الدر المنظوم الحاوي لأنواع العلوم

المشتمل على كثير من الرسائل المحبرات والجوابات الشافيات على الأسئلة الواردات ومطارحات العلماء بتحرير المشكلات واستمداد جوابات النحارير الوافيات

 

مما ولي جمعه وتصنيفه وتهذيبه وترصيفه الأئمة الثلاثة

الهادي علي بن المؤيد بن جبريل

والهادي عزالدين بن الحسن بن علي بن المؤيد

والناصر الحسن بن عزالدين

عليهم السلام

ومع جوابات العلماء الفطاحل

رحم الله الجميع

وصلى الله على محمد وآله





القسم الأول

مباحث في الإمامة

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الملهم للسداد والهادي إلى سبيل الرشاد، والصلاة والسلام الأتمـّان على النبي المبعوث لإرشاد العباد، وعلى آله قرناء الوحي الحامين للدين عن التغيير والإفساد.

وبعد؛ فإنَّ مِنْ نِعم الله التي يجب شكرها ويحسن ذكرها تيسير نشر كتب الهداية بالطبع والإخراج حتى يتيسر للباحثين التنقيب عن مشكلات دينهم، ويتبصرون في المعضلات والنوازل الحادثات بأقوال الأئمة الهداة، الذين عمّدوا أقوالهم بالدليل، وأناروا في غياهب الظلمات طريق الحق، وأبانوا السبيل، من نجوم الاهتداء ورجوم الاعتداء،  من آل محمد المصطفى، وسلالة الوصي المجتبى، من أولاد الحسنين النجباء، الذين خصهم الله بالاصطفاء، وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، صفوة الرب الجليل، ودعوة إبراهيم الخليل، كم من آية دلت على فضلهم، وسبقهم، وتعظيم حالهم، ورفع قدرهم:

ولـهم فضـائل لسـت أحصـي عدها

 

مـن رام عـدّ الشـهب لـم تتعـدد

والقـوم والقـرآن فاحـفظ قـدرهم

 

ثقـلان لـلثقـليـن نـص مـحمد

 ولأمرٍ عَظيم، وشأنٍ جسيم، قَرَنَهم أبوهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم  بالقرآن العزيز، وجعلهم عدله في حديث الثقلين، فكما أنَّ الكتاب حقٌّ فالعترة حق، والنبي الكريم حكيم [لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاَّ وحيٌ يُوحَى]، فهو لا يوصي أمته المرحومة، ويحثها على التمسك بالكتاب والعترة، إلا لكون الكتاب حق، والعترة مع الحق لا يفارقونه، وهو لا يدل أمته إلا على سبيل رشادها، وما فيه سلامتها يوم معادها، فهو الناصح الأمين، وما زالت العترة النبوية منذ فجر الإسلام في هدي للعباد، ودعا إلى سبيل الرشاد، لتبيين الدين الحنيف، وتزييف وجهاد للباطل السخيف، -أولهم بعد نبي الرحمة وكاشف الغمة صلوات الله عليه وعلى آله- الوصي الأنزع البطين، ثم الامامان السبطان: الحسن والحسين صلوات الله عليهما، وخلفهم أولادهم الأئمة الهداة، حموا دين أبيهم تارة بالمرهفات الحداد، والسواعد الشداد، وأخرى باللسان، فكم لهم من مقام تحار فيه الألباب، وتجندل فيه الأبطال، وتقط فيه الرقاب، وكم لهم من أنظار في العلوم سديدة، ومؤلفات ورسائل حميدة، قارعوا فيها الخصوم بأدلة أشد وقعاً من النبال، وأمضى من البواتر في رد شبه أهل الضلال:ـ

لهُمـو من التصـنيف ألـف مصنف

 

مـا بين عـلم سابـق ومـجدد

 فما من فنٍ من فُنون العلم إلا وقد خاضوا غماره، وفجروا بأنظارهم الموفقة أنهاره، وجنوا بصافي أفكارهم ثماره، فها هي دعوة المصطفى قد شملتهم:ـ

والـمصطفى قـال إن العلم في عقبي

 

فـاطلبه ثَـمَّ وخلِ الناصب القالـي

 قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((اللَّهُمَّ اجعلِ العلم في عقبي وعقب عقبي..)) الحديث، دعوة مقبولة غير مردودة استجابها رب كريم، فزخرت ينابيع علومهم عذباً فراتاً، واستخرجوا من مغاصات يعبوبهم درراً فصارت للطالبين كعبة وميقاتاً، ولمَّا أن يسَّر الله -وله الحمد- تسهيل النشر بالطبع والاخراج، بعد أن كانت تلك المؤلفات في بطون الأدراج، برزت تلك العقائد كأنَّها الشمس الضاحية في وسط النهار، فحصل بذلك الهداية للبادين والحضار، وانتفع بها أهل النُّهى والأفكار، أما من عَندَ عن الحق ونكص على عقبيه فإلى دار البوار.

ولَمَّا كانت عقائد أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم الأخيار الأبرار في العقائد الإلهية من توحيد وعدل، ووعد ووعيد، ونبوات وإمامات، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، تتركز على الدليل القاطع، ولا يرون التقليد فيها، لا جرم كان تمحيص دليل كل مسئلة، ودفع ما يرد على ذلك الدليل من شبهة، يتخيل الناظر أنها تنقض الدلالة أو تضعفها لتكون الأدلة سليمة عن المطاعن، وهذا هو دأب المحصِّلين الذين يدأبون لتخليص أدلة الاعتقاد عن شبهة تشكك فيه، لتكون اعتقاداتهم سليمة، وصحيحة مستقيمة، عملاً بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزمر:18]، وبحديث: ((مَنْ أخَذَ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه، ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال ، وكان من دين الله على أعظم زوال، ومن أخذ دينه عن التدبر لكتاب الله، والتفهم لسنتي، زالتِ الرَّواسي ولم يزل)).

ولما كانت مسائل النبوة قطعية، ظاهرة غير خفية، والامامة خالفة للنبوة، إذ الإمام قائم مقام الرسول، لما في قيامه من تنفيذ الأحكام، وتبليغ شرع الله وحراسته من أن يظام، نص جهابذة أئمتنا      عليهما السلام أن مسائل الإمامة قطعية غير ظنية، وأنها يقينية، محتجين على ذلك بأدلة بسطها المؤلفون في مؤلفاتهم، وأودعوها في موضوعاتهم ورسائلهم، منها إجماع الصحابة بعد موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنهم قدموا نصب الخليفة قبل الواجب الأهم من مواراته صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها إقامة الحدود، ومنها فريضة الجهاد للكفار والبُغَاة، وغير ذلك من الأدلة، ولما كان يرد على بعض الأدلة شبهٌ ومطاعن -كما قدمنا- فما من دليل من أدلة التوحيد والعدل إلا وقد أورد عليه الطاعنون جملة من الشبه والاعتراضات، ورد تلك المطاعن أئمة الهدى، فكذلك مسئلة الامامة اعترض المعترضون أدلتها باعتراضات ومطاعن، منها ما يرجع إلى التشكيك في دلالة الإجماع أنها غير قطعية، وأن دلالة الآية:{ومن يُشَاقق الرَّسُولَ} [النساء:115] غير صريحة بل هي ظاهر، ومنها أن الإجماع غير ممكن وإن أمكن فهو إجماع فعلي ودلالته غير قطعية، ومنها التشكيك في دلالة آية إقامة الحدود، وإن سلم دلالتها فهي باللازم فقط فليست بدلالة قاطعة، ومنها الاعتراض على دليل فريضة الجهاد بأن قالوا يمكن إقامة الجهاد بغير إمام، وليس الإمام شرطاً في إقامة الجهاد... إلى غير ذلك من التمحُلات.

 ولما كانت هذه البلبة سابقة لعصر الإمام عزالدين عليه السلام  كما هي في منهاج القرشي وغيره، والإمام عزالدين عليه السلام  من أولئك الأفذدا الذين لا تسكن أنفسهم إلا إلى برد اليقين، ولا يطمئن إلا بعد أن يسبر البراهين ويحكها بمحك الصيرفي الخبير، وينقدها نقد الماهر البصير، ثم هو لا يقنع إلا بمجاثاة رُكب النحارير من علماء وقته، فجاثا الركب القريب منهم، وكاتب النازح، وجد في الطلب، وأورد الاشكالات في صيغة رسالة ضمنها السؤال وطلب الجواب، وذلك في أبّان شبيبته قبل تحمله للزعامة، وقبل تلبسه لدثار الامامة، وليس ذلك له بمعتقد، ولا يراه مذهباً له، ولا هو ممن يقول أن الإمامة ظنية، ولا ممن يقول بعدم حصرها في البطنين، بل أراد إزالة الشبهة ودحض الاعتراضات، فصدَّر تلك الرسالة المتضمنة للسؤال، طالباً للبحث والتنقير، ورفع الاشكالات الصادرة، ودفع الشبه الواردة، وقد دخل في السؤال البحث عن حكم نافي إمامة الإمام وحكم الصلاة خلف ذلك النافي، وحكم شهادة نافي إمامة الإمام، فوصلت الرسالة إلى العالم الأصولي المتبحر النحرير الفقيه/ عبد الله النجري رحمه الله، فأجاب على الإمام بجواب لم يعن فيه العناية اللائقة بمثله، فلم يشف صدر السائل، ولا حقق المراد في أطراف تلك المسائل، بل كان كما قال العلامة صارم الدين الوزير رحمه الله: وهو جواب ليس تحته طائل وإنما هو كما قال القائل:ـ

سألـتها عـن ذاك فاستعـجمت

 

لـم تـدر ما مـرجـوعة السائل

ثم إنَّ رسالة الإمام وصلت إلى العالم المحقق والنبراس المدقق جمال الإسلام/ علي بن محمد البكري رحمه الله، فأجاب بجواب حلَّق في سماء التحقيق، وجمع أشتات الأدلة من كل فج سحيق، ونفى الشبه بجلي البرهان، وقشع السدول بحسن صنعة وبيان، بيد أنَّه كلام البشر الذي يُؤخذ منه ويذر، فرد الإمام عليه برد جميل، أعاد النقاش كرة أخرى، نقاش من برع ومهر، فرد الفقيه على النقاش ردّ المستبصرين، ودخل في مهامة الجدال دخول العارفين، فكشف عن الدلالة وجهها، وأبان للمهتدين نصها وفصها، ثم وصلت تلك الرسائل المتبخترة، في غلائلها المزهوة بحسن ترصيفها، وتحرير دلائلها، إلى عالم أهل البيت، المحيي لمآثر الحي منهم والميت، صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير رحمه الله، فأجاب بجواب العالم المتثبت، فصار كالحاكم على سؤال الإمام وجواب الفقيهين، فعند ذلك استقر للرسالة عصى الترحال فأنشد لسان حالها:ـ

فـألقت عصاها واستقـر بـها النوى

 

كمـا قـر عـيناً بالأياب الـمسافر

 

 وقرَّ لمنشيها البال، ووقف عن القيل والقال، تسليماً للحق المطلوب، الذي تطمئن به النفوس وتطيب به القلوب، ولما جمعت هذه الرسائل وأصبحت كالروض الأنيق، يشتاق إليها أرباب التحقيق، ويتطلبها أهل المعارف والتدقيق، صارت مثابةً لأهل المعارف الدينية يرجعون إليها في مباحثهم العلمية، خلا أنه ما سلم جسد من حسد، فقد تعرض للإمام في زمنه من قل فهمه فلم يعرف مقاصد الكلام، أو من سمع كلاماً نقله غير صحيح، فسأل الإمام في حياته، وأجابه الإمام بما سننقله بالحرف، ولم يسمع من أهل العلم والدراية وألفهم من يقول أن مذهب الإمام عزالدين عليه السلام  في الإمامةأنها غير قطعية، إلا ما نقل عن الفقيه أحمد بن عبد الله الجنداري كما نقله مولانا الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي حفظه الله في لوامعه كما يأتي نقل ذلك، وإلا ما نسمعه عن بعض كتاب العصر، فجمعت عند سماعي لذلك كتيباً سميته (منهج السلامة في بيان مذهب الإمام عزالدين في الإمامة)، فنَّدت فيه مزاعم هذا القائل وحملته على السلامة بأنه غرة أمران:

 الأول: ما سرده الإمام عليه السلام  في المعراج، وأجبت عن ذلك بأنه سرد كلام الإمام المهدي عليه السلام ، وأورد ذلك الحجاج مبيناً وعازياً للكلام إلى قائله، ونقل الناقل لحكاية قائل ليس بمذهب للناقل، ولا يقول بذلك عاقل، وإنما يلزمه لو نقله وقرّره، كيف وقد تعقبَّه بكلام له صريح أنَّ المسألة قطعية، وقال: إن كلام الإمام المهدي ليس مطابقاً لما يعتقده -أي المهدي وغيره- ثم صرح في آخر المبحث من أخريات الكتاب أن أجود ما يعتمد عليه في الدلالة هو الإجماع وما سواه من الأدلة، ففائدته الاستظهار وليس مستقلاً بالاعتبار.

الأمر الثاني: مما غرَّ هذا القائل هو ما سرده الإمام في الرسالة من الاشكالات التي طلب حلَّها وإقامة الأدلة عليها، وأجبت عن ذلك بما ملخصه: أن الإمام صاحب آيات، وسبَّاق غايات، جمع شتيت الاشكالات الممكنة على أدلة الإمامةالتي اعتمدها الأصحاب، وطلب الدليل، وإيضاح السبيل، من أهل الاجتهاد والتحصيل، وهذا العمل يدل على أمور:

 الأول: أنه يدل على قوة علم وفهمٍ ثابت راسخ قدير على الإصدار والإيراد.

 الثاني: أنَّه يدل على إيمان راسخ، وطلب للحق، وطلب للخلاص في المسائل الأصلية ليكون اعتقاده عن يقين لا تزعزعه الشبه، لأنه إذا عرف الدليل وعرف الشبهة الواردة على الدليل، وعرف نقض تلك الشبهة، كان اعتقاده صحيحاً لم تعصفه عاصفات الشبه، كيف لا والإمام المؤيد بالله عليه السلام  لم يستجز أن ينام عندما عرضت له شبهة في بعض أدلة المسائل الأصلية حتى خرج إلى بيت قاضي القضاة، والقصة معروفة في سيرته.

الثالث: أنَّ مُباحثات العلماء ومجاثاة الرُكب، مما يشحذ الذهن، وينير القلب، ويصفي السريرة، مع أن السؤال هو المأمور به {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [الأنبياء:7]، وقد حصل بهذه المباحث فوائد جمة.

ثم إنَّا نقول: إن السؤال والطرح وفرض ما يرد من الاشكالات لا يؤخذ من ذلك مذهب السائل، فلو سأل سائل عن المني هل هو طاهر أم نجس؟ لم يؤخذ منه مذهب للسائل، لأن ذلك استفسار فقط.

نعم ميلنا إلى الاختصار تخفيفاً فلنعد إلى تفنيد زعم هذا القائل بسرد نقولات من كلام الإمام عليه السلام  يبين ويوضِّح المطلوب أنَّ مذهبه ليس كما زعمه هذا القائل أن أدلة الإمامة ظنية، وأنها فرعية اجتهادية.

قال الإمام عليه السلام  في (العناية التامة ص53): وقد شاع في كثير من النواحي والبقاع أنَّا نقول بانها اجتهادية، ويكاد يشنع علينا بذلك من في قلبه مرض، أو له في التشنيع غرض، وتشنيعهم من وجهين:

 أحدهما: اعتقاده أن هذا خلف من العدل، وخطل من الرأي، وزلل في الاعتقاد.

 الثاني: اعتقادهم أن هذا ينافي ما نحن فيه وعليه من الدعا إلى الله تعالى وإلزام الناس الطاعة، وما نحن عليه من الإيراد والإصدار، والقيام بهذه التكاليف الكبار، ومن هذا ونحوه يقضي العجب، ويعرف منافاته كثير من الناس لقانون الأدب، أما أولاً: فما نعلم أنَّا صرحنا بهذه العقيدة، ولا أتينا فيها بعبارة مفيدة، ولا زدنا على أن ناقشنا في قطعية الأدلة، ولو زدنا عليها أسئلة مشكلة قد سبقنا الأصحاب إلى إيرادها ونشر أبرادها، وإن كنا زدنا في تدقيق النظر فيها، ونقرنا عن غوامض معانيها، فمن هذا لا تؤخذ المذاهب أهـ.

النص الثاني

وللإمام عليه السلام  دعوة عظيمة بليغة وجَّهها إلى سلطان الحبشة قال: (شرع الله سبحانه الإمامة، وجعلها للنبوة خالفة، وشد أزر الإسلام، وقمع بها مجانبه ومخالفه، وأصلح بها الأمور، ونظم بها أمر الجمهور، وحفظ بها الشرع ووظائفه، لكنه جعل لها شرائط معلومة، وشرع لها فرائض على المسلمين محتومة، ولم يجز أن يكون في العصر الواحد إلا إمام، ولا شاع أن يتصدى لها إلا من جمع أوصافها على الكمال والتمام، شعراً:

جـودٌ وفَضْـلٌ مـع علمٍ ومَـْعـرفةٍ

 

تـحـوي الفُـُنون وإقـدام وتدبـيـر

وكـونُهُ فـاطـميّ النـَّجر مـنبعـه

 

مـن عـترة لـهم فـي الـذكر تطهير

ولم يزل في كل عصر إمام يقفو إمام، وداعٍ إلى الله تعالى وإلى إحياء شرع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل من قام ذلك المقام تحتمت طاعته على جميع الأنام، ولزم الاعتناء بأمره والاهتمام، والجهاد معه بالنفوس والأموال من غير إحجام، وإعانته بالحقوق المالية على مرّ الأيام)، انتهى المراد من هذا وستمر بك أثناء الرسائل.

النص الثالث

وللإمام عليه السلام  الدعوة العامة، وفيها من العلوم والفوائد ما يشفي قلب الموالي، ويكمد قلب المعاند، افتتحها عليه السلام  بقوله: (الحمد لله الذي جعل الإمامةقدوة للدين وسناماً، وصلاحاً لأمر العالم ونظاماً، وناط بها قواعد من الدين وأحكاماً، وجعلها للنبوة الهادية للخلق إلى الحق ختاماً، ولشرعة سيد الأنام الفاصلة بين الحلال والحرام تكملة وتماماً، والصلاة المستتبعة إكراماً وسلاماً، على أشرف البريّة ومن كان للرسل إماماً، وعلى عترته الذين ما زالوا لشريعته حفاظاً وقياماً... إلى قوله: إنها لما تعاظمت المحن، والتطمت أمواج الفتن، واختلطت الأمور، وانتشر نظام الجمهور... إلى قوله: وعفت مراتع العدل وأنديته... إلى قوله: وضاعت حقوق الله، ووضعت في غير ما ارتضاه، وظهرت غربة الدين، وقويت شوكة المفسدين، شخصت إلينا الأعيان من جميع النواحي والبلدان، وامتدت الأعناق من أداني الأرض وأقاصي الآفاق... إلى قوله: كرَّ علينا الأنام كرة ما لها من مدفع، وأقبلوا علينا إقبالة لا يجدي فيها الاعتذار ولا ينفع... إلى قوله: ممن هممهم مقصورة على تقويم أمر الدين المريج، وليس لهم على جانب الدنيا تعويل ولا تعريج، بلزوم القيام لله، وتحتم الغضب لدين الله وتلافيه قبل التلف بالكلية، وإن فرطنا في ذلك أسخطنا الرحمن وأرضينا الشيطان... إلى قوله: ونظرنا إلى أن الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن الفحشاء والمنكر، معلومان الوجوب بالضرورة من الدين، وإن الظنون لا تعارض اليقين، قال الله تبارك وتعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقاباً تدعونه فلا يستجيب لكم))... إلى قوله: وعنه صلى الله عليه وآله وسلم  أنه رقى المنبر وقال: ((أيها الناس إن الله يقول لكم: مُرُوا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أُجِيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم)) فما زاد عليهن حتى نزل وقال: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر))... إلى قوله: وطمعنا في نيل ثواب الله الجزيل، ورضوانه الأكبر الجليل، بالتأهل لإرشاد عباد الله إلى مطابقة مراده، ودعائهم إلى طاعته، والسيرة فيهم بمقتضى شريعته، نظراً إلى قوله تعالى:{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاَّ ظله: إمامٌ عادل...)) الخبر، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور، يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلوا))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((نومٌ من إمام عادل خير من عبادة ستين سنة، وحدٌ يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحاً))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عَدْلُ ساعةٍ خَيرٌ من عبادة ستين سنة؛قيام ليلها وصيام نهارها))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أفضل الناس منزلة عند الله يوم القيامة إمام عادل))... إلى آخرها.

قال مولانا وشيخنا أبو الحسين مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي حفظه الله في اللوامع (المجلد الثاني ص247) بعد أن نقل كلام الإمام: (هذا وفيها من معين العلوم ما يشفي أدواء الكلوم، وإنما اخترت إيراد هذا القدر منها لما فيه من بيان محل قدر الإمامةعند الإمام عليه السلام ، وأنها ثانية النبوة ومنوطاً بها من الدين أحكام الإسلام، وفيه بطلان ما نقله الجنداري عنه في حواشي الثلاثين المسألة، ولعله لما اطلع على الأسئلة التي أوردها الإمام فيها على الأعلام، وقد توهم ذلك غيره ممن لم يحقق مقاصد الإمام، أوْرَدَ ذلك بعضهم في عصر الإمام ونسب إليه القول بأنها ظنية، وأجاب عليه الإمام بأنه لم يصرح بما ذكره السائل، وأفاد نفيه عنه، وإنه إن كان أخذه له من تلك السؤالات فهو مأخذ غير صحيح، حقق ذلك عليه السلام  في فتاويه فخُذْهُ من ذلك المقام، وكم يحصل من التهافت في أمثال هذه النقولات لمن لم يتثبت ويحقق موارد الكلام، هذا والله ولي التسديد والإنعام). انتهى كلام مولانا حفظه الله.

النص الرابع

هو ما أشار إليه مولانا المجتهد المطلق مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله، وهو قول الإمام عليه السلام  في الفتاوي ولفظه:(وأما أنه هل يجب على المأموم امتثال أمر الإمام الذي يرى أن مسائل الإمامة اجتهادية والمأموم يرى أنها قطعية أولا؟

والجواب: أن القول بكونها قطعية لا يمنع من الإلزام، ولا يكون رخصة في عدم الإلزام، ألا ترى أن كون ولاية الحقوق إلى الإمام مسألة اجتهادية، وإلى الإمام أن يلزم تسليمها إليه، وعلى المسلمين أن يلتزموا، وإن امتنع فله أن يقاتله فإذا أدى الإمام اجتهاده إلى وجوب الطاعة فله أن يلزم ذلك ويقاتل عليه كمسألة ولاية الحقوق، والمأموم إذا اعتقد الإمامة وجبت عليه الطاعة، ولعل في هذا السؤال تعريضاً إلينا فقد اشتهر أنا نقول: بأن المسألة اجتهادية، وهو أمر لم يصدر منا تصريحاً ولا تعريضاً، وإنما جرت منا مناقشة أدلة الأصحاب واعتراضات عليها فظن ذلك) انتهى.

هذا ما سنح من بيان مذهب الإمام عليه السلام ، وإن كنا قد أطلنا وكان يكفي الإحالة على موضوعاته التي تضمنها هذا السفر الذي نقدمه للقراء، ولكن أحببت الإيضاح والبيان، والله الموفق والهادي.

هذا واعلم أنّ هذا السفر العظيم قد اشتمل على الدر النظيم من المباحث القويمة، والفوائد الجسيمة، وعلى الرسائل المنقحة، والمكاتبات المهذبة، والردود الكافية، وقد قسمته إلى أربعة أقسام، في مجلدين، المجلد الأول ويحتوي على الثلاثة الأقسام الأول:

القسم الأول:

 مباحث في الإمامة، وتتضمن رسائل الإمام علي بن المؤيد عليه السلام ،  والعناية التامة بتحقيق مسائل الإمامة للإمام عزالدين عليه السلام ، وتتلوها رسالته في الإمامة التي طلب جوابها من علماء زمانه، وجواب النجري، ورد الإمام عليه، وجواب البكري، ومناقشة الإمام لجوابه، ورد البكري على نقاش الإمام، وجواب صارم الدين الوزير رحمهم الله جميعاً.

القسم الثاني:

 دعوة الإمام عز الدين عليه السلام  العامة، ومكاتباته، وبعض الردود على معارضيه، ووسيلة العمال، ورسالة للإمام الحسن بن عزالدين.

القسم الثالث:

 جوابات الإمام عزالدين وولده الإمام الحسن على أسئلة وردت عليهما فيما يتعلق بالقرآن وبالسنة وفي الأصولين وفي اللغة وغير ذلك، هذا هو المجلد الأول.

وأمَّا الـمُجلّد الثاني فيحتوي على:

القسم الرابع:

 وهو ما يتعلق بفن الفقه مما أجاب به الثلاثة الأئمة علي بن المؤيد، وعز الدين بن الحسن، وولده الحسن.

أما القسمان الأولان فهي رسائل كل رسالة منها مستقلة، ولكنا جمعناها ورتبناها، وتوثيق تلك الرسائل وأصولها سنتكلم عنه فيما بعد.

وأما القِسمان الأخيران فأصلهما مجموع الفتاوى الذي جمعه السيد العلامة/ محمد بن الإمام أحمد بن عزالدين عليهم السلام، وإنما ضممنا القسم الثالث إلى القسمين الأولين في مجلد لما بينها من التآلف والتناسق، وليكون الفقه في مجلد على حِدة، وكما أن هذه المطارحات العلمية والأنظار الدقيقة التي أصبحت كالروض الأنيق، يشتاق إليها أرباب الولوع بالتحقيق، لأنها أنظار نُظَّار ذلك العصر لا غرو، وكرَّسنا جهودنا في جمعها وتحقيقها، وذلك منا خدمة للتراث، رجاء لنيل الثواب، ومعاونة لطلبة العلم من الإخوان والأصحاب، ولمزيد الفائدة حررنا تراجم مختصرة للمؤلفين وإن كانت شهرتهم في أوساط الزيدية شهيرة فلا غنى عن وضع ما سنح والله الموفق.

النسخ التي اعتمدنا عليها:ـ

الرسائل: صورة لمخطوطة (قطع صغير) قال في آخرها:كذا في الأم المنقول منها:تم هذا الكتاب المختصر الجليل برسم سيدي ومولاي عماد الإسلام/ يحيى بن أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي عامله الله باللطف الخفي، أعلى الله في الدارين كلمته، وحرس بفضل القرآن مهجته، وكان الفراغ من رقمه وقت الظهيرة في نهار الأربعاء لأحد وعشرين مضت من شهر ذي القعدة الحرام سنة ستين بعد الألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات والتسلم بمحروس معمرة من جبل الأهنوم.

العناية التامة:صورة على نسخة مخطوطة (قطع متوسط) قال في آخرها: قال المؤلف مولانا أمير المؤمنين:هذا الإملاء المبارك فرغ منه أوان صلاة الجمعة لتسع ليال خلون من شهر ذي الحجة الحرام سلخ سنة ثماني وتسعين وثمانمائة سنة، وفرغت أنا من رقمه بعد شروق الشمس في يوم الخميس سادس شهر جمادي الآخرة الذي هو من شهور عام ثمان وثمانين وألف، بخط الفقير إلى الله تعالى، المستمد ممن نسخ له واطلع عليه ونظر إليه الدعا بحسن الختام وبلوغ المرام؛صديع بن أحمد بن صالح بن دعبش، الحيمي، اليوسفي، عفا الله عنه وغفر الله ولأبويه، ولإخوته السابقين له واللاحقين، ولجميع المسلمين المؤمنين السالكين طريق المؤمنين، بما استنسخت ورقمت للولد القاضي العلامة القدوة الفهامة محمد بن الحسن بن أحمد بن صالح بن دعبش الحيمي حفظه الله تعالى وأمد بطول حياته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد، خاتم النبيين، وسيد الأولين، والآخرين، والحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.                        

عبد الرحمن حسين شايم المؤيدي

غفر الله له ولوالديه

6/ربيع أول/1423هـ

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة الإمام علي بن المؤيد

هو الإمام الهادي إلى الحق علي بن المؤيد بن جبريل بن المؤيد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن عبدالله بن المنتصر لدين الله محمد بن المختار لدين الله القاسم بن الناصر لدين الله أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين.

أمه الشريفة الفاضلة فاطمة بنت يحيى بن إبراهيم بن قاسم بن الحسن بن يحيى بن يحيى عليهم السلام.

مولده: في شهر محرم سنة أربع وخمسين وسبعمائة (754هـ)، نشأ  عليه السلام  على ما نشأ عليه آباؤه من السِّيادة والطهارة والزهد والعبادة، واشتغل بطلب العلوم حتى بلغ النهاية، وصار فيها إماماً امتدت إليه أعناق العلماء، وقصده من كل ناحية الفضلاء، ولما أيس العلماء من الإمام المهدي لطول حبسه وضبطه أقبل العلماء إلى الإمام علي بن المؤيد أفواجاً، وانثالوا عليه أفراداً وأزواجاً، وطلبوا منه القيام بأمر الإمامة العظمى، وقالوا قد حصل اليأس من خروج المهدي، فأوجبوا عليه القيام.

قال الفقيه محمد بن علي الزحيف: سمعت الإمام عزالدين عليه السلام  ووجدته أيضاً بخطه يقول لما أُسِر المهدي عليه السلام  في قصة معبر، وقد كان جرى عليه ما يشبه قريب من الأسر ببيت بوس وتخلص منه فراراً، وأما أسره الأخير بمعبر فقد كان وقع الإياس من خروجه، ففرع طائفة من أهل الحل والعقد إلى الإمام علي بن المؤيد، منهم القاضي العلامة محمد بن أحمد مظفر، والسيد الأفضل فقيه أهل البيت أحمد بن داود بن يحيى بن الحسين هو ووالده، وقد كانا ممن حضر قيام علي بن صلاح مع القاضي عبدالله الدواري، قال: ثم ندما فيما بلغنا وأظهرا التوبة، قال: وممن تابعه السيد العلامة محمد الداعي أحمد بن علي بن أبي الفتح، وكان آية في زمانه قد بلغ منه أنه كان يحيي الليل كله في ركعتين اثنتين يتلو القرآن كله، ومنهم محمد بن جبريل من أولاد الإمام الداعي وله تصنيف في آيات الأحكام وغيرها، ومن غير السادة الفقيه العلامة جبل العلم يوسف بن أحمد بن عثمان، والقاضي الأفضل محمد بن سليمان النجري، وكان من أعيان الزمان، والفقيه الفاضل ذو الكرامات الباهرات محمد بن صالح الآنسي، والفقيه الأجل الأوحد الأعبد محمد بن ناجي الحملاني وإخوته، وكثير من غيرهم، قال عليه السلام : وممن تابعه وشايعه السيدان الأخوان الهادي ومحمد ابنا إبراهيم بن علي بن المرتضى، قال: ومن شواهد ذلك رسالة أنشأها السيد المقام الهادي في تفضيله، وذكر كراماته. أولها: الحمد لله عليك من إمام أمة رفع فيها من شأنه، وقضى فيها بعلو مكانه، وكتاب كتبه السيد محمد بن إبراهيم بخط يده، رحمه الله إلى الإمام جواباً عن كتاب الإمام إليه، وفيه من التبجيل والتعظيم والثناء الجميل مالا يقدر قدره، وهو مفتتح بأبيات وقفت عليها، وقد ذهب أولها والباقي منها نصف الكتاب الوارد إليه:

فـضـضت ختـامه فأفـاض دمـعـي

 

وفـض الـهم مـن قـلب جريـح

فـلو قـد كـنت مـيتاً ثـم نـودي

 

به لأجـبت مـن تـحت الضـريـح

فيـا عـجـباه مـن طـرس بـديـع

 

حـباه الله مـعـجـزة الـمسيـح

وأخر تلك الأبيات الرائقات:ـ

أمـير الـمؤمنـين بـقيـت فـينـا

 

عـلى رغـم العـدا بقـاء نـوح

ولا زالـت تقـاد إلـيك طــوعـاً

 

رقـاب العـاصيات مـن الفتــوح  أهـ.


وجرى في ذلك اليوم -أي في يوم دخول الهادي والمهدي     عليهما السلام  صعدة- التسليم من المهدي للهادي، وأشهد على نفسه بذلك جماعة من الفضلاء منهم السيد أحمد بن علي بن داود بن يحيى بن الحسين، والفقيه محمد بن صالح الآنسي ... إلـخ..

روى ذلك الإمام عزالدين عليه السلام ،  عن حي والده السيد الأفضل الحسن بن أمير المؤمنين، وعن غيره كالإمام المطهر بن محمد بن سليمان عليه السلام ،  إلا التسليم فلم يروه له المطهر وروى التواطيء عليه أهـ.

قال الإمام عزالدين عليه السلام : فلم يزل الهادي والمهدي مصطحبين، متواصلين، متجاملين، متراحمين، تدور بينهما الكتب والمراسلات، والمهدي في ذلك كالمتنحي وإن لم يظهر ذلك، ورفع يده عن التصرفات، وترك التلقب بأمير المؤمنين، وطوى ذلك من علامته، وإذا عرض عليه أحد ممن قد أجاب الهادي عليه السلام  وبايعه أن ينحرف إليه كره ذلك وأباه ...إلـخ كلام الإمام.

قال الإمام عزالدين عليه السلام : وكان يعطي الوافدين، ويتفقد أحوال المجاهدين، ويسد خلات الأيتام والأرامل والمساكين، ويُوغر صدور المعاندين، حتى أتاه اليقين، فتوفى وقد حاز اللحوق من حميد سعيه بالأئمة الراشدين.

وفاته عليه السلام

وكانت وفاته عليه السلام  في ليلة الجمعة المفتر عنها صباحها يوم عاشوراء من محرم سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، ويقال أن مولده وقيامه كان مثل ذلك الوقت الذي تُوفي فيه، وأما موضع قبره فإنه دفن في يماني مسجده الذي كان ابتدأ تأسيسه بأعلى فلله، وكان شمسياً، فلما مات  عليه السلام  أكمل عمارته ولده شرف الإسلام الحسن بن أمير المؤمنين  عليه السلام  بأمر الإمام المهدي عليه السلام .

ولما توفى الهادي عليه السلام  عزّى المهدي عليه السلام  أولاده فيه وتألم لذهابه وكتب في أول التعزية: {نَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96].

أولاده عليه السلام : المؤيد، ومحمد، والحسن، وأحمد، وصلاح، والمهدي، وإبراهيم، وداود، وأبو القاسم، والحسين، رحمهم الله جميعاً.

 

 

ترجمة الإمام عزالدين عليه السلام

الإمام المؤتمن المحيي لما اندرس من الفرائض والسنن الهادي إلى الحق القويم عزالدين بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد بن جبريل.

أمه عليه السلام :هي الشريفة الطاهرة الفاضلة الكاملة مارية بنت الأمير عزالدين بن محمد بن يحيى بن علي بن حسن الملقب بعيشان.

مولده: ولد عليه السلام  بهجرة فلله يوم الإثنين لسبع ليال بقين من شهر شوال سنة خمس وأربعين وثمانمائة (845هـ).

نشأته عليه السلام : نشأ منشأ آبائه الجحاجحة الكرام، وقفا منهاج أسلافه الأئمة الأعلام، ولم يزل عليه السلام  منذ عقل إلى أن كمل مولعاً بالعلم مع ما رزقه الله من الفطنة الوقادة والقريحة المنقادة حتى فاز منه بالإبكار والعون، وحاز سره المكنون، وألفَّ فيه ما تنشرح له الصدور وتقر به العيون.

ابتدأ طلب العلم في وطنه ثم انتقل إلى مدينة صعدة فقرأ على شيوخها الذين من أحسنهم ذكاء وأجمعهم لفنون العلم القاضي العلامة النحرير بحر العلم الغزير جمال الملة والدين علي بن موسى الدوّاري، أخذ عنه أكثر الفنون، وصنف فيها ولم يتم له من العمر عشرون، ثم ارتحل إلى حرض، لسماع الحديث الذي ذهب وانقرض، على حي الفقيه المحدث شيخ السنة النبوية في وقته يحيى بن أبي بكر العامري، فسمع عليه سنن أبي داود وغيرها واستجاز منه أكثر مسموعاته، وكان من هذا الفقيه له  عليه السلام  من الرعاية التامة والإنصافات العامة مالا يحد ولا يحصى بعد، فلما قفل من سفره بعد قضاء وطره لم يزل يترقّى في العلوم حتى أحاط بمنطوقها والمفهوم، وميَّز بثاقب أفكاره الشريفة المجهول منها والمعلوم، قال بعض أولاده الفضلاء: لقد رأيت في الثالث من مفتاح السكاكي بخط يده المباركه [أنه] فرغ من سماعه وسماع كتاب الكشاف في نيف وخمسين يوماً قراءة محققة، وكان إحرازه للعلوم في مقدار عشر سنين، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}[النمل:16].

قال الزحيف رحمه الله: ولما قضى عليه السلام  من طلب العلم حاجته تفرغ للدرس والتدريس في وطنه، وصار رحلة للقاصدين، ومنتجعاً للوافدين، يؤمه طلبة العلم من أكثر الأمصار والبوادي والحضار، وتوجهت إليه المسائل والرسائل من كل جهة، ورمقته الأعين، ونطقت بفضله الألسن، وحظي من الإقبال عليه بما لم يحظ به غيره وكثرت أرزاقه ونذوره، وازدادت به رياسة عشيرته، وأشرق منهم نوره، حتى أنِّي اطَّلعت على رسالة له أنه يدخل عليه في اليوم الواحد من النذور ما قيمته مائة أوقية فضة خالصة، وكان ينفق أكثرها مع بيوت الأموال.

 قال: وكانت دعوته عليه السلام  في يوم تاسع من شهر شوال سنة ثمانين وثمانمائة (880هـ)، وكان مولده في شهر شوال كما تقدم، وهذا من النوادر، ووقع الحافر على الحافر، ورُوِيَ مثل ذلك في حق جده الإمام علي بن المؤيد  عليهم السلام ، فإنَّه ذكر إنَّ مولده وقيامه ووفاته في شهر شوال، وهذا من كرامتهما الظاهرة، واستمر عليه السلام  بعد دعوته في إصلاح أُمَّة جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي الجهاد، وإرشاد العباد وإقامة الأحكام، وتشييد منار الإسلام.

وفاته عليه السلام : فلم يزل هذا دأبه حتى وافاه الأجل المحتوم في يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رجب الأصب سنة تسعمائة، وظهر له عليه السلام  بصنعاء الكرامة العظمى، بأن نعاه فيها إله السماء.

قال الزحيف رحمه الله: وصل جماعة من صنعاء إلى صعدة فذكروا أنَّهم سمعوا ناعياً ينعاه عليه السلام ، وصرح بإسمه، فقال: رحم الله الإمام المؤتمن، المحيي لما مات من الفرائض والسنن، أبا الحسن عزالدين بن الحسن، فتلاقوا في المدينة يسألون من أي الجهات سمع الناعي، فكل يخبر أنه سمعه من الجهة التي هو فيها، وقد خطب به على المنابر، ونوهت به الأئمة الأكابر، وقد ذكر هذا النعي مولانا المتوكل على الله شرف الدين بن شمس الدين عليه السلام  في مرثيته التي رثى بها حي مولانا الإمام عزالدين عليه السلام ،  أنشأها في آخر شهر رجب سنة تسعمائة،  وأرسل بها إلى مولانا أمير المؤمنين الناصر لدين الله الحسن بن أمير المؤمنين عزالدين بن الحسن  عليهم السلام  إلى كحلان تاج الدين، وهي هذه:

وما الخلق إلاَّ دون من أنت فاقدُه
وانحت على الدين الحنيف شدائدُه
يَرنُّ وشاكٍ حر وَجْدٍ يكابده
خفوق وترجيف الفؤاد رواعده
عرى الحق وانحلّت سريعاً معاقده
ودعدع قصراً للهدى هو شائده
جسيم تسوء العالمين موارده
بسبعٍ إلهُ الخلق والسمعُ شاهده
به اللهُ نَبّأ فهو جم محامده
إلى الحق مهدياً عظيماً موارده
إماماً فننحو نحوه ونراوده
إذا ما ترامت للضلال أساوده
إذا خُشيت صولاتهُ ومكائده
يعود عليهم مثل ما أنت عائده
تجرد ما قد أعجز الناس غامده
بلفظ به يدنو إلى الحق جاحده
وكيف بمحراب خلا أنت عابده
حماماً علينا قام والله قاعده
أجش سما كي تُحِنَّ رواعده
به إذ ثواه واحدُ العصر ماجدُه
دموع سماء كل يوم يساعده
بشخص جميل للأنام عوائده
وتُحمد في أمر الجهاد مشاهدهُ
ويقطعه حتفَ حداد حدائده

 

هل الوجد إلاَّدون مَنْ أنت واجده
مصابٌ على الإسلام مُرٌ مذاقُه
به الدهر أبكى المسلمين فثاكلٌ
وباكٍ بدمعٍ كالحي فسحبه
لفقد أمير المؤمنين تقصمت
ودهده ركناً للجهاد به رسا
فيا لك من خطب عظيم وحادث
نعاه إلينا قبل يومِ وقوعه
بذا غِنْيَةٌ عمن سواه ومن يكن
أبا حسن قد كنت للخلق هادياً
فمن ذا الذي نرجوه بعدك للورى
ومن لأسود الحق يجمع شملها
ومن لعظيم الظلم يشدخ رأسه
ومن لوفودٍ حول دارك خشع
ومن لعلوم كنت فيها مبرزاً
ومن لخطاب كنت تضحك ثغره
ومن لكتاب الله تحيا به الدجا
لك الله ما هذا التَّدَ لُّهُ نافعاً
ولكن سقى قبراً به شق لحده
فقد فاق بطنَ الأرضِ واللهِ ظهُرها
إذا ما بكى الباكي عليه تهلهلت
ونسأل رب العرش أن يرأب الثائي
يقيم منار الدين بالسيف والقنا
وبالأمل الإنسان يخدع نفسه

ثم قال بعد ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم

الفقير إلى الله شرف الدين بن شمس الدين بن أمير المؤمنين عفى الله عنه آمين.

الحمد لله على ما قضى وحتم، وأبرمه وألزم، ليس لما أراده صاد، ولا لما أبرمه راد، والصلاة والسلام على خير من يُتأسّى به في الموت، ولو سلم أحد لكان إياه من الفوت.

أما بعد:فإنَّهُ ورد علينا الخطب الفاجع، والسُّم الذي هو في حشا الإسلام ناقع، سك والله المسامع، وأراق المدامع، وفتَّ الأعضاد، وألهب النار في الأكباد، فيا له من ثلم في الإسلام ما أكبره، وظلام في الدين ما أكثره، والله المسئول أن يأسو هذه الرزية، ويجبر هذه القضية، لمولانا المقام الأفخم المرجو للعناية بالقيام للأمر الأعظم، شرف الدنيا والدين الحسن بن أمير المؤمنين، ولكافة الأهل ولجميع المسلمين، وربما قد حقق السيدان لمولانا ما اتفق من الكرامة لحي مولانا أمير المؤمنين والسلام.

 وكتب على عجل من البريد، وأراد بالسيدين حي الإمام محمد بن علي السراجي، والسيد المرتضى بن قاسم     عليهما السلام .

 ودفن الإمام عليه السلام  في قبة جده الإمام الهادي علي بن المؤيد  عليهم السلام ، لأنه أوصى بذلك.

ولما زار الفقيه العلامة محب آل محمد سعد الدين بن حسين المسوري الإمامين ومن بالمشاهد المقدسة أنشأ هذه القصيدة الفائقة الرائقة وجدتها بخط السيد العلامة داود بن الهادي عليه السلام .

قال السيد العلامة داود بن الهادي بن أحمد بن المهدي عليهم السلام : هذه القصيدة الفريدة أنشأها القاضي الأفضل العلامة الأعمل جمال الدين سعد الدين بن الحسين المسوري، متع الله بحياته، يوم قدومه إلى الهجرة المقدسة بعد زيارته للأئمة وهي:

وزُرِ الأئمة من سراة بني الحسن

 

عرج كفيت أذا البوائق والمحن

مني السلام عليكم ما المزن شن

 

وإذا وقفت على قبورهم فقُل

وفضائلاً جمت وإحساناً ومَن

 

والثم ضريحاً ضم علماً واسعاً

أن الفضائل أُسديت من غير مَن

 

وفواضلاً ماشأنها عبد سوى

من لو أشاء لقلت ألفاً مَنْ ومَنْ

 

ومكارماً هملت سحائبها على

وحفيده عز الهدى نجل الحسن

 

هذا ضريح ابن المؤيد فاعلمن

ملأ المشارق والمغارب واليمن

 

القائم الهادي الذي بعلومه

حقاً وأظهر سره حتى علن

 

وأقام للدين الحنيف قناته

وبعلمه أحيى الفرائض والسنن

 

وبسيفه قد مات كل معاندٍ

وبعزمه رجفت قلوب ذوي الإحن

 

وبرأيه خفقت جيوش لوائه

ما بين طيبتها إلى كنفي عدن

 

حتى استفاد موالياً ومعادياً

أو ضرب طنبور وقعب من لبن

 

هذي المكارم لا ارتشاف مدامة

حسن الكريم الفرع ذي الفعل الحسن

 

هذا وزر قبر الإمام المنتقى الـ

كالغرة البيضا في وجه الزمن

 

زاكي الفروع مع الأصول ومن غدا

وبني أبيه جروا هناك على سنن

 

ابن الإمام أبو الإمام وإنه

أو قاريءٌ أو مقريء في كل فن

 

منهم خطيب مقول أو كاتب

إلــخ.... وهي طويلة.

 أولاده عليه السلام : الإمام الحسن، والحسين، وأحمد، والمهدي، ومريم، أمهم الشريفة المكرمة فاطمة بنت عبد الله بن صلاح بن محمد بن الحسن بن زيد، وعبدالله وفاطمة أمهما الشريفة الطاهرة بدرة بنت الحسن بن محمد بن صلاح، وصلاح وأمه شريفة من أشراف الشرف اسمها سنا بنت محمد بن أحمد العلوي، وعبدالله وصلاح لا عقب لهما.

مؤلفاته:

1ـ المعراج، شرح منهاج القرشي (خ).

 2ـ شرح البحر، بلغ فيه إلى الحج (خ).

 3ـ كنز الرشاد، في علم الطريقة (مطبوع).

قال مولانا مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي حفظه الله في (التحف): وله العناية التامة بتحقيق مسائل الإمامة. وهي ما نقدمها للتحقيق والطبع.

 وله في الفتاوى مجلد بالغ، رتَّبه على أبواب الفقه بعض أولاده، وهو هذا الذي نقدم له.

 وله كتاب في الرسائل والجوابات، وهو هذا الذي نقدم له.

وقال مولانا: وله ديوان شعر، وقد جمعنا من شعره الكثير الطيب.

قلت: وقد ذكر له المولى مجد الدين مختصراً في علم النحو، ومنظومة فيه، وذكر غيره أن له مختصراً في علم النجوم ومنظومة فيه، أهـ.

 

 

 

 

 

ترجمة الإمام الحسن بن عزالدين عليه السلام

مولده ونشأته:

في يوم الجمعة الموافق السابع والعشرين من شهر رمضان من سنة 862هـ ، ولد الإمام الأعظم الحسن بن الإمام عزالدين بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد، مولده بهجرة ضحيان.

ونشأ عليه السلام  نشأة إسلامية مباركة، في ظل أسرة علوية فاضلة تحب العلم، وتشغف بمكارم الأخلاق، نشأ والفضائل تكتنفه من كل الجوانب، فوالده الإمام عزالدين بن الحسن أحد رواد الفكر الإسلامي، وأسرته من أعرق الأسر الهاشمية النبيلة، تربى في أحضانها، وترعرع في أركانها.

دراسته:

بكر إلى دراسة العلوم، فأخذ أكثرها عن والده، وعن الشيخ عبد القادر بن محمد الذماري، وشمر لدراستها حتى بلغ رتبة عالية في الاجتهاد.

إهتمام والده به

ولما عرف والده أهليته وكفائته أسند إليه أكثر أعمال الإمامة، وكلفه بالكثير من أمر الزعامة، وولاه (كحلان تاج الدين)، فقام فيها أحسن قيام، ورتب أمور الولاية أحسن ترتيب.

دعوته:

وفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رجب سنة (900هـ) توفى والده بهجرة فلله محل إقامته، فلم يصل ولده الحسن نبأ وفاته إلا يوم الإثنين، فاجتمع إليه خلق كثير من أتباعه وأشياعه، وعزوه بوفاة والده، وحزنوا عليه حزناً شديداً، وألزموا ولده الحسن بالقيام بأمر الأمة، وكشف حنادس الظلمة، لما لمسوه من كفاءته وأهليته لذلك، فلما رأى إصرارهم أعلن دعوته يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر رجب سنة 900هـ ولما سمع الناس بقيامه أسرعوا إلى مبايعته، وكان في مقدمة مبايعيه الإمام محمد بن علي الوشلي، والإمام يحيى شرف الدين، والسيد العلامة المرتضى بن قاسم، والقاضي العلامة محمد أحمد بن مرغم.

ثم وزعت دعوته إلى أكثر الجهات اليمنية، فلقيت ترحيباً واسعاً، ولما وصلت الأمير محمد بن الحسين الحمزي الذي كان معارضا للإمام عزالدين بن الحسن فرح بها فرحاً عظيماً، وقد كان أبرم صلحاً مع الإمام عزالدين بن الحسن لمدة عشر سنوات، وكان قد مضى منه ما يقارب خمس سنوات، فزاد فيه خمس سنوات أخرى، وأمر بإثبات الخطبة للإمام الحسن بن عزالدين، واستمرت قرابة ثمان سنوات.

قال صاحب التحفة العنبرية واصفاً الإمام الحسن بن عزالدين:(وكان يعطي الجزيل من الخيل وغيرها على الدوام، وكان كهفاً للأرامل والأيتام، وملاذ الضعفاء والأيتام، وبراً وصولاً لذوي الفاقة والإعدام).

ولا يمكننا في هذه العجالة التطرق إلى ذكر حكمته في مقاومة من عارضه، وقد أشار إليها شيخنا السيد العلامة الحجة مجد الدين المؤيدي في كتابه (التحف شرح الزلف).

مؤلفاته:

وله مؤلفات متعددة تدل على غزارة علمه، وسعة باعه، ومن أهمها:

القسطاس المقبول: شرح معيار العقول في علم الأصول _ خ _ فرغ من تأليفه سنة 893هـ.

الفتاوى: اشتمل على جمل مفيدة، وضمنه فتاوى والده، وهو الذي بين يديك.

الرسالة الفائقة الرائقة المعاني والمحكمة الألفاظ والمباني، ذكرها السيد الحسيني في كتابه مؤلفات الزيدية، وهي التي حققناها تجدها في القسم الثالث من الرسائل.

جواب الإمام الوشلي (رسالة جوابية، رد بها على الإمام الوشلي – خ – يوجد بمكتبة الأميروزيانا ضمن مجموع رقم 112) [انظر أعلام المؤلفين: 329] ويوجد لدينا رسالتان كلاهما يرد على الوشلي.

وفاته:

وبعد حياة مليئة بالكفاح والإصلاح والتأليف انتقل إلى رحمة الله في العاشر من شعبان من سنة 929هـ، وقبره بهجرة فلله مشهور مزور في قبة عامرة بجوار مسجده المسمى (المسجد الأسفل) بهجرة فلله.

ترجمة السيد العلامة
صارم الدين الوزير

هو السيد الإمام المجتهد المطلق الفقيه الحافظ: صارم الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير.

مولده ونشأته:

ولد سنة834هـ، قرأ بمدينة صنعاء وبصعدة على شيوخ البلدين، وبرع في جميع الفنون، وصار المرجع في عصره، والمشار إليه بالبنان، وتتلمذ عليه مشاهير العلماء وأعيان الفقهاء، ولما وقع حرب الملك الظاهري على صنعاء، وقتل ولده في تلك الحرب بحجر المنجنيق، ثم نالته المحنة بأخذ السلطان الظاهري بعض أولاده وأنزله معه تعز، وطال عمر المترجم له، وكانت وفاته سنة/914هـ.

مؤلفاته:

وله مؤلفات حسان، منها:

الهداية في الفقه، مؤلف عظيم، جميع فيه ما في الأزهار وزاد عليه مسائل كثيرة بعبارة سلسة وضوابط مهمة.

 وله المؤلف العظيم المسمى بـ(الفلك الدوَّار في علوم الحديث والآثار)، وله (البسّامة) منظومة في أئمة الزيدية وله شروح كثيرة، وله غير ذلك، رحمه الله وإيانا.

ترجمة القاضي عبد الله بن محمد النجري

عبد الله بن محمد بن أبي القاسم بن علي بن ثامر بن فضل بن حمد العبسي العكي المعروف بالنجري، عالم كبير شهير، له اليد الطولى في أكثر الفنون.

مولده: بحوث سنة 825هـ، ونشأ بها وقرأ على والده وأخيه، ثم حج في سنة 848هـ وارتحل إلى مصر وأخذ على شيوخها في عدة علوم اللغة والبلاغة والهندسة والفلك، ولم ينتسب إلى الزيدية بل انتسب إلى الحنفية، ولهذا ترجمة البقاعي والبخاري، ثم عاد إلى صنعاء بعد أن مكث بمصر سبع سنين، وأدخل إلى اليمن كتاب مغني اللبيب، وهو أول من أدخله اليمن.

مؤلفاته:

 وله مؤلفات مفيدة معتمدة، منها شرح الخمسمائة آية لكتاب شافي العليل، وله (معيار أغوار الأفهام في الكشف عن مناسبات الأحكام)، وله (شرح القلائد في تصحيح العقائد)، شرح بها القلائد للمهدي عليه السلام ، وله غير ذلك من المؤلفات.

وفاته: توفي رحمه الله في ذي القعدة سنة 877هـ.

ترجمة العلامة علي بن محمد البكري

هو الفقيه العلامة الأصولي المتبحر: علي بن محمد بن أحمد بن علي بن يحيى البكري اليمني الزيدي، من كبار علماء الزيدية في القرن التاسع، كان متصلاً بالإمام المطهر محمد بن سليمان، وقائماً بالكثير من أعباء دولته.

قال ابن أبي الرجال: وكان بعض العلماء يفضله على الفقيه عبد الله النجري، ويقول: البكري أعلم من عبد الله النجري في أصول الدين، والنجري أعلم منه في أصول الفقه، قال في المستطاب: امتد عمره إلى زمن الإمام عزالدين بن الحسن، وكان من المتابعين له والقائلين بإمامته.

مؤلفاته:

له المؤلفات النافعة منها:

الرد على رسالة الإمام عزالدين في الإمامة، وهو المسمى الجواب المعقود في بيان القطع بإمامة أئمة آل الرسول.

الكوكب الوهّاج، في شرح (المنهاج) للقرشي.

شرح مقدمة (البيان الشافي) لان مظفر.

 شرح (مصباح الظلمات في كشف معاني المؤثرات).

شرح (كتاب المؤثرات) للرصاص.

وغيرها من المؤلفات.

وفاته:

 توفي في رمضان سنة 882هـ، رحمه الله وإيانا.

مصادر التراجم المذكورة

أولاً المخطوطات:

التحفة العنبرية، لمؤلفها السيد العالم محمد عبدالله بن الحسن بن الامام عز الدين عليهم السلام .

 مآثر الأبرار، تأليف العالم الكبير محمد بن علي ........

تكملة الإفادة، تأليف الامام الناطق العدوي.

الجامع الوجيز، للقاضي العلامة أحمد بن عبد الله .....بالحق يحيى بن يحيى الهادوي وأما التكملة فلم أذكر من هي له.

 اللآليء المضيئة، مشجر السيد الجلال،  ذروة المجد الأثيل.

 مطمح الآمال، للعلامة المهدي وقد نهيت ......

الجواهر المضيئة، ...............

 مطلع البدور، .............

ثانياً المطبوعات:

أعلام المؤلفين الزيدية، للأخ العلامة عبد السلام الوجيه حفظه الله.

 مصادر الحبشي، ................

 مؤلفات الزيدية، ................

التحف شرح الزلف، لمولانا مجد الدين بن محمد بن منصور بن الهادي رحمه الله.

 الأعلام، .....

فرجة الهموم والأحزان، للعلامة عبد الواسع يحيى الواسعي رحمه الله.

أئمة اليمن، للعلامة المؤرخ محمد بن يحيى بن......

 غاية الأماني. يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد  عليهم السلام .

 


القسم الأول من الرسائل

الخاص بالإمامة

[رسائل الإمام الجليل علي بن المؤيد بن جبريل عليه وعلى آبائه السلام]



بسم الله الرحمن الرحيم

قال مصنف سيرة الإمام عليه السلام  وهو السيد العلامة/ محمد بن عزالدين المفتي رحمه الله:

وأما رسائله الفائقة ومواعظه الرائقة:

فهي واسعة جمة لا يسعها إلا مجلدات ضخمة، ونذكر منها خطبتين: الأولى الدعوة المباركة العامة، و(الرسالة الفائقة الرائقة التامة إلى كافة الإسلام والمسلمين)

 قال عليه السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله الهادي لدين الله علي بن المؤيد بن رسول الله قال تعالى: {ولْتَكُنْ منكم أُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى الْخَيْرِ ويأمُرُون بِالْمَعرُوفِ وينْهونَ عَنِ الْمُنكرِ وأُولئكَ هُمُ الْمُفْلحون }([آل عمران: 104]، السلام الأسنى والتحية المباركة الحسنى طبقت بالرحمة الفاضلة المباركة، وعمرت بالنعمة السابغة الكاملة، وهطلت بكلائل المودة الصادقة، وشمل بها كل الرحمة الباسقة من اتبع الهدى وتمسك بأوثق العرى، وعَلِم أن الأولى دار فناء فارعوى، والآخرة منـزل بقاء فاستوى، ونظر بعين الرجا فنجا، وفزع إلى الله تعالى ولجا، لم يرع الدنيا بقالب قلبه فيقتحم المهالك، ولا حكم على لبه فيسلك أضيق المسالك، ولا هوت به الأطماع خرب الشبهات فينهار به في مواقع الشهوات، وعلم أن تقوى الله تعالى هي العروة الوثقى، والنجاة عند الله غداً، ومن أتى إلى الله تائباً نادماً، ورجع إليه راغباً عازماً، وامتثل لله تعالى مطيعاً، وتذلل له مهابة وخضوعاً، وخص أولئك أزكى التحيات وأفضل البركات، وبعد:

فالحمد لله على سابغ نواله، وشكره على بالغ إفضاله، وتقديسه لعظمته ولجلاله، وصلى الله على محمد وآله، فقد تحقق العام والخاص، وتيقن الداني والقاص؛اختباط الأمور، واضطرابها، واعتباط البدع وارتكابها، واستحساك حنادس الفتن()، واحتليلاك() كرادس() المحن، فعند ذلك طاحت بأهل العصر طوائح الضلال، ودارت عليهم دوائر الوبال والنكال، فلمَّا اشتدّتِ الأزمة وبهضت، وعظمت المصيبة وأخرست، وحارت الأفكار، وثقلت الأصار، شخصت إلينا الأبصار من جميع الأقطار، ومُدّت إلينا للاستغاثة الأعناق، وشدت إلى ساحاتنا النجائب من الآفاق، وبلغنا من الأقاصي الرسائل والأوراق، وطلبتنا القيام بأمر الأمة، وعنينا بقشع هذه الظلمة والغمة، فقف عند ذلك شعرنا، واقشعر بعظيم خطره بشرنا، وعُذنا بالله من التعرض للأخطار،  ولُذْنَا بِهِ من التحمل لهذه الأوزار حذراً من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ويلٌ للأمناء ويلٌ للأُمراء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة في الثريا يذبذبون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملاً)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يسترعي الله عبداً [رعية] قلت أو كثرت إلا سأله عنهم يوم القيامة أقام حق الله فيهم أم ضيعه)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من ولي أمراً من أمور الناس، ثم أغلق بابه دون المسكين والضعيف وذوي الحاجة، أغلق الله دونه باب رحمته عند حاجته)) ()، فقهقرنا لذلك متعوذين، وتأخرنا عن الأمر مسترجعين، فما ازدادت الظلمة إلا شدة، ولا البدعة إلا حدة، ولا المنكر إلا ظهوراً، ولا الناس إلا غروراً، ولا الدين إلا انطماساً، ولا الجود إلا امتراساً، ففزع إلينا العلماء الأفاضل، وأهرع نحونا العلماء الأماثل، وحط بساحتنا رؤساء القبائل، ولاذ بنا أهل الدين، واستغاث بنا كافة المسلمين، فرأينا القيام علينا متعيناً، ولزومه لنا ظاهراً بيناً، فقمنا لله غاضبين، ولأعدائه مناصبين، شادين أزر العزم لتأييد الدين، مستلئمين لاَمَة الجد لمنابذة الظالمين، سالّين سيف الحق لرقاب المعتدين، متدثرين شعار الرأفة للضعفاء والمساكين، متكللين بأكليل المودة لسائر المسلمين، مُتَتَوِّجين بتاج الخضوع لرب العالمين، مستمسكين بسنن الأنبياء والمرسلين وسير الأئمة الهادين، نظراً إلى قوله تعالى:{ومَنْ أحسن قولاً مِمَّنْ دَعَا إِلى اللهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ} [فصلت:33] ، وقال تعالى: {اُدْعُ إلى سبيل ربك بِالْحِكمةِ والمْوعِظةِ الْحَسنةِ وجَادِلْهُمْ بِالتي هي أحسن} [النحل:125 ]، وقوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52]، وقوله  صلى الله عليه وآله وسلم : ((مَنْ ماتَ وليس بإمام جماعة أو لإمام جماعة في عنقه طاعة مات ميتة جاهلية)) () ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل)) () ولذلك تجردنا تجرد السابقين، ونهضنا نهوض الأئمة الهادين.

 اللهم اشهد على هذه العزيمة التي انطوى عليها الجنان ونطق بها اللسان، اللهم وأنت العالم بالسرائر وما يختلج في الضمائر، اللهم عصمة منك عاصمة من سوء السيرة في الرعية، وتوفيقاً موفقاً للعدل والصلاح في البرية.

 ثم إن هذه دعوتنا للناس إلى الله داعية، بالرشاد والسداد للعباد ساعية، للفساد والعناد في البلاد ناعية، وللرعية في رياض الصلاح والفلاح راعية، فأجيبوا رحمكم الله داعي الله مسرعين، وبادروا إلى إجابة الله مهرعين، وهلموا ألموا براية الحق طائعين ناصرين، وقوموا لله مع إمامكم مجاهدين مناصرين، وفيما عند الله ولديه طائعين راغبين، ولأمر الله وفرضه عليكم ممتثلين مؤدين، فإن الحجة قد لزمتكم لقيام الدليل، والحجة قد وضحت لكم وأضاءت سواء السبيل، قال الله تعالى: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف:31]، وقال تعالى: {(وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ}( [الأحقاف:32] ، وقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}([النساء:59] ، وقال تعالى: ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ،  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِ} [الصف 10-14]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((مَنْ سمع داعيتنا أهل البيت ولم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية))، وإياكم إياكم أن تقولوا: { اذهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنا قَاعِدُوْنَ}، فامتثلوا رحمكم الله أمر الإله اللازم، واسرعوا أصلحكم الله إلى إجابة الإمام القائم.

واعلموا رحمكم الله: أنَّ لكم علينا خلالاً ما وفيتم بخصال:

 لكم علينا المودة والموالاة في الله تعالى ما أقمتم على طاعة الله تعالى، ولكم المواساة في مال الله تعالى ما جاهدتم في سبيل الله تعالى، ولكم علينا الحياطة في دينكم ودنياكم ما عرفنا نصيحتكم وامتثالكم، ولكم علينا الصيانة والإنصاف والإحترام ما وفيتم بالحقوق الواجبة عليكم في الإسلام، ولكم علينا المدافعة والممانعة عنكم ما علمنا السريرة الصالحة منكم، ولكم علينا الوقاية بأرواحنا، والحماية لكم بحسب استطاعتنا، والإيثار على أنفسنا فيما ساغ لكم ولنا، ما امتثلتم لأمرنا، وانسبكتم في قالب طاعتنا، وانخرطتم في سلك نظام نصرتنا، وتقلدتم قلائد رأفتنا، وعددتم في جماعتنا وجمعتنا، وتحليتم بحلى مودتنا ونصيحتنا.

 وإن وفيتم وفينا فيما وعدنا، وزدنا ثم زدنا ثم زدنا، وذلك كما أوجبه الله تعالى علينا ولنا، وأمرنا به الجميع وألزمنا، فهلموا رحمكم الله لنشد من الدين أعضاده ونبني أركانه، ونعمر() مناره، ونشيد بنيانه، ونعظم شأنه، ونعلي مكانه، ونقطع أطناب الضلال، ونهد أوتاده ونهد أركانه، ونفت أعضاده ونخرب بنيانه، ويلبس أطواده، وتعصم أعضاده، وتمزق أجناده، قال تعالى: {وقَاتِلُوهُمْ حَتى لا تَكُونَ فِتْنة ويكون الدِّيْنُ كله لله} [البقرة/193] وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((مَنْ أهان صاحب بدعة أمنه الله تعالى يوم الروع الأكبر)) ().

 اللهم إنا دعوناهم إلى طاعتك، ونصرة دينك، والجهاد في سبيلك، والتعاون على أعدائك، ومظاهرة أوليائك، اللهم اشهد وكفى بك شهيداً بَأنا بلغنا ما ألزمتنا، وامتثلنا إذ أمرتنا، وتجردنا لما أردت منا، اللهم إنا دعونا عبادك إلى الجهاد دعاءً لازماً، وألزمناهم بالإسراع إلينا إلزاماً جازماً، اللهم خذ بأزمتهم إلى الحق أفواجاً، واجعل الحق لنا وبنا سراجاً.

 ثم إن أحب الناس إلينا، وأرفعهم لدينا، وأقربهم منا وأرغبهم فينا مراداً من إذا غفلنا ذكَّرنا، وإذا هممنا حذَّرنا، وإذا خلونا وعظنا، وإذا نصحنا خوَّفنا، وإذا جهلنا عرَّفنا.

 اللهم إنا نسألك وزرآء مؤمنين، وجُلساء علماء صالحين، وأُمراء حلماء ناصحين، وعُمَّالاً نرضى أعمالهم، ورعيةً تقبل أفعالهم وأقوالهم، اللهم إجابة منك دائمة، وعصمة من لديك مانعة عاصمة، وإعانة من فضلك لازمة باقية، يا إله العالمين يا أرحم الراحمين.

 ثم إنا مطالبون من بلغته دعوتنا، وسمع نداءنا، وعلم قيامنا، بتسليم الحقوق الواجبة في الأموال؛الزكاة والأخماس وبيت المال، وذلك لقيامنا مقام جدنا صلى الله عليه وآله وسلم ،  حيث تجردنا للأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن الفحشاء والمنكر، وانتصبنا لنصرة الدين ومباينة الظالمين، وسد الثغور، ورفع المظالم، وإجراء الأحكام على سننها، فمن هنالك ثبتت لنا الولاية، ووجبت لنا الموالاة، ولزم كل أحد ممن دعونا طاعتنا، ونصرتنا، وامتثال أمرنا.

 وبالله العظيم ما أَسْرَعْنا إلى هذا الأمر ولا سبقنا إليه ولكن حُمِلْنا عليه، والحامل على ذلك هو الدلائل الواضحة، والآيات المبينة الراجحة، وإطباق المؤمنين، وقطعهم بالوجوب علينا، ورميهم لنا عند الإخلال بالضلال والإضلال، ثم قد أذنا لأهل الأموال التي فيها الحقوق الواجبة بتسيلمها إلينا، وصرف ربع ذلك إلى ذي الفاقة الفقراء، من الأيتام، والأرامل، والضعفاء، والمساكين، وابن السبيل، والسائلين من المسلمين {(قُلْ هَذهِ سَبِيْلِي أدْعُو إلى اللهِ على بَصِيرةٍ أنَا ومَنِ اتَّبعنِي وسُبْحانَ اللهِ ومَا أنَا مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ} [يوسف/108] .

الرسالة الثانية

[المسماة باللآلي المضيئة في مراتب أئمة الزيدية وتفصيل منازلهم العلية] ()

قال عليه السلام :

 بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على محمد وآله ورسوله وعبده، الحمد لله الذي عرَّض للدرجات العُلى بتكليف ما يفدح، وقلد الأعناق والطلا() من العروض ما ترجح، وبين بالبينات الواضح من ذلك ما اشتبه، وحل بالبرهان اللائح ما ورد عليه من الشبه، وحجى بالحجى() أيسر ما كلف ملاكاً، وجعله للمكلف من أبر حرمه فكاكاً، ووعد من امتثل وأطاع بجزيل الثواب، وتوعد من انتحل وأضاع بأليم العقاب، {لِيَهْلكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيَى مَنْ حَيّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] .

وبعد؛ فإنَّ أعظم التكاليف أجراً، وأربحها بحراً، وأفخمها قدراً، وأبهجها بدراً، وأعنقها زمراً، هو القيام للّهِ تعالى حفظاً لبيضة الإسلام، والدعاء إلى الله سبحانه وتعالى كلايةً للشرائع والأحكام، وحمايةً للمسلمين من إزهاق أرباب البدع المزلة، ورعاية للدين عن إزهاق أولي الشبه المضلة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم  :((إن أحب الناس إلى الله وأدناهم منه مجلساً إمامٌ عادل)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنّ عند كل بدعة تكون بعدي يكاد بها الإسلام وَلِيَّاً من أهل بيتي، يعلن الحق وينوره، فاعتبروا يا أولي الألباب))()، ولما كانت الإمامة أمرها خطيرٌ،  ومنظرها خضر نظير فيصير ذلك ذكر طرف من أحكامها، ونشر طرف من أعلامها، حسب تفاضل الأئمة فيها، وتفاوتهم في مراقيها.

إعلم أرشدك الله وإيانا: أن الإمامةدرجات بعضها فوق بعض، ومنازل تتفاوت في الطول والعرض، والأئمة يتفاضلون حسب رقي تلك الدرجات الرفيعة، ويتفاوتون في الفضل بتفاوت تلك المنازل المنيعة، ومن ثم كان منهم المعصوم والسابق، ومنهم المقتصد البائع نفسه من الخالق.

فأعلاهم درجة وأرفعهم منزلة الثلاثة الذين قضت الأدلة بعصمتهم، ونصت السنة على إمامتهم، فصاروا للصالحين من الأئمة حجة،  وسيرهم للسابقين من الأئمة محجة، إذ هم سفن النجاة في اللجة وباب حطة لأولي الدلجة.

الدرجة الثانية: من الأئمة الهادين، والدعاة السابقين، وهم من بعد الحسين() إلى الهادي يحيى بن الحسين  عليهم السلام .

هـم الأولـى إن فاخروا قال العـلي

 

بـقي لـمن فـاخركم عـفر الثرا

 نطقت بفضائلهم الطاهرة روايات نبوية، وقضت بمناقبهم الفاخرة شهادات علوية، وشهدت علومهم الزاخرة بترقيهم بين المذاهب أعلاها، وأعربت محاسنهم المتظاهرة بتسنمهم من المراكب أسناها، وتأرَّج دينهم الصحيح بنوافج ورعهم الشحيح، وتأجج حسبهم الوضي الصبيح بفوانيس نسبهم المحض الصريح.

قال عليه السلام :

أولئـك قـوم شرف الله قـدرهـم

 

وزادهـم في الناس فضلاً على فضل

الدرجة الثالثة: من الأئمة المهتدين، المجاهدين في سبيل رب العالمين، والحامين لحوزة المسلمين، المقتفين لسيرة آبائهم السابقين، المتمسكين بسنة سيد المرسلين، وهم من بعد الهادي يحيى بن الحسين إلى المهدي أحمد بن الحسين، صلوات الله عليهم أجمعين قال عليه السلام :ـ

أولئك أعلى الناس فـي الناس رتبة

 

وأفضلـهم جداً وأفخرهم مـجداً

وأعدلهم قـولاً وفـعلاً وسيــرة

 

وأصدقهم وعـداً وأوفاهم عـهداً

 قاموا ودعوا إلى الله، وباعوا أنفسهم من الله، وجاهدوا حق الجهاد في الله، وتحملوا أعباء الأمة وأثقالها، وناصبوا جهالها وضُلاَّلها، حتى أقاموا من الدين قناته، وأعلوا مناره، وَهدُّوا من الظلم والجوَرْ صفاته، وأخلوا دياره، فأحيوا من معالم الدين ما انطمس، وعمروا من ربوع الشرائع ما اندرس.

قال عليه السلام :

فـكانوا حياة الدين بعد مـماتـه

 

فمن رام يـوماً أن يباريـهم كذب

بذا شهدت أفـعالهم وتشاهـدت

 

لهم بالمعالي والعلا العـجم والعرب

الدرجة الرابعة: من أئمة الحق ودعاته، وحماة الدين ورعاته، وسلاطين الله في أرضه، والقائمين بحقه وفرضه، وهم من بعد أحمد بن الحسين المهدي إلى أن الجت الحال فصار الأمر عندي.

قال عليه السلام :

وكـلهم قامـوا دعاة إلى الـهدى

 

حـماةً لـدين الله جل جلاله

وهـم عمروا الإسلام حتى تقلـلت

 

دعـائمه طـولاً وتـم كماله

 جعلوا سيرة السابقين قبلهم قبلة، وسنة جدهم إلى النجاة والسلامة وصلة، فنهجوا من السنن النبوية نهجها، وعلوا من السنن المرضية سرجها، قال عليه السلام :

وهـم دمغوا أهل الخنا فتبعـثرت

 

من الجور والظـلم البهيم جباله

فلله قـوم نوروا الـحق فانجلت

 

بهم وانجـلى شمس الهدى وهلاله

وهـم دوخـوا أهـل الضـلال أصبحت

 

مقطعةً أمراسُه وجبالُه

 ونستثني من الدرجة الرابعة من طمت بغرائب العلم ومكنو أنظارهُ، وتلاطمت بكشف غوامض أسراره بحارُه، فزاد على أضرابه وأقاربه، وكان يدعا آية في زمانه، حري بأن يكون أمة وحْده، وهو الإمام المؤيد بالله تعالى يحيى بن حمزة، وإنما انقسمت الأئمة على هذه الدرجات الأربع، وكان بعضهم أفضل من بعض وأرفع، لما اقتضته البراهين والأدلة، وظهرت فيه ظهور الأهلة.

أما الدرجة الأولى:فأدلة القطع والبيان من الأخبار والآيات قضت بفضلهم باطناً وظاهراً، وحكمت بعصمتهم حكماً جامعاً حاضراً.

 وأما الدرجات الثلاث ففضلنا بعضهم على بعض لوجوه:

الأول منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  :((لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه)).

الثاني: أن أهل الدرجة الأولى من الثلاث رويت فيهم أخبار نبوية دلت على فضلهم، ولم يرد فيمن [بعدهم] بيان ما ورد فيهم.

الثالث: إنا وجدنا كل درجة بمن قبلهم تقتدى، وبهدي من سبقها تهتدي.

الرابع: إنَّا سبرنا علومهم وخبرنا مصنفاتهم فوجدنا كل درجة تشهد لمن سبقها، حتى أن مصنفات الآخرين إنما هي أقاويل المتقدمين، وتخريجات على نصوصهم، وقياسات على أصولهم.

الخامس: أنَّ الفضل متزايد بتزايد الأعمال الصالحة، ووجدنا كل درجة زادت على من بعدها في المشاق الجهادية والأمور الدينية، ومن عرف سيرتهم وجد ذلك في علمه هذا، وقد اشتركوا في فضل الإمامة وازدحموا في محل الولاية والزعامة، وترديهم بمطارفها وأثوابها، وقبض كل واحد منهم من خلال الكمال على نصابها، واعتلائهم الجميع من الولاية والزعامة فوق ركابها.

 وتنـزيلهم على هذه الدرجات الثلاث إنما هو حكم في الظاهر، والعلم بالباطن يختص به الملك القادر، إذ مقادير الثواب على الأعمال لا يحيط بها إلا الملك المتعال، فهو عالم السر وأخفى، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وهذا حين انتهى فيه الكلام إلينا، وتعين البيان والبرهان علينا، وإنا لله وإنا إليه راجعون فلقد تحملنا طوداً عظيماً ثقيلاً، وحملنا من الأمور هولاً مهيلاً، وامتطينا من أعباء الورى ما يهد الشناخيب المنيفات الذرى

إنَّ الإمامة أمـرها مائل خطر

 

صـعب مسالكها وعـر مراقيها()

[بيان حال الإمام المؤلف مع تواضع من غير إخلال]

واعلم أرشدك الله وإيانا: أنه كفانا إثماً ومقتاً أن نحب أن نحمد بمالم نفعل، وأن نثاب ونجازى على مالم نعمل، فنحن لا ندعي الإحاطة بما أحاط به آباؤنا من الخصال، ولا بلوغ ما بلغوا من أفعال الكمال، وأين وميض السها من صفا الهلال؟‍! بل أين الباع الوزي() من الشناخيب() الطوال، قال عليه السلام :

وابـن اللبون إذا ما لزَّ في قرن

 

لـم يستطع صـولة البزل القناعيس

 أولئك زادوا على ما تصح به الإمامة درجات، ورقوا في الزيادة سبع سموات:

أولئـك قومٌ إن بنوا أحسنـوا البناء

 

وإن وعـدوا أوفـوا وإن عقدوا شدوا

{أولئكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ فَبِهُداهُم اقْتَدِه} [الأنعام: 90]، والذي ادعيناه إحراز ما تصح به الإمامة، وتثبت معه أحكام الولاية والزعامة، ويجب عنده الموالاة والنصيحة، وتلزم لأجله الاعتقادات الصحيحة، هذا ولولا إلجاء التكليف، وحمل أوامر الواحد اللطيف، وخوف انطماس ربوع المذهب الشريف، واندراس معالم الدين الحنيف، ما تصدينا لهذا الأمر الهائل، ولا استهدفنا لسهامه، ولا تحلينا بحلية لكامه، ولا تأهلنا لخطر أحكامه، ولا تتوجنا بتاج أمارته، ولا تكللنا ببدر تمامه، ولا ارتدينا برداء نظامه، ولا تظللنا بظل غمامته، خلا أنا ألفينا معارج البدع الشنيعة معمورة مسلوكة، ومناهج الشرع البديعة مدعثرة مهتوكة، فترقبنا داعياً إلى الله، وانتظرنا قائماً لله ببدو، فلم نسمع لطلائعه حساً، ولا آنسنا من طلوعه أُنساً، فازدادت البهمة في استحكامها بهمة، وازدادت الظلمة إلى ديجورها ظلمة، فحينئذٍ رمت قياس الحمية في الدين بتحمل أعباء المسلمين، ورنت حواس البصيرة واليقين بوجوب مكافحة المعتدين والظالمين، فقمنا لله تعالى مع رهبة منه ووجل، وهيبة منه تعالى وخجل، وخضوع له وتذلل، وتوسل إليه وتبهل، وثقة بِمَنِّه وتوكل.

والذي نحكيه من حالنا، ونجليه من أحوالنا؛ما نحن عليه بحمد الله من صفات نيرة معتبرة، وسمات بحمد الله خيرة مختبرة، قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُوا كُوْنُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهداءَ لِلهِ ولَوْ عَلَى أنْفُسِكُم} [النساء: 135] وهي باعتبار الخاص والعام مرتبة على ثلاثة أقسام:

 القسم الأول: اشترك في معرفته الداني والقاص، واستوى في العلم به المستمع والقاص، والمناضل والمناظر، والمعاضل والمكابر، فلم نحوج في إيضاحها إلى بيان، ولا في وضوحها إلى إقامة برهان.

الثاني: مفتقر إلى طرف محض وتفتيش، ومسحة بحث وتفتيش، وهو جودة الرأي، والسخا، ورباط الجأش في حومة الوغا، وبحمد الله أحرزنا منها قدراً كافياً، وحزنا من كل منها صدراً وافياً، فمن جلا غشاوة الميل عن بصره، ومحا غشاوة الرين عن بصيرته، عرف ذلك من غير كلفة، وعلمه من غير طول ألفة.

الثالث: العلم، مشوباً بالورع، محصناً عن تدليس الشبه والبدع، وهي أجلها شأناً، وأعلاها مكاناً، وأبعدها عياناً، وأشرفها قدراً، وأعبقها زهراً، وأعذبها نهراً، أبوابه رحيبة خصيبة، وجناته نظرة عجيبة، وردية الأزهار، شهدية الأفكار، كريمة الأثمار، قطوفها دانية، وأغصانها متدانية، {وما يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِيْنَ صَبَرُوا ومَا يُلقَّاها إلاَّ ذُو حَظٍٍ عَظِيْمٍٍ} [فصلت: 35].

إعلم أرشدك الله وإيانا: أن فنون العلم الدينية كثيرة، وأنواع كل فن منها جمة غفيرة، وكل نوع يتفرع إلى أغصان مثمرة مورقة، وأفنان مزهرة عبقة، والناس في إدراكه بين ممد ذراع إلى ممد باع، وبين شأو حباب إلى مكسر عقاب، ولو صرفت إليه مدد الأعمار، وحجزت عليه ثواقب الأبصار والأنظار، للإحاطة بأقطاره، والإحتواء على إطاره، لعادت خاسئة حسيرة بائسة فقيرة، {ومَنْ يُؤتَ الحِكمة فقد أُوتيَ خيراً كثيراً} [البقرة: 269]، والذي نتفوه بإدراكه ونتبجح بملاكه، أخذنا من كل فن نبذة مباركة، مع قريحة بحمد الله وقادة،  وغريزة من الله تعالى منقادة، وقد ذكر العلماء أن من أحرز في كل فن مختصراً من مختصراته، من آيات الكتاب شرعيات آياته، وإن لم يكن محضراً له في سائر أوقاته بباله، ولا مستحضراً له من ساعات أحواله، مع قريحة بين التلفيقات في القبول صافية، وغريزة عند الاستخراجات من الأصول وافية، فقد استوفى في العلم شرطه، واستشعر في هذا الشرط مرطه()، ونحن بتوفيق الله بهذه الصورة المعتبرة وزيادة، عرف ذلك منا من عرفنا من الفضلاء القادة، ولا نقول إنا لا نقول في شيء: الله أعلم. وكيف وقد علمنا أنما علمنا أقل مما لم نعلم، {لا تَحْسبَنَّ الَّذين يَفْرَحُونَ بِما أُتُوا ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِمالَمْ يَفْعلوا، فلا تَحَسَبنَّهُمْ بمفازةٍ مِنَ العذاب ولهم عذابٌ أليمٌ}[آل عمران:188].

هذا ولو ألفينا مُساوِياً لنا أو أوفى وأكمل، ووجدنا ضَالعاً مثلنا أو أضلع وأحمل، يقوم بأمر الله، ويتولى من هذه الكلفة قارها، لعضدناه لله، ولوليناه حارها، ولكن جعل أمر الله كالشيء الملقى فتلقينا بإلجا، ومشينا إليه بوجا، غيرة على الدين وحمية، وحماة له من بغات البرية، ولعل نبلغ منه قصارى الأمنية لا جرم وإن كان فيه سبب المنية، قال تعالى: {لا تحسبنَّ الذين قُتِلُوا في سبيلِ الله أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ فَرِحِيْنَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169]، ونحن على تلك العزيمة والنية باقون، ولمتأهل أهل لما حُملناه راجون، ولكافة الإخوان والخلان بذلك واعدون، ولله سبحانه وتعالى وكفى به مشهدون، قال عليه السلام  شعراً:

وإنَّا على تلك العزيمة والرجا

 

إليه ومنها نغتدي ونروح

فأرجاءُ هذا الأمر واسعة المدى

 

جواد الرجا والعزم فيه سبوح

فإن نلق بيتاً جامعاً لخلالها

 

له في نواحي المكرمات طموح

فذاك الذي نهوى ونلقى زمامها

 

إليه وإني بالزمام سموح

ونلقى إليه الأمر طوعاً ورغبة

 

وإني إلى إلقائه لجنوح

فإن لم نجد ندباً لزمت زمامها

 

وإني لكل العالمين نصوح

وجاهدت في الله المهيمن رغبة

 

وإن سكنت قلبي السليم قروح

وأشكو إلى الله الزمان وأهله

 

إليه بسري فالشكاء أبوح

واسأله فتحاً مبيناً ونصرة

 

فلله نصر ظاهر وفتوح

ونسأله حفظاً ورعياً وعصمة

 

وإن كان في وجه الزمان كدوح()

 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

وأما السؤالات والجوابات فله عليه السلام هنا ( الجوابات الكاشفة للإلتباس على من شك في السيرة من الناس) وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل العلم لأديان العارفين حياة، ولأبدان المتمسكين به والعاملين نجاة، وإلى جنان الخلد والفوز ذريعة ومرقاة، ولذلك وجب على كل طائفة من كل فرقة التنفير ليتفقهوا في الدين، ويتبصروا معالم الإيمان، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بالأدلة والبراهين.

قال عليه السلام : ولمَّا كانت الإمامة قطب رحا الإسلام التي عليها مدارها، وقنطرة الأحكام التي بها يغاص بحارها، وسماء الشريعة الذي يفتر أزهارها وتدرك ثمارها، كان العلم من معظمات شروطها، ولازمات فروضها التي لا تتم الإمامة إلا بها، ولا تصح إلا معها، وعند ذلك سألنا بعض أهل البصيرة عن أمور تعرض في السير، وسلك في السريرة معيناً في أمره ومتسلماً لثلج صدره، فوجب علينا إسعافه، ولزمنا إنصافه، حسب كفاية المسترشدين لا المتعنتين، وفيه نهاية المتبينين لا المدلسين، ومن الله تعالى أستمد التوفيق والهداية إلى واضح الطريق قال عليه السلام : ثم إنَّ الرسالة التي أوردها السائل في جوابها طريقان جملي وتفصيلي.

أما الْجُمْلي: فنقول هذه المسائل التي أوردها السائل هي مسائل نظر واجتهاد، وتتعلق بمصالح الحرب والجهاد، وللإمام أن يعمل فيها بنظره واجتهاده ورأيه واعتقاده، وليس لأحد من أهل البصائر الاعتراض عليه، ولا ينقص الإمام رداً استصلحه من ذلك في دينه، ولا تقدح على معتقد الإمامةفي نفسه لإجماع العلماء.

 وهذا الكلام مع من يعتقد الإمامة ويقول بها، وأما من لا يعتقدها ولا يقول بها فلا جدوى في مكالمته في هذه المسائل، لأنه بين أمرين، إمَّا أنه قاطع بعدمها فتسؤُّلاته تعتاب وتخمينات، فلا تنبغي مكالمته، وإمَّا أنه متوقف فيها والواجب عليه النظر في أصلها والبحث والاختبارلا سيما مع تمكنه وعدم المانع، فإذا أخل بذلك فتوقفه عجز، وهذا فيما أوجبه الله تعالى، والتوقف لا يسوغ إلا في مسائل الاجتهاد، وأما مسائل القطع فليس فيها إلا الحق أو الباطل ولا ثالث بينهما، والإمامةمن مسائل القطع فالمتوقف فيها مقصر لا ورع.

وأما التفصيلي: فنتبعها سؤالاً سؤالاً ونكشفها() معنى ومقالاً:

السؤال الأول:

قال السائل:الإمامة ربانية عامة على وجه لا يكون فوق يده يد، ولا يتم ذلك إلا إذا كان الإمام في بلد لا حكم لغيره عليه، أما إذا كان في بلد لا حكم له فيها، أو حكم غيره جار عليه فيها، فلا إمامة له ولا حكم؟

والجواب: أنَّ السائل هذا فهم من كلام العلماء خلاف مرادهم ومقصدهم، ونحن نحقق له المعنى والمراد فنقول: إن المراد بقولهم على وجه لا يكون فوق يده يد في حكم الله الثابت في الشريعة، لأن ذلك هو الواجب، لأن جهة القهر والغلبة يوضح ذلك أن ولاية الإمام ولاية عامة تامة، لا ولاية ولا يد ولا حكم لأحد عليه في حكم الله تعالى وشرعته، بل كل ولاية فهي دون ولايته ومستفادة من أمره، وحكمه هذا في حكم الله تعالى وشريعته، فأما بالقهر والغلبة فذلك غير لازم، ولا واجب، ولا شرط، ولا نطق به كتاب، ولا قضت به سنة، ولا أجمعت عليه أمة، يوضح ذلك ويبينه أن الإمام قد يغلب على نفسه، ويقهر علي أمره، ويلزم، ويحبس، ولا تبطل ولايته، ولا تسقط إمامته إلا إذا أيس من خروجه، إذ قد صار في حكم المعدوم، وأيضاً فقد يخذل الإمام ولا يجاب فيتبعه العدو من البغاة والظلمة، فيمتنع من عدوه في بلد لا يد له فيها، وبقوم لا حكم له عليهم ولا يخرجه ذلك عن الإمامة، ولا تبطل ولايته، ولا يعلم قائلاً بذلك، وقد جرى للأئمة السابقين من ذلك ما فيه حجة وكفاية، فالإمام الناصر تمـنَّع ببعض الظلمة -بل الكفرة- زماناً، وكذلك يحيى بن عبد الله، والإمام القاسم، فوقع له خفية حيث لا يد له ولا حكم، والإمام المهدي علي بن محمد قام ودعا من ثلا، ووقف برهة من الزمان، وغزا منه وحارب، وحط على صنعاء بالأمراء بني حمزة وبالقبائل، ولا يد له على أهل ثلا وعلى الأمراء ولا على القبائل، حتى أن نوبة صاحب ظفار كانت قد تقدم على نوبة الإمام، وذلك ظاهر معروف، والإمام أحمد بن سليمان وقف على بلاد خولان ولا يد له عليهم وكانت غزواته منها، والإمام يحيى بن حمزة وقف في صعدة وصنعاء وفلله وثلا ولا يد له في هذه البلدان، وكذلك غيرهم من الأئمة ولم يقل أحد من العلماء لأحد من هؤلاء الأئمة إمامتك باطلة، لأنك وقفت في بلد لا يد لك على أهلها.

ثم أنَّا نقول: إن لمن يصلح للإمامة أن يقوم ويدعي بين الظلمة والعصاة إذ هو داع إلى الله تعالى وهاد إلى سبيل الله، وآمر بالمعروف وناه عن المنكر، وتثبت له بذلك الولاية، فإن أجيب فاتُّبِع ووجد أعواناً وأنصاراً حارب وناصب وقاتل، وإن كان في ابتداء أمره لا يد له ولاقوة ولا يعلم قائلا من العلماء بتحريم ذلك ولا إنكاره، ولو جُعل ثبات اليد وتعالي الأمر شرطاً في صحة الامامة لاستد باب الامامة، لأن ذلك لا يثبت في ابتداء الدعوة في الأغلب، يؤيد هذا أن النبوة وهي الإمامة الكبرى، وقد صحت النبوة الكبرى من الأنبياء مع قهرهم، وقد أقام نبينا  صلى الله عليه وآله وسلم  بين ظهراني الكفر بذمة وجوار.

 ثم إنا نبين للسائل ما هو توهمه ولبس عليه من وقوفنا في فلله، وأقمنا فيها ولا يد لأحد علينا فيما يتعلق بنا، بل إقدامنا وإحجامنا في حربنا وجهادنا يصير عن أمرنا ولا أمر لأحد علينا فيما يخصنا ويتعلق بنا من الحروب وغيرها، وذلك معروف ظاهر لمن أنصف، وإن كان لا أمر لنا عليهم فيما يخصهم ويتعلق بهم فذلك لا يقدح علينا، مع أن المنكرات قد قلت في بلادهم وحفيت بسبب وقوفنا بحمد الله تعالى، وذلك من فوائد الإمامة، ومن أنصف عرف ذلك.

السؤال الثاني:

قال السائل: مِنْ شَرْط الإمام أن يكون معه طائفة من المؤمنين واحتج بقول علي عليه السلام : (لولا حضور الحاضر ووجوب الحجة لوجود الناصر...) إلى آخر كلامه؟

قال عليه السلام : والجواب: أن أقول للسائل:أن من شرط الإمام أن يكون معه طائفة، كلام محتمل يحمل وجوهاً ولا يدرى ما مقصده، وإن أراد بقوله من شرط الإمام أن يكون معه طائفة، أن ذلك شرط في كون الإمام إماماً فهذا كلام غير صحيح ولا قال به قائل، بدليل أن علياً عليه السلام  [كان] إماماً من قبل حضور الحاضر ووجود الناصر، وإن أراد أن ذلك شرط في جواز محاربة الإمام ومناصبة البغاة فذلك على رأي الإمام ونظره، وما تبين له من المصالح ولا اعتراض عليه في ذلك، وأنظار الأئمة وأراؤهم تختلف، وكل منهم مصيب، وإن أراد السائل أن ذلك شرط في وجوب المحاربة والمناصبة على الإمام، فنعم أن الحرب يتحتم عند وجود الناصر وعليه قوله عليه السلام : (ووجوب الحجة بوجود الناصر)، وهذا حال أئمة الهدى من علي عليه السلام  إلى الآن؛أن القائم منهم والداعي يقوم ويدعو إلى الله تعالى بطائفة وبغير طائفة، فإن وجد أعواناً حارب وناصب، وإن لم يجد وقف على حاله داعياً إلى الله تعالى وهادياً إلى سبيل الله ينتظر الفرج من عند الله تعالى، هذا حال الأئمة عليهم السلام ، فمنهم من حارب وناصر واستفتح البلدان، ومنهم من غلب وقهر وحبس وقتل، ومنهم من هرب بنفسه ممن بغى عليه من بلد إلى بلد، ومن قوم إلى قوم، ولم يعترضهم أحد من علماء الأمة، بل ينالون مما نالهم ويعترفون بفضلهم وإمامتهم، ولم يقل أحد من العلماء المهذبين لا طائفة معكم ولا قوة لكم، ولا يلزمنا اتباعكم، إذ لو قال بذلك لقيل له: كن أنت من الطائفة والأنصار للحق، وأنت مخاطب بقوله تعالى:{ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ} [الأحقاف: 31]، وقوله تعالى:{ وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف: 32]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في النار)) ().

ثم أنَّا نعرف السائل بما عرفه الناس، وظهر للعام والخاص، بأن قمنا دعونا ومعنا من المسلمين طائفة عظيمة، وأمة كثيرة من العلماء والعباد، والأمناء والزهاد، وأهل الورع الشحيح، والدين الصليب الصحيح، ومنهم الأمراء الكبراء، والرؤساء ممن تاب وأناب، فامتثل وأطاع، وأعطى من نفسه العهود الغليظة والمواثيق الأكيدة، أنه سامع مطيع، مجاهد مجتهد، ناصح أمين، إن أُمِرَ أقدم، وإن نُهِيَ أحجم، ومثل ذلك كافٍ وواف شافٍ، ومظهر للحجة علينا موجب للجهاد وللمناصبة لدينا، ونحن مكلفون بما عندنا وظننا، لا بما عند السائل وظنه، ونَكْثُ من نكث وخَذْلُ من خذل لا يقدح علينا كما لا يقدح على سيد البرية، وعلي عليه السلام ،  والحسن، والحسين عليهم السلام ، وغيرهم من الأئمة، فقد ارتد في وقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم  ونكث بعلي عليه السلام ،  يوم التحكيم طوائف كثيرة، ونكث أهل الكوفة بالحسين عليه السلام ،  وهم جم غفير، وعدد كثير من ارتد ونكث، وبعلي عليه السلام ،  ولم يقدح ذلك في إمامتهم، وذلك ظاهر لا يلتبس إلا من غلب على قلبه الرَّين، واستحوذ عليه الشيطان، والشريعة المطهرة لم ترد بأن من طلب للجهاد يجب أن يختبر سنه، ولم يقل أحد من العلماء، ومن قال به فقد تعنت وتحكم.

 وأما الإستعانة بالفاسقين والعاصين فذلك جائز عندنا، والجهاد واجب على المطيع والعاصي، والمؤمن والفاسق، ولم يفرق آي الكتاب وآثار السنة بينهم في وجوب الجهاد عليهم، ويعضد ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله تعالى يؤيد الدين بالرجل الفاجر)) ()، ثم أن أفعال الأئمة جرت بذلك، فإن أكثر أجنادهم وأنصارهم عصاة وفساق، والنظر في ذلك إلى الإمام حسب ما يراه من الصواب في ذلك، ولو وقف الجهاد على أهل الورع والدين لانسد باب الجهاد، وتعطلت البلاد، وتمادى أهل البغي والفساد، وأما الإستعانة بالكافرين فلنا في ذلك نظر تختلف بحسب اختلاف الأحوال وتفصيله يطول.

هذا ما نقلناه من سيرته عليه السلام  التي ألفها السيد العلامة محمد بن عزالدين المفتي (رحمة الله عليه ورضوانه)، وقد بقي في السيرة سؤالات كثيرة أكثرها وأغلبها مسائل في القرآن الكريم، إلا أني عند تأملي لها وجدتها برمتها -بل أغلبها- قد تضمنها كتاب الفتاوى في المقدمة منه منسوبة إلى الإمام الحسن بن عزالدين عليه السلام ، فلما رأيتها متطابقة رأيت عدم تثقيل الكتاب بالتكرار، ولم يبقَ إلاَّ الإشكال هل هي من جوابات الإمام علي بن المؤيد عليه السلام  ونسبتها في الكتاب للإمام الحسن غلط؟ أم هي للإمام الحسن، أم كل واحد منهما أجاب وتوافُقُ الجوابين من وقع الخاطر على الخاطر، فكل منهما إمام سابق، وعلى كل حال فالغرض هو الإفادة فلا خير في الإعادة، والله يتولى التسديد والتوفيق إلى أقوم الطريق.

 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

 

 







العناية التامة
 في تحقيق مسألة الإمامة

لمولانا أمير المؤمنين وسيد الوصيين

عزالدين بن الحسن

عادت بركاته وعليه سلام الله ورضوانه

 

 

مقـدمـة

جرت عادة الأصحاب بذكر الإمامة في كتب علم الكلام، وفي أصول الدين، وعُدّت في بعض كتبهم أحد الأصول الخمسة، وليس لذلك وجه يظهر فإنها مسألة فروعية، وباب من أبواب الفقه بين علمي وعملي، وليس ينبغي أن يعد من فن الكلام إلا ما كان علماً بالله عز وجل، ذاته، وصفاته، وأفعاله، وأحكام أفعاله، والذي ينبغي أن نعتذر به لهم في ذلك وجهان:

أحدهما: أنَّها مسألة قطعية لا يؤخذ فيها إلا بالعلم اليقين والأدلة والبراهين، فألحقت بالفن الذي هذا حاله وهذه صفته.

وثانيهما: إظهار الاهتمام بهذه المسألة وتعظيم شأنها، وإنزالها من القلوب بمنزلةٍ رفيعة، إذ هذا الفن أجل الفنون، فكل ما أدخل فيه وألحق به انسحب عليه حكمه، والعذر الأول لا تعويل عليه ولا التفات إليه، ويستنكر من أن يلحق بعلم الكلام كل مسألة قطعية من الفروع وأصولها وغيرها.

وأما العذر الثاني: فعذرٌ حسن، وأحسن منه أنَّ الإمامةلما كانت خالفة النبوة، وقائمة مقامها، وبدلاً منها، حتى قضت الحكمة برفعها، وكانت النبوة من فن الكلام، وباب من أبواب كتاب العدل منه، ذُكِرَتْ في الفن الذي تذكر النبوة فيه، لكنه لما لم يكن لها تعلق بباب العدل ولا غيره من أبواب فن الكلام أُخِرّت وذُكِرَت بعد فراغ ذلك الكلام على أبواب ذلك الفن، وحُذِي بذكرها فيه حذو ذكرها في فن الفقه حيث تذكر في آخره، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

 

 

 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، الحمد لله الذي جعل الإمامةذروة للدين، وسناماً وصلاحاً لآراء العالم ونظاماً، وناط بها قواعد من الشرائع وأحكاماً، وجعلها للنبوة الهادية للخلق إلى الحق ختاماً، ولشرعة سيد الأنام -الفاصلة بين الحلال والحرام- تكلمة وتماماً، والصلاة المتبعة إكراماً وسلاماً على أشرف البرية ومن كان للرسل إماماً، وعلى عترته الذين ما زالوا لشرعته حفاظاً وقياماً، وعلى أصحابه الذين وفوا بنصرته وشمروا الساق في طاعته أزماناً وأعواماً، وفزعوا إلى نصب من يخلفه في أمته ويتحمل أعباء شرعته قبل مواراته في حفرته إجلالاً لأمر الرئاسة الدينية وإعظاماً، وبنوا لها  بمسيس الحاجة إليها واهتماماً.

وبعــد: فإنَّه لم يزل بعض أهل الولع بالتحقيق في العلوم الدينية، ومَنْ هَمه في سلوك منهج التدقيق يسألنا إملاء نبذة في مسألة الإمامةشافية، وبما أراد من تنقيح معانيها وافية، وكلما اعتذرنا عن ذلك بما نحن فيه من الشواغل المستغرقة للأذهان على مر الزمان في كل مكان لم يزدد إلا مبالغة في طلب الإسعاد، والتماس الإسعاف إلى ذلك المراد، فلم نَرَ إلاَّ الإجابة وعدم الابتعاد، وإن كانت الأوقات مشغولة والقلوب من كثرة المشاق معلولة، وأيدي الأنظار المحررة مغلولة، فإعانة الله سبحانه وتعالى مأمولة، وإياه نسأل أنْ يثبتنا في الورد والصدر، وما نأتي وما نذر، وأن يوفقنا لإصابة الصواب، ويعصمنا عن الزيغ والارتياب، ونحن نأتي من أصول مسائل الإمامة  وفروعها، بما اقترح السائل ذكره والتمس تحقيقه وصدره، ورام منا إيضاحه ونشره، ما سُبِقنا إليه وما لم نُسْبَق، وما حقق في غير إملائنا وما لم يُحقق، حسب ما يدخل في حيز الإمكان، والله تعالى المستعان، مع التزام الانصاف والاغتراف من المورد الصاف، ورفع التعصب بالكلية، فليس لنا بمذهب، وليس وراء الله للمرء مطلب.

 

 

القول في حقيقة الإمامة وبيان ماهيتها

أما لغة فقيل:القاضي عبد الله الدواري   : الإمام المتقدم على غيره في أمر من الأمور على حد يقتدي به فيه، ومنه إمام الصلاة سواء كان مستحقاً لذلك أو غير مستحق، في هدي أو ضلال، وعلى الأول قوله تعالى: {واجْعَلْنا لِلمُتَّقِيْنَ إمَامَاً} [الفرقان:74]، وعلى الثاني: {وجَعَلْنَاهُمْ أئِمَّةً يَدْعُوْنَ إلى النَّارِ} [القصص:41]، وقيل: المقتدي به في خير أو شر، ويجمع ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَامِهِمْ} [الإسراء:71].

والتحقيق أنَّ الإمام لغة مأخوذ من (أَمَّهم)، و(أم بهم) إذا تقدمهم، وأنه أيضاً الذي يقتدي به، ذكر المعنى الأول في (القاموس) والآخر في (الصحاح)، ولا يُزاد على هذا.

وحيث حصل المعنى أُطْلق اللفظ، فلا يحتاج إلى ذلك التفصيل، والإمامة صفة الإمام ووظيفته، وهو كونه يقتدى به وكونه متقدماً.

وأما اصطلاحاً فقيل الإمام (يحيى بن حمزة): رئاسة عامة لشخص من الأشخاص بحكم الشرع.

 وقيل: (عبد الله بن حسن الدواري)  : رئاسة على كافة الأمة، في الأمور الدينية والسياسية، على حد لا يكون لأحد عليه طاعة في ذلك، ولا لأحد معه.

وقيل:[الإمام المهدي]: رئاسة عامة لشخص واحد، يختص به أيضاً أحكام مخصوصة على وجه لا يكون فوق يده يد().

قلت: والمعنى متقارب، والاحترازات فيما ذكر لا يعزب على ذي الذوق السليم، وفسر بأمراء السرايا، وهذان المعنيان ثابتان في حق الإمام.

ويقال فيهم خلفاء الله في أرضه، وكلام جار الله() يشعر بجوازه، لأن المراد أن الله استخلفهم على الملك كمن استخلفه سلطان على بلد من بلاده وهو المراد بقوله تعالى في آدم عليه السلام : {إنِّي جَاعِلٌ في الأرْضٍ خَلِيْفةً} [البقرة: 30]، وفي دواد عليه السلام : {يا داووُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضٍ} [ص: 26] هـ والنووي() حكى الخلاف في ذلك، بأنْ قال جوزّه بعضهم بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} [الأنعام:165]، ومنعه الجمهور، حكاه عن الماوردي()، وروي أن رجلاً قال لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  أهـ، وأن عمر بن عبد العزيز أنكر على من قال له ذلك، ولا يكون هذا إلا آدم عليه السلام ، وداود لما ذكر فيهما.

 وذكر الهادي إلى الحق عليه السلام  في الأحكام: أنه من كانت فيه شروط الإمامة فهو خليفة الله تعالى في أرضه، قال:وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة كتابه وخليفة رسوله)) ().

القول في الإمامة

مذهب جمهور علماء الإسلام أنها واجبة، وحكي عن الأصم() وهشام الفوطي() وبعض الحشوية() وبعض المرجئة() وبعض النجدات من الخوارج أنها لا تجب رأساً، بل إن أمكن الناس نصب إمام عدل من غير إراقة دم ولا إثارة حرب فحسن ولا بأس به، وإن لم يتهيأ ذلك وقام كل واحد بأمر منزله، ومن لديه من ذي قرابة وجار، فأقام فيهم الحدود، وأجرى عليهم الأحكام، كفى ذلك ولم يكن بهم حاجة إلى الإمام، وأمَّا إقامته بالسيف والحرب فلا يجوز.

 وحكي عن هشام الفوطي: إنه لا يجوز نصب الإمام في حال ظهور الظلمة، لما يخشى من نفورهم وتعرضهم له،  وما لا يؤمن من إثارة الفتنة، وأما مع عدم ذلك فيُنصب وجوباً، لإظهار شعائر الشريعة، وحكي عن الأصم عكس هذا، وأما النجدات من الخوارج فالحكاية عنهم متحدة بما سبق ذكره.

 والقائلون بالوجوب اختلفوا:فالبصرية() ذهبوا إلى أنها تجب بطريق الشرع لا العقل.

وقالت الإمامية() والبلخي() والجاحظ() وأبو الحسين البصري(): بل تجب عقلاً وسمعاً، وعن الإمامية عقلاً فقط.

 ثم اختلف هؤلاء في طريق وجوبها عقلاً، فقالت الإمامية لكونها لطفاً، فإن المكلف إذا عرف أن هنا إماماً نُصِب لزجر من عصى وعقوبته كان أقرب إلى فعل الطاعة، وتجنب المعصية، ممن لم يعرف ذلك.

وقال النظام() والبلخي وأبو الحسين البصري: طريق ذلك أنه داخل في دفع الضرر المعلوم، ووجوبه بالعقل لأن الناس مع كثرتهم وتوفر دواعيهم إلى التعدي والظلم لا يتكلف() ذلك منهم إلا مع رئيس لهم له سلطان وأعوان، فيمتنعون لخوفهم إياه عن العدوان، ومعلوم أن في وجود السلطان وقوة شوكته واستقامته دفعاً لهذه المضار في الغالب.

والمختار أنَّ وجوبها لا يعلم إلا من جهة الشرع، وأنه لا مجال للعقل هنا، وأن اللطفية واندفاع الضرر غير معلومين ولا مظنونين، وأنه كثيراً مما ينعكس ذلك، فيكون() كثير من المكلفين أبعد معها من الطاعة، وينفتح كثير من المضار الدنيوية بسبب الإمامة.

قلت: ولم يزل يختلج في الخاطر إشكال ما ذكره الأصحاب من أمر الوجوب وحقيقة ظاهر كلامهم إن الوجوب على الأمة، فهل الواجب تحصيل الإمام ووجود الإمام في الخارج؟ فهذا غير مقدور لهم، لأنه إذا فرض أن في الأمة واحداً أو اثنين أو ثلاثة يصلحون للإمامة ويجمعون شروطها، فمن الجائز أن يمتنعوا عن التأهل لها والقيام بتكاليفها، وليس في مقدور سائر الأمة فعلهم لذلك، بل إذا امتنعوا عن ذلك ولم يسعدوا إليه لم يكن داخلاً في إمكان سائر الأمة، ولا متصور من جهتهم.

وإنْ كان المراد أن الواجب على الأمة ...... () في ذلك والمبالغة والاهتمام بأمره، سواء حصل أو لم يحصل، فالعبارة مشكلة، وكان الأليق على هذا أن يقال: يجب على الأمة إبلاغ الجهد واستفراغ الوسع في نصب الإمام.

وليس هذه العبارة بموجودة قط في شيء من كتب علم الكلام ولا في الفقه، وإن كان المراد: أنه يجب على من صلح للإمامة التأهل لها، إن كان واحداً ففرض عين، وإن كانوا جماعة ففرض كفاية، ويجب على الأمة أن يعقدوا له ويبايعوه وينصبوه، فهذا تفسير يقضي باختلاف معنى الوجوب في حق الأمة، فكان يليق أن يقال: يجب على من صلح للإمامة أن يتأهل لها، ويجب على سائر الأمة أنْ يعقدوها له ولو قبل هذا أن لم تسعه()، فإنما العقد من جماعة قليلة، وأشخاص معدودين من أهل العقد والحل، فكيف يجعل هذا واجباً على الأمة كلها.

وإن قيل معناه: إنَّه يجب على الأمَّة كافة إجابته وطاعته ومتابعته، فهذا واجب آخر غير ما كنا بصدده، فالأمر كما ترى في تحقيق معنى الوجوب، والتحقيق المرجوع إليه أن الوجوب في هذه المسألة مختلف في حق الأمة، والصالح لها يجب عليه القيام والانتصاب بعد حصول من يعقدها له، إذا قلنا طريقها العقد، ومع ظن الإجابة إنْ قلنا طريقها الدعوة، فهذا واجب على الصالح للإمامة، والواجب على المعتبر من خير الأمة، وأهل الحل والعقد منهم أن ينصبوه ويختاروه، وهو واجب كفاية حيث كان الصالحون لذلك أكثر مما يحتاج إليه فيه.

والواجب على سائر الأمة أن يسلكوا طريقهم ويتبعوا آثارهم ويُتَابعوهم في ذلك، هذا حيث جعلنا طريقها العقد والاختيار، وإن جعلنا طريقها الدعوة فالواجب على الأمة إجابة الداعي الكامل وطاعته ومتابعته لا غير، والله عز وجل أعلم هـ.

وقد قيل [المهدي]: في مذهب الإمامة مرجعه أنَّ الواجب في هذا هو على الله سبحانه، وهو أن يجعل لنا إماماً ينص عليه، ويعلمنا بوجوب طاعته، كما أنه يجب أن يكلفنا بالشرعيات التي هي لطف.

فإذا عرفت ذلك: فأحسن ما يُحمل عليه القول بوجوب الإمامة، أنه يجب على المسلمين عموماً الاهتمام بأمرها، والنظر في تحصيلها على سبيل الجملة.

وأما التَّفْصيل فعلى حسبما ذكرناه آنفاً، والقصد أن يجري الناس على اسلوب ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم  من الاهتمام الكلي، والفزع إلى نصب الإمام وإيثاره على تجهيزه صلى الله عليه وآله وسلم  مع كونه من أهم الأمور، ومباشرة ذلك ينهى من الأعيان والكبراء، وأهل الحل والعقد، وسائر الناس فرضهم العمل بما أبرموه واعتمدوه، فهذا هو المعنى والمراد ولا مشاحة() في العبارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم إنَّا نعود إلى تتميم الكلام() فيما كنا بصدده فنقول: قد حققنا المذاهب في وجوب الإمام.

فأمَّا المنكرون لوجوبها فاحتجوا بأن الإمام بمنزلة الوكيل للأمة، وللموكل أن يتولى بنفسه ما وُكِلَّ فيه من دون الوكيل.

وهذا احتجاج ركيك وليس الإمام بوكيل للإمة ولا خليفة عنهم، وإنَّما هو خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وكمأمور لله تعالى وأمين له، ومؤتمن على الدماء والأموال والأديان، وبإقامة الأدلة على وجوب الإمامة عليه يسقط هذا القول ويبين بطلانه.

وأما ذكر ما يحتج به القائلون بأنَّ وجوبها إنما يُعْرف بالعقل وحده، فبطلانه يتبين بإقامة الحجج الشرعية السمعية.

وأمَّا ما يحتجُّ به القائلون بأنَّ العقل طريقٌ إلى وجوبها مع الشرع، فليس مما يهمنا ذكره، إن صح ما زعموه فزيادته خير وتقوية للوجوب، ومعين على المطلوب، وإن لم يصح ففي الأدلة الأدلة السمعية الشرعية غنية وكفاية، وحججهم جميعاً في الكتب المتداولة معروفة فمن رغب إلى الوقوف عليها فليطالعها.

وأما الحجج التي يذكرها أهل المذهب المختار فهي ثلاث:

الحجة الأولى: إجماع الصحابة على ذلك، فإنه لما توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فزعوا إلى نصب إمام من غير تراخ منهم آثروه على تجهيز رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  ولم يسمع من أحد منهم -على شدة تنازعهم في تعيين الإمام-، القول بأن هذا أمر لا حاجة بنا إليه، ولا تكليف علينا فيه، ولا ملجيء لنا إلى هذا التنازع، بل لم يختلفوا في النصب وإن اختلفوا في المنصوب.

الحجة الثانية: إنَّ الصحابة أجمعوا على أن أمر الحدود إلى الإمام، وأن التكليف بها على سبيل الإستمرار إلى أن ينقطع التكليف، والخطاب بها ورد مطلقاً غير مشروط بقيام إمام، وقامت الأدلة السنية على أن الإمام شرط في ذلك، ووجوب تحصيل مالا يتم الواجب إلا به لأنه يجب كوجوبه.

الحجة الثالثة: إن المعلوم ضرورة من دينه صلى الله عليه وآله وسلم  أن الجهاد فرض واجب على الأمة، وأن وجوبه لم يسقط بموته صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الإمام شرط في أدائه والقيام به، مع كون إقامة الإمام أمراً ممكناً للأمة، ويثبت بذلك وجوبه.

 فهذه الأدلة الثلاثة غاية ما يستدل به في هذه المسألة، ويعتمد عليه، ولم نشر إلا إلى أصولها، ولها بسط وتفصيل، وسياق، لمقدماتها، واحتجاج عليها، يطول شرحه ونشره، فلم نر موجباً لاستيفائه هنا، إذ هي أمور معروفة متداولة، والقصد الاختصار، والله تعالى الموفق للصواب.

القول في كون هذه المسألة قطعية

هذا هو مذهب الأكثر على ما حكاه الإمام المهدي أحمد بن يحيى() عليه سلام الله ورضوانه، قال عليه السلام : وزعمت الأشعرية وبعض المعتزلة أنها اجتهادية بناء منهم على أنَّ أدلتها ظنية.

قلت: ولا يبعد أنَّ أكثرهم القائلون إنَّها اجتهادية، فإنه لا ينقل عن أحد من طوائف الفقهاء وأتباع أئمتهم القول بقطعيتها، وكلامهم فيها وقواعدهم تقضي بأنها عندهم من المسائل الظنية الاجتهادية.

واعلم: أنَّ هذا الخلاف يذكر في وجوب الإمامة، والظاهر أنَّ القائلين بقطعيتها يقولون بذلك في وجوبها، وغيره من مسائلها كشروطها وأحكامها وطريقتها، والنص على بعض الأئمة وغير ذلك، ويعدون الإمامةوتفاريعها من المسائل القطعية العلمية، وما كان فيها من عملي فمترتب() على علمي، وإدخالهم لها في فن الكلام يدل على ذلك، فأنه لا شيء منه ظني، وأنَّ القائلين بظنيتها دون ذلك في جميع مسائلها، إذ لا يصح أن يكون فروعها قطعية وأصولها ظنية ولا ذلك، وهو كالعلم بالصفة مع العلم بالذات، فلا يصح أن يكون العلم بالذات استدلالياً، والعلم بالصفة ضرورياً، ولا أن يكون اعتقاد الذات غير علم، واعتقاد الصفة علماً، وهذا أمر ظاهر، والله أعلم.

ونحن نقول وبالله التوفيق: هذه مسألة تحار فيها الأفهام، وتكثر فيها الأوهام، ومن حقق النظر فيها ازداد تحيره وطال تفكره، فإن حكمنا على أدلتها بأنها ظنية، وأن المسألة اجتهادية، أدى ذلك إلى طرف من التهاون بأمرها، وتحقير ما عظمه الله تعالى من قدرها، مع كون هذه المسألة من قواعد الإسلام، وعليها يدار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو من أعظم أبواب الدين، وله بعثت الرسل عليهم السلام  وأنزلت الكتب، وعليها يترتب إذهاب النفوس، وإتلاف الأموال، وتجهيز الجنود، وإنفاق أموال الله تعالى، وغير ذلك مما يطول ذكره ونشره.

وإن قلنا: بأنها قطعية، وأنها من المسائل العلمية اليقينية، فقاعدة ذلك قيام البراهين الموصلة إلى العلم اليقين المؤدية إليه الموقفة عليه، وما سكنت النفوس إلى أن أدلة هذه المسائل من هذا القبيل الصريح، ولا وجدناها على ما يراد من التنقيح والتصحيح، ولا سليمة من ورود الإشكال، ولا خالصة عن التشكك بحال، والأدلة السمعية القطعية في القرآن الصريح الذي هو نص، والسنة المتواترة تواتراً حقيقياً مع صراحة دلالتها وخلوها عن اللبس، وكونها من قبيل النص والإجماع المتواتر المعلوم، والقياس الذي لا شك فيه.

فأما الدليل من الكتاب والسنة على وجوب الإمامةفمنتف، ولم يرد في آيات القرآن ولا الأحاديث النبوية المتواترة صريحة الدلالة في هذه المسألة شيء.

وأما القياس فلا مدخل له هنا وأدلته المذكورة من قبيل الإجماع، ومرجعها كلها إليه، ومدارها عليه، وقطعية دلالة الإجماع تنبني على أصلين لا بد أن يكونا قطعيين:

أحدهما: أدلة حجية الإجماع.

والثاني: تهيىء الطريق إلى حصوله.

فأمَّا أدلة حجِّيَّته: فهي مذكورة مشهورة، وفي إفادتها للقطع إشكال، لأن الذي اُستُدِل به في ذلك من الكتاب من قبيل الظواهر التي دلالتها ظنية، والذي استدل به من السنة أخبار أُحادية()، والذي تكلفه ابن الحاجب() وغيره واعتسفوا فيه من الاستدلال  على الإجماع بالإجماع، أو ما يعود إليه هو من قبيل ظن السراب ماءً.

ولقد أتى ابن الحاجب مع كماله وجلالة حاله في هذا المعنى بمالا يروج ولا يُلْتفت إليه، وسلك فيه مسلكاً بعيداً عن المنهج السوي، ولم يزل منذ طالعنا كتابه ودارسناه نستهجن ذلك ونتعجب من عدم تنبيه شارحي كتابه على عدم صوابه، وكوننا لم نقف على اعتراضه في ذلك، ولا تعرض أحد من المحققين لمنافسته مع تداول الأيدي لكتابه.

واحتفال أهل المذاهب على اختلافها حتى وفق الله سبحانه للوقوف على كلام لبعض المحققين المعتبرين من المتأخرين يتضمن تزييف ما ذكره، وتضعيف ما زبره وسطره في هذا المعنى، حتى كأنا أخذنا كلامنا عنه، أو أخذ كلامه عنا، فتأمل ما ذكرناه تأمل إنصاف، وأحط بما أشرنا إليه من جميع الأطراف، وما زلنا في هذه المسألة نقدم رجلاً ونؤخر أخرى، ونمعن النظر فيما هو أولى وأحرى.

فإنْ نظرنا إلى الأدلة المذكورة وتأملنا مقدماتها، وأردنا نظمها في سلك الأدلة القطعية والبراهين اليقينية، وجدناها كما أشرنا إليه ونبهنا عليه، وإن حكمنا على تلك الأدلة بأنها ظنية، ورجعنا إلى أن هذه المسائل اجتهادية فكيف هذا وعلى أي وجه يتقرر؟ مع كون هذه المسألة كما قدمنا ذكره من معظمات المسائل الدينية، وقواعد الأحكام الشرعية، وعليها يبنى أمر الجهاد الأعظم، الذي هو سنام الإسلام، وأفضل أنواع البر، ومعظم ما بعث له النبي الأمين عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى التحيات، واشتغل خاتم النبيين عليه السلام ،  وإليها مرجع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجديد أمر الشريعة النبوية المطهرة، وصيانتها من كل خصلة رِذْلِة، وإنصاف المظلوم من الظالم، والذب عن المناهي والمحارم.

ثم إنَّه خطر بالبال في هذا المعنى شيء مما يظهر به حال الإمامة ومحلها وعظم قدرها، وفخامة أمرها، وحاصله لذلك() سبحانه جبل القلوب، وغرس فيها استعظام أمر الإمامةوشدة الإحتفال بذلك، وذكر() فيها أن هذا بَشَرٌ له حال مزيد على حال أهل الرئاسة، والمملكة والسلطنة، وبعث الدواعي إلى الاتصال به والاقتراب والتمسك منه، بسبب من الأسباب، فكم إمام راجح زح() الحال، قليل المال، ذي لباس خشن، وطعام غليظ، ومنزل غير واسع، وقلة من الحفل() والأعوان، ومكابدة المشاق والرقاق، وفي زمنه وبالقرب منه سلطان أو سلاطين، كل منهم ذو أبهة رائعة ومملكة واسعة، وأموال زكية، وقصور عالية، وجنود وافية، ولباس ورواء يروق الناظرين، وأطعمة شهية لذيذة للوافدين، وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة، وغير ذلك من زهرة الحياة الدنيا ومحاسنها الغضة() ، التي صارت القلوب إليها مقبلة وبها مولعة، ولمثلها متمنية، ثم ترى الناس إلى ذلك الإمام الذي ذكرنا صفته وحاله أميل، وله أحب، ولأمره أشد تعظيماً، وأبلغ تجليلاً وتكريماً، ويجد له من الموقع مالا يكاد الوصف يحيط به دون من ذكر ممن هو ذو سلطنة، وحاله في الدنيا مستحسنة، ونجد كثيراً من الناس له علق بالإمام، وشغف به وغرام، وداره عنه نائية، فلا يعرفه ولا يدري ما صفته، ولا ينال شيئاً من معروفه، ولا يسمع شيئاً من كلامه، ولا يطلع له على سبب مما يقتضي المحبة ويغرسها، سواء كونه إماماً، وكون انتصابه للإمامة نما إلى سمعه، ومثل هذا لا يتفق لأحد من الملوك، ولو أنَّه حيزت له الدنيا بحذافيرها، وانتشرت مملكته في جميع أقطارها، وترى أعادي الإمام وإن اشتدت عداوتهم له ونكايتهم إياه أو نكايته لهم، لا يخلون عن استعظام قدره، ولا يحجدون ما عظَّمَه الله تعالى من أمره، ولا يخلون عن شجن ومخافة من عداوته، وترقب لسوء مغبتها، وترى منهم من يواصله سراً وظاهراً، ويرغب أن يكون له عبد، وتجد من ينتصب لعداوة الإمام ومعاندته لا يخلو عن أهل أو ولد أو ذي علقة بهم، يخالف ما هو عليه، وله محبة في جانب الإمام، وتعظيم له ومواصلة باطنة، واتصال إليه بسبب، ولم يحمله على ذلك كراهة مَنْ هو في جانبه، وترى أعوان الظلمة وأعيان جندهم ووجوه أركان دولتهم لا يقطعون أيديهم عن الإمام ولا يخلون عن مواصلة كماله.

وأعجب من هذا ما يتفق من بعض الملوك أهل النخوة والتكبُّر والترفع من الخضوع للإمام وإعظامه غاية الإعظام، والتذلل له ولرسله إليهم، ولمن له به أدنى علقة، سابه() يستحيل منهم أن يفعلوه لأعظم ملوك زمانهم، ويجد في قلوب الأخيار والعلماء الأحبار والزهاد الأبرار من المحبة للإمام، والولع والإشتغال بأمره أمراً عظيماً، لم يقدهم إليه هوى ولا غرض، ولا داع من دواعي الدنيا ولا غرض، مع تنوير قلوبهم وتصفيتها عن أدران الذنوب، وترى كثيراً من أهل المذاهب المخالفين لأهل هذا المذهب الشريف المتحاملين عليه والمزورين عنه، ينسون أو يتناسون ذلك في حق الإمام غالباً، وأعيانهم وعلمائهم يعظمون الإمام غاية التعظيم، ويكرمونه غاية التكريم.

ولو شرحنا ما وقفنا عليه في هذه الأنواع في حقنا، وعلمنا حقاً متيقناً لطال شرح ذلك، فهذه الأمور التي نبَّهنا عليها وأشرنا إليه، وغيرها مما تركنا ذكره، تدل دلالة واضحة على أن الإمامة لها سر عظيم، وشأن خطير، وأنها عند الله تعالى بمكان مكين ومحل رفيع، وأنها ليست بمنزلة المسائل الاجتهادية الظنية، التي كل مجتهد فيها مصيب، والمقدم فيها والمحجم آخذ من الإصابة بنصيب.

ووجه آخر وهو: أنَّ المتأمل لأمورها، وحال المترشح لها، الناهض بأعبائها، مطلع على أنه يحصل بالإمام من المصالح الدينية، والمطالب المرضية، وحراسة الدين الحنيف، والعلم العظيم الشريف، ونفع المسلمين، وقمع الظالمين، وحياة الدين، وإيغار صدور المعتدين، مالا يكاد تخطر سعته وكثرته ببال، ومن تأمل حال الأمة ومساعيهم، وما تشتمل عليه الأوقات والساعات من أعمالهم وأقوالهم، وخطابهم وكتابهم، وجد من ذلك ما يشفي الصدور، ويدل على الحظ الموفور، وإن ذلك لو لم يكن لكان سبباً في الاختلال، وتناقض الأحوال والمصالح التي يشتغل بها الإمام، ويعتني بها الإعتناء التام، ويقطع فيها الليالي والأيام، والشهور والأعوام، لو أخذنا في ذكرها ونشرها وتفصيلها وتحصيلها استوعبت كثيراً من الأوراق، ولطال فيها المشاق، وخرجنا عما نحن بصدده من الإيجاز، والتحفظ عن إرخاء القلم والاحتراز، ولا ينبئك مثل خبير.

وبالجملة فأئمة الهدى حقاً كما قيل: (خلفاء الله في أرضه، وأُمنَاه على خلقه، وحُرَّاس دينه، وحفظة شريعته، وملجأ بريته).

ولو أنَّ إماماً تناهى به ضعف الشوكة، وقلة الجهد، وعدم انبساط اليد، إلى أن يقف بأعلى جبل عال لا يمد ولا يقبض، ولا يبرم ولا ينقض مع كماله في نفسه، وجمعه لشرائط الامامة، وكونه لم يؤتّ في ذلك من سوء تدبير، ولا زهد في الخير، ولا تقصير في السعي، لكان للمسلمين فيه خير كثير ونفع كبير، يرجعون إليه في المهمات، ويصدرون عنه في كثير من التصرفات، ويكونون الأمور() المركبة على الإمامة أهل استقرار وثبات.

قال بعض الفضلاء من السادة لإمام -زمانه وقد كثرت حركاته واقتحامه لأخطار الأسفار- ما معناه: ترجيح السكون وعدم تعريض النفس للذهاب أن يقال() للمسلمين، ولو وقع السكون والوقوف رأس جبل عال ليس بقليل، وهو أرجح من فوائد الإحتراك مع تجويز الهلاك.

ووجه آخر:وهو أنك تجد لأئمة الهدى من التنويرات، والكرامات، وإجابة الدعوات، والحالات الدالة على عظم المكانة عند الله تعالى، ما يهدي إلى شرف هذه المنزلة وعلو هذه الدرجة، وأن هذا ليس بموكول إلى نظر الناظر واجتهاد المجتهد، ولا بحال يستوي فيه المحتفل والمهمل، والناهض والرافض، والمحب والباغض، والنافي والمثبت، والملتزم والمتلعب، وأن هذه المسألة ليست كمسألة المضمضة والإستنشاق وغسل الرجلين ومسحهما، ونحو ذلك من المسائل الظنية والاجتهادية التي درجتها بالنظر إلى غيرها غير عليه.

وغير بعيد أن يستهجن كثير ممن يقف على كلامنا هذا، جعلنا هذه الوجوه طريقنا إلى عظم شأن هذه المسألة ومخرطة لها عن حيز المسائل القليلة الخطر، ومنهجاً إلى إلحاقها بالمسائل الجليلة القدرالعظيمة الشأن، التي يصير بها من لم يصب جادة الصواب فيها ويسلكها من الآثمين، بل من الظالمين، وسبب الإستهجان كون هذه المشاق مما لم يسبق إليه، ولا يطرق الأسماع، وكأنَّه قريب الميلاد والنفوس تنفرعما لا تألفه وتعتاده، وإلا فمن أنصف، وجانب التكبر بما تعجرف، وتأمل ما هداه الدليل إليه من سواء السبيل وتعرف، وجده كلاماً حسن المعاني، قوي المباني، وهذا شيء دعانا إليه ما تيقناه من عظم أمر الإمامةوحالها ومحلها، وارتفاع منزلتها ودرجتها، مع كون أدلتها ليست بذلك.

فقد ورد عليها أسئلة مشكلة من أراد الاطلاع على تحقيقها، والوقوف على غاية ما قيل فيها، فليطالع المراسلة الدائرة بيننا وبين حي الفقيه الأفضل جمال الدين علي بن محمد البكري() رحمه الله تعالى، فإنا وإياه أشبعنا الفصل وأتينا بما له على ما ذكره غيرنا في ذلك فضل.

وكذلك شرح مقدمة الكلام من كتاب (البحر) لمصنفه قدس الله تعالى وجهه وروحه، فإنه بسط في ذلك ووسع المسالك، فجزاه الله تعالى خيراً.

تنبيه:

تعرف مما ذكرناه ونشرناه أن الإمام من مصالح الدين العظيمة، وخيراته العميمة، وهو أمر لا ينبغي أن يُعدل عنه، ولا أن يُسْتراب فيه، وعليه نص الشيخ أبو علي() ، وقاضي القضاة() ، وعزا إلى الشيخ أبي هاشم() القول بأنَّه من مصالح الدنيا، والأمور المتعلقة به كلها دنيوية، فحكمه في ذلك كحكمها، وكان مثل هذا الشيخ جدير بأن لا يصدر عنه مثل هذا القول ولا يحوم حوله، والله سبحانه أعلم.

القول في طريق ثبوت الإمام وما تنعقد به إمامته

قيل [الإمام يحيى بن حمزة]: والإجماع منعقد على أن الرجل لا يكون إماماً بمجرد صلاحيته للإمامة، وإنما يكون إماماً بأمر آخر غير ذلك.

وقيل [الإمام المهدي]: حكى الحاكم() عن بعض الزيدية أنه باجتماع الخصال يصير إماماً.

قال: الصحيح من مذهبهم أنه لا يصير إماماً إلا بانضمام أمر زائد، انتهى.

قال المهدي: ولا أحفظ هذا المذهب لأحد من الزيدية، وإن صح فهو ظاهر السقوط لخرقه الإجماع السابق.

وقد اختلف في ذلك الأمر، فمذهب الجمهور من الزيدية إلى أن الإمامةتنعقد في غير من وقع النص عليه بالدعوة، وذهبت المعتزلة، والأشعرية، والخوارج، والمرجئة، وأصحاب الحديث، والأكثر من أهل القبلة، والصالحية من الزيدية، إلى أنها تنعقد بالعقد والاختيار.

قال الإمام المهدي عليه السلام  وبه قال بعض الزيدية كالمؤيد بالله ومن تابعه، وقال الإمام يحيى عليه السلام : حكى عن الإمام المؤيد بالله عليه السلام  أنه قال: لا يمتنع أن يكون عقد الخمسة لمن اجتمعت فيه الخصال طريقاً إلى ثبوت الإمامة.

روى كثير من المتأخرين أنَّ القول بثبوت الإمامة بالعقد لم يقل به المؤيد بالله عليه السلام ، وإن قال به في غيرها، منهم القاضي عبد الله الدواري في تعاليقه، قال:وإنما لم يجز أن يكون العقد والاختيار طريقاً إلى إمامة علي، والحسنين     عليهما السلام ، لأن إمامة هؤلاء ثبتت بالنص.

قال: ويبعد أن يكون أحد من أصحابنا قام بالإمامة ولم يُعْقَد له.

قال الإمام يحيى بن حمزة: وظاهر كلامه هذا فيه دلالة على أنَّهُ يذهب إلى أنَّ العقد طريقٌ إلى ثبوت الإمامة لمن عقد له، خلا أنه يمكن تصوير الخلاف بيننا وبين من خالف بأن يقال: فلو قام من هو صالح للإمامة ودعى ولم تعقد له فهل تصح إمامته أو لا؟ فعلى قولنا تصح، وعلى قولهم لا تصح.

قال: وما قاله أصحابنا من اعتبار الدعوة في طريق الإمامة قوي من جهة الشرع لإجماع العترة عليه وضعف دعوى الاجماع على كون الاختيار طريقاً للإمامة، وما ذكره المؤيد بالله عليه السلام  قوي من جهة النظر، فإن عليه عمل الصحابة فيها فعله عمر ورضوه وسكتوا عليه، قال: ولا يقال إن المؤيد بالله مخالف للإجماع بمخالفة القولين المتقدمين فقائل يعتبر بانعقاد الإمامة الدعوة لا غير، وقائل يعتبر في انعقادها العقد والاختيار من غير زيادة.

فإذا قال المؤيد: لا يمتنع فيمن عقد له الخمسة، وكان جامعاً للخصال المعتبرة في الإمامة أن يكون العقد طريقاً إلى إقامته، كان هذا القول قولاً ثالثاً مخالفاً الإجماع، لأنا نقول: هذا فاسد لأمرين:

أما أولاً: فلأنَّ إحداث القول الثالث لا يكون خرقاً للإجماع كما قررنا في الكتب الأصولية.

وأما ثانياً: فلأنَّ جَمْعه بين العقد والاختيار والدعوة يكون قوة لا محالة، وزيادة وثاقه في طريق الإمامة، فما كان هذا حاله لا يمنع منه، فلا وجه للتشنيع على المؤيد بالله عليه السلام  فيما ذهب إليه.

قلت: ويُؤْخذ من مفهوم كلام الإمام يحيى عليه السلام  في حكاية مذهب المؤيد بالله عليه السلام  أنه يعتبر العقد والدعوة معاً، وإن لم يلخص عبارته، ويلوح من عبارته وكلامه هذا إن ذلك رأيه عليه السلام ،  والله أعلم.

قيل [القاضي عبد الله الدواري]: وروي عن زيد بن علي() ، والناصر()، والمؤيد بالله، كقول المعتزلة.

قال: ولم تصح لنا عنهم هذه الرواية في الإمامة، إلا أن للمؤيد بالله في (الزيادات) كلاماً يحتمل ذلك في الإمامة وهو متأول، فأما الولايات غير الإمامة فهو مصرح فيها بمثل قول المعتزلة.

واعلم: أن المذاهب في طريق انعقاد الإمامة كثيرة متفاوتة، ولكن هذين المذهبين هما المعول عليه، والمرجوع للمحققين إليه، وقد ذهب أكثر المعتزلة منهم: الشيخ أبو هاشم أن من طرقها عهد الإمام الأول على من يقوم بها بعده، إذا قَبِل ذلك المعهود إليه.

قيل [المهدي]: وهو قول أكثر الأمة، وخالفهم أبو علي في ذلك، وحكى عنه المهدي عليه السلام  أن الإمامة تنعقد بذلك مع رضا أهل الحل والعقد() ، وقال سليمان بن جرير(): إذا أراد الإمام أن ينص على غيره فله ذلك، لاعلى جهة الإلزام، بل من قبيل المشورة عليهم، والتعريف لهم بصلاحيته، بأن يختاروه إن شاءوا.

وفي المسألة مذاهب أخر كقول من قال: تنعقد بالغلبة() ، وقول من قال: بالإرث() ، وقول من قال: بالنص() ، هذه المذاهب جديرة بترك ذكرها وعدم سطرها.

حجة أصحابنا على اعتبار الدعوة إجماع العترة قيل [المهدي]: وإجماعهم على ذلك واضحٌ في مصنفاتهم وسيرهم، لا يمكن إنكاره ولا دفعه، واحتجوا بأن المعلوم أنه لا بد من طريق إلى انعقادها، والأمة مفترقة في ذلك، فقائل بالدعوة، وقائل بالعقد والاختيار، وقائل: بالنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أو من الإمام، وقائل: بالغلبة.

 فإذا أبطلت الأقوال الثلاثة غير الدعوة تعيّن الحق في القول بها، وإلا خرج الحق على() أيدي الأمة، وأن تكون كلها مخطئة فيما الحق فيه مع واحد، وذلك يتضمن() إجماعهم على الخطأ.

 واحتج أيضاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه على الله منخريه في النار)) () ، والواعية الدعاء والمراد به دعاء الإمام.

واحتج أهل العقد والاختيار بالإجماع الواقع من الصحابة يوم السقيفة على الفزع إلى العقد والاختيار والاعتبار له، وحكمهم بصحة الإمامة من وقع في ذلك في حقه دون من لم يقع له، فاقتضى ذلك أن الإمامة لا تنعقد إلا به.

 واحتج القائلون بالنص من الإمام بعمل الصحابة رضي الله عنهم، فإنَّ أبا بكر عهد إلى عمر فأجمعوا على وجوب العمل بذلك وسمعوا وأطاعوا، فكان ذلك إجماعاً على أنه طريق تنعقد به الإمامة كالعقد، وزاد من لم يعتبر رضا أهل العقد والحل أن الناس كرهوا عهد أبي بكر إلى عمر، حتى قالوا: وليت علينا فظاً غليظاً، ولم تمنع كراهتهم من تمام ذلك، ولا انتقض بها ما أبرم منه.

 فهذه زبدة ما احتج به أهل المذاهب الثلاثة، وتوصلوا به إلى تصحيح ما ذهبوا إليه، وقد اعترض دليل الأصحاب:

أما الأول: فبأنْ قِيل: وأي إجماع من العترة وفيهم إمامية يخالفون في ذلك؟ ثم أن العترة كيف يعلم إجماعهم مع انتشار أعدادهم في أقطار الأرض؟ وأي سبيل إلى العلم بهم، فكيف بإجماعهم ذكره ض [عبد الله الدواري] في تعليقه، ومثل هذا المعنى في إجماع العترة، ذكره السيد محمد بن إبراهيم() في كتابه (العواصم) وبسط القول فيه، وذكر من علماء العترة وأعيانهم خلقاً كثيراً في المغرب لا يطلع على مذاهبهم ولا أقوالهم.

وأمَّا الثاني: فبأنْ قيل إنما تثبت بذلك صحة ما يقولونه لو كانت المذاهب المذكورة حاضرة لا يمكن القول بغيرها، فحينئذ إذا بطلت إلا واحداً منها تعين الحق فيه، وأما حيث غيرها من الأقوال ممكن ولا حصر فيها لما يمكن أن يذهب إليه الذاهب فلا، بل يجوز بطلان غير ما ذهبتم إليه وبطلان مذهبكم وكون الحق في غير ذلك كله.

وأمَّا الإحتجاج بالخبر: فهو آحادي، ولا دلالة فيه على أن الدعوة هي طريق ثبوت الإمامة،  إنما يدل على وجوب طاعة الداعي.

وأُجِيبَ عما احتج به أهل العقد والاختيار بأن قيل: إنْ أردتم أنهم أجمعوا على ذلك معتقدين أنه الطريق إلى انعقادها فدلوا على ذلك، فلا سبيل لكم إلى تصحيحه.

وإن أردتم أنَّهُم أجمهوا على ذلك معتقدين بأنَّهُ الطريق إلى انعقادها على مجرد فعله فلا فزع لكم في ذلك، ونحن لا نُسَلِّم حسن الاختيار حينئذٍ، ولا عدم التناكر فيه، لأنَّ الإمامة في ذلك الحال ثابتة النص.

وأُجِيب عن حجة القائلين بنص الإمام: بأنَّهُ لا دليل على أنَّ الإمام الأول إليه ذلك، فإنه حكم شرعي، لا يثبت إلا بدليل شرعي ولا إجماع الدعي غير صحيح، فإن علياً عليه السلام  أنكره ولم يرضه هو وأتباعه، فكيف ينعقد الإجماع من دونهم.

قلتُ: ولا يخفى على المتأمل أن جميع أدلة أهل المذاهب الثلاثة المذكورة عن القطع بمراحل، وأنها إذا مُحِّصت وتأملت حق التأمل لم تنته بنا إلى يقين، ولا أفادت القطع الخالي عن التجويز والتخمين.

وأولى ما يُقال: إنَّهُ لا بد من الجمع بين الأمرين العقد والاختيار، والدعاء إلى الله تعالى، والانتصاب لهذا الأمر، وإشهار النفس له، وأن أحدهما لا يكفي في ثبوت الإمامة على سبيل القطع.

وأمَّا العقد فإذا فرضت حصوله وأن جماعة من أهل الحل والعقد اختاروا واحداً صالحاً للإمامة فعقدوها له، ونصبوه، واختاروه، ثم أغلق باب داره على نفسه وخمل ولم ينهض، ولا شهر سيفه ويدع إلى ربه، فليس من الإمامة في شيء، وأي نفع لذلك في أمر الإمامة وتكاليفها العامة، وما أحسن ما أثر عن موسى بن جعفر حيث قال: ليس منا أهل البيت إماماً مفترض الطاعة وهو جالس في بيته، والناس ......

وعن الإمام الحسين بن علي الفخي() أنَّهُ قال: مَنْ كان منَّا أهل البيت داعياً إلى كتاب الله تعالى، وإلى جهاد أئمة الجور، فهو من حسنات زيد بن علي، فتح والله لنا زيد بن علي الجنة وقال: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ} [الحجر:26].

وعن الإمام الجليل زيد بن علي أنَّهُ قال: (أيكون إماماً الجالس في بيته، المسبل عليه ستره).

وأما الدعوة فإذا فرضت حصولها لا عن مواطأة لأحد من أهل الحل والعقد، ولا رضي واحد منهم فغير بعيد ثبوت الإمامةواستقرارها، ولا تخلو الأمة عن التعلق به والمشاركة فيه والاحتجاج إليهم فيه.

فإن أجابوا، وبايعوا، ورضوا به، استقرت إمامته، وصحت دعوته، ولو () لم يقع ذلك منهم فلا صحة لدعوته ولا استقرار لها.

ويؤكد ذلك ما جرت عادة الأمة والأئمة من التشاور في هذا الأمر، والتواطؤ عليه وسبق الدعوة بالعقد والاختيار لا نجد إماماً قام غالباً إلا على هذه الكيفية المرضية، ولا يستحسن الإمام أن يبين للأمة أمرهم هذا، ويشتغل بالنظر فيه، ويجانب ما أمر الله به من المشاورة وندب إليه بها على سبيل العموم، ولا يفعل هذا من له تثبت في الأمور.

 ومثل هذا التكليف لعسير لا ينبغي أن يتسارع إليه إلا عن مشاورة ومفاوضة لأهل الحل والعقد، ومن له في صلاح الأمة والأمور المهمة جد وجهد، ولا يخلو الأمر عن أحد وجهين: إما أن يغلب على ظنه رغبتهم في ذلك إليه وأشد حاجتهم إياه، ففي ذلك تقوية لأمره وشد لأزره.

ومن سوء التدبير أن يحجب ذلك عنهم والحال هذه، فإن غلب على ظنه أنهم له كارهون، وعنه نافرون، وأنهم لذلك لا يُحبون فيه ولا يرغبون، فليس مثله من يقدم على أن يؤم الناس مع كراهتهم له، ولا صلاح في ذلك، وإذا كانت إمامة الصلاة تحرم على من عرف كراهة المؤمنين إياه مع سهولة المؤنة في ذلك، فبالأولى والأحرى أمر الإمامة الكبرى، والله سبحانه أعلم.

فائدة:

إذا جعل الطريق إلى ثبوت إجابة الإمام العقد والاختيار، فلا إشكال أن ثبوت إمامته يكون عقيب العقد لا قبله ولا بعده منفصلاً عنه.

وإذا جُعِلَ الطريق إلى ذلك الدعوة قيل (المهدي): فلا يصح أن يقال: إن ثبوت الإمامة يتأخر عن الدعوة، لأنه يؤدي إلى أن يدعو إلى من لم تثبت وجوب طاعته ولا تتقدم إذا لم يكن قد انعقدت قبل الدعوة، فيجب أن يقارن بها الدعوة لا تتقدم ولا تتأخر.

قُلْتُ: وفي هذا نظرٌ، وكيف يُقَارَن المتطرق إليه والطريق ويوصل إليه في حال سلوكها للتوصل إليه، والصحيح أن دعوته طريق إلى ثبوت الإمامة، وأن ثبوتها عقيب حصول الدعوة، وأن ذلك لا يمنع من تقديم الدعوة، بل يقال: من كملت فيه شروط الإمامة واستجمع خصالها، فله أن يدعو ويثبت حقه عند اتيانه بها ولا إشكال في ذلك، ويلحق بما ذكر بيان معنى الدعوة وبيان ماهيتها، وبيان صفة العقد والاختيار وكيفيته.

أمَّا الدعوة فقيل [المهدي]: هي أنْ يُظْهِر الرجل من نفسه الانتصاب لمقاتلة الظالمين، وإقامة الحدود، والنظر في المصالح العامة، ويدعو إلى ذلك، وقيل: التهيؤ للقيام بأمور الأمة والإمامة، والعزم على تحمل مشاق ذلك، والمباينة للكفرة والفسقة، مع كونه في موضع لا يكون لهم فيه سلطان عليه ولا يد، بحيث يمكن استحضاره إليهم، لا أن المراد أن يكون لا يأمن أن يوجهوا إليه العساكر، ويجوز أن ينالوا منه منالاً مع ذلك، فهذا لا يمنع صحة الدعوة.

قال: ولا يُشْترط في صحة الدعوة بألفاظ الدعاء كأن يقول: أدعوكم إلى كذا فأجيبوني وأطيعوا أمري، بل يكفي أن يظهر أنه قد عزم على القيام بأمر الإمامة.

قُلْتُ: المناسب لمعنى الدعوة أن يدعوَ الإمام إلى طاعته وإعانته، ومظاهرته مُخبراً بِتأهُّلهِ لتكاليف الإمامة وانتصابه لها، وما عدا ما ذكر فزاوئد ترجع إلى شروط صحتها، ومالا بد لصاحبها منه، والله أعلم.

وأما العقد والاختيار فصفته: أن يقول العاقدون للإمام: نصبناك لنا إماماً، أو رضيناك، أو اخترناك وعقدنا لك الإمامة، قيل ض [القاضي عبد الله الدواري]: ويقبل ما وجهوا إليه من ذلك.

قُلْتُ: أمَّا الاتيان بلفظ القبول فلا يُشْترطُ، وإنَّما القصد أن يقبل ثقتهم إياه بقول أو فعل أو شروع مما يفهم به عدم الرد، ولا يُعْتبر منهم زيادة على ما ذُكِرَ.

قال الحاكم: وصفقة اليد ليست شرط في العقد، وإنَّما الشرط أن ينطق كل منهم بنصبه إماماً، أو ينصبه واحد منهم، ويرضاه الباقون، وإن لم يصدر منهم كلام، واختلف في عدد الناصبين، فالذي ذهب إليه أبو علي وأبو هاشم وقاضي القضاة والجمهور من معتبري العقد والاختيار، أنَّهُ لا بد أن يكونوا خمسة اعتباراً بالعقد لأبي بكر، فإنَّ العاقدين له عمر، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن بن عوف، وأسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وفي فائق ابن الملاحمي() الخمسة: عمر، وأبو عبيدة، وبشير بن سعد، وأسيد بن حضير، وسالم مولى أبي حذيفة().

وقيل: لا بد أنْ يكونوا ستة، كعدِّ أهل الشورى، الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم، وهو ضعيف، لأن قصد عمر أن يعقد خمسة منهم للسادس إذ لا يتهيأ غير ذلك.

ولذلك أحتج به لاعتبار الخمسة: وقيل: أربعة عدد شهود الزنا.

وقال أبو القاسم البلخي في آخرين ثلاثة، لأن عمر قال في أهل الشورى: فإن افترقوا في الرأي نصفين، فالثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.

وقال سليمان بن جرير وآخرون معه: يكفي اثنان قياساً على الشهادة، وعن بعضهم: يكفي واحداً، وعزا هذا إلى الشيخ أبي الحسين وابن الملاحمي ورووا أنه عن الشيخ أبي علي.

وفي شرح مقدمة البحر عن الشيخ أبي القاسم: أنَّه يكفي بيعة واحد للإمام وإن لم يرض غيره، فأما مع رضا أربعة عند تعيين الخمسة فذلك كافٍ اتفاقاً بينهم، وذكر أنَّ أبا القاسم احتج بأن بشيراً بايع أبا بكر قبل استقرار رضا الجماعة، فرأوا أن أمره قد ثبت ببيعته فبايعوه، وأن العباس قال لعلي كرم الله وجهه في الجنة: أمدد يدك أبايعك قبل أن يراضي غيره في ذلك.

ولم ينكر عليه، وأن عبد الرحمن بايع عثمان قبل مراضاة بقية أهل الشورى، وقد رد ما ذكره بأن أبا عبيدة وبشيراً بايعا أبا بكر بعد مراضاة بقية الخمسة، وأن ابن عوف ما بايع عثمان إلا بعد مراضاة بقية أهل الشورى.

وقد سبق أنَّهُ يكفي قول العاقدين: نصبناك أو رضيناك، وإن لم تقع ولا صفقة يد.

وقال الإمام المهدي عليه السلام : ظاهر أخبار السقيفة تقضي بأن النصب لا يكون إلا بالبيعة، والبيعة إعطاء العهد على أقرب الأمور، واستظهر عليه بقول أبي بكر: (بايعوا أحد هذين الرجلين) ولم يقل: انصبوا، وبقول العباس رضي الله عنه لعلي كرم الله وجهه في الجنة:امدد يدك أبايعك، وبالآيات المذكور فيها البيعة كقوله تعالى: {إنَّ الَّذِيْنَ يُبَايِعُوْنَكَ} [الفتح:10] {إذا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة:10]، وبمبايعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  بشماله() -إصفاقاً بها على يمينه-، عن عثمان في بيعة الرضوان، فأخذ من ذلك أن العقد بالبيعة بصفق اليد على اليد ووضعها فيها.

قال: وهذا يقتضي أنها لا تنعقد بمجرد قول العاقد: نصبتك، ونحوه.

قُلْتُ: وهذه مآخذ ليست بالقوية، والذي فعل يوم السقيفة إنما هي صورة فعل لم يدل دليل على اعتبارها، وتوقف عقد الإمامة عليها، وذكر المبايعة في قصة بيعة النساء وبيعة الحديبية للدلالة فيها على أن مثل ذلك يعتبر في انعقاد الإمامة.

تنبيه:

حكى الإمام يحيى عليه السلام  في كيفية البيعة أنها إنما كانت مجرد لمس الكف بعد المواطأة على ما تعاقد عليه المتبايعان من دون لفظ يقعد عند وضع اليد على اليد، انتهى.

والظاهر أنَّهُ لا بُدَّ في البيعة من النطق، وأنَّها من قبيل القسم والعهد، وبذلك جرت العادة، وليس لوضع اليد حكم يلزم، ولا يقع به انعقاد المبايعة، وتأكيد أمرها.

وإنما ينضم إلى العهد تصويراً للترابط والتلازم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تنبيه:

لا يُعتبر في العاقدين للإمامة وغيرها كونهم من أهل الاجتهاد، وإنما يعتبر منهم العدالة، وكونهم غير مخلين بما يلزم علمه من أصول الدين وغيره، وعلمهم بالأوصاف المعتبرة في المنصوب وصلاحيته لذلك.

قال القاضي: ذكر معنى ذلك في (المحيط) () ودليله أمْر العاقدين لأبي بكر وأهل الشورى، فإنهم لم يكونوا كلهم أهل اجتهاد، وكانوا على الصفة التي ذكرنا.

تنبيه آخر:

وهل يشترط إجماع العاقدين عند العقد والرضى به أولا؟

قال بعض القائلين به: لا بد من إجماعهم، لأن العقد الذي احتج به ووقع في زمن الصحابة رضي الله عنهم كان كذلك، وذكر ذلك القاضي أبو مضر().

وقال بعضهم: لا يشترط ذلك، ويصح مع كون كل واحد منهم عقد له وحده، أو رضي به، ولو كان غائباً بأن يأتي بذلك كتابه أو رسوله.

تنبيه آخر:

لو وُكِّلَ عدد العقد المعتبرون غيرهم أن يعقدوا له، وينصبه، أو واحد منهم، هل يصح ذلك ويكفي أو لا؟

قيل: لا بد أن يتولوا العقد، ولا يصح أن يوكلوا غيرهم، وقال محمود الملاحمي: صفة عقد الخمسة أن يوكلوا واحداً منهم ليعقد، أو يرضوا بعقده، لا أن يعقدوا جميعاً.

وقال في (المحيط): المعتبر في ذلك رضا الناصبين، [سواء] كان بعقدهم جميعاً، أو عقد أحدهم ورُضِيَ الباقون، قال: ولا يحتاج في ذلك إلى إيجاب وقبول ولا اعتبار بالضرب باليد وضرب الكف على الكف.

تنبيه آخر:

هل لمن عقدت له الإمامة أن يعزل نفسه، ويعتزل عما ولي فيه في وجه الناصبين أو في وجه عدد غيرهم، كعددهم ممن يصلح للعقد، كما ان هذا الحكم ثابت لكل منصوب في غير الإمامة؟

قيل ض [القاضي عبد الله الدواري]: ويُحْتمل خلافه مهما كان واجداً للأعوان على تنفيذ الأحكام الإمامية أو شيء منها، وهو الظاهر من كلام أئمتنا عليهم السلام .

وأمَّا الناصبون فهل لهم أن يعزلوا من نصبوه أو لا؟ أما في غير الإمام فقيل: تصح، وقيل: لا.

وأما الإمام فلا يصح ذلك فيه، لأنه بالنصب قد صارت له الولاية عليهم والحكم فيهم بما رآه، لا أن الحكم لهم عليه، وهذا كله مع استقامة حال المنصوب.

قيل: فأمَّا مع اختلاف حال المنصوب إماماً أو قاضياً، بحيث لو اطلع عليه قبل العقد لم يعقدوا له فلهم أن يعزلوه، بل لا يبعد انعزاله من غير عزل، والله أعلم.

القول في شروط الإمام والصفة التي يجب أن يكون عليها

اعلم: أنَّ الإمام لا بُدّ أن يكون متميزاً على سائر الناس، لأنه بعد انعقاد الإمامةيكون أفضل الناس، وإنما النظر فيمن نُصّ عليه: أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام ، هل يعتبر الشروط فيهم أو لا؟

ذكر القاضي عبد الله الدواري: أنَّ إمامتهم لما ثبتت بالنص لا تحتاج إلى شروط، قال: فلو قدرنا أنه لم يكن فيهم كل الشروط أو بعضها لم يقدح ذلك في إمامتهم، وإن كان معلوم أنها فيهم أكمل.

قُلْتُ: هذا وَهْم، لأنه ما ثبت اشتراطه في حق الإمام وكانت الإمامة تتوقف عليه، فلا بد منه ولا سبيل إلى بطلان اشتراطه في حق الإمام.

 ونقول: لا يجوز أن ينص إلا على من هو كامل، فإذا وقع النص دلَّ على كمال الشرائط، فلا تفتقر إلى البحث عنها، إذ لا يجوز أن ينص الحكيم على من هي مختلة فيه.

وليس النص على الإمامة بأبلغ من إظهار المعجز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،  ومِنَ المعلوم أنه لا يجوز أن يقع الوحي ويظهر المعجز إلا على من جمع الشرائط التي لا بد أن يكون الإمام عليها، فإن فرض أن النص وقع على من هو خال من بعض ما ذكر اشتراطه دل على أنه غير شرط، وأن شروط الإمامة لا تتوقف عليه.

واعلم أنَّ شرائط الإمام تنقسم إلى خلقية واكتسابية.

أ شروط الإمام الخلقية:

فأمَّا الخلقية: فأن يكون ذكراً، حراً، بالغاً، عاقلاً، ذا منصب مخصوص.

 فالأربعة الأول متفق عليها، ومجمع على اشتراطها، قال الإمام المهدي عليه السلام : لا يقدح في الإجماع على ذلك خلاف العباسية()، وقولهم: بأنَّ طريقها الإرث، وأنَّهُ يستلزم استحقاق الطفل والمرأة لها، فإنه قول حادث لا التفات إليه ولا تعويل عليه، ولأن المقصود بالإمام يتوقف على ذلك، لأنه إن لم يكن على هذه الأحوال لم يتمكن من التصرفات المقصودة منه، ولا يكمل فيها، ولأن المرأة فرض عليها الاحتجاب وعدم الخروج من الجلباب، وأن لا تسافر إلا بمحرم مرضي، ولا تتمكن من مباشرة الناس ومخالطتهم على الوجه السوي، وصوتها قد يحرم استماعه، ومناجاتها ومخالطتها قد يفضي إلى أمور محظورة.

ولقد بلغ أنَّ امرأةً كانت لها نهضة وفراسة وعلُّو همة، وكانت تقهر الأعادي، وتأسر الرجال، فأسرت مرة أسيراً وشدت وثاقه، وأحرزته في دارها، وكان يرقد معها في منزلها، فكان من بعد مدة أن ظهر حملها، وعلقت منه، فسئلت؟ فقالت: السبب قرب الوساد، وطول السواد.

 فهل مثل هذا الجنس يصلح للنظر في حال الأمة عموماً، وتجهيز الجهاد والغزوات، وتسهيل الحجاب، والنزول لأهل الحاجات، ونحو ذلك.

وأما الطفل والمملوك والمجنون فليس إليهم تولي أمر نفوسهم فضلاً عن أمر غيرهم.

وأما المنصب فمذهب أكثر الأمة اعتباره، وذهبت الخوارج إلى صحة الإمامةفي جميع الناس ما خلا المماليك، وروي مثل هذا عن النظام، ورواه الجاحظ عن كثير من المعتزلة.

وقال به طائفة من الصحابة، منهم سعد بن عبادة، وغيره من الأنصار، ولعمر بن الخطاب كلام يقضي بأن هذا رأيه، وهو قوله: ولو كان سالم مولى حذيفة حياً ما خالجتني فيه الشكوك، وبه قال نشوان بن سعيد()، وزعم أنه أعدل الأقوال، وبالغ ضرار وغلا فذهب إلى أن كون الإمام من الأعاجم أولى من أن يكون من غيرهم، لأن إزاحته عنها أيسر إذا دعت حاجة إلى ذلك.

والقائلون باعتباره اختلفوا، فقالت المعتزلة والصالحية() من الزيدية فيما رواه عن الصالحية ابن الملاحمي والفقيه حميد() وغيرهما، وهو قول طوائف أهل الجبر والإرجاء: يجب أن يكون قرشياً.

وقال الشيخ أبو علي وهو مذكور في (المحيط): إذا لم يكن في قريش من يصلح للإمامة صحت في غيرهم.

وقال جمهور الزيدية والإمامية: يجب أن يكون فاطمي الأب، أو الأم والأب.

قيل [الإمام يحيى بن حمزة]: عن قوم من زيدية خراسان: يجوز أن يكون الإمام عباسي الأب فاطمي الأم.

قال: وهذا قول مُحْدثٌ قد وقع الإجماع من أئمة العترة والزيدية على خلافه.

والذي استدل به على اعتبار المنصب على سبيل الجملة إجماع الصحابة على اعتباره بعد منازعة الأنصار لقريش، وطلبهم أن يكون فيهم لما هم عليه من السالفة الحسنة، فلما احتج أبو بكر عليهم بالقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قبلوا ذلك واستسلموا له وبايعوه وانقطع الخلاف، واستدل بثلاثة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

الحديث الأول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قدموا قريشاً ولا تقدموهم، الأئمة من قريش)) ()، فلو ثبت إمام من غيرهم لم يصح العموم.

الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الولاة من قريش، ما أطاعوا الله واستقاموا لأمره)) ().

الحديث الثالث: قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((قدموا قريشاً ولا تؤخروهم)) ().

 فلو أقيم إمام من غيرهم لكان فيه ارتكاب ما نهى عنه من تأخيرهم والإخلال بما أمر به من تقديمهم، واحتج غير المعتزلة له بأنه يعلم ضرورة إمكان قيام إمام غير قرشي، وجمعه للشرائط، وإمكان قيامه بما ينصب الإمام لأجله ولا دليل على اعتباره.

وأمَّا الإجماع: فغير مُسلّم، فإنَّ الأنصار لم تنقطع منازعتهم في ذلك، ولا أذعنوا فيه، ولا اعترفوا بالخطأ، وبايع بعضهم سعد بن عبادة   ولم يقتضِ بطلان أمْره بعد أن بايعه كثير من الأنصار إلا حسد ابن عمه بشير له ومسارعته إلى بيعة أبي بكر، فكان أول من بايعه فاتبعته الأنصار وازدحموا على بيعة أبي بكر، ورفض المبايغون منهم سعداً بيعته، وكان سعد حينئذ مريضاً، فقيل: لا تطؤا سعداً ولا تقتلوا سعداً، فقال عمر: اقتلوا سعداً قتله الله، فقام قيس بن سعد بن عبادة، فلزم بلحية عمر وقال: لو نذرت منه شعرة أخذت ما فيه عيناك، وقال سعد لعمر: والله لولا المرض لتسمعن لسعد زئيراً كزئير الأسد، يخرجك منها إلى أصحابك إلى حيث كنتم أذلة صاغرين، وما بايع سعد أبا بكر ولا عمر، وخرج إلى الشام مغاضباً لقومه حين خذلوه فمات فيه في خلافة عمر، وللأنصار أشعار تدل على عدم الرضا والتأسف لخذلان سعد، وتقضي بعدم انقطاع نزاعهم.

 قالوا:وأما الأحاديث الثلاثة فهي أحاديث غير متواترة ومعارضة بما يقضي بخلافها، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أطيعوا السلطان ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع)) ()، وقول عمر في سالم وقد تقدم ذكره.

 قال المهدي عليه السلام : وهذه الاعتراضات  فادحة بغير تردد سيما إذا لم يكن الخبر الأول متواتراً قال: وإن حكمنا بتواتره فليس دلالته قطعية إذ لا تصريخ فيه بتحريمها في غيرهم ويحتمل الأولوية().

قُلْتُ: وأما الخبران الآخران فدلالتهما أضعف، وهما دون الأول في الاشتهار.

قيل [القاضي عبد الدواري]: وقد ذكر بعض أئمة الحديث أن الخبر الأول موضوع لا أصل له، وروى بعض من كان في السقيفة: إن هذا الخبر لم يذكره أبو بكر ولا احتج به، ولو كان صحيحاً ما قال عمر في سالم ما قال، واحتج أصحابنا بالإجماعين: أحدهما: إجماع العترة على ذلك، وإجماعهم حجة.

والثاني: إجماع الأمة على أنها جائزة، ولا إجماع في حق غيرهم، وهو حكم شرعي، لا يثبت إلا بدليل، ولا دليل على ثبوت أهلية الإمامة لكل الناس، ولا لجملة قريش، إذ لا قرآن في ذلك، ولا سنة متواترة، ولا صريحة المعنى بما تقرر، ولا إجماع.

وأما الفاطميون: فالإجماع منعقد في حقهم، فإن القائلين بأنها في جملة الناس أو في جملة قريش قائلون بذلك في حقهم، وهذا الاستدلال كما ترى().

أما أولاً: فلأن تحقق الإجماع في حق الأمة، وفي حق العرة مشكل، كما سبقت الإشارة إليه فلا إجماع.

وأما ثانياً: فلأن خلاف الإمامية كافة تستمر في ذلك، ومنهم طائفة من العترة فلا إجماع.

ثالثاً: فلأنَّ....... () ذكر عن الأمة لا يعد إجماعاً على هذا المذهب الشريف، لأن حاصله جوازها فيهم وعدم جوازها في غيرهم.

فلو صحّ الإجماع لم يكن إلاَّ على الطرف الأول فقط، وقد لخصنا هذا المعنى في كتابنا (المعراج) وأشرنا فيه إلى تقويم الإعوجاج، ولم نقف لأصحابنا في هذا المعنى على ما يشفي الآوام، ويذهب الأوهام، ويقطع اللجاج، ولقد عجبنا من كلام الإمام يحيى عليه السلام  في هذه المسألة واحتجاجه بأنه لا خلاف بين أئمة العترة والمعتزلة والأشعرية على صلاحيتهم للإمامة.

قال: ولا يقال: أليس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ((الأئمة من قريش)) ()، وفي ظاهر هذا الحديث دلالة على كون الإمامةجائزة في جميع بطون قريش؟ فلا يجوز العدول عنه، لأنَّا نقول: هذا فاسد، فإن في ظاهر الحديث ما يدفع هذه المقالة، فإنه قال: الأئمة، و(من) هنا للتبعيض، ولا شك أنَّ الفاطمية بعض قريش، فلهذا قصرناها في حقهم.

 هذا جميع ما أورد عليه السلام  في كتابه (الإنتصار) () على سعة بسطه فيه، وما أجل هذا الإمام عن تفصيل ما يرد على كلامه هذا من التضعيف والتزييف، من تأمل ذلك من أهل التمييز لم يعرب عنه، والله تعالى أعلم.

واحتج الإمام المهدي عليه السلام  في (الغايات) بطريقة عقلية تحريرها: إن الإمامةرئاسة عامة يكمل المقصود بها، لكمال انقياد الناس لصاحبها وينقص بنقصانه، ولا شك أن انقياد الناس للرئيس الذي من أشرف مناصبهم أقرب في العادة من انقيادهم لغير الأشرف، ولا نزاع في أن أولاد البطنين أشرف مناصب العرب، وذلك يوجب على المكلفين اعتبار المنصب في الإمام وتكلم على أصول هذه (المسألة) () الدلالة ومقدماتها، وبسط() في ذلك وادعاً في بعضها أنَّهُ معلوم ضرورة، واحتج على البعض قال: وهذه الطريقة حجة عقلية قطعية، ولم يسبقنا إليها غيرنا.

وأقول -والله يحب الإنصاف: العجب مما ادعاه، ولعمري أن هذه الدلالة جديرة بأن لا تفيد الظن فضلاً عن أن تفيد القطع، ثم كيف يحتج بدليل عقلي على فرع من فروع مسألة شرعية غير عقلية لم يثبت أصلها إلا بالأدلة السمعية؟! وإذا كان الأصل غير عقلي فكيف يكون الفرع عقلياً؟ وإنما هذا من قبيل التعسف وعنه مندوحة.

فائدتان:

 الفائدة الأولى:

إنما يصح نسب الداعي، ويصح به كونه فاطمياً، وهو يثبت بالشهرة، واختلف في معناها، فقيل: تواتر المخبر بذلك حتى يحصل العلم الضروري، وقيل: أن يتكلم به أكثر أهل تلك المحلة أو البلدة التي هو فيها ولو لم يحصل العلم به، وقيل: حيث يكون المخبرون بذلك خمسة فصاعدا، ومما يثبت به نسبه حكم حاكم معتبر، وهو أبلغ دليل على صحة النسب، وبأن يخبر عدلان أنه مشهور النسب في محله أو جهته، قيل: وبأن يخبر عدله أنه على فراش فاطمي، وقيل: عدلتان، وقيل:....().

الفائدة الثانية:

 إذا تزوج فاطمي مملوكة فحصل الجواز بأن يكون ولدها ذكراً ثم عتق، هل تصح إمامته، وتثبت كفاءته، لمن لم يمسه الرق أو لا؟ قيل: لا، وقيل: نعم، وفُصِّل فقيل: أمَّا الكفاءة فلا، وأمَّا صحة الإمامة فنعم، قيل [القاضي عبد الله الدواري]: وهو الصحيح.

 ويلحق بهذه الفائدة ما إذا اشترك فاطمي وغيره في وطيء أمة مشتركة بينهما فجاءت بابن فادعياه، قال أبو مضر: لا تصح إمامته، وقيل: لأنه لكل واحد منهما ابن، وكل واحد منهما له أب، بل ويحرم عليه ما يحرم على بني هاشم، والله أعلم.

ب الشروط الإكتسابية:

وأما الشروط الإكتسابية فهي:

العدالة، والورع، والسخا، والشجاعة، وحسن التدبير، والعلم، وألا يتقدمه داع مجاب، ونحن نتكلم فيها واحداً واحداً.

أما العدالة والورع: فهما في الحقيقة شرط واحد، فإن الورع يتضمن العدالة وينطوي عليها، وقد يعدان شرطان نظراً إلى أن العدالة يراد بها السلامة من الأمور المكفرة والمفسقة، وما ينقص العدالة مما عدا ذلك، والورع يرجع إلى التحري في الحقوق والأموال والتصرفات، وقد عدهما الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام  شرطين، فجعل معنى العدالة: أن لا يكون الإمام كافراً صريح ولا تأويل، ولا فاسق تصريح، يتلبس بالكبائر الفسقية، وينهمك فيها، ويستعمل الفواحش، لأن المقصود المهم منه إزالة المعاصي الكبيرة، فمن فعلها فكيف يكون منصباً للإمامة وحاصلاً عليها؟

فكيف يقوم الظل والعود أعوج؟

ولا فاسق تأويل كالخارجي والباغي ونحوهما، فمثل الإمام من يبعد عن هذه الأمور، وادعى الإجماع من جهة الصدر الأول من الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، على الإمام لا تجوز إمامته إلا إذا كان عدلاً مجنباً عن الخصال الكفرية والخصال الفسقية من جهة الخوارج، ومن جهة التأويل على ما فصلناه، واحتج على ثبوت الإجماع بقيام الصدر الأول على عثمان لما نقموه منه، قال: وإن لم يقطع بكونه فسقاً حتى أفضى الأمر إلى قتله.

وفيه دلالة على أنَّه لا بُدَّ من اعتبار العدالة، وحسن السيرة، فإن على الخليفة أن يقفو أثر المستخلف، وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  ومن كان بعده من الأئمة السائرين بسيرته المقتفين لأثره.

قُلْتُ: وقد حكى القاضي عبد الله الدواري عن بعضهم القول بصحة إمامة كافر التأويل وفاسقه، قال: وقال بصحة إمامة الفاسق أهل خراسان، ومن كان من البغدادية، قال: ويقرب أن الخلاف في فاسق التأويل يجري على صفة الخلاف في قبول شهادته.

قُلْتُ: وخلاف الحشوية في صحة إمامة الفاسق المتغلب على الأمر ظاهر، ولهذا قالوا: بإمامة يزيد() الخمور متبع الفجور، الفاسق، المارق شديد الجرأة على الله تعالى، الذي هتك ستور الإسلام بوقعة كربلاء، ووقعة الحرة وغير ذلك.

وقيل: إنَّهُمْ لا يخالفون في اعتبار العدالة عند عقد الإمامة، وإنما خلافهم في الفِسق الحادث بعد انعقادها.

قال الإمام المهدي عليه السلام : وقد قال بمقالتهم بعض الفقهاء كالنووي، فإنه نص على ذلك في المنهاج، وصرح به في الروضة.

قُلْتُ: وذلك ظاهر عنهم ولا يبعد أن يكون مذهباً لأهل مذهبه كافة، وقد يؤول بهم هذا المذهب الشنيع في ظاهره على أن القصد ثبوت أحكام الإمام له بثبوت وجوب طاعته في غير معصية الله تعالى، ونفوذ أحكامه المطابقة لشرع الله، ونحو ذلك، لئلا يقع التنازع وانشقاق العصا وما يتفق من المفاسد لسبب ذلك، لا أنهم يقولون بأنه إمام في نفس الأمر ثابتة فيه أحكام الإمامة حقيقة.

قُلْتُ: ويُؤْخَذ من مذهبهم أن الذي عليه أئمة الهدى من الخروج على الظلمة ومنابذتهم خطأ ولا يعتقدون إمامتهم، بل ليت أنهم سلموا ولم يتعاطوا ملامتهم، وما هو إلا مذهب شنيع ورأي فضيع، وتأوله بعيد، وتيسيره غير مفيد، فالله المستعان على زلات العلماء الأعلام الأعيان، ومن المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم لما خاضوا في أمر الإمامة وتنازعوا إلى عد الفضائل، وصدر منهم ما يقضي باعتبار الأفضل، وقال عمر لأبي بكر لما قال بايعوا أحد الرجلين يعني عمر وأبا عبيدة: أتقول هذا وأنت حاضر.

ولأنَّ المقصود من الإمامة إقامة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وحراسة الإسلام وصيانة الدين، فكيف يتهيأ مع جهل الإمام وفسقه؟! إنما كلامهم هذا رد للإمامة إلى حكم السلطنة والله أعلم.

واعلم: أنَّهُ لا بُدَّ من اعتبار ما يعتبر في العدالة من غير ما ذكر، وذلك تنزيه نفسه عن بعض المباحات كإفراط الضحك، وكثرة المداعبة والمزاح، والبول في السكك والشوارع، واللعب بالحَمَام، لأنه لا ينبغي أن يشتغل [إلا] بأمور الدين، والنظر في أحوال الناس، وقضا حوائج المسلمين، ويجب أن يتنزه عن الصغائر المستخفة كما ورد في التطفيف بحبة، وسرقة بصلة، وإذا كان مثل هذا يعبر في حق الشاهد، فاعتباره في حق الإمام أولى وأحرى.

قال الإمام يحيى: لأنه إذا كان بإحراز منصب الإمام أفصل الخلق، فينبغي أن يكون أقوم الخلق في حق الله تعالى، وأطوعهم له، وأعظمهم منزلة عنده، ولا يتعاطى مثل تلك المباحات والصغائر المستخفة مما تقل المهابة، وتسقط المرتبة، وتطرد التهمة في الدين، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم.

قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : وأما الورع فهو ملاك الصفات، وعليه التعويل في أكثر تصرفات الإمام، فإنه مهما كان ورعاً عن الوقوف في المحرمات كانت أموره وتصرفاته جارية على قانون الشريعة المطهرة من غير مخالفة، فيأخذ الأموال من حلها، ومن حيث أمر الشرع بأخذها منه، ويضعها في مواضعها.

قُلْتُ: والأصحاب يحتجون بقوله تعالى: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، في جواب إبراهيم عليه السلام ، ووجه الاحتجاج بها مذكور في (الكشاف) وغيره من كتب الكلام وفيه كفاية.

وأمَّا السخاء: فالْمُعتبر منه أن يضع الأموال في وجوهها، ولا يبخل بها عن ذلك، ولا يستأخر بها بخلاً وضنة.

قال الإمام يحيى بن حمزة: ولا يقدح في ذلك أن يدخر شيئاً من الأموال لنائبة من النوائب، وحادثة من الحوادث، تنجم عليه من الظلمة والبغاة فينفقها فيها.

قال: ولا يُشْترط تجاوز الحد في الكرم، قيل [المهدي]: ولا أن يسخى ببذل ماله الخالص، ووجه اشتراط هذا الشرط أنه لو لم يكن سخياً بالغنى المذكور كان مخلاً بالواجب، وهذا ينافي الورع، ولهذا قيل بأن هذا الشرط يدخل في اشتراط الورع، ولأن من المقصود من نصب الإمام أخذ الحقوق من أهلها ووضعها في مواضعها، فمخالفة ذلك خلاف المقصود.

وأمَّا الشجاعة: فمعناها أن يكون مجتمع القلب عند الحرب وملاوثة العدو، وبحيث لا يكون فرقاً جباناً، طائش الفؤاد، منزعج الصدر على حال لأجله يمتنع منه الثبات في القتال، ويقتضي عدم اتساع الصدر لعظم القلق والإشفاق.

هكذا فسر الإمام يحيى عليه السلام  هذا الشرط وهو تفسير حسن، وهو بمعنى ما ذكره غيره، ونص عليه الناصر للحق عليه السلام  وكثير من المتكلمين، وأما ما روي عن الهادي إلى الحق عليه السلام : إن معنى الشجاعة أن يحمل على الألوف، ويخلط الصفوف بالصفوف، لا يهاب الجمع والإقدام عليه قلوا أو كثروا، فلعله عليه السلام  أراد التعريف بأبلغ أنواع الشجاعة وغاية الأمر فيها، ويبعد أن يجعل مثل هذا شرط، ولو حكم باشتراطه لقدح ذلك في إمامة كثير من الأئمة المعتبرين، وقل ما يكون الإنسان على هذه الحالة، ووجه اشتراط الشجاعة أنّ لو لم يكن الإمام كذلك لم يؤمن أن ينهزم حال ملاقات العدو لجبنه ودهشه، وفي ذلك وهن في الدين، وتقوية لأمر المعاندين، وقد قال تعالى: {ومَنْ يُوَلِهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الآية [الأنفال:16]، فكيف يكون حال الإمام إذ آل إلى هذا المآل، ولأن الجبن يصد عن أمر الحرب وتدبيره على وجه يقع به نكاية العدو، وعن إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام على كبراء الناس وعظمائهم، وهذا يخالف الغرض بالإمامة.

وأمَّا التدبير وحسن السياسة قيل [المهدي]: وحقيقة التدبير معرفة الطرق التي يتوصل بها إلى الأنواص على وجه لا ينكره من عرف وجه سلوكها توصل، لو بها أقرب ما يتوصل به ذلك الطالب إلى ذلك المطلوب بحسب حاله وسواء وصل إليه أو لا؟

قُلْتُ: والقصد أن يكون له رأي قويم، وتدبير سديد، فإن تعدي الرأي الصائب يجلب أنواع المصائب، ولا بُدّ أن يكون معروفاً بحسن السياسة التي معها يتمكن معها من تمهيد الرئاسة وتدبير أمر الحرب والسلم، وإقامة قانون الحرب مهما كان أرجح وأصح، ويكون مع صواب السلم إليها أجنج، كما فعل صلى الله عليه وآله وسلم  في إقامة الحرب وشن الغارات على من خالفه، وكما سالم يوم الحديبية في إقامة الحرب عشر سنين، لما رأى في الصلح للمسلمين حيث كان الضعف حاصلاً فيهم، فانكشف في ذلك الصلح الخير والبركة، فهكذا يكون حال الإمام والمشترط أن يكون أكثر رأيه الإصابة في الحرب والسلم والسياسة.

قيل [القاضي عبد الدواري]: ويدل على أن الإجماع ينعقد من الأئمة على اشتراط ذلك، ولأن كونه على غير هذه الصفة ينقض الغرض بإمامته، ولا يتمكن حينئذ من ضبط الجنود وتقويم أود العساكر، ولا يهتدي إلى ما فيه صلاحهم وتنتظم به أمورهم، وتكون به نكاية العدو أو جلبه إلى الطاعة.

وأما الاجتهاد وبلوغه في العلم إلى درجته: فقد اختلف فيه، والمشهور عن أكثر الأمة أنه لا بد من أن يكون عالماً مجتهداً، والمعتبر ما يحرز به نصاب الاجتهاد، ولو احتاج في بعض الأحوال إلى أن يراجع غيره في بعض المسائل ويستمد منه، إذ لا يقدح ذلك في اجتهاد المجتهد، والخلاف فيه من وجوه:

أحدها: ما ذهب إليه الإمامية من اعتبار أن يبلغ في العلم والاجتهاد إلى حد لا يحتاج معه إلى غيره من العلماء في شيء من المسائل، بل شرطوا أن لا يأخذوا شيئاً من العلوم إلا عنه، وربما اشترطوا أن يكون أعلم الناس.

وثانيها: ما ذهب إليه الغزالي وصرح به الإمام يحيى بن حمزة في (الانتصار) وحكاه في (الغايات) عن المؤيد بالله عليه السلام  أنه إذا أعوز المجتهد فلم يوجد صحت إمامة المقلد لئلا تعطل الأحكام المتعلقة بالإمام.

وثالثها: ما ذكره في بعض تعاليق الشروح من أنه روي عن المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام ، فإنه روى رواية غير مشهورة، وأن الفقيه حميد بن أحمد رواه عن بعضهم رواية مبهمة، وهو أنه إذا كان للإمام تمييز وترجيح للأقاويل وعرفان لوجه القول، وإن لم يبلغ في العلم درجة الاجتهاد كالحال التي عليها أكثر أهل البصائر فهو المقصود والمعتبر، فأمَّا المقلد الصرف الذي لا عرفان له بوجه القول ولا هداية إلى ترجيح قول على قول، ويقرب أن إمامته لا تصح، حكاه القاضي عبد الله الدوَّاري قال: وهو القوي، لأن كثيراً من الأئمة الماضين من الصحابة وأهل البيت دعوا إلى الإمامة مع قصور علمهم ولم ينقم عليهم ذلك.

قال: وإنما الذي يشترط بلوغه فيه درجة الاجتهاد والاستقلال بحيث يرجع إليه هو التدبير.

قلتُ: وقد وقفت للقاضي المذكور في كتاب (الشريدة) وكتاب (تعليق الأصول) في النسختين المستنسختين من المسودتين على التصريح باشتراط الاجتهاد، فلما استرجح هو ومن حضره نصب المنصور بعد موت والده الإمام الناصر لدين الله عليه السلام ، وكان القاضي في هذا الرأي هو العلم المشهور المرجوع إليه فيه خدش بيده ما ذكره في كتابيه المذكورين من التصريح باشتراط الاجتهاد، ورقم في الهامش بخطه إجازة إمامة المقلد فلم يحترز عن النقادة في ذلك، فنعوذ بالله من اتباع الهوى ومحبة الدنيا.

وهذا القاضي على كماله ومحاسن خلاله وسعة علمه ووفور حلمه، كانت منه هذه الهفوة التي خالف فيها قواعد أهل مذهبه من أئمة العترة وعلماء شيعتهم، فقد كانت عادتهم ألا يقدموا على نصب الإمام إلا عن مشورة واتحاد رأي، وإن جرت معارضة ممن يتعاطى العلم من أهل المعرفة كما كان في مدة الإمام يحيى بن حمزة والإمام علي بن محمد من المعارضات وقبلهما، فلما جرت هذه القضية فتحت باب التنازع والتساهل، ونشأت بها مفاسد، وانهدمت قواعد، ولو كان هذا مذهباً للقاضي المذكور من ابتداء أمره وقوله واحتوت عليه مصنفاته السابقة لهذه القضية الخارقة لكان الأمر أهون، وإن كان يقتضي ما ذكره الأصحاب أن ذلك خرق للإجماع، على أن المنصور المذكور لم يكن يوم نصبه على ما ذكره من إحراز نصاب الترجيح، وقد أشار إلى ذلك الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى عليه السلام  في (الغايات) فإنه حكى قول المؤيد بالله والإمام يحيى بن حمزة والغزالي، قال ما لفظه: ولقد تطرق أهل محبة الدنيا بهذه المقالة إلى أن سهلوا طريق الإمامة حتى ولوها من لم يعرف فروض صلاته وصيامه، ولا عرف من أصول دينه أصلاً، ولا يدرك من سياسة الأمور فصلاً، بل اتخذوه أميراً وهو في التحقيق مأمور.

قلتُ: ليس في مذهب الإمامين المؤيدين والغزالي ما يسوغ لهم مثل هذا، وأما ما ذكره في سياسة الأمور وأنه غير أمير بل هو مأمور فلعله() عرف ذلك من حاله يوم نصبه، والذي يظهر لنا -والله يحب الإنصاف- أن فراستهم فيه صدقت في هذا المعنى، وأنه بلغ في أحكام السياسة وأحكام الرئاسة والاستقلال في الأمور وحسن المباشرة مبلغاً عظيماً، لا يطمح وراءه، وقد كان له من العنايات الجليلة والمقامات الجميلة في حرب سلاطين اليمن ونكاية الإسماعيلية، واخلائهم عن المعاقل العظيمة وغيرهم من الظلمة ما لم يكن لأحد غيره، وكان له من محاسن الصفات ومحامد السمات ما لا خفاء به، فليت أنه نجى من قضية معبر، وما كان في يومها الأغْبَر، ولنعد إلى أصل الكلام، ونقتصر على هذا القدر فيما عنَّ من طغيان الأقلام.

فنقول: أمَّا مذهب الإمامية فهو من جملة مذاهبهم التي غلوا فيها، وبالغوا مبالغة لا تروج ألفاظها ولا معانيها، وأي دليل على اشتراط أن يكون أعلم الناس؟ وأي طريق يستطرق إلى العلم بذلك من غير التباس؟ وأي حاجة للإمام أو فيه يقتضي ما ذكروه ويستدعيه؟

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وهو أعلى درجة من الإمام وأملى بما ذكروه يرجع إلى غيره في بعض الأنظار، والصلح أراد يعقده في أمر المدينة على بعض ثمارها()، وكموضع النزول في حرب بدر()، وكان أبو بكر وعمر أيضاً يرجعان إلى غيرهما من الصحابة ولم يعد ذلك قدحاً فيهما.

وأما مذهب الجمهور: فاستدلوا عليه بالإجماع، قال الإمام يحيى بن حمزة: الإجماع ينعقد على وجوب كون الإمام مجتهد في علوم الشريعة، ليكون متمكناً من الفتاوى فيما تعرض من الحوادث والوقائع التي ترد عليه، فيعمل فيها برأيه ويفتي بما صح عنده انتهى.

وقال بعضهم: الأحكام المنوطة بالإمام فيها استباحة الفروج والدماء والأموال والفيء والغنائم، وفيها من لطيف الأحكام وغامض المسائل مالا يدرك إلا بالاجتهاد، ولا يزال يتجدد على مر الأوقات حادثة بعد حادثة، فلو كان غير مجتهد ولا يشتغل في العلم بها بنفسه وقع في حيرة ولبس ولم يدر ما يأتي ويذر، وإذا فرض مقلد فرجوعه إلى من قلده قد يتعذر في بعض الأحوال، فإن أقدم حينئذ أو أحجم بغير بصيرة ففيه إثم كبير وفساد كثير، وإن ترك تلك الأحكام متعطلة من حكم الله تعالى انتقض الغرض المقصود منه.

 واحتج في (الغايات) بالإجماع، وذكر أن علماء الزيدية والمعتزلة وجل المجبرة نقلوا في مصنفاتهم وصرحوا بأنه وقع [الاتفاق]() على اعتبار الاجتهاد وعدم صحة الإمامة مع غيره كالبلوغ والعقل، وذكر ما نص عليه السيد صاحب (شرح الأصول) () من كونه لا خلاف فيه وإنما حكى الخلاف في اشتراط الاجتهاد() القاضي واستبعده أيضاً وتأوله.

قال عليه السلام : ما وقفنا على باب الإمام في أي المصنفات الأصولية والفروعية على تباين أراضي مصنفيها وآرائهم إلا وحكوا [أن] لإجماع منعقد على ذلك من دون اختلاف، حتى لو ادعي أن التواتر حاصل بخبرهم لكثرة عددهم لم يبعد، لأن كل واحد منهم في الأغلب لم ينقل الإجماع عن الكتاب الذي نقل عنه المصنف الآخر، قال ض [عبد الله الدواري]: في دعوى الإجماع نظر.

قُلْتُ: لا شكّ أنَّه يتطرق النظر إلى دعوى الإجماع في هذا الموضع وغيره، لكن يقال له: إن كنت ممن يلمح إلى هذا المعنى وهو أن اعتقاد الإجماع لا يتهيأ في أصله أو في نقله، مالك تحتج به في غير هذه المسألة، وإن كان التنظير يختص بالإجماع في هذه المسألة، فلعمري أنه أظهر منه في غيرها وأقوى، واحتج عليه السلام  بشيء من الآيات والأخبار والآثار كقوله تعالى: {أفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهَدِّي إلاَّ أنْ يُهْدَى} [يونس:35]، وقوله تعالى: {إنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ والْجِسْمِ} [البقرة:247]، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من استعمل على قوم عاملاً وفي تلك العصابة أرضى لله تعالى منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه  صلى الله عليه وآله وسلم  فقد خان الله ورسوله)) ()، وقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة في أمر السقيفة: (والله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القاريء لكتاب الله تعالى، الفقيه في الدين، العالم بالسنة).

وقرَّرَ المهدي عليه السلام  هذا الاستدلال ما أمكنه، ويسط فيه القول حينما استحسنه، فأما لو فرض أن المسألة ظنية اجتهادية فلا بأس بمثل هذا التكليف والتشبث بالمآخذ البعيدة، فمثل هذا في مسائل الظن غير قليل.

وأمَّا مع ما هو بانٍ عليه وهو وغيره من كون المسألة قطعية، فترك التعلقات بهذه المتعلقات هو اللائق ممن كان ذلك مذهبه، فإنها مما ينبغي أن يكون عنده مآخذ بعيدة، إذ الأمر المذكور لا مدخل له هنا ولا أثر، والخبر المذكور آحادي، ودلالته غير صريحة، ومرجع التمسك به في القياس الذي ليس بمعلوم، والآياتان الكريمتان الأولى منهما غير صريحة ولا واردة في هذا المعنى ولا لمح فيها إليه، والأخرى إن كانت أقرب منها إلى ما نحن بصدده، فهي عن إفادة العلم بلزوم اشتراط الاجتهادفي الإمام بل عن إفادة الظن بمراحل، وليس فيها أن نبي بني إسرائيل أخبر بلزوم اشتراط ذلك في الملك الذي بعثه لهم، بل اعتذر به في اختياره لِطالوت، فمدلول ذلك أنه أمر مرجح، ولو لزم منه اشتراطه للزم اشتراط البسطة في الجسم ولا قائل به.

ثم عاد المهدي عليه السلام  إلى طريقة عقلية وقال: يصلح ذلك بعد معرفة المقصود بقيام الإمام وهو إقامة الحق أو الدلالة عليه، ورد الشارد منه إليه، ونحن نعلم ضرورةً أن القائم لا يمكنه ذلك إلا إذا كان عارفاً بالحق، ولا يمكنه المعرفة إلا بالاجتهاد في العلوم الدينية، قال: وهذا واضحٌ كما ترى.

 قلت: بل هو غامض لا يرى،  وغير لائق من مثله عليه السلام  أن يستدل بالعقل في المسائل الشرعية الفرعية، كما قدمنا في اشتراط المنصب.

وأمَّا مذهب الإمامين المؤيدين بالله تعالى والغزالي فاحتج عليه الإمام يحيى بن حمزة بأن الضرورة تجوز ذلك، وإلا أدى إلى خلو الزمان عن الأئمة وفي ذلك ضرر وفساد كبير، لأنه يؤدي إلى تعفية() أثار الديانة، وإمحاء رسوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطي بساط الجهاد، وتعفية أعماله، وبطلان أحكامه، إلى غير ذلك من الفساد.

قُلْتُ: وهو مذهبٌ قويٌّ حسن، لكن يزاد فيه أنه إذا تعذر الاجتهاد لم يكف أن يكون مقلداً صرفاً، بل لا بد أن يكون مميزاً تميزاً حسناً، عارفاً بالله تعالى وصفاته، وما يجوز عليه ومالا يجوز، له مشاركة في العلوم المحتاجة، مرتقي إلى درجة الترجيح، وهذا المذهب لا يعد مصادماً للاجماع، بل قد صرح الإمام المهدي عليه السلام  بأن الإجماع إنما انعقد على اشتراط الاجتهاد عند إمكانه، وأن الخلاف ثابت عند تعذر الاجتهاد.

قال: ونحن نرفع القاعدة هذه، ونقول: إنه لا يتعذر مع بقاء التكليف، وهم يقولون: يجوز تعذره مع بقاء التكليف.

قال: ونحن لا نخالف مع فرض تعذر الاجتهاد مع بقاء التكليف بنصب الإمام في أن إمامة المقلد حينئذ جائزة وإلا كنا مكلفين بمالا يطاق، ومع تجويز ذلك يرجع الخلاف إلى الوفاق من غير شك ولا خلاف بيننا وبينهم إلا في تجويز خلو الزمان عن المجتهد.

قلتُ: ينبغي أن يقال في تجويز خلو الزمان من مجتهد صالح للإمامة، وأما وجود مجتهد لا يصلح لها ففرض وجوده من مسألتنا هذه كفرض عدمه.

تنبيه:

 قد عرفت أنه يؤخذ من كلام الإمام المهدي عليه السلام  أن المسألة اتفاقية مع تقدير خلو الزمان عن مجتهد صالح للإمامة، ويؤخذ من هذا أنه لو خلا الزمان عن فاطمي مثلاً؛ أو عن شجاع صالح للإمامة أن الإمامة لا تتوقف على ذلك لتعذره وحصول الضرورة إليها.

ويتفرع على هذا لو أن الزمان خلا عن كامل الشروط، ولم يوجد إلا من فيه نقص، ولكن الناقصين متعددون، وبعضهم مختلف، فأحدهم ناقص عن شرط المنصب، وآخر ناقص عن الاجتهاد، وآخر ناقص عن التدبير، وآخر ناقص عن الشجاعة، ألجأت الضرورة إلى قيام ناقص، ما الأرجح اعتقاده من تلك النواقص هل يعدل إلى المجتهد، لأن أمر العلم أهم؟ أو إلى ذي المنصب؟ أو إلى ذي التدبير؟ ينظر في ذلك.

وتحقيق الكلام في هذا المعنى الذي لم نقف لأحد ممن سبقنا على كلام فيه، أن المعتبر الترجيح والنظر فيما هو من ذلك النقصان أقل إخلالاً بمقصود الإمامةوتكاليفها العامة، فمن كان نقصانه أكثر خللاً أطرح وعدل إلى غيره، وإن قُدِّر أن الشرطين المفروض خلو أحد الملحوظين بالإمامةعن أحدهما وخلو الآخر عن الآخر مستويان في الحكم، وبكل واحد فيه رجحان من جهة دون أخرى، بحيث أنه لا تفاوت يثبت التحيز من سبق بالدعوة، إن جعلناها الطريق، أو بالاختيار على القول به، كان حكم الإمامةثابتاً لمن دون الآخر، ويمكن من التفريع على هذه القاعدة ما هو أشنع مما ذكر، ولكنه أمر ربما لا تدعو الحاجة إليه، ولا يخلو جهابذة النظر على البينة عليه، ولنقتصر على هذا القدر في هذا المعنى، والله تعالى أعلم.

تنبيه آخر:

ذكر اشتراط الاجتهادفي الإمام مستدعي تحقيق معنى الاجتهاد، وقدر نصابه وتعداد علومه، ومن عادات المصنفين ذكر ذلك واستيفائه، ونحن استرجحنا طي هذا المعنى، لأنه أمر موجود غير مفقود، وكتب علم الكلام وفن الأصول، وبعض كتب الفقه مشتملة عليه، فلا نشتغل بذلك في إملائنا هذا إيثاراً للاختصار واكتفاء بما في المتداول من الأسفار، والله تعالى ولي التوفيق، والهادي إلى أيمن طريق.

تنبيه آخر:

الذي قد ذكرناه من شروط الإمام وشرحناه هي الشروط المعتبرة المحتاج إليها في الإمام المحتاج إلى ذكرها، واقتصر بعض المحققين، وقد يذكر غيرها من الشروط والصفات المعتبرة حسبما يشير إليه.

فمنها: أن يكون سليم الحواس والأطراف، فلا يكون أعمى، ولا أصم، ولا أبكم، ولا أكسح، ولا أقطع، ويتصل بهذا أن يكون سليماً من الخصال المنفردة، فلا يكون أبرص، ولا أجذم، ولا ممن يعتريه الجنون في بعض الأحوال، ولا غير ذلك من المنفرات.

أمَّا النوع الأول: فلإخلاله بما يقصد من الإمام وينصب لأجله وهو ظاهر.

وأمَّا النوع الثاني: فلما فيه من التنفير المخل بما يراد، فإنه لا قوام لأمر الإمام وما يقصد من القيام إلا أن يكون الإمام ممن يرغب إلى مثله ولا ينفر عنه، ولا يستكره القرب منه، ولا الإتصال به، وقد ثبت اشتراط مثل ذلك في حق النبي مع تأييده بالمعجزات ونزول الوحي عليه، ففي حق الإمام أولى.

ومنها: الفضل، فكثير من العلماء يعده من الشروط، ويسرده في سياق الاتيان بها، ومن هؤلاء من لا يفسره، وترك تفسيره خلل، إذا المقصود به غير مكشوف ولا واضح وضوح غيره من الشروط، ومنهم من يفسره تفسيراً يقضي بأنه لا حاجة إلى ذكره، ولا موجب لعده لرجوع معناه إلى معنى بعض الشروط المذكورة المشهورة، وقد أخل الإمام المهدي أحمد بن يحيى عليه السلام  في مقدمة البحر وشرحها بعد تفسيره حيث قال: ويجب كونه أفضل الأمة أو كالأفضل منهم، وحكى الخلاف وأقام الدليل، ولم يأتِ من تفسيره بكثير ولا قليل.

وأمَّا القاضي عبدالله بن حسن الدواري ففسره وما قصر فقال: اختلف في معنى الفضل في الإمام، فقال قوم:المرجع به إلى اختصاص الشخص بالأمور التي لأجلها يحتاج إلى الإمام، منهم الإمام المنصور بالله والفقيه حميد، وقال: فعلى هذا ينبغي أن لا يعد الفضل شرطاً زائداً، والأفضل على هذا هو الأكمل في ثبوت الشرائط له.

ومنهم من قال: الفضل، والعفة، والصلاح في الدين، والأفضل الأكمل في ذلك، قال: وهذا المعنى يرجع إلى الورع فلا يعد شرطاً زائداً عليه، قال: والأصح أن يقال: إن المراد بالفضل أن يكون له من المحافظة على الطاعات والتجنب للمكروهات ما يعتاده كثير من الصالحين، ويكون بينه وبين القبح حاجز، وبينه وبين الإخلال بالواجبات ليحترز في ذلك عن الإقدام والترك، قال: وهذه سنة لكثير من الصالحين، وفي الحديث النبوي: ((لكل مَلِكٍ حِمًى وإنَّ حِمى الله تعالى محارمه، وإنَّهُ مَنْ دار حَوْلَ الحمى يُوشك أن يقع فيه)) ().

قال: ويعبر عن الفضل باستحقاق الثواب، والأفضل الأبلغ في ذلك وليس بمراد هنا، إذ لا طريق إليه إلا الوحي، والله أعلم.

قُلْتُ: والذي يلوح لي ويقى عند التأمل أن المقصود بالفضل الزيادة في خصال الخير، وإحراز الفضائل، وأن الأفضل من كان أدخل في تحصيل الشروطس، وهي فيه أوفر وأظهر، ففي العلم بأن يكون أعلم من غيره، محرزاً من العلم فوق ما يشترط في الإجتهاد، وفي الورع أن يكون شديداً في المبالغة فيه، بحيث يكون يترك بينه وبين المحرمات أشياء ليست بمحرمة بعداً منها وأخذاً في التحرز عنها.

وفي الشجاعة أنْ يكون له من الإقدام وحسن التلاقي() في الحروب ما يزيد على ذلك القدر المعتبر.

وفي السخاء كذلك، وفي التدبير كذلك، بحيث يكون له من الألمعية والفراسة وحسن السياسة فوق ما سبق اشتراطه واعتباره، أهـ.

وفي سلامة الحواس والأطراف وصحتها وحدتها وقوتها وبسطة الجسم ما يزيد على مالا بد منه، وكالتدبير في البلاغة والبيان، والنظم والنثر، والخطابة والكتابة، وحلاوة اللسان، ومكارم الأخلاق كالبشر وترك الكبر، وشدة التواضع، وإنصاف الأتقياء، وشدة الشكيمة على الأشقياء، ونحو ذلك.

هذا هو معنى الفضل والأفضل، فهذا المعنى من هو أدخل فيما ذكر وأكثر أخذاً منه وتخلقاً به.

فإذا عرفت ذلك فلا ينبغي أن يُعَدَّ الفضل شرطاً مستقلاً، إذ المشترط والمعتبر من الشروط تحصيل معنى الاجتهادوالورع والشجاعة والسخاء ونحو ذلك، ولا يشترط زيادة على القدر المعتبر، وإنما ينبغي على هذا أن يكون محط الفائدة، ومحل النزاع أنَّهُ هل يُشْترط أن يكون أفضل أولا؟

معنى أنَّهُ، إذا كان الصالح للإمامة أكثر من واحد، لكن البعض أحرز نصاب الشروط المعتبرة من غير زيادة ولا نقص، وغيره زاد عليه فيها كلها أو في بعضها؛ أن للكل منهم له زيادة على القدر المعتبر، ولكن حالهم في الزيادة مختلف، فمنهم من هو أدخل فيها وهي فيه أكثر، ومنهم من هو دونه في ذلك، فهل يصح أن ينصب المفضول بهذا المعنى مع وجود الأفضل؟ أو لا يليق أن يكون هذا محل الخلاف؟ فالذي عليه الزيدية وبعض المعتزلة كعباد() أنَّ إمامة المفضول لا تصح، ذكره القاضي عبد الله بن حسن الدواري قال: وممن نص على ذلك الهادي إلى الحق والناصر     عليهما السلام ، ويفسق المفضول إذا سبق الأفضل بالدعاء إلى الإمامة.

وقال بعضهم: إمامة المفضول تصح بكل حال، وهو مذهب البغدادية، وبه قالت الزيدية الصالحية، ويروى عن غير من ذكرناه كسليمان بن جرير، وذهب أبو علي وأبو هاشم إلى جواز إمامة المفضول لعذر لا لغير عذر، كما في شأن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في واسع جناته- فإن العدول إلى غيره لعذر وهو الوحشة التي كانت في القلوب من أجله، لما كان منه عليه السلام  ورحمة الله وبركاته من قتل كثير من الصناديد الداخل أقاربهم في الإسلام، ولحسده عليه السلام  على ما يختص به من صفات الكمال.

هذا معنى ما حكاه وذكره القاضي عبد الله بن حسن الدواري، وقال الإمام المهدي أحمد بن يحيى رضوان الله عليه: القول باشتراط الأفضل أو المساوي له إلا لعذر، كأن يكون أعمى هو قول المعتزلة والأشعرية وأكثر الزيدية، ونسب الخلاف فيه إلى الحشوية، فإنهم يجيزون إمامة المفضول وغير عذر .. هـ.

واحتجّ مَنْ لا يجيز إمامة المفضول بتحري الصحابة رضي الله عنهم للأفضل وفزعهم إلى عد الفضائل، وقول عمر بن الخطاب لأبي بكر حيث قال: بايعوا أحد الرجلين -يعني عمر وأبا عبيدة-: أتقول هذا وأنت حاضر، وأن الإمام قدوة في الدين لجميع المسلمين فمن حق القدوة أن يكون أكمل ممن يقتدي به فيما هو قدوة فيه، إذ لا يحسن أن يقتدي الأكمل بمن هو دونه، وجوب الاقتداء أنها تلزمهم طاعته، ويلتزمون اجتهاده إذا وقع منه إلزام.

قال الإمام المهدي عليه السلام : وكافيك أنَّ الإمام قائمٌ مَقَام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  في موارده ومصادره، ومن حق من يخلف رجلاً في أعماله أن يكون أقرب الناس شبهاً به في تأدية تلك الأعمال، وإلاَّ عاد الغرض في استخلافه مكانه ليقوم مقامه بالنقض والإبطال، وكلما كمل فضل رجل قرب شبهه بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ويبعد عن الشبه بنقصان الفضل، وقد بالغت الإمامية وكذلك الجارودية من الزيدية فزعموا أن إمامة المفضول لا تصح ولو لعذر مانع عن قيام الأفضل، وهو غير صحيح، فإن المفضول إذا كان أصلح وأرجح في قيامه بالمصالح المقصودة من الإمامة فهو أولى رعاية للأصلح، يوضح ذلك أن الأفضل لو كان أعمى لم يصلح أن يقام لهذا الأمر، وكذا لو اختل فيه شرط كالشجاعة والتدبير، وعلى قاعدتهم يستد حينئذ باب الإمامة إذ الأفضل غير صالح، ووجوده مانع عن قيام المفصول الصالح.

قُلْتُ: وهذا الاحتجاج وممن ذكره الإمام المهدي لدين الله عليه السلام  لا يتهيأ على ما رجحناه من تفسير الأفضل بأنه جامع الشروط مع زيادة على القدر المعتبر منها، وإنما تهيأ على غيره من التفاسير، والله سبحانه أعلم.

واحتج مُجَوِّزُوا إمامة المفضول بجعل عمر الأمر شورى بين ستة متفاوتين في الفضل، وقال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم، ويمكن أن يجاب بأن عمر بن الخطاب ربما اعتقد تساويهم، وبأن كلام أبي بكر على جهة التواضع وهضم النفس، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تفضلوني على يونس بن متى)).

وقد ادَّعى بعض أصحابنا الإجماع على اعتبار الأفضل، وقال صاحب (أنوار اليقين): لا خلاف في ذلك، واختلاف الصحابة في الأئمة الأربعة إنما كان لاختلافهم في الأفضل.

قلت: دعوى الإجماع فيه مجازفة، والخلاف مشهور مأثور، منذ زمن الصدر الأول، يدل عليه قول عمر: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً ما خالجتني فيه الشكوك، وعلي عليه السلام  ووجوه العشرة وغيرهم من فضلاء الصحابة موجودون.

ويتصل بهذا الكلام ذكر فـوائـد:

الفائدة الأولى:

تترتب على ما فسرنا به الأفضل، يقال: لو وجد اثنان أو ثلاثة أو أكثر مختلفين في الأفضلية، فأفضلية هذا بزيادة في التدبير، وهذا بفصاحة وبلاغة وغير ذلك، فكل منهم أفضل باعتبار معنى من تلك المعاني برز فيه وبذَّ الأقران في تعاطيه، ما المعمول عليه حينئذ؟ والأقرب -والله أعلم- أنه يرجع إلى ترجيح أهل الحل والعقد في هذه الأمور المتعارضة، ويتوخون ما هو الأرجح والأصلح في الأمور المقصودة بالإمامة، وما أداهم نظرهم إليه عملوا عليه.

وقد ذكر القاضي عبد الله بن حسن الدواري في موضعين من تعليقه على الشرح: أنه إذا اتفق رجلان في شرائط الإمامةولم يكن أحدهما أكمل من الآخر في شيء منها ولا سبق بدعوة ولا عقد، فأولاهما بالإمامةأكثرهما فهماً، ثم أحلمهما، ثم أحسنهما خلقاً، ثم أفصحهما لساناً وأحسنهما عبارة، قال ذكر ذلك صاحب (الكافي)، ويعرف أنه أولى إذا كان فيه خلة حميدة، سيما إذا كان الناس معها أقرب إلى اتباعه، وإن كانت الخلة من غير صفات الإمام وشرائط الإمامة، كأن يكون إحداهما أتم في خلقه وهيبته، وأحسن ثباتاً، وأسمى همة، وأوسط نسباً، وأكثر آباءً في العلم والفضل، وأكثر رحامة وبني عمومة لنصرته، ونحو ذلك من الخلال التي معها اتساق الأمور له أبلغ من غيره، فمن كانت فيه فهو أولى بالإمامة، لكنه لو دعا غيره قبله، أو عقد له، كان هو الإمام، ولم يقدح في صحة إمامته كون غيره أتـم.

وقال في موضع: إذا كان أحد الصالحين للإمامة أكثر نسكاً، والآخر أكثر سياسة وأحسن تدبيراً، فإن الأدبر في السياسة والتدبير أولى بالإمامة، إذ حاجة الأمة إلى حسن السياسة وزيادتها أمس من حاجتها إلى زيادة النسك.

قال: وعلى الجملة فالغرض بالإمامة صلاح المسلمين، وحسن الرعاية لهم، ومن كان ظُنَّ هذا فيه أغلب على العاقدين أن يعقدوا له، وعند القائلين بالدعوة لا يجوز لمن يعلم أن غيره أتم منه سياسة وصلاحاً للمسلمين أن يقوم بأمر الأمة فالعقد له باطل والدعوة تحتمل ذلك.

الفائدة الثانية:

إذا دعى داع كامل الشروط، وقام بأعباء الإمامة، ثم ظهر بعد ذلك أن غيره أفضل منه، وأكمل في خصالها، وأدخل في شرائطها، ما يكون الحكم في ذلك؟

اختلف فيه فقيل: إنه يجب على الداعي تسليم الأمر للأفضل، وقال السيد أبو طالب(): لا يجب ذلك، بل يستمر على حاله، وقد صار أفضل لتحمل أعباء الإمامة.

الفائدة الثالثة:

قيل ض [القاضي عبد الله الدواري]: كون الإمام أفضل بالنظر إلى جميع أهل البيت، فذلك مما لا سبيل إلى العلم به لانتشارهم في أقطار الأرض.

قال بعض المتكلمين: إنما يُعْتبر الأفضل منهم في القطر الذي فيه المكلف، قيل: في البريد، وقيل: في مسافة ثلاثة أيام، وقيل: في مبلغ علم المكلف، وليس عليه البحث عن الأفضل مع وجود الفاضل.

ومنها أن لا تسبق دعوته دعوة مجاب، وليس هذا من الشروط التي هي من صفات الإمام ونعوته الراجعة إليه، وإنما هو في الحقيقة يرجع إلى المنع، فلا ينبغي أن تعد من صفات الإمام التي يتوقف عليها صحة القيام، وإن كان من أصحابنا من يعده شرطاً، وينظمه في سلك تعداد الشروط لفظاً وخطاً، وأبلغ من بسطه غاية البسط في استيفاء ذكر هذا الشرط وأوضح فيه المعنى والقصد المهدي عليه السلام  فإنه قال: من شروط الإمام أن يدعو في حال لم يكن قد تقدمه داع مجاب أجابه بعض الأمة، فأما حيث قد تقدمه داع مجاب، ودعا بعد ذلك فهو باغ.

إذا كان الأول كامل الشروط:

وقد أجيب: لا، إذا لم يكن كاملاً أو كان كاملاً ولم يجبه من الأمة من ينتفع بإجابته، بل لم يجبه أحد أو أجابه من لا نفع في إجابته لقلته أو خموله، فلا حكم حينئذ بتقدم دعوته.

قال: ومن عرف أنه إذا دعا أجابه من الناس من ينفع الله بإجابته في إمضاء الأحكام الشرعية على الوجه المشروع وجبت عليه الدعوة حينئذ، وصارت دعوة الأول كأنها لم تكن إذا بطل نفعها في المقصود كما يبطل الوقف والتحبيس ببطلان نفع العين في المقصود، قال رحمه الله تعالى: لكن لا يجوز له الدعاء إلا بعد اليأس من إجابة الأول ونهوضه لا مع كون الإجابة مرجوة.

 وذكر أنه أخذ هذه المسألة من نصهم على جواز تنحي الإمام مع كون غيره أنهض، ولا وجه له إلا كون الغرض بالأنهض يكون أكمل، ولا شك أن المجاب يكون أنهض ممن لم يجب، ثم أورد على نفسه سؤالاً، وهو أنهم نصوا على جواز التنحي حينئذ لا وجوبه، فمن أين لك وجوبه؟

وأجاب: بأن هذا الحكم مما إذا حسن وجب، لأن الإمامةوجبت لمصلحة عامة، فإذا جاز له التنحي لتلك المصلحة وجب عليه، لأن رعاية المصلحة وهو وجوب الإمامة من الأصل.

قال: ولا يقال: إن التنحي المنصوص على جوازه يقع برضى المتنحي، فكيف يقاس عليه ما لم يقع برضاه، وهو دعوة غيره بعد دعوته.

قال: لأنَّهُ لا عِبرة بِرِضى المتنحي إذا كان المتنحي() قد وجب عليه، لأن القصد رعاية مصلحة الأمة لا مصلحته وحده، والحق في ذلك لله تعالى لا له فلا عبرة برضاه.

 هذا حاصل ما ذكره في (الغيث)، وقد استوفى الكلام في هذا المعنى وأجاد فيه، وإن كان عند تدقيق النظر والمبالغة في النقادة بالروية الوقادة لا يخلو عن نظر، والله سبحانه أعلم.

 ثم لنعد إلى الكلام على أصل هذا الشرط.

 فنقول: الظاهر من مذهب الزيدية وجمهور المعتزلة، وكثير من الأمة أنه لا يصح قيام إمامين معاً في وقت واحد، ولا يصح قيام المتأخر منهما إن سبق أحدهما بالدعاء، هكذا حكى القاضي عبد الله، وفي (الغايات) نسبة هذا القول إلى المعتزلة جملة، وبعض الزيدية، قال القاضي: الخلاف في ذلك مع عباد بن سليمان، ومحمد بن سلاَّم الكوفي، وحكاه في (زوائد الإبانة) عن كثير من السادة والعلماء.

وروى عن المؤيد بالله عليه السلام  رواية مغمورة، وبه قال بعض الخوارج، وبه يقضي رأي سعد بن عبادة وأتباعه، حيث قالوا: منا أمير ومنكم أمير.

وقال الناصر عليه السلام  بصحته إذا تباعدت الديار، ونسب في (الغايات) تجويز إمامين إلى الكرَّامية()، ونسبه إلى القاسم بن علي العياني() عليه السلام ، فإنه قال: إذا كان في قرية واحدة إمامان يدعوان إلى الله تعالى لكل منهما رعية اختلفت رعيتهما، ولم يؤمن أن يوقعوا الوحشة بينهما، فالواجب على من أحله ذلك المحل أن يكون بمن معه من الرعية في معزل يملك في تصرفهم، ولا يكون حيث يبلغ صاحبه وأصحابه اختلافهم ومضارهم، ومالا يؤمن من كونه بين مثلهم، فإذا فعل ذلك ملك كلُ رعيَته ودانت له مودته، وصار كل بما يرضي الله تعالى.

قال المهدي عليه السلام : فصرح عليه السلام  بجواز إمامين في وقت واحد على الصورة المذكورة.

وقال الإمام يحيى في (الانتصار): أما مع تقارب الأوطان والأماكن، فالإجماع منعقد من جهة الصدر الأول من الصحابة والعترة والفقهاء على المنع من ذلك، وأما مع تباعد الأوطان في الأقاليم البعيدة والأمصار المتفاوتة في البعد ففيه مذهبان: المنع، وهو رأي العترة والمعتزلة والأشعرية والخوارج والفقهاء، ويحكى عن المؤيد آخراً، لأن المقصود إقامة قانون الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يحصل بواحد، وأمره في الأقاليم البعيدة بإنفاذ الولاة والقضاة والكتب والرسل كما كان في أزمنة الخلفاء، وتجويز الإمامين في وقت واحد هو رأي المؤيد بالله عليه السلام ، أولاً،  ومحكي عن الجاحظ وعباد الصيمري، وحكاه الشيخ أبو القاسم في كتاب (المقالات) عن قوم من التابعين، وهو محكي عن الناصر، وهذا هو المختار.

قال عليه السلام : وعليه يحمل ما كان من الإمامين الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين والناصر    عليهما السلام ، لما كانا في الأماكن المتباعدة والأقاليم المتباينة، فإن اتفق اجتماعهما وجب على المفضول تسليم الإمامةللأفضل منهما، وحُكِيَ عن الناصر عليه السلام : أنه إن لم يفعل فسق، لأن غرضه الدنيا وإحراز الملك على الإنفراد، وهو خلاف الدين.

 احتج المانعون بإجماع الصحابة، وبرد ما قالته الأنصار، حيث قال عمر بن الخطاب: سيفان في غمدٍ()، إذا لا يصلحان وكان ذلك بمحضر جمع كثير من الصحابة، وبلغ الباقين ولم ينكره أحد، فكان إجماعاً لأن المسألة قطعية، فقول البعض فيها بقول وسكوت الآخرين مع علمهم به يكون إجماعاً وصواباً، إذ لو لم يكن كذلك كانت الأمة قد أجمعت على الخطأ، هكذا قرره القاضي عبد الله بن حسن الدواري.

قُلْتُ:والعجب منه حيث قضى بأن الإجماع السكوتي في المسائل القطعية يكون قطعياً مع احتمال كون السكوت المشار إليه لغير ما ذكره، والحوامل الممكنة كثيرة، وهذا من المجازفة والغلو في أمر الإجماع والاعتساف، واحتجوا بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)) ()، وبما رُوِيَ عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((من دعى إلى نفسه أو إلى غيره وهناك إمام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين))، وهذان الخبران دلالتهما صريحة إلا أنهما أحاديان والمسألة قطعية، واحتجوا بأن الأمة بعد الصدر الأول حالاً بعد حال لم يقيموا إلا واحداً، لم يعلم منهم نصب اثنين في عصر واحد، وهذا إجماع منهم وتأكيد للإجماع الأول.

ويرد عليه أن عدم فعلهم إياه لا يدل على امتناعه إنما يدل على عدم وجوبه، واحتج المجيزون له بالقياس على الأنبياء عليهم السلام ، والقضاة والأوصياء ونحو ذلك من الولايات، التي مرجعها إلى التصرف على الناس.

وعن الناصر عليه السلام  أنه قال: لا خلاف أن الله تعالى قد بعث أنبياء في عصر واحد، وكذلك حكم الأئمة، كان إبراهيم ولوط في عصر واحد، وإسماعيل وإسحاق      عليهما السلام  في عصر واحد، وموسى وهارون      عليهما السلام  في عصر واحد، وداود وطالوت وأشمويل في عصر واحد، ويحيى وعيسى في عصر.

قُلْتُ: ولعلَّ للمانعين أن يجيبوا بأنَّ القياس غير صريح، أمَّا الأنبياء فلِعِصْمتهم والأمن من منازعتهم، ولأن ذلك بوحي من السماء، فنقطع بأنه الأصلح وأنه لا مفسدة فيه.

وأمَّا الأوصياء والحكام فليس أمرهم يقضي في العادة إلى تنازع ولا تشاجر، فالقاضيان لا يزيد كل واحد منهما على أن يقضي بين المترافعين إليه بما يصح لديه، والوصيان لا يزيد حالهما في التصرف في مال الصغير، على تصرف المشتركين في مال لهما، والشركة مشروعة ولا خلل فيها.

وأما أمر الإمامين فإنه مظنة للتشاجر والتفاخر ولا عصمة مانعة، وليست التصرفات المقصودة منها بيسيرة، ولا مقصورة على أشياء معينة.

وأقول وبالله التوفيق: إنِّي لم أزل أنظر في هذه المسألة، وأتأمل الأمر فيها برهة من الزمان، فإذا نظرت إلى الأمر المقصود بنصب الإمام من مصالح الإسلام، فمن البعيد المتعسر أن يتمكن إمام واحد من النظر في أمور المسلمين ومصالح الدين في جميع النواحي والأقطار والبوادي والأمصار، ومن منابذة الظالمين في جميع الأوقات، وهذا أمر يعلم بالإضطرار ولا يتهيأ فيه إنكار، وهل من قام بالديار اليمنية مثلاً يتمكن من تدبير أمور الشام والعراق ومصر والهند والصين ونحوها؟ فإذا حكمنا بأنه لا يجوز أن يقوم في جميع الأرض غير إمام وحده فما يكون علمه؟ وليس مبلغ قطره، ولقد خبرنا هذا الأمر فوجدنا الإمام لا يكاد يحكم التصرف فيما غاب عنه ولو مسافة يوم أو يومين مع وجود الأعوان والكفاة، فكيف بقطر تكون مسافته شهور كثيرة، ودونه البحار والمهامة والقفار، ويقوي عندي أنه لا أقل من تعدد الأئمة بالنظر إلى الأقطار المتباعدة، وأنه لا بأس بأن يقوم إمام في الديار اليمنية، وإمام آخر في العراق، وإمام آخر بالجيل والديلم، وعلى هذا في غيرها فإن الذي يخاف منه التشاجر واختلاف الآراء مأمون مع هذا التباعد القاطع للأخبار، والإطلاع للأغلب، مع كون المفروض أن كل داع إلى الله تعالى ومنخرط في سلك الأئمة الهداة قاصداً لوجه الله تعالى، لا للملكة والرئاسة، وأن الغرض المقصود المطلوب إحياء دين الله تعالى، والنظر في مصالح المسلمين، ومنابذة الظالمين، ولقد كنت شديد العجب من غفلة الأصحاب عن هذا المعنى، وللنظر فيه، وتطابق أرائهم ونصوصهم في مصنفاتهم على خلافه، وردهم مذهب الناصر وما نقل عنه مع وضوح صوابه، وانكشاف وجه القوة فيه، وتمسكهم في ذلك بتلك الحجج الضئيلة، والأدلة الضعيفة، والدعاوي التي لا حاصل لها ولا تعويل عليها.

فلما وفَّق الله تعالى لتحصيل كتاب (الغايات) والمطالعة له، وقفنا على كلام فيه يشفي الأوام()، ويشهد لمصنفه بالإصابة والإحكام، ويقضي بأن الذي وقع في أنفسنا وقع مثله في نفسه الكريمة الزكية، وقضت أنظاره الوافية.

قال عليه السلام  ما لفظه: وأنا أقول: لما علمنا العلة التي لأجلها منعوا من إمامين، وهو التشاجر عند اختلاف الرأي ونحو ذلك، وعلمنا تقاطع الديار المتباينة كالصين واليمن ونحو ذلك، بحيث يتعذر لأجل ذلك التقاطع بين الديار، وتوسط سلاطين الجور في البلدان، وضعف يد الإمام عن الإنبساط على الأقطار، وتواصل شوكته فيها، فلا يبعد أن يجب نصب الإمامين والثلاثة والأربعة بحسب تباين الديار، ليحصل بذلك إقامة الأمور التي يجب نصب الإمام من أجلها في أقطار كثيرة لتعذر إقامتها بقائم واحد في قطر واحد، وتعذر نصب إمام اليمن والياً له في الصين مع ارتفاع شوكته فيما بينهما، وتعذر المواصلة عند الاحتياج إلى أخذ أمره ورأيه في إصدار وإيراد لعدم اتصال شوكته وتنائي الديار ومخافتها، ويتعذر ذلك في مثل أحوال زماننا هذا، ومعلوم ضرورة، وإذا علم ذلك وجب علينا أن لا نعطل قطراً من أقطار المسلمين من إقامة قائم فيه تقوم فيه الأحكام التي نحتاج الإمام فيها.

قال عليه السلام : وإجماع الصحابة إنما كان حيث حال الإسلام على خلاف ما هو عليه الآن من الانتشار واتصال شوكته حتى صارت الجهات المتباينة لأجل اتصال شوكته ومواصلة الخليفة كالقطر الواحد، فأمكن اتصال أخبار الولاة حينئذ إلى الخليفة، وإنفاذ الأوامر من جهته، ومن ثم منعوا ذلك، فأما في هذه الأحوال فالحق ما ذكرناه، وإلا تعطل أكثر الأقطار عن إقامة الأمور التي نحتاج الإمام فيها، وهي جل أحكام الإسلام وقواعده، هذا هو الحق الذي يترجح لنا في هذه المسألة.

قلت: لله در هذا الإمام فقد أجاد الكلام، ووفى بالمرام فيما ذكره، ظاهر ظهور الشمس، وعار عن الاشتباه واللبس، وقال الحاكم() صاحب التفسير: وما يحكى عن بعض الزيدية، فإنما أرادوا إذا تباعدت الديار، ولم يقف أحدهما على الآخر مثلما كان من حال الهادي والناصر     عليهما السلام ، وكل واحد منهما يأمر وينهى ويقيم الأحكام، حتى إذا التقيا سلم أحدهما للآخر. ويلوح من كلامه هذا استحسان هذا القول، وقد تقدم تصريح الإمام عماد الدين والإسلام يحيى بن حمزة عليه السلام  باختياره.

قال: والحجة عليه أن البعد يقضي بجواز ذلك لمصلحة، فإن حادثة لو وقعت في أقصى المغرب والإمام في أقصى المشرق، فتستحيل مراجعته فيها مع قصور وقتها، وأنه لا يمكن التأخير فيها، وعلى هذا تقضي المصلحة الشرعية بجواز ما قلناه من صحة قيام الإمامين بالأمر مع تباعدهما، ويحتمل ما وقع من الإجماع على المنع من ذلك على تقارب الأقطار.

قال المهدي عليه السلام : وقد حُكِيَ عن بعض أصحابنا أنه حكي في حواشي تذكرة أبي طالب أنه يجوز إمامان وثلاثة وأربعة في وقت واحد في بلد واحد بإجماع أهل البيت عليهم السلام .

قال عليه السلام : الرواية فيها ضعف، بل لا يبعد القطع بكذبها، فإن كتب أهل البيت مشحونة بخلاف ذلك، ويتصل بما ذكرناه فوائد:

الفائدة الأولى: هل يجوز خلو الزمان عن إمام موجود وعن من يصلح للإمامة أو لا؟

أمَّا الطرف الأول: فلا كلام أنه يجوز خلو الزمان عن حصول الإمام وانتصابه للإمامة، وذلك أمر متحقق ويرد على قاعدة أصحابنا، وظاهر إطلاقهم في وجوب الإمامةعلى الأمة أن يقال يلزم من عدم تحصيل الإمامةوثبوتها إطباق على الإخلال بالواجب وهم معصومون عن ذلك، وهو سؤال متوجه، لكنا قد قدمنا في ذلك هذا المعنى ما يرفع الإشكال ويمنع من قدح السؤال.

وقال في (الانتصار): المحكي عن الأئمة العترة، والزيدية، والمعتزلة والفقهاء، أنه يجوز خلو الزمان عن الأئمة عقلاً، لكن الشرع يمنع من ذلك، فلا يجوز على هذا خلو الزمان عن الأئمة من جهة الشرع، وحكي عن الإمامية والبلخية أنه لا يجوز خلو الزمان عن الأئمة عقلاً ولا شرعاً، وذهب ضرار والأصم إلى جواز خلو الزمان عن الأئمة مع سلامة الأحوال، وإلى هذا ذهبت فرقة من الخوارج.

قال: والمختار جواز خلو الزمان عن الإمام، بدليل جواز خلوه عن الأنبياء، فالفترة بين موسى وعيسى على ما حكي ألف سنة، والرسول  صلى الله عليه وآله وسلم  بينه وبين عيسى ألف سنة، وهذا في الأئمة أولى وأحق.

وأمَّا الطرف الثاني: وهو الخلو عمن يصلح للإمامة، فالذي عليه أهل العدل وجمهور المتكلمين المنع من ذلك، قال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: والخلاف في ذلك مع من لا يوجب الإمامة، احتج المانعون من خلو الزمان عن صالح للإمامة بجميع الشروط بأن علينا تكاليف لا تصلح تأديتها إلا مع وجود الإمام، كإقامة الجمعات، والحدود، ونحو ذلك، فيجب على الله تعالى أن لا يخلي الزمان عن صالح للإمامة، إذ لا يتم لنا تأدية ما كلفناه إلا مع وجود الإمام.

قال الدواري: فما كان من الشروط من فعل الله كالمنصب والعقل ونحوهما وجب على الله تعالى فعله، وما كان منها اكتسابياً فالواجب عليه تعالى توفير الدواعي لا تحصيله.

قُلْتُ: في هذا الاستدلال من الركة والضعف والخطل مالا يخفى على ذي ألمعية وحسن روية، وهل الشروط التي تتوقف عليها الواجبات       -وهي من فعل الله تعالى- يجب على الله أن يفعلها ويحصلها؟‍! هذا مما لا قائل به، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب الواجبات، وهي تتوقف على العقل والبلوغ، وما كان منها مختصاً بالذكور كالجهاد ونحوه، فيتوقف على الذكورة، ولا يقال: إنه يجب على الله تعالى فعل هذه الشروط ليتم التكليف، والمكلف فيما كان مشروطاً من جهة الله ومن فعله في فسحة إن خلقها الله تعالى له بعد ما كلفه وإلا سقط عنه التكليف، والله سبحانه لا يجب عليه أن يفعل ما يتم به التكليف ولا قائل بذلك.

ثم أنه أورد على نفسه سؤالاً فقال: إن قيل إذا كان الوجه ما ذكرتم فقولوا: لا يجوز خلو الزمان عن إمام، لأن القيام بما ذكرتم لا يتم إلا بوجود إمام لا بوجود من يصلح فقط.

قلنا: لا يجب ذلك بل يجب على الله تعالى أن يجعله على أوصاف الإمامة، التي لا يقدر عليها إلا هو ويوفر دواعيه إلى اكتساب الأوصاف التي لا بد منها في ثبوت الإمامة الصحيحة.

ثم من يجعل طريق الإمامة الدعوة والخروج فالواجب عليه الدعاء، وعلى القول بالعقد يجب العقد على العاقدين وعلى غيرهم الرضا.

ويتفرع على هذه الفائدة خلاف وقع بين الشيخين، قال أبو هاشم: لا يجوز أن يخلو الزمان عن قرشي جامع الشرائط، فهذا الشرط وهو شرط المنصب لا بد من حصوله كسابق الشروط، وبه قال قاضي القضاة.

وقال الشيخ أبو علي: لا؛ بل يجوز خلو الزمان عن حصول المنصب، وبه قال الغزالي وغيره، وحينئذ تجوز الإمامة في غير قرشي كما يجوز التيمم عند عدم الماء، وتوقف أبو عبد الله البصري، وقد احتج في (الغايات) لتصحيح قول أبي هاشم احتجاجاً بسيطاً، ولا شكَّ أنَّهُ الأرجح على قاعدتهم، لأنهم أوجبوا أن لا يخلو الزمان عن صالح للإمامة كامل الشرائط، فالمنصب أحد الشرائط، ويتوقف عليه الصلاح المذكور، ولو قيل بما قاله أبو علي للزم مثل ذلك في سائر الشروط، فيجوز الخلو عن شرط الاجتهادوعن شرط الشجاعة أو غيرهما.

ويجوز حينئذ إمامة المقلد، وإمامة من ليس بشجاع كالتيمم مع الوضوء، إلا أن أبا علي فرق فقال: المقصود بقيام الإمام لا يفوت بفوات() المنصب فتصح الإمامةمن دونه فجاز اختلاله بخلاف غيره من الشروط كالعقل والعدالة.

تنبيه:

ويأتي على مذهب أصحابنا وقاعدتهم أنه لا يجوز خلو الزمان عن فاطمي، وقد صرح به في بعض تعاليق الشرح.

الفائدة الثانية:

 إذا ثبت أنَّهُ لا يجوز خلو الزمان عن صالح للإمامة، فهل يجوز أن يوجد في وقت واحد جماعة يصلحون للإمامة؟

قيل: هذا لا ينبغي أن يقع فيه منازعة ولا يفتقر إلى موافقة، وأي مانع من ذلك من جهة القدرة والحكمة؟ وقال عباد بن سليمان والإمامية: لا يجوز ذلك.

أمَّا الإمامية فبنوا على أصلهم أنَّ طريقها النص، وأنه لا نص إلا على واحد فواحد، وفي الحقيقة أنه لا خلاف بيننا وبينهم إلا في قاعدتهم التي بنوا عليها، ولا يخالفون في جواز وجود جماعة فاطميين مجتهدين عدول أهل تدبير وشجاعة وسخاء وفضل، ولا يعدون مخالفين هنا.

وأما عباد بن سليمان فالذي دعاه إلى هذا المذهب الضعيف أنه لو وجد جماعة صالحون لأدى ذلك إلى أن يختار واحد منهم لغير مرجح في اختياره، ولا يصح ترجيح، من غير مرجِّح، ولا معنى لما ذكره، وقد جعل عمر الشورى بين ستة فقضى بصلاحيتهم كلهم، ولم ينكر عليه، والمرجح للإمامة أحد الجماعة الصالحين، اختيار العاقدين له، وعمد معتبري الدعوة سبقه بها، واختيار العاقدين لواحد من جملة جماعة غير() صالحين غير مستبدع ولا مستنكر، فإن العادل المختار إذا عنت له أمور مستوية في تعلق الداعي وانتفاء الصارف اختار أحدها من غير مرجح، كمن يأكل رغيفان مستوية، وواحدة من رمانات لا تفاضل بينهما، وكسالك إحدى طريقين مستويين في الاتصال إلى جهة المقصودة في القرب والسهولة وانتقاء الشوائب.

فـــرع:

 إذا فرض وجود جماعة صالحين كما ذكر، ما يكون فرض الأمة في حقهم؟

ومن يتعين للقيام بأعباء الأمة() منهم، أما معتبروا الدعوة فالعبرة عندهم لمن دعا منهم؟ وترشح لذلك، فأما معتبروا العقد فمن أرسل الله تعالى العاقدين إليه ونصبوه، كان المعول عليه كما ذكر آنفاً، لكن قال الشيخان أبو علي وأبو هاشم: لا يعمدوا إلى واحد فيختاروه، بل يقرع بينهم حيث كانوا مستوين في الخصال المعتبرة، وقال بعض المعتزلة: بل يكون الهاشمي أولى من سائر بطون قريش حيث كان الصالحون لهذا الأمر هاشمياً وغيره.

وقال ضرار بن عمرو: بل العجمي أولى من العربي، والذليل من العزيز ليكون عزله إذا أحدث مالا يرضاه المسلمون أيسر وأسهل. ولا تعويل على ما ذكره، لأنه بنى على قاعدة منهارة وهو صلاحية الإمامة في الناس عموماً، ولأن الذي يحدثه الإمام إذا كان فسقاً انعزل بذلك وبطلت ولايته من دون عزل عازل، فتخلفهم عنه كاف، وليس يعتبر العزل عن التولية في الإمام كالحاكم.

هكذا في الغايات، وعندي أن الاحتجاج على ضرار بما ذكره لا يطابق مراده بما ذكره، لأن قصده إمكان عزله، وسهولة خلعه عن مرتبته، وتقطيع علائقه لا نفس بطلان إمامته، لكن قوله غني عن الإبطال، ولا ينبغي فيه توسيع المقال، ولو كان علته العليلة كما ذكره لاقتضت أن يجعل الإمام من أطراف الناس وأدنيائهم، لأن إبطال أمره وقت الحاجة إليه أيسر، هذا مالا ينبغي أن يقول به مميز، والله أعلم.

وأما كلام الشيخين فقد رده المهدي عليه السلام  بأنه لا وجه للقرعة هنا، إذ الحق للعاقدين، فالخيار إليهم في المنصب، وليس للمنصوب حق، فلا يقاس على الأحكام التي اعتبرت القرعة فيها في مسائل النكاح والعتاق والقسمة، فإن وجهها فيها المساواة بين أهل الحق، والحق هاهنا لأهل النصب عند معتبره.

وأما من رجح الهاشمي على غيره من المعتزلة فكلامه قوي لوجهين: أحدهما قربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو مرجح ظاهر للإمامة أعرض عنه، فعلى كل واحد من الأمرين، ويجب معرفته إذا كان ظاهراً، إما بالموافقة أو بالتبرئ منه والإعراض عن أمره.

وقال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: إنَّ معرفة شرائط الامامة، ومعرفة إمام الزمان واجب على كل مكلف من الآدميين، إذ على كل مكلف تكليف يتعلق بالإمامة، والإمام وهذا في حق الذكور، فأما المرأة فإن كانت عليها زكاة واجبة أو التزمت أمراً للإمام أن يلزمها إياه وجبت عليها معرفة إمامته وشرائط الإمامةوإلا لم يجب عليها، إذ لا تكليف عليها يتعلق بذلك، ومالا يتم الواجب إلا به يكون واجباً كوجوبه، ويدل على ذلك الإجماع أيضاً، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((تمسكوا بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم، فإن طاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله)) ()، والتمسك بالطاعة فرع على معرفة الإمام.

تنبيه:

مضمونه أنه: هل يجب على كل مكلف العلم اليقين في ذلك؟ أو يجب عليه العلم بما وجد السبيل إلى علمه عند بلوغ دعوة الإمام إليه ويقلد فيما لا سبيل إليه إلى العلم به في تلك الحال من الشرائط وإن انكتم العلم بذلك من بعد؟

قال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: الظاهر من كلام العدلية أنه لا بد من العلم بجميع ذلك، ولا يسوغ له التقليد بشيء منه، علمه بالخبرة فهي كافية في ذلك، وما لم يعلمه بالخبر يطلب العلم به بالتواتر، وعليه شدة البحث وهو معذور في التزام حكم الإمامة قبل العلم بما ذكرناه.

وقال الفقيه حميد وغيره: لا بُدَّ من العلم بالشرائط إلا كونه مجتهداً فيكفي التقليد فيه.

وعن بعضهم: وكذلك التدبير وجودة الرأي يسوغ التقليد فيه، إذ ليس كل مكلف يتمكن من عرفان الآراء ومصادرها ومواردها، وعن بعضهم جواز التقليد في شرائط الإمامة فيه، وإن أمكن بعد ذلك العلم بالبحث وغيره.

قال القاضي عبد الله الدواري: والأصح أنه لا بد من العلم اليقين باجتماع الشرائط، وأن على كل مكلف تحصيل العلم بذلك بالخبرة أو البحث، وعليه الرحلة إلى الإمام حيث كان ليختبر حاله، وإن كان ممن يمكنه الاختبار أو الرحلة إلى عدد يخبرونه عن حالة خبراً متواتراً، وإن لم يمكن من الاختبار ولا أخبره عدد التواتر باجتماع الشرائط ففرض الإمامة ساقط عنه، هذا حاصل ما وقفنا عليه من كلام الأصحاب في هذا الباب.

وأقول وبالله التوفيق: إنَّ القول بأنَّهُ يلزم المكلف من قاريء، وأمي، وحاذق، وذي بله، ومن لا تمييز له، وأن يعلم علماً يقيناً أن الداعي قد جمع الشرائط المعتبرة في الإمام شرطاً شرطاً، وأنه يلزمه ما يتوقف هذا عليه من العلم بلزوم شرائطها، وأنه لا بد منها، وأنه يلزمه بالتوقف كلما ذكر عليه من وجوب الإمامة، وأنه لا بد منها، وعموم التكليف بما هو من الغلو ومجاوزة الحد، وارتكاب الشطط، واقتحام المسلك الوعر، والاعتساف الذي لا يخفى على أولي الإنصاف، ولعمري أن تكليف العوام بذلك من قبيل تكليف مالا يطاق، وأنه خارج عن وسعهم وقدرتهم، وأنه لا يبلغ إلى ذلك ولا إلى ما هو دونه طوقهم وقواهم، وأنه لا يبعد عن أن يكون كتكليف الأعمى بإعجام مصحف أو رقم كتاب، وأنه لو أخذ عالم من العلماء المختارين يلقن قاصياً أدلة هذه المسائل، ويلقيها في سمعه ويشرحها له أعواماً طويلاً أمدها عظيماً مددها ما بلغ إليها مزيد من ذلك، ولا أدركه، وكان كسوم بعض الأنعام من أن يتعلم فيصير من الأعلام.

 ولو كان هذا واجباً متحتماً لكان العوام محكوم عليهم بالإخلال بواجب الإمامة، فإنهم ليس في طرف منها ولا وسط، وأنهم آثمنون معاقبون مفرطون، وإنهم في طاعتهم للأئمة واتباعهم ومشايعتهم والمجاهدة بين أيديهم والإئتمار بأوامرهم مخطئون، وللمنكر مرتكبون، ولكان فرض الإمام نفسه، وفرض العلماء والفضلاء أن ينكروا عليهم إجابتهم للإمام وطاعتهم له، وتسليم الحقوق إليه والمجاهدة بين يديه، فليس للإمام أن يقهرهم على المنكر، ولا لأحد من علماء الإسلام أن يكتم ما علمه الله من ذلك، فمَنْ كتم علماً علمه الله تعالى إياه ألجم بلجام من نار.

 وأقل ما يلزم من ذلك أن يتبينوا ما يجب عليهم مما ذكر، ولم يؤثر عن أحد من الأئمة، ولا من علماء الأمة، أنه انتصب في سوق أو جامع أو مجمع ليشعر الإمامة، وإحرازه إياها وجمعه لنصابها، وأنه لا يجوز لهم اتباعه واستماعه، وطاعته ومحبته، وامتثال أوامره ونواهيه، حتى يحصل العلم بما ذكرناه، وكان يلزم في العوام إن عجزوا عن ذلك ولم يتمكنوا منه أن يسقط عنهم تكليف الإمامةوأن لا يجوز للإمام أن يدعوهم، ولا أن يقهرهم على ما يجب له من تسليم الحقوق وامتثال الأوامر، وأن لهم أن يعتذروا بأنه لم يحصل لهم العلم اليقين بإمامته، وعليه أن يقبل ويعذرهم فلا يدعوهم ولا يقهرهم، وهذه إلزامات لا زمة، فإن التزمها أصحابنا فقد اقتحموا من المحذورات جانباً، وكانوا ممن لم يجد إلا الأسنة مركباً، وإن قهقروا عنها وحادوا منها لم يكن لهم بد من الاعتراف بأن تحصيل العلم اليقين ليس من فروض العوام إن سلم أنه من فرض المميزين.

والذي يتوجه ويكون سليما من الشطط والأود أن معرفة الشرائط ووجه اشتراطها أن يعتمدوا معرفة إحراز الإمام كيفياتها واحتوائه عليها، إنما هو فرض جهابذة النقد وأرباب الحل والعقد، ومن هم في رتبة النصب والاختيار، وبمعزل عن مهاوي الشك، وإن فرض العوام أن يقتدوا بالعلماء الأعلام، فمن بلغهم دعوته وعرفوا من علماء زمانهم ومكانهم إجابته والتزام طاعته لزمهم أن يجيبوه، ويستمعوه، ويطيعوه، ويتبعوه، ويعتمدوا في أمر دينهم عليه، ويسلموا ما عليهم من الحقوق إليه، وينهضوا للجهاد بين يديه، ويأخذوا دينهم وما يحل لهم وما يحرم عليهم من لدنه، وإن اختلف علماء زمانهم في أمره كانوا مع من يعرفون أن علمه أرجح ودينه أصلح، وإن كانوا في درجة واحدة من العلم والدين اعتمدوا الأكثر، وإن استووا من كل وجه كان فرضهم التوقف، وهذا هو المذهب العدل والقول الفصل، وليس الإمامةوإن عظم شأنها، وارتفع مكانها، تساوي ولا تداني النبوة، ولا هي في اشتراط العلم اليقين كمثلها، ولا في محلها.

ومن المعلوم أنَّ الأنبياء لم ترشد أممهم إلى أنه يجب عليهم أن يعلموا نبوءتهم يقيناً، وأن ينظروا في ثبوتها، ويستدلوا على اتصافهم بها، وأن يتطرقوا إلى ذلك بمعرفة عدل الله وحكمته، وأنه لا يجوز من الحكيم أن يظهر المعجزة على الكاذب، وأن هذه المعجزة التي ظهرت على النبي خارقة للعوائد، خارجة عن نوع الحيل والشعابذ، ولا قالوا لمن جاءهم مسلماً من نحو الأعراب ومن لم يستطيع قرع هذا الباب لا يجوز لك أن تعتقد نبوءتنا ولا أن تجيب دعوتنا، إلا بعد أن تنظر في أمرنا، وتيقن صحة ما ذكرنا، فإنه إذا كان فرضه العلم اليقين، ومعرفة صحة النبوة بالأدلة والبراهين، لم يجز له أن يعتقد ذلك، ولو ثبتت النبوءة في نفس الأمر اعتقاداً غير يقين، لأنه يكون مُقْدِماً على مالا يؤمن قبحه، والإقدام على ما هذه صفته كالإقدام على القبيح، والمقدم على القبيح يجب الإنكار عليه، وليس يصح على الأنبياء أن يقروا من يرتكب محظوراً عليه ولا يساعدوه إليه.

ومِنَ المعلوم يقيناً أنَّ عادة الأنبياء عليهم السلام  وهجيرانهم وديدنهم ما كان إلا قبول قول من جاءهم مسلماً، والسرور بمن وفد عليهم مؤمناً، مع علمهم من حاله أن النظر المؤدي إلى العلم لا يخطر بباله، ومما يشهد بذلك الخبر الذي أخرجه البخاري() ومسلم() وأبو داود() والترمذي() والنسائي() في كتبهم المشهورة، ورواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينا نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم  في المسجد إذ دخل رجل على جمل ثم أناخه في المسجد ثم قال: أيكم محمد؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  متكيء بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكيء، فقال لي: ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((قد أجبتك))، فقال له الرجل: إني سائلك فمشدد عليك، فلا تجد علي في نفسك، فقال: ((سل عما بدا لك))، فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، الله أرسك إلى الناس كلهم، فقال: ((اللهم نعم))، فقال: أنشدك بالله، الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: ((اللهم نعم))، قال: أنشدك بالله، الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: ((اللهم نعم))، قال: أنشدك بالله، الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ قال: ((اللهم نعم))، قال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من وراءي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة() أخو بني سعد بن بكر، هذا لفظ البخاري.

 فانظر كيف أخذ ثبوت النبوة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وقبل كلامه في ذلك بعدما أكده بما أمكن من التأكيد، واشتد في اعتقاده وتصديقه له عليه، ولم يلتفت إلى غير ذلك، ولا بحث عن المعجز، ولا سأل عن دليل الصدق، وأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم  على ذلك ولم ينكره عليه، ولا تثبّت التصديق، ولا نبهه على النظر والاستدلال، ولا أرشده إلى ذلك المعجز بحال، ولا سياق القصة تقضي بأنه خطر له ذلك ببال، وكونه ذكر أنه رسول من وراءه من قومه ليعلموا على ما يأتيهم به من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  والبلوغ إليه والدراية لما هو عليه، وحكى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فلم ينكره عليه ولا على من وراءه من قومه، وأقرهم على ذلك، فتأمل ما ذكرناه تأمل إنصاف، واغترف من هذا النمير الصاف.

 

القول فيما تبطل به إمامة الإمام بعد ثبوتها

هو ضربان:

الضرب الأول: ما هو من فعل الله سبحانه وتعالى ويخرج به عن التمكن من مباشرة ما قام لأجله كالجنون المطبق، والعمى، والصمم، والمرض المذهب للقوى، أو ما كان مبطلاً لأحد الشروط المعتبرة، فمتى صار كذلك ووقع اليأس من عوده على ما كان عليه من أوصاف الكمال خرج بمجرد ذلك عن الإمامة، ولا يفتقر إلى عزل ولا إخراج.

قال الإمام يحيى: أمَّا الجنون المطبق فلا خلاف بين أئمة العترة والفقهاء أنه موجب لبطلان الإمامة، لأنه من استمر عليه الجنون يكون حينئذ كالصبي، ومن كان كالصبي كيف يكون والياً على أمور المسلمين؟! قال: وأما العمى فلا خلاف بين أئمة العترة أيضاً والفقهاء أنه موجب لبطلان الإمامة، وحكى عن الشيخ أبي علي الجبائي أنه لا يكون مبطلاً لهما، واحتج على بطلان ما قاله بأن أمور الإمامة لا تستفيم إلا مع الصبر، قال: وأمَّا الزمانة المفرطة والمرض المقعد فهما مبطلان للإمامة بلا خلاف بين أئمة العترة والفقهاء لما ذكرناه.

قُلتُ: ولقائلٍ أن يقول أما ما كان من هذه الآفات والعوارض مقارناً للدعوة أو واقعاً عقيبها فلا كلام أن ذلك مانع عن المقصود، وصاد عن المراد، ولا معنى لانتصابه حينئذ، ولا غرض يعود منه.

وأمَّا إذا فُرِضَ أنَّ هذا أمْرٌ عرض له بعد أن استثبت أمره، وظهر قهره، وانتشر ذكره، ومهد الأمور وساسها، وبعث العمال، ونصب الكفاة، وصار يسوس الأمر ويدبره من مقره، وأوامره نافذة في النواحي ويتلقاه بالقبول، وفي كل جهة والي يدبر أمرها وينظر في حوادثها، ويقيم ما شرعه الله، وقام الإمام لأجله فيها من الجمعة والحدود وقبض الحقوق، وكف يد الظالم عن المظالم، ونصب راية الجهاد، والقيام بواجبه، فما المانع من بقاء إمامته، مع بقاء عقله وتدبيره وحسن رأيه، وكون الذي عرض له إما عمى أو صمم أو نحوهما، مما لا يمنعه عن فهم الوقائع والاطلاع على الحوادث والنظر فيها؟وكون العارض لا يبطل معه تصرفه وآرائه وسياسته، ولا يختل به خلل في أمره، وما قام له، لا فيما حضره، ولا فيما غاب عنه.

 وقد لاح لي من سيرة الإمام الأجل المتوكل على الله عز وجل أحمد بن سليمان أنه بعد عمى بصره صدر عنه من التصرفات مالا يسوغ إلا مع بقاء الولاية، وليس المرض المزمن والعمى بأشد في ضعف أمره وإخلال تصرفه مما جرى لعمر بن الخطاب من تلك النازلة التي ألمت به وقطع لأجلها بذهابه، وصار مأيوساً من حياته، ومن المعلوم أنه لم يرفع يده عن التصرف حينئذ في بقية حياته ولا فيما يكون بعد وفاته، وكان منه ما كان من الأمر بالشورى، وإلزام العمل بمقتضاها إلى حد إلزام القتل عند التنازع، وكان منهم التزام ذلك والعمل به، ولا معنى للزوم امتثال أمره فيما أمره به إلا حيث هو في تلك الحالة بأمر الإمامة، ولو كانت إمامته قد بطلت لذلك العارض لبطل أمره، فلا يعمل بقوله، ولا يعتمد عليه، والله سبحانه أعلم.

ومن هذه العوارض وقبيلها وإن لم يكن من فعل الله تعالى الأسر المأيوس فكاكه.

قال الإمام المهدي عليه السلام : واليأس هو غلبة الظن أنه ينقطع عمره تحت الأسر لأمارات تقتضي ذلك، قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : وهذا مذهب العترة، واختاره السيدان الأخوان، لأن ما ذكر بمنزلة العلة التي لا يرجى زوالها، فإن لم يكن مأيوساً عنه لم ينعزل، ويصير بمنزلة يرجو الزوال، وهل العبرة باليأس به أو بالناس؟ الأظهر أن العبرة بهم في ذلك لا به، فإن التكليف في نصب غيره يتعلق بهم لا به، والنظر في ذلك إليهم لا إليه، فربما يتعذر عليهم فهم ما لديه.

 فإذا قام غيره بعد الإياس منه ثم اتفق تخلصه من الأسر، قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : فالمحكي عن الإمامين القاسم والناصر أن على من قام تسليم الأمر إلى الأفضل فيهما، فإن أبى كان مخطئاً فاسقاً، هكذا لفظه، حكاه الإمام يحيى عنهما، وفيه انضراب واختلال لا يخفى على المتأمل، والذي حكاه القاضي عبد الله الدواري عنهما     عليهما السلام : إن المفضول يسلم الأمر للأفضل وإن لم يسلم فسق، وهذه عبارة قويمة وحكاية مستقيمة.

قال: وحكي عن بعض الزيدية: إن الثاني أحق لتحمله الأعباء وصبره على المشاق في مجاهدة أعداء الله تعالى، قال: وهو مَحْكِيٌّ عن زين العابدين()، والنفس الزكية()، وهو رأي السيدين الأخوين، قال: وهو المختار، لأن الثاني قد صار أفضل من الأول المأسور، الذي قد تقادم عهده، وعقدت الأمة لمن قام بالأمر بعده، فلا يجوز نقض ذلك، لأنه وقع في حال يجوز منه وينعقد، كما لا يبطل نكاح الأمة بوجدان الطَّول   على نكاح الحرة، وكذا من أخذ الزكاة وهو فقير ثم حصل له الغنى من بعد فإنه لا يلزمه دفع ما كان أخذ منها.

قُلْتُ: ولا شك في قوة هذا القول، لأن قيام الثاني كان بعد بطلان إمامة الأول وزوالها، وهو كما لو كان ذلك المأسور لم يدع مع كماله.

فائـدة:

اتفق هذا العارض وهو الأسر للإمام العظيم المهدي لدين الله إبراهيم بن تاج الدين()، وكان من أقمار الأئمة الأطهار، وأسره سلطان اليمن بأفق حول ذمار، وكان رحمه الله من أهل الجد والاجتهادفي إقامة راية الجهاد، وحط على صنعاء مرة بعد أخرى، واشتهر أن سبب أسره وغلبة السلطان عليه خذلان الأمير داود() بن الإمام المنصور بالله له، وأنه خدعه وطمع فيما بذل له من السلطان، وإلى ذلك عرّض الإمام في قصيدة له  ذكر فيها قصة أسره وما كان من أمره، حتى قال:

حتى إذا خان بعض الأهل موثقه

 

وغرَّه فضة السلطان والذهب

ولم يقم أحد بالأمر في حياته بل انتظروا أمره، وكان من أنصاره وأعوانه ونبلاء زمنه وأعيانه الأمير الشهير الجليل الخطير المؤيد بن أحمد() والإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى() ، ولما دنت منه الوفاة أوصى إليهما، ورقم وصيته بخط يده، في كتاب كان معه بلغ به إليهما، واستغاث بهما في تنفيذ وصاياه، حتى كان آخر ما رقمه في وصيته: يا مؤيداه، يا مؤيداه، يا مؤيداه، يا مطهراه، يا مطهراه، يا مطهراه، وقام بعده بالأمر الإمام المتوكل المذكور، فبورك للدين والمسلمين فيه، وأمر أهل الجهات الخولانية بتسليم الزكوات إلى الأمير المؤيد، لقضاء ديون الإمام إبراهيم، واتفق هذا العارض للإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى، فأسر في قصة يوم معبر، وقد جرى له قريب من الأسر في بيت بوس وخلص منه فوراً، فأسر من خروجه في أسره الثاني، وظن أنَّهُ يشددون() فيه، وحينئذ فزع طائفة من أهل الحل والعقد إلى والدنا الإمام الهادي لدين الله عليه السلام ، منهم القاضي العلامة محمد بن حمزة بن مظفر ذي المصنفات المتعددة في علم التفسير، فإنه جد في ذلك واجتهد، وكانت له فيه مساع مشكورة، وعنايات مأثورة، وكتب ورسائل في الآفاق منشورة، وتابعه وتبايعه() أعيان عصره وعلماء دهره، كالسيد فقيه أهل البيت أحمد بن دواد() وهو ووالده ممن حضر قيام المنصور علي بن صلاح() مع القاضي عبد الله بن حسن الدواري، ثم ندما فيما بلغنا وأظهرا التوبة، وكالسيد محمد بن الداعي أحمد بن علي بن أبي الفتح() ، وكان آية في زمانه، بلغ أنه كان يحيي الليل كله بركعتين اثنتين يتلو فيهما القرآن كله، والسيد محمد بن جبريل() من أولاد الإمام الداعي، وله تصنيف في آيات الأحكام وغيرها، هؤلاء من السادة آل يحيى وغيرهم، وكالفقيه العلامة جبل العلم يوسف بن أحمد بن عثمان() ، والقاضي الأفضل أحمد بن سليمان النجري، وكان من أعيان الزمان، والفقيه الفاضل ذي الكرامات الباهرات محمد بن صالح الآنسي() ، والفقيه الأعلم الأوحد الأعبد محمد بن ناجي الحملاني وإخوته وكثير من غيرهم.

 وممن بايعه في مبتدأ الأمر السيدان الأوحدان الأخوان الهادي ومحمد ابنا إبراهيم بن علي المرتضى،  ومن شواهد ذلك رسالة أنشأها الهادي في تفضيله وذكر كماله أولها: الحمد لله، عليك من إمام أمة، وكاشف غمة. رفع فيها من شأنه، وقضى بعلو مكانه، وكتاب كتبه السيد محمد بخط يده وجهه إلى الإمام جواباً عن كتاب الإمام إليه، وقفنا عليه، وفيه من التعظيم والتبجيل والثناء الجميل مالا يقدر قدره، وهو مفتتح بأبيات قد ذهب أولها، والباقي منها يصف فيه الكتاب الوارد إليه:

فضضت ختامـه فأفاض دمعي

 

وفضّ الفهم من قـلب جريح

فـلو قـد كنت ميتاً ثم نودي

 

بـه لأجبت من تحت الضريح

 

فيـا عـجباه من طرس بديع

 

حبـاه الله معـجـزة المسيح

وآخر تلك الأبيات الرائقة:ـ

أمـير المـؤمنين بقيت فيـنا

 

عـلى رغـم العـدو بقاء نوح

ولا زالـت تقاد إليك طوعاً

 

رقـاب العـاصيات من الفتوح

ثم اتفقّ بعد ذلك خروج الإمام المهدي وفكاكه من الأسر، وكانت للهادي على بن المؤيد في ذلك عناية، وبعد خروجه جاء قاصداً إلى الإمام الهادي إلى [صعدة] حتى وافاه بوادي فلله، حال نهوضه إلى صعدة لافتتاحها، بعناية من الأمراء آل زيد فاتفق وخطب كل منهما، وكانت خطبة الهادي منطوية على التهنئة له بخلوصه من السجن وخروجه منه، وختمها بأبيات رائية الروي، بليغة، مضمنة للبيت المشهور، وهو:

وما جئت حتى أيس الناس أن تجي

 

وسميت منظوراً وجئت على قدر

 يشير على أنه جاء حال الانتهاض لافتتاح تلك المدينة، ويزعم كثيرون أنه إنما ضمن أبياته البيت المذكور لتشير إلى حصول الأيس منه بخروجه وما يقتضي من بطلان إمامته وصحة إمامة نفسه.

 ثم كان لهما موقف شهده الفضلاء والعلماء بصعدة في دار القاضي يحيى بن عبد الله بن حسن الدواري في أول يوم الجمعة، وجرى فيه التسليم من المهدي للهادي، وأشهد على نفسه بذلك جماعة من الفضلاء، منهم السيد أحمد بن داود بن يحيى بن الحسين، والفقيه محمد بن صالح الآنسي، وبنوا على أنه يتولى خطبة الجمعة، ويذكر ذلك ويصرح به وخرجوا من تلك الدار وتفرقوا منها على ما ذكر، فلما فشى الخبر وساء كثير من الناس، فمن له نفار عن الإمام الهادي وكراهته لقوة شوكته -كالقضاة آل الدواري- احتالوا في بعض ما أبرمه من ذلك على يد رجل يقال له: (ابن مكابر)، يسعى في ذلك، وكان من أهل حلاوة اللسان، والإمعان في الخداع، والمهارة في المكر، حتى شوش قلب المهدي وثبطه عن ذلك، فانتظر لموعده، وتولى الصلاة، فلم يحضر بل أقام المطهر حتى كاد الوقت يفوت، فصعد الهادي المنبر وتولى الخطبة والصلاة، وحين فهم ذلك المهدي خرج من مطهره، ودخل وصلى مع الناس.

روينا ذلك كله بأسانيد صحيحة وروايات صريحة عن العدول الثقات، منهم والدي() قدس الله روحه، ومنهم رجل موثوق به من الفقهاء آل أبي الرجال، يرفعه إلى الفقيه محمد بن صالح،  ومنهم حي الإمام المتوكل() ، الكل منهم ساق في روايته وفيها اختلاف، ويتحصل مما اتفقوا عليه ما ذكر، إلا المتوكل فإنه لم يرو التسليم، بل التواطؤ عليه من طريقة أخذنا نسبة التعبير إلى ابن مكابر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ولم يزل الهادي والمهدي مصطحبين، متواصلين، متجاملين، متراحمين، تدور بينهما مكاتبة ومراسلة، والمهدي بعد ذلك الموقف كالمتنحي وإن لم يظهر ذلك ولا يقطع() يده عن التصرفات بالكلية، بل ترك التلقب بأمير المؤمنين، وطوى ذلك من علامته، وإذا عرض عليه أحد ممن قد أجاب الهادي وبايعه أن ينحرف إليه أبى ذلك، وإذا خاض في صلح بين القبائل المتكادين وصعب الأمر عليه صرفهم إلى الهادي، وإذا طعن أحد على الهادي ذب عنه وأجاب على المطاعن، كما كان فيه في شأن أحمد بن قاسم الشامي() ، وكان من شيعة الهادي، ثم نَفَر ولفقَّ مناقشاً في السيرة، قضى بذلك منه عدم صلاح السريرة، ومر على المهدي كالمتحف له بذلك، فأجاب عن اعتراضه ولم يطلعها واحداً، واحداً وانقلب الشامي من عنده خائباً.

ولما توفي الهادي عزّا أولاه فيه، وتألم لذهابه ورقم في أول تعزيته الآية الكريمة: {إنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً} [مريم:96]، وكان إذا عنَّ ذكره له في كتبه يقول: قدس الله روحه ونوَّر ضريحه، وقدِمَ إليه والدي أكرم الله نزله وهو بناحية لاعة بعد موت والده الهادي، فسلم له ما تركه من الحصون بناحية اليمن، واستشاره في الديون التي مات وهي عليه، استدانها لبيت المال، فأمر قبائل خولان بتسليم واجباتهم لقضائها، رحمهم الله تعالى أجمعين، ورفع درجتهم في عليين، وجمع بينا وبينهم في دار النعيم وجواره الكريم.

الضرب الثاني: مما يبطل إمامة الإمام هو ما يتوقف على اختياره، ولا يزول معه التمكن من التصرف كالكفر والفسق.

قال الإمام يحيى: فإذا وقع من الإمام على جهة التعمد للعصيان بطلت إمامته لانعقاد الإجماع من أئمة العترة والفقهاء على أن الإمام لا يجوز أن يكون كافراً ولا فاسقاً، واستظهر عليه بتبريء النبي صلى الله عليه وآله وسلم  من خالد بن الوليد بقتله بني جذيمة،  وما كان من علي عليه السلام  في أمر ابن عباس لما ولاه الحجاز فأخذ ماله ، وأنكر عليه غاية الإنكار، ووبخه غاية التوبيخ، لما خان في عمالته.

قُلْتُ: المشهور أن ذلك كان في توليه على بعض الأمصار في العراق.

قال عليه السلام : وما كان من علي عليه السلام  في حق القعقاع برسوله والمغيرة بن شعبة من الإنكار عليهما لما خانا في عمالتهما وأخذاها ولحقا بمعاوية، فإذا كانت ولاية العمال تبطل بالفسق فهكذا حال الإمام تبطل ولايته مع الكفر والفسق أولى وأحق.

واعلم: أن الفسق ينقسم إلى باطن وظاهر، قال المهدي: فإن كان باطناً لم ينحل به عقد الإمامة، قال: لأنه قد جاز العقد لمن يجوز أن يكون باطنه الفسق وكذلك إذا حدث ولم يعلموه.

قُلْتُ: هذا الكلام قلق، فإن أراد أن الذي فسق باطناً إمامته صحيحة غير باطلة ولا ذاهبة حقيقة، وفي نفس الأمر نجيب إلى أنه بنفسه يجوز له أن يورد ويصدر ويتصرف كما لو لم يكن كذلك، فهذا بعيد، وما هو حينئذ إلا ظالم، مريد جمع إلى فسقه المبطل لحقه التصرفات العظيمة الذي هو الآن ليس من أهلها ولا بمحل لها.

وإن أراد أنه بعد ذلك باق على الإمامة في ظاهر الأمر، وفي حق الأمة، بحيث أنه لا جناح عليهم في طاعته ومتابعته والتزام أوامره ونواهيه إذ ليسوا متعبدين بما غاب عنهم، فهذا صحيح لا نزاع فيه، إلا أنه لا يعد مثبتاً لإمامته ومانعاً من بطلانها في نفس الأمر، كما فيمن عقد له والظاهر العدالة وهو في الباطن فاسق.

قال الراوي: إذا كانت معصيته سراً لم يطلع عليها، فلا تعود إمامته إلا بتجديد العقد عند القائلين به، لكن ليس عليه أن يطلعهم على فسقه وبطلان إمامته، بل القصد تجديد العقد، ولو أوهم أنه أراد بتجديده الاحتياط والتأكيد، بل لا يجوز أن يخبرهم بأنه عصى، وعلى القول بأن المعتبر هو الدعوة فإنه إذا تاب من تلك المعصية الباطنة تعود إمامته حيث كان باقياً على التجرد للقيام بأمر الأمة.

قال المهدي: وإن كان فِسْقه ظاهراً فاختلف الناس في ذلك، فالجمهور من المعتزلة والزيدية -وهو مذهب الشافعي() رضي الله عنه- أنه يخرج بذلك عن كونه إماماً، كما لا يجوز ابتداء العقد له، وهو الذي رواه العراقيون عن أبي حنيفة() ، وأنكروا أن يكون مذهبه جواز إمامة الفاسق، وحكي عن ابن الملاحمي من() معتزلة خراسان وأهل ما وراء النهر: إنه لا يعزل بالفسق الظاهر، وأنه يجوز العقد للفاسق.

ولمحمد بن الحسن() قولان في بطلان ولايته بالفسق، واحتج عليه السلام  على بطلانها بقوله تعالى: {لاينالُ عَهْدِي الظَّالِمِيْنَ} [البقرة:124]، وقرر الاحتجاج بها بما أمكن.

وعندي أن الاحتجاج بها ضعيف على القول بأن المسألة قطعية، واحتج بأن الإمامة إن ثبتت بالنص فلا يجوز أن ينص الله على فاسق ويأمر بالاقتداء به، وإن ثبتت بالاختيار فلا يجوز للمختارين اختيار من لا يثقون بدينه، لأنهم باختياره حكموه في دماء الناس وأموالهم.

قُلْتُ: وأهمل رحمه الله تعالى ما إذا ثبتت بالدعوة فيزداد، وإن تثبت بالدعوة لم يجز لأحد أن يجيب دعوته، ولا يعتبرها، ولا يلبي نداه.

وكيف يقوم الظل والعود أعوج

تنبيه:

إذا تاب من كفره أو فسقه هل تعود إمامته وولايته أو لا؟

قال الإمام يحيى: الذي عليه أئمة العترة والفقهاء أن إمامته تعود إليه، وحكى عن أبي العباس() والإمامية إنها لا تعود إليه أبداً، ولا يصلح لها بحال، قال: والمختار: أنها تعود بالتوبة كما هو رأي الأئمة، والمعتزلة، والفقهاء، كما يزول بالتوبة الشرك وهو أعظم المعاصي.

قُلْتُ: والتحقيق أنه كفر أو فسق بطلت إمامته، وصار الكفر أو الفسق مانعاً منها، فإذا تاب زال الكفر والفسق ولم يصر إماماً إلا بثبوت طريق الإمامة وحصولها، وتجددها بأن يجدد الدعاء إلى الله تعالى عند معتبري الدعوة، أو بأن يجدد نصبه واختياره والعقد له عند معتبري العقد، وهذا هو مذهب المتقدمين من أئمة العترة أنه يجب تجديد الدعوة بعد التوبة كما يجب ابتداء، وحكى في (الإنتصار) عن القاسمية: إنه يعود إلى الإمامة بمجرد التوبة من غير تجديد الدعوة وهو كمذهب المعتزلة والفقهاء في عود إمامته من غير تجديد العقد والاختيار.

ووجه ذلك بأنه إنما كان إماماً لحصوله على الصفات المعتبرة في حقه، فإذا فسق زالت الولاية وما يجب له، فإذا تاب عاد على ما كان عليه من الصفات المعتبرة الموجبة لإمامته وهذا الوجه ضعيف، وهو احتجاج بنفس ما ذهبوا إليه من غير زيادة، وما مثله إلا مثل رجل كان يملك شيئاً فأزال ملكه ثم ندم على السبب المزيل للملك، فكما لا يعود إلى ملكه إلا بتمليك جديد كذلك حكم مسألتنا هذه، وقد أسند() مذهبهم بأن في تجديد العقد مشقة، وإظهاراً للوحشة، وحطًّا من الدرجة، والمثولة، ومتبعاً للأمر، وذلك خلاف للمشروع، وهو إسناد() لا تعويل عليه، وليس مثل ذلك يمنع من الرجوع إلى القواعد المعتبرة، ولا تجديد العقد له، أو تجديد الدعوة بأشنع من ارتكابه، ظهر الفسوق بظهور ذلك في حقه، وانتصر الإمام يحيى بن حمزة عليه الصلاة والسلام بعدم الافتقار إلى تجديد الدعوة عند معتبريها، بأنه إنما صار إماماً لكماله وإحرازه شرائطها، وتلك الصفات حاصلة كاملة، وقد زال المانع، قال عليه السلام : وأما على قول معتبري العقد والاختيار فلا بد من التجديد.

قُلْتُ: إنما يصح ما ذكره لو كان مذهب معتبري الدعوة، معناه أنه يصح أن يصير إماماً بنفس كماله وجمعه للشرائط، وهم لا يقولون بذلك، وإنما نسب الحاكم هذا القول إلى قائل مجهول، ومذهبه غير مشهور، ولأنه غير معمول به()، وإنما المشهور أنه إنما يصير إماماً لأجل الدعوة بعد حصول الشروط وكمالها، فالدعوة هي السبب في ثبوت الإمامة والعلة الموجبة لها، فإذا كانت قد بطلت لأجل ما عرض من كفر أو فسق، فلن تعود إمامته إلا بدعوة أخرى، وعلة توجب مثل ذلك الحكم الذي قد زال، وقد يقال: إنا لا نجعل الفسق مبطلاً للدعوة بل مانعاً من ثبوت أحكامها، فإذا زال المانع استمر إيجاب العلة وهو تكليف الله سبحانه وتعالى.

تنبيه:

هل يُعْتبر الاختبار بعد التوبة من الفسق الظاهر أو لا؟

 لم يتعرض الإمام يحيى بن حمزة والإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى     عليهما السلام  لذلك بإشارة ولا تصريح، لكن تعرض لذلك القاضي عبد الله بن حسن الدواري، وقال: إذا كان فسقه جهراً، فإن إمامته لا تعود إلا بعد التوبة ومدة الخبرة، والإستمرار على التوبة سنة فما زاد، ويختبر حاله في تلك المدة، ثم بعد ذلك تعود له الإمامة بتجديد الدعوة عند أهل الدعوة، وتجديد العقد عند أهل العقد.

قُلْتُ: وهذا كلام حسن، وإذا اعتبر ذلك في الشهادة مع خفة المؤنة فيها فالإمامة في ذلك أولى وأحرى.

تنبيه آخر:

في حكم فاسق التأويل، وقد اختلف فقيل: هو كفسق الخوارج، بجامع خروجه من ولاية الله وتأويله ضم جهالة إلى ضلالة، وقيل: لا؛ لأنه بفسق الخارجة متجرئٍ على الله سبحانه وتعالى، متعمداً لفعل القبيح، فمثله لا يؤتمن، ولا يؤمن منه الإقدام على غير ذلك من المحظورات والمنكرات في أمور الأمة والإمامة تعمداً، وليس كذلك فسق التأويل، فإنه إنما ارتكبه بحسنه ظاناً للإصابة فيه مع تحرجه فيما يعلمه معصية.

[الكلام في عزل الإمام واعتزاله]

 

القول في أنَّه هل للإمام أن يعزل نفسه ويتنحى عن الأمر أو لا، إلى غيره أو لا، إلى أحد أولا؟ وهل للعاقدين له أن يعزلوه أو لا؟ أما عزل العاقدين له إياه فالأظهر أنه ليس لهم ذلك، وأنه لا يعتزل إن عزلوه، لأنه قد صار بعد العقد والاختيار إماماً يلي التصرف عليهم وعلى غيرهم ويده فوق أيديهم، ولو جعلنا لهم أن يعزلوه وحكمنا بصحة ذلك لكانت أيديهم فوق يده، ولكانوا هم المتولين عليه، هذا مع استقامة حالهم() وعدم انتشار أمره واختلاله.

قال القاضي عبد الله بن حسن الدواري: فأما إن وقع في أمره اختلال بحيث لو عرف ذلك قبل العقد لم يعقد له، فلهم عزله، بل ربما أنه قد انعزل بذلك من غير عزل.

قُلْتُ: وفي هذا الكلام نظر، والقصد أنه لا سبيل لهم إلى عزله، بل إن حدث منه ما يبطل إمامته انعزل وبطلت من غير عزل، وإن لم ينته به الحال إلى ذلك فلا يد لهم عليه ولا سبيل لهم إليه.

 وإن تنحى إلى غيره، فقال الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى: لا يجوز، إذ قد تعلق به التكليف بانتصابه وتجرده، وليس إليه إسقاط ذلك التكليف عن نفسه بعد لزومه إلا ان يسقطه الله تعالى عنه، ولا طريق إلى معرفة ذلك إلا عن وحي، ولا وحي بعد موت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم .

قال: فأما مع تنحيه لقيام من هو أنهض منه بأمر الجهاد، ومن هو أصلح للإمامة فجائز، فإن وجد الناصر إلى المقصود بالإمامة صلاح أمر الأمة فإذا كان بقيام الآخر أتم وأكمل، وغلب في الظن ذلك، وجب على القائم الأول التنحي له رعاية للمصلحة.

قُلْتُ: الذي يظهر لي جواز التنحي إلى غيره، إذا كان ذلك الغير يقوم مقامه، ويسد مسده، ويحصل به من إقامة أمر الإمامة وتكاليفها ما حصل به، إذ المقصود هو ذلك، وليس ثم ما يوجبه بعينه دون غيره، ولا دخوله في الأمر يلزمه الاستمرار إلا حيث يقع الخلل بالترك، وإلا فما الدليل على لزوم ذلك مطلقاً؟!

وأما تنحيه إلى من هو أنهض منه فإن () لم نجعله واجباً ونحكم بلزومه، وإلا فلا أقل من أن يكون أولى وأعلى، فإن الغرض يكون بذلك أولى وأوفر، والصلاح فيه أوضح وأظهر، والقصد بالإمامة حصول ما يستدعيه مما يتوقف عليها من إحياء الدين، وجهاد المعتدين، ونفع المسلمين، وقمع الظالمين، وما كان أدخل في المقصود كان أرجح وأصلح، وأوجب وألزب، وليس القصد بما يجب على الإمام أمراً راجعاً إلى نفسه مختصاً به، إنما يرجع إلى عامة المسلمين وتكليف الدين، والمتوجه صرف النظر إلى ما هو أصلح، والأقوم بحوائجها ومعانيها، والله تعالى أعلم.

وأمَّا تنحيه عن الأمر لا إلى غيره، واعتزاله عن التكاليف الإمامية واطراحه لها، فقد قال الإمام عماد الإسلام: لاخلاف بين أئمة العترة والزيدية والمعتزلة والفقهاء أنه لا يجوز لمن كملت فيه أوصاف الإمامة أن يعتزل عن النظر في أمر الرعية، ويتنحى عن التصرف فيما يتصرف فيه الأئمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان يجد من يعينه على ذلك من أهل الفضل والدين، فإن لم يجد من أهل الفضل وأهل العلم من يعينه على أمرها جاز له الاعتزال والتنحي، ويكون ذلك عذراً في الاعتزال كما فعل أمير المؤمنين في أول الأمر، فإنه اعتزل عن التصرف لما لم يجد أعواناً على مأربه مع أن الحق كان له إلى أن وجد الأعوان على ذلك، وكما فعل الحسن بن علي() لما فسد عليه أصحابه وخذلوه فإنه اعتزل الأمر وخلاه لمعاوية.

وكما فعل القاسم لما بويع له واجتمع إليه الناس، لما رأى فشلهم ونكوصهم عن نصره، وفساد قصودهم، وميلهم إلى الدنيا، وإعراضهم عن الآخرة، وغلب على ظنه أنه لا يمكنه القيام بالأمر فاعتزل، وهكذا غير هؤلاء من سادات أهل البيت وأئمة العترة يعتزلون عن التصرف إذا لم يجدوا ناصراً، لأن المقصود وجه الله تعالى والإعراض عن الدنيا، فإذا لم يكن الأمر صافياً عن الأغراض الدنيوية كان ذلك موجباً للاعتزال، وهذا هو اللائق بمن كان مقصوده الأمور الأخروية.

وقال الإمام المهدي عليه السلام : الأصح في فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه والقاسم عليه السلام  أنها لم تبطل ولايتهم، باعتزالهم() المذكور، ولكن يسقط فرض الجهاد فقط.

وأقول والله الموفق: ينبغي تلخيص هذه المسألة وتحقيق النظر فيها، وإني لم أزل أتأمل في أمرها والنظر في أطرافها، وأعدل ما يقال فيها، والأقرب أن حال الداعي الداخل في هذا الأمر المتحمل لأعبائه لا يختلف في أول الأمر وآخره، فلا يكون لدخوله في هذا الأمر تأثير في اختلاف التكليف، بل تكليفه بعد دخوله كتكليفه قبله، ولا يختلف الحال إلا باختلاف الاعتبارات وتعاكس الحالات، فمتى فرض أنه قبل قيامه قد تعين عليه الأمر وتحتم عليه هذا التكليف وصار لازماً له، لا مخلص له عنه بأن يقوم أحد مقامه، ولا يسد مسده، وحيث يؤدي تأخره إلى اختلاف أمور الدين، وانتشار نظام الإسلام، قد دخل في ذلك الأمر قاصداً لوجه الله تعالى، قائماً بما فرض الله تعالى، فما عدا مما بدا؟!. وحاله في الانتهاء كحاله في الابتداء، وحيث لم يتحتم الأمر عليه ولا يتوجه إليه، وكان واجباً مخيراً أو فرضاً موسعاً وغيره يقوم مقامه، ويسد مسده، واستمرت الحالة هكذا من قبل قيامه إليها بعده، فليس دخوله في الأمر بعد عقد الإمامة لازماً وأمراً واجباً، كنذر الناذر وهبة الواهب، وبيع البائع، ولا ثم دليل ولا شرع يقضي بأن نفس الدخول في الأمر يعد من العقود اللازمة والموجبات القائمة، هذا على سبيل الجملة، ثم إذا فرض أنه دخل في الأمر لتعيينه وتضيقه في حقه، ثم اتفق بعد ذلك أن نشأ وحصل من الصالحين لهذا الأمر والذين يقومون مقامه طائفة بحيث أن تنحيه لا يؤدي إلى ضياع الأمر وانتشار النظام، وتنفس أهل الظلم والإجرام، صارت الحال غير الحال، واتسع حينئذ المجال، وكذلك لو فرض أنه دخل في الأمر لا لتعيينه عليه بل ليقوم بفرض الكفاية لوجدان الصالح غيره، ثم تعقب ذلك عدم من يقوم مقامه ويسد مسده، فإنه يصير الأمر مضيقاً عليه ومتعيناً بعد أن لم يكن كذلك.

وكذلك فرض أنه دخل في الأمر لتعينه عليه وتحتمه ولزومه، غالباً على ظنه وجود الأعوان وصلاح الشأن، فاتفق بعد الخذلان، وخان العهود وخان، حتى آل الأمر إلى البطلان، فإنه مع ذلك يصير في فسحة من الأمر، ويكون في تخلصه من الدرك، وخروجه عن هذا التكليف أمير نفسه، بل الخروج والتخلص عن الدرك أولى به وأليق بحاله.

فكذلك لو فرض أنه لم يتهيأ له استقامة حاله وانتظام أمره إلا بخروجه عن القانون الشرعي، وبسلوكه السبيل غير المرضي، واعتلاقه بما يؤثمه من التصرفات، وإن كان في خلال ذلك قائماً بالأمور المهمات، ومحصلاً للمصالح الدينيات، فإنه لا يلزمه أن يتعرض للاثم ويضر نفسه لينفع غيره، فإن نظره لنفسه أولى به وأوجب عليه، ولا ينبغي أن يكون كذبالة يضيء للناس وهو يحترق.

 

القول فيما يلزم الرعية للإمام

قال الإمام يحيى عليه السلام : يجب عليهم نصرته، ومؤازرته، وإعانته، ومعاضدته، وإعانته على ما وجهه من المكالف، وأن يطيعوه فيه، وينقادوا لأمره، وينهضوا إذا استنهضهم لقتال عدوه، ولا يكتمون عليه شيئاً من النصائح، ويجذبوا له النصيحة من أنفسهم سراً وجهراً، ويحرم عليهم خذلانه، قال عليه السلام : والأصل في ذلك كله قوله تعالى: {ياأيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسُوْلَ وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].

قال: وأولو الأمر هم الأئمة بإجماع الأمة، وروى زيد بن علي عن آبائه عن علي  عليهم السلام  أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر الله تعالى إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل بايع إماماً عادلاً فإن أعطاه شيئاً من الدنيا وفا له، وإن لم يعطه لم يف له، ورجل قاعد على ظهر الطريق يمنع سابلة الطريق، ورجل حلف بعد العصر لقد أعطي بسلعته كذا وكذا وأخذها الآخر مصدقا له بيمينه وهو كاذب)).

قُلْتُ: ظاهره وقف هذا الحديث على علي عليه السلام ، وهو مما رفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،  وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة ولفظه: ((ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق يمنعه ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً في سلعة بعد العصر فحلف له بالله تعالى لأخذا بكذا وكذا فصدقه وأخذها وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها ما يريد وفا له وإن لم يعطه لم يف له)) ().

ويتفرع على هذه الجملة سبعة أحكام

[1] حكم [العمل بقول الإمام]: هل قول الإمام يكون حجة يجب العمل به؟

حكي عن السيد أبي العباس والإمامية: إن قوله حجة فلا يجوز لأحد مخالفته فيما قاله، والذي عليه الجماهير من الأئمة وسائر الأمة أنه ليس بحجة، وفصل الإمام يحيى عليه السلام  فاختار أنه حجة فيما يتعلق بالفتاوى دون غيرها لقوله تعالى: {ياأيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسُوْلَ وأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ}، وهو عام في وجوب الطاعة إلا ما خرج بدليل، ولقوله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُوْلَ فقَدْ أطَاعَ اللهَ}، فإذا كان الإمام مطيعاً للرسول فيما أفتى به من الأحكام الشرعية وجبت طاعته، قَال: وهذا هو المراد بقولنا إن قوله حجة لا يجوز مخالفته فيما أفتى به من الأحكام الشرعية المطابقة للكتاب والسنة، فأما غير الفتاوى فلم تدل عليها دلالة فلهذا لم تكن لازمة.

 واحتج القائلون بأنه حجة مطلقاً بأنه كما لا يجوز مخالفته فيما حكم به كذلك فيما قاله، واحتج النافون مطلقاً بأن إثباته حجة لا تصح إلا بدلالة عقلية أو شرعية، ولا دلالة على ذلك من أي الجهتين.

قُلْتُ: وحجة المسير بحجة قوله: مطلقاً. باطلة، لأن قياس ذلك على حكم قياس فاسد، إذ لا جامع بين الحكم وغيره، ولو لزم ذلك في الإمام للزم في الحاكم المنصوب للقضاء، إذ لا يجوز مخالفة حكمه.

وأما ما احتج به الإمام يحيى عليه السلام  على ما اختاره من التفصيل فاحتجاج عليل -لا يخفى على متأمل- خفي وجهه ودلالته، وأن الذي احتج به -إن دل على أن قوله في الفتاوى حجة- فليدل على ذلك في غيرها فليس ما أدلى به يختص بالفتاوى دون غيرها.

وقوله: فإذا كان الإمام مطيعاً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ... إلى آخر كلامه فيه ركة، وما كان مثل ذلك ينبغي أن يصدر عن مثله.

قُلْتُ: بل حكم من بلغه دعوة الإمام، وتحقيق ذلك: أنه إن علم جمعه للشرائط بالتواتر، فإن كان له عذر عن الوصول إلى الإمام لم يغفل عن الدعاء إليه وعن الدعاء له، والعذر كمرض مانع، أو كَفِل وَالِدَين عاجزين لا يجدان من يكفلهما غيره، أو ملازمة غريم لا يجد قضاءه، أوخوف على نفسه أو ماله، وإذا لم يكن له عذر توجه عليه النهوض إلى الإمام والبلوغ إليه لتحقيق حاله، فليس الخبر كالعيان، وليتعرف الإمام ويعرض عليه نفعه فيما يصلح له، كتولي عمل، أو قضاء، أو نحو ذلك كالوزارة، حيث كان من أهل الرأي والمشورة، ولا يجوز له التأخر والتراخي إلا حيث علم أن لا حاجة للإمام إليه.

قال الإمام يحيى عليه السلام : وإذا كان له مال وفيه سعة وجبت عليه المواساة  له بما قدر عليه مما يكون فاضلاً عن كفايته وكفاية من يمونه، لقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف:10]، إلى آخر الآيات فنفهم منه وجوب الجهاد بالمال كوجوبه في النفس، وإن علم بالتواتر أو الخبر عدم() جمع الداعي للشروط فلا يجب عليه النهوض إليه ولا إلى غيره إذ الإمامة باطلة.

وإن كان لا علم له بكمال الداعي ولا عدم كماله، فإن كان لا عذر له نهض إليه ليختبره ويعرف حاله فيما مثله يعرفه، ويسأل غيره عما لا يعرفه كما لو كان غيره عالماً أو كان عالماً ببعض الفنون دون بعض، فإنه يرجع إلى من يعلم ذلك كله ممن يثق به، وإن كان له عذر بحث وسأل واستخبر من مشافهة ومكاتبة، وكان فرضه الرجوع إلى أهل المعرفة والفضل، وقد تقدمت في ذلك إشارة.

تنبيه:

إذا خشي المكلف من ظالم في بلدة على نفسه إذا نهض للبحث عن حال الإمام أو إذا قام بما يجب له عليه، فإن الهجرة تلزمه عن دار شوكته، لأنه محمول حينئذ فيها على الإخلال بواجب كما لو حمل على ترك الصلاة ونحوها.

تنبيه آخر:

ما ذكر من وجوب البحث ثابت على الرجال فقط دون النساء، فالأقرب أنه لا يلزمهن البحث، لأن فرض الجهاد ساقط عنهن ووجوب متابعة الإمام فرع على وجوب الجهاد.

وأمَّا الزكاة فللإمام مطالبتهن بها وأخذها منهن، إذ له أخذها ممن لا يعتقد إمامته ولهن أن يقلدن في صحة إمامته، ذكره المهدي عليه السلام : قال: وهو الذي يترجح عنده، وفي تعليق اللمع للدواري ما لفظه: لا يلزم المرأة معرفة إمام زمانها بالإجماع إلا إذا كان عليها زكاة فعليها أن تعرف إمامته لتدفع الزكاة إليه أو بإذنه.

2ـ حكم مَنْ توقَّفَ في الإمام

اعلم أن التوقف يختلف باعتبار القصد فيه وباعتبار مدله.

أما القصد فإن عرف من المتوقف أن توقفه لسوء قصد، كأن يتوقف عن اتباع الإمام وطاعته، أو يشق عليه أمر المتابعة والقيام بحق الإمام وتكاليف الإمامة مع معرفته لصحة الإمامة،  أو وجدانه السبيل إلى معرفتها، أو كان توقفه لغرض يعود عليه، وعرض من أعراض الدنيا يتوصل إليه، أو لئلا يفوت عليه بالإثبات أو النفي مأرب له ومكاسب، ونحو ذلك، فمن هذا حاله لا ينبغي أن يعد متوقفاً بل جائراً على الحق متعسفاً، وأنه من المتهاونين بأمر الدين، مخطيء آثم، منخرط في سلك أهل الجرائم.

وإن كان توقفه للتحري في أمر دينه، والتثبت في إقدامه وإحجامه، والمخافة من زلل أقدامه، فلينظر في وقت توقفه إن كان في زمان يسير لا بد للتثبت من التوقف في مثله، وهو ما يسع للخبرة التامة والمباحثة الشديدة الأكيدة، والمتوقف على هذه الكيفية ممدوح غير مذموم، وبريء من النقادة غير ملزوم.

وأما إذا فرط وغلا في التوقف، وطالت فيه مدته، وجاوز القدر المحتاج فيه فمخطيء آثم لتفريطه فيما أوجب الله تعالى عليه من القيام بحق الإمام، حيث كان المتوقف فيه كامل الشرائط ثابت الإمامة، ومن المباينة له وعدم التلبيس في أمره حيث كان غير ثابت الإمامة،  فإنه من دعا وليس بكامل ولا محتوٍ للصفات المعتبرة والشروط المحررة فمباينته واجبة، لا ينبغي في حقه الإدهان، بل يجب كشف القناع والتحذير في حقه عن الاتباع، لأنه ترشح لما ليس أهلاً له، ودخل في أمور محرمة عليه، وتصرف تصرفات لا تسوغ له في النفوس والأموال، ولكن التوقف مع صحة إمامة الداعي أشد خطراً وأعظم تفريطاً، لأن الواجب عليه مع ذلك أوسع وأشد وألزم مما إذا كان الداعي غير إمام، ومع ذلك فهو أقل جريمة من النافي إلى سهولة التدارك والتلافي، وقد كان قال في (الغيث): البحث عن الإمام بعد بلوغ دعوته واجب مضيق لا يجوز التراخي عن البحث لغير عذر فسق، ولا يسعه الإخلال باعتقاد إمامة الإمام، والقطع بها إلا مهلة النظر فقط، لأن العزم على طاعته بعد بلوغ دعوته واجب مضيق للآية: {أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسُوْلَ وأُوْلِي الأمْرِ}، فقرن طاعته بطاعة الرسول، ولا شك أن طاعة الرسول واجبه مضيق، والنظر في صحة نبوته مضيق لأجل ذلك، فكذلك الإمام، قال: ولا منازع في ذلك ولا أحفظ فيه خلافاً، ولا أسمع أن أحداً من الأمة يُسوِّغ التراخي عن التزام أمر الإمام بعد قيامه، والالتزام يتوقف على النظر في كماله، فحينئذ يكون النظر في أمره واجباً مضيقاً من دون تردد.

فـائدة:

سلك بعض أهل الزمان في أمر الإمام مسالك غير معهودة، ولا ينبغي أن تكون لأهل المعرفة والديانة بمقصودة، وما هي إلا بدع محدثة منكرة، ومجانبة للمناهج الواضحة النيرة.

وخير أمور الناس ما كان سنة

 

وشر الأمور المحدثات البدائع

فمن ذلك ما اعتمده بعض الأعيان من معاملة الإمام معاملة لا تقضي بنفي ولا إثبات ولا توقف، وأظهر مدح الإمام والثناء عليه والتعظيم له، والتمس منه الولاية في التصرفات المبتنية عليها، واستعطى منه، وقبل عطيته مما أمره طوعاً وكرهاً، ومما عاقب به العصاة، ومما ضمنه من عليه حقوق لله تعالى، وحصره فحث العوام على طاعته وبيعته ومصارفته، فهذا نوع يقضي بالإثبات، ويخالف حال المتوقف والنافي وينافيه.

ومن طريق آخر: يتحرى في مكاتبة الإمام عن وصفه بالإمامة، وعن تلقيبه بأمير المؤمنين، وعن الإجابة على من سأله عنه بأنه إمام، وهذا مقتضى حال النافي أو المتوقف، واستحسن هذه الطريقة وسلكها إلى أن فارق الدنيا، وتابعه غيره عليهاً، وربما كان يقول هذا رجل كان له كمال ومحاسن خلال، وقد أجابه وبايعه العلماء والفضلاء وأهل الحل والعقد، وهو أصلح وأنهض من غيره، وتأهله لهذا الأمر وقيامه بتكاليفه أصلح من طرحه له وإهماله إياه، وليس غيره يقوم مقامه، ومن مثل هذا يقضي العجب، فإن القواعد المعروفة قاضية بأن الداعي ليس إلا أحد رجلين، إما كامل الشروط جامع الصفات المعتبرة، حسن السيرة والسريرة فهو إمام قطعاً، ومتابعته ومشايعته والتصريح بإمامته كل ذلك واجب شرعاً، وإمَّا خالٍ عن كمال الشرائط منتقض الصفات، فالواجب نفي إمامته، وعدم إظهار متابعته، والحكم عليه بما يقتضيه حاله، واجتناب مذاهبه، وأما هذا المذهب الغريب، والدين المستحدث المريب، فهو من البدع المصادمة لما أوجب الله تعالى وشرع، ولولا محبة الإجمال والستر لأوضحنا الأمر، وصرحنا بما حمل على ذلك من الأغراض الدنيوية والمقاصد التي ليست بمرضية.

ومن ذلك ما اعتمده كثير من المميزين وأهل الدين من التهاون بأمر الإمام، وعدم الاحتفال به والاهتمام، وعدم مواصلته بلسان ولا قلم، وتنزيل وجوده منزلة العدم، وعدم الإنتهاض إليه، ورفض التعلق والتعويل عليه، حتى كأن هذا تكليف قد نسخ، أو أمر قد فسخ، ولا يظهر منهم أن ذلك لتحققهم لعدم كماله وانتقاص شرائطه وخصاله، ولو ادعوا ذلك لن يساعدوا إليه، ولا يقرروا عليه، وإلا فمن أين لهم الطريق إليه، فإنهم ما رأوا الإمام ولا أبصروه، ولا نهضوا إليه ولا اختبروه، وإن ادعوا أن ذلك تواتر لهم، وانتهى إليهم، فغير صحيح، لأن المعلوم من حال من واصل الإمام من ناحيتهم ونهض إليه من جهتهم أنهم لا يعودون منه إلا قائلين به، معتقدين لإمامته، محسنين للثناء عليه، وإنما الحوامل لهم على ذلك متنوعة.

فلعل منهم من حمله على ذلك محبة السكون والدعة، وعدم الاضطراب والزعزعة، والسلامة عن شوائب دنيوية تعرض لملتزم العروة الإمامية، كان حي والدنا الإمام علي بن المؤيد عليه السلام  إذا سئل عن أعيان بايعوه وتابعوه أول الزمان، ثم رفضوا ذلك الشأن، يقول عليه السلام : غلب عليهم حب المدن، ولعل منهم من دعاه إلى ذلك الآنفة عن الانخراط في سلك الأتباع، والتعاظم أن يعد من زمرة الأشياع، وما كان ذلك يليق بذي ديانة وتحقيق، فإن الكبر على كل تقدير مذموم، وصاحبه في الدنيا منتقص ملوم، وفي الآخرة للجنة التي وعد المتقون محروم، فكيف إذا صد عن القيام بما أوجب الله تعالى من حقوق الإمام، ولعل منهم من يعتقد أن الإمامة درجة مرتفعة لا ينالها أحد من أهل الأزمان المتأخرة، ورتبة منيعة عليهم متنكرة متوعرة، وأنها أمر قد طوى وتعذر بكل حال، وما كانت إلا منذ مدة الإمام فلان، فما قبلها من الأزمان، وهذه جهالة ونوع ضلالة،  فلم يكن مثل ذلك حجراً محجوراً، وما كان عطاء ربك محظوراً، وغير مستبعدة لا مستبدع أن يدخر لكثير من المتأخرين ما عزب عن كثير من المتقدمين، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وليس في العقل ولا في الشرع ما يقضي بأن شرائط الإمامة قد تعذرت، وأن مسالك الساعين إليها قد توعرت.

3ـ حكم مَنِ امتنع من بيعة الإمام

الذي ذكره الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام  في كتابه الأحكام: أنها تطرح شهادته، وتسقط عدالته، ويحرم نصيبه من الفيء.

قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : سقطت عدالته، لأن الإجماع منعقد على فسقه بمخالفته الإمام فيما تعود مصلحته على عامة المسلمين، قال عليه السلام : وإنما طرحت شهادته فلأنا إذا حكمنا عليه بالفسق لم يكن مقبول الشهادة، وأما تحريم الفيء فإنما يستحق بالنصرة للإمام والكون تحت طاعته، انتهى.

والحاصل أنها مما يجب للإمام على المأموم، وإن امتنع منها فقد أخل بواجب، ودليل وجوبها الآية الكريمة: {أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسُوْلَ وأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ}، ولا طاعة لمن امتنع من بيعة الإمام، ولأن فيها قوة لأمر الإمام، وقد يقع بها تهوين أمر من يعاديه، وينتظم بها الحال، ويجتمع به الشمل، وتقع بها السكينة والطمأنينة في قلب الإمام وظنه بنفسه على المأموم، وتحصل بها مراعاة المأموم، لما شملته وتأكد طاعته، ويحاذر من مخالفتها أن يصير منسوباً إلى حزب الناكثين، والدخول في زمرتهم.

وكما أنها تجب حيث طلبها الإمام أولا، فإنه تجب حيث طلبها ثانياً وثالثاً لما ذكرناه، والنظر في ذلك إلى الإمام حسبما يراه مصلحة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بايع الأنصار قبل خروجه من مكة بيعتين، بيعة النساء سميت بذلك لاشتمالها على ما اشتمل عليه بيعة النساء المذكورة في سورة المودة، ثم بيعة العقبة على الموت، وبايع بعد مصيره إلى المدينة بيعتين:

فالبيعة الأولى: بيعة الرضوان، لما أمر عثمان أن يتحسس له أخبار مكة، فبلغه أنهم قتلوه، وهي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة().

والبيعة الثانية: يوم الحديبية وإرسال عثمان إلى مكة كان من الحديبية، والإرجاف بقتله بلغ إلى الحديبية، فبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أصحابة على مناجزة القوم وصفق شماله على يمينه فبايع بها لعثمان، وكلام جابر في هذه البيعة التي هي بيعة الرضوان، وبيعة الشجرة وبيعة الحديبية.

قال في سيرة ابن هشام في غزوة الحديبية وقصتها: لما بلغ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  أن عثمان قد قتل لا يبرح حتى يناجز القوم، ودعا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  الناس إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  على الموت.

وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

4ـ حكم ناكث بيعة الإمام

قال الإمام يحيى عليه السلام : من نكث بيعة الإمام العادل المحق، وامتنع من طاعته مع العلم بإمامته فهو فاسق بالإجماع، لكن لا يقاتله الإمام ما لم يظهر العداوة ولم يقاتل، فإن أمير المؤمنين علياً عليه السلام  لم يقاتل ابن عمر() وأسامة() ومحمد بن مسلمة() مع ما ظهر منهم من نكث بيعته لما لم يحاربوه.

قلتُ: يتحقق حقيقة النكث منهم، فالمشهور عن ابن عمر أنه لم يبايع حتى شنع كثيرون عليه لامتناعه من بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، وكونه بايع الحجاج لعبد الملك بن مروان، والمشهور عنهم التوقف والخذلان، وعدم القيام معه في حروبه وتركهم الجهاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

5ـ حكم مَنْ ضمّ إلى نَكْثِ البيعة قتاله

وهذا كما كان من طلحة والزبير في حق أمير المؤمنين عليه السلام  فلم يقتصرا على مجرد النكث، بل كان منهما ما كان من قتاله والبغي عليه والمناصبة له.

قال الإمام يحيى عليه السلام : فلأجل هذا فسقوا بخروجهم عليه مع كونه داعياً إلى الحق، وأمر بقتالهم.

قال عليه السلام : (أُمِرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين) ()، وقال: (ما وجدت إلاَّ قِتالهم أو الكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ).

6ـ حكم من عرف بالتثبيط عن الإمام

إما عن بيعته، أو عن إمامته، أو عن الخروج إليه ومناصرته، أو نحو ذلك.

قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : فالواجب تعزيره بالضرب والحبس والإهانة، وإن رأى الإمام طرده طرده، لأنه ساع في توهين أمر الإمام وفساد أحواله، وينشأ من ذلك ضعف أحوال المسلمين وتقوية أمر الفسقة والظلمة، فمن كانت هذه حاله استحق الزجر والتأديب لإقدامه على ما هو فساد في الدين ومحظور في حكم رب العالمين، ولأن في إهانته بشيء مما ذكر زجراً وتحذيراً ومنعاً لغيره عن مثل حاله، ولئن مثل ذلك نوع من الإرجاف وقد قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُوْنَ والَّذِيْنَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والْمُرْجِفُوْنَ فِي الْمَدِيْنَةِ} الآيات [الأحزاب:60].

قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام : وقد تضمنت إبعاد مريض القلب عن قبول دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وحجته، وذكر استحقاقه اللعنة والطرد والإغراء به والقتل، فهكذا يكون حال الإمام لقيامه مقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  إلا فيما خصه الدليل.

تنبيه:

من كان من أهل التثبيط أو من كان يظهر منه الفساد على الإمام، فلا ينبغي أن يأذن له الإمام بالخروج معه أو مع بعض أمرائه، ولا يجوز للمؤمنين أن يصطحبوه، وحال من يظهر منه الفساد على أحد وجوه:

 منها تخذيل المسلمين عن الجهاد، كأن يصف كثرة أهل الحرب، أو كثرة خيولهم، أو جودة سلاحهم، وأنه لا طاقة للمسلمين بهم، فمثل هذا يهنهم، ويكسر من هممهم في الإقدام على القتال.

ومنها: أن يصدر منه ما يكون فيه عون لأعداء الحق كأن يزعم أن وراءهم مدداً عظيماً، أو أن من ورائهم كميناً أو جيشاً كثيراً.

ومنها: أن يأتي بغير هذا المعنى من الإرجاف، وما يُيئِّس المسلمين عن النيل من خصومهم لقوة شوكتهم، ونحو ذلك.

ومنها: أن يكون جاسوساً وهو الذي ينقل أخبار أهل الحق إلى أعاديهم، ويدلهم على عوارتهم، ويفضي إليهم بأسرارهم، وهؤلاء لا ينبغي أن يصحبوا الإمام في سفر ولا حضر ولا جيوشه، وهم المقصودون في قوله تعالى: {وَقِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِيْنَ} [التوبة:46] {لَوْ خَرَجُوا فِيْكُمْ مَا زَادُوْكُمْ إلاَّ خبَالاً ولأوَضْعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة:47]، أي ما زادوكم إلا ضرراً وفساداً، ولأوقعوا الخلاف بينكم.

وقيل: لا تسرعوا إلى تفريق جموعكم، لا يقال: فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم  يأذن لعبد الله بن أبي في الخروج معه، وكان جامعاً لهذه الخصال الرذائل، وكان من أعظم المثبطين والمخذلين، لا بالقول،  أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كانوا لا يلتفتون إلى مثله، لأنهم أهل البر والتقوى، وأين جنود الأئمة عليهم السلام  ومن يصحبهم منهم؟ ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان ينزل عليه الوحي بأخبارهم، وما يصدر منهم فيطلع على مكرهم بخلاف الأئمة  عليهم السلام .

7ـ حكم الجاسوس

وقد تقدم ذكر صفته قال الإمام يحيى عليه السلام : إن كان جاسوساً لأهل الحرب جاز قتله إن كان في دار الحرب، وإن دخل دار الإسلام بغير أمان جاز ذلك وجاز استرقاقه، ويكون فيئاً لمن أخذه، وإن دخل بأمان طرد وأخرج لفساده، فإن امتنع نبذ إليه العهد وجاز قتله، وإن كان جاسوساً لأهل البغي قتل إن قتل قصاصاً، وكذا إن قتل أحد من المسلمين بسببه ما دامت الحرب قائمة بين الإمام والبغاة، وإن اتفقت الهدنة طرد ولم يقتل.

 ويلحق بهذا الباب ذكر مسألة جليلة القدر عظيمة الخطر، وهي أن من حقوق الإمام المفروضة على المسلمين تسليم الزكوات إليه وتبليغها حتى تصير بيده قليلها وكثيرها وصغيرها وكبيرها، وظاهرها وباطنها، ومن صرفها إلى غيره بغير أمره أعاد، ون اتهمه بالغل استحلفه بالمواثيق الشداد، والقول بأن الولاية في ذلك إليه هو مذهب الأئمة الأعلام والمحققين من علماء الإسلام والحجة على ذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103]، وما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((ادفعوا صدقاتكم إلى من أولاه الله تعالى أمركم)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أُمِرت أن آخذها من أغنيائكم وأردها في فقرائكم)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: ((اعلم أن في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم)) ()، والإمام خليفة الرسول، والقائم مقامه فيما يتعلق بأحكام الشرع إلا ما خصه الدليل، وقد قال أبو بكر في أمر بني حنيفة: لو منعوني عقالاً -أو قال: عناقاً- مما أعطوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لحاربتهم، ولم ينكره أحد من الصحابة رضي الله عنهم، بل استقر رأيهم كلهم على ذلك، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الأرشدين، والأئمة الهادين، خلفاً عن سلف، ما تباين رأيهم في ذلك ولا اختلف، والمعلوم من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وخلفائه وأئمة الأمة، استعمال العمال على الزكوات، وبعث السعاة في جميع الجهات، لقبض ظاهرها وباطنها، وخافيها في أداني الأرض وقاصيها، وجهاد من عصاهم في تسليمها، والتصريح بتشنيع جريمته وتعظيمها، وقد خالف الفريقان الشافعي وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، في الزكوات الباطنة، زكاة النقدين وما في حكمهما، وأموال التجارة، والمعنى ما كانت زكاته ربع العشر فقالوا: إن ولاية ما هذه حاله إلى أربابها، وليس لولاية الإمام تعلق به، ونسب هذا إلى جماعه من متقدمي أهل البيت  عليهم السلام ، وحجة أهل هذا المذهب قوله تعالى: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وإنْ تُخْفُوهَا وتُؤْتُوْهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271].

قال الفقيه [يوسف] ابن عثمان() رحمه الله تعالى وأعاد من بركاته في (الثمرات): ويحتمل أن المراد صدقة النقد أو مع عدم الإمام، انتهى.

ولا كلام أن دلالة هذه الآية غير صريحة ولا واضحة، فإنه مرجوحة غير راجحة، لما تقدم من أدلة المذهب المختار، وقال الشافعي في أحد قوليه وهو الجديد وكذلك زكاة الأموال الظاهرة كالمواشي وما أخرجت الأرض، ولا حجة له في هذا إلا القياس على الباطنة، وإذا اختل الأصل لم يصح ما يبنى عليه، فهذا ما سنح ذكره في هذا الفصل، واقتضى المقام ذكره، والمسألة مبسوطة في مواضعها من الكتب الفروعية.

تنبيه:

وفي حكم الزكوات في ثبوت ولاية الإمام عليها، واستنادها إليه: الفطرة، والخمس، والجزية، والخراج، كالصلح وما جرى هذا المجرى، وبالجملة فجميع الحقوق إلا ما كان وجوبه سبب من المكلف كالكفارات والمظالم المجهولة، ما هو بسبب منه فالجمهور أن ولايته إلى من وجب عليه، ولا يخلو عن خلاف تحقيقه في موضعه، والله تعالى أعلم.

فائدة عظيمة النفع، ينبغي أن يصغى إليها ويعول عليها

اعلم: أنَّ مدار أمر الإمام فيما يراد منه، وما يقوم لأجله عن حقوق الله ومصيرها إليه؛ أداء الجهاد الذي هو سنام الإسلام وأجل فرائضه، لا يقوم ولا يتهيأ إلا ببذل الأموال، وتجنيد الأجناد، وإعطاء الرغائب، وكذلك غيره من مصالح الدين ومواساة المحتاجين، وتعهد المساجد والمناهل، وإحياء العلم والتدريس، وإطعام الطعام، وارتباط الخيل، وغيرها مما يدور أمره عليه، والانفاق على العالم والعهد وغير ذلك، بحيث أنه لولا ثبوت الأموال وحقوق الله لما أمكنه النظر في شيء من تلك الأمور،  ولكان كآحاد الناس لم تستقم له راية، ولا كان على إمامته آية، فسبيل من وفقه الله تعالى للقيام بحق الإمام تعظيم هذا الحق الذي للإمام في قلوب أهل الإسلام، والحث عليه والدعاء إليه، ومن التفريط في جنب الله والإساءة إلى الإمام الداعي إلى الله تعالى ما اعتاده كثير من المتسمين بالفقه، المتسمين بالتشنيع، المدعين للتمييز من التثبيط للناس عن تسليم الحقوق إلى الإمام، والترخيص لهم في ذلك وإفتائهم بأن ولاية زكواتهم إليهم، ومدار النظر فيها عليهم، وأنه هو المختار للمذهب، وليس وراء ذلك للمرء مطلب، والذي دعاهم إلى ذلك التحامل على الإمام، وكراهية الصلاح لأمره، والانتظام والتهافت على اختطاف الزكوات، والولع بالأخذ وقول هات، بحيث أنهم لو رضوا عن الإمام وحظوا منه بالمرام ما أفتوا بهذه الفتوى، ولا صرحوا بهذه الدعوى، وما أفتوا بما أفتوا إلا اتباعاً للأهواء، وخبطاً كخبط عشواء، ولا تحل الفتوى إلا لذي الاجتهاد والنظر الوقاد، أو لذي الترجيح الفارق بين السقيم والصحيح، ما قرر كلاماً في كتاب،  أو قرأ قراءة بتلقن مرتاب، فحقه الإعراض والسكوت، ليس... قادر حي، ولكن التجاسر على الفتوى ممن ليس بأهلها من بدع الزمان.

وخير أمور الناس ما كان سنة

 

وشر الأمور الـمحدثات البدائـع

 

 وهذا المذهب مشهورة نسبته إلى أبي طالب()، وروي عن الهادي والناصر وأبي العباس، وظاهر كلام (الانتصار) أنه إنما عزي إلى الهادي عليه السلام  لما في سيرته من كونه نهى عن أخذ الزكاة ممن يأتى من البلاد التي لا يليها، لأنه لا يحميهم، فإن سلموها طوعاً جاز، وهذه رواية الله أعلم بصحتها.

والتعليل بعدم الحماية عليل، وليس الزكاة كالجزية، ولا العلة في وجوبها حماية أهلها وأمانهم، إنما هي عبادة مالية بحت، حُمي صاحبها أو لم يحُم، أمن أو لم يأمن، ويمكن الاستدلال  بهذا على ضعف الرواية، فمثل هذه التعليل ما ينبغي أن يصدر عن ذلك الإمام الجليل، وقد قال عليه السلام  في الأحكام: وإذا كان في الزمان إمام حق فإليه استيفاء الزكوات كلها من أصناف الأموال الظاهرة والباطنة، وإلى من يليه من قبله، وله أن يجر() أرباب الأموال على حملها إليه، ويستحلف من يتهم بإخفائها، قال في (الانتصار): وحكي عن الناصر أنه قال: وللإمام المطالبة بزكاة الأموال الظاهرة والباطنة، وليس لأربابها أن يدفعوها إلى أحد من يحبون من قرابتهم، ويلزمهم دفعها إلى الإمام ومن يلي من قبله بأمره ليدفعها إليه، وللإمام أن يعزِّر مَنْ فعلها.

قال الإمام يحيى عليه السلام : فهذان الإمامان قد تطابق كلامهما، وتوافقا على أن نظر الزكوات إلى الإمام الذي على الحق والعدل.

قُلْتُ: وليس في كلامهما      عليهما السلام  هذا تصريح ولا تعريض بأن ذلك مقصور على جهة دون جهة، ولا على ناس دون ناس، ولا أنه يتوقف على نفوذ الأوامر، ثم نقول لأهل الفتوى: -تلك الفتوى المتبعة للأهواء-: قد نص في الياقوتة وغيرها على أن الأفضل عند أهل هذا المذهب الصرف إلى الإمام، فإذا أفتيتم به فلمَ لم يعرفوا العوام بأن الأفضل خلاف ذلك، ثم نقول لهم: قد ذكر الفقيه العلامة يوسف بن أحمد بن عثمان في (الزهور) وغيره، وحكوا عمن حكوا عنه أن هذا مع عدم مطالبة الإمام بالحقوق، فأما مع المطالبة منه فيكون أمرها إليه إجماعاً، ثم نقول: قد نص أهل المذهب على أن للإمام أن يلزم الناس مذهبه فيما يقوي به أمره، فأين أنتم عن الالزام عن وجوب (الالتزام)؟ ثم نقول لهم: هلا قصدتم الله عز وجل في العوام بأن تفتوهم بما هو الأحوط لهم في دينهم؟ فإن القائلين بأن ولايتها إليهم يقولون بأن صرفها إلى الإمام أفضل، والقائلين بأن ولايتها إلى الإمام يقولون صرفهم لها بأنفسهم لا يجزيهم ويصيرون آثمين مطالبين بها في الدنيا والآخرة، فأي شيء هو الأولى لهم تسليمها إلى الإمام فيقع الخلاص لهم إجماعاً؟ أو تفريقها بأيديهم فيكونوا في ذلك عند البعض آثمين مجرمين مفرطين متبوعين؟ بل أعظم من هذا أن الإمام المنصور بالله عليه السلام  نص في المهذب أنه من أخذ الزكاة في عصر الإمام معتقداً لجواز الأخذ كان رده، لرده ما علم ضرورة، وإن أخذ ما علم بالتحريم كان فسقاً، وهكذا يكون عنده حكم الصارف إذ لا فرق، فهلا إذا كنتم لستم في منصب الإفتاء، وإنما قصدتم الحكاية حكيتم هذا المذهب الفاجع الزائغ، المقتضي للهرب مما نص هذا الإمام الجليل على أنه درة وكفور، نعوذ بالله منه ومن السلوك في مسالك الغرور، فيتبين أن المفتي بذلك المذهب من أهل الأهواء والأغراض والقلوب المراض.

واعلم: أن مذهب أبي طالب في هذه المسألة ضعيف جداً، وقد وقفنا لبعض العلماء على نسبته فيه إلى الغلط، ثم إنا نوضح ضعف هذا المذهب بوجوه غير ما تقدم ذكره.

أحدها: أن نقول: تسليم الحقوق إلى الإمام حق من حقوقه الواجبة على الإمام، وقد صرحتم بسقوطه عمن لم تنفذ أوامره عليه، ولم يكن من أهل الناحية الذين تظهر عليهم طاعته، وتنفذ عليهم وطأته، فهل تقولون أن سائر حقوقه التي يجب له من طاعة أو محبة والالتزام بعروته والجهاد بين يديه وإجابة داعيه وغير ذلك ساقطة عمن تلك صفته بسقوط وجوب تسليم الحقوق إليه أو لا؟

إن قلتم: نعم هي كلها ساقطة عنه كسقوطه، كان حاصل كلامكم أنه من لم ينفذ أوامر الإمام عليه لم يتوجه الخطاب بوجوب طاعته إليه، فيكون وجوب القيام في حقه كعدمه، ولا يثبت إلى الإمام حكم من الأحكام إلا في حق من جرت أحكام ولايته عليه، حتى لو لم ينفذ أوامره إلا على أهل محله لم يكن إماماً إلا لهم فقط، ولو لم ينفذ أوامره على أحد لم يكن إماماً لأحد وكان كواحد من سائر الناس، وهذا إبطال لأحكام الإمامة، وتنكيس لها على الهامة، ورمي بها في جب ثمانين قامة، هذا مالا ينبغي أن يقول به مميز من الناس، ولا يلتبس عليه شيء من الالتباس.

وإن قلتم: إنه لا يسقط عمن لا ينفذ أوامره عليه من حقوقه إلا ذلك الحق فقط، وبقية حقوقه باقية واجبة، ومن ينفذ أوامره عليه لازمة، قلنا: هاتوا لنا المخصص وأبرزوه، الذي قضى بأن الإمام إمام في جميع الأحكام إلا هذا الحكم المخصوص، فخروجه عنه منقوص، وهو تخصيص من غير مخصص، وفرق من غير فارق مخلص.

 وثانيها: أن نقول: أخبرونا عن مقاتلة الخلفاء الراشدين والأئمة الهادين الذين كانوا عن تسليم الحقوق إليهم متمردين، هل قاتلوهم على أمر يستحقونه عليهم وولايته إليهم أو لا؟

إن قلتم بالثاني فقد جعلتموهم باغين، وعلى من قاتلوهم متعدين، وإن قلتم بالأول فقد أبطلتم ما ذهبتم إليه، وعرفتم أن لا تعويل عليه، ولولا عموم ولاية الإمام لما ساغ له أن يقاتل مانع الزكاة عنه، ولا يقاتل إلا من لا نفوذ لأوامره عليه، وقد قلتم: لا يجب عليه أن يسلم الزكاة إليه.

وثالثها: أن نقول: أليس الإمام إذا دعا فهو في حال دعوته ومبتدأ أمره لا تنفذ أوامره على أحد من الناس بلا إشكال في ذلك ولا إلباس؟ فلو أن الناس كلهم مع معرفتهم لصحة إمامته، وجمعه لشرائطها، واعترافهم بذلك، منعوه الزكوات، والحقوق الواجبات، وقالوا: لا ولاية لك على ما لدينا من الحقوق، لأن أوامرك الآن لا نفوذ لها علينا، فنفقرها على المستحقين بأيدينا، أليس كلامهم صواباً على رأيكم؟ فأخبرونا كيف يستقيم أمره بعد ذلك، ويتهيأ له الجهاد، ومنابذة الظالمين، والنظر في مصالح الدين؟ إنه لا يستقيم له حال إلا بما يقع في يده من بيت المال، وهذا أمر ظاهر لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، فتبين لك بما ذكرناه وأوضحناه أن هذا المذهب لا يعول عليه ولا يلتفت إليه، ولا يفتى به من يريد وجه الله تعالى والدار الآخرة، وإنما يفتي به أهل الأهواء الباطنة والظاهرة، وكافيك عن ذلك كله أن الأدلة الدالة على ثبوت ولاية الإمام في ذلك لم تفرق بين من تنفذ أوامره عليه، ومن لا نفوذ لها في حقه، وأنه لا يعلم للقول بالفرق في هذه المسألة حجة عليه، ولا دليل يتوجه إليه، والله أعلم بالصواب، وهو المرجو لإزاحة الشك والارتياب.

 

 

القول فيما يلزم الإمام للرعية ويتعلق بذلك من الأحكام الشرعية

يلزمه أن يسير فيهم السيرة المرضية، المطابقة للسنة النبوية، الخالصة عن شوب الهوى ومحبة الدنيا الدنية، فيأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويقيم الحدود على مرتكبها، ويغيث المظلومين، وينابذ الظالمين، ويجد في تنفيذ الشريعة المطهرة وأحكامها ونصب قضاتها وحكامها، ويعامل المتقين بالرفق، وحسن الخلق، وإلانة الجانب، ويعامل الفجار بخلاف ذلك، ولا تأخذه في الله تعالى لومة لائم، ولا يحجم عن شيء مما ذكر إلا لعذر مانع، وعائق حائل، أو خيفة مفسدة في الدين لا تقوم بها تلك المصلحة.

ومن تكاليفه ما هو مقصور عليه لا يقوم به غيره كإقامة الجمعات، وتجنيد الجنود، وحفظ بيضة الإسلام، وغزو الكفار والبغاة ونحو ذلك.

 ومن تكاليفه ما يعمه وغيره كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الطرق وعمارة المساجد ونحو ذلك، وهذا النوع يكون أكد في حقه وألزم له، وعليه تسهيل الحجاب، بحيث يتصل به الضعفاء والمساكين والمظلومون لقضاء حوائجهم التي يجب عليه قضاؤها، ولا يجب ذلك مستمراً بل في بعض الأوقات، بحيث لا يتعذر على من ذكر ما ذكر، وإلا فإن له أن يحتجب في بعض الأوقات للخلو بأهله وخاصته، وقضاء مالا بد له من قضائه من أكل وشرب ونوم وقضاء حاجة، وفعل عبادة، وعليه تقريب أهل الفضل، يعني أنهم يكونون أقرب اتصالاً به من غيرهم، لأنه ينبغي تعظيمهم وهذا نوع منه، وقد أرشد الله إلى ذلك بقوله تعالى: {واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ والعَشِيِّ يُرِيْدُوْنَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، الآية، ومجالستهم حتى يكتسب من علم أو عمل، أو تذكر بأمر الآخرة، وعليه الاستشارة للأعيان فيما لنظرهم فيه مجال ومكان من أمور الأمة، قال تعالى: {وشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} [آل عمران:159]، وعليه أن يتعهد الضعفاء فيما يحتاجون إليه، حسب ما يتوجه عليه من عطاء أو إنصاف من ظالم مما يحتاجون، والمراد بهم من لا يتصل به من النساء والصبيان ومرضى المساكين، وعليه في أمور الجهاد وأدابه ما يذكر في بابه.

 وتكاليف الإمام كثيرة، وإنما هذه نبذة يسيرة إلى المقصود مشيرة.

تنبيه وإرشاد:

وينبغي أن يتوجه النظر المستجاد، ومسائلة جهابذة النقاد.

 اعلم أنه كثير ما يغلط على الإمام في أمر الفقراء والمساكين، ويشيع ذلك بين الناس اعتقاد جهل، وهو أنه يلزمه النظر في أرزاقهم، وكفايتهم، وإجابة سائليهم، من غير التفات إلى حال الإمام، ولا إلى حال المأموم، ولا ذكر شرط في ذلك ولا قيد من القيود، ولقد رأينا ذلك وسمعنا ما يقضي منه العجب، بحيث أنه قد يتظلم كثير من الفقراء تظلماً كثيراً من الإمام كتظلم المنهوب من الناهب، والمغصوب حقه من الغاصب، وقد يتصور بعضهم بصورة الغريم المطالب، ولهم في ذلك فنون ومذاهب، وقد ينتصب بعضهم لوعظ الإمام ويخوفه الوقوف بين يدي الله تعالى يوم الحشر والقيام، وقد يزعم بعضهم أن الذي تهلكه المجاعة في السنة الشهباء ولم يتداركه الإمام يصيره بمنزلة قاتل العمد، وغير هذا وغيره من فنون الجهالة من أنواع الضلالة، والذي جرأهم على ذلك ما يقفون عليه في الكتب المتدارسة المتداولة، من ذكر ما يوهم ما فاهوا به، (كاللمع) و(التذكرة)  ، وغيرهما، فقد ذكر في (اللمع): إن الإمام يغنيهم عما يحتاجونه أو بعضه بحسب رأيه، قال بعض شارحي (اللمع) فيه روايتان بالغين بالمعجمة من الغنى، وبالعين المهملة من الإعانة.

وقال في (التذكرة): ويفضل الضعفاء والأرامل والمساكين، ويغنيهم عن مسألة من ذوي السعة، حيث وفي كلام (التذكرة) إشارة إلى تفسير ذلك اللفظ الذي في اللمع.

وقال في (الأزهار) وشرحه (الغيث): وتعهد الضعفاء فيما يحتاجون إليه من إعطاء أو إنصاف من ظالم، والمراد بهم من لا يتصل به من النساء والصبيان والمرضى والمساكين، قال المهدي عليه السلام : ويكفيه من تعهدهم أن يوصي نائب كل جهة في تعهد مساكينها ومواساتهم كل بقدر حاله.

 فلما وقف من ليس له تحقيق على ما ذكر أخذ بظاهره، وحملهم الشغف بالإعطاء والتحامل على الأئمة بما يصير إليهم من بيوت الأموال على عدم التأمل للأمر، والتفهم بشروطه، والنظور لأحوال يكون عليها الإمام ويختلف في حقه، وما عدم أهل تلك الكتب ومن حذا حذوهم أنهم رموا بمثل ذلك الكلام رمياً خالياً عن الإحكام والاهتمام بعدم الإيهام، لا جهلاً منهم للأمر، ولا قصداً للإلباس على الناس، وكلام الأزهار وشرحه أعدلها وأقربها إلى عدم الإشكال والابهام، وهو صريح في تحقيق حال من يتعهده ويتوجه النظر في حاله، وأكثر الفقراء عن ذلك المعزل، والغلط المشار إليه في هذا المعنى عن الأهم من وجوه أربعة:

الأول: إن المنقدح في نفوس المنافسين للإمام المشار إليهم أن هذا الواجب يجب على كل إمام، وأن ثبوت الإمامة يستدعيه ويقتضيه، ويصرحون بأنه ما شرعت الإمامة ووجب انتصاب الإمام إلا لهذا المعنى، والغرض من هذا الوجه ظاهره، فإنه ليس كل إمام يتمكن من ذلك، وكم من إمام لا يحتوي إلى شيء، ولا يتمكن من مواساة فقير واحد فضلاً عن أن يواسي كل فقير فضلاً عن أن يغنيه، وحال الإمام الواحد يختلف، وقد يتمكن في وقت دون وقت، وقد يكون في بعض الأحوال ذا حال واسع، وفي بعضها على أمر ضيق، فينبغي أن لا يوجه للتشنيع إليه إلا بعد التحقيق لما هو عليه.

الوجه الثاني: إن المواساة وتعهد المحتاجين إنما تجب على الإمام حيث وصلت في يده فضلة بعد القيام ممالا يستقيم حاله إلا به، وبعد إعداد شيء نافع لما يعرض وينوب، ومع الخلو عن استيعاب الأمور الجهادية لما في يده من الحقوق الواجبة.

وقد صرح المنصور بالله عليه السلام  بذلك وقال ما معناه: إن مواساة الإمام للفقراء إنما تتوجه مع عدم الاحتياج إلى سد الثغور واستقامة أمر الجهاد، وأما مع الحاجة إلى ذلك فهو أقدم ولو أدى إلى موت الفقراء للحاجة والمجاعة، لأن موت الفقراء لا يتعدى أضراره، ولا يؤدي إلى فساد في الدين، بخلاف الإخلال بشيء من أمر الجهاد وما يحتاج فيه.

وصرح الإمام إبراهيم بن تاج الدين في بعض رسائله بأن عماله لا يواسون الفقراء والمساكين إلا بربع الواجب، وأما ثلاثة أرباع فيتركه لما عدا ذلك، قال: إلا أن يتضيق أمر الجهاد فلا يعطوا الفقراء شيئاً.

الثالث: أنَّ أكثر من يدعي هذه الدعوى على الإمام ويناقشونه في أمر أنفسهم، وهو من لا اهتمام له بشيء من أمر الإمام والإمامة، ومن هو غافل عن ذلك معرض عنه غير مشتغل به، فلا يخطر بباله من تكاليف الإمامة وفوائدها وثمراتها إلا وجوب مواساة الفقراء من الإمام، وإنما يتعهد الإمام ويزوره لقضاء حاجة فقط، بحيث أنه لولا هي لما وفد عليه ولا التفت إليه، فلا يأتيه إلا مطالباً له بها، وهذه غلطة ظاهرة، فإنه يجب على الإمام أن يتعهد من لم يقم بشيء من حقه وما يجب له وما كلف الناس به من أمره، ومن فرط في أمر الإمام أو ما يجب له فحقه على الإمام ساقط.

وقد صرح المنصور بالله عليه السلام  بذلك ونص على أنه لا يجب على الإمام مواساة من لم يقم بحقه، ويؤدي ما كلف من أجله، قال عليه السلام  ما لفظه: يجب الجهاد بالسنان والحسام واليد والكلام، وكل أحد يقدر على الجهاد، فمن لم يجاهد فلا حق له في الواجب، ولا على الإمام له عهده كيف وقد ارتكب عظيماً، وترك فرضاً جسيماً.

قال: كل من كان قعيد بيته، وجليس أهله وعشيرته، فلا يلزم الإمام عهدته، ولا القيام بمؤنته، وله أن يعطي بعض الأشياع أو بعض الأجناد دون بعض وأكثر من بعض، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يعطي الجلفاء من الأعراب من بيوت الأموا ل نحو مائة بعير()، وفقراء المهاجرين والأنصار على الصفة يود الواحد مضغة من الطعام.

وقال المهدي أحمد بن الحسين عليه السلام : يقتضي العامل الواجبات، فيوفر منها ثلاث أرباعها للجهاد، ويصرف في الفقراء والمساكين ممن قام بفرض الجهاد، فإن لم فلا حظ له في شيء من ذلك.

الوجه الرابع: إن عدَّ مواساة الفقراء والمساكين من الحقوق اللازمة للإمام، هو بناء على قيام الناس بحقه في تأدية جميع الحقوق إليه، واستيفائه لها، ومصيرها بيده، فحينئذ يجب عليه صرفها بمصارفها، ومن مصارفها الفقراء والمساكين، ويتعلق به في ذلك ويتوجه الطلب إليه، وأما حث الإمام ما عليه بصفة ما عليه أكثر الأئمة عليهم السلام  من عدم قوة اليد، وشدة القهر، وعجزهم عن استيفاء الحقوق كلها، وامتناع أربابها عن تسليمها كلها.

وكون الأكثر منهم متمردين فلا يصير إلى الإمام شيء منهم، وكون البعض لا يسلمن إلا البعض منها، فمن أين يجب مثل ذلك على الإمام؟

واعلم: أنَّ توجه مواساة فقراء كل جهة ليس إلا مع قبض واجباتها كلها، والحقوق التي فيها بأجمعها، وإذا لم يقبض الإمام من قطر شيئاً، ولا أذعن له أهله، ولا تمكن من قهرهم على تسليم ما عليهم من ذلك؛ فلا حق لفقرائه عليه، ولا شيء لهم يتوجه إليه، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يجب على القائم في اليمن مثلاً أن يتعهد فقراء مصر والعراق والشام، ولا يعد ذلك من تكليفه، وكذلك ما كان بذلك الحكم وعدم مصير واحد إليه، وإذا كان من الجهات مالا يصير إلى الإمام من واجباته والحقوق التي على أهله إلا البعض كالنصف أو الثلث أو الربع على ما هو الغالب من حال الجهات الإمامية بالديار اليمنية، فإن عادة أهلها غالباً يسلم البعض من واجباتهم إلى الإمام وترك البعض بأيديهم، ويقولون فيما يزرونه على الإمام: هو نصيب الفقراء، ويسمونها  الإمام نصيب الجهاد، فلا حق لفقراء هذه الجهات المشار إليها عند الإمام، ولا لهم علة يعتلون بها عليه إذا لم يقبض لهم شيئاً، وحصتهم من الواجبات عند أربابها وبأيديهم، والطلب فيها يتوجه إليهم، وسواء كان ترك حصة الفقراء بإذن الإمام ورضي منه أو لا يرضاه وبغير إذن منه.

أما حيث لم يحصل له منهم تسليم الواجب كله، ولا تمكن من قهرهم فظاهر، وأما حيث كان ذلك بإذن منه ورضا ولو شاء لقبض الكل فلأن قبض نصيب الفقراء من أرباب الواجبات ليس بواجب عليه، لا أنه حق عليه والواجب لازم له، فإنه لو لم يطالب الناس بتسليم الحقوق، ولا يلزمهم ذلك، لم يعد مخلاً بواجب، ولهذا حكم الفقهاء بأن التخلية إلى المصُدِّق كافية لا إلى الإمام ما ذاك إلا لأن الإمام يجب عليه القبض، وأمَّا الْمُصدِّقُ فيجب عليه، وذلك لإلزام الإمام إياه، واستعماله عليه يكون بصفة الأمين.

 يقال: ومن أين أنّ حصة الفقراء والمساكين يتعين فيما بقي بيد رب الزكاة والحقوق، فإن حصتهم في الزكاة مشاعة، فإذا قبض الإمام بعضاً من الزكوات ونحوها، كان لهم حصتهم منه حيث قبض الزكاة كلها وإلى أربابها حيث تولوا صرفها وتفريقها، فإذا قال رب الزكاة للإمام: هذا إليك، وهو حصة الجهاد ونحوه من المصارف، وهذا إلى حصة الفقراء والمساكين حيث كان رُبعاً او حصتهما، وحصة الغارم وابن السبيل مثلاً حيث كان نصفاً، وقبل ذلك الإمام منه وأقره عليه فلا شيء في يد الإمام للفقير حينئذ، ولا حق يتعلق به له، ولا يلزم أن يكون قسمة الزكاة بين مصارفها كقسمة الأشياء المملوكة بين مالكيها، فيشترط الحضور والتراضي أو مصير كل نصيب إلى مستحقه، فيما قسمته أفراد، ألا ترى أن بعض أرباب الزكاة لو صرفوا في ابن السبيل حصته من واجبهم أو إلى الغارم مثلاً حصته ولم يسلموا للفقير والمسكين شيئاً لم يكن مطالبة أولئك المصروف إليهم، وأن يقولوا حصتنا مشاع فسلموا لنا حصتنا مما صار إليكم، فلم نرض بما ذكروه من بقاء حصتنا بأيديهم؟ هذا مالا يقول به أحد ولا يتصور ولا يتقرر، ولو كان المصارف كالمالكين لما جاز أن يختص بعض، أهل المصارف دون بعض وفقير دون سائر الفقراء، والأمر فيما ذكرناه ظاهر.

وأمَّا فَرْض أنَّ يد الإمام انبسطت وتمكن من قهر أهل جهة فاستوفى منها الحقوق كلها واستقصى عليها، فلا كلام أنه يجب عليه تعهد من فيها من الضعفاء الذين حققتهم، كما ذكره المهدي عليه السلام  أحمد بن الحسين، وهم الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.

وأنَّهُ يتوجه عليه أن يواسيهم كل منهم على حسب حاله وحسب ما يراه، وأما فقراؤها المتمكنون من التكسب والضرب في الأرض وحق الإمام واجب عليهم، ولازم إياهم لتمكنهم من القيام به، فهؤلاء شأنهم أنهم قاموا بحق الإمام وما كلفوا به من أجله، فمواساتهم إياهم لازمة له، وقيامه بحقهم واجب عليه، ويحسن أن يصرف إلى الفقراء والمساكين من أهل تلك الجهة قدر الربع من واجباتهم، لأنه أحوط وإن لم يلزم مراعاة هذا التقدير بل له الزيادة عليه والنقص منه، وهذا حيث كان في الأمر سعة وأحواله مستقيمة، ولا يلحق بما ذكره خلل، وباب الجهاد غير موسع ولا يستوعب بحيث لا خلل كان ولا ضرر ولا إجحاف.

دقيقـة:

 اعلم أنَّ الأصحاب رحمهم الله تعالى تركوا تقييد ما يجب على الإمام من تلك الأمور بما أشرنا إليه ويتهيأ عليه، إلا أنهم في الأغلب يذكرون ما هو عليه بعد ذكر ما هو له، فبينوا وجوب ما يجب عليه على تقدير حصول ما قدموه مما يجب له، ولا شك أنه إذا فرض قيام الأمة بما يجب عليهم له، ومن ذلك تسليم حقوق الله تعالى، مع طاعتهم له، والجهاد بين يديه، فإن تعهد الضعفاء والفقراء ومواساتهم لفقرهم ولقيامهم بحقه أمر لازم له مع كونه موكولاً إليه النظر في الإكثار والإقلال، والتسوية والتفضيل، حسب ما يوفيه نظر الإمام إلى الصلاح، ومستحضر النية الصالحة، والقصد الحسن، مجانباً في ذلك الهوى والغضب، ولو سئل من ذكر تلك الظواهر فيما يجب على الإمام، هل ذلك يجب عليه مع خلو يده عن بيوت الأموال واستيفاء الحقوق؟ لقالوا: لا.

وهل يجب عليه مع استيعاب الجهاد وأمور الإمامة التي لا بد منها، ولا يستقيم الأمر إلا معها لما في يده؟ لقالوا: لا.

وهل يجب عليه ذلك لفقراء قطر لا يصير إليه من واجباته؟ لقالوا: لا.

 وهل يجب عليه للمعرضين عنه، الرافضين لما يجب له، التاركين للجهاد معه، المشتغلين بخاصة أمرهم دونه؟ لقالوا: لا.

 ولكنه قد قل الناقل لهذه المعاني، وعدم البناء على قوى المباني، فأما أهل الجهل والبله وعدم التمييز -وهم الجم الغفير- فلا يستغرب ذلك منهم، فإن الجهل داء، والجاهلون لأهل العلم أعداء.

وأما أهل التمييز والمعرفة فهم لا يجهلون ما ذكرناه، ولا ينكرون ما عرفناه، ولكن غفلوا عن ذلك، وصمم آذانهم، والله() ولي التوفيق.

وقد جرت مراجعة ومناظرة في هذه المعاني في سنة ثلاث وثمانين  وثمانمائة سنة بيننا وبين بعض علمائنا، ونحن حينئذ بطويلة بني تاج الدين، ووجدناه لا يخطر بباله شيء مما قدرناه مع جودة علمه ووفور فهمه، لكن لم نزل نقرر ذلك لدينا، حتى عرفه واعترف به ورجع إليه، وحضر حينئذ تلك المراجعة عين علماء الزمن، ودرة تاج الأخيار بديار اليمن، فوجدناه محيطاً بما ذكرناه فتولى بعض المناظرة، وكانت له على ما قصدنا تقريره ظاهرة.

تنبيه:

قد [مر] ما أوضحناه، ورجحناه، وكشفنا الغطاء عنه، في شأن ما يتوجه على الإمام لفقراء الأنام، والهاشميون في ذلك أقل حقاً من غيرهم، وليس يسوغ لفقرائهم ما يسوغ للفقراء من غيرهم، فأكثر حقوق الله تعالى لا علقة لهم بها، ولا مدخل لهم فيها، والحقوق التي تسوغ لهم قليلة، ونظر الناس إلى المخلص منهم أقل، ومع ذلك فلجاج كثير من الهاشميين في هذا المعنى على الإمام أشد، وإلحافهم فيه أكثر وأجد، ومن البدع الشنيعة ما صار عليه كثير منهم من التكالب على الزكاة، والتناول منها() على الوجه الذي لا يرضى به الله، وتجاريهم على الإستقطاع منها وأكلها، والانتفاع بها من غير حلها، وتنزيل أنفسهم منزلة فقراء سائر الناس، والتوصل إلى أخذها بكل وجه ممكن، سراً وجهراً وطوعاً وكرهاً وقسراً، ومن طريق الأئمة ومن غيرها، مع أن قُراّءهم والمميزين منهم يقرءون في كتب الهداية أنها أشد حرمة من الميتة، وانهم يدرسون ذلك ويدارسون فيه، ويسومون الإمام أن يعطيهم منها، ويوفر حظهم فيها، ولا يكاد يخطر ببالهم أن تحريم ذلك عليهم من مسائل الإجماع، وأنه مما لا يتهيأ فيه وجه مُساغ، ولا أن ذلك يصادم شرع جدهم الذين نالوا اسم الشرف ومعناه لأجله، وحازوا رتبة من الرئاسة والجلالة لشرفه وفضله.

فائـدة:

ومما يغلط فيه على الإمام استنكار كثير من المميزين لما يصرفه الإمام إلى المؤلفين، واستنكاره واستهجانه لأجله، واعتقاد التفريط فيه، وقد يقول قائلهم: كانت عطية فلان الظالم أو الفاجر -يعني جماعة من الفقراء الفضلاء الأخيار، الذي لا يساوي شسع نعل أحدهم- وهذا من الجهل بعظم موضع المصلحة الحاصلة من التأليف في الدين، وكونها أعظم موقعاً من المصلحة الحاصلة لمواساة الفقراء والمساكين، فإن مواساتهم والمصلحة فيهم مقصورة عليهم لا تتعداهم، وأما المؤلف ففي إعطائه مصالح يتم نفعها ويعظم موقعها، فقد تكون المصلحة فيه قوة شوكة الحق، أو حفظ بيضة الإسلام، أو سد ثغر، أو دفع شر كان على المسلمين وجانب الدين، أو توصل إلى إقامة معروف ونهي منكر، وغير ذلك من أنواع المصالح الدينية والمقاصد المرضية، وإنما يتوجه ما ذكروه لو أنه أعطاه لما يرجع إليه، ولكونه على الذي هو عليه، ولو رام الإمام أن يجري أمره على قاعدة وأن تتم منه قيام الفائدة ويده مقبوضة عن المؤلفين ومواساته مقصورة على الفقراء والمساكين لرام شططاً، ولتقاصرت عنه فسيحات الخُطا، فإن أمر الإمام لا يستقيم إلا بالتأليف على أنواعه، ولا يتم ولا ينتظم أبداً إلا مع كثرته واتساعه.

 هذا والإمام خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وليس له إلا الاقتفاء لآثاره، والاهتداء بنوره، وقد ظهر واشتهر ما اتفق وصدر من سيد البشر من إعطاء المؤلفين العطايا الواسعة، وإيثارهم على أهل المناصرة والمشايعة، كما فعل يوم حنين، فإنه أعطى جماعة من المؤلفين كل واحد منهم مائة من الإبل، وخصهم بذلك دون الأخيار من المهاجرين والأنصار، ولم يؤثر أنه أعطى فقيراً ذلك اليوم للافتقار من ذلك عشر المعشار، ولعل المعطين أولئك لا يساوون كلهم ولا يزنون عند الله تعالى آثار أخمص واحد من السابقين الأولين وسادة الأنصار والمهاجرين، وكفى بذلك دليلاً واضحاً وضوح النهار، ولكن من جهل الأمور خاض فيها بغير اعتبار، ومن اعتلق به هوى النفس جانب مقتضى البصر والاستبصار.

 ومما يقضي منه العجب أن هذا المعنى المشار إليه قد يرتكز في ذهن كثير من أرباب الزكاة، الذين لهم مسكة من التمييز، فترى منهم من يسوم الإمام إلى صرف ما أعطاه من واجبه إلا إلى الفقراء، ومنهم لا يثق به في ذلك فيشترط في واجبه أن يوجه للفقراء من عنده، ويكون هو المسلم إليه ذلك من يده، وغفلوا عن كون الإمام أتقى الناس، في الناس وأعرفهم بطرق الخلاص، وأنه لو لم يكن الفضيلة إلا في الصرف إلى الفقراء لكان ذلك ممكنا بغير واسطة الإمام،  فكان مقتضاه أن لا يشرع التسليم إليه، ولا يجعل مدار الخلاص عليه، ولو كان المقصود هو الصرف إلى الفقراء -وهو الغرض المهم- لما كان تسليم الحقوق الواجبة إلا إلى الإمام هو الأفضل والأكثر ثواباً والأوفر التسليم إلى الفقير ممكن بغير ذلك مما يقتضي الأفضلية.

ولو تأمل من أشير إليه لفرق وتيقن أن صرف الزكاة في جهاد ظالم أو كافر، أو إزالة منكر، أو تأليف رجل يقع بتأليفه قوة لشوكة الحق، وتوصل إلى نعش الإسلام، من أعظم القرب وأجلها، وأنه لا يحل نفع الفقير أو فقيرين في محلها، وأن حصول ذلك يثبت تلك الزكاة وما سلم منها وأعطاه مما ينبغي أن تقر به عينه وتطيب به نفسه، وأنه بذلك يكون مشاركاً في الجهاد، ونائلاً به نصيباً يستجاد.

وهذا حين الوداع من إملاء ما أردنا ذكره في هذا المختصر من مسائل الإمامة الخاصة منها والعامة، حسب ما أشار إليه السائل وعول عليه، وتركنا منها ما لم تشر أسئلته إلى ذكره، ومالا خفاء منها في أمره.

 ولنختم الكلام بذكر أطراف من ذلك السؤال، وألفاظ مما أورد من المباحثة الحسنة والمذاكرة المستحسنة، وأجاد فيها المقال.

قال: هل مسألة الإمامة قطعية أو ظنية؟ ثم ما القطعي من شروطها وتفاريعها ومستتبعاتها؟  

أقول: قد ذكرنا في هذا الإملاء المبارك أدلة مسألة الإمامة أصولها وفروعها، واستقصينا ما يعول عليه من مآخذها، ولم نجد ما هو فوق ذلك في شيء من مظانه بعد البحث المستوفى عن ذلك، وأشرنا إلى ما سبق منا في المراسلة الدائرة بيننا وبين حي الفقيه الأفضل جمال الدين علي بن محمد البكري، قدس الله روحه ونور ضريحه، فليتأمل السائل ما ذكرناه من الأدلة، وما رد عليها، فهو بحمد الله تعالى لا يعزب عنه ما هو قطعي منها، ينتهي إلى العلم اليقين، وما ليس كذلك فالاتفاق على الأدلة تغني عن ذكر حكمها في إفادة القطع وعدمه، إذ قد صارت غير مجهولة بل معروفة وموضحة للواقف عليها مكشوفة، وغير بعيد أن يختلف حال الناظرين في الأدلة، فمنهم من توصله إلى العلم، ومنهم من لا تبلغ به إليه، بل إلى درجة الظن، كما أن أنظارهم تختلف.

فمنهم من ينظر في ذلك فتوصله للمطلوب، ومنهم من ينظر فيه فلا توصله إلا إلى عكسه، كاختلاف أنظار العقلاء في العالم، فمنهم من أوصله نظره فيه إلى إثبات الصانع الجليل، ومنهم من أفضى نظره إلى النفي والتعطيل، فمن ادعى من علمائنا رحمهم الله تعالى أن نظره في مسائل الإمامة وشروطها ولواحقها أفضى به إلى برد اليقين وطمأنينة النفس صدقناه، وعلى أحسن المحامل حملناه()، ومن لم يدع ذلك ولا يعترف به، فهو أخص بأحوال نفسه، وحكمه في تكاليف الإمامة حكم الأول فيما يعتمد من أمورها وعليه يعول.

وقد شاع في كثير من النواحي والبقاع أنا نقول: بأنَّها اجتهادية، ويكاد يشنع علينا بذلك من في قلبه مرض، أو له في التشنيع غرض، وتشنيعهم من وجهين:

 أحدهما: اعتقاده أن هذا خلف من العدل فيما نحن عليه من الدعاء إلى الله تعالى، وخطل الرأي وزلل في الاعتقاد.

الثاني: اعتقادهم أن هذا ينافي ما نحن فيه وعليه من الدعاء إلى الله تعالى وإلزام الناس الطاعة، وما نحن عليه من الإيراد والإصدار، والقيام بهذه التكاليف الكبار.

ومن هذا أو نحوه يقضي العجب ويعرف منافاته كثير من الناس لقانون الأدب.

أمَّا أولاً: فما نعلم أنا صرحنا بهذه العقيدة، ولا أتينا فيها بعبارة لها مفيدة، ولا زدنا على أن ناقشنا في قطعية الأدلة، ولو زدنا عليها أسئلة مشكلة قد سبقنا الأصحاب إلى إيرادها، ونشر إيرادها، وإن كنا زدنا في تدقيق النظر فيها، ونفرنا عن غوامض معانيها، ومن مثل هذا لا تؤخذ المذاهب.

وأمَّا ثانياً: فعلى فرض الذهاب إلى هذا المذهب، أي أمر اقتضى التشنيع فيه وأوجب؟ بأن الخلاف بين العقلاء قد يعرض في العلوم الضرورية الموجودة من النفس التي تدفع العالم إليها،  كخلافهم في مخبر الأخبار المتواترة، فمن ذاهب إلى أنه معلوم ضرورة، وأن العلم به يعد من علوم العقل، فمن لم يحصل له فعقله مختل، ومن ذاهب إلى أنه معلوم بطريق النظر والاستدلال  معرض لما يرد عليه من التنظير والإشكال.

ومن ذاهب إلى أنَّهُ ليس بمعلوم بحال، وأنه إنما يظن ظناً، فتجويز خلافه ممكن لا محال، والخلاف في كثير من المسائل الأصولية الفروعية -قطعية أم ظنية- فإنه واسع، فلم نسمع عن أحد من أئمتنا وعلماء مذهبنا رحمهم الله تعالى أنه شنع القول بكون مسألة الإمامة اجتهادية على كثر حكايتهم لذلك في مصنفاتهم، ومع كثرة المخالفين في ذلك من الأئمة وعلمائها، ولا يصدر التشنيع في ذلك إلا من جاهل أو متجاهل أو ذي عداوة متحامل.

وأمَّا ثالثاً: فأي منافاة بين القول بكونها اجتهادية، وبين إقدام الإمام على التصرفات المرضية، ليس ذلك مما ينافيه في حكم من الإحكام أحكامها   ، ولا يخالف نهج عَلِمٍ من أعلامها، ولا يتغير به شيء من أحوالها، ولا يتوقف على خلافه عمل من أعمالها، فإن الأعمال في المسائل الاجتهادية كما هي في المسائل القطعية، إذ ما أدى المجتهد إليه اجتهاده صار العمل به معلوماً وجوبه مقطوعاً به، وكثير من المسائل الاجتهادية يتوقف عليها قتل النفوس، وقطع شيء من الأعضاء، وأخذ الأموال، ونحو ذلك.

فليكشف أهل التشنيع عن موجبه، وما الذي ينهدم بكونها اجتهادية من الأعمال من الإمام ويختل به؟‍‍!!

قال: وما حكم العوام الذين لا يهتدون إلى معرفة الشرائط؟ وهل هم ناجون بالتقليد مع الخطر الذي ما عليه مزيد في الإقدام على الأزواج والأموال مع الإمام من غير تحقيق منهم للحال؟ وما حكمهم في قتالهم معهم من يذهب إلى [منع] الزكاة من أهل القبلة المعدودين من فرق الملة؟

أقول: قد تقدم في أثناء هذا الإملاء ما هو فرض العوام في أمر الإمامة، وأنهم لا يكلفون في شأنه بما يكلف أهل المعرفة، وأن فرضهم الرجوع في ذلك إلى العلماء، والأخذ عنهم، والاتباع لهم، وأتينا في ذلك بما يشفي ويكفي، وهو الحق الذي لا محيد عنه، وإقدام العوام مع الإمام على الأزواج والأموال هو فرضهم، والواجب عليهم واللازم لهم، ومالا يجوز لهم النكوص عنه، فإن طاعة الإمام ومتابعته والجهاد معه حيث توجه هو الواجب على كل مؤتم، وكيف يقال بأن العامي يجب عليه اتباع الإمام وطاعته، ولا يجوز له أن يقاتل معه ولا يجاهد على رأيه، فيكون حينئذ إماماً غير إمام ومطاعاً غير مطاع، ووجوب متابعة الإمام وطاعته فيما رام أمر متفق عليه غير متنازع فيه بوجوب طاعة الإمام فأقل أحواله الفسق.

قال المهدي عليه السلام : وهو قريبٌ عندي إذ هو رد ما علم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن رد ما علم ضرورة من دين الإمام فقد اتبع غير سبيل المؤمنين قطعاً فتناوله الوعيد   ، انتهى.

ومن ذلك قتالهم معه من يذهب إلى كفر، فإن ذلك واجب عليهم من جملة طاعته، ولا يكلفون تقدم علمهم بكفره، ولا وقوفهم على أدلة جواز قتاله، بل الواجب متابعة الإمام في ذلك وغيره، فإنما جعل إماماً ليؤتم به، والدرك في ذلك عليه، حتى أنه لو فرض خطأه في ذلك كان خطأه هو المخطيء وحده، وهم مصيبون في متابعته لأنها فرضهم.

ولا تكليف على اتباع الإمام في أن يعلموا قبل أن يبايعوه على أمر أراده ودعاهم إليه أنه مصيب فيه، ولا أن يقدم النظر في ذلك والاستدلال  عليه، ولا يسمع بذلك في عصر من الأعصار، ولا نبه عليه أحد من الأئمة الأطهار.

فلم يقل علي عليه السلام  لأتباعه وجنوده الألوف المؤلفة وعساكره المتكاثفة: قدموا النظر في صواب ما أنا عليه وخطأ البغاة، ولا تقاتلوهم حتى تعلموا ذلك، وتطلعوا على أدلة وجوبه أو جوازه، ولا عرضهم واحداً واحداً وتبين حالهم في معرفة ذلك وعدمها، ولو وجب ذلك لكان العوام المقدمون على القتال مع الأئمة آثمين مخطئين مرتكبين لقبيح، ويلزم الأئمة نهيهم وزجرهم عن ذلك، لأنه نهي عن المنكر، وهذا ما لم يقل به واحد، ولا التفت إليه واعتمد.

وهذا ونحوه يدخل تحت قوله تعالى: {أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسُوْلَ وأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ}، وتحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله تعالى على منخريه في نار جهنم))، والواعية الإمام الداعي، وما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((لخليفتي على الناس السمع والطاعة ما استرحموا فرحموا، وحكموا فعدلوا، وعاهدوا فوفوا، ومن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين)).

وعن زيد بن علي عليه السلام : على الإمام أن يحكم بما أنزل الله عز وجل، ويعدل في الرعية، فإذا فعل ذلك حق عليهم أن يسمعوا ويطيعوا ويجيبوا إذا دعوا.

قال: وكيف مدافعة الإمام لمن لم تصح إمامته؟ وهل يأخذ الزكاة منها قهراً ويقاتله عليها؟ وهل لرب المال المدافعة عن نفسه ولو بالقتل لأنه غير سالك سبيل المؤمنين إذا كان يدين بعدم إمامة ذلك الإمام وعدم كماله؟ إن قلنا: له المدافعة، فكيف يكون الفئتان جميعاً محققين؟ وما نظر ذلك؟ وإن قلنا: ليس للإمام قتاله، وليس له الامتناع عن التسليم إن لم يعرف إمامته، فما وجهه؟

أقول: معاملة الإمام لمن لم تصح إمامته، إذا عرف به أن تأخره عنه يجرح في دينه، ويثبت في أمره، أن يراجعه ويوضح له السبيل وينصب له الدليل، ويحسن التوجيه والتعليل، فإن رجع إلى الصواب فهو المقصود، وإن أبى فأمره غير محمود، وحينئذ ينزله الإمام في تكاليف الإمامة منزلة غير من يثبت، وغيره فيلزمه القيام بها من تسليم الحقوق والجهاد، وبشكه في الإمامة وهو ثابت الإمامة لا يقتضي سقوط الواجب عنه ولا مسامحة فيه، فيكرهه على تسليم الزكاة وغيرها مما أمره إليه، ويقاتله على ذلك إن أبى وعصى، ولا يخلصه من ذلك سوء عقيدته في الإمام، ولا انتفاء صحة الإمامة عنه.

قوله: وهل لرب المال المدافعة عن نفسه حيث لم تصح له الإمامة؟

جوابه: أنَّهُ ليس له ذلك مع فرض ثبوت الإمامة، وإذا ركب ذلك على أصله لم تصح، لأنه ركب على أصل فاسد، إذ المفروض صحتها، وما ركب على الفاسد فهو فاسد، فالمدافعة منه خطأ وعدوان، ولا يصح أن يجتمع حقية مدافعة الإمام، وحقيقة مدافعته عن ذلك، لأن مع ما ذكر من فرض صحة الإمامة [أن يكون] الإمام محق في مطالبته، وهو مخطيء في مدافعته، وإذا فرض عدم صحتها فالإمام مخطيء في مطالبته وهو محق في مدافعته، ولا نعلم قائلاً يقول: ليس للإمام أن يطالب من ينفي إمامته، أو يتوقف فيها بالحقوق التي عليه، فلو فرض منحرفاً لا متحريا، والمسألة منصوصة، ولو قيل بذلك لكان فيه وهن على الإمام وتضعيف أمره، والجهاد لم يشرع إلا لمن عصى الإمام ولم يطعه فيما أمر به، ولو قصرنا الإمام عن إكراه النافي لإمامته على ما يجب عليه الأداء إلى سلطان أمره، فلن يمتنع عليه إلا من لا تثبت إمامته باطناً وظاهراً، فعرفت أن القول بذلك يؤدي إلى ارتفاع مالا بد للإمام منه من مجاهدة العاصين له، المهملين لحقه، الزاوين لحقوق الله تعالى عنه، وهذا مالا قائل به، وحال المنكر لإمامة الإمام في عدم صحة الإعتذار بذلك فيما عليه من حقوقه حكم منكر الصانع فيما هو مفروض من صلاة وصيام، فكما أنَّهُ لا يعتذر فيها وإن كان اعتقاده منافيها، فكذلك هاهنا.

قال: وما حكم المتوقف إذا تمادى به الزمان وطال توقفه، وعرف الإمام صدقه ورصانة دينه، إن قلنا: يعذره فكيف إذا كانت صفة الكل أو الأكثر؟ فإنه يؤدي إلى بطلان أمر الإمام، وإن لا يعذره فكيف وهو لم يألُ جهداً في الإستبراء لدينه، وتحصيل يقينه؟

أقول: قد تقدم ذكر التوقف وحكمه، وأتينا فيه بمالا مزيد عليه، والتحقيق أنه لا وجه لإطالة التوقف ولا مقتضى له، فإن مسألة الإمامة وشروطها واضحة جلية غير غامضة، ولا حقية فيما في إطالة الخبرة تعسير الأمر وهو هون على الإمام، ولا معنى للتوقف إلا في حق رجلين، رجل منتزح عن الإمام فاضطربت عنده الروايات في كماله وعدمه، وإجابة الناس له وعدمها، وكمال الشرائط فيه وانتقاصها، فشأنه التوقف حتى يهيء الله تعالى به البلوغ إلى عند الإمام، وفهم الصحيح مما بلغه وخلافه، أو حتى يتواتر له الصحيح من ذلك ويضمحل الفاسد.

ورجل بلغ إلى الإمام ليختبره، ولم يمض من المدة ما يحصل فيه الاختبارالحقيقي والاطلاع على إحراز النصاب المعتبر من كل شرط، وأما مع عدا ذلك مما هو إلا من قبيل السخافة والجهالة، أو من قبيل اتباع الهوى والغرض، وعروض السقم للبصيرة والمرضى، فكم من متوقف يطول توقفه، ويستمر تعسفه، ولا حائل له على ذلك إلا ما يعرض له في كل واحد من طرفي الإثبات والنفي من الشوائب الدنيوية، والأحوال التي لا تكون عنده مرضية، وما هذا دين الله تعالى، ولا بين الحق والباطل من واسطة، ولا بأس بأن يباحث الإمام المتوقف ويسأله عن سبب توقفه إن كان شك في شيء من الشروط قرر عليه حصوله وثبوته.

وإن كان لشيء رآه في أمر السيرة قرر عنده وجهه، والحامل عليه وعدم الخطأ فيه، وإن كان لسبق داع قيل له: هل الأول عندك ثابت الإمامة فلا معنى لتوقفك ولا يجوز لك التوقف وإن كان لتقدم دعوة الإمام وهو غير ثابت ()فتقدم دعوته كلا تقدم بل قيام من ليس بصالح للإمامة، مما لا ينبغي أن يكون داعياً إلى قيام الكامل، ومؤكداً للوجوب في حقه، وإن كنت متوقفاً في الأول فكذلك توقفت في الثاني، فهذه خيرة تزكية على حيرة وجهالة منضّمة إلى جهالة، والحاصل أن التوقف إذا جاوز القيد المعتاد والمحتاج فصاحبه ضال، ولكن ضلالته دون ضلالة الثاني، مع فرض صحة الإمامة ودون ضلالة المثبت مع فرض بطلانها.

قوله: فكيف يعذره وهو لا يألو جهداً... إلى آخره؟

قلنا: فيلزمك أن تعذر النافي إذا كان نفيه له إمامته تحرياً في أمر دينه إذ لا فرق، وأن تعذر المتوقف في نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بل المتوقف في إثبات الصانع، إذا جهدا في تححصيل المعرفة، ولكن ما حصلت ويلزم تصحيح مذهب أهل الخيرة والتكافؤ، والله ولي التوفيق.

قال: وما تكليف أهل الزمان في حق الأئمة المتقدمين؟ وهل يجب معرفة إمامتهم جميعاً بمعرفة جمعهم الشرائط كما يجب في حق إمام الزمان بذلك فيما يأمر به، أم لا يجب شيء من ذلك؟ وهل يجب اعتقاد إمامتهم وحملهم على السلامة من دون معرفة جمعهم للشرائط؟

أقول: الأئمة السابقين أولهم أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه السلام  يلحق به ولداه الحسنان     عليهما السلام  وهؤلاء هم الدرجة العليا.

والطبقة الأولى: وهم المعصومون والمنصوص عليهم.

والطبقة الثاني: مَنْ بعدهم إلى الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام .

والطبقة الثالثة: من بعده إلى المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام .

والطبقة الرابعة: مَنْ بعده إلى زماننا هذا.

 هكذا ذكره والدنا الإمام الهادي إلى دين الله تعالى علي بن المؤيد بالله عليه السلام  في رسالة غراء ومقالة رائعة عذراء، ذكر فيها طبقات الأئمة ودرجاتهم، ونزلها على هذا التنزيل، قال في الطبقة الرابعة: هي من الإمام أحمد بن الحسين المهدي إلى أن ألجأت الحال فصار الأمر عندي، واستثنى من هذه الطبقة الرابعة الإمام يحيى بن حمزة وقال: هو جدير بأن يعد أمة وحده، وله في هذه الرسالة ألفاظ رشيقة، ومعان دقيقة، وكان الباعث له عليها أن السيد العلامة الهادي بن إبراهيم بن علي المرتضى وجه إليه رسالة بالغ في الثناء عليه فيها، وتفضيله على كثير ممن قبله أولها:لحمد لله عليك من إمام أمة. عده عليه السلام  على المسلمين نعمة، فأنشأ الإمام عليه السلام  هذه الرسالة وأظهر التواضع فيها والحط من أمره حتى استشهد بقول بعضهم:

وابن اللبون إذا ما لز في قرن

 

لم يستطع صولة البزر القناعيس

 وأجاد معاني عالية وأطاب وأتى بالألفاظ البليغة، والمعاني العذاب، بما يروق الألباب.

ثم نعود إلى ما هو المقصود فنقول: أما من بعد علي عليه السلام  من الأئمة غير إمام الزمان، فلا قائل بأنه يجب معرفة إمامتهم، ولا البحث عنها، ولا أنه يتعلق بنا في شأنهم تكليف لا اعتقاد إمامة، ولا عمل يتبع ذلك.

قال بعض أصحابنا: لأنّهُ لا تكليف علينا علمي ولا عملي في معرفة ذلك، وإن كان العلم بذلك ممكناً بأن يتواتر الخبر إلينا بمثل ذلك لكنه ولو تواتر فإنه حينئذ غير واجب لأنه علم ضروري.

وذكر الدواري في تعليقه على شرح الأصول: أن الأظهر من كلام الزيدية وغيرهم أنها تجب معرفة إمامة زيد بن علي     عليهما السلام ، وعلل ذلك بأنه مجمع على إمامته، وجمعه للشرائط يحتاج إلى معرفتها والعلم بذلك، ليكون طريقاً إلى معرفة إمام الزمان وأوصافه، أو الاعتبار في الشرائط التي تشترط في الإمام أو في أكثرها بإجماع الأمة أو أهل البيت، ولا إجماع معلوم إلا فيه، فإن الأمة والعترة فيما تعذر منه كثر انتشارهما فقلما يُعْلم لهما إجماع.

قُلْتُ: وهذا الكلام فيه نظر، وما هو إلا كلام لا صحة له، لأن إمامة زيد بن علي كإمامة غيره، بل غيره من الأئمة السابقين كانت مدة قيامه أطول، وآثاره في باب الدين أكمل، ولا عمل يتعلق بمعرفة إمامته، ولا تكليف إليها، وإن كان عليه السلام  من شموس الأئمة وأقمارهم، وهو مؤسس قواعدهم المرضية، وموضح آثارهم، والتعليل المذكور عليل، فإن الأدلة على وجه اشتراط شروط الإمامة قائمة، وهي المرجوع إليه في اشتراطها، وليس ذلك مستند إلى معرفة إمامة زيد بن علي عليه السلام ، فإن إمامته إنما عرفة لمعرفة إحرازه للشرائط وجمعه لها، لأن معرفة شروط الإمامة تؤخذ من معرفة إمامته، ولا يجب أن يكون كل إمام أوصافه كأوصافه، وكماله فيها ككماله، فإن زيداً عليه السلام  زاد على قدر ما يشترط فيها زيادة واسعة، ولو اشترط أن يكون كل إمام على صفته لأدى إلى إبطال إمامة كثير من الأئمة، فهذا الكلام لا وجه له.

وأما إمامة أمير المؤمنين فأهل المذهب يتفقون على وجوب معرفتها، وأنها فرض محتوم، واختلفوا هل هي فرض عين أو فرض كفاية، فالأكثر على الأول. ممن نص على ذلك الهادي والقاسم     عليهما السلام ، وفي كلام الهادي عليه السلام  ما يقضي بأن الجهل بذلك فسق.

والحجة لأهل هذا القول إجماع العترة، والأقل على الثاني وهو الأرجح عندي والأولى، وللأصحاب مبالغة في هذه المسألة حتى أنهم عموا بوجوب ما ذكره العلماء والعوام، واختاروا رقم ذلك في الوصايا وضم الشهادة به إلى الشهادتين، ومن المعلوم أن مثل ذلك لا يدخل في إمكان العوام، ولا يجدون إلى العلم به سبيلاً، وأنه في حقهم كتليف مالا يطاق، وليس معهم فيه إلا التقليد المحض، وقد ذهب الفضل بن شروين أنها إنما تجب على العلماء دون العوام، وهو أعدل الأقوال، واحتج بأن معرفة إمامة أمير المؤمنين عليه السلام  متلقاة من جهة معرفة اللغة فلا يعرف وجوبها إلا من له غوص في اللغة.

وأما رقم ذلك وفعله في الوصايا فمن قبيل الغلو، فليس كل مسألة يجب العمل بها مما يحق لها مثل ذلك، وليس له من الفوائد إلا معرفة كون الموصي زيدي المذهب، وليس كل موص يفتقر إلى التعريف بمذهبه، ولا يحتاج إلى ذلك منه، وكل من يعرفه يعرف مذهبه إن كان ذلك إلى حجة.

وأما الحسنان     عليهما السلام ، فالأكثر على أن حكمهما حكم أبيهما، ومن أهل المذهب من لا يوجب معرفة إمامتهما، قال القاضي الدواري: لم يذكر وجوب معرفة إمامة الحسنين     عليهما السلام  جماعة من أئمتنا، منهم السيد المؤيد بالله وصاحب الكافي() والأمير الحسين().

أمَّا صاحب الكافي فصرح بأنَّ العلم بإمامتهما غير داخل في أصول الدين، قال: ومن لم يعرف إمامتهما لم يفسق عند جميع العلماء.

وأمَّا المؤيد بالله والأمير الحسين فلم يذكرا الوجوب ولا نفياه، وللهادي عليه السلام  وولديه() ما يقضي بأن معرفة إمامتهما واجبة، وسوّى المهدي بين إمامة الثلاثة في وجوب المعرفة لها، وقال: لا خلاف في كون معرفة إمامتهم كلهم فرض لأنها منصوصة، ومعرفة معاني نصوص الكتاب والسنة واجبة، ولم يتعرض الإمام يحيى في (الإنتصار) لوجوب معرفة إمامتهما، وإنما قصر الكلام على إمامته عليه السلام   ، وحكى إجماع العترة والشيعة على وجوب معرفة إمامته وخطأ من لم يعرفها، لأن العلم بها من أصول الدين، لأن كل من لا يعرفها على التفصيل لا يمكنه معرفة إمام زمانه، لأن إمامة غيره عليه السلام  متفرعة على معرفة إمامته، وإن اختلفت الطريق فلا يكون من بعده إماماً إلا إذا حصل على مثل أوصافه.

قال الإمام يحيى بن حمزة: ورأي الأكثر من أئمة العترة والأكثر من المعتزلة، أن الإخلال بمعرفة إمامته يكون فسقاً، إلا ما يحكى عن المؤيد بالله فإنه لم يقطع بفسقه، ثم رجع إلى كونه مخطئاً.

قال الإمام يحيى: والمختار الذي يجب عليه التعويل ما قاله المؤيد، وهو الحكم عليه بالخطأ دون الفسق، لأنك إنما تهدم عمله بالأدلة القاطعة الشرعية وهي منفيه هنا.

وقال المهدي عليه السلام : إن الجاهل لها لا يفسق، ولا يخطأ مع قيام غيره بذلك، وأما المجوز للإخلال بمعرفتها على كل وجه فإنه مخطيء ولا قطع بفسقه.

قوله في السؤال: وهل يجب اعتقاد إمامتهم وحملهم على السلامة من دون معرفة جمعهم للشرائط؟

جوابه: أنه لا يجب الاعتقاد المذكور بل لا يجوز إلا عن نظر واستدلال وتحقيق، فإن الاعتقاد الذي ليس على هذه الصفة يجوز كونه اعتقاد جهل والجهل قبح، والإقدام على ما لم يؤمن قبحه كالإقدام على القبيح، فلا يتوجه ذلك الاعتقاد إلا مع تواتر الكمال وحصول شرائط الإمامة والسيرة المرضية، ومهما لم يحصل ذلك فلا ينبغي أن يعتقد ذلك، وكذلك فلا ينبغي أن يعتقد فيهم الخطأ ولا النقصان، ولا عدم الكمال، إذ لا طريق له إليه، ولا بأس بالحمل على السلامة، وهو أن لا يظن فيهم أنهم ترشحوا لهذا الأمر مع كمالهم فيه، بل يتوجه أن يظن فيهم الخير، وللعوام في ذلك تقليد العلماء.

هذا وأن من الأئمة من هو مذكور، وحاله في الفضل والكمال وجمع محاسن الخلال مشهور، فلا يخفى على أحد صحة إمامته وكماله وفضله، وإحرازه للشرائط، وإحاطته بالأوصاف الحسنة لكون سيرته مرضية.

ومنهم عليهم السلام  من أمره خاف عن بعض المميزين، بل كثير من دعاة أهل البيت يخفي أمره على بعض المبرزين، فقد كان منهم في جهة الأندلس وغيرها من لم يبلغ دعوته، ولا تسير سسيرته.

قال: وما يكلف به في حق المتعارضين السابقين مع تواليهم وتعاديهم؟

أقول: أول ما نشأت المعارضة فيما نعلم زمن الهادي والناصر     عليهما السلام ، وكانا متباعدي الأقطار، ومتبايني الديار والمزار، وحالهما في الفضل والكمال لا ينكر بحال، وحبذا ما كان بصفة تعارضهما، فلا شك أنهما معاً مرضيان، وإمامتهما معاً في القوة والصحة ظاهرة الثبات، وما جرى من المتعارضين على هذه الكيفية فلا إشكال فيه، ولا يفتقر فيه إلى تنبيه.

وأما حيث تقارب المتعارضان وتنازعا وتحاربا، فلا يتصور أن يكونا محقين معاً، بل أكثر ما يتهيأ أن يكون أحدهما فقط محقاً، ويكون الآخر باغياً عليه، وخارجاً عن ولاية الله تعالى إلى عداوته، فلا إمامة مع البغي.

وأما حيث تقاربت دارهما ولم يتشاجرا ولا تحاربا، وكان كل واحد منهما حسن المجاملة والمعاملة للآخر، وهما متواليان غير متعاديين، فالذي تقتضيه القواعد أن الإمامة ليس إلا لأحدهما، والآخر ليس بإمام، وإنما نتولاه كما تولاه الإمام المعارض له، ومن الحق في عدم المعارضة ثابت له، هذا على سبيل الإجمال.

وأمَّا التَّفْصيل فهو أنَّهُ إن ثبت لنا طريق إلى كون أحد المتعاديين بعينه هو الإمام، وكون الآخر بصفة الباغي عليه، وثبتت لنا طريق إلى أن أحد المتواليين بعينه هو كامل الشرائط صحيح الدعوة، ثابت الإمامة، وأنه الفائز بذلك والحائز له دون صاحبه دنّا بذلك واعتقدناه في الصورتين معاً، فإن لم تستقم تلك القاعدة ففرضنا في المتوالين المعروفين بحسن الصفات والأحوال توليهم معاً والترحم عليهم، وحسن الظن بهم، وأن نقول في المتعاديين: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ ولَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُوْنَ عَمَّا كَانُوْا يعْمَلُوْنَ} [البقرة: 134].

قال: ومَنْ ليس بإمام عند أهل البيت كعمر بن عبد العزيز ما حكمه؟

أقول: حكم عمر بن عبد العزيز() ومن على صفته ممن حسنت سيرته وسريرته، ولم يختل فيه إلا شرط المنصب الفاطمي عند أصحابنا أنه ليس بإمام، وإنما هو سلطان عادل، وأنه مخطيء بترشحه لهذا الأمر، ويؤل أمره إلى ما عليه الخلفاء المتقدمون لأمير المؤمنين، وكلام أهل البيت  عليهم السلام  فيهم معروف متناقل، فمنهم المبالغ في التأثم والتخطية، ومنهم السالك سبيل التولي والترضية، فما عومل به عمر الأكبر ينبغي أن يعامل به عمر الأصغر، فليس بناقص عنهم في حسن السيرة والسريرة في العدل وإن تأخر، بل قد قضي له لمزية جلية غير خفية، وهو أنه سلك لهذا السبيل في العدل بعد انطماسه واندراسه وخراب أساسه، وتقادم العهد بمثله،  وأهل زمانه لا يعترضونه في شأنه.

وأما عمر بن الخطاب فإنه سلك سبيل العدل، وهو واضح غير منطمس، وشهير غير مندرس، ومع قرب العهد بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وخليفته المرتضاة، وكونه بين ظهراني الصحابة الأخيار، وفضلاء المهاجرين والأنصار، الذي لو رام الميل بينهم عن السيرة المرضية لقوموه بالسيوف الهندية والرماح الخطية، ولم يقروه على خلاف السيرة النبوية، فانظر في عظم شأن تلك المزية.

ويلحق ويحلق بعمر بن عبد العزيز في العدل، وإن لم يكن مساوياً ولا مدانياً في الفضل يزيد بن الوليد، قال الحاكم: أجمع المعتزلة على صحة إمامتهما، وعندي أنه يمكن أن يتمحل لعمر بن عبد الغزيز من الأعذار في توليه لما تولاه مالا يمكن أن يتمحل لعمر بن الخطاب في مثل ذلك، وهو أن من المعلوم قطعاً أنه لم يفعل أو فعل، ثم رام التنحي لبعض أعلام [البيت] البيت، وإيثاره بهذا الأمر لما تم له ذلك، ولا وجد إليه سبيلاً وإن ترك تولى الأمر يزيد بن عبد الملك وأخوه هشام بن عبد الملك، أو من يضاهيهما من الساعين لدين الله تعالى في الإنهدام، وقد جعل سليمان بن عبد الملك الأمر إليه ثم إلى يزيد ثم إلى هشام، فلما لم يسعد إلى تولي الأمر، أو رام التنحي بعد التولي لما تولاه إلا من ذكر أمراً محتوماً، لا محيص عنه ولا مناص، كما يتيقن ذلك من عرف أحوالهم وسيرتهم وأساليبهم.

وأما عمر بن الخطاب فمن المعلوم أنه لو ترك التولي للخلافة أو تنحى عنها لمن هو أحق بها منه لما قام مقامه إلا من هو أفضل منه وأكمل، وأعلم بالعلوم الدينية وأعمل، وإذا عرفت ذلك فغير بعيد أن يتحتم على عمر بن عبد العزيز ما كان منه من تولي الأمر لما فيه من إزالة المنكرات، وتغيير الظلامات، وإقامة قواعد الدين، وصيانة الإسلام عن أقاربه المعتدين، جزاه الله خيراً عن الإسلام والمسلمين، والحمد لله وصلواته وسلامه على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين.

 

[رسالة الإمام عزالدين بن الحسن عليه السلام السلام التي وجَّهها إلى العلماء يستمد جواباتهم عن سؤالاته في الإمامة أنشأها قبل دعوته]

بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر وأعن يا كريم أمَّا بعد: حمداً لِله كما ينبغي لجلاله، والصلاة على سيدنا محمد وآله، فإنه لا يعزب() عن الأذهان الشريفة والأديان الحنيفة لزوم التحري في الأمور الدينية للصواب، وقبح الهجوم فيها مع الشك والارتياب، ومن أعظمها في الخطر وأحوجها إلى تحرير النظر مسألة الإمامة التي هي لكثير من الأحكام الشرعية كالدعامة، فإن الإقدام فيها أو الإحجام مالم يصدر عن رويِّة وتحقيق، وتنقير وتدقيق، مهلكة من المهالك، ومسلك من أوعر المسالك، ورأيت الناس في زماننا هذا يخبطون خبط عشواء، ويبنون فيه على ما يلائم الأهواء، فلا تكاد تظفر بأريب بنى العقيدة على قواعدها، ولا تقع على لبيب قد أحاط علماً بنكتها وفوائدها، إلا قليل ممن عامله الله بتوفيقه، وهداهم في الدين إلى أوضح طريقة، ولما كنت ممن قصر فهمه عن بلوغ الغاية، وقعد به حظه عن الوصول في ذلك إلى النهاية، صرفت الهمة إلى مباحثة أهل العلم والحكمة، ممتثلاً لقول الله عز وجل: {فاسْألوُا أهْلَ الذّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون} [النحل: 43]، ناظراً إلى ما ورد في الأثر:(السؤال: نصف العلم)   قاصداً للاستفادة والإزدياد، غير مريد للتعنت والانتقاد غير المعتاد، والله على ما أقول شاهد وبه كفيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وأقول وبالله التوفيق: قد وقع الخلاف بين الأمة هل مسألة الإمامة من المسائل القطعية التي لا يؤخذ فيها إلا بالأدلة القاطعة؟ أم هي من المسائل الاجتهادية التي هي لأنظار المجتهدين تابعة؟ فالظاهر من مذهب أئمتنا ومتابعيهم، والمعتزلة ومتابعيهم، أنها قطعية يتعلق التكليف فيها بالعلم اليقين، وأن الوصول فيها إلى العلم لازم لجميع المكلفين، ولذلك ألحقوها بفن أصول الدين، وليست علماً بالله تعالى، ولا بصفاته، ولا بأفعاله، ولا بأحكام أفعاله، وأشار بعض متكلمي أصحابنا إلى تجويز كون السبب في ذلك من حيث أنه يطلب منا مع العمل فيها الاعتقاد الذي هو العلم دون الظن، ثم نظر ذلك وأشار إلى تعليل آخر رمز إليه الفقيه حميد() رحمه الله في وسيطه لا حاجة إلى ذكره هاهنا، مع أن الأليق بها فن الفقه، -وإن كانت قطعية- إذ هي من المسائل الفرعية، والأحكام الشرعية، ولم أظفر من أدلة الأصحاب مع هذه الدعوى بما مقدماته يقينية، وقواعده التي يبنى عليها قوية، مع كثرة بحثي عن ذلك في كتب الأصول والفروع، وتطلّبه من مصنفات المعقول والمسموع، فإن مسائل الإمامة متفرعة إلى فروع كثيرة، كوجوب نصب الإمام، ووجوب اتباعه، ومعرفة شرائط الإمامة،  ووجه اشتراط كل واحد منها، ووجه الاقتصار عليها، ومعرفة ما يحتاج إلى الإمام، فيه، ووجه قصره عليه، وغير ذلك، والأدلة القاطعة الشرعية ليست إلا الكتاب الصريح، والسنة المتواترة، والإجماع والقياس القطعيين، وأما العقل فلا مجال له هنا على الصحيح، ولم يتضح لي ثبوت شيء من هذه الأدلة القاطعة في هذه المسائل ولا في شيء منها.

وقد أورد أصحابنا في كتبهم أدلة على وجوب نصب الإمام، أشفّها إجماع الصحابة، لأنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فزعوا إلى نصب إمام من غير تقاعد ولا تناكر، ولم يسمع عن أحد منهم القول بعدم وجوب ذلك، ولا فهم من قرائن أحواله، مع اختلاف أنظارهم، وتشتت أرآئهم في تعيين الإمام، وغير ذلك من الأحكام.

 وهذا الدليل عن القطع بمراحل، وكيف وهو -لو صح- إجماع فعلي فقط؟ وعدم حصول التواتر في النقل عن كل واحد من الصحابة معلوم، وكل مسألة يكون دليلها الإجماع فالأقرب عدم تأَتي القطع فيها، وهي بأن تكون ظنية أو لا، وهيهات أن تجتمع شرائط الإجماع القطعي في حق أئمة النقل والتنقير، فكيف بأهل الإهمال والغفول الكثير، ولو قدرنا حصول شرائط الإجماع وتواتره عن كل واحدٍ من الأمة؛ فقد ورد على ما نجعله دليلاً على كون الإجماع دليلاً وهو الآية الكريمة ({وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ...} [النساء: 115]، ما ورد وحكم عليها الفحول بأنها من الظواهر وليست من الصرائح في الدلالة.

ومن أدلتهم: أن الله سبحانه وتعالى فرض الحدود وأمر بإقامتها، ثم وقع الإجماع على أنه لا يقوم بها إلا الإمام، فوجب فعل مالا يتقوم الواجب إلا به، وهذا يترتب على ثبوت هذا الإجماع المدعى، ونقله تواتراً، وفي ذلك من البعد مالا يخفى، بل هو في حكم المتعذر المستحيل والله أعلم.

 واعترضه الفقيه يحيى بن حسن القرشي() بما معناه: ما أمنكم أن يكون الأمر بإقامة الحدود مشروطاً بحصول الإمام ووجدانه؟ لكن يمكن أن يجاب عنه بأن الأمر بإقامة الحدود ورد مطلقاً، وما ورد مطلقاً لزم تحصيل شرطه، ولم يتوقف وجوبه على تحصيل شرطه، وأورد اعتراضاً آخر وهو أنه لو كان نصب الإمام واجباً على الأمة لما أجمعوا على ترك هذا الواجب، ولا كلام في خلو بعض الأزمنة عن الإمام، وإن وقع الشك في جواز الخلو عمن يصلح للإمامة، وهذا أقوى كما ترى.

فانظر إلى هذه الأدلة التي وسمت بكونها يقينية، وانظر إلى تركهم إيراد أدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة وتفاصيلها.

[إثبات ما يترتب على القول بقطعية الإمامة]

ثم نقول: إذا صح المذهب، وهو أن الإمامة قطعية لا يجوز الأخذ فيها إلا بالدليل القاطع، وأن الحق فيها مع واحد؛ لزم على هذه القاعدة كل واحد من المكلفين -مع وجدان من يدعي الإمامة- أن ينظر في المسألة أصولها وفروعها، ولا يجوز له الإقدام والإحجام، ولا الإثبات، ولا النفي، إلا بعد أن يطلع على أدلتها، ويعلم حصول العلم اليقين له عنها، حتى ينتهي إلى العلم بوجوب متابعة هذا الداعي وصحة دعواه، أو لا خلاف في ذلك وإلا كان مخطئاً آثماً، سواء وافق الحق في نفس الأمر أم لا، لأنه لا فرق بين الإقدام على الخطأ، وبين الإقدام على مالا يؤمن كونه خطأ في القبح، ويلزم ألا يصح التقليد في شيء من مسائل الإمامة،  ولا الرجوع فيها إلى أقوال العلماء كغيرها من المسائل القطعية التي لا يصح التقليد فيها.

 وقد ذكر بعض مذاكري المذهب وهو الفقيه [محمد بن سليمان] () ما يقضي بهذا في حق من بلغته دعوة الإمام ولم يتمكن من النهوض إليه، قال رحمه الله: فإن الظاهر أنه لا يعتقد إمامته حتى يحصل إجماع من العلماء عليه، أو يتواتر الخبر بجمعه الشروط، لأن المسألة قطعية، ولا يجوز الدخول بالتقليد إلا عند من جوزه في مسائل الأصول، ونظَّره الفقيه [يوسف بن أحمد بن عثمان] () بأنه ما يكاد يتفق ذلك ولا وجه للتنظير، لأنه لا عبرة بالاتفاق وعدمه، والذي يقتضيه أصول أهل المذهب ما ذكره الفقيه[محمد بن سليمان]، ومن توابع القول بكونها قطعية أنه يلزم الأئمة وغيرهم الإنكار على من اعتقد صحة إمامتهم من غير فهم القواعد والوصول في ذلك إلى العلم اليقين، لأن من كانت هذه صفته مُقدم على قبيح ومرتكب له، والإنكار على مرتكب القبيح واجب، وقد ذكر هذا بعض علمائنا، فإنه قال في رسالة إلى بعض الأئمة: فإن أقدم العامي على مبايعتك بغير حجة وجب عليك نهيه، فكيف ترغبه؟ انتهى.

إذا تقرر هذا فمعلوم أن أكثر المعتزين إلى الأئمة القائلين بإمامتهم، الممتثلين لأوامرهم ونواهيهم، المترتبة على صحة الإمامة وثبوتها؛ لم يقدموا على ذلك لنظر اقتضاه، ولا لدليل أوصلهم إليه، بل ربما أن الجم الغفير منهم لا يعرفون معنى الإمامة وحقيقتها، فكيف بدقائق مسائلها وغوامضها الحائرة فيها أفهام وأرباب العقول، والمتعارضة فيها أقوال الأيقاظ منهم والفحول؟ فكيف يحسن إقرار هؤلاء الجهلة على ذلك، وعدم تنبيههم على ما هو اللائق من النظر الصحيح المطابق، ونظير هذا ما عليه جميع الأئمة عليهم السلام  المتقدم منهم والمتأخر من أمر العامة بتسليم الحقوق إليهم دون أن يأمروهم بتقديم النظر في صحة إمامتهم، وأن ينبهوهم على أنهم مأخوذون فيها بتحرير الأدلة، وفهم السبب في ذلك والعلة، وليس لقائل أن يقول: كثير من المسائل القطعية يصح التقليد فيها. فإنا نقول: ذلك لا يصح إلا فيما كان منها عملياً لا يترتب على علمي، ومسائل الإمامة ولواحقها -من اعتقاد إمامة إمام معين، ووجوب طاعته، وتسليم الحقوق إليه- ما بين علمية وعملية تتوقف على العلم.

 

 

[بحث حكم النافي لإمامة الإمام والمتوقف فيها وتخطئة المفسقين لنا في إمامته]

والعجب مما ظهر في زماننا من تجاسر غير العارفين من المثبتين للإمامة على تفسيق النافي لها، أو المتوقف، ولعنه واعتزال الصلاة خلفه، مع أن التفسيق لا يصح الأخذ فيه والاثبات له إلا بالبرهان القاطع الذي لا مانع له ولا مدافع من كتاب صريح، أو خبر متواتر صحيح، أو إجماع قطعي، واستبعدوا أن يكون القياس من طرقه لتعّسر القطع بعلة الحكم، وانحصارها، وعدم تعددها، والمعلوم أنك لو سألت كل واحد من هؤلاء المذكورين عن معنى الفسق وأسبابه، وطرقه وأحكامه، لما درى كيف يجيبك. دع عنك العلم بكون نفي الإمامة والتوقف فيها يقتضيه، وفي الحقيقة أن التعجب من علماء زماننا الراسخين في العلم -كثرهم الله ونفع بعلومهم- كيف سكتوا عمن هذه صفته، مع وجوب التنبيه والتعريف بما يتحتم في الدين الحنيف؟! فإنه إن سلم ثبوت الفسق في هذه المسألة لم يحسن تقرير أرباب التفسيق من غير استدلال وتحقيق، بل يجب الإنكار عليهم والإعذار في ذلك إليهم، فما ظنك بمن يلقّن الجهلة ذلك، ويفتيهم به، ويأمرهم باعتقاده؟!

ثم إنَّا نقول: أيُّ الأدلة المعتبرة دل على فسق من ينفي إمامة الإمام أو يتوقف فيها؟ وأي طرق الشرع أو العقل اقتضى ذلك؟! أما العقل فلا مجال له هنا، فما حجة القائلين بذلك، والذاهبين إليه من أدلة الشرع؟ أما أكثر أئمتنا وعلمائنا فالظاهر عنهم القول بعدم التفسيق، ولهذا نقل عنهم حسن الثناء على المشائخ المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ،  والترضية عنهم، والتعظيم العظيم لهم، مع أن أولئك المشائخ المذكورين نفوا إمامة علي عليه السلام ،  وزادوا على النفي بما ظاهره البغي، فإنهم تصدروا وأهَّلُوا نفوسهم للإمامة، ورأوا أنهم أولى بها منه، هذا وإمامته عليه السلام  أظهر من إمامة غيره، لقيام النصوص عليه، ووضوح الأدلة على عصمته، وكثرة فضائله، وعلو شأنه، وارتفاع مكانه!!

ونقـول: سلَّمْنا أنَّ الإمامة قطعية. فليس من لازم كل مسألة قطعية أن المخطي فيها فاسق، إذ ليس كل خطأ كبيرة، فإنه لا يثبت كون المعصية كبيرة إلا بدليلٍ -كما ذكروه- من ثبوت الحد عليها، أو التصريح بعظمها، أو فحشها، أو كبرها، أو نحو ذلك، أو الوعيد عليها بعينها على خلاف في ذلك، ولا أعلم حصول شيء من هذه الطرق في مسألتنا، ولا قضت بذلك معاملة السلف وأحوالهم، بل قضت بخلاف ذلك.

 

[احتجاج الإمام بتسامح الأئمة فيما بينهم]

لقد بلغني أن القاسم بن علي العياني() ويوسف الداعي قد تعارضا وادعى كل منهم أنه الإمام دون صاحبه، وكانا مع ذلك أهل تواد وتصافٍ، حتى كانا كثيراً ما يقول كل واحد منهما في كتابه إلى الآخر جعلني الله فداك، ومثل هذا لا يعامل به ذو التمييز من يعتقد فسقه، بل يتوجه عليه مباينته، والإغلاظ له، وعدم الموادة، وكذلك اطلعت أنا على مكاتبة من بعض عيون أتباع حي الإمام الناصر عليه السلام  محمد بن علي بن محمد() إلى محمد بن علي بن وهاس() العالم الشهير، وقد دعا إلى نفسه وعارض الناصر عليه السلام  وادعى قصوره ونفى إمامته، يطلبون منه الإقلاع عن المعارضة، وشق العصا بتعظيم وتبجيل وتكرمة وتجليل وإلطاف في التعبير، وأقرب من هذا وأظهر ما كان بين الإمامين الهادي علي بن المؤيد والمهدي() أحمد بن يحيى سلام الله عليهما من الموالاة والمصافاة وحسن المؤاخاة في الله مع اعتقاد كل واحد منهما أنه الإمام دون صاحبه، وأن الآخر غير كامل الشرائط، أما حي والدنا الإمام الهادي لدين الله فذلك متواتر عنه، كان يصف المهدي بعدم التدبير ويقطع بذلك في حقه ويصرح بأنه قد أيس منه في حبسه الأخير حتى أنه حين وصل إليه المهدي أوان أخذه لصعدة ودخوله لها، وذلك بعد خروج المهدي عن الحبس تلقاه الهادي بالإكرام وأنشد أبياتاً ضمنها:ـ

وما جيـت حتى أيس الناس أن تـجي

 

وسُـميت مـنظوراً وجئت على قدر



وأما المهدي فكذلك كان يدعي أن إمامته صحيحة، وأن العبرة بأياسه وهو لم ييأس عند خروجه من الحبس، وإن كان هذا خلاف ما صرح به في بعض مصنفاته فقد نفى كل واحد منهما إمامة صاحبه وزاد على النفي بأَنْ أهَّل نفسه لها، بل يلزم أن يكون كل واحد منهما عند صاحبه في حكم الباغي لإظهاره أنه المحق مع قيامه بما أمره إلى الإمام متمنعاً، ومع ذلك فلم يعتقد أحد منهما في الآخر أنه فاسق، بل كانا يتعاملان معاملة الأخوين المتحابين في الله، وذلك مشهور من حالهما، أخبرني بعض الثقات المعاصرين لهما أن المهدي كتب إلى الهادي يخبره بأنه لزمه دَين ويلتمس الإعانة منه، فأمر الهادي الأهنوم بتسليم واجباتهم إليه   ، وكذلك ما كان معهم له من النذور، ولما خرج من صعدة أمر الهادي مع المهدي الفقيه العالم العابد محمد بن ناجي إلى بلاد الأهنوم ليأمرهم أيضاً بتسليم واجبهم ذلك العام إليه، وكان كثير الثناء عليه والمدح لصفاته، والاعتراف بغزارة علمه، وأوصى في بعض أمراضه إلى عدة من أتباعه وأنصاره وإخوانه بدأ منهم بالمهدي معظماً له داعياً له بالخير، وأظهر الفرح، وأوقد النيران حين بشر بأخذ المهدي لبعض الحصون، وكذلك فقد وقفت على كتب عديدة للمهدي عليه السلام  بخط يده المباركة فيها ذكر الهادي بالتعظيم البليغ والدعاء له في حياته وبعد مماته، وكان يكثر الترحم عليه والترضية عنه، وكثيراً ما يقول في كتبه في حياة الهادي إذا ذكره: الهادي عليه السلام ، وبعد وفاة الهادي: قدس الله روحه ونوَّر ضريحه، أمر خولان بعد موته بتسليم واجباتهم لقضاء ديونه، وأخبر عنه الثقة أنه لما وصله أحمد [بن] قاسم الشامي() باعتراضات قد لفَّقها على الهادي، وكان في أول أمره قائلا بالهادي وملازماً له ينتهي إلى سبعين اعتراضاً؛ حلها المهدي واحداً واحداً حتى أتى على آخرها، وكان من كلام الشامي له: لولا أنت لدخلت بها خلفه صنعاء، ولَمَّا عرض عليه بعض من يعتاد تسليم الواجب إلى الهادي من الإجبار أن يعطوه زكاتهم امتنع من ذلك، وأمرهم بالاستمرار على عادتهم، وكان أشياعهما      عليهما السلام  أولي مخالطة حسنة ومعاملة مستحسنة، وكثيراً ما وصل أشياع المهدي إلى الهادي يستعطونه فيعطيهم العطايا السنية، ولو أردت استقصاء ما علمته مما كان بينهما من شواهد حسن الإخاء لطال الكلام، ولم آت له على إتمام، وفي هذا زيادة على الكفاية، ولكني بفرط محبتي لهما واستحساني لسيرتهما تلذذت ببسط الكلام في شأنهما وذكرهما، وقد ذكر في (اللمع)() عن شرح أبي مضر() ما لفظه: وقول يحيى()  عليه السلام : أن مَنْ أنكر إمامة إمام طرحت شهادته، فلعله قال ذلك اجتهاداً، قال المؤيد() بالله قدس الله روحه: ولكنه يضعف عندي إذا كان مستقيم الطريقة في سائر أحواله، فإن عرف منه الفسوق بما يقوله فإني لا أقبلها، وقال قدس الله روحه: والمراد به إذا كان لا يقول بإمامته لأجل الفسوق والتهتك، لا لأجل النظر في أمره والتفكر في أحواله، فإن كان كذلك فإنه لا تسقط عدالته، وتقبل شهادته، فانظر إلى هذا الكلام الصريح في عدم التفسيق، بل في إثبات عدالة النافي مع أن العدالة تسقط بما هو دون الفسق، بل بشيء من المباح، وهذا كلام من شهدت له بالسبق أكابر الأخيار، وقضيت له بالفضل أعيان الأئمة الأطهار، حتى أن الإمام يحيى() بن حمزة عليه السلام  جعله أولى الأئمة وأحقهم بالتقليد والاتباع.

[مبحث في حكم الصلاة خلف المخالف في الإمامة وخلف نافيها]

نعم؛ وأما منع الصلاة خلف من خالف المؤتم في العقيدة في الإمام من نفي، أو إثبات، أو توقف، بحيث أن المثبت لا تجزيه صلاته خلف النافي والعكس، وكذلك المتوقف، على ما ظهر واشتهر في هذا الزمان، وانتشرت به الفتوى في جميع البلدان، فقد خفي عليَّ وجهه، فإن الذي تمتنع الصلاة خلفه على المذهب هو الفاسق ومن في حكمه، وهو المصر على معصية لا يفعلها في الأغلب إلا الفسقة، وإن لم يعلم كونها فسقاً نحو كشف العورة بين الناس، والتطفيف، والشتم الفاحش غير القذف.

واحترزوا بقولهم: في الأغلب، عما يرتكبه الفسقة وبعض المؤمنين في العادة، كالغيبة والكذب ونحوهما، وإن ورد فيهما من الزجر والتهديد والوعيد الشديد لما ورد لما كانا مما لا يختص الفسقه بارتكابه وتعاطيه، ولا يقطع بكبرها، وما نحن بصدده ليس في شيء من القبيلين والنوعين هذين، وقد تقدم كلام المؤيد بالله وما قضى به من صحة شهادة النافي مع كون الشهادة أعلى رتبة من الإمامة في الصلاة، ولهذا لا يكفي فيها ظاهر العدالة ولا ظهور التوبة إلا بعد تقدم الخبر، مدة مديدة، بخلاف إمامة الصلاة.

هب أنا سلمنا فسق النافي ونحوه، فمنع الصلاة خلفه مما لا يصح فيه التقليد والتلقين، إذ هذا من العملي المترتب على علمي، فكيف يحسن تقرير من لا يعرف القواعد على هذه القضية؟ بل الأمر بها والحث عليها، حتى أن كثيراً من المتدينين رفضوا لذلك صلاة الجماعة وأهملوها بالكلية، وعدوها من الأمور الخطيرة الردية مع عظم موقعها في الدين، وكثرة ما ورد فيها من لدن النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ، ولذلك عدها بعض العلماء من فروض الأعيان، وبعضهم من فروض الكفايات، وكفى في الحث عليها والزجر عن تركها بما أخرجه أهل الكتب الستة عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) ().

وصرَّح أبو داود والنسائي أنه صلى الله عليه وآله وسلم  لم يرخص فيها لابن أم مكتوم()، وقد شكى عليه أن قائده لا يلازمه وكثرة سباع المدينة وهوامها.

 وخرَّج مسلم والنسائي أيضاً عدم ترخيصه فيها لأعمى() شكى عليه أنه لا يجد قائداً، وغير ذلك ممالا يمكن استقصاؤه وهو لا يعزب عن الخواطر الكريمة.

وإذا نظرنا إلى أحوال السلف وجدناهم على خلاف هذه الطريقة في عدم تجنب الصلاة وعدم التعنت فيها، والمشهور عن علي عليه السلام  أنه كان يصلي خلف المشائخ مع ما ارتكبوه في حقه، وصح لي أن المهدي صلى خلف الهادي بـصعدة.

ولقد شنَّعَ الدامغاني في رسالته على الزيدية في ذلك، مع ما ذكره أنهم أعدل أهل المذاهب وأحسنهم.

وقد أجاز الإمام يحيى عليه السلام  الصلاة خلف المجبرة، وقال ما لفظه: الأمر في الصلاة سهل، والغرض في الجماعة إحراز الفضل ولكلٍ صلاتُه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنكم تصلون بهم، فما صلح فلكم ولهم، وما فسد فعليكم دونهم)) ().

هذا وجميع ما أوردته لم أقصد به إلا الاسترشاد، وأخذ الأمر من فصه مع جمود الفطنة، وخمود القريحة، وركّة المعرفة، وما أنا في ذلك إلا كناقل التمر إلى هجر، والطيب إلى عدن، فليتفضل الواقف عليه بتغمد زَلَله، وستر خلله، واستكمال جوابه، والإحاطة بأطرافه، فما كان أكثر كتب أئمتنا المتقدمين وعلمائنا رحمهم الله تعالى إلا جوابات سؤالات وردت عليهم، كانوا يبسطون فيها الكلام، ويقصدون بها المبالغة في الإفهام، ويوضحون فيها ما قصد السائل إيضاحه.

وإن فوائد الإمامة وقواعدها لجديرة بالتحقيق والتبيين والتدقيق، أسأل الله تعالى الهداية إلى الصواب والتوفيق للعمل بمقتضى السنة والكتاب والعصمة عن الزيغ والإرتياب.

والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم   .

 

 

[رسالة غراء في أحكام مثبت الإمامة ونافيها، وبيان كيفية حمل النافي والمثبت على السلامة]

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد حمد الله المرشد لمناهج الثواب، المبعد عن مدارج الشك والارتياب، والصلاة على رسوله الآمر بالألفة بين أمته وحسن الظن، الزاجر عن الفرقة في كل نوع من الدين وفن، وعلى آله الصادعين بالحق الأبلج، الرادعين لمن لّج في البدع وولج [وبعد:]

فإن من أعظم حوادث هذا الزمن، ما ظهر فيه من إحياء البدع وإماتة السنن، حتى عاد الدين غريباً كما بدأ، وذهبت القواعد الكلية لعدم البناء عليه سُدى، وكثر التناحر على الدنيا والتشاجر، وقل التعاون على التقوى والتناصر، واجترأ اللئيم على الكريم، وأقدم الجهول السفيه على تضليل الحليم العليم، وتجاسر الناس على التكفير والتفسيق، خبطاً وجزافاً واعتسافاً عن غير تحقيق.

ومن أعظم ذلك: التزاحم على الزعامة، والاختلاف في أمر الإمامة، حتى أفضت الحال إلى أن صار الموافق فيها معظماً مقبولاً، وإن كان من أخس() الناس، والمخالف في عقيدتها ملوماً مذموماً وإن كان من أبلغ الأكياس().

شاهدنا كثيراً من المتدينين في هذا الزمان، والمتسمين بسمة الفضل وقوة الإيمان، يتلقون كثيراً من قُطّاع الصلوات، والمدمنين على الخمر في أكثر الأوقات، والمجترئين على قتل النفوس المحرمات، بالبشاشة والإستبشار، وخفض الجناح ومجانبة الإنكار، إذا أنسوا منهم الانقياد إلى مذهبهم في هذا الشأن، والاعتماد على ما قد بنوا عليه من ذلك والارتكان، ويعاملون أهل المعرفة الصحيحة، والأديان القويمة الصريحة، المخالفين لهم في العقيدة، وإن صدرت المخالفة عن قاعدة أكيدة، بالمجانبة والمباينة وعدم المحاسنة والملاينة، حتى كأنه لم يشرع من الدين ولا بعث سيد المرسلين إلا لهذه المسألة، وأما بقية الأركان فمغفلة مهملة، وقد يقع منهم الإفراط في التنكير إلى الحكم على المخالف بالتكفير، من ذلك ما وقفت عليه لبعض الكبراء في كتاب له بخط يده يتضمن ما معناه وأكثر ألفاظه: من أحب خصام الإمام فقد انسلخ عن الإسلام، وصارت زوجته معه في حيز الحرام!

فيا لله وللمسلمين من هذه الدعاوي الصادرة عن غير يقين، لم يسبق إلى مثلها أحد من الأئمة السابقين، ولا سلك منهجها سيد الوصيين، وقد جمع الخوارج بين تكفيره وقتاله، ومحاولة هلاكه واستئصاله، فنـزههم مع ذلك عن الكفر، وناهيك بما ارتكبوه في حقه، وهو الذي لا ريب في زيادة فضله وعلو سبقه، بحيث أن غيره لا يبلغ عشر المعشار من مقداره، وما أدركه من الفضل وأحرزه من العلم فقطرة من أقطاره.

ولو أن رجلاً قتل الإمام لم يحكم بكفره، فكيف بمن قاتله؟ فكيف بمن خاصمه؟ فكيف بمن أحب خصامه؟ بل المشهور أن المعادي له بقلبه لا يعد فاسقاً، ولا يجعل عن الدين مارقاً، مع أن ذلك أبلغ في الخطر من محبة الحصام، فاعتبروا يا أولي الأفهام!!

وقد كنت أوردت في تهجين ذلك وما يشبهه رسالة شافية، ومقالة ببيان المقصود وافية، ثم أردت التنبيه على نكتةٍ توضح منهج الحمل على السلامة، وتبين حال المثبت والنافي للإمامة، فإن هذه المسألة من المسائل التي البلوى بها عامة فقلت:هذه نكتة عظيمة الموقع في الدين، واسعة النفع للمسترشدين.

إن قيل: على القول بأن الإمامة قطعية، كما هو مذهب المعتزلة والزيدية، وفرضنا حصول داع يدعي كمال شرائط الإمامة فيه، ويدعو الناس إلى طاعته ويحثهم على إجابة داعيه، فأثبته مثبت ونفاه ناف، والأقسام المتعلقة:

 أن يكون المثبت والنافي مصيبين معاً.

 وأن يكونا مخطئين معاً.

 وأن يكون أحدهما مصيباً والآخر مخطئاً.

 فهل كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة ممكن جائز الحصول؟ أم لا يمكن إلا بعضها؟

فالجواب وبالله التوفيق: أن هذه الأقسام على سواء في تجويز الحصول، لا يمنع عن تقدير كل منها مانع ولا يحول.

أما القسم الأخير، وهو أن يكون المصيب أحدهما دون الآخر، فلا كلام في صحته وإمكانه، بل ربما يتبادر الوهم إلى أنه الممكن دون غيره، وله صورتان:

الصورة الأولى: أن يكون المثبت هو المصيب، وذلك بأن يكون الداعي مستكملاً للشرائط جامعاً لها، وقد اختبره حق الخبرة، فعرف كماله بطرقه المعروفة، والنافي هو المخطيء، لأن نفيه للإمامة إما بعد معرفته للكمال لكن كابر وعاند، وإما خبطاً وجزافاً من غير معرفة لخلل، ولا اطلاع على زلل، وإما بأن يكون قد نظر واجتهد ولكن عرض له ما لبس عليه، ورجح جانب النفي فمال إليه، غير متعمد للخطأ، ولا تارك في مقام النظر لنقل الخُطا.

الصورة الثانية: أن يكون النافي هو المصيب، بأن ينفي إمامته بعد معرفته لاختلال الشرائط أو بعضها فيه، والمثبت هو المخطيء، إما لأنه أثبت إمامته مع معرفته لاختلالها لكن كابر وعاند، وإما لأنه أقدم على الإثبات خبطاً وجزافاً من غير نظر واعتبار، ولا تبطن لأحواله واختبار، وإما لشبهة عرضت له خيلت إليه صحة إمامته، وقضت له باحترازه عن العيوب وسلامته، بعد أن أمعن النظر ولازمه مدة من الزمان واختبر.

وأما القسم الأوسط: وهو أن يكونا مخطئين معاً فله صورتان.

الصورة الأولى: أن يكون الداعي المفروض دعاؤه إماماً في نفس الأمر، كاملاً جامعاً للشرائط، ولكن أقدم المثبت على إثبات إمامته من غير معرفة لكماله، ولا اطلاع على استجماعه للشرائط المعتبرة، أو عن غير معرفةٍ لأصول مسائل الإمامة وقواعدها، فإنه -والحال هذه- مُقْدِمٌ على مالا يأمن الخطأ فيه، وهو كالمقدم على الخطأ من غير فرق، وأقدم النافي على النفي، إما خبطاً وجزافاً، وإما استكباراً وعناداً، وإما لشبهة عرضت له أرته الكمال نقصاناً، والصدق بهتاناً.

الصورة الثانية: أن لا يكون ذلك الداعي إماماً في نفس الأمر، ولكن أقدم النافي على نفي إمامته بلا تحقيق، وعن غير اطلاع على تطرق الخلل، وانتقاص الشرائط، بل نبا سمعه عن إجابة ندائه، وإسماع دعائه، غير مستحضر للقواعد، ولا مستجمع للفوائد، فهو حينئذ في منهل الخطأ وارد، لأنه كالمقدم على الخطأ وهو عامد، ولو كان ما أقدم عليه هو الحق في نفس الأمر، لأن الانتهاض لمعرفة حال الداعي لازم، والمتغافل عن ذلك مخطيء آثم.

وأما المثبت فأقدم على الإثبات خبطاً وجزافاً من غير اختبار ولا اعتبار، أو مكابرة وعناداً، مع معرفته لعدم الكمال، وذلك من أشنع الضلال، وإما للبس عرض له أورث بصره غشاوة منعته عن رؤية الإختلال، وسمعه وقراً عن تدبر ما سمعه من عدم الكمال.

[تنبيه]:

قد عرفت أن خطأ المثبت أو النافي حيث يكون مخطئاً يرجع إلى أحد ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن يكون ما أقدم عليه من ذلك خبطاً وجزافاً.

الثاني: أن يكون مكابرة وعناداً.

الثالث: أن يكون لشبهة عرضت له بعد أن اجتهد في النظر وأمعن في معرفة الحق، ولكنه ضل عن النظر على الوجه الصحيح، فسلك مع طلبه لمسلك الحسن في منهج القبيح.

فأما النوعان الأولان، فلا شك في خطأ من كان على أيهما، سواء فرضنا المسألة قطعية كما قدمناه أم لا، لا سيما من كابر وعاند، وأظهر ما يعلم خلافه في نفس الأمر، فلا يبعد أن يكون من المتخذين دين الله هزواً، ويكاد صاحب النوع الثاني يلتحق به، وهو الْمُقْدِمُ على ذلك مجازفةً من غير روَيَّة ولا فكرة سوية، لما يدل عليه حاله من عدم الاهتمام بالدين والتعويل على ملازمة الحق اليقين.

وأما صاحب النوع الثالث فلا يتصور تخطئته إلا على قاعدة أهل المذهب من كون المسألة قطعية لا مجال للاجتهاد فيها، ونحن قد فرضنا هذه المذاكرة واردة على تلك القاعدة، ولكنه على هذا التقدير خطؤه دون خطأ الأولين بمراحل، ولعل له من الله عاذراً، لأنه لم يأل جهداً في معرفة الحق، ولكن قل حظه وقعد به جده.

وقد نص المؤيد بالله قدس الله روحه على أن من كانت هذه صفته من نفاة إمامة الإمام، فلا ترد شهادته، ولا تبطل عدالته.

فإن قلت: ما ذكرته من أن من خطأ المثبت أن يكون إثباته مع علمه بعدم الكمال، ومن خطأ النافي أن يكون نفيه للإمامة مع علمه بثبوتها، كلام في حكم المتدافع، لأن مرجع الإثبات إلى اعتقاد كمال الداعي، ومرجع النفي إلى اعتقاد عدمه، فكيف يكون مثبتاً عالماً بعدم الكمال ونافياً عالماً بالكمال؟ وفي ذلك اجتماع اعتقاد الشي ونفيه وهو محال؟!

قلت: المراد بإثبات إظهاره صحة الإمامة، وموالاة الإمام ومبايعته، ومتابعته ومناصرته، وذلك لا ينافي اعتقاد عدم الكمال، ولا يستلزم اعتقاد صحة الإمامة، وكذلك فالمراد بالنافي من يظهر عدم صحة الإمامة، ويفتي به، ويتسم بسمته من المباينة للداعي والمجانبة، وعدم الملائمة والمصاحبة، وذلك لا يستلزم اعتقاد نقصان الداعي، وعدم كمال الشرائط فيه، ولا ينافي به معرفة كماله وجمعه لوظائف الصلاح وخلاله، فارتفع الإشكال.

وأما القسم الأول: وهو أن يكون المثبت والنافي مصيبين معاً، بعد فرض المسألة قطعية، والبناء على أن أدلتها معلومة يقينية، فهو مما تتبادر الأوهام إلى تعذره وامتناعه، وعدم صحته وإمكانه، ولذلك بني مثبتو الإمامة في زماننا هذا على تخطئة النافي، بل تفسيقه ولعنه واعتزال الصلاة خلفه، لا يخطر ببال أحد منهم حمل النافي على السلامة فيما أقدم عليه، بناء منهم على أن سلامته من الخطأ مما لا سبيل إليه، وإن علموا من حال النافي تحفظه في الديانة، وتمسكه فيما كلفه بالأمانة.

وكذلك فنفاة الإمامة لا يكادون يحملون المثبتين لها على السلامة، وإن كان تحاملهم أهون، وعريكتهم ألين، وإذا بينا إمكان إصابة المثبت والنافي معاً انهدمت هذه القاعدة، واتضح لك عظم نفع هذه الفائدة، وتبين لك أن أكثر الناس عار عن التحقيق، سالك بُنيَّات الطريق قد استعبدته العصبية، واستهوته الحمية، وعند أن يتلقى ما ألقيته بالقبول، ويعرض على ما تسترجحه العقول ويؤكده المنقول، تزول بعون الله الشحناء بين الفريقين، وتكون هذه النكتة لمتوخي الإصابة في هذه المسألة قرة عين، ويرجعون إن شاء الله تعالى إخواناً، ويكونون على الحق أعواناً.

وبيان إمكانه إصابة النافي والمثبت معاً بأن نقول: لا مانع من أن يكون مدعي الإمامة كامل الشرائط في الظاهر، جامعاً لها، محيطاً بأنواعها وأقسامها، ويكون مع ذلك منطوياً في باطن الأمر على أمر تختل به الإمامة، وتبطل معه أحكام الزعامة، من قلة ورع، أو كثرة طمع، أو كذب في الأخبار، أو نقض للعهود الكبار، أو ارتشاء في الأحكام، أو هدم لشيء من قواعد شرع الإسلام، أو ارتكاب لمحظور، أو تهور في نوع من المحذور، أو عدم إصابة في كثير من الآراء، أو اعتماد في تصرفاته للأهواء، أو غير ذلك من أنواع الاختلال التي فرضها ليس من قبيل المحال، ولكنه مع ذلك كثير التصنع والتستر، مبالغ في عدم التضمخ بذلك رأي العين والتظهر.

فلما اختبره المثبت لم يبن له إلا محاسنه الطاهرة، وأوصافه الحسنة المتكاثرة، فحينئذ امتثل ما يلزمه من مبايعته ومتابعته، وطاعته ومناصرته، ولو عدل عن ذلك لكان آثماً ولقاعدة دينيه هادماً، فلا شك أن الصواب في حقه الإثبات والإتباع، والطاعة والاستماع، ولكن ليس له أن يقطع بمغيب ذلك الإمام، ومطابقة باطنه لظاهره، لأن العصمة مرتفعة، وطرق التجويز كثيرة متسعة، إلا أن فرضه الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.

وأما النافي لإمامته فإنه لما اختبره حق الخبرة، وأمعن النظر في تبطن أحواله، وتفهم وظائفه وخلاله، اطَّلع منه على بعض هفواته، ونوع من عثراته القاضية بعدم صحة دعواه، وقلة نفعه فيما ترشح له وجدواه.

ومـهما تكن عند امـريءٍ من خليقة

 

وإن خـالها تـخفى عـلىالناس تـعلم

 

مع أن هذا النافي قد عرف كماله الظاهر، وبصر باشتماله بادي الرأي على المحامد والمفاخر، لكن اطلع في خلال ذلك على العيوب، وانكشف له سرها المحجوب، فحينئذ صار فرضه رفضه ومجانبته، واطراحه ومباينته، ويكون لربه بذلك مرضياً، ولما أوجبه عليه مؤدياً، ولو عدل عن ذلك لكان مقتحماً للمهالك، وسالكاً في أمر دينه أوعر المسالك.

فإذا توضحت لك هذه القاعدة، وقدرت قدر هذه الفائدة، علمت إمكان حمل المثبت للنافي على السلامة، مالم يعلم من حاله أنه لم ينف الإمامة لأمر اطلع عليه، وإنما دعاه الهوى المحض إليه، أو يكون المثبت قد اطلع على الأمر الذي لأجله نفى النافي الإمامة، فعلم أنه ممالا يبطل أحكامها العامة، ولن يمكن اطلاع المثبت على ذلك إلا باعتراف النافي أو تعيينه لما نفى الإمامة لأجله، وأيضاً يعلم مما تقدم إمكان حمل النافي للمثبت على السلامة، ما لم يعلم اطلاع المثبت على موجب النفي، أو يشتهر ذلك الموجب بحيث يعلم أنه لا يخفى على مثل ذلك المثبت.

هذا ولا شك أن حمل المسلمين على السلامة ما أمكن في الدين حتم، وفي الرأي حزم، وأن المسارعة إلى التخطئة والتضليل، والتفسيق والتجهيل، ليس من شأن المحققين، ولا من صفات المثبتين المحقين، خاصة في حق من جمع بين المعرفة والديانة، والصيانة والأمانة.

وعلى هذا ننـزل ما كان من معاملة بعض السلف بعضاً المعاملة الحسنة بالموادة والتصافي، مع اختلافهم في أئمة زمانهم، ومع بنائهم على أن المسألة قطعية.

فإن قلت: إن حمل المثبت للنافي على السلامة بتجويز أن يكون قد اطلع من الإمام على ما يبطل إمامته، يتضمن حمل الإمام على خلاف السلامة، وهو بالحمل عليها أولى من النافي، لفخامة شأنه عند المثبت وارتفاع مكانه، وإذا لم يكن بد من حمله على عدم السلامة، فالنافي به أولى من الإمام الذي لم يظهر منه للمثبت إلا ما هو حسن جميل.

قلت: لا نُسَلِّمُ ما ذكرته من تردد الأمر بين حمل الإمام وحمل النافي على عدم السلامة، فيكون النافي به أولى، بل حملهما جميعاً عليها ممكن، واستصحاب الأصل في حقهما غير متعذر، لكون المخطيء منهما غير متعين، أما الإمام فيجوز المثبت أن النافي نفى إمامته لا عن تحقق لموجب النفي، بل لخيال فاسد، أو لعدم تثبت في استعمال القواعد، فكم من ناف يقدح في الإمامة بما هو غير قادح، ويبطلها بما ليس بمبطل ولا جارح، وأما النافي فيجوز في حقه أيضاً ما ذكرناه أولاً من كون نفيه عن تحقيق، ووضوح مسلك له وطريق، فإن اجتماع هذين التجويزين من الأمور الممكنة، والقواعد المستحسنة، وحينئذ يرجع المثبت في كل من الإمام والنافي إلى ما هو الأصل من صحة الإسلام، وصدق العدالة، ويستصحب الحال، فيما يلزم لكل واحد منهما من حق التعظيم والجلالة، وإن كان أحدهما في نفس الأمر مخطئاً لا محالة، إلا أن بعدم تعينه يبقى حكم كل منهما في حقنا على ما كان من قبل.

ولهذا نظائر كثيرة في الأحكام، لا يجهلها أرباب المعارف والأفهام، نص عليه الأحبار، وقرروها هكذا في بطون الأسفار، من ذلك ما ذكروه في تكذيب الأصل للفرع من رواة الأخبار في خبر رواه عنه، قالوا: فإنه لا يعمل بذلك الخبر لكذب أحدهما قطعاً، والكاذب لا يحل العمل بخبره، ثم قالوا: مع أن عدالتهما لا تبطل، وتقبل رواية كل منهما في غير ذلك لعدم تعين الكاذب منهما، وغير هذا المثال مما يطول شرحه، ولا يخفى على ذي بصيرة أمره، وأما القطع بخطأ النافي وضلاله، مع الاحتمال ففيه انتقال عما كان معلوماً من حاله إلى ما ليس بمعلوم، وذلك لا يحسن ولا يجوز، والله سبحانه أعلم.

فافهم وتطعم تطعم، فهذه نكتة شريفة غفل عنها أهل الزمان، فسارعوا إلى ما يتوجه الإحجام عنه، والله المستعان، وهو حسبنا وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

تمت الرسالة بحمد الله تعالى.

 

 

[وهذا جواب للرسالة المذكورة أجاب به الفقيه العلامة فخر الدين عبد الله بن محمد النجري، وهو أول من وقف عليها وأجاب عنها]

قال ما لفظه:

بسم الله الرحمن الرحيم

حسبي الله ونعم الوكيل، لنا دليلان قطعيان:ـ

أحدهما: فعل الصحابة وهو إجماع قطعي في وجوب النصب لما أحتف به من القرائن، كتقديمهم إياه على الواجب المهم، الذي هو تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ووقوع شيء من المخاشنة بينهم، وعظم اهتمامهم به، بحيث يعلم بعد الفحص والتفتيش أن قيامهم بذلك قيامٌ بأمر واجب، وأن مقصودهم إثبات الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في حفظ الإسلام وحياطة الشريعة، وإلزام المكلفين أحكامها، وصيانتها عن التبديل، وبذلك يعلم أنه لا بد من تلك الشرائط المعتبرة، لأن الخلافة أمر ضروري، فلا بد أن يراعى في الخليفة ما يمكن من صفات من هو خليفة عنه، ولأنه مع تلك الشرائط أقرب إلى الإيصال إلى المقصود، والإفضاء إلى المطلوب، ومثل هذا في الاستدلال  يسميه الأصوليون: دلالة نص، وهو دليل نظري مستخرج من علة النص المعلومة، وهو دليل قاطع.

وثانيهما: ما ورد من النصوص المتكاثرة المفيدة بالتواتر المعنوي، أنه لا بد من إمام يرجع إليه في الأحكام  نحو ((الأئمة من قريش ))()، ((من مات ولم يعرف إمام زمانه...)) ()، ((أربعة إلى الأئمة...)) ()، {... وأطِيْعُوا الرَّسُوْلَ وأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، ونحوها مما يدل على أنه لا بد من إمام، وأنه أمر مفروغ منه، وإنما الكلام في الأحكام المتعلقة به.

على أنَّ جميع فرق الإسلام متفقون على أنه لا بد من خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في الإسلام وأحكامه، وإنما اختلفوا في صفاته، وهذا القدر كاف لنا، ونحن نثبت الصفات بما يفيده معنى الخلافة كما مر.

وما ذكره -أبقاه الله- تعالى من التشكيك في نقل الإجماع تواتراً، فهو تشكيك يؤدي إلى نفي الإجماع، وكذا التشكيك في التواتر يؤدي إلى انتفاء كثير من العلوم التواترية، كعجز العرب عن معارضة القرآن، ووجود كثير من البلدان، فإنا إذا رجعنا إلى أنفسنا وذاكرناها، فمن أخبرنا بذلك ممن يستند خبره إلى المشاهدة لم نقف على نصاب التواتر.

فلا ينبغي الإصغاء إلى وسواس الصدر، وحديث النفس وخواطرها التي لا استقرار لها عند الرجوع إلى حكم العقل.

وما ذكره سيدي أبقاه الله تعالى في المسألة الثانية: من أنه يلزم العوام النظر ولا يجوز لهم الإقدام من غير نظر في برهان موصل، وأنه يقبح من العلماء أمرهم لمجرد الاتباع.

فما ذكره سيدي صحيح، إلا أنه يحسن أمرهم بمطلق الاتباع، ثم حملهم بعد الإتباع على أنه عن دليل كما يحسن ذلك، بل يجب من الأنبياء ونحوهم من الدعاة إلى الله تعالى، ويلزم سيدي أبقاه الله تعالى أنه لا يحسن إقرار كثير من العامة على اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بل على الصلاة وشهادة أن لا إله إلا الله، لا سيما ممن عرفنا جفاه وبعده عن النظر، وعدم إدراكه لوجه الأدلة من أهل البوادي وأرباب الخيام، وما كان ينبغي التطويل في هذه السؤال وكثرة الكلام فيه.

نعم؛ لا يحسن أمرهم بالاتباع من غير دليل، وإذا تيقنا أن اتباعهم لمجرد التقليد فقط وجب الانكار عليهم حينئذ، لكن يبقى ذلك بعيد مع وجود الأدلة وكونها موضوعة فيما بيننا يتناولها من أراد تناولها.

وما ذكره في المسألة الثالثة: فتفسيق أصحابنا لمن حارب الإمام بيده أولسانه ظاهر غير مجهول، ولا شك أن نافي إمامته ناسب له إلى الافتراء والظلم والتعدي على العباد بأنواع الكبائر، من قتل الأنفس وأخذ الأموال، وهذا غاية المحاربة له باللسان، وقد ذهب المنصور() بالله عليه السلام  إلى كفر من سب أحداً من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، ذكره في الفتاوى، والله تعالى أعلم ما صحتها.

وعلى كل حال فهي معصية كبيرة مركبة من ترك واجب وفعل قبيح مع عظم محلها، وهو خليفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .

وتفسيق محارب الإمام المقطوع بإمامته إجماع أهل البيت عليهم السلام ، بل إجماع الأمة، وأما ما يتوهم أنه ناقض لذلك مما ذكره سيدي فغير ناقض.

أمَّا نفي الصحابة لإمامة علي عليه السلام  فلم يسر فيهم سيرة الإمام، بل سيرة المأموم، فلم يُنْسبوا إليه بنفي إمامته ظلماً، ولا ثبتت إمامته بدعوة ولا عقد، بل بنص فيه خفاء أي في دلالته على الإمامة، فكان ذلك شبهة يسقط بها التفسيق، وإن كانت غير مسوغة لهم أن يعدلوا عن الحق، ومن ثمة ذهب جماعة منهم الإمام يحي ى بن حمزة()  عليه السلام  أن إمامة علي عليه السلام  قبل الثلاثة ظنية، فنفى عنهم الخطأ رأساً.

وأما ما ذكره سيدي أبقاه الله تعالى من تعارض الإمامين، ونفي كل منهما إمامة الآخر مع عدم التفسيق على التخطئة، فهو كما مر، لكن ليس مما نحن فيه، لأن تلك المسألة ظنية، وقد ذكر أبو جعفر وغيره فيها خلافاً كبيراً، وليس فيها لأحد من الفريقين دليل قطعي، وكلامنا في من نفى إمامة إمام قطعية كما ذكرنا، إذ لا تخطئة في المسائل الظنية فضلاً عن التفسيق، ولهذا من أثبت إمامة معاوية من فرق أهل الجبر لم يفسق علياً عليه السلام ، لأن إمامتهما عنده ظنية، ونحن نفسق معاوية وأصحابه، لأن إمامة علي عليه السلام  قطعية لا شبهة فيها.

تم ذلك والحمد لله وحده.

 

 [مناقشة الإمام عزالدين لجواب العلامة النجري]

بسم الله الرحمن الرحيم

ولما وقف المبتدي على هذا الجواب ولم يستجده أجاب عنه بأنْ قال:ـ

الحمد لله وحده وصلاته على سيدنا محمد وآله وسلامه:ـ

أمَّا الدليل الأول: فلا يمكن جَعْله إجماعاً قطعياً، وكيف وهو فعلي، كما صرح به الفقيه  متع الله به، في جوابه حيث قال: أحدهما فعل الصحابة، وهل يؤخذ من الفعل معنى الوجوب؟ لو صح ذلك لقيل: بأن صلاة الوتر واجبة، فإنهم قد أجمعوا على فعلها، ولم ينقل عن أحد منهم تركها، فإن قيل: بأن الوجوب فهم من قرائن اقترنت بذلك الفعل، فالقرائن لا تفيد إلا الظن.

قوله: ومثل هذا الاستدلال  يسميه الأصوليون دلالة نص… إلخ إشكاله ظاهر.

وأما الدليل الثاني: وهو ورود النصوص المتكثرة المتواترة معنى، فليس في شيء منها تصريح في المقصود، وهو وجوب نصب الإمام، إنما تفيد غير ذلك من الأحكام المترتبة على وجود الإمام وبيان منصب الإمامة،  مع عدم تواترها على معنى واحد، وما هذه صفته لا يسمى تواتراً معنوياً، والآية الكريمة ظاهرها وجوب طاعة ذي الأمر إماماً كان أو غيره، وهي من الظواهر التي لا تفيد القطع، ولو قدر إفادتها القطع على استحالته، فمدلولها غير ما أُوردت دليلاً عليه، فإن مقتضاها وجوب طاعة الإمام لا وجوب نصبه.

وما ذكره سيدنا مما يؤدي إليه التشكيك في الاجماع؛ فهو من قبيل الإلزام الذي لا يعد مثله جواباً، والمسائل التي ذكر سراية الشك إليها ليست مشابهة لما نحن فيه، ولا الأمر كما ذكره من أنه تشكيك في التواتر، وأين التواتر عنا؟ ولو كان حاصلاً لحصل عنه العلم الضروري، وإذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا العلم غير حاصل لها.

وأما عجز العرب عن معارضة القرآن، فإنا قد علمناه يقيناً، بحيث لا يدخل التشكيك فيه لدلائل واضحة وبراهين لائحة، وليس كذلك مسألتنا، فإنا لا نعلم إجماع الأمة المعتبرين في الإجماع واحداً واحداً على القول بوجوب الإمامة لا ضرورة ولا استدلالاً.

وأما ما أجاب به في المسألة الثانية: من حمل العوام بعد الاتباع على أنه عن دليل، فكيف يمكن هذا الحمل مع علمنا من حالهم ضرورة خلافه؟ وكيف يلتبس على عاقل تعذر الاستدلال في حقهم والإحاطة بالأدلة المستنبطة الغامضة مع تعذرها في حق كثير من المميزين؟

وما ذكره من لزوم الإنكار عليهم في اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،  وغير ذلك من مسائل الأصول، فالفرق بين المسألتين ظاهر، فإن مسائل الإمامة أدق وأخفى من مسائل النبوة، ولذلك وقع الخلاف في مسائل الإمامة بين علماء الإسلام، دون نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،  على أنا نلتزم ما ألزمنا إياه على قاعدة أهل المذهب، من عدم جواز التقليد في مسائل الأصول، ولهذا فإن العوام عند كثير من علمائنا كفار لإقدامهم على تلك الاعتقادات في المسائل النبويات والإلهيات لا عن دليل، مع كونهم مأخوذين فيها بالعلم اليقين، ويعدون الإقدام عليها من غير تحقيق، وإن كانت في نفس الأمر على ما اعتقدوه من المقبحات والمآثم، وأما من أجاز التقليد للعوام فسقوط الإنكار على قوله ظاهر، ولا محيص عن لزوم الإنكار عليهم في مسائل الإمامة إلا مع الحكم بجواز التقليد فيها، وهو خلاف المذهب.

وأما ما أجاب به في المسألة الثالثة: فغير مخلص، لأنه اعتمد في تفسيق النافي على تفسيق أصحابنا للمحارب وقاسه عليه والقياس مختل، إذ الفرق بين الأصل والفرع ظاهر.

ثم إن الرجوع في ذلك إلى قول أصحابنا ضعيف جداً، وهل قولهم بذلك، حجة يرجع إليها في مسألة قطعية، وهل ينطق بمثل هذا إلا المقلد المعتمد على قول غيره، وكذلك ما نقله عن المنصور بالله عليه السلام  لا تعويل عليه، ولا رجوع إليه، لضعفه وعدم الإطلاع على أصله، وقبح الرجوع في هذه المسألة ونحوها إلى قول فلان وفلان.

نعم؛ سلمنا الإجماع على ثبوت الفسق في حق المحارب، فأين من يعتقد عدم صحة الإمامة في حق الداعي المترشح لها ممن سَوَّم مُهره وانتضى سيفه، وشرع رمحه، محاولاً لأخذ روح الإمام واستئصال شأفته؟ وقد قال المؤيد بالله في (الإفادة)() ما لفظه: وليس الشك في الإمامة كالعداوة للإمام، وليست العداوة مع كف اللسان كالعداوة مع بسط اللسان، وليس بسط اللسان مع كف اليد كبسط اللسان مع بسط اليد بالحرب والقتال، هذه أمور قد فرق الدين بينها، وجعل كلاً منها على درجات.

وقد ذكرنا في الابتداء نص المؤيد بالله الصريح في عدم تفسيق النافي، بل في إثبات عدالته، وذكرنا أحوال الأئمة وغيرهم في معاملتهم لنفاة الإمامة قديماً وحديثاً، ومن ذلك ما كان بين حي والدنا الإمام الهادي وبين الفقيه الأفضل محمد بن صالح من التواد والتناصر الذي لا يعلم ما يدانيه بين غيرهما، مع ما كان الفقيه عليه من نفي إمامة الإمام الناصر محمد بن علي بن محمد، وهو عند والدنا الإمام الهادي ثابت الإمامة، فلم يظهر من أيهما تخطئة للآخر أو تفسيق أو إغلاظ عليه، وكان لهما من الفضل والكرامات ما يشهد بأن خطأ المخطي منهما في ذلك لا يسقط منزلته عند الله، ولا يبطل عمله ولا يصيره هباء منثوراً.

وما ذكره سيدنا من كون علي عليه السلام  لم يسر في الصحابة سيرة الإمام بل سيرة المأموم، فذلك مما أدى إليه نفيهم لإمامته، وتوليهم الأمر دونه، والمعلوم من حاله قطعاً أنه لو لم يدفعوه من ذلك لشهر نفسه ودعا إلى ربه، فكيف يكون تأدية نفيهم لإمامته إلى بطلان أمره عذراً لهم في ذلك النفي؟

وأما كون النصوص التي على إمامته خفية، فمذهب الأصحاب أنها أدلة قطعية، ولئن كانت إمامته خفية لأمامةُ غيره أخفى وأخفى.

وأما قول سيدنا: أما الأمر الذي جرى بين الإمامين ليس مما نحن فيه، فواعجباً أليس المعلوم من حال كل منهما أنه يعتقد إمامة نفسه وعدم إمامة صاحبه؟!! ويعرف ترشحه لما أمره إليه عنده، وتصوره بصورة الباغي عليه؟! فكيف يقال: ليس مما نحن فيه. وما معنى كون المسألة ظنية؟ هل المراد صحة إمامة إمامين في وقت واحد أو عدمها؟ فذلك إنما يتصور لو كان كل منهما معتقداً لكمال الآخر، ولم يبق الكلام إلا من جهة الاجتماع في الدعوى، ودعوى التقدم والمنازعة في الأياس المعتبر، لكّنا علمنا بالتواتر عن حي والدنا الهادي اعتقاد عدم الكمال في المهدي، والتصريح باختلال شيء من الشروط فيه، من ذلك ما أخبرني به الثقة الذي لا شك عندي في صدقه عن ثقة آخر عنه عليه السلام ، وقد سئل عن المهدي فقال: أما النصاب فلا كلام، وأما العلم فلا كلام، وأما الورع ففي نفسي منه شيء، وأما التدبير فلا شيء فلا شيء فلا شيء، وغير ذلك من الحكايات التي يطول ذكرها، وكذلك قرائن حال المهدي وشيء من النقل عنه تقضي باعتقاده عدم كمال الهادي، والله أعلم.

وأما الذين لم يفسقوا علياً ولا معاوية، فلم يكن كفهم عن التفسيق لاعتقاد إمامة معاوية، وكون اجتماع إمامين صحيحاً ثابتاً، إذ لم ينقل عن أحد القول بإمامته في زمن علي عليه السلام ، بل لكون المسألة من أصلها عندهم ظنية اجتهادية، يلزم كل فيها ما أداه إليه اجتهاده حتى أن عضد الدين() في رده على المعتزلة حيث قالوا: بأن الصحابة عدول إلا من حارب علياً، ذكر ما يقضي بأن حربه واجب على من حاربه، لكون اجتهادهم أداهم إلى ذلك، على شناعة هذا القول، وهم يعترفون مع ذلك بخطأ معاوية()، لكن خطأ معفو عنه، لأن المصيب عندهم في الاجتهاديات واحد، ولهذا ذكر التفتازاني() الإجماع على أن أول من بغى في الإسلام معاوية، ولو كان عندهم إماماً في زمن علي عليه السلام  لم يعدوه باغيا.

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الرسالة الوافية

في كشف الدقائق الخافية مع أجوبتها الشافية

ولمَّا بلغ الفقيه العلامة الأفضل جمال الدين علي بن محمد بن أحمد البكري متع الله المسلمين بطول حياته شأن هذه الرسالة، كتب إلى منشئها يلتمس منه اطلاعه عليها، فأمر بها إليه ضمن كتاب كتبه إلى عنده، فلم يمض إلا مدة ليست بالمديدة وورد جواب منه للرسالة المذكورة بسيط مفيد، أودعه طي جواب الكتاب الوارد عليه، وهذا لفظ جواب الكتاب دعا إلى تسطيره ما حواه مما يدل على بلاغة من أنشأه، وصفاء وده، وطهارة منشاه.

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه، العبد المود في الله تعالى علي بن محمد بن أحمد البكري، تجاوز الله عن فرطاته، وقابل بالصفح خطيئاته، يسأل من لا يرد سائله، ولا يخيب آمله، أن يُشَيِّدَ قواعد العلم الرواسخ، ويرفع رؤس المجد الشوامخ، ويحرس معالم الفضل، ويعم مرابع الجود والبذل، ويحفظ مآثر الفضائل، ويحيي ما مات من مكارم الأوائل ببقاء مولانا السيد الإمام تاج العترة الكرام، طود الحلم وبحر العلم، غرة وجه الدهر، وقطب فلك الفخر، عقد المجد، وطلعة كوكب السعد، فرع مهبط النبوة والرسالة، وسلالة شرف الوحي والنبالة، مغناطيس أمهات الشريعة النبوية، الغائص في بحور العلوم الأدبية والعقلية، شمس مشكلات المسائل، ومفتاح معضلات النوازل، المصقع الحلاحل، والمزري بسحبان وائل، عز الدين والملة، علم علماء الأمة، شمس شموس العترة، جامع المتفرقات من مجامع الكرامات وغايات المرامات.

إنَّ الـمكـارم والـمعروف أدويـة

 

أحـلك الله منها حيث تـجتمـع

 إنسان الزمان، وعين الأعيان، وعمدة أهل الإيمان، جامع خصال الكمال، وكمال الخصال، وخلال الجلال، وجلال الخلال، ففضله أشهر من نار على علم، ومستغن عن أن ينشر أويرقم بقلم.

إذا كان فضل الـمرء في الناس شاهراً

 

فـليس بمحتاج إلى كثرة الوصـف

 لكن لـما حلّ ودّهُ مني مـحل الروح، صار ذكره شفاء لفؤادي المقـروح.

قـد حل مني مـحل الروح من بـدني

 

وذا لسيدنـا العـلامـة الـحسني

 

الـمرتضى الـمجتبى المحمود سيـرته

 

الـمقتفي سير الآباء والسنـــن

 

عز الـهدى قطب أهل الفضل قـاطبة

 

ابـن النبـي ومولانا أبـي الحسن

حرسه الله بأم القرآن، وكفاه ما يحذر من تنكر طباع الزمان، وأتحفه من السلام بأفضله وأسناه، ومن الإنعام بأتمه وأنماه، ومن الرحمة بأوسعها وأعلاها، ومن البركات بأطيبها وأزكاها، على أخلاقه الرائقة، وشيمه الفائقة.

سـلام عـلى تلـك الخلائق إنـها

 

ألـذ من الـماء الـزلال لشـارب

سـلام علـيها إنـها لـخلائــق

 

أحاطت بكل الوصف من كل جـانب

 

سـلام يـحاكي المسك فـي نفحاته

 

ويـحكي اللآلي في نحور الكواعب

وبعد: فصدورها لفرض السلام، واستمداد أدعية مولانا المباركة العظام، عن أحوال جميلة، ونعم من الله جمة جزيلة، لا يشوبها إلا خوف المعاد، والرحيل إلى دار الآخرة بغير زاد، فنسأل الله أن يوفقنا لإصلاح الحال، وأن يصلح لنا العقبى والمآل، بحق محمد وآله خير آل.

نعم؛ وكان صدورها بعد أن ورد كتاب مولانا الكريم، وخطابه العذب الوسيم، مشرقة أنواره، متلألئة شموسه وأقماره، مسفرة عن الحكم البالغة أقطاره، مشتملاً على فنون من الفصاحة، شاهداً لمنشئه بنهاية البلاغة والبراعة، وإني حين سمعت بوروده استفزني الفرح قبل رؤيته، وهزني المرح عن مشاهدته، فما أدري ما رأيت، أخط مسطور؟ أم روض ممطور؟ أو كلام منثور؟ أو وشيء منشور؟ ولم أعلم ما أبصرت من منظومه، أبأبيات شعر أم عقود در:

ففي كـل لفـظ منه روض من الـمنى

 

وفـي كـل سطر منه عقد من الدر

 ولم يزل المقام الشريف مهدياً للنفائس، ومنعماً بأطيب حبا العرائس، فالله تعالى لا يخلي آفاق الكرم عن طلعته الكريمة، ولا يعدم معالم الأدب نفايس أخلاقه الوسيمة.

نعم؛ ثم إن من أياديه المشكورة، وتفضلاته المذكورة، تصديره إليّ بالرسالة التي أنشأها في مسائل الإمامة،  والبحث عما يتعلق بأمورها العامة، فلقد أفادنا بما وضعه فيها من محاسن الفوائد، ونظمه فيها من غرر الفرائد، مسائل كُنَّا بها جاهلين، وفوائد كنا لها طالبين.

فلم تر العين دراً قبلها نظمت

 

 فيه العقود بلا سلك ولا ثقب

 وتيقنا حين طالعناها، ووقعنا على ما كنا جاهلين له من معناها، بأن الله سبحانه قد خصه من العقل الذي جعله حجة على الأنام، ومحجة فارقة بين الخاص والعام، بأوفر الحظوظ والأقسام، وسألنا الله أن يؤيد ببقائه الملة والدين، ويشد بعنايته أزر الإسلام والمسلمين.

وما ذكره مولانا طالت أيامه من أنه يطلب مني الجواب بما يفتح مقفلها، ويكشف مشكلها، فأنى يكون ذلك، وأنا حينئذ ممن لم يقم في مهامة العلم سهمه، ولا ظهر في التحقيق بين العلماء فهمه وعلمه، بل بضاعتي في العلم بضاعة مزجاة   ، وظلي فيه أقصر من ظل قطاه  ، لكن مولانا المقام الأعظم رضي الله عنه لجلال قدره في العلم والتقوى، وإخلاصه لله تعالى في السر والنجوى، وسلامة قلبه المطهر من الأكدار، ظن بي خيراً، كما يظن الأخيار، فحملني على أحسن الأحوال، وشجعه ذلك بأن يوجه إلي السؤال، وذلك طريق آبائه عليهم السلام ، مع أنه أبقاه الله تعالى فارس هذا الميدان، والآخذ لقصبة السبق عند برهان، لكنني لما علمت عظم شأنه، وعلو قدره ومكانه، وكرم أخلاقه، وشرف أعراقه، وثقت بأنه إن اطلع على حسن أظهره ونشره، وإن عثر على عيب كتمه وستره، فشجعني ذلك على التزام طاعته، والتعويل على إجابته، وقد صدر طي هذه الخدمة ما يقف عليه مولانا أبقاه الله تعالى، هذا مع معرفتي بأني فيما صدر كمهدي التمر إلى هجر.

فمن كان في راد الضحى يرى السهى

 

 

درى في سواد الليل كم أنجم الشعرى   

 

 هذا ولمولانا الفضل بإبلاغ مَنْ عنده من الإخوان السلام الجزيل، وهم الجميع مسئولون الدعاء بالخاتمة الحسنى في المقر الأسنى.

تم ذلك، وهذا جواب الرسالة المذكورة للفقيه جمال الدين علي بن محمد البكري متع الله به.


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه، الحمد لله حمداً يستدعي مزيد فضله، ويستجلب مواد طوله، في الإنباء عن البراهين القاطعة، والحجج البالغة، والصلاة على من محا رسوم الضلال، وارتقى من الشرف أعلى ذروة الكمال، محمد وآله خير آل.

وبعد: فقد ورد من تلقاء مولانا السيد الأفضل العلامة عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين دام دوام الفاعل، واحتجب عن النوائب احتجاب ضمير اسم الفاعل، طرس() كريم يتضمن البحث عما أهمل تحقيقه كثير من الناس، مع كونه للدين كالرأس، ولكثير من الأحكام الشرعية كالأساس، وذلك مسألة الإمامة المقتضية، بمن اختص بها الرئاسة والزعامة، وبحثه أيده الله تعالى عن ذلك من ثلاث جهات.

الجهة الأولى: المطالبة بدليل على صحة ما ادعاه أصحابنا من كون مسألة الإمامة من المسائل القطعية، لا من المسائل الاجتهادية والقدح فيما أوردوه من الأدلة على ذلك.

الجهة الثانية: بيان ما يلزم على القول بكونها قطعية من الأمور المستبعدة.

الجهة الثالثة: الرد على المفسقين لِنافي إمامة الإمام والمتوقف فيها.

تفصيل الخلاف في كون الإمامة قطعية أو ظنية]

أما الجهة الأولى: فقال طالت أيامه: قد وقع الخلاف بين الأمة، هل مسائل الإمامة من المسائل القطعية التي لا يؤخذ فيها إلا بالأدلة القاطعة؟ أم هي من المسائل الاجتهادية التي هي لأنظار المجتهدين تابعة؟ فالظاهر من مذهب أئمتنا ومتابعيهم، والمعتزلة ومتابعيهم؛ أنها قطعية يتعلق التكليف فيها بالعلم اليقين، وأن الوصول فيها إلى العلم لازم لجميع المكلفين، ولذلك ألحقوها بفن أصول الدين وليست علماً بالله تعالى، ولا بصفاته، ولا بأفعاله، ولا بأحكام أفعاله، وأشار بعض متكلمي أصحابنا إلى تجويز كون السبب في ذلك من حيث أنه يطلب منا مع العمل فيها الاعتقاد، الذي هو العلم دون الظن، ثم نَظَّر ذلك وأشار إلى تعليل آخر رمز إليه الفقيه حميد رحمه الله في وسيطه لا حاجة إلى ذكره هنا، مع أن الأليق بها فن الفقه -وإن كانت قطعية- إذ هي من المسائل الفرعية والأحكام الشرعية.

أقول وبالله التوفيق: اختلف القائلون بأن الإمامة غير واجبة عقلاً، هل هي واجبة شرعاً أم لا؟

فقال أكثر الأمة من العدلية والجبرية: أنها تجب شرعاً، وقال أبو بكر الأصم() من المعتزلة، وهشام الفوطي()، وبعض الحشوية() ، والنجدات() من الخوارج، وبعض المرجئة()، أنها لا تجب شرعاً ولا عقلاً، لكن إن تمكن الناس أن ينصبوا إماماً عدلاً من غير إراقة دم ولا جور فحسن، وإن لم يفعلوا ذلك وقام كل واحد منهم بأمر منزله، ومن يشتمل عليه من ذي قرابة ورحم وجار، فأقام فيهم الحدود والأحكام على كتاب الله وسنة نبيه جاز ذلك، ولم يكن لهم حاجة إلى إمام، ولا يجوز إقامته بالسيف والحرب، هكذا حكى نشوان بن سعيد في شرح رسالة الحور العين، وحكى الفخر الرازي() عن هشام الفوطي من أصحابنا هذا المعنى، فقال: إنه لا يوجب نصب الإمام في حال ظهور الظلمة، لأنهم ربما أنفوا عن طاعته فخشي أن يقتلوه، فقيامه يؤدي إلى إثارة فتنة، وأما مع ظهور التناصف فيجوز نصبه لإظهار شعار الشريعة، وحُكيَ عن الأصم عكسه، وهو أنه لا يوجب إقامة الإمام إلا عند ظهور التظالم بين الناس، فإن لم يظهر لم يجب، قال: وأما النجدات فلا يوجبون نصبه في حالٍ من الأحوال.

ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة شرعاً هل هي من المسائل القطعية؟ أم من الاجتهادية؟ فذهب الأكثر -وهو الحق- إلى أنها قطعية إذ دليلها قطعي، وذهبت الأشعرية() وبعض المعتزلة إلى أنها اجتهادية بناءً منهم على أن أدلتها ظنية، هذا تحقيق الخلاف في ذلك.

فلعل مولانا أبقاه الله تعالى أراد بالأمة بعضهم وبالمعتزلة أكثرهم، لأن بعضهم لا يقول بأنها قطعية، بل يقضي بأنها من المسائل الاجتهادية كما عرفت.

وأما استشهاده على كون مسائل الإمامة عند الأكثر من القطعيات بكونهم ألحقوها بفن أصول الدين، فهو صحيح لا عوج فيه، وقد ذكره الفقيه قاسم بن أحمد بن حميد المحلى() رحمه الله في تعليقه على الشرح حيث قال: أما اتصالها يعني الإمامةـ بباب أصول الدين جملة، فاعلم أولاً أن بعضهم قد عدها من مسائل الاجتهاد، وأخرجها عن باب أصول الدين، وجعل كل مجتهد فيها مصيباً، والجمهور على خلاف ذلك وإنها معدودة من مسائل أصول الدين، والأدلة عليها قطعية لا يدخلها الاجتهاد ولا الظن أصلاً.

 قلت: ولعل ما حكاه مولانا عن بعض المتكلمين يعود إلى ذلك.

قوله: مع أن الأليق بها فن الفقه...إلخ.

قلنا: إنه وإن كان الأمر كذلك، فلا حرج في ذكرها في فن الأصول لذلك الغرض، كما ذكرت فيه مسألة الشفاعة، ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لمثل ذلك والمشاحة في أمثال ذلك ليس من همنا.

[ذكر أدلة وجوب نصب الإمام وتأكيد قطعيتها]

ثم قال أبقاه الله تعالى: ولم أظفر من أدلة الأصحاب مع هذه الدعوى بما مقدماته يقينية، وقواعده التي يبنى عليها قوية، مع كثرة بحثي عن ذلك في كتب الأصول والفروع، وتطلبه من مصنفات المعقول والمسموع، فإن مسائل الإمامة متفرعة إلى فروع كثيرة، كوجوب نصب الإمام، ووجوب اتباعه، ومعرفة شرائط الإمامة، ووجه اشتراط كل واحد منها، ووجه الاقتصار عليها، ومعرفة ما يحتاج إلى الإمام فيه، ووجه قصره عليه وغير ذلك.

 والأدلة القاطعة الشرعية ليست إلا الكتاب الصريح، والسنة المتواترة، والإجماع والقياس القطعيبن، فأما العقل فلا مجال له هنا على الصحيح، ولم يتضح لي ثبوت شيء من هذه الأدلة القاطعة في هذه المسائل ولا في شيء منها.

 أقول: لا وجه يتمسك به من أنكر كون مسائل الإمامة قطعية، إلا ما يدعيه من أنه لا دليل يقتضي ذلك، ونحن الآن نقيم البرهان بعون الله على صحة القطع بها، حتى يظهر صحة ما ادعاه أصحابنا رضي الله عنهم.

 فنقول: أما وجوب نصب الإمام فالدليل عليه وجوه ثلاثة.

 أحدها: إجماع الصحابة حيث فزعوا عقيب موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم  إلى نصب من يخلفه، وبادروا إلى ذلك واختصموا فيه، وظهر التشاجر، قال أبو بكر: لا بد لهذا الأمر ممن ينظمه ويقوم به، ولم ينازعه أحد في ذلك، ولا عُلِم أن أحداً منهم قال: لا حاجة إلى إمام بل أمر كل منا إلى نفسه، بل أجمعوا على مثل ما ذكر أبو بكر أنه لا بد من قائم تلجأ إليه الأمة، ولم ينازع في شدة الحاجة إليه منازع، علم ذلك ضرورة من حالهم حينئذٍ، ومن ثم اشتغلوا بطلب ذلك قبل مواراة رسول صلى الله عليه وآله وسلم  في حفرته، ولم ينكر أحد منهم تقديم الاشتغال بذلك، والاهتمام به على الاشتغال بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ومواراته، بل فزع كل واحد إلى النظر فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في تعليق الأمور به على حد تعليقها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في حياته.

وأما اشتغال علي عليه السلام  عن الحضرة معهم بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فإنما هو لأحد أمرين: إما لكونه الوصي له دون غيره، فرأى أن ذلك متعين عليه دونهم، أوثقة باجتماع الصحابة للنظر في ذلك، وأنهم يرجعون إلى مشاورته بعد خوضهم ذلك وإمعان النظر فيه فيهديهم إلى الحق.

 وعلى الجملة فما سمع عن أحد منهم أنه قال: لا حاجة بنا إلى خليفة نسمع له ونطيع بل يبقى أمر كل امريءٍ إلى نفسه، بل قرائن الأحوال المفيدة للعلم تشهد بأنه لو صدر هذا الكلام عن أحد منهم لنهروه وكرهوه وسفهوه، لعلمهم ضرورة مخالفة رأيه بما يصلح به أمر الأمة، وقد يستفاد العلم عند قوة القرائن، ألا ترى أنا نعلم كثيراً من أحوال غيرنا ضرورة لقرائن تشهد بذلك؟!

وهذا الدليل أعتمده أبو هاشم() في بعض المواضع، وذكره جماعة من أصحابنا، واستدل به الفخر الرازي مع الدليل الثاني الذي سنذكره، قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى عليه السلام : وهو قوي جداً على قول من جعل الإجماع حجة قاطعة.

وأما مولانا أبقاه الله تعالى، فإنه بعد أن حكاه عن أصحابنا، وقضى بكونه أشف أدلتهم هنا، اعترضه بأن قال: وهذا الدليل عن القطع بمراحل، وكيف وهو يوضح إجماع فعلي فقط، وعدم حصول التواتر في النقل عن كل واحد من الصحابة معلوم، وكل مسألة يكون دليلها الإجماع فالأقرب عدم تأتي القطع فيها، وهي بأن تكون ظنية أولى، وهيهات أن تجتمع شرائط الإجماع القطعي في حق أئمة النقل والتنقير، فكيف بأهل الإهمال والغفول الكثير، ولو قدرنا حصول شرائط الإجماع وتواتره عن كل واحد من الأمة فقد ورد على ما يجعله دليلاً على كون الإجماع دليلاً وهو الآية الكريمة ({ويتَّبِع غيْرَ سَبِيْلِ الْمُؤمِنِيْنَ نولِِّه ما توَلَّى ونُصْلِهِ جَهنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيْراً} [النساء: 115] ما ورد وحكم عليها الفحول بأنها من الظواهر وليست من الصرائح في الدلالة.

هذا آخر ما ذكر مولانا عليه السلام  من القدح في هذا الدليل.

وأقـول: لقد بالغ أبقاه الله تعالى في تضعيف أدلة أصحابنا على هذه المسألة، حيث حكم أولاً على هذا الدليل بأنه أشف أدلتهم في ذلك، ثم قضى ثانياً بأنه عن القطع بمراحل، ونحن لا نساعده إلى واحد من الطرفين.

أما الأول: فلأن هذا الدليل وإن كان عندنا قوياً فسنذكر ما هو أقوى منه.

وأما الثاني: فلأنه عندنا قوي صحيح، غير بعيد من الحق الصريح، لا طعن فيه لطاعن، وما أورده من الاعتراضات  مجاب عنه.

أما قوله: إنَّهُ إجماع فعلي، فهذا قد أورده الفقيه يحيى حسن القرشي رحمه الله في المنهاج، وتحريره: أن هذا إجماع فعلي، وإجماع الأمة على فعل لا يكون حجة على وجوب ذلك الفعل إلا إذا علمنا أنهم إنما فعلوه لوجوبه عندهم، وظهر لنا ذلك، فأما مع جهلنا الوجه الذي أوقعوا عليه ذلك الفعل، فلا وجه للاحتجاج به، ونحن لا نعلم أنهم فزعوا إلى نصب الإمام لوجوب ذلك ولا طريق لنا إلى القطع به، ومن الجائز أنهم فزعوا إلى ذلك لكونه أصلح لهم في دنياهم لا دينهم، أو لكونه أولى في صلاح الدين أيضاً، لا لوجوبه عليهم وجوباً حتماً كما في صلاة الوتر فإن إجماعهم على فعلها لم يدل على وجوبها، ومع هذا الاحتمال لا يستقيم الاحتجاج بذلك على أن الإمامة واجبة على الأمة.

والجواب: أنَّا لا نُسَلِّم ما ذكره من الاحتمال، لأن المعلوم ضرورة أنه يجب على كل مسلم نصرة الإسلام وتوهين أركان الكفر بما أمكنه، حسبما يستطيع من ذلك، وكل عاقل يعلم ضرورة أن بقاء الأمة بعد موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  فوضى لا أمير لهم يُنَظِّم أمرهم، ويجمع كلمتهم، ويتفرغ لسد الثغور وإصلاح ما أفسده الجهال والضُّلاّل، هدم لما كان صلى الله عليه وآله وسلم  شيَّده، وخرق لما كان قد سدده، فإن الأمة حينئذٍ تكون أشبه بغنم لا يحفظها راعٍ عن مراتع الطلب، ولا يحرسها عن أن يعبث فيها الذئاب فتذهب وفرتها كل الذهاب، والمنكر لذلك معاند دافع للعلم الضروري من جهة العادة لا إشكال في ذلك.

فعلم أنهم إنما فزعوا إلى نصب الإمام لتقوية أمر الإسلام، ولا شك أن تقويته عليهم فرض واجب، وحتم لازب، فيجب أن يكون فعلهم ذلك إنما كان لأجل وجوبه وهو المطلوب.

وهذا الجواب ذكره الإمام المهدي وبالغ في تضعيف الاعتراض، حتى قال: إنه غير واقع ولا يصدر عن فطانة.

وأما قوله: إنّ عدم حصول التواتر في النقل عن كل واحد معلوم، فهي دعوى مجردة، وقد دخل فسادها في أثناء الدليل المذكور، وكيف يدعي العلم بعدم حصول التواتر في النقل مع حصول أمارة التواتر فيه وهو العلم الضروري؟ يوضحه أنا لا نجد فرقاً بين هذا العلم وبين كثير من العلوم التواترية، فما ورد هنا ورد هناك، ودعوى الفرق غير واضح.

وأما قوله: إن كل مسألة يكون دليلها الإجماع فالأقرب عدم تأتي القطع فيها... إلى آخره.

فيقال له: ولم قلت ذاك؟ هل لاستبعاد تحقق وقوع الإجماع، كما ذهب إليه بعضهم؟ فمجرد الاستبعاد ليس بحجة، مع أن الاستبعاد إنما يثبت في غير إجماع الصحابة، والمدعى في الدليل إنما هو إجماعهم، أو قلت ذلك لفقد التواتر في النقل كما ادعيت أولاً؟ فقد مر الكلام على ذلك، أو من حيث أن دليل صحة الإجماع غير قوي؟ فهذا قد أوردته آخراً، حيث قلت: ولو قدرنا حصول شرائط الإجماع وتواتره... إلخ، وهو غير قادح، لأن الآية الكريمة التي ذكرتها وإن لم تفد القطع بكون الإجماع دليلاً، فنحن نستدل على ذلك بغيرها وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) ()، ووجه الاستدلال به هو أن نقول: إن معنى هذا الخبر قد ورد وروداً متواتراً بألفاظ نقلت آحاداً، كما في شجاعة علي وسخاء حاتم، فإنه وإن كانت الوقائع الدالة على الشجاعة والسخاء نقلت آحاداً، إلا أن المعنى الحاصل من تلك الوقائع نقل نقلاً متواتراً، وهذا الوجه قد استحسنه ابن الحاجب() على أنما ذكرته من القدح في صحة الإجماع ينقص ما اعترفت به أولاً من أن الإجماع أحد الأدلة القاطعة، فخلُص هذا الدليل سليماً عن المطاعن.

الدليل الثاني: أن الله تعالى فرض الحدود وأمر بإقامتها في نحو قوله تعالى:({فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وأجمعت الأمة على أنَّهُ لا يقوم بها إلاَّ الإمام، أومَنٍْ يلي من قِبَلِهِ، و قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((أربعة إلى الولاة ...الخبر)) ().

 فيجب نصب الإمام، لأنه لا يتم الواجب إلا به، وهذا الدليل هو الذي اعتمده الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام  في كتاب (الدعامة)، واعتمده أبو علي() الجبائي في كتاب المبتدأ، واعتمده أبو هاشم في الأبواب()، واعتمده الفخر الرازي في (نهاية العقول)().

قال مولانا أيده الله تعالى: -معترضاً على هذا الدليل- بعد أن حكاه عن الأصحاب: وهذا يترتب على ثبوت الإجماع المدعى ونقله تواتراً، وفي ذلك من البعد مالا يخفى، بل هو في حكم المتعذر المستحيل.

أقول: قد اعترض الدليل باعتراضين.

أحدهما: هذا الذي أورده مولانا حفظه الله تعالى، وهو لعمري اعتراض قوي، وكيف يصح دعوى إجماع الأمة في إقامة الحدود أو في غيرها من سائر الأحكام المذكورة، مع أن أبا حنيفة يجيز للأمراء إقامة الحدود وإن لم يكن ثم إمام، فجعل أمرها إلى أهل الشوكة، والحشوية وكل من خالف في وجوب الإمام لا يجعلون الإمام شرطاً في إقامة هذه الأمور، والجمعة فيها الخلاف الظاهر، أعني في كون الإمام شرطاً فيها، وكذلك الفيء والصدقات، فكيف يمكن دعوى إجماع الأمة مع هذا الخلاف؟!

فإن أدُّعِى إجماع الصحابة فهو بعيد أيضاً، لأن أبا حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى أقرب عهداً بالصحابة، وأعرف بمواقع إجماعهم، فلو عرفوا إجماعهم على أنها تختص الإمام ولا تجوز من غيره لم يصححوها من دونه.

الاعتراض الثاني: ما حكاه مولانا عن الفقيه يحيى بن حسن القرشي رحمه الله تعالى حيث قال: ما آمنكم أن يكون الأمر بإقامة الحدود مشروطاً بحصول الإمام ووجدانه، وهذا الاعتراض أورده الشيخ أبو عبدالله البصري() وجعله قادحاً على هذه الدلالة وضعفها لأجله.

وجوابه ما أشار إليه مولانا أبقاه الله تعالى من أن الأمر ورد بإقامة الحدود مطلقاً، وما ورد مطلقاً لزم تحصيل شرطه، ولم يتوقف وجوبه على حصول شرطه وذلك واضح.

ثم قال مولانا حاكياً عن القرشي: وأورد اعتراضاً آخر، وهو أنه لو كان نصب الإمام واجباً على الأمة لما أجمعوا على ترك هذا الواجب، ولا كلام في خلو بعض الأزمنة عن الإمام، وإن وقع الشك في جواز الخلو عمن يصلح للإمامة.

قال: وهذا قوي كما ترى.

أقول: هذا الاعتراض غير وارد على شيء من الأدلة، وإنما هو وارد على نفس المذهب، وهو القول بوجوب نصب الإمام، وقد حكم مولانا له بالقوة وقضى عليه بالصحة، ويمكن الجواب عنه بما ذكره الإمام المهدي رضي الله عنه من أن الإمامة وإن كانت واجبة على الأمة فوجوبها على أهل كل عصر موسع غير مضيق، لتباين الأقطار واختلاف الأنظار في طلب الصالح لها وتعيينه، فإذا كان وجوبها موسعاً لم يظهر لنا إخلال الأمة بها إلا حيث قدرنا أن أهل عصر انقرضوا كافة ولم يقم فيهم قائم حق، وهذا لا سبيل إليه، فإنا نعلم أن الأمة لم تخل من قائم حق مدة مديدة يقطع فيها بانقراض كل أهل العصر، إذ لا يغلب في الظن ذلك إلا في قدر مائة وخمسين سنة مثلاً، والمعلوم ضرورة من بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  أن الأمة لم تخل قدر هذه المدة المديدة من قائم حق، بل لا تزال أئمة الحق داعين قائمين، وإن وقعت فترة بين القائمين فإنما هي مدة يسيرة لا ينقضي فيها من أهل العصر إلا القليل فلم يجتمع أهل العصر حينئذٍ على إخلال بواجب.

قال الإمام المهدي قدس الله روحه: وإنما قلنا أن وجوبها موسع غير مضيق لما علمنا من أنه يجب تحري الأفضل، والأقطار متباينة لا يمكن الإحاطة بفضلائها وأحوالهم عقيب موت الإمام الأول، بل تحتاج إلى بحث ونظر في مهلة يتمكن فيها من معرفة الأصلح للإمامة في أي الأقطار هو، و نحو ذلك.

قلت: ولأنه قام الدليل القاطع على وجوب النصب على الأمة، وهذا الاعتراض غير وارد على شيء من أركان ذلك الدليل، فلو لم نحكم بكون وجوبه موسعاً، لكانت الأمة قد أجمعت على الإخلال بالواجب، وذلك باطل، فصح كون النصب واجباً موسعاً، بمالا يخفى صحته، وبذلك يظهر لك ضعف هذا الإيراد وأنه عار عن الصحة والسداد.

الدليل الثالث وهو أشف الأدلة وأقواها أن يقال: إن المعلوم ضرورة من دينه صلى الله عليه وآله وسلم  أن الجهاد فرض واجب على الأمة، وأن وجوبه لم يسقط بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والمعلوم أن الإمام شرط في أدائه والقيام به، وذلك أمر ممكن للأمة، أعني: إقامة الإمام، فثبت بذلك وجوبه، والدلالة مبنية على خمسة أصول، وهي واضحة.

أما الأصلان الأولان فمعلومان من ضرورة الدين.

وأما الأصل الثالث: وهو أن الإمام شرط في القيام بالجهاد، وفي حصول المقصود به، وهو نكاية العدو، فالذي يدل على ذلك أنا نعلم ضرورة من جهة العادة أنه لو خرج معسكر عظيم لقتال عدو، وليس عليهم أمير يرجعون إلى أمره في تهيئة القتال وكيفيته وترتيب مواقعه، بل كل واحد منهم يعمل برأيه في ذلك، يقاتل حيث شاء، ويتقدم ويتأخر حيث يرى رأيه، ولا ناظم لأمرهم في ذلك، فإن العقلاء يحكمون عليه بالإخلال بالشرط الذي يتم به مطلوبهم من نكاية العدو ودفع مضرته، وأنهم عرضوا أنفسهم للكسيرة وعدوهم للظفر بهم، على ما يعلم في العادة من حال المعسكر الذي هذا حاله، ولا يدفع ذلك إلا معاند، وإذا ثبت ذلك في الخروج على العدو، وجب مثله في التحرز من سطوته وهجومه، فإن قوماً لو كان لهم عدو طالب لنكايتهم في كل وقت، لا يأمنون هجومه عليهم واستئصال شأفتهم، ولم ينظروا في إقامة رجل منهم كامل العقل والرأي، ليتجرد للنظر فيما يدفع به ضرر خصمهم، ويحصل به التحرز من نكايته، لا تشغله خويصة نفسه عن تدبير ذلك النظر فيه، بل تركوا أمرهم شتى، ينظر كل واحد منهم فيما يخص نفسه، ويعود عليه وعلى عائلته منفعته، ودفع مضرة ذلك العدو عن نفسه فقط، فإن العقلاء يحكمون عليهم بالإخلال بما يجب عليهم من دفع مضرة عدوهم عنهم، وأنهم بإخلالهم بذلك في حكم من لا يدفع الضرر عن نفسه، ووجوب دفع الضرر عن النفس معلوم ضرورة، فعلم بذلك أن نصب الرئيس شرط في مجاهدة العدو، مطلوباً كان أو طالباً، ولا شك أن الكفار والفساق منبسطون في الأرض على مرور الليالي والأيام، وأن التكليف بمجاهدتهم مستمر، وهو لا يستقيم ويتم المقصود إلا بما ذكرنا من نصب الرئيس، لما علمنا ضرورة من جهة العادة، فلزم القضاء بوجوب نصبه، إذ مالا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه.

وأما الأصل الرابع: وهو أنه ممكن للأمة، فذلك معلوم ضرورة.

وأما الأصل الخامس: وهو أنه يثبت بذلك وجوب الإمامة، فلأن مالا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه بلا شك، فصح وثبت ما رمناه من وجوب الإمامة على الأمة قطعاً، وبطل قول المخالف، وهذا البرهان قطعي واضح الأركان، إذ بعض أركانه معلوم ضرورة، وبعضها بدلالة قطعية لا مدخل للتشكيك فيها، فهذا جملة ما يدل على وجوب نصب الإمام قطعاً.

وأما ما يدل على سائر الفروع فسيساق إليك إن شاء الله تعالى.

ثم قال مولانا أبقاه الله تعالى مشنعاً مستدركاً: فانظر إلى هذه الأدلة التي وسمت بكونها يقينية، وانظر إلى تركهم إيراد أدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة وتفاصيلها.

أقول: صحة تسميتهم لها يقينية ينبني على اندفاع ما ورد عليها من المطاعن، وقد أوردنا في دفعها ما يشفي ويكفي بحمد الله تعالى، إلا الدليل الثاني، فإنا لا ننازع في ضعفه وقوة ما ورد عليه، وأما استدراك مولانا عليهم بأنهم تركوا إيراد أدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة، فهو غير مسلم إذ لم يهملوا ذلك، بل قد أوردوا من الأدلة على ذلك مالا يخفى.

أما وجوب اتباع الإمام فقد استدلوا عليه بقوله تعالى:{يا قَومنَا أجِيْبُوا دَاعِيَ الله} [الأحقاف:31]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((مَنْ سمع وَاعِيَتنا أهلِ البيت)) () الخبر، ونحوه من الأخبار المتفقة على معنى واحد، واستدلوا على ذلك أيضاً بأنه قد قام الدليل على وجوب الإمامة والانتصاب لها، فمن انتصب لها مع كمال الشروط فيه قطعنا بأنه قد امتثل ما أمره الله به من الإمامة، فوجب علينا طاعته واتباعه.

وأما معرفة شرائط الإمام فقد استدلوا على وجوبها بالإجماع، قال السيد() في (شرح الأصول) ما معناه: فإنه لا خلاف بين الأمة في وجوب معرفة إمام الزمان -يعني معرفة ما اختص به من الصفات المعتبرة- واستدلوا على ذلك أيضاً بأن الإمامة هي الدرجة الثانية من النبوة، وقد ثبت وجوب معرفة النبوة على كل مكلف عامي وغيره، فكذلك يجب مثله في الإمامة، فإن الإمامة لم تنقص عنها إلا في درجة الوحي لا غير، وإلا فما اختص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم  من الأحكام فقد اختص به الإمام غالباً، واستدل على ذلك بعضهم بأنه يجب على المكلفين إجابة دعوة الإمام، والانقياد لأمره، ومن القبيح أن ينقادوا لأمره، ولما يعلموا هل هو إمام جامع للشرائط أم لا؟

وأما وجه اشتراط كل واحد من الشرائط وسائر ما أشار إليه مولانا من الفروع، فكلامهم فيه ظاهر في غير موضع، فلا حاجة إلى تطويل الكلام ببيانه، فهذا ما يتعلق بالجهة الأولى.

[بيان ما يترتب على جعل نصب الإمام أمراً قطعياً]

وأما الجهة الثانية: فقال مولانا أبقاه الله تعالى: ثم نقول إذا صح هذا المذهب، وهو أن الإمامة قطعية، لا يجوز الأخذ فيها إلا بالدليل القاطع، وأن الحق فيها مع واحد، لزم على هذه القاعدة كل واحد من المكلفين مع وجدان من يدعي الإمامة أن ينظر في المسألة أصولها وفروعها، ولا يجوز له الإقدام، ولا الإحجام، ولا الإثبات، ولا النفي، إلا بعد أن يطلع على أدلتها، ويعلم بحصول العلم اليقين له عنها، حتى ينتهي إلى العلم بوجوب متابعة هذا الداعي وصحة دعواه، أو خلاف ذلك، وإلا كان مخطئاً آثماً، سواء وافق الحق في نفس الأمر أم لا، لأنه لا فرق بين الإقدام على الخطأ وبين الإقدام على مالا يؤمن كونه خطأ في القبح، ولزم ألا يصح التقليد في شيء من مسائل الإمامة، ولا الرجوع فيها إلى أقوال العلماء كغيرها من المسائل القطعية التي لا يصح التقليد فيها، وقد ذكر بعض مذاكري المذهب وهو الفقيه [محمد بن سليمان] ما يقضي بهذا في حق من بلغته دعوى الإمام، ولم يتمكن من النهوض إليه، قال رحمه الله تعالى: فإن الظاهر أنه لا يعتقد إمامته حتى يحصل إجماع من العلماء عليه، أو يتواتر الخبر بجمعه للشروط، لأن المسألة قطعية، ولا يجوز الدخول بالتقليد إلا عند من جوزه في مسائل الأصول، ونظره الفقيه [يوسف بن أحمد] بأنه ما يكاد يتفق ذلك، ولا وجه للتنظير، لأنه لا عبرة بالاتفاق وعدمه، والذي تقتضيه أصول أهل المذهب ما ذكره الفقيه [محمد بن سليمان].

أقول: هذا الإلزام الذي ذكره مولانا ملتزم، وليس فيه محذور يخاف ولا محال يلزم، وكلام الفقيه محمد بن سليمان في ذلك جيد لا عوج فيه، وهو ظاهر كلام أصحابنا في مواردهم ومصادرهم، وقد صرح به الفقيه قاسم بن أحمد() إلا في تفصيل العلم، فإنه سوغ للعوام تقليد العلماء فيه، قال: لأنه لا طريق لهم سوى ذلك، وبهذا قال الإمام المهدي أيضاً، فإنه ذكر أنه يجب على العامي معرفة ما عدا العلم من الشرائط، إما بالخبرة أو بالتواتر.

قال: وأما الاجتهاد فلا طريق له إلى اختصاص الإمام به إلا نقل الناقلين من العلماء المجتهدين، أو كل عالم بفن يخبر أنه وجده عارفاً للقدر المحتاج إليه في فنه.

قال رضي الله عنه: فإذا نقلوا ذلك فللعامي الأخذ بنقلهم، وإن لم يبلغ حد التواتر، لأن شرط التواتر المفيد للعلم هنا مفقود، وهو الاستناد إلى المشاهدة، والعلم لا يشاهد، لكن تدل عليه الأقوال فقط، فالتواتر حينئذ هنا لا يفيد علماً، فيجتزي بالظن.

قال رحمه الله تعالى: وإن اختلف الناقلون في كمال علمه، رجع إلى الترجيح في صحة نقلهم، فإن حصل ترجيح عمل به، وإلا فالواجب الوقف حينئذ.

قال الفقيه قاسم: وقد اختار بعضهم جواز التقليد للعوام في معرفة الإمام واجتماع الشرائط فيه، وهو ضعيف انتهى.

ثم قال مولانا أبقاه الله تعالى: ومن توابع القول بكونها قطعية أنه يلزم الأئمة وغيرهم الإنكار على من اعتقد صحة إمامتهم، من غير فهم القواعد، والوصول في ذلك إلى العلم اليقين، لأن من كانت هذه صفته مُقْدِمٌ على قبيح ومرتكب له، والإنكار على مرتكب القبيح واجب... إلى آخر ما ذكره في هذا المعنى.

أقول: الواجب على الأئمة حمل أتباعهم على السلامة، وإنما أقدموا عليه من الاعتقاد وتوابعه من تسليم الحقوق ونحوه كان عن دليل، وليس عليهم أن ينكروا على الأتباع قبل أن يعلموا حقيقة أمرهم، وأما بعد علمهم بأن اعتقادهم صدر لا عن دليل فلا شك في لزوم الإنكار حينئذ، فقد ساعدنا مولانا إلى ما رام من لزوم الإنكار على من كانت تلك صفته.

فإن قال: إنا قد علمنا من حال الأئمة أنهم لم ينكروا، فإما حكمنا بخطأ الأئمة، أو بكون المسألة ظنية، قلنا: قد دللنا على أنها قطعية، فإن صح عن الأئمة أنهم تركوا اللايمة كان ذلك دليلاً على عدم علمهم بحال الأتباع، لا على خطئهم بتركهم للإنكار عليهم، ولا على كون المسألة ظنية، ومع عدم علمهم لا يلزمهم الإنكار كما قدمنا، ويصير حال الأئمة في ذلك كحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإذا حسن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أمر العربي الجلف باعتقاد نبوته وتسليم الحقوق إليه من غير أن يأمره بتقديم النظر في ذلك حملاً لمن اتبعه على السلامة، فبالأولى أن يحسن ممن هو دونه -وهو الإمام- أمر العوام باعتقاد إمامته وتسليم الحقوق إليه، ثم حملهم بعد الإتباع والتسليم على أن ذلك كان عن دليل.

فإن قال: إن بين المسألتين فرقاً، فإن مسائل الإمامة أخفى من مسائل النبوة، قلنا: لا نسلمه، فإن في مسائل النبوة ما يحتاج إلى دقيق النظر، بل لو ادعى العكس في ذلك لأمكن، ثم لو سلمنا ما ذكره من زيادة خفاء مسائل الإمامة على مسائل النبوة، فلا شك أن في سائر مسائل الأصول ما هو أدق وأخفى من مسائل الإمامة، فكان يلزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وسائر العلماء الإنكار على العوام جميع ما اعتقدوه من ذلك، وخلافه معلوم، ما ذلك إلا لما ذكرنا من الحمل على السلامة.

وأما ما ذكره مولانا أبقاه الله تعالى من أن أكثر المعتزين إلى الأئمة، القائلين بإمامتهم، الممتثلين لأوامرهم ونواهيهم المترتبة على صحة الإمامة وثبوتها، لم يقدموا على ذلك لنظر اقتضاه، ولا لدليل أوصلهم إليه، فذلك حمل منه لهم على غير ما ينبغي، سواء جعلنا الإمامة قطعية أو ظنية، ثم لو سلمنا أن ذلك معلوم لمولانا عن حالهم، فمن أين أن الأئمة قد علموه أيضاً حتى يلزمهم الإنكار؟ فإنه لا يلزم فيما علمه شخص أن يعلمه آخر.

قوله: وليس لقائل أن يقول كثير من المسائل القطعية يصح التقليد فيها، فإنا نقول: ذلك لا يصح إلا فيما كان منها عملياً لا يترتب على علمي.

قلنا: هذا صحيح، لكن لسنا نسلم أن تسليم العامة للحقوق إلى الأئمة صدر عن تقليد، بل هو كتسليمهم لها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم  سواء سواء، وهذا جملة ما يتعلق بالجهة الثانية من الكلام.

[حُكْمُ النافي لإمامة والمتوقف فيها]

وأمَّا الجهة الثالثة فقال -أبقاه الله تعالى-: والعجب مما ظهر في زماننا من تجاسر غير العارفين، من المثبتين للإمامة على تفسيق النافي لها والمتوقف، ولعنه، واعتزال الصلاة خلفه، مع أن التفسيق لا يصح الأخذ فيه والاثبات له إلا بالبرهان القاطع الذي لا نافي له ولا مدافع، من كتاب صريح، أو خبر متواتر صحيح، أو إجماع قطعي، واستبعدوا أن يكون القياس من طرقه، لتعسر القطع بعلة الحكم، وانحصارها، وعدم تعددها، والمعلوم أنك لو سألت كل واحد من هؤلاء المذكورين عن معنى الفسق وأسبابه وطرقه وأحكامه، لما درى كيف يجيبك، دع عنك العلم بكون نفي الإمامة أوالتوقف فيها يقتضيه.

وفي الحقيقة أن التعجب من علماء زماننا الراسخين في العلم -كثّرهم الله تعالى، ونفع بعلومهم- كيف سكتوا عمن هذه صفته، مع وجوب التنبيه والتعريف بما يتحتم في الدين الحنيف، فإنه إن سلم ثبوت الفسق في هذه المسألة لم يحسن تقرير أرباب التفسيق من غير استدلال وتحقيق، بل يجب الإنكار عليهم والإعذار في ذلك إليهم، فما ظنك بمن يلقن الجهلة ذلك، ويفتيهم به، ويأمرهم باعتقاده.

أقول: لا شك في خطأ من فسق بغير برهان، وقد ورد من الوعيد عليه مالا يخفى على إنسان، لكن الواجب حمل المفسقين على السلامة، وأن التفسيق صدر منهم عن دلالة.

قوله: والمعلوم أنك لو سألت كل واحد من هؤلاء... إلى آخره.

قلنا: بل ذلك مظنون، لقرينة خفاء دليل الفسق على من هو مثلهم، والواجب اطراح الظن وإيثار الحمل على السلامة، فقد يظهر لبعض الناس من أدلة الشرع ما يخفى على آخر.

قوله: وفي الحقيقة أن التعجب من علماء زماننا إلى آخره.

قلنا: إنما سكتوا لأنه غلب في ظنهم أن التفسيق وقع من المفسقين عن برهان، والإنكار لا يجب بل لا يحسن، إلا بعد العلم بأن الواقع منكر.

وأما تلقين ذلك الجهلة وأمرهم باعتقاده، فهو -وإن سلمنا وقوعه- محمول على أنه اقترن به تلقين الدليل أيضاً، والأمر باستعماله، ثم إنا نقول: وأي محذور في الأمر باعتقاد ذلك، إذا كان الآمر يعتقد به التفسيق لدليل قاطع عنده؟ فإنه يحسن منه أمر غيره بالاعتقاد، ثم يحمل المأمور على أنه لا يعتقده إلا لدليل، كما يأمره باعتقاد الصانع مثلاً أو صفاته.

فإن قال: إن المراد باعتقاد الصانع هو العلم به، فهو إنما أمره بالاعتقاد الواقع على وجه، والعلم إنما يصدر عن دليل، وكذلك هنا نقول فما وجه التشنيع؟

قال مولانا أبقاه الله تعالى: ثم إنا نقول: أيُّ الأدلة المعتبرة دلت على فسق من ينفي إمامة الإمام أو يتوقف، وأي طرق الشرع أو العقل اقتضى ذلك؟ أما العقل فلا مجال له هاهنا، فما حجة القائلين بذلك والذاهبين إليه من أدلة الشرع؟

أما أكثر أئمتنا وعلمائنا فالظاهر عنهم القول بعدم التفسيق، ولهذا نقل عنهم حسن الثناء على المشائخ المتقدمين على أمير المؤمنين علي عليه السلام ، والترضية عنهم، والتعظيم العظيم لهم، مع أن أولئك المشائخ المذكورين نفوا إمامة علي عليه السلام ، وزادوا على النفي بما ظاهره البغي، فإنهم تصدروا وأهّلوا أنفسهم للإمامة، ورأوا أنهم أولى بها منه، هذا وإمامته عليه السلام  أظهر من إمامة غيره، لقيام النصوص عليه، ووضوح الأدلة على عصمته، وكثرة فضائله، وعلو شأنه، وارتفاع مكانه.

ونقول: سلمنا أن الإمامة قطعية، فليس من لازم كل مسألة قطعية أن المخطيء فيها فاسق، إذ ليس كل خطأ كبيرة، فإنه لا يثبت كون المعصية كبيرة إلا بدليل، كما ذكروه من ثبوت الحد عليها أو التصريح، بعظمها أو فحشها أو كبرها ونحو ذلك، أو الوعيد عليها بعينها، على خلاف في ذلك، ولا أعلم حصول شيء من هذه الطرق في مسألتنا.

أقول: اعلم أن التفسيق في هذه المسألة مما عظم فيه الإشكال وكثر فيه القيل والقال، والناس في ذلك فريقان فريق قطع بالفسق، وفريق لم يقطع لعدم قيام الدليل عنده، وقال عليه السلام : (لأن أخطيء في العفو أحب إليّ من أن أخطيء في العقوبة) () وإلى هذا مال جماعة من حذاق العلماء رحمهم الله وبقولهم أقول.

قال الإمام المهدي عليه السلام  في الغايات() مالفظه: وأما الخلاف الواقع بين الزيدية والمعتزلة في الإمامة هل يؤدي إلى التفسيق أم لا؟ فقد ذكر كثير من شيوخنا أن من دفع إمامة إمام ثابت الإمامة،  وأنكر، أو جهل، فهو كمن حاربه ونابذه، وأنه فسق، قال الشيخ أبو القاسم البستي: وإلى هذا ذهب كثير من الزيدية، قال: والذي نختاره أنه لا دلالة على تفسيق من جهل إمامة الإمام، وأنكر إذا لم يقترن به خروج عليه ومحاربة له.

قال الإمام المهدي: وهذا هو الحق عندي، ثم قال رضي الله عنه: ولا بد من إيراد كلام في تبيين الحق من ذلك فنقول: اعلم أن شيوخنا المتكلمين من المعتزلة رحمهم الله ربما قالوا: إن الخروج على الإمام على جهة البغي، ونفي إمامته والطعن فيه والقعود عن نصرته، مع الإمكان من غير عذر، سواء في الحكم، وأن كل واحد من الأمرين فسق لا فرق بينهما.

وزعمت الإمامية أن مخالفة الإمام المفترض الطاعة، والجهل بأمره وموالاة عدوه كفر، وفيهم من يقول: إنه فسق، وإن لم يكن كفراً، وربما نسمي من هذا سبيله مسلماً ولا نسميه مؤمناً.

وفي الزيدية من يقول بتفسيق من لا يعرف إمامة الإمام، ويجري جهله بإمامته مجرى الخروج عليه والعداوة له، والذي عليه أهل التحصيل من الزيدية أن الخروج على إمام الحق فسقٌ، فأما الجهل بإمامته، أو إدعاء الإمامة لغيره، أو الجلوس مجلس الإمام في غير وقت إمام تحرم مخالفته، أو في وقت إمام منصوص عليه، لكنه لم يقم بالأمر، كعلي عليه السلام  أيام الشيخين، فلا دلالة على كون ذلك فسقاً، هذه ألفاظه في (الغايات) رحمه الله تعالى.

ومثله ذكره الشيخ أبو القاسم البستي() في كتاب البحث والتحقيق عن أدلة التكفير والتفسيق، ثم قال -رحمه الله تعالى- بعد أن ذكر ما جرى في الصدر الأول: وقد استدل على أن العدول عن إمامة الإمام فسق، والجهل به وإعتقاد إمامة غيره، بضروب من القياس، إذ النص غير ممكن، فمن ذلك أن الخروج عليه فسق، وقد علمنا أن من حاربه من جنس البغاة كمن لم يحارب، ومن كان في جملتهم كمن حارب الإمام، فلم يكن البغي والخروج عليه فسقاً للمحاربة، وإنما كان فسقاً للعدول عن طاعته إلى طاعة غيره، وهذا موجود فيمن عدل عن أمير المؤمنين إلى أبي بكر، فيجب أن يكون فسقاً.

قال رحمه الله تعالى: وهذا لا يصح التعلق به، وذلك أن الأمة أجمعت على أن البغي على الإمام فسق، فمن أظهر نفسه بالبغي عليه وكان من جنس البغاة فالظاهر من حاله أنه منابذ له ومحارب، إذا لم يكن هناك إكراه، وما هذا سبيله فالإجماع قد كشف عن كونه فسقاً، ولا يجب في غيره أن يكون فاسقاً والدلالة مفقودة، وقد بينا أن القياس في التفسيق والتكفير متعذر، من حيث لا يمتنع أن يعرف عظم الفعل ولا يعرف علة العظم على التفصيل، وإن كنا نعلم أنه إنما عظم لعلة وبُعد، فإنه يمكن أن يقال أن البغي عَظُم لمفسدة فيه خاصة، لا توجد في غيره، ويمكن أن يقال العلة في عظمه كونه بغياً على الإمام.

قال رحمه الله تعالى: فإن قيل: الباغي كما يعظم بغيه، فقد يعظم اعتقاده في الإمام أنه غير إمام، واعتقاده في الباغي أنه إمام، وهذا يوجب أن يكون غير الباغي بمثابته، قيل له: إذا أفردت اعتقاد الباغي عن بغيه، وخروجه عن الإمام حتى لا يبقى إلا الجهل بإمامته واعتقاد إمامة غيره فلا دلالة عندنا على كونه فسقاً بمجرده، وإنما نعلم أن الباغي فاسق، ويجوز أن يكون وجه العظم اجتماع ذنوب لو انفرد كل واحد منها لم يكن فسقاً، هذا كله كلام البستي رحمه الله، وهو من أهل التحقيق والنظر في أكثر موارده ومصادره.

قلت: وليس لأحد أن يستدل على فسق من نفى أو توقف في غير مهلة النظر، بأن يقول: إن للإمام حرب من هذه حالهُ ومقاتلته على عدم تسليم الحقوق، وجواز الحرب والمقاتلة متفرع على ثبوت الفسق، لأنا نقول: إنه ليس له محاربتهم حتى يدعوهم إلى طاعته فيتغلبوا أو ينتصبوا لحربه، وحين انتصابهم لحربه ينضم إلى ذلك الاعتقاد ما أوجب الفسق فيحكم به حينئذٍ.

ومثل هذا يقال في حق الصحابة مع علي عليه السلام ،  فإنا إذا حكمنا بصحة إيمانهم لم يكن له عليه السلام  حربهم حتى يدعوهم إلى الطاعة فينتصبوا لحربه، وحينئذ يجوز له مقاتلتهم.

نعم؛ وليس لمن لم يقطع بالتفسيق أن يعتقد في المفسق أنه صدر عنه التفسيق لا عن دليل، لأنه يجوز أن يظهر لبعض الناس من أدلة الشرع مالا يظهر للبعض الآخر، فنسأل الله تعالى المادة بالهداية إلى القول الفصل المرضي عنده.

وأما ما ذكره مولانا عليه السلام  من أن التفسيق بذلك لم تقض به معاملة السلف، بدليل ما كان بين القاسم بن علي العياني ويوسف الداعي، وما كان بين بعض أتباع حي الإمام الناصر محمد بن علي بن محمد ومن عارضه، وما كان بين الإمامين الهادي علي بن المؤيد والمهدي أحمد بن يحيى سلام الله عليهما، فقد أطال فيه الكلام مع كونه لا ينهض حجة في مثل هذا المقام، لأن غاية ما تدل عليه سيرهم المباركة، هي كونهم لا يقولون بفسق نافي الإمامة، وذلك ليس بحجة على المفسقين، لأن المسألة قطعية، والحق فيها مع واحد، وأعجب من هذا استشهاده -أبقاه الله تعالى- بما حكاه بعد ذلك عن المؤيد بالله قدس الله روحه لأنه عليه السلام  كان بعيداً عن التكفير والتفسيق، حتى أنه لم يفسق المجبرة مع أقاويلهم المنكرة.

 [الكلام في الصلاة خلف النافي لإمامة الإمام]

قال مولانا أبقاه الله تعالى: وأما منع الصلاة خلف من خالف المؤتم في العقيدة في الإمام من نفي أو إثبات أوتوقف، بحيث أن المثبت لا تجزيه صلاته خلف النافي والعكس، وكذلك المتوقف على ما ظهر واشتهر في هذا الزمان وانتشرت به الفتوى في جميع البلدان، فقد خفي عليَّ وجهه، فإن الذي تمتنع الصلاة خلفه هو الفاسق ومن في حكمه، وهو المصر على معصية لا يفعلها في الأغلب إلا الفسقة، وإن لم يعلم كونها فسقاً نحو كشف العورة بين الناس، والتطفيف، والشتم الفاحش غير القذف، واحترزوا بقولهم: في الأغلب. عما يرتكبه الفسقة وبعض المؤمنين في العادة كالغيبة والكذب ونحوهما.. إلى آخر ما ذكره في هذا المعنى.

أقول: أما مع القول بفسق النافي والمتوقف، فعدم صحة صلاة المثبت خلفهما ظاهر، وأما مع عدم القول بالفسق فلعل الوجه في منع الصلاة خلف من خالف المؤتم في العقيدة في الإمام هو ما يلحق المؤتم منهما من التهمة بالموافقة في المذهب في الإمامة، إذ قد صار الغالب من حال المختلفين في الإمامة هو المجانبة والمباينة، فإذا صلى أحد المختلفين في الإمامة خلف الآخر اتهم المؤتم منهما بأنه لا يخالف الإمام في العقيدة في الإمامة، وقد ثبت أن الإمامة قطعيةٌ، الحق فيها مع واحد، فيكون المؤتم منهما قد وقف في مواقف التهم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم))، فإذا صح ذلك أن موقف تهمة كان عاصياً به، فيكون حينئذ قد أطاع بنفس ما به عصى، فلهذا لم تصح صلاته، والله أعلم.

فإن قيل: فلو فرضنا زوال هذا الاتهام؟

 قلنا: إذا فرضنا ذلك وجب القضاء بصحة صلاة المؤتم منهما حينئذ.

ثم قال مولانا بعد ذلك: هب أنا سلمنا فسق النافي ونحوه، فمنع الصلاة خلفه مما لا يصح فيه التقليد والتلقين، إذ هذا من العملي المترتب على علمي، فكيف يحسن تقرير من لا يعرف القواعد على هذه القضية بل الأمر بها والحث عليها.

أقول: قد بينا فيما مرّ أن هذا ليس من التقليد في شيء، وأن الآمر إنما أمر العامي بالعمل وبتقديم العلم عليه، على أنه قد ذكر في (التقرير)() أنه يجوز التقليد في كون الكبيرة تنقض الوضوء لا في كونها توجب الفسق.

قوله: حتى إن كثيراً من المتدينين رفضوا لذلك صلاة الجماعة وأهملوها بالكلية.., إلى آخره.

أقول: أما حيث يختل أحد شروطها فرفضهم لها غير مستنكر بل هو الأولى حينئذ والأظهر، وأما مع تكامل الشرائط فلعمري أن رفضها حينئذ خلاف المشروع وضد الموضوع، كيف وهي شعار الدين، وعلامة إيمان المؤمنين؟ وقد ورد في الحث عليها والزجر على تركها ما هو مشهور، ولولا خشية التطويل لذكرت شطراً من ذلك، وفيما ذكره مولانا كفاية.

وأما صلاة على عليه السلام  خلف المشائخ فلأنه لم يكن يفسقهم، ولا كانت هناك تهمة تلحقه، وكذلك صلاة المهدي خلف الهادي     عليهما السلام  بصعدة.

فأما تشنيع عبد الصمد الدامغاني فلا ينبغي الالتفات إليه، ولا الإعتماد عليه، كيف وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم  :((لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه)) ()، على أنه قد نقم عليهم في رسالته أموراً صحيحة قضت بها النصوص الصريحة، فعدها مثالب، وهي في التحقيق مناقب.

 وأما إجازة الإمام يحيى عليه السلام  للصلاة خلف المجبرة فمبني على أصله في عدم تكفيرهم وتفسيقهم، وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنكم تصلون بهم فما صلح فلكم ولهم وما فسد فعليكم دونهم)) فالمراد ما فسد لأمر فيكم لم يعلمه المؤتمون من حالكم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

هذا آخر ما سمح به الفكر الفاتر، وسنح للنظر القاصر، فإن جاء مَرْضيَّاً فبتوفيق الله تعالى، وإلهامه، وتمكينه، وإلا فمن قصور مُنشئه فيما ينتجه، والمسئول من إحسان مولانا طالت أيامه أن يتلقى ما ورد عليه من ذلك بالإغضاء، وأن ينظر إليه بعين الرضاء فقد انضم إلى قصور الحال تكاثر اشتغال البال، فنسأل الله تعالى أن يهدينا هدى الصالحين، ويذودنا عن أمور الخاطئين، حتى نكون بالصدق قائلين، وللحق قابلين، وللفوز برضاه نائلين، بمحمد الأمين وآله الأكرمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، ولا يقع غفلة عن الملاحظة بالدعاء تفضلاً وتكرماً   .

 [جواب الإمام عزالدين على جواب العلامة البكري]

ولَمَّا وقف صاحب الرسالة على هذا الجواب، القاضي بجودة معرفة منشئه، واجتماع البلاغة والبراعة وحسن الصناعة فيه، وكان منطوياً تارة على تسليم ما ذكره المبتديء وتقريره، وتارة يدفع على دفعه وتنكيره، وضع صاحب الرسالة عليه حواشي تتضمن المناقشة فيما خالف فيه، وتنطوي على تقرير ما ذكره في ذلك وينافيه، ملتزماً لمنهج الإنصاف وسالكاً فيه، كما يعلم ذلك خالقه وباريه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أمدنا به من نور الهداية، وكشفه عنا من ظلم الجهالة والغواية، ونسأله المزيد من توفيقه، والتيسير في الدين للزوم أوضح طريقة، ونصلي على نبيه الناصح للأمة، الكاشف للغمة، الآمر بتنكب مسالك المهالك، الزاجر عن الانخراط في سلك الجهل البهيم الحالك، وعلى آله مفاتيح البُهَم، ومصابيح الظلم، وسلم كثيراً.

وبعد؛ فإنه لما ورد جواب الأخ الفقيه العلامة، الشامة في أرباب المعارف والعلامة، جمال الدين، عمدة العلماء الراشدين، أمتع الله بحياته، ودفع المكروهات عن كريم ذاته.

تأملته، فوجدته شاهداً بكمال معرفته، وزيادة بسطته، وجودة بصيرته، وتوقد قريحته، وصحة عبارته وقوة بلاغته، وتيقنت أنه قد بلغ في إجابة تلك المذاكرة غاية ما يمكن المجيب، بل لا يبلغ شأوه في ذلك التصرف والترتيب، وأنه قد رزق بلاغة الإنشاء والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

ولكنه أيده الله سلك مسلك الجدال، ورام بجودة فراسته وحسن عبارته تقويم ما خرج عن حد الاعتدال، نصرة منه للسلف الأمجاد، ورغبة في صيانة ما أوردوه عن الإفساد، لا ميلاً إلى سلوك سبيل العناد، فإنه والحمد لله من أهل الهدى والرشاد، وقد انطوى جوابه في بعض المسائل على الاعتراف وتصديق المقال، وفي بعضها على الرد والإبطال، وها أنا ذا أُءَنِّبْه على ما عدل فيه الأخ أيده الله عن التسليم، وأُوَضِّح أن جميع ما أوردته أولاً عن الإبطال سليم، حسبما اقتضاه النظر، وسمحت به الفِكَر، غير قاصد لمجرد الهُراء ()، ولا جانح إلى جانب المراء، والله سبحانه المطلع على ضمائر القلوب، والمحيط بسرها المحجوب، معترفاً بالتقصير، عالماً بأن الباع() مني قصير، عارفاً بأني إلى تعمد الهفوات وستر العورات فقير، ومن الله أستمد الهداية في البداية والنهاية.

قوله: فلعل مولانا أراد بالأمة بعضهم، وبالمعتزلة أكثرهم.

اعلم: أن خلاف الأصم ومن معه -إن صحت الرواية عنهم- لا يعتد به، ولا يلتفت إليه، لندرتهم وانقطاع خلافهم، والخلاف واقع بين الأمة، وإن خرج عنه بعضهم، ثم إنه لا وجه لقصر الخلاف في كون الإمامة قطعية أو اجتهادية على القائلين بوجوبها شرعاً، فإن القائل بعدم وجوبها -أو وجوبها عقلاً- لا بد له من الحكم عليها بكونها قطعية أو ظنية، وإنما قلنا: الظاهر من مذهب المعتزلة، لأنه لا كلام في أن الظاهر عنهم ما رويناه عنهم، فلا حاجة إلى تأويل قولنا: المعتزلة، بـ: بأكثرهم، على أنا لو أضفنا القول هذا إليهم لا على جهة الظهور، بل بأن نقول: قالت المعتزلة، أو نحوه، لكان له مساغ، فقد جرت بذلك عادة العلماء والمصنفين في عباراتهم، بل قد يضاف إلى المعتزلة ما هو قول الأقل منهم.

ولما طالعت الأم التي نقلت عنها النسخة الصادرة إلى الأخ أيده الله، وجدت لفظ (بين الأمة) ساقطاً، والذي فيها: قد وقع الخلاف هل مسائل الإمامة، إلى آخره، فذلك مما سارع إليه القلم لا عن تأمل.

قوله: كما ذكرت فيه مسألة الشفاعة، ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لمثل ذلك.

يقال: أما مسألة الشفاعة فلها تعلق ظاهر بباب الوعيد، الذي هو من فن الكلام، وأما الأمر بالمعروف فالكلام فيه كالكلام في الإمامة... والذي نقلناه عن بعض متكلمي أصحابنا وأردنا به غير الفقيه قاسم شامل للبابين.

قوله: ولا عُلِمَ أن أحداً منهم قال: لا حاجة إلى إمام.

يقال: ليس عدم علمنا بذلك يدل على انتفائه، على أنا -وإن علمنا انتفاء ذلك عنهم جميعاً- فأكثر ما فيه أن يكون ذلك إجماعاً سكوتياً فعلياً، فأين يكون من إفادة القطع؟ على أنا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا هذا الدليل لم يكسبها يقيناً ولم يفدها سكوناً.

قوله: علم ذلك ضرورة من حالهم.

يقال: وكيف يعلم ذلك من حالهم ضرورة من لا يعرفهم؟ ولا يعلم أعدادهم ولا أسماءهم، ولا أعيانهم، والمعلوم أنك لو سألت أكثر الناس  -بل كلاً منهم- عن الصحابة: من هم؟ لما أخبرك إلا بالأقل منهم، فكيف يعلم ما صدر منهم ضرورة من لا يعرفهم؟ وكيف تفيد قرائن الأحوال العلم بالعقائد؟ إنما الذي تفيده قرائن الأحوال العلم بالمرادات، وأما العقائد فلا يُعَرِّف بها إلا التعبير عنها.

قوله: فسنذكر ما هو أقوى منه.

يقال: هذا كالتسليم لعدم إفادته العلم، لأن قوة الدليل بحسب إفادته للعلم وإيصاله إلى مدلوله، فإذا كان موصلاً إلى العلم فلا معنى لكون غيره أقوى منه، إنما يقال مثل هذا في الدلائل الظنية، إذ تَفَاوَتَ في إفادتها للظن، فمنها ما يحصل عنه المقارب، ومنا ما يحصل عنه الغالب، وللظن درجات تتفاوت بتفاوت قوة الأمارات لا العلم، ولا يقال: المراد بالأقوى هو الأوضح، أو الأسلم من الشغب، فمع إفادته للعلم لا يكون لغيره مزية عليه في القوة، على أنه سيتضح كون هذا الدليل أقوى أدلة هذه المسألة، وأن المدعى كونه أقوى منه أضعف منه.

قوله: فيجب أن يكون فعلهم ذلك إنما كان لأجل وجوبه.

يقال: هذا الجواب غير مقنع، وأكثر ما فيه أن هذه قرينة تفيد ظن كون فعلهم لأجل الوجوب، ومثل هذه القرينة لا بد منها في كل إجماع فعلي يستدل به على الوجوب، ولا يقتضي مثل ذلك كون الإجماعات الفعلية قطعية، ولو صح مثل هذا التكلف لأمكن دعوى القطع في كل إجماع فعلي، ولا يلتفت إلى ما ذكره مولانا المهدي قدس الله روحه من تضعيف الاعتراض والحكم بعدم وقوعه، وعدم فطانة مورده، فإن السؤالات القادحة الفادحة لا يكفي في دفعها تضعيفها وانتقاض موردها.

قوله: فهو دعوى مجردة.

يقال: بل الدعوى المجردة ما أشار إليه الفقيه  -أيده الله- من حصول العلم الضروري، بأن كل واحد من الصحابة يقول بوجوب الإمامة ونصب الإمام، وأنه لا فرق بين هذا وبين غيره من التواتريات كالعلم بأن في الدنيا مكة، كما يقضي به مفهوم كلامه حاطه الله تعالى، وإن لم يصرح بجميعه.

والمعلوم أنك لو سألت مدعي ذلك من العلماء عادت بركاتهم، عن أعيان الصحابة المدعى معرفة حالهم في ذلك، أو أعدادهم، لما وجدتهم على تحقيق في ذلك، ولا إحاطة به، دع عنك من ليس من أهل المعارف، فكيف يعرف مقالة أشخاص أو فعلهم أو عقيدتهم ضرورة، من لا يعرف أعيانهم، ولا أعدادهم، ولا أسماءهم؟

فإن قيل: ليس معرفة ذلك شرطاً، بل المقصود أنه قد تواتر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنهم فعلوا كذا وقالوا كذا.

قلنا: التواتر المفيد للعلم الضروري لا بد أن يستند إلى إدراك، وأن يبلغ نقلته عدداً لا يجوز على مثله التواطؤ على الكذب، وأن يتساوى الطرفان والوسائط في العدد المعتبر، فنقول: ما الذي نُقل عن جميع الصحابة جملة مما هو مدرك ليتعقل حصول العلم الضروري عنه، ثم نقول: أليس الذين فزعوا عقيب موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم  إلى نصب من يخلفه، واهتموا بذلك غاية الاهتمام هم المجتمعون في السقيفة؟ والمعلوم أنهم ليسوا كل المعتبرين في الاجماع، فإن صح التواتر عنهم فما الذي نقل عن غيرهم ممن غاب عنهم؟ هل سكوتهم؟ فالمرجع به إلى عدم الإنكار، وهو غير مدرك، فكيف يعلم ضرورة؟ سلمنا فلا نعلم من سكوتهم أنهم على صفة أولئك المجتمعين، علماً ضرورياً أوغير ذلك، فما هو؟

فإن قيل: كلامك هذا ينطوي على القول بتعذر حصول الإجماعات التواترية القطعية، إذ لا يمكن معرفة أعيان الأمة جميعاً، ولا أسماؤهم، ولا أعدادهم، لمن يدعي العلم بإجماعهم، وإن نقل عنهم أنهم أجمعوا جملة، وأنه تواتر ذلك عنهم، فقد شغبت فيه وشككت على من يدعيه.

قلت: إن لم يكن ذلك متعذراً فلا كلام في تعسره، وما ادعي فيه قطعية الإجماع، كإجماعهم على أن القاطع يُقدّم على المظنون ونحوه من المسائل الواضحة، فما أظن التواتر فيه حصل عن كل واحد من الأمة، بل لما كان خلافه مما لا يتصور أن يذهب إليه مميز، فضلاً عن عارف عدل، ادعي القطع به عن المعتبرين من الأمة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[نكتـة]():

الأقرب عندي أن الإجماعات المروية المدعى فيها كونها يقينية قطعية على وجوه:

منها: ما مضمونه القول بما يعلم من الدين ضرورة، كحمل الإسلام، ويُكَفَّر من خالف فيه، أو يُفَسَّق، فيصح دعوى القطع بالإجماع فيه، وكيف لا؛ ومن خالف فيه لا يعتبر إجماعه وموافقته؟ فيعلم إجماع المسلمين عليه، بحيث أن من خالف فيه لم يعتبر.

ومنها: مالا يُكَفَّر المخالف فيه ولا يُفَسَّق، ولكنه أمر واضح لا يتصور فيه مخالفة، كتقديم القطعي من الأدلة على الظني، فيقرب دعوى الإجماع فيه المقطوع به من الصحة، من حيث أنه منقول عن مشاهير العلماء متواتر عنهم، وغيرهم ممن لا نعرفه أو نقل عنه لا يتصور مخالفته، لا من حيث النقل التواتري عن واحد واحد من الأمة المعتبرين في الإجماع، فذلك متعذر.

ومنها: ما خرج عما ذكر، فالصحيح أنه ظني لا قطعي، لأن المستند فيه النقل عن الجمهور، مع عدم الاطلاع على الخلاف فيه، ومثل ذلك لا يعد قطعياً مع كون المخالفة فيه ممكنة متصورة، ومصداق هذا قول أحمد بن حنبل، وهو من أئمة النقل، وأهل العلو في الطبقة: من ادعى الإجماع فهو كاذب.

قوله: فمجرد الاستبعاد ليس بحجة.

يقال: لم نجعله حجة، ولا إلى أي المطالب محجة.

قوله: مع أن الاستبعاد إنما ثبت في غير إجماع الصحابة.

يقال: عدم الانحصار حاصل فيهم، وهو موجب الاستبعاد.

قوله: فنحن نستدل على ذلك بغيرها.

يقال: هذا اعتراف بعدم قطعية دلالة الآية الكريمة على حجية الإجماع، وهو يتضمن الاعتراف بما أشرنا إليه من بيان أن الأصحاب، مع دعوى القطع في دليل مسألة الإمامة لم يبنوها على قاطع لاستنادهم إلى الإجماع، مع استنادهم في حجية الإجماع إلى ما ليس بقاطع، وقد استندوا في الاستدلال  على القطعي إلى ما ليس بدليل قاطع، والاستدلال  بغير الآية الكريمة لا ينقض ما أردته، فإن أصحابنا لم يستدلوا بغيرها مما أوردته معتمدين عليه، بل اعتمادهم في ذلك عليها، وإنما المستند إليه الغزالي ومن تابعه.

قوله: على أن ما ذكرته من القدح في صحة الإجماع ينقض ما اعترفت به أولاً من كونه أحد الأدلة القاطعة.

يقال: ما ذكرته من كون ما أوردته من القدح في صحة الإجماع ينقض ما اعترفت به أولاً من كونه أحد الأدلة القطعية غير مُسَلَّم، بل ما ذكرته خلي عن التناقض، لا تدافع فيه ولا تعارض، لأني لم أقدح في صحة الإجماع، وإنما قدحت في قطعية دليل من أدلته، والقدح في حجية دليل من أدلته لا يقضي بعدم صحة سائر أدلته، ولا بأني أقول بعدم حجيته، ولو قضى بذلك ما قلته، من كون محققي العلماء قضوا بظنية دلالة تلك الآية الكريمة على كون الإجماع حجة -وهو صدق لا محالة- لقضى بذلك عنك ما صرحت به من تسليم ذلك، على أني لو ذهبت مثلاً إلى ظنية جميع أدلة الإجماع لم يكن ذلك ناقضاً لما قدمته من عَده أحد الأدلة لاحتمال كوني عددته منها على قاعدة أكثر العلماء، وهي أيضاً قاعدة أصحابنا، ونحن بنينا الكلام فيما ناقشناهم فيه على قواعدهم، وجاريناهم على أصولهم.

قوله: ويمكن الجواب عنه بما ذكره الإمام المهدي... إلى آخره.

يقال: لا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف والتعسف، والقول بأن ذلك من الواجبات الموسعة لم يوجب المصير إليه والتعويل عليه إلا ضيق الخناق وعظم موقع السؤال الوارد ووضوح قدحه، وكذلك جعل وقته الموسع جميع وقت كل أهل عصر حتى ينقرض آخرهم، وأما الاستدلال  على ذلك بتباين الأقطار، وعدم إمكان الإحاطة بفضلائها عقب موت الإمام الأول، ففيه تصريح بوجوب الإحاطة بفضلاء جميع الأقطار، ومعرفة الأفضل منهم، وهذا مما لم يعمل به أحد، والصحيح خلافه، وهو يقرب من تكليف المحال، ولو كان شرطاً لبطلت إمامة أكثر الأئمة، فإنه لم يعلم في أحد منهم أنه لا أفضل منه في وقته في شيء من الأقطار، ويظهر ذلك ظهوراً بيِّناً في حق الأئمة الداعين باليمن، فإنا نعلم أنه لم يتقدم نصب أحد منهم البحث في الشام والعراق والمغرب، وسائر البلدان، حتى حصل العلم بعدم الأفضل، على أن أدلة وجوب نصب الإمام، من فزع الصحابة عقيب موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وقبل مواراته، وما يتوقف من الأحكام الواجبة على الإمام كاشتراطه في الجهاد، يقضي بالتضيق، ويدل عليه كما يدل على أصل الوجوب، وعلى عدم التوسيع مدة مديدة، قدر مائة وخمسين سنة تتعطل فيها الحدود، وتنتكس فيها أعلام الجهاد، ويشتد عضد الكفر والعناد، فافهم.

قوله: قد قام الدليل القاطع على وجوب النصب على الأمة.

 يقال: هذا نفس المتنازع فيه، الذي لا تقع المساعدة إليه، ولا التقرير عليه، ومثل هذا يعد مصادرة على المطلوب فلا يقع التسليم لديه.

قوله: وهو أشف الأدلة وأقواها.

يقال: مع اتضاح عدم قطعيته وابتنائه على ما هو ظني محض وبتبينه تظهر ظنية ما عداه من الأدلة، لأن ظنية الأقوى مستلزمة لظنية المفضول في القوة استلزاماً بيناً، على أنه سيتضح لك ما قدمناه من كون الدليل الأول أشفَّ الأدلة وأقواها، بما نحققه من كون هذا الدليل أضعفها وأوهاها.

قوله: وهو أن الإمام شرط في القيام بالجهاد.

يقال: إن أردت أن الشارع جعله شرطاً، ففي ذلك اعتراف بعدم وجوب نصبه، لأن تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب، وإن أردت أن الأمر ورد مطلقاً، وأنَّا نقطع بتوقفه على نصب الإمام، فدعوى القطع في هذا الأصل غير مسلمة، فإن وجوب الجهاد الذي أوجبت لأجله نصب الإمام من الواجبات الشرعية التي لا مجال للعقل فيها، بل ربما أن العقل كان يقضي بقبحه لو لم يرد الشرع به، فأي الأدلة الشرعية القطعية من كتاب صريح، أو سنة أو إجماع متواترين، أو قياس قطعي يعلم حكم أصله، ووجود العلة فيه وعليتها، ووجودها في الفرع علماً يقينياً دل على ذلك؟ ومن أي هذه الأنواع دليلك هذا الذي أوردته على أن الإمام شرط في غزو الكفار والبغاة أو مدافعتهم؟ مع أن هذه المسألة ظنية اختلفت فيها أنظار الأئمة والفقهاء، وإنما اختلفت المقالات لاختلاف الأمارات، أما المدافعة فلا أعلم قائلاً باشتراط الإمام فيها، وأما اشتراطه في الغزو فأكثر الأمة وبعض العترة على اشتراطه، ونسب عدم اشتراطه في (البحر) إلى المؤيد والإمام يحيى والفريقين، واحتج عليه بما لا مدفع له، وصرح بجواز الغزو مع الظلمة، وكذلك حكى ذلك غيره.

قال في شرح الإبانة(): لا خلاف في جواز ذلك إلا عن الهادي، وإنما الخلاف في الوجوب، فيظهر لك أن من جعل الإمام شرطاً إنما اشترطه في أصل الوجوب لا في تأدية أمر قد وجب، وتحصيل شرط الوجوب لا يجب.

فأما قوله: والذي يدل على ذلك أنَّا نعلم ضرورة من جهة العادة.. إلى آخره،  فهو لا يدل على وجوب نصب إمام جامع للشرائط، وعدم دلالته على ذلك ظاهر، وإنما هو من قبيل الصناعة في الكلام، وإبرازه في قالب الإنتظام، حتى يخيل إلى سامعه أنه في قوة المعنى متناهي، وهو في الحقيقة ضعيف واهي.

قوله: وقد أوردنا في دفعها ما يشفي ويكفي.

يقال: ليست الدعاوي في إثبات المقاصد كافية، ولا للسؤالات القادحة الفادحة نافية.

قوله: إذ لم يهملوا ذلك.

يقال: بل إهمالهم أو أكثرهم، وعدم اهتمامهم به ظاهر، ومن أورده منهم أو تعرض له فبما لا يشفي على سبيل العروض لا القصد، هذا فيما اطلعت عليه من الكتب المعتمدة والأسفار المتداولة، وأهلها هم الذين أردنا بنسبة الإهمال لا غيرهم ممن لم نطلع على مصنفاته، ولا وقفنا على حججه وأماراته، وما لم نعلمه ولا نطلع عليه أكثر مما علمناه وطالعناه، والعلم علم الله جل جلاله.

قوله: قد أوردوا من الأدلة على ذلك مالا يخفى.

يقال: هذا الذي نقله الأخ أيده الله تعالى من استدلالهم على هذه الفروع... إلى أن قال: فلا حاجة إلى تطويل الكلام ببيانه. مما لا يخفى على من له أدنى ذوق أنه من الأمارات الظنية، لا الدلائل اليقينية، وإنما تلك ظواهر وأخبار آحادية ودعاوى مجردة عن إيراد البينة القوية، كدعوى الإجماع على وجوب معرفة شرائط الإمام.

سبحان الله ما أسهل الاستدلال  بالإجماعات إذا كان الأمر هكذا!!!

قوله: وإنما أقدموا عليه من الاعتقاد.. إلى قوله: كان عن دليل.

يقال: الحمل على ذلك إنما يكون مع الاحتمال وعدم الجزم بأحد الطرفين، فأما مع القطع الذي لا شك فيه فلا، ونحن نعلم ضرورة من حال العوام عدم معرفة ماهية الإمامة ومعناها فضلاً عن أحكامها وتحقيقها، وفهم دقائق مسائلها، بل قد علمنا من حال كثير من المميزين الحذاق المهرة في بعض العلوم عدم معرفة ذلك والإحاطة بشيء منه، فكيف بالعوام أشباه الأنعام الذين لا يميزون بين الخاص والعام، ولا يفرقون بين المأموم والإمام؟!

لقد حكى لي ثقة أن بعض ولاة بعض الدعاة في زماننا كثر تردده إلى بعض الجهات لقبض الواجبات، وهو كثير الدعاء إلى إمامه، والحث على محبته، واعتقاد إمامته وفضله وبركته، وتسليم الحقوق إليه، وكثير الترغيب في ذلك، حتى أنه بذلك شوق إلى نصر إمامه والتماس البركة منه، فما شعر أهل تلك الجهة حتى وصلهم ذلك الوالي ومعه عبد من الحاكة، عليه ثوب شديد البياض، فظن من ظن من أهل تلك الجهة أن العبد المذكور هو الإمام، وسألوا الوالي عنه، وقال قائلهم: أهذا الإمام الذي تذكره وتدعو إليه؟ ولو جنحت إلى شرح ما يصدر عن العامة في هذا الشأن وغيره مما يعلم به حمقهم وبلههم، ومما يلحق بحكايا المغفلين، لطال الكلام، والأمر في ذلك واضح غني عن الاستشهاد، فكيف يمكن حمل من هذه صفته على ما ذكره الأخ أيده الله؟

قوله: فذلك حمل منه لهم على غير ما ينبغي.

يقال: إن كان المراد على غير ما ينبغي أن يكونوا عليه، فنعم هو كذلك على قاعدة الأصحاب، واللائمة في ذلك على المقدمين لا عن نظر ودليل، وإن كان المراد على غير ما ينبغي منه حملهم عليه، فذلك إنما يتوجه لو كان ذلك الحمل من قبيل الظن المنهي عنه، وأما اليقين المستبين فلا لائمة على من أظهره وصرَّح به.

قوله: لا يلزم فيما علمه شخص أن يعلمه آخر.

يقال: الأئمة  عليهم السلام  أهل التنوير والتحديث، وهم أجل من أن يجهلوا حال أهل زمانهم المخالطين لهم مع ظهوره وعدم خفائه، وليس دونهم في الفراسة وقوة الحدس يجهل أن العوام يجهلون دقائق المسائل التي تدق عن نظر النحارير، حتى وقع الاختلاف والخبط الكثير.

قوله: لسنا نسلم أن تسليم العامة الحقوق إلى الأئمة صدر عن تقليد.

يقال: نحن مع معرفة ذلك والقطع به لا نحتاج إلى تسليم، وهو مما لا يعزب عن ذهن ذي الفكر والنظر السليم، والأخ أيده الله تعالى لا يجهل ذلك، ولكنه بنى هذا وأمثاله على أساس علم الجدل وقاعدته، ونسجه على منواله وأبرزه في حلته.

قوله: لكن الواجب حمل المفسقين على السلامة.

قد تقدم ما هو كالجواب عنه، من عدم إمكان الحمل بالقطع على خلافه.

قوله: بل ذلك مظنون.

يقال: الفرق بين العلم والظن ظاهر لا يخفى على من له دراية، وقد وجدنا من أنفسنا العلم الذي لا لبس فيه بما ذكرناه، ولا معنى للرد علينا فيما ادعيناه، فكلٌ أعلم بحال نفسه.

قوله: محمول على أنه اقترن به تلقين الدليل أيضاً.

يقال: قد باحثنا كثيراً من المتلقنين والملقنين، فوجدناهم جميعاً عادمين لتلقي الدليل والتلقين.

قوله: ثم يحمل المأمور على أنه لا يعتقده إلا لدليل.

يقال: كيف يحل منه أمر غيره بالإقدام على مالا يؤمن كونه خطأ، وهو قبيح، والأمر بالقبيح قبيح، ولا معنى لهذا الحمل، لأنه لا يتصور إلا مع كون المأمور مظنة لذلك، بأن يكون عارفاً أن مثل ذلك، يتوقف على معرفة الدليل القاطع به، مع كونه ممن له أهلية النظر، فأما مع كون ذلك في حكم المستحيل منه، فلا معنى لذلك الحمل، ثم نقول: هلاَّ لَقنَّه مع تلقين التفسيق أن ذلك لا يسوغ إلا بعد معرفة الدليل، إن كان القصد إرشاده سواء السبيل؟ ومثل ذلك لم نسمع به عن أحد من الملقنين، ولا أظنه خطر لهم ببال.

قوله: وليس لمن لم يقطع بالفسق أن يعتقد في المفسِّق أنه صدر عنه التفسيق لا عن دليل.

يقال: ولِمْ لا يكون له ذلك بعد النظر في أدلة المفسق التي أوردها واستند اعتقاده إليها، فإن قطعية الدليل وعدمها مما يمكن معرفته، ولا يتعذر الجزم به، بل لمن نظر وأمعن الفكر في أنواع الأدلة وأقسامها، وما يمكن الاستدلال  به دلالة قاطعة منها فلم يجد دليلاً، أن يقطع بعدم حصول القاطع، فإن القرآن -أعني ما يدل من آياته دلالة قاطعة متلوة مقروءة- والأخبار المتواترة، والإجماع المتواتر -إن صح ممالا اختصاص به لأحد دون غيره من أهل البحث والمعرفة- والقياس، متعذر في مسألتنا أو متعسر، ولو أمكن لم يختص بمعرفة بعض دون بعض، وإنما يجوز اطلاع بعض دون بعض على الحجة في الأدلة الظنية التي لا حكم لها في مسألتنا.

قوله: لا ينهض حجة في مثل هذا المقال.

يقال: أردنا بذلك الاستظهار بأحوال السلف، وردع المفسّقين المستندين في تفسيقهم إلى فتوى من ليس كمثلهم في الرتبة، وبيان أن هذه العقيدة المستفيضة من الأمور المستبعدة المستحدثة:

وخيـر أمـور الناس ما كـان سنة

 

وشـر الأمـور الـمحدثات البدائـع

 

 قوله: وأعجب من هذا اسشهاده بما حكاه عن المؤيد بالله قدس الله روحه!!

يقال: مثل المؤيد قدس الله روحه يستشهد بأقواله، ويستظهر بأحواله، وليس ذلك بمستغرب، وإن كان -قدس الله روحه- على ما حكاه الأخ أبقاه الله تعالى من العقيدة.

قوله: هو ما يلحق المؤتم منهما من التهمة.

يقال: لحوق التهمة إنما يكون مع عدم صحة الصلاة خلف المخالف في العقيدة، فإذا صلى المؤتم خلفه أتهم بموافقته، ويكون سبب التهمة أنه لو كان مخالفاً له في العقيدة لما صلى خلفه، لعدم صحة الصلاة خلف المخالف، فيحصل الظن بأنه لو كان مخالفاً له لم يصل خلفه، فإذا جعلت التهمة سبباً في منع الصلاة، وقع الدور لتوقف كل من لحوق التهمة، وامتناع الصلاة على صاحبه.

فإن قيل: إن سبب لحوق التهمة ما ذكرناه من كون الغالب من حال المختلفين في مسألة الإمامة ما ذكر من المباينة والمجانبة، لا ما ذكرته من امتناع الصلاة خلفه، فهي في الأصل صحيحة، لولا لحوق التهمة.

قلنا: المجانبة لا تقتضي اعتزال الصلاة مع اعتقاد صحتها وإحراز فضيلتها، ولا يفعل ذلك  -وهو جعل صلاته تابعاً لهواه معتبراً فيها غير مطابقة رضاء الله- إلا من هو عن الخير بمعزل، وكيف يليق بمميز -فضلاً عن فاضل- أن يجعل صلاته وصلة إلى محاباة وليه بفعلها، أو إيغار صدر عدوه بتركها مؤتماً به، سبحان الله ما أبعد هذا عن مقصود المحققين!! فكيف يظن في المسلم المميز أنه لو كان مخالفاً للإمام المخطيء في عقيدته لما صلى خلفه، ولترك صلاة الجماعة لا لمانع، بل لما اعتاده الجهلة من ذلك؟! هذه تهمة تتفرع على ظن السوء فيه، وقد بلغني عن بعض علماء زماننا المتشددين في منع الصلاة خلف نافي الإمامة أن الغرض من ذلك تشنيع حال النافي وتقبيحه، وإيغار صدره وتعظيم جرمه، وتفظيع شأن النفي في قلوب العامة، ليكون ذلك مرغباً في جانب الإثبات، ومنفراً عن جنبة النفي!!.

ولعمري أن هذا من الغرور العظيم المصادم لنظر الشارع الحكيم، ولو كان مثل هذا الغرض مقصوداً لَنبَّهَ الشرع الشريف عليه، ولأومى العليم الخبير ورسوله السراج المنير إليه، وما أبعد هذا عما ذكره المؤيد بالله قدس الله روحه، وهو مذكور عنه في (الإفادة)،  لما كتب إليه بعض أصحابه يلومه على تسويغ صرف الزكاة إلى نافي إمامته، ويشير إلى أن في ذلك توهيناً لأمره وتسهيلاً لاطراحه وهجره، فأجاب أعاد الله من بركاته بالتشنيع الكبير على صاحبه، وعرفه بأنه لا يترك مذهبه لما يعود عليه من النفع، واستهجن مثل ذلك النظر ووبَّخَ صاحبه عليه، ومن أراد مطالعته، فهو مثبت في حواشي هذه النسخة، مع أن بين المسألتين فرقاً، فإنَّ صرف الزكاة إلى غير نافي إمامة الإمام لا تفوت به فضيلة، بل هو أفضل، وأما ترك الجماعة لكون إمامها نافياً، فترك للفضيلة، ويقرب اعتقاد لزومه من مخالفة الإجماع.

قوله: ذو جرأة في دينه.

يقال: وجه الاحتجاج صحيح في حق ذي الجرأة على فعل القبيح، ولكنه يدل بمفهومه دلالة بينة على أن نافي إمامة الإمام متثبتاً في أمر دينه لا تمتنع الصلاة خلفه لعدم جرأته بل لكونه على ضدها، وإن فرضنا كون ذلك فسق تأويل، لعدم حصول علة النهي، وأما قياسه على فاسق الجوارح، فلا يصح لعدم العلة المنبه عليها، وهي الجرأة، والله أعلم.

قوله: فمبني على أصله في عدم تكفيرهم وتفسيقهم.

وفي هذا نظر، لأن الإمام يحيى عليه السلام  ذكر ذلك على أصل أهل المذهب في تكفيرهم، ونص على صحة الصلاة خلفهم عند المكفرين، وأفتى بذلك على قاعدتهم، والمسألة منصوصة له في (البحر) وأما على أصله فهو مستغن عن ذكر ذلك، والله سبحانه أعلم بالصواب، وهو حسبنا وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

 

يقول العبد الأذل، الفقير إلى الله عز وجل عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين، علي بن المؤيد حامداً لله رب العالمين ومصلياً على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله الطاهرين:

هذه أوراق تنطبق على بعض مما أنشأته من الرسائل في شيء من المسائل، ومن الجوابات على ما ورد علي من السؤالات، بعد أن صار الضائع من ذلك الكثير الواسع، إذ لم يخطر لي جمع ما ألقيته من ذلك ببال، [بسبب] قلة التفات إلى هذا المعنى، وكثرة اشتغال، حتى نظرت إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  من الأثر المستطاب: ((قيدوا العلم بالكتاب)) ()، ورجوت أن ينتفع بما أمليته من وقف عليه، فنظر بعين الإنصاف إليه، وخفت أن يكون الإغفال لذلك والإهمال، من قبيل إبطال الأعمال، فتلافيت ما ألفيت من الماضي وهو الأقل، وبنيت على إلحاق ما يعرض من ذلك في المستقبل، سائلاً من الله المسامحة في الخطأ والغفران، ومن الواقفين عليه من الإخوان ستر هفوة القلم واللسان، وتقويم ما يفتقر إلى التقويم عقيب النظر الصحيح والفكر السليم، وكان الشروع في ذلك والالتفات إليه في أوائل سنة ثماني وسبعين وثمانمائة.






تعقيب العلامة علي بن محمد البكري

على تعليق

الإمام عزالدين على جوابه


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بحمدك اللهم استفتح مقالي، وباستعانتك استنجز أفعالي، ويتوفيقك ألتمس الإصابة في المقال، وبعصمتك أعوذ من ركوب الضلال، وأتقرب إليك بالصلاة على سيدنا محمد الرضى، وآله وأتباعه في السبيل المرتضى.

وبعد:

فإنه لما وردت رسالة مولانا العلامة الشاهدة له بكونه في العلماء الشامة، وفي السيوف الصمصامة، عز الملة والدين، وترجمان الأدلة واليقين، نفع الله تعالى ببركته، كما نفع بعلومه، وحرس ذاته الكريمة حراسة سمائه بنجومه، أجبتها بما حضرني من الجواب، من غير إخلال ولا إسهاب، بعد أن طالعتها واستقرأت مسائلها، رغبة في طلب الحق الواضح، ومسارعة إلى الظفر بالدليل الراجح، مع عزيمة صارمة باتباعها إن وجدت عندها الصواب، واطراح التعصب لمذهب الأصحاب، وسلوك مسلك المسترشدين المنقادين لما وضح انتهاجه، الخارجين عن المسلك البين اعوجاجه، لا كما حملني مولانا أيده الله تعالى عليه من أني سلكت في بعض مواضع الجواب مسلك الجدال، ورمت بجودة الفراسة وحسن العبارة تقويم ما خرج عن حد الاعتدال، فإن الله تعالى هو المطلع على سرائر الصدور، وبيده سبحانه تعالى أزمة الأمور.

ثم إنه بعد ذلك ورد من تلقاء مولانا أيده الله تعالى من التشكيكات على تلك الجوابات ما يشهد له بأنه كُسْعِي() المناضلة، عنتري المنازلة، سابق في ميدان الجولان، آخذ لقصب السبق عند الرهان، ولم أكن أحسب أن أحداً يبلغ ذلك الأمد من التحقيق، أو يسلك ذلك النمط في التدقيق، أو يتمكن ذلك التمكن في صناعة الإنشاء، ولكن الله تعالى يختص برحمته من يشاء، فما أحقه بقول من قال:

فـاق الـرجال بأخـلاق مهذبة

 

وفـات مـن كان جـاراه وبـاراه

 ولعمري أن كلامه ليشفي السقيم، وإن الزمان بمثله لعقيم، خلا أنه -أيده الله تعالى- سلك في تلك التشكيكات المسلك الذي عزا إلينا انتهاجه، وجرى في ذلك المجرى مع ظهور اعوجاجه، وها أنا ذا كاشف عن وجه ما ذكرته القناع، معترفاً بأني في ذلك قصير الباع، مستمداً من الله سبحانه وتعالى التوفيق، والهداية إلى أوضح طريق، بمنه ورحمته، فأقول متتبعاً لما أورده أيده الله تعالى:

قوله: اعلم أن خلاف الأصم ومن معه إن صحت الراوية عنهم لا يعتد به ولا يلتفت إليه لندرتهم وانقطاع خلافهم.

قلنا: لا وجه للتقييد بقوله: إن صحت الرواية. لأنها ظاهرة الشهرة عنهم، وقد رواها الإمام المهدي عليه السلام  في (غايات الأفكار)، والفخر الرازي في (نهاية العقول)، والفقيه قاسم في (الغرر والحجول)()، والفقيه يوسف في (الزهور)()، ورواها غير هؤلاء أيضاً، وليست في الشهرة بأضعف من كثير من الروايات التي لا ينبغي إهمالها، وكذلك ما ذكره من ندرتهم غير مسلم، فإن المخالف في ذلك أبو بكر الأصم من المعتزلة، وهشام الفوطي، وبعض الحشوية، والنجدات من الخوارج، وبعض المرجئة، ولا شك في عدم ندور مثل هؤلاء، وأما انقطاع خلافهم فهو رجم بالغيب لعدم الطريق إلى ذلك، إذ يجوز وجود متابع لهم في بعض النواحي ولم يطلع عليه.

قوله: والخلاف واقع بين الأمة وإن خرج عنه بعضهم.

قلنا: نعم ولكن عبارته مشعرة بعدم الخروج.

قوله: ثم إنه لا وجه لقصر الخلاف في كون الإمامة قطعية أو اجتهادية على القائلين بوجوبها شرعاً، فإن القائل بعدم وجوبها أو وجوبها عقلاً لا بد له من الحكم عليها، بكونها قطعية أو ظنية.

قلنا: أما من قال بوجوبها عقلاً فنعم لا بد له من أحد الأمرين، وقصر الخلاف في ذلك على القائلين بوجوب الإمامة شرعاً، صحيح لا خلل فيه ولا مجاز، وإنما قصرنا الخلاف عليهم لتمام المقصود الذي سيق له الكلام بذلك، وأما من لم يقل بوجوبها رأساً فلا نسلم أنه يقول بأحد الأمرين، لأنه يتفرع على القول بالوجوب.

قوله: لأنه لا كلام في أن الظاهر عنهم ما رويناه عنهم، فلا حاجة إلى تأويل قولنا: المعتزلة بأكثرهم.

قلنا: لا نسلم ظهور ذلك عن جميعهم، فإن الإمام المهدي عليه السلام  وغيره حكوا خلافه عن بعض المعتزلة، وذلك يرفع ظهوره عن جميعهم.

قوله: على أنا لو أضفنا القول هذا إليهم على جهة الظهور، بل بأن نقول: قالت المعتزلة أو نحوه لكان له مساغ.

قلنا: نعم له مساغ، على جهة المجاز، ولم نمنع من ذلك، فإنه دأب العلماء والمنصفين وعادتهم في عباراتهم، بل إنما منعنا أن يراد به ظاهره، وحملنا مولانا في الجواب على أنه أراد به المعنى الصحيح، فما وجه هذا الكلام؟!

قوله: ولما طالعت الأم إلى قوله: فذلك مما سارع إليه القلم، لا عن تأمل.

قلنا: ما وقع في الأم هو اللائق بفطنة مولانا وذكائه، وكثيراً ما تسارع أقلام العلماء الراسخين إلى غير المراد، وتبادر إلى غير المقصد والسداد، ولعمري أن المبالغة في المناقشة عن أمثال هذا ليست من دأب المخلصين، لكن تعرض له مولانا أيده الله، فتبعناه.

قوله: أما مسألة الشفاعة فلها تعلق ظاهر بباب الوعيد.

قلنا: إذا حسن ذكر الشفاعة في فن الكلام لذلك التعلق، مع كون الطريق إلى ثبوتها شرعية، فلا بأس بذكر مسألة الإمامة، ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه أيضاً، وجه آخر: وهو أنهما مما يجب العلم بهما على المكلف، وإن تفاوت التعلقان.

قوله: ليس عدم علمنا بذلك يدل على انتفائه.

قلنا: بل يدل إذا كان المعلوم من الأمور التي لو وقعت لنقلت، لتوفر الداعي إلى نقلها، ومسألتنا من هذا القبيل، على أنا لم نكتف في بيان ذلك بمجرد انتفاء العلم به، بل ضممنا إليه قولنا: بل أجمعوا علىمثل ما ذكر أبو بكر أنه لا بد من قائم تلجأ الأمة إليه... إلى آخره.

ومما اشتهر في صفة ذلك ما روي أنه لما توفى صلى الله عليه وآله وسلم  كان أول من خطب أبو بكر رضي الله عنه، فقال: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت، لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به، فانظروا أو هاتوا آراءكم، رحمكم الله تعالى. فتبادروا من كل جانب: صدقت، ولكننا ننظر في هذا الأمر، ولم يقل أحد منهم أنه لا حاجة إلى الإمامة، ثم أبكروا إلى سقيفة بني ساعدة، وتركوا أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،  ورأوا نصب الإمام أهم من ذلك.

نعم؛ وبهذا اندفع قوله: فأكثر ما فيه أن يكون إجماعاً سكوتياً.

قوله: على أنا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا هذا الدليل لم يكسبها يقيناً ولم يفدها سكوناً.

قلنا: لعل المانع من إفادة هذا الدليل اليقين لتلك الأنفس هو ما سبق إليها من اعتقاد خلاف مقتضاه.

قوله: يعلم ذلك من حالهم ضرورة من لا يعرفهم، ولا يعلم أعدادهم ولا أسماءهم ولا أعيانهم.

قلنا: أما العلم بأعدادهم وأسمائهم فلا شك أنه غير معتبر في العلم بأحوالهم مطلقاً، وأما العلم بأعيانهم فإنما يعتبر في حق الناقلين عنهم المشاهدين لهم فقط، فإذا علموا أعيانهم وسمعوا أقوالهم وشاهدوا القرائن الظاهرة المحتفة بها، وكان فيهم كثرة، ثم نقلوا ذلك إلى غيرهم بأن قالوا للذين بعدهم مثلاً: إنا سمعنا كل واحد من الصحابة يقول كذا، وشاهدنا حينئذ من القرائن كيت وكيت، فإنه حينئذ محصل العلم الضروري للمنقول إليهم بأحوال المنقول عنهم بلا ريب، وإن لم يعلموا ما ذكره مولانا أيده الله تعالى.

على أنا نعارض مولانا حفظه الله تعالى، فنقول: ألسنا نعلم ضرورة من حال الصحابة القول بأنه لا إله إلا الله واعتقاد ذلك، فلا بد من (بلى) فيقال: كيف يعلم ذلك من حالهم ضرورة من لا يعرفهم ولا يعرف أعدادهم ولا أسماءهم ولا أعيانهم؟! وجوابه جوابنا في هذا عليهم.

قوله: وكيف تفيد قرائن الأحوال العلم بالعقائد... إلى آخره.

قلنا: وأي مانع من ذلك، فإنه معلوم الصحة من غير تردد، ألا ترى أن أحدنا إذا جادل على تصحيح أمر وعلمنا من شاهد حاله أنة غير مروي في ذلك، فإنا نعلم أنه معتقد لذلك الأمر بلا شك، وأما الفرق بين المرادات والعقائد في ذلك فهو غير واضح ولا وجه له.

قوله: لأن قوة الدليل بحسب إفادته للعلم وإيصاله إلى مدلوله، فإذا كان موصلاً إلى العلم فلا معنى لكون غيره أقوى منه.

قلنا: بل له معنى وهو سرعة إيصال الأقوى لا العلم، لقرب مقدماته وسلامته من التشغيب، وبذلك تظهر المزية لأحد الدليلين على الآخر، وإن اشتركا في كونهما موصلين إلى العلم، وقد جرت بمثل ما ذكرناه عادة العلماء والمصنفين في كتبهم، فلا وجه لإنكاره.

قوله: على أنه سيتضح كون هذا الدليل أقوى أدلة هذه المسألة، وأن المدعى كونه أقوى منه أضعف منه.

قلنا: وسيتضح أن الأمر كما ادعينا، وأن الحق ما قلنا.

قوله: نكتة الأقرب عندي أن الإجماعات المروية المدعى فيها كونها يقينية على وجوه… إلى آخره.

قلنا: هذا التفصيل مبني على استبعاد وقوع الإجماع، وعلى منعه، كما ذكره الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ونحن وإن سلمنا بعده فإنما يكون في غير إجماع الصحابة رضي الله عنهم بعد انتشار أمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، والدعوى في مسألتنا إنما هو إجماع الصحابة، فلا يقدح ذلك الاستبعاد فيما قلناه، ولا يمنعنا مما رمناه، وما ذكره مولانا أيده الله تعالى من عدم انحصار الصحابة أيضاً غير مسلم.

قوله: وأكثر ما فيه أن هذه قرينة يعتبر ظن كون فعله لأجل الوجوب.

قلنا: ليست بقرينة بل برهان قطعي، وتقريره أن كل عاقل يعلم ضرورة أن نصب الإمام بعد موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  يرفع شأن الإسلام ويعلي مناره، والإخلال به يقتضي هدمه وزوال قراره، والمعلوم الذي لا يلتبس من حال الصحابة أن كل ما كان كذلك فإنهم يهتمون بشأنه ويفعلونه لأجل أنه كذلك، إذ هم أشد الناس عناية بأمر الإسلام وتقوية أركانه، وهاتان المقدمتان تنتجان أن الصحابة نصبوا الإمام لأجل أن يرفع أمر الإسلام ويعلي مناره، وأن الإخلال به يقتضي عكس ذلك.

ثم نركب قياساً آخر فنقول: قد ثبت أن الصحابة نصبوا الإمام لأجل أن يرفع أمر الإسلام ويعلي مناره، وأن الإخلال به على العكس من ذلك، وكل ما فعل لتلك الصفة فقد فعل لأجل الوجوب، ينتج أن الصحابة نصبوا الإمام لأجل الوجوب، وهو المطلوب، أما المقدمة الأولى فظاهرة مما تقدم، لأنها نتيجة القياس الأول، وأما الثانية فإن الوجوب لازم لتلك الصفة.

فإن قلت: غاية ما يقتضي هذا الاستدلال  وجوب نصب الإمام على الصحابة فقط بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لوجود العلة التي ذكرتم في ذلك الزمان، لقرب عهدٍ بالكفر، فمن أين أنه يجب نصبه بعد ذلك الزمان، وهو وقت استقرار الإسلام وانتشاره في الأقطار؟

قلت: هذا سؤال حسن، ولكن الجواب عنه بأن يقال: لا شك أن بقاء الأمة فوضى لا أمير لهم ينظم أمرهم، ويجمع كلمتهم، ويتفرغ لسد الثغور، وإصلاح ما أفسده الجهال، وارتكبه أهل الضلال يقتضي الوهن في الإسلام في أي وقت كان، وإن كان في صدر الإسلام أظهر.

قوله: ومثل هذه القرينة لا بد منها في كل إجماع فعلي.. إلى آخره.

قلنا: لا يسلم ذلك، فليس كل حكم واجب أجمعت الأمة على فعله يقتضي الإخلال به خفض منار الإسلام، كما قلنا في نصب الإمام.

قوله: ولا يلتفت إلى ما ذكره مولانا المهدي قدس الله روحه من تضعيف الاعتراض... إلى آخره.

قلنا: بل يتوجه الالتفات إليه، انقياداً لما قام به البرهان، واتباعاً لما أوضحه عليه السلام  من البيان.

قوله: فإن السؤالات القادحة لا يكفي في دفعها تضعيفها وانتقاص موردها.

قلنا: لم يعتمد عليه السلام  على ذلك بل اعتمد في ذلك على ما حكيناه عنه وقررناه، بما لا مزيد عليه.

قوله: بل الدعوى المجردة ما أشار إليه الفقيه أيده الله تعالى من حصول العلم الضروري، بأن كل واحد من الصحابة يقول بوجوب الإمامة ونصب الإمام، وأنه لا فرق بين هذا وبين غيره من المتواترات كالعلم بأن في الدنيا مكة، كما يقضي به مفهوم كلامه حاطه الله تعالى، وإن لم يصرح بجميعه.

قلنا: أما العلم الضروري بأن كل واحد من الصحابة يقول بوجوب الإمامة، فقد صرحنا به وادعيناه وقرنَّاه بالتصحيح وأوضحنا أنه الحق الصريح، فلا يصح القول بأن ذلك منا دعوى مجردة، كما قاله مولانا، لكنه -حاطه الله تعالى- قابلنا بمثل قولنا، وكال لنا بمثل كيلنا، وأما أنه لا فرق بين هذا وبين غيره من المتواترات فإن أراد أنا قلنا بعدم التفرقة بينهما في مجرد حصول العلم فصحيح، فما يمنع منه؟! وإن أراد أنا سوينا بينهما في الجلاء والظهور، فحاشا وكلا، وليس في كلامنا ما يشعر به قط، بل عندنا أن العلوم التواترية تتفاوت، فبعضها أجلى من بعض، بحسب قوة طرقها وضعفها.

قوله: والمعلوم أنك لو سألت مدعي ذلك من العلماء عن أعيان الصحابة المدعى معرفة حالهم في ذلك وأعدادهم لما وجدتهم على تحقيق في ذلك.

قلنا: تقدم ما هو جواب عن هذا مفصلاً.

قوله: التواتر المفيد للعلم الضروري لا بد أن يستند إلى إدراك.. . إلى آخره.

قلنا: شروط التواتر -وإن تعددت- فإن حصول العلم بمخبر الخبر غير واقف على العلم بتكاملها، بل حصول العلم عند الخبر يكشف عن تكاملها، إنما يلزم ذلك عند الشيخ أبي الحسين() ومن تابعه، لقولهم: إن العلم التواتري كسبي لا ضروري، لأن الكسبي لا يحصل إلا بعد تيقن مقدماته.

قوله: ما الذي نقل عن جميع الصحابة جملة مما هو مدرك ليتعقل حصول العلم؟

قلنا: نقل عنهم أقوال وأفعال شاهدة بأنهم يعتقدون وجوب النصب.

قوله: أو غير ذلك، فما هو؟

قلنا: أقوال شاهدة باعتقادهم لوجوب الفزع وإنكارهم لصلاحية المفزوع إليه.

قوله: فإن أصحابنا لم يستدلوا بغيرها مما أوردته معتمدين عليه.

قلنا: بل اعتمدوا على ذلك في أكثر مواردهم ومصادرهم، وإسناده إلى الغزالي لا يقتضي استبداده به وعدم اعتمادهم عليه أيضاً.

قوله: إني لم أقدح في صحة الإجماع، وإنما قدحت في قطعية دليل من أدلته.

قلنا: سياق كلامك يقضي بما ذكرناه، فإذا أنكرته واعترفت بصحة الإجماع، مرحباً بالوفاق.

قوله: لاحتمال كوني عددته منها على قاعدة أكثر العلماء.

قلنا: القدح بالسؤالات إنما يتوجه على ظاهر العبارات، والنقوض لا تندفع بالاحتمالات.

قوله: والقول بأن ذلك من الواجبات الموسعة لم يوجب المصير إليه والتعويل عليه، إلا ضيق الخناق وعظم موقع السؤال الوارد ووضوح قدحه.

قلنا: لا ريب في أن ذلك السؤال وارد على المذهب، وهو القول بوجوب نصب الإمام لا على شيء من أركان الأدلة الدالة على وجوب النصب، وقد أجمع المحققون على أن ما هذا حاله من الأسئلة، فإنه غير قادح، ولا يلزم الجواب عنه أصلاً لا سيما إذا كان يرد على جهة المعارضة للدليل، فكيف يصح الحكم عليه بعظم الموقع ووضوح القدح؟ وكيف يقتضي وروده ضيق الخناق والحال ما ذكرناه؟ لكن مولانا أيده الله تعالى عول في بعض كلامه على تهويل العبارات، وتفخيم المقالات، ونحن مما لا يقعقع خلفه بالشنآن، ولا يفزعه التهويل باللسان، وهذا كله مع فرض عدم التمكن من الجواب عن السؤال، أما مع التمكن -كما سنوضحه- فالحال في ضعف السؤال، وعدم وروده أظهر.

قوله: ففيه تصريح بوجوب الإحاطة بفضلاء جميع الأقطار ومعرفة الأفضل منهم.

قلت: هذا الاستدلال  الذي ذكره الإمام المهدي عليه السلام  مبني على أنه يجب في الإمام، أن يكون أفضل الأمة أو مساوياً لأفضلها إلا لعذر، وهذا مروي عن جل المعتزلة والأشعرية وأكثر الزيدية، ولعلهم لا يعتبرون ولا يوجبون البحث في جميع الأقطار، بل يقولون يجب أن يكون أفضل أهل زمانه، إما في علمنا أو في ظننا بحسب الإمكان كما يقوله بعض المعتزلة، فلا يرد ما ذكره مولانا من أن ذلك يقرب من تكليف المحال.

قوله: ولو كان ذلك شرطاً لبطلت إمامة أكثر الأئمة.

قلنا: لعلهم لا يوجبون البحث في جميع الأقطار لتعسره أو تعذره عندهم، بل إنما يوجبون

البحث في بعض الأقطار، وقد فعلوه أو لعلهم يكتفون في الإمام أن يكون من جملة فضلاء زمانه، كما نفهم من كلام بعض الزيدية، قالوا: لأن معرفة الأفضل متعذرة بعد وقت الصحابة، لكثرة الناس وخفاء كثير من أهل الفضل.

قوله: على أن أدلة وجوب نصب الإمام من فزع الصحابة عقيب موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وقبل مواراته، وما يتوقف من الأحكام الواجبة على الإمام كاشتراطه في الجهاد يقضي بالتضيق، فيدل عليه كما يدل على أصل الوجوب، وعلى عدم التوسيع مدة مديدة، قدر مائة وخمسين سنة يتعطل فيها الجهاد وتنتكس فيها أعلام الجهاد ويشتد عضد الكفر والعناد.

 أما مع فزع الصحابة ومساعيهم إليه قبل مواراة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فلا ينبغي الاحتجاج به على عدم التوسيع، لأن المسارعة إلى الوجوب في أول وقته لا يدل على تضيقه، بل الأفضل في الوجوب الموسع أن يفعل في أول وقته، وكان الواجب عليهم تحري الأفضل وإعطاء كل ذي حق حقه، لكنهم أخلوا بالنظر الواجب عليهم، وبادروا إلى العقد لأبي بكر خوفاً من انشقاق العصا وتفرق الجماعة لو انتظروا علياً عليه السلام  حتى يفرغ من دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما توقف الأحكام الواجبة على الإمام كالجهاد ونحوه فهو إنما يقتضي وجوب نصب الإمام عند الإمكان، وقبل البحث عن الصالح للأمة لا يمكن النصب، وصار الحال في ذلك كالحال في وجوب نصب القاضي على الإمام، حيث لا يتسع هو للحكم بين الناس، وعرف من نفسه ذلك، فإنه يجب عليه نصب الحاكم وجوباً موسعاً غير مضيق، وإن كان ثم خصومات يجب فصلها وتعذر عليه الاتساع لها لأمور أهم، فكما أن نصب القاضي -وإن وجب ومست الحاجة إليه- فإنه لا يتضيق على الإمام، بل له مهلة البحث عن الصالح للقضاء والدراية ولو في مدة لها امتداد، وكذلك الحال في وجوب نصب الإمام على الأمة لا يتضيق عليهم، بل يكون موسعاً القدر الذي حققناه، وهذا أوضح كما ترى.

قوله: ومثل هذا يعد مصادرة على المطلوب.

قلنا: ليس ما ذكرناه من المصادرة في شيء، لأن المصادرة أن يكون المطلوب وبعض مقدمات الدليل شيئاً واحداً، وليس مطلوبنا من هذا الجواب بيان وجوب نصب الإمام على الأمة، لأنا قد قررناه بدلائل أُخَر، بل المطلوب إبطال السؤال الوارد على القول بوجوب النصب على شيء من أركان تلك الدلائل الدالة على وجوب النصب، وهذا واضح لا التباس فيه، فجعل ذلك من المصادرة من باب وضع الإسم على غير مُسمَّاه فافهم.

قوله: يقال مع إيضاح عدم قطعيته وابتنائه على ما هو ظني محض، وسنبينه، تظهر ظنية ما عداه.

قلنا: إذا أمكنك بيانه استقام لك هذا الإيراد، لكن دون بيانه خرط القتاد   .

قوله: على أنه سيتضح لك ما قدمناه من كون الدليل الأول أشف الأدلة وأقواها، لما نحققه من كون هذا الدليل أضعفها وأوهاها.

قلنا: وسيتضح الأمر على خلاف ما تضمنته هذه الدعوى، وأن هذا الدليل قد بلغ في القوة القصوى.

قوله: في القدح على الدليل الثالث إن أردت أن الشارع جعله شرطاً، ففي ذلك اعتراف بعدم وجوب نصبه، لأن تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب، وإن أردت أن الأمر ورد مطلقا، وأنا نقطع بتوقفه على نصب الإمام فدعوى القطع في هذا الأصل غير مسلمة.

قلنا: ظاهر كلامه أنه لا يصح لنا أن نستدل بالعقل على ذلك، وليس الأمر كذلك، بل كما يدل السمع على ذلك يدل عليه العقل أيضاً، ولنا عليه دليلان: عقلي وسمعي.

أما الدليل العقلي فهو ما ذكرناه في الجواب من أنَّا نعلم ضرورةً من جهة العادة.. إلى آخره.

وما أورده مولانا عليه السلام  من أنَّ ذلك لا يدل على وجوب نصب إمام جامع للشروط غير وارد، لأن الرئيس الذي يرجع إليه في جهاد الكفار والفساق الجهاد الموافق للشرع الشريف، و[من] يقوم به لا بد من أن يكون عارفاً حتى يتمكن من الإقدام والإحجام في الجهاد، ومدافعة الأعداء على الوجه الشرعي، وأن يكون ذا رأي ومتانة، حتى يدير الحرب والسلم، ويشتد في مواضع الشدة، ويلين في مواضع اللين، وأن يكون شجاعاً مجتمع القلب، فلا يضعف عن لقاء العدو، ولا يجبن عن القيام بالحرب، وأن يكون سليم الحواس والأطراف، لأن عدم التمكن من الجهاد مع فقد السلامة ظاهر، وأن يكون عدلاً في الظاهر، لأن الفاسق ربما أوقع جهاده للأعداء على غير الوجه المطابق للشرع، وربما أخذ الفيء كله لنفسه أو وضعه في غير مستحقه، ويندرج في ذلك كونه مسلماً بطريق الأولى.

فإن قلت: إنه لا يعتبر في أمير الجيش أن يكون عدلاً ولا عارفاً أيضاً، ألا ترى إلى أمارة خالد بن الوليد وعمرو بن العاص عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  على الجيوش؟!

قلت: هما كانا من تحت أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ونحن إنما اشترطنا ما ذكرناه فيمن ليس تحت أمر إمام كامل الشرائط، وأما من هو تحت أمره فلا يعتبر ذلك فيه، لأنه كالآلة للإمام، ولا بد أيضاً من كونه حراً، بالغاً، عاقلاً ذكراً.

أما العقل فلأن الصفات التي قدمنا ذكرها لا تحصل إلا معه، وأما الذكورة فلأن الغالب من حال النساء أن لا يحصل لهن الصفات التي ذكرناها، ولأنه لا يحصل لهن من الهيبة ما يحصل للرجال، وإن حصلت لهن هيبة فإنما هو لهيبة السادات، وهكذا القول في البلوغ، وأمَّا الحرية: فلاستحقار الناس بالعبيد، ولأنَّ أزمنتهم مشغولة بخدمة السادات.

ولا بُدّ أيضاً أن يكون سخياً، ومن منصب مخصوص، لأن الناس لمن هو كذلك أطوع وإليه أميل، فيحصل المقصود من نكاية العدو، وتوهين جانب الكفر والمعاصي على أتم الوجوه وأكملها، كما هو الواجب على كل مسلم، وهذه في صفات الإمام المعتبرة.

 فصح أنه لا يتم تأدية المجاهدة الشرعية لأعداء الدين وتوهين أمر الفسقة والملحدين على أتم الوجوه، إلا برئيس جامع لشرائط الإمامة، وهو المطلوب، وظهر لك ظهوراً بيناً أن ما ذكرناه هو الحق الواضح، والصواب اللائح، وأنه ليس من قبيل مجرد الصناعة في الكلام، وإبرازه في قالب الانتظام، كما ادعاه مولانا أيده الله تعالى، فنسأل الله أن يزيدنا هداية إلى الصواب، وأن يصلح لنا أمر العاقبة والمآب، بمحمد الأمين وآله الأكرمين، فهذا هو الدليل العقلي على أن الإمام شرط في القيام بالجهاد الشرعي، وحصول الغرض به وهو العمدة.

وأمَّا الدليل السمعي: فهو ما حكاه الله تعالى في محكم كتابه عن بني إسرائيل حين قهرهم عدوهم وأزعجهم من ديارهم فطلبوا القيام بمجاهدته، فإنهم أول ما طلبوا مالا يستقيم إلا به، فقالوا لنبيئهم أشموئيل عليه السلام : {ابْعَثْ لنا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيْلِ الله} [البقرة:246]، ولم يقولوا: ائذن لنا نقاتل عدونا. ما ذاك إلا لما علموا أن القتال من دون ملك ينظمه ويدبر أمره لا يستقيم، فطلبوا ما يحصل به قوامه، وهو بعث الملك لهم، فقرر الله تعالى ورسوله نظرهم في ذلك، ولم ينكر نبيئهم عليه السلام  ما اعتقدوه، من كون القتال لا يستقيم إلا بملك، وإلا لم يحصل الغرض المقصود به، فأجاب سؤالهم بأن أخذ عليهم العهد بأنهم يقاتلون متى أمرهم الملك الذي التمسوا إقامته، وأنهم لا يتركون القتال معه، حيث قال:{هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا} [البقرة:246]، فقرروا على أنفسهم الوفاء بما عهد به إليهم، بأن قالوا: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية([البقرة:246]، فلما آنس منهم الوفاء، وعلم أن الجهاد لا قوام له إلا بملك ينظم أمره ويعلم أحكامه، قال: {إنَّ الله قد بعثَ لَكُم طَالُوتَ مَلكاً} [البقرة:245]، واختاره من غير بيت الملك، وكان ديِّناً، عالماً، علم الله تعالى من حاله من البسالة في القتال وسعة العلم بالأحكام التي تتعلق بالجهاد، ومن ثم لما استنكروا إقامته عليهم وليس من بيت مملكتهم، بين الله تعالى على لسان نبيه العلة التي لأجلها اختاره عليهم، فقال: {إنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عليكُمْ وزادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ والْجِسْمِ} [الحجرات:13].

 فبين سبحانه وتعالى أن من حق الملك الذي به قوام الجهاد على قانونه المرضي عنده أن يجمع ثلاث خصال، وهي: الدين الوازع، والعلم الواسع، والإقدام الرائع، فبين اشتراط الخصلة الأولى بـقوله: {اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ}، وهو سبحانه لا يصطفي إلا من رضي دينه وتقواه، لـقوله: {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ}، وبين الخصلة الثانية بقوله:{ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ}.

وبين اشتراط الخصلة الثالثة بقوله: و{وَالْجِسْمِ } إذ لا فائدة في الجسم إلا ليكون إقدامه الذي في قلبه نافعاً في نكاية عدوه، ولو أقدم وهو ضعيف الجسم لم يحصل الغرض المقصود بإقدامه.

وهذه هي جل شروط الإمامة، وما عداها فهو مضاف إليها، وهي أصل لما عداها من الشروط، فلما قرر نبيئهم ما اعتقدوه من أن الجهاد لا يستقيم إلا بملك ينظم أمره بأن أجابهم إلى ما التمسوه من بعث الملك، علمنا بذلك صحة ما اعتقدوه من أن الجهاد لا يستقيم إلا بملك ينظمه، فثبت كونه شرطاً في القيام بالجهاد وهو المطلوب.

لا يقال: إن شرع من قبلنا لا يلزمنا إلا بدليل من شريعتنا يقوم على لزومه لنا، لأنا نقول: بل يلزمنا حيث حكاه في كتابنا ولم يقم دلالة على أنه قد نُسِخ.

واعلم: أن هذا الدليل السمعي ظاهره القوة، لكن المعتمد هو الدليل العقلي، فاعرف ذلك.

 وأما ما ذكره مولانا أيده الله تعالى من الإجماع على عدم اشتراط الإمام في المدافعة، ومن قول كثير من العلماء بعدم اشتراطه في الغزو أيضاً، فهو لا ينقض ما ذكرناه، لأنا لا نمنع من إمكان حصول نكاية العدو مع رئيس غير جامع لشرائط الإمامة، لكنها لا تحصل معه على الحد الذي يحصل مع من اجتمعت فيه الشرائط المعتبرة كما قلناه أولاً، ولا شك أنه يجب تقوية شوكة الإسلام، وشد عضده على أبلغ ما يمكن ويكون، والله تعالى أعلم بالصواب.

قوله: ليست الدعاوي في إثبات المقاصد كافية، ولا للسؤالات القادحة الفادحة نافية.

قلنا: الأمر كما ذكره مولانا أيده الله تعالى، لكن الواجب أن يعرض كلا من الكلامين على معيار النظر والاعتبار، وميزان التأمل والافتكار، لكي يتضح الخطأ والصواب، ويتميز الشراب من لامع السراب.

قوله: وإنما تلك ظواهر وأخبار آحادية، ودعاوي مجردة عن إيراد البينة القوية، كدعوى الإجماع على وجوب معرفة شرائط الإمام.

قلنا: إنه يجب اعتقاد ظاهر العموم، إذا علم عدم ما يخصصه، والأخبار وإن كانت آحادية فهي متواترة المعنى، ودعوى الإجماع لا يفتقر إلى بينة، بل يتوقف العلم به على قوة البحث، فلعل من علمه أكثر بحثاً ممن لم يعلمه، فلا وجه لتعجب مولانا أيده الله تعالى من ادعاء السيد مانكديم رحمه الله تعالى للإجماع في ذلك، على أنا إنما أوردنا ذلك رداً لما ادعاه مولانا أبقاه الله تعالى من تركهم إيراد أدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة، فأريناه أن ذلك غير متروك ولا مغفول عنه، وأنهم قد أوردوه في مواضع كثيرة، كمالا يخفى على من طالعها.

قوله: ونحن نعلم ضرورة من حال العوام عدم معرفة ماهية الإمامة ومعناها، فضلاً عن أحكامها وتحقيقها.

قلنا: الكلام في الإمامة كالكلام في النبوة حذو النعل بالنعل، فما قيل في إحداهما قيل مثله في الأخرى، من غير فضل، ومن حصل له العلم بحال العوام في ذلك كما حصل لمولانا أيده الله تعالى فالواجب عليه أن يعمل بحسب علمه من الزجز والإنكار وعدم التقرير على ما هم عليه من الخطأ، وقد تكرر من مولانا أبقاه الله تعالى ادعاء العلم بحال العوام في مواضع متعددة، ولا ينبغي منا متابعته في التكرير، لكنا نأتي بأمر كلي، فنقول: يجب على كل من علم ذلك في بعض العوام أن ينكر عليه وينهاه ويعمل بحسب علمه في ذلك، ويحمل من لم يعلم منه ذلك على السلامة، وما أورده مولانا أيده الله من حكاية بعض الثقات لا تعريج عليه، لأنه قد يصدر من المغفلين في حق الصانع سبحانه وتعالى ورسله من الأمور الشنيعة مالا ينبغي رقمه في الأوراق، فضلاً عن الأئمة، والواجب الإنكار على من هذا حاله في الموضعين.

قوله: وإن كان المراد على غير ما ينبغي منه حملهم عليه.

قلنا: نعم هذا هو المراد، وما ذكره من حصول اليقين قد مر الكلام عليه.

قوله: الأئمة  عليهم السلام  أهل التنوير.

قلنا: نعم هم كذلك، لكن لا يشترط فيهم عندنا أن يكونوا ممن يعلم الغيوب، وينكشف لهم السر المحجوب، بل هم كغيرهم من الآحاد في ذلك، على أن الأنبياء  عليهم السلام  أعلى حالاً منهم، وقد حَسُنَ منهم أمر العوام باعتقاد النبوة وتسليم الحقوق إليهم من غير أن يأمروهم بتقديم النظر في نبوتهم حملاً لهم على السلامة، ولم يظهر لهم من حالهم شيء، فما ظنك بالأئمة الذين هم دونهم في التنوير، وهذا واضح لا لبس فيه، فالأولى لمولانا أيده الله تعالى سلوك طريقة الإنصاف، والعدول عن طريق الاعتسافب، كما هي عادته المألوفة وطريقته المعروفة.

قوله: كيف يحسن منه أمر غيره بالإقدام على مالا يأمن كونه خطأ؟

قلنا: ليس عدم سماع ذلك يقتضي نفيه.

قوله: ولا أظنه خطر لهم ببال.

قلنا: إنَّ بعض الظن إثمٌ.

قوله: ولِمْ لا يكون ذلك بعد النظر في أدلة المفسِّق التي أوردها وأسند اعتقاده إليها؟

قلنا: أما بعد النظر فيما ذكر، فله ذلك ولم نمنع منه.

قوله: بل لمن نظر وأمعن الفكرة في أنواع الأدلة وأقسامها، وما يمكن الاستدلال به دلالة قاطعة منها، فلم يجد دليلاً أن يقطع بعدم حصول القاطع.

قلنا: ذلك متعذر أو متعسر على القوة البشرية، فإن الإحاطة بطرق البحث كلها على وجه يعلم معه أنه لا شيء غيرها مما يتعذر أو يتعسر
-لا سيما في حق أهل زماننا- هذا على أنَّا إذا فرضنا وقوع ذلك وجب العمل بمقتضى العلم، ونحن إنما منعنا حيث لم يظهر له شيء من ذلك.

قوله: أردنا بذلك الاستظهار بأحوال السلف، وردع المفسِّقين المستندين في تفسيقهم إلى فتوى من ليس كمثلهم في الرتبة.

قلنا: هذا مبني على ما اعتقده مولانا في حق المفسِّقين من الخطأ، وقد مر الكلام عليه، وأما البيت الذي أنشده فليس بشاهد مرضي، أما أولاً فليس بحجة، وأما ثانياً فلعدم دلالته على المقصود، لأن البدعة هو كل ما دل القرآن بمحكمه والعقل برويته على أنه ضلالة، وعند المفسِّق أنه إنما فسق لبرهان، فليس ببدعة عنده، وإن كان الحق عندي خلافه، وهو عدم الحكم بالفسق والتوقف في ذلك عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((المؤمن وقَّاف عند الشبهات)).

قوله: مثل المؤيد بالله عليه السلام  يستشهد بأقواله، ويستظهر بأحواله.

قلنا: نعم مثله عليه السلام  من يقتدى به في الأقوال والأفعال، لأنه عليه السلام  من جملة الأئمة وكبار الأمة، لكن في المسائل الاجتهادية لا القطعية، لأن الحق فيها مع واحد، فلا ينبغي أن يرجع فيها إلى قول فلان وفلان، وإن كانوا من عيون أهل الزمان.

قوله: لتوقف كل من لحوق التهمة وامتناع الصلاة على صاحبه.

قلنا: لسنا نجعل لحوق التهمة ما ذكرته بل سببها ما ذكرناه، من كون الغالب من أحوال المتخلفين في مسألة الإمامة هو المجانبة والمباينة.

قوله: المجانبة لا تقتضي اعتزال الصلاة مع اعتقاد صحتها.

قلنا: إن المقتضي للاعتزال إنما هو لحوق التهمة، وسبب لحوق التهمة هو غلبة المجانبة، ومع لحوق التهمة، يزول اعتقاد الصحة، لأنه حينئذ قد أطاع بنفس ما به عصى.

قوله: ولا يفعل ذلك -وهو جعل صلاته تابعة لهواه، معتبراً فيها غير مطابقة رضا الله- إلا من هو عن الخير بمعزل.. إلى آخره.

قلنا: نعم لا يفعل أحد صلاته لذلك الغرض إلا من هو عن الخير بمعزل، لكن هذا بمعزل عما قلناه ومجانب لما ذكرناه، لأنا لم نسوغ تركها لهذا الغرض، بل لما يلحقه من التهمة المنهي عنها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم))، وتفرع التهمة على المباينة التي ليست بحسنة لا تدفع حسن ترك الصلاة لأجل تلك التهمة، كما لا يخفى، لكن مولانا أبقاه الله تعالى عوَّل هاهنا على التشنيع الذي لا يجدي صاحبه، ولا يقل راكبه  ، وأما ما حكاه عن المؤيد بالله قدس الله تعالى سره، فلعلَّ التهمة في ذلك مرتفعة، والله أعلم.

قوله: لأنه قد وضح وتقرر كون اختلاف العقيدة في الإمام لا يختل به شرط عند الرافضين للصلاة.

قلنا: لا نسلم، لأنا قد بينا أن مع التهمة يصير مطيعاً بنفس ما به عصى.

قوله: ولكنه يدل بمفهومه دلالة بينة على أن نافي إمامة الإمام متثبتاً في أمر دينه لا تمنع الصلاة خلفه لعدم جرأته.

قلنا: ما ذكرنا من التهمة يرفع دلالة هذا المفهوم إن سلمناه.

قوله: في هذا نظر، لأن الإمام يحيى عليه السلام  ذكر ذلك على أصل أهل المذهب في تكفيرهم.

قلنا: جوابنا متوجه على ما تقتضيه ظاهر العبارة في الرسالة فلا موقع للتنظير إذاً.

قوله: وأما على أصله فهو مستغن عنه.

قلنا: لا نسلم استغناء عنه على أصله، لأنه عليه السلام  يقطع بخطأ أهل الجبر في العقيدة، فربما يتوهم أنه مع عدم الحكم بفسقهم يجعلهم كالفساق في عدم صحة الصلاة خلفهم لشناعة عقيدتهم، كما في من كشف عورته بين الناس ونحوه.

 والله سبحانه أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

[التعليق على رسالة الإمام في حكم نافي إمامة الإمام ومثبتها]

نعم، وأما التقسيمات التي أوردها مولانا أيده الله تعالى، فلعمري إنها لأبحاث شريفة، ونكت لطيفة لم يسبق إليها أحد من حذاق العلماء، ولا تنبه لها أحد من عيون الفضلاء، بل جرى مولانا أيده الله تعالى في ذلك السبيل بغير دليل()، وأبدع فيما أفاده من التقسيم الجليل، فالله المسئول أن يؤيد ببقاء مولانا الملة، ويبرز بعنايته ما استتر من صحيحات الأدلة، فلن يُنسج على منواله، ولا تسمح بصيرة بمثاله.

واعلم أرشدنا الله وإياك إلى الصواب، وجعلنا ممن رجع إليه وأناب، أنه لا نزاع في القسم الثالث، وهو إصابة أحد الفريقين وخطأ الآخر، وكذلك لا نزاع في القسم الثاني وهو أن يكونا مخطئين معاً، وإنما النـزاع كل النزاع في القسم الأول، وهو أن يكونا مصيبين معاً، ولنا في دفع ما أورده فيه وجهان، أحدهما معارضة، والثاني تحقيق.

أما المعارضة فيمن خرج على إمام الحق منتضياً سيفه، شارعاً رمحه، محاولاً لانتزاع روحه واستئصال شافته، لأنه يتأتى فيه مثل ما ذكر مولانا فيمن صدر منه مجرد النفي، فيلزم حمله على السلامة، والحكم بعدم خطئه في خروجه واعتقاده، وقبح مقاتلته مع الإمام، وبيان ذلك أن يقال: لا يمتنع أن يكون الخارج على الإمام قد أمعن النظر في طريقته، وتبطن أحواله وسيرته، فظهر له من الأمور المبطلة لدعواه، المجانبة لرضا مولاه المحلة لسفك دمه وهتك حرمه، ما خفي على المثبت لإمامته المعتقد لصحة ولايته، فليس للمثبت إذاً أن يحكم بخطأ ذلك الباغي في بغيه، بل يحمله على السلامة، وهذا ظاهر الفساد، لأن فيه تصويب القاتلين لأئمة الهدى ومصابيح الدجى سلام الله عليهم.

وأما التحقيق فهو أن يقال: إنه ليس لكل من المثبت والنافي أن يخطيء الآخر، حتى يظهر له حقيقة حاله، أو يطالبه بوجه اعتقاده فلا يبرزه، فيكون حينئذ قد أحل نفسه محل التهمة، والـمُخَطِّئون محمولون على أنهم إنما حكموا على مخالفهم بالضلال بعد أن ظهرت لهم حقيقة الحال، وتيقنوا أنه راكب لمتن العناد، متبع لهواه في ذلك الاعتقاد، اللهم إلا أن يظهر لنا خلاف ذلك، عملنا بمقتضى ما ظهر.

وأما قول مولانا أيده الله تعالى في آخر كلامه: وعلى هذا يتنـزل ما كان من معاملة بعض السلف بعضاً مع اختلافهم في أئمة زمانهم، من عدم تعاديهم وتشاحنهم مع اعتقادهم أن المسألة قطعية، فليس بواضح لجواز أنهم كانوا يصرحون بالخطأ في ذلك الاختلال، لكنهم كانوا لا يحكمون ببلوغه درجة الفسق، فلهذا حسنت معاملتهم فيما بينهم، والله سبحانه وتعالى أعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

 

 

 

 

 

 

 





تعليق السيد صارم الدين الوزير

على

رسالة الإمام وجواب البكري


 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الحمد لله الذي جعل رحمته سابقة لغضبه، وادَّخر شفاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم  لمن أطاعه وآمن به، وقام بأركان دينه، وثقل أوزان عمله، حين توضع في موازينه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على من أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى أصحابه الذين كانوا خير أصحاب، وجاهدوا معه في بدر وأحد وحنين والأحزاب.

وبعد:

فإنا وقفنا على رسالة غراء، ومقالة عذراء من السيد المقام الأفضل العلامة والغرة الشادخة في أسباط العترة النبوية والعلامة، عز الدين، سليل الأئمة الهادين، عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين أفاض الله عليه سجال ()نعمائه، ومتع بطول بقائه، أبدع فيها كل الإبداع، وشاع ذكرها في صنعاء اليمن وذاع، بيد أنها لم تصدر إلى صدر من بقية شيوخ العترة، ولا حبر مرجوع إليه من أحبار شيعة الأسرة، يفتح أقفالها، ويرفع إشكالها، وقد أجيبت بجوابين.

أولهما: جواب من صدرت إليه، وهو جواب ليس تحته طائل، وإنما هو كما قال القائل:

سألتها عـن ذاك فاستعـجمت

 

لـم تـدر ما مرجوعة السائل()

 والثاني: جواب لبعض من وقف عليها، وهو الفقيه الفاضل العالم علي بن محمد البكري، وهو جواب حسن، حقق فيه النقل، وجود في الحكايات، ولم يبعد عن الإصابة في أكثر الروايات.

والانصاف أن مثل هذه المسائل المذكورة، في الرسالة المسطورة، لا ينبغي أن يتصدر لجوابها وكشف نقابها إلا مجتهد راسخ في العلوم، جامع للفنون، مرجوع إليه في المعلوم منها والمظنون، قد سبح في بحر كل علم وخب في مجاله، وثبت ثبوت الكعب في مجالس رجاله، وسقوه بأباريق سؤاله من عيون سلساله، وخاض غمرة دقائقه، وبحث عن مجازاته وحقائقه، وتضلع من علمي الكتاب والسنة، ولم يقتصر على بعض أدواتهما، ولا كان قصارى درايته معرفة مقدماتهما، وكان على الصفة التي ذكرها الزمخشري رحمه الله تعالى في خطبة الكشاف، وغيره من أئمة العلم الجامعين بين التحقيق والإنصاف، وتالله لقد قل في زماننا من يتصف بتلك الصفات، بل عدم في كثير من الأقطار في هذه الأوقات، ولله القائل:

وقـد كنـا نعـدهـم قـليلاً

 

وقـد صاروا أقـل مـن القـليل

 ولما وصل الكتاب الكريم من تلقاء المقام الشريف أبقاه الله تعالى، يحثنا فيه على الخوض معه في تلك الفوائد، ويندبنا إلى الكروع() في ذلك المشرب البارد، أسعفنا النفوس إلى ما تحبه من محاوراته ومراجعاته، وحملتنا محبة مفاكهته على الخوض معه في جليات العلم ومشكلاته، مع الاعتراف أنا دون من له أهلية ذلك بمراحل، والتصريح منا باعتقاد القصور كما يعتقد ذلك في نفسه كل عاقل، فليعذر -أيده الله تعالى- إن رأى زللاً، وليصفح إن وجد خللاً.

وقد بنيت هذا الجواب على أساسين، وهما زبدة كلام السيد، وزبدة كلام المجيب، ثم ذكرنا ما هو الأظهر، وفق الله الجميع لمراضيه.

[حقيقة القطعي والظني وتحديد موقع الأدلة المذكورة من ذلك]

قال السيد أيده الله تعالى: اختلف في مسألة الإمامة هل هي من مسائل القطع فلا يؤخذ فيها إلا بقاطع أو من مسائل الاجتهاد فيكتفي فيها بالأمارة الظنية.

قال المجيب: اختلف من قال بوجوبها شرعاً، فقال جمهورهم: هي قطعية، وقال الأقلون كالأشعرية وبعض المعتزلة: هي ظنية.

نقول: لا يصح الحكم على مسألة الإمامة بأحد هذين الحكمين إلا بعد معرفتهما، إذ لا يصح الحكم على شيء بحكم إلا بعد تعقل ذلك الحكم، كما هو مقرر في مواضعه، حينئذٍ يلزم معرفة ماهية القطعي والظني، ثم بعد معرفتهما نحكم على المسألة بما صدقت عليه تلك الماهية.

فنقول والله الموفق: ذكر العلماء المحققون أن الدليل القطعي ينقسم إلى عقلي وشرعي.

فالعقلي ما دل عليه قاطع من جهة العقل، وهو الضروري، أو ما انتهى إليه بواسطة عند أبي علي والمنطقيين، أو ما تسكن به النفس عند البهاشمة، والظني العقلي نقيضه.

والشرعي القطعي ينقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: الكتاب العزيز، حيث يكون نصاً في دلالته، متواتراً في نقله، والظني منه نقيضه.

الثاني منها: السنة، حيث تكون نصاً في دلالتها، متواترة في نقلها، أو متلقاة بالقبول -عند أئمتنا وأبي هاشم وبعض المحدثين، خلاف الجمهور وبعض المتأخرين من أصحابنا، فقالوا: إن المتلقى بالقبول ظني، وقال السيد أبو طالب عليه السلام : إنه يكون قطعياً في ابتداء الحكم لا في نسخه للمعلوم- والظني من السنة نقيض ذلك.

والثالث منها: الإجماع، حيث يكون متواتراً أومتلقى بالقبول على الخلاف المتقدم، وصادراً عن جميع الأمة المعتبرين، ومعلوماً قصدهم فيه، والظني منه نقيض ذلك.

وفي كون إجماع العترة الجامع لهذه القيود قطعياً -عند من ذهب إلى أنه حجة- خلاف لا تتسع له هذه الورقة، والأظهر من أقوال أئمتنا وشيعتهم أنه كذلك  .

الرابع منها: القياس، حيث يكون حكم الأصل معلوماً، وعلته معلومة، ووجودها في الفرع معلوماً، وهذا عند رأي قدماء أئمتنا، وقدماء المعتزلة والأشعرية، فأما المتأخرون منهم فالقياس عندهم ظني مطلقاً، وهو رأي بعض المتقدمين أيضاً.

إذا تقررت هذه المقدمة، فلنرجع إلى الكلام المتقدم فنقول:

قول المجيب: إن مسألة الإمامة قطعية عند الجمهور، إن أراد الجمهور من المتكلمين فمسَّلم، وإن أراد مطلقاً منهم ومن غيرهم فهذا غير مسلم، فإن أكثر الأمة متفقون على أنها ظنية.

قال السيد: ووجوب النصب ظني... إلى آخره.

قال المجيب: قد استدل عليه بثلاثة أدلة، الأول: إجماع الصحابة، وهو دليل أبي هاشم()، الثاني: إقامة الحدود، وأنها إلى الأئمة، الثالث: إن الجهاد معلوم ضرورة، وأنه واجب على الأمة، وأن وجوبه مستمر، والإمام شرط في أدائه، وأن مالا يتم الواجب إلا به يكون واجباً كوجوبه، قال المجيب: وهذا أقواها.

نقول: أما الدليل الأول الذي اعترضه السيد، فالإنصاف أنه دليل قاطع وبرهان ساطع، وقد حكى إجماعهم عليه أبو محمد بن حزم() في كتاب الإجماع، وقد اعترضه بعضهم بما ذكره السيد، لكنه مدفوع إذ الإجماع على وجوب نصب الإمام قطعي لتواتره وصدوره عن جميع الأمة المعتبرين من المهاجرين والأنصار، والعلم بقصدهم فيه.

أما تواتره فمعلوم عند أهل البحث التام من علماء الإسلام، وأما صدوره عن جميعهم فلنصهم معاً على وجوب القيام، ولزوم المحافظة على رسوم الأحكام التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم  يقوم بها ويتولاها بنفسه الشريفة، وإنما اختلفوا في تعيين القائم.

وأما العلم بقصدهم فإن نقلة إجماعهم على ذلك عرفوه من مقاصدهم ضرورة، والعلم بالمقاصد ضروري، ألا ترى أنهم قدموا النظر في ذلك على تجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم  والتبرك بدفنه، وهو من أعظم مهمات الدين؟!

وأما قول السيد أيده الله تعالى: إنه إجماع فعلي فقط. فقد ذكر الأصوليون أن الإجماع ينعقد بالقول، أو الفعل، أو الترك، أو بما أمكن تركيبه منها، قالوا: والطريق إليه في حق الحاضرين سماع القول، أو مشاهدة الفعل، وفي حق غيرهم النقل، وقد يفيد العلم، كالتواتر، والظن، كالآحاد.

قالوا: وانعقاده بالفعل نحو أن يفعلوه معاً، والمعلوم أن الصحابة قد فعلوه معاً كما اعترف به السيد وغيره، ونقل عنهم القول معاً فيه أيضاً نقلاً معلوماً لانحصارهم واتحاد دارهم، فهو إجماع منعقد بالقول والفعل، فلو قال قائل: إنهم -رضي الله عنهم- إنما عمدوا إلى رجل منهم فنصبوه من غير أن ينطقوا ببنت شفه، لعد من ذوي الجهل والسفه، وخرج من زمرة أهل المعرفة، وقد قام يوم السقيفة خطيب الأنصار، وقام بعده خطيب المهاجرين، ونقل عن الطائفتين مالا يخفى، وعمن تخلف أيضاً عنهم، فظهر بما ذكر أن الدليل الأول هوالذي ينبغي أن يعتمد عليه، والإنصاف أن هذا الركن من أركان الإمامة قطعي.

وأما الدليل الثاني: فلا خفاء في ضعفه ونزوله عن مراتب القطع.

وأما الثالث: الذي اعتمده المجيب، فالإنصاف أن ضعفه أظهر من ضعف الدليل الثاني، وليس بقاطع، وإن كان معتمداً عند كثير من الأصوليين.

وقد اختلف العلماء في الجهاد، فعند أئمتنا وعامة الفقهاء أنه فرض كفاية، وعند ابن المسيب() أنه فرض عين، وعند ابن شبرمة() أنه تطوع.

فقول المجيب إن الجهاد معلوم ضرورة وجوبه واستمرار وجوبه، وأن مالا يتم الواجب إلا به يكون واجباً، مُسلِّم، وقوله: إن الإمام شرط في وجوبه غير مُسلّم، فلا يجب نصبه، سلّمنا، فذلك من مسائل الظن، فكيف يحتج به في مسائل القطع، ويجعل مختاراً على غيره، وقد ذهب الجمهور إلى وجوب الجهاد مع غير إمام، وأدلتهم كثيرة لا تحتملها هذه القطعة، ويشهد لهم مسير العبادلة() الثلاثة، وجلة المهاجرين والأنصار تحت راية الفاسق بن الفاسق يزيد بن معاوية() لعنه الله، لما جهزه أبوه لغزو الروم، حتى بلغوا معه إلى القسطنطينية، وتوفي هنالك أبو أيوب()، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  الذي خصه بالنـزول بداره، وقال لمن أمسك بزمام ناقته من أنصاره ورغب في تشريف نفسه بجواره:((دعوها فإنها مأمورة)) () فلو كان الإمام شرطاً بإجماع قاطع للزم فسق هؤلاء السادة الذين وعدهم الله بالحسنى وزيادة، أو بقاطع غير إجماع لزم مخالفتهم للقواطع، وكلاهما باطل من دونه حد السيوف القواطع.

فعلم أن اشتراط الإمام من مسائل الظن، وهذه غفلة كبيرة من المجيب، واحتجاجه هو وغيره بمثل هذا في مسأله قطعية من العجيب.

قال السيد: وقد تركوا إيراد الأدلة على سائر أطراف مسائل الإمامة.

قال المجيب: هذا غير مُسَّلم، بل قد ذكروا ذلك، أما وجوب اتباع الإمام الجامع للشروط المعتبرة فقد استدلوا عليه بقوله: {يا قومنا أجِيْبُوا داعِيَ الله}([الأحقاف:31]، الآية، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سمع داعيتنا...)) () الخبر، ونحو ذلك من الأخبار المتفقة على معنى واحد، ، وأما معرفة شرائط الإمامة، فقد استدلوا على وجوبها بالإجماع.. ثم ساق كلام السيد في شرحه مستظهراً به على ذلك.

نقول: أما وجوب اتباع الإمام الجامع للشروط المعتبرة على من عرف اجتماعها فيه فلا شك في ذلك ولا شبهة، لكن مجرد وجوب الاتباع لا يوجب القطع، الذي هو محل النزاع، فإن الأمارة الظنية يجب العمل بها إذا غلب في الظن صحتها، ومع ذلك فلا تخرج عن كونها ظنية، وأما الاستدلال على الوجوب القطعي بقوله تعالى: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ} [الأحقاف:31]، فاستدلال من لا يعرف تفسير القرآن، ولا يدري بمواقع أسباب نزول الفرقان، وداعي الله في الآية الكريمة هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فينبغي تأمل ذلك، فقد وقع هذا الوهم لكثير من الأصحاب.

فإن قيل: طاعة الإمام واجبة قياساً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فإن طاعته واجبة. 

قلنا: هذا استدلال بالقياس لا بالكتاب، ثم هو ظني لا ينتهض في مسائل القطع، فإذن الأولى الاستدلال بقول الله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ واْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ...} الآية [النساء:59]، لكن الآية الكريمة وإن كانت متواترة في النقل، فليست بنص في الدلالة، لأن الأمر ظاهر في الوجوب عند الجمهور، وفي الندب عند آخرين، وفي مطلق رجحان الفعل على الترك عند قوم... إلى غير ذلك من الأقوال، ولا يستقيم الاحتجاج به في مسائل القطع إلا إذا قلنا: إنه ظاهر في الوجوب قطعاً، وإن الظاهر يصير نصاً بقرينة قطعاً، كما أشار إليه بعضهم، وأن القرينة حاصلة في الآية قطعاً، ثم قوله تعالى: {وأُلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، مجمل فلا بد من أن يكون مبيناً قاطعاً، وأما الاستدلال بالخبر وما في معناه، فجيد إن ثبت التواتر المعنوي.

وأما معرفة شرائط الإمام والاستدلال عليها بالإجماع، فنقول: لا شك أن جملة مسألة الإمامة قطعية، ولا نسلم التشكيك في ذلك، كما هو مقتضى كلام السيد، وأما أكثر تفاصيلها فالأظهر أنها ظنية، وإن اختلفت مراتبها في ذلك، لا قطعية كما هو مقتضى كلام المجيب، وليست الإمامة بأبلغ من أصول الشرائع كالصلاة والزكاة والحج ونحوها مما هو معلوم من ضرورة الدين، فإنه قد عمل في تفاصيلها بالظن، والاستدلال على وجوب معرفة تفاصيل الإمامة بالإجماع القاطع، مما لا يعتمده محصل، وقد ذكر الأمير الحسين بن محمد عليه السلام  في كتابه شفاء الأوام، أن المجمع عليه منها أربعة: العقل، والذكورة، والبلوغ، والحرية، قال: وهذا إجماع بين الأمة.

فكيف تجاسر المجيب على دعوى الإجماع في هذا المقام مع ظهور الخلاف في كثير من تلك الشروط للخاص والعام؟ ومن أعظم أركان الإمامة العدالة، وهي ظنية قطعاً، فإن نصب برهان قاطع على أن الإمام آت بالواجبات قطعاً، ومجتنب للمقبحات قطعاً، حتى نعلم منه ذلك غير مقدور لنا، لأن علم السرائر وخفيات الضمائر مما استأثر به عالم الذات سبحانه وتعالى، ألا ترى أنه يجوز أن يعترف الإمام بالفسق وأن يصرح بتوبته عن ذلك، ولو علمت عدالته قطعاً لم يصح ذلك.

[استبعاد إمكانية الأخذ بالقاطع في مسألة الإمامة]

قال السيد أيده الله تعالى: وإذا صحَّ أنَّها قطعية وأن الحق فيها مع واحد لم يجز الأخذ فيها إلا بقاطع، ولزم كل مكلف النظر في آحاد شرائطها، والانتهاء فيها إلى العلم، وامتنع التقليد في شيء منها، والرجوع فيه إلى العلماء.

قال المجيب: هو ملتزم وقد صرح به في (التعليق)، إلا في العلم فإنه شرع للعوام تقليد العلماء فيه.

نقول: قد التزم الذاهبون إلى أن مسألة الإمامة وشرائطها قطعية ما ذكره المجيب، ولكن لا يخفى ضعف ذلك، وليت شعري كيف إقامة برهان قاطع على أنه فاطمي عدل في الباطن؟ كما أشرنا إليه آنفاً، وإيجاب العلم بذلك، وعدم الاكتفاء فيه بالظن تكليف بمالا يطاق، والله أعلم.

قال السيد: ومن توابع أنها قطعية الإنكار على معتقد صحة إمامة الإمام من غير معرفة للشروط يقيناً.

قال المجيب: بل الواجب على الأئمة حمل أتباعهم على السلامة، وأنهم لم يتبعوهم إلا لدليل، فإن عرف أنهم لم يتبعوهم لدليل، فمسلم وجوب الإنكار عليهم.

قال: فإن قيل: قد علم من حال الأئمة أنهم لم ينكروا، فإما حكمنا بخطأ الأئمة أو بكون المسألة ظنية.

قلنا: قد دللنا على كونها قطعية، فإن صح عن الأئمة ترك الإنكار كان ذلك دليلاً على عدم علمهم بحال الأتباع، لا على خطأهم لتركهم الإنكار، ومع عدم علمهم لا يلزمهم الإنكار، ويصير حال الإمام كحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإذا حسن منه أمر العربي  باعتقاد نبوته، وتسليم الحقوق إليه من غير أمر بتقديم النظر، حملاً لمن اتبعه على السلامة، فبالأولى أن يحسن من الإمام الأمر باعتقاد إمامته وتسليم الحقوق إليه.

نقول: يلزم ما ذكره السيد على القول بأن المسألة قطعية، وقول المجيب أن الأئمة إنما لم ينكروا لعدم علمهم بحال أتباعهم، فلا يجب عليهم الإنكار، قشر ليس تحته لباب، ومغالطة لا تمضي على ذوي الألباب، وكيف يمكن غفلة الأئمة عن أحوال أتباعهم والأئمة بين أظهرهم، يسمعون منهم التصريح بالقطع بإمامتهم، بل يسمعون من أراذلهم التصريح بتكفير مخالفهم، ومن أماثلهم التصريح بتفسيقه، وأولئك الأتباع من العامة، ومن يجري مجراهم من الرعاع المتحلين بحلية الأشياع الذين لا يعرفون المسالك الجليات -فضلاً عن الخفيات- والتمييز بين القطعيات والظنيات.

نعم؛ يمكن ما ذكره المجيب من جهل الأئمة بما يقع من الأتباع، حيث يكونون بالجيل والديلم وأتباعهم باليمن، كالإمام أبي طالب الأصغر() الذي أرسل بدعوته إلى اليمن، وقام بها الأمير المؤتمن المحسن() بن محمد رحمه الله تعالى ولعن قتلته.

وقول المجيب: إن حال الأئمة في عدم الإنكار كحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم  في أمره للعربي باعتقاد نبوته، قياس باطلٌ لوضوح الفارق، وهو أن النبي إنما أمر باعتقاد نبوته بعد ظهور خارق معجزته، كقلب العصا حية، أو إحياء الموتى، والتحدي بالكتاب المعجز، ولهذا نصوا على أن اتباعه ليس بتقليد لقيام الحجة، والتقليد اتباع الغير من غير مطالبة بحجة، فكان أمر النبي باتباعه حسناً بذلك، وأما أمر الأئمة باعتقاد إمامتهم من لم يعلم اجتماع الشروط فيهم فقبيح، وإنما المتوجه عليهم أمرهم بالنظر الموصل إلى العلم في كل شرط من الشروط المعتبرة، فإذا حصل لهم العلم اليقين بذلك أمروهم بعد العلم بالاعتقاد لوجوبه عليهم حينئذٍ.

[ضعف الدفاع عن المفسقين لنافي الإمامة]

قال السيد أيده الله تعالى: ومن العجب سكوت العلماء عن النكير على من فسق من غير دليل.

قال المجيب: إنما سكتوا، لأنه غلب على ظنهم أن التفسيق وقع من المفسقين عن دليل، والإنكار لا يجب إلا بعد العلم بأن الواقع منكرٌ، وأما تلقين الجهلة اعتقاد ذلك، فهو وإن سلمنا وقوعه اقترن به تلقين الدليل أيضاً، والأمر باستعماله، ولا محذور إذا كان الآمر يعتقد التفسيق بقاطع عنده، فإنه يحسن منه أمره بالاعتقاد، ثم يحمل المأمور على أنه لا يعتقده إلا لدليل، كما يأمر باعتقاد الصانع وصفاته.

نقول: سكوت العلماء عن النكير عند سماع التكفير أو التفسيق حرام، إلا لمبيح شرعي كخوف.

وقول المجيب: إنهم إنما سكتوا لأنه غلب على ظنهم أن المفسقين إنما فسقوا عن دليل، نازل جداً، لأن الفرض أن المفسقين هم غير العلماء، والعلماء هم الساكتون، وإذا كان المفسقون هم غير العلماء، فلا شك أنهم بمعزل عن معرفة القواطع، وقد عرف المجيب ضعف هذا، فقال: وإن سلمنا فإن الجهلة يلقنون ذلك مع دليله، فيحسن أمرهم به، كما يؤمرون باعتقاد الصانع وصفاته مع تلقين الدليل، وهذا الذي التزمه المجيب أضعف وأظهر في البطلان مما فر منه، وما هو إلا كما قال الشاعر:

فـكنت كالساعـي إلى مثعب()

 

مـوائـلاً مـن سبل الـراعد

 وبيان ذلك أن أصله وفرعه المذكورين بينهما بون() بعيد، واختلاف شديد، فإن تلقين العامة الدليل على الصانع وصفاته وأمرهم بذلك، إنما صح لاستنادهم في معرفته تعالى إلى الدليل العقلي، لأن معرفته تعالى عقلية، فدليلها مودع في فطرهم، مركوز في أفهامهم، يهتدون إليه بأيسر نظرهم، ولهذا قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10].

 وأما التكفير والتفسيق فدليلهما شرعي قطعي، لا يقع منه على العلم اليقين من أحاط بكثير من الفنون، دع عنك من استند فيه إلى مجرد التلقين لتوقف معرفته على علوم صعبة، ورياضة تامة، قطعت في تحصيلها الأعمار، ولم يهتد للطائفها إلا حذاق النظار من جهابذة الأخيار، كما لا يعزب ذلك على ذوي النظائر والأبصار، وقد زلت في هذا المقام أقدنم كثير من النحارير، فما ظنك بالعامة، حتى صنف جماعة من المحققين مصنفات أفردوها في تحقيق قواعد التكفير والتفسيق كالبستي، والإمام عماد الدين يحيى بن حمزة عليه السلام  وغيرهم من العلماء، وبينوا قواعد ولخصوا فوائد، ذهل عنها العلماء الأعلام، المرجوع إليهم في مشكلات الأحكام.

وإذا ثبت أن معرفته تعالى عقلية -بخلاف مسألة التكفير والتفسيق- فإنها شرعية قطعية، خفية غير جلية، عرفت بذلك ضعف ما ذكره المجيب، ألا ترى أن العامة إذا لقنت الأدلة العقلية، لم تبعد عن أفهامها نحو العالم مؤلف، وكل مؤلف محدث، فالعالم محدث، وإذا لقنت الأدلة الشرعية نبت عنها أسماعها، وباينتها طباعها، كما إذا لقنت دليل الفسق، فقيل يدل على فسق مخالف الإمام آية كذا وحديث كذا، لأنه يدل على معنى لا يحتمل غيره، مع تواتره وعدم نسخه، وما كان كذلك فهو قاطع، والمنصف يعرف أن العامة بل كثيراً من طلبة العلم لا يهتدي إلى ذلك فهماً، ولا يستفيد منه ظناً ولا علماً، ولم يسمع عن أحد من المتقدمين والمتأخرين من أئمة العترة  عليهم السلام  وشيعتهم الكرام أنه أشار إلى ما ذكره المجيب من التلقين، ولا وضع فيه مختصراً بين فيه كيفيته وقرب معناه للعامة، ولخص لهم عبارته مع أنه مهم من مهمات الدين والتكليف به واقع في كل حين، فإن كان المجيب قد اطلع على شيء من ذلك فليرشد إليه، ويدل العامة عليه، فأما نحن فلم نقف على شيء من ذلك مع حرصنا على مطالعة كتب أئمتنا  عليهم السلام  وشيعتهم، إلا أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.

[ترجيح عدم فسق النافي للإمامة]

قال السيد أيده الله تعالى: وما الدليل على فسق من ينفي إمامة الإمام، أو يتوقف فيها، ولو سلمنا أن مسألة الإمامة قطعية، فليس من لازم كل مسألة قطعية أن المخطيء فيها فاسق، إذ ليس كل خطأ كبيرة؟... إلى آخره.

نقول: قد تردد المجيب هاهنا، ولم يزد على حكاية كلام البستي والإمام المهدي رحمهما الله تعالى ونفع بهما.

قال المجيب: وبعدم الفسق أقول.

نقول: قد أنصف المجيب في هذا المقام، وجانب الشطط، وأخذ لنفسه في دينه بالأحوط، وصدع بالحق، ووفق لسلوك جادة الصواب، وشد يديه بغرز ركائب السنة والكتاب، زاده الله توفيقاً، وأوضح لنا وله إلى ما جهلنا من الحق طريقاً.

[تعارُض الأئمة وتسامحهم دليل على عدم قطعية المسألة]

قال السيد: وقد كان بين الإمام يوسف الداعي والإمام القاسم بن علي، والمهدي والهادي، من الموالاة ما هو ظاهر، مع قطع كل واحد منهم أنه الإمام ... إلى آخر كلامه.

قال المجيب: غاية ما تدل عليه سيرهم المباركة، أنهم لا يقولون بفسق نافي الإمامة، وليس بحجة على المفسقين.

نقول: نسي المجيب هاهنا، أصله الذي كان عنه يناضل، ومن دون صحته يقاتل، فإنه قطع أن مسألة الإمامة قطعية جملة وتفصيلاً، وأن مخالفة الإمام ومعارضته فسق، ثم افتتح جوابه وختمه بما ينقض ذلك ويدفعه، أما افتتاحه فإنه قال عند ذكر السيد عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين وهو يقطع بإمامة المهدي مع ثبوت المعارضة بينه وبين الهادي رحمهما الله تعالى ونفع بهما، وأما ختمه فإنه أثنى على من ذكره السيد عزالدين من المتعارضين، ووصف سيرهم بأنها مباركة، وأحد المتعارضين على أصله مبطل قطعاً، بل فاسق!! حوشوا عن ذلك، والباطل والحق لا يوصفان معاً بالبركة، فما أسرع ما نسي أصله وتركه.

وقوله: غاية ما تدل عليه سيرهم المباركة، إنهم لا يقولون بفسق نافي الإمامة، مجيباً بذلك على ما ذكره السيد، كلام خارج عن المعارضة والتحقيق، لأن مراد السيد أن مقتضى فعلهم من الثناء والمدح وتولي بعضهم بعضاً يقتضي أن المسألة ظنية، إذ لو كانت عندهم قطعية ما فعلوا ذلك، وكأن المجيب لما لم يجد لكلام السيد أيده الله تعالى مدفعاً، قابل كلامه بكلام، وإن لم يناسبه ولا كان له موضعاً عملاً منه بقول شاعرهم:

إذا لـم يكـن إلاَّ الأسنة مـركب

 

فـلا رأي للمـضطـر إلا ركـوبـها

[ذكر بعض المتعارضين من الأئمة]

وليست المعارضة في الإمامة مقصورة على هؤلاء المذكورين، فإنها قد وقعت بين جم غفير وخلق كثير، ممن يعتد بهم، ويقطع بفضلهم وصلاحهم، قبل المعارضة وبعدها، منهم المشائخ الثلاثة، فإنهم أول من فتح باب المعارضة في الخلافة، وارتضع من الخلاف أخلافه، حيث تقدموا على الوصي عليه السلام  وغصبوه حقه، وتولوا ما أمره إليه، وأخروه وهو الإمام المنصوص عليه، كما قيل:

علي أمير المؤمنين المعظم

 

تأخر بعد القوم وهو المقدم

 ثم الإمامان الأعظمان الهادي إلى الحق، والناصر للحق، سلام الله عليهما، تعارضا وكان هذا داعياً باليمن، وهذا داعياً بالجيل والديلم.

ثم المختار بن الناصر ، وعمه الحسن بن الهادي()، تعارضا وخربت بينهما صعدة القديمة خراباً مستمراً إلى الآن.

ثم يوسف الداعي، والقاسم بن علي     عليهما السلام  تعارضا، وجرى بينهما ما هو مذكور في سيرة الإمام القاسم.

ثم الحسين بن القاسم بن علي ،  ومحمد بن الحسين بن القاسم  الزيدي، جد السيد العلامة صلاح الدين عبد الله بن يحيى بن المهدي  رحمهما الله تعالى تعارضا، وكان بينهما ملحمة كبرى بقاع صنعاء، قتل فيها ابن الزيدي وخلق كثير معه.

ثم الأمير عماد الدين يحيى بن أحمد بن سليمان ، عارض الإمام المنصور، على سبيل الإحتساب، ثم عارضه بعده الأمير الكبير محمد بن منصور ابن المفضل، وتكنى بالمهدي، وهو المعروف بالمشرقي، وكان من علماء العترة، وللإمام الناصر محمد بن علي عليهم السلام  فيه كلام جميل، وثناء عريض طويل.

ثم الإمام الداعي يحيى بن المحسن،  عارضه الأمير محمد بن المنصور() محتسباً، وجنح إليه شيعة الظاهر برمتهم، ولقد حكى الداعي في بعض رسائله في معرض التجرم من الفقيه الشهيد حميد المحلي رحمه الله تعالى، أنه كان إذا سئل عنه قال: ليس فيه من شروط الإمامة إلا الذكورة، بعد أن كان يقول: لا أعلم في العترة من يصلح لهذا الأمر إلا الداعي.

ثم الإمام المهدي أحمد بن الحسين()  عليه السلام ، عارضه الحسن بن وهاس، وكان من عيون علماء العترة، وتابعه خلق كثير من العلماء، ثم الإمام المنصور بالله الحسن بن محمد عارض الحسن بن وهاس، وقال به جمهور الناس كصنوه الأمير الحسين، وعبد الله بن زيد، ومحمد بن معرف.

ثم الإمام إبراهيم بن أحمد()، والإمام المطهر بن يحيى، وولده الإمام محمد بن المطهر عليهم السلام ، وهؤلاء الثلاثة لم يسمع لهم بداع معارض، إلا أن شيعة الظاهر() لم يحفلوا بدعوتهم رأساً، ولا رأوهم لها ناساً، ولا رفعوا إليها رأساً، وكان يصدر منهم من التهجين والاستحقار مالا يحسن ذكره، ولا ينبغي صدوره من عاقل.

ثم الإمام يحيى بن حمزة عارضه الإمام علي بن صلاح ابن إبراهيم بن أحمد()، وكانت دعوته سابقة على دعوة الإمام يحيى، وكان السيد عماد الدين يحيى بن الحسين()، والفقيه يحيى بن حسن البحيبح ممن يقول به، وكذلك الإمام أحمد بن أبي الفتح()، عارض الإمام يحيى بن حمزة، وكان بعد وفاة الإمام علي بن صلاح، ويقال: إن ابن أبي الفتح كان من أفقه أهل زمانه.

ثم الإمام المهدي علي بن محمد عارض ابن أبي الفتح.

ثم الإمام الناصر محمد بن علي، عارضه السيد محمد بن علي بن وهاس.

وقد وقع في كلام السيد أنه عارض والده الإمام المهدي، وليس كذلك.

فهؤلاء المتعارضين ولم نبالغ في استقصاء عدهم، وإلاَّ فهم أكثر من ذلك، وأما النافون للإمامات والمنابذون والمتوقفون من أهل كل عصر وفضلاء كل دهر، فلا سبيل إلى إحصاء عددهم لكثرة سوادهم، ولو أراد مريد استقصاءهم لَكَل قلمه، ومل وأمل، وخرج إلى التفصيل عن الجمل.

وعلى الجملة فما من إمام من علي عليه السلام  إلى زماننا إلاَّ ومن الناس من يتوقف في إمامته، ومنهم من ينفيها، ومنهم من ينابذه.

ومن العجب العجيب أنك تجد هذا المذهب الشريف، رفع الله أعلام مجده المنيف، وصانه عن مناقص ذوي الزيغ والتحريف، تدور نصوصه وتخريجاته، ومنطوقاته ومفهوماته، على من هذه صفته، وتجد الذاهبين إلى أن مسألة الإمامة قطعية جملة وتفصيلاً عاكفين على ما ذكروه وحصلوه، والفتيا منهم في جميع أقطار الزيدية صادرة بما نقله أولئك وخرجوه، ولو علموا بمقتضى مذهبهم لرفضوا فقههم جملة وتفصيلاً، وابتدءوا أخذه من الأمهات تحصيلاً وتعليلاً.

فإن قيل: إنهم عندهم فساق تأويل، فلذلك قبلوا روايتهم وعملوا بتخريجهم.

قلنا: مذهب كثير منهم أن فاسق التأويل لا يقبل، ثم المعلوم من مقاصدهم واعتقادهم خلاف ذلك، فإنهم يتولونهم ويرضون عنهم.

[حكم المتعارضين في الإمامة]

فإن قيل: فما المقطوع به في حق المتعارضين.

قلنا: إن كانوا أو بعضهم من غير أهل البيت، كخلفاء الدولتين فلا شك في شقاوتهم وضلالهم لما ارتكبوه من سفك الدماء، وأخذ الأموال بغير حقها، وصرفها في غير موضعها، وإقبالهم على الدنيا ولذاتها، وإعراضهم عن الآخرة، وتلعبهم بمال الله وعباد الله، فهؤلاء فساق وإن لم يعارضهم أحد من أئمة العترة أو من غيرهم، ولا يستثنى من غير أهل البيت عن هذا الحكم إلا المشائخ الثلاثة، وعمر بن عبد العزيز، أو من جرى مجراهم، لما علم من جهدهم وتشميرهم في مراضي الله تعالى ودفعهم عن حوزة الإسلام، وبعدهم عن الأثرة، ووضعهم الحقوق في مواضعها.

وإن كانوا من أهل البيت، فإن كانت سيرتهم كمن ذكر من خلفاء الدولتين فحكمهم كحكمهم، ولا إشكال في ذلك، وإن كانوا من ذوي الفضل والصلاح والتقوى، وعرف ذلك منهم قبل التعارض وبعده، مع لزومهم السيرة المرضية من العدل في الرعية، والقسمة بالسوية، وعدم الأثرة، وامتثال أوامر الشرع، والوقوف عند نواهيه، وبذلهم لوسعهم فيما هم بصدده بحيث يعلم من قصد كل منهم أنه لا حامل له على التورط في حبائل الأمر والنهي إلا وجوب ذلك عليه عنده، وصلاحيته له دون غيره، وقيام الحجة عليه بوجود الناصر وكماله عند نفسه، وبحيث يعلم من قصده أنه لو علم أن معارضه أنهض بتحمل أعباء الإمامة وأثقال هذه الزعامة لترك معارضته، واتبعه واعتقد إمامته، وكان له أطوع من نعله واتبع من ظله.

فهذا مقام صعب رجع فيه طرف النظر حسيراً، وآض جناح الفكر كسيراً، وتعارضت فيه أقوال الراسخين تيسيراً وتعسيراً، والذي ندين الله فيهم ونعتقده -سواء قلنا مسألة الإمامة قطعية جملة وتفصيلاً، أو جملة، فقط أو ظنية- هو استصحاب حالهم الأول الذي كانوا عليه قبل المعارضة، ونقطع بفضلهم وصلاحهم، وندعو لهم بالرحمة والمغفرة والمسامحة، مع براءتنا من كل أمر فعلوه متأولين فيه مخالفة للشرع إن وقع ذلك، ونَكِلُ أمر ما شجر بينهم إلى الله سبحانه، وقد ذكر محققو علمائنا رحمهم الله تعالى في كتب الأصول في باب الاستصحاب: أن الأصل البقاء على الحال الأول، حتى يعلم تغيره إن كان علمياً، أو يظن إن كان ظنياً، فيستصحب فيهما الحال الأول المعلوم حتى يعلم مغيره.

والمسارعة إلى تفسيق من هذه حاله زيغ شديد وضلال بعيد، والخطأ في الكف عن ذلك خير من الخطأ في الإقدام عليه، وذلك هو دأب أهل الفضل والتحري، والأخذ في الدين بالأحوط، وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم  أنه وصى في أنصاره رضي الله عنهم، أن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، مع تعمد الإساءة، فإجراء هذه القضية في أهل البيت وصالحي عترته أولى وأحرى، لأنهم لم يعتمدوا الإساءة ولقرابتهم منه صلى الله عليه وآله وسلم .

وهاهنا نكتة سرية، ولطيفة خفية، ينبني عليها جميع ما تقدم ذكره، وهي أن الإمامة التي يفسق مخالفها عند من ذهب إلى ذلك هي الإمامة التي هي عين خلافة النبوة، كإمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام ،  وولديه، وزيد بن علي، وولده يحيى بن زيد، ومحمد بن عبدالله، وأخويه، والحسين بن علي الفخي، والقاسم، والهادي وولديه صلوات الله على أرواحهم الزكية، فإن هؤلاء حذوا سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، وكان الهادي عليه السلام  يقول: والله ما هي إلا سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أو النار، وكان لهم عليهم السلام  أنصار وأعوان على إشادة ما اندرس من معالم الدين جنود مجندة من صالحي المؤمنين، وكانوا أئمة للمتقين، كما قال تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}[الفرقان:74].

ولخشية الوقوع في خطر مخالفة السيرة النبوية ترك بعضهم الأمر واعتزله كما فعل الحسن السبط، وإلى ذلك أشار بعض سادة العترة بقوله يخاطب آخر منهم:

فـإن كنـت مقتدياً بـالحسين

 

فـلي قـدوة بـأخـيه الحسن

فقـد حـمد الـمصـطفى فعله

 

لإطـفائـه لـنـيار الفــتن



ولـو كـان فـي فـعله مخطئاً

 

لـما كـان للمدح معنى حسن

 وكذلك المرتضى بن الهادي     عليهما السلام ، فإنه اعتزل عن الخلافة، ومراجل الكفر في أوانه تفور، وبحور الفسق في زمانه تمور، حتى أن بعض علماء زمانه كتب إليه رسالة بليغة، يسأله كيف وسعه الترك وهو يجد العدد البدري، فأجاب بما معناه: إن وجود العدد البدري لا يوجب القيام عليه، لأن أهل بدر رضي الله عنهم كان الواحد منهم مكلفاً بقتال عشرة من الكفار، وقد نسخ ذلك، وصار الواحد مكلفاً بقتال اثنين، وهو لا يجد من المؤمنين العدد الذي لا يسعه معه الترك.

وكذلك جده القاسم عليه السلام  فإنه حكى عنه شارح كتابه المسمى بـ(المكنون) أنه اجتمع له جند عظيم، فخرج بهم، ثم إنه سمع ذات ليلة في بعض المضارب صوت طنبور، فانسل من بينهم وتركهم، وقطع بقية أيامه في جبال الرس حتى لقي ربه.

ولا شك أن الأئمة المتأخرين عليهم سلام رب العالمين، وإن كانت سيرتهم حميدة، وآراؤهم رشيدة، وطرائقهم سديدة، نصبوا أنفسهم لصلاح العباد، ومنابذة ذوي الزيغ والعناد، في أزمنة قد فسدت عوالمها، وعفت فيها الشريعة وعطلت معالمها، وكثر فيهم اللدد() والأود()، وانتشرت فيهم البدع، وماتت بينهم السنة، وغلب عليهم ولاة الجور، فهم بسننهم يقتدون، وعلى سننهم يقتفون، وسبل الحق بينهم طامسة، والسيرة النبوية منكرة، والإمام الداعي في هذه الأزمنة إنما جمهور أنصاره الفسقة المؤلفون، ولا يجد من المؤمنين في أكثر أوقاته إلا ضعيفاً لا يغني عنه شيئاً، بل يكون كَلاً عليه، فكان قيامهم -والحال هذه- اجتهاداً منهم، مخالفاً لاجتهاد من سلف من سلفهم، وكان معظم سيرهم مبنياً على المصالح المرسلة، والاجتهاد الذي لا أصل له معين، على حسب مقتضى زمانهم، وطرائق أهل أوانهم، ولهذا شيدوا المعاقل، وعمروا القصور وزخرفوها، وبنوا البناءات المؤنقة، ولبسوا نفائس الملابس، واتخذوا الفرش الوثيرة، وجلل بعضهم الصافنات الجياد، ووسعوا على عبيدهم وخولهم، وأخذوا من أموال الرعايا أموراً زائدة على الواجبات الشرعية، حتى قال الإمام المنصور بالله عليه السلام : لا فرق بين ما نأخذه ويأخذه الظلمة من غير الواجبات الشرعية إلا بالنية، فإنا نأخذه بنية الدفع، وهم يأخذونه بنية الضر لا النفع، ولا شك أن هذه السير وإن كان لها وجوه شرعية، فليست عين السيرة النبوية، كما لا يعزب ذلك عمن له أدنى معرفة ومطالعة، ومن أنكر ذلك فهو معاند أو جاهل، وتفسيق من خالف هؤلاء قياساً على من خالف أولئك مزلة قدم، نسأل الله أن يثبت أقدامنا على منهاج الحق المبين، ويعيد علينا من بركاتهم أجمعين.

وعلى الجملة فإن الحكمة الباعثة على شرع الإمامة هي جلب المنافع، ودفع المفاسد، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيصال الحقوق إلى أهلها، والأخذ على أكف المفسدين، وإرغام أنوف أعداء الدين من الكافرين والفاسقين، فمن دعا وحصل بدعوته هذه المصالح الدينية، والمنافع الأخروية، فلا شك في وجوب طاعته وإعانته، أما إذا كان جامعاً للشروط المعتبرة فظاهر، لأنه إمام سابق، وأما مع نقصانها فيه فمن باب التعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حينئذ مقتصد لاحق، فهذا ما نعتقده في هذه المسائل، ونعوذ بالله أن ننصر باطلاً، أو نخذل حقاً، أو نتبع هوى، أو نقول بغير بصيرة.

ونختم كلامنا بقوله تعالى:{ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:64].

تم ذلك بمن الله ولطفه وكرمه

 

 

 





رسائله ومكاتباته بعد الدعوة

ورد اعتراضات المعترضين على سيرته
ورسالة دعوته العامة وما يلحق بذلك وأكثرها أنشأها
بعد قيامه بالإمامة العظمى

السلوك اللؤلؤية

المشتملة على الدعوة الهادوية

وهي دعوة مولانا ومالكنا أمير المؤمنين الهادي إلى الحق المبين
 (أبي الحسن عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين)

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل الإمامة ذروة للدين وسناماً، وصلاحاً لأمر العالم ونظاماً، وناط بها قواعد من الشرائع وأحكاماً، وجعلها للنبوة الهادية للخلق إلى الحق ختاماً، ولشرعة سيد الأنام الفاصل بين الحلال والحرام تكملة وتماماً، والصلاة المستتبعة إكراماً وسلاماً، على أشرف البرية ومن كان للرسل إماماً، وعلى عترته الذين ما زالوا لشريعته حفاظاً وبها قياماً، وعلى أصحابه الذين وفوا بنصرته وشمروا الساق في طاعته أزماناً وأعواماً، وفزعوا إلى نصب من يخلفه في أمته ويتحمل أعباء شرعته قبل مواراته صلى الله عليه وآله وسلم  في حفرته إجلالاً لأمر الرئاسة الدينية وإعظاماً، وتنويهاً بمسيس الحاجة إليها واهتماماً.

وبعد: فإن هذه رسالة أنشأناها وآلوكة() صدّرناها، ودعوة عامة وجهناها إلى من بلغته وانتهت إليه من الأمة المحمدية في جميع الأقطار، أو بلغه خبرها، وقرع سمعه ذكرها، من البادين والحضار، منهية إلى من اتبع الهدى وتمسك بالعروة الوثقى، وتجانف عن مسالك المهالك والردى.

سلاماً متضاحك الأزهار، ساطعة من خلاله الأنوار، هاطلة سحائبه بغيث الرحمة المدرار، نابعة أنهاره بفرات البركات آناء الليل والنهار، معرفة لمن أحاط بها علماً ومنح تدبراً لمعانيها وفهماً بتأهلنا للإمامة، وتحملنا لأعباء الزعامة، وترشحنا للقيام بإصلاح أمر العامة، داعية لجميع الأمة إلى الطاعة والاستماع، والبيعة والاتباع، وحسن التأمل لِدعوة الحق وإصغاء الأسماع، وازعةً عن تلقيها بوضع الأصابع في الآذان، واسغشاء الأردية والأردان، والتولي والإصرار، والنفور والاستكبار، عائذة بالله من كاشح يقابلها بالاستهجان، وقادح يستقبح معانيها الحسان، مشتملة من أنواع الكلام على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: في بيان السبب الموجب للدخول في هذا الأمر العظيم، والتصدي لتحمل عيبه المعضل الجسيم، بعد أن كنا قد ضربنا عنه صفحاً، وطوينا عن التعرض له كشحاً (). وليعلم من وقف على كتابنا هذا أنه لما تعاظمت المحن، والتطمت أمواج الفتن، واختبطت الأمور، وانتثر نظام أمر الجمهور، ووطي حد الإسلام بابل، وتلعبت بقواعد الشرع أيدي الجهال، وخمدت نيران الهدى وتأججت نار الضلال، وقامت سوق الفسوق على ساق، وانكسرت رايات الطغيان والشقاق، وعفت شرائع العدل وأنديته، وخفقت عقبان الجور وعُقدت ألويته، وعظمت المصائب، ونهضت النوائب، وارتفعت الأسافل، وانحطت الأفاضل عنهم بمنازل، وأُهين العلم، وعطلت مدارسه، وأرغمت أنوف أهليه فخلت مجالسه، ووضعت الضرائب على أهل الفضل والمراتب، وضاعت حقوق أموال الله، ووضعت في غير ما ارتضاه، وظهرت غربة الدين، وقويت شوكة المفسدين، شخصت إلينا الأعيان من جميع النواحي والبلدان، وامتدت الأعناق من أداني الأرض وأقاصي الآفاق، وقيدت إلينا ركائب الآمال، وطال القيل في ذلك والقال، ووجهت إلينا الرسائل الحافلة، وبلغتنا الأشعار في حلل البلاغة رافلة، وأهرع إلينا من الناس جيل بعد جيل، وحط بسوحنا كثير غير قليل، ونحن في خلال ذلك لا نصغي لما هنالك أُذناً، ولا نلتفت من تلك الأقاويل إلى لفظ ولا معنى، ونتلقى ذوي الإلحاح من الناس بعدم الإسعاف إلى مرادهم والإيناس، وندلهم على مسلك الإضراب عن ذلك واليأس، لا تهاوناً بما شرع الرب الرؤف من عظيم واجب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، بل تجنباً للمسالك الوعرة، وتباعداً عن مخاوف المهالك والعثرة، وأخذاً بالحزم الذي هو سوء الظن، وعلماً بشوائب كل نوع من هذا الجنس وفن.

 ونظراً إلى ما ورد عن المصطفى المختار، وروته عنه أئمة الآثار والأخبار، في الجوامع الكبار من الترهيب عن تقلد الولايات والإنذار، والتنبيه على ما تنطوي عليه من عظيم الأخطار، من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((كلكم راع ومسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن شئتم أنبأتكم عن الأمارة وما هي، فنادى بعض أصحابه بأعلى صوته: وما هي يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : أولها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذاب يوم القيامة)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولاً يوم القيامة يده إلى عنقه، فكه بره، أو أوثقه إثمه، وأولها ملامة وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  لعمه حمزة، وقد قال: يا رسول الله: اجعلني على شيء أعيش به؟: ((يا حمزة: نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟ فقال: نفس أحييها، فقال: عليك نفسك)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  لعمه العباس وقد طلبه مثل ذلك: ((يا عم نفس تنجيها خير من ولاية لا تحصيها))،  وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  للمقدام بن معدي كرب، وقد ضرب بيديه صلى الله عليه وآله وسلم  على منكبيه: ((أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميراً ولا كافياً ولا عريفاً)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يدلون بين السماء والأرض، وأنهم لم يلوا عملاً)) ().

 والأحاديث في هذا الشأن متكاثرة، والروايات في ترجيح ترك الولايات متظاهرة، وفي الأقل مما ذكرناه كفاية في صدع الأفئدة وتسعير نار الخوف الموقدة، لكنه لما اسحنككت () الظلمة، وانتهكت الحرمة، وامتدت الغمة، واشتدت الأزمة، وتعاظمت النوائب الملمة، وتفاقمت المصائب المدلهمة، وتصدر لهذا الأمر من ليس له بأهل، وتلاطمت أمواج الجور والجهل، ولمعت بوارق التلبيس، وطلعت طلائع التغرير والتدليس، كرت علينا الأنام كرةً مالها مدفع، وأقبلوا علينا إقبالة لا يجدي فيها الإعذار ولا ينفع، و شَهِد علينا العلماء الأخيار، والفضلاء الأبرار، ومن يعتبر كلامهم غاية الاعتبار، ممن هممهم مقصورة على تقويم أمر الدين المريج، وليس لهم على جانب الدنيا تعويل ولا تعريج، بلزوم القيام لله، وتحتم الغضب لدين الله، وتلافيه قبل التلف بالكلية، وتداركه من ورطة الهلاك والبلية، وبأنا إن فرطنا في ذلك أسخطنا الرحمن وأرضينا الشيطان، ولم نكن من وبيل العقاب على أمان، منهم من شافهنا بذلك إسراراً وإعلاناً، ومنهم من تواترت كتبه وحداناً وثنياناً، فحينئذ عيت بنا العلل، وضاقت علينا الحيل، وعرفنا أنها قد قامت الحجة علينا لله عز وجل، فإن وجوه الوجوب قد تظاهرت، وإن مرجحات الإقدام على الإحجام قد تكاثرت، وكفى بشهادة الطوائف من أهل الفضل والمعارف، فقد قال تعالى:{لِتَكُونوا شُهداءَ عَلَى النَّاسِ}[البقرة:143]، واعتبر صلى الله عليه وآله وسلم  شهادة طائفة من أمته في أمر لا طريق لهم إلى معرفته مع تمكنه صلى الله عليه وآله وسلم  من الاطلاع على جلة الأمر وحقيقته، نظراً إلى هذه الآية الكريمة القاضية للأمة بإحراز الشهادة العميمة، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم  أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال: ((وجبت))، ثم مر عليه بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: ((وجبت))، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن بعضكم على بعض شهيد)) ()، وفي رواية أخرى: فأثني عليها خيراً،  فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((وجبت، وجبت، وجبت))، ومر بجنازة فأثني عليها شراً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((وجبت، وجبت، وجبت))، فسأله عمر عن ذلك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض)) ().

ورجونا أن الله سبحانه وتعالى لعلمه بما نحن عليه من كراهة الولاية، وتوقي خطر البداية فيها والنهاية، وكون إقدامنا لم يكن إلا تحرجاً عن الإحجام، وخوفاً للتفريط في جنب المنعم بصنوف الإنعام، يخلصنا من أخطارها، ويقينا مخوف شرها ومضارها، وتبلغ المسلمين ما أملوه من أوطارها، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال لبعض أصحابه: ((لا تسأل الأمارة فإنك إذا أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أنت أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)) ()، ونظرنا إلى أن الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن الفحشاء والمنكر، معلومان الوجوب بالضرورة من الدين، وأن الظنون لا تعارض اليقين، قال الله تبارك وتعالى:{ولْتَكُنْ مِنْكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخيرِ ويأمُرُونَ بِالْمعروفِ ويَنْهَونَ عَنِ الْمُنكرِ وأُولئكَ هُمُ الْمُفْلِحون[البقرة:104]، وقال تعالى: {اُدْعُ إلى سبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمة والْمَوعِظةِ الْحسَنةِ}[النحل:125]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)) ()، وقال أبو بكر: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية:{ياأيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)) ()، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((ياأيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقاً، ولا يُقرب أجلاً، وأن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء)) ()، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تزال لا إله إلا الله تدفع ممن قالها وترد عنهم العذاب والنقمة مالم يستخفوا بحقها، قالوا: يا رسول الله: وما الإستخفاف بحقها؟ قال: أن يظهر العمل بمعاصي الله فلا ينكروا ولا يغيروا)) ()، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((يا أيها الناس إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم، فما زاد عليهن حتى نزل)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر)) ().

وألهمنا أن الترهيب المذكور في الولاية، والتهديد والزجر عنه، والوعيد الشديد، خرج مخرج الإطلاق للتحريج، والتحذير والتشديد، مع كون اطلاقه راجعاً ومردوداً إلى صريح التقييد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم  لأبي ذر، وقد ضرب صلى الله عليه وآله وسلم  على منكبيه: ((يا أبا ذر: إنك ضعيف وأنها (يعني الأمارة) أمانة، وأنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها)) ().

وطمعنا في نيل ثواب الله الجزيل ورضوانه الأكبر الجليل بالتأهل لإرشاد عباده إلى مطابقة مراده، ودعائهم إلى طاعته، والسيرة فيهم بمقتضى شرعته، نظراً إلى قوله تعالى: {ومَنْ أحْسَنُ قولاً مِمَّنْ دَعا إلى اللهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ} [فصلت:33]، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وقد قيل له: من خير الناس؟ فقال: ((أتقاهم للرب عز وجل، وأوصلهم للرحم، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل...)) الخبر ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق للخير...)) () والمقسط العادل، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحاً)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((والذي نفس محمد بيده إن الوالي العادل ليرفع له كل يوم مثل عمل رعيته)) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة قيام ليلها وصيام نهارها...)) الخبر()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل...)) الخبر()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أفضل الناس عند الله تعالى منـزلة يوم القيامة إمام عادل)) ()، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((من مات وليس بإمام جماعة ولا لإمام جماعة في عنقه -أحسبه قال: بيعة- مات ميتة جاهلية)) ().

فحين اعتبرنا هذه الاعتبارات، ونظرنا فيما ذكرنا من الأخبار والآيات، وتيقنَّا وجوب الهداية، والردع عن الغواية، وخفنا من التفريط في واجب القيام، مع توقع انهدام دين الإسلام، وبعدما أظهره وناح به الخاص والعام، من بذل الانقياد بأزمة الهدى والرشاد، استخرنا الله تعالى، وانتضينا () سيف العزم الصارم الجراز، وانتهضنا لإحياء دين الله الذي من سعى في إحيائه نجا وفاز، وتصدينا لهداية الخلق إلى سبيل الحق، وللصد عن محارم الله، والمباينة لأعداء الله، وقبض أموال الله من أهليها ووضعها في مصرفها ومستحقيها، معتصمين بالله من الخطأ والزلل، متوكلين على الله عز وجل، واثقين بالله في إصلاح القول والعمل، راكنين إلى الله لا إلى أحد سواه، عائذين بالله من سوء ما قدَّره وقضاه، راجين متعرضين لما وعد به من جزيل ثوابه، لاجئين إليه في النجاة من سخطه وعذابه، {إنْ أُرِيد إلاَّ الإصلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وما تَوفِيْقِي إلاَّ بِاللهِ عَليْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيْبُ} [هود: 88].

 اللهم فكما علمت أن النية ما ذكرناه، وأن القصد في قيامنا هذا حسبما شرحناه، فثبتنا على هذه النية الصالحة، وخذ بنواصينا لسلوك المناهج الواضحة، وسددنا في الإصدار والإيراد، واكتبنا في أهل الجد في دينك والاجتهاد، وأرجح موازيننا بسعينا هذا يوم المعاد، وتجاوز عنا فرطات اللسان وهفوات الفؤاد يوم يقوم الأشهاد.

القسم الثاني: في ذكر ما نطلبه ونلزمه من بلغته دعوتنا هذه، الميمونة المعصومة، من جميع الأمة المباركة المرحومة، وذلك هو المسارعة إلى طاعتنا، والمبادرة إلى بيعتنا، والدخول في جمعتنا وجماعتنا، والانتهاض لنصرتنا وإعانتنا، والجهاد بين أيدينا وتحت رايتنا، وتسليم الحقوق الواجبة إلينا، والتعويل في صرفها ووضعها في مستحقها وموضعها علينا، ألا فأجيبوا رحمكم الله داعيكم إلى الله مسرعين، ولبوا دعوته مذعنين مطاوعين، {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ،  وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 31، 32]، وابتدروا رحمكم الله لنصرة دين الله مهرعين {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، وقوموا لله غاضبين، ولأعدائه مجاهدين مناصبين، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[الصف: 10-14]، وأدخلوا -رحمكم الله- أعناقَكم في ربقة الطاعة طائعين، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59]، ولا تتولوا عن دعوة الحق مدبرين، وتلووا رؤسكم عند سماعها غير ناظرين، فإنه ورد عن نبيكم الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم))، قال الإمام المرتضى ()  عليه السلام : الواعية هو الإمام الداعي إلى الله عز وجل، فمن سمع دعوته ونداه فلم يجبه فقد قطع حبله من الله عز وجل وخرج بلا شك عن طاعته، وتمكن في معصيته، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((تمسكوا بطاعة أئمتكم لا تخالفوهم فإن طاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله، فإن الله إنما بعثني أدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن خالفني في ذلك فأنا بريء منه وهو بريء مني)) ().

ولينظر أهل الأفكار والروَّية والحجور الراجحة الزكية والأديان الصادقة المرضية في قول خاتم الرسل وسيد البرية ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية))، فكفى بهذا الحديث موقظاً للنيام عن طاعة الإمام، وزاجراً عن التهاون بحقه العام، نعوذ بالله من الميتة على غير دين الإسلام، وليكن من شأنكم -هداكم الله وأعانكم- موالاة ولينا، ومعاداة عدونا، وملاحظتنا بعين الرعاية وجفن الحماية، ومعاملتنا بالمودة الخالصة الصحيحة والمحبة الصريحة والنصيحة، فإن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: يا رسول الله؛ لمن؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ().

 وإياكم والدخول في أمرنا هذا بطرف، والوقوف منه على حرف، فإن صلحت به دنياكم، ونلتم فيها لأجله مناكم توسطتم في دائرته، وكنتم من أرباب بدايته ونهايته، وإن نالكم بسببه ضيق المعاش، وأفضى بكم إلى هجر القرن والفراش، ولم تحظوا منه بالمرام، ولا حصلت مأربكم الدنيوية على التمام، نكصتم على أعقابكم وأيديكم بسخطكم، يا عجباً بكم، فتلك والله كرة فاضحة، وصفقة غير رابحة، بل تجارة خاسرة في الدنيا والآخرة، قال ربكم سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]، وقال نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم  فيما رواه عنه الإمامان العظيمان زيد بن علي والهادي إلى الحق     عليهما السلام : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل بايع إماماً عادلاً فإن أعطاه شيئاً من الدنيا وفى له، وإن لم يعطه شيئاً لم يف...)) الخبر ()، وقد جعل الله هذه الشيمة من سجايا المنافقين، ونعاها عليهم في كتابه المبين، فقال: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58].

 واعلموا زادكم الله علماً، وأولاكم لما هو الأولى بكم فهماً، إنه مما يصلح به الحال بين الإمام والرعية، ويستمر به أمرهم وعقائدهم على الطريقة المرضية، أن يكونوا لحسن الظن ألفين، وعن مناهج سوء الظن متجانفين، ولدواعي التوهمات الفاسدة مخالفين، فاعلموا أرشدكم الله على ذلك، واسلكوا فيه أبعد المسالك عن المهالك، واعتمدوا قول المولى الحكيم المالك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12]، وناهيك بهذه الآية الكريمة مورثة لهذه الخلائق الذميمة بغضاً، والذي يليق بمن بلغه شيء يستنكره بادي الرأي أن يتثبت أولاً فيما يرفع إليه، ولا يقع في نفسه ولا يعمل عليه إلا بعد أن يعلم صحة الرواية بإحدى طرق العلم والدراية، فكم مختلق نقل ما لم يكن، بُهتاً واكتذاباً، وغير متحقق حكى الأمر على غير صفته، خبطاً في الرواية واضطراباً، وهذا شيء قد تكاثر في هذا الزمان ولم يكد يسلم منه لسان، فالله المستعان، ومتى صح للغائب ما نقل عنا، وثبت بغير شك صدوره منا، فقد صار كالخاص المشاهد، وحكمهما حينئذ بلا شك واحد، وهو النظر في محامل السلامة وعدم المسارعة إلى الملامة، فقد يكون للصورة الواحدة وجوه واسعة متعددة، وهي في الوقوع على بعضها مستقبحة، وعلى البعض الآخر مستحسنة مستصلحة، فمتى لم يقع تنبيه على هذا الوجه الذي يكون ذلك الفعل بوقوعه عليه حسناً، و صار خفياً في نظره لا بيناً، فالواجب حينئذ البحث والسؤال، على وجه يعرف المخلص لا على جهة الجدال، وعلينا حينئذ الإنصاف في الجواب، والإيضاح لمنهج الصواب، مع الانبساط وإظهار اليسر بما يرد من هذا القبيل والبساط، والبناء على الرجوع إلى الحق المبين، وعدم التمادي في الباطل المتعين، بل بعد المباحثة فيما يعرض من مشكلات السيرة تحنناً علينا، وإحساناً إلينا، وتزلف من فعل ذلك تدينا، وتثبتاً في أمر دينه لدينا.

 اللهم أحسن إلى من يذكرنا إن نسينا، ويحذرنا على أمر مستهجن إن هممنا، ومن إذا خلا بنا وعظنا، وإذا عرض لنا سنة في تصرفنا أيقظنا، وإذا أنس منا جهالة عرفنا، أو تصميماً في محل اللبس خوفنا، فلسنا ندعي العصمة على الخطأ، والوصمة، اللهم إنا نسألك عصمة عن الخطأ، والخطل، وسلامة من الزيغ والزلل، وتوفيقاً في القول والعمل، وبلوغاً في دينك لقصارى الأمل.

القسم الثالث: في ذكر ما نبذله لمن أجاب دعوتنا واستشعر مودتنا، والتزم بعروتنا، وانضم إلى جماعتنا، فنقول:

علينا لمن تلك صفته، وهجيراه ووظيفته، المحبة في الله، والمودة والموالاة، والاسعاف والمواساة، والحياطة والإنصاف، والصيانة والإتحاف ولا يخاف، وعدم الغلظة والاعتساف،  والحماية والمدافعة، والذب والممانعة، والإعزاز والإكرام، والرفق والاحترام، وأن نوقر الكبير ونرحم الصغير، ولا نبغي علواً، ولا يورثنا أبهة الأمارة طغياناً وعتواً، بل نخفض الجناح للمتقين، ونكون كقوله تعالى:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54]، ونقبل الحق من حيث ورد، ولا نكفهر () في الرد على أحد، ونعد مِنْ أحبِّ الناس إلينا وأزلفِهم لدينا مَنْ يكافحنا بالنصح المبين، ولا يغضي على شيء مما يصم ويشين، ونسكن الملهوف، ونؤمن من الأمر المخوف، ونؤوي الطريد، ونغيث الشريد، ونعين الفقير، ونجير المستجير، وننصر المظلوم، وننعش المهضوم، ونميت الاختلاف، ونحيي الالتئام والائتلاف، ونعلي العلم وأهله، ونعز الفضل، ونجمع شمله، ونفرج الغمَّى،  ونُسْكن الدهماء، ونُذهب بالنائِّرة، ونُخمد نيران الفتن الساعرة، ولا نتحامل على من سبقت منه إساءة، ولا نرتضي له كغيره مساءة، كل ذلك مقيد بمشيئة الله وهدايته، ونصرته وإعانته، فهو ولي التمكين، وخير ناصر ومعين.

 وحين خلصت النية، وصلحت السريرة والطوية في هداية الخلق، والقود بنواصيهم لمناهج الحق، قطعنا بحصول الظفر، ونيل السؤل الديني والوطر، لأن الناس بين مهتد طائع، مصيخ لدعوة الحق سامع، فليأمل أجره من غير نقصان، بشهادة الأخبار والقرآن، وبين نافر متحامل، وجاهل أو متجاهل، يتلقى الدعوة الميمونة بالإعراض، والطعن والاعتراض، ويصدر عنه من الأذى والهجر مالا يسلم منه، آمر بعرف وناه عن نكر، فيكون بأنواع إساءاته مهدياً لنا حسناته، ونكون بالصبر ظافرين بالقدح المعلى في الأجر، وهذه غنيمة يرغب إليها مَنْ الأجرُ همُّه، ومن لم تكن الدنيا مما يهمه.

 ولعمري لئن نظرت الأمة إلى جانب الرشاد، وسلموا لطاعة من يريد صلاحهم القياد، ليحصلن لهم الغرض وليتمن المراد، وليتبين لهم من حسن السيرة ما تقر به عيونهم، وتصلح به شؤونهم، وأما إن ولَّوا عن الحق مدبرين، ونفروا عند استماعه مستكبرين، كُنَّا بذلك شهوداً عليهم يوم الدين، ولم يكونوا علينا بالتفريط شاهدين.

 اللهم اشهد على أفئدتنا بقصد الصلاح والفلاح، وصيانة الأديان والأموال والأرواح، وأنا دعونا عبادك إلى طاعتك ونصرة دينك، والجهاد في سبيلك، وبلغنا ما ألزمتنا إذ أمرتنا وامتثلنا، وتجردنا لما أردته منا، وقدمناه على أنفسنا وخاصتنا، اللهم فوفق العباد لمطابقة المراد، وخذ بأزمتهم إلى الحق اللائح، وقُد بأعنتهم لسلوك المنهج الواضح، وارزقنا منهم جلساء علماء عاملين، ووزراء أجلاء ناصحين وأمراء كرماء ناهضين، وعمالاً أمناء جاهدين، وأتباعاً مطاعين مرشدين، ورعية مطاوعين مهتدين. 

{قُلْ هذه سبَيِلي أدْعُوا إلى اللهِ على بصيرةٍ أنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحانَ اللهِ وما أنَا مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ} [يوسف:108].

قُرِئَت هذه الدعوة الميمونة المباركة المعصومة على من حضر من المسلمين، وذلك بين الصلاتين من يوم الخميس لتسع ليال خلون من شوال سنة تسع وسبعين وثمانمائة سنة.

 فلما فرغ من قراءتها ووقعت البيعة بعد أن أقبل الناس إليها أفواجاً وبايعوا فرادى وأزواجاً قام عليه السلام  فقال:

الحمد لله الملك القدير، العليم الخبير، العزيز النصير، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والذي بيده أزمة التدبير، وأعنة التقدير، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينـزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، أحمده وهو بالحمد جدير، وأشكره شكر معترف بالتقصير، وأستعينه على هذا الأمر العسير والشأن الخطير.

وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ولا وزير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، الداعي إليه بإذنه السراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله، أهل العلم الغزير، والحلم الكثير، والفضل الكبير، المخصوصين بآية التطهير، التالي آخرهم تلو أولهم في هداية الخلق إلى الحق الشهير.

أما بعد: فإني قد حملت أمراً عظيماً، وتقلدت تكليفاً جسيماً تنوء به الجبال الرواسي، ويعيا بمشكله الفطن النطاسي ()، ولا يوجد لأخطاره وعظيم أوزاره آسى، إلا مع تيسير الله ورحمته، وتوفيقه وعصمته، وهدايته، وإعانته، وحياطته، ورعايته، وحمايته، وكلايته، وإغاثته وعنايته، وبالله العظيم ما دخلت فيه رغبة في الدنيا، ولا خضت غماره وفي القلب شيء من سَيءِ الأهواء، لكنه لما ضاق المجال، وأعوز في الاعتذار المقال، لم أجد بداً من الإقدام، فأقدمت راجياً من الله تثبيت الأقدام، ولقد أسرعتم رحمكم الله إلى الطاعة، وبذلتم في النصح لله حدَّ الاستطاعة، فجعل الله سعيكم مشكوراً، وعملكم مبروراً، وبلغكم أملكم في نصرة هذا الدين الحنيف، ورفع أعلام المذهب الشريف، وجمع كلمتنا وسائر المسلمين على التقوى، وعصمنا من تشتت الآراء واختلاف الأهواء، وجعلنا ممن يؤثر الآخرة ويرفض الدنيا، وجعل دعوتنا هذه شادة لأزر الدين، فاتّة لأعضاد المفسدين والمعتدين إنه خير ناصر وعاضد وولي ومعين.

تمت الدعوة الميمونة على منشئها أفضل الصلاة والتسليم عند انبساط الشمس في العشر الأولى من ذي الحجة سنة879، بمشهد الإمام علي بن المؤيد عليه السلام    .

[كتابه عليه السلام إلى سلطان الحبشة]

وكتب عليه السلام  كتاباً إلى سلطان الحبشة في زمانه وهو ابن سعد الدين كتاباً وسيماً، وتأهَّل لتبليغه الفقيه المذكور في الرسالة وأنشأه بمحروسة السودة في شهر رمضان سنة تسعين وثمان مائة سنه.

وهو بعد لفظ البسملة:سلام يقترن باليُمن والسعود، وتجري أنهاره المستعذبة في غير أخدود، وإكرام له بروق خيرات ورعود، وإنعام يبدأ وَكَّافه في كل يوم ويعود، على من سار صيته في الآفاق، وملأت محاسنه الأسماع والآماق، وطاب نشر أوصافه في البسيطة وراق، وطال تعداد سجاياه الحميدة فقصرت عنها الأوراق، وسبق في حلبة الجهاد، لأرباب الكفر والعناد، على الأقران وفاق، الملك السلطان الأجل الهمام المقام الأكمل، طراز المجد الأطول، ودرة التاج المكلل، والغرة الشادخة في ذروة الشرف الباذخة، التي عليها المعول، خالد بن سعد الدين، عمدة الملوك والرؤساء والسلاطين، المجاهد لأعداء الله المعتدين، الحامي بهمته القعساء ونهضته الغراء حال الدين، خلَّد الله مجده، وأسعد جده، وجدد سعده، وكبت عدوه وضِده، وأعز نصره على من تعدى حده، وقمع يافوخ من عانده من الكفرة المردة ورده، ومد عليه رواق نعمه السنية، وعقد عليه نطاق منحه الهنيه، وأفاض عليه سجال بره كل بكرة وعشية، وبلغه من مراماته الحسنة في خواتم الأمر ومباديه، ومن نيل عوارفه وأياديه قصارى الأمل والأمنية، وبعد:

فهذه ألوكة () وجهناها إلى مقامة ومقالة جديرة باتحافه وإكرامه، تجوب إليه أرضاً بعد أرض، وتنبري لوجهتها لقطع مسافتها بين رفع وخفض، وتقتحم إليه الأخطار، وتعبر في الفلك على متون البحار، إلى أن تنتهي إن شاء الله بحضرته الشريفة، وساحته المرتفعة، وتسمو إلى أن تصير بمرتبته المنيفة، مؤدية لمسنون المواصلة، مهدية لكلم من الحكمة، ينبغي أن تعد أسنى صلة، آملة أن تتلقى بالقبول والاستبشار والإقبال، وأن تعامل بالتكرمة وحسن النـزول والإجلال، وأن يقف المقام عليها وقوف متأمل لمعانيها، وتدبر لحسن سياقها، وقوة مبانيها، معرفة للمقام بما لا يعزب عن مثله، ولا يشذ عن راسخ حلمه وباذخ فضله، لكن نورده من قبيل التذكير والتنبيه، على كيفية غير خالية عن إبراز تعليل وتوجيه.

 فنقول: إن الله سبحانه وتعالى بعث نبيه، وصفيه، وخيرته من خلقه ووليه،  صلى الله عليه وآله وسلم  مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فنشر الإسلام، وبلغ الأحكام، وفرق بين الحلال والحرام، وجاهد الكفرة المردة الطغام، وما زال لأمته ناصحاً، وعن ملته مكافحاً، حتى أعلا الله كعبه، وسر قلبه، وكثر صحبه، وأعز حزبه، ثم قضى بعد ذلك نحبه، ولقي في حلل السعادة الأبدية ربه، وكان من مقتضى الحكمة الإلهية، انقطاع الوحي حينئذ بالكلية، وأن يكون صلى الله عليه وآله وسلم  خاتم النبوة والرسالة، وآخر الأنبياء وجوداً، وإن كان أقدمهم فضلاً وجوداً، لا محالة، وحيث لا غُنية للأمة عن رئيس يرجعون في أمور دينهم إليه، ويعتمدون في المصالح الدينية عليه، شرع الله سبحانه الإمامة وجعلها للنبوة خالفة، وشد بها أزر الإسلام، وقمع بها مجانبه ومخالفه، وأصلح بها الأمور، ونظم بها أمر الجمهور، وحفظ بها الشرع ووظائفه، لكنه جعل لها شرائط معلومة، وشرع لها فرائض على المسلمين محتومة، ولم يجز أن يكون في العصر الواحد إلا إمام، ولا شاع أن يتصدى لها إلا من جمع أوصافها على الكمال والتمام؛ شعراً:

جـودٌ وفضـلٌ مـع علمٍ ومعرفة

 

تـحـوي الفنـون وإقـدام وتدبـير

 

وكـونـه فـاطـمي النجر منبعه

 

مـن عـترة لـهم فـي الذكر تطهير

 ولم يزل في كل عصر إمام يقفو أثر إمام، وداع إلى الله وإلى إحياء شرع رسوله عليه الصلاة والسلام، وعلى آله، وكل من قام ذلك المقام تحتمت طاعته على جميع الأنام، ولزم الاعتناء بأمره والاهتمام، والجهاد معه بالنفوس والأموال من غير إحجام، وإعانته بحقوق الله المالية على مر الأيام، يستوي في التكليف بذلك الملوك والسوقة، ويحرم على كل من الملوك والسلاطين والأوساط أن يضيع حقوقه أو يرتكب عقوقة، وسواء في ذلك من قربت داره وشط مزاره، ولن يعلو عنه رفيع لعلو درجته، ولا ينحط عنه وضيع لسقوط منـزلته، وكل واحدة من هذه القضايا عليها براهين قاطعة، ودلائل واضحة أنوارها ساطعة، تشمل عليها أسفار العلوم، ويطلع المهرة فيها على سرها المكتوم، وإنا في عصرنا هذا لما حزنا بلطف الله الشرائط المعتبرة، وفزنا بإعانة الله بسلوك طرقها المتوعرة، طمحت إلينا الآمال، وشدت إلى أبوابنا لطلب ذلك الأمر منا الرحال، وعكف لدينا لأجله فحول الرجال، وبالغ في ذلك أرباب الفضل والكمال، فدعونا إلى الله دعوة مرضية محمودة، مقبولة عند العلماء والحكماء والفضلاء والنبلاء غير مردودة، انتشرت في الأقطار، كانتشار أنوار النهار، وسارت في البوادي والأمصار كمسير المثل السيار، وتغلغلت في الآفاق مبتسمة الثغور، منتشرة الأنوار، فلباها من عقد عليه من التوفيق نطاق، وتغافل عنها من ضَربت الغفلةُ عليه برواق، وإن ممن أجاب داعيها، ولبَّى مناديها كثيرٌ من السلاطين والملوك الظرفاء كسلاطين الحرمين الشريفين زادهما الله شرفاً، وكذلك ملك اليمن، وصاحب تعز وزبيد وعدن، وأما علماء الأمة وأرباب الفضل والحكمة ومن تتجلى بنور هدايتهم كل ظلمة، فأتباعنا منهم العدد الكثير، والجم الغفير، وأشياعنا من هذا الجنس في البوادي والأمصار لا يؤتى لهم على انحصار، ولما كان ملك الإسلام، المؤنس بأنوار عدله وجهاده للأرجاء الموحشة، ممن ترمق العيون إلى مناصرته في هذا الشأن، ومظاهرته وإعانته في تقوية كلمة الحق وحسن إعانته، لما يبلغ عنه من الأوصاف السنية، والوظائف الزكية، والهمم العلية، والشيم المرضية، وجهنا إليه هذه المقالة الغراء والرسالة العذراء تعريفاً له بالحال، فلا عتب على من لم يطلع عليه، وتبليغاً إلى مقامه الأعز لهذه الدعوة، فلا تكليف بها على من لم تبلغ إليه، ملتمسين منه الأخذ من هذه الدعوة الهادية بنصيب، والرمي في درك فضلها بسهم مصيب، والالتفات إلى جانب الإعانة بهمة أديب، والتعويل على حميد السعاية في شأنها بنهضة لبيب، والاهتمام بتقويمها على البعيد السحيق، بفؤاد قريب، والاعتقاد الجازم بعظم قدرها من غير شك مريب، وإنه لجدير أن يكون الأمل فيه محققاً، والظن في مكارمه ومحامده مصدقاً، فمن كان مثله شنشنته الجهاد لأعداء الله، وأعداء دين رسول الله الذي بلغه إلى أمته وأداه، وبعثه به الرب الحكيم وارتضاه، كان خليقاً بأن يمنح أولاد ذلك الرسول المبعوث وداً، ولا يجري منه لدعوة القائم منهم رداً، وقميناً () بأن يحييها مسرعاً ويلبيها، ويكون له الحظ الأوفر فيها، فمن حق خاتم الرسل ومبلغ الأنباء ما أشير إليه في الذكر الحكيم من المودة في القربى.

 فهذه دعوة ولد رسول الله، وسلالته الطيبة المرتضاة، من قام داعياً إلى الله قاصداً لإحياء دين الله، راجياً أن يكون ممن قال فيه الله:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وممن قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)) ()، وقد قال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم : ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)) ()، {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:31، 32]، ولقد وجهنا لتبليغ هذه الرسالة، وتفصيل شأنها وتفصيل إجمالها، الشيخ الصدر، العلامة الحبر، عماد الملة والدين، عمدة الأعيان الأمجدين؛ يحيى بن حسن المنسوب إلى جيلان، أصلح الله له وبه وعلى يده كل شأن، وإنه لمعدود عندنا من الأعيان، ومنخرط في سلك النصحاء الأعوان، ونرجو أن يساعده المقدور، ويبلغ به الحظ الأسنى إلى ذلك المقام المشهور، فتحق له التحفة والكرامة، ويتوجه لمثله حسن النُزُل والإقامة، وأن يفرغ عليه سرابيل المن والإحسان، فيعود شاكراً ذاكراً لأنعم السلطان، قاضياً لكل إرب وحاج، فائزاً بما يوجب البشر والابتهاج، وكيف لا وقد تحمل إلى ذلك المقام غاية المشقة، وارتكب لحسن أمله فيه بُعد الشقة، واقتحم عظيم الأخطار ناهضاً تاعباً في البر والبحار، وبلغ رسالة داعي الحق من أبناء المصطفى المختار، فليس مثله من يخيب أمله، أو يضيع عمله، أو ينقلب وقصة خفي حنين مثله، فإن على لسانه في أمرنا تحقيق الحال، وإيضاح السر الدفين، والقول ما قالت حذام، وعند جهينة () الخبر اليقين، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].

 

 

 

 






الرسالة الرافعة للشك والإلتباس

الدافعة لما أُلْقِي من التمويه على الناس

 

تأليف مولانا علم الأعلام وبركة المسلمين والإسلام قدوة الخاص والعام

الإمام الهادي إلى دين باري الأنام سبط أبي القاسم والوصي

أبي الحسن عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين علي أحسن الله إليه

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله الذي جعل للشرائع قواعد، وناطَ بها مصالح دينية وفوائد، وجعل الأهم من مقاصده دفع المفاسد، وحكم بالضلالة على كل ناقص من السنن وزائد، والصلاة على رسوله الذي جعل الورع هو الدين كله، ورفع بحميد سعايته مع إعانة الله وعنايته أعلام الملة، وعلى عترته الناقعين لكل علة، الدافعين بهديهم كل بدعة وضلة.

وبعد:فهذه رسالة رافعة للالتباس، دافعة لما أُلْقِي من التمويه على الناس، راسخة الأطناب، مبرمة الأمراس، مبنية بحمد الله وحسن توفيقه على خير أساس، وذلك أنا لما دعونا الخلق إلى مناهج الحق، وآثرنا التعب في الغضب لله على الراحة وإن شق، انتشرت الدعوة الميمونة انتشار ضياء النهار، وطبقت في الأيام القليلة النواحي والأقطار، وتلقاها بالإجابة والانقياد أرباب العلم والفضل والرشاد، وامتلأت بها سروراً وفرحاً أفئدة العباد، وأقبل الناس من كل فج عميق، وأهرعوا من كل قطر سحيق، ونحن منذ ساعة أظهرنا الدعوة نمهد قواعد الدين، ونُبدد عواند المفسدين، ونشتغل بنفع المحتاجين، ونحقق ظنون الراجين واللاجئين، حتى شهد الكبراء الأفاضل بأنه لم يسبق لهذه الدعوة مماثل في سرعة الاجابة وتلبية الإهابة، وتعجل المنافع المستطابة، لكنه بلغنا أنه عرض لبعض الإخوان شك من قبيل وسوسة الشيطان التي لا يخلو عنها إنسان، فقد قال الملك الديان في محكم القرآن حاكياً عنه             -نعوذ بالله منه-:{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ منْ بَيْن أيديهِمْ ومِنْ خَلفِهِم وعنْ أيْمانِهِم وعَنْ شَمَائلِهِم[الأعراف:17]، قال شقيق() رحمه الله: ما من صباح إلا قعد الشيطان لي على أربعة مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي …الأثر، ولا شك أن الشيطان رغمت أنفه وجدعت وعظمت روعته، واتسعت، لما رأى منا من هدم أساسه ونكس سعيه الخبيث على رأسه، واستنقاذ البرية من ورطته، واستخلاص أعناقهم من ربقته، فلجأ إلى تشويش القلوب لينال بالفرقة ما هو له مطلوب، وله أعوان من الإنس يلقون الإفك من عندهم، وكانوا من جنده، فارتمت بهم الحال حتى صار إبليس من جندهم()، وسبب الشك الذي عرض، والريب الذي اختلج في الصدور واعترض، تقدُم من دعا ممن لم يسمع أحد يعتد به لدعوته ولا وعى، ولقد وقع في شأنه وأمره، ما كنا نحب التجنب لذكره، مما ينقصه غاية النقص، وينادي عليه بالخسر والنحس()، وهو أنه لما دعى سارع الناس إلى رميه بما عرفوا من حاله، ونقضه بما تيقنوا من نقص خلاله، وأرشده بعضهم إلى إظهار التوبة عما ارتكبه من مجانبة الورع والحوبة،  فأظهرها طمعاً في عدم الفوت لمرامه والخيبة، ويا عجباً من هذه القضية المعكوسة، والخطة المنكوسة، فإن الإمام الذي يأمر الناس بالتوبة عن الآثام، والطاعة لباري الأنام، لا أنهم يأمرونه بالإنابة، ويلتمسون منه الإذعان للإقلاع والإجابة، بل يا عجباه من ذكر الناس له وعدم ذكرهم لمن هو قبله، لأن السبب إن كان تقدم الدعوة فدعوة غيره أقدم، وإن كان عدم ذكرهم للأول لعدم كماله، فما أحد أمره بالتوبة لقبح فعاله، وإن كان لنقصان علمه فقلة العلم خير من علم لا يعمل به، ولعمري إن الأمر ظاهر واضح غير مفتقر إلى البيان، وإن تجلية الجلي من أشق ما يعانيه الإنسان، ولكنا نوردُ نكتاً شافية، ونتكلم على فصول بالمراد وافيه تشفي صدور المسترشدين، وتدمغ هامات المعاندين المعتدين، وتكون نافعة إن شاء الله تعالى في أمر الدين.

الفصل الأول: في قلة جدوى العلم بلا ورع، وأنه يضع ولا يرفع.

الفصل الثاني: في أن العدالة قطب رحى الإمامة، ونقطة بيكار شروطها العامة، وملاك أمرها، وخلاصة سبكها وسرها.

الفصل الثالث: أن التوبة بعد الدعوة لا حكم لها في تصحيحها، ولا قبول، ولا تعويل عليها لأرباب العقول.

الفصل الرابع: أن تقدم داع غير صالح ولا فاضل، من أبلغ المرجحات والموجبات لدعوة الكامل، لأن ذلك مانع عن دعوة الصالح وحائل.

وبتمام هذه الفصول يحصل المراد ويتم السؤال، ويستغنى عن ذكر فلان وفلان، وإن كان فيما مضى من زمانه وكان، وذلك بيان لا يفتقر إلى بيان، ونحن ممن لا يحب إظهار المخازي والمعائب، ولا حكاية النقائص والمثالب، وإن كانت معلومة بمشاهدة الحواس الناظرة، ومنقولة بالأخبار المتواترة، نسأل الله السلامة من مقتضيات الملامة والندامة.

 

الفصل الأول

اعلم أنَّ العِلْم الَّذي لا يعمل به كالكنـز الذي لا ينفق منه، ومجانبة العالم للعمل دليل على أن عقيدته فاسدة، وإيمانه مبني على غير قاعدة، فإن الخشية من الله على قدر معرفته ومراعاة العبد لطاعته على حسب عقيدته، ولهذا كان أشد الناس معرفة له أشدهم خوفاً منه، كالملائكة  عليهم السلام ، فقد ذهب بعض أئمتنا إلى أن معرفتهم لباري البرية معرفة ضرورية، وقد قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}([النحل:50] وورد في خوفهم من الأخبار ما ورد من ذلك تضاؤل جبريل من خشية الله حتى يصير بعد العِظَم في غاية القماءة، وقال سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فكل متسم بسمة العلم لا يخشى الله ولا يتقيه حق تقواه فليس من العلم في شيء.

قال جار الله: ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً، ومن كان علمه به أقل كان آمن، وفي الحديث: ((أعلمكم بالله أشدكم خشية))، انتهى.

وقد ورد في التحذير من العالم غير العامل والتهديد له مالا يخفى ولا يكاد يحصى، وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم : ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع))، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه() فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان ما شأنك أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه)) ()، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقارض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون مالا يفعلون)) ()، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((لَلزَّبانية أسرع إلى فسقة القراء منهم إلى عبدة الأوثان، فيقولون: يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال لهم: ليس من يعلم كمن لا يعلم)) ()، وفي رواية: ((أول من يدخل النار العلماء الذين لا يعملون بعلمهم... )) الخبر، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تزول قدما عبد حتى يسأل [عن أربع] عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه)) ()، وعن معاذ بن جبل قال: تعرضت أو تصديت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وهو يطوف بالبيت، فقلت: يا رسول الله: أي الناس شر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((اللهم غفراً سل عن الخير ولا تسأل عن الشر، شرار الناس شرار العلماء في الناس)) ()، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((رب حامل فقه غير فقيه، ومن لم ينفعه علمه ضره جهله)) ()، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم  من حديث: ((وكل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به)) ()، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه)) ().

نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا بفضله وكرمه.

 

الفصل الثاني

اعلم أن شروط الإمامة معروفة غير منكورة، ظاهرة لأهل التمييز مشهورة، ولكن الفضل فيها للعدالة المتحققة، وهذا الشرط هو عمدة الشروط، وعنه يتفرع عدة منها، وبه يستدل على جمعها وتحصيلها، أما كون بعض الشروط تتفرع عنه فلأن العدل لا بد أن يكون ورعاً عن محارم الله تعالى، مقيماً مؤدياً لفرائض الله، وأن يكون سخياً لا يبخل، فإن الشح والبخل من أعظم القوادح في الدين، فقد تكرر في الكتاب المبين قصر الفلاح على من وقى من هذا الخلق الذي يشين قال تعالى: {ومَنْ يُوقَ شُحَّ نفْسِهِ فأُولئكَ هُمُ الْمُفلِحُون} [الحشر:9]، وكيف يكون عدلاً من يبخل بالحقوق عن أهلها، ويمنعها من مستحقها، وأن يكون شجاعاً، فإنه يتفرع على العدالة مجانبة الجبن كالفرار من الزحف، فإنه فسق لا يرتكبه من له ديانة وتورع عن محارم الله تعالى، وقد ذكر في (البحر) ما يفي بهذا، فإنه لما ذكر شروط العدالة قال: وهو ينطوي على الورع والشجاعة والسخاء، وأما كونه يستدل بثبوت هذا الشرط وحصوله على جمع سائر الشرائط المعتبرة وتحصيلها، فلأن من عُلِمَتْ عدالته، وثبتت ديانته لا يقدم على هذا الأمر الجليل من غير تكميل لشرائطه وتحصيل، إذ لو قدرنا ذلك منه لكان غير عدل والمفروض خلافه، فإنَّ ادّعاء الإمامة من غير جمع لشروطها، والإقدام على إتلاف الأموال والأرواح بغير أهلية لذلك ولا صلاح، شاهدٌ بالجرأة على الله والتعدي لحدود الله تعالى، وهذا نظر محرر وبيان لا ينكر، وهذا الشرط لم يخالف في اعتباره أحد من الفرقة الناجية الزيدية وسائر فرق العدلية، بل روي الإجماع التام على اعتباره قال في (البحر):الثالث (يعني من شروط الإمامة): العدالة، لإجماع السلف، واستشهد على أنه لا يعتبر غير العدل بقول بعضهم:

وكيف يقوم الظل والعود أعوج

 وقال في (المنهاج): السادس أن يكون ورعاً اتفاقاً، لأنه ما لم يكن كذلك فلا وثوق به على أموال المسلمين ودمائهم وحفظ الأوقاف، ولا يؤمن أن يخل بانفاذ ما نصب لانفاذه، فإن الورع كما يعتبر في الترك يعتبر في الفعل، وإن كان الأول أظهر، وهكذا روى الاتفاق على اعتباره لسان الأشعرية وعالمهم ابن الخطيب في نهاية العقول، فإنه قال: الرابعة (يعني من صفات الأئمة): أن يكون عدلاً، لأن الفاسق ربما يصرف الأموال إلى أغراض نفسه فيضيع الحقوق، ثم عد شروطاً غير العدالة، وقال معها بعد ذلك: فهذه الصفات الثمانية معتبرة بالاتفاق، وقد روي الخلاف في اعتبار العدالة عن الحشوية، وهي مقالة ساقطة مصادمة للقرآن لا يفتقر بطلانها إلى بيان، مع أن بعض من رواها من علمائنا قال ما لفظه: وقيل إنهم لا يخالفون في اعتبار الورع عند عقد الإمامة، وإنما خلافهم في الفسق الحادث بعد انعقادها لعدل، وتأول بعضهم ما صرح به النواوي() وغيره مما يقضي بعدم اعتبار العدالة، على أن المراد أن غير العدل إذا تغلب نفذت أحكامه، ووجبت طاعته، لا لكونه إماماً في نفس الأمر، بل استصلاحاً وبناء على ذلك أقل مفسدة، وأقرب إلى السداد من الخروج عليه وإثارة الفتنة، فإذاً لا خلاف على الحقيقة في نفس الاشتراط، ولم يعلم من الاتفاق في شيء من الشروط كالاتفاق في العدالة، ولا سقوط الخلاف في غيرها كسقوطه فيها، فإن العلم والاجتهاد مع عظم الحاجة إليه ومدار الإيرادات والإصدارات عليه قد خالف في اعتباره من به الاعتبار، وصرح بعدم اشتراطه بعض الأئمة الأطهار وأشياع العترة الأخيار،  ونسب عدم إحرازه والتقصير فيه إلى بعض أئمتنا المتأخرين الأخيار.

 وهاهنا قاعدة عظيمة الفائدة، وهو أنه قد اشترط في الإمام ما هو أعلا حالاً من العدالة، وهو الفضل، فإن الأصح من تفسيره أن يكون للإمام من المحافظة على الطاعات والتجنب للمكروهات ما يعتاده كثير من الصالحين، فيكون بينه وبين القبيح حاجز، وكذلك بينه وبين الإخلال بالواجبات ليبعد بذلك عن الإقدام على القبيح وترك الواجب، هكذا فسره بعض العلماء الأكابر، وقال: هذا هو المعتمد عليه بل قال: اشترط الزيدية وبعض المعتزلة الأفضلية ومنعوا إمامة المفضول، قال: وفي بعض كتب علمائنا حافلة، وهل تصح إمامة المفضول أم لا؟ اختلف في ذلك، فالذي عليه الزيدية وبعض المعتزلة منهم عبَّاد() أن إمامة المفضول لا تصح، وممن نص على ذلك القاسم والهادي والناصر والمؤيد، قال الناصر: ويفسق المفضول إذا سبق الأفضل بالدُّعا إلى الإمامة وأجاز الشيخان إمامة المفضول لعذر، وفي شرح الإبانة أن كونه أفضل شرط عند المعتزلة بأجمعهم وجميع الشيعة وأبي القاسم الكعبي().

قال بعض العلماء: والذي يدل على اشتراط كونه أفضل ما ذكرنا من الإجماع الدال على اعتبار الفضل، فإنه أيضاً دلّ على اعتبار كونه الأفضل.

قال في أنوار اليقين: لا خلاف في ذلك، واختلاف الصحابة في الأربعة إنما كان لاختلافهم في الأفضل.

ولا يعلم منذ علي عليه السلام  إلى وقتنا هذا قبول داعٍ واعتباره وهو معروف بالتخليط وقلة الورع، بأن يظهر التوبة بعد دعوته أو ينبه عليها، فيسعد إليها ليتم مراده، وأن هذه لقضية قطعية، وخطيئة شنيعة، فإن الإمام تؤخذ عنه الأديان، ويتصرف في الأرواح والأموال، ويستأمن على حقوق الله، وينفذ ما حكم به وقضاه، فكيف ذلك والورع معدوم، وعدم العدالة معلوم، والإقلاع عن الظلامات موهوم؟ لقد وجد الشيطان طريقاً إلى التمويه، ومدخلاً من جنبة التلبيس والتشبيه، فهلموا بنا رحمكم الله تعالى إلى بناء الأمور على قواعدها ومطالعة أسفار العلوم الدينية لنطلع على فوائدها، ودعوا ما يريبكم إلى مالا يريبكم، كما أمر به في صحيح الأخبار نبيكم، فإن الحق أبلج، والباطل لجلج، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب،  والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك))  ، واعتبروا الورع فإنه عمدة الشرائط وواسطة الوسائط عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم : ((بئس العبد عبد تجبر واختال، ونسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد مستحل المحارم بالشبهات)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((كن ورعاً تكن أعبد الناس...)) الخبر ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((خير دينكم الورع)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((أفضل الدين الورع)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البائس)) ()، وقيل له صلى الله عليه وآله وسلم : من الوَرِع؟ قال: ((الذي يقف عند الشبهات)) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((يا كعب بن عجرة: إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبت على سحت النار أولى به، يا كعب بن عجرة: الناس غاديان، فغاد في فكاك نفسه، وغاد فموبقها)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((الدنيا خضرة حلوة من اكتسب فيها مالاً من حله وأنفقه في غير حقه أدخله الله دار الهوان)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا يعجبنك رحب الذراعين بالدم، ولا جامع المال من غير حله، فإنه إن تصدق لم يقبل منه، وما بقي كان زاده إلى النار)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((يأتي على الناس زمان لا يبالي الإنسان ما أخذ أمن الحلال أم الحرام، فإذ ذاك لا يجاب لهم دعوة)) ()، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم  في حديث: ((لا يكسب عبد مالاً حراماً فيتصدق به فيقبل منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار)) ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((من اكتسب مالاً من مأثم فوصل به رحمه أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك كله فقذف به في جهنم)) ()، وفي هذا النوع من الأخبار كثرة وسعة، لكن اقتصرنا على ما ذكرنا لحصول الكفاية به، وخشية التطويل، وذلك السبب أيضاً في حذف رواة هذه الأخبار المذكورة وعزوها إلى الكتب المشهورة، ومن الأحاديث الشهيرة المتداولة في الورع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، وتوفيتم بين الركن والمقام ما نفعكم ذلك إلا بالورع))، وناهيك بهذا الحديث وما قبله دالاً على فضيلة الورع، وأنه لا خلاق لمن لا يتصف به، ولا اعتبار بمن عرف بغيره وأنفق فيه عمره، وقد أورد بعض الإخوان الأعيان على المشار إليه  سؤالاً فيما ينقد عليه وينسب إليه، فما أجاب ببنت شفة، ولا أنبأ عن موصوف ولا صفة.

 

 

الفصل الثالث

غير خاف أنَّ التوبة تلاف لما فرط من التائب وسلف منه من المعاصي والمثالب، فينبغي أن يكون التلافي على أبلغ وجه يمكن أن يقع عليه، وهو أن يندم غاية الندم على ما سبق منه وتقدم، ويعزم في المستقبل على أن لا يعود إلى شيء من جنس ما ندم عليه، ويكون ذلك خالصاً لوجه الله تعالى، وموجباً لزوال سخطه وحصول رضاه، قال الله سبحانه:{ياأيُّهَا الَّذِيْنَ آمنُوا تُوبُوا إلى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحا} [التحريم:8]، والمراد متداركة للفرطات ماحية للسيئات، ومن التدارك اللازم الدال على أن التائب على الحقيقة نادم أن يخرج الظالم عن المظالم، ويتقصَّي عن الجنايات والجرائم، لا يقصد سمعة ولا رياء، ولا نيل عرض الحياة الدنيا، ولا تمام أرب يحاوله، ولا نجح مرام يزاوله، عن علي عليه السلام  أنه سمع أعرابياً يقول: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فقال: ((يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين، قال: فما التوبة؟ قال يجمعها ستة أشياء:على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة، ورد المظالم واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي)، فتكون توبة من أراد أمراً يناله فصد عنه بأن وصفت بالقبح أفعاله، فحمله الإشفاق على تمام ما رام على أن يظهر التوبة عن المعاصي والآثام، وهل يدرج ذلك على أريب أو يلتبس في نظر اليقظ اللبيب، ولقد وقفنا على كتاب فيه أن هذا المشار إليه لما كاتب بعض الكبراء والتمس منه الإجابة، أجاب عليه: بأنك كنت على مالا يرتضى، فلو أنك أظهرت التوبة عما سلف منك لعل ذلك يكون سبباً في حصول مرامك، وكأن ذلك أتى يعترف بما كان يقترف ليبطل دعواه، ويقل جدواه، فلم يكن بأسرع من رده للجواب بإظهار المتاب، فيا للعجب العجاب من هذه التوبة التي قُصِدَ بها تحصيل الإجابة لا الإنابة، وكانت باللسان والقلم لا بالجنان والندم، هل مثل ذلك إلا معتبه لا منقبة، ومخزية لا مرضية، فإن إظهار الطاعة لا لوجه الله أخسر بضاعة، {أفمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلاَّ أنْ يُهْدَى فمَا لَكُمْ كَيفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35] سلَّمنا أن هذه التوبة التي ظهرت لنا لا نعلم ولا يغلب على ظننا أنها غير خالصة لله، ولا قصد بها رضاه، بل توبة لا يعلم قصد ولا سر غايتها، أليست الإمامة محتاجة إلى العدالة المحققة، وكل من سقطت عدالته فلا بد من الخبرة له بعد التوبة اتفاقاً فيمن كان ذلك حاله قبل الدعوة، واختباراً فيمن عرض له سقوط العدالة بعد ثبوت الإمامة، وإذا كان رجل معروف بعدم العدالة ثم تاب وأدَّى شهادة عقيب التوبة في درهم أو دونه لا تقبل شهادته ولا توقف حتى تتم خبرته، بل يكون وجودها كعدمها، وأداؤها ككتمها، فما ظنك بمن يروم الإمامة والتصرفات العامة، وتولى أموال الله، والإستيلاء على تصرفات شرع الله، يا لله من هذا اللبس الذي عرض في الدين ووسوست به الشياطين.

قال في (شفاء الأوام) في حق من فعل ما يقدح في الإمامة بعد ثبوتها: لا بد من وقوع التوبة ظاهراً أو وقوع الإختبار، وأقل مدة الاختبارسنة، ثم يجدد الدعوة بعد ذلك، لأن حاله لا يقصر عن حال الشاهد، فقد ذكر العلماء أنه إذا تاب اختبرت توبته مدة وقدر بعضهم سنة، والإمام بذلك أولى، لأنه يتصرف في الدماء والنفوس والأموال، انتهى.

وإذا كان هذا في حق إمام قد ثبتت عدالته وصحت ديانته وأمانته هفا هفوة ثم تاب عنها، فما ظنك بمن لم يثبت ذلك في حقه، وكان منذ شب إلى أن شاخ على التهور والتخليط، والتجري والتخبيط، {إنَّ فِي ذلك لَذِكرى لِمَن كان له قَلْبٌ أو ألقى السَّمْعَ وهُو شَهِيدٌ} [ق:37]، {ياأيُّهَا الَّذِيْنَ آمنوا كُونُوا قوَّامين لله شُهداءَ بِالقِسْط} [المائدة:8]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].

الفصل الرابع

لا خفاء في أن الإمامة شرعت لتحصيل مصالح دينية ويبنى عليها كثير من الأحكام الشرعية، فلذلك وجب على الأمة نصب الإمام، وتحتم عليهم القيام بهذه الفريضة والاهتمام، فإذا خلي الزمان عن الدعاة وجب على المسلمين العناية في إمام يقوم بما أمره إلى الولاة، وهذا شيء لا نزاع فيه ولا خلاف، أدلته ظاهرة غير خواف، وإذا دعا داع لا يصلح للإمامة، ولا يليق به تحمل التكاليف العامة، كان توليه للتصرفات، وقبضه للحقوق الواجبات، وإقدامه على إتلاف الأرواح والأموال، من أعظم المفاسد والضلال، وكان كل إصدار منه وإيراد، من البغي في الأرض والفساد، فحينئذ يجب على المسلمين المتقين، العناية في دفع هذه المفسدة العظيمة في الدين، والسعي في قائم حق يدعو إلى الطاعة جميع الخلق من أجل أن الذي شرعت له الإمامة من المصالح العامة لما يحصل الغرض منه ولا يسقط الواجب فيه، فإن قيام غير الصالح لا يحصل به تحصيل المصالح، ومن أجل دفع هذه المفسدة المذكورة والقضية المنكورة ودفع المفاسد أهم من تحصيل المصالح والفوائد، فمع عدم الداعي يجب نصب الإمام من وجه واحد، وهو تحصيل ما شرعت الإمامة لتحصيله، ومع تقدم داع غير صالح يجب نصب الإمام الصالح من وجهين:

أحدهما: القيام بما أمره إلى الأئمة، وتحصيل مالا يحصل إلا بقيامهم من المصالح، إذ قيام المتقدم غير الكامل لا يحصل به الغرض في ذلك بل عكسه.

ثانيهما: دفع ما يقع بسبب قيام غير الكامل من المفاسد، وبناء الأمور على خلاف القواعد، وهذا أهم الأمرين وأعظمهما فوائد، فالعجب ممن اعتقد أن تقدم داع قاصر، قادحٌ في دعوتنا التي سلطانها قاهر، ويقال لهذا المشار إليه، ولمن عول من ذوي ضعف البصيرة عليه: هل يقولون أن تقدم أي داع كان، مانع من دعوة كامل عظيم الشأن؟ أو المانع تقدم دعوة الكامل المجاب، الذي ليس في كماله شك ولا ارتياب؟

إن قلتم بالأول فليس على قولكم معول، وقيل لكم: قد تقدم قبل داعيكم داع، طبقت دعوته جميع الأسماع، فقد سبقتم إلى الزلل، وظهر تناقض القول منكم والعمل، وإن قلتم بالثاني، واعتذرتم في دعوتكم بأن دعوة من قبلكم منهدمة المباني، قلنا: صدقتم في الاعتقاد وأصبتم، وأخطأتم في تخطئتكم لنا وخبتم، فإنا نعتقد في الثاني كاعتقادكم في الأول، بل أعرض من ذلك وأطول، ومعنا طريق التواتر والمشاهدة، وجميع الألسن بما أشرنا إليه شاهدة، ومن أثنى الناس عليه شراً وجبت له النار، بنص المصطفى المختار في صحيح الأخبار، والأمر بحمد الله واضح وضوح النهار، لكنه لا يدرك نور الشمس من سلب نور الإبصار.

قد تـنكر العين ضوء الشمس من رمد

 

إذا لـم يكـن لـلمرء عين صحيحة

 

 

فـلا غـرو أن يـرتاب والصبـح مسفر

 وقد تمت الفصول، الثابتة الأصول، ويحصل من الهداية لمريدها أبلغ محصول، فمن سلم من العناد سلك سبيل الرشاد، ومن غلب عليه شيطانه، وخفى عليه مقر الحق ومكانه، كان عليه وبال أمره، ونحن بحمد الله في غنية عن نفعه وأمن من ضره، فإنا لم نقم إلا والإخلاص لله قرين أعمالنا، والنصر من عند الله منتهى آمالنا، وليس لنا على غير الله ارتكان، وحسبنا الله وكفى ونعم المستعان.

وهاهنا [خاتمة ]

لا يجد المعاند إلى دفع ما حَوْتُه سبيلاً، ولا يورد في رد ما اشتملت عليه شبهة ولا دليلاً، وهي تشتمل على نوعين أحدهما: أن المقصود من الإمامة لما كان حصول ما شرعت له من تنفيذ الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وغير ذلك من الصلاح العام، كإقامة الحدود، وتجنيد الجنود، وإظهار شعار الإسلام، وتولية القضاة والحكام، فنحن إذا فرضنا داعياً دعا، فما أجابه من يتم به مراده ولا وفا، فالذي يدعيه ساقط، ويصير لعدم الإجابة كمختل الشرائط، ولما دعا من قبلنا لم يلب دعوته أحد من الألباء، واعتمد على مجانبته الأديان النجباء، ولم تُنفِّذ أحكامه، ولا رعفت بمصلحة أقلامه، ولا عبرة بإجابة شذوذ لا تجدي إجابتهم، ولا تنجع إعانتهم، فليس الغرض يتم بهم، ولا يحصل بمشايعتهم، فلينظر أهل الأفكار المنورة، والأنظار المحررة، فيمن تقدمت دعواه، وتأخرت دعوته من الذي حصلت إجابته وتلبيته، فقد تقدم من تقدم، فما حل ولا أبرم، ولا ضر ولا نفع، ولا فرق ولا جمع، مع توالي الليالي والأيام، وبلوغ دعواه إلى جميع الأنام، بل أظهر الناس الكراهة للإئتمام، ولقد ورد فيمن أمَّ بقوم وهم له كارهون في الصلاة ما ورد   ، فكيف بالإمامة الكبرى مع عظم حالها، وتولي أزمة الحل والعقد وإلزام الطاعة في الأمور الشاقة من الجهاد، وسائر أنواع الاجتهاد؟ فليست إمامة الصلاة فيما يرجع إلى المؤتمين من التصرف عليهم يوازن شيئاً من تصرفات الإمامة الكبرى، فإن كان الداخل في الإمامة الصغرى مع الكراهة له آثماً، فأولى وأحرى في الكبرى، وقد منعنا من قياس البكرية لخلافة أبي بكر على إمامته في الصلاة، وقلنا للإمامة الكبرى شأن عظيم وخطر جسيم، فلا أقل هاهنا من أن يجعل حكم الكبرى كالصغرى في إثم من تولى أمرها مع الكراهة له.

ونحنْ لما قُمْنا لله، ودعونا الخلق إلى طاعة الله، لم يصدر ذلك منا إلا مع حضور أنصار وأي أنصار، وفضلاء ليس لعددهم إنحصار، وعهود ممن غاب عنا من أهل البوادي والأمصار، وإظهار رغبة ومحبة عظيمة بقيامنا من الغائبين والحضار، ثم لما دعونا بين الصلاتين من نهار، لم يكن يأتي ذلك اليوم المعهود إلا وقد وفدت الوفود، واجتمع الشاهد والمشهود، ولم نزل منذ تلك الساعة نميت بدعة ونحيي طاعة، وتجتمع بأيدينا الأموال ونحن نخرجها ونصرفها في ذوي الإقلال، ونطعم الطعام، ونتعهد الأرامل والأيتام، ونبلغ سائلنا وآملنا المرام، والناس يدخلون في الطاعة أفواجاً ويردون إلى بابنا أفراداً وأزواجاً، فنتحكم عليهم في طاعة الله، ونبايعهم على إقامة ما شرع الله، ونرفع العوائد المستفيضة، ونؤسس الفوائد المستصلحة، وهم محبون مطيعون، مجيبون مستمعون، فوق ما تخيله الأوهام وتعلق به الظنون، ومن غاب فالأخبار تنمى إليه، ويرد بها من لم يزوده عليه، وكفى بالموقف المحمود والمقام المشهود الذي لا تبلغه الظنون والوهوم، الواقع بنواحي بلاد الأهنوم، فإنا لما انتهينا إلى تلك الجهات، أهرع إلينا العلماء والفضلاء والأثبات، وبلغ عددهم مئات، لم يزالوا في تنقيرهم وبحثهم واجتهادهم في فهم كمالنا، يوردون علينا غوامض المسائل في الفنون، ويفحصون عن جمعنا لشرائط الإمامة ويجهدون، حتى علموا أن محلنا في ذلك هو المحل الأعلى، وأنَّ قَدَحَنا هُو القدح القاهر المعلى، فحينئذ ازدحموا على بيعتنا، وانخرطوا في سلك شيعتنا، وساروا بين أيدينا، وأظهروا ما اطلعوا عليه فينا، وصاحوا بصحة إمامتنا، وبطلان أولي معارضتنا من الأسواق، وكتبوا بذلك الأوراق إلى جميع الآفاق، وهم أفضل علماء الزيدية بالاتفاق، الذين لا يشق() لهم غبار في الفضل والعلم، ولا يعلم لهم مدانٍ في الفهم والحلم، والمعارض حينئذ بالقرب منا ومنهم، فلم يلتفتوا ولا عولوا عليه، بعد أن حكمهم وكاتبهم، وراجعهم في شأنه وخاطبهم، فشهدوا عليه أنه على الباطل، وأن جيده عن حلي شروط الإمامة عاطل، ولم يسمع أنه كان في شأن أحد من الأئمة  عليهم السلام  مثل ذلك المقام، والإجماع من غير اختلاف، والاهتمام مع الإئتلاف، ثم تمت الإجابة واستطالت، وقدم البقية من العلماء والمتعلمين وانتالت، يمرون أيديهم للمبايعة، ولا يتأخرون عن المشايعة، وصرنا نجوب البلاد شرقاً وغرباً، وننتقل من حال إلى حال بعداً وقربا، والأمة يدخلون في الطاعة قبيلاً قبيلاً، وجيلاً منهم يقفو جيلاً، بحيث أنا لم نحتج إلى إراقة دم، ولا رمي بحجر ولا سهم.

فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتعم البركات، ونسأله المزيد من نعمه وإفاضة سجال فضله وكرمه، وكفاية مرهوب سخطه ونقمه.

النوع الثاني: لا شك أن أهل كل جهة من الجهات أخص بمن فيها، وأعرف بخصائصه وأكثر اطلاعاً على ظواهر أحواله وبواطنها، ممن نأت داره وشط مزاره، ولم تبلغه إلا الأخبار، على ألسنة السفار، ولا شك أيضاً أن كل جهة لا تخلو بحمد الله عن ذوي فضل ودين، وصلاح ويقين، وهذان أصلان لا يحسن دفعهما، ولا يمكن منعهما، فنقول: ينظر الناظرون في حالنا وحال من عارضنا بهذا الاعتبار المذكور الواضح، ليظهر الصالح من الطالح، فنحن لا نعلم واحداً من أهل جهاتنا وما يليها وممن قد عرفنا وخبرنا نآى عنا وقدح فينا، بل قائلون موالون، مطيعون سامعون، يثنون خيراً ويمدحون، ويشهدون بالكمال ويمجدون، والمعارض له جهات شتى، منها منشؤه، ومنها موضع تدريسه، ودار إقامته بعض عمره، ومنها البلدة التي خرج منها بعد أن استقر فيها واستوطنها، ولا نعلم واحداً من أهل هذه الجهات قال به أو اعتزى إليه أو عوَّل عليه، بل جميعهم نافرون نافون، مصرحون بمثالبه متفوهون على كثرة فضلائهم وعلمائهم، ونبلائهم وحكمائهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار، جعلنا الله جميعاً من أهل الاعتبار وعدم الاغترار، والحمد لله آناء الليل وأطراف النهار، والصلاة والسلام على محمد المختار، وآله الأطهار، تم ذلك بحمد الله ومنه وكرامته.

 

 










رسائل الإمام عزالدين عليه السلام  بعد دعوته
وبعض مكاتباته


 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

رب يسر وأعن يا كريم

هذه نبذة من رسائله عليه السلام  وكتبه المحبرة، المتضمنة للفوائد المحررة، بالعبارات السلسة، والإشارات النفيسة، وهي لفصاحتها وبلاغتها وما احتوت عليه من الغرائب، لا يليق إهمالها وعدم تعليقها.

وإنـما الـمرء حـديث بـعده

 

فـكن حـديثاً حـسناً لـمن وعـى ()

 أو كما قال القائل:

إن آثـارنا تـدل عـلـينـا

 

فـانـظـروا بـعـدنـا إلـى الآثار

[كتاب كتبه إلى بعض علماء صنعاء]

فمنها هذا الكتاب كتبه إلى بعض علماء صنعاء

قال فيه بعد حذف ترجمته   ما لفظه: وبعد؛ فورد كتابه الكريم، وخطابه الوسيم، ومما ذكره مما ربما يبلغ عنه من الأقوال التي ليست بمعجبة، والأحوال الغير المناسبة، وصرح به من إنكار ذلك، وأنه لا يسلك تلك المسالك، فالذي ذكره هو اللائق بمعرفته، وهو مصدق فيه، فالمؤمن من صفاته الصدق والتصديق، وهو المنهج الذي ينبغي أن يمشي فيه أهل التحقيق، ولا كلام أنه قد نُقل ما نُقل، وقيل ما قيل، ولسنا ممن يصغي إلى القال والقيل، وإنما عتبنا في أمر مقطوع به، غير مشكوك فيه، وهو الإضراب عنا، والإغراب منا، وإنك بسلامتك سلكت مسلك من يجعل الإمام نسياً منسياً، ولا يعتقد أن له حقاً شرعياً، فلا مكاتبة ولا مراسلة، ولا مزاورة ولا مواصلة، ولا دعاء إلى جانب الإمام، ولا قيام بشيء من حقه ولا اهتمام، ولا ذب عنه لمن يلسعه بحمة الملام، ويجتري في حقه على قبيح الكلام، فإن كان هذا شرع الله، والذي افترضه على المسلمين في حق الإمامة والإمام، فلا ثمرة حينئذ لها، ولا معول عليها، إذا كان الإمام يدعو ويقوم بهذا الأمر، ولا واجب له على أحد من المسلمين، فما أشبهه بما يقوله العامة، وتضرب به المثل، وهو صارخ في قفر، وإن كان يجب له الموازرة والمناصرة، وحسن المظاهرة، فما نعلم لك بسلامتك عذراً عن ذلك، وكونك من أهل المعرفة يتأكد به الحق عليك، وتقوم به الحجة، وقد كان للسلف الصالحين والعلماء الراشدين من الاجتهاد مع الأئمة مالا يخفى، من ذلك سعي حي الأمير الكبير شيخ آل رسول الله شمس الدين () في الدعاء إلى الإمام المنصور حتى ورمت قدماه، وكان كبير السن جليل القدر، كمالا يخفى حاله على مميز، والفقيه حميد الشهيد سعى مع حي الإمام أحمد بن الحسين، حتى ذهب قتلاً، وكم نعد من هذا الجنس فإنه مالا يأتي عليه الحصر، والملة واحدة، والمذهب واحد، والآخر يقفو أثر الأول، وما ذكرته من كون قطع السبب الذي قد كان أجري، لا يمنع من القصد إلى الحق، فنعم القول ما قلته، إذا صدقه الفعل ()، وهكذا ليس يتغير حال الإنسان مع الإعطاء والمنع إلا إذا كان من المقتفين لآثار المنافقين الموصوفين بذلك في القرآن المبين، وما ذكرته من أنه منعك من شيء تستحقه فالمنصف الله، فهذا كلام لا شك في صوابه، إذا بقي على ظاهره، فإما أن قصدت به الاستنصاف منا، ورمزت به إلى أن لك حقاً علينا، مما حققت بسلامتك النظر، وكيف تدعي ثبوت حقك علينا وأنت مسقط لحقوقنا، فلك عدَّة من السنين ما علمنا أنك سمحت لنا بكتاب، أو ذكرتنا كما يذكر من غاب، وما وجه الاستحقاق وأنت في جهة لا تنفذ لنا فيها أوامر، ولا تجبى إلينا منها الحقوق موفرة، ولا لك فيها سعي يتعلق بنا، ولا نقبض نحن زكواتها فنضعها في فقرائها، وإن صار إلينا منها شيء فليس عشر العشر من العشير، ولا تتعلق به حصة مسكين ولا فقير، ثم أنَّا لو كانت الحقوق تجبى إلينا، وترد من كل قطر علينا، فقد صرح الأئمة الأعلام -كالمنصور بالله عليه السلام - أنه لاحق على الإمام لمن تهاون بأمره، وتغافل عن إعانته ونصره، ولست بالموجب حقاً لمن لا يوجب الحق على نفسه، ثم إنك ختمت كتابك بالاستغفار والاعتذار، فأحسنت وأصبت، وذلك منك مقبول، وأنت الآن على أحسن الوجوه عندنا محمول، ونحن نختم الجواب بأن نقول لك هنا ما تطيب به نفسك، ويجتلب به إنسك، وقد صرنا على عزم الحركة المباركة إلى جهتنا اليمنية، فمتى صرنا إليها وصلت إليها أو بدا باديك علينا، وما خاب لك أمل، ولا ضاع لك عمل، إن شاء الله بعد السلام، والدعاء مستمد، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

تم ذلك.

قال كاتب الرسالة: والعجب منه عليه السلام  فإنه كتب هذا الكتاب في حال المحاضرة وعدم الفراغ، وهذه شنشنة () في كتبه ورسائله أنه لا يكاد يكتبها إلا على أو فاز   لكنه ممن بالقدح المعلى في البلاغة فاز، ولأنواع الكمال حاز، والحمد لله تعالى.

 

[كتابه عليه السلام إلى عبد الوهاب الطاهري]

وكتب كتاباً إلى عبد الوهاب بن داود بن طاهر  سلطان اليمن في وقته، وهو هذا:

سلام الله السامية قبابه، الهامية ربابه، القوية أطنابه، المثبتة أسبابه، يعقد نطاقه، ويمد رواقه، على الشيخ الأجل الأكرم، المقام الأعظم، سلطان اليمن، وعمدة ملوك الزمن، عفيف الدنيا والدين، المتحلي من تيجان الرئاسة وجواهر عقود السياسة بكل ما يزين، والله تعالى يسبغ عليه سرابيل نعمه، ويجري عليه ينابيع جوده وكرمه، ويزيده من فضله، ويزين الأيام والأعوام بطيب سيرته وعدله.

وبعد: فصدور هذا في شهر ربيع الأول من هذا العام عام تسعين وثمانمائة، والأحوال بحمد الله مقرونة بالصلاح، والأعمال بتوفيق الله مؤذنةٌ بنجاح، بنيل الأرباح، والآمال، -إن شاء الله- مشفوعة بالنجاح، والآلاء من عند الله صيبة الأمزان بالمساء والصباح، والأنباء المستطابة من لدينا يُغْدَى بها ويراح، ويهتز النائي لسماعها ويرتاح، مُعَرِّفة للمقام أمده الله بتأييد التوفيق المستدام، وبلغ في مساعيه ما يأمله الصالحون على الوفاء والتمام، بأن كتبه الكريمة انتهت إلينا، وأن طروسه العظيمة وردت علينا، فأرَّجَتِ الأندية بحسن نشرها، وعطرَّت المجالس بطيب عطرها، وراعت الأسماع بجواهر ألفاظها ودررها، وفاقت في المناظر بوسيم روضها وزهرها، قاضية بأن حبل الوداد متين، نافية لزعم من يدعي أنه مقطوع الوتين، عاقدة بحصول الوفاء الذي يجمل بمقامك ويزين، واعدةٌ بتجنب ما يستهجن من المعاملة في حقنا ويشين، خلا أن كتبكم كلما أطمعت في الوصال، والاستمرار للمودة والاتصال، آيست من ذلك وقضت بالانفصال، أفعالُ من يتعلق بكم من السفهاء وينسب الأفعال، ونحن في مسطورنا هذا نوضح الكلام، ونحسر عما في النفس اللثام، ونودع الكتاب نبذة لطيفة من العتاب، فإنه صقال للأفئدة، وإبرام لأمراس المودة المؤكدة، قد عرفتم حفظكم الله ما كان من قيامنا لله، ودعوتنا إلى الله، فكانت بحمد الله دعوة محمودة مجابة غير مردودة، وتوجه بذلك الحق لنا على المسلمين كافة، وصارت لوازم أمره بالمكلفين حافة، يستوي في ذلك السوقة والملوك، والغني والصعلوك، كما يقضي بذلك الشرع الشريف، وأدلة الدين الحنيف، وكان من أهل الرئاسة في نواحينا، ومن يتاخمنا منهم ويلينا، أن حسدونا ارتقاء هذه الدرجة الرفيعة، وعظم عليهم إمتطاء كاهل تلك الرتبة المنيعة، فنصبوا لنا العداوة، وعاملونا بالنَبْوة () والقساوة، ولما انتهت إليكم دعوتنا وبلغتكم كتبنا واهابتنا، تلقيتم ذلك بالأخلاق الكريمة، وعادت إلينا أجوبتكم الوسيمة، ولم تنقطع عنا صلتكم ومواصلتكم الحميدة غير الذميمة، فحمدنا الله على ذلك، وشكرنا لكم سلوك تلك المسالك، ورجونا أن ينتعش بمناصرتكم جواد الحق، وأن تمطر غمامة الإمامة على كثير من الخلق، وأن ينال بكم الأمل في الانتقام من البغاة، ويبلغ بإعانتكم ما يراد من إرغام أنوف الغواة، وكلما انبسطت أيديكم في الجهات الدانية القريبة، وانتهى إلينا بلوغ كل جند من أجنادكم إليها وكتيبة، ازدادت الآمال تقوياً، واستأنست القلوب ترجياً، لنيل المطلوب وتمنياً، ثقةً منكم بشدة المقة () ، وبما تقدم من المواعيد الصادقة، فلم تكن بأسرع من أن ظهر الانعكاس، وتأكد ذلك حتى أشرفنا على الأياس، وكان أول ما بدأ به من ينتمي إليكم، ويعتمد في صولاته عليكم، استئصال قطر من الجهات الإمامية والتغلب عليه، ثم قصد قطراً آخر وتوجيه الكتائب إليه، وكان من فلان ما كان، وسارت به الركبان، من توجيه الغزوات إليها والحروب، وأخذ مصالح لنا فيها وحبوب، فقطعنا وقطع الناس، بأنه لا بد أن يجبر الانتقاص، وينتكس المتعدي على الرأس، كما يعتاد بين أهل الوداد، ونفعله نحن لو وقع ممن في جانبنا في جهاتكم فساد () ، فقد حاول بعض من يتعلق بنا غزو كثير من الجهات التهامية فمنعناه، وحاول البعض غير ذلك فقصرناه، ولو حدثت هفوة أو وقع تغيير لخبرناه، والله شاهد على أن ذلك مما أضمرناه، ثم أنا زدنا الأمر تأكيداً بأن كتبنا إليكم كتاباً بعد كتاب، ووجهنا إليكم بريداً ثم بريداً، فألغيتم تلك المعاني، وعدتم إلى حديث ثاني، وقلتم بسلامتكم نعمل على ما كان في زمن الإمام الأول، ولا يكن لنا على ما استفتحناه من غير ذلك معوَّل، ولأي سبب أو موجب اعتبار حال الأموات، دون حالي للحي ظاهرة الثبات، وبسط أيديكم على جهات استفتحناها، وهي حينئذ لا تعلق لكم بها ولا أمل فيها، وصارت بأيدينا منذ عام دعوتنا إلى وقتنا هذا، ثم إن هذا الذي ذكرتم بسلامتكم لم يتم ولا ينتظم بل تقدم بلوغ كتابكم، وتعقبه قصد الجهات الإمامية، التي كانت في الزمن القديم متوكلية، فما أفاد ما رقمتموه ولا نجز ما وعدتموه، وأما خطوطكم القديمة التي بأيدينا، وكتبكم الوسيمة المحفوظة لدينا، ففيها التصريح الصريح بأن جهاتنا كلها عن التغيير مصونة محمية، وأن معاملتكم لنا في بلادنا بأجمعها مرضية، فكان في هذه الأمور الحادثة عبرة للمعتبر، وخبرة لمن لم يكن بمختبر، وجمع ذلك بين وجوه من الشناعة نحن نشرحها لكم، وهي لا تخلو عن أذهانكم.

منها أنكم بسلامتكم ما صنتم الصديق، ولا رعيتم حقه الأكيد الوثيق، وكيف تكتبون وتصرحون بأن حالنا وحالكم واحد، وأن جهاتنا محترمة مصونة، ثم يتفق مثل هذا في حق أهل الوداد، وينتهك حرمة البلاد، ويتغلب على أقطار منها وأوتاد، ومنها أنه جرى بهذا خلف في الوعد، ونقض للعقد، وأنتم أحق الناس بالوفاء وأحراهم بحفظ الحقوق، ومجانبة العقوق، وحسن الصفاء، ومنها أنه عظم في أعينكم ما ليس بشيء ولا يعد شيئاً بالنظر إلى حالكم وبلادكم،  وأمصاركم،  وبواديكم، فإن معكم من الأقطار، والبوادي والأمصار، ما يجل عن الإنحصار، فوقع منكم الحد في هذه البلاد الضعيفة القليلة، إلى تلك الجهات الواسعة الجليلة، فكان الأمر كما ضرب به المثل في كريم الكتاب:{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23]، ومنها أنكم أشمتم بذلك الأعادي، وأدخلتم به() المسرة إلى قلوبهم، فقد كانوا ظنوا اتحاد الحال، ونالهم من ذلك ما قد نال، فانكشف لهم أن البرق خُلَّب وأن السحاب كهام، وأنه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً يسقي الأوام، وغير هذه المعاني وغيرها ممالا ينبغي فيه تطويل الكلام، فأنتم بحمد الله من أهل الحجور الراجحة والأفهام، وقد عولنا على بعض خواص الأشياع في الوفود عليكم، وتبليغ هذه الألوكة () إليكم، وأخذ الأمر من عين صافية، وطلب إجابة صريحة كافية، فإن يكن إلى بقاء المودة سبيل، ولكم على حسن الملائمة تعويل، أنجزتم الأمر، وجبرتم الصدور، وفعلتم ما يسر الصديق، ويسوء العدو على التحقيق، وإن يكن خلاف ذلكم عندكم أرجح، وسبيله أوضح، فلكم في ذلك حسن النظر، وما مثلكم من ينبه بطرق الحصى والحجر، والله سبحانه خير من أعان ونصر، وإليه المرجع ولديه المستقر، نسأل الله أن يصلح الأمر، ويدفع الشر، ويجمع الكلمة على التقوى، ويعصمنا جميعاً عن الأهواء، ويحسن المآل والعقبى، إنه ولي كل خير وموليه، ومعيد كل فضل ومبديه، وهو حسبنا وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

[كتابه عليه السلام إلى أهل الجهة الآنسية]

وكتب عليه السلام  كتاباً إلى أهل الجهة الآنسية وهو هذا سنة 895 في أواخر شهر ربيع الأول:

نحمد الله على نعمه التي لا تحصى، وأياديه التي لا يبلغها عدد التراب والحصى، ونشكره على أن أغنى وأقنى وأدنى وما أقصى، ونصلي على رسوله الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعلى آله وعترته الذين أمر الله بودهم وأوصى.

وبعد: فهذه ألوكة سطرناها، ورسالة أصدرناها، إلى من بلغه وانتهت إليه، من أهل الجهات الآنسية، وما تليها وتتاخمها، من الأقطار الإمامية، سلام عليكم فإنا نحمد الله إليكم، ونثني عليه بما أولانا من نعمه، وخولنا من فضله وكرمه، ونوصيكم بتقوى الله وطاعته، والانتهاء عن محارمه ومراقبته، وأن تقيموا صلواتكم، وتؤدوا زكواتكم، وتذكروه صباحاً ومساءً وسائر أوقاتكم، وتقدموا صالحاً تجدوه بعد وفاتكم، فإن الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولا يترككم سدى، بل كلفكم التكاليف الشاقة، وحتم عليكم الامتثال ومد فوقكم رواقه، وألزمكم الانقياد لأوامره ونواهيه، وعقد عليكم نطاقه، وزهدكم في هذه الدنيا الفانية، التي لا تدوم لها صحبة، ولا يخلو أحد فيها عن نكبة، ورغبكم في الآخرة الباقية التي لا ينقطع نعيمها، ولا يظعن () مقيمها، فيا عجباه من هذه الغفلة، والاغترار مع قصر مدة المهلة، وفقكم الله للطاعة، وصانكم عن الإهمال لأمره وحقه والإضاعة، وجعل بضاعتكم التقوى فهي أشرف بضاعة، ثم أنكم من أعرف الناس بحقوق الأئمة، وما أوجب الله لهم من الإجابة والإعانة على الأمة، وقد أكدتم لنا ذلك بالعهود والمواثيق، وسلكتم في المتابعة والمشايعة في أوضح طريق، وبنيتم في أمرنا على قواعد التحقيق، وساقكم إلى محبتنا سائق الرشاد وقادكم قائد التوفيق، ولم تزل الدنيا حوادثها تتوالى، ولا زالت الليالي كما علمتم حبالى، وبلغ في هذا الأوان، ما حدث في نواحي ذمار، وكان وصار، من أهل البغي والطغيان، والجهل لما أوجب الله من حق إمام الزمان، من يبالغ في الفساد، ويسلك مسالك العناد، ويحاول تغيير البلاد، وتوجيه العناية في ذلك إلى ناحية هداد، والظاهر أنه بغير رضا من الشيخ ملك اليمن، وإن ذلك لهوى وغرض ممن له حقد على جانب الحق وإحن، وما أنتم رحمكم الله بمستضعفين في الأرض، ومدافعة البغي وأهله حتم عليكم وفرض، وقد ألزمناكم جميعاً الجهاد والاجتهاد في دفع أهل البغي والعناد، وإعانة الأمير الكبير الجواد، على ذلك المراد، والاستماع لما يرد به منا إليكم الفقيه الأكمل فلان الدين والانقياد، فقد استنهضناه للوصول إليكم وقراءة هذه الألوكة عليكم، وألزمناكم بتلقي ما يرد به إليكم بالقبول، وأن تقولوا: سمعنا وأطعنا ما يأمرنا به الإمام ويقول، وأن تصدقوا ذلك بالفعل الصالح الراجح المقبول، فإن ذلك واجب عليكم يقضي بوجوبه المعقول والمنقول، وكيف ترتضون أن ينبسط عليكم من يرغم الأنوف ويهين، ويخشن المقالة ولا يلين، ويليكم غير الإمام الأمين؟ وستصبحون إن رضيتم بذلك من النادمين، وفقكم الله وأعانكم، فهو خير موفق ومعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.

إنتهت الرسالة وهي من مختصرات رسائله المحبرة، الجامعة للمعاني المحررة، وإنشاؤها هي والرسالة الأولى بفلله.

 [كتابه عليه السلام إلى مدينة خمر]

وكتب عليه السلام  كتاباً وجَّهَه إلى مدينة خمر بجهة الظاهر، وذلك أن أهل خمر ونواحيه صاروا ممن انتظم في زمرة أتباع الحق، ومال عن ذوي الابتداع من الخلق، الخائضين للجج البغي والشق، فلا أحد أظلم منهم وأعق، ثم أنه تألب البغاة الطغاة من دولتي صنعاء وصعدة، وقصدوا حرب خمر بجنود عظيمة، فأمدهم الإمام عليه السلام  بكتائب من أحزاب الحق وأجناده، فأمدهم الله بتأييده وحسن مواده، فقتل من جنود البغي من قتل، وهم نفر كثير، ولم يحظ البغاة مما راموه باليسير، فحينئذ أرسل الإمام بهذا الكتاب إليهم، ليشجعهم على قتال ذوي العناد، ويرغبهم في فضيلة المصابرة والجهاد، وكان رقمه له على أوفاز () ولكنه عليه السلام  ممن اختص بالكمال وفاز، ووجه به من كحلان في أواخر جمادي الأولى من السنة المذكورة آنفاً.

قال بعد البسملة ما لفظه: لعبد الله الهادي إلى الحق أمير المؤمنين، كتابنا هذا إلى جند الحق وحزبه، وأنصار الإمام وصحبه المجتمعين بمدينة خمر المحروسة، وجهته التي صارت بأتباع الحق مأنوسة، من الأمراء الكبراء الأمجاد، والمشائخ العظماء الأجواد، والأشياع الخلصاء الأوداد، ومن انضم إليهم من سائر الأجناد، سلام عليكم، فإنا نحمد الله إليكم، على أن جعلنا وإياكم حماة للدين، وحبانا بفضيلة الجهاد للباغين والمعتدين، ووفقنا للذب عن المحارم، وإرغام أنوف أولي الجرائم، ونوصيكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، فإنها أنفع الوسائل، وأمنع المعاقل، من أَمَّها فاز وسلم، ومن حرمها أمنار وندم، وإنها حرز من الهلكات، وكنز في المحيا والممات.

ثم أن الله سبحانه قد وفقكم لأداء فريضة الجهاد، وهي الفضيلة الكبرى، والقربة العظمى، فإن الجهاد أفضل أنواع البر والرشاد، وأنه سبب انتشار الإسلام في البلاد، وأن ثواب الجهاد فوق ما يُطْلَب يراد، قال الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هلْ أدُلُّكُم على تِجَارةٍ تُنْجِيكُم مِنْ عذابٍ ألِيْمٍ تُؤمِنُوْنَ بِاللهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُوْنَ فِي سَبِيْلِ اللهِ بِأموالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُم إنْ كُنْتُمْ تَعْلمُونَ يَغْفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُمْ ويُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْري من تحتها الأنهارُ ومسَاكن طيبة في جناتِ عَدْنٍ ذلك الفَوْزُ العظيمُ وأُخْرى تُحبُِّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وفَتْحٌ قَرِيْبٌ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِيْنَ} [الصف:10-13]، وقال نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم : ((مقام الرجل في الصف في سبيل الله خير من عبادة ستين سنة)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((الجهاد باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره القائم ليله حتى يرجع)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قاتل في سبيل الله فواق ناقة   وجبت له الجنة، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجي يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها المسك)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخكم الجنة اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)) () فانظروا أرشدكم الله في هذا الفضل الكبير والخير الكثير، واعتبروا فأنتم من أهل الإعتبار، وأحسنوا النية وأخلصوها للواحد القهار، فإن الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرء ما نوى، واصبروا فإن الله مع الصابرين، وانتظروا النصر فإن الله خير الناصرين، وثقوا بحسن العاقبة فإن العاقبة للمتقين، وأيقنوا ببطلان أعمال البغاة وكيدهم فإن الله لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، وبلغنا أنه قد يدرككم طرف من الفشل، فنعوذ بالله من ضياع العمل، وخيبة الأمل، وكيف ترضون لأنفسكم أن تفشلوا، وأنتم على الحق الواضح، والجهاد النافع الصالح، والمتجر العظيم الرابح، الذي هو أبلغ من جهاد الكفار، بنص كثير من الأئمة الكبار، وأنتم في منعة وقرار، وعلى حال قار، سالمون من النصب والوصب، وخالصون عن العطش والسغب، وهؤلاء البغاة صابرون، متألبون، متناصرون، متظاهرون، وهم على شر حال وأقبح مآل ينالهم التعب والسغب، ويتوقعون سوء المنقلب، ويعانون الشدائد، ويتربصون المكائد، ويحسبون كل صيحة عليهم، ويظنون وصول الإنتقام العاجل والآجل إليهم، أفترضون أن يكونوا وهم على الباطل وأنتم على الحق، وهم في سبيل البغي والعناد، وأنتم في سبيل الهدى والرشاد والسداد، وقتلاهم في النار، وقتلاكم في الجنة، وهم على رأي الشيطان، وأنتم على الكتاب والسنة، أترضون أن يكونوا أصبر منكم وأجلد، وأظفر منكم بمرادهم وأسعد، حاش لله، وكلا، فإنكم بالخير والسعادة أحرى وأولى فاصبروا كما أمركم الله به، وصابروا فإن الله مع الصابرين، وأحسنوا فإن الله يحب المحسنين، ولا تنقلبوا على أعقابكم فتصبحوا خاسرين، كما قال نبيكم الصادق الأمين: ((ثلاثة لا ينفع معهن عمل: الشرك بالله وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف)) () وأوضح من ذلك وأصرح قول رب العالمين في كتابه المستبين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيْتُم فِئةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللهَ كَثِيْراً لعلَّكُم تُفْلِحُونَ،  وأطيعوا اللهَ ورَسُولَهُ ولا تنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيْحُكُم واصْبِرُوا إنَّ اللهَ مَعَ الصَّابرين} [الأنفال: 45، 46]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فلا تُوَلُّوهُمُ الأدبارَ ومَنْ يُوَلِّهِمْ يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفَاً لِقِتالٍ أومُتَحَيِّزاً إلى فِئةٍ فقَدْ بَاءَ بِغَضبٍ مِنَ اللهِ ومَأوَاهُ جَهنَّمُ وبِئْسَ الْمَصِيْرُ} [الأنفال:15، 16]، والآيات والأخبار في هذا المعنى ليس لها انحصار.

ثم إنا غير غافلين عنكم ولا مهملين لأمركم، وجنود الله وجنود كتابه تمدكم، وأبشروا بالنصر من ربكم، اللهم وفقهم، وثبت أقدامهم، وانصرهم، وأعنهم، وأنزل عليهم السكينة القاضية بالأمَنَة، وأوقع في أفئدتهم الطمأنينة، وضاعف لهم كل حسنة، وفرق جنود البغاة تفريقاً، ومزق جيوشهم تمزيقاً، وعَوِّقْهم عن كل خير تعويقاً، ولا تفتح لهم إلى شيء من آمالهم طريقاً، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير.

 [كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله]

 ومن كتاب له عليه السلام  إلى بعض عماله، وقد رفع إليه أن من الشيعة الذين لديه من يتجرم ويتبرم، ويظهر الغضب لغير سبب، فقال عليه السلام  مجيباً: ذكرت بسلامتك تغيظ الأصحاب علينا، وتجرمهم، وما وقع بينهم من الاتفاق والمراجعة والكتابة إليه، ومن ذلك كله العجب، أما تغيظهم علينا، فلا نعلم له سبباً ولا موجباً، ولا نعلم أن منهم من وقعت إليه إساءة، بل أقمنا حقوقهم وأسقطنا عنهم حقوقنا، فما منهم من يتعب نفسه في مسايرة، ولا جهاد، ولا زيارة، ولا كتابه، ولا قضاء حاجة قط، وما منهم من نقصناه مما يعتاده في الزمن الأول، بل ما منهم إلا من قد ازداد ثم أنه إن صدر إليهم من جانبنا أمر، فاللائق منهم المراجعة لنا والإخبار بما في أنفسهم مكاتبة أو مشافهة، ولا معنى لكتابتهم إليك، لأنك إن كنت فعلت ما أمرناك به فلا لوم عليك، ولا جناية منك، ولا مثلهم من يسومك فعل ما أرادوه، وترك ما أردناه، وإن كنت فعلت شيئاً لم نأمرك به فالعلاج السهل أن ينبهونا على ذلك، وينهوه إلينا، وكلامنا عندك أقطع وأوقع، وليس ثم إلا أحد أمرين لا ثالث لهما، إما أن الإمامة ثابتة عندهم، وقاعدتها مستقيمة، فما للمأموم إلا ما طابت به نفس الإمام، ويجب عليه الطاعة رضي أم كره فيما وافقه وفيما لم يوافقه، وما منهم من يجهل حق الإمام، وإن كانت القاعدة عندهم منتفية، فالكلام مطوي من أصله، ولا معنى للتعتب والتجرم، وليعلم حفظه الله، أنه ما من أحد من الأقارب والأجانب، وأهل التمييز وغيرهم، إلا ويخطر بباله الخروج والبغي علينا، والمباينة والنكاية لنا، لا سيما من أعجب بنفسه، واعتقد إمكان الأمر له، إذا لم يبلغ معهم إلى حد يرضيهم ويقنعهم، لكن من الناس من له دين وقاعدة راسخة فيه، فيرده دينه، ومنهم من له عقل وافر فيعرف بعقله أن عاقبة ذلك عليه لا له، فيترك نظراً لنفسه في الأصلح في دنياه، ومنهم من يستحي فيحمله الحياء على ترك ذلك، وإن لم يرده دين ولا حسن تدبير، ومنهم من يعدم هذه الأمور كلها، ويظهر ما في نفسه فينتبه من نومته بعد، ويعرف أنه ما جنى إلا على نفسه، وأن الذي رامه وقع في عكسه، لأن كلمة الله هي العلياء، والإمامة غالبة غير مغلوبة، والقبائل والعوام بين رجلين صاحب تدين وخيفة لله فلن يؤثر على الإمام غيره، وتحرجه في جانب الإمام أكثر من تحرجه في حق غيره، وصاحب دنيا فهو يجدها عند الإمام ويلقى لديه مالا يجده عند غيره، والإمام أقدر على ضرر من يناويه منه على ضرر الإمام، وكل ضرر يتفق من المأموم وإن عظم فلا ينقص الإمام غالباً في دينه ولا دنياه، ولا تفويت زكاة بلدة أو ناحية أو قطر يخل بشيء من أحوال الإمام، وكل ضرر يتفق من جانب الإمام إلى المأموم يضعه ويخل به، وما نعلم أن إمامةً بطلت بسبب خروج خارج عنها ونازع ليده عن طاعتها، ولا نعلم أن رئاسةً تمت لمناوءٍ للإمام ومباين له، بل لا بد أن يضمحل أمره ويتناقص قدره، ولا يخلو عن شاتم ولائم في الحياة والوفاة، والأصحاب الذين ذكرتهم نعيذهم بالله أن يتعرضوا لخسران الدنيا والآخرة، ونعتقد أنهم ممن يجمع بين العقل الراجح، والدين الصالح، والحياء الواضح، والسلام.

[رسالة غراء وجهها إلى صنعاء اليمن]

ووجه رسالة غرَّاء إلى صنعاء اليمن سببها يُعرف من قراءتها، وأرسل بها إلى بعض أعيان شيعته في شهر صفر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، وكان إنشاؤها من بعد صلاة الصبح فيما بين ذلك ومن الشروق، وهو بكحلان المحروس، ولما وصلت تلقيت بالتكرمة والتبجيل، وأثنى عليها الثناء الجميل، وتنوسخت في الأوراق، وانتشرت انتشار الشمس ذات الإشراق، وطاب مسموعها وراق، وهي بعد البسملة وما يتصل بها:

نشر الله أجنحة خيره وفضله وجوده، وعقد ألوية نواله وإفضاله وخوافق بنوده، ومد رواق بره ويمنه، وتيسيره وسعوده، وأمطر غمامة سلامه بين بروق إكرامه ورعوده، وساقط رطب إنعامه جنياً بعد اخضرار عوده، ومَنَّ بخلع ملابس لطفه وتوفيقه وأسباغ بروده، وأفاض سجال رحمته التي أخبر بقربها من المحسنين في صادق وعوده، على من بالديار الصنعانية من قادة العترة النبوية، وسادة الأسرة العلوية، أرباب المراتب العلية، والمناصب الزكية، والمناقب التي ليست بخفية، وسائر من بها من أعيان علماء الزيدية، وحفاظ علوم الشريعة الحنيفية، والله تعالى يقيهم كل فتنة دينية، ويصرف عنهم كل مكروه وبلية، ويلبسهم جلابيب نعمه السنية، ويمدهم بلطائفه وعوارفه بكرة وعشية وبعد:

فصدور هذا الكتاب عن أحوال صالحة، وأعمال بلطف الله رابحة، وآمال إن شاء الله ناجحة، ووجوه يُمْنٍ وجد غير كالحة، لمذاكرة تلك الأندية الكريمة، والمجالس الوسيمة، فيما ظهر هذا الزمان وشاع وذاع، وطبق ذكره النواحي والبقاع، من الارتشاء في الأحكام، والمصادمة فيها لقواعد الإسلام، والتلعب بالشريعة، والارتكاب في أمرها لكل خصلة فظيعة، وتغلب كثير عن الإجابة إليها، وتعاظم طوائف عن الانقياد لها والإقبال عليها، وتطابق متعاطي القضاء في ثلا وصنعاء، على سلوك طريقة في ذلك شنعاء، وتوافقهم فيه على وظيفة واحدة، وقاعدة منهارة، وبئست القاعدة، واتَّباعهم في تلك الأهواء، واتخاذهم إياه من متاع الحياة الدنيا، فيا لله للإسلام ولشريعة خاتم الأنبياء عليه السلام  التي ما بعث صلى الله عليه وآله وسلم  رسولاً، ولا نزل القرآن عليه تنـزيلاً إلا لنشرها في البلاد والعباد، وكف أكف أولي الصد عنها والعناد، وغير عازب عن أولي النهى والأحلام انتفاء الترخيص في إحكام أمر الأحكام، وما في ذلك من التشديد في شريعة من هو للرسل خاتم، وشرع من قبله في الزمان المتقادم، وقصص القرآن الكريم بذلك ناطقة، وسهام الملام منه لأرباب الخور راشقة، والآيات المصرحة بكفر من لم يحكم بما أنزل الله وظلمه وفسقه مطلقة، والآذان عن استماع زواجر القرآن في هذا الشأن غير مُطْبَقَة، وقد ذكر بعض جهابذة التفسير والتأويل، أن ذنب نبي الله داود المشار إليه في التنـزيل، ما صدر منه من تساهل في هذا القبيل، يسير قليل، وأنه كان السبب في بكائه وانتحابه الزمان الطويل، وتوبته التي لم يزل يستعطف بها مولاه ويستقيل، حتى أنبتت دموعه بسبب ذلك العشب على ما قيل، ونعى الله سبحانه وتعالى على اليهود والنصارى عدم الحكم بمقتضى التوراة والانجيل، مع تضمخهم بأدران الكفر والطغيان، وجحد الرسول والقرآن، فما أهمل ذلك بترك ذكره، ولا أغفل تفظيع شأنه وتقبيح أمره، ولا عجب من أن يتبع الشيطان في هذا الشأن الواحد والإثنان، إنما العجب من غفلة أرباب الحل والعقد، وعدم المنع منهم عن ذلك والصد، وتقريرهم لمن أوامرهم نافذة عليه، وسكوتهم لأهل جهاتهم في التهالك على ذلك والتجاري إليه، وما كان جديراً بذلك مَن ألقيت أزمة الإيراد والإصدار في يديه، وحطت بأعكامها ركائب النقض والإبرام لديه، لتوجه الرعاية للمتبع من أشرف نصاب ونجار، والمرجع إلى أكرم أرومة وأرفع منار، مع وضوح ما وجب في ذلك من التغيير والإنكار، وظهور ما ورد فيه من القرآن والأخبار والآثار.

أما القرآن فها ذا هذا يتلى في الليل والنهار، وأما الأخبار فنحو ما ورد عن المصطفى المختار، من قوله: ((لعن الله الراشي والمرتشي)) ()، أخرجه أبو داود وغيره من رواية عبد الله بن عمر، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الراشي والمرتشي في النار)) ()، رواه الطبراني، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)) ()، وروى جماعة من الحفاظ منهم إمام الحديث أحمد بن محمد بن حنبل عن ثوبان رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  الراشي والمرتشي، والرائش) ()، والرائشُ الذي يمشي بينهما، وروى الحاكم أبو عبدالله عنه صلى الله عليه وآله وسلم  من طريق ابن عباس في حديث طويل: ((وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى وحابى فيه شدت يساره إلى يمينه ثم رمي به في جهنم فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام)) ()، وورد ((الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت)) ()، رواه الطبراني موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم  في معرض النهي لمن ولي شيئاً من أمور المسلمين أن يولي رجلاً وفي رعيته خير منه من طريق ابن عباس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) () رواه الحاكم في مستدركه، وفي هذا المعنى حديث آخر من طريق أبي بكر فيه لعن وتشديد فاجع.

وأما الآثار فما نقله علماء التاريخ في الكتب والأسفار، من مبالغة من سلف من الأئمة الأطهار، ولاة الإيراد والإصدار، في البوادي الأمر اليسير الحقير، والإغراق في التنبيه لهم والتحذير، وقصة أمير المؤمنين مع قاضيه شريح رحمه الله مشهورة، وملامته إياه على القيام له في مقام الترافع إليه مأثورة، وكونه عد ذلك من جوره، وتعدي طوره، وأغرب من تلك مبالغة المتقدمين من أمراء الجور، وأهل الحور لا الكور، في انتقاد القضاة، واختيار من طرائقه مرتضاة، حتى مبير ثقيف ()، النابذ وراء ظهره فرائض التكليف، سفَّاك الدماء، وشر من تحت أديم السماء، فشأنه كان ظاهراً في الحرص على اختيار الحكام، والعناية في انتقائهم من بين الأنام، وكان من مبالغة خلفاء بني أمية وبني العباس، مع كونهم أظلم الناس للناس، في هذا المعنى المشار إليه مع عدم احتفالهم بغيره من مصالح الدين، وقلة تعويلهم عليه أن ضربوا بعض أئمة العلم والفضل لامتناعهم من التولي للقضاء بالسياط، احتساباً منهم وتوغلاً في الاحتراز على أمر القضاء والاحتياط، وهذا ما لا يجهله أهل التمييز، فكيف بأهل السبق في علم التاريخ والتبريز وأحق الناس بمعالي الأمور، والنظر في صلاح الجمهور، من ولي قطراً كبيراً من أبناء رسول الله حراس دينه، وحماته عن جبابرة البغي وشياطينه، فلا يليق به أن يلقى أمور الشريعة وأحكامها في مستوطنه وأطراف مملكته، وبين رعيته وواردي جهته، وينوطها بمن لا يراقب الله في الأقوال والأفعال، وأن يمكّن منها أهل الأهواء والضُّلاَّل، فيتخذ وصلة إلى اقتناء الذخائر والأموال، ومقترنة بالرشوة في جميع الأحوال، ومنسوجة على شر منوال، ومجراه على غير ما أمر به الملك المتعال، ولا أن يرتضي أن يصير هذا شأن أبلغ مصر من أمصار اليمن، وقصبته الشهيرة فيما قدم وحدث من الزمن، لغير داع إلى ذلك، ولا مقتض لسلوك تلك المسالك، فإن أرباب الأوامر القاهرة لا يخلو نظرهم من التعلق بصلاح أمر الدنيا أو صلاح أمر الآخرة، ومدار النجاة في الآخرة على مراعاة حدود ما أنزل الله، ومطابقة ما افترضه وما ارتضاه، وصلاح شأن الدنيا هو ثمرة العدل ومجتناه، وموجب القسط ومقتضاه، وكل راع مسئول عن رعيته في دنياه وأخراه، وما رخص لمتول أن يهمل النظر بعين الشفقة والإصلاح فيما تولاه، بل هو مأخوذ بأن ينظر لهم كنظره لنفسه، وينصحهم ولا يغشهم في شيء مما يتوخاه، روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما من أحد ولي من أمور الناس شيئاً لم يحفظهم بما حفظ به نفسه إلا لم يجد رائحة الجنة)) () رواه الطبراني في المعجمين الصغير والأوسط، وقال معقل بن يسار: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) () رواه البخاري ومسلم، وعن معقل أيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)) ()، رواه مسلم وغيره.

ومما يقضي منه العجب، ويليق أن يصيح الدين منه بالحرب، ويقال فيه يا لضيعة الهدى والأدب، أنه لم يبلغ من تلك الناحية عن أحد من أهل العلم والأدب، إنكار لتلك البدعة الحادثة ولا إدِّكار، ولا إحضار لها بباله ولا إخطار، ولا صرف نظر إليها من الأنظار، ولا نقل أنه اجتمع في شأنها اثنان، ولا أظهر واحد منهم تشنيعها ولا أبان، وأن هذا مما يقضي بمصير الدين غريباً، وقيام الساعة من زمانه قريباً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الالتجاء إليه والتوكل عليه فازعون، ولما أمرنا به في هذا المعنى وغيره مطيعون وسامعون، ولم نزل بعد بلوغ تلك البدع، وظهور ما يستقبح منها ويستشنع، نتردد هل المباحثة فيها أوعدمها أولى بنا وأحرى؟ ونقدم في مجال ذلك رجلاً ونؤخر أخرى، فتارة تحملنا الحمية على دين الله، والغضب لما لا يرضى الله، على المباحثة والتذكير، وتارة يصدنا عن ذلك ما نظنه من عدم الجدوى والتأثير، إلى أن رجح إلينا أنه قد توجه التذكير علينا، فقد أطلق الله الأمر به ولا دليل على منعه، ووعد سبحانه وتعالى بتأثيره ونفعه، وهذا ما نحسنه ونتمكن منه، ولا يكلف أحد غير وسعه، فأقدمنا مع تقدير أن تمج ما ذكرناه الآذان، ويقابلنا فيه كل ذي شنآن بما يقتضيه التحامل من هجر اللسان، وإن وفق الله بحسن تلقي هذه النصيحة وقبولها، وإنزالها منزلتها في تعظيم معقولها ومنقولها، فالحمد لله وذلك من فضل الله{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]، وقد أفلح من زين الله التذكير في قلبه وهداه، وفي قول الفاروق لنوع من هذا الجنس معتبر: لولا علي لهلك عمر، لم يمنعه عن قبول الحق عجب ولا بطر، بل أعجب من ذلك أن رجع إلى قول بعض الغانيات واعترف لها، فقال: كلكم أفقه من عمر حتى المخدرات، وإن قوبلت بالرد، وحمل مُصدِرُها على خلاف القصد، ونظمت وهي خير هدية، بنص خير البرية في سلك الرسائل الدنية، فقد حصل ما أردناه من أداء ما كلفناه، وتقبل إن شاء الله ما أوردناه، من الإبلاغ في النصيحة، وتحرير الألفاظ والمعاني الصحيحة، وإقامة الحجة، وإيضاح المحجة، وعدم الغفلة عما يتوجه، ومن تجاور ممن وقف عليها الحدود، وسلك بها مسلك المستقبح المردود، وقابلها من الهجر والأذى بما لا يكاد يسلم منه سالك هذا المسلك المحمود، فشأننا التأدب بآداب الكتاب فيما تضمن من الخطاب، لمن كان له في موطن الأمر بالمعروف انتصاب، حيث أمر بالصبر على ما أصاب، وقلنا للمتعدين علينا قد وعينا وإن كنتم ما وعيتم، و{لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وعملنا بمقتضى ما قاله أصدق القائلين: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وحسبنا الله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

 [كتاب له عليه السلام  إلى بعض فضلاء إخوته]

وهذه نسخة كتاب كتبه عليه السلام  إلى بعض فضلاء إخوته، وكملاء ولاته، قال فيه بعد ذكر الحمد له والصلاة ما لفظه:

إنه لم يُبْلَ أحد بمثل ما بلي به رجل انتصب للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذب العباد عن طرق الفساد، ودعاهم إلى الهدى والرشاد، لأن دواعيهم إلى المقبحات متوفرة، وصوارفهم عن الطاعات حاضرة، والنفوس مجبولة على كراهة من صدها عن شهواتها ومراداتها، وجذبها إلى مكروهها وغيَّر عاداتها، والمحاول لذلك رجلان: أحدهما حاوله من طريق التلطف، والتدخل بالرفق، وليس له يد قهر، وهذا أمره على النفوس أهون، وتحاملها عليه أدون، والآخر بين رجلين ذي يد قاهرة فيقهر الناس على ما ذكر، ولا يستطيعون لأمره رداً، ولا محيص لهم عن الدخول في طاعته، ويتصرف فيهم كيف أحب، فهذا أمره على الناس شاق صعب، إلا أن عظم سطوته وقوة دولته وتقوي يده دمغهم، فينكتم ما في أنفسهم بالكلية ويؤول أمرهم إلى التحبب إليه وإظهار الاعتماد عليه، ولا يعالجونه إلا بالتقرب لديه، وإظهار طاعته، وأنهم منه وفي يده ويتمنون خفية أن يستريحوا منه وتمكنهم الفرصة من إهلاكه، ولا يظهر تحاملهم عليه إلا إذا لحقته نكبة، أو زالت دولته، فحينئذ يرى منهم في أمره العجب العجاب، وذي يد لا هي بالقاهرة جداً -بحيث أنه لا يد عليها- ولا معارض لها، ولا تخلو من حكمة وطرف شوكة، فهذا الذي يقع من الناس في الداء العضال لأنه جمع بين جذبهم إلى ما يكرهونه، وصدهم عما يألفونه، ومعالجتهم بالشدة مع عدم القهر الحقيقي الذي لا معارض له، فيظهر طغيانهم، وتكشف دفائنهم، وسوء أخلاقهم إليه، ويعودون بصريح السباب والذم والسب، ومحاولة النكاية، وابتغاء الغوائل، ومن كان هذه حاله وصفته فليس له من دفع بليته ومحنته إلا الفزع إلى الله، والتوكل عليه، والثقة بالله، والإلتجاء إلى الله، وإدَّرَاع الصبر، ولزوم ساحته، واستشعاره في كل أمر، والالتزام بعروته، وهذه حالتنا مع الناس، من غير زيادة ولا انتقاص، فإنا ما حظينا في حقهم بالقهر الحقيقي التام النافذ، ولا اقتصرنا على مجرد الدعاء برفق من غير شوب قهر، فليلنا من أجلهم سهر، ونهارنا من بليتهم فكر، ونحن لا نخلو من سفر بعد سفر، لا يستقر بنا قرار، ولا تطمئن بنا دار، ولا ننفك عن خصام وشجار، واغتمام وأكدار، ومن دخل في شيء من أمرنا وتولى شيئاً من التكاليف المتعلقة بنا، أخذ من محنتنا هذه بحصة، على قدر ما تولاه بكثرته وقلته، واهتدى من تولى أمره وغوايته، وإنك ممن عاين من أمر هذه الجهة التي تولاها ما عرفت من الخلائق المتنكرة، والطبائع المتغيرة، والنفار عن قبول الحق والهدى، والولوع بطرق الغي والغوى، فكان في مبتدأ الأمر مالا يعزب عنك من الإمتحان الكلي، والترقب لبطلان الأمر، والإشراف على الوقوع فيما يخاف، والمقاساة لعدم الإنصاف، فصبرت وصبرنا، وما تركنا ما نحن فيه ولا نفرنا، حتى أعان الله سبحانه بازدياد قوة شوكة الحق، وضعف قوى الباطل، وتسهل الأمر عليهم بالاستمرار، وثبوت العادة، وصارت الحكمة أقوى وأبين، والمعارضة أوهى وأدون، وحمدنا الله سبحانه على ذلك وشكرناه، وأمَّلناه زوال الشوائب ورجوناه، ولم نشعر حتى لاح لنا أن يدك لما استحكمت وتقوت، والمعارضة لك عدمت أو قلت، طمعت في الزيادة على هذه الحال، وأفرطت في التحكم على الرجال، وسلكت بهم في بعض الحوادث والأمور مسلكاً غير معتاد، وصرت في التشدد والتقوي عليهم في ازدياد، حتى عادت قلوبهم إلى النفار، وعرضت لهم عوارض الاستكبار، وكدنا نعود نحن وهم إلى الحالة الأولى، والطريقة التي ليست بمثلى، لا لسوء قصد منك، ولا لجور فيما حكمت به عليهم، ولا لإرادة إثارة محنة منهم، بل عنَّ لك أمران:

أحدهما: الرغبة الكلية في نفوذ أحكام الحق، ودمغ هام أولي العناد والشق.

الثاني: شفاء ما كان من الغيظ في المدة الماضية لتغلب العصاة وتمردهم، وما كانوا عليه من التمادي في النكر، وكثرة الأذى والهجر، ووثقت باستمرار ما قد فتح الله به من عدم المعارضة والمناقضة، وتمكن اليد وقوة القاعدة وطاعة الرعية.

واعلم -أرشدنا الله وإياك- أن مدار هذه الأمور التي دخلت فيها -وما هو من جنسها- مما هو أقل مما أنت فيه وأكثر، على أمور بها يصلح الحال، وتدرك الآمال، بعد إعانة الله وعنايته ومشيئته وإرادته.

 أولها: تصحيح النية وتحسينها، وصيانتها عما يشوبها، وتعهد النفس في أمرها، وعدم الوثوق باستمرار خلوصها وصلاحها، فلتكن النية خالصة، والقصد صالحاً لله ولوجهه، وابتغاء مرضاته، وإحياء دينه، وتحري الأصلح، ومطابقة الشرع، ولْتحترز غاية الاحتراز من أن تشاب نيته بشيء من الهوى، كالتشفي، والمجازاة بأمر سبق مما تعود إليه نفسه، أو أن تذهل عن تلك المقاصد الحسنة، وتخرج إلى غيرها.

الثاني: التأمل لما تُقْدِم عليه من الأعمال وأنواع التأديب، من ضرب وحبس، وطرد، وعقوبة بمال، ونحو ذلك، فتجريها على قانون الشرع، وبتحقق مطابقتها لقواعده، وتحذر من الزيادة على ما شرع، والنقص منه، وتبالغ في إقامة الحدود، ولا تقبل فيها شفاعة شافع، وكذلك تحرص على الانتصاف للمظلوم، والتنفيذ لشرع الله، والشدة على من تمرد عنه حسب الإمكان.

الثالث: أن تباشر ما تعانيه من ذلك بسياسة ولطافة وتجنب لوجوه الشناعة، وطلاقة أخلاق وتسهيلها، لئلا تجمع بين الشدة بالقول والفعل، وبين الغلظة والإيقاع، وحاصل الأمر أنه يجمع بين الشدة واللين، فاللين في القول والخطاب بلين القول لمن راجعه حتى صاحب المعصية، ويخاطب من يعارض أو يستشفع بخطاب حسن فيه بيان الموجب وعدم إمكان العفو.

الرابع: أنك إذا رمت أمراً من حبس، أو جلد، أو طرد، أوعقوبة، نظرت هل ذلك يتم، ولا يقع فيه معارضة مانعة، ولا يتولد منه مفسدة ولا يجر إلى وهن، فإن غلب على ظنك ذلك أقدمت عليه، وإن غلب على الظن عكسه أحجمت عنه، فإن تركه من أصله والاغضاء أهون، وأقل وهنا من إظهار العزم، أو الشروع في العمل ثم الترك، أو الإتمام مع ما يتولد من مفسدة، وإن شككت لم تعجل، وعاودت التأمل، حتى ينكشف الأمر لك ولو بالظن، وإذا غلب على الظن التمام فعملت على الإقدام، وشرعت في الأمر، ثم انكشف ما لم تكن تظنه، فعلت من الشدة ما يمكن، وما عرفت تعذّر تمامه تلطفت في التنحي عنه على وجه جميل، كأن تشير إلى ذي ودٍ وصداقة أنه يتوجه إليك، أو يتحمل بالقرآن عليك، أونحو ذلك.

الخامس: الصبر فإن الله مع الصابرين وما شيء أنفع من الصبر في أمرنا هذا، ولا مفزع كمثله، فتتلقى المشاق بالصبر والتجلد، والتهاون بما لحق من مشقة أو ضرر أو أذى، فلا بد من ذلك لكل من تصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17]، وإذا كان هذا أمر لا بد منه فاللائق بحسن الخلائق التخلق به، ومجانبة الجزع والهلع، فليس يعود منه غرض، وإنما يقع بسببه شماتة أولي الشنآن، ومساءة أولي الود، والإزراء بالنفس وإذهابها حسرات، ومن الأسباب المعينة على الصبر توطين النفس على الحوادث، وعلى لقاء ما تكرهه من الناس، وترقب ذلك إلى حد تلاف النفس وذهابها، فهذا شأن من باع نفسه من الله وأوغل في هذه المعاني.

السادس: الالتجاء إلى الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه، وإدمان الذكر، والقراءة والدعاء، وصلاة الكفاية () ونحوها، وإذا صعب عليه العلاج، أووقع في ورطة، أو خاف الوقوع في محذور، فزع إلى الله وإلى كتابه الكريم، فإنه جدير حينئذ بوقوع الفرج، وتسهيل المخرج، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.

[كتاب له عليه السلام إلى تهامة]

وكتب إلى تهامة كتاباً لفظه:

الحمد لله وحده، و صلى الله على سيدنا وآله، الحمد لله الذي جعل أئمة الهدى رحمة للأمة، وملاذاً لهم في دينهم ودنياهم وعصمة، من تمسك بعروتهم الوثقى نجا وفاز، وأدرك ما رجا وحاز، ومن تخلف عنهم أو انحرف خسر في دينه ودنياه، ووقع من سوء اختياره في شر مهلكة ومهواة، والصلاة والسلام على من اختاره لرسالته واصطفاه، وارتضاه لوحيه واجتباه، وعلى آله الأئمة الأعلام الهداة.

وبعد؛ فغير عازب عن أولي الأحلام والألباب ما افترضه رب الأرباب من الطاعة لإمام الزمان والوداد، والجد في تقوية أمره والاجتهاد، والسعي في الإعانة له والجهاد، وإن من ثبط عنه فقد أخل بالفرض، واستحق النفي من الأرض، وارتكب أمراً عظيماً من العناد، وكان في الحقيقة من أهل السعي في الفساد، ولذلك لم ينكر أحد من الصحابة فيما بلغ ما فعله عثمان في نفيه لأبي ذر رضي الله عنه من المدينة إلى الشام، ثم من الشام إلى المدينة، ثم من المدينة إلى الربذة، مع أن أبا ذر كان عَلَماً من الأعلام وإمام فضل يقصر عنه كل إمام، وما ذاك إلا لما وقع منه من التثبيط، لسبب ظاهر من الانضراب والتخليط، وأنه بلغنا عن عدة من شيعة أهل البيت في زماننا الذين لم يبق معهم من التشيع إلا إسمه، وقد انمحى فيهم تحقيق معناه وانطمس رسمه، أنهم يفتون العوام بأنه لا يجب عليهم تسليم الحقوق إلينا، ولا التعويل في الخلاص علينا، اعتماداً منهم على ما يذكر للهدوية من كونه لا ولاية للإمام إلا حيث تنفذ أوامره، فعجبنا من هذا غاية العجب، وعرفنا أن هذا من بدع الزمان، وكثر العدوان، والتهاون بأمر الإمامة والتجري، وعدم مراقبة الله والتحري، ونحن نوضح خطأهم في ذلك من وجوه:

 أحدها: أن هذا قاضٍ لهم وشاهدٌ عليهم بكراهة ما يريده الإمام، وما يصلح لجانب الحق، وما تقوى به الشوكة، وسعي منهم في تضعيف أمر الإمامة، ولن يصدر ذلك إلا ممن باطنه غير سليم، ودينه غير قويم، وهل هذا إلا مصادمة لما قاله النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم: ((ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه)) ()؟

وثانيها: أنه تَصَّدَّر للفتوى في عظيمة جليلة، ذات خطر عظيم، ممن الفتوى في أدنى مسألة محرمة عليه، فإن هؤلاء المفتين ممن لا يبلغ درجة الاجتهاد،  بل لا يدانيها، ولا يرتقي إلى مرتبة الترجيح، ولا يأخذ بنصيب فيها، والفتوى على من هذه حاله محرمة بالاتفاق كما هو مقرر في علم الأصول، وبالغ فيه العلماء الفحول، وما أحق من تصدى لذلك بأن يقال له: اطرق كَرى إن النعام في القرى ()، ولو أن كل من طالع المذاكرة أو التذكرة، وعرف الألفاظ التي فيها -مع بعد معرفته لمعانيها- يكون مفتياً، لما كان في الناس الذين لهم أدنى تمييز من يعجز عن الفتوى، وحاشا لله وكلاّ أن يتصدى للفتوى إلا العلماء النحارير، وأهل البحث عن مآخذ الأحكام والتنقير، لا أهل القصور والتغفيل والتقصير، فمن أقدم منهم على إفتاء العامة فقد أقدم على الإغواء والإضلال، وتجاسر على مالا يرضى به الملك المتعال.

وثالثها: أن هذا المذهب المشار إليه، الذي عوَّل أهل الانحراف وكراهة الخير عليه، مذهب شديد الضعف، واهي العرى، واضح البطلان، حقيق بأن لا يعول عليه إنسان، وفي تصحيحه إبطال أمر الإمام من أصله، فإن الإمام في أول قيامه ودعوته لا ينفذ له أمر على واحد من الناس، فكان مقتضى هذا المذهب أن يصح من الناس إذا دعاهم القائم بهذا الأمر الكامل فيه أن يقولوا: نحن نعرف كمالك، وجمعك للشرائط، ووجوب طاعتك، لكن لا تنفذ أوامرك علينا، فلا يجب علينا تسليم حقوق الله إليك، بل ولايتها إلينا لا إليك، ونحن نصرفها في مستحقيها. وإذا فعلوا ذلك فلينظر الناظر هل يستقيم للداعي بعد ذلك قاعدة؟ أو يكون لقيامه فائدة؟ فإن الحقوق إذا منعت منه لم يتمكن من شيء قط مما قام لأجله، كجهاد الظالمين، وسد الثغور، وحفظ بيضة الإسلام، وغير ذلك، ويكون من حقه أن يقعد في بيته لا إصدار له ولا إيراد، ولا جهد له ولا جهاد، ثم إن لنا أن نقول: لا يبعد أن يكون هذا المذهب كالخارق للإجماع، فإن من المعلوم إجماع الأمة في زمن الصحابة وبعدهم على أن للإمام قتال من عصاه، أو منعه الزكاة، ولن يمنعه الزكاة إلا من لا تنفذ أوامره عليه، ومن كانت أوامره لا تنفذ عليه فلا ولاية له في حقه، فكيف يقاتله على شيء لا ولاية له فيه فتأمل، فإن هذا وجه واضح وتعليل راجح، ولنا كلام متقدم في توهين هذا المذهب غاب عنا حال رقم هذا الطرس، ونحن رقمناه حال استعجال بعلم حامله وفي حال تأهبه للسير في وقت متضيق.

ورابعها: أن هذا المذهب لو سلم تمشيه فقد نص علماء الفقه على أن الإمام إذا ألزم الناس مذهبه فيما يقوى أمره لزمهم ذلك، فلم يكن لهم سلوك في  غيره من المسالك، ونص الهدوية على أن ذلك مع عدم مطالبة الإمام بالحقوق وإلزامه لأهلها الذين لا تنفذ أوامره عليهم تسليمها، فأما مع الإلزام فيعود الخلاف إلى الوفاق، ويقع الائتلاف على لزوم طاعته، وثبوت ولايته والاتفاق، وإن خالف في ذلك شذوذ من المذاكرين ليسوا فيما ذكروه على تحقيق ولا يقين، ولعمري ما قصد المفتي بذلك إلا التوصل إلى الاختطاف والانتهاب وما يعود عليه من الغرض في فتح هذا الباب، وليت شعري ما يكون حكم مثلنا إذا أفتى شيعة كل ناحية وجهة أهلها، بأنه لا يلزمكم تسليم الحقوق إلى الإمام ففعل ذلك أهل اليمن والشام، من المميزين والعوام، إذاً لا ينتهي إلينا درهم ولا دينار، ولا نتمكن في المعروف والمنكر من الأمر والإنكار، ولا نستطيع ضرباً في الأرض، ولا إحياء سنة ولا فرض، و لاَنْطَمَس هذا الأمر بالكلية، وانتثر نظام الراعي والرعية، فيالها من غلطة شنيعة، وخطة فضيعة، بينا الناس مكلفون بطاعة الإمام وإجابته، والسعي في نفعه وإعانته، إذ عادوا إلى الصد عنه، وأمر الناس بالبعد منه، فهم {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:26]، ومن بدع هذا الزمان، وما يقضي منه العجب؛ امتناع الشيعة والمميزين عن تسليم شيء من حقوق الله الواجبة عليهم إلى الإمام، مع معرفتهم لكون ولايتها إليه، والاعتماد فيها عليه، تأنفاً منهم وترفعاً عن فعل ما أوجب الله عليهم، وأي غضاضة في ذلك أو منقصة فيه، وكأن الإمام ما انتصب إلا للعوام، وليس التكليف بأمره عام، لعمري إن هذا من غرور الشيطان ومكائده التي يستغرِ بها عالمَ الإنسان، وهل فرق في التكليف بأمر الإمام بين الأشراف والأطراف، والملوك وكل صعلوك، والعلماء والجهال، والمتقين والضلال، بل أكثر الناس تمييزاً أجدرهم بالقيام بفرض الإمام، وأحقهم بالاعتناء بأمره والاهتمام، فالله المستعان على حال هذا الزمان الذي صار الدين فيه غريباً وقيام الساعة منه قريباً، بل على أهله الذين عدموا الإنصاف، من جميع الأطراف، وكثر منهم الاعتساف، وصار شأنهم في العناد غير خاف، وما أحسن ما نسب إلى الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام :

لا أشتـكي زمـني هـذا فـاظـلمه

 

وإنـما أشتـكي مـن أهل ذا الزمـن

 

مـن الـذياب الـتي تحت الثياب فلا

 

تـكن عـلى أحـد منـهم بـمرتكن

قـد كان لي كنـز صـبر فافتقرت إلى

 

إنـفاقه فـي مـداراتـي لهـم ففـني

نسأل الله التوفيق، وأن يذيقنا حلاوة التحقيق، ويختم بخير إنه ولي كل خير.

وحسبنا الله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

[جوابه عليه السلام على كتاب من بعض الأعيان]

وورد إليه عليه السلام  كتاب بليغ من بعض أعيان الأنام، فأجابه أيده الله بجواب حسن،  قال في صدر جوابه ما لفظه:

 ورد كتاب كريم، وخطاب رائق وسيم، يرفل في حلل البيان والبلاغة، ويجده الكارع في حياضه حلو المذاق وسهل الإساغة، ويحكم الذوق السليم بإحراز قصب السبق في حلبة البراعة لمن صاغه، وأنه صبغه بصباغ الحكمة التي تشعشعت أنوارها، وطلعت في سماء الموعظة أقمارها، بأحسن صياغة، وقمع بما ضمنه من رموز التعريض كل مولع بالحطام، ووالغ في المطامع الردية، فشج دماغه، فما أشفى لفظه وما أوفى معناه، وما أنفع وعظه، وما أعذب مضاغه، وما أسحر ما ضمنه من الشواهد الشعرية المزرية بنظم ابن المراغة، حتى أنه من أسام طرفه في رياضة وأورد فكره من حياضه، تمنى أن لا ينتهي فيه إلى غاية، وكره فراغه، فلله در راقم سطوره، وناظم شذوره، ومثقب لآليه، والمنقب عن دقائق معانيه، فلقد اتسع له الميدان والمجال، فقال وأحسن المقال، ووجد لساناً كالعضب الجرار، قد أجيد له الصقال، وأحكم الخروج من معنى إلى معنى، ومن مقام إلى مقام آخر والانتقال، ذلك فريد العصر وآية الدهر الذي تفرد بصناعة القلم، فصار في أربابه كالفرد العلم.، ،

[تحرير كلام له  عليه السلام  ليدرج في خطبة الجمعة بيسنم]

وحرر كلاماً ليدرجه في الخطبة يوم الجمعة وهو بيسنم () لسبب اقتضاه.

 أعيذكم بالله أهل هذه البلاد، من سلوك مسالك الشقاق والعناد، ومساوي الأخلاق، وسوء معاملة الخلاّق، وعصيان إمام الهدى والرشاد، وأعيذ بلدتكم هذه التي لما ولينا أمورها طهرت عن الدرن والفساد، وصارت في ذلك خير بلدة باليمن، من مكة إلى عدن، عند ذي الاعتبار والانقياد، عن أن تعود إلى الجاهلية الأولى والدرجة السفلى، وتنتقص ولا تزداد، ولقد علمتم وعلم سائر الناس أننا أحييناها بالهدى بعد أن كانت ميتة، وكانت خاملة الذكر فصارت لأجلنا صيِّته، نصرنا فيها المظلوم، ونعشنا المهضوم، ونفسنا عن المكضوم، ونفذنا شريعة المصطفى المختار، وأقمنا الحدود، وإقامة حد واحد منها أزكى من مطر أربعين خريفاً كما جاء في الأخبار، وأقمنا فيها الجماعات والجمعات التي هي للإسلام خير شعار، ونشرنا فيها العلم والتعليم، فانتشر غاية الانتشار، وحرسنا أهلها وهم رقود، وقمنا بقضاء مآربهم وهم عنها قعود، وأحيينا المساجد، وعمرنا الجوامع، وفعلنا ما يروق الأبصار والمسامع، وسعينا في الصلاح والإصلاح، وصُنَّا الأموال فيها والأرواح، حتى استوى في الحق القوي والضعيف، والدني والشريف، فبأي سبب كثر القال علينا والقيل، وبلغنا الأذى عن الجيران والقبيل، وخاب فينا الحليف والكفيل، ونُظِرنا بعين التحقير والتقليل، وسطا علينا من غير تمييز ولا تحليل، غركم والله ما نحن عليه من الحلم العريض الطويل، ومعاملتنا لكم على مر الزمان بالجميل، وصَبْرُنا الكثير غير القليل، فنعوذ بالله من تكدر المشارب، وسوء الخواتم والعواقب، وأن تكونوا كما قال الله عز وجل وضرب به المثل:{وضرب اللهُ مَثلاً قريةً كانتْ آمِنةً مُطْمَئِّنةً يأتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فَأذَاقَها اللهُ لِباسَ الْجُوعِ والْخَوفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]، أو كما قال عز من قائل:{وكَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَرْيةٍ بَطِرَتْ مَعِيْشَتها فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إلاَّ قَلِيْلاً وكُنَّا نَحْنُ الوَارِثِيْنَ} [القصص:58]، وستعرفون ما جهلتم من قدرنا، وتستعظمون ما تهاونتم به من أمرنا، إذا فقدتمونا، وتبكون ولا ينفعكم البكاء إذا عدمتمونا

لألـفينك بـعد الـموت تندبـني

 

وفـي حياتـي ما زودتـني زادا

الـمرء مـا دام حيـاً يُستـهان به

 

ويـعظم الـرزء فيه حين يُفْتَقَدُ

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[فاطر:8] {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[الزمر:46] ..تم.

[كتاب له عليه السام إلى أهل تهامة يحذرهم عن بيع الرجا]

وكتب إلى تهامة كتاباً يحذرهم عن استعمال بيع الرجا ()، وهم يسمونه بيع التمليك، استدعى ذلك الحاكم المنصوب، قال بعد البسملة:

 نحمد الله على أن جعلنا هُدَاةً إلى دينه، وحَفظةً لشرعه، وصرف هِمَمَنا إلى قمع هامة الضال عن سبيل رشده وردعه، ونصلي على أبينا وسيدنا عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه، صلاة تقوم وتدوم دوام طلوع كل كوكب وأفوله.

وبعد؛ فإنا ممن قَدَّر قبح الربا حق قدره، ولم يزل ينوه من فوق المنابر، وفي بطون الصكوك والدفاتر، بتقبيح أمره، ويبالغ في ردع مرتكبه، والمرخص فيه وزجره، قصداً لله، واتباعاً لمراد الله، وحراسةً لشرع رسول الله، بعد أن أطْلَعنا من أدلة تقبيحه وتشنيعه، وتنكيره وتفظيعه، على ما يهول ويبهر العقول، وكفى بقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، وقوله وهو أصدق القائلين بعد النهي عنه: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131]، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((الدرهم الواحد يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاث وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام)) ()، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الربا ثلاثة وسبعون باباً أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه)) () وغير هذا، وغيره مما ينبغي أن يُقَفَّ له الشعر ويذهل الألباب لعظيم الخطر، فلذلك بالغنا في التحذير عنه والتنفير منه، وجعلنا مضمره كمظهره، وخافيه كباديه، وانتشرت بذلك الفتاوى والأوراق، في جميع النواحي والآفاق، ولم يرج عندنا ولا يسوغ من الحيل التي يعتادها الناس فيه، ولا نوع من أنواع الرجا الذي لا يجد اللبيب مخرجاً من الإثم فيه لمن يقتفيه، وإنما هي حيل، ووصل إلى مصادمة مراد الشارع ومقصوده، ومخالفة مقتضى حكمته وتعدي حدوده، ولو كانت الحيل تُسّوغ ذلك لسهلت إلى هدم قواعد الشرع المسالك، فما من واجب إلا وهو يمكن التحيل في سقوطه وعدم وجوبه، ولا من محرم إلا وهو يمكن التوصل إلى استباحته وركوبه غالباً، ألا ترى أنه يمكن من يجب عليه الوضوء والماء عنده أن يتوصل إلى إسقاط وجوبه بإراقة الماء، ويمكن من تجب عليه الصلاة أن يحتال في سقوطها بأن يعرض نفسه للنوم فينام حتى ينقضي وقتها، ويمكن من معه النصاب أن يخرجه عن ملكه قبل انقضاء العام بيوم أو يومين أو أيام، وعلى هذا فقس في واجب الحج والصيام، وغيرهما من فروض الإسلام، وكذلك التوصل إلى تحليل المحرمات والمحظورات، كأجرة البغي، والمغني وغير ذلك، فأبواب الحيل واسعة مفتوحة، وطرقها واضحة مفسوحة، وإنما يجوز من الحيل مالم يتوصل به إلى أمر لا يخالف مراد الشارع، ولا يكون عن المهم المقصود بمانع، كما أجاد بعض الأئمة عليهم السلام ، ونبه على تحيل من حلف بصدقة ماله لا وصل رحمه بأن يخرج ماله عن ملكه إلى من يعيده إليه، ثم يفعل ما حلف ألا يفعله، فإن هذه حيلة مباركة، سهَّلت سبيل صلة الرحم، التي هي من أجل القرب المقربة إلى الله، وهي في العمر منسأة، وفي المال منماة.

وأما حيلة بيع الرجا فإنما هي توصل إلى الربا المحض المتفق عليه، فإن المقرض ما قصد الشر، والمستقرض ما أراد البيع، وإنما أراد مجرد القرض، فلما عرفا أن قرض درهمين بثلاثة لا يروج لهما، ولا يقبل منهما، وأنه يكون سبباً في التشنيع عليهما، وإيصال الأذى إليهما، جاءا بهذه الحيلة الباردة، والوصلة التي ليست لها قاعدة، ليكون علة المبيع زيادة للمقرض على ما أقرض، لئلا يخلو قرضه عن فائدة، فبئست الحيلة التي بالإثم والخسران عائدة، ومن هذا القبيل الذي هو كثير في كل جهة، غير قليلة مسئلة التمليك في تهامة، وعرفهم في هذه الطامة، فلكل فيها عرف، والمرجع إلى معنى واحد، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليجتنب الدخول في هذه المسألة، مقرضاً أو مستقرضاً، وكاتباً وشاهداً، ، فهي من أبواب النسيء المذكورة في تلك الأحاديث المأثورة، ولو قدَّر أن في المسألة إشكالاً، أو أن للشك فيها مجالاً، فلكل ملك حمى، وحمى الله محارمه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فاعتبروا يا أولي الأبصار، واذكروا فقد أن لكم الإدّكار، واتركوا يا حملة العلم الترخيص للعامة في مواضع الإنكار، وصونوا موارد الشرع الصافية من شوب الأكدار، ولا تحتجوا بأن هذه عادة جارية، ووظيفة ماضية، فكم من بدعة قد صارت معتادة، ومنكرة قد سنها الأتباع والعادة.

جعلنا الله وإياكم ممن سعد وعمل به ففاز، ونال ما رجا مما أعداه الله للراسخين في العلم وحاز، وعصمنا مما يصمنا عند الواحد القهار، وأنجانا عن مسلك من علم علماً فكتمه فألجم بلجام من نار، وحسبنا الله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال في الأم: رقم بفلله بتاريخ شهر رجب، سنة ثلاث وتسعين.

[كتاب كتبه بعض أتباع الإمام جواباً على بعض شيعة الإمام]

وهذه نسخة كتاب ليس من كتب الإمام، بل من كتب بعض أتباعه العلماء الأعلام، أجاب به على بعض شيعة الإمام، وقد كتب إليه كتاباً ما أحلاه من ملام، لأجل حديث عرض بين الإمام وبين أمير كوكبان في تسليمه، وزعم الكاتب أنه لم يقع كل الاحتفال والاهتمام، وأنجر كلامه إلى غير ذلك من النقادة واعتقاد الغفلة، عن الجهات اليمنية، وإنما علق هذا الكتاب لما فيه من فوائد وجمع شوارد.

قال بعد ترجمة الكتاب وذكر المكتوب إليه وما التمسه بسلامته من تخصيص ما كان في أمر كوكبان:

فلم تزل الكتب دائرة بيننا وبين ولد الإمام، مع بذله للإنصاف في كتبه فوق ما يراد منه، بحيث أن الواقف على كلامه يقطع بحصول المراد منه ومولانا عليه السلام  الحليم الرشيد يقول في كتبه إلينا متى أكثرنا في وصف ابن الإمام ووصفناه بصدق اللهجة وصفاء المودة لا بد أن تقعوا على حقيقة الأمر، فلما وقعنا على الحقيقة وبينا ماله وما عليه، ولم يبق عندنا ولا عند إمامنا له مطلبة مما طلب سكت عنا وأغرب، فتبين لنا أنه إنما أراد أحد أمور: إما ليفهم ما في النفوس، أو لينال بذلك ما ينال من الإمام عليه السلام ،  أو ليكون ذلك مصلحة له على أهل المكان، وغيرهم ممن حواليه من أهل الحصون والبلدان، وإلى يوم صدورها لم يبق التمام وعدمه، فإن صح الحديث من عنده فقد صح من عند مولانا عليه السلام ، وإن وقع الاختلاف فمن ابن الإمام وذلك جهدنا وجهد إمامنا عليه السلام .

وأما ما ذكرت بسلامتك أن الأغلب على الإمام التسهيل في الجهات اليمنية وعدم التعويل عليها، وأنه لانهمه له فيها فذلك غير صحيح، عند من ينظر بعين التحقيق، ويوفي النظر حقه، ويسلك طريق الإنصاف، ولأن المعلوم من حاله عليه السلام  أنه لا يزال كل سنة منذ دعا يجهز المخارج من الشام إلى اليمن، بنفسه الكريمة، بل قد يخرج مخرجين في السنة، حتى لقد وصل بلاد آنس، وأما سائر بلاد اليمن، فقد غلب عليها الظلمة، ولا يتصور له عليه السلام  افتتاحها إلا بناصر ومعين، وكثرة مجاهدين، وكذلك الحصون والقلاع، في جميع الأقطار والأصقاع، لا يتهيأ افتتاحها إلا بذلك، ونحن وأنت وغيرنا وغيرك نعرف من أنفسنا ومن غيرنا، أن الواحد لا يقف معه عليه السلام  في محطة على مكان قدر شهر، وإنما أكثر الناس يشير ولا يغير، ويعترض ولا يفوض، فكيف يقوم بذلك وحده؟! ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  في أول أمره وقلة ناصره خرج من بيته إلى المدينة، ورُدَّ من الحديبية والهدي معكوفاً، وصالح سهيل () ابن عمرو، وشرط عليه سهيل التخلية بينه وبين من أسلم، فلم يفرغوا من رقم الصحيفة إلا وقد وصل أبو جندل ابن سهيل يرفل في الحديد، ويصيح بالإسلام، فقام إليه سهيل وجره ورده حتى وجد صلى الله عليه وآله وسلم  الناصر، وافتتح مكة عنوة ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وعلي عليه السلام  سكن اثنتان وعشرون سنة أيام الخلفاء الثلاثة حتى وجد الناصر، والحسن عليه السلام  صالح معاوية لعنه الله لما خذله أصحابه، والقاسم عليه السلام  لزم جبل الرس، لما عدم الناصر، والمرتضى عزل نفسه عن الإمامة لما عرف من الناس اتباع الدنيا، وغير هؤلاء وغيرهم من أئمة الهدى، ومن بهم الاقتداء، فكيف يفعل الإمام عليه السلام  في افتتاح البلاد وقد طوى الناس بساط الجهاد، وكثر أهل البغي والفساد، مع ذاك فلو يقوم بنفسه ويجند الجنود، ولا يحصل له الغرض المقصود، لقال كثير من الناس هو قليل تدبير -كما قالوا يوم الصعيد- فلا تنهضوا للجهاد، ولا تسكتوا عن الاعتراض، بل هذا دأبهم وفعالهم لا غير، ولم يبق من اعتراضهم إلا قولهم، لو كان الإمام افتتح بغداد وكوفان، ومصر وخراسان، وسائر القرى والبلدان.

وأما قولك بسلامتك مع ما ينضاف إلى ذلك من جبنه () ، فهذه الدعوى الفاسدة لست أول من قالها، فقد افتراها غيرك، ونحن نقول إن كان المراد ببخله أنه لا يضع الحقوق في مواضعها، فهذا مما يقوض أمر الإمامة،  وتقويضها أبعد من السماء، وحاشاه من ذلك، فنحن أخص شيعته به، وأعرفهم بأحواله، باطنها وظاهرها، فما عرفنا ذلك من حاله، وإن كان المراد أنه لا يفعل كفعل حاتم، فليس ذلك فرضه ولا يجوز له فعله، ولا تفويت أموال الله، إلا فيما عرف جوازه عند الله، والأمر في الصرف والمنع إليه وهو غير متهم فيما لديه، وإن كان المراد أنه لا يعطي ويواسي، على ما يقتضيه نظره، فمن ادَّعا ذلك فقد خرق الإجماع فإنه عليه السلام  سلك في طريق العطاء والمواساة ما لم يسلكه قبله إمام، وأنت وغيرك تعرفون سيرة حي الإمام المتوكل، هل كان يفعل كفعل إمامنا هذا، ويعطي جميع من وصل إليه؟ أنشدكم الله هل وصل إليكم، أو علمتم وصل إلى غيركم من شيعة الظاهر غيري منه قليل أو كثير، أو نفير أو قطمير؟ ثم أنشدكم الله هل علمتم بقي منهم أو من غيرهم من الشيعة صغير أو كبير، أو غني أو فقير، لم يصله عطاء من إمامنا عليه السلام ، إما من يده أو بخطه؟ هذا لا ينكره أحد من الناس الأجلاف والأكياس، وأما أنه يعطي الواحد قنطار، مع وصولهم إليه من جميع الأقطار، فما في يده ما يسع ذلك، ولا فرضه ذلك، وأما ما ذكرت من فعل الشهيد أحمد بن الحسين عليه السلام  في حلب () فنعم، وأيضاً في براش () ، وأغرب وأعجب من حلب، فإنه شراه بأربعة عشر ألف درهم إمامية، والدرهم نصف قفلة إسلامية، لكنك نظرت إلى الدفع الجليل ولم تفهم ممن هو، فإن المذكور في سيرته عليه السلام  أنه فرقه على المسلمين، وقال إن ذلك لمصلحتهم فامتثلوا أمره، وسلموا ما رسمه، مع كون خزائنه مملوءة بيت المال فلم يقولوا معه ومعه، والمعلوم أن مولانا عليه السلام  لو شرى كوكبان أو غيره بألف أوقية مثلاً ويفرقها على الناس ويخرج عليك بسلامتك أو قية أو قفلة إسلامية لطعنت في الإمامة،  وقمت بجدك وجهدك في إبطال الزعامة، وغيرك مثلك.

ويفعل أكبر من فعلك، وأما ما ذكرت من كثرة مخارج الإمام أحمد بن الحسين عليه السلام  وغيره من الأئمة الكرام، فذلك بسبب كثرة المال والرجال، واتساع المجاهدين لديه، وبذل أرواحهم بين يديه، ذكر في سيرته أنه كان عدد خيله في محطته على صنعاء ألف وأربعمائة، وأعانه على ذلك العلماء الكبار، مثل الفقيه حميد الشهيد، حتى وفي برأسه، والفقيه قاسم بن أحمد الشاكري ()، والقاضي مسعود بن عمرو العنسي ()، والفقيه عبد الله بن زيد العنسي ()، وغيرهم وغيرهم، والإمام المنصور عليه السلام  قام معه الأمير عماد الدين، وصنوه بدر الدين، والأمير مجد الدين وغيرهم وغيرهم، فإنك إذا نظرت في سيرتهم وكثرة أعوانهم وأموالهم، ونظرت في إمامنا، وقلة أعوانه، وماله، وعلو همته، وظهور حاله، عرفت كماله، وقد عرفت أنه ألزم الناس الجهاد غير مرة، وحركهم وحثهم بالرسائل والأشعار وطالب الناس بالجهاد، فما أجابه رجل، وإنما دأبهم يأمروه إفعل كذا وكذا عكس قالب الإمامة، إذ الإمام الآمر فصار في حكمهم المأمور، وإن لم يأتمر طعنوا، هذه سيرة السفهاء لا سيرة الفقهاء وأهل العلم وأرباب النُّها، أما أيام الصراب فيفدون إليه أفواجاً أفراداً وأزواجاً لطلب ما في يده لو يحصل للواحد منهم جميع مملكته، وعجبت منهم حال وصولهم إليه، مع حضوري لديه، هل يسأله أحدهم عن أحواله وما هو عليه، ما يعلم الله سمعت ذلك من واحد منهم، إلا هاتني، أعطني، اكتب لي، افعل لي، اصنع لي، وليتهم مع ذلك يشكروه أو لا يمدحوه ولا يذموه، هل تقوم قناة الدين بهؤلاء الغوغاء المدبرين، لقد استولدَّت عقيم، وقومت غير قويم.

وأما ما ذكرت من أنه حول السودة () وكحلان () وفلله () لا سوى، فاعلم أن هذا مما لا يطعن به فحفظ الموجود أوجب من طلب الزيادة، وقد نص العلماء أن حفظ بلاد المسلمين أقدم من الغزو إلى بلاد الكفار، لهذه العلة، ولو أن الإمام عليه السلام  سهل في السودة لحكمتم أنتم وغيركم ببطلان إمامته، وهذه محنة إن حفظها اعترضتم، وأضفتم إليه الذل ووصفتم، وإن أهملها اعترضتم، وأضفتم إليه عدم التدبير وقطعتم.

وأما ما ذكرت بسلامتك أنهما لولا حصلا بغير شيء ... إلى آخر ما ذكرت فالله العالم أن السودة لم تحصل إلا بغرامات وخسارات، لا تنحصر ولا تنعد، ولا تنقطع أبد الأبد، ففي الابتداء، لم يصلها عليه السلام  إلا بأموالٍ عظيمة جليلة خطيرة، ونحن ممن اقترض لذلك الشأن ودفع من نفسه وأعان، ثم حال دخوله سلَّم الأموال الجليلة لكل إنسان، من الرجال والنسوان، وقضى جميع ما كان أدانه سليمان، ثم تحمل مؤنة بيت الفقيه إلى الآن، ثم عزم بسبب خروج سليمان ما علمه كل إنسان، ثم لا يصل إليها ولا يقف فيها إلا وهو يتألف جميع من فيها ومن حولها من البلدان، ثم لا يقنعوا منه عليه السلام  حتى يلحقوه إلى كحلان، ثم لا يزال يجهز إليها المخارج كل سنة لافتقادها وما حدث فيها وكان، فهذه هي الغنيمة الباردة عندكم أيها الإخوان، فالله المستعان، ثم لم يكفه فيها وفي كحلان إلا ولده ومهجة قلبه، وثمرة فؤاده، وأعز الناس عنده، ومن لا يشتهي أن يفارقه، فالعجب كل العجب وفوق العجب ممن يعتقد هذا الاعتقاد، وأما ما ذكرت من أن الجهات اليمنية كرسي المملكة وتاجها، فنحن نقول: وليست من صحة شروط الإمامة وأساسها، فكم من إمام ملك اليمن، وأكثرهم في الشام من أول الزمن، وله عليه السلام  بجده الكبير الهادي وأولاده بعده ثم جده الهادي ومعاصره المهدي أسوة حسنة، وكذا من بعدهما من أئمة الهدى ومن بهم القدوة والاهتداء، فإن مقصود الإمامة تحصيل الثواب لا النظر فيما يعجب من البلاد ويستطاب، فلو كانت مبنية على هذه القاعدة، لقيل:فما في وقوف القاسم عليه السلام  في جبل الرس من فائدة، أو لو كان في تحصيل صنعاء وأمثالها في صحة الإمامة حجة، لكان ذلك مما يطعن به على الإمامين العظيمين المقبورين في حجة، هذا مما لا يتكلم به عاقل، ولا يتعرض به إلا جاهل أو متجاهل.

وأما ما ذكر من دعاء بعض الأصحاب، الذي ليس بمسموع ولا مجاب، وحمده لله على ارتفاع شوكة المخالف لينال بها درجة الموالف، فلا لبّى الله دعاه، ولا رضي عنه ولا أرضاه، وحشره في زمرة إمامه الذي ارتضاه، ولعنه وأبعده وأخزاه، ما أقل دينه وحياه وأجراه، وقد حمى الله الدين وأيده بسواه، وهو بحمد الله ممن لا يلتفت إليه، ولا يعول في أمر من الأمور عليه، فلا يزيد في قوة الإمام إن والف، ولا يهضمها إن خالف، وإنما هو من سقط المتاع، وممن يباع ولا يبتاع، وما أحقه بقول الحسن عليه السلام  لعتبة بن أبي سفيان  حين وصف نفسه لعلي عليه السلام  وأولاده بالعداوة والشنآن: ما أشبهك بالبعوضة حين قالت للنخلة: استمسكي عني فإني ناهضة عنك، فقالت: لم أشعر بهبوطك فأستمسك لنهوضك. ونحن ما شعرنا بعدوانك ولا غمتنا إذ عرفناها، مع أني أقول ليت كثير من الناس ينحاز إلى المخالف فما هم إلا مؤنة لإمامنا عليه السلام  من غير نفع يعود منهم في دين ولا دنيا، وتخفيف المؤنة أحد اليسارين، فإذا كفانا المخالف شرهم فالسعيد من كُفِي، وتخفيف التكليف من اللطف الخفي، وهيهات ثم هيهات، قد -بحمد الله- ثبتت الإمامة، ورسخت أطناب الزعامة، على رغم أنف كل شيطان مريد، ومخالف عنيد، فمن شايع وبايع فلمصلحة دينه ودنياه، ومن خالف فالويل والثبور عليه في أولاه وأخراه.

وهذا الجواب على سبيل الاختصار، وقَدْ ما وجد في الحال من الكاغد () وإلا فكلامه بسلامته يحتمل من الجواب ما يقضي بالإسهاب والإطناب، والإحتجاج من السنة والكتاب، وقد ملنا في جوابنا هذا إلى اللين لمعرفتنا أنه بسلامته في أكثر كلامه إنما حكاه عن المتفيهقين والمتعمقين، ولا حرج على الحاكي فيما حكاه إلا إذا قرره وارتضاه، والسلام على من اتبع الهدى، وتجنب مسالك الردى، وأناب إلى الله تعالى واهتدى، وصلواته على محمد المصطفى وآله الأبرار الأتقياء.

[كتابه له عليه السام إلى الفقهاء العلماء بهجرة عر ثومان]

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه رسالة الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام  إلى الفقهاء العلماء الفضلاء الساكنين بهجرة عرثومان () حرسها الله بالإيمان قال فيها:

من عبدالله الهادي إلى الحق أمير المؤمنين أيد الله [به] دين الإسلام، وصان حريمه من أن يضام، بحميد مساعي الإخوان الفضلاء الكرام، النبلاء العلماء الأعلام، الكاشفين بأنوار علومهم حندس الظلام، جمال الدين نقطة بيكار العلماء الراشدين، محمد بن إبراهيم، وجمال الدين واسطة عقد الكرماء الأمجدين، محمد بن سليمان، وعلم الدين درة تاج الأخيار المتقين، قاسم بن علي، ووجيه الدين عبد الرحمن ابن محمد ()، ومن لديهم من الإخوان الأعيان الصالحين، والله تعالى يحبوهم بسلامه، السني المكين، ورحمته الهاطلة الشاملة كل حين، ويقيهم كل سوء ومكروه آمين، وبعد:

فصدور هذا الكتاب لثمان ليال إن بقين من شهر ربيع الأول أحد شهور سنة ستة وثمانمائة سنة، عن أحوال قارة، وأنباء سارة، وأنعم دارَّه، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتهطل سحائب الخيرات، بعد أن انتهى إلينا من لديهم أنعم -الله عليهم- كتاب كريم، وخطاب رائق وسيم، يعطر الأندية بريَّاه، ويشق برد الدِجِنَّة بتبلج مُحْيَّاه، فكان أعز وارد، وأكرم وافد، أخذنا نطالعه ونلازمه، ونقف عليه وقوف من ضاع في الترب خاتمه، حتى أحطنا علماً بمعلنه ومكتومه، وبصرنا بمنطوقه ومفهومه، فوجدناه يقضي للإخوان بمودة صحيحة، ويشهد بأنهم من أهل الاجتهاد في جانب الحق والنصيحة، ومشتمل على قسمين الآخر منهما يحتوي على فصلين:

القسم الأول: ذكر تغير أحوال الناس بالجهة اليمنية، وجري أمورهم على غير قياس وقاعدة مرضية، وخوضهم في غمار الفتن، وعدم جريهم في أديانهم على سنن، وكثرة التقلب منهم والانضراب، والانخداع بلوامع السراب، وقلة التفاتهم إلى ما ينجيهم، وحصول ملاحظتهم لمن يغويهم، وانتهاز المفسدين للفرصة، وامتيازهم منهم بحصة، وهذا حديث صحيح لا ريب فيه ولا إشكال، وكلام صادق لا يحوم حوله التمويه بحال، فإن زماننا هذا عاد الدين فيه غريباً، وصار قيام الساعة منه قريباً، وتغيرت الأحوال فيه، وقلت أديان أهليه، وضعفت فيهم الهمم، وقامت سوق الفسوق فيه على ساق وقدم، ونجمت فيه الحوادث الهائلة، ووضح معنى الحديث النبوي: ((الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة))، فلو أن رائداً كثر تطوافه، واشتد تساؤله وإلحافه، يرتاد منصفاً يسلك جادة الإنصاف، ولا يعرج على مسلك الميل والاعتساف، ويقصد فيما يقوله ويفعله وجه الله تعالى، ولا يعتبر سخط غيره سبحانه ولا رضاه، ويعلن بالحق لا تأخذه فيه لومة لائم، ويهجر من تنكب عن منهجه ويصارم، وينظر الأشياء بعين التحقيق، ويترك كُلاً في معاملته المنـزلة التي هو بها خليق، لوجد هذا المطلوب أشد بُعْداً وتعذَّرَ منال من العيوق، وأعز في الوجدان والعثور عليه من بيض الأنوق، فلم يبق إلا الفزع إلى الله والثقة به لا بأحد سواه والرجوع إلى تلاوة آياته، وإدامة ذكره آناء الليل وأطراف النهار وساعاته، والرغبة إليه والتعويل عليه في هداية الأمة، وإزالة الغمة، وسلخ إهاب الظلمة، وأن يجعل لنا فرجاً ومخرجاً، ويتولى الإعانة والتأييد على الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً.

اللهم فصدق الآمال في كرمك وإحسانك، ولا تخيب الظنون في فضلك وامتنانك، فقد انقطعت الرغبة إلا عنك، وخاب الرجا إلا فيك وعندك حل العقد، وتقويم الأود وإصلاح ما فسد، فبيدك الملك، ولك الحق والأمر، وأنت العالم بالباطن والظاهر، والسر والجهر.

القسم الثاني: بفصليه، وكلا طرفيه، يشير إشارة لطيفة، بعبارة شافية شريفة، إلى أن لذلك أسباباً من جهتنا، ومقتضيات من عندنا، ونحن نجيب عن ذلك على سبيل الجملة، ثم على سبيل التفصيل.

أما الجواب الجملي فنقول والله الموفق: أما الذي نعتقده فإنه لم يصدر منا سبب يعتل به علينا ويجعل ذريعة لتوجيه الملام علينا، فقد عاملنا الناس بعد قيامنا هذا بأحسن المعاملة، وجاملناهم أبلغ المجاملة، وأحسنا إلى المحسنين، وتجاوزنا عن المسيئين، وبالغنا في الألطاف، واستعطفنا غاية الاستعطاف، واقتعدنا غارب الأسفار، واقتحمنا غمار الأخطار، في البلوغ إلى ديارهم، ووصولهم إلى قرارهم، والاستقصاء على مبايعتهم، وقبض عهودهم، والتأكيد عليهم، خشية نقض عقودهم، واستمرار مكاتبتهم ومراسلتهم، وصلتهم ومواصلتهم، والتنقل من يمن إلى شام، ومن شام إلى يمن، وعدم الاستقرار في بلد والإستمرار في وطن، وهذا هو الداخل في حيز الإمكان، وأكثر ما يجب الإحتراك على من تصدى لهذا الشأن، وكلما تركناه واجتنبناه من أنواع السعي في ذلك، وسلوك بعض المسالك، فإما لموانع مانعة واضحة، أو لصوارف على الدواعي راجحة، مع نية بحمد الله حسنة صالحة، وتأملات لزناد الإصابة قادحة، وإما أن الإمام ينقسم في الأقطار، ويصير في الليل في قطر وآخر بالنهار، فخارج عن مقدور البشر، وشأن لا يطاق عليه ولا يقتدر، ومن تأمل أحوال كثير من الأئمة الساعين في صلاح الأمة وجد لنا من الاحتراك والاستدراك ما ليس لهم، وبنا من الولع لذلك ما ليس بهم، هذا الإمام المتوكل أقرب الأئمة بنا عهداً، وهو من أوْرَاهم في السعي والجد في تقوية أمره زنداً، قام في جهة اليمن ودعا، وتردد فيه وسعى، وقل احتفاله وسعيه في جهة الشام، من حد بلاد الأهنوم إلى بيشة، مع كونها من الجهات الإمامية، التي لم تزل أيدي الأئمة عليها منبسطة، وأمراس أمرهم بها مرتبطة، حتى أن رسله، وكتبه، لم تنته إليها، إلا بعد مضي سنين كثيرة من قيامه، ثم لم يباشرها بنفسه إلا في خلال وصول له إلى صعدة، مر جانباً منها يسيراً استطرقه فقط في أيام قليلة، وكانوا لذلك عنه غافلين، وعليه غير معولين، إلا قليلاً منهم بسبب عناية السيد الصالح جمال الدين علي بن صالح، وطائفة دعاهم إلى ذلك، وهذا جدنا الإمام الهادي علي بن المؤيد، وكان له أتباع بالديار اليمنية وأشياع طرائقهم مرضية، وكفى بالفقيه الأفضل، العلامة يوسف بن عثمان الذي كان جبلاً من جبال العلم والإيمان، فكان تردده إلى الجهات اليمنية قليلاً في أسفار قليلة، ومنتهى ما بلغه كحلان تاج الدين، وقد عاش كل من الإمامين المذكورين بعد دعوته أربعين سنة يزيد أحدهما على هذا القدر قليلاً، وينقص الآخر منه قليلاً، وها نحن في مدة ست سنين قد بلغنا من أقصى شامنا، إلى أقصى يمننا، وترددنا بين الجهتين مرة بعد مرة، وكرة بعد كرة، وإنما السبب الحقيقي والموجب المقتضي ما منينا به من قلة تناصح الإخوان، وكثرة تخاذل الأعوان، وإن الناس مع ظهورالإجابة، وكثرة المحبة، وانتشار هذه الدعوة، لم نحظ منهم بأخوان ناصحين، وأعوان صالحين، يطوفون الآفاق، ويحثون على طاعة الخلاق، ويجلبون الأرزاق، التي لا قوام لهذا الأمر إلا بها، ولا ينتظم شأنه إلا بتحصيلها، بل صار أتباعنا وأعواننا، على كثرة عددهم، واتساع مددهم، وظهور ودادهم وحسن اعتقادهم، بين صالح نافع، ذي جاه عريض واسع، ولشرائط الإعانة لو سمح بها جامع، وبين رجل إما صالح لا نفع له ولا إحسان، وإما نافع لكنه خوان، فالأولون لزموا ديارهم، وكانوا حلس أوطانهم، وأغفلوا أمر الإمام، وما يتوجه له عن أذهانهم، وقال لسان حالهم، وإن لم يكن ذلك من مقالهم {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24]، وليت أنهم مع ذلك راضون عنا، أو عاذرون لنا، بل كلما تغير من أمر الإمام، وانتثر من النظام، ظنوه لتفريطه، وأنه أتى في ذلك من تخبيطه، وما شعروا أن ذلك بسبب خذلانهم، ومعاقرتهم لأوطانهم، وانفراده عن الأعوان، وخروج إدراكه وحده لإصلاح الأمة عن حيز الإمكان، وتفرق الظبا على خداش ()، وتعسر الانتهاض في بعض الأوقات والانتعاش، والآخرون يقتربون منا ولا يبعدون، ويجيبون إلى تولي أمورنا ويسعدون، ويطوفون البلاد، ويلبون الإمام إلى ما طلب من الأعمال وأراد، ولكن ضرهم أكثر من نفعهم، وتفريقهم أبلغ من جمعهم، لأنهم كما ذكرنا بين رجل ذي دين لا إحكام له ولا إحسان، فيكون سبب تغييره عدم تدبير، ورجل له في النفع تأثير، وليس دينه وتحريه بالكثير، فيضر بعدم تحريه، ويوقع كل تصرف على خلاف ما نحبه فيه، وكثير من هذا القبيل، من يرد العتب إلينا فيما أفسده ويحيل، ولا أستثني ممن ذكرته من الإخوان والأعوان إلا القليل، فصرت لذلك أحير من ضب ()، وأذهل من صب ()، أقدم رجلاً وأُخر أخرى، وأتفكر ما هو الأولى والأحرى، فإن وقع إهمال للجهات من السُّعات والطائفين والعمال، وقلنا: من أحب التمسك بعروة الإمام، والأداء لما فرض عليه في شأنه والقيام، فهو يعرف المحجة ويسلكها، ويجد الوصلة إلى ذلك ويدركها، اندرس رسم الإمامة،  وانطمس نهجها مع العامة، ووجدوا العذر علينا، وردوا الملامة إلينا، وإن أمرنا الأمراء وبثثنا السعات والأمناء، ووجهنا الطائفين في كل وقت وحين، لم تخل أمورهم عن عدم الإحكام والجري على غير نظام، وكان ما حدث منهم بسبب منا، وكأنه في الحكم صادر عنا، وكلما رجونا في عامل أوساع أنه صالح، ومتجره في ذلك رابح، خاب الأمل، وما صلح العمل، ومن أعجب الأشياء أنها متى حدثت حادثة في قطر شاسع عنا، كانت غاية عمل أعيان أهله ومن نقطع منهم بعلمه وفضله أن يكتب إلينا، ويحيل النظر في ذلك مع تعذره منها علينا، وهو يعلم أنه لو تصدى لدفع ذلك الحادث وإزالة ذلك الكارث، لأمكنه بسهولة، مع خفة المؤنة، فلو أن الإخوان -وفقهم الله- اهتموا بشد الأزر، وصلاح هذا الأمر، كما فعل من سلف من الكبراء الأعلام، مع الأئمة الكرام، ليكونن هذا الأمر في غاية الانتظام، وليصلحن حال الخاص فيه والعام، هذه سيرة الأئمة مقروءة، وآيات فضلهم متلوة، فلينظر الناظر هل استقل أحد منهم بنفسه، وانفرد بإحكام الأمر وحده، لا والله ولكن حظوا بما لم نَحْظَ به، وعوملوا بما لم نعامل به، هذا الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة قام بدعوته كبراء السادة وفضلاء الشيعة، وكفى من ذلك بأن شيخ آل الرسول شمس الدين يحيى بن أحمد كان يطوف الآفاق مع كبر سنه، وضعف بدنه، حتى ورمت قدماه، وهو الذي كان أراد منه المنصور القيام، وله في ذلك أشعار بليغة وسام، وكل إمام هذه حاله، وهكذا رجاله، هذا آخر الأئمة عهداً قام بأمره، ونشر دعوته، وتحصيل المصالح الجهادية، له طائفة انبروا في ذلك، وسلكوا فيه أصعب المسالك، وهجروا فيه المنام، ومنعوا فيه أنفسهم لذة الطعام، ولقد أقام حي السيد علي بن صالح () في راحة بني شريف () سنةً بمكان واحد، يعالج أهلها في طاعته، وإجابة دعوته، وهم يردون عليه أقبح الرد ويصدون عن ذلك أعظم الصد، حتى وقع له الفرج، ومن لج ولج، فعادوا بعد العصيان مطيعين، وإلى الإجابة بعد الامتناع منقادين، وحصَّل منهم الخيل الجياد، والسيوف الحداد، والدروع الجليلة، والرماح الطويلة، من غير أن يصل الإمام لهم داراً، ولا يسير في طلب ذلك منهم نهاراً، وغير هذا وغيره مما هو معروف، وظاهر مكشوف، ولعل من هو جاهل أو متجاهل، أو ذي حقد متحامل، يقول قد حضيت من الإخوان، بكثير من الأعوان، ولكن كان الخلل من لديك، واللوم فيه عائد إليك، ونحن نقول له: تالله ما صدقت فيما ذكرت، ولقد علمنا يقيناً بالوجدان من حال أنفسنا والتواتر عن غيرنا، أنا أكثر إنصافاً للإخوان وإسعافاً للأعوان، وإلانَةً للأقوال، وتعظيماً في الأفعال، ولو أنه وقع الفحص والتنقير، والتأمل للمعاملة مع الإمام الأول والأخير، لوجد بين المعاملتين من الفروق الكبار، كما بين الليل والنهار، والنقاد بصير، وإليه المصير، ولهذا الإجمال تفصيل، يفتقر إلى تعيين وتبيين وتطويل، وليس هذا الكتاب موضع ذكره، ولا مكان صدره ونشره.

ثم نعود إلى مراجعة الإخوان على سبيل التفصيل، أما ما ذكروه من كون الغفلة منا عن تلك الجهات، من أسباب انضراب أهليها، وما حدث من التغيير فيها، فقد تقدم ما أشرنا إليه، من أنه لا غفلة في الحقيقة عن هذا الشأن، وإن الذي يُغْفَلُ عنهم من ذلك إما غير راجح، وإما غير داخل في حيز الإمكان، ثم إنا نبوح بسرنا، ونظهر ما كتمناه من أمرنا، وإن صدور الأحرار، قبور الأسرار، وفي النفس أمر لم نزل نكتمه عن البعيد والقريب، وإن لم يكن فيه ما يريب، لكن قد ينشأ من إظهار الصواب ملام، وقل من يتأمل المعنى الدقيق إلا أولي الأحلام، وهو أنَّا نظرنا في إقامتنا بالديار اليمنية، وما حكم أعمالنا بها في كونها مرضية، وما ثمرة ذلك المطلوب ومغبته المحبوبة، فوجدنا خلاصة عملنا فيها، وقصارى بغيتنا منها، السلامة من شر أهليها، والنجاة من انتهاك النفس أوالعرض فيها، وتوفر زكوات نطلبها، واستحصال حقوق واجبات نجمعها، ثم نذهبها في المداراة، ونتلف معظمها لأولي التأليفات، ولم نجد قابلية لأهلها في قبول أوامرنا ونواهينا، وإخلاص الطاعة والمودة فينا، وامتثال ما رمناه من خلاصهم وصلاحهم، واعتماد ما يوصلهم إلى ظفرهم وفلاحهم، بل نفوسهم طامحة، وأعينهم رامحة، إلى أن نكون نحن المطيعين لهم، والمسعدين إلى مرامهم، فإن طلبت منا عطية لانتمكن منها، أو نتحرج عنها، أو مصارفة غير مخلِّصة، ولا واقعة على القاعدة المعتبرة، أو وضع ولاية لمن لا يصلح لها، ولا هو من أهلها أو غير ذلك من الأغراض الفاسدة والأهواء التي ليس لها في أمر الدنيا قاعدة، ولم نفعل ذلك، ولم نسلك معهم تلك المسالك، كان سبباً في كثرة الأذى، وإثارة العداوة والبغضاء، وإذا أردنا أن نرضي بعضاً أغضبنا بعضاً، ولا نعلم أن أحداً ممن يفد علينا، أو يرد إلينا في الأغلب -على أنه لا انحصار لعددهم، ولا انقطاع لمددهم- يكون بغيته منا، وغرضه من وفوده إلينا، أن يستفيد منا أمراً أشكل عليه من أمور دينه، أو يقصد بذلك الخروج من دائرة شكه إلى حيز يقينه، أو يرجع منا بمسألة قد استفادها، أو طريقة صالحة اقتبسها منا واستعادها، بل يكون الغرض إما عرضاً من الحياة الدنيا، أو مساعدة إلى شيء من الأهواء، وشأننا في خلال [ذلك] ومهمتنا تلقي من يرد ويفد بالتوقي لغضبه وشره، والتحرز من خدعه ومكره، والترقب لما ينفح من أذاه وهجره، إما بسبب طعام لا يعجبه، أو عروض أمر يغضبه، أوعطية يستقلها، أو بغية لا يجدها، فيغتاظ لها، نسهر في ذلك ليلنا، ونتعب فيه نهارنا، حتى لا نكاد نصلي صلاة في وقت اختيارها إلا في الأقل من الأوقات، ولا نتفرغ لعلم نفيده أونستفيده إلا في اليسير من الساعات، ولا نخلو في الأغلب خلوة ذكر وتفكر وما أنفع الخلوات، ونحن على هذه الحال، إلى أن ننفق جميع ما جمعناه، ولا نستفصل شيئاً مما حصلناه، إما لجهاد ذوي الظلم والعناد، أو لسداد ذوي الفضل والرشاد، أو إحياء علم يستفاد، أوتأسيس مصلحة دينية تستجاد، فإذا فرغ ما في أيدنا أوكاد، انتقلنا عن اليمن والأمر بخلاف ما يظن، نخشى من الإقامة فيه وبين أهليه، مع نفاد بيت المال على تلك الصفة، والحال أن يطلبوا منا مالا يجدونه، ويحاولوا منا مالا يدركونه، فيعودوا أعداء يبتغون لنا الغوائل، ونقع منهم في الخطوب الجلائل، ومع ذلك فشكرهم لنا قليل أو معدوم، وأكثرهم يظهر أنه من جهتنا موتور ومغموم، والأخوان الصالحون عنا في خلال ذلك مبتعدون غير مقتربين، وغائبون غير حاضرين، وغافلون غير ذاكرين، وخاذلون غير ناصرين، لا يصبرون عندنا ولا يصابرون، ولا يعينوننا فيما نعانيه ولا يحاصرون، ولو أنهم حضروا وصبروا، وواسوا وأعانوا، لصلحت والله الأمور، وانشرحت الصدور، وانتزحت الشرور، وانتظم أمر الجمهور، ولكن ما يعمل الواحد وحده؟ وما يبلغ سعيه ولو استفرغ جهده؟ فلذلك ضاق الصدر، وعيل الصبر، ونظرنا إلى صفة أمرنا وسيرتنا في الجهات الأخرى، فوجدنا الحكم لنا على أهلها، وبيدنا النظر في عقد أمورها وحلها، لا يضطرنا أهلها إلى خلاف ما نريد، ولا نقول ونفعل فيها إلا ما هو جار على المنهج السديد، ثم لا تغرب شمس نهار، وينسخ ظلمة ليل طلوع الصبح بالأنوار، إلا ولنا سُنَّةً نحييها، أو بدعة نميتها، أو علوم ننشرها، أو حِكَم نظهرها، أو قواعد مصالح دينية نؤسسها، أو وظائف تقى وهدى نصونها عن التغيير ونحرسها، ولقد وقع في هذا العام من المصالح العظام، وإحياء المدارس التي كانت دوارس للعلوم والقرآن، وبناء الجوامع والمساجد في كثير من البلدان، وإقامة الحدود، وإزالة المنكرات، والتشديد على أهل الأفعال المقبحات، وتقوية الأمر بالمعروف، وإزالة كل منكر مألوف، في جهات كانت قبل قيامنا معروفة بالقبائح، ومجمعاً للرذائل والفضائح، لا يكاد يوجد فيها صالح، ما لو اطلع عليه الأخوان لقرت منهم به الأعيان، ولعلموا أنه نتيجة الإمامة المقصودة، وثمرتها المستطابة المحمودة، فهذا أمر كلي، ووجه جلي.

وهنا وجه آخر اقتضى تراخينا عن الخروج إلى جهة السودة في هذه المدة، وهو أنا لا نتمكن من الخروج إليها، والتعريج عليها، إلا في إقبال الثمار وحضورها، وانسكاب الأرزاق ودرورها، لأنها جهة لا يدخل منها نفسها مصلحة تقوم بشيء من المشاق والمكالف، وفيها من الصرف والانفاق مالا يقوم به التالد والطارف، فما لم يصادف وصولنا إليها ما ذكر لم يمكن فيها المقام، ولو قليلاً من الأيام، ثم أنها وغيرها وما حولها من الجهات والأماكن التي تليق الإقامة بها والوصول إليها فيها هذا الزمان من الحطم وقلة الحَب وغلاء السعر ما قد ربما انتهى إلى الخواطر الكريمة، فلذلك أحجمنا بعد أن نوينا الخروج مرة بعد أخرى، وهممنا وقد آن وقت الانتهاض وحصول الأغراض إن شاء الله تعالى وبنينا على الخروج وإن شابه ما شاب، بعد استخارة الله واعتماد ما أجمع عليه الأصحاب، ونحن مع ذلك نلزم الأخوان الأعيان والفضلاء أولى الأديان أن ينتهضوا إلينا حال انتهاضنا إلى موضع إقامتنا، لنتفاوض نحن وهم في الأمور العامة والخاصة، ونهتم جميعاً بما هو الزبدة من أمر الإمامة والخلاصة، ويكون أمرنا بيننا شورى، ونعتمد ما هو الأولى بنا والأحرى، ونتأمل ما هو الأقرب إلى السلامة في الأخرى، ونتعاون على البر والتقوى، ومدافعة أولي الأغراض الفاسدة والأهواء، وننشر العلوم التي عفت آثارها، وتهدم منارها، وتوارى أوارها، وتعهد المصالح، وتمييز المرجوح من الراجح، نرمي في ذلك إن شاء الله عن قوس واحدة، وعزيمة صحيحة غير فاسدة، وأما ما تضمنه كتاب الأصحاب (الإخوان) من ذكر الأخير من السببين وهو ميل ذلك الصاحب عن الجانب، وإن ذلك لِشَكاوٍ ذكرها، ودعاوٍٍ أظهرها، وكون الراجح إسعافه وإنصافه، فنحن على يقين من كون الداعي لهم -أمتع الله بهم- إلى ذلك النصح الذي يجب، وأن كلا منهم يريد الصلاح ويحب، ولكنهم -بسلامتهم- يحملون الأمور على ظواهرها، ولا يطلعون على بواطن القلوب وسرائرها، ولو أن الأمر كان كما ظنوه واعتقدوه لكان الرأي الصائب ما رجحوه -بسلامتهم- وأيدوه، ولكن الأمر على خلاف ما ظهر، وعند جهينة الخبر اليقين من الخبر، ونشهد لكم بصدق ما أشرنا إليه، ونبهنا عليه، أن هذا الصاحب المذكور قد كان على ما عرفتم من الإجمال، والملازمة مدة طويلة لا يسمع منه اعتلال، ولا ينظر في موالاته اختلال، والحال الحال، واسألوا هل حدث هذا الزمان في جانب أولئك المجعولين علة حادث؟ أو صدرت إليهم إشارة، بقول أو فعل أو أمر كاره؟ تجدوا ذلك أمرا لم يكن، ولكن لما أدرك الشيطان ما أراد، وجرى مجرى الدم بل زاد، وقعت التعللات الباردة، والتمحلات الفاسدة، ثم انظروا -حفظكم الله- بما يدلي هذا الرجل فيما ادعاه علينا، بسبب أولئك الناس، هل بوصاية؟ فهي منتفية، أو ولاية؟ فهي لنا دونه، أو قرابة فهي معدومة، أو مصاهرة؟ فما من ذلك إلا مثل الذي لنا، أو ضمانه؟ فما هو بكفيل ولا وكيل، أو الله وحسبه علينا، فكيف يقوم لله من يطلب أن يفعل ما لا يرضي الله؟! وما أحسن ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام  إمَّا ما هو كذا وكذا، فلم يكن الجناية فيها عليك، فيكون العذر فيها إليك، أوكما قال، والذي يمكن أن توجه إليه عليه هذه أحد أمرين، إما العهدة فإن زعم كما ذكر بعض الإخوان عنه أنها لهم ملك وأنها وديعة عندنا لهم، فهم أيتام في حجورنا، ونحن المنفقون عليهم، وهم الآن صغار، فإن طلب ردها إلى أيديهم لم يسع ذلك، وإن كان إلى يده فلأي وجه؟ وليت أنه يستمر على هذه الدعوى، فهي دعوى شرعية، والشريعة ممتثلة، فإن رجلاً من أضعف رعيتنا في جهة الشام إدعى عليَّ دعوى فأجبته إلى مجلس الشرع الشريف، ولم أمتنع عن ذلك مع معرفتي لعدم صحة دعواه، وأي ملكٍ لهم في عهدة هي لأئمة المسلمين خلفاً عن سلف، وهذا والدهم وصيته موجودة كاتبها وشاهدها الفقيه الأفضل أحمد بن محمد الخالدي ()، ذكر فيها ما يملكه وما هو لبيت المال، واعترف بأن العهدة للمسلمين، ومما هو لله فولايته إلى الأئمة الراشدين، فبأي وجه أو سبب يريد أن ينتزعها عن يد الإمام، ويضعها في أيدي النساء والأيتام الذين لا يقدرون على حفظها، ولا يتمكنون من قبضها؟! اللهم إلا بظلامات يفعلونها، وأموال يغصبونها، ودماء يسفكونها، إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، وإن كانت العلة ما حكي عنه من قلة ما ينفق عليهم، وأنهم قد يجوعون والمخازين فيها الحبوب، ويعرون ولا يحصل لهم المطلوب، فلا يخلو إما أن يدعي أن الذي في مخازيننا هو لهم ولم ينفق عليهم، ففرية ما فيها مرية، إنا لم نقبض لهم درهماً ولا ديناراً، ولا حوت أيدينا لهم قطميراً () ولا قنطاراً ()، وإن اعترف بأن الذي معنا ليس لهم بل من بيوت الأموال وحقوق الله تعالى، فأي واجب لهم فيها؟ وما سبب الاقتراح على الإمام في أنه لم يعط بني فلان؟ فإن للإمام في ذلك نظره، وغيرهم من المسلمين أكثر احتياجاً واستحقاقاً، وأما هم فما فيهم غير غني إلا طفلان صغيران، فهما لا أعلم غناهما، وبقيتهم من الأغنياء بالإجماع، ثم كيف يتصور هذه العلة مع أنا قد تواطينا نحن وهم على قدر معلوم ينفق عليهم، وما زالوا يطلبون زيادة مرة بعد أخرى، ونحن نسعدهم حتى وضعوا خطهم -وهو بأيدينا- بأنهم قد رضوا، وحضر هو على موقف آخر بعد وضع الخط وطلب الزيادة ففعلناها،  وكلما وضع لهم في السنة يسلم مرة واحدة من أفضل الحب مع زيادته على الكفاية، ولهم حبوب من أموالهم لا يعتدون بها، ولا يحسبونها، ثم ليسأل فيم ينفق تلك المخازين؟ هل في حفظ العِهَد وحفظهم، مع شدة طلب إعادتهم لهم؟ أو ينقلها من السودة إلى غيرها، وينتفع في غير تلك الجهة بها؟ وإن كانت العلة طلب الضمانة، ففي أي دين؟ أو على أي وجه يحارب الإمام؟ على أن يُضَمِّن رجلاً من القبائل على نفسه بأمر لا يجب عليه، فضلاً أن تجب الضمانة به، ثم إنا نُعّرفهم -أبقاهم الله- بأن الغرض من الضمانة ليس ما أظهروه من طلب الوفاء، فإنهم عالمون يقيناً بأنا غير متأخرين عما قد تقيد بيننا وبينهم، بل الغرض التوصل إلى انتزاع العهدة من اليد، لأن الخطوط لها قيود وشروط لا يعرفها إلا أهل المعرفة التامة، فكيف يتمكن من معرفتها من هو من العامة؟ فإذا ضمن والي العهدة فيما تضمنته الخطوط لم يعرف الشرط من المشروط، ومن عادة الولاة اعتقاد أنه لا نقا لهم إلا بطيبة نفس المضمون له، فمن ثاني وقوع الضمانة يدعون أنهم قد وقعوا في خلاف ما تضمنه الخطوط، ويلومون الوالي ويتعاظم الخصام، هذا والله هو القصد والمرام.

ولقد علمت بالتنوير، وتحقيق النظر والتحرير، أني لو أجبت إلى ذلك لكانت ثانية قضية التحكيم، وإني لا أُلام الآن على أن لا افعل، اعتقاداً لحصول المصلحة به، فمتى فعلناه وثبتت مفاسده وقع اللوم العظيم على الفعل، وقد وقع الخلل، فإن هذه الجهة هي قاعدة الجهات الإمامية والحاكمة على المغربية منها، والمشرقية، وباختلالها تختل الأمور، وينتثر نظام الجمهور، واعلموا -متع الله بكم- أنا لم نمنع السيد عن أمر رامه منا ولا كففناه عن تصرف في شيء عن أمرنا، ولا أبقينا جهداً في استطابة نفسه، واستجلاب أنسه ومقابلة إغلاظه بما لان، والصبر على جرحه مدة من الزمان، ولقد كنا نأمر بأمر فيأمر بخلافه، فيتم ما أمر به ونُغْضي على ذلك له، فلما وقع الإياس، وظهر أمره بين الناس، لم نزد على التعريف لحقيقة الحال من غير إفراط ولا إيغال، وتيقنا أن مساعدته إلى ما أراد لا يحصل منه ما يريد، بل يزيد من بعد ذلك في المجانبه ثم يزيد، وعلمنا أن الذي حاوله منا لا يسوغ عند الله تعالى، ولا يريده سبحانه ولا يرضاه، فما رضينا أن نرضي المخلوق بسخط الخالق، وتلك بلا شك إحدى البوائق، والآن فهذا الفرس وهذا الميدان، وعند الإمتحان يكرم الرجل أو يهان، وتحضرون حفظكم الله ونحضر جميعاً، وتبينون الأغراض والمقاصد، وتميزون الصحيح من الفاسد، فما صح أنه يتوجه، وأنه واضح المحجة، وأن المصلحة في فعله لا في تركه فعلناه، وكان شيئاً واضحاً بيناً متيقناً، ثم إذا تبين أن المصلحة الدينية تحصل بأن نضمن به، وإن ذلك لازم متوجه ضمناً، وما امتنعنا وبنينا الأمر على خير أساس، ولم نخرج عن مقتضى الكتاب والسنة والقياس، فاعملوا -متع الله بكم- على حضور يعتمد، ولا يغيب عنه منكم أحد، ألهمنا الله جميعاً لرشده وأصلح من الأمور ما فسد.

وما أشرتم إليه -حفظكم الله تعالى- من كونه يحدث بانحراف السيد تغير كثير فصحيح ذلك، وما أحد إلا وله أثر في التغيير من هو دونه، كيف بمثله، ولكن إذا كنا نعلم أن بالإسعاد إلى ما أراد يقع الغيار الأكبر، ويتفق من الفساد ما هو أكثر، ثم لا نحظى بما نريد من صلاح أمره في الجانب ولا نظفر، فما الرأي؟ ثم ما تقولون إذا كنا نعتقد أن فعل ما أراد منَّا لا يسوغ لنا عن حقيقة وقوة بصيرة، لما يفضي إليه من مفاسد عظيمة ومظالم جسيمة؟ فهل تداركه أَلا يتغير يسوغ لنا ذلك أو لا؟ ولِمَ لم يتدارك أمير المؤمنين طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين، مع أنهم إنما طلبوا منه أمراً يسيراً بالنظر إلى حالهم حتى آل؟ الأمر إلى ما آل، ولم يسعد معاوية إلى أن يوليه أرض الشام، حتى آل الأمر إلى ما آل من استيلائه على الشام وعلى غيره، وإثارة الفتن العظيمة الهائلة؟ فمن مذهبنا ومذهب المسلمين أجمعين عدم تخطئة أمير المؤمنين سلام الله عليه.

ثم انظروا متع الله بكم، هل تغييره للناس وما ينشأ بسببه من الفساد أمر حسن؟ فليس لنا أن نحترز عنه أو أمر قبيح فعلى من عقابه وإثمه؟ إن التغيير في الحقيقة بذلك على نفسه، ولو أن الإمام لزمه في سيرته أن يفعل ما يستقبحه، ولا يستصلحه، ولا يسترجحه، لتحكم بعض المأمومين عليه، ولئلا يتغير أو يغير عليه لصار الإمام مأموماً، ولأصبح تابعاً ولم يكن متبوعاً، ولأدى ذلك إلى أن يلزمه النقيضان، ويكون من فرضه أن يجمع الضدان، فقد يكون الإقدام على أمر مما يقتضي تغير متغير وتغييره والإحجام عنه كذلك، وإنما فرض الإمام أن يمضي في أمره على ما يقتضيه رأيه وتدبيره، وتحقيقه وتحريره، وعلى المأموم أن يطيعه، ويحفظه ما يجب عليه من حقه ولا يضيعه، ويؤثر طيبة نفس الإمام على طيبة نفسه، ويقدم مراده واجتهاده، على عكسه، ويجتنب هواه، ولا يؤثره على تقواه، فإن اتباع الهوى خسران في الآخرة والدنيا، وكفى في تفظيع شأنه، وتعظيم خسرانه، ما رواه الطبراني وابن أبي عاصم عنه صلى الله عليه وآله وسلم  ((ما تحت ظل السماء من إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع)) ()، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((وأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)) ().

 ومن الغرائب والعجائب ما نقله بعض الأخوان ورأيناه بخط عَلَمٍ من الأعيان إن الصاحب المشار إليه، قال: لا بد له من ضمانة فلان بما هو كذا، أو أن يحضر المسلمون كافة، ويحكموا له أنه لا لوم عليه في ترك مناصبة الإمام في ذلك المرام، ويضعون خطوطهم له بذلك، فيا للعجب ولضيعة الحلم والأدب، تالله ما سمعنا بمثل هذا فيما مضى من اقتراحات الأمة على الأئمة، ولا ندري ما قصد؟ هل حكم الله؟ فما ورد بشرع الله بأن المسلمين يحكمون جميعاً في شجار يعرض، وكيف؟! وفي ذلك غاية الشجار، وإنما ورد الشرع بأن يحكم واحد، إذ حكمُ الله واحد أو حكمُ    الطاغوت، فمعاذ الله أن نجيب إليه، وأكثر ما علمنا من عادة أهله تحكيم ثلاثة، وأما طلب أن المسلمين يجمعون له في صعيد واحد، ويحكمون كلهم بحكم واحد، ويضعون خطوطهم في صك واحد، فهذا كلام بارد، وكفى به دليلا على الباطل، وشاهداً بأن نظر صاحبه عن حِلْية الإصابة عاطل.

وأبلغ ما انتهى إليه الاقتراح طلب الحكم من حكمين اثنين فقط لمعارض يزعم أنه الأولى بالأمر، فأما طلب مأموم من الإمام أن يرافعه إلى المسلمين كافة، وأن يحكموا له كافة، فهذا من الأساطير، والغرور الكثير، وطلب الأمور المتعذرة التي لا تبلغها مقدرة، ولكن ما عشت أراك الدهر عجباً، وإذا حقق النظر فأعجب من ذلك وأغرب أن تصغي إلى ذلك الأسماع، وتغضي عيون الأعيان عند ظهور مثل هذا الابتداع، وتخمد نار الغضب لله، وتركد ريح الحمية على دين الله، ويتلعب بالدين، بين ظهراني العلماء الراشدين، وهذا من قبيل التذكير، لا من قبيل التنكير، وفي علمكم الغزير، وحلمكم الجم الغفير، ما يمنع عن التفريط في جنب الله، وعدم التراخي فيما أوجب الله، وفي كتابكم الكريم إشارة إلى تقدم كتب قبله، ولم يبلغنا إلا ما هذا جوابه.  والسلام عليكم والدعاء مستمد.

وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم إلى يوم الدين

 [جوابات له عليه السلام على بعض المقترحين الذين دأبهم التعامي والتجاهل]

وهذه أجوبة له عليه السلام  على بعض المقترحين، الذين دأبهم التعامي أو التجاهل عن سيرة أمير المؤمنين، الواضحة لكل منصف أمين، وليس [لأهل] الأهواء والأغراض من المتبعين.

قال عليه السلام : نحمد الله على ما أمد به من التسديد والتوفيق، وأن ييسر السلوك إلى مقر التحقيق في سواء الطريق، ونسأله أن يُقَرِّب من اجتماع القلوب وما هو محبوب كلَّ سحيق، وأن يصلي على خيرته من خلقه، ومن هو بالصلاة والتسليم خليق، وعلى آله الأئمة الهداة سفن النجاة لكل غريق.

وبعد: فما زال حال الأمة مع الأئمة معاملتهم بالاقتراح، ومناقشتهم بالغدو والرواح، واستهجان كثير مما استصلحوه، واعتقاد أن المرجوح ما رجحوه، ولذلك أسباب متنوعة، ومقتضيات متعددة متسعة، منها التحامل المقتضي للتجاهل، فقد يتحامل كثير من الناس على الإمام، ويميلون إلى عدم الالتئام.

وعـين الرضا عن كل عيب كليلة

 

ولـكن عين السخط تبدي المساويـا

ويكون أهل هذا النوع ممن قيل فيهم:

صـم إذا سـمعوا خيراً ذكرت به

 

وإن ذكـرت بـشر عنـدهـم أذنـوا

إذا رأوا سُبـة طـاروا بـها فرحاً

 

مـني وما عـلموا مـن صالـح دفنوا

ومنها الاغترار بما يبلغ وبمن يبلغ، وكثيراً ما ينقل عن الأئمة مالم يفعلوه، ولا كان منهم أصلاً، وكثيراً ما ينقل ما فعلوه على كيفية أخرى، هي باللوم أحرى، ومنها أن يظهر لِلاَّئم وجه الصواب، في فعل لم يفعله الإمام، لِصارف لم يفهمه اللائم، أو ترك أمر فعله لداع لم يعرفه، وهذا كثير جداً، وقليل من يتيقظ ويقول: لعله فعل هذا لمرجح لم يُطّلَع عليه، أو تركه لصارف اقتضى عدم الالتفات إليه، أو لعل لهذا الفعل الذي صورته صورة القبيح وجه يقتضي حسنه، ويسوغ فعله أو يوجبه، ففي قصة موسى والخضر عبرة للمعتبر ضربها الله مثلاً لما هو بصورة القبيح المستشنع، وله وجه يقتضي حُسْنَه مستبدع، ومنها ما يتصوره الفارغ الذي لا خبرة له من سهولة الأمور تيسرها على الإمام، فليحقه بسبب تركها الملام، وهو من قبيل: (ما أسهل الطعن والضرب، على نظارة الحرب) فكم من أمر يلام الإمام على تركه، اعتقاداً لتيسر فعله، وهو في غاية التعسر بل التعذر، إما لتوقفه على مالٍ لا يتمكن منه، أو مسلك لا يمكنه السلوك فيه، أو أعوان لم يجدهم، أو السلامة من أعادٍ، ولم تقع أو غير ذلك، وترى أهل القلوب الفارغة، والصدور الخالية، والاشتعال بخواصهم، يظنون أن تجنيد الجنود، وجمع العساكر، والغزو إلى كثير من الديار، والمجاوزة لكثير من المهامه والقفار، وارتكاب عظائم الأخطار، أمر يسير  هين، بحيث أنهم لو كانوا مكان الإمام لفعلوه بسهولة، ولما أحجموا عنه، ولو خاضوا غمار هذا الأمر لتيقنوا، أنهم عن ذلك أشد عجزاً ممن لاموه، وأقل دركاً، وأبعد مكاناً عنه وأضيق مسلكاً، وما أحسن مطابقة ما تمثل به الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام  في هذا المعنى:

ويـل الشـجـي مـن الخلي فإنه

 

نـصـب الفـؤاد بـشجـوه مغـموم

وتـرى الـخلـي قـرير عين لاهياً

 

وعـلى الشـجـي كـآبـة وهـمـوم ()

 

ومنها مخالفة اجتهاد ذي الملام لاجتهاد الإمام، فيما مرجعه إلى الاجتهاد، وما هو من قبيل الآراء والتدبير، فمن المعلوم أنه لا يكاد يطابق الرأي من اثنين في كل شيء، وكما يقول أهل علم الكلام: من حق كل قادرين اختلاف مراديهما، فيقطع اللائم بقبح اجتهاد الإمام، ويلسعه على ذلك بحمة الملام، ويعتقد أن رأيه هو الصائب دون رأي غيره، ويعد الأمور الصادرة المخالفة لرأيه مساوي ومثالب، وكثيراً ما يكون الأمر بالعكس.

ولـو أنصفتْ فـي حكمها أم مـالك

 

إذن لـرأت تلك المَسَـاوي مـحاسناً

 

وقد ذكرنا في دعوتنا العامة كلاماً في هذا المعنى، وما يتوجه في المحامل الحسنة وكيفية المباحثة فيما لم يجد عن البحث عنه بداً، وهو كلام جدير أن يكتب بماء الذهب، لكنه نُسي وأُضيع فبطل نفعه وذهب.

والداعي إلى ذكر هذه النبذة اللطيفة، والإشارة الوجيزة الخفيفة، أنه ورد علينا وانتهى إلينا كتاب من بعض الأفاضل، النبلاء الأماثل، يتضمن طرفاً من الانتقاد والمناقشة التي يصدر مثلها ويعتاد، على أنه من أهل الوداد، ومعدود من أفاضل الأصحاب، وممن لا يليق أن يثبت في حقه سبب من تلك الأسباب، ونحن نجيب ما يفتقر إلى الجواب، من ألفاظ ذلك الكتاب، والله الموفق للصواب.

قال -ثبتنا الله وإياه-: هذه نصيحة صدرت من ناصح الجيب، التي هي بعون الله وتوفيقه من شين الريب... إلى آخره.

 أقول: لا كلام في توجيه النصيحة، على ذوي المودة والديانة الصحيحة، وكفى بالخبر المشهور وهو ((الدين النصيحة))، والظن غالباً بأن الكاتب قصد النصح، وإن كان كلامه مخرجاً مخرج المناقشة والمناقدة، لا مخرج المناصحة والموادة، فلكل من النوعين سياق وكيفية، لا يخفى على مثله من أهل الكمال والألمعية، ولكن الأعمال بالنيات، وإذا حسن القصد فلا تعويل على صورة العمل، ولا التفات.

 وعلى هذا فنقول: جزاك الله من أخ ناصح خيراً، فلا يخلو مثل ما صدر منك عن نفع وتذكير، وغرض كثير أو يسير، وكفى من فوائد المباحثة بأن يطلع على العذر فيما انتقد، وما يسوء القالي ويسر المؤِد، قال: إنك دعوت إلى دين الله، فلبى لدعوتك الناس، فقلنا عساك أن تحيي سنة وتميت بدعة، ولعلك تعيد رونقاً لوجه الحق الذي لم يبق في صفحته مزعة، فتمادت الأيام والأعوام والحال كالحال، فلم تُحيَ مدرسة قد أميتت، ولا أُومن طريق قد أخيفت، ولا أُقيم ما قعد عنه من الأمور الدينية، ولا وقع عزم ونهوض بَاعِثهُ باعث مما أنتم أهله من حسن النية، فإن في طاعتك قطرا أكبر، وصقعاً أكثر، ((ولأن يهدي الله على يديك رجلاً...)) الحدي.

أقول: سبحان الله!! ما تضمن هذا الكلام من الجزاف، وعدم الإنصاف، وكثرة الاعتساف، وما كان ينبغي أن يصدر مثله عن الأجلاف، ولاعن أهل الميل والانحراف، فكيف يصدر مثله عن ذي علم وأرب، وحلم وأدب، ووداد غير مؤتشب، ولكن ما عشت أراك الدهر العجب، وما أدري ما أقول في جواب هذا الكلام، دعوى أنا لم نحي سنة، ولا أمتنا بدعة، ولا أعدنا لوجه الحق رونقاً فيما مضى من الأيام والأعوام، يا لله لأئمة الحق الدعاة!! إلى الله من هذه البلية، والمعاملة السيئة غير المرضية!! وحالنا بحمد الله معروف، وأمرنا ظاهر مكشوف، ولو ذهبنا نعدد ما حي على أيدينا من السنن، ومات من البدع، وإقامة ما فرض الله سبحانه وشرع، لما أتينا له على حصر، والله سبحانه عالم السر والجهر، وكأن صاحب الكتاب حكم على كل ما لم يشاهده بعينه بأنه مفقود، ولا يدخل في حيز الوجود، أو حكم بأنَّا إذا لم نحي كل سنة ونميت كل بدعة، فكأنا لم نحي سنة واحدة، ولا أمتنا بدعة واحدة، أو أنا إذا لم نفعل ذلك في الجهات التي لا تنفذ أوامرنا فيها، فكأنا لم نفعله في شيء من الجهات، أو أنه إذا لم يتفق ذلك منا في الجهة التي هو فيها، لم يتفق في غيرها، وللعامة في هذا المعنى مَثَلٌ، معناه: إن كل من أخصبت أرضه، وأمطرت جهته، ظن أن كل جهة بصفتها، ومن كانت أرضه جديبة غير خصيبة ظن ذلك فيما غاب عنه، وما يشك أن الكاتب ما تأمل معاني كلامه هذا ولا مقتضاه، ولم يدبر ما انطوى عليه واحتواه، وأنه يعلم بالضرورة [لو] أن الأمر بخلاف ذلك، إذاً لتواتر الطرق إليها والمسالك.

ونحن نقول: لا شك -عند من نظر بعين الإنصاف، ولم يكن التجاهل والتحامل وعمى البصيرة له من الأوصاف- أن دعوتنا هذه المباركة مما كان سبباً في حياة الدين، وإرغام أنوف المعتدين، وإحياء كثير من سنن سيد المرسلين، وإماتة كثير من بدع المبتدعين، وأمن كثير من طرق المسلمين، وغير ذلك من المصالح العظيمة في الدين، وكل من عرفنا ورآنا، وأقام معنا وسافر مرافقاً لنا، تيقن أنه لا يمضي وقت من الأوقات ولا ساعة من الساعات إلا ولنا فيه عمل مبرور، وسعي مشكور، من إطعام مستطعم، وإعطاء مستعط، وإغاثة ملهوف، وستر عوار مكشوف، وإزالة منكر وإقامة معروف، وإحياء شريعة قد أميتت، وإماتة بدعة قد أسست وأقيمت، واستيفاء حدود، وتجهيز جنود، ونشر علوم، وطاعة للحي القيوم، وأنا لا نرد سائلاً، ولا نمنع نائلاً، وغير ذلك من المصالح الدينية، والمساعي الحميدة المرضية، نقطع في ذلك أوقات النهار، وكثيراً من ساعات الليل، حتى أنَّا والله نترك ما تدعو إليه من الجِبِلّة من الطعام والمنام، وغير ذلك من ضرورات الأنام، ونفارق لما ذكرناه المساكن والأوطان، والأهلين والولدان، وأدمعهم على الخدود كالأمزان، ولا نصل جهة ونقيم بمكان إلا ونحن كالغيث الذي يحي الأرض الميتة، ويصيرها بعد الجدب والإغبرار منبتة.

وما كنا نظن أن يواجهنا بمثل ذلك الكلام عدو قالٍ، ولا وقح من الرجال، فكيف يواجهنا به أهل المقه، ومن هو عدل ثقة؟! إنا لله وإنا إليه راجعون، قوله بالمفهوم: فلم تحي سنة، وتميت بدعة. يقال: ما أردت؟ هل في الجهات التي لا تنفذ فيها الأوامر، ولا يعتزى أهلها إلينا، ولا يعولون في أمورهم علينا؟ فصدقت في ذلك، لكن أي ذنب لنا في هذا؟ وأي نقادة علينا فيه؟ وما خصنا بذلك دون من سبق من الأئمة؟ فهذا حكمهم، ومن الذي نفذت أوامره من الأئمة الأطهار، في جميع النواحي والأقطار؟ أليس من سابقي الأئمة وأفضلهم وأعظمهم عند الله عزَّ شأنه ولدا رسول الله وريحانتاه، والمقطوع بعصمتهما ونجاتهما، وسيدا شباب أهل الجنة؟ فأخبرنا ما الذي حصل بإمامتهما ودعوتهما؟ أليس الحسن عليه السلام  صالح معاوية وأغضى على بدعه، التي توقعه في الهاوية حتى مات؟ ثم أغضى على ذلك الحسين حتى كانت خلافة يزيد الخمور؟ وكان منه ما كان من محاولة الجهاد، فما أفاد؟ ثم من بعدهما من الأئمة، ما الذي حصل بدعوة زيد ظاهراً؟ ومن كزيد؟ وهو الذي تنتمي إليه الفرقة الناجية، والعصابة الهادية، ولم نسمع عن أحد من أهل التمييز أنه عابهم بذلك، ولا قال ما الذي حصل من إحياء سنة وإماتة بدعة، فإن من أغراض الأئمة المهمة إنكار ما الظلمة عليه، وإقامة فريضة الجهاد، وتكدير عيشة المتغلبين من أهل الظلم، لهذا وجعلوا ما فعله الحسين عليه السلام  إعزازاً للدين بهذا الاعتبار، وإن لم يحصل في الظاهر إلا قتله، والمثلة به، وقتل كثير من أهل بيته رجالهم وأطفالهم، وإستياق بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كالسبايا، وقد حصل بقيامنا من هذا المعنى ما هو أظهر من الشمس، فغير خاف على من له طرف من الإنصاف ما وقع مع أُمرآء الجور وسلاطين الظلم من الرعب والروعة بقيامنا هذا المبارك، حتى أن منهم من لم يتهنى الطعام والشراب والمنام منذ ورقع القيام، وكان منا ما عرفه الخاص والعام، من قصد الظلمة إلى عقر دارهم، حتى غصوا بريقهم، وعموا عن مسلكهم وطريقهم، لولا ما كان من خذلان الجنود والأعوان، وانهزامهم عَنَّا ذلك الأوان، ثم لم نزل نشن الغارات عليهم، ونعمل الحيل في توجيه النكاية إليهم، حتى صاروا لا يَقِر بهم قرار، ولا تقر أعينهم في ليل ولا نهار، وكثيراً ما يستمر لبسهم لآلة الحرب حتى يؤثر ذلك في أبدانهم وجلود خيلهم.

ثم نقول: هل تعتقد أن التقصير في ما لم نتمكن منه من إحياء السنن وإماتة البدع في كثير من النواحي والأقطار من جهتنا؟ وأنَّا نتمكن من ذلك لكن لم نفعله، إما لجبن أو بخل أو إيثار دعة؟ فنحن لا شك أعلم بأنفسنا من الغير، ولا والله ما ذلك بصحيح، وإن لنا همة أجلُّ من الدهر، ورغبة صادقة في إحياء الدين يعلمها عالم السر والجهر، وإنا نسمح بالنفس العزيزة في هذا المرام، ولا نحجم إلا حيث لا يمكن الإقدام، وإنما التقصير في ذلك من جانب الأمة، وما صاروا عليه من التهاون بأمر الأئمة، بايعونا على الطاعة والجهاد فنكثوا، وأظهروا الطاعة لنا والمشايعة فما أقاموا على ذلك ولا لبثوا، ووعدونا بالمناصرة واختلفوا، وطلبنا منهم الإنصاف فما أنصفوا، ولقد قمنا هذا المقام الذي تدحض فيه الأقدام، بعد أن وعدنا الناس مواعيد عرقوب، وظننا فيهم حُسناً بنجح المأمول فيهم والمطلوب، فما زلنا نرى منهم الإخلاف، وعدم الإنصاف حتى صار غاية ما نأمله فيهم، ونرضى به منهم، أن يكفوا عنا شرهم، وأن يكفوا مكرهم وضرهم، وهيهات لم نجد إلى ذلك سبيلاً، ولا رأينا للسلوك في مناهج السلامة منهم دليلاً، ولو أنهم قدروا هذه الدعوة حق قدرها، وعظَّموا ما عظم الله من أمرها، وقاموا بحقها أو بعض حقها، لوجدوا منا ما أرادوه، ونالوا ما أملوه، ووقع من الصلاح في البلاد وتَطَّهُرها من الفساد ما يراد، وزيادة على ما يراد، لكن ما حُكْم الإمام مع كون الناس في حقه بين عدو كثير العدوان، وغافل عنه عادل إلى الخذلان، لا يجد من يريد من الأعوان، ولا يقف على مساعد من الأخوان؟ فالله المستعان!! لينظر الكاتب إلى نفسه، فإنه لا شك من أخص الأخوان، وأعز الخلان، وبيننا وبينه قبل قيامنا صحبة مرتضاة، وأُخُوَّةً في الله تعالى، ثم أنه من بعد قيامنا من أهل العقيدة الصحيحة والمودة الصريحة، ثم أنه قط ما ظهر منه شيء من الاهتمام بأمرنا، ولا نظر في الإعانة لنا، ولا حصل على يده شيء من النفع ولا الدفع، بل أعجب من هذا أنه لم يسمح لنا بزورة، ولا رأيناه مرة، فما حكم غيره من الناس؟ ليقيس على هذا القياس، وأما أهل العداوة والعدوان، فأمرهم جلي لا يفتقر إلى بيان، فإنا منينا من هذا القبيل بما هو كثير غير قليل، عارضنا دعاة وأتباع لهم لا ميزة لهم ولا ورع، ولا صيانة عن كل أمر فظيع مستبدع، يطلقون فينا الألسنة بما لا يليق بقدرنا، ويحاولون وضع ما رفع الله من أمرنا، ويسعون في تهوين الجانب، ويدبون في طلب المضرة دبيب العقارب، وعادانا ملوك الأمصار، وأعملوا الحيل في النكاية والمضار، ما نعلم أنه أجمل إلينا، وحسب معاملته لدينا في قطر اليمن، من مكة إلى عدن، إلا صاحب مكة، لما صار عليه من عدم الإضرار، والاعتراف بعلو المقدار، وعادانا غيرهم من القبائل والزعانف، الذين ليس أحد منهم لله ولا لليوم الآخر بخائف، فمن هذه الحيثية قل انبساط اليد الإمامية، وخلت أكثر الجهات عن السيرة المرضية، وأميتت السنن في أكثر النواحي الإسلامية، وظهرت فيها البدع وصارت قوية، لا لتقصير منا ولا لسبب صادر عنا فما بال الكاتب وجه اللَّوم إلينا وأحال بالذنب علينا؟!

لِـمِ اللـيالـي الـتي أجنـت على جِـدَتِـي

 

 

بـرقـة الحـال واعـذرنـي ولا َتلُمِ

 

 وإن قصد الكاتب أنها لم تحي سنة، ولا أميتت بدعة، في الجهات التي نليها، ولا أقيمت شريعة الله فيها، فخلاف هذا بالضرورة معلوم، وليس له على ذلك برهان يقوم، وما كنا نظن أن أنباءنا عليه خافية، ولا أن أحوالنا وأحوال جهاتنا عليه غير بادية، مع قرب المزار، وتواصل الديار، ونقل الثقات للأخبار، واشتهار حالنا غاية الاشتهار، ومن المعروف عند من له اطلاع أنه لم يتمكن أحد من الأئمة المتأخرين -من دولة الإمام المنصور بالله عليه السلام  إلى وقتنا- في الجهات الخولانية، والنواحي الشامية، من إقامة حد أو استخراج حق كرهاً، أو تنفيذ حكم من أحكام الله قسراً، ولا أقيمت فيها شريعة، ولا أميتت بدعة شنيعة، وقد كان في زمان المنصور عليه السلام  شيخا آل الرسول  وغيرهما من القائمين بدعوته الفحول، فما أثر ذلك في زمنهم أبداً، ثم قام بعده الداعي المعتضد بالله يحيى بن المحسن، ودعا بهجرة قطابر ()، وما زال يتردد بها حتى مات بساقين ()، فكان أمره كما قال:

وركبـت الصعب فاستـهونته

 

وتـرشحت لأمْـرٍ ما انتظم

 ثم قام بعده فيها وبعد الإمام الشهيد أحمد بن الحسين الإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين، وعاضده أخوه الأمير العلامة الحسين بن محمد صاحب الشفاء والتقرير، فما كان لهم فيها من الحكمة شيء، وورد عليهم من الاعتراض جنس ما ورد علينا، وقيل: أي فائدة في قيام ذلك الإمام مع عدم ظهور مصلحة ولا نفوذ أحكام، فأجاب الأمير العلامة الحسين بذكر فوائد يسيرة بالنظر إلى ما يحصل على أيدينا، وحكم عليها بأنها جليلة خطيرة يليق قيام الإمام لتحصيل مثلها.

ثم قام ولد أخيه الإمام العظيم المهدي إبراهيم بن تاج الدين ()، فلم يكن له في تلك الجهة دولة ولا صولة، لكن نهض إلى اليمن، فاشتغل بجهاد السلطان حتى أسره بأُفق.

وقام غير هؤلاء من الدعاة والمقتصدين، منهم المتوكل أحمد بن علي بن أبي الفتح ()، وقبره برغافة ()، وآخر من قبلنا من الأئمة والدنا الهادي علي بن المؤيد عليه السلام  عاش في تلك الجهة، وبين أظهرهم داعياً نيفاً وأربعين سنة، فما أقام بها حداً، ولا نفذ حكم شريعة قهراً، ونحن لم يمض من دعوتنا إلا بعض سنة، وقد أقمنا بها الحدود وأزلنا كثيراً من بدعها وتعدي الحدود، ونظمنا فيها من القواعد الدينية ما يزري بنظم القلائد العسجدية، ولقد كانت جهة يسنم ونواحيها أعظم الجهات تعدياً وبعداً عن قواعد دين الله، وأكثرها فساداً ومجاهرة بالمعاصي، وقبائلها أعظم القبائل تكبراً وتجبراً وبعداً عن الانقياد، فكان منا فيها ما علمه العام والخاص، والداني والقاص، من إماتة البدع، وإحياء السنن، وتقعيد قواعد الشريعة، وإقامة حدود الله، وإثبات الجمع، واستخراج الحقوق، وانتصاف المظلوم من الظالم، وإصلاح المساجد، وعمرنا فيها جامعاً من أجَّل الجوامع وأوسعها وأنفعها، وقررنا فيه عدة من الفضلاء وأهل الذكر، وفيه تقام جمعة ما يعلم في جهة الزيدية أبرك منها ولا أفضل، حتى أنه لا يعلم في قطر اليمن من مكة إلى عدن، جهة تساويها في هذه المعاني، ولم نؤسس فيها مجابي وقوانين، ولا أشياء مما يعتاد في المدن، وهذا وادي المدثاة ()، وناحية رغافة كان ثَمَّ من البدع العظيمة والفواحش الظاهرة مالم يعلم بمثله، حتى أنه كان في تلك الجهة أماكن في الصحراء متعددة كل واحد منها لنوع من المعاصي يذهب إليه أهله ظاهراً، فكان منا من العناية في صلاحها ما كان، مدة من الزمان، حتى أعان الله وصارت هجرة من الهجر، وأسكنا بها بعض الأخوة الفضلاء، ونصبنا فيها حاكماً من حكام الإسلام، وعمرنا فيها مسجداً من أحسن المساجد تقام فيها الجماعات والجُمُعات، ويذكر الله فيه في جميع الأوقات، وصارت يضرب بها المثل، وهذه جهة السودة وغيرها مما في أيدينا يسأل عن حالها، هل يظهر فيها منكر أو تتفق مظلمة، أو يجاهر فيها ببدعة، مع أنه لم يتهيأ لنا فيها كما يتهيأ في غيرها، لعوارض ترجع إلى أهلها، وكذا الجهات الشرفية يسأل عن أحوالها معنا وقبلنا، وما لنا من العناية في تطهيرها من الفساد، وإحياء دين الله فيها زائداً على ما يعتاد، ولو ثني لنا الوساد، وسلمنا من أهل المعارضة والعناد، لكان ذلك إلى تكاثر وازدياد، ولبلغنا في إحياء دين الله وإقامة ما شرع الله المراد.

 قال: فلم تُؤمن طريق قد أخيفت.

أقول: في هذا الكلام مجازفة عظيمة، ومن أين للسائل أنَّا لم نتسبب لأمن شيء من الطرقات، هل علم ذلك من غير واسطة؟ فهو جليس بيته لا يتعلق بالأسفار، ولا نعلم أنه منذ دعونا قد سلك طريقاً من طرق النواحي والأقطار، أو بواسطة؟ فشهادة النفي وروايته غير مقبولة، ولعله لما اطلع على عدم أمن الطرقات للجهات التي هو بها وما يحاذيها ظن أن ما عداها بصفتها، أو يبني على أنه لا طريق غيرها، أو نزل أمن سواها كعدمه بناء على أنها هي المعول عليه، وليس ينبغي أن يحمل العتب في عدم أمن طرقات أهل الأمصار المتغلبين عليها علينا، بل هو عليهم وإليهم، وأما الطرقات اللاتي في جهتنا وأسواق بلادنا، فنحن في جهد عظيم في إصلاحها ونكاية من تعرض للمارة فيها بسوء، ولنا في ذلك وقعات مأثورات، وفعلات مشهورات، كغزوة المدحاية التي كان فيها إجلاء أهلها المحاربين لله الذين يسفكون الدماء وينتهكون الأموال، راجعناهم في ترك ذلك فأبوا، فغزوناهم من فلله على بعد المسافة حتى أجليناهم منها، وقتلنا بعض أبطالهم وغنَّمنا المسلمين جميع أموالهم، وكغزوة مسروح لما تعدوا في طريق الدير وأفسدوا فيها طلعنا عليهم أعلى جبلهم، وأخليناهم عنه حتى تحكمنا عليهم في أمر الطرقات، وكغزوة عبس () وغير ذلك، وغيره، وليس علينا إلا جهدنا والنظر فيما نلي أمره.

قال: ولم نحي مدرسة قد أميتت.

أقول: هذا من قبيل الجزاف، فقد عمرنا في نواحينا المساجد والجوامع، وتأهلنا لالتقاط طلبة العلم والقرآن، حتى أنه قد يجتمع منهم العدد الكثير والجم، ينفقون ويكسون ويتعهدون بسائر مطالبهم، ولنا في هذا نُهمة شديدة، إلا أن طلبة العلم المستفيدين قد طارت بهم العنقاء، وكيف لنا بمن يفيد ويستفيد، ونقوم بما يطلب كل منهم ويريد، وننفق عليهم ما احتاجوا إليه ونزيد، لكن إذا كانوا في جهاتنا لا أن علينا أن نقوم بهم في الجهات الأخر.

قوله: ولا أقيم ما قعد من الأمور الدينية.

أقول: إن أراد العموم أي لم نقم كل ما قعد فصحيح، وليس ذلك من مقدورنا ولامن مقدور من قبلنا من الأئمة، بل من الأنبياء، وإن أراد أنه لم نقم بشيء من ذلك فغير صحيح، وقد تقدم ما هو جواب عنه.

قال: ولا وقع عزم ونهوض باعثة، باعث مما أنتم أهله من حسن النية.

أقول: هذا كلام له محامل يصدق في بعضها دون البعض، والسابق إلى الفهم من قصد المتكلم أنه لم يقع عزم على أمر نافع ومصلحة ظاهرة، ولانهوض لذلك، وخلافه معلوم بالضرورة، وإذا تأمل المتأمل أمرنا وحالنا، ونظر إلى ذلك بعين الإنصاف، لا بعين التحامل والتجاهل والاعتساف، علم أنا من أهل العزيمة الوارية، والنهضة السامية، والحركات المتوالية، وعدم التعويل على الدعة والرفاهية، وكفى بأنا لا نعول على الإقامة في وطن، ولا نحتفل بعلقة خاصة ولا شجن، ولكن القلم واللسان مطاوعان للإنسان، ما شاء قال أو كتب، وفي أي مذهب أحب أن يذهب ذهب، وللقلم واللسان طغيان، وما أحسن التثبت والتأمل لما يقوله الإنسان، وأن يجري ذلك على قانون حسن وميزان، والله المستعان.

قال: فإن في طاعتك قطراً أكبر وصقعاً أكثر.

أقول: لعل مراده -وإن لم يكن واضحاً: ولم يقع بذلك إِرَب، ولا نيل مطلب، كما يشعر به سياق كلامه، ونحن نعترف بأن المعتقدين للإمامة والمعترفين بالزعامة أهل قطر كبير وعدد كثير، ولكن ما أحسن ما قيل:

ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم

 

الله يعلم أني لم أقل فندا

إني لأطبق جفني ثم أفتحه

 

أرى كثيراً ولكن لا أرى أحدا

فإن نقدت أن بسبب كثرة أقطار الإجابة تكثر بيوت الأموال، ولم يتسع لكثرتها المجال، فنحن نقول: أكثر الجهات الإمامية لا يبلغ إلينا منها شيء، ولولا خشية الإطالة لعددناها، وبقيتها ينال منها اليسير الحقير من واجباتها، والله ما أعلم في جهات ولايتنا بلدة واحدة، ولا محل صغير يجبي إلينا جميع واجباته، ولعل ما ينمي أهله بتسلم الحقوق إلينا من الجهات لا ينتهي إلينا العشر من واجباتها لو أحصيت وحصرت وحققت، ومع ذلك فالسائلون أكثر من الباذلين، والمستعطون أوسع من المعطين، ومن عرف أحوالنا علم ذلك عن يقين، وإن استنكرت أَنـَّا مع كثرة الأتباع، وأهل الإجابة، واتساع جهاتهم ونواحيهم، لم يظهر لذلك أثر في الأتعاب بهم واستنفارهم للجهاد، والصولة بهم على أهل الفساد في البلاد، فإنما يعتب علينا لو بذلوا ذلك لنا فأعرضنا، أو غفلنا عنهم فيه فما سألنا، وأما إذا كنا هتفنا بهم فما احتركوا، وطالبناهم فما أسعفوا، ودعوناهم إليه فما أجابوا، فوجه اللوم إليهم، وأحل بذلك الذنب عليهم لكنك كما قيل:

وحـملتني ذنـب امـرءٍ وتـركته ()

 

كـذي العـر يكـوى غيره وهو راتـع

وانظر في نفسك فإنا سألناك الزيارة مرة بعد مرة، فما أجبت، وطلبناك بذلك فامتنعت وما أسعدت، مع أنك تعلم أن سفرك في ذلك سفر سلامة وكرامة، فما ظنك بغيرك وأكثر الناس لا معرفة له بحق الإمام، ولا تجنب منه لسلوك الملام، أتراهم يسعفون بالنهوض لبذل النفوس، ومقابلة كل يوم عبوس، ولقد تكررت منا في ذلك الرسائل، إلى الأشياع والقبائل، ونظمنا فيه الأشعار التي تغلغلت في جميع الأقطار، فما حرك شيء من ذلك ساكناً، ولا أثار من الحمية في الدين كامناً، وكفى بقصيدتنا التي لم ينسج على منوالها ولا سمحت قريحة في الحث على الجهاد بمثالها، وهي التي أولها:

هـمـم وهمٌّ في الفـؤاد تـرددا

 

ذهـب الـرقـاد لأجـله وتبـددا

 فإنا أهبنا فيها بكل قريب وسحيق، واستصرخنا بكل قالٍ وصديق، وبينا فيها قطع المعاذير، وأودعناها من الحكم والنكت ما هو جم غفير، وذكرنا كثيراً من النواحي بأساميها، ومَجَّدنا من هو من الأتباع فيها، ولقد ظننا أن الناس بعد أن تبلغ إليهم وترد عليهم لا يتأخرون عن النهوض إلينا ساعة، ولا ينزعون يداً عن طاعة، فما علمت أن واحداً كانت له داعية، ولا وعتها أذن واعية، فأنشد لسان الحال قول من قال:

لـقـد أسـمـعـت لـو ناديت حياً

 

ولـكن لا حيـاة لـمن تنـادي

ولـو نـاراً نـفخـت بـها أضاءت

 

ولـكن ضـاع نفخك في رمادي

 ولم يكن من الناس إجابة للإهابة إلا في حال القصد إلى صعدة، وكان ذلك مبلغ سعيهم وحده.

قال: وإن في آخر التصفية () للإمام يحيى بن حمزة بخطه ما لفظه: فرغ ذلك حال اشتغال باصلاح الشرق وإقامة أحوال الدين فيه، أو كما قال.

أقول: سبحان الله ما أقل الإنصاف!! استعظم الكاتب ما ذكره الإمام يحيى من اشتغاله بإصلاح الشرق، ومن المعلوم أنه عليه السلام  لم يقع لاشتغاله ذلك كل التأثير، ولا ظهر من آثاره قليل ولا كثير، ولا أطال فيه المدة، ولا ملك فيه عهدة، بل وقف عليه السلام  في بعض قرى الشرق متجوراً، ولم يقع له طاعة، ولا نفوذ أوامر، وكان يلعن في قنوته بعض قبائل الشرق لما قابلوه بالرد، والإبعاد عما أراد والصد، وعَرَّض الكاتب بذلك إلينا أنه لا اشتغال لنا، بهذا المعنى، فيا لها من غلظة، ومن المعلوم المتواتر أن لنا من الاشتغال بإصلاح الشرق، وإقامة قواعد الدين فيه، وإصلاح طرقاته، وكف أهله عن المناكير، وإغاثة المظلومين، ونحو ذلك من المصالح في الدين، وحفظ عهده، والصبر على مشاقه، ما لم يكن لحي ذلك الإمام الجليل الذي يعترف بفضله وسبقه عشر العشير منه، حتى أن أوامرنا في الشرق نافذة، وأيدينا على أكثر أهله منبسطة ولنا فيه من الأقوال والأفعال، والإقامة به والتردد إليه، وتجهيز الجنود والعساكر إلى نواحيه، ودمغ العاصين من أهله، مالا يخفى على أحد، ولكن هذه المناقشة من أولها إلى آخرها، صدرت لا عن تأمل فالله المستعان!!

قال: وما ورد من المترددين من الثقات، من أحوال كثير من تلك الجهات، كالدير ونحوه، وما فيها من عظائم المنكرات، وظهورها ظهوراً ظهر معه عدم النظر منهم والالتفات، وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر سرحه.

أقول: هذا من ذلك القبيل، ودعوى ظهور عظائم المنكرات في الدير ونحوه من البهت، فقاتل الله ناقله إلى الكاتب، وما كان ينبغي أن يُصَّدق الكاذب، ومن المعلوم للمطلع على أحوالنا وأحوال الجهة أنا مبالغون غاية المبالغة في تطهير تلك الجهات، وملتفتون على ذلك غاية الالتفات، ومؤهلون لتعهدها من نعده من الثقات، ولا نزال نعاهده بالعهود والمؤكدات، ولقد ألزمنا السيد الفاضل العالم علي بن صلاح بن المختار، وهو أبلغ سادات تلك الجهات تعهد الدير، والتردد إليه في كل وعد لتعهد أحواله، والمشارفة على أعماله، وجعلنا أمرهم من تحت يده، ووجهنا إليه النظر في المظالم، وإقامة الشريعة، وفصل الخصومات، وإنكار المنكرات، وما زال على ذلك حتى اعتراه سقم () لما في تلك الجهة من الوخم ()، فترك ذلك وأحجم، وما نعلم أن أحداً يتظهر في تلك الجهة بمنكرة، ومن ظهر منه شيء أُدِّب، ولقد نسب إلى شيخ تلك القرية ووجه أهلها شيء من ارتكاب المنكرات على جهة التهمة، فكان لنا من الزجر له والتوعد والطرد ما علمه الناس، وادعي على بعض من يعز عندنا أنه فعل شيئاً من المنكرات على جهة التهمة، وأنه ارتشا فيه أو عاقب خفيةً أحداً من أهله، فصدر منا في جانبه ما شاع وذاع، وأمرنا من صاح فيه هل لأحدٍ عنده مظلمة؟ فهي مردودة، أو هل اطلع أحد منه على شيء؟ وغير هذا وغيره، ولكن نحن نعترف مع ذلك بأن الدير لا تطهر منازله ولا عشاشه عن الخنا الصادر على جهة الخفية، ويقطع أنه لا سبيل إلى ذلك لو وقع من التشديد ما وقع، لخساسة أهله وسوء عوائدهم، ولولا تشديدنا عليهم لكان ذلك ظاهراً، وقد بالغ حي الإمام المتوكل وأعوانه في تطهير الدير، وأقام الإمام فيه مرة بعد مرة، فما بلغوا فيما أرادوه إلا بعض ما بلغناه، مع أن أنفسنا غير طيبة، وكثيراً ما تحار الأذهان في هذا الشأن، وتجري الدموع على الأعيان، ويهتم بإخراب الدير وتحريقه، لولا وضوح مسلكه في نفع المسلمين وطريقه، ولكن ما يقال لمن جازف في المقال، وحل العقال، وادَّعا أن ما نسب إلينا مما اعتقد صحته وحقيقته، وهو من البهت والكذب البحث، مما يطول شرحه ويكثر سرحه.

قال: ومن أهم ما وقع من الغفلة الكلية عن نصرة الزيدية في بيت جميع، وأمركم وأمر أنصاركم جميع، حتى اغتالهم أعداء دين آل محمد الرحيم الشفيع... إلى آخر ما ذكره على طول فيه.

أقول: هذا من لوم البريء الذي هو ظلم، والجواب فيه واضح، وهو أن هؤلاء أهل بيت جميع ممن دعوناهم إلى الطاعة فما أطاعوا، وسألناهم حفظ حقنا فأضاعوا، وخيمنا بالقرب منهم فما سلموا، وطالبناهم بحقوق الله فما أسلموا، ولا شك أنهم من أعداد الأهماج الطغام، وممن لا فرق بينهم وبين الجهال من أعدائهم والعوام، أفترى أن لهم علينا مع إضاعتهم لحقنا وجهلهم لقدرنا، وعصيانهم لأمرنا، حق المناصرة والمظاهرة؟ ثم أقرب من هذا أنا والله ما علمنا بما كان من قيام أعدائهم عليهم وهدمهم لدورهم إلا بعد أن تقضى ذلك ومضى؟ أفترى أن من فرضنا علم الغيب؟ وأن عدم إهتمامنا بأمر ما علمناه يقتضي الشك في حقنا والريب؟ هذا من الإقتراح البارد، والمؤاخذة التي لا يجيب إليها المنصف ولا يساعد.

قال: ومن أهم ذلك أن ناحيةً وقطراً متصلاً بنواحي و(قش) قد أجمعوا واستمروا في هذا الزمان على ترك صيام رمضان.

 أقول: وما وجه مناقشتنا في ذلك، فقد كان في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،  بل في وطنه ومقره تعبد الأوثان، ولا تزال المنكرات ومتابعة الشيطان في سائر الأزمان، فإن عللت عدم العيب على غيرنا بعدم الإمكان فالحالان سيان، وأي قدرة لنا على من بناحية وقش ممن لا تنفذ أوامرنا عليه، ولا نتمكن من تجهيز جند إليه، يا عجباه من هذا الكلام، وما انطوى عليه من تكليف الملام، وعدم التأمل والإحكام.

قال: ثم من أهم ذلك وأهمه، وأعظمه وأطمه، ما وقع من ولاتكم من الاسترسال في بيع المطلق من الوصايا، وقد كان ظهر عنكم واشتهر النكير فيه وعده من الخطايا، وهو أمر ملم، وخطب مدلهم، يا لله وللمسلمين من بيع وصية مسجد أو غيره ينتفع بها المسلمون خلفاً عن سلف، يحتاج حربوا () منها ويفضي مصرفها إلى الضياع والتلف من غير مبالاة في ذلك، ولا وقوع أسف، مع الحاجة إليها على سبيل الاستمرار، وعلى مرور الأعوام والأعصار، وقد روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه)) () رواه مسلم والنسائي، ومن الرفق بهم ترك بيع وصاياهم، ومن المشقة بهم اجتياحها بالبيع حتى مات عنها موتاهم.

أقول: في هذا الكلام من الجزاف، والاعتساف،  وعدم الأنصاف، ما ليس بخاف، وما هو إلا تشنيع، شنيع وتفظيع فظيع وتقبيح قبيح، ومقال غير صحيح، ولقد أبان عن عكس ما زعمه الكاتب من أنه أخرج كلامه هذا مخرج النصيحة، فلو كان الأمر كذلك لأتى بسياق غير هذا السياق، ونظم بحثه في سلك الاتساق، فيقول مثلاً بلغنا عن ولاتكم أنهم يفعلون كذا وكذا، فهل صدر ذلك عن أمر منكم؟ فما الوجه فيه؟ وقد بلغ عنكم أولاً عدم استحسانه؟ أو لا عن أمر منكم؟ فتنبهوا على ذلك وازجروهم عنه، ونحو هذا من الكلام اللطيف الخالي عن التشدق وتكلف السجع، وجعل المعاني تابعة للألفاظ، حتى أفضى به ذلك إلى دعوى أنه وقع من بيع الوصايا ما مات عنه الأموات، وحتى أفضى إلى انضراب الكلام، ففي أوله جعل المناقشة في بيع الوصايا المطلقة، ثم في تفريعاته جعله بيع وصايا المساجد، ولقد كان عن هذا مندوحة وأي مندوحة.

وجوابنا أن هذا الذي ادعاه على الوصف الذي حكاه لا نعلمه ولا انتهى إلينا من جهة الولاة، وهو بيع وصية مسجد ونحوه ينتفع بها المسلمون، ويفضي بيعها إلى تلف مصرفها، ونحو ذلك من التشنيعات، مع أنا أعلم بأحوال الولاة من الكاتب، وأخص بما هم عليه من مناقب ومعائب، ونحن لا نزال نناقشهم على الكبيرة والصغيرة، ونناقدهم على الأمور الجليلة والحقيرة، ولنتكلم في فصول:

 [الفصل] الأول: منها: الذي بنينا عليه في شأن الوصايا صدراً من دعوتنا، عدم التعرض لبيعها، والإعراض عن ذلك احتياطاً، وعدم اطلاع على حقائق الأحوال في ذلك، واستغناء عنها، لعدم توسع باب الجهاد وتجنيد الأجناد أول الأمر، ثم لما اتسعت المكالف، وتكاثرت المطالب، وتعددت أنواع المشاق والأثقال التي تفتقر إلى سعة بيت المال، ومصير الاحتياط مرجوحاً بضيق المجال وضرورة الحال، واطلعنا على عدم نفع أكثر الوصايا ومصيرها إلى مصرفها، صدر منا البيع لشيء منها، وهو ما جهل حاله ومصرفه، والتبس أمره، ولم ندر ما قصد به الموصي، وما كان من أموال العوام الملتبسة المختلطة المقطوع بكونها بيت مال، لكونها متظالمة () لا يجري فيها حكم الشريعة المطهرة، ولا تقسم على قانون الفرائض، ولا يجري في بيعها وشرائها على سنن، فإن ما كانت هذه صفته خَلَفاً عن سلف لا شك في خروجه عن ملك الآدميين، ومصيره من أموال الله، فلقد شاهدنا في عصرنا كثيراً ما يموت الميت من العوام، منكري الشريعة ومجانبي سلوك سبيل التوريث، وله ورثة، فيحكمون بالمال لمن لا شيء له من ميراثه بالشرع الشريف، من غير تردد منهم ولا تأثم، مثلاً أن يموت رجل وله زوجة وبنات وأخوات وابن أخ أو ابن عم، فيصير المال كله إلى ابن العم، ولا يصير إلى ورثته شيء، وما كان وصية مطلقة لا ينتفع بها قد صارت تحت يد من لا يخلصها ولا يصرف غلتها في مصرفها، ولا يمكن تغيير ذلك إما لتمرده وعدم القدرة عليه، أو لأن غيره لا يمكن أن يباشرها، أو لغير ذلك، وفي هذا النوع كثرة، فإن أكثر الوصايا في أكثر الجهات قد أجريت مُجرى الأملاك فصارت تنتقل من يد إلى يد بالبيع والشراء، ولا يمكن تخليصها عن ذلك، وما كان موصى به لمسجد قد هجر، أو انهدم، أو خلت بلده، أو أيس عن عوده، أو عود الإنتفاع به، وما كان موصى به لحمام مكة، أو للنمل، أو نحو ذلك، وما كان موصى به عن الكفارات أو الحقوق وموقوفاً عنها، وما كان قد انقطع مصرفه، ونحو ذلك، ولا أعلم أنَّا بعنا وصية في بقائها نفع مستدام، ولا وصية لها مصرف معين غير ما ذكرتم، ثم أنا لا نبيع إلا بالقيمة الكاملة غالباً، وقد نستقصي حتى يزداد الثمن على القيمة ولا ينقص عنها إلا لموجب راجح واضح، فإذا تأملت الأمر عرفت أن الذي كنا نستهجنه وننكره بيع الوصايا على خلاف هذه الكيفية، كبيع وصايا المساجد المعمورة المأنوسة، وبيع ماله مصرف معين، والبيع بالتافه، فهذا حكمنا في ما باشرناه من ذلك، والله ولي التوفيق.

 

الفصل الثاني: في شأن ما يبيعه الولاة؛ إنا لا نزال نُعرِّفهم بصفة ما يباع ومالا يباع، ونؤكد عليهم في ذلك، وأكثرهم لا ينفذ من بيعه إلا ما أجزناه أو تولينا الكتابة فيه، ولا نفعل ذلك إلا فيما صفته ما تقدم، ولم نسمع عنهم بما ذكره الكاتب، ولا بلغنا شيء من ذلك، ولو استقرى ما باعوه وتتبعت مبيعاتهم لم يوجد فيها شيء مما يظهر نفعه لو لم يبع ويستمر، ولو سألت الكاتب ليطلعك على وصية واحدة مما باعه الولاة صفتها ما ذكر في كلامه لم يتمكن من ذلك، ولو تأمل ما تصرفنا فيه أو أذنا ببيعه لم يوجد منه ما يعول عليه، ولا ماله غلة أو قيمة خطيرة، وما يعلم أنه بيع شيء من هذا الجنس بثمن يعول عليه إلا المال الذي بعناه في يسنم بقدر ثلاثمائة أوقية () أو يقرب منها، وهو مَالٌ وَضَع قبائلُ تلك الجهة أيديهم عليه، وغصبوه خلفاً عن سلف، وعصر بعد عصر، فلمنا قمنا لله في استخراجه وأعان الله على ذلك، وهو من الوقف الذي انقطع مصرفه، جمعنا الإخوان أولي الأديان، وشاورناهم في أمره، فتشعبت أنظارهم حتى أن منهم من أشار بأن نصرفه في خاصتنا ونستبقيه لما نحتاج في زمن الخريف، فقلنا معاذ الله أن نفعل ذلك، ثم صح لنا أنه إن بقي وكانت غلاته تصرف في المستحقين لم يكن بأسرع من تغلب القبائل عليه مرة أخرى لندمهم على التخلي عنه، فبعناه بأوفر قيمة بل بفوق ما يتبايع الناس بمثله، وصرفنا ثمنه في مصالح جليلة منها بعض عمارة المسجد الجامع بيسنم، ويالها من مصلحة.

الفصل الثالث: لو صح أن الولاة صدر منهم شيء مما ذكره الكاتب وقدر عدم المساغ فيه، فما اللائق بحق ذي الديانة والصلاح؟ هل أن يحسن الظن فينا، ويبني على عدم اطلاعنا على ذلك، وعدم الرضى؟ أو يتبادر إلى التشنيع علينا، والتجرم العظيم، والإستعاثة، والإتيان بالعبارات الهائلة، وإيهام أني من الأئمة الشاقين على الأمة الداخلين في الوعيد الوارد على ذلك؟ وتعدي الولاة غير مستنكر ولا مستبدع، فقد تعدى بعض أمراء المغاري في زمن سيد المرسلين ومدة مهبط الملك الأمين إلى قتل النفوس، وانتهاب الأموال  ظلماً وعدواناً، وكثير من ولاة الأئمة وعمالهم، ونحن لا نزال نبرأ إلى الله من كل تصرف للولاة لا نرضاه.

الفصل الرابع: هذه مسألة اجتهادية للعلماء فيها أقوال، وكل يفعل بما أداه اجتهاده إليه، ودلته القرائن عليه، وليس ينبغي التشنيع في مسائل الاجتهاد التي مبناها على الظن، وقد حكي لنا أنه لما كثر تشنيع الشيعة على الإمام يحيى بن حمزة في هذا المعنى، وكان عليه السلام  كثير الاسترسال فيه وعدهم للمراجعة في ذلك والمباحثة فيه، فلما اجتمعوا أشار إليهم أن يعينوا رجلاً منهم لمحاورته وتولي مراجعته، ثم قال لذلك الرجل:أخبرني عن هذه المسألة التي أنكرتم هل قطعية أو ظنية اجتهادية؟ فقال: بل اجتهادية، فقال عليه السلام : إذن لا معنى لما أنتم فيه وعليه، وكيف تنكرون علينا فيما أدانا اجتهادنا إليه -أو كما قال-.

 ثم إن الكاتب أطنب في نقل كلام بعض العلماء في الوصايا وأنها خارجة مخرج الوقف، وانجْرَّ كلامه إلى ذكر الخلاف في الوقف وكلام من يجيز بيعه إلا إذا جمع قيوداً وشروطاً مذكورة معروفة، وذكر من أقوال الفقهاء ما فيه تشديد في ذلك، وأتى من أقوالهم بما فيه ترخيص وكل ذلك لا يخلو من فائدة، وإن كان معروفاً، ولا يحتاج إلى الإجابة عن ذلك، فنحن نعترف بأن المسألة مسألة خلاف، وذلك يقتضي العذر لنا لا الإكثار من اللوم علينا، مع أنه إذا تؤمل ما نحن نفعله من ذلك ونقدم عليه، ونأذن لِوُلاتنا به، لم يستبعد أن يكون مما اتفق على جوزاه في الأغلب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال: وأما ما روي عن الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة من جواز بيع الوصايا فالمراد بذلك على ما فصله هو أحد ثلاثة أشياء:

[الأول]: الأراضي التي لا يعرف لها مالك ولا مصرف، فهذه مصرفها بيت المال ويجوز للإمام يبيعها للجهاد.

الثاني: الأراضي الموصى بها عما على المؤمن من المظالم، فللإمام بيعها.

الثالث: الأراضي التي يعترف أهلها بحقوق الله في ذممهم، كالكفارات، والأخماس، والفطر، وبيوت الأموال، وغير ذلك من الحقوق اللازمة، ثم يقفها أهلها أو لا يقفونها، ويقولون تصرف غلاتها في كل سنة عما عليهم فيجوز للإمام بيعها وليس لصاحبها وقفها بعد الاعتراف بالحقوق، انتهى كلام الإمام يحيى، وهو أعلم المتأخرين من الأئمة، وأشدهم ورعاً.

أقول: إعجاب الكاتب بفعل الإمام يحيى في بيع الوصايا وتعظيمه في ذلك، مع عتبه علينا وتشنيعه المتعاظم المتدارك، كاستعظام فراغ الإمام يحيى للتصفية، مع ذكره أنه كان مشتغلاً بإصلاح أحوال الشرق، وكلامه يصدق مع أدنى اشتغال، وتصنيفه في تلك الحال يدل على عدم استغراق أوقاته بذلك، ونسي الكاتب اشتغالنا العظيم بأحوال تلك الجهة مرة بعد مرة وسنة بعد سنة، والله ما نفرغ في حال اشتغالنا بها لأكل الطعام في أوقاته، ولا للنوم في ساعاته إلا نادراً، وزعم أنا لسنا في شيء من التشاغل بذلك صرح به أو رمز إليه، فصار حاله كما قيل:

وقـالـوا لـزيد أنت يا زيـد مـسلم

 

وقـالوا لعـمرو أنت يا عـمرو مـجرم

ولا شكَّ أن للإمام يحيى عليه السلام  من الاسترسال في بيع الوصايا ونحوها والتجاسر على ذلك ما ليس لنا، ولقد شاهدنا خط يده الكريمة في بيع مال مسجد في بعض نواحي حجور، وقال بعد ذكر البيع والشراء والمشتري: وصار المبيع له. أحل من ماله. ويقول في بعض الشيم التي يكتبها في ذلك: وصار أحل من الماء. ودعوى الكاتب لاقتصار الإمام يحيى على بيع تلك الأنواع غير صحيح، فقد ذكرنا آنفاً اطلاعنا على بيعه لمال مسجد على أن تلك الأنواع مالا يستجيز بيعه، وهو أن يعترف الواقف بأن عليه لله حقوقاً ثم يقف ماله ويذكر أن غلته تصرف عما عليه، فمثل هذا لا نستجيز بيعه إنما نستجيز بيع ما وقف عن الحقوق وجعل تسبيل رقبته عن الحق، فنحن نسوغ بيعه لوجه واضح ودليل راجح.

ثم أن الكاتب ذكر محافظة الإمام يحيى على حفظه العهد والميثاق، وما قاله بعض العلماء في استحلال نقض الذمم والعهود، سواء كانت ذمة الله، أو ذمة رسوله، أو ذمة العاقد، وفي تحريم ذلك.

 أقول: لا شك أن الإمام يحيى بن حمزة من أبلغ الأئمة وأكثرهم تورعاً ومحافظة على الوفاء، وإن نقض العهود من معاصي الخالق المعبود، ولكن هذا الكلام لا يناسب ما قبله، ولا يلائم ما كان الكاتب بصدده، ولا يؤمن أن يريد به التعريض، فإن كان قصد ذلك فبئس القصد، وما أسوأه من ظن، ونعوذ بالله أن يكون نقض الذمم لنا من الشيم، وما والله يعلم في الأئمة المتأخرين سلام الله عليهم من له من المبالغة في تجنب الغدر وما يلام عليه ما هو لنا بحيث أنا، نقطع من أنفسنا بأن الدنيا لو حيزت لنا بحذافيرها ونكون مع ذلك من الغادرين لما رضينا ولا فعلنا، ولقد بلغتنا هذه المناقشة وعندنا من يبالغ في نبذ العهد والبراءة من ذمةٍ وضعناها لقوم كانوا بغوا علينا وبالغوا في إيصال الأذى إلينا، وعظمت أفعالهم ومبالغتهم في العداوة لدينا ورجحوا نقض الذمة والبراءة منها بانتهاز الفرصة منهم، واغتنام القيام عليهم، في وقت يقطع فيه باستيصالهم لأسباب اقتضت ذلك، وعرض علينا أعاديهم في ذلك ما أردناه منهم، وبذلوا الرغائب، واستشفعوا بالأعزاء في ذلك فما أسعدناهم، وقد بلغ الناس وعلم الله وعلموا مبالغة بعض أعوان الدولة الظالمة في جرحنا ونكايتنا، واستيلاءه على كثير من نفائس ما في أيدينا، وسبه لا لنا، وكثرة أذاه زماناً طويلاً، فلما ألجته الأيام إلينا استأذننا في القدوم فقدم إلينا خفية في جوف ليل مظلم وليس ثم أمر مما يمنعه عنا، فالتقيناه وأكرمناه حتى عَادَ منا كذلك في ليل، ولا شعور لأحد بذلك، مع أنا لم نقع منه على أرب، ثم استأذننا في الانتقال إلى بعض جهاتنا فأذنا له، فانتقل بأولاده وذخائر أمواله ونفائس خيله وأدراعه على كلام بيننا وبينه، فوقع الخلف منه، ووصل العدوان من عندنا، فرجح كثير من الناس في شأنه أموراً ما أسعدنا إلى شيء منها، وعاد إلى الظلمة سالماً مسلماً، وبعض أهل نواحي الشرق بالغوا في العداوة والغدر، ووثبوا على بعض إخوتنا ومن معه يريدون استيصالهم غدراً وعدواناً، ثم استمر الحرب بيننا وبينهم زماناً طويلاً تعبنا فيه، وغرمنا الغرامات العظيمة، فلما عضتهم الحرب، وعَظُمَ عليهم الأمر، نهضوا إلينا بغير رفيق ولا مجير، ولا ذمة ولا أمان، حتى وردوا إلينا إلى أقصى أوطاننا يطلبون العفو، ووردت كتب الأعوان قبل ورودهم يرجحون قتلهم أو حبسهم، فقلنا معاذ الله أن نفعل ذلك بمن قصدنا يريد منا المسامحة ويأمل فينا العفو، فالتقيناهم بالإكرام ووقع بيننا وبينهم خوض في الصلح، فلاح منهم العداوة والبغضاء وسوء النية في المستقبل وأنها خدعة، وامتنعوا عن إحكام القاعدة، وقررنا ذلك عليهم، ثم لم يصدر منا إليهم إلا المعروف والعطاء، وإعانتهم في أمر الطريق بالزاد والرفيق، ولعل الكاتب نظر إلى ما يدعيه بعض الجهال علينا في هذا الزمان من الإخلاف في شيء مما وضعناه، وأنا أبطلنا العقد ونقضناه بعد أن ذكرنا أن فيه ذمة الله، فإن لمح الكاتب إلى ذلك، فما كان يليق بمثله أن يصغي إلى حديث جاهل، عن الصواب مائل، عظيم العداوة وشديد الحقد، ونحن بُرآء عن ذلك المعتوب، كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولنا في ذلك رسائل مُحَبَّرة، ومسائل محررة، وليس عتب ذلك العاتب، ولا بهت ذلك الكاذب، يضر من هو -بحمد الله- في أعلى المراتب:

ما ضـر تغـلب وائـل أهجـوتـها

 

أم بـلت حيـث تناطح البحـران

 لكن لا بد أن يعرض مثل ذلك ويعُن، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112]، فنعوذ بالله من جهل الجاهلين وضلال الضالين وإضلال المضلين:

أعـوذ بـرب الناس من كـل طاعن

 

عـلينا بـشك أو مـلحٍ ببـاطـل ()

 ثم قال الكاتب: والواجب ترك الوصايا للواقفين في الزوايا، وإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، فتترك ما لهم عليهم ويراح بذلك عليهم، ولا ينظر إلى صيحة ألف قد نما كلام كما تعلمون خلف، والسلام ورحمة الله وبركاته يجددهما على الإمام أوقاته.

أقول: وعلى الكاتب السلام، والله يوفقه لمجانبة مقتضى الملام، وما أعلم أنه بيع من الوصايا ما ينال عليه المطالبون فيها، الضاربون للأرض في طلبها، فكيف بالضعفاء الواقفين في الزوايا، فالكاتب منهم يسأل ما قد بلغه من غلات الوصايا، أو ما انقطع عليه منها بسبب البيع لها، ولكنه ممن إذا أعجبته الأسجاع، تكلف لها من المعاني ما تنكره الطباع، وأما النظر إلى صحة ألف، فنحن من ذلك أبرأ وأعف، ولسنا والله ممن تستهويه الأطماع، ويخالف أمر الله المطاع، ولا ممن يرغب إلى جمع بيوت الأموال، لأمر يعود عليه أو يرجع إليه، بل لما يعود بنفع على المسلمين، أو نكاية الظالمين، وتالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، ما يخالجني شك في نفسي ولا في أمري، وإني لأعلم من حالي أنه لولا حدبي على نفع المسلمين، وقمع الظالمين، وحياة الدين، ما قبضت شيئاً من الدراهم والدنانير، ولا طالبت بقليل منها ولا كثير، وإني لا أزال أتمنى أن يفتح الله برجل كامل لهذا الأمر الذي ترشحت له ككمالي فيه، أو زائداً عليه، فألقي هذا الأمر إليه، وأضع ما في يدي إلى يديه، وأكون له من أبلغ الأعوان لديه، والله العظيم إني أتمنى ذلك، وكثيراً ما ابتهل إلى الله فيه، ولو علمت لي مساغاً في طرح هذا لأمر وإلقاء حبلها على غاربـها ما تمالكت أن أترك في الحال ولا انتظر الغد، وأحب أن أرى ما يكون الحال فيما بعد، إذن لعرف الكاتب القدر وفهم حقيقة الأمر:

فـالـمرء مـا دام حيـاً يـستهان بـه

 

ويـعظم الـرزء فيـه حين يفـتقد

تم ذلك بحمد الله ومنه وحسن تجاوزه، فله الحمد بكرة وأصيلاً، في شهر المحرم سنة 1059هـ سنة تسعة وخمسين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم وعلى آله.

قال في الأم المنقول منها: تم ذلك يوم الثلاثاء ثالث من شهر شعبان، الذي هو من شهور سنة سبع وثمانين وثمانمائة سنة، بمحروس السودة، أدام الله عليها سربال الأمن بدولة أمير المؤمنين عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين آمين آمين، وأعاد من بركاته في كل وقت وحين، وجعلنا ممن ينجو بمتابعته يوم الدين، وصلى الله وسلم على جده وآبائه أجمعين آمين.

وفي الأصل: بلغ قصاصة حسب الطاقة والإمكان.

 

 

رسالة غرّاء ومقالة عذراء

 بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد حمد الله على سوابغ إفضاله، وبوالغ منحه وآلائه، فهذه رسالة أنشأها مولانا، ومالك أمرنا، وخليفة عصرنا، أمير المؤمنين الهادي إلى الحق المبين، أبو الحسن عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين، أدام الله تأييده وأكمل سعوده، وجهها إلى الفقهاء الأخيار، الفضلاء الأبرار بهجرة الشاحذية كثر الله أمثالهم، وبلغهم في الصالحات آمالهم، ليطلعوا على ما تضمنته هذه الرسالة البديعة من الألفاظ الجلية، والمعاني القوية، وكون ساحته عليه السلام  عن اللوم برية، ومعاملته لمن سيذكره حسنة مرضية، وكان إنشاؤها في محرم سنة خمس وثمانين وثمانمائة.

قال عليه السلام : نحمد الله على سوابغ الإحسان، ونشكره على ما مَنَّ به من كثرة الإخوان وسعة الأعوان، ونسأله أن يطهر الأفئدة عن وساوس الشيطان، وأن يجمع القلوب على سلوك محجة الأمان، وينـزع الغل منها في الإسرار والإعلان، كما سأله الصالحون من قبل بنص القرآن، ونصلي على نبيه المصطفى من عدنان، وعلى آله أقمار الهدى وشموس الإيمان، وعلى التابعين لهم وتابعي التابعين بإحسان.

وبعد: فغير خافٍ على أولي الأفهام وأرباب النهى والأحلام ما أوجب الله سبحانه على المأمومين للإمام من تعظيم أمره وأن يُقدروه حق قدره، وأن يمتثلوا ما ورد عليهم من نهيه وأمره، وأن تكون ظنونهم فيه حسنة، وأفعاله عندهم مرضية، مالم يكن وجود القبح فيها بينة، وأنه إذا اختلف رأي الإمام والمأموم وجب على المؤتم أن يقف من رأيه على حد معلوم، وهو أن يعرض من الرأي على الإمام ما لديه، فإن رآه راجحاً عمل عليه، وإن رآه مرجوحاً لم يكن للمؤتم أن يوجه اللوم إليه، وإذا كان في أمر إنشراح قلب الإمام وطيبة نفسه ولم تطب نفس المأموم إلا بخلاف ذلك وعكسه وجب على المأموم تقديم مرام الإمام على مرامه والعمل بقول المصطفى: ((ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه)) ()، وأنه إذا وقع في نفس المأموم موجدة على الإمام لأمر حدث منه، وعرض في يوم من الأيام، وجب عليه أن يدافع النفس التي هي بالسوء أمارة، وأن يذكر ما يجب عليه من حقوق الإمامة،  وأن يستخرج لإمامه المحامل الحميدة، فإن ذلك في حق كل مسلم من الأمور اللازمة والأنظار السديدة، فإن لم يجد للظن الحسن مجالاً، ولا لما عنَّ له وَحَكٌ في صدره زوالاً، نهض إلى الإمام إن كان بعيداً، وطلب منه في زوال شكه عملاً مفيداً، وخاطب الإمام في ذلك بالخطاب اللين والسؤال الواضح البين، وإذا لم يجد من الجواب ما يشفيه، ولا اطلع من الأعذار على ما يكفيه، نظر في ذلك الأمر بعين الإنصاف، وتأمله بذهن عن الأهواء صاف، فإن وجد أمراً يخرج الإمام من الإمامة،  ويبطل ما ثبت له من الأمارة والزعامة، وإلا وجب عليه البقاء على طاعته، وعدم القدح في إمامته، وأنه إذا انتهت عن الإمام شكوى، وبلغت إلى أولي العلم والتقوى، وجب عليهم أن لا يتبادروا إلى المعتبة، وأن لا يحكموا بأن تلك الشكوى لسوء الظن موجبة، وأن يقولوا نحن من كمال الإمام على يقين، ومن كونه ذا فضل ودين ورأي حسن رصين، ولا يعرض ليقيننا شك ولا تخمين، ولو كان الشاكي عدلاً، وممن حوى كمالاً وفضلاً، فإن خبره لا يتعدى مرتبة الظن، ولا ينبغي أن يخرج عن اليقين لظن عَنَّ، فإن دخلت تلك الشكوى في القلوب، وكان الإنصاف وعدم الاعتساف هو المطلوب، حسنت مباحثة الإمام بوجه لطيف، والإخبار له بما نقل عنه والتعريف، وأن يفهم منه الجواب، بخطاب مشافهة أو كتاب، هذا طرف من ذكر حقوق الإمام أضاعه -والله- كثير من الأنام، وساموه ما لا ينبغي أن يسام، وعكسوا القضية في حقوقه، وتمادوا في قطيعته وعقوقه، وأهملوا ما يتوجه له وأضاعوه، وبنوا على أنهم مطيعون له وما أطاعوه، فالعين من ذلك عبراء، والنفس بنا من الوجد حرَّا، لولا امتثال ما أمر الله به من الصبر الجميل، ورجوى ما وعد به من الثواب الجزيل، ومعرفة أنه لا بد من الوقوف بين يديه، وعرض كل دقيق وجليل عليه، فرددنا ما يأتينا من ذلك إليه، ورجونا الإنصاف والخيرات من لديه، هذه نفثة مصدور، وأنَّةُ قلب محرور، إذا تلقيت بآذان واعية، وأذهان لمعرفة معانيها الحسان راعية، كانت لمن وفقه الله نافعة شافية، ولكثير من القالات العارضة قاطعة نافية، ومن أسبابها ما حكم به علينا، ونسب من الْخُلف وعدم الوفاء إلينا، في شأن الأمور المتعلقة بآل الفقيه عفيف الدين، محب أهل البيت المطهرين، وكان ذلك يبلغنا عمن لا ينظر إليه، ولا يلتفت عليه، فلم نرقم لأجل ما بلغنا عنه كلمة ولا كلاماً، نظراً إلى قوله تعالى: {وإذا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُون قالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] حتى أفَضتِ الحال، وانتهى ذلك المعنى وآل، إلى أن صدر الملام، وسمع في ذلك الكلام، ممن مرتبته عالية، وهمته سامية، ومودته شافية، وعنايته في جانب الحق وافية، فحينئذ توجه أن نوضح المحجة ونقيم الحجة، ونخوض من شأن ذلك في اللجة، ويعرض الكلام على أهل النهى والأحلام، من الإخوان الفضلاء الكرام، وإن بان لهم منا بعد ذلك منها أمر يريب، ويستنكره الأريب، وجدوا الإنصاف بمكان قريب، وإن بانت لهم إصابة الصواب، وأنه لم يصدر منا ما يعاب، انشرح صدر كل امرء منهم -إن شاء الله- وطاب، وزالت الأعتاب في هذا الباب.

ونحن نقدم قبل شرح تلك القصة، نبذة مما يحتاج إلى تقدم فهمه وحَصّه، ونقول: الذي يضعه الإمام في خطوطه ويعد به لا يخلو إما أن يكون واجباً في نفسه، أو انكشف له أنه لا يجوز بعد أن وضعه معتقداً لجوازه، أو لا واجباً، والآخر إما إن كان واجباً فلا شك أنه يجب عليه الوفاء به ويتحتم، وإن كان حراماً بالانكشاف فلا كلام أنه يجب عدم الوفاء به، كما لو وعد رجلاً بأن يوليه جهة من الجهات ظاناً لصلاحيته للولاية، أو وعد رجلاً بأن يصرف إليه بعض الحقوق الواجبة ظناً منه لاستحقاقه، ثم انكشف غير مستحق، أو نحو ذلك، وإن كان لا واجباً ولا حراماً كأن يضع لرجل خطة بأن يوليه الجهة الفلانية وهو ممن يصلح للتولية، وغيره يصلح لها، ثم ولاها غيره، أو بأن يعطيه كذا وكذا وهو مصرف لذلك ثم منعه، فما هذا حاله إن ترك الوفاء به نظراً في الأصلح واعتبار الأرجح، كأن يكون في صورة التولية تولي غيره أوفق وأصلح، وفي صورة الإعطاء إعطاء غيره أنفع أو هو أحوج، فمثل ذلك لا يلام عليه الإمام، ولا ينبغي أن يوسع عليه فيه الكلام، فإن كان لا على جهة اعتبار الأصلح، بل بدا له أن يترك ذلك، لا لصارف عن الفعل فهذا يعاب، ولا يليق بشريف النصاب، لكنه مع ذلك لا يقدح في الإمامة،  ولا يجرح   المأموم عن تكاليفها العامة، وهذا أمر لا يجهله عاقل، ولا ينكره إلا جاهل.

ويلحق بهذه المقدمة نكتة يتوجه علينا أن نوردها من قبيل التعريف لمن أراد أن يتعرف لا من قبيل سلوك سبيل من يتعظم ويتعجرف، وهي أنا بحمد الله على ما وفقنا له من محاسن الخصال، ووصائف الكمال، وأن جعلنا من أهل الصفاء والوفاء، وعدم الغلظة والجفاء، وبالله العظيم إلية    مبرورة ما نعلم أن أحداً بلغ كتعويلنا في المحافظة على الوفاء ما بلغنا إليه، ولا أن أحداً له عليه من التعويل ما لنا عليه، ولا أني تركت شيئاً قد وضعته إلا لكون تركه أصلح وأرجح، وأقرب إلى رضاء الله، وأبعد من سخطه الذي لا يرضاه، أو لاختلال شرط فيما وضعته، صرحت به أو أضمرته، وما أعلم من نفسي أني وضعت شيئاً وأنا حال وضعي له بان على نقضه، ومضمر للخلف في كله أو بعضه، ولا أن نفسي دعتني إلى الغدر في حق أحد يعلم ذلك مني الصمد الأحد، ومن ادعى على الله علم مالم يعلم، فقد ارتكب أمراً عظيماً وتجشم.

ثم إنا نشرح ما كان من أمر السودة، ونوضح فيه سيرتنا المحمودة، وطاعة الله هي المقصودة، ولا بد أن تظهر حقائق الأشياء يوم تصير جوارحُ الإنسان شهوده، وذلك أنه لما اتفق المقام المحمود والموقف المشهود بالهجر، وسطع فيه نور الحق وظهر، تقدمنا إلى السودة، ووقع في أمرها خوض طويل أوضحنا فيه أنا لا نرتضيها، ولا نستقر فيها إلا وأمرها إلينا وهي لنا وعلينا، هي وعهدتها وما يتعلق بها، ولا نرتضي جهة [أن يكون] أمرها أو بعضه منوط بغيرنا، لأن أحكام الإمامة والولاية العامة لا يصلح أن يختلط بها غيرها، ولا أن يشرك في أمر الإمام غيره، وطال الخوض في ذلك حتى طلب منا أن نأمر الوالي بالضمانة فيما وضعناه لآل الفقيه، فلم نجب إلى ذلك، لكون فيه بنا علقة لا يؤمن أن يسري إلى غير ذلك، وأن تكون علة للوالي في التعنت ويعسر الانعزال، وقلنا: نحن لا نفعل هذا لو أدى إلى ترك الجهة وتجنبها، فخاض جماعة من فضلاء الإخوان في الحديث، وطلعوا إلى آل الفقيه ونحن مخيمون في أسفل جبل شظب حتى تم الأمر، واستتب على أنه لا يبقى لهم في العهدة علقة لا شركة، ولا عدالة، ولا ضمانة، وكتب آل الفقيه خطاً للوالي يأمرونه بتسليم العهدة تخلية إلى أيدينا، [حين] وخرج الوالي بنفسه إلينا استخلفناه لنا، ولما استقررنا في العهدة، وصغنا لهم خطاباً بما طلبوه منا فلم يرتضوه، وأرادوا منا أن يكون آكد من ذلك، وبدلناه بآخر، وصار الخطاب الأول والآخر بأيديهم، وهذا لفظ الآخر الذي تولوا عليه ولم يقبلوا سوى عبارته:

 هذا خطنا، وعهدنا وعقدنا، وذمة الله ورسوله، شاهداً لأولاد حي الفقيه الكامل الأمجد الحلاحل عفيف الدين المعافى بن عمرو بن المعافى،  وكذلك حريمه الحرائر المكرمات المعظمات، بأنهم عندنا بمنزلة أولادنا وحريمنا ومن تحوطه شفقتنا وترعاه مِقَتُنا، مصونون محميون، حوائجهم مقضية، ويبلغون من إحساننا ومعروفنا كل أمنية، مقررون على السكنى بمحروس عزان السودة لا حتياجهم إلى ذلك ليس لهم منه إخراج، وكذلك من ينفعهم في قضاء حوائجهم ولا يخاف، ومتى غبنا عن الجهة المباركة فأمرهم نافذ فيها وتصرفاتهم -لا غيرهم- يأمرون فيها بما يطابق شريعة الله ورسوله لا غير ذلك، وما التبس فيها من القضايا رفعوه إلينا لنأمرهم فيه بأمرنا حسب ما تقتضيه أنظارنا الصائبة، وآراؤنا الثاقبة، ومتى غفلنا عن الجهة المباركة، فما كان موجهاً إليها لما يفتقر فيه العهدة المباركة، ويفتقرون إليه -وهي البلاد التي كانت تحت يد الفقيه عفيف الدين- موجهة إليهم لتلك المكالف، ومتى انقضى الأجل والأمر فيه ولم يكن ثم قائم حق يرضاه أفاضل المسلمين فالحصن المحروس، يسلم إلى من صلح من أولاد حي الفقيه الذين هم عمرو بن المعافى ومحمد بن عمرو وعبدالله بن أحمد على رأي أهلهم الحرائر المكرمات، وذلك بشريطة أنه في أيديهم إلى أن يقوم القائم المرضي، يفعلون ما جرت به العادة من التسليم إليه، والتعويل عليه، والكون على رأيه، وجميع ما ذكر مشروط بأمن الضرر، ومطابقة الشريعة المطهرة، وموافقة المصلحة المحررة، والله الشاهد به والكفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل، وكتب شهر صفر سنة 885هـ.

فليتأمل معانيه الحسنة، وتحرزاته المستحسنة، ولم نضعه بحمد الله إلا عن تأمل لما يليق أن يوضع، وشروطه يرفع بها من ذلك ما يتوجه أنه يرفع، والذي وضع لهم فيه خمسة أمور:

الأول: أنهم عندنا بمنزلة أولادنا وحريمنا، والمعنى في الإنصاف والرعاية والحماية، وهذا والله كان منا لهم بزيادة كثيرة، فإن الذي يعرف حالنا مع أولادنا وحريمنا يعرف أن حالهم فيما يصرف إليهم من النفقة والكسوة وتوابعها دون حال هؤلاء، وإنا لا نقبل لهم ما قبلنا لهؤلاء، ولا نمكنهم من شيء من التصرفات ولا من بيوت الأموال بحال، وهؤلاء بخلاف ذلك، ولا نقرهم على الامتناع من واجب، ولا مخالفة رأي صائب، ونعينهم في ذلك بخلاف هؤلاء، اتقاء للقالة، وخشية من أن ينسب إلينا أنَّا فعلنا معهم وصنعنا، كما كان ذلك لغير لفظ صدر منا في حقهم ولا معنى، ولهذا الإجمال تفصيل لو شرحناه لطال الكلام واطلع الناظر إليه على عجائب وغرائب، وعرف أن لنا من الإغضاء، والمسامحة، وعدم الاستقصاء، والاحتمال، مالا يخطر ببال، والمطلع على ذلك الملك المتعال.

الثاني: أنهم مقررون على سكناهم في الحصن هم ومن ينفعهم ممن لا يخشى منه ضرر، وهذا معنى خاص بزيادة، فإنَّا مع تقريرهم في الحصن جعلنا أمر منازله إليهم، لم نعارضهم في شيء منها، ولا ندخل منها إلا ما فتحوه لنا من لدن أنفسهم، ولقد أردنا ذات يوم طيافة حافات فيه وتعهدها فأغلقوها دوننا، وكرهوا دخولنا فيها، فما سمعوا منا في ذلك خطاباً ولا عتاباً، وحاولنا منهم أن يؤثرونا بمنـزل صغير نصنع فيه طعامنا الخاص فما أسعدوا، واعتذروا بأن ذلك المنـزل لبعض إمائهم، وغير هذا وغيره مما يطول شرحه، ولم نقصر أحد ممن ينفعهم إلا شخص فاجر، فجوره ظاهر، وخوف الضرر منه أظهر، بعد أن اطلعنا من أمره على مالا يليق أن يرقم ولا يسطر.

الأمر الثالث: أنا متى غبنا عن الجهة فأمرهم فيها نافذ بما يطابق شريعة الله ورسوله... إلى آخر ما ذكر، وهذا الأمر استمر سنين بعد مصير الجهة بأيدينا، يتصرفون حسب ما يرون من غير منع منا، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك منفردين، لأن الأولاد في حد الطفولة، والنساء محجبات، وإنما أمكنهم بحضور بعض الأصحاب معهم وتوليه لذلك، وتنفيذه لما طابت به نفوسهم، فلما غاب تعذر الأمر عليهم وأضربوا من جهة أنفسهم، وأهَّلنا لذلك من يتمكن منه، ويحسن مباشرة الناس ومحاضرتهم، من غير صد ومنع منا لهم، أو أمر لهم بالكف، أو طلب منهم لتولي ذلك، إلا في الأمور المتعلقة بهم وبأعدائهم، فما تصدر منا في حضورنا ولا في غيبتنا ولا ممن ينوب عنا معارضة لهم في ذلك ولا تقديم ولا تأخير، ولو أنا فوضنا إليهم التصرف في الجهة حال غيبتنا والتقديم والتأخير، والإيراد والإصدار، لما أمكنهم ذلك ولا قدروا عليه، فإن الأولاد صغار الكبير منهم دون البلوغ بسنين، والنساء لا يتمكنون من ذلك ولا طلبوا هذا منا، ولو أنهم طلبوه لم تحسن الإجابة إليه، لأنهم لا يصلحون لتولي الأمور، وتولية من لا يصلح مالا يصلح لتوليه لا مساغ فيه، فهذا لا يطابق الشريعة النبوية، ولا يحصل به المصالح الدينية، ويحصل الضرر قطعاً بتغير أحوال الجهة، وانضراب أمرها، ونزع أهلها أيديهم عن الطاعة، يعلم هذا من يعرف الجهة ويختبر حالها وحال أهلها، وقد جعلنا جميع ما وضعناه في الخط هذا مشروطاً بمطابقة الشريعة، وحصول المصلحة، وأمن الضرر، والشروط كلها متبقية.

ثم إنا ما وضعنا هذا المعنى إلا بعد أن واطينا على أنه من قبيل الإجمال لهم، وفي المعنى أن غيرهم الذي يقوم به ممن يصلح له والواسطة عارف لذلك ومعترف به، والله على ما نقول شهيد، ثم أنا نود الكفاية في تصرفات الجهة حال غيبتنا، وأن نكفي النظر في ذلك، فإذا استصلح ذلك الإخوان، وعرفوا التخلص به عند الملك الديان، فمنا الإسعاد إلى ذلك والإجابة إليه.

الأمر الرابع: أنَّا متى غفلنا عن الجهة؟ فإن البلاد لو كانت موجهة إليها في زمن حي الفقيه موجهة إليهم لمكالفهم ومكالف العهدة، وهذا فعلناه بزيادة وهو أنا وجهنا إليهم تلك الجهات كلها، فكانوا يزيدون فيها وينقصون، ويتصرفون حسبما يريدون، ومتى أفرغوا ما يحصل طلبوا منا تسليم ما يحتاجه العهدة ويحتاجون، فنحمل إليهم من جهات كثيرة غير تلك الجهات قريبة وبعيدة، حتى حملنا مرة شيئاً مما يحتاج من فلله، وسلمنا للوالي فضة كثيرة من ثَمَّ ومن جهات الأهنوم، ونواحي حجة وغيرها، هذا في مدة غفلتنا عن الجهة، فلما تغيرت الأمور وانتثرت وضاعت بيوت الأموال وانضربت الأحوال واتفق من متصرفيهم أمور لا تسوغ بحال، قلنا لهم ما يرون في هذا؟ أصبحت بيوت الأموال هذه المحمولة إليكم ضائعة فانية، وما يحتاج إليه العهدة غير حاصل، وهذا لا يتوجه، فأما حفظتم ما يصير إليكم ولعهدتكم وكفيتمونا القبض والصرف، ومتى وصلنا إليكم إلى الجهة وصلنا بما يُحتاج إليه لمن معنا من غير ما فيها، وكنا نصل إليها بزاد كما يصل إلى القفار، وإلا فما كنتم تحتاجون لأنفسكم قدرتموه لنا وقمنا به، ونظرنا في حفظ بيوت الأموال، وسداد العهدة، فاختاروا الوجه الأخير، بحضر من حضر على أصل الكلام ورضائهم، وقدروا لأنفسهم في السنة نفقة معلومة من الحب وبعض مدخول سوق السودة، في مقابلة المصروفات، وما يحتاجون من الكسوة ويعتاد به للأعياد، وانفصل الكلام على ذلك، وأهَّلنا للحفظ والصرف رجلاً رضوا به، وعهَّدناه بتسليم ما وضع لهم إليهم، وقمنا بقضاء ما كانوا قد استدانوه إلى تلك الثمرة، وهي شيء واسع ما يكاد يضبط لكثرته وتنوعه يكاد يستوعب دخل الثمرة، وأكثر ذلك استدانوه في أمور غير نافعة لا فيما يخصهم ولا فيما يعم، ثم أنهم غيروا تلك القاعدة، وأبطلوها، وعاد الأمر إليهم، ففوتوا ما حصل وتعبوا في تحصيل غيره، ومسهم هم وأهل العهدة الجهد والتعب، وكانت تقضي الحال لهم إلى أن يدخلوا في الربا المحقق المحرم، فعرضنا عليهم الكفاية، وقلنا: ما تحبون؟ فاختاروا الكفاية لهم وحمل مؤنتهم، لكن اشترطوا زيادة على ما كانوا رضوا به أولاً فأجبناهم، وقلنا لهم: نحن لا نأمن أن يقولوا في المستقبل:نحن الذين أجبرناكم على ذلك، فضعوا لنا خطاباً أنكم المختارون له، فوضعوا لنا خطاباً حضر عليه أكثر الناس لهم مودة وصداقه وأقربهم إليهم، وشهد فيه، وهذا لفظه بخط بنت الفقيه الكبرى:

هذا خط أولاد الفقيه وأهل بيته، يشهد بأن الإمام طلب منهم أن تكون جميع جهات السودة إلى وجوههم وحمل مساقها، ولا يكون على أيديهم يد، فامتنعوا من ذلك، واختاروا أن يكون إلى وجه غيرهم ممن يرضى به الإمام، ويكون لهم شيء مقدر يسلمه إلى أيديهم، ولا يكون لهم تصرف في شيء من واجبات الجهات وباديتها، وسائر ما يدخل منها، ورضوا لهم ولمن في جانبهم من خدمهم، ومعالمتهم وغيرهم بمائة وعشرين كيلة في السنة من أولها إلى آخرها، وأربع كيال بر، وما يحتاج من الضحايا والمعاليف، وما يحتاج إليه من دقائق الأمور من تحت يد متصرف الإمام على ما يراه الإمام، والكسوة من رأس السنة إلى رأسها من يد الإمام، أو من يأمره السيد، أو غيره، والذي يتوجه إلى الجهات من جميع الديون المتقدمة قدر عشرين كيلة وتسع أواقي لا غير، وخلاص مربط عريان، والمزمار الذي مع البعوضي في ستمائة حديد، ووقع البناء على قصر يد زهير وغيره من التصرف في واجبات الجهات، فيعلم ذلك، كتبه شهر صفر سنة 883هـ. وكتب محمد منصور بن إبراهيم الحجاجي شهادته بذلك، والخط باق بأيدينا.

 ولما تم ذلك بيننا وبينهم، ونظمنا مدخول الجهة ومخروجها، وفرنا حبوبها حتى قامت بهم وبالعهدة، وزدنا لهم على ما رسموه زيادة ظاهرة، واستغنوا عما كان يعتاد من طلب القرض والدخول فيه بكل أمر عَسِر، ووقعت الأزمة، والشدة، وغلاء الأسعار، ومعهم ومع العهدة الكفاية الوافية، بحيث أن الحال لو كان على ما كان لنفقت العهدة بلا شك، ووقع في المحذور، لأنه لا يمكن اقتراض شيء في تلك الحال [حال] الشدة -لكنه ترجح لهم ولمن أجابهم طلب الزيادة على ما قد وضع لهم من الحب ومن المصروف، ووقع في ذلك خوض، فأجبنا إليه محبة لطيبة النفوس، وألحقنا في الزيادة خطاً، وانبرم الكلام، ودخلت الثمرة، فسلمنا لهم ما طلب من الحب دفعة واحدة، وقبضنا منهم بذلك خطاً تحرزاً عن القالة، هذا لفظه- وهو بخط بنت الفقيه المذكورة:

هذا الخط المبارك من أولاد الفقيه المعافى بن عمرو بأن قد استوفينا ما وضع لنا الإمام أنا فداه على يد السيد همام الدين من الحب، فصار معنا ذلك من أول شهر رمضان إلى شعبان من السنة الآتية، سنة خمس وثمانين وثماني مائة، والصائر معنا مائة كيلة وأربعين كيلة وانتهى.

 وليتأمل ما ذكرناه، فإنِ ادَّعَوا أنَّا أخلفنا فيما كنا وضعناه لهم من كون محصول الجهات إليهم فقد عرف جوابه من سياق الكلام، وحاصل ما يجاب به ثلاثة أوجه:

 الأول: أنا شرطنا ذلك بأن نغفل عن الجهة، وقد صرنا غير غافلين عنها، بل صارت أكثر الإقامة بها، وكثر التردد إليها، بحيث أنا لا نكاد نقيم في وطن شهراً واحداً، ونحن نقيم فيها الآن، الأشهر المتوالية.

الوجه الثاني: أنهم الذين عجزوا عن ذلك، وقهقروا عنه، بعد أن خيرناهم في البقاء عليه، والانتقال إلى ما هو الأصلح لهم منه، وخطهم شاهد عليهم، ومن حضر بيننا وبينهم.

الوجه الثالث: أن ذلك مشروط بمطابقة الشريعة والمصلحة، والشريعة والمصلحة يقضيان بأنه لا يجوز تسليم الزكوات الكبيرة الواسعة إلى من يفرط فيها ويصرفها في غير مصارفها، وتصير عهدة المسلمين محتاجة إلى ما يشق تحصيله أو فانية، ثم أنا نقطع اللجاج ونقول لا بأس عليكم بما يحصل من جهات السودة، وهاتوا لنا وثيقة في قيامكم بما تحتاجه العهدة والبلدة، وكفايتكم لنا في ذلك، ونحن نقبلكم ونرضى بذلك الأمر.

الرابع: مما وضع لهم تسليم العهدة إلى من صلح منهم بعد موتنا، مع عدم قيام إمام مرضي... إلى آخر ما ذكر، وهذا لا يتصور دعوى الخلف فيه، إلا بأن يصدر منا في الحياة أمر للوالي بخلاف ذلك بعد الموت، والذي صدر منا أمره بأن يعمل بذلك، ووضعنا فيه خطاً في هذه المدة القريبة لما عرض لهم الشك في الوفاء، وذكرنا ما يقتضي ذلك في وصيتنا التي شهد فيها عدة من الفضلاء.

فهذه الأمور الموضوعة لهم، وهذا جوابنا فيها فليتأمله الإخوان بعين الإنصاف والعرفان، فإنهم يتيقنون أن نسبة الْخُلف في ذلك إلينا نوع من التعدي علينا، وربما أن في الخط الذي لم يرتضوه وأرادوا منا إبداله ذكر أن لهم قضاء ما كان قد علقهم من الديون، فإذاً يجب عن جواب هذا.
فجوابه: أنا قد وفينا لهم بذلك، ومكناهم من قضاء ديونهم، فما زالوا يقضونها بأيديهم، ثم لما بنينا نحن وهم على أن حوائجهم تكون من أيدينا، قلنا لهم: فما الباقي من ديونكم لنقضيها حسبما وضعناه لكم؟ فرقموها في آخر الخط المتقدمة، حكايته بأيديهم، وعينوا ما بقي من الديون عليهم بعد أن قضوا منها ما لا يحصى لكثرته وسعته، فقضينا جميع ذلك، ثم قالوا لنا من بعد: أن ثم ديوناً أُخر ذكرناها فقضينا حتى لم يبق لهم دعوى، وإن كان في الخط المتروك ذكر أن الحجج المتعلقة بادعائهم مصروفة إليهم فنحن باقون على ذلك وملتزمون له، وغير معترضين لهم في تلك الأمور، حتى أن خصومهم يصلون إلينا ويعولون في قبول المتوجه منهم علينا، ويعرضون وجوهاً من الإنصاف يليق أن يلتقى، فنصرف النظر في ذلك إليهم ونحيل في جوابه عليهم، ويثور بسبب عدم قبولهم له فتن ومحن، ومشاق ومضار، كل ذلك مبالغة في الوفاء، ومحبة لبقاء الوداد والصفاء، ولكن الأخطية فلا أليه، والمقصود الله والمعول عليه رضاه، وهو حسبنا وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

***

 

وسيلة العمال إلى صالح الأعمال

للإمام عزالدين بن الحسن عادت بركاته

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين والحمد لله رب العالمين

حمداً لله على ما أهلنا للإرشاد والهداية، وللرغبة إليه في أن يقينا أخطار الزعامة والولاية، والاستعاذة به من الندامة والملامة لأجلها وسوء الغاية، واستمداد التوفيق منه لنا ولإخواننا وأعواننا وأرباب العمل منهم والسعاية، والتوكل عليه والإركان إليه في البداية والنهاية.

والصلاة والسلام على رسوله سيد الأنبياء وعترته الأصغياء، ما خفقت راية، وتليت آية [وبعد:]

 غير عازب عن الأفهام ما يلزم الإمام، من الاهتمام بالخاص من المصالح والعام، وإن التكاليف المتعلقة بالإمامة لن تقوى عليها الجبال، مدارها على تحصيل بيوت الأموال، بأيدي السعاة والعمال، خاصة في هذا الزمان الذي لم يبق لأهله تعويل على غير الدرهم والدينار، وليس لهم التفات إلى ما أوجبه الله تعالى من حقوق الإمام، ولا نظر في ذلك ولا اعتبار، ولم نزل نتأمل حال أولي العمل، ونؤمل منهم الاستقامة فيخيب الأمل، حتى [لا] يكاد يظفر منهم بما() يرضى سجاياه إلا الأقل.

فرأينا بعد استخارة الله عز وجل تحرير هذه الرسالة، وتصدير هذه المقالة إلى عمالنا كافة، ليكون لهم عن التفريط فيما يلزمهم من تكاليف الولاية كافة، وسميناها (وسيلة العمال إلى صالح الأعمال)، ونرجو أن يتقوم بها الأود، ويصلح لأجلها ما فسد، وتوقظ من غفل، ويتضح مسلك السلامة في العمل، وموضوعها تعداد الآداب التي ينجو باعتمادها العاقل من العذاب، ويفوز بها يوم المآب، وضمنه ما لا تحتوي ما سلف من مؤلفات السلف، فهي درة ثمينة، وجديرة بأن يتأخذها الولاة والسعاة غنيمة، والله تعالى ولي التوفيق في القول والعمل، وبه الاعتصام من الخطأ والزلل.

الأدب الأول:

أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعرض لطلب الولاية ويتصدى لها ما لم تتوجه عليه لأحد الوجوه التي نذكرها في الأدب الثاني إن شاء الله تعالى، وذلك لأن الولية يتعلق بها تكاليف وأخطار، وجدير بالعاقل أن يهتم ويغتم بما عليه من التكاليف التي لا مندوحة له عنها، ولا مخلص له منها، وهي المتوجهة إليه عند إكمال أبنية عقله، فعل من يقوم فيها بما يجب عليه ويلزمه، فكيف يتصدى لتكاليف أخر لا يجب عليه إدخال نفسه فيها؟ ويحملها باختياره لها!!؟

وأما من لا يثق ينفسه، ولا يغلب على ظنه قيامه بتكليف العمل والتولي فلتشتد الكراهة في حقه، بل لا يبعد خطر ذلك عليه، لما ورد فيه من الوعيد والتهديد، والترهيب والتشديد، فقد روت عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ((ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء)) ()، وورد هذا الحديث من طريق أبي هريرة بلفظه قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يدلون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملاً))، وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن في النار حجراً يقال:[له] ويل، يصعد عليها العرفاء وينزلون))، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ((أنه سيفتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها، وأن عمالها في النار إلا من اتقى الله عز وجل وأدى الأمانة)).

الأدب الثاني:

أنه ينبغي للإنسان التأهل للولاية حيث يتعين عليه، إما لعدم سد غيره مسده فيها، أو لتعيين الإمام وإلزامه إياها، أو حيث يكون في توليه إدخال سرور على الإمام، أو دفع اغتمام عنه، وكفاية ما أهمه منه، أو حيث يكون قوياً عليها أميناً فيها، مع الثقة من نفسه أنه يعمل بمقتضى التقوى، ويراقب عالم السر والنجوى.

أما حيث يتعين عليه فلأنه أمر قد وجب عليه لا سبب منه ولكن يتعرض للوجوب، والتفريط حينئذ تفريط في حق الله تعالى والإخلال بما فرض الله تعالى والقيام به حق لازم كالقيام بالصلاة والزكاة.

وأما حيث يكون في ذلك إدخال سرور على الإمام، وكفاية ما أهمه منه، فلأن مثل هذا في حق الطارف من المسلمين قربة جليلة، وطاعة وفضيلة، فكيف بذلك في حق الإمام الأعظم، مع انتفاء الأسباب المكروهة، والخطر المتقدم ذكرها!!؟ وشواهد ذلك من الأخبار لا غاية لها ولا انحصار كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من كان في حاجة أخيه كان الله تعالى في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة))، رواه ابن عمر رضي الله عنهما.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس، يفرغ الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله))، رواه ابن عمر أيضاً.

وروي عنه وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((من مشى في حاجة أخيه حتى يثبتها له أظله الله عز وجل بخمسة وسبعين ألف ملك يصلون عليه ويدعون له إن كان صباحاً حتى يمسي وإن كان مساء حتى يصبح، ولا يرفع قدماً إلا حط الله عنه خطيئة ورفع بها درجته)).

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: ((لا يزال الله عز وجل في حاجة العبد ما دام في حاجة أخيه))، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من لقي أخاه المسلم بما يحب فبشره بذلك بشره الله عز وجل يوم القيامة)).

وروي عن الحسن بن علي     عليهما السلام  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم))، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ((إن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدحال السرور على المسلم)).

فهذه الأخبار وغيرها دلت على عظم موضع قضاء حاجة أي مسلم كان وإدخال السرور عليه، ولا شك أن تولي العمل للإمام وكفايته؛فيه قضاء حاجة مهمة له، ومما يدخل السرور عليه والانشراح، ولا ينبغي لمسلم أن يزهد في الفضائل وترغيب نفسه في الطاعات والقربات.

وأما حيث كان يعلم من نفسه كونه قوياً أميناً، ولا ينوء في ذلك، والقدوة ما صدر عن يوسف الصديق عليه السلام  من التعرض للولاية والإدلاء لذلك وهو دليل واضح، ثم إن تولي العمل لأئمة الهدى خصلة شريفة، ووظيفة رفيعة وأي وظيفة، وأخذ بنصيب من الجهاد، وإعانة الإمام في تكاليفه الشداد، ويوصل إلى كسب المعاش من وجه مستطاب لا يُعاب، وتسبب إلى السلامة من شوائب الاكتساب، واستغناء عن المسألة المحرمة والحرف المذممة، وقد ورد من الأخبار والترغيب في العمل على الصدقة بالتقوى كافية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((العامل على الصدقة بالحق لوجه الله عز وجل كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى أهله))، رواه رافع بن خديج رضي الله عنه، وورد من طريق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ولفظه: ((العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)).

وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((خير الكسب كسب العامل إذا نصح)).

الأدب الثالث:

ينبغي له إذا رجح في حقه الإجابة إليها والعمل عليها؛ أن يجيب بسهولة، وانطلاق وبشر، ولا يلتكأ ويتعنت، ويظهر شدة الامتناع،  ويرغب في تكرر المراجعة، فإن ذلك ما يشوب نفعه ويكدره، وقد يكون سبباً في انتقاض أجره وعدم توفر صنيعه، ومخالفة بشبهة، وما أمر به من المسارعة إلى طاعة الله وأولي الأمر، واللائق بمن شأنه الإسعاد ومآله إليه أن يبدأ به ويجيب إجابة الكرام بانطلاق واهتمام، وكل صنيعة يبديها صاحبها بعد تنكد ومماطلة وتعبيس فهي غير هنيئة، وما أحسن ما قيل فيما يناسب هذا أو يشابهه:

وخير العطا ما وافق الضر نفعه

 

ولم يقفه ابن ولا أمة مطل

وما كان صبراً واحتساباً ولم يكن

 

رجاء لما بعد جزاء لما قبل

الأدب الرابع:

ينبغي له عند النبأ على الإسعاد والإجابة والانقياد؛ أن يستحضر النية الحسنة، والقصد الصالح، ويصفي القلب عن خواطر السوء، والمقاصد الدنيوية، فإن الأعمال بالنيات، حتى إلى النية الحسنة قد يصير المباح من جنس القُرب المقربة إلى الله تعالى الموجبة للثواب، وتغلب صورة الواجب إلى المحظور الذي يستدعي العقاب، كمن قصد بالسجود لغير الملك المعبود، وقصد بصلاته أن يقال: صلاة هذا حسنة، أو أن ينال بها إرباً من مآرب الدنيا، فيستحضر في قلبه أنه أجاب تقرباً إلى الله تعالى وسبباً إلى الثواب بنفع الإمام وإعانته ومظاهرته، وأخذ نصيب من الجهاد معه، ونفع المسلمين الذين يصير إليهم ما جمعه وقبضه، والمشاركة في تحصيل ما صرف منه من المصالح الدينية، ونفع أرباب الزكاة بتخليص ذممهم وتسهيل التخلص عنها عليهم، وإذا عرض له قصد الانتفاع لعماله وما يصير إليه من حصته، نوى أن ذلك ليستعين به على طاعة الله عز وجل ويستغني به عن ما حرمه الله تعالى، وينفع عائلته ومن يلزمه نفعه، ويؤدي ما أوجبه الله من حقهم، ونحو ذلك، وليحذر أشد الحذر أن يجعل قصده عرض الدنيا وما يعود إليها فيحرم نفسه الخير مع تمكنه منه، ويسهل له وضوح طريقه:

فلم أرَ في عيوب الناس شيئاً

 

كنقص القادرين على التمام

 واعلم: أن النية هي كقطب الرحى للعمل، فعليها من الأعمال مدار الأعمال الأخروية ولا قول ولا عمل إلا بنية، وهي بالقلب لا باللسان.

وقد ورد في هذا المعنى من السنة والقرآن ما يستغني عن الفعل والبيان كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))، وهو من الأحاديث المشهورة المباركة المبرورة حتى قال بعض العلماء هذا الحديث يبنى عليه ربع الإيمان، وهو مما رواه عمر بن الخطاب وادعى علماء الحديث فيه التواتر.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((الناس على نياتهم))، رواه أبو هريرة.

الأدب الخامس:

حسن المعاملة لمن ولي عليه، وأن يجد في الرفق وحسن الاستدعاء لهم إلى الطاعة والتسليم والانقياد، ولابد لهم في أول الأمر أن يعرض لهم وحشة عنه،  وتنزه وإزورار، لا سيما حيث لم يكن قد سبقت بينهم وبينه معرفة واختلاط، وحيث كان عليهم قبله متول غيره، فليلطف ويتدخل إلى ما يريده منهم ويحسن المراجعة لهم كل ما يليق به، ويصبر على ما قوبل من أذى أو نفرة، أو وقع فيه من مشقة أو عسرة، ثم ليبسط لهم عذره في التولي عليهم، ويعرّفهم بأن هذا أمر قد وجب عليه، إما بإلزام الإمام أو لأنه أمر ديني، ونفع الإمام واجب على من يحسنه ويمكنه، ثم ليعرفهم نحو الإمام وجوب طاعته، وما في ذلك من الخير، وما في خلافه من الشر والضير، ولا ييأس لما يراه من جماحهم وإباهم، ولا يعتقد استمرآهم() على ذلك فهم عما قليل راجعون، وإذا اشتد جماحهم وتعاليهم فليجتهد في إصلاح واحد منهم واستدخاله في الطاعة فما أسرع تلاحقهم، وللرعية الذين تنفذ عليهم الأوامر مزاج وعلاج، وكذلك لم يقاربهم في الرهبة والخوف من عواقب المعصية، وللأخيار أهل العزة علاج آخر على الجملة، ولكل مقام مقال، وقد كان لبعض أعوان الأئمة فيما مضى بشر عظيم في المعنى للصبر الذي كان عليه، مع حسن القصد، ولطف المعاملة والإحكام فيها، والله مع الصابرين.

ومما ينبغي أن يعرفهم به ما في التسليم إلى الإمام من الفضل وعظيم الأجر، ومشاركته فيما هو فيه، وكون ذلك حظهم من الجهاد معه، فإنه لا ينبغي ممن قعد عن الجهاد بنفسه أن لا يحترم الإعانة بحق الله الذي لا نقص عليه في تسليمه ولا خلل، وأنه إذا كان لا بد أن يخرج زكاة فصرفها وتسليمها إلى من يجزيه التسليم إليه، بل يثاب أسنى الثواب عليه، أولى له وأخلق به من أن يصرفها على وجه لا يخلّصه، فيصير غير متخلص بها في أخراه، ولا مشفع بها في دنياه، ونحو هذه المعاني المحكمة المباني، وملاك هذا الأدب هو الصبر على معاناتهم وأذاهم، وعدم التأنف والمنافرة، والمقابلة لما صدر منهم من مساوي الأخلاق بمحاسنها، وأن يدفع بالتي هي أحسن، فإن الخلق الحسن هو مرهم هذه الأمور والمقاصد، ونيل المآرب والفوائد، والمرقاة إلى درك الأمر العسير، والذريعة إلى التوسعة والتيسير، ومع ذلك فهو أمر سهل يسير لا يفتقر إلى تعب، ولا يقضي بالمتخلق إلى نصب، والله تعالى الموفق.

 

الأدب السادس:

أداء الأمانة واجتناب الخيانة، وهذا الأدب، هو واسطة عقد الآداب والخلاصة منها واللباب، ومحك الأديان، وقاعدة الصلاح في هذا الشأن، قلّ في زماننا هذا المتأدب به، والمعتمد عليه، والناظر بعين التوفيق إليه، لأن الزمان المشار إليه بارتفاع الأمانة وكثرة الخيانة، وقد صار الناس على ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا فعلت أمتي خمس عشر خصلة فقد حل بها البلاء، ثم عد منها أن يكون المغنم دولا، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرما))، ولزوم، ويحميها ارتفاعها في الخصال الشريفة وتقدمها، وفضاعة شأن الخيانة، وما فيه من الخساسة والوضاعة مما لا يخفى على الخواص ولا العوام، ولا يحمله أحد من أولي الأحلام والأفهام، ولا يفتقر إلى الإيضاح بعد الإبهام، فطابق في ذلك العقل والنقل، وصرح به في غير موضع كتاب الله عز وجل وهو القول الفصل، قال الله تعالى: {فَلْيُؤدِّ الَّذِي أُؤتُمِنَ أمَانَتَهُ} [البقرة:283] {إنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إلى أهْلِها} [النساء:58]، {إنَّا عَرَضْنا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأرْضِ والْجِبَالِ} [الأحزاب:72] الآية، {إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانَاً أثِيْمَاً} [النساء:107]، {إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِيْنَ} [الأنفال:58].

وأمَّا ما ورد من السنة والأخبار المروية فمما لا يحصره حساب، ولا يشتمل عليه كتاب، قال صلى الله عليه وآله وسلم  فيمن نحن بصدده من أنواع الأمانة ما لفظه: ((إن الخازن المسلم الأمين الذي يفعل ما أمر به فيقطعه كلاماً موفراً طَيِّبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر به أحد المتصدقين))، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق أبي موسى، وقد سبق من الأحاديث في ترغيب العامل بالحق وعلى التقوى في الأدب الثاني ما هو من شواهد هذا المعنى، فإن المراد به العامل الأمين، وسبق فيه أيضاً من الترهيب للعمال ما يعرف به عظيم موقع الخيانة والمغلول من الذنوب الموبقة والجرائر المهلكة، فنعوذ بالله من ذلك ونسأله السلامة من المهالك، فليحترز العاقل غاية الاحتراز عن أن يأخذ شيئاً غير ما فرض له ولو مثقال ذرة، فإن الله تعالى يحاسب به فإن الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول))، رواه عبد الله بن بريده، وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بعثه على الصدقة فقال: ((يا أبا... اتق الله لا تأتي يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثغاء، قال: يا رسول الله إن ذلك لكذلك؟ قال: أي والذي نفسي بيده))، قال: والذي بعثك بالحق لا أعمل لك على شيء أبداً.

وعن عدي وغيره قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخطياً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة))، وفي آخر هذا الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم  قال لمن استعظم فقل: سمعتك تقول: كذا وكذا، قال: ((وأنا أقوله: إن من استعملناه منكم على عمل فليجيء بقليله وكثيره فما أولى منه أخذه وما نهي عنه انتهى)).

وروى أبو رافع عنه صلى الله عليه وآله وسلم  أنه مر بالبقيه فقال: ((أف لك، فكبر ذلك في ذرعي فاستأخرت وظننت أنه يريدني، فقال: مالك أمس، فقلت: أحدثت حدثاً؟ قال: لا ومالك، فقلت: أففت لي، قال: لا ولكن هذا فلان بعثته ساعياً على شيء فلان فغل غيره فدرع عليه مثلها من النار)).

وعن عبد الله بن عمر أنه كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  رجل يقال له: كركرة، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((هو في النار))، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها.

وعن زيد بن خالد أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  توفي يوم حنين فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: ((صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله))، ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من حرز يهود لا يساوي درهمين)).

فانظر إلى ما شملته هذه الأحاديث من الوعيد الشديد والزجر والتهديد وغيرها مما تركنا رقمه إيجازاً واختصاراً وفيما ذكرناه كفاية وزيادة.

تنبيه:

ينبغي لمن اطلع على خيانة العامة أن لا يكتم ذلك عليه، ولا يستره، فإن ذلك نوع من الإدهان , ومنافٍ لما أوجب الله سبحانه وتعالى من نصيحة أولي الأمر، ويعني ذلك أن لا يتحرج صدر العامل، أو لئلا يكون نميمة، أو لاعتقاد بوجه الستر عليه، أو لغير ذلك من الحوامل، فهو مغرور ممن قال الله فيه: {وهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُوْنَ صُنْعَاً} [الكهف:104]، فإنه بذلك شاركه في الخيانة، وتصور بصورة الراضي بها، وخالف ما أوجب الله تعالى من النصيحة التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم  من الدين، ولا شك أن الخيانة منكر، وأن تركها يؤدي إلى إزالتها، إما بأن يصلح العامل ما فسد، أو بأن يرفع يده عن العمل ويبعد، وبالكتم يسبب المعصية واستمرارها والبقاء عليها، فالكاتم كتارك إنكار المنكر، وهو تفريط في جنب الله عز وجل.

وعن سمرة بن جندب أنه قال: أما بعد فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: ((من يكتم غالاً فهو مثله)).

الأدب السابع:

إجتناب التفريط، فإنه يشارك الخيانة في وجوب الضمان غالباً وإيجاب مطلق الإثم، وأما المساواة فيه فهي متحققة، والتفريط أنواع منها غفلته وتراخيه في وقت العمل والقبض المعتاد، فإن لذلك أوقاتاً إذا أخر عنها وقع التناقض والتفويت، فينبغي منه التوفر وإحضار الذهن، وهو إن كان في جهة العمل فذلك منه بمرأى ومسمع، وإن كان نازحاً عنها فلا أقل من أن يبحث ويترقب، ولا بأس أن يكون له في الجهة من يشعره بذلك في وقته، وإذا كانت [جهته مسعة]() لمارها يأتي شيئاً فشيئاً قدم ما تقدم، وإن كانت تأتي في وقت واحد قدم ما هو مظنة الفوات، وإن استوى الحال منها اتخذ أعواناً ممن ينوبه، ونظر في الأمر نظراً مخلصاً عن درك التفريط، وإن عجز عن كل ذلك أذن الإمام به، وعرفه أنه لا يتمكن إلا من العمل في بعض تلك الجهات، لينظر الإمام فيمن يعينه، أو يستقل بجميع البعض عليها.

ومنها: أن يتراخى في تبليغ ما جمعه فذلك شك في تفريط، ومن حقه أن يتبادر بتبليغه بنفسه، أو بواسطة إلى يد الإمام، أو من أهله لالتقائه حسب العادة، وأن لا يغفل عن ذلك ليخلص ذمته عن عهدة الأمانة، وليحذر عن الآفات التي يقع بها الفوات من شرقة المتاع أو خيانة الوديع، أو ظن وأمر يقتضي، أو ذهابه، أو مرض العامل نفسه أو موته، أو غير ذلك، ثم إن التبليغ فرضه وهو في الحقيقة مستأجر عليه والجمع من دونه لا ثمرة له ولا فائدة، فإنه لا انتفاع للإمام بما جمع ولم يبلغ إليه، كما لا ينتفع بمالا يجمع، اللهم إلا أن يأمره الإمام ببقائه عنده، أو حيطة في جعله يعينها له، فعليه الامتثال ويخرج بذلك عن الإخلال، وحيث أمر بتركه وعدم تبليغه في تلك الحال، أو منعه من التبليغ مانع من خوف أو غيره، أو لم يتمكن منه للاشتغال بتبعة العمل فليحذر من التفريط فيما جمعه وصار في يده بوجه من الوجوه لا يأمن منها من يناقصه، فإن كان حيطة له في بيته احترز عليه من أهله وولده ولم يامنهم عليه فيجعله في منزل لا سبيل لهم إليه، ويحجبه عنهم، ويكتم ما استطاع الكتم، وإن كان تحت يد وديع لم يرض به إلا مع ظهور أمانته وعدالته، فحيث أنه لا يخاف عليه في حياته ولا بعد مماته، وإن كان تاركاً له في منزل لغيره، أو في دار سكنها غيره احترز في ذلك بالمغالق الوثيقة، والأقفال الجريرة ونحو ذلك، ولا يفتر حيث كانت الغلقة ونحوها متقدمة على تصييره لما في المنزل وبيد أهله من قبل ذلك، فإنه لا يأمن أن يكون لها مفتاحان، وإنما اللائق أن يتخذ في ذلك ما نفع به الأمن مما ذكر، وإن كان حباً في مدفن لم يرض من المدافن إلا ما يؤمن عليه من السرقة والانتهاب، وما يعزب أنه لا يغير ما دفن فيه، ومع ذلك كله فيحترز بالتنزيل القليل والكثير في مسطور يذكره أن يسمي ويعرف به بعد موته على هذا المنوال في أنواع التحرزات فإنما قصد التنبيه والتمثيل لا الحصر.

ومنها: أن لا يكتري للحمل من لا يؤمن فذلك تفريط، وينبغي له التحفظ في هذا المعنى، وكثير ما يعرض الخيانة ويقع بسببه الفوات الذي لا يمكن تلافيه، ولا يكري محملة لا ممن يوثق به أو مع مسايرته له، إذا سيرها به فيما نقص وطلب ضمين عليه من نصبه أوجبت بقطع أنه إن خان لم يعنه، وأنه ممن يحكم عليه ويحترز في أن يجعل له مجالاً في الإعتذار إن خان، فإذا كان المحمول مكيلاً مثلاً والمكاييل تختلف جعل له مكيالاً إما تحمل مع الحمل أو يكون مساوياً لمكيال المخزان الذي يحمل إليه الحب، وإن كان المحمول مما يوزن حقق وزنه وأخبر الإمام أو من يقع التبليغ إليه بقدره، وشرط على الحامل أن يأتيه بجواب ينطوي على تحقيق بلوغ ما صيره إليه، ونحو هذا من التحرزات والتنقضات التي لا تعزب عن ذي الفهم والألمعية.

ومنها: أن يسلك بما معه طريقاً مخوفاً أو تأمن الحامل سلوكه،  أو يأذن له، فإن هذا أمر بضمان التفويت، وينبغي له التحرز والاحتياط منه جداً، ولو سلوك طريق متعد أو توقف حتى تسلك القافلة والنظر فيمن سايره ولو باخرة كاملة، وإن أعوزه ذلك كله ولم يقع له ما تضمن به ويأمن به على ما معه راسل الإمام وخبره بذلك ليمده بالنظر فيه، أو يأذن له فيما خشي منه فيخرج عن الملام والضمان، وفي حكم الإمام من أمر بالتبليغ إليه.

ومنها: أنه يتبع نفسه فإن ذلك من مضان الإضاعة، لأنه ما يقضي ما كان من هذا القبيل بل يداخل المستندين الطمع ويستعسر القضاء ويستنكر الطلب من العامل ومن الإمام، وقد يكون ذلك سبباً في التنفير والتنكير فينبغي أن يحترز عن ذلك وأن لا يتبع إلا بنقد، فإن اضطر إلى أن يبتني فبوثيقة ممن لا يخاف بغيره إن ألح عليه، ولا يبالي بالتشديد عليه في الطلب، وهذا ما لم يأمره الإمام أن يبتني، فإن أمره بذلك لغرض فيه، أو لتعذر حضور الثمن فعليه الامتثال، ولا ضمان عليه فيما تعذر عليه في الاستقضاء وفات من ذلك.

ومنها:سلوك سبيل المحاباة، فعليه أن لا يحابي أحداً قط فيما يرجع إلى ولايته، والمحاباه على وجوه:

أحدها: أن يحابي أرباب الزكوات فيما وقع منهم من الغلول وعدم الموافاة أو الامتناع من توفير الحصة التي أمروا بتوفيرها من الزكاة.

وثانيها: أن يحابي من اختطف شيئاً منها لا عن إذن من الإمام ولا برضى، كما عليه كثير من الناس في زماننا هذا أنهم يختطفون ما أمكنهم من الزكوات، ولا يبالون بأمر الإمام ولا نهيه عن ذلك، ولا بما فيه الخطر، والعوام أتباع كل ناعق، واختداعهم من أيسر الأشياء وأسهلها، وقد يتفق ذلك لرغبتهم إلى نفع من يصيرون إليه الواجب، ومكانه عندهم، وسعة جاهه لديهم، وقد يفعلونه لنوع من المخادعة كأن يوهمهم أن الإمام قد أذن له بذلك أو كتب إليه كتاباً ويحسنون الظن فيه، فيقبلون كلامه أو يريهم كتاباً ويقرؤه عليهم، وإن كان ليس فيه شيء من ذلك، أو يكتبه بخطه يوقفهم عليه، ويستشهد بعض المغفلين الذين يعرفون مجرد الكتاب من غير تنقيط ولا معرفة للخط، أو يذكر لهم أن الإمام مستغن عن هذا أو غير ناظر إليه، وهو لا يبلغ إليه ولا ينتهي إلى يديه، أو الإمام إنما ينفقه على الأجناد في علف البهائم والجمال، وعلى سفلة الناس كالمهاتير والغلمان، وغير ذلك من أنواع التغرير والتلبيس، والتمحلات لأخذ الزكوات ووضعها في الكيس.

وهذا من أعظم الأسباب المقوية لبيوت الأموال والزكوات، والمعصية لعدم توفيرها وهي مصيبة قد شاعت في جميع الجهات، وجرى عليها كثير من أهل التمييز إلا من عصم الله تعالى من عباده، وقليل ما هم.

وثالثها: أن يحابي من خانه فيها من وديع أو حاما أو نحوهما، والحوامل على المحاباه كثيرة كالاستحياء، فقد يحمله الحياء على الإغضاء وعدم المناقشة، وكالصداقة والرحامة، فتحمله محبة من صدر منه شيء مما ذكر أو رحامته على الإبقاء عليه، وعدم جرحه والقدخ فيه، وترك الإطلاع على فعله، وكاستعظام حال الفاعل، واعتقاد أن حاله يعظم على أن ينكر عليه ما فعله أو ينهيه إلى الإمام، وكاعتقادات السكوات، أصلح فأرجح، وما قد فات فقد مات، وأن المناقشة تؤدي إلى فساد، أو ازدياد في خلاف ما يراد، وكظن أن اللائق بحاله الستر على من تعنى وعدم الكشف عن حاله، وأن في ذلك انتهاك بحرمته ومخالفة اللائق بالحال، وأن الأولى له التحمل فلا يدري القيم على ولايته، أو يرفع أو يشك عنه فما باله يكسب عداوة الناس لأمر لا يدري ما حكمه فيه، وكأن ينظر إلى ما يفوت عليه من حصته فيجدها لا توازي ما يلحقه من المشقة في الشجار والخصام.

وكل هذه الحوامل فاسدة، ولا ثمرة لها ولا فائدة، والمحاباة فيما ذكر وغيره خيانة وتفريط، ولا ينبغي لأهل الاحتياط في دينهم والتحرز عما يشينهم، والواجب عليه أن يجتهد في إصلاح ما عز من ذلك ودفعه، والإنكار على فاعله، وتقبيح فعله، وأن لا يألو جهداً في ذلك، وما أعجزه إصلاحه منه ودواؤه رفعه إلى الإمام في وقته واستمد رأيه فيه ونظره، واستورد أمره، فما أمره الإمام به فعله، وإذا خُيِّل إليه أن السكوت عما وقع أولى فلا يستقل برأيه في ذلك، بل يرفع القضية إلى الإمام ويعرفه بما خطر بباله من استرجاع للإغضاء وما في المناقشة من الشوائب، ثم يعمل بما رآه الإمام من تقرير ما رآه أو عدمه، وما كان في الحوامل من حقه إلى ترك الإنكار أصلح له في دنياه فمغلطة، فإنه وإن كان كذلك فلا نقص عليه في دنياه فكذلك ينقصه في دينه، ويخل فيما يلزمه في أمانته وتكاليف ولايته، والله الموفق.

وللتفريط أنواع وأسباب غير ما ذكر، والقصد التحرز عنها كلها والاحتياط والتحفظ حسب الإمكان والله المستعان.

تنبيه:

اعلم أن الزكوات وبيوت الأموال وما يجمع الإمام كثير ما يعرض له الفوات والانتقاص، وينظر إليها أهل التلصيص والاختلاس، ويشق التورع عنها على أكثر الناس، وما هي إلا عرضة للإنتهاب، وعرض للفوات والذهاب، ولا نجد من يتورع عنها على حد تورعه عن غيرها، ولا من يستحي من أخذها كاستحيائه عن أخذ غيرها، فلهذا يتوجه الاحتراز الكل عليها، واستقرار التجويزات البعيدة في ذلك، وعدم الأمن والثقة إلا بمن قد وقعت له حيرة كبيرة منها، وفي التعفف عنها.

بلغني أن بعض الأئمة السابقين عليهم السلام  كان كثيراً ما يذكر هذا ويصوره في زكاة الحب، فيقول ما معناه: إن رب الزكاة يعمل النظر [في] نقصها والتحيل في البخص  ، ولا يسلمها حتى نال منها ما نال ثم يدفعها إلى العامل، فلا يزاد يكرر النظر فيما يستند به منها، ويصير إليه حتى نال منها ويقع فيها، ثم يدفعها إلى الحامل فيكون منه ذلك، ثم كذا في الخازن ثم فيمن يدفع إليه شيئاً منها لينظر فيمن يطحنه، ثم هكذا في الطاحن، ثم في المبلغ عنه، ثم في من دفع إليه ليخبره، ثم فيمن يناوله منه لتبليغه إلى الأكلة، وصدق رحمه الله تعالى في ذلك.

وقد وقفنا على حديث مرفوع مضمونه: يتكل خروج الصدقة وخلوصها إلى الغاية المطلوبة منها، ومعناه أن الصدقة لا تخرج إلا من حيث يجيء ثلاثة وسبعين سلطاناً أو كما قال.

الأدب الثامن:

أنه لا ينبغي أن يصرف مالم يؤمر بصرفه في تأليف أو مواساة ضعيف، ولا يمتنع عن صرف ما أمر بصرفه فيما ذكر وفي غيره، فهذان طرفان، والوجه فيهما كليهما ظاهر، فإن يد الإمام فوق يده، ولا يحل له من التصرفات إلا ما أمره به جملة أو تفصيلاً، ولا يحل له أن يخالف ما أمره به، والذي في يده حكمه حكم الأمانة لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن صاحبها ورأيه.

الطرف الأول: يقدر بما يخطر بباله مثل ذلك يليق ويحسن، وأن فيه صلاحاً، وأنه لو لم يعط ، ... ويوضح لهم لما أمن أن ينشأ من ذلك مفسدة، وأن مواساة الضعفاء أمر لازم لا يليق حرمانهم عن شيء لهم فيه مدخل، ونحو هذا أمر البواعث على ما ذكر من الاتفاق وهي مغلطة، فإنه ليس لأحد أن ينفق ما ليس له في وجوه البر، ولو قصد بذلك التقرب لم يكن قربة بل معصية، ولم يستحق به الثواب بل العقاب، وفرض أن لايتعدى ما أمر به، ولا يزيد، ولا ينقص، والعمل بالحسنة هنا لا معنى له، والذي يتوجه في مثل ذلك أن يستأذن الإمام فيما عنّ له جملة أو تفصيلاً، فالجملة أن يطلب من الإمام الإذن والتفويض فيما رآه صلاحاً، فإن امتنع لم يتعد الحد، ولم يفعل ما منعه منه، وإن سعد كان ما فعله صادر على الوجه المرضي، لكن لا يغير بالتفويض، ولا يفعل به إلا ما علم أو غلب على ظنه حصول المصلحة فيه، وأن الإمام لو اطلع عليه لرضيه، والتفصيل أن يستأذن في مواساة فقير بعينه أو تأليف شخص منصوص عليه، فإن أذن له فعل، وإن غفل عنه اغتفل، والحذر كل الحذر أن ينفق شيئاً لغرض يعود عليه أو هوى يتعلق به.

تنبيه:

أما إذا اتفق أمر لا يستغني فيه عن التأليف، ويقع بسبب تركه مفسدة أو فوت مصلحة، ويتضيق وقته بحيث أنه لم يتمكن من الإستئذان فيه، فالواجب عليه أن يفعل وأن لا يترك ذلك تحريجاً، واللائق بالإمام أن يصوبه فيما فعل ويشكره عليه، وإن لم يستحسنه لوجه خفي عن العالم، أو اجتهاد خالف اجتهاده،  فالأقرب أن يضمن وصول ذلك، لا يخفي ولا يفتقر إلى ضرب مثل، وشرط ما ذكر حصول القطع فيه، فلا بد أن يقطع أنه إن لم يتألف في ذلك الغرض فات، أو أنه [إن] لم يتألف وقع فساد، من انتهاب لما في يده، أو ظهور معصية الإمام، وخلاف، ولا بد أن يقطع -أو يظن ظناً مقارباً- بأنه إذا فعل حصل الغرض المقصود من حصول النفع أو اندفاع الضرر، ولا يكفي توهم ذلك أو ظنه ظناً ضعيفاً بحيث أنه لا يأمن أن ينفق ما ينفق ثم لا يحصل الغرض.

وأما الطرف الثاني: وهو ما يلزمه من العمل مما أمر به من إنفاق أو غيره، فلا لبس في وجوبه، إذ هو مأمور فيجب عليه امتثال أمره لأنه فائت، فيلزمه قبول ما ورد عليه من المستنيب له، ومأمور يتحتم عليه طاعة الإمام، ولو أن الإمام أمره بأن يطرح ما جمعه [في] البحر أو يرمي به من شاهق في البر للزمه ذلك، إذ لا يمكن القطع به، ولا صلاح فيه، فلعل فيه صلاحاً قد علمه الإمام، ولا يحتج بعدم علمه إياها، فإن ما يعلم أكثر مما علم، وأوضح من هذه أن يأمره بالتسليم إلى رجل يعتقد أنه لا يستحق أو لا مصلحة في إعطائه، فإن نظر الإمام فوق نظره وعليه الامتثال لما علم وجهه وما لم يعلم، اللهم إلا أن يعرف أن الإمام إنما أمر بالاعطاء لسبب، وذلك السب لا وجود له، كفقر أو عمل أو قضاء إرب، وإنما اتفق غرر الإمام فيه، فحينئذ يحسن فيه تلقي ذي الحاجة الواردة عليه بأمر الإمام تلقياً حسناً ينطوي على تفخيم شأن أوامر الإمام، كأن يقول أمر الإمام مطاع وأنت على خير، ثم يراجع الإمام مشافهة أو مكاتبة وينبهه على ما علمه من عدم ثبوت السبب الموجب، فإن أمره بالفعل إما استحياءً عن الرجوع فيما قد أسعد به أو لمصلحة أخرى فعل، وإن أذن له في الترك ترك على وجه جميل، وأوضح للطالب العذر على ما يراه من إجمال او تفصيل، وخالقه بخلق حسن.

وحاصل الأمر أن طاعة الإمام في الإقدام والاحجام لازمة له وواجب عليه، وأن اللائق بحاله المسارعة إليه، وأن الإمام إذا سمح بسائل، أو أمر بإعطاء سائل، والانقياد إلى ذلك والمسارعة إليه من فرض العامل طاعة الله تعالى ولإمامه، واغتناماً للأجر في ذلك كما ورد في الخبر المتقدم نقله: ((الخازن الأمين الذي يفعل ما أمر به بتعطيه كلاماً موفراً ويدفعه إلى الذي أمر به أحد المتصدقين))، ولأن في ذلك كسب صنيعة، واستدعا ثناء ودعاء وشكر بغير غرامة ولا مشقة، فهل العدول من ذلك إلى المنع الذي هو معصية ومأثمة ومبتدع لأسواء الثناء وموجب الذم والملامة إلا من قبيل الخذلان والحرمان، فأقل ما قيل ما يفعل العامل أن يتلقى ذا الحاجة ومن بيده فضل الإمام بالبشر والرحب والخلق الحسن، ويجانب التعبيس والتقطيب، وما يشين ويريب، فإن كان المطلوب منه لم يتعلثم ولم يمطل ساعة واحدة، وإن كان يده خالية وهو واثق بحصول شيء يعطيه عرفه بذلك ووعده لحصوله، وإن يكن الشيء حاصلاً في جمعة نازحة عرفه بذلك وسار معه، أو أرسل من يعطيه إياها، أو كتب له، وليجانب المطل الذي لا موجب له فإنه شين وتنغيص وتكدير لمروة الإمام، وجالب للملام، وإن لم يبق في يده شيء أو لم يحصل له شيء، ولا يرجو شيئاً قريباً عرفه بذلك، وتأسف لعدم حصول غرضه وإحقاق مسعاه، وكتب معه إلى الإمام بذلك، وإن صدر من ذي الوصل أذى احتمله، وصبر عليه، ودفع بالتي هي أحسن، ومع التمكن من التسليم يسلم إليه ما ذكر من غير زيادة ولا نقصان، وإن خطر بباله أن هذا يستحق الزيادة على وجه له راجع نفسه: بأني أمين ليس لي أن أعطي مالم أومر به، والإمام أعرف مني بالأرجح في التقدير والأولى من القليل والكثير. وإذا خطر بباله أن هذا العطاء أكثر مما يتوجه لمثل هذا المعطي، وإن قيل: هذا يجحف بالإمام فينبغي النقص. فليتأمل ليعرف أن فرضه للامتثال فقط، وأن الإمام أخص منه بذلك، وما رضي به فعليه أن يرضى به، ولا يخالفه فيه، اللهم إلا أن يستقل ما عيّن، فترجح له، أن يزيد زيادة مما هو له أو يستأذن الإمام فيها إن أمكنه الاستئذان، أو يفعل ما يعقل، وله نظر الإمام في حسبانها له أو عليه وعدم مساغها له.

تنبيه:

 أما إذا استنكر ما ورد به وصل الإمام وجوز الغلط في الكتابة، كأن يوصل لرجل خفيف القدر بمائة أوقية بحيث أن مثل ذلك يعد خارقاً للعادة، ولا يمكن تقدير وجه يقتضيه، ويقدر أن القصد إلى مائة درهم مثلاً، وإنما وقع لفظة أوقية في مكانه من سهو القلم أو مثل ذلك فقد يتفق، فينبغي في مثل [هذا] المقام التثبت والاستمهال حتى يتحقق الأمر، ولا عتب في مثل ذلك، وإنما الذي منعنا عنه أن يتحقق قصد الإمام إلى العطاء الكبير ويمتنع لعدم استرجاعه.

تنبيه آخر:

إذا وجه الإمام لشخص شيئاً إلى عامل ليعطيه إياه من ثمرة معنية، أو مصلحة مبينة، فلم يدرك منها شيئاً، فلا ينبغي أن يخيره العامل في ذلك من ثمرة أو مصلحة أخرى، لأنه لم يؤمر بذلك، ولا يأمن أن يكون قد بدأ الإمام بطول المدة، واختلاف النظر، واختلاف حال المعُطى في غنى وفقر وموالاة وغيرها، وأيضاً فلا يأمن أن يكون الإمام قد عوضه في ذلك، فمثل هذا لا ينبغي الإقدام عليه إلا بأمر جديد.

تنبيه آخر:

 ما ورد من الأوصال مبيناً، ملخصاً، منطوياً على ذكر القدر والجنس والنوع والصفة، ففرضه أن يعمل به، وقد ارتفع اللبس وقطعت مادة التردد، وإن ورد وصل الإمام مطلقاً في ذلك كله أو في شيء منه ففرضه أن يجري مجرى الأقدار، ويحمله على أدون لما يمكن ويعتاد من ذلك، فإذا أمره بتسليم ثوب مثلاً نظر في الثياب المعتادة ويسلم من أقلها قدراً وقيمة في جهته، وإن قال: كذا وكذا درهما. وفي الجهة نقد، أو إن قال: أوقية. وفي الجهة صرفان، سلم من أدونهما، وإن قال كذا وكذا حباً. فسلِّم من أدون أجناس الحبوب التي يعتاد الهبة منها وأخفها، وإذا قال كذا وكذا مداً، أو زبدياً، أو صغيرة، أو مشرفة، أو غير ذلك حمله على الأقل إذا كان في تلك الجهة مكيالان متفاوتان أو أكثر.

والوجه في جميع ذلك واضح، وهو أن الذي في يده ليس له، والأصل عدم الإذن، فلا يسلم إلا ما ينبغي الإذن من أمر به فيه، ولأن الإمام لو قصد إلا على أكثر لصرح به ولذكره تنشيطاً للطالب وتطييباً لنفسه، وتصريحاً بفيض مروءته، وتحرزاً عن مخالفة المأمور، فلا يحمله على الإطلاق في الأغلب إلا الاستحياء من التصريح بالأنقص، أو خشية إلحاح السائل في أن يجعله غيره، وما يحمله في عدم ذكره الأعلى والأكثر يقضي بعدم الاهتمام بذلك، إذ الاهتمام يقضي الذكر، ولا شك أنه غير مأمور، وما لم يؤمر به فليس له أن يفعله، وعروض شك له في كونه أراده لا يسوغ الإقدام استصحاباً للأصل، ولأنه لو تبين زيادة فالزيادة ممكنة، والتكميل بخلاف ما إذا صح له تحقق كراهية فقد صار الإسترجاع غير ممكن في الأغلب، فإن أمكن فمستهجن  .

تنبيه آخر:

ينبغي أن يقع الاحتراز الكلي عن العمل بالأوصال المزورة، فقد فشا هذا في زماننا، واتفق الكثير من الولاة الاغترار به، وفاتت بسببه أموال وصارت في غير موضعها على غير رأي الإمام، فإن كان العامل من أهل الألمعية ومعرفة الخطوط لم يخل نفسه عن التأمل لما يرد عليه والسبر له، ولا يقدم إلا مع التحقق، وإن كان أمياً أو قليل الخبرة لذلك لم يكن بد من أن يعرض ما ورد عليه على المعرفة التامة في هذا المعنى، ولا يكتفي على النظرين معاً كحال حامل الوصل واعتقاد صلاحه ودينه، فيترك التثبت، فقد فعل هذا كثير ممن فطن دينه وورعه، والله المستعان، وما أحسن ما قاله الزمخشري رحمه الله تعالى:ـ

إني على ما أراكم لا أحذركم

 

معزّة اللص والأكراد والفســقة



لكن أحذركم من يبتدي لكم

 

في صورة الزهد لكن همه السرقة

صلاته السيف والتسبيح أسهمه

 

وصومه رمحه والمصحف الدرقة

 الأدب التاسع:

وكان خليقاً بالتقدم، لأن موضع نفعه للمتولي والمتولى عليه عظيم ، أنه  يليق بعامل الإمام أن يهتم بصلاح أهل جهته وولاته، ويبالغ في إرشاد كل منهم وهدايته، ولا يقصر همه وسعيه على قبض الزكاة وسائر الحقوق واستحصالها فقط، بل يتوجه عليه الوعظ والتذكير، والحث على أداء الواجبات كلها، وترك المقبحات كلها، وحسن التلطف، والاستدعاء إلى الخير، وتعليم مقالة الدين، إن كان ممن يصلح لذلك، فإن هذه خصلة شريفة ودرجة منيفة: {ومَنْ أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللهِ وعَمِلَ صَالِحاً} [الكهف:33] أن يهدي الله تعالى على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس))، وللمتولي من قبل الإمام والواصل من عنده محل في النفوس وموضع في القلوب، فيكون في هذه الفضيلة في حقه ألزم.

كما أنه لا ينبغي أن يخلي الإمام كتبه ورسائله التي يبعث بها مع رسله وعماله عن ذلك، فينبغي له إذا دخل إلى بلد أن يدخل بسكينة ووقار، مع ذكر الله تعالى، وحسن السمت، ولزوم الصمت إلا عما دعت إليه الحاجة، ثم إذا جمعهم لتبليغ رسالته، أو طلب ما عندهم،  واجتمعوا عنده بأنفسهم،  بدأ بوعظهم وتذكيرهم،  وحثهم على النظر في أمر معادهم وتعظيم الأمر للآخرة في قلوبهم،  وتهوين أمر الدنيا،  والتعريب بما في طاعة الله تعالى من الثواب والخير دنيا وآخرة، وما في خلاف ذلك وعكسه،  بعبارة حسنة سلسلة، ومعان واضحة غير متعقدة، وتوسط بين الإيجاز والإطناب،  بما يستهجن عند العامة ويعاب، وإذا فهم منهم الإخلال بشيء من الواجبات -كالصلاة- أو نوع شيء من المعاصي أشبع الفصل في ذلك،  وشنع عليهم ما ارتكبوه منه،  وأورد الشواهد القرآنية والنبوية بما يقضي بفحشه وعظمه، ثم يخرج إلى ما هو بصدده من طلب الواجب والتماس تسليمه،  بعد التعريف بقدره وما يلزم منه، وما ورد من الحث على التوفير ومحاسبة النفس على القليل، وما في الغلول من الحساب والعقاب،  وتناقص الثمرات،  وعروض الآفات، والله تعالى الموفق لإصلاح الأعمال والنيات.

الأدب العاشر:

ينبغي له إذا استرجح الإمام عزله ورفع ولايته وعذره عما قلد من العمل تلقي ذلك بانطلاق واستبشار، وأن لا يظهر منه قط كراهية له، وهو إما كاره للعمل من قبل،  راغب في الترك لمشقة دنيوية أو خشية تبعة أخروية، فحقه أن يحمد الله تعالى على تسهيل إربه وحصول مطلبه،  على وجه لا خلل فيه ولا إخلال، ولا غضباً لإمامه ولا لربه ذي الجلال، وإما راغب في بقاء الولاية وكاره لرفع يده عنها، فأول ما يعتمده أن يرى من نفسه جلداً،  وأن لا يشعر بما أبطنه أحداً، ولا يطلع عليه والداً ولا ولداً، فإن تلك خصلة ذميمة ينبغي أن يسترها بستر الله تعالى، وأن لا يشيعها ويظهرها، ثم إذا ظهر اغتمامه ساء بذلك الواثق،  وأشمت العدو والكاشح والمماذق، ولم يعدم على ذلك طرفاً من الملام وتطرقاً للظنون السيئة إليه والأوهام.

اتفق عزل والٍ مرة فاشتد وجده وأخذ يتشفع بأهل الوجاهة ليقع رده، فسمع بعض الظرفاء يقول: ليس هذا على فوات الثمر إنما هو على فوات النصف.

وبعد أن تحكم أمره في التستر والتجلد يعالج نفسه ويفتقدها، وينظر في أسباب أسفها ووجدها، فإن تبين ذلك أو حصول مال واكتسابه أو غير ذلك مما يرفع إلى عرض الحياة الدنيا، لأنها على ذلك وشنعه عليها ووبخها عليه، وعرف أنها له عدو مبين، وأنها إنما تسعى في هلاكه حيث شاها بخصلة من ورطة كان فيها مهلكة،  واشتغل بتقويم أودها، وصلاح فسادها ما هون على نفسه، بتأمل حال الدنيا والتفكر فيها، وما لا بد منه من انقضاء شهواتها،  وبقاء تبعاتها،  وسرعة فراقها،  وانقطاع حلاوة مذاقها، وأنها كالطل() القالص،  ونعيمها غير خالص، وإن وجد الباعث على ذلك الذي وقع معه فوات الأغراض الدينية المتعلقة بذلك العمل -وهذا مستبعد- فليسأل عليها بأن السعيد من كُفي، وإن تحقيق التكليف من اللطف الخفي، وأن السلامة من الأخطار هو أبلغ المآرب والأوطار، ويستحضر قول بعض الشعراء:

على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى

 

وأخلص منه لا علي ولاليا

 قال بعض الأئمة عليهم السلام : ينبغي أن يكون العامل فيما وليه من الأعمال كالماشي على النار أحب شيء إليه الخروج منها.

ثم إن مما يلزمه،  ويليق به،  ويجمل بحاله،  أن لا يتغير أمره وصفته فيما كان عليه من ود الإمام ونفعه،  والاعتلاق به ، والجد في إعانته، فحيث أنه لم يرد على ما كان عليه من قبل الولاية لم ينقض منه، وينبغي له أن يعين من يخلفه في الولاية، ويحث على التسليم، ويزجر من امتنع من ذلك أو علق الأمر به، وأراد أن يقبض ما عنده على جاري العادة، فكثير ما يتفق مثل ذلك بجهل العوام وعدم تمييزهم،  وميلهم إلى ما ألفوه واعتادوه ويعوزهم عن غير ذلك.

والدين النصيحة لله تعالى ولرسوله ولأئمة المسلمين، وكل مكلف مما يمكنه، وقيمة كل امريء ما يحسنه.

وحسبنا الله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، والحمد لله رب العالمين،  وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين .

وكان فراغي من هذه الوسيلة وترقيم الفضيلة بعد شروق شمس يوم الأحد المبارك رابع من شهر ذي الحجة الحرام الذي هو من شهور عام سنة تسع وثمانين وألف سنة.

بخط قلم العبد الضعيف الراجي عفو ربه الخبير اللطيف صلاح بن أحمد بن صالح الحيمي غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين آمين، وذلك مما رسم بعناية الولد القاضي عز الإسلام محمد بن الحسن بن أحمد بن صالح الحيمي حفظه الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً طيباً.

 

 

 

 

 

 

 

وهذه رسالة فائقة من إنشاء الإمام الناصر لدين الله الحسن بن أمير المؤمنين عزالدين بن الحسين عليهم السلام

ومن خط الإمام داود بن الهادي بن أحمد بن المهدي بن الإمام عزالدين عليهم السلام  نقلت ما لفظه:

 هذه الرسالة المفيدة، ذات الألفاظ الفريدة،  أرسلها مولانا الناصر لدين أمير الله المؤمنين الحسن بن أمير المؤمنين الهادي إلى الحق عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن المؤيد عليهم السلام  إلى القاضي العلامة فخر الدين عبدالله بن علي بن يحيى الذويد،  جواباً عليه في كتاب صدر إلى الإمام وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه،  أمتع الله بطول بقاء القاضي الأفضل،  العلامة الأعمل،  نقطة البيكار،  ودرة التقصار، وقرة الأبصار، وغرة ذوي المجد والفخار، وواسطة أولي الألباب والأفكار، وزين حدة () الأعيان والأبصار، وعين العيون من الشموس والأقمار، وفص خاتم العلماء الأخيار،  والمتقين الأبرار الأخيار، فخر الملة والدين،  وبركة المسلمين؛عبد الله بن يحيى الذويد،  وحباه بالسلام الأسنى،  والرحمة والحسنى،  والبركات فرادى ومثنى، وجمع يد الشمل على ما يريد ويهوى.

وبعد؛ فورد كتابه الكريم،  وخطابه الوسيم،  المزري بالدر النظيم،  الحاكي درك الثار النميم،  الهادي إلى الصراط القويم، فقلت له: أهلا وسهلاً ومرحباً بخير كتاب جاء من خير كاتب، لا جرم أنه أبهى من مفتر الحدائق،  وعقود الشذور في أعناق العواتق، يميس في برد البلاغة القشيب، وتتبجس أنهاره عن كل معنى عجيب، فلله در موشيه ومنشيه وناظم عقود البلاغة فيه:

كتـابٌ فـي سـرائـره سرور

 

منـاجيه مـن الأحـزان ناجـي

كـراح فـي زجـاج أو كروح

 

سـرت فـي جسم معتدل المزاج

 ولا تزال تسكر كتب المقام،  لما تنطوي عليه من البلاغة في الكلام، لا جرم أنه من فرسان الحوار، ومن ليس له في كماله وعلمه وحسن حاله مبار، وفي براعته يدهش الناظر فيه ويحتار، وربك يخلق ما يشاء ويختار، وما أشار إليه ونبَّه عليه من حسن الزجر لأهل الإساءة،  وعدم الإغضاء،  وطي كشح الالتفات إليهم بعين الصبر والرضا،  والأخذ بالثار من الأشقياء وتفضيل الأولياء عليهم والأصفياء، والمجازاة لأولئك على ما سبق منهم من البغي والعدوان، والتدثر بشعار البغضاء والشنئان،  وأن لا يساوي بينهم وبين الإخوان،  في الإجمال والتجميل ورفع المكان .... إلى آخر ما ذكره واحتج به لهذا الشأن، وكأنه أيده الله تعالى- ينظر إلى ما ورد في القرآن من نظائر {الشَّهْرُ الْحرامُ بِالشَّهْرِ الحرام والْحُرُماتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى علَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَليْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، وقوله تعالى:{ وجزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى:40]، وقوله: {ولْيَجِدُوا فيكم غِلْظةً[البقرة: 123]، وقوله تعالى:{لا يُحِبُ اللهُ الْجَهرَ بِالسُّوءِ مِنَ القولِ إلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وقوله تعالى: {اُذِنَ لِلذين يُقَاتَلُونَ بِأنَّهُمْ ظُلِمُوا وإنَّ اللهَ على نَصْرِهِمْ لَقَدِيْرٌ} [الحج:39]، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِي وعَدُوَّكُمْ أولْيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وقد كفَرُوا بما جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]، الآيات، وقوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ المؤمِنُونَ الكافرينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُوْنِ الْمُؤْمِنِيْنَ} [آل عمران: 28] إلى غير ذلك من الآيات، ونلمح إلى ما صدر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في حق خصم الزبير لما رآه من استيفاء حق الزبير والحكم به لما أغضبه بافترائه عليه، وما كان من قبل النظر،  لما ظفر به حتى أنشدته أخته:

مـا كـان ضــرك لو مننت وربـما

 

منـن الفـتى وهـو المغيظ الـمحنق

 وغير ذلك من الآثار المصححة عن نبيئنا المختار صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وتلك مآخذ قوية، وطرق يقينية أنوارها ساطعة، وأنهارها نابعة، وثمارها يانعة، وشموسها وأقمارها طالعة، ولهذا قال المتنبي:

إذا قـال حـلم قال للحلم موضـع

 

وحـلم الفتـى في غـير موضعه جهل

 وللنابغة:ـ

ولا خـير فـي حـلم إذا لم يكن له

 

بـوادر تـحمي صـفـوه أنْ تكدرا

ولا خيـر فـي جـهل إذا لم يكن له

 

حـليم إذا مـا أورد الأمـر أصـدرا

وقوله:

ولـيس وفـي العـهد مثـل مضيعه

 

ولـيس خـلي يـستـوي وعـميـد

 وقوله:

أبا حسن ما أقـبح الـجهل بالفـتى

 

 

ولَلحـلم فـي بـعض الأحاييـن أقبـح

إذا كـان حـلم الـمرء عون عدوه

 

عـليه فـإن الـجـهل أبـقـى وأروح

 ولعلي كرم الله وجهه:

لئـن كنـت محتاجاً إلى العلم إنني

 

إلـى الجهل في بعض الأحايين أحوج

ولـي فـرس للخـير بالخير ملجم

 

ولـي فـرس للشر بالشـر مسـرج

والأبيات تشير إلى اختلاف الحالات، وكذلك الآثار والآيات، وليست على ظواهرها من الإطلاقات، ولاشك أن ذلك مقصد الأخ النقاب، والذي تشير إليه من الالتفاتات،  وكأنا نجنح ونميل،  إلى المحجة الأخرى والسبيل،  الذي يسطع فيه البرهان والدليل، ولا نكاد في غيرها نقيل،  ولا نشرب إلا من سلاف ما فيها من سلسبيل، وقد ارتكز في الذهن ما صار عليها كالكفيل من آي القرآن العظيم الجليل، ولله در التنـزيل،  فإنه الشفاء لكل عليل، والبرء من عوارض كل غليل، فنحن نلمح ونرمق إلى هذا لما ورد فيه وننظر إليه كل بكرة وأصيل من نحو قوله تعالى: {والكاظمين الغيظَ والعافين عن الناسِ واللهُ يُحبُ الْمُحْسنين} [آل عمران:134]، {خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف:199]، {وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيْمٌ} [الأعراف:200]، {اُدْعُ إلى سبيلِ ربِّكَ بِالْحِكْمةِ والْمَوعِظةِ الْحَسنةِ وجَادِلْهُم بِالتي هيَ أحْسَن إنَّ ربَّك هو أعْلمُ بِمَنْ ضَلَّ عن سبيلِهِ وهُو أعْلَمُ بِالْمُهْتدين،  وإنْ عَاقَبْتُم فعَاقِبُوا بِمثلِ ما عُوقِبْتُم بهِ ولَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِيْنَ،  واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ باللهِ ولا تَحْزنْ عليهم ولاتَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ،  إنَّ الله مع الذين اتَّقَوا والذين هم مُحْسِنون[النحل:125-138]، {وإذا سَمِعوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عنهُ وقالُوا لنا أعمَالُنا ولكُم أعْمَالُكُمْ سلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِيْنَ} [القصص:55]، {ولا تَسْتوي الْحَسنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هي أحْسن فإذا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَميْمٌ ومَا يُلَقَّاها إلاَّ الَّذينَ صَبَرُوا ومَا يُلَقَّاها إلاَّ ذُوْ حَظٍ عَظِيْمٍ} [فصلت:34، 35]، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]، {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان:63].

ولسنا هنا نميل للإحصاء،  وإلا فإن نظائر ذلك أكثر مما لا ينحصر ولا يحصى، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أعطى عُيينة والأقرع والعباس بن مرداس () كل واحد مائة من الإبل،  وغيرهم أحب إليه،  وحقهم أوجب لديه، لما في ذلك من الجمالة، وحسن القالة والتألف للإستمالة، وأقعد على مخدته المشرك،  والوصي والصديق والفاروق كل منهم كان أحق،  ولكن جد به بذلك لئلا يهلك، ولم يشتهر تفضيل من تقدم في الإسلام على من تأخر حتى ارتبك في الآثام ()،  وتمادى () في الغي والاعتداء والإجرام، ومن تتبع سير الأنبياء والأئمة الأعلام لم يجد منهم مكافأة ولا مجازاة لمن أساء إليهم من الأنام، وإن صدر شيء فعلى سبيل الندرة لغرض من الأغراض الوسام، والله سبحانه يفضل المؤمنين على الكافرين في الأرزاق، وهو الحليم الحكيم، المهيمن العليم الخلاق بل قال سبحانه في محكم التنزيل: {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}[الزخرف:33] الآيات، وأوجب على رسوله التسوية بين المؤمنين والمنافقين في قسم الغنائم ونحوها غالباً إلى أن مات، وكان يفضل ضعيف الإسلام -ليحسن إسلامه- من هذه الحطامات، وفي ذلك إعانة للشقي،  حتى ينخرط في سلك الحرب التقي،  فيكون كالألطاف الواجبات،  ويجب الجمع بين الآيات السابقات وهذه اللاحقات بالاعتبار للجميع بحسب اختلاف الحالات الموجبات، ولهذه الفوائد والفرائد لواحق متسعة وتتمات رائقات لا تعزب عن أهل الأنظار وأولي النهى والأبصار والاعتبارات:

إلـق العـدو بوجه لا قـطوب به

 

يـكاد يقطر مـن مـاء البـشاشات

فـأحـزم الناس من يـلقى أعاديه

 

فـي جسم حقـد وثـوب من مؤدات

 

إقبـل معـاذيـر من يأتيك معتذراً

 

عندك فيـمــا قـال أو فـجـرا

فقـد أطـاعـك من أرضاك ظاهره

 

وقـد أجـلك مـن يـعصيك مستتراً

غيره:

قـل ما بدا لك من زورٍ ومن كب

 

حـلمي أصـم وأذنـي غـيـر صـما

غيره:

ألـبس عدوك في رفق وفي دعـة

 

لبـاس ذي خـبرة للـدهـر لبـاس

ولا تـغرنـك أحـقاد مـزمَّـلةٌ

 

قـد يـضرب الـدبر الرامي بأحلاس

 

وكفى ما في الموادعة،  وعدم الممانعة والمنازعة،  من تمزيق ثوب الأحقاد، وانتفاء الغِّل الذي يكثر الابتهال في نزعة إلى الملك الجواد، {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] صدق الله الملك العظيم الكريم، ومن الدعة والراحة،  والإراحة والاستراحة،  والطرد للهموم والغموم والإزاحة:

لمـا غـفرت ولـم أحـقد على أحد

 

أرحـت نـفسي من هـم العـداوات

إنـي أحـيي عـدوي عنـد رؤيـته

 

لأدفـع الشـر عـنـي بـالتـحيات

وأظـهر البـشر لـلإنـسان أبـغضه

 

كـأنـه قـد مـلأ قـلبـي مسرات

وعلى الجملة فكل مجتهد مصيب،  وحائز من الأجر لأوفر نصيب،  ورام بعد توفية النظر حقه بسهم مصيب، ولكل ناظر نظره،  والله الموفق فيما نأتي ونذر، في كل،  وِردٍ وفي كل [ما] صَدَر.

وصلى الله علي سيدنا البشر،  وعلى آله السادة القادة الغرر،  والدعاء من الأخ مسئول،  وهو له في كل وقت مبذول والسلام.

وله عليه السلام  رسائل وجوابات رد بها على الإمام المنصور بالله محمد بن علي الوشلي عليه السلام ، لم أستحسن إثباتها لأغراض صالحة.

وبهذا ينتهي ما أردنا إثباته من رسائل الأئمة الثلاثة البدور، ونتبع ذلك بكتاب الفتاوى، أسأل الله الكريم العظيم أن يوفقنا لإتمام ذلك على الوجه المطلوب،  الموافق لرضاء الله تعالى،  إنَّه الجواد الكريم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله

 

بسم الله الرحمن الرحيم

[القسم الأول من السؤالات والجوابات التي جمعها السيد/ محمد بن أحمد بن عزالدين عليهم السلام وهو القسم الثالث من المجلد الأول]

جملة من الفتاوي المفيدة

على المسائل الفادحة الفريدة

الواردة على مولانا أمير المؤمنين الهادي إلى الحق المبين

عز الدين بن الحسن، بن أمير المؤمنين، وولده الإمام النّاصر لدين الله أمير المؤمنين الحسن بن أمير المؤمنين

 وفيه سؤالات يسيرة وجوابها للإمام الهادي لدين الله علي بن المؤيد

صلوات الله عليهم أجمعين

جمعه

 السيد الأفضل العلامة

 عزالدين بن محمد بن أمير المؤمنين أحمد بن عزالدين بن أمير المؤمنين الحسن بن أمير المؤمنين أعاد الله من بركاتهم أجمعين

[مقدمة جامع الكتاب]

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين،  وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وسلم

يقول العبد الذليل، الحقير،  المعترف بالعمد والخطأ،  والزَّلل والتقصير، الراجي عفو الملك القدير، ومسامحته،  إنَّه جواد كريمٌ برٌ رحمانٌ رحيم؛ محمد بن أمير المؤمنين أحمد بن عز الدين بن أمير المؤمنين الحسن، بن أمير المؤمنين عز الدين، بن الحسن، بن أمير المؤمنين علي بن المؤيد، بن جبريل، لطف الله به في الدارين، وختم له برضاه،  ووفقه لما يُزلِف يوم يلقاه،  بحقّ القرآن المبين.

الحمد لله الذي أسطع أنوار الهداية في أقطار الآل الكرام،  وأطلع شموس المعالم العلمية في سموات العترة الطاهرين الأعلام، وجعلهم سفينة نجاة، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق في هويّات الآثام، وأحيى بمساعيهم الحميدة مَوات الشرائع النبوية والأحكام، وحفظ بعلومهم النيّرة الزاهرة معالم التكاليف العظام، وصلواته الزكية،  وبركاته الصيّبة() الهنيّة،  على النبي الأمّي،  الطاهر الزكي الأمين، وعلى آله العترة البررة،  الطيبين الماجدين،  مصابيح الهدى،  قرناء الذّكر الحكيم المبين، وبعد؛

فإني لما اطّلعتُ على سؤالاتٍ واردة على الآباء الأئمة الهادين،  المتشقّقة أزاهير رياض علومهم بالبراهين،  الساطعة على سيد المرسلين، القاطعة شحَاك القالين والملحدين،  المتفجرة أنهار معارفهم وعلومهم بالنّقاخ العذب المعين، مولانا ووالدنا أمير المؤمنين وسيد المسلمين الهادي إلى الحق المبين؛ عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين، وولده الإمام النّاصر لدين رب العالمين،  صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليهم أجمعين، ووقفتُ على بعضِ جواباتهم الفائقة الرائقة، التي تشفي صدور ذوي الأفكار،  وتقرُّ من المسترشدين القلوب والأبصار، وتعم هدايتها البادين من الأنام والحضّار، وكانت مفرّقة كما وردت وليست على نسق أبواب الفقه، استَخَرْتُ الله سبحانه وتعالى، ورأيت جمعها،  وتدوينها،  وحفظ ثمينها، ورتبتها على ترتيب أبواب الفروع، ليسهل على الناظر فيها ارتشاف معينها الينبوع، وجعلت علامة ما ورد على مولانا الإمام عز الدين (حرف العين)، عقيب لفظ السؤال، ليُعرف أنه وردَ عليه من أوّل الأمر، وجعلته هكذا (ع)، وما ورد على ولده مولانا الإمام النّاصر لدين الله (حرف الحاء) كذلك، وجعلته هكذا (ح)، وأبليت الجهد في تتبع ما وجدت لهم على حسب الطاقة والإمكان، مع عدم إحاطتي بجميع ما صدر عنهما، فمَن وجد غير ذلك فليرسم كل شيء في موضعه موفقا إن شاء الله.

ثمَّ إني وجدت جوابات لمولانا ووالدنا أمير المؤمنين وسيد المسلمين علي بن المؤيد بن جبريل عليه السلام ، فوضعتها عقيب أن قد جُلِّدَ هذا، وعلامة ما نسب إليه ما لفظه (علي) عقيب السؤال كذلك، فهو العذر في تأخير ذكره، يُعلم ذلك، والطلب من الناظر فيه الدعاء المفيد، لاسيما بالتوفيق لما يحبه الله ويرضاه في الدارين، وغفران الذنوب، ونسأله بحقّه عليه وبحق آبائنا الطاهرين لديه أن يغفر لنا ويرحمنا، ويعافينا ويعفو عنا، وأن يحملنا على عفوه،  ولا يحملنا على عدله، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم {ربَّنا تَقَبَّلْ منَّا إنَّكَ أنتَ السميعُ العليمُ واغْفرْ لَنا إنَّك أنتَ الغَفورُ الرَّحِيمُ } [البقرة:127]، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال مولانا أمير المؤمنين الحسن بن عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمني  عليه السلام :


بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد: حمداً لله ذي الجلال،  على ما منح وفتح من أيادٍ ونوال، وأجزلَ من الآلاء التي لا تزال، وخصّنا به من العلوم والسموّ المُتوَالْ، ومن إرشاد الضّال،  وهداية الجُهّال،  وحماية دينه من أن يُضام،  أو يُهان،  أو يُغال، وإحياء ما سنّ الله وشرع، فتراه في غاية الاعتدال، وإماتة ما ظهر من البدع، فالمبتدع يهان ولا يقال، ونشر العلوم،  وطاعة الحيّ القيوم في كل حال، وحمل الباهض،  وكشف الغامض الذي ضاق فيه المـجال، وحُسْن المحاورة عند المذاكرة والمناظرة والجدال، وتقويم المائل،  وشفاء علة السائل فيما أورد من مسائل وسؤال، وتمزيق إهاب كل شك عرض له ولبسٍ وإشكال، وبيان كل مجمل،  وفتح كل مقفل قد استحكمت فيه الأقفال،  بإعانة الله وتوفيقه وهدايته ولطفه، {ومن يضلل الله فماله من وال}، والصلاة والسلام على سيدنا محمد على مرور الأيام والليالِ، وعلى آله الطيبين الطاهرين الذين هم خيرُ آل، [وبعد]

 فإنه انتهى إلينا وورد علينا من بعض المحقّقين،  النحارير المدقّقين،  أبحاثٌ شريفة لطيفة،  طريفة عالية منيفة، وأسئلة كريمة رائقة وسيمة،  فائقة فخِيْمَة، أبهى من مُفَتَرَّ() الحدائق، وعقود الشذور في أعناق العواتق،  تميس في بُرْدِ البلاغة القشيب،  وتبجس أنهارها عن كل أمرٍ عجيب يتعلق بأهداب أنواع أجناس علوم الاجتهاد، التي يدور عليها لولب الإصدار في الأحكام والإيراد، وهي السُّلم إلى استثمارها منها والمعراج والوسيلة إلى الاستنباط لها والإستخراج، وكذا تتعلق بعلوم أُخَرْ خارجة عن ذلك المنهاج،  فأسمنّا الطّرف في رياض زهورها،  وكرعنا في حياض نهورها فوجدناها درةً ثمينة في المسائل، فائقة في القيمة على ما أورده كل سائل، تتبختر من النّفاسة كتبختر العروس في تلك الغلائل،  ويزخر عبابها بلآلئ تهدي السرور وتنفي البلابل،  وتقضي لمنشئها،  ومؤشئها،  وناظم عقود لآلئيها، ومودع تلك المعاني فيها بأنه نقطة بيكارٍ في العلماء الأخيار،  ودرّة تقصار() في الشموس والأقمار، وقرّت أبصار في عيون أهل الأعصار، وعزة() ذي فخار في البادين والحضار، لا جرم أنه ممن يزري بابن داب() في الآداب، ويبدي من الوطاب،  من معين الخطاب،  ما يستجاد ويستطاب، وهانحن نعقل إن شاء الله ما شرد عليه من معانيها العجاب، ونذلل ما توعر وتعسر من مبانيها الصعاب، من غير إيجاز مُخِلّ ولا إطنابٍ ممل ولا إسهابٍ، ونمزق من الإجمال والإشكال والإقفال كل إهاب، ونبدّد أجزاء كل جلباب عليها، بعون الله وحجاب، ونبين كل سؤال بلفظه، ونلصقه ونردفه بالجواب، ونأتي به إن شاء الله على صفة الرّفو() المستجاد المستطاب للتقريب والبعد عن التشعيب الذي يكره ويعاب، ومن الله نستمد التوفيق لاعتماد التحقيق النافي للشك والارتياب.

قال السائل() : الحمد لله الذي رفع منار العلم المنير،  وقمع أنصار الجهل المُبير، وصلاته على رسوله البشير النذير،  وعلى أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرّجس وخصّهم بالتطهير، وبـــعد؛

فهذه مسائل يسيرة،  تشهد لِـمُورِدِهَا بخَور الطبيعة وضعف البصيرة، غير أنها مفرغة في قالب الإيجاز،  عاريةً عن التعمية والإلغاز، وبأقل منها وأجلى يحصل الغرض،  لمن لم يكن في قلبه مرض،  على أني كنت قد ضربت عن إيرادها صفحاً، وطويت دونه كشحاً، مخافةً للتثقيل والإبرام،  ومحبة للتخفيف عن الإمام،  مع خفيات اسرار، ومكنونات أخبار،  يحسن سترها،  ويستهجن ذكرها، من ذلك أن الإنسان إن ذكر سؤالاً جلياً، قيل: هذا مما لاينبغي أن يسأل عنه، ولايشتغل به وهو كقول القائل (السماء فوقنا والارض تحتنا). ونحو ذلك مما قاله عليه السلام  في كثير من المواضع، وإن أورد سؤالاً فيه نوع خفاء. وإن قلّ، قيل هذا من التعنت المحرم، والأغاليط المنهيّ عنها ونحو ذلك، كما أشار إليه عليه السلام  في بحث اللغة، ثمَّ إذا أجبت عن الأسئلة وقع في ذلك تسامح،  وإن ذكره الإنسان حُقِدَ عليه، وإن تغافل عنه استُخِفّ به، إلى غير ذلك، والله المستعان، وصبرٌ جميل، فعارض ذلك مرجحات لإيرادها صالحة، ومصالح في ذلك راجحة، من جملة تلك المصالح المرجحات والأغراض التي لامندوحَةَ عنها؛ معرفة الاجتهاد،  الذي تنبني عليه صحة الإمامة التي هي من أهم التكاليف الشرعية، والله المسؤل أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، لتكون أعمالنا خالصة لوجهه الكريم،  بمنِّه وطَوله،  وحوله وقوّتِه،  آمين.

الـسؤال من الفقيه العلاّمة بدر الدنيا والدين درة تاج العلماء الراشدين، والأجوبة من الإمام،  علم الأئمة الأعلام،  المقتعد من الفضل والعلم على السنام، النّاصر لدين الملك العلام؛ الحسن بن أمير المؤمنين عزالدين بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن المؤيد بن جبريل عليهم أفضل الصلاة والسلام، وقد ألحق الفقيه عقيب اطلاعه على الجواب ما نذكر في الحاشية() مما استحسنه، يعلم ذلك، وذلك مفرق فيما يأتي إن شاء الله تعالى ..

 

 

مـسائل تتعلق بالقرآن العظيم

سؤال(ح): على قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يكفرُ بالرحمَن لبُيوتِهِم سُقُفاً من فِضَّة} [الزخرف:33] .. إلى آخر الآية، ظاهر الآية ودلالتها أنّ الله تعالى لوجعل ذلك لمن يكفرُ، لكان مفسدة قبيحا.

قال السائل: كيف يصح هذا، وقد علمنا وبلغَنَا أنّ كثيراً من الكُفَّار والأعاجم وغيرهم قد مكّنَهم الله من أن يجعلوا لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون هذا معنى كلام السائل ومضمونه؟

الجواب والله الموفق للصواب: أن نقول أن ظاهر الآية ودلالتها ما ذكره السائل من أنّ ذلك يكون مفسدة قبيحاً، وقول السائل: (أن الله قد مكَّنَ كثيراً من كفارِ الأعاجم وغيرهم...) لا ينافي ظاهر الآية ولا يناقضه بوجوه ثلاثة:

أحدها: أنَّ ظاهر الآية يقضي بأنَّ المفسدة هي أن يفعل ويخلق لهم سقفاً ومعارج وسرراً، ويجعلها ابتداءً على هذه الصفة المذكورة خلقاً مخترعاً، من غير أن يكون لهم فيها عمل وذلك لم يكن لأحد من الكفار لا لعجم ولا لعرب.

الوجه الثاني: أنا إن سلّمنا أنّ المراد بالآية أن التَّمكُن من ذلك مفسدة، وإنه لم يخلقها ابتداءً فإن ظاهر الآية وصريحها أنه يكون مفسدة إذا فعل ذلك لجميع من يكفر لأن (مَنْ) مِنْ ألفاظ العموم وقد علمنا أن الله سبحانه لم يمكِّنَ جميع مَنْ كفر مِن ذلك، والمعلوم أن في الكفار من أتربه الفقر، بل أكثرهم سيماه الفقر، وإن كان القليل منهم قد تمكَّن على ماقيل وأشار اليه السائل.

 الوجه الثالث: أنا نقول للسائل بِمَ علمت أن في كفار الأعاجم وغيرهم من قد تمكن من جعله لبيوته سقفاً من فضة ومعارج وسرراً وزخرفاً، هل بضرورة أو دلالة؟ وأيّ ذلك قال لم يجد إلى تصحيحه سبيلاً، وليس ذلك إلاّ بمجرد أخبار وحكايات وروايات آحادية تزيد وتنقص، ولو صح أن في ملوك الأعاجم وغيرهم من هو متمكن من ذلك، فليس بجعل الله له ذلك وإنما هو باكتسابه للحرامات وجمعه للحُطامات والخيانات وليس بجعلِ الله له، لأن الله لا يجعل له الحرام وإنما هي باجتراحه واكتسابه.

سؤال(ح): على قول الله تعالى: {ومَن يتّقِ الله يجعَلْ لهُ مخرجاً ويرزُقْهُ من حيثُ لايحتسب} [الطلاق:2] كيف يصح هذا وقد علمنا أن كثيراً من المتقين الأبرار مُبتَلُون بالفقر معروفون به، ومنهم من تصيبه المصايب لايخرج منها، وتعداد ذلك يطول، فما تأويل الآية؟ هذا معنى سؤال السائل.

قال عليه السلام : الجواب: إن الله هو الصادق في خبره الوافي بوعده، والذي يعرض لكثير من المتقين من الأوصاب والحاجة لا يقدح في الآية لوجوه:

أحدها: أن المراد بالآية أن من اتقى الله سبحانه يجعل له مخرجاً من ضرر العقاب ويرزقه من حيث لا يحتسب من جزيل الثواب، وذلك في الآخرة وليس في الدنيا لأن ذلك جزاءً على التقوى.

الثاني: أن ذلك يتقدر أن يكون في الدنيا، فإنَّ المعلوم أن كثيراً من المتقين جعل الله لهم مخرجاً من مصائب تُلم بهم في الدنيا، وأن كثيراً ممن رزقه الله سبحانه بغير تأكد منه ولا كدٍ يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، وتعداد ذلك يطول، وليس في الآية ما يدل على أن يجعل لهم مخرجاً من كل أمر ولا ما يدل على أنه يرزقهم رزقاً واسعاً غامراً سابغاً، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] ومن بُلي بالفقر والحاجة من المتقين ممن أشار اليه السائل فربما أنه لا يصلحه إلاّ الفقر فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم  (إنّ مِنْ عبادِ اللهِ مَنْ لا يصلحه إلاّ الفقر)، فيكون ذلك مستثنى من الآية لوجوب المصلحة على الله تعالى فيكون تخصيصاً للآية بالدليل.

الوجه الثالث: نَصَّ الآية على سببها وقد ذكره بعض المفسرين وسببها معروف.

سؤال(ح): على قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] ؟

 قال السائل: جعل الزمخشري() (إنْ) نافية، ولم يتعرض للكلام في نصب تزول بما كان.

قال عليه السلام :

الجواب: أن الزمخشري صدّر كلامه في الكشاف بأنَّ (إنْ) غير نافية وجعلُه لها نافية هوحكاية عن غيره.

إذا تقرر هذا، فالذي حصل من كلام المفسرين أنهم اختلفوا في (إنْ)، منهم من جعلها نافية ومنهم من جعلها مخفّفة من الثقيلة، واختلف القرّاء في {لتزول} فمنهم من فتح اللام الأولى ورفع الثانية يريد اللام الأخيرة من {لتزول} التي هي من أصل الفعل، فهذه تنزل على انّ (إن) مخففة من الثقيلة، فتكون اللام الأولى فارقة والفعل مرفوع على بابه، ومنهم من قرأ بكسر اللام الأولى، وفتح الثانية، وهذه تُنـزل على أنّ (إن) نافية، فتكون اللام لام جحود ناصبة للفعل المضارع ومعنى قوله تعالى {وإنْ كان مكرُهُم لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبال} مختلف على حسب الخلاف في (إن) فَمَنْ جعلها نافية، فالمعنى أنَّ مَكر الكفار لا يزيل الجبال ولا يزيل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو ثابت كثبوت الجبال وأثبت، ومن جعلها مُخففة من الثقيلة، فالمعنى أنَّ مكر الكفار وإن كان يزيل الجبال في التمثيل، لشدته وتفاقُمِه، فهو لا يُزيل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو أثبت من الجبال وأرسخ وأقوى.

سؤال(ح(:{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10]، {وإنْ كادَ لِيُضِلنا} [الفرقان:42] قال السائل: الزمخشري جعل الأولى نافية وفي الحواشي أنها شرطية، وإذا كانت شرطية فأين جوابها؟

قال عليه السلام : الجواب: أنّا نبين كلام الزمخشري أولاً، لأنه مقصود السائل، ثمَّ نبين ما ذكر المفسرون في {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي} [القصص:10]، {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا } [ الفرقان:42] أمّا بيان كلام الزمخشري فحيث قال الأولى نافية فمراده هي مثل (إن) في قوله {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا} [الأنبياء: 36]، ونعم أنها نافية لورود الاستثناء بعدها. ومراده بقوله: والثانية مخففة من الثقيلة، هي {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} واللام الفارقة هي لام {لَيُضِلُّنَا}وقول صاحب الحواشي أن (إن) شرطية، فهو فَهمَ ذلك من كلام الزمخشري، حيث قال: {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} كالجواب على {كاد ليضلنا}.

إذا ثبت هذا بيّنا كلام مفسري إعراب القرآن، وهو أنهم قالوا في {إن كادَ ليظلنا} وفي {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10] كلاهما مخففتان من الثقيلة وأن اللامين في (ليضلنا، وفي لتبدي به) هما الفارقتان، وكلاهما دليل على شدة حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم  على دعاء الكفار وكثرة وقوع الدعاء منه لهم وكثرة تلطفه لهم والصبر على مكابدتهم حتى قاربوا إجابته والميل إليه، وعلى كثرة قلق أمّ موسى عليه السلام  وهرجها وفزعها عليه حتى كادت تظهر أمره.

مسائل تتعلق بالقرآن الكريم

نفع الله به آمين آمين

سؤال(ح): ما اختيار مولانا في الحروف المقطعة في أوائل بعض السور؟

الجواب: اعلم أن المفسرين اختلفوا في معاني فواتح السور التي هي من حروف المعجم مركبة مثل: (آلم، آ لمص، آ لمر) ومفرده مثل (ص، ن)، وفيها أقوالٌ كثيرة واحتجاجات شهيرة، ولله درّ السيد العلامة جمال الدين صاحب التجريد()، فلقد أوضح ورجح، وأتى من ذلك في تجريده بما ليس عليه مزيد، وفي الجوهر الشفاف() نكتٌ من ذلك فريدة لطاف، وكلام بليغ سمين شاف، وفي كل منهما إحاطة بجميع تلك الأطراف، وما شيء من ذلك بعازب عن السائل ولا خاف، وهو أشهر من نارٍ على علم، ولا حاجة إلى أن يُذكر هنا ويُرقم، فهو متداول في المجالس ومتناول بين أهل المدارس، ولا يتعلق بذلك عمل يوجب التصحيح والاختيار لبعضها على بعض والترجيح.

سؤال(ح): وما وجه الحكمة في إختصاص كل سورة منها بفاتحتها؟

الجواب: هذا هو معنى سؤال أورده جار الله (رحمه الله) في كشّافه، وقد أجاب عنه بجواب يشبه الدّر في أصدافه، وهو متداول بين الناس، فليس فيه شك ولا التباس، وذكر ما هو مشهور كالسماء فوقنا والأرض تحتنا خارج عن دائرة القياس.

سؤال(ح): ماتقول في عدد آي القرآن؟ هل هو توقيفي؟ وكيف وقع الخلاف بين الكوفيين والبصريين في مواضع كثيرة، وبنى كل فريق على قاعدة مشهورة؟ أم ذلك اجتهادي؟ فكيف عدّ بعض الفواتح آية دون بعض، نحو {طسم}وكذا غير الفواتح كـ{مدهامتان}؟

الجواب: عدَدُ الآي توقيفي بلا شك ولا شبهة، وليس للإجتهاد في ذلك مجال وذلك واضح جلي، لايشتبه ()في حال، ولا يضر إختلاف البصري والكوفي، فما أكثر الخلاف في الأمور التوقيفية كالأذان وأذكار الصلاة، وكثير من الواجبات، وأنواع المعاملات، وذلك لإختلاف الروايات، وغير ذلك من الطرق الواضحات، ومثل ذلك لايعزب عن اليقظ النبيه ولايفتقر إلى كثرة بيان وتنبيه، ولو كان ذلك إجتهادياً، لم يكن لقول السائل: فكيف عدّ بعض الفواتح آية ....إلخ، وجه، إذ كلٌ متعَبّدٌ بإجتهاده ولا إقتراح عليه في إصداره حينئذ، وإيراده، وكلٌ أبصر من غيره بمقيله ومَعَاده، وفي الكشاف من النكت اللطاف كفاية والله الموفق في البداية والنهاية.

سؤال(ح): كيف ذهب الأكثر إلى تواتر القراءات السّبع مع أنَّ المعلوم أنّ الحافظين للقرآن عند وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  نفرٌ يسيرٌ، وقصة إجتماع الصحابة واهتماهم بجمعه من الأكتاف والألواح والصحائف والعسب وصدور الرجال، وطلبهم البينة ممن روى آية لا يحفظونها، وقلة مشايخ السبعة وتلامذتهم، وغير ذلك من الأمور التي تنافي التواتر أمر ظاهر؟

الجواب: هذا السؤال مذكور في أسفار أصول الفقه، على الوفاء والكمال وما يفتقر إليه تحرير سؤال، وجواب، واستدلال، وكلامنا واختيارنا يعرف من موضعه ثَمَّ في شرحنا على المعيار، فلا فائدة تعود منها عائدة في الإعادة والتكرار، وذلك معروف متداول متناقل في أيدي العلماء الأخيار فقولك: إن الحافظين للقرآن يومئذٍ نفر يسير ...الخ غير مسلّم، بل هم في الكثرة والوفرة أضعاف أضعاف من يحتاج إليه في التواتر، وذلك أشهر من نار على علم، ولايمتري فيه النّدْس الأعلم، واهتمامهم بجمعه على ما ذكره السائل من البراهين الساطعة على الوصول إلى الغاية فيما يفيده العلم الضروري بحِقيّة ما أجمعوا عليه، وما استمرّ ذلك واستقر فيما مضى وفيما غبر، ولم يَحُم حوله تحويل ولا تغيير، ولا تبديل،  إلاّ بحصول العلم الضروري فيما مضى، ولم يَحُمْ حوله القرن الأول ثمَّ الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم إلى الآن، إذاً لو وقع الإختلاف وعدم الائتلاف كما في كثير من الواجبات، سيما الأذان الذي كان يعلن به في اليوم والليلة خمس مرات في وقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  غاية الإعلان، فاختلف فيه أولئك الأعيان واستمر في كل زمان، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41، 42]، وللإمام المهدي أحمد بن يحيى()  عليه السلام  في هذا المقام كلام يشفي الأفئدة من الأوام،  وينفي عنها عوارض الغرام،  ويُمزِّق إهاب الشكوك والأوهام، ومعناه ومضمونه،  ومقتضاه ومكنونه: أن الشروط المعتبرة في التواتر المذكورة في تلك المواضع إنما يفتقر إليها ويعوَّل عليها في غير القرآن، فأما ما تحلى بحليته من تقرره في الأذهان واندماجه في الآذان، وكونه لا يدخله تلبيس ولا تشكيك عند قاصٍ ولا دان، ولا تندفع صحته عن الأفئدة، لا في سرٍ ولا إعلان، فإنه ثبت له ذلك الحكم ويحل في ذلك المكان ولا يفتقر فيه إلى ترتيب الشرائط واستكمال العدد المعتبر في التواتر والأركان،  وفي الكتب البسايط زيادة فوائد حسان، وما يكون برهان على ما ذكرناه، أي برهان، ومثل ذلك لا يخفى على النّدس اليقظان.

قوله:وقلة مشايخ السبعة وتلامذتهم غير مسلّم، فالذي لم يعلمه الإنسان أكثر مما علم، وقد طرق سمعه ما قاله نافع في قرائته (محياي) سمعتها عن سبعين بدرياً ولا أبالي بنحوتكم، ثمَّ أن السائل ربما توهم أن عدد التواتر خلق كثيرٌ وجمٌ غفير، و[في] ذلك اختلاف كثير لا يعزب على البصير الخبير، وقد اكتفى بعضهم بالخمسة وبعضهم بدون ذلك،  وأين استداد المذاهب والمسالك؟

سؤال(ح): على ما يُحمَل قول العلماء في بعض القراءات الشاذة ، هذه قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  مع أن جميع القراءات مأخوذة عنه صلى الله عليه وآله وسلم  ؟

الجواب: يحمل ذلك على تحقق نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كغيرهامن القراءات المتواترة، وإنما نسبت إليه لمَّا كانت لشذوذها معرضة لنفيها عنه، فأريد بذلك تقرير قراءتها حتى تعد من جملة القراءات، وذلك محمل بَـيِّن حسن والله أعلم.

سؤال(ح): وما فائدة خبر كان في قوله تعالى {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النساء:1760] ؟

الجواب: لعل وجه السؤال: أن من شرط الخبر أن يفيد ما لا يفيده المبتدأ، وهنا قد أفاد عين ما أفاده المبتدأ، فلا يختص بزيادة إفادة، ويكون كالتكرير والإعادة، وقد أورد ذلك صاحب المُجيد في إعراب القرآن المَجِيد() وحكى جواب الأخفش بأنَّ الإِخبار (بإثنتين) يفيد مجرد الإثنينية دون التقييد بالكبير والصغير وغيرهما من الأوصاف وهذا غير ما أفاده المبتدأ، ومعناه: أن استحقاق الأختين للثلثين لمجرد الاثنينية، واعترضه أبو حيان()، وحل اعتراضه صاحب المجيد ثَمَّ، وفى الكشاف في هذا المعنى كلام جيد مفيد والله يمدنا بالتوفيق السديد.

سؤال(ح): وكيف عُمِلَ بقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] ولم يعمل بقوله: {فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] مع أن الحاظر أولى من المبيح على قول أهل المذهب الصحيح، فإن ادعي في ذلك نسخ فأين دليله؟

الجواب: أما المزني() فقال: أنه لا يجوز أخذ شيء منها من المال في عموم الأحوال، لقوله تعالى {فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] وجعل هذه ناسخة لجواز الأخذ، وأما ابن زيد فعكس وحكم على قوله: {لا تأخذوا منه شيئاً} بأنه منسوخ بقوله، {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ولا يثبت في أيهما النسخ إلاّ وقد قام دليله عنده والأحسن التلفيق والجمع بين الآيات والتوفيق فإنه مهما أمكن يكون هو الواجب والأحسن، ولا يحتج () إلى التعارض والتقابل والتنافي والتعادل إلاّ إذا تعذر الجمع وليس بمتعذر إذ يحمل جواز الأخذ للفدية بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا } [النساء:4] حيث كان النشوز من قبلها، وحرمة الأخذ حيث كان النشوز من جهته وهو يريد الإستبدال لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] وعلى الجملة ففي ذلك خمسة مذاهب مذكورة في (الثمرات)() وغيرها، فمن أحب الإحاطة فليطالع ثمَّة، وقوله: إن الحاظر أولى من المبيح إنما كان يلزم مع عدم الجمع وأما مع الجمع فلا ذكر لذلك.

سؤال(ح): ما الدليل على أن المراد بآية الكلالة الأولى الأخوة لأم، وبالثانية الأخوة لأبوين؟

الجواب: الكلالة عامة لمن عدى الولد والوالد من سائر الأخوة والأخوات والأعيان وأولاد العلات وغيرهم ولا يقصَر على بعضٍ دون بعض إلاّ لدليل فحكموا على الكلالة في الآية الأولى بأنها الأخوة لأم خاصة لما جعل للواحدة السدس وللإثنتين الثلث ولم يزد على الثلث شيئاً ولو كان المراد بها غيرهم لم يكن الحكم كذلك، لما ذكره في آخر السورة من أن للأختين الثلثين وللأخوة كل المال وذلك برهان ساطع ودليل قاطع.

سؤال(ح): لِمَ خُصّ الإبن بإسقاط الأخوة لأبوين والآية دالة على استواء الذكر والأنثى في ذلك، إذ الولد يعمّهما؟

الجواب: إنما خص الذَّكَر عند الأكثر لخبر ابن مسعود: ((أقضي فيه بما قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ))، ولقول علي عليه السلام ،  وتكميل الخبرين() في حواشي (البحر)، والعموم يخص بأقل من ذلك فكيف به.

سؤال(ح): ما يقال في قصة زكريا عليه السلام  فسياقها أنه خاف تغيير الموالي بعد موته، فسأل ولياً يرثه وذكر الله عز وجل أنه استجاب له، والمعلوم أن يحيى عليه السلام  هلك قبله، وقد بحثت عن هذه المسألة فوقفت على جواباتٍ غير شافية، من جملتها قول بعضهم أن استجابة دعاء الأنبياء ليس بضربة لازب وهذا مسلم، لولا قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ... } الآية [الأنبياء:89] ولقد عجبت من غفلة هذا الحبر الماهر عن هذا الأمر، مع جودة ذكائة وسعة علمه.

الجواب: قتل زكريا بعد قتل يحيى عليه السلام  وذلك منصوص عليه فيما رأيناه من كتب السير وقصص الأنبياء وقد سأل زكريا ربه ولياً يرثه ويرث من آل يعقوب، في سورة مريم، ولم يذكر الله فيها أنه استجاب له، قال في سورة الأنبياء: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء:89] ولم يذره فرداً فقد عضده بيحي، وذلك أبلغ الإستجابه، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] تأكيداً لتلك الإجابة المخصوصة، لئلا يتوهم متوهمٌ أن قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِين} طلب من زكريا لأن يرثه يحيى كما في سورة مريم فإن ذلك مما لا يراد ولا هو المراد، والاستجابة مقصورة على ماعداه في إصلاح زوجه للحمل وهبة يحيى، فيتأمل فالأمر واضح لاغبار عليه.

سؤال(ح): ما النكته في إفراد العم والخال، وجمع العمة والخالة في قوله تعالى:{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ} [الأحزاب:50]؟

الجواب: لعلَّ النكته في ذلك أن العم والخال لما كانا من الرجال الذي يُعصب بهم جميع الأمور ولهم مرتبة يمتازون بها على الإناث أشير إلى أن الواحد من الرجال كالعدد الكثير من النساء، وقصد بيان المزيّة، وأنه ليس الذكر والأنثى بالسوية، فأفرد الذكر لمثل ذلك، فهو من المعاني المطابقة المرضية مع ما يتصل بذلك من التفنن في العبارات، فهو أوقع في النفوس، ويكسب القول أبَّهةً ورواءً كما لا يخفى، ولهذا فإن الذّكر له مثل حظ الأنثيين، والرجل في الشهادة يقاوم الإثنتين، ولو اجتمع ألف امرأة في الشهادة لم يكن في قبولها إلاّ كرجل واحد فيُتَأمّل.

سؤال(ح): ما تفسير قوله تعالى {ولقد خلَقْنَا الإنسَانَ منْ سُلالَةٍ من طين ،  ثمَّ جعلناهُ نطفَةً في قرارٍ مَكِينْ} [المؤمنون:12، 13] فالمعلوم أن الذي خُلِقَ من الطين وهو() آدم عليه السلام  لم يُجْعَلْ نطفةً بعد ذلك؟

الجواب: الإنسان إن أريد به آدم فقط فهو من سلالة من طين، فأما أن يكون الضمير في جعلناه لعقبه وفرعه، إما على تقدير مضاف مثل واسأل القرية ونحوه، أوله لأن ولد الإنسان بضعة منه، فإذا كان الولد نطفة، فكان الوالد كذلك، لشدة الاتصال من قبيل التجوز، وإن أريد به الموجود عند نزول القرآن، فهو على نحو قوله: {خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}[الكهف:37] أي خلق أصلك لأن خلق أصله سبب في خلقه فكأن خلقه خلقاً له، وزال الإشكال الذي عرض للسائل فلم يجعل آدم نطفة بعد ذلك، وإنما المجعول غيره إذا حكم على غيره بأنه مخلوق من الطين لما ذكرناه آنفا، ثمَّ بأنه مجعول نطفة في قرار مكين، وأما جار الله فجعل الإنسان المراد به الجوهر والحقيقة ولا شك أن جوهر الإنسان من حيث هو إنسان كان من طين، ثمَّ من نطفة في قرار مكين، فليس آدم هو المجعول نطفة وفي بعض الأخبار ما يقضي بأنَّ كل فرد من أفراد الإنسان يخلق من تراب الحفرة التي يدفن فيها، وأنه يطرح شيء من ذلك التراب في النطفة، فيخلق كل فرد من مجموعهما، وهذا مما ذكر في التفاسير .

سؤال(ح): وما يقال في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِِ...... } إلى قوله {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ}....الآية [الأحزاب:72] ما معنى التعليل هنا وما المعَلَّلْ؟

الجواب: ذلك نظير قوله تعالى {فالتقطَهُ آلُ فِرْعَونَ ليكونَ لهُمْ عدُواً وحَزَنَاً}[القصص:8] فالتعليل فيه مجاز، واللام فيه تسمى (لام) العاقبة، أي ليكون عاقبة ذلك ما ذُكِرَ، وفيه بسطٌ وتحقيق وتقرير لهذا المعنى في تفسير الآيتين في الكشاف وغيره، في مغني اللبيب() وسواه، فلولا خشية الإملال لاستوفينا الأقوال، وما استُظهِرَ به من الحُجَجَ والاستدلال .

سؤال(ح): كيف جُعِلَ يومُ الدّين غايةً للعن إبليس، كأنه لا لعنة عليه بعد ذلك، كما يقتضي مفهوم عموم الغاية، ولقد اطلعت على جواب عن هذه المسألة غير شافٍ ولا وافٍ؟

الجواب: لعن إبليس مستمرٌ في الدنيا والآخرة، ولا غاية لذلك، وقيده بالغاية المذكورة، لما كانت تجري مجرى المثل في التكثير، لا لأن الغاية مقصودة في نفسها، على نحو {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] إذ ليس المراد به إذا استغفرت لهم فوق السبعين غفر لهم، وقوله {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:5] فليس القصد مجرى التثنية، وإنما المراد بكرَّتين التكرير بكثرة، كقوله لبَّيْكَ وسعدَيْكَ، يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض، وقولهم في المثل: (دُهْ دُرِّين سعد القين) () من ذلك أي باطلا بعد باطل وإن قصد معنى الغاية احتمل أنما بعدها مسكوت عنه وهو يعرف بثبوت اللعنة فيما بعد من غير ذلك، فقد قال الله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44] إذ أن ما بعدها مخالف لما قبلها ولايُعمَلُ بالمفهوم إلا حيث لم يعارضه ما هو أقوى منه، وقد عارضه المنطوق، فبطل إعتبار المفهوم، فلا يعمل به حينئذ، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن وغيره، وأما صاحب التجريد فذكر أنه يحتمل أن يراد أن عليه اللعنة وحدها إلى يوم الدين، فإذا كان يوم الدين إقترن باللعنة العذاب الشديد ويحتمل أن يراد بيوم الدين الأبد الدائم، كما ذكرناه نحو{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}[هود:107] وقد يذكر غير ذلك من أن المعنى أن عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم الدين إقترن له باللعنة ما ينسى عنده، كأنها انقطعت.

سؤال:(ح) هل لأبي حيان تفسير ولم يذكره ابن خلكان ؟

الجواب: نعم تفسيره كبير شهير بسيط سماه البحر المحيط()، وجمع فيه مع التفسير تصريفا كثيراً ونحواً وأشعاراً، وبين فيه اختلاف النحويين في إعراب القرآن وزيف كثيراً من أقاويلهم ولكن ألقى ذلك متفرقا حسبما سنح له في أثناء التفسير، فاعتنى أبو عبد الله محمد بن عبد الله المالقي بإفراده، وتهذيبه، وجمعه وتقريبه، وله في بعض المقامات رد على أبي حيان، وجواب لاعتراضاته على الزمخشري وغيره وسمّى كتابه (المجيد) وهو هذا المعروف، وجميعه منتزع من البحر المحيط إلاّ زيادات يسيرة أخذها من كتاب البيان لأبي البقاء، ومن غيره، ونبَّه عليها بأنّ يَضع قبل ذكرها ماصورته: (م)، تنبيها على أنها مزيدة، وما كان من نتائج أفكاره ومقتضى أنظاره قال فيه: قلت، وأما عدم ذكر ابن خلكان لهما، فلتأخرهما عنه بمدة مديدة، فإنَّ ابن خلّكان معارض() لابن الحاجب وقد ذكر ذلك في تاريخه، وابن مالك صاحب التسهيل() متأخر عن ابن الحاجب بكثير، توفي في عشر الثمانين بعد ستمائة، وأبو حيان هذا: أمير الدين محمد بن علي بن يوسف المغربي، بعد ابن مالك، وهو صاحب التذييل على شرح التسهيل، فثَمَّ تفاوتٍ كثيرٍ، فليُحِطِ الخاطِرِ الكَريم بذلك علما.

سؤال:(ح) ما يقال في قوله تعالى:{ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً ......} الآية. [النور:2] أهذا إخبارٌ محض، فقد وقع خلافه، ومحالٌ أن يقع خلاف ما أخبر به تعالى؟ أم هو إخبار في معنى الإنشاء، ويكون نهيا للزاني عن نكاح غير الزانية والمشركة، والعكس معلوم من ضرورة الدين خلاف ذلك؟

الجواب: ليس ذلك بخبرٍ محض، ولا في معنى النهي، فلا يلزم أيّ المحذورين، ولا قائل بأيهما، وإنما المراد من كان من شأنه وديدنه ودأبه الزنى والفجور فلا يرغب في نكاح العفائف، وإنما يرغب فيمن هو من شكله أو في مشركة لتوفر دواعيه إلى المحظور وشغف قلبه بالفجور ولَهَجِهِ وَوَلَعِهِ بالفعل المنكور، والزانية كذلك، ولو كان الظاهر غير هذا فقد وجب المصير إليه وحمل الآية عليه للإجماع على أنها على غير ظاهرها وذلك ظاهر.

سؤال:(ح) كم نَسَخَتْ آية السَّيْفِ  من آيِ القُرآن ؟

الجواب: قد ذُكِر عدد المنسوخ بها في كتاب الناسخ والمنسوخ، للمروزي، وجعل المنسوخ بها ثمانين آية، ومن العلماء من يجعل المنسوخ أكثر من ذلك العدد .

سؤال:(ح) ماآخر القرآن نزولا؟ وكم عاش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  بعد ذلك؟

الجواب: ذلك مختَلَفٌ فيه، فروى البخاري من حديث ابن عباس أن آخر آية أُنزلَتْ آية الزِّنى، وفي أفراد مسلم عنه أن آخر آية أنزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [الفتح:1] وروى الضحاك عن ابن عباس أن آخر آية أنزلت {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، وعاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بعدها أحد وعشرين يوما، وقيل أحد وثمانين يوما، وقيل سبعة أيام، وقيل ثلاث ساعات، وفي التفاسير أقوال أخر في آخر ما نزل، وفيما ذُكر كفاية.

سؤال(ح): {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] لِمَ لَمْ يقلْ قليلة؟ وما معنى الآية، وقول الله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ...} [الشعراء:79] لمَ أضاف المرض إلى نفسه والمرض من الله تعالى وخالف نسق الكلام؟ وأيُّ سرٍ تحتَ ذلك؟ وقوله تعالى {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}[الشعراء:84] لٍمَ لم يقل قولَ صدقٍ؟ وما السّر فيه، حتى عدَلَ عنهُ، وقوله تعالى {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] إلى أيِّ شيءٍ يعودُ الضَّمِير في {إنَّه}؟

الجواب: إن الشرذمة هي الطائفة القليلة، المعنى: أنَّهم لقلتهم لايبالى بهم، ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم ولكنهم يفعلون أفعالا تغيضنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عاداتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده.

هذا المعنى، وإنما قال { قَلِيلُونَ} للمبالغة في التقليل بجمع السلامة الذي هو للقلة.

والجواب عن الثاني: فإنما قال (مرضت) دون أمرَضْتَنِي، لأنّ كثيراً من أسباب المرض بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه، وغير ذلك، ومن ثَمَّ قالت الحكماء : لو قيل لأَكثَرِ الموتى: ماسبب آجالكم؟ قالوا: التخم.

والجواب عن الثالث: فالسّر في قوله {لِسَانَ صِدْقٍ } هو الذي يدور عليه لولب الصدق، فكان ذِكْرُهُ أوقع وأنفع في المطلوب، مع ما في ذلك من المبالغة في التحرز الحسن.

والجواب عن الرابع: فالضمير في (إنّه) يرجع إلى الكتاب وذلك ظاهر واضح.

سؤال(ح): ذكر السيد علي() رحمه الله في تفسيره: الوجه في عدم الإخبار بقصة قتل بني إسرائيل وذبحهم للبقرة على الترتيب، فكيف يكون الوجه في قصة مريم عليها السلام فإنه قدم الأخبار بكفل زكريا، على إختصامهم عليها ومقارعتهم بالأقلام على من يكفلها؟

الجواب: أنَّه لا مساواة بين ذينك الأمرين، لأنه سبحانه وتعالى ذكر ذبح البقرة وقتل النفس في معرض تعديد النعم على بني إسرائيل على جهة التقريع، فلو رتب ذلك لكان نعمة واحدة وقصة منفردة، ولم يحصل له ما حصل بعدم الترتيب وليس كذلك قصة مريم والله أعلم إذْ ذَكَرَ قصتها منذُ حُمِلَ بها إلى أن كفلت وبلغت تلك المبالغ الشريفة، فذكر كفله إياها حينئذ في موضعه، ولما كان ما قص من أمرها وقصصها مطابقا لما عندهم ولما يعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  منهم، فليس الطريق إلى علم ذلك كما كان إلاّ المشاهدة والحضور، أو إعلام الله تعالى، وقد علم انتفاء المشاهدة بيقين، فتعين أن يكون ذلك بإعلام رب العالمين، فحيث اصطفاه وكلّمَهُ وأخبره وأعلمه، عُلمَتْ نبوته وصحة معجزته، ولم يبق لهم عذر يعذرهم عن إتباعه وتصديقه إلاّ العناد والخذلان على() سبيل الرشاد، وقرعوا وأنبوا بتقرير عدم الحضور والمشاهدة وتجشم غارب المكابرة والمعاندة، فعلم حينئذ وحسن ذلك الترتب وأنه منخرط في سلك نظام عجيب.

سؤال(ح): ذُكِرَ أنَّها تُركت التسمية في سورة براءة، لأن اسم الله تعالى سلام وأمان فلا يُكتب في النبذ والمحاربة، فهل يؤخذ من هذا كونها محظورة أو مكروهة إذ لا فرق بينها وبين ما ينبغي أن يُبتدأ باسم الله فيه ؟

الجواب: أنه يؤخذ من ذلك حضر التسمية لأن إسم الله تعالى إذا كان سلاماً () وأمانا، كان في ذكره مع النبذ والمحاربة تناقض وتنافٍ، ويجب أن يصان منه القرآن الحكيم والذكر العظيم وأن لا يسلك بها مسلك غيرها من القرآن ولهذا جرى على ذلك القرون فيما يعلم في كل زمان ومكان.

سؤال(ح): على {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] فإنه جَمْعُ مَنْ يعقل، وهي لا تعقل؟

الجواب: أنَّه رآها على هيئة من يعقل، وفعلَت فِعْلَ من يعقل، وآلَ التأويل إلى من يعقل، قال جار الله: وهذا كثير في كلامهم أنه إذا لابس الشيءُ الشيءَ من بعض الوجوه، أُعطي حكماً من أحكامه.

 قال السائل : أين فاعل {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ} [يوسف:35] ؟

الجواب: أن فاعل الجملة بعده وهي {ليسجننه}، أو مضمون الجملة وهي سجنه، أو رأي أي بدا لهم رأيٌ، وتفسير الرأي قوله تعالى: {ليسجننّه}.

قال السائل: ما اللام في قوله تعالى {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:35]؟

الجواب: ما قاله المفسرون: أنه أُتِيَ بها لتقوية الفعل لأجل تقدم مفعوله عليه، فحسُنَت لتقويته باللام.

قال السائل : قوله تعالى {بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [هود:96] والسلطان من جملة الآيات؟

الجواب: ان السلطان هو الآيات نفسها خلا أنه يجوز ويحسن الإتيان بلفظين مختلفين بمعنى واحد إذ فيه بلاغة وتأكيد،  وأيضاً في {سُلْطَانٍ مُبِينٍ} مزيد فائدة حيث فيه معنى التسليط والقوة على فرعون، وقيل: السلطان يختص بالعصا لزيادة ظهوره. إنتهى .

قال السائل: { بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98] و {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود:99] ما فائدة المورود والمرفود بعد الورد والرفد ؟

الجواب: أن الوِرْد والرِّفْد هو فاعل بئس، والمورود والمرفود، هو المخصوص بالذم، وهو بئس، وقد قيل أن المورود والمرفود صفتان أُتِيَ بهما للتأكيد، والتخصيص() بالذم محذوف.

سؤال(ح): ذكر في سورة هود في قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود:38] أنه حكاية حال ماضية فهل تكون الحكاية بالفعل المضارع أبلغ من الحكاية بالماضي أو لا؟

الجواب: أن الحكاية بفعل الحال أبلغ، إذ في ذلك تصور له في قلب الشاهد، ونظمٌ له في سلك المعاين.

سؤال(ح): يُذكِرٍُ أنَّ في القرآن ثمانين وقفاً لازماً، ولم يسغ في الذهن لزومها ولا وجوبها، إذ لا دليل على ذلك يذكرونه، سوى أنك إذا وصلت، أوْهَمَ خلل المعنى والمقصود، قال بعضهم شعراً:

لـوازِمُ وقْـفِــنَا المُتَعَيَّنُونَا

 

ثمانون انجَلَتْ وصَفَتْ عُيـونَاً

فـقد قال المصنف من يصلها

 

يغيّر ذلك المعنــى المصـونا

وهذا دليل لا يخفى ضعفه ثمَّ أن كثيراً من هذه الوقوفات التي هي لازمة عندهم لايتغير المعنى فيها إذا وصلت نحو {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:8] فقالوا: إنه لازم على {صَالِحًا } وما الفرق بين هذه الآية وبين هاتين الآيتين اللتين هما نظيرتان لها وهما: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85] وكان يلزمهم تعيين الوقف على {يسمعون} في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:36] ليدُلّ على أن {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} ابتداء كلام، لا معطوف؟

الجواب: أن اللزوم هذا لا يبعد أن يكون من قبيل الإستحسان، من قبيل:(حقّكَ عليَّ واجب)، أي لازمٌ، من باب الاستحسان، ونكتفي بذكره في بعض المتماثل، ويكون الحكم مع المساواة واحد على أن بعض المحققين نفى اللزوم عنه رأساً، وقال لاوجه لذلك يقتضيه ، ولا دليل يؤديه، ولعل من يثبت الوجوب فيها بمعناه الحقيقي قد وقف على أثر، واستند في ذلك على خبر، فاتبع ماوجد، واقتصر عليه ، ولم يتجاوز ما عدا ذلك فيه، وكم من مأثور لا يُطَّلَعُ على وجهِ الحِكْمَةِ فيه ولو نسَلّم أن الحكمة هي أن لا يتغير المعنى بالوصل، وأن الهادي إلى ذلك غير وهم فهو يمكن تمشية ذلك بأنه اعتمد عند خوف اللبس وهو مأمون في قوله {والموتى...} الآية. إذ يعلَمُ كلّ أحدٍ انتفاء أن يُرَاد ويستجيب الموتى على أنه لايبعد أن يكون من لوازم الوقف فيتأمل ويكون اختلاف تلك حكم القصص حيث لم يثبت في كل حكم تجانسه لإرادة الاستيناف حيث يلزم الوقف والاتصال في خلافه، إذ لا يبعد أن يكون في ذلك حكمة أو نكتةً لطيفةَ، وإن لم نعلمها مفصلّة، وقد اعتمد نحو هذا فيما أمرُه أوضح، واضح من اللزوم المذكور، والله تعالى يشرح بتوفيقه الصدور.

سؤال(ح): هذا الترتيب العثماني في القرآن واجب أو مندوب؟ وهل ثَمَّ فرقٌ في التلاوة والكتابة أو لا؟ فإن لم يكن ثمَّ فرق فما الدليل على المساواة ؟ فأما نفس كونه في المصحف() على هذه الكيفية فلا دلالة فيه لأن التلاوة مغايره للكتابة، ولم يثبت نقلٌ أنه وضع لهذا الغرض فلعل ذلك لمصلحة علمها الشارع؟

الجواب: يقال ما المراد بواجب، أو مندوب، هل معناهما الاصطلاحي، كما هو الظاهر فيأثم التارك ويذم، أو لا يأثم ولا يُذَم؟ أو يُجَوَّزُ بهما عن كونه مأموراً به منه صلى الله عليه وآله وسلم ، أو مستحسناً من عثمان وطبقته؟ فإن أريد الثاني، فذلك واجبٌ، بمعنى مأمور به، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  هو الذي أمر بهذا الذي ثبت، ولمّا كانت المصاحف حينئذٍ مخالفةٌ أُتلفت ليعتمد الناس ما أمر به، إذ لم يبقَ عذرٌ يعذر فقد كان العذر فيما قبل تعذُّرِ ذلك، لعَدَمِ التَّرتيب في نزول آي القرآن، وهذا الترتيب الذي هو عليه الآن هو الذي كان عليه مذ أُنزِلَ دفعَةً واحدةً قبل تنزيله حسب الحاجة والحادثة، وما فرق تنزيله حينئذٍ إلاّ لما في ذلك من المصلحة، على ماذلك مقرر في موضعه، وإن أُريدَ الأول فنحن نختار الوجوب في الكتابة والرسم الكلي لإجماع الأمّة على ذلك وإنكار مالم تسلك به تلك المسالك إلاّ في القراءة، وكَتْبُ الأبعاض للإجماع على عدم إعتبار الترتيب حينئذٍ، ألا ترى أن  القنوت والأوراد ونحو ذلك ممالا يحصره العدّ؟

سؤال(ح): على قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] وقال في أخرى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] كيف التلفيق بينهما والموصوف بهما يوم القيامة... إلى آخر ما ذكره السائل؟

قال عليه السلام :

الجواب: أنَّ للمفسرين في ذلك كلامات وتأويلات، وقد ذكر الحاكم هذا السؤال أو معناه، وأجاب عليه بأنْ قال في قوله تعالى: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني النزول من سدرة المنتهى وموضع الثواب والعروج إليه، وفي قوله:{أَلْفَ سَنَةٍ} يعني النزول بالتدبير من سماء الدنيا والعروج إليها، هذا مضمون كلام الحاكم، وكل تأويل مما ذكره المفسرون يمكن فيه التشعيب والأمر كما ترى، وهذه من المتشابه المنطوي على التقدير والحذف والتمثيل ويمكن التلفيق بين الآيتين بأن يقال: الضمير في مقداره يعود إلى العروج الذي دلّ عليه: يعرج وتعرج في الآيتين، لا أنَّ الضمير يعود إلى اليوم، وعود الضمير إلى الإسم الذي يدل عليه الفعل جائز، كقوله عليه السلام  في الدعاء المشهور:(واجعله الوارث منا).

إذا تقرّر هذا، فالمراد بقوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة:5] أي مقدار العروج على السير المعتاد لكم يا مخاطبون، ألف سنة، إذ هو عروج إلى سماء الدُّنيا، موضع التدبير لأمور الدنيا، وهو في قدرة الله تعالى كان في يومٍ واحدٍ من أيامكم، بلْ في جزءٍ منه، إذ قوله تعالى: {في يومٍ}، لا يدل على استغراق اليوم، وإنما يدل على استغراق أنّه كان في اليوم الواحد أكثر من مرّة.

والمراد بقوله تعالى في الآية الأخرى {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ} -صلى الله عليهم- {وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} إذ هو عروجٍ إلى موضعِ تدبير أمور القيامة والثواب، وذلك إلى فوق السماء السابعة بما شاء الله، واقتضته الحكمة، واليوم المعروج فيه هو يوم القيامةِ، في جزءٍ منه، إذ قوله: في يومٍ، لايدل على استغراق اليوم بالعروج، وإنما يدل على أنّ العُروج كَانَ فيه كما قُلنا في الآية الأولى، فهذا وجهٌ في التلفيق قريب.

فإن قيل:الضمير يرجع إلى المذكور القريب، ويومٍ أقربُ إلى الضَّمير في مقداره، فيرجع الضمير إليه. قلنا: منَعَ عن رجوعِهِ إليه مايقع من التَّدَافُعِ والتّنافي بين الآيتين.

سؤال(ح): على {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] ما هذه اللام ؟

الجواب: أنه قد قيل أنها زائدة مثل: (رَدِفَ لكُم)، وقيل: إنما عُدِّيَ باللام، أعني فيكيدوا لتضمنه معنى فيعدوا، أو يحتالوا، وقيل هي مما يتعدّى تارةً بنفسه، وتارةً باللام مثل (شكرتُ).

قال السائل: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف:32] وذلك إشارة للبعيد، وهو حاضر، فقياسه هذا ومثله {الم،  ذَلِكَ الْكِتَابُ} ؟

الجواب: إنه لجلاله وارتفاع حاله وعِظَمِ شأنِه، فهو بعيدٌ في المنزلة والجلالة عنهنّ ومثله {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} وفي { ذَلِكَ الْكِتَابُ} وجهٌ آخر، وهو إشارة إلى الموعودُ به، وهو بالنظر إلى وقت العِدّةِ متراخٍ بعيد.

قال السائل: {إِنَّ النَّفْسَ لاََمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]ٍوقال في موضع آخر {وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2]؟

الجواب: أنّ النفس الأمارةَ بالسُّوءِ هي نفس المُكلَّفِ مع بقاء التكليف، وقيل معاينة الأهوال، فنفسه تأمره، أي تدعوه إلى الشهوات والأهواء، فمِنَ المُكلَّفين من يُقارِعَهَا ويُجاهِدهَا، فإذا غلبها فهو الشجاع حقاً، كما وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بذلك وهو المعني بقول يوسف: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي}، والنفس اللوامة هي مع سقوط التكليف وعند معاينة الشدائد والمعظمات والأهوال وكل نفس حينئذٍ تلوم على التفريط والتقصير.

قال السائل: {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف:80]، وقياسه: من بعد؟

الجواب: إن قصدَ الناطق بهذا القول والمتكلم به أن يقرر على إخوته ما جرى منهم في يوسف من قبل هذا الحادث الذي حدث على أخيه، فقال: ومن قبل، ولما قرر ذلك عليهم، قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80] و(ما) الداخلة على (فرطتم) هي مصدرية، محلها الرفع على الابتداء و(من قبل) الخبر.

قال السائل: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} لم يكن منه إليهم إساءة فيخلط نفسه معهم في نزغ الشيطان فكيف هذا؟

الجواب: أنَّه لم يخلط نفسه معهم في النزغ ولا في الكلام ما يقتضيه، وإنما ذكر أن النزغ في ذات بينهم، والنزغ هو: الإفساد، والإفساد قد كان في ذات بينهم، وإن كان من بعضهم دون بعض، فالبينية حاصلة وإن كان من فعل بعضهم دون بعض، وقد قيل أيضا أن النزغ هو القطع، والبينية ثابتة فيه، كأن يوسف قال: من بعد أن قطع الشيطان بيني وبين إخوتي، أو أفسد بيني وبين إخوتي، فالمعنى مستقيم، والبينية حاصلة، وأتى يوسف بهذا اللفظ على هذه الصفة لتلطيف العبارة ولإيناس إخوته.

قال السائل: [سؤال] على {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] ما معنى ييأس هنا، وقياسه: أفلم يعلم الذين آمنوا؟

الجواب: أن معنى ييأس هاهنا يعلم، وهي لغة لطوائف من العرب، واحتج بعض البصريين لذلك بقوله:

ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

وقيل: إنما عبّر باليأس عن العلم لملازمة العلم له لأن اليأس هو القطع، والحكمة في ذلك -أعني في الإتيان بهذا اللفظ المحتمل- كالحكمة في متشابه القرآن .

قال السائل: في قوله تعالى في: { يُخرِجَ الحيَّ من الميِّتِ ومُخرِجُ المَيّتِ من الحَيِّ} [الروم:19] ما فائدة جعْلْ يخرج مضارعا، ومُخرِجْ ماضياً؟ هذا معنى كلام السائل.

الجواب: أن فائدتهما مختلفة وهو أن مخرج يدل على الثبوت والوقوع،  ويخرج يدل على التجدد والزيادة،  ففي كل واحد منهما فائدة لا يفيدها الآخر، فخالف بينهما ليدل على اختلاف فائدتهما وعلى أنه قادر على ما أفادته كِلاَ العبارتين في كلام واحد من معنيين، وهو إخراج الحي من الميت.

قال السائل: في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}[المؤمنون:15، 16] كيف أدخل لام التأكيد على (ميتون) والموت معلوم ضرورة لايحتاج إلى تأكيد ولم يؤكد (تبعثون)، والبعث معلوم دلالة محتاج إلى التوكيد ؟

الجواب: أن كل أحدٍ لا يعلم موت نفسه ضرورة ولاموت من تأخر عن موته وإنما يعلم ذلك بدلالة الشرع لاغير، فاحتاج إلى التوكيد في دليل الشرع الوارد، وليس كذلك البعث، فإنه قد تطابق عليه دلالة العقل ودلالة الشرع، فلم يحتج إلى توكيد، ومن وجهٍ آخَرَ وهو أن أكثر المكلفين لمّا كانوا كالمُنكِرين للموت، لعدم عملهم بحسبه، وكَّدَهُ باللام، نظيره قول الشاعر:

جاء شقيقٌ عارضاً رمحَهُ

 

إنّ بني عمّك فيهم رماح()

ولم يؤكد {تبعَثُون}، لما كان على البعث الدلالة، لو استدلوا.

سؤال(ح): يختص بالقرآن وأحكامه، ومضمون سؤال السائل ومقصوده يتقدر في ثلاثة مباحث ذكرها السائل:

البحث الأول: ما فائدة تقديم القصص والأخبار الواردة في القرآن على وقت نزوله مثل قصة زيد بن حارثة وامرأته، وقصة النملة في: { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ...} [النمل:18] وكذلك: {ونادَى أصْحَابُ النَّارِ أصحَابَ الجَنَّةِ...} [الأعراف:44]؟

الجواب: أن فائدة التقديم هي ما في ذلك من اللطف للملائكة عليهم السلام ؟ وكيفية اللطف في القصص التي لا تتضمن الغيوبات هي أنهم إذا ظهر لهم بأخبار الله سبحانه وتعالى وخلق القصص قبل أن يكون مخبرها بما علمه تعالى بما سيكون وكيف إذا كان يكون، زادهم ذلك علماً ويقيناً بغامض حكمته وإحاطة علمه وباهر قدرته وعموم رحمته وحسن تدبيره في خلقه، فيدعوهم ذلك إلى زيادة تعظيمه والخضوع له وزيادة الخوف والوجل منه، ولا يبعد أيضا أن يكون ذلك لطفاً للواحد منا إذا علم بتقديم ذلك قبل كونه، ثُمَّ علم بكونه، على ما جرت به القصص المتقدمة على كونه من حيث أن ذلك يزيده علماً ويقيناً بعظمة الله سبحانه، فيتوفر له الدّاعي إلى طاعة الله، وأما كيفية اللطف في القصص التي تتضمن العقاب، فالتطاف الملائكة بالعلم بها قبل كونها على حد التطافنا بالعلم بها قبل كونها سواء، إذ لو وقع القبيح منهم استحقوا العقاب على حد استحقاق فاعل القبيح منّا، كما في إبليس لعنه الله.

البحث الثاني: إذا كان القرآن أوّلُ مخلوقٍ، فما تأويل: {ومِنْ قَبْلِهِ كتَابُ موسى إمَاماً ورَحْمَةً} [هود:17] فإن قلتم القَبْلِيّة في النزول، فهو خلاف الظاهر... إلى آخر كلام السائل ؟

الجواب: أن المراد: ومن قبل نزوله إليكم يامخاطبون، نزول كتاب موسى، وقول السائل: فهو خلاف الظاهر. فليس كذلك، بل هو الظاهر.

وتحقيقه: أن الخلق والنزول أمران، القَبْلِيّةِ محتَمَلَةٌ لكلِّ واحدٍ منهمَا على سواء، وخصَّ النُّزول بها لقربه، ولأنه أسبق إلى الأفهام، والقبْلِيَّة في الخلق أمرٌ غامضٌ لايُعرَفُ إلاّ بتوقِيفْ، وحمل الخطابِ إلى ماسبق إلى الأفهام من المخاطبين أولى، إلاّ أن يمنع منْهُ مانعٌ، ولامانع هاهنا، فثبت أن الظاهر النزول، وأيضا لو حمل على القبلية في الخلق لصح، إذ لادليل قاطع يدل على أن القرآن خُلِقَ قبل كتاب موسى، وقد احتج بعض المتكلمين بقوله {ومِن قَبْلِهِ كتاَبُ مُوسَى}[الأحقاف:12] على حدوث القرآن.

البحث الثالث: قال السائل: في أحكام القرآن في ذات بينها، فيها ناسخٌ ومنسوخ، ومِنْ شَرْطِ النسخ إمكان العمل بالمنسوخ، فإذا كانت كلها موجودة في حالة واحدة ناسخها ومنسوخها لم يمكن العمل، بكون التفسير في إمكان العمل والحال هذه، وما فائدة الجمع بين الناسخ والمنسوخ في وقت واحد؟ هذا مضمون سؤال السائل.

الجواب: أن النسخ لايثبت إلاّ بعد التكليف بالمنسوخ، وإمكان العمل وانتهاءِ المصلحَةِ فيه، وفي تلك الحال يجب النسخ، والتكليف به إن كان حكماً، أعني الناسخ والمنسوخ، وهو بيان أمد الحكم الشرعي وانتهاءِ مدته، لا أنّ النّسخ رَفْعٌ للحكم الثابت، إذ لو كان رفعاً، لكان بَدَا، والبَدَا لا يجوز على الله تعالى.

إذا تقرر هذا فالتكليف بالأحكام القرآنية إنما يكون بعد نزول القرآن، لا بعد خلقه، والنسخ أيضا لا يكون إلاّ بعد التكليف بالمنسوخ، والتكليف بالمنسوخ بعد النزول، وعند ذلك قد حصل التكليف بالمنسوخ وإمكان العمل، وورود النسخ بعد الإمكان، وأما فائدة الجمع بين الناسخ والمنسوخ في الخلق وقبل التكليف بهما، ففائدته مايحصل من اللطف للملائكة صلوات الله عليهم، كما قدمنا الكلام فيه، فهذا ما تحصل من جوابات المسألة.

قال السائل: في قوله تعالى {إنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُوْلاَ} [الإسراء:108] ما(إن) وما (اللام) ؟

الجواب: أنّ (إن) هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، ونصب مفعولاً على أنه خبر كان الناقصة.

قال السائل: على قوله تعالى {إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيْر} [القصص:24] ما متعلق اللام في (لما أنزلت)؟

الجواب: أنها متعلقة (بفقير) وتقديره: إني فقير لما أنزلت إليّ، ومعناه فقير من ماله وأرضه ووطنه لما أنزل إليه من خير الدين، وأراد به من الكرامة، فتكون اللام تعليلية على هذا.

وقال الزمخشري: أنّ في (فقير) معنى سائل، فيكون المعنى إني سائل لما أنزلت إليّ من خير الدين، والله أعلم.

مسائل تتعلق بالحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

سؤال(ح): في الحديث ((إنّ من أمارات الساعة أن تلد الأمّةُ ربّتَها))()؟

قلت :هل المعنى إستيلاد الرجل لأمته، فتلدُ له، فجعلت ربّتها مجازاً، لأنها إبنة سيدها، أو يكون المعنى أن يتزوج الحُرّ بالأمة، فتكون المولودة ربتها، لأنها أشرف نسباً، وإن كان حكمها حكم والدتها في الرِّقِيَّةِ، هذا إذا كانت الأمّة فاعلة وربّتها مفعوله، وإن كان العكس فهو أن يتزوج العبد بحرّة. ما عندكم في ذلك؟

الجواب: الأقرب أنه إنما أراد حيث تكون الوالدة خادمة لبنتها على أن تكون مملوكة وبنتها تستخدمها، كما يستخدم المالك مملوكه، لأن هذا يستغرب وبمثله يُعرَفُ دُنُوَّ السَّاعة ويُستَقْرَبْ، وذلك كأنْ يتزوج حرٌ أمةً، ويشترط حرية ما ولدت أو يعتق، ومما ولدته أنثى، فيتزوج بنتها حرٌ، ثمَّ يشتري أمها لخدمَتِهَا، أو ثمَّ تخدم إبنتها، وإنما جعلت ربتها للملابسة، ولهذا يقال مالكة فلانة وسببها، وإن كانت مملوكة زوجها، ونحوه:

إذا كوكبُ الخرقاءِ [لاح بسحرة

 

 

سهيل أذاعت غزلها في القرائب]  

[وقوله]:

إذا قلت قدني قال بالله حلفةً

 

لتغـنيَ عني] ذا إنائك [أجمعا]()

هذا إذا كانت (الأمَةُ) مرفوعة و(ربّتها) منصوبة، وإن كان الإعراب على العكس -على بُعده- فكأن يعتق مالك الأم وبنتها الأم، ثمَّ يتزوجها حرٌ ويشتري بنتها، فيُخدِمَها إياها، وأما الإستيلاد، فليس من الأمارات وليس بمستغرب فالناس عليه متوارثون له كابراً عن كابِر، وكذا تزوج الحُرّ للأمةِ وولادَتها لَهُ، وكذا العبْدُ للحرة، وذلك واضح والله أعلم، إلاّ أني قد وقفت من بعد بأزمان على كلام لبعض المحدثين يدلُ على أن المراد هو الإستيلاد وهو حق مبين، وذلك أنه قال في معرِضِ تَعْدَادِ الأشراط (وقد تطاولت الرعاء في البنيان واستولدت الإماء منذ أزمان)، مما روي: أن هاجَرْ أمِّ إسماعيل أمة مستولدة إلى غير ذلك من الأشراط والفتن المأثورة في الصحاح والسنن، فلم يبق إلاّ الخسف والريح الحمراء والآيات الكبرى التي تترا، وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة بإذن ربها وظهور المسيح الدجال، وتعاظم الكروب والآجال وأمثال ذلك من الأهوال وقواطع الأماني والآمال وإن هي إلى استقراب فهي مع هذا أقرب ومعتقدنا أنه الأرجح والأصوب، وهو إن كان متوارثاً، فقد قال تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر:1]، و{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] ونحو ذلك مما يدل على إقتراب الساعة منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((بُعِثْتُ في نَسِيمِ السَّاعَةِ))، ولأنه خاتم النبيين الموعود مبعثه في آخر الزمان، ثمَّ أن مايستقبل من الزمان منذ بعثته صلى الله عليه وآله وسلم  بالنظر إلى ما سبق ليس إلاّ شيئا نزراً كصبابة الإناء، وإذا كانت بقية الشيء وإن كثرت في نفسها قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليقةً بأنَّ توصف بالقلّة وقصر الذرع، ثمَّ أنه مقترب عند الله قال الله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] ثمَّ إن كل آتٍ وإن طالت أوقات استقباله وترقبه قريب، وإنما البعيد هو الذي وجد وانقرض، ولأن ما بقي من الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها، على أن ذلك الوجه الأول هو الذي كان منا عليه فيما قبل المعوَّل، ليس ببعيد من الصواب، وللقلب جنوحٌ إليه واستقراب.

سؤال: وردت أخبار في المنع من كتابة الحديث، وأخبارٌ في جواز ذلك، وهي متكافئة، فَلِمَ عُمِلَ بأخبار الجواز دون أخبار المنع؟

الجواب: لا تكافؤ، فإن أخبار الجواز أكثر وأخبار المنع أقل، إذ لم يرد في المنع في الكتب السنيّة فيما رأيناه إلاّ خبران، وورد في الجواز فيها خمسة أخبار وللكثرة حكم لا يُجهَل، مع أنّه يمكن الجمع، فيكون المنع في صدر الإسلام قبل استقرار الشرائع والأحكام وقبل كمال نزول القرآن، لئلا يختلط الحديث به، فيقع الاشتباه، فتُولَّد المفاسد من ذلك، والجواز من بعد، لحصول الأمن من الالتباس، ولاستقرار الشرائع ولكثرة الأحاديث، فلا تنضبط إلاّ بالكتابة وإلاّ ضاعت تلك العلوم العظيمة، وإذا كان الحفظ للأحاديث واجباً، ولا يتم أو لا يكمل إلاّ بالكتابة وجبت كوجوبه، فضلا عن الجواز، ولو تعادلت أخبار المنع والجواز لكان ما ذكرناه مرجحاً للجواز، وهذا الجواب نظرٌ منا ليس إلا، ثمّ رأينا في معالم السنن ما نذكره إن شاء الله.

قال: يشبه أن يكون النهي متقدما وآخر الأمرين الإباحة، وقد قيل أنه إنما نهي أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، لئلا يختلط به، فيشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتاب محضوراً وتقييد العلم بالخط منهياً عنه، فلا.

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أُمّتَه بالتبليغ، وقال: ((ليبلغ الشاهد الغائب)) فإذا لم يُقيِّدوا ما سمعوا منه، تعذر التبليغ، ولم يؤمن ذهاب العلم، وأن يسقط أكثر الحديث،  فلا يبلُغ آخر القرون من الأمة، والنسيان من طبع أكثر البشر، والحفظ غير مأمون عليه الغلط، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم  لرجل شكى إليه سوء الحفظ: ((استَعِنْ بيمينك)) وقال: ((اكتبوها لأبي شاهٍ)) () يريد خطبةً خطَبَهَا، فاستكتبها، وقد كتب صلى الله عليه وآله وسلم  كتبا في الصدقة والديات، أو كُتب عنه، فعملَت بها الأمّة وتناقلتها الرواه، ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف، فدلّ ذلك على جواز كتابة الحديث والعلم والله أعلم.

سؤال(ح): بماذا رجح أصحابنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم :((إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدرِ أصلّى ثلاثاً أم أربعاً، فليستأنف)) () ونحوه على قوله صلى الله عليه وآله وسلم  ((وإذا شكّ في الواحدة والثنتين والتبس، فليجعلهما واحدة، وإذا شكّ في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثا)) () ونحوه؟

الجواب: لا ترجيح منهم للأول على الثاني، وإنما أوجبوا العمل بكل منهما، فالأول في حق المبتدأ، لإمكان اليقين، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم :((دع ما يريبك ...)) والثاني في حق المبتلى، لتعذر اليقين، إذ لا يأمن عود الشك إن استأنف، فجمعوا في العمل بينهما، ولم يثبتوا أحدهما لرجحانه، ويبطلوا الثاني لمرجوحيته، فسقط السؤال من أصله .

سؤال(ح): قوله  صلى الله عليه وآله وسلم : ((النساء ناقصاتُ عقلٍ ودِين، قيل وما نُقصَان دينهنّ؟ قال: تَمْكُثُ إحْدَاهُنّ شطْرَ دهْرِهَا لا تُصَلِّي)) () لمَ اقتضى ذلك نقصان دينهنّ؟ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم  ذمَّهُنّ بذلك، والمانع شرعي ولا يأثمون بتركه، بل لو فعلوا لأثموا لأن الذم لا يكون إلاّ عن إخلال بواجب أو فعل محرّم، وفعل الواجب لايقتضي ذمّاً، وترك الصلاة في الحيض واجب على النساء ضرورة في الدين؟

الجواب: تاركُ الصّلاة في بعض الحالات أنقص ديناً من المواظب عليها في جميع الأوقات بلا شكّ ولاشبهة، لكن الترك لمانع شرعي كالحيض فلا إثم ولا ذمّ، وإلا كانا مستَحِقَّيْنِ، وليس في ذكر نقصان دينهنّ ذمّ لهن بل تعريف بحالهن ليس غير، فاعتقاد أن ذلك خرج منه صلى الله عليه وآله وسلم  مخرج الذم غير مسلّم، وإنما هو مجرد وهم، والذي نقد في هذا السؤال قوله فإنه ذمهنّ ...الخ، إذ لا يصلح للتسبب عما قبله وكان يليق أن يقال ولمَ ذمَّهُنَّ، وقوله وأما فعل الواجب، كان يليق أن يقال موضع ذلك، وأما ترك المحرم فإنه لايقتضي الذم، وفعل الصلاة في وقت الحيض محرّم.

سؤال(ع): عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عذابُ هذه الأمّة بالسَّيف)) () وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  ((عذاب هذه الأمّة في دنياها)) ()؟

الجواب: أن المراد أن هذه الأمّة آمنة من عذاب الاستئصال في حق من طغى وتمرد، فلا يخسف بهم،  ولا يهلكون بالريح،  ولا يرجمون،  لكن يعذبون بالسيف وهو نتيجة فريضة الجهاد للكفار والبغاة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  والخلائف من بعده مأمورون بحرب من كفر أو بغى وقتله، فعذابه المعجَّل هو بالسيف لا بغيره. 

وأما الحديث الثاني: فمعناه مطابق لقوله تعالى: {ومَا أصَابَكُمْ من مُصِيبَةٍ فبِمَا كسَبَتْ أيدِيكُمْ} [الشورى:30]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ما يصيب المسلم من وصبٍ ولا نصبٍ حتى الشوكة يُشاكها إلاّ بذنب)) أو كما قال، وقول علي عليه السلام  في تأويل الآية: (هي أرجى آية في القرآن، لأن الله سبحانه من عاقبه في الدنيا فهو أعدل من أن يعاقبه مرة أخرى في الأخرى، ومن عفى عنه فهو أجلّ من أن يعاقبه من بعد) أو كما قال، وعلى هذه القاعدة بنى كثير من علماء الإسلام وأكثر الفرق، وأما على قاعدة المعتزلة ومن تابعهم من الوعيدية()، ففيه إشكال، لأن هذه الأمّة يُعَذَّبُ من عصى منها في الآخرة، ولا بد من إيصال ذلك إلى العاصين وتخليدهم، فيُحمَل الحديث على أن المراد بالأمة هنا البعض، وهم المطيعون المتَّقون، والمراد بالعذاب، ليس على ظاهره وحقيقته، فإنه عند المتكلمين المضارُّ المستَحَقّة الموْصَلَةٌ إلى مستحقِّها على جهة الاستخفاف والإهانة، لأنهم لا يستحقونه، بل المراد به ما فيه مشُقَّة ومضرة فقط من الآلام والغموم والفقر ونحو ذلك، والمعنى: أن الذي كتب على المطيعين من المضار يلحقهم في الدنيا، لا في الآخرة، وهو نظير قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الدنيا سجن المؤمن)) () ونحوه.

سؤال(ع): عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عَدَلَتْ شهادة الزور الإشراك بالله)) () ما معنى العدل هنا، هل المساواة في العذاب، فالكفر أعظم حالاً من الفسق، أو يقول ذلك مع الاستحالة قول المشهود عليه إلى المشهود له ؟

الجواب: أن الذي يخرج مخرج الترهيب والترغيب من الأخبار لها ظواهر لا تستقر على القواعد العقلية والنقلية وأحسن ما يقال أنه لمَّا كان الغرض بهذا الحديث الزجر عن ارتكاب شهادة الزور والمبالغة في تجنبه أخرج الكلام مخرجاً يقضي ببلوغ هذه المعصية إلى حد الإشراك في الظاهر ليكون ذلك عن ارتكابها أبلغ زاجر، والقصد في الحقيقة ما يستقيم الكلام معه ويطابق القواعد، فيتأول على أن المراد: عدلت الشرك في كونه افتراءً وكذباً ومعصيةً وذنباً غير مغفور ونحو ذلك، وحَسُن هذا الإيهام لحكمة المبالغة في الزجر، والله أعلم.

سؤال(ع): عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ضالة الغنم لك أو لأخيك أو للذئب)) () وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ضالة الإبل معها سقاؤها وحذاؤها وترد الماء وتأكل من الشجر حتى يلقاها ربها))، هل هذان الخبران متناقضان، لكونه قال في الأول: لك أو لأخيك، وفي الثاني ما معنى: أنها تأكل وتشرب حتى يلقاها ربها، أم لا ؟

الجواب: أنه لا تناقض، وإنما أشار صلى الله عليه وآله وسلم  إلى فرق بين ضالة الغنم، وضالة الإبل، وهو أن ضالة الغنم يتطرق إليها اللبس، ويقل الطمع في وجدانها، فقد يكون مآلها إلى الذئب بأنَّ يصادفها ضائعة ويفترسها، وقد تؤخذ ولاتلتبس وتحتفظ، فتصير إلى مالكها وقد يلتقطها من يلتقطها ويُعرِّف بها، فلا تُعرف للإلتباس فتكون له، إما على معنى أن له أن ينتفع بها، أو على معنى أنه يلي التصرف فيها، فينبغي التقاطها وحفظها، لئلا تذهب مع الذئب وفي ذلك إضاعة مال، وأما ضالة الإبل فإنها لا تلتَبِسْ، ولا يُخشَى عليها، كما يخشى على ضالة الغنم من الافتراس، ومعها سقاؤها، ربما أن المراد: أنها كثيرة الصّبر عن الماء، وكأنّ معها سقاء، وحذاؤها عبارة عن تمكنها من التنقل لطلب المرعى وعدم إضرار ذلك بها لأن أخفافها لا تحفى، فمآلها إلى أمر واحد وهو العود إلى ربها والمصير إليه فلا ينبغي التقاطها لمن وجدها بمكان خال بل يتركها حتى يجدها ربها وسياق الحديث قاض بهذا قضاءً بيناً.

سؤال(ع): عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم  (( بُعِثتُ إلى أمةٍ ليس لها في الآخرة عذاب))

الجواب: أنه عبارة عن تخفيف التكليف عن هذه الأمّة المرحومة، وأنها من حيث خفة تكاليفها وعدم تحميلها الإصر وتجنبها الأمور المخرجة من التكليف بقتل النفس ونحوه، ومن حيث أنه مَنْ همّ بحسنة كتبت له ومن همّ بسيئة ثمَّ تركها لم تكتب عليه وقبول التوبة مالم يغرغر، ونحو ذلك حَرِيّة بأن لا يدركها العذاب، لعدم المقتضي لارتكاب سببه ولسهولة التخلص عنه، فعبر عما ذكر بأنه لاعذاب عليها في الآخرة والمعنى أنها لم تكلف بأمر يفضي التكليف به إلى العذاب. والله أعلم.

سؤال(ع): عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إنَّكم سَتَرَونَ ربّكم عَياناً كما ترونَ الشّمسَ والقَمَر))؟

الجواب: أن تُحمل الرؤية على العلم، وذكر العَيان للمبالغة في تجلِّي العلم كتجلّي ما شوهد معاينة، وترشيح للاستعارة، ولأهل الكلام بسطٌ في هذا المعنى في الجواب عن نظير هذا الخبر.

سؤال(ع): عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)) () ما معنى النظر بالنور؟

الجواب: أن المعنى فيه أن المؤمن ينظر الأشياء التي ليست بمرئية من النظر الذي هو بمعنى الرؤية لكن ليس بضياء العين ونورها بل بنورٍ من الله وإلهامٍ منه، فشَبّة الإلهام بالنور الذي تُنظر به المرئيات، وهو شعاع العين وما يستمد منه، والجامع: أن كل واحدٍ طريق إلى الإدراك والعلم، والقلب هاهنا في الإدراك به بما ليس بمرئي كالعين في إدراك المرئيات، والله أعلم.

سؤال(ع): عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم  ((ضحكَ ربّي لقولِ عبده، ربِّ اغفرْ لي ذنبي فإنَّهُ لا يغفِرُ الذّنوبَ أحدٌ غيركْ)) ما معنى الضحك من الله تبارك اسمه؟

الجواب: أنَّه عبارة عن الرضى، لمَّا كان الضحك لازم الرضى عبّر عنه به للمبالغة في عِظَمِ الرّضى وشدته، والله أعلم.

سؤال(ع): وفي (الانتصار)()، في إجارة الفحْلِ للضرَاب، أنه صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن عسيب الفحل، بإثبات الياء التحتانية، وفي (البحر) وغيره، عسب بحذف الياء، فما سماعكم؟

الجواب: أن السماع وهو الصحيح (عَسْبٌ) بفتح العين المهملة وسكون السين بعدها مهمله أيضا وحذف الياء، وهو الكِرَاء الذي يؤخذ على ضِراب الفحل، وقد يطلق على ماء الفحل، وليس الثاني هو المقصود في الحديث بل القصد الأول، ولعل زيادة الياء من سهو القلم.

سؤال(ع): كذلك قد يذكر في بعض مواضع (الإنتصار) عبيد الله بن الحسن العنبري()، وفي بعضها وبعض مواضع شرح التحرير عبد الله بحذف الياء؟

الجواب:أنَّ الذي على ذهني أنه بإثبات الياء على صيغة المصغّر  أعلم.

سؤال(ع): روى أنس عنه صلى الله عليه وآله وسلم  ((عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة() يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أرَ ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها الرجل ثمَّ نسيها)) رواه أبو داؤد وغيره، وظاهره نسيان التلاوة وهو مشكل، إذ الظاهر أنه لايجب استظهار شيء من القرآن إلاّ مايجب في الصلاة وما من أحد من المسلمين إلاّ وينقل منه شيء في زمن الصغر وحال التعلم، ثمَّ ينساه في الأغلب، أو بعضه، ثمَّ ظاهره أنّ هذا أعظم الذنوب، فما توجيهه؟ وقد ذكر السيد علي بن محمد في تفسيره الكبير: أن من العلماء من حمله على نسيان التلاوة بعد حفظها، قال: وروي ذلك عن [المؤيد بالله]، وأشار على() أنهم اعتمدوا على هذا الحديث، قال: وسياق الآية لا يدل عليه، وقال صاحب (المقاليد)() وقد ذكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم :((من تعلم القرآن ثمَّ نسيه بعثه الله يوم القيامة أجذم)):قلت: في الحديث مايدل على أن الوعيد لاحقٌ بمن نسي تلاوة الآي كمن نسي العمل بها من غير فصل بينهما. انتهى. وظاهر كلامهم: أن الوعيد لمن نسي جميع القرآن بعد حفظه، والحديث لم يفصل بين الآية فما فوقها؟

الجواب: أنَّ الحديث المذكور كما ذكره السائل ظاهره مشكل وهو مما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه، وذكره المنذري في كتاب الترغيب والترهيب، والحديث الآخر الذي ذكره صاحب المقاليد أخرجه أبو داود من رواية سعد بن عبادة ولفظه: ((ما من امرءٍ يقرأ القرآن ثمَّ ينساه إلاّ لقي الله أجذم)) ()، قال الخطابي() في شرح السنن: الأجذم المقطوع اليد فيما قاله ابو عبيد، وقال ابن قتيبة هو المجذوم وقال ابن الأعرابي معناه أنه لقي الله خالي اليدين عن الخير.

وأقول وبالله التوفيق: أما الحديث الآخر فيمكن تمشية ظاهره على تفسير ابن الأعرابي للفظة أجذم، فلا شك أن من نسي القرآن بعد حفظه، فقد خَلَتْ يداهُ عن الخير الذي كان فيه من تركه حفظه، وثوابه وأجر تلاوته ولاخير إلاّ ذلك الخير، فهو مستقيم ومعناه صحيح سليم، وأما حديث أنس فالجواب عنه من وجهين:

أحدهما: أنَّهُ خبر آحادي لانعلم صحته، وهو مخالف للأصول، فإن القواعد تقتضي أنه لا إثم على الناسي، وإن فرض أنه آثم، فلا يتصور أن يكون ذنبه أعظم الذنوب وأفحشها، والخبر الآحادي إذا ورد بمثل هذا لم يعتمد عليه ولا يلتفت إليه، وقد أشار المنذري إلى القدْح في بعض رواته، فقال: رواية المطلب بن عبد الله بن حنطب() في الكتب التي أخرج فيها كلها مقدوحٌ فيها، قال ابن حجر في تقريب التهذيب: (المطلب) هذا كثير التدليس والإرسال، وكذلك وقد أشار المنذري إلى القدح في الحديث الآخر الذي من رواية سعد بن عبادة بأنَّ أبا داود رواه عن زيد بن أبي زياد (هاشمي)، قال ابن حجر: كَبُرَ وتغير.

الوجه الثاني: أنه إذا بني على صحته، فتأويله ممكن، وهو أن يحمل النسيان فيه على ما فسّر به جار الله الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: { كذلك أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيْتَها} [طه: 126] فإنه رحمه الله، قال: المعنى، أن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة، فلم تنظر إليها بعين المعتبر ولم تبصر وتركتها وعميت عنها وهذا معنى مستقيم، ومثله يعد من الذنوب بل من عظائمها، فإنه من لم ينظر إلى كتاب الله وآياته ونسيها، وعمي عنها وعمّا تضمنته من الأوامر والنواهي و [غير] ذلك [مما] يتضمن التفريط في أوامره والارتكاب لمناهيه، فقد عظم ذنبه وغضب عليه ربه والله أعلم، ولم يذكر في الكشاف نسيان التلاوة، ولا حام حوله، ولنا في ذلك، وفي وعيد الترهيب ووعد الترغيب وما فيها من المبالغة التي لا تتمشى على ظاهرها إلاّ بتأويل كلام في كتاب المعراج()، آخر باب الوعد والوعيد، ولا ينبغي أن يَعْدِلَ عنه من طلب التحقيق في هذا المعنى ويريد.

سؤال(ح): وردت أخبار كثيرةٌ رواتُها كثير، قويةٌ طرقها، دالةٌ على أن لمس الفرج ولمس المرأة من نواقض الوضوء ، وروت عائشة فقط أنه صلى الله عليه وآله وسلم  قبّل امرأة من نسائه ثمَّ خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، وروى طِلق بن علي: ((أنه صلى الله عليه وآله وسلم  قال لمن سأله عن لمس الرجل ذكره أينتقض وضوءه؟ هل هو إلاّ بضعة منه)) فلمَ ذهب أصحابنا إلى العمل بهذين الأخيرين، مع احتمال أولهما كونه مختصاً به صلى الله عليه وآله وسلم ، واحتمال حديث طلق للنسخ، لتقدّم إسلامه، مع عدم تصريحه بكونه غير ناقض؟

الجواب: أما مسّ الفرج فاختار أصحابنا أنه لا يُنتقض الوضوء به، لحديث طلْقْ المذكور، ولحديث أبي أمامة الذي رواه: ((أنه سئل صلى الله عليه وآله وسلم  عن مسِّ الذكر؟ فقال: هل هو إلاّ جذوة منك))، ولقول علي عليه السلام : (ما أُبالي أنفي مسست أم أذني أو ذكري)، ورجحوها بصحة أسانيدها عندهم وضعف أسانيد ما عارضها، وإن سلِّم التعادل، ففي العمل بأخبارهم جمعٌ بين الأخبار، إذ يُحمل ما يقتضي الوضوء على الندب أو على غسل اليد كالوضوء مما مسته النار، والجمع هو الواجب مهما أمكن ولا يعدل إلى غيره إلاّ عند تعذره، ولا تعذر فوجب العمل بالأخبار القاضية بعدم الوجوب، ومما رجح به أهل المذهب تلك الجنبة: قول علي كرم الله وجهه بذلك، وهو باب مدينة العلم، وكان مالك بن أنس يذهب إلى أن الأمر بالوضوء للاستحباب لا للإيجاب، وهو الغرة الشادخة() في المحدثين بل هو أكبرهم سناً وأقربهم مرتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ولأمرٍ ما أختاره أبو حنيفة وأصحابه، وقد احتج من رأى فيه الوضوء بأنَّ خبر بُسرة بنت صفوان متأخرٌ، لأن طلقا قدِم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في بدء الإسلام، وهو إذ ذاك يبني مسجد المدينة أول زمن الهجرة، وذلك لا يفيد، إذ الأرجح أن ذلك ليس بوجه ترجيح، ولهذا أجتمع رأي أحمد بن حنبل في عدم وجوب الوضوء لِلَمْسِ الذّكَرِ، ويحيى بن معين، وكان لايرى ذلك في المناظرة في هذه المسألة على إسقاط الاحتجاج بالخبرين خبر بسرة وخبر طلق، ولو كان لتقدم إسلام أحد الراويين ما يقتضي رجحان حديث متأخر الإسلام، لَحُجَّ أحمد ويحيى.

قوله: مع عدم تصريحه بكونه غير ناقض، غير مُسَلّم، إذاً لذكر ذلك في الاحتجاج على ترجيح حديث بسرة، وذلك ظاهر، وأما لمس المرأة فحديث عائشة دليل صريح صحيح قوي جلي واضح راجح، وأوردتُّه في الاحتجاج على ما اختاره الأصحاب، فلا معنى لذكر أنه مما اختصّ به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ذكر السائل أن الأخبار الدالة على أن لمس المرأة من نواقض الوضوء كثير رواتها قوية طرقها، ولم نر من ذلك إلاّ ما هو موقوف على بعض الصحابة غير مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذاً لكان في كتب الأحاديث الحافلة، ولا ذكره صاحب (البحر) و(الإنتصار) في الاحتجاج كما ذكروا احتجاجهم لقوله تعالى: {أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[المائدة:6] وأبطلوا الاحتجاج بالآية في ذلك، بأنَّ عائشة روت عنه صلى الله عليه وآله وسلم  أن الملامسة هي الجماع، وكذا أنَّ علياً وابن عباس فسّراها بالجماع، قال الموزعي: ولاشك أن اللمس والملامسة يُكنىّ بهما عن الجماع في عرف الشرع وهو شافعي المذهب، قال: والصحيح عندي حمل الآية على هذا المعنى كما فسر ابن عباس، لأن حمل خطاب الشرع على عرف الشرع أولى من حمله على وضع اللغة وعرفها، ولم ترد الملامسة والمماسَّة في الكتاب والسنة إلاّ للجماع لا للملامسة باليد.

سؤال(ح): علامَ يُحْمَلُ قوله صلى الله عليه وآله وسلم  ((وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلاّ فرقة واحدة)) ()، بعد إخباره بافتراق أمة موسى إلى إثنتين وسبعين فرقة، كذلك فإن ظاهر هذا الخبر يدل على أن هذه الأمّة أسوأ حالاً من غيرها من الأمم، إذ الهالك فيها أكثر من الهالك في غيرها؟

الجواب: لا دلالة في الخبر على ما ذُكِر، ولا يقتضي أن الهالك من هذه الأمّة أكثر، وأعظم ممن سبق وأوفر، لا لو علمنا تساوي الأمتين في العدد، ولا يمكن أن يَعلَمَ ذلك منّا أحـدٌ، مع العلم بتساوي عدد الفرق ممن لحق، وممن سبق، ولا يَعلَمُ ذلك إلاّ من خَلَق، يوضحه أنك لو فرضت كل فرقة من الاولين مائة ألف أو أكثر، ومن الآخرين خمسين ألفاً، فليس إثنتان وسبعون من هؤلاء بأكثر من إحدى وسبعين من أولئك، فأين أثر ذلك البرهان القاطع والدليل الساطع، فلا دلالة في الحديث ولا حجة ولا نهج فيه إلى ما ذكره ومحجّة، ولو تحققنا التساوي على كل تقدير، لم يتم ما رمز إليه السائل وأفرغه في قالب ذلك التصور، إلاّ إذا لم نقل أن الفرقة الناجية صالِحُوا كل فرقة، على ما اختاره نحاريرٌ من الطوائف المُحِقّة، ومثل ذلك لا يفتقر إلى تنبيه، ولا يعزب عن اليقظ النبيه، ولو سلمنا تحقق جميع ما قد سبق وكان مثل ذلك مما قد اتفق واتّسق لم يمتنع أن يكون الهالك من هـذه الأمّة أكثر، وما مثل ذلك يُستنكر ولا يُستكثر، إلاّ لو قام برهان على ما اعتقد السائل، وتضافرت عليه الطرق والدلائل، فيقال قد حصل التعارض وظهر التنافي والتناقض ووجب التأويل ويطلب السبيل، ولم تقم الأدلة إلاّ على أن هذه الأمّة خير أمة أخرجت للناس، والمراد المؤمنون حقاً {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13] وما بدلوا ولا حولوا، ولا حول الضلالة حاموا، وقليلٌ ما هم {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13]، والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة.

وليس المراد بكونهم خير أمة أن الهالكين من أولئك، ولولا الميل إلى الاختصار والعكوف على الديدنة حول حل ما اشتبه والاقتصار لذكرنا من أحوال ضلال هذه الأمّة ما يُنادَى عنده بالحسرة والغمة من اجتماع ما يتشتت في سوالف الأمم من الجرائم والكبائر والمآثم واللمم المستوجبة حلول البلاء والنقم وسلب ما خولوا من الآلاء والأيادي والنعم، من الخسف والمسخ والغرق، والصيحة والرجفة والخصب والصعق، لولا أنها أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  مرحومة غير معاجَلَة بالعذاب ولا معمومة كما دلت على ذلك البراهين المعلومة، ولله الحسن البصري حيث قال عند ذكر قصة أهل أيلة: (أكلوا والله أوخم أكلَةٍ أكلها أهلها أثقلها خزياً في الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة، هاهٍ هاه، وأيم الله ما حوتٌ أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم، ولكنّ الله جعل موعدا {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46].انتهى.

ولم يأكلوا ذلك الحوت إلاّ وقد تحيلوا لجواز أكله باتخاذ الحياض قبل السبت فلم تغنِ عنهم تلك الحيلة قليلاً، ولا كانت طريقاً إلى النجاة سبيلاً، فكيف بالعلماء الذين يتسلقون ببيع الرهان إلى أكل أموال الناس بالباطل، وبِوَقْفِ الأموال لحرمان وارث، ونقض حكم الملك العادل، ويتخذون الوسائل إلى إسقاط حقوق الله الواجبة واستحقاق مالا يستحقونه ويخلعون الحائل() ويتعللون ويتعذرون في التهافت والتساقط عند الظلمة وعلى أبوابهم بما ليس تحته من طائل، والله يقول: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] والركون: الميل اليسير، ويقولون مالا يفعلون، والله على لسان كل قائل، دع عنك سائر المراتب والتضمخ بأدنس المثالب وأدرن المعايب فتعداد ذلك يطول ويفتقر إلى أبواب وفصول، ولا انحصار لما شاب من الشوائب، ومن أين تعرف قلة الهالكين وكثرة المهرولين في المحجة السالكين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الناس كلهم هلكى إلاّ العالمون،  والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون،  والعاملون كلهم هلكى إلاّ المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم)) وأشباه ذلك، وفي أخبار الفتن ما إذا رآه الموفق سكن قلبه بما ذكرناه واطمأن، أعاذنا الله منها ما ظهر منها وما بطن، ورزقنا وإخواننا فيه النجاة من النار، وغفر لنا ما اقترفناه من الجرائم والمآثم والأوزار، وأسعدنا لديه بفضله وكرمه لحُسْنِ الجوار، وجعلنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشُّهداء والأخيار، وجعل خيار أعمالنا خواتمها، وخيار أيامنا يوم نلقاه، وأحسن لنا عاقبة الأعمار.

سؤال(ح): ما تأويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ، ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فقد كفر، من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار))؟

الجواب: أما قوله صلى الله عليه وآله سلم: ((مَنْ قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)) فقد ذكره الترمذي وراويه جندب بن عبد الله البجلي، وأما الشطر الثاني من الحديث الأول فهو زيادة زادها رزين، وأما الحديث الثاني فهو في الترمذي أيضاً.

وقد اطَّلَعْنَا على كلام لبعض المحققين في شأن الخبرين يكفي في الجواب ويهدي إن شاء الله إلى الصواب، وهو: أن الرأي هنا يحمل على وجهين: أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه، وهو أن يتأول القرآن على وفق رأيه، وهو ليحتج به على صحيح غرضه، ولو لم يكن ذلك الرأي والهوى لكانت لا تلوح له من القرآن تلك المعاني، وهذا الوجه يكون تارةً مع العلم، كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته ليلبس على خصمه، وهو يعلم أنه ليس المراد بها ذلك، وتارة مع الجهل، وذلك إذا كانت الآية محتملة، فيميل فهمه إلى ما يوافق غرضه، فيكون قد فسر برأيه، فرأيه الذي حمله على ذلك التفسير.

والوجه الثاني: من المنع عن الرأي هو: أن يتسارع إلى التفسير لظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من ألفاظ مبهمة، والاختصار والإضمار والحذف والتكرار وغيرهما، فمن لم يحكِّم التفسير وبادر إلى الظاهر واستنبط المعنى، كثر غلطه ودخل في زمرة المفسرين بالرأي، ولابد من النقل والسماع في ظاهر التفسير أولاً لينفي به مواضع الغلط ثمَّ من بعد ينبغي التفهم والاستنباط للغرائب التي لا تفهم إلاّ بالسماع فلا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل الوصول إلى الظاهر، ألا ترى إلى قوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء:59] يعني آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، فالناظر بالعربية يعتقد أن الناقة مبصرة لم تكن عمياء، ولا يدري بما ظلموا وأنهم ظلموا غيرهم أو أنفسهم، وأمثاله من الحذف كثير في القرآن العزيز.

سؤال(ح): ((أتاني ربي في أحسن صورة... إلى أن قال: فوضع يده فوق كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي)).

الجواب: المراد بإتيان الله: إتيان رسوله جبريل عليه السلام ، وحذف المضاف كثيرٌ، مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، و{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:210]، أي أمر الله أو بأس الله، و{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام:158]، أي كل آيات ربك لـقوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، واليد والبرد على حقيقتهما، أو أتاني روح ربي، وذكر اليد والبرد من ترشيح المجاز، وليس في وروده كذلك تعمية ولا إلغاز، لتكرر مثل ذلك في كلام الفصحاء والبلغاء وأهل الإسهاب والإيجاز، وهذا الحديث فيما() تفرد به الترمذي، والرواية الشهيرة: (أتاني الليلة آت من ربي... إلى آخره) على طوله، وذلك يؤيد تقدير الرسول ويقويه وإذا تعذر الحمل على الحقيقة وجب الرجوع فيه إلى أقرب مجاز، فالأمر واضح جلي لا يعزب عن الألمعي.

سؤال(ع): قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((عُرِضَتْ عليَّ ذنوب أمتي، فلم أرَ أعظم ذنباً من سورة من القرآن أو آية أوتيها الرجل ثمَّ نسيها)) ()؟

 الجواب: هذا الحديث مشهور مسطور في كثير من كتب الأحاديث ومذكور، ومن العلماء من حمل النسيان على ظاهره، ومنهم من صرفه إلى ترك أحكام ذلك وعدم العمل بها فيما لا تعبد في تلاوته كالمحتاج إليه في الصلاة ونحو ذلك، وهذا القول هو الأقرب والأظهر والأصوب.

سؤال(ح): ما تفسير قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الوالد أوسط أبواب الجنة)) ؟

الجواب: وهذا الحديث مما رواه الترمذي عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وهو يتضمن الحث على برَّ الوالد ويشير إلى أنه واسطة عقد المصادر المزلفة والموارد، وهو مُفَرَّغ في قالب (مَنْ أحب أنْ يدخل الجنة من أوسط أبوابها فعليه ببر والده) ولاشك في ذلك، أو أنه من أبلغ الطرق إلى ما هنالك وأعظم المناهج والمسالك، وكفى بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] ونحوها من الآيات، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  حين اعتلى المنبر ثمَّ التفت إلى الحاضرين ليخطبهم: ((ألا أخبركم بأكبر الكبائر… قالها ثلاثاً، ثم قال: الشِّرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، ألا وعقوق الوالدين، ألا وعقوق الوالدين، ألا وعقوق الوالدين)) () ولفظ هذا الحديث في المجتبى عن أبي الدرداء أن رجلا أتاه وقال: إنَّ لي امرأة، وإن أبي يأمرني بطلاقها، فقال له أبو الدردا: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإنْ شئتَ فأضِعْ ذلك الباب أو احفظه)) ().

سؤال(ح): ((الرؤيا من الله والحلم من الشيطان))؟

الجواب: المراد بالرؤيا: هي ما يحبه الإنسان، وبالحلم: ما يكرهه، فما رآه النائم في منامه، فما كان من الأول فرؤيا، وما كان من الثاني فحلم، وتمام ذلك الحديث: ((فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه فلينفث على يساره ثلاثًا وليتعوذْ بالله من شرّها فإنها لن تضرّه)) ()، وفي طريق أخرى: ((فليبصق على يساره حين يهب من نومه ثلاث مرات)) ()، وفي أخرى: ((وليتحول عن جنبه الذي كان عليه))، وعن قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنَّه قال: ((الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان فمن رأى رؤيا فكره منها شيئاً فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحداً، فإنْ رأى رؤيا حسنة فليستبشر، ولا يخبر بها إلاّ من يحب))، وفي الصحيحين من حديث حماد: ((الرؤيا ثلاث: الرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحديث من الشيطان، ورؤيا مما يحدِّث المرء نفسه، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليصَلِّ ولا يحدّث بها الناس)) (). انتهى. فيمزق حينئذٍ كل شكٍ ولبس وريب في ذلك الحديث وإلباس، ويحول عنه إلى الظهور والوضوح ذلك الالتباس، وللنووي في تفسير ذلك الحديث كلام على ما تقتضيه قواعدهم، وفيه بيان عظيم فخيم وسيم يشفي القلب الكليم وينفي الكرب المقيم ويحكي درك الثأر المنيم()، ويهدي إلى الصراط المستقيم في تفسير كل معنى ثَمَّ بهيم، قال: أما الحلم فبضم الحاء وإسكان اللام، والفعل منه حلَم بفتح اللام، وأما الرؤيا فمقصور مهموز، ويجوز ترك همزها، قال الإمام الماوردي: مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا: أن الله تبارك وتعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، وهو سبحانه يفعل ما يشاء لا يمنعه نومٌ ولا يقظة، وإذا خلق هذه الاعتقادات وجعلها عَلَمَاً على أمور أُخر، يخلقها في ثاني الحال، أوكان قد خلقها فإذا خلق في قلب النائم الطيران فليس بطائر، فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمراً على خلاف ما هو فيه، فيكون ذلك الاعتقاد علَمَاً على غيره، كما يكون خلق الله سبحانه وتعالى الغيم علَماً على المطر، والجميع خلق الله ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علَمَاً لما يسر بغير حضرة الشيطان، وخلق ما هو عِلْمٌ على ما يضر بحضرة الشيطان فينسب إلى الشيطان مجازاً لحضوره عندها، وإنْ كان لا فعل له حقيقة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)) لا على أن الشيطان يفعل شيئا، فالرؤيا: اسم المحبوب، والحلم: إسم المكروه، وقال غيره: إضافة الرؤيا المحبوبة إلى الله تعالى إضافة تشريف، بخلاف المكروه، وإن كانتا جميعا من خلق الله وتدبيره وبإرادته، ولا فعل للشيطان فيها لكنّه يحضر المكروهة ويرضاها ويُسرّ بها.إنتهى.

سؤال(ح): ((رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزء من النبوة))، وفي رواية: من سته وأربعين جزء، وفي رواية: من خمسة وأربعين، وفي رواية: من سبعين، وفي رواية: من تسعة وأربعين، وفي رواية: من خمسين، وفي رواية: من سته وعشرين، وفي رواية: من أربعة وأربعين؟

الجواب: قال القاضي عياض: أشار الطبري إلى أنّ هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرائي، فالمؤمن الصالح تكون رؤياه من ستة وأربعين جزءاً، والفاسق جزء من سبعين، وقيل: المراد أن الخفي منها جزء من سبعين، والجلي جزء من ستة وأربعين.

قال الخطابي وغيره: قال بعض العلماء: (أقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يُوحَى إليه ثلاثا وعشرين سنة) وكان قبل ذلك بستة أشهر يرى في المنام الوحي وهو جزء من ستة وأربعين جزء، فنسبة الأشهر نصف سنة، فصار جزء من ستة واربعين جزء من أيام نبوته.

وقال بعض أهل العلم: وقد سُئل عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة)) ()؟ فقال: تمحو على موافقة النبوة لا أنها جزء باق من النبوة.

وقال آخر: إنها جزء من أجزاء علم النبوة وعلم النبوة باقِ، والنبوة غير باقية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ((ذهبت النبوة وبقيت المبشرات، الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له)) وفي نهاية ابن الأثير: أن حديث جزء من أربعين جزء محمول على رواية من روى أنَّ عمره صلى الله عليه وآله وسلم  كان ستين سنة، فيكون نسبة ستة إلى عشرين سنة كنسبة جزء إلى أربعين جزء، قال: ووجه أنها جزء من خمسة وأربعين أنَّ عمره لم يكن قد استكمل ثلاثاً وستين ومات في أثناء السنة الثالثة والستين، ونضيف نصف السنة إلى اثنتين وعشرين سنة وبعض الأجزاء ستة جزء من خمسة وأربعين.

سؤال(ح): وهي أنَّ الرؤيا على رِجْلِ طَائرٍ مالم يتحدث بها، فإذا تحدث بها سقطتْ ؟

الجواب: قال في نهاية ابن الأثير: أي على رجل قدرٌ جارٍ وقضاءٌ ماضٍ من خيرٍ وشرٍ وأن ذلك هو الذي قسَّمه الله لصاحبها من قولهم: اقتسموا داراً، فطار سهم فلان في ناحيتها أي وقع سهمه[وخرج وكل حركة من كلمة أو شيء يجري فهو طائر]، والمراد أن الرؤيا هي التي يعبرها المعبر الأول فكأنها كانت على رجل طائر فسقطت فوقعت حيث عبّرت كما سقط الذي [يكون] على رجل الطائر بأدنى حركته   .

سؤال(ح): قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا طلاق في إغلاق)) ()؟

الجواب: قال ابن الأثير، أي في إكراه لأن المكرَه مغلق عليه في أمره ومضيق عليه كما يغلق الباب على الإنسان. انتهى. وفسّره مالك بالغضب، أي لا يقع الطلاق حال الغضب.

سؤال(ح): قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (الطلاق بالرجال والعدة بالنساء) () ؟

الجواب: معناه ظاهر، وهو: أنَّ الطلاق يختص بالرجال، فليس للنساء ولا إليهنّ منه شيء، والعدة تختص بالنساء فليس على رجل أن يعتد ولا له ذلك، وإن شئت قدّرت متعلق حرف الجر عاماً من نحو: حصل، والمعنى مستقيم، وإن شئت قدّرته خاصاً نحو اختص أو مختص، فلذلك نظائر، والمعنى ظاهر مما لا ينبغي أن يقع فيه لبس أو تردد.

سؤال(ح): قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها)) ()؟

الجواب: قال في النهاية يعني أنَّها مساوية فيما كان من أطرافها إلى ثلث الدية، فإذا تجاوز الثلث وبلغ العقل نصف الدية صارت دية المرأة على النصف من دية الرجل.

سؤال(ح): قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليس منّا مَن حلق أو خرق أوسلق)) ()؟

الجواب: أي ليس من أهل سنتنا من حلق شعره عند المصيبة إذا حلت به، وسلق: رفع صوته عند المصيبة، وقيل هو أن تصك المرأة وجهها وتخمشه، والأول أصح، ومنه الحديث: (لعن الله الحالقة والسالقة) ()، ويقال بالصاد، والخرق هو: شق الثوب، ذكر ذلك ابن الأثير أيضاً.

سؤال(ح): قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليس في الجبهة ولا في النُّخَّة() ولافي الكسعة صدقة))()؟

الجواب: قال في النهاية(): (الجبهة: الخيل، والكسعة: الحمير) وقال في الضياء: (النخة: البقر العوامل)، والمعنى: أن الزكاة لا تجب في أيّها.

سؤال(ح): ماوجه إستدلال بعضهم على جواز أكل ذبيحة الكافر بأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم  أكل من جبن فارس؟

الجواب: قد ذُكِرَ أن الجبن يستخرج من كرش الجداية ثمَّ يطبخ، فإذا صح ذلك كان أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  من جبن الكفرة من أفحم الأدلة على حِل ذبائحهم، لأنَّها لو كانت نجسة غير حلالٍ لم يأكلْ رسول الله ماهو منها أو متصل بما هو منها في حال نجاسته، لأنَّه إنَّما يستخرجُ ذلك بعد الذبح والموت.

سؤال(ح): على ما تحمل الاحاديث الواردة في فضائل الأعمال وهي كثيرةٌ مشهورةٌ؟

الجواب: قد ذكر الفقيه نجم الدين يوسف بن عثمان() في (الزهور) كلاماً آنق من رياض الزهور وأعذب من معين الحياض وماء البحور عند شرح قوله في (اللمع): في صلاة الجماعة كان كقيام نصف ليلة، فقال: إن هذا الحديث وأمثاله من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((من فطر صائماً كان له مثل أجره))، و ((من عزى مصاباً...)) () وغير ذلك يرد فيه سؤال، وهو: أن يقال: الثواب على أصلكم بقدر المشقة ومشقة الصائم ونحوه أكثر؟ ويجاب بوجوه ثلاثة:

الأول: أنَّ هذا ورَدَ على سبيل البيان لكثرة ثواب المفطر والمعزي والجماعة، لا لبيان التحديد، بل الكثرة.

الثاني: أنَّ معناه أنَّه يكون ثواب المفطر الاصل منه والزايد كأصل ثواب الصائم وكذا غيره لأنَّ الثواب يتضاعف.

الثالث: للمرجئة وكثير من المحدثين أن هذا الأصل غير مسلم، بل الثواب يجوز أنْ يكون على الفعل الكثير أقل من اليسير بناءً على مذهبهم أنه غير واجبٌ بل يتفضل الله بما يشاء على من شاء، واعلم أن قولنا الثواب على قدر المشقة لابد أن يضاف اليه: ومصادفة الموقع. ألا ترى أن الصلاة في المسجد أفضل من غيره وإن استوت مشقتها في غير ذلك.إنتهى.

ولوالدنا -قدّس الله روحه في الجنة ونور ضريحه- في فضل حسن التكليف وبيان وجه الحكمة فيه من القول السمين والقدر المعين ما إذا حفظته إلى هذا المكان نفعك.

سؤال(ح): ما معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم  لحكيم بن حزام وقد سأله عن أمورٍ كانت يُتَحَنَّث بها في الجاهلية من صيام وصدقة وعتاق وصلاة هل له فيها أجر قال صلى الله عليه وآله وسلم  أسلمت على ماسلف لك من خير؟

الجواب: حكيم المذكور ولد في الكعبة، قال بعض العلماء: ولا يعرف أحد شاركه() في هذا، قالوا رحمهم الله تعالى أنه عاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام، وأسلم عام الفتح، ومات بالمدينة سنة أربع وخمسين، ومعنى التحنث: التعبد أو التبرر، وهو فعل البر والطاعة، والمروي عنه أنَّه أعتق مائة رقبة وحمل على مائة بعير، معناه تصدق بها في الجاهلية وفعل مثل ذلك في الإسلام وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أسلمت على ما أسلفت من خير))، أو على ما سلف لك من خير إذ قد روي بهما، واختلف في معناه، فقال الماوردي: ظاهره خلاف ما تقتضيه الأصول، لأنَّ الكافر لا يصح منه التقرب فلا يثاب على طاعته، ويصح أن يكون مطيعاً غير متقرب، فإنه مطيع من حيث موافقة الأمر، والطاعة عندنا: موافقة الأمر، ولا يكون متقرباً لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرَّب إليه ولما يحصل له العلم بالله، فإذا تقرر هذا عُلِمَ أن الحديث متأول وهو يحتمل وجوهاُ:

أحدها: أن يكون معناه إكتسب طباعاً جميلة.

والثاني: اكتسب بذلك ثناءً جميلا وهو باقٍ عليك في الإسلام.

الثالث: أنَّه لا يبعد أنْ يزاد في حسناته التي يفعلها في الإسلام ويكثر أجره بما تقدم له من الأفعال الجميلة، وقد قالوا في الكافر إذا كان يفعل الخير فإنه مخفف عنه به، فلا يبعد أن يزاد هذا في الأجور.انتهى كلام الماوردي، وقيل: معناه: ببركة ما قد سبق لك من خير هداك الله للإسلام، وأنَّ من ظهر منه خيرٌ في أول أمره، فهو دليل على سعادة أخراه وحسن عاقبته، وذهب طائفة من علمائهم إلى أن الحديث على ظاهره وأنه إذا أسلم الكافر ومات على الإسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال الكفر، واستدلوا بحديث ذكره الدارقطني يقضي بذلك من تسع طرق، ثبت فيها أن الكافر إذا أحسن إسلامه يكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك()، قالوا: وقد يعتد ببعض أفعال الكافر في أحكام الدنيا، فقد قال الفقهاء إذا وجب على الكافر كفارة ظهار أو غيرها فكفر في حال كفره أجزأه ذلك، وإذا أسلم لم يجب عليه إعادتها.

سؤال(ح): قال بعض الصحابة: إنَّ أحدنا ليجد في نفسه ما لإن يحترق حتى يصير حممة، أو يَخِرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليه من أن يتكلم به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ((ذلك محض الإيمان)) ()؟

الجواب: المذكور في (المجتبى)() و(التجريد): المعنى المذكور بزيادة ونقص في الألفاظ المذكورة، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم  قال في الجواب: ((الله أكبر الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)) قال أبو زميل: قلت لابن عباس ماشيء أجده في صدري قال ماهو؟ قلت والله لا أتكلم به، فقال لي شيء من شك،  فضحك ثمَّ قال: ما نجا من ذلك أحدٌ حتى أنزل الله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس:94] ثم قال: إذا وجدت شيئاً من ذلك في نفسك فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] وفي بعض الطرق أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم  لمن سأله: ((ذلك صريح الإيمان))، قال صاحب المعالم(): قوله صلى الله عليه وآله وسلم  ((ذلك صريح الإيمان)) معناه: أن صريح الإيمان هو الذي يمنعك من قبول مايلقيه الشيطان في أنفسكم والتصديق به حتى يصير ذلك وسوسة لايتمكن من قلوبكم ولا تطمئن إليه أنفسكم، وليس المعنى أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وذلك أنها مما يتولد من فعل الشيطان وتسويله، فلا يكون إيمانا صريحا.

سؤال(ح): على قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان، ويصدق ذلك ويكذبه الفرج)) () يفهم من هذا أنَّ النظر لشهوة يجوز؟

قال عليه السلام :

الجواب: أنا نقول: المفهوم ليس بدليل، ولا يحكم به، ثمَّ نقول: من أين فهم السائل ما ذكره، ولا يجد لذلك حقيقة؟، ثمَّ إنا نقول: أنَّ المراد بقوله: ((ويصدق ذلك ويكذبه الفرج))، هو أنَّه إذا تبعه الفعل بالفرج، كان زناً حقيقياً موجباً للحد، فهذا تصديقه، وإذا لم يتبعه الفعل بالفرج، لم يكن زنىً حقيقياً، بل كان مجازاً لا يوجب الحَدّ، هذا معنى تكذيبه، واسم الإشارة، وهو(ذلك)، عائد إلى الزنى بالعينين وسائر الأعضاء المذكورة في الخبر، فمع هذا التفسير لا يفهم ما ذكره السائل، يوضح أن الله كتب على كل عضو حصته من الزنى، فإن تبعه الفعل بالفرج كان الحكم أشد وأغلظ، وإن لم يتبعه الفعل بالفرج كان الحكم دون ذلك لا أنَّه يبطل.

سؤال(ع): لفظه: جاء في الحديث من رواية حمَاد بن ثابت عن أنس في الجمع بين الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  مالفظه ((أن رجلاً كان متهماً بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لعلي: اذهب فاضرب عنقه، فأتى عليه فإذا هو في ركي يتبرّد، فقال له علي: أخرج. فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب، ماله ذكر)).

السؤال: عن كشف ما تضمنه الحديث من تجويز إنفاذ ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ما وجه الإباحة لدمه؟ لأنه لم يرد في الحديث إلا مجرد التهمه، وهي غير مبيحة له، فهل انضاف مبيحٌ له مع التهمه لموجبها؟ أو عضدها مرجِّحٌ لسفك دمه، مع السلامة عما أنكشف به، فلما علم من حاله ذلك ضعف لزوالها؟ وهل موجب التنحي عنه بطريق الوجوب أو العفو من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  لانتفاء أن يكون عن وحي من الله ويصح منه مع إمكان الوحي أو الوقف أو لا؟ وما وضعه مفسروا الحديث، ويقضي به النظر ويصح معه التنزيل شافيا نافيا للشكوك لما ترتب على تلك التهمة من الأمر به والتوقُّف عنه بعد معرفة حاله؟ وما ذلك الذي انضم إليها إن كان، فلفظ الحديث لا يقضي به؟

الجواب والله أعلم: أن الأحكام الشرعية المقتضاة عن المصالح الدينية العامة والخاصة لها وجهان :

أحدهما: ما هو ظاهر ومطيقٌ فهمه للأمة ويتسع له مبلغ علمهم، وقد صارت له قوانين وأبواب معروفه مضبوطة.

والثاني: ما يوقعه الله من الأسرار لأنبيائه وخواص عباده ويقصره عليهم ولا يتعداهم إلى غيرهم، ومن ذلك ما حكاه في قصة موسى والخضر، فإنَّ الخضر فعل أفعالاً لا مجال لها في ظاهر الشرع، ولا مساغ من قتل النفس المحرّمة، وخرق السفينة، ونحوهما حتى لم يستطع موسى صبراً عليها مع المواطأة على ذلك مرة بعد أخرى، وكما حكي أن رجلين ترافعا إلى بعض الأنبياء، فادّعى أحدهما على الآخر أنه غصب عليه أو سرق، أو استهلك بقرة، وكان الفصل ينزل من السماء فنزل بقتل المدعى عليه، فلما قيد للقتل قال: ما هذه الدعوى ذنبي ولا لأجلها أمر بقتلي، ولكني قتلت أبا هذا المدعى عليه فلذلك أمر بقتلي، بهذا المعنى القصة، وهي مذكورة في بعض التفاسير، وكذلك فللشرع الشريف فرَق بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وأمّته في كثير من الأحكام، فمن ذلك ما أُطْلِعْنَا عليه كتحريم نكاح نسائه بعده وغيره، ومن ذلك ما لم نطلعْ عليه لعدم موجب لتعريفنا به والاحتياج إليه.

إذا عرفت هاتين القاعدتين، قلنا: هذا الحديث إذا فرض أن مخبره على ما هو به، وأن ذلك أمرٌ، كان من المحتملات فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  اطلع من موجب قتل ذلك الرجل على غير هذا السبب، أطلعه الله عليه أو أوحى إليه بجواز قتله، ولم يخبره بالوجه، كما في قصة دعوى البقرة، هذا بالنظر إلى القاعدة الأولى، وبالنظر إلى الثانية، لا يبعد أن يكون لأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ومنكوحاته من الحرمة الشديدة والتحريج العظيم ما يقتضي قتل من همَّ في نسائهم، أو صدر منه أمر من مقدمات الفجور، أو تعرض لهنَّ، ويكون لزيادة هتك الحرمة الشريفة حكم ليس كسائر الأحكام في حق غيرهنَّ، ويكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قد تيقن أو قامت له قاعدة شرعية بصدور شيء من ذلك الرجل ولم يكن أمر بما أمر به منوطاً بالوطء المحرم، وحقيقة الزنى، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  معصوم عن وقوع ذلك في نسائه ومنزه عنه، ولا يبعد أن يلتحق بهن حكم أم الولد فهي وإن نقصت درجتها عن الزوجات من وجهٍ، فلها زيادة حكم بولدها، وكونها اختصت بذلك من بين نساء النبي الموجودات حينئذ، فهذه محاملٌ حسنة يرتفع بها الإشكال بنفس الأمر بقتل الرجل، وأما الكف عنه بعد الاطلاع على كونه مجبوباً، فلا إشكال فيه، وليس إباحة قتله ومساغه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لوجه قد تيقنه، أو وحيٌ أُنزل إليه يمنع من ترك قتله، فله صلى الله عليه وآله وسلم  أن يعفو عمن يستحق القتل بأبلغ سبب كالكفر ونحوه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم  بعد أن سمع أبيات() أخت النظر بن الحارث: ((لو سمعتُها قبل قتلهِ ما قتلتُه))، وكان من أشد الكفار استحقاقا للقتل، ولعله صلى الله عليه وآله وسلم  توهَّمَ أنه ما أمر بالقتل إلاّ لكونه زانياً، فلمّا فهم أنَّه مِمنْ يتعذر عليه الزنا كفّ عنه، ولما كف عنه لم يستحسن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  الأمر بقتله مرة أخرى ولا نقض ما أبرمه علي عليه السلام  من العفو عنه، وقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم  من أصحابه قتل أبي سفيان حين دخل عليه مع العباس وقد قرب صلى الله عليه وآله وسلم  من مكة يوم فتحها، فلما لم يفعلوا ولا فطنوا لما أراد لم يأمرهم بعد بقتله ولا أذن به بعد أن فهموا ذلك منه وأخبرهم بما كان في نفسه، وبالجملة فصدور هذا ونحوه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  الذي هو صاحب الشريعة لا يقدح ولا ينبغي إشكاله، فإن الشريعة كلها بل أكثرها مخالفة لمقتضى العقول ولا عدم إباحة مثل هذا لنا بعده صلى الله عليه وآله وسلم  يعد قدحاً فيه، ولم يتعلق به حال أرفع ومكان أمنع، وفي سيرته صلى الله عليه وآله وسلم  غرائب ليست على مقتضى ما قرّره علماء الأمّة من شريعته، قد أشار إليها في (البحر)، وسماها غريب السيرة، كقصة كعب بن الأشرف، وغيرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سؤال(ع): إذا ورد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم  نهي وإباحة، أو أمر وإباحة، أو نهي وأمر، أيها يترجح على الآخر؟

الجواب: أن النهي يُرجَّح بالإباحة، والأمر يرجح بالإباحة، والنهي يرجح بالأمر، وهذه مسائل مقرّرة في باب الترجيح من فن الأصول.

مسائل تتعلق باللغة

قال السائل مالفظه: هذا لجٌ عميق القرار وفجٌ سحيق الأقطار وقد رأيت إيراد أبيات من شعر الأعراب لأنها أليق بالمتطَّلع النَّقَّاب وأوفق لإصابة الصواب، قال الأعشى يصف السحاب:

له رِدَافٌ جوزٌ مُقَامٌ عَملٌ

 

مُنَطَّقٌ بِسِجالِ الماء مُتَّصِلٌ

الجواب: الرداف جمع ردف ولعله أراد السحاب المتراكم، والجوز: الوسط، والمقام: المنعم المملوء، والعمل: من قولهم: رجل عملي أي مطبوع على العمل، منطق: سجال الماء جمع سجل وهو: الدلو المملوءة، والمتصل: الغزير المدرار، وجعل السجال كالمنطقة في الوسط، ولعله يُرَادُ به سحابٌ متراكم متعاظم معتمل في سوقه ودروره، وأنَّه مدرار وهذا البيت من بحر البسيط.

سؤال(ح): وقال غيره في ذلك: عبد بني الحسحاك:ـ

ِ له فُرَّقٌ منهُ يُنَتِّجْنَ حوله

 

يُفَقِّـئْن بالميث الدماث السوابيا()

الجواب: فهذا البيت في صحاح الجوهري، والفرق: جمع فارقة وهي الناقة المنفردة، فشبه كل قطعة من السحاب بها، والنقاح(): معروف، وحوله: أي بالقرب منه، ويفقئن: من قولهم تفقأ شحماً، والميث والموث واحد: من ماثه بالماء يموثه أي ذاقه، والدماث: الأرض السهلة، والسوابيا: جمع سابيا وهي: الماشية والغنم إذا كثرت، وهذا من بحر الطويل.

سؤال(ح): وقال لبيد في ذكر الأضعان:

من كُلِّ مَحفُوفٍ يُظل عِصِيّه

 

زوجٌ عليه كِلّةٌ وقِرامُها()

 الجواب: هذا من بحر الكامل، ومحفوف: إسم مفعول من حفَّ له محف، وهذا البيت في الجمهرة من سمط لبيد، أي هودج محفوف بالثياب، وعصيه: عيدانه، والقرام: الستر، وكلما سترت به شيئا أو غطيته فهو قرام، والروح: النمط الواحد يطرح على الهودج، والكِلّة: الستر الرقيق يخاط كالبيت يتوقى به من البق، وهي أيضا صوفة حمراء في رأس الهودج، وذلك واضح المعنى لا غبار عليه.

سؤال(ح): وقال يصف الدرع:

أحْكَمَ الخِنْثَىّ من عوْرَاتِها

 

كلَّ جرباء إذا أكرِهَ صلْ ()

الجواب: الخنثى بالضم الزراد، واما الخنثية فهي السيوف والدروع والعورات جمع عورة وهي كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب، والجرباء بالكسر مسمار الدرع أو رأسه في حلقة الدرع، وصَلَّ المسمار يصل صليلاً أي صوت، وأكره: إذا دخل في مكانه كرهاً، وهذا من بحر المديد، والبيت هذا من أبيات الصحاح وهكذا فسره به هناك.

سؤال(ح): قال أبو زبيد:

كالبلايا رؤسُها في الوَلايَا

 

مانِحَاتِ الهجير حر الخُدودِ ()

الجواب: البيت من بحر الخفيف وهو في الصحاح، والبلايا: جمع بلية، الناقة التي يموت ربها فتشد عند قبره حتى تموت، كانوا يقولون صاحبها يحشر عليها، والولية: البرذعة، والجمع: الولايا، قال الجوهري: يعني الناقة التي كانت تشد عند قبر صاحبها ثمَّ تطرح الوليه على رأسها إلى أنْ تموت.

سؤال(ح): وقال الشماخ:

كأنَّ مَسْكِي وقد مَرّ السهامُ به

 

إهاب سيْهَمَ بالبيداءِ منبوذُ ()

 الجواب: هذا من بحر البسيط والمسك: الجلد،  والسيهم: القنفذ الذي عظم شوكه، فشبَّه جلده السهام وقد مرت فيه شعر القنفذ، والبيداء معناه ظاهر.

سؤال(ح): قال الفرزدق:

وهتكت الأطناب كل ذُفرتٍ

 

لها تامك من عاتق النّي أعرف

الجواب: هذا من بحر الطويل، والذفرة: الناقة، والتامك: السنام العالي، والني: الناقة السمينة، والأعرف: ماله عرفٌ كبير.

سؤال(ح): قال خِداش بن زهير:

كذَبْتُ عليكمْ أوعَدُوني وعَلِّلُوا

 

بيَ الأرض والأقوام قردان موظبِ ()

الجواب: هذا من الطويل، ولعلّ كذبت عليكم: مثل كذب عليكم العسل، أي عليكم بالعسل، قال في الصحاح: يقول ياقردان موظب عليكم بي وبهجاي إذا كنتم في سفر فاقطعوا بي الأرض، وموظب: بالفتح، إسم موضع بقرب مكة.

سؤال(ح): وقال الأخطل:

رَبَتْ وربا في كَرْمِها ابن مدينةٍ

 

يطلُّ على مِسْحَاتِه يتركَّلُ ()

الجواب: هذا من الطويل، وربت، وربا: أي نشأت ونشأ، والمسحاه: الخنصيرة()، وتركل في مسحاته: ضربها برجله لتدخل في الأرض، وهذا البيت في الصحاح، ومنه أخذ ما ذكر في تفسيره، ومن طمح إلى الزيادة وجدها ثمَّ.

سؤال(ح): قال ذو الأصبع العدواني:

لاهِ ابن عمك لا أفضلت في حسب

 

عني ولا أنت دياني فتـخزوني()

 الجواب: هذا من البسيط، أي لله در ابن عمك لا أفضلت في حسب عليَّ، ولا أنت مالكي فتسوسني، و(عن): بمعنى على، لأن المعروف أفضلت عليه.

قال السائل: أولاً ما لفظه: هذه عشرة أبيات مشهور قائلوها بالبلاغة، والمراد تفسير ألفاظها اللغوية؟ إنتهى لفظه.

فأجاب مولانا عليه السلام  بما لفظه : قد فسّرنا تلك الألفاظ على مايراه السائل بسلامته، وإن كنا تركنا شيئا فلِكمال وضوحه وعدم إحتياجه إلى الذكر، فتفسير الجلي عَسر، وإنْ بقي في نفسه شيء مما أراد حققه وكشفناه فوق ما يؤلف إن شاء الله تعالى ويعاد، وكان مثله بسلامته ممن يتجافى ويتجانف عن إيراد الوحشي من اللغة، وما لا حاجة إليه في الاجتهاد من ذلك، فقد كنا أشرنا إليه بإشارة لطيفة بعبارة ظريفة، إشارة إلى ما ورد في الأثر عن سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم  من أنه نهى عن الأغلوطات()، قال الشيخ الخطابي: إنما نهى عن الاغلوطات، قال الأوزاعي: هو شرار المسائل، والمعنى: أنه نهى أن يعترض المعلم بصعاب المسائل الذي يكثر بها الغلط ليُستزلوا بها ويسقط رأيهم فيها، وفيه كراهية التعمق والتكلف بما لا حاجة بالإنسان إليه من المسألة ووجوب التوقف، قال الخطابي: وقد روينا عن أبي بن كعب أن رجلا سأله عن مسألة فيها غموض، فقال هل كان هذا ؟ فقال: لا. قال: أمهلني إلى أن يكون.

وحدثونا عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن عيينة بن عبد الله قال: سأل رجل مالك بن أنس عن رجل يشرب في الصلاة ناسياً، فقال: ولِمْ لَمْ يأكل؟‍! ثمَّ قال: حدثنا الزهري عن علي بن الحسين أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قال: (( إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) () وقد يعتذر للسائل بأنه إنما أورد في اللغة تلك المسائل الوحشية القلائل المتبخترة تبختر العروس في تلك الغلائل لتكون كالقواعد الجامعة لأمهات المقاصد التي يعود منها أحسن العوائد ويتكفل بإبراز الفوائد لمّا كانت اللغة متسعة النطاق وضبطها مما لا يكاد يطاق، فأتى بما يشير إلى الإحاطة والشمول ويقضي بالتيقظ وعدم الذهول، ويشهد تفسيره بالعرفان للأبواب والفصول حتى يتم المراد ويحصل الأمل والسؤل، وهذا درّة تاج ما يعنيه والمقام يستوجبه ويقتضيه، وذلك مما لاشك ولا ريب فيه، (أبدى الصريح عن الرّغوَة) ()، فلا جفوة ولا هفوة، وكيف وبه يتبين الأمر ويظهر؟:

أراك بشر ما أجـار أراك مشـعر

 

فمثل ذلك عذر لـذلك الصاحب

ومـن شيمتي حب الديار لأهلها

 

وللنـاس فيمـا يعشقون مذاهب

قال السائل: عن تمام هذا الاعتذار ما لفظه: العذر ما ذكره أمير المؤمنين، والله على ذلك من الشاهدين.

مسائل تتعلق بالنحو

سؤال(ح): قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ  لَيْلَةً} [البقرة:51] على ما انتصب أربعين، لا جائز أن ينتصب على الظرفية لأنَّ المواعدة لم تكن في الأربعين، ولا جائز أن يكون مفعولا ثانياً لِواعدنا كما لا يخفى؟

الجواب: نختار أن يكون مفعولا ثانيا لواعدنا، فلا مانع من ذلك، إما على أن الأربعين الموعودة أو على حذف مضاف، أي تمام أربعين، ثمَّ أُقِيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه، وهذا قول الأخفش، وأما الانتصاب على الظرفية فلا يصح، لأنه معدود، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أفراده، ولم تقع المواعدة كذلك كما ذكر السائل.

سؤال(ح): قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة:135] ذكر أن حنيفا منتصب على الحالية من إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد منعوا من ذلك في نحو رأيت جارية زيد ضاحكا، فما الفرق بين المسألتين؟

الجواب: لا يُضَاف غير عامل الحال إلى صاحبه إلاّ أن يكون المضاف جزؤه نحو قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الأعراف:43] أو كجزئه كقوله تعالى: { أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [المائدة:150] للإستغناء عن المضاف في هاتين الصورتين، فوجوده كعدمه في عدم اختلال المعنى بخلاف المثال الذي ذكره، فافترقا، فأما إذا كان المضاف عاملا في الصاحب صح ذلك لقوله تعالى {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً}[المائدة:48].

سؤال(ح): وأين يجب تقديم الحال على صاحبها؟ وأين يجب تأخيرها عنه؟ وأين يجوز الأمران؟

الجواب: يجب تقديم الحال في مثل: ما جاء ضاحكاً إلاّ زيدٌ، ويجب تأخيرها في نحو: عرفت قيام هندٍ مسرعةً، وفي نحو: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}[النحل:123] وفي نحو: جاءتني ضاربةً زيدٌ . مجرداً، وذلك لأن الحال تابع لذي الحال وفرع له، والمضاف إليه لايتقدم على المضاف الحال، فكذلك تابعه، ويجوز الأمران إذا كان العامل فعلا متصرفا أو وصفا يشبهه نحو: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} وقوله:

عدس ما لعبادٍ عليكِ إمارةٌ

 

نجوتِ وهَذَا تحْمِلِينَ طلِيْقُ ()

أي وهذا طليق محمول لك.

سؤال(ح): وأين يجب تكرير الحال والنعت ؟

الجواب: يجب ذلك حيث ولي أحدهما (لا)، أو (إمّا) مقرونة كل واحدة منهما بالواو، وفي الثاني من المكرر، تقول: جاء زيد لا ضاحكا ولا راكباً، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]، {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لاَ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ}[الواقعة:43، 44]،  لا بد من حساب إما شديد وإما يسير.

سؤال(ح): ولِمَ أجازوا فيها: زيد (قائماً)، بنصب قائم، ورفعه، ومنعوا رفع (راغب) في قولهم: فيك زيدٌ راغباً.

الجواب: السؤال لا يعدم الاختلال، والمذكور في المسألتين معروف في التسهيل وشرحه، ومثل ذلك لا يخلو منه كلام البشر، وقد يعرض النسيان والغلط والذهول فيما صدر، لأن ابن مالك إنما قال : لا يلزم الحالية في نحو: فيها زيد قائماً، بل يترجح على الخبرية لزيد أنّ نصب قائم على الحالية أرجح من رفعه على الخبرية، لتقدّم فيها لأن الأولى بالتقديم أن يكون عمدة لا فضله، ومنه: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود:108] قال ابن مالك: وتلزم هي أي الخبرية، ولا تجوز الحالية في نحو فيك زيد راغب، يعني لأنه لا يمكن الاستغناء بالجار والمجرور عند جعل المحل للحالية والخبرية وهو راغب: حالاً، وقد تبين إنضراب السؤال، وما فيه من التعكيس، والاختلال.

سؤال(ح): ذكر في الكشَّاف عند تفسير قوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ...} [آل عمران:163] أي في التفاوت، واحتج بقول الشاعر:

أنصبٌ للمنيةِ يعتريهِم

 

رجالي أم همُ درج السيول   


 كيف إعراب البيت ومعناه؟

الجواب: هذا السؤال يتضمن أسئلة ثلاثة : إثنان بالتصريح، والثالث بالتلويح، وهي: معنى البيت، وإعرابه، ووجه الإحتجاج به؟

والجواب عن الأول منها هو: أنَّ الشاعر لما كثر موت رجاله قال: كأنهم أعراض للموت، أم طرق لسيول الموت، وذلك ظاهر.

وعن الثاني: أن رجالي مبتدأ تقدم خبره، وهو نصب للمنية، ويعتريهم حال، والذي بعد أم المنقطعة مبتدأ وخبر، وذلك واضح أيضاً.

وعن الثالث: أن سبب إيراده والإستشهاد به أن يريك أن درجات، في قوله : {هُمْ دَرَجَاتٌ} خبر (لا) بتقدير بمضاف كما ذكره من بعد، كما أن درج السيول خبرها هنا لا بتقدير.

سؤال(ح): ذكر صاحب التحرير() أن الواو في قوله تعالى {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}[الحجر:65] للحال وكيف يستقيم مع أن الجمل الإنشائية لا تقع حالاً، وإن سلم فقد صار الاستثناء من غير الموجب لأنه إنما يعتبر باللفظ، ألا ترى أنه يجب النصب في: (امتنع القوم إلا زيداً)؟

الجواب: أما قول من قال في قوله تعالى: {وَلاَ يَلْتَفِتْ...} في تلك الآية حال، فضعيف واهٍ، لأن الجمل الإنشائية لاتكون أحوالاً كما ذكر السائل، وإن كان بعضهم قد ذكر صحة ذلك مستشهداً بقول الشاعر :

أطلب ولا تضجر من مَطْلَبٍٍ

 

فآفة الطالب أن يضجرا

وأما تضعيفه لذلك بأنَّ المعتبر في غير الموجب إنما هو باللفظ، فكأنَّه لمح إلى أنَّه حينئذٍ يكون تقديره: فاسر بأهلك، غير ملتفتين، ولم يبقَ لحرف النهي صورة، فخرج عن كونه غير موجب، وعندي أن ذلك لايخرجه، لأنه إنما يعتبر باللفظ ولو اقتضى التقدير تحريفه وتبديله، سلمنا فإن لفظ غير كلفظة (ما، ولا)، ونحو ذلك، والله أعلم .

سؤال(ح): قول المتنبي:

ملقّبٌ بكَ مالقِّبْتَ ويكَ به

 

يا أيها اللقَبُ المُلقَى على اللَّقَبِ()

 ما معنى ويك؟ وهل هو إسم فعل؟ وذكر بعض من عندنا أنه بمعنى ويلك؟

الجواب هو: أنَّ ويَّ إسم لأعجب كقوله:

ويّ كأن من يكن له نشب يحـ

 

ـبب ومن يفتقر يَعِشْ عيش ضُرِِّ ()

 وقد تلحقها كاف الخطاب كما في هذا البيت، وكقوله:

ولقد شفى نفسي وأبرأ سُقْمِهَا

 

قول الفوارس ويك عنتر أقدم()

وقال الكسائي : أصْلُ ويك: ويلك، فالكاف ضمير مجرور.

سؤال(ح): علامَ انتصب لفظ راحة في قول المتنبي:

فما حرموا بالرّكض خيلكَ راحةً

 

ولكنْ كفَاهَا البَرّ قطعَ الشواهقِ()

 فقد اختلف الأصحاب في وجه نصبه، فقيل على الحالية وقيل على التمييز، وقيل على أنه مفعول مطلق، وقيل لأنه مفعول لأجله، وقيل على أنه مفعول فيه فأيها أوجه؟

الجواب: أنّ انتصاب راحةً على أنَّه مفعول ثان لحرم، وسوى ذلك نفخ في غير ضرم واستسمان لذي ورم والله سبحانه وتعالى أعلم، فلعلّ يصعب اقتحام غارب، معنى هذا البيت على أن خبط أولئك القائلون خبط عشواء، وركبوا واعتلوا على متن عمياء، ولنوضّح المعنى، ليتضح ماقلنا، وحاصله: أنه قصد أن خيله وإلفه للركض والصولة على الأعادي، فركضها على هؤلاء المخصوصين المقصودين لم يمنعها راحة لأن ذلك ديدنها وشنشنتها.

سؤال(ح): قيل في تعريف العدد: أنَّه المقدار المنفصل الذي ليس لأجزائه حد مشترك. مامعناه؟

الجواب: بأنَّ الحد لابدّ له من جنس وفصل، فالجنس: ما يشمله هو وغيره، والفصل: مايميزه عن غيره، كقولهم في حد الإنسان: حيوان ناطق، فحيوان شامل لجميع الحيوانات، وناطق يفصل عنه غيره، لأن الناطقية مختصة، كذلك هنا فإن المقدار جنس يشمل العدد وغيره، كالخط وهو: ما تركب من نقطتين، والسطح: وهو ما ينقسم في الطول، هذا مثال الخط تقريبا() والسطح، ونحو ذلك لأن الخط والسطح ونحوهما من المقدار، وقوله: منفصل، يخرج ما ذكر، إذ لا إنفصال فيه، وقوله: الذي ليس لأجزائه حدّ مشترك، لإخراج أنواع الحيوان ونحوها، لأن كلاً منها وإن كان مقدارا منفصلا إلاّ أن لها حداً مشتركا، وهو الماهية الصادقة على كل فرد من أفراد ذلك النوع، ولاكذلك أسماء العدد، فإن العشرين والثلاثين وغيرهما ليس لها ماهية محققة من جنس وفصل يصدق على كل منها صدق الإنسانية على كل رجل وامرأة، ولما لم يخرج هذا بالفصل الأول أحتيج إلى الفصل الثاني، وقد يكون الفصل متحدا ومتعددا حسب الحال والله أعلم .

سؤال(ح): قال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن:46] ما الوجه في كونه لم يقل ذاتا أفنان؟ وكيف أصل ذات؟ مفردةٌ عند أهل التصريف، أو مجموعة؟

الجواب: بأنَّ تثنية ذات قد تكون على لفظها من غير ردّ المحذوف، فيقال: ذاتا، ومنه:

يادار سلمى بين ذاتي العوج

 

................................................................

وقد يكون برَدّ لام الكلمة، فيقال: ذواتا، وهو المستعمل الكثير الشايع الذايع، ومنه: {ذَوَاتَى أَفْنَانٍ}، {ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ}، وقوله: كيف أصل ذات...الخ؟ قلنا: ذات مؤنث، وألف ذا فيها ثلاثة أقوال:

الأول: أنَّها منقلبة عن أصل وذلك عند البصريين، لأنه إسم ظاهر، وليس في الأسماء الظاهرة القائمة بنفسها ماهو على حرف واحد، لكن اختلفوا فقيل عن (ياء) هي عين، واللام (ياء) أيضا محذوفة فهو ثلاثي الوضع في الأصل، ودليل كونها (ياء) سماع الإمالة فيها، ودليل كونها العين والمحذوفة اللام أن الأواخر أحق بالتغيير والحذف أبلغ التغيير، ولأن حكم اللام أن تكون ساكنة، فلا تقلب وقد وجدناها منقلبة وكانت عن حرف متحرك وهي العين، وقول من قال أنها (لام) قُلِبتْ ساكنة كيجل، قيل فيه ياجل، لا ينظر إليه ولا يعول عليه، لأنه حمل على النادر القليل، وأما كون لامه (ياء) فلأنه لا يوجد ما عينه (ياء)، ولامه (واو)، وقيل بل هذه الألف منقلبة عن واو هي عين الكلمة من باب: طويت، لأن (الياء) تغلب على اللام، والواو على العين .

القول الثاني: للكوفيين والسهيلي أنها زائدة لقولهم في التثنية ذان، ورُد بأنَّها صيغة للتثنية، لاتثنية حقيقية، بدليل عدم جواز تنكير إسم الإشارة، ولو سُلِّمَ أنَّ تثنيته حقيقة قيل سقطت الألف لملاقاة الساكن، ولأنَّه قد عوض من الذاهب تشديد النون، فكأنه لم يذهب.

القول الثالث: للسيرافي أن ذا ثنائيّ الوضع نحو ما، وألفه أصلية لازائدة ولامنقلبة، إذا ثبت ذلك في ذا، فحكم الفرع حكم أصله، هذا إن قصد السؤال عن (ذات) مؤنث (ذا)، وإن قصد ذات بمعنى صاحبة بشهادة قرينة الحال، فالأقرب أن الحكم الثابت في ذات الإسم، ثابت فيها، على أن قولهم في تثنيتها: ذواتا، وفي الجمع: ذوو يقتضي أن تكون الألف منقلبة عن واو، وتكون عين الكلمة المحذوف لامها من باب طويت والله أعلم.

سؤال(ح): الدعاء المعروف: (رضيتُ باللَّه رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ،  صلى الله عليه وآله وسلم  نبياً) على ما انتصب رَبّاً، وديناً، ونبيّاً؟

الجواب: أن ذلك مثل قوله تعالى {رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3] رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ذكر في المجيد أن رضيت تتعدى إلى إثنين، فيكون دينا الثاني، وقيل التعدي إلى واحد، ويكون ديناً حالٌ، والله أعلم.

سؤال(ح): قال الحريري():

سـِم سـمةً تـحسُن آثـارهـا

 

واشكر لـمن أعـطى ولـو سِمـسِمه

والـمكر مهمـا اسطعت لا تأتـه

 

لتـقـتنـي السُّـؤدد والـمـكرمـه

هل ترى للجملتين اللتين هما: مهما استطعت، ولاتأته محلا من الإعراب ؟ أو لا؟ فإنْ أثبت لهما ذلك، فما هو؟ وعلامَ؟ وما بال الحريري حذف فاء الجزاء من (لاتأته) ؟

الجواب: أنَّه لامحل للجملتين وذلك أنَّ المكر منصوب بفعل محذوف يفسره (لاتأته)، أي لاتأتِ المكر لاتأته مهما استطعت، فالأولى معطوفة على (سمسمة) أو (واشكر) على مافيه من الاختلاف، هل المعطوف مثلاً عطفه على مايليه أوعلى ماعطف عليه مايليه، ولامحل للمعطوف عليهما، لأنَّها إبتدائية، فكذلك المعطوفة المفسرة لامحل لها من الإعراب، قيل مطلقا، وقيل حيث لامحل لمفسَرها بفتح السين، وإنْ كان ذلك في قوّة جواب مهما، فالجميع في حكم الجملة الواحدة المعطوفة على ما لامحل له، فلا يكون لأيهما محل، إذ لا محل لجزء الجملة، كالجملة ولا للمجموع، لأنه معطوف على ما لا محل له، وقد عرفت أن (لا ستأته) ليس بجواب ولامعنى لقول السائل ماباله حذف فاء الجزاء من لاتأته.

سؤال(ح): قوله:

قومٌ سجاياهمُ توقير ضيفهمُ

 

والضّيف له التوقير ياصاح

 ماهذه الياء في سجايا، هي أصلية أم منقلبة؟ وعلامَ ارتفع التوقير الآخر من البيت؟

الجواب: الياء التي في سجية مفرد سجايا هي لام الكلمة منقلبة عن واو، لأنَّه يقال: سجا يسجو سجواً أي سكن ودام، ومنه والليل إذا سجى أي إذا دام وسكن، فتكون حينئذٍ منقلبة عن واو، والتوقير المسؤل عنه نظير قولهم: مررت برجلٍ معه صقر، وقد ذكروا في المرفوع بعد الظرف أوالجار والمجرورالذي تقدمه موصوف نحو ذلك أونفي أو استفهام أوموصول أوصاحب خبراً أوحال، نحو: (ما في الدار أحد، ولافي الدار أحدٌ، وجاء الذي في الدار أبوه، وزيد عندك أخوه، ومررت بزيدعليه جبة) ثلاثة مذاهب:

أحدها: أنَّ الأرجح كونه مبتدأ مُخبَر عنه بالظرف أو المجرور، ويجوز كونه فاعلاً.

الثاني: أنَّ الأرجح كونه فاعلا لأن الأصل عدم التقديم والتأخير.

الثالث: أنَّه يجب كونه فاعلاً.

تنبيه:حيث أعرب فاعلاً، هل فاعله الفعل المحذوف أو الظرف أو المجرور لنيابتهما عن استقر وقربهما من الفعل لاعتمادهما، فيه خلاف، قال صاحب المغني: والمذهب المختار الثاني بدليلين: أحدهما: إمتناع تقديم الحال في نحو: زيد في الدار جالساً، ولو كان العامل الفعل لم يمتنع، ولقوله:   

وإنْ يكُ جثماني بأرض سواكم

 

فإنَّ فؤادي عندك الدهر أجمع

 فأكد الضمير المستتر في الظرف، والضمير لايستتر إلاّ في عامله، ولايصح أن يكون توكيد الضمير محذوف مع الاستقرار لأن التوكيد والحذف متنافيان، ولا إسم إنَّ على محله من الرفع بالابتداء لأن الطالب للمحل قد زال بمضي الخبر وتقدمه.

سؤال(ح): قال الشاعر:

فارقت يحيى وقد قُوَّست من كبر

 

لبيست الخلتان الحزن والكِبرا

 علامَ؟ انتصب الكبر وما العامل فيه؟

الجواب: بأنَّ الكبر وما عُطِفَ عليه منتصبان بفعل مقدّر كأذم أو أعني.

سؤال(ح): أيَصِحّ أن يُقال: يا امرأةَ المرقومَ ما بين عينيها، على أن يجعل المرقومَ صفةً للمرأةِ، فإن صح ذلك، فهل لك أن ترفع (المرقوم) على لفظ المنادى، وأن تنصبه على محله، أو لا؟ وما محل (ما) من الإعراب في قولك: ما بين عينيها؟ وعلام يكون إن ثبت ذلك؟

الجواب: صحة وصف المرأة بالمرقوم أمر واضح جليّ معلوم، وحينئذ فلك في الوصف الرفع والنصب بإعتبار لفظ المنادى الموصوف ومحله، وأما محل (ما) فالرفع، ليس إلا، أما إذا قصد حدوث الرقم فظاهر، إذ (ما) تكون سادةٌ مسدّ فاعل المرقوم وإن كانت في الأصل منصوبة لكونها مفعولا به، وحيث كان المراد بتلك الصفة الثبوت، فلأنه إنما كان يصح النصب والجر حيث جعلت فيها ضميراً للموصوف، وذلك إنما يتأتى عند تأنيث المرقوم لكون ما يرجع الضمير إليه مؤنثا، وهو لايتأتى لكونه في الحقيقة صفة لمابين عينيها، فحيث لا تأنيث للصفة هنا، فتحتم رفع ما بعدها، هذا إن جعلنا (ما) موصولة، ولك أن تجعلها زائدة، ويكون السادّ مسَدّ الفاعل الظرف، وهو (بين) على نحو: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام:94]، فيمن رفع بين ونحوه كثير.

سؤال(ح): قال الشاعر:

من صدَّ عن نيرانها

 

فأنا ابنُ قيسٍ لا بَرَاح()

 ألهذه الجملة التي هي: (لا براح) محلٌ من الإعراب أم لا؟ وإذا ثبت ذلك فما هو؟ وعلى أي شيء يكون؟

الجواب: محل الجملة المذكورة النصب على أنَّها حال مُؤكدة لأن كونه إبن قيس أمر ملازم له لايزول عنه، فيكون قوله: لا براح، مؤكداً حينئذ، إذ (براح) مصدر: برح مكانه، أي زال عنه وصار في البراح، فكأنه قال: أنا ابن قيس مستمراً حينئذ حقه مقدراً واجب الحذف.

سؤال(ح): قال الله عزّ من قائل: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف:49] ممَ هذا الاستثناء؟ وما هو محلّ الجملة التي هي: أحصاها، من الإعراب؟

الجواب: الاستثناء هذا من أعم العام المقدر إذ معنى يغادر يترك أي لايترك صغيرة ولاكبيرة على حال من الأحوال إلاّ على حال واحدة وهي الإحصاء، وهو استثناء مُفَرغ قد فرغ له العامل، ومحل الجملة حينئذ النصب على الحالية، ونحوه أن تقول: ما تركت زيداً إلاّ مسلوبَ الأمارة.

سؤال(ح): وهل الصواب زيد وعمرو كلاهما قائم أو كلاهما قائمان؟

الجواب: هذه المسألة في مغني اللبيب قال المصنف فيه: وقد سُئلت قديماً عن قول القائل: زيد وعمرو كلاهما قائمٌ وكلاهما قائمان، أيهما الصواب، فكتبت: إن قُدِّر كلاهما توكيد، قيل: قائمان، لأنَّه خبر عن زيد وعمرو، وإن قدر مبتدأ، فالوجهان، والمختار الإفراد.

سؤال(ح): وما الذي يجوز على أن يلي العوامل من ألفاظ التوكيد حال كونه توكيدا؟

الجواب: هذه المسألة في التسهيل وشرحه مستوفاة، وقد صرحوا أنه لايلي العوامل شيء من ألفاظ التوكيد وهو على حاله في التوكيد إلاّ جميعاً وعامة مطلقا، وكلا وكلتا مع الابتداء بكثرة ومع غيره بقلة.

سؤال(ح): ولمَ أجازوا الفصل بثم في تأكيد الجمل في نحو {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4] ومنعوا ذلك في نحو ضربت زيداً ثم ضربت زيداً؟

الجواب: إنَّما فرقوا بين المذكورين لأمن اللبس في الآية وعدم الأمن منه في المثال إذ لوجاءوا بثم في المثال احتمل كون الثانية غير مؤكدة، وذلك ظاهر .

سؤال(ح): وكيف يُقَال في التعجب من قولنا: ظنّ زيدٌ عمراً صديقاً؟

الجواب: يقال: ما أظن زيداً لعمرو صديقاً، ويكون نصب الأخير بمدلول عليه بأفعل، لا به، كما ذلك منصوص ومذكور في موضعه.

سؤال(ح): هل يجوز أن يقال لم زيداً يضربْ، ولازيداً تضرب بتقديم معمول المجزوم عليه؟

الجواب: قد سُمِعَ في الشعر إتصال معمول المجزوم بالجازم الذي هو لم ولا، وذكر بعضهم أن مثل ذلك لايكون إلاّ ضرورة كقوله:

وقـالوا أخانا لا تخشّع لظالـمٍ

 

عـزيز ذا حـقِّ قـومك يظلم

 وقوله:

فأضحت مغانيها قفاراً رسومها

 

كأنْ لمْ سوى أهلٍ من الوحش تؤهل()

 سؤال(ح): وهل يجوز إضافة المميز إلى مميزه في نحو: الإناء ممتلئٌ ماءاً، وأنا أكثر مالاً، كما جاز ذلك في: رطل زيت، ونحوه أم لا؟ فما الفرق؟

الجواب: الأنسب أن يقول أولاً: أنّ (أم) إنما تعادل الهمزة، وقد كثر التسامح في مثل هذا، أو إضافة المميز إلى تمييزه كتمييز الجملة أو ما في حكمها غير صحيحة لتقدير الإضافة إلى غير التمييز، فإنَّك إذا قلت: الكوز ممتلئ ماء، فالتقدير: ممتلئ الأقطار، فامتنع إضافة ممتلئ إلى التمييز، لأنَّهُ مضاف إلى غيره تقديراً، وكذا في أنا أكثر مالاً، وضابطه ماكان من أفعل التفضيل المميز سببيّ نحو: أعزُّ نفراً، وعلامة السببي صلاحيته للفاعلية بعد أن تقدر أفعل فعلاء، كقولك في: زيد أكثر مالاً، زيدٌ كثيرٌ ماله، فإن لم يصلح لذلك تعينت الإضافة نحو زيد أكرم رجل، وإنما لم يجزْ جرّ السببي بالإضافة، لأنَّهُ لايضاف أفعل التفضيل إلاّ إلى ما كان المفضل بعضه.

سؤال(ح): وما إعراب الخبر والحديث في نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((حبِّب إليّ من دنياكم ثلاث...)) الخبر أو الحديث؟

الجواب: الأقرب أنَّ الخبر أو الحديث مرفوع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف على معنى: هو الخبر المعروف فتمامه غير مجهول، فمن أحبّ الإحاطة لجميعه فعليه بمطالعة مضانّه.

سؤال(ح): علامَ انتصاب: أيضاً، وفضلاً عن كذا؟ وما أصلهما؟ وفيمَ يستعملان؟

الجواب: أمَّا أيضاً فقد نصّ ابن السكيت() على أنَّه مصدر، كقولك: آض يئيض أيضاً، أي عاد، قال في القاموس: وفعل ذلك أيضا أي معاوداً، فاستعير لمعنى الصيرورة، فلمح إلى أنَّه مصدر في موضع الحال، وأما فضلاً فلا يبعد أن يكون مثله في الانتصاب على المصدرية، وهو في معنى سيما، وفعله فضل، وقد عرف من ذلك الأصل والاستعمال.

سؤال(ح): ولِمَ أجازوا إعمال إسم الفاعل مُكَسراً، ومنعوا من إعماله مُصغّراً مع كون التصغير والتكسير من خواص الأسماء، وهما من وادٍ واحد؟

الجواب: الفرق ظاهر عند من فَرَّقَ، وهو أنَّ التكسير جاء بعد إستقرار العمل قبله بسبب الحرمان، وهو فرْق في الحقيقة خفيّ منظَّرٌ عليه، ولهذا ذهب النحاس إلى ماذهب إليه الكوفيون من عدم الفرق.

سؤال(ح): هل شاحطٌ إسم فاعل أو صفة مشبهة في قول الشاعر:

من صديق أو أخي ثقةٍ

 

أو عدوٍّ شاحطٍ داراً ()

 الجواب: بل صفة مشبهة، لإتفاق النحاة على ذلك، ذكره ابن هشام في المغني.

سؤال(ح): ما الذي يميز الصفة المشبهة من إسم فاعل الفعل اللازم؟

الجواب: قد أحاط ابن هشام في المغني بتعداد الوجوه الفارقة بينهما وهي ثمَّ مفصلة موضحة، فلا فائدة في ذكر ماليس بمجهول، إذ يكون مثل تحصيل الحاصل، والله أعلم.

سؤال(ح): ما حركة النون والميم في نحو قولهم:(من ربي لأفعلن) هل (من) هذه إسم أو حرف ؟

الجواب: هذه المسألة مماهو متداول على ألسن الدرسة، وماكان مثل السائل من يعزب عنه الأمر فيها مع وضوحها وتجليها، وحركة الميم الكسر في الأكثر، وقد تضم، والنون ساكنة، وهي تختص بلفظ الرب حرف جر قامت مقام البا، وضم الميم للدلالة على تغير معناها وخروجها عن بابها وذهب بعض الكوفيين إلى أن المضمومة الميم مقصورة من أيمن، والمكسورة بها من يمين ونظره نجم الدين، وفيها بسط هناك عند ذكر حروف الجر.

سؤال(ح): ماالذي يجوز فيه من التوابع مخالفة متبوعه في الإفراد والتنكير والتذكير ومقابلاتها؟

الجواب: أما النعت، ففي الحاجبية إستيفاء ماوقع السؤال عنه من ذلك، وأما العطف فيجوز المخالفة فيه مطلقا، وكذا البدل، وأما عطف البيان فيوافق المتبوع في جميع ماذكره السائل على ماذلك مذكور في التسهيل، وأما ألفاظ التوكيد المعنوي فلا تكون تابعة إلاّ للمعارف.

سؤال(ح): وأين إسم كان وخبرها، في قول علي كرم الله وجهه:

فلمّا تبيَّنا الهدى كان كلُّنا

 

على طاعة الرحمن والحق والتقى

 

 الجواب: إسم كان: ضمير الشأن، وكلنا: مبتدأ، وما بعده خبره، والجملة خبر كان، لما ذكره في مغني اللبيب من توجيه ذلك كذلك.

مسائل تتعلق بالتصريف

سؤال(ح): ما وزن خطايا ومطايا، والحادي، في قولنا: حادي عشر، ودِلِىّ وقِسِىّ، واستكان، واغزُنَّ؟

الجواب: أما خطايا، فوزنها فعايل، على مذهب (س) [سيبويه]، وعلى مذهب الخليل: فعالى، وأما مطايا، فوزنها: فعايل، وفاقاً، والحادي، وزنه: العالف، ودِلِيّ وقِسِيّ، وزنه في الأصل: فعول، فقلبت الواو فيها ياء وأدغمت الأل في قسى، قلنا: فوزنها: فليع، لأنّ قوساً يجمع على قووس، وهو فعول، ثم قلبت الزنة فقدم السين على الواوين، واستكان، قيل: مشتق من الكون، ووزنه: إستفعل، وقيل: مشتق من السكون، فوزنه: إفتعل، فالمد على الأول قياسي، وعلى الثاني شاذ، واغزنَّ: وزنه في الأصل أفعُلُن، وبعد الحذف أفعن واغزنّ أصله أفعلن، وبعد الحذف أفعنّ.

سؤال(ح): وكيف تصريف هذه الكلمات؟

الجواب: هو على ما هو مذكور في مواضعها، في ركن الدين() وغيره، على ما يعرفه الطلبة ويتدارسونه في كل مقام ولايعزب على أحد من أهل الأفهام وأرباب النهى والأحلام.

سؤال(ح): ما الفرق بين نون من وعن ولدن، حتى فتحوها في الأولى وكسروها في الثانية وحذفوها في الثالثة؟ كقولهم: من لدُ الصباح، وذلك كله عند ملاقاة لام التعريف؟

الجواب: إنَّما فُتِحتْ نون (من) مع لام التعريف طلبا للتخفيف لكثرة إستعمال (من) مع هذه اللام، مع لزوم الكسر قبلها وقد جاء كسر النون حينئذ وهو ضعيف، وكسرت نون (عن) مع لام التعريف وغيره على الأصل في التقاء الساكنين، وحذفت نون (لدن) حينئذ كثيرا للتخفيف، لطول لدن، ولهذا قلّ إقرارها وكسرها.

سؤال(ح): وكيف قياس النسبة إلى نحو: شيء، وكرسي، وتأبّطَ شراً()، وبعلبَك()، وامرؤ القيس()، وابن عباس، وأبي بكر، وصيغة التثنية وجمع التصحيح علمين؟

الجواب: أمَّا شيء فالقياسي شيٌّ، وأما كرسي فتُخَفف الياءان، وتلحق به بعد حذفهما ياء النسبة المشدّدة، وأما تأبط شراً، وبعلبك، وامرؤ القيس: فينسب إلى الصدر، ويحذف العجز، والعكس في ابن عباس، وأبي بكر، فيقال: عباسي وبكري، وأماصيغة التثنية وجمع التصحيح: فإن أُعربا بالحركات، لم تحذف الزوائد وإلا حُذِفَتْ كما ذكر في قنسرين علماً: قنسيريني وقنسري، على الوجهين.

سؤال(ح): وكيف يصغَّرْ الأولان من هذه الاسماء؟

الجواب: أمَّا شيء فيقال شُيٌّ بضم الشين وثلاث ياءات، الأولى مفتوحة، والثانية مدغمة في الثالثة، وأما كرسي فكريسيّ.

سؤال(ح): ما بالهم أعلّوا تِيْرَة جمع، وصحَّحُوا عودة جمع عود، مع إتفاقهما وعدم إعلال مفرديهما؟

الجواب: قد نصّوا على شذوذ إعلال تيرة وأن القياس تورة كعودة وكورة، ولايتطلب الفرق إلاّ لو تساوت في القياس.

سؤال(ح): وكذلك علّوا (مات) و(رياض)، مع ما ذكره، وصحَّحُوا نظيرهما من المفرد كـ(جوارٍ) و(رواقٍ)؟

الجواب: إنَّما فرقوا بين الجمع والمفرد لاستثقال الجمع، فاقتضى ذلك الإعلال، وقلب الواو إلى ماهو اخف منها من الياء، وليس المفرد كالجمع في ذلك، فافترقا.

سؤال(ح): ومالهم لم يدغموا في نحو (أملأ إناك)، و(ماليه هلك) و(رئيا) في قراءة الجمهور و(يؤوي)، أو (قُؤول)، مع حصول موجب الإدغام وهو إجتماع المثلين وسكون أولهما؟

الجواب: أما في: (إملأ إناك)، فإنما لم يدغموا للاستثقال، وذلك يُدرَكُ بالذَّوق، فليس ذلك كالذي أجازوه فيه، وهو أن تكون الهمزتان في كلمة تتصل بهما ألف بعدهما، كسال وداث، وأما (ماليه هلك) ، فلأن هاء السكت لايدغم، لأنَّه إما موقوف عليه، أوينوى به الوقف عليه، وأما (رئيا) في قراءة الجمهور، فإنما لم يدغموا الياء الأولى، لكونها بدلاًعن الهمزة فتكون الياء عارضةً ولاعبرة بالعارض وقد أدغم بعضهم نظراً إلى اجتماع اليائين، ولمثل تلك العلة لم تدغم في (يؤوي) لأنّ الواو الأولى عارضة بدل من الهمزة، وإنما لم تدغم الواوان في (قؤول) لأنَّها لو أدغمت الأولى في الثانية لم يعلم أنّه مجهول فاعل أومجهول فعل، وكذا ذكروا مثل ذلك في (بويع).

سؤال(ح): ولمَ لمْ يردُّوا (لام) يد، ودم، عند الإضافة والتثنية كما فعلوا في أب ونحوه؟

الجواب: قد ذكر ابن مالك أنّه يتم في التثنية ما يتم في الإضافة، وأنه قد جاء (يدَيَان، ودَمَيَان) في التثنية، وكذلك جاء (أبان) في التثنية على خلاف، وهذا السؤال إنَّما يتوجه لو كانت اللغة تثبت بالقياس، فاذا وجدت اللغة وانتفى الحكم، وُجِدَ القَدْحُ، وأما وهي لا تثبت الاّ بالاستقراء والتتبع، فلا يرد مثل ذلك.

سؤال(ح): وما الدليل على أصالة الميم في تمعدد وزيادتها في تمسكن؟

الجواب: ذلك ظاهر، لأنّ تمسكن، من السكون، ففاؤه السين، وعينه الكاف، ولامه النون، ولا لبس فيه، ولا ريب، وهو من المشتق الذي يعرف ذلك فيه بأدنى تأمل، بخلاف (تمعْدَدَ) فليس العين والدالان ممكنٌ أن يعدّ من المشتقات، مع العلم بأن المراد: تشبّهوا بمعد، في تمعددوا، ولا قائل بأنَّ الميم في معد زائدة.

سؤال(ح): وما وجه التزامهم تصحيح الياء في معايش وإبدالها همزة في مصائب، وتجويزهم الأمرين في نظائرهما؟ إنتهى.

الجواب: إنَّما التزموا تصحيح الياء في (معايش) والواو في (مقاوم) للفرق بين الواو والياء الأصليتين كما في الكلمتين، والزائدتين كما في (صحائف) و(عجائز)، والتزموا إبدالها همزة في (مصائب) للتنبيه على أنّه جمع مُفعِلة بضم الميم وكسر العين، لا مَفعلة بفتحهما، ولا مَفعُلة بفتح الميم وضم العين، وهي عللٌ ركيكة نحوية، ليس فيها كل التحقيق، وإنما هي خيالات للتوفيق والتلفيق ومعرضة للتفريق والتمزيق، ولهذا خالف الالتزام من خالف، فقال: (معائش) بالهمز، و(مصاوب) بالواو، وأما تجويز الأمرين فيما عداهما فلزوال ما أوجب الالتزام مع عدم المانع من أي الأمرين.

 

 

مسائل في علم البلاغة وتوابعها

سؤال(ح): ما الفرق بين الحقيقة والمجاز العقليين، والحقيقة والمجاز اللغويين؟ وهل من قسم ثالث لأي القبيلين()؟ وإلى كم ينقسم كل واحد من المجازين؟

الجواب: الفرق بين ماذكر واضح مشهور،  بيّن مكشوف مذكور، فالحقيقة العقلية: إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر، والمجاز العقلي: إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأوّل، والملابسات معروفة بينة موصوفة واضحة مكشوفة محكمة المباني في علم المعاني، والحقيقة في غير ذلك: الكلمة المستعملة فيما وضعت له أولاً في إصطلاح به  التخاطب، والمجاز: الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له أولاً في إصطلاح التخاطب على وجه يصح، وهذا التعريف يعم الحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية، والحقيقة العرفية خاصة كانت أوعامة، والمجاز اللغوي والشرعي والعرفي كذلك، ولكل نوع من هذه الحقائق والمجازات حقيقة تميزه عما هو قسيم له وعما هو قسيم منه، على ما هو مذكور مسطور في مواضعه، واستيفاء ذلك مما يطول ويفتقر إلى أبواب وفصول، وهو متداول فيما بين أرباب العقول، وقد عرفت تعيين الأقسام التي أشرت إليها ولمحتَه مما ذكرناه والمجاز العقلي ينقسم إلى استعارة وغيرها.

سؤال(ح): وما الفرق بين الكناية والمجاز؟

الجواب: الفرق بينهما جلي، لأنّ الكناية: لفظ أُرِيد به لازم معناه، فظهر أنها تخالف المجاز من جهة إرادة المعنى الحقيقي مع إرادة لازمة كماهو ملخص في علم البيان وليس كذلك المجاز، فافترقا.

سؤال(ح): كم أنواع الاستعارة، وأقسام كل نوع، وما مثال كل قسم ؟

الجواب: سؤال الكمية مما لا تلتفت إليه الألمعية، وهو مما يعاب ولايكاد يجاب، وقد كثر من السائل النِّقَّاب، والله الموفق للصواب.

والاستعارة: قد تكون حقيقة وقد تكون صريحة، وقد تكون مكنياً عنها ولها -باعتبار الطرفين- المستعار منه، والمستعار له،  قسمان، ومنها: التهكمية، والتمليحية، والتخييلية، ولها -باعتبار اللفظ- قسمان: أصلية وتبعية، ولها باعتبار آخر ثلاثة أقسام: مطلَقَةٌ، ومجرَّدَة، ومرشَّحَة، وللاستعارة باعتبار الجامع قسمان، وباعتبارٍ آخر ينقسم إلى عامية وهي المبذولة، لظهور الجامع فيها نحو (رأيتُ أسداً يرمي)، وخاصيَّة: وهي العرفية التي لا يطلع عليها إلا الخاصة، وجميع الأنواع والأقسام والأمثلة للأقسام مستوفاة في علم البيان على الوفاء والتمام، وكذا ذكر ثمه زائدٌ على ما ذكرناه من الانقسام، والسائل ممن لايعزب عنه المواضع والمضانّ لذلك، فلا مكتسب بذكرها على التفصيل فائدة، ولاتعود عليه من الاسهاب والإطناب عائدة.

سؤال(ح): وما الفرق بين القلب والتجريد، في علم البيان، والقلب والتجريد، في علم البديع؟

الجواب: أما القلب في البيان فلعله يريد به التشبيه المقلوب الذي يجعل فيه الناقص مشبهاً به قصداً إلى إدّعاء أنّه أكمل كقوله:

وبدا الصباح كأنّ غرَّتَهُ

 

وجهَ الخليفَةِ حينَ يُمتَدَحُ()

فإنَّه قصد إيهام أن وجه الخليفة أتم من الصباح في الوضوح والضياء، فجعله مشبها، والقلب في البديع: كقوله تعالى: {كلٌ في فَلَكٍ} وكقوله:

مودَّته تَدُومُ لكلِّ هولٍ

 

وهلْ كلُّ مودتُه تدُومُ()

 فإنَّك إذا قلبته وجعلت الآخِر أولاً، وما يليه في التأخير، يليه في التقديم وهلم جرا كما كان قبل القلب والمعنيان مفترقان إذ الأول يرجع إلى المعنى، والثاني في اللفظ.

وأما التجريد في البيان، فهو في الاستعارة نحو: (غمر الردا، ورأيت أسداً شاكي السلاح)، لأنَّه جرد المستعار عن أوصاف المستعار منه إلى أوصاف المستعار له، وهو في البديع، كقوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} وكقولهم: (لي من فلان صديق حميم، ورأيت بزيدٍ أسداً) فجردت من زيد أسداً، وكأنَّك اختزلته عنه، وكذلك سائرها، وبين التجريدين بون ومسافة وفرق واضح يعرف مما ذكرناه، فإن التجريد الأول في الأوصاف فقط دون الذات، فلم يأت منها فيه بشيء، والتجريد الثاني في الذات أن يقتطع بعضها وتجرده عن الأصل، وشتان مابين تجريد الذات والصفات.

سؤال(ح): وما الفرق بين: التمليح والتلميح، والتعريض والتلويح، والمطابقة والمشاكلة، والتتميم والتكميل؟

الجواب: التمليح -بتقديم الميم على اللام-: من أقسام الاستعارة، كقولك للجبان: ما أشبهه بالأسد، والتلميح -بتقديم اللام على الميم- في علم البديع:وهو الإشارة إلى قصة أو مثل، كقوله: (أم كان في الركب يوشع)، وهما غيران، لا مِثْلان، فالفرق جليّ، والتعريض: ما كان قريبا، والتلويح: ماكان بعيداً، من قولهم: لوّح فلان بثوبه، واختلافهما في القرب والبعد أوضح فارق، والمطابقة: ذكر الشيء مع ضده، نحو: (يحيي ويميت، وأضحك وأبكى)، والمشاكلة: نحو {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، ولا مماثلة ولا مساواة، فصح الفرق وتوضح، والتتميم: أن يؤتى في كلام لايوهم خلاف المقصود بفصله، لنكتة كالمبالغة نحو: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}[الإنسان:8] أي مع حبه.

والتكميل، ويسمّى الاحتراس أيضا: أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه، كقوله: (فسقى ديارَكَ غير مفسِدُها)، وكقوله تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] وشتان بين ما يؤتى به لدفع الإيهام وبين ما يؤتى به للمبالغة وتقوية الكلام، والمطابقة: ذكر الشيء مع مقابلة ضده، نحو: (يحيي ويميت)، وقد تقدم ذكره.

سؤال(ح): وما يقال في قوله تعالى: { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} [يس:20] ، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} [القصص:20].

الجواب: إنْ قُدِّمَ حرف الجرّ ومجروره، فهو متعلق بالمجيء لا بمحذوف، ومن للابتداء، فيكون ابتداء المجيء من أقصى المدينة، ولا يفيد أن الرجل من سكنة أقصى المدينة، وإن أُخِّرَ فالأظهر أن يكون() الرجل من سكنة أقصى المدينة، ويكون (من أقصى): صفة له، ولا يتعلق بالمجيء، فيكون كل من التقديم والتأخير لنكتة، هذا مما يتقوى في الخاطر، وإن جاز خلافه، ويكون التقديم والتأخير من قبيل التفنن في الكلام().

سؤال(ح): {قَالَ الْمَلاَُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، {قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}، {لاَ فِيهَا غَوْلٌ}، ما النكتة في تقديم الجار والمجرور تارةً، وتأخيرهما تارةً في السؤالين الأول والآخر؟

الجواب: أنَّه إذا قال: الملأ من قومه أفاد أنَّهم كفار، وأنه لم يؤمن منهم أحد، وإذا قال: الملأ الذين كفروا من قومه، أفاد أنَّ منْ قومه مَن آمن، وقد أشار إلى ذلك في الكشاف، ولعل في تقديم: من قومه، إشارة إلى الاهتمام بتقديم القوم، لكونه أخاهم وأحدهم، ثم نكِّر عليهم بالذم على تمرنهم في الكفر وديدنهم حوله مع قربهم منه واختصاصهم ولا يقصد مثل ذلك حيث أخر (من قومه)، وإنْ قصد التفنن في الكلام كان من الأغراض الوسام، وأمَّا: (لا فيها غول)، فإن تقديم الظرف فيه يدل على الاختصاص بنفي الغول عن خمور الآخرة، بخلاف خمور الدنيا، وأما قوله تعالى {لاَ لَغْوٌ فِيهَا} فهو في المعنى بمعزل عن ذلك فإن الغول غير اللغو، فإيراده مع الغول لا يليق بذي التحقيق، إذ يلمح الجمع بينهما إلى إستواء معنييهما عند السامع فينخرط في سلك من حكم باستواء الإقالة والقيلولة، واحتج على الإقالة بـ ((قيلوا، فإن الشياطين لا تقيل))، وإنما كان وزان (لا لغو فيها ولا تأثيم)، قوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا}، ولكن أيهما قصد الاختصاص إذاً لقدَّم الظرف فيهما معاً، وإنما ذلك من التفنن، وقد يمكن تطلب الفرق بأن قوله: لا يسمعون فيها، بتقديم الجار والمجرور فيه، للدلالة على الاختصاص، لأنهم قد سمعوا ذلك في الدنيا، ولايقصد مثل ذلك في قوله تعالى: {لاَ لَغْوٌ فِيهَا}()، بل مجرد نفي كل غول، فلا يوجد فيها ما ينطبق عليه إسم الغول فليتأمل فالفرق جلي.

سؤال(ح): وما معنى قول أبي العلاء:

يخوض بحراً نقعه ماؤه

 

يحمله السابح في لبده

 هل الصواب: نقعه ماؤه؟ أو ماؤه نقعه؟

الجواب: الأحسن: نقعه ماؤه، إذ يسبق المراد المقصود إلى الفهم من أول الأمر، بخلاف العكس، ولأن الاهتمام بذكر النقع أكثر من الاهتمام بذكر الماء مع عدم خلوّ كلٍّ من البراعة، ففي تقديم النقع لموحٌ إلى إثبات الاستعارة بالكناية، ولوقدم الماء لكان لترشيح المستعار منه، والاستعارة بالكناية أقوى، وأما المعنى: فهو بيّن، لأنه شبه الجيش بالبحر ووصف الممدوح بشدة الجرأة والبسالة في صولته وجولته، وأنه جسد فوق فرس يسبح في لبد للنقع، كأنَّه قد تلبد منه ما تلبد حتى غمر الفرس، وكان سبحه فيه بهذا إن جعل الضمير للنقع، وإن كان للفرس فجريه وهو قوته يجري معه كالسباحة فيه. هذا الذي يسبق إلى النظر في باديه من غير مفاتحة لما يشهد بالمعنى ويقتضيه، وفي هذا الجواب عجل، وكان الأنسب خلافه حتى يتحقق ماقبل البيت من القصيدة، فإن بعضها يدل على بعض ويشهد له، ولا بدّ إن شاء الله من تجديد النظر في ذلك فلا يؤخذ مما ذكرناه حتى يجزم به ويقطع إن شاء الله تعالى.

سؤال(ح): قوله:

وحـــرفٍ كــنـونٍ تــحــت راء ولم يكن

 

 

بـدالٍ يؤم الـرسم غيّـرهُ النّقط

 

الجواب: هذا البيت مما ذكره السكاكي() في المفتاح وسأل السيد العلامه جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم() عن معناه الفقيه الأفضل محمد بن يوسف الحشفري()، فأجاب على السيد بنظم وهو

أتاني كتاب زانه اللفظ والخط

 

فصيح بليغ لم أجد مثله قط

أتى من ذكي ألمعي سميدع

 

مناقبه جَمَّتْ فلم يحوها ضبط

أتى سائلاً عن قول من قال ملغزاً

 

يراعي نظيراً لا إلى غيره يخطو

((وحرف كنون تحت راءٍ فلم يكن

 

بدال يؤم الرسم غيَّره النقط))

فقلت مجيباً مستعيناً بخالقي

 

له الخلق ثم الأمر والقبض والبسط

يريد بحرفٍ ناقةً وهي ضامرٌ

 

ومهزولة أيضاً إذا نالها قحط

وبالنون نون الخط شبهها بها

 

لأجل انحنى فيه أظهره الخط

وبالراء رائيها الذي هو ضارب

 

على ريَّةٍ منها عسى أنها تخطو

وليس بداليها يريد برافق

 

بها بل هو الجور في السير والسخط

وبالرسم آثار الديار ونقطها

 

هو القَطْرُ مِن مُزنٍ فهذا هو النقط

فهذا جوابي خذه عني مبيَّناً

 

فقد قلت لي يأتيك في شرحه قسط

ولم آل جهداً في بيان بقدرتي

 

عسى الله أن يهدي ولا يعتري وهط

فأحمد ربي والصلاة على الرضي

 

ومن دينه الإسلام والحق والقِسْطُ

عليه صلاة الله ثم سلامه

 

وللآل منها دائماً أبداً قِسْطُ

وصفحاً إذا عيباً رأيتم فإنكم

 

إذا ما أتاكم طالب مطلباً تُعْطُوا

بقيتم لنا يا آل أحمد شيعةً

 

لأوزارنا حقاً بكم يحصل الحَطُّ

سؤال(ح): وقوله:

إذا صدق الجد افترى العمُّ للفتى

 

مكارمَ لا تخفى وإن كذب الخـال

الجواب: هذا البيت فيه فصاحة عظيمة، ولعلَّ المعنى أنَّه إذا رُزق الإنسان الحظ إدعى أقاربه من قبل آبائه أنَّ المكارم لهم عادة وشنشنة يتوارثونها كابراً عن كابر، ولايخرج منها الأكابر والأصاغر وإن لم يكن أخواله أكارم، فقابل الصدق بالكذب للبلاغة والله أعلم.

سؤال(ح): وقول الآخر:ـ

كأنَّ كـانون مـن مَلابـسـه

 

لشهر تمُّوزَ أنواعاً من الحُلَلِ

أو الغزالة من طول المدى خَرِقَتْ

 

فما تُميِّز بين الجدْيِ والحَمَل

الجواب: كانون: هو الثاني، أول الربيع، وتموز: أول الخريف، والحلل: معروفة مستعارة لنظارة زهرة الخريف، ومفردات البيت الثاني ظاهرة، والجدي: من البروج، وكذا الحمل، فالجَدْي: ولد المعز، والحمل: للكبش، وما يُفتَهَمُ مراد الشاعر إلا بعد الشعور بأصول مقاصده، والخبط والجزاف لا يلتقيان في مصادر التفسير وموارده، وكان الأنسب أن تكون هذه الأبيات مع العشرة الأبيات السابقة في أبحاث اللغة، ونشر السؤال بما فيها من بديع وغيره يخرجها عن ذلك، كما لم يكن السؤال في تلك عما فيها من نحو وتصريف وغيرهما مخرجا، وفي الأسئلة كتب من هذا المعنى والأمر قريب. 

سؤال(ح): وما وجه جعل الضمير للغيبة أولاً، وللخطاب ثانياً في قوله تعالى: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] وهل ذلك من قبيل الالتفات؟

الجواب: الذي يقتضيه حال الكفار الذين خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بذلك أن يقولوا يامحمد إنك لمجنون، ولكن كان هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء والتبكيت، الذي أدعيت أنك نزل عليك الذكر والتهاون به حتى كأنه ممن لايوجه إليه خطاب كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27] ولأنَّهم مغضبون منه حين ذكروا نزول الذكر عليه تهكماً به فكأنه غائب، فلذلك جاءوا بذلك على طريقة الغيبة، ولما تعاظم غيظهم وتكاثر حمَلَهُم على مكافحته بأسوأ الكلام فلم يتمالكوا عن قولهم: إنك لمجنون، لما كان الخطاب أشفى لغيظهم وأبرد لحرارة قلوبهم وأعظم لتوبيخهم إياه، وذلك على مراحل من قصد الالتفات والله أعلم.

سؤال(ح): وقوله تعالى: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهًمْ عِبادُك وإنْ تغفرْ لهم فإنَّك أنتَ العزيز الحكيم} ماوجه مناسبة الفاصلة؟

الجواب: كأنَّ السائل لمح إلى أنَّ الأنسب أن يقول: فإنك أنت الغفور الرحيم، وليس الأمر كذلك، فإن المذكور أنسب بالمقام إذ المعنى: وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز القوي القادر على الثواب والعقاب، الحكيم الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب، وفي هذا التأدب بأبلغ الأداب واستعمال الحكمة وفصل الخطاب، والتعريض إلى أنَّهم قد فعلوا من الذنوب وارتكاب الحوب ما يستوجب العذاب، ولايعلم حكمهم بعد موته من توبة واستغفار أو زيادة في العتو والإصرار، وهو لايفعل المغفرة إلا عند حصول موجبها لما هو عليه من الحكمة، وإنْ كان قادراً على ما شاكله. كأنَّه قال: وإن تغفر لهم فلا أعلم موجب الغفران، على مقتضى الحكمة حسب العلم بحالهم والعرفان، وفي ذلك من الجزالة وقوة المعاني والرمز إلى أكيد المباني ماليس في قوله: فإنك أنت الغفور الرحيم، مع الإشارة إلى التجرم مما سلف منهم في وقته والشكوى إلى الله مما فعلوه معه، فجاء بذلك كذلك ولم يقل فهم لايستأهلون الغفران لزوماً للأدب، مع الاعتماد على ما يفي بما في النفس وزيادة بأبلغ عبارة وأرشق إشارة، ولله در الأنبياء، وبذلك تتحقق المناسبة على أبلغ الوجوه وفوق ماكان يؤمله السائل ويرجوه، ولعل في بعض كتب المعاني والبيان برهان على ما ذكرناه وأي برهان، ولكن لم يكن يحضرنا ما نحتاج إليه في هذا المكان وفي غيره الآن.

سؤال(ح): ما فائدة وصف الدابة بكونها في الأرض والطائر بأنه يطير بجناحيه في قوله تعالى: {وما مِنْ دَابَّةٍٍ فِي الأرْضِ ولاطَائِرٍٍ.... } الآية [الأنعام:38] فمعلوم أن كل دابة وطائر كذلك؟

الجواب: الفائدة في ذلك ظاهرة واضحة وهي القصد إلى غاية التعميم والإحاطة كأنَّه قيل: وما من دابةٍ من أي أنواع أجناس الدواب في جميع أنحاء الأرضين السبع وأطرافها وأوساطها، وما من طائر من أي أنواع أجناس ما يتصف بالطيران بجناحيه إلى جوّ السماء وفيه إلا يبعث، والمذكورات محفوظة أحوالها، مكفولة أرزاقها، معلومٌ تقلبها ومبتدؤها ومعادها، غير مهمل شيءٌ من أمورها إلى نحو ذلك، ولا تقع هذه المعاني والتعميم والإحاطة كما ذكر، لو قيل: وما من دابة ولا طائر، ولا ترى في هذا تلك الفخامة والجزالة والوسامة، وذلك يدرك بالطبع السليم والفكر القويم،  والغرض من ذلك المقتضي لتلك المسالك الدال على عموم قدرته،  ولطف علمه،  وسعة سلطانه وتدبيره لتلك الخلائق المتفاوتة الأجناس،  المتكاثرة الأنواع والأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها مهيمن على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان، فسبحان من أمره بين الكاف والنون وإذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يس:83].

سؤال(ح): ولِمْ لا يجوز: (ما أنا فعلت هذا ولا غيري)، ولا (ما أنا رأيت أحداً)؟

الجواب: لما كان مفهوم (ما أنا فعلت) ثبوت فاعلية هذا الفعل لغير المتكلم ومنطوق (لاغيري) نفيها عنه، وهما متناقضان منعوا من جواز ذلك إستكراهاً للتناقض، وأما: (ما أنا رأيت أحداً)، فإنه لما كان يقتضي أن يكون إنسان غير المتكلم قد رأى كل أحدٍ من الناس لأنه قد نفى عنه المتكلم الرؤية على وجه العموم في المفعول فيجب أن يثبت لغيره على وجه العموم في المفعول ليتحقق تخصيص هذا المتكلم بهذا النفي منعوه.

سؤال(ح): ولمْ حكموا بأن تقديم المفعول في: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الحمد3] لأجل الاختصاص، لا لرعاية الفاصلة كما ذكروا في: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:2] أنَّه حذف لذلك؟

الجواب: حكموا بذلك لأمرين:

أحدهما: أنَّ الاهتمام كالاختصاص الذي هو جدير بالتصيّد والاقتناص، وللبلغاء على موارده أشد الاغتصاص، وهو من المعاني الوسيمة والمقاصد الفخيمة أحق بالاعتبار، والملموح إليه بعين الاعتناء والإيثار، وليس للمحسنات اللفظية ذكر مع تلك المعاني الفخيمة إلا على جهة التبعية.

والثاني: أنَّه معطوف على قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وقد ثبت في هذا الاختصاص ولامحيص عنه إلى غيره ولامناص، فكيف يفرق بينهما،  والبلغاء على إعتبار المناسبة حِرَاص، ويحكم في أنه على الجملتين على وتيرة واحدة قد اتحدتا بحرف العطف حتى صارتا كجملة واحدة بالتباين، هل ذلك إلا انتكاص.

سؤال(ح): هل يجوز تثنية اللفظ المشترك فيقال: هاتان عينان، لعين الماء وعين الإنسان؟ فإن قيل بجوازه، هل هو حقيقة أو مجاز؟

الجواب: هذه المسألة معروفة بينة ومكشوفة في المعاني وفي مقدمات أصول الفقه، فمنهم من يجيز ذلك بناءً على صحة اطلاق اللفظ المشترك على كلا معنييه، ومنهم من لم يجزه للمنع من إطلاقه عليهما، والأصح عند من أجازه أنه يكون حينئذٍ حقيقة، وقيل بل هو مجاز وذلك مبسوطٌ مُفصل موضح في شرحنا على المعيار() وغيره .

سؤال(ح): وعلى ذكر إطلاق عَلَم الماهيّة على فرد من أفرادها الموجودة في الخارج، أحقيقة، أم مجاز؟

الجواب: عَلَمُ الماهيّة في الحقيقة كإسم الجنس، فأسامة كأسد، فكما أن لفظ أسد إذا أطلق على فرد من الأفراد كان حقيقة فيه، كذلك أسامة، وإنما فرَقوا بينهما وجعلوا (أسامة) علماً للماهية التي لاتوصف بتعدد ولا إنفراد، ولاوجود لها في الخارج إلاّ في ضمن الأفراد، لمّا ورد لفظ (أسامة) ممنوعاً من الصّرف وليس فيه إلاّ التأنيث، وهم لايمنعون غالبا إلا لعلتين، فتكلفوا الحكم عليه بالعَلَمِيَّة، ولمّا لم يَكُنْ كسائر العلَمِيَّات لشخص جعلوا مدلول العلم الماهية، ولا يُعلم ولا يُظن أن الواضع قصد ذلك، ولاسلك تلك المسالك، فافهم هذه الدقيقة فلا محيص عن الحكم بالحقيقة.

مسائل الإجماع

سؤال(ح): ما الذي أُجمِعَ على نسخه من الأحكام؟ وما الذي أجمع على وجوبه؟ وما الذي أجمع على حضره؟ وما الذي أُجمعَ على اختصاص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  به؟

الجواب: أما الأول فموضعه كتب الناسخ والمنسوخ، والثاني والثالث تُذكر مسائل الإجماع عليها في كتب أصول الفقه، والرابع في كتب الحديث والسير، ففي كل منها فيما أراده السائل ما يشفي غلة الصادي الحران ويطفئ حرقة قلب الهائم العطشان ويبرز من تلك الأسارير ما احتجب، وينثر من أغصان ورقها حصباءَ دُرٍ على أرضٍ من الذهب، وليس على المجتهد قبل العمل العلم بجميع ما أُجمع عليه، فلا يعمل ولايجتهد حتى [يكون] قد أحاط علمه بجميع مسائل الإجماعات، وإنما فرضه أنه لايجتهد في المسألة المعينة حتى قد علم أنها خلافية، أو واقعة متجددة، لا خوض فيها فقط، ولو جهل بسائر مسائل الإجماع، وذلك ظاهر بيِّن مكشوف القناع.

سؤال(ح): وعلى ذكر هل لقائل أن يقول بوجوب معرفة الخصائص النبوية ليمكن التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم  فيما عداها؟

الجواب: لا يبعد مثل ذلك عند الاشتباه.

قال السائل: أولاً: وأما معرفة أحوال الرجال، ففي وجوب اشتراطها() إشكال.

قال الإمام عليه السلام  مجيباً: الأصح فيما يذكرونه حسبما يسطرونه اشتراطها في إدراك منصب الاجتهاد، وقد نص على ذلك الجويني وغيره، وقال بعض المحققين: والتحقيق أن يكتفي بتعديل الإمام العدل الذي عَرَف صحة مذهبه في التعديل، ولا شك أن المسألة محلّ نظر وفكر، على ما قد أشار إليه السائل، ولابدّ إن شاء الله من زيادة تحقيق، والله يمد بمواد التوفيق.

سؤال(ح): ما إعراب الدعاء المأثور عنه صلى الله عليه وآله وسلم  وهو: ((ياحي حين لاحي، يا حي محيي الموتى، ياحي لاإله إلا أنت))، وقوله: ((سبحان من هو بالجلال موحداً ....الخ))؟

الجواب: توجه الامتثال وذكر ما خطر بالبال مطابقة لغرض السائل، وإنْ كان الإنسان قصير الباع فاتر الاستبضاع والله الموفق، الذي يظهر والله أعلم: إن (ياحي حين لاحي)، حي: مضاف إلى حين، لاختصاصه بهذه الصفة في هذا الوقت، وحياة مضاف إلى الجمله التي هي محذوفة الخبر لحصول شرط الحذف وجوباً أو جوازاً على التعيين وهو قيام القرينة، أي موجوداً، ونحوه، وبُني لإضافته إلى الجملة على ماهو مذهب الجمهور، وخالف فيه البصريون لأنَّهم يشترطون كون الجملة المضاف إليها مبنية الصدر، كقوله: (على حين عاتبت المشيب)، وحي الثاني مضاف إلى محيي بدليل سكون الياء، وإضافته إليه من قبيل إضافة العام إلى الخاص، ولايحتاج في هذه الإضافة إلى تأويل، كما هو منصوص عليه لحصول الفائدة، أي التخصيص، ومحيي مجرور تقديرا، وحي الثالث تأكيد لفظي فتكون حركته حركة المؤكد، ولايظهر فيه التنوين، وإن لم يكن مضافا، قال سيبويه في:

ياتيم تيم عدي لا أبا لكم

 

 لا يلفينكم في سوءة عمر

 لأنّ أصله: ياتيم عدي، ثم قال: فكما أن الأول محذوف التنوين للإضافة، فكذلك الثاني مع أنَّه ليس بمضاف،  لأنّ التأكيد اللفظي في الأغلب حكمه حكم الأول وحركته حركة إعرابية كانت أو بنائية، ولا إله إلا أنت جملة صفة في الظاهر، والعائد: ضمير المخاطب، وأتى به كذلك اعتباراً بالمعنى، والمنادى مخاطباً، ولو قيل: إلا هو، أُعْتُبِرَ اللفظ، إذ الألفاظ الظاهرة موضوعة للغيبة، كما في: (ياحليماً لا يعجل) بالياء، فتكون هذه الجملة ذات محل من الإعراب وليس هذه الصفة بمخرجة له عن التأكيد، كما قيل: (ألا ماءَ ماءاً بارداً)().

 وقوله: (سبحان من هو بالجلال موحداً) فيحتمل أن تكون (مَنْ) موصولة، أو موصوفة، والأول أظهر، وصلتها: (هو بالجلال)، هو: مبتدأ، وبالجلال: خبره، والباء بمعنى (مع)، أو للإلصاق مجازاً، وموحداً: حال عن (مَنْ) فيكون العامل فيه المصدر سبحان أو عن الضمير في الخبر، فيكون العامل فيه الجار والمجرور، وإن جعلت (مَنْ) موصوفه، فالجملة صفتها والحال عن (من) وإن كانت نكرة لتخصيصها بالصفة أو عن الضمير المستكن في الجار و المجرور وهو العامل، ويحتمل أن يكون (موحداً) صفة لمن (مَنْ) الموصوفة على محلها وإن كان فيه بعد من وجهين: أحدهما: كونه على المحل.

والثاني: الوصف بالمفرد بعد الوصف بالجملة، والقياس: تقديم الوصف بالمفرد، إذ تطابقهما هو الأشهر والله أعلم.

ووجِدَ بخط مولانا ووالدنا أمير المؤمنين الناصر لدين الله الحسن بن أمير المؤمنين عز الدين بن الحسن عليه السلام  في كتاب إلى بعض أولاده يأمره برواتب مباركة منها هذا الدعاء المتقدم ذكره وهو: (ياحيَّ حين لا حي ياحيُّ محيي الموتى ياحيُّ لا إله إلا أنت) وضبطه بالإعراب على آخر الحروف بفتح الياء من ياحي الأول وضم الياء من الأخيرين كما هو مضبوطٌ هنا .

سؤال(ع): العلماء يذكرون ورود تقدير المفعول به وحذفه في فصيح الكلام والتقدير كقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍٍ...} [آل عمران:30] والحذف كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] وكقوله: (فلان يعطي ويمنع)، وذلك معروف في العربية، لكن ما الظاهر منهما؟ هل الحذف، أو التقدير؟ وما الدليل على ظهور أحدهما؟ فبمعرفة ذلك تتضح وتتجلى مسائل أصولية.

الجواب: أنَّ الحكم بتقدير الضمير في نحو: وما عملته، والحذف في نحو {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} هو بحسب الاعتبار المناسب وبمقتضى الحال وباعتبار الموانع والموجبات، وليس مما ينضبط، بل يعرف بالتقدير والحذف في كل موضع بالذوق السليم والطبع المستقيم والآيات المناسبة ففي نحو {ومَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس:25] يحكم بالتقدير، لوجوب حصول العائد على الموصول الرابط بينه وبين صلته مع عدم المانع من تقديره في نحو {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} لايحكم بتقدير الضمير، إذ لا موجب لتقديره، وحذفه أبلغ في المعنى المقصود، وأَدْخَلُ فيما يُراد، لأنه إذا حذف ولم يقدر، كان المعنى: والله شأنه العلم، وشأنكم عدمه، وإذا قدر المفعول، فإن قدرته جزئياً نحو أن يكون: (والله يعلم الغيب وأنتم لاتعلمونه)، لم يكن فيه من المبالغة مثل مافي الإطلاق، ولامن الأهمية، وإنْ قُدر (والله يعلم كل شيء وأنتم لاتعلمون شيئا)، لم تكن الجملة الآخرة صادقة، إذ هم يعلمون كثيرا من المعلومات، وإن قدر ( والله يعلم كل شيء وأنتم لاتعلمون بعض الأشياء ) لم يرد،  وحينئذ الجملتان() هذا مالم يكن موجب للتقدير ولاقرينة تدل عليه وأما جار الله، فبنى على التقدير في قوله {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:232] وجعل التقدير (والله يعلم ما في ذلك من الزكاة والطهر وأنتم لاتعلمون)، أو (والله يعلم ما تستصلحون به والشرائع وأنتم تجهلونه).

مسائل متعلقة بأصول الفقه

وسأل(ح)  عليه السلام  بعض السادة عن أسئلة ليختبره، ويعرف علمه، وذكر الأسئلة، وما به أجاب، وعقب ذلك بما تقوّى عنده من الجواب، ثم نبّه على ما في جوابه من خللٍ وانضِرَاب.

وقال حينئذٍ: قال الإمام المهدي في مقدمة الأزهار:

التقليد في المسائل الفرعية العملية القطعية والظنية جائز لغير المجتهد.

قلت: فيدخل في ذلك غسل الوجه ونحوه ، وإنْ كان دليله قطعياً، مع أنَّه قال عقيب ذلك مامعناه: بأنَّه لا تقليد في عملي يترتب على علمي ، كالموالاة والمعاداة، فالذي يظهر في بادي الرأي إشكالان:

الأول: مناقضته لما قدمه من جواز التقليد في القطعي، كما مثلناه، إذ هو عملي مترتب على علمي .

الثاني: أنَّه لايجوز لأحد قتل من أمر الإمام بقتله ، ولاأخذ ماله، والحال أنه غير عالم بشيءٍ من أحوال ذلك الشخص، إذ القتل فرع المعاداة، فإذا لم يجز التقليد في الأصل، لم يجز في الفرع؟

أجاب السيد: أنَّ الإشكال الأول إنَّما يقع لو كان التقليد في جملة الوجه، وأمّا إذاكان في فرعه الذي هو التحديد فجائز حينئذٍ التقليد.

وأمّا الإشكال الثاني: فيقال فيه: أنَّ الامتثال لأمر الإمام لا يعد تقليداً، إذ ذاك إتباع لما أمر الله به، والموالاة والمعاداة مُجمعٌ على عدم جواز التقليد فيهما، وذلك أمر ثانٍ، فلا تناقض حينئذٍ.

قال الإمام(ح): والذي نختاره من الجواب والله الهادي إلى طريق الصواب: هو أنَّه لاتناقض في كلام الإمام المهدي عليه السلام ، ولاتنافي يدفع الالتئام وذلك لأنّ معنى ترتب العملي على العلمي هو أنَّ ثبوت الحكم العملي إنما يكون بعد ثبوت الحكم العلمي، فحيث يثبت ذلك العلمي يثبت بثبوته العملي، والمراد بكونه علمياً هو اشتراط كون الطريق إلى ثبوته ما يثمر العلم، وأنه لايجتزى فيه بما يثبت الظن البتة، إما لكونه من مسائل علم الكلام أو نحو ذلك وموالاة المؤمن ومعاداة الكافر والفاسق من هذا القبيل.

 قالوا: لأنّ الموالاة لاتجوز إلا لمن عُلم يقيناً أنه من المؤمنين، والمعاداة مترتبة على الكفر والفسق ولايثبت أيهما إلا بدليل قطعي، على ما ذلك مقرر في علم الكلام، بخلاف غسل الوجه ونحوه، مماهو عملي إذ لاترتب فيه البتة على علمي، فافترقا، وليس كون دليله قطعياً يثبت له ذلك، لأنا لا نريد بترتبه على علمي أن يكون دليله قطعيا بل ترتب ثبوته على ثبوت حكم لايكون دليل الحكم المترتب هو عليه إلا قطعياً، فافهمْ ذلك.

على أنَّه لو كان المراد بالترتب على العلمي على بعده ونبوّه عن الفهم هو أن يكون الدليل قطعياً، فليس نحو غسل الوجه من هذا القبيل إذ لايشترط في دليله إفادة العلم، إذ هو من مسائل الفروع، إذ الظن فيهاكافٍ، وإنما يتفق في بعض منها كون دليله قطعياً بحيث أنه لولم يتفق ذلك لكفى الظن وسد مسد العلم على الوفاء والكمال، لأنّ الشرائع مصالح وقد تظافر العقل والسمع على وجوب العمل بالعلم والظن في جلب النفع ودفع الضرر على السواء، كما ذلك مقرر، فلهذا التقرير وللنظر إلى مقتضى ما ذكرناه من التحرير، حرم في الموالاة والمعاداة كما حرم في أصلها التقليد، وجاز في غسل الوجه إذ الظن سَدَّ فيه مسد العلم، كما مهد أحسن تمهيد، ولنزد ذلك من الإيضاح ونفصح عنه أفصح إفصاح ونؤيده أقوى تأييد، وإن لم يكن له تعلق بالجواب، ومثله حينئذ ينتقد ويعاب ويقيد مقتحمه أشد تقييد لما فيه من الإفادة وله فيما نحن بصدده تقوية وتأكيد على إنما نضعه هنا مسائل مرقومة لتكون لمن أطلّ عليها مكشوفة ومعلومة، فلهذا لاينبغي أن تعاب الزيادة وعدم التجويد، إن قيل أن الحق في المسائل القطعية مع واحد، فلا يأمن المقَـلِّد فيها أن يقـلِّـد المخطئ، فيؤدي إلى وجوب اتباع الخطأ لجوازه، بخلاف المسائل الظنية، فيحرم التقليد في القطعية كالموالاة والمعاداة.

قلنا: أما أولاً: فإن ذلك مشترك الإلزام، إذ لا يؤمن أن يكون المجتهد إنما أفتى في المسائل الظنية أيضاً بغير ماعنده، وكذا المجتهد، إذا عرف عنه مايثمر العلم في القطعي، فليس فرضه حينئذ إلا العمل على الظن ولايؤمن معه من اتباع الخطأ، فما هو جوابكم، فهو جوابنا.

وأما ثانياً: فلأنا لو كلفنا العامي أن يعمل فيها بالعلم لكنا قد ألزمناه ما لايطيقه، إذ ليس في وسع الكل أن ينهض للتمييز بين العلمي والظني، لتوقف ذلك على أدوات يستغرق تحصيلها العمر، ولو سلّم أنَّه مقدور للكل فهو يقتضي عموم تحتم بلوغ درجة الاجتهاد، وأنّ وجوب ذلك لايختص بالخواص والأفراد، وذلك مما لم يقل به أحدٌ، وكيف يقال به وهو يفضي إلى تعطل غيره من المقاصد الدينية والدنيوية، واطّراح ذلك وعدم العمل حيث لاعلم يؤدي إلى فوات تلك المصالح وتعطيلها بالكلية، فلايتم المراد من شرعها.

وأما ثالثاً: وهو التحقيق، فإن اتباع الظن واجب لأنه اتباع ظن وإن كان خطأ، وإنما الممتنع اتباع الخطأ لأنه خطأ كما ينبئ عنه ترتيب الحكم على الوصف في قولك يجب اتباع الخطأ.

وقالوا: يحرم التقليد في الموالاة والمعاداة من حيث أن الموالاة شبيهة بالثواب لاشتمالها على التعظيم .

والمعاداة شبيهة بالعقاب لاشتمالها على الاستخفاف، والثواب لايكون إلا بعد استحقاق المثاب له والعقاب كذلك، فلو عمل بالتقليد فيهما لم يأمن خطأ من قلَّده فيما قلده فيه، فلا يأمن من إثابة الجريء ، ومعاقبة المؤمن البريء، وذلك قبيح قطعا، ولايفوت شيء، لعدمهما ممن لا يعلم إستحقاقهما، كما تفوت المصلحة في إيجاب نحو غسل الوجه لعدم العمل حيث لا علم، كما قررناه، بل تحصل المفسدة هاهنا من ارتكابهما حيث لاعلم باستحقاقهما من إثابة الجريء ومعاقبة البريء، وذلك قبيح قطعاً.

وتحقيق ذلك: أنَّ في جواز التقليد هاهنا مفسدة مانعة ومحيلة لذلك، والعكس في نحو غسل الوجه، إذ لولم نُجوِّز ذلك لحصلت مفسدة، فحصل من جواز التقليد في ذلك مصلحة واجتناب مفسدة، وكلٌّ منهما معتبر وحده مع السلامة من الموانع، بخلاف الموالاة والمعاداة، فإن في ذلك مفسدة عظيمة، وأما ما يحصل من المصالح للتقليد فيهما من حث المؤمن على البقاء وغير المؤمن على الإيمان، ومن هاهنا مصلحة المعاداة وما قبله،  ومصلحة الموالاة من زجر الكافر عن الكفر، والمؤمن عن الدخول، فمغمور بما ذُكر من عدم الأمن من إثابة الجريء ومعاقبة البريء، إذ تلك مفسدة أقوى منها والمصلحة تضمحل حينئذ.

وأما الإشكال الثاني: فقد ذكر الإمام المهدي عليه السلام  فيه جوابا حاصله: (أن العوام إنما أمروا بقتل الباغي كما يؤمرون برجم الزاني، والأئمة إنما يأمرون العوام بالقتل ونحوه دون الاعتقاد، والمعاداة أمر غير مجرد القتل، فصار الحال في ذلك كالرجم والجلد عن أمر الإمام وليس للعوام اعتقاد فسقهم حتى يكرهوا لهم مايحبون لأنفسهم، ويحبوا لهم مايكرهونه لها).

قال عليه السلام : والقول بخلاف ذلك يؤدي إلى تعذر الجهاد وإمضاء أمور الإمامات، وإلى تخطئة الأئمة كافة، وقوى بعضهم جوابه هذا، واستظهرله واتخذ له نظيرا ما إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين أنَّ زيداً قتل عمراً، فإنَّ لوليّ دم عمرو أن يقتل زيداً وإن جوّز كذب الشاهدين.

وأما مَنْ ذهب إلى جواز التقليد في الموالاة والمعاداة كماهو رأي بعضهم، ورجحه القاضي عبد الله بن حسن الدّواري، فلا إشكال يَرِدُ عليه.

إذا تقرر لك ذلك وانجلى عن كل طرف من السؤال لك الشك الحالك، وتوضحت لك الطرق والمسالك، عرفت بطلان جواب المجيب، وأنَّه لم يَرمِ فيه بسهمٍ مصيب، لقضاء كلامه أن المهدي عليه السلام  لا يجيز في غسل جملة الوجه التقليد، وإنما يثبت ذلك ويحكم به في التحديد، والمعلوم خلاف ذلك، فإنه صرح بجواز التقليد في القطعيات ونص عليه في مقدمة (الأزهار)، و(الغايات)()، ولو كان كما ذكره المجيب لم يكن لذكر القطعية فائدة، ولم يعد منه عائدة، إذ أدلة التحديد ظنية، فيسأل المقام عن موجب ذكر لفظ القطعية؟ وإن قصد إظهار الأقوى وأن غير ما ذكره الإمام من جواز ذلك في القطعية أولى، فخطأه حينئذ أجلى، إذ لم يسأل عن ذلك وإنما استفتح به ما استبهم واستعجم من تلك المسالك، وقوله: أن الامتثال لأمر الإمام لا يعدّ تقليداً... إلى آخره، لا يخفى على كل ذي لبّ سليم أنَّه ركيك قاصر سقيم، على مراحل من المنهج القويم، فإن المقلد في إتباعه المجتهد متبع لما أمر الله به بالإجماع، وقد عرفناك الإجماع على عدم جواز التقليد في الموالاة والمعاداة.

السؤال الثاني: لِمَ فرَّقَ الجمهور بين التخصيص والنسخ حيث أجازوا تخصيص القطعي بالظني، ولم يجيزوا ذلك في النسخ مع أنَّه لافرق بينهما إلا كون التخصيص في الأعيان هو النسخ في الأزمان؟

جوابه: أن يقال السبب المستدعي لإجازة الجمهور تخصيص القطعي بالظني، كون دلالة العموم على الأفراد ظنية وفي ذلك كلام يطول عند علماء الأصول، والنسخ بخلاف ذلك، إذ هو يرفع قاطعاً، إما الحكم، وإما التلاوة.

قال الإمام عليه السلام : والذي نختاره في الإجابة ونعتقد مطابقته لمحز الإصابة هو أن خلاصة مابه فرَقُوا بينهما، هو أن التخصيص دفع والنسخ رفع، والدفع أهون من الرفع، وأيضاً فإن المنسوخ قطعي الدلالة والعلم بدوامه ليس إلاظنياً، فلم يرتفع بالظن هنا إلا ماهو ظن دونه، ولو نسخ القطعي بظني، لأدّى إلى رفع القاطع بما يثمر الظن ليس إلا، وذلك غير صحيح، فإن الظن هو الذي يضمحل مع القطع لا العكس، وقد دفعنا ذلك بأقوى الطرق والمسالك، وقررناه في كتابنا (القسطاس)()، وفي شرحنا على (الورقات)()، ومن رام الاستيعاب، فعليه بمطالعة ما ثمّه، ليتضح له الصواب.

والحاصل: هو أنَّه كما أن العام ظني الدلالة وإن كان قطعي المتن ولم يرتفع بالظن إلا الظن، كذلك المنسوخ ظني الدوام، وإن كان قطعي المتن، فلم يرتفع الظن إلا بمثله وهو الدوام، إلى ماهو قطعي من المتن، لكن هذا في الأزمان، وذلك في الأعيان، فتخصيص أحدهما بذلك تحكم باطل، وأيضا فقد نسخ القطعي بالظني، وأيضاً فإن أهل مسجد قباء تحوّلوا إلى الكعبة بقول واحد أخبرهم، وكان ذلك ثابتا بطريق قاطع، فقبلوا نسخه عن الواحد، ولم ينكر عليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقدير قرائن معرِّفة توجب [قبول] أخبار الآحاد، وحمل عمل الصحابة على العمل بالقرائن بعيد، ولاسبيل إلى وضع مالم ينقل، ثم إن البراءة الأصلية مقطوع بها، فإنها ترتفع بخبر الواحد، وهو لايثمر إلا الظن، وجواب المجيب فيه اختصار مخلّ ومن حقّ الجواب أن يكون غير مخلّ ولاممل، وكان يجب عليه أن يبطل مابه فرقوا () بينهما السائل، إذ لايكفي تقويم عين ذلك المذهب بمائل، على أنه لم يَخْلُ كلامه عن الأود وعدم الاستقامة.

السؤال الثالث: ما الفرق بين النسخ والتخصيص، وهل بين النسخ والتعارض عموم وخصوص، أوهما متباينان من كل وجه؟

أجاب السيد: أنَّ الفرق بينهما غالب عليه الوضوح بالمنصوص عليه في الأصول والشروح، وهو أن التخصيص: إخراج بعض ماتناوله العموم،  على كلام في التراخي، والنسخ رفع مثل الحكم الشرعي بدليل شرعي مع تراخٍ، والذي يطلقه الأصوليون أن التخصيص مقارِنٌ والنسخ متراخٍ.

وأمّا الإمام فقال: لافرق بينهما لأنهما رافعان ومع ذلك يظهر الفرق والتماثل والاختلاف.

قال الإمام(ح) عليه السلام : والذي نختاره في الجواب ونظن مطابقته وموافقته لمحل الصواب هو مايعتمده أهل التحصيل، وذلك يكون من جهة الإجمال والتفصيل، أما الإجمال: فإن التخصيص بيان، أنما أُخرج من عموم الصيغة لم يُرَدْ بها وأنه إخراجٌ لبعض المكلفين أو المكلف به، والنسخ إخراج ما قصد باللفظ الدلالة عليه منه، ولا يكون إلا لبعض الأزمنة، وأما التفصيل فلأن النسخ لايكون إلا بما تأخر عن وقت العمل على الصحيح، والتخصيص يجوز بالمقارن، لأنه بيان بل يجب بالمقارن عند من لايجيز تأخير البيان، ولأن النسخ يدخل في الأمر بمأمور واحد، والتخصيص لا يدخل في ذلك، لأنّ النسخ لايكون إلا بقول وخطاب، وفعل ونحوه، والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن، وسائر أدلّة السمع، ولأن النسخ يُبطِلُ دلالة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية، حيث نسخ الكل، والتخصيص يُـبقي دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازاً على مافيه من الاختلاف، ولأن نسخ القاطع لايكون إلا بقاطع عند الجمهور، وتخصيص المقطوع بأصله جائز بالقياس وخبر الواحد، وسائر الأدلة، وأما النسخ والتعارض، فبينهما عموم وخصوص، وذلك أنه متى تعارض الدليلان، وعلم تأخر أحدهما إلى بعد وقت إمكان العمل يسمى تعارضهما نسخاً، وإلا فلا، هكذا قيل، وقد ذكر بعضهم أن التعارض هو تصادم الأمارتين بحيث لا ترجيح لأحدهما على الأخرى، وهذا يقتضي تنافي النسخ والتعارض، وأما جواب السيد فغير شافٍ للفؤاد، ولا وافٍ بالمراد، ولا عارٍ عن النقادة والفساد.

أمَّا أولاً: فقال على كلام في التراخي وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق، إلا عند مجوزي تكليف مالا يطاق.

فإنْ قال: ما أردتُ، إلا تأخره عن وقت ورود العام، وأما وجوب وروده قبل وقت الحاجة، فليس فيه كلام، وذلك جائزٌ عند الأكثر.

قلنا: جعلك له في مقابلة التراخي المشروط في النسخ بالاتفاق قرينة موضحة لما هناك، إذ جعلت الفرق الاختلاف في هذا دون ذاك.

وأما ثانياً: فلأنَّه قال: والذي يطلقه الأصوليون أنَّ التخصيص مقارن، والنسخ متراخٍ، وهذه الرواية ظاهرها ممنوع وقول قائلها مدفوع، لأنه إنما يقال الخاص مقارن، والنسخ متراخ، وفرق مابين الخاص والتخصيص والناسخ والنسخ، ولأنهم والحال ماذكرناه لايطلقون، بل يقيدون فيهما ولا يجعلون كل متأخر ناسخاً.

قال الفخر الرازي: مامعناه: إنَّ وُرُود  الخاص قبل حصول وقت العمل بالعام كان ذلك بياناً للتخصيص، وإن ورد بعد ذلك، كان بيان إنتهاء أخذ الحكم()، وقال السبكي: أنَّ تأخر الخاص عن العمل نسخ، وإلا خُصص، واستدرك سعد الدين على عضد الدين في جعله للمتأخر خاصاً من غير تفصيل، قال مالفظه: وليس هذا على إطلاقه، بل إذا كان موصولاً، يعني الخاص.

قلتُ: ومن الوصل وروده قبل حضور وقت العمل.

قال: وأما إذا كان متراخياً، فينسخه في قدر ما يتناولانه، حتى يكون العام قطعيا فيما بقي لا ظنياً كالعام الذي  خص منه البعض، فحينئذ يعرف أنه لايشترط في الخاص المقارنة، وأنه لايكفي إطلاق التأخر عليه وعلى الناسخ ولولا تسويته بين التأخر والتراخي، حيث جاء بالتراخي مكانه... حتى قال: على كلام في التراخي لما ورد عليه ذلك، فإنَّ الأغلب في الاستعمال أن يراد بالتراخي ما تأخر عن وقت العمل .

قوله: وأمَّا الإمام... الخ، فيه قصور وعليه لولب الركة يدور، وكان عليه أن يبين من أراد بالإمام، فذلك الوصف غير مختص بواحد من بين الأنام، ولا يليق بمثل هذا المقام إلا التبيين التام، ثم أنه لم يجب عن السؤال الأخير ولعلّ ذلك لأنّ الباع قصير، إن لم يكن حَمْلُه على التقصير.

السؤال الرابع(ح): ما الذي ترونه في تجزئ الاجتهاد وعدمه، فالعلماء في ذلك مختلفون، والذي يظهر بتجزئة، فإن كان ثَمّ مانع أرشدتم إليه وأطلعتم عليه؟

أجاب السيد(): أن مالكاً سئل عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع وقال في البقية لاأدري.

فإن قال قائل: أن ذلك لتعارض الأدلة، قيل له: فقد صار جاهلاً لأحكامها كجهل المقلد، وأن كثيراً من المسائل الفرضية والفقهية لا تعلُّق لها بغيرها.

وأما جواب المانع: فإنه يقول : أن المقلد يُجوِّز في كل مسألة عرف بمأخذها أن لها تعلقاً بما لم يعلمه، فلا يصح إجتهاده فيها ولايبعد أن يرى ذلك متوقفا على الكتاب والسنة، وهما يفتقران إلى علم المعاني والبيان، وأصول الفقه من حيث العموم والخصوص، والمطلق والمقيد.

قال الإمام(ح): والذي ذهبنا إليه، واعتمدنا في إجابة هذا السؤال عليه هو جواز تجزئ الاجتهاد، إذ لا مانع منه عقلاً، لأنّ الأصل عدمه، ولا شرعا، إذ الأدلة الشرعية منحصرة فيالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال ، والاستصحاب، وشرمن قبلنا، وليس في شيء منها ما يدل على ذلك، بل فيها ما يدل على خلافه، كما سيأتي.

لا يقال: غير المجتهد الكامل إذا نظر في المسألة بدليلها يجوز أن يكون لها عُلْقَةً بالفن الذي هو جاهله، لأنا نقول: قد جرت عادة أهل العلم بعد تمهيد قواعده وتحرير أدلته، وتسهيل طرقه بالعناية التامة، بحسن التأليف، وتهذيب ماطال من العلوم، فجعلوها فنونا أفردوا الكلام على كل منها، ولم يتركوا منه شيئا يذكر في غيره، وجعلوا لكلّ فن أبوابا يذكر في كل باب مايتعلق به ولا يتركون منها شيئا يتعلق بغيره إلا أن يشيروا إلى ذلك في الندرة، وجعلوا كل باب مسائل يذكرون في كل مسألة جميع ما يتعلق بها من أدلة، وأسئلة وخصوص، ونسخ، ومعارضة ونحو ذلك، حتى صارت تلك عادة تثمر الظن القوي بانحصار مايتعلق بتلك المسألة في ذلك الموضع وأن المجتهد الكبير من المتقدمين لم يكن يحصل له إجتماع تلك الأدلة، بل ماحصل لكلٍ إلا بتعاونهم وتظافرهم، فإذا نظر المميز في كلام المحققين في كتب الإسلام التي استقصى مصنفوها على جميع ما يتعلق بمسائلها من العلوم، وعرفنا أنه قد فهم ذلك كما تعرف فهم كلام من أفتاه، أو كما يعرف معنى المسألة الفقهية، والنحوية، وحصل له مع ذلك ظن قوي بحرمة بعض الأفعال، فإنه يظن أنه إن أقدم عليه تقليدا لمن أحلّه من العلماء خاف العقاب من الله عقلاً، والعمل بالظن في تجنب المضارّ أصل مهمٌ معتمدٌ عند المحققين في كثير من القواعد الأصولية، وليس يحضر مع المجتهد أكثر من ذلك، وأيضا فلو لم يجُزْ لم يقع، وقد وقع، وأنه دليل الجواز، فإنَّه اشتهر بالاجتهاد وقته صلى الله عليه وآله وسلم  من لا يُعرَف بالاجتهاد الكامل، ولا بمقاربته، من ذلك: ((أنه جاء أعرابيان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فأخبراه أنهما تيمما ثم وجدا الماء في الوقت، فأما أحدهما فاجتزأ بتيممه ولم يعد الصلاة، وأما الآخر فتوضأ وأعاد الصلاة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم  للذي اجتزأ بتيممه: أصبت السنة، وقال للآخر : أوتيت أجرك مرتين)) ()، ولم يلُم الذي اجتزأ بتيممه اجتهاداً منه، ولم يلزم الاحتياط حتى يستفتي، ومنه:حديث عمرو بن العاص، في غزوة ذات السلاسل، وهو كان أميرهم، فاجتنب، وأشفق إن اغتسل أنْ يهلك، فتوضأ وغسل مغابنه وصلى بهم) ()، وهذا إجتهادٌ منه في تركه التيمم في الرواية الصحيحة، وفي الاقتصار على غسل ماغسله، وفي إمامته لهم وهو أنقص منهم، ثم صوّبَه صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن ذلك أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم  لأبي بن كعب: أيّ آيٍة من كتاب الله معك أعظم؟ فقال:{اللهَ لا إله إلاَّ هُو الحيُّ القَيِّومُ...} [البقرة:255]، فضرب في صدره وقال: ليهنأك العلم أبا المنذر () رواه مسلم وغيره، فجعله من العلماء لفهمه ذلك، وإن لم يفهم سائر العلوم، وهذا إجتهادٌ من أُبَيّ، لأنَّ آية الكرسي أجمع آية في القرآن لصفاته تعالى، فكانت أفضل الآيات لشرف مدلولها وغيرها، وإن دلّ على ما دلت عليه، ففي آيات لا في آية، ومن ذلك: ((أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم  صالح المشركين عام الحديبية على أن يَرُدّ من هاجر إليه منهم إليهم، فأسلم رجلٌ يقال له أبو بصير، فهاجر إليه صلى الله عليه وآله وسلم  وهو في أول الإسلام لم يعرف علوم الاجتهاد قطعاً، فوصل رجلان من قريش يسألان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ردّه، فسلمه إليهما، فسار معهما، فلما بلغوا بعض الطريق قال لأحدهما: أرني سيفك، فأراه سيفه، فهزّه فضربه فقتله، ثم هرب الآخر، فرجع أبو بصير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: يارسول الله قد أوفى الله ذمتك، وأنا قد فعلت كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ويل أمِّهِ مسعِرُ حرب، لو وجد ناصراً)) ()، فعَلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سيرده إليهم إن طلبوه، ففرّ إلى سيف البحر وهاجر إليه من أسلم فاجتمعوا هناك وأخذوا طريق قريش حتى رضيت قريش أن يؤمّنهم صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا إجتهاد منه في قتله الرجل وإخافة الطريق وعدم التوقف على الأذن منه صلى الله عليه وآله وسلم  في الفرار إلى سيف البحر، واجتهادٌ أيضا ممن هاجر إليه، فلم ينكر ذلك صلى الله عليه وآله وسلم ، بل أثنى عليه لما صدر منه هذا، ولولا خشية التطويل والإسها ب، لأتينا في ذلك الباب بما لايخطر بقلوب ذوي الألباب، لأنه لا يستقصى ذلك موضعا آخر.

وأما ذلك الجواب فبمعزلٍ عن الصواب، لأنّ ما جعله حجة على التجزء على مراحل من التحرير، وبمعزل عن التهذيب والتقرير، على أنما روي عن مالك لايصلح دليلا على تحزئ الاجتهاد وليس فعله بحجة يلزم العمل بها، فيحرم منها الإبتعاد حتى في مسائل الفروع، فكيف في مسألة من مسائل الأصول، فمثل ذلك فيها غير مقبول، ولو نسلّم، فلا نسلّم تجزئ الاحتهاد في حقه حتى يثبت حجة، فإنَّ عضد الدين() وغيره من المحققين نقلوا الإجماع على كمال اجتهاده وبلوغه في ذلك قصارى مراده، فإن الحاكم بالتجزئ في حقه خبط وركب متن عمياء وتاه في الغلط، وأغرب من هذا وأعجب أن جعل المجتهد عند عدم العلم بحكم المسألة لتعارض الأدلة كالمقلد سواء كيما ما يكون ذلك مسلكاً من المسالك على ثبوت التجزئ في حق مالك، ليتم له الاحتجاج على مدعاه بذلك، وضعف مثل هذا على المتأمل لايخفى، لأن المجتهد حينئذ إن كان مذهبه التخيير رجع إلى أيهما شاء، وإن كان الاطراح رجع إلى غيرهما إن وجد طريقاً سمعياً، وإلا رجع إلى حكم العقل، وليس كذلك المقلِّد، فافهم.

واعلم أنه إنما أتى المجيب حيث لم يرمِ هنا بسهمٍ مصيب، لأنه غيَّر ما يقال هنا وبدّل ومسخ ذلك عما كان عليه وحوّل، حتى تبدل المعنى وتحول، وما ذلك إلا لقلة البضاعة وقصور باعه في هذه الصناعة، ومن رام الوصول إلى تحرير ذلك في الأصول فعليه بمطالعة نحو (المعيار)، على أن ذلك أيضاً هنالك مدخول.

وقوله: أنَّ كثيراً من المسائل الفرَضِيَّة والفقهيَّةِ لاتعلُّق لها بغيرها، غير مخلِّص، لأنا وإن سلمنا ذلك فإنه لايُعرف إلا من جهة الغير، إذ لولا ذلك لم يحصل له ظن عدم التعلق وهو حينئذ أشبه بالمقلد فيحتاج هذا الكلام إلى تمام،  ثم أن في دليله هذا ماينبيء عن تسليم مطلوب الخصم إذ يقول فإنه يجوز حينئذ أن تكون المسألة مما لاتعلق له بالغير فلايحصل له الظن فلايصح فيه الاجتهاد ولا يتم بذلك المراد فظهر مافيه لذلك من الاستبعاد وعدم الافضاء إلى مايراد، وقوله في حجة المانع: أن المقلد. الأحسن أن يقول: المميز.

قوله: يجوز في كل مسألة...إلخ. لا يصلح دليلاً، لما قررناه، ثم أنه لم يذكر من علوم الاجتهاد التي يجوز المميز توقف المسألة عليها إلا بعضاً، ولم يذكر البقية بتصريح ولا تلويح، ومثل ذلك عند أهل التأليف ركيك، فنتج على أن جوابه مصادرة عن المطلوب وعلى غير ما أريد منه من الأسلوب وهو ترجيح الأرجح وتوضيح القول الأصح عن ذلك سئل لاعما قيل وما أورد ثمة منه دليل.

السؤال الخامس: إذا تعارضت الدلالة القولية والدلالة الفعلية، والدلالة التقريرية، فأيها يقدّم؟ إلا أن يسترجح تساويها، وعدم المزية لبعضها على بعض؟ وما قولك والحال هذه، هل يرجع إلى التخيير بينها أو إلى الترك لها وطلب غيرها؟

أجاب السيد المذكور: هذا السؤال فيه إجمال، وقد ذكر العلماء رحمهم الله في مقتضاه مايستدعى التطويل والبحث عما يفتقر إليه من التعليل.

قال الإمام(ح) عليه السلام : والجواب الواضح والمختار الراجح هو حيث لايمكن الجمع بين ماهذه حاله لخلوها عما يرجح به بعضها على بعض من المرجحات الراجعة إلى المتن والسند والمدلول والخارج تقديم الدلالة القولية على الفعلية إذ هي أقوى لأنّ القول وضع لذلك، فلا يختلف بخلاف الفعل، فإن له محامل وإنما يفهم ذلك منه في بعض الأحوال بمعونة القرائن الخارجية فيقع الخطأ فيه كثيراً.

قيل: ولأنَّ القول أعمّ دلالة لأنَّه يعم الموجود والمعدوم والمعقول والمحسوس بخلاف الفعل فإنه يختص الموجود والمحسوس، ولأن دلالة القول متفق عليها، والفعل دلالته مختلف فيها، والمتفق عليه أولى بالإعتبار، هذا ولا كلام أنَّ التقريرية في (مقتضاها) () من المحامل أكثر من الفعلية ويجوز فيها من العوارض ما لايجوز في الفعلية، فحينئذٍ يعرف أن القولية مقدمة عليها، وأن الفعلية مقدمة على التقريرية، ولو قدرنا تساويها والحال هذه، فمن مذهبه الإطراح عند التعارض يطرح ويعدل إلى غير ذلك ومن يذهب إلى التخيير يعمل بأي المتعارضات، وأما جواب السيد، فهو منتثر النظام ممجوج لذوي الأفهام وليس في السؤال ما ذكر المقام من الإجمال والإبهام، فإنه لأظهر من نار على علم، وكان الأليق بالرجل الأعلم أن يقول في مثل ذلك: لا أعلم، وعن علي عليه السلام  قال:(يابردها قولك في المجهول: لا أعلم)، على أن قوله قد ذكر العلماء ...الخ. ينقض ما ادّعاه في ذلك السؤال من الإيهام والإجمال، وقوله: والبحث عما يفتقر إليه من التعليل. قول ضئيل عليل غير نبيل، سواء كان مستأنفاً أو معطوفاً على ما يستدعي التطويل. إنتهى ما وجد منها.

سؤال(ح): ما بال المانعين من العمل بالمفاهيم يثبتون التخصيص بها؟

الجواب: أنَّ الوجه يتضح بعد تقرير محلّ النزاع، فنقول في مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((في الغنم السائمة صدقة)): العلماء مختلفون، فمَنْ أثبت العمل بالمفهوم يقول: أنَّ المعلوفة لا زكاة فيها، ومَنْ نفاه، فإنَّ المعلوفة عنده مسكوتٌ عنها، ليس فيما ذكر دلالة على ثبوت الزكاة فيها ولا إنتفاؤها، والأصل براءة الذمة، فإذا قيل: (أكرِمِ الناسَ الطوال) فالمثبتُ للعمل بالمفهوم يُخرج القصار عن ذلك، وكأنَّ ما ذكر مشتمل على نحو: (أما القصار فلا تكرمهم)، فيكون القصار مخرَجِيْنَ من لفظ العموم كما لو نطق بذلك، وأما النافي للمفاهيم فالقصار عنده مسكوت عنهم بعد أن كانوا داخلين قبل ورود الصفة، فيتوهم متوهم من هذا أنه من قبيل التخصيص، كما هو عند مثبتها، وليس بتخصيص مهما لم يقتض أنَّ القصار لايكرمون كما هو عند المثبتين، فاعلم ذلك.

سؤال(ح): استدل أهل المذهب على خلود الفسّاق بعمومات الوعيد، قالوا: ودلالات العموم قطعية لأنا علِمنا أنَّ ألفاظ العموم موضوعة له قطعاً، وإيراد الحكيم لها غير مريد ما وضعت له إلغازاً أو تعمية، ولايجوز عليه قطعاً، فعلمنا أنَّه أراد بها ماوضعت له قطعاً، وذكرتم في أصول الفقه أنَّ دلالته ظنية بدليل صحة تخصيصه والمنصوص عليه لَمَّا كانت دلالته قطعية لم يصح تخصيصه، وأدلة ذكرت غير هذه، فكيف الجمع بين المقالتين؟

الجواب: الصحيح المختار، القوي الذي ليس عليه غبار هو: أنَّ دلالة العام على ما تناوله إنَّما هي على جهة الظهور، وذلك أمرٌ جلي عليه لولب الانصاف يدور، والقطع من ذلك على مراحل وجهات، ولولا الإسهاب لأقمنا عدة من الدلالات وليس وضع اللفظ بإزاء هذا المعنى يقتضي أن تكون دلالته عليه قطعية فإن أكثر دلالة الألفاظ على معانيها ظنية، يُعلم ذلك يقيناً لا ظناً ورجماً بالغيب وتخميناً، وقولهم: أنّ إيراد الحكيم لها غير مُريد ما وضعت له إلغازاً وتعميةً غير مسلّم، اللهمّ إلا أن لا ينصب قرينة على ما أراده، ولسنا مدفوعين إلى اعتقاد جهل، إذ ورود العمومات أو أكثرها مخصوصة يقتضي أن نتوقف حتى نبحث فإن وجدنا مخصصا عملنا به، وإلا اعتقدنا الظاهر ولا ريب، فإن اعتقدنا أنه أراد ما وضع اللفظ له من أول وهلة فقد أُتينا من قِبَلِ أنفسنا، لا من جهة أنه عمّى علينا أو ألغز، ووجه التفصي عن ذلك الإشكال الوارد في تلك العمومات المخصوصة هو أنها قد تقضَّت أزمان وأحقاب ولا شعور لنا بمخصص، وقد بحثنا فلم نجده، فلو كانَ لَظَفِرْنَا به، إذ يجب تبليغه، فحيث لم يُبلَّغ، علمنا عدمه، وإذا علمنا عدمه، علمنا حينئذٍ أنَّه يريد بالعام ما وضع له قطعاً لذلك، لا لأنّ دلالة العام على مدلوله قطعية فيفهم كذلك، وهذا طرف واضح من أحسن المسالك، والله وليّ العلم.

سؤال(ع): منام الأنبياء  عليهم السلام  وحي، ولهذا بادر إبراهيم عليه السلام  إلى ذبح ولده، فكيف يستقيم ما ذكره ابن هشام في السيرة وغيره: ()(أنه لما عرج به صلى الله عليه وآله وسلم  ليلة الإسراء، أخبره الله أنَّه فرض على أمّته خمسين صلاة، فأخبر نبينا موسى صلوات الله عليهم، فقال له: إرجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجع إليه فخفف، وهو صلى الله عليه وآله وسلم  رجع مرة بعد مرة حتى اقتصر على هذه الصلوات الخمس فقط، وهو يلزم من هذا الأثر البدا، لأنه لم يقع التمكن فإن المسلمين في ذلك الحال لم يعلموا بذلك فرضاً() عن أن يمكنهم؟

الجواب على ما اعتمد عليه بعض الأصحاب وعوّل، حيث تشبث بذلك من أجاز النسخ قبل الإمكان وتعلقوا بذلك واحتجوا به في ذلك الشأن من وجوه أربعة:

أحدها: أنَّ في رواية الحديث كذلك ، نسبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  إلى التلكئ في الإقدام بما أمر الله سبحانه وتعالى .

وثانيها: أن ذلك نسخ قبل بلوغه المكلفين والمخالف في حجاجة ما يقضي بأنه يمنع من ذلك وإن كان أصله يقتضي بجوازه.

وثالثها: أن الظاهر الذي لاخفاء به أن الإسراء متأخر عن شرع الصلاة فإن المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأصحابه كانوا يصلون الصلوات الخمس قبل ذلك المدة المديدة.

ورابعها: أنَّ هذا تخصيصٌ، والتخصيص قبل إمكان العمل جائز.

سؤال(ع): ذكر علماء الأصول في كتبهم أنَّهم فهموا دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فيما ورد على لسانه، ومثال ذلك ما رويَ أنَّهُ صلى الله عليه وآله وسلم  : ((أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، فقالوا: أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ)) () ولم ينكر عليهم ما فهموه من دخوله في ذلك، بل عدل إلى بيان الموجب، فقال: ((إني قلدت هديا))، وكذلك يذكرون أن المخاطب يدخل في عموم خطابه، آمراً كان أو غيره، وإذا كان كذلك فكيف يكون صلى الله عليه وآله وسلم  آمرا مأموراً من جهتين فإن الآمر أعلى مرتبةً من المأمور، ولأنه من المغايرة على ما ذلك مذكور مقرر ولا يخفى مثله؟

الجواب: المخلص عن الإشكال المذكور: أن الآمر في الحقيقة هو الله سبحانه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم  هو المبلغ عنه تعالى فقط، فإذا قلنا بدخوله صلى الله عليه وآله وسلم  في الأمر الصادر منه، فلا يلزم أن يكون آمراً مأموراً، بل هو مأمورٌ، والآمر الله سبحانه وتعالى، وهذا وجه جلي واضح، ووجه آخر وهو أن يقول: ولو قدر أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم  الآمر فليس يلزم من دخوله أن يكون آمراً مأموراً، لأنّ المعنى أن الأدلة قامت على أنَّه ما أمر به أمته فحكمه في ذلك حكمهم، لا على أنَّه مأمور بنفس الأمر الذي وجهه إليهم، بل هو مأمور بذلك من غير هذه الجهة فيقدّر أنَّه أُمر بالوحي بتلك الفريضة، وأُمر بأنْ يأمر أمته بها، فهو آمرٌ لأمته، وهم مأمورون من جهته، وهو مأمور بذلك من جهة الله سبحانه وتعالى، ووجهٌ آخر وهو: أنَّا لو قدرنا أنَّه مأمور بنفس الأمر الصادر منه، فذلك على جهة المجاز في حقِّه، والحقيقة في حقهم، وإنْ قيل بأنَّه من قبيل التجريد، فهو وجه واضح، فإن أمر الإنسان لنفسه معروف لغة ومستعمل، وينبنى على التجريد كأنَّ الإنسان جرَّد من نفسه شخصاً، ثم خاطبه وأمره على جهة الاستعلاء، هذا ما يمكن ذكره في هذا السؤال وتوجيه الجواب.

والتحقيق: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم  ليس بآمر لنفسه قطعاً، وإنما أمر أمته الموجودين المخاطبين حينئذٍ بدخوله في ذلك الحكم، وَمَنْ غاب من أمته ومن سيوجد إنَّما هو بالدليل المقتضي لذلك والله، سبحانه وتعالى أعلم.

سؤال(ع): يستدل أهل الأصول بأنه لايعمل بمفهوم اللقب في جميع كتب أصحابنا وكتب الأشاعره بأنَّه يلزم من قولنا: محمد رسول الله، نفي رسالة غيره من الأنبياء  عليهم السلام ، وكذا من قولنا: العالم موجود، وزيد موجود، وزيد عالم، نفي هذه الصفات عن الغير فيلزم نفيها عن الله سبحانه، بل كان زيد موجوداً ظاهر كذبه، واللوازم باطلة إجماعا وقد يقع في النفس أن ذلك لايصلح في الإستظهار على من قال بمفهوم اللقب ولايدفع الظهور لأنّ كل من قال بالمفاهيم لايقول بها إلا مع تعذر المنطوق وعدمه، ولو سلّم خلاف ذلك فإن القاطع لايقابله الظاهر، فيعمل بالقاطع إجماعا؟

الجواب: سؤال الولد واعتراضه على ما استدلوا به في ذلك المقام سؤال حسن ومباحثة واقعة، ولا شكّ أن تلك الحجج واهية وأنَّها عن إفادة القطع بل الظن نائية، وأقرب ما يعتمد في عدم الأخذ بمفهوم اللقب: أنه لا يثبت فيه ولا في غيره أنَّه حجة معمول عليها وملتفت إليها إلا بدليل يدل على ذلك، ولا دليل يقتضي الأخذ بمفهوم اللقب فيبقى على الأصل في عدم الدلالة والله سبحانه أعلم، وهذا جواب على مقتضى النظر مع عدم بحث شيء من الكتب وعدم فراغ، والله وليّ التوفيق.

سؤال(ع): إذا ورد فعل وقول، والقول خاص به، وجُهل التاريخ أو كان القول خاصاً بالأمة وجُهل تاريخ المتقدم بين الفعل والقول؟

الجواب في الطرف الأول: لا تعارض في حق الأمة وفرضهم العمل بالفعل الموجب للتأسي، وكونه لا تعلق لهم بالقول بخصوصه، وأما في حقه صلى الله عليه وآله وسلم  فالوقف لاندري ما الناسخ وما المنسوخ في حقه لعدم العلم بالتاريخ، وأما إذا كان القول خاصاً بالأمة فالعمل عليه وهو أرجح من الفعل لأنَّه أقوى، ولأنَّ في ذلك عدم الإلغاء لواحدٍ منهما على ما ورد في فنّ الأصول.

 

مسائل متعلقة بأصول الدين

سؤال(ع): هل لله إرادة باختلاف العلماء، فإنْ قيل نعم في الفروع دون الأصول لأنّ الحق فيه مع واحد، فإذا كان الحق فيه مع واحد فقد رأيناهم اختلفوا فيما بينهم وكلُّ واحدٍ منهم يطعن على الثاني، بل يكفر ويفسق، وكلُّ واحدٍ منهم يعتقد أنَّه على الصواب، وأن الحق معه فكيف يكون الحكم مع اتفاقهم على أن الله واحد والرسول صادق، ولكنهم إختلفوا في الصفات، ولكل واحد منهم تأويل وقد اجتهد كل واحد منهم في إصابة الحق من غير معاندة ولا معارضة، وإذا كان الأمر على هذه الصفة، مايكون الحال فيمن يقصر نظره عن الإطلاع على حقيقة أقوالهم وتعيين مقالاتهم، وهو يجب الكون مع المصيب دون المخطئ وكل واحد يدلي بحجة ويعتقد أن قول الآخر شبهة، وكل واحد منهم غير معصوم عن الخطأ، هل الأولى لهذا الناظر أن يحسن الظن في الجميع ويحمل أمرهم على السلامة لأنّ كل واحد منهم قد اجتهد في إصابة الحق؟ أو الأولى أن يلتزم قول من ترجح له مع أنَّه يحتاج إلى من يرجح ذلك القول فحينئذٍ يصير مقلداً، والتقليد في الأصول لا يجوز على ماذكره في السؤال، من صدقات مولانا تلخيص هذه المسألة وما يتعلق بها لوجه الله تعالى وإنْ كان السؤال على غير ما في النفس؟

الجواب: أما السؤال الأول فإرادة الله في اختلاف العلماء في الفروع ظاهرة لاتعزب عن اليقظ النبيه ولا يفتقر إلى كثرة تنبيه، وأما مسائل الأصول القطعية اليقينية الظاهرة الجلية، فلا إرادة له في اختلافهم فيها وليس اختلافهم يكشف عن إرادته، إذا لم يقع إلا ما أراده، فيلزم إرادة القبيح وذلك مستحيل منه فيتأمل، وأما تخطئَةِ كل عالم مَنْ خالفه في باب الأصول واعتقاده لصواب معتقده، فشرح ذلك يطول ويفتقر إلى أبواب وفصول، وحظّ المقلِّد حمل العلماء على السلامة وأن لايتعرض لتخطئتهم فليس ذلك من فنه ولاهو متعبد في ذلك بظنّه.

سؤال(ع): ما حجة الكُرَّاميَّة() في أن الإسم هو المُسَمَّى؟

الجواب: إنَّما قالت الكراميَّة بذلك، لأنّ أسماء الله عندهم قديمة، فأوجب ذلك أن تكون هي نفس المسمّى، وإلا لزم تعدد القدماء وهو محال.

سؤال(ع): نُطْقَ الجوارح بآلة أو بوجدان الكلام فيها؟

الجواب: أنَّه يُنطقها الله تعالى، كما أنطق الشجرة، بأن يخلق فيها كلاماً، فتتكلم بما فعلت، الأذنان بما سمعتا، والعينان بما رأتاه، والجلود بما لمست.

سؤال(ح): قالوا: لا إكفار إلا بدليل سمعي، ويجوز فسق لا دليل عليه، وإلا لزم تعيين الصغائر وذلك إغراء. لاحجة غير هذا؟

الجواب: تلك الحجة التي ذكرها السائل كافية في وجه الفرق بين الكفر والفسق، فيما ذكر، ولا يبعد أن يكون في بسائط الفن حجج أخر، فلو صادف ورود السؤال خلوَّ البال وتقلل الأعمال لبحثنا فيها، هذا ماسنح من الجواب، والله أعلم بالصواب.

سؤال(ع): لو قدِّر توبة إبليس لعنه الله هل يجب على الله قبولها أم لا؟ فإن قلت: يجب، فكيف وقد أخبر أنَّه من أهل النار؟ وإن قلت: لايجب، فكيف وقد أخبر بأنَّه يقبل التوبة من كلّ مكلف، ومعلوم أنه مكلف؟

الجواب: أنَّ إبليس لو تاب توبةً نصوحاً لَقُبِلَتْ منه وتاب الله عليه، لأنّ قبول التوبة واجبٌ، وليس ذلك ينافي إخبار الله بأنَّه من أهل النار، لأنه يتضمن الإخبار بأنه لايتوب، والإخبار بعدم وقوع التوبة لا ينافي قبولها لو وقعت، ولعلّ هذا السؤال يعود إلى مثل ما ذكروه، لو قدّر وقوع ما علم الله أنه لايقع، وفي جوابه من التخبط ما لايجهله الخائض في هذا الفن، والله أعلم.

سؤال(ع): هل يصح من الله أنْ يعذب العبد ولم يبعث نذيراً إليه أم لا؟

الجواب: أن قواعد العدلية تقـتضي صحة ذلك وجوازه ، لأنَّ الواجبات عندهم والمقبحات بعضها عقلية يُعرَف وجوبها وقبحها بالعقل، فإذا أخلّ الواحد بفعل الواجبات العقلية وأقدم على المقبحات العقلية عُذِّب، ولولم يبعث إليه رسول، فإنْ قلت: فإذا كانت البعثة لطفاً فتركها إخلال باللطف، فكيف يصح تعذيبه مع عدم فعل ما يكون له لطفاً ؟ قلت: قد يكون في المكلفين من يعلم الله منه أنه لايلتطف بالبعثة وذلك ظاهر، ثم أنَّ الإخلال باللطف لايقتضي قبح العقوبة على المعصية، وإنما يقبح الإخلال به فقط، هذا على القول بوجوب اللطف، وفيه الخلاف وأدلة المخالف قوية.

فان قلت: فما تـقول في قوله تعالى {ومَا كُنَّا مُعَذِّبِيْنَ حَتَّى نَبْعثَ رسولاً[الإسراء:15] ؟

قلت: قد تأوله الأصحاب، على أنَّ المعنى: وما كنا معذبين بسبب التكاليف الشرعية، وقال جارالله: بعثة الرسل من جملة التنبيه والنظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلاّ يقولوا كنا غافلين، فلولا بَعَثْتَ إلينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل. انتهى. وأمّا قاعدة غير العدلية في نفي التحسين والتقبيح فلاكلام أنَّ لِله سبحانه وتعالى أن يعذب من غير بعثة عندهم، بل يجيزون أن يعذب من لا ذنب له.

سؤال(ع): هل يوجد في العالم مَنْ له حسنات، بلا سيئات أم لا؟

الجواب: أنَّه لامانع عن ذلك، فأمّا العالم العلوي فالظاهر أنَّ الملائكة كذلك معصومون عن كل قبيح، من صغير وكبير، وأمّا من بني آدم فلا يعلم الوقوع، ولا مانع من الجواز، وقد ورد مايقتضي بأنَّ بعض الأنبياء  عليهم السلام  كذلك، لكن لايقطع به.

سؤال(ع): هل يصح أنْ تستوي حسنات العبد وسيئاته ويدخل الجنة أم لا ؟

الجواب: أنَّ نصوص أكثر الأصحاب على أنَّ ذلك لا يصح ولا يجوز، قالوا: لأنّ العبد إذا استوت حسناته وسيئاته، فإما أن يدخل النار، وهو ظلم فلا يجوز، أو يدخل الجنة، فإما أن يدخلها مثاباً وإثابة من لايستحق الثواب قبيحة، لأنّ فيه تعظيم من لا يستحق التعظيم، أو غير مثاب، فقد انعقد الإجماع على أن من هو بصفة المكلفين لايدخل الجنة إلا مثاباً، وإن لم يدخل النار ولا الجنة، فهو يستلزم داراً ثالثة، والإجماع على أنَّه لا دار غير الجنة والنار، وفيما ذكروه نظر، والصحيح أنَّ ذلك يجوز لأنه لو استحال، لكان إما لذاته، ولاقائل به وليس فيما يرجع إلى ذاته ما يقتضي إستحالته، أو لغيره والأصل عدمه، ودعوى الإجماع غير صحيحة لا على أنَّه لادار ثالثة، ولاعلى أنَّه لايدخل الجنة ممن هو مكلف إلا من يستحق، رويَ خلاف ذلك عن عدد كثير من العلماء أعني في الدار الثالثة ودخول المكلف إلى الجنة متفَضَّلاً عليه لايمنع منه عقل وسمع .

سؤال(ع): هل يصح من الله تعالى أن يخلِّي بين الإنس والجان؟ وهل تكون التخلية حسنة أو قبيحة أم لا؟

الجواب: أنَّه لامانع من التخلية بين الجن والإنس، إذ هي كالتخلية بين بني آدم بقتل بعضهم بعضاً وبنهب بعضهم بعضاً، لأنّ الجن مكلفون، ومع تمكنهم من معرفة قبح الإضرار بالأنس، وأنهم يُعاقبون عليه لامانع من التخلية، وليس فيها مفسدة مُتَيَقَّنة، فيمتنع لذلك.

سؤال(ع): هل جواز مدح النفس خاص بالأنبياء  عليهم السلام ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أنا سيد العرب)) () وقول يوسف: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} أم يجوز لغيرهم؟

الجواب: بل يجوز لغيرهم، للوجه الذي جاز لهم ذلك من أجله، إذا حصل، وهو المصلحة الدينية، وعود النفع على المسلمين، ومن هذا القبيل مايصدر عن الأئمة في النظم والنثر، ومن أكثرهم مبالغة فيه المنصور بالله عليه السلام ، ويجوز ذلك أيضا لغيرهم كما إذا صدر من العالم الخامل للتعريف بعلمه ومعرفته ليُنتفع به.

سؤال(ع): مَنْ فعلَ شيئاً من الطاعات ويطلب عليه الثواب هل يثاب عليه أم لا؟

أجاب: أنَّه لابدّ لمن فعل ذلك من ثواب، لأنّ الله لايضيع عمل عامل، وعروض المفسد إنَّما يُبطلُ الإجزاء، لا أجر مافعل.

وسئل(ع): عما وردت به الأحاديث في الصحيحين، وغيرهما من جُرِيَّ الأمور الباهرة الخارقة للعادة من إحياء الميت ونحوه، من الخوارق على يد الدجال الكذاب، كالحديث الذي ورد فيه: ((أنه يدعو رجلاً مسلماً شاباً، فيضربُه بالسيف، فيقطعه جزلتين، ثم يرمي به الغرض، ثم يدعوه فيقبل يتهلل وجهه يضحك متبسما، وأنه يمر بالخربة فيقول: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، وأنه يأتي قوما فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فتروح عليه سارحتهم أطول ما كانت ذَرءاً، وأشبعه ضروعا وأمده حواصر، ثم يأتي قوم فيرِدُون عليه فينصرف عنهم فيصبحون مُمْحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم)) ()، وناهيك بهذه الخوارق التي جاوزت الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة، وما يؤثر من البينات والبراهين على صدق المدعين للرسالة المبعوثين، كيف جاز إظهارها على أكذب الكذابين وشرّ خلق الله أجمعين، ومن قواعد أهل العدل الواضحة وما بنوه على الدلائل الراجحة أن الله سبحانه لا يظهر المعجزَ على كذّاب، وأن ذلك مما يقطع به ولا يشك فيه ولا يرتاب، ولو جوزناه لهدم قواعد الشرائع وضاق لأجله المجال الواسع، هذا معنى سؤال السائل وخلاصة ما أورده من المسائل.

فأجاب بما لفظه: هذه القاعدة المذكورة صحيحة مشهورة، ولو أنا جوّزنا ظهور المعجزة على الكذابين لهدم ذلك قواعد كثيرة في الدين ولم نَـثِق بنبوة أحد من النبيين، ولهذا فإنَّ علماء العدل كفَّروا الأشاعرة ونفاة الحكمة() بما يلزمهم من تجويز كذب المدعي للنبوة الآتي بالمعجزة، لما فيه من هدم أساس الشريعة وتجويز الأمور الشنيعة الذي يمكن على قواعدهم من الجواب عن هذا السؤال أن يقال: هذه الأخبار الواردة في شأن الدجال آحادية، ومن قواعدهم أنَّ الأخبار الآحادية إذا عارضت الأدلة العقلية أو غيرها من الأدلة القطعية وجب تأويلها إنْ أمكن التأويل، وإلا ردّت، فالواجب في هذه الأخبار الواردة إذا سلمنا معارضتها لتلك القاعدة، أن نتأولها إن أمكن تأويلها وإلا لم يُعدَل إليها وهي ظنيَّة، وتُطّرِح القاعدة العقلية القطعية، ومِمَّا يُؤيد هذا المعنى: أنَّ تلك الأخبار لا تخلو عن تعارض وطروِّ تناقض، فإن منها ما أورده السائل، وحكاه عن المغيرة، قال: ((ما سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أحدٌ عن الدَّجال أكثر مما سألته. فقال: وما سؤالك؟ وفي روايةٍ: وما يُنصبَكَ منه إنَّه لا يضرك؟ قال، قلت: يارسول الله إنَّهم يقولون: أنَّ معه جبالاً من خبز ولحم ونهر. قال: هو أهون على الله من ذلك)) (). أخرجه مسلم في صحيحه.

ثم نقول: هذه الأخبار في الحقيقة ليست معارضة لتلك القاعدة المحررة، لأنّ تحقيقها: أنَّه لا يجوز أن تظهر المعجزة على كذاب ادعى النبوة وقال: معجزتي أنَّه يتفق كذا من الأمور الخارقة، فقالوا: لايجوز أن يُصدِّق الله دعواه، ويُظهر على يده بعد ذلك الكلام الصادر منه ما يطابق ما ادّعاه، لأنّ ذلك يكون تصديقاً للكاذب، ويكون سبباً في أنْ لا يوثق بدعوى مدَّعٍ ونبوّة نبي، ولا يعرف الصادق من الكاذب، وهذا الدجال الموصوف في الأحاديث المعهودة قد ارتفع اللبس في شأنه، لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قد أخبر عنه وحقق أمره، وبين نعته، وعرف ((بأنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرأه من يكتب ومن لا يكتب)) ()، فمن علم ذلك من الأمة لم يعتبر به ومن لم يعلم ذلك فقد أُتي من قِبَلَ نفسه، والتمكن من العلم قائم مقام العلم في إبلاء العذر وقيام الحجة، وأيضا فقد علمنا من ضرورة الدين أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم  خاتم النبيين وأنه لانبي بعده فكل كاذب بعده لايروج كذبه وإن ظهر على يديه ماظهر، ثم نقول: أمر الدجال هذا ليس مما نحن فيه، لأنه لم يدع النبوة، ولا قال أنا نبي ودليل صدقي أني أحيي الموتى أو نحو ذلك، ثم يظهر عليه ذلك مطابقاً لدعواه، وإنما ادعى الرب الخالق المالك، وهذه دعوة لاتروج له ولا يلتبس على أحد له أدنى تمييز، فالأدلة العقلية القطعية قائمة على أن رب العزة من لاشبيه له ولانظير متفرد بصفات الجلال والكمال متنزه عن الأشباه والأمثال، ليس من قبيل الأجسام وله العزة التي لاترام، فلا لبس في ذلك ولا إشكال بحال من تأمل وحرّر الاستدلال.

فإن قلت: الأمر كما ذكرتَ، ولكن ما وجه الحكمة في أن يجري الله على يديه ما يكون جاذباً للعامة إلى اتباعه وسبباً في الميل إليه، إما لإلباس أمره وظن صدقه بما تولاه وجعله الله على يديه وأجراه مما هو خارج عن مقدور العباد ويتفرد بالقدرة عليه رب العزة سبحانه وتعالى، أو للرغبة في الدنيا ونيل تلك الأغراض العاجلة المحبوبة التي لاينالها من اتبعه، والسلامة من تلك الشرور المتعجلة التي تغشى من اطرحه، فإن صورة ذلك صورة الإغراء بالقبيح والاستدراج للناس إليه والإغواء والصد عن الدين، والحكيم سبحانه منزّه عن هذه الأمور.

قلت: قد دلّ الدليل القاطع والبرهان الساطع على عدل الله وحكمته التي لايحوم الشك حول اعتقاد ذلك، وليس من فرضنا ولا مبلغ علمنا أن نعلم وجه الحكمة في كل أمر بعينه، فحال البشر يقصر عن ذلك، ألا ترى أن موسى وهو كليم الله تعالى ونجيه ونبيه وصفيه عزب عنه وجه الحكمة في أمور يسيرة بعد أن قُدِّم إليه ما يشعر بأن وجه الحكمة فيها ثابت، ونهي عن استنكارها، فما تمالك أن استنكر، وما ثبت على التأني ولا قرّ، فكيف بسائر البشر المادين في تناول العلوم يأيدٍ قصيرة والماشين في مسالكها بأقدام كسيرة:

ما للتراب وللعلوم() وإنما

 

يسعى ليعلم أنه لا يعلم

وهذا الجواب الجملي كافٍ شافٍ لأهل الإنصاف وعارٍ عن شائب الاعتساف، ثم نقول: هذا المعنى الذي وقع فيه الإشكال بما يجري على يدي الدّجال غير غريب ولا وحشيٍّ ولا نادر، بل من قبيل خلق الشيطان وتمكينه من الوسوسة،  وخلق الشهوات وتسليطها على الإنسان، وغير ذلك من الأمور السماوية الداعية والمسببة إلى الإقدام على القبيح والإنصراف عن الواجب والمصير إلىالسعير.

وقد تكلفت العدلية على تقرير وجوه في ذلك تفصيلية، وإن كانت لاتبلغ مبلغ القاعدة الجملية، وحاصلها:

أنّ أصل التكليف تعريض لمنافع لا تُـنَال إلا به فحسن لذلك وإن أفضى بعض المكلفين بل أكثرهم إلى الهلاك والمصير إلى السعير التي ليس للأسير عنها فكاك، وكذلك ماكان من تشديد التكليف وتوعيره فيه زيادة ابتلاء وتعريض إلى ازدياد الثواب ونيل ما لاينال لولا ذلك من المنافع المستحقة على وجه الإجلال، كخلق الشيطان وتمكينه من الإغواء، فوجه حسنه أن المكلف إذا ثبت ولم يزغْ، نال من الثواب ما لو أنه أطاع من غير ذلك لما ناله، وكتزايد شهوة القبيح وإن كان في معلوم الله أن المكلف يعصي عند ذلك، فقد جوزه أبو هاشم إذا كان في المعلوم أنه لو أطاع وكف عن القبيح مع ذلك لاستحق من الثواب أكثر مما يستحقه لو أطاع مع عدم تلك الزيادة ونحو ذلك، فنقول: جعل الله سبحانه خاتمة هذه الأنواع ماهو أعظمها في الابتلاء والكشف عن حال من هو ثابت القدم راسخه، في الطاعة لا يتزلزل ولا ينحرف ولا يفتتن، ومن هو غير مستقر الأمر ولامستقيم الحال ولا قوي الشكيمة في دينه بأن سلط في تنسم() الساعة وأوان إطلالها الدجال الشقي ومكنه مِمَّا مكن لينتهي الثابت عليه عن المتزلزل، والمستقيم عن المتحول، وذلك غير مستغرب ولا مستبدع، فمن قبيله () وإن لم يكن بالغاً مبلغه ما يرى ويسمع عليه كثيراً من الجبابرة وسلاطين الكفر وسلطنة الظلم من وِسعَة الأحوال والأموال والتمكن من الإعطاء والمنع، وترى المُفـتَـتِـنـين بزَهرَتِهم الواقعين في شباكهم المؤثرين على دينهم دنياهم الجمَّ الغفير والعدد الواسع الكثير، وكذلك من يتوقى مضرتهم وينفعهم ويداريهم ويحمله ذلك على ارتكاب كثير من المقبحات والإخلال بكثير من الواجبات، ولا شكَّ أن أولئك دجاجلة في التحقيق وأن أعوانهم وأتباعهم والمنقادين لهم كأتباع الدجال، ووجه الحكمة على هذا تعريض الله من في زمن الدجال بتسليطه عليهم وما أقدره عليه، وما أجراه على يده بذلك إلى ثواب جليل القدر عظيم الخطر لايناله إلا من بلغ به الحال في الإبتلاء والامتحان إلى هذا الحدّ، ويشهد لذلك ما ورد في بعض الأحاديث، وهو حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((يخرج الدجال ويتوجه قبله رجلٌ من المؤمنين، فتتلقاه المسالح  -مسالح الدجال- فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج. قال: فيقولون له: أوَما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما هو بربنا حقاً. فيقولون: أقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحداً دونه؟ قال: فينطلقون به إلى الدجال، فإذ رآه المؤمن قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال: فيأمر الدجال به فيشج، فيقول: خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً، قال: فيقول: أما تؤمن بي قال، فيقول: أنت المسيح الدَّجال. قال: فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يفر بين رجليه، قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم. فيستوي قائماً، قال فيقول له: أتؤمن بي؟ قال: فيقول له: ما ازددت فيك إلا بصيرة، قال: ثم يقول يا أيها الناس، إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، قال: فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً فلا يستطيع إليه سبيلاً، قال: فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما أُلْقِيَ في الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)) ()، وإذا تأملت وحققت، لم تجد أمر الدجال بأعظم في الإشكال، وعدم معرفة حقيقة الحال من تكليف من المعلوم من حاله الكفر والضلال، والمصير إلىالجحيم والأغلال، وكون تكليفه أفضى به إلى تلك الحال كما أفضى إلى ذلك خلق الدجال وما له من الأقوال والأفعال، اللهم زدنا علما وبصيرة في دينك، وفهما واجعلنا من ثابتي الأقدام في الإسلام، الذين لاتحول الشبهة بينهم وبين سلوك محجة السلام، وأن نؤمن بك ونتوكل عليك، ونفوض الأمور كلها إليك، ونعلم أنك أنت العدل الحكيم الرحمن الرحيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

سؤال(ع): كيف يُبْعَث الخنثى المشكل يوم القيامة؟

الجواب: أن ذلك مِمَّا لايعلم إلاّ بأن يُطلع عليه علاّم الغيوب جل وعز، ولا نعلم من الآثار مايدل على ذلك، ولامانع عقلي ولاسمعي مِن أن يبعثه الله على صفته في خلق الآلتين، وهو مقتضى قوله تعالى: {كما بَدَأنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعيدُه} ولا من أن يعيده على ما يقتضيه حكم الشرع في كونه رجلاً أو أنثى، وإذا كان مشكلاً علينا فقد قيل أنه جنسٌ ثالث، وقيل: بل أحدهما في علم الله، وإنما عرض اللبس لنا فعلى هذا القول لايبعد أن يبعث بصفة ماهو عليه في نفس الأمر، والله أعلم .

سؤال(ع): الذي يموت مُصراً على المعاصي الكبائر فلا شك في أنه يدخل جهنم خالداً فيها فهل يعذب في قبره عذاباً مستمراً وفي وقتٍ دون وقت؟ ومتى أراد الله تعذيبه ردّ عليه روحه إلا أن ذلك ينافي كلام الله:{ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف:75] وهل الجسم يحس الألم أو الروح فقط؟

الجواب: أن عذاب القبر مختلفٌ فيه، ومن يقول به لايقطع بإستمراره، ولابوقت له معين، ولا شكَّ أنه غير مستمر وقوله تعالى: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ...} القصد عذاب النار الواقع في الآخرة والمحشر، والعذاب للجسم بعد إعادة الحياة فيه ولامعنى لتعذيب الروح عندنا وعند أصحابنا، لأنَّهم لايثبتون الروح، ولايقولون بالإنسان غير هذا الشخص، ولغيرهم في الروح مذاهب ذِكرُها يطول، ويفتقر إلى أبواب وفصول لا فائدة في ذكره وشرحه، وهو مبسوط في مواضعه.

وبلغه أنَّ لبعض المتدرسين خوضاً في مسألة التكليف ووجوب الواجبات ونحو ذلك بجهل وعدم بصيرة،  وسئل(ع): أن يملي في ذلك كلاماً، فأملاه حال استعجال؟ ولفظ ما أملاه عليه السلام :

بلغ أنَّها جرت مراجعة في أمر التكليف ووجوب الواجبات وهي التي أوجبها الله تعالى، إذ لا توصف بذلك، لوجوبها في نفسها وهذه أمور كان عن الخوض فيها مندوحة، إذ لم نكلف بذلك ولا يتوقف عليه شيء من أمر الدين، فالاتفاق واجبٌ على وجوب هذه الواجبات وقبح هذه المقبحات واستحقاق الثواب على طاعاتها والعقاب على معاصيها، ومثل تلك الدقائق لاينبغي أن يتعرض للكلام فيها إلا الخاصة وجهابذة الانتقاد، ونحن نقول: أنَّ الله سبحانه وتعالى الذي أوجب الواجبات وحرَّم المحرمات، وكلَّف بفعل الطاعات واجتناب المعاصي من وُجُوه:

أحدها: إكمال العقل وشروط التكليف، إذ لولا ذلك لم يجب واجب ولايحرم محرم.

الثاني: بإعلام المكلف بوجوب ما يجب وقبح ما يقبح وندب ما يُندب وكراهة ما يُكره، وهو حقيقة التكليف، وقد كان من حسن عناية الله في هذه، أن أرسل الرسل وأنزل الكتب وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بالتبليغ، وأجرى على لسانه تحقق دقائق الأحكام وتفاصيل شريعة الإسلام، وَوَفق علماء السلف والخلف للإعتناء بتدوينها، وتحقيق فنونها وتصنيف الأسفار الكبار والصغار التي لايمكن لها إنحصار، حتى صارت الشريعة واضحة المسالك والمناهج، مشيدة البنيان، قوية الأركان، سهلة التناول قريبة المنتول، فعلمها يحصل بيسير معونة عن التنكيد والتعسير.

الثالث: أنَّ الله سبحانه وتعالى توَعَّد مَنْ عصى ولم يمتثل ماكلف به بوبيل العقاب، ووعد من امتثل وأطاع بجزيل الثواب، وأعدَّ للمحسنين أجراً عظيماً، وللمسيئين عذاباً أليماً، وتوصل إلى هداية المكلفين بأنواع الألطاف والتمكين، وبعث إليهم النبيين والمرسلين، وأنزل التوراة والإنجيل والقرآن المبين، وغيرها من كتبه التي أودعها الإيضاح والتبيين، فمن هذه الوجوه كان الله سبحانه المكلِّف الشارع الموجب المحرم بإجماع المسلمين، ومَنْ نفى التكليف والإيجاب أو التحريم عنِ الله، فقد تعدى الحدود وغلا غلواً شديداً، ونطق عن جهل وخبَطَ خَبْط عشواء، فنعوذ بالله من الجهل وأهله، والقرآن ناطقٌ بذلك، قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:25]، {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا.....} [النساء:160] وغيرها، والسنة النبوية مشحونة بذكر إيجاب الله، وأنَّ الله فرض كذا وكذا، وهؤلاء علماء العدلية من المعتزلة والزيدية كلامهم في مصنفاتهم وغيرها مشحون بذلك فإنهم يقولون: إن قيل: ما أول ما أوجب الله عليك؟ وهذا أمرٌ ظاهرٌ لايفتقر إلى الإكثار كظهور شمس النهار ومتى احتاج النهار إلى دليل، وإنما وقع التنازع في أمرين:

أحدهما: أن بعض هذه التكاليف التي أوجبها الله وحرمها، هل يهتدي إليه العقل أم لا؟

قالت العدلية: إنَّ منها ما يهتدي العقل إلى وجوبه بحيث أن الله لو أكمل للمكلف العقل لاهتدى إلى وجوبها عليه، وأنكرت الأشعرية، ومن يقول بقولهم ذلك.

الثاني: أن الواجبات التي لايهتدي العقل إليها، هل أوجبها الله تعالى لمصالح فيها ، وحرّم ما حرّم لمفاسد تنشأ منها؟

قالت العدلية: مقتضى الحكمة أن الله تعالى لم يخص مثل الصلاة ونحوها بالوجوب إلاّلِمَا عَلِمَ فيها من المصلحة، ولا خصّ ماخصّه بالتحريم إلاّ لِمَا علمه فيه من المفسدة، وإلاّ فما المخصّصْ، وإيجابها لا لمصلحة عبث، وقالت الاشعرية: لا غرض لله تعالى في ذلك، وبنوه على نفي الحكمة وأن هذه الواجبات لم يدعُ إلى إيجابها حصول مصلحة فيها، ولا دعى إلى تحريم المحرمات حصول مفسدة فيها، وإنما كلفنا بها لمجرد الأمر والنهي من غير إعتبار وجهٍ آخر، فهذا تحقيق أمر هذه المسألة، ومن تعاطى مذهب العدلية فزعم أن الله ما أوجب ولا كلف ولاحرَّم، فقد رد ما هو معلوم من الدين وسلك سبيل المعتدين، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

سؤال(ع): إذا قالت المرأة: استحلّت أباها، أو هي يهودية؟

الجواب: إن نطقت بذلك لا على جهة اليمين بل على صفة الإخبار، فكـفرٌ وردّةٌ، وإن أخرجته مخرج اليمين كأن تقول: هي يهودية لا فعلت كذا أو نحو ذلك، فليس بكفر ولا رِدة، وقد بيّنا ذلك في مواضع كثيرة وشرحناه شرحاً مستوفى في رسالاتٍ محبّرة، ولا مزيد، على ضعف القول بأنه ردة وكفر، وهو كلام لا ينبغي أن يلتفت اليه سواء حنث أم لم يحنث.

سؤال(ع): هل يجوز التعبد بالأقاويل المختلفة لأنه لا يمتنع أن يكون في ذلك مصالح للعباد؟

الجواب: لعلّه أراد بالأقاويل المذاهب، ولا مانع من ذلك فيجوز.

سؤال(ع): قال ابن الحاجب(): في المسألة التي اختار فيها أنه يصح التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته، ومما استدل به على صحة ذلك قوله: لو لم يصح لم يعلم شرط وقوع تكليف، لأنه بعده ومعه ينقطع، وقبله لا يعلم، فإن فرضه متسعى فرضناه زمناً،  زمناً قال عضدالدين: معناه وتردد في كل جزءٍ فإنه مع الفعل فيه أو بعده منقطع، وبعد الفعل يجوز الانتفاء بصفة المكلف في الجزء الآخر، فلا يأثم بالترك، فلا تكليف ، وأمّا بطلان اللازم فبالضرورة، وهذا في غاية الإشكال، لأنّ هذا بناءً منهم على أنَّ عدم الإثم يلزم منه عدم التكليف، وهو خلاف ما قرره المصنف في مسألة الموّسع فإنه جعل المكلف مخيراً بين التعجيل والتأخير، فما المخلص عن هذا الإشكال؟

الجواب: بين واضح قريب المتنوّل وهو: أنَّهم إنما حكموا في تلك المسألة بأن عدم الإثم لايستلزم عدم التكليف، حيث قدروا تجرئة الموسع وفرضوه زمانا زمِنا فقط، وهو لذلك الفرض والتقدير أشبه شيء بالمضيق، بل له حكم المضيق، ولاشك أن عدم الإثم فيه يستلزم عدم التكليف، فلا تثبت له خاصية الموسع وهو ثبوت التكليف في بعض الأوقات مع عدم الإثم حيث تركه فيه، فأين التنافر والتناقض؟ وأين التباين والتعارض، إذا كان كلام ابن الحاجب في موسع الواجب من غير نظر إلى ذلك الفرض والتقدير؟ وكلامه في تلك المسألة مع النظر إليهما، ومثل ذلك لا يشتبه على اليقظ النبيه ولا يفتقر إلى كثرة إيضاح وتنبيه، فارتفع الإشكال وانحل وتوضح الأسئلة التالية من أصول الفقه إلى ص388، النقض له والحلّ.

سؤال(ح): ظاهر كلام أهل الأصول أن المعتبر في الإجماع وانعقاده حجة إجماع أهل العصر فلا يعتبر بمن مضى من الأمة إلا إذا ظهر فيما أجمعوا عليه خلافٌ مستقرٌ من العصر الأول، فإنه لايكون حجة وقد يقال، لابدّ من تحقق موافقة من مضى لأنّ من وجد فهو من الأمة، ولاشكّ أن الماضي ظاهر الدخول، بخلاف من لم يأت وإذا كان كذلك، فَلِمْ لا يعتبر؟ فإن الأدلة الدالة على حجية الإجماع دلّت على اعتبار كلّ الأمة، فليس الموت مانعاً من الاعتبار، ولذا أجازوا تقليد الميت ومنعوا اتفاق العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول عند الجمهور والمحققين، وكذا لو اتفق أهل العصر الأول، إلا واحداً أو إثنين، ثم مات هذا المخالف، أعتبر خلافه ولم يكن اتفاق من سواه إجماعاً قطعياً، لأنهم ليسوا كل الأمة كما هو المذكور ولايمكن دفع هذا بأنه لو اعتبر من مات لم يكن إجماعا، لأنّ هذا غير مسلم.

الجواب: أنَّه إنما لم يقدح في إجماع قول من مضى من الأمة، حيث لم يستقر خلافه، لأنّ ما لم يستقر عليه رأي فليس قولاً لأحدٍ عرفاً، لا لأنّ القول بموت قائله، ولهذا أُعتبر حيث كان خلافه مستقراً، وذلك واضح قريب لايعزب على الندس الأريب.

سؤال (ح): ما دليل مَنْ يمنع ثبوت الإجماع على وجوب العمل بخبر الواحد فقد ذهب إلى ذلك عدَّة من فحول العلماء ومحقِّـقِيهم وحُذَّاقهم من أهل البيت وغيرهم حتى رُوِيَ عن المنصور استحالة ثبوت إجماع أهل البيت، فكيف بغيرهم، وذلك مذهبهم، إذا كان كذلك، فما الدليل على وجوب العمل، فإنهم لا يذكرون إلا الإجماع، ولا يصلح دليلاً عند مَنْ منعه، على أنا لو سلمنا ثبوته، فلا نسلّم أنه قطعي كما ذكروه لاحتمال أن تكون المسألة اجتهادية، والسكوت فيها لأنّ كل مجتهد مصيب، ولو سلمنا، فلم يتواتر إلينا ويصح لنا إلا دليل أبي الحسين()، وقد أبطله ابن الحاجب، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم  كان ينفذ الآحاد إلى النواحي لتنفيذ الأحكام، وهو معترض أيضاً بأن النزاع في وجوب العمل وليس فيه مايدل فيه؟

الجواب: أنا لا نمنع الإجماع ولا الاستدلال  به، وإنما نمنع أن يكون قطعيا وأن يفيد القطع في مسألة.

قولك: لايصلح دليلاً علىوجوب العمل بخبر الواحد، إذ يشترط القطع في مسائل الأصول، ولادليل غيره، فما المستند وما يرجع إليه في ذلك ويُعتمد؟

قلنا: الحق أنَّه لايشترط القطع في الأصول وتأمل أدلة العلماء فيها، تجد ما تقرر لك بهذه القاعدة، فصح وصلح دليلاً على ذلك، وتبين أنه إلى وجوب العمل بخبر الواحد من أصلح المسالك، فإنما نقل فيه يفيد الظن القوي بلا مرية ولا شك ولافرية، على ماهو مقرر في مواضعه، سلمنا فالدليل العقلي الذي حرره الحبر أبو الحسين في الغاية القصوى في ذلك، فإنه يفيد اليقين لمَنْ نظر بعين التحقيق، وتلك التشكيكات المصنوعة عليه زائغة عن سواء الطريق، فلا ينبغي أن ينظر إليها ولايعول عليها.

سؤال(ح): قالوا يجوز نقل الحديث بالمعنى للعارف وأطلقوا الكلام، فإنا نعلم أنا إذا كنا متعبدين باللفظ دون المعنى كالأدعية المطلقة، كالأذكار في الصلاة وفي الصباح والمساء، وسائر الأوقات، لم يجز ذلك كما في القرآن؟

الجواب: ما ثبت فيه تعبد لم يعتبر فيه لفظه()، وذلك منصوص عليه ومنظور إليه، وإن ثبت عن أحد فيما هو كذلك نقْلُه بالمعنى، فلا يضرّ ذلك، وقولك: أنه كالقرآن. قلنا: قد أجاز بعضهم نقل القرآن بالمعنى، بل مذهب أبي حنيفة، أن قراءته بالمعنى في الصلاة المفروضة مجزية مطلقاً.

سؤال(ح): قالوا أن العام المخصّص مجازٌ في الباقي، وخالفهم أبو الحسين فيما خصص بما لا يستقل من استثناء أو نحوه، ودليله: لو كان مالا يستقل يوجب تجوزاً في نحو: الرجال المسلمون، وأكرِمْ بني تميم إذا دخلوا، لكان نحو: مسلمون، للجماعة مجازاً، أو نحو: المسلم، للجنس، أو العهد مجازاً ...الخ، وأجابوا: أن (الواو) في (مسلمون) كألف (ضارب)، وواو مضروب، والألف واللام في (المسلم)، وإن كان كله حرفاً أو إسماً فالمجموع الدال هو الاستثناء، وسيأتي. هذا لفظ مختصر المنتهى.

نعم: ولِقائلٍ أن يقول: أما (ألف) ضارب و(واو) مضروب فلا تتم الكلمة إلا بها، بخلاف (واو) مسلمون، فإنه مع حذفها يمكن النطق بالمفرد، وأيضا فلا فرق في أن المجموع الدال في قولنا: الرجال المسلمون،  والمسلم للجنس، أو للعهد.

الجواب: أن (واو) مسلمون أيضاً لاتتم الكلمة إلا به، كألف (ضارب) وواو (مضروب).

وقولك: أنَّه يمكن النطق بالمفرد من (مسلمون) مع حذف واوه، قلنا: ما أردت بالإمكان، هل مع بقاء المعنى الموضوع له (مسلمون)، فغير صحيح، أو معَ تغيره، فلا يصلح فارقاً، إذ (ضارب) و(مضروب) كذلك، لو قلت: ضرب، لأمكن النطق بالأصول مع حذف الزيادة، وتغير الحركات لا يصلح فارقاً فإنه لايشترط التساوي بين المقيس والمقيس عليه من كل وجه، بل لا بدّ بينهما من إفتراقٍ مّا، وبأن الفرق بين المسلم والرجال المسلمون واضح لا يخفى على الندس الألمعي، وذلك أن دلالة المسلمون منفكة عن دلالة الرجال، فأحدهما يدل على الجنس ليس إلا، والآخر يدل على البعض منه فحَسْبْ، فما ذلك إلا بمثابة رجلين يحمل كل منهما حجراً غير حجر الآخر، ولو كان الرجال كالزاي من (زيد)، وكان المجموع الدال، لكان المعنى بمثابة حجر كبير لا يقله إلا جماعة ولا يستقل أحدهما بحمل جزء منه، وليس كذلك، بخلاف المسلم فإنه مثل ذلك، فمجموعه دال دلالة واحدة، فالمفيد للجنس والقدر مجموعه كما يفيد (الزاي، والياء والدال)، من زيد تغيير هذا الشخص، بمجموعها، ولإستقلال بعضها في الإفادة، لأنّ مسلماً يفيد الجنسية، واللام تفيد البعضية، وهذا بناءاً من ابن الحاجب وتابعيه، على أن واضع اللغة وضعه كذلك، فافترقا، ولو نقض السائل كلامه بأن دلالة اللام منفكة عن دلالة مادخلت عليه، كما أن دلالة (المسلمون) منفكة عن دلالة الرجال كان أوقع.

سؤال(ح): قال في الاستدلال  على أنه يصح تعليل الحكم بعلتين ما لفظه: والقصاص والردة يثبت بكلّ واحدٍ منهما القتل، وهذه العبارة ركيكة، بأن يقال: أن القصاص ليس علة للقتل، وإنما هو نوعٌ منه، والعلَّةُ القتل العمد العدوان كما ذلك مذكور، فلتبين هذا.

الجواب: لم يقصدوا أن القصاص هو العلّة، بلْ موجِبُه، وحذف المضاف كثير، لاسيما مع وضوح القرينة، ولا أوضح منها في هذا المَقام لغير ما ذكره المُقام وقد قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] المراد أهل القرية، والذي ينقد في هذه الأسئلة الستة أمورٌ خمسة منها:

في السؤال الأول: حذف مقُوْلَ القَوْلِ في أوّله، ومنها: زيادة الباء حيث، قال: وما يستدلُّ له بقوله. ومنها: الزيادة المفسدة بين تعليم وتكليف، وهو قوله: (بشرط وقوعه). ومنها: بتر السؤال ونقصانه، فكان ينبغي أن يكمل بما معناه: (وهذا يقتضي ثبوت التكليف في أول وقت الموسع، مع عدم الإثم، فيتناقض الكلام) أو نحو ذلك، لئلا يذهب المُجوِّب في غير ما قصده السائل من المسالك، أو لئلا يشتغل بالنظر في مراده عن النظر فيما استمدَّ حلَّه.

ومنها في السؤال الثاني: قوله: (ظاهر كلام أهل الأصول)، وليس كذلك إلا لبعضهم، ومنها: قوله (ومنعوا...حتى قال: عند الجمهور والمحققين)، وفي هذا ركَّة، فلو قال: ومنع الجمهور والمحققون، لكان جيداً، ومنها: قوله في آخره: (لأن هذا غير مسلم) فإنه لم يقع موقعه، وكان ينبغي أن يقال موضعه: لأنّ المتبع الدليل، وهو إنما دلّ على ما ذكرناه، ولا يضرنا انتفاء كونه حجة، فإن حجته إنما تـثبت بعد حلّ ما ذكرنا، فكيف يجعل الوجه في حلّه لزوم عدم حجته.

ومنها في الثالث: قوله: (والسكوت فيها، لأنّ كل مجتهد مصيب)، فإن فيه نقصاً، ولعلَّه قصدَ: والسَّكوت لا يدُلّ على الرضى، وإنما سهى، ومنها: قوله: (أو دليل أبي الحسين، أو أنه كان ينفذ)، يقال: علامَ عطف؟ ولا يعدم ما يتصل بكل منها من نبوة.

ومنها في الرابع: قوله: (دون المعنى) وهذا مزيد لاحاجة إليه، بل ربما يقع في ذكره نقادة.

ومنها في الخامس: الضمير في (قالوا، وأجابوا) لم يتقدم ما يرجع إليه، ومثل ذلك وإن علمه المسؤل يتوجه تجنبه والاحتراز عنه وإن كان له مساغ، ومنها: قوله (إذا دخلوا) أو تصليح مثل ذلك في القصاصة واجب.

ومنها في السادس: قوله: (لا يقال ولعلّه قصد) لأنه إلا إن ترك الضمير للسهو، فكان ينبغي أن لا يهمل القصاصة وكان أكثر هذه المنقودة ينبغي فيها المسامحة إلا أني أحببت تنبيه الصنو، ليواضب عن البعد عن مثل ذلك وعن الاحتراز.

سؤال(ح): مَنِ الجَار الذي يجب حفظه وما يجب له ؟

الجواب: أن للعلماء في شأنه ثلاثة أقوال:

أحدها وهو المذهب : أنه الملاصق فقط.

وثانيها (للشافعي): أنه الملاصق إلى أربعين دار، إذ سُئل صلى الله عليه وآله وسلم  عنه فقال: ((أربعين داراً)) () وروي ذراعاً.

وثالثها لأبي يوسف: أنه يشتمل من جمعتهم محلّةً أو مسجدان متقاربان.

وإذا عرفت حقيقة الجار، فاعلم أنه ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم  في حديث ما لفظه: ((أتدري ماحق الجار ؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك، أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنيته، وإذا أصابه مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه البناء، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بقتار ريح قِدرك، إلا أن تغرف له منها، وإذا اشتريت فاكهة فاهدِ له فإن لم تفعل، فادخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيض بها ولده)) () وهذا الحديث رُوِيَ من طرق، وفي بعضها زيادة، وفي شيء منها نقص يسير مما ذكر، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ((ليس بمسلمٍ الذي يشبع وجاره طاوٍ إلى جنبه)) () وفي حديث آخر: (( ألا وإن الله ليسأل الرجل عن جاره كما يسأل الرجل عن أهل بيته ومن ضيع حق جاره فليس منَّا ولسنا منه)) وإذا كان صلى الله عليه وآله وسلم  قد صرح بأن تلك الأمور حق للجار وتبرأ ممن ضيع حق الجار فإن ذلك يقتضي الوجوب، ولايبعد أن تقتضي تلك الأخبار المتظاهرة غير معانيها المتبادرة الظاهرة، ولاتثمر الوجوب، وإنما وردت على ذلك الأسلوب إرادةً وقصداً للتشديد والتأييد وسلوكاً في مسلك التغليظ والتوكيد، والبعث على إكرام الجار والتحريض والإغراء بالمحافظة على ذلك في حقه والتحريض ونحوه من التغليظ {ومَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِيْنَ} [آل عمران:47] مكان ومن لم يحج ((من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً)) ()، ((من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر)).

سؤال(ح): ما الواجب على المقلِّد اعتقاده في بعض مسائل الأصول كخلق القرآن وشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  والخلود في النار، إذا التبس عليه الأمر ولم يعلم الحقيقة ؟

الجواب: أنّ هذه المسائل، الحق أنه لا يجوز التقليد فيها، وأنه يجب على المكلف النظر فيها حتى يصل إلى اليقين كما ذلك مذهب جماهير المحققين، وعند جماعة من العلماء جواز التقليد فيها كما في مسائل الفروع، ورُوِيَ ذلك عن (المؤيد بالله)، وقد تُؤوِّل كلامه، وعن بعضهم أنه يجوز ذلك للمهملين استعمال النظر والفكر كالنساء والعبيد والعوام، ورُوِيَ عن القاسم عليه السلام : أن مقلّد المُحقّ ناجٍ.

ثم أن الوالد رحمه الله أتى هاهنا بتذييل وكمل هذا الجواب أجود تكميل يجري من الأقوال مجرى العذب الفرات من البحر الأجاج، بلْ عين الحياة من ينابيع الأفجاج، ويلوح في خلالها كأنه بدر مضيء بين الأجرام بل كوكبٌ دري يوقد في الظلام.

قال عليه السلام  : قلت والحق أن مثل هذه المسائل التي ذكرها السائل ليست مما يقطع بوجوب العمل فيها على كل مكلف، ولا كل مكلف يتمكن من الوصول إلى ذلك، فإن معرفة الحق فيها لاسيما مسألة الوعيد فيما لايبلغ إليه إلا الخواص وهي في التعسر كالتقاط الفرائد واللآلئ في حق الغُوَّاص، ولاينبغي فيها الهجوم والخبط ولا التقليد المحض، فشأن من لم يفتح الله له فيها بالعلم اليقين أن يكلها إلى علم رب العالمين، ولايكون بذلك البتة من الآثمين، وقد وقف أبوحنيفة رحمه الله وهو من أئمة العلم وجباله في مسألة الوعيد فما طعن عليه في ذلك ولا عِيبَ به، ويا بردها على القلب قولك فيما لا تعلم: لا أعلم، وأما ما أجاب به الولد فجارٍ على ما يذكره الأصحاب رحمهم الله تعالى.

سؤال: سُئل عنه حي مولانا ووالدنا الإمام الحسن رحمه الله، وذيّل على الجواب بعده والده الإمام عزالدين عليه السلام  وذلك في عنفوان شبابه.

قال في مقدمة الأزهار ما معناه: أنه لايجوز التقليد في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة، وقد قدّم قبل هذا أنه يجوز التقليد في القطعيات، مثاله: غسل الوجه، ودليله قطعي عملي، وهو قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] فإذا قيل: لمْ فرَّق بينهما مع أن غسل الوجه حينئذٍ مترتب على علمي كالموالاة والمعاداة؟

الجواب: أن يقال المراد بقولهم: (لاتقليد في علمي) أي في حكم العلمي أي خوطب المكلف بوجوب وصوله إلى العلم به، وهذا كمسائل أصول الدين وفروعه، وأصول الشرائع، وأما العمليات فالمكلف مخاطب بالعمل بها ويكفيه() من معرفة دليلها الظن والاجتهاد، ولذا يجوز التقليد فيها لأنه يؤخذ في أدلتها بالظن وتقليد المجتهد يحصل به الظن للمقلِّد، وإذا كان شيء منها قطعياً بحيث يحصل من دليله العلم كغسل الوجه، فليس ذلك لكونه شرطاً فيه، بل ما من عملي قطعي إلا وهو يحكم بأنه لو لم يرد دليله القطعي لكان يكفي فيه الظن والاجتهاد، فلذا يجوز التقليد فيه، لأنه قد حصل للمقلِّد القَدْر الموجب للعمل وهو الظن، وإن كان في نفس الأمر مما يوصل فيه إلى العلم، بخلاف العلمي فإن الوصول فيه إلى العلم واجبٌ ولا يجوز التقليد فيه، لأنّ التقليد لايحصّل إلا الظن، فالواجب فيه العلم، وغسل الوجه عملي وترتبه على العلمي ترتب دليل يكفي فيه الظن، والموالاة مترتبة على حكم آخر لا يجوز التقليد فيه، فكما لا يجوز التقليد في كفر زيد مثلاً، لا يجوز التقليد في موالاته ومعاداته، لأنها تقتضي ذلك، فأما لمن قد عَرف كفرَه وتيَقَّنَه، فيجوز له التقليد في تحريم موالاته ومعاداته مثلا، وكذلك لا يجوز تقليد الهادي في الحكم بنجاسة زيد المجبري، لأنّ هذا تقليد في كفر المجبري، أما من قد عرف وتيقن كفر المجبرة، فيجوز له تقليد الهادي في نجاستهم، لأنّ هذا كالتقليد في نجاسة الكافر مطلقا، وذلك عملي خالص. (وهذا التذييل من حيِّ مولانا رحمه الله).

قوله في الجواب: (المراد بقولهم لاتقليد في علمي أي في حكم علمي...الخ) صوابه في حكم عملي، إن أراد به ما في السؤال من أنه لاتقليد في عملي يترتب على علمي إلا أن نضيفه إلى العلم للملابسة بينهما إذ العمل مترتب على العلم على أنه لايبعد عدم قصده ذلك، وإنما أتى به في مقدم الجواب لابتناء الجواب عليه فليس بمعزل عن الصواب .

قوله: (أصول الدين وفروعه)، يقال: ما أردت بفروعه؟ هل مثل الشفاعة للمؤمنين، إذ هي متفرعة على ثبوت الشفاعة؟ أو المسائل التي اتفق العلم فيها، وكان الأمارة توجب مقتضاها، مما ألصق بأ صول الدين وجعلناها له فروعاً، للملابسة بينهما ؟ أو أصول الفقه ومسائله، فإنها إنما ثبتت لمن قد عرف الصانع وصفاته وصدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  وما جاء به؟ الأول: ممنوع، إذ ذاك ليس بفرع إلا على ثبوت الشفاعة، وكذا الثاني، إذا لم يعطف عليه أصول الشرائع إذ لامغايره، والثالث: لمْ يجرِِ به إصطلاح على أنه لا مُشاحَّةَ، إذا فهم المقصود.

قوله: (وترتبه على العلمي ترتب دليل). لو قال مكانه: (لكنه إتفق في دليله العلم، والترتب والشرط فيه متيقنان) لكان أحسن، إذ معنى ترتب هذا على غيره لايوجد إلا بوجوده، وإذا انتفى ذلك الغير إنتفى هذا، وليس نحو غسل الوجه كذلك فإنه إذا انتفى في دليله العلم أُجتُزِيَ بالظن، كما ذلك مقرر، على أنه لا مخلص من الإشكال ولا فتح للإقفال إلا بأن يقال: المراد بالترتب هو ترتب حكم عملي على حكم علمي فإن المعاداة حكم عملي مترتب على حكم، وهو كونه كافراً أو فاسقاً، وهما علميان لا يقبل فيهما غير ما يفيد العلم، وذلك منتفٍ في نحو غسل الوجه فافترقا، فلا يلزم أن يثبت في أحدهما ماثبت في الآخر لذلك، وللَّه درَّ المجيب لقد رمى بسهمٍ مصيب ولم يعزب عنه هذا التقريب.

قوله: (فأما لمن قد عرف كفره، وتيقنه، فيجوز له التقليد في تحريم موالاته ومعاداته...الخ).

يقال: أماَّ أولاً: فإنَّ هذا نقض لما ذكرته قُبيله، حيث قلتَ: فكما لايجوز التقليد في كفر زيد مثلا لايجوز التقليد في موالاته ومعاداته.

وأما ثانياً: فإن ذلك هو زبدة المسألة وخلاصتها، والذي قد نصوا على تحريم التقليد فيه، ومساق جوابك، أوله أيضاً فيه، قال البكري() في شرح المقدمة ما لفظه: والمعاداة لايجوز التقليد فيها ولايكفي في العمل بها إلا العلم، لأنها ترتب على الكفر والفسق، وهما مما لايجوز التقليد فيه، فكذا ماترتب عليهما، هكذا ذكر العلماء. انتهى.

سؤال(ح): إذا كان منام الأنبياء وحياً كما هو الظاهر ولذلك بادر إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم  إلى ذبح ولده، فكيف يستقيم ماذكره ابن هشام وغيره أنه لمّا عرج به صلى الله عليه وآله وسلم  ليلة الإسراء أخبره الله بأنه قد فرض على أمته خمسين صلاة، فأخبر نبيُّنا صلى الله عليه وآله وسلم  موسى عليه السلام ، فقال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لاتطيق ذلك، فرجع إليه وخفَّف، وهو يرجع صلى الله عليه وآله وسلم  مرة بعد مرة، حتى اقتصر علىهذه الخمس الصلوات، فإنه يلزم من هذا البداء، لأنه لم يقع التمكن، وإن المسلمين في تلك الحال لم يعلموا بذلك فضلا عن أن يمكنهم العمل؟  .

الجواب: على ما اعتمد عليه بعض الأصحاب وعوَّل، حيث تشبث بذلك من أجاز النسخ قبل الإمكان وتعلقوا بذلك واحتجوا به في ذلك الشأن من وجوه أربعة:

أحدها: أن في رواية الحديث كذلك نسبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إلى التلكؤ في الإقدام لما أمره الله به.

وثانيها: أن ذلك نسخ قبل بلوغه المكلفين وللمخالف في حجته ما يقضي بأنه يمنع من ذلك وإن كان أصله يقضي بجوازه.

وثالثها: أن الظاهر الذي لاخفاء به أن الإسراء متأخر عن شرع الصلاة فإن المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأصحابه كانوا يصلون الصلوات الخمس قبل ذلك المدة المديدة .

ورابعها: أنَّ ذلك تخصيصٌ والتخصيص قبل إمكان العمل جائز().

سؤال(ح): هل هذا الترتيب العثماني في القرآن واجب أو مندوب؟ وهل ثَمَّ فرقٌ بين التلاوة، والكتابة، أم لا؟ فإن لم يكن ثمَّ فرق فما الدليل على المساواة ؟ وأما كونه في المصحف () على هذه الكيفية فلا دلالة فيه، لأن التلاوة مغايرة للكتابة، ولم يثبت نقلٌ أنه وضع لهذا الغرض، فلعل ذلك لمصلحة علمها الشارع؟ ()

الجواب: أن يقال ما المراد بقوله واجب أو مندوب، هل معناهما الإصطلاحي، كما هو الظاهر فيأثم التارك ويذم، أو لا يأثم ولا يُذَم؟ أو يُجَوَّزُ بهما عن كونه مأموراً به منه صلى الله عليه وآله وسلم ، و مستحسناً من عثمان وطبقته؟ فإن أُرِيد الثاني، فذلك واجبٌ، يعني مأمور به، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  الذي أمر بهذا الترتيب، ولمّا كانت المصاحف حينئذٍ مخالفةٌ أُتلفت ليعتمد الناس على ما أمر به، إذ لم يبقَ عذرٌ لمعذور فقد كان العذر فيما قبل تعذُّرِ ذلك، لعَدَمِ التَّرتيب في نزول آي القرآن، وهذا الترتيب الذي هو عليه الآن هو الذي كان عليه مذ أُنزِلَ دفعَةً واحدةً قبل تنزيله حسب الحاجة والحادثة، وما فرق تنزيله حينئذٍ إلاّ لما في ذلك من المصلحة، على ما ذلك مقرر في موضعه، وإن أُريدَ الأول، فنحن نختار الوجوب في الكتابة والرسم الكلي لإجماع الأمّة على ذلك في إنكار ما لم يسلك تلك المسالك لا في القراءة، وكَتْبُ الأبعاض للإجماع على عدم إعتبار الترتيب حينئذٍ، ألا ترى القنوت والأوراد ونحوها لم يحصر بعد.

سؤال(ح): من أطلق الألفاظ المحتَمَلَة على الله تعالى هل يكفر أم لا؟ كإطلاق الجسمية والرؤية والقضاء؟

الجواب: إطلاق الألفاظ المحتملة كما ذكر السائل مُحرم إطلاقها عليه سبحانه، إلا ما قد أذن الشارع بإطلاقه عليه من ذلك، قيل: ومن الأذن: وروده في الكتاب والسنة، لأنه يعلم أن الله أراد الوجه الصحيح، لأنه لا يجوز عليه القبيح، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم  كذلك، بخلاف غير الله ورسوله، وأما أن من أطلقها عليه يكفر بمجرد الإطلاق، فلا، لأنّ التكفير إنما يكون بدليل قاطع ولاقطع في ذلك، اللهم إلاَّ أن يعتقد حين إطلاقها ويريد معاني تلك الألفاظ التي قد دلت الأدلة القطعية على انتفائها كالجسمية الحقيقية، والرؤية بمعنى الإبصار، فلا شكَّ في كفره.

سؤال(ح): ما معنى: (الله أكبر)؟ هل (أكبر) صفة تفضيل أو تنزيه؟

الجواب: معناه: أكبر من كلّ كبير في النفوس، فـ(أكبر) للتفضيل، وذلك ظاهر، ولا معنى للتنزيه في مقابلة التفضيل، ولعلّه أراد: هل هو للتفضيل أو لمجرد الوصفية من غير لموح إلى تفضيل؟

سؤال(ح): هل المقتول يقدّر أنه يعيش، أوْ لا ؟

الجواب: هذه مسألة خلاف فمنِ العلماء مَنْ يقطع بموت المقتول لو لم يُقتل، كأبي الهذيل()، والمجبرة()، ومنهم من لايقطع بموته، لولم يقتل، كالبهشمية. ودليل كلٌّ منهم وتفصيله وترجيح الأرجح له موضع آخر.

سؤال(ح): هل المعصية تبطل العمل في الحال أو لا؟

الجواب: أبو حنيفة يحكم ببطلانه وحبوطه وارتفاع حكمه، وكأن الطاعات لم تكن، فإذا أرتدَّ مرتـدٌّ فعليه الإعادة فيما يعاد، وعند (الشافعي) أنه لايُبطل العمل ولايُحبط حتى يموت العاصي، فلوِ ارتدَّ ثم رجع إلى الإسلام، لم يكن عليه إعادة الأعمال.

سؤال(ح): هل الكافر يُعدُّ محسناً أم لا؟

الجواب: إن فُسِّرَ المحسن بمن يحسن إلى الناس فهو محسن حينئذٍ، لا إن فسره بمن يحسن عمله بترك الذنوب، ولكنه وإن كان محسناً بالتفسير الأول، فهو غير محبوب بالدلالة القاطعة على بغض أعداء الله تعالى، فلا يقال أنه ينتظم في سلك المحسنين المحبوبين في قوله تعالى: {واللَّه يُحِبُّ المُحْسِنِيـن} [آل عمران:134].

سؤال(ح): هل يجوز الدعاء للفاسق أو لا؟

الجواب: الدعاء لهم بالتوفيق والهداية ونحو ذلك لا بأس فيه، وأما بمثل البقاء والسلامة من الشرور وصلاح الأمور، فلا يجوز، في الأثر عن سيد البشر: ((من دعى لظالمٍ بالبقاء فقد أحبَّ أن يُعصَى الله في أرضه)) ()، والظالم يشمل ظالم نفسه وظالم غيره، وأمثال ذلك كثيرة، على أن الدعاء له بمثل هذا ميلٌ إليه وركونٌ، فينخرط في سلك ما نُهي عنه في قوله: {ولا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِيْنَ ظَلمُوا فتمَسَّكُمُ النَّارُ}().

سؤال(ح): هل يجوز لعن البهيمة أو لا؟

الجواب: لا يجوز، بل محرّم تحريماً صريحاً نطقت بذلك الأدلة الصحيحة، والأخبار الصريحة، التي لا تحتمل التأويل، وفي شيء منها دلالة صريحة أيضاً أنَّ لاعِنَ البهيمة ترجع لعنته عليه، ويكون ضررها عائداً بالوبال عليه. هذا ما سنح والله أعلم بالصواب.

سؤال(ح): ما الذي يصح أن يعلم إلا بالسمع من هذا الفن ؟ وما الذي لايصح أن يعلم به ؟ وما الذي يصح أن يعلم بالسمع تارة، وبالعقل أخرى؟

الجواب: ذكر أصحابنا أنه لايصح الاستدلال  بالسمع في أيِّ مسألة من مسائل الكلام يتوقف ثبوت السمع وصحته على تلك المسألة وما استدل به من الأدلة السمعية على ما حاله ذلك وعلى جهة الإستظهار ليس إلا، فلا يصح الاستدلال على إثبات الله تعالى ونحو ذلك بالسمع، بمعنى أنه لايستقيم حجة ولا يوضِّح محجة، ويجوز فيما عدا ذلك الإحتجاج بكل من طريقَي العقل والنقل، والاستدلال ، وما أتى به من ذلك كفى وأفاد وأثمر النظر ولم يكن عنه انفتال.

سؤال(ح): وما الصحيح من حدود النظر؟ وما معنى كونه أوّل الواجبات؟ وهل في ذلك ما يقبح ؟ وهل يولِّد غير العلم ؟

الجواب: أما حدود النظر فله حدود خمسة في الأصولين وفي غيرهما، والذي اخترناه في شرح المعيار: هو أن النظر الفكر الذي يطلب به علمٌ أوظن، والفكر انتقال النفس في المعقولات بالقصد، لأنّ انتقالها في المحسوسات الشاملة للموهُومات تسمى تخييلاً، ويُعدّ فصلاً() كما في المنام ولايسمى فكراً، والإنتقال الفكري قد يكون لطلب علم أو ظن، ويسمى نظراً، فقد لايكون كذلك كأكثر حديث النفس، فلا يسمى نظراً، فالفكر جنس له، وما بعده فصل، وقد اختار بعض المحققين في حقيقته: هو المعنى الذي يولد العلم إذا تكاملت شرائطه، وللناظر نظره، وأما() معنى كونه أول الواجبات، فقد فسر كونه أول الواجبات بتفسيرات، وصحح أن معنى كونه أول الواجبات أنه أول ما يلزم أداؤه من الواجبات المقصودة التي لايعرى عنها مكلف، وفي ذلك بسط في موضعه، وأما هل فيه مايقبح؟ فالظاهر أن النظر كله حسن، وأما النظر فيما هو قبيح فليس بقبيح، على ماصححوه، وإنما يقبح القصد المقترن به وهذه مسألة خلافية، فيما بين الشيخ أبي هاشم ووالده، والقاضي عبد الجبار، وأما هل يولِّد غير العلم؟ فإن كان النظر في المقدمات اليقينية لم يولِّد غير العلم وإن كان في الأمارة ولَّد الظن، وإن كان في المقدمات المعتقدة المطابقة غير المعلومة ولَّد اعتقاداً غير علم، على ماذكره القاضي عبد الجبار، وفي المسألة خلاف وبسط معروف، لايعزب عمن له أدنى مطالعة.

سؤال(ح): وما أول العلوم الضرورية ؟

الجواب: ذكر القاضي عبد الجبار أن أولها ثبوتاً علم المشاهدة، قال بعض المحققين: لعله أراد بذلك بعد العلم بأحوال النفس ويُحتمل أن كلامه على ظاهره، لأنا نرى كثيراً من الحيوانات وصغار الآدميين يعلمون ما يشاهدونه ولا طريق لنا إلى أنَّه قد سبق لهم العلم بالنفس وأحوالها.

سؤال(ح): هل يصح التفاضل في العقل الموجب للتكليف؟

الجواب: قال في شرح العيون() ولا يقع في كمال العقل تفاوت حتى يكون عقل بعضهم أكمل من بعض، لأنّ العقل عبارة عن مجموع علوم فمن حصل له جميعها صار عاقلاً ومن نقص في حقه شيء منها فهو كمن عَدِمَها جميعاً في أنه لايسمى عاقلاً ولايوصف بهذا الوصف، لأنه من الأسماء التي تتناول الجمل، وأيضاً فلا يثبت التكليف إلا مع كمال العقل، فأما مع نقص شيء منه فلا، وأيضاً فلو تفاوت، لوجب أن يكون لنا طريق إلى معرفةِ تلك الزيادة التي يقع بها كمال العقل، والذين يشيرون إليه كالحفظ والفهم والذكاء، وراء العقل وليس منه، وكون بعض المكلفين أعلم وأسخى وأصبر لايدل على أن عقله أكمل من عقل غيره، وأن ذلك ليس من العقل في شيء، ولكن ينبني على توطين النفس على ما دلّ عليه العقل وعلى تذكر العاقبة الحميدة، كالثواب، وعن بعضهم أن العقول متفاوته.

سؤال(ح): هل يصح تعلق العلم الواحد بأكثر من معلوم واحد؟

الجواب: لا؛ إذاً لتعدى() إلى ما لانهاية له، وفي ذلك محال.

سؤال(ح): وهلْ كان يصح إيجاد العالم قبل الوقت الذي أوجده الله فيه؟

الجواب: ذهب الأكثر إلى أنه كان يصح إيجاد العالم قبل الوقت الذي أوجده فيه، وما من وقتٍ يشار إليه قبل ذلك الوقت الذي أوجده فيه أو بعده إلا وكان يصح منه إيجاد العالم فيه، وإنما أوجده في الوقت المخصوص دون سائر الأوقات، لأنه فاعل مختار، وقال بعضهم: لايوصف الله بأنه كان قادراً على ذلك، وفي المسألة بسط وبيان وتفصيل واستدلال، وزوائد تتعلق بذلك وهي موضحة في (المنهاج) وشروحه، وفي بسائط أسفار هذا الفن.

سؤال(ح): هل يصح وجود عالم آخر؟

الجواب: فما المانع مع القادرية تلك وقد أشار إلى ذلك في الآية الكريمة فلله درَّ التنزيل قال تعالى: {وإنْ تَتَوَلَّوا يَسْتَبْدِلْ قوماً غَيْرَكُم} [محمد:46].

سؤال(ح): وكيف يصح استدلال أصحابنا في مسألة إثبات الصانع وهي أم مسائل التوحيد بالقياس على أفعالنا، مع احتمال كون خصوصية الأصل شرط أوخصوصية الفرع مانع، أو كون هذا الحكم مما لايعلل، أو كون العلة غير ما ذكروا... إلى غير ذلك؟

الجواب: هذا السؤال أورده الرازي وغيره في هذه المسألة، وفي أمثالها، وقد حلت تشكيكاته وتشكيلاته بما لامزيد عليه في البيان، وبما استقام معه ذلك البرهان وانتفى معه كل ريب وبان، على ما هو مذكور ومحقق في تلك المواضع والمضانِّ، ومنهم من عدل إلى ما استدل به بعض المعتزلة والأشاعرة لسلامته مما أورده الرازي وغيره على دليل الجمهور.

سؤال(ح): مامذهب مولانا عليه السلام  في الصفات الأربع؟ أهي ذاتية كما يقوله الشيخ أبو علي، فقد نصوا على أنه لايصح أن يكون للشيء أكثر من صفة ذاتية، أم هي مقتضاة عن الصفة الأخص كما يقوله أبوهاشم، فقد نصوا أيضا على أن الصفة الذاتية لاتقتضي أكثر من صفة واحدة ؟

الجواب: هذا الذي سأل عنه بسلامته مما اعترض به فيما ذكره، وتحقيق الاعتراض والمعترض فيه، وجواب ذلك مع فوائد وزوائد ومحاسن مستوفى في (المعراج) مصنف والدنا قدس الله روحه)، فعلى المقام مطالعة ما ثمَّه، من كلام، فهو أوفى بالمرام، وأشفى للأوام وأنفى للغرام.

سؤال(ح): إثباتهم كونه تعالى قادراً وعالماً بصحّة الفعل وصحة الإحكام قياسٌ في اللغة، وهو لا يجوز؟

الجواب: ليس ذلك من القياس في شيءٍ، وإنما هو من الاستقراء، لأنّ أهل اللغة وضعوا قادراً لمن يصح منه الفعل، وعالماً لمن يصح منه الفعل المحكم، فلما وجدت حقيقتهما في حق الله أُطلقتا عليه، فذلك من قبيل إثبات الرفع للفاعل ونحو ذلك.

سؤال(ح): وما متعلق العلم بكونه عالماً؟

الجواب: قدِ اختلف العلماء في العلم بصفات الله من كونه قادراً، وعالماً، وحياً، وموجوداً، هل هو متعلق بذاته مجردة، أو بغير ذاته، أو بذاته على حال، وقد قال بكل واحد من ذلك قائل، على ماهو مقرر و محرر في موضعه، وماتركنا البسط في أجوبة سؤالات علم الكلام والاستيفاء لأطراف البحث في ذلك الكلام، إلاّ لظهور تلك المعاني في تلك الأسفار، ظهور شمس النهار، وكونها في غاية الاشتهار، وهنالك مايعول عليه من الاستدلال  والاستظهار، فتحتم حينئذٍ الاختصار، لأنّ الإسهاب والتكرير والإعادة التي لا يفيد أيُّها أيَّ فائدة توجب التثريب والنقادة مع ما نحن عليه حينئذٍ من الأعمال المستغرقة لليالي وزيادة، ونعد تأليف الأجوبة مع ذلك كالخارق للعادة، فقد حقق النقلة ما قال(الشافعي) وفعَلَهُ عند ذكر بصلة، وسئل مالك عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع، وقال في ست وثلاثين: لا أدري، فما شَانَهُ، بل زانَهُ وزادَه، وجاء الكلام في علم الكلام، وقد تاه القلب في أودية السأم وهام، وشب له فيها ضرام، فما أعز انقياده وآكد تفلته وشراده، وأقلّ إسعافه وإنصافه وإسعاده:

أتى الزمان بنوهُ في شبيبتهِ

 

فسرَّهُمْ وأتيناهُ على الهِرَمِ

 سؤال(ح): وما معلوم العلم بأنه لا ثاني له؟

الجواب: هذه المسألة في غاية الظهور، والخلاف فيها مشهور، فمنهم من قال: متعلقه الذات مجردة، لا الذات على صفة، إذ ليس هنا صفة ثبوتيه. ومنهم من قال: علم لامعلوم له. وقد استشكله بعض المحققين فوجه كلام البهشمية() إلى ما يزول معه الإشكال ويقع عنده الانفكاك عنه والانفصال.

سؤال(ح): وهل يصح أن يُقْدِرَ اللهُ بعضَ الأجسام على إيجاد جسم؟

الجواب: لا يصح من جسم إحداث جسم، ولو صح أن يُقدِرَ اللهُ تعالى جسماً على إحداث جسم، منَعَتِ الحكمةُ من ذلك، وقول المفوِّضَة(): أن الله تعالى يفوّض إلى من أحب من خلقه أن يخلق ويرزق كما فوض عندهم إلى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم  فهو خالق العالم وما فيه، معلوم البطلان والفساد، قد حقق ذلك جهابذة النظار والنقاد.

سؤال(ح): هل يصح اختلاف السبب والمسبب في الحسن والقبح؟

الجواب: أما أبو هاشم فذهب إلى أنَّه لايصح اختلافهما، إذا اشتركا في القصد، وحكى الحاكم عن قومٍ أنَّهم قالوا: ليس السبب والمسبب كالشيء الواحد فقد يولّد القبيحُ حسناً والعكس، والكلام في ذلك احتجاجاَ وجواباَ مستوفى في موضعه.

سؤال(ح): هل يوصف الباري تعالى بالقدرة على القبيح؟

الجواب: أكثر المعتزلة وجمهور الزيدية ذهبوا إلى أنه يوصف بذلك وإن اختلفوا، فمنهم من قال: أنه يصح منه وإنما منعه مانع الحكمة، ومنهم من قال يستحيل منه، لعدم الداعي وذهب النظام وغيره إلى أنه لايوصف بذلك.

سؤال(ح): وهل يوصف تعالى بالقدرة على إيجاد ماعلم أنه لايوجد؟

الجواب: هو سبحانه قادر على ما يعلم أنه لايوجد من أجناس المقدورات، كما ثبت أنه قادر على إيجاد العالم قبل الوقت الذي أوجده فيه مع علمه بأنه لايوجده فيه.

سؤال(ح): وهل يريد ترك المعاصي؟

الجواب: لا؛ لأنه نفي، والنفي لاتعلّق به الإرادة، إذ لا تعلق إلا بالإثبات.

سؤال(ح): هل يكره الله عقاب الأنبياء عليهم السلام وإثابة الكفار؟

الجواب: لا يبعد أن يكره ذلك لو قدّر وقوعه، على استحالته منه، كما يكره فعل ذلك من غيره، والجواب هذا يحتاج إلى زيادة تحقق وتحقيق، ويفتقر إلى مطالعة كتب أهل التدقيق، فلم يحضرنا منها الآن غير مصَنَّفْ والدنا (التعليق)، والله يمد بمواد التوفيق.

سؤال(ح): هل يجوز أن يعفوَ عن مكلف دون مَنْ فعل مثل فعله؟

الجواب: لا مانع عن ذلك، ودليل العقل يقتضيه، لأنَّ العفو تفضل، وللفاعل المختار أن يتفضل على بعض دون بعض.

سؤال(ح): وهل يجب عند العقل عقاب العاصي؟

الجواب: مذهب البصرية أنه لايجب عقابه بل يجوز العفو عقلاً، لأنّ العقاب حق لله وله إسقاط حقه.

سؤال(ح): وهل يجب عقلاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

 الجواب: هذه مسألة خلاف بين الشيخين: أبي هاشم ووالده، فعند أبي هاشم: إنما يجب سمعاً، إلاَّ أنْ يتعلق بالغير ضررٌ، وعند أبي علي: يجبان سمعاً وعقلاً.

سؤال(ح): وهل يجوز أن يكون في الأرض من الثقلين مكلّف لم تبلغه دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

الجواب: قد ثبت أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم  مرسل إلى الثقلين كافه، فوجب أن يتمكنوا من العلم بنبوته وشريعته، ولو بخاطر أو خبر ملك، إذ لو لم يكن كذلك لكان من لم تبْلُغْهُ دعوته قد كُلِّفَ ما لم يعلمه وذلك لايجوز، لما قد عُلم()

سؤال(ح): وهل يجوز تكليف من علم الله أن غيره يكفر عند تكليفه واخترام من يعلم أنه يتوب لو أبقاه؟

الجواب: لا يجوز تكليف من تلك صفته، وقيل: أنه يجوز، إذا كان من يؤمن عنده أكثر، وأما ذلك الاخترام فيجوز ولايجب التبقية، لأنها كما عرفت غير واجبة، وقال أبو علي: لايجوز اخترامه حينئذٍ.

سؤال(ح): ما حكم من فعل معصية ثم طاعة كفَّرت عقابها، ثم ندم على فعل تلك الطاعة؟ ومن فعل طاعة، ثم فعل ما يحبطها، ثم تاب، ما الذي يستحقان حينئذٍ من الثواب والعقاب؟

الجواب: الندم على الطاعة يصيرها كالمعدومة، بشرط أن يندم على فعل الطاعة لكونه طاعة، وأما تلك التوبة بعد فعل المحبط لتلك الطاعة، فذهب أبو هاشم وجمهور البصرية أنه لايعود بالتوبة ثواب ما قد انحبط من الطاعة، إذ بفعل تلك الكبيرة صار ذلك الثواب كالمعدوم، وقال بعضهم: أنه يجب أن يعود ذلك الثواب، لأنّ إنحباطه عقاب وقد سقط بالتوبة.

سؤال(ح): قد ذكر أصحابنا رحمهم الله أن عقاب أيسر كفر أشد من عقاب أعظم فسق، بحيث أن عقاب من استحل معصية واحدة، ولم يرتكبها ولاغيرها من المعاصي قط أشدّ من عقاب من ارتكب المعاصي العظيمة طول عمره ومات مصراً على ذلك، فما الدليل على صحة هذه المقالة أوما مذهب الإمام عليه السلام  فيها؟

الجواب: المشهور من كلام أصحابنا وأكثر المعتزلة ما ذكره السائل، واستدلوا على ذلك بأن للكفر أحكاماً غليظة وتفننوا في الاستدلال ، واعترض هذا بعض المتأخرين بأن هذه الأحكام إنما شُرعت لكونها مصالح، ولاتدل على كثرة عقاب ولا على قلته... إلى آخر ما ذكره المعترض فيطالع في الكلام على التكفير، ولعلّ صوابه في الأسماء والأحكام، والإحباط، فهو مستوفى ثَمَّ، ولا يتعلق بذكر مذهبنا غرض، فلا مجال هنا للتقليد، وكذا في غير هذا الموضع، ولهذا لم نذكره غالبا.

سؤال(ح): وهل يحسن من الله تكليف من لطفه قبيح؟

الجواب: قال أبو هاشم والقاضي: لا يكلف بذلك العقل الملطوف فيه، وأحد قولي أبي هاشم، وهو القديم، بل يجوز تكليفه ويكون كمَّن لا لطف له في مقدور الله، وقال أبو علي: أنه يستحيل كون القبيح داعياً إلى الحسن ولايصح ذلك أصلاً.

سؤال(ح): وهل يسقط عوض المجني عليه بإبرائه الجاني؟

الجواب: قال أكثر المعتزلة: لا يسقط بالإبراء، إذ ليس عالما بكميّته ولا إليه استيفاؤه، بل إلى الله، وكذا ليس إليه إسقاطه، وصار صاحبه بالنسبة إليه كالصبي، وقال أبو الحسين البصري بل يسقط به كالأروش، وهي تسقط به اتفاقاً.

سؤال(ح): هل يعرف بالعقل وجوب العوض كالثواب؟

الجواب: الظاهر أنَّه يعرف وجوبه بالعقل، إذ لولم يجب العوض هنا لكان إنزال الله للألم قبيحاً، وهو سبحانه يتعالى عن القبيح.

سؤال(ح): ومن مذهب أهل العدل: أنه لايجوز أن يفعل الله الفعل لا لغرض، لأنّ ذلك عبث وهو قبيح، فورد على ذلك سؤال، وهو: إن قيل: ما تعنون بقولكم عبث؟ أتعنون به الفعل لا لغرض؟ فكأنّكم قلتم: لا يجوز منه الفعل لا لغرض، لأنه لا لغرض، فهذه إعادة للدعوى بعبارةٍ أخرى، والخصم يلتزم ذلك؟ أم تعنون به معنى آخر فاذكروه، لنتكلم عليه؟

والجواب: كان الأحسن أن يأتي السائل بدل قوله: (فهذه إعادة للدعوى) بعبارة أخرى، فلم يصح، لأنه تعليل للشيء بنفسه، ومن شرط العلة أن تكون غير المعلول، والذي يحل ذلك الإشكال: هو أنَّ العلة القبح، وإنما ذكروا أصل القبح وهو العبث، ولهذا قالوا في التعليل لأنّ ذلك عبث وهو قبيح، ولو كان التعليل بمجرد العبث لم يقولوا: وهو قبيح، فما جاءوا بالقبيح إلا لأنه العلة في الحقيقة، وذكر العبث لكونه سبب القبح فهو في قوة: لايجوز أن يفعل الله الفعل لالغرض، لأنّ ذلك قبيح، والله تعالى لايفعل القبيح فانحلّ الإشكال وارتفع السؤال.

سؤال(ح): ما مذهب مولانا في الإمامة؟ عقلية، أم شرعية؟ ظنية أم قطعية؟

الجواب: عندنا أنَّها شرعية، لأنَّها إنما تؤخذ من الأدلة السمعية، ولم يتقرّر لدينا استفادتها من الأدلة العقلية.

وهل هي قطعية أو ظنية؟ الذي نذهب إليه في ذلك: ما ذهب إليه حي والدنا الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام ، فقد أتى في ذلك بكلام بديع آنق من زهر الربيع، ويزري بما حبّره البديع، وله في ذلك مصنفات واسعة ومقالات قريبة المنتول، أنهارها نابعة وثمارها يانعة، وشموسها وأقمارها طالعة، وأنوارها متلألئة ساطعة، ولامحيص عما ذكره ولامناص ولا فكاك ولاخلاص().

سؤال(ح): ومن المخاطب بذلك؟ على الإمام أن يقوم، أم على الأمة أن ينصبوه؟ وكلام أهل المذهب وغيرهم محتمل؟

الجواب: أما مَنْ قال بالعقد والاختيار، وهم جمهور الأمة وتابعهم على ذلك الإمام يحي عليه السلام ، فإنه يجعل الواجب على الأمة ليس إلا، وأما إذا لم تكن طريق الإمامة إلا الدعوة فالواجب على الإمام لا عليهم، قال بعضهم: ولايبعد أن يعد من الواجب على الأمة حثه على القيام وإعانته عند أهل هذا القول، لأنَّه قد يفهم من كلامهم الحكم بالوجوب على الأمة، وأمَّا على ماذكره الفقيه حميد فليس الواجب إلا على الإمام فقط، وإنما يجب عليهم الإجابة والسمع والطاعة.

سؤال(ح): وبعد فاستدلالهم بإجماع الصحابة على أن الحد إلى الإمام والتكليف به مستمر معترضٌ بأنه إما أن يكون الأمر بالحد مشروطاً بوجود الإمام فحينئذٍ لايجب نصب الإمام لأجل إقامة الحد، إذ تحصيل شرط الواجب ليجب لايجب، كما في الزكاة وغيرها، وأما ألايكون مشروطاً بذلك فظاهر؟

الجواب: هذا الدليل للقاسم بن إبراهيم عليه السلام ، وتبعه الشيخان() فيه واعترضه الشيخ أبو عبد الله بما ذكره السائل من أنه إن جعل الإمام شرطاً في الوجوب كالنصاب في الزكاة، فلا يجب تحصيل الشرط الذي هذا حاله، بخلاف شرط الأداء، كالوضوء، لأن الإجماع وقع على أن الوضوء شرط إداء فيجب تحصيله، ولا إجماع على أن الإمام شرط إداء في الحد.

وقد أجيب بجوابات منها: أن الأمر بالحدود وقع مطلقا غير مقيد، كالأمر بالصلاة، فيجب تحصيل الشرط، وليس في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أربعة إلى الولاة...)) () ما يقضي بأن الولاة شرط وجوب، بل فيه كالتصريح بأنهم شرط أداء، لأنه قال: إلى الولاة، أي إقامتها، بعد وجوبها بحصول أسبابها إليهم، لا إلى آحاد الناس، وإذا وجبت كذلك ولم يحسن إقامتها إلا على وجه مخصوص داخل تحت مقدورنا، وجب علينا تحصيله لنقوم بما قد وجب علينا وجوباً مطلقاً.

قال والدنا عليه السلام : وهذا الجواب لايستغنى عن إعادة النظر فيه وتأمل ما اشتمل عليه من تعليله وتوجيهه، وأوضح من ذلك الاعتراض، أن يعترض ذلك الاستدلال  بمنع الإجماع، وكيف يُدَّعَى الإجماع مع أن أبا حنيفة لايشترط الإمام في إقامة الحدود، ويجعل إقامتها إلى الأمراء وأهل الشوكة وإن لم يكن ثَمَّ إمام، والمخالفون في وجوب الإمامة وهم الحشوية ومن قال بقولهم يمنعون من كون تلك الأمور مشروطة بالإمام ومقصورة عليه، ومن كون أخذ الفيء والصدقات وإقامة الحدود والجمعات مقصور على الإمام، خلاف ظاهر مشهور مبيَّنٌ في مواضعه من كتب الفروع، فكيف يحتج بالإجماع هنا؟

وأما الخبر المذكور فآحادي ولا تصريح فيه بالاشتراط، وما المانع من أن يكون المراد إليهم مع وجودهم؟ ولايصح أن يتركب على مثله دليل يدعى كونه قطعياً.

سؤال(ح): ثم أنه لابد للإجماع من مستند فما مستند هذا الإجماع إن صح؟ 

الجواب: مستنده قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أربعة إلى الولاة:الحدود،  والجمعات، والفيء،  والصدقات)) .

انتهى ماوجد من ذلك بتاريخه، يوم الخميس، ثالث وعشرين في شهر محرم، غرة سنة سبع وسبعين وتسعمائة

أحسن الله تقضيه بحق محمد وذويه

من كلام الفقيه العلامة محمد بن يحي بهران، بعد تمام السؤالات:

هذا ماسمح به الخاطر، وسنح للنظر القاصر مع معرفتي بكثرة ما اشتمل عليه من الخطأ والزلل، واعترافي بما يدلّ عليه من العي والخطل، لكن كما قيل في المثل: (سبق السيف العذل)، مع يقين أن مولانا عليه السلام  سوف يستُرُ عوارَهُ بفضلِه، ويستر عوره بعدله، فيصْفَحُ عما طغى به القلم ويطرح ما جاز عن اللمم، لافتئ موفور النعم منصور العلم، والحمد لله أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً، وصلواته على نبيه الأمين وآله الطاهرين.

الجواب: لله درك من نقاب أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وحظي بما لم يحظَ به غيره من الكتاب، فهو يزري بابن داب() في الآداب، ويبدي من الوطاب ما يستجاد ويُستطاب، لاجرم أن مقاله أشهى من الرضاب، وأبهى من الشّذور في أعناق الكعاب، فبخٍ بخٍ لمسائله الواردة العِذاب، وسؤالاته الوافدة العجاب، المتحلية بما قرَّ بهِ القلب وطاب، المتخلية من كل خلل وعاب، إلا ما يمتاز به على غيره من الكتاب مما() لا يخلو عنه دفتر ولاكتاب، فما شابها ماشان وشاب، فما تراها إلا مفرغة في قالب الصواب لايحوم حولها امتراء ولا ارتياب، ولا تنافٍ يكره ويعاب، ولاتعقيد يتمزق به إهاب، ولا أودٍ يقع به انضراب، وأنه ليقضي من ذلك العجب العجاب ويحتار الفكر في الذهاب والإياب:

ومـا هـي من أبـي بكر بنكرٍ

 

ولـكن هـن أبـكارٌ وعـون

 مع ما فيها من سلامة اللفظ وجودة التعبير الدالين على الملكة القوية في علم البلاغة الخطير، وأنَّه ليس له فيها شبيه ولانظير، فما الروض المطير، وما العنبر والعبير، وما الرياض المؤنقة والشموس المشرقة والنفحات العبقة والحياض المصفقة

ففي كل لفظٍ منهُ روضٌ من المُنى

 

وفي كلِّ صدرٍ منهُ عقدٌ من الدُّرِ

 ويوشك إن طالت له الأيام وتوالت له الأعوام أن يصير هلاله بدراً، وسجاله بحراً، زاده الله من صالح العمل وبلغه منتهى السؤل والأمل، وكان إنشاء هذه الجوابات في ثلاثة أيام وثلاث ساعات.

تم كلامهما نفعنا الله بهما وأعاد من بركاتهما، وفي كل باب منها شيء مفرقا لإرادة كون كل شيء في موضعه.

سؤال(ع): إذا أفتى الإمام بشيءٍ، هل هو حجة فلا يجوز مخالفته أو لا؟ كما هو مرقوم لبعض العلماء ففي الفتاوي، يلزم لا في غيرها، فلا يجوز حينئذ مخالفته فيما أفتى به ويكون حجة.

الجواب: أنَّ هذه المسألة ذكرها الإمام يحي عليه السلام  وبسط الكلام فيها كثيراً، وهو صاحب القول بما ذكر من التفصيل والمرجح له، قال: والذي عليه أئمة العترة والمعتزلة والأشعرية أنَّ قوله ليس بحجة مطلقاً.

قال: والمحكي عن السيد أبي العباس والإمامية أن قوله حجة لايجوز لأحد مخالفته فيما قاله، وقد طول الإمام يحي الاحتجاج على مذهبه، وهو التفصيل بما أُورِدَ من الأمر بطاعة الإمام، كقوله:{وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، وبقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ...} على تجويز أورده، وبقوله: ((ليس للمرء إلا ماطابت به نفس إمامه)) ()، وقال: لايقال أن قوله مخالف للإجماع، حيث خالف كل واحد من قولي الأمة، إذ لم يبطل واحد منهم، بلْ أخذ من كل واحد بطرف.

وأقول: ما في الأدلة التي أوردها ما يشفي، ولا ما هو في المقصود جلِيّ، ولو دلّت على كون قوله في الفتاوى حجة، لدلّت على ذلك في غيرها، وليس فيها تخصيص الفتاوى، وقول الأئمة وجمهور الأمة أوضح، وتعليلهم أرجح، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فائدة:

في القضاء والقدر قاضية بالاتفاق بين العدلية والأشعرية، قال النواوي في شرح صحيح مسلم ما لفظه: إعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه: أن الله سبحانه قدّر الأشياء في القِدَم وعلِمَ أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى على صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدّرها سبحانه وتعالى.

وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه لم يقدِّرها ولم يتقدم علمه بها، وأنها مستأنفة العلم، وإنما علمها سبحانه بعد وقوعها، وكذَبوا على الله سبحانه وتعالى وجل عن أقوالهم الباطلة علواً كبيراً، وسمّيَت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم.

قال أصحاب المقالات من المتكلمين: وقد انقرض بحمد الله القائلون بهذا القول الشنيع الباطل، ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه.

قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن القضاء والقدر إجبار الله العبد وقهره على ماقدّره وقضاه، وليس الأمر على مايتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون... إلى آخر ما ذكره.

قال الفقيه المحقق بدر الدين محمد بن يحي بهران: قلت وهذا القدْر الذي حكيته من كلام النواوي والخطابي متفق عليه بين الأمة، فينبغي الاقتصار عليه، والله الموفق.

إنتهى بلفظه، كما وجد بخطه من تكميله على الكشاف.

 

 

مسائل في الفناء

قال السائل: قال في (التذكرة)(): دعوى الإجماع ممكنة على فناء الجواهر، كيف يصح دعواه والمسألة خلافيّة لجل من العلماء وما المختار عنده؟

قال عليه السلام : الجواب: أن إمكان دعوى الإجماع يكون على أحد وجوه ثلاثة:

[الأول]: إما قبل حدوث الخلاف.

[الثاني]: وإما بعد حدوث الخلاف، وانقراض المخالف.

الثالث: أن الحاكم حكى الإجماع على أن الله قادر على إفناء الجواهر وتتميم ذلك بأن يقال: إذا كان الفناء مقدوراً لله فلابد من وقوعه، وكونه يصح الخبر عنه والعلم به، لما في العلم به من اللطف على أبلغ الوجوه، وقد ثبت أن الموافق في وجوب اللطف جملة، وقد ثبت بالدليل أن الفناء لطف، فيلزم الموافقة، فيمكن دعوى الإجماع على هذا التنزيل، والمختار عندنا في الفناء: ما قاله أبوهاشم، لقيام الأدلة عليه().

الثانية: هل يجب على كل مكلف معرفة الفناء حتى يكون من جملة مسائل الاعتقاد الواجبة؟

قال عليه السلام : الجواب: أنَّ معرفة الفناء جملة واجبة، لما في ذلك من اللطف، فيلزم كل مكلف معرفته جملة، فأما على الحد الذي عرفه أبو هاشم، فذلك فرض كفاية، وصار الحال فيه كالحال في العلم بالثواب والعقاب والبعث والحساب والموازين والصحف، فإن العلم بها جملة يلزم كل مكلف، فأما دقائقها، من كيفية إيصال الثواب والعقاب، ومقارنة التعظيم والاستحقاق لذلك، وكيفية الحساب، من خلق العلم الضروري أو محاسبة الوزن، هل بالجواهر، أو غير ذلك، وكيفية نشر الصحف، فلايجب العلم بها على كل مكلف، بل ذلك من سائر فروض الكفاية كغيرها من العلوم الدقيقة.

قال السائل(ع): وإذا قلنا بوجوبه، وأن الطريق إليه ما ورد من السمع...إلى أن قال: فهل عرف الصحابة هذا الواجب... إلى آخر كلامه؟

قلنا: نعم عرف الصحابة جملة ويكفي في الدليل على ذلك أعني على أنهم عرفوه ما يعلم من تكرر قراءتهم للكتاب العزيز وفيه أدلة الفناء، وهم جلساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يسألونه عما تشابه عليهم، وهم أيضاً مصاقيع اللغة، والقرآن أُنزل على لغتهم، فأما معرفتهم للفناء على الحد الذي عرفه أبوهاشم، فهو ممكن لهم أن يُعرَّضوا للإيغال في معرفته، وإن لم يعترضوا لذلك لم يذموا، إذ هو فرض كفاية، وهو لايفوت أبا الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام ، إذ هو عالم علم الأولين والآخرين .

الثالثة: قال السائل(ع): قال المتكلمون: الفناء لايصح على الفناء، هل العلة أنه لو كان مما يصح أن يبقى لاحتاج الفناء إلى الفناء يتسلسل أم العلة خلاف ذلك فما هي؟

قال عليه السلام : الجواب: أن العلة هي أن الفناء غير باقٍ فلا يحتاج إلى فناء آخر، وكون الفناء غير باق مما لايحتاج إلى تعليل ولا يعلل. والذي يدل على أنه غير باق: أنه لوكان باقياً، لم ينتفِ إلا بضدٍ، ولا ضدّ له إلا الجواهر، فيلزم منه الدور، وبطلان أن الله هو الآخر، فلا يجوز أن يكون الفناء باقياً.

الرابعة: قال السائل: هل الفناء قبل البعث أم بعده؟ إن كان قبله فظاهر الأحاديث ان الخلائق يبعثون من قبورهم، والقرآن مصرِّحٌ به، وإن كان بعده، فظاهر القرآن والأحاديث أن الخلائق يُساقُون من محشرهم إما إلى جنة يدوم نعيمها، وإما إلى نارٍ لاينفَدُ عذابها؟

قال عليه السلام : الجواب: أن الفناء يكون قبل البعث، لأنه لو كان بعد البعث للزم الإحياء أربع مرات، على قول من يثبت الإحياء في القبر، وهذا لايعلم قائل به، ولا وجد عليه دليل، إذا ثبت هذا وهو أن الفناء قبل البعث فالإعادة بعد الفناء تكون إلى الحالة التي كان العالم عليها قبل الفناء، ويكون البعث من القبور، فكذلك غيره من الأمور، فما ورد يكون على ماورد، إذ قد عاد كل فانٍ إلى حالته التي كان عليها.

الخامسة(ع): قال السائل: قوله تعالى في قصة يونس: {فلولا أنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِيْنَ،  لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَومِِ يُبْعَثُوْنَ} [الصافات:143، 144] ظاهره لبث يونس صلوات الله عليه إلى يوم البعث وأنه لايفنى. هذا قول السائل.

قال عليه السلام : الجواب: أنَّه تعالى قال: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، ولم يقل: إلى حالة البعث، واليوم يوم طويل مشتمل على البعث والفناء وغيره من أمور القيامة، من الإعادة،  ونفخات الصور،  ونسف الجبال،  وطي السماء ومورها، وكون الناس كالفراش،  وتبديل الأرض،  غير الأرض والحساب، وغير ذلك مما جاء فيه، ويوم كذا ويوم كذا، وكلها قريب بيوم الكتاب العزيز، والأيام المذكورة التي وصفها هي ذلك اليوم الموعود المشتمل على ما ذكره وغيره، ثم أن النظر في تحقيق اليوم: ما هو؟ وإلى ما المرجع به؟ فيه كلام يطول يحتمله النظر.

السادسة(ع): قال السائل: مامعنى كلام أبي هاشم: (لولا الفناء لم يحسن التكليف) جعل العلة في ذلك اقتران الإثابة؟

قال عليه السلام : الجواب: أن تعليل الشيخين أبي علي وأبي هاشم متفق في المعنى وإن اختلف في العبارة وتلخيصه ومعناه مجموع أمرين:

أحدهما: أن الفناء لطف للمكلف في أن يفعل ماكلف للوجه الذي كلف، لاللثواب، وتعليله: أن المكلف إذا علم تأخير الثواب وتراخيه وتقدم الفناء عليه، دعاه ذلك إلى أن يفعل الواجب لوجوبه لاللثواب، وإذا كان الثواب معجلاً متقدماً ولافناء، يكون فعل المكلف الواجب للثواب لا للوجوب.

الأمر الثاني: أنَّ الثواب والعقاب إذا كانا موعوداً بهما عقيب ذات التكليف، ولافناء يكون، كان المكلف ملجأ مدفوعاً إلى فعل ماكُلِّف ولا إختيار له في الترك، لقوة الداعي إلى ترك المقبحات وجوباً، ويكون كالممنوع من الفعل، لقوة الصارف، فيتعطل() التكليف، لعدم الاختيار وعدم تردد الداعي، ويصير الحال في ذلك كمن وعد على عملٍ أُمر به يسير المشقة بأموال عظيمة وممالك جمة في غد، وتُوُعِّدَ على تركه بعقوبة لا يحاط بوصفها في عذابها، والواعد والمتوعد ممن يعلم صدقه وقدرته، فإن المأمور يكون ملجأ إلى الفعل لامحالة هذا تلخيص كلام الشيخين فإن قال السائل: وطول المدة وتراخيها بالموت وسقوط التكليف يقوم مقام الفناء.

قلنا: من حق اللطف أن يفعل ويكون على أبلغ الوجوه وأقصاها الفناء، والإعدام أبلغ وأقطع للرجاء وأبعد من الإلجاء، والفناء مقدور لله تعالى فيفعله ويجب عليه على هذا الحد.

السابعة(ع): قال السائل: على قول أبي هاشم: (أن الفناء ضدٌ للعالَمِ كلّه لأنّ لكلّ جوهرٍ فناء)، كما يقوله أبو علي، ما تأويل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  من خلق الجنة والنار ((وأنه اطلع على أهل النار)) ...إلى آخر كلام السائل؟

قال عليه السلام : الجواب: أن أبا هاشم قطع على أن الجنة والنار لما تخلقا، وإنما تخلقان بعد الإعادة، وقد قال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد:35] فعلى هذا نتأول الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، على أن ذلك سيكون على الحد الذي أخبر به، وإنما أخبر باللفظ الدال على الوقوع في الحال لأجل أنه أمر مقطوع به، فكأنه قد وقع، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((رأيت عمرو بن لحي...)) بمعنى: علمت، والذي الجأ إلى التأويل: هو الدليل القاطع على الفناء، على الحد الذي ذكره أبو هاشم، ويمكن ويجوز أيضاً أن نتأول الأخبار على خلق جنة غير جنة الخلد، ونارٌ غير نارِ الجحيم الدائمة.

وفائدة خلقهما: أما الجنة فللتفضل على من رزقه الله تعالى الانتفاع بها، واللطف لمن علمها وإن لم ينتفع بها.

وأما النار فللطف لمنْ شاهدها من الملائكة  عليهم السلام ، فهذا جائز ممكن ولا دليل يحيله، وفي مقدور الله سبحانه وتعالى وملكه ما لا يحصره العدّ ولا يحيط به الوهم وفي حكمته ما يسع ذلك.

الثامنة(ع): قال السائل: إذا قلنا بأن الفناء بعد البعث، وتأولنا ما ورد من دليل السمع... إلى آخر كلام السائل؟

قال عليه السلام : الجواب: أن جواب هذه المسألة قد تقدم في المسألة الرابعة وهو جواب عليهما جميعاً.

التاسعة(ع): قال السائل: إذا قلنا أن الفناء قبل البعث، وتأولنا ما ورد من الأدلة القاضية بالبعثة من القبور وأوكار الطيور، وتأولنا قصة يونس صلوات الله عليه، ولابد من طروِّ الفناء على العالم، وهو على هيئته هذه... إلى قوله: مافائدة فناء البهائم وإعادتها؟ وأيضاً فإن الجمادات تفنى بفناء المكلفين، فيكون فناؤها تبعاً لفناء المكلفين لأنّ الفناء ضد لجميع فناء العالم؟

قال عليه السلام : الجواب: أن فائدة ذلك لما في العلم به من اللطف وإظهار الحكمة الباهرة والقدرة القاهرة، يعني الجمادات.

قال السائل: وتلخيص هذا السؤال: من أصول أصحابنا أنه لايجوز خلق شيء من الجمادات إلابعد خلق شيء من الحيوانات... إلى قول السائل: هذه الإعادة بين الفناء والبعث، هل هي إعادة كاملة لجميع هذا العالَم أم لا؟

قلنا:نعم، إعادة كاملة لجميع العالم، إلا مالا يقدح في الحكمة، والأدلة القاضية بالإعادة، ولايقال قياس المنتفع من الحيوانات بالجمادات، لأنا نقول: المنتفع هو المعاد من الحيوانات على الوجه الذي تقتضيه الحكمة، ووجه آخر يطول تلخيصه وتفصيله، وأما جملته فنقول: ليست الإعادة كالابتداء، إذ قد سبق الإعادة من يلتطف بالعلم بها وبكونها كائنة، وليس كذلك الابتداء، ولم يتقدمه من يلتطف بالعلم به، ومن العلماء من ذكر جواز خلق الجمادات قبل الحيوانات، وله في ذلك تعليل لايبعد صحته.

وتحقيق الكلام في فناء الجمادات وإعادتها: أما فناؤها، فهي تفنى على سبيل التبع لفناء الحيوانات، لأنّ ضدها واحد، وأما إعادتها، فيجوز أن تعاد بأعيانها، ويجوز أن يخلق الله جمادات غيرها حسب ماتقتضيه الحكمة. هذا في العقل.

العاشرة(ع): قال السائل: تعليل المتكلمين على أن في الفناء لطفا للمكلفين، هذا اللطف إن كان زائداً فليس بواجب، وإن كان أصلياً فمن حقه المقارنة للملطوف فيه، فكيف يصح القول بوجوبه والحال هذه؟

قال عليه السلام : الجواب: أنه لافرق في وجوب اللطف بين أن يكون أصلياً أو زائداً، ومن فرق بينهما فعليه الدليل على الفَرْقِ ولا يجده، فإنما هذه العبارة عبارة على غير حقيقة اللطف.

إذا ثبت هذا، عدنا إلى جواب المقصود من المسألة، فنقول: اللطف على ضربين: لطفٌ من فعل الله، ولطفٌ من فعل المكلف، فالذي من فعل الله يجب فعله مقارناً للتكليف بالملطوف فيه، لأنه إزاحة لعلة المكلّف، واللطف الذي من فعل المكلّف يجب تقديم فعله على فعل الملطوف فيه، لأنه داعٍ إليه وحاثٌ عليه. هذا في الفعل، فأما في التكليف: فالتكليف بالملطوف فيه سابق على التكليف باللطف أو مقارنٌ له لأنّ التكليف بالملطوف فيه أصل في التكليف باللطف، إذ لولا التكليف بالملطوف فيه لم يحسن التكليف باللطف.

إذا تقرر هذا، فاللطف في مسألة الفناء هو في الحقيقة: العلم بالفناء، لا نفس الفناء، إذ لو كان نفس الفناء لم يحسن الفناء، لتأخره عن التكليف، والعلم بالفناء هو من فعل المكلف، إذ هو اكتسابي، لا ضروري، فالمكلف مكلفٌ بالعلم وهو ممكن له، وهو لطف له، فإن أخلّ به فمن جملة الواجبات التي يخل بها المكلفون، وإن فعله فمن جملة الواجبات التي يفعلها الموفقون، وصار الحال فيه كالحال في الثواب والعقاب في أن اللطف في الحقيقة هو العلم باستحقاقهما وبكونهما كائنين، لا نفس الثواب والعقاب.

سؤال(ع): الواجب والمندوب إذا استويا في الفعل والمشقة والموقع، هل يصح أن يستوي ثوابهما أو لا ؟ وما الوجه في الاستواء وعدمه؟ إذ الواجب وجب لدفع الضرر، والثواب في مقابلة التكليف، والتكليف فيهما سواء؟

الجواب: أن السؤال لايخلو عن اختلال، لأنَّه قال: استويا في الفعل، ما معنى استوائهما في الفعل؟ والكلام يشعر بأن للفعل وجهين يقعان عليه، ولازم لهما كالمشقة والموقع، وما الذي أراد بذلك هل استويا في كونهما فعلين؟ فهذا حكم،  كل واجب،  ومندوب،  ومحظور،  ومكروه،  ومباح،  أنها أفعال مستوية في كونها أفعالاً، أو استويا في الجنس، فقد يستوي في الجنسية الواجب والمحضور، كسجدةٍ لله، وسجدة للشيطان، وقال: إذ الواجب وجب لدفع الضرر، وهذا كلام ضعيف، والمعتمد: أن الواجب يجب لوجوه يقع عليها، فالواجبات العقلية وجه وجوبها وجوه تقع هي عليها، فهي واجبة بنفسها يعلم وجوبها لتلك الوجوه بالعقل، ولاتفتقر إلى توقيف سمعي ولاتصرُّفَ للشارع في إيجابها وعدمه، ولايتوقف العلم بوجوبها على مايرد منه من تعريف، كردّ الوديعة،  وشكر المنعم،  وقضاء الدين والواجبات الشرعية، فإنها وجبت لوجوه تقع عليها، وهي كونها مصالح وألطافاً في الواجبات العقلية، ولولا ذلك لما أوجبها الشارع ولم تُسَمّ شرعية، لأنّ الشرع أوجبها وكانت في نفسها غير واجبة، بل لأنّ العقل لاقوة له على معرفة وجه وجوبها، والشرع معرّف به لاغيره، ولهذه الإشارة تفصيل يفتقر إلى تطويل وهو مذكور في مواضعه من كتب الكلام.

وقوله: والثواب في مقابلة التكليف. إن أراد في مقابلة الوجوب، والإلزام فغير صحيح، فإن وجوبها وندبها يشتركان في الثواب، وإن أراد أن الثواب وجب للتكليف، على معنى أنَّ الله جعل الطاعة شاقة عسيرة على النفوس بخلق النفرة عنها، ولوشاء لجعلها سهلةً يسيرة بأنْ لايخلق عنها نفرة، فصحيح أن هذا هو الموجب، لأنه المستدعي للثواب، لكن العبارة غير مؤدية له، ثم نعود إلى المقصود من جواب المسائل، وهو أن نقول: أما استواء الواجب والمندوب في المشقة فلا مانع منه، بل قد يكون في المندوبات ماهو أشق من كثير من الواجبات بمسافات ومراحل، لكن ذلك لايستدعي الاستواء في الثواب ولايوجبه، وأما الموقع فعلى قواعدهم أن المندوب لايمكن مساواته للواجب في ذلك ولو ساواه لكان واجبا مثله ومن قواعدهم أن المندوب لايمكن مساواته للواجب في الثواب وأن قليل الواجب أعظم ثوابا من كثير المندوب، والله أعلم.

سؤال(ع): قال العلماء: لا يجوز خلوّ الزمان من قرشي صالحٍ للدعوة، إذ هو يؤدي إلى أن تخلو الأمة عن حكم شرعي هم مكلفون به، وهو خلاف الإجماع، وقالوا: يجوز خلوِّه من داعي مظهر للدعوة، بل الخلوّ موجودٌ، فهلاَّ كان تعطيل الأمة عن الصالح مثل خلوها عن الداعي وما الفرق بينهما؟

الجواب: أنَّه لايخلو كلام السؤال عن طرفٍ من الانضراب حيث قال: وهو خلاف الإجماع، وكان الأولى أن يقول: وفيه إجماعهم على الخطأ، وهو الإخلال بالواجب وذلك لايجوز، لأنهم معصومون عن الإجماع على فعل، أوترك محرم، وأما معنى السؤال، فمعنى حسنٌ ونزيده تلخيصاً، فنقول: إذا قلتم أنه يجب على الأمة الأحكام المتعلقة بالإمام ولايتم ذلك إلا بوجدان الصالح للإمامة الجامع لشروطها وقد وقع التكليف بالنصب مطلقاً فما توقف عليه وجب كوجوبه، كما في الأمر بأداء الصلاة مطلقاً، فإنه استلزم وجوب ماتتوقف صحتها عليه، فثبت وجوب تحصيل الصلاحية للإمامة على الأمة، فلايجوز الإخلال بهذه الفريضة منهم جميعاً، لأنّ في اجتماعهم على الخطأ وهو الإخلال بما تجب معه، فهذا بعينه يرد عليكم في خلو الزمان عن وجدان الإمام لأنّ نفوذ تلك الأحكام يتوقف عليه، بل هو الأمر الذي تُناط به الأحكام ويقع به لها التمام، لأنّ مجرد الصلاحية لاتكفي في ذلك، فكيف تُخِلُّ الأمة بذلك ويجتمعون على الإخلال به، وهو أظهر في الوجوب، لأنّ توقف الأحكام به عليه، وإنَّما هو المتوقف على حصول الصلاحية، فبتلك الأحكام يتوقف عليه بواسطة، وعلى النصب بغير واسطة، فإن أجيب بأن تحصيل الصلاحية مقدور للأمة فلا يجوز لهم الإخلال به، وما لايجوز لهم لايجمعون عليه لعصمتهم عن ذلك، بخلاف قيام الإمام فإنه يتوقف على دعوته، فإذا امتنع أن يدعو فهو المخل بالواجب دون غيره، وإن فرض صلاحية جماعة فكذلك هم المخلون بالواجب دون سائر الأمة، إذ لايمكن تأديتهم لذلك الواجب، فلايجب عليهم، فالمُخِلَ بالواجب هو واحدٌ إن لم يصلح غيره وإن صلح جماعة فهم دون سائر الأمة، فهذا جواب لابأس به، لكن مثله يتأتى في الطرف الآخر وهو أن يقال: ليس المتمكن من تحصيل الصلاحية للإمامة إلا أهل منصبها وهم الفاطميون الجامعون للعقل وكمال الخلقة والسلامة من الآفات وهم القليل من الأمة، وغيرهم وإن اكتسب شرائط الإمامة الكسبية فهو عارٍ عن شرائطها الخلقية فلاثمرة لاكتسابه لتلك، فإذا لم يوجد في الأمة من يصلح فالمخل بهذه الفريضة البعض منهم، والبعض غير معصومين عن الخطأ، فإن قيل ذلك وإن لم يستلزم إجماع الأمة على الخطأ فهو يستلزم إجماع العترة عليه، لأنَّهم الفاطميون، فإذا لم يوجد فيهم الصالح فقد أخلوا بتحصيله وأجمعوا على هذا الإخلال وجملتهم معصومون عن الخطأ كجملة الأمة.

قلنا: وكذلك في ذلك الطرف إذا لم يَدْعُ منهم داعٍ مع وجود الصالح منهم فقد أخلوا بواجب وصاروا بجملتهم تاركين له فما لزم في ذلك فليلزم هنا، والقول الفصل والجد غير الهزل أنه لا دليل() قاطع ولابرهان ساطع يدل على عدم جواز خلوّ الأمة عن الصالح للإمامة، كما أنَّه لا دليل على عدم جواز خلوهم عن المتأهل لتكاليفها الخاصة والعامة، وأن من نصّ على ذلك وذكره من الأصحاب بناه على دلالة ظنية ومقالة وهمية فالحق أحق أن يتبع، والله يحب الإنصاف وقد ضمَّنا شرحنا على المنهاج في هذه المسألة وغيرها ماهو شافٍ.

وفي الأصول (أصول الفقه)

سؤال(ع): ما يقول عليه السلام  في تعيين الدليل المفيد للقطع بحجية الإجماع مع ورود التشكيكات على كل واحد من أدلته المذكورة؟ وهل يوجد غيرها؟ إن كان، فماهو؟ وإن لم يكن، فما الدليل القطعي على جواز الأخذ بالظواهر غيره؟

الجواب: أنَّ العلماء رحمهم الله قد بلغوا الغاية في تحرير الأدلة على أن الإجماع حجة، وكلٌ منهم استفرغ وسعه في التحرير ونفر عنها غاية التنفير وتفرقت آراؤهم فيما هو الأولى، واختلفت أنظارهم في تعيين الأقوى، وعندي أن أقواها وأجدرها بالإعتماد وأولاها: قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ  ...} [النساء:115]، وما ورد من الأخبار في شأنه عن الصادق الأمين فهو أشفى دليل وأوضح تعليل، وغيره عليل، وأثره في إفادة القطع قليل.

فإذا عرفت ما ذكرناه وتأملت ما قررناه، فقد ورد على أدلة السمع ما يمنع عن إفادة القطع، فالأمر كما ترى، وليس علينا أن نتكلف ما يخرج عن حد الإمكان ولا أن نجري الحجة الغير القاطعة مجرى البرهان على أنا لو فرضنا أن الدليل على حجية الإجماع قاطع وأن البرهان في ذلك ساطع، والاستدلال  بالإجماع على وجه يورث اليقين ويخرج عن حيّز الظن والتخمين متعذر من طريق أخرى، وهو أنه لا سبيل إلى القطع بأن الأمة أجمعوا على حكم من الأحكام واتفقوا عليه في وقت معين لم يشُذّ عنهم أحدٌ بسكوت عنه أو مخالفة فيه، هيهات ذلك هيهات، هذا أمرٌ يتعذّر الحكم به والإثبات، ومَن ادعى القطع فدعوى لانظر لها ولا التفات، وقد سلّم هذا واعترف به النحارير الأثبات، بل ذكر بعض المحققين أنه لاسبيل إلى معرفة إجماع أهل البيت  عليهم السلام  والقطع به، وهم شرذمةٌ قليلون بالنظر إلى الأمة كافة، وحقّقَ ذلك وأوضحه واستظهر عليه بأنّ من أهل البيت الجم الغفير والعدد الكثير لم يشتهروا، ولا ذكروا، ولا نسب إليهم مقال، ولا ظهر لهم مذهب ولا استدلال، ولا اطُّلِعَ لهم على تصنيف ولا عُثر لهم على تأليف، ثم عدّد منهم خلقاً كثيراً وذكر أنهم كانوا بالأندلس ونواحيه بالمغرب، وهذا لعمري هو القول الفصل والمذهب الجزل، وبهذه الطريقة يستراح من اللجاج في أدلة الإجماع والإلحاح، فإنَّا إن سلمنا أنها براهين تفيد العلم اليقين فالقطع يبطل من هذا الوجه الأخير الذي وقع عند الإفصاح والتعبير.

فإن قلت: ما تقول فيما ذكره ابن الحاجب: من أنا نقطع على أنهم أجمعوا على أن القاطع يقدم على الظني ولايتطرق إلى ذلك تشكيك مشكك؟

قلت: القطع بأنهم أجمعوا على ذلك ليس من جهة أنه نقل عنهم تواتر اتفاقهم على ذلك في وقت واحد، بل من حيث أن شأن كلّ عاقل فضلاً عن ذي العلم وكامل التمييز ومستقيم الطبع أن يقدم القاطع على المظنون فلا يأخذ بالشك ويترك اليقين بحيث أنا لو فرضنا قائلاً بذلك لكان غير معتبر في انعقاد الإجماع متضعاً على أهلية الاعتبار غاية الاتّضاع، كما أنا نقطع بأنهم أجمعوا على وجوب الصلاة والزكاة ونحو ذلك، من جهة أنه معلوم من ضرورة الدين، فلا يمكن أن يخالف فيه أحدٌ من المسلمين، ومن خالف فهو كافر غير معتبر في الإجماع، لا أنا نعلم إجماعهم من حيث أنهم سئلوا في وقتٍ واحدٍ بعد أن حضروا وأجابوا بجواب واحد، ونُقِل إلينا تواتراً فذلك أمرٌ متعذّرٌ، ولايمكن القطع بالإجماع إلا في هذين النوعين، وهما غنيان عن الاستدلال ، وما عداهما، فلا يمكن الاطلاع على أنهم أجمعوا فيه قطعاً، بل يُظنّ إجماعهم من جهة اشتهار القول بذلك، والنصّ عليه من البعض، وعدم نقل الخلاف من البقية ونحو ذلك، وقد قرّرنا هذا المعنى وأوضحناه في بعض رسائلنا والله الموفق، وقد استُهْجِنَ ما ذكره ابن الحاجب وبالغ جماعة من المحققين في استنكاره واستسماجه.

قوله: فما الدليل القطعي على جواز الأخذ بالظواهر غيره؟

قلنا: لا نعلم دليلاً قاطعاً على ذلك فإن اطلّع عليه السائل أيده الله أهداه إلينا، ويالكِ هديةً إن أمكنت، ومنحة إن حصلت، اللهم زدنا علماً، وأقرب أدلة الظواهر إلى القطع ما استدل به أبو الحسين دلالة عقلية، وهو أن العمل بالظن في تفاصيل ماعلم جملة يجب عقلاً، كخبر العدل في ضعف حائط،  أو سمّ طعامٍ،  أوخوف طريق، وهو مقرر في موضعه وما أورده عليه ابن الحاجب مبني على نفي التحسين ولاتعويل عليه.

سؤال(ع): وهل الواجب على المكلّف العلم بجواز التقليد أو الظن؟

الجواب: بل الواجب عليه العلم، ولا يكفي الظّن في ذلك إن أمكن إليه طريق، لأنّ الظّان يجوّز عكس ما ظنّه، ولا يأمن الخطأ فيما طريقه إليه الظن، فكيف يعدل إلى هذا مع إمكان برد اليقين وطمأنينة النفس بالقطع ؟ لكن الأقرب -والله أعلم- أنّ هذه المسألة وأكثر المسائل الأصولية لا تتسهل فيها الأدلة اليقينية، والتكليف بما لايمكن، لا يصدر عن الحكيم سبحانه وتعالى، وقد عرفت أن تجويز التقليد مختلف فيه، فمن قائلٍ بجوازه مطلقاً، ومن قائل بمنعه مطلقاً، ومن ذاهب إلى التفصيل، فاذا تأملت أدلتهم أطلعت على الراجح، ووجدت القطع فيها غير واضح.

سؤال(ع): وهل يجوز التقليد في جواز التقليد؟

الجواب: لا؛ فإنه لو جاز ذلك، لجاز أن يقلَّد الذاهبُ إلى جواز التقليد في مسائل أصول الدين، فيقلّد فيها وهو أمرٌ ممتنع، فعلى من يريد التقليد أن ينظر في جواز التقليد فيما يريد أن يقلِّد فيه، فإن علِمَهُ جائزاً بأدلته، كان له أن يقلّد، وإن علِمَه ممتنعاً أحجم عن التقليد ورجع إلى النظر المفيد.

فإن قلت: ليس هذا شأن الناس، فإن العوام ليس طريقهم إلى جواز التقليد في الأحكام إلاّ تقليد العلماء في ذلك، فهم مقلّدون لهم في الأحكام، وفي جواز التقليد فيها من غير نكير، ولانعلم أن أحداً من المجتهدين أمر العوام بأن ينظروا أولاً هل يجوز لهم التقليد أو لا؟ وقال لهم: لا أفتيكم حتى تنظروا في هذا!! بل إذا سألوهم عن الحادثة أفتوهم، وأخبروهم أيضاً بـأن فرضهم العمل بقولهم، فكيف أوجبت عدم التقليد في جواز التقليد؟

قلت: وما هذه المسألة من غيرها بالنظر إلى ما ذكرته من عدم إلزام العلماء للعوام مايلزمهم، وترك التنبيه لهم على فرضهم، وما يجب عليهم، ألا ترى أن مذهب جمهور علماء الإسلام وفرق الأمة أن التقليد في مسائل الكلام لايجوز؟ بل البعض منهم يحكمون بكفر المقلدين، ومع ذلك فإذا سألهم الجاهل عن مسألة كلامية، أجابوا عليه بما يذهبون إليه، ولم يقولوا: أنظر أولاً هل يجوز لك تقليدنا أم لا؟ وكذلك فأصحابنا والجمهور يذهبون إلى أن مسائل الإمامة قطعية، لا تقليد فيها، ومع ذلك فلم نعلم أن أحداً من الأئمة وأتباعهم من العلماء ألزموا العوام النظر في أدلتها وشدّدوا عليهم في ذلك وزجروهم عن التقليد فيها وقالوا لهم: لا يجوز لكم القول بإمامتنا وتسليم الحقوق الواجبة إلينا، إلاّبعد أن تنظروا في مسائل الإمامة من أولّها إلى آخرها وتعلموا الحق اليقين فيها وغير هذا وغيره.

سؤال(ع): ولمَ جاز التقليد في المسائل القطعية من الفروع، مع أن الحق فيها مع واحد؟

الجواب: أنهم أحتجوا على ذلك بأن المقصود فيها العمل، والعمل يسوغ فيه قبول قول الواحد، لأنّ الحال في العمل لايخلو إمّا أن يكون فيه جلب نفع، أو دفع ضرر، وما كان هذا حاله فالعقل والسمع متطابقان على سوغ العمل بالظن فيه، والاعتماد في شأنه على التقليد، لكن المقلّد في المسائل القطعية لايسوغ له أن يعتقد كون ما قاله المقلَّد فيها حقاً، لأنه لا يأمن الخطأ في ذلك، وفي المسائل الظنية له ذلك، لأنّ كل مجتهد فيها مصيب، ومراد الله تعالى من المجتهد ما أدّاه إليه اجتهاده، والله أعلم.

سؤال(ع): هل يجوز التقليد فيمن يجوز تقليده ؟وإذا لم يجُزْ، هل في جملته أم في تفاصيله؟ ولو في شخص معين؟

الجواب: أن هذه مسألة من مسائل أصول الفقه، والمحكي عن الزيدية، وجمهور المعتزلة: أنه يجوز التقليد في مسائله، وأن حكم أصول الفقه، حكم الفقه في جواز التقليد فيه()، خلاف ما ذكره الإمام المهدي في الأزهار، فإنه ذكر أن مسائل أصول الفقه لايجوز التقليد فيها، وأن معرفة من يقلَّد وفيمَ يقلَّد ونحو ذلك لايسع جهله، وعلى الأول يجوز التقليد في الجملة وهو أنه يسوغ تقليد المجتهد العدل والتفصيل وهو أن هذا يجوز تقليده.

سؤال(ع): وبماذا يؤمر العوام الذين لا يعرفون ماهيَّة التقليد ولا المقلَّد؟

الجواب: أنهم يؤمَرون باتباع العالِم العدل في مسائل التقليد، ويعرفون بأن فرضهم العمل بقوله، وهم وإن لم يحسنوا التعبير عن ماهية التقليد والمقلّد لو سئلوا عن ذلك فهم يعرفون الاتباع والتابع والمتبوع، وإذا أُمِرُوا بذلك عقلوه وتصوروه وأمكنهم العمل عليه.

سؤال(ع): وهل يجوز التقليد في أن المجتهد مصيب ؟ أم لا؟ وهل يجوز التقليد في كيفية التقليد ومايتبعها من إنتقالٍ وغيره أم لا، فإنّ فيها ما دليله ظني؟ وما الدليل على المنع أو الجواز في ذلك كله؟

الجواب: أن هذه من مسائل أصول الفقه وقد قدمنا حكاية جواز التقليد فيه عن الزيدية وغيرهم، وأشرنا إلى ما ذكره صاحب الأزهار من المنع عن ذلك، ولعل دليل المنع أنها ليست مسائل عملية فيسوغ فيها التقليد لأنّ تسويغه في العمليات من حيث أن المقصود بها إما جلب نفع، أو دفع ضرر، وكل ذلك مما يجوز العمل فيه بخبر الواحد، بل يجب فيهما التقليد المقصود به دفع الضرر، فلذلك أجزنا التقليد فيها.

وأمَّا المسائل الأصولية فليست عملية، فلا مجال للتقليد فيها، ولعل د ليل الجواز: أن ثمرة مسائل الأصول هي العمل، ألاَ ترى أنّ وجوب قبول خبر الواحد ثمرته العمل بقوله، وجواز التقليد ثمرته العمل بقول الغير، فهي وإن لم تكن عملية، فالغرض بها راجع إلى العمل، وهذا هو الأرجح عندي، ويوضحه: أن مسائل أصول الفقه إذا تأملت وجدتها ظنية، والبراهين عنها منفية، وإذا لم يكن المتحصل للناظر فيها إلاَّ الظن فالمقلد يحصل له ذلك إذا قلد من عرف علمه وعدالته، لكن لايتأتى للمقلد فيها الاجتهاد، وكيف يترتب الاجتهاد على التقليد؟ والله أعلم.

سؤال(ع): علامَ يؤوّل ما احتج به إبن الحاجب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه...الخ)) () فإن فيه دلالة على خلو الزمان من المجتهدين وقد نص أصحابنا على خلافه؟

الجواب: أن هذا الخبر صريح في جواز خلوِّ الزمان من المجتهدين ووقوعه، ولا يمكن تأويله إلاّ على وجه التعسف الذي لا يشجع عليه إلاّ مخالفة القاطع، ولا قطع بأنه لايجوز خلوّ الزمان عن المجتهد، أما من جهة النقل فلأنهم احتجوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لا تزال طائفةٌ من أمتي .. الخبر)) () وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به... الخبر)) () وهذان الخبران كما ترى لا تصريح فيهما بذلك وليسا متواترين، وأما من جهة العقل فلأنهم احتجوا بأن الاجتهاد فرض، فلا يجوز إطباق الأمة على الإخلال به، وهذا الاستدلال  عن القطع بمراحل، فإن المعصومين عن الخطـأ هم المجتهدون، وأيضاً فأدلة الإجماع قد سبق بيان حكمها.

إذا عرفت هذا، فالخبر المذكور لا يفتقر إلى تأويل، بل هو أرجح، ودلالته على الجواز أوضح.

سؤال(ع): وما الدليل على تحريم الانتقال بعد الالتزام؟ وإذا لم يجُزْ، فما وجه كلام الإمام علي بن محمد في تجويزه التنقل في مذاهب أهل البيت خاصّة، ولِمْ حَصَرَهُ عليهم دون غيرهم؟

الجواب: أنّ حجة التحريم تأدية ذلك إلى التهور والعمل بهوى النفس وتتبع الرخص حسبما يعرض له من سهولة وغيرها، قال المنصور بالله: وذلك يؤدي إلى الزندقة والانسلاخ من الدين، قلت: والأولى الاحتجاج بأن الإنسان فرضه العمل بما يؤدّيه إليه اجتهاده لايتعدى عنه الى() غيره، فإذا لم بكن مجتهداً ففرضه التقليد، فحيث التزم مذهب مجتهد معين فقد صير حكمه حكمه وفرضه فرضه، وفرض ذلك المجتهد ألا يتعدى مذهبه فكذلك الملتزم له، والله أعلم.

وحجة المجيز للانتقال: أن العامِّي زمن الصحابة كان يرجع ثانياً إلى غير من رجع إليه أولاً، من غير نكير، وأمّا ماذكره الإمام علي، فوجهه: أنهم سفن النجاة، ومهما لم يخرج من السفينة فلا هلاك. قلت: وفيه نظر، لأنّ هذا ينبني على أن المخالف لهم هالِكٌ، وذلك في غير مسائل الفروع، إذ مذهبنا أن كل مجتهد مصيب، وأن غيرهم من المجتهدين حكمُه حكمُهُ في الإصابة وجواز تقليده، والله أعلم.

سؤال(ع): وهل يجب الانتقال إلى ترجيح النفس أم يجوز فقط؟

الجواب: قد ذكر بعضهم وجوب ذلك على قاعدة من منع تقليد مجتهدٍ لمجتهدٍ غيره وإلا لم يجب. قلت: والقوي عندي وجوبه، لأنّ الاجتهاد هو الدرجة العليا، والترجيح درجة واسطة، والدرجة السفلى هي التقليد، فلا يعدل إلى درجة مع إمكان الترقي عنها، إذ الأدْوَنُ بدل عن الأعلى، فلا يعدل إلى البدل مع إمكان المبدل عنه.

سؤال(ع): التخريج. لمن يكون مذهباً؟ هل للمخرّج أو للإمام المخرَّج له؟ أو لا أيهما؟

الجواب: أمّا المخرّج فليس ذلك مذهباً له قطعاً، وأمّا المخرَّج له فهو مذهب له لا بالنص، بل بالمفهوم ونحوه، وقد ادعى بعض علماء الأصول أن هذه المسألة محارة، وأنه لا يعد التخريج مذهباً للمخرج ولاللمخرج له، وعندي أنه لاحيرة كما زعم، وأنه لمّا كان اللازم للمقلد الرجوع إلى مذهب إمامه لزمه العمل بمقتضى التخريج الصحيح، كما أن المجتهد لما كان فرضه الرجوع إلى الكتاب والسنة، لزمه العمل بمفهوماتهما الصحيحة وما تقتضيه الدلالة الإلزامية، كما يلزمه ذلك في النصوص ودلالة المطابقة، والله أعلم.

سؤال(ع): تكليف الشيطان نعوذ بالله منه إذا قيل بتكليفه كما هو ظاهر قول أصحابنا، ما تكون فائدة التكليف، وقد علِمَ الله أنه من أهل النار؟ وقد أشار ابن الحاجب في المنتهى إلى انه لافائدة في التكليف مع إعلام المكلِّف للمكلَّف أنه لا يمتثل، ذكر ما هذا معناه، فما فائدة تكليف الشيطان مع إعلام الله له بأنه من أهل النيران؟

الجواب: تكليف الشيطان لا ينبغي أن يشك فيه أحد من أهل الإيمان، وكيف وذلك مصرَّحٌ به في غير آية من القرآن، فإن الله سبحانه نص على أنه كلفه السجود، وأمره به وأنه عصى وأبَى، وذمّه على ذلك، وذكر كفره وأنه رجيم ومخاطبته لأتباعه، وقوله: وما أنت بمصرخيَّ، وغير ذلك مما لا يدفع، وما أظن أنَّ أحداً من المسلمين يخالف في أنه كُلِّف السجود، وأنه حال الأمر به مكلَّفٌ، إذ لو لم يكن مكلَّفاً لِمَا أُمر به لَمَا وُصِفَ بالعصيان بتركه، وأمَّا بعد ذلك، فأيّ موجبٌ لخروجه عن التكليف؟ فإنّ المكلَّف لا يخرج عنه في دار الدنيا إلاّ بالموت، أو زوال العقل، وأمَّا السؤال عن فائدة التكليف، ففائدته في حقّه كفائدته في حق غيره من الكفار وأهل النار، وإخبارُه بأنه لا يؤمن، ليس بمبطلٍ لتلك الفائدة، على قاعدة الاصحاب ، وأهل العدل فإن الفائدة عندهم التعريض لمنافع لاتنال إلاّ به، والتعريض حاصل في حقه، فلو أختار الطاعة، لنال تلك المنافع، ولمَا كان لهُ مانع، وأمَّا كلام ابن الحاجب فمبني على قاعدة له، أن الفائدة في التكليف غير ذلك، وله قاعدة أخرى لا يمنع معها التكليف لمن تلك حاله، وهو رفع قاعدة الحكمة، وأنه لا يسأل بعد عمّا يفعل، ثم أنَّا نقول: ما الوجه في جعل إعلام اللّه إياه أنه من أهل النار مانعاً عن تكليفه؟ هل من جهة القدرة، أو من جهة الحكمة؟ الأول: لا قائلْ به، ولا وجه، وأمّا الثاني، فنقول: تكليفه لا يقدح في الحكمة، لوجهين: جملي، وتفصيلي.

أما الجُمْلي: فإن الحكمة قد ثبتت بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، وما أشكل علينا وجهه رددناه إلى ذلك ولم يلزمنا أن نطلع عليه مفصلاً.

وأمّا التفصيلي: فلأنَّ الأصحاب قد بنوا على أن وجه الحكمة في التكليف التعريض للمنافع التي لاتنال إلاّ به، لافرق بين أن يؤول أمر المكلَّف إلى فعلها أو إلى عكسها، وإذا حققت، فلا فرق بين مَنِ المعلوم من حاله أنه يكفر، وبين مَنْ أخبر بأنه يكفر، والإشكال الذي أوردوه في أنه يلزم تكليفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، ونحو ذلك له أجوبة معروفة .

نعم: قد ذكرنا أنَّ القرآن العظيم دالٌ على تكليف الشيطان، وهو أمر ظاهر، وكذلك فغيره من أدلة السمع دالة عليه، كما يعلم ذلك مَنِ استقرأ الأخبار النبوية، وأيضاً فالقاعدة العقلية تقضي بذلك، فإنّ من قواعد أهل العدل أن شرائط التكليف إذا اجتمعت صار من اجتمعت في حقه مكلفاً بكلّ حال، ولايقف تكليفه وعدمه على الإخبار، وهي حاصلة في حق الشيطان على الوفاء والتمام،  والله أعلم بالصواب.

سؤال(ع): شكر أهل الجنة إذاكانوا ملجئين إلى ذلك، هل يكون واجباً عليهم أم لا؟ وهل الوجوب يجامع الإلجاء، وقد ذكر العلماء أنه لا يجامعه فيتأمل ذلك؟

أجاب: بأن قاعدة الأصحاب أنه لاتكليف إلاّمع المشقة واستلزامه الإثابة على الفعل والمدح عليه، والمعاقبة على الترك والذم عليه، وأن أهل الجنة لا يجوز أن يلحقهم شيء من التنغيص والمشقة، وأنه لاتكليف إلاّ مع تعارض الدواعي والصوارف وتردد المكلَّف، فيكون له إلى القبح وترك الواجب حاجة وداع، وأنه لا اختيار مع معرفة الله ضرورة، فمن هذه القواعد حكموا بعدم تكليف أهل الجنة، والشكر عندهم وغيره من الواجبات العقلية، وغيرها لا يجب عليهم، والوجوب لايجامع الإلجاء،  والله سبحانه أعلم .

وسئل(ع): عن قول كثير من الأصحاب: هو مستفتٍ واعتقاده أن معنى المستفتي هو أن يعمل بمذهب هذا ساعةً، وبمذهب الآخر أخرى، في مسألةٍ واحدةٍ، وكونك لم تفهم معنى المستفتي، واعتقادك أنه الذي سأل لا من قد عمل، فهو مقلّد... إلى آخر ماذكرته.

أجاب: إعلم أنَّ هذه العبارة والفرق بين المقلّد والمستفتي أمرٌ حادث مستصلح عليه غير مذكور في كتب الأصول المتداولة، وأكثر ما يحصل لي من هذا الإصطلاح مع كثرة البحث والتأمل أن المقلد فيه: من التزم مذهب إمام معين وإمامين فصاعداً مع التعيين، على الخلاف في الالتزام ماهو؟ وبمَ يكون؟ وأن المستفتي: من بنى نفسه على عدم الالتزام وانتفاء الاعتزاء إلى إمام، وأنه متى عرضت له حادثة أو مسألة يحتاج إلى العمل فيها إلى أمرٍ، رجع في ذلك إلى عالم حي أوميت فيعمل بمذهبه فيها، وكان ذلك مذهباً له، ليس له أن يتعداه إلى غيره، بل له أن يعمل بقولِ غيرِ ذلكَ العالِمْ في غير تلك المسألة، ولايصدر ذلك القول الذي حكيته، وهو أن يعمل بمذهب هذا ساعة وبمذهب غيره أخرى، إلاّ من جاهل، والله سبحانه أعلم.

سؤال(ع): رجلٌ عامّيْ لايعرف تفاصيل المذاهب ولا تراجيحها، وإنما وجد أباه وأهل بلده منتسبين إلى مذهب فانتسب إلى ذلك، مايكون الحكم فيه إذا فعل شيئاً يخالف المذهب المنتسب اليه، وهو جائزٌ على مذهب غيره؟ نحو كشف الركبه أوشيء مما يتعلق بالصلاة وغير ذلك، هل يجب أمره أو نهيه ؟ أم لا... إلى آخر ماذكره من تِعدَادَ الصور الخلافية؟

الجواب: أن للعلماء في كيفية الالتزام تفاسير مختلفة، والأرجح عندنا: أن هذا المذكور إذا كان قد عرف أن مذهب والده مذهب إمامٍ معين كالهادي أو الشافعي، وبنى ووطَّنَ نفسَهُ على أنه في المذهب كوالده، وأن إمام والده إمامه، فهذا يكفي في الالتزام، وثبوت المذهب في حقه، وإن لم يبلغ في التمييز إلى هذا الحد، وإنَّما فعلَ كما فعل أبوه في الصلوات وغيرها لم يعد ملتزماً،  والله سبحانه أعلم.

وسُئل (ع): هل يجب على المقلد في مسائل الأصول الخلافية اعتقاد صواب مذهبه، وخطأ سائر فرق الإسلام أو لا؟

أجاب: أن ذلك لا يجب عليه، بل لا يجوز له، لأنّه غير عالم بصحة ما ذهب إليه، وإنما هو مقلِّد، والمقلد لا يقطع بصحة ما اعتقده، وجمهور أصحابنا يحكون بأنه هو المخطئ الآثم، وأنَّ التقليد لا يجوز له، وأنه في حكم ما لايعلم شيئاً من مسائل الاصول، ولهذا السؤال والجواب تفاريع تفتقر إلى بسط وتطويل لايسعه هذا الكاغد، فإن يسّرَ اللهُ الاتفاق شرحنا منه للسائل مايشرح صدره.

سؤال(ع): ما الفرق بين المسائل العملية والفرعية؟

الجواب: الفرق ظاهرٌ بينَ ماذُكر، وهو أن الفرعية أعمّ من العمليّة، لأنّ من الفرعية مالايتعلق به عمل كمسألة الشفاعة، وكل عملية فرعية، والله أعلم.

سؤال(ع): ما حكم المجبرة في أموالهم وذرياتهم وأنفسهم؟

الجواب: أنَّ حكمهم في الظاهر عندنا حكم المسلمين، سواءٌ قطعنا بكفرهم من جهة التأويل، كما هو قول الجمهور من أصحابنا، أو لم نقطع به فلا نعاملهم () غير تلك المعاملة، ولا نثبت لهم شيء من أحكام كفّار التصريح لا الحربيين ولا الذميين، وهذا هو القول الفصل ولا ينبغي العدول عنه.

 

 

 

 

 

 

 

وهذه مسائل (ع) وردت عليه وذكرَ أجوبتَها بلفظِهَا

وفيها ما يُرشِدُ إلى الأسئلَةِ وصفتها

أمّا مسألة الصلاة ولطفيتها، وهل الملطوف فيه يقع قبل خروج وقتها، وقبل فِعْلها؟ أو لا يقع إلاّ بعد خروج الوقت الاختياري والاضطراري؟

فالجواب: أنَّ المشترط أن يكون اللطف متقدماً ولايشترط تأخير الملطوف فيه إلى أن يخرج وقته حيث كان موسعاً، فإذا صلى المصلي فصلاته تلك لطفٌ في فعل الواجب العقلي وترك القبح العقلي، على رأي الأصحاب، وسواء أوقعه بعد فعلها قبل خروج الوقتين أوقبله والله أعلم.

وأما مسألة تعلّق عالمية الباري، وما حكم من قال أنه تعلّق واحد؟

[الجواب]: فهذا كلامٌ مجملٌ، ولم يُفهَمُ ما المسؤل عنه من حكمه؟ هل حكمه في الخطأ أو في غيره؟ وهذه مسألة دقيقة وبين علماء العدل فيها خلاف، والأمر فيها مقترب، وما هي مما يجري فيه تفسيق ولا تكفير ولا تأثيم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأمّا مسألة من مُسخَ قرداً أو نحوه وبقي عقله أو نحوه وما حاله في التكليف؟

فالجواب: أنَّ الممسوخ قد سقط عنه التكليف، إن قُدّر بقاء حاله في العقل والتمييز فهذه حالةُ إلجاء، وقد صار حكمه حكم أهل النار، إذ المسخ نوعٌ من العذاب، وهو ونحوه يسمى عذاب الاستئصال، وإن قدّرنَا زوال العقل فلا كلام.

وأمّا تنظير الإمام المهدي على من كفر المطرفيّة في مسألة قادر، فلم يحضرنا الآن ذكر دليل ذلك وتحريره، فينظر في وجه التنظير عليه.

وأمّا قول أبي القاسم البلخي: أن في الألوان ما هو حسنٌ وما هو قبيحٌ، فهذا يتفرع على قوله: أن الألوان جنسٌ من أجناس مقدورات القدَرْ، وأنها مما لايختص الباري بالقُدْرَةِ عليه، وإذا كانت هكذا والعباد يقدرون عليها ويفعلونها، ففي أفعالهم ما يحسن وفيها ما يقبح كما إذا ضرب رجل رجلاً آخر في بدنه فاسوَدَّ مكان الضرب فذلك اللون عندهم من فعل الضارب وهو قبيح ، لأنه فعله تعدياً،  والله أعلم.

وأما حكم من يقول: أنه يحدث أمرٌ لم يكن عند طلوع النجم الفلاني واعتقد ذلك، ولم يعتقد أن للنجم تأثيراً كما يلوح من [كلام] الشيخ أبي علي، حيث نظر إلى النجوم عند حدوث ولده أبي هاشم؟

والجواب: أن الاعتقاد المذكور إن طابق الثابت في معلوم الله تعالى، فاعتقادٌ حسنٌ، وإن لم يطابقه، فاعتقادُ جهلٍ، وكلّ جهل قبيح، وأمّا أنه يقتضي كفراً أو فسقاً، فمعاذ الله، إذ لا وجه يقتضي ذلك، وقدْ أجرى الله العادة بأمور يحدثها وجعل النجوم علامات، وذلك معلومٌ في الأمطار وصلاح الثمار، وغير ذلك.

وأمّا قول الحاكم: أن العترة عدليّون إلاّ القليل، ومن هو المستثنى منهم؟

 فلا أعلم أحداً من مشاهير العترة وكبرائهم مال عن القول بالعدل، ولاشكّ أنّ منهم من سلك مسلك الجبرية ومال إلى مذاهبهم وما يحضرني تعيينهم الآن والبحث يرشد إليه.

وأمّا أنه هل يجوز للولد في الإنكار على والديه أن يدفعهما عن المنكر ولو بالقتل أو لا؟

فالجواب:  أنهما إذا لم يندفعا فماكان يجوز له في حق غيرهما، جاز له في حقهما، لأن حرمة الأبوة لاتسقط حق الله تعالى وأدلة الأمر بالمعروف لم تفرق بين والد وغيره في الحكم.

وأمّا أنه هل يجب على المأموم امتثال أمر الإمام الذي يرى أن مسائل الإمامة اجتهادية والمأموم يرى أنها قطعية أو لا؟

الجواب: أنَّ القول بكونها اجتهادية لا يمنع من الالزام، ولا يكون رخصة في عدم الإلزام، ألا ترى أن كون ولاية الحقوق إلى الإمام مسألة اجتهاديّة وللإمام أن يلزم تسليمها إليه وعلى المسلمين أن يلتزموا، وإن امتنع فله أن يقاتله، فإذا أدّى الإمام اجتهاده إلى وجوب القيام عليه والدعوة، صار وجوب ذلك معلوماً، وإنما الظن في طريقه، وإذا أدّاه اجتهاده إلى وجوب الطاعة له فله أن يُلزمه ذلك ويقاتله عليه كمسألة ولاية الحقوق، والمأموم إذا أعتقد الإمامة وجبت عليه الطاعة، ولعلّ في هذا السؤال تعريضاً إلينا فقد اشتهر أنّا نقول بأن المسألة اجتهادية وهو أمر لم يصدر منّا تصريحاً ولاتعريضاً، وإنما جرت منّا مناقشة في أدلة الأصحاب واعتراضات عليها فظُنّ ذلك.

وأمّا إنه هل يجب على المأموم امتثال أمر الإمام في إلزام الجهاد مع تضرر الوالدين لالحاجة تلحقهما، بل لمشقة فراقه؟

الجواب: أن تضررهما بمجرد الفراق لايكون رخصةً له ولامسقطاً() للواجب عنه، وهذه مسألة ظاهرة،  والله سبحانه وتعالى أعلم.

سؤال(ع): في قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] هل الرزق تفضل من الله أو هو واجب؟ لأنه ذكر في الكشاف أن أصل الرزق من الله على خلقه تفضل إلاّ أنه لمّا تفضل به صار واجباً عليه... إلى آخر ماذكره ؟

الجواب: أنَّ الذي ذكره في الكشاف أنَّه تفضل فلما ضمن الله سبحانه أن يتفضل به عليهم رجع التفضل واجباً، ومثلَّه بالنذر في حق أحدنا، فإن المنذور به لم يكن واجباً عليه، فلما أتى بلفظ النذر صار واجباً، وبنى صاحب الكشاف على أن قوله تعالى: {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} من ألفاظ الوجوب، والعبارات التي تؤدي معنى الواجب.

قلت: والحق أنه لا وجوب على الله تعالى،  في ذلك، وأن قوله تعالى، المذكور يقضي وجوب ما لم يكن بواجب، وأكثر ما فيه أن يعدّ من جملة الوعد، وليس وعده تعالى بشيء يقتضي وجوبه عليه، بحيث أنه إذا لم يفعله، عُدّ مخِلاً بواجب، وإنما عدم فعله يكشف عن الخلف فيعرف أن الوعد السابق غير لائق،  والله أعلم.

سؤال(ع): عينٌ التَبسَ مالكُها، فصارَ مصرفها الفقراء، هل لمالِكِهَا ثوابُ انتفَاعِهِمْ بها؟ أم خرجت عن ملكهِ وصارت رقبتها لله تعالى فيجبُ الشّكر لله سبحانه عليها، ولاثواب في ذلك للمَالِكْ؟

الجواب: أن الواجب للمالك عوضها على الله تعالى، حيث حَكَم بخروجها عن ملكه ونقلها عنه، ولا ثواب له في انتفاع مَنِ انتفع به، لأنّ الثواب لا يُستَحَقُّ إلاّ على العمل ولا عمل له في ذلك، فلم يهب ولم ينذر ولا يبيح() ، والإحسان للمنتفعين بها لله تعالى والحق له عليهم.

سؤال(ع): الذين يسألون الرَّوْحَة و يدّعون أن معهم من يخبرونهم بالأمراض والآلام...الخ، من العوامّ لما أصابهم من الآلام التي تخالف العادة ويعتقدون أنهم ينفعون، هل يجوز أو لا ...الخ؟

الجواب: أن ذلك محرّمٌ قطعاً ومع اعتقادات الآلام من الجن أو أن رفعها منهم فهو كفر وشرك ويجب إنكار ذلك والمنع منه ويتوجه تأديب من فعله.

سؤال(ع): إذا قال: آمنت بالله وبما أنزل الله على رسوله على مراد الله ومراد رسول الله، هل يكفيه ذلك عن بيان مذهبه بمعرفته أئمته أم لا؟

الجواب: يكفي القايل ذلك القول، ويُكتفى به في حقه، وفي معرفة إيمانه، ولا يلجأ إلى غير ذلك.

سؤال(ح): هل الأولى الاشتغال بأقوال العلماء في الفروع؟ أو الاشتغال بتلاوة كتاب الله تعالى والآثار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  والاعتماد على ذلك؟

فأجاب عليه السلام : أن الاشتغال بمعرفة علم الحلال والحرام لمن له قابلية وفهم أولى، لأنّ في ذلك علماً وعملاً.

سؤال(ح): هل يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن في الحال أم لا؟

الجواب: في نطقه بكونه مؤمناً خلاف كثيرٌ بين المتكلمين وغيرهم وهو معروف.

سؤال(ح): قال بعض الشيعة: لا يصِحّ من الإنسان أن يقول أن الواجبات الشرعية أوجبها الله على العبد، وإنما أخبرنا بأنها واجبة، وما ورد من الأمر بفعلها فهو على سبيل الإخبار فقط، وإنما هي واجبة على العبد لا بإيجابِ موجبٍ قط. وأُنكِرَ عليه ذلك، وقيل بل أوجبها الله وأمر بها ووعد عليها، فما التحقيق على سبيل التفصيل ؟

الجواب: ما ذكره السائل، ليس ببعيد عن الصواب، حيث نشير إلى ما تقتضيه قواعد الأصحاب ويذكرونه ويحرِّرُونه مقرراً في هذا الباب، فإنهم يقولون: أن معنى كون هذه المحسنات والمقبحات شرعية أنّا علمنا حسنها وقبحها بالشرع وليس المراد أن الشّرع جعلها حسنة أو قبيحة فإن ذلك عندنا غير واقف على إختيار مختار لولا هذا لما حسن التكليف، ولهذا قالوا: أنّا نعلم بالضرورة قبح كل مفسدة في الدين وحسن كل مصلحة في الدين على الجملة، فإذا كان في الأفعال ما هو مصلحةٌ، وفيها ما هو مفسدة ولم تقف عقولنا على العلم بذلك، وقد علمنا بدليل العقل أن الله لا يأمر إلاّ بالمصلحة ولا ينهى إلاّ عن المفسدة، فمتى عرفنا ذلك بالشرع، ألحقناه بالجملة المقررة ولم يكن من جهة الشرع إلاّ التعريف فقط، كما نعلم بالضرورة وجوب دفع الضرر عن النفس، فمتى عرّفَنَا الطبيب أن في بعض المأكولات ضرراً وجب علينا اجتنابه، ولم يكن منه إلاّ التعريف، ولمّا قالت البراهمة: إن جاء الأنبياء بما يوافق العقل، ففي العقل غنية عنهم، وإن جاءوا بما يخالفه وجب ردّه، قال أصحابنا في الجواب عليهم: جاء الأنبياء بتعريف المصالح والمفاسد التي لم يقف العقل على معرفتها، وقد تقرر في العقل حسن المصالح ودفع المفاسد، وقد شنّع ناسٌ على الأصحاب هذه المقالة ونسبوهم لأجلها إلى الجهالة، قالوا: أن المعتزلة تزعم أنه يعرف بالعقل وجوب الصلاة... إلى آخر ما قالوا، فردوا عليهم بأنا إنما قلنا: يُعلم بالعقل حسن كل مصلحة، وقبح كل مفسدة، فأما أن الصلاة مصلحة والخمر مفسدة فلا يعلم بالعقل. هذا ما يذكره الأصحاب، والله الهادي إلى الصواب.

سؤال(ح): هل توصف الواجبات الشرعية بأنها أعراض أو لا؟

الجواب: نعم توصف بذلك، إذ لا تكاد تخرج عن الأكوان،  والاعتمادات،  والأصوات،  والاعتقادات،  والإرادات،  والكراهات،  والظنون،  والأفكار،  ونحو ذلك من الأعراض.

سؤال(ع): في النّسْخِ: قال السائل في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بتحريق هبّار بن الأسود، ونافع بن عبد القيس، إذا ظُفِرَ بهما، ثم نهيُه في اليوم الثاني عن تحريقهما إذا ظفر بهما حجة لمن يجيز النسخ للشيء قبل إمكان فعله، فما المخرج؟ هذا مضمون سؤال السائل.

قال عليه السلام : الجواب والله الموفق للصواب: أن التحريق بالنار قد كان جائزاً قبل ذلك، بدليل: ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بتحريق من كذَب عليه))، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((لقد هممت أن آمر فتيتي، فيجمعون لي حزماً من حطب، ثم آتي قوماً يصلّون في بيوتهم ليست بهم علّة فأحرقها عليهم)) () وهذا يدل على أن التحريق بالنار والتعذيب بها كان جائزاً مستقراً.

إذا تقرر () ذلك، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بتحريق الرجلين استصحاباً للحكم وجُريّاً على الأصل الظاهر في بقاء الحكم، ثم ورد النسخ قبل تحريق الرجلين، لعلم الله سبحانه وتعالى بارتفاع المصلحة في التعذيب بالحريق ، وحصول المفسدة فيه، وليس ذلك من نسخ الشئ قبل إمكان فعله إذ العلم بهذا الحكم قد تطاولت به الأزمان وتقدر فيه الإمكان، وإنما كان يكون نسخاً قبل إمكان الفعل لو نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بأن يأمر بتحريق الرجلين ثم ينزل الوحي بالنهي عن تحريقهما قبل التمكن عن تحريقهما، تعالى الله عن ذلك، وهاهنا لم ينزل الوحي بالأمر بتحريقهما وإنما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  استصحاباً لبقاء الحكم، فلم يكن نسخاً للشئ قبل إمكان فعله.

قال السائل: وكذا في سورة برآءة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بعث بها علياً عليه السلام  بعد أبي بكر قبل وصول أبي بكر بالسورة()؟

قال عليه السلام : الجواب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أمر أبا بكر برأيه من حيث أنه مخيرٌ في إرسال من شاء من الثقات، وليس بوحي نزل، ثم رأى بعد ذلك وقوي عنده أن يأمر علياً عليه السلام  بالتبليغ وجرّياً على عادة العرب في أنه لا يبلغ العهد إلاّ رجل معاهد أو رجل منه، ولا يعد ذلك نسخاً، إذ الرأي يعقب الرأي، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أمر يوم بدر بنزول الجيش بمكان، فقيل له: إن كان بوحي اتبعنا، وإن [رأياً] كان رأيته، فالنزول بمكان آخر أولى، فصوّبَهُم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يكن ذلك نسخاً، مع أنه قد روي أنه قد أمر علياً عليه السلام  بوحي نزل، ووجه آخر: وهو أنه قيل: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أمّرَ أبا بكر أميراً على الجيش، وأمّرَ علياً بسورة برآءة، ولهذا قال أبوبكر لعلي عليه السلام : أرسلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أميراً أو مأموراً؟ قال علي عليه السلام  بل مأموراً فاختلف الحُكمَان.

قال السائل: في تحقيق شبهة الأصفهاني في النسخ: أن الله تعالى إذا علم استمرار هذا الحكم أبداً، لم يجز نسخه لأنه يؤدي إلى انقلاب علم الله جهلاً، وإن علم أنه يرتفع عند أن تنتهي إليه المصلحة، لم يكن نسخاً لأنّ ارتفاع الحكم لم يكن نسخاً، لأنّ ارتفاع الحكم المقيّد بغايةٍ عند وجودها ليس بنسخٍ؟ هذا مضمون السؤال.

قال عليه السلام :الجواب: أن هذه الشبهة إنما هي واردة على تسمية النسخ نسخاً فقط، لا حقيقة النسخ ومعناه، لأنّ فيها تسليم أن الحكم ينتهي إلى غاية تنتهي إليها المصلحة، ولكن لايسمى نسخاً.

إذا ثبت هذا، فإذا سُلِّم فالشبهة في التحقيق غير قادحة في المعنى، فإذا سُلم المعنى فالخطر في التسمية يسير، وربّمَا لا يجب الجواب على الشبهة الواردة على الشبهة إذا سلم المعنى، ثم أنا نجيب ونقول: النسخ هو: بيان أمد الحكم الشرعي وغايته بطريق شرعي. هذه حقيقة النسخ الصحيحة، وفيه حقائق كثيرة، هذه أحسنها وأكثرها مطابقة للمعنى، وليس النسخ رفعاً للحكم المستقر فذلك لايجوز على الله تعالى.

وأمّا تسمية هذا المعنى نسخاً، فهي تسمية شرعية، قال الله تعالى:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] ، ولهذه التسمية في هذا المعنى شبه بالتسمية اللغوية في معناها اللغوي لأنّ النسخ في اللغة هو الإزالة والتغيير والنسخ الشرعي فيه إزالة الحكم الثابت في الظاهر لا في معلوم الله تعالى، لأنّ ظاهر الحكم الاستمرار والبقاء حتى يرد النسخ فيزيله في الظاهر ويغيّره، إذ لولا النسخ لبقي العمل بالحكم واستمر، فكأنه أزاله ورفعه، فمن هاهنا سُمي نسخاً.هـ

 

انتهى المجلد الأول المشتمل على الرسائل والمكاتبات وعلى القسم الأول من السؤالات والجوابات، ويليه إن شاء الله القسم الثاني من السؤالات مفتتحاً بالمسائل الواردة في الفروع نسأل الله تعالى الإعانة على التمام

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الكرام