه عن السفاهة وجريها من جهته، أو يريد أن الحلم من جهة الحليم يكون مانعاً عن أن تجري عليه أذية من جهة السفيه، ويكون حلمه مانعاً له.
(العفو زكاة الظفر): أراد أن لكل شيء زكاة، وزكاة من ظفرت به من الأعداء عفوك عنه.
(السلو عوضك عمن غدر): أراد أن عوضك عمن خانك وغدر بك هو إذهاب الحزن عنك واطراحه وتركه.
(والاستشارة عين الهداية): المشاورة في الأمر هو محض الصواب وعينه.
(وقد خاطر من استغنى برأيه): عرض نفسه للخطر وهو الهلاك، من أنفرد برأيه عن رأي غيره من العقلاء.
(الصبر يناضل الحدثان): يقال: ناضلت فلاناً إذا راميته فنضلته أي غلبته، وأراد أنه يغلب الحدثان، وهو ما يحدث من الخطوب، فإن الصبر عليها غالب لها.
(الجزع من أعوان الزمان ): العجلة في الأمور تعين الزمان على فساد الأحوال وتغيرها.
(كم من عقل أسير تحت هوى أمير!): أراد كم ترى من أهل الشقاوة ورجال السوء ممن يكون عقله موطؤاً بقدم هواه، وصار عقله أسيراً في ربقة الذل لهواه، لا يستطيع معه حيلة، وهذا هو الهلاك بعينه، فإن العقل إذا صار موطؤاً بقدم الهوى فلا يكاد ينتفع به صاحبه بحال.
(من التوفيق حفظ التجربة): يريد ومما يقود الإنسان إلى الخير ويؤذن بتوفيقه للصلاح حفظه للأمور المجرَّبة، وأن لا يكون غافلاً عنها بحال.
(المودة قرابة مستفادة): أراد أن القرابة لا يمكن التوصل إليها لأنها من جهة الله تعالى، يعني بها قربة النسب، وأما المودة فهي قرابة يمكن استفادتها بالتودد وتحصيل أسبابها.
(لا تأمننَّ ملولاً): يعني في إبطال ما يكون من جهته من مودة وصحبة وإحسان وغير ذلك.
[205] (عجب المرء بنفسه أحد حسَّاد عقله): أراد من هذا هو أن من أعجب بعقله وبنفسه وعلمه فإن عجبه هذا هو نقص في عقله، ومانعاً له عن الكمال والتمام.
[206] (أغض على القذى): وهو ما يؤلم العين ويؤذيها.
(وإلا لم ترض أبداً ): يعني وإن لم تفعل ما قلته، لم تزل غاضباً على كل أحد، وهذا جاري مجرى المثل، وأراد منه احتمل الأمور الصغيرة، واصبر على ما يصيبك منها، وإن لم تفعل لم تكن راضياً عمرك.
[207] (من لان عوده، كثفت أغصانه): هذا وارد على جهة الكناية، وأراد منه هو أن من رقَّت أخلاقه وزكت وكانت صافية عذبة كَثُرَ إخوانه وأصحابه، وكَثُفَ الشيء إذا غلظ.
[208] (الخلاف يهدم الرأي): أي يفسده ويبطله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }[الأنفال:46].
[209] (من نال): سعة في جاهه أو ماله أو غير ذلك من ضروب التوسعات.
(استطال): على الناس، وكان قاهراً لهم.
[210] (في تقلب الأحوال): تصرفها واختلافها في الزيادة والنقصان ، والعلو والارتفاع، فهذه الأمور كلها فيها:
(علم جواهر الرجال): أي أنها محك أصفارهم ومعرفة أحوالهم.
[211] (حسد الصديق): أراد أن تحسده أو هو يحسدك، فهذا كله إنما يكون:
(من سُقْمِ المودة): ضعفها وهوانها.
[212] (أكثر مصارع العقول): صرعه إذا وضعه وأسقطه لجنبه.
(تحت بروق الأطماع ): كنى ببروق الأطماع عن مواضعها ومظانها، وحيث تكون موجودة، والمعنى في هذا هو أن العقول إنما تكون ساقطة ومصروعة حيث تتوهم الطمع وتظنه.
[213](ليس من العدل): يريد الإنصاف.
(القضاء على الثقة بالظن): الحكم على من كان ثقة عندك بسوء الظن، فإن مثل هذا لا يكون إنصافاً في حقه ولا عدلاً.
[214] (بئس الزاد إلى المعاد): أراد أخبث زاد وأرداه إلى الآخرة.
(العدوان على العباد): إما بأخذ حقوقهم، وإما بمنعهم عن استيفائها وظلمهم بذلك.
[215] (من أشرف أفعال المرء): أعلاها وأعظمها.
(غفلته عما يعلم): تغافله عما يكون عالماً به من الأمور كلها.
[216] (من كساه الحياء ثوبه): أراد أن الله تعالى إذا أعطى الإنسان وكساه شيئاً من الحياء غطاه وستره به.
(لم يَرَ الناس عيبه):لم يطلعوا عليه.
[217] (بكثرة الصمت تكون الهيبة): أراد أن الجلالة والمهابة تكون للإنسان من جهة إكثاره للصمت وإيثاره له.
(وبالنَّصَفَة): أي وبالإنصاف للحقوق والاعتراف بها.
(يكثر الواصلون): لك ويزداد الإخوان كثرة.
(وبالإفضال تعظم الأقدار): أي وبالإحسان إلى الخلق ترتفع الأقدار عند الله وعند الخلق.
(وبالتواضع تتم النعمة): تكمل ويعلو أمرها؛ لأن التكبر نقص لها ووضع من حالها.
(باحتمال المؤن): أي الأثقال.
(يجب السؤدد): ارتفاع القدر.
(وبالسيرة العادلة): الحسنة المنصفة الصادقة.
(يُقْهَرُ المناوئ): أي المغالب.
(و بالحلم عن السفيه): بالصبر على أذاه والإعراض عنه.
(تكثر الأنصار عليه): الأنصار: جمع ناصر، وهو قليل في جمع فاعل كالأشهاد في جمع شاهد.
[218] (العجب لغفلة الحساد): جمع حاسد، وهو الذي يريد تحويل نعمة غيره إليه.
(عن سلامة الأجساد!): يعني أن الحسد يضر بالأجسام، فكيف غفلوا عنه، وهذا عظيم من حال الحسد فإنه كما هو مضر بالأديان في إبطالها وإذهابها، فإنه مضر بالأجسام أيضاً في إسقامها وإذهاب غضارتها وحسنها.
[219] (الطامع في وثاق الذل): المعنى في هذا أن كل من استشعر طمعاً فإنه يكون موثقاً بالذل والمهانة، يشبه حاله بحال من أوثق فِيْهِ، فهو لا يزال فيه متصلاً به.
[220] (الإيمان معرفة بالقلب): يشير بهذا إلى تحصيل المعارف الدينية.
(وإقرار باللسان): يشير بهذا إلى النطق بكلمة التوحيد، والشهادة بالرسالة.
(وعمل بالأركان): يشير بهذا إلى الأعمال البدنية من الصلاة والصوم والحج، وغير ذلك من العبادات.
وقوله عليه السلام في شرح ماهية الإيمان هو: الذي عليه تعويل أكثر السلف، وإلى هذا ذهب أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة، وللمخالفين فيه أقوال كثيرة.
[221] (من أصبح على الدنيا حزيناً): آسفاً على ما فاته منها ونادماً على ذلك.
(فقد أصبح لقضاء الله ساخطاً): لأن الغنى، والفقر، والمرض، والصحة كلها من جهة الله تعالى، فمن حزن على شيء من هذه الأمور التي قضاها الله تعالى عليه؛ فقد سخط ما قضاه الله عليه وقدره له، وفي الحديث: ((من لم يرض بقضائي ، ويصبر على بلائي، فليتخذ رباً سوآي)) .
(ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به): الشكوى هي: الإخبار بالبلوى.
(فقد أصبح يشكو ربه): وهذا محمول على أنه إنما شكا ضره على فاجر، وفي الحديث: ((من شكا على مؤمن فكأنما يشكو إلى الله ، ومن شكا إلى فاجر، فكأنما يشكو الله)) ، فأما إذا شكا على مؤمن فهو خارج عن هذا وفي الحديث:
((إذا مسَّ أحدكم ضرُّ فليقصد إخوانه ، فإنه لن يعدم خصلة من أربع: إما مشورة، أو معونة، أو مواساة، أو دعاء)).
(ومن أتى غنياً فتواضع لغناه): يعني أتاه إلى موضعه ومكانه فخضع لغناه، وذل من أجل أن ينال من خيره.
(ذهب ثلثا دينه): لإتيانه له إلى موضعه ثلث، وبخضوعه له ثلث، وهذا إنما يقوله عليه السلام عن توقيف من جهة الرسول؛ لأن مثل هذه الأمور لا تعلم إلا بتوقيف من جهة الله وإذنٍ منه؛ لأنها كلام في أحكام الثواب والعقاب، وهو أمر غيبِي.
(من قرأ القرآن فمات فدخل النار): يريد عقيب تلاوته له .
(فهو ممن يتخذ آيات الله هزؤاً): والمعنى في هذا أن القرآن عظيم الفضل كثير البركة فيبعد فيمن تلاه، وأحسن تلاوته أن يموت ويدخل النار، فإن دخل النار فما ذاك إلا لأنه كان يستهزئ بها ولا يحتفل بها، ولا لها عنده قدر أصلاً.
(من لهج قلبه بحب الدنيا): أولع بحبها وكان مشغوفاً بجمعها.
(التاط منها بثلاث): التصق قلبه بخصال ثلاث كلها مهلكة له.
(همٌّ لا يُغِبُّهُ): الغبُّ: أن تزور يوماً وتترك يوماً، وأراد أنه لا ينفك عنه وقتاً واحداً.
(وحرص لا يتركه): الحرص هو: التهالك في الرغبة في تحصيل المرغوب فيه.
(وأمل لا يدرك منتهاه): الأمل هو: إرادتك تحصيل الشيء في مستقبل الزمان، وأراد أنه لا غاية لما يأمله من ذلك، وهذا الحديث بعينه هو سماعنا عن الرسول عليه السلام في (الأربعين السيلقية) فإنه قال: ((ما سكن حب الدنيا في قلب عبد إلا التاط منها بثلاث:
همٌّ لا ينفك عناؤه، وفقر لا يدرك غناؤه، وأمل لا يدرك منتهاه)) .
[222] (كفى بالقناعة ملكاً): يريد أن من يقنع بالشيء فهو غني عن غيره، والقانع هذه حاله، فلهذا كانت القناعة في حقه ملكاً؛ لأن الملك هو ألا تفتقر إلى غيرك في أكثر أمورك وأحوالك.
(وبحسن الخلق نعيماً): يروى نعيماً أي ينعم الخاطر والبال به لما فيه من سعة النفس وسهولة الخاطر، ويروى تغنماً، أي أنه هو الغنيمة الباردة؛ لما فيه من الفوائد الدينية، والمنافع الدنيوية، وفي الحديث: ((أول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن ، وإن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم)) .
[223] وسئل عليه السلام عن قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً }[النحل:97]؟
فقال: (هي القناعة).
[224] (شاركوا الذي أقبل عليه الرزق ): أراد التصقوا وادنوا منه، يعني من أقبلت الدنيا عليه ، وكان في فسحة من رزقه.
(فإنه أخلق للغنى): يعني أقرب إلى كثرة التمكن من المال؛ لأنه لا يعدم من مخالطته خيراً.
(وأجدر بإقبال الحظ): أحق بإقبال ما قدره الله للعبد وعلم وصوله إليه.
[225] وقال في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ }[النحل:90]:
(العدل هو: الإنصاف، والإحسان هو: التفضل): وغرضه بالإنصاف الواجب؛ لأنه إنصاف الغير لحقه الواجب له، أوترك ما لايستحق عليه، وكله واجب.
ومن كلامه عليه السلام (226-250)
[226] (من يُعْطِ باليد القصيرة، يُعْطَ باليد الطويلة): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن كل ما ينفقه الإنسان من ماله في سبل الخير وأنواع البر وإن كان يسيراً؛ فإن الله تعالى يخلفه، ويجعل الجزاء عليه عظيماً في الآخرة من الثواب، واليدان ها هنا عبارتان عن النعمتين: نعمة العبد ونعمة الرب.
وثانيهما: أن يكون مراده في الدنيا، وهو أن العبد إذا أعطى شيئاً لوجه الله تعالى؛ فإن الله تعالى يخلف له في الدنيا أجزل مما أعطى، وتكون اليدان ها هنا من باب التخييل والتمثيل، وإلا فلا يد هناك، وهذا هو الأحسن؛ لأنه بأساليب البلاغة أشبه.
[227] وقال لابنه الحسن بن علي عليهما السلام:
(لا تدعونَّ إلى مبارزة): المبارزة هو: أن يظهر الرجل لقرنه في الحرب فيتصاولان بالسلاح، فإما كانت الكرة لهذا، وإما لذاك، وقد وقع في أيام الرسول عليه السلام، فإن أمير المؤمنين بازر عمرو بن عبد ود يوم الخندق ، وبارز أمير المؤمنين، وحمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة من قريش: عتبة، وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، فقتل أمير المؤمنين الوليد بن عتبة لما بارزه، وقتل حمزة عتبة لما بارزه، وقتل عبيدة شيبة اشترك فيه هو وحمزة وعلي بن أبي طالب ، وبارز الزبير بن العوام مرحباً القرظي فقتله الزبير ، فهؤلاء كلهم دعوا إلى المبارزة ولم يدعوا إليها.
(وإن دعيت إليها فأجب): يعني لا تتأخر بعد الدعاء، كما فعل من ذكرناه من هؤلاء.
(فإن الداعي باغي ): على غيره بما كان منه من الدعاء.
(والباغي مصروع): لجنبه، مغلوب لا محالة.
[228] (خيار خصال النساء شر خصال الرجال): يعني أن كل ما كان في النساء من صفات الخير في حقهنَّ، فهو في حق الرجال أقبح الصفات بلا مرية.
(الزهو والجبن والبخل): فهذه كلها أنفس ما في النساء من الخصال، وهي شر ما في الرجال من الخصال، والزهو هو: الخيلاء، والجبن هو: خلاف الشجاعة، والبخل: نقيض الكرم.
(فإذا كانت المرأة مزهوة): يعتريها الخيلاء وتختص به.
(لم تمكِّن من نفسها): في الفجور بها في الزنى لتعاظمها في نفسها، وتكبَّرها عن ذلك.
(وإذا كانت بخيلة): ضنينة بمالها.
(حفظت مالها): عن الضياع والإهمال وإنفاقه في غير وجهه.
(ومال زوجها): وتكون حافظة أيضاً لمال زوجها.
(وإذا كانت جبانة): يعتريها الجبن ويصيبها.
(فَرِقَتْ من كل شيء): الفرق: الخوف، وأراد أنها تكون خائفة من كل شيء!
(يعرض لها): في جميع أحوالها.
[229] وقيل له: صف لنا العاقل؟
فقال: (هو الذي يضع الشيء مواضعه): أراد أنه عالم بكل الأمور، مقدراً لها في قلبه، وحافظاً لمقاديرها في صدره، فهو لا يغادر من أحكامها شيئاً، فلما كانت هذه حاله لا جرم وضع الأشياء في مواضعها.
(فقيل له: صف لنا الجاهل؟ فقال: قد فعلت): يشير إلى أنه الذي لا يضع الأشياء مواضعها، فكان ترك صفته صفة له، إذ كان نقيضاً له، فلهذا كان بخلافه، وعلى العكس من صفته.
[230] (والله لدنياكم هذه): يشير إلى ما أنتم عليه، وإنما أضافها إليهم لما لهم فيها من التعلق والمحبة في القلوب، فلهذا قال: دنياكم، يشير إلى الأمر المتمكن في صدوركم محبته، والحالُّ في أفئدتكم شهوته، وفيه تعريض بهم واستركاك لهممهم من أجل ذلك.
(أهون عندي من عُراق خنزير في يد مجذوم): العُراق بالضم: جمع عَرْق، وهو العظم الذي أخذ منه اللحم، والخنزير حيوان، وهو نظير الكلب في نزول قدره وتحريم أكله، والمجذوم: من تقطعت أوصاله، وهذه هي نهاية الركة ونزول القدر.
[231] وقال عليه السلام:
(إن قوماً عبدوا الله رغبة): فيما عنده من الدرجات العالية والمنافع النفيسة.
(فتلك عبادة التجار): لأن تعويلهم على إحراز الأعواض.
(وإن قوماً عبدوا الله رهبة): من عذابه وعقابه.
(فتلك عبادة العبيد): لأنهم يخافون العقوبة من السادة.
(وإن قوماً عبدوا الله شكراً): على نعمه وأياديه كلها.
(فتلك عبادة الأحرار): لأن الأحرار دأبهم الشكر على النعم والآلاء، وكلامه عليه السلام ها هنا مشعر بأن هذه العبادات وإن كانت حسنة لا غبار عليها، لكن عبادة الأحرار هي أحلاها وأولاها، فأما كلام أهل التصوف فيشير إلى أنه مستحق للعبادة لذاته لا من أجل شيء من هذه الأمور كلها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ] }[الأنعام:91]، فأشار إلى نفس الذات فقط من غير أمر ورائها.
[232] (المرأة شر كلها): يعني جميع خصالها شر ومعالجتها شر.
(وشر ما فيها): يعني ومن جملة الشر فيها شدة البلوى بها.
(أنه لا بد منها): يعني لإزالة الشبق وغير ذلك من المصالح الدينية فيها.
[233] (من أطاع التواني): أي مال إلى الدعة والراحة، والضعف والتساهل.
(ضيَع الحقوق): الدينية والدنيوية كلها؛ لأن التواني عنها يخل بها لا محالة.
(ومن أطاع الواشي): وهو الذي يدخل الضغائن والأحقاد ويحوك الكلام بين الناس.
(ضيَّع الصديق): يشير إلى أنه إذا أطاعه فيما يقول له من ذلك أضاع حقه وأسقطه، وفي ذلك إضاعته وزواله.
[234] (الحجر الغصب في الدار): يعني أن الحجر إذا كانت مغصوبة وبني عليها دار فهي لا محالة.
(رهن بخرابها): أي لا تزال مرهونة بخراب الدار، وفي هذا تحذير عن الغصب في أحقر الأشياء وأعلاها، وأنه ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)).
[235] (يوم الظالم على المظلوم): يشير إلى أن عواقب يوم المظلوم وهي إيفاء مظالمه وإيصاله بحقوقه.
(أشد من يوم المظلوم على الظالم ): لأن ما كان من جهة الظالم من الغموم والآلام اللاحقة بالمظلوم فهي منقطعة ذاهبة، وأما ما كان على الظالم من ذلك فهو أشِد وأصعب؛ لأن مضاره دائمة غير منقطعة، فلهذا كانت أشق وأتعب.
[236] (اتق الله بعض التقى وإن قلَّ): يشير بكلامه هذا إلى أن تقوى الله عظيمة المنفعة في الآخرة والدنيا وإن كانت قليلة، فلهذا أمر بها على قلتها.
(واجعل بينك وبين الله ستراً وإن رقَّ): يعني حجاباً عن معصيته والإقدام عليها، وإن كان ذلك الحجاب رقيقاً، كنى به عن الانكفاف الضعيف عن المعصية فإنه أهون لا محالة من التهالك في المعصية.
[237] (إذا ازدحم الجواب): تراكمت الأسؤلة والجوابات وضاق وقتها.
(خفي الصواب): كثر الخطأ وغمض الجواب؛ لأجل الازدحام والتضايق.
[238] (إن لله في كل نعمة حقاً): أراد أن لله شكراً على كل نعمة من نعمه التي أعطاها بني آدم، من العافية، والشهوة، والقدرة، والعلم، وغير ذلك من النعم.
(فمن أداه): يريد الشكر المتوجه على هذه النعم.
(زاده): إما زاده من تلك النعم وضاعفها له، وإما زاده من مضاعفة الثواب والأجر على ذلك.
(ومن قصر عنه): نقص عن ذلك الشكر.
(خاطر بزوال نعمته): المخاطرة هي: ظن الزوال للشيء والوقوع في الهلاك، ومصداق ذلك قوله تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }[إبراهيم:7].
[239] (إذا كثرت المقدرة): على نيل المشتهيات ، وصدق التمكن منها.
(قلَّت الشهوة): لها وتناقصت، والسبب في ذلك هو أن من كان قادراً على تحصيل المشتهيات واللذات فكأنها في حكم الموجودة الكائنة، وما كان موجوداً فللقلب عنه سآمة وإعراض إلا أن يكون ثَمَّ أسباب توجب تجدد النشاط إليه حالة بعد حالة.
[240] (احذروا نفار النعم): المعنى في هذا هو الأمر بشكرها كيلا تنفر وتزول.
(فما كل شارد بمردود): يعني أن الشارد إذا شرد فتارة يرجع، وربما يعرض له عارض فلا يعود أبداً.
[241] (الكرم أعطف من الرحم): العطف هو: العود بالمنفعة، وأراد أن الواحد متى كان كريماً سخياً، فإن عوده بالمنفعة على أهله وأقاربه وغيرهم من سائر الأجانب، أكثر من عودة القريب على قرابته بالنفع إذا لم يكن سخياً كريماً ؛ لأن ما يكون من جهة الطبع أقوى مما يكون من جهة القرابة.
[242] (من ظن فيك خيراً فصدِّق ظنه): أراد أن كل من توهم من جهتك خيراً، إما ظن الصلاح، وإما ظن إيصال الإحسان، فالأخلق بالشيم الطاهرة، والخلائق الشريفة تصديق الظن، فإنه دال على كرم الطبع.
[243] (أفضل الأعمال): أعظمها عند الله تعالى، وأقربها إليه.
(ما أكرهت نفسك عليه): يعني كلفتها وكان حاصلاً بمشقة، وأراد بهذا ما كان عمله شاقاً، والمشقة فيه شديدة وألم النفس به عظيم، فإن الله تعالى يعظم فيه الأجر على قدر ما أصاب فيه من المشقة، وليس الغرض من هذا هو إكراه النفس على العمل مع إدبارها عنه، فإن الأفضل هو خلاف ذلك، وفي الحديث: ((عليكم من العمل بما تطيقون ، فإن الله لا يملُّ حتى تملِّوا))، وهذا كله في غير ما كان واجباً، فأما الواجب فلا بد من تأديته على كل وجه.
[244] (عرفت الله تعالى بفسخ العزائم، وحل العقود): أراد أن من جملة ما يستدل به على وجود صانع مدبِّر حكيم مما يجد الإنسان من نفسه، وهو أن يكون عازماً على أمر مصمماً على فعله لا يلويه شيء عن إيجاده وتحصيله، ثم يأتي ما ينقض عزمه ويُحِلُّ عقد ضميره، فيكفّ عن فعل ذلك الشيء، فهذا وأمثاله فيه دلالة باهرة على وجود الصانع الحكيم الذي يقلّب القلوب على ما يشاء، ويحكم فيها ما يريد، وهو الناقض لتدبير المدبرين، الذي بيده نواصي الخلق وقلوبهم، يصرفها على ما يحب، وتقضي به حكمته.
[245] (مرارة الدنيا): ما يصيب فيها من المرارات بتحمل هذه التكاليف الشاقة والآصار الثقيلة التي أوجبها الله تعالى.
(حلاوة الآخرة): لما يكون عليها من الثواب والأجر.
(وحلاوة الدنيا): وهو ما يكون فيها من اتباع الشهوات المحظورة، واللذات الممنوعة، وبما يكون من الإعراض عن أداء هذه الواجبات والميل إلى الدعة والراحة في تركها.
(مرارة الآخرة): لما يكون فيها من العقاب العظيم والنكال الشديد لأجل ذلك.
[246] (فرض الله الإيمان): أوجبه على الخلق، وأوعد على تركه بالنار والعذاب.
(تطهراً من الشرك): لأن أعلى الإيمان هو التوحيد والعمل عليه، وذلك هو نفس التطهر عن الإشراك بالله غيره، وأن يعبد معه سواه.
(والصلاة تنزيهاً عن الكبر): أراد وفرض الله الصلاة ولا وجه لفرضها، إلا تنزيهاً وترفعاً عن التكبر ؛ لما فيها من الخضوع والتواضع لله تعالى.
(والزكاة تسبيباً للرزق): أراد وفرض الزكاة على الخلق؛ لأن تكون سبباً في الرزق لهم، وأن يخلف لهم أضعافها من عنده.
(والصيام ابتلاء للإخلاص من الخلق): يعني أنه يمتحن به إخلاصهم؛ لأن الصيام هو سر بين العبد وبين الله تعالى، لا يطلع عليه أحد سوى الله، فلهذا كان فرضه اختباراً لذلك، ومثله في كونه سراً بين العبد وبين الله غسل الجنابة.
(والحج تقوية للدين): لما فيه من الشعار العظيم والأبهة الكبرى من تعظيم المناسك وسوق الهدي، وغير ذلك من الشعارات فيه.
(والجهاد عزاً للإسلام ): أي والسر في إيجاب الجهاد بالنفس والمال هو أن الله يعز به الدين، ويحمي به سوح الإسلام، ويشيد به أركانه؛ لما فيه من مضادة الكفار وإهابتهم وقطع دابرهم بالسيف.
(والأمر بالمعروف مصلحة للعوام): لما فيه من الصلاح للجملة وإصلاح العامة، وتجري المقاصد الحسنة المرضية لله تعالى في أحوالهم.
(والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء): كف لهم عن هذه المناكير التي يأتونها، وإنما قال السفهاء؛ لأنه لا يكاد يقع في القبائح والمنكرات الشنيعة إلا ضعفاء العقول والأحلام.
(وصلة الأرحام منماة للعدد): أي تنمو بها الأولاد ويكثر عددهم؛ لما فيها من المودة والتراحم فينميه الله لما في وصلها من الرضا له.
(والقصاص حقناً للدماء): لأن من علم أنه إذا قتل غيره قتل به، كان ذلك مانعاً له عن الوقوع في القتل، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }[البقرة:179].
(وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم): أراد أن السر في مشروع الحدود وإقامتها على من ارتكبها هو أن الله تعالى عظَّم حال هذه المحرمات التي جعل في مقابلتها الحدود [لما فيها من المفسدة للدين، فلهذا شرع في مقابلتها هذه الحدود] تعظيماً لأمرها واستحقاراً لمرتكبها وتنكيلاً به.
(وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل): أراد أن الله تعالى يحب صيانة العقول عن زوالها وتغيرها لما فيها من المصلحة، وكونها ملاكاً للتكليف والتمييز ، فلأجل هذا صانها بما شرع على المسكرات من الحدود والتعزيرات، وما ذاك إلا لما ذكرناه من دوام مصلحتها.
(ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة): يشير إلى أن الله تعالى شرع عقوبة السرقة وهو قطع اليد لما في ذلك من العفة، ومجانبة الأمور المستخفة، فلهذا صان الأموال بالقطع للأيدي، فيحصل بذلك العفاف عن القاذورات وارتكابها.
(وترك الزنا تحصيناً للنسب): أراد أن الله إنما شرع عقوبة الزنا وحرمه خيفة على ضياع الأنساب وإهدارها، فلهذا صانها بهذه الحدود المشروعة عليها، إما الجلد في غير المحصن، وإما القتل على من أحصن، وما كان تحريمها إلا للوجه الذي ذكرناه.
(وترك اللواط تكثيراً للنسل): يعني وإنما حرم اللواط وهو إتيان الذكور، وهو عمل قوم لوط؛ لأن فيه تكثيراً للنسل؛ لأنه لو اعتمد بالنكاح لانقطع النسل، وفي ذلك ذهاب العالم وانقطاع الدنيا، والله يريد بقاها إلى الوقت الذي يعلم انقطاعها فيه.
(والشهادات استظهاراً على المجاحدات): أراد وإنما أوجب الإشهاد في الأنكحة وندبها في سائر العقود خوفاً من إجحاد الحقوق، فلهذا قررها بالشهادة خوفاً من ذلك ومحاذرة عليها من الإهمال والضياع بالجحود، فلهذا صانها بها.
(وترك الكذب تشريفاً للصدق): يعني وإنما أوجب الصدق وحرم الكذب لما فيه من المفسدة العظيمة التي لا يعلم تفاصيلها ولا يحيط به إلا الله تعالى، وكلامه ها هنا يشير إلى ما يكون منه من ركة النفس وسخف الطبيعة بفعل الكذب، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الكذب مجانب للإيمان )).
وزعم بعض الأشعرية أن تحريم الكذب فيه بقاء العالم وانتظامه.
(والإسلام أماناً من المخاوف): يريد وإنما أوجب الإسلام لما فيه من الأمن من المخاوف الأخروية وهو العقاب من جهة الله تعالى، وأمن من المخاوف الدنيوية، وهو حز الرقبة واصطلام الأموال؛ لأن ذلك كله إنما حصل -أعني السلامة في الآخرة من العقاب ومن هذه المضار الدنيوية- ببركة الإسلام والتعلق به.
(والإمامة نظاماً للأمة ): وكان السبب في إيجاب الإمامة، إما عقلاً وشرعاً على رأي بعض العلماء، وإما شرعاً على رأي أكثر العلماء؛ لما فيها من نظام الخلق والتئام أحوالهم، وارتفاع كلمة الدين، وظهور أبهته ورفع شياره والهيبة في قلوب أعدائه، وتقوية كلمته وشدة أمره إلى غير ذلك من المصالح الدينية.
(والطاعة تعظيماً للإمامة): لأن بالطاعة يقوم أمرها ويعظم حالها، أعني الإمامة.
[247] وكان عليه السلام يقول: (احلفوا الظالم إذا أردتم يمينه ).
وفي نسخة أخرى: (الفاجر) (بإنه بريء من حول الله وقوته، فإنه إذا حلف بها كاذباً عوجل):
ويحكى أن يحيى بن عبد الله حلَّف عبد الله بن مصعب بن الزبير هذه اليمين في مخاطبة جرت بينه وبين يحيى بن عبد الله في مجلس الرشيد، فحلفها الزبيري فعوجل بالعقوبة، فقيل: إنه مات من يومه، وقيل: مات بعد ثلاثة أيام.
(وإذا حلف بالله الذي لا إله إلا هو): يريد إذا ذكر لفظ التوحيد والتنزيه لله تعالى عن اتخاذ الشركاء.
(لم يعاجل): بالعقوبة وإن كان فاجراً.
(لأنه وحَّد الله سبحانه): أي أخبر عنه بأنه واحد.
[248] (يا ابن آدم، كن وصي نفسك): يريد ما كنت تفعله عند الموت وبعده فافعله وأنت صحيح.
(واعمل في مالك ما تؤثر أن يعمل فيه بعدك ): أراد واعمل في مالك من الصدقة والبر والصلة للأقارب والأرحام، والإيثار هو: الاختصاص، ومنه قولهم: آثرته بكذا إذا خصصته به، وأراد ما تختص غيرك أن يكون عاملاً فيه بعد موتك.
[249] (الجدة ضرب من الجنون): أراد السعة والتمكن من المال، هذا على من رواه بالجيم.
فأما من رواه بالحاء وهو الأحسن، فأراد أن حدة المزاج والإسراع إلى الغضب هو نوع من الجنون، يشير بهذا إلى ما في الحدة من تغير الحال وإبطال العقل وإفساده، ثم قرر تقريبها من الجنون، بقوله:
(لأن صاحبها يندم): على ما كان منه من الأفعال الردية.
(فإن لم يندم): على ما فعله من ذلك.
(فجنونه مُسْتَحْكِمٌ): يعني أنه لا دواء له، ولا يرجى إفاقته منه.
[250] (صحة الجسد): سلامته عن الأسقام والعاهات.
(من قلة الحسد): لأنه إذا كان حاسداً فمعه غمٌّ قاتل، وهمٌّ لا يفارقه، وفي الحديث: ((ما رأيت ظالماً أشبه منه بالمظلوم منه بالحاسد )).
[251] [وقال عليه السلام لكميل بن زياد النخعي] :
(يا كميل، مُرْ أهلك أن يَرُوحُوا في كسب المكارم): اصطناع المعروف، وإسداء الخير، والتفضل على كل أحد.
(ويُدْلِجُوا في حاجة من هو نائم): الدلجة هو: أول البكرة، وفي الحديث: ((من خاف البيات أدلج ، ومن أدلج في المسير وصل)) ، وأراد الحض له على كفاية الخلق بحوائجهم، وقضاء حاجة من هو قاعد عنها، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يريد قضاء حاجة من لا يمكنه قضاء حاجة نفسه ويعجز عنها.
وثانيهما: أن يكون مراده قضاء حاجة من لا يشعر أنه يعني في حاجته، وأراد العناية في هذه الأمور العامة منفعتها للمسلمين، نحو إصلاح الطرقات والمناهل والمساجد إلى غير ذلك مما لا يكون مختصاً بواحد دون واحد.
(فوالذي وسع سمعه الأصوات): فلا يخفى عليه ظاهرها وخفيها.
(ما من أحد أودع سروراً قلباً ): فعل به ما تقتضيه مسرة قلبه وطمأنينة صدره.
(إلا وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً): من أنواع التوفيقات وضروب المصالح العظيمة.
(فإذا نزلت به نائبة): حادثة من حوادث الدهر، وسميت الحادثة نائبة؛ لأنها تنوب كل أحد وتأتي عليه.
(جرى إليها): يعني ذلك اللطف.
(كالماء في انحداره): يريد منحدراً لا يرده شيء كما ينحدر الماء عن موضع مرتفع، فإنه لا يرده شيء من نفوذه.
(حتى يطردها عنه): يزيلها ويبعدها.
(كما تُطْرَدُ غريبة الإبل): أراد أن الناقة إذا جاءت إلى غير القطيع الذي تألفه، فإنها تُطْرَدُ وتنكرها إبل ذلك القطيع التي ليست من أهله.
ومن كلامه عليه السلام (252-253)
[252] (إذا أملقتم): الإملاق: الفقر، قال تعالى : {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ }[الإسراء:31].
(فتاجروا الله بالصدقة): أراد فتصدقوا؛ فإن الله يخلف لكم أضعاف ذلك بما يزول عنكم الإملاق لأجله.
[253] (الوفاء لأهل الغدر غدر): أراد أن كل من كان غادراً ثم وفيت له فهذا تغرير وغدر؛ لأن الوفاء ليس أهلاً له، فمن وفى لهم بذلك فهو غادر.
(عند الله): فيما يوجبه الدين، ويقتضيه حكم الله تعالى.
(والغدر بأهل الغدر وفاء): أراد ومكافأتهم بغدرهم غدراً مثله يكون وفاء بما فعلوه.
(عند الله): وإليه الإشارة بقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }[النحل:126]، وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }[الشورى:40].
سؤال؛ أليس قد مر في كلامه: أدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك، فكيف قال ها هنا: الغدر بأهل الغدر وفاء، ومن أين يكون الجمع بينهما؟
وجوابه؛ هو أن الغرض بقوله: ولا تخن من خانك من بدت منه الخيانة على الندرة والقلة، فلا ينبغي وإن خان أن يخان، والغرض بقوله: الغدر بأهل الغدر وفاء هو أن من صار الغدر فيه طريقة وسجية بحيث لا يقلع عنه، فالغدر في مثل هذا وفاء؛ لأن الوفاء له يكون خيانة لا محالة، فقد تبين وجه الجمع بينهما، والله أعلم.
فصل من غريب كلامه (ع) (254-263)
قال الشريف الرضي رضي الله عنه
فصل نذكر فيه شيئاً من اختيار غريب كلامه المحتاج إلى تفسير
[254] (فإذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين بِذَنَبِه): اليعسوب للدين هو: السيد العظيم المالك لأمور الناس يومئذ، بِذَنَبِه: يعني استقام أمره، وتقررت قواعده، والإشارة بقوله: ذلك، أظن أنه يريد زمان خروج المهدي عليه السلام.
(فيجتمعون إليه كما تجتمع قُزَعُ الخريف): القزع: جمع قَزَعَة وهي السحاب الذي لا ماء فيها، وإنما خص قزع الخريف؛ لأنه أسرع حركة وأقرب إلى الاجتماع لقلة الماء فيه.
[255] وفي حديثه هذا:
(هذا الخطيب الشحشح): بالحاء المهملة والشين بثلاث من أعلاها، يريد الماهر في الخطب الماضي في كلامه، وكل ماضٍ في كلام أو سير فهو شحشح، والشحشح في غير هذا هو: البخيل الممسك .
[256] وفي حديثه:
(إن للخصومة قُحَماً) يريد بالقحم المهالك؛ لأنها تقحم أصحابها فيها ، أي تولجهم في المهالك والمتالف، ومنه قحمة الأعراب، وهو أن تصيبهم السنة فتولجهم في المهالك والمتالف، أو يقال : تولجهم بلاد الريف بعد أن كانوا في البدو.
[257] وفي حديثه:
(إذا بلغ النساء نص الحقاق فالعصبة أولى): هذا الحديث فيه روايتان:
فالرواية الأولى:
نص الحقاق، ولها معنيان:
أحدهما: أن يكون المراد بالنص هو الظهور ومنتهى الأشياء وغايتها وقصاراها، يقال: نصصت الرجل عن الأمر إذا بلغت غاية ما معه منه، واستخرجت ما عنده من ذلك، فنص الحقاق على هذا هو الإدراك والبلوغ؛ لأنه منتهى الصغر، والوقت الذي يخرج به الصغير إلى حد الكبير، وهذا من أفصح الكنايات وأغربها، والمعنى في هذا هو أن النساء متى بلغن هذا الوقت، فالعصبة أولى بالمرأة من أمها إذا كانوا محارم مثل الأخوة والأعمام والأخوال وبتزويجها إن طلبوا ذلك، والحقاق على هذا هو: مُحاقَّةُ الأمر للعصبة في المرأة، وهو عبارة عن الجدال والخصومة في ذلك، وقول كل واحد منهم: أنا أحق بها منك، فيقال فيه على هذا: حاققته حقاقاً مثل جادلته جدالاً.
وثانيهما: أن يكون مراده أن نص الحقاق هو الإدراك وبلوغ كمال العقل، وأراد منتهى الأمر الذي تجب به الحقوق [وتستقر الأحكام، والمعنى في هذا هو أن المرأة إذا بلغت الحد الذي فيه تجب عليها الحقوق] وهو وقت البلوغ فالعصبة الذين ذكرناهم يكونون أحق بها.
[و] الرواية الثانية
قوله: إذا بلغ النساء نص الحقائق، ولها معنيان:
أحدهما: أن تكون الحقائق جمع حقيقة، وهو ما يجب على الرجل أن يحيمه، ويقال: فلان حامي الحقيقة من النساء وغيرها، هذه فائدة ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام، ولم يذكر تنزيل الكلام على هذا التأويل.
وثانيهما: ما ذكره الشريف الرضي وهو أن المراد بنص الحقاق ها هنا بلوغ المرأة إلى الحد الذي يجوز فيه تزويجها، وتصرفها في حقوقها، فشبهها بالحقاق من الإبل، وهي جمع حقة [وحق] ، وهو الذي يستكمل ثلاث سنين ويدخل في الرابعة ، وعند ذلك يبلغ الحد الذي يتمكن فيه من ركوب ظهره ونصه في السير، والحقائق أيضاً جمع حقة، فالروايتان جميعاً ترجعان إلى معنى واحد، ثم قال: وهذا أشبه بطريقة العرب من غيره من المعاني ، فهذا ملخص ما قيل في تفسير قوله: نص الحقاق والحقائق كما ترى.
والذي يظهر لي في فائدة قوله: إذا بلغ النساء نص الحقاق فالعصبة أولى، أن غرضه إذا بلغن منتهى كمال عقولهن، وحيث يكون التخاصم، فعبر عن منتهى العقل وكماله بالنص؛ لأن نص كل شيء منتهاه وغايته، وعبر عن صلاحية المخاصمة بقوله: الحقاق، أخذاً من قولهم: فلان نزق الحقاق إذا كان يخاصم في أصغر الأشياء، وقولهم: ماله فيه حق ولا حقاق، أي خصومة، والتَّحاقّ: التخاصم، والاحتقاق: الاختصام، فكنى بهذه الكناية اللطيفة عما ذكرناه.
[258] وفي حديثه:
(إن الإيمان يبدو لُمْظَةً في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت اللُّمْظَة): أراد باللمظة ها هنا النكتة ونحوها من البياض، ومنه قولهم: فرس ألمظ إذا كان بجحفلته شيء من البياض، والمعنى في هذا هو التشبيه للإيمان في أول أحواله بالنكتة تكون في القلب، فلا تزال النكتة تزداد قوة وبياناً مهما كانت أحواله مستقيمة في الديانة والتقوى، فإذا واقع شيئاً من هذه القبائح ازدادت تلك النكتة ضعفاً وتلاشياً، والإشارة إلى الأول بقوله تعالى: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ }[الزمر:22]، والإشارة إلى الثاني بقوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }[المطففين:14].
[259] وفي حديثه:
(إن الرجل إذا كان له الدَّيْنُ الظَّنُون يجب عليه أن يزكيه لما مضى إذا قبضه): والدَّيْنُ الظنون: الذي لا يعلم صاحبه أيقتضيه أم لا يقتضيه ، فكأنه الذي يظن به فيرجوه مرة وييأس منه مرة ثانية، وهذا من فصيح الكلام وغريبه، وهكذا كل أمر تحاوله ولا تدري بحاله أيحصل أم لا فهو ظنون، والظنون: البئر الذي لا يعلم حالها أفيها ماء أو لا، وأنشدوا للأعشى:
ما يجعل الجُدَّ الظَّنُون الذي
جُنِّب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتيَّ إذا ما طما
يقذف بالبوصيِّ والماهر
وغرضه من هذا هو أن البئر التي لا يُدْرَى هل فيها الماء أم ليس فيها مثل صوب السحاب الصائح بالرعد، واللجب: الصوت العظيم بصب الماء وسكبه، ولا يجعل مثل الفراتي، وهو: نهر الفرات، والنسبة إليها على جهة التأكيد، وطموه بالماء: ارتفاعه على حده المعتاد.
والبوصي: ضرب من سفن البحر صغار.
والماهر هو: الملاَّح أو السابح في البحر، فحال البئر الذي وصفنا حالها لا تشبه واحداً من هذين الأمرين.
[260] وفي حديثه:
(أنه شيع جيشاً يُغْزِيه): أي يجعله غازياً إلى أرض بعيدة، فقال:
(اعزبوا عن ذكر النساء ما استطعتم): والمعنى في هذا أعرضوا عن ذكر النساء وشغل القلب بهنَّ، وامتنعوا عن المقاربة لهنَّ؛ لأن ذلك يفت في عضد الحمية، ويقدح في معاقد العزيمة، ويكسر عن العدو، ويفتِّر عن الإبعاد في الغزو، وكل من امتنع من شيء فقد أعزب عنه، والعازب والعَزُوبُ: الممتنع من الأكل والشرب.
[261] وفي حديثه:
(كالياسر الفالج، ينتظر أول فوزة من قداحه): الياسر هو: اللاعب بقداح الميسر، والفالج هو: الغالب لغيره ، والفوز: النجاة من كل محذور، وقد تقدم موضع هذا التشبيه، وفسرناه هناك.
[262] وفي حديثه:
(كنا إذا احمرَّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم): ومعنى هذا هو أنه إذا عظم الخوف من العدو، واشتد عضاض الحرب بالمسلمين، وأشفقوا على أنفسهم فزعوا إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، فينزل الله عليهم النصر بسبب ذلك، ويأمنون ما كانوا يخافون من قبل، واحمرار البأس جعله ها هنا كناية عن شدة الأمر في الحرب، وهو بالباء بنقطة من أسفلها، ونظير هذا قول الرسول عليه السلام لما رأى مجتلد القوم بحنين: ((الآن حمي الوطيس )) ، والوطيس: مستوقد النار، فشبه ما اشتد من جلاد القوم باتقاد النار وشدة التهابها.
(فلم يكن أحد منَّا أقرب منه إلى العدو): يشير بهذا إلى ما أعطاه الله من شدة الجأش وثبوت القلب، وقوة العزيمة، وشجاعة الْجَنَان، ولقد أثخن في درعين يوم أحد.
قال الشريف الرضي رضي الله عنه: (انقضى هذا الفصل، ورجعنا إلى سنن الغرض الأول في هذا الباب): يعني ذكر الحكم والآداب المأخوذة من جهته، وذكره لهذا الفصل إنما هو على جهة العروض، والمقصود خلافه.
ومن كلامه عليه السلام (263-300)
[263] وقال عليه السلام لما بلغه غارة أصحاب معاوية على الأنبار، خرج بنفسه ماشياً حتى أتى النُخيْلَةَ فأدركه الناس ، وقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن نكفيكهم، فقال عليه السلام:
(والله ما كفيتموني أنفسكم): يعني بحسن الانقياد والإئتمار لإمامكم بالسمع والطاعة.
(فكيف تكفونني غيركم!): من تدبير أحوال سائر الناس، ولأنكم أقوى على كفاية أنفسكم، فإذا لم تكفوها فأنتم أعجز عن كفاية غيرها.
(إن الرعايا قبلي تشكو حيف رعاتها): ميلهم عن الحق والعدل إلى الجور.
(فأنا اليوم أشكو حيف رعيتي ): ميلهم عن أمري، ونكوصهم عن متابعتي، وتأخرهم عن نصرتي.
(كأني المقود وهم القادة): أراد كأني التابع لهم وهم المتبوعون.
(وأنا الموزوع وهم الوزعة): أي المحثوث [في اتباع الأمر] وهم الحاثون لي في ذلك.
قال الشريف الرضي: فلما قال هذا القول في كلام طويل، قد ذكرنا مختاره في جملة الخطب من قبل هذا، تقدّم إليه رجلان من أصحابه فقال أحدهما: {إِنّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}[المائدة:25]، فمرنا يا أمير المؤمنين بأمرك نُنَفِّذْ فيه، فقال: وأين تقعان مما أريده!): يعني أن هذا الأمر إنما يكون بالتناصر والتعاضد، واتفاق المسلمين، فأما الواحد والاثنان والعدد اليسير فلا يكاد يقع موقعاً نافعاً منه.
[264] وقيل: إن الحارث بن حوط أتى أمير المؤمنين، فقال: أترى أن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟
فقال: (يا حارِ، إنك نظرت تحتك، ولم تنظر فوقك): وهذه من أعجب الكنايات وأرفعها قدراً، وأراد أنك من أهل الجهل، ولست من أهل العلم، فكنى بالتسفل عن الجهل لما كان يضع أهله ومن تلبس به، وعنى بالفوقية عن العلم لما كان يرفع أهله.
(فحرت): أراد تحيرت في الأمر فلم تعرف ما فيه من الإيراد والإصدار.
(إنك لم تعرف الحق): لم تحط به معرفة، ولا أتقنته دراية.
(فتعرف من أتاه ): من عمل به، وكان معولاً عليه في جميع أموره.
(ولا عرفت الباطل): أحطت به معرفة ودراية.
(فتعرف من أتاه): من تلبس به وخالطه، وحاصل كلامه أنه في لبس من دينه، لا يعرف ما يأتي منه وما يذر.
وفي رواية أخرى: (الحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله قلُّوا أم كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله قلُّوا أم كثروا) .
(فقال الحارث: فإني أعتزل مع سعد بن مالك، وعبد الله بن عمر): فإنهما كانا ممن اعتزل أمير المؤمنين، ثم ندما على ذلك بعد، كما حكيناه من قبل عند عروض ذكرهما.
فقال:
(إن سعداً، وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق، ولم يخذلا الباطل): أراد بهذا أنهما اعتزلا الأمر لعروض شبهة لهما في ذلك، فلاهما نصرا الحق فيكونان معنا في جيشنا، ولا هما أيضاً خذلا الباطل فيكونان عوناً على إبطاله وفساده.
[265] (صاحب السلطان كراكب الأسد): يعني من يجالس السلطان، ويكون بالقرب منه مثل من يركب الأسد في حالته هذه.
(يغبط بموضعه ): الغبطة هي: حسن الحال، يعني تحسن حاله في النفوس لمكانه من الأسد، وأن أحداً لا ينال هذه الحالة فإنه لا يستطاع صيده وأخذه، فضلاً عن استذلاله بالركوب.
(وهو أعلم بموقعه): ما يناله من الخوف والإشفاق، فهكذا الحال يغبطه الناس بقربه من الملك، وهو على إشفاق من أمره من غضبه وحدته.
[266] (أحسنوا في عقب غيركم): يشير إلى رعاية حق الأموات في أولادهم وحسن التكفل بهم والإحسان إليهم.
(تحفظوا في عقبكم): يريد أنكم إذا فعلتم ذلك في أعقاب غيركم يسر الله لكم لطفاً في أعقابكم من يفعل ذلك في حقكم.
[267] (إن كلام الحكماء إذا كان صواباً كان دواء): يشير إلى العلماء فإنهم أهل الحكمة، فإذا كان ما يتكلمون به جارياً على الأحكام الشرعية ومطابقاً لما أراد الله، ومقرراً على التقوى والورع، فهو دواء عن داء الجهل.
(وإن كان خطأ فهو داء): يعني وإن كان مخالفاً لتقوى الله وإرادته فهو مفسد لا محالة، لأن الناس ينقادون له ويتبعونه، ولهذا يقولون: نعمل به؛ لأن فلاناً قد قال به، فيكون الداء من هذه الجهة.
[268] وسأله رجل أن يعرفه الإيمان وحقيقته؟
فقال: (إذا كان غداً فأتني حتى أخبرك على أسماع الناس، فإن نسيت مقالتي حفظها عليك غيرك، فإن الكلام كالشاردة): يريد من الإبل أو من الشاء التي تشرد عن صواحبها التي هي معهن.
(يثقفها هذا): أي يصدفها، من قولهم: ثقفته إذا صادفته، قال الله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ }[الأنفال:57]، أي تصادفهم.
(ويخطئها هذا): يزول عنها فلا توجد معه.
(قال الشريف الرضي رضي الله عنه: وقد ذكرنا ما أجابه عليه السلام من هذا الباب، وهو قوله: الإيمان على أربع شعب): وقد مضى فلا نعيده.
[269] وقال:
(يا ابن آدم، لا تحمل همَّ يومك الذي لم يأتك): يعني الذي تستقبله من عمرك ، لا تشتغل بتدبير أمرك فيه، وحفظ رزقك من أجله.
(على يومك الذي أتاك): فتكون مدبراً فيه رزق غيرك، وجامعاً للرزق فيه، وليس حاصلاً، ولا تدري بحاله كيف يكون.
(فإنه إن يكن من عمرك يأت الله فيه برزقك): يعني فلا تشتغل بما يصلحه الآن، وأنت على غير ثقة من أمره، وحقيقة من حاله.
[270] (احبب حبيبك هوناً ما): يشير إلى أنه إذا أحببت فأحبب بالهون والإرواد، ولا تَّهالك في حب من تحب فإنه:
(عسى أن يكون بغيضك يوماً ما): يعني فربما كان باغضاً لك في بعض الأيام.
(وابغض بغيضك هوناً ما): يشير إلى أنك إذا بغضت أحداً فلا تَّهالك في بغضه، وليكن بغضك له بالهون.
(عسى أن يكون حبيبك يوماً ما): فربما كان محباً لك في بعض الأيام، وربما أثر هذا عن الرسول عليه السلام ، وهذا قريب؛ لأنهما ينزعان عن قوس واحدة، فلهذا يصيبان الغرض إصابة واحدة، ويردان مورداً واحداً، فلا جرم يحصل التطابق في كلامهما في هذا وفي غيره، وقد نبهنا عليه، وما هذه صفة لهون أي هوناً قليلاً.
[271] (الناس في الدنيا عاملان: عامل في الدنيا للدنيا): أي من أجل إصلاح الدنيا.
(قد شغلته دنياه عن آخرته): شغله إصلاحها عن إصلاح الآخرة والالتفات إليها.
(يخشى على من يخلِّف الفقر): من أولاده.
(ويأمنه على نفسه): ولهذا لم يشتغل بنفسه، وإنما اشتغل بأولاده خيفة الفقر عليهم والحاجة بعده.
(فيفني عمره في منفعة غيره): وهو استغراق عمره؛ لأن يعود على أولاده بمنفعة بعد موته، فهو مفني لعمره في خدمتهم وجلب المنفعة إليهم.
(وعامل في الدنيا لما بعدها): يعني للآخرة في الدنيا، مشغول بعمل الآخرة.
(فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل): من غير عناية ولا جهد من نفسه ولا تعب لها في تحصيل رزقه.
(فأحرز الحظين معاً ): يعني عمل للآخرة، فأحز عمل الآخرة، وجاءه نصيبه من الدنيا من غير كلفة ولا مشقة.
(فأصبح وجيهاً عند الله): ذا جاه ومقدار عنده، كما قال تعالى: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ }[آل عمران:45]، يعني عيسى عليه السلام.
(لا يسأل الله حاجة فيمنعه): وهذه فائدة كونه وجيهاً عند الله، أي أنه لا يرده في حاجة توجه لها من الله، ولهذا يقال: فلان وجيه عند الأمير أي يقضي له كل حاجة طلبها من جهته.
[272] وروي أنه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلي الكعبة وكثرته، فقال قوم: لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين، كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلي، فهمَّ عمر بذلك، فسأل عنه أمير المؤمنين؟ فقال:
(إن القرآن أنزل على الرسول صلى الله عليه وآله والأموال أربعة): يعني على أنواع أربعة:
(أموال المسلمين، فقسَّمها بين الورثة في الفرائض): فهذا مال لهم يملكونه في مدة الحياة، فإذا ماتوا كان مقسوماً في الورثة بعدهم.
(والفيء فقسَّمه على مستحقيه): مال الفيء نوعان:
أحدهما: ما أخلى عنه الكفار خوفاً من المسلمين.
وثانيهما: ما أخذ من غير خوف كالجزية، وعشور أموالهم للتجارة، أعني أهل الذمة، والفيء كله ما كان حاصلاً من غير قتال.
(والخمس فوضعه الله حيث وضعه):
وعن أمير المؤمنين أنه قيل له: إن الله قال: {والْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ }[الأنفال:41] ؟
فقال: (أيتامنا، ومساكيننا).
وعن زيد بن علي رضي الله عنه أنه قال: ليس لنا أن نبني منه قصوراً، ولا نركب البراذين .
وقد اضطرب رأي العلماء في قسمة الخمس ، وليس من همنا ذكر ذلك.
(والصدقات فجعلها الله حيث جعلها): يعني في الأصناف الثمانية.
(وكان حلي الكعبة فيها يومئذ): يريد يوم قسمة هذه الأموال وحديثها.
(فتركه الله على حاله): من غير تغيير له عن موضعه، ولا إزاحة له عن مكانه.
(ولم يتركه نسياناً): فإنه عالم بكل المعلومات.
(ولم يخف عليه مكاناً): أراد لم يخف عليه مكانه
(فَأقِرِّه حيث أقرَّه الله): أراد لا تغيره عن حالته التي هو عليها.
(فقال له عمر: لولاك لافتضحنا!): في أخذه وتغييره عما كان عليه.
(وترك): عمر.
(الحلي على ما كان عليه): وهي إلى الآن محلى بابها، ما أنكره أحد من العلماء لهذا الوجه.
[273] وروي أنه عليه السلام دفع إليه رجلان سرقا من مال الله، أحدهما عبد ، والآخر من عُرْضِ الناس، فقال:
(أما هذا): يعني العبد.
(فهو من مال الله): وكان من الفيء.
(ولا حد عليه): لأجل الشبهة.
(مال الله أكل بعضه بعضاً): يعني أن المال لله والعبد من ماله أيضاً، فلا وجه للحد لسقوطه بالشبهة، وأراد مال الله أخذ بعضه من بعض.
(وأما الآخر): يعني الحر، فلا وجه للشبهة في حقه.
(فعليه الحد فقطع يده): للسرقة.
سؤال؛ كيف قطعه وله حق في بيت المال، ومن حق الحد أن يكون مدرؤاً بالشبهة، ولا شبهة أعظم من ذاك ؟
وجوابه؛ هو أن الرواية عنه مختلفة، فقال في موضع آخر: لا يقطع من سرق من بيت المال ، وهي رواية الشعبي عنه، وهو محكي عن عمر أيضاً ، وهذا هو المختار لأجل ما ذكرناه من الشبهة له.
فأما ما ذكره ها هنا من قطعه فهو محمول على أنه لا شبهة له فيه بأن يكون غنياً، فإنه متى كان غنياً فلا حق له في بيت المال، فلهذا وجب قطعه كما لو سرق ذمي من بيت المال فإنه يقطع لا محالة، وكما لو سرق غني من الأموال الموقوفة للفقراء فإنه يقطع بلا مرية، فيجب حمله على ما ذكرناه.
[274] (لو قد استوت قدماي من هذه المداحض): مكان دحض إذا كان زلقاً لا تثبت فيه الأقدام، وعنى باستواء قدميه فراغه عما في وجهه من الجمل وصفين وحرب الخوارج.
(لَغَيَّرتُ أشياء): يريد أمت بدعاً وضلالات في الدين، وتغييرها: إزالتها وطمسها.
[275] (واعلموا علماً يقيناً): قاطعاً لا تشكون فيه.
(أن الله لم يجعل للعبد وإن عظمت حيلته): تصرفه في أموره واحتياله بأبلغ الحيل وأعلاها.
(وقويت مكيدته): المكيدة والكيد هو: الخدع والتغرير.
(واشتدت طَلِبَتُه): وكان طلبه لرزقه عظيماً شديداً، فإن الله تعالى ما فرض له من الرزق:
(أكثر مما سُمِّي له في الذكر الحكيم): يريد به اللوح المحفوظ، فإن الله تعالى قد كتب فيه أرزاق الخلق وآجالهم، فما يزاد مما قد قدر وحتم شيء.
(ولم يَحُلْ بين العبد في ضعفه وقلة حيلته): احتياله في طلب رزقه، وقلة قدرته على طلبه.
(وبين أن يبلغ ما سُمِّي له في الذكر الحكيم): يشير بكلامه هذا إلى أن قوة الإنسان وبسطته لا تزيده على ما قد فرض له، ولا ضعفه وقلة احتياله تبطل عنه ما سمي له وفرض من الأرزاق والآجال، وهذه قاعدة عظيمة في الدين يعظم نفعها ويكبر خطرها وقدرها، وفيها راحة عن أكثر التكلفات، وإغفال للنفس عن التوهمات.
(والعارف بهذا): المحيط بعلمه ومعرفته، و:
(العامل به): الضمير والإشارة إلى ما قرره أولاً من العلم بما قد كتبه الله للعبد في لوحه المحفوظ من الرزق والأجل، فأراد فمن عرفه وعمل به:
(أعظم الناس راحة في منفعة): أراد أكثرهم استراحة فيما ينفعه من ذلك.
(والتارك له): بالإعراض عنه .
(الشاك فيه): الذي لا يعلمه، ولا يدري بكنه حاله.
(أعظم الناس شغلاً في مضرة): أكثرهم اشتغالاً فيما يضره، ومصداق ما قاله عليه السلام هو أن من عرف ما قاله هان عليه الأمر، فأراح نفسه عن أكثر المطالب التي لا تجدي، ولا تكون نافعة له، ومن جهله شغل نفسه وأتعبها غاية التعب، وضرها غاية المضرة، من غير زيادة ولا نقصان في أمر من الأمور.
(رب منعم عليه متسدرج بالنُّعمى ): الاستدراج هو: الإملاء بإدرار النعم وكثرتها، والنعمى مصدر نعم ينعم كالبشرى والرجعى، والنعمة هي: الاسم من التنعم، وأراد أن الله يملي لكثير من الفسقة، ويرادف عليه النعمة خذلاناً منه له لعلمه بأنه لا لطف له، وأنه غير منتفع بالألطاف وإن فعلت له، فلهذا خذله بالإملاء والاستدراج.
(ورب مبتلى مصنوع له بالبلوى): أراد أن من أهل البلوى من يفعل معه صنيع حسن بكثرة ما ابتلي به؛ لما له فيه من المصلحة وكثرة العوض وإعظام الأجر.
(فزد أيها المستمع في شكرك): على ما أعطاك الله من النعم وخولك منها.
(وقصِّر من عجلتك): في المعاصي والإسراع إليها بالفعل.
(وقف عند منتهى قدرك ): أي لا تزيد على ذلك شيئاً فتهلك.
وفي رواية أخرى: (عند منتهى رزقك): أي لا تطلب أكثر منه، فإنه أمر مفروغ منه، لا يزاد فيه ولا ينقص منه.
[276] (لا تجعلوا علمكم جهلاً): بمنزلة الجاهل الذي لا علم معه.
(ويقينكم شكاً): بمنزلة من لا قطع معه، فإن من حق العلم أن يعمل به، ومن حق اليقين أن يقطع به.
(فإذا علمتم): شيئاً من العلوم.
(فاعملوا): لأجله بالأعمال الصالحة.
(وإذا تيقنتم): الأحوال، وقطتعم على صحتها.
(فأقدموا): على فعل ما نفذت فيه بصائركم في الدين، وافعلوه من غير تردد في فعله.
[277] (إن الطمع مورد غير مصدر): يعني يورد صاحبه الموارد الضنكة، وينزله المنازل المتعبة، ولا يصدره عنها، ولا يخلصه عن عهدتها.
(وضامن): لصاحبه بالفوز والنجاح في ظنه ووهمه، أو بالخسارة والهلاك من جهة الحقيقة.
(غير وفيّ): بما ضمن له من ذلك.
وقوله: غير وفيِّ، مما يؤيد الاحتمال الأول دون الثاني.
(وربما شرق شارق من الماء قبل ريّه): شرق بريقه إذا غص به فلم يسغه، وما ذكره مثال للطمع، فإن الطامع ربما هلك قبل وصوله إلى ما طمع فيه، كما أن الشارب من الماء ربما هلك قبل أن يروي.
(كلما عظم قدر الشيء المتنافس فيه): أراد أن الشيء إذا كان عظيم القدر في المنفعة، وكان في نفسه غالياً نفيساً.
(عظمت الرزية لفقده ): لأنه لولا عظم منفعته لما عظمت الرزية بعدمه وذهابه، ولهذا تعظم الرزية في فقد العلماء والأفاضل لما عظم قدر النفع بهم، وفي الحديث: ((من أصيب بمصيبة فليذكر مصابه ف يّ فإنكم لن تصابوا بمثلي)) .
[278] (اللَّهُمَّ، إني أعوذ بك أن تَحْسُنَ في لامعة العيون علانيتي): اللامعة هي: المضيئة النيِّرة من العيون، وهذه الإضافة من باب إضافة الصفة إلى فاعلها، كقولك: حسن الوجه، والعلانية هي: ما ظهر من الأمور، وأراد الاستعاذة بالله من شر الرياء.
(وتَقْبُح فيما أبطن لك سريرتي): أي ويلام فيما أضمره لك ما أسره في نفسي، والقبيح: ما يلام عليه صاحبه ويذم.
(محافظاً على رياء الناس): انتصاب محافظاً على الحال من الضمير في أعوذ، والمعنى محافظاً بما أفعله من ذلك على ثناء الناس بما أفعله من ذلك.
(من نفسي): مما أختص به، ولا يشاركني فيه غيري.
(بجميع ما أنت مطلع عليه مني): الباء ها هنا متعلقة بقوله: محافظاً بجميع، أي أحافظ على الرياء بجميع أعمالي كلها.
(فأُبْدِي للناس حسن ظاهري): أحسن ما يظهر من أعمالي في الخير والتقوى والصلاح.
(وأفضي إليك بأسوإ عملي): وأظهر لك أقبح ما يكون من أعمالي وأسوأها، أفعل ذلك:
(تقرباً إلى عبادك): من أجل أن أكون قريباً من عبادك.
(وتباعداً من مرضاتك): أي ومن أجل أن أكون بعيداً مما يرضيك من الأعمال كلها.
[279] (لا والذي أمسينا منه في غُبَّر ليلة دهماء): غُبَّر الحيض وغُبَّر الظلام هي: بقاياه، وأراد في بقايا ليلة مظلمة.
(تكشر عن يوم أغرَّ): يقال: كشر عن نابه إذا ابتسم وضحك، وأراد هنا القسم بالقدرة، وبما يظهر من عجائب آثارها، ومن أعجبها قدراً وأوضحها أثراً بيناً، ترانا في ليل مظلم وسواد مستحكم إذ جلاَّه بنور طالع وعقَّبه بفجر ساطع، فهذا من أعظم دلائل القدرة وأبهر آيات الحكمة.
(ما كان كذا وكذا): هذا هو جواب القسم الذي ذكره.
[280] (قليل تدوم عليه): يعني قليل من الأعمال الصالحة تداوم عليه ويستمر فعلك له.
(أرجى من كثير مملول ): يرجى به الخير أكثر من كثير من الأعمال يُمَلُّ ويسأم، [وإنما كان الأمر كما قال؛ لأن القليل إذا كان مرغوباً فيه منشوطاً إلى فعله كان أرضى لله] وأدخل في الإقبال، وإذا كان كثيراً يُمَلٌّ كان ذلك أقرب إلى نفار النفس عنه فلا يكمل إخلاصه، وفي الحديث: ((إنَّ الله يحبُّ المدوامة على العمل وإن قلَّ )) .
[281] (إذا أضرت النوافل بالفرائض فارفضوها): قد ذكرنا تفسيره فلا وجه لإعادته، وفيه دلالة على أن كل ما كان فيه دعاء إلى إكمال الفرائض وجب فعله، ويدل على وجوب تأديتها على أكمل وجه وأحسنه.
[282] (من تذكر بُعْدَ السفر استعدَّ): أراد من أخطر بباله بُعْدَ المسافة التي يقطعها تأهب من كثرة الزاد، وإصلاح حاله لقطع هذه المسافة.
[283] (ليس الرؤية مع الإبصار): الإدراك بالعيون.
(فقد تكذب العيون أهلها): بما يكون من خطأ المناظر وحصول الخيالات لبعد المبصر أو عروض عارض من أسباب الخطأ في الإدراكات فيقع كذبها لا محالة، ومن أجل ذلك ترى الكبير صغيراً كالنجوم، والصغير كبيراً إلى غير ذلك من الاختلافات، وللمتكلمين في هذا الاختلاف خلاف طويل عند من يقول بالشعاع، وعلى قول من يقول بالانطباع، وعلى رأي الفلاسفة بتشكل الهواء بين الرآئي والمرئي، وفيه بحث دقيق ليس هذا من مواضع ذكره.
(ولا يغش العقل من استنصحه): وغرضه من هذا الكلام هو أن ما دل عليه العقل فهو الصحيح الذي لا كذب فيه، وهو الحجة القاطعة لله تعالى على خلقه في إثبات وجوده وتوحيده، وما عداه فلا يعرج عليه؛ لأن أعظم العلوم الضرورية هو الإدراك، وربما وقع فيه الخطأ ليس لأجل الإدراك، فهو طريق إلى العلم، وإنما ذلك من أجل ما يعرض في الإدراك وفي طريقه من الاختلاف.
[284] (بينكم وبين الموعظة حجاب من الغِرَّةِ): أي الغفلة، ولهذا فإنكم لا تنتفعون بالموعظة لأجلها.
[285] (جاهلكم مزداد): من جهله وعمايته وضلاله.
(مسوِّف ): للتوبة عن خطائه غير قاطع عليها.
[286] (قَطَعَ العلم عُذْرَ المتعلِّلين): أراد أن العلم بالله تعالى قاطع لا محالة لعذر من يتعلل بجهله، فإنه لا عذر له في ذلك، وكيف لا والمصلحة في العلم بالله تعالى ظاهرة، واللطف حاصل لا محالة، فإنا نعلم قطعاً بالضرورة أن كل من علم الله تعالى بصفاته وحكمته فإنه يكون أقرب إلى فعل الواجب والانكفاف عن فعل كل قبيح؛ لما يرجوه من ثواب الله ويخافة من عقابه.
[287] (كل معاجل يسأل الإنظار): يعني أن كل من عجلت له منيته، فإنه يسأل الإنظار والتأخر إلى وقت آخر غير هذا، ولا يزال على ذلك.
(وكل مؤجَّل يتعلَّل بالتسويف): يريد ومن كانت منيته متأخرة عنه فليس مستحثاً في فعل الواجب، وإنما يعلل نفسه بأن يقول: سوف أفعل في المستقبل وهو غير فاعل، ولكنه يسوِّف نفسه ويكذب بها.
[288] (ما قال الناس لشيء: طوبى له!): أي ما غبطه الناس، وقالوا له : طوبى لحياته فما أهنأها وأرغد عيشه .
(إلا وقد خبَّأ له الدهر يوم سوء): يعني تغيرت هذه الحالة وزالت هذه النعمة، وصار السوء متصلاً بعد أن كان النعيم حاصلاً له، وهذا لأن الدهر هذا حكمه.
[289] وقال وقد سئل عن القدر:
(طريق مظلم فلا تسلكوه): يشير إلى ما فيه من الصعوبة والزلل، ولهذا نرى كثيراً خاض فيه فزلَّ وأزلَّ، وضلَّ وأضلَّ.
(وبحر عميق فلا تَلِجُوهُ): أي لا تدخلوه، من قولهم: ولج إذا دخل.
(وسر الله فلا تتكلفوه ): أي وهو أمر استأثر الله بعلمه، فلا تتكلفوا ما ليس في وسعكم، وما لا تطيقون عليه، وفي الحديث أنه خرج يوماً إلى أصحابه وهم يتكلمون في القدر، فاحمرَّ وجهه وقال: ((أقسمت عليكم ألا تخوضوا فيه)).
سؤال؛ ما هو القدر الذي نهى عن اعتقاده والخوض فيه، وورد عليه الوعيد؟
وجوابه؛ هو أن يقال: بأن أفعال العباد من جهة الله تعالى طاعاتها ومعاصيها من جهة الله تعالى وقضائه وقدره، كما هو مذهب هؤلاء المجبرة، فإنهم زعموا ذلك، وقالوا: إنه لا تصرف للعبد في فعله، وإنما هو حاصل من جهة الله تعالى ، والذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة أن المعاصي والطاعات كلها من جهة العبد، وأن الله غير خالق لها ولا مُوجِد، فأما قضاؤه لها وقدره عليها بمعنى العلم فمما لا ننكره بحال.
[290] (إذا استرذل الله عبداً): الرذالة هي: سقوط الهمة، وركة الحالة، وغرضه هو أن الله تعالى إذا أراد استرذال عبد وسقوط همته.
(حظر عليه العلم ): منعه إياه وسدَّ عليه أبوابه.
سؤال؛ إذا كان العلم من أعظم الخصال وأشرفها، وأولى ما يكون من المقربات إلى الله، فكيف ساغ من الحكيم أن يمنع منه؟
وجوابه؛ هو أن الله تعالى ليس مانعاً منه، ولا سادّا لطريقه، وإنما الغرض أن الله تعالى إذا علم من حال الإنسان الإعراض عن العلم والتنكب عن طريقه خذله عن تحصيله، ولم يلطف له فيه، إذ لا لطف له، أو لأنه لو لطف له فيه لم ينتفع به كما نقول في حال الإيمان لأهل الكفر، فإن الحال فيهم واحد.
[291] وقال عليه السلام:
(كان لي فيما مضى أخ في الله): لم أعلم أنه واخى أحداً سوى الرسول عليه السلام، فإنه لما هاجر آخا بين المسلمين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب وقال: ((هذا أخي)) ، ثم واخى بين كل اثنين من المسلمين على جهة التناصر والتعاضد، وكان سعد بن الربيع أخاً لأبي أبكر ، فيحتمل أن يكون أراد بذلك الرسول، وإن كان هذا الاحتمال بعيداً ، ويحتمل أن يكون أراد بذلك غيره .
(وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه): لأن كل من كان عظيماً عند الله صغرت الدنيا في عينه، لما صغرها الله وحقر أمرها.
(وكان خارجاً من سلطان بطنه): يريد أنه لا يغلب عليه سلطان شهوة الأكل فتورده في كل مكروه ومحذور، وفي الحديث: ((جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش ، فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله، وإنه ليس شيء من عمل أحبَّ إلى الله من جوع وعطش)) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه )) .
(فلا يشتهي ما لا يجد): يعني أنه لا يطلبه ولا تعلق شهوته به.
(ولا يكثر إذا وجد): يعني وإذا تمكن ممَّا يشتهيه لم يكثر من تناوله.
(وكان أكثر دهره صامتاً): لا ينطق بحلوة ولا مرة، وفي الحديث: ((الصمت خير كله وقليل فاعله)).
(فإذا قال): تكلم بشيء من الكلام.
(بذَّ القائلين): بذَّه إذا غلبه وفاق عليه في مقالته تلك.
(ونقع غليل السائلين): الغلة بضم الغين بنقطة العطش، ونقعه: إذا سكَّن حرارة عطشه.
(فكان ضعيفاً): في نفسه، ركيك الحالة والمنظر.
(مستضعفاً): يستضعفه الناس، ولا يرون له قدراً.
(فإذا جاء الجد): الأمر العظيم الذي لا هزل فيه.
(فليث عادٍ): فهو أسد يعدو على غيره، وإنما قال ذلك؛ لأن الأسد أعظم شجاعته عند عدوته ليفترس.
(وصِلٌّ وادٍ): الصل: الحية التي لا تنفع منها الرقية.
(لا يدلي بحجة): أي لا يرسل حجته، ولا يحتج على أحد في خصومة.
(حتى يأتي قاضياً): أي لا يظهر حجته إلا في موضعها فيكون حاكماً فيه، فعبر عن إيضاح حجته بإتيانه قاضياً.
(وكان لا يلوم أحداً): يذمه على فعل من الأفعال، ويمتنع من لومه.
(على ما يجد العذر في مثله): فإن وجد عذراً في مثل ذلك لم يصدر من جهته لوم له.
(حتى يسمع اعتذاره): فإن وجده مقبولاً قبله وأعرض عن لومه، ولا يلوم على شيء وهو يجد عن اللوم مندوحة وسعة.
(ولا يشكو وجعاً إلا عند برئه): كيلا يحبط عوضه وأجره عند الله تعالى، وفي هذا إشعار بأن الصبر على الألم أفضل من الشكوى له إلا عند زواله.
(وكان يقول ما يفعله ): يعني ما كان عازماً على فعله ومطيقاً له فإنه يتكلم به، ويقول: إنه يفعله، ولا يظهر من لسانه ما لا يفعله.
(ولا يقول ما لا يفعل): يريد وما كان لا يطيقه ولا هو فاعل له؛ فإنه لا يلفظ به ولا ينطق به لسانه أبداً.
(وكان إن غُلِبَ على الكلام [لم يغلب على السكوت] ): يشير بهذا إلا أنه ربما يضطره الحال إلى الكلام فيتكلم ولا يضطره حال إلى السكوت، بل يسكت اختياراً من نفسه، فلهذا كان الغالب عليه السكوت.
(وكان على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم): يريد أن حرصه على السكوت، وأن يكون مستمعاً لكلام غيره أكثر من حرصه على الكلام لغيره.
(وكان إذا بدهه أمران): فاجأه مهمان مما يهمه ويفزعه.
(نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه ): لأن مخالفة الهوى هو عمدة التقوى وقاعدتها، وقلَّ ما تحصل مخالفة في حق أحد إلا من أخلص نفسه لله وباعها منه، فبذلك هو الرابح إذا خسر غيره.
(فعليكم بهذه الخصال فالزموها): يريد هذه الذي عددها في أخيه هذا، وكان مختصاً بها .
(وتنافسوا فيها): نفست في هذا الشيء إذا كنت راغباً فيه.
(فإن لم تستطيعوها): فعلها بأجمعها وأخذها بكليتها.
(فاعلموا أن أخذ القليل): منها وإحرازه.
(خير من ترك الكثير): منها.
[293] (ولو لم يتوعد الله على معصيته): بهذه الوعيدات الشديدة ، والقوارع العظيمة.
(لكان يجب أن لا يعصى): لكانت العقول حاكمة ومشيرة، وحاكمة بترك معصيته لا محالة.
(شكراً لنعمته): من أجل شكر نعمته، فإنه حقيق ألا يعصى لما أسدى من النعم، وأجزل من المنن.
[294] وقال عند تعزيته للأشعث بن قيس في ولده:
(يا أشعث، إن تحزن على ابنك): يكثر حزنك وأسفك على فقده.
(فقد استحقت ذلك منك الرحم): يعني فكونه ولداً يوجب ذلك ويحمل عليه لمكان أنه بعض منك وقطعة من كبدك، ولهذا قال بعضهم: أولادنا أكبادنا .
(وإن تصبر): على ما أصابك من فقده وحزنه.
(ففي الله من كل مصيبة خلف): أي ففي ثواب الله عن كل حزن مصيبة عوضاً يخلفها ويسد مسدها.
(يا أشعث، إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور): أي جرى عليك ما قدره الله لك في كتبه في لوحه وعلمه في أزله، وأنت موفر عليك الأجر لأجل صبرك.
وقوله: وأنت مأجور، جملة ابتدائية في موضع نصب على الحال من الكاف في عليك.
(وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور): أصابك الأسف من غير صبر، جرى عليك حكم الله وتقديره وأنت مأثوم، والوزر هو: الإثم، والوزر: الثقل، وسمي الإثم وزراً لأنه يثقل الإنسان.
(يسرك ): أي كان ولدك سروراً لك.
(وهو بلاء وفتنة): يعني في حال حياته، وهو من جملة البلاوي والمحن التي بلي الإنسان بها.
(وحزنك ): أي صار حزناً لك في حال موته.
(وهو ثواب ورحمة): أي الصبر عليه ثواب، وموته لطف لك أيضاً؛ لما فيه من المصالح الغيبية المستأثر بعلمها علاَّمها.
[295] وقال على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
(إن الصبر لجميل إلا عنك): أي يسهل حاله بالإضافة إلى جميع ما يكون من المصائب إلا عنك، فإنه لا يسهل ولا يجبر حاله.
(وإن الجزع لقبيح إلا عليك): أي يلام صاحبه على ما يحصل منه من الجزع بالإضافة إلى ما يصيب من الغموم والأحزان؛ إلا عليك، فإنه لا يلام لعظمه وشدة حاله.
(وإن المصاب بك لجليل): جل الأمر وجسم إذا عظم وتفاقم.
(وإنه قبلك وبعدك لجلل ): الجلل: الأمر الهين، والجلل: الأمر العظيم، وهو من الأضداد، وأراد ها هنا الأمر الهين، وغرضه أن المصاب بكل أحد قبل مصابك وبعده لأمر يسير لا يحتفل به.
قال امرؤ القيس لما قتل أبوه:
قتلوا بنو أسد ربَّهم
ألا كل شيء سواه جَلَل
وفي أخبار أحد: أنه لما شاع قتل الرسول عليه السلام، شيعه ابن قميئة ، فمر رسول الله بامرأة من بني دينار قد أصيب زوجها وأخوها وأبوها، قالت: فما فعل رسول الله؟
قالوا: خيراً يا أم فلان؟
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ، أي يسير.
وقد يقال في الكثير، قال الشاعر:
ولئن عفوت لأعفون جللاً
ولئن سطوت لأوهنن عظمي
[296] (لا تصحب المنافق فإنه يزِّين لك فعله): يحسنه في عينك على وجه الخديعة.
(ويود أن تكون مثله): في الكفر والنفاق، ومن هذه حاله فلا حاجة لأحد في صحبته.
[297] وقال وقد سئل عن مسافة ما بين المشرق والمغرب:
فقال: (مسيرة يوم للشمس): أراد التنبيه على أنه وإن عظم قدر مسافته وامتدت أطرافه وحواشيه فإنه يقطعه هذا الكوكب في يوم واحد، إشارة إلى القدرة الباهرة، وإعلاماً منه بهذه الحكمة البالغة.
فانظر إلى جوابه ما أقصره، وأرماه إلى المعاني الغريبة، والبدائع العجيبة {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}[البقرة:269].
[298] وقال:
(أصدقاؤك ثلاثة): الذين بالغوا في محبتك، وكانوا صادقين فيها.
(وأعداؤك ثلاثة): الذين بالغوا في العداوة وأمعنوا فيها، هم على هذه العدة.
(فأصدقاؤك: صديقك): الذي صدقك في مودته، وأخلص لك في محبته.
(وصديق صديقك): وصاحب المودة لصديقك.
(وعدو عدوك): فهو صديق لك أيضاً؛ لأنه مبغض لعدوك، ومن أبغض عدوك فهو محب لك، فهؤلاء هم الأصدقاء.
(وأعداؤك ثلاثة): الذين بالغوا في العداوة وصرحوا بها، هم هذه العدة.
(عدوك): الذي صرح بالعداوة وأعلن بها.
(وعدو صديقك): لأن من أبغض صديقك فهو لا محالة مبغض لك.
(وصديق عدوك): عدو لك؛ لأنه مصادق لمن عاداك على عداوتك.
[299] وقال لرجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضرار بنفسه:
(إنما أنت كالطاعن نفسه ليقتل رديفه ): يعني أنه لا خير في مضرة عدوك بفعل يلحقك ضرره؛ كمن يقتل نفسه ليتوصل بها إلى قتل غيره، فهذا لا خير فيه.
[300] (ما أكثر العبر وأقل الاعتبار!): أي ما أكثر المواعظ وأكثر ترادفها على القلوب والخواطر، وأقل من يتعظ بها وينتفع بأحكامها.
ومن كلامه عليه السلام (301-349)
[301] (من بالغ في الخصومة أثم): لأن الخصومة تورث الحدَّة، والحدَّة تورث الغضب، ولا خير في الغضب؛ لأنه يكسب الآثام لا محالة.
(ومن قصَّر فيها ظُلِم): حقه الذي خاصم فيه بتسهيله وتقصيره، فإذاً لا خير في الخصومات، لأن الواحد فيها بين أمرين:
إما بالغ فأثم، وإما قصر فَظُلِم، وإذا كان ولا بد من أحد الأمرين عند الاضطرار إليها فلتكن مقصراً مظلوماً؛ فإن ذلك أيسرهما في الدين.
(ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم): لأنه يحصل عند الخصام ما لا يملك فيه نفسه فيؤدي إلى الإثم، وتجاوز الحد عند الغضب.
[302] (ما أهمني ذنب ): ما وقع همه في قلبي، ولا احتفلت به، ولا باليت بأمره وإن عظم حاله.
(أمهلت أن أصلي بعده ركعتين): ثم يستغفر بعدهما، فإن ذلك يمحوه، وفي الحديث: ((ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ ويحسن وضوءه، ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له)) ، فقوله عليه السلام يشير إلى هذا.
[303] وسئل كيف يحاسب الله الخلائق على كثرتهم؟
فقال: (كما يرزقهم على كثرتهم): يعني فهذا ليس بأعجب من هذا، فإذا جاز هذا فليجز ذاك، والقدرة الباهرة لا تعجز عن أعظم من هذا وأبلغ.
(فقيل له: كيف يحاسبهم ولا يرونه!
فقال: كما يرزقهم ولا يرونه): فهذه مماثلة قريبة ومقايسة واقعة، مفيدة للجواب، مفحمة للسائل.
[304] (رسولك تَرْجُمَانُ عقلك): الترجمان هو: المعبر والمفسر، وغرضه من هذا هو أن الرسول لا بد فيه من جودة التمييز والذكاء، فإنه هو المعبر عنك، والمفسر لأغراضك كلها، ومراده من هذا الندب إلى كون الرسول فطناً كيساً.
(وكتابك أبلغ مزبار ينطق عنك): الزبر: الدفع، وزبره إذا دفعه، وأراد أنه نهاية الدفع من جهتك؛ لما يتضمن من القوارع الشديدة والوعيدات العظيمة، ينطق عنك بما تريده من الأغراض، ولهذا قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ }[الجاثية:29].
[305] (ما المُبْتَلى الذي قد اشتد به البلاء): عظم عليه وكثر وتراكم.
(بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء): بل هذا يكون أعظم؛ لأن ما وقعت فيه من البلاء فهو أخف موقعاً مما ينتظر وقوعه من البلاء، فلهذا كان الدعاء من جهة المعافى أعظم، وهو إليه أحوج لما ذكرناه.
[306] (الناس أبناء الدنيا): أولادها وهي أم لهم.
(ولا يلام الرجل على حب أمه): فإذا رأيتهم مكبون على حبها، متهالكون على جمع حطامها؛ فإنما هو لأجل كونها أماً لهم.
[307] (إن المسكين رسول الله): أرسله الله متعرضاً للصدقة.
(فمن منعه): من الصدقة.
(فقد منع الله): منها بحرمانه له.
(ومن أعطاه فقد أعطى الله): لأن يده يد الله، ولهذا قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}[البقرة:245].
[308] (ما زنى غيور ): الغيرة هي: الأنفة، وأراد أن كل من كان أنفاً على حسبه، فإنه لا يرسل ماءه في غير أرضه ولا يسقيه غير زرعه.
[309] (كفى بالأجل حارساً): فإنه حارس لا يغفل عن المراقبة .
[310] (ينام الرجل على الثُّكل): ثكله إذا حزنه، وغرضه [أن الرجل يخف عليه قتل أولاده، فلهذا ينام عند ذلك لخفته عليه.
(ولا ينام على الحْرَب): وغرضه] من هذا أنه لا ينام على سلب الأموال وأخذها، وعبَّر بالحرب عن ذلك لأنه مظنتها.
[311] (ومودة الآباء قرابة بين الأبناء): يعني إذا كان الأعمام الذين هم الآباء متوادون متواصلون، فهذه المودة تكون صلة وقرابة بين أبنائهم الذين هم أولاد أعمامهم.
(والقرابة إلى المودة أحوج من المودة إلى القرابة): لأن المودة مستقلة تحصل في القرابة وغير القرابة، فلهذا لم تكن محتاجة إلى القرابة.
وأما القرابة فهي محتاجة إلى المودة، فكأن القرابة إذا حصلت من غير مودة فهي كلا قرابة، لبطلان حكمها وهي المودة.
[312] (اتقوا ظنون المؤمنين): ما يقولونه من جهة الظن من أنفسهم.
(فإن الله جعل الحق على ألسنتهم): ينطقون به، وفي الحديث: ((اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله )) ، وفي حديث آخر: ((ظن المؤمن كهانة )) .
[313] (لا يصدق إيمان عبد): يكون صادقاً عند الله محققاً.
(حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده): يشير إلى أن الإيمان حقيقة هو العلم بحقيقة الحال، فإذا كان حاله ما ذكر فهذه لا محالة في حقيقة التصديق بالله على الكمال والتمام لا محالة.
[314] (وقال لأنس بن مالك، وقد كان بعثه إلى طلحة والزبير لما جاء إلى البصرة يذكرهما شيئاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معناهما): يعني في أمرهما الذي هما بصدده.
(فلوى عن ذلك): أي أعرض ومال عنه كما قال تعالى: {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ }[المنافقون:5].
(وقال: إني نسيت ذلك الأمر): عند رجوعه إليه.
(فقال عليه السلام له :
إن كنت كاذباً): في مقالتك هذه أنك أنسيت ما قلت لك تذكرهما إياه.
(فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة): قوله: ضربك الله، من باب ضربه الله بالبلاء أي ألصقه به، وأراد رماك الله بعلة من البياض وهو البرص، وانتصاب بيضاء على الحال من الضمير في قوله: بها، أي في غاية البياض تلمع للناظرين لا تسترها العمامة، فأصاب أنساً هذا الداء بعدُ في وجهه ، فكان لا يرى إلا لابساً للبرقع يغطي وجهه، تصديقاً لكلامه، وقبولاً لدعوته عليه.
[315] (إن للقلوب إقبالاً وإدباراً): إلى الطاعات وتولياً عنها.
(فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل): لشدة رغبتها وخفتها عليها في تحملها.
(وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض): لأجل سآمتها وملالها وإعراضها؛ لأن مع الرغبة يعظم النشاط فيشتغل بالنوافل، ومع الإعراض والإدبار يعظم النفور فيقتصر بها على أداء الفرائض.
[316] (في القرآن نبأ ما قبلكم): من الأنبياء وقصصهم وأخبار القرون الماضية.
(وخبر ما بعدكم): من الحشر والنشر، وصفات القيامة، وأحوال الثواب والعقاب.
(وحكم ما بينكم): من الخصومات والشجار الطويل، فإن الله تعالى بلطفه أودعه هذه الأسرار كلها {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام:38].
[317] (رد الحجر من حيث جاء): المعنى في هذا أرجم من رجمك، وقد صار هذا مثلاً يضرب في دفع السوء بمثله ، ولهذا علله بقوله:
(فإن الشر لا يدفعه إلا الشر): أراد الإشارة إلى قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }[الشورى:40].
[318] وقال لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع :
(ألق دواتك): أي أصلحها، من قولهم: لاق طعامه إذا أصلحه بحطِّ الزبد عليه، قال الشاعر:
وإنِّي لمن سالمتم لألوقة
وإنِّي لمن عاديتم سمٌّ أسودُ
(وأطل جِلْفة قلمك): الجِلْفة بالفاء هي: القشرة، وجلفته أي قشرته، وإنما أمره بإطالة الجلفة للقلم ؛ لأنها مع الاستطالة أتم بحمل المداد ، وأكثر امتلاء للأحرف منه.
(وفرِّج بين السطور): باعد ما بينها لئلا تكون متداخلة فتعمى بعضها ببعض.
(وقرمط بين الحروف): يعني أقصرها عن إطالتها، أخذاً من القرمطة وهي: قصر الخطى.
(فإن ذلك أجدر بصباحة الخط): أحق بحسن المنظر فيه، وصلاحية الهيئة له.
[319] (أنا يعسوب المؤمنين): اليعسوب هو: أمير النحل ورئيسها، وأراد أن المؤمنين يتبعونني كما تتبع النحل رئيسها.
(والمال يعسوب الفجار ): أي لا يتبعه إلا من كان فاجراً لا خير فيه.
[320] وقال له بعض اليهود: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فيه .
(فقال له: إنما اختلفنا عنه لا فيه): يعني أن اختلافنا إنما كان فيما بلغنا عنه من ألفاظه النصوص منها، والظواهر وإيمائه وإشارته، وفحوى كلامه بعد التصديق له فيما جاء به من الأخبار، والغيوب وأحكام الآخرة.
(ولكنكم ما جفَّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم): يريد ولكن الاختلاف المذموم والفعل الملوم ما فعلتموه أنتم، فإن الله لما نجاكم من البحر، عقيب ذلك قلتم لنبيكم:
({اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ })[الأعراف:138]: فانظر إلى جوابه هذا ما أقطعه لشغب السائل، وأفحمه للسانه، وأبلغه في المحاجة.
[321] وقيل له: بأي شيء غلبت الأقران؟ يعني الأمثال.
فقال: (ما لقيت أحداً إلا أعانني على نفسه): يومئُ بذلك إلى تمكن هيبته في القلوب وعظم موقعه منها، فمن أجل هذا تصيب غيره الدهشة والفشل، فتكون عليه الدائرة من أجل ذلك.
[322] وقال لابنه محمد:
(يابني، إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه): وإنما قال له ذلك؛ لأن محمداَ كان فيه نسك وصلاح وتقوى، فيكاد من هذه حاله يكون شعاره الفقر؛ لأنه شعار الصالحين.
(فإن الفقر منقصة للدين): نقص له.
سؤال؛ كيف يقال: بأن الفقر هو شعار الصالحين، وفيه ما ذكر من نقص الدين وهدمه؟
وجوابه؛ هو أنه إنما يكون شعاراً لأهل الصلاح في حق من صبر عليه، وجعله من جملة البلاوي المصبور عليها رجاء للثواب من جهة الله تعالى.
فأما من لا صبر له عليه، فإنه يؤدي إلى الدخول في المداخل الضنكة، ويفضي به إلى المطالب الوحشة التي تنقص الدين وتغيّر في وجهه وتثلمه.
(مدهشة للعقل): تصيب منه دهشة وفشل في العقل واضطراب في حاله؛ لما فيه من الألم والمضرة.
(داعية للمقت): البغض والكراهة من جهة النفوس.
[323] وقال لسائل سأله عن معضلة :
(سل تفقهاً): أي تفهماً واستبصاراً للأمر وتحصيلاً لغرض المسألة.
(ولا تسأل تعنتاً): جاء متعنتاً أي يطلب زلتك وعثارك.
(فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم): في حسن سؤاله وإيراده وتفهمه للجواب كما يفعله العالم بذلك الخبير به.
(وإن العالم المتعسف شبيه بالجاهل): لأنه لا يزال يكرر السؤال ويردده طالباً للزلل فيه، وكلما أجيب بجواب أعرض وسأل عن غيره، كما يفعله الجاهل الذي لا خبرة له.
[324] وقال لعبد الله بن العباس، وقد أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه فيه:
(لك أن تشير عليَّ): أي تتوجه عليك النصيحة لي.
(وأرى): أي ولي ما أرى من اقتضاء المصلحة في رأيك وخلاف ذلك.
(فإذا عصيتك): لوجه أراه وأعرفه مصلحة.
(فأطعني): فالواجب عليك الطاعة لي.
[325] (وروي أنه عليه السلام لما ورد الكوفة قادماً من صفين مرَّ بالشباميين): وهم قوم من أصحابه، منسوب إلى شِبَام حي من العرب، وشِبَام أيضاً: قرية باليمن ، فيها مآثر.
(فسمع بكاء النساء على قتلى صفين، وخرج إليه حرب بن شُرَحْبِيْل الشّباميّ، وكان من وجوه قومه، فقال له:
لاتغلبنكم النساء على ما أسمع): يعني من الأصوات المرتفعة الشبيهة بالنياحة، فأما البكاء فإنَّا لا ننكره؛ وإنما ننكر هذه الأصوات العظيمة عقيب المصائب، كما ورد الشرع بإنكارها .
(ألا تنهونهن عن هذا الرنين!): الصياح بالمصيبة.
(وأقبل حرب يمشي معه وهو عليه السلام راكب، فقال له : ارجع فإن مَشْيَ مثلك): ارجع عن مشيك هذا، فإن مشي مثلك من الرعية والإخوان والأصحاب.
(مع مثلي): من الأئمة والرؤساء والولاة.
(فتنة للوالي): لما يلحقه في ذلك من الفخر والخيلاء والتكبر.
(ومذلّة للمؤمن): لما يلحقه بذلك من الذل والصغار.
[326] (وقال وقد مرَّ بقتلى الخوارج يوم النهر) : يعني شطَّ الفرات، فإنهم قتلهم هنالك:
(بؤساً لكم!): أي عذاباً، وانتصابه على المصدرية التي لا يظهر فعلها.
(لقد ضركم): ألحق بكم الضرر.
(من غرَّكم): زيَّن لكم الأعمال القبيحة حتى اغتررتم بها.
(فقيل له: من غرَّهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: الشيطان المضل): عن طريق الخير.
(والأنفس الأمارة بالسوء): تأمرهم بما يسوء النفوس ويؤلمها.
(غرتهم بالأماني): الكاذبة.
(وفسحت لهم المعاصي ): جعلتها عليهم فسيحة بتزيينها لهم.
(ووعدتهم الإظهار): الظهور على أغراضهم ومقاصدهم.
(فاقتحمت بهم النار): أوردتهم إليها وأدخلتهم فيها، يقال: أقحمته فانقحم أي أدخلته فدخل.
[327] (اتقوا معاصي الله في الخلوات): في المواضع الخالية، والأماكن المقفرة.
(فإن الشاهد هو الحاكم): يريد أن الله تعالى كما هو مشاهد لها، فإنه الحاكم فيها، فلا يحتاج فيها إلى بينة تقام، ولا تخفى عليه خافية.
[328] وقال لما بلغه قتل محمد بن أبي بكر رحمه الله:
(إن حزننا عليه): ما نجده من الأسف على فقده.
(على قدر سرورهم به): مثل ما يلحقهم من المسرة.
(إلا أنهم نُقِصُوا بغيضاً): يبغضهم ويدرأ في نحورهم.
(ونُقِصْنَا حبيباً): كان يحبنا ونحبه، وكان استشهاده في مصر، قتله عمرو بن العاص، أميراً في عسكر معاوية .
[329] وقال: (العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة): أعذر إذا صار ذا عذر عندك، أي أن الله تعالى إذا عاقبه بعد ذلك على فعل المعاصي، وترك الانكفاف عن المناهي فله العذر في ذلك، وفي الحديث: ((لن يهلك الناس حتى يُعْذِرُوا من نفوسهم )) أي يستوجبون العقوبة من جهة الله تعالى، فيكون لمن يعذ بهم العذر في ذلك؛ لأن بلوغ الستين هو كما ل العمر، وفي الحديث: ((معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين )) .
[330] (ما ظفر من ظفر به الإثم ): أراد أنه لا ظفر لمن خالطه الإثم، وكان متلبساً به.
(الغالب بالشر مغلوب): يعني من كان غالباً بالبغي والظلم لغيره فهو في الحقيقة مغلوب؛ لأن الله تعالى يديل منه وينصر عليه.
[331] (إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء): يعني ما فرضه من الزكاة في هذه الأموال وجعل مصرفها الفقراء، وجعلهم عالة لهم، وفي الحديث: ((الفقراء عالة الأغنياء )) أي يعولونهم بما فرض الله لهم من الحقوق في هذه الأموال.
(فما جاع فقير إلا بما منع غني ): لأنهم لو أدَّوها كلها لم تر فقيراً جائعاً؛ لأن الله تعالى ما فرضها على الوجه التي فرضها إلا مع علمه بأنها كافية للفقراء، فإذا رأيت نقصاً من ذلك فهو بمخالفة الله تعالى في إخراجها، وفي الحديث: ((أمرت أن آخذ الصدقات من أغنيائكم ، وأردُّها في فقرائكم)) .
(والله تعالى جده سائلهم عن ذلك): أراد إما سائلهم عن المنع وما وجهه؟ وإما سائلهم عن الفرض الذي فرضه هل أدَّوه أم لا؟
[332] (الاستغناء عن العذر، أعز من الصدق به): أراد أن ترك الاعتذار إذا سئلت عن حاجة وقضاها أفضل لا محالة من أن تكون صادقاً في عذرك عن قضائها عند الله تعالى وعند السائل لها، أو يريد ترك الاعتذار والاستغناء عنه أفضل من إظهار العذر وإن كنت صادقاً فيه؛ لأن ترك العذر والاستغناء عنه لا ينقطع رجاء السائل لقضاء حاجته، فأما مع العذر فينقطع رجاؤه في قضائها.
[333] (أقل ما يلزمكم لله): أحقر الأشياء المتوجه وجوبها عليكم من جهة الله تعالى.
(ألاَّ تستعينوا بنعمه على معاصيه): ترك الاستعانة بما أنعم الله تعالى من العافية والصحة والشهوة، والقدرة وتمكين المال على ارتكاب الفواحش وإتيان المعاصي، فإن المعصية لا تمكن إلا بهذه الأشياء، وهي من نعمه الكاملة.
[334] (إن الله سبحانه جعل الطاعة غنم الأكياس): أي مغنمهم الذي يغنمونه، وفوزهم الذي يفوزون به في الآخرة.
(عند تفريط العجزة): إذا فرَّط هؤلاء العاجزون عنها غنمها أولئك.
[335] (السلطان وَزَعَة الله في أرضه): الْوَزَعَةُ ها هنا: جمع وازع، وعلى هذا يكون له معنيان:
أحدهما: أن يكون السلطان بمعنى القهر والغلبة، ويكون على حذف مضاف كأنه قال: ذوو السلطنة والقهر والغلبة وَزَعَة الله في أرضه، أي يكفون من أراد باطلاً ويمنعونه عن إتيانه.
وثانيهما: أن يكون السلطان اسماً على حاله، ويكون المعنى فيه أن السلطان لو لم يكن موجوداً لما كف الناس عن ارتكاب المعاصي والتظالم بأخذ الأموال وانتهاك المحارم، إلا بأن يوكل بكل واحد وازعاً يكفه عن ذلك ويقهره عليه، فالسلطان لا محالة يكفي عن ذلك، فلهذا كان بمنزلة الْوَزَعَةِ، فلهذا جاز أن يقال: السلطان وَزَعَةُ الله في أرضه، لكمال هيبته وتحكيم إيالته وسياسته، فلهذا قام مقام عدِّة من الوازعين، ونظير هذا قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً }[النحل:120]، يعني لكماله في التقوى والعلم كان بمنزلة جماعة.
[336] (المؤمن بشره في وجهه): يعني أنه إذا كان مستبشراً فهو مرئي في وجهه، وفي الحديث: ((كان رسول الله [صلى الله عليه] إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر)) .
(وحزنه في قلبه): يعني أنه يكتمه ولا يظهره لأحد.
(أوسع شيء صدراً): لانشراحة بالدين والإيمان.
(وأذل شيء نفساً): إذ لا عزة فيه، ولا كبر يلحقه.
(يكره الرفعة): أن يرفع قدره، ويعظم له أمره.
(ويشنأ السمعة): الشنأة: البغض، وأراد أنه يبغض أن يسمع بعمله الذي عمله لله.
(طويل غمه): لا يزال مدة عمره.
(بعيد همُّه): ليس الغرض أن آماله بعيدة، وإنما الغرض هو أنه إذا عرض شيء من الدنيا، فهمُّه بفعله وأخذه بعيد لا يكاد يعرِّج عليه.
(كثير صمته): أي لا يكاد يتكلم، فإن تكلم فإنما كلامه مقصور على ما يعَنيه.
(مشغول وقته): بالطاعات والاشتغال بأمر الآخرة وإصلاحها، وإصلاح حال عيشه في الدنيا.
(شكور): لنعم الله تعالى.
(صبور): على بلاءه.
(مغمور): لا يؤبه له، ولا يدرى بقدره ومكانه.
(بفكرته): يعني أن تفكره في أمر المعاد، وما يؤول إليه أمره في الآخرة، هو الذي غمره فلا يعلم بحاله.
(ضنين بخَلَّتِهِ): الْخَلَّةُ بفتح الخاء بنقطة من أعلاها هي: الفقر، وأراد أنه بخيل بحاجته فلا يفضيها إلى أحد من الخلق.
(سهل الخليقة): أمره في أموره كلها مبني على السهولة، أو أراد أن خلائقه سلسة.
(لين العريكة): أراد أن طبيعته لينة كيفما شئت قلبته، ولك الحيلة فيه.
(نفسه أصلب من الصلد): يعني أن نفسه في الدين وفي ذات الله فيها صلابة عظيمة لايعرف كنهها، والصلد هو: الحجر الأملس البرَّاق.
(وهو أذل من العبد): يعني أن نفسه عنده لا قدر لها عنده ولا خطر لها يستركُّ حالتها ، فهي عنده كنفس العبد في الركة والرذالة.
[337] (لو رأى العبد الأجل ومسيره ): يعني لو رآه وتفكَّر في حاله في سرعة جريه إليه وإتصاله به.
(لأبغض الأمل وغروره): لكره الآمال كلها، وعزل عن نفسه الاغترار بها؛ لأن الأجل إذا كان قاطعاً لهذه الآمال فلا حاجة إلى الاغترار بها.
[338] (لكل امرئ في ماله شريكان): أراد أن كل من كان له مال فلا بد من أن يشاركه فيه اثنان:
(الوارث): الذي يخلفه له بالمهناة له ، والتبعة على من جمعه، وهو صاحبه.
(والحوادث): الجواري التي تجري عليه بالإتلاف والأخذ، فهو لا يخلو عن هذين الأمرين.
سؤال؛ مشاركة الوارث مفهومة، والحوادث متلفة له، فكيف يقال بأنها مشاركة له؟
وجوابه؛ هو أن الغرض من المشاركة إنما هو اقتطاع بعض المال وأخذه، وسواء تلف في يده كما في الحوادث، أو بقي كما في حق الوارث، فلهذا كانت المشاركة مفهومة، وبطل ما قاله السائل.
[339] (الداعي بلا عمل): يعني الذي دأبه الدعاء بأن يفعل له ما يفعل لغيره من الصالحين المجتهدين في فعل الطاعة والتميز بالأعمال الصالحة، وليس فاعلاً مثلهم ولا متخلقاً بأخلاقهم، فهو فيما قاله وزعمه:
(كالرامي بغير وتر): فلا يمكن رميه، ولا يجدي جدوى.
[340] (العلم علمان: مطبوع ومسموع): أراد بالمطبوع العلم العقلي، وإنما سمي العقلي مطبوعاً؛ لأن الطبع ما جبل الإنسان عليه وطبع، والإنسان من حيث كان إنساناً غير خالي عن العقل وتركيبه، ومعرفة الله تعالى والعلم بتوحيده وحكمته من العلوم العقلية.
وأما المسموع فهو: الشرعي، وإنما سماه سمعياً من حيث كان طريقه ما يسمع من كلام الرسول ونطقه وأخباره، فصارت الأمور الدينية لا تنفك عن أن تكون عقلية أو نقلية كما ذكره.
(ولا ينفع المسموع، إذا لم يكن المطبوع): يريد أن العلم النقلي لا تكون له فائدة ولا جدوى إلا بالعلم العقلي؛ لأنه هو أصله وقاعدته التي إليها يستند.
[341] (صواب الرأي بالدول [يقبل بإقبالها] ويذهب بذهابها): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد لا حكم للرأي في الإصابة إلا بالقهر والغلبة، فمهما كان القهر فالصواب مقارب للرأي لا محالة، فإذا كان لا قهر فالرأي لا وجه له.
وثانيهما: أن يكون مراده بصواب الرأي نفوذه، فمهما كانت الدولة والقهر، فهو نافذ، ومهما كان لا دولة هناك فلا ينفذ أصلاً.
[342] (العفاف زينة الفقر): أراد بالعفاف الانكفاف عن المسألة، وهي لا محالة مما يزين الفقر؛ لأنها شرف له وزيادة في الأجر عليه.
(والشكر زينة الغنى): لأمرين:
أما أولاً: فللزيادة عليه، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }[إبراهيم:7].
وأما ثانياً: فلدوامه؛ لأن في الشكر دوام النعم واستمرارها، وفي الحديث: ((قيدوا النعم بالشكر ؛ فإن لها شواردَ كشوارد الإبل)) .
[343] (يوم العدل على الظالم): يشير إلى يوم القيامة؛ [لأنه يوم المقاصة من جهة الله تعالى على جهة الإنصاف والعدل فهو لا محالة] :
(أشد من يوم الجور على المظلوم): في الدنيا؛ لأنه ظلم وجور على المظلوم، وإنما كان أشد لما يؤول إليه الأمر من المحاسبة الشديدة، والأهوال العظيمة، والصيرورة إلى النار.
[344] (الأقاويل محفوظة): الأقاويل: جمع أقوال، جمع قول، وغرضه أنها مسموعة فتصير محفوظة يُمَيَّزُ بين خيرها وشرها، وصدقها وكذبها وجيدها ورديها.
(والسرائر مبلوَّة): يعني أنه لا يُمِيَّزُ بين حسنها، وقبيحها، وخبيثها، وطيبها إلا بالاختبار دون السماع فلا يمكن فيها.
(و{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ})[المدثر:38]: أي مرتهنة بأقوالها وسرائرها وجميع أعمالها.
(الناس منقوصون): أي معيبون، أخذاً له من النقيصة وهي العيب؛ أي أنه لا يوجد فيهم كامل.
(مدخولون): يقال: دَخَلُ فلان إذا كان فيه دغل وفساد في طريقته.
(إلا من عصم الله): عن العيب والفساد، والدغل في عمله وصدره.
(سائلهم متعنت): من سأل منهم فإنما يسأل على جهة التعنت، وهو طلب الزلل من المسؤول.
(ومجيبهم متكلف): ومن أجاب منهم عما يسأل؛ فإنما يكون جوابه تكلفاً من غير بصيرة ولا علم قاطع.
(يكاد أفضلهم رأياً): أعظمهم في الإصابة في الرأي وأجزلهم فيه:
(يردُّه عن فضل رأيه): يكفُّه عن أن يشير على غيره بالصواب، ويتفضل عليه بالسديد منه:
(الرضى والسخط): فإذا كان راضياً عنه نخله مخزون رأيه وأمده بالصواب منه، وإذا كان ذا سخط عليه كتمه الرأي ولم يبالغ في نصحه به، وهدايته إليه.
(ويكاد أصلبهم عوداً): أعظمهم شوكة، وأقواهم على تحمل الأمور الشديدة.
(تنكؤه اللحظة): نكأت الرجل إذا جرحته، وأراد أن اللحظة بالعين تجرحه وتؤلمه.
(وتستحيله الكلمة ): أي أنه إذا سمع كلمة واحدة أحالته عن طباعه، وغيَّرته عن شيمه وخلائقه، واستحال بمعنى أحال، كقولهم: استجاب بمعنى أجاب.
[345] (معاشر المسلمين ، اتقوا الله): المعاشر: جمع معشر وهو الجماعة من الناس، عاملوه في أموركم وأحوالكم كلها معاملة من يتقيه من نزول عذابه.
(فكم من مؤمِّل ما لا يبلغه): من جميع الآمال كلها.
سؤال؛ قوله: فكم من مؤمِّل ما لا يبلغه، منافر لقوله: اتقوا الله، فما وجه إيراده بعده؟ وكيف نظمهما في سياق واحد من الكلام؟
وجوابه؛ هو أن معظم أسباب التقوى، وأقوى قواعدها تقصير الآمال؛ لأن بتقصير الأمل يزكو العمل؛ فلأجل ذلك جعله على أثره وعقَّبه به.
(وبانٍ لا يسكنه ): أي وكم من بناء لا يسكنه بانيه، ويزعج عن سكونه فيه.
(وجامع): من الأموال والنفائس.
(ما سوف يتركه): بعد موته وارتحاله عنه.
(ولعله من باطل جمعه): يريد من المعاوضات الباطلة، والمداخل القبيحة السيئة.
(ومن حق منعه): يريد أن اجتماع الأموال إنما يكون من منع الحقوق وإيفائها أهلها، أو من اجتماعها من الوجوه المحظورة.
(أصابه حراماً): إما من قولهم: صاب السهم إذا قصد، وإما من قولهم: أصابه إذا وجده.
(واحتمل به آثاماً): أي من أجل جمعه وكسبه أوزاراً عظيمة.
(فباء بوزره): أي استقر في مباءة الوزر، وتمكَّن فيها.
(وقدم على ربه آسفاً): نادماً على ما فرط في جنب الله، أو نادماً على جمع ما جمعه، وكنزه من الأموال.
(لاهفاً): اللهف: أشد الحزن، وأراد أنه متلهف على ما سلف منه في ذلك كله.
(قد {خَسِرَ الدُّنْيَا}): بذهاب ما جمعه عن يده، وانقطاعه عنه.
({وَالآخِرَةَ}): بفوات الثواب عنه، وبعده عن منازل الأبرار والصالحين.
({ذَلِكَ}): أي الذي ذكرته من خسارته للدنيا والآخرة.
({هُوَ الْخُسْرَانُ}): الذي لا خسران مثله.
({الْمُبِينُ}[الحج:11]): الواضح الذي لا شبهة فيه.
[346] (من العصمة تعذر المعاصي): أراد إن من أسباب التوفيقات والعصمة من جهة الله تعالى، هو أن الإنسان إذا همَّ بمعصية وعزم على فعلها من جهة نفسه، ثم عرض عنها عارض فتعذرت لمكانه، فهذه أمارة دالة على العصمة عن المعصية، ولطف من جهة الله تعالى للعبد وخيرة في ذلك.
[347] (ماء وجهك جامد يُقْطِرُهُ السؤال): كناية حسنة عن عظم المسألة وصعوبة حالها؛ لأن تَقَطُّر وجه الإنسان لا يكون إلا عند تحمل الشدائد العظيمة، فلهذا كنى بالتقطير عن السؤال.
(فانظر عند من تُقْطِرُهُ): يقول: إذا كان ولا بد من تحمل هذا الأمر الصعب ومكابدة هذه الشدائد فارتد له أهلاً يستحق ذلك منك، ويستوجبه من جهتك من أهل الكرم وأصحاب المعروف، ومحامد الشيم.
[348] (الثناء بأكثر من الاستحاق مَلَقٌ): رجل مَلِقٌ إذا كان يعطي بلسانه أكثر مما في قلبه، وَالْمَلَقُ بالتحريك هو: الودُّ واللطف الشديد، وأراد أن الثناء إذا كثر من غير استحقاق فهو مما يعطى باللسان فقط.
(والتقصير عن الاستحقاق عيُّ): والقعود عن الإتيان بالمستحق، إما عياية في الرجل وبلاهة في عقله.
أو حصر: فلا يستطيع القول لاعتقال لسانه.
(أو حسد): وهو منعه عما يستحقه من الثناء؛ كما يتمنى زوال نعمة المحسود.
[349] (أشد الذنوب ما استهان به صاحبه ): أراد أعظمها وزراً وذنباً عند الله تعالى ما فعلته معتمداً له مستهيناً بحاله، وأنه غير ضار لك أو تعتقد أنه صغير، وفي الحديث: ((إياك ومحقرات الذنوب ؛ فإن لها من الله طالباً))، أراد أن الله يطلبها ويحققها على صاحبها ويحاسبه على اجتراحها؛ لأن استهانته بها يبعِّده عن الندم عليها والاستغفار منها، وفي الحديث: ((لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار)) .
ومن كلامه عليه السلام (375-400)
[375] (أيها المؤمنون ): خطاب لطف وكرامة حيث ذكرهم بما يعظم أمرهم، ويكون رفعاً لهم من منازلهم وهو ذكر الإيمان.
(إنه من رأى عدواناً يعمل به): الضمير للشأن أي ظلماً وتعدياً على الخلق يفعل به، ويكون صاحبه عاملاً له.
(ومنكراً يدعى إليه): تحيا آثاره وتقام له سوق.
(فأنكره بقلبه): كرهه ونفر عنه.
(فقد سلم): عن أن يكون راضياً به.
(وبرئ): عن أن يقال فيه: إنه مريد له.
(ومن أنكره بلسانه): قبَّح فعل من فعله، وذمَّه على ما فعله من ذلك، وصرَّح به من لسانه، فمن فعل هذا:
(فقد أجر): أحرز أجره من جهة الله تعالى، ونال الثواب من جهته.
(وهو أفضل من صاحبه): وإنما كان أفضل لأمرين:
أما أولاً: فلأنه أنكره بلسانه وقلبه، والأول إنما أنكره بقلبه لا غير.
وأما ثانياً: فلأنا لو قدرنا أنه لم ينكره الأول بقلبه؛ فلأن إنكاره بلسانه هو أظهر وأشهر وأدخل في الكف وأظهر في اللوم، فلهذا كان بفعله له أفضل.
(ومن أنكره بالسيف): يريد بالقتل والقتال، وإهراق الدماء.
(لتكون كلمة الله هي العليا): جعل هذا كناية عن نفوذ الأمر لله تعالى، وألا يكون مردوداً، والكف عمَّا نهى عنه، وألا يكون مفعولاً، فمتى كان الأمر كما قلناه كانت كلمة الله من أمره ونهيه هي العالية المستظهرة بما ذكرناه.
(وكلمة الظالمين السفلى): بأن تكون أوامرهم فيما يأمرون به من الظلم والجور، وأنواع الفسوق غير مطاعة، ونواهيهم عن العدل والإنصاف غير مقبولة لنزول أمرهم، وبطلان حالتهم في ذلك.
(فذاك ): إشارة إلى المنكر بالسيف.
(الذي أصاب سبل الهدى): وجد طريق الهدى واضحة فسلكها وأمَّها وقصدها.
(وقام على الطريق): أراد إما استقام على الدين من غير زيغ ولا اعوجاج في أمره، وإما استقام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير فتور ولا تهوين منه في حالهما، فالطريق شاملة لما ذكرناه.
(ونُوِّرَ في قلبه اليقين): أراد إما استنار قلبه وانشرح صدره بتحققه لأمور دينه وقطعه بها، وإما أن الله شرح صدره ونوَّر قلبه بما ألهمه من القيام بأمره ونهيه في فعل معروف، أو كف عن منكر.
[376] وفي كلام له آخر يجري على هذا المجرى:
(فمنهم المنكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه): فإنكاره بقلبه: كراهته له ونفاره عمن هو متعلق به، وإنكاره بلسانه هو: النهي عنه، والذم لمن تلبس به وخالطه، والإنكار بيده هو: الكف عنه بالضرب والحبس والقتل والقتال بالسيف، فمن فعل هذه الأمور الثلاثة:
(فذلك المستكمل لخصال الخير): أراد الذي أحرزها وقام لله تعالى بها، كما هو عادة من سلف من الأئمة السابقين من الصدر الأول إلى يومنا هذا، لايزالون مجتهدين في إيحار صدور الظلمة وتنغيص أحوالهم وتكدير لذاتهم، وإرغام أنوفهم تقرباً إلى الله تعالى، وفوزاً بما وعد الصابرين من الأجر على ذلك.
ولله درُّ الفاطمية لقد أبلوا في إعزاز دين الله وإعلاء كلمته بلاء عظيماً، وعرَّضوا نحورهم للمنايا احتساباً في الله وامتثالاً لأمره حتى نالت الأموية، والعباسية منهم نيلاً عظيماً.
فأما الأموية فاستولوا على قتل الحسين بن علي ، ومن أولاده علي الأكبر، وأبو بكر، وعمر، وعبد الله، والقاسم وغير هؤلاء من أولاد أمير المؤمنين.
وقتل سليمان بن عبد الملك عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وهشام قتل زيداً وابنه .
وأما العباسية فاستولوا على خلق عظيم من الفاطمية قتلاً بالسيف، ولهذا قال الأمير أبو فراس:
ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت
تلك الجرائر إلا دون نيلكم
فقتل أبو جعفر الدوانيقي محمد بن عبد الله النفس الزكية ، ثم قتل أخاه بعده إبراهيم بن عبد الله إلى غير ذلك ممن صلبوه أو قتلوه بالسيف أو مات في سجونهم، ولولا خوف الإطالة لذكرنا طرفاً من سيرهم وأخبار قتلهم .
(ومنهم المنكر بقلبه ولسانه): فإنكاره بلسانه بالنهي عنه والذم لمن فعله، وإنكاره له بقلبه بالكراهة له والعزم على تغييره عند القدرة على ذلك.
(والتارك): له
(بيده): أي ولا يغيره بيده لعدم القدرة له على ذلك.
(فذاك متمسك بخصلتين من خصال الخير): يشير إلى إنكاره له بما كان من لسانه وقلبه بالكراهة والذم كما قررناه.
(ومضيع خصلة): وهي إنكاره له بيده لما ذكرناه من عدم القدرة، وظاهر كلامه أنه أهمله مع القدرة، ولهذا سماه مضيعاً.
(ومنهم المنكر بقلبه): كارهاً له، عازماً على تغييره.
(والتارك بيده ولسانه): فلا ينهى عن ذلك ولا يغيَّره بيده، والظاهر من كلامه تركهما مع إمكانهما.
(فذاك ضيع أشرف الخصلتين): وهما الإنكار باليد واللسان، وإنما كان ذلك أشرف الخصال لما يظهر فيهما من النفع والكف الظاهر عن المنكر، ولما يحصل عليهما من الأجر عند الله بمقابلة المشاق العظيمة فيهما.
(من الثلاث): أي من الخصال الثلاث: اليد، واللسان، والقلب.
(وتمسك بواحدة): وهو ما ذكرناه من الكراهة بالقلب.
(ومنهم تارك لإنكار المنكر): مبطل له، ساكت عنه، لا يخطر له على بال قط.
(بلسانه، وقلبه، ويده): فلا ينهي عنه بلسانه، ولا يكرهه بقلبه، ولا يغيَّره بيده.
(فذاك): أي الذي ذكرناه.
(ميت الأحياء): يعني إن كان في الأحياء ميت فهذا هو.
(وما أعمال البر كلها): من أنواع القربات من العبادات كلها وأحوال الصدقات.
(والجهاد في سبيل الله): تعريض الأرواح لله قتلاً بالسيف؛ جهاداً على إعزاز دينه، وإيحار صدور الظلمة وأهل الجور وغير ذلك من أنواع هذه الطاعات والتقربات.
(عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): بالإضافة إلى ما يكون إلى الأمر بالمعروف عموماً، والنهي عن المنكرات عموماً.
(إلا كنفثة): مجة من الفم.
(في بحر لجي): اللجة هي: الماء الكثير بعيد القعر، ولقد صدق عليه السلام في مقالته هذه، ولهذا فإن الفضلاء من الخلفاء الراشدين، والأئمة السابقين آثروا هذه الخصلة على غيرها من سائر أنواع القرب، والطاعات، وما ذاك إلا لعلمهم بأنه من الدين في قرار مكين.
(وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): يريد بما يكون من القلم، واللسان، والسيف، والسنان.
(لا يقربان من أجل): بالقتل والموت.
(ولا ينقصان من رزق): مما قدره الله وفرضه وعلم بلوغه إلى الإنسان.
(وأفضل ذلك كلمة عدل عند إمام جائر): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد كلمة حق يلفظ بها صاحبها عند إمام جائر لا يخاف الله، كما قال عليه السلام: ((أفضل الجهاد كلمة حق بين يدي سلطان جائر )) ، ولعله أراد هذا بما قاله.
وثانيهما: أن يكون مراده الأمر بالعدل لمن كان من الظلمة جائراً خائناً، فإن النفع بهذا الأمر يكون نافعاً لعمومه، عند هذا الجائر.
[377] (أول ما تغلبون عليه من الجهاد): يؤخذ عليكم قهراً فلا تقدرون على فعله.
(الجهاد بأيديكم): فلا تقدرون على قتال الظلمة بالسيف.
(ثم بألسنتكم): تقهرون فلا يقدر أحدكم على النهي عنه بلسانه.
(ثم بقلوبكم): فلا يقدر أحدكم على إظهار كراهته؛ فضلاً عن أنه يعزم على تغييره وإنكاره.
(فمن لم يعرف بقلبه معروفاً): يعتقده ويعزم على أدائه ويقصد إليه.
(ولم ينكر منكراً): يكرهه ويعزم على الكف عنه، والتغيير له.
(قُلِبَ فجعل أعلاه أسفله) : فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن الله يخذله ويطمس على قلبه، ويجعل على بصره غشاوة، فلا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً بعد أن كان عالماً بالمنكر والمعروف، فهذه فائدة قلبه.
وثانيهما: أن يكون مراده أن هذا الشخص لشدة عماه واستحكام ضلاله يعتقد في المعروف أنه منكر، و يعتقد في المنكر أنه معروف، فيترك المعروف لاعتقاده أنه منكر ويفعل المنكر لاعتقاده أنه معروف، فهذا أشد ضلالاً من ذاك، وهذه فائدة كونه منكوساً مقلوباً، وفي الحديث: ((إن القلب إذا لم ينكر المنكر نكس فجعل أعلاه أسفله)) يشير إلى ما وجهناه ها هنا.
[378] (إن الحق ثقيل مرئ): يشير إلى أنه يثقل بحمله ويصعب فعله، لكن فيه خفة على القلب ومراءة على الكبد.
(وإن الباطل خفيف وبئ): أراد أنه يسهل حمله لما فيه من موافقة الهوى، والسهولة على النفس، لكنه وخيم العاقبة في الدنيا بتعجيل الانتصاف من صاحبه، وتأخر العقوبة له في الآخرة.
[379] (لا تأمننَّ على خير هذه الأمة عذاب الله): ثم تلا عقيب ذلك قوله تعالى: ({فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ })[الأعراف:99]: والمكر هو: العذاب من حيث لا يشعر به الإنسان، ولا يدري به، شبه بمكر الماكر على جهة الاستعارة، وفي القرآن أمثال من هذا كثيرة، فحاصل الاستدلال بالآية أن الأمة غير خاسرة فهي إذاً غير آمنة من العذاب.
(ولا تيأسنَّ لشر هذه الأمة من روح الله): من فرجه ولطفه؛ لقول الله تعالى : ({إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ })[يوسف:87]: وشرار هذه الأمة ليسوا كفاراً، فلهذا كانوا غير آيسين من فرج الله وروحه، وأراد أنه لا ينكر فرج الله ولطفه إلا كافر به مجحد له.
[380] (البخل جامع لمساوئ العيوب): يشير إلى أنه شر الخصال الردية في الإنسان، فلا شر إلا وهو مندرج تحته، وأصله وحراثه ، كما أن الخمر جماع الآثام.
(وهو زمام يقاد به إلى كل سوء): كما قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[الحشر:9]، وفي الحديث: ((إياكم والشح! فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دمائهم، واستحلوا محارمهم)) .
وقال عيسى عليه السلام: ((لا يدخل الجنة بخيل، ولا خِبُّ ، ولا خائن، ولا سيء الملكة)) .
[381] (الرزق رزقان ): يريد جميع الواصل إلى بني آدم من أرزاقهم من جهة الله تعالى.
(رزق تطلبه): بالاحتراف وأنواع الطلبة ، وضروب الحيل.
(ورزق يطلبك): من غير كد ولا تعب من جهتك له، فالأول لا بد من طلبه والاجتهاد في تحصيله.
وأما الثاني:
(فإن لم تأته أتاك): يعني أنه لا يحتاج إلى طلب وكد.
(فلا تحمل همَّ سنتك على همِّ يومك): يعني لا تهمّ إحراز رزق السنة في يومك هذا، أو أراد لا تطلب رزق السنة في اليوم.
(كفاك كل يوم مافيه): من الرزق الذي قسمه لك فيه، فإنه كاف لك لا محالة.
(فإن تكن السنة من عمرك): مما قد قدرها من عمرك وأبقاك فيها ومد عمرك إلى انقضائها.
(فإن الله سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك): فرزقك فيها مقسوم في كل يوم جديد منها من غير حاجة إلى كلفة وتعب في همك بها.
(وإن لم تكن السنة من عمرك): لم يقدر لك العيش فيها وأجلك من دونها.
(فما تصنع بالهمِّ لما ليس لك): أي لا تبلغه ولا تدري ما يفعل به بعدك.
(ولن يسبقك إلى رزقك طالب): أراد أنه لا يأخذه أحد يسبقك عليه، ولا طالب يطلبه فيعطى إياه.
(ولن يغلبك عليه غالب): أي ولا يقهرك عليه قاهر يكون غالباً لك، تأخذه وتغلبه .
(ولن يبطئ عنك ما قد قدِّر لك): أي أنه لا يتأخر عنك على جهة الإبطاء، وينقل عنك ما فرضه الله لك من الرزق.
[382] (رب مستبقل يوماً): يصبح في أوله على الكمال والصحة والسلامة.
(ليس بمستدبره): ثم تعجَّل له المنية في آخره، فلا يستكمله أبداً.
(ومغبوط في أول ليلة): الغبطة: حسن الحال، أراد وحاله حسن يغبط عليه في أول ليلة.
(قامت بواكيه في آخره): عجلت له منيته في آخره، فلهذا قامت بواكيه في آخرها .
[383] (الكلام في وَثاقِكَ): في ربطك وإيثاقك عليه، لا يفوت منه شيء.
(ما لم تتكلم به): ما لم يخرج عن لسانك.
(فإذا تكلمت به صرت في وَثاقِهِ): يعني فإذا خرج من لسانك ملكك لا محالة وصرت في حكمه.
(فاخزن لسانك): عن الكلام فيما لا يعني أمره.
(كما تخزن ذهبك): عن الضياع والإهمال.
(وَوَرِقَكَ ): فإنه أحوج منهما إلى الحفظ والصيانة.
(فرب كلمة سلبت نعمة): يشير إلى أن خطر الكلام عظيم، وفي الحديث: ((من صمت نجا ))، وقال: ((الصمت حكم ، وقليل فاعله)).
وعن ابن مسعود: والذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان؛ لأنه ربما أزال نعمة من نعم الدنيا بكلمة سوء عقوبة عليها، وجزاء على فعلها، أو يريد ربما كان يصل إليه [نعمة من غيره، فيسمع منه كلمة فقطعها من أجل ذلك، وربما أزال] نعمة من نعم الآخرة؛ لأنه ربما كان مستحقاً للجنة فتكلم بكلمة فاستحق بها النار، فلهذا قال: رب كلمة سلبت نعمة، يشير به إلى ما ذكرناه.
[384] (لا تقل ما لا تعلم ): فإن ذلك يكون كذباً ومقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تعلمون .
(فإن الله قد فرض على جوارحك كلها فرائض): فعلى العين ألاَّ تبصر ما ليس لها النظر إليه، وعلى اللسان ألاَّ يتكلم بما لا يعنيه، وعلى الرجل ألاَّ تمشي إلى قبيح وسعي بمسلم، وعلى اليد ألاَّ تبطش بقبيح، وهكذا القول في سائر الجوارح كلها.
(يحتج بها عليك يوم القيامة): يقول الله: ألم أصح لك بصرك، وأنهك عن استعماله فيما لا أرضى! وأصح لك جسمك وجميع آلاتك، وأنهاك عن استعمالها في كل معصية لي ومخالفة! وهكذا القول في جميع الجوارح، ومصداق ذلك ما قاله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس:65]، ففي هذه الآية تصديق لكلامه.
[385] (احذر أن يراك الله عند معصيته): أي محاولاً لفعلها مريداً لها.
(ويفقدك عند طاعته): واحذر عن التأخر عن الطاعة فتكون مفقوداً عندها.
(فتكون من الخاسرين): لأعمالهم بإبطالها عند الله، ومن الخاسرين لأنفسهم باستحقاقهم النار.
(وإذا قويت فَاقْوَ على طاعة الله): يريد إذا أعطاك الله قوة وطاقة فاستعملها في الطاعة، ولا تكن مستعملاً لها في الفجور والمعصية لله تعالى.
(وإذا ضعفت فاضعف عن معصية الله): يعني وإذا فترت فليكن فتورك في ترك المعاصي والقعود عنها.
[386] وقال عليه السلام:
(الركون إلى الدنيا مع ما تعاين منها جهل): أراد أن الثقة بها والاعتماد عليها في كل الأمور مع ما يحصل فيها من التغيرات والتقلبات، وانتقالها بأهلها من حال إلى حال، إنما هو جهل بحالها، وتغافل عن حكمها.
(والتقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثواب عليه غبن): أراد وإذا كنت واثقاً بالمجازاة بالثواب على الأعمال الصالحة فلا شك أن تقصيرك عن العمل يكون غبناً عليك في الآخرة.
(والطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار عجز): والوثوق بكل أحد قبل الدرية بحاله وخبره في الجودة والرداءة عجز عن ذلك وبلاهة في العقل.
[387] (من هوان الدنيا على الله): ركتها ونزول قدرها واستحقارها.
(ألاَّ يعصى إلا فيها): أن المعصية له والمخالفة لأمره والارتكاب لمناهيه ما حصل ذلك كله إلا فيها.
(ولا ينال ما عنده): من الثواب ورفيع الدرجات والمنازل العظيمة والرضوان من عنده الأكبر.
(إلا بتركها): بالإعراض عنها والزهد فيها.
[388] (من طلب شيئاً): يعني من جدَّ فيه وكدَّ نفسه في تحصيله ودأب في ذلك وأراده.
(ناله أو بعضه): فلا بد عقيب هذه العناية من إحرازه بكليته أو إحراز بعضه.
[389] (ما خير بخير): ما هذه نافية، وأراد أنه ليس خير بشيء من أنواع الخير يكون:
(بعده النار): تتعقبه النار وتحصل بعده وعلى إثره.
(وما شر بشر): أي وليس شر يكون شراً، ولا يعدُّ من أنواع الشر تكون:
(بعده الجنة): يتعقبه نعيم الجنة وسرورها؛ لأن كل شر فهو مغتفر بالإضافة إليها.
(وكل نعيم دون الجنة فهو محقور): حقَّره إذا صغَّره وذللَّه، وأراد أن كل نعيم دون الجنة وبالإضافة إليها فهو لا محالة مستصغر مذلول.
(وكل بلاء دون النار عافية): يعني أن البلاوي وإن عظمت وتكاثرت فإنها بالإضافة إلى النار عافية.
اللَّهُمَّ، أعطنا من عفوك وسعة مغفرتك ما يكون لنا ستراً من النار.
[390] (ألا وإن من البلاء الفاقة): أراد بهذا هو أن أحق الأشياء بأن يكون معدوداً من جملة البلاوي الفقر.
(وأشد من الفاقة مرض البدن): لأن العافية مع الفقر فهو مغتفر في حقها، والغنى مع المرض لا يكون مغتفراً في حقها.
(وأشد من مرض البدن مرض القلب): لأن مع مرض البدن فالأحوال مستقيمة، ومع مرض القلب لا تستقيم الحالة، ولهذا تراه مع شغل قلبه ومرضه يرى أن مع الرجل جنوناً وما به جنون، وأن به صرعاً وما معه من صرع، كل ذلك لما يرى في حاله من التغير.
(ألا وإن من النعم سعة المال): يعني أن أعظم ما يُعَدُّ في النعم كثرة المال وسعته.
(وأفضل من سعة المال صحة البدن): وهذا ظاهر؛ فإن الواحد من الخلق يود بالعافية ولا يتمكن من درهم فما فوقه.
(وأفضل من صحة البدن تقوى القلب): ولهذا ترى من كان مريضاً في جسمه وقد أحرز التقوى فإنه يكون منشرح الصدر، [طيب الخاطر، والذي يكون صحيحاً في جسمه ولا تقوى له، فإنه يكون منزعجاً في نفسه، قَلِقاً، فَشِلاً، مضطرب الخاطر] .
[391] (للمؤمن ثلاث ساعات): يريد في يومه لا ينفك عنها، ينقطع يومه بها:
(فساعة يناجي فيها ربه): يسأله من فضله، ويستعيذ به من عذابه ، ويحمده على نعمه، ويقوم بطاعته.
(وساعة يَرُمُّ فيها معاشه): أي يصلح عيشه من جلب النفع له ودفع الضرر عنه.
(وساعة يُخلَّي بين نفسه ولذتها): يريح على نفسه فيما أحل له من اللذة والمفاكهة لمن ينبغي مفاكهته من زوجة، أو بمن تملك يمينه، أو راحة على نفسه بمأكل أو مشرب.
(فيما يحل ويَجْمُلُ): فيما يكون حلالاً له، ويَجْمُلُ أمره في تناوله.
(وليس للعاقل أن يكون شاخصاً): ظاهراً عن مكانه وبلده.
(إلا في ثلاث): وما عداها فلا وجه له.
(مرمة لمعاش): إصلاحاً لمعيشة من طلب الرزق من تجارة أو زراعة أو حرفة يحترف فيها أو غير ذلك من أنواع التكسب، فإن مثل هذا لا بأس في الظعون من أجله والخروج بسببه، وفي الحديث: ((ما أبالي أيأتي أجلي وأنا غاز في سبيل الله، أو أبتغي من فضل الله)).
(أو حظوة في معاد): الحظوة هي: التودد والقربة، ومنه حظوة المرأة عند زوجها، وأراد ومنزلة عالية في أمر المعاد إلى الآخرة.
(أو لذة في غير مُحرَّم): يريد أنواع المباحات كلها، فإنه لا حرج عليه في الظعون والشخوص من أجل ذلك.
[392] (ازهد في الدنيا): امتنع من الانهماك في لذتها.
(يبصرك الله عوراتها): بانقطاعها عن أهلها وتغييرها لأحوال أهلها وانفلاتها عن أيديهم.
(ولا تغفل): عما يراد بك من أمر الآخرة وإصلاح حالها بأمر الطاعة والانكفاف عن المعاصي.
(فليس بمغفول عنك): يريد فإنك مراقب في أعمالك، ومحفوظ عليك في قولك وفعلك وتقدير أجلك.
[393] (تكلموا تعرفوا): يشير إلى أن الإنسان إذا كان ساكتاً فإن حاله في الفضل غير معروف، وأدل ما يدل على فضل الإنسان وكماله أو نقصه هو كلامه؛ لأنه هو أول أمارة في ذاك .
(فإن المرء مخبؤ تحت لسانه): يعني أنه إذا تكلم عرف أمره وحاله من زيادة أو نقص، قال زهير في حكمة:
وكائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
[394] (خذ من الدنيا ما أتاك): يريد ما جاءك على سهولة فخذه فهو المقدر المكتوب لك.
(وتولَّ عما تولاك): وأدبر عما أدبر عنك منها، فإن في ملاحقتك له إتعاب النفس، والمشقة عليها في ذلك.
(فإن أنت لم تفعل): ما قلت لك من التولي عما تولاك عنها ، وكان لا بد من الملاحقة لك فيها.
(فأجمل في الطلب): يعني فليكن الطلب بسهولة وتيسير على النفس، فإنك مع ذلك لا تبلغ إلا ما قدِّر لك، وما هو مفروض من عند الله من أجلك، من غير زيادة فيه ولا نقصان عنه.
[395] (رب قول أنفذ من صول): يريد أن بعض الأقوال أنفع وأنجع من قهر وتعدي.
[396] (كل مقتصر عليه كافي ): يعني ما قصرت عليه نفسك، واقتنعت به من الدنيا فهو كافي لا محالة لحالك ، وفيه بلغة في مرادك.
[397] (المنية ولا الدنية): الدنية: ما يستخف ويحطُّ من قدر الإنسان فعله والتلبس به، وأراد الموت أحب من الوقوع فيما يعيب ويسقط القدر.
(والتقلل): أي وإقلال المعيشة وتحقيرها.
(ولا التوسل): إلى الأغنياء في قضاء حاجتك، فإن الإقلال أفضل منه.
[398] (من لم يعط قاعداً،لم يعط قائماً): فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مراده من لم يرزق من غير عناية لم يرزق بالعناية.
وثانيهما: أن يكون مراده أن كل من لم يعط من غير تواضع للمعطي بقعوده عن ذلك، فإنه لا يعطي مع قيامه تواضعاً لمن أعطاه، وهو وارد على جهة المثل في الرزق، وهو أنه إذا لم يعط من غيرطلب لم يعط مع الطلب، فجعل ما قاله كناية عن ذاك.
[399] (الدهر يومان: يوم لك): بإقباله عليك بالخيرات.
(ويوم عليك): بإدباره عنك وتقاصر أمرك فيه.
(فإذا كان لك فلا تبطر): البطر هو: الأشر في النعمة، وخروج عن حد شكرها.
(وإذا كان عليك فاصبر): لحكمه وانقلابه عليك.
[400] (مقاربة الناس في أخلاقهم): يشير إلى أن دنو الإنسان من الناس وقربه من طبائعهم ومعاملته لهم في أحوالهم.
(أمنٌ من غوائلهم): فيه الأمان عن أن يأخذوه من حيث لا يشعر بهم ولا يدري بمكرهم، فالقرب إليهم فيما ذكرناه فيه السلامة عن ذلك.
ومن كلامه عليه السلام (350-374)
[350] (من نظر في عيب نفسه): تفكر في حال ما يختصه من العيوب ويلزمه منها.
(اشتغل عن عيب غيره): لأن فيه شغلاً عن غيره، وفي الحديث: ((طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس )) .
(من رضي برزق الله): أي ما أعطاه الله من الرزق، وعلم أنه هو الذي قدر له وفرض.
(لم يحزن على ما فاته): مما لم يرزقه الله إياه، وتحقق أنه لا نصيب له فيه.
(من سل سيف البغي ضرب به): أراد أن أحداً لا يسعى في إثارة الفتن، وتسعير نيرانها وتلهبها؛ إلا ويهلك من أجلها.
(من كابد الأمور عطب): يعني من لم يأت للأمور من أبوابها، ويسِّهل قياده فيها، تحمل الأمور الشدائد، فيكون ذاك سبباً للعطب والهلاك.
(ومن اقتحم اللجج غرق): اللجة هي: معظم البحر وأعمقه ، وأراد من تقحم في الأمور الشديدة ارتطم في بحارها وهلك.
(من دخل مداخل السوء اتهم): هذا عام، إما فيما يتعلق بالأموال فيتهم بقلة الورع بالدخول في المطامع، وإما فيما يتعلق بالأماكن فيرد موارد الريبة فيتهم بالزنا، وإما فيما يتعلق بالأديان يإيراد الشبه والولوع بها، فيتهم باعتقاد البدعة والتدين بها، وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنَّ مواقف التهمة )).
(من كثر كلامه): فيما لايعنيه، وفيما لا تعلق له به.
(كثر خطاؤه ): زلله وعثاره.
(ومن كثر خطاؤه ): زلله وعثاره.
(قلَّ حياؤه): لأن كثرة الحياء تمنع من ذلك، فإذا كثر وتجاوز الحدود دلَّ على قلة الحياء وعدمه.
(ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه): لأن الحياء ملاك الدين كله، وعن هذا قال بعضهم: ((إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) .
(ومن قلَّ ورعه مات قلبه): أصابته القسوة، فلا يدخل فيه خوف الله واستشعار القيام بين يديه، وتذكَّر أمر الآخرة.
(ومن مات قلبه دخل النار): لأن موت القلب بما ذكرناه يكون سبباً في دخول النار لا محالة؛ لأن كل من هذه حاله، أعني نسيان خوف الله تعالى، وتذكر أمور الآخرة فهو هالك بلا إشكال.
(من نظر في عيوب الناس فأنكرها): عليهم وأراد زوالها منهم.
(ثم رضيها لنفسه): اختص بها، وكان حاصلاً عليها.
(فذاك الأحمق بعينه): يريد الجاهل الذي لا شك فيه، ولا هو يلتبس بغيره من الخلق.
(القناعة مال لا ينفد): يعني أن المال إنما يراد ليكف به نفسه عن مسألة الناس، فإذا كان معه قناعة فهي بمنزلة المال في أنها سببت في الانكفاف عن السؤال، ومع ذلك فالمال ينفد بالإنفاق منه، وهي غير نافدة.
(من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير): لأن استشعاره الموت يبطل جميع ما يخطر بباله من اللذات ويكسرها في عينه ، فلهذا يرضى منها بالقليل التافه اليسير.
(ومن علم أن كلامه من عمله): يشير إلى أنه محفوظ عليه كما تُحْفَظُ عليه سائر أعماله.
(قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه): أراد أنه يقلُّ لما يعلم من المحاسبة عليه، إلا فيما لا بد له منه فهو مغتفر في حقه.
ومن كلامه عليه السلام (351-400)
[351] (للظالم من الرجال ثلاث علامات): يعني إذا أردت أن تعلم كون الظالم ظالماً فانظر إلى هذه العلامات فيه؛ فإن وجدتها فيه فهو الظالم بعينه وإلا فلا.
(يظلم من فوقه بالمعصية): يريد إذا كان مؤمراً عليه فهو يظلم أمره بمخالفته له فيما أمره به من الأفعال.
(ومن دونه بالغلبة): وإذا كان مستغلباً لغيره فهو يظلمه بأن يغلبه على ماله بالأخذ والقطع.
(ويظاهر القوم الظلمة): معنى ذلك يكون عوناً لهم وظهيراً في قوتهم وإعانتهم.
[352] (عند تناهي الشدة): بلوغها الغاية من العسرة.
(تكون الْفَرْجَةُ): الفرج من عند الله تعالى، وإزالة الغصص.
(وعند تضايق حَلَقِ البلاء): ازدحامها واشتدادها.
(يكون الرخاء): من جهة الله تعالى بقطعها وانفصامها وإزالتها.
[353] (لا تجعلن أكثر شغلك بأهلك وولدك): يعني ولكن اشتغل بما يعنيك من نفسك، وما يهمك من صلاحها.
(فإن يكن أهلك وولدك من أولياء الله): أهل مودته ومن يريد نفعهم واللطف بهم.
(فإن الله لا يُضَيِّع أولياءه): كما قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[يونس:62].
(وإن يكونوا من أعداء الله): الذين يريد النكال بهم، وإنزال العقوبة بهم.
(فما همك وشغلك بأعداء الله!): يعني فلا حاجة لك إلى الاشتغال بمن هذه حاله، وهذا مما تقوى به العزائم وتشتد به الهمم، وتطمح إليه الأفئدة إلى الإعراض عما سوى النفس، وقصر الهمة على إصلاحها وتقريبها إلى الله.
[354] (أكبر العيب): أعظم ما تلام به عند الله وعند خلقه.
(أن تعيب ما مثله فيك): فهذا هو نهاية العيب وغايته.
[355] وهنَّأ رجل رجلاً بغلام ولد له، فقال: ليهنك الفارس!
(فقال عليه السلام: لا تقل ذاك ، ولكن قل: شكرت الواهب): يريد به الله؛ لأنه الواهب للولد.
(وبورك لك في الموهوب): يريد أنماه الله وجعله زيادة في الخير، والبركة هي: النماء والزيادة.
(وبلغ أشده): أي كمال قوته وعقله، وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين.
(ورزقت بره): لأن مع البر يكثر خير الوالد والولد، وفي هذا دلالة على أن السنة في التهنئة والتعزية إنما يكونان بالدعاء بالمنافع الدينية والدنيوية، كما فعل أمير المؤمنين دون ما ليس كذلك، كما في قولهم : ليهنك الفارس؛ ولهذا أنكره على قائله لما خلا عن الدعاء بما ذكرناه، وفي الحديث في التهنئة بالعرس: ((لا تقولوا: بالرفاء والبنين كما كانت الجاهلية تقول، ولكن قولوا: باليمن والبركة، بارك الله لك وعليك، وجمع بينكما في خير)) .
[356] وبنى رجل من عماله بناء فخماً، فقال:
(أطْلَعَتِ الوَرِقُ رءوسها): كنى بذلك عن كثرة المال، وأن إعلاء الأبنية واطلاعها لما كثرت وتراكمت.
(إن البناء ليصف لك الغنى): يعني أن البناء من أقوى الأمارات والدلالات على كثرة المال والغنى.
[357] وقيل له: لو سدَّ على رجل باب بيته وترك فيه، من أين كان يأتيه رزقه؟
فقال: (من حيث يأتيه أجله): فجمع بينهما بجامع معنوي عجيب يستدرك بدقيق النظر والفطانة، وهو أن الأجل من جهة الله تعالى لا بد لكل مخلوق منه، كما أن الرزق من جهة الله تعالى لا بد لكل مخلوق منه، فإذا كان الأجل يأتيه لا محالة، فهكذا حال رزقه لاستوائهما فيما ذكرناه.
[358] وعزى قوماً عن ميت لهم، فقال:
(إن هذا الأمر): يعني الموت.
(ليس بكم بدأ): لستم أول من مات.
(ولا إليكم انتهى): ولستم آخر من يموت.
(وقد كان صاحبكم هذا): يعني الميت الذي عُزِيَ فيه.
(يسافر): في طلب الأرباح وجمع الأموال.
(فعدوه): احسبوه عند نفوسكم.
(في بعض سفراته): التي تعدوه فيها.
(فإن قدم عليكم): كما كان يفعل في السفر.
(وإلا قدمتم عليه): سرتم إلى مصيره ، وسافرتم مثل سفره.
[359] (أيها الناس، ليركم الله عند النعمة وجلين): الوجل هو: الفَرَقُ والخوف، وأراد أن المأخوذ عليكم هو الخوف والإشفاق عند تراكم النعم عليكم وتعاظمها.
(كما يراكم عند النقمة): وهي العذاب.
(فرقين): خائفين، وغرضه من هذا استواء الحالين في الوجل والخوف عند النعمة والنقمة، فالوجل عند النعمة خوفاً من الأخذ على غرة وأمن، ومن النقمة خوفاً من ألمها وعذابها، فلأجل هذا سوى بينهما في ذلك.
(إنه من وُسِّعَ عليه في ذات يده): بالأموال النفيسة والرخاء في المعيشة والتمكين من اللذات الطيبة.
(فلم ير ذلك استدراجاً): أُخِذَ على غرة وغفلة.
(فقد أمن مَخُوفاً): فقد صار آمناً لما هو مخوف في الحقيقة.
(ومن ضُيِّقَ عليه في ذات يده): بالفقر وضيق المعيشة وضنكها.
(فلم ير ذلك اختباراً): امتحاناً من الله له.
(فقد ضَيَّعَ مأمولاً): فقد أهمل من ذلك ما يؤمل رخاؤه من جهة الله تعالى؛ لأن الاختبار بالنعماء والضراء وغير ذلك ألطاف من عند الله؛ يستصلح بها عباده على حد ما يراه من ذلك مصلحة لهم.
[360] (يا سرى الرغبة، أقصروا): أراد أيها المأسرون في رِبَقِ الرغبة في الدنيا، والمنهمكين في حبها والطالبين لها من غير وجهها أقلوا من طلبها والرغبة فيها.
(فإن المعرِّج على الدنيا): المقيم فيها والحابس نفسه عليها طمعاً بها ورغبة في لذاتها.
(لا يروعه منها): الروع: الخوف.
(إلا صريف أنياب الْحِدْثانِ): الصريف هو: صوت أنياب الجمل عند اشتداد الغلمة به، وهو ها هنا استعارة من ذاك، وغرضه بما قاله هو المواظب على اكتساب الدنيا والرغبة فيها، لا يخوفه منها إلا عظم تغير أحوالها بأهلها، وتوثب الحوادث عليهم فيها بالمنايا المتلفة والمصائب المجحفة.
(أيها الناس، تولوا من نفوسكم تأديبها): أي اختصوا بتأديبها ولا تولوه غيركم، فإن أدبها من جهة أنفسكم هو الأدب النافع.
(واعدلوا عن ضراوة عاداتها): ضرى الكلب بالصيد إذا لهج به، وأراد ها هنا ميلوا واعدلوا بها عما تكون لاهجة به، مما تعتاده وتألفه، وأكرهوها على الطاعة، فإن عادتها الميل إلى هواها، والنفور عن الطاعة بمبلغ جهدها.
[361] (لا تَظُنَّنَّ بكلمة خرجت من أحد سوءاً): يريد إذا تكلم أحد بكلمة وظاهرها ما يسوء، وتكرهه النفوس فلا تحملها على ما يسوء من ذلك ويكره.
(وأنت تجد لها في الخير محملاً ): وهو تمكنك وجهاً لها تحمله عليه في الخير والسلامة، ويروى: (محتملاً) : والمحمل بالفتح والمحتمل هو المصدر بمعنى الحمل.
[362] (وإذا كانت لك إلى الله حاجة): وسيلة أو مطلبة تطلبها في الدين أو في الدنيا، وأردت طلبها وسؤالها من جهة الله تعالى.
(فابدأ المسألة بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم): صدرها أولاً بالصلاة على النبي وآله.
(ثم سل حاجتك): بعد ذلك، وهذا من جملة الآداب المعتبرة في الدعاء قبل الشروع فيه، وهو حمد الله وتنزيهه، وتقديسه، والصلاة على الرسول .
(فإن الله أكرم من أن يُسْأَلَ حاجتين): وهما الصلاة على الرسول في أول الأمر، ثم قضاء الحاجة، وهي الثانية.
(فيعطي أحدهما ): وهو الصلاة.
(ويمنع الأخرى): وهي حاجتك المقصودة.
[363] (من ضنَّ بِعِرْضِهِ): بخل به، وكان لا يريد نقصه.
(فليدع المراء): المماراة والجدال في كل أمر من الأمور، وفي الحديث: ((أول ما نهاني عنه ربي المماراة )).
[364] (الخُرْقُ المعاجلة قبل الإمكان): الخُرْقُ هو : الحمق وهو الجهل بعينه تحصيل الحوائج قبل إمكان وقتها؛ لأن وقت الشيء شرط في كونه ممكناً؛ فإذا طلب في غير وقته وفي غير أوانه فهو جهل بحكمه لا محالة.
(والأناة بعد الفرصة): الأناة هي: تراخي الوقت، وأراد أن من جملة الخرق أيضاً التراخي في الوقت بعد أن كانت الحاجة محضرة حاضراً وقتها، والمعنى أن من أخَّرها عن وقتها فهو جاهل؛ لأن من حق العاقل اغتنام الفرص عند إمكانها.
[365] (لا تسأل عمَّا لا يكون): يعني عمَّا لا تُقَدِّرُ حصوله ووقوعه.
(ففي الذي قد كان لك شغل): عن تقدير ما لا يكون.
[366] (الفكرة مرآة صافية): يريد أنها في المعقولات النظرية بمنزلة المرآة في المدركات البصرية والمرئيات الحسية، يدرك بها ما خفي من الأسرار العقلية.
(والاعتبار منذر ناصح): والاتعاظ في غاية النصح لمن كان منذراً له.
(كفى أدباً لنفسك): انتصاب أدباً على التمييز بعد الفاعل.
(تجنبك ما تكرهه لغيرك): يريد إذا تجنبت ما تكرهه للناس فهذا هو غاية الأدب والتهذيب لنفسك؛ لأن كل ما كرهته من جهة غيرك فهو لا محالة مكروه من نفسك يكرهه غيرك.
[367] (العلم مقرون بالعمل): أراد أنهما توأمان وأخوان لا ثمرة لأحدهما إلا مع الآخر، فلا خير في علم بلا عمل، ولا خير في عمل لا يسبقه علم.
(فمن علم عمل): بما يعلمه .
(والعلم يهتف بالعمل): ينادي به.
(فإن أجابه): بالعمل بمقتضاه.
(وإلا ارتحل): العلم عن مكانه؛ إذ لا وجه لوقوفه على انفراده عن العمل.
[368] (يا أيها الناس، متاع الدنيا حطام موبئ): يعني ما فيها من المتعة لأهلها إنما هو بمنزلة ما يبس وتكسِّر وذهب رفاتاً، والموبئ: ذو الوباء وهو الداء.
(فتجنبوا مرعاة): أن ترعوا فيه أنعامكم فتهلك وباء ، وكنى به عن تجنبهم للإكثار منها والولوع بطيباتها.
(قلعتها أحظى من طمأنينتها): أي رحلتها أكثر حظوة ومكانة من سكونها والقطون فيها.
(وبلغتها أزكى من ثروتها): والأخذ منها على جهة البلغة إلى الآخرة أطهر للنفوس من الثراء فيها، وهو الإكثار منها.
(حكم على مكثريها بالفاقة): أي حكم الله على من أكثر منها من الجمع لحطامها بأن يكون ذا فاقة فيها ، وفقر إليها في جميع حالاته.
(وأعين من غني عنها بالراحة): أي وحكم على من استغنى عنها بالراحة لنفسه وجسمه.
(من راقه زبرجها): الزبرج: الذهب، وأراد ها هنا من أعجبه رونقها وحسنها ونضارتها.
(أعقبت ناظريه كمهاً): كان عاقبة نظره إليها أن تعميه عن ذكر الآخرة وأمرها، والكمه: العمى.
(ومن استشعر الشغف بها): ومن قصد المحبة لها وجعلها له شعاراً يختص جسمه من دون حائل عنه، والشغف: حجاب القلب.
(ملأت ضميره أشجاناً): ملأت قلبه أحزاناً.
(لهن رقص على سويداء قلبه): الضمير للدنانير، ويفسره شاهد الحال أو يفسره الزبرج؛ لأنها بمعناها، والسويداء: حبة القلب، وأظنه الدم الذي يسكن باطن القلب فإنه دم أسود، والرقص: التحرك والاضطراب، وأراد أن النفس لاتزال تتحرك وتضطرب إلى محبة الدنانير والدراهم.
(همٌّ يشغله): بالتعلق بها وطبلها وتحصيلها.
(وغمٌّ يحزنه): على ما فات عليه منها.
(كذلك): أي لايزال أمره على هذه الحالة.
(حتى يؤخذ بِكَظْمِهِ): أي بمخرج نَفَسِهِ، والكظْم بسكون الظاء هو: خروج النفس.
(فَيُلْقَى بالفضاء، منقطعاً أبهراه): الفضاء: المكان الواسع من الأرض، والأبهران: عرقان متصلان بالقلب، وأراد فيلقى بعد موته بخلاء من الأرض ميتاً لاحراك به.
(هيِّناً على الله فناؤه): الفناء ها هنا المراد به الموت، يريد أن موته ليس أمراً عظيماً عند الله تعالى، كما أشار إليه بقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ }[لقمان:28].
(وعلى الإخوان لقاؤه ): لأنه لا رغبة لهم فيه لا ستحالة حاله عما كانت في حال الحياة.
(وإنما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار): المعنى في هذا: وحق على المؤمن والواجب عليه هو النظر إليها بعين الاتعاظ والزجر دون الرغبة فيها والمواظبة على تحصيلها.
(ويقتات منها ببطن الاضطرار): أي يطلب قوته منها إذا اضطره جوع بطنه بالشيء الحقير التافه الذي لا قيمة له ولا خطر له.
(ويسمع فيها بأذن المقت والاتعاظ ): أراد ويكون سامعاً لأحاديثها بأذُن الذم لها والاتعاظ بأحوالها وتغيراتها، ولا يصغي إلى شيء من أحاديثها بحال.
(إن قيل: أثرى): أراد إذا قيل لك: فلان أثرى أي كثر ماله.
(قيل: أكدى): أي قلَّ خيره، وكثر بخله.
(وإن فُرِحَ له بالبقاء): وإن أصاب أحد له فرح ببقاءه فيها واطمئنانه إليها.
(حُزِنَ له بالفناء): أصاب الحزن له بالموت بعد ذلك.
(هذا): قد مضى شرح هذه الكلمة في موضع غير هذا، وبيَّنت موقعها فلا وجه لتكريره، وأراد هذا على ما ذكرته، وموضعه رفع بالابتداء، وخبره محذوف كما قدرته لك.
(ولم يأتهم يوم يبلسون فيه ): أي ييأسون فيه من الرحمة لما يرون من هوله وصعوبة أمره.
[369] (إن الله سبحانه وضع الثواب على طاعاته ): جزاء عليها وجُبراناً لما كان من مشقة التكليف بفعلها.
(والعقاب على معصيته): جزاء عليها لما كان من مخالفة أمره ونهيه، وجعل ذلك أيضاً:
(ذيادة لعباده عن نقمته): ذاد الصيد إذا طردها، وأراد طرداً لهم عن عذابه وشدة انتقامه.
(وحياشة لهم إلى جنته): حاش الصيد يحوشه حوشاً وحياشة إذا جنَّبه من حواليه ليورده الحِبَالة والشَّرَك .
[370] وروي أنه عليه السلام قلَّما اعتدل به المنبر إلا قال أمام خطبته:
(أيها الناس، اتقوا الله فما خلق امرؤ عبثاً): أي ما خلق من أجل العبث، وهو: الذي لا غرض لفاعله فيه، ولا داعي له إليه.
(فيلهو): أي فيكون لاهياً، أو يكون مشغولاً باللهو واللعب.
(ولا ترك سدىً): أي مهملاً لا حكم عليه لأحد.
(فيلغو): اللغو هو: القول الباطل ، يقال: لغا يلغو إذا قال باطلاً.
(وما دنياه التي تحسنت له): أرته حسنها وأعجبته بنضارتها.
(بِخَلَفٍ له من الآخرة): تكون عوضاً له عن الآخرة.
(التي قبَّحها): ذمَّها وبغضَّها إليه.
(سوء النظر عنده): أسوء الأنظار من جهته، وأبعدها عن نظر السداد والصلاح.
(وما المغرور الذي ظفر من الدنيا بأعلى همته): أي وما المغتر بالدنيا الذي ظفر منها على قدر همته في أخذها والإكثار منها.
(كالآخر الذي ظفر من الآخرة بأدنى سُهمته): كالرجل الآخر الذي ظفر من الآخرة بأدنى سهم ونصيب، والسُهمة: النصيب بضم السين، والمعنى أنه ليس أحدهما يشبه الآخر لفوز صاحب الآخرة بأوفر النصيب وأكملها، وخسارة صاحب الدنيا وإن كمل حظه فيها.
[371] (لا شرف أعلى من الإسلام): من حسب ولا عدة، ولهذا فإن سلمان، وشقران، وبلال، وصهيب لما أحرزوه مع فقد الحسب، وخسر أبو لهب، والوليد بن المغيرة، وعتبة، وشيبة وغيرهم مع علوهم في الحسب، فأي شرف أعلى من هذا.
ومن عجائبه إحراز رضوان الله والدخول في رحمته ورأفته إلى غير ذلك من الخصال الرفيعة والصفات العالية لصاحبه.
(لا عز أعز من التقوى): وأي عز أعظم من ذلك، وفي الحديث: ((من اتقى الله أغناه الله بلا مال، وأعزه بلا عشيرة )).
(و لا معقل أحرز من الورع): لأن فيه سلامة عن كل عاهة تلحق الدين وتثلمه.
(لا شفيع أنجح من التوبة): أي لا شافع ينجح مطلبه مثل التوبة المقبولة عند الله تعالى؛ فإنها أعظم شافع [عند الله تعالى] في حط الذنوب وغفرانها.
(لا غنى أغنى من القناعة ): لأن كل غنى مع الهلع فهو فقر في الحقيقة.
(لا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت): أراد أن الرضى بالقوت والكفاية به أذهب للفقر من التمكن من المال.
[372] وقال عليه السلام في كلام له:
(من اقتصر على بُلْغَةِ الكفاف): أي من كان همه من الاكتفاء من الدنيا بالزاد المبلغ إلى الآخرة.
(فقد انتظم الراحة): أي استوت له أحوالها، وتمهدت له قواعدها.
(وتبوأ خَفْضَ الدعة): تبوأ المكان إذا استقر فيه، وأراد لزم راحة الاستقرار.
(والرغبة ): في الدنيا والولوع بتحصيلها.
(مفتاح النَّصَبِ): تنفتح به على الإنسان أبواب منصبة لبدنه وقلبه.
(ومظنة التعب): أي حيث يظن التعب ويكون حاصلاً، من قولهم: الوقار مظنة الحلم أي حيث يظن وجوده وحصوله.
(والحرص): على الدنيا.
(والكبر): شموخ الأنف.
(والحسد): للنعم على الخلق.
(دواعي إلى التقحم في الذنوب): يعني أنها تدعو الإنسان إلى الورود في المعاصي والهجوم عليها.
(والشر جامع لمساوئ العيوب): الشر هو: نقيض الخير، فكما أن الخير جامع للخصال الحسنة، فهكذا الشر يجمع الخصال السيئة.
[373] (قَوَامُ الدنيا أربعة ): القَوام بالفتح: العدل، قال الله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }[الفرقان:67]، والقِوام بالكسر: نظام الأمر وعماده، وقد يفتح، يقال: فلان قَوَامُ أهل بيته، وهذا مراده ها هنا، أي تنتظم الدنيا بأشخاص أربعة:
(عالم مستعمل علمه): فهو يعمل بعلمه، ويفعل على حد بصيرته.
(وجاهل لا يستنكف أن يتعلم): فهذا متى أشكل عليه أمر في دينه سأل عنه وفهمه.
(وفقير لا يبيع آخرته بدنياه): فهو صابر على فقره محرز لدينه.
(وجواد بمعروفه ): فهو لا ينفك عن بذله في جميع أحواله، فمتى استقام أحوال هؤلاء على ما ذكرته استقام نظام الدنيا، واستقرت قواعدها.
(فإذا ضيَّع العالم علمه): يعني لم يعمل به وخالفه في جميع أحواله.
(استنكف الجاهل أن يتعلم): لأنه إذا رأى العالم يخالف علمه، ولا يعرج عليه كان ذلك صارفاً عن التعلم منه، وكافّاً له عن ذلك.
(وإذا بخل الغني بمعروفه): يعني لم يُفِضْه على الفقراء والمحتاجين ضاقت أحوالهم وصعب الأمر عليهم، وإذا كان الأمر كما قلناه:
(باع الفقيرآخرته بدنياه): لأجل ما لحقه من الفقر وتجرعه من ألم الفاقة.
وأقول: إذا نظرت في هذا الكلام وجدته يشفي علة العليل بدوائه، وينقع غُلة العطشان ببرد مائه.
[374] (من كثرت نعم الله عليه): في التمكين والبسطة وإعطاء الرياسة، وسعة الصدر وغير ذلك من أنواع الصفات للرياسة.
(كانت حوائج الناس إليه): يطلبونها من عنده لما فضله الله تعالى بوجدانها معه.
(فمن قام لله بما يجب عرَّضها للدوام والبقاء): فمن أدى حق الله فيها بما يكون، بذلها ونفع الخلق بها، سواء كان ذلك من منافع الدين أو من منافع الدنيا، فمتى أدى فيها حق الله تعالى كانت بصدد الدوام والاستمرار، لا يكدرها مكدر، ولا يغيرها مغير.
(ومن لم يقم فيها بحق الله): فمنعها أهلها وقطعها عن مجاريها، سواء كانت من منافع الدين، أو من منافع الدنيا.
(عرَّضها للزوال والفناء): كانت بصدد الزوال والانقطاع عنه والانتقال إلى غيره.
ومن كلامه عليه السلام (401-451)
[401] (من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل): التفاوت: الاختلاف، وفيه معنيان:
أحدهما: أن يريد من تمسك بمتشابه من القرآن يشتمل على تأويلات مختلفة لم تنصره الحيل في ذلك.
وثانيهما: أن يكون مراده من عوَّل في أموره على من كان مختلف الخلائق والطباع لا يستقر على قاعدة واحدة لم تنصره الحيل في معاملته، ولا أمكنه الوقوف على كُنْهِ أمره؛ لما فيه من اختلاف الطباع وتفاوت الخلائق.
[402] وقال عليه السلام، وقد سئل عن معنى قولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم] ؟
فقال: (إنا لا نملك مع الله شيئاً): يشير إلى أن الأرواح بيده متى شاء أن يأخذها أخذها، والأموال كلها في قبضته فمتى شاء أن يهبها لنا وهبها، وإن شاء أن يقبضها منا قبضها.
(ولا نملك): من الأموال والأولاد والمنافع.
(إلا ما ملَّكنا): أعطانا ذلك من جهته، وخوَّلنا إياه من عطيته.
(فمتى ملَّكنا): من ذلك.
(ما هو أملك به منَّا): ما هو أدخل في ملكه والاستيلاء عليه منَّا.
(كلفنا): فيه ما يعلمه مصلحة لنا في الأرواح بالجهاد، وفي الأموال بالزكوات وأنواع الصدقات، والإنفاقات في سبيله، وفي النفوس بأنواع العبادات في الصلاة والصوم والحج وسائر التقربات، وغير ذلك.
(ومتى أخذه منا): قبضه إليه واسترجعه منَّا.
(وضع تكليفه عنا): فلا يكلفنا بالزكوات مع عدم الأموال وعدم تمكينه لنا فيها، ولا يؤاخذنا بالعبادات مع فوات القدرة عليها، والتمكن منها، ولا يكلفنا شيئاً إلا مع جميع ما نحتاج إليه في تحصيله وفعله، وإلا كان ذلك منه تكليفاً لما لا يطاق ولا يُقْدَرُ عليه ولا يُعْلَمُ حاله، والحكمة مانعة عن ذلك، خلافاً لزعم المجبرة أن الله تعالى يكلف عباده ما لا يطيقونه، وقد أرغمنا في كتبنا العقلية في ذلك آنافهم، وأظهرنا جورهم عن الحق واعتسافهم، فهذا ملخص ما ذكره في شرح: لا حول ولا قوة إلا بالله، ونزيد ما ذكره كشفاً وإيضاحاً،
فنقول: الحول والحيل كلاهما بمعنى الحيلة في تحصيل شيء أو دفعه، والقوة ها هنا هي القدرة، والنفي ها هنا واقع على جهة الاستغراق العام، وهو خارج جواباً لقول من يقول: هل من حول و قوة؟
فيقال له: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلهذا كان مستغرقاً، والمعنى في هذا أن يقال: لا تصرف لأحد في تحصيل نفع أو دفع ضرر إلا بعلم من الله، ولا قدرة لمخلوق إلا بفعل الله، فإضافة التصرف في النفع ودفع الضرر إلى الله تعالى على جهة العلم والإحاطة، وإضافة القدرة إليه للعبد على كل الأفعال على جهة الخلق لها، إذ لا يقدر إلا بإقداره له وخلق القدرة له عليها، فإسناد الحول والقوة إلى الله تعالى على هذا الوجه، وإذا حملناها على ما ذكرناه بطل تعلق المجبرة بها، إذ لا تعلق لها بالله إلا من الوجه الذي لخصناه، وفيها مباحث دقيقة أعرضنا عنها خوفاً للإطالة.
[403] وقال لعمار بن ياسر وقد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاماً:
(دعه يا عمار): اتركه ورأيه وما هو فيه، وأراد عمار الإنكار عليه في متابعته لمعاوية وإعراضه عن أمير المؤمنين.
(فإنه لم يأخذ من الدين): بتمسكه به ودخوله فيه.
(إلا ما قاربته الدنيا): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أنه ليس له حظ من الدين إلا مقدار ما يكون وصلة وتقرباً إلى أطماع الدنيا وأغراضها.
وثانيهما: أن يكون مراده أن دينه ليس خالصاً لوجه الله تعالى، مطابقاً لمرضاته، وإنما هو مشوب بالتعلق بالدنيا والقرب منها لينال حظاً منها.
(وعلى عمد لبَّس على نفسه): أي وما كان تلبيسه على نفسه إلا على جهة الاعتماد من هواه والقصد إلى ذلك من جهة خاطره لا على جهة الوهم والخطأ.
(ليجعل الشبهات عاذراً لسقطاته): ليتوصل بما قرره في نفسه من الشبهات إلى العذر عما سقط فيه من الزلات، ووقع فيه من التلبيس على نفسه.
[404] وقال:
(ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء): أي ما أعجبه عند الله، وأقربه إلى رضوانه، حيث لم يعجبوا بكثرة أموالهم، وحيث شكروا الله بكثرة تواضعهم للفقراء.
(طلباً لما عند الله): من جزيل الثواب ومذخور الأجر .
(وأحسن منه): أي وأدخل في العجب منه.
(تيهُ الفقراء على الأغنياء): تاه إذا تكبر واختال، وأراد تعاظمهم عن مسكنة الفقر وذله:
(اتكالاً على الله): توكلاً عليه في جميع أمورهم، واعتماداً على لطفه، وثقة منهم بما قسمه لهم من الأزراق المضمونة عليه.
[405] (ما استودع الله امرأً عقلاً): أودعه إياه وخبأه عنده وضمَّنه إياه.
(إلا استنفذه به يوماً ما ): نفذ السهم إذا مضى من الرمية، وفلان نافذ في أموره إذا كان ماضياً فيها، وأراد إلا جعله نافذاً في أموره في حالة من الحالات، ويوم من الأيام، وفي هذا دلالة على شرف العقل وأنه أعظم ما أوتي الإنسان من العطايا، وفي الحديث: ((أول ما خلق الله العقل ، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أشرف منك، بك أعطي، وبك أمنع، وبك أحاسب، وعليك أعاقب)) .
[406] (من صارع الحق صرعه): يعني من ردَّ الحق عن مجراه وممضاه، وكابر في نفوذه، وعزم على ردِّه من جهة نفسه ذلَّ ورجع صاغراً إليه، وكان بمنزلة من صرع لجنبه فلا يستطيع حيلة.
[407] (القلب مُصْحَفُ البصر ): أراد أن البصر يقرأ ما كتب في القلب، ثم يظهر في نظر الإنسان ما في قلبه، والمعنى في هذا أن الإنسان إذا نظر إلى صديقه أو عدوه أدرك ببصره وقراءته ما في قلب المنظور إليه من الصداقة والعداوة، وعن هذا قال بعضهم:
تخبرني العينان ما الصدر كاتمٌ
وما جنَّ بالبغضاء والنظر الشزر
[408] (التقى رئيس الأخلاق): يعني أن التقوى هو أمير خصال الخير من الصبر والورع والحلم وغير ذلك من خصال الخير، والتقى هو: الجامع لهذه الخصال ولا ثمرة لها إلا به، ولا حكم لها إلا باعتباره، وهو غاية كل خصلة شريفة في الدين.
[409] (لا تجعل ذرب لسانك على من أنطقك): ذرب اللسان: حدته، أي لا تجعل حدة لسانك على من كان سبباً في إفصاحك ونطقك.
(وبلاغة قولك على من سدَّدك): ولا تجعل فصاحتك بالإيذاء والقهر والتسلط على من ألهمك الصواب ودلك عليه، وهو مثل يضرب لمن كان الإحسان إليه سبباً للإساءة منه، كما قال بعضهم:
أعلمه الرماية كل يوم
فلما اشتد ساعده رماني
ومنه المثل: فلان دعى مسدده إلى النضال .
[410] (كفاك أدباً لنفسك): تعليماً لها الأدب.
(اجتنابك ما تكرهه من غيرك): فهذا فيه غاية الأدب؛ لأنه مهما فعل ذلك كان فيه غاية الإنصاف للناس من نفسه.
[411] وقال عليه السلام للأشعث بن قيس معزياً له:
(إن صبرت صبر الأكارم): يشير إلى أن الصبر عند المصائب العظيمة هو من عادة أهل الكرم والرياسة، فإن لم يقع من صاحبه صبر يكون مشبهاً فيه لأهل الكرم:
(وإلا سلوت سُلُوَّ البهائم ): فليس في القضية إلا أحد خصلتين : إما تشبهاً لأهل المكارم في الصبر، وإما غفلة كغفلة البهائم، فإن سلوها عن أحزانها إنما هو بالغفلة لا غير، وشوقها إلى ما تشتهيه بالإدراك لا غير.
[412] (من صبر صبر الأحرار): يعني على كل ما يلاقيه من العظائم، فصبر الأحرار إنما هو بكظم الغيظ، فمن لم يفعل ذلك:
(وإلا سلا سلو الأغمار): الغِمر من الرجال هو: الجاهل، يريد من غير تصبِّر، وإنما هو سآمة وملالة لما يفعله عند المصيبة.
[413] (الدنيا تغرُّ): من ركن إليها وتخدعه بأمانيها الكاذبة ولذاتها المنقطعة.
(وتضرُّ): أهلها، إما في الدنيا فبانقطاعها عن أيديهم وذهابها عنهم، وإما في الآخرة فبما يكون من العذاب بإيثارها وترك الآخرة وراء ظهور أهلها.
(وتمرُّ): مروراً سريعاً بانقضاء الأيام والليالي والأسابيع والشهور والسنين والأعمار كلها.
(إن الله لم يرضها ثواباً لأوليائه): يعني لم يقتصر على لذاتها أن تكون ثواباً للأولياء، وعوضاً عما أصابهم من مرارة التكاليف الشاقة.
(ولا عقاباً لأعدائه): أراد أنه لم يجعل ما أصابهم من مصائبها وبلاويها عقاباً لما اجترحوه من هذه السيئات التي ارتكبوها وشغلوا بها أنفسهم في الدنيا، وانهمكوا في تحصيلها.
[414] وقال عليه السلام لابنه الحسن بن علي عليهما السلام:
(يا بني، لا تُخَلِّفنَّ وراءك شيئاً من الدنيا): أراد لا تشتغل بجمعها عمَّا هو أهم من ذاك، وهو طلب الآخرة.
(فإنك تُخَلِّفه لأحد رجلين): من ورثتك وأقاربك، وحالهما لا يخلو:
(إما رجل عمل فيه بطاعة الله): بالصدقة للمؤمنين، والصلة للأقارب والأرحام.
(فسعد بما شقيت به): أي فنال الآخرة بما نلت به الشقاوة في جمعه وأخذه من غير حله، وعلى غير وجهه.
(وإما رجل عمل فيه بمعصية الله ): تقحَّم به المعاصي، وأقام به أسواق الشهوات بأنواع اللهو والطرب، وتخطّأ به إلى كل المحظورات.
(فكنت عوناً له على معصيته): بما خلفت له من ذلك.
(وليس أحد هذين حقيقاً بأن تؤثره على نفسك): آثرته بكذا إذا خصصته به وجعلته أهلاً له، وأراد أنه ليس أحدهما بأخص عندك من نفسك حتى تؤثره عليها وتجعله أحق منك بمالك.
ويروى هذا الكلام على وجه آخر، وهو قوله:
(أما بعد، فإن الذي في يديك من الدنيا): من أموالها وحطامها وأنواع شهواتها.
(قد كان له أهل قبلك): يعني أنه صار إليك منهم، ولولا انتقاله عنهم ما كان معك.
(وهو صائر إلى أهل بعدك): وهو منتقل منك إلى غيرك، ولو دام لأحد إذاً لم يصر إليك.
(وإنما أنت جامع): ما تجمعه من الدنيا وحطامها.
(لأحد رجلين): ممن يأخذه بعدك، ويكون أحق به من غيره لقربه إليك وميراثه لك.
(رجل عمل فيما جمعته بطاعة الله تعالى): من أنواع البر والصدقة والصلة وإنفاقه في الجهاد لله.
(فيسعد بما شقيت به): أراد فتحصل له السعادة بإنفاقه، كما حصلت لك الخسارة بجمعه.
(أو رجل عمل فيه بمعصية الله ): من إنفاقه في الفسوق وتوصل به إلى الفجور بالمعاصي.
(فيشقى بما جمعت له): يعني فتحصل له الشقاوة بسببك، ومن أجل ما جمعت له من ذلك.
(وليس أحد هذين أهلاً أن تؤثره على نفسك): وتجعله أخص منك بذلك.
(وتحمل له على ظهرك): أراد وتحمل أوزاره على ظهرك.
(فارج لمن مضى): من أولادك وأقاربك وأهل خاصتك.
(رحمة الله): وقايته من العذاب لهم.
(ولمن بقي رزق الله): لمن كان حياً منهم تفضله عليهم بالرزق.
[415] (إن أهل الدنيا كَرَكْبٍ): الركب: اسم للجمع، ولهذا فإنه يُصَغَّرُ على لفظه، وليس جمعاً على الحقيقة؛ لأن هذه الصيغة لا تكون من أوزان الجموع بحال.
(بينا هم حلوا): بين هذه تستعمل بين شيئين، يقال فيها: بينا وبينما.
(إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا): وأراد أنهم بين حلول وارتحال، وإذ هذه معمولة لقوله: حلوا.
[416] وقال عليه السلام لقائل قال بحضرته: أستغفر الله:
(ثكلتك أمك!): الثُّكْلُ: فقد المرأة ولدها، بضم الفاء وسكون العين، والثَّكَلُ بالتحريك مثله.
(أتدري ما الاستغفار؟): ما معناه وماهيته، وكيف حكمه؟
(إن الاستغفار درجة العليين): أراد بالعليين ها هنا ما عناه الله تعالى بقوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلّيِّينَ }[المطففين:18]، خلا أنه أراد ها هنا به الرجال، وهناك أراد به المكان، وعليُّون: اسم علم لديوان الخير الذي دوِّن فيه أعمال الأبرار من الملائكة وأهل التقوى من الجن والإنس، وهو منقول من جمع عليّ على فعيل، واشتقاقه من العلو كسجين من السجن، وسمي بذلك إما لأنه مرفوع في السماء السابعة، وإما لأنه سبب الارتفاع إلى الدرجات العالية في الجنة ، فالاستغفار درجة من كان مختصاً به، وهو معرب بالحروف على طريق الحكاية للجمع، كما قالوا: قنسرون وقنسرين.
(وهو اسم واقع على ستة معاني ): يشملها وتكون مندرجة تحته.
(أولها الندم على ما مضى): يعني من فعل المعاصي والإقدام على المناهي، ومتعلقه الأمور الفائتة على أنه لِمَ فُعِل أو على أنه ترك، وفي الحديث: ((الندم توبة )) ، وفي حديث آخر: ((اليمين حنث أو مندمة )) .
(والثاني: العزم على ترك العود إليه): والعزم إنما يتعلق بالأمور المستقبلة، والغرض هو صرف النفس عن العود إليه وكفها عنه.
(أبداً): في العمر كله فهو الأبد بالإضافة إليه.
(والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم): من خراجاتهم وديونهم، وودائعهم التي استهلكها، وغير ذلك من مطالبهم التي هي متعلقة بذمته، فإن حقوق الآدميين عظيمة، لا صحة للتوبة إلا مع ذلك.
(حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة): مجرداً من المطالب خالصاً عن أن تكون متبوعاً بحق من الحقوق الآدمية.
(والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك): من الصلوات والصيامات وغير ذلك من أنواع الأمور الواجبة عليك.
(ضيعتها): أهملتها حتى فات وقتها، أو امتنعت من أدائها، فالأول مخصوص بالواجبات المؤقتة من الصلاة والصوم.
والثاني: مخصوص بالواجبات المطلقة.
(فتؤدي حقها): إما بقضائها فيما كان يقضى، وإما بتأدية ما لم يكن أداءه مما ليس مؤقتاً ولا فائتاً بفوات وقته.
فهذه الأمور الأربعة لابد من اعتبارها في التوبة المقبولة من جهة الشرع.
ولست أقول: إنها شرط في صحة التوبة، وإنما هي معتبرة في كمالها وتمامها، فالحق عندنا أن التوبة إنما هي الندم لا غير، كما ورد في ظاهر الخبر الذي ذكرناه.
فأما ما أشار إليه أمير المؤمنين من اعتبار هذه الأشياء الخمسة فيها فإنما هو على جهة التمام لها والكمال لأمرها، والمعتبر في صحتها ما أشرنا إليه.
(الخامس: أن تعمد إلى الشحم الذي نبت على السحت): وهو المال الحرام، كما قال تعالى: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ }[المائدة:62].
(فتذيبه بالأحزان): ذاب الشحم إذا انهلَّ وتلاشى أمره، وأراد إذهابه بتذكر الأحزان على فعل المعاصي.
(حتى يلصق الجلد بالعظم): بالنحول والسقم.
(وينشأ بينهما لحم جديد): نبت من الحلال.
(السادس: أن تذيق اللحم الطاعة): أراد مرارة الطاعة؛ لأن الطاعة لا تدرك.
(كما أذقته حلاوة المعصية): لذتها وسرورها، وانشراح الصدر بها.
(فعند ذلك): الإشارة إلى المعدود فيها هذه الشروط الستة واستكمالها فيه.
(تقول: أستغفر الله): أي يصلح لك أن تقول هذا القول، ويكون صدقاً عند الله تعالى.
وعن أمير المؤمنين أنه قال:
(سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لله على عبده اثنان وسبعون ستراً ، فإذا أذنب ذنباً انهتك عنه ستر من تلك الأستار، فإن تاب ردَّه الله إليه، ومعه سبعة أستار، فإن أبى إلا قُدُماً في المعاصي يهتك أستاره، [فإن تاب ردَّها الله عليه، ومع كل ستر سبعة أستار، وإن أبى إلا قُدُماً في المعاصي يهتك أستاره] وبقي بلا ستر، وأمر الله الملائكة أن تستره بأجنحتها، فإن أبى إلا قُدًماً في المعاصي شكت الملائكة إلى ربها ذلك، فأمر الله أن يرفعوا عنه، فلو عمل خطيئة في سواد الليل ووضح النهار أو في مغارة أو في قعر بحر لأظهرها الله عليه وأجراها، على الناس))).
[417] (الحلم عشيرة): أراد بذلك أن الحلم يندفع به من الشر والبلاوي وأذى الخلائق ما يندفع بالعشيرة من ذاك.
[418] (مسكين ابن آدم): يشير إلى أنه ضعيف الأحوال في كل أموره.
(مكتوم الأجل): لا يدري أي وقت يواثبه الموت.
(مكنون العلل): لا يدري أيها تصيبه.
(محفوظ العمل): لا يعمل صغيرة ولا كبيرة إلا كانت محصاة عليه.
(تؤلمه البّقَّةُ): وهو ذباب صغير، يعني أنه يتألم منها على حقارتها وهونها، لا يقدر على الانتصار منها.
(وتقتله الشرقة): الشرق: إعراض الماء في الحلق، فلا يزال مكانه حتى يقتل صاحبه في إعراضه.
(وتنتنه العرقة): النتن هو: الريح الخبيث، وأراد أنه إذا عرق بدت منه رائحة خبيثة في المرة الواحدة من أرفاعه ومعاطفه ، ومن هذه حاله لقد بلغ في الضعف كل غاية.
[419] (وروي أنه عليه السلام كان جالساً في أصحابه): في بعض الأيام.
(فمرت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم): أي حدَّقوا إليها وصرفوا أبصارهم إليها.
فقال عليه السلام:
(إن أبصار هذه الفحول طوامح): طمح إذا زاد على الغاية وتجاوزها.
(وإن ذلك سبب هبابها): الهباب: صياح التيس للسفاد ، جعله ها هنا كناية عن شدة الغلمة، وعدم ملك الإنسان لنفسه في تلك الحالة.
(فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه): يقع حسنها في عينه.
(فليلامس أهله): أي يجامع امرأته، وكنى بالملامسة عن ذلك، كما قال تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ }[المائدة:6]، وهذا من الآداب العجيبة والكنايات الرشيقة التي استعملها الله تعالى في كتابه الكريم تأديباً للخلق، وحملاً لهم على أحمد الشيم وأعلاها.
(فإنما هي امرأة كامرأة ): يعني أنه إذا قضى نهمته منها فهو مثل ما لو قضى ذلك من غيرها حراماً.
(فقال رجل من الخوراج: قاتله الله من كافر ما أفقهه!): يريد لقد بلغت في الفهم كل غاية، لما رأى من مطابقة كلامه للحكمة وملائمته للمعنى في ذلك كله.
(فوثب إليه القوم ليقتلوه، فقال عليه السلام: رويداً): أي لا تعجلوا على قتله، فإن ذلك لا وجه له.
(إنما هو سبُّ بسبٍّ): إنما هو قصاص أذية باللسان بأذية باللسان مثلها من غير مجاوزة للقتل، إنما كان ذلك خاصاً للرسول، وفي الحديث: ((من سبني فاقتلوه )) .
(أو عفو عن ذنب): أو أفضل من ذلك العفو عن الأذية.
[420] (كفاك من عقلك، ما أوضح لك سبيل غيِّك من رشدك): أراد أن العقل لو لم يكن فيه من المنافع إلا إيضاح سبيل السلامة عن مسالك العطب؛ لكان فيه أعظم كفاية وأجود نفع.
[421] (افعلوا الخير): في كل الأحوال.
(ولا تحقروا منه شيئاً): أي لا تستصغروا من قدره شيئاً.
(فإن صغيره كبير): عند الله تعالى.
(وقليله كثير): لعظم حاله وجلالة قدره.
(ولا يقولن أحدكم: إن فلاناً أولى بفعل الخير مني): يعني أحق به، وأراد أنه لا يفعله ويحيل به إلى غيره.
(فيكون والله كذلك): أي فيصدق الله تعالى هذا القيل، ويجعله كما قال، يمكِّن ذلك الآخر ويلطف له حتى يكون أولى وأحق على الحقيقة.
[422] (إن للخير والشر أهلاً): أراد أن الله تعالى قد جعل للخير أهلاً بلطفه لهم في فعله، وتمكينه إياهم منه، فلهذا كانوا أهلاً له، يؤخذ منهم ويوجد فيهم ويطلب من عندهم، وجعل للشر أهلاً بأن خذلهم عن فعل الخير وصرفهم عن إتيانه والحث عليه، فصار الشر موجوداً عندهم لايوجد سواه.
(فمهما تركتموه منهما كفاكموه أهله ): الضمير في قوله: تركتموه راجع إلى ما في قوله: مهما؛ لأن الأصل فيها ما ما خلا أن الألف الأولى قلبت هاء كقولك: إن آتك فمه؟ أي فما تفعل؟ ونظيره قوله تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ }[الأعراف:132].
وزعم بعض من شرح كلامه عليه السلام أن هذا الضمير قائم مقام الظاهر، تقديره: فمتى تركتم واحداً منهما ، وهذا لا وجه له، فإنه لاحاجة إلى ذلك مع جريه على ما ذكرناه من عوده على ما يفسره من قبل، كما أشرنا إليه ، كما هو قياس سائر الضمائر.
[423] (من أصلح سريرته): أعمال قلبه من الاعتقادات والإرادات كلها، وكانت كلها جارية على رضوان الله تعالى.
(أصلح الله علانيته): ما يظهر من أحواله كلها باللطف الخفي له من جهة الله تعالى.
(ومن عمل لدينه): من الانكفاف عن معاصي الله ومكروهاته.
(كفاه الله أمر دنياه): إصلاح ما يعود إليه نفعه في الدنيا واستقامة حاله.
(ومن أحسن فيما بينه وبين الله): من قيامه بأمر الله واجتهاده في طاعته.
(كفاه الله ما بينه وبين الناس): أصلح الله له حاله فيما بينه وبين الخلق بالكفاية من جهته لشرهم عنه، وأن يحول بين مكرهم وبينه كيف شاء، وهذا الحديث مروي عن الرسول عليه السلام في (الأربعين السيلقية) .
[424] (الحلم غطاء ساتر): يشير إلى أنه ساتر لجميع المساوئ التي لولاه لظهرت على أعين الملأ من الخلق.
(والعقل حسام قاطع): فَيْصَلٌ في الأمور كلها، يفصل ما التبس منها وصعب الأمر فيه.
(فاستر خلل خلقك بحلمك): يعني استر ما كان في أخلاقك كالغضب والحقد والحسد وغيرها من المساوئ بتغاضيك عن الأمور وسكوتك عنها، وإعراضك عن أكثرها.
(وقاتل هواك بعقلك): أراد وقاتل ما ينازعك إليه هواك من الخواطر الردية بردها إلى العقل وتحكيمه فيها وإزالتها عنك بذلك.
[425] (إن لله عباداً): خلقاً من خلقه، جعلهم أهلاً له وقربهم إلى رحمته.
(يختصهم بالنعم): من بين سائر الخلق في الإعطاء والرزق، وإعظام أحوالهم.
(لمنافع الخلق ): لا وجه لإعطائهم النعم إلا من أجل إصلاح الخلق ومنافعهم.
(فيقرها فيهم ما بذلوها): يعني فيديمها عليهم وقت بذلهم لها وإعطائهم إياها أهلها.
(فإذا منعوها): تركوها واستبدوا بها.
(نزعها منهم): أخذها من أيديهم.
(ثم حوَّلها إلى آخرين غيرهم): يقومون بحقها، ويفون لها بشرطها من أولئك.
[426] (لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين): يعني أن الأحوال في الإنسان وإن كانت على شرف المفارقة من العقل والقدرة والشهوة، لكن أدخلها في الزوال والانقطاع والتغير:
(العافية والغنى): فهاتان الخصلتان سريعتا الانقلاب والتغير.
(بينا تراه معافى إذ سقم): أراد تراه بين أوقات عافيته سالماً إذ عرض له المرض.
(وبينا تراه غنياً إذ افتقر): وتراه بين أوقات غناه حاصلاً إذ عرض له الفقر.
[427] (من شكا الحاجة إلى مؤمن): يعني من أطلع مؤمناً على فقره، وضربه على طريق الشكوى.
(فكأنما شكاها إلى الله): لأن المؤمن يكون واسطة خير إلى لله تعالى [بالدعاء إليه؛ ولأن المؤمن من أهل محبة الله وولايته، فكأنه يشكوها إليه] .
(ومن شكاها إلى كافر فكأنما يشكو الله): [لأن الكافر لا يكون واسطة خير إلى الله تعالى] إذ لا وجه لقبول دعائه، ولأنه من أهل عدواة الله وأهل بغضه، فلا تكون شكواه إليه مقبولة، وإذا بطل كونها شكوى إلى الله كانت لا محالة شكوى له.
[428] وقال عليه السلام في بعض الأعياد:
(إنما هو عيد لمن قَبِلَ الله صيامه): أجزل له عليه الثواب.
(وشكر قيامه): أراد إما شكر قيامه في لياليه بالعبادة، وإما قيامه بواجباته.
(وكل يوم لا نعصي الله فيه فهو يوم عيد): لأن العيد إنما سمي عيداً أخذاً له من عودة المسرات فيه، ولا مسرة أعظم من طاعة الله تعالى والتجنب عن معصيته، فهذا هو أعظم السرور وأعلاه.
[429] (إن أعظم الحسرات عند الله يوم القيامة حسرة): التحسر هو: التلهف، وانتصاب حسرة على التمييز أي من الحسرات.
(رجل كسب مالاً في غير طاعة الله): أي أخذه من الوجوه المحظورة كالظلم والربا، وإدخال المنافع المحظورة بسبب اكتسابه وغير ذلك.
(فَوَرَّثه رجلاً أنفقه في طاعة الله): في أنواع القرب والطاعات المرضية، لله المقربة إلى رضوانه.
(فدخل به الجنة): جزاء على إنفاقه له.
(ودخل به الأول النار): من أجل جمعه من المكاسب المحظورة والمداخل القبيحة.
[430] (إن أخسر الناس صفقة): الصفقة في البيع، وجعلها ها هنا استعارة، وأراد أعظم الناس خسراناً في أموره ومعاملاته.
(وأخيبهم سعياً): خاب الرجل في حاجته إذا لم يتيسر وينجح مطلبه.
(رجل أخلق بدنه): أتعبه وأهلكه.
(في طلب آماله): ما يرجوه من الأغراض الدنيوية.
(ولم تساعده المقادير): تأتي له بما أراد من ذلك، وتذعن له بتحصيله، ولا أقدرته.
(على إرادته): ما يريده من ذلك.
(فخرج من الدنيا بحسرته): بتلهفه على ما فاته من أغراضه من ذلك، وما تعذر عليه من بطلان مقاصده.
(وقدم على الآخرة بتبعته): بما يتبعه من ذلك من اللوم والذم والعقاب السرمدي في الآخرة.
[431] (الرزق رزقان): قد مضى معنى هذا على غير هذه العبارة، وهو من الدلالة على مَلَكَتِهِ عليه السلام لفنون الكلام، واقتدراه على أنواعه، ولهذا يعبر عن المعنى الواحد بعبارات كثيرة على أوجه مختلفة، وأنحاء متفاوتة.
(طالب): لصاحبه حتى يأخذه من غير تعب، ولا مشقة عليه في ذلك.
(ومطلوب): يطلبه صاحبه حتى يقدره الله تعالى له، ويقضي به من عنده، ويستحقه بالطلب له.
(فمن طلب الدنيا): شغل نفسه بطلبها، وأنفق عمره في تحصيلها.
(طلبه الموت): أتى له في سرعة وقرب.
(حتى يخرجه منها ): كارهاً على رغم أنفه من غير أهبة ولا طلب استعداد.
(ومن طلب الآخرة): بالأعمال الصالحة، يفعلها ويكون مجدّاً في تحصيلها.
(طلبته الدنيا): عاش فيها عيشاً رخياً حميداً.
(حتى يستوفي رزقه منها): يوفره الله تعالى عليه، ولا ينقصه فيه شيئاً.
[432] (إن أولياء الله هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا): أراد بالأولياء المحبين لطاعته والشاغلين أنفسهم بها والقاصدين إليها، وهؤلاء هم الذي تفكروا بعقولهم، واستعملوها في النظر والفكر.
(إذا نظر الناس إلى ظاهرها): يعني أنهم وِفْقُّوُا للنظر المُخَلِّص من دَرَكِ الخسارة، فنظروا في باطن الدنيا وما تؤول إليه عاقبتها من الانقطاع لها والزوال، لما نظر الناس إلى عاجل لذتها ، وتقدم شهواتها.
(واشتغلوا بآجلها): أراد أنهم شغلوا نفوسهم بما كان من أمر الآخرة، وهو الآجل المتأخر.
(إذا اشتغل الناس بعاجلها): بما تقدم من شهواتها واتباع لذاتها.
(فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم): يعني أنهم أهملوا لذاتها لما يخشوا من ذلك من وخيم عاقبتها من قسوة قلوبها وإماتتها عن ذكر الآخرة، ما خشوا أن يميتهم الذي يخافون أنه يفسد قلوبهم من محبتها والشوق إليها.
[433] وقال عليه السلام :
(هم تركوا ما علموا أنه سيتركهم): يريد أنهم أعرضوا عن الدنيا ولذاتها لما يتحققونه من انقطاعها عنهم، وانفلاتها من أيديهم.
(ورأوا استكثار غيرهم استقلالاً ): يريد أنهم استحقروا كثيرها ورأوه قليلاً حقيراً لما رآه غيرهم خطيراً جسيماً.
(ودركهم لها فوتاً ): أي وإدراكهم لها فوتاً من الآخرة وبُعْداً منها.
(أعداء ما سالم الناس): يريد أعداء الدنيا؛ لأن الناس سالموها واجتهدوا في إحرازها وتحصيلها.
(وسلم ما عادى الناس): يعني أنهم مسالمون للآخرة لما عاداها الناس وهجروها، وأعرضوا عن ذكرها.
(بهم عُلِمَ الكتاب): أي أن القرآن إنما يعلم من جهتهم.
(وبه علموا): أي وما كان علمهم حاصلاً إلا من جهة كتاب الله تعالى ومن طريقه.
(وبهم قام الكتاب ): استقامت أحكامه، وظهرت أعلامه.
(وبه قاموا): أي أن طرائقهم إنما حسنت وزكت خلائقهم وظهرت لما قرورها على كتاب الله وأقاموا على حكمه وشرطه.
(لا يرون مرجواً): أي لا يعرفون قدر المرجو، ولا يزن عندهم قلامة ظفر من جميع الأمور كلها.
(فوق ما يرجونه): أعظم حالة مما يرجونه، يؤملون حصوله في الآخرة من ثواب الله والفوز برضوانه.
(ولا مخوفاً): أي ولا يرون مخوفاً من جميع الأمور المخوفة في الدنيا.
(فوق ما يخافون): من أهوال الآخرة وشدائدها، وعظائم العقاب وما يتعلق به.
[434] (اذكرا انقطاع اللذات): زوالها بالموت والتغيرات العظيمة.
(وبقاء التبعات): ما يتبعها من العقاب والحساب عليها، وسخط الله وغضبه في ذلك.
[435] (اُخْبُرْ تَقْلَه): أي أخبر الناس في جميع أحوالهم وامتحنهم في جميع أسرارهم تبغضهم وتكرههم، والقِلَى هو: البغض لما يطلع بالخبرة على فساد القصود في حقهم، وخبث النيات في سرائرهم .
وروى ثعلب ، عن ابن الأعرابي قال: قال المأمون: لولا أن علياً عليه السلام قال: اُخْبُرْ تَقْلَه، لقلت أنا: إقْلَهْ تَخْبُرْ، هذا شيء حكاه السيد الرضي عن ثعلب .
وأقول: إن مراد المأمون أن أمير المؤمنين هو رأس الحكماء وأميرهم، وإمام العلماء وسفيرهم، لا يأخذون إلا عنه وبدلالته، ولا يغترفون إلا من بحره، ولا يرتوون إلا من فُضَالته، ولا يَسْرَوْنَ في ظلمات الشبه إلا بفكره ودلالته، فلولا أنه قد سبق إلى تقديم الخبرة لتكون سبباً للقِلَى، لقلت أنا: إقْل تخبر، وهو أن يكون القِلَى متقدماً على الخبرة وسبباً فيها؛ لأنه إذا قليت إنساناً عرفت كنه حاله، ومحك صَفَرِه في دوام المودة واستمرار الصحبة ، وكلاهما لا غبار عليه، وكلام أمير المؤمنين أحسن؛ لأنه عام؛ لأن الخبرة في الناس هو الدرية بأحوالهم في أسفارهم ومعاملاتهم كلها، فيحصل القِلَى بعد ذلك بخلاف ما قاله المأمون، فإن القِلَى إنما يكون في حق من كنت محباً له مختصاً به، ثم تقليه بعد ذلك فتعرف كنه حاله، فلهذا كان كلام أمير المؤمنين أعجب وأدخل في الحكمة لعمومه وشموله كما أشرنا إليه.
[436] وقال عليه السلام:
(ما كان الله ليفتح على عبد باب الشكر، ويغلق عنه باب الزيادة): يريد أن الله تعالى أعدل وأحكم عن أن يقول قولاً لايكون صادقاً حيث قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }[إبراهيم:7]، فلا يمكن أن يُوَفقَّه للشكر ولا يزيده من نعمه كما قال.
(ولا ليفتح على عبد باب الدعاء): يوفقِّه لأن يدعوه بجميع حوائجه ويفضي إليه بها.
(ويغلق عنه باب الإجابة): فمثل هذا لا يليق بحكمة الله تعالى ولا بعدله.
(ولا ليفتح على عبد باب التوبة): يوفقِّه لها وللإتيان بأحكامها وشرائطها.
(ويغلق عنه باب المغفرة): يعني ويحرمه القبول عند توبته وإنابته، ويحرمه أيضاً غفران ذنوبه عند تجدد المغفرة وإحداثها.
[437] وسئل أيما أفضل؟ العدل أو الجود؟ فقال عليه السلام:
(العدل يضع الأمور مواضعها): يريد يقيم حقائق الأشياء ويعدُّ لها من غير زيادة عليها ولا نقصان منها، ولا سرف فيها.
(والجود يخرجها عن جهتها): بالزيادة في شيء منها، ونقص في غيره، وإسراف في بعض الأمور.
(والعدل سائس عام): يعني أنه يحتاج في جميع الأمور كلها، فإن الأمور كلها مفتقرة إلى الاستقامة على أحوالها من غير زيادة ولا نقصان.
(والجود عارض خاص): أي أنه إنما يحصل في بعض الأشياء، وهو أيضاً من جملة الأمور العارضة التي تحصل تارة وتزول أخرى، وتحصل في بعض الأشخاص، وهو مفقود عن أكثرهم فلهذا كان عارضاً.
(فالعدل أشرفهما): حالاً.
(وأفضلهما): قدراً عند كل أحد لما أشرنا إليه.
[438] (الناس أعداء ما جهلوا): يريد أن العداوة هي هجران من تعاديه وزوال الأنس بينك وبينه، وهذا حاصل فيما كان الإنسان جاهلاً له، فإن الواحد منا لا يأنس بما لا يعرفه، فهو في الحقيقة عدوه، ولهذا فإنك ترى الإنسان إذا علم شيئاً أنس به وكرره على ذهنه وفهمه مرة بعد مرة، وإذا كان جاهلاً له فإنه غير آنس به ولا يرعيه طرفاً ولا يلتفت إليه.
[439] (الزهد كله كلمتان ): قد جمعهما الله تعالى في كتابه الكريم، ثم تلا عليه السلام قوله: ({لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ })[الحديد:23]: أي لا تحزنوا عليه.
({وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ })[الحديد:23]: أي لا يصيبكم بذلك سرور، فعدم الالتفات إلى ما فات وعدم الفرح بما حصل قد اشتملا على الزهد بأسره، فاستوليا عليه بحذافيره.
(فمن لم يَأسَ على الماضي): يلتفت إليه ولا يعرِّج عليه.
(ولم يفرح بالآتي): الحاصل في المستقبل.
(فقد أخذ الزهد بطرفيه): لأن طرفاً له متعلقاً بالماضي وهو عدم الاحتفال بالماضي، وطرفاً يتعلق منهما بالمستقبل وهو ألاَّ يفرح بما يحصل له فيما يستقبله من عمره من الخيرات، وهذا كله تعويل على زوال الدنيا وانقطاعها وبطلانها وفسادها، فلا يعرج فيها على ما فات، ولا يفرح فيها بما يأتي.
[440] (الولايات مضامير الرجال): المضمار هو: الموضع الذي تُضَمَّرُ فيه الخيل، وهو مكان السباق، والمضمار: عبارة عن الزمان، ومقداره أربعون يوماً تعلفها حتى تسمن ثم ترد إلى قوتها هذه المدة، فكل ما ذكرناه يسمى المضمار، وأراد أنها للولاة بمنزلة المضمار؛ لأنهم يمتحنون بها في الجودة والرداءة والشجاعة والجبن، وغير ذلك من الصفات الجيدة والردية.
[441] (ما أنقض اليوم لعزائم غد !): يشير إلى أن من وعد أن يفعل فعلاً في الغد فإن إرواده في اليوم وتأنيه فيه يهون أمره وينقض ما قد كان عزم فيه على أن يفعله، وهو قد أورده على جهة التعجب من حاله، وهو جار مجرى الكناية في بطلان ما وعد به على أن يفعل غداً، فإنه بصدد البطلان والزوال، وإنما الذي يرجى وقوعه ما وعد بفعله في ... ... ... ... ... ... ... لبيلبيلبيلتنيبلبليبلتلبتيلبيلبيلتنبيلبيتوقته وحينه لا غير.
[442] (ليس بلد أحق بك من بلد): يشير إلى أن البلاد مستوية بالإضافة إليك، لا تختص بك واحدة منها دون واحدة.
(خير البلاد ما حملك): استقامت فيه أحوالك وظهر فيها أمرك، وكنت فيها طيباً عيشك، هنياً مشربك ومأكلك، وعن هذا قال بعضهم:
تباً لذي أدب يرضى بمنقصة
ولا يكون كبان فوق قفاز
يوماً بمصر وأرض الشام يسكنها
وبالعراقين أحياناً وشيراز
[443] وقال عليه السلام وقد جاءه نعي الأشتر رحمه الله:
(مالك وما مالك؟): الإستفهام وارد على جهة المبالغة والتهويل، والإفخام في شأنه، كأن حاله بلغ مبلغاً لا يعلم فهو يستفهم عنه، وهذا كثير في كتاب الله حيث يريد التعبير عما عظم شأنه، كقوله تعالى: {الْقَارِعَةُ ، مَا الْقَارِعَةُ }[القارعة:1-2]، {الْحَاقَّةُ ، مَا الْحَاقَّةُ }[الحاقة:1-2]، وذلك كثير لا يحصر.
(لو كان جبلاً لكان فِنْداً ): الفند: الطويل من الجبال، وقيل: المتفرد منها، وأراد ها هنا العظيم في الطول والانفراد عنها.
(لا يرتقيه الحافر): تطلعه ذوات الحافر لصعوبته ولعسرة مرقاه.
(ولايوفي عليه الطائر): أوفى بالفاء إذا أشرف على الشيء، وأراد أن الطير لا توفي عليه أي لا تشرف لعلوه.
[444] (قليل مدوم عليه): أراد من الطاعات، وفي الحديث: ((إن الله يحب المداومة على العمل وإن قلَّ )).
(خير من كثير مملول منه): لأن مع الرغبة يحصل القبول، ومع الملالة يحصل الرد لا محالة، وفي الحديث: ((عليكم من العمل بما تطيقون ، فإن الله لا يملُّ حتى تملَّوا)).
[445] وقال عليه السلام لغالب بن صعصعة والد الفرزدق، واسم الفرزدق همام بن غالب ، في كلام دار بينهما:
(ما فعلت إبلك الكثيرة؟): البالغة في الكثرة مبلغاً عظيماً.
(فقال: ذعذعتها الحقوق يا أمير المؤمنين): أي فرقتها، يعني أخذتها الصدقات المطلوبة منها في كل عام.
فقال عليه السلام:
(ذاك أحمد سبلها): الإشارة إلى الأخذ على هذا الوجه، وأراد أنه أعظم الطرق التي يصدر تفريقها فيه، ويكون تبددها بسببه.
ويحكى أن غالباً فاخر سحيم بن وثيل ، فعقر غالب ناقة، فعقر سحيم ناقتين، فنحر سحيم ثلاثاً، فعمد غالب إلى مائة ناقة فنحرها، فنكل سحيم عن ذلك، فقال له قومه: جلبت علينا عار الدهر كله، فاعتذر بأن إبله كانت غائبة، ثم تقدم الكوفة فعقر ثلاث مائة ناقة بكناسة الكوفة من إبله، ثم قال للناس: شأنكم بهذا ، فشعر بذلك أمير المؤمنين فقال:
(هذا مما أُهِلَّ به لغير الله، فلا يأكل منه أحد شيئاً) ثم أمر بطرد الناس عنه، فتخطفتها الطير وأكلتها السباع والوحوش.
ولله درُّ أمير المؤمنين فما أصلب نفسه في الدين!، وأعظم وطأته على إيحار صدور المتمردين!.
[446] (من عظَّم صغار المصائب، بلي بكبارها): يريد أن الواحد إذا جرى عليه مصيبة وهي صغيرة في حالها فعظَّمها وكبَّرها في نفسه، ولم يجعل الصبر ذخيرة عند الله تعالى من أجلها، فلا يمتنع أن الله تعالى يبلاه بأعظم منها عقوبة له على فعله ذاك، وإبطال صبره على تلك المصيبة.
[447] (من كرمت عليه نفسه): عظمت عنده حالة نفسه، وأراد تكريمها.
(هانت عليه شهوته): أراد أن إكرام النفس وإعزازها إنما يكون بانقطاع الشهوة عنها، وإذا قطع شهوته لم يتواضع لأحد، ولا يزول عن حالة العزة بنفسه؛ لأن ذلك إنما يكون من أجل التهالك في محبة الشهوات وإحرازها.
[448] (ما مزح رجل مزحة، إلا مجَّ من عقله مجَّة): يشير إلى أن المزاح قليله وكثيره لا خير فيه، وأرد أن المزحة الواحدة لا محالة تنزل قدره وتسقط جلالة حاله، وفي الحديث: ((إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً )) وكلامه عليه السلام محمول على إفراط المزاح، أو على أنه مزح بما يكون سقوطاً في حاله وإنزالاً لدرجته في ذلك.
[449] (زهدك في راغب فيك نقصان حظ): يشير إلى أنك إذا انكففت عن صحبة من هو راغب في صحبتك وأبيت عنها، فإنما ذلك نقصان حظ لذلك الذي صحبك في صحبتك.
(ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس): يريد أنك إذا رغبت فيمن يكون ممتنعاً من صحبتك فهذا لامحالة ذل نفس منك، وهون في الطبيعة، وعدم أنفة من جهتك.
[450] (ما لابن آدم والفخر!): إنكار عليه في التعلق بالفخر والرغبة فيه والتصريح به من جهة نفسه، وحاله معروفة.
(أوله نطفة): مهينة قذرة لها رائحة خبيثة، ثم جرت في موضع البول عند انصبابها من الإحليل، ثم جرت في موضع الحيض عند صبِّها في رحم المرأة مرة وعند خروجه من بطن أمه مرة ثانية، ثم صار يغتذي في بطن أمه بدم الحيض، فهذه حالته في الأولية من خلقه.
(وآخره جيفة): وبعد موته يستقذر من رائحته، ويعاف أمره، وتنفر النفوس من رؤيته وقذر رائحته، فإذا كانت هذه حاله فكيف يفخر ويعلو أمره؟
(لا يرزق نفسه): لا يقدر على ذلك، ولا له مكنة عليه.
(ولا يدفع حتفه): ولايقدر على دفع ما يصيبه من الآفات والمصائب.
[451] (الغنى والفقر بعد العرض على الله): يشير بذلك إلى أن الغنى على الحقيقة إنما هو بعد أن تعرض الأعمال على الله ثم يقبلها فهذا هو الغنى والفوز لا محالة، والفقر على الحقيقة بعد عرض الأعمال على الله وردها فهذا هو الويل على الحقيقة لأهله.
اللَّهُمَّ، أسعدنا بقبول الأعمال يوم يقوم الأشهاد.
[452] وسئل عليه السلام عن أشعر الشعراء؟
فقال:
(إن القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها): الحلبة هي: موضع السباق للخيل، أو اسم للخيل المجتمعة التي تأتي من جهات مختلفة، ولم أحط بمراد أمير المؤمنين في قوله: (إنهم لم يجروا في حلبة واحدة)، فإن أراد أنهم لم يكونوا في وقت واحد فالتفرقة بالسبق والتأخر في الفصاحة والبلاغة في الشعر تدرك ولو كانوا في أزمنة متفاوتة، ولهذا فإنها تعرف الآن بينهم وإن تفاوتت أزمانهم، وإن أراد أن كل واحد لم يعارض صاحبه فيما جاء به من المعاني والمقاصد فليس الأمر كذلك، فإن المعارضة قد وقعت بين علقمة وامرئ القيس في معنى واحد، وزاد أحدهما على الآخر في ذلك المعنى فصاحة وبلاغة، وعُرِفَ مقدار التفاوت بينهما فيه، وإن أراد أن مقاصدهم في العلوم الشعرية متباينة وأفانينهم فيه مختلفة، إذ ليس لتلك الأساليب غاية ولا يمكن الإشارة إلى ضبطها بحد ونهاية ، فهذا وإن كان الأمر فيه كما ذكر، لكن هذا لايمنع مما ذكرناه من معرفة السبق والتقدم، والفصيح والأفصح، وإن أراد أنهم لم يقصدوا معنىً واحداً يعبِّرون عنه بعبارات يعرف بها قدر التفاوت بينهم في السبق والتأخر، فقد رأينا الشاعرين يزدحمان على معنى واحد، ويعبِّر كل واحد منهما عن ذلك المعنى بعبارة يُعْرَفُ بها مقدار فضلهما في الفصاحة والبلاغة، ويزيد أحدهما على الآخر في ذلك، وهذا ظاهر لا يمكن دفعه.
وهم في تناولهم المعنى الواحد وكسوه ، كل واحد منهم آتاه عبارات غير عبارات الأول، منهم من يزيد على صاحبه فيه، ومنهم من يساوي، ومنهم من ينقص، فهذه ضروب ثلاثة نذكر من كل واحد منها مثالاً ليطَّلع الناظر على رونق البلاغة، ومحاسن الفصاحة، وكيفية تأديتهم للمعنى الواحد وتفاوت مقادير بلاغتهم فيه.
الضرب الأول: ما يكون بالزيادة
فمن ذلك قول قيس بن الخطيم يصف كتيبة:
لو أنَّك تُلْقِي حَنْظَلاً فَوْقَ هَامِنَا
تَدَحرَج عن ذي سامةِ المتقاربُ
وذو سامة: بيضة الحديد المطلي بالذهب، والسام: عروق الذهب، أخذه ابن الرومي فقال:
فلو حصَبتْهُم بالفضاءِ سحابةٌ
لظلّت على هاماتِهم تَتَدحرجُ
ومن ذلك قول نهشل في هذا المعنى:
تظلّكَ من شمسِ النهارِ رماحُهم
إذا رفعَ القومُ الوشيجَ المقوَّمَا
أخذه المتنبي فقال فيه:
تمنعَّها أن يصيبَها مطرٌ
شدة ما قد تضايق الأسلُ
ثم أخذ هذا المعنى عمارة اليمني فجوَّده غاية التجويد،
فقال فيه:
إذا شجراتُ الخطِ فيها تشاجرتْ
فليس لريحٍ بينهنَّ هبوبُ
وقول الأعشى:
وأرى الغواني لا يواصلن امرأً
فقد الشبابَ وقد يَصِلْنَ الأمردا
أخذه أبو تمام وزاد عليه زيادة ظاهرة فقال:
أحلى الرجال من النساءِ مواقعاً
من كان أشبههم بهنَّ خدودا
فكل واحد من هؤلاء نراه قد أخذ معنى صاحبه وزاد عليه في الفصاحة والبلاغة، وجودة الحلاوة، ورقيق الطلاوة.
الضرب الثاني: ما يكون بالمساواة
فمن ذلك قول طفيل :
نجومُ سماءٍ كلَّما غابَ كوكبٌ
بدا وانجلت منه الدُّجنّةُ كوكبُ
أخذه أبو تمام وساواه، فقال:
إذا قمرٌ منهم تغوَّر أو خبا
بدا قمرٌ في جانب الأفقِ يلمعُ
ومن ذلك قول بعض الشعراء:
إذا بلَّ من داءٍ به ظنّ أنَّه
نجا وبه الداءُ الذي هو قاتلُه
أخذه المتنبي وساواه فقال:
فإن أسلم فلم أسلمْ ولكن
سلمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ
ومن ذلك قول بعض الشعراء:
أنا السيفُ يخشى حدُّه قبل هزِّهِ
فكيف وقد هزَّ الحسام المهند
أخذه المتنبي وساواه فقال:
يهاب سيوفَ الهند وهي حدائدٌ
فكيف إذا كانت في نزارية غُلْبَا
ويُرْهَبُ ناب الليث والليث وحده
فكيف إذا كان الليوث له صُحْبَا
ويُخشى عُبابُ البحر وهو مكانُه
فكيف بمن يغشى البلاد إذا عبَّا
فكل واحد من هؤلاء قد أخذ معنى صاحبه الذي أراده وساواه من غير زيادة ولا نقصان في فصاحته وبلاغته، وجودة معانيه كما ترى.
الضرب الثالث: ما يكون بالنقصان
فمن ذلك قول المجنون :
لقد كنتُ أعلو حبَّ ليلى فلم يزل
بي النقضُ والإبراُم حتى علانيا
أخذه المتنبي، فنقص عنه نقصاناً ظاهراً، وأكره فيه نفسه حتى انحطَّ عن عذوبته، بقوله:
كتمتُ حبَّك حتى عنك تكرمةً
حتى استوى فيكِ إسْرَاري وإِعْلاَني
ومن ذلك قول أبي تمام:
نرمي بأشباحِنا إلى ملك
نأخذ من فضلِه ومن أدبِه
أخذه المتنبي ونقص عنه، بقوله:
ولديه مَلْعِقْيَانِ والأدبِ المفا
د وَمَلْحَيَاةِ وَمَلْمَمَاتِ مناهل
فنزل عنه كما ترى ولم يجود في تأليفه، وفيه استكراه وتكلف ، وقد جمع من فنه في مواضع ثلاثة، فلهذا شابه بذلك وأبطل حلاوته.
وقد حكي عن عثمان بن جني أنه قال: إن المتنبي قد زاد على أبي تمام في هذا البيت حيث ذكر الموت والحياة وعظم الحال والمناهل، فاعترضه الشيخ الوجيه فقال: أيها الشيخ، إنه ليس نقد الشعر من صنيعتك ، ولا هو من عملك وعلمك، إنه ليس بجمع المعاني كما ذكرت، إنما يتفاضل بجودة النظم وحسن الديباجة، ورقيق الزجاجة.
وأقول: إن كلام ابن جني لقريب من الصواب، فإن رقته وبلاغته غير خافية، ولولا خوف الإطالة لذكرنا من هذا طرفاً، ولكنه خارج عن مقصدنا في الكتاب، وفيه تنبيه على ما وراءه من ذلك، فهؤلاء قد جروا في هذه الحلبة، فُعُرفَتْ الغاية التي يستبقون إليها في حيازة قصب السبق، وهي أعواد توضع يعرف بها الفضل في السبق ، وتكون غاية له، فمن سبق إليها قبل صاحبه أخذ السبق المعلوم بينهم، ثم منهم من زاد ومنهم من ساوى صاحبه، ومنهم من نقص عنه كما قررناه آنفاً.
فأما المعارضة فهي عند أهل البيان إنما تكون بالألفاظ في جودة الفصاحة والبلاغة، ولا يعتبر فيها بالمعاني، ولا بد فيها من المباينة في المقاصد، كقول امرئ القيس:
خليلي مرّا بى على أمِّ جندبٍ
لتقضي حاجاتِ الفؤادِ المعذّبِ
فعارضه علقمة بقوله:
ذهبت من الهجرانِ في كل مَذْهَبٍ
ولم يكُ حقاً كل هذا التجنُّبِ
فانظر إلى تباين مقصدهما في ذلك، فأحدهما وصف الوصال، والآخر وصف الهجران، فكان ذلك معدوداً في المعارضة، لما كان مماثلاً لما أتى به امرؤ القيس في جزالة الألفاظ وصوغها ونظامها، ولا حاجة بنا إلى الإكثار من هذا.
(فإذا كان ولابد): يعني من المفاضلة في الشعر، ها هنا قد رجع أمير المؤمنين إلى الاعتراف بصحة المفاضلة، خلافاً لما ذكره في صدر كلامه من امتناعها كما أوضحناه، وهو الصحيح ولهذا رجع إليه.
(فالملك الضِّلِّيل): يشير إلى امرئ القيس، والضِّلِّيل: كثير الضلالة كالفسِّيق لكثير الفسق، والضِّحيك لكثير الضحك، وهذا لقب لامرئ القيس معروف به، فظاهر كلامه ها هنا تفضيله على الشعراء في الفصاحة وجودة المعاني، وهذا محمول على تفضيله على أهل طبقته من أهل زمانه لا على تفضيله على الشعراء مطلقاً، أو على شعراء الجاهلية نحو النابغة وعمرو بن كلثوم وطرفة وغيرهم.
فأما المتأخرون من الإسلاميين نحو أبي تمام والبحتري وأبي الطيب المتنبي، فأهل العلم بالشعر وجودته يفضل هؤلاء على من تقدمهم من الشعراء في الرقة والدقة، والحلاوة والعذوبة، ثم يفضلون من هؤلاء الثلاثة أبا الطيب المتنبي فإنه أناف عليهم في الغاية، وجاراهم ثم سبقهم إلى النهاية، ولنقتصر على ما ذكرناه من ذلك، ونرجع إلى تفسير كلامه.
ومن كلامه عليه السلام (453-458)
[453] ثم قال عليه السلام:
(ألاحرُّ يلفظ هذه اللُّماظة): يشير بما قاله إلى الدنيا، واللُماظة بالضم: ما يبقى في الفم من الطعام.
(لأهلها!): أي للراغبين فيها المنهمكين في حبها، ويقبل على ما يعنيه من أمر الآخرة وإصلاحها.
(إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة ): يشير إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة:111]، وذلك أن بيعة العقبة الأولى، كانت تسمى بيعة النساء يريد على ما بايع على النساء ألا يسرقن ولا يزنين .
وأما العقبة الثانية فإنما كانت على حرب الأسود والأحمر، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من البيعة.
قالوا: فما لنا على ذلك يارسول الله؟.
قال: ((الجنة)) .
[454] (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق الذي يضرك): يكون عليك فيه ضرر في جسمك أو مالك.
(على الكذب حيث ينفعك): أي تجعل الصدق هو الأحق وإن كان ضاراً لك، وغرضه أنك إذا خيِّرت بين كلامين أحدهما صدق ضار، والآخر كذب نافع، فالذي يقضي به الإيمان فعل الصدق لحسنه وإن كان ضاراً، والإعراض عن الكذب لقبحه وإن كان نافعاً.
(وألا يكون في حديثك فضل): زيادة لا حاجة لك إليها، ولا رغبة لأحد فيها.
(عن عجلك ): أي من أجل العجلة وكثرة الفشل في الكلام فإنها غير محمودة.
(وأن تتقي الله في حديث غيرك): أراد إما في حمله إلى غيرك فيكون نميمة، وإما بالزيادة عليه فيكون كذباً.
[455] (يغلب المقدار على التقدير): أراد أنه يغلب ما قضاه الله تعالى وقدَّره للعبد، وحتمه عليه ما يقدِّره لنفسه، وغرضه أنه لامحيص للإنسان عما قدَّره الله له وقضاه عليه، ولو بالغ في الاحتماء والصيانة عن ذلك كل مبلغ، فلا بد من وقوعه فيه.
(حتى تكون الآفة في التدبير): يعني أن الله تعالى إذا أراد إنفاذ ماقضاه على العبد وقدَّره له جعل تلك الآفة التي أرادها وحتمها فيما يفعله العبد من التدبير حذراً منها برُغْمِه.
[456] (الحلم والأناة): الصبر على المكاره والحلم عنها، والتؤدة في الأمور والإمهال فيها.
(توءمان): أراد أنهما أخوان متقاربان.
(ينتجهما علو الهمة): يريد إذا كانت الهمة سامية مرتفعة كان الغالب عليها التصبر على المكاره والإرواد في الأمور كلها.
[457] (الغِيبةُ جُهْدُ العاجز): الجهد هو: نهاية الطاقة، يروى بفتح الجيم وضمها، وأراد إن الغيبة لا تصدر إلا ممن يكون عاجزاً عن إيصال المضرّة إلى من اغتابه بالسيف وأنواع المضارّ للتشفي والانتقام منه، فلما عجز عن ذلك كان غايته قرض عِرْضَه بلسانه، وقد ورد الشرع بحظر الغيبة والوعيد عليها، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((الغيبة أشد من الزنا )) ، وفي حديث آخر: ((الغيبة والنميمة ينقضان الوضوء )) ، وقوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ }[الحجرات:12]، وغير ذلك من الوعيدات العظيمة في ذلك .
واعلم: أن الغيبة هي ذكرك الرجل بما فيه ممَّا كان يكرهه.
فأما ذكره بما ليس فيه مما يكرهه فهو بهتان، وفي الحديث: ((إياكم والغيبة فإنها أشد من الزنا )) ، وكفارة الغيبة الندم عليها والأسف على فعلها، ثم تستحل من المغتاب على ذلك.
وعن الحسن البصري في كفارتها: يكفيه عنها الاستغفار دون الاستحلال ، وفي الحديث: ((كفارة من اغتبته أن تستغفر له )) .
[458] (رب مفتون بحسن القول فيه): يشير إلى أن من الناس من يكون السبب في فتنته وإعراضه عن الدين هو ثناء الناس عليه، فيسمع ذلك فيكون ذلك إما سبباً لعجبه بحال نفسه، وإما لتقصيره في عمله ذلك، وكل ذلك هلاك له وفتنة في حقه.
اللَّهُمَّ، أجرنا من فتنة الدين.
قال السيد الرضي صاحب (نهج البلاغة): وهذا حين انتهى بنا الغاية إلى قطع المختار من كلام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، حامدين الله تعالى على ما منَّ به من توفيقنا لضمِّ ما انتشر من أطرافه، وتقريب ما بعد من أقطاره، ومقررين العزم كما شرطناه أولاً على تفضيل أوراق من البياض في آخر كل باب من الأبواب، لتكون لاقتناص الشارد، واستلحاق الوارد، وما عساه أن يظهر لنا بعد الغموض، ويقع إلينا بعد الشذوذ، وما توفيقنا إلا بالله عليه توكلنا وهو حسبنا ونعم الوكيل .
وذلك في رجب سنة أربعمائة.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته على محمد وآله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يتلو ذلك زيادة من نسخة كتبت على عهد المصنف
[459] قال عليه السلام:
(الدنيا خلقت لغيرها، ولم تخلق لنفسها): يريد أنها خلقت للعبادة لله تعالى، واكتساب الخيرات منها لينال بها رضوان الله تعالى، والفوز بجواره في دار كرامته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]، فهي في الحقيقة مخلوقة من أجل غيرها كما ترى.
[460] (إن لبني أمية مِرْوداً): المِرْوَدُ ها هنا هو مفعل من الإرواد، وهو الإمهال والتؤدة والإنظار.
[ومضماراً يجرون فيه] : وهو من فصيح الكناية وعجيبها، كنى عن المهلة التي هم فيها، وملك الأمر الذي ملكوه بالمضمار الذي يجرون فيه إلى الغاية، فإذا بلغوا من ذلك منقطعها انتقض نظامهم بعدها، ولهذا قال: يجرون فيه، يعني يملكون ما ملكوه من الأمر.
(ولو قد اختلفوا فيما بينهم): جرى بينهم التشاجر من جهة أنفسهم لا بدخول داخل عليهم في ذلك.
(ثم لو كادتهم الضباع): أعملت فيهم المكر والحيلة .
(لكادتهم ): لغلبتهم في ذلك، وإنما مثل ذلك بالضباع؛ لأنها أعيا ما تكون بذلك، وأذهب الهوام في الفهاهة والعجز عن الكيد لغيرها.
[461] وقال في مدح الأنصار:
(هم والله ربَّوا الإسلام): نعشوه عن عثاره، وقوموه عن أوده.
(كما يُربَّى الفُلُّو): المهر من الخيل من العناية به وشدة الحرص عليه.
(مع غَنائهم): الغناء بفتح الغين هو: النفع.
(بأيديهم السباط): يريد مع ما انضم إلى ذلك من نفعهم بالأيدي الممتدة بالخيرات من جهتهم وحسن المواساة.
(وألسنتهم السلاط): السلاطة هي: حدة اللسان، يشير إلى ما كان من الذبِّ منهم عن الإسلام بالسيف واللسان ومحاماتهم عليه بذلك، نحو ما كان من حسان وابنه عبد الرحمن من المهاجاة والذبِّ عن الرسول وعن المسلمين، ونحو ما كان من كعب بن مالك الأنصاري .
[462] (العين وكاء السّه ): والظاهر أن هذا من كلام الرسول عليه السلام، وقد رواه قوم لأمير المؤمنين، وحكاه المبرد عنه في كتابه (المقتضب)، وهو من الاستعارات العجيبة والكنايات العالية الرفيعة، والسَّهُ: اسم للدبر، وأصلها سته ، ذهبت التاء تخفيفاً، وفيها لغات يقال فيها: سَهُ، وست، واست، كأنه شبَّه السَّه بالوعاء، وشبَّه العين بالوكاء، وهو الخيط الذي تربط به القِرْبَةُ، فإذا أطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء، وفي الحديث: أن رجلاً غلبه النوم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنام فانفلتت منه ريح، فضحك الحاضرون من ذلك، فأنكر رسول الله ضحكهم، وقال عليه السلام عند ذلك: ((العين وكاء السّه )) ، وفي الحديث: ((كل بائلة تفيخ )) أي يظهر منه صوت، وهو بالخاء المنقوطة، يقال: أفاخ الإنسان إفاخة.
وزعم الشريف [علي بن ناصر] صاحب (الأعلام): أن المراد بقوله عليه السلام: العين وكاء السّهُ، أن العين إذا لم تضبط ولم تملك فإنها تطمح لامحالة إلى أشياء يميل إليها الإنسان، ويلتذ بها وتشتاق نفسه إلى تناولها، فيتبعها ويفرط في تناولها فيؤدي ذلك إلى النفخ والإسهال، ولذلك يقال لمن يأكل على الشبع: فلان يأكل بالعين يعني مادام يرى الطعام فإنه يأكله ، ولا يمنعه منه مانع، وهذا من الهذيان الذي طول فيه أنفاسه فأشاده ولم يحكم فيه أساسه، ولو سوَّغنا هذا التأويل على بُعْدِه لسوَّغنا للباطنية تأويلاتهم الردية، وأباطيلهم المموهة العمية.
[463] وقال في كلام له:
(ووليهم وال): يعني الأمة أي قام عليهم أمير يلي أحوالهم ويدبر أمورهم كلها.
(فأقام): أودهم، وأصلح دينهم، وساس بنظره أمورهم كلها.
(واستقام): في نفسه على أمر الله تعالى وأمر رسوله من الدعاء إلى الله وإحياء الشريعة وإظهار شعارها.
(حتى ضرب الدين بِجِرَانهِ): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره: فلم يزل ذلك دأبه حتى استقر الدين قراره، والجران: مقدم نحر البعير من مذبحه إلى منخره، وكنى بذلك عن ثبوت الدين واستقراره ورسوخه.
[464] (يأتي على الناس زمان عضوض): عض الزمان عليهم إذا كان فيه قحط وشدة وبلاء، وعض الرجل على ماله إذا جمعه لنفسه، ولم ينفق منه شيئاً، قال الفرزدق:
وعضَّ زمان يا ابن مروان لم يدعْ
من المال إلا مسحتاً أو مجلف
(يعض الموسر على ما في يده): يكنزه ويخبأه ويجمعه .
(ولم يؤمر بذلك): إنما أمر بالبذل وترك الادخار، ثم تلا هذه الآية: ({وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ })[البقرة:237]: يشير بها إلى المواساة والإعانة، والفضل ها هنا هو التفضل.
(ينهد فيه الأشرار): أي ينهضون فيه ويكون الأمر لهم فيه، وكلمتهم المسموعة وأمرهم المطاع.
(ويستذل الأخيار): ينقص قدرهم ويحتقر حالهم.
(ويبايع المضطرون): أي الذين ألجأتهم الحاجة حتى صاروا في حكم المكرهين في البيع.
(وقد نهى رسول الله [صلى الله عليه وآله] عن بيع المضطرين ): وهم الذين تلجئهم الحاجة فيبيعون الشيء بأقل من ثمنه.
[465] (يهلك فيَّ رجلان: محب مطر ): الإطراء: هو المبالغة في المدح.
(وباهت): أي ذو بهت، وهو: القول بما ليس فيه، قال الكسائي: يقال: رجل مبهوت ولا يقال: باهت، هذا إذا كان مأخوذاً من الفعل، فأما إذا كان على جهة النسبة كقولهم: تامر ولابن فهو جائز، وعليه يحمل كلام أمير المؤمنين.
(مفترٍ ): أي كاذب لاصحة لكلامه، وقد مضى نظيره كقوله: (يهلك في رجلان: محب غالٍ، ومبغض قالٍ) ، وقد مضى تفسيره في موضعه.
[466] وسئل عن التوحيد والعدل؟
فقال:
(التوحيد ألاَّ تتوهمه، والعدل ألاَّ تتهمه): يعني أن الوهم إذا توهمه فإنما يكون ذلك قياساً على هذه المحسوسات، وهو محال، والعدل يختص الأفعال، ونهاية ذلك أن لا يقع في نفسك أن جميع أفعاله كلها فيها أغراض حِكَمِيَّة ولطائف مصلحية؛ لا تهمة فيها ولا خلل يلحقها ولا فساد يتصل بها.
وأقول: إن هاتين الكلمتين في الإشارة إلى التنزيه في ذاته وفعله، من الْحِكَمِ التي لا ينسج لهما على منوال، ولا تسمح قريحة لهما بمثال.
[467] (لا خير في الصمت عن الحكم): يريد الحكمة أي لا مصلحة في السكوت عن النطق بالحكم الحسنة النافعة في الدين والدنيا لأهلها:
(كما أنه لا خير في القول بالجهل): يريد أنهما سيان فلا ينبغي من العاقل القول بما لا يعلم، كما لا ينبغي منه السكوت عن الحكمة والقول بها.
[468] وقال عليه السلام في دعاء استسقى به:
(اللَّهُمَّ، اسقنا ذلل السحاب دون صعابها): وهذا من لطيف الكناية وعجيبها، فإنه (شبَّه السحاب ذوات الرعود والبوارق، والرياح العواصف ، بالإبل المتصعبة التي تقمص برحالها): وقمص الفرس هو أن يطرح بيديه معاً.
(وتتوقص بركَّابها ): وقصت به راحلته إذا دقَّت رقبته من سقوطه منها، (وشبه السحاب الخالية من ذلك ؛ بالإبل الذلل التي تُحْتَلَبُ طيِّعة، وتمشي مسمحه) .
[469] وقيل له: لو غيَّرت شيبك يا أمير المؤمنين؟
فقال: (الخضاب زينة): يتجمل به ويستحسن في العيون.
(ونحن قوم في مصيبة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم): أراد أن مصابنا برسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] ظاهر بفقده، فلا ينبغي لنا زينة من أجل ذلك.
[470] (القناعة مال لا ينفد): هذا كلام للرسول ، وقد تقدم وذكرنا تفسيره هناك، فلا وجه لتكريره.
[471] وقال لزياد بن أبيه وقد استخلفه لعبد الله بن العباس على فارس وأعمالها، في كلام طويل كان بينهما نهاه فيه عن تقديم الخراج:
إما بأن يأخذ منهم ذلك لسنة أو سنتين كما يفعل بالزكاة، وإما بأن يأخذه منهم قبل إحصاد الزرع وبلوغه حد حصاده.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام:
(استعمل العدل): أراد إما العدل على الرعية فيما تأخذه منهم، وإما أن يريد الإنصاف من نفسه، وهما متقاربان.
(واحذر العسف ): وهو الأخذ على غير طريق.
(فإنه يدعو بالجلاء): وهو الانتقال عن الأوطان والمساكن.
(والحيف): يريد الظلم.
(يدعو إلى السيف): إما بتسليط الله عليك من يقتلك، وإما بتقوية المظلوم عليك فيكون هو المتولي لذلك.
[472] (ما أخذ الله على الجهال أن يَتَعَلَّموا): ما كلفهم الله تعالى وطلب تحصيله من جهة أنفسهم.
(حتى أخذ على العلماء أن يُعَلِّموا ): وفي هذا تنبيه على أن التكليف أولاً لازم للعلماء بالدعاء إلى الله تعالى، والإحياء لدينه، فعند بلوغ الدعوة إلى الجهال يجب عليهم حينئذ التعلم والأخذ منهم.
[473] (شر الأخوان من تكَلَّفُ له): يشير إلى أن الأخوة في الدين إنما هي بترك الحرسة ، وإزالة التجهم ، والتعويل على المساهلة في الأمور كلها من جهة العادة.
[474] (إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه): حشمت الرجل واحتشمته بالحاء المهملة، والشين بثلاث من أعلاها، إذا جلس إلى جنبك فآذيته وأغضبته، وأنشد أبو زيد:
لعمرك إن قرص أبي خبيب
بطيء النضج محشوم الأكيل
والاسم منه الحشمة، ومصدره الاحتشام.
انتهت الزيادة إلى ها هنا .
نقوش خواتيم أمير المؤمنين
وخواتيمه أربعة
اعلم: أن هذه النقوش على هذه الخواتيم ليس من (نهج البلاغة)، ولا من الزيادة التي زيدت عليه على عهد المصنف، ولهذا فإنه لم يوردها الشريف صاحب (الأعلام) في شرحه لها، وليس تحتها كثير فائدة إذ ليس من كلامه في ورد ولا صدر، وإنما الغرض يإيرادها هو التبرك بأفعاله والتيمن بما فعله، والتأسي به في ذلك، فإنه لم يؤثر عن الرسول عليه السلام شيء في نقش الخواتيم، وإنما المأثور عنه هو الخاتم نفسه، وأنه من السنة، هو في نفسه دون ما يكون عليه من الذكر ، ونحن نذكر ما نقش في خواتيمه بمعونة الله تعالى .
الفص الأول للصلاة
وهو خاتم العقيق ، وإنما كان مختصاً بالصلاة؛ لأن الصلاة موضع الرحمة، والقربة إلى الله تعالى، وله فضل على سائر الأحجار، وفي الحديث: ((تختموا بالعقيق ، فإنه أول حجر شهد لله بالوحدانية ولي بالنبوة)) .
مكتوب فيه: (لا إله إلا الله، عدة للقاء الله).
وإنما اختص هذا من بين سائر الأذكار؛ لأن الصلاة نهاية الخضوع ولا يختص بها إلا الله، وهذه كلمة التوحيد لا يختص بها إلا الله.
الفص الثاني للحرب
وهو فص الفيروزج ، ولونه أخضر، وهو من الأحجار النفيسة الغالية، وإنما اختص بالحرب؛ لما فيه من الزينة وإظهار التجمل والهيبة، وكثرة الأبهة في أعين الأعداء للدين، ولهذا اغتفر في الحروب الدينية من إظهار الزينة ما لا يغتفر في غيرها، لما ذكرناه من إظهار الهيبة والقوة.
مكتوب فيه: ({نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ })[الصف:13].
وإنما كان هذا مختصاً بالحرب لأمرين:
أما أولاً: فلما يظهر في لفظه من التفاؤل بالنصر والظفر، والتفاؤل مستحب كما ورد عن صاحب الشريعة: ((أنه كان يحب الفأل، ويكره الطِّيَرَة)) .
وأما ثانياً: فبأن يجعل الله حال ذكرها وحملها والتلبس بها كحال نزولها فيجعل نصره في حربه ذلك مثل نصر رسوله حال نزولها في شأن بدر.
الفص الثالث للقضاء
وهو فص الياقوت ، وهو من الأحجار الرفيعة أيضاً، وإنما كان مختصاً بالقضاء لما فيه من المهابة، والقضاء مختص بالمهابة على الخصوم، ومحتاج إلى الوقار والتثبت في القضايا، وتمييز الحق من الباطل فيها.
مكتوب فيه: (الله الملك).
وإنما كان مختصاً بهذا الذكر، لأن الحاكم والإمام يملكان إنفاذ الأقضية وإبرام الأحكام، ويتحكمان فيها كما يتحكم الملك في رعيته، فلهذا ناسب هذا الذكر ما هو فيه من إنفاذ الأقضية.
(وعلي عبده): وإنما خصه بذلك؛ لأن كل من كان عبداً لغيره فهو يرعى مصلحته، فلهذا سأل من الله الرعاية في هذا المقام الذي لا يأمن فيه الزلل إلا بلطف الله ورحمته، فهذا النقش ملائم لحاله.
الفص الرابع للختم
وهو الحديد الصيني، وإنما كان مخصوصاً بالختم على كل ما كان يتحفظ عليه من أمواله وأموال الله المأمون عليها للمسلمين، ولا يحتمل أن يكون إلا من الحديد لقوته وصلابته؛ لأنه يختص بوضعه على الطين فيحصل الأثر فيه.
مكتوب فيه: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
وإنما اختص بهذا الذكر؛ لأن هذه الأموال أعني أموال المصالح كالفيء والغنيمة والخراج ومال الصلح والأخماس والجزي وغيرذلك، وأموال الصدقات نحو الزكاة والأعشار والْفِطَرِ وغير ذلك، إنما عرفت أحكامها ومصارفها، فالآخذ لها من دعا إلى التوحيد والرسالة، وكان أكثرها مأخوذاً ممن أنكر التوحيد والرسالة، فلهذا كان مكتوباً هذان الاسمان من أجل ذلك، ولو جعلت نقوش هذه الخواتيم على خلاف ذلك لساغ، لكنَّا أردنا أن لا نخلي أفعال أمير المؤمنين في ذلك عن سر ومصلحة، فلا جرم اقترحنا ما أشرنا إليه لهذا الغرض، والله الموفق.
وهذا حين وقع الانتهاء من شرح كلام أمير المؤمنين.
وأنا أسأل الله بسعة رحمته ولطفه لكل مذنب تائب ، وعظيم قدرته على إعطاء جميع الرغائب، أن يهب لي خاتمة الخير، ويوفقني لتمهيد العذر الواضح عنده من كل زلل سبقت إليه، وفرط مني في قول أو عمل، وأستغفره من زلة القدم، قبل زلة القلم، وأن يجعل عنايتي في كشف أسرار هذا الكتاب وغوامضه، وبيان لطائفه وحقائقه، وإظهار عجائبه وكنوزه، وتحصيل مكنوناته ورموزه، من أفضل ما يُصعَدُ من الكلم الطيب، وأعظم ما يُرْفَعُ من العمل الصالح، إذ كان ضالة ينشدها الأدباء، وجوهرة يتمنى العثور عليها المصاقع الخطباء، ولم آلُ جهداً في بيان حقائقه، والتثبت في مداحضه ومزالقه، مع بُعْدِ أغواره، وتراكم فوائده وأسراره، فليفرغ الناظر لها فكرة صافية، وليقبل إليها بعزيمة وافية، وأعوذ به من شر كتاب قد نطق، ومن علم قد تقدم وسبق، وأن يهب لي رضوانه العظيم، ويحلني دار المقامة من كرمه العميم، حيث لا يظعن الساكن ولا يرحل المقيم، وأن يصلي على خاتم رسله وأنبيائه، وعلى آله الطيبين من أصفيائه، ورضي الله عن أصحابه أهل محبته وأوليائه.
وكان الفراغ منه في شهر ربيع الآخر من شهور سنة ثماني عشرة وسبعمائة.
[الحمد لله على كل حال من الأحوال، والصلاة على محمد وعلى آله خير عترة وآل] .