الكتاب :الإنتصار على علماء الأمصارج1 المؤلف : الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن إبراهيم بن علي الحسيني المتوفى سنة 749 هـ المحقق : الناشر : الطبعة : عدد الأجزاء : مصدر الكتاب : [ الكتاب ] |
الإنتصار
على علماء الأمصار
في تقرير المختار من مذاهب الأئمة
وأقاويل علماء الأمة
تأليف الأمام / يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم الحسيني
توفي عام 749 هـ
الجزء الأول
تحقيق
عبدالوهاب بن علي المؤيد علي بن أحمد مفضل
أعده إلكترونياً
نزار بن عبدالوهاب المؤيد طارق بن محمد الصعدي
:ملاحظة : هذه نسخة إلكترونية أولى ونرحب بأي ملاحظات على البريد الإلكتروني:
info@awahab.com
حقوق الطبع محفوظة لدى مؤسسة الإمام زيد (ع) الثقافية
---
مقدمة المحقق
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
والصلاة والسلام على النبي الأمي الذي أرسله اللّه بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه بإذنه وسراجاً منيرا. محمد بن عبدالله، وعلى آله الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وعلى أصحابه الذين كانوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من اللّه ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود.
وبعد:
فهذه مقدمة كتاب (الانتصار) التي كانت جهد المقل ولم تكن أقل الجهد. ولم يكن كذلك، تصدير هذا الكتاب الجليل بها لمجرد تقليد سار عليه المحققون والناشرون، بقدر ما رأينا فيها قبل كتابتها، وحرصنا عليه أثناء إعدادها.. مدخلاً يمهد لبدايته، ويوثق مصادره ومراجعه، ويعرّف به مخطوطة، ويروي ملامح عزلة قرون سبعة عاشها الكتاب، مشتتة أجزاؤه، ومتناثرة مجلداته في المكتبات العامة والخاصة داخل اليمن وخارجها. وهي في نفس الوقت، مقدمة لتحقيق الكتاب في حدود ما اقتضاه الحال وسمح به الإمكان، من أغراض التمهيد والتوثيق والتعريف هذه إلى جانب ما تضمنه وتناوله التحقيق من الملاحق والهوامش الخاصة بالكتاب، ليخرج في الصورة اللائقة به ولو في الحد الأدنى. ومن اللّه تعالى نستمد العون والتوفيق، واحتسابه عملاً خالصاً لوجه اللّه في خدمة التراث الفكري الإسلامي. إنه سميع مجيب وعلى كل شيء قدير.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً.
---
تمهيد
عندما كنا في المدرسة العلمية(1) طلاباً.. كنا نسمع عن كتاب (الانتصار) اسماً مجرداً وملخصاً في هذه الكلمة، مثل ما نسمع عن الإمام يحيى بن حمزة.. وذلك عند أن نسمع من أساتذة المدرسة (المشائخ)، أو فيما نقرؤه من كتب المنهج المقررة، في عبارات: (قال في الانتصار..)، (أورده صاحب الانتصار..)، (أوضحه يحيى بن حمزة)، (وخالفه يحيى بن حمزة)، (و هو ما قاله الإمام يحيى بن حمزة في الانتصار).
وقلما يرد فيما نقرؤه من هذه الكتب اسم كتاب (الانتصار) مقروناً باسم مؤلفه. ولذا فإن كثيراً من الطلاب حينها لم يكن يعرف أو يهتم بأن يعرف أن كتاب (الانتصار) هو من مؤلفات يحيى بن حمزة، أو أن يحيى بن حمزة هو مؤلف الكتاب.
وإذا اقتصر الطالب على الكتب المقررة في المدرسة العلمية، فإنه يقضي السنوات الخمس أو السبع أو التسع فيها، دون أن يعرف عن كتاب (الانتصار) أكثر من أنه كتاب في الفقه.. وعن يحيى بن حمزة أكثر من أنه واحد من كبار علماء اليمن. أما ما زاد عن ذلك من معلومات أخرى، مثلا: عن حجم (الانتصار) وأجزائه وحتى اسمه الكامل وتعليله، وعن عصر يحيى بن حمزة ومؤلفاته.. وما إلى ذلك.. فإنها أشياء لا يعرفها إلا العالمون، والسبب لا يعود إلى عدم توفر هذه المعلومات أو مصادرها فقط، بل يعود أولاً وقبل كل سبب، إلى عدم الاهتمام بشيء خارج نص الدروس المقررة.
وهذه الحال لا تخص كتاب (الانتصار) أو مؤلفه يحيى بن حمزة.. بل تعم كل الكتب والمؤلفين مما ليس مقرراً ضمن منهج المدرسة. وأكثر من هذا، أن الحال تعم أيضاً، الكتب المقررة فيما يتعلق بأسماء الكتب ومؤلفيها. حيث أن تداول أسمائها يأتي ملخصاً، ثم لا تتجاوز معارف الطلاب في الغالب، تلك الأسماء والألقاب والعناوين الملخصة.
__________
(1) في جامع الإمام الهادي بصعدة. إحدى المدارس العلمية التي كانت خاصة بتدريس علوم الفقه في اليمن.
وعلى سبيل المثال.. أسماء الكتب المقرونة ملخصة باسم المؤلف، كما كانت متداولة في المدرسة العلمية من الكتب المقررة مثل:
- كافل لقمان(1).
- متن ابن الحاجب. أو الحاجبية(2).
ولا نبالغ إذا قلنا بأن القليل أو النادر من طلاب المدرسة العلميه حينها، من كان يعرف أو يهتم بأن يعرف أن اسم الكتاب الأول كاملاً، هو: (الكاشف لذوي العقول عن معاني الكافل بنيل السؤول)، وأن اسم مؤلفه: أحمد بن محمد بن لقمان (أصول الفقه). وأن اسم الكتاب الثاني: (كافية ذوي الأرب في معرفة كلام العرب) (نحو). وهكذا معظم الكتب ومؤلفيها.
وهكذا ظللنا في المدرسة العلمية السنوات الثلاث الأولى من سنوات الدراسة بها(3) وتركنا المدرسة ونحن لا نعرف عن كتاب (الانتصار) أكثر من أنه كتاب في الفقه للإمام يحيى بن حمزة، ولا نعرف عن يحيى بن حمزة ما قد يتجاوز العلم بأنه مؤلف كتاب (الانتصار).
ونعتقد أن هذه الحال هي أكبر وأعمق من صورتها التي تظهر بها، وأنها ذات علاقات وآثار متعددة وواسعة في مجال التراث الفكري الإسلامي في اليمن. وأنها بالتالي.. جديرة بالبحث وما أكثر الجوانب والمجالات الجديرة بالبحث في تراثنا الإسلامي في اليمن. وهذا يلح علينا أن نمر بجانبين من هذه الحال التي كانت قائمة:
الأول: أسبابها.
ونعتقد أن من أوائل الأسباب:
1- أسلوب المؤلفين.. حيث درجوا على تداول عناوين وأسماء الكتب والمؤلفين بأساليب ملخصة، تعتمد:
أولاً: على الاقتصار في ذكر أي منها، ومنهم في حدود حاجة الاستدلال والتوضيح وذكر المرجع. فيكتفي الواحد منهم في مؤلفه بذكر ما لا بد منه في المسألة.
__________
(1) الكافل بنيل السؤول في علم الأصول) أصول الفقه لمؤلفه أحمد بن محمد لقمان المتوفى سنة 1039هـ.
(2) مختصر معروف في النحو، عليه أكثر من شرح مثل (الخبيصي) وحاشية السيد المفتي.
(3) اثنتى عشرة سنة.
ثانياً: استخدام أبرز وأقل الكلمات عند الإشارة إلى المرجع، فيقول مثلاً: ذكره صاحب (الغاية)(1) وقال في (الأزهار)، وهكذا.
2- كذلك فإن مؤلفي كتب التراث هذه -وبصفة عامة لا تكاد تجد فيها حالة استثناء- درجوا على قصر كل منها في نطاق موضوعه فقط، من بداية الكتاب بـ(أما بعد فإن علم (كذا)..) (وهذا ما دفع بي إلى تأليف هذا الكتاب الذي سميتة) (فأقول وبالله التوفيق..). وحتى يصل إلى نهايته في (والله تعالى أعلم، وبهذا تم الكتاب بعون اللّه تعالى في يوم...).
دون أن يعطي المؤلف أي اهتمام لمسألة التراجم أو الفهارس الملخصة لما ذكره في مؤلَّفه من أعلام ومراجع. وهي قاعدة وأسلوب شائعان لدى مؤلفي كتب التراث الإسلامي في البلدان العربية وغيرها، وإن كانت في اليمن ربما أظهر وأكثر.
قد يقال بأن صعوبة الكتابة المخطوطة باليراع والمحبرة واليد، كانت السبب الأول. ونعتقد أن هذا ليس السبب الأول ولا الأخير، فهم معروفون بالصبر على تحمل كل المشاق والصعاب من البحث عن الكتب واستيعابها قراءة واستقراءً، ومن الترحال والتنقل بين المدن والأقطار لطلبه وتلقيه عن أعلامه.. إلى الحد الذي يدفع أعلاماً من أمثال عبدالرزاق الصنعاني(2) أن يذهب إلى الشام والعراق بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، بحثاً عن بضعة أحاديث يريد أن يسمعها من رواتها أو من طرق أخرى، وأن يرحل الشافعي إلى اليمن مؤكداً إصراره بقوله المشهور: (لابد من صنعاء وإن طال السفر)، ولنفس الغرض. وغيرهما كثير.
__________
(1) غاية السؤول) في أصول الفقه للحسين بن القاسم بن محمد المتوفى سنة 1050هـ بمدينة ذمار.
(2) صاحب المسند المشهور في الحديث المعروف بـ(مصنف عبدالرزاق).
ولكن السبب الحقيقي كما نعتقد، هو عدم إعطاء جانب التراجم والفهارس ملحقة بالمؤلفات، أي اهتمام؛ لأنهم لا ينظرون إليها في عصورهم من الزاوية التي ننظر إليها الآن. ولا يعني هذا أنهم يطّرحون شيئاً من قيمة التراجم العلمية، أو ينقصون مكانتها في كونها فناً مستقلاً ذا وظيفة أساس في تصنيف النسيج الفكري للفنون والعلوم المتعددة، ولكن الذي يظهر من مؤلفاتهم بعامة أنهم في هذه الناحية، يحرصون على تأكيد ما يمكن أن نطلق عليه صفة التخصص والفصل في التأليف بين مختلف الفنون والعلوم. ولذا ظلت كتب ومؤلفات التراجم والمعاجم والطبقات، علماً متميزاً مستقلاً عما عداه. (ومن أراد مزيد تفصيل فليرجع إلى المطولات) (1).
والجانب الثاني:
عدم الاهتمام بتدريس كتب التراجم أو حتى بإدخالها ضمن مراجع المنهج المقرر.
__________
(1) عبارة معروفة يستخدمها المؤلفون في كتب التراث.
---
الانتصار لـ(الانتصار)
وكتاب (الانتصار) هذا الذي نقدمه مطبوعاً إلى مكتبة الفكر الإسلامي، بوصفه واحداً من أبرز وأشهر وأوسع مخطوطات التراث اليمنية.. هو - أيضاً - شأنه شأن سائر المؤلفات التراثية في خلوه خلواً كلياً من التراجم والهوامش فضلاً عن الفهارس، وحتى في المفردات والأعلام والعناوين التي قد تشتبه بنظائر مغايرة دون وجود قرائن مميزة يمكن الاعتماد عليها.. حتى في مثل هذه الحال فإن المؤلف لا يقطع استرساله في البحث ليوضح شيئاً منها إلا في القليل النادر. وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه النظرة أو الأسلوب، يعود بالدرجة الأولى إلى دقة التصنيف الموضوعي في كتب هؤلاء المؤلفين بصفة عامة. ويضاف إلى ذلك أن المؤلف منهم كصاحب (الانتصار)، يكون قد استقرت في اعتقاده قاعدة ثابتة في طرق التعلم والتعليم وبالتالي التأليف.. وهي أن الكتاب (أي كتاب) ليس موضوعاً للمبتدئ في طلب العلم، ولكنه للشيخ أو الأستاذ الذي بلغ من العلم درجة تؤهله لتدريس الكتاب. ومن هنا فإن القضية تبدو محكوماً فيها ومفروغاً منها سلفاً.
وهذه القضية واحدة من القضايا أو العناصر التي جعلت تحقيق كتاب (الانتصار) يبدو لدينا أكثر صعوبة من غيره من كثير من الكتب التراثية الأخرى. وقد أعجز عن وصف المفاجأة التي أثارت في نفسي كثيراً من الدهشة والاستغراب، عند أن عرض عليَّ الأخ والصديق الأستاذ علي بن أحمد مفضل فكرة القيام بتحقيق هذا الكتاب.
وبقدر ما سببت عدم موافقتي المطلق بأسباب لا أزال أراها موضوعية.. فقد كان قادراً على إقناعي بالموافقة بأسباب هي الأخرى موضوعية. وكان السبب الأول لعدم موافقتي آتياً من حقيقة لدي تتضمن اقتناعاً وحرصاً ثابتين:
- اقتناعي بأن تحقيق المخطوطات التراثية، أصبح فناً مستقلاً من فنون العلم والفكر أكثر من كونه جزءاً من مهنة النشر في هذا العصر الذي يطلق عليه (عصر المطابع) ضمن أشهر صفاته.
- وحرصي على أهمية هذا الكتاب وما احتواه من علم جم ومنهج فذ أن يتم تحقيقه ونشره في الصورة اللائقة به؛ لأنني وغيري أشعر بالإشفاق والألم لكثير من المخطوطات التي صدرت تحت عبارة (تحقيق وتصحيح)، وليس فيها - وللأسف الشديد - من التحقيق شيء غير اسم لشخص كتبه بعد هاتين الكلمتين، وقد يضيف تصديراً في بضعة أسطر يستهل بها الكتاب. ومثل هذا لا يمكن أن يكون تحقيقاً، ولكنه في أحسن الحالين يكون نسخاً للمخطوطة إن لم يكن مسخاً لها، من حيث أن ما هو مقبول في المخطوطة ليس مقبولاً في نسختها عند طبعها ونشرها. ومن هنا فإن ما أعرفه من شروط يجب أن تتوفر في عمل التحقيق، هي قطعاً متوفرة لدى غيري من المهتمين بهذا الجانب أكثر مني. وليس الإلمام بأصول التحقيق وسعة الاطلاع في كتب التراث والتفرغ، كل الشروط أو ربما أكثرها أهمية.
ولأن زميلي صاحب الفكرة والمشروع لتحقيق (الانتصار)، ينظر إلى الكتاب بعين الفقيه المطلع الحريص على نشر الكتاب بوصفه الغاية الأولى، وبوصف ما عداها من غايات مجرد وسائل تسخر لخدمتها، فقد أقنعني بإصرار كثير، وعزم متين عبر عنهما بكلمات قليلة. قال ما خلاصته:
أولاً: إن الواجب لا يخص المتفرغين للتحقيق في كتب التراث؛ لأنه واجب ديني وفكري يقع على كل شخص بحسب وعيه بهذا الواجب، وبحسب قدرته على أدائه.
وثانياً: وكما أن المبدأ أو القاعدة في أداء الواجب محددة بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إلا وُسْعَها}.. فإن المفهوم المفروغ منه في هذه الآية، أن الأداء واجب في حدود وسع النفس وقدرتها، ولا يسقط بمجرد الاحتمال المسبق لعدم القدرة على أداء الواجب كاملاً غير منقوص. فدعنا نعمل ما في وسعنا أولاً، ثم نحكم عليه بالقبول أو الرفض.
ومن هذه القاعدة الفقهية وترتيبها المنطقي رأيتني أشاطر هذا الزميل المفضل الإصرار والعزم داعين اللّه تعالى أن يجعل خير أعمالنا خواتمها، وأن يجعل من هذا العمل انتصاراً لكتاب (الانتصار) من عزلة المخطوطات وحالة الشتات التي باعدت بين مجلداته ونسخه وأجزائه. ومن اللّه نستمد العون.
---
منهج المقدمة
تدور مقدمة التحقيق للكتاب حول ثلاثة محاور تشمل في طيها أبرز الفقرات والعناصر الداخلة ضمن منهج التحقيق بالشكل الذي نحاول فيه أن لا يهمل أصلاً ثابتاً من هذه العناصر ولا يثبت مهملاً لا علاقة مباشرة له بالخط العام للتحقيق ومقاصده وغاياته الأولى.
وتتحدد المحاور الثلاثة في:
- دوافع التحقيق وغايته.
- موضوع كتاب الانتصار.
- شخصية المؤلف.
---
المحور الأول: دوافع التحقيق وغايته
ننطلق في تحقيقنا لهذا الكتاب من فهمنا اللغوي لكلمة (التحقيق)، وهو أنه عمل مستقل يتغيا محاولة لإظهار حقائق يحددها الغرض منه، بصورة كلية أو جزئية، أو تقتصر على أبرزها أو في حدود ما يمكن إظهاره منها. سواء أكانت هذه الحقائق من متن الموضوع أم مترتبة على وضعه، مفهومة من سياقه أم مضافة إليه بحكم علاقته بما عداه من موضوعات مماثلة من جهة، وبغاياته من جهة موازية.
وهذا الفهم يتيح لنا المضي في تحقيق الكتاب (.. في حدود ما يمكن إظهاره منها..) وهو حد أدنى لا حد لأقله. كما أن اعتبارنا هذا الفهم بهذا الحد في التحقيق يجعل التحقيق ممكناً وأكثر إمكاناً من انتهاج التحقيق، إما باعتبار الحَدّ الاصطلاحي له، وإما باعتبار الحد الموضوعي الذي يبرز القيمة العلمية للكتاب، وتميز أسلوبه ومنهجه. بينما الحد أو الفهم الأول قد يزيح شبح التَّهيب، ويتيح الإقدام على العمل في حدود ما يمكن أن يكون (أضعف الإيمان) وننطلق في تحقيق هذا الكتاب من دوافع أو أسباب أربعة:
أولها: قيمة الكتاب التراثية والفكرية في إطار الفقه الإسلامي، وهي قيمة لا يحددها موضوعه مجرداً.. بل أيضاً، ميزات قلما تتوافر مجتمعة في غيره بمثل ما هي فيه. ومنها مثلاً:
1- حجم الكتاب. حيث يقع في ثمانية عشر جزءاً.
2- منهجه الذي يجعل منه موسوعة إسلامية رائعة، سواء في أعلام الفكر الإسلامي ومدارسه ومؤلفاته، أم في تقرير آراء كل علم وفريق ومدرسة في كل مسألة، وإيراد أدلة واجتهادات وأقوال كل منهم منقحة معللة.. مما يجعل من الكتاب بحثاً شاملاً في إطار أصبح يسمى، بالفقه المقارن.
3- أسلوبه في تبويب وترتيب الموضوعات والمسائل في تصنيف وتسلسل يحدد ويحقق استقلال الموضوع من جهة، ويحافظ على الاتساق العام والترابط الموضوعي من جهة أخرى وبقدر متساوٍ ومتناسب وبارز. وسنتحدث عن الكتاب بصورة أوسع عند الحديث عن موضوعه.
ثانيها: نشر الكتاب، وهذا الدافع يمثل في ذات الوقت الغاية الأولى من التحقيق، ولكن نشر الكتاب يأتي دافعاً قوياً في الحالين؛ إذ أن إهمال كتاب بهذا الحجم والقيمة العلمية من التراث الإسلامي اليمني، يعد أكثر من إهمال لأهميته، وإهدار لقيمته إلى ما قد يصل به إلى حد يقرب فيه التساوي بين وجوده وعدمه، ثم لا يلبث هذا الإهمال أن يجعل منه نسياً منسياً. وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار:
1- أن عصر المطابع الذي نعيشه يختلف كثيراً عن عصر المخطوطات، حيث أصبح الاعتماد في عصرنا على الكتاب المطبوع المتداول المتوافر بكثرة، سواء في المدارس والمعاهد والكليات العامة والمتخصصة، أم في مراكز البحوث والدراسات. عدا القلة من الباحثين. ناهيك عن اهتمام الأفراد خارج هذه المؤسسات ممن ينحصر اهتمامهم في الغالب في جانب الاطلاع.. ومن هنا فإن الاهتمام عموماً بالكتاب المخطوط، يكاد في هذا العصر، ينحصر في غايتين:
أولاهما: في هواية اقتناء الكتاب التراثي المخطوط. وهذه الغاية ترجح جانب القيمة الأثرية التراثية التاريخية فيه على القيمة العلمية.
وثانيتهما: وفي القيمة المرجعية له.. وهذه الغاية يؤمها الباحث الحصيف. وقد أصبحت نادرة، وخصوصاً إذا استثنينا الباحثين المتخصصين في كتب التراث أو الاختصاصيين بها.
بينما -بطبيعة الحال- كان الكتاب المخطوط قبل ثلاثين عاماً في اليمن بالذات، كتاباً مقروءاً ومتداولاً، يستتنسخه الناس ويشترونه، ويتوارثونه ويحافظون عليه، لغرض القراءة، ولقيمته العلمية قبل كل شيء. ومن هذه المقارنة البسيطة بين عصر المخطوطات وعصر المطابع، تتضح أهمية النشر دافعاً وغاية وحرصاً على قيمته العلمية من النسيان وعدم الفائدة.
2- ثم إن أقصى ما يمكن أن يلاقيه الكتاب المخطوط من عناية، لا يتجاوز توثيقه في بعض المكتبات العامة ومراكز البحوث. وفي هذه الحال فإن وجوده لا يتجاوز كثيراً مساحة العنوان في أدلة وقوائم هذه المكتبات والمراكز.
ثالثها: ندرة الكتاب، وندرة الكتاب مخطوطاً بمعنى قلته وندرته في أيدي الناس، هي حالة تعم كل كتاب مخطوط؛ إذ أن نسخ أي مخطوطة مهما تكن نسخاً كثيرة، فإنها في الحد الأقصى لعدد نسخها لن تتجاوز العشرات. ولكن هذا الكتاب (الانتصار) هو وقليل من أمثاله، تظل فيه ندرة الكثرة أو كثرة الندرة حالة أخص به وأظهر فيه.. لسبب واحد كاف ناهيك بغيره. وهو حجم كتاب (الانتصار) الذي يبلغ ثمانية عشر جزءاً. وهذا ما جعل منه مخطوطة نادرة حيث توجد، من حيث أنها لا تكاد توجد منه نسخة كاملة بأجزائها الثمانية عشر في مكان واحد. فكل مكان بحثنا فيه عن هذا الكتاب أثناء القيام بجمع نسخ منه لغرض تحقيقه، لم نجد فيه نسخة كاملة من الانتصار، سواء في المكتبات العامة أو الخاصة. وظل السؤال عنه والبحث قائمين طيلة فترة التحقيق وحتى بداية الطبع ولا يزالان.
وقد يكون مثيراً للاستغراب القول، بأنا بدأنا في هذا المشروع بمقابلة النسختين الأوليين من حيث حصولنا عليهما، وليس بين أيدينا من كل نسخة منهما غير الأجزاء الثلاثة الأولى من الكتاب، ونحن في ذات الوقت لا نعرف من أين سنحصل على بقية الأجزاء لنسخة واحدة، فضلا عن بقية الأجزاء لكلتا النسختين ونسخ أخرى. وكان هذا تنفيذاً لمبدئنا الذي جعلناه رائدنا في هذا المشروع، وهو المبدأ الرباني الإنساني {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.. أن نعمل بما في وسعنا، وبما يتوفر لدينا من أجزاء ونسخ، وحتى لو كان جزءاً واحداً أو نسخة واحدة. ولولا الإصرار على هذا المبدأ لما بدأنا.
وتقابل ندرة الكتاب هذه، ما سبقت الإشارة إليه من قيمة هذا الكتاب الموسوعة بحق، ولدرجة أنه من الكتب التي قلما أمكن لغيرها من نظائرها أن يغني عنها. ولا نريد أن نطلق حكماً يحتاج إلى كثير من التروي والنظر العلميين، فنقول باستحالة حلول أي كتاب آخر من كتب الفقه الإسلامي اليمني محله، على كثرتها واتساع مجالها.
وقيمة الكتاب لم يعد ممكناً ظهورها والإفادة منها مالم يطبع الكتاب وينشر، ويصبح في متناول العالم والمتعلم والباحث على حد سواء، وفي أي مكان وزمان، وإلا فلا نعتقد أنه يُفْرِطُ في الرأي من يقول بأن المخطوطات في هذا العصر حبيسة حبرها وجلودها، وعديمة الفائدة العامة والخاصة إلا للقلة من ملاكها، إن لم يشملها عصر النشر وزمن الطباعة والمطابع.
رابعها: غاية التحقيق.
كذلك تأتي غاية تحقيق الكتاب هنا، دافعاً لتحقيقه. وهنا، وفي كتاب (الانتصار) بصفة خاصة بالنسبة إلينا.. نعتقد أن التحقيق في مفهومه ومنهجه، أو في جانبيه النظري والعملي، يعني رأياً في هذين الجانبين نوضحه فيهما كما يلي:
أ - الجانب النظري.
نلخص الجانب النظري لنسخ المخطوطة، في فقرات ثلاث:
1- المخطوط بين عصرين:
نعرف أن طباعة المخطوطة من كتب التراث، تنقلها طفرة من عصرها الذي تم فيه تأليفها إلى العصر الحديث نقله واحدة لا تدرج فيها ولا تمهيد. وهذه النقلة لا يمكن أن نفهمها على أنها بسيطة وسهلة؛ لأن قضيتها هنا لا تنحصر في عملية التقنية الآلية التي يعبر عنها بأنها كتاب كانت كلماته مخطوطة باليراع والمحبرة، تم نسخه طباعة بواسطة آلة الكمبيوتر. إن القضية كما نعتقد، أعمق وأوسع وأكبر من هذا الفهم البسيط.. لأنها قضية اجتماعية تاريخية لغوية ثقافية، فليس من السهل والطبيعي تقديم هذه المخطوطة مطبوعة إلى القارئ المعاصر والعادي خصوصاً، ليتعامل معها تعاملاً طبيعياً كأي كتاب آخر، ويلغي عشرة أو ثمانية أو خمسة قرون من السنين تفصل بينه وبين تلك المخطوطة، إن فارق الزمن لا بد أن يظل مؤثراً في علاقة القارئ المعاصر بتلك المخطوطة أثراً ينعكس على مدى استفادته منها وإفادتها إياه، انخفاضاً وتدنيا وركاكة في أحسن الأحوال، إن لم ينصرف عنها انصرافاً كلياً. وهذا ما هو حاصل بالفعل وموجود، وحتى مع الاعتراف بأن هناك أسباباً أخرى تصرف الأجيال المعاصرة عن كتب التراث المطبوعة، برغم تميز هذه الفترة بالإقبال النسبي عليها، ومنها مثلاً سببان:
أولهما: تميز هذا العصر بالانتشار الكثير والواسع للعلوم والفنون والوسائل الحديثة في التعليم والتثقيف والمهن والترفيه.
ثانيهما: ارتباط العلوم الحديثة بالمعيشة ارتباطاً مباشراً.
ومع الاعتراف كذلك، بأن هذه المخطوطات بالنسبة إلى العربي ومن يتكلم العربية، هي مكتوبة بلغته، إلا أنه لا مجال من الاعتراف أيضاً، بأن الفارق الزمني يعني أشياء كثيرة ومؤثرة.. يعني الفوارق في المصطلحات والاستخدام اللغوي والتوظيف المعنوي والدلالي للمفردات واختلاف الأسلوب بصفة عامة. إضافة إلى أن لعلماء الفكر الإسلامي في كل نوع وفرع منه مصطلحات خاصة به، سواء في المسميات أو الاشتقاقات أو المجازات أو الجمل والتعابير الأخرى.
2- وظيفة التحقيق:
من ذلك.. نجد أن التحقيق لأي مخطوط يصل إلى ما يقارب الضرورة. ولكن على أساس أن يكون التحقيق كاملاً قدر الإمكان؛ لأن وظيفة التحقيق هنا تكون -بصفة عامة- مقربة للمسافة الفاصلة بين القارئ وحتى الباحث المعاصر من جهة، وبين الكتاب المخطوط من الجهة الأخرى. وتأكيد ضرورة التحقيق يظهر جلياً عند أن تكون وظيفته تقريب الكتاب كما سبق؛ لتتحقق الغاية من نشر الكتاب في أكبر قدر ممكن متاح، وهي إبراز قيمته العلمية وتسهيل الاستفادة منه لطالب العلم والباحث على حد سواء.
3- بين النشر والنسخ:
وقد سبقت الاشارة إلى المستوى المتدني الذي وصل إليه التحقيق للمخطوطات، وهذه الحال موضع شكوى لا في اليمن فحسب، بل في معظم الأقطار العربية والإسلامية التي توجد بها المخطوطات التراثية، بصورة تجعل من تحقيقها ونشرها عملاً متميزاً ومستقلا. والعجب ليس فقط من إقدام هؤلاء المحققين على نشر المخطوطات وهم غير مؤهلين لذلك العمل، ولكنه أيضاً يكون أكثر من حال القادرين على التحقيق ممن لديه اطلاع واسع، وتجربة سالفة، وفهم بأصول العمل. ثم نجدهم ينسخون المخطوطة طباعة دون أن يضيفوا إليها أي شيء مما هو ضروري ومهم في وجوده وسهل في إنجازه، مثل تبويب الموضوعات وفهرسها. وهؤلاء يصدق عليهم قول الشاعر: (1)
ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام
…والذي نعرفه عن التحقيق، منذ أن فتحنا أعيننا على الكتب المطبوعة المحققة من كتب التراث عن طريق رواد التحقيق والنشر في اليمن، أمثال الأساتذة الأفاضل: القاضي عبدالواسع بن يحيى الواسعي، وعلي بن اسماعيل المؤيد رحمهما اللّه وغيرهما.
__________
(1) للمتنبي من قصيدة مطلعها:
ملومكما يجل عن الملام …ووقع فعاله فوق الخصام
نعرف أن التحقيق عمل متميز مستقل يضاف إلى المخطوطة يُعَرّفُ بها، مخطوطة وموضوعاً ومؤلفاً. ويسهل الاستفادة منها في فهارس وملاحق عدة. ولكن أن ينسخ الكتاب فقط.. فهذا لا يمكن أن يكون من التحقيق في شيء، وهو إلى العمل التجاري أقرب وألصق منه بالعمل الثقافي العلمي المسئول.
ب - الجانب العملي:
وهنا.. أجدني مضطراً لاستكمال الاستطراد الذي تجاوزت به بابه بحكم شدة الترابط بين هذين الجانبين. وفي هذا الجانب العملي من التحقيق، نركز موضوعه في فقرات أربع:
الأولى: النسخ والأمانة العلمية:
قلنا في الحد المبسط والعملي للتحقيق ما معناه: بأنه كشف وإضافة حقائق في الكتاب وإليه تبرز قيمته العلمية وتسهل استفادة القارئ المعاصر منه، بين أكثر قدر ممكن منها وأقل قدر لا بد منه.
ولعل في مثل هذا الحد قدراً جيداً من المرونة والتسامح عن بلوغ الحد الأعلى من ناحية، وقدراً من الحرص والتمسك بالحد الأدنى الذي يمثل أضعف الإيمان من ناحية أخرى، وفي ذلك إتاحة الفرصة لتحاشي الإفراط في شروط التحقيق التي تؤدي إلى الابتعاد عن تحقيق المطبوعة ونشرها، والسمّو عن التفريط في الاكتفاء بنسخها طباعة دون أن يلمس المطلع أي جهد للتحقيق. وبما أن حالة الإفراط المانعة من التحقيق، هي سالبة عدمية.. فإن حالة التفريط إيجابية تتمثل في عمل يحدد موضع وموضوع الحديث عنه.
ونمر به في مثالين:
أحدهما: النسخ المجرد:
وبين أيدينا عدد من المخطوطات النادرة التي تم طبعها دون أثر فيها للتحقيق، والغريب أن من تولوا نشرها، يصرون على أن يسموا هذا النشر تحقيقاً مكتوباً على صفحاتها الأولى ومحفوراً على أغلفتها. وكما سبق، فإن هذا الإخراج للمخطوطة يكون عدمه أفضل من وجوده؛ ذلك أنه يمنع في الغالب، إقدام شخص آخر على التحقيق مرة أخرى لذلك الكتاب. ثم إن فائدته تظل قليلة وحبيسة في داخله. وكان أقل قدر من أضعف الإيمان أن يضع الناشر تبويباً للموضوعات وفهارس لها.. ولكن الذي حدث أنه لم يضف شيئاً.. ولديَّ بعض من هذه الكتب لا أجدني قادراً على الاستفادة منها أبسط المعارف إلا بأن أتصفح الكتاب من غلافه إلى غلافه في كل حالة أبحث فيها عن عَلمٍ أو مفردة أو رأي لمؤلفه.
وثانيهما: الإخلال بالأمانة العلمية:
وهذه الحالة أو المثال أشد سوءاً و أكثر ظلماً وهضماً للكتاب ولمؤلفه. وقد ظهرت لدينا في فترات متباعدة من العشرين عاماً الأخيرة، بضعة كتب تراثية تم نشرها وإدخال إضافات إلى صميم موضوع الكتاب منها. وحذف كلمات وجمل، بل ومفردات من أماكن متفرقة فيها. وذلك لغرض التحريف المتعمد للمخطوطة الأصل، باسم إخضاع آراء وأسلوب ومصطلحات الكتاب لمفاهيم وآراء معينة حدثت أخيراً على الساحة الفكرية والثقافيه والسياسية. ومثل هذا العمل، يعتبر جريمة علمية وتاريخية وخلقية وجنائية في حق الكتاب ومؤلفه خاصة، وفي حق الفكر والتاريخ عامة.
وتمثل هاتان الحالتان قضية الأمانة العلمية والتاريخية، ولذا يجب على من يستطيع، وفي المقدمة العلماء والمثقفون.. الوقوف بحزم إلى جانبها ضد أي شخص عمل أو يحاول أن يعمل في اتجاهها والمس منها والإساءة إليها. ولا نريد أن نسمي أمثلة من هذه الكتب، حرصاً على ترك المسئولية لأصحابها المباشرين في مؤسساتها المختصة.. على أمل أن يتم تدارك القصور والخطأ في الطبعة القادمة لمثل هذه الكتب.
الثانية: العودة إلى التراث:
والملاحظ أن ظاهرة العودة إلى كتب التراث الإسلامي، أصبحت حقيقة تتصاعد من عام إلى آخر. وبصرف النظر عن أسبابها ودوافعها مما ليس هذا مكانها.. فإنها ظاهرة تزيد من دوافع الاهتمام بنشر كتب التراث الإسلامي من جهة، وبرفع مستوى التحقيق لهذه الكتب من جهة ثانية.
ففي كل محافظات ومدن الجمهورية في اليمن مثلاً.. تزايد الطلب على المخطوطات اليمنية في الفكر الإسلامي، بصورة أصبحت تمثل قضية لدى الجيل الشاب بصفة خاصة. ولندرة طباعة ونشر هذه المخطوطات، اعتمد الناس على تصويرها كما هي، في نسخ تتعدد وتتكاثر بين وقت وآخر، حتى أن مئات من المخطوطات أصبحت صورها المنسوخة منتشرة بشكل بارز ومميز في المكتبات الخاصة والمساجد وحلقات التدريس وغيرها، ولا يزال الإقبال يزداد ويتصاعد عليها حتى أصبحت آلات طبع المخطوطات عن طريق التصوير وآلات التجليد، مهناً وحرفاً رائجة يعيش منها ويتفرغ فيها كثير من الناس.
الثالثة: عزلة التراث اليمني:
وبالإضافة إلى ندرة الكتاب مخطوطاً كما أشرنا إلى هذا العامل بوصفه واحداً من الدوافع لتحقيق المخطوطات ونشرها، فإن موضوع عزلة التراث الفكري اليمني.. يمثل أيضاً واحداً من أبرز الدوافع لتحقيق ونشر أي مخطوطة.
ونتحدث عن هذا الموضوع من جوانب ثلاثة:
أولاً: مدى عزلة التراث اليمني في الداخل:
أعرف أن أشياخاً مطلعين وفتياناً متطلعين من أشياخنا وفتياننا العلماء والمتعلمين، قد يقدمون أكثر من اعتراض أو استدراك أو تحفظ على هذا الموضوع من حيث أن كتب التراث الإسلامي اليمنية لم تعد تعيش حالة توصف بالعزلة، بعد أن فُتح الباب على مصراعية للتحقيق والنشر، وبعد أن توفرت وسائل الطباعة ودور النشر والمهتمون بالتحقيق وخرج إلى النور مئات من المخطوطات.
وفي الحقيقة التي نعتقدها ونقتنع بها.. فإن هذا الاعتراض من وجهته العامة وارد ومقبول في جملته لا تفصيله؛ كونه لا يتعارض مع الحقيقة.. ولكنه لم يطرح الحقيقة كلها ومن كل جوانبها وطبقاً للأسس التي تقوم عليها والمعايير التي تقاس بها. وحقيقته بالتالي، تظل نسبية من جانب، ومنطلقة من مدى توفر الوسائل تشريعاً ومؤسسات نشر من جانب آخر.
وبطرح الحقيقة من جميع جوانبها وبأبرز أسسها ومعاييرها، يتضح صدق العزلة على الحال الذي تعيشه كتب التراث. وألخص ذلك في ملامح أربعة:
1- إن المقصود بتعبير العزلة، هو عزلة هذا التراث اليمني عن القارئ في داخل الجمهورية اليمنية وخارجها في الأقطار العربية خصوصاً، ثم الإسلامية عموماً، هذا جانب من العزلة.. وجانب ثانٍ، وهو عزلة كتب التراث عن حياة الناس الفقهية والثقافية عموماً. ولا نقصد بذلك فرضها على فئة أو مؤسسة أو منهج دراسي، وإنما المقصود بهذا هو عزلتها عن الناس والأماكن، في حدود الحاجة والفائدة القائمتين على الطلب والرغبة. وجانب ثالث، وهو أن المخطوطة هي في حد ذاتها ووضعها وطبيعتها، عزلة للكتاب. وتزايد الإقبال على كتب التراث بين أوساط الناس بمختلف فئاتهم وثقافاتهم، المخطوطة منها (عن طريق التصوير كما سبق) والمطبوعة.. يؤكد بما لا مجال فيه للشك، أنه لو أصبحت المخطوطة من كتب التراث مطبوعة منشورة، لشملها هذا الإقبال. ولم يعد الآن مستغرباً أن يسمع الواحد منها بين وقت وآخر أصحاب دور نشر في سورياً ولبنان بالذات، يسألونه عن مدى معرفته بشيء من التراث اليمني يمكن أن يتولوا طبعه ونشره ابتداءً أو إعادة. وهم لا يعنون كتباً بعينها ولكن أي كتب. وهذا السؤال نسمعه أكثر أثناء معارض الكتاب الدورية التي تقيمها جامعة صنعاء. وفيه دلالة كافية على رواج كتب التراث؛ إذ أن كثيراً من أصحاب هذه الدور أصحاب هدف محدد ومعروف سلفاً، وهو المردود المالي من هذا العمل. وبرغم ذلك فإنهم أصحاب هدف مشروع وعمل يستحق التشجيع والتسهيل والمساعدة لإنجازه.
المناظرة بين المشرق والمغرب:
ومثال آخر من الواقع.. وهو أن الحوار الذي عقده أستاذان من أبرز الباحثين العرب(1) وأدارته بينهما إحدى المجلات العربية(2) تحت عنوان عام، هو (المناظرة بين المشرق والمغرب) في حلقات خلال العام 1989م، وهذا الحوار شغل مساحة واسعة من القراء في الوطن العربي وخارجه، وظلت المطالبة باستمراره والتعليق على جوانب منه، تزداد وتتسع. كما كان من نتائجه انصراف أعداد غير قليلة من مختلف فئات الناس، إلى البحث عن كتب التراث والسؤال عن عناوين منها متعددة. وذلك ما لم يكن متوقعاً بهذه الكثرة على الأقل. ودلالة المثال في أن الحوار كان في مجال القضايا الفكرية التراثية، ثم ما استتبع ذلك من استخدام المدارس والمذاهب والإعلام في إطار الفكر الإسلامي، مادة للحوار. وإضافة إلى هذا، فإن شطر هذا الحوار - كما قرأت أخيراً قد صدر في كتاب.
2- وبما أن المخطوطة عزلة للكتاب كما سلف، ونقرؤ مثلاً: من المحقق القاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي، حيث يقول عن مخطوطة: (العقود اللؤلؤية) (3) بأنها النسخة الوحيدة من الكتاب.. فإن ما لا يزال من تراث الفكر اليمني سجين المخطوطات، يزيد عن ما نسبته 90% تسعون في المئة أو عن تسعة أعشاره.. اعتماداً على أدنى التقديرات لعدد المخطوطات من كتب التراث اليمني(4).
3- عزلة المكتبات الخاصة:
__________
(1) د: محمد عابد الجابري، و د:حسن حنفي.
(2) مجلة (اليوم السابع).
(3) ... في تاريخ الدولة الرسولية) تأليف: علي بن الحسن الخزرجي الطبعة الثانية 1993م في مجلدين.
(4) يقدر الباحثون مخطوطات التراث في اليمن ما بين مائة وخمسين إلى مائتين وخمسين ألف مجلد.
ونتجاوز ما تسرب من كتب التراث اليمني إلى الخارج خلال حقب مرت من التاريخ، ولا يزال يتسرب بصورة ربما أكثر من الماضي، وبكل الوسائل والطرق المشروعة وغير المشروعة، والطرق غير المشروعة أكثر، وذلك مما هو الآن في كثير من المتاحف والمكتبات العامة وهو كثير(1)، ناهيك عما ضل عن طريق هذه المكتبات والمتاحف، والتجاوز قائم على أساس أن هذا الجانب منها يقع في متناول الباحث والمطلع القادرين.. إذا تجاوزنا هذا، فإن النسبة الكبرى من المخطوطات اليمنية في الداخل، هي التي توجد في المكتبات الخاصة، وهي واقعة تحت احتكار ملاكها الذين يمتنع كثير منهم حتى عن إعطاء بيانات كاملة وشاملة عما بحوزتهم، إلى المراكز والمكتبات العامة، فضلاً عن تقديم شيء منها إلى هذه المكتبات العامة التي تقع في متناول الباحث والمطلع.
واحتكار المكتبات الخاصة للمخطوطات، يكاد يكون عادة متوارثة لدى الأسر اليمنية كغيرها من الأسر في غير اليمن، ولعلها في اليمن أرسخ وأعمق.. ومن آيات ذلك، على طريق التمثيل ظاهرتان:
أولاهما: أن مخطوطات الأسر المالكة لها، أصبحت معروفة تقريباً، بحيث يمكن للمطلع على المخطوطات والمهتم بها.. معرفة عناوين الكتب التي تملكها الأسرة أو الأسر الفلانية، هذا من حيث أسماء وموضوعات المخطوطات في أبرزها وأشهرها على الأقل. وكذا يمكنه من حيث شكل المجلدات تمييز نسخ المخطوطات ونسبتها إلى ملاكها. حتى أشبهت المخطوطات في ملكياتها، العمارات والعقارات تقريباً، فلا تستغرب أن تسمع شخصاً يتحدث عن الفوارق والميزات بين نسخة آل فلان من الكتاب الفلاني، وبين نسخ أخرى منه للأسر الفلانية مثلاً.. من حيث جودة ونوع الخط والهوامش والتصحيح ...إلخ.
__________
(1) منها ما ذكره الباحث الدكتور حسين العمري في كتابه: (مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني).
وثانيتهما: ترتب على حرص الأسر على مخطوطاتها، أو تسبب فيه ونتج عنه أن انتشر واشتهر في أوساط كثير من الأسر اليمنية -ولا يزال لدى بعضها حتى اليوم- حصر توارث المخطوطات من الكتب بصفة خاصة على الذكور من أفراد الأسرة دون النساء، حتى لا يخرج موروثها من الكتب إلى أسر أخرى. ولكن دون وجود تعصب أو تحيز ضد الوارثات من النساء أو إنكار حقهن بأية صفة من الإكراه أو الحرمان، بل برضاهن أولاً، وبتعويضهن عن الكتب من المنقولات الموروثة الأخرى ثانياً، أو أن يشتري الرجل نصيب قريبته من أسرته، بعد القسمة بثمن الزمان والمكان حسب تقويم عدول مختصين، ويساعد على ذلك في الغالب، عدم اهتمام المرأة بالمخطوطات من جهة، وكثيراً ما تشاطر أسرتها الحرص على الاحتفاظ بالمخطوطات المتوارثة.
وهذه عادات وأساليب ليس هذا موضع مناقشتها، وقد لا يجد المعترض سبيلاً شرعياً إلى الطعن فيها، طالما ظلت قائمة على الصفة الشرعية التي استعرضنا جانباً منها في المثال الأخير. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى.. فإن الحرص الشديد من أصحاب المكتبات الخاصة على مجلداتهم، وهو حرص يشمل في الغالب المتعلمين وغيرهم من أفراد الأسرة الواحدة.. لا يبدو أنه آت من فراغ، ولكن له أسباباً فرضتها حالات تعرضت فيها الكتب للضياع بطرق مشروعة أو شبه مشروعة، كالعارية التي لا ترد، وكأخذها بصورة مؤقتة لبعض المدارس، ثم بعد فترة من الزمن والنسيان تصبح وقفاً بطريق الخطأ، أو تتنقل من شيخ (أستاذ المدرسة العلمية) إلى آخر، وربما من مدرسة إلى أخرى.. وبطرق غير مشروعة، كالمصادرة والنهب والابتزاز والسرقة...إلخ. ثم من ناحية ثالثة، أن اعتقاداً ترسخ لدى كثير من الأسر اليمنية يربط المحافظة على المخطوطات الموروثة بشيء من كرامة وسمعة الأسرة، وهو اعتقاد قد بدأ بانتشار المطابع بالدرجة الأولى، يتلاشى في طريقه إلى الانحسار.
4- عزلة المكتبات العامة:
وكما سبق، فإن وجود المخطوطات في المكتبات العامة، وإن كان وجودها فيها أقل عزلة وأكثر حضوراً، إلا أنها في حد ذاتها عزلة أيضاً، لولا تبريرها بأنها أهون الشرين كما يقال، وأن ذلك هو كل ما في الإمكان حالياً؛ ذلك أن وجودها تظل فائدته محصورة تقريباً على الباحث والدارس، بمن فيهم أصحاب الدراسات الأكاديمية العليا أو المتخصصة. ويؤكد هذه العزلة في بلادنا وما شابهها بصفة خاصة، عوامل عدة مثل:
أ - إن جمهور المكتبات العامة من المثقفين في بلادنا، جمهور لم يتجمهر بعد ولا يكاد يظهر بما يستحق أن يذكر، فما بالنا بعامة الناس.
ب - إن الحصول على نسخ أو أوراق منسوخة من محتويات المكتبات العامة، لا يزال أمراً صعباً ومرتفع التكاليف عند إمكانه. وكثيراً ما يتعذر ذلك في بعض المخطوطات لأسباب غالباً ما تكون غير منطقية ولا مقبولة.. وعلى سبيل المثال، فقد أفادنا مسئول في إحدى المكتبات العامة للمخطوطات، أثناء المحاولة للحصول على نسخ من بعض المراجع.. أفاد بأن لديه أمراً من المسئول الأول عن المؤسسة المشرفة على المكتبة يقضي بمنع تصوير المخطوطات بحجة أن ذلك يسبب التفسخ وشيئاً من الإساءة المادية (تمزق بعض الأوراق والتجليد) إلى المخطوطات، وهو عذر مقبول لو كان النسخ متعذراً إلا من المخطوطة الأصل، ولكنه غير مقبول ولا مقنع إذا عرفنا أن بالإمكان تصوير نسخة واحدة من كل مخطوط بواسطة فنيين متخصصين، ثم النسخ عن الصورة، هذا من جهة.. ومن أخرى فإن المفروض استخدام أحدث أجهزة النسخ والتصوير التي تؤدي الغرض ولا تضر بالمخطوطة، ولا تسبب لها أي إساءة. وهو احتجاج كما ترى، يعتبر دليلاً على عدم الاهتمام بحق النسخ والاطلاع، وعدم الاهتمام بصيانة المخطوطات، وعدم وضع الحل الجذري، أكثر من كونه مبرراً مقنعاً بعدم النسخ.
ثانياً: عزلة الفهم الخاطئ.
والجانب الثاني من الجوانب الثلاثة التي حددتها لتناول موضوع عزلة التراث الفكري اليمني.. هو عزلة الفهم الخاطئ لهذا التراث، وأطلق عليه هنا صفة العزلة.. إطلاقاً لا يستخدم ضرباً من معاني وأساليب الكناية أو المجاز، ولكن هذا الفهم قد مثل عزلة للتراث الفكري اليمني (الزيدي) بكل ما تعنيه الكلمة في دلالتها الحقيقية من دلالة لغوية. وأحاول توضيح هذا الجانب في أربعة من وجوهه:
الأول: أن هذا الفهم الخاطئ، قد ضرب عزلة شديدة على التراث الفكري اليمني لسنوات طويلة مضت ولا يزال قائماً ومفروضاً، وبأساليب شتى وإصرار عجيب.. هو صادر من بعض المدارس الإسلامية، ثم من تأثر أو قلد هذه المدارس، أو يحاول التظاهر بالتأثر والتقليد لها، لأسباب أو لأخرى. وتظهر ملامح الصورة لهذا الفهم، في العناصر الأربعة التالية:
1- أنه صادر من بعض المدارس الإسلامية كما سبق. وأنه بدأ تقريباً منذ ثلاثة قرون مضت، ولا يزال فحله مستفحلاً، ودعائم بنيانه مدعومة، ودعاوى دعوته متصاعدة.
2- نطلق عليه (فهماً) تجوزاً؛ لأنه فهم ليس صادراً عن اعتقاد بريء، ولكنه يجمع بين صفات العمد والإصرار والاستمرار.
3- يستهدف هذا الفهم الإساءة إلى الفكر الإسلامي اليمني عموماً، باسم الفكر أو المذهب (الزيدي) وهذا من العوامل التي قد تشير إلى أن دوافع الفهم ليست فكرية بحتة.
4- يصف الفهم هذا أتباع المذهب الزيدي أو اليمنيين عموماً، بأنهم أصحاب بدع.. ومن هنا، يمضي في وصفهم بالانحراف عن الدين، ينسب إليهم الشرك مرة والكفر أخرى والفسق ثالثة...إلخ.
الثاني: أنه فهم متعمد لغرض الإساءة إلى الفكر الإسلامي في اليمن، لا يقتصر فقط على تخطئة هذا الفكر، ولكنه يتعداه إلىالتحذير منه ونعته بكل الأوصاف والنعوت السيئة التي هو أبعد ما يكون عنها.
الثالث: أن محاولات يمنية متكررة لتوضيح الفكر اليمني أمام أعلام ذلك الفهم ومدارسه وفي كل الفترات والعهود الماضية وحتى الآن.. قد جرت من قبل كثير من علماء اليمن، منذ العلامة محمد بن علي الشوكاني والعلامة محمد بن إسماعيل الأمير، والعلامة صالح بن مهدي المقبلي.
وعرض أصحاب هذه المحاولات كتب الفكر الإسلامي اليمني الزيدي من أمهات مراجع الكتب لتوضيح أصول ومصادر وآراء هذا الفكر.. ولكنها كلها تبدأ باعتراف أصحاب هذا الفهم بخطأ فهمهم، فإذا انفض الجانبان عن المقام، أنكر أولئك ما سمعوا ورجعوا عما قالوا وعادوا إلى ما اعتادوا. ويتذرع أصحاب هذا الفهم في بعض ما يقولون وما يكتبون ضد الفكر اليمني، بمخالفة هذا الفكر لمذهبهم في آراء لا تخرج في معظمها عن الآراء الاجتهادية التي لا خلاف بين الأمة في جواز الاجتهاد فيها اختلافاً؛ والاختلاف فيها اجتهاداً. وليس هذا التعريج سوى استطراد من موضوع عزلة التراث اليمني، مما يمنعنا عن الإيغال فيه وتتبع بعض من الأمثلة في هذا والأدلة عليه.
الرابع: يُلاحَظ في السنوات العشر الأخيرة تقريباً.. ظهور مؤلفات جديدة عن بعض أعلام الفكر اليمني صادرة في فترات متفاوتة.. في دراسات عليا. وهذه المؤلفات أو الدراسات، وإن كانت موضوعاتها يظهر عليها أنها منتقاة، إلا أننا يجب أن نعتبرها بادرة جيدة على أمل أنها قد تتيح فرصاً لنظرة علمية وموضوعية نحو هذا الفكر.
وأريد التنبيه هنا.. إلى أن وضع هذا الحديث في شكل علامة تعجب من ذلك الموقف والفهم الخاطئ تجاه الفكر اليمني، لا يعني أبداً أننا نريد من الآخرين أن يقطعوا بتصويب كل التراث الفكري الإسلامي في اليمن ومذاهبه وآرائه واجتهادات أعلامه، بصفة مطلقة.. أو أن يتركوا مذاهبهم وتراثهم وينصرفوا إلى هذا التراث. فهذا غير وارد.. ولكن الغرض الذي نريده هنا، يتلخص في نقطتين:
أولاهما: أن لا يقول أولئك في الفكر والمذاهب وأعلامهما في اليمن رأياً أو نعتاً قبل أن يقرؤوا من مؤلفات هذا الفكر مجموعة متنوعة في موضوعها ومؤلفيها تكون كافية لتكوين نظر ورأي صحيحين، وأن لا يقولوا عنها بعد قراءتها كلاماً يتناقض مع ما رأوه وقرأوه فيها، أو رأياً مغايراً لما فهموه منها أو صفات لا تنطبق عليها. وهذا أقل ما يمكن أن لا يفرط فيه أو يتجاوزه أو يقصر عنه العالم الورع في ما ينقله ويرويه ويكتبه عن غيره من الناس.
وثانيتهما: أن يكون التعامل مع هذا الفكر على حقيقته، بوصفه فكراً إسلامياً اعتور تأليفه وتأصيله وتوسيع علومه وآرائه، علماء مجتهدون من أكبر وأشهر علماء المسلمين على مدى قرون من السنين وأجيال من الباحثين والمحققين.. وعلى أساس أن الاختلاف في الاجتهادات والمذاهب قضية واردة ومسلم بها، وموضع احترام وإجلال بين علماء الأمة ومدارس ومقاصد الشريعة، يفترض أن لا يسبب شيء منها فرقة أو تنابذاً أو سوءاً من قول أو فعل، وهي قضية قائمة معروفة غير منكرة من عهد الصحابة (رضوان اللّه عليهم)، ثم التابعين وحتى اليوم. ولم يُحدث شيءٌ منها عِدَاءً أو فُرقة بين الأمة إلا في فترات محدودة ولدى أشخاص محدودين، وذلك في حالتين تقريباً:
إحداهما: عندما دخلت طفيليات من الأغراض والمقاصد والدوافع مغطاة بدثار الإسلام ومتسمية باسم الاجتهاد وهي بعيدة عنهما.
والأخرى: عند أن حلت العصبية والحمية محل البحث العلمي والنظر الموضوعي في قضية الاجتهاد وقضايا الفكر الإسلامي عموماً.
ثالثاً: عزلة الانتشار العام:
الجانب الثالث من جوانب عزلة التراث اليمني.. عزلة الانتشار العام له في خارج اليمن. وهذا الجانب يرتبط كما نعتقد الآن، بعامل وسبب يفوق غيره من العوامل والأسباب الأخرى، وهو عزلة المخطوطات اليمنية عن المطابع وندرة ما طبع منها حتى الآن، ويأتي بعد هذا السبب أسباب ثانوية، لا أرى داعياً لاستقراء شيء منها هنا.
---
الرابعة: طريقة منهج التحقيق
نصل إلى الفقرة الرابعة من فقرات التحقيق الأربع في جانبه العلمي.. وهي منهج التحقيق لكتاب (الانتصار). ونقسم هذه الفقرة إلى قسمين: مصادر التحقيق، ومنهج التحقيق.
القسم الأول: مصادر التحقيق:
أ - مخطوطة الكتاب:
تُعتبر مخطوطة الكتاب أولى مصادر التحقيق؛ وذلك أنه لا يمكن أن يتجاوز التحقيق جزءاً من أجزائها أو يستغني عن شيء منها. ويعني ذلك بالنسبة لهذا الكتاب أغراضاً أساسية ثلاثة: وجوداً وقراءة واستقراءً.
أولها: وجود المخطوطة بكامل أجزائها .. وهذا الغرض قد يظهر أمراً بديهياً كونه مرتبطاً بموضع التحقيق وموضوعه وغايته بحكم الضرورة.. غير أن الضرورة التي تجعل من وجود كامل أجزاء المخطوطة أمراً بديهياً.. تجعل تجاوز بعض من أجزائها أمراً وارداً ومحتملاً، بل وحاصلاً في بعض المخطوطات عند اليأس من وجودها في مظانها على المدى الزمني الزائد والمنقطع عن فترة البحث عنها، وعن فترة التحقيق للمخطوطة. وهنا تفرض الضرورة أحد خيارين: إما إخراج ما توفر من أجزائها، وإما إهمالها وصرف النظر عن تحقيقها وطبعها. ويكون الأخذ بالأول أفضل وأرجح وأولى، من باب: إخراج البعض ولا فقدان الكل. وهو مبدأ ينسجم مع العقل والمصلحة والضرورة العلمية. ومع ما جاء في القرآن الكريم {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} و {.. إِلاَّ مَا آتَاهَا}والحديث الشريف: ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به (أو منه) ما استطعتم)). باعتبار إخراج المخطوطات واجباً علمياً دينياً يقع على القادرين بحسب مراتب القدرة والاستطاعة لديهم، وهذا ما تم مثلاً في إخراج وتحقيق كتاب (الإكليل)(1).
وثانيها: قراءة المخطوطة، قراءة متأنية ومتأملة وفاحصة، تتغيا أموراً تشارك بأهميتها في صرح التحقيق وبنائه وهي أربعة:
__________
(1) للمؤرخ اليمني الحسن بن أحمد الهمداني. تحقيق القاضي محمد بن علي الأكوع.
1- مقارنة المخطوطة الأم مع نسخة أو نسخ من مخطوطات الكتاب بحسب ما يتوفر منها. لتحديد الفوارق بينها، زيادة ونقصاناً وفي ما قد يظهر من اختلاف في بعض التعابير والتبويب والهوامش، وما يضارع ذلك أو يترتب عليه.. واعتماد الأصح والأصلح والأكثر كمالاً واكتمالاً وإفادة وتناسباً مع موضعه أو موضوعه في النسخة التي ستخرج إلى المطبعة، ثم إلى المكتبات والناس.
2- استفادة التمرس والدربة على طريقة الناسخ وأسلوبه في رسم الحروف والكلمات.. وهذه مسألة ليست من البساطة بحيث يمكن تجاوزها والتهاون بها، بل لا تقل أهميتها عن أي عنصر آخر من عناصر التحقيق؛ ذلك أن اختلاف طريقة رسم الحروف والكلمات في المخطوطات العربية فيما قبل قرن إلى قرنين فما فوق عنها اليوم.. هو اختلاف كبير وواسع.
أولاً: من حيث مصطلحات رسم الحروف.
وثانياً: من حيث العجم (ضبط الحروف بالنقط)، الذي أصبح جزءاً لا ينفصل عن الأحرف، بينما نجده في المخطوطات لا يكاد يبين ولا يمكن الاعتماد عليه في التمييز بين الحرف ونظائره، أو بين المعجم والمهمل في المخطوطات اليمنية القديمة. وهذا يسبب كثيراً من الخطأ في قراءة الكلمات مصحفة أو محرفة أو بلا معنى، مما يحتاج إلى كثير تأمل وفحصة، وأحياناً العودة إلى المراجع من نظائر المخطوطة للتأكد من رسم الكلمة ومعناها الصحيحين.
وثالثاً: أن اعتماد الناس في هذا العصر، على القراءة المطبوعة في كل أو معظم ما يقرؤونه من كتب وصحف ومنشورات البحوث، وحتى الرسائل الرسمية.. قد جعل القارئ منا مطبوعاً ومتطبعاً عليها، فلا يكاد يواجه مخطوطة قديمة حتى يبدو كالطفل في بدايات تعلمه ومحاولاته فك المكتوب وقراءة كلماته بتكرار وبطء وصعوبة. وهذا بالنسبة لجيلنا الذي بدأ حياته العلمية في الفقه واللسانيات والعلوم الدينية في كتب معظمها من المخطوطات القديمة. أما الذين بدأوا تعلميهم في المدارس الحديثة، فإن الواحد منهم يكاد يستوي هو والأمي في التعامل مع المخطوطة. ولذا فإن قراءة المخطوطات القديمة، أصبحت حتى في البلدان العربية.. خبرة مستقلة تحتاج إلى كثير من التخصص والتدرب لكسبها تماماً، كما أصبح الخبراء فيها يوازون خبراء حل (الشيفرة) أو فك نصوص (المسند) في اليمن(1).
ورابعاً: النقط والفواصل التي تميز وتفصل بين أنواع الجمل والفقرات والنصوص.. في العصر الحديث أصبحت جزءاً من الكتابة وعنصراً أساساً فيها. بينما تخلوا منها المخطوطات القديمة تمام الخلو. وهذا الخلو يسبب كثيراً من تحريف المعاني والخلط فيما بينها، وفهمها فهماً خاطئاً، عند عدم التمييز بين الجمل المتتالية. وهذه النقط والفواصل تظل مشكلاً لا سبيل إلى الحئول دون وقوع القارئ العادي على الأقل في الخطأ في كل مكان تحتمل فيه جملة أو أكثر، أكثر من تفسير أو فهم واحد لمعانيها.
3- إضافة إلى أمور أخرى ترتبط بقراءة المخطوطة، ويلزم المحقق معرفتها وتسجيلها والإشارة إليها، بحسب ما يتطلبه كل واحد منها.. مثل: التعريف بالمخطوطة وبدايات ونهايات أجزائها واسم مالكها ومكانها المحفوظة فيه واسم ناسخها وتاريخ نسخها بداية ونهاية. إلى آخره.
__________
(1) المسند) يطلق على النصوص المكتوبة باللغة اليمنيه القديمة، وهو (القلم الحميري) راجع تاريخ آداب العرب للرافعي ج1 ص78.
4- تصحيح الأخطاء الواردة في المخطوطة بعد التأكد منها.
ثالثاً: استقراؤها:
من خلال التجربة التي مررنا بها في تحقيق هذا الكتاب، ومن بقايا الخبرة السالفة والممارسات المتفاوتة المتقطعة فيما يتعلق بالمخطوطات اليمنية.. فإن قراءة المخطوطة لغرض التحقيق بصفة خاصة، هي كما أوضحت آنفاً عنصر يتعلق بشكل الحروف والجمل وطريقة الرسم في نَسْخِ المخطوطة، بينما أن استقراء المخطوطة، ونقصد به الاستقراء أو التتبع الداخلي لأبواب وفصول وفقرات أصل النسخة ومتنها.. يتعلق بالنصوص والأساليب والمصطلحات، توثيقاً وترجمة وتوضيحاً. ويدخل ضمن ملاحق التحقيق. أبدأ في الحديث هنا عن استقراء النصوص في المخطوطة مما هو داخل ضمن مهمة التحقيق. والنصوص التي يبرزها الاستقراء والتي نقصدها هنا.. تأتي في أنواع وحالات ثلاث:
الأولى: حالة التوثيق للنصوص الواردة في المخطوطة (الكتاب)، لغرض الاستدلال والاستشهاد والتأصيل.
الثانية: حالة الترجمة.. وتشمل الأعلام والأماكن والكتب الواردة في المؤلف المخطوط. وكذا المدارس والجماعات.
الثالثة: حالة التوضيح. وتتناول المفردات اللغوية والعبارات أو الجمل المتشابكة المتشابهة، والمعاني المبهمة أو التي تظهر متناقضة أو ناقصة أو محذوفة أو مفروغاً منها.
ب - توثيق المخطوطة:
عند دأبنا في البحث عن مصادر تحقيق المخطوطة لهذا الكتاب لغرض توثيقها والتأكد من أنها الأوفى والأصح من حيث متنها (النص الأصل) وهوامشها وبدايات ونهايات أجزائها.. واجهتنا صعوبات شتى، وكان لا بد من توثيقها بكل الممكن في الفترة الزمنية المقبولة فترة لتحقيق الكتاب هذا.. مهما تكن شدة الصعوبات، طالما كانت في إطار وحدود الممكن. وكان ما يثير القلق والحيرة منها أشد مضاضة علينا مما تعنيه الصعوبات من جهود ومتاعب مادية أو عضوية. وكان مصدر هذه الصعوبات أو معظمها، يتمثل في جوانب، منها:
أولاً: أن كتاب (الانتصار) ليس مثل كثير من الكتب المخطوطة، من حيث حجمه واتساعه؛ كونه ثمانية عشر جزءاً تناهز حوالي ثلاثة آلاف صفحة مخطوطة كما قدرناها من خلال النماذج الموجودة، وذلك يغني عن شرح ما تحتاجه المخطوطة من زمن وجهد لفحصها وقراءتها واستقرائها أثناء التدقيق والتحقيق.
ثانياً: وليست الصعوبات الأهم ماثلة في حجم الكتاب واتساعه، ولكنها قبل ذلك في عدم وجود مخطوطته كاملة، وعدم العثور عليها في مكان واحد. وأنها بخط أكثر من ناسخ وعبر أكثر من زمن وجيل. ومع كل هذا فإن الأجزاء والبيانات التي بين أيدينا حتى الآن، تؤكد أن بعضاً من أجزائها لا يزال مجهول المكان والوجود. والتصنيف التالي يوضح النسخ والأجزاء والبيانات التي توفرت لتوثيق وتحقيق الأجزاء الأربعة الأُوَل.
المخطوطة الأولى (و):
1- الحجم:
تقع هذه المخطوطة في أربعمائة وتسع وثمانين صفحة، مقياس الصفحة (28 × 20سم). وتحتوي الصفحة الواحدة معدل أربعين سطراً. طول السطر (16سم). ويحتوي بمعدل وسط خمساً وعشرين كلمة. أي أن سعة الصفحة ألف كلمة تقريباً. وكما هو معروف في المخطوطات بصفة عامة، فإن الصفحة الواحدة من هذه المخطوطة، لا يوجد فيها فراغ يتسع لكلمة واحدة وحتى في بدايات ونهايات الأبواب والفصول وما شابهها. فيما عدا إبراز البدايات والعناوين من الباب والفصل والفرع والحكم والمختار والانتصار، بحروف مكبرة في الموقع الذي تصادفه من السطر. ولكن دون أن يدع الناسخ فراغاً. هذا بالإضافة إلى عدم وجود الفواصل والنقط، سواء في أواسط أواخر الجمل أو نهايات الفقرات والنصوص من الأدلة. إلا أن الناسخ يستخدم في حالات نادرة، علامة الوقف المصطلح عليها أو المتبعة عادة في المخطوطات القديمة، وهي حرف الهاء منفصلة ساكنة بشكلها الموجود في الأبجدية (هـ).. مع تشويشها أو تزويقها بنقط وخطوط من داخلها، حتى لا تكاد تميزها إلا بتأمل في الغالب.
ويجوز أن يكون حرف (هـ) هنا، مجرد شكل لا يعني غير علامة للوقف أو الفصل. تبعاً لاطراد العادة في استخدامه لدى النساخ. كما يجوز أن يكون رمزاً ناطقاً لانتهاء الفقرة أو النص، وهو مصطلح يكثر وجوده في المخطوطات القديمة في اليمن، كونه اختصاراً لكلمة (انتهى). وهو أقصد حرف (هـ)، أول ما استخدم علامة للوقف في نهاية الآيات في القرآن الكريم. وله حالة أخرى في المخطوطات، حيث يكون مسبوقاً بحرف الألف (ا هـ). بمعنى (انتهى). إلا أنه يأتي في نهاية النصوص المقتبسة أو المتضمنة من كتب أو أقوال أخرى. وتعني أن النص انتهى بلفظه، في الأكثر. وهذا ما لم يلتزم به الناسخ لهذه المخطوطة، بل يستخدم حرف (هـ) في المكان الذي يمكن أن نضع فيه نقطة أو فاصلة. وفي النصوص الشعرية، يضعه فاصلا بين شطري البيت وفي آخره. مما يؤكد أنه يستخدمه شكلاً فقط.
2- أجزاؤها.. وهذه النسخة تحتوي على ثلاثة أجزاء، هي:
الجزء الأول: من البداية إلى نهاية الصفحة ذات الرقم (183) مائة وثلاث وثمانين. ويبدأ من أول سطر في الصفحة الثالثة، حيث شغل الصفحة الأولى عنوان الكتاب واسم مؤلفه .. ونصه ورسم أسطره كما يلي:
(السِّفر الأول من كتاب الانتصار على علماء الأمصار في تقرير المختار من كلام الأئمة ومذاهب علماء الأمة في المسائل الفقهية والمضطربات الاجتهادية).
وتحت اسم الكتاب.. اسم المؤلف:
(مما ألفه إمام الأمّة الجامع لعلوم الأئمة (......) المؤيد برب العزة يحيى بن حمزة).
وفي آخر الصفحة الأولى، ثلاثة أبيات من الشعر تقول:
ترى فيها مسائل آل طه
أدر عينيك في ورقي ففيها
وتظهر كل غاب مدلهمٍّ ... تبرهن مشكل الأمر المريج
مسائل لم تُسَوَّدْ في الدروج
وتبكم كل ذي نطق حجيج
ولم يحدد قائلها، وفي هذه الصفحة هامش نصه:
(من كتب مولانا المتوكل على اللّه رحمه الله التي لا رسم فيها ولها حكمٌ ذكره في وصيته).
ولم يذكر اسم المتوكل على الله(1).
وفي الصفحة هوامش أو فوائد ليست من الكتاب ولا تبدو بخط الناسخ، وبداية الكتاب في هذه النسخة من بداية السطر الأول في الصفحة الثالثة.
(بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد لله وصلاة على سيدنا محمد وآله اللهم أعن ياكريم).
وفي السطر الثاني:
(الحمد لله القيوم الذي لا تستولي على كنه جلاله عميقاتُ مذاهبِ الفِكرِ والأفهام. المتعالي بكبريائه عن أن ترتقي إليه متاهات الظنون والأوهام). والكلمتان الأخيرتان في بداية السطر الثالث.
وفي أعلى الصفحة الثالثة هذه في الزاوية اليسرى .. تأريخ الابتداء بنسخ المخطوطة كما يبدو؛ إذ يعرف هذا بمجرد الفهم فقد اقتصر نصه على:
(كان الابتداء في أول العشر الأولى من ذي القعدة سنة أربع وثمانين وثمانمائة).
3- الناسخ:
في نهاية الجزء الأول بنهاية الصفحة (183). والذي انتهى بما نصه:
(وقد نجز غرضنا من بيان الفصول الثلاثة، التي اشتمل عليها باب الوضوء، من بيان فروضها وسننها وحكم الشك عند عروضه فيها. ونندفع الآن في شرح النواقض للوضوء، مستعينين بالله وهو خير معين). وتلاه بقلم الناسخ الإشارة إلى انتهائه من نسخ الجزء الأول، ثم أضاف تاريخ الانتهاء في ما نصه:
(تم الجزء الأول من كتاب الانتصار على علماء الأمصار والحمد لله رب العالمين) (وافق الفراغ من رقم هذا الجزء المبارك إن شاء اللّه تعالى عشية يوم الأربعاء الثامن من شهر سفر (صفر) الذي هو من شهور سنة خمس وثمانين وثمانمائة (مئة) سنة(2) من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام).
ويلي هذا من أول السطر ما نصه:
__________
(1) لم نعرف من هو المتوكل هذا؛ إذ ليس هناك أية إشارة يمكن الاعتماد عليها.
(2) هكذا في الأصل حرصنا أن ننقله كما هو بكل مصطلحاته وأخطائه الإملائية.
(كان ذلك بخط مالكه الفقير إلى اللّه تعالى، علي بن حسن الملقب بالخلوفة، ابن حسن بن محمد بن أحمد بن وهاس..). ثم يستطرد في ذكر نسبه إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم تابع في ذكر النسب إلى أن انتهى إلى (قصي بن كلاب بن مرة). ثم أضاف في تعريفه بنفسه قوله: (الزيدي مذهباً، والسليماني نسباً، والصبياني بلداً..) وفي آخر سطر:
(كان ذلك في مدينة صنعاء المحروسة حرسها اللّه بصالح عباده، بمسجد داود، والحمد لله وحده).
الجزء الثاني:
يبدأ من صفحة (185)، وفي الزاوية اليسرى من أعلى نفس الصفحة بخط الناسخ: (كان الابتداء يوم الجمعة العاشر من شهر صفر سنة 885هـ).
ويبدأ الجزء الثاني من السطر الأول بدون توقف:
(بسم اللّه الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلاة على سيدنا محمد الأمين وآله وصحبه أجمعين، اللهم أعن يا كريم.
الفصل الرابع في بيان الأحداث الناقضة للطهارة، قال الهادي في الأحكام: ينقض الوضوء ما خرج من السبيلين..).
وينتهي الجزء الثاني من هذه النسخة بنهاية الفصل الخامس في بيان صفة المؤذنين، وذلك في الصفحة (345) ثلاثمائة وخمس وأربعين، ولفظ نهاية الجزء:
(وإن أغمي عليه في حال الأذان بنى على أذانه وأتمه غيره..)، وبعد هذه النهاية مباشرة على لسان الناسخ: (قال الإمام المؤيد بالله أمير المؤمنين يحيى بن حمزة (أيده الله): وقد نجز غرضنا من باب الأذان، وبتمامه يتم الكلام في الجزء الثاني من كتاب الانتصار، ويتلوه في السفر الثالث، باب استقبال القبلة. وكان الفراغ من جمعه وتأليفه في حصن هران، في العشر الثالثة من شهر رجب الأصب من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة).
وتلا هذا بخط الناسخ:
(وكان الفراغ من رقمه يوم الخميس عند قائم الظهيرة يوم الرابع والعشرين من شهر جمادى الأخرى سنة خمس وثمانين وثمانمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم. بخط مالكه...إلخ).
الجزء الثالث:
يبدأ من الصفحة (347).. من أول السطر مباشرة بقوله:
(بسم اللّه الرحمن الرحيم، والحمد لله وحده وصلاته على محمد وآله. الباب الثالث استقبال القبلة، قال الإمامان القسم (القاسم)- والهادي (عليهما السلام) يجب على كل مصلٍ أن يستقبل الكعبة..).
وينتهي الجزء الثالث من هذه النسخة، بنهاية الفصل الثالث في بيان موقف الإمام والمأموم... في الصفحة (487) بقوله:
(فقد وضح لك فيما ذكرناه أنهم لم يصنعوا شيئاً في إطلاق الإكفار بهذه المسائل، وأنهم ليسوا من التحقيق في ورد ولا صدر، وقد نجز غرضنا من بيان موقف الإمام من المأموم، ونشرع الآن في حكم الاقتداء ونختم به الكلام في صلاة الجماعة).
وعند نهاية الجملة الأخيرة بخط مكبر ما لفظه:
(تم الجزء الرابع من كتاب الانتصار على علماء الأمصار).
وعن يمينه بخط صغير أشبه بهامش لا يظهر أنه بخط الناسخ، ما نصه:
(تم الجزء الثالث..صح صح) وبعده بخط الناسخ:
(كان الفراغ من رقم هذا الجزء المبارك إن شاء اللّه تعالى، يوم الثلاثاء عند قائم الظهيرة، الثامن عشر من شهر رمضان المعظم المبارك، أحد شهور سنة خمس وثمانين وثمانمائة (مئة) سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. بخط مالكه...) ثم يضع الناسخ اسمه ونسبه إلى (المعافا).
4- تعقيب على هذه النسخة:
نوضح هنا بعضاً من نقط التعقيب التي لا مناص منها لتوثيق هذه النسخة من كتاب (الانتصار)، وتحديد محتواها، والإبانة عن بعض مواطن الغموض التي قد تكون موضع تساؤل المطلع والباحث بصفة خاصة. ونلخصها في إشارات أربع:
الأولى: أجزاء النسخة:
هذه النسخة كما سلف تضم أجزاء ثلاثة من كتاب (الانتصار) تقع كلها في مجلد واحد بقلم الناسخ علي بن حسن وهاس. وقد رمزنا لها بحرف (و)، الحرف الأول من (وهاس).
وكما يلاحظ المطلع، فإن فيها ما يثير التساؤل في صحة نهايات وبدايات الأجزاء الثلاثة، ونشير إليها في الآتي:
1- في نهاية الجزء الأول، لم يشر المؤلف إلى أن انتهاء الفصل الثالث من باب الوضوء، هو نهاية الجزء الأول. وإنما جاء ذلك بخط الناسخ في قوله: (تم الجزء الأول من كتاب الانتصار).
ولم توجد في بداية الجزء الثاني أيضاً إشارة من المؤلف إلى أن ذلك هو بداية الجزء الثاني. ولم يشر الناسخ أيضاً إلى بداية الجزء الثاني، وإنما اكتفى كما يبدو بما كتبه في الزاوية اليسرى من أعلى الصفحة الأولى من الجزء الثاني بقوله: (كان الابتداء يوم الجمعة..).
من هنا فإن الذي يمكن الاعتماد عليه في توثيق بداية الجزء الثاني في هذه النسخة الثلاثية، أمور ثلاثة:
أولها: نهاية الجزء الأول في الصفحة السالفة لبداية الثاني بما جاء في كلام الناسخ.
ثانيها: ترابط موضوع وفصول الكتاب، بحيث انتهى الجزء الأول بنهاية الفصل الثالث من باب الوضوء، ويبدأ الجزء الثاني بالفصل الرابع، وهذه النهاية والبداية، موثقتان بخط المؤلف في نهاية الأول، بقوله: (وقد نجز غرضنا من بيان الفصول الثلاثة التي اشتمل عليها باب الوضوء..) ثم (.. ونندفع الآن في شرح النواقض..). ويبدأ الجزء الثاني بنواقض الوضوء.
ثالثها: هناك احتمال كبير، أن ما جاء بعد نهاية الجزء الأول هو من كلام المؤلف لا الناسخ، وذلك قوله: (تم الجزء الأول...إلخ) رغم أن الناسخ لم يؤكد ذلك كما أكده في نهاية الجزء الثاني بقوله: (قال الإمام)...إلخ. إذ أن هذا الاحتمال قائم رغم عدم وجود ما يفيد التأكيد من نسبة هذه العبارة إلى المؤلف أو إلى الناسخ، هذا من ناحية، ومن أخرى فإن هذه العبارة: (تم الجزء الأول... إلخ) واردة بنصها في النسخة الثانية التي سيأتي الكلام عنها وهي في الغالب قد ترجح نسبتها إلى لفظ المؤلف، ولكنها لا تعطي الدليل الكافي، وخصوصاً إذا كانت النسخة الثانية نقلاً عن الأولى كما نحتمل هذا إلى درجة الظن الغالب، وسنشير إلى هذه النقطة عند الحديث عن النسخة الثانية، وعلى فرضنا لعدم وجود أدلة أخرى، فإن في هذه الأمور أو الأمارات الثلاث ما يوثق بداية الجزء الثاني.
2- في نهاية الجزء الثاني، توجد عبارة: (تم الجزء الثالث من الانتصار ويتلوه الجزء الرابع، باب استقبال القبلة). وذلك بعد توثيق نهاية الجزء الثاني. ويليه الثالث، وأوله (باب استقبال القبلة) بلسان المؤلف، ونقلاً للفظه. وهذه العبارة لا يعول عليها لأسباب ثلاثة:
أولاً: لأنها تتناقض مع ترتيب الكتاب موضوعات وفصولاً.
وثانياً: أن نهاية الجزء الثاني، وبداية الثالث مؤكدة في نفس المكان نقلاً عن المؤلف وبلسانه ولفظه.
وثالثاً: أن العبارة مكتوبة بخط صغير هامشي، ولا يظهر أنها بخط الناسخ.
3- وقد تكرر الخطأ في نهاية الجزء الثالث، ولكنه هنا بخط الناسخ؛ حيث أثبت أنه انتهى الجزء (الرابع)، وهو الثالث، وهذه وإن كانت أكثر قوة من سابقتها، كون هذه بخط الناسخ، وبحروف مكبرة، إلا أنه يسهل الحكم بخطئها أيضاً. وتعليل ذلك يظهر في الآتي:
أولاً: للأسباب التي تدحض سابقتها.
وثانياً: أن تحتها عبارة تصححها، ولفظها كما سبق (تم الجزء الثالث، صح صح).
وثالثاً: أن النسخة الثانية، وقعت في نفس الخطأ الحرفي أيضاً، ثم عاد ناسخها فشطب كلمة (الرابع) وترك ما كان كتبه من انتهاء الجزء الثاني، ويتلوه الثالث، مثبتاً كما هو.
4- أن هذه النسخة هي مجموع هذه الأجزاء الثلاثة الأُول من كتاب (الانتصار) ولا يوجد فيما بين أيدينا مما أتيح لنا الاطلاع عليه حتى الآن، سواء من النسخ أو البيانات عن نسخ لماَّ نحصل عليها بعد .. بقية أجزاء الكتاب الخمسة عشر بخط هذا الناسخ، كما سنوضح هذا الجانب فيما بعد.
5- النسخة الأم.. نقصد بها النسخة التي نُقِلَت عنها هذه النسخة، فقد جاء في نهايتها ما لفظه:
(الحمد لله، نسخت من نسخة من الانتصار بخط حي(1) القاضي العلامة الورع شرف الدين حسن بن محمد بن حسن النحوي رحمه اللّه تعالى وعلى تلك النسخة تصحيح حي السيد العلامة المحدث فخر الدين(2) عبدالله بن الهادي بن الإمام يحيى بن حمزة.. رحمهم الله). وعقب يقول فيها: (انتهت مقابلة ومعارضة وتصحيحاً على (أمها الصورة الأصل) حسب الطاقة والإمكان).
الثانية: هوامشها:
__________
(1) هذا الكلمة (حَيّ) بفتح الحاء وتضعيف الياء، من مصطلحات اليمنيين في التعبير عن المتوفى ـ وذلك بإضافتها إلى اسمه. كما هي هنا.
(2) من مصطلحات الألقاب في اليمن، وتطلق (فخر الدين) على من اسمه عبدالله، ومثلها جمال الدين لعلي، وعماد الدين ليحيى...إلخ.
في الملحوظة الثانية هذه، من الملحوظات على المخطوطة الأولى من كتاب (الانتصار) ضمن هذا التعقيب.. نرى الابتداء بتعريج جدير بالتسجيل، وهو أن ما يكاد يكون عادة متبعة وسنة ثابتة وسمة شائعة في المخطوطات اليمنية، هو وجود التعليقات والإضافات على هوامش كل مخطوطة. بل وعلى كثير من المخطوطات بعد طباعتها ونشرها، ولا نعني بهذه الهوامش التي تطبع مع المخطوطة فهي مفروغ منها، ولكن إضافة هوامش جديدة تُخَطُّ على جوانب صفحات الكتاب المطبوع من كتب التراث الفقهي بصفة خاصة. كما نجد مثلاً في (شرح الأزهار)(1) و (البحر الزخار) (2) وغيرهما.
ومن هنا.. يمكن أن نصنف هوامش المخطوطات بصورة عامة، في أصناف أو أنواع ثلاثة من حيث علاقتها بأصحابها بحسب ما لاحظناه:
الأول: ما يضيفه المؤلف نفسه إلى كتابه بعد أن ينتهي من تأليفه. وهذا النوع لا يكاد يخرج عن موضوع الكتاب وآرائه وغايته؛ إذ يقتصر على استدراكٍ أو توضيح موضوعي أو لفظي، أو رفع إبهامٍ محتمل، أو إيهام غير وارد، أو تنبيه إلى مواضع سابقة أو تالية، أو ما يرادف أياًّ منها ويجري في اتجاهه.
الثاني: ما يضيفه الفقيه المطلع أو الشيخ المدرس أو الدارس المدقق للكتاب أو مجموع هؤلاء وغيرهم من الفقهاء والدارسين، سواء في عصر المؤلف أو بعده، وسواء أكان ذلك بإيعاز أو إذن من المؤلف أم لم يكن بهما ولا بأيهما، وسواء اتفق مع رأي المؤلف أم اختلف معه، وهذا النوع يشمل كل أنواع وأصناف الهوامش وموضوعاتها وغاياتها.
__________
(1) للعلامة ابن مفتاح على متن الأزهار للإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى. مطبوع في أربعة مجلدات.
(2) للإمام أحمد بن يحيى سالف الذكر. مطبوع في ستة مجلدات.
الثالث: شرح وتفسير وتأصيل الكتاب في أحد اتجاهين عامين: في اتجاه رأي المؤلف توضيحاً وتعليلاً وإثباتاً. أو في الاتجاه المخالف بطرح المآخذ، وتتبع الثغرات والهفوات للمؤلف، كشفاً ونقداً وتحليلاً واعتراضاً. وغالباً ما يكون الأول من تلامذة أو مدرسة المؤلف، ويكون الآخر من جماعة الرأي أو المدرسة المقابلة المختلفة مع أبرز مذاهب المؤلف ومدرسته.
وفي هذه الحال فإن أياًّ من الحاشيتين (الهامشين) أو كلتيهما، غالباً ما تتحول إلى كتاب مستقل يرتبط عنواناً وموضوعاً، بعنوان وموضوع الكتاب المشروح أو المنقود. و (الحواشي) في كتب التراث العربي الإسلامي، أعرف من أن تُعَرَّف وأكثر من أن تُحَدّ، واشتهرت الحواشي أكثر في النحو وعلوم اللغة العربية والتفسير. فنجد مثلاً (حاشية المفتي)، (حاشية السيوطي)، و(حاشية أحمد)، وغيرها مما تعرف بحاشية (فلان على كتاب كذا) أكثر مما تعرف بعنوانها الذي وضعه مؤلفها، ولا تكاد تُعرف هوامش المخطوطات بغير الحواشي.
وأنبه هنا.. إلى أن الحواشي أو هوامش المخطوطات في اليمن، وحتى الآن لا تتوقف عند حد أو أحد. عند حد موضوعي أو زمني أو أحد من العلماء والفقهاء.. بل تستمر حتى بعد أن يُطبع الكتاب كما سبق إشارة وتمثيلاً، وذلك عادة وأسلوب واهتمام قائم على أسس نظرية ثابتة، لعل من أهم ما يجب ذكره منها هنا، ثلاثة أسس:
1- أن وضع الحواشي من اختصاص العلماء والمجتهدين بالذات، وليس لأي ملاحظ أو ذي رأي أن يخط على هامش الكتاب. ولذا فإن معظم -إن لم أقل كل الحواشي- تنسب إلى أصحابها وكتبها، وذلك أيضا، لأغراض علمية لا يستهان بها لديهم.
منها: توثيق الحاشية بإسنادها إلى صاحبها حتى تتحقق الثقة بها وباعتمادها، أو تفنيدها ضمن آرائه الموثقة، وتمييزها عن رأي المؤلف، وإدراجها ضمن مجموعة الآراء والاعتراضات والمآخذ على المؤلف التي تستخدم مجتمعة بصيغتها، مثل: (وخالفه فلان) في حاشيته، (أو تعليقه) على المسألة. بقوله: (...)، ويتم نسخ الحواشي مع الأصل عند نسخ الكتاب، كما ينقلها ويتناقلها الفقهاء والتلاميذ وغيرهم، في ما لديهم من نسخ الكتاب.
2- أن الحواشي لديهم جزء لا ينفصل عن الكتاب. فهم يراعونها في القراءة، والتدريس والنُّسَخ، خلا أنهم يؤخرونها في النسخ إلى ما بعد الانتهاء من الأصل. ويعتبرون النَّسْخ المجردة من الحواشي خصوصا فيما له حواشٍ كثيرة، نسخة ناقصة، فيقال مثلاً: اقرأ نسخة كذا فهي أكمل لأنها (محوشاة).
3- كما اصطلحوا على توثيق الحاشية بنسبتها في آخرها إلى صاحبها أو كتابها، مهما ظهرت صغيرة أو بسيطة، وذلك بأن يضاف في نهايتها رمز انتهائها، واسم مصدرها رمزاً أو تلخيصاً. مثل: (أهـ انتصار) بمعنى انتهى مأخوذاً من كتاب الانتصار. وقد تضاف إحدى كلمتي (ملخصاً) أو (بلفظه). أو ما يرادفهما، مثل (مختصراً) أو (بنصه). وهذا في آخر الحاشية. و (ملخص) أو (مختصر ما جاء في كذا) أو (ما أورده أو أفاده، أو ذكره...إلخ).
إلى جانب اعتماد البعض وضع عنوان للحاشية من العناوين العامة المتداولة. مثل (حاشية، نكتة، تعليق، فائدة، تنبيه).
حواشي المخطوطة:
أعود إلى هوامش النسخة الأولى المخطوطة من كتاب (الانتصار). وقد رأينا البدء بالتنبيه إلى الهوامش في المخطوطات اليمنية بصفة عامة، تناولة جديرة بإدراجها في هذا المكان، وذلك لإيضاح بعضٍ من أصول وصور الهوامش هذه، حتى يظهر الحديث عن حواشي أو هوامش المخطوطة الأولى مكتملاً وموثقاً ومؤصلاً بالقدر المتناسب مع موضع التناولة هذه وموضوع فقرتها.
وهنا.. يلاحظ المطلع أن هذه النسخة التي رمزنا لها بحرف (و) كما سبق إثبات هذا.. قليلة الهوامش، خصوصاً في الجزء الأول، وقد يَعِنُّ تساؤلان عن سبب قلة هوامشها:
- هل السبب آت من أن الناسخ لم يستكمل استقصاء ونسخ الهوامش كاملة كما جاء في الأصل؟
- أم أنها حالة تعود إلى الكتاب في أجزائه الثلاثة هذه التي تضمها النسخة؟ ونحن نرجح الاحتمال الذي تضمنه التساؤل الأخير، ودافع هذا الترجيح يتمثل في الاستدلال عليه من نواحٍ ثلاث:
الأولى: أن الذي أفدناه من قراءة واستقراء هذه النسخة الثلاثية الأجزاء، هو انطباع عن طابع عام لها، يؤكد حصافة الناسخ، ودقته في النسخ، وسنتحدث عنه في نهاية الحديث عن هذه النسخة، مما يؤكد أنه لم يدع شيئاً من الهوامش الموجودة في الأصل التي نقل عنها.
الثانية: أن النسخة التي تمت عليها مقابلة هذه النسخة بما احتوته في أجزائها الثلاثة، لا يكاد يوجد فيها شيء يتجاوز الندرة والنزر اليسير؛ إذ لم يستكمل ناسخها كتابة الهوامش، أو بتعبير أقرب إلى حالها، لم يبدأ الناسخ في نسخ الهوامش.
الثالثة: اتساع الكتاب (الانتصار) وقدرة مؤلفه على استيعاب كل الآراء والتخريجات والأقوال، كما سيأتي الحديث عنه بإذن اللّه.. لم يدع كبير مجال للهوامش. فهذه النواحي الثلاث لتأكيد استكمال الحواشي في هذه النسخة، قد تكون كافية لترجيح ذلك الاحتمال. وهي نواح تتعلق الأولى بحصافة الناسخ، والثانية باستقراء التحقيق، والثالثة باستيعاب المؤلف.
ونتناول حواشي هذه النسخة من جوانب ثلاثة شاملة للحديث عنها. وهي: الأنواع، والموضوعات، والغايات.
الأول: أنواع حواشي النسخة:
وتنحصر في ثلاثة أنواع:
1- إبراز عناوين الأصل في الهامش. والغرض من هذا تقريب البحث والتفتيش عن أبواب وفصول ومسائل الكتاب لرجوع القارئ إليه، وهي طريقة أو أسلوب متبع في المخطوطات، يحل محل الفهرسة للموضوعات، وإن كان لا يؤدي الغرض بنفس مستواها. ومن أمثلة ذلك في هذه النسخة:
(الباب الأول في المياه) ص28 (مسألة: إذا وقعت نجاسة في بئر نظرت) ص92.
(الفرع الثامن: المرأة إذا تمت ولادتها بوضع جميع ما في بطنها، وفيه ضروب خمسة) ص290.
وهذا النوع ليس شاملاً كل العناوين الواردة في المتن (القلب) هذا من ناحية، ومن أخرى فإن الناسخ لم يثبتها في كل النسخة، بل اقتصر على الجزء الأول، وحوالي مائة صفحة من الجزء الثاني. ولم يتجاوز في فهرس الحواشي هذه صفحة (290) من المخطوطة.
وبمناسبة كلمة المتن (القلب) التي أوردتها آنفاً، نشير إلى أنها مصطلح في قاموس المخطوطات المتداول، تعني قلب الصفحة، أو أصل الكتاب. ويقابل المتن.. الحاشية.
2- تصحيح وتدارك ما سقط سهواً من الناسخ، من كلمات أو جمل من الأصل وله رموز تحل محل الأرقام المشتركة بين الأصل والهامش في الطريقة الحديثة، وهي رموز عامة، سواء من حيث استخدامها في المخطوطات عموماً أو من حيث استخدامها لتصحيح النقص أو للهوامش الإضافية، ويستخدم ناسخ المخطوطة هذه في الأكثر رمزين يتناوبان في الهوامش: أحدهما على شكل حرف الحاء المربوطة في أول الكلمة (حـ)، إلا أنه يبالغ في مد خطها الأفقي. وهذا الرمز أكثر استخداماً لدى الناسخ هنا. والثاني متعامدان.. ولكنه لا يستخدم أحدهما في كل الهوامش، ولم يستخدم أياً منهما في إبراز العناوين، وهذا النوع من الهوامش وهو التصحيح لما سقط من الأصل، لا يدخل ضمن اسم الحواشي بمعناه الذي يتبادر إلى الذهن والفهم عند ذكر الكلمة؛ إذ أن معنى الحواشي مقصور على الإضافات.
3- الحواشي بمعناها المقصود الذي يعني الإضافات بمختلف موضوعاتها، وغاياتها.
الثاني: موضوعات الهوامش:
وموضوعاتها التفصيلية أكثر من أن تُحَدَّ كما هو معروف. ولكنا نقصد بهذا موضوعاتها من حيث متعلقاتها العامة. وعلى هذا فبالإمكان تحديدها في المفيد لتحقيق الغرض من إعطاء جانب الصورة الذي يلي الموضوعات من جوانب الصورة العامة للهوامش، ومن هنا، فإن الغرض سيتحقق من تصنيفها إلى ثلاثة أصناف من الموضوعات:
1- ما يتعلق باللغة.. أي بتفسير مادة أو مفردة،ٍ دلالة واشتقاقاً وتركيباً وشكلاً. فيقول مثلاً: في الدلالة (السبرة، الغداة الباردة، وجمعها سبرات) ص366. وفي الاشتقاق: (قال ابن الأثير: الأصل في التثويب، أن يجيء الرجل مستصرخاً فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر، فسُمي الدعاء تثويباً، وكل داعٍ مثوب. وقيل: إنما سمي الدعاء تثويباً من ثاب يثوب إذا رجع) ص 335. وفي الشكل: (ملحق، بكسر الحاء على المشهور، ويقال بفتحها، ذكره ابن قتيبة) ص 414. وفي التركيب أن يوضح أحرف الكلمة تمييزاً للمعجم عن المهمل... إلخ.
2- ما يتعلق بشكل الأسماء والأعلام. بتوضيح الطريقة الصحيحة، أو الطرق المختلفة لنطقها. وتركيبها، ومثل ذلك: (قلت: المقدس، كذا ضبطه الجوهري، وضبطه ابن بري المَقْدِس) ص347. وقد ضبط الشكل في الحاشية لكلمة (المقدس) في ذكر بيت المقدس، بحيث تنطق في الأولى بضم الميم، وفتح القاف، وتشديد (تضعيف) الدال المهملة مفتوحة. وفي الثانية بفتح الميم، وسكون القاف، وكسر الدال.
3- ما يتعلق بالمعاني المختلفة الأخرى.
الثالث: غايات الهوامش. وهي كثيرة، ولكن أبرز نماذجها قد لا يتجاوز غايات خمساً هي:
1- التوضيح لما جاء مبهماً في الأصل (القلب) مثل ما جاء في الأصل: (لما روي عن الرسول ً أنه جاءه رجلان أخوان أحدهما أكبر من الآخر..) ص461. فجاء الهامش وفيه: (وهما حويصة ومحيصة ابنا مسعود بن كعب، خزرجيان أنصاريان.. ذكره في الاستيعاب).
2- الاستدراك لما اشتهر أو ورد على غير وجهه الصحيح. مثل ما نقل بعض أصحاب الإمام الشافعي عنه من تفسيره لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ واْنحَرْ} بأن المراد به وضع اليد على اليد تحت النحر في الصلاة، وهو ما نقله المؤلف، فجاء في الهامش: (قال صاحب (الفصيح) لثعلب: عهدة هذا التفسير على قائله، وأنكره على الشافعي جداً وزيفه) ص397.
3- التتمة لرأي أو قول أو نص.. مثل (قال في التحرير: إلا أن يتعمدهما) ص441. تتمة للرأي الوارد في الأصل بأن السعال والعطاس لا يفسدان الصلاة.
4- التصحيح لسهو وقع فيه المؤلف أو الناقل للرأي أو الراوي للحديث أو الحدث. وذلك مثل ما ورد في الأصل حول عدم كراهة الصلاة خلف العبيد والموالي. محتجاً بأدلة، منها أن عمر بن الخطاب جعل الخلافة شورى في ستة منهم سالم مولى أبي حذيفة. وجاء الهامش مصححاً بقوله: (المعروف أن عمر رضي اللّه عنه قال: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته..) ص462. ليؤكد أن سالماً لم يكن ضمن الستة.
5- التعقيب على قول أو رأي لزيادة معناه إيضاحاً، ويدخل ضمن التنبيه والاعتراض. وهي غايات متداخلة ومتقاربة، وفي هذه النماذج إشارة كافية.
الثالثة: خطها:
والمقصود بكلمة (خَطِّها) هنا، المصدر من الفعل (خَطَّ) مضافاً إلى مفعوله، والغرض من العنوان، هو محاولة رسم صورة لشكل النسخة هذه من خلال الملامح البارزة لها، وتتركز هذه الفقرة في شقين هما: طريقة الناسخ، والشكل الخارجي للنسخة.
الشق الأول: طريقة الناسخ:
وهي في معظم إن لم نقل في كل ملامحها، طريقة ليست خاصة به، بل تشمل في مجموعها كل المخطوطات التراثية اليمنية. والفوارق تظل نسبية فيما بينها، بالقدر الذي يمكن به تمييز كل مخطوطة وناسخ عن مخطوطة أخرى وناسخ آخر. ولذا نحرص على أن نركز على إبراز هذا القدر المميز بصفة خاصة وفي الملامح الآتية لهذا الشق وبدون كثير اهتمام بترتيب شيء منها:
1- نوع الخط. لا يكاد يخرج كثيراً عن النوع المسمى (بالنسخ) وهو أشهر وأكثر أنواع الخط في المخطوطات اليمنية، والفوارق في نوعه هنا لا تتعدى الطابع العام له في تلك المخطوطات والطابع الخاص الذي يميز ناسخاً عن آخر.
2- حجم الحرف. يمكن أن يحدد بطريقة تقريبية، بأنه يتراوح بين مقاسي (12 - 14) في مقاس الطباعة القديمة، وهو مقاس المتن العام في النسخة، ويكبر الحروف في ثلاثة أحجام تقريباً، وذلك في العناوين الكبيرة والمتوسطة والصغيرة لموضوعات الكتاب. مثل: الباب والفصل والمسألة والفرع، والمذهب والقول... إلخ. ويستخدم الحبر الأحمر في معظم هذه العناوين، والأسود فيما عداها من المتن عموماً.
3- حجم الصفحة، وقد سبقت الإشارة إلى أن المعدل العام للصفحة الواحدة أربعون سطراً، سعة السطر خمس وعشرون كلمة، أي بمعدل ألف كلمة في الصفحة، ومقاس الصفحة (28 × 20) لكامل الصفحة، تشغل الأسطر منها (23 × 16 سم)، والبقية للهوامش. مع الأخذ في الاعتبار لأمرين:
أولهما: أن النسخة قد تآكلت من أطرافها؛ إذ يزيد عمرها عن خمسمائة سنة (885-1412هـ).
وثانيهما: أن الناسخ لا يتوقف في أثناء السطر عند انتهاء فقرة وبداية عنوان موضوع آخر، ولا يدع سطراً واحداً من الفراغ، بل يواصل الأسطر متتالية من بداية النسخة إلى آخرها، فيما عدا نهايات أجزائها الثلاثة. ويحسن التنبيه إلى ملاحظتين تتعلقان بالصفحات:
أولاهما: عدم وجود الترقيم للصفحات، وقد تم ترقيم النسخة هذه عند تصويرها، وهي الأرقام التي نشير إليها عند تسجيل موضع النص.
ثانيتهما: الاستغناء عن الأرقام بكتابة الكلمة الأولى من الصفحة في نهاية الهامش الأسفل من الصفحة السابقة لها، وهو ما يسمى في مصطلح المخطوطات بـ(القيد) بمعنى ربط الصفحات بحسب تتاليها، بحيث يعول على هذا التقييد في ترتيب الصفحات.
وكلتا الملاحظتين داخلة ضمن طريقة القدماء في نسخهم للكتب. والاستغناء بالقيد عن الترقيم، يماثل الاستغناء بإبراز العناوين أو بعضها على الهامش، عن الفهارس في المخطوطات. وهذا ينطبق أيضاً على هذه النسخة كما أسلفت، إضافة إلى عدم وجود أية ملاحق أخرى فيها مما يرتبط بموضوع ومتن الكتاب.
4- الفواصل، والنقط. حظ هذين الملمحين في هذه النسخة، حظ عاثر وغائر، فالفواصل غير موجودة إطلاقاً، لدرجة أنه يكتب العنوان بخط بارز مكبر، مثل: الباب، الفصل، المختار، الانتصار، ...إلخ، بعد الكلمة الأخيرة من المبحث السالف، دون نقطة أو فاصلة بينهما. إلا أنه يضع أحياناً في نهاية المبحث علامة الانتهاء الشائعة في بعض المخطوطات، وهي حرف (هـ) أو ما يشبهها. وهي رمز مختصر لكلمة(انتهى) كما سبق المرور بها. وهذه حالة نادرة لا تقوم عليها قاعدة بالنسبة لهذه النسخة. ومعروف أن الفواصل جاءت في عصور متأخرة، وأنها منعدمة في المخطوطات التراثية بأشكالها وصفاتها ووظائفها الموجودة الآن. ولكن كثيراً من المخطوطات يُستخدم فيها بعض العلامات الفاصلة بين العناوين الرئيسية والفرعية على الأقل. كما سبق الحديث عنها.
وفيما يخص النَّقْطَ، أو العَجْمَ للحروف (المستعمل للتمييز بين المعجم والمهمل منها) فإن حظها أسوأ من سابقتها، ليس لانعدامها فهي موجودة في هذه النسخة، ولكن لقلتها إلى حدود الندرة، نظراً للحاجة إليها أكثر من نقط وفواصل الجمل؛ كون الأبجدية كما هو معروف ثمانية وعشرين حرفاً، منها اثنان وعشرون حرفاً لا تتميز عن الاشتباه بين معجمها ومهملها إلا بالنقط. (وما يتميز بدون ذلك منها، ستة فقط؛ هي: الألف مطلقاً ومهموزاً، والكاف واللام والميم والواو والهاء) وهذا ما يجعل اشتباه القارئ وتشابه الحروف يتكرر في كل كلمة أو كلمتين أو ثلاث على الأكثر. وهي مشكلة تواجه المحقق أيضاً لا يتجاوزها إلا بالإلمام النسبي بالموضوع أولاً، وبمعرفة الكلمة من سياق المعنى ثانياً، وبالفهم لمصطلحات وأساليب المؤلفين القدماء من جهة، والمؤلف لهذا الكتاب من جهة ثانية ثالثاً، وبالدربة على طريقة الناسخ في رسم الحروف رابعاً.
ولا نقصد بهذا أن نصور النسخة، وكأنَّ قراءتها ضرب من فَكِّ الألغاز وحل (الشيفرات)، لا.. ليس هذا المقصود، فالخط واضح وبإمكان أي قارئ قراءته، ولكن المقصود هو توضيح شكل النسخة في هذا الجانب بحيث تصعب قراءتها بفهم الكلمات كما وضعها المؤلف لمن لم يتوسل إليها بالوسائل الأربع الآنفة الذكر، ولو في أدنى حالاتها؛ إذ أن النسبة المحذوفة من نقط الحروف في هذه النسخة يصل معدلها إلى أكثر من النصف، وهو معدل يحتمل الزيادة لا النقصان.
وتجدر الإضافة هنا، لملامح مصطلح عليها في عَجْم الحروف في المخطوطات والوثائق التراثية في اليمن. وتكاد تنحصر كما أعرف حتى الآن في نوعين:
أولهما: عجم أو نقط حروف مهملة وغير معجمة في مصطلح الأبجدية الشائع اليوم في كل الأقطار العربية، وهما حرفان: الدال والطاء المهملان. بحيث يُعجم كلاهما بنقطة من تحت تقابل عجم نظيره (الذال والظاء) في النقطة، وتخالفه في الموقع.
وثانيهما: علامة بعض الحروف المهملة، والعلامة المصطلح عليها، تشبه رقم سبعة. عدا أنها تكون صغيرة تشبته أحياناً بالنقط الثلاث، وتوضع على بقية الحروف المهملة مما له منها نظير في المعجم. وهي حروف خمسة: (الحاء والراء والسين والصاد والعين). وكلا النوعين يستخدمه ناسخ المخطوطة، ولكن بصفة نادرة جداً.
وهذان النوعان من شكل الحروف، أذكر أنا تعلمناهما في الكُتَّاب أو (المعلامة) باللهجة اليمنية. وكانا شائعين في كتاتيب الأرياف اليمنية خصوصاً. حيث لا توجد كتب مدرسية. ولكن لا نعرف مدى إيغالهما في الماضي، ومدى علاقتهما بالأبجدية في غير اليمن، إلا أننا نعرف أنهما ليسا من المصطلح الموثق في الأبجدية العربية في شيء. وفي هذه المخطوطات أيضاً، يُهمل هذان النوعان عند إيضاح أي منها لشكل وتركيب أية مفردات من الغريب أو المتشابه، فيقال في المخطوطات، ومنها هذه النسخة، مثلاً في كلمة (عطر): بعين مكسورة مهملة، وطاء ساكنة مهملة فراء مهملة...إلخ.
وقد يكون مستغرباً إهمال العجم، أو بتعبير أكثر دقة، التساهل في عجم الحروف من قبل نُساخ المخطوطات اليمنية؛ إذ لا يحمل مثل هذا على غير التساهل والإهمال. فإذا كانت الفواصل والنقط فيما بين الجمل والتعابير والفقرات وضعت في فترة متأخرة، فإن نقط أو عجم الحروف يعود ربما إلى القرن الهجري الأول(1). وهذا التساهل يسبب كثيراً من التصحيف والخلط والخطأ والتشويش والقلب والتحريف للمفردات شكلاً ومعنى، مما يقع فيها القارئ العادي على الأقل، ولا يسلم منها الفقيه المطلع المتمرس.
5- الإملاء:
نستطيع حصر الملاحظات على الإملاء في هذه النسخة الثلاثية في أنواع خمسة:
__________
(1) راجع كتاب تأريخ آداب العرب للرافعي ج1/100 وما بعدها.
أولها: في قصر الممدود ومد المقصور وحذف الهمزة. أي ثلاثة ملامح لهذه الناحية من الإملاء، وهي في بعض الألفاظ طاغية على النسخة بحيث تشكل شبه ثابتة يلتزمها الناسخ التزامه للقاعدة، إلا أنها في الملمحين الأولين أقل منها في الثالث، وهو التزام في كلمات محددة تقريباً، وليس عاماً.
فالمثال على الملمح الأول: (صلاة الاستسقى) و (الأسمى الحسنى) ص422.
والمثال على النوع الثاني: (ولا غنا) عنها (الأعلا).
والمثال على الثالث: (أمنا، وضمنا) بمعنى أمناء وضمناء. والأخير شائع في هذه النسخة في معظم مواقع الهمزة بدون استثناء لشيء من الكلمات، على عكس الأولين حيث يختصان ببعض الكلمات، بينما في غيرها يلتزم مد الممدود، وقصر المقصور في الغالب.
ثانيها: في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر، وهو ملمح يميز أسلوب الناسخ في هذه النسخة، وإن كان نادراً، وفي كلمات تكاد تكون محصورة.
مثال الأول: أحدهما (للمؤنث) فتجيء مثلاً في (الصلاتين، أو في أحدهما) و (من ناحيتين أحدهما) أو (أحدها) بدلاً من إحداهما وإحداها. و (تأتي على ثلاثة أحوال، الحالة الأولى..) ص463. وفي الحديث أن رسول (اللّه ً ) (قام حتى اسمعرت قدماه.. أي انتفخا) ص 430 بدل انتفختا.
وفي الأفعال كثير من هذا، ومنه مثلاً في هذه النسخة (وإن صلاها ظهراً أجزأه) (وهل يلزمه الإعادة)؟
ومثال الثاني: المثالان السابقان في صفحتي (463 - 430) وهو أقل من سابقه بكثير.
اعتراضان:
ونتوقف هنا أمام اعتراضين نحتمل طرحهما، وهما لا شك واردان:
أولهما: لماذا لا ننسب هذه المآخذ إلى المؤلف، بدلاً من اعتبارها ملامح من طريقة الناسخ؟ وخصوصاً ما نعرفه في النساخ عموماً من تحري النقل الحرفي لدرجة أنهم ينقلون الخطأ كما ورد في الأصل، ويكتفون بالتنويه عنه في الهامش إن كانوا يعرفونه، أو يتركونه لمن يعرف. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: فإن مثل هذه النسخة التي مر عليها أكثر من خمسة قرون وتداولها وتناقلها وتناسخها لا شك، أكثر من واحد من الفقهاء وأساتذة الفقه. فكيف يمكن أن يجدوا مثل هذه الأخطاء، ثم لا يصلحوها أو يشيروا إليها في الهوامش؟
ثانيهما: ثم إن مثل هذه المآخذ أو الأخطاء التي ورد التمثيل عليها والحديث عنها، هي في معظمها بحسب أمثلتها مما يمكن تأويله بدلاً من اعتباره خطأ، فلماذا لا تعاد إلى التأويل مهما أمكن، وهو وارد وممكن في أكثرها؟
وهنا.. أفضل تأجيل الرد على هذين الاعتراضين حتى نكمل بقية الملامح المأخوذة على نسخ هذه المخطوطة؛ لأن فيها ما يمكن أن يتضمنه الاعتراضان ويشمله الرد.
ثالثها: في شكل ونسق الكلمات، وهو أصناف ثلاثة: لحن وسقط وتكرار، وهو أيضاً قليل ونادر جداً، ولا يكاد يبين.
مثال الأول: (..والمماسة، ولم تعتبر (تواري). وفي هذا دلالة ص211. و (.. فإن لم يبول اغتسل..) ص216، و (..الدم إذا كان أسود ثخين أو كان أحمر رقيق) ص276. (.. وكان أسوداً و أحمراً..) ص277.
وفي الصنفين الأخيرين،سقوط حرف من كلمة أو كلمة من جملة، وتكرير حرف أو كلمة أو جملة، ولا يحتاج إلى التمثيل؛ كونه ناتجاً عن السهو المجرد، وهو أمر يرد في كل مخطوطة ومطبوعة. وخصوصاً ما كان منه نادراً ويسيراً جداً، كما هو الحال في هذه النسخة.
رابعها: في طريقة النسخ، ونقصد بهذا النوع بعض ما هو شبه مصطلح عليه في الإملاء بين النَّساخ القدماء، وهذا ليس خطأ لا في الاصطلاح على قاعدته لديهم ولا في هذه النسخة. وإنما أوردناه هنا بوصفه ملمحاً بارزاً في هذه النسخة كغيرها تقريباً. ويأتي في مثل حذف حرف الألف الثابتة، وإثبات المحذوفة في قواعد الإملاء المتبعة. وتنحصر هذه القاعدة في كلمات قد لا تتجاوز العشر، بصرف النظر عن تكررها في هذه الكلمات كلما وردت إحداها.
ومن الكلمات التي يحذف منها الألف: (قال تعلى) تعالى، (والقسم) و (عثمن) و (سفين) وهي ونظائرها تطرد مع قاعدة (بسم) و(الرحمن) في البسملة و (اسمعيل وإسحق والملئكة) في قاعدة نسخ المصحف.
وفي عدم الحذف مثل كلمات: (هاذان) (وهاؤلاء) (وأولائك) (وذالك) وقد لا تتجاوز هذه الحال أسماء الإشارة.
خامسها: طريقة الناسخ:
و نحن ننسبها إلى الناسخ كطريقة خاصة به، أخذاً بأرجح الاحتمالات الواردة لدي الآن. وهي طريقة حذف (سنة) الياء أو الهمزة عند اجتماعهما في كلمة واحدة. مثل (هية) و (هيات) بمعنى هيئة وهيئات، ولا يمكن الجزم بحذف إحداهما بعينها لعدم وجود الهمزة في خطه إلا نادراً. إلا أن الاحتمال الأرجح هو أن (سنة) الهمزة هي المحذوفة استغناء بالألف عنها في حالة الجمع.
تعقيب على الاعتراضين:
وأعود إلى الرد على الاعتراضين، ونركزه في نواح ثلاث:
الأولى: أن احتمال ورود الملحوظات المشار إليها من قبل الناسخ أو من قبل المؤلف، احتمال أو احتمالان كلاهما وارد؛ ولكن الأول أكثر رجحاناً لدينا حتى الآن على الأقل. ولذا رأينا أن نضعها في موضع الحديث عن الصورة العامة للشكل فما يتعلق بهذه النسخة.
الثانية: أن الأسس التي اعتمدناها في ترجيح الاحتمال الأول، هي أدلة تكاد تتجاوز غلبة الظن لو أن بين غلبة الظن والجزم درجة وسطاً، فضلاً عن قدرتها على مجرد الترجيح.
وهذه الأسس (الأدلة) هي:
أولاً: أن الناسخ لم ينقل عن المؤلف مباشرة إملاء أو إجازة أو نقلاً عن نسخته، أو بأية طريقة من طرق النقل المباشر.. بل أخذ الناسخ عن نسخة، والنسخة عن سالفة ربما. وهكذا.. إذ أن بين تاريخ وفاة المؤلف (749هـ)، وتاريخ الانتهاء من نسخها (885هـ) مائة وستاً وثلاثين سنة، وتتالي النسخ والنساخ عليهما حري بأن تتخللها الأخطاء والأغلاط اللغوية واللفظية والنقص والتحريف والتصحيف في بعض كلماتها وجملها.
ثانياً: أن الناسخ مظنة للوقوع في مثل تلك الأخطاء اللفظية والمعنوية على حد سواء، فاللفظية لا يمكن أو يستبعد المطلع نسبتها إلى المؤلف؛ لأنها جزء من خط الناسخ وأسلوبه وسهوه. والمعنوية كذلك من حيث أن المؤلف من علماء الاجتهاد المشهورين قبل أن يؤلف كتابه هذا، ليس في الفقه فحسب، بل وهو بعلمه ومؤلفاته في علوم اللغة، من مشاهيرها. ثم إن المعروف عن معظم النساخ استعانتهم بمن يملي عليهم من النسخة الأم، تسهيلاً لعمل النسخ وإسراعاً في إنجازه، ولا يشترطون في من يستعينون بهم في الإملاء أكثر من قدرتهم على الإملاء.
ومن هنا فإن الناسخ أقرب إلى احتمال وقوعه في الخطأ.
ثالثاً: أن لو احتملنا وقوع المؤلف في بعض الأخطاء سهواً، فهو لا شك بشر يجوز عليه السهو والخطأ، ولكن يصعب على المطلع العارف أن ينسب بعضاً من الأخطاء المعنوية إلى المؤلف، وخصوصاً من التي لا يمكن تأويلها.
وأكتفي بهذه الأسس، أو الأدلة الثلاثة.
الثالثة: أنه لو أمكن تأويل بعض الأخطاء الواردة، فإنه يصعب وربما يستحيل تأويلها كلها، ولا يجد الباحث الحصيف بُداً من نسبة معظمها إلى الناسخ، وخصوصاً أن كثيراً منها اختصت به هذه النسخة مما وضحته مقارنتها بالنسخة الأخرى التي سنتحدث عنها، وإن كانت بعض الدلائل تشير إلى أن النسخة الثانية قد نسخت عن هذه النسخة التي هي موضوع الحديث. وهنا انتهى الحديث عن الشق الأول من الفقرة الخاصة بخط المخطوطة.
الشق الثاني: شكل النسخة من خارجها:
وقد سبق عرض مقاساتها حروفاً وصفحات وهوامش، وتبقى الإشارة إلى أنها منسوخة على ورق (جِلد) ناعم يساوي مقاس (100 جرام) تقريباً. ولكن لون الورق قد مال إلى الصفرة، وظهرت على أطراف الورق شروخ بحكم التقادم. وتقع بأجزائها الثلاثة في مجلد واحد قديم مغلف بقماش قد انحسر معظمه عن دفتيها من الخارج، وصفات أخرى لا تعدو كثيراً نظائرها من المجلدات المخطوطة القديمة.
الرابعة: مصدرها:
حصلنا على هذه النسخة الثلاثية الأجزاء من مكتبة آل الذاري التي كانت في منزلهم في منطقة الذاري(1) ثم نقلوها إلى صنعاء.
ب - النسخة الثانية (ق):
رمزنا للنسخة الثانية بحرف (ق) لتمييزها عن غيرها بمميز رمزي يسهل ذكره وتكراره. واختيار (ق) جاء من لقب ناسخها (القدمي) بنفس طريقة اختيار الرمز (و) لسابقتها.
أود التنبيه في البداية إلى عدم الحاجة في الحديث عن هذه النسخة والنسخ الأخرى التالية لها، لاستقصاء التفاصيل كما مر في الأولى، حيث سنكتفي في هذه النسخ، بذكر المميزات لكل منها فيما لا بد من ذكره، ونشير في الصفات والأشكال والملحوظات المشتركة بين أي منها وبين النسخة الأولى، إلى ما مر من توصيف وتصنيف لتلك؛ اختصاراً للورق ولزمن وجهد المطلع أو القارئ، وتجنبا للتكرار الذي لا طائل من ورائه، وقد حرصنا على التفاصيل في الحديث عن النسخة الأولى (و) لسببين:
أحدهما: تعريفاً بالنسخة وتوثيقاً لها بوصفها النسخة المختارة أصلا لطباعة الكتاب في أجزائه الثلاثة الأولى التي تحويها هذه النسخه.
والآخر: لتكون شبه نموذج نرجع إليه عند توصيف وتصنيف نظائرها من النسخ الأخرى فيما تشاركها فيه من الصفات.
ونبدأ بتطبيق ذلك النموذج في الحديث عن هذه النسخة الثانية (ق)، الذي نتناولها فيه من خلال نفس النواحي الأربع، وهي الداخلة ضمن التعقيب على النسخة بعد تعريفها أو التعريف بها من جوانب رئيسة ثلاثة، هي: حجمها وأجزاؤها وناسخها. ثم التعقيب جانباً رابعاً، ونبدأ بنموذج الاستقراء هذا من أوله:
أولاً: حجم النسخة (ق):
__________
(1) من أعمال يريم التابعة لمحافظة إب في اليمن وإليها ينتسب آل الذاري.
تقع هذه النسخة في (908) صفحات هي صفحات أجزائها الثلاثة، عدا عشر صفحات في أولها مشغولة ببعض الموضوعات الشعرية والنثرية المختلفة الواقعة قبل بداية الكتاب دون وجود أية علاقة موضوعية أو عضوية لها به. وهذه الصفحات السابقة لبداية الكتاب والتالية لنهايته في نفس المجلد، عادة يتبعها المختصون بتجليد المخطوطات. ويطلق عليها في مصطلحهم: (الحامية)، وهو اشتقاق يوضح الغاية منها، وهي حماية صفحات الكتاب قبل بدايته وبعد نهايته، ولكن صفحات الحامية البيضاء لا تظل بيضاء.. بل يشغلونها، أو معظمها بنتف وقصاصات مختلفة، وهي في الغالب لا تعدو الأنواع الأربعة التالية:
1- تحديد تناقل المجلد عن طريق الملك أو العارية من شخص لآخر، ولها تعابير وصيغ أصبحت شبه ثابتة ومتعارفاً عليها مثل: (هذا المجلد من كتاب .. في نوبة (ملك) الفقير إلى اللّه تعالى.. وذلك بالشراء الصحيح من ...)...إلخ، أو (هذا الكتاب لديَّ عارية من ... يعاد إليه بعد الاستغناء عنه أو عند طلبه). أو (أكملنا بعون اللّه تعالى قراءة هذا الكتاب على يد... وذلك يوم....). ويدخل ضمن هذا النوع إبراز بعض من عناوين محددة لموضوعات في الكتاب، وتحديد صفحاتها، وقد تُسبق بعبارة: (راجع ما قاله المؤلف رحمه اللّه في...).
2- تسجيل تاريخ المواليد وحالات الرضاع المتبادلة بين الأمهات، إضافة إلى توثيق بعض المناسبات الاجتماعية الأخرى! وللشق الأول من هذا النوع أيضاً، تعابير وصيغ شبه ثابتة منها مثلاً: (وجد بمن اللّه وكرمه الولد المبارك) أو (الولد المباركة) للبنت، (المرجو فيه الصلاح والفلاح بإذن الله.. فجر أو صباح أو ظهر ...إلخ يوم... الموافق... جعل اللّه على قدومه الخير، وجعله صالحاً باراً بأبويه .... ورضع من .... زوجة... واللبن له..) إضافة إلى مناسبات الزواج والطلاق، وتاريخ حج وسفر وعودة ووفاة أحد أفراد الأسرة أو أقاربهم أو أكابر الناس...إلخ.
3- طرائف ونكت مختارة من أحاديث وحكم ووصايا شعرية ونثرية مختلفة.
4- وصفات طبية، ورقى مختلفة، بعضها من الطب النبوي، والآخر منسوباً إلى أساطينه من الحكماء (علماء الطب) مثل جالينوس، وابن سينا، والأنطاكي. فتقرأ مثلا( فائدة لضعف الكبد، يؤخذ مقدار ثلاثة دراهم من الفلفل الأسود مع مقدار درهم من الحبة السوداء ثم يدق جميعة دقاً ناعماً، ويخلط بمقدار أربعة أضعافه من العسل المصفى، ثم يستعمل منه ثلاث لعقات في الصباح وفي المساء قبل النوم؛ فإنه يزيل ديدان البطن ويقوي الكبد بإذن اللّه تعالى، وهو مجرب، والله المعافي والشافي).
ولا شك أن هذه الأنواع مما يكتب على حامية المخطوطات لا تكتب في عصر واحد، أو من قبل شخص واحد، بل تعتورها فترات وأشخاص، بصفة مستمرة لا تتوقف، حتى لا يبقى مكان فيها يمكن أن يكتب فيه في كثير من الحالات.
وحجم صفحة هذه النسخة وأسطرها كالآتي:
1- حجم النسخة مجلدة من خارجها (5و30 × 3و21 × 5و5 سم). وهي صورة للنسخة الأصل (فوتو كوبي). ويراعى فيها زيادة على الأصل تقدر بـ 5% تقريباً في كل المقاييس والأبعاد.
2- حجم الصفحة من الداخل (7و29 × 21 سم).
3- حجم الصفحة المكتوب فيها: (22 × 14 سم) والزائد هامش الصفحة.
4- حجم الحرف: حوالي 14 بمقياس حرف الطباعة تقريباً. ما عدا العناوين فهي تقارب أحجام النسخة الأولى وطريقتها في إبراز العناوين وفي عدم ترك فراغات في نهاية أو بداية الباب أو الفصل أو الفرع أو غيرها.
5- تحتوي الصفحة على واحد وثلاثين سطراً بمعدل وسط دقيق لا يكاد الاختلاف يسجل نقصاً أو زيادة تستحق الذكر، بمعدل 18 كلمة للسطر الواحد.
ثانياً: أجزاؤها:
أجزاء هذه النسخة ثلاثة كسابقتها، تبدأ بنفس بداياتها، وينتهي كل منها كتلك. وهي الأجزاء الأول والثاني والثالث من كتاب (الانتصار).
ثالثاً: الناسخ:
نتناول اسم الناسخ لهذه النسخة وتاريخها، من نص ما سجله فيها:
1- في نهاية الجزء الثاني صفحة (628 بحسب ترقيم صفحات الصورة، إذ إن الأصل غير مرقمة الصفحات). جاء بخط الناسخ ما لفظه: (وكان الفراغ من رقمه يوم الجمعة لعله رابع شهر المحرم الحرام في سنة اثنين وخمسين بعد الألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم. برسم السيد الفاضل عماد الدين(1) يحيى بن الحسين بن أمير المؤمنين(2)، وذلك بخط أسير ذنبه ورهين كسبه، الراجي عفو ربه جل وتعالى، محمد بن داود الريعاني نسباً، والزيدي مذهباً..).
2- وفي نهاية الجزء الثالث صفحة (908) إشارة إلى انتهاء الكتاب بانتهاء الجزء الثالث، ثم ما أوردنا لفظه آنفاً، والزيادة هنا هي بعد (برسم.. بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي أعاد اللّه من بركاته على جميع المسلمين آمين). ثم أضاف في هامش جانبي: (كان الفراغ من تحصيل هذا الجزء المبارك الذي هو أربعة أجزاء من كتاب الانتصار في يوم الجمعة عقيب صلاة الظهر، في العشر الأولى من شهر ربيع الأول في سنة اثنين وخمسين بعد الألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم...). هذا سجله الناسخ في هامش جانبي أيمن. وفي هامش جانبي أيسر كتب اسمه مضيفاً (القدمي المعروف بالريعاني) وذلك بعد الاسم (محمد بن داود بن محمد..).
رابعاً: تعقيب على النسخة (ق):
يتضمن هذا التعقيب كسابقه بعض الجوانب التي نرى تسجيلها للتوضيح والتوثيق الخاصين بهذه النسخة، ونلخصها في إشارات أربع:
الأولى: أجزاء النسخة:
وقد سبق المرور بها من حيث عددها، وهي ثلاثة في (908) صفحات.
__________
(1) سبقت الإشارة إلى أن عماد الدين لقب في اليمن يطلق على من اسمه يحيى.
(2) يقصد الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد مؤسس دولة القاسميه في اليمن عام 1006هـ.
1- الجزء الأول يبدأ من الصفحة الأولى الخاصة باسم الكتاب واسم مؤلفه فقط، ويبدأ في الثانية بـ( بسم اللّه الرحمن الرحيم، رب يسر وأعن يا كريم) في السطر الأول كاملاً، ويبدأ الكتاب في السطر الثاني بـ(الحمد لله الحي القيوم..) كسابقتها. وينتهي هذا الجزء في صفحة (324) بنفس ما انتهى به في النسخة الأولى، عدا ما أضافه الناسخ من تسجيل اسمه بدون تاريخ. والفرق في البداية بين النسختين لا يتجاوز جملتي الدعاء بعد البسملة مباشرة، وفي نفس السطر من كل منهما.
2- الجزء الثاني، يبدأ من صفحة (327) وقبلها صفحتان فارغتان. وينتهي في صفحة (628). وبدأ وانتهى بنفس البداية والنهاية الموجودتين في النسخة الأولى. والغريب ربما أن كلتا النسختين يشير ناسخها في نهايتي الجزأين الثاني والثالث إلى انتهائهما، ثم يضيف في نهاية الثاني، أن الذي انتهى هو الثالث، وفي نهاية الثالث إلى أنه الرابع، ثم يشطبه بطريقة لا تخفي شيئاً من حروفه أو يدعه ويصححه في الهامش كما في هذه النسخة. وهذا أثار لدينا شكوكاً حول الجزء الرابع سنتحدث عنها عند الحديث عنه بإذن اللّه تعالى.
3- الجزء الثالث. ويبدأ بنفس بدايته في الأولى من صفحة (630) وينتهي في صفحة(908).
الثانية: هوامشها.
هذه النسخة الثانية ذات الأجزاء الثلاثة الأُوَل، تقل في هوامشها كثيراً عن سابقتها. فبينما لا تكاد تخلو صفحة، أو صفحتان في النسخة الأولى من هامش أو أكثر، وبالأخص في الجزأين الثاني والثالث.. تظهر هذه النسخة نادرة الهوامش قليلتها جداً إلى درحة أن هوامشها قد لا تعادل نسبة 5 - 10% إلى هوامش الأولى. إلا أن هوامش الثانية وإن كانت لا تتعدى أنواع الهوامش الرئيسة التي سبق تحديدها في الحديث عن الهوامش أو الحواشي، إلا أن نصوصها وأماكنها وموضوع كل منها لا تتطابق مع هوامش الأولى، بصرف النظر عن تطابق أو تشابه اليسير منها، مما يؤكد التغاير بينهما في الهوامش، وهو أمر وارد بين نسخ الكتاب الواحد كما سبق تقريره، ونقول هذا رغم أن الغالب في الظن لدينا أن هذه النسخة قد تكون نسخت عن الأولى، وغلبة الظن جاءت من التشابه الكبير بينهما في الأخطاء اللفظية والمعنوية في كثير من الحالات التي قد لا يمكن أن تكون بفعل الصدفة والتشابه التلقائي.
وهذا احتمال وارد وراجح.. وهناك احتمال آخر، وهو أن تكون كلتا النسختين أُخذت عن نسخة ثالثة. ولا يمكننا الجزم بأحد الاحتمالين إلا بإحدى طريقين:
أولاهما: أن يحدد ناسخ الثانية النسخة الأصل التي نقل عنها، وهذا غير موجود فيها. وهنا يسقط الاعتماد على هذه الطريقة.
ثانيتهما: أن نجد نسخاً أخرى أو أجزاء أخرى من النسخة الثانية يحدد أي منها دليلاً قاطعاً أو مقرباً.
وبالطبع.. لا يمكن احتمال العكس في العلاقة بين النسختين، وهو أن الأولى نسخت عن الثانية؛ لأن بينهما في تاريخ النسخ، مائة وسبعاً وستين سنة تسبق بها الأولى كما أسلفنا تحديد تاريخ كل منهما.
ويجدر هنا إثبات ما جاء في صفحات (حامية الكتاب)، في أول مجلد هذه النسخة قبل بداية الكتاب، وهو نوعان.
أحدهما: (تمليكات) النسخة، أو تسجيل تناقل ملكيتها من شخص لآخر، وهذا سنتحدث عنه عند الحديث عن مصدرها.
والآخر: قصيدة شعر تقع في حوالي ثلاثمائة بيت من الشعر الآتية مقاطعه على حروف (الألف باء) كل حرف بحسب ترتيبها، يكون مقطعاً من عشرة أبيات، يبدأ وينتهي كل بيت بنفس الحرف. يقول ناقلها:
(بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذه القصيدة للشيخ الرئيس شهاب الدين أحمد بن حنش، قالها في مولانا أمير المؤمنين يحيى بن حمزة قدس اللّه روحه في الجنة آمين). ثم يبدأ قافية الألف:
إذا برق ليل الدجن في ليلة شرا ... أزال وميض البرق عن عيني الكرا
وتستمر قافية الألف عشرة أبيات، ثم قافية الباء، وهكذا. وتقع في ثمان صفحات، وهي كما ترى أول أبياتها من بحر الطويل.
وبالنسبة للملاحق، فهي كسابقتها بدون أية ملاحق أو فهارس كما هي لا توجد في كل المخطوطات تقريباً، إلا أن هذه النسخة لا يوجد فيها إبراز لبعض أو أكثر العناوين على الهامش في محاذاة مكانه في القلب، وهذا ما تميزت به الأولى وإن كان قليلاً.
الثالثة: خطها.
خط هذه النسخة من نوع النسخ أيضاً، وخطها جميل ومقروء بوضوح، وعناوينها بارزة بخط مكبر أنيق، وهي واقعة في نفس الأخطاء والأغلاط اللفظية واللغوية والإملائية التي سبق الحديث عنها في استقراء النسخة الأولى. ليس فقط من قبيل المضارعة الكلية.. بل في نفس الأخطاء بكلماتها وأماكنها، وذلك في معظمها إن لم نقل كلها، وهذا ما دفعنا إلى احتمال أن تكون منسوخة عن الأولى. إلا أن هذه تخالف الأولى في النقص، وبعض ملامح الشكل في جوانب، نحصرها في أربعة منها:
1- النقص في هذه النسخة قد يكون أبرز علامة لنسخها، ويظهر في ملامح ثلاثة:
أولها: نقص في الهوامش عن نظيرتها الأولى كما سبق ذلك.
ثانيها: نقص كثير في مواقع كثيرة، ووحدات هذا النقص الشائع متساوية في حجمها، مما يؤكد أن الناسخ يسقط سطراً من النسخة الأصل التي نقل عنها وكثرة إسقاط الأسطر فيها، لدرجة أننا كنا نواجه أثناء معارضتها على الأولى، بمعدل كل عشر صفحات تقريباً يوجد فيها السقط، وهناك سقط فيها حجمه سطران وثلاثة وأربعة، ولكنه بهذا الحجم قليل.
ثالثها: سقط من النسخة هذه حوالي إحدى عشرة صفحة بحجم هذه النسخة، أي أن السقط هذا وقع في مكان واحد بما يساوي حوالي خمسة آلاف وثمانمائة كلمة تقريباً. ومكان السقط هذا ينحصر بين الفرع التاسع من كلمة (في حق) ضمن عبارة (كما يباح في حق الحائض..) وهي قبل الفرع التاسع بسطر تقريباً من الفصل الثاني: (في حكم المرأة عند الولادة) وحتى ما بعد الفرع الخامس بسطرين، وفي جملة: (ولقد كرمنا بني آدم). من البحث الرابع (في بيان من وجبت عليه الصلاة). وضمن المحذوف عناوين أبرزها اثنان، يأتيان بحسب ترتيبهما:
الأول: الفصل الثالث في بيان المستحاضات، وفي الجزء الثاني من أجزاء النسخة.
الثاني: كتاب الصلاة.
إضافة إلى المباحث والفروع والمسائل والمراتب من العناوين البارزة ضمن ما سقط.
وقد تأكدنا من أصل النسخة في مكتبة الجامع الكبير (لأن الموجودة بين أيدينا هي صورة لها) وكنا ظننا أن النقص آت من الصورة ومقصور عليها، وخصوصاً أن أرقام الصفحات هي خاصة بالصورة، إلا أننا اكتشفنا وللأسف، أن النقص هذا بحجمه كاملاً هو من الأصل، هذه ناحية.
والناحية الثانية: أن النقص ليس من أصل المخطوطة ومن جهة ناسخها، ولكنه سقط من تجليد النسخة، إذ أن (قيد الصفحات) الممثل بكتابة كلمة في هامش الصفحة الأسفل، هي الكلمة التي تبدأ بها الصفحة التالية، قد كشف هذا، حيث انتهت الصفحة (538) بجملة (..كما يباح في حق) والقيد في هامشها كلمة (الحائض) التي هي بداية اهصفحة التالية. ولكن الصفحة التالية (539)، بدأت بجملة (حيث قال: ولقد كرمنا بني آدم) ولا عبرة بالترقيم كما سبق، كونه ليس أصلاً في النسخة، وإنما هو ترقيم المكتبة ربما أو غيرها بعد التجليد الذي أسقط هذه الصفحات.
2- اللون: استخدم الناسخ اللون الأحمر في العناوين، ولكن في آخر الجزء الثالث من صفحة(887)، مع شيء من التزويق المزدوج.
3- ظهر في صفحة (160) إلى (960) بداية تميع وفيشان في حبر هذه المخطوطة يزداد سوءاً كلما توغلت الصفحات في اتجاه النهاية، وهو ناتج عن سوء الحفظ في المكتبة ربما؛ إذ يقول مسئول مكتبة الجامع الكبير بصنعاء: بأن ذلك ناتج عن الرطوبة التي أصابت النسخة فبدأ حبرها يسيح ويفيش، وهو خطر يهدد النسخة بالتلف إن لم تعالج بالوسائل التي تضمن توقفه كما هو على الأقل.
4- لا تختلف عن سابقتها في عدم النقط والفواصل إلا نادراً، وبالنسبة لعجم الحروف فإنها في هذه النسخة أكثر من سابقتها، ولكنه ناقص بحيث يمكن تقدير نسبة العجم فيها بـ75% من مجموع حروف المعجم في أجزائها الثلاثة.
الرابعة: مصدرها:
مصدر هذه النسخة مكتبة الأوقاف بالجامع الكبير بصنعاء، وهي أغنى مكتبة للمخطوطات اليمنية، وهذه النسخة مودعة فيها برقم (981) وفي صدر النسخة قبل بداية الكتاب (تمليكات) عدة، نورد نماذج منها في الإشارات الثلاث التالية:
1- كما سبق في نص ما كتبه الناسخ في نهايتها، فإنها نسخت لصالح (برسم) يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد، وهذا يعني أنه أول مالك لها، وفي الصفحة الأولى تحت اسم الكتاب، ما يزيد ذلك تأكيداً، وهو قصاصة بخط مالكها يحيى بن الحسين ما نصه: (استكتبت هذا الكتاب الجليل وأنا الفقير إلى اللّه يحيى بن الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي لطف اللّه به، في شهر صفر(1052هـ).
2- وهناك تمليكات أخرى بخط أصحابها، ولكن لا يوجد فيها تاريخ، وربما أن بعضها مكرر. ومما وضح منها تمليك باسم المحسن بن المؤيد بالله (بن القاسم). وآخر بِاسْم محمد بن المتوكل على اللّه اسماعيل (بن القاسم). وثالث بِاسْم حميد بن أمير المؤمنين المنصور بالله.
3- وفي الصفحة الثالثة من الورق الذي تحتويه النسخة، توثيق وقفية النسخة، وفيها ما لفظه: (الحمد لله تعالى، من وقف سيدي المالك المولى أمير المؤمنين المنصور بالله رب العالمين، حفظه اللّه وأعلى شأنه، على قبة والده(1) الإمام المهدي (رضوان اللّه تعالى عليه) التي بحافة طلحة(2)، بتاريخ شهر شعبان سنة 1252هـ، وكتبه الفقير إلى اللّه تعالى، محمد بن صالح العصامي لطف اللّه به).
ويتضح من الإشارات الثلاث السابقة، ثلاث إشارات غير مباشرة من خلاصة النصوص الواردة:
أولاها: أن التاريخ الوارد في الأولى بخط مالكها الأول يحيى بن الحسين، هو تاريخ استكتابه الناسخ لهذه النسخة، وذلك يظهر من تاريخ النسخة؛ لأن فترة نسخها كانت قبل شهر ربيع الأول عام(1052هـ).
ثانيتها: أن تنقلها من شخص لآخر، كان بين أفراد الأسرة الواحدة من أحفاد القاسم، ولم تخرج إلى غيرهم.
__________
(1) يقصد والده المهدي عبدالله المتوفى عام 1251هـ. والمنصور بالله هنا هو: علي بن المهدي عبدالله.
(2) إحدى حارات مدينة صنعاء القديمة ولا تزال معروفة بهذا الاسم إلى اليوم.
ثالثتها: أن تحويلها من الملكية الخاصة إلى الوقف كما جاء في توثيق وقفيتها على الصفحة الثالثة الآنفة الذكر، كان من جهة المنصور علي بن المهدي عبدالله (ولاية المنصور بن علي في منتصف القرن الثالث عشر الهجري) الواقف لها على مسجد (قبة) والده المهدي.
ج - مخطوطة الجزء الرابع:
بدأنا المقارنة بين نسختي الأجزاء الثلاثة الأولى السالفتي الحديث عنهما، مقدرين صعوبة الحصول على أكثر من نسخة عن بقية الأجزاء، إما مجزأة في خمسة عشر مجلداً، (بقية الثمانية عشر)، وإما مجموعاً بعضها في مجلدات في شكل ثنائي وثلاثي...إلخ. ولذا توقفنا عن الاستمرار في قراءة ما توفر لدينا من أجزاء غير مرتبة من الكتاب، وصرفنا الاهتمام إلى البحث عن نسخ مغايرة لهذه الأجزاء التي لم تتوفر بعد، وقضينا قرابة ثلاثة أشهر نبحث ونسأل في المكتبات العامة والخاصة التي نعرفها، أو يدلنا عليها الآخرون مما هي مظنة توفر شيء من أجزاء الكتاب، ثم في المراجع التاريخية القديمة والبحوث الحديثة التي تتحدث عن هذا الكتاب وأجزائه وأماكن شيء من مخطوطاتها في الداخل والخارج، وبدأنا نحس بما يشبه استحالة وجود نسختين كاملتين من أجزاء الكتاب الثمانية عشر، بعد أن اقتنعنا بعدم وجود نسخة كاملة منه في مكان واحد، سواء أكان مكتبة عامة أو خاصة، وفي الداخل أو الخارج طبعاً.. بحسب ما استطعنا الحصول عليه من معلومات الكتب والبحوث والأدلة التي تتناول الكتاب وأماكن مخطوطاته.
وهنا.. كنا قد بدأنا نشك في بعض القناعات والمعلومات عن الكتاب، التي كانت شبه مسلم بها ومفروغ منها.. مثل مدى توفر نسخة كاملة منه في مجموع شتات أجزائه ومدى تطابق النسخ المكررة بنقص الأجزاء من حيث البداية والنهاية، وحتى عدد أجزائه لم يسلم من الشك، وخاصة أن مخطوطة الجزء الرابع أو إحدى مخطوطاته بالأصح، تشير إلى أنه عشرون جزءاً، ولكن الشك في عدد الأجزاء لم يلبث أن زال؛ لأن مراجعه من البحوث والتراجم والفهارس تؤكد أنه 18 جزءاً. هذا أولاً.
وثانياً: أن التبويب الفقهي للأجزاء الموجودة تشير إلى هذه الحقيقة.
وثالثاً: وهذا الأهم.. أن أحد الأجزاء التي عثرنا عليها، هو الجزء الثامن عشر وهو مخطوط بخط المؤلف رحمه الله وفيه نهاية الكتاب.
وندع الحديث عن مخطوطة الجزء الرابع ثم ما يليه إلى أن يصل مسار التحقيق إلى كل منها، وهنا نتوقف قليلاً عند أبرز الفهارس والبحوث التي استقرأ أصحابها أجزاء الكتاب ومخطوطاته وهي ثلاثة، نتصفحها هنا بدون ترتيب:
أولها: كتاب (مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني).
وفيه يفيد مؤلفه البحاثه الدكتور حسين عبدالله العمري، بأن الموجود من (الانتصار) في (مكتبة المتحف البريطاني) ثمانية أجزاء في سبعة مجلدات، هي الثاني والثالث والخامس والسادس والثامن، والجزءان السادس عشر والسابع عشر في مجلد واحد، والسابع عشر مكرر في مجلد. ص177.
وثانيها: دليل مكتبة الأوقاف بالجامع الكبير بصنعاء(1).
__________
(1) هذا الفهرس طبعته وزارة الأوقاف عام 1984م في أربعة مجلدات.
ويحدد الموجود من (الانتصار) في مكتبة الأوقاف بالجامع الكبير، بستة عشر جزءاً في أربعة عشر مجلداً. وهي: الأول والثاني والثالث في مجلد واحد، النسخة الأولى التي سبق الحديث عنها لهذه الأجزاء الثلاثة، والثاني مكرراً في مجلدين، والرابع والخامس والثامن والعاشر والحادي عشر والثالث عشر والخامس عشر والسادس عشر، والأجزاء المكررة إضافة إلى النسخ الثلاث من الثاني، وهي: الخامس والثامن والحادي عشر(1).
وثالثها: كتاب: (مصادر الفكر العربي والإسلامي في اليمن) للباحث المعروف الأستاذ عبدالله محمد الحبشي(2).
ولم يتجاوز فيه ما جاء في دليل وزارة الأوقاف، بل لم يستوف ما جاء في الدليل، حيث أورد خمسة أجزاء في سبعة مجلدات، هي: الثاني والخامس والثامن، والحادي عشر، والخامس عشر، إضافة إلى نسختين مكررتين للثاني والخامس عشر.
ولا نسبق الحديث عن كل جزء على حده وفي موضعه بحسب تسلسلها، ويلاحظ من مجموع هذه الأجزاء، غياب أجزاء خمسة هي: السابع والتاسع والثاني عشر والرابع عشر والثامن عشر. وقد سبق القول: بأننا عثرنا على الثامن عشر صورة مخطوطة بخط المؤلف.. فيبقى أربعة أجزاء غير متوفرة سنتحدث عن كل منها في مكانه.
ومن بداية الجزء الرابع سنخصص لكل جزء مقدمة ملخصة تتضمن فقط، الحديث عن مخطوطته الأم، وما يتعلق بها خارج نطاق الحديث العام عن مخطوطات الكتاب، الذي نرى أن المقدمة قد استوعبت أهم جوانبه، والله ولي التوفيق {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً وَهِيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا}.
__________
(1) فهرس الأوقاف (ج2) ص913 ـ 918.
(2) من أشهر الباحثين في مخطوطات التراث اليمني وأكثرهم تفرغاً للبحث، وعدداً في البحوث والمخطوطات التي حققها وأخرجها؛ وإلماماً بمحتويات المكتبة اليمنيه من المخطوطات.
---
المحور الثاني: موضوع الكتاب
المحور الثاني من المحاور الثلاثة لمقدمة كتاب (الانتصار).. يخص موضوع الكتاب، وسنتناول فيه ملامح عامة عن موضوعه، توضح كلياته العامة ومنهجه وأسلوب مؤلفه في تأليفه، ثم صوراً مركزة عن موضوع الكتاب في رأي العلماء والباحثين، كل ذلك في الحدود التي تقدم خلاصة وفكرة عن موقع الكتاب وأثره في وسط الفكر والفقه الإسلامي في اليمن.
ذانك قسمان أساسيان لهذا المحور، نبدأ بأولهما بعون اللّه تعالى.
أولاً: (القسم الأول) ملامح عامة عن موضوع الكتاب:
نتناول هذه الملامح من جوانب ثلاثة، هي: موضوع الكتاب ومنهجه، وأسلوبه.
أولها: موضوع الكتاب:
وموضوع الكتاب هو الفقه الإسلامي.
وكتاب (الانتصار)، كما أنه أكبر وأوسع كتاب في الفقه الإسلامي التراثي الزيدي، في موضوعه وموضوعاته، وفي كتبه وفصوله ومسائله وأصوله وفروعه، وفي مباحثه وحقائقه ودقائقه وأحكامه.. فهو كذلك أوسع وأكبر كتاب من كتب التراث الإسلامي في اليمن، في منهجه واستدلاله، وفي أوجهه وآرائه وأقواله التي جمع المؤلف في كتابه هذا شتاتها وأدنى بعيدها، ورتب قواعدها، ووثق شاردها وواردها، وأبرز دقيقها ووضح غامضها وفك مبهمها، وحل عقيلها، واستنطق أسرارها وأنطق قيلها، وجمع أولها بآخرها وقديمها بجديدها، ولم يقتصر في (الانتصار) على إيراد آراء وأقوال المجتهدين من الأئمة والعلماء والفقهاء في اليمن ممن وافق مذهبه وجايل عصره، بل شمل كل المدارس وجل المذاهب الفقهية الإسلامية بأعلامها ومجتهديها وآرائها وأدلتها وطرق استدلالها في كل العصور التي سبقته، بدءاً بخير الأجيال والعصور، وهو جيل الصحابة الأجلاء (رضوان اللّه عليهم) فالتابعين وتابعيهم، ثم من تلاهم من أجيال الأعلام والمجتهدين.فهذا الكتاب يعتبر بحق وكما سنبرز بعضاً من آراء ونعوت العلماء والباحثين فيه.. موسوعة نادرة للمدارس والمذاهب الفقهية الإسلامية.. بل يتميز عن الموسوعة ويتفوق عليها ويتجاوزها من حيث أنه عالَم حي بحوار الأفكار والآراء وتقارع الحجج والبراهين وباتفاق واختلاف الآراء والمذاهب، فهو بحث واسع للفقه المقارن الذي يستخدم في منهجه إيراد الآراء، ثم فحصها ومقارنتها في كل مسألة، ثم يعود إلى تقرير (المختار) لديه ممعنا في الاستدلال عليه بأسلوب العالم المتجرد من كل الأهواء، ويختم كل مسألة بإيراد (الانتصار) الذي يناقش آراء وأقوال مخالفيه بحصافة الناقد البصير، وبصيرة الناقد الحصيف وعمق المجتهد المطلع، وإنصاف الورع الذي لا يتغيا غير الحق، ولا يستهدف سوى الحقيقة، وهي طريقة من يعرف أنه ليس بعد الحق إلا الضلال، وليس وراء الحقيقة إلا الخيال.
ويمكن الحديث عن موضوع كتاب (الانتصار)، من خلال تحديد مؤلفه فيه لعنوانه وغايته وموضوعاته:
1- العنوان:
(كتاب الانتصار على علماء الأمصار، في تقرير المختار من مذاهب الأئمة، وأقاويل علماء الأمة، في المسائل الشرعية، والمضطربات الاجتهادية).
والعنوان كما ترى، مصوغ على طريقة المؤلفين القدماء من حيث الشكل، في بلاغته وجزالة وانتقاء ألفاظه، والتزامه السجع، ومن حيث المحتوى، في أنه تضمن الغاية والموضوع والمنهج، بمعان منطوقة ومفهومة، توضحها قراءة الكتاب، وهي معان تكاد تتمثل ملخصة في الصيغة التالية.
(كتاب) يتغيا (الانتصار) بالأدلة طبقاً للمنهج الأصولي(1) وقواعده الثابتة، (على) المخالفين لمذهبه في كل مسألة، ومع كل مجتهد من (علماء الأمصار) (في تقرير المختار) الذي يحدد به رأيه ضمن ما يورده من الآراء، وهو مختار (من مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة) الإسلامية (في المسائل الشرعية) الإسلامية الفقهية. (والمضطربات الاجتهادية). وتأتي العبارة الأخيرة معطوفة على المسائل الشرعية في مكان النعت لها، لعدم وجود التغاير الذي يسوغ التعاطف بين المسائل الشرعية والمضطربات الاجتهادية، وقد نفهم من ذلك أنه أراد إبراز شيئين:
أولهما: تحديد موضوع الكتاب لمسائل الفقه التي يجوز فيها الاختلاف عن طريقة الاجتهاد.
وثانيهما: استثناء علم أصول الدين.
__________
(1) نسبة إلى منهج أصول الفقه في طرق الاستدلال.
والذي نريد توضيحه أكثر، هو أن المؤلف في عنوان الكتاب، لم يقصد أنه انتصار على مجموع علماء الأمصار ومجمل آرائهم، بمعنى أنه يختلف في كل مسألة مع كل علماء الأمصار، ثم ينتصر عليهم بالاستدلال ونقد الرأي، وإنما قصد أنه يورد في كل مسألة (مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة) ثم يختار منها رأيه الذي يحدده منهجه في الاستدلال النقلي والعقلي، ثم يسبب في الانتصار اختياره لذلك الرأي. مبرراً انصرافه عن آراء مخالفيه بطرح ومناقشة جوانب الضعف في أدلتها، أو في طريقة الاحتجاج بها.
ولعل توضيحنا هذا، جاء تحصيلاً لحاصل، ولكنا رأينا أنه قد يوضح لبسا وارداً، ولو بنسبة ضئيلة واحتمال بعيد.
2- الغاية من الكتاب.. حددها المؤلف في بداية الكتاب في غرضين:
أولهما: ديني، وهو أن يكون (لي بعد الموت ما عسى أن يبقى ثوابه، ولا ينفد أجره..).
ثانيهما: موضوعي، وهو أنه لما ألف كتابه (العمدة)، كان قد اقتصر فيه (على ذكر المذهب ودليله وذكر من خالف مذهبنا، أو وافق من علماء الأمة وفقهاء العامة. وألغيت ذكر أدلة المخالفين، وذكر المختار من الأقاويل في المسألة وتقرير الحجة عليه). وأنه وعد في صدر كتاب (العمدة) إن مد اللّه في أجله أن يؤلف هذا الكتاب، يستوفي فيه آراء المخالفين وحججهم. وكان أن مد اللّه في عمره فوفى بوعده وعهده، من اللّه الذي جعل لكل أجل كتاباً، ولكل كتاب أجلاً.
3- موضوع الكتاب في نهاية كتاب الحج في الجزء السابع ص(245) من المخطوطة، حدد المؤلف مضمون الكتاب في أربعة أقسام أو أرباع:
أ - (الربع الأول: العبادات، ويشتمل (على ما كان قربة من الصلاة والزكاة والصوم والحج).
ب - (الربع الثاني: مشتمل على ما كان مألوفاً من العادات، كالنكاح والطلاق والإيلاء والرضاع والظهار، وغير ذلك).
ج - (الربع الثالث: مشتمل على المعاوضات من البيع والشراء والإجارة والشفعة والفرائض. وغير ذلك).
د - (الربع الرابع: مشتمل على المعاملات للكفار والبغاة، وأنواع الجهاد).
فهي أربعة أقسام ملخصة: في العبادات والعادات والمعاوضات والمعاملات للكفار والبغاة.
(المذهب) في فقه الزيدية.
يلاحظ القارئ المطلع على هذا، ورود كلمة (ذكر المذهب) في الغرض الثاني لتأليف الكتاب، ولعل المطلع غير الباحث على الأقل يظن بأن إطلاق كلمة (المذهب) في كلام المؤلف، تعني مذهبه وحده، وخاصة أن بعدها مباشرة عبارة: (وذكر من خالف مذهبنا أو وافق). وكلمة (مذهبنا) قد تعطي مفهومات ثلاثة محتملة، وهي:
1- توضيح كلمة (المذهب) التي أطلقها المؤلف، وتؤكد أنه قصد مذهبه هو، بإطلاقه الأولى ونسبته للثانية إلى ضمير الجماعة الذي كثيراً ما يأتي ويفهم بمعنى المتكلم.
2- صرف كلمة (المذهب) عن المؤلف منفرداً إلى جماعة علماء الزيدية، التي عبر عنها بضمير الجماعة في كلمة (مذهبنا)، وهو أقرب الاحتمالات إلى الصواب وإن لم يكن بالدقة التي دفعت إلى هذا التوضيح دون تمييز للغرض، والمقصود والمدلول لكل منهما، وهنا.. يأتي موضع التوضيح لكلمة (المذهب) إذا أطلقت في الفكر الفقهي الزيدي، وهي مسألة واسعة نحاول تلخيصها في ثلاثة جوانب:
أولها: تكثر كلمة (المذهب) في كتب الفقه الزيدي، ويكاد ذكرها ينحصر في جمل وصيغ محددة، يأتي كل منها بحسب المواقع والمواضع والحالات وسياق المعاني، مثل: (رأي المذهب) و (على قاعدة المذهب) و (به قال أهل المذهب) و (نقله للمذهب) و (رواه أو أخرجه للمذهب)...إلخ. وله مصطلح رمزي، يمثل اختصاراً للكلمة في حرفي (هب) مع نقطة فوق حرف الباء الموحدة ضمن الرمز، ويكتفى في كتابة المخطوطة بحرف الهاء ممدودة إلى اليسار (هـ) ويعني وجود هذا الرمز فوق المسألة أو الرأي، أنه على رأي (المذهب). ويكثر وجود المصطلح الرمزي هذا في أشهر كتب الفقه الزيدي، مثل: (شرح الأزهار). ويرادفه في حواشي الكتب المطبوعة رمز (قرز) وهي حروف القاف والراء مكرراً، والنقطة فوق الأخيرة منها علامة (المذهب).
ثانيها: أن (المذهب) يمكن القول بأنه ذو دلالتين: عامة وخاصة. فالعامة تعني: أنه يمثل المذهب الزيدي في مجمله وعمومه، والخاصة لا تعني ذلك، إذا كان القصد بها أنه يوافق في كل مسائله آراء كل عالم من علماء الزيدية، أو حتى بعضهم، أو واحداً منهم.
ثالثها: ويوضح ما قد يكون ظهر من لبس في الجانبين السالفين نتيجة التركيز ربما.. أن (المذهب) يعني قواعد وأسساً وأصولاً عامة، تجتمع عليها آراء أئمة وعلماء الزيدية تم وضعها لتؤدي غرضين أساسين:
أحدهما: أن تكون محاوراً للرأي، ومعياراً لمدى موافقته للمذهب في أية مسألة، ثم تتفرع وتتسع الآراء، وتتشعب في اتجاه تلك القواعد والأصول الثابتة، هذه هي القضية المبدئية الأولى. ثم تأتي قضية اختيار رأي المذهب في وسط الآراء والخيارات والأقوال المختلفة في المسألة الواحدة. وهنا.. يمكن القول بأن هناك شبه اتفاق بين علماء الزيدية في مختلف العصور وتتالي أجيال أعلامها.. بأن يتم اختيار رأي المذهب من بين الآراء المختلفة طبقاً لمبادئ أو أسس ثانوية محددة تقريباً، منها على سبيل المثال:
- الأخذ بالأحوط، فالإختلاف مثلاً بين العلماء في المضمضة والاستنشاق بين من يقول بوجوبها بوصفها من أعضاء الوضوء استناداً إلى فعل الرسول (عليه وآله الصلاة والسلام) ومن يقول: بأنها سنة استناداً إلى عدم تضمن آية الوضوء لها، فالمختار للمذهب يؤخذ فيه الأحوط، وهو الوجوب باعتبارهما من غسل الوجه.
- أقرب الآراء إلى تطبيق الدليل والعمل به أكثر.
- أرجح الأقوال وأكثرها اتفاقاً في المسألة.
ومثل هذه المبادئ ليست قواعد مطردة في كل الأحوال، بل يدخل عليها الترجيح بين المبدأ وما يقابله، فيرجح مثلاً، أيسر وأسهل الآراء تناولاً أو أداء أو إلزاماً أو تسامحاً على مقابله الذي قد يكون القائلون به أكثر.
ثانيهما: أن تمثل هذه الأسس العامة (المذهب) الثابت والسائد في الأغلب، في مجالات المعاملات والعلاقات وقضاياها ومسائلها ومشاكلها العامة في مجتمعات عامة الناس، مثل: مجالي القضاء والإفتاء، ووضع القوانين المختلفة ذات العلاقة المباشرة بالفقه الإسلامي؛ وذلك تجنباً لتناقضها عند تركها للاجتهادات والأقوال المختلفة.
ويجدر التعريج هنا على موضوع أسس وقواعد (المذهب)، وذلك من ناحيتين:
الأولى: إيراد نماذج من هذه الأسس والقواعد التي يتم وفقاً لها، تخريج واختيار رأي المذهب في مسألة ما، بحيث لا يقبل تخريج من يخرج للمذهب بخلافها، ومنها ما يمكن اختياره ضمن أطر عامة في الصورة التالية(1) :
1- قضية الاجتهاد:
- مطلوب اللّه من عباده الاجتهاد.
- إذا تعذر الاجتهاد، جاز التقليد.
- يعتبر الجاهل فيما فعله معتقداً صحته ولم يخرق الإجماع، مقلداً لمن وافقه.
- الخلاف في المسألة، يصيرها ظنية.
2- التعارض والتناقض:
- إذا اجتمع حظر وإباحة، فالحظر أولى لأنه الأصل.
__________
(1) هذه الأسس مأخوذة من أصول المذهب الزيدي التي وضعها العلامة أحمد بن محمد الشرفي وألحقها العلامة الجنداري بمقدمته لشرح الأزهار ـ ج1ـ ص46.
- إذا تعارض واجب ومحظور، فترك الواجب أهون من فعل المحظور.
- إذا تقارن أصل وظاهر، قُدِّم الظاهر.
- إذا كان فعل الحسن سبباً لفعل القبيح، وجب تركه.
- إذا اجتمع في العقد وجها صحة وفساد، حمل على الصحة.
- إذا تعارض أصلان قريب وبعيد، فالقريب هو المعمول عليه.
- إذا تعارضت مصلحة ومفسدة مساوية أو راجحة، وجب توقي المفسدة.
- إذا التبس موت الشخص وحياته، فالحياة هي الأصل.
3- العلم والظن:
- ما كان من الأحكام الشرعية يمكن الوصول إليه بالعلم، لم يكف الظن فيه، وما لا سبيل منها إلى تحصيل العلم فيه، فالظن معمول عليه.
- الظن لا ينقض الظن.
- علم الإنسان أقدم (أولى) من علم غيره.
- و علم الغير أقدم من ظن نفسه.
- وظن نفسه أقدم من ظن غيره بالنظر إلى العمل.
- خبر العدل معمول به في العبادات على كل حال(1).
4- في الواجب، وفصل القضاء:
- ما لا يتم الواجب إلا به، يجب على حدّ وجوبه.
- الإقدام على ما لا يؤمن قبحه، قبيح.
- العبرة في العبادات بالانتهاء، وفي المعاملات بالابتداء.
- الإكراه يُصَيِّر الفعل كَلاَ فعل.
- نية المكره تُصَيِّر الإكراه كَلاَ إكراه.
- لا يجتمع على الشخص غرمان في ماله وبدنه.
- يلحق الضمان المباشر لا المسبب، إلا إذا لم يوجد المباشر، فعلى المسبب.
- يُعمل بالعرف في الصحة والفساد واللزوم والسقوط، ما لم يصادم نصاً.
- البينة المركبة غير مقبولة.
__________
(1) هذا الأصل منسوب للمؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني، وهو أصل يغاير أصل المذهب في هذه المسألة؛ إذ ينص على أن (يقبل خبر العدل في الصحة وفي الفساد مع الشك).
الثانية: كيف تم وضع هذه القواعد والأسس؟ وهذا السؤال في هذه الناحية، يصعب استقصاؤه ويطول استعراضه دون حاجة إلى التوسع فيه، كون التعريج عليه هامشياً، ولغرض التوضيح السريع، ثم إن شيئاً من هذا يحتاج إلى عالم مطلع استقرأ المذهب من حيث بداية وضعه وواضعي أسسه ومن اقتفى أثرهم في تخريج أصوله وتوسيع قواعده واطراد مسائله وتصنيف اختياراته؛ لأن الحصيلة التي يمكن أن نجمعها من كل جوانبها، ليست كما نعتقد منحصرة في مرجع واحد، بل إن كثيراً منها (تحديد بداياتها، وواضعيها استطراداً واختياراً وتخريجاً وزمناً).. لا يزال شتاتاً وموضوع تحقيق وتسجيل، وكنت قبل عامين تقريباً قد سجلت جملاً في صيغ أسئلة تتناول أصول (المذهب) وبداياته واختياراته وتخريجاته وأعلامه وما يتعلق بها، وقدمتها إلى واحد من أكبر علماء الزيدية المعاصرين، ومن أكثرهم اطلاعاً وتحقيقاً وتدقيقاً في الفكر الزيدي بمختلف علومه، وهو المولى العلامة الوالد مجدالدين بن محمد بن المنصور المؤيدي (مد اللّه في عمره) والتمست منه إمكان الرد على تلك التساؤلات لتكون مرجعاً في تحقيق أصول (المذهب). برغم ما أعرفه من مشاغله بالتأليف والتدريس والفتيا وغيرها، ولا يزال الأمل موجوداً.
ويمكن القول باختصار، بأن أسس المذهب بدأت من قبل الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، ثم من بعده ابناه: المرتضى محمد والناصر أحمد. ومن أعلام واضعي هذه الأسس وناقليها تخريجاً واختياراً، السيدان الأخوان: الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني، وأبو طالب يحيى بن الحسين، والقاضي زيد(1) وغيرهم.
ثانيها: منهج الكتاب:
__________
(1) زيد بن علي الكلاري. ترجمته موجودة ضمن تراجم أعلام الكتاب.
منهج الكتاب (الانتصار) أو منهج المؤلف في كتابه هذا، هو منهج يكاد يكون متميزاً عن غيره ممن سبقه وتلاه من المؤلفين والكتب في الفقه في اليمن على كثرتهم وكثرة مؤلفاتهم، وهو تميز لا نعني به العادي الذي يمكن به التفريق بين مؤلف وآخر، ولكنه تميز رائد في المنهج عامة شكلاً وتصنيفاً وتبويباً ومحتوىً ورأياً واختياراً، وطريقة بحث واستنتاج واستدلال.
ولا نشك في قصورنا عن القدرة على إعطاء الكتاب حقه عامة، وفي جانب منهجه خاصة، ولكنا لا نزال وسنظل متمسكين بمبدئنا السالف ذكره، وهو {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. ومع بذل الوسع ندعوا اللّه تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا}.
ونخلص إلى منهج الكتاب للحديث عنه في فقرات ثلاث:
الأولى: منهجه في تصنيف الموضوعات.
سبقت الإشارة إلى أنه تتركز مقدمة الكتاب عموماً، على أبرز الملامح والجوانب لصور الكتاب العامة، وخاصة ما جاء منها ضمناً أو شائعاً، بصفة يصعب معها تحديده عن طريق غير القراءة والاستقراء للكتاب ومصادره ومراجعه المتاحة؛ وذلك حرصاً على أن تظل المقدمة ضمن مفهومها العام وإطارها المحدد؛ إذ إن الخروج عن نصوص وأصول منهج الكتاب الواردة فيه مفصلة، يخرج المقدمة عن غرضها إلى الاستطرادات الواسعة الداخلة في باب لزوم ما لا يلزم دون حاجة تدعو إليه، وتتحول إلى شبه عرض لمحتوى الكتاب، وهذا العرض قد يكون مطلوباً في موضعه حيث يُستغنى به عن الكتاب في تقديم صورة وصفة ملخصتين عنه، وهذا ليس مكانه؛ لأننا هنا نقدم الكتاب إلى القارئ بذاته كاملاً كما هو، والصورة لا تُستخدم للتعريف بالذات مع وجودها.
ولذا.. نكتفي في الحديث عن منهج الكتاب في تصنيف وتبويب الموضوعات، بإحالة المطلع إلى الصفحة أو الصفحات الأولى منه، حيث تناوله المؤلف مركزاً وافياً، وكافياً لتحديد ذلك في جانبين:
أولهما: تبويب وتصنيف موضوعات الكتاب عند قوله: (فلما أنجز اللّه العِدَة وصدَّق الرجاء بتنفيس المدة، ابتدأت بتأليف هذا الكتاب فأجعله كتبا ثم أضمن الكتب أبواباً ثم أحشو الأبواب فصولاً...إلخ).
وثانيهما: أنواع المسائل، وطريقة تناوله إياها وتقريره المختار منها لرأيه واجتهاده، وتعليل وإثبات مذهبه فيها بالأدلة النقلية والعقلية المناسبة الكاملة، ولخصها في المراتب الثلاث التالية لتحديده الكتب والأبواب والفصول.
ولنا هنا، وقفة نتأمل فيها طريقة المؤلف في التصنيف والتبويب للكتاب في عناصر ثلاثة:
الأول: أسسه العامة في التصنيف.
يلاحظ من تحديده في بداية الكتاب لأسس منهجه، في تصنيف الموضوعات وتبويبها.. أن الأسس التي حددها هي الرئيسية، ولذا حرص على ذكرها وتسميتها، وضرب صفحاً عن ذكر الأسس الأخرى التي تعتورها، بوصفها أسساً فرعية أو متفرعة عن الأولى التي هي الرئيسية وجملتها أربعة: الكتب والأبواب، والفصول والمسائل.
وبحسب ما حدده وطبقه المؤلف.. فإنها تبدأ في هذا الترتيب، بالأعم فالأخص، بداية بالكتب وانتهاء بالمسائل. وكما يعني هذا الترتيب التدرج من الأعم إلى الأخص.. فإنه يعني أيضاً أن الأسس الفرعية الأخرى التي لم يذكرها ولكنه استخدمها في التبويب، ستظل فروعاً للأسس العامة الأربعة، وضمن تقسيماتها التفصيلية في مختلف الموضوعات، إما بشكل مباشر عن أي من الأسس العامة، أو متدرجة عن مجموعها، وهذا هو الذي يُفهم من تصدير المؤلف.
وقد ظل كذلك في الأسس الثلاثة الأولى، وهي: الكتاب والباب والفصل، في الغالب السائد. وأما الرابع وهو المسألة، فلم تظل أساساً في معظم الكتاب، وخاصة من الجزء الثاني منه؛ إذ أصبحت (القاعدة) و(الفرع) بصفة خاصة إطارين كلاهما أوسع وأشمل وأعم من المسألة، وأصبح (التفريع على هذه القاعدة الفرع الأول)، يلي الكتاب والباب والفصل مباشرة، ثم تأتي المسائل ضمن الفروع بينما ظهرت المسألة في أماكن أخرى كالجزء الأول مثلاً، أعم من الفرع، فيبدأ بالمسألة ثم يصنفها في فروع مسلسلة.
الثاني: اتساع أطر منهجه.
من يقرأ كتاب الانتصار من المهتمين بأسس المنهج الحديث في البحث.. يقف مأخوذاً باتساع منهج المؤلف فيه، وبخصوبته وغناه وتنوع وتعدد جوانبه. وبقدرة المؤلف على بناء منهجه في متانة ومرونة، بناء فنياً وعلمياً محكماً ودقيقاً وقائماً على قواعد منطقية وموضوعية، فلا يكاد واحد من موضوعاته يبدأ حتى يتسع ويتسلسل في أطر وعناوين تتفرع وتنمو وتتعدد في اتساق وانسجام، ينساب موضوعه في مجراهما انسياباً سهلاً وثرياً ومتنامياً بتنامي القضايا والمسائل من داخلها، تنامياً يتناسب مع أصل واتساع الموضوع العام، ومع العلاقات الطبيعية القائمة بين المضامين وأطرها ومسمياتها، حتى لا تكاد تُحِسُّ نوعاً من التكلف في تصنيفها أو الإقحام لشيء منها على غيره أو بعيداً عن موضعه، ولا فراغاً بين أي منها أو إهمالها لدقيقة قد تشذ عنها، أو أي شيء آخر من سهو أو تكرار أو انحراف عن جادة المنهج وأسسه العامة والمتفرعة عنها.
ولعل النظائر كالأضداد في القدرة على توضيح التميز والتفوق والفوارق بين الأشياء، ولذا نلاحظ مثلاً، أن منهج كتاب (الانتصار) منهج رائد وفذ، في سبقه واستخدامه، سواء في شكله من حيث تنوعه، وتعدد أسسه وبنائه، أو في محتواه من حيث اتساعه ودقته وانسجامه وشموليته وغناه، ويزداد الإعجاب بهذا المنهج، إذا أخذنا في الاعتبار الظروف والنظائر في أمثلة:
1- أن تأليفه تم في الربع الثاني من القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي). وهو وقت مبكر بالنسبة لعلاقته بأصول وأسس منهج البحث في الفكر الإسلامي؛ إذ ظل المنهج التقليدي مسيطراً على التأليف والبحث حتى بداية القرن الحالي بصفة عامة، وفي شبه الجزيرة العربية بصفة خاصة، حتى منتصفه تقريباً.
2- أن مؤلفه بدأ في تأليفه، في ما يمكن تقديره ببداية العشرين عاماً الأخيرة من عمره، هذا من ناحية، ومن أخرى، أنه توقف عن الاستمرار في تأليفه عند شطر من الجزء الثاني منه(1) فترة امتدت على التوالي، اثنتي عشرة سنة، ثم عاد ليستأنفه من مكان توقفه منوهاً بذلك ومعتذراً عما قد يظهر من تكرار بسبب الانقطاع؛ ومن ناحية ثالثة، فقد أكمله بخطه كما يظهر من بعض الأجزاء في سنوات عمره الأخيرة. وكان انتهاؤه من الجزء الأخير (الثامن عشر) في أواخر عام (748)، أي قبل وفاته بأشهر معدودة(2) وقد بلغ الثمانين من العمر. ومن ناحية رابعة.. فقد أكمله، لا في حالة دعة من العيش ورخاء من الحياة، بل وهو في حالة من المعاناة وقسوة الحياة والظروف، حيث كان مرابطاً في أحد الحصون(3) مواصلاً جهاده ودعوته إلى اللّه، ومثابرته على نشر العلم والعدل والسلام.
3- أن من تلاه زمناً، أو اقتفاه أثراً في منهجه من المؤلفين في مجاله وبلده، لم يبلغوا في اقتفائهم إياه ما بلغ من سبقه وتفرده بهذا المنهج المتميز(4).
الثالث: نماذج من منهجه.
__________
(1) آخر باب التيمم.
(2) جاء تاريخ انتهاء المؤلف من تأليف الكتاب، في العشر الوسطى من شهر ذي الحجة سنة 748هـ. وتاريخ وفاته في العام التالي 749هـ.
(3) حصن هران) في مدينة (ذمار) التي تبعد 100كم جنوب صنعاء وقد أشار المؤلف في أثناء الكتاب وفي نهايته إلى حالة الحصار التي عاشها في الحصن المذكور.
(4) راجع ما كتبه د: أحمد محمود صبحي عن منهج المؤلف في كتابه (الزيديه في اليمن).
في آخر هذا الملمح عن منهج الكتاب، قد يكون مفيداً حصر نماذج أطره التي استخدمها المؤلف في رؤوس موضوعاته، وأصناف تفريعاته، وهي بحسب ترتيبها في طريقة استخدامه إياها.. أساليب تتنوع نماذجها من حيث اتساعها في ما يمكن أن نلخصه في تقسيمات أربعة هي:
الأول: التقسيم العام، وهو الذي حدده في بداية الكتاب، ويبدأ (بكتاب ...)، ثم يقسمه إلى أبواب، والأبواب إلى فصول، والفصول إلى مسائل، وهذا ما يمكن أن نسميه بالتركيب الجذري، أو التقسيم المبدئي للكتاب (الذي هو جزء من كتاب الانتصار).
ثم يتوصل إلى النتائج ومناقشتها وتحديد المذاهب فيها، بالتفريع على المسألة، وهو تقسيمها إلى فروع يذكر في كل فرع جانباً من المسألة، يبدأ غالباً بالجانب الأكبر، ثم تتدرج جوانبها في الاتساع بتعدد وتتالي الفروع، تدرجاً من الأعلى والأقرب والأكبر إلى الأدنى والأبعد والأصغر، فيورد في الفرع، فرع المسألة، ويقسمها إن لزم تقسيمها، إلى حالات أو أقسام أو أضراب أو أحكام أو أركان أو تقارير أو أصناف أو أنواع، بحسب التقسيم الذي تقتضيه أجزاء وجزئيات المسألة في أي من فروعها.
ثم يذكر أهم أوجه الخلاف حولها في آراءٍ أو أقوال أو مذاهب، وقد يقسم أصحاب الخلافات إلى فرقاء أو طوائف أو فئات أو اجتهادات، موضحاً ومعللاً كل رأي أو قول بما يتطلبه من موضوعية ودقة وشمولية، مع إيراد حججه وأدلته وأوجه الاستدلال بها، ولا يُغفل ما قد يترتب على المسألة من أسس أو شروط، ثم يصل إلى تقرير المختار من هذه الأقوال والمذاهب الذي يراه ويختاره مذهباً له، فالانتصار الذي يبرر به اختياره لهذا الرأي أو ذلك القول أو المذهب، مُظهراً جوانب التفوق والقوة والصحة فيه مقابل ما يراه من أوجه الضعف في الآراء المخالفة الأخرى، ثم لا يتجاوز المسألة حتى يستطرد إلى ما قد يراه مترتباً عليها، أو مشاراً إليه فيها أو مرتبطاً بها من (قاعدة) أو (دقيقة) أو (فائدة) أو (تنبيه) أو نحو هذا.
الثاني: التقسيم المضارع لسابقه، ويختلف عنه من ناحية أن المسائل تلي الأبواب مباشرة بدون توسط الفصل بين الباب والمسألة.
الثالث: التقسيم المباشر، حيث يأتي التفريع بعد الباب مباشرة، ملغياً للفصول وسابقاً للمسائل التي تأتي أثناءه متخللة الفروع.
الرابع: التقسيم الأصغر، وفي هذا النموذج يبدأ بإيراد الفصل، ثم يدخل في مناقشة الموضوع أو القضية ويذكر أحكامها والأقوال وحججها، ثم يخلص إلى المختار، فالانتصار. ويورد بعد ذلك، التفريع والمسائل التي يتضمنها الفصل.
ويجدر هنا التنبيه إلى ما يلي:
1- أن هذه النماذج الأربعة، ليست حصراً لنماذج المؤلف في تصنيف منهجه، وإنما هي أبرز نماذجه التي تغلب على عامة الكتاب.
2- أن النماذج الثلاثة الأخيرة، تتساوى مع الأول بصفة عامة فيما بعد التفريع من تقسيمات واستطرادات واستقراء لعناصر وأطر المنهج، في الآراء والمذاهب والأقوال والحجج وما إليها. وقد أغنى ذكرها في النموذج الأول، عن تكرارها في الثلاثة التالية له.
3- لم نقصد باختلاف النماذج الأربعة لمنهج المؤلف وما ينتج عن توصيفها من فوارق بينها، الإشارة إلى خروج المؤلف عن أسس وأطر منهجه العامة، بل إن العكس هو الصحيح، وهو أن الغرض من التوصيف تأكيد اتساع وغنى وشمولية هذا المنهج، وقدرة المؤلف على اختيار الأطر المناسبة لكل باب أو فصل أو تفريع، وفي حدود اللازم الذي يميز أسلوبه في تفصيل الأطر وعناوينها على أجزاء الباب أو الفصل أو المسألة بحسب موضوعاتها، تعدداً وتنوعاً واتساعاً، وبدقة متناهية وتلاؤم دقيق، يؤكدان عمقاً في النظر ووضوحاً في الرؤية وسعة في الآفاق ومهارة في التشكيل، بصفة نادرة باهرة.
الثانية: مبادئ منهجه العامة.
في هذه الفقرة الثانية من الفقرات الثلاث الخاصة بالحديث عن منهج الكتاب.. نخلص إلى المبادئ والأصول العامة لمنهج الكتاب، أو منهج المؤلف في هذا الكتاب، وهي لا شك تعم كل مؤلفاته في هذا الموضوع، ولكنا نسبناها إلى (الانتصار) لسببين:
أولهما: أنه موضوع هذا الحديث الذي يهمنا هنا، عن منهجه.
ثانيهما: أن منهج المؤلف في (الانتصار) أوسع وأوضح وأشمل وأكمل، وفيه الإضافات والجدة والريادة والتميز عن سواه، وبالتالي فإن مبادئ وأصول منهج المؤلف هنا، أكثر ظهوراً وشمولاً، وأشمل ظهوراً وكثرة، ثم إن نسبة المبادئ والأصول إلى هذا الكتاب من كتب المؤلف، هي نسبة اشتراك وعموم لا نسبة تغاير وحصر. ثم من جانب آخر، فإن مبادئ وأصول المؤلف في منهج كتابه وكتبه، ليست مبادئ و أصولاً خاصة به ومقصورة عليه، بل إن من المقطوع به سلفاً أنه يلتقي في كلها أو جلها مع أعلام مدرسته الذين توارثوا العلم حتى أوصلوه إليه، ومع غيرهم من نظرائه وزملائه، ومع أعلام الفكر الإسلامي عموماً، ثم مع تلامذته ودارسي فكره، ومؤلفاته والمتأثرين بآرائه ومنهجه، ويظل مع كل ذلك محتفظاً بما له من قصب السبق وحق الريادة، وجديد ما أضافه وإبداع ما تميز به بحثه وأوصله إليه اجتهاده، وهو الجانب الذي نركز فيه على أبرز مبادئ وأصول منهجه في (الانتصار).
وكما أن الحديث عن مبادئ وأصول منهج (الانتصار)، لا بد أن يكون في جوانب منه حديثاً عن منهج المؤلف عموماً، فإن الحديث عن منهج المؤلف من حيث مبادئه وأصوله، لا بد وأن يكون كذلك حديثاً في بعض جوانبه عن منهج الفكر أو الفقه الزيدي في اليمن، لعمومية وتداخل هذه المبادئ والأصول فيما بينها متفرقة ومجتمعة، وهذا الترابط أو التداخل يفرض شيئاً من الإشارة إلى المبادئ والأصول المنهجية العامة في فكر المدرسة الزيدية، لتكون شبه مدخل للحديث الذي قد يظهر بدونها مبتوراً وذلك بالقدر الذي يهمنا هنا، من هذه المبادئ والأصول العامة، ونركز في مبادئ عامة ثلاثة تميز المدرسة الزيدية.
الأول: وحدة المبدأ في (علم الأصول):
يجمع أئمة وعلماء الزيدية، على مبدأ واحد في علم الأصول (أصول الدين) ويمثل اتفاقهم على كل مسائله (الإلهية) اتفاقاً متطابقاً لا يكاد يوجد بينهم خلاف في أية واحدة من مسائل الأصول الأساسية، مثل: مسائل العدل والتوحيد، والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويجمعون كذلك على أن القضايا أو المسائل الأولى العامة والكلية من أصول الدين، هي مسائل لا مجال فيها للاجتهاد واختلاف الرأي في مبدأ الإثبات والنفي الكليين؛ لأن الحق فيها كلٌ لا يتجزأ وواحد لا يتعدد، وإذا وجد بين بعضهم خلاف في الرأي حول أي شيء منها، فإنه لا يتجاوز المسائل الفرعية التي تترتب عليها وتنشأ عنها من فعل أو نظر أو اعتقاد أو تعامل، مثل: هل يجب إكفار أو تفسيق المخالف في الأصول، أم أن بحثه ونظره اللذين أوصلاه إلى الاجتهاد فالاعتقاد برأيه، يحصنانه من ذلك؟
الثاني: حرية الرأي في الاجتهاد:
فالزيدية يرون بالإجماع، أن مجال الاجتهاد فيما عدا الأصول المشار إليها، مجال متاح وأن بابه مفتوح في كل مسائل الفقه من الفروع، مهما توفرت وسائل الاجتهاد وأسسه وشروطه، ولعل أهم ما يجب توفره منها لديهم ثلاثة:
1- العلم عن طريق الاطلاع الكامل والاستقراء الواسع، لكل العلوم الدينية وغيرها مما لا تتحقق بدونه.
2- العقل، ويراد به العقل القادر على البحث والنظر ومعرفة الأدلة واستنباط الأحكام.
3- المنهج الصحيح، سواء في معرفة طرق الاجتهاد أو الإلمام بأسس الاستدلال، وأنواع الأدلة النقلية والعقلية وأصنافها وحالاتها من الأولويات والتناسخ والتساقط والتعارض والترجيح، وفي هذه الحال فإن كل مجتهد مصيب.
الثالث: العقل:
إذ ترى الزيدية أن العقل السليم هو معيار الأدلة ومناط التكليف ومدار الأحكام ووسيلة البحث والنظر والاجتهاد.. ومن هنا يتميز المذهب الزيدي بأمرين شائعين فيه أكثر منهما في غيره، وهما:
1- عدم ظهور التناقض في البحث والنظر والرأي والاعتقاد، في كل القضايا والاجتهادات برغم كثرتها وانتشارها واختلافها، ولذا يندر أن تجد لأي منهم في المسألة، أكثر من قول ورأي واحد.
2- الاختلاف الواسع بين علمائه في الأقوال والآراء في مجال الفقه، على اختلاف وتعدد أعلامه ومؤلفاته وأجياله ومسائله.
وكما أن كتاب (الانتصار) هذا، واحد من أشهر وأوسع كتب التراث الفقهي للمدرسة الزيدية، فإن مؤلفه الإمام يحيى بن حمزة، واحد من أئمتها وعلمائها المجتهدين المشاهير. ولذا فإن الحديث عن مبادئ وأصول منهجه في الانتصار، يدخل ضمن المبادئ والأصول العامة للزيدية، كما أشرنا إليها سلفاً. ولكنا نحاول إكمال الصورة في هذا الجانب عن منهجه، بما نستطيع إيراده من مبادئه وأصوله التفصيلية التي تميزه بصفة أو بأخرى. وأعود لتطبيق المبادئ الثلاثة السالفة في جوانبها التفصيلية، وفي محيط منهج المؤلف في هذا الكتاب:
أولها: في أصول العقيدة:
نختار ثلاثة نماذج من مبادئ الإمام يحيى بن حمزة الأصولية التفصيلية، الواردة في كتاب (الانتصار).
1- في الفصل الخامس من باب (الأذان) جاء في التفريع عليه: (الفرع الأول.. الكافر لا يصح أذانه..). ثم صنف الكفار إلى صنفين:
الصنف الأول: كفار التصريح، ثم ذكر منهم الملاحدة وعبدة الأوثان والنجوم (والمعطلة والدهرية والفلاسفة والزنادقة والطبائعية، وكذا حال أهل الكتب المنزلة، كاليهود والنصارى والمجوس). (فهؤلاء لا خلاف في كفرهم بين أهل القبلة وأهل الإسلام، ولا يصح أذانهم).
الصنف الثاني: كفار التأويل. وذلك أنهم من المسلمين، يُقِرُّون بوحدانية اللّه وحكمته، ويصدقون بالنبوءة والقرآن والشريعة، (خلا أنهم يعتقدون اعتقاداً يوجب إكفارهم، مع كونهم على هذه الصفة) ومثَّل عليهم بأربع فرق (المجبرة والمُشَبِّهة والروافض والخوارج..)، (فهؤلاء اختلف أهل القبلة في إكفارهم..) (فالذين ذهبوا إلى إكفار المجبرة والمشبهة، أئمة العترة وجماهير المعتزلة والزيدية..). ثم وبحسب أسلوب منهجه، يوضح رأيه في قوله: (والمختار أنهم ليسوا كفاراً؛ لأن الأدلة التي تُذكر في إكفارهم، فيها احتمالات كثيرة..).
2- في القسم الثاني: في بيان من لا تجوز إمامته في الصلاة.. جاء ضمنه إيراد المؤلف للأقوال في حكم صحة الصلاة خلف المخالف في مسائل أصول الدين، والمخالف في الأراء الاجتهادية، وذلك في فرعين. ملخص ما نريده منهما كالآتي:
أولهما: (الفرع الخامس في حكم أهل البدع والضلالات..)، ويقصد بهم المخالفين في أصول الدين، لما عليه إجماع (العترة والمعتزلة والزيدية). وذكر أمثلة ونماذج منهم، ثم انتهى إلى: والمختار أن الصلاة خلف هؤلاء جائزة، إذا سلموا من ملابسة الكبائر وظهور الخلل في العدالة. مع كونها مكروهة، فأما الإجزاء فهي مجزية).
ثانيهما: (الفرع السادس)، الذي يلي سابقه، وفيه شرح مسألة الصلاة خلف المخالف في المسائل الاجتهادية والأقوال فيها، وانتهى إلى الفرع السابع في ذكر المختار لرأيه، فقال: (فنقول: القوي من جهة النظر الشرعي والتصرف الأصولي، جواز الإئتمام بمن خالف مذهبه مذهب المؤتم، سواء علم المؤتم بالمخالفة أم لم يعلم).
3- في الفصل الثالث في بيان حكم الاجتهاد، وفيه ناقش المؤلف مسألة المخالفين في العقائد الإلهية (أصول الدين) هل يُعتد بآرائهم في أية مسألة في انعقاد الإجماع أو عدمه. وانتهى إلى طرح رأيه بقوله: (.. نقول: بأن جميع أهل القبلة سواء في كونهم معدودين من أهل الإجماع إذا كانوا مجتهدين، وأن خلافهم في هذه المسائل الإلهية وغيرها لا يقطع الاجتهاد، ولا يبطل كونهم معدودين من أهل الإجماع والاجتهاد في المسألة، بعد إحراز منصب الاجتهاد في كل واحد منهم..).
ثانيها: في قضية الاجتهاد:
لعل ما سبق آنفاً إيراده من نصوص المؤلف في كتابه هذا، يُعتبر كافياً في تحديد أصول منهجه في هذه القضية. ونشير هنا إلى أمور وأقوال ومواقف للمؤلف في انتصاره، تؤكد عدة مبادئ في جانب قضية الاجتهاد منها:
1- سعة مبدأ الزيدية في حرية الاجتهاد إذا توفرت شروطه وذلك فيما عدا الأصول، ويظهر المؤلف نموذجاً واضحاً ومقنعاً من نماذج هذه المدرسة.
2- يختار المؤلف رأيه من بين الأقوال التي يوردها في كل مسألة من مختلف اجتهادات علماء الأمة، بحسب ما يراه مطابقاً لمنهج اجتهاده ومنطق أسس وأصول هذا المنهج، دون اعتبار بأصحاب الأقوال الذين سيخالفهم من أعلام مدرسته، أو الذين سيلتقي معهم من أعلام المدارس والمذاهب الأخرى. وانظر في مثل آرائه السابقة الذكر التي خالف فيها ما يشبه إجماعاً للزيدية.
3- يلاحظ المستقرئ لمختاراته في (الانتصار)، رداً نظرياً وتطبيقياً للقول الشائع في أوساط بعض المدارس والمذاهب الفقهية، بأن المذهب الزيدي ومجتهديه يتميز بمخالفته في الفقه لآراء الحنفية والشافعية، وهذا القول تظهر مجانفته للحقيقة في جانب كبير منه؛ لأنه لم يقم على أسس موضوعية ونتيجة بحث ونظر، ولكنه أشبه بالرجم بالغيب منه بالقاعدة المطردة في أغلب أحوالها، وهذا ما يؤكده المؤلف بصورة عملية في هذا الكتاب بصفة ضمنية وغير متعمدة لذاتها، فتراه في عموم (مختاره) يلتقي مع الشافعية تارة ومع الحنفية أخرى أكثر - ربما - مما تلتقي الشافعية والحنفية في أقوالهما في المسألة الواحدة.
4- كما يلاحظ المستقرئ لمختارات المؤلف في هذا الكتاب من ناحية، وأقوال أئمة علماء الزيدية من ناحية ثانية، أيضاً.. فساد القول الشائع الآخر، وهو أن النظرة العامة إلى فقه الزيدية، أنه قائم على قاعدة شبه مطردة، هي التشدد في الأقوال والآراء، فترى آراء المؤلف في (المختار) وآراء أئمة وعلماء الزيدية في أغلب المسائل، أقل تشدداً من آراء المذاهب الأخرى، برغم أن أكثر من يعرض المؤلف لأقوالهم من أعلام الزيدية، هم الهادي والقاسم والناصر والأخوان(1). وهؤلاء الأئمة في مقدمة من يؤخذ عليهم شيء من التشدد في الرأي في هذه المدرسة ومذاهبها.
ثالثها: في إعمال العقل:
كما سبق.. فإن العقل لدى أئمة وعلماء الزيدية، هو مناط التكليف وأساس البحث والنظر، وهو كذلك لدى المؤلف بصفة عامة وخاصة، فهو رائده في الاختيار والاجتهاد وفي عرض الأقوال ونقدها والمقارنة فيما بينها فالحكم في مدى التساوي فيما بين أدلتها، أو ترجيح بعضها على بعض.
__________
(1) المؤيد بالله وأبو طالب أحمد ويحيى ابنا الحسين الهاروني.
ولذا فإن من أصول منهج المؤلف في المسائل الدقيقة القابلة لأكثر من احتمال، أو لاختلافها في بعض الحالات أو الظروف.. عدم البت فيها بقول واحد، بل كثيراً ما يحدد المختار بقوله: (والمختار تفصيل نشير إليه..)، أو (والمختار. إذا عرضت هذه المسألة .. نظرت فإن كان.. وإلا فإنها..).
الثالثة: طريقته في الاستدلال (أسلوبه):
الفقرة الثالثة من التصنيف الخاص بمنهج (الانتصار) هي أسلوبه أو طريقته في الاستدلال، ونحن بالتأكيد لا نقصد من هذه الفقرة، الحديث عن طريقة المؤلف في الاستدلال بصفة عامة؛ إذ أن ذلك موضوع بحث مستقل، ولكن الغرض هو الاتساق مع الفقرات السابقة في تناول العناصر والمبادئ والأصول التفصيلية في أغلبها، المميزة لمنهج المؤلف في هذا الكتاب.
نتناول هذه الفقرة عبر ملامح عامة ثلاثة، تشمل اللغة، وعنصري الاستدلال الرئيسين: (النص والعقل) والمبادئ والأسس العامة للاستدلال.
الملمح الأول: لغة الكتاب:
معروف سلفاً، أن الإمام يحيى بن حمزة من أكبر علماء اللغة في مختلف علومها، وأن له مؤلفات وبحوثاً، منها ما هو واسع ومشهور، مثل: (كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز). وهو (يعد من أهم المراجع في البلاغة، والذي يعول عليه الباحثون والدارسون في هذا المجال ..) كما يقول الدكتور أحمد محمود صبحي(1).
وفي جانب لغة الكتاب، يمكن الاقتصار على إيراد نماذج ثلاثة عن المؤلف، من علمه باللغة، وأسلوبه العام، ومصطلحاته المميزة.
__________
(1) في كتابه (الإمام يحيى بن حمزة وأراؤه الكلامية).
الأول: علم المؤلف في اللغة، وهو عَلَم من أعلامها كما سبق ذلك، وباعه الطويل وبحثه الواسع وآراؤه المميزة في علوم اللغة العربية، كل هذه وغيرها جعلت من هذا الإمام إماماً في نهجها، وواحداً من الرواد في كشف أسرارها واجتلاء حقائقها، ومدرسة في فنونها مميزة بمعالمها، ومن يبحث في كتابه (الطراز) الآنف الذكر، يعتقد أن مؤلفه لم يشغل حياته بغير اللغة العربية.. نحوها وصرفها ومفرداتها ومعانيها وبديعها وقواعدها وأقيستها وعروضها وشعرها ومؤلفاتها وأعلامها.
ونعرض هنا لنموذج ثلاثي من آرائه المميزة:
1- من القواعد التي أثبتها المؤلف في كتابه (الطراز) أن المفردات أسماء وصفات وأفعالاً، المنقولة من معناها اللغوي (الأصلي) إلى الدلالة على معان شرعية مثل الصلاة والزكاة والحج والمسلم والمؤمن والكافر والفاسق وغيرها وما تصرف عنها.. تعبر عن معانيها الشرعية هذه تعبيراً حقيقياً، وتعتبر فيها حقيقة لغوية، لا مجازية كما يقول جمهور الأشاعرة وغيرهم.
وجاء في (المطلب الثاني) من التمهيد لبداية هذا الكتاب، فأكد هذه القاعدة وعللها وأورد آراء المخالفين وناقشها، وهذه المسألة موضوع بحث ونقاش وخلاف واسع بين أعلام ومدارس الفكر الإسلامي، وهي وإن كانت قضية لغوية وبداية الخلاف فيها لغوياً، فإن جوهرها وجوهر الخلاف حولها، يجعلها قضية أساساً في (أصول الدين) و (أصول الفقه) والفقه.
2- في مسألة الخلاف في مسح كل الرأس في الوضوء، من حيث دلالة صيغة آية الوضوء {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُم}، هل توجب الآية الكريمة مسح كل الرأس، أم بعضه؟ فذهب جمهور الفقهاء تقريباً، إلى الدلالة على البعضية، بحجة أن (الباء) في {بِرُؤُوسِكُم}، تأتي في مثل هذا المكان للتبعيض، وتدل عليه في دلالتها ومعناها اللغويين، وعارض المؤلف هذا القول رأياً وتفسيراً، وذهب يعرض أوجه الاستدلال ضد مخالفيه بطريقة شيقة بقدر ما هي شاملة وعميقة ومقنعة وواضحة، في أوجه ثلاثة:
أولها: أن الباء تأتي للإلصاق، وهو معناها الأصلي الذي يجب الرجوع إليه، فهي تعني عكس ما ذهب إليه مخالفوه، وهو إلصاق المسح بكل جزء من الرأس.
ثانيها: استشهد بابن جني، وهو واحد من أبرز فلاسفة اللغة العربية والمجددين في علومها.. وأورد رأي ابن جني الذي قال فيه: (ومن زعم أن الباء للتبعيض، فشيء لا يعرفه أهل اللغة، ولا ورد في شيء من كلام العرب منظومه ولا منثوره) (1).
وثالثها: أورد المؤلف قاعدة في غاية الدقة والأهمية، ومفادها، أن الباء في {بِرُؤُوسِكُم}، تدخل على المفعول به لغرض التعميم لا التبعيض، ذلك أن الفعل إذا كان متعدياً بنفسه فله حالتان:
الأولى: إذا جاء دون تعديته بالباء في مثل: مسحته، فإنه هنا يفيد التعميم والتخصيص.
والثانية: إذا جاء مع الباء في مثل (مسحت به) فإنه لا يفيد إلا التعميم؛ لأن الفعل المتعدي بنفسه لا يحتاج إلى الباء لغرض التعدية، ولكن لتفيد معنى جديداً هو التعميم.
ثم يؤكد بأن (باء التبعيض) لم ترد في القرآن الكريم على الإطلاق.
__________
(1) راجع كتاب (الخصائص) للعلامة ابن جني، مطبوع في ثلاثة مجلدات.
3- وكما أثبت القاعدة السلبية السالفة في القرآن الكريم بعدم وجود الباء للتبعيض فيه، أثبت قاعدة مماثلة أخرى في القرآن، هي عدم وجود العطف على المحل، وذلك في تفسير آية الوضوء في {وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الكَعْبَيْن} منصوبة، بأن نصبها ليس عطفاً على المحل من {بِرُؤُوسِكُم} بفعل {وَامْسَحُوا}. فهو يرى أن (.. الظاهر من قراءة النصب هو الغسل من غير تأويل، والظاهر من قراءة الجر هو المسح من غير تأويل، ولا تعارض بين القراءتين ولا تنافي بينهما..). ثم يقول: (وطريقة الجمع بينهما، هو أن النصب في الأرجل إنما كان على طريقة العطف على الأيدي). وذلك بالفعل {فَاغْسِلُوا}، من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا..} ثم يمضي في توضيح القاعدة (.. والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه شائع أو (سائغ) كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍٍ فِيْهِ قُلْ قِتَال فِيهِ كَبِيْر وَصَدٍّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْر بِه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَام}. وإنما عطف المسجد الحرام على الشهر الحرام؛ لأن توجه السؤال إنما كان عن القتال فيهما..). ولذلك فإن عطف {الْمَسْجِد الْحَرَام} كما يقول، على {عَن سَبِيلِ الله}، غير جائز لمجيء التعاطف في الجواب، طبقاً لتوجه السؤال.
وأتوقف هنا قليلاً للتنبيه على أمرين أراهما جديرين بذلك في هذا الموضع:
الأمر الأول: أن علوم اللغة العربية في منهج الزيدية، أساس العلوم ومفتاحها وفأسها، ولذا فإنهم يبدأون باستيعابها والتحقيق الدقيق والعميق فيها، في سن مبكرة، فلا يكاد أحدهم يصل إلى درجة الاجتهاد، إلا وقد أصبح واحداً من كبار أعلام اللغة في شتى فنونها وعلومها وآدابها، لأنهم يرونها رائدة كل العلوم الأخرى، والسبيل والوسيلة الوحيدين لفهم ومعرفة العلوم معرفة كافية، وفهماً صحيحاً وسليماً يُسَهِّلُ كشف حقائقها وإبراز دقائقها على أقوم الطرق وأصح الوجوه، أي أن اللغة العربية لديهم كالعقل، فكلاهما يحظى لدى الزيدية بالاعتماد عليه رائداً لكل العلوم، فإذا كانت اللغة في منهجهم بمنزلة اليدين في تناول العلوم، فإن العقل فيه بمنزلة العينين المبصرتين في الإنسان، سواء بسواء.
الأمر الثاني: أن لدى الزيدية مصطلحات في تسمية العلوم تبين مدى نظرتهم إلى كل علم ودرجة اعتمادهم عليه وموقعه في أولويات منهجهم. ومن هذه المصطلحات، الأسماء:
1- (أصول الدين) لعلم الحقائق الإلهية أو علم الكلام، ومفهوم التسمية أن الدين يقوم على هذه الأصول، وهو لديهم كذلك.
2- (أصول الفقه)، لعلم الاستدلال وأصول الأدلة وأنواعها وأوجه وحالات الدلالات فيها ومصطلحات التشريع.. أو مصادر التشريع.
…وسر تسميتها بـ(أصول الفقه) توحي بدلالتها على أن الفقه يقوم عليها، وأن فقهاً بلا أصول كبناء بلا أساس، لا يمكن أن يقوم و إذا قام شيء منه، فلا يلبث أن يتداعى وينهار.
3- (الأصولان) بمعنى علمي الأصول: أصول الدين وأصول الفقه.
4- (علم الآلة) لعلوم اللغة العربية وعلم المنطق. وتوحي التسمية بأن علوم اللغة بمنزلة الآلة لكل العلوم لا تتحقق معالجتها بدونها.
5- (الفروع) وتطلق على الفقه. وهي تسمية آتية من تأثير المقابل فيها، وهو الأصول أو الأصولان.
الثاني. من نماذج لغة الكتاب.. أسلوبه العام.
وفي الأسلوب العام للغة الكتاب، ميزات ثلاث:
أولاها: الأسلوب العام لعصره ومدرسته، من ميل إلى الجزالة في اللفظ، والاهتمام بجمال التعبير وبلاغة القول.
ثانيتها: تميز المؤلف بأن أسلوبه في جزالة لفظه وبلاغة تعبيره يأتي مقروناً بأسلوب العالم الحصيف في اختيار مفرداته، بحيث يستوعب ويستفرغ توظيف كل منها معناها الكامل، وأن يظهر جمال التوظيف وبلاغة التعبير، ضمن سياق متسق ومتناغم وسهولة ظاهرة وراقية وبعيدة عن الهبوط، قدر بعدها عن أي تعقيد أو تكلف.
ثالثتها: قِصَرُ الجمل المتتابعة في السياق، مع قدرة فيها على دقة التعبير واستيعاب المعاني المقصودة بما تفيده مباشرة وإيحاء وتصريحاً وإشارة، منطوقاً ومفهوماً. إلى جانب سرعة تناولها للموضوعات الكبيرة والصغيرة والأصلية والفرعية، وما يترتب عليها من دقائق وتنبيهات وفوائد وتوخي احتمالات وتساؤلات واردة، وتوقي أية ثغرات أو شروخ أو تجاوز قد يحدث أو يحتمل حدوثه أو يفهم احتماله.
الثالث من النماذج الثلاثة - مصطلحاته المميزة:
للمؤلف مصطلحات مثل غيره من أمثاله خاصة به، ولا نقصد بذلك أنها مصطلحات بالمفهوم العلمي المنهجي، وإنما نعني بذلك جُمَلاً وتعابير يكثر إيرادها في مواضعها مما لا يجعلها تظهر تكراراً، بل هي من نوع تلك التعابير التي لا يلبث القارئ أن يستحليها ويولع بها ويحفظها ويرتاح لاستعارتها وترديدها، وهذا لون من التعبير تُطلق عليه عموماً، صفة (السهل الممتنع). وفيه دلالة على الأصالة الفنية وغنى القاموس اللغوي وسرعة البديهة وتألق الذاكرة، وكل هذا الكلام قليل في ذاته كثير في قصوره عن استيعاب صفة من صفات هذا الإمام العالم الجليل، بالرغم من أننا نقول هذا عنه، وهو في عقد الثمانين من عمره، قد آدت كاهله السنون، وأنقضت ظهره تبعات العلم والتعليم والجهاد والدعوة إلى الله. ومن جُمَلِهِ التي تجدها أينما ذهبت في صفحات كتابه (الانتصار)، هذه التي نوردها مثالاً تلقائياً، لم نتوخَّ فيها انتقاء أو ترتيباً:
- (وهذه من الأمور الغيبية التي استأثر اللّه بها، فلا مجال فيها للعقل أو النظر أو الاجتهاد). يورد هذه العبارة في أماكن الحاجة إليها مثل موضع الرد على من يحاول تعليل شيء من العبادات ثابت بالدليل السمعي فقط، مثل عدد الركعات في الصلاة، وغُسل الجنابة، والتثليث في غَسل أعضاء الوضوء.
- (قلنا عن ذلك وجهان: أما أولاً..). في بداية رده على أقوال مخالفيه.
- (والمختار تفصيل نشير إليه..).
- (وقد ذكرناه في موضعه، وذكرنا فيه تقرير المختار والانتصار، فأغنى عن الإعادة).
- (قلنا: دليلنا حاظر، ودليلكم مبيح، فلا جرم كان الأخذ بالحاظر أحق وأولى).
- (الانتصار يكون بإبطال ما عولوا عليه، أو ما جعلوه عمدة لهم).
- (وقد نجز غرضنا من هذا الباب، ونشرع الآن بعون اللّه في الباب الذي يليه).
الملمح الثاني من ملامح الفقرة الثالثة: عنصرا الاستدلال: (النص والعقل).
غني عن التوضيح القول: بأن منهج المؤلف في استخدام هذين العنصرين الرئيسيين في الاستدلال، هو منهج أئمة وعلماء الزيدية عموماً، وهو أسلوب في منهج الاستدلال، اشتهرت به الزيدية بين المدارس الإسلامية الأخرى، وهو أسلوب تميزت به الزيدية كما يشهد بذلك أعلام وباحثون من خارج هذه المدرسة. ولكن الذي قد يكون ملفتاً للنظر أو مثيراً للإستغراب، أن نسمع من يحاول قلب هذه الميزة، لغرض الطعن بها في هذا المنهج الزيدي من ناحيتين بصفة عامة، يظهر التزيد أو الجهل في كلتيهما:
أولاهما: القول بأن الزيدية يقدمون العقل على النص.
ثانيتهما: انصرافهم إلى الفقه وكتب الفقه عن مسندات الحديث وكتب السنة.
ولئن كانت هذه المسألة تتردد في هذا العصر، فإن علماء وأعلام مدرسة الزيدية، قد فرغوا من مناقشتها والبت فيها في الكثير من كتبهم وكتاباتهم، ولسنا بمن يُنتظر تصديهم للرد عنها بالقول الفصل وفصل الخطاب، ولكنا وجدناها على جادة منهج هذه المقدمة، قضية تطرح نفسها من جديد، فكان لا بد من المرور عليها مرور الكرام بما قد يسد ثغرة في هذا المنهج، ويصل فقراته ويحافظ على اتساق سياقه. ولا نريد أن نستطرد في المناقشة بأكثر مما يحقق الغرض المشار إليه ضمناً، وذلك بحصرها في ثلاث نقط:
الأولى: أن القول بأن الزيدية يقدمون العقل على النص، هو ادعاء غير دقيق؛ كونه يتضمن عدة معان محتملة من حيث منطق صيغته ومفهومه المباشر.
فهل يعني أنهم يأخذون برأي العقل، ويتركون النص؟ فهذا غير وارد ولا يقبله عقل قائله؛ لأن العقل الذي يأخذ برأيه ويترك النص، لا يمكن أن يكون عقلاً ولكنه الهوى وحده؛ لأن العقل لدى الزيدية، من بعض صفاته أنه الذي يهدي به اللّه تعالى صاحبه إلى الحق والصواب، والحق والصواب هو التمسك بالدليل السمعي مهما أمكن ذلك، أما ترك النص والإعراض عنه، فإنه اتباع الهوى الذي يقود إلى الضلال.
أم يعني أنهم يأخذون بالعقل، فإذا لم يجدوا فيه ما يريدون عادوا إلى النص؟ وهذا قول يرفضه الإسلام عقيدة وأصولاً وفقهاً وأدلة وعقلاً ونقلاً وتشريعاً وعملاً.
الثانية: وبصرف النظر عَمَّا قد يمكن طرحه من احتمالات أخر، فإن العقل لدى الزيدية، ولدى كل أمة محمد كما هو مفروض، لا يسبق الدليل السمعي ولا يتجاوزه، ولكنه يرتبط به ارتباطاً مباشراً، بوصفه وسيلةَ تَلَقِيّ النص وفهمه وتحديد موجبه وعلاقته بما قد يوجد من نظائره ونقائضه، وتفاوتها قوة وضعفاً وتمايزها عموماً وخصوصاً، ثم تحديد حالات وكيفية تطبيقه وإعماله أو إسقاطه وإهماله بحسب مدى ثباته من عدمه، وهذا كله يتم طبقاً لقواعد ومنهج علم أصول الفقه المعتمدة لديهم ولدى علماء الأمة، مع عدم الالتفاف إلى ما يعتورها من اختلافات قليلة أو فرعية.
الثالثة: وحول القول عن انصرافهم إلى كتب الفقه عن مسندات الحديث يمكن التعليق بثلاث حقائق ثابتة:
1- أن مسندات الحديث موجودة ضمن تراث الفقه الزيدي، منها ما هو خاص وملحق بالمسندات نصوصاً ورجالاً ورواية، مثل: (مجموع الإمام زيد بن علي) (1) ومنها ما هو وارد ضمن ما يسمى بالأماليات(2)، ومنها ما هو خاص بقواعد وأصول ومصطلحات الحديث، وبمنهج وطرق وأنواع الرواية ورجالها وطبقاتهم، وبطرق ومنهج التوثيق رواية ورجالاً (الجرح والتعديل ...إلخ) وكتب الفقه تطفح بالأدلة من الكتاب والسنة في كل مسألة(3).
__________
(1) المسمى بالمجموع الفقهي، من حيث أنه تضمن آراء الإمام زيد وتمييزاً له عن المجموع الحديثي، وإلا فإنه من كتب الحديث.
(2) مثل أمالي الإمام أحمد بن عيسى بن زيد، وأمالي أبي طالب، وأمالي المرشد بالله وغيرها. والأمالي لغة: جمع أملية أو إملاءة، وهي: ما يمليه الشيخ على تلامذته، ثم يجمعه في كتاب.
(3) وهذا الكتاب خير مثال، ففيه آلاف الأحاديث من السنة النبويه المطهرة.
2- معروف أن جمع السنة النبوية الشريفة ورواية الأحاديث ونقدها، علم مستقل وقائم بذاته، هو (علم الحديث) وأن إعمال السنة وحالات طرق تطبيقها، علم مستقل بذاته مَعْنِيٌّ به علماء الفقه وأصول الفقه وكتبها ومولفاتها، ويسمى في مصطلحها، علم (الدراية). كما يطلق على سابقه، علم (الرواية). ومن هنا، فإن مسندات الحديث وأمهاته، لم تؤلف من قبل مدرسة محددة من مدارس الفقه، بل كانت مدرسة مستقلة بذاتها، وليس الأخذ منها والاستدلال بما جاء فيها خاصاً بفرقة أو فرق محددة من الفرق والمذاهب الإسلامية، ولكن لكل الحق في ذلك. ومن هنا فإن القائلين على الزيدية ذلك القول، ليسوا في مدارس فقههم بأكثر من علماء الزيدية مسندات، ولا أحق بالأخذ من أمهات الحديث أو غيرها ولا أكثر استدلالاً بالنصوص الواردة فيها من هؤلاء.
3- ثم إن كل كتب الفقه الزيدي في كل كتاب وكل باب وفصل، بل وفي كل مسألة جليلة ودقيقة كبيرة وصغيرة، بدءاً من مسائل أركان الإسلام الخمسة، وانتهاء بمسائل الاستجمار وتخليل الأظافر ومسح الرقبة، مدارها ومناطها والأصل فيها الدليل السمعي من الكتاب والسنة بدون استثناء. وهذا الكتاب (الانتصار) خير شاهد وأكبر دليل وأعظم رد على كل قول.
الملمح الثالث: مبادئه، وأسسه العامة في الاستدلال.
يتميز كتاب (الانتصار) بعناصر شاملة وواسعة في قضية الاستدلال، قد لا توجد مجتمعة في غيره بمثل هذه الصورة، سواء في أسسها وأصولها، أو في أسلوب طرحها وترتيب عناصرها، أو في شمولها واستيعابها لكل الأطراف والعناصر، ويتضح أبرز الجوانب لهذه الطريقة وصورتها، في معالم ثلاثة:
المعلم الأول: طريقته في الاستدلال:
1- وهي طريقة تتميز بقدرتها على الإقناع حتى لدى المخالف الذي لا يريد الأخذ بها، فإنه يقتنع بحق المؤلف وحجيته في الاختيار للرأي (المختار) بعد أن أبلغ في عرض الآراء وأدلتها ومناقشتها، حتى تَوَصَّل إلى تحديد رأيه. وميزة طريقة المؤلف، أن بإمكانه إنهاء المسألة أية مسألة بالمختار لأصله(1).
2- ولكنه لا يتوقف عند هذا الحد، بل يذهب لتأكيد صحة (المختار) بمناقشة جديدة تتضمن كل ما يمكن الاستدلال به من الأدلة النقلية والعقلية، في عرض غني بالنكت والقواعد والفوائد، وإيراد النماذج من النظائر والأشباه والأنداد والأضداد، وباستقراء واستنباط كل أوجه وعناصر الدلالات فيها من منطوق ومفهوم بأنواعه ومدى قوة كل منها، وجوانب الإفادة منه ومن عكس الدلالات وطردها، ومن مناقشة حجج مخالفيه وتفنيدها مرة وإسقاطها أخرى، وقلبها حجة عليهم ثالثة، وإبراز ما قد يكون من تناقض أصحابها فيها نظراً إلى أقوال وآراء لهم سابقة عن طريق طرد هذه الأقوال في النظائر، وعكسها في النقائض...إلخ.
3- ومناقشة آراء وحجج مخالفيه والاحتجاج عليهم، يركز عليه ويمحصه في (الانتصار) وذلك يكون حسب منهجه في نهاية المسألة.
المعلم الثاني: معالم طريقته في الاستدلال وهي:
1- في الصورة العامة لمنهج البحث، يفصلها مرتبة في العناصر الأربعة:
- يبدؤها بالباب أو الفصل أو المسألة أو الفرع أو القاعدة أو الحكم أو التقرير.
- بعد طرح المسألة، يورد الأقوال المختلفة فيها وحجج كل قول.
- ثم يقرر المختار لأصله، موضحاً لأدلته وحججه.
- فالانتصار الذي يمحضه لتفنيد أقوال مخالفيه، والاحتجاج عليهم.
2- وقد يلحظ المطلع، أن المؤلف يحرص بصفة دقيقة وشديدة، على أن لا يطعن في صحة الدليل الذي يورده مخالفه، حتى من الأدلة التي لا يقبلها المؤلف لضعفها أو عدم صحتها لديه لأي سبب من الأسباب، بل يحاول إبطالها بطرق أخرى غير مباشرة لا تمس الدليل، مثل:
__________
(1) لمذهبه.
- الطعن في طريقة الاستدلال التي يستخدمها مخالفه.
- إلزام المخالف من متن دليله، بدلالة أخرى تخالف مذهبه أو قوله في مسألة أخرى أو في جانب آخر من نفس المسألة.
- رده عن طريق العلاقة بين العام والخاص أو الأولويات.
- صرفه عن غرض المخالف بسبب لغوي لتفسير بعض مفرداته، أو لما يتعلق بحيثياته.
- الاحتجاج عليه بدليل أقوى منه لدى المخالف.
- بتساقط الأدلة عند استوائها في القوة والدلالة.
- بإحدى الأولويات المعروفة، كأولوية الحاظر على المبيح، والخاص على العام.
3- كما يلحظ ما هو أبعد من هذا، وهو إيراده واحتجاجه ببعض الأحاديث التي لم تصح لديه لأي سبب، ولكنه لا يعتمد على شيء منها إلا إذا كانت دلالته ثابتة لدى المؤلف بأدلة أخرى، أو جاء الحديث متطابقاً مع المقاصد والحيثيات العامة للمسألة بما يوافق أصله فيها، أو جاء لإثبات فرع في مسألة يستوي طرفاها لدى المؤلف في اختيار الأخذ به.
…وإيراد المؤلف للحديث في مثل هذه الأحوال، يمكن اعتباره إلى الاستئناس بالدليل، أقرب منه إلى الاستدلال، علماً بأن طريقة الاستئناس بالنص، ظهرت مصطلحاً جديداً في القانون تطلق على إيراد نص من قانون قد ألغي، أو نسخ أو عُدِّل بقانون تالٍ له.
4- ومثل براعة المؤلف في بحث ومناقشة وتعليل الأدلة النقلية، فهو نموذج متميز في المناقشة والتحليل والكشف والاستنباط وأساليب الاحتجاج، ورده في مجال الاستدلال العقلي، مستخدماً قدراته الواسعة في اللغة والمنطق وأصول القياس ومبادئ العقل والنظر.
المعلم الثالث: مداخل الاختلاف في القول.
كما سبق الحديث مركزاً عن اتساع الآراء والأقوال في المذهب الزيدي، وعن الاختلاف في الفروع (الفقه) بين أئمته وعلمائه بصورة قد لا توجد بين أعلام المذاهب الفقهية الأخرى.. فإن كتاب (الانتصار) ربما يدل أكثر من غيره لتوسعه في الأقوال والحجج وطرق الاستدلال، يدل على مداخل عامة للاختلاف الذي يكثر بين أقوال أئمة الزيدية وعلمائها وفقهائها. وقبل أن أورد نماذج من هذه المداخل، أشير إلى أن الاختلاف بينهم في حد ذاته، يؤكد أمرين:
أحدهما: الاعتماد على البحث والنظر في اختيار كل مجتهد لرأيه في المسألة؛ كونهم لا يجيزون التقليد للمجتهد ولا يوصدون طريقاً عنه إذا توفرت شروطه، ولأنهم يرون في قواعدهم وأصولهم، (أن الاجتهاد هو مطلوب اللّه تعالى من عباده)(1).
وثانيهما: غنى واتساع وعمق المذهب الزيدي بالكتب والمؤلفات والبحوث، في مختلف فنون وعلوم الفكر الإسلامي.
ونورد الآن نماذج من هذه المداخل، وهي مجرد أمثلة على المداخل التي يبدأ منها اختلاف الأقوال في الفروع بين طرفين قد يكون كلاهما مقراً بمبدأ الاحتجاج في أصل تلك المسألة:
1- الأحوط في مقابل الأصل، وذلك في مثل النجاسة الخفية، متى جفت فإن وجودها يصبح حكماً شرعياً فقط، لا وجوداً مادياً، وبالتالي فإن النجاسة لا تنتقل منها بواسطة الرطوبة، ومع اتفاق الطرفين على هذا الأصل، فإن أحدهما يذهب إلى ترجيح اعتبارها منجسة من باب الأحوط، وهو أحوط غير مطلق، بل لا يخلو في الأغلب من دليل عام، فيأتي في مثل هذه الحال بقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُر}. والهجر لا يتحقق إلا بتجنب موقع النجاسة حتى يزول حكمها بغسلها.
2- الاجتهاد في قضية من قضايا العبادات. ويرى الطرف الآخر أن الاجتهاد غير وارد فيها بوصفها من الأمور الغيبية التي استأثر اللّه تعالى بها، وذلك في مثل الفعل الكثير في الصلاة أو تحديد بلوغ الصبي بالعقل.
__________
(1) أصول المذهب، مقدمة شرح الأزهار ص46.
3- الاحتجاج بقول الصحابي. ويكون الاختلاف في أن يرى أحد الطرفين أن قول الصحابي في المسألة اجتهاد، واجتهاد الصحابي لنفسه لا يلزمنا الأخذ به، ويرى الطرف الآخر أن قول الصحابي هذا، لا يكون إلا توقيفاً من جهة صاحب الشريعة...إلخ.
---
المحور الثالث: شخصية المؤلف
هذا هو المحور الثالث والأخير من المحاور العامة لمقدمة الكتاب. وكنا في بداية المحور الثاني قد قسمناه ضمن تصنيف منهج المقدمة، إلى قسمين:
أولهما: ملامح عامة عن الكتاب، وهو الذي انتهى ببداية هذا المحور.
وثانيهما: نُبذٌ من أقوال وآراء المؤرخين والباحثين في الكتاب، وقد تجاوزنا القسم الأخير لإدراجه ضمن هذا المحور اختصاراً للمقدمة، وتجنباَ لتكرار الأقوال والآراء عن الكتاب مرة، ثم عن المؤلف أخرى، لتَوَحُّد هذه النبذ عن الكتاب والمؤلف في موضع واحد، ثم للترابط اللصيق بين ما كتبه المؤرخون والباحثون عن الموضوع بشقيه.
هذا.. لمجرد التنبيه عن التجاوز وتداركه. ونعود إلى شخصية المؤلف في جوانب ثلاثة لهذا المحور تتناول شخصية المؤلف وحياته ومؤلفاته:
أولا: شخصية المؤلف:
لعل هذا هو الجزء الوحيد من هذه المقدمة، الذي نجد العجز عن القول فيه بأي لون من ألوان القول المتاحة للذهن أن يمد القلم بشيء منها؛ لأن النظرة الخاطفة إلى مقام هذا الإمام الذي تجمعت فيه خلال قلما تجتمع لغيره، تخرس الألسن والعقول، وتجعل العالم النحرير يتطلع مذهولاً إلى جوانب شخصيته التي يبدو في كل جانب منها فارساً فذا وعلماً متميزاً، في علمه واجتهاده وجهاده ومؤلفاته وإخلاصه وورعه وشجاعته، وفي زهده وتنسكه وتقواه، وفي كل واحدة من هذه الفضائل تتركز وتجتمع كل فضائله وخلاله المميزة، وهذه الفضائل والخلال، لم تكن أو شيء منها صفات خلعها عليه مديح شاعر، أو إطراء ناثر، أو حب قريب لصيق، أو إعجاب تلميذ أو شهادة صديق، بل كانت تعبيراً عن شمائل شخصيته، وترجمة لسيرة حياته.
وأمام شخصية تذهل العالِمَ النحرير، فكيف بنا ونحن أحوج إلى قراءة شيء من مؤلفاته، والتأمل في جانب من أسلوبه ومنهجه، واستقراء جزء من هممه ومثابرته، منا إلى ما يمكن أن نقول عنه؟
ولذا نصمت برهة لنطالع خلالها نُبَذاً ملخصة مما كتب المؤرخون والباحثون عن هذه الشخصية، ونكتفي بما رُوي عن المتنبي في الإمام علي بن أبي طالب، جد هذا الإمام.
وتركت مدحي للوصي تعمدا .... مذ صار نوراً مستطيلاً ماثلاً
وإذا استطال الشيء قام بنفسه .... وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً
---
نسبه
ترجم للمؤلف فضيلة الوالد العلامة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي في كتابه (التحف شرح الزلف)، فقال:
(هو الإمام المؤيد بالله أبو إدريس، يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم بن يوسف بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إدريس بن جعفر الزكي بن علي التقي بن محمد الجواد بن الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن سيد (زين) العابدين علي بن الحسين السبط ابن الإمام الوصي (علي بن أبي طالب) عليهم السلام)(1).
هذه نعتبرها الرواية المعتمدة لنسبه.
أولاً: لأن المؤلف (العلامة مجدالدين) معروف بطول الباع في أنساب الأئمة وسيرهم، وذلك هو موضوع كتابه هذا (التحف) إضافة إلى علمه الجم في سائر علوم الفكر الإسلامي وتاريخه ولغته.
ثانياً: فإن ما جاء في (التحف)، يتفق مع (مشجر) الأنساب الذي يحتفظ بنسخ وأجزاء منه، بعض الأسر في اليمن(2).
والتركيز نوعاً ما على هذه النقطة، ناتج عن ما لا حظناه من نقص وخطأ في بعض المراجع التي أوردت نسب المؤلف، ومنها مثلاً: (البدر الطالع) للعلامة الشوكاني (3). وكذا في كتابي الدكتور الباحث المعروف أحمد محمود صبحي، وهما: (الإمام يحيى بن حمزة وآراؤه الكلامية)(4) و (الزيدية)(5) وهو لاشك سقط عابر لا رأياً في رواية النسب، ولعله حدث أثناء الطباعة.
ويضيف في (التحف) عن ترجمته:
__________
(1) ص185 الطبعة الثانية.
(2) المشجرات في اليمن تطلق على تسلسل أنساب الأسر التي تصمم على شكل شجرة تبدأ بالجد الأعلى من الجذع ثم من يليه في شكل فروع وأغصان الشجرة. ومن هنا سميت: مشجرات.
(3) محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ. وكتابه (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) طبع في مجلدين عام 1348هـ، وطبع عام 1990م.
(4) طبع في مجلد واحد.
(5) الزيديه في اليمن) صدر في عدة طبعات أولاها سنة 1984م.
(.. ولما بلغت دعوته بعض العلماء قام خطيباً، وحث الخلق على إجابته، وأقسم بالله ما يعلم من أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) إلى وقته، من هو أعلم منه..).
---
مولده وحياته
ترجم له كثير من المؤرخين اليمنيين تراجم مختلفة، ولكنها تتفق في إضفاء وصفه بالإمام العالم المجتهد المجاهد الزاهد الناسك. ونقتصر كما قلنا على نبذ من هذه التراجم، بما يعطي أبرز المعالم عن المؤلف. ومن المترجمين له:
1- الشوكاني:
يقول عنه العلامة محمد بن علي الشوكاني في (البدر الطالع): (ولد بمدينة صنعاء، سابع وعشرين من صفر سنة669هـ تسع وستين وستمائة، واشتغل بالمعارف العلمية وهو صبي، فأخذ في جميع أنواعها على أكابر علماء الديار اليمنية، وتبحر في جميع العلوم، وفاق أقرانه، وصنف التصانيف الحافلة في جميع الفنون، فمنها: الشامل، ثم ذهب يورد مؤلفاته، ويعقب عليها بالقول: (..وله غير ذلك من المصنفات الكثيرة حتى قيل: إنها بلغت إلى مائة مجلد، ويروى أنها زادت كراريس تصانيفه على عدد أيام عمره، وهو من أكابر أئمة الزيدية بالديار اليمنية، وله ميل إلى الإنصاف مع طهارة لسان، وسلامة صدر، وعدم إقدام على التكفير والتفسيق بالتأويل، ومبالغة في الحمل على السلامة على وجه حسن، وهو كثير الذَّب عن أعراض الصحابة المصونة (رضي اللّه عنهم) وعن أكابر علماء الطوائف رحمهم الله..)(1).
ثم يواصل العلامة الشوكاني الحديث مختصراً عن دعوة المؤلف إلى نفسه، وعن معارضيه، وينتهي إلى القول: (.. ولكن أجاب الناس في الديار اليمنية دعوة صاحب الترجمة، ولم يلتفتوا إلى غيره، وكان من الأئمة العادلين الزاهدين في الدنيا المتقللين منها، وهو مشهور بإجابة الدعوة، وله كرامات عديدة، وبالجملة فهو ممن جمع اللّه له بين العلم والعمل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومات في سنة 705هـ خمس وسبعمائة بمدينة ذمار، ودفن بها، وقبره الآن مشهور مزور)(2).
__________
(1) ج2/331
(2) ومدينة ذمار من أشهر مدارس الزيديه في اليمن.
ويلاحظ أن هناك خطأ في تاريخ وفاته المضبوطة في هذا الكتاب؛ إذ إن تاريخ وفاته كان في عام 749هـ تسعة وأربعين وسبعمائة للهجرة، أي بعد التاريخ الوارد هنا بأربعة وأربعين عاماً وهذا يكاد يتفق عليه المؤرخون لحياته والمترجمون لشخصيته، ولم نجد فيما بين أيدينا من المراجع ما يخالف هذا التاريخ لوفاته (749هـ) فيما عدا كتاب (غاية الأماني) ليحيى بن الحسين، الذي عد وفاة المؤلف ضمن أحداث عام747هـ(1). فالمؤلف لم ينته من تأليف كتابه (الانتصار). إلا في أواخر عام748هـ. وكذا تتفق الروايات على أن تاريخ دعوته إلى الإمامة، كانت في عام729هـ، عقب وفاة الإمام محمد بن المطهر.
2- يحيى بن الحسين بن القاسم:
يعيد يحيى بن الحسين بن القاسم في كتابه (غاية الإماني في أخبار القطر اليماني)، دعوة المؤلف إلى أحداث عام 730هـ، (..وفيها كان قيام أربعة أئمة من أئمة العترة الزكية ٍ وهم: علي بن صلاح بن إبراهيم بن تاج الدين، والإمام الأعظم المؤيد بالله يحيى بن حمزة، والواثق بالله المطهر بن الإمام محمد بن المطهر بن يحيى، وأحمد بن علي بن أبي الفتح..)(2).
(...وأما الإمام يحيى بن حمزة فظهر في جهات صنعاء، وبلغت دعوته بلاد الظاهر وصعدة، والشرف، واستقر في حصن هران قبلي ذمار..).
(..وكان الإمام يحيى بن حمزة أفضلهم وأشرفهم علماً وعملاً، له التصانيف المفيدة، والمناقب العديدة..)(3).
3- العلامة مجدالدين بن محمد المؤيدي.
__________
(1) غاية الأماني ـ ج2ـ ص511.
(2) نفس المصدر.
(3) نفس المصدر.
وعن دعوة الإمام يقول مؤلف التحف: (.. قال في دعوته: إني قد تسنمت غارب هذه الدعوة مستكملاً لشرائطها، غير خارج عن استحقاقها، وقد لزمتكم الإجابة، ولكم البحث والاختيار..) إلى آخر كلامه. قال السيد الهادي بن إبراهيم (1) في كتاب (كاشف الغمة): (قال الإمام الناصر صلاح بن علي بن محمد: وكان الواجب عليهم اختياره؛ لأنه الأسبق بالدعوة، وكلامه داع إلى الصوب سالك منهج السنة والكتاب..)(2).
4- الدكتور حسين عبدالله العمري:
وقال عنه الباحث اليمني الدكتور حسين العمري، في كتابه (مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني): (.. الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة، أحد أعاظم أئمة اليمن، وأكابر علماء الزيدية. ولد بصنعاء، واشتغل بالمعارف الإسلامية من صغره، دعا لنفسه بالإمامة عقب موت الإمام المهدي محمد بن المطهر سنة 728هـ ..)(3). (.. أما كتبه ومصنفاته فكثيرة، ويروى أن كراريس تصانيفه زادت على عدد أيام عمره، ولعل أجلها كتاب (الانتصار) في 18 مجلداً...) (4)، (..يعتبر كتاب الانتصار من أعظم كتب الفقه عند الزيدية، بل لقد وصِف بأنه لا نظير له في كتب المتقدمين والمتأخرين..)(5).
5- الأستاذ عبدالله محمد الحبشي:
__________
(1) الهادي بن إبراهيم بن علي الوزير المتوفى سنة 822هـ.
(2) التحف شرح الزلف) ص185 الطبعة الثانية.
(3) ص176 الطبعة الأولى.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.
(..الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن علي؛ مولده سنة 669هـ، حكمه سنة 729هـ، وفاته سنة749هـ. من أجلِّ حكام اليمن وعظمائهم، ولد بصنعاء في 27 صفر، وحفظ القرآن، واشتغل بالمعارف الإسلامية من صغره، وصحب الإمام المتوكل على اللّه المطهر بن يحيى في حربه سنة 689هـ، في (جبل اللوز) و (تنعم) من (خولان) العالية، فقال الإمام المطهر: (في هذا الولد ثلاث آيات: علمه، وخطه، وخلقه) (1) ومن أجلِّ شيوخه الإمام يحيى بن محمد السراجي، والفقيه عامر بن زيد الشماخ وغيرهما..)(2).
__________
(1) مصادر الفكر الإسلامي في اليمن) ص564 ـ 570.
(2) نفس المصدر.
---
مراجع الترجمة:
1- سيرة الإمام يحيى بن حمزة، نبذة في ترجمته، ومهمتان في 7 ورقات، جامع مخطوطة رقم10.
2- الترجمان المتفتح بكمائم البستان.
3- مآثر الأبرار.
4- اللآلئ المضية. طراز أعلام الزمن.
5- العقود اللؤلؤيه ج2 ص142.
6- غاية الأماني ج2 - ص511 - 554.
7- تكملة الإفادة.
8- الجامع الوجيز.
9- البدر الطالع ج2 ص331 - 333.
10- فرجة الهموم والحزن ص194 - 195.
11- أئمة اليمن ص 228 - 235.
12- إتحاف المهتدين ص65.
13- التحف شرح الزلف ص120 - 123.
14- المقتطف من تاريخ اليمن ص 80(1).
6- الدكتور أحمد محمود صبحي:
الأستاذ الدكتور أحمد محمود صبحي، من أكثر الباحثين في العصر الحديث إيغالاً في المذهب الزيدي، دراسة وبحثاً لشخصيات وأعلام أئمته وعلمائه ومؤلفاتهم، وفي تصديره لكتاب (المعالم الدينية في العقائد الإلهية) للمؤلف.. (تحقيق : سيد مختار محمد أحمد حشاد). يقول الدكتور صبحي: (عدة أمور جذبتني إلى الإمام يحيى بن حمزة، حين قمت بدراسة عن أشهر مفكري الزيدية، والتي ضمنتها كتابي (الزيدية).
الأمر الأول: تواضعه الجم، إذ لا يعرض لنفسه رأياً، إلا بعد عرض آراء الفرق المختلفة في الموضوع، ثم يعقب قائلاً: (والأرجح عندنا هو...)
الأمر الثاني: منهجه الفريد في عرضه للموضوعات الكلامية، فقد أتاحت له مقدرته الفائقة في علوم اللغة وبخاصة البلاغة، أن يقيس الآراء الكلامية، بمعايير أربعة للاستخدام الصحيح للفظ: اللغة والدين والعرف والاصطلاح.
الأمر الثالث: ويحيى بن حمزة موسوعة علمية ندر أن يكون له نظير..
(أما كتابه الانتصار في الفقه، فهو الينبوع الذي اغترف منه ابن المرتضى، فأخرج للناس بحره الزخار، وتتالت من بعده المؤلفات لا في فقه الزيدية فحسب، بل في فقه مختلف الأمصار).
(وبعد: فإن يحيى بن حمزة في نظري، مغبون أشد الغبن، غبنه الزمان إن صح هذا التعبير، حين ظلت معظم مؤلفاته حبيسة الأقبية لا ترى النور..).
__________
(1) نفس المصدر.
(مرة أخرى.. هذه دعوة للاهتمام بتراث هذا العَلَم الشامخ من أئمة الزيدية وكبار مفكريهم، عسى أن يسهم ذلك في إلقاء الضوء على أراء فرقة من أكثر فرق المسلمين اعتدالاً، وأقومهم قصداً)(1).
ونفس هذا الكلام تقريباً مع اختلاف في بعض الألفاظ.. أورده الدكتور صبحي في مقدمته لكتابه (الإمام يحيى بن حمزة وأراؤه الكلامية). وفي هذه المقدمة يشير إلى كتاب (الانتصار) بقوله: (.. يكفي للدلالة على ذلك أن أشير بصدد يحيى بن حمزة إلى أمرين:
الأول: أن كتابه (الانتصار الجامع لمذاهب علماء الأمصار)، يعد أول موسوعة فقهية شاملة لجميع المذاهب الإسلامية، وكل من ألف بعد ذلك في هذا الموضوع كانوا عيالاً عليه.
الثاني: أن كتابه (الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز) يعد من أهم المراجع في البلاغة، والذي يعول عليه الباحثون، والدارسون في هذا المجال)(2).
__________
(1) راجع كتاب الدكتور صبحي (الإمام يحيى وآراؤه الكلامية).
(2) نفس المصدر.
---
مؤلفاته
تمثل مؤلفات المؤيد بالله يحيى بن حمزة، مكتبة نموذجية للفكر الإسلامي في أشمل وأبلغ وأوسع علومه. وعندما يراجع المطلع، عناوين مؤلفاته وموضوعاته وبعض مخطوطاتها، يخيل إليه أنه أمام جيل من أعلام وعلماء المفكرين والمؤلفين. كذلك يجد الإنسان وهو يقرأ للإمام يحيى بن حمزة في علم معين، أن هذا المؤلف لم يبرع في أي علم آخر مثلما برع في هذا، وهكذا. فتقرأ له في علم الكلام، فتأخذه عالماً ومفكراً متخصصاً في علم الكلام أكثر من أي علم غيره، وتعود إلى مؤلفاته في أصول الفقه، فتظنه تفوق فيه أكثر منه في أي ميدان آخر.. وكذا في اللغة العربية وعلومها المختلفة، بما في ذلك منطق اللغة وفلسفتها، وهكذا.
وكذا.. فلا يكاد الإنسان يراجع شيئاً من مؤلفاته في جانب من جوانب هذه العلوم، إلا اعتقده تفرغ لهذا العلم طيلة حياته دون أن يشتغل بشيء آخر سواه من علم أو عمل، ولذا يجد العالم النحرير فكيف بنا؟ .. يجد نفسه مذهولاً أمام شخصية هذا الإمام، فلا يلبث أن يعود إلى نفسه شاكاً في مواهبها وقدراتها. فإذا كان يحيى بن حمزة قد ألَّف ما مجموع كراريسه بعدد أيام حياته، كما يقول أمثال الشوكاني، فكيف عاش طفولته أولاً؟ ثم كيف قضى فترة طلبه للعلم تلميذاً محصلاً ومطلعاً ومنقباً عن مواقع العلم ومواطن العلماء، وفي بواطن الكتب ومصادر العلم والمعرفة، وكيف عاش داعياً إلى بيعته مضطلعاً بأعباء الحكم، حاكما بكتاب اللّه وسنة رسوله، منفذاً لأحكامهما ومقتفياً لنهجهما، ومجاهداً في سبيل اللّه ينشر العلم والعدل والحق، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر. وكيف استطاع مع كل هذا، أن يظل إمام علم لا ينفك عن التعليم والمناقشات والفتيا والقضاء، حتى كَوَّنَ جيلاً من التلاميذ الذين أصبحوا علماء؟ ناهيك بتهجده وعبادته وبحياته الخاصة. إنها بالفعل حياة إنسان مقلة الحياة، ونموذج فذ وعلم مفرد من نماذجها وأعلامها.
سبعون مؤلفاً:
نجد بين أيدينا مما هو مسجل ضمن مؤلفات هذا الإمام، زهاء سبعين مؤلفاً نسردها هنا مصنفة قدر الإمكان، بحسب موضوعات محتوياتها من العلوم، ثم نعود للتعقيب على مصادرها من حيث مواطن الخلاف حول تسجيل وحجم ومواقع ما يوجد فيه الاختلاف منها.
وذلك بحسب مجالاتها الأربعة العامة: أصول الدين وأصول الفقه والفقه واللغة، دون ذهاب في التصنيف إلى تفصيلاتها، وبحسب ما أورده الحبشي في كتابه (مصادر الفكر الإسلامي في اليمن) ثم مقارنته مع غيره من المصادر الأخرى لتوخي وتحري الصحة في تسجيل كل المعلومات المتعلقة بمؤلفات الإمام يحيى بن حمزة، مجتمعة ومنفردة، ثم نورد في قسم خاص في آخرها، ما كان من المؤلفات خارج نطاق هذه المجالات الأربعة العامة، ونضع بين قوسين ما ذكر منها في مصادر أخرى.
أولاً. أصول الدين (علم الكلام):
1- الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام.
منه نسخة مخطوطة سنة 817هـ، ضمن مجموعة من ورقة (155) إلى (204) بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء. (فهرست وزارة الأوقاف ص537).
2- التحقيق في أدلة الإكفار والتفسيق.
منه نسخة مخطوطة سنة 724هـ، في حياة المؤلف، في (140) ورقة بمكتبة الأستاذ حسين السياغي، نسخة أخرى بمكتبة الجامع الكبير (مجلد واحد كما هو في البدر الطالع ج2 ص331، وفي التحف ص185.
3- التمهيد لأدلة مسائل التوحيد.
منه نسخة مخطوطة سنة 733، في (112) ورقة بمكتبة الجامع برقم (61) علم الكلام. (ص575 فهرست الأوقاف).
نسخة أخرى بمكتبة الجامع (الكتب المصادرة)، وهو مجلدان كما في البدر الطالع ج2 ص331، وكذا في التحف ص185.
4- الجواب الرائق في تنزيه الخالق. (ص 585 فهرست الأوقاف. وفي البدر الطالع).
منه نسخة مخطوطة بمكتبة الجامع برقم (10) مجاميع.
5- الجواب القاطع للتمويه عما يرد على الحكم والتنزيه (585 فهرست الأوقاف).
منه نسخة مخطوطة ضمن المجموعة السابقة، بمكتبة الجامع (ذكره في البدر الطالع).
6- الجواب الناطق بالصواب، القاطع لعرى الشك والارتياب.
منه نسخة مخطوطة ضمن المجموعة السابقة في 6 ورقات (ص 586 فهرست الأوقاف).
7- الرسالة الوازعة لذوي الألباب، عن فرط الشك والارتياب.
منه نسخة مخطوطة ضمن مجموعة من ورقة (60) إلى (63) بمكتبة الأمبروزيانا برقم (205g) (فهرست الأوقاف ص 1235 وذكره في البدر الطالع).
8- الشامل لحقائق الأدلة وأصول المسائل الدينية.
منه نسخة مخطوطة سنة 1066هـ بمكتبة الجامع برقم (24) (الكتب المصادرة).
نسخة أخرى بنفس المكتبة (قسم المكتبة المتوكلية) مخطوطة سنة 1069هـ في (283) ورقة، برقم (70) علم الكلام. (ذكره الشوكاني في البدر الطالع ج2 ص 331، وأنه 4 مجلدات، وفي التحف ص185).
9- القسطاس.
في علم الكلام جزآن. ذكره زبارة في (أئمة اليمن) ص329، وفي (إيضاح المكنون) لإسماعيل باشا، ج2 ص226 (ذكره في مقدمة شرح الأزهار ص42 ج3).
10- مشكاة الأنوار الهادمة لقواعد الباطنية الأشرار.
منه نسخة مخطوطة سنة 817هـ، بمكتبة الجامع الكبير برقم (131) علم الكلام مع كتاب (المعالم الدينية) للمؤلف، طبع بتحقيق: محمد السيد الجليندي سنة 1382 - 1962م بالقاهرة، عن دار الفكر الحديث في (300) صفحة. (فهرست الأوقاف ص 750 ذكره في التحف ص185).
11- المعالم الدينية في العقائد الإلهية.
منه نسخة مخطوطة سنة 817هـ في (197) ورقة، مع كتاب (مشكاة الأنوار) بمكتبة الجامع برقم (131) علم الكلام، وقد طبع سنة 1408هـ 1988م، بتحقيق: سيد مختار محمد أحمد حشاد، عن دار الفكر المعاصر. لبنان بيروت في (150) صفحة، (فهرست الأوقاف ص 755، وذكره الشوكاني بأنه مجلد واحد، في البدر الطالع ج2 ص331، وذكره في التحف ص185).
12- مشكاة الأنوار للسالكين الأبرار.
منه نسخة مخطوطة بمكتبة الجامع (الكتب المصادرة) ضمن مجموعة برقم 89. 13 ق رقم (10) مجاميع جامع في 832. (فهرست الأوقاف ص 750).
ثانياً: أصول الفقه:
1- الحاوي لحقائق الأدلة الفقهية، وتقرير القواعد القياسية.
في أصول الفقه (الترجمان) (ذكره في البدر الطالع ج2 ص 131: 3 مجلدات، وذكره في التحف ص185).
2- الكوكب الوقاد في أحكام الاجتهاد.
جواب على سؤال الفقيه محمد بن مرزوق، من بيت قعد بجبل مسور. منه نسخة مخطوطة سنة 832هـ في (7) ورقات، بمكتبة الجامع ضمن المجموعة رقم (10).
نسخة أخرى مخطوطة سنة 864هـ، بمكتبة الجامع ضمن المجموعة رقم (66) (الكتب المصادرة) (فهرست الأوقاف ص 850).
3- نهاية الوصول إلى علم الأصول.
ذكره المؤرخ زبارة في (أئمة اليمن) ص 229، وهو في ثلاثة أجزاء (كما جاء في البدر الطالع للشوكاني ج2 ص 331، وعده ضمن أصول الدين، وذكره في التحف بأنه مجلدان ص185).
4- المعيار لقرائح النظار في شرح الأدلة الفقهية وتقرير القواعد القياسية.
منه نسخة مخطوطة سنة 746هـ في (141 ورقة بمكتبة الجامع برقم (1094) فقه.
نسخة أخرى بنفس المكتبة، مخطوطة سنة 726هـ برقم (84) (فهرست الأوقاف ص860).
ثالثاً: الفقه (علم الفروع):
1- الانتصار الجامع لمذاهب علماء الأمصار في تقرير المختار من مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة في المباحث الفقهية والمضطربات الشرعية.
…فهرست الأوقاف ص 913 ذكره في البدر الطالع ج2 ص331).
أ - نسخة الجزء الثاني في (140) ورقة في مكتبة الجامع، برقم (138) فقه.
ب - نسخة الجزء الأخرى (ثانية) يبتدئ من أثناء نواقض الوضوء، إلى أثناء الآذان. خط قديم في (243) ورقة، برقم (139). فقه.
ج - الجزء الخامس، يبتدي من كتاب الزكاة، إلى باب مستحق الزكاة.
… مخطوط بقلم المصنف سنة 743هـ في (185) ورقة برقم (140).
د - الجزء الثامن، أوله كتاب الطلاق، إلى كتاب النفقات.
مخطوط سنة 757هـ في (190) ورقة برقم (308).
هـ - الجزء الحادي عشر، يبدأ من أثناء كتاب الإجارة إلى أثناء الرهن، مبتور أوله. بخط المصنف سنة 746هـ في (188) ورقة برقم (309).
و - الجزء الخامس عشر، أوله: الفصل الثالث في البينات إلى كتاب الحوالة، مبتور آخره بخط المصنف في (150) ورقة برقم (310).
ز - الجزء الخامس عشر (مكرر). يبتدئ بأثناء كتاب الكفالة إلى حد السارق، بخط المؤلف سنة 748هـ في (153) ورقة، برقم (311) فقه. جميع هذه الأجزاء مخطوطة بمكتبة الجامع.
2- أسئلة الفقيه أحمد بن سليمان الأوزري، والأجوبة عليها من المؤلف. مخطوطة ضمن مجموعة رقم (11) بمكتبة الجامع (الكتب المصادرة).
3- الإيضاح لمعاني المفتاح في الفرائض.
ذكره زبارة في (أئمة اليمن) الترجمان. ص 230، وذكره الشوكاني في البدر الطالع بأنه مجلد، وجاء ذكره في التحف ص185.
4- العدة في المدخل إلى العمدة.
…ذكره المؤرخ زبارة في (أئمة اليمن) ص229، وقال: إنه في الفقه مختصر بالغ الأهمية يقع في جزأين.
5- عقد اللآلي في الرد على أبي حامد الغزالي.
رد عليه في مسألة إباحته للسماع. منه نسخة مخطوطة سنة 1064هـ بمكتبة الجامع (الكتب المصادرة) ضمن مجموعة برقم (66)، ونسخة أخرى مخطوطة سنة 832هـ، ضمن مجموعة برقم (10) بمكتبة الجامع، 22 ق(فهرست الأوقاف ص683).
6- العمدة في الفقه.
ذكره زبارة، وقال: إنه يقع في ستة مجلدات. (أئمة اليمن ص229). (وكذا في التحف ص 185: 6مجلدات).
7- فتاوى.
منه نسخة مخطوطة سنة 832هـ، ضمن مجموعة بمكتبة الجامع(1).
8- الكاشف للغمة عن الاعتراض على الأئمة.
9- مختصر الأنوار المضية في شرح الأربعين السيلقية.
ذكره الزركلي في الأعلام ج9، ص (174)، وأشار إلى أنه موجود بإحدى المكتبات.
10- المصلح للدين الموضح سبيل المرسلين.
ذكره زبارة في (أئمة اليمن ص230 (فهرست الأوقاف ص1025).
11- من كلام الإمام يحيى في جواز التقليد.
منه نسخة مخطوطة سنة 832هـ، ضمن مجموعة برقم (10) بمكتبة الجامع.
12- من كلام الإمام يحيى في المنع بالفتوى بمذهب الإمام الناصر.
منه نسخة ضمن المجموعة السابقة.
__________
(1) فراغ في الأصل
13- من كلام الإمام يحيى في سؤال ورد عليه، في رجل أرجع زوجته على مذهب الإمام الناصر، وفي أن الطلاق بدعة لا يقع.
منه نسخة ضمن المجموعة السابقة.
14- الأنوار المضية شرح الأخبار النبوية شرح الأربعين الحديث السيلقية.
ذكره زبارة في (أئمة اليمن ص 229) فرغ منها سنة 736هـ. نسخة مخطوطة سنة 1330هـ في (306) 1230. حديث مصادر. (فهرست الأوقاف ص 296، وفي البدر الطالع: مجلدان ص332، وفي التحف ص185).
رابعاً: اللغة
1- الأزهار الصافية شرح مقدمة الكافية. (في النحو).
منه نسخة مخطوطة سنة 826هـ، بمكتبة الجامع (الكتب المصادرة) برقم (2) و (3) نحو، في جزأين. وورد ذكره في (أئمة اليمن) ص229 باسم (الأنهار الصافية).
2- الاقتصار (في النحو).
ذكره زبارة في (أئمة اليمن) ص 229 (وذكره في البدر الطالع: في مجلد، وكذا في التحف ص185، وكلاهما ضبطه (الاقتصاد) بالدال المهملة.
3- الإيجاز لأسرار كتاب الطراز، في علوم البيان ومعرفة إعجاز القرآن.
نسخة مخطوطة سنة 744هـ، بخط المؤلف في (160) ورقة بمكتبة الجامع برقم 4 بلاغة، نسخة أخرى مخطوطة سنة 905هـ، في 96 ورقة بمكتبة دار الكتب برقم (4299). (فهرست الأوقاف ص 1580، وفي البدر الطالع ذكره الشوكاني بأنه مجلدان).
4- الحاصر لفوائد المقدمة في حقائق الإعراب.
شرح المقدمة المحسنية في علم العربية. لابن بشاذ المتوفى سنة 469هـ.
منه مخطوطة في (196) ورقة بمكتبة الجامع، ونسخة مخطوطة سنة 785هـ في (174) ورقة بنفس المكتبة برقم (185) لغة، نسخة مخطوطة رابعة سنة 799هـ في (170) ورقة برقم(122) لغة، نسخة أخرى مخطوطة سنة 798هـ في (124) ورقة بمكتبة المتحف البريطاني برقم(3824)، نسخة سادسة بمكتبة الأمبروزيانا برقم (102g) (فهرست الأوقاف ص1465، وذكره في البدر الطالع ص 332 باسم (الحاصر في مقدمة طاهر)، مجلد. وفي التحف ص185.
5- الطراز، المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز.
فرغ منه مؤلفه سنة 728هـ.. طبع بالقاهرة سنة 1332هـ -1914م هـ بمطبعة المقتطف في ثلاثة أجزاء. (ذكره الشوكاني أنه مجلدان، البدر الطالع ج2 ص331، وفي التحف ص185).
6- الفائق المحقق في علم المنطق.
ذكره المؤرخ زبارة في (أئمة اليمن) ص230، والترجمان.
7- القانون المحقق في علم المنطق.
ذكره زبارة في (أئمة اليمن) و (ذكره الشوكاني في البدر الطالع).
8- المحصل في كشف أسرار المفصل.
منه نسخة مخطوطة سنة 728هـ بمكتبة الجامع، برقم 98. (فهرست الأوقاف ص1512) وذكره في البدر الطالع وأنه 4 مجلدات، وكذا في التحف 185).
9- المنهاج الجلي في شرح جمل الزجاج.
منه مخطوطة سنة 1310هـ في (200) ورقة بمكتبة الجامع (الكتب المصادرة)، برقم (66) نحو. (ذكره في البدر الطالع للشوكاني ج2 ص 331: المنهاج مجلدان، وكذا في التحف).
خامساً: مؤلفات ورسائل في فنون متفرقة:
1- إجازة للفقيه أحمد بن سليمان.
…نسخة بخط المؤلف بجانب (المعيار) بمكتبة الجامع برقم (84) (علم الكلام).
2- الاختيارات المؤيدية.
…ذكره المؤرخ زبارة في (أئمة اليمن) ص229، ولعله مخطوط بإحدى مكتبات الهند (ذكره محقق المعالم الدينية ص13).
3- أطواق الحمامة في حمل الصحابة على السلامة.
…منه مخطوطة في (7) ورقات ضمن مجموعة بمكتبة آل يحيى بمدينة تريم بحضرموت.
4- جواب على سؤال ورد إليه من الشام، يسأل عن أحواله ومقروءاته ومصنفاته.
…منه مخطوطة ضمن مجموعة برقم (10) بمكتبة الجامع الكبير (الكتب المصادرة)، نسخة أخرى ضمن مجموعة بخط حفيده بنفس المجموعة.
5- جوابات ثمانية وثلاثين سؤالاً.
…نسخة مخطوطة سنة 832، بخط حفيد المؤلف: أحمد بن عبدالله بن يحيى بن حمزة، بنفس المجموعة.
6- الجواب الناطق بالصواب، القاطع لعرى الشك والارتياب.
…منه مخطوطة ضمن المجموعة السابقة في (6) ورقات.
7- الجوابات الوافية بالبراهين الشافية.
…نسخة ضمن المجموعة السابقة في سنة 821هـ، في 13 ورقة. ذكره في البدر الطالع.
8- خلاصة السيرة.
…لخص فيه سيرة ابن هشام.
9- الدعوة العامة.
منه نسخة مخطوطة ضمن مجموعة برقم (69) بمكتبة الجامع.
10- الرسالة المفيدة.
…منه مخطوطة ضمن مجموعة برقم (93) بمكتبة الجامع. (فهرست الأوقاف ص635) في علم الكلام.
11- الرسالة الوازعة لصالح الأمة عن الاعتراض على الأئمة.
…منه مخطوطة سنة832هـ بخط حفيده، ضمن مجموعة برقم (10) بمكتبة الجامع (فهرست الأوقاف ص1892).
12- الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد المرسلين.
…طبعت بعناية المؤرخ زبارة سنة 13هـ بمصر في المطبعة المنيرية في 36 صفحة (ذكره الشوكاني في البدر الطالع).
13- صورة كتاب فيه تولية الفقيه مسعود الحويت.
…منه مخطوطة سنة 832هـ، ضمن مجموع برقم (10) بمكتبة الجامع.
14- صورة كتاب إلى الفقيه مسعود الحويت.
…مخطوطة ضمن المجموعة السابقة.
15- عهد الإمام إلى بعض قضاته.
…مخطوطة سنة 832هـ، ضمن المجموعة السابقة.
16- اللباب في محاسن الآداب.
…مخطوطة ضمن مجموعة من ورقة 169 - 173. مكتبة الأمبروزيانا، برقم (124g)
17- من كلام الإمام يحيى، وقد طالع كتاب التصفية للفقيه محمد بن حسن الديلمي.
…مخطوطة ضمن مجموعة برقم (10) بمكتبة الجامع.
18- نسخة كتاب تعزية في الفقيه أحمد بن يحيى إلى الفقهاء بيت حنش.
…مخطوطة سنة 832هـ، ضمن المجموعة السابقة (فهرست الأوقاف ص1389 . (في الفهرست: بني حبيش).
19- نسخة كتاب تعزية إلى الشيخ أحمد بن حسن الرصاص، بوفاة الشيخ علي محمد الرصاص.
مخطوطة ضمن المجموعة السابقة. (فهرست الأوقاف ص1823).
20- نسخ ثلاثة كتب:
- أحدها: إلى السادة بالجهات الظاهرية. (فهرست الأوقاف ص1780).
- الثاني: إلى من وقف عليه من القبائل.
- الثالث: إلى السادة أهل حوث.
مخطوطاتها ضمن المجموعة السابقة.
21- وصية.
…أورد جزءاً منها المؤرخ زبارة في ص231 - 233. من (أئمة اليمن).
22- وصية الإمام يحيى بن حمزة إلى أولاده وزوجاته.
…مخطوطة سنة 832هـ، ضمن المجموعة السابقة. (فهرست وزارة الأوقاف ص1402).
23- تصفية القلوب عن درن الأوزار والذنوب.
…قسمها إلى عشر مقالات:
…منه ست نسخ مخطوطة. (فهرست الأوقاف ص1315) أفاد في البدر الطالع ج2 ص334 أنه مجلد.
- الأولى: سنة 1048هـ في (222) ورقة بمكتبة الجامع برقم (72). تصوف.
- الثانية: في (268) ورقة برقم (71) بنفس المكتبة.
- الثالثة: سنة 1060هـ في (225) ورقة بنفس المكتبة رقم (36) تصوف.
- الرابعة: ضمن الكتب بالجامع (وقف للمدرسة).
- الخامسة: سنة 1064هـ بمكتبة الأمبروزيانا برقم (63b).
- السادسة: سنة 1339هـ في(307) ورقات بمكتبة المؤرخ زبارة بصنعاء.
24- الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي.
…شرح كتاب (نهج البلاغة). مخطوطة منه سنة 1073هـ في (400) ورقة بمكتبة الجامع برقم (306) أدب.
(فهرست الأوقاف ص1646 وفي البدر الطالع: (.. كلام الرضي) ج2 ص331، وفي التحف ص185 (الوصي) كما في الفهرست و المصادر).
كتب المؤلف في مصادر أخرى:
هذا نص ما أورده الأستاذ عبدالله الحبشي، في كتابه: (مصارد الفكر العربي الإسلامي في اليمن). مع حذف طفيف جداً لبعض الجمل والكلمات المكررة، وفي تصنيفها إلى خمسة أصناف فيما هو خاص بمؤلفات المؤلف، وأضفنا بين قوسين، ما هو موجود منها بفهرست وزارة الأوقاف بمكتبة الجامع الكبير، أو بعض المصادر الأخرى، ونورد ما تفرد به الفهرست عند الحديث على محتوياته.
وأعود للتعقيب على مؤلفات الإمام يحيى بن حمزة، بحسب النص السابق لها، من خلال أشهر مصادرها المتوفرة لدينا، وسيقتصر هذا التعقيب على:
1- إضافة مؤلفات أخرى.
2- تغيير في أسماء أو عناوين شيء منها.
3- زيادة أو نقصان في عدد أجزاء المخطوطة.
4- وجود نسخ أخرى أو مكررة لشيء منها في مصادر أخرى.
5- مدى تحقيق وطبع شيء من مخطوطاتها، تالٍ لما هو مسجل بهذا المصدر، أو أية إضافات أخرى تستحق التناول، تسهيلاً للباحث والمطلع وأدلة المكتبات وغيرها. ونشير هنا إلى أن ما قدمه الأستاذ الحبشي، هو جهد عظيم وكبير ولائق بباحث متفرغ في مستوى اطلاعه وتفرده في هذا المجال، إلى الحد الذي يدفعنا وغيرنا إلى القول بحق: بأنه فذ متفرد في الاطلاع وتسجيل المخطوطات الفكرية ومؤلفيها وأعلامها في اليمن، وما قدمه من خدمة لها، هو أجل من الثناء وأكثر من الوصف، فجزاه اللّه عنها خير الجزاء. والذي نريد الإشارة إليه، أن كتاب الأستاذ الحبشي في ما يخص مؤلفات يحيى بن حمزة، بوصفها موضوع هذا الحديث.. قد اقتصر على تسجيل ما هو منها بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء، فيما عدا ذكره بضع مرات لبعض منها في خمسة مصادر. هي: (الأمبروزيانا، والمتحف البريطاني، ومكتبة بالهند، ومكتبتا كل من المؤرخ زبارة والقاضي حسين السياغي، ومكتبة آل يحيى بتريم - حضرموت).
وكما قلت.. فإن ما ذكره في هذه المصادر الخمسة، لا يتجاوز بضع مخطوطات من مؤلفات الإمام يحيى بن حمزة، وهذا لا ينال كتاب الأستاذ الحبشي بشيء، إذ أن ذلك مرتبط ربما بطبيعة كتابه من ناحية، ثم إنه جهد رائد وعظيم، وسيظل كذلك، وهذا من ناحية ثانية.
ولأن ما سوف يضاف هنا، يقتصر على ما يدخل ضمن إطار النقط الخمس السابقة.. فإننا سنتناول المخطوطات من مؤلفات المؤلف، في هذا الإطار وخارج التصنيف الموضوعي السابق وبحسب تسلسلها، إلا أننا سنبدأ بكتاب (الانتصار).
1- كتاب الانتصار.
ذكر الأستاذ الحبشي كما سلف.. خمسة أجزاء من الانتصار هي: الثاني، والخامس، والثامن، والحادي عشر، وجزأين مكررين هما: الثاني، والخامس عشر. وذيلها بقوله: (جميع هذا الأجزاء مخطوطة بمكتبة الجامع)، ولفظه هذا لا يفيد الحصر والقصر، إلا أن موضوع كتابه القائم أساساً على الاستقراء، قد يفيد ذلك.
و (فهرست مخطوطات مكتبة الجامع الكبير بصنعاء) يسجل من أجزاء (الانتصار) بمكتبة الجامع خمسة عشر جزءاً، تضم المسجل في كتاب الأستاذ الحبشي والمكرر، ونوضح الجديد في التالي:
أولاً: فهرست مخطوطات الجامع الكبير:
وينحصر ما يضيفه هذا الفهرس من (الانتصار)، في عشرة أجزاء.
1- مجلد الأجزاء الثلاثة الأُوَل: الأول والثاني والثالث، التي سبق اعتمادها ضمن هذا التحقيق برمز (ق). وهي بخط الريعاني القدمي، ويتفق في نسختين من الثاني مع ما سبق.
2- الجزء الرابع: وهي أولى المخطوطتين التي تم اعتمادها أصلاً للتحقيق.
3- الجزء الخامس: مخطوطة سنة 783هـ. ق: (220) م: (28).
4- الجزء الثامن: مخطوطة سنة 784هـ. ق: (253) م: (21).
5- الجزء العاشر: أول المخطوطة: القول في خيار النقيصة.
آخرها: والمستقر من الأراضي والدور وسائر العقارات. في ربيع الآخر784هـ. ق(227) م:(26).
6- الجزء الحادي عشر: مخطوطة سنة 1091هـ. ق: (179) م: (29).
7- الجزء الثالث عشر: مخطوطة بخط المؤلف في 10 ربيع الأول سنة 747هـ .ق: (156)م: (29).
8- الجزء السادس عشر: مخطوطة بخط المؤلف في 10 جمادى الآخرة سنة 748هـ. ق: (160) م: (35).
ثانياً: (مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني) للدكتور حسين عبدالله العمري. وفيه ثمانية أجزاء من (الانتصار) بما فيها المكرر، وهي:
1- الجزء الثاني:
……مخطوطة بخط المؤلف سنة 742هـ في العشر الثالثة من رجب. ق: (174).
2- الجزء الثالث: مخطوطة في منتصف ذي الحجة سنة 947هـ. ق: (274) برقم:3980.
3- الجزء الخامس: مخطوطة في 154 ق. برقم 3981.
4- الجزء السادس: مخطوطة في 188ق. برقم 3982.
5- الجزء الثامن: مخطوطة في 224ق. برقم 3978.
6- الجزء السادس عشر: مخطوطة في 374 ق. برقم 3983.
7- الجزء السابع عشر: داخل ضمن مخطوطة السادس عشر السابقة، وضمن عدد صفحاتها.
8- الجزء السابع عشر: (نسخة ثانية) مخطوطة في آخر أيام شهر رمضان سنة 748هـ في 162 ق، برقم 3984.
ثالثاً: المكتبات الخاصة:
وهي المخطوطات التي استطعنا الحصول عليها من بعض المكتبات الخاصة في اليمن. تضمنت هذه المقدمة تسجيل ما حصلنا عليه من نسخ للأربعة الأجزاء الأولى من الكتاب، وكما أشرنا سابقاً، فإننا ندع المعلومات المفصلة عن مخطوطات الأجزاء من الخامس فما يليه، لتكون في مقدمة كل مجلد على حدة بصفة مستقلة، وهذا تجنباً للتكرار والإطالة، قدر الإمكان.
رابعاً: المؤلفات التي لم يتضمنها كتاب الحبشي:
نورد هنا مؤلفات الإمام يحيى بن حمزة التي لم تتضمنها مصادر الأستاذ الحبشي، الذي اعتمدناه أصلاً لعرض هذه المؤلفات.
ونود الإشارة أولاً: إلى أن اللبس الذي قد يؤدي إلى تكرار أو إهمال من قبلنا، يعود إلى بعض المخطوطات التي ليس لها عناوين محددة، أو التي تتشابه عناوينها العامة، مثل: الرسائل والجوابات والوصايا ونحوها، وهذه يصعب تجنب الخطأ فيها، وقد حرصنا على العمل لتمييزها بواسطة الأسماء أو عدد الأوراق أو التاريخ مهما أمكن ذلك، وبعده لا نجد سبيلاً إلى ضبط الخطأ وجل من لا يخطئ.
وثانياً: أن مصادر الأستاذ الحبشي لمؤلفات المؤلف، هي أشمل وأوسع، وفيما هو منها في مكتبة الجامع الكبير، فيمكن تمييز ما أورده الحبشي مما ليس موجوداً في فهرست وزارة الأوقاف، بعدم وجود الإشارة إلى موقع المخطوطة بين قوسين في قائمة المؤلفات السالفة.
وهذه مجموعة المؤلفات التي لم توجد في مصادر الحبشي.
أولاً: فهرست مكتبة الجامع الكبير (فهرست وزارة الأوقاف):
مسلسل ... عنوان الكتاب ... رقم الصفحة
1 ... إكليل التاج وجوهرة الوهاج. مخطوطة عام 832هـ. ق: 146 - 175. ... 1444
2 ... رأي يحيى بن حمزة في أبي بكر وعمر (ض) ق:202-206. ... 916
3 ... جوابات مسائل ... 1025
4 ... جوابات مسائل حول الشفعة والجوار ... 1079
5 ... نبذة من سيرة الإمام يحيى بن حمزة ... 1820
6 ... نسخة من كتاب يحيى بن حمزة إلى سلطان اليمن المجاهد ... 1824
7 ... نسخة من دعوة يحيى بن حمزة إلى أمراء آل عماد الدين ... 1824
8 ... نسخة من دعوة يحيى بن حمزة إلى سلطان اليمن ... 1770
9 ... كتاب يحيى بن حمزة إلى الأمير عبدالله بن أحمد بن قاسم ... 1823
ثانياً: المؤلفات التي يظهر فيها شيء من التشابه والاشتباه:
وهذه حرصنا على إيراد أبرزها هنا، لتحقيق أكبر قدر ممكن من الدقة في تحديد مؤلفات الإمام يحيى بن حمزة وعناوينها، ثم إن إيرادها لا يعدم الفائدة من تصحيح ما يحتاج منها إلى تصحيح، عن طريق لفت نظر المهتمين والباحثين على أقل احتمال لحجم الفائدة.
وهذه الكتب أعني مؤلفات هذا الإمام كلها، يلحظ فيها بعامة، تشابه كبير بين عناوينها لدرجة تجعل المستقرئ لها، يظن أن الكتاب الوارد في مصدرين، كتابان، أو العكس. وأعود لما رأينا تسجيله هنا نموذجاً لذلك التشابه والاشتباه.
1- الشامل لحقائق الأدلة العقلية وأصول المسائل الدينية:
حول هذه الكتاب توجد الملاحظات الآتية:
الأولى: أورد الكتاب بهذا العنوان، سيد مختار، في (المعالم الدينية والعقائد الإلهية) ص6،12. الطبعة الأولى 1988م. بينما أورده الحبشي في (المصادر) ص 567، بنفس العنوان. ما عدا الكلمة الأخيرة (الدينية)، فقد جاءت (الدنيوية)، كما جاء ذكره في (البدر الطالع) ص331، و(التحف شرح الزلف) ص185 بأسم (الشامل) مجرداً، اختصاراً للاسم، والصحيح ما أوردناه هنا، استناداً إلى الاستقراء، وهي كلمة (الدينية)، ولتناسبها مع موضوع الكتاب.
الثانية: قال الدكتور أحمد محمود صبحي في تصديره لكتاب (المعالم) ص6: بأن مؤلّف الإمام يحيى بن حمزة (المعالم الدينية في العقائد الإلهية)، يتضمن تلخيصاً لمؤلفه الضخم (الشامل).
الثالثة: لم نجد هذا الكتاب ضمن فهرست الأوقاف لمخطوطات الجامع الكبير، برغم أن مصادر الأستاذ الحبشي تؤكد وجود مخطوطته في مكتبة الجامع كما سبق.
2- الحاوي لحقائق الأدلة الفقهية وتقرير القواعد القياسية:
وحوله الملاحظات الآتية:
الأولى: جاء ذكره في (مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن ص567). ولم يحدد مجلداته ولا مكان مخطوطته وليس في مكتبة الجامع، كما يظهر من عدم وروده في فهرست الأوقاف.
الثانية: جاء ذكره في (البدر الطالع) و (التحف شرح الزلف)، وأنه ثلاثة مجلدات مخطوطة، وكذا في (المعالم الدينية ص12)، ولم يحدد أي منها مكانه. وأفاد مصدر آخر بأنه من الكتب المفقودة.
الثالثة: عرفنا أن منه مجلدين هما: الأول: صورة مخطوطة لدى القاضي محمد سعد الشرقي بمكتبته الخاصة، والثاني: مخطوطة لدى الأستاذ محمد بن محمد بن يحيى مطهر.
الرابعة: أن مخطوطة (المعيار لقرائح النظار في شرح الأدلة الفقهية، وتقرير القواعد القياسية)، لنفس المؤلف من جهة، وفي نفس الموضوع من جهة ثانية، وبنفس العنوان عدا الكلمتين الأوليين من (الحاوي)، والثلاث الأولى من المعيار، مما يوحي بأن هناك علاقة ما بين الكتابين، قد تكون مثلاً، في أن الأخير هو ملخص أو منتزع من الأول، كما جاء في مقدمة المعيار شيء من هذا.
3- الاقتصار (في النحو):
هكذا أورده في المصادر ص565، بحرف الراء في آخره، بينما جاء في البدر الطالع، وفي التحف، بالدال المهملة كما سبق، إلا أن تراجم شرح الأزهار ج3 ص42، تؤكده بالراء. وهذه التراجم للعلامة أحمد بن عبدالله الجنداري (رحمه الله).
4- العمدة (في الفقه):
ذكره المؤلف في مقدمة (الانتصار) وورد في المصادر عن (أئمة اليمن)، بأنه ستة مجلدات، وكذا في التحف، ويشتبه بكتاب (العدة في المدخل إلى العمدة) للمؤلف أيضاً، ذكره في (المصادر) عن (أئمة اليمن) وأنه جزآن في الفقه أيضاً، ويظهر أنه مختصر (العمدة) بناء على ما جاء في أئمة اليمن بأنه مختصر بالغ الأهمية، ولكن لم نطلع على ما يؤكد ذلك، أو يحدد سبق أحدهما للآخر.
5- الأزهار الصافية شرح مقدمة الكافية:
جزآن في النحو، وكما سبق فقد ذكره في (أئمة اليمن)، باسم (الأنهار الصافية). وبرغم ذكرها في جملة مخطوطات الجامع الكبير، فلم يرد ذكرها في فهرست الأوقاف، ولعل عنوانها الصحيح: (الأزهار الصافية) كما جاء في (المصادر)، وكما جاء في تراجم شرح الأزهار.
6- الإيجاز لأسرار كتاب الطراز في علوم البيان ومعرفة إعجاز القرآن:
وتبدو العلاقة واضحة في العنوان بينه وبين كتاب (الطراز) للمؤلف، ولكن دون معرفة نوع هذه العلاقة، إلا فيما إذا كان (الإيجاز) مختصر (الطراز). وقد صدر كتاب الطراز في مجلدات ثلاثة، وبين أيدينا نسخه صادرة عن (دار الكتب العلمية) ببيروت عام 1980م. وبرغم أن على ورقته الأولى: (أشرفت على مراجعته وضبطه وتدقيقه جماعة من العلماء بإشراف الناشر) إلا أن أولى صفحات الكتاب، مقدمة المؤلف، فلم يقدم هؤلاء (الجماعة من العلماء) للكتاب، وكل ما أضافوه لا يكاد يتجاوز فهارس الموضوعات، وبعض الهوامش القليلة، مع ظهور لهجة تجنٍ وعسف في هذه الهوامش على المؤلف مثل ما في ص3 هامش(1) ج1، تعليقاً على استخدام المؤلف جمع (أكتبة) للقلة، عن (كتب) مفردها كتاب.. فجاء نص الهامش: (هذا جمع لم تستعمله العرب). هذه الأربع أو الخمس الكلمات فقط، دون أن يستند فيها إلى أحد.
ومثل الهامش على قول المؤلف: (.. فالمعاني جمع معنى كمضارب ومقاتل، والمعنى مفعل، واشتقاقه من قولهم: عناه أمر كذا إذا أهمه ..) فجاء التعليق على كلمة (مفعل) في الهامش، بلفظ: (1) هذا كلام من لا يدري، والصواب أنه مشتق من عنيت الأمر، كرميت إذا كنت قاصداً له، فمعنى الكلام مقصده. كتبه سيد المرصفي) انتهى ص10 ج1.
وأسلوب صاحب الهوامش هذا، لا يوحي بأنه أسلوب عالم أو عارف، وهو يقول عن المؤلف: بأن كلامه كلام من لا يدري، وكأنه يخاطب تلميذاً في الفصل لم يحرز بعد أبجديات اللغة، لا عَلَماً من أبرز أعلام اللغة بكل علومها، وكأن صدره موغور على المؤلف، وليته أصاب في اعتراضه، ولكنه عبر فعلاً عن قصور في اللغة من جهة، وفي قدرته على فهم المعنى الذي أورده وأراده المؤلف من جهة ثانية؛ إذ أن أصل الفعل (عنى) سواء من (أهم) أو (قصد).
وعن (الإيجاز) يقول محقق (المعالم الدينية): (يبدو أنه لأحد تلامذته)، ولم يوضح ما بنى عليه هذا الاحتمال.
7- الفائق المحقق في علم المنطق:
8- القانون المحقق في علم المنطق:
كما سبق ذكرهما في (المصادر) ص568 برقمي (39 - الفائق) و (41 - القانون).. على أنهما كتابان استند في ذلك إلى (أئمة اليمن). وقد ذكر (القانون) الشوكاني في (البدر الطالع) ص332، ولم يذكر أي من هذه المراجع مكاناً أو حجماً أو تاريخاً لأي من الكتابين. وحتى يظهر ما يؤكد الحقيقة، فإن الذي يمكن ترجيحه الآن، هو أنهما كتاب واحد، هو (القانون) الذي ذكره الشوكاني، ويسند هذا أن التشابه بين الكلمتين في الشكل مهد للتَّصحيف وتحويل كلمة (القانون) إلى (الفائق).
9- خلاصة السيرة:
وهي خلاصة لسيرة النبي (ص) لابن هشام، كما ظهر من مصادر الأستاذ الحبشي، ولكن لم نطلع على ذكر له حتى الآن فيما توافر لنا من مراجع.
10- الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي:
في (المصادر) (الوصي) بالواو والصاد المهملة، فياء، وكذا (التحف شرح الزلف) إلا أن الشوكاني ضبطها في (البدر الطالع)، بـ(الرضي) بالراء والضاد المعجمة فياء، ولعل الأصح (الوصي).
---
خاتمة
نكتفي بهذا العرض السريع لمؤلفات الإمام يحيى بن حمزة؛ إذ ليس هذا مقام الوقوف عندها أكثر للبحث والفحص، فذلك مقام بحث خاص بمؤلفاته، يصل إلى أدق المعلومات عنها وعن أماكنها وعناوينها وموضوعاتها إلى آخره، وقد حرصنا أن نضمن هذه المقدمة ما أمكن مما هو متناسب مع موضوعها وغايتها وطبيعتها، آملين أن يكون ذلك مقارباً لحدود المطلوب منها.
ونعود إلى تضمين هذه الخاتمة إشارتين:
أولاهما: منهج تحقيق الكتاب.
وفي هذا الجانب فقد وضعنا منهج تحقيق (الانتصار) على الأسس العامة التالية:
1- المقدمة: بمحاورها الثلاثة السالفة.
2- ملاحق الكتاب المتعلقة بالفهارس والتراجم والتخريجات.
3- الهوامش الخاصة بالكتاب.
4- وضع التصحيح أو التصويب للأخطاء الإملائية أو اللغوية أو النقص، مما رأينا تركه كما هو بالمخطوطة الأصل، بين قوسين في (القلب)، عقب الكلمة المتغيا تصحيحها أو تصويبها في مكان النقص المحتمل.
أما ما عدا ذلك من توضيح أو تصويب أو إشارات إلى غرض المؤلف أو ما يضارعها، فإن مكانها الهامش.
ثانيتهما: رموز وألقاب الأعلام والأسماء الواردة في الكتاب.
في البداية لهذه الإشارة نود القول بأن مؤلفات الزيدية في اليمن، والفقهية منها خاصة، لها رموز مصطلح عليها من حرف أو حرفين أو ثلاثة، تمثل اختصاراً لأسماء بعض الأعلام والكتب، وبعض الفرق التي يكثر إيرادها، وترديدها، وكذا ألقاب مصطلح على تحديد المراد بها إذا أطلقت. ونورد هنا مجموعة هذه الرموز والألقاب الموجودة في هذا الكتاب فقط، موزعة ومتناثرة في أماكن ذكر كل منها، كما هي كذلك في مختلف كتب المخطوطات اليمنية الفقهية خاصة، وهي نوعان: الألقاب المطلقة، والرموز.
أولاً: ألقاب الأعلام:
1- الإمام الهادي، أو الهادي: يحيى بن الحسين.
2- القاسم، أو الإمام القاسم: القاسم بن إبراهيم.
3- الناصر، أو الإمام الناصر: الحسن بن علي الأطروش.
4- العبادلة الثلاثة: عبدالله بن عباس، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عمر.
…والأربعة: يضاف إليهم عبدالله بن عمرو بن العاص.
5- السيدان، الأخوان: المؤيد باللّه وأبو طالب.
6- السادة الثلاثة: المؤيد بالله وأبو طالب وأبو العباس.
7- المؤيد بالله: أحمد بن الحسين الهاروني.
8- أبو طالب: يحيى بن الحسين الهاروني.
9- المنصور بالله: عبدالله بن حمزة.
10- أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن الحسن.
ثانياً: رموز الأعلام:
1- (ص) بالله: الإمام المنصور بالله.
2- (م) بالله: الإمام المؤيد بالله.
3- (ط): أبو طالب.
4- (ع): أبو العباس.
5- (ح): الإمام أبو حنيفة.
6- (ش): الإمام الشافعي.
7- (ك): الإمام مالك.
8- (ص ح): أصحاب أبي حنيفة.
9- (ص ش): أصحاب الشافعي.
10- (ف): الفقيه أبو يوسف.
11- (ث): سفيان الثوري.
(وقد نجز غرضنا من هذه المقدمة) بحسب مقولة المؤلف عليه السلام راجين أن نكون قد وفقنا في تقديم أقل ما يجب تجاه هذا الكتاب الموسوعة النادرة للفقه الإسلامي، ومؤلفه الإمام العالم المجتهد المجاهد المؤيد بالله يحيى بن حمزة، وحققنا شيئاً من الانتصار لكتاب (الانتصار) ليخرج من غياهب العزلة التي ظل فيها حبيس المخطوطات المشتتة قرابة سبعة قرون، بالشكل والأسلوب اللائقين به، ولو في أدنى حد ممكن، آملين من اللّه تعالى أن يجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم، وأن يكفر عنا بحسنات حسنِةٍ سيئات سيئةٍ إنه جواد كريم وغفور رحيم، والرجاء من كل قارئ قادر على أن يسد خللاً أو يصحح خطأ تقع عليه عيناه، أن يفعل ذلك بقدر الإمكان، وأن يتجاوز عنا فيما تجاوزه السهو والخطأ منا، وحسبنا أنا قد تمسكنا فيه بمبدئنا بأن نبذل الجهد بما في وسعنا. وإن كان يسيراً وقليلاً، فإن اللّه يضاعف لمن يشاء. {ولا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو اخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}.
(وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين)
…… عبد الوهاب بن علي بن محمد بن إبراهيم حورية المؤيد
……………صنعاء - أكتوبر 2000م.
---
مقدمات المؤلف
الحمد لله وصلاة على سيدنا محمد وآله، اللهم أعن يا كريم.
الحمد لله القيوم الذي لا تستولي على كنه جلاله عميقات مذاهب الفكر والأفهام، المتعالي بكبريائه عن أن ترتقي إليه متاهات الظنون والأوهام، المنزه في ذاته عن مشاكلة المكونات من الأعراض والأجسام، البعيد عن الحصول في الأماكن والجهات على حد تَحَيُّز الأجرام، المقدس بالصفات الإلهية الشريفة العظام، المسبَّح بالأسماء على ألسنة الملائكة الكرام، المنعم الذي ضرب علينا من فضله سرادقات نعمه الجسام، وأرخى علينا من جوده سرابيل المنن والإنعام، بما ألهمنا من معرفة معالم الدين والإسلام، وخصنا بما عرَّفَنا من حقائق الشرائع والأحكام، وتمييز الحلال من الحرام.. وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، شهادة تكون سبباً لإحراز عفوه وغفرانه، وذريعة إلى الفوز بثوابه وعظيم رضوانه. والصلاة على رسوله المؤيد بالواضحات من الأعلام، الهادي إلى الرشد الداعي إلى دار السلام، محمد المحمود في طرائقه وآثاره، وإمام من اهتدى بهديه وعلم مناره، وعلى آله الطيبين الذين أشرق بضياء علومهم عن الدين كل ظلام، وانحسر بنور أنظارهم عنه كُدُورة كل قتام، حتى رسخت عروقه وتقررت منه مواضع الأقدام، فتجلَّت أنواره عن حقائقها وأسرارها، وطلعت شموسه واضحة فأسفر وجه نهارها. فجزاهم اللّه عن حميد سعيهم في دينه أعظم رضوانه، وأحلهم أعلى الدرجات من فضله ومزيد إحسانه.
أما بعد: فإن أفضل ما شغل الإنسان به نفسه وأفنى فيه عمره، هو طلب العلم وإعطاؤه، فإنه أفضل الأعمال وأشرفها، سواء وفق لإحرازه طالبه أو أخطأه. ثم إن الباعث على هذا الإملاء غرضان:
فالغرض الأول منهما هو: أن العلم لما كان من أعلى المراتب وأسناها وأشرف المناقب وأرفعها وأحظاها، وأنفس الأعمال وأزكاها، وأشرف ما يخلفه الإنسان بعد الموت، لشرفه وعلو فائدته في الدين .. فأحببت أن يكون لي بعد الموت ما عسى أن يبقى ثوابه ولا ينفد أجره، تصديقاً لقوله تعالى: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ }[يس:12]. وفي الحديث عن صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه: (( إذا مات ابن آدم انقطع عنه سائر عمله إلا ثلاثة : علم ينتفع به، أو صدقة تجري، أو ولد صالح يدعو له ))(1).
والغرض الثاني: أن اللّه تعالى لما وفقني لإتمام كتاب (العمدة في المباحث الفقهية)(2) وكنت قد اقتصرت فيه على ذكر المذهب ودليله، وذكر من خالف مذهبنا أو وافق من علماء الأمة وفقهاء العامة، وألغيت ذكر أدلة المخالفين، وذكر المختار من الأقاويل في المسألة، وتقرير الحجة عليه، ووعدت في صدر الكتاب أن اللّه تعالى إن نفس لي في المهلة وتراخى الأجل ضممت إليه كتاباً، فلما أنجز اللّه العِدَةَ، وصدق الرجاء بتنفيس المدة، ابتدأت بتأليف هذا الكتاب فأجعله كتباً، ثم أضمن الكتب أبواباً، ثم أحشو الأبواب فصولاً، والفصول مسائل، فأذكر في كل مسألة من خالف فيها، وأورد لكل مجتهد حجته من الأدلة، ولم آل جهداً في تقرير كل مذهب من تلك المذاهب بدليله وإيراد أحسن ما أجده في نصرته وتقرير مقالته، حتى إذا أكملت المذاهب بأدلتها في المسألة، ذكرت المختار من تلك المذاهب وقررته بحجته، وأوردت الانتصار بإبطال ما خالفه، فصار في سياقه مرتباً على مراتب ثلاث:
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي.
(2) كتاب (العمدة) في الفقه، ستة مجلدات كما جاء في مصادر الحبشي عن (أئمة اليمن) للعلامة زبارة.
المرتبة الأولى: أن تكون المسألة قد وقع فيها خوض من أئمة العترة وفقهاء الأمة، وتكرر فيها النظر، وطالت فيها الخصومة، وحصل فيها النزاع بينهم. وهذا هو الأكثر المطرد من جهة أن معظم المسائل قد خاضوا فيه، وأفتى كل واحد منهم على حسب ما يعن له من النظر ويقوى من الدليل الشرعي، وما هذا حاله من المسائل، أذكر لكل واحدٍ منهم دليله وأوضحه، ثم أشفعه بذكر المختار من تلك المذاهب، وأذكر ترجيحه على غيره من تلك المذاهب المذكورة.
المرتبة الثانية: أن لا يكون لأئمة العترة فيها قول وللفقهاء فيها خوض.. وما هذا حاله فهو مغفور قليل ولا يُعثر عليه إلا على جهة الندرة، بالإضافة إلى ما قد خاضوا فيه، فأذكر المسألة وأوضحها ببراهينها الشرعية لكل واحد من المخالفين، ثم أذكر المختار من تلك الأقاويل، وما أراه صالحاً للمذهب منها بمعونة اللّه، فأما ما كان مجمعاً عليه فأذكره، ثم أوضحه بحجته من غير زيادة.
المرتبة الثالثة: ما لا يكون لأئمة العترة ولا لعلماء الأمة فيها قول، وما هذا حاله فإنما يُعثر عليه في الندرة ويوجد على جهة القلة، وهو أدخل في الندور من الذي قبله. وما هذه صفته، فأذكر المسألة وأوضحها بالحجة الشرعية على حد ما أجده وأعثر عليه، فلما نزلته على هذه الهيئة، ورتبته على هذا الترتيب، وصار معتمداً في معرفة المذاهب وحجج التأويل، ووسيلة إلى تمييز الصحيح المختار من الأقاويل.. سميته بكتاب:
(الانتصار على علماء الأمصار في تقرير المختار من مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة)
وأنا أسأل اللّه بجلاله وعلو شأنه وجبروت ملكوته وقاهر سلطانه، أن يوفق فيه القصد ويخلص فيه النية، ويحقق فيه الأمل ويصدق الأمنية، ويجعله خالصاً لوجهه، مطابقاً لرضاه بمنه وطوله، إنه قريب مجيب.
---
تمهيد
واعلم أنّا قبل الخوض فيما نريده من مقاصد الكتاب، نذكر تمهيداً يشتمل على مقدمات خمس تكون قاعدة لمهادِه، وعوناً على إحراز أسراره ومراده، ولا غنى عنها لمن خاض في المسائل الفقهية، وتكرر نظره في المذاهب الخلافية، وأكثَر الكتب الفقهية خالية عنها، ونحن نوردها ونشرحها بمعونة اللّه تعالى.
وكتابي هذا متميز عن سائر الكتب المصنفة في هذا الفن بخصال لا تخفى على الناقد البصير، ويدري بمواقعها كل ألمعي نحرير.
---
المقدمة الأولى: في بيان ماهية الحكم وصحة نقل الأسماء
اعلم أنه يتعذر أنا نتكلم في الأحكام الشرعية، كالقبح والحسن والوجوب والندب والإباحة والكراهة، وتحصيلها بأدلتها الشرعية، ولم نفهم ماهية الحكم وحقيقته؛ لأن الكلام على ثبوت الشيء ووجوده، فرع على الكلام على تصور ماهيته وبيان معناه. ويتعذر أن نتكلم في أن الصلاة مقولة على هذه الأفعال وغيرها من الأسماء الشرعية، ولم نقدم صحة نقل الأسماء، فهذان(1) مطلبان تشتمل عليهما هذه المقدمة. والعجب من نظار الفقهاء حيث تكلموا على هذه الأحكام ولم يظهروا هذه الأسرار، ولا أبرزوا خفاياها مع شدة الحاجة إليها.
المطلب الأول: في بيان ماهية الحكم ومعناه.
__________
(1) في الأصل: فهذه.
والذي ذهب إليه نظار الأشعرية(1) والمحققون منهم، كالجويني (2) والغَزالي ) وابن الخطيب الرازي ) أن المرجع لما(5) ذكرناه من هذه الأحكام ليس إلا مجرد إيصال الخطاب بالفعل من غير أمرٍ وراء هذا.
فالقبيح عندهم: ما قيل فيه: لا تفعلوه.
والواجب: ما قيل فيه: افعلوه، وحرام تركه.
والمندوب: ما قيل فيه: افعلوه، ولا حرج في تركه.
والمباح: ما قيل فيه: لا حرج عليكم في فعله ولا تركه.
والمكروه: ما قيل فيه: اتركوه، ولا حرج في فعله.
فهذه هي ماهية الحكم عندهم، ونفس معقوله من غير أمر وراءه(6).
__________
(1) الأشعرية: أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المتوفى سنة 324هـ. (راجع الملل والنحل للشهرستاني ج1/94).
(2) أبو المعالي، عبدالملك بن عبدالله الجويني الأشعري، المعروف بإمام الحرمين، شيخ الأشعرية ومتكلمهم، ولم يكن أشعرياً؛ لأنه يقول: فعل العبد بقدرة العبد مستقلة ولا كسب. له مصنفات مشهورة في الأصولين: (البرهان)، و(الورقات) و(المنتخب). وكان له عدد كبير من الطلبة. ا.هـ مقدمة الأزهار.
(3) أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الأشعري الطوسي(450 - 505هـ). ولد في طوس سنة450هـ، قرأ على الجويني بطوس حتى توفي الجويني، فانتقل إلى العراق. وله مؤلفات مشهورة منها: (إحياء علوم الدين) و(المستصفى) و(المنتخب) وغيرها، وكان أشعري المذهب ثم انتقل إلى مذهب الزيدية، وصح رجوعه برواية الشيخ محيي الدين الجيلاني، ومثله قال الإمام الشرفي، ويشهد بذلك كتابه (سر العالمين)، واشتغل آخر عمره بالزهد والعبادة. وتوفي في جمادى الآخرة سنة 505هـ. (مقدمة الأزهار - طبقات الشافعية - تهذيب التهذيب).
(4) هو فخر الدين محمد بن عمر الرازي، أحد العلماء الذين جمعوا بين علمي الأصول والفروع والفلسفة، وله أكثر من ثلاثين مؤلفاً، توفي بمدينة هراة (بإيران) سنة 606هـ.
(5) في الأصل: بما.
(6) في الأصل: واراه.
والذي عليه الجماهير من المعتزلة من أصحاب الشيخ ) وعليه علماء الزيدية، أن هذه الأحكام أمور إضافية زائدة على ذات الأفعال، تتصف لها لأجل وقوعها على أوجه مخصوصة.
فقبح الظلم والكذب حكمان زائدان على هذين الفعلين مُؤثَرَان عن وقوع الفعل على صفة الظلمية والكذبية، وهكذا وجوب الصلاة والزكاة، فهي أمور إضافية إلى هذه الأفعال زائدة عليها، وهكذا غيرها من سائر الأحكام.
__________
(1) أبو هاشم، عبدالسلام بن محمد بن سلام (مخففاً) بن خالد بن أبان بن حمران الجبائي المعتزلي. قال ابن خلكان: هو الإمام في مذهب الاعتزال، المتكلم ابن المتكلم العالم ابن العالم. ولادته سنة246هـ، وتوفي يوم الأربعاء اثنتي عشرة بقيت من شعبان سنة321هـ، ببغداد ودفن في مغار البستان، وهو من أشهر علماء المعتزلة ومتكلميهم. (مقدمة الأزهار، وفيات الأعيان). ويلحظ المطلع أن تاريخ مولد أبيه هو في العام (235 هـ) أي الفارق بين الأب والابن في الميلاد هو: 11 أو 12 سنة فقط، وهذا مثار شك في صحة التاريخ لميلاد أحدهما أو كليهما، إلا أن المراجع التي استندنا إليها أكدت هذا.
وذهب الشيخان أبو الحسين ) ومحمود الخوارزمي ) إلى أن هذه الأحكام ليست أمراً زائداً على ذات الأفعال على حد ما يقوله الشيوخ من أصحاب أبي هاشم
فالحسن عندهما: ليس إلا أنه لا حرج على فاعله في فعله.
والقبيح: أمر يستحق عليه الذم. فقبح الظلم: ليس إلا أنه يستحق عليه الذم.
وحسن التفضل: ليس إلا أنه لا حرج على فاعله.
ووجوب شكر المنعم: ليس إلا أنه يستحق الذم(3) بتركه، وهكذا القول في سائر الأحكام كلها.
__________
(1) أبو الحسين، محمد بن علي الطيب البصري المعتزلي. قال الإمام يحيى بن حمزة: هو الرجل فيهم. وقال ابن خلكان: كان جيد الكلام، مليح العبارة، غزير المادة، إمام وقته، وله التصانيف الفائقة، منها (المعتمد) في أصول الفقه، ومنه أخذ الرازي كتاب (المحصول)، وله (تصفح الأدلة) في مجلدين و(غرر الأدلة) في مجلد كبير و(شرح الأصول) وكتاب في الإمامة، وله مذهب في علم الكلام منفرد عن البهشمية (أتباع أبي هاشم الجبائي).وله كتاب(الانتصار) في الرد على ابن الراوندي. توفي يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الآخرة سنة 437هـ ببغداد (مقدمة الأزهار).
(2) أبو محمد، محمود بن محمد بن العباس بن رسلان الخوارزمي. أحد علماء المعتزلة، وأعلام علم الكلام. قال في (طبقات الشافعية) عنه: إنه مهر في الأصول، وصار فريد الزمان في انتزاع البرهان من الأصول العقلية والقرآن. ولد بخوارزم في رمضان سنة 492هـ، له كتاب (الكافي). توفي في صفر سنة 503هـ عن أربعين سنة .ا.هـ ملخصاً من (طبقات الشافعية ج2/351).
(3) في الأصل: الظلم.
والمختار عندنا: ما عول عليه الشيخان: أبو الحسين والخوارزمي من المعتزلة (1).
ويدل على ما اخترناه: هو أن هذه الأحكام في الحقيقة راجعة إلى أمور سلبية والسلب نفي، والنفي لا يكون أمراً ثبوتياً، فضلاً عن أن يكون صفة زائدة على الفعل، وحكماً راجعاً إليه.
وبيان ذلك: أن المرجع بالحسن ليس إلا أنه لا حرج على من فعله كالأكل والشرب.
والمرجع بالقبح: هو أنه يحسن ذم فاعله ولا حرج على من ذمه عليه.
ويرجع بالوجوب على أنه لا حرج على من ذم تاركه.
وترجع حقيقة الندب: إلى أنه يحسن فعله ولا حرج على تاركه.
والمكروه: راجع إلى أنه لا يستحق تاركه ولا فاعله مدحاً.
والمباح: لا حرج على من فعله أيضاً ولا على من تركه.
فإذا كانت هذه الأحكام راجعة إلى ما ذكرناه من هذه السلوب(2) فلا وجه لجعلها أموراً ثبوتية وصفات راجعة إلى هذه الأفعال، وإنما تكون مزايا وإضافات تختص بالأفعال من غير أن يكون هناك وصف زائد على الفعل يختص به زائداً على ذاته لما أشرنا إليه.
فإذا تقرر أن الحكم المرجع به إلى ما ذكرناه، فالذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة البصرية والبغدادية، أن هذه الأحكام منقسمة إلى ما يستقل العقل بدركه، وإلى ما لا يستقل العقل بدركه.
__________
(1) سميت بالمعتزلة؛ لاعتزال واصل بن عطاء لحلقة الحسن البصري عند الخلاف في الحكم على مرتكب الكبيرة، أمؤمن أم كافر! كما جاء في سؤال أحد الداخلين إلى المسجد على الحسن البصري، وقبل أن يجيب قال واصل: إن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه في منزلة بين منزلتين، ثم قام واعتزل الحسن إلى إحدى اسطوانات المسجد فقال الحسن: اعتزلنا واصل، فسمي وأصحابه بالمعتزلة. وأبرز ما يميزهم: قولهم باختيار الإنسان في أفعاله.
(2) السلوب هنا، ربما قصد المؤلف بها جمع سَلْب، وهي بمعنى سالبة، أي نقيض: موجبة.
فالذي يستقل به العقل ينقسم أيضاً إلى ما يكون معلوماً بالضرورة، فلا يفتقر إلى نظر وتفكر، وهذا هو نحو قبح الظلم والعبث، ونحو وجوب شكر المنعم وحسن الإنصاف، وغير ذلك من الأحكام التي تُعلم ضرورة من جهة العقل.
وإلى: ما يكون معلوماً بنظر العقل وتفكره، وهذا نحو قبح الكذب النافع، وحسن الصدق الضار، فإن ما هذا حاله يحتاج إلى تأمل وفكر، فإن هذا الكذب يكون قبيحاً مع كونه نافعاً؛ لأن الوجه في قبحه كونه كذباً، سواء كان معه نفع أو لم يكن، وهكذا القول في حسن الصدق الضار، فإن الوجه في حسنه ليس إلا كونه صدقاً، سواء كان ضاراً، أو لم يكن ضاراً. فلا بد من تقرير البرهان على ما ذكرناه من حسن هذا وقبح ذاك، والرد لهما إلى الأصل في قبح أحدهما وحسن الآخر.
وأما الذي لا يستقل العقل بدركه: فهو سائر المقبحات والمحسنات الشرعية، فقبح الزنا والربا وشرب المسكر قبيح من جهة الشرع لا مجال للعقل فيه بحال، وحسن الصلاة والصوم والحج معلوم من الشرع لا تصرف للعقل فيه، ولا له هداية إليه، بل هو تحكم جامد للشرع لا يهتدي العقل إلى تفاصيل هذه المحسنات والمقبحات الشرعية.
والذي عليه محققو الأشعرية وجميع فرق المجبرة(1): أن الأحكام كلها شرعية، وأنه لا مجال للعقل في تقريرها وإثباتها، لا بضرورته ولا بنظره، وإنما مستندها الأدلة الخطابية، والأمور النقلية قطعيّها وظنيّها، وزعموا أنه لا حكم للعقل أصلاً، وإنما التصرف كله للشرع.
والمختار عندنا: ما عول عليه أصحابنا والمعتزلة.
__________
(1) المجبرة أو الجبرية: نسبة إلى القول بالجبر، وهو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى اللّه تعالى. والجبرية أصناف: فالجبرية الخالصة هي القائلة بهذا، والمتوسطة التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة، والجبرية التي تثبت للقدرة الحادثة أثراً في الفعل وتسميه كسباً، وهي الأشعرية. راجع (الملل والنحل) للشهرستاني ج1/85.
ويدل على ما اخترناه: هو أن هذه الأحكام لو كانت شرعية لكان لا يعلمها إلا من علم طريقها، ونحن نعلم قطعاً أن منكري النبوات والشرائع قاطعون بصحة هذه الأحكام من استحسان الصدق، وتقبيح الكذب والظلم، ونعلم بالضرورة كونهم عالمين بها ولو كان مستندها النقل لانْسَدَّ عليهم العلم بها.
وفيما ذكرناه كفاية على التنبيه في تحسين العقل وتقبيحه، وهو المقدار اللائق بالكتب الفقهية. وقد أودعنا الكتب العقلية ما فيه كفاية، ورددنا على الشيخ أبي حامد الغَزالي وغيره من نظار الأشعرية، وكشفنا عن غلطاته والحمد لله تعالى.
المطلب الثاني: في صحة نقل الأسماء من اللغة إلى الشرع.
واعلم أنه لا خلاف بين أهل القبلة من علماء الأمة في جواز ذلك وصحته، وما يحكى عن الصيمري ) من أن دلالة اللفظ على معناه لذاته، فلا يصح نقله، فلا يلتفت إليه لضعفه؛ لأن حقيقته آيلة إلى تغير الدواعي وهو تابع للاختيار، سواء قلنا: إن إفادة الألفاظ لمعانيها بالتوقيف أو بالمواضعة، فلا مانع من مثل هذا، ولا حرج من جهة العقل أن يختار مختار نقل اسم من معناه إلى معنى آخر لغرض من الأغراض، وإنما الخلاف في وقوعه سمعاً. وقد وقع فيه تردد ونزاع بين العلماء.
__________
(1) أبو عبدالله، أحد معتزلة بغداد، وكان في بداية أمره بصرياً إلاً أن كراهته لأبي هاشم جعلته يرحل إلى بغداد. وقال القاضي عبدالجبار: وله الكثير من التصانيف في علم الكلام، والصيمري في الطبقة التاسعة من طبقات المعتزلة.
فالذي ذهب إليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة أن في الشرع أسماء منقولة عن معانيها اللغوية إلى معان أُخَر قد وقعت المواضعة الشرعية، وصار نقلها تاماً، حتى صارت معانيها اللغوية نسياً منسياً لا تفهم منها بحال، ثم تنقسم إلى أسماء شرعية، نحو الصلاة والزكاة والحج والصوم .. وغير ذلك من الأسماء المفيدة لمعانٍ شرعية. وإلى دينية، نحو قولنا: مؤمن، كافر، فاسق، منافق. ونعني بكونها دينية هو أنها قد صارت تفيد مدحاً وذماً بتصرف الشرع ونقله.
وحكي عن بعض فرق المرجئة(1): أنها باقية على معانيها اللغوية من غير أن يكون للشرع تصرف فيها بحال، وعلى هذا قالوا: بأن الفاسق مؤمن لكونه مصدقاً بالله ورسله، وإلى هذا ذهب بعض النظار من الأشعرية، كما هو محكي عن أبي بكر الباقلاني ).
__________
(1) المرجئة: قال الشهرستاني: وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار. ا.هـ (الملل والنحل ج1/139).
(2) أبو بكر، محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم الباقلاني، متكلم الأشعرية. توفي سنة (403هـ). شذرات الذهب. ج3/16، الفلك 217 هامش، ألَّفَ أكثر من خمسين كتاباً في الفقه وأصول الأشعرية والدفاع عنها والرد على المذاهب الأخرى. منها (التمهيد) و(الأصول الكبيرة) و(هداية المسترشدين) وكتابه المعروف (إعجاز القرآن).
وحكي عن الشيخ أبي حامد الغَزالي أنه قال: لا سبيل إلى إنكار تصرف الشرع في هذه الأسماء، ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن معانيها اللغوية بالكلية. وحاصل هذه المقالة أنها دالة على معانيها اللغوية مع اشتراط أمور من جهة الشرع، كالصلاة مثلاً، فإنها كما هي دالة على الدعاء بوضعها اللغوي، فهي دالة على هذه الأفعال من الركوع والسجود والأذكار وسائر معانيها. وحكي عن ابن الخطيب الرازي من الأشعرية: أنها دالة على هذه المعاني الشرعية من جهة المجاز، وعلى معانيها اللغوية على جهة الحقيقة. وحاصل هذه المقالة أنها دالة على المعنيين جميعاً: أحدهما بطريق الحقيقة، والآخر من طريق المجاز. والتفرقة بين مذهبه ومذهب الغَزالي، أن الغَزالي يقول: بأنها مفيدة للمعنيين جميعاً على جهة الحقيقة ولا مجاز فيها، بخلاف مقالة ابن الخطيب كما ترى.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إلى أسراره وهو: أن هذه الأسماء وإن أفادت معاني شرعية قد دلت عليها بتقرير الشارع عليها، لكنها دالة على معانيها اللغوية، وغير خارجة عن كونها دالة عليها.
ويدل على ما اخترناه من ذلك: هو أن دلالتها على معانيها اللغوية هو الأصل، فمن يدعي إخراجها عنها فهو مدعٍ خلاف الأصل، فلابد من دلالة على ذلك. فإذا دل الشرع على إفادتها لمعانٍ شرعية فليس بينهما تعارض ولا تدافع، فيجب القضاء بحصولهما جميعاً، فتكون دلالة الصلاة على الدعاء بالوضع اللغوي، وتكون دلالتها على هذه الأفعال المفترضة فيها بالاصطلاح الشرعي، ولا معنى للاقتصار على معناها اللغوي كما هو رأي بعض فرق المرجئة، ولا وجه للاقتصار على معناها الشرعي كما هو رأي أصحابنا والمعتزلة.
فأما من زعم أنها دالة على معناها اللغوي بطريق الحقيقة، وعلى معناها الشرعي بطريق المجاز، فهو تحكم لا وجه له كما حكيناه عن ابن الخطيب الرازي؛ لأن معناها الشرعي سابق إلى الفهم فلا وجه لعده في المجاز كما زعم، فلا غنى للفقيه عن هذه المسألة، وقد اقتصرنا على ذكر الوجه المختار بدليله، وأعرضنا عن ذكر أدلة المخالفين ونقضها؛ لأنها مترددة بين المباحث الكلامية والأسرار الأصولية، فهي بمعزل عن المباحث الفقهية التي تصدينا لكشفها وبيانها والله تعالى الموفق للصواب.
---
المقدمة الثانية: في بيان المستند لنا في تقرير أحكام الشريعة التى قدمنا ذكرها
واعلم أن الذي نذكره في هذه المقدمة، هو الكلام في بيان الأصل في تقرير هذه الأحكام الفقهية، وفي بيان التفرقة بين المسائل الأصولية والمسائل الفقهية، فهذان فصلان تحتهما فوائد جمة لابد للخائض في المسائل الخلافية من إحرازها.
---
الفصل الأول: في بيان عمدتنا في تقرير الأحكام الفقهية
والمعتمد في تقريرها هو الرسول وما يصدر عنه.
والصادر عنه: إما خطاب، أو مفهوم الخطاب، أو معقول الخطاب، أو استصحاب، فهذه مراتب أربع لا يخلو مستندنا في الأحكام الشرعية عن واحدة منها، نذكر ما توجه في كل واحدة منها بمعونة اللّه تعالى.
---
المرتبة الأولى: في تقرير الأدلة الخطابية
ونعني بالخطاب: ما كان مأخوذاً من لسان صاحب الشريعة، إما بنفسه كالكتاب والسنة، أو ما يكون مستنداً إليهما كالإجماع؛ فإنه وإن لم يكن من الخطاب، لكنه معتمد على الكتاب والسنة في تقرير كونه حجة، فلهذا كان لاحقاً بهما وإن لم يكن خطاباً. فهذه ضروب ثلاثة معتمدة في تقرير الأحكام.
الضرب الأول منها: أدلة الكتاب، ولا خلاف في كونه عمدة في تقريرها، ودلالتنا عليها: إما من جهة النص، وإما من جهة الظهور، وإما من جهة الإجمال، وقد أورد بعض الأصوليين دلالة العموم، وزادها على ما ذكرنا ولا وجه له، فإن دلالة العموم إنما هي ظاهرة فهي مندرجة تحت الظاهر، فلا وجه لإفرادها بالذكر من الظواهر.
فأما النص: فهو اللفظ الذي لا يحتمل التأويل بحال قريباً كان أو بعيداً، وهذا كقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [البقرة: 163] وغير ذلك مما لا يحتمل سوى معناه الموضوع من أجله.
وقد حكي عن بعض المتفقهة: إنكاره، وأنه لا يكاد يوجد، وأظنه أبا علي الطبري ) من أصحاب الشافعي، وهو فاسد(2)، فإنا لا نريد بالنص: ما كان الاحتمال منتفياً عنه من جميع الوجوه، وإنما نريد به: ما لا يحتمل التأويل في المعنى الذي هو صريح فيه. وقد تكون الآية الواحدة مشتملة على النص والظاهر والمجمل. ومثاله قوله تعالى:{أَقِيْمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ }(3).[البقرة:43، 83، 110] فإنهما نص في مطلق الطلب لما أمره به، وهما ظاهران في الوجوب؛ لأنه يحتمل غيره، وهما مجملان في كيفية المأمور بها.
فما كان منصوصاً عليه لا يجوز العدول عنه إلا بأمر ينسخه أو يعارضه.
وأما الظاهر: فهو ما كان محتملا لأمرين: أحدهما أسبق إلى الفهم من الآخر.
فما كان له ظاهر في اللغة فإنه يحمل على ظاهره إلا لدلالة، وهذا كقوله تعالى: {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بَأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ }[ البقرة: 228]. فإنه ظاهر في كل مُطَلَّقة لغة، لكنا أخرجنا الآيسة من الحيض لصغر أو كبر، والحامل والمرتدة.
وما كان ظاهراً بالشرع، فإنه يحمل على ظاهره شرعاً إلا لدلالة، وهذا نحو الصلاة، فإنها تحمل عند الإطلاق على ظاهرها الشرعي إلا لدلالة؛ لأنها صارت ظاهرة في معناها الشرعي، فلا تصرف عنه إلا لأمر يقتضيه ويدل عليه، فلا تحمل الصلاة على الدعاء إلا لدلالة خاصة، وهكذا القول في الصوم وغيره، تحمل على معانيها الشرعية عند إطلاقها.
__________
(1) أبو علي الحسن بن القاسم الطبري، يعرف بصاحب (الإفصاح) وهو شرح على (المختصر). وله مصنفات في الأصول ومسائل الخلاف والجدل. مات سنة خمسين وثلاثمائة للهجرة. ويعد من فقهاء بغداد كونه تفقه بها. ومن فقهاء طبرستان التي ينسب إليها. (طبقات الشافعية، وطبقات الفقهاء).
(2) يعني: الرأي لاصاحبه.
(3) هكذا في الأصل بدون الواو قبل {أقيموا} ولم نجدها في القرآن الكريم مجردة من الواو.
وأما المجمل: فهو الذي لا يفهم المراد من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره. ثم هو على وجهين:
أحدهما: لا عرف فيه من جهة اللغة، ومثاله قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }[الأنعام: 141]. لاعرف فيه من جهة اللغة. فما(1) هذا حاله [فهو] مجمل لا يمكن الاحتجاج به؛ لأنه لا يمكن فيه معرفة جنس الحق ولا قدره فلا يمكن العمل عليه إلا لدلالة موضحة لقدره وجنسه وكيفية تأديته.
وثانيهما: أن يكون له عرف من جهة اللغة. وما هذا حاله يمكن العمل عليه فيما كان متعارفاً فيه. ومثاله قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ }[ النساء: 23]. فإن ما هذا حاله يمكن العمل عليه؛ لأنه قد صار متعارفاً في الاستمتاع من كل الوجوه فيمكن امتثاله، ولا يكون مجملا لما ذكرناه، فهذه جملة أدلة الكتاب التي تدل عليها.
فأما العموم فلا حاجة إلى إفراده بالذكر، لاندراجه تحت ما ذكرناه من الظاهر؛ لأن دلالة العموم من جهة الظهور، ولا يكون نصاً إلا في صورة قد ذكرناها في الكتب الأصولية، وهو : إذا كانت الاحتمالات منسدة إلا احتمالاً واحداً.
الضرب الثاني: أدلة السنة. ودلالتها على ما تدل عليه إما من جهة القول، وإما من جهة الفعل، وإما من جهة التقرير.
أما القول: فهو نص وظاهر ومجمل كما ذكرناه في دلالة الكتاب.
فالنص: كقوله ً: (( في كل أربعين من الغنم شاة ))(2). وكقوله ً: (( في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة )) (3). فهذا وما أشبهه نص في الحكم يجب المصير إليه ولا يجوز العدول عنه بتأويل؛ لأنه لا يحتمله وإنما يجوز تغييره بناسخ أو معارض له.
__________
(1) في الأصل: فأما ما.
(2) سيأتي في محله في كتاب الزكاة.
(3) سيأتي في محله.
والظاهر من السنة: فهو جميع الأوامر الشرعية، فإن ظاهرها دال على الوجوب وليس نصاً في الوجوب، كقوله عليه السلام لأسماء: (( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ))(1). وكقوله: (( إذا فضخت(2) الماء فاغتسل )). وهكذا جميع المناهي الشرعية فإنها دالة بظاهرها على التحريم كقوله: (( لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن )). مع احتماله لغيره.
والمجمل: كقوله عليه السلام: (( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)). فما هذا حاله مجمل لا يمكن الاحتجاج به إلا بدلالة توضح ما ذكره من الحق الذي استثناه.
وأما الفعل: فهو شرع لدلالة العصمة عليه(3)، ثم إما يرد مستقلاً بنفسه، وإما يرد بياناً لغيره.
فإن ورد على جهة الابتداء فإن لم يكن فيه قربة فهو دال على الجواز كالبيع والشراء، والأكل والشرب؛ لأن أدنى درجاته الجواز، فأما الحظر فلا يجوز في حقه لأجل العصمة.
وإن كان فيه قربة فقد وقع فيه تردد بين العلماء، فمنهم من حمله على الوجوب، ومنهم من حمله على الندب، و منهم من وقف في حاله وجوز الأمرين جميعاً. هذا كله إذا ورد على جهة الإبتداء والاستقلال.
وإن كان وارداً على جهة البيان فحاله معتبر بالمبين في الوجوب والندب والجواز عند قوم، ومنهم من قال بأنه إذا كان بياناً فهو واجب بكل حال، سواء كان بياناً لواجب أو مندوب أو جائز؛ لأن البيان لا بد منه على كل حال وإلا كان الخطاب لغواً لا فائدة فيه.
وأما التقرير: فهو على وجهين:
__________
(1) سيأتي في محله.
(2) فضخت: قال في اللسان: الفضخ: كسر كل شيء أجوف نحو الرأس والبطيخ.. وانفضخ الدلو: إذا دفق ما فيه من الماء ج3/45 - 46.
(3) على الرسول ً .
أحدهما: أن يرى رسول اللّه ً أمراً فيقر عليه، فما هذا حاله يكون جائزاً؛ لأنه لو كان قبيحاً لم يجز أن يقره عليه، ومثاله: ما روي أن قيس اً(1) صلى ركعتين بعد الفجر، فقال ً: (( ما هاتان الركعتان ))؟ فقال: هما ركعتا الفجر، فلم ينكر عليه.
وثانيهما: أن يُفْعَل بعهده ً لا بحضرته، فإن كان من الأمور الظاهرة التي لا يخفى حالها، فيكون بمنزلة ما لو فُعل بحضرته وسكت عليه؛ لأن الغرض هو علمه به وتقريره عليه، وإن كان مما يجوز أن يخفى، لم يدل على جوازه، ومثاله: ما روي عن بعض الصحابة أنهم قالوا: كنا نجامع ونكسل. [والإكسال: هو الإيلاج من غير إنزال]. على عهد رسول اللّه ً ولا نغتسل. فما هذا حاله [فهو]مما لا يجوز الاحتجاج به؛ لأنه من الأمور الخفية، ويجوز أن يكون الرسول ً لم يشعر به، ولهذا لم يعمل به الصحابة ولم يرجعوا إليه.
فهذه وجوه أدلة الكتاب والسنة.
الضرب الثالث: دلالة الإجماع، وهو في دلالته على وجهين:
أحدهما: أن يكون إجماعاً عاماً، وهذا نحو إجماع الأمة كافة على وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، فما هذا حاله يجب المصير إليه والعمل به، ومن خالف ذلك مع العلم به فإنه يحكم بكفره؛ لأن ذلك معلوم بالضرورة من دين صاحب الشريعة صلوا ت الله عليه فمخالفه يجب الحكم بردته وخروجه عن الدين.
وثانيهما: إجماع خاص، وهو إجماع الأمة، أو العترة على حكم الحادثة، فما هذا حاله يجب العمل به والمصير إليه عندنا.
__________
(1) قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي الساعدي صاحب رسول اللّه وابن صاحبه، سيد وأمير وقائد ووالٍ وعاقل كريم. كان صاحب لواء النبي ً في بعض مغازيه. شهد فتح مصر، ووليها لعلي، ثم لزم علياً حتى استشهد فبايع الحسن بن علي، ثم رجع بعد الصلح إلى وطنه، ومات في آخر حكم معاوية على الأصح. (در السحابة 664).
فأما إجماع الأمة فمتى حصل على حكم من الأحكام فإنها تحرم مخالفته؛ لكونه قاطعاً ويفسق المخالف له لما في ظاهر الآية من الوعيد على من خالفه(1). وأدنى الدرجات في الوعيد الفسق، ويحرم وقوع الاجتهاد على مخالفة حكمه من جهة أن الاجتهاد على مخالفة المقطوع ممنوع، كما لو اجتهد على مخالفة النص كان فاسداً فهكذا هاهنا.
وأما إجماع العترة فهو حق وصواب لظاهر الآية والخبر(2) ولا يفسق من خالفه لعدم الدلالة على فسقه. والفسق إنما يكون بدلالة قاطعة شرعية، وليس في ظاهر الآية والخبر ما يدل على فسق من خالفه(3).
وهل يكون قاطعاً فيما تناوله أم لا؟ فيه نظر وتردد، والأقرب أن دلالته ظنية كالظواهر القرآنية ونصوص السنة المنقولة بالآحاد، وكالإجماعات من جهة الأمة التي نقلت على طريق الآحاد لما في ظاهر الآية والخبر - الدالين على كونه حجة - من الاحتمال، وإذا كان مظنوناً جاز مخالفته بالاجتهاد، ولهذا فإنك ترى كثيراً من المسائل التي وقع فيها إجماع العترة، الخلاف من جهة الفقهاء فيها ظاهر، والاجتهاد فيها مضطرب من غير نكير هنا في المخالفة ولا تأثيم للمخالف ولا تحريج عليه، ولو كان إجماعهم قاطعاً لحرم الاجتهاد ولكان الخطأ مقطوعاً به. وفي هذا دلالة على كونه ظنياً وأنه لا يحرم الاجتهاد.
وهذا ما أردنا ذكره في تقرير أدلة الخطاب من الكتاب والسنة والإجماع.
المرتبة الثانية: في بيان دلالة المفهوم من الخطاب
__________
(1) وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ}.
(2) الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. والخبر: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي)).
(3) ولكن الدلالة في مفهومهما.
وهو أن يكون الحكم مستفاداً من غير ظاهر اللفظ وصريحه، فما كان على هذه الصفة فهو في لسان الأصوليين يقال له: المفهوم. ثم إنه يأتي على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول منها: فحوى الخطاب.
وحقيقة هذا الضرب آيلة إلى أن المسكوت (عنه) يكون أقرب إلى الفهم من المنطوق به، ودلالة اللفظ عليه من جهة التنبيه، ومثاله قوله تعالى في حق الوالدين: {فَلاَ تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ }[الإسراء: 23]. فنص بتصريح اللفظ على المنع من التأفيف، ونَبَّه بطريق الفحوى على منع الضرب والشتم وسائر الإيذاء من طريق الأولى، ومثله قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِيْنَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ }[آل عمران: 75]. فنص على القنطار ونبه به على ما دونه من جهة الأحق والأولى، ونص على الدينار ونبه على ما فوقه بطريقة الأولى. وكقوله عليه السلام: (( لا تضحوا بالعوراء ولا بالعرجاء )) فنص على العور والعرج، ونبّه بذلك على ما فوقه من العمى وقطع الرجلين من طريق الأَولى، فما هذا حاله (فهو يُفهم) عند الخطاب لا من جهة الخطاب وصيغة لفظه.. ثم تردد الأصوليون، فمنهم من قال: إن المنع من الضرب مستفاد من جهة عرف اللغة، ومنهم من زعم أنه مفهوم من جهة معنى اللفظ وفحواه، وهل يسمى قياساً أم لا؟ فمنهم من جوز ذلك ومنهم من منعه، وحكي عن الشافعي أنه سماه: القياس الجلي.
والمختار عندنا: أن هذه المعاني كلها مفهومة من جهة فحوى اللفظ لا من جهة صيغته؛ لأنه ليس هناك صيغة تدل عليها، وفي هذا دلالة على ما قلناه من أخذها من جهة المعنى دون اللفظ، وأن ما هذا حاله يسمى قياساً أيضاً؛ لأن حقيقة القياس، فهم المسكوت (عنه) من شيء منطوق به، وهذا ها هنا حاصل على هذه الصفة، ولا يضر في تسميته قياساً كونه مفهوماً بطريق الأحق من المنطوق به؛ لأن في بعض الأقيسة ما يكون جلياً وبعضها يكون غامضاً، فلا يمنع كونه جلياً سابقاً إلى الفهم من تسميته قياساً. والله أعلم.
الضرب الثاني منها: لحن الخطاب، وهو المضمر الذي لا يتم ويكون مفيداً إلا به، ومثاله قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَاْنَفَلَقَ }(1)[ الشعراء: 63]. ومعناه: فضرب فانفلق. فحذف قوله: فضرب لدلالة الكلام عليه من جهة لحنه. ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضاً أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر }[ البقرة: 184]. والمعنى: فيه فأفطر. فحذفه لما كان الكلام لا يكون تاماً إلا بتقديره، وهذا من باب حذف المسبب لدلالة السبب عليه، ولهذا جاءت الفاء منبهة على المسببية. ومنه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكثيراً ما يقع في الكلام الفصيح كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ ال قَرْيَةَ }(2)[يوسف:82]. المراد: أهل القرية؛ لأن القرية يتعذر سؤالها وخطابها، فلو لم يقدر المضاف لم يكن للكلام فائدة ولا أفاد معنى ولهذا كان تقديره واجباً، هذا كله إذا كان غير تام(3) من دون تقديره وجب تقديره، فأما إذا كان الكلام يتم من دون إضماره فلا وجه لإضماره، وهذا كقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيْمٌ }[يس:78]. فلا يجوز أن نقول: المراد منه أهل العظام إلا بدلالة منفصلة من جهة أن الكلام مستقل فصيح من دون إضمار، فلا حاجة إلى الإضمار من غير دلالة تدل عليه.
__________
(1) تمام الآية: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّودِ العَظِيْمِ} وأول الآية: {فَأَوْحَيْنَا إِلى مُوْسى أَنِ...}.
(2) تمام الآية: {الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُون}.
(3) هذه الكلمة استبدلنا بها كلمة جاءت في الأصل غير مفهومة، ولكن معناها هو: (غير تام) كما يفهم من السياق.
الضرب الثالث: دليل الخطاب، وهو أن يكون معلقاً على شيء مذكور فيدل ذلك على انتفائه عما عداه، وقد يكون الحكم معلقاً إما على الصفة كقوله عليه السلام: (( في سائمة الغنم زكاة )). فدل ذلك على نفيها عن المعلوفة. وإما على العدد كقوله ً: (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا ً )). فدل ذلك على أنه إذا كان الماء دونهما فإنه يحمل الخبث، وإما على جهة الشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }[الطلاق: 6]. فدل ذلك على أن من كانت خلواً عن الولد فلا نفقة لها إذا طُلِّقَت. وبين الأصوليين نزاع فيما هذا حاله، فحكي عن أبي العباس بن سريج أن تعليق الحكم بأحد الوضعين لا يدل على انتفاء الحكم فيما عداه. وهو محكي عن أصحاب أبي حنيفة )
__________
(1) هو النعمان بن ثابت التيمي الكوفي فقيه العراق وزعيم أهل الرأي، اشتهر بكنيته. قال عنه ابن المبارك مقولته المشهورة: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. وقال عنه مالك: رأيت أبا حنيفة لوكلم في سارية من سواري المسجد أنها من ذهب لقام بحجته. وله مناقب كثيرة أفردها الذهبي في جزء خاص. وهو من أوائل من وضعوا أسس الفقه واشتهر مذهبه بالاحتجاج والرأي. ومن أشهر مؤلفاته: مسنده في الحديث. كان زاهداً في سلوكه يتكسب ولا يقبل جوائز السلطان، وقد أبى أن يتولى القضاء فضربه يزيد بن عمر بن هبيرة وسجنه. التقاه الإمام زيد بن علي وقرأ عليه بعضاً من مسائله الفقهية ونسب إليه قوله: قرأ عليَّ زيد فاستفدت منه أكثر مما استفاد مني. وعند خروج زيد وإعلانه الدعوة والثورة أيده أبو حنيفة، وعضده وظل يفتي الناس بالخروج مع زيد. وتلتقي الزيدية والحنفية في الفقه في كثير من مسائله الأصولية وفي الفروع، حتى قال الباحثون: الزيدية أحناف في الفقه. كما تلتقي الفرقتان في كثير من مسائل علم الكلام (أصول الدين) حتى اشتهرت في المدرسة الزيدية مقولة: أكثر علماء المعتزلة أحناف. توفي سنة 150هـ. (مقدمة الأزهار، مقدمة البحر، المحقق).
. ومن أصحاب الشافعي (1) من زعم: أن الحكم المعلق على الاسم دال على نفي ما عداه، والأكثر منهم على أنه غير دال.
والمختار عندنا: أن دلالة المفهوم مختلفة وأعلاها الشرط والغاية، فهذان يدلان على نفي الحكم عما عداهما وأدناه الاسم واللقب، فإنهما غير دالّين على نفي الحكم عما عداهما، والمتوسط بينهما هو الصفة، فكل هذه درجات المفهوم بعضها أقوى من بعض كما أشرنا إليه، وكلها مأخوذة من مفهوم اللفظ دون لفظه وصريحه، وهذه الدرجات قد أشرنا إلى تفاوتها وحصرها في الكتب الأصولية بحمد الله.
المرتبة الثالثة: في بيان دلالة المعقول، وهو القياس في أنواعه وضروبه.
__________
(1) أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي المكي نزيل مصر. شهرته معروفة بلغت الآفاق علماً وفقهاً واجتهاداً ورواية ورأياً. وعُرف الإمام الشافعي بالبحث المستمر، وهذا واحد من أسباب شهرته بتعدد الأقوال في المسألة الواحدة، تتلمذ على مالك وحفظ كتابه الموطأ، وبلغ درجة من العلم وهو صبي، وأفتى وهو ابن 15سنة. ويعتبر من الرواد في تقعيد أصول الفقه، وكان واحداً من دعاة الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن المثنى، وقد امتحن بسبب ذلك. ولد عام 150هـ ليلة اليوم الذي توفي فيه أبو حنيفة، بمدينة غزة. وتوفي يوم الجمعة آخر شهر رجب سنة 204هـ بمصر ودفن بالقرافة الصغرى. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب).
وهو تحصيل مثل حكم الشيء أو نقيضه في غير محله باعتبار تعليل غيره، فهذه الماهية جامعة لجميع أطراف القياس كله لا يشذ منها شيء، وقد أَقَرَّ بكونه طريقاً من طرق أحكام الشريعة، كل محصل من علماء الأمة ، وإنما يحكى الخلاف فيه عن شذوذ وطوائف من الأمة لا عبرة بهم، جمدوا على الظواهر الشرعية والنصوص النقلية، وأعرضوا عن محاسن الشريعة وأسرارها المأخوذة من القواعد القياسية، وقد رددنا مقالتهم في الكتب الأصولية وأفسدنا ما جاءوا به والحمد لله.
وجملة ما يكون معتمداً عليه في تقرير الأحكام الشرعية من الأقيسة، ضروب خمسة نفصلها ونشير إليها على جهة الإجمال:
الضرب الأول منها: قياس الطرد، وهو في لسان الأصوليين مقول على تحصيل، مثل: حكم الشيء في غيره بجامع غير مخيل ولا مشتمل على مخيل، وما هذا حاله فهل يكون معتمداً في تقرير الأحكام الشرعية أم لا؟ فأكثر أهل التحقيق من الفقهاء والأصوليين على منعه، ورده على ترك استعماله في الجدل والنظر، ومن الفقهاء من قبله، واستعمله في تقرير الأحكام الشرعية، وهذا شيء يحكى عن بعض أصحاب أبي حنيفة، ومنهم من رده في النظر واستعمله في الجدل، وهو المحكي عن أبي الحسن الكرخي ).
__________
(1) أبو الحسن عبدالله بن الحسن الكرخي من أعلام فقهاء الحنفية، وإليه انتهت رئاسة العلم في أصحاب أبي حنيفة، وعنه أخذ أبو بكر الرازي وأبو عبدالله البصري، وأبو القاسم التنوخي وغيرهم. (طبقات الشافعية، طبقات الحنفية).
والمختار عندنا: رده، وأنه لا يعول عليه في إثبات شيء من الأحكام الشرعية، وإنما يعول في تقريرها على المعاني المخيلة والأقيسة الشبهية، فأما الأقيسة الطردية فقد أنكرها المحققون ولم يعولوا عليها، ومثاله ما قاله أصحابنا والحنفية في التكرير في مسح الرأس أصل يؤدى بالماء، فيكون التكرار فيه مشروعاً قياساً على سائر الأعضاء، ونحو قول الشافعي في عدم تكريره: مسح فلا يسن بثلاث كالمسح على الخفين. فما هذا حاله من الأقيسة الطردية التي لا يلوح فيها تخايل المعاني، ولا يرشد إليها خائض الأشباه، وكمن تعلل أن النجاسة لا تزال بغير الماء كاللبن تعويلاً على قوله: مائع لا يبنى القطرة على حسه فلا تزال النجاسة به كالدهن.
الضرب الثاني: قياس العكس، وهو: تحصيل نقيض حكم الشيء باعتبار تعليل غيره، وهو معتمد في تقرير الأحكام الشرعية، وهو عند التحقيق راجع إلى قياس الدلالة، ومثاله ما قال أصحابنا والحنفية في شرطية الصوم في الاعتكاف: لو لم يكن الصوم من شرط الاعتكاف لما كان من شرطه وإن نذر، قياساً على الصلاة فإنه كما لم يكن من شرطها لم يكن من شرطها وإن نذر، وحاصل الأمر فيه أنا أخذنا وجوب شرط الصوم في الاعتكاف من عدم اشتراطه في الصلاة باعتبار ما ذكرناه من التعليل، والغرض من ذكره هو الإشارة إلى أنه معتمد في تقرير الأحكام الشرعية، وأنه من جملة المضطربات الاجتهادية، وأما تقرير كونه حجة على منكريه فموضعه أصول الفقه (1).
__________
(1) ومعناه ملخصا: لما وجب الصيام في الاعتكاف بالنذر وجب بغير نذر، كالصلاة، فإنها لما لم تجب فيه بالنذر لم تجب بغير النذر. ا.هـ كافل لقمان. ص 89.
الضرب الثالث: قياس المعنى. وحاصله: التعويل في المعاني المختلفة والأوصاف المناسبة للحكم، وهو مشتمل على أصل وفرع وعلة وحكم، ولن يكون معدوداً في المعاني إلا إذا كان الوصف الجامع بين الفرع والأصل مخيلاً ووصفياً مناسباً، ومثاله ما قاله أصحابنا والفقهاء، هو: أن العلة في قطع يد السارق، كونه أخذ مال من حرز على جهة الخفية، وهذا حاصل في النباش للقبور فيجب قطع يده إذا كان الكفن نصاباً. ومثال آخر، وهو: أن العلة في ضمان الأعيان بالغصب إنما هو إثبات يدٍ عادية، وهذا حاصل في المنافع فيجب ضمانها بالغصب أيضاً. فهذان المثالان خاصان للقياس المعنوي، وأكثر الأقيسة الجارية في المعاوضات جارية على نعت الإخالة وحاصلة على المناسبة، وهكذا القول في الإجارات والشفعة والمغارسة والمساقاة تجري على جهة الإخالة، والله أعلم.
الضرب الرابع: قياس الشبه، وحقيقته آيلة إلى التعويل على الأوصاف الشبهية، وقد عمل أكثر القياسيين به، وإنما أنكره أقوام حذراً من الطرد، فإنهم لما ردوا الطرد لقبحه توهموا أن الشبه في معناه، وليس الأمر كما ظنوه، وهو مشتمل على الأصل والفرع والعلة والحكم بجامع غير مخيل، ومثاله ما قاله أصحابنا و الشافعي في إيجاب النية في الوضوء أخذاً له من التيمم: طهارة حكمية فيجب فيها اشتراط النية كالتيمم.
فقولنا: حكمية. نحترز به عن طهارة النجاسة فإنها عينية.
فقولنا: طهارة حكمية. علة شبهية ليس فيها شيء من الإخالة وإنما هو تعويل على أخص الأشباه، وأقربها إلى المعاني وأكثرها ملائمة للحكم، فكلما ازداد الوصف خصوصية فهو أقوى ما يكون من الأشباه، وكلما بعد عن الإخالة فهو أضعف ما يكون من الأشباه، فما قوي منها فهو لاحق بالمعاني المخيلة فيجب قبوله، وكل ما ضعف منها فهو لاحق بالطرد فيجب رده.
الضرب الخامس: قياس الدلالة، وهو من جملة الأقيسة المعول عليها في اقتباس الأحكام الشرعية، وحاصله: الاستدلال على الشيء بخاصيته ونتيجته ونظيره. فالخاصية مثل: استدلال أصحابنا والشافعي على كون الوتر غير واجب، بأنها صلاة تؤدى على الراحلة، فلو كانت فرضاً لما جاز أداؤها على الراحلة كسائر الفرائض، خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه حيث زعم أنها واجبة. وأما النظير فكقولنا: من صح طلاقه صح ظهاره، استدلالاً من الشافعي على صحة الظهار من الذمي، خلافاً لما ذهب إليه أصحابنا وأبو حنيفة وأصحابه، فالظهار والطلاق نظيران في تعلقهما بالزوجة وكونهما يتعلقان بالأقوال، فإذا صح أحدهما صح الآخر. وأما النتيجة فكما يقول الشافعي في البيع الفاسد في حق الجارية: فلو كان منعقداً لجاز وطؤها، فلما لم يجز وطؤها دل على كونه غير منعقد؛ لأن حل الاستمتاع من نتائج العقد، وقد تعذر وطؤها فدل على بطلانه.
فهذا ما أردنا ذكره في دلالة ما عقل من الخطاب على الأحكام الشرعية.
المرتبة الرابعة: في بيان دلالة الاستصحاب.
وهو عمدة في تقرير حكم الحادثة إذا عدم المغير الشرعي، وهو آخر قدم يخطو به المجتهد إذا عدم مسلكاً شرعياً استصحب البراءة الأصلية وحكم بها، وأكثر العلماء على اتباعه وجعله حجة، وزعم قوم أنه لا يكون حجة وإنما هو صالح للترجيح.
والمختار: ما ذكرناه وعليه أكثر الأصوليين من الزيدية(1) والمعتزلة والأشعرية. ثم هو على وجهين:
__________
(1) ينسبون إلى الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين ٍ لاتفاقهم معه في الإمامة والخروج على الظلمة. وهذا المذهب موجود في اليمن ويعرف أتباعه بالاعتدال والتوسط والتزام النص والعقل وحرية الاجتهاد والابتعاد عن التعصب، وهم عدلية في الأصول. راجع طبقات الزيدية للإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، والزيدية في اليمن للدكتور أحمد محمود صبحي.
أحدهما: أن يكون الحال عقلياً، فيستصحبه المجتهد، وذلك أن الأصل هو البراءة العقلية عن كل ما كان يشغلها من جميع الإلزامات في الضمانات وغيرها من العبادات، وفراغ الذمة معلوم عقلاً، وطريق شغلها إنما يكون من جهة الشرع، وقد طلبت المسالك الشرعية فلم أجد شيئاً، فلا جرم حكمت بفراغها. وعلى هذه القاعدة حكمنا بصلاة سادسة، فهذا مسلك صحيح لا عثار عليه، والاستدلال به جائز.
وثانيهما: أن يكون الحال شرعياً، فيجب استصحابه حتى يرد ما يغيره وينقله عما كان عليه، وهذا نحو استصحاب العموم حتى يرد مخصص، ونحو استصحاب العقود الثابتة حتى يرد ما ينقضها ويبطلها، ومثل استصحاب شغل الذمة بالإتلاف حتى يرد ما يزيله ويبطله من الغرامات المالية، إلى غير ذلك من الاستصحابات الصحيحة الثابتة المستقرة.
فأما استصحاب الإجماع في موضع الخلاف ونحو استصحاب النص بعد ورود ما ينسخه، فهو خطأ لا وجه له ولا تعويل عليه؛ لأن ما هذا حاله يكون استصحاباً للدليل بعد بطلانه؛ لأن الإجماع يرفعه الخلاف، والنص يرفعه ناسخه فلا معنى لاستصحابهما على جهة الإجمال، وقد فصلنا هذه القواعد وأتينا فيها على الغرض الشافي وأودعناه الكتب الأصولية، وما ذكرناه هاهنا فهو كاف للفقيه المجرد، فأما الأصولي ففي فهمه أكثر من ذلك.
---
الفصل الثاني: في بيان التفرقة بين المسائل الأصولية والمسائل الفقهية والميز بينها
اعلم أن هذا الفصل ينبغي الاهتمام بحاله والاعتناء بإيضاحه، لما يشتمل عليه من الفوائد الغزيرة، والنكت الكثيرة. وجملة الأمر أن المسائل منقسمة بالإضافة إلى ما يتعلق بأمور الديانة إلى عقلية ونقلية.
فأما العقلية: فهي ما كان متعلقاً بالعقائد الإلهية، نحو العلم بالذات وصفاتها وأحوال الحكمة والوعيد وأحوال المعاد وغير ذلك، وما هذا حاله فالحق فيه واحد والتعبد فيها بالعلم القاطع وما عداه خطأ وجهل، وقد قررناه في الكتب الكلامية.
وأما النقلية: فهي ما كان متعلقاً بالسمع لا مجال للعقل فيه. ثم هي منقسمة بالإضافة إلى قطعية وظنية.
فما كان مقطوعاً به منها فهي المسائل الأصولية القطعية.
وما كان غير مقطوع به فهي المسائل الظنية الاجتهادية. والمعيار الصادق والفصل الفارق بين ما يكون مقطوعاً به فيكون من فن الأصول، وبين ما يكون ظنياً فيكون من الفقه. فما كان المعتمد في تقريره وإثباته مسلك قاطع، إما نص الكتاب وإما نص السنة المتواترة أو الإجماع المقطوع المتواتر أو تصرف العقل وحكمه، فهو قاطع وما هذا حاله فهو لاحق بالمسائل الأصولية والحق فيه واحد، وما عداه محكوم عليه بالخطأ؛ لأن العلم ونقيضه لا يكونان صواباً، بل لا بد من أن يكون أحدهما خطأ وجهلاً، وما كان من المسائل مستندُ إثباته وتقريره مسلك ظني نحو ظاهر الكتاب أو نص السنة الآحادية أو ظاهر نصها المتواتر، أو إجماع منقول بالآحاد أو غير ذلك من المسالك المظنونة، فهو لاحق بالمسائل الظنية الاجتهادية، ولهذا فإن القياس وخبر الواحد وأن الأمر للوجوب والنهي للتحريم كلها معدودة من المسائل الأصوليةح لأن المستند في تقريرها هو الإجماع القاطع والنصوص الواردة الشرعية على إثباتها، ولم تستند إلى مسلك ظني، وعلى هذا يكون ما يكون مستنداً إلى الأخبار الآحادية، نحو مسائل الصلاة، وأحوال العبادات والمعاملات من البيع والشراء والإجارات وغير ذلك من المسائل الشرعية، كلها تكون ظنية اجتهادية، ومن ثم قضينا بأن في اللغة لفظة موضوعة للعموم ولوقوع الاشتراك في اللغة بكونها أصولية لما كان مستندها دليلاً قاطعاً وهو الإجماع، فيكون الحق فيها واحداً، وما لا قاطع فيه فهو من فن الاجتهاد والكل فيه مصيب كما سنوضحه بعد هذا ونفرد له كلاماً يخصه.
وإن وقع الإجماع على مسألة من مسائل التحليل والتحريم وإن لم تعدَّ من المسائل الأصولية، نحو جواز الصلاة في الثوب الواحد، فإنه يكون قاطعاً ولا يعد من المسائل الاجتهادية لإسناده إلى الإجماع القاطع. فتنخل من مجموع ما ذكرناه أن الحكم الاجتهادي هو ما كان مستنداً إلى مسلك ظني من المسائل الشرعية، فإذا أراد الناظر الوقوف على حقيقة التفرقة وإدراك ما هيتها فليمتحن المسائل النقلية بنظره، فإن وجد هناك مسلكاً قاطعاً عرف أنه ليس مجتهداً فيها بحال، وأنها ترده عن الاجتهاد مقطوعاتُها، وأن الخطأ في خلافها، سواء كان ذلك المسلك عقلياً أو نقلياً أو غير ذلك من القواطع المفردة أو المركبة. فإذا تقرر فيها مسلك قاطع فإن كانت متعلقة بالأصول فهي من مسائله، وإن كانت من المسائل العملية فهي قاطعة بكل حال، وإن لم يجد فيها مسلكاً قاطعاً فهي من المسائل الاجتهادية التي لاحق فيها معيناً، فأكثر المسائل الخلافية مجتهد فيها ولا يمكن حصرها ولا ضبطها. وما كان منها قاطعاً، فهو محصور يُؤْثر في أمكنة معدودة، والمسائل الأصولية كلها قاطعة لاستنادها إلى مسالك في تقريرها قاطعة، ولهذا فإنك ترى خوض من خاض فيها من الأصوليين خوضَ قاطعٍ، بأن الحق في جانبه وما عداه خطأ، كما كان خوضهم في المسائل الدينية عقليها ونقليها من غير تفرقة بينها في ذلك. ولنقتصر على هذا القدر في التفرقة بين ما ذكرناه ففيه كفاية للفقيه، وما عدا ذلك نحيله على الكتب الأصولية.
---
المقدمة الثالثة: في تصويب الآراء في المسائل الخلافية والأنظار الاجتهادية
واعلم أن هذه المقدمة لابد للفقية الخالي من علم الأصول من إحرازها والإحاطة بها لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن يُعلم فضل هذا الرسول ً، على غيره من الأنبياء بما خصه اللّه تعالى بمالم يخص به غيره من الرسل، وفضل هذه الشريعة على غيرها من سائر الشرائع المتقدمة باتساع طرقها وامتداد أطرافها، وفضل هذه الأمة على غيرها من الأمم السابقة بأن جعلهم حاكمين في كل حادثة بأنظارهم الثاقبة، وفاصلين في كل قضية بمواد فكرهم الصائبة.
وأما ثانياً: فلئلا (1) يستوحش الناظر لما يرى من كثرة الخلاف في كل مسألة من المسائل الاجتهادية، فإذا تحقق أنها كلها صائبة هان عليه الأمر ولم يعظم عليه الخطب فيبقى في حيرة من أمره، فإذا عرف أنها كلها على الحق زال عنه الخوف وزاح عنه الطيش والفشل.
وأما ثالثاً: فلئلا يستعجل إلى تخطئة من يخالفه في المسالك، فيحكم له بخطأ أو بهلاك من غير بصيرة، ومع إدراك هذه الخصلة أعني معرفة التصويب لا يستعجل بهلاك من يخالفه، وكيف يقع الهلاك والآراء كلها صائبة وكلها حق وصواب، وهذا من فضل اللّه ورحمته وعظيم منته على الخلق وجزيل نعمته.
فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن كل مسألة ليس فيها دلالة قاطعة فالأمة فيها فريقان:
__________
(1) كثيرا ما تأتي (لئلا) مفكوكة في طريقة قدماء النساخ. وكما جاءت في أصل هذا الكتاب، مفكوكة هنا (لأن لا). والصواب الإدغام كما جاءت في قاعدة المصحف.
الفريق الأول: قائلون بأن الواقعة ليس فيها حق معين، وأن الآراء كلها حق وصواب، فهؤلاء هم المصوبة، أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة والمحققون من الأشعرية، وعليه جمهور الفقهاء أبوحنيفة والشافعي ومالك ) وأتباعهم.
ثم أهل التصويب لهم مذهبان:
__________
(1) أبو عبدالله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عمرو بن الحارث بن عثمان بن حثيل بن عمرو بن الحارث الأصبحي الحميري المدني الفقيه، أحد أعلام الإسلام إمام دار الهجرة. روى عن جعفر الصادق، ونافع والزهري وآخرين. وروى عنه ابن جريج وشعبة والثوري وغيرهم كثيرون. روي عن الشافعي: مالك حجة اللّه على خلقه. وقال أبو حاتم: ما ضعفه أحد. كان عالماً. قيل عنه المقولة المشهورة: لا يفتى ومالك في المدينة. وكان شديد التمسك بآرائه. ضُرِبَ 170سوطاً؛ لأنه لا يجيز بيعة الظلمة، وبعدها لزم بيته 20سنة، توفي صبيحة الرابع عشر من ربيع الأول سنة 179هـ عن 70سنة. روى له الأئمة والجماعة، وله كتاب (الموطأ) في الحديث. (مقدمة الأزهار - تهذيب التهذيب).
أحدهما: أن في المسألة أشبه، وهذا هو المحكي عن أصحاب أبي حنيفة: محمد بن الحسن ) وأبي الحسن الكرخي، ويحكى عن قاضي القضاة ) والشافعي والمروزي ) وغيرهم من الفقهاء.
ومعنى الأشبه: أن اللّه لو نص لما نص إلا عليه.
__________
(1) أبو عبدالله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني بالولاء الفقيه الحنفي صاحب المؤلفات الكثيرة. أصله من قرية بغوطة دمشق. ولد بواسط سنة 135هـ، ونشأ بالكوفة، وحضر مجلس أبي حنيفة لعدة سنين، ثم تفقه على أبي يوسف. ومن مصنفاته (الجامع الكبير والصغير). وجمع موطأ مالك، عده المنصور بالله من رجال العدلية، قال: وهو الذي غضب لله في أمر يحيى بن عبدالله لما أراد الرشيد أن ينقض أمانه، فقال: هذا لا ينقض ومن نقضه فعليه لعنة اللّه، فرماه الرشيد بالدواة فشجه. وكان يقول: أنا على مذهب زيد بن علي مهما أمنت على نفسي فإن خفت فإني على مذهب أبي حنيفة. توفي بالري سنة 189هـ في اليوم الذي مات فيه الكسائي، فكان يقول الرشيد: دفن الفقه والعربية في يوم واحد. (مقدمة الأزهار).
(2) قاضي القضاة عبدالجبار بن أحمد بن عبدالجبار أبو الحسن الأستراباذي، شافعي المذهب، وهو مع ذلك شيخ الاعتزال، ولي قضاء الري حتى وفاته، له مصنفات كثيرة في علم الكلام وأصول الفقه. قال ابن كثير في طبقاته: ومن أجل مصنفاته (دلائل النبوة) في مجلدين، مات في ذي القعدة سنة 415هـ.. (طبقات الشافعية ج1/187).
(3) أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم التميمي الحنظلي المروزي الإمام الحافظ عالم نيسابور. قال عنه أحمد: لا أعلم لإسحاق في العراق نظيراً، وقال أبو داود: أملى علينا إسحاق من حفظه أحد عشر ألف حديث، ثم قرأها علينا فما زاد حرفاً ولا نقص حرفاً. ولد سنة 166هـ، وقيل: سنة 161هـ، ومات ليلة نصف شعبان سنة 238هـ. روى عنه أحمد وابن معين والستة سوى ابن ماجة.
وثانيهما: إبطال الأشبه، وهذا هو المحكي عن أكابر الشيوخ من المعتزلة: الشيخين أبي علي ) وأبي هاشم، وأبي الهذيل ) وقاضي القضاة، وهو قول بعض أئمة الزيدية، ورأي أبي حامد العزالي، وهو رأي أكثر المصوبة.
الفريق الثاني: أن في الواقعة حكماً لله تعالى معيناً، وما عداه من الأقوال فهو باطل، ثم اختلفوا بعد ذلك، فمنهم من قال: إنه لا دلالة عليه قطعاً ولا ظناً، وإنما هو كدفين يعثر عليه.
ومنهم من قال: عليه دلالة ظنية.
ومنهم من غلا، وقال: إن عليه دلالة قاطعة.
__________
(1) محمد بن عبدالوهاب بن سلام بن خالد بن حمزة أبو علي المشهور في علم الكلام، أخذ العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبدالله الشحام البصري. وابنه أبي هاشم. قال الحاكم: هو الذي سهل علم الكلام وذلله. وله مؤلفات كثيرة منها: شرح على مسند ابن أبي شيبة. وتفسير القرآن في مائة جزء، وقيل: جملة مصنفاته مائة ألف وخمسين ألف ورقة، الورقة نصف كراس، وله مناظرات طويلة في الرد على الفلاسفة والملاحدة وتقرير العدل والتوحيد. ولد سنة 235هـ، وتوفي في شعبان سنة 302هـ، والجبائي نسبة إلى مدينة جُبَّى في خوزستان. (مقدمة الأزهار).
(2) أبو الهذيل محمد بن الهذيل بن عبدالله بن مكحول البغدادي العلاف شيخ البصرة من أشهر علماء المعتزلة، سمي بالعلاف لقرب داره من سوق العلف بالبصرة. ولد سنة 131هـ، أخذ علم الكلام عن عثمان الطويل، عن واصل، وروى الحديث عن محمد بن طلحة، وأخذ عنه علم الكلام أبو يعقوب الشحام. قال ابن خلكان: له مجالس ومناظرات وهو من موالي عبدالقيس، حسن الجدل، قوي الحجة، كثير الاستعمال للأدلة الإلزامية، قال الحاكم: أسلم على يديه سبعة آلاف نفس. توفي بسر من رأى سنة 235هـ. (مقدمة الأزهار - وفيات الأعيان).
فهذه أقوال المخطئة على ما ترى ، وهذه نبذة من الخلاف في الآراء في المسائل الخلافية قد أشرنا إليها على جهة التنبيه والإجمال، وتفاصيلها تحال على الكتب الأصولية. فلنذكر المختار في التصويب ثم نردفه بذكر المختار في حكم الأشبه، فهذان تقريران نذكر ما يتوجه في كل واحد منهما بمعونة اللّه تعالى:
التقرير الأول: في بيان المختار في التصويب للآراء في الاجتهاد.
والذي نرتضيه هو ما قاله أصحابنا والمعتزلة وذهب إليه محققو الأشعرية والفقهاء، وهو أن الواقعة ليس فيها لله حكم معين وإنما هو يكون على نظر المجتهد ورأيه، فإذا نزلت به الحادثة وأعمل فيها نظره وأتعب فيها فكره وسأل من اللّه تعالى توفيقاً وتسديداً لإصابة الحق، وكان جامعاً لعلوم الاجتهاد محرزاً لها على شروطها المعتبرة التي فصلناها في الكتب الأصولية، فإنه متى أدى نظره إلى حكم من الأحكام من تحليل أو تحريم أو غيرهما من سائر الأحكام الشرعية العملية، فإن ما هذا حاله يكون حقاً وصواباً عند اللّه تعالى.
والبرهان على ما قلنا يتضح بمسلكين:
المسلك الأول منهما: أنا نقول لمن زعم أن في الواقعة حكماً معيناً هو مقصودٌ لِله ومطلوب. لو كان الأمر كما زعموه من تعينه لكان لا يخلو الحال فيه، إما أن ينصب اللّه عليه دلالة أو لا ينصب، والقسمان باطلان، فيجب القضاء ببطلان كونه معيناً.
وإنما قلنا: إنه لا يخلو من الوجهين، فلأنها قسمة دائرة بين النفي والإثبات فلا واسطة بينهما، وهي من العلوم العقلية التي لا يجوز خلافها، فإثبات متوسط باطل بالضرورة.
وإنما قلنا: إنه يستحيل أن عليه من اللّه دلالة منصوبة؛ فلأنها لو نصبها لكانت ظاهرة لكل من قصدها كسائر الأدلة الظاهرة العقلية والنقلية، والمعلوم باطراد العادة وجريانها، أن مثل ذلك لم ينقل ولا له أثر، وفي هذا دلالة على أنه ما كان، ولو كان لنقل كما نقل ما هو أخفى منه وأدق.
وإنما قلنا: إنه يستحيل ألا ينصب اللّه عليه دلالة؛ فلأنه لو كلف به من غير أن ينصب عليه دلالة، لكان تكليفاً بما لا يعلم وهو قبيح.
فتقرر بما ذكرناه فساد القسمين اللذين فصلناهما، وهما نصب الأدلة عليها وعدم نصبها، ويلزم من بطلانهما بطلان أن يكون هناك حكم معين في الحادثة وهو المطلوب.
المسلك الثاني: أن الصحابة (رضي اللّه عنهم) ما زالوا مجتهدين في الحوادث التي ليس عليها دلالة من جهة الكتاب، ولا من ظواهر السنة في الفتاوى والأقضية، والوقائع غضة طرية على ممر الأزمنة وتكرر الأعصار، وما برحوا مختلفين في الفتاوى والأحكام التي يصدرونها عن أنظارهم، وتفترق بهم المجالس عن المخالفة في الآراء، وكل واحد منهم مصوب لما قاله الآخر غير منكر عليه في رأيه واجتهاده، ولو كان في الواقعة حكم معين لطلبوه ولجدوا في طلبه وتحصيله، وما سمع عن واحد منهم أنه قال لصاحبه: هذا خلاف حكم اللّه، وحكم اللّه شيء آخر غير ما ذهبت إليه، بل من حكم بقضية وأبرمها فلا اعتراض عليه بحال، ويتشددون في التحرز عن بعض القضايا الصادرة عن الأحكام مع مخالفة الآراء، بل وربما يصدر من جهتهم التصريح بالتصويب في الأراء، وفي هذا دلالة قاطعة من إجماعهم على أنه ليس هناك حكم معين، هو شوف(1) المجتهد ومقصده ومقصد نظره، وإنما هي كلها آراء صائبة وظنون صادقة على تحصيل مراد اللّه في الحادثة، وهذا المسلك يدريه من مارس طرفاً من سير الصحابة رضي اللّه عنهم وما كان منهم من الفتاوى في التحليل والتحريم وإصدار القضايا عن الآراء الصائبة، فعند ذلك نعلم قطعاً ويقيناً صحة ما ادعيناه من تصويب الآراء الاجتهادية في جميع الحوادث التي لا نص فيها. ولنقتصر على هذا القدر من الدلالة ففيه مقنع وكفاية.
التقرير الثاني: في بيان المختار في الأشبه من الاجتهاد.
__________
(1) الشوف هو: الجَلْوُ والنظر والتطلع، كما لخصناه من اللسان. وهو هنا، بمعنى: النظر والاختيار.
اعلم أن جماعة من المصوبة زعموا مع القول بكون الآراء صائبة في الاجتهاد، أن فيها أشبه على معنى أن اللّه تعالى لو نص على الحادثة لما نَصَّ إلا عليه، وعلى معنى أنه الأجزل ثواباً عند الله تعالى، وهو محكي عن جماعة من الحنفية، منهم: أبو الحسن الكرخي، ومحمد بن الحسن الشيباني، ومروي عن الشافعي.
والمختار عندنا: أنه لا معنى للأشبه وأن جميع الآراء في تلك الحادثة كلها أشبه إلى قائله، وأنها كلها مقصودة لله، وإنما تقوى وتضعف بحسب قوة الأمارة وضعفها، وهذا هو رأي أهل التحقيق من المصوبة، أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة: أبي علي وأبي هاشم وأبي الهذيل. وإلى بطلان الأشبه ذهب المحققون من الأشعرية، كالباقلاني، وأبي حامد العزالي، وشيخه عبدالملك الجويني، فأما الشيخ من المعتزلة، فليس له فيه تصريح بإثبات ولا نفي، وكلامه فيه احتمال.
والبرهان على ما اخترناه يظهر بتقرير حجتين:
الحجة الأولى: هو أنا نقول: إن الشبه والأشبه سِيَّان في تعليق الحكم بهما، فيجب أن لا يكون للأشبه مزية على الشبه، وفي هذا ما نريده من بطلان القول بالأشبه. وبيان ذلك: أنا نفرض الكلام في مسألة تعليل الربا في الفضل، فالكيل على رأي أصحابنا وأبي حنيفة شبه وهو طرد عند القائلين بصحة الطرد، والطعم شبه على رأي الشافعي وهو طرد عند من يقبل الطرد، فمن قبل الوصف الذي لا يناسب الحكم، فهو شبه، ومن رده فهو طرد، فمن قبل الطرد قال: بأنه طرد، ومن رد الطرد قال: بأنه شبه، ومن رد الشبه فقال إنه أشبه، فالطرد والشبه والأشبه في مسألة كلها تعليلات وأوصاف غير مناسبة. لكنها تختلف الألقاب عليها بالإضافة إلى ردها وقبولها من غير أن يكون هناك بينها تفرقة من جهة الذات لعدم المناسبة فيها، وأن التعويل فيها إنما هو على أمر غير مخيل من جهة المشابهة الخاصة، فإذا كان لا تفرقة بينها من جهة الذات دل ذلك على أن الطرد والشبه والأشبه في حكم واحد، وأن الشبه في حق القائلين هو الأشبه في قول آخرين، وأنهما جميعاً طردان عند القائلين بالطرد.. فإذاً لا وجه لما قاله هؤلاء في تقرير الأشبه بحال.
الحجة الثانية: في بطلان الأشبه، أن نقول للقائلين ونستنطقهم عما يرون من إثباته فنقول:
ليس يخلو حال الأشبه عندكم إما أن يكون مكلفاً به أو لا يكون مكلفاً به.
فإن قالوا: إنه غير مكلف به.
قلنا: فإذا كان غير مكلف به فلا حاجة إلى طلبه؛ لأنه على هذا لا يتناوله التَّعَبُّد ولا يعد في الأمور العملية، وإن كان مكلفاً به فليس يخلو حاله إما أن ينصب اللّه عليه دلالة أو لا، فإن لم ينصب عليه دلالة كان التكليف به تكليفاً بما لا يعلم وهو محال لا يجوز على اللّه تعالى لأجل حكمته، وإن نصب عليه دلالة، فليس يخلو حالها، إما أن تكون علمية أو ظنية، ومحال أن تكون علمية؛ لأنه كان يلزم أن يكون أمراً معيناً وأنتم لا تقولون به، ويلزم أن يكون مخالفه مخطئاً وهو خلاف مذهبكم.
وإن كانت ظنية فهذا جيد، لكن نقول: إن كل واحد من المجتهدين يدعي فيما قاله وغلب على ظنه أنه علة الحكم وَوَصَفه أنه أشبه، فليت شعري بم يكون التمييز بين وصف ووصف وأمارة وأمارة، وفي ذلك بطلان الأشبه، وأنه لا حقيقة له ولا وجود.
فهذا ما أردنا تقريره في حكم الآراء في المسائل الاجتهادية، وأن المذهب تصويبها لا محالة.
---
المقدمة الرابعة: في بيان ما يعرف به مذهب المجتهد وبيان الطريق إليه
اعلم أن هذه المقدمة تمس إليها حاجة الخائض في الأبواب الفقهية؛ لأنه لا يزال يردد نظره ويكرره في مذاهب المجتهدين ومعرفة مستنداتهم فيها.
وقبل الخوض فيما نريدهُ من ذلك نذكر ماهية المذهب وحقيقته، وهو: كل اعتقاد صادر عن دلالة أو أمارة أو شبهة أو تقليد، فمتى كان الاعتقاد صادراً عما ذكرناه فهو مذهب لصاحبه، ولهذا فإن اعتقاد حدوث العالم وإثبات صانعه، مذهب الموحدة من أهل الإسلام، واعتقاد من خالفهم في ذلك مذهب الملاحدة والدهرية وغيرهم من الفرق الكفرية لما كان صادراً عن شبهة فاعتقدوهُ لأجلها، واعتقادات المجتهدين لما ذهبوا إليه من مذاهبهم في التحليل والتحريم، تصير مذاهب لهم لما كانوا محصلين لها عن الأمارات. وهكذا حال المقلدة فإنها مذاهب لكونها صادرة عن اعتقاد التقليد، فصار المذهب لا يكون مذهباً إلا بما ذكرناه من الاعتقاد، ولهذا [فـ]إن ما كان صادراً عن العلوم الضرورية لا يكون مذهباً، وإن كان من جملة الاعتقادات لما لم يكن العلم الضروري من فعله، فصار المذهب يكون مذهباً لاستناده إلى الاعتقاد من فعله، فلا بد من اعتبار هذين الوصفين في كونه مذهباً.
فإذا عرفت هذا، فلنذكر الطريق إلى معرفة مذهب المجتهد، ثم نردفه بكيفية التخريج على مذهبه، وحكم القولين في المسألة، فهذه مباحث ثلاثة تختص ما نحن فيه وبعدها تفاصيل يليق ذكرها بالكتب الأصولية، ولكنا نورد ما يكون عوناً للفقيه على إحراز مذاهب المجتهدين وأقاويلهم وكيفية إحرازه لها بمعونة اللّه تعالى.
---
البحث الأول: في بيان الطريق إلى معرفة مذهب المجتهد.
وقد يدرك من جهة النطق، وقد يدرك من جهة الضرورة، وقد يكون معلوماً من جهة الاستدلال، فهذه طرق ثلاث نذكر ما يتوجه في كل واحدة منها بمعونة اللّه تعالى:
الطريق الأول: ما يكون معلوماً من جهة النطق، وهذا كأن يصرح المجتهد بأن يقول: هذا مذهبي، أو هذا الذي أقول به وهو اعتقادي في المسألة، من تحليل أو تحريم أو غير ذلك، سواء كان في الاعتقادات الإلهية أو في المباحث الأصولية أو كان في المسائل الفقهية، وأقوى ما يعرف به مذهب القائل، هو تصريحه من لسانه؛ لأن ما عداه من الطرق لا يكاد يسلم عن الاحتمال. وقد يقول المؤيد بالله ): هذا هو الذي أذهب إليه، وكما قال الشافعي: إذا تعارض الخبر والقياس فمذهبي هو القول بالخبر، يعني أنه لا يذهب إلى القياس ولا يرى له وزناً عند وجود الخبر وثبوته، بخلاف غيره فإنه ربما قال بالقياس وأعرض عن الخبر. وحكي عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه قال: اجتمع رأيي ورأي عمر في تحريم بيع أمهات الأولاد، وأنا أرى الآن بيعهن(2)
__________
(1) المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون بن محمد الحسني الآملي الإمام المؤيد بالله وهو المعني بهذا اللقب عند أن يطلق، يوصف بأنه بحر العلوم وهو إمام علم الكلام وإمام أئمة الفقه، روى عن أبي العباس، وقاضي القضاة، وروى عنه السيد مانكديم، والقاضي يوسف وغيرهما، من مؤلفاته: (شرح التجريد) من أبرز المراجع، وله كتب أخرى منها: (الإفادة) (وهو غير كتاب الإفادة في التاريخ لأخيه السيد أبي طالب) و(الزيادات) و(التفريعات) و(إعجاز القرآن) في الكلام و(الأمالي الصغرى). ولد بآمل طبرستان 333هـ، وبويع له بالخلافة سنة 380هـ. وتوفي يوم عرفة 411هـ..
(2) الظاهر من رأي أئمة وعلماء الزيدية، تحريم بيع أمهات الأولاد، وقد روي إجماعهم على تحريمه في (البحر) عن الإمام يحيى بن حمزة (المؤلف). وجاء ما نصه: فصل. ويحرم بيع الأمة دون ولدها والعكس. إذ يحرم التفريق بينهما في الملك (ي) إجماعا، حتى يستغني بنفسه.ا.هـ. ص 317. وجاء في هامش (البحر) ما نصه:
…وعن علي عليه السلام أنه قال: وهب لي رسول اللّه ً غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال لي رسول اللّه ً: ((ما صنع غلاماك))؟ فأخبرته. فقال: ((رُدَّه، رُدَّه)) أخرجه الترمذي. ا.هـ. وعن علي عليه السلام أنه فرق بين والدة وولدها، فنهاه رسول اللّه ً عن ذلك ورد البيع، أخرجه أبو داود.ا.هـ 318. وهذا كما تراه يناقض ما أورده المؤلف هنا من رأي الإمام علي بجواز بيع أمهات الأولاد، ولعله أورده للتمثيل فقط.
. وهذا تصريح منه بما يراه ويعمل به ويفتي، وهكذا القول في سائر المعتقدات.
الطريق الثاني: من جهة الضرورة.
وهذا ظاهر.. فإن كثيراً من المعتقدات [هو] مما يعلم بالضرورة، بالممارسة، ويعلم الحب والبغض والموالاة والمعاداة وغير ذلك من المقاصد الضرورية، ولهذا فإنا نعلم قطعاً بالضرورة، بغض العباسية للمروانية، وبغض الفريقين للفاطمية وعداوتهم، ونعلم أيضاً انقطاع الموالاة بينهم، وهكذا حال العدلية والجبرية في البغض وعدم الموالاة، ونضطر إلى قصودهم في الانقطاع وبطلان مذهب كل واحد من الفريقين لصاحبه(1) وهكذا القول في غيره فإنا نضطر إلى أن المجبرة يعتقدون تجوير اللّه ونسبته إلى فعل الظلم وسائر القبائح، كما نضطر إلى أن المشبهة يعتقدون مشابهة اللّه للأجسام وإن لم ينطقوا بذلك، ولكنا نضطر إلى مقاصدهم في الاعتقاد لذلك والعمل عليه وانطواء أفئدتهم على التصميم على ذلك ولا يزعهم عن ذلك وازع ولا يصدهم صاد. وهكذا القول في حال الإمامية من الشيعة فإنا نعلم بالضرورة إعظام أمير المؤمنين وموالاته، وتفسيق من خالفه في الإمامة وإكفاره، وإن لم يصرحوا بهذا الاعتقاد لما يظهر من أخلاقهم وشمائلهم، بل يصرحون بذلك ويدينون به.
الطريق الثالث: ما يُعلم من جهة الاستدلال.
اعلم أن الاستدلال على مذهب المجتهد ينبني على انسداد الاحتمالات، فإذا كان غير مصرح بمذهبه ولكنا نعلم من ضرورة قصده حكماً لها، وكانت الاحتمالات منسدة سوى احتمال واحد قوي على الظن، كون ذلك الاحتمال مذهباً له، وهذا يكون على أوجه ثلاثة:
__________
(1) لدى صاحبه.
أولها: أن يعلل الحكم المخصوص بعلة مخصوصة فيجب طرد(1) الحكم مع تلك العلة أينما وجدت؛ لأنه قد نص على العلة، والحكم تابع للعلة سواء كان قائلاً بتخصيص العلة أو مانعاً من تخصيصها؛ لأنه إذا كان مانعاً من التخصيص كان الحكم مساوياً للعلة في كل محل من محالها، وهكذا إذا كان قائلاً بالتخصيص؛ لأنه إنما يقول بالتخصيص لدلالة، فإذا لم توجد هناك دلالة، كان مذهبه التعميم لا محالة، فهذا وجه في معرفة مذهب المجتهد وإن لم يكن ناصاً عليه.
وثانيها: أن يعلم من جهته بتصريحه أنه لا يفرق بين المسألتين، أو ينعقد الإجماع من جهة على أنه لا تفرقة بينهما، ثم إنه نص على إحدى المسألتين فإنه يعلم بما ذكرنا أن حكم إحداهما حكم الأخرى، ومثاله أن يقول: الشفعة للجار، فيندرج تحت ذلك جميع الصور في الجيرة؛ لأنه قد حكم بالشفعة للجار على طريقة العموم فلا يجوز تخصيصه إلا لدلالة ولا دلالة ها هنا قائمة، فلهذا كان مذهبه التعميم في جميع الصور، أو يحكم مثلاً بالشفعة لجار الدار، فيعلم بذلك أن مذهبه وجوب الشفعة في جار العقار والأراضي إذ لا أحد من الأمة فصل بينهما، فعلمنا بمذهبه في شفعة الجار مع انضمام قرينة ألا أحد فصل بينهما من الأمة.. وجوب كونه قائلاً بالشفعة في كل جار من غير تفرقة بينهما.
__________
(1) يعني إجراء الحكم طرداً مع العلة.
وثالثها: أن يُعلم له مذهب مقرر في الأصول، فيفرع على ما يذهب [إليه] من ذلك وإن لم يصرح به، ومثاله: إذا كان يقول ويعرف من مذهبه القول بالعموم، وهو أن في اللغة صيغة موضوعة له، فإذا ورد قوله عليه السلام: (( كل مسكر حرام )). فنقول: مذهبه تحريم كل مسكر مما سوى الخمر؛ لأنه من القائلين بالعموم ولا مخصص هناك، فنعلم مذهبه في ذلك. وهكذا إذا ورد قوله ً: (( الشفعة في كل شيء )). فإنا نقول: يكون من مذهبه وجوب [الشفعة] في المنقولات؛ لأن هذا عموم وهو من القائلين به فيجب القضاء بأنه من مذهبه وإن لم يكن مصرحاً به، فهذا جملة ما يعرف به مذهب المجتهد إما من جهة التصريح، أو من جهة الإضطرار إلى قصده، أو بطريق الاستدلال على ما فصلناه لانسداد الاحتمالات فيها، وأنه لا محمل له إلا أنه قائل به فيجب كونه مذهباً له.
---
البحث الثاني: في بيان حكم التخريج على مذهب المجته
اعلم أن من الأصوليين من زعم أنما عدا ما قدمناهُ من الأوجه الثلاثة فإنه لا يعد مذهباً للمجتهد ولا ينسب إليه.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إليه، وهو أن كل ما كان يقتضيه قياس قول الإمام أو المجتهد في المسائل الفقهية والمضطربات الاجتهادية، فإنه يجوز أن يجعل قولاً له، وإن لم ينص عليه إذا كانت أصوله دالة عليه وتقريراته تشير إليه وتفهم من تصرفاته. نعم .. إنما يكون منسوباً إليه على جهة التخريج ولا بد من التصريح بذلك إذا عزي إليه لئلا يكون موهماً للكذب، فيقول المخرج: هذا يكون مذهباً له على جهة التخريج. وليكون تفرقة بين ما يكون صريحاً من مذهبه وبين ما يكون على جهة التخريج. والبرهان على صحة ما قلناه هو: أن الأمة مجمعة على جواز ذلك وحسنه فيجب كونه معمولاً عليه مقبولاً. وإنما قلنا: إن الأمة مجمعة على ذلك؛ فلأن جميع الفرق من الزيدية والحنفية والشافعية مطبقون على تخريج المسائل التي هي غير منصوصة على ما يكون أصلُ واحدٍ من الأئمة مقتضياً له و[على] بيان ذلك. أما أئمة الزيدية فلأن أصحاب القاسم )
__________
(1) الإمام القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ٍ أبو محمد ترجمان الدين. ولد سنة 170هـ، وروى عن أبيه وآخرين. وكان إمام زمانه ومن رواد تقعيد المسائل الفقهية ومن أوائل الدعاة إلى الاعتماد على العقل في استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها، روى عنه أولاده محمد والحسن والحسين وداود، وكذا محمد بن منصور وجعفر النيروسي وغيرهم. قال في الطبقات: كان مبرزاً في أصناف العلوم و(بارعاً) في تصنيفها.. وكان عالماً مجتهداً دقيقاً في انتزاع الأحكام وترتيب الأخبار ومعرفة الرواة والمذاهب والآراء، وبارعاً في الكلام واستخلاص حقائقه وإبراز نتائجه. بويع بالإمامة سنة 220هـ.، في بيت محمد بن منصور، وكان ممن بايعه أحمد بن عيسى بن زيد، وعبدالله بن موسى، والحسن بن يحيى فقيه الكوفة، ثم سكن جبل الرس شمال المدينة. اعتمد حفيده الهادي يحيى بن الحسين على الكثير من تراث القاسم الفكري في الاجتهاد والرأي والرواية، وهذا واضح في الجامعين (الأحكام والمنتخب)، لحق القاسم بربه عام 244هـ في الرس. (مقدمتا الأزهار والبحر والطبقات).
ناقلون لمذهبه، مخرجون على ما تقتضيه أصوله مما لم ينص عليه ويصرحون بذلك، وهكذا القول في حال الناصرية (1) فإنهم قد دونوا نصوصه في كتبه، وما زالوا مخرجين على تلك النصوص ملحقين بمذهبه على جهة التخريج مالم يقل به وجعلوه من جملة مذهبه في الصحة والعمل. وأما اليحيوية(2) فإنهم إيضاً مخرجون على رأيه محصلون له على ما يفهمون من تصرفه وعلى حد ما يعهدون من أدائه في الحوادث المنصوص عليها من جهته، وأعظم من عني في التخريج على أصول هؤلاء الأئمة وعنى في ذلك بجده ومبلغ جهده، السادة الثلاثة: المؤيد بالله و أبو طالب )
__________
(1) الناصر: الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين السبط، أبو محمد الإمام الناصر (الكبير) المعروف بالأطروش. ولد سنة230هـ، وإليه تنسب الناصرية. كان عالماً ورعاً شجاعاً، وكان جامعاً لعلم القرآن والكلام والفقه والحديث والأدب والأخبار واللغة جيد الشعر، أسلم على يديه خلق كثير. توفي في شعبان سنة 304هـ.
(2) اليحيوية: أتباع مذهب الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، أول أئمة الزيدية باليمن ومؤسس مذهبها، خرج إلى اليمن بدعوة من زعمائها عام 283هـ، وكان بالرس من أعمال المدينة المنورة وبايعه الناس على الجهاد في سبيل اللّه وإحياء علوم وأحكام الشريعة، وتمركز بمدينة صعدة ويسمى إمام الأئمة، وهو أشهر أئمة اليمن بدون استثناء قضى حياته في الجهاد والعلم والتعليم، وله مؤلفات أشهرها (الأحكام) و(المنتخب والفنون) مطبوع. ترجم له كل المؤرخين ومؤلفي السير. وحياته ملخصة في كتاب (سيرة الهادي) توفي عام 298هـ، وقبره مشهور مزور بمسجده بصعدة.
(3) هو يحيى بن الحسين بن هارون، أبو طالب، الناطق بالحق أخو المؤيد بالله، له مؤلفات من أشهرها: (التحرير) في الفقه، وله تخريجات على مذهب الهادي، وكان يرى أن مالم يوجد فيه نص للهادي فمذهبه فيه كأبي حنيفة، وله (المجزي) في أصول الفقه، وفي علم الكلام (الدعامة في الإمامة)، وكتاب (الأمالي) المشهور بأمالي أبي طالب، مولده حوالي سنة 340هـ . بويع له بعد موت أخيه المؤيد بالله سنة 411هـ، وتوفي بآمل بطبرستان سنة 424هـ (مقدمتي البحر، والأزهار).
و أبو العباس ). وغيرهم من أصحاب كل إمام من هؤلاء الأئمة الثلاثة، فإن نصوصهم قليلة بالإضافة إلى المسائل المخرجة على أصولهم، وربما تختلف آراؤهم في التخريجات على حسب ما يعن من فهم مراده في تلك الحادثة، ويأتي كل واحد منهم بما يغلب على ظنه أنه غرضه ومراده.
__________
(1) أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. عالم، زاهد، ورع، قال عنه المنصور بالله عبدالله بن حمزة: هو الفقيه المناضل المحيط بألفاظ العترة أجمع غير منازع، حدَّث عن أبي زيد عيسى بن محمد العلوي، وعبدالرحمن بن أبي حامد ويحيى بن محمد بن الهادي، وعليه سمع كتابي الهادي (الإحكام والمنتخب) في الفقه، ومنه اتصل إسناد أهل اليمن، وروى عنه الأخوان (المؤيد بالله وأبو طالب) جميع كتب الزيدية، وله مؤلفات منها: (شرح الأحكام) و(شرح الإبانة) و(المصابيح)، وكان إمامياً ثم رجع إلى مذهب الزيدية، وقيل: لم يرجع. توفي سنة 353هـ.
وأما أصحاب أبي حنيفة، فنصوصه وإن كانت كثيرة في المسائل، لكن أبا يوسف ) ومحمد بن الحسن الشيباني، في غاية الجد والجهد في تقرير مذهبه وتلخيص مسائله وإلحاق غير المنصوص بالمنصوص، وهكذا حال الشيخ أبي الحسن الكرخي والجصاص )، فإن هؤلاء هم العمدة في نقل مذهب أبي حنيفة والتخريج عليه، وغيرهم من عظماء الحنفية وزعمائهم الذين أصلوا مذهبه وفصلوا مسائله وأظهروا أسراره، وهكذا الطحاوي ) فإنه كان إماماً في مذهب الرجل(4) وكلهم جاهد في ضبط المذهب، وتقرير قواعده وتفريع مذهبه على حد ما يفهمون من آرائه وشيمه وأخلاقه، وعلى فهم مذهب صاحبهم في الأصول. فيكون ذلك مفرعاً عليه كما تراه في تصرفاتهم الفقهية.
__________
(1) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الكوفي صاحب أبي حنيفة، قاضي القضاة وهو أول من دعي بهذا اللقب، تفقه على يد أبي حنيفة، قال عنه المزني: أبو يوسف اتبع القوم للحديث. وقال يحيى بن معين: كان أبو يوسف يصلي بعدما ولي القضاء في كل يوم مائة ركعة، وقال: ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثاً ولا أثبت من أبي يوسف. توفي في بغداد في ربيع الآخر سنة 182هـ. (مقدمتي البحر والأزهار).
(2) زياد بن أبي زياد الجصاص الواسطي أبو محمد بصري الأصل. محدث مجمع على ضعفه، روى عن الحسن ومعاوية بن قرة. وعنه: هشيم ومحمد بن يزيد وعبدالوهاب الحفاف.
قال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء وقال أبو زرعة: واهي الحديث. وتركه النسائي والدار قطني. ا.هـ. د. حسين العمري: تراجم، در السحابة للشوكاني.
(3) الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامه الطحاوي الأزدي أبو جعفر، صاحب التصانيف البديعة، كان شافعياً، تفقه على المزني، وانتقل إلى جعفر بن عمران. وانتهت إليه رئاسة الحنفية. وكان ثقة وثبتاً وفقيهاً عاقلاً كما وصفه ابن يونس، توفي في مستهل القعدة سنة 321هـ.
(4) يعني: أبا حنيفة.
وأما أصحاب الشافعي المتقدمون كالبويطي ) وحرملة ) والحسين الكرابيسي ) والمزني ) وغيرهم ممن عاصره فإنهم إما مخرجون(5) على نصوصه مع كثرتها وانتشارها، أو يستنبطون مسائل لم ينص عليها في أصوله المقررة، ومسائله المدونة عندهم. وهكذا القول في المتأخرين من أصحابه كأبي بكر بن الحداد (6)
__________
(1) يوسف بن يحيى القرشي أبو يعقوب البويطي المصري، قال في طبقات الشافعية: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من أبي يعقوب، وليس أحد من أصحابي أعلم منه. ا.هـ . أبى أن يقول بخلق القرآن فسجن وقيد حتى مات سنة 231هـ ببغداد. ا.هـ . ط. ش. ج1/71 . ط. الشيرازي ص109.
(2) أبو حفص حرملة بن يحيى بن عبدالله بن حرملة بن عمران التجيببي، أحد الحفاظ المشاهير من أصحاب الشافعي وكبار رواة مذهبه الجديد. قال الشيرازي: كان حافظاً للحديث وصنف (المبسوط) و(المختصر)، ولد سنة 166هـ، ومات في شوال سنة ثلاث وقيل: أربع وأربعين ومأتين. والتُجيْبي: نسبة إلى تُجِيب بتاء مثناة من أعلى مضمومة وقيل: مفتوحة، ثم جيم مكسورة بعدها مثناة من تحت ثم باء موحدة: وهي قبيلة نزلت مصر. (طبقات الشافعية، طبقات الفقهاء).
(3) أبو علي الحسين بن علي بن يزيد البغدادي الكرابيسي، كان جامعاً بين الحديث والفقه، سمي بالكرابيسي؛ لأنه كان يبيع الكرابيس وهي الثياب الخام (الأقمشة). مات سنة 245هـ. (طبقات الفقهاء 191، طبقات الشافعية ج1/63).
(4) إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي أبو إبراهيم البصري، أخذ عن الشافعي وأخذ عنه الطحاوي. كان فقيهاً عالماً، وله مؤلفات كثيرة، ومذهب مستقل، وهو أكبر أصحاب الشافعي، خرَّج له المرشد بالله، وهو منسوب إلى مزينة. توفي في رمضان سنة264هـ.
(5) مخرجون بالتضعيف من خَرَّج، وهو تخريج الرأي ونسبته إلى صاحبه من مجمل نصوصه.
(6) أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر الكناني المصري المشهور بابن الحداد، قال عنه صاحب طبقات الشافعية: كان إماماً مدققاً في العلوم سيما في الفقه، وكان كثير العبادة يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويختم القرآن في كل يوم وليلة، صنف كتاب (الباهر) في الفقه في مائة جزء، وكتاب (الفروع المولدات). مات بمصر لأربع بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. عن تسع وسبعين سنة، ودفن في سفح جبل المقطم عند أبويه. (طبقات الشافعية).
وابن الصباغ ) صاحب (الشامل) وأهل العراق أيضاً، فما من واحد من هؤلاء إلا وقد خرج على مذهبه، وألحق بالمسائل المنصوصة في (الأم)(2) أكثر منها، وما يزالون في الأعصار الخالية والآماد المتمادية مخرجين على نصوصه لا يصرفهم عن ذلك صارف. وأصحابه أدق الفقهاء نظراً، وأكثرهم خوضاً، وأحكمهم في تقرير القواعد وتحرير الضوابط.
وأما أصحاب مالك فأول من صنف في الحديث مالك؛ فإنه وضع (الموطأ)(3) وقرأ عليه وسمعه الناس، وقد عني أصحابه بمذهبه أشد العناية، وخرجوا وأصلوا وفصلوا وأكثر أهل المغرب على اتباع مذهبه؛ وكان مستوطنا المدينة ولكنه شاع مذهبه في ناحية المغرب، وولع حذاق المغاربة به، ولهم تصانيف في الأصول والفروع كلها على رأي مالك.
فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا، أن الأمة مجمعة على القول بالتخريج وعلى جوازه وحسنه، وفي هذا دلالة على كونه معمولاً به على رأي كل ذي مذهب من المذاهب كما أشرنا إليه، وإذا كان الأمر كما قلناه، كان صحيحاً وكيف لا؟ وقد قال صاحب الشريعة (صلوات اللّه عليه): (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )). فهذه دلالة تقرر ما ادعيناه من صحة القول بالتخريج والعمل عليه. لا يقال: فإذا خرج بعض أصحابه ذلك الإمام على مذهبه وخرج آخر ما يخالفه، فعلى أي التخريجين يكون عمل العامي الذي يقلده، وما يكون حكم الفتوى على رأيه، والحال ما ذكرناه؟
__________
(1) أبو نصر عبد السيد بن محمد البغدادي المعروف بابن الصباغ الشافعي، برع في علوم الفقه والحديث حتى اشتهر، وهو ثقة حجة، من مصنفاته كتاب (الشامل)، وهو من أجود وأشهر كتب الشافعية، كف بصره في آخر عمره، وتوفي ببغداد سنة477هـ.
(2) كتاب حديثي فقهي مطبوع في خمسة مجلدات.
(3) كتاب (الموطأ): مسند مالك، مطبوع في مجلد واحد.
لأنا نقول(1): إذا كان هذان المخرجان عالمين بمذهبه مخلصين له، فتخريجهما مقبول لا محالة، ويجب نقلهما للعامي ويخير في العمل بأحدهما كما لو كان له في المسألة قولان والتبس التاريخ بينهما، فإنهما ينقلان للعامي يعمل بأيهما شاء، فهكذا هذا من غير تفرقة بينهما، والله أعلم بالصواب.
ولابد أن يكون بين المسألة المخرجة والمخرج عليها قرب ومداناة، بحيث لا يكون التخريج مبايناً لما خَرَّج عليه ولا مناقضاً له، جارياً على نعت الملائمة لنصوصه وتصرفاته.
نعم.. إذا قال المجتهد في الحادثة بقول، ثم قال بعد ذلك: ولو قال قائل فيها كذا وكذا لكان مذهباً، فإن ما هذا حاله لا يكون مذهباً له بمجرد قوله هذا، ومن أصحاب الشافعي من زعم أنه يكون مذهباً له، ولكن إنما يكون مذهباً له إذا كان جارياً على أصوله ملائماً لها جاز ذلك لا بمجرد قوله وحكايته بما ذكرناه. وهكذا لو نص على واقعة بحكم معين، ونص في مثلها على نقيض ذلك الحكم، لم يجز نقل أحد القولين إلى الآخر، ومثاله أن يقول: الوضوء يفتقر إلى نية، ثم يقول: الغسل لا يفتقر إلى النية. فهذان قولان متنافيان في هاتين المسألتين لا يجوز نقل أحدهما إلى الأخرى لما فيهما من المخالفة، وحكي عن بعض أصحاب الشافعي جواز نقل حكم إحداهما إلى الأخرى وتخريجهما على القولين، وهذا يكون على التفصيل الذي أشرنا إليه.
__________
(1) في الأصل: (لا نقول).
---
البحث الثالث: في كيفية القولين للمجتهد في المسألة الاجتهادية وحكمهما
اعلم أن من الأصوليين من جوز أن يقال: للمجتهد في هذه الواقعة قولان، ومنهم من منع ذلك على الإطلاق وقال: إنه لا معنى لذلك.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إليه؛ إذ لا وجه للنفي أو للإثبات على الإطلاق، والحق الذي نعول عليه في القول بأن للمجتهد في المسألة قولين، هو أنه إذا نظر في المسألة فحدث له فيها قول، ثم عاود النظر فيها مرة أخرى فقال فيها بقول آخر، لكن جُهِل التاريخ بينهما ولم يُعرف المتقدم منهما من المتأخر، فلا جرم نحكي القولين جميعاً عنه من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يحمل عليه قول العلماء: إن للمجتهد في المسألة قولين، وعلى هذا ينقلان للعامي المقلد له في المسألة، ويخير بينهما إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر. وإذا كان الأمر كما قلناه، وجب أن يحمل ما يحكى عن المؤيد بالله وغيره من أصحابنا من اختلاف القولين أو الأقوال، ويحمل ما يحكى عن الشافعي من اختلاف القولين أو الأقوال، فمتى عرف المتقدم منهما على المتأخر(1) فإنه يكون العمل عليه واجباً ويكون ناسخاً له، أو يعرف الصحيح منهما من الفاسد، فيكون القول هو الصحيح دون غيره، فأما ما لا يعرف فيه التاريخ ولا يعلم صحة أحدهما من فساد الآخر، فإنه يقال فيه: إن له قولين على هذا الوجه، وأكثر أقوال الشافعي قد ميزها أصحابه، وعرفوا المتقدم منها من المتأخر، وأوضحوا الصحيح منها من الفاسد، والذي اعتاص عليهم فيها تاريخ تقدم أحدهما على الآخر هي مسائل قليلة حكاها أبو إسحاق الأسفرائيني )
__________
(1) في الأصل: (الآخر).
(2) إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإمام ركن الدين أبو إسحاق الإسفرائيني المتكلم، الأصولي، الفقيه، شيخ أهل خراسان، له مصنفات كثيرة منها: (جامع الحلي) في أصول الدين خمسة مجلدات، وله مؤلفات أخرى. توفي يوم عاشوراء سنة 418هـ. ا.هـ ملخصاً من طبقات الشافعية برقم 131.
يرتقي عدها إلى سبع عشرة مسألة، فحكوا فيها قولين، وما عدا هذا الوجه فهو خطأ، فلا يجوز أن يقال: إن للعالم المجتهد قولين، على معنى أنه يقول إن هذا الشيء في نفسه حلال حرام على جهة الجمع بينهما؛ إذ لا يجوز أن تكون العين الواحدة حلالاً حراماً في وقت واحد من جهة شخص واحد، ولا يجوز أن يقال: إن له في المسألة قولين على جهة التخيير فيقول: بأن هذه العين حلال أو حرام، إذ لا وجه للقولين على هذه الصفة، ولا على أن يقال: إن المسألة محتملة لأوجه كثيرة فيبطل كل واحد منها سوى اثنين فعلى [القول] بأن له في هذه الحادثة قولين، فإن مثل هذا قد صححه أبو إسحاق الشيرازي ) من أصحاب الشافعي، وزعم أن ذلك معنى صحيح في صحة حمل قول المجتهد في المسألة على وجهين وهذا فاسد أيضاً، فإنه إذا كانت محتملة لما ذكره من الاحتمالات ثم بطلت كلها إلا اثنين منها، فإنه يكون شاكاً فيما ورائهما، فكيف يقال بأنهما قولان له؟ فما هذا حاله يكون خطأ، فإذاً لا تعويل في أن للمجتهد في المسألة قولين إلا على ما ذكرناه دون سائر الأوجه، والله أعلم بالصواب.
وهذا ما أردنا ذكره في التنبيه على ما اشتملت عليه هذه المقدمة مما لا يتسع جهله للفقيه الخالي عن علم الأصول، والله الموفق للرشاد.
__________
(1) هو إبراهيم بن علي بن يوسف، يكنى بأبي إسحاق، ولقبه جمال الدين، ولد سنة 393هـ في بلدة فيروز آباد بالقرب من شيراز، وهو من أعلام فقهاء الشافعية، درس في شيراز والبصرة وبغداد حتى برع في علوم الفقه والحديث، وتتلمذ عليه كثيرون من أعيان المذهب الذين تجاوز عددهم أربعين فقيهاً. من مؤلفاته: (المهذب) في الفروع، و(التنبيه) في الفقه، و(اللمع) وشرحه في أصول الفقه، و(طبقات الفقهاء) في التراجم، توفي سنة 476هـ. (ملخصاً من طبقات الفقهاء).
---
المقدمة الخامسة: في جواز التقليد للعوام في المسائل الخلافية وذكر من هو أحق بذلك من العلماء
اعلم أن الذي عليه أهل التحقيق من أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة ومحققي الأشعرية، أنه لا يجوز التقليد في المسائل الدينية نحو: العلم بالصانع وصفاته، والعلم بحكمته ومعرفة صدق الرسول إلى غير ذلك من مسائل الديانة، والواجب على كل مكلف الوصول فيها إلى العلم اليقين، بالنظر في الأدلة القاطعة.
وذهب كثير من الفقهاء إلى جواز حصول هذه المعارف كلها بالتقليد لمن علمها بالنظر والاستدلال، وهو محكي عن أبي إسحاق النصبي ) ويأتي على رأي عبدالله بن الحسن العنبري ) وإلى هذه المقالة ذهب أهل الحشو والتعليمية(3) وزعموا أن الطريق إلى معرفة الحق إنما تكون بالتقليد، وأما النظر فهو موضع حيرة.
__________
(1) إبراهيم بن عياش البصري النصيبي المعتزلي (أبو إسحاق) من علماء المعتزلة، قال في (المنية والأمل): كان من الورع والزهد والعلم على حد عظيم وهو من الطبقة العاشرة من المعتزلة، وله كتاب في إمامة الحسنين وكتب أخرى . ا.هـ (مقدمة الأزهار).
(2) صوابه عبيدالله، من تميم، قاضٍ من الفقهاء العلماء بالحديث وهو من البصرة وُليَّ قضاءها وعزل سنة 166هـ، وتوفي في هذه السنة. الأعلام 4/192.
(3) من الأشعرية والإسماعيلية.
والمختار: هو الأول؛ لأن المقلد في هذه الأمور ليس يخلو حاله [إما] أن يكون مقلداً لجميع الفرق المخالفة، أو يكون مقلداً لفريق دون فريق، وباطل أن يكون مقلداً لجميع الفرق، لما يؤدي إليه ذلك من الإعتقادات المتناقضات، فإن منهم من أثبت الصانع ومنهم من زعم نفيه، وما هذا حاله يستحيل الجمع بينهما، وإن قلد بعضاً دون بعض، فإما أن يكون ذلك التخصيص لمرجح أو لا لمرجح، وباطل أن يكون ذلك من غير مرجح؛ لأن اعتقاد أحد الجائزين من غير مرجح يكون باطلاً عقلاً، وإن كان لمرجح فليس ذلك يكون إلا بالنظر لبطلان ما سواه من الطرق، إذ لا يمكن الوقوف على حقيقة الأمر إلا به، وفيه بطلان التقليد بكل حال وهو المقصود.
فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر جواز التقليد من جهة العوام للعلماء في المسائل الخلافية، ثم نذكر من هو أحق بالتقليد في ذلك، فهذان مطلبان نذكر ما يتوجه في كل واحد منهما بمعونة اللّه تعالى:
---
المطلب الأول: في بيان جواز التقليد من جهة العوام للعلماء في المسائل الخلافية والأحكام العملية
زعم جماعة من معتزلة بغداد أنه لا يجوز للعامي التقليد في المسائل الخلافية العملية، وقالوا: إن الواجب على العامي هو أن يعرف حكم الحادثة بدليل الشرع الموضوع له، ويحرم عليه التقليد، وحاصل هذه المقالة: إلحاق المسائل الفقهية بمسائل العقائد الدينية، وقالوا على أثر هذه المقالة: إنه إنما يجب عليه الرجوع إلى قول المفتي إنما كان ليعرفه طريقة النظر لا من أجل أنه يتبعه في قوله، إلى هذه المقالة ذهب الجعفران من المعتزلة: جعفر بن حرب ) وجعفر بن مبشر )، وأما الشيخان: أبو علي الجبائي وأبو عبدالله البصري ) فقد فرقا بين المسائل الشرعية وقالا: إن كان في المسألة الشرعية دلالة قاطعة
__________
(1) جعفر بن حرب الهمداني المعتزلي من معتزلة بغداد. قال المتوكل على اللّه (أحمد بن سليمان): هو من شيعة المعتزلة المفضلين لعلي عليه السلام. ونقل السيد أبو طالب في (الإفادة): إن جعفراً دخل على القاسم بن إبراهيم فجاراه في دقيق الكلام ولطيفه، فلما خرج من عنده قال: أين يتاه بأصحابنا عن هذا الرجل؟ والله ما رأيت مثله. وله مصنفات كثيرة منها: كتاب (الإيضاح) و(نصيحة العامة). توفي سنة 237هـ.
(2) جعفر بن مبشر الثقفي المعتزلي البغدادي، عده المتوكل على اللّه من شيعة المعتزلة. قال في مقدمة الأزهار: وليس للجعفرين رواية في الحديث ولا ترجمة، وإنما شهرتهما في علم الكلام. توفي سنة 234 هـ.
(3) هو الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبدالله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام الأسدي أحد أئمة الشافعية. قال في طبقات الشافعية: كان أعمى، وله مصنفات كثيرة منها: (الكافي) مات قبل سنة 320هـ، وأرخ الذهبي وفاته سنة 317هـ. ا.هـ (طبقات الشافعية ج1/94، وترجم له الشيرازي في طبقاته وابن خلكان في وفيات الأعيان، وغيرهما).
فإنه لا يجوز للعامي التقليد فيها، ويجب عليه إمعان النظر في تحصيله، وإن لم يكن فيها مسلك قاطع فإنه يجوز له التقليد فيها، وإلى هذه المقالة ذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من أصحاب الشافعي.
والذي عليه أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة والنظار من الأشعرية، هو جواز التقليد في المسائل الشرعية مطلقاً للعوام ومن هو قاصر عن النظر كالنساء والعبيد، سواء كان فيها مسلك قاطع أو لم يكن.
وهذا هو المختار عندنا، والمعتمد فيه أنا نعلم قطعاً بتواتر النقل من جهة الصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا والذي وقع فيه الخلاف أنهم كانوا مسوغين للعوام العمل على أقوال المجتهدين من الصحابة، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه كلفهم طلب الأدلة الغامضة، ولا يفرقون في ذلك بين ما كان فيه دليل قاطع وبين ما ليس فيه دلالة قاطعة في تسويغ العمل، وهذا ظاهر من عادة الصحابة ومن بعدهم من التابعين لا يختلفون فيه، وأيضاً فإنا لو كلفنا العوام النظر في المسائل ومعرفة أحكامها ومنعناهم عن التقليد، لاحتاج كل واحد منهم إلى معرفة ذلك وإدراكه والوقوف على حقيقته، وفي ذلك تكليفهم ما ليس في وسعهم، ويؤدي إلى اشتغالهم عن طلب المعاش وإبطال كل أعمالهم، وهذا ساقط لا يعول عليه، فثبت بما ذكرناه جواز تقليد العوام للعلماء وبطلان كونهم ناظرين في هذه الأدلة لما ذكرناه، وسواء كان من يقلدونه في المسائل العملية حياً أو ميتاً إذا كان بالغاً درجة الاجتهاد، فإنه يجوز لهم ذلك، وحكي عن الجماهير من العلماء أنه لا يجوز تقليد الميت ولا العمل على رأيه، وأن تقليد الحي أولى وأحق، وزعموا أنه لا قول لميت، بدليل أن الإجماع ينعقد من دونه ولا ينعقد مع كونه حيَّاً.
ووجه آخر: وهو أن الميت لا يُدرَى حاله هل يكون مستمراً على اجتهاده لو كان حياً أو يكون راجعاً عنه، فالعمل عليه والحال هذه يكون عملاً على الشك وهو باطل.
والمختار عندنا: هو جواز العمل على رأي من مات من أهل الاجتهاد من علماء العترة وفقهاء الأمة، كأبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه (رحمهم اللّه تعالى) ومعتمدنا في الدلالة على ذلك أمران:
أحدهما: من جهة الضرورة، وحاصله أن الاجتهاد لما كان متعذراً في زماننا هذا لقصور همم أهله عن بلوغ غايته، فلا جرم تحكم الضرورة بتقليد من سلف من الأئمة والفقهاء، إذ لو لم نقلدهم لأدى ذلك إلى بطلان التقليد في حق العوام، لشغور الزمان عمن يكون من أهل الاجتهاد، إذ لا خلاف في صلاحية من سلف من علماء العترة وفقهاء الأمة للاجتهاد، وكونهم من أهله، وأن أحداً في زماننا هذا لا يلحق بأدناهم درجة في ورع ولا تقوى ولا نفوذ بصيرة، فلهذا كانوا أحق من غيرهم فضلاً عن جواز ذلك.
وثانيهما: أن الإجماع منعقد من أهل العصر هذا على جواز ذلك، والإجماع حجة في كل عصر من الأعصار، فلأجل هذا كانوا أحق وأولى بالتقليد، ووجه آخر: وهو قوله ً: (( من عام إلى عام ترذلون ))(1) فإذا كانوا على تكرار الأعصار وتخرم الزمان لا يزدادون إلا نقصاً في كل أحوالهم من جهة الدين والدنيا، كان من سلف أكمل منهم درجة وأعلى همة في جميع الأمور، فلا جرم قضينا بكون من سبق أحق بالتقليد وأولى بالمتابعة؛ لأن كمالهم في العلم أكثر، واختصاصهم بالتقوى والورع أعظم وأوفر.
قوله: الميت لا يُدرَى حاله هل يرجع عن المسألة أم هو باق على القول بها؟ قلنا: الظاهر هو استمراره على القول بها التي مات وهو قائل بها وقد انقطع اجتهاده بموته.
قوله: الميت لا قول له في المسألة.
__________
(1) أخرج نحوه الترمذي عن أنس مرفوعاً: ((ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم)).
قلنا: هذا خطأ، فإن قوله معتبر في المسألة ولهذا فإن القوي أنه لا ينعقد إجماع مع مخالفته وإن كان ميتاً، ولا تعد المسألة إجماعاً مع خلافه، وفيه خلاف ذكرناه في الكتب الأصولية، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن تقليد من سلف جائز من الأئمة والفقهاء، بل يكون أحق لما ذكرناه.
---
المطلب الثاني: في بيان من هو أحق بالتقليد ومن يكون أولى بالمتابعة ممن حاز منصب الاجتهاد من العلماء
اعلم أن العوام لما كانوا لا هداية لهم إلى القيام بهذه التكاليف الشرعية وتأدية هذه العبادات العملية بأنفسهم فلا بد لهم من قدوة يعتمدونها وإمام يهتدون بهديه، ثم هل يكون العامي مخيراً في تقليد من شاء من أهل الاجتهاد، أو لابد له من مزيد نظر في طلب الأفضل؟ فيه تردد ونظر.
والمختار عندنا: أن عليه تكليفاً في طلب الأفضل؛ لأن الذي دل على أنه واجب عليه التقليد فهو بعينه دال على أن عليه مزيد تكليف من تعرف من يكون أحق بالتقليد في الفضل وهذا ظاهر.
فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر ما يكون معتمد التقليد من المذاهب، فنقول:
أجمع العلماء واتفق رأي الفضلاء من أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة والأشعرية وغيرهم من سائر فرق الأمة، على أن الصحابة (رضي اللّه عنهم وأرضاهم) وإن كان فضلهم لا ينكر، ومزيد علمهم لا يجحد، لعلو منصبهم في الدين، وإحراز المناقب، واختصاصهم بالصحبة، فإنه ليس للعوام ولا من فرضه التقليد من أنواع الخلق، تقليدهم لوجهين:
أما أولاً: فلأنهم لم يكن من جهتهم اعتناء بتذليل مسالك الاجتهاد وترتيب أبوابه وإيضاح طرقه وتأسيس أصول النظر فيه، وإنما كان همهم إحياء معالم الدين وتقرير قواعد الإسلام بالذب عنه بالسيف.
وأما ثانياً: فلم يدونوا أبواب الفقه ولم يكن من جهتهم اهتمام [في] تقرير مسائله، بل كان همهم من ذلك إرسال الاجتهاد وإيضاح الفتاوى في الأقضية والأحكام على جهة الإجمال من غير نظر في التفاصيل.
نعم.. إنما الذين خاضوا غمرات الاجتهاد، وسبروا مسالك الأدلة بالتفصيل والتهذيب، وترتيب المسائل وتبويب الأبواب وسطرها في الكتب وإثباتها في الصكوك، هم العلماء من بعدهم من زمن التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا من أئمة العترة وفقهاء الأمة، فإن عنايتهم في ذلك غير خافية على من له في ذلك أدنى مسكة من الفضل، وكَفَوْا مَن بعدهم النظر في مذاهب الصحابة (رضي اللّه عنهم) لأن السابق وإن كان له حق الوضع والتأصيل. فللمتأخر الناقد حق التكملة والتنخيل والتفصيل فلأجل ذلك كان من بعدهم أحق بالاتباع.
فإذا وضحت هذه الجملة، فنحن الآن نعلوا ذروة لا يُنَال حضيضها في ترجيح مذاهب أئمة العترة على غيرهم من فقهاء الأمة وعلماء العامة، ونوضح بالبراهين الباهرة والأدلة القاهرة، أنهم أحق بالتقليد وأولى بالمتابعة، وجملة ما نشير إليه من ذلك طرق ثلاث نذكر ما يتوجه في كل واحدة منها:
الطريقة الأولى منها: ورود الثناء من جهة اللّه تعالى ومن جهة رسوله ً.
أما من جهة اللّه تعالى: فقوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي القُرْبَى }[الشورى:23].
ووجه الاستدلال بهذه الآية على فضلهم هو أن اللّه تعالى لما كان من أعظم نعمه على الخلق وأجلها وأعلاها وأكملها هو بعثه الرسول ً لهداية الخلق وإرشادهم إلى السعادة الأخروية وإزاحتهم عن العمى وهدايتهم إلى طرق الهداية ً، فما يكون في مقابلة هذه النعمة يكون لا محالة جليل القدر عظيم المنزلة؛ لكونه جعل في مقابلته هذه النعمة، والله تعالى قد جعل في مقابلة النعمة بالرسول والجزاء على عنايته في الخلق، هو المودة والمحبة لمن كان قريباً إليه، وما هذا حاله فليس يخفى مزيد فضله، وعلو حاله وأمره من جهة كونها واردة في معرض المدح والتنبيه على مزيد فضل القرابة وعلو قدرهم واهتمام أمر الله تعالى بهم، حتى قال فيهم ما قاله.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيْدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِرَكُمْ تَطْهِيْرَا }[الأحزاب:33]. فظاهر هذه الآية دال على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من سائر الأدناس على جهة المبالغة، حيث صدَّر الآية بإنَّما وهي موضوعة للتحقيق في الجملة؛ لأنها في معنى النفي والإثبات(1) كأنه قال: ما يريد اللّه إلا إذهاب الرجس عنكم، ولأنه أكد الفعل بالمصدر حيث قال: {يُطَهِرَكُمْ تَطْهِيْرَا} كأنه قال: تطهيراً لا زيادة فوقه، ولا شك أن كل من أخبر اللّه عنه بإذهاب الرجس وتطهيره عن كل مكروه، فلا مرية في اختصاصه بالفضل على غيره.
وأهل البيت ٍ هم: أمير المؤمنين (علي)، وفاطمة، والحسن والحسين(2)، وأولادهما في كل عصر، بدليل خبر الكساء حيث خصهم ً به وقال: (( اللهم هؤلاء أهل بيتي ))(3). فدل ذلك عل صحة ما قلناه، فهاتان الآيتان قد دلتا على فضلهم وعلو مرتبتهم من الوجه الذي لخصناه وأشرنا إليه.
وأما من جهة السنة: فقد ورد في ذلك أحاديث نذكرها:
__________
(1) وكذا تفيد (إنما) في مصطلح النحاة الحصر والقصر، وهذا ظاهر ما أراده المؤلف من قوله: (لأنها في معنى النفي والإثبات) وكأنه قال: لا يريد اللّه بهذا إلا ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
(2) لم نضع أية ترجمة أو تعريف لأهل الكساء، لكونهم أشهر وأظهر من كل ترجمة أو تعريف.
(3) هذا من الأحاديث المشهورة والمتواترة. روته أم سلمه (رضي اللّه عنها) قالت: لما نزلت الآية: {إِنَّمّا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْت}.. الآية، دعا النبي ً فاطمة وعلياً والحسن والحسين، فجللهم بكساء وقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)). أخرجه كل أصحاب السنن والصحاح وعامة المحدثين.
أولها: قوله عليه السلام: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا ً، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نَبَّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))(1).
وثانيها: قوله ً: (( أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت نجوم السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون))(2).
__________
(1) جاء في (الفلك الدوار) للسيد صارم الدين في تخريج المحقق محمد يحيى سالم عزان لهذا الحديث: أنه روي بألفاظ مختلفة. فممن أخرجه وفيه لفظة (العترة): الإمام زيد بن علي، والإمام علي بن موسى الرضى، والدولابي، والبزار، عن علي عليه السلام. وأخرجه مسلم، والترمذي، وابن خزيمه، والطحاوي، وابن أبي شيبة، وابن عساكر، وغيرهم كثيرون حرصنا على تجاوز المصادر وعدم الاسترسال في ذكر رواة الحديث ومؤلفاتهم التي أوردها المحقق في هذا الكتاب تجنباً للإطالة. راجع (الفلك الدوار ص9).
(2) أخرجه أحمد بن حنبل، عن علي وعمَّار، وأخرج معناه الطبراني، والحاكم، ورواه الهادي، والرضي، وأبو طالب، والمرشد بالله، وغيرهم من أئمة وعلماء أهل البيت. قال في (لوامع الأنوار): ورواه صاحب (جواهر العقدين) عن سلمه بن الأكوع، وقال: أخرجه: مسدد، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى، والطبري، في (ذخائر العقبى) عن سلمه أيضاً، وصاحب الجواهر أيضاً عن أنس قال: قال رسول اللّه ً ... الحديث ا.هـ ملخصاً (لوامع ج1/65 للعلامة مجدالدين المؤيدي).
وثالثها: قوله ً: (( مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى))(1).
ورابعها: قوله ً: (( أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ))(2).
وخامسها: قوله ً: (( أحبوا اللّه لما يغذوكم به من النعم، وأحبوني لحب اللّه، وأحبوا أهل بيتي لحب ي))(3).
وسادسها: قوله ً: (( ما أحبنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إلا ثبتته أخرى حتى تنجيه ))(4).
وسابعها: قوله ً: (( أهل بيتي باب حطة، فادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ، وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة))(5).
__________
(1) أخرجه الإمام الهادي في الأحكام والإمام أبو طالب في (الأمالي) والإمام المرشد بالله في (الأمالي الخميسية) وابن المغازلي في (المناقب) والحموئي في (فرائد السمطين) والطبراني في الكبير والحاكم في (المستدرك) عن أبي ذر الغفاري. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه. وأخرجه أبو نعيم في الحلية .ا.هـ ملخصاً من الفلك الدوار ص10.
(2) أورد في (لوامع الأنوار): ما روي في (الشافي)، عن علي عليه السلام، عن الرسول ً: ((مثل أهل بيتي مثل النجوم كلما مر نجم طلع نجم)). وهو مروي في عدة مصادر باختلاف قليل في اللفظ. قال: وفي (الأمالي): عن نصر بن مزاحم قال: سمعت شعبة يقول: قال رسول اللّه ً: ((مثل أهل بيتي..)).. الحديث.
(3) أخرجه الترمذي والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن ابن عباس. ا.هـ. (در السحابة 276، تحفة ج10/292، المستدرك ج2/150).
(4) أخرجه الهادي في الأحكام.
(5) أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد وهو الحديث الثامن عشر من الأربعين والخامس والعشرون من الأربعين للنبهاني ص216. (المراجعات 44).
وثامنها: قوله ً: (( اللهم اجعل شرائف صلواتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد))(1).
وتاسعها: قوله عليه السلام: (( من أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته، وأدى زكاة ماله ، وكف غضبه، وسجن لسانه، وبذل معروفه، واستغفر لذنبه، وأدى النصيحة لأهل بيتي. فقد استكمل حقائق الإيمان))(2).
وعاشرها: قوله ً: (( لا يبغض أحد أهل بيتي إلا كبه اللّه على وجهه في النار ))(3).
وحادي عشرها: قوله ً: (( نحن أهل بيت شجرة النبوة، ومعدن الرسالة، ليس أحد من الخلائق يفضل أهل بيتي غيري))(4).
وثاني عشرها: قوله عليه السلام: (( احفظوني في عترتي أهل بيتي ))(5).
وثالث عشرها: قوله ً: (( أُعْطيت الكوثر. قيل يا رسول اللّه وما الكوثر؟ قال: نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ، ولا يتوضأ منه أحد فيسغب، لا يشرب منه إنسان خفر ذمتي وقتل(6) أهل بيتي))(7).
__________
(1) أورده في (الاعتصام) وفي (أمالي أبي طالب) بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: حدثتني أم سلمة (رضي اللّه عنها): أن النبي ً قال لفاطمة (عليها السلام): ((ائتيني بزوجك وابنيكِ)). قال: فجاءت بهم فألقى عليهم كساءً فدكياً ثم قال: ((اللهم إن هؤلاء آل محمد فاجعل شرائف صلواتك..)).. الحديث.
(2) أخرجه الناصر في البساط وابن المغازلي في (المناقب) ومحمد بن محمد بن الأشعث الكوفي في الأشعثيات.
(3) أخرجه الحاكم في (المستدرك) ج4/352، والهيثمي في (مجمع الزوائد) ج7/296.
(4) أخرجه الملاَّ والطبري عن أنس، وأخرجه الديلمي .ا.هـ ج1/73 لوامع.
(5) وروى نحوه محمد بن سليمان الكوفي في (المناقب) عن أبي سعيد الخدري بلفظ: ((احفظوني في قرابتي)).
(6) في الأصل ولا قتل. وهو خطأ من الناسخ.
(7) رواه أحمد في مسنده ج3/153، 247، وفي (مجمع الزوائد) ج10/366.
ورابع عشرها: قوله ً: (( ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم حين اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه))(1).
وخامس عشرها: قوله ً: (( حرمات من حفظهن حفظ اللّه له أمر دينه، ومن ضيعهن لم يحفظ اللّه له شيئاً. قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: حرمة الإسلام، وحرمتي، وحرمة رحمي))(2).
وسادس عشرها: قوله ً: (( حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم، وعلى المعين عليهم ، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم اللّه ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم))(3).
وسابع عشرها: قوله ً: (( لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله ممن اكتسبه وفيم أنفقه، وعن حبنا أهل البيت))(4).
__________
(1) أخرجه أبو طالب في الأمالي، وعلي بن موسى الرضى.
(2) رواه المنصور بالله عبدالله بن حمزة، بسنده إلى الإمام المرشد بالله، بسنده إلى أبي سعيد الخدري، وأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط، وأبو الشيخ في الثواب وأبو نعيم عن أبي سعيد. أفاده في تفريج الكروب. ا.هـ ج1/73 لوامع.
(3) أخرجه الإمام علي الرضا في الصحيفة بسنده، وأخرجه عنه الإمام أبو طالب في الأمالي، وأخرجه ابن عساكر وابن النجار عن علي عليه السلام وأخرجه بلفظ آخر أبو سعيد عن علي.. رواه المحب الطبري انتهى من التفريج. ا.هـ. لوامع ج2/611.
(4) أخرجه الإمام أبو طالب عن علي، وابن المغازلي والطبراني عن ابن عباس، والكنجي عن أبي ذر والخوارزمي عن بريدة. ا.هـ. لوامع ج1/72.
وثامن عشرها: قوله ً: (( من أحب أن يحيى حياتي ويموت ميتتي فليتولَّ علي بن أبي طالب وذريته الطاهرين أئمة الهدى، فإنهم لن يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة))(1).
وتاسع عشرها: قوله ً: (( لما أسري بي رأيت على باب الجنة مكتوباً بالذهب لا بماء الذهب: لا إله إلا اللّه محمد حبيب الله، علي ولي الله، فاطمة أمة اللّه، الحسن والحسين صفوة الله، على باغضهم لعنة الله))(2).
العشرون: عنه ً أنه قال: (( إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني قد تركت فيكم الثقلين ، كتاب اللّه ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي فإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا ما تخلفوني فيهما))(3).
__________
(1) أخرجه الطبراني في الصغير عن أبي سعيد الخدري، ورواه الهيثمي في (مجمع الزوائد). ا.هـ فلك ص10. وجاء في الاعتصام: وأخرجه أبو يعلى في مسنده، والطبراني في الصغير والأوسط من غير طريق، والفقيمي وأبو نعيم كذلك وأبو يعلى عن أبي ذر. ا.هـ ملخصاً ج1/159 اعتصام.
(2) أخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب وابن المغازلي، ورواه أبو سعيد الخدري عن أم سلمة ضمن حديث الكساء وقد سبق.
(3) روي من عدة طرق وبعدة ألفاظ، وهو إحدى روايات حديث الثقلين المشهور وقد تقدم.
فهاتان الآيتان اللتان تلوناهما والأخبار التي أوردنا، كلها دالة على فضلهم وعلو درجتهم عند اللّه تعالى، وعلى كونهم أحق بالمتابعة لما ورد من الثناء من اللّه تعالى، ومن جهة رسوله عليهم، وعلى التحذير عن مخالفتهم، وكما هي دالة على ما ذكرناه، فهي دالة على كون إجماعهم حجة في الأحكام الشرعية. وقد قررناه في الكتب الأصولية، فإذا تقرر هذا فوجه الاستدلال بما ذكرناه من الآيات والأخبار هو ورود الثناء من جهة اللّه تعالى ومن جهة رسوله عليهم وإبانة فضلهم، وفي هذا دلالة على تزكيتهم وإظهار عدالتهم، ولا تزكية أعظم من تزكية اللّه تعالى، وتزكية رسوله، وأدنى الدرجات مما ذكرناه، كونهم أحق بالمتابعة وأولى بالتقليد في أمور الدين من غيرهم من سائر الفرق بما ذكرناه من هذه الشواهد الشرعية والأمور النقلية.
الطريقة الثانية: النظر في الخصال العالية والسير المحمودة وإحراز الشيم الظاهرة في العلم والدين والورع، ولا شك أن ما هذا حاله من الخصال الدينية يدور عليها معظم الترجيح لمن ينبغي تقليده من العلماء، ونحن نبين أنها في حقهم حاصلة على الكمال والتمام أكمل منها في حق غيرهم من علماء الأمة. وجملة ما نشير إليه من ذلك ضروب ثلاثة:
الضرب الأول منها: الفضل بإحراز العلم، وليس يخفى على منصف غوصهم في العلوم الشرعية وتبحرهم في أسرارها واطلاعهم على حقائقها وإحاطتهم بأسرارها ودقائقها، وينكشف غرضنا من هذه القاعدة بإيضاح مسلكين:
المسلك الأول منهما: على جهة الإجمال، وذلك من أوجه خمسة:
أما أولاً: فلأن الآية واردة بالثناء عليهم في التطهير، وهي عامة في النزاهة لهم عن كل ما يسوء، ولا مساءة أعظم من الجهل وعدم البصيرة في الدين فيجب تنزيههم عن ذلك، وهذا هو الغاية في إحراز العلم النافع في الآخرة والسعادة الأبدية.
وأما ثانياً: فلأن الرسول ً، قرنهم بالكتاب حيث قال: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ))، وأعظم الهداية في الدين، والنفع مأخود من كتاب اللّه تعالى، وهكذا يكون حال العترة ومن كان حاله على حد كتاب اللّه في النور والشفاء من العمى والبيان وإيضاح كل ملتبس، فلا علم أنفع منه ولا شرف فوقه ولا مرتبة أعلى منه.
وأما ثالثاً: فقوله ً: (( مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)). فاستعار لهم أسم السفينة وشبههم بها فصاروا لذلك أماناً من الغرق في بحر الجهالات، كما أن سفينة نوح أمان من الغرق في بحر الماء، ولن يكونوا كذلك إلا بإحراز العلم الشافي من الجهل وهذا هو المراد.
وأما رابعاً: فقوله ً: (( إني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه وعترتي ، إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)). وظاهر الخبر دال على أنهما متفقان غير مفترقين فيما يدلان عليه، فإذا كان القرآن صحيحاً دالاً على كل العلوم الدينية والدنيوية فيجب ذلك في حق العترة.
وأما خامساً: فقوله: (( هم كالكهف وهم باب حطة )). وغير ذلك من الأحاديث التي تدل من جهة ظاهرها على كونهم أئمة الخلق دعاة إلى اللّه هداة لخلقه، فهي بعينها دالة على علو درجاتهم في العلم وإحرازه، وأقوى دلالة على جهة الإجمال، على علمهم، قوله ً: (( الأئمة من قريش ))(1). فما هذا حاله يكفي في الدلالة على إحرازهم للعلم من طريق الإجمال.
المسلك الثاني: من طريق التفصيل، وهذا إنما يكون بالوقوف على موضوعاتهم والاطلاع على مصنفاتهم في علوم الشريعة والفتاوى النقلية والمضطربات الاجتهادية، فالناظر متى وقف على ما ذكرنا، لاح له على القرب أنهم قد أحاطوا بعلوم الشريعة وقادوها بأزمتها ودُعوا بأهلها وأصحابها، وكانوا سادة لأئمتها، ويشهد لذلك تصرفهم في المسائل الاجتهادية ومكالمة الخصوم في المضطربات الفقهية مع ما شُغلوا [به] من عداوة أهل البغي في أزمانهم وإقصاء أخدان الظلم في أوانهم، وإظهار حجة اللّه وإعلاء كلمته بالسيف، لأجل تقلدهم للأمانة ونهوضهم بأحكام الزعامة، فكانوا لهم في غاية الطرد والإبعاد عن الشغل بالتدريس وإظهار العلم خوفاً على دنياهم ومحاذرة عن انثلام ظلمهم للخلق، وإكبابهم على البغي وأنواع الفسوق، فهذا ما يتعلق بجانب العلم.
__________
(1) جاء في الروض النضير ج5/18: وفي (الجامع الكافي) قال محمد: بلغنا عن النبي ً أنه قال: ((الأئمة من قريش ما إذا حكموا عدلوا وإذا أقسموا أقسطوا وإذا استرحموا رحموا فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين )). وأورده بزيادة في بعض الروايات من حديث أبي موسى. وقال في (الروض): رواه أحمد، قال الحافظ عبدالعظيم: ورواته ثقات. ورواه البزار والطبراني.
الضرب الثاني: ما يتعلق بجانب الدين، وذلك أن كل من اطلع على أحوالهم وعرف طرفاً من سيرهم، عرف قطعاً ويقيناً مراقبتهم لله تعالى في الإقدام والإحجام، وشدة تحرزهم في الأخذ والإعطاء، ووقوفهم على حدود الشريعة في التحليل والتحريم، والجري على مراسمها والمحاذرة عن مخالفة شيء من أدلتها القاطعة، وحصروا نفوسهم على التدوار في مواردها ومصادرها، ولم يطمح لأحد منهم نظر إلى مخالفتها، ولا تشوقت قلوبهم إلى غيرها، شددوا على أنفسهم بأخذ العزائم وأخذوا الخلق بما فهموا من اللّه رخصة فيه لخلقه، واقتحموا موارد الموت في نصرة دين اللّه تعالى وإعلاء كلمة الحق بين مقتول ومصلوب ومأسور ومطرود، لا يزيدهم ما يرون في أنفسهم وأهليهم من القتل والطرد إلا صبراً لله تعالى واحتساباً في إعزاز دينه وعلو(1) كلمته وتصلباً على من خالف أمر اللّه وحكمه، ومن كانت هذه حاله فقد تمسك بالدين بالعروة الوثقى التي ليس لها انفصام ولا يخاف عليها نقض ولا يخشى لجانبها إهضام.
الضرب الثالث: الورع، ومن أراد الاطلاع على رفضهم للدنيا وإعراضهم عنها وحرصهم على إيثار الآخرة وسلوكهم لجانب الحيطة في الأخذ والترك، وبعدهم عن المآثم وازورارهم عن الوقوع في المحرمات والمكروهات، فليطالع سيرهم وأخبارهم، فإنه يتحقق لا محالة أن تعويلهم ما كان إلا على رفض الدنيا وإيثار رضوان اللّه، وإحراز طاعته، والعمل لوجهه وتحصيل مرضاته، فإن حصلت الدنيا آثروا بها وإن زويت عنهم صبروا على ما أصابهم من مشقة لأْوَائها، علماً بما لهم عند اللّه من عظيم الزلفة، ورفيع الدرجة، فيزيدهم رغبة فيما عند اللّه وشوقاً إلى لقائه، وهذه هي حقيقة الورع وغاية أمره وقصارى حاله وسره.
__________
(1) لعل الصواب: (إعلاء) تناسباً مع العطف على المصدر المتعدي في: (إعزاز).
الطريقة الثالثة: تشتمل على نظر كلي بالإضافة إلى صحة العقائد في أمور الديانة، وفيه سلامة عن الزلل، وعصمة عن الخطأ في مجاري الأنظار الاجتهادية في أحكام الشريعة.
واعلم أن الذين نصبوا أنفسهم للفتوى، واقتعدوا درس العلماء، واشتهروا بالاجتهاد وطبقت مذاهبهم طبق الأرض ذات الطول والعرض، هم هؤلاء العلماء الثلاثة: مالك وأبو حنيفة والشافعي، فأما أحمد بن حنبل ) وسفيان الثوري ) فهما وإن بلغا درجة الاجتهاد، لكنهما لم يشتهرا كشهرة هؤلاء ولم يختصا بكثرة الأتباع مثلهم، وكل واحد من هؤلاء الثلاثة قد نأى عن الصواب نظره، وانمحى عن رسم الحق أثره، إما في عقيدته وإما في أثناء تصرفه في المسائل الاجتهادية.
__________
(1) أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، أحد الأئمة الأربعة اشتغل بجمع الأحاديث وروايتها، وهو في رأي الفقهاء من علماء الرواية، وله مسند يعرف باسمه (مسند أحمد).ا.هـ. (طبقات الفقهاء). قال عنه الشافعي: خرجت من بغداد فما خلَّفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه من أحمد بن حنبل، أفرد البيهقي جزءاً خاصاً لمناقبه.
(2) أبو عبدالله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أحد الأعلام والعلماء قيل: إنه روى وحفظ ثلاثين ألف حديث، كان زيدياً مشدداً على أئمة الجور. توفي بالبصرة سنة 161هـ. عده السيد صارم الدين في ثقات محدثي الشيعة. وقال الواقدي: كان سفيان زيدياً، ذكره الإمام أبو طالب.
فنقول: أما مالك بن أنس فإنه لا يُشَقُّ غباره في ضبط الأخبار وتمييز صحيحها ومعرفة قويها من ضعيفها، وكان شديد الاحتراز في الرواية والتصون في النقل وحصر وقائع الصحابة (رضي اللّه عنهم). ولا تُدْرَكُ آثاره في انتقاد الرواة ومعرفة أحوالهم، وهو أول من عني في جمع الأحاديث وضبطها في كتابه (الموطأ) وكان كثير التعظيم للعلم، شديد الورع، خلا أنه استرسل في القول بالاستصلاح حتى أداه ذلك إلى إهدار الدماء، وإتلاف الأموال لمصالح إيالية(1) وانتهى حاله إلى تقرير أمور منوطة بالسياسة، حتى آل نظره في ذلك إلى أن قال: (اقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها)، وهذا يعد في الخطأ، فإنا نعلم بالضرورة من حال الصدر الأول انكفافهم عن مثل هذا وتصونهم عن الفتوى بمثل هذا، ونعلم من حالهم أنهم لا يتجاسرون على إراقة كفٍ من دم إلاّ بحقها.
وأما الشافعي محمد بن إدريس، فنظره لا يجارى وفضله لا يبارى، في تقدير أصول الأدلة وتنزيلها منازلها وترتيبها على أحسن هيئة، وفي ذلك دلالة على سعة علمه وتبحره في علوم الشريعة مع حدة نظره وجودة ذكائه، وتشهد لفضله مسائله التي أنشأها، وعلله التي قررها واستنبطها، ولقد كان عمره يقصر عن إحراز مثل فضله، فاخترم وقد نيف على الخمسين، لكنه قال بالرؤية ونقلها عنه البويطي من أصحابه، وهذا خطأ في الاعتقاد. فإن كانت الرؤية مكيفة أدى ذلك إلى التشبيه؛ لأن المرئي لا يُعْقَل إلا متحيزاً أو حاصلاً في المتحيز، وكله محال على اللّه تعالى، وإن كانت الرؤية غير مكيفة فهو لا يعقل على كلا الوجهين فلا يخلو عن خطأ.
__________
(1) من الفعل: آل يئول. والمراد هنا من كلمة (إيالية) تأسيس الإمام مالك بعض الأحكام باعتبار ألاء يالة وهي السياسة.
وأما أبو حنيفة النعمان بن ثابت فلا يُنْكَرُ فضله في اتقاد القريحة وجودة الفطنة وإدراك الأسرار الشرعية واستنباط المسائل الدقيقة واستيلائه على الإحاطة بأسرار الحكومات والأقضية، والتمكن من وضع المسائل والتصدي للأسئلة والجوابات في المضطربات الاجتهادية، لكنه قد حُكي عنه القول بإيجاب القدرة، وهذا خطأ، فإن مثل هذا يجر إلى الجبر وبطلان الاختيار للعبد ويؤدي إلى تكليف مالا يطاق، وهذا يطرق خللاً في قاعدة الحكمة(1)، وحُكي عنه بطلان القصاص بالمثقل(2)، وهذه تهدم عصمة الدماء، وحُكي عنه حل
__________
(1) أورد الإمام المهدي في مقدمة (الأزهار) مسألة صحة العقائد لدى الأئمة الأربعة فجاء في شرح الأزهار: (ولم يسمع عن أحد من الناس أنه نقل عن واحد من مجتهديهم - يعني أئمة أهل البيت - ما يخالف العدل والتوحيد، بخلاف الأئمة الأربعة فإنهم وإن كانوا منزهين سيما أباحنيفة والشافعي ومالك، فقد نقل عنهم آحاد من الناس ما يقتضي الخطأ في مسائل أصول الدين، فأشرنا إلى ذلك، بقولنا: وننزههم عما رواه البويطي من أصحاب الشافعي وغيره عن غيرهم، وذلك الغير هو الشافعي وأبوحنيفة ومالك وابن حنبل ..) إلى أن قال: (أما القول بإيجاب القدرة فروي عن أبي حنيفة، وأما تجويز الرؤية فرواه البويطي عن الشافعي، والتجسيم مروي عن ابن حنبل. وأما المصالح فروي عن مالك. قال مولانا عليه السلام: ونحن ننزهم عن هذه الرذائل؛ لأنها تقتضي اختلال الإيمان، ونحن من إسلامهم على يقين فلا ننتقل عن هذا اليقين إلا بيقين. ولا يقين، في مثل ذلك إلا التواتر ولا تواتر عنهم بذلك سيما الثلاثة، لكن قد قيل في المثل: من يسمع يخل).ا.هـ. ج1/16. مقدمة الأزهار.
(2) بضم الميم فثاء مثلثة مفتوحة وتضعيف القاف (المُثَقَّل) ويعني القتل بالمثقل من الحجر أو نحوه. ولعل تعليل أبي حنيفة ببطلان القصاص بالمثقل، بأن المثقل ليس من أدوات القتل عادة وعرفا، فتنتفي بذلك نية القتل عن القاتل.
المُثَلَّثِ والمُنَصَّفِ، وقد عُلم من جهة الشرع والعقل قطعاً صيانة العقول عن الإهدار والإفساد.
وإذا تأملت عُلوم العترة وجدتها مصونة عن مثل هذه الأشياء التي حكيناها عن غيرهم، وفي هذا دلالة على عصمة اللّه لهم عن الوقوع في مثل هذه المواقع التي يعلم خطؤها، وأنهم باقون على رسوم الشريعة غير خارجين عن حدودها في اعتقاد ديني، ولا خطأ في مضطرب اجتهادي، وما ذاك إلا من لطف اللّه تعالى بهم وتأييده لهم في كل إقدام وإحجام وقول وفعل.
فحصل من مجموع ما ذكرناه صحة تقدمهم في هذه الخصال العالية في الدين والورع والتقوى، ومناقب العترة أكثر من أن تحصى، وقد أفرد فيها العلماء كتباً على حيالها ولكنا سمحنا من ذلك بمقدار ما يليق بترجيح تقليدهم على تقليد غيرهم من علماء الأمة في الأمور العملية، وكيف لا يكون تقليدهم راجحاً على تقليد غيرهم من علماء الأمة؟ وقد قال ً: (( تعلموا من قريش ولا تعلموها ))(1) وفي حديث آخر: (( ولا تعالموها)) وأراد: ولا تغالبوهم في علومهم، وقال عليه السلام: (( عالم قريش يملأ الأرض علماً ))(2)، وقال ً: (( الناس في هذا الشأن تبع لقريش ، فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم))(3). فلا جرم كان اتباعهم أحق من اتباع غيرهم لما قررناه من الأدلة على فضلهم، وهم السر والخلاصة واللباب من قريش، ولم نرد بما ذكرنا من حال فقهاء الأمة وعلمائها في الاعتقادات الدينية وانحراف أنظارهم في المسائل المجتهدة حطًّاً لما رفع اللّه من منارهم، ولا وضعاً لما أشاد اللّه من رفع أقدامهم(4)، ولكن غرضنا الكشف عما اختص به علماء العترة من إصابة الحق والهداية لوجه الإصابة في معتقداتهم ومجاري أنظارهم، مع علمي بأنهم الغواصون على علوم الشريعة والخائضون في بحور أسرارها.
ولا يقال: فمن الآل والأهل من الذرية والعترة؟ وهل من تفرقة بين هذه الألفاظ من جهة اللغة أو من جهة الشرع؟
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة ج12/169، وابن حجر في المطالب 4171.
(2) العجلوني في كشف الخفاء ج2/68.
(3) أورده السياغي (رحمه اللّه) في (الروض النضير) ج5/19 عن أبي هريرة بلفظ: (الناس تبع لقريش). دون بقيته.
(4) لعلها: (.. من رفع أقدارهم)، وإذا كانت (أقدامهم) فالمراد: درجاتهم.
لأنا نقول: أما الآل والأهل فهما سواء في صحة إطلاقهما على الزوجات والعيال، والهاء مبدلة من ألف الآل، خلا أن الآل قد تطلق على الأتباع، قال اللّه تعالى: {أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }[غافر:46]. وأهل البيت وآل النبي سواء لما ذكرناه، وهما عبارتان عن هذه البطون الأربعة: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس، لما روي عن النبي ً أنه لما قيل له: من أهل بيتك يا رسول الله؟ قال: (( آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس ))(1).
وأما العترة والذرية فهما سواء، وهما عبارتان عن أولاد الرجل، خلا أن العترة قد تطلق ويراد بها رهط الرجل الأدنون منه، وعترة الرسول ً وذريته هم أولاد فاطمة، الحسن والحسين وأولادهما،لما روى جابر ) عن النبي ً أنه قال: (( إن اللّه عزوجل جعل ذرية كل نبي من صلبه ، وذريتي من صلبك يا علي))(3). فإذا كانت العترة والذرية هم الأولاد كما قررناه، فلا يعلم ولد للرسول ً إلا من فاطمة، فلهذا كانوا هم العترة والذرية لا محالة، فأما لفظ العشيرة فإطلاقه على القبيلة الأقرب والأبعد، لقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ }[الشعراء:214] فخص الأقربين لما لهم من الحق بالعلاقة بالنسب مع صحة إطلاقه على الأبعد.
__________
(1) أخرجه الكنجي والنسائي من رواية زيد بن أرقم.
(2) جابر بن عبدالله الأنصاري السلمي (بفتحتين) صحابي جليل من علماء الصحابة، غزا مع رسول اللّه ً تسع عشرة غزوة، وتوفي بالمدينة بعد سنة سبعين من الهجرة عن أربع وتسعين سنة. وهو من أكثر الصحابة الذين يروى عنهم الحديث.
(3) أورده الشوكاني في (در السحابة..) برقم 25 في منا قب علي. قال: وأخرج الطبراني عن جابر: أنه ً قال: ((إن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه وإن الله تعالى جعل ذريتي في صلب على بن أبي طالب)).
تنبيه: نجعله خاتمة لهذه المقدمات، في معرفة ما يعتمد من الأدلة المتقدمة في تقرير الأحكام الشرعية وإثبات الأمور العملية في المسائل الخلافية ومواقع الأنظار في المضطربات الاجتهادية، وقد أسلفنا ما يعتمد من الأدلة الشرعية، ونردفه بما لا يعتمد منها بمعونة اللّه تعالى.
واعلم أن هاهنا أموراً قد وقع الخلاف فيها بين العلماء، هل تكون عمدة لتقرير الأحكام الشرعية أم لا! فلا بد من ذكرها ليكون الناظر متمكناً من معرفة ما وقع فيه الخلاف مما ليس فيه خلاف، وجملة ما نورده من ذلك مآخذ عشرة:
المأخذ الأول: يتعلق بالقرآن.
وحاصل الأمر أن كل ما كان منقولاً بطريق الآحاد فإنه لا يعد قرآناً، ولا يكفر من رده، ولا يكون متلواً مثل ما تواتر نقله.
وهل يعول عليه في تقرير الأحكام العملية أم لا؟ فيه تردد وخلاف بين العلماء، ولنورد من ذلك ثلاثة أمثلة:
المثال الأول: ما روته عائشة ) في عدد الرضعات قالت: كان فيما أنزل اللّه، عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن. ومات رسول اللّه ً وهي مما يتلى في القرآن. فاعتمده الشافعي في تقرير مذهبه في تحريم الرضاع بخمس، وأباهُ أصحابنا وأبو حنيفة لأمرين:
أما أولاً: فلأن القرآن إنما يثبت بطريق التواتر دون الآحاد.
وأما ثانياً: فلأنه لو كان قرآناً لكان متلواً من جملة القرآن مكتوباً في المصاحف، فلما بطل ذلك تعذر كونه معدوداً في القرآن.
__________
(1) أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة. زوج رسول اللّه ً تزوجها قبل الهجرة وهي بنت ست، وقيل: سبع، ودخل بها بالمدينة وهي بنت تسع. توفيت بالمدينة سنة 55هـ. وقيل: 58هـ عن خمس وستين سنة ودفنت بالبقيع. وهي من أكثر الرواة رواية للحديث. (مقدمة الأزهار).
المثال الثاني: ما روي [عن] ابن مسعود ) رضي اللّه عنه: أنه كان يقرأ: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ - مُتَتَابِعَاتٍ - }. فاعتمده أصحابنا وأبو حنيفة في إيجاب التتابع في كفارة اليمين، وروي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: لولا أن يقال: زاد عمر آية في كتاب اللّه، لكتبت آية الرجم: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة والله عزيز حكيم}. وقال: لا تتركوا آية الرجم فتهلكوا، أي لا تتركوها عن العمل بها فتهلكوا، فأثبتها من طريق الحكم دون التلاوة.
المثال الثالث: ما روي عن أبيِّ بن كعب ) أنه كان يقرأ في آية الإيلاء: {فَإِنْ فَاءُوُا - فِيْهِنَّ - فَإِنَّ اللّهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ}. فاستدل به أبو حنيفة وأصحابه على أن الفيئة إنما تكون في مدة الإيلاء، وأباهُ أصحابنا والشافعي وأجازوا الفيئة بعد تقضي مدة الإيلاء.
فما هذا حاله لا خلاف في أنه غير معدود في القرآن لما ذكرناه، وإنما الخلاف في أنه: هل يجوز تقرير الأحكام العملية به أم لا؟ فأما كونه قرآناً فلا يثبت بحال.
__________
(1) أبو عبدالرحمن عبدالله بن مسعود الهذلي صحابي جليل، ومن أشهر من يُروى عنه الحديث من الصحابه. وروي أن علياً عليه السلام قال عنه: علم القرآن والسنة. وروى يزيد بن عميرة عن معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة قيل له: أوصنا. قال: التمسوا العلم عند أربعة وذكر منهم عبدالله بن مسعود، وهو ممن شهد بدراً، ولد لبضع وثلاثين قبل الهجرة، وتوفي بالمدينة سنة 32هـ.
(2) أبو المنذر أُبيّ بن كعب بن المنذر بن كعب أنصاري من بني النجار، مات سنة 22هـ على أصح الأقوال، وهو صحابي جليل عني بحفظ الكتاب والسنة حتى أصبح من أبرز من يروى عنه الحديث، وكانت له مكانة عظيمة لدى الصحابة، وكان يقضي في كثير من القضايا ويفتي في كثير من المسائل التي يرجع إليه فيها.
المأخذ الثاني: زعم بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي أن النافي لا دليل عليه، وجعل هذه طريقة في الاستدلال بأن يقول: أنا نافٍ فلا يلزمني إقامة دليل على ما نفيته، وإنما يتوجه الدليل على من كان مثبتاً لشيء من الأحكام، وقرر هذا بأن قال: من نفى نبوءة غيره لم يلزمه إقامة دليل على ذلك، وإنما يلزم من كان مثبتاً للنبوءة، وهذا فاسد في الاستدلال لا يعول عليه، فإن القطع بالنفي لا يجوز التعويل عليه إلا بدلالة، كما أن القطع بالإثبات لا بد فيه من دلالة، فهما مستويان في تقرير الدلالة عليهما، ولهذا فإن النفي قد يكون معلوماً بالضرورة، فإنا نقطع بأنا لسنا في لجة بحر ولا جناح نسر، ويُعلم بالنظر، فإنا قطعنا بأن المطلقة غير المدخول بها لا عدة عليها لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوْهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّوْنَهَا }[الأحزاب:49]. ويستدل على أنه لا نفقة للمتوفى عنها زوجها بأن النفقة تكون في مقابلة الاستمتاع وقد انقطع بالموت.
قوله: بأن النافي للنبوة لا دلالة عليه.
قلنا: هذا خطأ، فإن المنفي عليه دلالة، وهو عدم المعجز الدال عليها(1) فإذا عدم كانت منتفية لا محالة، فبطل التعويل على مثل هذه الطريقة في تقرير الأحكام كما زعموا.
__________
(1) النبوة.
المأخذ الثالث: سكوت صاحب الشريعة وتقريره من غير أن يكون له شعور بالفعل وتفطن به، ومثاله: ما يزعمه بعض أهل الظاهر (1) في إسقاط الغسل من الإيلاج من غير إنزال، لما روي عن بعض الصحابة أنه قال: كنا نكسل على عهد رسول اللّه ً ولا نغتسل، وفي هذا دلالة على أنه لا يجب الغسل منه، وما هذا حاله من الاستدلال يضعف ولا يُلتفت إليه؛ لأن هذا أمر يفعل على جهة الخفية ولم يشعر به الرسول ً فيقر عليه أو ينكره، والأمر فيه محتمل، فلا يجوز تقرير الحكم بما فيه احتمال، وعن هذا قال عمر رضي اللّه عنه لمن احتج بهذا، وجرى الخوض بحضرة الصحابة: هل علم رسول اللّه ً بذلك فأقركم عليه؟ فقالوا: لا. فرده. فدل ذلك على أن هذه الطريقة غير معتمدة ولا تعويل عليها، ولأن الحجة بما يصدر من جهة الشارع، وهاهنا لم يصدر من جهته شيء أصلاً فيعول عليه في كونه شرعاً.
المأخذ الرابع: استصحاب الإجماع في محل الخلاف.
فما هذا حاله من الاستدلال غير معتد به؛ لأن حاصل أمره عند التحقيق في الصحة إبطاله، وما هذا حاله من الأدلة فلا عبرة به، وهذا نحو استدلال بعض أصحاب الشافعي في المتيمم إذا رأى الماء وهو في الصلاة، فإنه زعم أنه يمضي فيها ولا يخرج، محتجاً بأنا أجمعنا على صحة إحرامه وانعقادها صلاة، فأنا أستصحب هذا الإجماع في إثباتها، فمن زعم أنه برؤية الماء يبطل إحرامه فإنه يفتقر إلى الدلالة.
وقد بطل ما عول عليه من الاستدلال، فإن أصحابنا و أبا حنيفة يبطلونه من جهة أن الإجماع إنما كان منعقداً قبل رؤية الماء فأما مع رؤيته فلا إجماع هناك؛ لأن الإجماع لا يمكن تقريره مع الخلاف، فكأنه أراد أن يصحح الإجماع فأبطله لاستعماله في محل الخلاف، فلهذا قلنا: إن في تصحيحه إبطاله.
__________
(1) الذين يتمسكون بظاهر الأدلة، وهم أتباع داود المشهور بالظاهري، ومن أعلامهم: ابن حزم صاحب كتاب (المحلى).
المأخذ الخامس: استعمال العموم مع قيام المخصص، ومثاله: استدلال الشافعي على وجوب المتعة في حق المدخول بها بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوْفِ }[البقرة:241] . فما هذا حاله يكون مردوداً؛ لأنه استدلال بالعموم مع قيام دلالة التخصيص وهو قوله ً: (( فلها المهر بما استحل من فرجها )) فأوجب للمدخول بها المهر لا غير، فلا تكون مندرجة تحت قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوْفِ} فلا يصح الاحتجاج به مع قيام ما ذكرناه من المخصص، وإنما يكون دلالة فيما عداه، وهو المطلقة غير المدخول بها ممن لم يسم لها مهر، ويبطل هذا الاستدلال بما ذكرناه من استصحاب الإجماع في محل الخلاف؛ لأنهما سيان في الإبطال؛ وكمن يحتج بقتل المرتدة بقوله ً: (( من بدل دينه فاقتلوه )). فما هذا حاله في الرجال والنساء على العموم، فيجب قتله بظاهر هذا العموم، وهذا غير صحيح، فإن قوله ً: (( نهيت عن قتل النساء )). قد أخرجه عن العموم فلا يصح الاحتجاج بالعموم مع وجود هذا المخصص؛ لأنه يدل على خروجه عنه فلا يكون مقصوداً به.
المأخذ السادس: قول الواحد من الصحابة، هل يكون حجة أم لا؟
فحكي عن الشافعي في القديم: أنه جعله حجة وقدمه على القياس، ومثاله: ما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال فيمن ظاهر من نسوة له أربع: إنه يلزمه كفارة واحدة عن جميعهن، ورجع الشافعي في الجديد عن هذا وقال: إنه لا يكون حجة بحال.
وحكي عن أبي حنيفة: أنه إذا خالف القياس كان توقيفاً من جهة الرسول ً ومثاله: ما استدل به أصحاب أبي حنيفة فيمن اشترى شيئاً بثمن ثم باعه بأقل من ذلك الثمن قبل أن ينقد الثمن في البيع الأول، أن ذلك غير جائز، لما روي أن عائشة (رضي اللّه عنها) أنكرت ذلك على زيد بن أرقم )، وقالت لأم ولده: أخبري زيداً أنه أحبط جهاده مع رسول اللّه ً إلا أن يتوب، فدل ذلك على أنها لم تغلظ في القول بإحباط الجهاد والإثم إلا عن توقيف، وهذه تسمى العينة(2).
وحكي عن مالك: أنه حجة مع مخالفة القياس كمقالة الشافعي في القديم.
وقد عول أصحابنا على ما قاله أبو حنيفة من حجة أن قول الصحابي إذا كان موافقاً للقياس، فظاهر الحال أنه على رأي له فلا يكون فيه حجة، بخلاف ما إذا كان مخالفاً للقياس فلا تكون مخالفته للقياس إلا لأمر أحق من القياس وأولى وهو التوقيف من جهة الشارع.
والمختار: أنه لا يكون حجة معتمدة؛ لأنه لا دلالة على كونه حجة من جهة أدلة الشرع، وإنما يكون صالحاً للترجيح لا غير، ولأنه كما لا تعويل عليه إذا وافق القياس، فهكذا لا تعويل عليه مع مخالفة القياس أيضاً، والجامع بينهما: أنه قول من لا دلالة على كون قوله حجة.
__________
(1) أبو عمرو زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري، صحابي غزا مع رسول اللّه ً سبع عشرة غزوة، وروى عنه ً وعن علي وأنس وغيرهم، وهو الذي أنزل اللّه تصديقه في سورة المنافقين، وشهد صفين مع علي عليه السلام وكان من خواصه. مات بالكوفة أيام المختار سنة 66هـ، وقيل: غير هذا. (تهذيب التهذيب 3/341).
(2) وقد روي نهي الرسول عن بيع العينة. والعينة: بكسر العين وهي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها منه به، وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العين. ا.هـ (فتح الغفار) ملخصاً ج2/43.
قولهم: إنه مع مخالفة [القياس] يدل على التوقيف لأجله خالف القياس.
قلنا: هذا فاسد، فإنه لو كان هناك توقيف لوجب ذكره في ذلك الوقت أو في وقت آخر.
قولهم: إن عائشة أغلظت عليه فيدل على التوقيف.
قلنا: هذا فاسد، فإنه قد يحصل التغليظ في الاجتهاد كما روي عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه: من أراد أن يقتحم جراثيم(1) جهنم فليقض بين الجد والأخوة برأيه، أو كما قال ابن عباس(2): ألا يتقي اللّه زيد بن ثابت ) بأن يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً. فالتغليظ قد
__________
(1) الجراثيم: جمع جرثومة، وهي أصل الشيء وأسفله. والمراد منها هنا: قعر جهنم.
(2) هو أبو العباس عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب بن هاشم، حبر الأمة، وابن عم رسول اللّه ً توفي رسول اللّه ً وله ثلاث عشرة سنة، ومات بالطائف سنة 68هـ عن إحدى وسبعين سنة. دعا له رسول اللّه فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) فاستوعب الكتاب والسنة تفسيراً وتأويلاً ورواية، وكان أعلم الناس بأشعار العرب وأيامها وأمثالها ولغتها، وكان يعود في تفسير القرآن إلى اللغة، وإلى الشعر في توثيق اللغة. وهو القائل: الشعر ديوان العرب، فما التبس علينا من لغتهم رجعنا إلى ديوانهم. روى له السيوطي إجابات مرتجلة في مقام واحد على ثلاثمائة سؤال ألقاها عليه نافع بن الأزرق من غريب القرآن، وكان يستشهد في إجابته عن كل سؤال بالشعر، وهو من أشهر الصحابة رواية للحديث. قال عنه ابن عمر: ترجمان القرآن ابن عباس.
(3) أبو سعيد وأبو خارجة زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي النجاري المقرئ الفرضي، كاتب الوحي، وأحد فقهاء الصحابة. حين قدم النبي ً المدينة، كان ابن إحدى عشرة سنة، وكان عالي الذكاء، تعلم العبرية بأمر النبيً، وكان يكتب بها وبالعربية، وله كتابات في الفرائض والديات، وكان عمر يستخلفه على المدينة إذا حج، وهو أحد الذين جمعوا القرآن. مات عام 45هـ. (در السحابة 663).
يرد على جهة المبالغة في مسائل الاجتهاد كما أوضحناه والله أعلم.
المأخذ السابع: في شرع من قبلنا من أهل الكتابين، التوراة والإنجيل، هل يكون شرعاً لنا إذا لم ينسخ عنا أم لا؟ فيه خلاف بين العلماء.
فالذي ذهب إليه أصحابنا والشافعي جواز ذلك، ولهذا سوغوا أن تكون المنافع مهراً بما في قصة شعيب ً، حيث قال لموسى صلى اللّه عليه وسلم: {إِنِّيْ أُرِيْدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْن ِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ }[القصص:27]. وقالوا: إن شرع من قبلنا لازم لنا ما لم ينسخ عنا وأستعملوه في كثير من المسائل الفقهية.
وكما قال الشافعي في تسوية القصاص في الأطراف بين المرأة والرجل محتجاً بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيْهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ }..الآية[المائدة:45]، ولأنها كتب منزلة من السماء على ألسنة الرسل فما لم ينسخ فهو شرع في حقنا كالقرآن.
وأبى ذلك أبو حنيفة وأصحابه محتجين بأن الرسول ً، شريعته ناسخة لجميع الشرائع وذلك معلوم من دينه بالضرورة.
والمختار عندنا: ما قاله أبو حنيفة وأصحابه ويدل على ذلك وجوه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الرسول ً، لم يُعلم من حاله أنه كان يطالع شيئاً من الكتب المتقدمة في شيء من الحوادث، ولا كان يسألهم عن ذلك، فلو كان ذلك شرعاً في حقنا لكان يعرفنا ما هو المنسوخ من ذلك من غير ما يكون منسوخاً، فلما علمنا إعراضه عنها، دل على أنه لا يكون شرعاً في حقنا.
وأما ثانياً: فلأنه رأى يوماً في يد عمر كراسة من التوراة فاحمر وجهه وتغير لونه وقال: (( والله لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي ))(1).
__________
(1) مختصر العلوم ص61 بلفظ: ((والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني)).
وأما ثالثاً: فلأن ما كان من شرعنا مطابقاً لحكم التوراة وغيرها من الكتب فإنما يكون بتقرير الشارع له وتنصيصه عليه لا بحكم التوراة على الإطلاق، وفي هذا دلالة على أنها غير معتمدة في كونها شرعاً لنا، وهذا هو مطلوبنا.
المأخذ الثامن: الاستدلال بالقرائن، وهو محكي عن المزني من أصحاب الشافعي، ومثاله: استدلال أصحاب أبي حنيفة، وهو محكي عن بعض أصحابنا، في نجاسة الماء المستعمل، بأن الرسول ً قال: (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه ))(1). ففرق بين البول فيه والاغتسال فيه، لما كان البول فيه ينجسه ويفسده، وهكذا حال الاغتسال. ومثل هذا لا يعد طريقاً لتقرير الأحكام الشرعية من جهة احتماله؛ لأن عطف الشيء على غيره لا يوجب أن يكون حكمه مثل حكمه؛ لأن المعطوف يغاير المعطوف عليه، فقد يعطف المستحب على ما يكون محرماً كقولك: لا تظلم أخاك ولا تؤاخذه بذنبه. فإذا كان كما قلناه، لم تكن القرينة وهي اتصال أحدهما بالآخر على جهة العطف، دالة على تساويهما في الحكم، بل لابد هنالك من علة جامعة أو دلالة منفصلة تدل على تنجيس الماء بالاستعمال من غير ما ذكروه، وقد عول أصحاب أبي حنيفة على هذه القرينة في غير هذه المسألة، وزعموا أن عطف الخاص على العام يوجب تخصيصه، كما قالوا في قوله عليه السلام: (( لا يُقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده))(2) فلما أوجب أن يكون الثاني مخصوصاً بالكافر الحربي لتساوي دماء أهل الذمة، وجب أن يكون الأول مخصوصاً أيضاً بالكافر الحربي، وجوزوا على أثر هذا أن يقتل المسلم بالذمي، وقد أوضحنا الرد عليهم في الكتب الأصولية وأبطلنا مقالتهم هذه.
__________
(1) سيأتي في محله.
(2) سيأتي في محله.
المأخذ التاسع: زعم بعض الأصوليين، أن نسخ بعض أحكام الآية يكون نسخاً لها، فلا يجوز الاحتجاج بها فيما وراء ذلك. وهذا فاسد. ومثال ذلك: استدلال القاسمية(1) على وجوب النفقة للمتوفى عنها زوجها أخذاً من قوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُوْنَ أَزْوَاجَاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعَاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}[البقرة:240]. فنسخ الحول لا يدل على نسخ المتاع، فإذا كان الحول منسوخاً بالأربعة الأشهر فلا وجه لنسخ النفقة، بل هي واجبة بنص الآية، ومن أسقطها فإنما يسقطها بدليل آخر كما هو رأي الفقهاء والمؤيد بالله لا من جهة أن بعض أحكام الآية منسوخ فيجب نسخ جميعها. وكاستدلال أصحابنا والشافعي على كون المهر يجوز أن يكون منفعة الحر بقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ}[القصص:27]. فإذا نسخ كون المهر للأب كانت الآية الحجة فيما وراءه ولم يكن نسخ بعضها نسخاً لجميعها كما زعموه.
__________
(1) أصحاب القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ٍ.
المأخذ العاشر: تأخر البيان عن وقت الخطاب لا يكون دليلاً على عدم الحكم أصلاً؛ لأن تأخر البيان عن وقت الخطاب جائز كما قررناه في الكتب الأصوليه، ومثاله: استدلال أصحابنا والحنفية على إسقاط الكفارة في قتل العمد، بأن اللّه تعالى ذكر العمد ولم يوجب فيه كفارة، فلو كانت واجبة لذكرها كما ذكرها في قتل الخطأ، فلما لم يذكرها، دل على عدم الوجوب فيها، فما هذا حاله لا يكون معتمداً في نفي وجوبها وإنما يؤخذ عدم وجوبها من دلالة أخرى غير هذه، خلافاً لرأي الشافعي في وجوبها، لأنه لا يمتنع كونها واجبة لكن بيان وجوبها متأخر عن بيان قتل الخطأ انتظاراً لوقوع الحاجة، وهذا يخالف الاستدلال على أن المرأة لا يجب عليها كفارة الظهار، من جهة أن الرسول ً أوجبها على الرجل ولم يوجبها على المرأة، فلو كانت واجبة لذكرها؛ لأنه لو لم يذكرها لكان في ذلك تأخير للبيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز، فظهرت التفرقة بينهما بما ذكرناه.
ولا أورد من الأحاديث إلا ما صح بطريقة شرعية يعتمدها أهل الحديث ويستقويها الأصوليون، ولا اعتمد من الأقيسة إلا ما كان ظاهر الإخالة قوي المشابهة من غير تعريج على حديث ضعيف أو قياس طردي ركيك.
ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على مالا يعتمد من الأدلة في تقرير الأحكام الاجتهادية ففيه كفاية، وبتمامه يتم الكلام على ما أردنا ذكره من هذه المقدمات التي يحتاج إليها الفقيه الخائض في الفقه من غير أن يكون له حظوة وافرة في علم الأصول والحمد لله.
---
كتاب الطهارة
وهو مشتمل على مسائل خمس:
المسألة الأولى: في لفظ الطهارة
وهي مصدر من قولهم: طَهَر الشيء يَطهر، نحو كَتَب يكتب، وطَهُرَ يَطْهُر، نحو شَرُفَ يَشْرُف، طهارة.
والاسم: الطهر، وطهرت الشيء تطهيراً، وتطهرت بالماء تطهراً.
ومعناها: التنزه من الأدناس.
قال امرؤ القيس:
ثياب بني عوف طهارى نقيَّة ... وأوجههم بيض المسافر غران(1)
وطهارى: جمع طاهر، على غير قياس كأنه جمع لطهران، نحو كسلان وكسالى، وحيران وحيارى(2)، والمَسَافِرِ: جمع مسفر، وهو ما ظهر من الوجه.
والتفرقة بين المصدر والاسم، هو أنك إذا قلت: طهارة، فإنها مشعرة بالفعل، كأنك قلت: طهر الشيء طهارة، بخلاف قولك: الطهر، فإنه غير دال على الفعل ولا مشعر به، فهو في إطلاقه كإطلاق الرجل في عدم إشعاره بالفعل ودلالته عليه، فهذه هي التفرقة بين المصدر والاسم إذا أطلقه الفقهاء وأهل اللغة، وتحتها أسرار وفوائد لا يخفى حالها على الأذكياء.
والطاهر في اللغة: هو الجاري على نعت الاشتقاق من غير أن يكون فيه مبالغة كالضارب، فإنه الفاعل للضرب من غير مبالغة.
والطهور هو الجاري على جهة الاشتقاق مع اختصاصه بالمبالغة، كضروب وضحوك، فهو في إفادة ما ذكرنا من المبالغة كفَعَّال، نحو ضَرَّاب وقتال.
فالطاهر ما كان مختصاً بالطهارة في نفسه لا غير.
والطهور هو: الطاهر في نفسه المطهر لغيره.
__________
(1) جاء في لسان العرب: وجمع الطاهر: أطهار وطهارى والأخيرة نادرة، وثياب طهارى على غير قياس، كأنهم جمعوا طهران. قال امرؤ القيس:
ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم عند المشاهد غُرانُ
ا.هـ لسان ج4/504. وهكذا ورد لفظ البيت في ديوان امرئ القيس، لا كما أورده المؤلف.
(2) لا يبدو أن (كسالى) من هذا الباب؛ لأنه مضموم الأول، إلا أن الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} قال: قُرئ بضم الكاف وفتحها. ا.هـ كشاف.
فالطاهر: وصف لا زم غير متعد إلى غيره.
والطهور يتعدى إلى غيره، وهو أنه مطهر لغيره، ونعني بتعديته أمرين:
أحدهما: من طريق التأثير، وهو أنه مؤثر في غيره التطهيرَ، كما أن الضارب، مؤثر في غيره الضرب والقاتل مؤثر في غيره القتل، فتأثيره حاصل في جهة الغير كما ذكرناه.
وثانيهما: من جهة اللفظ، وهو أنه متعد إلى مفعول بحرف جر، كقولك: مررت بزيد، بخلاف قولنا: طاهر فإنه لا يفيد واحداً من هذين الوجهين فلهذا كان لازماً، فهذا هو مراد الفقهاء بقولهم: إن الطاهر لازم، والطهور مُتَعَدٍ. وهل يفترقان من جهة الحكم أم لا؟ فيهما مذهبان:
أحدهما: أنه لا تفرقة بينهما، وعن هذا قالوا: إن كل شيء من المائعات كان طاهرا فإنه يجوز التطهر به للجنب والنجس، دون الحدث(1) كالخل واللبن وغيرهما، وهذا شيء يحكى عن أبي حنيفة وأصحابه وأبي بكر بن داود الأصم ).
والحجة لهم على ما زعموه: ما عرف من عادة العرب من عدم التفرقة بين فاعل وفعول في الإطلاق، فما كان الفاعل منه لازماً فالفعول مثله في اللزوم، كالقاعد والقعود، والنائم والنؤوم، وما كان الفاعل منه متعدياً فالفعول مثله في التعدي، كالضارب والضروب والقاتل والقتول، وهكذا حال الطاهر والطهور لا تفرقة بينهما، وإن كانا في اللزوم على سواء، فلهذا قضينا بأن كلَّ ما كان طاهراً فهو طهور من غير تفرقة.
__________
(1) لعله يقصد دون الاستنجاء من الحدث.
(2) أبو بكر عبدالرحمن بن كيسان الأصم. عده الإمام المرتضى من الطبقة السادسة (طبقات المعتزلة ص56) وقال: وكان من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم خلا أنه كان يخطئ علياً عليه السلام في كثير من أفعاله ويصوب معاوية في بعض أفعاله. قال القاضي (عبدالجبار): ويجري منه حيف عظيم على أمير المؤمنين، وكان بعض أصحابه يعتذر له.. وله تفسير عجيب، وكان جليل المقدار يكاتبه السلطان. ا.هـ. ملخصاً ولم يذكر تاريخ وفاته.
وثانيهما: وجوب التفرقة بينهما، فالطاهر ما كان طاهراً في نفسه كما مر تقريره، والطهور ما كان مطهراً لغيره، وعن هذا قالوا بأن غير الماء من المائعات لا يكون طهوراً لما كان غير مطهِّرٍ لغيره، وهذا هو رأي أئمة الزيدية ومن تابعهم من فقهائهم، وهو مذهب الشافعي وأصحابه.
والحجة لهم على ذلك: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَا ً }[الفرقان:48].
ووجه الحجة من الآية: هو أن الآية واردة مورد الامتنان بما أنعم اللّه به من نزول الماء للتطهير وخصه بالذكر وجعله من أعظم النعم، فلو كان الطاهر والطهور على سواء لكان لا فائدة في تخصيصه بالذكر ووروده على جهة الامتنان، وقوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابَاً طَهُوْرَاً }[الإنسان:21].
ووجه الحجة للدلالة من هذه الآية هو: أنها واردة على جهة المدح والثناء على شراب أهل الجنة وتميزه عن شرابات الدنيا، بأن شراب أهل الجنة طاهر في نفسه مُطَهِّر لغيره كالماء، بخلاف شراب الدنيا فإنه ليس على هذه الصفة، فلو كان الطاهر والطهور سواء لكان الشرابان مستويين في ذلك، وفي هذا دلالة في حصول التفرقة بينهما.
والمختار: ما عول عليه أصحابنا و الشافعي لما رواه أبو هريرة ) قال: سأل رجل رسول اللّه ً فقال: إنا نركب رماثاً لنا في البحر - الرِّمَاثُ جمع رَمَثٍ بالتحريك وهو زورق صغير يركب عليه في البحر - ومعنا القليل من الماء إن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال: (( هو الطهور ماؤه والحل ميتته ))(2). فخص الماء باسم الطهور، وفي هذا دلالة على أن غيره لا يطلق عليه اسم الطهور، وكما هو دلالة على ما ذكرناه من اختصاصه من اسم الطهور، ففيه دلالة أيضاً على أن الماء يُتَطَهَّر به؛ لأنهم سألوه عما يُتَطَهَّر به، فأجابهم بأنه طهور، وما رواه أبو سعيد الخدري )
__________
(1) عبدالرحمن بن صخر الدوسي، أسلم في فتح خيبر وهو أكثر من روى الحديث من الصحابة حتى زاد عدد الأحاديث التي رواها على خمسة آلاف حديث، وهو من أكثر من روى عنه الستة، شكك في بعض أحاديثه عدد غير قليل من أصحاب المسندات، أخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة أنها قالت لأبي هريرة: ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي ً؟ هل سمعت إلا ما سمعنا؟ وهل رأيت إلا ما رأينا؟ فقال: يا أُمَّه إنه كان تشغلك المرآة والمكحلة وما كان يشغلني عنه شيء. وقال عن نفسه: حفظت من حديث رسول اللّه أحاديث لو حدثتكم بحديث منها لرجمتموني بالحجارة، أخرجه الحاكم أيضاً. وأنكر عليه ابن عمر حديثاً حدَّث به في فضل من تبع الجنازة فاستشهد أبو هريرة بعائشة على صحة الحديث. (المستدرك، در السحابة).
(2) قال في هامش البحر ما لفظه: عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول اللّه ً فقال: يا رسول اللّه إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإن توضأنا منه عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال رسول اللّه ً: ((هو الطهور ماؤه والحل ميتته) أخرجه مالك في (الموطأ) وأبو داود والترمذي والنسائي.ا.هـ ج2 ص30.
(3) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري (أبو سعيد الخدري) أحد أصحاب رسول اللّه ً وأعلام الأنصار، استصغر يوم أحد، وغزا بعد ذلك اثنتي عشرة غزوة، روى عن النبي ً وعن علي وزيد بن ثابت وأبي قتادة الأنصاري وجابر وابن عباس وغيرهم. روى عنه ابن عباس وابن عمر وجابر وزيد بن ثابت وغيرهم. قال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله أفقه من أبي سعيد. توفي سنة 64هـ عن 74سنة على خلاف في تاريخ وفاته. (تهذيب التهذيب).
عن النبي ً أنه قال: (( خُلِقَ الماءُ ط َهُوراً لا يُنَجِسُهُ إلا ما غَيَّر رِيحَه أو لونَه))(1).
ويدل على ذلك من جهة اللغة قولُ جرير:
عِذاب الثنايا ريقهن طهور(2)
وأراد أن ريقها طاهر يتطهر به؛ لأنه قصد به المبالغة في مدحها، فلو كان الطهور هو الطاهر لا غير، لكان لا مدح موجود لها في ذلك، فإن ريق البهائم يشاركها في كونه طاهراً، وهذا هو المقصود، ثم إن الخلاف في هذه المسألة له ثمرتان:
الأولى منهما: أنه لا يجوز إزالة الأشياء النجسة ولا رفع الأحداث بشيء من المائعات سوى الماء لاختصاصه بالتطهير عندنا، وهو رأي الشافعي، وعندهم أن ذلك جائز(3).
__________
(1) هكذا الحديث مروي عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول اللّه، إنه يستسقى لك من بئر بضاعة وتلقى فيها لحوم الكلاب وخرق المحائض وعذر الناس. فقال رسول اللّه ً: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)). وفي الشفاء: ((خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه)). وفي البحر: إن الذي في المهذب: ((الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه)). قال في المهذب: فنص على الطعم والريح وقسنا عليهما اللون؛ لأنه في معناهما.ا.هـ.
ونقل في التلخيض: وأما الاستثناء فرواه الدارقطني من حديث ثوبان، وفيه رشد بن سعد وهو متروك، ثم أورد رواية عن البيهقي بلفظ: ((إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه))..إلخ. ا.هـ.
(2) أول البيت: ألا إن في نجد وأكناف بيشةٍ ا.هـ . وجرير: هو الشاعر المعروف، جرير بن عطية اليربوعي (640 - 728م). ولد ومات باليمامة. عاش متكسباً بالمدح، واتصل بولاة العراق، وصار شاعر الحجاج الذي وصله بعبدالملك بن مروان، وله مدائح شهيرة فيه، وله النقائض مع الفرزدق.
(3) يعني أبا حنيفة وأصحابه وأبا بكر بن داود الأصم.
الثانية: أنه إذا تغير الماء بشيء من الطاهرات فإنه لا يجوز الوضوء به ولا الغسل ولا رفع النجاسات، وعندهم أن ذلك جائز كما [ذكرناه].
فأما قولهم: إن العرب لم يفرقوا بين فاعل وفعول، وبنوهما من الفعل اللازم والمتعدي جميعاً، فهو فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا نعلم قطعاً تفرقتهم بينهما حيث جعلوا فعولاً للمبالغة دون فاعل، فإذا جاز أن يفرقوا بينهما فيما ذكرناه، جاز أن يفرقوا بينهما في كون أحدهما وهو فعول، موضوعاً للتعدي دون فاعل.
وأما ثانيا: فلأن ما ذكروه تعويل على أمر لفظي في وضع الصيغة، وما ذكرناه تعويل على أمر معنوي. ولا شك أن التعويل على المعاني أحق من التعويل على الألفاظ، واسم الطهارة قد صار منقولاً بالشرع عما كان عليه في اللغة؛ لأنه موضوع في الأصل للتنزه عن الأنجاس ومفيد للنقاء، ثم صار مقولاً في الشرع على إفادة معان شرعية كالغسل والمسح والجفاف والنزح وغير ذلك من المعاني الشرعية، فصار فيما يفيده كالصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من الأسماء التي نقلها الشرع، وهل تكون مفيدة لمعانيها اللغوية ما أفادتها من معانيها الشرعية أم لا؟ فيه تردد وخلاف قد ذكرناه من قبل، وأخبرنا فيما سبق أنه مع إفادتها لما نُقِلَتْ إليه من المعاني الشرعية، فلا تنفك عن إفادتها لما وضِعَت له من معانيها اللغوية، لكن الشرع قد غَيَّرها وزاد فيها زيادة غير مخلة بمعانيها اللغوية كما أشرنا إليه، فهذا ما أردنا ذكره في بيان ما يفيده لفظ الطهارة وشرح معانيه الدالة عليها.
---
المسألة الثانية: في بيان حقيقة الطهارة وشرح معانيها المفيدة لها بوضع الشرع
قد وضح لك أن الطهارة اسم شرعي، واعلم أن الناس بالإضافة إلى شرح حقيقة الطهارة وإبانة ماهيتها فريقان:
فالفريق الأول: تكلموا في بيان معناها وإبانة ماهيتها، بالإشارة إلى تفاصيل مسائلها، وشرح أحكامها على جهة التفصيل من غير إشارة منهم إلى ضبطها بالحدود والتعريفات الحقيقية والرسمية، وإنما كان همهم من ذلك ذكر المسائل المشتملة عليها على جهة التفصيل، وهؤلاء هم أكثر الفقهاء، أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما، وزعموا أن ماهية الشيء وإدراك حقيقته كما يحصل بالتعريفات الحقيقية واللوازم الرسمية، فإنها تحصل أيضاً بحصر المسائل وضبط الأحكام.
الفريق الثانى: وهم الذين رغبوا في حصرها بالحدود والتعريفات وصانوها عن النقوص بالاحترازات. ثم هم حزبان:
الحزب الأول منهم: اقتصروا من مفهوم الطهارة على طهارة الماء من حدث أو نجس ، وعلى طهارة التراب من الحدث من غير إشارة منهم إلى ما وراء هذين النوعين من الطهارات كلها، وهذه هي طريقة السيد الإمام أبي طالب وغيره من فقهاء المذهب، فإنهم قصروا أنظارهم فيما أوردوه من التعريفات على الطهارة المائية والطهارة الترابية، ولم يخرجوا عن شيء سواهما من سائر أصناف الطهارات مع أنها طهارة ، كالجفاف والاستحالة(1) وغيرهما، ثم إنهم ذكروا لها تعريفات ثلاثة:
التعريف الأول : ذكره السيد أبو طالب فى (التذكرة)(2)، وحاصل ماقاله:
الطهارة هي: الشرعية المزيلة للأحداث. فقوله: الشرعية، يخرج منه مايفيد التنقية وليس مشروعاً كغسل الحائض ووضوئها فإن هذه طهارة، ولكنها غير شرعية؛ لأنها لاتفيد رفع الحدث ولا إزالة النجس.
__________
(1) الطهارة بالجفاف، كالأطفال والبهائم، وبالاستحالة كالخمر يستحيل إلى خل، كما جاء في (الأزهار).
(2) التذكرة في الفقه لأبي طالب (يحيى بن الحسين الهاروني. توفي سنة 424هـ)
وما ذكره من التعريف ينتقض بأمور ثلاثة:
أما أولاً: فلأن هذا تخرج منه الطهارة من النجس، وهي من جملة الطهارات الشرعية.
وأما ثانياً: فلأن هذا تخرج عنه الطهارة بالتراب؛ لأنها غير مزيلة للحدث على رأيه، وهي من جملة ما يُتَطَهَّر به.
وأما ثالثاً: فلأن هذا منقوض بالطهارة على الطهارة، فإنها من جملة الطهارات وقد ورد بها الشرع كالوضوء على الوضوء وليس مزيلاً للحدث فانتقض هذا الحد.
التعريف الثاني: ذكره في (الشرح)(1)، وحاصل كلامه أنه قال:
الطهارة: هي الشرعية الواجبة لأجل الأحداث، وهذا وإن كان سالماً من الاعتراض بطهارة التراب كما ورد على الحد الأول، لكنه منقوض بالأمرين الآخرين، إما بطهارة النجس فإنها من جملة الطهارات وليست واجبة لأجل الأحداث، وإما بالطهارة على الطهارة فإنها من جملة الطهارات الشرعية وليست واجبة مع كونها طهارة، فخرجت عنها، فلهذا كان ما ذكرهُ منقوضاً بما أشرنا إليه.
وذكر القاضي زيد ) أن الأَوْلَى أن يقال فيها: الطهارة هي: المفعولة للأحداث، وهذا وإن كان سالماً عن النقض بطهارة التيمم، لكنه منقوض بالطهارة عن النجس والطهارة على الطهارة، فإن هاتين من جملة الطهارات وليستا مفعولتين من أجل الحدث.
__________
(1) شرح التحرير في الفقه لأبي طالب أيضاً.
(2) زيد بن محمد الكلاَّري بن الحسن، قال في (الفلك الدوار): (نسبة إلى كلاَّر من بلاد الجيل) بفتح الكاف وتشديد اللام، وفي تراجم رجال (الأزهار) بالتخفيف. قال الجنداري في ترجمته: وهو القاضي زيد المشهور علامة الزيدية وحافظ أقوالهم وفقيههم، قال في (الانتصار): كان من أتباع المؤيد بالله ولم يعاصره. كان القاضي من حفاظ ألفاظ العترة، وله العناية العظمى في خدمة المذهب الشريف، وهو مؤلف (الشرح) (شرح كتاب التجريد للمؤيد بالله) وإذا أطلق (الشرح) في (المنتزع) فهو شرحه إلا في موضع في السير فشرح أبي طالب.
التعريف الثالث: أن يقال: الطهارة عبارة عن مسح وغسل أو عن أحدهما بصفة مشروعة، وهذا وإن كان سالماً عن النقض بطهارة التيمم والطهارة على الطهارة، لكنه منقوض بسائر أنواع الطهارات، كالجفاف والاستحالة وغيرهما مما يكون طهارة وليس مسحاً ولا غسلاً، وهذه كلها تعريفات لمن قصر الطهارة على هذين النوعين ولم يعرج على ما سواهما مما يكون طهارة.
الحزب الثاني: الذين أغرقوا في حصر أنواع الطهارات وراموا اندراجها تحت حد واحد بإدخال جميع الصور، كما هو محكي عن الشيخ أبي عبدالله محمد بن أحمد النجراني )، فإنه قال:
الطهارة عبارة عن: مسح وغسل وجفاف ونزح واستحالة، فما هذا حاله قد اندرج تحته ما يقال: إنه طهارة في الشرع من الحدث والنجس، وطهارة التراب وجفاف الأطفال عند الولادة، ونزح الآبار عند وقوع النجاسة فيها، والأمور النجسة إذا استحالت كالعذرة إذا صارت رماداً، والكلب إذا صار ملحاً، وغير ذلك، وهذا ما أردنا ذكره من مذاهب الفقهاء في سلوكهم طريق الضبط لماهية الطهارة، والإشارة إلى تعريفها.
__________
(1) الشيخ محمد بن أحمد بن عبدالله بن أحمد بن محمد النجراني، كان فقيهاً عالماً قرأ على الأميرين: بدر الدين وشمس الدين وغيرهما. وعاصر الإمام المهدي أحمد بن الحسين. كان من المجتهدين والمتكلمين. أخذ عنه ولده الشيخ عطية والأمير علي بن الحسين صاحب (اللمع). توفي سنة 603هـ. (مقدمة الأزهار).
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إلى أسراره يلتفت إلى القواعد العدلية ويشم رائحة من المباحث الكلامية. وحاصله أنَّا نقول: اسم الطهارة واقع على حقائق مختلفة وأنواع متفاوتة لا يمكن اندراجها تحت حد واحد، وما هذا حاله من الألفاظ المشتركة فلا تشملها ماهية واحدة ويستحيل ذلك في حقها، فلو قال قائل: ما حقيقة المَلَك والجني والإنسان والحجر؟ فإنه لا يمكن أن يجاب بحقيقة واحدة لاختلاف هذه الحقائق في أنفسها، وهكذا حال من يسأل عن ماهية الطهارة فلا يمكن أن يجاب بماهية واحدة لإختلاف حقائقها في أنفسها وسائر أنواعها، فإنها مقولة على طهارة الحدث وطهارة النجس وطهارة التراب وطهارة النزح والجفاف والاستحالة، فصارت لفظة مشتركة واقعة على حقائق مختلفة يستحيل اندراجها تحت ماهية واحدة، فإذا سأل السائل عن ماهية الطهارة لم يستحق جواباً على الإطلاق، ولكن يقال له: عن أي أنواع الطهارة تسأل؟
فإذا قال: عن طهارة الماء؟
قيل له: هي استعمال الماء لحدث أو نجس.
وإن قال: عن طهارة التراب؟
قيل له: هو استعمال التراب للحدث.
وهكذا القول في سائر أنواع الطهارة إذا كان سائلاً عن كل واحدٍ منها بعينه فإنه يستحق جواب كل واحد منها بعينه، ويجري ما ذكرناه في جميع الألفاظ المشتركة التي تندرج تحتها حقائق مختلفة، كالعين والإدراك وغيرهما مما لا بد فيه من الاستفصال، فإن أنف آنف عما ذكرناه من هذا التقسيم وأراد اندراجها تحت ماهية واحدة، فالأغوص أن يقال في ماهيتها: عبارة عن غسل ومسح، أو عن أحدهما أو ما في حكمهما بصفة مشروعة، فلا يبعد أن يكون هذا ضابطاً لجميع مجاريها الشرعية.
نعم هذا كله، إذا قلنا: بأن لفظ الطهارة يطلق على ما ذكرناه من هذه الحقائق المختلفة من غير أن يكون تعارفاً، فأما إذا قلنا: بأن لفظ الطهارة قد صار متعارفاً [عليه] في ألسنة الفقهاء فيما كان من طهارة الماء وطهارة التراب، فعلى هذا يقال في ماهية الطهارة: هي استعمال أحد المشروعين: الماء أو التراب. وعلى هذا يكون الحد مطابقاً لَمَّا كان التطهير قد صار متعارفاً فيهما.
وإذ قد أتينا على المقصود من تعريف ماهية الطهارة وذكر خلاف الفقهاء فيها، فلنردفه بذكر حقائق الألفاظ التي تمس الحاجة إليها عند الخوض في المسائل الخلافية، والاستدلالات الخطابية، والاستنباطات القياسية، ويعظم دورها في ألسنة الفقهاء، وجملة ما نذكر من ذلك أمور عشرة نفصلها بمعونة اللّه تعالى:
أولها: النظر، وهو: ترتيب مقدمات علمية أو ظنية، لِيُتَوصَّل [بها] إلى الوقوف على الشيء بعلم أو ظن.
وثانيها: الدليل، وهو: ما كان النظر فيه مؤدياً إلى العلم بالمطلوب. والأمارة: ما كان النظر فيها مؤدياً إلى تغليب الظن.
وثالثها: العلم، وهو: إدراك الشيء على ما هو به مع سكون النفس إليه. والظن: تغليب بالقلب على أحد المجوَّزَين ظاهري التجويز.
ورابعها: الحجة، وهو: ما يدل على صحة الدعوى.
وخامسها: الخبر، وهو: ما كان محتملاً للصدق والكذب. والصدق: ما كان مُخْبَرُهُ على ما هو به، والكذب: ما كان غير مطابق لِمُخْبرِهِ.
وسادسها: الظاهر، وهو: ما كان محتملاً لأمرين، أحدهما أقوى من الآخر. والتأويل: صرف الكلام عن ظاهره. والمطلق: اللفظ الصالح لما تناوله. والمقيد، هو: الذي خُصِّصَ ببعض صفاته.
وسابعها: النسخ، وهو: بيان أن مثل الحكم الشرعي غير ثابت بدليل مثله مع تراخيه عنه. والأمر: قول القائل لغيره: افعل. والنهي: قول القائل لغيره: لا تفعل. والحقيقة: ما أفاد معنى مصطلحاً عليه في غير ذلك الوضع. والواجب والفرض: ما تعلق العقاب بتركهما. والعبادة هي: الطاعة. والطاعة: موافقة الأمر. والمعصية: مخالفة الأمر.
وثامنها: الصحيح، وهو: ما كان معتداً به في مقصوده. والفاسد: ما خالف الشرط المعتبر فيه. والمجزي من الأفعال: ما كان خارجاً به من عهدة الأمر. والمتواتر: ما حصل به العلم الضروري.والآحادي: ما أثمر الظن. والصحابي: من خالط الرسول. والتابعي: من صحب الصحابة.
وتاسعها: المرسل، وهو: ما انقطع إسناده. والمسند: ما اتصل إسناده. والموقوف من الأحاديث: ما كان مقصوراً على الصحابة. والمرفوع: ما كان إسناده متصلاً بالرسول ً. والاجتهاد: بذل الوسع في تحصيل الغرض. والرأي: استخراج صواب العاقبة.
وعاشرها: القياس، وهو: حمل فرع على أصل بعلة جامعة بينهما. والأصل: ما ثبت حكمه بنفسه. والعلة، هي: المقتضية للحكم. والمعلل، هو: الناصب للعلة. والطرد، هو: وجود الحكم بوجود العلة.والعكس، هو: عدم الحكم بعدم العلة. والنقص: وجود العلة من غير حكمها. والمعارضة: مدافعة الخصم بمثل دليله أو بما هو أقوى منه. والترجيح: إثبات مزية توجب تقديم إحدى الأمارتين على الأخرى. والانقطاع: هو العجز عن نصرة المذهب. ولنقتصر على هذا القدر ففيه كفاية عن مقدار غرضنا من ذلك. والله الموفق.
---
المسألة الثالثة: في بيان تقسيم الطهارات
واعلم أن لها تقسيمات كثيرة باعتبارات متفاوتة، ولكنا نقتصر منها على تقاسيم أربعة:
---
التقسيم الأول: باعتبار ذاتها إلى ما يفتقر إلى النية وإلى ما لا يكون مفتقراً إليها
فالذي يفتقر إلى النية من الطهارات، هو التيمم والوضوء والغسل عندنا على اختلاف فيه بين الفقهاء سنذكره فى موضعه ونوضح المختار بمعونة اللّه تعالى.
والذي لايفتقر إلى النية، هو غسل النجاسة.
وإنما كان تقسيمها باعتبار النية تقسيماً راجعاً إلى ذاتها ، من أجل أن الطهارة [حكم] اسميٌّ شرعي كما مر تقريره من قبل، فلما كان لاحكم للطهارة من غير نية، لمَّا كان الشرع قد اعتبر فيها النية، فلأجل هذا كانت من غير نية لا صورة لها ولاتوجد حقيقتها، فمن ثم كان ذلك راجعاً الى الذات.
واعلم أن النية هي العزم. يقال: نويت السفر إذا عزمت عليه. والنية القصد. يقال: إلى أين نيتك؟ والغرض إلى أين قصدك. وعينها واو، واشتقاقها من النوى وهو البعد؛ وإنما سميت بذلك لكونها غائبة عن الناس، ولكونها فى القلب مستورة. وأنشد الجوهري ):
صرمت أميمة خلتي وصِلاتي ... ونوت ولما تنتوي كنواتي
__________
(1) هو أبو نصر إسماعيل الجوهري، ولد في فاراب، من أصل تركستاني في نيسابور حوالي سنة 400هـ، وارتحل إلى العراق ودرس اللغة العربية وأخذ عن أئمتها في القرن الرابع. له مؤلفات منها: الصحاح، ومختصره (مختصر الصحاح). ا.هـ. الموسوعة الإسلامية ج5/148.
أي ولم يكن قصدها قصدي، ولا كانت عزيمتها مثل عزمي في المودة وحسن المواصلة ولزوم الإخاء، ولها(1) موقع عظيم في العبادات الشرعية، لما روي عن عمر رضي اللّه عنه عن النبي ً، أنه قال: (( إنما الأعمال بالنيات ))(2). ولايكون العمل صالحاً إلا بها ولا مقبولاً إلا معها، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( لا عمل إلا بنية ))(3). فظاهر الخبر دال على أن ماليس معه نية من الأعمال فهو مردود، وهي أفضل الأعمال لما روي عن النبي ً أنه قال: (( نية المؤمن خير من عمله ، ونية الفاسق شر من عمله)) (4) وهذا الخبر له معان خمسة:
__________
(1) أي النية.
(2) عن عمر قال سمعت رسول اللّه ً يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)). أخرجه الستة إلا الموطأ. وهذا الحديث أول حديث في كتاب البخاري. ا.هـ. بحر. ونقل في الهامش أنه ورد في الموطأ برواية محمد بن الحسن.
(3) روي عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه ً: (لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة). ذكره في البحر وأشار إلى ذكره في أصول الأحكام والشفاء، وفي التلخيص موقوفاً على الحسن البصري مع اختلاف في لفظه، وأورده في الاعتصام عن شرح التجريد بلفظه.
(4) رواه الطبراني في الكبير، وفي الفوائد للشوكاني، وجاء بلفظ: ((نية المؤمن أبلغ من عمله)) رواه الزبيدي في الإتحاف، وأضاف: ((ونية الفاجر خير من عمله، وعمل الكافر خير من نيته)) وكذا في مجمع الزوائد للهيثمي.
المعنى الأول: أن العمل متناول للأفعال الظاهرة القولية والفعلية، ولا شك أن ما هذا حاله فإنه يدخله الرياء، بخلاف النيات فإن محلها القلوب ولا يطلع عليها الخلق ولا يكون فيها رياء، وعمل قليل بعلم أفضل عندالله من عمل كثير بجهل ورياء، فلأجل هذا كانت النية أفضل من العمل.
المعنى الثاني: أن يكون مراده عليه السلام من ذلك أن العمل مفتقر إلى النية، بحيث لو خلا عنها لكان لا وزن له عند الله تعالى، بخلاف النية فإنها غير مفتقرة إلى العمل، فالنية يُؤْجَرُ عليها بمجرد فعلها، بخلاف العمل فإنه لا يؤجر عليه ولا يكون مستحقاً للثواب عليه إلا بانضمام النية إليه، فلهذا كانت خيراً من العمل لهذا الاعتبار.
المعنى الثالث: أن المراد من قوله: نية المؤمن خير من عمله، على معنى أن المؤمن قد ينوي الفعل ولا يتفق له العمل، فيحصل له الثواب على مجرد النية وهي أسهل من العمل، بخلاف العمل فإنه لا يحصل إلا بتكليف ومشقة في فعله، فيكون المعنى بكونها خيراً أنها أسهل مؤنة وأخف محملاً، بخلاف الفعل فإن فيه من المشقة ما ليس فيها، ويؤيد هذا المعنى ما روي عن النبي ً أنه قال: (( إن المؤمن إذا نوى خيراً كتبت له حسنة فإذا فعله كتب له عشر حسنات)).
المعنى الرابع: أن هذا الحديث وارد على سبب خاص، وهو أن الرسول ً، ذُكِرَ له صلاةُ بعض المنافقين وأنه طول فيها قنوته، فقال الرسول ً: (( نية المؤمن خير من عمله))، أي من عمل الكافر، فالضمير في عمله راجع إلى الكافر؛ لأنه لا ثواب له على صلاته، وأراد أن نية المؤمن على قلتها وصغر قدرها وخفة مؤنتها، خير من عمله وإن كان شاقاً يحتاج إلى مؤونة كثيرة، كما روي عن النبي ً أنه قال: (( إن اللّه خلق آدم على صورته ))، فالضمير في صورته راجع إلى آدم، وقد غلط فيه بعض المجسمة الحشوية فأعاد الضمير إلى اللّه تعالى.
المعنى الخامس: أن المراد من ذلك: أن نية المؤمن وإن كانت قليلة في عددها، فهي خير من جملة عمله وإن كان كثيراً، فتكون الفائدة في ذلك أنها مساوية للعمل في كونه عبادة وفي كونه مستحقاً عليه الأجر والثواب، فهذه المعاني كلها يحتملها الخبر ويدل عليها كما أشرنا إليه.
---
التقسيم الثاني: باعتبار ما يُتَطَهَّر به
اعلم أنما يتطهر به ينقسم إلى: مائع وجامد.
فالمائع هو: الماء، لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ }[الأنفال:11]. وما روي أنه عليه السلام قال: (( خلق الماء طهوراً)).
والجامد هو: التراب، يكون طهوراً عند عدم الماء في سفر أو حضر، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوْا مَاءً فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْداً طَيِّبَاً }[النساء:43]. وقد يكون بالحجر عند أثر الغائط والبول، لقوله ً: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن ))(1). كما سنوضحه بعد هذا بمعونة اللّه تعالى.
وهل يجوز التطهر بنبيذ التمر أم لا؟ فيه مذهبان:
الأول: أنه لا يجوز التطهر بشيء من الأنبذة بحال، وهذا هو رأي أئمة العترة ومن تابعهم من فقهائهم، وبه قال الشافعي ومالك ومحكي عن أحمد بن حنبل وأبي عبيد ) وداود (3).
__________
(1) حكاه في البحر وفي أصول الأحكام والشفاء، وجاء في رواية عن ابن عباس بلفظ: ((إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار أو ثلاثة أعواد أو ثلاث حثيات من تراب)) ا.هـ ملخصاً من البحر.
(2) أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي، ذكره الشيرازي في فقهاء بغداد ولقبه مرة بأبي عبدالله ومرة بأبي عبيد. وقال: قال إبراهيم الحربي: كان أبو عبيد كأنه جبل تُنفخ فيه الروح يحسن كل شيء، ولي القضاء لطرسوس ومات بمكة سنة 224هـ عن سبع وستين سنة. (طبقات الفقهاء).
(3) داود بن علي بن خلف الظاهري العلامة الفقيه الزاهد. نشأ في بغداد بلغ في الزهد كما روى المرشد بالله: أنه أُعطي دراهم كثيرة وردها وكان يأكل في العيد البقل ولا يقبل من أحد شيئاً، عده الإمام المهدي من العدلية، توفي ببغداد في ذي القعدة سنة 270هـ.، وفي طبقات الشافعية وطبقات الشيرازي أنه ولد سنة 200هـ، وتوفي سنة 290هـ.
والحجة على ذلك: قوله تعالى في آية الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا }[المائدة:6]. ثم قال: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوْا مَاءً فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً }. فنقلهم عند عدم الماء إلى التراب، فلو كان غيره جائزاً لم يقصرهم في النقل إليه ولكان نقلهم إلى غيره أقرب من نقلهم إلى التراب؛ لأن النبيذ أقرب إلى صفة الماء وخلقته من التراب. ولقوله ً: (( التراب طهور المؤمن مالم يجد الماء ))(1).
وتقرير الحجة فيه: ما ذكرناه في تقرير الآية، ولأن التطهر ورد من جهة الشرع مقصوراً على الماء والتراب، فلا يجوز نقله إلى غيرهما إلا بدلالة شرعية.
المذهب الثاني: أنه يجوز التطهر بنبيذ التمر، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه، ثم اختلفت الرواية فيه عن أبي حنيفة، وله فيه ثلاث روايات:
الرواية الأولى: مثل مذهبنا، أنه لا يجوز التطهر به، إلا في كونه نجساً [فإنه] قال بطهارته مع أنه لا يجوز التوضؤ به، وهو قول أبي يوسف، وعند أصحابنا والشافعي: أن كلما انْتُبِذَ يكون نجساً.
الرواية الثانية: أنه يجوز التوضؤ به والتيمم بعده، وهذا هو المحكي عن محمد بن الحسن.
الرواية الثالثة: أنه يجوز التوضؤ به إذا طبخ وانتبذ عند عدم الماء في السفر، والحجة على ذلك حديث ابن مسعود ليلة الجن، فإنه قال: كان مع الرسول ً في تلك الليلة، فلما أراد الصلاة لفرض الفجر، فقال له: (( أمعك وضوء))؟ فقال: لا. معي إداوة(2) فيها نبيذ. فقال: (( تمرة طيبة وماء طهور ))، فتوضأ به.
__________
(1) مكانه باب التيمم.
(2) الإداوة: المَطْهَرَةُ، وعن ابن سيده: إناء للماء، وتجمع على أداوي. ا.هـ لسان.
والمختار: ما عول عليه أصحابنا والشافعي، لما ذكرناه عنهم من الأدلة الشرعية، ولأن الكتاب والسنة ظاهرهما دال على عدم النقل من الماء إلى غير التراب، فلو كان التطهر بالنبيذ جائزاً إذاً لذكره؛ لأنه في موضع تعليم الشرع وهو وقت الحاجة فلا يجوز تأخيره عن الذكر، والإعراض عنه.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه، أما ما ذكره من الاحتجاج بحديث ابن مسعود، فعنه أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن هذا الحديث، رواه أبو زيد )، عن ابن مسعود وهو مجهول عند رواة الحديث، فلا يكون مقبولاً.
وأما ثانياً: فلأن الرسول ً قال: (( تمرة طيبة وماء طهور))(2). فأطلق اسم الماء عليه، فلو [كان] نبيذاً لم يطلق عليه اسم الماء.
وأما ثالثاً: فلأنه ً قال: (( تمرة طيبة)). فلو كان التمر قد صار نبيذاً لم يطلق عليه [اسم] التمر بعد تغيره، فأما قول ابن مسعود جواباً له، حيث قال له: ما في إداوتك ؟ فقال: نبيذ تمر، فلا حجة فيه؛ لأنه كلام لصحابي، وقد قررنا أنه لا حجة في قول الصحابي فأغنى عن تكريره.
__________
(1) جاء في (التهذيب): المخزومي مولى عمرو بن حريث. وقيل: أبو زائد أو أبو زيد بالشك. روى عن ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ ليلة الجن. وعنه أبو زرارة رشد بن كيسان. قال البخاري: لا يصح حديثه، وقال الحاكم أبو أحمد: لا يوقف على صحة كنيته ولا اسمه ولا له راوٍ غير أبي فزارة، ولم يرو هذا الحديث من وجه ثابت، وأبو زيد مجهول. وقال أبوداود: كان أبو زيد نباذاً بالكوفة. وقال الترمذي: مجهول عند أهل الحديث لا تعرف له رواية غير هذا الحديث. قلت: وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: أبو زيد مجهول لا يُعرف ولا أعرف كنيته ولا أعرف اسمه.. إلخ. تهذيب التهذيب ج12/113.
(2) أخرجه الترمذي وكذا أبو داود إلا قوله: فتوضأ منه. ا.هـ. البحر: ج2/11.
وله تأويل، وهو أنه إنما قال: نبيذ تمر. جرياً على عادة العرب في نبذهم في الأمواء تُمَيْرَاتٍ تجتذب ملوحته وتطيبه؛ لأن الغالب الملوحة في أمواء الحجاز، فلهذا قال: نبيذ تمر، من أجل ذلك أجابه الرسول بقوله: (( تمرة طيبة)). جرياً على ما هو المألوف من عادات العرب في ذلك كما أشرنا إليه، فإطلاق اسم التمرة والماء من جهة صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه، فيه دلالة ظاهرة على أنهما لم يتغيرا عما هما عليه من صفة المائية والتمرية؛ لأن إطلاق اسم الماء والتمر على ما تفاحش تغيره وزال عن صفته يشابه إطلاق الماء على المرق والعصيدة وهو محال لا وجه له.
ثم إنا نقول: إنه لم يجر من عادة العرب أنهم يستصحبون الأنبذة في أسفارهم إذ لا حاجة لهم إليها، وإنما يستصحبون الأمواء لحاجتهم إليها في المفاوز، فلا وجه لاستصحاب ابن مسعود النبيذ في السفر، وفيه دلالة وأمارة قوية علىأن ما كان في إداواته إنما هو الماء المنبوذ فيه تمرات لا غير.
لا يقال: لو كان في إداوته ماء لم يكن لنفيه للوضوء [معنى] لما سأله الرسول ً: ((هل معك وضوء))؟ فقال له: لا، لأنا نقول: هذا فاسد، لأن الحجة إنما هي في كلام صاحب الشريعة دون كلام ابن مسعود، فلا حجة فيه، وقد قال: (( تمرة طيبة وماء طهور)). ولعله إنما نفى الماء الذي يتوضأ به اعتقاداً منه أن كل ما خالطه الطاهر ولم يغير شيئاً من أوصافه فإنه لا يجوز التوضؤ به، فبطل ما توهموه.
---
التقسيم الثالث: باعتبار مايُفْعَلُ التطهر من أجله
والذي يُحْدَثُ التيمم له منقسم إلى: فريضة ونافلة.
فأما الفريضة، فمنقسمة إلى ما يكون واجباً على الأعيان كالصلوات الخمس، وإلى ما يكون وجوبه على الكفاية كصلاة الجنازة، وهكذا صلاة العيدين على رأي من يجعلهما فرضاً، إما على الكفاية وإما على الأعيان كما سنقرر الخلاف فيهما ونوضح المختار بمعونة اللّه تعالى.
ثم ما كان واجباً على العين، منقسم إلى ما يكون قضاء وهو الذي فات وقته فأُدِّيَ بالتطهر، وإلى ما يكون وقته باقياً، وهو المؤدى، هذا كله تقسيم في حق ما يكون واجباً مما يكون مؤدى بالتيمم.
وأما النافلة: فهي على وجهين:
أحدهما: أن تكون تابعة، وهذا نحو ركعتي الظهر وسائر الرواتب التي للصلاة المفروضة.
وثانيهما: أن تكون مستقلة، إما متكررة بتكرير الأعوام كصلاة العيدين، وإما بتكرر الحوادث كصلاة الكسوفين والاستسقاء، وإما غير ذلك، كسائر النوافل المبتدأة في جميع الأوقات ما خلا الأوقات المكروهة، فهذه الصلوات كلها تجوز(1) لأجلها الطهارة وتكون مشترطة فيها، وهذه الأمور كلها نذكر أحكام أدائها بالطهارة، ونورد مسائلها باستقصاء بمعونة اللّه تعالى.
__________
(1) بمعنى: تجب.
---
التقسيم الرابع: باعتبار كيفية استعمال الطهارات
(وينقسم) إلى:
ما يكون الواجب فيه المسح، وهو التيمم كما سنذكر كيفيته، وإلى ما يكون الواجب فيه الغُسْل، وهو الطهارة من الجنابة وطهارة الميت وغير ذلك من الاغتسالات الواجبة.
وإلى ما يجب فيه الأمران، وهو الوضوء، فالغسل في الأعضاء الخمسة والمسح في الرأس.
ثم تنقسم الطهارات إلى:
ما يكون له بدل مشروع، وهذا نحو الوضوء والغسل عند تعذرهما أو عدم الماء، فإن لهما بدلاً وهو التيمم بالتراب.
وإلى مالا يكون له بدل، وهو الطهارات من النجاسات كما سنوضحه.
ثم للطهارات تقسيمات كثيرة باعتبارات مختلفة، ولكنا نقتصر من تقسيماتها على ما أوردناه ففيه كفاية لقصدنا، والله أعلم.
---
المسألة الرابعة: في بيان حكم الطهارة من النجاسات هل تكون معقولة المعنى أم لا؟
اضطرب رأي الخائضين في علوم الاجتهاد في المسائل الخلافية، في أن الطهارة من النجاسة هل يعقل معناها أم لا؟
فالذي ذهب إليه الأكثر من أئمة العترة ومن تابعهم من العلماء من شيعتهم أنها غير معقولة المعنى، ونعني بكونها غير معقولة المعنى، هو أنها مشروعة على جهة التعبد من غير أن يفهم معناها، ومن أجل كون معناها غير معقول، تعين الماء لها، فلا يجوز إزالتها بغير الماء، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه ) وداود وزفر ) ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة.
__________
(1) أبو يعقوب إسحاق بن محمد الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه، ترجم له الشيرازي في (طبقات الفقهاء) ضمن فقهاء خراسان وقال عنه: جمع بين الحديث والفقه والورع، سكن نيسابور ومات بها سنة 238هـ. وسئل عنه أحمد بن حنبل. فقال: ومن مثل إسحاق؟ إسحاق يسأل عنه؟ وقال إيضاً: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين. وقال إسحاق: أحفظ سبعين ألف حديث وأذاكر بمائة ألف حديث، وما سمعت شيئاً إلا حفظته ولا حفظت شيئاً قط فنسيته.
(2) أبو الهذيل زفر بن الهذيل بن قيس بن مسلم العنبري، أحد الفقهاء والعباد. قال ابن حبان في الثقات: كان متقناً حافظاً لم يسلك مسلك صاحبيه، وكان أقيس أصحابه وأكثرهم رجوعاً إلى الحق. ا.هـ، وهو أول من قدم من البصرة برأي أبي حنيفة. توفي سنة 158هـ.، عن ثمانية وأربعين سنة. (مقدمة البحر).
والحجة لهم على ذلك: هو أن الطهارة لا تجب لغير الصلاة ولا يفهم من جهة الشرع وجوب إزالة النجاسة إلا من أجلها، والمعنى الذي من أجله وجبت لأجل الصلاة غير معقول ولا ترشد إليه مخائل المعاني ولا تجري فيه مسالك الأشباه، وفي هذا دلالة على أنها غير معقولة، ويؤيد كونها غير معقولة المعاني، وجوب الاغتسال من المني دون البول والغائط، وهما أكبر وأقذر منه، فدل ذلك على انسداد معانيها بكل حال، ولأن إزالة النجاسة طهارة تراد للصلاة وتقصد من أجلها، فلا يجوز فهم معناها كالوضوء، وإذا كانت غير مفهومة المعنى تعين الماء لها، فلا يجوز إزالتها بغير الماء، وهذه هي الفائدة في كونها غير معقولة المعنى، وزعم أبو حنيفة وأصحابه أن طهارة النجاسة معقولة المعنى، وأن مقصود الشرع منها إزالة عينها واستئصال أثرها، وهذا يحصل بما كان يرفع ويقلع من المائعات كالخل واللبن، فقد حصل معناها المعقول، وإلى هذا ذهب أبو عبدالله الداعي ).
والحجة لهم على ما قالوه: ما ذكرناه من تقرير معناها المعقول من الرفع والقلع، وإذا كان معناها معقولاً وهو حاصل بكل ما كان يرفع أثرها ويزيل عينها من المائعات، فقد تقرر مقصود الشرع بفهم المعنى، وينوي على هذا إزالتها بغير الماء من كل مائع رافع لها.
__________
(1) أبو عبدالله محمد بن الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبدالرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الإمام المهدي بويع له بالإمامة ثم كاتبه أهل الديلم فوصل إليهم سنة 353هـ.، وهو الذي أظهر في الديلم أن كل مجتهد مصيب. وكانت الناصرية تخطئ القاسمية والعكس، فرجعوا إلى قوله بعد مناظرات كثيرة، ولم يزل مجاهداً حتى قبضه اللّه بهوسم مسموماً سنة 360هـ. ومن مشائخه في الفقه: أبو الحسن الكرخي، وفي علم الكلام: أبو عبدالله البصري. (مقدمة الأزهار).
والمختار: ما عول عليه أصحابنا والشافعي ومن وافقهم في كونها غير معقولة المعنى، ومن أجل ذلك تعين لها الماء، ولم يجز إزالتها بغيره من سائر المائعات. ويدل على ذلك أنها جارية على صرف التعبد والاحتكام، فلا تفهم فيها مخائل المعاني وطرقها منسدة فيها، فلا يُضطَرَبُ فيها بالخطوات الواسعة لضيق مسلكها ودقة مجراها، وما هذا حاله فإنه يجب الجمود فيها على حكم الشرع واقتراحه، لما كان معناها غير مُفْهَم فيجب قصر الإزالة على الماء.
الانتصار: يكون بتزييف(1) ما اعتمدوه.
قالوا: الغرض والمقصود هو الإزالة، فتجب إزالتها بكل قالع للأثر.
قلنا: هذا فاسد فإنا لا نُسَلِّمُ أن المقصود هو الإزالة، فإنه قد تجوز الصلاة مع الآثار النجسة وإن بقي أثرها بعد غسلها بالماء كما سنوضح الأمر فيه، ثم إنا وإن سلمنا أن الغرض هو الإزالة، لكن لا نُسَلِّم أنه كل المقصود، بل هو المقصود مع نوع تعبد، كما أن الغرض بالعدة هو براءة الرحم، لكن ليس كل المقصود منها. وإذا كان الأمر كما قلنا من كونها غير معقولة المعنى، وجب تَعَيُّنُ الماء لها، وهذه هي الفائدة بكونها غير معقولة المعنى. والذي يقطع شجارهم ويحسم مادة سعيهم، أنا نقول لهم: إزالة النجاسة لا تجب لغير الصلاة، فأخبرونا عن وجه وجوبها للصلاة.
فإن قالوا: المفهوم من جهة الشرع أن المصلي مأمور بأن يأخذ في الصلاة أبهى زي وأحسن هيئة فهكذا يكون مأموراً بالتنقية من الأقذار والنجاسات أحق وأولى.
قلنا: هذا تكرير للسؤال، فلم تجب التنقية في الصلاة؟ وعنه نسأل.
__________
(1) بمعنى كشف زيف (عدم صحة) ما اعتمدوه.
فحصل من مجموع ما ذكرناه أن اشتراط إزالة النجاسة في الصلاة لا يعقل معناه، بل هو جار على صرف التعبد فهكذا حال النجاسة نفسها لا يعقل معناها. وإذا كان أمرها جارياً على ما ذكرناه من التعبد، وجب تعين الماء لها كما قررناه من قبل، لأجل إشارة ظواهر الشرع إلى قصره على الماء فلا وجه لإعادته، وإزالة النجاسة ليس من قبيل العبادات فلا تكون مفتقرة إلى النية، وتصح تأديتها ممن ليس من أهل العبادة كالكافر والصبي. وإن نوى التقرب بها كان مثاباً على فعلها؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، كما جاء في الحديث، وهو رأي أصحابنا والفقهاء لا يختلفون فيه، والوجه فيه ما أشرنا إليه.
---
المسألة الخامسة: في بيان حكم الطهارة من الحدث هل يعقل معناها في ذلك أم لا؟
ذهب علماء العترة ومتبعوهم إلى أن طهارة الحدث غير معقولة المعنى، وأرادوا بما ذكروه من ذلك هو أنها جارية على صرف التعبد من جهة اللّه تعالى، منسدة عنها مسالك المعاني ومنحسمة فيها طرق القياس، وعن هذا قالوا: إنها مقصورة على الماء بحيث لايقوم غيره في تحصيلها من المائعات مقامه، وبه قال: أبو حنيفة وأصحابه والشافعي ولايختلفون في ذلك.
والحجة على ذلك: هو أن الطهارة من الأحداث مختصة بأوقات وجارية على كيفيات مقررة من جهة الشرع، بحيث لاتهتدي العقول إلى معرفة أسرارها ولاتنتهي إلى غاياتها، فخصها بوقت الحدث دون غيره، وأوجبها في أعضاء مخصوصة عن موضع الحدث، ثم أوجب غسلها من غير نجاسة فيها لأجل نجاسة خارجة من غيرها، ثم أوجب غسل الأكثر منها، ومسح بعضها على هيئة مقدرة وكيفية مرتبة لاتخفى، وكل ماذكرناه من هذه التصرفات الجارية من جهة الشرع، فيها دلالة على أنها جارية على جهة التحكم من غير أن يكون للعقول إليها تطلع في فهم معناها، ومن أجل ذلك احتُكِمَ فيها بأنه لايجرى غير الماء في تأدية المقصود منها مجراه.
وذهب بعض متبعي الشافعي إلى أن طهارة الحدث معقولة المعنى، وزعموا أن الغرض هو تنقية هذه الأعضاء من القاذورات، وعن هذا قالوا: تجوز بغير الماء لَمَّا كان المعنى فيها مفهوماً، كماء الورد وغيره من الأمواء الطاهرة. وحكي عن الأوزاعي ): جواز التوضؤ بجميع الأنبذة بخلاف ماقاله أبو حنيفة فإنه قصره على نبيذ التمر دون غيره من سائر الأنبذة، وقد حكى عنه ابن أبي مريم ): رجوعه عن جواز التوضؤ به.
وحكي عن الحسن بن حي ): جواز التوضؤ بالخل وماء الورد ونحوه.
__________
(1) أبو عمرو عبدالرحمن بن عمرو بن محمد الدمشقي الأوزاعي الحافظ شيخ الإسلام وإمام أهل الشام، وقيل عنه: عالم الأمة وإمام عصره، ولد عام 88هـ، واشتغل بالعلم ودراسة الفقه والحديث حتى أصبح له مذهب مميز في الشام. سكن آخر عمره ببيروت مرابطاً، وتوفي بها ثاني صفر 157هـ. (مقدمة البحر).
(2) أبو رجاء محمد بن أحمد بن الربيع بن سليمان بن أبي مريم الأسواني. قال ابن يونس: كان أديباً فقيهاً على مذهب الشافعي، وكان فصيحاً (وشاعراً) له قصيدة يذكر فيها أخبار العالم وقصص الأنبياء نبياً نبياً، قيل: إنها بلغت ثلاثين ومائة ألف بيت، وأنه قال بعد هذا: بقي عليَّ فيها أشياء احتاج إلى زيادتها، ونظم فيها الفقه وكتاب المزني وكتب في الطب والفلسفة، توفي في ذي الحجة سنة 335هـ (طبقات الشافعية).
(3) أبو عبدالله الحسن بن صالح بن حي الهمداني الكوفي، الإمام القدوة الفقيه العابد. قال أبو زرعة: اجتمع في الحسن بن حي إتقان وفقه وعبادة وزهد، وكان عالماً وصاحب رأي مستقل وزيدياً. وإليه تنسب الصالحية من الزيدية.
والحجة لهم على ما قالوه من كونها معقولة المعنى: هو أن الغرض من الطهارة التنقي عن الأدران، والنظافة عن الأوضار وإزالة الغبرات، ولا شك أن الأعضاء الظاهرة في المهن والتصرفات هي الوجه واليدان إلى المرفقين والقدمان، والإنسان في تصرفاته في مهنه وتقلباته في قضاء مآربه، يصادم الغبرات وتعلق به الأدران، فورد الشرع بغسل هذه الأعضاء على كيفيات مخصوصة وأوقات محددة مقدرة، والرأس لما كان مستوراً بالعمامة غالباً، خفف الشرع وظيفته فجعلها مسحاً. وقرروا هذا الاستدلال بقوله جل جلاله، في سياق آية الوضوء: {وَلَكِنْ يُرِيْدُ لِيُطَهِّرَكُمْ }[المائدة:6]. فأشار بذلك إلى التوقي عن القاذورات والبعد عن مصادمة الغبرات. هذا ملخص ما قالوه في تقرير هذه المقالة.
والمختار: ما عول عليه أصحابنا والفريقان من الحنفية والشافعية: في أن طهارة الحدث لا يعقل معناها، ويدل على ذلك أن الطهارات كما أشرنا إليه، جارية على منهاج العبادات البدنية التي لا يلوح فيها معنى مخصوص ولكنها مشتملة على أمور غيبية استأثر اللّه تعالى بعلمها وأحاط علمه بها.
نعم.. قد يخيل منها معانٍ كلية ومقاصد عامة تحمل على المثابرة على وظائف الخيرات ومجاذبة القلوب بذكر اللّه وصرف النفوس عن المطالب الدنيوية، والحض على أخذ الأهبة لدار الآخرة، وقد أشار إليه بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ }[البقرة:222]. وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ }[العنكبوت:45]. فهذه أمور مفهومة ولكنها غير منحصرة في أنفسها فلا يمكن القياس، ويتعذر استنباط المعاني المختلفة التي يتقرر القياس عليها. وإذا كانت المعاني منسدة طرقها ويصعب جريها فيها بطل استعمال الأقيسة فيها فلا يلحق بها شيء، ويبطل أن يقوم مقام الماء غيره في تأدية العبادات به لانحسام مسالك القياس وجريها على مرارة التعبد، وفي ذلك بطلان ما قالوه. ويؤيد ما ذكرناه، هو أن أبا حنيفة لَمَّا لمْ يَصْفُ له المعنى في طهارة الحدث وافقنا في كونها غير معقولة المعنى، وأن غير الماء لا يقوم مقامه في تأديتها بخلاف طهارة النجس، فإنه قد زعم كونها معقولة المعنى، وأن الغرض القلع للآثار والتنحية لها، وهذا حاصل بما يقلع من المائعات كما أوضحناه من قبل.
الانتصار عليهم: يكون بإبطال ما توهموه.
فأما ما زعموه من المعنى الذي توهموه في إيجاب غسل هذه الأعضاء ومسحها، فهو من الإقناعات التي يقبلها من ليس له قدم راسخة في علم الأصول، وحاصلها خيال منقشع بأدنى مطالبة، ويبطل ما قالوه بما قررناه من قبل من كونها جارية على مذاق التحكمات الجامدة، فلا ينقدح فيها معنى معقول فيقاس عليه، ثم نبطل ما ذكروه بالمعارضة بأمرين:
أحدهما: أنا نقول: لو استقام ما ذكرتموه في الوضوء وأن الغرض به التنقي عن كل ما يعرض من القاذورات والتنزه عنها، لكان يلزم فيمن أسبغ وضوءه وأتمه بكماله ثم عمد إلى تراب فتعفر به وتلطخ بالطين الطاهر ثم صلى وهو على تلك الحالة، أن لا تكون صلاته صحيحة؛ لأن سر الوضوء ومعناه غير حاصل، فلو صح المعنى الذي زعموه لما كانت صلاته صحيحة وهو مخالف للإجماع.
وثانيهما: أن التيمم هو تعفير الوجه بالتراب وإزالة رونقه بملابسته ومسحه به، فلو صح ما ذكرتموه من معنى الطهارة لكان لا وجه لكونه مشروعاً عند عدم الماء؛ لكونه مناقضاً لمعنى الطهارة وسرها.
فهذان الأمران مبطلان لهذه القاعدة التي ذكروها، وتنخل من مجموع ما ذكرناه، أن طهارة الحدث والنجس لا يعقل معناهما، وأن المعنى الذي ذكره أبو حنيفة في طهارة النجاسة وهو القلع، يبطل بما سلمه في طهارة الحدث، فإن التعميم حاصل فيها بماء الورد وقد منع منه، فهكذا يمنع مما كان مانعاً للأثر، ويجب قصرهما على التطهير بالماء كما أشرنا إليه، وممن قال معنا بأنهما لا يعقل معناهما، الشيخ عبدالملك الجويني وتلميذه أبو حامد الغزالي.
فهذا ما أردنا ذكره من المسائل التي اشتمل عليها اللقب في قولنا: كتاب الطهارة.
ونشرع الآن في الأبواب التي اشتمل عليها الكتاب مستعينين بالله وهو خير معين، وجملة ما يشتمل عليه من الأبواب عشرة
---
الباب الأول في المياه
واعلم أن أنظار الفقهاء مختلفة في تقديم الأسبق من أبواب الطهارة في التصانيف،
فمنهم من يقدم الكلام في آداب قضاء الحاجة؛
لأن الطهارة إنما تقصد للصلاة وأول ما يشتغل(1) به الإنسان هو قضاء الحاجة ليحصل بعدها التطهير، وهذه طريقة المحدثين في كتب الأحاديث ويسمونه باب التخلي، وباب الاستطابة، ويعنون به قضاء الحاجة.
ومنهم من يقدم الكلام في الاستنجاء؛ لأن أول التطهير هو الاستنجاء، وهو غسل الفرجين،
وهذه هي طريقة السيد أبي طالب في التحرير(2) وشروحه.
ومنهم من يقدم الكلام في المياه؛ لأن أعظم ما يقع به التطهير هو الماء من بين سائر المطهرات، وهذه هي طريقة أكثر الفقهاء، وهذا هو المختار، لأن الاعتبار بذكر الطهارات المائية هو الذي تكون لأجله تأدية الصلوات في أغلب الحالات، ولأنه أحق المطهرات بالتطهير وما عداه بدل منه، فلهذا كان أحق بالتقديم، والأمر فيه قريب وليس فيه كبير فائدة.
ثم إن الطهارة مختصة بالماء من بين سائر المائعات، أما في طهارة الحدث فهو رأي أصحابنا والفرق الثلاث الشافعية والحنفية والمالكية، خلافاً لشذوذ(3) من الفقهاء، وطوائف قد ذكرناهم من قبل، وأما في طهارة النجس كما رأى أصحابنا والشافعي ومالك خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه.
وجهة اختصاصه بذلك من وجهين:
أما أولاً: فمن أجل كونه مختصاً بنوع من اللطافة والرقة وتفرده بتركيب لا يشاركه فيه غيره من الجوهرية والصقالة.
__________
(1) في الأصل: (يستعمل) استبدلنا (يشتغل) بها لعدم تناسب الأولى مع موضوعها، ولعله خطأ من الناسخ.
(2) كتاب معروف في الفقه. (وهو تحت الطبع).
(3) شذوذ هنا، جمع شاذ. وهي صيغة يجتمع فيها المصدر وجمع المذكر المكسر. مثل حضور.
وأما ثانياً: فلأنه تعبد في صفة لا يعقل معناه، وهذا هو الأقوى كما مر تقريره، ودليله ماورد من الإشارات الشرعية بكونه مطهراً وانحصار التطهر به، كقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}[الأنفال:11].
وقوله عليه السلام: (( خلق الماء طهوراً ))
إلى غير ذلك من الظواهر الشرعية الدالة على التعبد في التطهير به من سائر المائعات.
فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر تقسيم الأمواء، ثم نردفه بذكر ما يجوز الوضوء به وما لا يجوز، ثم نذكر كيفية الاجتهاد عند الشك في طهارة الماء ونجاسته، ثم نذكر حكم الآنية في الاستعمال، فهذه فصول أربعة:
---
الفصل الأول: في بيان تقسيم الأمواء
وهي منقسمة إلى طاهرة، ونجسة، ومستعملة، فهذه أقسام ثلاثة:
---
القسم الأول: في بيان الأمواء الطاهرة
مسألة: كلما بقي على الخلقة من سماء أو نهر أو بئر أو برد أو ثلج أو بركة أو مستنقع للماء، فما لم تلاقه نجاسة أو تغلب عليه أو يكون مستعملاً في الطهارة، فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، ولا يعلم خلاف في هذه الجملة.
أما ماء السماء فالحجة على طهارته: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِرَكُمْ بِهِ}[الأنفال:11].
وأما ماء الأنهار فالحجة عليها: ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي ً أنه قال: (( الماء طهور لا ينجسه شيء )) ولأنه ماء لم يشبه شائب فجاز التطهر به كماء السماء.
وأما ماء الأبار فالحجة فيه: ما روي عن النبي ً، أنه توضأ من بئر بضاعة.
وأما البَرَدُ والثلج. فالحجة فيه: ما روى أبو هريرة، قال: كان رسول اللّه ً. يقول في سكوته بين التكبير والقراءة: (( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقني من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني بماء البَرَد والثلج )) (1). فلولا أنهما مطهران لما جاز الغسل بهما(2).
وأما البُرُك والمستنقعات وغيرهما من الأمواء الطاهرة؛ فالحجة على طهارتها: عموم الآية التي تلوناها، والخبر الذي رويناه، فأغنى عن إفرادهما بالذكر.
__________
(1) موضوعه الدعاء في الصلاة.
(2) ظاهر الدعاء الشريف أنه استخدم لفظي (البرد والثلج) للمجاز. وهذا قد ينأى بهما عن موضع الاستدلال على جواز التطهر بهما. ثم إنهما ماء تجمد، فأصلهما ماء ولا يمكن التطهر بأيهما إلا بعد أن يعود إلى الماء بتحوله إلى السيولة، من ثم فهما داخلان في حكم الماء وليسا بحاجة إلى حكم واستدلال خاصين بهما.
فأما البَرَدُ والثلج والماء إذا صار صروفاً جامداً، فإذا توضأ به متوضئ نظرت، فإن كانت جامدة على حالها لم يكن التوضؤ بها؛ لأنها يستحيل جريها على الأعضاء، فلا يكون فيها غسل، وإن مسح بها رأسه أجزأه في المسح من جهة أن المسح يكفي به إصابة البلل وهو حاصل فيها، وإن كانت ذائبة أو رخوة بحيث تكون جارية على الأعضاء، جاز التوضؤ بها؛ لأن المقصود من الغسل حاصل بها كالماء. وحكي عن الأوزاعي: جواز التوضؤ بماء البَرَدِ والثلج والجامد وهي على حالها في الجمود إذا أمرَّها على العضو المغسول، وما قاله فاسد بما قررناه، ولأنها جامدة صلبة فلا يجوز التوضؤ بها كالأحجار والخشب، وما قلناه في هذه القاعدة هو قول أئمة العترة والجماهير من الفقهاء لا يختلفون فيه.
مسألة: وهل يجوز التطهر بماء البحر أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يجوز التطهر به، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الصدر الأول من الصحابة رضي اللّه عنهم ورأي الفرق الثلاث: الحنفية والشافعية والمالكية.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي اللّه عنه من الحديث الذي قدمنا ذكره، وهو قوله: (( هو الطهور ماؤه والحل ميتته)) لما سئل عنه، وما رواه أيضاً أبو هريرة عن الرسول ً أنه قال: (( من لم يطهره البحر فلا طهره الله ))(1).
__________
(1) ذكره في موسوعة أطراف الحديث للدارقطني في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى. ا.هـ. وحكاه في البحر عن الانتصار.
وثانيهما: ما روي عن عبدالله بن عمر )، وعبدالله بن عمرو بن العاص )، أنهما قالا في ماء البحر: التيمم أعجب إلينا منه. وحكي عن سعيد بن المسيب (3) أنه قال: إذا ألجئت إليه فتوضأ منه. وروي عن عبدالله بن عمر أنه قال: تحت بحركم هذا نار، وتحت النار بحر حتى عدد تسعة أبحر وتسعة أنور(4). وكلامهم هذا دال على
__________
(1) أبو عبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب، القرشي، العدوي، أسلم في مكة مع إسلام أبيه وهو ابن عشر، وشهد الخندق وما بعدها من المشاهد، وكان زاهداً، عابداً، يروى عنه أنه قال: ما ندمت على شيء مثل ندمي على قتال الفئة الباغية (مع الإمام علي)، مات بمكة سنة 73هـ وهو ابن 84 سنة. وهو من أشهر رواة الحديث ومن أصحاب الألوف. روى له الستة. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب).
(2) أبو محمد عبدالله بن عمرو بن العاص السهمي القرشي، عالم، فقيه، أحد المكثرين. قيل: أسلم قبل أبيه. روى عن النبي ً وعن كثير من الصحابة. وتوفي عن 72 سنة (تراجم در السحابة 791. د. حسين العمري).
(3) أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر. قال في الطبقات: كان سيد التابعين من الطراز الأول، حدث عن علي عليه السلام وأبي ذر وسلمان، وروى عن أبي بكر مرسلاً، وعن عمر وعثمان وابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وأبي هريرة، وعائشة وأسماء بنت عميس، وغيرهم كثير. وعنه ابنه محمد وسالم بن عبدالله والزهري وآخرون. قال قتادة: ما رأيت أحداً قط أعلم بالحلال والحرام منه، ولما بايع عبدالملك بن مروان لابنيه الوليد وسليمان أبى سعيد أن يبايع فضربه هشام المخزومي ثلاثين سوطاً وألبسه ثياباً من شعر وسجنه. توفي سنة 94هـ، وقد ناهز الثمانين. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب، الطبقات).
(4) الظاهر من السياق أن الكلام لعبدالله بن عمر، وفي المضمون ما يحتمل أن يكون رواه مرفوعاً.
كراهة استعماله للطهارة، وعلى أنه لا يجوز التطهر به إلا عند الضرورة.
والمختار: ما قاله أصحابنا، وهو الذي عليه الجلة من الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وتدل عليه الظواهر القرآنية والأخبار المروية في الأمواء، فإنها دالة بظواهرها على جواز استعماله في التطهر، فأما ما روي عن ابن عمر فإنه يحمل على أنه يصير يوم القيامة ناراً، ويصدقه قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ }[التكوير:6]. أراد: أُحْمِيَتْ، ومنه تسجير التنور إذا كانت محماة(1)، أو يحمل على أن البحر مهلكة كما أن النار مهلكة.
فإن قال قائل: فهل ينعقد الإجماع بعد هؤلاء الثلاثة على جواز التطهر بماء البحر فلا يجوز لأحد أن يذهب إلى قولهم، أو تكون المسألة خلافية فلا ينعقد الإجماع مع مخالفتهم؟
جوابه: أن قوماً من الأصوليين زعموا أن الإجماع ينعقد بعدهم، وأنه لا يجوز العمل على قول من خالف بعد إجماع مَن بَعْدَه على خلاف قوله، وهذا فاسد، فإن الإجماع منعقد على جواز الأخذ بقول كل واحد ممن خالف في هذه المسألة، فلو انعقد الإجماع من بعدهم لحرم اتباعهم، وفي ذلك تناقض الإجماعين فلهذا نقول: فلو أجمع من بعدهم فلا يكون إجماعاً؛ لأن الإجماع صادر عن بعض الأمة، بالإضافة إلى هذه المسألة، فلا جرم كان الحق جواز العمل على قول من سبق ولا ينعقد الإجماع على مخالفته.
__________
(1) المعروف أن (التنور) يلفظ مذكراً، كما في قوله تعالى: {وَفَارَ التَّنُّور}.
مسألة: ذهب علماء العترة وفقهاء الأمة: أبوحنيفة وأصحابه و الشافعي وأصحابه وغيرهم من العلماء إلى أن الماء إذا خالطه شيء يُتَطَهَّر به، وتغير به فإنه لا يخرجه عن كونه طاهراً يُتَطهر به، وهذا نحو الملح البحري فإن أصله ماء، لكنه انعقد فصار كالملح إذا ذاب، وكالماء الجامد إذا خالط ماء آخر، وكالتراب إذا خالط الماء فإنه لا يخرجه عن كونه طهوراً مع تغيره، فإن طرح التراب في الماء لم يؤثر فيه وكان طهوراً كما كان قبل اتصاله فيه؛ لأنه يوافق الماء في كونه طهوراً.
والحجة على ذلك: ما ذكرناه من الظواهر الشرعية، من جهة الكتاب والسنة فإنها دالة على جواز التطهر بما هذا حاله من الأمواء، ولا يُعْرَفُ فيه خلاف بين الأمة.
وإن خالطه طاهر لا يُتطهر به ولم يكن مغيراً لشيء من أوصافه نظرت، فإن كان عدم تغيرها لأجل قلته(1)، لم يمنع التطهر به عند أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، ولا يعرف فيه خلاف، كقطرة ماء ورد وزعفران لا يظهر عليه أثر لقلته، أو غير ذلك من المائعات الطاهرة التي هي غير مغيرة له، من جهة أن الماء باق على إطلاقه فكان مندرجاً تحت الظواهر الشرعية الدالة على أن ما هذا حاله فإنه يكون طاهراً مطهراً.
وإن كان عدم تغيره لموافقته لما في طعمه ولونه ورائحته كماء ورْدٍ انقطعت رائحته، فالذي عليه أئمة العترة وهو أحد قولي الشافعي وبه قال أبوحنيفة وأصحابه: أنه إذا كانت الغلبة للماء جازت الطهارة به.
والحجة على ذلك: هو أن اسمَ الماء المطلق جارٍ عليه فلأجل هذا جاز كونه طاهراً يُتَطَهَّر به.
وإن كانت الغلبة للمخالط لم تجز الطهارة به لزوال اسم الماء عنه.
__________
(1) أي: لقلة المخالط.
وللشافعي قول آخر، وحاصله: أنه إذا كان قدراً لو كان مخالفاً للماء في صفاته لم يغيره، لم يكن مانعاً للتطهر به، وإن كان قدراً لو كان مخالفاً له غَيَّره، فإنه يكون مانعاً عن التطهر به؛ لأنه لما لم يكن اعتباره بنفسه لأجل مماثلته للماء ومشاكلته له فيما ذكرناه من الأوصاف، اعتبر بغيره كما نقول في الجناية التي ليس لها أرش مقدر على الحر لما لم يكن اعتبارها بنفسها، اعتبرت بغيرها. إما بتقريبها من الموضحة وإما بحال الجناية على العبيد كما سنقرره بمعونة اللّه في الجنايات. والتفرقة بين الضبطين في الوجهين ظاهرة، فإن الأول اعتبار بحال نفس الماء من كونه غالباً أو غير غالب، بخلاف الثاني فإنه يعتبر بخلاف غيره، وهو الأمر المخالف للماء.
والمختار: ما قاله أصحابنا في الضد بخلاف نفسه؛ لأن حال نفس الماء في الغلبة وعدمها أخص من حال غيره وأمس للمقصود، فلهذا كان التعريج عليه أكثر.
مسألة: وإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو ريح نظرت، فإن كان من الأمور التي لا يمكن صون الماء عنها كالتي تكون في أصله كالنورة والزرنيخ والشب والكحل والطحلب وغير ذلك(1)، فما هذا حاله يجوز التطهر به عند أئمة العترة وهو قول الفقهاء ولا يعرف فيه خلاف.
والحجة عليه: أن مثل هذا يتعذر صون الماء عنه فرفع حكمه كالنجاسة اليسيرة وكالعمل القليل في الصلاة، ولأن اجتناب هذا يكون فيه حرج ومشقة، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78]. ولأنه يعسر تجنبه، وقد قال ً: (( بعثتُ بالحنيفية السمح ة ))(2).
__________
(1) النورة: الجص. والشب: بشين معجمة مفتوحة فباء موحدة تحتانية مضعفة وهو ملح معدني. والطحلب: الذي يطفو على الماء نتيجة طول مكثه وركوده. والزرنيخ: مادة سامة تختلط مع الكلس وتستخدم لحلق الشعر.
(2) أورده ابن الأثير في النهاية ج1/451.
وإن كان المغير من الأشياء التي يمكن صون الماء عنها كالزعفران وماء الورد الذكي في الرائحة والحنا والعصفر والأشنان(1) وغير ذلك من الأمور المغيرة لأوصافه وإن لم تكن غالبة عليه، فهل يجوز التطهر به أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا يجوز التطهر به، وهذا هو قول بعض أئمة العترة ومحكي عن الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس مطهراً مع استغناء الماء عنه فلم يجز التطهر به كماء اللحم وماء الباقلا.
فقولنا: بالمخالطة. نحترز به عما ليس مخالطاً ولكنه مجاور كالماء المبخر بالعود والعنبر.
وقولنا: ما ليس مطهراً. نحترز به عما إذا خالطه التراب والملح البحري، فإنه لا يمنعه من التطهير مع تغيره.
وقولنا: مع استغناء الماء عنه. نحترز به عما إذا تغير الماء بما في أصله ومقره مما يتعذر صونه عنه، فإنه لا يمنع من تطهيره.
وثانيهما: أنه يجوز التطهر بما هذا حاله، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه ومحكي عن الإمامين: القاسم بن إبراهيم والمنصور بالله عبدالله بن حمزة ).
__________
(1) الأشنان: جمع شَنّ. وهو الأديم من جلود الحيوانات.
(2) أبو محمد الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان بن علي بن حمزة بن أبي هاشم الحسني القاسمي، ولد بعيشان سنة 561هـ ونشأ نشأة عظيمة في العلم والزهد والورع، وله مؤلفات تنوف على الأربعين وأشهرها: (الشافي)، وهو من أشهر المؤلفات. وهو شاعر وأديب، برع في علوم شتى، واشتهر بالشجاعة والفروسية. قال عن نفسه في (الشافي): أنا أحفظ خمسين ألف حديث. بويع له سنة 594هـ على خلاف في ذلك. وتوفي محصوراً في كوكبان سنة 614هـ، ودفن بها ثم نقل إلى ظفار المطل على ذيبين. (مقدمة الأزهار، والبحر).
والحجة لهم على ذلك: هو أن المغير إذا لم يكن غالباً للماء فالحكم للماء فصار كاليسير الذي لم يغيره من هذه الأشياء؛ لأن اليسير إنما لم يكن له حكم لما كان الماء غالباً له فهكذا حال الماء إذا تغير وكان غالباً جاز به التطهر.
والمختار: ما قاله أصحاب أبي حنيفة وما قاله الإمامان القاسم والمنصور بالله، من أن الطاهر إذا كان مخالطاً للماء غير غالب له، فإنه يجوز التطهر به؛ لأنه إذا كان غير غالب له فإطلاق اسم الماء باق عليه، ولأن الإجماع منعقد في المخالط إذا لم يظهر له أثر فلا عبرة به، كاليسير من الزعفران الذي لا يظهر له أثر في الأوصاف الثلاثة، فهكذا المخالطة وإن ظهر أثرها فلا حكم له إلا أن يكون غالباً، فإن كان المغير الطاهر غالباً على الماء في الكثرة لم يجز التطهر به عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه و الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن التطهير إنما يكون متعلقاً باسم الماء، وفي هذه الصورة قد زال عنه اسم الماء لَمَّا كان غالباً عليه، فأما قول أصحابنا والشافعي: أنه قد خالطه ما ليس مطهراً، فلا يجوز التطهر به كماء الباقلاء.
قلنا: هذا غير مُسَلَّم، فإنا ننكر أن يكون مطلق المخالطة مانعاً من التطهر، بدليل أن اليسير مما يكون مخالطاً لا يمنع وإنما المانع هو الغلبة لغير الماء فهي المانعة، ولهذا لم يجز التطهر بماء اللحم وماء الباقِلاء لما كانا غالبين للماء فافترقا، والباقِلاء - هو حب الفول -، فإذا شُدِّدت لامه فهو مقصور، وإذا خُفِّفَ فهو ممدود، هكذا قاله الجوهري.
مسألة: والماء إذا خالطه شيء من الأشياء الطاهرة فغيَّر أوصافه أو بعضها كالقَرَضِ(1) والحِنَّا والأشنان والدقيق وغير ذلك، حتى صار غالباً عليه فإنه لا يجوز التطهر به كما أسلفنا تقريره، لخروجه عن كونه ماء، ويجوز شربه واستعماله في العجين وعقد الأدوية وغير ذلك، عند أئمة العترة وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك، ولا يعرف فيه خلاف.
والحجة على ذلك: هو أن المأخوذ فيما يجوز شربه ليس إلا كونه طاهراً لا يضر من شربه.
وقولنا: طاهر. نحترز به عن سائر النجاسات فإنه لا يجوز شربها.
وقولنا: لا يضر [من شربه]. نحترز به عن السمومات فإنه يحرم(2) تناولها كما نقرره في الأطعمة بمعونة اللّه تعالى، ولقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوْا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيْمَاً }[النساء:29] وما ذكرناه ليس فيه واحد من هذين الأمرين، فلهذا جوزنا شربه واستعماله فيما ذكرناه، بخلاف التوضؤ به والغسل، فإن التعبد وارد في التطهير أن يكون بالماء منحصر فيه كما مر تقريره فافترقا.
وإن وقع في الماء مالا يختلط به فغير رائحته كالدهن المطيب والعود والكافور، فهل يجوز التطهر به أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: يجوز التطهر به، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن هذا التغير إنما كان بالمجاورة دون المخالطة فلهذا لم يكن مانعاً من التطهر به؛ لأن ما يعبق به من الرائحة إنما هو على جهة الانفصال.
وثانيهما: أنه لا يجوز التطهر به، وهذا هو الذي حكاه البويطي عن الشافعي، والأول حكاه المزني عنه.
والحجة فيه: هو أنه ماء متغير فلا يجوز الوضوء به كما لو تغير بما يخالطه كالزعفران.
__________
(1) القَرَض: بفتحتين على القاف والراء، وهو ورق شجر القرض أو الغضا، تدبغ به الجلود.
(2) في الأصل: لا يحرم تناولها، وهو خطأ واضح لعله من النسخ.
والمختار: ما قاله أصحابنا وأبوحنيفة، وهو رواية المزني؛ لأن أصل الماء باق على التطهير فهو الأصل فيه وما عرض فيه غير مغير لهذا الحكم وما علق به في حكم المزايل له، فلهذا قضينا بكونه طاهراً مطهراً.
قال السيد المؤيد بالله: والقمقم إذا سُخِّن فيه الماء فوجدت فيه رائحته فإنه لا يضره؛ لأنه ليس مما يخالط أجزاءه الماء، وكذلك الكوز الذي توجد فيه رائحة المثلث، فإنه لا يضر الماء بعدما غسل ولا بأس به لأن ذلك للمجاورة لا للمخالطة.
وإن تغيرت رائحة الماء برائحة ميتة بقربه، فإن ذلك لا يخرجه عن كونه مطهراً عند أئمة العترة وهو قول الفقهاء: أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، ولا يعرف فيه خلاف، لأن تلك الرائحة إنما كانت على جهة المجاورة دون المخالطة؛ لأنها غير متصلة به على جهة المخالطة فتكون مانعة عن تطهيره.
مسألة: وإذا أخذ الطحلب وجُفف ثم دُق ووضع في الماء فتغير به، وهكذا حال الزرنيخ والشب والكحل، فإن هذا الأشياء إذا خالطت الماء وغيرته فإنه لا يجوز التطهر به عند أئمة العترة وجميع الفقهاء؛ لأن تغييرها إنما يكون مغتفراً إذا كانت حاصلة في المنابع بحيث لا يمكن الاحتراز منها، وهكذا يكون حال الطحلب فإنه يغتفر تغير الماء به إذا كان نابتاً فيه، وأما إذا كانت منفصلة عنه ثم خالطته، فإنما يصير كالزعفران والعصفر(1) في تغير الماء وانفصالها عنه، بخلاف التراب فإنه سواء كان في مقره أو ممره أو حمل إليه فتغير به فإنه لا يضر التطهر عند أئمة العترة وفقهاء الأمة.
__________
(1) الزعفران: مسحوق أحمر كان يخلط به الماء ليزيل منه السموم ويطيب رائحته. جاء في القاموس: الزعفران: م (مُعَرَّب) وإذا كان في البيت لا يدخله سام أبرص، ومن الحديد صدؤه، جمعه: زعافر. وزعفره: صبغه به. ا.هـ.
والعصفر: بالضم نبت يهرئ اللحم الغليظ وبزرة القرطم. وعصفر ثوبه: صبغه به فتعصفر. ا.هـ. قاموس.
والحجة على ذلك: هو أن المعلوم من حال السلف أنهم كانوا لا يحترزون عن الأمواء التي يختلط بها التراب ولا يتصونون عنها.
وقد حكي عن بعض الفقهاء أنه إذا حمل على الماء على جهة القصد فتغير به أنه لا يجوز التطهر به، وهذا لا وجه له لما ذكرناه من عادة السلف؛ ولأن اتصاله إنما يكون على جهة المجاورة دون المخالطة ولهذا فإنه يرسب في القرار ويصفو الماء عليه.
والمختار: هو الأول من قول العترة وفقهاء الأمة؛ لأن التراب طهور في نفسه، لقوله ً: (( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )) (1). فاتصاله بالماء إن لم يزدهُ قوة في التطهير لم يزدهُ ضعفاً.
وإن تغير الماء بطول المكث فهو طاهر مطهر، هذا هو قول أئمة العترة وفقهاء الأمة ، ولا يعرف فيه خلاف.
ووجهه: هو أن الماء باق على أصل التطهير والطهارة في نفسه ولم يعترض له ما يخرجه عن ذلك بمخالطة ولا ممازجة يغير حكمه، فلهذا وجب الحكم عليه بما ذكرناه من الطهارة.
مسألة: وإن تناثرت أوراق الشجر في الماء فتغير بها بعض أوصافه، ففيه مذاهب ثلاثة:
__________
(1) والحديث: عن جابر قال: قال رسول اللّه ً: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )) رواه البخاري ومسلم. وجاء الحديث في مجموع الإمام زيد عن علي عن النبي ً: ((أعطيت ثلاثاً لم يعطهن نبي قبلي: جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا..إلخ )).
أحدها: أنه تصح الطهارة به، وهذا هو الذي رواه الفقيه محمد بن منصور الكوفي ) عن السلف، وارتضاه الإمام أبوطالب وهو أحد أقوال الشافعي.
والحجة على هذا: أن الأوراق [هي] مما لا يمكن صون الماء عنها ويتعذر الاحتراز منها، فجرت مجرى أصول الأشجار والطحلب وغيره مما لا يمكن صون الماء عنه، ومما يكون في مقره وممره.
الثاني: أنه لا يصح التطهر به، وهذا هو الذي ذكره السيد المؤيد بالله وعول عليه الأكثر من أصحابنا، وأحد أقوال الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله مانع طاهر اختلط به فمنع كونه طهوراً كما لو خالطه الأشنان والصابون، وهذا إذا كانت مما ينعصر في الماء لرطوبتها، فإنها تكون مانعة، فإن كانت مما لا ينعصر كاليابسة لم يمنع التطهر به.
المذهب الثالث: التفصيل، وهو أنه يُنْظَر، فإن كانت من أوراق الربيع فإنه لا يجوز التطهر به؛ لأنه قليل يمكن صون الماء عنه، وإن كان من ورق الخريف فلا بأس؛ لأنه يكثر ويتعذر صون الماء عنه، وهذا ذكره بعض أصحاب الشافعي.
__________
(1) محمد بن منصور بن يزيد المرادي الكوفي أبو جعفر مؤرخ محدث مفسر، من فقهاء الزيدية وهو جامع أمالي الإمام أحمد بن عيسى بن زيد المعروف، وله كتاب (الذكر) تحت التحقيق، وله التفسير الكبير والتفسير الصغير، وهو أحد الأئمة الخمسة في الحديث عند الزيدية. تعمر طويلاً قيل: 150سنة، ومات سنة 290هـ. (انظر طبقات الزيدية (خ)، الجداول (خ)، لوامع الأنوار، فهرست ابن النديم ص244. وغيرها).
والمختار في ذلك: أنه ينظر، فإن كان المتغير من الماء بمخالطة الأوراق هو لونه وطعمه لم يجز التطهر به؛ لأن ما هذا حاله يكون مخالطاً ممازجاً للماء، وإن تغير بالرائحة فما هذا حاله يكون مجاوراً فيجوز التطهر به، فتغيره باللون والطعم ينزل منزلة تغيره بالخل واللبن في المخالطة، وتغيره بالرائحة بمنزلة تغيره بالعنبر والمسك في المجاورة دون المخالطة، وإلى ما اخترناه يشير كلام المؤيد بالله حيث قال: إذا تغير لون الماء بعمى البيت(1) من الدخان ونحوه فإنه لا يتطهر به، لأنه تغير باختلاط؛ لأن تغير اللون يبعد أن يكون من غير اختلاط، ولأن أصل الماء على الطهارة والتطهير فلا يمكن قطع كونه مطهراً إلا بخروجه عن كونه ماء، وهذا لا يمكن إلا لأجل المخالطة، فلا جرم كانت التفرقة هي الوجه المختار.
مسألة: والملح إذا طُرِحَ في الماء فتغير به أحد أوصافه، ففيه احتمالات ثلاثة:
أحدها: أنه يصح التطهر به، والحجة أن كل ملح فهو منعقد من الماء في الأصل، فلهذا لم يفترق الحال فيه بين أن يكون بحرياً أو جبلياً في أنه غير مغير للماء.
وثانيها: أن كل واحد من المِلْحَين مغير للماء؛ لأنه قد خرج عن صفة الماء فصار كالزعفران والأشنان، فلهذا كان مغيراً بالمخالطة.
__________
(1) هكذا في الأصل.
وثالثها: التفرقة بين الملحين، فإن كان بحرياً لم يمنع التطهر به، وإن كان جبلياً فهو مانع للتطهر به، وهذا هو المختار كما مر تقريره؛ لأن ما كان بحرياً فهو ماء في الأصل فينزل منزلة الثلج إذا ذاب(1)، وإن كان جبلياً منع من التطهر، لأنه بمنزلة الأشياء الطاهرة إذا كان الماء متغيراً بها في منع التطهر به، وقال الشافعي في (الأم): والقطران(2) يجوز التطهر به، ثم قال بعد ذلك: إنه مانع من التطهر به.
والمختار فيه: تفصيل نشير إليه وهو أن ما كان اتصاله بالماء على جهة المخالطة فإنه مانع من التطهير، وما كان اتصاله بالماء على جهة المجاورة فإنه غير مانع للطهارة.
ووجه التفرقة التي ذكرناها: تكون إما باعتبار حالين: وهو أن القطران جنس واحد خلا أنه ربما اشتد اتصاله بالماء حتى صار مخالطاً فلهذا منع التطهر به، وربما لم تشتد مخالطته فكان مجاوراً فجاز التطهر به.
وإما باعتبار جنسين، وهو أن من القطران ما يرق فيخالط وربما غلظ فكان مجاوراً.
__________
(1) لا يظهر وجود تشابه بين الملح البحري والثلج من حيث أن أصلهما من الماء؛ لأن الملح يتكون من عدة عناصر توجد في ملوحة الماء تحولت بتفاعلها إلى مادة صلبة لا تذوب بذاتها منفصلة عن الماء، بينما الثلج ماء تجمد يعود إلى السيولة بمجرد ارتفاع درجة الحراة في محيطه، فافترقا.
(2) القطران: سائل أسود معروف يستخرج من جذوع بعض الأشجار عند حرقها. وفي لسان العرب: وفي التنزيل العزيز: {سَرَابِيلُهُم مِن قَطِرَانٍ}. قيل والله أعلم: إنها جعلت من القطران، لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود. وقرأها ابن عباس {مِن قِطْرٍ آنٍ}. والقطر: النحاس. والآني: الذي انتهى حرُّه. والقطران اسم لرجل سمي به، لقوله:
أنا القطران والشعراء جربى وفي القطران للجربى هناء
انتهى بلفظه.
والحجة في ذلك: هو أنه إذا صار مخالطاً فالمخالطة مخرجة له عن اسم الماء، و إذا صار مجاوراً فالمجاورة لا تخرجه عن صفة الماء، فلهذا كان الاعتبار في جواز التطهر وعدمه، إنما يكون بالمخالطة والمجاورة كما أوضحناه.
مسألة: كل ما جاز التطهر به من الأمواء جاز إزالة النجاسة به عندنا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، ودليله ما مر فلا نعيده. وكل ما تزال به النجاسة من المياه فإنه يجوز التطهر به عند أئمة العترة، وهو محكي عن الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن كل واحد منهما طهارة تراد للصلاة تعبدية لا يعقل معناها فكانت مقصورة على الماء لما حكيناه من الظواهر الشرعية خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه فإنهم زعموا إزالة النجاسة بغير الماء مما يكون قالعاً مزيلاً لها كالخل واللبن، والتطهر بنبيذ التمر ليس من جهة كون طهارة الحدث معقولة المعنى عندهم، كما زعموه في طهارة النجاسة، ولكنه جائز بتخصيص الخبر له، ولهذا قصروه على نبيذ التمر دون غيره من الأنبذة، فصارت الأمواء الطاهرة على ثلاثة أضرب نفصلها:
الضرب الأول منها: الماء القراح الباقي على أصل خلقته لم يشبه شائب ولا غيره مغير في عينه ولا حكمه، كالمياه النازلة من السماء وماء العيون والأنهار وأمواء البحار وغير ذلك مما يشاكلها في الصفاء والرقة، وقد قررنا أدلة كونها طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها فأغنى عن الإعادة.
الضرب الثاني: ما تغير وصفه عن أصل خلقته ولكنه يعد يسيراً لا يوجب إزالة اسم الماء المطلق عليه، فما هذا حاله فهو طاهر مطهر لغيره كالماء المتغير بطول المكث والمتغير بزعفران يسيرٍ أو صابون أو أشنان، بحيث لا يظهر أثره عليه، وهكذا حال ما تغير ريحه بالعود والعنبر والكافور، أو كان في مقره أو ممره كالزرنيخ والكحل كما مر تفصيله.
الضرب الثالث: ما تفاحش تغيره بمخالطة غيره من الأشياء الطاهرة بحيث لا يطلق اسم الماء عليه، فإن استجد إطلاق اسم الماء عليه لم يجز التطهر به، كالمرق والنيل والنقم(1) في طهارة الحدث ولا في طهارة النجس إجماعاً بين أئمة العترة وفقهاء الأمة لخروجه عن صفة المائية، وإن لم يستجد اسماً منفرداً يطلق عليه ولكنه خالطه وسواء غلب عليه أو لم يغلب، فلا يجوز التطهر به عند الأكثر من أئمة العترة و الشافعي، خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه، فقالوا: يجوز التطهر به إذا لم يكن غالباً عليه، وهو المختار كما أوضحناه من قبل، وقد فصلنا هذه الجملة وأوردنا ما تحتمله من المسائل المفصلة والله الموفق للصواب.
__________
(1) النقم: بضمتين على النون والقاف، شجر يظهر له ثمر كثمر الحنظل إلا أنه أصغر حجما منه.
---
القسم الثاني: في بيان الأمواء النجسة
إذا وقعت النجاسة في الماء فغيرت ريحه أو لونه أو طعمه، فإنه يكون نجساً قليلاً كان أو كثيراً، عند أئمة العترة، وهو قول الفرق الثلاث: الحنفية والشافعية والمالكية.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً أنه كان يتوضأ من بئر بضاعة (بضم الباء، فالضاد المعجمة والعين المهملة، بئر في المدينة)، فقيل: يا رسول اللّه إنك تتوضأ من بئر بضاعة وإنه يطرح فيها المحايض ولحوم الكلاب وعذر الناس. (والمحايض: خرق الحيض، والعذر: جمع عذرة، وهو ما يخرج من أدبار بني آدم). فقال رسول اللّه ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء، إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه )). فنص عليها جميعاً فلا حاجة إلى القياس مع هذا.
ووجه الدلالة: أن الرسول ً، أوجب للماء أنه خلق على الطهارة، وحصر نجاسته على تغير أحد هذه الأوصاف الثلاثة، فدل ذلك على أن النجاسة متعلقة بها.
فإن قال قائل: كيف يُطْرَحُ ذلك في بئر يتوضأ منها رسول اللّه ً وحرمته أجل وأعلى من أن يفعل ذلك في حقه؟
وجوابه: من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فيحمل [على] أن البئر كانت في موضع منخفض من الأرض، وكانت السيول تحملها إليها لقربها من مجراها.
وأما ثانياً: فيحتمل أن يكونوا طرحوها قبل أن يتوضأ منها ولم يعلموا منه نهياً في ذلك.
وأما ثالثاً: فيحتمل أن الذي فعل ذلك أهل النفاق من اليهود وغيرهم لما يحملون عليه من العداوة.
دقيقة: اعلم أن اللون والطعم والرائحة أعراض مدركة موجودة بمحالها على جهة الحلول، واتصالها بالماء لا يكون إلا على جهة المجاورة.. أجزاؤها لأجزاء الماء لاستحالة الانتقال على الأعراض، وإذا كان الأمر فيها كلها على ما ذكرناه من المجاورة ولا يعقل خلاف ذلك فيها، فلا معنى لكلام الفقهاء أن الرائحة إذا كانت مجاورة فإنها لا تنجس كغدير بجنبه ميتة عبق بمائه منها رائحة، بخلاف ما لو كانت فيه فإنها تنجسه لو كانت مخالطة له، وهكذا حال الزعفران إذا ذيف(1) في الماء فإنه ينجسه إذا كان نجساً لما كان مخالطاً، فإذاً لا تعقل في اتصالها بالماء إلا على جهة المجاورة، و إذا كان لا يعقل فيها إلا المجاورة فلا وجه لتقسيمها إلى ما يجاور فلا ينجس ما كان مجاوراً له، وإلى مخالط ممازج، فينجس ما اتصل به.
__________
(1) ذيف: خلط، في أحد معانيها كما في اللسان ملخصاً.
فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن غرض الفقهاء بما قالوه مع التسليم في أنه لا يعقل في اتصاله بالماء إلا على جهة المجاورة ويستحيل عليها الانتقال، فعلى هذا تكون التفرقة بين المجاورة والمخالطة، هو أن المجاورة عبارة عن الاتصال بالماء مع حصول الخلل بين الأجزاء، ومن أجل ذلك قالوا: بأن اتصال النجاسة بالماء على جهة المجاورة لايوجب تنجيسه بخلاف المخالطة فإن اتصال أجزاء النجاسة بالماء على جهة المخالطة اتصال من غير أن يكون هناك خلل بينهما، بل هو جار على جهة الالتصاق. وعن هذا قالوا: بأن المخالطة توجب التنجيس، فإلى هذا يرجع وجه التفرقة عند الفقهاء بين المجاورة والمخالطة لا غير، مع كون المجاورة معتبرة فيهما لا محالة كما أوضحناه، فإذا حصلت المجاورة مع حصول الخلل اغتفر الشرع النجاسة في الماء، وإذا حصلت على جهة المخالطة من غير خلل لم يغتفرها، وكان محكوماً عليه بالتنجيس، فهذا هو سر التفرقة بين المجاورة والمخالطة في ألسنة الفقهاء، فأما ما يتعلق بالمباحث العقلية فلا يقع هناك تفرقة بين المتكلمين بين ما يكون مخالطاً ممازجاً وبين ما لا يكون كذلك في أنه كله مجاورة، وما قاله الفقهاء من التفرقة بين ما يكون من النجاسة مخالطاً و بين ما يكون مجاوراً لكونه مأخوذاً من جهة الظواهر الشرعية ومتفرعاً على الأقيسة المخيلة الظنية، فلهذا كان التعويل عليه وكان أحق وأقيس.
مسألة: فإن كان الماء كثيراً وتغير بعضه بوقوع النجاسة، فالمتغير يكون نجساً لا محالة لما ذكرناه في المسألة الأولى، عند أئمة العترة وفقهاء الأمة.
والحجة: ما رويناه من الخبر فإنه لم يفصل بين أن يكون متغيراً كله أو بعضه من جهة أن الموجب للتنجيس إنما هو التغير، وهذا حاصل ها هنا.
وهل ينجس ما يكون متصلاً به وإن لم يكن متغيراً؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا يكون نجساً، وهذا هو قول أئمة العترة والفرق الثلاث: الحنفية والشافعية والمالكية.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو سعيد الخدري، قال: سمعت رسول اللّه ً يقول: (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء)). وقوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه))، وهذا لم يتغير أحد أوصافه فيجب القضاء بطهارته، وما رواه ابن عباس عن النبي ً أنه قال: (( إن الماء لا يجنب ))(1) فهذه الأحاديث كلها دالة على أن مالم يتغير فهو طاهر لا محالة.
وثانيهما: أنه يكون نجساً وإن لم يتغير لَمَّا كان متصلاً بالنجاسة، وهذا شيء يحكى عن بعض أصحاب الشافعي، منهم: أبو إسحاق الإسفرائيني وابن الصباغ صاحب (الشامل)، وعن صاحب (المهذب)، وصاحب (المقنع) أيضاً.
وحجتهم على هذا: هو أن ما تغير فهو نجس بالاتفاق لظاهر الأحاديث، وإذا كان نجساً كان ما اتصل به نجساً؛ لأنه ماء واحد فلا يجوز أن ينجس بعضه دون بعض فلأجل هذا حكمنا عليه بالنجاسة في جميعه.
__________
(1) عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي في جفنة، فجاء رسول اللّه ً ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت: إني كنت جنباً، قال: ((إن الماء لا يجنب)). أخرجه الترمذي. ويجنب: بضم الياء وكسر النون في رواية، وفي أخرى: بفتح الياء وضم النون، ومعناها: لا يصير جنباً. ا.هـ بحر.
والمختار: ما عول عليه أصحابنا والفقهاء لما رويناه من الأخبار، فإنها كلها دالة على أنه لا ينجس من الماء إلا ما تغيرت أوصافه، وما هذا حاله فإنه لم يتغير إلا بعضه وما عداه باق على أصل التطهير وقد حمل بعضهم ما قالوه، على أن الماء الذي لم يتغير دون القلتين، فأما إذا كان فوق القلتين فإنه لا ينجس جميعه، وهذا فاسد لا وجه له، فإن ابن الصباغ نص على خلاف ذلك في كتابه (الشامل)، فقال: إذا كان هاهنا ماء راكد متغير بالنجاسة وبجنبه قلتان متصلتان بالراكد غير متغيرتين فقياس المذهب أنه كله ينجس؛ لأنه كالماء الواحد فلهذا كان الكل نجساً وإن كثر، فَلِمَا نقلناه يضعف هذا الحمل. وحاصل هذه المقالة أن كل ما كان متصلاً بالنجس فإنه يكون نجساً مثله وإن لم يتغير لكونه ماء واحداً، ويضعف ما قالوه من وجهين:
أما أولاً: فيلزم هؤلاء إذا كانت بجانب البحر جيفة ميتة فتغير بعض البحر بها أن ينجس جميعه، وهذا لا يلتزمه أحد، وغالب ظني أنهم يفرقون على قولهم بهذه المقالة بين البحر والبرك فتنجس البرك وما شاكلها ولا ينجس البحر، وكله فاسد.
وأما ثانياً: فلأنا إنما حكمنا بنجاسة ما تغيرت أوصافه لدلالة الخبر؛ فأما ما لم يتغير فهو باق على أصل حكم الماء في الطهارة، ويزعمون أن البحر مخصوص بقوله عليه السلام: (( من لم يطهره البحر فلا طهره الله ))، ولم يفصل بين أن يكون متغيراً بالنجاسة أو غير متغير.
مسألة: وإن وقعت النجاسة في ماء كثير ولم تغير شيئاً من أوصافه، فهل ينجس ما لاقى النجاسة واتصل بها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن جميع الماء كله طاهر ولا ينجس الماء إلا بالتغير لأحد أوصافه، وهذا هو المحكي عن جماعة من الصحابة، كابن عباس، وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان )، ومروي عن جماعة من التابعين، كالحسن البصري )، وسعيد بن المسيب، وعكرمة )، وابن أبي ليلى )
__________
(1) حذيفة بن اليمان العبسي الأنصاري (حليفهم). أصله من اليمن، أسلم هو وأبوه وهاجرا وشهدا أحداً، وقتل والده يومئذ بأيدي المسلمين خطأً،فقال حذيفة:غفر اللّه لكم ووهبت دمه. وأسلمت أمه وهاجرت، وكان صاحب رسول اللّه ً وأحد الفقهاء وأهل الفتوى. وصاحب رسول اللّه ً في المنافقين، أي المختص بتتبع أخبارهم. وله مقامات محمودة في الجهاد أعظمها ليلة الأحزاب.توفي رحمه اللّه سنة36هبالمدائن، وكان يحث على الخروج مع أمير المؤمنين عليه السلام.
(2) الحسن بن سيار البصري، ويعرف بالحسن بن أبي الحسن البصري، علاَّمة التابعين، ورأس الطبقة الثالثة، كان ثقة، حجة، عظيم القدر، حدث عن: أنس، وأبي برزة، وابن عمر. وفي أمالي أبي طالب: أنه أخذ عن علي عليه السلام، وأنكره بعضهم. ولد لسنتين بقتا من خلافة عمر، وتوفي سنة 116هـ.
(3) أبو عبدالله عكرمة بن عبدالله البربري، مولى ابن عباس، أصله من البربر، وهب لابن عباس فاجتهد في تعليمه القرآن والسنة، حدَّث عن: ابن عباس، وعلي، وابن عمر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وعائشة، وغيرهم، وهو أحد فقهاء المدينة وتابعيها، قال له ابن عباس: افت الناس. وقيل لسعيد بن جبير: هل أحد أعلم منك؟ قال: عكرمة. وقد تكلم فيه بعضهم، ولم يسمع؛ لأن عكرمة احتج به أهل الأسانيد والسنن، ومات ابن عباس وهو على الرق، فباعه علي بن عبدالله بن عباس من خالد بن يزيد بأربعة آلاف. وقال له عكرمة: ما خير لك بعت علم أبيك بأربعة آلاف. فاستقال البيع ورده وأعتقه، توفي سنة 107هـ. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب).
(4) أبو عيسى عبدالرحمن بن أبي ليلى واسمه: يسار الأوسي الكوفي ولد لست بقين من خلافة عمر بالمدينة، من رواة الحديث. احتج به الستة، واستعمله الحجاج على القضاء، ثم عزله، ثم ضربه ليسب علياً عليه السلام، خرج مع عبدالرحمن بن الأشعث، وغرق في نهر الدجيل سنة 83هـ. (مقدمة الأزهار).
، وجابر بن زيد ) وغيرهم، وإليه يشير كلام القاسم، فإنه روى محمد بن منصور قال: حضرت القاسم بن إبراهيم، وكان يُسْتَسْقَى له من بئر كان يتوضأ منها، فأصابوا يوماً في البئر حمامة ميتة فَأُعْلِم القاسم بذلك فقال لغلمانه: انظروا هل تغير منها ريح أو طعم أو لون؟ فنظروا فلم يروا تغيراً فتوضأ منها، ولم يعتبر مجاوراً للنجاسة أصلاً، وإليه يشير كلام الهادي. فإنه قال: حدثني أبي عن أبيه في البيار والغدران يقع فيها الشيء النجس فقال: لا تفسد إلا أن تغلب النجاسة عليها ولا ينجسها ما وقع فيها من ميتة أو ما أشبهها إذا لم يغلب عليها النجس في لون أو ريح أو طعم، وهذا محكي عن أبي يوسف.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو سعيد الخدري من قوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه )). فظاهر الخبر دال على أن الماء لا ينجس منه إلا ما تغير بأحد هذه الأوصاف الثلاثة أو بمجموعها، وما ذكرنا ليس متغيراً فلهذا وجب الحكم عليه بالطهارة كله من غير أن يكون نجساً بالمجاورة.
المذهب الثاني: أن ما يلي تلك النجاسة محكوم عليه بالتنجيس، ثم اختلفوا في ذلك على أقوال ثلاثة:
أولها: أن المجاور الأول للنجاسة نجس، والمجاور الثاني مما جاورها نجس أيضاً، وهذا هو المحكي عن المؤيد بالله.
__________
(1) الإزدي البصري أبو الشعثاء (جابر بن زيد)، تابعي فقيه من أهل البصرة صحب ابن عباس وكان من بحور العلم. وقال عنه أحمد في كتاب الزهد: لما مات جابر بن زيد، قال قتادة: اليوم مات أعلم أهل العراق. توفي سنة 93هـ. ا.هـ. الأعلام2/104.
وحجته على ما قاله: ما رواه أبو هريرة عن الرسول ً أنه قال: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ))(1). فلولا أن المجاور الثاني ينجس، وإلا لكان لا فائدة في الغسلة الثالثة والأمر بها، والقياس في الغسالة الثالثة أن تكون نجسة لاتصالها بالنجس، لكنا قضينا فيها بالطهارة لحديث أبي هريرة فإنه قصره على الثالثة، فلو كانت نجسة لم تكن مطهرة لما قبلها، والتعبد في الطهارات وارد على خلاف الأقيسة المطردة في الاتصال.
وثانيها: أنه لا ينجس إلا المجاور الأول وهو ما لاصق النجاسة وباشرها دون غيره من المجاورات فإنها طاهرة، وهذا هو الذي يشير إليه كلام السيد أبي طالب وهو قول أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن السبب في التنجس للماء إنما هو عين النجاسة، والمتصل بها ليس إلا المجاور الأول فإنه ملاصق لها بخلاف المجاور الثاني فإنه غير ملاصق، فلأجل هذا قضينا بنجاسة الأول دون غيره لاتصاله بها وملاصقته لها.
وثالثها: أنه ينظر في الماء المتصل بالنجاسة فإن كان دون قلتين فهو نجس وإن لم يتغير، وإن كان قلتين فما فوقهما فهو طاهر، وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه.
__________
(1) نقله في موسوعة الأطراف عن البيهقي والكامل لابن عدي، وعن النسائي في سننه. وجاء بلفظ: ((فلا يضع يده في الوضوء...إلخ)).
والحجة على ذلك: ما رواه عمر رضي اللّه عنه عن الرسول ً، أنه قال: (( إذا كان الماء قلتين لم ينجس ))(1). فالقلتان عنده كثير وهو غير متغير فلهذا لم يكن نجساً لمجاورة النجاسة؛ لأنه كثير كما سنقرره من بعد، وإن كان دون القلتين فهو قليل فيجب الحكم بنجاسته وإن لم يكن متغيراً لكونه قليلاً. فهذا تقرير المذاهب في هذه المسألة.
والمختار: ما عول عليه الإمامان: القاسم والهادي ومن وافقهما من علماء الأمة الصحابة والتابعين.
والحجة على ذلك: من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فحديث ابن عباس (( الماء لا يجنب )).
وأما ثانياً: فحديث أبي سعيد الخدري حيث قال: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء )). أخرجنا ما تغير بعض أوصافه بالنجاسة أو كلها بدليل خاص غير ظاهر هذين الخبرين، فبقي ما عداها مندرجاً تحت ظاهرهما فيجب القضاء بطهارته إذ لا تغير فيه.
وأما ثالثاً: فلأن المجاور الثالث كالثاني والأول في عدم التغير بالنجاسة، فلو قضينا بنجاسة الأول والثاني لوجب القضاء بنجاسة الثالث وما وراءه لاشتراكها كلها في عدم تغيرها بالنجاسة؛ إذ لا فاصل هناك، فإذا لم يكن هناك مخصص وجب القضاء بطهارة الكل من المجاورات وهذا هو المقصود.
وأما ما احتج به الإمام المؤيد بالله من حديث أبي هريرة، فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في ظاهر الحديث ما يدل على نجاسة شيء من المجاورات بصريحه فلا تكون فيه حجة.
__________
(1) جاء من عدة طرق وبألفاظ مختلفة. وفيه: ((إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء). ونحوه عن ابن عمر: ((... لم يحمل الخبث)). وفي رواية لأبي داود: ((... فإنه... إلخ)). وزاد في الشفاء: ((.. لم يحمل الخبث ولم ينجس)). ا.هـ . بحر . بتصرف.
وأما ثانياً: فلأنه إنما ذكر الثلاث مبالغة في التنظيف كما أشار في الغسلات السبع من ولوغ الكلب و التعفير بالتراب مبالغة في التنظيف وإزالة الأثر، فكما أن الشيء لا يكون نجساً بالمجاورة فهكذا حال الغسالة الثالثة والأولى لا تكونان نجستين لما ذكرناه.
وأما ما احتج به الإمام أبو طالب. فجوابه: أن مطلق الاتصال بالنجاسة لا يوجب تنجيسه إلا بظهور أثرها فيه، فأما إذا لم يظهر أثرها عليه فلا وجه للحكم بنجاسته، فإذاً لا وجه لنجاسة المجاور الأول كما ذكر بحال، ولأنه يلزم الحكم بنجاسة المجاور الثاني لاستوائهما جميعاً في عدم التغير، وهو لا يقول به، فليس إلا الحكم بطهارة الماء كله من غير حاجة إلى تنجيس شيء من المجاورات.
وأما ما احتج به الشافعي، فهو مبني على أن القلتين كثير وما دونهما قليل، ومبني على أن القليل ينجس عند ملاقاة النجاسة وإن لم يتغير، وسنقرر الكلام عليه في هذين الأصلين بعد هذا بمعونة اللّه تعالى.
مسألة: الماء الراكد إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغير أوصافه وكان قليلاً، فهل ينجس لوقوعها فيه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون نجساً وإن لم يتغير، وهذا هو قول الأكثر من أئمة العترة، الهادي والناصر والأخوين(1) وغيرهم، ومحكي عن ابن عمر من الصحابة، ومن التابعين عن سعيد بن جبير )، ومجاهد ) وأحمد وإسحاق بن راهويه، وهو مروي عن الفريقين: الحنفية والشافعية. والحجة على ذلك: من جهة الكتاب والسنة والقياس.
__________
(1) الأخوان أو السيدان، حينما تطلق إحداهما، فهي تعني المؤيد بالله وأخاه أبا طالب، كما سبق في الرموز بالمقدمة.
(2) سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، مولى بني والبة (بطن من أسد)، ابن خزيمة، الكوفي، قال في الطبقات: هو أحد أعلام التابعين. وثقه المؤيد بالله، وعده السيد صارم الدين من ثقات محدثي الشيعة. وقال ابن حجر: ثقة، ثبت، فقيه، من الطبقة الثالثة، وروايته عن: عائشة وأبي موسى، ونحوهما مرسلة. وروى عن ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وابن معقل، وعدي بن حاتم، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، والضحاك بن قيس الفهري، وروى عنه: ابناه عبدالملك وعبدالله، ويعلى بن حكيم، ويعلى بن مسلم، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو الزبير المكي، وعطاء بن السائب، وغيرهم كثير. خرج مع ابن الأشعث في جملة القرَّاء فلما هزم ابن الأشعث هرب سعيد إلى مكة فأخذه خالد القسري وبعث به إلى الحجاج فقتله سنة 95هـ، وهو ابن تسع وأربعين سنة. وروي أنه دعا عند أن أمر الحجاج بقتله فقال: اللهم لا تسلطه على أحد بعدي، فمات الحجاج بعده بأيام. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب).
(3) أبو الحجاج مجاهد بن جبر المخزومي (مولاهم)، المكي، المقرئ المفسر، الحافظ. قال الذهبي: أجمعت الأمة على إمامته والاحتجاج به، قرأ عليه عبدالله بن كثير، وأبو عمرو بن العلاء، وابن محيسن، وكان يكبر من سورة الضحى. توفي ساجداً، واختلف في وفاته على أقوال منها سنة 100هـ. (مقدمة البحر).
الحجة الأولى: من جهة الكتاب، قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }[المدثر:5]. وقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ }[الأعراف:157]. وقوله تعالى: {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ }[المائدة:90]. إلى قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوْهُ}. فدلت هذه الظواهر على المنع من استعمال النجاسة ووجوب تجنبها، واستعمال هذا الماء يؤدي إلى استعمال النجاسة، فوجب المنع منه.
الحجة الثانية: من جهة السنة، قوله عليه السلام: (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله .. ))(1)، وقوله عليه السلام: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً )). وقوله ً: (( لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يتوضأ فيه ))(2). فجميع هذه الأخبار دالة [على المنع] مما هذا حاله ولم يغير طعماً ولا لوناً ولا ريحاً(3).
__________
(1) عن أبي هريرة أن النبي ً قال: ((طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب، أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)). وفي رواية ((.. إحداهن بالتراب)) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي، وروايات أخر للبخاري. وفي رواية عن عبدالله بن مغفل (مغفل: بضم الميم وفتح الغين المعجمة ثم فاء مشددة) ((.. فاغسلوه سبع مرات وعفروه في الثامنة بالتراب)) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، والنص لمسلم.
(2) هذا الحديث فيه روايات عدة بألفاظ مختلفة، منها ما روي عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّه ً يقول: ((نحن الآخرون السابقون.. )) قال: ((ولا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ويغتسل فيه )). رواه البخاري ومسلم. وفي لفظ (( ..ثم يتوضأ منه)) رواه الترمذي. وفي رواية للنسائي ((.. الماء الراكد.. )).
(3) دالة على وجوب تجنب استعمال الماء إذا ظن أنه سيؤدي إلى مخالطة النجاسة.
الحجة الثالثة: قياسية، وهو أنه ماء قليل خالطته النجاسة فوجب أن ينجس كما لو تغير، ولأنه ماء قد تيقن استعمال النجاسة باستعماله فكان نجساً كما إذا ظهرت عليه النجاسة، ولأنه اجتمع فيه الحظر والإباحة فوجب تغليب الحظر ومنعه على جانب الإباحة، كالجارية بين الرجلين في تحريم وطئها لأحدهما، والصيد قتله مسلم وكافر، وهذه الأدلة الشرعية دالة على منعه وتنجيسه.
المذهب الثاني: أنه طاهر في نفسه ولا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير، وهذا محكي عن جلة من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان، وعن جماعة من التابعين، الحسن البصري وسعيد ابن المسيب وعكرمة وابن أبي ليلى وجابر بن زيد والأوزاعي وداود والثوري والنخعي )، واختاره مالك، وهو مروي عن الإمام القاسم بن إبراهيم، حكاه النيروسي ) عنه، فإنه قال: كل ما لا تظهر فيه النجاسة لا ينجس بما وقع فيه من النجس وإن كان قليلاً. والحجة على ذلك تكون من جهة الكتاب والسنة والقياس:
الحجة الأولى: من الكتاب، قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}[الأنفال:11]. فظاهر هاتين الآيتين دال على أن كل ما نزل من السماء فهو طاهر يُتطهر به من غير فصل بين قليله وكثيره، سواء اتصلت به النجاسة أو لم تتصل، لكنه خرج ما تغير أحد أوصافه أو كلها بدلالة منفصلة.
__________
(1) إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي التابعي أبو عمران، من كبار فقهاء التابعين، أُدخل على عائشة وهو صغير، وأرسل عن علي عليه السلام، وخرَّج له الجماعة وأئمة الزيدية.
(2) جعفر بن محمد بن شعبه النيروسي كان من العلماء الفضلاء، صحب القاسم بن إبراهيم وروى عنه، وله كتاب (مسائل النيروسي). وروى عنه محمد بن منصور المرادي والناصر للحق. ا.هـ. (تراجم الأزهار).
الحجة الثانية: من جهة السنة، وهو حديث ابن عباس (( الماء لا يجنب )). وحديث أبي سعيد الخدري حيث قال: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء )). فهذان الخبران دالان على أن الماء كله طاهر إلا ما خرج بدليل خاص في نجاسته بتغيره.
الحجة الثالثة: القياس، وهو أنه مالم يتغير بوقوع النجاسة عليه فيجب القضاء بتطهيره كالماء الكثير، ولأنه باق على أصله في التطهير لم يعرض له ما يغيره من لون أو طعم أو ريح فكان طاهراً كالماء الكثير، فهذا تمام تقرير أدلة الفريقين قد أوضحناها.
والمختار: الحكم بتطهيره كما أشار إليه القاسم وغيره من علماء الصحابة والتابعين، وإنما يتضح بتقويته بالدلالة وبالجواب، فهذان تقريران نفصلهما:
التقرير الأول: في إيراد البراهين الشرعية على طهارته، وجملتها حجج خمس:
الحجة الأولى: هو أن المعلوم من حال الصدر الأولى من عصر النبي ً إلى آخر عصر الصحابة رضي اللّه عنهم أنهم لم تنقل عنهم واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء عن النجاسات، وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء والذين لا يحترزون عن النجاسات وتكثر ملابستهم لها، ولم يعلم تصونهم عن مداخلة هؤلاء ولا نقل احترازهم عنهم وانقباضهم عن تأدية(1) المياه ومعاناتهم لها في حملها ونقلها مع شدة الورع عن الوقوع في المناهي وبعدهم عن ما حرم اللّه، وبلوغهم في العبادة الغاية القصوى، وكل ذلك دال على اعتمادهم في تطهير الماء على عدم تغيره، فمهما كان على هذه الصفة فهو باق على أصله في التطهير، وهذه حجة يدين بها كل منصف.
__________
(1) جلْب.
الحجة الثانية: الحمامات، فإنها لم تزل في الأعصار الخالية والآماد المتمادية مستعملة في جميع الأمصار والأقاليم، يدخلها العلماء والأفاضل من غير نكير ولا مدافعة، ويتعاطاها الخاص والعام ويغمسون الأيدي في تلك الحياض الخارجة والداخلة مع قلة الماء فيها، ومع العلم بأن الأيدي النجسة والطاهرة كانت تتوارد عليها وهم ساكتون عن الكلام في نجاستها مكبون على استعمالها، وما ذاك إلا لما يعلمون من أن الماء لا ينجسه إلا ما غَيَّر أحد أوصافه، وأنه مخلوق على هذه الهيئة، وقد قال عليه السلام: (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عندالله حسن ))(1). فاستعمالهم مع علمهم بحالها واشتمالها على ما ذكرناه من القلة وملابسة النجاسة، دلالة على ما ذكرناه.
الحجة الثالثة: ما عُلم من حال صاحب الشريعة (صلوات اللّه عليه)، أنه أصغى الإناء للهرة حتى شربت، وعدم تغطيتهم للآنية منها بعد أن تراها(2) تفترس الحيوانات من الفأرة وغيرها، والمعلوم من حالهم قطعاً أنهم ما كانوا يجعلون للسنانير(3) حياضاً على انفرادها ولا كانت تنزل الآبار للشرب، فإرسالهم إياها على ما في الآنية من الأمواء مع قلتها واستعمالهم لها بعد ولوغها فيها، فيه أمارة ظاهرة ودلالة قوية على أن الماء لم يكن نجساً بعد ولوغها فيه، وكل ذلك تعويل على عدم تغيره مع كونه قليلاً.
__________
(1) رواه الحاكم في مستدركه، وهو من الأحاديث المشهورة ومروي في كثير من كتب الحديث والفقه.
(2) الفعل مسند للمخاطب، كأنه قال: بعد ما هو معروف من حالها أنها...إلخ.
(3) جمع سَنُّور: وهي القطط.
الحجة الرابعة: ما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه توضأ بماء في جرة نصرانية مع العلم بقلة الماء، وملابسة النصرانية للنجاسة، وتعاطيها له في جميع أحوالها، وفي هذا دلالة على أنه لم يعول إلا على عدم تغير الماء، ولا شك أن نجاسة النصرانية تعلم بأدنى ظن قريب، فأعرض عما ذكرنا وعول على طهارة الماء بما يظهر من حاله من عدم تغيره، وكانت هذه هي الأمارة القوية في طهارته التي لا يعارضها معارض(1).
الحجة الخامسة: إذا وقع رطل من البول في ماء كثير، إما القلتان على رأي من قال بهما، وإما الكثير عند من أعرض عنهما، ثم أخذ من ذلك الماء في صحاف مختلفة، فكل واحدة منها ما فيها من الماء طاهر لا محالة باتفاق، فليت شعري أتعليل طهارته لعدم تغيره أولى، أو بقوة كثرة الماء مع أنا قد فرضنا انقطاع الكثرة بحصوله في صحاف كثيرة مع العلم بأن البول حاصل فيه لا محالة وإن خفي أمره؟ وفي هذا دلالة على أن التعويل إنما كان على عدم تغيره، فهذه الحجج كلها دالة على أن المراعى في طهارة الماء ونجاسته إنما هو على ما يظهر من حاله من التغير وعدمه، والله أعلم.
وممن قال بطهارة الماء القليل عند وقوع النجاسة عليه، الشيخ أبو حامد الغزالي فإنه اختاره مذهباً، وقال: كنت أود أن يكون مذهب الشافعي مثل مذهب مالك، يعني أن الماء وإن قل لا ينجس إلا بالتغير من غير حاجة إلى تقدير الكثرة بالقلتين كما هو رأيه.
__________
(1) في الأصل: في طهارة التي.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه وهو التقرير الثاني في بيان الجواب عن ما أوردوه من الأدلة على نجاسته، وقد تمسكوا بما حكيناه عنهم من الظواهر، الآي القرآنية والأخبار المروية والأقيسة المستنبطة، وقد عارضناها بما تلوناه من الآيات ورويناه من الأخبار وقررناه من علل الأقيسة، وليس بعد الانتهاء إلى هذه الغاية إلا التصرف الأصولي، إما العمل على تساقطها لما كانت متعارضة، والعمل على دليل آخر، وإما ترجيح أدلتنا على أدلتهم، فهذان تصرفان:
التصرف الأول: وهو القول بالتساقط، فإذا حكمنا بتساقط الأدلة من الجانبين جميعاً وجب الرجوع إلى الأصل وهو طهارة الماء؛ لأنه هو الأصل، والحكم عليه بالنجاسة إنما يكون بعارض يعرض له كما رجعنا إلى البراءة الأصلية عند تعارض الأدلة الشرعية المعتبرة، وهكذا هاهنا يجب ما قلناه من الرجوع إلى طهارته، وهو مطلوبنا.
التصرف الثاني: وهو الترجيح لأدلتنا على أدلتهم، فنقول: ما أوردوه من الظواهر إنما سيقت لأغراض أُخَر غير ما نحن بصدده، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}[المائدة:90]. وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]. وهكذا ما أوردوه من الأخبار مسوقة لمقاصد مخصوصة، فتناولها لهذا الماء يضعف من جهة كونها مسوقة لبيان غيره، بخلاف ما ذكرناه من الآيات والأخبار فإنها مسوقة لبيان غرض التطهير، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ }[الأنفال:11]. وهكذا حال الأخبار التي رويناها فإنها مسوقة من أجل غرض التطهي لا لغرضٍ سواه، كقوله عليه السلام: (( خلق الماء طهوراً))، وقوله: (( الماء لا يجنب)). وقوله: (( الماء لا ينجس)). إلى غير ذلك من الأخبار المؤدية بالتصريح بالمقصود، فلهذا كان التعويل على ما كان صريحاً دون ما ليس صريحاً.
ثم نقول: الماء الجاري وإن كان قليلاً فإنه يخالف الراكد كما هو محكي عن المنصور بالله، وهو رأي الشافعي وأصحابه وغيرهم من جلة الفقهاء في أنه لا ينجس بوقوع النجاسة فيه مع قلته، فإذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير به فإنه يجوز التطهر به وإن كان قليلاً، فليت شعري أي فرق بين الراكد والجاري، وهل تكون الحوالة على عدم التغير أم على قوة الماء بسبب الجريان، ثم ما حد تلك القوة فإنها تكون مختلفة الأحوال في القوة والضعف؟ فالإحالة عليها يكون رداً إلى عماية وجهالة، فإذا كان التعويل فيما كان جارياً وإن ضعفت جريته على تغيره في التنجيس، فهكذا يكون في الراكد قليلاً كان أم كثيراً من غير تفرقة بينهما.
قولهم في القياس: إنه المردود إلى المتغير بجامع وقوع النجاسة فيه بأقيسة مختلفة في صورها.
قلنا: الجواب عن هذه الأقيسة وإن كانت مختلفة الصور بحرف واحد وهو الفرق بوصف مخيل، وهو أقوى ما يعترض به على الأقيسة في الإبطال، وهو أنا نقول: المعنى في الأصل أنه متغير وهذا غير حاصل فيما ذكرتموه من الماء القليل فإنه لم يتغير بوقوع النجاسة، وهذا الفرق يبطل الجمع الذي ذكرتموه ويُلحق القياس بالعدم والبطلان.
فأما ما يحكى عن الناصر من تأويل مذهب القاسم في طهارته فلا وجه له لأمرين:
أما أولاً: فلأنهم لم ينقلوا عنه إلا ما قاله ولو تطرق إليهم الوهم في هذه الحالة لتطرق إليهم الوهم في سائر ما ينقلونه في مذهبه كله، وأيضاً فإنهم وإن كانوا عجماً لا تخفى عليهم مقاصده ومراداته خاصة مع الممارسة الكثيرة وطول الإقامة معه.
وأما ثانياً: فإنما كان يجب تأويل كلامه إذا كان هناك مخالفة لنص قاطع وإجماع متواتر، أو غير ذلك من النصوص المقطوعة التي لا يمكن مخالفتها، فأما وللنظر في المسألة مسرح وللاجتهاد فيها مضطرب فلا وجه للتأويل، بل ينقل مذهبه على حد ما غلب على ظنه بعد توفية الاجتهاد حقه، فإذا كان قد نظر في المسألة وأمعن فكل ما أتى به فهو حق وصواب كما مر تقريره، وهكذا ما يحكى عن السيد الإمام أبي طالب من أن كلام القاسم لا يعول عليه وأن المأخوذ به ما قاله الهادي والناصر وسائر أصحابنا، فإن لكلٍ اجتهاده ولا ضير عليه في المخالفة، ولقد أود أن يكون مذهبهما مثل ما يحكى عن القاسم في أنه لا ينجس القليل إلا بالتغير، فضلاً عن أن يقال: إنه لا يعول على مقالته في ذلك.
قالوا: قد تعارض فيه الحظر والإباحة فوجب حظره.
قلنا: إنا لا نسلم التعارض، بل ما ذكرناه من الإباحة الشرعية أرجح لما مر بيانه، ثم إنا نقول: إذا تعارضا من غير ترجيح، وجب القضاء بالتساقط والعمل على ما هو الأصل من طهارة الماء، وفي ذلك حصول غرضنا.
مسألة: حكم الماء الكثير لا ينجس بملاقاة النجاسة إذا لم يتغير، وحكم الماء القليل أنه ينجس بملاقاتها وإن لم يكن متغيراً على رأي من قال به، فلا بد من بيان حد القليل والكثير ليُعرف هذان الحكمان اللذان يتعلقان به، فأما من لا يقول بالقليل فلا يفتقر إلى معرفة حد القليل والكثير، وإنما الضبط عنده في التنجس وعدمه، إنما هو بما أشار إليه الشرع من التغير قليلاً كان أم كثيراً كما اخترناه فيما مضى.
وقد اختلف العلماء في حد القليل والكثير من الماء ولهم في ذلك مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن ما كان من الماء قلتين فهو كثير وما كان دونهما فهو قليل، وهذا هو قول الإمامين الناصر والمنصور بالله وهو رأي الشافعي وأصحابه، ثم اختلف أصحاب الشافعي في حد القليل(1)، فمنهم من قال: هما خمسمائة مَنا(2) وهو يأتي ألف رطل بالبغدادي، وقال أبو عبدالله الزبيري ): هما ثلاثمائة مَنا وهما ستمائة رطل بالبغدادي، وهو محكي عن القفال )، واختاره المسعودي )، وقال أبو حامد:
__________
(1) هكذا في الأصل، والصواب: في حد القلتين.
(2) الضمير في (هما) عائد على القلتين. والمفرد منه (مَنَا) مقصوراً بفتح الميم، وهو الكيل أو الوزن كما جاء في اللسان، والجمع منه: أَمْنَاء..
(3) أبو عبدالله الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبدالله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام البصري، وقد سبقت ترجمته باسم (أبو عبدالله البصري)
(4) أبو بكر عبدالله بن أحمد بن عبدالله المروزي المعروف بالقفال؛ لأنه كان يصنع الأقفال في ابتداء أمره. قال ابن خلكان: كان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً، وله عناية بالمذهب الشافعي، وله تصانيف نافعة. ا.هـ، صار إماماً يقتدى به في مذهب الشيخ أبي زيد الفاشاني المروزي، قيل عنه: لم يكن في زمان القفال أفقه منه. توفي بمرو في جمادى الآخرة سنة417هـ، وعمره تسعون سنة. من تصانيفه (شرح التلخيص) مجلدان، و(شرح الفروع)، وكتاب (الفتاوى). راجع (تهذيب التهذيب، الوفيات، طبقات الفقهاء).
(5) هو أبو عبدالله محمد بن عبد الملك بن المسعود بن أحمد المروزي المعروف بالمسعودي، وفي طبقات الشافعية الكبرى ج4/171: محمد بن عبدالله بن مسعود، ومثله في وفيات الأعيان، كان عالماً، فاضلاً، تفقه على القفال، وشرح (المختصر) توفي سنة نيف وعشرين وأربعمائة. وهو غير المسعودي صاحب كتاب الإبانة الذي كثيراً ما يشتبه به. والإبانة: كتاب في اللغة. راجع طبقات الشافعية لابن هداية اللّه الحسيني ص137.
وأكثر أصحاب الشافعي: هما خمسمائة رطل بالبغدادي وهو المنصوص. قال الشافعي: والاحتياط أن يجعل كل قلة قربتين ونصفاً، والقربة في الحجاز مقدار ما تسعه مائة رطل، فصار ذلك خمسمائة رطل وهل يكون ذلك تقريباً أو تحديداً؟ فيه لهم وجهان:
أحدهما: أنه تقريب، وعلى هذا لو نقص منهما رطل أو رطلان أو ثلاثة لم يضر ذلك.
وثانيهما: أنه تحديد، فلو نقص منهما نصف رطل تنجس بوقوع النجاسة فيه لكونه قليلاً، فإذا تقرر هذا، فإذا وقع في القلتين نجاسة لم تنجس إلا أن يتغير، وإن كان الماء دون القلتين تنجس بوقوع النجاسة وإن لم يتغير، فهذه هي فائدة التحديد بالقلتين وما دونهما.
والحجة على ذلك: ما رواه عمر رضي اللّه عنه عن النبي ً، أنه قال: (( إذا كان الماء قلتين بقلال هجر(1) لم يحمل خبثاً)). وفي حديث آخر: (( إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء ))(2). ومعنى قوله: لم يحمل خبثاً: أي أنه لا يقبله ولا يلتزمه بدليل الحديث الآخر.
__________
(1) قيل: هجر بفتحتين: مدينة بالبحرين، وقيل: قرية قرب المدينة (المنورة). معجم البلدان لياقوت.
(2) هذا الحديث مروي بعدة ألفاظ منها هاتان الروايتان. ويصفه بعض الرواة ورجال الحديث بالإضطراب في إسناده ومتنه رواه أحمد، والدارقطني، عن ابن عمر. والحاكم، وابن حبان، والدارمي، وغيرهم.
المذهب الثاني: أن حد الكثير من الماء هو الذي جرت العادة في مثله، أنه لا يُستوعَب شرباً وتطهراً، كالأنهار الجارية والبيار النابعة والبرك العظيمة، وحد القليل ما كان دونه وهو الذي يُستوعب في مجرى العادة شرباً وتطهراً، كالحفائر الضيقة والأنهار النزرة والعيون الراكدة، وهذا حكاه السيد الإمام أبوطالب والشيخ أبو جعفر ) من أصحابنا لمذهبهم كالقاسمية، ولم أعرفه قولاً لأحد من الفقهاء.
والحجة على ذلك: هو أن ما هذا حاله من الأمواء إذا كان لا يُستغرق في مطرد العادة في الشرب والتطهر فإنه يوصف بكونه كثيراً، وإذا كان على خلاف ذلك فإنه يوصف بكونه قليلاً، وإنما جعلنا المعيار الضابط في القِلَّة والكثرة بما ذكرناه من اطراد العادة؛ لأن أكثر ما يحتاج الناس الماء في أغلب أحوالهم في الشرب والتطهر، لأنهما هما اللازمان في أكثر الحالات وأغلبها، وما عداهما فليس أمراً غالباً بل هو أمر نادر بالإضافة إليهما، فلهذا وجب ضبطه به.
المذهب الثالث: أن حد الكثير ما كان يغلب على الظن أن النجاسة غير مستعملة باستعماله. والقليل ما كان يغلب على الظن أن النجاسة مستعملة باستعماله، وهذا هو الذي حكاه الكرخي عن أبي حنيفة، واختاره الأخوان الإمامان المؤيد بالله وأبوطالب للمذهب(2).
__________
(1) محمد بن يعقوب الهوسمي الزيدي، قال في تراجم الأزهار: أبو جعفر العلامة الفقيه، له تصانيف منها: (شرح الإبانة) أربعة مجلدات في مذهب الناصر، و(الكافي) مجلدان، وله: (كتاب الديانات) في علم الكلام، ولم أجد لأبي جعفر تاريخ وفاة. ا.هـ. ملخصاً من تراجم الأزهار.
(2) إذا أطلق المذهب، فالمراد به هنا، قواعد المذهب الزيدي في الفقه خاصة.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود من معرفة حد القليل [وهو] تنجيسه وإن لم يتغير، والغرض من معرفة حد الكثير هو أن لا يحكم بنجاسته إلا إذا تغير، وإذا كان الأمر كما قررناه وجب أن يكون للنجاسة مدخل في معرفة حد القليل والكثير، فلأجل ذلك جعلناها أصلاً في معرفتهما لما لهما بها من الاتصال، وجعلنا الظن هو المعيار الفارق بين القليل والكثير في النجاسة؛ لأنه هو المعتمد في الأكثر والمعول عليه في التكاليف العملية في العبادات وغيرها، فإذا تقرر هذا فكل ما وقعت فيه نجاسة وغلب على ظن المستعمل له أنه مستعمل لها باستعماله، فهو قليل ينجس بملاقاة النجاسة وإن لم يكن متغيراً، وكلما وقعت به نجاسة وغلب على ظن من يلابسه ويستعمله أن النجاسة لا يستعملها عند استعماله، فهو كثير لا ينجس بملاقاتها، فلا جرم جعلنا غلب ظنه في الاستعمال وعدمه معياراً فارقاً بين قليل الماء وكثيره، هذا ملخص هذه المقالة وزبدتها وثمرة ما عولوا عليه فيها.
المذهب الرابع: حكاه أبو يوسف عن أبي حنيفة في التفرقة بين قليل الماء وكثيره، وحاصل ما قاله: هو أن الحوض والبركة إذا كانا بحيث إذا تحركت منه ناحية لم تضطرب الناحية الأخرى، فما هذا حاله يكون من الكثير فلا ينجس بوقوع النجاسة عليه، وإذا كان بحيث إذا تحرك منه جانب اضطرب الجانب الآخر فهو قليل متنجس إذا لاقته النجاسة.
والحجة على ذلك: هو أن ما هذا حاله من الأمواء إذا كان قليلاً فإنه يضعف عن احتمال المصاكَّة فلهذا يضطرب كله لقلته، بخلاف ما إذا كان كثيراً فإنه إذا وقعت فيه المصاكة فإنه يحتملها، فلهذا لم يضطرب إلا ما قرب من الضرب دون ما بعد منه، فلأجل ذلك جُعِلَ المعيار الفارق بين قليله وكثيره هو الاضطراب والمُصَاكَّة التي حكيناها، فهذا تقرير هذه المذاهب بأدلتها بحسب الإمكان.
والمختار: ما قررناه آنفاً، من أن التعويل في نجاسة الماء وطهارته، إنما هو على تَغَيُّرِ أحد أوصافه بالنجاسة، أو كلها، فأما مالم تتغير أوصافه فهو باق على أصل الطهارة كما تشير إليه الظواهر الشرعية.
وتأييد هذا الاختيار إنما يكون بتقريره بالحجة وإيراد الاعتراض على ما يخالفه، فهذان مسلكان:
المسلك الأول: في تقريره بالحجة، وقد أوضحنا فيما سبق أن التعويل في ذلك إنما هو على التغير بالنجاسة من غير أمر وراءه، وهذا هو الضابط الشرعي الذي يسترسل على جميع الصور، وهو الذي تشير إليه الظواهر الشرعية من الكتاب والسنة التي حكيناها، وإذا كان الأمر كما قلناه فلا حاجة بنا إلى ضبط القليل والكثير من الأمواء؛ لأنهما إنما يرادان من أجل معرفة النجس والطاهر من الأمواء، وهذا يمكن معرفته وإدراكه بالأمارة التي ذكرناها، وهي التغير المشار إليه من جهة صاحب الشريعة، فلا حاجة بنا إلى تكلف غيره لضبط قليل الماء من كثيره، إذ لا ثمرة هناك مع ما ذكرناه من أمارة التغير، فلا جرم اكتفينا به وكان المعول عليه، ويؤيد ما ذكرناه أن جميع ما عولوا عليه في هذه الضوابط التي ذكروها بين قليل الماء وكثيره ما خلا القلتين، إنما عولوا على عادات عرفية وأمور استنباطية وأقيسة خيالية، والباب باب تعبد، والأمور التعبدية تنسد فيها طرق القياس وتضيق مسالكه وإنما تحكم فيه الأمور النقلية والظواهر السمعية من جهة اشتماله على أسرار غيبية استأثر اللّه بها، كما أشرنا إليه في طهارة الحدث والنجس فأغنى عن الإعادة.
المسلك الثاني: في إبطال ما اعتمدوه في تقريره فنقول:
أما الكلام على أهل القُلَّتين فقد اعتمد السيد أبوطالب في إفساده على وجوه كثيرة، وحاصل ما قاله من جهة الرد والمعارضة والتأويل، فهذه مقامات ثلاثة نذكر ما يتوجه فيها:
المقام الأول: في الرد، وذلك حاصل من وجهين:
أحدهما: من جهة الاضطراب في سنده، فإن بعضهم يقول: إنه مروي عن محمد بن عباد )، وبعضهم يرويه عن محمد بن جعفر بن الزبير )، ومنهم من قال: عن عبدالله بن عبدالله بن عمر، وبعضهم يقول: عن عبيدالله بن عبدالله بن عمر )، وهذا الاضطراب في سنده يدل على ضعفه وترجيح غيره عليه في هذا الوجه.
وثانيهما: من جهة متنه، فإنه يروى (( إذا بلغ الماء أربعين قلة لم يحمل الخبث)) وفي بعض الروايات: (( إذا كان الماء قلة أو قلتين)). وفي بعضها: (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً)). وفي بعضها: (( إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس)). فانظر إلى وقوع هذا الاختلاف في متنه باختلاف ألفاظه وعباراته، وكل ما ذكرناه مما يطرق إليه الضعف ويكون غيره راجحاً عليه إذا كان سالماً عما ورد على هذا، فلهذا لم يكن معتمداً.
المقام الثاني: من جهة المعارضة، وذلك من أوجه ثلاثة:
__________
(1) لعله: محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبدالله بن عباد القاضي أبو عاصم العبادي الهروي، قال في طبقات الشافعية الكبرى: أحد أعيان الأصحاب.. صنف كتاب (المبسوط) وكتاب (الهادي) وكتاب (المياه) وكتاب (الأطعمة) وكتاب (الزيادات، وزيادات الزيادات) و(طبقات الفقهاء). كان إماماً مثبتاً مناظراً دقيق النظر، مات في شوال سنة 458هـ. ا.هـ ملخصاً ج1/2 ص237.
(2) محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام الأسدي، روى عن عميه عبدالله وعروة. وعنه: ابن إسحاق وابن جريج وغيرهما. كان من فقهاء المدينة وقرائها، وذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات بين عشر ومائة إلى عشرين ومائة. (تهذيب التهذيب 9/81).
(3) عبيدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب القرشي، المدني، العدوي، أبو بكر، أخو عبدالله، وسالم، وزيد، وحمزة، سمع أباه عبدالله بن عمر، ونافع، وعنه: الزهري. قال ابن سعد: قليل الحديث، مات قبل أخيه سالم، حديثه في الحجازيين. (انظر طبقات الزيدية (خ) ج2/60).
أما أولاً: فما روى ابن عباس عن الرسول ً أنه قال: (( إن الماء لا يجنب)).
وأما ثانياً: فما رواه أبو سعيد الخدري: (( الماء طهور لا ينجسه شيء)).
وأما ثالثاً: فلأنه قد روي: (( إذا بلغ الماء أربعين قلة)) وروي: (( ثلاث قِلال)) إلى غير ذلك من الاختلافات، وهذه الأحاديث كلها معارضة لحديث القلتين، من جهة أن ما دون القلتين عندهم ينجس بملاقاة النجاسة وإن لم يكن متغيراً، وظاهر حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري يدلان على أن القليل لا ينجس إذا لم يكن متغيراً، وهكذا حديث الأربعين فإنه معارض لحديث القلتين من جهة المعنى، فقد حصل لك بما ذكرناه أن حديث القلتين غير سالم عن المعارضة بما أشرنا إليه وفي ذلك ضعفه وبطلانه.
المقام الثالث: في التأويل ويمكن تأويله على أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلعل المراد من قوله عليه السلام: (( إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل خبثاً)). المراد به أنه يضعف عن حمل الخبث والنجاسة، وهذا موافق لما قلناه من ذلك؛ لأنه قليل فلهذا لم يقو على حملها.
وأما ثانياً: فلعل المراد بالقُلَّة: اسم لرأس الجبل وقامة الرجل، فإن القلة قد تطلق عليهما، وعلى هذا لا يمتنع أنه أراد إذا بلغ الماء قلة الجبل أو قامة الرجل، وعلى هذا يتباعد إليه [الاحتمال] لأن ما هذا حاله يكون كثيراً لا محالة؛ لأن المعتاد هو تقدير الماء بالقامات والأذرع أكثر من تقديره بالأرطال والأمناء لكثرته.
وأما ثالثاً: فلأن قُلة الشيء أعلاه، فيحتمل أن يكون مراده أعلى الشيء ورأسه، ومتى كان على هذه الصفة فهو كثير وإنما بناه عملاً على تثنية الأسماء المشتركة باعتبار لفظها مع اختلاف معناها، ولهذا فإنه يقال: قُرءانِ. للطهر والحيض جميعاً يكونان مرادَين به، كما يقال: قُرءان. لطُهْرين أو حيضين، فلا جرم قال: قلتين. لأعلى الشيء ورأسه، وتثنية الأسماء المشتركة باعتبار لفظها دون معناها يضعف، لكنه يحتمل أن يؤول عليه الحديث هاهنا، فهذا تقرير كلام السيد أبي طالب على القائلين بالقلتين، مع تلخيص منا لكلامه و[تجاوز] تهذيب لم نذكره، والله الموفق للصواب.
وأما الكلام على المعيار للمذهب الثاني في حد الكثير بما لا يُستوعَب في مجرى العادة شرباً وتطهراً والقليل بخلافه. فاعلم أنما قالوه يضعف لأمرين:
أما أولاً: فإن ردوه إلى عدد مقدر فهو تحكم لا مستند له ولا دلالة عليه، وإن ردوه إلى أمر مبهم فهو رد إلى عماية، فإن العادة فيما هذا حاله مختلفة في السفر والحضر فلا يعول على ما ذكروه.
وأما ثانياً: فإن الطرفين واضحان، فما يكفي مائة ألف يكون كثيراً لا محالة، وما يكفي الواحد والاثنين قليل بلا مرية، وما بين هذين الطرفين وسائط كثيرة ومراتب متفاوتة فلا يختص بعضها دون بعض إلا بدلالة ظاهرة وأمارة قوية، وما قالوه ليس يرشد إليها، فيحصل من مجموع ما ذكرناه أن ماعولوا عليه معيار مضطرب لا يُعَوَّلُ عليه في إثبات المميز بين قليل الماء وكثيره.
وأما الكلام على المعيار للمذهب الثالث في حد الكثير بما لا يغلب على الظن أن النجاسة مستعملة باستعماله، والقليل بخلافه، فاعلم أن ما قالوه وإن كان أَسَدَّ من الذي قبله وأدخل في الضبط والحصر وأكثر تأدية للمقصود، فإنه غير منفك عن نظر من وجهين:
أما أولاً: فلأن طهارة الماء ونجاسته صفتان تختصان بالماء فلا يجوز تعليقهما بظن المستعمل للماء، فأحدهما بمعزل عن الآخر، فلا يجوز أن يجعل ظن المستعمل للماء سبباً في المميز بين قليل الماء وكثيره؛ لمجانبته للغرض وميله عن المقصود.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه من الظن يختلف باختلاف الظانين، ولهذا فإن من الناس من ظن أن ما دون القلتين قليل والقلتان كثير، ومنهم من قال: إن القلتين في أنفسهما قليل وما فوقهما قد يكون قليلاً وقد يكون كثيراً، فمراتب الظنون في مثل هذا مختلفة جداً فلا يجوز أن [تكونا] فاصلاً بين قليل الماء وكثيره.
ثم إنا نقول: ما تريدون بقولكم في القليل: إن النجاسة مستعملة باستعماله؟ (هل) تعنون به أنه قد تحقق وصول جرم النجاسة إليه؟ فهذا خطأ، فإنا نعلم قطعاً أن قطرة خمر أو قطرة بول وقعتا في قدر القلتين خمسمائة رطل فإنه قليل عندكم، ونحن نعلم قطعاً أن جرم النجاسة غير متصل به، وإن أردتم أن جرم النجاسة غير خال عما اُستُعمل من الماء فهذا حاصل في الماء الكثير كالبركة، فإنه لو بال فيها رجل فإنا نعلم أن أجزاء النجاسة فيها، ومع ذلك لم تمنعوا الوضوء منها مع تحققنا لوقوع النجاسة ومخالطتها لها، وإن أردتم معنى ثالثاً، فاذكروهُ حتى ننظر فيه بصحة أو فساد. فبطل ما توهموه.
وأما الكلام على المعيار للمذهب الرابع في حد الكثير بما كان لا تضطرب جوانبه عند تحريك جانب منه والقليل بخلافه. فاعلم أن هذا أضعف مما قبله، وفساده يظهر من وجهين:
أما أولاً: فلأن ما قالوه مبني على التحريك والاضطراب والمصاكَّة لأجزاء الماء، وما هذا حاله فلا مناسبة له بكونه قليلاً أو كثيراً؛ إذ لا اختصاص للحركة بالتطهير والتنجيس والقِلَّة والكثرة.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه راجع إلى قوة الاصطكاك وضعفه وامتداد الماء وقبضه، فكم من ماء يعظم قعره ويكون رأسه ضيقاً يضطرب كله عند الضرب وتتحرك أطرافه، ومع ذلك فإنه يعد في الكثرة والعظم، وكم من ماء قليل لا قعر له لسعة أطرافه إذا حُرك لم تصطك أطرافه، ومع ذلك فإنه معدود في القِلة، فَعُرِفَ بما ذكرناه أنه لا أثر لهذا الضابط ولا تعويل عليه في قِلة الماء وكثرته.
ثم إنا نقول لهم: هذا يختلف حاله باختلاف قوة الضارب، فإذا خف الضرب ضعف الاصطكاك مع كونه قليلاً، وإذا قوي الضرب عظم الاصطكاك وإن كان كثيراً فهذا لا يعول عليه، فحصل من مجموع ما ذكرناه ضعف هذه الضوابط كلها، وإذا كانت فاسدة كما قررناه وجب التعويل على ما أشرنا إليه من أنه لا قليل هناك نجس إلا ما كان متغيراً بالنجاسة، فأما من غير تغير فلا وجه للحكم بنجاسته كما أشار إليه القاسم.
والعجب من الإمام الناصر حيث حمل كلام القاسم على أنه وقع فيه نجاسة ولم يرها فليس عليه في ذلك شيء، وقال: إنه كان كثير الأخذ بالاحتياط فيما تعبد اللّه به عباده، وهذا لا وجه له، فإن المقصود بلوغ الغاية في الاجتهاد وتوفيته حقه فما أدى إليه فهو حق وصواب سواء كان في تحليل أو تحريم أو إباحة، ثم لا فرق بين أن يُبيح شيئاً مما حرمه اللّه أو يحرم شيئاً مما أباحه اللّه، أو يضيق مسلكاً فَسَّحَهُ اللّه علىعباده بالإباحة، أو يفسح مسلكاً ضيقه اللّه على عباده بالتحريم، فكلها مستوية في ذلك، ثم إن الماء مخصوص من بين سائر المائعات بالتطهير لغيره كما مر بيانه، ثم يختص بأنه لا ينجسه إلا ما غير أحد أوصافه أو كلها سواء كان قليلاً أو كثيراً، وهو مختص بالغلبة لكل شيء، فإذا وقع فيه شيء من النجاسات وكان غالباً لها لم يسلبه اسم الماء، فهو باق على الطهارة والتطهير لغيره، وهذه الخاصة لا تحصل في شيء من المائعات، ومن أجل هذا فإنه لو وقع في لبنٍ أو عسلٍ أو خلٍ أو غيرها من المائعات كثير قطرة بول أو خمر فإنها تنجس الماء(1) لما لم يكن لها غلبة على النجاسة مثل غلبة الماء لها، سواء كانت متغيرة بالقطرة أو غير متغيرة، ولم تكن مختصة بما اختص به الماء من الصقالة والرقة، فلهذا لم تقدر على حمل النجاسة كقدرته على حملها.
مسألة: في الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة.
اعلم أن جميع ما أسلفنا فيه الكلام إنما هو مختص بالماء الراكد، واعلم أن كل من قال من العلماء من أئمة العترة وغيرهم من علماء الأمة، بأن القليل من الماء لا ينجس إلا بالتغير، فإنه لا يفصل بين أن يكون الماء راكداً أو جارياً، ويَطَّرد هذا الحكم في جميع المياه راكدةً كانت أو جارية، وعلى هذا إذا وقعت ميتة في نهر جارٍ فإنه يُنظر، فإن تغير فهو نجس، وإن لم يتغير فهو طاهر مُطَهِّر. وينشأ من ذلك فروع ثلاثة:
__________
(1) في الأصل تنجس الماء. والصواب: المائعات.
الفرع الأول: إذا وقعت قطرة من خمر أو بول في قربة أو مشعل(1) أو جرة نظرت، فإذا كان متغيراً بها فهو نجس، وإن لم يتغير بها فهو طاهر؛ لأن الاعتماد في هذا المذهب على تغير الماء بوقوع النجاسة وعدم تغيره لا غير من غير أمر ورائه، وإليه تشير ظواهر الأحاديث كما قررناه من قبل.
الفرع الثاني: إذا كان الماء راكداً في حفير أو بركة أو غيرهما ثم وقعت فيه ميتة نظرت أيضاً، فإن كان متغيراً بها فهو نجس لأنه قد تغير بها، وإن كان غير متغير فهو طاهر كله من غير حاجة إلى مجاور أول ولا إلى مجاور ثانٍ كما قررناه فيما سبق، فاتصالها بالماء لا يكون له حكم في التنجيس إلا مع التغير.
الفرع الثالث: إذا وقعت ميتة في نهر جارٍ فإنه ينظر في حالها، فإن غيرت الماء فهو نجس كله ما انفصل منه وما لم ينفصل، وإن لم يكن متغيراً فهو طاهر كله، حافة النهر ووسطه، والجرية التي تمر على النجاسة طاهرة أيضاً إذا لم تكن متغيرة سواء كان الجاري قليلاً أو كثيراً. فهذه المسائل كلها متفرعة على رأي من يذهب إلى أن الماء لا ينجس إلا مع التغير وهو المختار، وقد قررناه بالأدلة فأغنى عن الإعادة والتكرير.
فأما القائلون بنجاسة الماء القليل وإن لم يكن متغيراً فقد اضطربت أنظارهم، فمنهم من قال: إن الجاري مخالف للراكد، ومنهم من قال: بأنهما مستويان. فهذان فريقان نذكر ما يختص كل فريق:
الفريق الأول: الذين ذهبوا إلى أن الجاري لا ينجس وإن كان قليلاً بخلاف مقالتهم في الراكد، وهذا هو المحكي عن الإمام المنصور بالله فإنه قال: إن الجرية تلحقه بالكثير في الحكم، وهو أحد قولي الشافعي الذي حكاه الخراساني عنه، وحكى عنه البغداديون من أصحابه قولاً آخر: أنه ينجس.
__________
(1) المشعل: المراد به الدلو. والمشعل بميم مكسورة فشين معجمة ساكنة فعين مهملة مفتوحة: شيء من جلود له أربع قوائم ينتبذ فيه. قال ذو الرمة:
أضعن مواقت الصلوات عمداً وحالفن المشاعل والجرارا
ا . هـ لسان.
والحجة على ذلك: هو أن الجاري يخالف في طبعه الراكد من جهة أن الراكد يتدافع بعضه على بعض من غير نفوذ بخلاف الجاري فإنه يدفع بعضه بعضاً من غير مرادَّةٍ، فالنجاسة إذا وقعت في الجاري اندفعت على حسب الجرية فلم يكن له حكم في البقاء بخلاف الراكد فإنه يرتد بعضه على بعض، فإذا وقعت فيه النجاسة كان حكمها أقوى في البقاء بخلاف الجاري فافترقا.
الفريق الثاني: وهم الذين ذهبوا إلى أن الجاري مثل الراكد في أن القليل منه ينجس، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والقول المشهور عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الأدلة التي دلت على تنجس القليل من الماء لم تُفَصِّل بين الجاري والراكد، فإذا وقعت النجاسة في الماء الجاري فكل على أصله في القِلَّة والكثرة فيُنظر في الماء، فإن كان متغيراً بوقوع النجاسة فيه فهو نجس بكل حال قليلاً كان أو كثيراً، وإن كان غير متغيرٍ، فعلى قول الناصر والمنصور بالله والشافعي: أن الذي يمر بالنجاسة من الماء إن كان قُلتين فما فوقهما فهو طاهر، وإن كان دون القُلتين فهو نجس. وعلى ما حكيناه عن الإمامين والأخوين(1) تحصيلاً للمذهب، أن الماء الذي يمر بالنجاسة إن كان يغلب على الظن أن النجاسة مستعملة باستعماله فهو قليل فينجس، وإن كان لايغلب على الظن أن النجاسة مستعملة باستعماله فهو كثير فلا يكون نجساً، وهكذا القول في تلك الضوابط التي حكيناها في القليل والكثير، فما كان قليلاً فهو نجس وإن لم يتغير، وماكان كثيراً فهو طاهر إن لم يتغير كما مرَّ تفصيله.
والحجة على ماقالوه: قد اسلفناها.
__________
(1) الإمامان: الناصر والمنصور بالله، والأخوان: المؤيد بالله وأبو طالب.
والمختار: هو الحكم بطهارة الماء إذا لم يكن متغيراً سواء كان جارياً أو راكداً قليلاً كان أو كثيراً، بل هو في الجاري أحق من جهة أن الجرية تذهب بالنجاسة، بخلاف الراكد فإنه يرتد بعضه على بعض، والعذر لمن قال بتنجيس الماء القليل في الراكد أظهر منه في الجاري لما ذكرناه.
فأما على ما اخترناه فهما سيان، ويؤيد ذلك ما نعلم من حال السلف فإنهم مازالوا يستنجون من الأنهار القليلة من غير نكير، وفي هذا دلالة على أن الجاري يخالف الراكد وأنه لاينجس مع كونه قليلاً.
فإذا تمهدت هذه القاعدة، فاعلم أن الماء الجاري إذا وقعت فيه النجاسة يكون على أوجه ثلاثة، على رأي من يرى تنجيس الماء وإن لم يكن متغيراً:
الوجه الأول منها: أن تكون النجاسة جارية بِجُرِيّ الماء، فتكون معه لكونها خفيفة لاتثقل عليه كالمنبذ مثلاً، فالماء الذي [كان] قبل النجاسة يكون طاهراً لامحالة من جهة أن النجاسة غير واصلة إليه، فهو كالماء الذي يصب من إبريق على نجاسة، والماء الذي يكون بعدها طاهراً لأنها غير متصلة به، وأما مايختلط بالنجاسة من تحتها ومن فوقها وعن يمينها وعن شمالها، فإنه ينظر فيه فإن كانت الجرية متغيرة بالنجاسة فهو نجس بلا مرية، وإن كانت غير متغيرة، فهل تنجس أم لا؟ فيه أقوال ثلاثة:
فالقول الأول: يأتي على رأي الأكثر من أئمة العترة، وهو أنه يكون نجساً إلا أن يكون كثيراً، واعتبار كثرته باعتبار الأوجه التي قررناها لهم اعتماداً على أن الماء القليل ينجس وإن لم يكن متغيراً، قال المؤيد بالله: لو كان هاهنا ميتة كبيرة وقعت في نهر حتى سدت جانبيه وعُلِمَ أن جميع الماء يمر عليها ويجاورها، يجب تنجيسه(1) بخلاف ما إذا كان حال الجرية عظيماً ولم يتغير فإنه لا ينجس لأجل كثرته.
__________
(1) المراد: أنه يجب الحكم بنجاسته.
القول الثاني: وهو الذي يأتي على رأي أهل القُلتين، الناصر، والشافعي، وهو: أنه يُنْظَرُ في حاله، فإن كان الذي عن يمينها وشمالها ويجري فوقها يأتي قُلتين، فهو طاهر؛ لأنه صار مقداراً للكثرة، وإن كان دونهما فهو نجس لكونه قليلاً ولا يجوز التطهر به بعد انفصاله إلا أن يركد ويصير قلتين فما فوقهما، وهذا هو المشهور عن الشافعي، وقد روي عنه قول آخر أنه يكون طاهراً إذا كان غير متغير من غير اعتباره بالقلتين.
القول الثالث: أن الجرية وما فوق النجاسة وما تحتها وما عن يمينها وشمالها يكون طاهراً من غير حاجة إلى اعتباره بالقُلتين، وهذا هو المحكي عن الإمام المنصور بالله، وهو أحد أقوال الشافعي من جهة: أن الجرية لها حكم يخالف الركود فلأجل ذلك لم تقو النجاسة على تنجيس الماء من غير تغير.
الوجه الثاني: أن تكون النجاسة واقفة غير جارية بجرية الماء، فالماء الذي قبلها يكون طاهراً، والماء الذي بعدها [يكون] طاهراً إذا لم يتصل بها ويجاورها، فأما الجرية التي تكون فوق النجاسة ومن تحتها فإنه يُنظر فيها، فإن كانت متغيرة فهي نجسة، وإن كانت غير متغيرة فالأقوال الثلاثة التي حكيناها في الوجه الأول حاصلة هاهنا، فمن اعتبر الكثرة قال: هو نجس إلا أن يكون كثيراً، ومن اعتبر القُلتين قال: هو نجس كله إلا أن يكون قلتين، ومن عول على الجرية في الطهارة قال بكونه طاهراً على أية حال كان، سواء كان قلتين أو أكثر كما حكيناه عن المنصور بالله.
الوجه الثالث: أن يكون هاهنا نهر جار فوسطه يجري على سنن جريته، وعن يمين الجرية وشمالها ماء راكد متصل بجرية الوسط، فوقعت في الراكد نجاسة فيُنظر فيه، فإن كان متغيراً بالنجاسة فهو نجس، وإن لم يتغير فيجب تخريجه على تلك الأقوال الثلاثة، فعلى قول الأكثر من أصحابنا أنه يُنْظَرُ فيما ركد، فإن كان قليلاً فهو نجس لملاصقته النجاسة ولا تنفعه الجرية المائلة عن سمته، وعلى قول أهل القلتين إن كان الراكد قلتين فهو طاهر وإلا فهو نجس. وأما على رأي الإمام المنصور بالله فإنه ينظر فيه، فإن دخل عليه الجاري وخرج منه فإنه يكون له حكم الجاري فلا ينجس إلا بالتغير لا غير، وإن كان بحيث لا يتصل به الجاري ولا يدخل عليه. فإنه ينظر فيه، فإن كان قلتين فهو طاهر وإن لم يجر، وإن كان دونهما فهو نجس.
فهذه الأوجه الثلاثة كلها حادثة على رأي من ينجس القليل من غير تغير.
فأما على رأي القاسم والذي اخترناه، فكل ما ذكرناه في هذه الأوجه في هذه الأمواء فإنها طاهرة مالم تكن متغيرة من غير اعتبار ضابط آخر على أي صفة كانت، ومن أجل تنجيس القليل من غير تغير وقع الاختلاف في هذه الصور كما أوضحناه، ومع اعتبار التغير لا يقع هناك اختلاف في الصور، وهذا يدلك على أنه معيار لا تنثلم له حافة ولا تشذ عنه صورة دون صورة، ويسترسل على جميع الصور ويحيط بكل الحالات.
مسألة: إذا حكم بنجاسة الماء لوقوع النجاسة فيه وأريد تطهيره جاز ذلك؛ لأنه كالثوب إذا وقعت فيه نجاسة فإنه يجوز تطهيره بالغَسل، وليس يخلو حاله عند ذلك من أوجه ثلاثة:
الوجه الأول: أن يكون الماء كثيراً، واعتبار كثرته إما أن يكون بحيث لا تكون النجاسة مستعملة باستعماله كما رأى بعض أئمة العترة، وإما بحيث لا يُستوعَب شرباً وتطهراً في مُطَّرد العادة ومجراها، وإما بأن يكون قلتين فما فوقهما على رأي من يعتبر الكثرة بالقلتين كما هو رأي الإمامين الناصر والمنصور بالله والشافعي، فإذا كان كثيراً بهذه الاعتبارات وتغير بوقوع النجاسة عليه وأريد تطهيره، فإنه يطهر بزوال تغيره؛ لأنه هو المؤثر في نجاسته، فإذا زال تغيره وجب الحكم بطهارته لأنه خلق طهوراً، وإنما عرض له عارض فبزوال ذلك العارض تعود له الطهارة، وذلك يكون: إما بطول الإقامة والمكث، وإما بهبوب الريح، وإما بطلوع الشمس عليه، وإما بأن يضاف إليه ما هو أعظم منه وأوسع في الكثرة فيزول تغيره به، وإما بأن يؤخذ بعضه فيكون أخذه سبباً في زوال تغيره، فما هذا حاله يعود طاهراً عند أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( خلق الماء طهوراً )). وفي حديث آخر: (( لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه )). فإذا كان التنجيس متعلقاً بالتغير فهو إذا زال بطل حكم النجاسة.
نعم.. إذا طُرِحَ فيه شيء فزال التغير لأجل طرحه، فإن كان المتغير هو الطعم فطرح فيه ماله طعم فغلب طعمه طعم النجاسة، أو كان المتغير هو اللون فطُرِحَ فيه ماله لون فغلب لونه لون الماء، أو كان المغير هو الريح فَطُرِح فيه ماله ريح فغلب ريحه ريح الماء، فما هذا حاله لا يحكم بطهارته(1) للماء عند أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه يجوز أن تكون صفة الماء المتغير بالنجاسة باقية، وإنما لم تظهر لغلبة ما طرح فيه، وتحقيق ذلك أن النجاسة متحققة الحصول في الماء، والشك حاصل في زوالها فلا وجه للحكم بزوالها بالشك.
__________
(1) أي بتطهيره.
وإن طُرح فيه تراب فأزال تغير الماء بالنجاسة، فهل يطهر أم لا؟ الأقرب على المذهب أنه غير مطهر(1)، وهو أحد قولي الشافعي الذي اختاره المحاملي ) لمذهبه.
والقول الثاني: أنه يطهر، حكاه الإسفرائيني من أصحابه.
والحجة للأوّل: هو أنه زال تغيره بوارد عليه غير مزيل للنجاسة، فأشبه ما لو طُرحَ فيه كافور أو مسك فزالت رائحته به.
والحجة للثاني: هو أنه قد زال التغير فأشبه ما لو زال بنفسه أو بماء.
والمختار: هو الأول، وهو ما ذكرناه من قبل، أن النجاسة متحققة والتراب لا يُعلَم حاله هل هو مزيل أو ساتر، فلا يجوز الحكم بطهارته مع الشك.
وإن طرح في الماء المتنجس غير التراب من الجوامد التي لا ريح لها ولا طعم ولا لون كالأحجار الصلبة فزال تغيره بها، فهل يطهر أم لا؟ فيه لأصحاب الشافعي وجهان:
أحدهما: أنه لا يطهر وهو محكي عن الشيخ أبي حامد من أصحابه.
وحجته: أنه زال تغيره بغير مطهر فأشبه الزعفران وماء الورد.
وثانيهما: أنه يطهر؛ لأنه قد زال التغير بطارئ عليه فأشبه ما لو زال بالماء.
والمختار للمذهب: هو الثاني.
والحجة على ذلك: هو أن هذه الأحجار ليس لها طعم ولا ريح ولا لون، فإذا زال تغير الماء بها كان طاهراً كما لو زال بهبوب الريح وطلوع الشمس.
__________
(1) هكذا في الأصل. والصواب: أنه لا يطهر.
(2) أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي المحاملي البغدادي، أحد أئمة الشافعية، درس الفقه على الشيخ أبي حامد الإسفرائيني، وبرع في المذهب الشافعي، وله مصنفات كثيرة في الخلاف والمذهب، منها: (المقنع)، و(المجرد)، و(المجموع) و( رؤوس المسائل)، ولد سنة 368هـ، وتوفي في ربيع الآخر سنة 415هـ. (طبقات الشافعية).
الوجه الثاني: أن يكون على قدر مخصوص من الكثرة، بحيث لا يزيد عليها ولا ينقص منها على رأي أكثر العترة، أو يكون قلتين من غير زيادة عليهما فيكون كثيراً(1) ولا ناقص عنهما فيكون قليلاً، ومتى كان الأمر فيه على هذه الصفة فأُريد تطهيره فإنه يطهر بجميع ما ذكرناه، بهبوب الريح وجري الشمس، أو بأن يُزاد عليه من الماء ما هو أعظم منه ولا يخرج عن هذا إلا تطهيره بالنقصان عنه؛ لأنه متى نقص عن حد الكثرة كما يقوله أصحابنا، أو عن القلتين عند من يعتبرهما، كان نجساً، وتطهير الشيء النجس لا يكون بنقصان بعض أجزائه، وإنما يكون هذا إذا كان موصوفاً بالكثرة.
الوجه الثالث: أن يكون الماء ناقصاً عن حد الكثير، إما بأن يكون يغلب على الظن بأن النجاسة مستعملة باستعماله، أو بأن يكون ناقصاً عن القلتين عند من اعتبرهما في الكثرة، فإذا وقعت فيه نجاسة وغيرت أوصافه أو بعضها وأريد تطهيره، فإذا كوثر الماء فَصُبَّ عليه حتى بلغ حد الكثرة، فهل يطهر أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا يطهر، وهذا هو رأي أكثر أئمة العترة، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن كل واحد من الزائد والمزيد عليه نجس لكونهما قليلاً بانفراد كون كل واحد منهما، فلا يطهران باجتماعهما، كالمتولد بين الكلب والخنزير، فإنه يكون حراماً مثلهما.
وثانيهما: أنه يطهر، وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه.
__________
(1) في الأصل: فيكون قليلاً منها.
والحجة له على ذلك: هو أنها وقعت فيه نجاسة، وقد بلغ حد الكثرة بالقلتين من غير تغير فيه، فكان طاهراً كما لو وقعت فيه نجاسة وهو قلتان ولم تغيره فإنه يحكم بطهارته فهكذا هذا. قالوا: وهكذا لو كان هاهنا قلتان منفردتان في كل واحدة منهما نجاسة قد غيرتها، فخلطا جميعاً فزال التغير بالخلط حكم بطهارتهما، وقالوا أيضا: إذا كان هاهنا قلتان فوقعت في كل واحدة منهما نجاسة على انفراد كانت نجسة، فإذا اجتمعتا صارتا طاهرتين، فإذا تفرقتا كانتا على أصل الطهارة، وإن طرأ عليهما نجاسة بعد افتراقهما تنجستا لا محالة.
والمختار: أن هذه التفاصيل التي قررناها إنما تليق على رأي من أثبت نجاسة القليل من غير تغير، فأما على ما أَصَّلنا من أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فجميع هذه الصور كلها طاهرة سواء كان قليلاً أو كثيراً، أو كان قلتين أو زائداً عليهما أو ناقصاً عنهما فلا عبرة في طهارته ونجاسته بِطُرُوِّ النجاسة عليه إلا بتغيره لا غير.
نعم.. إذا كان لا بد من إثبات القليل من الماء يكون نجساً وإن لم يتغير، فحصره بالقلتين أولى من حصره بغيرهما(1) تفريعاً على قول أهل القليل؛ لأن القلتين قد دل الشرع على كونهما وما فوقهما معياراً للكثير من الماء، ودل على أن ما دونهما فهو معيار للقليل، فلهذا كان القلتان فما فوقهما لا ينجسان بوقوع النجاسة فيهما إذا لم تتغيرا وكان ما دون القلتين قليلاً فينجس بوقوع النجاسة وإن لم يتغير، بخلاف غيرهما من الضوابط للكثرة والقلة، فإنما تقررت بالمقاييس والظنون والأمارات وذلك يكون من جهة القياس، ولا شك أن منصب الشارع أعلى من منصب القائس؛ لأن عصمة الشارع معلومة مقطوع عليها، بخلاف القائس فإنما يصدر قياسه عن ظنون وأمارات خيالية، فلهذا كان القلتان أحق من جهة التقدير لو قلنا به. والله أعلم.
__________
(1) في الأصل: لغيره، ورأينا الصواب: بغيرهما، إشارة إلى حصر القليل بالقلتين.
مسألة: وإذا وقع في الماء نجاسة ولم تغيره ووقع الشك في الماء، هل هو قليل أو كثير، أو قلتان أو أقل منهما على رأي من قال بهما، حكم بنجاسته على رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي، من جهة أن الأصل فيه القِلة، والكثرة عارضة. فلهذا كان التعويل على كونه قليلاً فينجس.
وإن تحقق كون الماء كثيراً، أو قلتان فما فوقهما، ثم أُخِذَ [منه] مقدار فوقع الشك في كونه قليلاً أو كثيراً، ثم وقعت فيه نجاسة لم تغيره، كان طاهراً من جهة أن الأصل هو الكثرة؛ لأنها هي المتحققة من قبل، والشك إنما وقع في القِلة فلهذا حكمنا بطهارته.
وإن كان الماء كثيراً فنقص منه مقدار قربة أو غرب(1)، أو كان قلتين فنقص منهما مقدار كوز ثم أكمل بماء الورد ثم وقعت فيه نجاسة، كان الماء كله نجساً، وإن لم يتغير، من جهة أنه نقص عن مقدار ما تحمل النجاسة وهو الكثرة، وإن أكمل بماء قد تغير بالزعفران ثم وقعت نجاسة فيه، فإن الماء يكون طاهراً.
والتفرقة بينهما هو: أن ماء الورد عرق وليس بماء بخلاف ما تغير بالزعفران فإنه ماء كان مطهراً، فإذا أكمل بماء الورد فقد أكمل بغير الماء، وإذا أكمل بماء الزعفران فقد أُكْمِلَ بالماء فإذا زال تغيره بالخلط صار طاهراً مطهراً فافترقا.
وإن صَبَّ على القليل من الماء أو على ما دون القلتين خمراً أو بولاً، حكم بنجاسة الماء وإن لم يتغير، وهكذا إذا صَبَّ على القليل ماءً نجساً حكم بنجاسة الماء أيضاً، وإن صب ما حكم بقلته من الماء أو كان دون القلتين على الخمر والبول فاستهلك الخمر والبول بالماء، فهل يحكم بطهارة الماء أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يكون نجساً، وهذا هو رأي أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه ماء قليل خالطته النجاسة فيجب القضاء بنجاسته كماء لو ورد عليه البول والخمر.
__________
(1) المراد بالغرب هنا، القربة الكبيرة.
وثانيهما: أنه يكون طاهراً، وهذا هو المحكي عن الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً)). فنهى عن إيراد اليد النجسة على الماء وأمر بإيراد الماء عليها، فدل ذلك على أن إيراد الماء على النجاسة يستهلكها فلهذا طهرهاً بخلاف ما إذا أوردت عليه فإنها تكون مستهلكة له.
والمختار: هو الأول على رأي أهل القليل؛ لأنه إذا كان قليلاً فإنه يغلب على الظن أن النجاسة مستعملة باستعماله، فلهذا كان نجساً كما لو كانت النجاسة واردة على الماء، فهذه التفاصيل إنما تليق بمن قال بالتقدير في قليل الماء وكثيره كما فصلناه من تلك الضوابط لهم، فأما من جعل الضابط هو التغير فلا يفتقر إلى هذه التفاصيل وإنما معياره هو التغير لا غير، سواء كان الماء جارياً أو راكداً، فالتغير هو المعيار الذي لا يختلف حاله، وإنما وقع الاضطراب في هذه المسائل التي ذكرناها من أجل الضبط بالقليل والكثير بالقلتين وبغيرهما، فأما ضابط التغير فإنه لا اختلاف فيه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه، فأما ما رواه أبو هريرة من قوله عليه السلام: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه)). الحديث، فقد احتج به الشافعي على أن الماء إذا أُوْرِدَ على النجاسة طهّرها بخلاف ما إذا وردت عليه، وجوابه من وجهين:
أما أولاً: فلأنه إنما قال: (( فلا يُدخلها الإناء حتى يغسلها ثلاثاً)) ليس من أجل التفرقة بين أن ترد النجاسة على الماء أو يكون وارداً عليها، ولكن الغرض هو التنزيه، وإدخالها الإناء يناقض التنزيه ويبطله فلهذا أمر بإيراد الماء عليها من أجل ذلك.
وأما ثانياً: فلأنه لا يُؤمن أن تكون في يده نجاسة تفسد الماء، فلا جرم أمر بإيراد الماء عليها، ولأن الماء إذا ورد عليها كانت الغسالات منفصلة عن الماء بخلاف مالو كانت اليد واردة على الماء، فإنها تكون متصلة به، فحصل من هذا أنه لم يأمر بإيراد الماء على النجاسة من جهة التفرقة، فهما سيان في التنجيس على رأي من يفسد الماء بالقليل من النجاسة وإن لم تغيره.
وقد احتج بالخبر من زعم أن الماء القليل ينجس من غير تغير؛ لأنه لولا أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة لما نهى عن إدخالها الإناء من غير غسل، لأنه إذا كان إدخالها الأناء لا ينجس الماء فلا فائدة في نهيه عن إدخالها الإناء، وجوابه من وجهين:
أما أولاً: فليس في ظاهر الحديث ما يدل على أن في اليد نجاسة، وإنما ورد التعبد في المنع من إدخالها الإناء وإن كانت طاهرة، وليس وارداً على جهة المنع وإنما ورد على جهة التنزيه والاستحباب، ولهذا قال ابن عباس لما روى أبو هريرة هذا الحديث: فما نصنع بمهراسنا؟ يشير إلى أنه ليس وارداً عل جهة الحظر وإنما مقصوده التنزيه.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: لعل النجاسة التي توهم اتصالها باليد كانت تغير الماء وتنجسه بالتغيير له، وكلامنا إنما هو في نجاسةٍ لا تُغَيِّر الماء، فلا جرم لم تكن منجسة له. والنزاع إنما وقع فيما كان من النجاسات غير مغير للماء هل تنجسه أم لا؟ فأما ما كان مغيراً له، فهو منجس له لا محالة فافترقا.
مسألة: إذا وقع في الماء القليل نجاسة لا يدركها الطرف أو في الثوب، فقد حكي عن أصحاب الشافعي فيه طرق خمس:
الأولى منها: أنه يعفى عنها؛ لأنه يتعذر الاحتراز مما هذا حاله فلهذا عفي عنه.
الثانية: أنه لا يعفى عن شيء منها من جهة أنها نجاسة متيقنة فهي كالنجاسة التي يدركها الطرف.
الثالثة: أن فيها قولين:
أحدهما: أنه يعفى عنها.
وثانيهما: أنه لا يعفى، ووجههما ما ذكرنا من قبل.
الرابعة: التفرقة بين الماء والثوب، فيعفى عن الثوب ولا يعفى عن الماء.
ووجه التفرقة بينهما: هو أن الثوب أخف حكماً في النجاسة ولهذا فإنه يعفى عن قليل الدم والقيح فيه، بخلاف الماء فافترقا.
الخامسة: أنه يعفى عن الماء ولا يعفى عن الثوب.
ووجه التفرقة بينهما: هو أن الماء يزيل النجاسة عن غيره، فلهذا دفع النجاسة عن نفسه بخلاف الثوب فافترقا.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من العفو عن ذلك، وهو أول هذه الطرق.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. فلو أوجبنا تنجيس الماء لكان في ذلك أعظم حرج، وأي حرج أعظم من المعاملة بنجاسة ما لا تُعْلَمْ نجاسته ويعلمها اللّه تعالى، والتكليف فيما هذه حاله، بما يدرك بالحس ويعلم بالإدراك. وقوله ً: (( بعثت بالحنيفية السمحة ))(1). ولا مسامحة فيما هذا حاله، إنما السموحة في إسقاط نجاسته والعفو عنها كما قلناه.
ومن جهة القياس، وهو أن ما هذه صفته فإنه يلحق بما لا نفع فيه؛ لأنه في الحكم كأنه غير واقع من جهة أنه غير مُدرَك ولا مرئي، فهذا ما أردنا ذكره في الأمواء النجسة وما تحتمله من المسائل، والله الموفق.
ا
__________
(1) رواه أحمد في مسنده، ونسبه صاحب موسوعة أطراف الحديث إلى الحاوي للسيوطي وتفسيري القرطبي وابن كثير وغيرهما.
---
القسم الثالث: في بيان المياه المستعملة
اعلم أن الماء المستعمل الذي وقع فيه التردد بين العلماء في كونه مطهراً أو غير مطهر، إنما يصير مستعملاً باعتبار معنيين.
المعنى الأول منهما: تأدية العبادة به، فرضاً كانت أو نفلاً، فما كان [من الماء] منفصلاً عن أعضاء المحدث في فرض الطهارة ونفلها، وما كان منفصلاً عن بدن المحدث في غسل الجنابة، فإنه يصير مستعملاً بما أوضحناه.
المعنى الثاني: ما أزيل به النجاسة، فهذا نحو الغُسالة الثالثة على رأي المؤيد بالله فإنها طاهرة، وقد صارت مستعملة في إزالة النجاسة بها، ونحو الغسالة الثانية والثالثة على رأي الشافعي فإنهما طاهرتان، وقد حصل لهما وصف الاستعمال بإزالة النجاسة بهما، فأما الغُسالة الأولى على رأي المؤيد بالله والشافعي فهي نجسة، فلا كلام عليها، وهكذا حال الغُسالة الثانية على رأي المؤيد بالله فإنها نجسة أيضاً، وإنما كلامنا فيما كان طاهراً من الماء وقد عرض [له] وصف الاستعمال. فمتى حصل هذان المعنيان صار الماء مستعملاً، وسيأتي تقريره، ومتى انتفيا جميعاً فليس مستعملاً، وإن حصل أحدهما دون الآخر فالماء مستعمل لا محالة. ومثال حصولهما جميعاً: هو أن المحدث لو كان على أعضائه نجاسة فطهرها من النجاسة، ثم لما كان عند الغسلة الثالثة نوى رفع الحدث فصار ما تساقط من الماء المستعمل يستعمل في رفع الحدث وإزالة النجاسة جميعاً.
ومثال ما انتفى عنه الأمران جميعاً، فالغُسالة الرابعة فإنها غير مستعملة في رفع حدث ولا إزالة نجس، فلا جرم لم يتعلق بها حكم الاستعمال، فما هذا حاله من الأمور يجوز فيه رفع الحدث وإزالة النجس؛ لأنه لم يتغير عن وصفه لا بعارض حسي ولا بعارض حكمي يزيل وصف التطهر به، فلهذا جاز التطهر [به] اتفاقاً. ومثال ما حصل به رفع الحدث دون إزالة النجس، الماء الذي تُؤَدَّى به العبادة من فرض أو نفل فإنه يكون مستعملاً لما حصل به من تأدية العبادة.
ومثال ما حصل به إزالة النجاسة، نحو الماء الذي تزال به النجاسة عن الثوب مثلاً، فإنه إنما كان مستعملاً بإزالة النجاسة لا غير وليس هناك حدث. وهل يصير الماء مستعملاً بالتبرد أم لا؟
والذي عليه أئمة العترة وهو قول الشافعي: أنه لا يصير مستعملاً. وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة: أن الماء يصير مستعملاً بالتبرد وأنكره الجصاص من أصحابه.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة، واختاره الفريقان أبوحنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه باق على أصل الطهارة لم يعرض ما يخرجه عن كونه مطهراً من شائب في عينه ولا حكمه، فوجب الحكم عليه بكونه طاهراً مطهراً كالماء الذي لم يخالطه شيء، ولأنه لم يعرض له إلا مباشرته للجسم من غير أن يتعلق به حكم شرعي فلا يكون مغيراً له كما اتصل بمجراه وممره.
فإذا عرفت حقيقة الماء المستعمل وما المراد به في ألسنة العلماء، فلنذكر مسائله المتعلقة بأحكامه.
مسألة: الماء المستعمل، هل يكون طاهراً أو نجساً أو موقوفاً في حاله؟ فيه ثلاثة مذاهب نفصلها:
المذهب الأول: أنه طاهر، وهذا هو الذي عليه أكثر أئمة العترة وهو المنصوص للشافعي والرواية المشهورة عن أبي حنيفة التي حكاها عنه محمد بن الحسن، وهو محكي عن مالك، ومحكي عن زيد بن علي )، والناصر، والمؤيد بالله، وأبي
__________
(1) أبو الحسين الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ٍ إمام الزيدية وعلمها. كان عالماً مجتهداً وعابداً زاهداً شجاعاً، خرج مجاهداً لرفع راية الحق، وإزالة سلطة الظلم والجبروت، فاستشهد عام 122هـ، وقيل: سنة121هـ، وعمره 42سنة، قال أخوه الباقر (محمد): والله لقد أوتي أخي علم الدنيا فاسألوه فإنه يعلم ما لا نعلم. وقال الصادق (جعفر بن محمد): كان زيد أفقهنا وأقرأنا وأوصلنا للرحم. وقال أبو إسحاق السبيعي: لم أر مثل زيد أعلم ولا أفضل ولا أفصح في أهل البيت. وقال الشعبي: ما ولدت النساء أفضل من زيد ولا أشجع ولا أزهد. وقال أبوحنيفة: ما رأيت أفقه من زيد ولا أعلم. وقال ابن عنبة: مناقبه أجل من أن تحصى، وفضله أكثر من أن يوصف. روى عن: أبيه، وأخيه الباقر، وأبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وعبيدالله بن أبي رافع. وروى عنه: ابناه حسين وعيسى وابن أخيه جعفر بن محمد (الصادق)، والزهري، والأعمش، وشعبة، وسعيد بن خثيم، وإسماعيل السدي، وزبيد اليامي، وزكريا بن أبي زائدة، وعبدالرحمن بن الحارث بن عياش، وأبو خالد الواسطي، وابن أبي الزناد، وعدة. بايعه خمسة عشر ألفاً، ثم تفرق عنه أصحابه حتى بقي في ثلاثمائة وبضع عشرة وواصل الجهاد حتى رمي في جبينه وفاز بالشهادة فدفنه أصحابه في مجرى ماء، ولكن غلاماً دل جيش هشام عليه، فأخرجوه وصلبوه أربع سنين. أعانه أبوحنيفة عند خروجه من ماله وكان يفتي الناس بالخروج معه. له المجموعان: الحديثي والفقهي والأخير عليه شرح (الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير) للعلامة القاضي حسين بن أحمد السياغي وهو مطبوع في خمسة مجلدات. (مقدمة الأزهار تهذيب التهذيب).
طالب.
والحجة على ذلك: الظواهر القرآنية كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}[الأنفال:11]. والماء المستعمل مندرج تحت هذه الظواهر فيجب القضاء بطهارته.
والحجة الثانية: الأخبار المروية كقوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه أو لونه)). وقوله ً: (( الماء لا يجنب)). وقوله ً: (( الماء طهور )). فهذه الأخبار كلها دالة على كونه طاهراً، ويدل على ذلك: ما روي أن الصحابة (رضي اللّه عنهم) كانوا لا يحترزون عنه، فلو كان نجساً لكانوا يحترزون عنه كما يفعلون في سائر النجاسات.
المذهب الثاني: أنه نجس، وهذه هي الرواية الثانية عن أبي حنيفة التي رواها أبو يوسف واختارها مذهباً لنفسه، وهو الذي حصله السيد أبوالعباس لمذهب الهادي.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه ))، فجمع بين الأمرين في النهي، فلما كان البول في الراكد ينجسه فهكذا الاغتسال ينجسه، ولهذا عطف أحدهما على الأخر لما كانا مستويين في تنجيس الماء جميعاً.
الحجة الثانية: أن الأمة مجمعة على إراقته في السفر والحضر وإضاعته، فلولا أنه نجس وإلا لما فعلوا ذلك فيه كسائر الأمواء النجسة كالأبوال والأمواء التي خالطتها النجاسات.
والحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنه ماء أزيل به مانع من الصلاة كالحدث والنجس، فيجب أن ينتقل المنع إليه كالماء المتغير بالنجاسة، وهذه الأمور كلها دالة على تنجيسه.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العترة وفقهاء الأمة ويدل على طهارته حجتان:
الحجة الأولى: ما عُلِمَ من حال الصحابة (رضي اللّه عنهم) أنهم كانوا يبتدرون إلى غُسالة وضوء رسول اللّه ً فيغسلون بها وجوههم وأيديهم ويتمسحون بها ويستشفون بمخالطتها، فلو كانت نجساً(1) لما فعلوا ذلك، ولأنكر عليهم رسول اللّه ما فعلوه لما فيه من مخامرة النجاسة ومخالطتها.
الحجة الثانية: وهي أن الماء باق على أصل الطهارة بالظواهر الشرعية وليس ينجس إلا بما يلاقيه، والماء المستعمل لم يعرض له ما يوجب تنجيسه من المخالطة للنجاسات، فيجب القضاء بكونه طاهراً؛ ولأنه ماء طاهر لاقى محلاً طاهراً فوجب أن يكون طاهراً كما لو غُسل به ثوب طاهر.
المذهب الثالث: الوقف في حاله، وهذا شيء حكاه أبو ثور ) عن الشافعي.
ومن توقف في مسألة فليس له مذهب فيها من جهة أن المذهب ليس إلا الاعتقاد أو الظن، ومن وقف فليس معتمده إلا تعارض الأدلة واستواؤها في حقه من غير ترجيح، فلهذا توقف فهو لا يفتقر إلى إيضاح مذهبه بالدلالة، إذ لا مذهب له كما قررناه، وغالب ظني أن توقف الشافعي في الماء المستعمل، إنما هو في كونه مطهراً لا في طهارته، ولهذا فإن تردده إنما هو في كونه مطهراً رافعاً للأحداث ومزيلاً للنجاسات في اختلاف أقواله كما سنحكيها، لا في كونه طاهراً فإنه لم يُحْكَ عنه تنجيسه، وظاهر توقفه مطلقاً، والأقرب أنه يجب حمله على ما قلناه.
مسألة: وإذا وجب الحكم بطهارته كما قلناه، فهل يكون مُطَهِّراً لغيره أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) يظهر أنه بنى العبارة على حذف الموصوف، وهو كلمة (ماء) أي: فلو كانت الغسالة ماء نجساً. إذ يستبعد أن يكون أراد (نجساً) بفتح الجيم؛ لأنها تطلق غالباً على النجس أصلا كالمشرك.
(2) إبراهيم بن خالد الكلبي، البغدادي، الإمام، الحافظ، المجتهد، يكنى بأبي عبدالله ولقبه أبو ثور. قال ابن حبان في الثقات: كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً وفضلاً، صنف الكتب، وفرع على السنن، وذب عنها، توفي سنة 240هـ.
المذهب الأول منهما: أنه طاهر مطهر، وهذا هو رأي المؤيد بالله أخيراً، ومحكي عن الحسن البصري والزهري ) والنخعي وداود، وهو مروي عن الإمامية، وحكى عيسى بن أبان )، عن الشافعي: أنه مطهر، ورواية عن مالك، ورواية عن أبي حنيفة.
والحجة [الأولى] على ذلك: ما روي عن النبي ً، (( أنه اغتسل من الجنابة فبقي في يديه لمعة فأخذ الماء الذي بقي في شعره فدلكها به))، وهذه هي صورة الماء المستعمل فإن أصل ذلك قد كان أدى به غُسل الجنابة ولا فائدة للمستعمل إلا ما ذكرناه، فما هذا حاله نص لا احتمال فيه.
الحجة الثانية: ما ذكرناه من قبل، أن الصحابة كانوا يبتدرون وضوء رسول اللّه ً، فيغسلون به وجوههم وأيديهم، فكما هو دال على طهارته كما أسلفنا تقريره، فهو دال على كونه مطهراً وهو مرادنا.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنه أحد ما يشترط في تأدية الفروض فلا يخرج عن حكمه بتأدية الفرض به كالثوب فإنه يُصلَّى به مراراً.
__________
(1) أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله بن شهاب بن عبدالله بن الحارث القرشي، الزهري (نسبة إلى بني زهرة)، أحد فقهاء التابعين، رأى عشرة من الصحابة، وروى عنه: مالك، وابن عيينة، والثوري، وروى عن ابن عمر، وعبدالله بن جعفر، وأنس، وجابر، وأبي أمامة، والحسن وعبدالله ابني محمد بن الحنفية، وآخرين، وشنع عليه أبو حازم الأعرج وغيره لمخالطته هشام بن عبدالملك، ويقال: إنه كان على حراسة خشبة زيد بن علي. ضعفه الإمام المؤيد بالله، واحتج به أكثر الأئمة لتبحره في السنة، وحفظه. توفي لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة 124هـ. (مقدمة الأزهار).
(2) عيسى بن أبان بن صدقة أبو موسى. صحب محمد بن الحسن الشيباني وتفقه عليه، تولى القضاء بالبصرة حتى مات سنة 221هـ. له رسائل كثيرة واحتجاج لمذهب أبي حنيفة. (تاريخ بغداد ج10/175).
المذهب الثاني: أنه غير مُطّهّر لغيره، وهذا هو رأي أكثر العترة، الهادي والناصر والمنصور بالله، وهو محكي في رواية عن أبي حنيفة، ورواية عن مالك، والمشهور عن الشافعي، وبه قال الليث ) وأحمد بن حنبل والأوزاعي.
__________
(1) أبو الحارث الليث بن سعد بن عبدالرحمن المصري، الفهمي (نسبة إلى بطن من بيت قيس غيلان، سكن قرية أسمها فهم في مصر). وقيل: أصله من الفرس من أصبهان. روى عن: عطاء، ونافع، وابن الزبير، وآخرين، نقل عن الشافعي قوله: كان الليث أفقه من مالك، ولكن ضيَّعه أصحابه. وعن ابن بكير: كان فقيهاً، عربي اللسان، يحسن القرآن، والنحو، والشعر، والحديث، وقال ابن سعد في (الطبقات): ولد سنة 94هـ، وكان ثقة، كثير الحديث، صحيحه، واشتغل بالفتوى في مصر، توفي سنة 6 أو 177هـ. عن إحدى وثمانين سنة، وقيل: سنة 175هـ على ما في التهذيب. ودفن بمصر وعلى قبره قبة بالقرب من قبر الإمام الشافعي. (تهذيب التهذيب، مقدمة الأزهار، طبقات ابن سعد).
والحجة [الأولى] على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( لا يتوضأ أحدكم بفضل وضوء المرأة ))(1). وقد تقرر أنه لم يرد مانع في الإناء؛ لأن ذلك مطهر بالإجماع وليس مستعملاً، وإنما يكون مستعملاً إذا تساقط من أعضاء الوضوء، وقد نُهي عنه، فدل ذلك على أنه غير مطهر. وفي حديث آخر: (( لايتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة ، ولا المرأة بفضل وضوء الرجل))(2). وكل ذلك دال على المنع من التطهر والوضوء بالماء المستعمل في قُربة من فرض أونفل.
الحجة الثانية: هو أن المعلوم من عادة الصحابة رضي اللّه عنهم والتابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا، [أنهم] كانوا يسافرون ويعدمون الماء فيعدلون إلى التيمم بعد عدمه، وما روي عن أحد منهم أنه توضأ بالماء المستعمل، فلو كان جائزاً لفُعل على قِلة الأمواء وضيقها في الأسفار.
__________
(1) روي عن الحكم بن عمرو، أن النبي ً: نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. أخرجه أبو داود، والترمذي، وهو مروي عن أبي هريرة. أورده في البحر وقال: وزاد مسدد (وليغترفا جميعاً).
(2) أفاد في البحر: بأن راوي هذا الحديث ضعيف، وأسنده إلى مجهول وأنه معارض بحديث عائشة (كنت أغتسل أنا ورسول اللّه من إناء بيني وبينه واحد) إلخ. ا.هـ. ويؤيد الأول ما روي بأن النبي ً، نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. وقد أشار المؤلف إلى ضعف الحديث. وراويه حُميد الحميري قال: لقيت رجلا صحب رسول اللّه أربع سنين كما صحبه أبو هريرة، قال: نهى رسول الله ... الخبر. ا.هـ.
الحجة الثالثة: ما روي عن عمر أنه كان له مولى يقال له: أسلم ) كان يأكل الصدقة، فقال له عمر: تأكل غُسالة أوساخ الناس؟ أرأيت لو توضأ إنسان بماء أكنت شاربه؟ فكرَّه شربه، فلو كان استعماله جائزاً لما كره شربه، فهذا تقرير كلام الفريقين كما ترى.
والمختار: القول بطهارته كما مر تقريره، فأما من قال بنجاسته فقد أبعد في نظره، ومن ادعى إجماعاً في طهارته لم يكن مجازفاً، فإنا نعلم من عادة السلف والخلف من الصدر الأول إلى يومنا هذا، عدم تحرزهم عن الأمواء المستعملة وهم يباشرونها مباشرة الأشياء الطاهرة وهم لا يخالفوننا في جواز شربه واستعماله في غير التطهر، ولو كان نجساً لما جاز ذلك فيه، كما لا يجوز في الأشياء المتنجسة من الأبوال والأرواث وغيرها.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: روى أبو هريرة: (( لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه)).
قلنا: جوابه من وجهين:
أما أولاً: فلأنا قد قررنا فيما سبق أن الاستدلال بهذه الطريقة تضعف من جهة أنها تعويل على الاقتران من غير علة جامعة بينهما، فلا يقبل ما هذا حاله، وهي طريقة لأصحاب أبي حنيفة؛ لأنهم عولوا فيها على أن البول لما كان منجساً للماء فهكذا الاستعمال لما كان معطوفاً عليه؛ لأن من حق المعطوف أن يكون مغايراً للمعطوف عليه، ولهذا استحال عطف الشيء على نفسه، فإذا كان من حقهما التغاير فكيف يقال إن من حقهما الاستواء في الحكم!.
وأما ثانياً: فلأنه محمول على كون الماء قليلاً قد تغير بمخالطة البول فلا يجوز الاغتسال به ولا فيه؛ لأجل نجاسته بالبول لا من أجل كونه مستعملاً، فبطل ما توهموه.
__________
(1) أسلم العدوي (مولاهم)، أبو خالد، ويقال: أبو زيد. قيل: إنه حبشي، وقيل: من سبي عين التمر، مولى عمر بن الخطاب، ابتاعه سنة 11هـ، روى عن: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، توفي سنة 70هـ، وقيل: سنة 80هـ. (تهذيب التهذيب).
قالوا: الأمة مجمعة على تضييعه في السفر والحضر وإراقته، وفي هذا دلالة على كونه نجساً.
قلنا: [هذا القول] فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه من دعوى الإجماع فإنما هو إجماع مرسل لا يُدرى بقصد الأمة فيه، فإنهم لم يصرحوا بمرادهم فيه، وما هذا حاله من الإجماعات فإنه لا حجة فيه.
وأما ثانياً: فهب أنهم أراقوه فلم يريقوه من أجل كونه نجساً، فما دليلكم على نجاسته؟ وليس الكلام إلا في نجاسته.
وأما ثالثاً: فلأنا نقول: لعلهم أراقوه من أجل استغنائهم بغيره، أو من أجل كراهتهم واستقذارهم منه، فمطلق الإراقة له لا يكون حجة على تنجيسه.
قالوا: هو ماء أزيل به مانع من الصلاة، وهو الحدث والنجاسة، فانتقل المنع إليه كالماء المتنجس.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن هذا القياس باطل بالفرق، لأنا نقول: المعنى في الأصل أن الماء تغير بالنجاسة، والمستعمل لم يكن متغيراً بالاستعمال، فما هذا حاله من الفرق يبطل فيه الجمع ويلحق الجامع بالفساد والبطلان من جهة كون الفرق مخيلاً والجامع أمر شبهي.
وأما ثانياً: فلأن هذا القياس معارض بمثله، فإنا نقول: شيء يؤدى به الفرض فلا يخرج عن حكمه بتأدية الفرض، كالثوب يُصَلَّى فيه مراراً فبطل ما توهموه، فإذاً تقرر كونه طاهراً بما أوردنا من الأدلة وبإبطال ما جعلوه حجة لهم على نجاسته.
والمختار أيضا: كونه مطهراً كما قاله المؤيد بالله كما سبق تقريره من الأدلة ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: أنا نقول: إنه ماء طاهر لم يَشِبْه شيء من النجاسات ولا ما يخرجه عن كونه ماء، فجاز التطهر به كالماء القراح.
فقولنا: ماء. نحترز به عن الخَلِّ واللبن [ونحوهما] فإنها غير مطهرة كما مر بيانه.
وقولنا: لم يشبه شيء من النجاسات. نحترز به عما غيَّر أحد أوصافه أو كلها فإنه لا يجوز التطهر به.
وقولنا: ولا ما يُخرجه عن كونه ماء، نحترز به عما خالطه شيء من المائعات الطاهرة فأزال عنه اسم الماء.
والحجة الثانية: هو أنا قد أوضحنا أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إذا لم تكن مغيرة لأحد أوصافه، بالبراهين الشرعية الظاهرة، فإذا كان ما هذا حاله من الأمواء يكون طاهراً مطهراً، فهكذا ما كان الشائب له أمراً حكمياً وهو الاستعمال يكون طاهراً مطهراً من جهة أن الشائب العيني أقوى وأظهر أمراً من الشائب الحكمي، فإذا كان لا يخرجه عن التطهير، فالمستعمل لا يخرجه الاستعمال عن التطهير أحق وأولى.
وإذا تقرر بما ذكرنا كونه مطهراً، جاز رفع الحدث به وجازت إزالة النجاسة به؛ لأن كل ما يرفع الحدث فإنه يرفع النجس، كالماء القراح فإنه كما يرفع الحدث عن أعضاء الطهارة وجب أن يكون رافعاً للنجاسة.
وإذا قلنا: بأنه غير مطهر، لم يجز رفع الحدث به، وهل يجوز إزالة النجاسة به أم لا؟ فيه لأصحاب الشافعي وجهان:
أحدهما: وهو المحكي عن أبي القاسم الأنماطي )، وعلي بن خيران )، أنه يجوز إزالة النجاسة به ولا يجوز إزالة الحدث، من جهة أن للماء حكمين، رفع الحدث وإزالة النجاسة، فإذا بطل رفعه للحدث بما ذكروه من الأدلة، بقي الحكم الآخر وهو إزالة النجاسة.
__________
(1) أبو القاسم عثمان بن سعد بن بشار البغدادي الأنماطي، كان فقيهاً، أخذ عن المزني، والربيع، وهو السبب في بساط الأخذ بمذهب الشافعي. مات ببغداد سنة 288هـ. (طبقات الفقهاء).
(2) علي بن أحمد بن خيران البغدادي، أبو الحسين، له كتاب اللطيف يشتمل على ألف ومائتين وتسعة أبواب وهو غير أبي علي بن خيران المعروف بالكبير، وعده صاحب طبقات الشافعية الكبرى من الطبقة السادسة، ولم يذكر تاريخ وفاته. راجع ترجمته برقم 99.
وثانيهما: وهو المعوّل عليه عند أبي إسحاق صاحب (المهذب)(1) وارتضاه صاحب (البيان)(2) لأن ما لا يجوز رفع الحدث به فلا يجوز إزالة النجاسة به كالماء النجس.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( لا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة ولا المرأة بفضل وضوء الرجل)) وفي هذا دلالة على أنه غير مطهر.
قلنا: الكلام على هذا الخبر من أوجه [سبعة]:
أما أولاً: فلأن هذا الحديث رواية داود بن عبدالله عن حميد الحميري )، وهما ضعيفان عند أئمة الحديث.
وأما ثانياً: فلأنه لم يروه عن رجل معين وإنما قال فيه: لقيت رجلاً صحب رسول اللّه ً أربع سنين كما صحبه أبو هريرة، فأضافه إلى مجهول أيضاً لا يعرف حاله، وما هذا حاله من الأحاديث يكون مرجوحاً بغيره مما يكون رواية معلومين.
وأما ثالثاً: فلأنه قال فيه: صحب رسول اللّه أربع سنين كما صحبه أبو هريرة، ولا شك أن صحبة أبي هريرة لرسول اللّه ً كانت أكثر من أربع سنين.
وأما رابعاً: فلأنه لا معنى لكون هذا الرجل صحب الرسول أربع سنين، فإن الصحبة تثبت بدون هذه المدة فلا وجه لتحديدها بأربع سنين.
وأما خامساً: فلأنه إذا كان عدلاً فهو مقبول الرواية سواء كانت صحبته مدة كثيرة أو قليلة.
__________
(1) في الفقه لأبي إسحاق الشيرازي.
(2) أبو الخير يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن يحيى العمراني، اليماني، صاحب كتاب (البيان) في الفقه، في نحو عشرة مجلدات، وله كتاب (الزوائد) جزآن، وكتاب (السؤال عن ما في المهذب من الإشكال)، و(مختصر الفتاوى)، و(غرائب الوسيط)، وله في علم الكلام كتاب (الانتصار)، في الرد على القدرية، ولد سنة 489هـ، وكان شيخ الشافعية في بلاد اليمن، وكان إماماً، زاهداً، عارفاً بالفقه وأصوله، والكلام، والنحو، توفي سنة 558هـ، وقبره بذي سفال من محافظة إب في اليمن. (مقدمة الأزهار، طبقات الشافعية).
(3) حميد بن عبدالرحمن الحميري.
وأما سادساً: فلأن هذا الحديث معارض بما روته عائشة رضي اللّه عنها قالت: (( كنت أغتسل أنا ورسول اللّه ً من إناء واحد ونحن جنبان)).
وأما سابعاً: فلأنه معارض بحديث ابن عمر رضي اللّه عنه قال: (( كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول اللّه ً، من الإناء الواحد )). فهذه الأمور كلها دالة على ضعف هذا الحديث وأن غيره راجح عليه.
قالوا: المعلوم من عادة الصحابة والتابعين أنهم كانوا يعدلون عند عدم الماء إلى التيمم، وما روي عن أحد منهم أنه توضأ بالماء المستعمل، وفي هذا دلالة على كونه غير مطهر.
قلنا: الكلام على ما ذكرتموه من وجهين:
أما أولاً: فلأنهم إنما عدلوا إلى التيمم إذا عدم الماء أو تعذر استعماله، ومهما عدم الماء المطلق عدم المستعمل، وحيثما تعذر استعمال المطلق تعذر استعمال المستعمل، فلا حجة لكم في ذلك.
وأما ثانياً: فهو طاهر عندكم، والأمة قد عدلت عنه إلى التيمم، فيحمل أن يكون عدولهم إلى التيمم لنجاسته ويحمل أن يكون عدولهم لأجل كونه غير مطهر كما قلتموه، فما أجبتم به من قال بكونه نجساً فهو جوابنا لكم في كونه غير مطهر، من جهة أن عدولهم إلى التيمم محتملٌ للوجهين جميعاً على سواء.
فإن قال قائل: من وجد من الماء ما لا يكفيه لكل أعضاء الوضوء، فالأمة مختلفة فيه على قولين:
فمنهم من قال: يجب عليه العدول إلى التيمم ولا يلزم استعمال الماء في بعض أعضاء الوضوء.
ومنهم من قال: يتوضأ بما معه من الماء ثم يتيمم بعد ذلك(1)، ولم يقل أحد منهم إنه يغسل بما معه من الماء ما قدر عليه من أعضائه إلى إناء ثم يغسل سائر أعضائه بما قطر منه، فلو كان الماء المستعمل مطهراً لقالوا ذلك، فلما لم يقولوه دل على كونه غير مطهر، وهذا سؤال واقع على من قال بكونه مطهراً، وجوابه من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن المسألة اجتهادية لا محالة، وإذا كان الأمر فيها كما قلنا، فلا مانع من إحداث قول ثالث فيها وهو استعمال الماء المستعمل؛ لأن المحذور(2) من إحداث قول ثالث، هو إبطال ما في أيدي المسلمين من الحق، وما هذا حاله لا يبطل ما قالوه فلهذا كان سائغاً.
وأما ثانياً: فلعل هذا مفروض في حق من انتهى حاله في قلة الماء إلى أنه لم يقطر من أعضائه شيء من الماء لقلته، فلهذا قالوا بعدوله إلى التيمم كما قلتم.
وأما ثالثاً: فإنه يحتمل أن يكون عدولهم إلى التيمم، لنجاسته على رأي من يقول بنجاسته، فما أجبتم به في بطلان كونه نجساً فهو جوابنا في كونه مطهراً من غير فرق.
قالوا: إن عمر قال: أرأيت لو توضأت بماء أكنت شاربه؟
قلنا: جوابه يكون من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن قول الصحابي ليس بحجة كما أسلفنا تقريره.
وأما ثانياً: فأقصى ما في الباب أن يكون مذهباً لعمر رضي اللّه عنه وهو من جملة المخالفين في المسألة، فما أجبناكم به فهو جواب له(3).
__________
(1) كأن المؤلف أراد أن يقول بأن عليه أن يتوضأ بما معه من الماء أينما بلغ به، ثم إن كفى المضمضة وأعضاء التيمم، فهو متوضئ وإلا يمم الباقي وهو متيمم، كما هو المختار للمذهب.
(2) قوله: لأن المحذور...إلخ.. بمعنى: لأن المنع من إحداث قول ثالث إلخ. وإلا لانعكس المعنى وأصبح إحداث قول ثالث مبطلا لما في أيدي المسلمين من الحق، وهذا غير وارد.
(3) بمعنى جواب عليه.
وأما ثالثاً: فلأن كلامنا إنما هو في كونه مطهراً أو غير مطهر، وكلام عمر إنما هو في شربه، وكم من شيء يستكره الإنسان شربه مع كونه طاهراً مطهراً، فاستكراه شربه لا يدل على كونه غير مطهر، فحصل من مجموع ما ذكرنا صحة كون الماء المستعمل طاهراً مطهراً بالأدلة التي ذكرناها وبالجواب عما أوردوه من الشكوك على هذ القاعدة، ولو عدمتُ الماء في سفر أو حضر ووجدتُ ماء مستعملاً لتوضأتُ به ولم أعدل إلى التيمم لوجهين:
أما أولاً: فلأن اللّه تعالى يقول: {فَلَمْ تَجِدُوْا مَاءً فَتَيَمَّمُوْا}[النساء:43]. وهذا واجد للماء لا محالة.
وأما ثانياً: فلأنه طاهر، مطهر فلا حاجة إلى العدول إلى التراب مع وجوده وإمكانه، ولم أستعمل الماء المستعمل في عمري في طهارة حدث ولا أزلت به نجاسة، ولكن الغرض من تحقيق المسألة وتقريرها أمران:
أحدهما: إبانة الحق من المسألة فيما تؤدي إليه الأدلة الشرعية من الظواهر النقلية والمقاييس النظرية في التصرفات الاجتهادية.
وثانيهما: لجواز أن يضطر إليها مضطر في سفر أو مرض أو عند إعواز الماء، ولهذا فإنك ترى من برز في الاجتهاد وتبحر في علومه يفتي بالمسألة ولا يفعل بما أفتى به، من الصحابة والتابعين وغيرهم، ولأجل ذلك فإن ابن عباس أفتى بحل المتعة ورجع عنها، ومع ذلك فإنه لو حز رأسه ما تمتع، وأبوحنيفة أباح شرب المُنَصَّف والمُثَلَّث ولو قطعت أوصاله ما شربها أبداً، والشافعي أباح قتل تارك الصلاة، ولو حظي إلى مثله لم يحتز رأسه، ولكن الغرض إبانة ما يؤدي إليه النظر الشرعي في المسائل كلها سواء عُمِلَ بها أو لم يُعْمَل.
مسألة: تشتمل على تفريعات المذاهب التي أسلفناها في الأمواء وجملتها ستة:
التفريع الأول: الماء إذا كان دون القلتين على رأي القاسم ومن وافقه من العلماء الذين حكيناهم ووقعت فيه نجاسة ولم تغيره، فإنه يكون طاهراً مطهراً، ولا يحتاج إلى مغالبة بكثرة الماء(1) في طهارته؛ لأنه في الأصل طاهر فلا يحتاج إلى تطهير بغلبة الماء الطاهر عليه، فإذا ظهر عليه أثر النجاسة فغيرت أحد أوصافه جاز إيراد الماء الكثير عليه، فإذا ذهب ما تغير من أوصافه لكثرة الماء فإنه يعود طاهراً، وهكذا القول في الأمواء المستعملة فإنها تكون على رأيه طاهرة مطهرة من جهة أن الماء إنما ينجس بظهور النجاسة عليه على رأيه، فإذا كانت النجاسة لا تغير حكم الماء إلا مع الظهور، فيجب أن تكون الأمواء المستعملة جارية على حكم الطهارة؛ لأنها غير متغيرة بنجاسة ويلزمها حكم التطهير لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. والطهور: اسم موضوع للمبالغة كالضروب والصبور لمن تكرر منه ذلك، فهكذا يكون الطهور واقعاً على تكرير التطهير بالماء مرة بعد مرة، وهذا هو المراد بالاستعمال بالماء، فإذا اُستُعمِل في الغسل جاز استعماله في الوضوء وفي إزالة النجاسة، وهو الذي اخترناه من قبل، ويؤيده ما رواه أبو هريرة عن النبي ً، أنه سُئِل عن الحياض التي تكون بين مكة والمدينة وأن الكلاب والسباع تَلِغُ فيها فقال الرسول ً: ((لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور))(2). وهذا عام فيما يُعَدُّ من الأمواء مالم يتغير، وعام في الحياض الكثيرة والقليلة، لكنا خصصنا ما تغير بالنجاسة من ظاهر هذا الحديث وعمومه، وبقي حجة في القليل والكثير كما ترى من ظاهره.
__________
(1) القائل بالمكاثرة، علي خليل كما في الأزهار وصفتها مفصلة فيه.
(2) حكاه في أصول الأحكام والشفاء والبحر، وفيه رواية عن عمر.
التفريع الثاني: على رأي من قال من العترة ٍ: بأن الماء المستعمل غير مطهر كالناصر والمنصور بالله، وهو رأي الشافعي، فإذا اجتمع قلتان من الماء المستعمل، فالذي يأتي على رأي الناصر والمنصور بالله وهو أحد قولي الشافعي أنه يصير مطهراً كالماء النجس إذا بلغ قلتين، وحكي عن الشافعي قول آخر: أنهما لا يصيران مُطَهِّرين لغيرهما؛ لأنه لا يقع عليهما اسم الماء المطلق، وإنما يقال له: ماء مستعمل وإن كان كثيراً بخلاف الماء النجس فإنه بعد اجتماعه قلتين يقال له: ماء على الإطلاق فافترقا.
والمختار على أصلهما: أنه يكون مطهراً من جهة أن القلتين ماء كثير، فإذا كانا باجتماعهما يرفعان النجاسة لكثرتهما، فلأن يرفعا الاستعمال أحق وأولى؛ لأن النجاسة عين والاستعمال حكم شرعي والعين أقوى تأثيراً من الحكم، فإذا دفعا العين دفعا الحكم لامحالة.
وإذا كان الماء المستعمل على رأيهما لا يجوز التوضؤ به، فهل تجوز إزالة النجاسة به أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا تجوز إزالته به، وهذا هو رأي الناصر وأحد قولي الشافعي المعمول عليه عند أصحابه؛ لأنه ماء لا يرفع الحدث فلم تجز إزالة النجاسة به كالماء النجس.
وثانيهما: أنه يجوز إزالة النجاسة به، وهذا شيء يحكى عن المنصور بالله، وهو محكي عن الشافعي في قول آخر من جهة أن للماء حكمين: رفع الحدث، وإزالة النجاسة، فإذا بطل كونه رافعاً للحدث بدليل شرعي، نفى كونه مزيلاً للنجس، وقد سبق الاختيار في الماء المستعمل فأغنى عن الإعادة.
التفريع الثالث: على رأي الناصر، والهادي، والمنصور بالله، والشافعي وغيرهم، في كون الماء المستعمل غير مطهر فإذا انغمس الجنب في ماء كثير أو غسل عضواً من أعضائه بنية رفع الجنابة عنه، لم يكن الماء مستعملاً عندهم لا محالة وهو الأصح من قولي الشافعي ويخرج عن جنابته.
والحجة على ذلك: هو أن حكم النجاسة أقوى من حكم الاستعمال، فلو وقعت نجاسة فيما هذا حاله من المياه الكثيرة لم يزل حكمه في كونه مطهراً إذا كان غير متغير بها، فهكذا حال الاستعمال يكون أحق بذلك، وحكى صاحب (الشامل) عن الشافعي قولاً آخر، وهو أن الماء مع كونه كثيراً يكون مستعملاً ويخرج به عن جنابته، من جهة أن الاستعمال حاصل بجميعه وهو مانع من طريق الحكم فلا تؤثر فيه الكثرة، وهذا فاسد فإن ما هذا حاله يلزم أن يكون ماء البحر مستعملاً وهذا لا قائل به، إذ لا فرق بين كثرة وكثرة، بعد ما كانت الكثرة معلومة.
وإذا أدخل الجنب يده في ماء قليل بنية الاغتراف منه و التبرد به، فإنه لا يصير مستعملاً؛ لأن الاستعمال إنما يحصل حكمه بشرط حصول نية القربة بالغسل للجنابة وهي غير حاصلة فيما ذكرناه، وإن أدخلها بنية رفع الجنابة صار الماء مستعملاً وخرج عن جنابته باليد، كما لو أفاض الماء عليها بنية الجنابة، وإن انغمس الجنب في ماء قليل صار الماء مستعملاً وخرج عن جنابته وهو أحد قولي الشافعي المنصوص له، ولا يصير مستعملاً إلا بعد انفصاله عنه فلو توضأ منه رجل أو اغتسل منه قبل انفصاله عنه صح وضوؤه وغسله، لأنه مالم ينفصل عنه فليس مستعملاً.
ووجه ذلك: أنا لو قلنا بأنه يصير الماء مستعملاً بأول ملاقاته لجزء من بدنه لوجب أن يكون الماء الذي يفيضه على عضو من أعضاء الطهارة مستعملاً بأول ملاقاته لأول عضو، وهذا لا قائل به، فعلى هذا إذا صب الجنب على رأسه ماء فإن نزل الماء عن رأسه متصلاً على ظهره وعنقه من غير فصل، أجزأه النازل من رأسه على ما مر عليه بعد رأسه لكونه متصلاً به، وإن قدرنا أن له شعراً كثيراً فوقع الماء على الشعر ثم تقاطر الماء من أعلى طبقات الشعر ومر في الهواء إلى ظهره أو بطنه فإنه لا يجزيه عما وقع عليه بعد انفصاله من الرأس في الهواء، لأن بنفس الانفصال عنه في الهواء قد صار مستعملاً.
وحكى الخضري ) من أصحاب الشافعي أن الماء يصير مستعملاً ولا يخرج عن جنابته من جهة أنه لما لاقى أول جزء من بدنه أول جزء من الماء صار الماء مستعملاً بأول الملاقاة فإذا انغمس فيه صار منغمساً في ماءٍ مستعمل.
والمختار: ما قررناه أولاً على رأي من منع من التطهر بالماء المستعمل، والله أعلم بالصواب.
التفريع الرابع: إذا صلى الرجل بطهارةٍ صلاة فرض، فإنه يستحب له أن يجدد الطهارة لصلاة بعدها، لما رَوَى أنس بن مالك عن النبي ً (( أنه كان يتوضأ لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر))(2). وروى ابن عمر (رضي اللّه عنهما) عن النبي ً أنه قال: (( من توضأ على طهر كتب اللّه له به عشر حسنات))(3).
فإذا كان المصلي على طهارة ثم إنه جدد الطهارة ثانياً فهل يصير الماء المجدد به مستعملاً أم لا؟ والأقرب أنه يكون مستعملاً على رأي أكثر أئمة العترة، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه لا يكون مستعملاً.
والحجة على ما قاله أئمة العترة: هو أن هذا الماء قد تعلقت به القُربة لتأدية الصلاة المفروضة، فلهذا وجب كونه مستعملاً كما لو توضأ للصلاة من غير طهارة.
وإن قام من النوم فغسل يده في ماء قليل فهل يصير الماء مستعملاً أم لا؟ والأقرب أنه يصير مستعملاً على رأي أصحابنا، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه لا يصير مستعملاً.
__________
(1) محمد بن أحمد أبو عبدالله الخضري المروزي، أخذ عن أبي بكر الفارسي وكان يضرب به المثل في قوة الحفظ. نقل عنه الرافعي أنه خرج هو وأبو زيد (الفاشاني) قولاً: أن النار تؤثر في الطهارة كالشمس والريح، وهو كما قال السبكي في طبقاته ج2/125، الخضري بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين. قال ابن خلكان: توفي سنة 380هـ.
(2) وفيه عن أنس قال: كان النبي ً يتوضأ لكل صلاة، وكنا نصلي الصلوات بوضوء واحد، وروايات للنسائي والبخاري والترمذي مع زيادة في بعضها.
(3) أخرجه أبو داود والترمذي.
والحجة على ذلك: هو أن غسلهما قد تعلقت به القُربة فلهذا كان مستعملاً كالوضوء للنافلة.
وإن غسل رأسه مكان المسح فهل يصير الماء مستعملاً أم لا؟ والأقرب أنه يصير مستعملاً من جهة أن هذا قد تعلقت القُربة في تأدية وظيفة مسح الرأس من جهة أن الغَسل معظم(1) المسح كما أن المسح خفيف الغَسل.
التفريع الخامس: إذا توضأ الحنفي أو اغتسل للجنابة بماء قليل، فهل يصير الماء مستعملاً بوضوئه أو غسله أم لا؟ من جهة أنه لم يقصد بالوضوء والغسل قُربة، إذ لا يعتبر النية في الطهارات ولا يشترطها. فيه على المذهب احتمالات ثلاثة:
أولها: أنه لا يصير مستعملاً بحال؛ لأنه يتوضأ من غير نية، والماء إنما يصير مستعملاً بالنية، وإن أتى بالنية فإنه يعتقد أنها غير واجبة عنده فلهذا لم يزل الماء عن حكمه في التطهير.
وثانيها: أنه يصير مستعملاً بكل حال وإن لم ينو الطهارة به؛ لأنا نحكم بصحة صلاته لا محالة، ولهذا فإنا لا نوجب عليه قضاءها ولا يحكم بفسقه ولا يباح قتله. ولو كانت صلاته غير صحيحة لكان بمنزلة من لم يصلِّ أو بمنزلة من صلى بغير طهارة، في مؤاخذته بهذه الأحكام، وهذا لا قائل به، فلما حكمنا بصحة صلاته دل على كون الماء مستعملاً بوضوئه وغسله، كغيره ممن يوجب النية في الوضوء والغسل.
وثالثها: أنه يُنظر في حاله، فإن نوى به الطهارة كان مستعملاً؛ لأنه قد ارتفع به حدثه، وإن لم ينو به الطهارة لم يصر مستعملاً، كما لو توضأ به الشافعي من غير نية.
والمختار: على رأي القائلين بالاستعمال، أنه يصير مستعملاً، لأنه قد ارتفع به حدثه وأجزت صلاته، فأشبه وضوء غيره ممن يعتبر القُربة فيه بالنية، فأما من لا يرى خروج الماء بالوضوء والغسل عن الاستعمال وأنه باقٍ على التطهير لغيره كما قررناه من قبل، فلا كلام.
__________
(1) بمعنى تكرر المسح.
التفريع السادس: إزالة النجاسة ليست عبادة، ولهذا فإنه لا يفتقر إلى النية، لكن الماء يصير مستعملاً بإزالة النجاسة؛ لأنه رُفع بالماء مانع من الصلاة فأشبه رفع الحدث بالوضوء والغسل، فأما الغُسالة الرابعة فهي طاهرة مطهرة باتفاق بين أئمة العترة؛ لأنها لم يزل بها حكم شرعي، فلهذا لم تكن مستعملة فهي كالماء المستعمل للتبرد، وأما الغسالة الثالثة، فهي طاهرة؛ لأنه حكم بطهارة المحل بورودها عليه فوجب الحكم بطهارتها.
وهل تكون مستعملة فلا ترفع الحدث ولا النجس أو تكون رافعة لهما؟ والأقرب على رأي أهل الاستعمال، أنها مستعملة؛ لأنها أثرت في زوال مانع من الصلاة وهو النجاسة فأشبهت ما يرفع به الحدث. وعلى رأي السيد أبي طالب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، أنها طاهرة مطهرة تُستعمل في رفع الحدث وإزالة النجاسة جميعاً؛ لأنها كالرابعة على رأي المؤيد بالله، وأما الغسالة الثانية فإنها نجسة على رأي المؤيد بالله، فلا يُزال بها حدث ولا نجس، ويحكم عليها بالطهارة على رأي السيد أبي طالب وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وهل تكون مستعلمة أم لا؟ فعلى رأي السيد أبي طالب تكون مستعملة، وهو قول أبي حنيفة، فلا يُزال بها حدث ولا نجاسة، لأجل استعمالها. وعلى أحد قولي الشافعي أنها طاهرة يجوز إزالة الحدث والنجاسة بها، لا يتصل بها حكم الاستعمال، وأما الغسالة الأولى المتصلة بالنجاسة، فهي نجسة على رأي أئمة العترة ممن قال بأن الماء ينجس وإن لم يكن متغيراً، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وله قول آخر أنها لا تنجس إلا إذا تغيرت بالنجاسة.
فهذه التفريعات كلها إنما تكون على رأي من قال بتغير حكمه بالاستعمال، إما في كونه نجساً كما حكيناه عنهم، وإما في كونه غير مطهر ولا رافع للحدث ولا للنجاسة، فأما من لا يرى بنجاسة الماء القليل إذا لم يتغير فلا رفع للاستعمال على مذهبه كما هو رأي القاسم، وهو المختار كما مر بيانه؛ لأن النجاسة إذا لم تكن مغيرة للماء فالاستعمال أضعف حكماً منها فلهذا لم تكن مغيرة لحكمه، وقد تم الكلام في الفصل الأول من باب المياه والله الموفق للصواب بلطفه.
---
الفصل الثاني: في بيان ما يجوز الوضوء به، ومالا يجوز
رفع الحدث وإزالة النجاسة، يجوز بالماء المطلق وهو ما نزل من السماء من ماء المطر، أو كان ذائباً من الثلج والبرد، أو ما كان نابعاً من الأرض، كماء البحار والآبار والأنهار وغير ذلك مما يكون قراحاً طيباً. وقد أوردنا الدليل على كون كل واحد من هذه الأمواء يجوز التطهر به بالأدلة الشرعية، فأغنى عن الإعادة.
مسألة: يجوز التطهر بالماء المُشَمَّس، ومعناها مالحقته حرارة لأجل(1) الشمس، عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، ولا يُعرف خلاف بين الأمة في جوازه.
فإن قُصد تشميسه بحَرّ الشمس فهل يكره التوضؤ به أم لا؟ فعند أئمة العترة أنه لا يكره، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومحكي عن أحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: هو أنه ماء لحقته الحرارة لأجل الشمس، فلا يكره كما لا يكره ماء البرك والأنهار، ولأنه ماء حصلت حرارته بعلاج، فلا يكره كما لو كانت حرارته بالنار.
وحكي عن الشافعي أقوال:
أحدها: مثل قولنا.
والثاني: يكره بكل حال وهو المنصوص له.
وله قول ثالث: يكره إذا كان مسخناً في آنية الصفر في البلاد الحارة دون غيرها.
وقول رابع: يكره في البدن دون الثياب.
وقول خامس: أنه يُرجع فيه إلى قول علماء الطب، فإن قالوا: إنه يورث البرص كره، وإلا لم يكره.
__________
(1) كلمة (لأجل) هنا، تبدو في غير مكانها، وقد تركناها كما هي في الأصل، ومعناها: بسبب الشمس.
والمختار: أنه إذا سُخّن في آنية الصفر بالشمس، كُره وإلا لم يُكره، وعلى هذا يُحمل ما روت عائشة رضي اللّه عنها، أنها سخنت ماء في الشمس فقال لها الرسول ً: (( لا تفعلي يا حميراء هذا فإنه يورث البرص))(1). وروي عن عمر أنه كان ينهى عن الماء المُشَمَّس، وقال إنه يورث البرص، اعتمادا على ما روته عائشة.
وإنما كان هذا مختاراً؛ لأن مُسْنَدَهُ الخبر دون القياس، وليس هذا يختص هذا الموضع، بل كل موضع تعارض فيه القياس والخبر، فالعمل على الخبر هو المختار في كل موطن إلا أن يكون الخبر منسوخاً أو يعرض له عارض يبطله، من جهة أن كلام صاحب الشريعة لا يقاومه كلام القياس، وهو معصوم والقائس ليس معصوماً، فلهذا كان مختاراً.
وإذا قلنا بكراهته فَبرّدَ المشمس، فهل تبقى الكراهة فيه أم لا؟ والأقرب أنها لا تبقى؛ لأن العلة هي حصول الحرارة بالشمس وقد زالت بالتبريد فلا تبقى الكراهة، وهو أحد أقوال الشافعي، وحكي عنه قول آخر أنها لا تزول الكراهة، والحق ما ذكرناه؛ لأنه قد زال العارض الموجب للكراهة فزالت في نفسها.
مسألة: وإن سُخن الماء بالنار لم يُكره التطهر به عند أئمة العترة، وهو محكي عن الفرق الثلاث: الحنفية والشافعية والمالكية، سواء سُخن بالوقود الطاهر أو الوقود النجس.
__________
(1) جاء في البحر أن الحديث حكاه صاحب (المهذب) ونحوه في (الشفاء)، وعزاه في (التلخيص) إلى الدار قطني وابن عدي في (الكامل)، وغيرهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وهو من طريق خالد بن إسماعيل الذي روي أن ابن عدي قال فيه: كان يضع الحديث. وأضاف في حاشية البحر ما لفظه إشارة إلى خالد: وتابعه وهب بن وهب أبو البحتري، عن هشام، قال: ووهب شر من خالد، وتابعهما الهيثم بن عدي عن هشام. رواه الدار قطني، والهيثم كذبه يحيى بن معين، وتابعهم محمد بن مروان السدي وهو متروك. أخرجه الطبراني في (الأوسط) من طريقه.
والحجة على ذلك: ما روى شريك ) أنه قال: (( اجتنبت وأنا مع رسول اللّه ً في سفر فجمعت أحجاراً وسخنت ماء فاغتسلت به، فأخبرت النبي ً فلم ينكر عليّ))(2). فتقريره إياه على ذلك فيه دلالة على عدم الكراهة فيه.
وحكي عن مجاهد أنها تكره الطهارة بالماء المسخن بكل حال.
وقال أحمد بن حنبل: إن سُخن بالوقود الطاهر جاز التطهر به، وإن سُخن بالوقود النجس كرهت الطهارة به.
والمختار: ما عليه علماء العترة وفقهاء الأمة، لما روى ابن عباس رضي اللّه عنه (( أن الرسول ً دخل حماماً في الجحفة(3) فاغتسل فيه ))(4)، ولأن الحرارة صفة عارضة للماء فلا يكره التطهر به كالبرودة.
ولا يكره التطهر في الوضوء والغسل بماء زمزم عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك.
والحجة: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوْا مَاءً فَتَيَمَّمُوْا}[النساء:43]. فهو مأمور بالتطهر به ولا يجوز التيمم مع وجوده، وما كان مأموراً به فليس مكروهاً.
وحكي عن أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه: أنه يكره.
__________
(1) شريك بن سحماء البلوي الأنصاري (مولاهم) الذي حصلت له قصة اللعان المشهورة.
(2) وروي أن الصحابة تطهروا بالماء المسخن بين يدي رسول اللّه ولم ينكر عليهم، أورده في (التلخيص) وفيه روايات من طريق الهيثم بن دريد الراوي له عن أبيه عن الأسلع، قال في حاشية البحر: وهو(يعني الهيثم) وأبواه مجهولان، والعلاء بن الفضل المنقري، راويه عن الهيثم فيه ضعف، وقد روي تسخين الماء على عهد رسول اللّه عن جماعة من الصحابة فعلوا ذلك، ومنهم عمر بن الخطاب. وروي نحو ذلك عن ابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع. رواه الدار قطني وصححه.
(3) مكان بين مكة والمدينة وهي ميقات أهل الشام، ومن ورد عليها.
(4) حكاه في الشفاء.
وحجته على هذا: ما روي عن العباس بن عبدالمطلب رضي اللّه عنه(1) أنه قال في زمزم: ((لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبَلَّ))(2). فإن هذا محمول على أنه قال ذلك في وقت [قِلَّة] الماء وكثرة من يطلب الشرب منها، فكرهه من أجل ذلك.
وقوله: حل. أي: حلال طيب.
وقوله: وبل بفتح الباء بنقطة من أسفلها، ومعناه: مباح، بلغة حِمْير.
وقال أبو عبيدة ): وبَلّ أي شفاء، من قولهم: بل فلان من مرضه إذا شفي منه وبرأ.
__________
(1) أبو الفضل العباس بن عبدالمطلب عم رسول اللّه ً كان يكبر النبي بسنتين أو ثلاث، وسئل أنت أكبر أم رسول اللّه؟ فقال: هو أكبر مني وأنا ولدت قبله. رواه السيد أبو طالب. حضر مع النبي ً ليلة العقبة لبيعته الأنصار، وخرج إلى بدر مع المشركين فأسر ففادى نفسه وبني أخويه عقيلاً ونوفلاً ومسلماً، وعذره النبي ً في الإقامة بمكة لأجل سقايته، ولقي النبي ً في سفر الفتح مهاجراً فرجع معه فكان سبباً لحقن الدماء، ثم خرج إلى حنين وثبت حين انهزم الناس وصاح فيهم فرجعوا وانهزم المشركون. وكان النبي ً يجله والخلفاء من بعده. كان جواداً أعتق سبعين عبداً. توفي يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب سنة 34هـ. وهو ابن ثمان وثمانين سنة وصلى عليه عثمان وقبره بالبقيع. (مقدمة الأزهار).
(2) أسنده في جواهر الأخبار إلى الانتصار. ج2/37 بحر، وأورده ابن الأثير في النهاية في مادة (بلّ) دون أن يذكر راويه.
(3) معمر بن المثنى المعروف بأبي عبيدة. لغوي إخباري ولد ومات بالبصرة بين سنتي 728 / 825م، زار بغداد ودرس على أبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، فصار أحد ثلاثة تعاصروا وتنافسوا، هو وأبو زيد والأصمعي. ألف نحو مأتي رسالة في اللغة والقرآن والحديث والأخبار والأدب والتاريخ، وأخرج أول رسالة في مجاز القرآن. ا.هـ. ملخصاً من الموسوعة العربية ج1/36.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة، من أجل الظواهر الشرعية التي ذكرناها في طهارة الأمواء من جهة الكتاب والسنة، فإنها عامة في جميع الأمواء إلا ما خصته دلالة، وأيضاً فإن الصدر الأول من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا يتطهرون بها من غير نكير، وكونها في موضع شريف لا يمنع من التطهر بها كما لو انصب المَطَرُ من ميزاب الكعبة والحرم.
مسألة: وما عدا ذلك من الأمواء، نحو ماء الورد وهو الذي يعتصر من الورد وماء العصفر وماء الزعفران، وهذا هو الذي يكون معتصراً منهما، فلا يجوز التطهر به عند أئمة العترة وهو قول الفريقين، وهو محكي عن مالك وهو مذهب عامة العلماء إلا ما يحكى عن الإمامية، فإنهم جوزوا الوضوء بماء الورد، وهو محكي عن الصادق )، وحكوا عنه أنه سُئل عن التطهر به فجوزه وقال: ما زاد إلا طيباً(2). وعن الأصم أنه جوز رفع الحدث بكل مائع طاهر، وعن بعض الفقهاء(3) جواز التطهر بالخلّ.
__________
(1) أبو عبدالله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط عليه السلام، أحد أعلام الحديث والفقه بالمدينة. روى عن أبيه وجده من قبل أمه القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعن عطاء ونافع وآخرين، وأخذ عنه مالك والسفيانان (الثوري، وابن عيينه) وآخرون، ووثقه الشافعي وابن معين. وعن أبي حنيفة: ما رأيت أفقه منه. قال أبو حاتم: هو ثقة لا يسأل عن مثله. توفي سنة 148هـ عن ثمان وستين سنة ودفن في البقيع في قبة آل البيت ٍ.
(2) الكلام لجعفر الصادق ولعله اجتهاد خاص به.
(3) من فقهاء الحنفية.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوْا مَاءً فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً}[النساء:43]. فلم يجعل بين التيمم وعدم الماء مرتبة، وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز التطهر بغير الماء، ولأن الصحابة (رضي اللّه عنهم) وغيرهم من التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا قد كانوا يسافرون ويعدمون الأمواء في المفازة، ولم يُعلم بأن أحداً منهم توضأ بغير الماء ولا عدل إليه(1).
فإن قال قائل: فهل يكون من قال بجواز التطهر بغير الماء، خارقاً للإجماع لما ذكرتموه من عمل الصحابة، والقياس على خلاف قوله؟
قلنا: معاذ اللّه أن يُعَدُّوا خارقين للإجماع والمسألة اجتهادية، وما هذا حاله من المسائل فلا يكون المخالف فيها خارقاً؛ لأنهم وإن أجمعوا على جواز التطهر بالماء فلم يجمعوا على منع التطهر بغيره، فلو صدر منهم هذا الإجماع لكان من خالف يكون خارقاً لإجماعهم، ولكنهم سكتوا عن تحريم التطهر بغيره ولهذا جرى فيه الخلاف.
وهل يجوز التطهر بماء الزعفران أم لا؟ وقد قدمنا ذكر هذه المسألة وذكرنا أن الزعفران إن كان غالباً على الماء لم يجز التطهر به إجماعاً من أئمة العترة وفقهاء الأمة، وإن كان مخالطاً غير غالب لم يجز التطهر عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي.
وقال أبوحنيفة وأصحابه: يجوز التطهر به، وهو المختار كما مر تفصيله بأدلته فأغنى عن الإعادة.
وهل يجوز التطهر في رفع الحدث والنجاسة بالماء الذي يقطر من أعواد الشجر عند كسرها أم لا؟ يحكى عن الإمام المنصور بالله: جواز التطهر بما هذا حاله.
والحجة على هذا: قوله ً: (( خلق الماء طهوراً))، وما هذا حاله فإنه لم يتغير بطاهر ولا بنجس يغير شيئا من أوصافه، فجاز التوضؤ به كالماء القراح، وقال: لا فرق بين أن يجريه اللّه في عود أو حجر.
والذي عليه أكثر أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، أنه لا يجوز التطهر به.
__________
(1) إلى غير الماء.
والحجة على ذلك: من الظواهر القرآنية والأخبار الدالة على انحصار التطهر بالماء فأغنى عن الإعادة.
والمختار: ما عول عليه أكثر أئمة العترة وأكثر الفقهاء وإن لم يزل عنه اسم الماء، فقد زال عنه مطلق اسم الماء، فإنه لا يقال فيه: إنه ماء، ولكن يقال: ماء عنب وماء شجر، وغير ذلك من الأوصاف، ولأنه إذا لبث في الإناء فإنه يتغير ويستحيل عن كونه ماء فلو كان ماء لم يتغير مع الإقامة.
قوله: إنه قد اندرج تحت الظواهر الدالة على كونه مطهراً فوجب العمل عليها.
قلنا: قد دل الدليل على كونه مخصوصاً منها فعملنا بالعمومات فيما تناولته والمخصصات فيما تناولته، توفقةً بين الأدلة وعملاً بما دلت عليه بحسب الوسع.
قوله: لا فرق بين أن يجريه اللّه تعالى في الأعواد أو في الأحجار والصخور.
قلنا: الأحجار والصخور لا تكسبه تغيراً فلهذا جاز التطهر [به] و[هو] يخالف ما يجري في الأعواد والشجر فإنه يخالطه، فلا جرم أذهب عنه اسم مطلق الماء، فلم يجز التطهر به كماء اللحم وماء الباقلا فافترقا.
مسألة: النبيذ نجس فلا يجوز التطهر به ولا بشيء من الأنبذة، عند أئمة العترة وهو قول الشافعي ومالك، وحكي عن أبي حنيفة: جواز التطهر بنبيذ التمر المطبوخ في السفر عند عدم الماء، وقد قدمنا هذه المسألة وحكينا فيها الخلاف فأغنى عن التكرير، لكنا نزيد هاهنا إيراد ما تعلقوا به ونبطله.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه، وقد احتجوا بخبر ابن مسعود ليلة الجن.
قلنا: قد أبطلناه من قبل ونزيد هاهنا فنقول: قد روى هذا الحديث أبو زيد مولى عمرو بن حريث وهو ضعيف، وروى النخعي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: لم أكن مع الرسول ً ليلة الجن ووددت أني كنت معه. وروى الشعبي ) عن علقمة ) قال: قلت لابن مسعود: أكنت مع النبي ً ليلة الجن؟ فقال: لا، لم يصحبه أحدٌ منا. خرَّجهما مسلم (3) في كتابه.
وعلى أن الذي توضأ به لم يكن مطبوخاً وإنما كان نيئاً؛ لأن العرب لا تعرف الطبخ، وعندكم أنه لا يجوز بالنيئ بحال.
ولأنه لم يكن نبيذاً وإنما نبذ فيه تمرات لاجتداف ملوحته(4) . وإنما سماه نبيذاً لما كان يصير إليه، كما قال تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرَاً }[يوسف:36]. ولهذا قال: (( تمرة طيبة )).
__________
(1) أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد الشعبي من همدان، كان فقيهاً، وراوية للحديث، وعالماً بالمغازي والسير. قال مكحول: ما رأيت أعلم بسنة ماضية من عامر الشعبي. وقال ابن سيرين لأبي بكر الهذلي: الزم الشعبي، فلقد رأيته يستفتى وأصحاب رسول اللّه ً في الكوفة. مات سنة 104هـ، وقيل: سنة 107هـ. عن 82 سنة. (طبقات الفقهاء 82).
(2) علقمة بن مراد الحضرمي، محدث، ثقة، ثبت، روى عن سعيد بن عبيدة، وسليمان بن بريدة. وعنه سفيان، وشعبة، توفي آخر ولاية خالد القسري. (راجع طبقات ابن سعد ج6/331، والتقريب ج2/31، والجرح والتعديل ج2/406. ا.هـ در السحابة 799).
(3) مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري الإمام الحافظ صاحب التصانيف والصحيح. خرج له الترمذي والمرشد بالله وأبو الغنائم الرسي. (طبقات الزيدية (خ) 2/342، تهذيب التهذيب).
(4) هكذا في الأصل جاءت كلمة (احتداق) غير معجمة والمراد بها امتصاص ملوحة الماء، ولعلها: (اجتداف).
قالوا: روى ابن عباس أن النبي ً قال: (( النبيذ وضوء من لم يجد الماء ))(1).
قلنا: إن هذا الحديث رواه المسيب بن واضح وهو ضعيف، وقيل: إنه وهم فيه، وإنما هو عن عكرمة وهو لم يشهد الرسول ً، فيكون موقوفاً عليه.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: لا بأس بالوضوء بالنبيذ، ولا يقول مثل هذا إلا عن توقيف من جهة الرسول ً.
__________
(1) رواه البيهقي في سننه والدار قطني في مسنده. وجاء في (مجمع الزوائد) للهيثمي بلفظ: ((النبيذ وضوء لمن لم يجد غيره)).
قلنا: هذا ليس مشهوراً عن أمير المؤمنين وإنما يرويه الحارث الأعور )، وهو ضعيف، وقد قال الشعبي: هو كذاب، ورواه أيضاً مزيدة بن جابر )، وهو مجهول لا يُعَوَّل على حديثه.
قالوا: طهارة فلم تختص بجنس واحد، كالاستنجاء فإنه مخير فيه بين الحجر وغيره.
__________
(1) أبو زهير الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني الخارفي (نسبة إلى خارف في حاشد باليمن) الكوفي، ويقال: الحوتي (بالمثناة من فوق) قال في تهذيب التهذيب: نسبة إلى حوت بطن من همدان. ا.هـ. ولعل الصحيح إلى حوث بالثاء المثلثة، مدينة في حاشد. روى عنه الحديث جماعة منهم: الشعبي، وأبو إسحاق السبيعي، وعطاء. وضعفه جماعة من الرواة والفقهاء، ووصفه البعض بالكذب والمغالاة في حبه علياً عليه السلام. توفي سنة 65هـ. جاء في ترجمته في تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر ما لفظه: وقال ابن عبدالبر في كتاب (العلم) له، لما حُكي عن إبراهيم أنه كذب الحارث أظن الشعبي عوقب بقوله في الحارث: كذاب ولم يبن من الحارث كذبه، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي. وقال ابن سعد: كان له قول سوء وهو ضعيف في رأيه...إلخ. وقال ابن شاهين في (الثقات): قال أحمد بن صالح المصري: الحارث الأعور ثقة ما أحفظه وما أحسن ما روى عن علي، وأثنى عليه. قيل له: فقد قال الشعبي: كان يكذب. قال: لم يكن يكذب في الحديث إنما كان كذبه في رأيه. وقرأت بخط الذهبي في الميزان: والنسائي مع تعنته في الرجال، قد احتج به والجمهور على توهينه مع روايتهم لحديثه في الأبواب، وهذا الشعبي يكذبه ثم يروي عنه، والظاهر أنه يكذب حكاياته لا في الحديث. ا.هـ. بلفظه ج2/127.
(2) هو مزيدة بن جابرالعبدي. روى عن النبي ً، وروى عن أبيه وأمه، وعنه: الحكم بن عتيبة، ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، وحجاج بن أرطأة، وغيرهم. ا.هـ. (راجع تهذيب التهذيب ج10/92)، وهو مشتبه بآخر اسمه مزيدة بن جابر.
قلنا: نعارضه بقياس مثله، وهو أنا نقول: مائع لا يجوز الوضوء به في الحضر فلم يجز في السفر كالخل، أو مائع لا يجوز الوضوء به مع وجود الماء فلا يجوز مع عدمه كالخل، ثم نقول: لو كان النبيذ كالاستنجاء لكان مخيراً بين النبيذ والماء كما يُتخير في الاستنجاء وأنتم لا تقولون بذلك.
قالوا: الرجلان والرأس عضوان من أعضاء الوضوء فثبت فيهما بدل في الطهارة كالوجه واليدين.
قلنا: هذا فاسد بالمعارضة، فإن الوجه واليدين عضوان من أعضاء الوضوء فلا يثبت فيهما بدل كالرأس والرجلين، ثم نقول: لو كان الرأس والرجلان كالوجه واليدين كما زعمتم لثبت فيهما مقصوراً عليهما كما ثبت ذلك في الوجه واليدين، فلما كان بدلهما عاماً في جميع الأعضاء بطل القياس. على أن هذه الأقيسة التي أوردتموها لنصرتكم إنما هي من الأقيسة الطرديه التي لا يعول عليها، وما أوردناه من الأقيسة فهو مثلها، ولم نوردها اعتماداً عليها وإنما أوردنا معارضة الفاسد بالفاسد، وهو مقصد في الجدل ينتحيه النظار من الفقهاء ويجعلونه عمدة فيما هذا سبيله، فأما ما يُعوَّل عليه في تقرير الأحكام الفقهية ويُعتَمَد في مجاري المضطربات الاجتهادية، فهي الأقيسة المخيلة والشبهية، وستراها مقررة في أثناء هذا الكتاب وغضونه بمعونة اللّه تعالى وحسن توفيقه.
مسألة: الماء إذا تنجس بأي نجاسة كانت، فلا يجوز التطهر به عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، على حد اختلافهم في كيفية تنجس الماء، ولا يعرف في ذلك خلاف، وهم وإن اختلفوا في الصلاة في الثوب النجس كما سنقرره، فلم يختلفوا في أنه لا يجوز التوضؤ بالماء النجس، والنبيذ وإن كان نجساً عندنا لا يحل شربه ولا التطهر به فإنه طاهر عند أبي حنيفة يجوز التطهر به كما سبق تقريره.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]. والرجز: هو القذر والنجس، وعند مجاهد: هو الصنم. والأول هو المستعمل في اللغة، ومن استعمله في التطهر فلم يهجره، وقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ}[الأعراف:157]. ولم يفصل، وهو من جملة الخبائث، ومن توضأ به فلم يحرمه. وقوله ً: (( لا يبولن أحدكم في الماء الراكد )). ولم ينه عنه إلا من أجل تنجيسه به. وقوله (عليه الصلاة والسلام): (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يُدخل يده الإناء حتى يغسلها ثلاثاً )). وما ذلك إلا من أجل النجاسة.
ومن طريق القياس، وهو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ }[المائدة:3]. ولم تحرم إلا من أجل نجاستها، فهكذا ما شاركها في النجاسة مقيس عليها في التحريم والمنع من استعماله، وقوله ً: (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً ))، وما ذاك إلا من أجل نجاسته فيجب(1) في كل ما كان نجساً من غير فصل.
وإذا حكمنا بنجاسة الماء لم يجز التطهر به في رفع الحدث ولا رفع النجاسة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة كما مر بيانه، للظواهر الشرعية الواردة في منع ذلك، ولأنه نجس في نفسه فلا يجوز كونه مطهراً، وهل يجوز الانتفاع بهذا الماء في غير الطهارة أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
أولها: أنه لا يجوز الانتفاع به، وتجب إراقته سواء كان متغيراً بالنجاسة أو غير متغير بها، وهذا هو الذي ذكره الأخوان: السيد المؤيد بالله والسيد أبو طالب، وهو محكي عن الشافعي ومالك وغيرهم من الفقهاء.
__________
(1) التحريم والمنع من الاستعمال.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]. وقوله عليه السلام: (( إذا وقع الحيوان في السمن أُريق المائع وقَوِّر ما حولي الجامد))(1). وهذا فيه دلالة على أنه لا يجوز الانتفاع به؛ لأنه لو كان طاهراً لم يقل بإراقة المائع، لأنه في محل تعليم الشرع فلا يجوز فيها إغفال البيان عن موضع الحاجة.
وثانيها: أنه يجوز الانتفاع به فيما يكون استهلاكاً له، نحو سقي الزرع وبَلّ الطين وما أشبه ذلك مما يكون مغلوباً بالاستعمال فلا تُرى له عين، وسواء كان متغيراً أو غير متغير.
والحجة على ذلك: هو أن ما هذا حاله فقد جرى به عرف المسلمين من غير نكير في الأمصار والأقاليم، وقد قال عليه السلام: (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن )). ولأن في إضاعته من غير نفع يستهلك فيه، حرجاً ومشقة، وهذا شيء يحكى عن الإمام المنصور بالله.
وثالثها: فإنه يُنظر فيه فإن كان متغيراً بالنجاسة فإنه لا يجوز الانتفاع به في أمر من الأمور، وإن كان غير متغير بها جاز الانتفاع به في بلّ الطين وسقي الدواب والطير. وهذا شيء يحكى عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه إذا كان متغيراً بالنجاسة فهو نجس بالإجماع فلا يجوز الانتفاع به ولا مساغ للاجتهاد فيه؛ لأنه مجمع على تنجيسه، فأما إذا كان غير متغير بالنجاسة فهو في محل الاجتهاد كما قررناه من قبل، وإذا كان مما قد وقع فيه خلاف الأمة، جاز الانتفاع به في الاستهلاكات التي ذكرناها، لأنه متى كان مختلفاً فيه فالأقوال فيه صائبة لكونها اجتهادية، فمن انتفع به لم يكن هناك محذور يقع فيه فلهذا وقعت التفرقة بين ما يتغير وبين ما لا يتغير.
فأما بيعه فسيأتي الكلام عليه في البيوع بمعونة اللّه تعالى.
__________
(1) عن ميمونة أن رسول اللّه ً سئل عن فأرة وقعت في السمن. فقال: ((ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم)). أخرجه البخاري. وجاء الحديث بلفظ آخر عن أبي هريرة. ا.هـ. (جواهر).
والمختار: ما قاله الإمام المنصور بالله، من جواز الانتفاع به فيما ذكر.
والحجة على ذلك: هو أن الانتفاع به مع قيام المانع يكون رخصة من جهة اللّه تعالى لعباده؛ لأنا لا نريد بالرخصة إلا أن سبب التحريم قائم مع الإباحة كما نقول في إباحة أكل الميتة للمضطر في المخمصة، وكما نقول في بيع السَّلَم فإنه رخصة في بيع ما ليس عنده، وهاهنا سبب التحريم قائم وهو النجاسة، لكن الشرع قد دل على الرخصة لما روي عن النبي ً: (( من لم يقبل الرخصة فعليه من الأثم مثل جبال عرفات))(1). وفي حديث آخر: (( إن اللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ))(2) فمن أجل ذلك انتحال الرخصة فيما هذا حاله هو الأقرب، وكيف لا وفيه من تيسير الحال وتسهيل الأمر ما لا يخفى، وقد قال اللّه تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ العُسْرَ }[البقرة:185].
الانتصار: قال المانعون من جواز الانتفاع به: الآيات والأخبار دالة على المنع منه في حالة من الحالات فيجب اتباعها.
__________
(1) رواه أحمد بن حنبل في مسنده والهيثمي في مجمع الزوائد.
(2) رواه الطبراني في الكبير والهيثمي في مجمع الزائد وغيرهما، وقد جاء بألفاظ مختلفة، منها: ((إن اللّه يحب أن تقبل رخصه..)) و((إن اللّه يحب أن تؤتى عزائمه)) و((إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه..)) رواه البزار والطبراني عن ابن عباس، وكذا أحمد وابن خزيمة عن ابن عمر.
قلنا: إنما يندرج تحت هذه العمومات إذا كان نجساً ونحن لا نسلم نجاسته، بل لما ذكرناه من عمل المسلمين زالت نجاسته وحُكِمَ بطهارته، ثم إنا وإن سلمنا أن نجاسته باقية لكنا نقول: قد سقط حكمها لما قررناه من حديث الرخصة الذي أشار إليه الشرع، فإذاً إنما كان مندرجاً تحت العموم، إما بثبوتها وتقرير حكمها وهو الإثم، ونحن لا نسلمها في هذه الصورة، ولو سلمناها فلا نسلم بقاء حكمها، وإذا كان الأمر كما قلناه بطل اندراجه تحت ما ذكروه من العمومات الدالة على منع الانتفاع به.
قالوا: أمر بإراقة السمن لما وقعت فيه النجاسة فيجب في الماء مثله.
قلنا: الماء مخالف لجميع المائعات كلها، ولهذا فإنها تنجس بملاقاة النجاسة قليلة كانت أو كثيرة، تغيرت بالنجاسة أو لم تتغير، بخلاف الماء فإن الخلاف فيه واقع في قليله هل ينجس إذا لم يكن متغيراً أم لا؟ كما قررناه من قبل فافترقا، وأيضاً فإن الحاجة إلى الماء ليس كالحاجة إلى السمن فلا يلزم من اغتفار نجاسة ما تمس الحاجة إليه ويعظم الافتقار إلى الانتفاع به، اغتفار نجاسة مالا تمس الحاجة إليه.
قالوا: نجس فلا يجوز الانتفاع به من غير ضرورة كالميتة.
قلنا: لا نسلم كونه نجساً فإنه لو كان نجساً لم يستعمله المسلمون في الأمصار والأقاليم، ثم وإن سلمنا كونه نجساً فالمعنى في الأصل كونه نجساً يُنْتَفَع به مع بقاء عينه، وما نحن فيه ليس له عين فلهذا جاز الانتفاع به، ويؤيد ما قلناه أنه إذا كان ينتفع به مع بقاء عينه فهو مماثل للميتة في التحريم والمنع؛ لأن بقاء عينها يكون لها قدر وارتفاع وزنٍ في نظر الشرع، ونحن مأمورون باستقذارها والبعد عنها لركتها ونزول قدرها، بخلاف ما لا عين له مرئية، فإن استعماله في الاستهلاكات مطابق لنظر الشرع في إ زالتها وإذهاب أعيانها، فلا جرم انقطعت عن الميتة لما ذكرناه وذلك يفسد القياس على الميتة فافترقا.
الانتصار على أبي حنيفة: قالوا: ما كان متغيراً بالنجاسة فهو ممنوع استعماله بخلاف مالم يتغير بها.
قلنا: أهل الإجماع لم يفصلوا بين المتغير وغير المتغير في جواز الاستعمال فلا معنى للتفرقة بينهما، والتفرقة بينهما تكون تحكماً لا مستند له.
قالوا: ما كان متغيراً فهو نجس بالإجماع بخلاف ما لم يكن متغيراً فهو في محل الاجتهاد ومخالفه يتناوله الوعيد، بخلاف ما كان مختلفاً فيه فلا وعيد فيه.
قلنا: لا نسلم انعقاد الإجماع على نجاسة ما هذا حاله ولو اعتقدوا النجاسة لما استعملوه، ثم لو سلمنا انعقاد الإجماع على نجاسته فإنا نحمله على الانتفاع به فيما ليس يُعَد استهلاكاً في العادة، على أنا نقيس الجمع عليه على ما كان مختلفاً فيه بجامع كونه نجساً، فنقول: نجس فجاز الانتفاع به فيما يزيل عينه كالمختلف فيه، فبطل ما توهموه.
مسألة: ذهب أئمة العترة إلى أن الوضوء بالماء المغصوب لا يجزي ولا تنعقد الصلاة به، وهو محكي عن داود من أهل الظاهر.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوْا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }[البقرة:188]. فنهى عن استهلاك مال الغير، ولا شك أن الوضوء به استهلاك له، وقوله ً: (( لا يحل مال امرءئ مسلم إلا بطيبة من نفس ه ))(1). وهذا لم توجد فيه طيبة في نفس مالكه، فظاهر الآية والخبر دال على المنع من استعماله، فالآية ناهية، والنهي دال على الفساد فيما كان عبادةً، والوضوء عبادة لقوله ً: (( الوضوء شطر الإيمان ))(2). ولأنه يفتقر إلى النية فكان عبادة كالصلاة، والخبر دال على تحريمه ومنعه بطريق النفي دون النهي، وهو أبلغ في عدم الإجزاء من النهي فلهذا قضينا بكونه غير مجزئ للصلاة.
والحجة الثانية: من جهة القياس، وهو أنه ممنوع من استعماله فلم يجز الوضوء به كالنجس. أو نقول: عبادةُ تُؤدَّى بالمال فلا يجوز أداؤها بالمغصوب كالكفارة، فهذه حجج ثلاث دالة على بطلان التوضؤ بما كان مغصوباً أو مسروقاً من الأمواء.
وذهب جميع الفرق الثلاث: الحنفية والشافعية والمالكية إلى جوازه مع كونه مكروهاً، وهو قول المعتزلة.
__________
(1) وفي لفظ: ((.. إلا بطيب نفس منه)). و((..عن طيب نفس منه)). و((.. من طيب نفس منه)). و((لا يحل مال رجل مسلم لأخيه إلا ما أعطاه)). رواه أحمد في مسنده والبيهقي والدار قطني.
(2) بقية الحديث ((.. والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان اللّه والحمدلله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)). أخرجه مسلم والترمذي عن أبي مالك الأشعري.
والحجة لهم على ذلك: الظواهر القرآنية كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَا}[الفرقان:48]. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}[الأنفال:11]. فلم يعتبر في الماء شيئاً سوى كونه طاهراً ولم يذكر كونه حراماً ولا حلالاً، وفي هذا دلالة على أن كونه حلالاً، لا يشترط في صحة التوضؤ به.
الحجة الثانية: الأخبار المروية، كقوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه)). وقوله ً: (( الماء لا يجنب)) و (( الماء لا ينجس))، فهذه الأخبار كلها دالة على صحة التوضؤ بما كان طاهراً، ولم يعترض لما عداه من كونه حراماً، فدل ذلك على كونه مجزياً بظاهرها، فمن ادعى إخراجه عن هذه الظواهر كان مدعياً لخلاف الظاهر فلا بد من إقامة الدلالة على ذلك.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنه ماء مطلق فجاز التوضؤ به كالماء الحلال.
والمختار: ما عول عليه أئمة الآل من كونه غير مجز في تأدية الصلاة.
والحجة على ذلك: ما أوردوه من الآيات والأخبار والأقيسة، ونزيد هاهنا حججاً ثلاثاً بعون اللّه تعالى:
الحجة الأولى: أنا نقول: الوضوء مأمور به بدليل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6]. والغصب منهي عنه بدليل قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوْا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]. فلو جوزنا فعل الوضوء بالماء المغصوب لكان العبد مأموراً بفعله منهياً عنه، فيكون الوضوء مطلوباً غير مقبول، وهذا محال.
لا يقال: إن كونه مأموراً متعلق بفعل الوضوء، وكونه منهياً متعلقاً بالغصب، وهما وجهين للفعل متقاربين فلا يلزم فيه مناقضة؛ لأنا نقول: هذا فاسد لأنه لا يعقل هناك تغاير بينهما من جهة اتحادهما، وبيانه أنا نقول: إن متعلق الأمر على زعمكم هو فعل الوضوء بالماء المغصوب، وعلى قولنا متعلق النهي هو فعل الوضوء بالماء المغصوب، فهما متحدان كما ترى، أعني متعلق الأمر والنهي، فيلزم ما ذكرناه؛ لكونه مأموراً به منهياً عنه وأنه محال.
الحجة الثانية: فعل الوضوء طاعة لله تعالى؛ لأنه من جملة العبادات وكل عبادةٍ فهي طاعة، وفعل الغصب يكون معصية لله تعالى، فلو جوزنا التوضؤ بالماء المغصوب على زعمكم لكان طاعة من حيث كونه عبادة، ومعصية من جهة كونه مغصوباً لايحل فعله، فيلزم أن يكون العبد بالتوضؤ بالماء المغصوب، مطيعاً عاصياً [في وقت واحد]، وما هذا حاله فلا خفاء بفساده.
لايقال: إن كونه طاعة لم يلاق كونه معصية، وكونه معصية لايلاقي كونه طاعة وإذا لم يتلاقيا لتغاير المتعلقين فيهما لم يكن ذلك مؤدياً إلى فساد، فلا جرم جاز أن يكون مطيعاً بفعل الوضوء وعاصياً بكونه غاصباً، ومثل هذا جائز؛ لأنا نقول: هذه عبارة فارغة لا فائدة تحتها، وتكرير ألفاظ لا طائل وراءها، فإنا قد قررنا اتحاد الوجهين في كونه طاعة معصية بما ذكرناه في كونه مأموراً به منهياً عنه فأغنى عن الإعادة.
الحجة الثالثة: أنا نقول لهم: أليس قد تقرر كون الوضوء مراداً لله تعالى؟ فلابد من قول بلى، وقد تقرر كون الغصب مكروهاً لله تعالى من جهة كونه منهياً عنه، والنهي لا يكون نهياً إلا بالكراهة. فإذا تقرر ذلك فكيف يقال بجواز التوضؤ بالماء المغصوب؟ وفي ذلك كونه مراداً مكروهاً بالتقرير الذي لخصناه وهو محال.
لا يقال: كيف يقال بأن الوضوء بالماء المغصوب مكروه وهو من جملة الواقعات؟ والله تعالى مريد لكل واقع طاعة كان أو معصية، فإذاً لا معنى لكونه مكروهاً مع كونه مما يقع في العالم، وإذا بطل كونه مكروهاً ثبت كونه مراداً، سواء كان طاعة أو معصية فلا وجه للإلزام بكونه مكروهاً كما قلتم؛ لأنا نقول: هذا فاسد، فإنا إنما قررنا هذا الإلزام على الدليل وقد قام البرهان العقلي على أن المعاصي غير مرادة لله تعالى سواء كانت واقعة أو غير واقعة، فإن سلموا ذلك فالإلزام متوجه على لزوم كون الوضوء مراداً مكروهاً، وإن دفعوه نقلنا معهم الكلام إلى تلك المسألة فإنها متعلقة بالمباحث العقلية الكلامية، وقد قررناها في الكتب العقلية، فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا أن هذه الإلزامات متوجهة على قول من زعم أن الوضوء بالماء المغصوب جائز.
الانتصار على من خالفنا في هذه المسألة بتزييف(1) أدلتهم فيها.
قالوا: الظواهر الشرعية دالة على صحة الوضوء بالماء المغصوب.
قلنا: هذا فاسد من وجهين:
أما أولاً: فإنا لا نسلم اندراجه تحت العموم؛ لأن العمومات القرآنية والأخبار النبوية، إنما تناولت اسم الطهور وهو متناول ما كان طاهراً في نفسه مطهراً لغيره، والماء المغصوب ليس هكذا، فلهذا لم يكن مندرجاً تحتها.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا اندارجه تحت العموم، لكنه خرج بأدلتنا المخصصة من ظاهر العموم فيُعمل بأدلتنا المخصصة فيما كانت متناولة له بظاهرها، وهو خروج الماء المغصوب عن صلاحية كونه وضوءاً، ثم يُعمل بالأدلة العامة فيما وراء ذلك، فيكون فيما ذكرناه عمل بالعموم والخصوص جميعاً، وما ذكرتموه إخراج لأدلة الخصوص عن كونها دالة، وهذه طريقة مرضية بين علماء الأصول، أعني الجمع بين الأدلة، لا يختلفون فيها فمن قال منهم بأن في اللغة لفظة موضوعة للعموم.
__________
(1) يقصد المؤلف: بتوضيح زيف أدلتهم، أي بإبطالها. وقد سبقت الإشارة إلى هذا.
قالوا: ماء مطلق فجاز التطهر به كالماء الحلال.
قلنا: هذا القياس معترَض من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الجامع الذي ذكرتموه هو كونه ماء، وما هذا حاله وصف طردي ليس مشتملاً على إخالة ولا مشابهة خاصة، وما يكون على هذه الصفة فليس معتمداً في تقرير حكم من الأحكام الشرعية.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل كونه حلالاً، وهذا فرق فقهي يبطل الجمع ويلحقه بالبطلان والفساد.
وأما ثالثاً: فلأنا نعارضه بقياس مثله فنقول: ماء [مغصوب] فلم يجز التطهر به كالماء النجس، أو نقول: شرط من شروط الصلاة المعتبرة في أدائها موصوفة بصفة فلم تجز بما هو موصوف بضدها، كالماء الطاهر(1).
قالوا: طهارة بالماء تعتبر في صحة أداء الصلاة، فلم يكن الحلال من شرطها كإزالة النجاسة، فلو غُسل الثوب من النجاسة بماء مغصوب لكان مجزياً فهكذا حال الوضوء من غير تفرقة بينهما.
__________
(1) جملة: كالماء الطاهر، مكانها بعد كلمة: بصفة. حتى لا يفهم المعنى المقصود على عكسه.
قلنا: هذا فاسد، وبيانه: أنه إن كان الغرض من هذا القياس هو استعمال الماء المغصوب في إزالة النجاسة فهو باطل؛ لأنه محرم عقلاً وشرعاً ويؤيده قوله ً: (( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه )). وقوله ً: (( إذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردَّها عليه ))(1). وإن كان الغرض من القياس هو بيان أن من غسل النجاسة بماء مغصوب فإن الصلاة مجزية له، فهكذا حال الوضوء، فالفرق بينهما ظاهر، فإن النجاسة ليست عبادة فلهذا كان تحصيلها على جهة الشرط دون العبادة، بخلاف الوضوء فإنه عبادة فلا يجوز ملابسته للمعصية فافترقا. ثم نقول: فرق آخر، وهو أن غسل الثوب بالمغصوب ليس ملاقياً للصلاة في حال أدائها فلهذا كانت الصلاة مجزية بغسله، بخلاف الوضوء فإنه ملاق للصلاة مُؤدى لها؛ لأن غسل النجاسة يراد للصلاة ولغير الصلاة بدليل قوله تعالى: {وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]. ولم يفصل بين الصلاة وغيرها بخلاف الوضوء، فإنه لا يراد إلا للصلاة فافترقا.
فحصل من مجموع ما ذكرناه أن غسل النجاسة هو تأدية شرط لا تأدية عبادة، بخلاف الوضوء فإنه عبادة تفتقر إلى النية، فلهذا جاز غسل النجاسة بالماء المغصوب بخلاف الوضوء فبطل ما توهموه من الجمع بينهما.
قالوا: عبادة تدخلها النيابة، فلم يكن التلبس بالمغصوب مفسداً لها كالذبح بالسكين المغصوبة والوقوف على جمل مغصوب.
قلنا: هذا القياس فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فبالمنع من حصول العلة في الفرع، فإنه لا نسلم النيابة في الوضوء، فإن حقيقة النيابة أن يتوضأ عنه غيره وهذا لا قائل به، فأما أن غيره يوضيه فهذا ليس نيابة وإنما هو استعانة لا نيابة.
__________
(1) رواه البيهقي بلفظ ((.. فليردها)) ورواه أحمد في مسنده بلفظه.
وأما ثانياً: فبالفرق، وهو أن الوقوف على جمل ليس واجباً، بل لو وقف على قدميه أجزأه، وهكذا لو ذبح بالمروة والسيف أجزأه وبكل ما يفري الأوداج ويبهر الدم، فالذبح بالسكين غير واجب بخلاف الوضوء فإنه يجب عليه استعمال عين الماء ولا يجزيه غيره فافترقا.
وأما ثالثاً: فلأن ما ذكروه من القياس فاسد الاعتبار، فإن الوضوء بالماء بعيد عن الذبح بالسكين المغصوب والوقوف على جمل حرام، فلا يقاس أحدهما على الآخر لبعد أحدهما عن الآخر؛ لأن السكين آلة في الذبح كالقوس للرمي، والجمل آلة في الوقوف راكباً كالقلم للكتابة، بخلاف الوضوء فإنه ليس بحقيقة الآلة بل هو عبادة منفصلة على جهة الاستقلال، وإنما الآلة أن يغتصب دلواً وحَبْلاً فيستسقي بهما ماءً حلالاً ثم يتوضأ به، فهذا يكون نظيراً لمسألتنا ولا نخالف فيه؛ لأنهما يتوصل بهما إلى تحصيل الماء فهما بحقيقة الآلة أشبه فبطل ما قالوه.
قالوا: الغصب لا يعقل في الماء؛ لأنه على أصل الإباحة بدليل قوله ً: (( المؤمن أخو المؤمن يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان))(1). يعني الشيطان، وقوله ً: (( الناس شركاء في ثلاثة: في الماء والنار والكلأ))(2).
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد.
(2) وفي رواية ((.. في ثلاث...إلخ)). قال في الاعتصام: وهو حديث مشهور تداوله الفقهاء. ولفظه في إحدى الروايات لابن ماجة عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه ً: ((المسلمون شركاء في ثلاثة))...إلخ. وفي رواية عن أبي هريرة أن رسول اللّه ً قال: ((ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار وثمنه حرام)). ا.هـ. ج4/165.
قلنا: إن صح ما ذكرتموه، فالخلاف بيننا في المسألة مرتفع، إذ لا صورة له على ما ذكرتموه، إنما يُتصور في الأنهار والسيول فإنه لا يُتصور فيه الغصب، فأما ما أُحرز في القِرَب والكيزان والصحاف وغير ذلك من الآنية، فإنه يكون مملوكاً لصاحبه ولمن أحرزه، يعقل فيه الغصب ويجب فيه الضمان بالمثل، فلو توضأ متوضئ بما هذا حاله من غير إذن مالكه، جاء الخلاف في المسألة. والله أعلم بالصواب.
مسألة: في التفريع، واعلم أن هذه المسألة يتفرع عليها فروع أربعة:
الفرع الأول منها: من توضأ بماء وكان عنده أنه مغصوب، فكان مباحاً أو ملكاً له، فهل يجزيه الوضوء أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يكون مجزياً له، وهذا هو الذي ذكره السيدان: أبو الحسن الحقيني )، وأبو عبدالله الجرجاني ).
__________
(1) أبو الحسن الإمام الهادي علي بن جعفر بن الحسن بن عبيدالله بن علي بن الحسين بن الحسن بن علي بن أحمد بن علي بن الحسين الأصغر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ٍ المعروف بالحقيني نسبة إلى قرية سكنها يقال لها: حقينة بالقرب من المدينة، وهو الحقيني الصغير، والكبير والده. كان عالماً وفقيهاً متكلماً، له المقالات في العلوم والتأليف، قام بأرض الديلم بعد وفاة الناصر الصغير سنة 472هـ. ولم يزل قائماً بأمر اللّه إلى أن وثب عليه رجل حبشي في المسجد فقتله في يوم الاثنين من أيام رجب سنة 490هـ. (مقدمة الأزهار).
(2) محمد بن الحسن بن إبراهيم أبو عبدالله الأستراباذي وقيل: الجرجاني أحد أئمة الشافعية. مولده سنة 311هـ. كان عالماً بالقراءات ومعاني القرآن وأستاذاً في الأدب، وفقيهاً فاضلاً. شرح (التلخيص) لابن القاص في مجلد وصفه ابن قاضي شهبة في الطبقات بأنه شرح جليل عزيز الوجود. توفي سنة 380هـ. عن 75 سنة. ا.هـ. (طبقات الشافعية ج1/166) له ترجمة في وفيات الأعيان ج3/341.
والحجة على ذلك: هو أن التعويل في الأمور على الحقائق دون الأمور العارضة، ولا شك أن أصل هذا الماء هو على الإباحة فلا جرم كان مجزياً.
وثانيهما: أنه غير مجزٍ له وهذا هو الذي ذكره المؤيد بالله، ومحكي عن المنصور بالله.
والحجة على ذلك: هو أنه توضأ بماء وعنده أنه منهي عن استهلاكه، فإقدامه على التوضؤ به وهو على هذه الصفة يؤثر في كونه قربة؛ لإقدامه واعتقاده للمعصية، فلا يكون مجزياً له كما لو كان مغصوباً على جهة الحقيقة.
والمختار: ما عول عليه الإمامان: الحقيني والجرجاني، من جهة أن التعويل إنما هو على حقائق الأمور وأصولها ولا تعويل على ما يعرض من الاعتقادات التي لا حقيقة لها، ومن جهة أن الظواهر الشرعية كلها دالة على صحة التوضؤ بما ذكرناه من هذا الماء، وعروض الاعتقاد من جملة الجهالات فلا يلتفت إليه، ونهاية الأمر فيه أن يكون آثماً باعتقاده لكونه معصية، ومعصيته بما هذا حاله لا تطرق خللاً في أصل وجوبه مع كونه جارياً على نعت الصحة.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالا: الإقدام على التوضؤ به وهو على هذه الصفة يكون معصية فيؤثر في كونه قربة، فلهذا قضينا بكون الوضوء غير مجزئ.
قلنا: الماء في نفسه طاهر حلال لا مرية فيه فلا أثر لاعتقاده وقد نوى به القُربة وقد صادفت القُربة ماء حلالاً فلا يؤثر في حاله الاعتقاد بكونه مغصوباً، ويؤيد ما ذكرناه: أن رجلاً لو عظم رجلاً هو أبوه وقد اعتقد أنه غير أبيه فإن التعظيم منصرف إلى أبيه لا محالة، ولا أثر لاعتقاده كونه غير أبيه، ولهذا قلنا: بأن عبادة المشبهة منصرفة إلى اللّه تعالى وإن اعتقدوه بصفة الأجسام، فاعتقاد المتوضئ لكونه مغصوباً لا أثر له في تغيير حقيقته ولا في كونه قُربة.
الفرع الثاني: من توضأ بماء وعنده أنه مباح فكان مغصوباً فهل يجزيه وضوؤه أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يكون مجزياً له، وهذا هو الذي ذكره الإمامان المؤيد بالله والمنصور بالله.
والحجة لهما على ما قالاه: هو أنه توضأ بماء حلال عنده، وانكشاف العاقبة بعد ذلك بكونه مغصوباً لا يطرق خللاً فيما فعل من التوضؤ بماء هو عنده حلال، وعليه غرامة مثله؛ لكونه مستهلكاً مال الغير، وعلى اليد ما أخذت حتى ترد.
وثانيهما: أنه غير مجز له، وهذا هو الذي ذكره الإمامان الحقيني والجرجاني رحمهما اللّه تعالى.
والحجة على ذلك: هو أن الاعتبار بالحقائق ولا أثر للاعتقادات في قلب الحقائق عما هي عليه. فلما كان الماء مغصوباً في الحقيقة، كان وضوؤه واقعاً على خلل وفساد فلهذا بطل إجزاؤه كما لو تحقق كونه مغصوباً.
والمختار: ما عول عليه الحقيني والجرجاني.
والحجة على ذلك: ما ذكرناه في المسألة الأولى ونزيد هاهنا: وهو أن الأدلة الدالة على بطلان التوضؤ بالماء المغصوب التي أسلفناها على الفقهاء، فهي بعينها دالة على بطلان الوضوء في هذه المسألة، ولا ينفع اعتقاد كونه مباحاً؛ لأنه اعتقاد جهل والجهالات لا أثر لها ولا حقيقة، فمن اعتقد في رجل أجنبي أنه أبوه ثم عظمه على حد تعظيم أبيه، لم يكن معظماً لأبيه لاعتقاده كونه أباً له، ولا يصير أباً له بالاعتقاد، فهكذا هاهنا لا يصير حلالاً باعتقاده إذا كان حراماً في ذاته.
الانتصار: قالا: ليس عليه إلا التوضؤ بما يعتقد في نفسه كونه مباحاً، وهذا حاصل فيما نحن فيه.
قلنا: أليس اعتقاده جهلاً؟ فلابد من بلى.
قلنا: فجهله لا يزيده إلا وبالاً ولا يكون مسوغاً ما لا يسوغ شرعاً، من جهة أن الحقيقة مخالفة لإعتقاده فلا أثر لاعتقاده مع حقيقة الحال في كونه مغصوباً.
والعجب أن ما ذكره المؤيد بالله هاهنا مخالف لما تقتضيه أصوله في الصلاة، إذ ليس هاهنا إلا فقد العلم بكون الماء مغصوباً، وقد تقرر من نصوصه أنه لا تأثير للعلم والجهل في المفعول إذا لم يكن سائغاً على اجتهاده، وقد نص على أن من نسي شيئاً مما طريقه الاجتهاد فكان مختلفاً فيه فصلى ولم يذكره إلا بعد مضي الوقت، فإنها تجب عليه الإعادة، فكيف يقال هاهنا بأن وضوءه يكون مجزياً مع وقوعه على خلل وفساد لم يعلمه. وأعجب من هذا أن هذين الإمامين: المؤيد بالله والمنصور بالله، لا يزالان مُعَوِّلين في أثناء كلامهما في ريب النظر ومجاري الاجتهاد على حقائق الأشياء وأصولها في استصحاب العموم وإستصحاب الأصل في الطهارة والنجاسة، واستصحاب براءة الذمة وغير ذلك مما يكون متمسكاً بالحقائق في أصول الأشياء، حتى إذا جاءا إلى هذه المسألة كان تعويلهما على مطلق الاعتقاد من غير تعويل على الحقائق ولا التفات إليها، مع تبحرهما في علم الشريعة وإحاطتهما بالمجاري الاجتهادية والمضطربات الفقهية، فما أدري على ما أوجه عليه كلامهما في هذه المسألة.
الفرع الثالث: من توضأ من بئر في دار من غير إذن أهلها، فهل يكون وضوؤه مجزياً له أم لا؟ فيه قولان للمؤيد بالله:
أحدهما: أنه لا يكون مجزياً، وهذا هو الذي ذكره بعض فقهاء المذهب.
والحجة على ذلك: هو أن البئر وماءها ملك لصاحبها فلا يجوز من غير إذنه كما لو كان الماء في كوز أو قِربة، فإذا كان أخْذه معصية بالغصب كان مضاداً للقُربة فلا جرم قضينا بفساد الوضوء لوقوعه غير عبادة.
وثانيهما: أن ذلك جائز وهذا هو الذي ذكره آخراً.
والحجة على ذلك: هو أن أصل الماء باق على الإباحة مالم يكن مُحْرَزاً في الكيزان والجرار، بدليل قوله ً: (( الناس شركاء في ثلاثة: في الماء والنار والكلأ )).
والمختار: ما قاله آخراً. وهو القول بإجزائه في الوضوء لما ذكره من التعليل فإنه لا عثار على وجهه، ونزيد هاهنا: وهو أن المعصية إنما تعلقت بنفس الدخول لا بنفس الماء فلم تلاق القُربة نفس المعصية فيكون مفسداً للوضوء لتغايرهما، كما لو غصب مَطْهَرة فتوضأ فيها فإن وضوءه يجزيه إذا كان أصل الماء حلالاً فافترقا.
الفرع الرابع: يجوز التوضؤ من النهر الذي حفر غصباً ومن ساقية المرأز(1) إذا حفرت ظلماً، ذكره بعض أصحابنا للمذهب، وهذا جيد لا عثار عليه؛ لأن أصل الماء على الإباحة، والخلل إنما وقع في مجراه، والوضوء إنما هو بالماء دون مجراه، فالمعصية لا تلاقي ما هو طاعة بل هي منحرفة عنها، فلهذا كان مجزياً. والظاهر من كلام المؤيد بالله أن تردده إنما هو في ماء البئر إذا كان مأخوذاً من غير رضا صاحبها، فأما النهر فغالب ظني أن كلامه لا يختلف، وأنه يجوز التوضؤ بماء النهر وإن حفر غصباً، والتفرقة بينهما ظاهرة، فإن البئر يمكن إلحاقها بالكوز والقِربة فلا يجوز التوضؤ منها إلا مع الرضا من صاحبها. ويتعقل فيها الغصب، ويمكن إلحاقها بالنهر فلا يعقل فيها الغصب، فلهذا تردد نظره في ذلك كما قررناه من قبل، بخلاف النهر فإنه على الأصل في الإباحة، فهو مخالف للبئر كما ترى، وسيأتي لهذا مزيد تقرير في إحياء الموات بمعونة اللّه تعالى.
__________
(1) هكذا في الأصل ولم نعثر لها على أصل، وواضح أن المراد بالمرأز أو المراز، الحوض الذي تصب فيه الدلاء من البئر، والله أعلم. وفي القاموس: (رازه روازاً، جربه، و.. الرجل ضيعته، أقام عليها وأصلحها، و.. ما عنده بمعنى طلبه وأراده.).ا.هـ.
قال السيد الإمام المؤيد بالله: وإذا كانت البئر خارج الستر فتوضأ رجل بمائها من غير إذن مالكها فلا بأس، إذا كان الظاهر من حال صاحبها أن لا يمنع من استقاء مائها، فهذا عمل على القول الأول، وقد حكينا عنه قوله الآخر وهو جواز التوضؤ والاستسقاء؛ لأن الظاهر من الأمواء كلها الإباحة، سواء كان بئراً أو نهراً إلا ما خرج بدليل خاص في المنع.
دقيقة: اعلم أن هذه المسألة اجتهادية فالتصويب شامل لجميع القولين، وإنما قضينا بكونها اجتهادية؛ لأن كل واحد من الفريقين ممن منع أو أجاز مشتمل من الظواهر الظنية والأمارات الفقهية من غير إسناد إلى مانع، فلهذا وجب القطع على كونها من مسائل الاجتهاد.
وليس العجب من الفقهاء فيما ذهبوا [إليه] من جواز التوضؤ بالماء المغصوب، لأن قصارى أنظارهم مستندة إلى الظواهر الشرعية، وإنما العجب من الإخوان الفئة العدلية شيوخ المعتزلة، حيث زعموا صحة التوضؤ بالماء المغصوب مع استطالة أيديهم في المباحث الكلامية وقوة أنظارهم في المسائل الدينية وتحققهم أن القُربة من شرط الوضوء وأن المعصية منافية لها، وأن الوضوء مأمور به، فكيف ينهى عنه لكونه غصباً، وأنه مراد لكونه عبادة فكيف يكون مكروهاً لما تضمن من المعصية من الغصب؟ وكل هذه الأسرار مأخوذة من الأسرار الكلامية وهم أعلم بها وأكثر إحاطة بحقائقها من الفقهاء، فهم في التحقيق أحق بالقول بعدم الجواز لما ذكرناه.
ويدل على التصويب فيها: أن خوض الفقهاء فيها كخوضهم في سائر المسائل الخلافية من غير تخطئة ولا تأثيم لمن خالف قول صاحبه في المسألة، وهذه أمارة قوية في كون المسألة اجتهادية؛ لأن الأدلة لو كانت قاطعة لكان الحق واحداً فيها، ولكان من خالفه مخطئاً كما في المسائل الدينية والمضطربات الأصولية، وقد قررنا في مقدمة الكتاب الفرق بين المسائل القطعية والظنية فلا وجه لتكريره.
مسألة: في الآسار، السؤر مهموز وجمعه آسار وهو: عبارة عما يفضل من الطعام والشراب في الإناء، وما فضل في الإناء من سؤر المؤمن من شرابه وغسله ووضوئه فهو طاهر عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك، ولا يؤثر فيه خلاف بين الأمة.
والحجة على ذلك: هو ما مر من الظواهر الشرعية في طهارة الماء كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوْرَاً}[الفرقان:48]. وقوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه )). إلى غير ذلك من الأخبار الواردة.
الحجة الثانية: قوله ً: (( المؤمن لا ينجس ))(1). ولم يفصل بين وضوئه وغسله وعَرَقه ولُعابه، ولا ينجس من ذلك إلا ما خصته دلالة، ولأنه لم يعرض له ما يبطل التوضؤ به والاغتسال من غير نجاسة ولا استعمال، فيجب القضاء بطهارته.
__________
(1) في حديث حذيفة الآتي.
ويجوز التطهر بسؤر الجنب والحائض لما روته عائشة (رضي اللّه عنها) قالت: (( كنت أتعرق العظم وأنا حائض فأعطيه النبي ً فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه))(1). وفي حديث حذيفة أنه لما قال: إني جنب (( أبرز ذراعيك إن المسلم لا ينجس ))(2). ثم وضع كفه على ذراعيه وإنها لرطبه. وروي عن النبي ً (( أنه خرج يوماً إلى المسجد فرأى في ثوبه دماً فأمر به إلى عائشة وهي حائض لتغسله فغسلته))(3)، وقال لها يوماً: (( ناوليني الخُمرة)). فقالت: إني حائض. فقال: (( أحيضتك في يدك ))(4)؟
وهل يكره سؤرهما أم لا؟ فالذي عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة أن سؤرهما لا يكره.
والحجة على ذلك: ما رويناه من هذه الأحاديث، فإنها دالة على الجواز من غير كراهة.
وحُكي عن الحسن بن صالح كراهة سؤرهما، ولا أعرف له وجهاً في الدلالة على الكراهة سوى أن الحائض متلوثة بالنجاسة في أغلب أوقاتها، فإذا باشرت شيئاً من هذه الأمور فإنه لا يؤمن منها تنجيسه، فلهذا كُره مخالطتها لما ذكرناه. والجنب مقيس عليها بجامع كون كل واحد منهما يجب عليه الغُسل.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي. العرق: بفتح العين المهملة وسكون الراء: العظم الذي عليه بقية من لحم.
(2) عن علي عليه السلام قال: عاد رسول اللّه ً وأنا معه رجلاً من الأنصار فتطهر للصلاة ثم خرجنا، فإذا بحذيفة فأومأ رسول اللّه فأقبل إليه، فأهوى رسول اللّه إلى ذراع حذيفة ليدعم عليها فنجشها حذيفة فأنكر ذلك رسول اللّه. فقال: ((مالك ياحذيفة))؟ قال: إني جنب، قال: ((أبرز ذراعك فإن المؤمن ليس بنجس)) ثم وضع يده على ذراعه وإنها لرطبة. حكاه في البحر عن أصول الأحكام وهو في الجامع الكافي عن رواية مسلم، ورواه أبو داود والنسائي مع اختلاف في اللفظ.
(3) سيأتي في باب الحيض.
(4) أخرجه الستة إلا البخاري.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة من جواز استعمال آسارهما من غير كراهة، وما قاله من توهم النجاسة لا وجه له، فإنه وهم لا يُعَوَّل عليه مع ما قررناه من الأدلة الشرعية التي حكيناها، ولأن ما ذكره الحسن يشبه أن يكون مثل فعل اليهود، فيجب القضاء ببطلانه لما روى أنس بن مالك: أن اليهود كانوا إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت، فسئل رسول اللّه ً عن ذلك فأنزل اللّه تعالى: {وَيَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذَىً فَاعْتَزِلُوْا النِّسَاءَ فِيْ الْمَحِيْضِ }[البقرة:222]. إلى آخر الآية، فقال ً: (( جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء غير النكاح))(1). فقالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه، ففي هذا دلالة على جواز مخالطتهن في المآكل والمشارب والتصرفات من غير كراهة.
مسألة: سؤر الكافر، يكون طاهراً أو نجساً؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن جميع آسار الكفار كلها نجسة، على جميع الأديان الكفرية من عبدة الأوثان والأصنام والملاحدة والزنادقة والمجوس، وأهل الكتابين اليهود والنصارى، إلى غير ذلك من سائر الملل المخالفة لملة الإسلام. وهذا هو رأي القاسم بن إبراهيم، ومحكي عن الهادي والناصر، وهو قول مالك.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَس ٌ }[التوبة:28].، فهذا نصٌّ على ما قلناه من نجاستهم ولا حاجة إلى تأويله من غير ضرورة، فيجب الحكم عليهم بالنجاسة في جميع ما تصرفوا فيه إلا ما خصته الدلالة الظاهرة؛ لأنها عامة في رطوبتهم وأبدانهم فلا وجه لأن يقال: المراد به اعتقاداتهم وأبدانهم.
__________
(1) سيأتي في باب الحيض. وهو في سنن أبي داود (258)، والبيهقي في السنن الكبرى ج1/313.
الحجة الثانية: ما روي أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول اللّه ً ضرب لهم قبة في المسجد. فقالوا: يا رسول اللّه، قوم أنجاس. فقال الرسول ً: (( ليس على وجه الأرض من نجاستهم شيء ، إنما نجاستهم على أنفسهم))(1).
ووجه الدلالة: هو أنهم لما قالوا: قوم أنجاس، أقرهم على ذلك، ومن جهة أن الصحابة رضي اللّه عنهم فهموا من جهتهم النجاسة فقالوا: قوم أنجاس، فصرحوا بذلك(2).
الحجة الثالثة: ما روي عن أبي ثعلبة الخشني ) قال: قلت: يا رسول اللّه إنا بأرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم، فقال: (( اغسلوها، ثم اطبخوا فيها ))(4). فلولا أنها نجسة وإلا لكان لا وجه للأمر بغسلها، وليس الوجه في نجاستها إلا من أجل مماسَّتهم لها وشربهم فيها، وفي هذا دلالة على نجاسة الآسار كما ذكرناه.
__________
(1) حكاه في البحر وفي أصول الأحكام.
(2) لعل في هذا حجة على صاحب هذا القول أكثر مما هو حجة له؛ لأن الحديث حصر نجاستهم على أنفسهم وليس على وجه الأرض منهم شيء.
(3) أبو ثعلبة الخشني، (الخشني بخاء معجمة مضمومة وشين معجمة مفتوحة) اختلف في اسمه واسم أبيه، فقيل: جرثوم بن عمرو، على الأشهر. صحابي، قيل: كان أقدم إسلاماً من أبي هريرة، روى الحديث عن النبي ً، وعن: معاذ، وأبي عبيده. وروى عنه ابن المسيب، وعطاء، ومكحول، ومات في جوف الليل وهو ساجد، واختلف في تاريخ وفاته، فقيل: في أول إمرة معاوية والله أعلم. (تهذيب التهذيب).
(4) ولفظ متنه: ((إن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها)). قال في حاشية البحر: هذه إحدى روايتي الترمذي وأورد رواية للحديث عند أبي داود عن أبي ثعلبة الخشني بلفظ نحوه .
المذهب الثاني: أن جميع آسار الكفار ورطوبتهم طاهرة، وهذا هو قول زيد بن علي ومحكي عن المؤيد بالله، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه. قال زيد بن علي: المشرك يُتوضأ بسؤر شربه إلا أن يُعلم أنه شرب خمراً، ولا يُتوضأ بسؤر وضوئه، وإنما خص التوضؤ بسؤر شربه دون سؤر وضوئه لأمرين:
أما أولاً: فلأن الأصل هو النجاسة فيهم، ولكن خص الشرع آسارهم فبقي ما بقي على أصل التنجيس.
وأما ثانياً: فلأنه يسيح عند الوضوء من ملابسة النجاسة مالا يسيح عند الشرب، فمن أجل ذلك فرق بينهما، وإلى طهارة الآسار في حق الكفار وطهارة رطوباتهم، ذهب الإمام المنصور بالله.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ }[المائدة:5]. فلو كانوا أنجاسا لما أباح ذلك، وهذا خاص في الدلالة على طهارة الرطوبة في حقهم في الطعام والشراب وسائر الرطوبات.
الحجة الثانية: ما روى جابر بن عبدالله قال: (( كنا نغزوا مع رسول اللّه ً فنشرب من آنية أهل الكتاب ونطبخ في قدورهم، ولم نؤمر بغسلها من مس أيديهم))، وفي هذا دلالة على ما ذكرناه من طهارة ذلك. وروي عنه ً أنه استعار أدرعاً من صفوان بن أمية ) وكان مشركاً ولم يأمر بغسلها لما أرادوا لبسها، لما ذكرناه.
__________
(1) صفوان بن أمية بن خلف بن وهب القرشي الجمحي المكي، صحابي من المؤلَّفة، أسلم بعد الفتح وكان غنياً كثير الأموال، مات أيام قتل عثمان، وقيل: سنة إحدى أو اثنتين وأربعين في أيام معاوية.
الحجة الثالثة: ما روي أنه ً توضأ من مزادة مشركة ، ولم يؤثر أنه أمر بغسلها(1)، وروي عن عمر مثل ذلك. ولأنه آدمي فوجب أن تكون رطوبته طاهرة كالمسلم، فهذا تقرير أدلة الفريقين القائلين بالجواز وعدمه كما لخصناه، والله الموفق للصواب.
والمختار: ما قاله الأئمة الثلاثة: زيد بن علي والمؤيد بالله والمنصور بالله ومن تابعهم من فقهاء الأمة، من طهارة آسارهم ورطوباتهم على الجملة، لكنا نذكر تفصيلاً نشير إليه وحاصله، أن الكفار ضربان:
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم في ذكر غزوة تبوك، أن رسول اللّه ً أُتي بامرأة مشركة معها مزادتان من ماء على بعير فاستنزلوها عن بعيرها ودعا النبي ً بإناء فأفرغ فيه من أفواه المزادتين ونودي في الناس: اسقوا واستسقوا، فسقى من شاء واستسقى من شاء. الحديث ا. هـ. البحر.
فالضرب الأول منهم: لا يتدينون باستعمال النجاسات ولا يتلوثون بها، وهؤلاء هم اليهود والنصارى وسائر أهل الشرك من عُبَّاد الأوثان والأصنام، فهؤلاء يجوز التوضؤ بفضلة ما شربوه ولا بأس برطوباتهم، لما روي عن النبي ً، (( أنه ألَمَّ به رجل من عُباد الأوثان فأضافه وأكرمه وسقاه لبناً فشربه، ولم يؤثر أن الرسول ً غسل الإناء عقيب شربه)). وروي أن ثمامة بن أثال ) لما جاءوا به أسيراً فرُبط في بعض سواري المسجد و(( كان يُخْرَج إليه الطعام من بيوت رسول اللّه ً وبيوت الصحابة ، وما أُثر أنه غسلت الآنية من أثره))(2).
الضرب الثاني من الكفار: وهم الذي يتدينون باستعمال النجاسات ومخالطتها ولا يزالون يتعاطونها ويخامرونها، وهؤلاء هم المجوس والصابئة؛ لأنهم يتطهرون بالبول ويتقربون بالأرواث النجسة، فهؤلاء يكره استعمال آنيتهم قبل غسلها لما ذكرناه، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر حكاه أبو إسحاق: أنه لا يجوز استعمال آنيتهم. وقال أبو حنيفة ومالك: إنها على أصل التطهير كآنية أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
__________
(1) ثمامة بن أثال بن النعمان الحنفي اليمامي، سيد أهل اليمامة، حاول قتل النبي ً فمنعه عمه، ثم أسر قرب المدينة وأحضر إلى النبي ً فسأله: ما عندك يا ثمامه؟ فقال: إن تقتل تقتل ذا ذنب، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن ترد المال تعط ما شئت. فعفى عنه. ثم أسلم وحسن إسلامه. ولما ارتد أهل اليمامة ثبت ثمامة، ثم آزر العلاء بن الحضرمي في قتاله المرتدين في البحرين حيث قتل الحطم فقتله قوم الحطم. (در السحابة 717).
(2) أخرجه البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة.
والحجة على ما اخترناه من الكراهة فيمن ذكرناه: هو أنه إذا كان المعلوم من حالهم ما ذكرناه من التَّدّيُّن باستعمال النجاسات، فهم لا محالة إلى مخالطتها أقرب، فلهذا كُره للوجه الذي لخَّصْناه. فأما سراويلاتهم وما يختص أسافلهم من الثياب كالمآزر ونحوها، فهي أشد كراهة من جهة أن النجاسة تسيح إليها وهي بها ألصق من غيرها، فمن أجل ذلك كانت أشد كراهة، فلهذا قال أصحابنا: إن الظن غالب على نجاسة سراويل المجوسي. وما ذاك إلا من أجل ما قررناه من عدم احترازهم عنها.
الانتصار على من خالف هذه المقالة: إنما يكون بإيراد متمسكاتهم والجواب عنها.
فنقول: أما ما أوردوه من الأدلة على نجاستهم فجوابه من وجهين:
أما أولاً: فأدلتنا معارضة لأدلتهم فيجب الرجوع إلى التساقط فيهما والرجوع إلى دلالة أخرى غير معارضة، أو الرجوع إلى حكم العقل وهو القضاء بالتطهير في كل شيء إلا لدلالة خاصة، وفيه حصول غرضنا بالطهارة في الرطوبة لهم.
وأما ثانياً: فلأنا لا نسلم التعارض في الأدلة، بل ما ذكرناه من الأدلة راجح على ما ذكروه، أما الآية فلأنه ليس المقصود منها التنجيس وإنما سيقت من أجل كفرهم وجحدانهم، فلهذا فإنه يقال: نجس إذا كان كثير الرداءة ويعظم خبث باطنه. وأما ما رووه من وفد ثقيف وهو حجة لنا حيث قال: (( نجاستهم على أنفسهم )). فدل ذلك على ما يعلق بنا من رطوباتهم فهو طاهر لا محالة، وإنما قال: قوم أنجاس، يعني: كفار متمردون أو هم متنجسون خلا أن نجاستهم قد رُفع حكمها بالإضافة إلينا بدليل آخر الخبر. وأما ما رواه ثعلبة من قوله: (( فاغسلوها ))، فالغسل على زعمهم لا نسلم أنه يدل على النجاسة، بل نقول: إنما غسلت لما يعلق بها من مسّ أيديهم، لأجل أن النفوس تعافهم وتكرههم لأجل كفرهم لا من أجل كونها نجسة. ثم إنما أمر بغَسلها على جهة الاستحباب دون الوجوب لما فيه من النظافة وإزالة العفونات لا من أجل نجاستها، فضعف ما أوردوه.
قالوا: حيوان غير محقون الدم في الأصل لا من أجل الضراوة والتذكية، وهو مما يصح دخوله في ملك مالك فوجب أن يكون نجساً كالخنزير.
فقولنا: غير محقون الدم في الأصل، نحترز به عن المسلم.
وقولنا: من أجل الضراوة، نحترز به من سباع الطير فإن آسارها(1) طاهرة كما سنوضحه.
وقولنا: والتذكية، نحترز به عما يذكى فإن سؤره طاهر.
وقولنا: وهو مما يصح دخوله في ملك مالك، نحترز به عن الحشرات كالحيات والعقارب فإن آسارها طاهرة لما كانت لا يصح دخلوها في ملك مالك فقد حصل بهذه القيود مشابهة الكافر للخنزير فيجب كونه نجساً.
قلنا: ما ذكرتموه من القياس يبطل بالمنع، وهو أنا نقول: ليس الكافر مشابهاً للخنزير في النجاسة، ولو كان الأمر كما زعمتموه لكان شعره مثل شعر الخنزير وقد حكمنا بطهارة شعر الكافر، وأيضاً فإن المعنى في الخنزير هو أنه نجس الذات، بخلاف الكافر فإن نجاسته ليست ذاتية، ولهذا فإنه يطهر بالإسلام. فهذا فرق يبطل ما جمعتموه ويلحق جمعكم بالفساد والبطلان، وأيضاً فإنه معارَض بقياس مثله على عكسه، فإنا نقول: إنسان كامل العقل حامل الأمانة فيجب الحكم بطهارته كالمسلم، بل نقول: هذا القياس أحسن من قياسكم لما بينهما من التفاوت، فإن الكافر إلى المسلم أقرب من الكافر إلى الخنزير، ومهما بعدت المشابهة ضعف القياس.
قالوا: دم مباح إلا لعارض فأشبه الكلب في النجاسة.
فقولنا: إلا لعارض. وصف من أوصاف العلة من جهة أن الكلب دمه مباح إلا أن يكون لزرع أو ماشية أو صيد، والكافر مباح الدم إلا للأمان، أو لقبول الجزية.
قلنا: المعنى في الأصل كونه سَبُعاً والكافر ليس سَبُعاً، أو نقول: المعنى في الأصل كونه نجساً في ذاته بحيث لا يطهر بحال، بخلاف الكافر فإنه يطهر بالإسلام. ثم يعارض بأنه إنسان عاقل فكان سؤره طاهراً كالمسلم.
__________
(1) في الأصل: أسوارها. والصواب: آسارها. كما أثبته المؤلف في أول المسألة.
قالوا: استوى الكافر والخنزير في نظر الشرع، ووصفه حيث وصف المشركين بالنجاسة كما قال تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ}[التوبة:28]. وفي وصف الخنزير بالرجس حيث قال:{إنَّهُ رِجْسٌ }[الأنعام:145]، فيجب استواؤهما في نجاسة الآسار وفي ذلك حصول غرضنا بنجاسة الكافر.
قلنا: لا نسلم أن النجس مثل الرجس فإن الرجس القَذَر، ولهذا جعله وصفاً للخنزير، بخلاف النجاسة فإنها لا نُسَلم كونها صريحة في القذر بل يمكن حملها على نجاسة الأفعال بالخدع والمكر فافترقا، ثم لو سلمنا أنهما مستويان في الوصف بالقَذَر فلا نُسلم استواءهما في نظر الشرع، فإن الكافر آدميّ قد شَرُفَ بالعقل والتمييز والاهتمام بأمره في حفظ الملائكة وإرسال الرسل وإنزال الكتب إليه فكيف يقال بأنهما مستويان في نظر الشرع! فقد انقطع عن الخنزير بما ذكرناه، فلا جرم حكمنا بطهارته لبعده عن كونه مشابهاً للخنزير.
قالوا: مشرك فوجب أن يكون سؤره نجساً كما لو شرب بول ما لا يؤكل لحمه.
قلنا: هذه علة ركيكة مركبة، والعلل المركبة، أكثر النظار من الأصوليين لا يعرّج عليها ولا يجعلها عمدة في تقرير الأحكام الشرعية ولا ثمرة لها في الجدل؛ لأن عندنا أن نجاسة سؤره في هذه الصورة إنما كان نجساً لنجاسة البول واتصاله به، وعندهم إنما كان نجساً لكفره، فلا يستقل أحدهما بإسناد النجاسة إليه، وما هذا حاله يكون باطلاً لا أثر له، فسقط ما ذكروه وصح التوضؤ بسؤر الكافر كما أشرنا إليه.
مسألة: وسؤر الكلب والخنزير هل يكون نجساً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه نجس لا يجوز التوضؤ به، وهذا هو رأي أكثر أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على ذلك: نوضحها عند الكلام في ذكر الأشياء النجسة، فإذا كان نجساً كان سؤره نجساً أيضاً لأجل اتصال ريقه بالماء إذا كان قليلاً سواء تغير لونه أو لم يتغير فلا يجوز التوضؤ به أصلاً، وهؤلاء إنما قالوا بنجاسة الماء مع كونه غير متغير لما ذهبوا إلى نجاسة الماء القليل وإن لم (يكن) متغيراً بالنجاسة، وقد مر الكلام عليه فلا فائدة في إعادته، فلا جرم قالوا على أثر هذا بنجاسة سؤر الكلب والخنزير إذا ولغا في ماء قليل.
المذهب الثاني: أن سؤرهما ليس نجساً إذا لم يكن الماء متغيراً به، وهذا هو المحكي عن مالك، وهذا الذي يأتي على ظاهر إطلاق القاسم في أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة عليه إذا لم يكن متغيراً بها.
والحجة على ذلك: هي ما تقدم من الظواهر الشرعية في طهارة الماء، وأنه لا ينجس بوقوع النجاسة عليه إلا إذا غيرت أحد أوصافه قليلاً كان أو كثيراً فإنها لم تفصل في ذلك.
والمختار: قد أسلفنا الكلام عليه والانتصار له بالحجج الواضحة والبراهين الباهرة.
مسألة: آسار السباع الوحشية كلها هل يكون [السؤر منها] طاهراً يتوضأ به أو يكون نجساً؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه طاهر يُتطهر به وهذا هو قول القاسم والهادي، ومحكي عن المؤيد بالله وأبي طالب وهو قول الشافعي ومالك.
والحجة على ذلك: ما روى جابر بن عبدالله أن الرسول ً سُئل فقيل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر ، وبما أفضلت السباع كلها؟ فقال: (( نعم ))(1). فما هذا حاله نص في موضع الخلاف.
الحجة الثانية: من طريق القياس، وهو أنه حيوان يجوز بيع جنسه فجاز التوضؤ بسؤره، دليله سباع الطير كالباز والشاهين والصقر، فإن هذه قد وافقونا على أن آسارها(2) طاهرة يجوز بها التوضؤ.
__________
(1) تقدم في حديث ((إذا بلغ الماء قلتين)) فيما ينوب الماء من الدواب والسباع، وهذا الحديث جاء في أصول الأحكام والبحر والشفاء.
(2) في الأصل: أسوارها. والصحيح آسارها كما أثبته المؤلف.
المذهب الثاني: أن آسارها نجسة، وهذا هو رأي زيد بن علي والناصر وهو محكي عن أبي حنيفة، وأصحابه.
والحجة لهم على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه سئل عن المياه تكون بالفلاة وما ينوبها من السباع. فقال: (( إذا كان الماء قُلتين فإنها لا تنجسه )) فدل ذلك على أنه إذا كان دونهما فإنه يكون نجساً؛ لأنه لو كانت آسارها طاهرة لم يفترق الحال بين قليل الماء وكثيره.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنه حيوان يُصطاد بجنسه فكان سؤره نجساً كالكلب، فهذه زبدة ما ذكروه عمدة لهم.
والمختار: ما عول عليه القاسم والهادي ومن تابعهما، وهو رأي المنصور بالله.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه سُئل عن الحياض ما بين مكة والمدينة تردها السباع. فقال: (( ما أخذته في بطونها فهو لها وما بقي فهو شراب لنا وطهور))(1).
الانتصار: قالوا: دليلنا على نجاستها الخبر المقيد بالقلتين.
قلنا: جوابه من وجهين:
أما أولاً: فلأنه قد روي (( الكلاب))(2)، ومن يقول بطهارة سؤر السباع فلعلَّهُ لا يقول بطهارة سؤر الكلاب كما مر بيانه.
وأما ثانياً: فلعله تغير [السؤر] ليطابق خبرنا فيكون جمعاً بينهما.
قالوا: حيوانُ يصطاد بجنسه فكان سؤره نجساً كالكلب والخنزير.
قلنا: هذا منقوض بسباع الطير، فإنها تُصطاد بجنسها وآسارها طاهرة كما مر، وأيضاً فإنا نمنع الأصل، بأن نقول: إنا لا نسلم بنجاسة الكلب؛ لأنه من جملة السباع خلا أن الشرع أخرجه عنها بدلالة منفصلة فبطل قياسكم عليه.
قالوا: حيوان لا يؤكل لحمه لا من أجل حرمته، يستطاع الاحتراز منه فكان سؤره نجساً كالكلب والخنزير.
فقولنا: لا لحرمته، نحترز به عن ابن آدم فإنه لا يؤكل؛ لأن اللّه حرم قتله وأكله، بخلاف غيره فإنه يحرم أكله لا لحرمته، بل لدلالة أخرى.
__________
(1) تقدم.
(2) كلمة (الكلاب) هنا، عطف على كلمة (السباع) في الحديث السالف المروي عن جابر.
وقولنا: يستطاع الاحتراز، نحترز به عن سباع الطير فإن آسارها طاهرة؛ لأنه يتعذر الاحتراز منها.
قلنا: هذا منقوض بسباع الطير.
قالوا: قد احترزنا في قياسنا بقولنا يستطاع الاحتراز منه.
قلنا: هذا فاسد لأنهما سيان في إمكان الاحتراز أو في تعذر الاحتراز منهما فلا وجه للتفرقة بينهما، فإنه كما يتعذر من الطير فهو متعذر من السباع ليلاً ونهاراً، وأيضاً فإن تحريم الأكل لا يدل على النجاسة فإنه يطهر إذا ذُكي وإن لم يحل أكله.
قالوا: ألبانها نجسة فيجب الحكم بنجاستها كالكلب.
قلنا: هذا فاسد فإن الحيوان لا يعتبر باللبن لبعد أحدهما عن الآخر، وأيضاً فإن نجاسة ألبانها ممنوع بل هي طاهرة كألبان بني آدم فسقط ما أوردوه.
مسألة: سؤر الفرس طاهر يتطهر به عند أئمة العترة وهو قول الشافعي ومالك. قال أبو حنيفة: هو مشكوك فيه لا يجوز التوضؤ به. وعرقه نجس عنده.
والحجة على ما قلناه: هي أنه حيوان سُهم له في الغنيمة فكان سؤره طاهراً، أو فلم يكن سؤره نجساً كابن آدم.
ويجوز التوضؤ بسؤر الحمار والبغل عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي ومالك، وعند أبي حنيفة يُكره، وهو مشكوك فيه.
والحجة على ما قلناه: هي أنه حيوان لا يُغسل الإناء من ولوغه سَبْعاً فجاز التطهر بسؤره كالشاة، وعرقه طاهر عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة: هو نجس.
والحجة على ما قلناه: هي ما روي أن الرسول ً ((ركب حماراً من غير إكاف ))(1) وصلى، والظاهر أنه أصابه من عرقه لا محالة لأن الغالب أن ظهورها ترشح إذا رُكِبت فيصيبه.
وسؤر الهرة طاهر يتطهر به عند أئمة العترة وهو محكي عن الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة: يكره التوضؤ بسؤرها.
__________
(1) الإكاف: البردعة التي توضع على ظهر الحمار للركوب.
والحجة على ما قلناه: ما روي أن رسول اللّه ً، كان يصغي لها الإناء فتشرب منه. وقال: (( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ))(1).
وسؤر الفيل طاهر عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي ومالك، ومحكي عن الكرخي أنه نجس.
والحجة على طهارته: أنه حيوان ذو خُفِ يقتنى للجَمال والزينة فأشبه الإبل.
وسؤر ما يؤكل لحمه طاهر كالإبل والبقر والغنم، عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي. ولا يعرف فيه خلاف.
والحجة على ذلك: لأن حل أكلها لا خلاف فيه، فلو كانت أفواهها نجسة لم يحل أكل رؤوسها.
وسؤر المسلم طاهر عند أئمة العترة وهو قول فقهاء الأمة ولا يعرف فيه خلاف.
والحجة على ذلك: حديث عمار، وهو قوله ً: (( ما لُعابُك ودموع عينيك إلا كالماء في ركوتك ))(2).
ولو كان نجساً لم يشبهه بالقراح من الماء.
وآسار الأطفال من الذكور والإناث طاهرة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة.
والحجة على ذلك: هو أن هؤلاء من جملة الطوافين والطوافات.
وهكذا سائر الحشرات من الأفاعي والحيات وما يتعذر الاحتراز منه كالفأرة وغيرها، كلها آسارها طاهرة بجامع الطوف، وهو تعذر الاحتراز.
__________
(1) هذا الحديث حكاه في الاعتصام وفي شرح التجريد عن كبشة بنت كعب عن أبي قتادة، وحكي عن ابن حجر قوله: أخرجه الأربعة يعني: أبا داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، ورواه مالك وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي. وفي البحر ((.. إنها من الطوافين عليكم والطوافات)).
(2) ولفظه عن عمار بن ياسر قال: مر بي رسول اللّه ً وأنا أسقي راحلتي فتنخمت فأصابتني نخامة فجعلت أغسل ثوبي، فقال رسول اللّه ً: ((ما نخامتك ودموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والدم والقيء والمني)). قال في حاشية البحر: وفي سنده ثابت بن حماد، ضعفه الجماعة، يعني البزار والطبراني وآخرين.
ويجوز التطهر بماء الحمة؛ لأنه باق على أصل الطهارة ولم يعرض له إلا الحرارة وهي غير مانعة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، لقوله ً: (( خلق الماء طهوراً))، ولا يكره ، كما قلنا في المشمس؛ لأن ما كان خلقة لم يُكره، ولأنه أحد نوعي الماء فلم يكره كالماء البارد، وستأتي بقية المسائل المتعلقة بهذا الفصل في باب النجاسات بمعونة اللّه تعالى.
---
الفصل الثالث: في كيفية الاجتهاد عند الشك في طهارة الماء ونجاسته
الواجب هو العمل على استصحاب ما كان هو المتحقق في الأصل من طهارة أو نجاسة، فإذا تيقن طهارة الماء أو نجاسته وشك فيما يضاد ما تيقنه وعلمه، وجب عليه استصحاب الحال لما تيقنه؛ لأن الأصل هو بقاؤه فلا يجوز إزالة ما تحققه بالشك العارض، ولأن الشك هو الخلو عن الاعتقاد والظن فلا يجوز إزالة الأمر الثابت بالأمر المنفي، وإن لم يتحقق في الماء طهارته ولا نجاسته فهو طاهر بحكم الأصل؛ لأن اللّه تعالى خلق الماء طهوراً، والأصل بقاؤه على خلقته إلا لمغير طارئ، ويؤيده قوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه ))(1). الخبر. وإن وجد الماء متغيراً ولم يَعلم بأي شيء كان تغيره، جاز التوضؤ به؛ لأنه باق على أصل التطهير، وتغيره يجوز أن يكون بطول المكث.
وإن رأى حيواناً يبول في ماء كثير فوجده متغيراً ولم يعلم بأي شيء كان تغيره نظرت، فإن غلب ظن المتوضئ أن تغيره إنما كان من جهة البول لم يتوضأ به، وإن كان الماء كثيراً وبول ذلك الحيوان قليلاً مما لا يجوز أن يتغير به الماء جاز التوضؤ به؛ لأن ذلك مما لا يتغير به الماء الكثير في العادة، فيجوز أن يكون تغيره لطول المكث لا بالبول كما ذكرناه أولاً، ولا خلاف في هذه القاعدة بين أئمة العترة وفقهاء الأمة.
والحجة عليها: هو أن مبناها على الاستصحاب فيما كان أصلاً حتى يرد ما ينقضه ويزيل حكمه، فالعمل على استصحاب براءة الذمة حتى يرد مغير من جهة الشرع، وهكذا القول في استصحاب الطهارة والنجاسة والعموم وغير ذلك مما يكون أصلاً كما هو مقرر في المباحث الأصولية.
__________
(1) بقية الحديث ((.. أو طعمه أو لونه)) وفي لفظ: ((.. إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه)). أخرجه ابن ماجة. وفي لفظ أخرجه البيهقي: ((.. إلا أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة)).
مسألة: إذا ورد على ماء فأخبره رجل بنجاسته، فهل يقبل خبره على الإطلاق أو لابد من أن يسأل بأي شيء تنجس؟ والظاهر من قول أصحابنا هو القبول من غير سؤال، ووجهُ ما قالوه: هو أن الأدلة الشرعية الدالة على قبول خبر الواحد لم تفصل في ذلك، فلهذا وجب العمل عليه من غير فحص ولا سؤال، والأقرب وجوب السؤال؛ لأنه يجوز أن يكون قد رأى سَبُعاً يلغ فيه، فاعتقده نجساً، فأخبر عن نجاسته فيكون قد عدل إلى التيمم مع وجود الماء، فإن بَيَّن النجاسة قَبِل منه ولم يجتهد، لأن الخبر مقدم على الاجتهاد كما في أخبار الآحاد مع القياس فإنها مقدمة عليه، ويقبل فيه قول الرجل والمرأة والحر والعبد عند أئمة العترة، وهو رأي الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما.
والحجة على ذلك: هو أن هؤلاء تقبل منهم أخبار الرسول ً في التحليل والتحريم، فهكذا تُقبل أخبارهم فيما ذكرناه من غير تفرقة؛ لأنها كلها مشتركة في كونها أموراً عملية ينقدح لأجلها الظن.
ويقبل فيها قول الأعمى؛ لأن له طريقاً إلى العلم به من جهة الحس والخبر، ولأن خبره يغلب على الظن إذا كان ثقة، فلهذا وجب العمل على قوله.
ولا يُقبل كافر ولا فاسق عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن أخبارهما غير مقبولة لما يلحقهما من التهمة في الدين فلا يزعهما وازع عن الجرأة على اللّه تعالى في الكذب.
وهل يُقبل قول الصبي أم لا؟ والأقرب على مذاهب أئمة العترة أنه غير مقبول وهو أحد قولي الشافعي وله قول آخر أنه يقبل.
والحجة على ما قلناه: هو أنه ليس من أهل الشهادة فلهذا لم يُقبل خبره.
مسألة: وإن كان معه إناءان فأخبره رجل أن كلباً ولغ في أحدهما بعينه فإنه يقبل قوله ويترك الاجتهاد كما وجب ذلك في أخبار الآحاد، ويترك النظر والقياس.
وإن أخبره رجل أن كلباً ولغ في هذا دون هذا، وقال آخر: ولغ في ذاك دون هذا، فإن لم يعينا وقتاً بعينه وجب الحكم بنجاستهما جميعاً لجواز أن يكون قد ولغ فيهما في وقتين، فإن عينا وقتاً واحداً فهما متعارضان فيحكم (1) بتساقطهما عند أئمة العترة وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه يجب استعمالهما إما بالقرعة بينهما وإما بالوقف في حالهما وإما بالإراقة.
والحجة على ما قلناه: هو أنهما قد تعارضا ولا ترجيح لأحدهما على الآخر فلهذا وجب التساقط فيهما، وإذا حكمنا بتساقطهما وجب الرجوع إلى الأصل وهو طهارة الماء فيتوضأ بأيهما شاء؛ لأنه لم يثبت نجاسة واحد منهما.
وهل يحتاج إلى ترجيح واجتهاد أم لا؟ والأقرب أنه لا يحتاج إلى اجتهاد في الاستعمال، وحكي عن الصيدلاني ) من أصحاب الشافعي: أنه لابد من الاجتهاد في التوضؤ بأحدهما ولا وجه له، لأنا قد حكمنا بطهارتهما جميعاً فأغنى عن الاجتهاد.
وإن قال رجل ثقة: إن هذا الكلب ولغ في هذا الإناء وقت الظهر، وقال آخر: إن ذلك الكلب كان في ذلك الوقت في بلد آخر، فالأقرب على المذهب أنهما متعارضان فيجب الحكم بتساقطهما والرجوع إلى أصل الطهارة في الماء، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه يحكم بنجاسته.
__________
(1) في الأصل: ويحكم الحكم، ويبدو أن كلمة (الحكم) لا لزوم لها.
(2) أبو بكر محمد بن داود بن محمد المروزي المعروف بالصيدلاني نسبة إلى بيع العطر. كان إماماً في الفقه والحديث، وله مؤلفات منها شرح على المختصر في جزأين. توفي بعد 430هـ، ولم نعثر على تحديد للسنة التي مات فيها. (طبقات الفقهاء 230، طبقات الشافعية برقم 175).
والحجة على ما قلناه: هو أن الخبرين قد استويا من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وليس محلاً للتحري لتساوي العدة فلم يبق إلا الحكم بالتساقط والرجوع إلى ما هو الأصل كالخبرين والأمارتين إذا تعارضا فإنه يجب الحكم بتساقطهما والرجوع إلى حكم العقل والبراءة الأصلية.
وإن أخبر مخبر بأن هذا الكلب أدخل خرطومه أو رأسه في الإناء ولم يعلم ولوغه فيه، لم يحكم بنجاسة الماء؛ لأن التنجيس إنما يتعلق بالولوغ دون إدخال الرأس والخرطوم فلا حكم لهما، كما لو دخل الكلب داراً، قال: ورأيته دخل هذه الدار، فإنه لا يحكم بنجاسة ما فيها من الماء فهكذا هاهنا. وإن قال: إنه أدخل خرطومه وأخرجه وعلى فيه أثر من الرطوبة ولكني لم أعلم بولوغه بالماء، فالأقرب على المذهب أنه يحكم بالنجاسة وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه لا يحكم بالنجاسة؛ لأن الأصل هو عدم الولوغ، لكن هذه القرينة وهي حصول الرطوبة على خرطومه تقوي الظن أنها من الولوغ لأن الغالب ذلك من حالها فلهذا حكمنا فيه بالنجاسة.
مسألة: ذهب علماء العترة إلى أن التحري واجب عند الاشتباه في الأواني والثياب على الجملة لا يختلفون فيه، وهو محكي عن الفريقين: أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، وذكر الناصر في (الأمالي)(1) أن التحري لا يجوز.
__________
(1) كتاب في الحديث والفقه وهو مفقود حتى الآن.
والحجة على ما قلناه: قوله ً: (( إذا أُمرتم بأمر فأتوا به ما استطعت م ))(1) ووجه الاستدلال بما ذكرناه من الخبر هو أن الصلاة ثابتة على الذمة بيقين، فلابد من تأديتها بأمر متيقن فإذا تعذر أداؤها باليقين وجب العدول إلى غالب الظن؛ لأن الظن معمول به عند تعذر العلم القاطع لا محالة، فإذا اشتبهت الأواني الطاهرة بالأواني النجسة والأثواب النجسة بالأثواب الطاهرة فلابد فيها من التحري ليحصل تغليب الظن بتأدية الصلاة، فيكون الظن غالباً عند التحري بكونه أدى الصلاة في ثوب طاهر بماء طاهر، وهذا هو مقصود الشرع ومطلوبه.
وحكي عن المزني من أصحاب الشافعي وأبي ثور، أنه لا معنى للتحري في الأواني ولا في الثياب كما [هو] رأي الناصر ولكن يُعدل إلى التيمم.
وحجتهما على ما قالاه: هو أنه قد وقع الاشتباه بين محظور ومباح فلم يجز التحري فيهما كما لو اختلطت منكوحة بأجنبية وكما لو اختلطت [ميتة] بمذكاة.
وحكي عن ابن الماجشون ): أنه يتوضأ بكل واحد من الإنائين ويصلي وكذلك الثياب يصلي في كل واحد منها.
وحجته على هذا: هو أنه إذا كان الفرض يمكنه أداؤه بيقين وجب عليه، ولن يكون إلا بما ذكرناه فلهذا وجب عليه.
والمختار: ما قاله علماء العترة وفقهاء الأمة من وجوب التحري وكونه مشروعاً في الأواني والثياب.
__________
(1) ولفظه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه ً: ((دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) أخرجه البخاري ومسلم. وهو من الأحاديث المشهورة.
(2) أبو مروان عبدالملك بن عبدالعزيز الماجشون، أكثر ما يعرف ويذكر في كتب الفقه بابن الماجشون، من أعلام مدرسة مالك بن أنس، كان فقيهاً عالماً. قال عنه يحيى بن أكثم: عبدالملك بحر لا تكدره الدلاء.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا، وهو قوله عليه السلام: (( دع ما يريبك إلى مالا يريبك ))(1). والشك(2) إذا اعترض فهو ما يريب ويؤلم النفس ولا سبيل إلى إزالته فيما ذكرناه إلا بالتحري وتحصيل غالب الظن، فلهذا كان واجباً لتحصيل العبادة على مطابقة الشرع ووفقه، وقوله ً: (( المؤمنون وقافون عند الشبهات )). فإذا حصل التردد لأجل الشك فلا سبيل إلى إزالة الشبهة إلا بما يحصل من الترجيح وتغليب الظن، ولهذا كان مقصوداً للشرع، ولأن الغرض بالتحري إنما هو إسقاط لزوم الصلاة عن الذمة وبراءتها عنها، وهذا إنما يحصل على الكمال بالتحري والاجتهاد، فيجب أن يكون واجباً فيما ذكرناه كما وجب ذلك في استعمال الماء للوضوء إذا كان صريحاً.
الانتصار على ما قاله المزني: بأنا نقول: القياس جواز التحري فيما ذكره خلا أن الإجماع منع من ذلك، وإذا منع الإجماع في صورة فالقياس جار في غيرها من الصور إذ لا مانع هناك. وعلى(3) ابن الماجشون أنا نقول: قد روي عن النبي ً أنه قال: (( لا ظهران في يوم ))(4). وما قاله يؤدي إلى تكرير الصلاة مرتين في الثوبين وفي الإناءين وهو ممنوع بما ذكرناه.
فإذا تقررت هذه القاعدة فاعلم أن هذه فروع تنشأ عنها نذكرها:
__________
(1) رواه البيهقي والحاكم في المستدرك والطبراني والهيثمي في مجمع الزوائد.
(2) في الأصل: ولا شك.
(3) أي: والانتصار على ابن الماجشون.
(4) قال في حاشية البحر ما لفظه: حكاه في الشفاء، ولم أقف عليه في كتب الحديث لكن قد ورد فيها ((لا وتران في ليلة، ولا تصلوا صلاة في يوم مرتين)). ا.هـ. وأورد ((لا تصلوا صلاة في يوم مرتين)) في الروض النضير، وقال: رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث سليمان بن يسار عن ابن عمر مرفوعاً.
الفرع الأول منها: ذهب علماء العترة ومن تابعهم إلى أن التحري في الأواني والثياب عند الاشتباه في أحوالها نجسها بطاهرها، لا يكون إلا إذا [كان] عدد الطاهر أكثر من عدد النجس، وإلى هذا ذهب أبوحنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن الأواني إذا كان النجس والطاهر فيها مستويين في العدة فقد استوى جانب الحظر والإباحة كما لو كان أحدهما بولاً، وكما لو اختلطت منكوحة بأجنبية أو ميتة بمذكاة، فإذا كان هاهنا إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس، لم يجز التحري فيهما، ووجب العدول إلى التيمم لما ذكرناه من الاستواء وتغليب جانب الحظر.
وذهب الشافعي إلى أن التحري واقع عند الاشتباه فيما ذكرناه سواء كان عدد الطاهر أكثر أو عدد النجس أو كانا سواء.
والحجة على ذلك: هو أن كل ما دخله التحري، إذا [كان] عدد المباح أكثر جاز دخول التحري فيه وإن كانا مستويين، والجامع بينهما(1) وقوع الاشتباه فإنه الأصل في وجوب التحري.
والمختار: ما قاله علماء العترة ومن تابعهم.
والحجة على ذلك: ما قدمناه، ونزيد هاهنا: وهو أن الطاهر إذا كان عدده زائداً على النجس كان حكمه أغلب، فهو كالشاهد إذا كانت محاسنه غالبة على مساوئه وحكم الحاكم بشهادته فهكذا هاهنا، ولأنه لما استوى جانب الحظر وجانب الإباحة فلو تحرينا مع استوائهما لكان ذلك خلاف الورع والتقوى، وقد قال ً: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )).
الانتصار: قالوا: قد ورد الأمر بالاعتبار في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوْا يَا أُوْلِيْ الأَبْصَارِ }[الحشر:2]. وهذه منه.
__________
(1) أي بين الحال التي يكون فيها عدد الطاهر أكثر، والتي يكونان فيها مستويين.
قلنا: تَدَّعون فيه عموماً فليس فيه لفظة تدل على عموم الاعتبار، وإنما هو أمر مطلق تدعون أنه أطلق ولم يفصل، فنحن نقول: لفظة الاعتبار إلى الإجمال أقرب، فلا يمكن الاستدلال بظاهره؛ إذ لا ظاهر للمجملات لاشتماله على الاعتبار الفاسد والصحيح، وما يجري فيه القياس وما تَنْسَدُّ فيه مجاري القياس كالعبادات فلا نسلم جري القياس فيما هذا حاله فلا بد من دلالة على جريه فيه وهو أول المسألة؛ لأن الكلام إنما هو فيه، فإذا كان مجملاً فلا حجة فيه إلا ببيانٍ لإجماله.
قالوا: شرط من شروط الصلاة فجاز دخول التحري عند دخول الاشتباه في اثنين منه كالثياب.
قلنا: الثياب جارية على القياس في التحري فلا جرم كانت باقية على الأصل، بخلاف الآنية فإنها خارجة على القياس بدليل خصها فلا يجري فيها التحري، إلا إذا كان الطاهر أغلب كما قررناه، وأيضاً فالثياب مفارقة للآنية، فإنه لو توضأ بالإثنين كليهما، كان متلوثاً بالنجاسة مستعملاً لها بخلاف ما لو صلى في الثوبين فإنه لا يكون مقدماً هناك على محظور، فإذا افترقا من هذا الوجه جاز افتراقهما في العدد كما أشرنا إليه.
قالوا: كلما دخله التحري إذا كان عدد المباح أكثر فإنه يدخله التحري وإن كان عدد المحرم أكثر كالثياب.
قلنا: لا نسلم ما قالوه في الثياب، فإنه لو كان هاهنا خمسة أثواب، واحد منها نجس والباقي طاهر، فإنه تجب عليه الصلاة في اثنين منها ليكون الفرض ساقطاً بيقين، ثم ولو سلمنا فالفرق بين الأثواب والآنية ظاهر بما ذكرناه من جواز الاستعمال في الأثواب كلها دون الآنية فاقترقا.
الفرع الثاني: في كيفية التحري عند الاشتباه في الآنية والثياب.
حُكِي عن جماعة من أهل خراسان أن المتحري لا يحتاج إلى نوع استدلال كما يحتاج المجتهد في الأحكام، ولكن يكفيه أن يبني أمره على الطهارة لقوله ً: (( ظن المؤمن لا يخطئ ))(1).
وهذا فاسد، فإنه إذا كان لابد من إفادة الظن وتحصيله ليزول به الاشتباه، فلا بد من أمارة وهي لا تكون حاصلة إلا بنوع استدلال ونظر في الأمارات.
والذي عليه أئمة العترة وعليه أكثر فقهاء الأمة أنه لابد من نظر واستدلال في الآنية والثياب لتميز النجس منها عن الطاهر، وذلك يحصل بأمارات ينقدح الظن لأجلها مختلفة، إما بتغير لون أو رائحة أو اضطراب في الماء أو لوقوع الترشش حول الماء، أو بأن يرى أثر الكلب عند الماء، أو بنقصانه إذا كان قليلاً يؤثر فيه الولوغ بأن يكون الإناء ممتلئاً، أو بغير ذلك من الأمارات التي تكون محركة للظن في كونه قد صار نجساً، فإذا حصلت له نجاسته بأي الأمارات التي ذكرناها لم يجز استعماله وجاز له استعمال غيره، وصار الذي غلب على ظنه كونه نجساً حراماً بالإضافة إلى ظنه لا بالإضافة إلى نفس الإناء، فلهذا فإنه لو غلب على ظن غيره طهارته جاز له استعماله، فأما امتحان نجاسة الماء بالذوق فلا وجه له؛ لأنه ربما كان نجساً فلا يحل له ذوقه قبل أن يغلب على ظنه طهارته، وهكذا التحري في الأثواب إما بلون النجاسة وإما بريحها أو وقوعٍ عليها بأن تكون قريبة من النجاسة دون الثوب الآخر، أو غير ذلك من الأمارات المثيرة للظنون فيجب استعماله.
الفرع الثالث: وإن وقعت النجاسة في أحد الإناءين فاشتبها ثم اهراق أحدهما على الأرض قبل الاجتهاد في طهارة أحدهما، ففيه على المذهب احتمالات ثلاثة:
__________
(1) حكاه في البحر والشفاء، وعن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه ً قال: ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)). ثم قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُتَوَسِّمِين}. أخرجه الترمذي.
الاحتمال الأول: أن يتحرى في الباقي ويُعمِل نظره في طهارته أو نجاسته؛ لأن جواز الاجتهاد قد تقرر قبل الانقلاب فلا يسقط بالانقلاب.
الاحتمال الثاني: سقوط التحري، ويجب عليه التيمم للصلاة؛ لأن حقيقة التحري والاجتهاد إنما تعقل بين أمرين.
الاحتمال الثالث: أنه يتوضأ بالباقي من غير اجتهاد، من جهة أن الأصل هو بقاء الماء على الطهارة، وهذا هو أغربها وأعجبها؛ لأنه أصل على الطهارة ولأنه قد انفرد فصار كما لو لم يوجد من أول الأمر غيره.
وإن اجتهد في الإناءين فلم يغلب على ظنه طهارة أحدهما فأراقهما على الأرض ثم إنه تيمم وصلى صح، ولم تجب عليه إعادة لما صلى، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( لا ظهران في يوم)). فلو أوجبنا عليه الإعادة لكان ذلك مخالفة لظاهر الخبر، فإن صب أحدهما وترك الآخر جاز له أن يتوضأ بالآخر كما ذكرناه من قبل؛ لأنه باق على أصل الطهارة كما لو لم يكن إلا هو.
الفرع الرابع: إذا كان معه إناءان فاشتبه عليه نجاسة أحدهما فتحرى فيهما فأداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما، فالمستحب له أن يريق الآخر مخافة أن يشتبه عليه الأمر فيه مرة ثانية، فإن لم يرقه وبقيت من الأول بقية تكفي للطهارة، ثم حضرت صلاة أخرى وهو محدث فهل يجب عليه إعادة التحري أم لا؟
والأقرب أنه لا تجب عليه إعادة التحري كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى فإنه يجزيه التحري الأول ما لم يتغير، وهو أحد قولي الشافعي، وحكى ابن الصباغ صاحب (الشامل)، والمحاملي: أنه يجب عليه إعادة الاجتهاد ثانياً، ولا وجه له مهما كان الاجتهاد مستمراً على طهارة ما استعمله وعلى تلك الجهة، فإن تغير اجتهاده قبل أن يصلي نظرت، فإن أداه اجتهاده إلى طهارة الأول فلا كلام لمطابقة الاجتهاد الأول للثاني من غير مخالفة، وإن تيقن أن الذي توضأ به هو الطاهر فإنه لا يستحب له إهراق النجس؛ لأنه ربما احتاج إليه في حال عطشه، وإن تيقن أن الذي توضأ به هو النجس فإن الواجب عليه غسل ما أصابه من الماء الأول في ثيابه وبدنه وإعادة ما صلى بالطهارة الأولى، لأنه قد تحقق يقين الخطأ فيما فعله فهو كالمجتهد إذا أخطأ النص ثم وجده، فإنه يبطل اجتهاده فهكذا هاهنا.
وإن أداه اجتهاده إلى أن ما توضأ به نجس وأن الثاني طاهر فكيف يكون الحكم فيه؟ وقد حُكي عن الشافعي في ذلك قولان:
فالقول الأول منهما: حكاه المزني وهو: أنه لا يتوضأ بالثاني ولكنه يتيمم ويصلي ويعيد كل صلاة صلاها بالتيمم، وهذا الذي رواه عنه حرملة أيضاً.
ووجهه: أنا لو أمرناه بأن يتوضأ بالثاني لكان لا يخلو إما أن نأمره بغسل ما أصابه من الأول أولا، فإن لم نأمره بغسل ما أصابه منه فقد صلى وعليه نجاسة بيقين؛ لأنا قد حكمنا في النظر الأول بكونه نجساً، وإن أمرناه بغسل ما أصابه منه كان نقضاً للاجتهاد الأول بالاجتهاد الثاني، ومثل هذا غير جائز؛ لأن هذا يؤدي إلى اضطراب الأحكام وتشويش القواعد.
وهل يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يعيد؛ لأنه قد تيمم ومعه ماء بيقين فالتيمم واقع على فساد، وهذا هو قول العمراني صاحب (البيان).
وثانيهما: أنه لا تجب عليه الإعادة؛ لأن تيممه وقع على نعت الصحة؛ لأنه ممنوع عن هذا بالشرع، وهذا هو المحكي عن أبي الطيب بن سلمة ).
القول الثاني: حكاه أبو العباس بن سريج ) وأنكر ما نقله المزني، وقال: إن الواجب عليه أن يتوضأ بالثاني.
ووجهه: أنه شرط من شروط الصلاة له مدخل في التحري، فإذا تحرى وغلب على ظنه باجتهاد آخر خلاف الأول جاز العمل على الثاني كما لو صلى إلى جهة ثم تغير اجتهاده فإنه يصلي إلى الجهة الأخرى فهكذا هاهنا، وإن لم يبق من الماء الأول شيء فإنه يتيمم؛ لأن ما معه من الماء قد حكم بنجاسته من قبل فلا ينقض، وهل يلزم إعادة ما صلى بالتيمم أم لا؟ فيه وجهان(3):
والمختار على المذهب: ما قاله المزني من جهة أنه قد حكم بنجاسته فلا يحكم بطهارته فيلزمه التيمم، ولا تجب عليه [إعادة ما صلى] لقوله ً: (( لا ظهران في يوم)) ولأنه ممنوع من استعمال هذا الماء الموجود بالشرع كما لو كانت نجاسته متحققة.
الفرع الخامس: وإن اشتبه عليه ماءان طاهر ونجس، ومعه إناء ثالث طهارته متحققة، فهل يجوز له الاجتهاد والتحري فيما اشتبه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك جائز وهو قول الأكثر من أصحاب الشافعي.
__________
(1) محمد بن المفضل بن سلمة بن عاصم الضبي البغدادي تفقه على ابن سريج، وكان موصوفاً بالذكاء، صنف كتباً عديدة، توفي وهو شاب في المحرم سنة 308هـ. (وله تراجم في طبقات الشافعية، وطبقات الفقهاء للشيرازي، ووفيات الأعيان وغيرها).
(2) القاضي أبو العباس بن عمر بن سُريج من فقهاء الشافعية ببغداد وكان يقال له: الباز الأشهب. قيل: إن فهرس كتبه تشتمل على أربعمائة مصنف.
(3) أحدهما ما جاء في المختار، وهو عدم وجوب الإعادة، والآخر لم يذكره استغناء بما سبق، وهو أن الإعادة لما صلاه بالتيمم لازمة.
والحجة على ذلك: هو أنه ليس فيه أكثر من العدول عن الماء المتيقن طهارته إلى الماء المحكوم بطهارته من جهة الظاهر، وذلك غير ممتنع في الطهارة ولهذا فإنه يجوز التوضؤ من الماء القليل على شاطئ البحر.
وثانيهما: أن ذلك غير جائز، وهذا يحكى عن بعض أصحاب الشافعي، وهذا هو الأقرب على المذهب والمختار.
والحجة على ذلك: هو أنه يمكنه إسقاط الفرض بيقين بأن يتوضأ مما يتيقن طهارته، فلم يجز الرجوع إلى غلبة الظن كما لا يجوز الاجتهاد في طلب القبلة إذا كانت المعاينة ممكنة.
وإن اشتبه عليه ماء قراح وماء ورد انقطعت رائحته أو ماء شجر، فهل يتحرى أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يتحرى، وهذا هو المحكي عن أهل خراسان من أصحاب الشافعي، وذلك أنه قد اشتبه عليه ما يُتطهر به بما لا يُتطهر به فجاز فيه إعمال النظر والاجتهاد بالتحري كالماء الطاهر والنجس.
وثانيهما: أنه لا يتحرى بل يستعملهما جميعاً، وهذا هو قول البغداديين من أصحاب الشافعي وهو رأي الإمام المنصور بالله وهو المختار.
والحجة على ذلك: هو أن ماء الورد وماء الشجر لا أصل لهما في التطهير، فَيُرَدَّ إليهما بالاجتهاد، ولكن يتوضأ بكل واحد منهما ليسقط بيقين.
وإن اشتبه عليه ماء مطلق وبول قد انقطعت رائحته فهل يتحرى أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا وجه للتحري ولكن يتيمم، وهذا هو المحكي عن أهل بغداد من أصحاب الشافعي، وذكره بعض أصحابنا للمذهب.
والحجة على ذلك: هو أن البول لا أصل له في الطهارة فيرد إليه الاجتهاد، فلهذا وجب العدول إلى بدله وهو التيمم.
وثانيهما: أنه يجوز فيه التحري وهذا هو رأي أهل خراسان، وذكره القاضي زيد من أصحابنا للمذهب.
والحجة على ذلك: هو أنه قد وقع الاشتباه بين الماء وغيره فجاز إعمال الفكر بالتحري كالماء الطاهر عند التباسه بالنجس.
والمختار: هو الأول؛ لأن التحري إنما يكون داخلاً فيما يطلق عليه اسم الماء، إما مطلقاً كالماء المستعمل، وإما مضافاً كماء الورد وماء الشجر، والبول لا يطلق عليه اسم الماء لا على جهة الإطلاق ولا على جهة الإضافة، ولهذا بطل التحري فيه، ودعوى الإجماع فيه لا وجه له، فإن المسألة خلافية لها مدخل في الاجتهاد، فلا معنى لدعوى الإجماع على بطلان التحري في الماء والبول لما ذكرناه.
الفرع السادس: إذا أخبر الأعمى بأن هذا الماء قد ولغ فيه كلب أو وقع فيه بول، قُبِل خبره كما يقبل خبر البصير؛ لأنه يحتمل أن يكون قد علم ذلك فيه قطعاً، أو قد أخبره به مخبر ثقة؛ فلهذا عُمل عليه. وإذا كان مع رجل إناء طاهر وتغير فغلب على ظنه أن تغيره بنجاسة لم يحكم بنجاسته، وإن كان معه إناء نجس فغلب على ظنه طهارته لم يحكم بطهارته، وكان باقياً على نجاسته فيجب التعويل على ما هو الأصل في الطهارة والنجاسة، ويفارق ذلك ما إذا علم النجاسة في أحد الإناءين فغلب على ظنه طهارة أحدهما أو نجاسته فإنه يعمل عليه؛ لأنه لم يحصل فيهما نجاسة معينة، والأصل في كل واحد منهما الطهارة، و إنما تجدد شك في كل واحد منهما فلا جرم كان زائلاً بالظن، وإذا اشتبه عليه طعام طاهر وطعام نجس جاز التحري فيهما والعمل على غلبة الظن؛ لأن أصلهما على الإباحة، فإذا طرأت النجاسة على أحدهما واشتبها عليه جاز إعمال الفكر في التحري فيهما، كما لو اشتبه عليه ماء طاهر ونجس، وإذا اشتبه عليه طعام طاهر وطعام نجس ومعه طعام طاهر ثالث من ذلك النجس متيقن طهارته فهل يجوز له التحري أم لا؟ فيه الوجهان اللذان ذكرناهما، وقد ذكرنا توجيههما فأغنى عن الإعادة، والله أعلم.
الفرع السابع: يشتمل على صور أربع:
الصورة الأولى: إذا كان هاهنا رجلان معهما إناءان أحدهما نجس لزمهما التحري، فإن تحريا فأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى التوضؤ بكل واحد من الإناءين، فإنه يلزمهما استعمالهما؛ لأنه إذا أدى اجتهادهما إلى ذلك، فإن توضأ كل واحد منهما بما أدى إليه اجتهاده لم يجز لأحدهما أن يأتم بالآخر في الصلاة عند أئمة العترة، وهو قول أكثر الفقهاء: أبي حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك.
وحكي عن أبي ثور جواز ذلك.
والحجة على ذلك: هو أن كل واحد منهما لما أعمل فكره في التحري، فإنه يعتقد أن الآخر قد توضأ بالماء النجس فلا يجوز له أن يأتم بمن يعتقد ويغلب على ظنه أنه متلوث بالنجاسة وأنه في غير صلاة.
والحجة لأبي ثور، هو أن كل واحد منهما صحيح الصلاة في نفسه لنفسه، فلم لا يجوز أن يصلي خلف من صلاته صحيحة لنفسه؟
والمختار: ما قاله أبو ثور.
والحجة على ذلك: هو أن الحق أن الآراء صائبة في الاجتهاد، وإذا كان الأمر كما قلناه فصلاة كل واحد منهما صحيحة عند نفسه لنفسه لا محالة، فلهذا فإنا لا نَأْمُرُهُ بقضائها بعد تأديتها على هذه الصفة، ولا يُعَدُّ تاركاً للصلاة، فالإمام صلاته مجزئة بالاتفاق، والمأموم يجب أن تكون صلاته مجزئة أيضاً؛ لأنه مُصَلٍّ خلف من صلاته صحيحة عند اللّه تعالى.
الانتصار: قالوا: المأموم يعتقد فساد صلاة الإمام فلا تجوز له الصلاة خلفه.
قلنا: هذا فاسد؛ لأن اعتقاده بفساد صلاة الإمام لا يقطع الائتمام به من جهة أن عنده أن صلاة الإمام صحيحة لنفسه فليس أحد الاعتقادين بالعمل عليه أحق من الآخر، فلا يمتنع من الصلاة خلفه [لاعتقاده] لفسادها، بالإضافة إلى المأموم بأولى من أن يقتدى بصحة صلاته، بالإضافة إليه في نفسه من غير تفرقة، ثم إن ما ذكرتموه يؤدي إلى خرق الإجماع بتقدم المرضي للصلاة ورعاً وديناً، والتخلف عنه لغير موجب يمنع شرعاً. وسيأتي لهذه المسألة مزيد تقرير نكشف الغطاء فيه عن سرها وحقيقتها بمعونة اللّه تعالى. فإن صلى أحدهما بالآخر على رأي من منع من ذلك، صحت صلاة الإمام لكونه مستقلاً بنفسه من غير متابعة، وبطلت صلاة المأموم لكونه متابعاً.
الصورة الثانية: إذا كانت الأواني ثلاثة نظرت، فإن كان الطاهر منها واحداً وكانوا ثلاثة فتوضأ كل واحد منهم بواحد من الآنية الثلاثة، لم يجز لكل واحد منهم أن يأتم بالآخر على رأي من منع من ذلك، من جهة أن كل واحد منهم يغلب على ظنه أن غيره متوضئ بالماء النجس فلهذا لم تجز الصلاة خلفه. وإن كان الطاهر منها اثنين، جاز أن يؤمهم أحدهم، فإذا صلى بهما الصبح صحت صلاتهم جميعاً، من جهة أن كل واحد منهم يظن أنه توضأ بالماء الطاهر، ولا يُخَطِّىء إمامه في اجتهاده ولا يقول: إنه قد توضأ بالنجس، فلهذا صحت صلاتهم أجمع لما ذكرناه، لأنهم لما قدَّموا الإمام حكموا بصحة صلاته، وهما إناءان طاهران فواحد استبد به الإمام وواحد كل واحد من الرجلين يظن في نفسه أن متطهر به، فلأجل هذا التقرير حكمنا بصحة صلاتهم معاً(1). وإن صلى بهم رجل منهم الظهر صحت صلاة الإمام؛ لأنهم لما قدموه فقد حكموا بصحة صلاته وصحة صلاة إمام الصبح؛ لأنها قد صحت من قبل فلا يتغير حكمها بعد ذلك، وتفسد صلاة الثالث لأنهما إناءان طاهران وقد استبد كل واحد من إمام الصبح وإمام الظهر بكل واحد منهما، وتعين حكم النجاسة على الثالث ففسدت صلاته، فإن صلى بهم الثالث العصر صحت صلاته لنفسه؛ لأنهم لما قدموه حكموا بصحة صلاته؛ ولأنه مستقل بنفسه غير مقيد بغيره، وبطلت صلاة الآخَرَين خلفه لأجل اقتدائهما بمن قد تعينت النجاسة في وضوئه، فلهذا بطلت لأجل الاقتداء.
__________
(1) هكذا في الأصل: والمراد (صلاتهم جميعاً) واستخدم المؤلف كلمة (معاً) بعد الجمع كما يستخدم التأكيد بكلمة (جميعاً) بعد المثنى. وقد جاءت الأخيرة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} و(معاً) في الأولى ربما جاءت باعتبار الطرفين، والله أعلم.
الصورة الثالثة: أن تكون الأواني أربعة، فإذا كان كذلك نظرت، فإذا كان الطاهر منها واحداً لم يجز لكل واحد منهم أن يأتم بالآخر من جهة أنه لا فسحة للظن في صحة طهارة واحد منهم وتجويزها، إذ الطاهر ليس إلا واحداً منها كما فرضناه على رأي المانعين من ذلك، وإن كان الطاهر منها اثنين وصلى كل واحد منهم صلاة بالآخرين فصلاة الصبح صحيحة لهم جميعاً، لأنهم لما قدموا الإمام حكموا بصحة صلاته وأنه متوضئ بالماء الطاهر، وبقي إناء واحد، كلُّ واحد منهم يجوز أنه توضأ به فلا جرم كانت صحيحة في حقهم معاً لظهور الاحتمال والتجويز في الصحة، وصلاة الظهر صحيحة لإمام الصبح؛ لأنها لا تَتَغَيَّر عما هي عليه في الصحة، وصلاة إمام الظهر صحيحة؛ لأنهم لما قدموه فقد حكموا بصحة صلاته، وصلاة العصر والمغرب صحيحتان لإمامهما دون المقتديين، لأن الإناءين الطاهرين قد استكملا في حق إمام الصبح والظهر وليس هناك طاهر سواهما، فبطلان صلاة المأمومين حاصل لأجل الاقتداء؛ لأنهما مصليان خلف من يظنان أنهما متلوثان بالنجاسة غير متوضئين فبطلا. وإن كان الطاهر منها ثلاثة وصلى كل واحد منهم بأصحابه، فصلاة الصبح والظهر صحيحة لكل واحد منهم؛ لأنهم لما قدموهما فقد حكموا بصحة صلاتهما وبقي إناء واحد طاهراً، كل واحد من المأمومين يمكن أن يتوضأ به فلأجل هذا حكمنا بصحة صلاتهم أجمعين. وأما صلاة العصر فإنها صحيحة لإمامي الصبح والظهر ولإمام العصر أيضاً، من جهة أنهم لما قُدِّموا فقد حُكِم بصحة صلاتهم واستُكملت الآنية في الطهارة، وتبطل في حق المؤتمين في صلاة العصر لأجل الاقتداء؛ لأنهم مؤتمون بمن عندهم أنه غير مُطَهَّر.
الصورة الرابعة: إذا كانت الآنية خمسة نظرت، فإذا كان الطاهر منها واحداً والباقي نجس، لم يجز أن يأتم كل واحد منهم بصاحبه؛ لأن كل واحد عنده أن صاحبه متطهر بالماء النجس إذ لا طاهر منها سوى واحد، وإن كان الطاهر منها اثنين فصلاة الصبح صحيحة في حق الجميع وصلاة الظهر صحيحة في حق إمامها وإمام الصبح، وتبطل في حق الباقين من أجل الاقتداء، وأما صلاة العصر والمغرب والعشاء فتصح لكل واحد ممن كان إماماً فيما قبلها وتبطل في حق المؤتمين لأجل الاقتداء. فإن كان الطاهر منها ثلاثة صحت صلاة الظهر والعصر للجميع منهم، وتصح صلاة العصر لإمامها وإمام الظهر وإمام الصبح وتبطل في حق المؤتمين في المغرب والعشاء. وإن كان الطاهر منها أربعة فصلاة الصبح والظهر والعصر صحيحة في حق الجميع منهم وتبطل صلاة المؤتمين في المغرب والعشاء من أجل الاقتداء.
فكلما كان الطاهر من الأواني واحداً فلا وجه للاقتداء بحال، وإن كان الطاهر اثنين جاز لكل واحد أن يصلي خلف واحد لا غير، وإن كان الطاهر منها ثلاثة جاز لكل واحد منهم أن يصلي خلف اثنين منهم وهلم جرا، وإن كثرت.
فالمعيار الضابط للمسألة: أن الطاهر إذا كان واحداً امتنع الائتمام مطلقاً؛ إذ لا مساغ للظن في طهارة من عدا هذا الواحد بخلاف ما إذا كان الطاهر اثنين، فواحد يستبد به الإمام وواحد كل من المؤتمين يجوز أن يكون متطهراً به، فلهذا صحت في حق الجميع، فصلاة من قُدم للإمامة تكون صحيحة بكل حال؛ لأنه لما قُدم حكم على صلاته بالصحة، وأن النجاسة حاصلة في حق غيره، وأما المؤتمون فإن كان في عدة الأواني الطاهرة فسحة تكفي للإمام والمأمومين، صحت صلاتهم جميعاً وإن كانت غير كافية صحت صلاة المقتدى به وبطلت صلاة المقتدين.
مسألة: تشتمل تنبيهات ثلاثة:
التنبيه الأول: في بيان كيفية ورود التعبد في الأحكام.
اعلم أن التعبد في الأحكام التكليفية ربما كان بالعلم اليقيني، وربما كان بالظن، فهذان مجريان نذكر ما يتوجه في كل واحد منهما؛ لأن لهما تعلقاً خاصاً بما نحن فيه:
المجرى الأول منهما: أن يكون التعبد وارداً بطريق العلم دون الظن، وهذا يكون تارة في المسائل الدينية وتارة في المسائل الأصولية، ومرة يكون في المسائل الفقهية، فلا ينفك عن هذه الأمور الثلاثة:
فأما الدينية: فنحو العلم بالله تعالى وصفاته، وما يجب له وما يجوز له وما يستحيل عليه من الصفات، ونحو العلم بصدق الأنبياء وأحوال المعاد الأخروي، وغير ذلك من المسائل الدينية. فهذه الأمور كلها مستندها العلم القطعي لا يقوم غيره مقامه.
وأما الأصولية: فنحو العلم بوجوب العمل على الأخبار الآحادية، وكون الأقيسة النطرية معتمدة في تقرير الأحكام الشرعية، ونحو أن في اللغة لفظة موضوعة للعموم، وأن الأمر للوجوب، إلى غير ذلك من المسائل الأصولية.
وأما الفقهية: فنحو الشهادات، فإن مستندها العلم القاطع فلا تجوز الشهادة إلا بما يعلمه ويتحققه مشاهدة، أوغير ذلك من طريق العلم، ولا تجوز الشهادة بالظنون إلا في بعض الصور سنقررها في باب الشهادات بمعونة اللّه تعالى. ونحو النكاح فإنه لا يجوز الوطء إلا بعلم أنها غير محرمة عليه.
والأصل في هذه القاعدة أن كل ما كان الوصول فيه إلى العلم ممكناً وجب تحصيل العلم به، وكل ما لا سبيل إلى العلم به فغلبة الظن كافية فيه.
قال المؤيد بالله: ومن كان معه عشرة أثواب وعلم أن فيها ثوباً نجساً فإنه تجب عليه الصلاة في ثوبين منها ليكون الفرض ساقطاً بيقين. وهكذا نقول فيمن كان معه عشرة أثواب نجسة وفيها ثوب طاهر؛ فإنه يجب عليه أن يصلي فيها أجمع ليكون الفرض ساقطاً عن ذمته بيقين وقطع، فهذه المسائل كلها، التعبد فيها بالقطع والعلم دون الظن، وهي مستوية في ذلك كما أوضحناه.
المجرى الثاني: ما كان التعبد فيه وارداً بالظن.
وهذا هو معظم أحكام الشريعة فإنها جارية على الظنون في أكثر العبادات والمعاملات. وهذا نحو الحكم بالشهادة فإن مستندها الظن بصدق الشاهدين، ونحو مراعات الظنون في طهارة الأشياء ونجاستها، ونحو الأخبار المعول عليها في جميع الأحكام الشرعية فإنها مثمرة للظن لا غير، في الصلوات والحج والصيام وغير ذلك.
وهكذا الكلام في الأقيسة فإنها معمول بها في تقرير الأحكام الفقهية، والعمل على الأخبار الآحادية والأقيسة قد قال به الأكثر من الأمة، ولم ينكر العمل عليهما إلا شواذ من الأمة لا يُلتفت إلى كلامهم، والمنكرون للأقيسة أكثر من المنكرين لأخبار الآحاد؛ لأن الأخبار الآحادية مستندها الشارع، والأقيسة النظرية مستندها نظر القائسين، وكلها معمول عليها عند أئمة العترة والنظار من علماء الأمة، والكلام على هاتين القاعدتين قد قررناه في الكتب الأصولية.
التنبيه الثاني: في بيان الظن المعمول عليه في الأحكام الشرعية.
واعلم أن ماهية الظن هو تغليب في القلب على أحد المُجَوَّزَين ظاهري التجويز.
فقولنا: تغليب، نحترز به عن سائر الاعتقادات فإنها جزم وليست تغليباً.
وقولنا: في القلب؛ ليكون عاماً لمن قال: إن الظن أمر يفعله الإنسان في قلبه، ولقول من قال: إن الظن أمر يوجبه القلب عند حصول الأمارة.
فالأول: مذهب الشيخ أبي هاشم وأصحابه.
والثاني: مذهب أبي الحسين البصري وأصحابه.
فإذا قلنا فيه: تغليب في القلب، كان شاملاً لهما جميعاً.
وقولنا: على أحد المجوزين؛ لأن الظن إنما يكون متعلقاً بصفات الشيء وأحكامه ولا يكون متعلقاً بأصل حقيقته أصلاً، فالأمران المجوزان إنما يكونان في الصفات والأحكام، ولهذا فإن زيداً يمكن أن يكون في الدار ويمكن أن يكون في المسجد، فإذا أخبرك مخبر بكونه في أحدهما فقد غلب خاطرك على ما كان ممكن الوقوع وهو كل واحد من الأمرين.
وقولنا: ظاهري التجويز، نحترز به عن اعتقاد التقليد فإن المقلد وإن كان يجوّز خلاف ما هو عليه من التقليد، لكن تجويزه ليس ظاهراً جلياً، بل هو مصمم على ما قد اعتقده من ذلك، وإن جوز خلافه فإنما هو من حيث كونه ممكناً في ذاته لا أن المقلد يعتقده ويظهر اعتقاده، وإنما تجويزه يكون خفياً غامضاً، فهذه ماهية الظن.
فإذا تمهدت هذه القاعدة، فاعلم أن الظن المراعى في تقرير الأحكام الشرعية والتكاليف العملية ضربان، نذكر ما يتعلق بحقائقهما بمعونة اللّه تعالى:
الضرب الأول منهما: الظن المطلق، وهو ما يكون تغليباً لأحد مُجَوّزيه من غير أن يكون فيه قوة تقارب العِلْم، وهذا نحو أن يخبر مخبر ثقة، بأن زيداً في الدار، فإن ما هذا حاله من الأمارات محرك للقلب في إثارة الظن وإحداثه، لمكان هذه الأمارة، وعلى مثل هذا تجري الأخبار المستعملة في أحكام الشريعة في الإيجاب والندب والكراهة والإباحة وأنواع التحليلات والتحريمات في جميع الفتاوى والأقضية والأحكام المستنبطة من تلك الأحكام.
الضرب الثاني: الظن الذي يقارب العلم، وهذا نحو أن يخبر مخبر ثقة بأن زيداً في الدار، ثم يخبره بعده مخبر آخر بأنه فيها، فما هذا حاله قد حصل الظن المطلق بخبر الثقة الأول، ثم إنه ازداد قوة بالخبر الثاني، فصار مقارباً للعلم بهذا المعنى، ومعنى كونه مقارباً للعلم، هو أنه ربما تقوت هذه الأخبار من جهة الثقات وبالقرائن حتى صار ذلك الظن عِلْماً، وخرج عن كونه مظنوناً؛ فالمخبر الأول يورث الظن المطلق ويبعث عليه، والمخبر الثاني يقوي الظن ويزيده قوة، ولا تزال هذه القوة تزداد بحسب المخبرين حتى ترتقي إلى درجة الذي لا يجوز خلافه، وربما ازداد قوة أيضاً بعد حصول القطع بمخبره إلى أنه يصير ضرورياً لا يجوز ورود الشبهة فيه. فهكذا يكون حصول الظن في موارد الشريعة ومصادرها لا محالة.
وأما الشك: فهو عبارة عن تصور ماهية الشيء وحقيقته من غير أن نحكم عليها بنفي أو إثبات، فمن تصور ماهية العالم وحقيقته من غير أن يحكم عليه بقدم ولا حدوث، فهو شاك فلا تحصل له هذا الصفة إلا متى تصور الماهية وخلا عن اعتقاد حكم من أحكامها، فمتى علم حدوث العالم بالنظر أو بالضرورة أو بالاعتقاد أو بالظن، فقد خرج عن كونه شاكاً وكان عالماً أو معتقداً أو ظاناً، وبطل الشك لانتفاء ماهيته. فقد وضح لك بما ذكرناه ماهية كل واحد من الظن والشك ومعرفة الظن المطلق والظن المقارب.
التنبيه الثالث: في الكلام على الشيخ علي بن الخليل ) والقاضي أبي مضر ) من أصحابنا.
واعلم أنهما قد ذكرا: أن الظن الوارد على المكلف على ثلاثة أقسام:
أحدها: الظن المطلق الذي ليس بغالب.
والثاني: هو الظن الغالب لكنه غير مقارب للعلم.
والثالث: الظن المقارب للعلم.
__________
(1) علي بن محمد الخليلي الزيدي، الجيلي، الشيخ الجليل، قال في المستطاب: هو من أتباع المؤيد بالله. أخذ عن القاضي يوسف، وله مؤلفات منها: (الجمع بين الإفادة والإفادات)، وله المجموع المشهور (المعروف بمجموع علي خليل). وهو مجلدان، كما روي عن الإمام المهدي، كان في أوائل المائة الخامسة. هكذا جاء في مقدمة الأزهار، ولم نعثر له على تاريخ محدد.
(2) شريح بن المؤيد القاضي الجيلي أبو مضر، من أتباع المؤيد بالله من أعلام الزيدية، وله مؤلفات في الفقه منها: (أسرار الزيادات). عاش في المائة الخامسة للهجرة. وكتابه (شرح الزيادات) أحد مراجع الأزهار.
فإذا كان التجويز الوارد على الشيء والاحتمال الواقع فيه يستوي طرفاه، فإن كل واحد من الاحتمالين ظن، إلا أنه ليس بظن غالب، وإنما هو ظن مطلق، فإذا وُجِد الرجحان في أحد الاحتمالين على الآخر فإن أرجح الاحتمالين ظن غالب والاحتمال الآخر شك، فإن قوي الرجحان في أحد الاحتمالين وضعف الشك في الاحتمال الآخر فهو ظن غالب مقارب للعلم. ثم جعلا مثال الظن المطلق وهو الشك، الظن بنجاسة سراويل المجوسي. ومثال الظن الذي ليس مقارباً للعلم: أن يخبر مخبر بنجاسة سراويل المجوسي وأنها قد أصابتها نجاسة. ومثال الظن الذي يكون مقارباً للعلم: نحو أن يخبر مخبران وثالث بأن سراويل المجوسي قد أصابتها نجاسة، فإذا اجتمع هذا الخبر إلى الخبر الأول قوي هذا الاحتمال وضعف الاحتمال الآخر جداً، فصار هذا الاحتمال الأرجح والأقوى، ظناً غالباً مقارباً للعلم إلى آخر ما ذكراه في تقرير هذه القاعدة.
واعلم [أن] كلامهما هاهنا، قد وقعت فيه استدراكات عليهما، ونحن نذكرها ونفصل ما قالا فيه بمعونة اللّه تعالى:
الإستدارك الأول: قولهما: إن الشك من قبيل الظنون، وهذا فاسد لوجوه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الشك من قبيل التصور وهو العلم بحقائق الأشياء وماهياتها والكف عن اعتقاد شيء من أحكامها كما مر تقريره، والظن جنس برأسه ليس من قبيل الاعتقاد والتصور.
وأما ثانياً: فلأن الظن لا حكم له في جلب النفع ودفع الضرر، إلا إذا كان صادراً عن الأمارات، فإن لم يصدر عنها كان لاحقاً بالظنون السوداوية التي لا يعول عليها عاقل، بخلاف الشك فإنه لا يفتقر إلى أمارة؛ لأنه في الحقيقة كف عن الحكم على الشيء بنفي أو إثبات فلا يفتقر إلى أمارة من أجل ذلك.
وأما ثالثاً: فلأن الظنون الصادرة عن الأمارات يعول عليها في جميع التصرفات العرفية في جلب المنافع ودفع المضار، وعليه تبتني أكثر الأحكام الشرعية في العبادات والعادات والمعاملات، والشك لا يرد في هذه الموارد ولا يعول عليه في شيء من الأحكام بحال. فحصل من مجموع ما ذكرناه مخالفة الشك للظن في حكمه ولفظه، فكيف يقال: إنه من قبيل الظنون!.
الاستدراك الثاني: قولهما: إن الظنون منقسمة إلى ثلاثة. وهذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن من حق مورد التقسيم أن يكون شاملاً لجميع الأقسام ليصح تقسيمها عليه، ولهذا فإنه يقال: الحيوان ينقسم إلى إنسان وفرس، ولا يقال: الحيوان ينقسم إلى إنسان وحجر، لما كان مورد القسمة وهو قولنا: الحيوان، ليس شاملاً لقولنا: حجر ولا هي مندرجة تحته، فيبطل التقسيم لعدم اندراجها تحته، فلما كان الشك غير داخل في حقيقة الظن ولا يطلق عليه اسمه، بطل تقسيمه عليه لعدم اندراجه تحته، ونُزِّل ذلك منزلة من يقول: العلم منقسم إلى: نظري وظني، فلما كان هذا باطلاً فهكذا ما ذكراه من التقسيم، ولكن يقال: العلم منقسم إلى: نظري وضروري لا غير.
وأما ثانياً: فلأن الظن حقيقة مغايرة للشك ومخالفة له في لفظه ومعناه كما أشرنا إليه، وما هذا حاله فلا يقال بأنه أحد أنواع الظن وقسم من أقسامه. ومن العجب أنهما لقباه بالظن المطلق وجعلاه أول أقسام الظن الوارد على المكلف، وبينهما من المغايرة والمخالفة في الحقائق واللوازم والألفاظ ما لا يخفى، وفي ذلك ضعف ما قالاه وسقوطه.
الإستدراك الثالث: قولهما: فإذا كان التجويز الوارد على الشيء والاحتمال الواقع فيه يستوي طرفاه، فإن كل واحد من الاحتمالين ظن، إلا أنه ليس بظن غالب وإنما هو ظن مطلق، وهذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن ظاهر كلامهما هذا يقتضي بأن التجويز هو الشك، وهذا فاسد، فإن حقيقة الشك مخالفة لحقيقة التجويز، فإن الشك كما ذكرناه تصور الحقائق والماهيات مع الكف عن اعتقاد شيء من أحكامها اللازمة لها.
وأما التجويز: فهو العلم بأن ليس في العقول ما يحيل هذا الحكم في الثبوت ولا نقيضه. فإذا علمنا العالم نفسه، وكففنا عن اعتقاد قدمه وحدوثه، فهذا هو الشك، وأما إذا علمنا بأنه ليس في العقول ما يحيل إثبات قدمه وإثبات حدوثه، فهذا هو التجويز. ثم إن التجويز هو مستند للشك فلا شك في الأمرين جميعاً: القدم والحدوث، إلا إذا كان مجوزاً وكانا ممكنين، فأما الأمور المستحيلة فلا يمكن تجويزها، وهو أيضاً مستند للظن فإنه لا يمكن ظن حكم من الأحكام في ثبوته ونفيه، إلا إذا كان مجوزاً له، فعرفت بما ذكرناه مغايرة حقيقة الشك للتجويز وأن الشك لا يكون تجويزاً بحال.
وأما ثانياً: فقولهما: إن كل واحد من الاحتمالين ظن.
فظاهر هذا الكلام دال على أن محتملي التجويز ظن، وهذا فاسد، فإن التجويز في نفسه ليس ظناً، فكيف يكون احتمالاه ظنين، وإنما التجويز لابد من مصاحبته للظان، كما أنه يصاحب الشاك؛ لأن قاعدة التجويز هو العلم بإمكان تلك الصفة في الثبوت والانتفاء، وإذا كان مصاحباً أعني التجويز للظن، فكيف يقال بأنه نفس حقيقته!.
الاستدراك الرابع: قولهما: فإذا وجد الرجحان في أحد الاحتمالين على الآخر، فإن أرجح الاحتمالين صار ظناً غالباً، والاحتمال الآخر شك، فإن قوي الرجحان في أحد الاحتمالين وضعف الاحتمال في الآخر فهو ظن غالب مقارب للعلم.
واعلم أن كلامهما دال هاهنا على أن الرجحان إذا كان حاصلاً في أحد الاحتمالين فإنه يكون ظناً غالباً، والاحتمال الآخر شك، فظاهر هذا الكلام يُشعر بأنه يطلق عليه اسم الشاك، مع كونه ظاناً وهذا فاسد، فإنه إذا قوي ظنه على أحد الاحتمالين فإنه بالظن يكون خارجاً عن حقيقة الشك بكل حال، ولا يُطلق عليه اسمه بعد كونه ظاناً، سواء كان ظنه غالباً أو مقارباً؛ لأن الشك كما ذكرناه خلو عن كل ترجيح، فلا يكون مصاحباً للرجحان أصلاً.
فأما التجويز: فإنه مخالف لما ذكرنا من الشك، فإنه يكون مصاحباً للرجحان، سواء كان ذلك الرجحان بعلم أو ظن أو اعتقاد؛ لأن حقيقتة لا تنافي هذه الأمور بل تكون باقية معها، فلا جرم صاحبتها، بخلاف الشك فإن حقيقته منافية للرجحان فلا تصاحبه، فَتَنَخَّلَ من مجموع ما ذكرناه تباين هذه الأشياء في الحقائق والأحكام، أعني الشك والظن والتجويز، وأنه لا سبب للوقوع في مثل هذه المضائق إلا عدم الإحاطة بهذه الدقائق والميز بينها، وهو مسلك دقيق لا يدرك إلا بالفكرة الصافية، والقريحة المُتَّقِدَةِ، وما وقعا فيما وقعا فيه إلا لعدم الوطأة في المباحث الكلامية، والإحاطة بدقائقها، والغوص على أسرارها وغوامضها وحقائقها.
الاستدراك الخامس: قولهما: مثال الظن المطلق - الذي هو الشك على زعمهما وتوهمهما - ما نقلاه عن المؤيد بالله فيمن صلى في سراويل المجوسي، فإنه يحتمل أن يكون المجوسي قد نجسه لسبب من الأسباب، إما بترك الاستنجاء أو بغيره، ويجوز خلاف ذلك وهو أن لا يكون أصابه شيء من النجاسات، وليس لأحد الاحتمالين رجحان على الآخر، وكل واحد من الاحتمالين ظن.
واعلم أن ما ذكره المؤيد بالله إنما أورده لمقصدين:
المقصد الأول: لبيان أن الأصل في الأشياء كلها التطهير، ولا يُقدم على تنجيسها إلا بأمارة قوية تنقلها عن حكم أصلها، ومَثَّله بسراويل المجوسي فإنه باق على أصل الطهارة لا يُقدم على القول بتنجيسه إلا بأمارة.
المقصد الثاني: أن يكون غرضه بيان جواز الصلاة في سراويل المجوسي مع الكراهة لها؛ لأنها باقية على أصل الطهارة، وكونه مستحلاً للنجاسات متلوثاً بها في أكثر حالاته، لا تبطل الصلاة فيها ولكنه يكره لما ذكرناه، فهذا هو مقصد الإمام بما أورده من المثال. فأما إيراده مثالاً للشك وأن الشك من جملة الظنون، فالمؤيد بريء من عهدته وإنما هو من كيسهما، وحاشا لفكرته الصافية وذوقه المعتدل عن أن يلتبس عليه حكم الشك بالظن، والتجويز بالشك فلا يميز بين حقائقها، فقدرُهُ أجل وأعلا من ذلك. وقد قال المؤيد بالله: والأقرب أنه يحصل الظن بنجاسة سراويل المجوسي. ولكن لما لم يقارب العلم لم يحكم بنحاسته، وهذا يُصدّق ما ذكرناه من حمل كلامه على ما حملناه من إيراد المثال، لا على ما ظناه وتوهماه.
الاستدراك السادس: قولهما: إن الظن المطلق وهو الشك على زعمهما، يجوز العمل عليه بشرط أن تنضم إليه قرينة أخرى، وجعلا مثاله ما ذكره المؤيد بالله في المتاعات، وهو: أنه إذا كان الشيء في يد إنسان فقال: هو لفلان وكلني ببيعه أو رهنه، فإنه يجوز أن يُشترى منه لمجرد هذا القول، وفي مثل ذلك جاز العمل على مطلق الظن لأجل القرينة، وهي اليد القائمة، وهكذا حال المرأة إذا قدمت من الغيبة، وقالت: طلقني زوجي وانقضت عدتي. جاز أن يُؤخذ بقولها ويُعمل عليه.
واعلم أن ما ذكرناه [عنهما] هاهنا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن الشك لا يجوز العمل عليه أصلاً، ولا يكون مستنداً لشيء من التكاليف العملية، ولا يعول عليه في أمر من الأمور الشرعية، والتعبد إنما وقع مع غلبات الظنون، بقوة الأمارات والاعتماد عليها، فأما الشك فهو خلي عما ذكرناه فلا تعويل عليه، ولهذا قالا في آخر المثال: فأما إذا لم تكن مع الظن المطلق هذه الأمارة والقرينة، فإنه لا يجوز العمل عليه؛ لأنه يكون شكاً صرفاً.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكره المؤيد بالله في المثالين إنما أوردهما مثالاً في حصول الظن والعمل عليه، ولم يوردهما مثالاً للشك كما زعماه وتوهماه، فالأمارة للظن هو حصول اليد واستيلاؤها على ملك الشيء، فلهذا جاز العمل عليها في كونه ملكاً لمن هو في يده ويجوز الشراء منه، وهكذا حال المرأة فإنها حاصلة في يد نفسها، فلهذا قُبل قولها فيما تقول من نكاح، وطلاق، وعدة، ووفاء العدة؛ لأنه لا مخاصم لها، فيجوز إنكاحها على هذه الأمارة، فإن قامت بينة على خلاف ذلك عُمل عليها. وقد عملنا أولاً على ظاهر الحال، وله مساغ من جهة الشرع، فما ذكره المؤيد بالله من المثال هو مطابق للممثول لكن الوهم جاء من جهتهما حيث جعلاه مثالاً للشك، وهو جَعَلَه مثالاً للظن بالقرينة. ومن العجب أنه قال: إنه يكون شكاً؛ لكنه يجوز العمل عليه للقرينية، فبطل ما توهماه.
الاستدراك السابع: حكيا عن الإمام المؤيد بالله التفرقة بين الظن الغالب وبين الظن المقارب، وهو أن انتقال الشيء عن حكم أصله لا يجوز العمل فيه إلا على الظن المقارب دون الظن الغالب، وأوردا ما ذكره المؤيد بالله في المثال لذلك، وهو أن كل من غلب على ظنه نجاسة الماء فإنه ينظر في ذلك الظن، فإن كان الظن مقارباً للعلم وجب العمل به، وإن كان الظن غالباً لم يجز العمل عليه؛ لأن الماء على الطهارة فلا ينتقل عن حكم هذا الأصل إلا بما يكون من الظنون مقارباً للعلم دون غيره، وكمن غلب على ظنه أنه طلق امرأته وأعتق عبده، فإنه لا يعمل فيه إلا بالظن المقارب؛ لأن الأصل هو استقرار عقد النكاح وثبوت الرق، فلا ينتقل عنهما إلا بما يكون مقارباً دون ما كان غالباً.
والحجة على ذلك: هو أن العمل على غلبة الظن قد تقرر كونه مُعَوَّلاً عليه في العمل على الشهادات والحكم بها، فلا وجه لدفعه وإنكاره، فإذا كان الشيء معلوم الأصل فلا يجوز الانتقال عنه إلا بما يكون مقارباً له في التحقق، وهذا إنما يكون في الظن المقارب للعلم لقوته، فلهذا وجب اشتراطه فيما يكون انتقالاً عن حكم الأصل.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إلى أسراره، وهو عدم التفرقة في الظنون بين ما يكون منها غالباً وبين ما يكون مقارباً، والعمل عليهما على جهة الإطلاق من غير تفرقة بينهما.
والحجة على ذلك: هو أن الأدلة الشرعية التي دلت على العمل على غلبات الظنون في المواضع التي لا سبيل فيها إلى القطع بالعلم، لم تفصل بين ما يكون غالباً، وبين ما يكون مقارباً، فلا وجه للتفرقة من غير دلالة عليها.
ومن وجه آخر: وهو أنه إذا جاز العمل على الظن الغالب في باب العبادات كلها وأحوال المعاملات الدينية والدنيوية، جاز أيضاً العمل عليه فيما يكون انتقالاً عن حكم الأصل إجراء للظن مجرى واحداً من غير تفرقة.
ومن وجه ثالث: وهو أنه لا حقيقة للظن المقارب للعلم إلا قوة أمارته، إما بتكرر المخبرين، وإما بغير ذلك من القرائن والأسباب المقوية له، والظن الغالب لابد فيه من مزيد قوة في أمارته، فإذا كان كل واحد منهما يفتقر إلى مزيد قوة في أمارته، فيجب استواؤهما في العمل من غير خصوصية المقارب على الغالب وفي ذلك ما نريده.
قالوا: إن حكم الأصل معلوم فلا يجوز الانتقال عنه إلا بما يكون مقارباً له في التحقق والقطع، وذلك لا يكون إلا في الظن المقارب.
قلنا: قد أقررتم بجواز الانتقال عن حكم الأصل بالأمور المظنونة لكنكم اشترطتم كونه مقارباً فلابد عليه من دلالة. فأما الانتقال بالظن فقد سلمتموه فلا نحتاج فيه إلى دلالة. فأما الهادي فقد جرى على القياس في أنه لا يجوز الانتقال عن حكم الأصل المعلوم إلا بدلالة علمية، ولم يراع في ذلك ظناً سواء كان غالباً أو مقارباً، وسيأتي تقرير الكلام على ذلك في نواقض الوضوء بمعونة اللّه تعالى.
الاستدراك الثامن: وقالا: الظن إذا كان غالباً فحكمه إذا وقع في تحريم أنه لا يجب الأخذ به ولكن يستحب الأخذ به، ومثاله في الماء، وهو أنه إذا حصل الظن الغالب بكونه نجساً ولم يكن مقارباً للعلم فإنه لا يجب التجنب له، ولكن يستحب تجنبه، وهكذا الحكم في نظائره، كالطلاق والعتاق مما يكون له أصل معلوم مستقر، فإن كان واقعاً في تحليل فإنه إذا لم يكن مقارباً للعلم لم يجز العمل عليه، ومثاله: أن يرد الظن على الصائم أنه قد دخل عليه الليل وحل له الإفطار فإنه إن كان الظن مقارباً للعلم جاز الأخذ به، وإن كان دون ذلك لم يجز الأخذ به.
قلنا:إن ما ذكرتموه فيه نظر من وجهين:
أما أولاً: فلأن التفرقة بينهما تحَكُّم من غير دلالة شرعية تشير إلى تفرقة بينهما، فإن الظن إذا كان غالباً فهو العذر عندالله تعالى في جواز العمل عليه سواء كان تحليلاً أو تحريماً.
وأما ثانياً: فلأن المراد باشتراط كون الظن مقارباً للعلم إنما [هو] مزيد قوة، فالظن الغالب لابد فيه من مزيد قوة.
وإن كان الغرض قوة مخصوصة تقارب العلم، قلنا: هذا رد إلى عماية، فإن تلك الغاية غير معلومة فلا يجوز اشتراطها في التكليف؛ لأن من حق ما كان مكلفاً به أن يكون ظاهراً متحققاً ممكناً تحصيله، واشتراط المقاربة لا وجه له، وإنما الغلبة للظنون هي المشترطة الشاملة لجميع أساليب الظنون في جميع الأفعال الشرعية.
الاستدراك التاسع: قال الشيخ علي بن الخليل: قد ينتقل الإنسان من اليقين إلى الشك في العقليات، ومثاله: إذا علم رجل بأن زيداً في الدار بطريق المشاهدة ثم غاب عنه وتخلل هناك وقت وزمان، فإنه لا يجوز الاعتقاد على القطع بأنه في الدار لجواز أن يكون قد غاب، ولا بأنه حي لجواز أن يكون قد مات، وكما لا يجوز الاعتقاد فلا يجوز الإخبار.
واعلم أن ما ذكره في هذا الفصل ليس وراءه كثير فائدة ولا تحته جدوى نافعة، فليس يخلو غرضه بما ذكره فيه، إما أن يريد أنه لا يجوز العمل على الشك والانتقال إليه فهذا فاسد لا قائل به، فإنه لا يجوز العمل على الشك في شيء من أحكام الشريعة مقطوعها ومظنونها، ولا ورد تعبد بالشك بحال، وإن كان غرضه أن كل من علم بأن زيداً في الدار بطريق المشاهدة والإدراك ثم غاب عنه ولم يشاهده فإنه لا يحصل العلم به من تلك الطريق فهذا صحيح، فإن كل من لم يدرك لم يحصل العلم بالإدراك، وكل من لم يعلم فإنه جاهل به، وليس وراء هذا مزيد فائدة، وإن كان الغرض أن الواحد لا يجوز له الاعتقاد لما لا يعلم حقيقة حاله ولا يجوز له الإخبار عما لا يأمن كونه كذباً، فهو ظاهر لا مرية فيه وليس مختصاً بهذا الموضع ذكره، وموضعه كتب الكلام.
الاستدراك العاشر: قوله: إنه يجوز الانتقال من اليقين إلى الشك في الشرعيات، ومثاله أنه لو كان معه إناء من ذهب موزون، ثم وقع فيه سبب يجوز أن يكون قد نقص وزنه نحو أن يقع على الأرض أو يسرقه سارق أو غير ذلك، فإنه إذا أراد أن يبيعه بدينار لم يجز له أن يبيعه إلا بأن يعيد وزنه، وقام هذا الشك الجائز مقام القطع بأنه قد نقص وزنه.
قلنا: إن كان الغرض من هذا الكلام هو أن الشك قد عمل به فهذا فاسد، فإن الشك لا يكون مستنداً لحكم من أحكام اللّه تعالى على خلقه بحال، وإن كان الغرض هو إبانة التعبد في الذهب بمثله والفضة بمثلها، أنه لا بد من اعتبار المساواة فيهما علماً فهذا مسلم، فمهما لم يحصل العلم لم تصح المعاوضة، فما هذا حاله ليس عملاً على الشك أصلاً، وهكذا حال المكيل بمثله والموزون بمثله، لا يجوز بيعه إلا بعد إعادة كيله أو وزنه للحديث الوارد، فهو تعبد لا يعقل معناه، فإذا كان العلم مشترطاً فيها وزال لم يجز العمل لبطلان الشرط، لا لأجل العمل على الشك والجواز المحتمل، وهكذا لو كان لرجل عشرون بنتاً فارتضعت منهن واحدة لبن من لا يجوز له نكاح بنتها حرمن عليه، لأن التعبد في حقه أن لا ينكح إلا من يعلم أنها تحل له، فإنما حرمن عليه لعدم العلم الذي ذكرناه وهو الشرط في النكاح، لا من أجل حصول الشك والجواز، ولأجل كونه وارداً على جهة التعبد لم يجز الإلحاق بها إلا ما يكون في معناها، سواء كانت العلة مظنونة أو مقطوعة، فإذا ورد في الذهب قسنا عليه الفضة، وإذا ورد في المكيل قسنا عليه الموزون، وإذا ورد في الحرائر قسنا عليه الإماء. ولا يقاس عليه ما يخالفه في جنسه إذ لا علة هناك تجمعهما، فحيث يكون مضطرب النظر هو طلب الجامع فإنه غير جار فيه، وحيث يكون مضطرب النظر فيه التعرض للفارق فإنه جار فيه.
فهذا ما أردنا من التنبية على كلام القاضي والشيخ، وليس الغرض نقصاً من فضلهما فهما الجَوَّابان لأسرار المسائل والخريتان(1) في دقيق الأنظار، ولكن الغرض التذرب في أساليب الأنظار الفقهية، وتكرير المحاورة في الأسرار الشرعية؛ فإنها لم تعدم فائدة يدريها الأذكياء، ويتقاعد عن فهمها الأغمار الأغبياء، والله أعلم بالصواب.
__________
(1) الخِرِّيتُ، كسكيت: الدليل الحاذق. ا.هـ. قاموس.
فحصل من خلاصة هذا التقرير الذي أطلنا فيه بعض الإطالة، أن الشك لا يطلق عليه اسم الظن، وأنه لا يعمل على الشك، وأن الأمارتين إذا تعارضتا وجب الحكم عليهما بالسقوط، ولا يقال بأن ما هذا حاله ظن مطلق، إذ لا ظن بعد تساقط الأمارتين، وإن الظن الغالب والمقارب سواء في صحة العمل من غير تفرقة بينهما كما مر بيانه، والله الموفق.
---
الفصل الرابع
في ذكر الآنية وما يجوز استعماله وما لا يجوز
وسبب ذكره في هذا الموضع لما له من التعلق بالطهارة في الوضوء والاغتسال.
مسألة: ولا يحل أكل الميتة ولا الانتفاع بها، وسيأتي تقريره في النجاسات. والذي نذكره هاهنا هو ما يتعلق بالكلام فيما يجوز التوضؤ فيه عند دباغها.
واعلم أن هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء في جلود الميتة هل تطهر بالدباغ أم لا؟ وخلافهم فيها على ستة مذاهب:
المذهب الأول: أنها نجسة وأنها لا تطهر بالدباغ، وهذا هو قول علماء العترة لا يختلفون فيه، وهو محكي عن عُمَرَ وابن عُمَرَ وعائشة، وبه قال أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وإحدى الروايتين عن مالك، وراية أخرى أنه يطهر ظاهره دون باطنه، ويُصلى عليه ولا يصلى فيه.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ}[المائدة:3].
ووجه الاستدلال بهذه الآية: هو أن اللّه تعالى حرم الميتة، والسابق إلى الفهم من هذا الكلام من طريق العرف في اللغة، إنما هو الانتفاع بالأكل والوضوء وغير ذلك من سائر وجوه الإنتفاعات؛ لأن التحريم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق التحريم بأفعالنا والنهي عنها، وهي عامة بالإضافة إليها، فيجب القضاء بتحريمه إلا لدلالة خاصة تدل على حلها، وفيه حصول المقصود.
الحجة الثانية: ما رواه زيد بن علي عن آبائه ٍ عن الرسول ً أنه قال: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ))(1). وهذا عام في جميعها لا يجوز تخصيصه إلا بدلالة. ورَوَى عبدالله بن عكيم ) قال: أتانا كتاب رسول اللّه ً قبل موته بشهر ونحن في أرض جهينة قال: (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ))(3). وهذا عام.
الحجة الثالثة: من جهة القياس فنقول: جزء من ميتة فلا يتطهر بالدباغ كاللحم، أو نقول: جلد ميتة فكان نجساً كما كان قبل الدباغ.
المذهب الثاني: أن جميع الجلود تطهر بالدباغ وجلد الكلب، فأما الخنزير ففيه ثلاث روايات:
__________
(1) روي عن جابر قال: بينما أنا عند رسول اللّه ً إذ جاءه ناس فقالوا: يا رسول اللّه إن لنا سفينة انكسرت، وإنا وجدنا ناقة سمينة ميتة، فأردنا أن ندهن بها سفينتنا، وإنما هي عود على الماء،. فقال رسول اللّه ً: ((لا تنتفعوا من الميتة بشيء)). هكذا جاء في البحر وفي أصول الأحكام.
(2) أبو معبد عبدالله بن عكيم الجهني الكوفي، أدرك عهد رسول اللّه ً ولم يصحبه كما يفهم من ترجماته. من رواة الأحاديث، روى عن عدد من الصحابة، منهم: أبو بكر، وعمر، وحذيفة، وعائشة. قال البخاري: أدرك زمن النبي ً ولا يُعرف له سماع صحيح، وقال نحو هذا أبو نعيم وابن حبان. قال ابن سعد: كان إمام مسجد جهينة، وأنه مات في ولاية الحجاج (مات الحجاج أميراً على العراق عام 95هـ) ولم يذكر الحافظ ابن حجر ولا صاحب الطبقات تاريخاً محدداً لوفاته. (تهذيب التهذيب 5/283).
(3) لفظه: عن عبدالله بن عكيم قال: قرئ علينا كتاب رسول اللّه بأرض جهينة وأنا يومئذ غلام شاب، يقول فيه: ((لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)). وفي رواية: أن رسول اللّه كتب إلى جهينة قبل موته بشهر وفي نسخة بشهرين: ((أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)). أخرجه أبو داود وللترمذي والنسائي نحوه. ا.هـ. جواهر ج2/14، هامش البحر.
الأولى منها: أنه يطهر بالدبغ.
والثانية: لا يطهر به.
والثالثة: بأنه لا جلد له، وإنما ينبت شعره على لحمه، وهذا هو رأي أبي حنيفة، وهكذا جلد الإنسان عنده لا يطهر بالدباغ.
والحجة على ما قاله: ما روي عن النبي ً أنه مر بشاة ميمونة (1) وهي ميتة فقال الرسول ً: (( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ))؟ فقالوا: يا رسول اللّه إنها ميتة. فقال: (( إنما حرم من الميتة أكلها ))(2).
الحجة الثانية: قوله ً: (( أيما إهاب دُبغ فقد طهر ))(3). وهذا عام في جميع الحيوانات كلها. وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال: سمعت رسول اللّه ً يقول: (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) وروت عائشة (رضي اللّه عنها) عن النبي ً أنه قال: (( دباغ الميتة طهورها ))(4).
__________
(1) أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث العامرية، زوج النبي ً، تزوجها سنة سبع، روت عن النبي ً، وعنها: ابن اختها عبدالله بن العباس، وآخرون. وقيل: كان اسمها بَرَّة. فسماها رسول اللّه ً ميمونة. توفيت بسرف حيث بنى بها رسول اللّه ً، وهو مكان بين مكة والمدينة سنة 51هـ على ما صححه الحافظ ابن حجر، وصلى عليها عبدالله بن العباس. (تهذيب التهذيب ج12/480).
(2) عن ابن عباس أن رسول اللّه ً مر بشاة ميتة، فقال: ((هلاَّ انتفعتم بإهابها))؟ قالوا: إنها ميتة، قال: ((إنما حرم أكلها)). هذه إحدى روايات البخاري ومسلم وله روايات أخر بألفاظ مختلفة.
(3) أخرجه النسائي.
(4) قال في الاعتصام: هذا الحديث رده البعض؛ لأن في بعض طرقه عكرمة مولى ابن عباس، وروي عن ابن حنبل أن عكرمة روى أحاديث منكرة، وقال ابن سعد: ليس بحجة، وربما جاء بالشيء المنكر.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أن الدباغ فعل لا تصاحبه الحياة فكان مؤثراً في التطهير كالذكاة الشرعية، فأما الخنزير وجلد الإنسان فهما خارجان عن هذه العمومات التي أوردناها، وعلى رأيه: الكلب داخل فيها كما قلناه، وخروج جلد الخنزير عنده؛ لأنه لا جلد له، وخروج جلد الإنسان لأنه لا نفع فيه، والعمومات مشيرة إلى الانتفاع به.
المذهب الثالث: أن جلود الميتات كلها تطهر بالدباغ إلا جلد الكلب والخنزير وما كان متولداً منهما أو من أحدهما، وهذا هو رأي الشافعي، وحكاه ابن الصباغ، والعمراني صاحب (البيان) عن أمير المؤمنين، وابن مسعود، فأما جلد الإنسان فلأصحاب الشافعي فيه وجهان.
والحجة على ذلك: ما رويناه من العمومات التي أوردناها حجة لأبي حنيفة، فإنها حجة لهما فلا حاجة إلى تكريرها، وخروج الكلب على رأيه بالقياس، وهو أنه حيوان نجس في حال حياته فأشبه الخنزير، أو لأنه حيوان مستقذر في نظر الشرع فلم يطهر جلده بالدباغ كالخنزير، وأبوحنيفة يعارض هذا القياس بقوله: حيوان ينتفع به حال الحياة، فطهر جلده بالدباغ عند الموت كالشاة والبقرة.
المذهب الرابع: أن الجلود كلها تطهر بالدباغ إذا ماتت، وهذا هو المحكي عن داود من أهل الظاهر، ويروى عن أبي يوسف أيضاً.
والحجة على ذلك: ما رويناه من الأحاديث العامة في طهارة جلود الميتة؛ فإنها لم تخص شيئاً عن شيء، ولا شك أن العموم ظاهر فيما كان دالاً عليه ولا يُخص إلا بدلالة منفصلة.
المذهب الخامس: أنه يطهر بالدباغ جلود ما يؤكل لحمه، ولا يطهر جلود ما لا يؤكل لحمه، وهذا شيء يحكى عن الأوزاعي وأبي ثور.
والحجة على ذلك: هو أن حديث شاة ميمونة إنما كان فيما يؤكل لحمه دون مالا يؤكل لحمه، فلا جرم قصرناه عليه، ولأنها أكثر ما ينتفع بأُهُبِها في العادة.
المذهب السادس: أنه يطهر ظاهر الجلد بالدباغ دون باطنه، وعلى هذا تجوز الصلاة عليه ولا تجوز فيه، ويجوز الانتفاع به في الأشياء اليابسة دون الأشياء الرطبة. وهذا شيء يحكى عن مالك.
والحجة على ذلك: هو أن باطن الجلد هو الملاقي للنجاسة والمباشر لها عند الموت، فلهذا لم يؤثر الدباغ في طهارته بخلاف ظاهر الجلد فإنه لم يلاق نجاسة الميتة، فلا جرم أثر فيه الدباغ.
وحكي عن الزهري: أنه أنكر الدباغ، وقال: بأنه يجوز الانتفاع بجلود الميتات على كل حال. فهذا تقرير المذاهب بأدلتها بحسب الوسع.
والحجة للزهري: حديث ابن عباس رضي اللّه عنه وهو أنه عليه السلام مر بشاة ميتة فقال: (( ما على أهل هذه لو أخذوا إهابها فانتفعوا به ))(1). ولم يذكر الدباغ ولا شرطه.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من الصحابة (رضي اللّه عنهم) والتابعين، من نجاسة الجلود في الميتة دبغت أو لم تدبغ.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا حجتين:
__________
(1) روى زيد بن علي، عن آبائه عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه ً: ((لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب)). فلما كان من الغد خرجت أنا وهو فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق فقال ً: ((ما كان على أهل هذه...إلخ)) فقلت: يا رسول اللّه أين قولك أمس؟ فقال: ((ينتفع منها بالشيء)). رواه في شرح التجريد من طريق محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان عن أبي خالد. وكذا في الاعتصام، وفي أصول الأحكام. وجاء في الاعتصام ما لفظه: قد قيل: إن المراد بالشيء الصوف، وقيل: إن المراد أن تذكى قبل أن تموت فينتفع بإهابها.ا.هـ. ولا يظهر من الحديث إلا أن المراد هو الإهاب كما جاء بنصه في ((..لو انتفعوا بإهابها)). وقد أورد المؤلف الحديث عن جابر بن عبدالله كما سيأتي.
الحجة الأولى: ما روى جابر بن عبدالله عن النبي ً أنه قال: (( لا يُنْتَفَعُ من الميتة بشيء )). فلما كان من الغد خرج فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق، فقال عليه السلام: (( ما كان على أهل هذه أن ينتفعوا بإهابها )). فقلت: يا رسول اللّه أين قولك بالأمس؟! فقال: (( ينتفع منها بيسير )). وأراد باليسير: ما لا تحله الحياة كالشعر والضلف والقرن، فإن ما هذا حاله يكون طاهراً كما سنوضحه بعد هذا بمشيئة اللّه تعالى. فظاهر هذه الأحاديث دالة على بطلان الانتفاع من الميتة بشيء لأجل عمومها؛ كالآية التي تلوناها في تحريم الميتة، وكالأخبار التي أوردناها.
الحجة الثانية: قياسية، وتقريرها أنا نقول: الميتة صارت نجسة لمعنى لا يرفعه الدباغ، فوجب أن لا يطهر كجلد الخنزير عند أبي حنيفة والشافعي، ونحو جلد الكلب على رأي الشافعي، ونحو جلد الإنسان على رأي أبي حنيفة.
وقولنا: لمعنى لا يرفعه الدباغ، تقرير لقاعدة القياس وهو: انتفاء الحياة عنه؛ لأن ذلك هو السبب في نجاسة الميتة، وهو ملازم لعينها، فلا يزال بأمر عارض وهو الدباغ، ومهما بقي الجلد فهو باق على النجاسة كالخمر فإنها لا تطهر مهما كانت خمراً، بخلاف ما إذا انقلبت خلاً، وكالنجاسة مهما بقيت عينها فإن نجاستها باقية حتى تزول العين، وعين الجلد باقية على النجاسة بالموت فلا تزول بما ذكروه من عارض الدبغ.
ويؤيد ما ذكرناه: هو أن الماء ورد مطهراً لجميع النجاسات كلها، والدباغ ليس له هذه المزية فإنه قاصر عنه ولا يكون مطهراً إلا للجلد لا غير(1) فإذا كان الماء لا يُطهر جلد الميتة مع استيلائه على التطهير لجميع الأقذار والنجاسات فالدباغ أحق وأولى بأن لا يكون مطهراً.
__________
(1) على رأي القائلين بأن الدباغ يطهر جلد الميتة.
ثم نقول: الذكاة في التطهير أقوى من الدباغ، ولهذا فإنها تؤثر في طهارة الجلد واللحم وتؤثر في محلها وغير محلها، والدباغ لا يؤثر إلا في طهارة الجلد لا غيره، ولا يؤثر في غير محله، ثم إن الذكاة في حق الميتة لا تُطَهر جلدها، فالدباغ أحق بأن لا يطهره لما قررناه، ولا جلد حيوان غير مذكى، فوجب تحريم الانتفاع به كما كان قبل التذكية. فهذه الأقيسة كلها متطابقة على نجاسة جلد الميتة وإن كان مدبوغاً وأن دباغه لا يؤثر في طهارته.
الانتصار على من خالفنا في هذه القاعدة إنما يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: والأخبار التي رويناها عن عائشة (رضي اللّه عنها) وعن ابن عباس وعن جابر، كلها دالة بعمومها على أن الدباغ مطهر، وهي ظاهرة في العموم، وهو أدنى متمسك في حق المجتهد حتى يدل دليل على خلافه.
قلنا: هذه الأخبار مُعَارَضَة بمثلها، ومهما كانت الأمارات الظنية متعارضة، فلابد من الرجوع إلى الترجيح؛ لأن الترجيح تغلب على الظن قوته، ويصير كأنه غير معارض، وأخبارنا قد ظهر ترجيحها من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن أخبارنا دالة على الحظر، وما أوردوه من أخبارهم فهو دال على الإباحة، ولا شك أن الحاظر أحق بالاتباع من المبيح من جهة ما في الحاظر من الاحتياط في الدين، وقد قال عليه السلام: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)). وفي حديث آخر: (( المؤمنون وقافون عند الشبهات)).
وأما ثانياً: فلأن أخبارنا مؤرخة؛ لأنه قال قبل موته بشهر أو شهرين: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء)). فهي دالة على التأخر وأخباركم مطلقة وظاهرها التقدم، فلهذا تطرق إليها ظن كونها منسوخة، وما يُظن كونه ناسخاً فهو أحق بالعمل عليه مما يكون منسوخاً.
وأما ثالثاً: فلأن أخبارنا لم يخرج من عمومها إلا ما كان لا ينجس بالموت كالقرن والضلف والشعر والصوف، فهو طاهر في حال الحياة والموت، فكان كالخارج عن الميتة بخلاف عمومات أخباركم، فإنه قد خرج منها جلد الكلب والخنزير والإنسان، وما هذا حاله فإنه يُضعف العموم؛ لأنه إذا خرج هذا الجنس من الجلود عن العموم بأدلة منفصلة، جاز إخراج جلد كل ميتة بأدلتنا ويبقى متناولاً لجلد ما ذكي، فإذا دبغ طهر عن الدم والفرث وسائر الأقذار التي تتعلق به.
قالوا: إن اللّه تعالى قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُوْدِ الأَنْعَامِ بُيُوْتَاً }[النحل:80]. فأورد هذه الآية على جهة الامتنان، ولم يفصل بين المذكى منها وغير المذكى، بل هي عامة في الأمرين جميعاً، وهذا هو مطلوبنا.
قلنا: هذا فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأنه كما لم يفصل بين المذكى منها وغير المذكى، فهكذا لم يفصل بين المدبوغ منها وغير المدبوغ، فيلزم جواز تطهير ما ليس مدبوغاً عملاً على عمومها وأنتم لا تقولون به، فالذي به خرج عن المدبوغ من العموم على زعمكم يخرج عن المذكى على مذهبنا.
وأما ثانياً: فلأن (مِنْ) هاهنا دالة على البعضية، وهذا مسلم في أن بعض الجلود يكون كِنَّاً لنا وهو ما كان مذكى فلا يكون فيه حجة لكم على ما زعمتم.
وأما ثالثاً: فهب أنا سلمنا عموم هذه الآية على ما ادعيتموه، لكن قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3] خاصة، فتكون هذه حاكمة على تلك فيخرج ما تناولته هذه وهو تحريم الميتة، وتبقى الآية الأولى دالة على ما عدا هذه الخاصة، وفيه حصول غرضنا من تحريم الميتة كلها.
قالوا: روت عائشة عن النبي ً: (( دباغ الميتة طهورها)). وهذا ظاهره القضاء بأن الدبغ يُطهر الجلد فلا حاجة إلى تأويله.
قلنا: لو دبغ بالأشياء النجسة، أو دبغ بالطاهرة لكنها وقعت عليها نجاسة، أليس لابد من تأويله بأنه إنما يطهر إذا دبغ بالأشياء الطاهرة دون الأشياء النجسة؟ فقد خرجت هذه الصورة عما قالوه من العموم، فهكذا نقول: إنما يطهر بالدبغ ما كان ميتاً بالذكاة دون ما مات حتف أنفه، لأجل الدلالة كما أخرجتم الأول بالدلالة فلا تفرقة بينهما.
قالوا: روي عن النبي ً أنه قال: (( دباغ الأديم طهوره )). وفي رواية أخرى: (( يطهرها الماء والقرض )).
ووجه الدلالة: هو أنه لم يفصل بين أديم مذكى وغير مذكى.
قلنا: إن ادعيتم فيه العموم وجب أن يكون مخصوصاً بأدلتنا، وإن ادعيتم أنه لم يفصل بين مذكى وغير مذكى وجب تأويله على المذكى جمعاً بين الدلالتين، وهذه طريقة مستقيمة، أعني أنه إذا أمكن الجمع بينهما كان مستحباً من غير حاجة إلى الحكم بتعارضهما، وقد تناكد في قبولها أبو إسحاق الشيرازي صاحب (المهذب)، وزعم أنه لا حاجة إلى الجمع بينهما بل يحكم بتعارضهما إذا لم يكن هناك ترجيح، أو ترجيح أحدهما على الآخر من غير حاجة إلى الجمع بينهما.
والمختار: هو أنه إذا لم يكن الجمع بينهما وموضعه الكتب الأصولية.
قالوا: في الدباغ فعل لا تصاحبه الحياة، فيجب أن يكون مؤثراً في التطهير كالذكاة الشرعية.
قلنا: نفرق بينهما ونقول: التطهير حصل في المذكى بنفس التذكية الشرعية بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ }[المائدة:3]. ولم تسبقه نجاسة، بخلاف الدباغ فإنه مسبوق بالنجاسة فلهذا لم يكن رافعاً لها فافترقا. وسيأتي بقية الكلام على ما يكون نجساً في أبواب النجاسات، وإنما ذكرنا ما يتعلق بالآنية في الوضوء لا غير.
فأما الزهري: فلا يبعد أن تكون مقالته هذه مخالفة للإجماع من جهة أن الأمة فيها على أقوال:
فمنهم من قال بنجاسة جلود الميتة على كل حال دبغت أم لم تدبغ.
ومنهم من قال بطهارتها إذا دبغت.
ومنهم من قال بطهارة بعضها دون بعض، كما فصلناه من الخلاف في ذلك.
ولم نعلم أن أحداً من الأمة ذهب إلى طهارتها أجمع على كل حال؛ لأن ما هذا حاله يؤدي إلى فوات الحق عن أيديهم وإلى ذهابهم عنه؛ لأن القول بطهارة جلود الميتات من دون دبغ لم يصر إليه صائر منهم، فلهذا كان مخالفاً للإجماع خارجاً عنه، لأن الصحابة (رضي اللّه عنهم) قد خاضوا في المسألة ولم يقل أحد منهم بهذه المقالة. فأما تردد الفقهاء في إخراج بعض الجلود عن العموم، وإدخال بعضها في العموم كإخراج الشافعي جلد الكلب، وإدخال أبي حنيفة له تحت عموم الطهارة بقوله: (( أيما إهاب دبغ فقد طهر)). وإخراجهما جميعاً لجلد الخنزير، وإخراج من أخرج جلود ما لا يؤكل لحمه، وإدخال جلود مايؤكل لحمه، وكإخراج مالك لباطن الجلود دون ظاهرها، فإنها كلها تصرفات في العموم بالإدخال والإخراج بالأقيسة المعنوية والأمور العرفية، وهم إنما بنوها على صحة هذه الأحاديث العامة، وتصرفهم فيها بالإدخال والإخراج وقد أبطلناها، فلا وجه لتكرير الإبطال، فإن إبطالها قد اندرج تحت ما ذكرناه.
مسألة: الحيوان المأكول إذا ذبح على شرط الشرع في الذكاة فإنه يحل أكله ويطهر جلده، ويجوز جعله مطهرة للماء، سواء دبغ أو لم يدبغ، عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ولا يُعرف فيه خلاف.
والحجة على ذلك: قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوْبُهَا فَكُلُوْا مِنْهَا وَأَطْعِمُوْا }[الحج:36]. ومعنى قوله تعالى: {وَجَبَتْ جُنُوْبُهَا}: سقوطها. وليس سقوطها إلا بالذبح والذكاة الشرعية.
فأما غير المأكول من الحيوانات، كالكلب والحمار وسائر السباع والخيل، فإن ذكاته لا تؤثر في طهارة جلده، وهي ميتة، وينجس عند أئمة العترة، ونص عليه الشافعي في (الأم).
والحجة على ذلك: هو أنها ذكاة لا تبيح اللحم، فلا تكون مُطَهرة للجلد، دليله ذكاة المجوسي، ولأن(1) المقصود من الذكاة هو الأكل، والطهارة تابع لأنها هي التابع فإذا لم يكن المقصود حاصلاً فالتابع له أولى لعدم الحصول.
وذهب أبوحنيفة ومالك إلى أن الذكاة يطهر بها جلد جميع ما لا يؤكل لحمه ما خلا الخنزير والإنسان.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}[المائدة:3]. فظاهر الآية دال على أن كل ما حصلت في حقه [الذكاة] فهو طاهر وحلال أكله؛ لكن قام الدليل الشرعي على كون لحمه حراماً فبقي الدليل على طهارة جلده؛ لأن أحدهما منفصل عن الآخر.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة.
والحجة عليه: ما ذكرناه ونزيد ههنا وهو أنه حيوان لا يؤكل لحمه فلم تكن الذكاة مؤثرة في تطهيره كالخنزير، ولا حل اللحم طهارة الجلد، لأنه قد يؤكل مع اللحم في المسموط(2)، فهو تابع له وقد اتفقنا على تحريم اللحم ونجاسته. فهكذا حال الجلد يكون نجساً لا محالة، فإذا عُمل من هذا الجلد النجس مطهرة أو حوض فإنه ينظر فيه(3)، فإن كان متغيراً بالجلد فهو نجس باتفاق، وإن لم يكن متغيراً فمن قال بأن القليل لا ينجس إلا مع التغير فإن ما هذا حاله يكون طاهراً كما هو رأي القاسم ومالك، وهو الذي اخترناه من قبل، ومن قال بأن القليل ينجس من غير تغير فإن كان دون القلتين فهو نجس على رأي الناصر والمنصور بالله والشافعي وإن كان فوقهما لم ينجس. فأما إذا كان كثيراً فهو لا ينجس بحال.
الانتصار: قالوا: الآية دالة على طهارته.
__________
(1) في الأصل: من المقصود.
(2) المسلوق ومنه المرق وكل ما طبخ من اللحوم. راجع القاموس ج2/540.
(3) أي: في الماء الذي يصب في تلك المطهرة أو الحوض.
قلنا: هذا فاسد، فإن قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}[المائدة:3]. ورد عقيب ذكر الحيوانات التي يَحل أَكلها، وعرض الموت من غير ذكاة، فظاهر الآية دال على تحريمها إذا ماتت من أجل تلك الأسباب، الخنق والوقذ(1) والنطح والتردي، فهذا يكون حراماً إلا ما أُدرك بالذكاة الشرعية فلا حجة لكم فيه.
قالوا: الذكاة أقوى من الدباغ، من جهة أنها تفيد الطهارة في الجلد، ثم إن الجلد قد طَهُر بالدباغ فتكون طهارته بالذكاة أحق وأولى.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لا نقول بطهارة الجلد بالدبغ فلا يلزمنا ذلك وقد مر بيانه فأغنى عن الإعادة.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا طهارته بالدباغ كما هو على رأي الشافعي، فله أن يقول: بل طهارة الدباغ أقوى؛ لأنه يزيل نجاسةً حالَّةً، والذكاة تدفع نجاسةً غير حالَّةٍ، فالتأثير في الموجود بدفعه أقوى من التأثير في دفع مالم يكن موجوداً، وأيضاً فإن الدباغ أوسع مجالاً وتصرفاً لعمومه، من جهة أنه لا يختلف حاله في كونه مطهراً باختلاف حال من يدبغه، فلهذا لم يختلف حاله فيما يؤكل وما لا يؤكل، بخلاف الذكاة فإنها تختلف حالها باختلاف حال المُذَكِّي من كفر وإسلام، فلا جرم اختلف حالها بالإضافة إلى ما يؤكل وما لا يؤكل.
قالوا: ما طهر جلده بالدباغ طهر بالذكاة كالشاة.
قلنا: هذا لا يلزمنا وإنما يلزم الشافعي، وله أن يجيب بأن الشاة صادفت الذكاة محلها فأثرت في طهارة الجلد كالذبح في المذبح، وفي هذا لم تصادف الذكاة محلها فلم تكن مؤثرة في طهارته كالذبح في غير المذبح فافترقا، ولأن ذبح الشاة يفيد المقصود وهو حل الأكل؛ فلهذا كان مفيداً للطهارة، وهذا الذبح لا يفيد المقصود فلا جرم لم يكن مفيداً للطهارة كذبح المجوسي.
__________
(1) شدة الضرب. ا.هـ. قاموس.
فأما جلد الكلب فهل يطهر بالدبغ أم لا؟ فالذي ذهب إليه علماء العترة: أنه لا يطهر كسائر الجلود. وقد قدمنا الكلام عليه وهو رأي الشافعي، وذهب أبوحنيفة إلى طهارته بالدبغ.
والحجة على ذلك: هو أنه حيوان نجس في حال حياته، فلم يطهر جلده بالدباغ كالخنزير، أو نقول: حيوان يُغسل الإناء من ولوغه، فأشبه الخنزير، ولأنه ينجس الماء بولوغه فيه، فكيف نجعل جلده مطهرة يُتوضأ فيها؟ هذه مناقضة، وقد مضى الكلام على أهل الدباغ فلا نعيده.
مسألة: نهى رسول اللّه ً عن استعمال الآنية الذهبية والفضية في الوضوء والأكل والشرب وغير ذلك من الاستعمالات، واعتمد هذا الخبر أئمة العترة، وهو قول الفرق الثلاث: الحنفية، والشافعية، والمالكية.
والحجة على ذلك: ما روى حذيفة، قال سمعت رسول اللّه يقول: (( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة))(1). فنص على هذه الاستعمالات، ثم قسنا عليها ما عداها من سائر وجوه الاستعمالات.
وحكي عن داود: أنه لا يحرم إلا الشرب فيها، وهو إنما قال بهذه المقالة لإنكاره الأقيسة المعنوية المخيلة منها والشبهية، وعول على ظواهر الأحاديث وجمد عليها من غير تعرض لمعانيها الرائقة وأسرارها المفيدة الفائقة، ومنكرو القياس جهال لمحاسن الشريعة، عتاة عن(2) التطلع إلى دقائقها وأسرارها، قد جمدوا على ظواهر فما أحرزوها ولا وصلوا إلى غايتها، ولا رعوها حق رعايتها.
وقد حكي عن ابن سريج أنه ناظره يوماً وقال له: أنت لا تقول إلا بالظواهر.
فقال: نعم.
فقال: ما تقول في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَاً يَرَهُ }[الزلزلة:7،8]. فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين؟
__________
(1) رواه البخار ي في صحيحه، ومسلم وغيرهما بعدة روايات.
(2) في الأصل إلى.
فقال له: الذرتان ذرة وذرة، فقد اندرج تحت الظاهر.
فقال له ابن سريج: فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرة ونصف؟
فتبلَّد ولم يجب بحلوة ولا مرة، والذي أوقعه في ذلك هو إنكاره للقياس و[عدم] الاطلاع على دقائقه، والاحتواء على مكنون أسراره.
وهل يكون النهي عنها نهي تنزيه أو تحريم؟ والأقرب أنه نهي تحريم، وهو [القول] الجديد للشافعي، وقال في القديم: إنه نهي تنزيه.
والحجة على ما قلناه: ما روته أم سلمة )، عن الرسول ً أنه قال: (( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم ))(2). ويُروى: يجرجَر، بفتح الجيم على فعل ما لم يسم فاعله، وبكسرها على ما سمي فاعله، يقال: جرجر فلان الماء في حلقه، إذا جرعه جُرَعاً لها صوت، والجرجرة: حكاية ذلك الصوت، وجرجر الجمل في هديره: إذا رده في شقشقته، قال الشاعر:
وهو إذا جرجر بعد الهبّ ... جرجر في حنجرة كالجُبِّ(3)
والجب: هو دن الماء.
وهل كان تحريم استعمال الآنية الذهبية والفضية لأجل الزينة والفخر والخيلاء، أو لعين الذهب والفضة؟ فيه وجهان:
__________
(1) أم المؤمنين هند بنت حذيفة بن المغيرة المخزومية، تزوجها الرسول ً سنة 4هـ على الصحيح بعد استشهاد زوجها أبي سلمة بن عبدالأسود في أُحد، وهي من أشهر أمهات المؤمنين، وأوفرهن فضلاً وعلماً ورواية للحديث، توفيت في شوال سنة 59هـ، وصلى عليها أبو هريرة، كما نقل ابن حجر عن الواقدي. ( التهذيب ج12/483).
(2) رواه أحمد في مسنده، وجاء في سنن البيهقي وابن ماجة ومصنف عبدالرزاق بلفظ: ((إن الذي شرب)) وفي رواية البخاري ومسلم والموطأ: ((الذي يشرب...إلخ)). قال في حاشية البحر: والجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف.
(3) أورده ابن منظور في مادة جر، ونسبه إلى الأغلب العجلي يصف هدير الفحل:
وهو إذا جرجر بعد الهب… جرجر في حنجرة كالجب
وهامةٍ كالمرجل المنكب
ا هـ. لسان ج4/131
أحدهما: أن ذلك من أجل العين، وهذا هو الذي تشير إليه الظواهر الشرعية.
وثانيهما: أنه من أجل الفخر والخيلاء؛ لأن استعمالها في الأكثر إنما هو من أجل ذلك، وفائدة التوجيه الذي ذكرناه أنه لو اتخذ إبريقاً، أو طاساً من ذهب أو فضة، ثم غشاه بالرصاص أو بالنحاس.
فإن قلنا: إنه للفخر والخيلاء جاز ذلك، إذ لا فخر هناك ولا خيلاء؛ لأن الذي يبدو منه هو الرصاص والنحاس.
وإن قلنا: إنه لأجل العين لم يجز استعمال ذلك؛ لأن العين حاصلة فيه.
وإن خالف النهي وتوضأ في الآنية الذهبية والفضية كان عاصياً، ولم يحرم المأكول ولا المشروب، وصح وضوؤه؛ لأن المنع إنما كان لمعنى يعود إلى الإناء لا إلى ما فيه، بخلاف ما إذا توضأ بماء نجس أو بماء مغصوب، فإن ذلك لا يصح من جهة أن النهي راجع إلى معنى في الماء.
وإذا كان استعمالها حراماً فهل يجوز اقتناؤها أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: [أنه] يجوز، لأنه إحراز لمالٍ(1)، والشرع إنما ورد بتحريم الاستعمال، والقنية ليست استعمالاً.
وثانيهما: أنه لا يجوز، وهو المختار؛ لأن فيه نوعاً من الخيلاء والزينة، ولأن كل ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه واقتناؤه، كالملاهي، كالطنبور والمزمار والربط(2).
فأما الآنية المتخذة من غير الذهب والفضة، كالياقوت والزمرد والفيروزج والبلّور، فهي نوعان: نفيس، وغير نفيس.
فالنفيس: ما ذكرناه من هذه الأحجار، فهل يجوز استعمالها أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجوز؛ لأن فيه سرفاً وخيلاء فأشبهت الذهب والفضة.
وثانيهما: أنه يجوز؛ لأن السرف فيها غير ظاهر ولا يكاد يعرفها إلا الخواص من الناس، فلا يكون استعمالها مؤدياً إلى الفتنة والفخر.
فالأول: حكاه حرملة عن الشافعي.
والثاني: حكاه المزني. والأقرب هو الأول، لأنها في القيمة أغلى من الذهب والفضة، والفخر والخيلاء بها أكثر لا محالة.
__________
(1) في الأصل: المال.
(2) هكذا في الأصل، وفي هامش الأصل ما لفظه: هو عود الغناء.ا.هـ
وأما غير النفيس، فينظر فيه، فإن كانت صيغة نفيسة كالآنية المخروطة من الزجاج، والخشب، وأواني الصفر المنقوش، فهل يجوز استعمالها أم لا؟ فيه الوجهان اللذان ذكرناهما في الأحجار النفيسة.
وإن كانت صيغتها غير نفيسة، أو كان ذلك متخذاً من المدر جاز استعمالها واتخاذها إذا لا سرف فيها ولا خيلاء.
فأما الآنية المتخذة من العنبر والكافور والعود الرطب، ففيها الوجهان اللذان ذكرناهما في الياقوت والزمرد.
وإذا قلنا بتحريم استعمالها فهل يجوز اقتناؤها أم لا؟
والمختار: أنه لا يجوز لما فيها من الفخر والخيلاء والسرف، وكل هذه الأمور منهي عنها، فلهذا كان مكروهاً حراماً؛ لأن أصحابها والمقتنين لها ينسبون إلى التكبر والفخر والخيلاء فلهذا منع.
ويكره استعمال الآنية من النحاس والرصاص المطعمة بالذهب والفضة والمموهة بهما، والتوضؤ فيها كالإبريق، والطشت، والدواة، والمكحلة، وغير ذلك من الآلات، لما في استعمالها من الفخر والخيلاء، والتشبه بالأعاجم، والذهب أشد كراهة من الفضة، لما روي عن النبي ً أنه قال في الذهب والحرير: (( هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها ))(1). والتنزه عن جميع ذلك أفضل لقوله عليه السلام: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)). ولأن أدنى ذلك الوقوع فيما كره اللّه ورسولُه، وأعلاه الوقوع فيما حرم اللّه ورسوله، فلا حاجة إلى ما هذا حاله، ولقوله عليه السلام: (( من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ))(2).
ويكره التوضؤ من الإناء المضبب بالذهب؛ لأن الضبة تكون على شُرَفِ الإناء وربما شرب منها فيكون شارباً في آنية الذهب، ويكره التوضؤ منه لما فيه من استعماله آنية الذهب.
__________
(1) رواه البيهقي في سننه، وفي جامع المسانيد لأبي حنيفة.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى.
فإن دعت الضرورة إلى استعماله جاز ذلك، لما روي أن عرفجة بن أسعد ) أصيب أنفه يوم الكُلاب، بضم الكاف مخففاً، يوم كان للعرب، وهو ما وقعت فيه حرب عظيمة، فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه، (( فأمره الرسول ً أن يتخذ أنفاً من ذهب ))(2).
فأما التضبيب بالفضة فهو واقع على أربعة أوجه:
أولها: يكون مباحاً غير مكروه، وهو أن يكون قليلاً للحاجة تدعو إليه، وهذا نحو حلقة القدح والقصعة وضبة الشفرة، والضبة التي تكون في قائم السيف وقبيعته، وهي رأس القلة منه، لما روي أن حلقة قصعة رسول اللّه ً كانت من فضة، وقبيعة سيفه كانت من فضة.
ومعنى قولنا: لحاجة، أي أن الحاجة داعية إليها وإن كان غير الفضة يقوم مقامها من جهة أن الحاجة ربما تدعو إلى الفضة نفسها.
وثانيها: كثيرٌ للحاجة إليها، فيكون مكروهاً لكثرته، ولا يكون محرماً لأجل الحاجة إليه. وحَدُّ الكثير: أن يكون جزءاً من الإناء كاملاً من الفضة، نحو أن يكون كل أسفله أو جميع أطرافه من فضة، أو يكون جنبه من فضة، فإن كانت الفضة مستولية عليه كله فهو محرم لكونه استعمالاً لآنية الفضة فلا يجوز التوضؤ منه ولا استعماله بحال.
__________
(1) عرفجة بن أسعد بن كريب، وقيل: ابن صفوان التميمي، العطاردي، له صحبة، روى عنه ابنه طرفة، وابن ابنه عبدالرحمن بن طرفة، أنه أصيب أنفه يوم الكلاب، وفي إسناد حديثه خلاف. ا.هـ. (تهذيب ج7/159).
(2) في الاعتصام: في الشفاء خبر: وروي أن رجلاً ذهب أنفه فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه فأمره رسول اللّه ً أن يتخذ ذلك من ذهب. وروي أن اسم هذا الرجل عرفجة بن أسعد. قطع أنفه يوم الكُلاب. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن عبدالرحمن بن طرفة أن جده عرفجة بن أسعد قُطع أنفه يوم الكُلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه فأمره رسول اللّه فاتخذ أنفاً من ذهب. ا.هـ. ج4/412.
وثالثها: قليلٌ لغير حاجة، فلا يحرم لقلته ويكون مكروهاً لعدم الحاجة إليه، وهذا نحو ضبة القلم فإن ما هذا حاله قليل مستغنى عنه.
ورابعها: كثير لغير حاجة، وهذا يكون محرماً لعدم الحاجة إليه، وهذا نحو أن تكون الأعمدة التي على ظهر الدواة من فضة أو تكون الأقلام فضة، أو تكون الدواة ملبسة كلها من الفضة، فما هذا حاله يكون محرماً؛ لكونه كثيراً لا تدعو إليه حاجة ولا ضرورة.
وإن اتخذ سناً من ذهب أو فضة جاز ذلك، والذهب أولى من الفضة لما ذكرناه من حديث عرفجة، ولأنه لا يصدأ ولا يبلى، فإن قطعت أصبعه لم يجز أن يجعلها ذهباً ولا فضة لا تعمل عمل الأصبع من القبض والبسط فلم يكن فيها إلا مجرد الزينة لا غير بخلاف الأنف فإنه لا عمل لها في القبض والبسط فلهذا جاز اتخاذها، وإن قطعت أنملته جاز أن يعملها ذهباً أو فضة؛ لأنها تعمل عمل الأصبع في القبض والبسط، فافترقا.
ويستحب تغطية الآنية وإيكاء الأسقية، وإغلاق الأبواب، وتطفئة السراج عند النوم، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( خَمِّروا آنيتكم وأوكوا قِرَبِكُم )). والإيكاء: هو ربط أفواهها لئلا يهراق ما فيها من الماء أو يدخل فيه شيء من الحشرات. (( وأغلقوا أبوابكم لأن الشياطين لا تفتح باباً مغلقاً ، وأطفئوا سُرَجِكُم لأن الفُوَيْسِقَة(1). ربما جاءت فسحبت الذبالة فأحرقت البيت)). فإن وجد غطاء على الإناء وإلا عرض عليه عوداً لما روي عن النبي ً أنه قال: (( فإن لم تجد غطاء فلتعرض عليه عوداً ))(2). لأنه إذا كان كذلك هابت الحشرات أن تقربه.
__________
(1) الفأرة.
(2) عن جابر قال: قال رسول اللّه ً: ((إذا استجنح الليل (أو كان جنح الليل) فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلق بابك واذكر اسم اللّه وأطفىء مصباحك واذكر اسم الله، وخمر إناءك واذكر اسم اللّه، ولو أن تعرض عليه شيئاً، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأطفئوا المصابيح فإن الفويسقة ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت)) أخرجه الستة إلا الموطأ. وعن جابر قال: قال رسول اللّه ً: ((غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء)) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. ا.هـ. جواهر.
دقيقة: اعلم أن جميع ما أوردناه في هذا الباب من الكلام في تنجيس الماء، وإن لم يكن متغيراً، وما يجوز الوضوء به من ذلك وما لا يجوز، والكلام في تحري الآنية عند الاشتباه فيها بين النجس منها والطاهر، والكلام في الآنية التي يحرم استعمالها من أجل تنجيسها للماء وإن لم تكن مغيرة له، إنما كان على رأي كثير من أئمة العترة وأكثر فقهاء الأمة في تنجيسهم للماء وإن لم يكن متغيراً إذا كان قليلاً، فأما ما حكيناه من ظاهر كلام القاسم بن إبراهبم وهو المحكي عن مالك، ورأي الشيخ أبي حامد الغزالي وهو الذي اخترناه كما مر تقريره، فلا وجه لهذه التفريعات من جهة أن المعيار الضابط لنجاسته إنما هو تغيره لا غير، كما هو الظاهر من نصوصات الشرع وعمومات الأخبار الواردة في الماء وأنه لا يكون نجساً إلا بغلبة النجاسة عليه واستيلائها على تغيير أوصافه أو بعضها، فأما اتصال المطهرات به فلا تؤثر في تطهيره إلا إذا أزالت عنه اسم الماء كالمرق، أو كان مزيلاً لمطلق الماء عنه، نحو ماء الورد وماء الشجر وغير ذلك مما يزيل مطلق الاسم عنه، وقد فصلنا من قبل وأتينا على جميع هذه المسائل كلها وفصلناها، والله الموفق للصواب.
---
الباب الثاني: في بيان الأعيان النجسة وبيان كيفية إزالتها وحكم مجاري الاجتهاد فيها
يقال: نَجِس الشيء - بالكسر -. ينجَس.- بالفتح - مثل: علِم يعلم، والمصدر منه: نَجَساً، والاسم: النجاسة، ويقال: شيء نَجَس، مثل: حَسَن، ونَجِس مثل حَذِر، قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ}[التوبة:28]. أي: ذوو نَجَس. فوصفهم بالمصدر مبالغة في وصفهم بالنجاسة، وجمعه: أنجاس.
واعلم أن هذا الباب قد اشتمل على بيان أعيان هذه النجاسات وإيضاحها بالدلالة، وعلى كيفية إزالتها عند وقوعها، وعلى التنبيه على حكم مجرى الاجتهاد فيها. فهذه فصول ثلاثة قد اشتمل عليها هذا الباب نفصلها بمعونة اللّه تعالى.
---
الفصل الأول: في بيان أعيان هذه النجاسات
مسألة: رجيع بني آدم نجس، وهو عبارة عما يخرج من أدبارهم. والرجيع: اسم لكل ما يكون متراجعاً، وسمي المطر: رجعاً لتراجعة مرة بعد أخرى، وسميت الجرَّة: رجيعاً؛ لأنها ترجع إلى فم البعير بعد نزولها عنه، والأصل في إطلاق الرجيع أن يكون حقيقة في كل ما كان يتردد كالجرة، لكنه أطلق على ما يخرج من أدبار بني آدم على جهة المجاز؛ لأنه غير متراجع، ثم غلب حتى صار حقيقة فيه؛ لكونه سابقاً الى الفهم عند إطلاقه، كما كان في الغائط فانه يطلق حقيقة على المكان المطمئن، وعلى قضاء الحاجة على جهة المجاز، ثم غلب في قضاء الحاجة حتى صار حقيقة لسبقه إلى الفهم عند إطلاقه.
ونجاسته معلومة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يعرف فيه خلاف بينهم.
والحجة على ذلك: قوله ً لعمار رضي الله عنه(1): (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط )).وسيأتي تقرير ما يعفى وما لا يعفى عنه في باب الاستنجاء نفصله هناك بمعونة اللّه تعالى.
__________
(1) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي، ثم المذحجي، القحطاني نسباً، المخزومي حلفاً وولاءً، كان هو وأبوه وأمه سمية من السابقين الأولين إلى الإسلام، المعذبين في اللّه حتى استشهد أبواه. شهد عمار جميع المشاهد مع رسول اللّه ً، وكان مخصوصاً بالبشارة والترحيب، وهو أحد الأربعة الذين تشتاق لهم الجنة. وفي الحديث الشريف: ((اهتدوا بهدي عمار)). وقال له رسول اللّه ً: ((تقتلك الفئة الباغية)). ولاَّه عمر على الكوفة. وشهد صفين مع أمير المؤمنين واستشهد بها. (مقدمة الأزهار).
مسألة: أبوال بني آدم كلها نجسة عند أئمة العترة، صغاراً كانوا أو كباراً، طعموا الطعام أو لم يطعموه، وهو قول الكافة من الفقهاء، إلا ما حُكي عن داود فإنه قال: إن بول الغلام الذي لم يطعم طاهر، وهذا القول قد حُكي عن الشافعي في أحد قوليه، وقد بحثت عنه في كتب أصحابه فما وجدت أحداً حكاه عنه، وغالب ظني أن خلافه إنما هو في كيفية التطهير منه، وهو أنه يُرَشُّ على بول الغلام ويُغسل بول الجارية، وأما طهارة البول فلم يؤثر عنه بحال .
والحجة على نجاسته: قوله ً: (( تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ))(1). وقوله ً لعمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول)).
والحجة لداود: هو ما رواه أمير المؤمنين (كرم الله وجهه) عن النبي ً أنه قال: (( يُغسل الثوب من بول الصبية ويُنضح من بول الغلام ))(2). والنجاسة إنما تطهر بالغَسل دون النضح، فلما فرق بينهما دل ذلك على أن بول الغلام مخالف لبول الصبية، وليس ذلك إلا بكونه طاهراً؛ لأنه لوكان نجساً لفُعل به كما فُعل ببول الصبية، وفي ذلك صحة ماقاله من طهارته.
__________
(1) والحديث عن أنس، رواه الدار قطني، وراية أخرى عن ابن عباس مع تقديم وتأخير في اللفظ. رواه البزار والطبراني، وروى أحمد بن حنبل، وابن ماجة، والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((أكثر عذاب القبر من البول)).
(2) حكاه في البحر وجاء في جواهر الأخبار عن أبي السمح قال: كنت أخدم رسول اللّه ً فأتي بحسنٍ أوحسينٍ فبال على صدره فجئت أغسله فقال: ((يُغسل من بول الجارية ويُرش من بول الغلام)). أخرجه أبو داود. ا.هـ. ونحوه عن لبابة بنت الحارث. وجاء في الروض النضير: وعند الأئمة ومالك و أبي حنيفة أنه لابد من الغسل دون فرق بين الصغير والكبير والذكر والأنثى قياساً على سائر النجاسات وأولوا الحديث بالغسل غير المبالغ فيه.ا.هـ ملخصاً.
والمختار: ماعول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة من نجاسته، لما تقدم من الحجة، ونزيد هاهنا، وهو ماروي عن النبي ً أنه مر بقبرين فقال: (( إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير ، كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر كان لايستنزه من بوله))(1). ولأنه خارج من أحد سبيلي ابن آدم فكان نجساً كالسبيل الآخر.
الانتصار: قالوا: لو كان نجساً لأمر بغسله كما أمر بغسل بول الجارية.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلو كان طاهراً لكان لا حاجة إلى نضحه كما في سائر الأمور الطاهرة.
وأما ثانياً: فلأن النضح هو خفيف الغسل، فالتفرقة بينهما إنما هو في خفة النجاسة وثقلها لا في كونه طاهراً، ويجوز أن يكونا متفقين في التنجيس، وإن كان أحدهما أدخل في النجاسة من الآخر، فلاجرم نُضِحَ أحدهما وغُسل الآخر.
لا يقال: فهل يمكن أن يكون داود مخالفاً للإجماع أم لا؟
لأنا نقول: إن كان الصحابة (رضي الله عنهم) قد خاضوا في هذه المسألة، وأفتوا بعدم التفرقة بينهما، فلاشك في كونه مخالفاً للإجماع، وإن لم يكن من الصحابة ولا من جهة التابعين خوض فيها فلا وجه لكونه خارقاً للإجماع.
لا يقال: فهل يكون معدوداً من علماء الشريعة مع إنكاره للقياس، وجموده على الظواهر أو لا ينعقد إجماع من دونه؟
لأنا نقول: قد قال فريق من علماء الأمة بأن منكري القياس لايعدون من علماء الشريعة، وهم عوام بالإضافة إلى القائلين بالقياس الخائضين لغماره، المحرزين لأسراره، ولايعد خلافهم، وهذا فاسد، فإن الحق أنهم معدودون من جملة العلماء، ولاينعقد الإجماع ممن في عصرهم مع مخالفتهم، وكيف لا وقد بلغوا منصب الاجتهاد وأحرزوا علومه، ولم ينكروا إلا العمل على المعاني والأشباه في مواضع، وهذا لا يخرجهم من عدهم من جملة العلماء.
__________
(1) وهو مروي عن ابن عباس. أخرجه الستة بروايات متعددة.
مسألة: أبوال ما لا يؤكل لحمه نجسة عند عامة العلماء العترة، وهو محكي عن محمد بن الحسن وزفر والثوري، ومالك والأوزاعي، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
والحجة على ذلك: ماروي عن النبي ً أنه قال لعمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول)). ولم يفصل بين بول وبول، وما خرج عن ذلك فإنما يخرج بدليل، وهكذا بول الفأرة وبول الأوزاغ، وبول الخفاش، وبول الهر، كلها نجسة؛ ولأنه بول خارج من أحد سبيلي مالا يؤكل لحمه، فكان نجساً كبول بني آدم.
وذهب إبراهيم النخعي إلى أن جميع الأبوال كلها طاهرة في حق البهائم، وحكي عن داوُد أنه قال: الأبوال كلها طاهرة إلا بول بني آدم.
والحجة لإبراهيم: أنه بول حيوان لعابه وعرقه طاهران فكان بوله طاهراً كالحيوان الذي يؤكل لحمه.
وأما الحجة لداود: فهو أن جميع الأبوال كلها هي الأمواء التي تشربها، ولم يعرض لها إلاحصولها في أجوافها، ولم تدل دلالة على تنجسها في أجوافها، فلهذا كانت باقية على الطهارة كما لوكانت موضوعة في الآنية، وبول بني آدم خرج بالدلالة، وبقي ما عداه على أصل هذا القياس الذي قررناه.
والمختار: ماقاله علماء العترة وفقهاء الأمة من الحكم بنجاسته.
والحجة عليه: ما ذكرناه من قبل، ونزيد هاهنا، وهو أنه بول مستحيل إلى نتن خارج من حيوان لا يؤكل لحمه كالكلب والخنزير، هذا رد على إبراهيم، أو نقول: إنه بول مالا يؤكل لحمه، فوجب الحكم بنجاسته كبول بني آدم، هذا على داود، ولأن أصلها جميعاً على التقذير، أعني بول ما يؤكل لحمه ومالا يؤكل لحمه، لكنا خصصنا بول مايؤكل لحمه بدلالة شرعية نذكرها بعد هذا، فبقي ماعداه على حكم التقذير والنجاسة.
الانتصار: ليس معتمدكم فيما قلتموه سوى القياس، وقياسنا معارض لقياسكم، وترجيح قياسنا من جهة كونه دالاً على الحظر، وقياسكم دال على الإباحة، فلا جرم كان قياسنا أحوط فوجب الاعتماد عليه، ثم إنا نؤيده بالفرق، وهو أن المعنى في الأصل: أنه حيوان يؤكل لحمه فافترقا، هذا على إبراهيم، وعلى داود قال: إن الأصل أنها أمواء ودخولها في بطونها لا تنجسها.
قلنا: هذا خطأ فإنها لا تكون أبوالاً إلا بدخولها في البطون، فما ذكرتموه يؤيد الحجة ويقررها، ثم إن هذا باطل بأبوال بني آدم؛ فإنها في الأصل طاهرة؛ لكونها أمواء فسقط ما قاله.
مسألة: أبوال ما يؤكل لحمه وأرواثها طاهرة عند أئمة العترة، ومحكي عن محمد بن الحسن، وزفر، ومالك، والأوزاعي، والزهري، والنخعي.
والحجة على ذلك: ماروى زيد بن علي، عن آبائه عن النبي ً أنه قال: (( ولا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم ))(1). ولايريد بالتطهير له، إلا أنه لا حرج في استعماله وإصابة الأثواب له ولا معنى له سوى ذلك.
__________
(1) جاء في الروض: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن عمر بن موسى، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام عن النبي ً قال: ((لا بأس بأبوال الإبل والبقر والغنم وكل شيء يؤكل لحمه إذا أصاب ثوبك)). وهو مروي من عدة طرق. رواه في شرح التجريد وفي أمالي أحمد بن عيسى.
والحجة الثانية: ما روى البراء بن عازب ) عن رسول الله ً أنه قال: (( ما أُكل لحمه فلا بأس ببوله ))(2).
الحجة الثالثة: ماروى عبدالله بن الحسن ) عن النبى ً أنه قال: (( كل شيء يجتر فلحمه حلال ولعابه وسؤره وبوله حلال))(4). ومعنى كونه حلالاً أنها طاهرة.
وحُكي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف أنها نجسة، وهو محكي عن ابن عمر، فأما الشافعي فالظاهر من قوله أنها كلها نجسة، وحكى بعض أصحابه: طهارتها.
والحجة لهم على ماقالوه: قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيْكُمْ مِمَّا فِي بُطُوْنِهَا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنَاً خَالِصَاً سَائِغَاً لِلشَّارِبِيْنَ}[النحل:66].
ووجه الحجة: هو أن الله تعالى امتن علينا بأن أخرج لبناً طاهراً من بين نجسين، الفرث والدم.
__________
(1) أبو عمارة البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري، صحابي جليل، لم يشهد بدراً لصغر سنه، روى كثيراً من الأحاديث، كان مع علي في الجمل وصفين والنهروان. مات بالكوفة عام 71هـ. (در السحابة 756).
(2) حكاه في البحر وأصول الأحكام والشفاء من حديث جابر ومن حديث البراء بن عازب، وقال في جواهر الأخبار: إنه عزاه في التلخيص إلى الدارقطني ثم قال: وإسناد كل منهما ضعيف جداً. ا.هـ. وزاد في الروض: لا تقوم بهما الحجة.
(3) يظهر أن المقصود هو عبدالله بن الحسن المعروف بالكامل، وهو عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، من أشهر علماء أهل البيت في عصره، وعرف بلقب الكامل؛ لما اجتمع فيه من صفات الكمال من علم وعبادة وزهد وجود وعقل ورأي، حبسه أبو جعفر المنصور مع إخوته سنة 144هـ في سرداب تحت الأرض حتى توفي سنة 145هـ. راجع الفلك الدوار، وطبقات الزيدية، وتاريخ الإسلام، وتاريخ بغداد، ومقاتل الطالبيين. ا.هـ. فلك (بتصرف).
(4) حكاه في البحر والشفاء والاعتصام.
والمختار: ماقاله علماء العترة ومن وافقهم لما ذكروه من الحجج ونزيد ههنا حججاً [ثلاثاً]:
الحجة الأولى: ماروي عن النبي ً (( أنه طاف على جمل بالبيت)) ، فلولا أن بوله وروثه طاهران لما طاف عليه مخافة أن ينجس المسجد.
الحجة الثانية: ماروى أنس بن مالك أن أناساً من عرينة قدموا على الرسول ً فقال لهم: (( اخرجوا إلى إبل الصدقة فاشربوا من أبوالها وألبانها ))(1). لأجل ما أصابهم من الوباء، فلو كان نجساً لما أمرهم بشربه.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنه مائع خارج على جهة الاعتياد من مخرج معتاد من حيوان يؤكل لحمه، فوجب الحكم بطهارته كاللبن، أو خارج من حيوان يؤكل لحمه فوجب أن يكون طاهراً كاللعاب والعرق.
الانتصار: قالوا: الآية دالة على ما نقوله.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه ليس في الآية ما يُشعر بالطهارة والتنجيس فضلاً عن أن يقال: إنها دالة على ما تَدَّعونه من النجاسة، وإنما هي دالة على مطلق الامتنان لا غير، فما برهانكم على ما تقولونه؟
وأما ثانياً: فلأن الامتنان حاصل بأن الله أخرج لنا لبناً خالصاً سائغاً للشاربين من بين أمرين كل واحد منهما لايصلح أن يكون شراباً، وهما الفرث والدم.
__________
(1) أخرجه الستة إلا الموطأ. والرواية: أن أناساً من عرينة اجتووا المدينة بمعنى: استوخموها. وقال في الروض: بأن هذا الحديث مدفوع بأنه محمول على التداوي أو منسوخ بالنهي عن المثلة.
ثم نقول: لو استدللنا بهذه الآية على الطهارة لكنا أسعد حالاً منكم، وبيانه: أن الله تعالى وسَّط اللبن، بين الفرث والدم، وساق الآية على جهة الامتنان، وتعظيم القدرة الباهرة، بأن أخرج هذا اللبن الخالص من هذين الأمرين اللذين هما في غاية البعد من الغذاء وقوام الأجسام، فاقتران اللبن بهما فيه دلالة على طهارتهما؛ لأن الشيء إنما يقترن بمثله وجنسه، وهذه الطريقه لانرتضيها، خلا أن فيها غرضاً، وهو معارضة الركيك بمثله في الركة والضعف، وهذا مثل استدلال الشافعي على وجوب الترتيب في الوضوء، أن الله تعالى قد وَسَّطَ ممسوحاً بين مغسولين، فدل على مراعاة الترتيب، فهكذا نقول: وسّط اللبن بين الفرث والدم، فدل على كونهما مثله في الطهارة، ولم أعرف أحداً من أصحاب الشافعي استدل بهذه الآية على ما ذكرناه سوى العمراني صاحب (البيان)، فلهذا أوردناها.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( تنزهوا عن البول )). وقوله لعمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول)). وقوله ً: (( أكثر عذاب القبر من البول )). فلفظة البول عامة لكونها جنساً فتكون مستغرقة لجميع الأبوال، وهذا هو مقصودنا.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن اللام هذه للجنس، وإنما هي منصرفة إلى العهد؛ لأن المعهود في هذه الأحاديث إنما هو بول بني آدم فيجب صرفه إليه لأن الواحد إذا قال: فلان لايستنزه من البول، فإنما يعني بول نفسه فهو السابق إلى الفهم فيجب حمله عليه.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا كونه جنساً لكنا نبني العام فيه على الخاص فيخرج بأحاديثنا بول ما يؤكل لحمه، وتبقى أبوال ما لا يؤكل لحمه داخلة تحت هذا العموم؛ فيكون عملاً بالعام في عمومه، والخاص في خصوصه، وهذه طريقة مرضية بين الفقهاء والأصوليين؛ لأن فيها عملاً بالدليلين جميعاً.
قالوا: أخبارنا حاظرة، وأخباركم مبيحة، فيجب العمل على أخبارنا لكونها أحوط في المنع.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه إنما يترجح الحاظر على المبيح إذا كانا مستويين في كونهما عامين أو خاصين، فإذا اختص أحدهما بالحظر كان راجحاً لا محالة، فإذا كان أحدهما عاماً، والآخر خاصاً فإن الحكم للمخصص لا محالة؛ لأن في ذلك عملاً عليهما جميعاً بهذه الطريقة، وفي العمل على الحاظر إسقاط المبيح بلا مزية، فلهذا كان العمل على المخصص أحق وأولى.
وأما ثانياً: فلأن في العمل على المبيح تخفيفاً وتيسيراً ورفع الجناح، وقد قال الله تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185].
قالوا: بول مستحيل إلى نتن، وفساد وقذر فأشبه بول بني آدم.
قلنا: هذا فاسد لأمور ثلاثة:
أما أولاً: فبالفرق وهو أن بول ما يؤكل لحمه إنما كان طاهراً من جهة أن لبنه طاهر، وبول ما لا يؤكل لحمه نجس لما كان لبنه نجساً فافترقا.
وأما ثانياً: فبالنقض على أبي حنيفة بذرق الحمام وسباع الطير، فإنها طاهرة مع كونها قذرة ومستحيلة إلى نتن وفساد، وعلى الشافعي بالمني، فإنه مستحيل إلى نتن وفساد ومع ذلك فإنه قضى بطهارته.
وأما ثالثاً: فمن جهة القلب للعلة، وهو أنا نقول: إذا قالوا: بول مستحيل فكان نجساً.
قلنا: حيوان فاستوى بوله ولبنه، وهذا من القلب المبهم، وهو مفسد للعلة فيبطل ماتوهموه.
فأما أبوال الضفادع ففيه ثلاثة أوجه:
أولها: أنه يكون نجساً، وهذا هو رأي المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: هو أنه حيوان لا يؤكل لحمه فكان بوله نجساً كبول بني آدم، وهذا رأي أكثر الفقهاء أبي حنيفة والشافعي.
وثانيها: أن بولها طاهر، وهذا هو الذي ذكره السيد أبوطالب.
والحجة على ذلك: هو أنه حيوان لايعيش إلا في الماء فأشبه السمك في ذلك.
وثالثها: أنه مكروه، وهذا هو الذى حصله السيد المؤيد بالله من مذهب الهادي.
والحجة على ذلك: هو أن البول معتبر باللحم عنده، فإذا كان يُكره لحمه فبوله مكروه، حملاً لأحدهما على الآخر.
والمختار: الحكم بنجاسة بولها؛ لأنها ليست سمكاً لمخالفتها له في الهيئة والصورة، وبولها وإن كان نجساً، فلاينجس به الماء إذا كان قليلاً؛ لأنه مما يتعذر الاحتراز منه فعفي عنه. هذا على رأي من ينجس القليل من غير تغيير، فأما على ما اخترناه من عدم نجاسة الماء القليل بالنجاسة إذا لم تغيره فهو غير مغير له، فلا ينجسه بحال.
مسألة: ما لا يؤكل لحمه إما لحرمته كابن آدم، وإما لنجاسته كالكلب والخنزير، وإما لمنع الشرع منه كالسباع، فأما أرواث بني آدم فقد قدمنا الحجة على نجاستها فلا وجه للاعادة، وأما غيرهم ممن ذكرنا فهي نجسة عند أئمة العترة، وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ماروى عبدالله بن مسعود (رضي الله عنه) أن الرسول ً التمس منه أحجاراً ليستجمر بها، فأتاه بحجرين وروثة، فألقى الرسول ً الروثة، وقال: (( إنها ركس ))(1). والركس: النجس.
الحجه الثانية: من جهة القياس، وهو أنه روث ما لا يؤكل لحمه فكان نجساً كروث بني آدم. أو نقول: هو أن كل ما خرج من الآدمى وجب القضاء بنجاسته؛ فإنه اذا خرج من البهائم التي لا يؤكل لحمها فهو نجس كالدم، أو لأنه خارج من مسلك معتاد في سبيل ما لا يؤكل لحمه فكان نجساً كالآدمى.
فأما إبراهيم النخعي فلم يعرف له قول في طهارة أرواث ما لا يؤكل لحمه، وإنما يحكى الخلاف في طهارتها عن داود، وقد قدمنا الكلام جميعاً في طهارة الأبوال والأرواث فأغنى عن تكريره.
والمختار: ماقاله علماء العترة ومن تابعهم من الفقهاء.
__________
(1) أخرجه البخاري والترمذي والنسائي. وجاء في حاشية جواهر الأخبار (للعلامة محمد بن يحيى بهران) ما لفظه: قال في النهاية: إنها ركس، هو تشبيه المعنى بالرجيع، يقال: ركست الشيء وأركسته، إذا رددته وأرجعته.ا.هـ.
والحجة على ذلك: هو ما تضمن من الاستقذار والنتن فأشبه رجيع بني آدم، وقد قررنا كل ما بهما في الانتصار في المسألة الأولى، فأغنى عن الإعادة.
وهل يكون ذرق الدجاج، والبط، والأوز، طاهراً أو نجساً ؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه نجس، وهذا هو الذي عول عليه أكثر علماء العترة: الناصر، والهادى، والمؤيد بالله، وإحدى الروايتين عن القاسم، وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه طعام أحالته الطبيعه والمعدة، فيجب القضاء بنجاسته كالذي يخرج من بني آدم، أو نقول: متغير اللون والرائحه، فيكون نجساً كالعذرة.
المذهب الثاني: أنه يكون طاهراً في نفسه، إلا أن يكون مختلطاً بشيء، فانه يكون نجساً لما خالطه لا من جهة نفسه.
والحجة على ذلك: هو أن لحمه مأكول، فكان ما يخرج منه طاهراً كالبقر والغنم؛ لأن الخارج معتبر باللحم كما أشار اليه الشرع بقوله: (( ما أكل لحمه فسؤره وبوله حلال )).
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العتره من القول بنجاسته لما في الخارج من الديكة، والدجاج، والبط، والطاووس، والأوز من القذر المشبه في لونه وريحه ورقته، لما يخرج من أدبار بني آدم، فلهذا قضينا بنجاسته.
الانتصار: قالوا: قد تقرر في قواعد الشرع وتمهد في مطالبه، أن الخارج معتبر باللحم، فاذا كان اللحم حلالاً فالخارج طاهر لا محالة كما في الحيوانات المأكولة كلها، فإن جميع مايخرج منها طاهر، فلهذا وجب أن تكون هذه الحيوانات مردودة إلى هذه القاعدة في طهارة ما يخرج منها.
قلنا: هذه القاعدة لا ننكرها، لكنه عرض ماهو أخص منها، وهي المشابهة لما يخرج من هذا الحيوان لما يخرج من بني آدم في تلك الخصال التي ذكرناها، فلاجرم كان العمل على حكم المشابهه، أخص وأولى لا محالة.
ومن وجه آخر: وهو أن العمل على نجاستها هو الأحوط في الطهارة، وأبعد عن التلوث بالقاذورات مع ما أشار إليه الشرع من البعد عن ذلك حيث قال عليه السلام: (( إن الله نظيف يحب النظافة وجميل يحب الجمال ))(1).
قالوا: لو كان نجساً لَنُزه منه المسجد الحرام وسائر الجوامع العظام، فإن ذرق الحمام وغيرها من الطيور المأكولة حاصلة في المساجد، ولم يحكم بنجاستها، وفي ذلك دلالة على ما قلناه من كونها طاهرة.
قلنا: إنما لم تنزه منه المساجد والجوامع العظام لتعذر الاحتراز منها، وما تعذرالاحتراز منه رفع حكمه فى النجاسة كالأفواه، وغبار السرقين(2) في الطرقات وغير ذلك، وأيضاً فإن لم تكن المساجد منزهة لما ذكرناه من التعذر، وجب تنزيه اللباس والأبدان عن ذرقها؛ لكونه ممكناً، وفي هذا دلالة على كونه نجساً.
قالوا: كل ما استحال إلى غير نتن وقذر وجب الحكم بطهارته كالذي يخرج من النحل من العسل.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لانسلم قياسهم على النحل فإنه قد قيل: إنها تعسل من أفواهها، وقيل: إن الأمر في أمرها مبهم من الله تعالى فلا ندري كنه حالها في ذلك ولانعرف حقيقتة، ولهذا روي أن سليمان بن داود عليه السلام أراد أن يعرف حقيقة أمرها في العسل هل يخرج من أفواهها أو من أدبارها، فاتخذ آنية من زجاج، وجعلها فيها لرقتها فيعرف حقيقة الأمر فيها، فلطخت وجه الآنية بطين حتى أنه لم يعرف كيف تعسل العسل، فلا يصح الرد إليها.
__________
(1) حكاه في الدرر للسيوطي، والمشهور: ((إن اللّه جميل يحب الجمال)). رواه أحمد بن حنبل، والطبراني، والهيثمي.
(2) الأرواث اليابسة.
وأما ثانياً: فلا نسلم أن ما يخرج منها لا يستحيل إلى غير نتن، بل القذر والنتن ملازم لما يخرج منها، ويعرف ذلك من خبر حالها في أبراج الحمام وأماكن الدجاج التي تبيت فيها، فإن القذر فيها مستحكم في الرائحة الخبيثة والنتن الظاهر، وتقذيرها للأماكن الطاهرة مما لا يخفى حاله، فحصل من مجموع ماذكرناه: أن قياسها على النحل غير صحيح لما ذكرناه من جهة أن العسل طيب خروجه من أفواهها فهو كالريق في طهارته وطيبه، وهذه الذروق كلها خارجة من الأدبار، فأشبهت رجيع بني آدم، فبطل ماتوهموه.
مسألة: ذرق سباع الطير كالبازي والشَّاهين والصقر وغير ذلك، نجس عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنها حيوانات لا يؤكل لحمها، فوجب أن تكون ذروقها نجسة كالآدمي، أو نقول: حيوان يستحيل ذرقه الى قذر ونتن فكان نجساً كالرجيع، أو خارج من سبيل ما لا يؤكل لحمه، فكان نجساً كالغائط، وإلى هذا ذهب محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة.
وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنها لاتفسد شيئاً، ولو كان فاحشاً كثيراً، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: من صلى وعلى ثوبه ذرق من سباع الطير التي لا يؤكل لحمها وهو أكبر من قدر الدرهم فإنها تجزئه ولاتلزمه إعادتها.
والحجه على ذلك: ما يُعلم من مطرد العادة من حصول ذرقها في الأماكن الطاهرة كالجوامع والمساجد، ولم يعلم أن أحداً من العلماء في الأمصار والأقاليم أمر بتطهير المساجد والجوامع من ذرقها ولا أنكره، وفي هذا دلالة على أنها طاهرة، وقد قال عليه السلام: (( مارآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )). وهذا كاف في كونها طاهرة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة، ومن وافقهم من فقهاء الأمة من القول بنجاسته.
والحجة على ذلك: هو أنها ذروق أحالتها الطبيعة في البطون، فوجب القضاء بنجاستها، دليله: العذرة، أو نقول: ذروق خبيثة في اللون والرائحة فكانت نجسة كالغائط الذي يخرج من بني آدم.
الانتصار: قالوا: اطَّرد في العادة أن العلماء لم يأمروا بغسل المساجد من ذرقها مع علمهم بوقوعها فيها.
قلنا: إنما لم يأمروا فيها بالغسل ليس من أجل ظنهم بطهارتها، ولكن من جهة عموم البلوى بها؛ فإنها لا يمكن الاحتراز منها، فلما تعذر الاحتراز منها اغتفر الشرع نجاستها، فهذا هو السبب المانع من أمرهم بغسلها لا من جهة الحكم بكونها طاهرة، ثم نقول: إنا لا نُسَلِّم أيضاً أنهم ساكتون عن غسل ما تفاحش من ذلك، وإنما السكوت عما كان قليلاً يتعذر الاحتراز منه، فأما ماكان كثيراً فلا يسقط الشرع حكمه ويجب غسله فافترقا، والسيد أبوطالب وإن كان قد قال في ذرق الدجاج والبط ما قال من طهارته إذا لم يكن مخالطاً للنجاسة، فإنه لا يخالف هاهنا في نجاسة ذرق سباع الطير، وهكذا إحدى الروايتين عن القاسم في ذرق الحمام وغيرها، فإنه لا يخالف هاهنا أيضاً في النجاسة؛ لأن لحومها غير مأكولة عنده، فهما لا يخالفان في نجاسة ما يخرج منها.
والانتصار عليهم فيما يوردون من الكلمات الدالة على ذرق الدجاج، يعود هاهنا، وقد أبطلناه فلا حاجة إلى تكريره، والله أعلم بالصواب.
مسألة: والدماء الخارجة من الكلب والخنزير والميتة والكافر، كلها نجسة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وغيرهم من العلماء قليله وكثيره، ولا يعرف فيه خلاف من جهة الصدر الأول من الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) وإنما يحكى الخلاف عن بعض الفقهاء سنذكر مقالته، ونظهر فسادها بمعونة الله تعالى.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ}[المائدة:3]. فهذا عام، وقوله ً في حديث عمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والدم))، ولم يفصل بين دم ودم، فيجب القضاء بنجاسة كل دم إلا ما خصته دلالة على حياله، ولأن الدم كاف في كونه نجساً؛ فكيف إذا كان متصلاً بهذه النجاسات، أعني: كونه كلباً وخنزيراً وميتة وكفراً، فهذه كلها مزيدة قوة في النجاسة لامحالة.
وهل يكون دم السمك طاهراً أو نجساً ؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه طاهر، وهذا هوا المحكي عن السيدين أبي العباس وأبي طالب وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن.
والحجة على ذلك: هو أنه يؤكل بدمه، فوجب الحكم عليه بالطهارة كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح؛ فإنها لما كانت تؤكل بدمائها دل على طهارتها.
الحجة الثانية: أنه لاينجس الماء بموته فلو كان دمه نجساً لكان ينجس الماء بموته كالشاة وغيرها.
المذهب الثاني: أنه يكون نجساً، وهذا هو رأى المؤيد بالله وهو قول (ف) وأحد قولي الشافعي وقوله الآخر: أنه طاهر.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ }[المائدة:3]. وحديث عمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والدم)). فهاتان دلالتان على العموم لا يخرج عنهما خارج إلاَّ بدلالة.
والمختار: ماقاله المؤيد بالله ومن وافقه في كونه نجساً ويدل عليه ماقدمنا ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: قوله تعالى:{أَوْ دَمَاً مَس ْفُوْحَاً }[الأنعام:145]. وهذا من جملة الدماء المسفوحة؛ لأنا لا نريد بالمسفوح إلا ما كان سائلاً، وهذا مختص بالسيلان لا محالة فيجب الحكم بتنجيسه.
الحجة الثانية: أنا نقول حيوان له دم سائل، فوجب كونه نجساً كسائر الحيوانات كلها، أو نقول: دم سائل، فأشبه ما يسيل من الدماء.
الانتصار: قالوا: يؤكل بدمه، فكان طاهراً كالعروق الباقية(1).
قلنا: هذا فاسد، فإنا لا نسلم أن فيه دماً عند موته، فيقال: إنه يؤكل بدمه، ولكنه يذهب، ولو كان فيه دم لكان نجساً كدم الميتة من الحيوانات، ولكن لما دل الشرع على أنه لاذكاة له فلهذا حكمنا بطهارته، وإن كان ميتاً لأجل نص الشرع عليه، ولكن كلامنا في الدماء اذا كان سافحاً منه، ما يكون حكمه؟
قالوا: لا ينجس الماء بموته.
قلنا: إنما لم ينجس الماء بموته لما كان لا ذكاة له؛ فلهذا لم يكن ميتة بخلاف غيره من الحيوانات فإن له ذكاة في الحلق والنحر، فاذا لم يحصل واحد منهما فهو ميتة، فلا جرم نجس الماء بموته فافترقا.
قالوا: جزء من أجزاء السمك فكان طاهراً كاللحم.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن ما يحكم بطهارته من السمك فهو مأكول بدليل قوله ً: (( أحل لنا ميتتان ودمان ))(2). فالميتتان: السمك والجراد، والذى يؤكل هو لحمه دون دمه، فلهذا لم يكن طاهراً.
وأما ثانياً: فبالفرق، وهو أن المعنى في الأصل، هو كونه مما يُدخر ويُقتات بخلاف الدم فإنه لا يدخر ولا يقتات فلا يكون طاهراً.
قالوا: لو كان دمه نجساً لم يحل حتى يسفحه سافح كالشاة، فلما لم يحتج في حل أكله إلى سافح دل على طهارته.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن حاجة الشاة إلى ذبحها ليسفح دمها من أجل نجاستة فيلزم ما قالوه، وإنما كان ذلك لأجل الاستعجال لإزهاق الروح، والسمك يموت بإخراجه من الماء، فلهذا لم يكن محتاجاً إلى سفح سافح.
__________
(1) أي: كالدم الباقي في العروق بعد الذبح.
(2) رواه ابن حبان بلفظ: ((أحل لكم ميتتان ودمان)) وفي سنن الدار قطني بلفظ: ((أحل لنا من الدم دمان...إلخ)). وعزاه في أطراف الحديث إلى تاريخ بغداد للخطيب، والضعفاء للعقيلي بلفظ: ((أحل لنا من الميتة ميتتان...إلخ)).
وأما ثانياً: فلو كان طهارتها من أجل سفح الدم، لكان يلزم أنه لو ذبحها من غير منحرها أن تكون حلالاً، والأمر على خلاف ذلك، فسقط ماتعلقوا به، وصح أن دم السمك نجس؛ لكونه سافحاً سواء كان سائلاً قبل موته أو بعده.
مسألة: البق والبراغيث والكتان، حيوانات لَدَّاغة للجسم تقع على الأجسام فتمص الدم بمناقيرها وتمتلي أكراشها منه، فأما ما يخرج من أدبارها، فلا يقع خلاف بين العلماء في طهارته؛ لكونه ذرقاً خارجاً عن صفة الدم في لونه وغلظه، وإنما تردد الفقهاء وخلافهم إذا قصعت بعد مصها [للدم]، فهل يكون ما يخرج منها من الدم طاهراً أو نجساً فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه طاهر، وهذا هو المحكي عن السيدين أبي العباس وأبي طالب، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: من جهة القياس، وهو أنه ليس بدم سائل فوجب الحكم بطهارته كالدم الذى يبقى في العروق بعد الذبح، أو نقول: إنه غير سافح، فوجب أن لا يحكم بنجاسته كالكبد والطحال؛ فإنهما في الأصل دمان، بدليل قوله ً: (( أحل لنا ميتتان ودمان)). فأما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال، فسماهما دماً؛ لأن أصلهما من الدم، لكنه انعقد وصار جامداً على هذه الكيفية، أو نقول: قد إتفقنا على أن موته في الماء لاينجسه فلو كان دمه نجساً لنجسه كالشاه لما كان دمها سائلاً فإنها تنجس الماء بموتها فيه. فهذه حجج مناسبة تدل على طهارته.
المذهب الثاني: أنها نجسة. وهذا هو المحكي عن الشافعي، فأما المؤيد بالله فلم يختلف قوله في دم البق أنه نجس إذا كان سافحاً، وأما دم البراغيث فقال أولاً: إنه يكون نجساً. وقال آخراً: إنه يكون طاهراً.
والحجة للمؤيد بالله والشافعي في نجاسة البق قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ}[المائدة:3]. وهذا عام في جميع الدماء إلا ماخرج عنه بدلالة، ولأنه دم سائل فوجب أن يكون نجساً، دليله: دم سائر الحيوانات السافحة، أو نقول: حيوان له دم سائل فوجب القضاء بنجاسته، دليله: جميع الدماء السافحة. فأما تردد المؤيد بالله في البراغيث فوجه الحكم بنجاسته: هو أنه دم فأشبه سائر الدماء السائلة، ووجه كونه طاهراً: هو أنه قد خرج بكونه في أكراشها عن صفة الدم، فلهذا لم يكن نجساً.
فأما الكُتَان فلم يذكروه وأظنه غير واقع في ديارهم، وهو في معنى البق؛ لأنه يغرس منقارهُ في الجسم ويمص الدم حتى يملأ كرشه، وله لدغ شديد أشد من لدغ البق والبراغيث، وضرره أعظم في الإيلام والأذيَّة، فلهذا كان الخلاف فيها واحداً، فهذا تقرير هذه المذاهب بأدلتها.
والمختار هاهنا: تفصيل نشير إليه، وتقريره أنا نقول: إن الشرع قد ورد دالاً على نجاسة الدم على جهة العموم والإطلاق كقوله تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ }[النحل:115]. إلى غير ذلك من الآيات المطلقة. وكالحديث الوارد من طريق عمار وهو قوله: (( إنما تغسل ثوبك من الدم )). إلى غير ذلك من الأخبار، وورد أيضاً نجاسته على جهة التقييد، كقوله تعالى: {أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. فقيد نجاسته بالسفح ولم يطلقه، فإذا كان الأمر فيه كما قررناه وجب الجمع بين الأدلة، وحمل المطلق على المقيد، فلا ينجس من الدم إلا ما كان سافحاً، والسفح: الصب، من قولهم: سفح الماء إذا صبه، وسفح الدم إذا سفكه، وأقل السفح ما جاوز محله؛ لأنه يكون سافحاً لا محالة، فخرج من هذا ما كان على حد رؤوس الإبر وحب الخردل، ولا يحرم أكله إلا ماكان كذلك(1). فيخرج عن هذا الدم الذى يبقى في العروق بعد الذبح وعلى الحلقوم عند الذبح، وعلى هذا يكون المعيار الضابط في الطهارة والتنجيس وحل الأكل وتحريمه، إنما هو السيلان كما أشار إليه الشرع، وفيه وفاء بالجمع بين الأدلة والعمل بها، ويؤيد هذا الاختيار، ماروى زيد بن علي عن آبائه ٍ عن أمير المؤمنين (كرم الله وجهه) أنه قال: خرجت مع رسول الله ً(( وقد تطهر للصلاة فأمس إبهامه أنفه فإذا هو قد رأى دماً فأعادها أخرى فلم يرَ شيئاً وجف في إبهامه، فأهوى بيده إلى الأرض فمسحها ولم يحدث وضوء اً ومضى إلى الصلاة))(2). فهذا فيه دلالة على أنه إذا كان غير سافح لم ينجس وأن ما دون السفح يكون يسيراً يعفى عنه، ولهذا فإنه ً لم يغسل يده ولا أنفه من ذلك الدم فدل على طهارته، ولأنه لما تعذر الاحتراز منه رفع الشرع حكمه كما رفع كثيراً من النجاسات لما تعذر الاحتراز منها.
__________
(1) أي: سافحا.
(2) في جواهر الأخبار ومجموع الإمام زيد والشفاء.
الانتصار: يكون على من قال: إنه طاهر على الإطلاق، وعلى من قال: إنه نجس على الإطلاق، فهذان فريقان:
الفريق الأول: من قال: بطهارته مطلقاً، كالسيدين: أبي العباس وأبي طالب، وأبي حنيفة.
قالوا: دم غير مسفوح فأشبه الكبد والطحال في طهارتهما.
قلنا: هذا هو الذي نرتضيه مذهباً، أعني اشتراط السفح لنجاسته كما مر تقريره، وهو يرد إبطالاً لما ذهب إليه الشافعي من نجاسته وإن لم يكن سافحاً.
قالوا: حيوان لا ينجس الماء بموته فكان دمه طاهراً كالسمك.
قلنا: إن عنيتم أنه طاهر وإن سفح فهذا لا نسلمه، وقد قررنا الكلام في نجاسة دم السمك لما كان سافحاً، وإن عنيتم أنه إذا كان غير سافح فهو طاهر، فهذا هو مرادنا ولا ننكره.
قالوا: حيوان تعظم البلوى به فرفع الشرع حكمه في النجاسة كالهر.
قلنا: إنما تعظم البلوى بوقوعه في الطعام والشراب، فأما قصع دمه فى الثوب فلا يرفع الشرع حكمه إذا كان سائلاً، فحصل من ذلك أنه إذا كان سافحاً وجب غسله من الثوب؛ لأنه يكون نجساً، ولا يرفع الشرع حكمه، وإن كان غير سافح فقد رفع الشرع حكمه بالقلة فبطل الحكم على دمه بالطهارة بالإطلاق كما أردناه، والله أعلم.
الفريق الثاني: الذين قالوا: بنجاسته على الإطلاق كما [هو] محكي عن الشافعي وأصحابه.
قالوا: حيوان فكان دمه نجساً كالشاة والبقرة.
قلنا: تعنون بكونه نجساً إذا لم يسل أو إذا كان سائلاً؟ فالأول: ممنوع لانسلمه: لأنه إذا كان غير سائل فهو غير سافح، والتنجيس إنما يتعلق بنص الشرع بالسافح، والثاني: مُسَلَّم ولا يضرنا؛ لأن ما دون السفح فهو طاهر عندنا، وأيضاً فإنه لا فرج لكم في التعلق بالشاة والبقرة، فإن دمهما سافح باتفاق بيننا وبينكم وهو نجس باتفاق، وإنما كلامنا إنما هو في غير السافح كالبق والبراغيث، فإذن الخلاف يرتد في كونها عند قصعها دماؤها سافحة أو غير سافحة، فإن كانت سافحة فهي نجس بلا مرية ولا تردد منا ومنكم، وإن كانت غير سافحة فهي طاهرة، لكنا نقول: إن دماء هذه الحيوانات غير سافحة فهي طاهرة، وأنتم تزعمون أنها سافحة وأنها نجس، فإذن الخلاف مردود إلى ماذكرناه. والله أعلم.
قالوا: دم فوجب أن يكون نجساً كما لو كان سائلاً.
قلنا : المعنى في الأصل كونه سائلاً، فالسيلان وصف في العلة التي للنجاسة فلا ينبغي إهمالها وهو الأصل في التنجيس كما سبق تقريره. فأما السيد الامام المؤيد بالله، فلم يختلف قوله في نجاسة دم البق لما كان سافحاً، وإنما اختلف كلامه في البراغيث، فمرة قال: بأنها طاهرة، ومرة قال: بأنها نجسة، وكلامه في تردد نظره إنما تعويله على السفح وعدمه، فحيث كان السفح حاصلاً فالنجاسة متحققة، وحيث عدم السفح فالطهارة متيقنة، وحيث جاز عدمها ووجودها فالتردد واقع، فعلى قدر ما يغلب من الظن عن الأمارة الشرعية يكون الحكم فيها كما في غيرها من المسائل الخلافية والأنظار الفقهية.
مسألة: ودم الأوزاغ والحَلَم وما يكون في معناها في الخلقة والصورة، نجس عند أئمة العترة، وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
والحجة على ذلك: هو أن هذه الحيوانات كلها دماؤها سافحة والسافح نجس. وإنما قلنا: إن ما هذا حاله من الحيوانات فدماؤها سافحة فهذا ظاهر، فإنا لا نعني بالسفح إلا ماكان سائلاً ودماؤها سائلة عند قتلها وجرحها، وإنما قلنا: إن كل ماكان سائلا فهو نجس، فهذا هو قول أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يختلفون في ذلك، أعني أن كل ماكان سائلاً سافحاً من الدماء فهو نجس، ويدل على ذلك حجج [ثلاث]:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ مَيْتَةً أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. وأقل السفح هو السيلان كما مر تقريره. وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}[المائدة:3].
الحجة الثانية: حديث عمار وهو قوله ً: (( إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والدم )).
والحجة الثالثة: القياس على دم الحيض بجامع كونه دماً سائلاً فوجب القضاء بنجاسته كدم الحيض فإنه لا خلاف يؤثر في نجاسة دم الحيض وإنما يؤثر الخلاف في غيره من الدماء مما يكون سائلاً منها، هل يكون طاهراً أو نجساً؟
وحكي عن الحسن بن صالح: أن جميع الدماء السافحة كلها طاهرة إلا دم الحيض، فلم يستثن من الدماء إلا ماذكرناه من دم الحيض لاغير، والحسن هذا كان له تقدم وفهم وإليه تنسب فرقة من الزيدية يقال لها: الصالحية، وهم مخالفون للجارودية من جهة أن الجارودية لا يحسنون الظن في أبي بكر وعمر، والصالحية يتولو نهما ويقولون بإمامتهما، والحسن هذا هو صهر عيسى بن زيد ). هربا من المهدي ) وطلبهما فلم يقدر عليهما وماتا بالكوفة (رحمهما الله تعالى).
والحجة له على ما قاله، هو أن الدم خارج أعماق البدن، فلم يكن نجساً كالريق والدمع والعرق، وغيرها من الفضلات.
والمختار: ماعول عليه أئمة العترة، وفقهاء الأمة من الصحابة والتابعين.
والحجة لهم: ما أوردناه لهم على نجاسته، ونزيده ههنا، وهو أن الاجماع منعقد من جهة الصدر الأول ومن بعدهم من التابعين إلى زمن الحسن بن صالح، أن ما كان من الدماء سائلاً فإنه يكون نجساً لا محالة، فما خالف هذا الإجماع وجب القضاء ببطلانه وفساده.
__________
(1) الإمام عيسى بن زيدبن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو يحيى، كان وصي إبراهيم قتيل باخمراء، وطلبه أبو جعفر المنصور، فاختفى إلى أن مات، وسُمي: مؤتم الأشبال؛ لأنه قتل أسداً وأيتم أشباله. خرج مع محمد بن عبدالله النفس الزكية، ومع أخيه إبراهيم، وكان حامل رايته، واستتر أيام المنصور والمهدي والهادي، ومات في أيامه، وهو والد الإمام أحمد بن عيسى بن زيد صاحب الهادي. قال أبو فرج الأصبهاني: كان عيسى أفضل من بقي من أهل بيته ديناً، وعلماً، وورعاً، ويقيناً، وأشدهم في مذهبه، مع علم كثير، ورواية للحديث وطلبه في صغره وكبره، ولد سنة 109هـ. (انظر طبقات الزيدية (خ) ج2/190).
(2) المهدي العباسي، محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، ثالث خلفاء العباسيين، توفي سنة 169هـ.
الانتصار: قالوا: الدماء رطوبات حاصلة في البدن، فكانت طاهرة كالدمع والبصاق وغيرهما.
قلنا: هذا فاسد، فإن المعنى في تلك الرطوبات أنها إنما كانت طاهرة من أجل أنها غير مستحيلة، بخلاف الدماء فإنها رطوبات مستحيلة، فأشبهت في الاستحالة البول والغائط، وغيرهما مما يكون مستحيلاً.
قالوا: الآيات الدالة على تحريم الدماء إنما هي دالة على تحريم أكلها لا أنها دالة على نجاستها، وأحدهما بمعزل عن الآخر، ولهذا عقب ذكر الدم بالأشياء المأكولة كما في قوله [تعالى]: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ}[المائدة:3]. وقوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمَاً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ مَيْتَةً أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145].
فنقول: إنه يحرم أكله، ولكنه طاهر؛ فإن المعنى بكونه نجساً هو أنه لا يلابس الصلاة، وتحريم الأكل مخالف لهذا المعنى.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن لفظ الدم في الآيتين عام في جميع وجوه الاستعمال من أكل وملابسة، فلا يجوز تخصيصه من غير دلالة تدل على ذلك.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا ماذكروه في الآية؛ لكن الأخبار دالة على كونها نجسة كخبر عمار، وهو قوله: (( إنما تغسل ثوبك من البول والدم)). وهذا نص في مقصودنا وغرضنا.
قالوا: دم سائل فكان طاهراً كدم السمك.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا نمنع الأصل، ونقول: إن دم السمك السائل نجس وقد مر ولا نعيده.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا طهارة دم السمك كما هو مذهب بعض الأئمة والفقهاء، فالتفرقة بينهما ظاهرة؛ فإنه يؤكل بدمه ولا ينجس الماء بموته، بخلاف ما سال من الدماء من الحيوانات، فإنه لا يكون له هذا الحكم بحال، فافترقا، فتنخل من مجموع ما ذكرناه نجاسة كل ماسفح وسال من الدماء كلها.
مسألة: إذا تقرر هذا فهل يكون ما دون السافح طاهراً أو نجساً ؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون طاهراً، وهذا هو رأى القاسم والهادي، ومحكي عن السيدين: أبي العباس وأبي طالب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. فشرط الله في تحريم أكله أن يكون مسفوحاً، فدل على أن ماكان السفح [فيه] فهو مخالف له في الحكم، وإذا لم يحرم أكله فهو طاهر لا محالة.
الحجة الثانية: حديث زيد بن علي (( أن الرسول ً أدخل يده في أنفه فأخرج عليها دماً ثم أعادها مرة أخرى فلم ير شيئاً فمسح يده بالأرض ولم يعد وضوءاً ولم يغسل يده)). وفي هذا دلالة على كونه طاهراً؛ لأنه لو كان نجساً لغسل يده ولتوضأ، وإنما لم يكن نجساً لما كان غير سائل.
الحجة الثالثة: هو أن ما هذا حاله لما كان الاحتراز منه متعذراً وتلحق المشقة في قليله، فلأجل هذا حفف الشرع الأمر في نجاسته لعظم البلوى به كما خفف الشرع حكم النجاسة في موضع النجو على رأي الفقهاء وكما رفع حكم النجاسات في صور كثيرة، فتقرر بما ذكرناه كونه طاهراً.
المذهب الثاني: أنه نجس معفو عنه وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن الشافعي.
والحجة [الأولى]: الآيتان اللتان ذكرناهما في التحريم حيث قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]. وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ}[النحل:115]. ولم يفصل هاهنا بين قليله وكثيره، وخروج القليل بدليل خاص لا يمنع من اندراجه تحت العموم لكنه خرج بدليل، وهذا هو مرادنا بكونه نجساً لكنه عفي عنه.
الحجة الثانية: خبر عمار، وهو قوله ً: (( إنما تغسل ثوبك من الدم والبول)). ولم يفصل بين قليله وكثيره، فدل ذلك على (أن) قليله موصوف بالنجاسة كما كان في الكثير.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أن كل ما كان كثيره نجساً فقليله مثله في النجاسة كالبول والغائط والخمر وسائر النجاسات، ولأنه دم فوجب القضاء بكونه نجساً كالكثير منه وهذا تقرير الدلالة على المذهبين جميعاً. والله الموفق.
والمختار: ماقاله المؤيد بالله ومن تابعه عليه من العلماء.
والحجة على ذلك: ما أوردناه في الاستدلال لهم ونزيد ههنا، وهو أن الأدلة الدالة على نجاسة الكثير منه مسترسلة على جميع الأجزاء وما خرج منه فإنما خرج بدلالة منفصلة وليس يكون مندرجاً تحت العموم إلا والنجاسة شاملة لجميع أجزائه كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوْا الْمُشْرِكِيْنَ }[التوبة:5]. ثم قال:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ اْسْتَجَارَكَ }[التوبة:6]. فهو وإن خرج بدلالة فالشرك شامل له، ولأنه مائع خرج من البدن يتعلق به نقض الطهارة فوجب أن يستوي فيه حكم قليله وكثيره في النجاسة، دليله: البول. أو نقول: يجب غسل الثوب منه للصلاة، فاستوى فيه القليل والكثير كدم الحيض والاستحاضة حيث قال عليه السلام: (( حتيه ثم اقرصيه ولا يضرك بعد ذلك أثره )). ولم يفصل بين قليله وكثيره فهذه الأدلة قاضية باستواء القليل والكثير فيه، والله أعلم.
الانتصار: قالوا: شرط الله في تنجيسه السفح، فقال: {أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. فإذا لم يكن مسفوحاً فلا نجاسة لعدم الصفة، وهذا هو مرادنا بطهارة ما قل منه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه استدلال بمفهوم الصفة، ومفهوم الصفة كمفهوم اللقب في عدم الدلالة، فإذا قلت: جاء زيد لم يدل هذا الكلام على عدم مجيء عمرو، وهكذا إذا قلت: جاءني زيد الكريم، فليس دلالة على عدم مجيء البخيل، وعلى ذلك يكون قوله تعالى: {أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. فإذا أطلق النجاسة على السفح لم يكن دالاً على التطهير عند عدم السفح، فما قالوه ليس فيه دلالة على ماتوهموه.
وأما ثانياً: فلأن الآية من أولها إنما سيقت من (أجل) بيان المأكولات لا من أجل بيان التطهير والتنجيس، ولهذا قال الله تعالى في أولها: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمَاً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}[الأنعام:145]. وكلامنا إنما هو في ما يكون طاهراً من الدماء وما يكون منها نجساً فأحدهما بمعزل عن الآخر. فكونها مسوقة من أجل بيان المأكولات يضعف الاستدلال الذي ذكرتموه.
قالوا: فعلُ الرسول في إدخال يده أنفه وإخراج الدم عليها ولم يُعِدْ لها غسلاً ولا وضوءًا، فيه دلالة على طهارته.
قلنا: ليس في هذا الحديث إلا أنه لم يغسل يده ولا أعاد وضوء اً، وهذا لا يدل على كطهارة مالم يسفح من الدم؛ لأن ما هذا حاله معفو عنه لقلته ، فلهذا لم يغسل يده ولم يعد وضوء اً فهو نجس خلا أنه قليل معفو عنه، وهذا مسلم لا ننكره، وأيضاً فإنه لم يصرح بطهارته فيكون فيه دلالة لكم على ما تزعمون من طهارة القليل، ثم إنا نقول: إن رَدَّ يده إلى أنفه مرة ثانية فيه دلالة لنا على نجاسته؛ لأنه لو أعادها فخرج عليها دم كثير كان الكل سواء في التنجيس ونقض الطهارة، وفي هذا دلالة على ما قلناه من نجاسة ما لم يسل منه لكنه عفي عنه.
قالوا: إن ما هذا حاله، لما كان تعظم البلوى به، خفف الشرع فجعله طاهراً لتعذر الاحتراز منه.
قلنا: تخفيف الشرع فيه هو أنه أسقط حكمه في الغسل ونقض الطهارة به لا في كونه نجساً، فهذا هو الذي وقع فيه النزاع، فد لوا عليه لتصح دعواكم فيه.
واعلم أن التفرقة بين مذهب الإمامين: الهادي والمؤيد بالله في ذلك ظاهرة، وهو أن الهادي لا يفتقر إلى تقدير مايعفى عنه من ذلك؛ لأنه طاهر عنده، ولا عفو فيما كان طاهراً، وأما المؤيد بالله فإنه يفتقر إلى تقدير ما يعفى عنه لما كان نجساً عنده فلابد من التفرقة بين مايعفى عنه منه وما لا يعفى، فهذه هي ثمرة الخلاف بينهما في ذلك وهما متفقان على كونه غير ناقض للطهارة ولا يجب غسله إذا لم يكن سائلاً.
مسألة: الحيوان الذي له نفس سائلة، هو الذي إذا ذبح سال دمه عن موضع الذبح كالشاة، والبقرة، والحمامة، والدجاجة، وما أشبهها، لأن النفس هي الدم، والحيوان الذي لا نفس له سائلة هو الذي إذا ذبح لم يسل دمه عن موضع ذبحه كالذباب والزنبور والجراد وغير ذلك من الحيوانات التي لا نفوس لها، فهذا هو مراد الفقهاء بقولهم في الحيوان: له نفس أو لا نفس له.
فإذا عرفت هذا فالذي ذهب إليه أئمة العترة، وأكثر الفقهاء: أبوحنيفة وأصحابه، ومالك، والشافعي في أحد قوليه أن جميع هذه الحيوانات التى لا نفوس لها سائلة لا تنجس بالموت ولا تكون منجسة للطعام بموتها فيه.
والحجة على ذلك: ماروى زيد بن علي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (كرم الله وجهه) أن الرسول ً، أتي بجفنة قد أدمت فوجد فيها خنفساء وذباباً فأمر بهما فطرحا ثم قال: (( سموا وكلوا فإن هذا لا يحرم شيئاً ))(1). وهذا عام في جميع الحيوانات كلها التى وصفناها، في كل المائعات.
الحجة الثانية: قوله ً: (( إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء والآخر شفاء، وإنه ليقدم الداء علىالشفاء )). ولم يفصل هناك بين مقل متلف ومقل غير متلف فلو كان ينجس المائع بموتة لفصل بينهما.
الحجة الثالثة: من جهة القيا س، وهو أنه حيوان ليس له دم سائل ولا نفس سائلة فلا ينجس الماء بموته فيه كدود الخل وكدود التفاح والسمك والجراد.
__________
(1) حكاه في البحر وأصول الأحكام.
وحكي عن الشافعي أنه ينجس بالموت، قولاً واحدا، وهل يكون منجساً للطعام؟ فيه قولان.
والحجة له على ماقاله: هو أنه حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته، فيجب أن يكون نجساً بالموت كما لو كانت له نفس سائلة.
وقولنا: لا لحرمته. نحترز به عن ابن آدم فإن عنده أنه لا ينجس بالموت.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من علماء الأمة، ويدل على ذلك ماحكيناه عنهم ونزيد ههنا، وهو مارواه سلمان الفارسي ) عن الرسول ً أنه سئل عن إناء فيه طعام أو شراب فيموت فيه ماليس له نفس سائلة، فقال: ((هو الحلال أكله وشربه والوضوء منه))(2) ولأن ما هذا حاله تعظم به البلوى ويشتد به الحرج لوكان ينجس الطعام بموته، فيجب أن يكون حكمه مرفوعاً في التنجيس لقوله تعالى: {وَمَاجَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78]. وقوله تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. واليسر ورفع الحرج لا يكونان إلا بطهارته فيجب القضاء بها.
__________
(1) أبو عبدالله سلمان الفارسي، صحابي جليل، اشتهر بهذا الاسم. قال عنه الشوكاني: كان نبيلاً، حازماً لبيباً، عاقلاً، عابداً. توفي في المدائن، وهو أمير عليها سنة 35هـ. وأصله من فارس من أصبهان، استعبده ركب من كليب وباعوه لرجل من بني قريضة فجاء به إلى المدينة فأسلم عندما قدم النبي ً إليها، وكان أول مشاهده الخندق، وهو الذي نصح رسول اللّه ً بحفر الخندق. قال عنه النبي ً: ((سلمان منا أهل البيت)). ليزيل ما قد يكون علق بنفسه عندما سمع البعض يتفاخرون بقبائلهم وأنسابهم، صحب النبي ً وخدمه، وحدَّث عنه.
(2) وفي رواية: ((إن كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فهو الحلال أكله وشربه ووضوؤه)). حكاه في أصول الأحكام وجواهر الأخبار.
الانتصار: قالوا: نتلوا الآية وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]. وهذا عام في كل ميتة فيجب أن يكون نجساً في نفسه منجساً لما وقع فيه.
قلنا: ليس في الآية إلا أنه يحرم أكلها ونحن نساعدكم على ذلك وليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا في أنه لا ينجس في نفسه، ولا ينجس ما وقع فيه من المائعات، وما هذا حاله لانسلم تناول الآية له.
قالوا: حيوان محرم اللحم فموته في الماء مفسد له كالكلب والخنزير.
قلنا: قولكم محرم اللحم، وصف عديم التأثير؛ لأن الشاة لو ذبحت في الماء لأفسدته بدمها ومع ذلك فإنه لايحرم أكلها فبطل جعله وصفاً من أوصافها، ثم إن التفرقة بينهما ظاهرة، فإن المعنى في الأصل هو أن لها دماً مسفوحاً بخلاف ما نحن فيه فافترقا.
ثم إنا نقلب عليهم إذا قالوا: حيوان له دم سائل، فوجب أن لا يختلف حلاله وحرامه في أن موته في الماء يفسده.
فنقول: حيوان لا دم له سائل فيجب أن لا يختلف حاله في كونه غير مفسد للماء كالسمك والجراد، وكذلك ما حرم أكله مما لا دم له سائل لا يفسده أيضاً كالذباب والزنبور، وهذا من باب قلب التسوية، وهو مفسد للعلة؛ لأن أصلهم الشاة والبقرة في استواء الحلال والحرام لهما في إفساد الماء،، وأصلنا السمك والجراد فيما يؤكل لحمه والذباب والزنبور فيما لا يؤكل لحمه في كونها غير مفسدة للماء.
قالوا: حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته فيجب كونه منجساً للماء كما لا يؤكل لحمه.
قلنا: قولكم: لا يؤكل بعد موته، تحترزون به عن السمك والجراد فإنهما يؤكلان بعد موتهما وهذا جيد، ولكن قولكم: لا يؤكل لا لحرمته، وصف عديم التأثير؛ لأنكم إنما ذكرتموه تحترزون به عن الآدمى فإنه لا يؤكل لحرمته ومع ذلك فإن وقوعه في الماء لاينجسه إذا مات فيه، لأن من مذهبكم أن الآدمي لا ينجس بالموت فلأجل هذا قلنا: إن قولكم لا لحرمته عديم التأثير لا معنى له فإن ذكره يفسد العلة ويبطلها، ثم إنا نقول: إن ما ذكره الشافعي في تعليل تنجيس ماليس له دم سائل، قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه مخالف للإجماع، فإن ما هذا حاله من الأقيسة فإنه لا يعول عليه لفساد وصفه واعتباره. قال ابن المنذر ): ولا أعلم أحداً قال: إنه ينجس الماء بموته فيه إلا الشافعي، وعن أبي بكر الرازي ) أنه قال: إن الشافعي قد خالف الإجماع في تنجيس الماء بموت ما لا دم له سائل، وما هذا حاله من الأقيسة يكون باطلاً لا جريان له في الأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية. قال العمراني في (البيان): وإذا قلنا: لا ينجس الماء بموت ما لا دم له سائل فإنه قول عامة الفقهاء، وحُكي عن أكثر أصحاب الشافعي أنهم
__________
(1) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، أحد فقهاء خراسان في القرن الثالث الهجري، قيل عنه: إنه صنف كتباً في اختلاف العلماء وتعدد مذاهبهم لم يصنف أحد مثلها، واحتاج إليها الموافق والمخالف، مات بمكة سنة 310هـ. (طبقات الفقهاء).
(2) أبو بكر أحمد بن علي الرازي، الحنفي، قال المنصور بالله (عبدالله بن حمزة): لم يكن قبله ولا بعده في الفقهاء مثله، ورعاً وتصنيفاً، وزهداً، وحُمل على أن يتولى فأبى من ذلك وتُهدد فأبى. وله مصنفات كثيرة، وشرح كتب محمد بن الحسن (الشيباني)، وكان يأمر غيره بكَتْب كتب الفقه، ويكتب كتب الكلام (أصول الدين)، بخطه، ويقول: أتقرب إلى اللّه بذلك. ذكره المنصور بالله في طبقات المعتزلة، توفي سنة 370هـ (مقدمة الأزهار).
قالوا: إنه الأصلح للناس.
مسألة: تشتمل على فروع على هذه القاعدة التي تقدمت وجملتها خمسة:
الفرع الأول منها: الحيوان الطاهر غير الكلب والخنزير إذا مات فإنه ينظر فيه، فإن كان مما ليس له نفس سائلة فإنه طاهر كما مر بيانه لحديث سلمان: (( كل طعام وشراب ماتت فيه دابة ليس لها نفس سائلة )).. الخبر، وقد قدمناه.
وإن كان له نفس سائلة كالحوت على اختلاف أنواعه فهو طاهر، لقوله عليه السلام: (( أُحلَّت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال)). فإن قطع من السمك قطعة وبقيت السمكة حية فهل يحكم بطهارة تلك القطعة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تكون نجسة لقوله عليه السلام: (( ما أبين من الحي فهو ميت ))(1). ولم يفصل.
وثانيهما: أنها تكون طاهرة؛ لأن ميتة السمك طاهرة، وهكذا حال الجراد إذا قطع يكون فيه الوجهان.
والمختار: هو الحكم بطهارة تلك القطعة المبانة، لأن المحذور أن تكون ميتة، وقد دل الشرع على جواز أكل ميتة هذين النوعين بجملته فضلاً عن قطعة من أبعاضه، فلهذا فارق غيره من سائر الحيوانات عند الإبانة، لما ذكرناه.
وإن كان غير الحوت فهو نجس كسائر الحيوانات التي لها دم سائل، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3].
__________
(1) روي عن أبي واقد بلفظ: لما قدم رسول اللّه ً المدينة وهم يَجُبُّون أسنمة الإبل ويقطعون إليات الغنم يأكلون ذلك، فقال رسول اللّه ً: ((ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة لا يؤكل)). أخرجه الترمذي وله روايات أخر.
الفرع الثاني: القيح والصديد والمِدَّة(1)، نجسة؛ لأنها دماء استحالت إلى نتن وفساد، فإذا كان الدم نجساً كما مر بيانه فهذه تكون أَوْلى، وأما المكو(2) وهو الذي يلحق الأيدي والأرجل عند شدة الاحتراك والاعتمال فتظهر نفخات منها بماء غير متغير، فهل يكون ماؤها نجساً أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها نجسة؛ لأنها تلحق الجسم عن فساد وتغير فأشبهت القيح.
وثانيهما: أنها طاهرة؛ لأن ما فيها ماء غير متغير فأشبه العرق والدمع، وهذا هو المختار، وهو الذي ذكره الإمام الحقيني وأبو مضر، والأول ذكره من أصحابنا: الشيخ علي خليل، والقاضي أبو إسحاق.
والحجة على ما اخترناه: أن ماءها رقيق صاف حصل من فضلات الجسم، فهي بالعرق أشبه.
وذرق الحوت والجراد طاهران عندنا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي؛ لأن ميتتهما طاهرة ولحمهما طاهر، فيجب أن يكون الذرق طاهراً إلحاقاً له باللحم من غير فرق.
__________
(1) بكسر الميم: القيح. ا.هـ. قاموس ج1/636.
(2) هي من: مكا يمكا. قال في القاموس : ومكيت بدن تمكى مكا: مجلت من العمل.
الفرع الثالث: البِلَّة التي تكون في فروج النساء، ينظر فيها فإن كانت مختصة بلون أبيض فهي نجسة، ويقال له: القذا، وفي الحديث: (( كل فحل يمذي، وكل أنثى تقذي ))(1). أي: يخرج منها القذا، وإن لم يكن له لون نظرت، فإن كان مختصاً بريح خبيث فهو نجس أيضاً على المذهب، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه طاهر.
والمختار: هو الأول؛ لأنه صار متغير الريح فأشبه القيح، وإن كان لا لون له ولا ريح فهل يكون طاهراً أو نجساً؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تكون نجسة؛ لأنها رطوبة خارجة من مخرج الحدث فأشبهت البول.
وثانيهما: أنها تكون طاهرة؛ لأنها بلة لا ريح لها فأشبهت العرق.
والمختار: طهارتها من أجل رقتها وصفائها وعدم تغيرها فهي بالريق والعرق أشبه، ولأنها من فضلات البدن لا يلحقها تغير فأشبهت الدمع.
الفرع الرابع: العلقة والمضغة هل يكونان طاهرين أم لا؟ فيهما وجهان:
أحدهما: أنهما طاهران؛ لأنهما دمان غير مسفوحين فأشبها الكبد والطحال.
وثانيهما: أنهما دم خارج من الرحم فهما كالحيض والاستحاضة.
والمختار: هو الأول، لأنهما قد خرجا عن صفة الدم، ولأنهما أحد أطوار الخلقة الآدمية فصارا كالعظم واللحم.
والمشيمة، وهي التي تكون وعاء للولد في بطن أمه، نجسة إذا انفصلت لقوله عليه السلام: (( ما أبين من الحي فهو ميت)).
__________
(1) جاء الحديث في سؤال علي عليه السلام المقداد أن يسأل رسول اللّه ً عن المذي، فقال ً: ((إن كل فحل يمذي فإذا كان المني ففيه الغسل، وإن كان المذي ففيه الوضوء)). ذكره في شرح التجريد والاعتصام وأصول الأحكام، وجاء الحديث في مسند أحمد ومجمع الزوائد للهيثمي بلفظ: ((كل فحل يمذي فتغسل فرجك وأنثييك)). وأخرج أبو داود عن عبدالله بن سعد الأنصاري قال: سألت رسول اللّه ً عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال ً: ((ذلك المني وكل فحل...إلخ)).
والدم الذي ينعقد على رأس الجرح طاهر؛ لأنه قد صار لتصلبه من جملة الجلد، ولو قطع لتألم الحي؛ لأنه لاتصاله به أجري مجراه.
والدم الذي يبقى في العروق بعد ذبح البهائم طاهر يؤكل مع اللحم والمرق لاتصاله به، فعفي عنه لما تعذر الاحتراز منه.
والماء الأصفر الخارج من الأنف طاهر؛ لأنه ليس دماً فلهذا لم يكن نجساً كالدم.
الفرع الخامس: لما كان الدم معظم البلوى فيه لكثرة معالجته وعلاجه في بني آدم والبهائم وسائر الحشرات، لا جرم خفف الشرع حكمه، وعُفِيَ عن قليله، وكان يجري الرخصة فيه لما ذكرناه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78].
ومن هذه القاعدة نعلم أن مبنى الشرع وقاعدته على التساهل في الطهارات وخفة الأمر فيها، وأن خلاف ذلك مجانب لأمر الشريعة وحكمها، ومن قرع سمعه ما كان من ممارسة الرسول ً لأهل الشرك في الآنية والطعامات واللباس، وعرف سيرة الصحابة (رضي اللّه عنهم) وغيرهم من التابعين وتابعيهم في حال من يعاشرون من الأطفال والعبيد والنسوان وعوام الخلق، تحقق ما قلناه من سهولة أمر الطهارة.
واختلف(1) في مقدار ما يعفى من الدم، فمرة قال: مثل رؤوس الإبر وحب الخردل، وتارة قدر الدرهم.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب إضافة جملة: (رأي المؤيد بالله). التي يدل عليها الكلام ولعلها سقطت من الناسخ.ا.هـ.
وأما الهادي فقد جعل العفو منه ما كان دون القطرة وهو الذي لا يسفح فإنه طاهر، وهو المختار كما مر تقريره، وليس في الحقيقة عفو؛ لأنه طاهر عنده بخلاف المؤيد بالله، فإن العفو متحقق فيه؛ لأنه نجس عنده فعفي عن ما ذكره، فإن وقع الشك في هذا القدر وجب غلسله؛ لأن الأصل هو الحظر، والإباحة والرخصة إنما تعلقا بهذا القدر لا غير، وإن وقع الشك في كونه قطرة لم يجب الغسل؛ لأن الأصل هو الطهارة على رأيه. والحظر إنما وقع فيما تحقق حاله من القطرة.
وأما الشافعي فقد حُكي عنه أقوال ثلاثة:
أما أولاً: فيعفى عن دم القمل والبراغيث.
وأما ثانياً: فقال في القديم: يعفى عنه إذا كان دون ملء الكف.
وأما ثالثاً: فحُكي عنه: مثل الدراهم والدنانير.
فكله نجس عنده إلا ما ذكرناه من هذه المقادير، وجميع ما ذكرناه من العفو في الدماء على اختلاف هذه المذاهب، فهو جارٍ في القيح والصديد والمدة وما جرى مجراها لاستوائها جميعاً في عظم البلوى بها، وشدة علاجها في جميع الحيوانات كلها.
والمختار من ذلك: ما قررناه من قبل، من أن تعليق النجاسة إنما هو بالسفح كما أشار إليه الشرع بقوله: {أَوْ دَمَاً مَسْفُوْحَاً}[الأنعام:145]. فأما ما عداه فهو باق على حكم الطهارة كما هو رأي الهادي، فأما ما يعفى عنه من النجاسات فسنذكره في آخر الباب.
مسألة: الآدمي غير الكافر، طاهر في حال الحياة؛ عرقه وسؤره ولعابه، وهل ينجس في حال موته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون نجساً، وهذا هو رأي القاسم بن إبراهيم والهادي وأولادهما، ومحكي عن السيدين الأخوين: المؤيد بالله وأبي طالب وغيرهم من أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ومالك، وأحد قولي الشافعي، ولهم على ذلك حجج [ثلاث]:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]. ولم يفصل في ذلك بين ميتة وميتة، في ترك الاستعمال والملابسة لها إلا ما قام عليه دليل، والتحريم إنما يتعلق بالأفعال دون الأعيان.
الحجة الثانية: ما روي أن حبشياً وقع في بئر زمزم فأمر ابن عباس وابن الزبير بنزح مائها، فلولا أنه نجس وإلا لكان الأمر بالنزح لا فائدة فيه.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنه ميتة غير مذكى له دم سائل، فوجب كونه نجساً كسائر الميتات.
المذهب الثاني: أنه طاهر، وهذا شيء يحكى عن الشافعي في أحد قوليه، له قول آخر مثل مذهب أصحابنا.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ }[الإسراء:70]. ومن الكرامة أن لا يكون نجساً بعد موته.
الحجة الثانية: قوله ً: (( المؤمن ليس ينجس حياً ولا ميتاً )).
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن وافقهم على ذلك.
والحجة لهم: ما حكيناه عنهم؛ ونزيد ههنا: وهو أن حيوان فارقته الحياة على جهة الابتداء من غير سبب، وله دم سائل فوجب كونه نجساً كسائر الميتين.
قولنا: فارقته الحياة ابتداء، نحترز به عن الشهيد فإنه طاهر محكوم عليه بالطهارة ولهذا لم يحتج إلى غسل والشهادة في حقه قائمة مقام غسله.
وقولنا: وله دم سائل، نحترز به عما ليس له دم سائل فإنه طاهر كما مر بيانه، ومن وجه آخر وهو أن الموت مؤثر في النجاسة، فلا يجوز رفع هذه القاعدة إلا بدلالة، وما تذكرونه في طهارته معرض للاحتمال فلا ترفع به القواعد المعلومة.
الانتصار: بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في طهارته.
قالوا: قد كرم اللّه بني آدم كما أخبر ومن الكرامة طهارتهم بعد الموت وأن لا يكونوا أنجاساً.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأنه ليس في الآية لفظ عموم فيكون حجة لكم على ما ذكرتموه، وإنما أخبر بأنه قد كرمهم، ومتى حصلت خصلة واحدة في الإكرام صدق عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا}. فمن أين أن ما ذكرتموه هو المراد من الآية؟
وأما ثانياً: فلأنا نقول: الكرامة إنما هي في الحقيقة بالعقل والتكليف وإرسال الرسل، وحفظ الملائكة، والإجلال والتعظيم بالحمل في البر والبحر والرزق كما أشار إليه في الآية، فأين هذه الخصال الكريمة عما ذكرتموه من النجاسة بالموت؟
وأما ثالثاً: فلأن الغرض بالإكرام ما يكون في حال الحياة من تلك الإكرامات؛ لأنها لا تكون إلا متعلقة بالحياة دون الموت، والإكرام بالطهارة إنما يكون بعد الموت فلا يكون مراداً بالآية فبطل ما توهموه.
قالوا: روى ابن عباس: (( لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن ليس ينجس حياً ولا ميتاً)). وهذا نص فيما نريده.
قلنا: قد ذكرنا أن الموت مؤثر في النجاسة، وهذه قاعدة معلومة لا سبيل إلى رفعها، فإذا ورد ما يعارضها من الظواهر الشرعية وجب تأويله، وخبر ابن عباس رضي اللّه عنه له تأويلان:
أحدهما: أن يكون المراد منه، لا تعرضوا موتاكم لمباشرة النجاسات، والتضمخ بها، والتلبس بمخالطتها، فإن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً نجاسة لا تطهر بالغسل، بل إذا غسلت عنه النجاسة المتصلة به كان طاهراً كما كان في حال الحياة.
وثانيهما: أن يكون المراد من الخبر تفاوت حاله لحال الكافر، وتميزه عنه بإن الكافر نجس في حال الحياة وحال الموت، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ}[التوبة:28]. بخلاف المؤمنين فإنهم ليسوا أنجاساً، في حال الحياة وحال الموت على مثل نجاسة الكفار، بل إذا غسلوا بعد الموت طهروا، بخلاف الكافر فإن غسله لا يزيده إلا نجاسة بعد الموت؛ لأنه لا يصلى عليه، فأورد الحديث تفرقة بين حال المؤمن وحال الكفار؛ لأن الغرض هو الحكم بطهارته بعد موته فسقط ما قالوه.
قالوا: آدمي فارقت جسمه الحياة فلا يكون نجساً كالشهيد.
قلنا: المعنى في الأصل هو مفارقة روحه لجسمه بسببٍ هو القتل شهيداً، فلهذا كانت الشهادة قائمة مقام الغسل ففارق حاله حال الموت.
مسألة: مشتملة على فروع عشرة:
الفرع الأول: إذا غُسل الميت فهل يطهر بالغسل أم لا؟ فالذي أشار إليه السيد أبو طالب أنه يكون طاهراً، وهذا هو رأي أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحكي عن مالك، والشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه لا فائدة في التعبد بغسله إلا أنه يصير في حكم الطاهر، ولهذا فإنه يُصَلَّى عليه، فلو كانت النجاسة بالموت باقية فيه لما جازت الصلاة عليه. وذهب سائر العترة إلى أنه لا يعود طاهراً بالغسل.
والحجة على ذلك: هو أن النجاسة إنما حصلت فيه بالموت فهي أمر غير مفارق، وليس يطهر بالغسل إلا ما يصح مزايلته كالنجاسة المنفصلة، فأما ما كانت نجاسته ذاتية فلا تطهر بالغسل كالكلب والخنزير وغيرهما مما نجاسته عينية.
والمختار: ما قاله السيد أبو طالب، ويدل عليه ما ذكرناه عنه، ونزيد وهو أن الطهارة والنجاسة إنما هما حكمان شرعيان متلقيان من جهة خطاب الشرع، ويجب الاحتكام لما قاله في موارد الشرع ومصادره.
فنقول: قد دل الشرع على نجاسة الميتة فلهذا قضينا بنجاسة الميت لأجل الموت، فإذا ورد الشرع بوجوب غسله دل ذلك على أنه يعود طاهراً بالغسل، وإلا فلا فائدة في الأمر به وإيجابه، فيكون في حكمنا بطهارته بالغسل عملاً بموجب الدليلين معاً، وتوفيراً عليهما ما يقتضيه حكمهما من ذلك، فلأجل ذلك حكمنا بطهارته بالغسل بعد الحكم بنجاسته بالموت.
الانتصار: قالوا: النجاسة فيه عينية فلا يعود طاهراً بالغسل كالكلب والخنزير.
قلنا: ما تعنون بكون نجاسته عينية؟ تريدون أنه لا يطهر من غير غسل؟ فهذا مسلم ولا نزاع فيه، أو تريدون أنه لا يطهر وإن غسل فهذا لا نسلمه وفيه وقع النزاع، فلم لا يجوز أن يعود طاهراً بعد غسله؟
قالوا: لو عاد طاهراً بالغسل لجاز أن يعود الكلب والخنزير طاهرين إذا غسلا ولا قائل بهذا القول، فبطل أن يكون غسله موجباً لطهارته.
قلنا: التفرقة بينهما ظاهرة، فإن نجاسة الكلب والخنزير لم يرد الشرع بأنها تزول بالغسل ولا ورد الشرع بغسلهما بحال، فدل ذلك على أن النجاسة باقية فيهما وأن الشرع لم يلحظ فيهما الطهارة أصلاً بخلاف المسلم إذا غُسل بعد موته، فإنه لما ورد الشرع بغسله بان لنا أن الطهارة في حقه ملحوظة بنظر الشرع وحكمه، وتحقق ما ذكرناه من كون الطهارة في حق المسلم ملحوظة شرعاً جواز الصلاة عليه، والصلاة من حكمها الطهارة فيما يصلى فيه وعليه وطهارة الجسم والمكان والأثواب كما سنوضحه، فسقط ما قالوه، والله أعلم.
الفرع الثاني: إذا انفصل من جسم ابن آدم عضو من أعضائه في حال حياته فهل يكون طاهراً أو نجساً؟ فالذي عليه علماء العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك، وأحد قولي الشافعي أنه نجس.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( ما أبين من الحي فهو ميت) ). وحكي عن الشافعي قول آخر: أنه يكون طاهراً، عملاً على أنه لا ينجس بالموت فتصير ميتته طاهرة كانفصال ما ينفصل من السمك والجراد في حال حياته.
والمختار: ما قاله علماء العترة ومن وافقهم، وهو الأصح من قولي الشافعي لما قررناه من أنه ينجس بالموت، ثم إنا لو سلمنا ما زعموه من طهارته عند الموت فالحكم بالطهارة إنما تثبت لجملته دون أبعاضه.
الفرع الثالث: ذهب علماء العترة إلى أن لبن الميتة نجس، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه مائع غير الماء لاقى نجاسة فوجب الحكم عليه بالنجاسة، كما لو حُلب في إناء لُطخ بالبول والعذرة، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه طاهر.
والحجة لهم على ما قالوه: وهو أنه إنما يتصل بوعاء اللبن الحاصل في الضرع وليس فيه حياة فينجس بملاقاة ما انفصلت عنه الحياة وإنما ينجس وعاء اللبن بملاقاة الميتة فهو حائل بين الميتة واللبن فلهذا كان طاهراً.
والمختار في ذلك تفصيل: وهو أنه إن صح أن اللبن حاصل في إناء غير الضرع الميت فهو طاهر كما قاله السيد أبو طالب؛ لأنه غير مجاور للميتة، وإنما جاور ما جاور الميتة، وإن كان حاصلا في الضرع نفسه كما قال المؤيد بالله بالمجاورة وهو رأي الشافعي وإذا كان الأمر كما قلناه، ارتفع النزاع في المسألة وصارت وفاقية.
الانتصار: بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: مائع لاقى النجاسة فكان نجساً.
قلنا: إذا كان وعاء اللبن أمراً مخالفا للضرع فلا شك في طهارته، فلا نسلم الملاقاة للنجس، وإن كان الملاقي هو الضرع نفسه من غير وعاء فهو نجس لا محالة، فإذن الخلاف في المسألة ربما كان لفظياً على التفصيل الذي ذكرناه.
الفرع الرابع: إنفحة الميتة نجس عند أئمة العترة وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء بنقطة من أعلاها وحاء مهملة: هو شيء أصفر يكون في كرش الجدي مالم يأكل الشجر واتصاله بالنجاسة ظاهر، فلهذا كان نجساً، دليله سائر رطوبات الميتة من دمها وفرثها، يؤخذ فَيُفَتُّ على الجبن فينعقد به، فما كان مأخوذاً من الميتة فهو نجس لما ذكرناه من الاتصال بها، وذهب أبو حنيفة إلى طهارته.
والحجة له على ذلك: هو أن الرسول ً خرج إلى غزوة الطائف فأتوه بالجبن، فقال عليه السلام: (( أين يصنع هذا))؟ فقالوا له: بأرض فارس، فقال عليه السلام: (( اذكروا اسم اللّه عليه ثم كلوا ))(1). ولا شك أن ذبائح المجوس نجسة؛ لأنها ميتة، فظاهر الخبر دال على طهارة الإنفحة؛ لأن جبنهم لا ينعقد جبناً إلا بها.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم على ذلك.
والحجة على ذلك: ما قدمناه؛ ونزيد ههنا وهو أن الإنفحة نازلة منزلة أعضاء الميتة في كونها متصلة بالميتة، فلهذا حكمنا بنجاستها كنجاسة أعضاء الميتة.
الانتصار: قالوا: الحديث دال على طهارة الإنفحة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوْا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ }[الأنعام:121]. ولا شك أن المجوس ليسوا أهل كتاب عندنا، فذبائحهم تكون ميتة لا محالة فلهذا كان منسوخاً.
وأما ثانياً: فلأن المجوس قد قيل: إنهم لا يذبحون لأنفسهم، بل كان يذبح لهم اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، ومن منع من ذبائح المجوس لم يمنع من ذبائح أهل الذمة، وهي مسألة خلاف بين أهل القبلة، كما سنوضحه في الذبائح بمعونة اللّه تعالى.
قالوا: ما جاز أن يؤخذ من الحيوانات في حال حياته، فإنه لا ينجس بالموت كالبيض.
قلنا: [هذا] فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن الإنفحة لا يمكن أخذها إلا بالذبح فهو مخالف للبيض؛ لأنها من كرش الجدي.
وأما ثانياً: فالتفرقة بينهما ظاهرة، وهو أن للبيض قشراً يمنع من وصول النجاسة إليه بخلاف الإنفحة فإنها متصلة برطوبة كرش الجدي فلهذا لم تفارقه في النجاسة.
__________
(1) رواه في جواهر الأخبار عن الانتصار. وأخرج أبو داود عن ابن عمر نحوه. والجبن: بضم الجيم وتسكين الباء الموحدة وبضمها وتضعيف النون، مفرده جُبُنَّه وهو الذي يؤكل. ا.هـ لسان.
الفرع الخامس: ألبان ما يؤكل لحمه طاهرة كالبقر والغنم والإبل؛ لأنها متاع للخلق وفيها قوام لهم كاللحم والشحم عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، وألبان الآدميات المسلمات طاهرة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة؛ لأنها قوام الأطفال ومتاع لهم، ولو كانت نجساً لما جاز إطعامهم إياها، وإذا حل اللبن فالزبد والجبن والسمن من ذلك طاهر حلال؛ لأن أصلها لبن، فإذا كان طاهراً فهذه طاهرة، وألبان السباع والخيل والحمير نجسة عند أئمة العترة وهو قول فقهاء الأمة، وحكي عن الحقيني أنها طاهرة.
والحجة على ذلك: هو أنها رطوبة منفصلة من حيوان لا يؤكل لحمه فكانت طاهرة كالدمع والعرق.
والمختار: أنها نجسة؛ لأنها فضلة مستحيلة من الدم، فكانت نجسة كالمني منه.
الانتصار: قالوا: فضلة تشبه العرق.
قلنا: إنها بالمني أشبه؛ لأنهما جميعاً يستحيلان من الدم، فلهذا كان إلحاقها بالمني أقرب، ولأنها ألبان ما لا يوكل لحمه فأشبه لبن الكلاب والخنازير، وما كان لبنه نجساً كهذه الحيوانات، فالزَّبْد والسمن والجبن نجس من جميع ذلك كله.
الفرع السادس: شعر الكلب، وفيه مذاهب ثلاثة:
أولها: أن شعره نجس، وهذا هو مذهب الهادي وأجازه الأخوان السيدان، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روي عن عبدالله بن المُغَفَّل ) أن الرسول ً قال: (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب)). وإنما وجب ذلك فيه لنجاسته، فإذا تقررت نجاستة بما ذكرناه فشعره يجب أن يكون نجساً؛ لأنه شعر حيوان نجس فأشبه شعر الخنزير.
__________
(1) عبدالله بن مغفل بن عبد نهم المزني، أبو سعيد، صحابي جليل، من أهل بيعة الرضوان، سكن المدينة، وكان أحد العشرة الذين أرسلهم عمر إلى البصره ليفقهوا الناس بها، وهناك مات سنة 57هـ، وقيل: 61هـ. وله أحاديث عن النبي ً، وعن أبي بكر، وعثمان، وعبدالله بن سالم. (تراجم در السحابة 792 د.العمري).
وثانيها: أنه طاهر، وهذا شيء يُحكى عن الباقر )، والصادق، والناصر، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه شعر نابت على أصل نجس فكان طاهراً كشعر الميتة وصوفها، أو نقول: شعر لا تحله الحياة، فكان محكوماً عليه بالطهارة، دليله: شعر الميتة.
وثالثها: التفرقة بين شعر الكلب والخنزير، وهذا هو رأي أبي حنيفة، فإنه قال بطهارة شعر الكلب، وقال: إن شعر الخنزير نجس.
والحجة له في التفرقة بينهما: هو أن الخنزير لا جلد له وإنما شعره نابت على لحمه فكأنه بعضه فلهذا كان نجساً، بخلاف الكلب فإن له جلداً وشعره نابت على جلده فلهذا كان طاهراً مثل شعر الميتة وصوفها.
والمختار: ما قاله الأخوان من نجاسته لكونه نابتاً على محل نجس، فلهذا كان نجساً كجلده ولحمه، ولما روي أن الرسول ً دعي إلى دار فلم يجب ودعي إلى دار فأجاب، فقيل له في ذلك، فقال: (( إن في دار فلان كلباً)). فقيل له: وفي دار فلان هرة. فقال: (( إن الهرة ليست بنجس ))(2). فدل ذلك على أن الكلب نجس، ولم يفصل بين شعره ولحمه وعظمه.
الانتصار: قالوا: شعر نبت على محل نجس، أو لا حياة فيه فكان طاهراً كشعر الميتة.
__________
(1) أبو جعفر الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين السبط، الثبت، الثقة، أحد أعلام عصره، علماً، وعبادة، واجتهاداً، وجهاداً في الله، لقب بالباقر لأنه بقر العلم بمعنى شقه، وكشف حقائقه، وأبان خفاياه، كونه من الرواد في علمي الأصول، ولد سنة56هـ، وتوفي سنة 114هـ. عده النسائي وغيره في فقهاء التابعين في المدينة.
(2) رواه في المهذب والشفاء وجواهر الأخبار.
قلنا: المعنى في الأصل: أن النجاسة في الميتة طارئة بخلاف نجاسة الكلب فإنها أصلية، ثم إنا نعلم أن أحداً من المسلمين لم يستعمل شعر الكلب في حالة من الحالات، وفي هذه دلالة على استقذاره، وأنهم إنما تركوه من أجل نجاستة وقذره، وقد قال عليه السلام: (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن)).
الفرع السابع: شعر الخنزير، وفيه مذهبان:
أحدهما: أنه نجس لا يجوز الانتفاع به في الحرز ولا في غيره، وهذا هو رأي أكثر أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
وحُكي عن مالك: طهارة الخنزير كله، وحكي عنه: نجاسته.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيْرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ }[الأنعام:145]. والرجس: هو النجس، فالضمير في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ}. يرجع إلى الخنزير؛ لأنه أقرب المذكورين ومن حق الكناية أن تكون راجعة إلى أقرب المذكورين، ولم يفصل بين شعره ولحمه وجلده.
وثانيهما: أنه طاهر، وهذا هو المحكي عن الصادق والباقر والناصر.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم في الاستدلال على طهارة شعر الكلب فلا وجه لتكريره.
والمختار: هو القول بنجاسة شعره؛ لأنه في نظر الشرع كالكلب فهو أدخل في النجاسة والتقذير من الكلب، من جهة أن الكلب يُقتنى للصيد والزرع والماشية ويؤنس به، بخلاف الخنزير فإنه لا يُراد لواحد من هذه المنافع، ولا يكاد يوجد في اليمن، وإنما يوجد في بلاد الروم والصين والديار المصرية، وأكثر من يأكل أولاده المغل(1) ومن لا يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وما قررناه في الانتصار عليهم في نجاسة الكلب فهو بعينه هاهنا وارد في الخنزير.
وإذا قلنا بنجاسة شعره فهل يجوز الانتفاع به أم لا؟ فالذي عليه أكثر أئمة العترة أنه لا يجوز الانتفاع به في الحرز ولا في غيره.
__________
(1) قال في القاموس: وبنو مغالة: قوم.. ا.هـ.
والحجة على ذلك: هو أنا قد قررنا نجاسته وتحريم ملابسته ولم تفصل الأدلة، في ذلك، هذا هو رأي الشافعي، وأبي يوسف، وحكي عن الناصر، والباقر، والصادق جواز الانتفاع به؛ لأنه على مذهبهم طاهر، كما قررناه من قبل، وحُكي عن أبي حنيفة جواز الانتفاع بشعر الخنزير للأساكفة، وحُكي عن محمد طهارة شعره كما حكيناه عن الباقر، والصادق، والناصر، وحكي عن القاسم أن ترك الانتفاع بشعره أفضل، وفي هذا تنبيه من مذهبه على الجواز، وعلى كونه غير محرم الاستعمال.
والمختار: هو التنزه عنه؛ لأن الأدلة الشرعية لم تفصل في ذلك بين شعر وعظم ولحم، ولأن شعره جزء من أجزائه فلم يجز الانتفاع به كغيره من أجزائه المتصلة به، والله أعلم.
الفرع الثامن: في شعور بني آدم وأظافرهم، و فيها مذهبان:
أحدهما: أنها طاهرة كلها سواء أُخِذَت في حال الحياة أو في حال الموت، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه شعر طاهر نابت على محل طاهر فوجب الحكم عليه بالطهارة كما إذا كان ذلك قبل الموت، وطُرُوُّ الموت لا يوجب تنجيسه؛ لأن الحياة غير حالة فيه فلهذا استوى حالاه قبل الموت وبعده.
وثانيهما: ما حكي عن الشافعي: أنه طاهر في حال الحياة ونجس بعد الموت، وحكي ذلك عن محمد بن يحيى ) وخطأه السيد أبوطالب في ذلك. وقال: إن مذهب القاسم، ويحيى [ابن الحسين]: أنه طاهر؛ لكونه نابتاً على محل طاهر.
__________
(1) الإمام المرتضى محمد بن الهادي يحيى بن الحسين الهادي بن القاسم بن إبراهيم. ولد سنة 278هـ، وأخذ عن والده الهادي إلى الحق مؤلفاته وغيرهما، وكان عالماً بالفقه وأصول الدين، وله من المؤلفات: كتاب (الإيضاح)، وكتاب (النوازل) في الفقه، وغيرها في علم الكلام وغيره. وكان زاهداً، ورعاً، قام بالإمامة بعد أبيه، ثم تنحى عنها لأخيه الناصر بعد ستة أشهر، واشتغل بالعلم والعبادة حتى توفي في شهر المحرم سنة 310هـ. (مقدمة الأزهار).
والحجة لهم على ذلك: هو أن الأدلة الشرعيةلم تفصل في حق الميتة بين شعر ولحم ودم، فلهذا قضينا بنجاسة ما كان متصلاً بها.
والمختار: ما عليه أكثر أئمة العترة من طهارتها في الحياة والموت.
والحجة: ما ذكرناه؛ ونزيد ههنا، وهو أن هذه الشعور ليست من جملة الحي، ولهذا فإنه لا يتألم بقطعها ولا تؤذيه مفارقتها، فوجب أن لا تكون من جملة الميتة؛ لأن ما لا يلحقه حكم الحياة فلا يلحقه حكم الموت كالثوب والقميص.
وقد حُكي عن الشافعي قول ثانٍ: أنه نجس على الإطلاق، وقول ثالث: أنه طاهر على الإطلاق، وحُكي عنه: أنه يتبع الجلد، فإن كان الجلد طاهراً فهو طاهر، وإن كان نجساً فهو نجس.
الانتصار: بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: الأدلة الشرعية دالة على تحريم الميتة على جهة العموم، فلا وجه لإخراج شعرها وظفرها من غير دلالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم اندراج ما ذكرناه تحت العموم، فإن المقصود في تحريم الميتة إنما هو أكلها، فما ذكرتموه دعوى غير مسلَّمة.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا العموم كما زعمتم لكنا نخرج ما ذكرناه بدلالة القياس، والتخصيص بالقياس يكون عملاً بالقياس والظاهر جميعاً، فبقي الظاهر على عمومه ويخرج بالقياس ما تناوله وفيه عمل بالدليلين جميعاً، وما ذكرتموه تعويل على الظواهر وإهمال للقياس وإلغاء، فلا يكون مقبولاً.
الفرع التاسع: عظم الميتة وعصبها، ذهب علماء العترة إلى [أن] عظم الميتة وعصبها نجسة كلها، وهو قول مالك والشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]. ولا شك أن العظم والعصب من جملة الميتة، وهو تعالى لم يفصل بين جزء منها وجزء، فيجب أن تكون محرمة كلها إلا ما خصته دلالة كما سنقرره في الشعور والأصواف والأوبار، وقد حكينا عن محمد بن يحيى ما قاله في نجاسة الأصواف وتخطئة أبي طالب له، وهذا لا وجه له، فإنه لا وجه لإطلاق الخطأ في المسائل الاجتهادية؛ لأنها كلها حق وصواب، وما هذا حاله فلا ينبغي إطلاق الخطأ فيه؛ لأنه يُوهم أن هناك حقاً مطلوباً لله تعالى يخطئه بعض المجتهدين ويصيبه آخرون، وهذا لا معنى له في المسائل الخلافية، وقد حققناه في صدر الكتاب فأغنى عن الإعادة، اللهم إلا أن يريد السيد أبوطالب بالخطأ: هو أن ما قاله محمد بن يحيى ليس مذهباً للقاسم ويحيى، فهذا يمكن أن يقال: أخطأ من نسب هذه المقالة إليهما، فأما أن يقال: إن كل من ظن أن شعر الميتة وصوفها نجس فهو مخطئ، فإنه لا وجه لهذه المقالة.
الحجة الثانية: قوله ً: (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )). وفي حديث آخر: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء)). وهذا عام فلا وجه لمخالفته.
الحجة الثالثة: هو أن العظام فيها حياة بدليل قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيْمٌ }[يس:78]. وكل ما كان من الميتة حي فإنه ينجس بالموت لا محالة كالكبد والطحال واللحم وغيرها.
وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه: أنها كلها طاهرة.
والحجة لهم على ذلك: هو أن العظام فيها صلابة تمنع من وجود الحياة فيها، وما لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت؛ لأن بِنْيَة الحياة لا بد من حصولها على كيفية مخصوصة من الرطوبة والاعتدال في البنية، والعظم والعصب فيهما، قساوة فلا يجوز وجود الحياة فيهما. وإذا كان لا حياة فيهما فإنها لا تنجس بالموت.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة، من القول بنجاستها لما ذكروه. ونزيد هاهنا ونقول: إن كان فيها حياة فهي نجسة بالموت، كالميتة وإن لم يكن فيها حياة فإنها تنجس أيضاً بالمجاورة لما يحتوي عليها من اللحم والدم والبشر وغير ذلك، فلهذا وجب القضاء بنجاستها فإنها لا تنفك من الأمرين جميعاً، ومتى انفصلت وجب القضاء بنجاستها لكونها بعضاً من أبعاض الميتة كاللحم والعروق.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: العظام فيها صلابة تبطل حلول الحياة فيها.
قلنا: قد دل الشرع على كونها حية بما تلوناه من ظاهر الآية، وإذا كان ظاهر الآية يقضي بالحياة وجب العمل عليها؛ لأن الشرع يجب التعويل عليه في كل المسائل الاجتهادية من غير تعويل على ما يدل عليه العقل ويقتضيه، فإن تحكيم الشرع أحق في المسائل الاجتهادية الخلافية.
الفرع العاشر: في عظم الفيل: ذهب علماء العترة إلى أن عظام الفيل لا يجوز استعمالها وعاء للأدهان الرطبة.
والحجة على ذلك: هو أنه حيوان لا يؤكل لحمه فلا تلحقه الذكاة الشرعية، وعظم الميتة نجس فلأجل ما ذكرناه يكون عظمه نجساً لا محالة، وهو قول الشافعي.
وحكي عن أبي حنيفة جوازه؛ لما سبق تقريره من أن عظم الميتة طاهر، ولأن من أصله أن الذكاة تطهر اللحم والجلد فيما لا يؤكل لحمه، فلأجل هذين الأصلين جاز استعمال عظمه في الأشياء الرطبة، وكان طاهراً لا محالة.
والمختار: ما قاله علماء العترة.
والحجة على ذلك: ما مهدنا من الأصول من كون الفيل غير مأكول اللحم، وأن الذكاة لا تكون مطهرة لما لا يؤكل لحمه، وأن العظام مما تحلها الحياة بالأدلة الشرعية، وكل هذه الأصول قد مهدناها وقررنا قواعدها بالأدلة النقلية فأغنى عن الإعادة، وما ذكرناه من الانتصار على عظام الميتة فهو وارد ههنا. والله الموفق للصواب.
مسألة: في شعور الميتات وأصوافها وأوبارها والقرن والظفر والسن منها مما لا تحله الحياة، وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها طاهرة قبل الموت وبعده، وهذا هو رأي القاسم ويحيى وهو رأي أكثر أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ومحكي عن مالك.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثَاً وَمَتَاعَاً إِلَى حِيْنٍ }[النحل:80].
ووجه الاستدلال بهذه الآية: هو أن اللّه تعالى أوردها على جهة الامتنان علينا بما جعل فيها من المنافع لنا في الرزق واللباس وجميع أنواع المنافع العظيمة فيها، ثم إنه لم يفصل في ذلك بين الميت منها والمذكى بحال، فلو كانت نجسة لكان لا وجه للامتنان بهذا الإنعام، بل يجب تجنبها كما في غيرها من سائر النجاسات التي ورد الشرع بالتنزه عنها وإبعادها.
الحجة الثانية: قول ً، فيما روت أم سلمة، قالت: سمعت رسول اللّه ً يقول: (( لا بأس بشعر الميتة وصوفها إذا غسل بالماء ))(1). وهذا نَصٌّ في مرادنا.
وقوله: (( إذا غسل بالماء)). ليس شرطاً في طهارته، وإنما أراد أنه لا يكاد ينفك عن تلوثه بصديدها أو عرقها أو شيء من رطوباتها، فلهذا ندب إلى غسله، ويحتمل أن يكون واجباً لما ذكرناه، وقوله ً: (( إنما حَرُمَ من الميتة أكلها))(2). فيه دلالة على أن التحريم إنما يتناول ما يتأتى فيه الأكل، والشعر، والصوف، والقرن، والضلف لا يتأتى فيه الأكل، فلهذا لم يكن التحريم متناولاً له.
الحجة الثالثة: قياسية، وهي أن جواز الانتفاع غير موقوف على حصول الذكاة، فوجب أن يكون حكمه بعد الموت مثل حكمه قبله، دليله: البيض والولد.
__________
(1) روي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: سمعت أم سلمة قالت: سمعت رسول اللّه ً يقول: الحديث. حكاه في أصول الأحكام. ا.هـ. جواهر.
(2) عن ابن عباس أن رسول اللّه ً مر بشاة ميتة فقال: ((هلاَّ انتفعتم بإهابها))؟ قال: إنها ميتة؟ قال: ((إنما حرم أكلها)). قال في جواهر الأخبار: هذه إحدى روايات البخاري ومسلم. ولهما ولأبي داود والترمذي روايات أُخر.
المذهب الثاني: أنها نجسة، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة له على ذلك: الآية والخبر الدالان على تحريم الميتة، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]. وقوله ً: (( لا تنتفعوا من الميتة بشيء)). فهذان دالان على المنع من استعمال الميتة و[على] نجاستها وهذا هو مقصودنا.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن وافقهم من علماء الأمة لما حكيناه عنهم في الاستدلال؛ ونزيد هاهنا وهو أن الشعر والوبر والصوف لو كانت نجسة من الميتة لوجب الحكم عليها بالنجاسة ولو كان الحيوان حياً، لقوله ً: (( ما أبين من الحي فهو ميت )). فلما توافقنا على أنها طاهرة وإن قطعت من الحيوان في حال حياته، دل ذلك على طهارته وإن قطعت بعد موته. والجامع بينهما: هو أنه لا حياة فيها فلهذا كانت طاهرة.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: الآية دالة على تحريم الميتة، ولم تفصل بين بعض وبعض منها، والصوف والشعر والظفر والقرن من أبعاضها فيجب أن تكون نجسة.
قلنا: ليس في ظاهر الآية ما يدل على النجاسة وإنما هي نَصٌّ في التحريم، وكم من المحرمات ما هو ممنوع حرام وليس نجساً كالأنصاب والأزلام - وهي قداح الميسر - فليس في ظاهر الآية إلا مطلق التحريم، وليس فيه دلالة على النجاسة، وكلامنا إنما هو في نجاستها دون تحريمها. على أنا نقول: المقصود هو تحريم أكلها، والأكل بمعزل عن النجاسة، فنحن نقول بأنه لا يجوز أكلها ويجوز استعمال ما كان طاهراً منها مما لا تحله الحياة كالصوف والشعر والقرن، ثم إنا وإن سلمنا العموم كما زعمتم، لكنا نخصها بما ذكرناه من الأدلة، فنستعمل العموم فيما عدا ما ذكرناه، ونستعمل الخصوص فيما تناولته أدلتنا، فيكون عملاً بالدليلين جيمعاً ولا حاجة إلى إبطال أحدهما، فيخرج ما لا تحله الحياة من صوف أو شعر أو قرن أو غير ذلك، ويبقى ما عداها.
قالوا: الخبر دال على منع الانتفاع من الميتة.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم اندارج هذه الأشياء تحت عموم الخبر؛ لأن الْمَيْتَةُ إنما تكون لِمَا فارق الحياة وكان ميتاً، وهذه الأشياء ليس فيها حياة قبل الموت ولا بعده فلا يطلق عليها اسم الميتة لما ذكرناه.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا اندراجها تحت العموم لكنها خرجت بالأدلة التي ذكرناها من أجل الخصوص، فيكون الخبر معمولاً به في غير ما تناولته أدلتنا الخاصة، وفيه الوفاء على العمل بالدليلين كما أشرنا إليه.
قالوا: جزء متصل بذي روح ينمو بنمائه فوجب أن ينجس بالموت كالظهر والبطن.
فقولنا: جزء متصل، نحترز به عن الولد والجنين فانهما يكونان طاهرين عند الانفصال.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
وأما أولاً: فلأن المعنى في الأصل، أنه لا يجوز قطعها ولا يحل استعمالها في حال حياته فلهذا كانت نجسة بالموت، بخلاف ما نحن بصدده فإنه يجوز قطعها عن الحيوان في حال حياته، ويجوز الانتفاع بها فلا جرم لم تنجس بالموت.
وأما ثانياً: فهو أنها تحلها الحياة فلهذا تنجست بالموت، بخلاف مسألتنا فإنها لا تحلها الحياة فلم تكن نجسة بالموت، فإذا وقع الفرق من هذين الوجهين بطل الجمع بما ذكرتموه، والفرق أدخل ما يكون في إبطال ما ذكره القائس لكونه إبطالاً لفقه الجمع.
قالوا: جزء مضمون من الصيد بالجزاء، فوجب أن تكون فيه حياة كالعين والأذن.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن المضمون من الصيد هو نقصان ما فات منه، سواء كان فيه حياة كسائر أعضائه أو لم تكن فيه حياة كالبيض والريش.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه منقوض باللبن، فإنه مضمون من الصيد، وإن لم تكن فيه حياة فعدم الحياة لا يؤثر في جبران النقص من الصيد؛ لأن المقصود هو ضمان ما نقص بكل حال.
قالوا: قد أشار الرسول ً، إلى غسله إذا أريد استعماله، فلولا أن فيه حياة تنجس بالموت وإلا لما أمر بغسله.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن هذا يُبطل عليكم ما قلتموه من نجاستها؛ لأنه لو كان من جملة الميتة لم يأمر بغسله؛ لأنه لا يطهر بالغسل من جهة أن نجاسته عينية كنجاسة الكلب والخنزير، فالأمر بالغسل يُبطل كونه نجساً.
وأما ثانياً: فإنه إنما أمر بغسله لما كان طاهراً في ذاته كما قلناه، لكنه ربما سنح له النجاسة لأجل اتصاله بالميتة، فلا يؤمن هناك اتصاله برطوبتها من دم أو روث أو قيح أو صديد أو غير ذلك، فلهذا كان غسلها مأموراً به لما ذكرناه.
مسألة: ذهب أئمة العترة إلى أن مني بني آدم نجس، سواء كان خروجه على طهارة أو غير طهارة، لا يختلفون فيه، وهذا هو قول أبي حنيفة وأصحابه، ومحكي عن الأوزاعي ومالك، ومثله خَرَّج صاحب (التلخيص) على رأي الشافعي، ويدل على ذلك حُجج [ثلاث]:
الحجة الأولى: خبر عمار، قال: مر بي رسول اللّه ً، وأنا أسقي راحلتي فتنخمت فأصابتني نخامتي فجعلت أغسل ثوبي، فقال رسول اللّه ً: (( ما نخامتك ودموع عينيك إلا كالماء في ركوتك )) ثم قال: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والدم والقيء والمني )). فأوجب غسل الثوب منه، فلولا أنه نجس لما أوجب غسل الثوب منه، ولأنه أدرجه في ضمن هذه النجاسات فكان نجساً مثلها.
الحجة الثانية: ما روي عن النبي ً، أنه سأله رجل عن المني يصيب الثوب فقال: (( أمطه عنك بإذخرة (1) فإنما هو كمخاط أو بصاق))(2). فأمره بإزالته فلو كان طاهراً لما أمره بإزالته ولأنه قال: (( أمطه بإذخرة)) دل ذلك على مبالغة في نجاسته، ولهذا فإنه زاد في إزالة أثره بالإذخرة، وإنما قال: (( فإنما هو كمخاط أو بصاق)). لما فيه من المشابهة لهما في الغلظ واللزوجة والبياض وليس الغرض مشابهته لهما في الطهارة، إذن لا فائدة في الإزالة.
الحجة الثالثة: قياسية، وهو أنه مائع يجب الغُسل بخروجه، فوجب كونه نجساً كدم الحيض، أو نقول: خارج من الإحليل فوجب كونه نجساً كالبول والمذي. فهذه الأدلة كلها دالة على نجاسته.
وذهب الشافعي في قوله المشهور غير ما حكاه صاحب (التلخيص): إلى أنه طاهر ما لم تصبه نجاسة عارضة عليه. وإلى هذا ذهب ابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة من الصحابة رضي اللّه عنهم.
والحجة لهم على ذلك: ما روته عائشة، أنه بلغها أن رجلاً غسل ثوبه من المني، فقالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه ً وهو يصلي.
قالوا: فلو كان نجساً لما انعقدت معه الصلاة، ولهم أدلة غير هذا نوردها عند ذكر الانتصار عليهم في هذه المقالة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم، في كونه نجساً لما ذكرناه عنهم، ونزيد هاهنا حُججاً:
الحجة الأولى: ما روته عائشة (رضي اللّه عنها) قالت: (( كان رسول اللّه ً، يغسل المني من ثوبه ثم يخرج إلى الصلاة)).
__________
(1) جمعها: الإذخر، وهو حشيش طيب الريح. ا.هـ قاموس.
(2) جاء في جواهر الأخبار عن التلخيص: فائدة: روى الدار قطني والبيهقي من طريق إسحاق الأزرق عن شريك عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس قال: سئل النبي ً عن المني يصيب الثوب، قال ً: ((إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق)) وقال: ((إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة)).ا.هـ. ملخصاً.
[الحجة الثانية]: وعن عمر رضي اللّه عنه: أنه غسل موضع الاحتلام من ثوبه. وعن عبدالله بن مسعود أنه قال: إذا وجدت المني فاغسله.
[الحجة الثالثة]: وعن ابن عمر أنه كان يغسله من ثوبه، فهؤلاء الجلة من الصحابة (رضي اللّه عنهم) روي عنهم غسله، فلولا كونه نجساً لما واظبوا على غسله كسائر النجاسات.
ولأنه خارج من الإحليل لشهوة فوجب كونه نجساً كالمذي، ولأنه خارج من مخرج الحدث، فوجب كونه نجساً كالبول والعذرة، فهذه المعاني كلها دالة على نجاسته.
الانتصار: يكون بإيراد ما جعلوه عمدة لهم وإبطاله.
احتجوا بقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالْتَّرَائِبِ}[الطارق:5 - 7].
ووجه الاحتجاج بهذه الآية: هو أن اللّه تعالى إنما أوردها على جهة الامتنان وإظهار القدرة، وكمال الامتنان إنما يكون بأن يخلقه من الطاهر دون النجس، فلهذا حكمنا بطهارته.
قلنا: هذا فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الآية إنما سيقت لبيان افتقاره إلى الحفظ، لكونه مبنياً من حالة ضعيفة. ولهذا قال تعالى(1):{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ }[الطارق:4].
والمعنى: وإنما كان مفتقراً إلى حافظ لكونه مخلوقاً من ماء رقيق، وأعظم ما يحتاج إلى الحفظ، الماء لرقته وتفرق أجزائه ولكونه أيضاً على صفة الدفق عن مقره ومكانه، يفتقر إلى الحفظ؛ لأن أحوج ما يحتاج إلى الحفظ ما فارق محله وزايله.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن الآية واردة على جهة الامتنان، فالغرض من الامتنان إنما هو بالخلق وتقويمه وتسوية السمع والبصر وجميع أنواع المنافع في الخلقة لا من أجل الطهارة، وكم بين الإمتنان بما ذكرناه وبين الإمتنان بطهارة الماء.
__________
(1) في الأصل: أعقبها بقوله.
وأما ثالثاً: فإنه ليس في ظاهر الآية ما يدل على نجاسة ولا طهارة، وإنما تعرض لذكر كونه ماءً دافقاً، فلا يكون فيه حجة على ما طلبوه، اللهم إلا أن يعضدوه بقوله ً: (( خلق الماء طهوراً)). وهو من جملة الأمواء، لكن هذه دلالة مستقلة على حيالها سنجيب عنها، فلا يخلطان دلالة واحدة.
قالوا: ورد قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ}[الإسراء:70]. فلو كانوا مخلوقين من النجاسة لم تكن هناك كرامة، ثم إنها واردة على جهة الإمتنان، ولن يكون ذلك إلا بأن يكون محكوماً عليه بالطهارة.
قلنا: الكرامة إنما كانت بتسوية الخلقة وإكمال العقل، وتمكينه من المنافع كلها، وما لا يكون لشيء من الحيوانات المخلوقة غيرهم، وأيضاً، فكان من جملة الكرامة ألا يجري في مجرى الحيض، ويخرج من مخرج البول، ويوضع في الأرحام، وهي أسخف مكان، وهذا يبطل ما توهموه من الكرامة.
قالوا: روت عائشة قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه ً، في الصلاة.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن هذا إنما هو كلام عائشة، وليس فيه عن رسول اللّه ً، شيء، والحجة إنما هي في كلام رسول اللّه ً، لا في كلام عائشة، ولم تَحْكِ عنه شيئاً في طهارته.
وأما ثانياً: فنهاية الأمر، أنه مذهب لعائشة وأنها تقول به، فالرد عليها كالرد على سائر المجتهدين في المسألة من غير تفرقة.
وأما ثالثاً: فلعل الرسول ً لم يشعر بكونه متصلاً بثوبه فيأمر بغسله أو يقرها عليه، فلا تكون فيه حجة.
ثم إنا نقول: لو كان طاهراً، فأي حاجة إلى الفرك كما لا يحتاج اللعاب إلى الفرك، فالفرك على نجاسته أدل منه على طهارته، ولهذا فإن أباحنيفة يذهب إلى نجاسته، لكنه يكتفي بالفرك في طهارته، كما سنقرره في كيفية إزالة النجاسات.
قالوا: مبتدأ خلق بشر، فكان طاهراً كالطين.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا منقوض بماء المرأة، فإنه مبتدأ خلق البشر، ثم إنه نجس باتفاق منا ومنكم.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل كونه غير خارج من مخرج الحدث، فلهذا كان طاهراً بخلاف المني فافترقا.
قالوا: خارج من حيوان طاهر تخَلَّق منه مثل أصله فوجب كونه طاهراً كالبيض.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه يبطل بالسرقين(1) فإنه خارج من حيوان طاهر مثل أصله في كونه حيواناً، فيلزم أن يكون طاهراً، وأنتم لا تقولون به.
فإن قيل: قد احترزنا بقولنا: تَخَلَّق منه مثل أصله والدود الخارج من السرقين ليس مثل ما خرج منه السرقين في الجنسية، فلا يلزم ما ذكرتموه.
فجوابه بالفرق، وهو أنا نقول: إن البيض يجوز أكله والانتفاع به، فلهذا قلنا بطهارته، بخلاف المني فإنه لا يجوز أكله ولا يحل الانتفاع به فافترقا.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في البيض، أن له حجاباً يحجزه عن اتصال النجاسة به من مخرجه، بخلاف المني فإنه لا حجاب يحجبه عن اتصال النجاسة به في مخرجه.
قالوا: مائع يتعلق به التحريم، فكان طاهراً كاللبن.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن التحريم متعلق به، وإنما مستند التحريم هو وطؤ المرأة، والتقاء الختانين فلا يلزم ما ذكروه.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في اللبن أن ما وقع به التحريم من جهة جواز شربه وكونه غذاءً يُنبت اللحم وينشز العظم، فلأجل هذا كان مؤثراً في التحريم كالنسب، بخلاف المني فإنه لا يجوز شربه ولا ينبت لحماً ولا ينشز عظماً فافترقا.
قالوا: أصل لتكوين الخلقة الآدمية، فوجب كونه طاهراً كالتراب.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم كونه أصلاً للتكوين، وإنما الأصل هو التراب في الحقيقة، على أنما ذكروه منقوض بالعلقة والمضغة، فإنهما أصلان للتكوين، ومع ذلك فإنهما نجسان.
وأما ثانياً: فنقلب عليهم، ونقول: أصل للتكوين، فكان نجساً كماء المرأة، فبطل ما توهموه، ويتفرع على هذه المسألة فروع ستة:
__________
(1) السرجين والسرقين بكسرهما: الزِّبل (روث البهائم).ا.هـ قاموس.
الفرع الأول: ذهب علماء العترة إلى أن منيَّ الكلب والخنزير نجسان، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه خارج من أحد السبيلين فكان نجساً في حقهما كالبول، والخلاف في ذلك مع من قال بطهارة الأبوال إلا بول بني آدم، كالذي حكيناه عن داود وقد مر فلا نعيده؛ لأنهم يجعلون منيه من جملة فضلاته فأشبه عرقهما وسؤرهما.
الفرع الثاني: منيُّ ما يؤكل لحمه كالبقر والغنم والإبل، طاهر عند أئمة العترة، وهو أحد قولي الشافعي، وحكي عنه قول آخر: أنه نجس.
والحجة على ما قلناه: هو ما ذكرناه من الدليل على طهارة أبوالها وأرواثها، وقد تقدم الكلام عليه، وقد مر الاختيار والانتصار له فأغنى عن الإعادة.
الفرع الثالث: مني ما لا يؤكل، كالحمار والفرس وسائر السباع، نجس عند أئمة العترة، فأما الشافعي فله فيه أقوال ثلاثة:
أحدها: أنه نجس بكل حال.
وثانيها: أنه طاهر بكل حال.
وثالثها: التفرقة بين ما يؤكل لحمه وبين ما لا يؤكل لحمه مثل مذهبنا.
والحجة على ما قلناه: هو ما ذكرناه من الدليل على نجاسة أبوالها وأرواثها، فما دل على ذلك فهو دليل على نجاسة ما يظهر منها من المنيّ وقد مر فلا وجه لتكريره.
الفرع الرابع: المنيُّ مثقل الحشو، لا يجوز تخفيفه، واشتقاقه من منى الماء إذا صبه، قال اللّه تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى }[القيامة:37]. أي يُصب في الأرحام. وهل يجوز شربه أم لا؟ فالذي عليه علماء العترة، أنه لا يجوز شربه، وهو المشهور عن الشافعي، وحكى المروزي من أصحاب الشافعي: أنه يحل شربه.
والحجة على ما قلناه من تحريم شربه: هو أنا قد دللنا على نجاسته فلا يجوز شربه، ولأنه خارج من مخرج الحدث فلا يجوز شربه ولا الانتفاع به كالبول.
وبيض ما لا يؤكل لحمه، نحو سباع الطير والغراب والحدأة، ظاهرها نجس؛ لأنها خارجة من الدبر، فأشبهت الروث والزِّبْل(1) وقد قررنا نجاسة ذروقها، فإن غُسلت طهر ظاهرها، ولا يحل أكلها؛ لأنها بعض من أبعاضه فأشبهت سائر أعضائه.
الفرع الخامس: المَذْيُ، وهو بالتخفيف لا يجوز تثقيله(2)، وهو ماء رقيق يكون عند تحرك الشهوة، روي عن النبي ً أنه قال: (( المذي رائد المني )). وأراد: أنه لا يكون إلا لشهوة، كما أن المني كذلك، وهو نجس عند أئمة العترة وهو قول عامة الفقهاء: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
والحجة على ذلك: ما روي [عن] أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: كنت رجلاً مذاءً فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري، فذكرت ذلك لرسول اللّه ً فقال: (( لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك ))(3). وقوله ً: (( كل فحل يُمذي فإذا وجدت الماء(4) فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة)). وعن عبدالله بن مسعود قال: سألت رسول اللّه ً عن الماء يكون بعد الماء، فقال: (( ذلك المذي فاغسل فرجك وأنثييك)). فهذه الأخبار كلها دالة على نجاسته.
ومن جهة القياس: وهو أنه خارج من مخرج المني فكان نجساً كالبول، وحكي عن فريق من الإمامية، أنهم قالوا بطهارته.
__________
(1) الزِّبل بكسر الزاي وسكون الباء، السرقين، كما جاء في اللسان، هو: الروث أو السماد الذي يكون من الروث.(الروث: فضلات الحيوانات).
(2) التخفيف للمذي: بسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء.
(3) هذا الحديث مشهور، رواه جمهور المحدثين وأصحاب الصحاح عن علي عليه السلام، لما أمر المقداد أن يسأل النبي ً عن المذي؛ لأنه كان يغتسل منه. فقال رسول اللّه ً: ((إنما يكفيك أن تنضح فرجك وتتوضأ للصلاة)) وفي رواية: ((لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك)). الحديث وهو مروي بعدة ألفاظ وروايات، ومن طرق شتَّى. ا.هـ.
(4) الماء هنا: المذي.
والحجة لهم على ذلك: ما حكيناه عن الشافعي في طهارة المني؛ لأنهما متقاربان، وقد قال عليه السلام: (( المذي رائد المني)) فإذا كان المني طاهراً فهكذا حال المذي من غير تفرقة بينهما.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة من نجاسته؛ لما ذكرناه [من الردِّ] عليهم(1) في نجاسة المني فهو وارد هاهنا، ولأنه ناقض للوضوء والصلاة فأشبه البول.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في طهارته، وقد ذكرنا نجاسة المني وهو أصلهم فيه، فالمذي يكون كذلك فلا حاجة بنا إلى تكريره.
الفرع السادس: الودي وهو بالدال المهملة والياء تشدد وتخفف، وهو ماء أبيض يخرج بعد البول، وهو نجس عند أئمة العترة وهو قول فقهاء الأمة، ولا يحكى الخلاف في نجاسته وكونه ناقضاً للطهارة.
والحجة على ذلك: هو أنه خارج من مخرج معتاد فوجب كونه نجساً كالبول.
مسألة: ذهب أئمة العترة إلى أن الخمر نجسة، وصفة الخمر ومواضع الخلاف والإجماع فيما يحل شربه ويحرم، يجيء مفصلاً في كتاب الأشربة بمعونة اللّه تعالى، وما قلناه من نجاستها هو قول عامة العلماء: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوْهُ}[المائدة:90]. فقد حصل من الآية دليلان:
أحدهما: قوله: {رِجْسٌ}. والرجس: هو النجس.
وثانيهما: قوله: {فَاجْتَنِبُوْهُ}. فلو كانت طاهرة لم يأمر باجتنابها.
__________
(1) على القائلين بطهارة المني.
الحجة الثانية: ما روى أبو طلحة، (( أن الرسول ً لما نزل تحريمها أمر بإراقتها ))، فلو كانت طاهرة لما أمر بإراقتها(1).
الحجة الثالثة: قياسية. وهي أنها مائع محرم شربه، فأشبه البول في نجاسته، ومن جهة أن العقد عليها محرم فكانت نجسة كالميتة.
وحكي عن ربيعة )، وداود، والحسن البصري، وفريق من الإمامية: أنها طاهرة.
__________
(1) هذا الاستنتاج يبدو غير مقنع إذ معناه أن النبي ً أمر بإراقتها لنجاستها فقط، ولو لم تكن نجسة لأبقى عليها، وهذا غير وارد؛ لأن التحريم هو العلة أو السبب الأول لإراقتها، وهو الحكم القطعي بإجماع الأمة. بينما الاستدلال على نجاستها من التحريم فرعي وظني وهو لا يزال موضع الخلاف. وكذلك القول بأنها لو لم تكن نجسة لم يأمر باجتنابها. إذ إن الحكم هنا معكوس. بمعنى أن الدلالة في الآية الكريمة هي واردة في الأصل على نجاسة الخمرة، وأنه يستفاد من الحكم أو يترتب عليه أو يتفرع عنه تحريمها. وهذا ما لم يقصده المؤلف وإن كان يفهم من كلامه، وإلا فلربما لزم أن تكون علة الأمر في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور}. هي نجاسة الأوثان وقول الزور، وكذا حال الميسر والأنصاب والأزلام، في آية الخمر، وغيرها مما ورد فيها الأمر بالاجتناب أو النهي عن الاقتراب. مثل: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيم} {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا}. وهو موضوع يحتاج إلى مزيد من التأمل والبحث.
(2) ربيعة بن أبي عبدالرحمن فروخ التيمي، المدني، مولى آل المنكدر، إمام، فقيه، مجتهد، بصير بالرأي، ولذلك عرف بربيعة الرأي، مفتي المدينة، سمع السائب، وأنساً، وغيرهما (واسم أبيه فروخ). وهو شيخ مالك، قال ابن حجر: ثقة، فقيه، مشهور، من الطبقة الخامسة. توفي سنة 136هـ بالمدينة. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب).
والحجة لهم على ذلك: هو أن هذه الأدلة الذي ذكرتموها إنما دلت على تحريم شربها وعلى النهي عنه، وأما طهارتها ونجاستها فليس في الآية والأخبار ما يُشعر بذلك.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أنها شراب يؤخذ من العنب والتمر فأشبه النقيع، وغير ذلك مما يكون مأخوذاً من هاتين الشجرتين.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وغيرهم من فقهاء الأمة من نجاستها، ودليله ما سبق تقريره، ونزيد هاهنا، وهو أن الرسول ً، أُتي له بنقيع تمر وقد طلع نشيشه، فقال لصاحبه: (( اضرب به هذا الحائط )). فكسر الإناء وأراقه. وفي هذا دلالة على تحريم رطوبتها، وأنها نجسة كما قررناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: إن الأدلة إنما دلت على تحريم شربها دون نجاستها.
قلنا: هذا فاسد، فإن الخطابات كلها مطلقة على وجوب إراقتها والاجتناب منها، وهذا عام في جميع التصرفات فيها، ومن جملة ذلك أنه لا تجوز رطوبتها ومباشرتها، وهذا هو الذي نريده بكونها نجسة.
قالوا: معنى كونها محرمة، هو أنه لا يجوز شربها، وهذا مسلَّم، ومعنى كونها نجسة، هو أنه لا تجوز مصاحبتها للصلاة، ومن أين أنه إذا حرم شربها لم تجز مباشرتها للمصلي؟ فأحدهما مخالف للآخر.
قلنا: هذا فاسد، فإن قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوْهُ}. دال على المنع من المباشرة في جميع الأحوال فلا يجوز تخصيصه من غير دلالة، وهكذا فإن قوله تعالى: {رِجْسٌ} دال على التصريح بالنجاسة وهذا هو مرادنا.
قالوا: حكي عن مالك أن من صلى وعلى ثوبه خمر لم يعلمها، فإنه يعيد في الوقت ولا يعيد بعده، وعن الليث: أنه يعيد في رواية، وفي رواية أخرى: أنه لا يعيد، وفي هذا دلالة على مخالفة الخمر لسائر المائعات النجسة.
قلنا: إن كان قد سبق من جهة الصدر الأول وهم الصحابة (رضي اللّه عنهم) والتابعون، إجماع على نجاستها، فهم محجوجون به وتحرم مخالفة الإجماع لكونه قاطعاً، ولا تجوز مخالفته. وإن لم يكن هناك إجماع من جهة الصدر الأول، فالمسألة اجتهادية لا محالة لا ختلاف العلماء فيها، وهذه هي أمارة كون المسألة اجتهادية، فلهذا قال مالك: إنه يعيد في الوقت؛ لأن الخطاب عليه متجدد في تأدية الصلاة من غير نجاسة، وإن كان الوقت فائتاً لم تلزمه إعادة الصلاة؛ لأن الوقت قد فات. وقد قال عليه السلام: (( لا ظهرانِ في يوم )). وسيأتي لهذا مزيد تقرير في كيفية الاجتهاد وحكمه في المسائل الخلافية، فما قاله مالك، تقرير كونها نجسة، لكن نجاستها عنده مختلف فيها، فلهذا قال فيها ما قال، وهكذا حكم من خالف من علماء الأمة في طهارتها.
قالوا: مائع شراب يؤخذ من العنب فأشبه النقيع.
قلنا: هذا خطأ، فإن قياسنا أرجح من جهة مطابقته للظواهر النقلية في تحريمها ونجاستها، وما قلتموه لا يعضده نقل ولا يرشد إليه، فلهذا كان باطلاً،. وأيضاً، فإن ما ذكرتموه من الأقيسة الطردية التي لا يُعول عليها محصل ولا يعتمد عليها محقق، وأمارة كونه طرداً مهجوراً، هو أن تعليق الحكم عليه ليس أولى من تعليق نقيضه، ولهذا نقول: مائع محرم بيعه فكان نجساً كالبول، على أن ما ذكرتموه من القياس معارض بما ذكرناه من الأقيسة، فيجب تساقط الأقيسة والعمل على الظواهر، النقلية التي حكيناها.
ويتفرع على هذه المسألة فروع خمسة:
[الفرع] الأول: النبيذ نجس عند أئمة العترة وهو المشهور عن الشافعي، وهو ما يتخذ من التمر والعنب مما يسكر كثيره دون قليله.
وحكي عن بعض أصحاب الشافعي طهارته، وهو قول أبي حنيفة.
والحجة على ما قلناه: قوله ً: (( ما أسكر كثيره فقليله حرام ))(1). وقوله عليه السلام: (( كل مسكر حرام)).
واحتج أبوحنيفة و بعض أصحاب الشافعي بحديث ابن مسعود ليلة الجن، حيث قال له [الرسول]: (( ما في أداوتك))؟ فقال: نبيذ تمر، فتوضأ به، فلو كان نجساً لما جاز التوضؤ به.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم.
والحجة على ذلك: ما ذكرناه عنهم، ونزيد هاهنا، وهو أن هذه الأخبار قد دلت على تحريم جميع الأنبذة، والحرام هو ما كان ممنوعاً منه، والأدلة الشرعية لم تفصل في ذلك بين شرب واستعمال، وهذا فيه دلالة على كونها نجسة لشمول التحريم، وما ذكرناه من النجاسة فهو عام في جميع الأنبذة كلها من العنب والتمر والزبيب والبر والشعير والذرة، فهي نجسة كلها لأجل شمول التحريم لها، وسنقرر الكلام في هذه الأصناف وما يحل وما يحرم في كتاب الأشربة.
الانتصار: قالوا: توضأ به رسول اللّه ً، ليلة الجن، فدل ذلك على طهارته.
قلنا: قد تكلمنا على هذه المسألة في المياه، وبينَّا أن المراد بذلك: هو ما نُبذ فيه تمرات لاجتذاب ملوحته، واسم الماء باق عليه في الإطلاق، فلو كان نبيداً كما زعمتم، لم يقل الرسول ً: (( ماء طهور)). فبطل ما توهموه.
الفرع الثاني: ذهب أئمة العترة إلى أنه لا يجوز تخليل الخمر، ونعني بالتخليل: هو علاجها حتى تزول عن كونها خمراً إما بطرح خل فيها أو ملح أو خردل أو غير ذلك من الأمور التي تفسد خمريَّتها، وهو قول الشافعي.
__________
(1) تتمة الحديث: ((.. اللهم إني لا أحل مسكراً)).. كما أورده في الاعتصام نقلاً عن الأحكام عن علي عليه السلام. أخرجه الستة.
والحجة على ذلك: ما رواه أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل رسول الله ً، عن أيتام ورثوا خمراً فقال له: (( أهرقها )) . فقال: أَولا أجعلها لهم خلاً؟ قال: (( لا))(1).
وذهب أبوحنيفة إلى أن ذلك جائز.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( يطهر الدباغ الجلد كما يطهر الخل الخمر ))(2).
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من تحريم تخليلها، ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم، ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روي عن النبي ً، (( أنه لعن عاصر الخمر ومعتصرها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه، إلى تمام عشرة أشخاص))(3)، وكل ذلك إنما كان لأجل تلبسهم وتعلقهم بها، ولا شك أن كل من عالجها وزاولها بالتخليل والعلاج لها، فقد لابسها، فيجب أن يكون داخلاً تحت لَعْنِهِ ً. فلو كان ذلك مباحاً لما لعنهم.
الحجة الثانية: قياسية. وحاصلها، أنا نقول: فعل محظور بحق اللّه تعالى، فلم يكن المقصود منه مباحاً لفاعله كما لو ذبح المُحْرِمُ صيداً لغيره.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: روي عن الرسول ً، أنه قال: (( يطهر الدباغُ الجلدَ كما يطهر الخل الخمر)). فجعلهما سواء في الإباحة والصحة، وهذا هو مرادنا.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي. وفي حديث آخر عن أبي سعيد قال: كان عندنا خمر ليتيم، فلما نزلت المائدة سألت رسول اللّه ً عنه، فقلت: إنه ليتيم. فقال: ((أهرقه)). أخرجه الترمذي.
(2) راجع جواهر الأخبار وفتح الغفار.
(3) أخرجه الترمذي عن أنس، ولفظه كما جاء في الاعتصام ج4/391 قال: لعن رسول اللّه ً في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وواهبها، وآكل ثمنها. وأخرج أبو داود نحوه عن ابن عمر بلفظه، عدى أنه لم يذكر (وواهبها، وآكل ثمنها).
أما أولاً: فالمطالبة بصحة نقل هذا الحديث. فعلى ناقله تصحيحه ليصح الاحتجاج به.
وأما ثانياً: فلأن ظاهره متروك العمل عليه باتفاق من جهة أن ظاهره دال على أن الخل إذا خلط على الخمر، فإنه يطهرها، وهذا لا قائل به؛ لأن الخمر تنجس الخل، فكيف يكون مطهراً لها؟ فلا بد من تأويله.
وأما ثالثاً: فلأنا نقول: المراد إذا استحالت خلاً بنفسها، فأما أنها تُعَالَجُ بفعل فاعل، فما هذا حاله محظور من جهة الشرع لما أوضحناه.
قالوا: إنما أمر الرسول ً بإهراق خمر الأيتام ولم يأمر بتخليلها، من جهة أن ذلك كان واقعاً في أول الإسلام وكانوا قد ألفوها، فمنع من ذلك لأجل التشديد، ولهذا فإنه أمر بتمزيق الأزقاق وشقها من أجل ذلك، ثم لما استقر تحريمها نسخ.
قلنا: هذا فاسد، لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فإنا لا نسلم أن تحريمها لما ذكروه من الشدة والإعظام في النكير، بل جعل من أحكام الخمر كما جعل إيجاب الحد وتحريم البيع، ولَعْنُ البائع والمشتري والعاصر والمعتصر من أحكامها.
وأما ثانياً: فلأنه إن كان المنع من التخليل لما ذكروه من العلة، فلا شك في كونها باقية، فإنها مألوفة مطربة تدعو إليها الهزة والطرب، فوجب أن يبقى المنع كذلك.
وأما ثالثاً: فلأنها مختصة بلذة، ولها رائحة فائحة، وهزة مستلذة، فلا يأمن من أن يدعو تخليلها إلى شربها والمداومة عليه، فلا جرم كان ذلك محرماً كما حرمنا خطبة المعتدة في العدة مخافة الوقوع في المحظور.
ثم نقول: إنه وإن كان المنع من التخليل لما ذكروه، خلا أنه ممنوع بخطاب مطلق، فلا يجوز زوال حكمه بزوال العلة كما قلناه في الرمل والاضطباع في الطواف(1)، فإنه إنما شرع لإظهار الجَلَد للكفار، ثم إنه بقي مع زوال العلة، وكما شُرِعَ غُسلُ يوم الجمعة لزوال الروائح، ثم بقي وإن لم تكن هناك رائحة.
الفرع الثالث: إذا تقرر تحريم تخليلها، فلو أقدم مقدم على هذا المحظور فهل يكون حلالاً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون حراماً، وهذا هو رأي الهادي والقاسم ومحكي عن الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما في حديث أبي طلحة ) حيث قال له: يخللها؟ فقال ً: (( لا)). فلو كان التخليل لها يطهرها لأمره به، خاصة مع كونها مالاً لأيتامٍ يجب حفظه.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنه مائع لا يرفع الحدث، فإذا تنجس لم تؤثر صنعة الآدمي في تطهيره كالخل، فإن الخل إذا تنجس لم يطهر بصنعة صانع فهكذا حال الخمر.
المذهب الثاني: أنها تكون حلالاً، وهذا هو الذي يحكى عن الناصر و المؤيد بالله، وهو قول أبي حنيفة.
__________
(1) قال ابن منظور: واضطبع الشيء: أدخله تحت ضبعيه والاضطباع الذي يؤمر به الطائف بالبيت.. أن تدخل الرداء من تحت إبطك الأيمن وتغطي به الأيسر، كالرجل يريد أن يعالج أمراً فيتهيأ له. ا.هـ. لسان.
(2) هو زيد بن سهل بن الأسود النجاري الأنصاري، صحابي، من الشجعان الرماة، ولد في المدينة، ومات بها سنة 34هـ - 654م. عن سبعين سنة، وهو أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، شهد بدراً والمشاهد كلها، وكان ردف النبي ً يوم خيبر، روى عنه: ربيبه أنس بن مالك، وزيد الجهني، وابن عباس. ا.هـ. (در السحابة للشوكاني).
والحجة على ذلك: هو أنها إنما حرمت لمعنى وهو الشدة المطربة التي تختص بها، فإذا صارت خلاً فقد زال المعنى الموجب لتحريمها، كما لو لم تكن خمراً من قبل، ويؤيد ما ذكرناه، أن الماء إذا تنجس بنجاسة طارئة عليه، بأن غيرت أوصافه أو بعضها ثم زال ذلك التغير، فكما أنه يصير طاهراً مطهراً فهكذا ما نحن فيه.
والمختار: ما قاله الناصر والمؤيد بالله.
والحجة عليه: هو أنها خمر زالت شدتها من غير نجاسة وقعت فيها من غيرها، فوجب القضاء بطهارتها، وكونها حلالاً كما لو انقلبت خلاً بنفسها من غير تخليل.
ومن وجه آخر: وهو أن في تخليلها إصلاح فاسد وتطهير نجس، فكان مؤثراً في العلاج والتطهير كوضع البيض تحت الدجاجة، ومكاثرة الماء النجس بماء طاهر.
الانتصار: يكون ببطلان ما أوردوه.
قالوا: حديث أبي طلحة مانع من التخليل.
قلنا: قد تكلمنا عليه فأغنى عن الإعادة بما فيه كفاية.
قالوا: مائع لا يرفع الحدث، فإذا تنجس لم تؤثر صنعة الآدمي في تطهيره كالخل.
قلنا: الخمر إذا صارت خلاً طهرت بخروجها عن صفة الخمرية، بخلاف الخل فإنه لا يخرج عن كونه خلاً فلهذا لم يطهر بحال فافترقا.
الفرع الرابع: إذا صارت الخمر خلاً بنفسها من غير معالجة، فهل تطهر وتصير حلالاً يحل شربها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يحل شربها، وهذا هو الذي حكاه السيد أبوطالب عن كثير من أصحابنا.
والحجة على ذلك: هو أنها صارت خلاً بعد أن كانت خمراً فلا يحل شربها كما لو كان بالتخليل والمعالجة، وعلى منهاج هذه المقالة. قالوا: بأن العنب والتمر إذا صارا في هذه الجواني، فلا بد أن يعالج بالملح والخردل مخافة أن يصير خمراً، وأوجبوا ذلك؛ لأن العادة مطردة أن الخل لا يصير خلاً إلا بعد صيرورته خمراً، فلا جرم أوجبوا ما ذكرناه مخافة أن يكون خمراً فينجس ويحرم أكله.
المذهب الثاني: أنها تكون طاهرة ويحل شربها، وهذا هو الذي دل عليه كلام الهادي والقاسم، واختاره الأخوان، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنها إذا صارت خلاً بنفسها، فقد استحالت عن الصفة التي أوجبت تحريمها وهي الخمرية، فجاز شربها كاللبن إذا استحال من الدم، وهو محكي عن الناصر.
والمختار: ما قاله الناصر والأخوان.
والحجة على ذلك: ما روى جابر بن عبدالله، أن الرسول ً، قال: (( نعم الإدام الخل ))(1). فأثنى عليه، وفي هذا دلالة على طهارته وعلى حل شربه، وقد عُرف في مطرد العادات واستمرارها، أنه يستحيل أن يكون خلاً من غير أن يكون خمراً، وفي هذه دلالة على أنها إذا صارت خلاً بنفسها من غير معالجة جاز وحل شربها وحُكم بطهارتها.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه في تحريمها.
قالوا: صارت خلاً بعد أن كانت خمراً فأشبه ما لو عولجت بذلك، وقد قررنا أن علاجها لا يبيح ذلك.
قلنا: فرق بين أن يصير خلاً بنفسه وبين أن يصير بفعل الآدمي، فمتى صار خلاً بفعل الآدمي فهو نجس، وإن كان بنفسه طهر وحل شربه كما تقدم، كما يكون ذلك في الصيد إذا خرج من الحرم بنفسه، ولا يحل إذا أخرجه آدمي.
الفرع الخامس: وهل يطهر الدَّنُّ الذي هي فيه أم لا؟ والأقرب: أنه يطهر، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه لا يطهر إذا كان مما يقبل النجاسة كالدنان والقصاع والفخارات، وإن كان مما لا يقبل النجاسة طهر، كالزجاج وآنية البلور؛ لأنها إذا كانت مما يقبل النجاسة فإنه(2) لا يطهر إلا بالغسل، وإن كان مما لا يقبلها طهر بالحكم لأنه لا تنشب به.
__________
(1) أخرجه مسلم (1621/ 1622) ورواه أحمد في مسنده ج3/301، والبيهقي في السنن الكبرى ج7/280 . وروي بروايات متفرقة.
(2) لعل الصواب: فإنها.
والحجة على ما قلناه: وهو الأصح من قولي الشافعي، هو أن نجاستها إنما كانت لاتصالها بالخمر وكونها وعاءً لها، فإذا حكمنا بطهارة الخمر لمَّا استحالت خلاً وجب الحكم بطهارتها على جهة التبع، وهكذا حال المغرفة أيضاً.
ولا يجوز إمساك الخمر لغرض أنها تصير خلاً، لما روي (( أن الرسول ً، لعن عاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه)). ولا شك أن كل من أمسكها لغرض التخليل فإنه مندرج تحت هؤلاء الملعونين لكونه متلبساً بها، فإن أمسكها حتى تخللت بنفسها، فهل تطهر ويحل شربها أم لا؟ فيه الوجهان اللذان ذكرناهما في حكمها إذا تخللت من غير فعل آدمي.
مسألة: القيء مهموز. وفي الحديث: (( الراجع في هبتة كالراجع في قيئه ))(1). والذي ذهب إليه أئمة العترة: أن القيء الخارج من أقصى المعدة نجس، وهو قول فقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك وغيرهم من الفقهاء الصحابة والتابعين.
والحجة على ذلك: ما جاء في حديث عمار، حيث قال عليه السلام: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والمني والمذي))(2).
__________
(1) هذا الحديث نقله المنصور بالله القاسم بن محمد في الاعتصام عن الشفاء بلفظ: ((العائد في هبته كالعائد في قيئه)). ا.هـ ج4/406. وسيأتي في موضعه.
(2) هكذا في الأصل أسقط الدم وأضاف المذي، بينما في الروايات السالفة كلها في حديث عمار، ذكر الدم مع البول والغائط والقيء والمني دون المذي وقد سلف إثبات نجاسة المذي في حديث علي. ا.هـ.
والحجة الثانية: قياسية، وهو أنه طعام استحال في الجوف إلى نتن وفساد فأشبه الغائط، فأما نقضه للوضوء فسيأتي تقريره في باب الأحداث الناقضة للطهارة بمعونة اللّه تعالى، ولا يفترق الحال في كونه نجساً إذا كان من أقصى المعدة، لأن خبر عمار لم يفصل في ذلك بين جنس وجنس، ولأن المعدة هي موضع الحدث كما لا يفترق الحال فيما يخرج من الدبر لما كان موضعاً للحدث، وفيه تردد بين العلماء نفصله في التفريع.
ويتفرع على ما ذكرناه فروع نذكرها:
الفرع الأول: هل يكون قليله مثل كثيره في كونه نجساً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن قليله مثل كثيره في النجاسة لا يفترقان، وهذا هو رأي الإمام الشهيد زيد بن علي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على ذلك: أن الظواهر الشرعية الدالة على نجاسة القيء، نحو حديث عمار، واردة على جهة العموم غير فاصلة بين قليله وكثيره، والتخصيص إنما يكون بدلالة منفصلة ولا دلالة هناك، فبقي على العموم وهو المطلوب.
الحجة الثانية: قياسية، وحاصلها أنا نقول: طعام استحال في المعدة إلى نتن وفساد فكان قليله مثل كثيره في النجاسة كالعذرة.
المذهب الثاني: أن قليله مخالف لكثيره، فالكثير منه نجس وقليله غير نجس، وحدُّ القليل ما كان دون ملء الفم وهي الدسعة الواحدة، فما كان دونها فهو طاهر وما جاوزها فهو نجس، وهذا هو الذي حصله السيدان: أبوالعباس وأبوطالب، لمذهب الهادي والقاسم، وهو الظاهر من مذهب المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: هو أنه خارج من أعماق البدن، فوجب أن يكون قليله مخالفاً لكثيره كالدم.
الحجة الثانية: هي أن الدم والقيء متفقان في الحكم، من جهة أن كل من قال: إن كثير الدم ناقض للوضوء، قال: إن كثير القيء ناقض له، ومن قال: بأن كثير الدم غير ناقض، قال: إن كثير القيء غير ناقض، فإذا كانا مستويين فيما ذكرناه وجب استواؤهما في العفو عن قليل القيء كما عفي عن قليل الدم، وفي ذلك ما نريده من مخالفة قليله لكثيره.
والمختار: ما قاله الإمام زيد بن علي ومن وافقه من علماء الأمة، لما حكيناه من الاستدلال لهم ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: أن تعويلهم في التفرقة بين قليله وكثيره إنما هو على الأقيسة المعنوية من جهة القائس، وما ذكرناه من التسوية بينهما إنما هو تعويل على الظواهر الشرعية من جهة صاحب الشريعة، ولا شك أن ما كان من جهة الشارع، فإنه لا يساوي ما كان من جهة القائس، فإن الشارع معصوم عن الخطأ، والقائس ليس معصوماً عن الخطأ، فلا جرم كان التعويل على كلام الشارع أولى وأحق من غيره.
الحجة الثانية: هي أن ما ذكرناه من حديث عمار، إنما سيق بياناً لأعيان النجاسات حيث قال فيه عليه السلام: (( إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والقيء والدم )). وغيره من الأحاديث المذكور فيها (( الدسعة)) و(( الذارع))، إنما سيقت من أجل بيان نواقض الوضوء لا من أجل بيان أعيان النجاسات، ولا شك أن كل ما سيق بياناً لمقصود معين، هو أقوى مما سيق لمقصود آخر، فلهذا كان حديث عمار أقوى في الدلالة من غيره، وهو لم يفرق بين القليل والكثير فلهذا كان التعويل عليه.
الانتصار: يكون بالجواب عما جعلوه عمدة لهم في ذلك.
قالوا: خارج من أعماق البدن فكان قليله مخالفاً لكثيره في التنجيس كالدم.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن مسلك النجاسات ضيق فلا يُضطرب فيه بالخطوات الوساع وإنما قاعدته التقريرات الشرعية والتحكمات النقلية، فأما مسالك القياس فتكاد تكون منسدة فيه لكونه متعلقاً بأمر غيبي استأثر اللّه بعلمه، ولا شك أن الشرع قد دل في الدم على مخالفة قليله لكثيره فقررناه حيث ورد، ولم تدل مثل تلك الدلالة على قليل القيء، فمن أجل ذلك قضينا فيه بنجاسته كله من غير تفرقة كسائر النجاسات كلها، فإن مبناها على موافقة قليلها لكثيرها في التنجيس، فوجب مثله في القيء من غير مخالفة لغير دلالة.
وأما ثانياً: فلأن عموم البلوى في الدماء كثيرة من أجل ملابستها في كل حيوان، بخلاف القيء فإنه مخصوص ببعض الحيوانات، فلما كان الأمر فيه كما قلناه لا جرم خفف الشرع فيه الحكم في التفرقة بين قليله وكثيره، وبقي القيء على أصل القياس في النجاسات فافترقا.
قالوا: سوَّت الأمة بين الدم والقيء في نقض الوضوء بهما وعدم النقض بهما على قولين: فمن قائل يقول: بأنهما ناقضان كلاهما، وقائل يقول: إنهما غير ناقضين كلاهما، فإذا كانا مستويين فيما ذكرناه، فيجب استواؤهما في مخالفة القليل منهما جميعاً للكثير.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه لا يلزم من استوائهما في حكمٍ استواؤهما في حكم آخر، فما ذكرتموه دعوى لا برهان عليها من جهة دلالة شرعية.
وأما ثانياً: فلأنه إنما وجب استواؤهما في النقض وعدمه لدلالة شرعية، أما في النقض فلقوله عليه السلام: (( الوضوء مما خرج ))(1) ولم يفصل، وأما في عدم النقض فلأنه عليه السلام احتجم وما زاد على غسل محاجمه ولم يعد وضوءاً، فهذان مستندان لمن نقض بالخارج ولمن منع من النقض به قد استويا، فلأجل هذا قضينا بالتسوية بينهما لمكان هذه الدلالة الشرعية، بخلاف ما نحن فيه فإن الدلالة الشرعية إنما دلت على الفصل بين قليل الدم وكثيره، ولم يحصل مثل ذلك في القيء، فلهذا افترقا في ذلك، فلا جرم حكمنا على كل شيء بموجب دليله الشرعي، فلأجل هذا قضينا بمفارقة الدم للقيء في القليل، والله أعلم بالصواب.
قالوا: أشار الشرع إلى كثير القيء، بقوله: (( أو دسعة تملأ الفم ))(2). فدل على أن ما نقص عن الدسعة فإنه في حكم القليل، كما أن ما نقص عن السفح في حق الدم، فإنه قليل، وفي ذلك ما نريده من التفرقة بين قليله وكثيره.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكره عليه السلام هاهنا، إنما ورد بياناً لحال نواقض الوضوء دون الطهارة والتنجيس، وكلامنا إنما هو فيما ينجس من القيء وما لا ينجس، فمن الجائز أن يكون غير ناقض وهو نجس، كما قاله الناصر والشافعي، ومن المحتمل أن يكون كما هو ناقض فهو نجس أيضاً، كما قالته القاسمية. فالنجاسة شيء، والنقض شيء آخر، فأحدهما مخالف للآخر.
__________
(1) حكاه في أصول الأحكام ونسبه في التلخيص إلى الدارقطني والبيهقي في حديث ابن عباس بلفظ: ((الوضوء مما خرج وليس مما يدخل)). ثم ضعف إسناده. ا.هـ ج2/86 (بحر، جواهر)
(2) أورده في الجواهر عن علي عليه السلام قال: قلت: يا رسول اللّه، الوضوء كتبه اللّه علينا من الحدث فقط؟ قال: ((لا بل من سبع: من حدث، وبول، ودم سائل، وقيء ذارع، ودسعة تملأ الفم، ونوم مضطجع، وقهقهة في الصلاة)). حكاه في أصول الأحكام والشفاء. ا.هـ. ج2/15.
وأما ثانياً: فلأنه إنما بين حكم الدسعة، و سكت عما دونها، فليس فيه دلالة على أن ما دونها مخالف لها، اللهم إلا أن يقال: ما علق الحكم بالدسعة إلا وما دونها مخالف لحكمها فيكون هذا تعلقاً بدليل الخطاب ومفهومه، وهو متمسك ضعيف المجرى في المسائل الفقهية، وقد قررنا حكمه فيما سبق فأغنى عن تكريره.
قالوا: روي عنه ً أنه قال: (( وقيء ذارع )). فدل على أن ما دون الذارع مخالف لحكمه في النقض والتنجيس. والذارع: هو السابق؛ لأنه يسبق الإنسان ولا يقف على إرادته، وسمي القيء: ذارعاً لخفة خروجه عند تحرك النفس وتجشيها أخذاً من قولهم: امرأة ذارع. إذا كانت خفيفة الغزل. فلما علق الحكم بالذارع، دل على أن ما عداه بخلافه في النجاسة.
قلنا: هذا من الطراز الأول، فإن الخبر إنما سيق من أجل نقضه للوضوء لا من أجل بيان حكم النجاسة، فأحدهما مخالف للآخر، فنحن نسلم أنه ناقض وما دونه ليس ناقضاً، لكنا لا نسلم أنه غير نجس، بل الذارع وما دونه نجسان، دليله، سائر النجاسات كلها من البول والعذرة وغيرهما.
قالوا: ما دون الدسعة قيء لم يملأ الفم فوجب أن لا يكون نجساً كالجشاء المتغير.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن القيء خارج من أعماق البدن، والجشاء ليس خارجاً من أعماقه، وإنما هو هواء يتردد في الحلق من المعدة إلى الفم.
وأما ثانياً: فلأن الأصل في الجشاء أن تكون رائحته طيبة؛ لأنه لا محالة ينفصل من الغذاء الطيب، وإنما تعرض له الرائحة الكريهة من أ جل تغير في المعدة من أجل الامتلاء، بخلاف القيء فإنه متغير بكل حال فلهذا افترقا.
قالوا: مائع من طبعه الانحدار فإذا علا صار مستخرجاً، فلهذا كان نجساً كثيره دون قليله كالدم.
قلنا: نقض الوضوء متعلق بكثيره دون قليله كما فصل بينهما الشرع، بخلاف النجاسة، فإن الشرع ما فصل بين قليله وكثيره فمن أجل ذلك قضينا بالتعميم في قليله وكثيره بالتنجيس.
الفرع الثاني: القَلَس وهو فَعَلٌ بتحريك اللام بالفتح كفرس، وهو بالقاف والسين بثلاث من أسفلها(1). قال الخليل بن أحمد ): والقلس ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه، وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء. وما يكون حكمه في النجاسة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه إذا كان ملء الفم فما فوقه فهو نجس وإن كان دونه فهو طاهر، وهذا هو الظاهر من مذهب الهادي والقاسم، وهو رأي الأخوين السيدين: المؤيد بالله وأبي طالب والسيد أبي العباس.
والحجة على ما قالوه: قد ذكرناها من قبل فأغنى عن الإعادة.
المذهب الثاني: أنه يكون نجساً قليله وكثيره، وهذا هو الذي حكيناه عن زيد بن علي، وأبي حنيفة وأصحابه، والشافعي.
والحجة على ذلك: قد ذكرناها وهو المختار كما مر بيانه.
الفرع الثالث: ما انحدر من الرأس كالبصاق والمخاط والدمع فهو طاهر عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
__________
(1) كانت السين المهملة في مصطلح القدماء، تعجم بثلاث من تحت، مقابل تثليث الشين المعجمة من فوق كما مر في المقدمة.
(2) أبو عبدالرحمن الخليل بن أحمد الأزدي الفراهيدي، ويقال: الباهلي، صاحب العروض (بحور الشعر) وكتاب (العين) في اللغة (طبع في ثمانية مجلدات). وهو علم من أعلام اللغة العربية، وأول من وضع علم العروض وله مذهب معروف في اللغة. وروي: أنه كان يرى في الفقه رأي الإباضية حتى مَنَّ اللّه عليه بمجالسة أيوب بن المتوكل. قال عنه النضر بن شميل: ما رأيت أحداً يطلب إليه ما عنده أشد تواضعاً منه. ونقل الحافظ بن حجر عن إبراهيم بن إسحاق الحربي: أن علماء العربية بالبصرة كانو أصحاب أهواء إلا أربعة كانو أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء، والخليل، ويونس بن حبيب، والأصمعي. وثقه ابن حبان، ووصفه بالزهد والتقشف، توفي سنة 175هـ على الأصح. (تهذيب التهذيب ج3/141).
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً أنه قال: (( إذا قام أحدكم في صلاته فإنه يناجي ربه فلا يبصق في قبلته ولكن عن يساره وتحت قدمه)) ثم إنه أخذ طرف ردائه ثم بصق فيه ثم رد بعضه على بعضٍ، ثم قال: (( إذا فعل فليفعل هكذا))(1).
وهل يُكره ذلك أم لا؟ فالذي عليه أئمة العترة وهو قول علماء الأمة، أن ذلك لا يكره.
والحجة على ذلك: هو أن الرسول ً، قد فعل ذلك، وأدنى درجات فعله عليه السلام هو الحسن والإباحة، وأعلى درجات فعله هو الوجوب، فإذا فعل فعلاً دل ذلك على حسنه وعلى عدم الكراهة؛ لأنه معصوم فلا يجوز عليه فعل القبيح.
وحكي عن الحسن بن صالح: أنه يكره للرجل أن يبصق في ثوبه، وحكي عن الأوزاعي: أنه يكره للرجل أن يدخل سواكه في [ماء] وضوئه.
والحجة على ما قالا: هو أن ما هذا حاله ربما تعافه النفوس وتستقذره، فلهذا كان مكروهاً.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة، ويدل على ذلك ما روى أنس بن مالك ) (( أن رسول اللّه ً بصق في ثوبه ورد بعضه على بعض))، فلو كان مكروهاً لما فعله، وما ذكروه ليس معولاً عليه؛ لأن الغرض إنما هو الكراهة الشرعية، ولم تدل عليها دلالة، فأما الاستقذار فليس له وجه شرعي فلا يعول عليه.
الفرع الرابع: ذهب علماء العترة إلى أن البلغم المتصعد من المعدة نجس، وهذا هو قول الشافعي ومحكي عن أبي يوسف.
والحجة على ذلك: هو أن الأخبار الواردة في نجاسة القيء كخبر عمار وغيره من الأخبار، لم تفصل بين أن يكون بلغماً أو غيره، فوجب أن يكون حكم النجاسة متعلقاً به.
__________
(1) سيأتي في باب الصلاة.
(2) أبو حمزة أنس بن مالك بن النضر النجاري، الخزرجي، الأنصاري، صاحب رسول اللّه ً، وخادمه إلى أن قبض، ولد بالمدينة، وأسلم صغيراً، وروى أكثر من 120 حديثاً، رواها عنه كثيرون من عدة طرق. رحل إلى دمشق ومنها إلى البصرة حيث مات بها.
والحجة الثانية: قياسية، وهو أنه قيء خارج من المعدة، فوجب أن يكون نجساً كالمرة الصفراء والسوداء.
وحكي عن أبي حنيفة ومحمد: أنه طاهر.
والحجة لهما على ذلك: هو أنه جنس من البلغم فأشبه ما ينزل من الرأس.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم.
والحجة على ذلك: هو أنه قيء خارج من المعدة فأشبه القلس، ولأنه طعام استحال في المعدة فكان نجساً كالعذرة.
الانتصار: قالوا: جنس من البلغم فأشبه ما ينحدر من الرأس.
قلنا: المعنى في الأصل أنه لم يتصل بالمعدة فلهذا كان طاهراً، بخلاف البلغم فإنه متصل بالمعدة وهي محل للنجاسة فلهذا كان نجساً.
قال السيد المؤيد بالله: البلغم يكون طاهراً في نفسه، خلا أنه لما كان خارجاً من المعدة فإنه لا ينفك عن اتصاله بالنجاسة فلهذا وجب الحكم بتنجيسه؛ لأجل الاتصال بالنجس كما لو خرج من الدبر، وكما لو شرب ماءً ثم قاءه فإنه ينجس لما ذكرناه من الاتصال، وهكذا حال الطعام إذا خرج بعينه فإنه يصير نجساً للمجاورة للنجاسة.
قالوا: البلغم فيه صقالة ولزوجة فلا يقبل النجاسة، فلهذا كان طاهراً.
قلنا: إن صقالته ولزوجته لا تمنع من أن يكون متصلاً بالنجاسة التي هي السبب في نجاسته فإذا اتصل بها كان نجساً.
الفرع الخامس: البلغم المتصعد من أقصى الحلق، طاهر عند أئمة العترة وهو رأي الفقهاء: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ولا يحكى الخلاف فيه إلا عن أبي يوسف.
والحجة على ذلك: هو أنه مائع غير متصل بالمعدة فوجب القضاء بطهارته كالدمع والبصاق، ولأن العلة في نجاسة البلغم ليس إلا اتصاله بالمعدة التي هي محل النجاسة، وما هذا حاله غير متصل بها، فلهذا لم يكن نجساً، ويؤيد ما ذكرناه هو أن ما يقع في المعدة من الطعام فإنه يتغير على القرب لأجل الحرارة التي فيها فتطبخه فيتغير في لونه إلى الحمرة كحب الرمان وإلى الصفرة وفي طعمه إلى الحموضة، بخلاف ما لا يكون متصلاً بها فإنه لا يكون متغيراً.
قال السيد المؤيد بالله: والأقرب عندي أن الماء الخارج من الفم في حال النوم أنه طاهر، والأظهر أنه غير خارج من المعدة؛ لأن الخارج منها لا بد أن يكون متغيراً كماء حب الرمان وشبهه، ويتعذر خروجه إلا بقذف وتقيؤ، وهذا يؤيد ما قلناه من ذلك ويوضحه.
الفرع السادس: من انكسرت يده فجبر بعظم نجس فانجبرت اليد والتحم عليها العصب واللحم، فهل يجب كسره وإخراجه أم لا؟ فالذي عليه علماء العترة أنه لا يجب كسره ولا يتوجه إخراجه، وهذا هو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هي أن النجاسة إذا حصلت في باطن الإنسان سقط حكمها كما لو شرب خمراً أو أكل ميتة لخشية التلف.
وحكي عن الشافعي: أن السلطان يجبره على إخراجه إذا لم يخف التلف.
والحجة على ما قاله: هو أن ما هذا حاله لا يجوز استعماله من أجل نجاسته، فإذا انجبر عليه اللحم لم يسقط حكم الإخراج.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. ولا حرج أعظم من تقطيع الإنسان وكسر يده ورجله. وقوله تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. ولا يسر مع ما ذكرناه.
الانتصار: قال: لا يحل استعمال النجس إلا لضرورة ولا ضرورة هاهنا.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن اللّه تعالى قد خفف حكم النجاسات في مواضع كثيرة، نحو أكل الميتة للمضطر في مخمصة، ونحو إساغة الطعام بالخمر عند الضرورة لفقدان الماء وإعوازه.
وأما ثانياً: فلأنه إذا كان اللحم منجبراً عليه فليس بأعظم من النجاسات التي اشتمل عليها باطنه كالبول والعذرة والدم، وإنما قال الشافعي: يجبره السلطان لما كان منكراً تجب إزالته فيستعان بالسلطان على دفعه وإزالته إذا لم يكن صاحبه دافعاً له؛ لأن الولاية تقتضي ذلك وتوجبه كإزالة سائر المنكرات الشرعية، وإنما خص الإخراج بالسلطان لما كان يتضمن من الإيلام بالقطع، وإيلام الخلق لا يجوز إلا بالولاية، ولا ولاية أعظم من ولاية الذي بيده سلطان الإسلام.
والعجب من تصميم الشافعي على هذا النظر مع علمه بتحقق رحمة اللّه للخلق وأنه لا يكلف ما ليس في الوسع، وأن مبنى الطهارات على الخفة والسهولة. ويؤيد ما ذكرناه ما سبق من أن عرفجة بن أسعد قُطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه، فأمره الرسول ً باتخاذ أنف من ذهب، ولا فرق بين العظم النجس وبين استعمال الذهب في التحريم، فإذا جاز ذلك جاز هذا من غير تفرقة بينهما. وليت شعري أيما أعظم في نظر الشرع مع الإلتفات إلى القواعد العقلية والإستمرار على القوانين النقلية، هل تقطيع أوصال الإنسان وإيلامه بأنواع الإيلام لغير موجب، أو اغتفار نجاسة عظم قد صار من جملة الأوصال مغموراً باللحم والعصب مع ما تضمنه باطن الإنسان من أضعاف تلك النجاسة! فما قاله الشافعي معوز النظير، فهذا ما أردنا ذكره في بيان الأعيان النجسة.
دقيقة تشتمل على بيان ما يعفى عنه من هذه النجاسات، وجملة ذلك أمور عشرة:
أولها: الطين الذي يكون في الشوارع النجسة الذي يعلق بالخفاف والنعال وأسفل الأقدام بقدر ما يتعذر الاحتراز منه، والضابط لما يعفى منه: هو الذي لا يُنسب المتلطخ به إلى تفريط ولا إلى رثاثة الهمة وركتها.
وثانيها: الغبار المنفصل عن السرقين وسائر الأرواث النجسة في الطرقات، فما هذا حاله يعفى [عنه] لكثرة التردد في الطرقات.
وثالثها: دم البراغيث والبق ما قل منه، وهو ما يكون غير سافح كما تقدم ضبطه، سواء كان في ثوبك الذي تلبسه أو ثوب غيرك فلبسته؛ لأن الرخصة حاصلة في الأمرين جميعاً.
ورابعها: دم البثرات التي تكون في الوجه في الوجنة والذقن والجبهة وما ينفصل منها من قيح وصديد ودم. وعن ابن عمر رضي اللّه عنه أنه كان في وجهه بثرة فخرج منها دم فصلى ولم يغسل أثرها؛ لأنها ربما شق الاحتراز عنها.
وخامسها: أثر الفصد فإن تلك الشرطة أثرها يسير يعفى عنه، وهكذا حال أفواه الدماميل عند عصرها، يغتفر حالها لعصرها وعموم البلوى بكثرتها في الأجسام.
وسادسها: ما تحمله الذبان بأرجلها من النجاسات في الأثواب والأجسام، فإنها كثيراً ما تقع على الأجسام الرطبة ثم تطير فتقع على ما ذكرناه، فما هذا حاله يتعذر الاحتراز منه لا محالة، فلهذا عفي عنه إذا كان يسيراً غير متفاحش في الكثرة.
وسابعها: ما تحمله الريح من النجاسات أيضاً سواء كانت النجاسة رطبة أو يابسة، فإنها ربما حملت من غبار السرقين والأزبال النجسة، وتارة تطير بالرشاشات من الرطوبات النجسة أيضاً، فإنه يعفى عما هذا حاله مالم يكن متفاحشاً.
وثامنها: الحبة والحبتان من خرو الفأرة؛ لأن البلوى بهن كثيرة في البيوت والمساكن العامرة والخراب، ومثل ذلك جار في حق الحيات والأفاعي الساكنة في البيوت أيضاً، فإنه يعفى من ذروقهن وأزبالهن ما يغتفر في حق الفأرة؛ لأنهما سواء في المخالطة والطوف، وقد قال الفقهاء مثل ذلك في البعرة والبعرتين عند الحلب، لأن ذلك ربما وقع كثيراً، بناء منهم على ما زعموه من نجاسة أرواث ما يؤكل لحمه، وقد مر الكلام عليهم في ذلك.
وتاسعها: إذا طين البيت بالطين النجس بالأمواء النجسة والأزبال والسرقين، فإن الطين يكون نجساً بما خالطه منها، فإذا دخلها الداخل ولا صق هذه الجدرات فإنه ربما يعلق بالأثواب منها شيء من غبارها وترابها، فيغتفر ما هذا حاله لما يلحق من توقيه من المشقة بالتحرز منه فتساهل الشرع فيه.
وعاشرها: الدماء التي تكون في العروق متصلة باللحم بعد الذبح، ودماء المذابح ما بقي منها يغتفر، لأنه لم يعلم في الأمصار والأقاليم أن أحداً من العلماء أوجب غسل تلك المواضع لما يلحق فيها من الصعوبة والحرج، وفي هذا دلالة على كونها مغتفرة في الطهارات كما قررناه من قبل، ويلحق بهذا العفو: موضع السبيلين، بترك الغسل اكتفاءً بالحجارة على رأي الفقهاء، وهو عندنا غير معفو عنه، ولابد من غسله وسنقرره في الاستنجاء بمعونة اللّه تعالى.
فهذه الأمور العشرة قد تسامح الشرع فيها وعفا عنها، وتسامحه فيه دلالةُ ظاهرٍ وقرينةُ معرفةٍ على أن مبنى الطهارات كلها على التساهل، وأن كل ما زيد فيه على خلاف قانون الشرع ووضعه فإنما هو بدعة نشأت من جهة الوسوسة لا أصل لها. وبتمامه يتم الكلام على الفصل الأول من باب النجاسات، والله أعلم بالصواب.
---
الفصل الثاني: في بيان الكيفية في إزالة هذه النجاسات
اعلم أن الذي ورد به الشرع هو التحرز من النجاسات والبعد عنها، كما قال اللّه تعالى: {وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]. والرجز: هو النجس، فأما الرجز في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزَاً مِنَ السَّمَاءِ }[الأعراف:162].فإنما هو العذاب، وفي الحديث: (( إن اللّه نظيف يحب النظافة فتنظفوا )). ثم إن الإزالة مختلفة باختلاف النجاسات نفسها، منها ما لا يقبل النجاسة، ومنها ما لا يمكن غسله فمنها ما يمكن غسله خلا أنه يتعذر من جهة المشقة، ومنها ما هو ممكن الغسل، فهذه أمور أربعة نعقدها في نوعين لاندراجها تحتهما، ثم نذكر ما يختص كل واحد منها من المسائل:
النوع الأول منها: ما لا يقبل النجاسة لصقالته، وهذا نحو: المرآة والسيف والزجاج والذهب وغيرها من الأشياء الصقيلة، فإذا أصابتها نجاسة فهل تطهر بالمسح أو لابد من الغسل؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها لا تطهر إلا بالغسل لا غير، وهذا الذي ذكره المؤيد بالله، وأشار إلى أنه مذهب الهادي، وهو قول الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه محل نجس فلا يطهر بالمسح كالثوب، أو نقول: محل اتصلت به النجاسة فلا يطهر إلا بالغسل كالأثواب والآنية.
المذهب الثاني: أنه يطهر بالمسح فإذا داس(1) ما هو صقيل بالخرقة أو بالخشن كان طاهراً، وهذا هو رأي زيد بن علي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ومالك.
والحجة على ذلك: هو أن النجاسة إما أن تكون عينية أو حكمية، وكل واحد من العين أو الحكم إنما تجب إزالته عن المحل إذا كان قابلاً له، فأما إذا لم يكن قابلاً له فلا وجه لإزالته، فهذه الأشياء لصقالتها غير قابلة فلهذا لم يجب غسلها بالماء، وهذا هو رأي السيد أبي طالب.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله وغيره.
__________
(1) داس: بمعنى صقل وجلا. ا.هـ لسان.
والحجة على ذلك: هو أنها طهارة تُراد للصلاة فلا يجوز تحصيلها بغير الماء، دليله: طهارة الحدث.
الانتصار: قالوا: إزالتها بالماء إنما تجب إذا كان المحل قابلاً لها فأما إذا لم يكن قابلاً فلا وجه لإيجاب الماء.
قلنا: إن لم يكن المحل قابلاً فلا حاجة إلى المسح كما قلتم، وإن كان المحل قابلاً فلا بد من الغسل، وأيضاً فإنا نقول: ما تريدون بقولكم: إن الأشياء الصقيلة غير قابلة للنجاسة، هل تعنون أنها لم تقع فيها النجاسة وتتصل بها؟ فهذا لا وجه له، فإنا فرضنا أن النجاسة متصلة بها حساً بأن يقع البول والعذرة على هذه الأشياء الصقيلة، وإن عنيتم أنها وإن اتصلت بها النجاسة لكن المسح يزيلها، فهذا فاسد، فإنه وإن أزال العين فالنجاسة الحكمية باقية لا تزول إلا بالغسل وذلك لأن التعبد في إذهاب النجاسة حكمان:
أحدهما: إذهاب العين.
وثانيهما: إزالة الحكم.
فالعين وإن زالت حساً بالمسح لكن الحكم لا يكون زائلا إلا بالغسل، وأيضاً فإن البِلَّة اللاحقة من جهة اتصال النجاسة بالمحل لا تزول بالمسح، وإنما يزول حكمها بالغسل، فبطل ما قالوه.
قالوا: التطهير بالماء إنما يجب إذا كان هناك مرفوع كالبول والعذرة، وههنا لا مرفوع فلهذا كان المسح كافياً عن الغسل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الطهارة واردة على جهة التعبد لا يعقل معناها كما مر بيانه، لاختصاصها بأوقات وكيفيات لا يعلم خصائصها إلا اللّه، ولهذا كانت مفتقرة إلى النية لأجل كونها عبادة، فلهذا وجبت على حد ما يوجبه الشرع، سواء كان هناك مرفوع أو لم يكن، ولهذا فإنا نوجب الطهارة في غير محل الحدث، فنوجبها في غسل أعضاء الوضوء وإن لم تكن محلاً للأحداث، ونوجب الطهارة من التقاء الختانين، وإن لم يكن هناك إنزال يكون حدثاً.
وأما ثانياً: فلا نسلم أنه ليس هناك مرفوع، بل المرفوع وإن لم يكن حسياً فهو رفع حكمي، وهو إزالة البلة التي تلحق باتصال النجاسة بالمحالّ، فبطل ما توهموه.
قالوا: الأعيان من جملة الأشياء الصقيلة بل هي من أعظمها في الصقالة، فلو أوجبنا غسلها عند وقوع النجاسة لأدى ذلك إلى الحرج والمشقة، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. فإذا سقط الغسل فيها سقط في غيرها إذ لا قائل بالفرق.
قلنا: عما ذكرتموه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن في غسلها حرجاً ومشقة، ولهذا ذهب إلى إيجاب غسلها في الوضوء ذاهبون كما سنوضحه؛ لأن الماء يجلوها.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا سقوط الغسل عن الأعيان للحرج والمشقة، فلا يسقط عن غيرها إذ لا مشقة فيه ولا حرج، فالميسور لا يسقط بالمعسور، وغير الممكن إذا سقط لم يلزم سقوط الممكن فافترقا.
مسألة: الأشياء النجسة إذا استحالت عما كانت عليه، وهذا نحو أن تصير العذرة رماداً، والميتة تراباً، والكلب والخنزير إذا صارا ملحاً في الملاَّحة إلى غير ذلك من الاستحالات، فهل تطهر أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها تكون طاهرة، وهذا هو رأي القاسم و المؤيد بالله أخيراً، وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن هذه عين استحالت وخرجت عما كانت عليه من الصفة، فوجب القضاء بطهارتها كالخمر إذا صارت خلاً، أو نقول: إنها بالاستحالة التامة خالفت ما كانت عليه من النجاسة في الاسم والصفة والتركيب، فوجب القضاء عليها بالطهارة، كالنطفة إذا صارت آدمياً.
المذهب الثاني: أنها تكون نجسة، وهذا هو رأي المؤيد بالله قديماً، وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن طريق التطهير الشرع، ولم يرد الشرع بأن النار مطهرة وهكذا القول في سائر الاستحالات، لا تكون مطهرة لما كانت عليه من النجاسة؛ فلهذا وجب الحكم عليها ببقاء النجاسة حتى تغسل كسائر النجاسات.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله أخيراً، وأبوحنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن هذه استحالة تامة لم يبق لها أثر في الهيئة والطعم والرائحة، فوجب الحكم عليها بالطهارة؛ كالدم إذا صار لبناً؛ لأن الموجب لنجاسة العذرة والميتة إنما هو وجودها على ضرب من الاستحالة والتغير عما كانت عليه من قبل، وقد زال ذلك بالاحتراق فمن أجل ذلك حكمنا عليها بالطهارة كالدم إذا صار لبناً من غير فرق، أو نقول: إنما كانت العذرة والميتة نجسين لأمر يصح لأجله إطلاق الاسم عليها، وبعد الاحتراق قد بطل إطلاق اسم العذرة والميتة عليهما بكل حال، فلهذا حكمنا ببطلان النجاسة.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمده على بقاء حكم النجاسة.
قالوا: والمحكوم عليه بالتنجيس في العذرة والميتة إنما هو الجرم والبلة، ولا شك أن الاستحالة في الجرم دون البلة فهي باقية فلا يطهرها إلا الغسل بالماء دون الاستحالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إذا بطل حكم جرم النجاسة بالاستحالة وجب بطلان البِلَّة تبعاً له؛ لأن الجرم أعظم في التنجيس من البلة فلأجل هذا بطل حكمه تبعاً لها.
وأما ثانياً: فهذا معارض بالدم فإن جرمه قد تغير بصيرورته لبناً، فإذا بطل حكم بلة الدَّمِيَّةِ عند كونه لبناً فهكذا ما نحن فيه من غير تفرقة بينهما.
قالوا: مالم يكن نجساً بالاستحالة كالكلب والخنزير فإنه لا يطهر بالاستحالة أيضاً، فصار كسائر النجاسات التي لم يحصل فيها استحالة تامة كالدم إذا صار صديداً وقيحاً وكالبول إذا تغير عن حاله، بخلاف ما تنازعنا فيه فإنه قد استحال استحالة تامة، فلهذا حكمنا عليه بالنجاسة عند استحالته لما كانت نجاسته لم تكن باستحالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكرتموه باطل بالعَذِرَة، فإنها إنما تنجست باستحالة الطعام ابتداءً، ثم إنها لا تطهر عندكم بالاستحالة إذا صارت رماداً.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الدم والبول هو أنهما لم يستحيلا استحالة تامة، فلهذا لم يكونا طاهرين بخلاف ما تنازعنا فيه، فإنه قد استحال استحالة تامة في كل أوصافه، حتى صار غير ما كان من قبل في اسمه ولونه وطعمه ورائحته.
قالوا: المستند في تنجيس هذه الأشياء العينية كالكلب والخنزير والميتة والعذرة إنما هو خطاب الشرع وأدلته، وهو لم يفصل بين هذه الأمور بين أن تكون مستحيلة أو غير مستحيلة، فلهذا قضينا بنجاستها في كل أحوالها استحالت أم لم تستحل.
قلنا: هذا فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأنا نقول: إنما تناولها الخطاب الشرعي بالتنجيس بشرط بقائها على حالها، واستمرارها على حقائقها وصفاتها الكائنة عليها، نحو الكلبية والخنزيرية وما عداها، وبعد استحالتها بالاحراق، فلا نسلم تناول الخطاب لها بحال وهي على هذه الصفة.
وأما ثانياً: فهذا باطل بالدم، فإن اللبن مستحيل منه بظاهر الآية كقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ}[النحل:66]. فكان يلزم أن يكون نجساً إذا صار لبناً ولا قائل به.
وأما ثالثاً: فلأن الاحراق بالنار في الطهارة أبلغ من الدباغ في الجلد، لأن الجِلْدِية مع الدباغ باقية، وقد حكمتم عليه بالطهارة، والعذرة والميتة مع الإحراق ليس حقيقتهما باقية؛ فإذا حكمتم هناك بالطهارة فهاهنا أحق.
قالوا: لو صارت العذرة والميتة وسائر النجاسات طاهرة بالإحراق للزم أن تكون النار مطهرة؛ لأنها هي السبب في الإحراق، فكان يلزم على هذا أن البول لو وقع في آنية الفخار وأُدخل النار أن يطهر من غير غسل وهذا لا قائل به؛ لأنه لم يتجدد فيه إلا الحرارة فيلزم على هذا أن يطهر بوضعه في الشمس وهو محال.
قلنا: هذا فاسد، فإنا لم نقل: إن النار مطهرة بنفسها فيلزم ما قلتموه، وإنما قلنا: إن العذرة تطهر بالاحتراق، والاحتراق حاصل عن النار، فالتطهير حاصل عن(1) النار لا بها فأين أحدهما عن الآخر؟ وأيضاً فإن التطهير حاصل بالاستحالة، وما ذكرتموه ليس من باب الاستحالة في شيء، وإنما هو جفاف، والبول لا يطهر بالجفاف، وكلامنا إنما هو في الاستحالة فافترقا.
قالوا: تطهير فلا يقع إلا بمائع كالوضوء والغسل.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فهذا منقوض بالتيمم والاستجمار؛ فإنهما يطهران وليسا بمائع، وإنما حصلا بجامد، وهو التراب والحجارة.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل إنما وجب(2) بالماء لما كان المقصود بهما(3) تأدية العبادة، بخلاف طهارة العذرة والميتة بالإحراق فإنهما لا تؤدى بهما عبادة فلهذا طهرا بالإحتراق من غير ماء فافترقا.
مسألة: الأرض إذا أصابتها نجاسة من بول أو عذرة أو غير ذلك من سائر النجاسات، هل تطهر بطلوع الشمس وهبوب الريح أم لا تطهر إلا بالغسل؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها لا تطهر إلا بالغسل، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول الشافعي في الجديد، ومحكي عن مالك، وزفر.
والحجة على ذلك: قوله تعالى:{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلْطَّائِفِيْنَ }[البقرة:125]. فظاهر الآية الأمر لإبراهيم بتطهير البيت، فلا بد من جهته من العناية، فلو كان يطهر بهبوب الريح وطلوع الشمس عليه لم يكن للأمر فائدة إذ لا عناية له بهبوب الريح وطلوع الشمس.
__________
(1) في الأصل: عند.
(2) يعني التطهير.
(3) الوضوء والغسل.
والحجة الثانية: قوله ً لما بال الأعرابي في ساحة المسجد: (( صبوا عليه ذنوباً من ماء ))(1). فلو كان الأمر كما زعموه من طهارتها بما قالوا من هبوب الريح وطلوع الشمس لما كان للأمر بالصب فائدة؛ لأن المقصود يحصل من دونه.
الحجة الثالثة: قياسية، وحاصلها: أنها بقعة لا يجوز التيمم منها فلا تجوز الصلاة فيها، كما إذا لم يذهب أثر النجاسة عنها.
المذهب الثاني: أنها تطهر بما ذكرناه من هبوب الريح وطلوع الشمس عليها، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي في القديم، وهذه المقالة إنما تكون إذا كانت أجزاء النجاسة قد ذهب ريحها وعينها ولونها، فأما مع بقاء شيء من ذلك فلا قائل به.
والحجة على ذلك: هو أن الأرض مع الريح والشمس تحيل الأشياء عن طباعها، فمن أجل ذلك كان تأثيرها في النجاسة وإذهابها أعظم من تأثير الماء.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من أن نجاستها لا تزول إلا بالماء.
__________
(1) عن أنس قال: بينما نحن في المسجد مع رسول اللّه ً، جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللّه ً: مَهٍ مَهٍ. فقال رسول اللّه ً: ((لا تزرموه دعوه)). فتركوه حتى بال، ثم إن رسول اللّه ً دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي للصلاة وذكر اللّه وقراءة القرآن)). أو كما قال. وأمر رجلاً فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
مَهٍ: اسم فعل. بمعنى: اكفف.
وزرم الشيء: قطعه. وأراد بها: (لا تقطعوا درة أخيكم). كما جاء في رواية أخرى.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم، ونزيد هاهنا وهو أن الأرض محل نجس(1) فلا تطهر عند وقوع النجاسة إلا بالماء كالثوب، ولأنها أرض لا يصح التيمم منها فلا تصح الصلاة عليها كما إذا لم يذهب أثر النجاسة، وهذا القياس إنما هو على إحدى الروايتين في أنه يصلي عليها ولا يتيمم منها، فأما على الرواية الثانية أنه يصح فيها الأمران جميعاً فلا وقع له.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: الأرض مع طلوع الشمس وهبوب الرياح تُحيل الأشياء عن طباعها، ولهذا قال اللّه تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُوْنَ مَا عَلَيْهَا صَعِيْدَاً جُرُزَاً }[الكهف:8]. ومع الاستحالة تحصل الطهارة لا محالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا منقوض بالذهب والفضة وسائر الأحجار الجوهرية، فإن الأرض لا تحيلها.
وأما ثانياً: فلأن الغرض بالآية إبطال هذا النظام وزوال هذا التأليف من الجبال والآكام، وجعلها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، على أنه قد حُكي عن ابن عباس في تفسير الآية: أنه [تعالى]: أراد بذلك موت الأنبياء، والخلفاء، والعلماء، والأمراء، ومن فيه صلاح للخلق.
قالوا: الشمس تُقلل النجاسة، وقليل النجاسة لا يمنع من الصلاة كالأمور التي عفا الشرع عنها، وقد مر بيانها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن الشمس تقلل النجاسة كما زعموه، وإنما تنشفها كما ينشفها ما كان مهلهل النسيج؛ كالثوب الخلق والبساط، وما هذا حاله فلا يعد تقليلاً بحال.
وأما ثانياً: فإنا نقول: القليل عندكم معاشر أصحاب أبي حنيفة هو قدر الدرهم قياساً على حلقة الدبر، وهذا أكبر من الدرهم فلا وجه لعده من جملة القليل.
__________
(1) يقصد: قابلة لوقوع النجاسة عليها.
قالوا: تأثير الأرض في إزالة النجاسة أعظم من تأثير الماء فإذا كان الماء مطهراً فالأرض مثله في التطهير من غير فرق بينهما، وإنما كانت الأرض أبلغ من الماء من جهة أن الأرض تُحيل النجاسة وتُذهبها بخلاف الماء، فإنه إنما يطهرها ولا يحيلها، فلهذا قلنا: بأنها أبلغ من الماء في التطهير.
قلنا: إن كان الغرض أن جرم النجاسة قد أحالته الأرض حتى صار تراباً فقد صار طاهراً بالاستحالة كما في رماد العَذِرَةِ، لكنا نقول: إن مكان النجاسة قد صار نجساً بالبلة التي تلحقه فهي باقية فلا بد من إزالتها بالماء، والأرض لا تقدر على إزالة البِلة، وإنما تطهيرها يكون بالماء، فالأرض وإن كانت أقوى في الإحالة للنجاسة من الماء لكن الماء أقوى منها في كونه مزيلاً للبلة المتنجسة دون الأرض.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( جُعِلَت لي الأرض مسجداً وطهوراً )). ولفظة الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وظاهرها يدل على أن الأرض كما تصلح للسجود عليها بالصلاة فهو دال على كونها مطهرة للأنجاس، ولن يكون تطهيرها لها إلا بما ذكرناه.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا لا يتأتى على مذهبكم؛ لأن الطهور عندكم من الأسماء اللازمة، والطاهر والطهور عندكم سواء، فلا يكون لكم فيه حجة؛ لأنه ليس مطهراً لغيره، ولهذا عمموا التطهير بالماء وبغيره من الطاهرات كما مر تقريره.
وأما ثانياً: فلأن المراد بكون الأرض مطهرة هو أنها قائمة مقام الماء عند عدمه في تأدية الصلاة، أو أنها مزيلة للنجاسات بالاستحالة فتطهر الميتة بأن تجعلها تراباً كما تطهر النار العذرة بأن تجعلها رماداً، وهذا لا ننكره وعليه يكون تأويل الخبر، وإنما الذي وقع فيه الخلاف والنزاع إنما هو طهارة بلة النجاسة بالأرض، والخبر لم يتناول هذا فلا يكون فيه حجة لكم، فإن ذهب لون النجاسة وريحها بالظل فقد قال البغداديون من أصحاب الشافعي: أنه لا يطهر قولاً واحداً، وقال أهل خراسان من أصحابه أيضاً: فيها قولان.
والمختار على رأي أئمة العترة: أنها لا تطهر بالظل، بل لا بد من غسلها بالماء عند وقوع النجاسة عليها كما قاله أهل بغداد.
والحجة على ذلك: هو أن الأرض لا قوة لها على طهارة البِلة اللاحقة بالأرض، وأن الظل أضعف من الشمس، فإذا لم تكن مؤثرة فالظل أبعد من التأثير في الطهارة.
مسألة: ذهب أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، إلى أن الخفاف والنعال إذا أصابت أسفلها نجاسة فدُلِكت على الأرض فأزال عينها وبقي أثرها فإنه يُنظر في حالها، فإن كانت رطبة لم تطهر؛ لأنها لرطوبتها تزول بالدلك من جانب من الخف إلى جانب آخر بالحك والدلك فلا تطهر إلا بالغسل، وإن أصابتها وهي رطبة فجفت عليها ثم دلكها عن الخف فأزال عينها وبقي أثرها فإنه لا يحكم بطهارة الخف والنعل لاتصال النجاسة به، وهل يعفى عن ذلك الأثر وتصح الصلاة فيه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يعفى عنه ولا تجوز الصلاة فيه، وهذا هو رأي أئمة العترة لا يختلفون فيه، وهو قول محمد والشافعي في الجديد.
والحجة على ذلك: هو أنه محلٌ نجس فوجب أن لا يطهر بالمسح والحك كالثوب، ولأنه لو كان على الثوب لم يطهر إلا بالغسل، فهكذا إذا كان على الخف من غير تفرقة بينهما.
المذهب الثاني: أنها تطهر وتجوز الصلاة فيها، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو قول الشافعي في القديم.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً أنه قال: (( إذا وطئ أحدكم الأذى بنعله فإن طهورها التراب ))(1) رواه أبو هريرة.
الحجة الثانية: من جهة القياس، وهو أنه موضع تتكرر فيه النجاسة فأجزأ فيه المسح كموضع الاستجمار.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم.
والحجة على ذلك: هو أن الخِفاف والنعال ملبوسة فإذا أصابتها نجاسة فإنها لا تطهر إلا بالغسل، دليله: الأثواب، ولأنها نجاسة اتصلت بالخف وهي رطبة فلا تجوز الصلاة فيها ولا يحكم بطهارتها إلا بالغسل كما لو اتصلت بالقدم من غير خف ولا نعل.
الانتصار: يكون بتزييف ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: روى أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( إذا وطئ أحدكم الأذى بنعله فإن طهورها التراب)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه يحتمل أن يكون مراده وطء المستقذرات الطاهرة، فإنه قد يستعمل لفظ التطهير في ذلك كقوله عليه السلام: (( السواك مطهرة للفم ))(2).
وأما ثانياً: فلعله أراد الأذى الذي يكون جافاً فلا يعلق بالخف، وما هذا حاله فإنا نسلم أنه لا يحتاج إلى غسل؛ لأن ظاهر الحديث ليس فيه أن النجاسة رطبة كما زعمتم، فإذا كان الخبر محتملاً لما ذكرناه بطل تعلقهم به.
__________
(1) قال في جواهر الأخبار: وفي رواية: ((إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب)). أخرجه أبو داود. وفي رواية أخرى نحوه عن أبي سعيد من حديث أخرجه أبو داود أيضاً.
(2) وروى أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عائشة، وروى ابن ماجة عن أبي أمامة عن النبي ً أنه قال: ((السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)). ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وزاد: ((ومجلاة للبصر)). ا.هـ اعتصام.
قالوا: روى أبو سعيد الخدري عن الرسول ً أنه قال: (( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر نعليه فإذا كان فيهما خبث فليمسحه بالتراب)). أو قال: (( بالأرض ثم ليصل فيهما))(1). فظاهر الخبر دال على ما قلناه من طهارة الخف إذا حكه بالتراب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في الخبر إلا أنه يمسحه على الأرض، وليس فيه دلالة على منع غسله، فلعله أراد بالمسح تخفيف النجاسة بالمسح أولاً، ثم يغسله ثانياً.
وأما ثانياً: فلأنه يحتمل أن يكون ذلك الخبث جافاً فلا ينجس الخف به، كغيره من النجاسات الجافة وإنما وجب حمله على ما ذكرناه من أجل مخالفته للقياس؛ لأن القياس في اتصال النجاسة الرطبة: أنه لا بد من غسلها للصلاة، وهذا الخبر لما خالف هذا القياس وجب تأويله على ما ذكرناه. والاحتمال وإن بَعُدَ فإنه يُغتفر بُعْدُهُ مخافة ارتكاب ما هو أَبْعَدُ منه، والله أعلم.
قالوا: محل تتكرر فيه النجاسة فزال حكمها بالمسح كمسح الاستجمار.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلا نسلم أنه تتكرر فيه النجاسة، فإن الغالب من حال الأرض هو الطهارة، وهو مخالف لما قالوه في الاستجمار، فإن موضع الاستجمار تتكرر فيه النجاسة، فلو ألزمناهم غسله لكان فيه مشقة، هذا على رأيهم في أن وضع الاستجمار معفو عنه، فأما على ما نختاره وهو رأي أئمة العترة، فإنه غير معفو عنه، وسيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله.
وأما ثانياً: فلأن المسح بالأحجار في موضع الاستجمار يزيل البول والغائط إذا كانا رطبين، وهاهنا لا يجوز إلا إذا كانت النجاسة قد جفت على الخف والنعل فافترقا.
قالوا: جرم الخف مستحصف كثيف، وجرم النجاسة متخلخل سخيف، فإذا جفت النجاسة على الخف والنعل فإنها تنشف الرطوبة إلى نفسها التي فيها، فإذا مسح زال ما حصل فيه إلا الرطوبة، وتبقى في الخف نجاسة يسيرة يعفى عنها شرعاً.
__________
(1) سبقت الإشارة إليه في الحديث السابق، وهو عن أبي سعيد الخدري بلفظه.
قلنا: هذا فيه منع من وجهين:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن النجاسة تنشف نجاسة الخف إلى نفسها، لأنها لو كانت كما زعموا لوجب إذا مسح الخف على الأرض أن يطهر عند اتصال النجاسة به، من جهة أن الرطوبة قد حصلت في الجرم وقد زال الجرم.
وأما ثانياً: فلأنا لا نسلم أن ما يبقى معفو عنه؛ لأن ما يُعفى عنه إنما هو مما تعظم به البلوى، ويكثر فيه الحرج والمشقة في تلك الأمور العشرة، وليس هذا منها فافترقا.
مسألة: مشتملة على فروع:
الفرع الأول منها: إذا ضُرِب اللَّبِن من التراب وفيه نجاسة ذائبة كالخمر والبول، فإن اللَّبِنَ يكون نجساً لا محالة لاتصاله بالنجاسة الذائبة المتصلة به، فإن أريد تطهيره قبل طبخه فإنه يكاثر بالماء فإذا كوثر بالماء طهر ظاهره، ولا يطهر باطنه إلا بأن تفتت أجزاؤه ثم يصب عليه من الماء ما يغيره، ويتهرأ(1) فيه فعند ذلك يطهر، وإن طبخ هذا اللبن فإذا صب الماء على ظاهره طهر ظاهره وإن خرج الندى من الجانب الآخر طهر باطنه لاتصاله بالماء، وإن خالط طينه نجاسة مستجسدة كالسرقين والعذرة، فإنه مهما دام لَبِناً لم يطبخ، فإنه لا يطهر بحال؛ لأنه لا يطهر بالغسل فلا معنى للمكاثرة فيه بالماء من جهة أن الأعيان النجسة لا تطهر بالغسل؛ لأن نجاستها عينية كما مر تقريره، وإن طبخ هذا اللبن فهل يطهر بالنار من غير غسل أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يطهر؛ لأن بلة السرقين والعذرة نجسة، وقد اختلط بها وامتزج ولم يعرض [له] إلا النار وهي غير مطهرة.
وثانيهما: أنه يكون طاهراً من جهة أنه قد استحجر واستحالت تلك الأجزاء بالنار فصار كرماد العذرة والسرقين، وهذان الوجهان محكيان عن الشافعي.
والمختار: هو الثاني؛ لأن أجزاء السرقين قد ذهبت بالاحتراق بالنار، فإذا زالت العين بالنار زال حكم البلة تبعاً لها كما قلناه في الدم إذا صار لَبَناً، والخمر إذا صارت خَلاًّ كما سبق.
__________
(1) هكذا في الأصل من غير عجم لحروفها.
الفرع الثاني: قال القاسم: من مس كلباً جافاً لم يجب عليه غسل يده، وهكذا الحال فيمن مس عذرة [جافة] فإنه لا يتوجه عليه غسل يده لأجل مجاورتها للنجاسة، وهذا هو رأي العترة وهو قول علماء الأمة.
والحجة على ذلك: هو أن الأشياء النجسة إنما تكون منجسة لما جاورها بأحد أمرين:
- إما بأن تكون مائعة بنفسها كالخمر ودم الميتة ورطوبتها.
- وإما بأن تكون في نفسها جافة، لكن الشيء الطاهر الذي جاورها يكون رطباً فإنه يكون مخالطاً لها بما فيه من الرطوبة فينجس من أجل ذلك، فمن غسل يده وأمرَّهَا على كلب أو خنزير فإنها تكون نجسة؛ لأنها بما فيها من البلة لاقت النجس فكانت نجسة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن جميع الأعيان الطاهرة لا ينجس شيء منها بملاقاة [شيء] من النجاسات إلا إذا كان أحدهما رطباً.
الفرع الثالث: إذا وقعت في الأرض نجاسة ذائبة كالبول والخمر وكاثرها بالماء، فهل تطهر على الإطلاق أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنها تطهر بالمكاثرة من غير نظر إلى حالها، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روى أبو هريرة أن أعرابياً دخل مسجد الرسول ً فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فقال الرسول ً: (( لقد تحجرت واسعاً )). فما لبث أن قام إلى زاوية المسجد فبال فيها فابتدره أصحاب النبي ً. فقال النبي ً: (( دعوه )). ثم دعا بذَنُوبٍ من ماء فأراقه عليه ثم قال: (( علموا ويسروا ولا تعسروا و بشروا ولا تنفروا ))(1). والذَّنوب: هو الدلو الكبيرة.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي بلفظ: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين. صبوا عليه سجلاً من ماء، أو قال: ذنوباً من ماء)). ا.هـ. السجل بفتح السين المهملة وسكون الجيم: الدلو الملأى ماء. والذنوب بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيمة. ا.هـ. جواهر.
وثانيهما: أنه ينظر فإن كانت الأرض رخوة ينزل فيها الماء، وصب عليها الماء فإنها تطهر، وإن كانت صلبة لم يجز إلا حفرها ونقل التراب وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أنها إذا كانت رخوة ذهبت أجزاء النجاسة مع الماء بخلاف ما إذا كانت صلبة فإنها تطهر على وجه الأرض والماء قليل ينجس بملاقاة النجاسة، فلهذا وجب حفر ما اتصل بالنجاسة وإلقاؤه، فعند ذلك تطهر الأرض بقلع التراب وإزالته.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، هو أن الأرض إن كانت رخوة فلا كلام في طهارتها، فأما إذا كانت صلبة، فإنه ينظر في الماء الذي كوثرت به النجاسة، فإن كان متغيراً بها لم يطهر إذا ظهر فيه ريح أو لون، وإن لم يظهر فيه تغير بالنجاسة طهرت الأرض بالماء وإن لم تنشفه.
الانتصار على الشافعي: احتج بحديث أبي هريرة.
قلنا: أرض المسجد كانت رخوة؛ لأنه رمل وكلامنا إذا كانت صلبة لا ينزل فيها الماء، فليس في حديث أبي هريرة حجة على ذلك.
وعلى أبي حنيفة نقول: إذا كان غير متغير بالنجاسة، فإنه بالمكاثرة قد صارت الأرض طاهرة ولا معنى لحفرها، بخلاف ما إذا تغير الماء بالنجاسة، فإنها تنجسه وعلى هذا تكون غالبة فلا تطهر.
الفرع الرابع: وإن وقعت نجاسة على الأرض فصب عليها الماء وكاثرها به، فهل يحكم بطهارتها قبل أن ينشف الماء أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يحكم فيها بالطهارة وإن لم ينشف الماء؛ لأن الطهارة فيها متعلقة بالمكاثرة وقد وجدت فلهذا طهرت.
وثانيهما: أنه لا يحكم لها بالطهارة حتى ينشف الماء؛ لأنه لا يتحقق ذهاب النجاسة إلا بالتنشيف، وهذا هو الذي ذكره أصحابنا للمذهب.
والمختار: أن الماء إذا كان راكداً على الأرض ولم تبلعه فإنه يُنظر فيه، فإن تغير بالنجاسة التي وقع عليها فهو غير طاهر ولا مطهر لها، وإن لم يكن متغيراً بالنجاسة فإنه يكون طاهراً مطهراً، من جهة أن العبرة هي المكاثرة من غير تغير فيه.
الفرع الخامس: في قدر المكاثرة، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يصب على النجاسة ما يكون غامراً لها مستهلكاً لأجزائها مما يكون ذاهباً بلونها وطعمها ورائحتها.
وثانيهما: أن النجاسة لا تطهر حتى يصب عليها من الماء سبعة أضعافها؛ لأنها نجاسة فيجب إزالتها بسبعة أضعاف، دليله: ولوغ الكلب.
والمختار: هو الأول، وهو الذي نص عليه الشافعي في (الأم).
والحجة على ذلك: هو أن المقصود إنما هو إزالة النجاسة، وما ذكرناه يكون مُذْهِباً لها فلهذا وجب التعويل عليه، وما ذكروه من أخذه من ولوغ الكلب لا وجه له لأمرين:
أما أولاً: فلا نسلم أنه يُغسل من ولوغه سبع مرات، وسنوضح القول فيه إن شاء اللّه.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمناه في الكلب، وأما في غيره فلا نسلمه(1) لأن ذلك إنما كان تَعَبُّداً في حق الكلب على الخصوص، لكونه مختصاً في نظر الشرع بتقذير بالغ، فلهذا خصه بهذا العدد في الإزالة فلا يكون غيره في معناه، فلا يُقَاس عليه غيره.
مسألة: ذهب أئمة العترة إلى أن فم الهر طاهر، وسؤره يجوز التطهر به، وهو رأي فقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ولهم على تقرير هذه المسألة حجتان:
__________
(1) في نسخة [و]: فلا نسلمه في غيره. والمعنى واحد. ا.هـ.
الحجة الأولى: من جهة القول، وهو ما روته كبشة بنت كعب بن مالك (1)، وكانت تحت [عبدالله بن] أبي قتادة )، فجاءت هرة فشربت من وضوئه فأصغى لها الإناء فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول اللّه ً قال: (( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات)).
الحجة الثانية: من جهة الفعل، وهو ما روته عائشة رضي اللّه عنها أن الرسول ً كان يتوضأ بفضلها(3)، وروي أنه أصغى لها الإناء فشربت منه، فوضح بما قررناه هاهنا، أن الهرة فمها وسؤرها طاهران بما أوردناه من الأدلة الشرعية في حقها قولاً وفعلاً، والله أعلم.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: إذا ولغت هرة في ماء قليل ولم يرها قبل ذلك أكلت نجاسة، جاز الوضوء به عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي،. ولا يكره ذلك.
والحجة على ذلك: ما قررناه من قبل من جهة القول والفعل فلا وجه لتكريره، وكله دال على طهارتها من غير كراهة فلو كان فيه كراهة لنبه عليه؛ لأنه في موضع الشرع فلا يجوز تأخير البيان عن موضع الحاجة إليه.
__________
(1) روت عن أبي قتادة، وكانت زوجة ابنه عبدالله، في الوضوء من سؤر الهرة، وعنها بنت أختها حميدة بنت عبيد بن رفاعة. (تهذيب التهذيب ج12/475).
(2) أبو قتادة الأنصاري السلمي، صاحب رسول اللّه ً، واسمه: الحارث بن ربعي، وقيل: النعمان، وقيل: غير هذا، ابن بلدمة بن خُنَاس السلمي المدني. من مشاهير الصحابة، ورواة الحديث. روى إياس بن سلمه عن أبيه أن النبي ً قال: ((خير فرساننا أبو قتادة)). توفي بالكوفة سنة 54هـ. عن 70سنة. (تهذيب التهذيب 12/224).
(3) يعني بفضل الهرة أو مما شربت الهرة منه، ولفظه: عن عائشة أن النبي ً كان يصغي الإناء للهرة ويتوضأ بفضله. حكاه في جواهر الأخبار وفي أصول الأحكام والشفاء .ا.هـ.
وحكي عن أبي حنيفة: أن سؤرها يكره، وكذلك الخيل، وعنده أن سؤر بني آدم وسائر ما يؤكل لحمه طاهر، وسؤرٌ مشكوك فيه وهو سؤر البغال والحمير، وسؤرٌ نجس وهو سؤر السباع كلها.
والحجة على كراهة سؤر الهر: هو أنه من جملة السباع لكونه ذا ناب، لكن القياس: أن يكون نجساً عنده كسائر السباع، فلما خفف الشرع حكمه بالمخالطة والطوفان فيه، لا جرم كان مكروهاً ولم يكن محرماً.
والمختار: ما عول عليه الجماهير من أئمة العترة والفقهاء من طهارتها ولا مزيد على ما أوردناه في ذلك من الأدلة الشرعية، لكنا نقول: الكراهة حكم شرعي فلا بد فيه من دلالة لكونه مقابلاً للمندوب، من جهة أن المندوب: ما جاز تركه والأفضل فعله، والمكروه: ما جاز [فعله] والأفضل تركه، والجنس شامل لهما جميعاً، فكما كان الندب لا بد فيه من دلالة، فهكذا حال المكروه من غير فصل، ولا دلالة هناك على كراهة سؤر الهرة.
الانتصار على أبي حنيفة: قال: سؤر السباع نجس.
قلنا: لا نسلم، وقد مر الكلام فيه، وقد أوضحنا كونه طاهراً فأغنى عن الإعادة، ثم إنا إن سلمنا كون السباع نجسة، فالهرة ليست من السباع بنص صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه وعلى آله وسلم، حيث قال: (( إنها ليست سبعاً )). ثم إن عموم المخالطة بالطوفان قد خفف أمرها في النجاسة فلا وجه لما ادعاه من الكراهة.
الفرع الثاني: إذا افترست الهرة حيواناً فهل ينجس فمها أم لا؟ فالذي ذهب إليه علماء العترة: أنه ينجس، وهذا هو أحد أقوال الشافعي، وله قول ثان: أنه لا ينجس بالافتراس؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منها، وقول ثالث: أنها إن غابت ثم رجعت لم ينجس، لجواز طريان الطهارة على فمها، وإن لم تغب فإنه يكون نجساً؛ لأن الأصل هو بقاء نجاسته بالافتراس.
والحجة على ما قاله علماء العترة: هو أن الافتراس متحقق في حقها والنجاسة متحققة فلا معنى لإزالتها بالوهم الصرف.
والمختار: ما عولنا عليه من نجاسة فمها.
والحجة على ذلك: هو أنه إما أن يقال: إنها لم تفترس شيئاً، فقد فرضنا أنها قد افترست، فلا وجه له، لفرض خلافه.
وإما أن يقال: إنها وإن افترست ففمها طاهر. فهذا لا وجه له، لأنا قد تيقنا نجاسة فمها بأكل الميتة فإذاً الحكم بنجاسة فمها هو الوجه، ولأنا لو لم نحكم بنجاسة فمها لأدى إلى طهارة الميتة، ولا قائل بكونها طاهرة.
الانتصار على الشافعي: حيث قال: بأنها لا تنجس؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منها.
قلنا: إنكار كونها آكلة للميتة لا سبيل إليه، فبعد ذاك، إما أن يقال: إن الميتة طاهرة، وهذا لا وجه له، وإما أن يقال: بأن فمها لم ينجس بأكل الميتة، فهذا فاسد أيضاً فإن الميتة نجس وما خالطها فهو نجس أيضاً، وإما أن يقال: بأن فمها قد تنجس خلا أنه يطهر بعد ذلك، فهذا جيد، وسنقرر كيفية طهارته بعد تنجيسه بأكل النجاسة، وفيه تسليم ما قلناه من كون فمها نجساً.
قوله: ينظر، فإن غابت فهو طاهر، وإن لم تغب فهو نجس.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الأصل: هو تحقق النجاسة بالافتراس فلا يجوز رفع هذا التحقق بالوهم والشك.
وأما ثانياً: فلأن فمها قد وجب كونه نجساً بالحضور، فيجب أيضاً الحكم عليه بالنجاسة مع الغيبة، والجامع بينهما: هو تحقق النجاسة، ولم يعرض ما يزيلها أصلاً.
الفرع الثالث: إذا تقرر كونه نجساً بما قررناه، فبأي شيء تكون طهارته؟ إذ لا سبيل إلى القول ببقاء نجاسته على الاستمرار؛ لأنها من الطوافين والطوافات ولا تنقطع مخالطتها، وكون فمها نجساً بكل حال فيه حرج ومشقة فلا وجه له.
والذي عليه أئمة العترة: أنه يكون طاهراً بالريق؛ لأن ذلك هو الممكن في حقها، وظاهر كلام الشافعي: أنه يطهر حكماً، ولم أعلم أن أحداً من نُظَّار أصحابه ولا من حُذَّاق محصلي مذهبه البغداديين، كالزعفراني الحسن ) والكرابيسي الحسين وإبراهيم الكلبي، ولا من المصريين، كالمزني وحرملة والبويطي. فالبغداديون يروون أقواله القديمة، والمصريون يروون أقواله الجديدة، وما نقل أحد منهم عنه أنه يطهر بالريق، ولا من أصحابه المتأخرين، كالصباغ والقفال وأبي بكر الحداد، نقل ذلك عنه أيضاً مع تحفظهم على نقل أقواله، وتشددهم في التخريج عليها.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من طهارته بالريق، ويدل على ذلك حجتان:
الحجة الأولى: أنا نقول: ليس يخلو الحال في فم الهرة، بعد تحقق النجاسة عليه: إما أن يقال: إنه يطهر بغير سبب، وهذا لا قائل به، فإن أحداً من الفقهاء لم يذهب إلى طهارة الشيء بعد نجاسته لا لأمر من الأمور، وإما أن يقال: إنه يطهر بالغسل، وهذا أيضاً لا قائل به، فإنه لا يعلم أن أحداً أوجب غسل فم الهرة بعد نجاسته، وإما أن يقال: إنه يطهر بالمسح، وهذا إنما يقال به في الأشياء الصقيلة كالسيف والمرآة، فأما ما عداها فلا، وقد مر بيانه، فإذا بطل ما ذكرناه من هذه الأوجه لم يبق إلا أن يقال: إنه يطهر بالريق؛ لأنه هو الذي يمكن أن يقال في حقها بعد بطلان ما ذكرناه.
__________
(1) الزعفراني: أبو علي الحسن بن محمد بن الحسين الزعفراني نسبة إلى قرية بقرب بغداد اسمها زعفرانه. كان إماماً في اللغة، وهو أثبت رواية القديم للشافعي، وكان راوية له، وهو الذي يتولى القراءة عليه. مات يوم الإثنين من شهر ربيع الآخر سنة259هـ. (تهذيب التهذيب ج2/275، طبقات الفقهاء 191).
الحجة الثانية: هو أن الريق مائع فأشبه الماء، ولأن الريق في حقها وحق غيرها من سائر الحيوانات مختص بنوع حدة، ولهذا فإنه يؤثر في زوال الآثار بعض تأثير في تقليلها إذا علقت، فلأجل هذا كان مختصاً بالتطهير في حقها، لما لها في ذلك من مزية الاختصاص؛ ولأنه هو الممكن في حقها، وقد قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسَاً إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة:286]. ولأنه قد رآه الأفاضل من علماء العترة وغيرهم من فقهاء الأمة، وقد قال عليه السلام: (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن )).
الانتصار على الشافعي: قال: روي عن الرسول ً أنه قال: (( إنها ليست بنجس )). ولم يفصل بين أحوالها في حال افتراسها وعدم افتراسها، وفي هذا دلالة على كونها طاهرة في جميع حالاتها بتقرير الشارع وتصريحه من غير حاجة إلى التأويل.
قلنا: عما أوردوه جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما قال ذلك لسبب، وهو أنه لما دُعِي إلى دار فيها كلب فلم يجب، ثم دعي إلى دار فيها هرة فأجاب فقيل له في ذلك، فقال: (( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). يعني أنها ليست مثل الكلب في السَّبُعَّيَةِ، ولم يُرِدْ نفي النجاسة عنها على جهة الإطلاق.
وأما ثانياً: فلأنه إنما أراد أنها ليست نجسة الذات وإنما هي طاهرة، ولأجل ما يعرض فيها من الطوفان، ولم يُرِد أنها إذا افترست لا ينجس فوها فبطل ما قاله.
قال الشافعي: قال الرسول ً: (( إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). والغرض من ذلك أنها لما كانت البلوى تعظم بها بالمخالطة والطوفان، وأنه لا يمكن حجزها عن البيوت والحجرات والمساكن، فلأجل هذا حكم بطهارتها من أجل ذلك، ولم يفصل فيها بين حال وحال، وفي هذا دلالة على طهارتها.
قلنا: هذا فيه دلالة على ما قلناه من نجاستها؛ لكن الشرع عفا عن تلك النجاسة، لأجل عظم الخلطة بها وملابستها لها في كل حال من حالاتها، فلو استدللنا بهذا على ما يقوله من نجاستها لكنا أسعد حالاً لما ذكرناه.
الفرع الرابع: وإذا قلنا بطهارتها بعد وقوع النجاسة، فهل تقدر طهارة فيها بمدة أو لا تقدر بمدة؟
ولا قائل بعدم المدة إلا من قال: إن فاها لا ينجس مطلقاً، وهوالشافعي، وقد رددنا عليه، ولأن القول بطهارة فمها عقيب الافتراس لا وجه له لأمرين:
أما أولاً: فلا بد من تفرقة بين حال الطهارة، وحالة النجاسة، ولا تفرقة إلا بعد مضي مدة بعد وقوع النجاسة في فمها.
وأما ثانياً: فكيف يقال: بأنه يطهر فوها من غير تقدير مدة؟ ولعل بعض أجزاء الفريسة في فمها وبين أنيابها فكيف يحكم بطهارته من غير مدة تمضي؟ هذا لا وجه له.
وإذا كان لا بد من مدة فكم تكون تلك المدة؟ فيه قولان:
أحدهما: أن تكون المدة ليلة، وهذا هو الذي ذكره المؤيد بالله في كتاب (الزيادات).
ووجهه: هو أن الليلة زمان سكون ودعة واستراحة، ولعابها لا يزال جارياً في هذه المدة، فلهذا كان موجباً لطهارته.
وثانيهما: أن تلك المدة تكون يوماً وليلة، وهذا هو الذي ذكره القاضي أبو مضر، تحصيلاً لمذهبه(1).
ووجهه: أنها في اليوم والليلة لا تصبر عن الماء فيهما أصلاً، فإذا شربت أزال الماء تلك العفونة عن فمها، ورحض ذلك التقذير الذي حصل من أجل الافتراس، وكلا التقديرين لا عثار عليه، خلا أن الليلة هي نص الإمام، واليوم والليلة مخرجان على مذهبه، والنص خير من التخريج وأقوى نفوذاً، لكن التخريج مختص بنوع من الحيطة فلهذا كان سائغاً.
وهل يكون ما ذكرناه من الليلة على النص، أو على اليوم والليلة تخريجاً على مذهبه، تقريباً أو يكون تحديداً؟
فيه احتمالان:
__________
(1) المؤيد بالله.
الاحتمال الأول: أن يكون على جهة التحديد، وفائدته: إن نقص من الليلة ساعة أو من اليوم والليلة تخريجاً ساعتان، لم يطهر فمها؛ لأن هذا هو فائدة التحديد بالوقوف على حده من غير نقصان كسائر الأمور المحدودة الشرعية.
الاحتمال الثاني: أن يكون ذلك على جهة التقريب، وفائدته: أنه لو نقص من الليلة أو من اليوم والليلة، ساعة واحدة أو نصف ساعة، فإنه غير ضار في الطهارة. والأجود أن ذلك على جهة التقريب؛ لأن الريق يجري من فمها من دون ذلك، فيكون موجباً للطهارة، والله أعلم.
الفرع الخامس: وإذا قلنا بطهارة فم الهرة لأجل ما أوردنا من الأدلة الشرعية قولاً وفعلاً، فهل يقاس عليها غيرها مما يشاركها في العلة التي نبه الشرع فيها على أنها علة طهارتها وهي الطوفان حيث قال: ((بأنها من الطوافين عليكم والطوافات)) في حديث أبي قتادة، أو يكون مقصوراً عليها لا يتعداها؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه مقصور عليها لا يتعداها، وهذا المذهب له عندي توجيهان:
التوجيه الأول: أن يكون صادراً من منكري القياس، إما على جهة الإطلاق كداود وطبقته، وإما من جهة من اعترف بأطراف منه وصور قد عددها، ليس هذا منها، كالشيخ أبي هاشم وأبي إسحاق النظام )، وأبي عبد الله البصري، فإن هؤلاء قد أنكروا القياس كله إلا أطرافاً منه، فهؤلاء يمكن أن يقولوا: يجب قصر الخطاب على فم الهرة، ولا يقاس عليه غيره من سائر الأفواه، وقد رددنا عليهم هذه المقالة في الكتب الأصولية، من رده مطلقاً ومن اعترف بصور منه، وأوضحنا أنهم لم يصنعوا شيئاً في رد القياس وإنكاره، والبحث في الأصول مخالف للأسرار الفقهية، فلا يمزج أحدهما بالآخر.
التوجيه الثاني: أن يكون صادراً من جهة المعترفين بالقياس، لكنهم قالوا: وإن كنا معترفين بالقياس لَكِنْ فيه مانعان:
أحدهما: أنه خارج عن القياس فلا يجوز القياس عليه كما في الخبر إذا خالف القياس، فكان المانع هو خروجه.
__________
(1) أبو إسحاق النظَّام: إبراهم بن سيار النظَّام البصري المعتزلي. قال الإمام المهدي في شرح الملل والنحل: قيل: إنه كان لا يكتب ولا يقرأ وقد حفظ التوارة والإنجيل والزبور مع تفسيرها. قال الجاحظ: ما رأيت أحداً أعلم في الفقه والكلام من النظَّام. وهو من الطبقة السادسة من المعتزلة. ا.هـ وسمي نظَّاماً؛ لأنه كان ينظم الكلام، وقيل: كان ينظم الخرز، توفي سنة بضع وعشرين ومأتين. وهو من ألمع الأعلام الذين يتكرر ذكرهم والاستشهاد بآرائهم في علم الكلام في مؤلفات المعتزلة.
وثانيهما: أن يقال: ليس ببدع في المجاري الشرعية، أن يكون ملحوظاً بحكم لبسٍ ومصلحة لا يشاركه فيه غيره ويكون مخصوصاً به، وعلى هذا تكون معاني القياس فيه غير معقولة ومسالكه مسدودة ومجاريه منحسمة، كما نقوله في العبادات وغيرها مما لا تعقل فيها مخايل المعاني ولا تجري فيها طرق الأشباه، فمن أجل ذلك يكون مقصوراً على محله لأجل الخصوصية التي لا يشاركه فيها غيره، وهذا فاسد فإن الأصل عند المعترفين بالقياس القائلين به: هو جري المعاني المعقولة والأشباه الخاصة على التعدي من محالها إلا لمانع شرعي يمنع من ذلك، ولا مانع هاهنا من قياس الأفواه على فم الهرة بجامع الطوفان فيهم جميعاً كما نقول في سائر المعاني الجارية في جميع معاني الشريعة كلها من المعاوضات وغيرها، فهذا تقرير مذهب هؤلاء الذين قصروه على فم الهرة لا غير.
المذهب الثاني: مذهب المُعَدِّين له إلى سائر الأفواه، وهذا هو قول المعترفين بالقياس السالكين لطرقه، وهم علماء الشريعة وأهل الحل والعقد من أئمة العترة وأكثر علماء الأمة، فإنهم جازمون بالتعدية في كل معنى من المعاني المخيلة والأوصاف الشبهية، لا يكيعون عن ذلك إلا لمانع شرعي من بعيد تظهر فيه آثار التحكم التي لا يفهم معناها في الأعداد والتقديرات وغيرها مما تنحسم فيه مسالك الأقيسة ولا تكون جارية فيه، وفم الهرة ليس من هذه المجاري، فلهذا وجب القضاء بالتعدية كما أوضحناه، والله أعلم.
ثم نقول: لأي شيء منعتم من قياس سائر الأفواه على فم الهرة؟ هل كان ذلك لعدم فهم المعنى؟ فهذا خطأ فإن الشارع قد أشار إلى العلة في فم الهرة ونبه عليها بقوله: (( إنها من الطوافين عليكم )). وإن كان من جهة أن العلة مفهومة لكن منع من ذلك مانع فهذا خطأ أيضاً، فإن المانع لا بد من أن يكون ظاهراً [فأين] ظهوره حتى نتكلم عليه؟ وإلا كان تحكماً فاسداً لا يُعول عليه، فبطل ما قالوه ووجب تعديته إلى سائر الأفواه بجامع الطوفان.
الفرع السادس: إذا وجب تعديته إلى سائر الأفواه كما أوضحناه، فهل يكون ذلك من جهة القياس بالجامع الذي ذكرناه أو يكون على جهة التنصيص؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: وهو الذي عليه أكثر العلماء من أئمة العترة وفقهاء الأمة، وهو أن يكون إلحاق ما عداها من الأفواه بالقياس على الهرة بجامع الطوفان، وذلك لأن فهم العلة قد يكون بالتنصيص كقول الشارع: (( حرمت الخمر لشدتها أو لأجل شدتها )). وقد تكون بالإيماء كقوله عليه السلام: (( إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). وقوله: (( القاتل لا يرث ))(1). وغير ذلك من أنواع التنبيهات على العلل الشرعية، وقد تكون من جهة الاستنباط، فلا تخلو العلة عن إحدى هذه الطرق الثلاث، وطريق تقرير العلة في خبر الهرة قوله ً: (( إنها ليست بنجس)) ثم علل عدم النجاسة فيها بأنها من الطوافين، فحصل من ذلك أن عدم النجاسة لعلة الطوفان علينا، فمن شاركها في هذه العلة مما يكثر طوفه علينا مثل كثرة تطوافها، فالنجاسة عنه منتفية، وهذا هو الأصل في تقرير كل علة من العلل الشرعية يجري على ما ذكرناه من غير مخالفة، كالصبيان الصغار، فإن أفواههم تطهر في هذه المدة إذا وقع منهم القيء، وكثيراً ما يسنح في حقهم، وهكذا الحال في الفأرة إذا أكلت العذرة فإن هذه الأفواه تطهر بالريق، إما بعد الليلة أو اليوم كما قاله المؤيد بالله، وإما بمجموعهما كما خرجه أبومضر.
__________
(1) سيأتي في المواريث.
نعم.. طهارة هذه الأفواه بالريق مخالف للقياس من جهة أن القياس أن النجاسة لا تطهر بشيء سوى الماء؛ لأنه هو الأصل في إزالتها، وإن جاء شيء على خلاف ذلك فهو مخالف للقياس، كما أن الأصل في طهارة الحدث ألا يكون إلا بالماء، وما خرج عن ذلك فعلى مخالفة القياس وقد مر بيانه، وإنما قضينا بطهارة الأفواه بالريق على جهة الاستحسان لما ذكرناه من الأدلة الشرعية، والاستحسان معمول به عندنا، وهو أخص من القياس وأقوى في الدلالة على الحكم، وحكي عن الشافعي: إنكاره. والقول به هو قول أئمة العترة، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه، وقد أقمنا على صحة القول به البرهان الأصولي، فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا: أن طهارة الأفواه وإن كان جارياً على مخالفة القياس، لكن أفواه ما عدا الهرة مقيس عليها على جهة الاستحسان.
المذهب الثاني: إلحاق ما عدا فم الهرة من الأفواه ليس على جهة القياس، وذلك يكون على أوجه ثلاثة:
الوجه الأول منها: أن يكون على جهة العموم، وحاصله: دلالة الظهور؛ لأن الحق أن دلالة العموم ليست إلا من جهة الظاهر دون النص؛ لأن العموم ليس نصاً فيما تناوله وإنما هو ظاهر في الدلالة، وتقريره هو أن قوله: (( إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). ولفظ: الطوافين، لفظ العموم؛ لأنه مستغرق بدخول اللام عليه كالمؤمنين والمسلمين، وما كان دلالته من جهة العموم الذي يكون ظاهراً فليس دالاً من جهة القياس وإنما دلالته لفظية، وليس من المعاني في ورد ولا صدر.
الوجه الثاني: أن تكون دلالته من جهة اللفظ بطريق الأَولى، وتقريره: أنه قال في لفظ الخبر: (( إنها من الطوافين)). و[كلمة] من هذه للتبعيض، فكأنه قال: إن الطوافين عليكم أفواههم طاهرة والهرة منهم، فمن أجل ذلك حكمنا أن ما عدا الهرة فأفواههم طاهرة من جهة الأَولى؛ لأن ظاهر اللفظ أنهم هم المقصودون به، والهرة إنما دخلت على جهة التبع لا على جهة القصد، وهذا هو مطلوبنا، وما كان داخلاً من جهة الأَولى فليس حاصلاً بالقياس، ولهذا فإنَّا قلنا: إن تحريم الضرب في قوله:{فَلاَ تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ }[الإسراء:23]. ليس قياساً كما هو قول الأكثر من الأصوليين لما كان مفهوماً من جهة الأَحق والأَولى، وهكذا ما قلناه إذا كان غير الهرة مفهوماً بالمعنى قبل الهرة، فهو من طريق الأحق والأولى.
الوجه الثالث: أن تكون دلالة العلة وطريق إثباتها من جهة التنصيص، وهو قوله: (( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم)). لأن من الأصوليين من قال: إن (إِنَّ) المكسورة إذا وجهت على جهة التعليل فهي نص في تقرير التعليل، كقوله عليه السلام: (( زملوهم بكلومهم فإنهم يبعثون يوم القيامة ))(1). فهي في الخبر دالة على العلة من جهة النصوصية، وما كان هذا حاله في التنصيص على العلة، فقد قال بعض الأصوليين: إنه لا يُعَدُّ قياساً أصلاً؛ لأجل النص على العلة، فحصل من مجموع ما ذكرناه: أن الحكم بطهارة أفواه ما عدا الهرة ليس من جهة القياس، على التلخيص الذي قررناه.
__________
(1) سيأتي في كتاب الجنائز.
الفرع السابع: في تقرير المختار من هذه الأقاويل، والحق أن الحكم بطهارة أفواه ما عدا الهرة إنما حصل من جهة الدلالة اللفظية، وهي دلالة الظهور من جهة العموم، إما على جهة الاستواء بينها وبين سائر الطوافين كما في مفردات العموم، وإما على أن ما عداها هو أحق بالدلالة منها من جهة أن التقدير في الخبر: ومن كان طائفاً عليكم ففوه طاهر والهرة من جملتهم، وكلاهما مدلول عليه من جهة اللفظ كما ترى دون القياس ويتأيد هذا الاختيار بإبطال ما سواه.
الانتصار لهذه القاعدة: إنما يكون بتزييف ما وراءها.
قالوا: أي مانع من أن يكون تطهير ما عدا فم الهرة إنما هو حاصل بطريق النص على العلة بقوله: (( إنها من الطوافين عليكم )). وما كان نصاً على العلة فليس من القياس في شيء؟
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نقول: الحق عندنا، وهو قول الجماهير من الأصوليين، أن التنصيص على العلة لا يخرجه عن كونه قياساً؛ لأن حقيقة القياس وفائدته أن يكون حكم المسكوت عنه مفهوماً من المنطوق به، وهذا حاصل مع كون العلة منصوصاً عليها، ولهذا فإنه لو قال الشارع (صلوات اللّه عليه وآله(: (( حرمت الخمر)). فإن إلحاق النبيذ بها إنما هو من جهة القياس، وإن كانت العلة منصوصاً عليها لما كان أخذ المسكوت عنه من منطوق به، فحصل من هذا أن التنصيص على العلة لا يخرجه عن كونه قياساً لما قررناه.
وأما ثانياً: فلا نسلم أن قوله: (( إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). نص في العلة، وإنما هو تنبيه عليها، وقد زعمه بعض الأصوليين [نصاً] وليس سبباً، بل هو بيان التنبيه على العلة أحق من كونه نصاً عليها، فإن النص على العلة إنما يكون باللام، كقوله: نهيتكم عن هذا لكذا، أو من أجل كذا، أو لأجل كذا، وبالباء كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوْا اللّهَ وَرَسُوْلَهُ }[الإنفال:13]. فأما ما عدا ذلك فإنه يكون دالا على العلة ومرشداً إليها وليس نصاً على العلة، وإنما هو من طريق التنبيه عليها.
قالوا: لم لا يجوز أن تكون العلة حاصلة من جهة التنبيه والإيماء بقوله: (( إنها من الطوافين عليكم ))؟
قلنا: ما كان طريق إثبات العلة فيه بالإيماء فهو قياس، وقد قررنا من قبل أن طهارة أفواه ما عدا الهرة ليس من جهة القياس، وإنما هو من جهة الظهور بالعموم.
قالوا: فلم لا يجوز أن تكون طريق إثبات العلة إنما كان من جهة الاستنباط كما قاله أكثر العلماء، وقد حكيناه من قبل؟
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما كان حاصلاً بطريق الاستنباط فهو من فن الأقيسة، وقد أوضحنا أن ذلك ليس مأخوذاً من جهة القياس.
وأما ثانياً: فلأنه إنما يصار إلى الاستنباط في الأقيسة إذا انسدت مسالك التنبيهات، وها هنا يمكن أخذ العلة فيه من جهة التنبيه، فلا يجوز التعويل على الاستنباط في ما هذا حاله، فتنخل من مجموع ما ذكرناه أن التعويل في ذلك على العموم والظواهر دون الأقيسة، وهذا الذي اخترناه هو الظاهر من مذهب المؤيد بالله؛ لأنه لم يعول في ذلك على الأقيسة وإنما عول على التنصيص في طهارة ما عدا فم الهرة، فإن كان غرضه بالنصوصية هو الذي أردناه بالظهور من جهة الدلالة اللفظية بطريق العموم فهو المراد، وإن كان غرضه التنصيص على العلة بطريق التعليل فهو من الأقيسة فلا مدخل له هاهنا كما مر تقريره، وإن كان غرضه بالتنصيص أنه منصوص على ذلك بطريق التصريح الذي لا احتمال فيه، فهذا غير حاصل ها هنا فلا يمكن دعواه، والله أعلم.
الفرع الثامن: وإذا افترس الهر حيواناً ثم ولغ في ماء قليل قبل ذهاب اليوم أو الليلة أو مجموعهما، فهل يكون الماء نجساً أم لا؟ فعلى رأي الأكثر من أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي: أنه يكون نجساً.
والحجة على ذلك: هو أن الماء القليل ينجس باتصال النجاسة به، وإن لم يكن متغيراً بها.
فأما على رأي الإمام القاسم بن إبراهيم وهو المحكي عن مالك، وهو المختار، فإنه يُنظر في حال الماء، فإن تغير بالولوغ فإنه يكون نجساً، وإن لم يتغير بالولوغ فإنه يكون طاهراً.
والحجة على ذلك: قوله عليه السلام (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو لونه )). وقد قررنا هذه المسألة فيما سبق فأغنى عن التكرير.
مسألة: والبئر إذا وقعت فيها نجاسة نظرت، فإن غيرت النجاسة أوصاف الماء من طعم أو لون أو ريح، كانت نجسة، وإن لم تغير شيئاً من أوصافه فهل يكون ماؤها طاهراً أو نجساً؟ فيه تردد بين العلماء، وحاصل الأمر فيه أنه يُنظر فيه، فإن كان الماء قليلاً فإنه يكون نجساً وإن كان كثيراً فهل يجب فيه النزح أم لا؟ فيه نزاع، فمنهم من أوجب نزح البئر، ومنهم من لم يوجبه.
التفريع على هذه القاعدة:
واعلم أن ظهور أسرار هذه المسألة وبيان فوائدها لا تحصل إلا ببيان فروعها، ونحن نذكرها ونفصل ما تشتمل عليه:
الفرع الأول منها: أن ماء البئر إذا كان كثيراً وتغيرت أوصافه أو بعضها فإنه يكون نجساً، وهذا نحو أن تقع فيه فأرة فتموت ويتمعط(1) شعرها ويتمزق فيه جلدها فيحصل فيه التغير بسبب ذلك. والذي ذهب إليه أئمة العترة وعلماء الأمة وفقهاؤها، أن البئر متى ظهرت عليها النجاسة بتغير أوصاف الماء فإنها تكون نجسة، وإن كان الماء كثيراً غامراً، ولا يعرف فيه خلاف.
__________
(1) معط: بميم وعين مهملة فطاء مهملة، نتف (الشَّعَرَ). ا.هـ قاموس. ملخصاً.
والحجة على ذلك: ما روى أبو سعيد الخدري في بئر بضاعة، قال: سمعت رسول اللّه ً يقول، وقد قيل له: إنه يُستسقى لك من بئر بضاعة، وهي تلقى فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذر الناس، والعذر: جمع عذرة، وهو ما يخرج من بطون بني آدم، فقال رسول اللّه ً: (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ))(1) وسمعت في سنن أبي داود، قال أبو داود ) رحمه اللّه تعالى: سألت قَيّم بئر بضاعة: كم عمقها؟ فقلت له: أكثر ما يكون فيها؟ قال: إلى العانة. قلت: فإذا نقص؟ قال: إلى العورة. يعني المغلظة من الرجل والمرأة، وذلك أسفل من العانة بقليل. قال أبوداود: وقدرت بئر بضاعة برداء لي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غُيِّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون. وفي حديث آخر: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه)). وأكثر الأحاديث التي سمعناها ليس فيها ذكر اللون، وقد ذكر في بعضها، فإن ذكر فعلى جهة الإيضاح والبيان، وإن لم يذكر فعلى إرادة التعبد بالقياس، فيكون
__________
(1) تقدم، ولفظه حكاه المؤيد بالله في (شرح التجريد)، والشافعي وأحمد وأصحاب السنن والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول اللّه أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال (ص): ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)). واللفظ للترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وجوده أبو أسامة، وصححه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وابن حزم كذا في (التلخيص)، وقال فيه: وقد جزم الشافعي بأن بئر بضاعة كانت لا تتغير بإلقاء النجاسات لكثرة مائها. ا.هـ ملخصاً من (الروض).
(2) سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير أبو دأود الأزدي السجستاني، صاحب السنن، عالم في الحديث، رحل وطوف، وجمع وصنف، وكتب عن أمم، ولد سنة 202هـ، ومات سنة 275هـ. (تاريخ بغداد ج9/75، تهذيب التهذيب).
لا حقاً بالطعم والرائحة في حكم التنجيس لكونه في معناها من جهة القياس النظري، كما نقوله في سائر الأشياء المسكوت عنها من أجل ذلك، وما قاله أبوداود في تغير لون بئر بضاعة، إنما كان لطول المكث لا من أجل النجاسة المتصلة بها، فإن ذلك يكون منجساً لها بلا خلاف فيه.
فحصل من مجموع ما ذكرناه: أن جميع الأحاديث الواردة في الماء، فإنها دالة ومشعرة على تنجيسه باتصال النجاسة به مهما غيرت أوصافه أو واحداً منها سواء في ذلك كثيره وقليله، وقد قدمنا في باب المياه ما فيه كفاية، وكلامنا هاهنا إنما هو في تطهير الآبار عند اتصال النجاسة بها.
الفرع الثاني: في كيفية تطهير البئر بنزحها عند تنجسها بوقوع الميتة فيها، فالنزح لمائها مطهر لها لا محالة وهو مشروع، لما روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه أمر بنزح الماء من بئر بضاعة لما وقعت فيها الفأرة.
وحجة أخرى: وهو ما روي عن ابن عباس وابن الزبير ) (رضي اللّه عنهما) (( أن رجلاً حبشياً لما وقع في زمزم فمات فيها فأمرا بنزحها)). ووجوب النزح إنما كان مشروعاً من أجل كونه متغيراً بالنجاسة، فأما إذا لم يكن متغيراً فسنقرر الخلاف فيه ونذكر حكمه، ولأن النجاسة إنما تعلقت بالماء لما كان متغيراً فإذا نزح زال ما كان نجساً وخلفه ماء طاهر، فلأجل ذلك كان النزح مشروعاً في الآبار لما يرجى من طهارته بنبوع ماء طاهر غيره، بخلاف غيرها من الأمواء الراكدة كامبُرُك، فإنها إذا تنجست فلا فائدة في نزحها لطهارتها إذ لا يخلفها ما يطهرها كما في الآبار، ولكن يرجى زوال ذلك عنها بهبوب الريح أو بحصول المكاثرة فيها بالسيول إذا وردت عليها، فالشرط المعتبر في طهارة البئر بالنزح، هو تكرره بالدلاء والقصاع والكيزان وما شاكلها، حتى يذهب ما ظهر عليه من تلك الأوصاف كلها؛ لأن ذلك هو الأمارة في نجاسته فلابد من نزحه حتى تذهب كلها، فيكون طاهراً بعد ذلك لزوال النجاسة عنه، ويكرر النزح مرة ثانية وثالثة، ولا سبيل إلى الحكم بطهارة البئر ومائها إلا بالنزح المذهِبِ للنجاسة، فإن لم تزل الرائحة، وما في حكمها من اللون والطعم مع بلوغ الغاية والاستقصاء في نزحها، وجب العدول عنها إلى التيمم إذا لم يوجد ماء غيرها؛ لأن النجاسة فيها باقية فلا وجه يبيح استعمالها مع تحقق بقاء النجاسة فيها، ولأن للطهارة بالماء بدلاً فلا حاجة إلى التضمخ بهذه النجاسة وبدلها ممكن، ولأنه إذا وجب العدول إلى التيمم مع طهارته
__________
(1) هو عبدالله بن الزبير بن العوام بن خويلد، أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، بويع له بالخلافة في مكة. قال الشيرازي: ولا يبايع على الخلافة إلا فقيه، مجتهد، وكان قد دعا إلى نفسه أيام عبدالملك بن مروان فسلط الحجاج عامله على البصرة فقاتله وقتله وصلبه في مكة سنة 73هـ، أمه الصحابية أسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين).
فالعدول هاهنا أوجب مع كونه نجساً.
وهل يشترط في طهارة البئر أن يغلب الماء النازح لقوة نبعه أم لا؟ والظاهر من كلام الشيخ علي بن الخليل والقاضي أبي مضر (رحمهما اللّه تعالى) اشتراطه؛ لأنهما قالا: والبئر إذا ظهر على مائها ما غير ريحه أو لونه أوطعمه لم يطهر إلا بمجموع شرطين:
أحدهما: ذهاب هذه الأوصاف كلها من الريح والطعم واللون.
الثاني: أن يغلب الماء النازح لقوة نبعه.
والمختار: أنه لا يحتاج إلى الشرط الثاني، وأن التعويل إنما هو على الشرط الأول، فبزوال الأوصاف يكون التطهير، وببقائها تكون النجاسة من غير حاجة إلى غيره، وإليه تشير الظواهر الشرعية في نجاسة الماء وطهارته كما قررناه من قبل.
الانتصار: يكون ببيان ضعف ما قالاه، وهو أن النزح واجب لا خلاف فيه بين أئمة العترة وفقهاء الأمة لا خلاف فيه فيما ظهرت عليه النجاسة، لكن ما ذكراه فيه نظر من جهة المعنى.
فنقول: أما الشرط الأول: وهو النزح حتى تذهب الأوصاف كلها، فهو جيد لا عثار عليه.
وأما الشرط الثاني: وهو أن يغلب الماء النازح لقوة نبعه، فلا فائدة فيه؛ لأن الاعتماد في تطهير البئر إنما هو على ذهاب هذه الأوصاف الثلاثة، فبعد ذلك إما أن تكون زائلة بالنزح كلها، فالبئر تكون طاهرة، سواء غلب الماء النازح أو لم يغلب، فلا عبرة به، وإما أن تكون باقية فالبئر نجس سواء غلب الماء النازح أو لم يكن غالباً له، فإذاً لا تعويل على الشرط الثاني لما ذكرناه، وأيضاً فلأنهما قد حققا في آخر كلامهما مع زوال التغير اشتراط غلبة الماء النازح لأنهما قالا: فإن لم تزل الرائحة وما في حكمها فوجب نزح الماء ثانية وثالثة أو أكثر حتى تزول، فإذا زالت وغلب الماء النازح أو لم يغلبه ونزل إلى قرارها ونزح بالقصاع ونحوها، طهرت البئر وجوانبها.
ثم نقول: إذا كنا قد فرضنا أن النجاسة ظاهرة على الماء بتغيير أحد أوصافه أو كلها، فليت شعري ما فائدة اشتراط كون الماء غالباً للنازح أو غير غالب؟ فإذاً الاعتماد إنما هو على زوال الأوصاف أو بقائها في تنجيس ماء البئر وتطهيره من غير أمر وراءه، وفي النزح إذا لم تظهر النجاسة على الماء، كلام في اشتراطه وعدم اشتراطه، سنوضحه بعد هذا بمعونة اللّه تعالى، فإذا زالت الأوصاف بالنزح وتجدد ماء طاهر في البئر وجب الحكم بطهارته؛ لأنه قد عاد إلى أصل الخلقة في التطهير بزوال أثر النجاسة، لقول ً: (( الماء لا يجنب)). وفي حديث آخر: (( الماء لا ينجس )). إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على طهارة الماء ما لم يتغير شيء من أوصافه، ولا يجب غسل الدلاء والقصاع لانغماسها في الماء الطاهر وزوال أثر الماء النجس عنها، ولا ما لاقى الماء النجس من أطراف الأرشية لزواله بالماء الطاهر، فأما وسط الرشا إذا كان قد أصابه من الماء الأول شيء فإنه يجب غسله، لكونه صار نجساً ولم يخالط الماء الطاهر لبعده عنه، فأما ما ترشش من رأس البئر من الماء النجس، فقد قال أصحابنا: إنه يجب غسله؛ لأن الماء النجس قد لاقاه، والماء الطاهر لم يصبه، فلهذا توجه غسله، وهذا يجب أن ينظر فيه، فإن كان باقياً على التغير فيما ذكرناه من الأوصاف الثلاثة أو في بعضها، فإنه يجب غسله؛ لأنه باق على النجاسة، وإن كان عند انفصاله من البئر زالت تلك الأوصاف كلها فهو طاهر لا يحتاج إلى غسل؛ لأنه ربما كان التغير لازماً له قبل الإنفصال من ماء البئر، فلما انفصل عنها زالت عنه بالكلِّيَّة، فلهذا كان طاهراً. وقد أسلفنا من قبل أن الماء إذا تنجس بتغير أوصافه ثم زال تغيره بالريح فإنه يكون طاهراً، فهكذا إذا زالت بالانفصال من غير تفرقة بينهما.
الفرع الثالث: في ماء البئر إذا كانت النجاسة غير ظاهرة عليه وكان قليلاً، فمتى كان على هذه الصفة، فهل ينجس ويجب نزحه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب نزحه وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة، كزيد بن علي والناصر والهادي، والمنصور بالله، والمؤيد بالله، والسيدين: أبي العباس وأبي طالب، وهو محكي عن أبي حنيفة والشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الماء إذا كان قليلاً في البئر، فالنجاسة إذا وقعت عليه فإنه يصير نجساً لما كان قليلاً، ومن مذهب هؤلاء أن القليل من الماء يكون نجساً وإن لم يكن متغيراً كما مر بيانه في المياه، فإذا صار نجساً وجب نزحه لنجاسته كالماء إذا ظهرت عليه النجاسة وغيرت أوصافه، فإذا صار كله نجساً فإن البئر لا تطهر إلا بنزحه، فإن لم يكن الماء غالباً للنازح فإنه يجب النزول إلى قرار البئر لإحصائه لما كان نجساً كله، وإن غلب الماء النازح وجب نزحه حتى يكون الماء غالباً، فصار النزح واجباً عند غلبة الماء النازح، فلتحصل غلبة الظن بإزالة ما كان قد تنجس بوقوع النجاسة فيه، وعند عدم الغلبة أيضاً؛ لأنه صار نجساً كله لقلته، والنزح كما هو واجب هاهنا فهو في الأول أوجب من جهة أن نجاسة البئر إذا لم تظهر على مائها النجاسة مختلف فيه، وإذا ظهرت عليه فهو مجمع على نجاسته، إذ لا قائل بخلاف ذلك. واعتبار كون الماء غالباً للنازح أو غير غالب هاهنا له وجه معقول؛ لأنا فرضنا هاهنا أن الماء قليل فهو نجس، فإن لم يغلب الماء فلابد من إزالته كله؛ لأنه نجس ولا مانع من زواله، وإن غلب فقد طهر ماء البئر بتجدد الماء الطاهر الذي غلب، فلهذا لم يكن بد من اعتبار كون الماء غالباً أو غير غالب؛ إذ لا معيار هاهنا للتطهير والتنجيس إلا النزح وعدمه، بخلاف ما ظهرت عليه آثار النجاسة فإن معيار التطهير والتنجيس فيه هو ظهور الأوصاف وعدمها، من غير حاجة إلى معرفة كون الماء غالباً أو غير غالب، فإذا حصل بالنزح معرفة ذهاب الأوصاف أو ثبوتها كان كافياً، ولا حاجة إلى غيره فافترقا. وكما وجب ما ذكرناه في الماء القليل الذي عُلِمت قلته فهكذا الحال فيما لا يُعلم حاله
في القلة والكثرة؛ لأن القلة هي الأصل والكثرة لا بد فيها من دليل منفصل، ولأن إلحاق ما التبس حاله بحكم القليل، فيه نوع من الاحتياط، وهو الحكم بنجاسته والامتناع منه، فلهذا جعلوا حكمه حكم القليل.
المذهب الثاني: أنه طاهر ولا يجب نزحه، وهذا هو المحكي عن الإمام القاسم بن إبراهيم، وهو قول مالك.
والحجة على ذلك: ما حكيناه من ظواهر الأخبار الواردة في المياه كحديث أبي سعيد الخدري بقوله عليه الصلاة السلام: (( خلق الماء طهوراً )) وحديث ابن عباس بقوله عليه الصلاة السلام: (( الماء لا يخبث )). وغير ذلك من الأخبار الدالة على أن الماء لا ينجس إلا بأن يكون متغيراً بالنجاسة. وروى محمد بن منصور [المرادي] في جامعه(1) قال: حضرت القاسم بن إبراهيم وكان يستسقى له من بئر كان يتوضأ منها، فأصابوا فيها حمامة ميتة. فأُعلم بذلك القاسم فقال لغلمانه: انظروا هل تغير منها طعم أو ريح؟ فنظروا فلم يروا تغيراً فتوضأ منها ولم ينزح منها شيئاً.
والمختار: ما عول عليه القاسم بن إبراهيم، وهو متفرع على أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة عليه إلا أن تكون مغيرةً له.
والحجة على ذلك: ما أسلفناه من قبل من الأحاديث، فإنها دالة على أن الماء لا يكون نجساً إلى بأن تغيره النجاسة، فإذا كان ماء البئر قليلاً أو لا يعلم حاله في القلة والكثرة ولم يكن متغيراً بوقوع النجاسة عليه فإنه يكون طاهراً لا محالة إذ لا وجه يقتضي نجاسته، فإذا كان طاهراً فلا فائدة في نزح البئر؛ لأن النزح إنما يكون لتطهير الماء بزوال ما ينجس من الماء بالتغير، فإذا كان لا تظهر عليه نجاسة فلا فائدة عند ذلك في نزحه، فلا جرم قضينا بطهارته وبطلان نزحه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوا عليه.
__________
(1) مجموع في الحديث والفقه.
قالوا: قد أسلفنا في باب المياه أن الماء إذا كان قليلاً فإنه ينجس بوقوع النجاسة عليه وإن لم يكن متغيراً، وماء البئر منه عند قلته فيجب القضاء بكونه نجساً وإن لم يتغير.
قلنا: وقد تكلمنا على ما ذكرتموه في باب المياه، وقررنا أن الماء لا ينجس إلا بالتغير قليلاً كان أو كثيراً، وإليه تشير ظواهر الأخبار، فأغنى عن التكرير والإعادة.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: إذا سقطت الفأرة أو الدابة في البئر فإنك تنزحها حتى يغلبك الماء.
قلنا: هذا محمول على أن الماء قد تغير بوقوع الحيوان فيه، وهو الغالب من حال أمواء الآبار وليس كلامنا فيما ظهرت عليه النجاسة فإنه محل اتفاق، ولكن الخلاف والنزاع فيما لم تظهر عليه نجاسة فإنه لا فائدة في النزح ولا جدوى، وأيضاً فإنا نتأول أمره بالنزح على أنه قد بقي من شعر الحيوان المتمعط وجلده المتمزق على ظهر الماء من غير أن يكون مغيراً له، فلهذا أمر بنزحه لإزالته عن البئر وتنزهاً عن عفونته لا أنه واجب، فإن الوجوب إنما يكون عند نجاسة الماء، وإنما كان ذلك على جهة الاستحباب والتطهير.
قالوا: روي عن ابن الزبير وابن عباس (رضي اللّه عنهما) أن رجلاً حبشياً وقع في بئر زمزم فأمرا بنزح مائها، فجعل الماء لا ينقطع فنظرا فإذا هي عين تجري من قبل الحجر الأسود.
قلنا: وكذلك نقول، فإنهما إنما أمرا بالنزح وأوجباه لما تغير الماء بوقوع الآدمي عليه، وهذا هو الغالب فإنه إذا وقع [وظل] فيها حتى تقطعت أوصاله بالماء، فإنه يؤثر في تنجيس الماء فلهذا أمرا بنزحه للتطهير مما ظهر عليه من آثار الميتة، فلما تحققا زوال ما ظهر على الماء وأن الماء لا يمكن إزالته بالكلية فقالا: حسبكم، يريدان من النزح، فإن فيه كفاية لما زالت العفونة عن الماء بما قد استوعبوا من نزح مائها.
قالوا: بم تنكرون على من يقول: النزح تعبد لا يعقل معناه من جهة الشرع كسائر التعبدات التي لا تعقل معانيها، فلهذا وجب سواء كان الماء متغيراً أو غير متغير؟
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الأصل فيما ورد عن اللّه تعالى أو عن الرسول أن تكون معانيه معقولة، ولهذا ورد التعبد بالقياس في ألفاظهما لما كانت معانيهما معقولة مفهومة المقاصد والأغراض.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن ما ذكرتموه من النزح وارد على جهة التعبد الذي لا يعقل معناه، فليت شعري ماهو الضابط لوجوبه؟ هل كل واقع في البئر؟ فأوجبوه في الحجر والعود، أو كل حيوان؟ فأوجبوه في الزنبور والذبابة والنحلة والخنفساة أو يكون الضابط للنزح: هو ما كان مغيراً للماء فيوجب النزح لإزالة ما لحقه من التغير، فهذا جيد لا عثار عليه وعند هذا يكون معقول المعنى، فلا وجه لقولكم: إنه وارد على جهة التعبد الذي لا يعقل معناه. وعلى هذا يفترق الحال بين كونه مغيراً وغير مغير، فإن كان مغيراً وجب النزح، وإن كان غير مغير فلا فائدة في إيجاب النزح، وفي ذلك صحة ما نقوله من أن الماء إذا كان قليلاً لم ينجس ولا يجب نزحه إذا لم يتغير.
الفرع الرابع: في حكم ماء البئر إذا لم تكن النجاسة ظاهرة عليه وكان كثيراً، فهل يجب الحكم بنجاسة ماء البئر إذا كان على هذه الصفة ويجب نزحه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون طاهراً ولا يجب نزحه، وهذا هو رأي الإمام القاسم، والناصر، والهادي، والمنصور بالله، وغيرهم من علماء العترة، وهو الأقوى على رأي المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: هو أن الماء إذا كان كثيراً فلا يفترق الحال بين ماء البئر وغيرها من سائر الأمواء من البرك والمدود(1) في أنه لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه، وإليه تشير ظواهر الأحاديث التي رويناها.
__________
(1) المد: السيل. وارتفاع النهار... إلخ. ا.هـ. قاموس.
وهل ينجس المجاور أو لا ينجس؛ وإذا قلنا بنجاسة المجاورة فهل ينجس المجاور الأول والثاني، أو لا يكون [نجساً] إلا المجاور الأول؟ فيه تردد ونزاع بين العلماء وقد قدمناه في باب [المياه]، وقدمنا المختار في ذلك فأغنى عن الإعادة.
المذهب الثاني: أن الماء وإن كان كثيراً في الآبار، فإنه يحكم بنجاسته ويجب نزحه، وهذا هو رأي زيد بن علي، ومحكي عن أبي حنيفة، وحَصَّلَهُ بعض فقهاء المؤيد بالله على مذهبه.
والحجة على ذلك: هو أن ماء الآبار مخالف لغيرها مع الكثرة، والأدلة التي دلت على وجوب النزح من جهة الصحابة والتابعين لم تفصل بين أن يكون متغيراً بالنجاسة أو غير متغير، فإنه ينجس جميعه ويجب نزحه وإن لم تظهر عليه النجاسة، بأحد أمور ثلاثة:
أحدها: أن يكون النجس الواقع عليه مائعاً.
وثانيها: أن يكون جامداً خلا أنه تفسخ فيه.
وثالثها: أن يكون جامداً إلا أنه ثقيل يبلغ إلى أسفل البئر كالإنسان ونحوه.
فإن لم يوجد شيء من هذه الأمور الثلاثة وجب أن ينزح شيء من الماء على قدر عظم النجاسة وخفتها، فإن كانت فأرة أو عصفوراً أو ما أشبه ذلك مالم يبلغ حد الحمامة والدجاجة، فإنه ينزح منها عشرون دلواً، فإن بلغ حد الحمامة والدجاجة فإنه ينزح منها أربعون .. خمسون .. ستون دلواً، وكذلك ما جاوز قليلاً ما لم يبلغ حد الجدي والإنسان، فإن بلغ حد الجدي والإنسان، نزح جميع ماء البئر. ومن أوجب النزح فإنه يوجب نجاسة المجاور الأول دون الثاني أو هما جميعاً، ومن لا يوجب النزح، منهم من أوجب تنجيس المجاور ومنهم من منع ذلك. وقد فصلنا حقيقة الكلام في المجاورة فيما مر.
والمختار: ما عول عليه الجماهير من علماء العترة، من أن الماء إذا كان كثيراً فإنه محكوم عليه بالطهارة وأنه غير مفتقر إلى النزح.
والحجة على ذلك: أما الحكم بطهارته، فلأن تعويل الشرع في ذلك إنما هو على عدم تغيره، وما هذا حاله فليس متغيراً؛ لأن كلامنا إنما هو إذا لم يكن متغيراً بالنجاسة، فلأجل هذا حكمنا عليه بكونه طاهراً، وأما النزح فلأن تعويل الشرع عليه إنما هو لتطهير البئر، ولا شك أن الماء إذا كان غير متغير، فهو طاهر. فإذاً لا حاجة إلى النزح، وهذا الذي اخترناه، هو الذي يأتي على أصول المؤيد بالله ويقتضيه مذهبه.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: الظاهر من عمل الصحابة وعلماء التابعين، إيجاب النزح كما حكيناه عن أمير المؤمنين، وابن عمر، وابن الزبير، وليس وجوبه إلا لأجل نجاسة ماء البئر وإن لم يكن متغيراً، وفي هذا دلالة على صحة ما نقول من الأمرين جميعاً، نجاسة الماء وإيجاب النزح.
قلنا: ليس من جهة الصحابة والتابعين تصريح بأنهم نزحوا من غير تغير فيكون حجة لكم، وإنما الظاهر أنهم لا ينزحون إلا لأجل طهارة البئر والماء، وهذا إنما يكون مع نجاسة الماء فيكون النزح مطهراً له، وأقوى أمارة في ذلك أنهم لا محالة يقرع مسامعهم ما ورد من الأحاديث النبوية، على أن الماء لا ينجس إلا مع التغير. فلأجل هذا قضينا بأن إيجابهم النزح إذا كان هناك تغير، فأما إذا كان لا تغير هناك فلا وجه للنزح فبطل ما توهموه.
قالوا: تلك الأمور الثلاثة توجب نجاسة الماء من غير تغير، فلأجل هذا حكمنا بنجاسته وإن لم يكن متغيراً فأوجبنا النزح لذلك.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الحكم على الماء بكونه نجساً مع كثرته وأن النجاسة لم تكن ظاهرة عليه تحكم لا مستند له ولا دلالة عليه، والشرع إنما دل على نجاسة الماء إما بتغيره بالنجاسة إذا كان كثيراً أو قليلاً، أو بوقوع النجاسة فيه مع قلته وإن لم تظهر عليه، فأما إذا كان كثيراً ولم تظهر النجاسة عليه فلا دلالة من جهة الشرع على نجاسته.
وأما ثانياً: فلأنه إذا جاز الحكم على ماء البئر بالنجاسة وإن لم تكن ظاهرةً عليه، جاز الحكم على الماء في غير البئر، فيلزم في البحر إذا حصلت فيه أحد هذه الأمور الثلاثة، أن يكون نجساً ولا قائل به. وهكذا القول في البركة العظيمة، لأنكم إذا حكمتم بنجاسة الآبار من غير تغير في مائها لزم في البحر مثله من غير تفرقة بينهما.
قالوا: كيف نحكم على ماء البئر بالطهارة مع وقوع أحد هذه الأمور الثلاثة فيها وكل واحد منها مؤذن بالاختلاط والامتزاج؟
قلنا: ليس التعجب من هذا، إنما التعجب من الحكم عليه بالنجاسة من غير أمارة، لأن الأمارة التي أشار إليها الشرع إنما هي(1) التغير بالنجاسة، وها هنا لا تغير، أو يكون الماء قليلاً فلا يقوى على حمل النجاسة كما قال به أكثر العلماء، فأما الحكم على النجاسة من غير هذين الأمرين فلا وجه له.
قالوا: فإن لم يوجد واحد من هذه الأشياء الثلاثة وجب أن ينزح شيء من الماء على قدر عظم النجاسة وخفتها، فإن كانت فأرة أو عصفوراً أو ما أشبه ذلك إلى آخر ما ذكروه من تقديرات الحيوانات الواقعة، كما قررناه عنهم في الاحتجاج لهم.
قلنا: عما ذكروه أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه مبني على وجوب النزح فيما لم يكن متغيراً بالنجاسة، وهذا قد أفسدناه من قبل.
__________
(1) في الأصل: إنما هو.
وأما ثانياً: فلأن هذه التقديرات في الدلاء المنزوحة من العشرين والأربعين والخمسين والستين دلواً، ليس يخلو الحال فيها، إما أن توجبوها مع القول بنجاسة الماء، أو مع القول بطهارته، أو مع القول بنجاسة بعضه دون بعض، فإن كان مع القول بنجاسة الماء كله فلا وجه له؛ لأن نجاسة الماء كله إنما تكون مع تلك الأمور الثلاثة التي ذكرتموها وليس هذا منها، وإما أن يكون مع القول بطهارة الماء كله فهو فاسد أيضاً، لأن الماء إذا كان طاهراً فلا حاجة إلى إيجاب النزح منه؛ لأن النزح إنما يجب تطهيراً للماء فإذا كان طاهراً فلا حاجة إلى التطهير، وإما أن يكون مع القول بأن بعضه طاهر دون بعض فهذا الحكم لا أصل له؛ لأنه ماء واحد، فلا وجه لكون بعضه نجساً دون بعض مع ذهاب التغير عنه.
وأما ثالثاً: فلأنا لا نرى أكيس من دلوكم هذا، حيث ميز الطاهر عن النجس، فأزال النجس وترك الطاهر، مع أنه ماء واحد في موضع واحد، ثم نقول: معاشر فقهاء الحنفية، أخبرونا عن هذا التقديرات من الدلاء بالعشرين والخمسين والأربعين إلى غير ذلك من العدديات التي اقترحتموها، هل كانت بنص من اللّه تعالى أو من جهة رسوله؟ فأظهروها حتى نساعدكم عليها، فلا حاجة بنا إلى مخالفة أمر اللّه تعالى وأمر رسوله، وإن كانت بنظرٍ في أمارات شرعية فأوضحوا تلك الأمارات لننظر فيها، فإن كانت صحيحة اتبعناها، وإن كانت فاسدة أبطلناها ولم يكن عليها اعتماد، وإن كان ذلك على حسب هذه الحيوانات الواقعة في البئر فهذا فاسد أيضاً، فإنكم قدرتم في الفأرة والعصفورة عشرين دلواً، والفأرة أكبر من العصفور وهما في النزح على سواء، ثم قدرتم في الحمامة والدجاجة خمسين أو ستين، وهما مختلفان في الكبر والحجم. ثم إنكم سويتم بين الجدي والإنسان وأحدهما مخالف للآخر في الكبر والصغر، ثم قلتم إنه ينزح معهما ماء البئر كله لكونه صار نجساً بهما من دون تقدير في النزح وهما متقاربان في القدر، ثم نقول: قد أوجبتم النزح بالدلاء واحتكمتم هذا الاحتكام من غير أمارة ولا دلالة شرعية، فأخبرونا عن مقدار هذا الدلو، فإن الدلاء في أنفسها متفاوته وبعضها يسع رطلاً من الماء، وبعضها عشرة، وبعضها عشرين وخمسين ومائة، فعلى أيها تعولون وبأيها تقدرون ما قدرتم من النزح؟ فما هذا حاله مع ما فيه من الاحتكام من غير دلالة، فهو رد إلى عماية وجهالة في التقدير لا يعلم حالها.
فحصل من مجموع ما ذكرناه أنهم لم يصنعوا شيئاً في هذه التحكمات من غير أمارة يعتمد عليها، ولا تقرير دلالة يستند إليها، وأعرضوا عما ذكره الشارع ً، وأشار إليه من تعليق نجاسة الماء بتغيره، وتعليق طهارته بعدم تَغَيُّرِهِ، فلأجل هذا وقعوا في هذه التحكمات التي ليس عليها دلالة. والله أعلم.
الفرع الخامس: في كيفية طهارة البئر بنضوب الماء عنها، إذا وقعت في البئر نجاسة فلم تزل عنها حتى نضب ماؤها كالبول والخمر والسرقين وغير ذلك من أنواع النجاسات العينية، ثم نبع بعده ماء آخر فهل يفتقر إلى النزح أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها تفتقر إلى النزح، وهذا شيء يحكى عن أبي يوسف.
والحجة على ذلك: هو أن البئر إذا وقعت فيها نجاسة فقد دل الشرع على أن طهارتها متعلقة بالنزح، ولأن النجاسة قد اتصلت بماء البئر فيجب نزحها كما لو لم ينضب ماؤها، فلا بد من النزح وتصير البئر طاهرة.
المذهب الثاني: أنها لا تفتقر إلى النزح، وهذا شيء محكي عن محمد بن الحسن الشيباني.
والحجة على ذلك: هو أن طهارة البئر مشروطة بذهاب ما فيها من الماء النجس، فإذا ذهب ذلك بالجفاف صار كأنه ذهب بالنزح.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه يكون صالحاً لأن يكون مذهباً لأئمة العترة، لما كانت المسألة غير منصوصة لهم، وحاصله أنا نقول: إذا نضب الماء عن البئر وبقيت النجاسة ثم نبع الماء عقيب نضوبها وهي حاصلة في البئر، فليس يخلو الحال عند نبوع الماء، إما أن يتغير بما بقي من النجاسة أو لا يتغير، فإن كان متغيراً فهو نجس لقوله عليه السلام: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير لونه أو ريحه أو طعمه)). وإن كان غير متغير بها فهو طاهر، لقوله عليه السلام: (( خُلق الماء طهوراً )). وسواء كان الماء قليلاً أو كثيراً فإنه طاهر إذا لم يتغير؛ لأن الخبر لم يفصل في ذلك، فأما على رأي من ينجس الماء القليل كما هو رأي الأكثر من أئمة العترة وفقهاء الأمة فإنهُ يُنظر، فإن كان الماء قليلاً وبقي أثر النجاسة في البئر فإنه ينجس، وإن لم يكن متغيراً، فأما على ما اخترناه فهو طاهر مع القلة لظاهر الخبر، وقد ذكرناه غير مرة فأغنى عن الإعادة.
الانتصار: يكون بتزييف ما عدا ما اخترناه مذهباً لنا.
قالوا: طهارة البئر مشروطة بالنزح.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم وجوبه على الإطلاق وإنما يكون واجباً إذا كان ماؤها متغيراً.
وأما ثانياً: فلأن النزح إنما يجب إذا كانت النجاسة واقعة فيه فينزحه لتذهب النجاسة. فأما إذا كان الماء جديد النبع فهو طاهر لم تتعلق به نجاسة فافترقا.
قالوا: ولأن النجاسة قد اتصلت بالبئر فيجب نزحها كما لو لم ينضب ماؤها.
قلنا: المعنى في الأصل: اتصاله بالنجاسة فتنجس، بخلاف النابع فإنه ليس متصلاً بالنجاسة فلم يفتقر إلى نزح فبطل ما توهموه.
الفرع السادس: في كيفية طهارة البئر بالمكاثرة بالماء لما فيها من الماء النجس.
اعلم أن الكلام في التطهير بالمكاثرة مترتب على الكلام في التنجيس بالمجاورة، وقبل الخوض فيما نريده من طهارة الأرض بالمكاثرة نذكر مذاهب العلماء في التنجيس بالمجاورة، ولهم في ذلك مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه لا نجاسة بالمجاورة أصلاً، فإذا وقعت نجاسة في ماء راكد أو جارٍ، فإنه لا ينجس إلا عين النجاسة، ولا تنجس ما لاصقها من الماء وجاورها إلا أن يكون متغيراً بها، وهذا هو رأي الإمام الناصر، ومحكي عن أبي يوسف والشافعي في أحد قوليه.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه )). وهذا عام في جميع المواضع كلها.
المذهب الثاني: أنه ينجس موضع النجاسة والمجاور الأول والمجاور الثاني، وهذا هو رأي الإمام المؤيد بالله، والإمام الهادي وأولاده، ومحكي عن السيد أبي العباس.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً)). فإذا كان الشك في النجاسة يُشرع في غسلات ثلاث، فهكذا يكون في النجاسات إذا كانت متحققة فلا يطهر المحل إلا بثلاثة أمواء: فالأول: نجس لمجاورته عين النجاسة. والثاني: نجس لمجاورته الأول. والثالث: تكون به الطهارة. فعلى رأي هؤلاء، فالمتنجس ليس إلا ماءين والثالث طاهر لا تعرف نجاسة في طهارته.
المذهب الثالث: أنه لا ينجس إلا عين النجاسة وما جاورها فقط، وهذا هو رأي الإمام أبي طالب، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن النجاسة ليس لها قوة إلا على ما جاورها دون ما بَعُدَ عنها ما لم تغيره، ومع بعدها عنه يكون على أصل الطهارة إلا أن يتغير بها، فمن أجل ذلك قلنا: إنه لا ينجس إلا ما جاورها لاتصاله بها، فهذا تقرير المذاهب بأدلتها الشرعية.
والمختار: ما عول عليه الإمام الناصر ومن تابعه من علماء الأمة، وهو أنه لا ينجس من الماء إلا نفس النجاسة دون ما جاورها إلا أن يكون متغيراً بها، لما ذكرناه عنه ونزيد ههنا، وهو (( أن النبيً، أمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوب من ماء)) فلو كان كما زعموه من نجاسة المجاور الأول والثاني، لكان قد أمر بزيادة في النجاسة ومضاعفتها، ولأن الماء باق على أصل التطهير فلا ينجسه إلا ما غيره.
الانتصار على تقرير ما اخترناه بالجواب عن ما يخالفه ممن قال بمجاورين أو بمجاور واحد.
قالوا: إنما قضينا بنجاسة مجاورين لما رويناه من الخبر في حق من قام من نومه، فالأمر بغسلها ثلاثاً يدل على نجاسة مجاورين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في ظاهر الخبر ما يدل على نجاسة مجاور أول ولا مجاور ثانٍ، وإنما ظاهره بالغسل ثلاث مرات، وليس فيه تعرض لما قلتموه.
وأما ثانياً: فلأنه إنما أمر بغسله ثلاث مرات على جهة التأكيد والاستحباب كما أمر بالغسل من ولوغ الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب على رأي المؤيد بالله، على جهة التأكيد والاستحباب دون الوجوب فهكذا هاهنا، وإلا فالمرة الواحدة كافية كما كان في الصب على بول الأعرابي من غير فرق.
قالوا: إنما أوجبنا نجاسة المجاور الأول من جهة أنه لا قوة لعين النجاسة إلا على ما جاورها دون غيره، فلهذا كان المجاور الأول نجساً دون غيره.
قلنا: وعنه جوابان أيضاً:
أما أولاً: فلأنه لا قوة للنجاسة على مجاور واحد، ولا على مجاور ثانٍ من غير تغيير الماء إلا إذا غيرته، فإن الشرع قد دل على غلبتها له مع التغيير، فأما من غير تغيير فلا.
وأما ثانياً: فلأن ما أبطلتم به نجاسة المجاور الثاني على من قال به فهو بعينه مبطل لنجاسة المجاور الأول من غير تفرقة بينهما، ولا مخلص من هذا إلا القول ببطلان المجاورة كلها، والبقاء على حكم التطهير في الماء كله إلا أن يكون متغيراً، فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنرجع إلى بيان كيفية التطهير بالمكاثرة.
فنقول: أما على رأي السيد أبي طالب و أبي حنيفة، فإذا كان الواقع في البئر هو عين النجاسة وما جاورها أو اختلط المجاور الأول والثاني، فإنه إذا ورد عليه من الماء الطاهر ما هو أكثر منه في المقدار وجب أن يكون طاهراً.
ووجهه: هو أن التطهير إنما يقع بالمكاثرة وهي حاصلة هاهنا، ولأنه ماء طاهر ورد على ماء نجس فكان مطهراً له كالغسالة الثانية على رأي الجميع ممن اعتبر المجاورة في التنجيس.
وأما على طريقة السيد المؤيد بالله ومن وافقه، وهو أن المجاور الأول إذا كان ينجس بملاقاة العين، والثاني ينجس أيضاً بملاقاة المجاور الأول، فإذا ورد عليه من الماء الطاهر ضعفان أو أكثر فإنه يعود طاهراً بالمكاثرة له والمغالبة.
والمثال الكاشف عن حقيقة المسألة، وهو أنه لو كان هاهنا رطل من الماء وقعت فيه قطرة من البول أو الخمر، فعلى قول أبي طالب إذا ورد عليه رطلان من الماء كان طاهراً من غير زيادة؛ لأن هذا ماء نجس لمجاورة النجاسة، ولا ينجس عنده إلا المجاور الأول، فإذا كوثِرَ بِمَا يكون غالباً أعاده طاهراً كالغُسالة الثانية.
وعلى قول السيد المؤيد بالله بنجاسة المجاور الأول والمجاور الثاني، إذا كان هنا رطل فيه قطرة بول أو خمر فإنه ينجس بمجاورة العين، فإذا زِيْدَ عليه رطلان فهما نجسان بمجاورة ما جاور النجاسة، فإذا أريد تطهيرهما فلا بد من ستة أرطال لتكون مكاثرة للثلاثة الأولى، فتصير ثمانية تفريعاً على قوله بنجاسة المجاورين. وهذا المثال هو وارد على جهة التقدير دون التحقيق فإن الأرطال الثلاثة والستة والعشرة والعشرين وما زاد عليها قليلة تنجس بوقوع النجاسة فيها، وإن لم تكن متغيرة على رأي الأكثر من أئمة العترة كما مر تقريره، ولكنهم أرادوا بيان حقيقة المكاثرة على جهة التقدير بما ذكرناه.
وأما على طريقة الناصر: وهو الذي اخترناه، وهو أن الماء لا ينجس بالمجاورة إلا أن يكون متغيراً، فعلى هذا لا تعقل حقيقة التطهير بالمغالبة إلا إذا كانت النجاسة مغيرة للماء، فإذا حصلت المكاثرة فإنها تزيل التغير فيكون طاهراً، فأما إذا كانت النجاسة غير مغيرة للماء كأن تقع في رطل قطرة من بول أو خمر ولم تغيره، فعلى رأي من نجس القليل من الماء من غير تغير يطهر تقديراً إذا ورد عليه من الماء الطاهر ما هو أكثر منه، ويطهر تحقيقاً إذا كان الوارد عليه قلتان على رأي أصحابهما، أو كان كثيراً على رأي من لا يعتبر بهما، فكله كثير يكون مطهراً على جهة التحقيق، فأما ما دون ذلك فهو قليل الورود مثالاً على جهة التقدير لا غير، وأما على رأي من لا ينجس الماء إذا كان قليلاً من غير تغيُّر، فالقطرة لا تضر الرطل من الماء من خمر أو بول وهو طاهر كما كان فلا يحتاج فيه إلى مكاثرة ولا مغالبة كما مر تقريره في الماء القليل عند اتصال النجاسة به.
الفرع السابع: في قدر المكاثرة.
اعلم: أن المكاثرة على الرأي الذي اخترناه من أن الماء لا ينجس إلا بتغيره بالنجاسة قليلاً كان أو كثيراً فلا يتصور التطهير بالمكاثرة إلا فيما كان مُتَغَيِّراً بالنجاسة، وأما إذا كان غير مُتَغَيِّرٍ بها فإنها لا تنجسه بحال، وقد مر بيانه. وفي قدر المكاثرة مذهبان:
المذهب الأول: أنها لا تطهر إلا بأن يصب على النجاسة سبعة أضعافها من الماء، وهذا هو المحكي عن الشافعي في أحد قوليه.
والحجة على ذلك: هو أنها نجاسة أريد تطهيرها فاعتبر فيها أضعاف سبعة، دليله: ولوغ الكلب. وقد قال ً: (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب )).
المذهب الثاني: أن المكاثرة بأن يصب على النجاسة ما يغمرها من الماء ويستهلكها، مما يكون مُذْهِباً لجميع أوصافها من طعم أو ريح أو لون.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود إنما هو إزالة النجاسة وإذهاب عينها وهذا حاصل بما ذكرناه، وهذا هو رأي بعض أئمة العترة وهو القول الجديد للشافعي، وهو المختار؛ لأن أصحابنا إنما ذكروا الأرطال الثمانية وغيرها من المقدرات على جهة الفرض والكشف للإبانة لا على جهة الشرط لتحقيق العدد.
والحجة على ذلك: هو أن هذه الأمور العددية، إنما تؤخذ من جهة نص الشارع وتوقيفاته ولا يجوز أخذها بالمقاييس؛ لأن القياس لا مدخل له فيها؛ لأنها معلومة بأمر غيبي من جهة اللّه أو من جهة رسوله ً، ولم يكن من جهة اللّه تعالى ولا من جهة رسوله ً فيها نص بأمر مقدر، فلهذا لم يكن عليها تعويل وإنما التعويل على إذهاب النجاسة من غير تقدير.
الانتصار لهذا المقالة: بإبطال ما سواها.
قالوا: روي عن الرسول ً في طهارة ولوغ الكلب سبع مرات.
قلنا: هذه المقالة نذكرها في النوع الثاني ونبين كيفية الطهارة من ولوغ الكلب، ونتكلم على ما قالوه من إبطال هذا العدد، وأنه وارد على جهة الاستحباب دون الوجوب، وعلى هذا إذا بال رجلان على أرض وأريد تطهيرها فإنه يكون بالمكاثرة على رأي أئمة العترة، وهو المختار، وحكي عن الشافعي أنه يصب عليه ذنوبان لكل بول رجل ذنوب، والحق ما قلناه؛ لأن ما هذا حاله يؤدي إلى التناقض بأن يطهر البول الكثير من الواحد بذنوب واحد، وما دون ذلك من الاثنين بذنوبين، فلهذا كان التعويل على المكاثرة على قدر البول من واحد أو من اثنين، فهذا هو الكلام في كيفية تطهير الآبار.
مسألة: أولاد ما لا يؤكل لحمه من بني آدم وغيرهم من سائر الحيوانات ما خلا الكلب والخنزير وما تولَّد منهما، فإنها تكون طاهرة بعد الجفاف من الولادة، عند أئمة العترة وهو قول فقهاء الأمة.
والحجة على ذلك: دليل عام نقرره، وحاصله هو: أن اللّه تعالى من لطفه وعظيم رحمته للخلق، جعل الأعيان التي أوجب على الخلق اجتنابها ونهاهم عن التلبس بها، أموراً محصورة مقدرة قد أوضحها في كتابه وعلى لسان رسوله ً، وما عداها من جميع الأعيان فإنها طاهرة، وعند هذا نعلم أن الأعيان النجسة منحصرة، وما عداها أمور طاهرة لا تتناهى، وهذا الدليل عام يسترسل على جميع الصور التي لم تدل عليها دلالة معينة إذا التبس الأمر فيها. وأولاد ما لا يؤكل لحمه تعرف طهارتها بما ذكرناه من هذه الدلالة، وإذا كان محكوماً عليها بالطهارة لما ذكرناه فبأي شيء تطهر؟
فالذي ذكره الإمام المنصور بالله، أن طهارتها عقيب خروجها من بطون أمهاتها هو بالجفاف، وهذا جيد لا عثار عليه وهو من جملة أنظاره التي تفرد بها وأسرار فكرته التي لم يُزاحم عليها.
والحجة على ذلك: هو أنه لا سبب هنالك يشار إليه بالتطهير سوى ما ذكره، فيجب أن يكون هو السبب في طهارتها، وإنما قلنا: أنه لا سبب هناك يعقل في الطهارات إلا ما ذكره، فلأن الأمور التي يعقل أن تكون سبباً: إما الغسل ولا قائل به، وإما المسح وهو إنما يكون في الأشياء الصقيلة ولا قائل به في غيرها، فإذا بطل هذان الأمران لما قررناه لم يبق إلا الجفاف بعد الولادة، وإذا كان الأمر كما قلناه في طهارتها بالجفاف، فما بعد جفافها من مباشرتها بالرطوبات يكون طاهراً لا محالة، إلا أن يعرض له عارض مما يوجب نجاستها فتكون نجسة، وقبل الجفاف تكون تلك البِلَّة التي حصلت من بطون أمهاتها نجسة لا محالة من البِلَّة والدم، وما يكون من آثار الرحم؛ لأنها مواضع الحدث، فما يخرج منها فهو نجس وما كان متصلاً به، فأما أجواف ما يؤكل لحمه فسنذكر كيفية تطهيره في الأطعمة عند ذكر الجَلاَّلَةِ بمعونة اللّه تعالى. وهذا ما أردنا ذكره من النوع الأول في كيفية تطهير ما لا يقبل الغسل وما تعذر غسله للحرج والمشقة، فأما ما لا يغسل فليس فيه إلا مسألة واحدة نذكرها هاهنا.
مسألة: ذهب علماء العترة إلى أن الميتة من جميع الحيوانات، إذا وقعت في شيء جامد كالسمن والعسل وغير ذلك من الأشياء الجامدة فإنه يُقوّرَ ما حولها، وإن كانت مائعة أريقت كالزيت والسليط وغير ذلك من المائعات. وهذا هو المحكي عن فقهاء الأمة.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً أنه قال: (( إذا وقع الحيوان في السمن أريق المائع وَقُوِّر ما حولي الجامد))(1).
__________
(1) وفي هذا ما روي عن ميمونة أن رسول اللّه ً سئل عن فأرة وقعت في السمن. فقال: ((ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم)). أخرجه البخاري، وفي رواية عن أبي هريرة أن رسول اللّه ً، قال: ((إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه)). أخرجه أبو داود. ا.هـ. من (جواهر الأخبار).
وإن غسل الجامد جاز ذلك لأنه مما يمكن غسله لجموده، فأما المائع فلا سبيل إلى غسله لأجل ميعانه فلأجل هذا يراق.
وحكي عن الإمام المنصور بالله: جواز غسل بعض المائعات، وهذا نحو السليط والزيت وما كان من طبعه أن يطفو على ظهر الماء، فأما ما كان يرسب فلا يمكن غسله بحال. وكيفية غسله أن يجعل الماء في إجانة أو طشت ثم يصب الزيت أو السليط على الماء فيعلوان جميعاً على الماء، يفعل ذلك مرة أو مرتين أو مرات ثلاثاً على حد الاختلاف في إذهاب النجاسة كما سنوضحه، فإن كان ما ينجس به له رائحة وزال بما ذكرناه من هذه الغسلات فإنه يطهر، وإن لم تكن للنجاسة رائحة أو غير ذلك من الصفات فإنه يطهر أيضاً.
والحجة على ذلك: هو أن الماء جعل مطهراً للنجاسات كلها مما له أثر من النجاسات ومما ليس له أثر، فإذا أمكن التوصل إلى غسله بما ذكرناه جاز ذلك وطهر كسائر الأشياء النجسة إذا غسلت بالماء. وهكذا الحال فيما يرسب في الماء، فإنه يمكن غسله بالماء بأن يطفو(1) فوقه حتى يطهر. وأما ما كان يُماع كاللبن والخل فإنه إذا تنجس أريق؛ إذ لا سبيل إلى طهارته بالماء، لأنه يخالطه ويمازجه ولا يمكن انفصاله عنه فيطهر به.
مسألة: قد ذكرنا فيما سلف أن أبوال ما لا يؤكل لحمه نجسة من الآدميين وغيرهم، وأبوال الصبيان أيضاً كلها نجسة ذكوراً كانوا أوإناثاً عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، خلافاً لداود في بول الصبي إذا لم يطعم، وأقمنا البرهان على ذلك فأغنى عن الإعادة. وإذا تقرر ما قلناه، فلا خلاف بيننا وبين الشافعي في نجاسة بول الصبي والصبية، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ولكن الخلاف إنما يقع في كيفية التطهير منهما، فالذي عليه أئمة العترة أنهما مستويان في وجوب الغسل منهما ولا يختلفان في ذلك، وهو قول أبي حنيفة.
__________
(1) في الأصل: يصفو.
والحجة على ذلك: ما قدمناه من حديث عمار، وهو قوله عليه السلام: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط)). ولم يفصل بين صغير وكبير، ولا فصل في كيفية الغسل، وفي ذلك دلالة على استوائهما في الغسل والإزالة.
ومن وجه آخر: قياسي، وهو أن كل ما وجب غسله من الأنثى وجب غسله من الذكر كالعذرة، ولأنه خارج من سبيلي بني آدم فلا يختلف الحال فيه بين الذكر والأنثى كالشيخ والشيخة.
وعن الشافعي: أنه قال في بول الصبي الذي لم يطعم الطعام، أنه يجزئ في بوله النضح، وهو: أن يبل موضعه بالماء وإن لم ينزل عنه، وفي بول الصبية وجهان:
أحدهما: أنه مثل الصبي في النضح.
وثانيهما: أنه يغسل بولها غسلاً كسائر الأبوال.
والحجة له على ما قاله: هو أن الحسن بن علي بال على ثوب النبي ً، فرشه بالماء، فقيل له: ألا تغسل ثوبك؟ فقال: (( إنما يغسل بول الصبية ويرش على بول الغلام )).
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من وجوب غسله دون نضحه.
والحجة على ذلك: ما ذكروه؛ ونزيد هاهنا، وهو أن الصبي كالصبية وأنهما لم يفترقا إلا في الذكورة والأنوثة، وهذا لا مدخل له في التفرقة، فنركب القياس ونقول: صغيران فلا يختلفان في غسل أبوالهما كما قاله الشافعي في إيجاب نية الوضوء بالرد إلى التيمم: طهارتان فكيف يفترقان!. ونقول أيضاً: بول آدمي ذكر فلا يختلف حاله في كيفية الغسل كالكبير.
الانتصار: يكون بتزييف ما أوردوه حجة.
قالوا: حديث أمير المؤمنين دال على التفرقة بينهما فلا وجه لإنكاره.
قلنا: إنا لم ننكر ما رواه أمير المؤمنين بل حديثه يوازي ظاهر آية من كتاب اللّه في الصحة والثبات، ولكنا نقول ليس في ظاهر الحديث ما يدل على كيفية الغسل ولكنه قال: يرش على بول الغلام، والرش هو خفيف الغسل، وأيضاً فإنا لا نمنع من أنهما يغسلان جميعاً، ويشتركان في حقيقة الغسل، وإن كان غسل أحدهما أخف من غسل الآخر، ولأن الرش هو صب الماء على الموضع المرشوش وهذا بعينه هو خفيف الغسل.
قالوا: روي عن النبي ً أنه قال: (( يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام )). فصرح بالنضح وليس غسلاً، وفي هذا ما نريده من التفرقة بينهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فالحديث المشهور إنما ورد بالرش، فأما هذا الحديث بالنضح فعلى ناقله التصحيح.
وأما ثانياً: فالنضح إذا كثر فهو مسيل الماء عنه وليس في ظاهر الحديث ما يشعر بأن الماء لم يسل عنه، فلعله قد سال لما كثر نضحه، وفيه ما نريده من سيلان الماء عنه، وذلك أقل ما يجري في غسل النجاسة.
قالوا: الغلام أمارة بلوغه بأمر طاهر وهو المني، والجارية أمارة بلوغها بشيء نجس وهو الحيض، فلأجل ذلك اختلفا في تطهير بولهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن رد البول إلى البول أولى من رده إلى الحيض والمني لما في ذلك من البعد والتفاوت.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: أليس قد اتفق الحيض والمني في كونهما أمارة للبلوغ مع اختلافهما في الحقائق والأحكام؟ فلا بد من بلى، فهكذا نقول: يجب اتفاق بول الجارية وبول الغلام في كيفية الغسل، وإن اختلفا فيما وراء ذلك، فبطل ما توهموه.
قالوا: البول يختلف حاله في الإزالة والتطهير، فمنه ما يحتاج في تطهيره إلى ماء كثير وهو بول المحرور(1)، فإن بوله ثخين أصفر له رائحة خبيثة فلا يزول إلا بماء كثير. وبول من كانت الرطوبة غالبة عليه والبلغم، أبيض رقيق لا رائحة له يزول بماء قليل، وإذا كان الأمر كما قلناه، فنقول: إن بول الجارية أصفر ثخين، وبول الغلام أبيض رقيق فلأجل هذا اختلفا في الإزالة كما قلناه.
قلنا: الموجب لغسل الثوب شرعاً كونه بولاً، وجميع الأبوال متفقة في كونها أبوالاً، فيجب اتفاقهما في الغسل من غير مخالفة بينهما.
ومن وجه آخر: وهو أن ما ذكرتموه إنما هو تعويل على اختلاف الأمزجة والأمراض والعلل وليس من الأدلة الشرعية في ورد ولا صدر، وكلامنا إنما هو في ما تناولته الأدلة الشرعية، وتدل عليه وتكون مرشدة إليه، فبطل الالتفات إليها والتعويل عليها.
ومن وجه ثالث: وهو أنكم إذا زعمتم أن البول إذا اختلف وصفه اختلف غسله، فتقولون: بأن بول المحرور يجب غسله لكونه أخبث وأقذر من بول المرطب، فَأَوْجِبُوا في بول المرطب النضح والرش كما قلتم في بول الغلام مع بول الجارية لما اختلف حالهما، وأنتم لا تقولون به فبطل ما زعموه.
فهذا ما أردنا ذكره من المسائل الشرعية من النوع الأول، وبالله التوفيق.
النوع الثاني: في بيان كيفية الغسل لما يمكن غسله من النجاسات الشرعية وفيه مسائل:
مسألة: ذهب علماء العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة إلى أن النجاسات إذا كانت غير مرئية فالمشروع في غسلها ثلاث مرات، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً )). فإذا شُرع ذلك في حق النجاسة التي يشك فيها، فَلأَنْ يُشرع في النجاسة المتحققة أولى وأحق، وهل يجب العدد أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
__________
(1) المصاب بالحُمَّى.
المذهب الأول: أنه لا بد فيها من رعاية العدد في الثلاث، وهذا هو الذي نصره السيدان المؤيد بالله وأبو العباس وهو المحكي عن المتقدمين من أصحاب أبي حنيفة. فأما أبو حنيفة فالمحكي عنه: أن النجاسة إذا كانت غير مرئية غُسلت حتى يغلب على الظن زوالها، لكن التقدير من جهة أصحابه بالثلاث.
والحجة على ذلك: ما روينا من الخبر المتقدم، وهو قوله ً: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس )). وظاهر النهي للتحريم، ولن يكون الغمس محرماً إلا والغسل واجباً ثلاثاً لظاهر الحديث، من غير حاجة إلى تأويله، والسبب في ذلك أنهم كانوا ينامون على غير طهارة من البول والغائط، فأمرهم الرسول ً بغسل الأيدي ثلاثاً قبل أن يغمسوها في الإناء، لتكون طاهرة مما عسى أن تمس أيديهم من تلك النجاسة.
المذهب الثاني: أنه لابد من رعاية العدد وهو سبع، وهذا هو المحكي عن الحسن وأحمد بن حنبل.
والحجة لهما على ذلك: ما روى أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً)). فنص على هذه العدة في حق الكلب، ثم قسنا سائر النجاسات عليها والجامع بينهما، كونها نجاسة غير مرئية.
المذهب الثالث: أنه لا حاجة هناك إلى اعتبار العدة من ثلاث ولا من سبع، وهذا هو الذي حصله السيد أبو طالب لمذهب الإمامين: القاسم والهادي وهو رأيه، ومحكي عن الشافعي وأصحابه، ومحكي عن متأخري أصحاب أبي حنيفة كالكرخي، والجصاص.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عمر رضي اللّه عنه: أنه كُتِبت الصلاة خمسين ، والغُسل من الجنابة سبع مرات، وغسل الثوب من النجاسة سبع مرات، فلم يزل رسول اللّه ً يَسأل حتى جُعلت الصلاة خمساً، والغُسل من الجنابة مرة، وغَسل الثوب مرة واحدة(1). فهذا تقرير هذه المذاهب بأدلتها.
__________
(1) أخرجه أبو داود، وحكاه في (جواهر الأخبار).
والمختار: ما قاله الإمام أبو طالب من أن رعاية العدد غير معتبرة في النجاسة، ويدل عليه ما قدمناه، ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: هو أن الغرض من التطهير إنما هو إزالة النجاسة وقلعها عن الثوب وغلبه الظن في ذلك، ولا شك أن المرة الواحدة كافية في تحصيل غلبة الظن، فيجب الاعتماد عليها إذ لا دلالة على ما وراءها من جهة الشرع كما سنقرره بعد هذا.
الحجة الثانية: هو أنه تطهير بالماء من نجاسة فلا يعتبر فيه العدد، دليله: ما له عين مرئية.
الانتصار لما قلناه: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا في إيجاب الثلاث: قوله ً: (( إذا استيقظ...)) الحديث.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فليس في ظاهر الحديث ما يدل على الإيجاب من لفظ ولا غيره، فلا يكون لكم في ظاهره دلالة.
قالوا: فيه النهي وهو دال على التحريم، فإذا كان الغمس محرماً كان الغسل الذي هو تركه واجباً.
قلنا: لا نسلم أن النهي دال على التحريم بل أقل مراتبه الكراهة، وهي أدنى درجات المنع، والتحريم إنما يثبت بدلالة أخرى، كما أن أدنى درجات الأمر الطلب، والوجوب معلوم بدلالة أخرى.
وأما ثانياً: فلأن الخبر إنما ورد على جهة الاستحباب دون الوجوب، وكلامنا إنما هو في الوجوب، ويدل على الاستحباب أنه قال في آخر الخبر: (( فإنه لا يدري أين باتت يده )). فدل ذلك على أن تعين النجاسة غير حاصل، وهذا مما يؤكد الاستحباب.
قالوا في إيجاب السبع لكل نجاسة: ورد عن النبي ً أنه أوجب من ولوغ الكلب أن يُغْسَل سبع مرات فتجب في كل نجاسة بجامع النجاسة.
قلنا: عما ذكرتموه جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن الكلب يغسل من ولوغه سبع مرات، وسنقرر عليهم مسألة على حيالها تدل على بطلان العدد فيه بمعونة اللّه تعالى.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا ذلك في الكلب فلا نسلمه في غيره؛ لأن للكلب زيادة في التقذير الذي ذكرناه فبطل ما توهموه.
مسألة: قد ذكرنا فيما سلف أن الماء المستعمل في إزالة النجاسة بعد الحكم عليه بالطهارة كالغسالة الثانية على رأي الإمام أبي طالب، والغُسَالَةِ الثالثة على رأي الإمام المؤيد بالله، يكون مستعملاً لا محالة، فلا يجوز أن يُزال به الحدث، ولا يُزال به النجس على رأي الأكثر من علماء العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
فأما على المختار وهو قول المؤيد بالله، فيجوز ذلك في حقه وقد مر الكلام عليه باستيفاء فأغنى عن الإعادة.
والذي نريد ذكره هاهنا، إنما هو الكلام في نجاسة الغسالات وطهارتها وفيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الغُسالة الأولى نجسة، وهذا هو رأي الإمام أبي طالب وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة لهما على ذلك: هو أن المقصود به(1) إزالة النجاسة فلما أزيلت به كانت منتقلة إليه فوجب الحكم عليه بكونه نجساً.
المذهب الثاني: أن الغسالة الأولى والثانية نجستان، وهذا هو رأي الإمام المؤيد بالله.
والحجة له على ذلك: ما في ظاهر الخبر وهو قوله: (( فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثا ً)). فلولا أن الأولى والثانية نجستان وإلا لما أمر بالثلاث.
المذهب الثالث: رأي الشافعي، وقد حكي عنه قولان:
أحدهما: أن الغُسالة الأولى تكون نجسة، وهو الذي حكاه الأنماطي.
وثانيهما: أنها تكون طاهرة إذا لم تكن متغيرة بالنجاسة، وهو الصحيح عند أصحابه.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، وحاصله أنا نقول: الغُسالة لا يخلو حالها إما أن تكون متغيرة بالنجاسة أو لا، فإن تغيرت بالنجاسة فلا خلاف في كونها نجسة، لقوله عليه السلام: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه)). ولأنها قد اكتسبت جزءاً من النجاسة فيجب أن يكون حالها كحالها في النجاسة.
__________
(1) أي: بماء الغسالة.
وإن لم تكن متغيرة بالنجاسة فهي طاهرة كما هو الأصح من قولي الشافعي كما حكيناه عنه، وهو الذي يأتي على رأي الإمام القاسم بن إبراهيم في أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وهذا عام في كل صورة.
والحجة على ذلك: ما قدمناه من الأصل والقاعدة، وهو قوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه)). وهذا لم يتغير شيء من أوصافه فيجب الحكم عليه بالطهارة.
الحجة الثانية: حديث الأعرابي الذي بال في المسجد فأمر الرسول من صب عليه ذنوباً، فلو كانت الغسالة تنجس لكان في ذلك تكثير للنجاسة في المسجد، فدل ذلك على طهارتها.
واعلم بأن كل من قال بنجاسة الماء القليل وإن لم يتغير فإن قياس مذاهبهم: هو نجاسة الغُسالة لا محالة من جهة أن النجاسة قد اتصلت بها وإن لم تكن مغيرة لها، والعجب من الشافعي حيث قال بطهارتها مع أنها قد اتصلت بالنجاسة، وقياس قوله: نجاستها.
الحجة الثالثة: أن من جملة هذه الغسالة: البلل الباقي في الثوب، وهو طاهر إجماعاً بعد انفصالها عنه عند الحكم بطهارة المحل، فيجب أن تكون طاهرة أيضاً لكونه ماء واحداً.
فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا أن الواجب غسلة واحدة، وأن ماء الغسالة طاهر إذا لم يتغير بالنجاسة، وأن الغسلات الثلاث إنما هي على جهة الاستحباب وقد قررناها بأدلتها.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا في نجاسة الغُسالة الأولى: هو أن المقصود منها إزالة النجاسة، فيجب أن تنتقل إليها فتكون نجسة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكرتموه مجرد دعوى ليس فيه إشارة إلى دلالة توجب ما ذكرتموه فلا يُعَرَّجُ عليه.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: غُسالة قصد بها إزالة النجاسة فيجب الحكم عليها بالطهارة كالغُسالة الثالثة على جميع الأقوال.
قالوا: ماء غُسِلَتْ به النجاسة فكان نجساً كما لو انفصل قبل تطهير المحل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم ما ذكرتموه، بل ولو انفصل قبل تطهير المحل فإنه يكون طاهراً؛ لأن التعويل في نجاسته إنما يكون على تغيره بالنجاسة، فإذا لم يتغير فهو طاهر بكل حال، سواء انفصل قبل التطهير أو بعده.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا هذا الأصل، فالتفرقة بينهما ظاهرة من جهة أن الباقي في المحل نجس، فلهذا كان المنفصل عنه نجساً بخلاف ما نحن فيه فإن الباقي في المحل طاهر، فلهذا كان المنفصل مثله.
ووجه ثالث: وهو أن النجاسة إذا لم تظهر عليه صار مغلوباً بالطهارة فلهذا كان طاهراً، وإذا ظهرت عليه صار مغلوباً بالنجاسة، فلهذا كان نجساً.
قالوا: النجاسة لا تخلو من محل فإذا انتقلت من الثوب وجب حصولها في الماء، وفي ذلك كونه نجساً بالاتصال بها.
قلنا: هذا ساقط لأمرين:
أما أولاً: فلابد من محل خلا أنه يسقط حكمها بالاستهلاك كما سقط حكم الخمر بالانقلاب(1).
وأما ثانياً: فكما لا يخلو الماء من النجاسة على زعمكم، فالمحل المتنجس غير خال عنها أيضاً، ثم إنا قد حكمنا بطهارة المحل بعد انفصال الماء عنه فهكذا حال الماء، فبطل ما ظنوه.
مسألة: إذا كانت النجاسة خمراً لها عين مرئية فهل يعتبر في غسلها عدد أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب اعتبار العدد فيها، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو العباس وقرره لمذهب الإمامين: القاسم والهادي، وهو الظاهر من مذهب المؤيد بالله، ومعنى اعتبار العدد فيما عينه مرئية، هو أن غسله حتى تذهب عينه يُعد مرة واحدة، ويجب بعد ذلك مرتان اثنتان من جهة أن المرة الأولى لا معنى لاعتبار العدد فيها، بل زوالها بعد مرة واحدة وإن تكرر فيه الغسل مراراً كثيرة.
__________
(1) يقصد: بالاستحالة.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً، أنه لما سألته أسماء بنت عميس ) عن دم الحيض يكون في الثوب، فقال لها: (( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ثم لا يضرك بعد ذلك أثره))(2).
ووجه الاحتجاج بهذا الخبر: هو أنه أمرها بالحت أولاً وهو الفرك باليدين، ثم أمرها ثانياً بالقرص، والفرصة: قطعة صوف يدلك بها الشيء(3)، ثم أمرها ثالثاً بالغسل بالماء، وهذه ثلاث دفعات، لأن المعنى: حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم اغسليه بالماء ، وهذا دليل على ما ذكرناه من اعتبار العدد في الغسلات.
المذهب الثاني: أنه لا يعتبر العدد إنما الاعتبار بزوال العين، فإذا زالت فلا حاجة إلى غسلتين بعده. وهذا هو رأي الإمام أبي طالب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
__________
(1) أم عبدالله أسماء بنت عميس بن معبد الخثعمية، من أشهر راويات الحديث، وهي زوج جعفر الطيار (ابن أبي طالب)، وهاجرت معه إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وبعد استشهاده في مؤته تزوجها أبو بكر، وبعد وفاته تزوجها الإمام علي، وعاشت بعد استشهاده. حدَّث عنها: ابنها عبدالله بن جعفر، وسعيد بن المسيب، وعروة، والشعبي. (در السحابة).
(2) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى رسول اللّه ً فسألته عن المرأة يصيب ثوبها من دم الحيض؟ فقال: ((تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه)). أخرجه الستة. والحديث كما أورده المؤلف هو بلفظ رواية النسائي أن امرأة استفتت النبي (ص) عن دم الحيض يصيب الثوب، قال: ((حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه وصلي فيه )). هكذا في (جواهر الإخبار).
(3) جاء في هامش الأصل تعليقاً على هذا التعريف ما لفظه: الفرصة بالفاء: قطعة صوف تتتبع بها المرأة آثار الحيض، ولا مدخل لذكرها هاهنا، فأما القرص (بالقاف) فهو جمع الثوب بالأصابع وغسله. والله أعلم. ا.هـ.
والحجة على ذلك: ما في حديث عمار من قوله عليه السلام: (( إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول)). ولم يذكر العدد ولا فصل بين ما نجاسته مرئية أو غير مرئية، وفي هذا دلالة على بطلان العدد في النوعين جميعاً كما قدمنا.
والمختار: ما عول عليه السيد أبو طالب ومن تابعه من الفقهاء.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود من النجاسة المرئية إنما هو عينها، فإذا زالت العين فهي التي يتعلق بها حكم التنجيس، فلهذا قلنا ببطلان شرط العدد.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: حديث أسماء دال على اعتبار العدد.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في ظاهره ما يدل على تكرر الغسلات، وإنما قال: (( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه )). فالحت عبارة عن الحك باليدين من غير غسل، والقرص عبارة عن استعمال الفرصة من غير غسل، ولم يذكر هناك إلا غسلة بالماء لا غير، فلا حجة لكم في ظاهره على تكرر الغسلات.
وأما ثانياً: فلأنه قال في آخره: (( ثم اغسليه بالماء )). ولم يذكر عدداً، فدل ذلك على بطلان العدد.
قالوا: إزالة النجاسة يتعلق بها حكمان:
أحدهما: إزالة العين.
وثانيهما: إزالة الحكم. فإذا زالت العين فلابد من إزالة الحكم، وليس ذلك إلا بغسلتين، وهذا الذي نريده بإيجاب العدد في غسل النجاسة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فالذي يلزم من النجاسة، هو غسلها للصلاة فإذا كانت مرئية فلا بد من إزالتها وإن كانت غير مرئية فلا بد من غسلها، فمن أين أنها إذا كانت مرئية فلا بد من غسلها بعد إزالة عينها، ولم تدل على ذلك دلالة من جهة الشرع؟ وفيه وقع النزاع.
وأما ثانياً: فلأن المفهوم من عناية الشرع في غسل النجاسة إنما هو بإزالة عينها، ولهذا قال: (( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء )). يقرر أن المقصود إنما هو الإزالة للعين، فإذا زالت فلا عناية هناك في غسلها، فبطل ما توهموه في ذلك.
مسألة: إذا كانت النجاسة خمراً أو بول مبرسم أو محرور(1) أو غير ذلك من النجاسات التي تغسل فتبقى آثارها، فهل يجب إبلاء العذر في إزالتها بشيء غير الماء، من الصابون والأشنان والإذخر والسدر وغير ذلك مما يكون قالعاً لأثرها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك واجب، وهذا هو رأي أئمة العترة لا يختلفون فيه، وهو الذي نص عليه المؤيد بالله في كتابه (الزيادات)(2) وتخريج القاضي زيد للقاسم وحكاه في (الزوائد)(3) عن القاسمية.
والحجة: ما رويناهُ من حديث أسماء، حيث سألته ً، عن دم الحيض، فقال لها: (( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه)). فدل ظاهره على أنه أمرها باستعمال شيء غير الماء مما يكون مزيلاً لأثر الدم وهذا هو مطلوبنا.
المذهب الثاني: لا يجب استعمال غير [الماء]، وهذا هو [الذي] ذكره الناصر والأخوان في الشرحين(4) والمنصور بالله.
__________
(1) البرسام: بالكسر علة يهذى فيها. ا.هـ قاموس. والمحرور: المصاب بالحمى، والمعنيان متقاربان.
(2) في الفقه منه خمس نسخ مخطوطة بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء.
(3) كتاب في الفقه.
(4) شرح التجريد للمؤيد بالله، وشرح التحرير لأبي طالب، منها عدة نسخ مخطوطة بمكتبة الأوقاف.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو هريرة أن خولة بنت يسار ) أتت النبي ً، فقالت: يا رسول اللّه ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه فكيف أصنع؟ قال: (( إذا طهرت فاغسليه ثم صلي فيه )). قالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: (( يكفيك الماء ولا يضرك أثره ))(2). فهذا نص في عدم الاستعمال في أثر النجاسة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة.
__________
(1) خولة بنت يسار صحابية. راوية للحديث. روت عن النبي ً، وروى عنها أبو سلمة بن عبدالرحمن كما في الاستيعاب. وهناك شك لدى أصحاب التراجم بأنه قد تكون هي وصحابية أخرى اسمها خولة شخصية واحدة، لأن إسناد حديثهما واحد. قال ابن حجر: لا يلزم من كون الإسناد إليهما واحد مع اختلاف المتن أن تكونا واحدة...إلخ. راجع (الإصابة)، و(الاستيعاب)، و(أعلام النساء).
(2) قال العلامة ابن بهران في (جواهر الأخبار) بعد أن أورد هذا الحديث: هكذا في (الانتصار)، وأخصر منه في (المهذب) ثم أورد لفظه عن (التلخيص)، ثم قال: رواه أحمد وأبو داود في رواية ابن الأعرابي، والبيهقي من طريقين عن خولة، وفيه ابن لهيعة، قال إبراهيم الحربي: لم نسمع بخولة بنت يسار إلا في هذا الحديث، ورواه الطبراني في الكبير من حديث خولة بنت حكيم وإسناده أضعف من الأول .ا.هـ ملخصاً.
والحجة عليه: ما تقدم ونزيد ههنا قوله ً: (( أمطه عنه بإذخرة ))(1)، وقد سأله عن أثر من النجاسة. وقوله عليه السلام لمن سألته عن دم الحيض: (( حكيه بضلع ))(2).
ووجه الاحتجاج بما ذكرناه: هو أنه ً لم يقتصر على الماء بل أشار إلى غيره، وفي هذا دلالة على ما قلناه من استعمال غير الماء مع الماء.
الانتصار: قالوا: حديث خولة بنت يسار فيه دلالة على عدم الاستعمال.
قلنا: قد وردت أحاديث دالة على استعمال غير الماء، ووردت أحاديث دالة على عدم الاستعمال، فوجب الترجيح عند التعارض إذ لا وجه لإسقاطها مع إمكان الترجيح، ولا شك أن الأخبار الدالة على استعمال غير الماء راجحة لوجهين:
أما أولاً: فلأنها مشتملة على زيادة، والزيادة من جهة العدل مقبولة لكونها مفيدة شرعاً.
وأما ثانياً: فلأنها آكد في الدلالة على المقصود من الطهارة، من جهة أن المقصود منها حصول المصلي على أحسن هيئة وأنقى ثوب، واستعمال الأمور المزيلة للآثار فيه تأكيد لهذا المقصود الشرعي والغرض الديني، فيجب فعله لما ذكرناه.
فإن غسلت النجاسة من غير استعمال [الماء] في قلع أثرها وبقي لونها لم يحكم بطهارتها، وهو المحكي عن الشافعي وأصحابه، لأن بقاء اللون دال على بقاء عين الخمر، و إن ذهب لونها وبقي ريحها لم يحكم أيضاً بطهارته، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه يحكم بطهارته.
__________
(1) عزاه في (جواهر الأخبار) إلى (الانتصار). ثم أورد ما جاء في (التلخيص) بسنده عن ابن عباس قال: سئل النبي ً عن المني يصيب الثوب. قال: ((إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق)). وقال: ((إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة)). وقد روي الحديث عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً. ا.هـ.
(2) رواه في مسند الشافعي ج1/155، وأبو داود (393)، وفي مسند أحمد ج6/355 وغيرهم كالبيهقي وابن أبي شيبة وفتح الباري ج1/334 بلفظ: ((حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر)). وفي رواية أحمد: ((حكيه ولو بضلع)).
والحجة على ما قلناه: هو أن الرائحة كاللون، فإذا بقي ريحها فأجزاؤها باقية كما في اللون من غير تفرقة بينهما.
وإن استعمل الصابون في قلعه فلم يزل عُفي عنه لما في حديث خولة: (( ولا يضرك بعد ذلك أثره )). ولأنه هو الغاية، وبعد الاستعمال فلا حكم له، ولأَنَّا لو أوجبنا زواله بعد ذلك لم يكن إلا بالقطع، ولم يرد الشرع بالقطع للثياب لبقاء الآثار فيها. وحُكي عن ابن عمر أنه كان يستدعي بالجلم فيقطعه.
وإن غسل دم الحيض فزال بالماء لم يجب استعمال غيره عند أئمة العترة وأكثر فقهاء الأمة. وحُكي عن داود وطبقته: أنه لا يجزيه ولا يحكم بطهارته إلا باستعمال الحت والقرص، وهذا منهم تعويل على الظواهر من الأحاديث، وهو فاسد؛ فإن التعويل على المعاني أحق، وذلك لأن المقصود هو إزالة النجاسة وقلعها، فإذا حصل ذلك بالماء فلا حاجة إلى غيره، وإن بقي أثر الحيض بعد استعمال ما ذكرناه فالمستحب أن يغير لونه، لما روي أن معاذة العدوية ) سألت عائشة عن دم الحيض يبقى في الثوب، فقالت لها: (( اغسليه بالماء فإن لم يذهب فغيريه بالصفرة، فلقد كنت أحيض عند رسول اللّه ً ثلاث حيض فيبقى لونه فنلطخه بالحناء)).
__________
(1) أم الصهباء معاذة بنت عبدالله العدوية، امرأة صلة بن أشيم. روت عن علي عليه السلام وعائشة وغيرهما، وثَّقها ابن معين، وابن حبان في (الثقات)، وهي موصوفة بالعبادة. وقال ابن الجوزي: توفيت سنة83هـ. (تهذيب التهذيب ج12/479).
وإن غمس الثوب في إجانة أو طشت فيه ماء وفيه نجاسة، نظرت فإن غيرت النجاسة الماء كان ذلك الماء نجساً لتغيره بالنجاسة، وإن لم تغيره النجاسة نظرت فإن كان قليلاً إما بأن يكون دون القلتين على قول من يعتبرهما، وإما أن يكون يغلب على الظن استعمال النجاسة به على قول من يعتبره في كونه قليلاً كما مضى شرحه، فإنه يكون نجساً وإن لم يتغير ولا يطهر الثوب به، وأما على رأي الإمام القاسم والمختار الذي اخترناه، فإنه إذا كان غير متغير بالنجاسة فإنه يكون طاهراً، ويطهر الثوب.
وإن كان هناك ثوب نجس كله فغسل الغاسل نصفه، ثم عاد إلى ما بقي بعد ذلك فغسله، طهر الثوب عند أئمة العترة، وهو قول الأكثر من أصحاب الشافعي، وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه لا يطهر.
والحجة على ما قلناه: هو أن الطهارة قد صارت مستولية على جميع أجزاء الثوب، فلهذا كان طاهراً كله.
مسألة: إذا ولغ الكلب في الإناء وجب غسله من ولوغه فيه، والولوغ يكون بلسانه، والكروع أبلغ منه، ويكون بإدخال خرطومه في الماء، وإنما يجب غسله لكونه نجساً، وهل يُعتبر فيه العدد أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يعتبر العدد فيه سبعاً، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو هريرة عن الرسول ً أنه قال في الكلب يلغ في الإناء ( (يُغسل ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً )).
ووجه الاستدلال بالخبر: هو أنه عليه السلام خير في الغسل بين الثلاث والخمس والسبع، وفي هذا دلالة على أن السبع غير واجبة؛ لأنها لو كانت واجبة حتماً لم يكن هناك وجه للتخيير.
المذهب الثاني: أن العدد فيه يجب اعتباره وهو السبع، وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: قوله عليه السلام: (( طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يُغسل سبعاً إحداهن بالتراب)).
ووجه الاستدلال بذلك: هو أن ظاهر الخبر دال على أن التطهير يتعلق بالسبع، فلا يجوز تعليقه بما دونه؛ لأن في ذلك مخالفة لظاهره من غير حاجة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة لما ذكروه من الحجة، ونزيد هاهنا حجة قياسية، وحاصلها: هو أنها نجاسة فلا تستحق الغسل سبعاً كسائر النجاسات، ولأنها طهارة فلا يكون العدد فيها واجباً كسائر طهارة الحدث، ولأنه حيوان سؤره نَجِسٌ فلا يشترط في التطهير منه عدد مخصوص كالكافر على رأي من يقول بنجاسة سؤرهما وإن لم يتغير به الماء كما مر تقريره.
الانتصار: يكون بإبطال ما قالوه.
قالوا: حديث أبي هريرة دال بصريحه ونصه على اعتبار الغسلات السبع فلا حاجة إلى تأويله.
قلنا: الكلام على ما أوردتموه من الخبر من أوجه:
أما أولاً: فلأن أبا هريرة قد روى خبراً آخر رواه عنه عطا. وهو قوله (ص): (( إذا ولغ الكلب في إناء أهريق وغسل ثلاث مرات )). فهذا الخبر يناقض خبركم فيجب الحكم عليهما بالتعارض والتساقط. أو نقول: خبرنا أرجح؛ لأنه هو الأقل المستيقن فيجب العمل [به].
وأما ثانياً: فلأنه قد حكي أن أبا هريرة أفتى بالغسل من الكلب ثلاث مرات، وهذا يدل على أنه فهم من الخبر المذكور فيه السبع، الندب والاستحباب، إذ لا يجوز أن يحمل على مخالفة الرسول ً فيما قاله.
وأما ثالثاً: فلأنا نقول: إن هذا منسوخ لأنه تكلم حين قال: غسل الثوب من البول سبع مرات، والغسل من الجنابة سبع مرات، والصلوات فرضت خمسين، ثم نسخ جميع ذلك وهو من جملتها فلهذا كان منسوخاً.
وأما رابعاً: فلأن في بعض الأخبار: (( والثامنة بالتراب))(1). وقد اتفقنا على أن التعفير في الثامنة غير واجب، فهكذا في السبع يكون على جهة الاستحباب وهذا هو مطلوبنا بكونه مستحباً.
وأما خامساً: فلعل هذا العدد إنما أمر به في الوقت الذي أمر بقتل الكلاب حين قال: (( اقتلوا كل أسود بهيم ))(2). فجميع ما ذكرناه من هذه الأوجه كلها، دال على اعتبار بطلان العدد سبعاً.
قالوا: إحدى الطهارتين، فجاز أن يعتبر فيها العدد كالطهارة من الحدث.
قلنا: نقلب عليكم ما ذكرتموه من القياس.
إما بأن نقول: فوجب أن لا يعتبر فيها العدد سبعاً كالطهارة من الحدث.
وإما بأن نقول: فوجب أن لا يتكرر فيها وجوب الغسل كالطهارة من الحدث.
وإما بأن نقول: فوجب أن يكون الوجوب متعلقاً فيها بالمرة الواحدة، كالطهارة من الحدث.
قالوا: حكم شرعي، فوجب أن يكون العدد في السبع واجباً فيه كرمي الجمرة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن رد الطهارة إلى طهارة مثلها أولى من ردها إلى الحج، لاختلافهما وتباين أحكامهما وموضوعهما.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه من الوصف، من الأوصاف الطردية الذي يستوي ثبوت الحكم ونفيه عليها، ولا يكون لأحدهما مزية على الآخر، وهذه أمارة كون الوصف طرداً لا تعويل عليه، ولهذا فإنك لو قلت: حكم فلا يتكرر عدده من جهة الوجوب كالحج.
التفريع على هذه القاعدة:
__________
(1) ولفظ الحديث ما رواه المؤيد بالله في شرح التجريد بسنده عن عبدالله بن المغفل أن رسول اللّه ً قال: ((إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب)). حكاه في الاعتصام وأصول الأحكام والشفاء.
(2) رواه أحمد في مسنده بلفظ: ((اقتلوا الأسود البهيم)). وفيه روايات بألفاظ مختلفة تشمل الأمر بقتل الأسودين: (الكلاب والحيات)، وبقتل الكلاب وبقتل الحيات بالنص على تسميتها. والبهيم: الأسود الخالص.
الفرع الأول منها: إذا ولغت كلاب كثيرة في إناء واحد، أجزأه عندنا أن يغسله مرة واحدة على رأي السيد أبي طالب وهو المختار.
فأما أصحاب الشافعي فلهم قولان:
أحدهما: أنه يغسل لكل كلب سبع مرات.
وثانيهما: وهو الذي ذكره حرملة، أن يغسل للكل منها سبع مرات، والصحيح عند أصحاب الشافعي هو الثاني، لأن الغسلات السبع كافية في الإزالة، كما لو اجتنب مرات كثيرة فإنه يكفيه غسل واحد، وكما لو تنجس الإناء ببول وعذرة وخمر، فإنه يجزيه غسلة واحدة من غير تكرير.
الفرع الثاني: إذا وقع الإناء الذي ولغ فيه الكلب في ماء قليل، تنجس الماء ولم يطهر الإناء على رأي الأكثر من العترة وأكثر الفقهاء، فأما على رأي الإمام القاسم بن إبراهيم، وهو المختار عندنا، فإنه ينظر في الماء، فإن كان متغيراً بالنجاسة كان نجساً ولم يطهر الإناء، وإن كان الماء غير متغير طهر الإناء والماء جميعاً؛ لأن الماء غير نجس، والإناء لا ينجس أيضاً.
وإن وقع الإناء في ماء كثير لم يكن الماء نجساً لكونه كثيراً. وكل على رأيه من العلماء في حد القليل والكثير، كما قدمنا تفصيله. وهل يطهر الإناء مع فرض كون الماء كثيراً، فيه خمسة أقوال محكية عن الشافعي.
أولها: أنه طاهر لأنه لو ولغ فيه الكلب وهو في هذه الحالة لم يكن نجساً، فهكذا إذا ولغ فيه من قبل ثم وضع في ماء كثير.
وثانيها: أنه يحتسب ذلك مرة واحدة في طهارة الإناء ولابد من ست مرات بناءً على قوله: إنه لا بد من سبع في ولوغ الكلب في الإناء.
وثالثها: أنه يحتسب بذلك ست مرات؛ لأن ذلك أبلغ من ورود الماء عليه ست مرات ولابد من غسلة سابعة بالتراب.
ورابعها: أنه يُنظر فإن أصاب الكلب الإناء نفسه احتسب بذلك غسلة، وإن أصاب الكلب الماء الذي في الإناء نجس الإناء تبعاً للماء، احتسب به هاهنا سبعاً.
وخامسها: أنه ينظر فإن كان الإناء ضيق الرأس لم يطهر، وإن كان واسعاً طهر.
والمختار: هو الأول على رأي أئمة العترة، لأنه إذا كان حاصلاً في ماء كثير فقد طهر؛ لأن النجاسة غير ظاهرة فيه فوجب القضاء بطهارته.
الفرع الثالث: إذا ولغ الكلب في إناء فغسل وانفصل الماء إلى إناء آخر وهو غير متغير، فهل يحكم بطهارة الماء أم لا؟ فيه كلام، فعلى ما ذكره الإمام أبو طالب ينجس المجاور الأول، وعلى كلام المؤيد بالله ينجس المجاور الأول والثاني، والمجاور الثالث طاهر باتفاقهما جميعاً، فإذا جمعت في إناء واحد وجب الحكم عليه بكونه نجساً؛ لأنه ماء قليل وقد اتصلت به النجاسة فنجسته سواء كان متغيراً أو غير متغير، لأن الماء إذا كان قليلاً ثم وقعت فيه نجاسة فإنه يكون نجساً وإن لم يتغير كما مر تقريره.
وأما على رأي الإمام القاسم وهو المختار فإنه ينظر، فإن كانت هذه الغسالات متغيرة بالنجاسة فهي نجسة، وإن كانت غير متغيرة بالنجاسة فهي طاهرة لظواهر الأخبار التي قدمناها.
فأما الشافعي فله في ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الغسالات السبع في ولوغ الكلب نجسة عند انفصالها.
وثانيها: أنها كلها طاهرة.
وثالثها: أن السابعة طاهرة وما قبلها نجس، وهو الصحيح عند أصحابه، فإذا ضُمت السابعة إلى ما قبلها كان الجميع منها نجساً؛ لأن الطاهر مغلوب بالنجس فلهذا كان نجساً.
الفرع الرابع: في التراب، هل يكون واجباً في الغسل من ولوغ الكلب أم لا؟ والذي عليه علماء العترة: أنه غير واجب، وهو قول أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو قياسه على سائر النجاسات بجامع كونها نجسة، ولأنه لا أثر له فيحتاج إلى غير الماء كسائر النجاسات التي لا أثر لها.
وحكي عن الشافعي أنه واجب لقوله ً، في حديث الغسل من الكلب: (( إذا ولغ في الإناء اغسلوه سبعاً إحداهن بالتراب ))، وفي حديث آخر: (( أولاهن بالتراب)). وقد تكلمنا على ضعف الخبر، وإفساد التعلق به في إيجاب السبع فأغنى عن الإعادة.
ثم إنه محمول عندنا على الاستحباب في التنظيف عن ولوغه وتبعيداً عن مخالطته ومخامرته بما ذكرناه من التغليظ في غسل ما ولغ فيه؛ لأنهم كانوا يعتادونها ويألفون مخالطتها في أكثر أحوالهم، كما كان الجاهلية يفعلون، فورد الشرع في أول الإسلام بالبعد منها والتقذير لأحوالها(1).
والغسل بالتراب هل يكون أحد السبع على رأي الشافعي، وهل يكون أولاً أو آخراً أو وسطاً، فالأمر فيه قريب، وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أن الأفضل فيه أن يكون قبل السابعة ليرد عليه ما ينظفة(2). وحكي عن الحسن البصري وأحمد بن حنبل أن الثامنة تكون بالتراب.
الفرع الخامس: على رأي الشافعي في قدر التراب، وفي قدره وجهان:
أحدهما: ما يقع عليه اسم التراب؛ لأنه أطلق في الحديث من غير تقدير له.
وثانيهما: أنه لا بد من أن يكون مستوعباً لمحل الولوغ؛ لأن النجاسة شاملة له ومتصلة به.
وهل يقوم غير التراب مقامه أم لا؟ فيه عندهم وجهان:
أحدهما: أنه تعبد لا يعقل معناه فلا يقوم مقامه غيره من الصابون والأشنان، وغيرهما من المنظفات.
وثانيهما: أنه يعقل معناه؛ لأن المقصود به التنظيف عن تقذير الكلب فيلحق به ما هو مثله أو أبلغ منه.
وإن خُلط التراب بغيره فهل يجزي أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجزي؛ لأنه هو المقصود.
وثانيهما: أنه لا يجزي؛ لأنه غير مطهر.
وإن بال الكلب على الأرض فجرى عليه الماء سبع مرات، فهل يحتاج إلى تراب أم لا؟ فيه وجهان؛ الأصح منها أنه لا يحتاج إلى تراب؛ لأن نفس الأرض كلها تراب.
مسألة: قد ذكرنا فيما سبق نجاسة المني ودللنا عليه، وإذا كان نجساً فهل يجب غسله أو يجزي فيه الفرك؟ فيه مذهبان:
__________
(1) رأينا تقديم جملة (كما كان الجاهلية يفعلون) بعد جملة (في أكثر أحوالهم) لتكون بعيدة عن فهم معناها على عكس حقيقته، كما كانت عند مجيئها بعد جملة: (فورد الشرع في أول الإسلام بالبعد عنها والتقذير لأحوالها).ا.هـ.
(2) أي: على الغسل بالتراب.
المذهب الأول: أنه لا يطهر إلا بالغسل، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن مالك.
والحجة على ذلك: ما قدمناه من خبر عمار، وهو قوله ً: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني)). فأخبر أنه يجب غسله كما في غيره من تلك النجاسات التي ذكرها في الخبر.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنه مائع نجس فلا يجزي فيه إلا الغسل كالبول، أو أنه نجس فلا يجزي فيه الفرك كسائر النجاسات، أو نقول: مني فلا يجزي فيه إلا الغسل، كما لو كان رطباً، وعلى [رأي] أبي حنيفة فإنه قال بوجوب غسله إذا كان رطباً.
فأما الشافعي فقد قدمنا أنه عنده طاهر فلا يحتاج إلى طهارة بفرك ولا غسل.
المذهب الثاني: أنه إذا كان رطباً وجب غسله، وإذا كان جافاً فتطهيره يكون بالفرك من غير غسل، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما في حديث عائشة رضي اللّه عنها وهو أنها قالت: (( كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه ً وهو في الصلاة))(1).
ووجه الاحتجاج بالخبر: هو أنا قد دللنا على نجاسته بما مر تقريره، ولكن الخلاف في كيفية التطهير، فلو كان الغسل فيه واجباً لغسلته؛ لأنه أقرها على تركه ولم ينكره عليها، فدل ذلك على أن التطهير في حقه إنما هو بالفرك لا غير.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من وجوب غسله.
__________
(1) هذا الحديث جاء في مهذب الشافعية، وفي التلخيص نحوه عن ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي أن عائشة قالت: ربما حتته من ثوب رسول اللّه وهو يصلي، ورواه ابن حبان عن عائشة، وهناك روايات أخرى عن عائشة بلفظ: كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه فيصلي فيه. وهذه الرواية لأبي داود. قال في (جواهر الأخبار) في نهاية استقرائه لروايات من هذا الحديث، ما لفظه (تنبيه): استغرب النووي هذه الرواية ولم يعزها لأحد في شرح المهذب. والله أعلم.ا.هـ.
والحجة على ذلك: ما ذكرناه عنهم، ونزيد هاهنا وهو أن البول والمني يخرجان من مخرج واحد وهو الإحليل، فوجب(1) تطهيرهما بالغسل على سواء كالحيض والنفاس، ولأنه إذا تقرر كونه نجساً فالفرك لا ينقي النجاسة كما لا ينقي البول من الثوب ودم الحيض، ولأن الفرك إنما يزيل ما كان غليظاً منه، فأما البلة فهي باقية لا يطهرها الفرك، كما أن الفرك في حق العذرة لا يطهرها لَمَّا كان لا ينقي إلا غليظها دون بلتها.
الانتصار: قالوا: حديث عائشة صريح في تطهيره بالفرك.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في ظاهر الخبر إلا أنها فركته فمن أين أنها لم تغسله كما يُفعل في العادة، فإن من أراد غسل نجاسة غليظة فإنه يبدأ بفركها قبل غسلها تقليلاً من نجاستها لا أنه يكتفي بالفرك، فهكذا ما فعلته عائشة من ذلك.
وأما ثانياً: فإنا نقول: أخبِرُونا عن الفرك حين اشترطتموه في المني، هل هو مزيل لنجاسته أو مخفف لها؟ فإن كان مزيلاً لها فيجب أن يزيلها، وإن كان رطباً وأنتم قد أوجبتم غسل ما كان منه رطباً، وإن كان مقللاً للنجاسة حصل مرادنا من بقاء النجاسة، فيجب إزالتها بالغسل؛ لأن قليل ما كان نجساً غير معفو عنه فتجب إزالته كما تجب إزالة كثيره.
قالوا: روي عن رسول اللّه ً أنه قال لعائشة: (( إذا رأيت المني يابساً فحتيه ، وإن كان رطباً فاغسليه))(2). فظاهر الخبر دال على رطبه ويابسه، وفي هذا دلالة على ما قلناه من أنه إذا كان يابساً فحته كاف في تطهيره.
__________
(1) في نسخة [و]: فيجب.
(2) قال ابن الجوزي في (التحقيق): هذا الحديث لا يعرف بهذا السياق وإنما نقل أنها - يعني عائشة - كانت تفعل ذلك. رواه الدارقطني وأبو عوانة في صحيحه وأبو بكر البزار، كلهم من طريق الأوزاعي، عن عمرة عن عائشة. ا.هـ . ملخصاً من (جواهر الأخبار).
قلنا: المراد من هذا هو تقدمة الحت على الغسل، فمن أين أنها لم تغسله بعد(1) حتها له؟ وفيه وقع النزاع، وهكذا إذا رووا عن عائشة أنها قالت: (( أمرني رسول اللّه ً أن أغسل المني من ثوبه إذا كان رطباً وأحته إذا كان جافاً)). فإن الغرض الجمع بين الحت والغسل، كما روي عن النبي ً، أنه سأله رجل عن المني يصيب الثوب. فقال: (( أمطه عنك بإذخرة)). والمراد تقديم الإماطة بالإذخر، ثم يغسله بعد ذلك.
ثم نقول: إنما ذكرتموه من هذه الأحاديث إنما هي واردة في حق الرسول ً، ولا يبعد أن يكون منيه طاهراً، وكلامنا في مني غيره، فلا يلزم من طهارة منيه طهارة سائر المَنْيات من جميع الحيوانات، وأنها يجب فيها الغسل إذا أصابت الثوب دون الفرك، وهذا من جملة الخصائص والكرامات التي أكرمه اللّه تعالى بها، ولنشر إلى ما تميز به من بني آدم فيما يختص بالنجاسات وجملتها خمس:
الخاصة الأولى: منيه فإنه طاهر، أشار إلى ذلك الإمام المنصور بالله، فإنه قال: لا يمتنع أن يحكم اللّه بطهارة مائه حياً وميتاً، كما كان له دخول المسجد جنباً.
والحجة على ذلك: ما رويناه من أحاديث عائشة، فإنها دالة على طهارة منيه، ولهذا فإنها قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه ً. فلو كان نجساً لكان مفسداً للصلاة.
والخاصة الثانية: نجوه، فإنه كان لا يرى على وجه الأرض، ولهذا قال: (( فضلت بخصال، لا يُرَى لي نجو ، وولدت معذوراً))(2)..أي مختوناً. فلو رؤي فهل يحكم بطهارته أم لا؟ والأقرب هو الحكم بطهارته كالبول.
الخاصة الثالثة: بوله، فإنه طاهر.
__________
(1) في نسخة [و]: عقيب.
(2) حكاه في (جواهر الأخبار) عن (الانتصار).
والحجة على ذلك: ما روي أن أم أيمن شربت بوله فلم ينكره عليها، وقال لها: (( إذاً لا تلج بطنك النار ))(1) فكان في ذلك دليلان، ترك النكير عليها في شربه، وكونه وقع سبباً لنجاتها من النار.
الخاصة الرابعة: دمه، فإنه طاهر.
والحجة على ذلك: ما روي أن أبا طيبة حجم له، ثم شرب دمه، فقال له: (( إذاً لا تتجع بطنك ))(2) ففيه أيضاً دليلان: ترك النكير له على شربه، ثم كونه سبباً لئلا يتألم لوجع البطن كما قال.
الخاصة الخامسة: مصله وقيحه: فإنهما طاهران منه.
والحجة على ذلك: هو أنهما جاريان مجرى الدم لكونهما مستحيلين منه، فما طهر من الدم أو عفي عنه أو كان نجساً منه فهما كذلك من غير تفرقة بينهما، فإذا تقرر ذلك فجميع ما ذكرناه من هذه الأشياء نجسة من بني آدم ما خلا رسول اللّه ً فإنها طاهرة في حقه لأجل الكرامة والخصوصية التي له من اللّه تعالى.
__________
(1) حكاه في (التلخيص) وفي رواية أخرى للحاكم والدارقطني والطبراني وأبي نعيم من حديث أبي مالك النخعي بسنده عن أم أيمن قالت: قام رسول اللّه من الليل إلى فخارة في جانب البيت، فقمت في الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي قال: ((يا أم أيمن قومي فأهرقي تلك الفخارة)). قلت: قد والله شربت ما فيها، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: ((أما والله إنه لا تجعن بطنك أبداً)). وفي رواية لعبد الرزاق أن المرأة خادم لأم حبيبة يقال لها بركة. فما مرضت قط حتى ماتت. وقيل: إنهما قضيتان حدثتا لامرأتين.ا.هـ. ملخصاً من (جواهر الأخبار). أم أيمن هي أم أسامة بن زيد.
(2) رواه ابن حبان بسنده عن ابن عباس. وفي رواية أن الرسول ً قال له بعد ما شرب الدم: ((لا تعد، الدم حرام كله)). وتتجع: تصاب بالوجع.ا.هـ قاموس.
مسألة: وأهل البلوى نعوذ بالله منها، الذين اتصلت بهم النجاسة فلم تزايلهم، كمن به سلس البول وسيلان الجرح، وصاحب البواسير. والباسور: داء يحدث في المقعدة وفي الأنف، وهو ورم يحصل فيهما ثم يعلو فينفجر، ولا يزال يسيل وربما قتل صاحبه وأسقمه، فهؤلاء لا يلزمهم التحرز عن هذه النجاسات ولا غسل أثوابهم ولا أجسامهم عما يصيبها منها.
والحجة على ذلك: ما في حديث فاطمة بنت أبي حبيش )، وهو أنها لما استحيضت قالت: يا رسول اللّه إني أستحاض فلا أطهر ولا ينقطع الدم عني، فأمرها أن تدع الصلاة أيام إقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي وإن قطر الدم على الحصير قطراً(2)، فصار هذا أصلاً لما عداه مما ذكرناه من أهل هذه البلاوي التي ذكرناها، والجامع بينهما هو استرسال الحدث بحيث لا يرجى انقطاعه بحال.
الحجة الثانية: هو أنا لو كلفناهم ذلك لابد من الحرج والمشقة، والله تعالى يقول: {ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78]. وقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسَاً إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286]. وقوله عليه السلام: (( بعثت بالحنيفية السمحة )). وقوله تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. إلى غير ذلك من الأدلة الشرعية الدالة على تخفيف الأمر على من هذه حاله.
ويستحب له أن يتعهد ثوبه بالتطهير والتنقية.
__________
(1) فاطمة بنت أبي حبيش، واسمه قيس بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى، صحابية، مهاجرة، روت عن النبي ً حديث الاستحاضة، وعنها: عروة بن الزبير، ونقل ابن حجر أنه صلى على جنازتها العباس، وقيل: علي، ا.هـ. تهذيب ج12/469.
(2) حكاه في أصول الأحكام والشفاء وهو مروي عن عائشة، وكذا في الاعتصام عن عروة عن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش...إلخ.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }[المدثر:4]. وقوله عليه السلام: (( إن اللّه نظيف يحب النظافة وجميل يحب الجمال)).
ويكره له أن يتركه حتى يصير فاحشاً.
والحجة على ذلك: هو أن المأخوذ على الإنسان إذا أراد الصلاة أن يكون على أحسن هيئة من الطهارة والنظافة في مكانه وملبسه وطهارة جسمه، وقد نبه الشرع على ذلك باشتراط طهارة هذه الأمور كما سنقرره في شروط الصلاة، فلهذا كره له ما يضاد ذلك ويناقضه، وقد قدره الهادي في (الأحكام) بثلاثة أيام، من جهة أن الثلاث قد صارت عدداً متوسطاً ليس فيه إفراط ولا تفريط، وهذه المسألة من الأمور المفوضة إلى رأي أهل الاجتهاد بالآراء الصائبة والأنظار الموفقة في فصل الخصومات الناشئة بين الخصوم، إذ ليس فيها إضرار على الخصمين عند اقتضاء المصلحة الشرعية لتوقيتها.
وهل يكون التقدير بالثلاث في غسل أثواب هؤلاء بتقريب أو تحديد؟ والأحسن أن يكون على جهة التقريب؛ لأن الحال في ذلك يختلف باختلاف أحوالهم في القلة والكثرة، فربما كان اليومان كالثلاث في استحباب الغسل لأجل كثرته، وربما كان العشر كاليومين في أنه لا يستحب الغسل لأجل قلته.
قال الإمام المؤيد بالله: فإن تعذر كانت الأيام الثلاثة كاليومين، وكانت الأربعة كالثلاثة في أن الإنسان يكون معذوراً حتى يتمكن ويزيل من جسمه وثوبه ما أمكنه على قدر طاقته؛ لأنه وإن عذر في المعسور من ذلك فإنه غير معذور في الميسور منه، والميسور لا يسقط بالمعسور، فإن وجد ثوباً طاهراً يعزله للصلاة توجه ذلك عليه، فإذا فرغ من الصلاة غسل ما أصابه؛ لأنه مأخوذ عليه أن لا يصلي إلا في ثوب طاهر على قدر الحال، لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4].
وعلى الجملة فإن المأخوذ على هؤلاء الذين ذكرناهم من أهل هذه البلية، الاجتهاد فيما كلفوه من أمر الصلاة على ما يمكنهم ويقدرون عليه، لقوله ً: (( إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم)). فهذا ما أردنا ذكره في بيان أعيان النجاسات، وكيفية التطهير منها.
---
الفصل الثالث: في بيان حكم الاجتهاد في النجاسات في المسائل الخلافية الفقهية
اعلم أن جميع الآراء الاجتهادية في المسائل الخلافية الواقعة بين علماء العترة وفقهاء الأمة، كلها حق وصواب، وهذه قاعدة - أعني تصويب الآراء في المضطربات الاجتهادية - قد فرغنا منها في الكتب الأصولية، فأظهرنا ما هو الحق منها من التصويب، وذكرنا أن الإجماع منعقد من جهة الصحابة (رضي اللّه عنهم) على ذلك من غير نكير منهم فيه، وأنهم ما زالوا مختلفين في الفتاوى والأقضية والأحكام، وكل واحد منهم مُصَوِّبٌ لرأي مخالفه في تلك المسألة ولم يُسمع من أحد منهم تأثيم ولا تخطئة لصاحبه، ولا إلحاق حرج به فيما خالفه فيه، وما ذاك إلا من أجل فهمهم التصويب وعملهم عليه، وإجماعهم حجة واجبة الاتباع كما مهدناه.
فإذا تقرر هذا الأصل، فنقول: جميع المسائل الخلافية الواقعة في النجاسات كلها حق وصواب إذا كانت صادرة ممن بلغ رتبة الاجتهاد من علماء العترة وفقهاء الأمة، وكل واحد منهم مذهبه صحيح ومقالته فيما زعمه وذهب إليه صادقة في جميع المسائل كلها مما ليس له فيه دلالة قاطعة.
ونحن الآن نعتبر المسائل التي وقع فيها الخلاف ونبين أنها صحيحة لا مقال فيها وأنها لا تقطع الاقتداء في الصلاة، ولا توجب التحريم في ذلك.
فإذا توضأ القاسمي بما دون القلتين ولم يكن متغيراً بما وقع فيه من النجاسة أو توضأ بركوة قد وقعت فيها قطرة من بول أو خمر لم يغيرها فإنه في اجتهاده طاهر، وهو عند أكثر العترة وفقهاء الأمة نجس.
وهكذا لو توضأ الناصري والمنصوري(1) في القلتين فإنهما عندهما طاهرتان وعند الشافعي، وهما نجستان عند الهادي والمؤيد بالله وأبي طالب. وهكذا لو غسل النجاسة التي لا ترى عينها مرة واحدة فإنها تكون طاهرة على رأي الإمام أبي طالب، ولا تكون طاهرة على رأي المؤيد بالله، وغيره من العترة. ثم أيضاً من كان إزاره من جلد ميتة قد دبغ أو اتخذ خفاً من ذلك، فإنه يكون طاهراً على رأي الإمام الشهيد زيد بن علي، ورأي أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، وهو نجس على رأي أكثر أئمة العترة، القاسمية والناصرية لا يختلفون فيه.
وهكذا فإنه لو فرك منياً يابساً ثم صلى به من دون غسله فإنه يكون طاهراً على رأي أبي حنيفة وأصحابه، ويكون نجساً على رأي أئمة العترة. ولو صلى وعلى ثوبه مني فإنه يكون طاهراً على رأي الشافعي، ويكون نجساً على رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وهلم جرا إلى سائر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أهل القبلة في جميع ما ذكرناه من النجاسات، فكلها حق وصواب، لا تقطع الموالاة فيما بين الأمة، ولا توجب بطلان الاقتداء في الصلاة، ويدل على ما قلناه حجج ثلاث:
__________
(1) الناصري والمنصوري، أتباع مذهب الناصر والمنصور بالله.
الحجة الأولى: هو أن هذه المسائل التي وقع فيها الخلاف لا يخلو حالها إما أن يكون فيها حق معين هو مطلوب لله تعالى، أو لا يكون هناك حق معين، فإن كان الأول فإما أن تكون عليه دلالة أو لا تكون عليه دلالة، فإن لم ينصب اللّه عليه دلالة فلا معنى للتكليف به؛ لأن التكليف به من غير دلالة تكون منصوبة عليه يكون تكليفاً لما لا يعلم وهو محال، وإما أن تكون هناك عليه دلالة فسواء كانت معلومة أو مظنونة، فلا بد أن تكون معلومة لنا معروفة حتى يمكننا العمل بها. والذي في هذه المسائل ليس من الأدلة القطعية أصلاً؛ لأن القطع إنما هو النص المقطوع بأصله، ومعتمدنا في هذه المسائل ليس إلا أخبار آحادية وأقيسة ظنية، كل واحد منها لا ينتهي إلى القطع ولا يترجح بعضها على بعض في مطلق الظن إلا بالإضافة إلى آراء المجتهدين من غير أن تكون هناك دلالة قاطعة، وما هذا حاله فليس فيه مطلوب معين لله تعالى، لاستوائها كلها في كونها مطلوبة لا ترجيح لبعضها على بعض، بالإضافة إلى مراد اللّه تعالى، وبالإضافة إلى ما كلفنا [به]، فصح بما ذكرناه أنه لا مطلوب لله تعالى في هذه المسائل يكون معيناً، وإذا لم يكن هناك مطلوب معين كانت كلها مطلوبة، وهذا هو مرادنا بالتصويب في الآراء الاجتهادية.
الحجة الثانية: لو كان في هذه المسائل حكم معين لله تعالى للزم من ذلك مُحَال، وهو أنه يلزم من ذلك بطلان التولية مع المخالفة في الاجتهاد، والمعلوم أن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) ولى شريحاً القضاء مع مخالفته له في كثير من المسائل، وهكذا سائر الصحابة (رضي اللّه عنهم) كأبي بكر وعمر وعثمان فإنهم ولوا الولاة مع اختلافهم في هذه المسائل، وكان يلزم التخطئة والتضليل لبعضهم بعضاً في هذه المسائل، لأن هناك - على رأي الخصم - حقاً لله تعالى معيناً، والمعلوم أنه لم يكن شيء من ذلك بينهم.
الحجة الثالثة: هو أن الإجماع منعقد من جهة الصحابة (رضي اللّه عنهم) على أن كل مجتهد فإنه مأمور بالعمل على وفق ظنه، ولا معنى للحكم إلا ما أمر اللّه به، وإذا كان الأمر كما قلناه اتضح أنه لا حق معين في هذه المسائل، وأن كل مجتهد إذا وفىَّ الاجتهاد حقه فإنه مصيب فيما رآه وظنه، لا يفترق الحال في ذلك بين مجتهد ومجتهد مع حيازة منصب الاجتهاد وإحراز علومه المشترطة فيه.
فإن قال قائل: فهل تفرقون بين من خالف في المسائل القطعية من الإلهية والأصولية وبين من وافق فيها، وتقولون: بأن من خالف في مسألة قطعية فإنه لا يعد من المجتهدين ولا يلتفت إلى خلافه؟ أو تقولون: بأنهم معدودون من الأمة فيعتد بخلافهم، ولا تكون المسألة إجماعية من دونهم؟
فجوابه: أنا نقول: بأن جميع أهل القبلة سواء في كونهم معدودين من أهل الإجماع إذا كانوا مجتهدين، وأن خلافهم في هذه المسائل الإلهية وغيرها لا يقطع الاجتهاد ولا يبطل كونهم معدودين من أهل الإجماع والاجتهاد في المسألة بعد إحراز منصب الاجتهاد في كل واحد منهم، لأن كفر من كُفِّر عند القائلين بكفره كالمشبهة والمجبرة، إنما كان كفره من جهة تأويله، وأنه تأول فأخطأ، وفِسْقُ من فُسِّقَ كالخوارج، إنما كان فسقه من جهة التأويل، وهو أنه خالف الإمام لشبهة طرأت عليه، فلهذا كان متأولاً في فسقه، ومع فسقهم وكفرهم من جهة التأويل لا يبطل ذلك كونهم معدودين من أهل الإجماع، لهم أهلية الاجتهاد لا ينعقد الإجماع من دونهم بحال، وكيف لا، وهم من أهل التوحيد المصلين إلى القبلة، المصدقين بتوحيد اللّه تعالى، وما جاءت به الرسل (صلوات اللّه عليهم) ناكحين على السنة، مصدقين بالقرآن، فلهذا وجب كونهم معدودين من أهل الاجتهاد.
نعم.. ظاهر كلام الشيخ عبدالملك الجويني، أن داود وطبقته من أهل الظاهر لا يعدون من علماء الأمة، وينعقد الإجماع من دونهم، وهذا فاسد لا أصل له، والحق أنهم وإن أخطأوا في إنكار القياس كله، فإن خطأهم في هذه المسألة لا يخرجهم عن كونهم من جملة علماء الأمة، ومن جملة المجتهدين فيها، ولا ينعقد إجماع مع مخالفتهم أصلاً، وهذا غلو من هذا الشيخ وحِدَّةُ نظر في كونه مخرجاً لهم عن أن يكونوا من جملة أهل الإجماع مع إحرازهم لعلوم الاجتهاد وكونهم من أهله. وتمام هذه المسألة مذكور في الكتب الأصولية، وفيما ذكرناه مقنع وكفاية، وبتمامه تم الكلام على الباب الثاني وهو الكلام في الأعيان النجسة.
---
الباب الثالث: في بيان آداب قضاء الحاجة
وهو في لسان الفقهاء يلقب بالاستطابة أخذاً من قوله عليه السلام:
(( إذا استطاب أحدكم فلا يستطب بيمينه ))(1)، والمحدثون يسمونه التخلي أخذاً من قوله عليه السلام: (( إذا أراد أحدكم أن يدخل الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث ))(2). والأمر في ذلك قريب،
وهي مشتملة على حِكَمٍ وأسرار وتعليمات من جهة صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه وعلى آله، وتنقسم إلى ما يكون قبل قضاء الحاجة، وإلى ما يكون في حال الاشتغال بقضاء الحاجة، وإلى ما يكون بعد الفراغ من قضائها، فهذه أقسام ثلاثة اشتمل عليها هذا الباب نفصلها بمعونة اللّه تعالى:
__________
(1) في رواية أبي داود والنسائي أن رسول اللّه ً قال: ((إنما أنا بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه)). يستطب: يستجمر.
(2) الخلاء ممدوداً: المتوضأ لخلوه.ا.هـ. لسان.
---
القسم الأول: في بيان الآداب قبل قضاء الحاجة وجملتها خمسة عشر
الأدب الأول: يستحب لمن أراد قضاء الحاجة في الصحراء أن يُبْعِدَ المَذْهَبَ(1)، لما روي عن المغيرة بن شعبة ) أنه قال: (( كان رسول اللّه ً إذا ذهب إلى الغائط أبعد في المذهب))، ويستحب أن لا تراه العيون، لما روى جابر قال: (( كان رسول اللّه ً إذا ذهب إلى البراز انطلق حتى لا يراه أحد)).
الأدب الثاني: يستحب أن يرتاد لبوله، لما روى أبو موسى الأشعري ) قال: كنت مع رسول اللّه ً ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثاً في أصل جدار، والدمث بتحريك الميم: ما كان مسترخياً من الأرض. ثم قال: (( إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعاً ))(4).
__________
(1) أن يذهب بعيداً.
(2) المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي، شهد الحديبية وما بعدها، وروى عن النبي ً، وعنه: أولاده، وعروة بن الزبير، وآخرون، وكان واحداً من دهاة الناس، كما روي عن الشعبي، وعن الزهري: كان دهاة الناس في الفتنة خمسة فذكراه فيهم. وقال ابن عبدالبر: ولاَّه عمر البصرة فلما شُهِد عليه عند عمر عزله، ثم ولاَّه الكوفة وأقره عثمان عليها، ثم عزله...إلخ. ونقل الخطيب الإجماع من أهل العلم على أنه توفي سنة 50هـ بالكوفة، وهو أمير عليها من قبل معاوية. (تهذيب التهذيب ج10/234).
(3) عبدالله بن قيس بن سليم أبو موسى الأشعري، أسلم قبل الهجرة، وهاجر إلى الحبشة، ثم قدم المدينة مع أصحاب السفينتين بعد فتح خيبر مع جعفر بن أبي طالب. وروى عن النبي ً، وعن جماعة من الصحابة. توفي سنة 42هـ، عن ثلاث وستين سنة.
(4) أخرجه أبو داود. وأورده في (جواهر الأخبار).
الأدب الثالث: يستحب لمن أراد دخول الخلا في العمران أن يقول: (( أعوذ بالله من الخبث والخبائث )). لما روى أنس بن مالك قال: كان رسول اللّه ً إذا أراد دخول الخلاء قال ذلك..، والخبث بسكون العين، إما جمع خبيث سكنت عينه، كما سكنت في نحو: رسْل في رسول، وإما أراد الخبث نفسه وهو الشر، والخبائث جمع خبيثة كشريفة وشرائف.
الأدب الرابع: يستحب له أن يقول أيضاً عند دخول الخلاء في العمران: (( اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ))(1). لما روي عن النبي ً أنه كان يقول ذلك عند دخوله الخلاء. والخبيث: من كان مختصاً بالخبث في نفسه والرداءة. والمخبث: من كان مخبثاً لغيره أي مفسداً له، هكذا قاله أبو عبيد في غريبه(2).
الأدب الخامس: يستحب لمن أراد قضاء الحاجة وفي يده خاتم فيه ذكر اللّه أن ينزعه، لما روى أنس بن مالك (( أن الرسول ً كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ، وإنما وضعه؛ لأنه كان عليه مكتوباً: (محمد رسول الله) ثلاثة أسطر))(3). وهل يكون ذلك مختصاً بالعمران أو يكون مشتركاً بينهما؟ فمنهم من قال: يختص بالعمران، ومنهم من قال: يكون مشتركاً فيهما.
__________
(1) أورده في أصول الأحكام وفي الاعتصام عن أمالي أحمد بن عيسى، عن محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى بسنده عن علي(ع) أنه كان إذا دخل المخرج قال: ((بسم اللّه اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم)). وفيه نقل عن الجامع الكافي عن علي (ع) عن النبي ً أنه كان إذا دخل المخرج قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)) وكذا في شرح التجريد بسنده عن أنس بن مالك. قال في الاعتصام: وهو في أصول الأحكام، وأخرجه أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة.
(2) غريب الحديث.
(3) أخرجه أبو داود.
والمختار: أنه يكون مشتركاً بينهما؛ لأن المقصود من ذلك هو أنه لا يشتغل بقضاء حاجة ومعه اسم اللّه، تشريفاً له عن ملابسته وهو على هذه الحالة، فلهذا استحب له نزعه قبل الاشتغال بها.
الأدب السادس: يستحب لمن أراد قضاء الحاجة في العمران أن يقدم رجله اليسرى، وليس فيه أثر عن رسول اللّه ً، وإنما استحسنه العلماء، وقد قال ً: (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن)). وإنما كان مستحباً؛ لأن الدخول ليس فيه فضل، فلهذا قدمت فيه اليسرى بخلاف الخروج، فسيأتي الكلام فيه في القسم الثالث، وهو أنه يختص بالرجل اليمنى لما فيه من الفضل بالخروج عن الأماكن الخبيثة، وإنما كانت خبيثة لقوله ً: (( إن هذه الحشوش محتضرة ))(1). فلهذا كان الخروج منها أعلى من الدخول إليها لما ذكرناه.
الأدب السابع: يستحب لمن أراد قضاء الحاجة في الصحراء أن يكون مستتراً بشجرة، لما روى جابر بن عبدالله قال: خرجت مع رسول اللّه ً في سفر فرأى شجرتين بينهما أربعة أذرع، فقال: (( يا جابر اذهب إلى تلك الشجرة فقل لها: قال لك رسول اللّه ً: إلحقي بصاحبتك فإنه يريد أن يجلس وراءكما)). فقلت لها ذلك، فلحقت بصاحبتها، فجلس رسول اللّه ً، فلما قضى حاجته قام وعادت إلى مكانها. وأراد بقوله يجلس، أن يقضي حاجته في التخلى؛ لأن الجلوس قد يُعَبَّرُ به عن قضاء الحاجة ويكنى به عنه، كما يكنى بالغائط عما يخرج من الدبر، وإنما قال ذلك في حق الشجرتين؛ لأن واحدة ربما كانت لا تكفيه على انفرادها، فلهذا أمرهما بالانضمام من أجل ذلك.
__________
(1) أورد في جواهر الأخبار عن زيد بن أرقم أن رسول اللّه ً قال: ((إن هذه الحشوش محتضرة فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)). وأورده المؤيد بالله في الشرح. ورواه في الاعتصام قال: وهو في أصول الأحكام والشفاء.
الأدب الثامن: الاستتار، كما رويناه من قبل، فإن لم يجد إلا كثيباً فليستتر به ولتكن السترة من وراء ظهره، لما روى أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا كثيباً من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم))(1).
الأدب التاسع: يكره له إذا أراد أن يبول في الصحراء أن يستقبل الريح، لما روي عن النبي ً أنه كان يتمخر الريح إذا أراد أن يبول، ولأنه ربما ردته عليه فنجسته، واستمخر الريح: إذا قابلها بأنفه لينظر من أين مجراها، ويراد بقوله فليتمخر: أي فلينظر من أين تجري فلا يستقبلها بالبول.
الأدب العاشر: يستحب له أن يُعد الأحجار قبل اشتغاله بقضاء الحاجة إذا كان في الصحراء؛ لأنه لو لم يُعِدَّها من قبل لاحتاج إلى أن ينتقل بنفسه لطلب الأحجار فيؤدي ذلك إلى تلوثه بالنجاسة إذا كان لا أحجار بقربه.
الأدب الحادي عشر: يكره له أن يدخل الخلاء في العمران حاسراً من غير أن يكون على رأسه شيء، لما روى أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( من أتى الغائط فليستتر )) ولم يفصل في ذلك بين الرأس والعورة.
الأدب الثاني عشر: ويستحب له أن لا يكشف عورته حتى يهوي للجلوس، ولا يقدم الكشف قبل الاشتغال بقضاء الحاجة، لما روى ابن عمر رضي اللّه عنه قال: (( كان رسول اللّه ً إذا أراد حاجته لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)) .
الأدب الثالث عشر: يستحب أن تكون السترة التي يستتر بها مغطية له، لما في حديث جابر من انضمام الشجرتين فإنه ما أراد بأمرهما بالانضمام إلا لأجل أنهما يسترانه عن الأعين، وقدرها بعض أصحاب الشافعي أنها تكون بقدر مؤخر الرجل، وهذا لا وجه له فإنه لا سترة فيما هذا حاله، فإن الغرض أنه لا يكون مرئياً، ومع هذا القدر فإنه يرى لا محالة.
__________
(1) أورده ابن بهران في جواهر الأخبار عن أبي هريرة بزيادة في آخره هي: ((... من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج)). أخرجه أبو داود.
الأدب الرابع عشر: [لم يوجد في الأصل، ولعل السهو وقع في عددها من الناسخ].
الأدب الخامس عشر: ويستحب أن يكون القدر الذي بينه وبين الستر شبراً فما دونه؛ لأن ما فوق ذلك يمكن أن يكون واسعاً فيكون موضعاً للشيطان، وما دونه لا يمكن أن يكون مقعداً فلا يجول الشيطان بينه وبين السترة. فهذه خمسة عشر أدباً كلها آثار منقولة من صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه. ليس فيها نزاع فنورد فيها الأدلة، وإنما هي سنن نبوية وآداب حكمية.
---
القسم الثاني: في بيان الآداب في حال الاشتغال بقضاء الحاجة، وجملتها آداب عشرون نذكرها
الأدب الأول منها: استقبال القبلة واستدبارها، وفيه مسائل خمس:
المسألة الأولى: ذهب علماء العترة وفقهاء الأمة: أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك ومن تقدمهم من علماء الصحابة والتابعين، إلى المنع من استقبال القبلة بغائط أو بول.
والحجة لهم على ذلك: ما روى أبو هريرة أن النبي ً قال: (( إنما أنا لكم كالوالد الشفيق فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول، وليستنج بثلاثة أحجار )). ونهى عن الروث والرمة، قال: وكذلك في الصحارى.
الحجة الثانية: ما روى سلمان الفارسي حين قيل له: لقد علمكم نبيكم كل شيئ حتى الخراءة. قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن لا نستنجي باليمين، وأن لا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو يستنجي برجيع أو عظم.
وحكي عن عروة بن الزبير ) وربيعة وداود: جواز ذلك وإباحته.
__________
(1) عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، محدث، وفقيه، روى عن أبيه، وأخيه عبدالله، وأمه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة، وروى عن أمير المؤمنين علي، وجماعة من مشاهير الصحابة، وروى عنه أولاده، وجماعة من التابعين، مات سنة94هـ، أو سنة99هـ، أو إحدى ومائة على خلاف عن 67. ا.هـ. (تهذيب ج7/163).
والحجة لهم على ذلك: ما رواه خالد الحذاء )، قال: كنا عند عمر بن عبدالغزيز ) فذكرنا استقبال القبلة بالفرج، فقال عروة بن الزبير: سمعت عائشة تقول: ذكر ذلك لرسول اللّه ً أن قوماً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: (( أو قد فعلوها ! استقبلوا بمقعدتي هذه إلى القبلة))(3)
__________
(1) خالد بن مهران الحذَّاء أبو المنازل البصري، مولى قريش، سُمي بالحذَّاء ولم يكن بحذَّاء (صانع أحذية) وإنما كان يجلس إلى الحذائين كما قال ابن سعد. وقال فهد بن حبان: إنما كان يقول:اأُحْذُ على هذا النحو، فلقب بالحذَّاء. وكان ثقة كثير الحديث، رأى أنس بن مالك، وروى عن الحسن البصري وعكرمة وعطاء وآخرين. ثبته أحمد ووثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يُحتَج به، توفي سنة 141هـ. (تهذيب التهذيب ج3/104).
(2) أبو حفص عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، الخليفة العادل، ولِّيَ الخلافة بعد سليمان بن عبدالملك عام 99هـ. وكانت ولايته تسعة وعشرين شهراً، كان فقيهاً، ثقة، ثبتاً، ورعاً، زاهداً. سمع أنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، وخولة بنت حكيم من الصحابة، وعروة بن الزبير، وابن المسيب، وآخرين من التابعين. وروى عنه كثيرون، منهم: الزهري، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وابناه (أي عمر) عبدالله، وعبدالعزيز، بلغ العدل في خلافته ذورة مجده، وإليه يعود الفضل في إزالة البدع التي كان أعظمها سب علي عليه السلام، ولد (رحمه اللّه) سنة مقتل الحسين السبط61هـ، وتوفي سنة 101هـ. على الأصح بدير سمعان، ودفن فيه. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب).
(3) ذكره في جواهر الأخبار وقال: هكذا في شرح القاضي زيد ونحوه في المهذب. وجاء في الاعتصام ما لفظه: وما روي عن عائشة أنه ً قال: ((حولوا مقعدتي نحو القبلة))، فالراوي له عراك بن مالك، ولفظه: حدثتني عائشة.. الخبر. قال أحمد بن حنبل: لم يسمع عراك عن عائشة إلا بواسطة عروة، فحينئذ قوله: حدثتني عائشة، كذب. وهذا الحديث لفحشه لا يليق بأحد ممن له عقل فضلاً عن سيد المرسلين، لأن المقعدة: الدبر والعورة.ا.هـ. بلفظه. وجاء في الهامش قال في التخريج: المقعدة آلة كان يقعد عليها وقت قضاء الحاجة والوضوء.ا.هـ من خط الإمام الناصر عبدالله بن الحسن (ع).
وفي هذا دلالة على الإباحة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة من المنع عن ذلك.
والحجة: ما ذكرناه عنهم من الأخبار؛ ونزيد هاهنا ما روى أبو أيوب الأنصاري ) عن النبي ً أنه قال: (( لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا ))(2). وروى معقل بن أبي معقل قال: (نهى رسول اللّه ً أن نستقبل القبلتين بغائط أو بول )(3). فهذه الأخبار كلها دالة على المنع من ذلك.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدهُ أهل الإباحة.
قالوا: حديث عروة عن خالته عائشة يدل على الإباحة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن كلامنا معكم إنما هو في المنع منه، وهذا حاصل في حديث عائشة فإنه محمول على العمران، وإذا كان الأمر كما قلناه بقي المنع في الصحاري كما رأى الشافعي، فلا يخرج الحديث عن كونه دالاً على المنع منه، وإن خص ببعض المواضع دون بعض فمطلق المنع منه قد حصل بما ذكرناه وهذا هو مطلوبنا.
وأما ثانياً: فلأن الأحاديث الدالة على المنع من ذلك والواردة فيه كثيرة كما روينا، فلهذا كانت راجحة على ما روته عائشة؛ لكونها جاءت على أوجه مختلفة، وعبارات متباينة، وهي متفقة في المنع من ذلك، فلهذا كان التعويل عليها أحق وأولى.
قالوا: روى جابر عن رسول اللّه ً أن لا تُستقبل القبلة ببولٍ، فرأيته قبل أن يُقبض بعام يستقبلها، وفي هذا دلالة على الجواز كما قلناه.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
__________
(1) اسمه: خالد بن زيد بن كليب، صحابي جليل، نزل رسول اللّه ً بداره أول ما وصل إلى المدينة، وشهد بدراً وما بعدها، وهو من النقباء الذين بايعوا رسول اللّه ً في العقبة. استشهد في الفتوحات الإسلامية، وقبره في أصل سور القسطنطينية. (در السحابة 412).
(2) أورده الهادي في المنتخب وأخرجه أحمد ومالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، عن أبي أيوب. ا.هـ اعتصام.
(3) أخرجه أبو داود.
أما أولاً: فلأن ما ذكرتموه من الخبر دال على المنع أولاً، لكنه نسخ، وأنتم قلتم بالجواز على الإطلاق، فلا يكون في الخبر دلالة على ما ذهبتم إليه.
وأما ثانياً: فلأن غيره من الأخبار راجح عليه من جهة دلالة الأخبار على المنع، وما ذكرتموه من الخبر دال على الإباحة، وما دل على المنع أولى لما فيه من الاحتياط؛ لأن الفعل إقدام على ما لا يؤمن كونه محظوراً، وفيه التعرض للخطر في الإثم بخلاف الانكفاف فليس فيه إلا ترك الجائز، وهذا لا حرج فيه بحال فافترقا.
قالوا: الأخبار كلها متعارضة، فيجب القضاء بتساقطها إذ لا ترجيح لبعضها على بعض لاستوائها، وإذا كان الأمر فيها كما قلناه وجب الحكم بالتساقط والرجوع إلى ما هو الأصل وهو الإباحة، فلهذا قضينا بإباحتهما جميعاً.
قلنا: عن هذا جوابان:
الجواب الأول: أنا لا نسلم تعارض هذه الأدلة بل يمكن الجمع بينها، فهذه الطريقة هي التي ارتضاها الإمام المؤيد بالله، واستقواها الشيخ أبو الطيب الطبري ) من أصحاب الشافعي، ولم يناكر في قبولها إلا أبو إسحاق الشيرازي صاحب (المهذب)، فإنه زعم أن القياسين إذا تعارضا فلا خلاف بين الأصوليين أنه لا يجوز الجمع بينهما، فهكذا يكون حال الخبرين إذا كانا متعارضين فإنه لا يجوز الجمع بينهما بطريقة واحدة، وهذا فاسد، فإن التفرقة بينهما ظاهرة فإن كل واحد من القياسين له أصل على انفراده، والمعاني ليس لها جامع يجمعها، فلهذا بطل الجمع بينهما، ووجب فيهما الترجيح عند تعارضهما لا غير، بخلاف الأخبار فإنها ألفاظ يمكن دخول العموم والخصوص فيها، وإذا كان الأمر كما قلناه لم يمكن الجمع بينهما إذا كان أحدهما عاماً، والآخر خاصاً فافترقا.
والحجة على ذلك: هو أن كل واحد من الخبرين دليل على حياله، مستقل بنفسه، فإذا تعارضا وكان هناك طريقة تجمع بينهما وجب العمل عليها بواسطة تلك الطريقة. فأما القياسان فلا خلاف بين الأصوليين أنه لا يجوز الجمع بينهما، بل يكونان متعارضين و[لا] العمل فيهما إلا بالتساقط والرجوع إلى دلالة أخرى، أو ترجيح أحدهما على الآخر بطريقة مقوية لأحدهما.
وطريقة الجمع بين الخبرين، أما على رأي أئمة العترة: فهو أن تُحمل أخبار النهي على الكراهة، ويُحمل ما خالفها على الجواز فيجتمعان من هذه الجهة.
__________
(1) القاضي الإمام أبو الطيب طاهر بن عبدالله بن طاهر الطبري، تعمر مائة وسنتين، ونقل عن معاصريه أنه في هذا السن لم يختل شيء من فهمه، وظل يفتي ويشير إلى مواقع الصواب والخطأ ويقضي إلى أن مات. تفقه بآمل بجرجان ثم ارتحل إلى نيسابور فأخذ الفقه والحديث عن كثير من علمائها. قال عنه الشيرازي في طبقاته: ولم أر فيما رأيت أكمل اجتهاداً وأشد تحقيقاً وأجود نظراً منه. (طبقات الفقهاء، طبقات الشافعية).
وأما على رأي الشافعي: فهو أن تحمل أخبار المنع على الصحاري، وأخبار الإباحة على العمران، فيجتمعان من هذه الجهة.
وأما على رأي أبي حنيفة في الرواية المشهورة عنه: فهو أن يُحمل النهي على الاستقبال فيهما جميعاً، أعني العمران والصحاري، وتحمل الإباحة على الاستدبار فيهما جميعاً، فتكون الأخبار مجتمعة بالإضافة إلى ما ذكرناه من غير حاجة إلى القضاء بالتعارض فيها.
الجواب الثاني: أنها متعارضة ولكنا نرجح الأخبار الدالة على المنع من جهة الاحتياط الذي هو أصل في الدين، وقد قال ً: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )). وقوله: (( المؤمنون وقَّافُون عند الشبهات )).
المسألة الثانية: إذا تقرر أن الأخبار دالة على المنع كما لخصناه، فهل يكون المنع حظراً أو كراهة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن المنع في الاستقبال والاستدبار حاصل على جهة الكراهة، وهذا هو الذي صرح به الإمام القاسم، وأشار إليه الإمام الهادي في (الأحكام) بالكراهة دون التحريم، وهو الذي حصله الإمامان الأخوان: المؤيد بالله وأبو طالب للمذهب، وهو رأي الإمام الناصر، ومحكي عن أبي أيوب من الصحابة، ومن التابعين عن إبراهيم النخعي، ورواية لأبي حنيفة وأبي ثور وأحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: هو أن المعتمد في المنع ليس إلا النهي، وأدنى درجات النهي هو الكراهة، فأما الحظر فإنما يُعلم بدليل منفصل، فلا جرم أخذنا من مطلق المنع الكراهة دون التحريم.
المذهب الثاني: أن المنع على جهة الحظر في الفضاء في الاستقبال والاستدبار، وأن الإباحة في العمران جارية فيهما جميعاً، فإن فعل ذلك في الصحراء كان آثماً إذا كان ذاكراً للتحريم، وهذا الذي يشير إليه كلام الهادي في (المنتخب)(1) أعني أنهما محظوران في الفضاء والعمران، والحظر في الفضاء هو المحكي عن الشافعي، ومروي عن العباس بن عبدالمطلب، وابنه عبدالله بن العباس، وابن عمر من الصحابة (رضي اللّه عنهم) وبه قال مالك، وإسحاق بن راهويه.
والحجة على جواز ذلك في العمران: ما روته عائشة، قالت: ذُكِرَ لرسول اللّه ً أن الناس يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: (( أو قد فعلوا! استقبلوا بمقعدتي هذه إلى القبلة )). وكان ذلك مخصوصاً بالعمران.
والحجة على حظره في الفضاء: ما رواه أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( إنما أنا لكم كالوالد الشفيق فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة بغائط ولا بول)). فهذا نهي دال على المنع، ولا نعني بالحظر إلا أنه منهي عنه بكون النهي دالاً على الحظر.
والحجة لما قاله الهادي في (المنتخب) من كون الحظر عاماً في الاستقبال والاستدبار في العمران والصحاري وهو رأي المنصور بالله، هو خبر أبي هريرة فإنه لم يفصل في النهي بين العمران والصحارى، ولا بين الاستقبال والاستدبار، فيجب بقاؤه على ظاهره من غير تأويل هناك.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من أئمة العترة من كون النهي حاصلاً على جهة الكراهة دون التحريم.
__________
(1) كتاب المنتخب في الفقه رواه محمد بن سليمان الكوفي، مطبوع عام 1993م في مجلد مع كتاب (الفنون) للهادي أيضاً.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: اطلعت يوماً على بيت حفصة ) فرأيت رسول اللّه ً قاعداً على لبنتين مستدبراً القبلة مستقبل الشام، فلولا أنه جائز وإلاَّ لما فعله.
لا يقال: فكيف جاز لابن عمر أن ينظر الرسول ً وهو على تلك الحالة، وهي لا تحل في حق الرسول ً لجلالة قدره وعِظَمِ محله عند اللّه تعالى؛ لأنا نقول: يحتمل ذلك وجوهاً ثلاثة:
أما أولاً: فلأن من كانت حاله مثل حال الرسول ً في تعليم الشرائع وتعريف الأحكام، فلابد من الاطلاع عليه في كل أحواله لِيُعرف منه ذلك.
وأما ثانياً: فلأنه لم يقصد النظر فيأثم بذلك، ولكنه فاجأه على تلك الحالة.
وأما ثالثاً: فلأنه لم ير له عورة، ولكنه نظر ظهره وأعالي بدنه فلا حرج عليه في رؤية ما هذا حاله.
والحجة لما ذكره الإمام المنصور بالله: ما رويناه من حديث أبي أيوب وهو قوله عليه السلام: (( لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها)). وهذا عام في الاستقبال والاستدبار، وعام في العمران والصحاري، وهو ظاهر في النهي، وظاهر النهي للتحريم إلا لدلالة تدل على خلاف ذلك، كما أن ظاهر الأمر للوجوب إلا لدلالة على خلاف ذلك.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، فأما ما يحكى عن الإمامين: الهادي والمنصور بالله من أن الاستقبال والاستدبار على الحظر، ففيه نظر من وجهين:
__________
(1) حفصة بنت عمر بن الخطاب، أم المؤمنين. تزوجها النبي ً سنة ثلاث للهجرة بعد استشهاد زوجها خنيس بن حُذافة السَّهمي في أُحد، توفيت سنة 41هـ، وقيل: سنة 45هـ، عن 61 سنة، لها ستون حديثاً اتفق الشيخان على أربعة منها، وانفرد مسلم بستة.ا.هـ. ملخصاً من درر السحابة صفحة 610.
أما أولاً: فلأن مطلق النهي إنما يدل على الكراهة لا غير؛ لأن حقيقته المنع، وأدنى المنع إنما هو الكراهة لا غير؛ لأنه أقل مراتبه. فأما كون النهي دالاً على الحظر ومفيداً للإثم والحرج، فإنما يُعلم بدلالة منفصلة غير مطلقه، فأما مطلقه فإنما هو دال على المنع مطلقاً كما أشرنا إليه، ولا دلالة هاهنا من جهة الشرع تدل على الحظر وتأثيم الفاعل وحرجه عند اللّه تعالى، كما أشارا إليه.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: هل أُخذ الحظر من مطلق النهي أو من دلالة أخرى؟ فإن كان مأخوذاً من مطلق النهي فلا يشمله؛ لأن مطلقه للمنع لا للحظر فأحدهما مخالف للآخر في حكمه، وإن كان مأخوذاً من دلالة منفصلة فلا بد من إيرادها لننظر فيها هل تدل أم لا، وهما إنما اقتصرا على مطلق النهي من غير أمر وراءه، فلا يكون فيه حجة على أن ما ادعياه من الحظر معارض بما رواه ابن عمر من قعوده ً في بيت حفصة مستقبلاً القبلة، وبما رواه عروة بن الزبير، حيث قال ً : (( حولوا مقعدتي هذه إلى جهة القبلة )) فإذا كانا متعارضين فلابد من التساقط، أو ترجيح أحدهما على الآخر، فقد حصل غرضنا من أن مطلق النهي غير دال على الحظر بما ذكرناه.
فأما ما يحكى عن الشافعي حيث قال: بأنهما محظوران في الفضاء مباحان في العمران، فما أوردناه على الإمامين: الهادي والمنصور بالله في الحظر فهو وارد عليه.
وأما الكلام عليه(1) في التفرقة بين الأمر في الاستقبال والاستدبار حيث جعل أحدهما على الحظر والآخر على الإباحة فسيأتي تقريره في المسألة الثالثة بمعونة اللّه تعالى.
المسألة الثالثة: إذا تقرر كون النهي وارداً على جهة الكراهة بما لخصناه، فهل تكون الكراهة عامة فيهما أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الكراهة عامة في الاستقبال والاستدبار، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة كما قاله السيد الإمام أبو طالب.
__________
(1) أي: على أبي حنيفة؛ لأن هذا هو رأيه، والمشهور عنه كما سبق.
والحجة على ذلك: ما في حديث أبي هريرة من قوله عليه السلام: (( إنما أنا لكم كالوالد الشفيق فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه)). وما في حديث أبي أيوب الأنصاري من قوله عليه السلام: (( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا ولا تستدبروا بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا)). فهذان الخبران دالان على استوائهما في النهي كما ترى من ظاهر الحديث، فإنه لم يفصل في ذلك بين الاستقبال والاستدبار.
المذهب الثاني: أن الاستقبال غير مخالف للاستدبار وهذا هو رأي الشافعي فإنه قال: الاستقبال محظور في الفضاء وهكذا حال الاستدبار أيضاً، وهما مباحان في العمران، فخالف في حكمهما بالإضافة إلى الأمكنة كما ترى، فجعل الحظر متعلقاً بهما في الفضاء وجعل الإباحة متعلقة بهما في العمران.
والحجة على ذلك: التفرقة التي ذكرها بينهما.
أما حجته على الحظر في الفضاء فيهما جميعاً: فحديث أبي هريرة وقد رويناه من قبل، وهو قوله: (( لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول )). فحمل هذا الحديث على الحظر في الفضاء.
وأما حجته على الإباحة في العمران فيهما جميعاً: فهو حديث عروة بن الزبير عن عائشة وحديث ابن عمر، حيث قال: (( حولوا مقعدتي إلى جهة القبلة )) لما قيل: إن قوماً يكرهون استقبال القبلة، فقال ذلك راداً عليهم مقالتهم، فخص هذه الإباحة بالعمران والأمكنة المحاط عليها بالأبنية كما ترى.
المذهب الثالث: أن الاستقبال منهي عنه على جهة العموم فيهما، وأن الاستدبار يباح على جهة العموم فيهما، وهذا هو رأي أبي حنيفة المشهور عنه، والتفرقة بين مذهب الشافعي وأبي حنيفة، هو أن الشافعي يجعل العموم فيهما بالإضافة إلى الأمكنة بين العمران والصحاري فيكون الحظر عاماً فيهما في الفضاء، والإباحة عامة فيهما في العمران، وأما أبو حنيفة فإنه يجعل العموم فيهما بالإضافة إلى الأحوال، فالاستقبال منهي عنه فيهما، والاستدبار مباح فيهما جميعاً.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة أن الكراهة عامة فيهما جميعاً في العمران والصحاري، وفي الاستقبال والاستدبار جميعاً من غير تفرقة بينهما بحالة ولا جهة كما قاله أبو حنيفة والشافعي (1).
والحجة على ذلك: ما قدمناه، وهو أن المعتمد في ذلك الخبران المرويان عن أبي هريرة وأبي أيوب الأنصاري في حكم الاستقبال للقبلة والاستدبار لها، والمعلوم من ظاهرهما أنهما لم يفصلا في ذلك بين جهة وجهة، ولا بين حالة وحالة، فيجب إجراؤهما على ظاهرهما من غير تأويل، فمن أراد تأويلاً أقام عليه حجة ودلالة غير معرضة للاحتمال والتأويل فالظاهر هو أدنى متمسك في حق المجتهد حتى يرد ما يغيره وينقله عن ذلك الظاهر لدلالة شرعية، والله أعلم بالصواب.
الانتصار لما ذكرناه في الاختيار إنما يكون بإبطال ما عداه.
قالت الشافعية: معتمدنا فيما ذكرناه من التفرقة بين العمران والصحاري إنما هو حديث أبي هريرة، وحديث عروة بن الزبير، وحديث ابن عمر، فإنها متعارضة ولا يمكن الجمع بينها إلا بما ذكرناه من التفرقة بين العمران والصحاري، فيكون الحظر متعلقاً بالفضاء فيهما جميعاً، وتكون الإباحة فيهما متعلقة بالعمرانات من غير حاجة إلى النسخ، من جهة أن النسخ يحتاج إلى التأريخ ولا دلالة على التاريخ(2).
قلنا: عما ذكروه جوابان:
__________
(1) يقصد: لا كما قاله أبو حنيفة والشافعي.
(2) لمعرفة السابق المنسوخ والمتأخر الناسخ.
أما أولاً: فلأن ظاهر النهي: المنع، وأدناه: الكراهة، فلم حملتموه على الحظر من غير دلالة في الفضاء فيهما جميعاً؟ وظاهره أيضاً دال على المنع من الإستدبار، فلم قلتم: إنه على الإباحة؟ فالنهي شامل لهما جميعاً.
قالوا: إنما حملنا الأحاديث على الحظر في الصحاري والإباحة في العمران جمعاً بين الأحاديث لئلا يؤدي إلى تناقضها، ولم نحملها على النسخ؛ لأنه لم يُعلم التاريخ بينها.
قلنا: الجمع بينها: بأن يُحمل النهي على الكراهة، والإباحة على الجواز، أولى من حملكم، من جهة أن دلالة النهي على الكراهة هو اليقين المتحقق في حقه دون الحظر كما مر بيانه، وحمل حديث عروة وابن عمر على الجواز أيضاً فيهما جميعاً من غير تخصيص.
وأما ثانياً: فلأن ما قلتموه تحكم لا مستند له، من جهة فرقكم في النهي بين الصحاري والعمران من غير دلالة ومن جهة إباحتهما في العمران، والنهي متناول لهما جميعاً. وما هذا حاله، تفرقة من غير دلالة فلا وجه لها، وكان الحق إبقاء النهي على عمومه فيهما جميعاً.
قالت الحنفية: إنما حملنا النهي على الاستقبال فيهما جميعاً؛ لأنه لم يفصل فيه بينهما حيث قال: (( لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول))، وحملنا الإباحة على الاستدبار فيهما جميعاً، من جهة أن الاستقبال مخالف للاستدبار، لما في الاستقبال من إسقاط الحرمة بالمقابلة بالفروج بخلاف الاستدبار فإنه لا مجاهرة فيه بهتك الحرمة وإسقاطها، فمن أجل ذلك حكمنا بالتفرقة بينهما.
قلنا: العموم بالنهي شامل لهما في ظاهر الأحاديث، فلا حاجة إلى التفرقة بينهما بما ذكروه من القياس؛ لأن هتك الحرمة حاصل بالاستدبار كحصوله بالاستقبال من غير تفرقة، ولأنه قعود فيه إفضاء بالفرج نحو القبلة من غير عذر، فوجب أن لا يكون مباحاً كالاستقبال. فحصل من مجموع ما ذكرناه حمل النهي على الكراهة فيهما جميعاً من غير تفرقة، من جهة أن الكراهة هي الأصل خلافاً لما قاله الشافعي، وأن النهي شامل للاستقبال والاستدبار بعمومه، خلافاً لما قاله أبو حنيفة، وأنا أجرينا الأدلة الشرعية على ظاهرها من غير تحكم بتخصيص من غير دلالة، فلهذا كان ما قلناه أرجح على(1) غيره.
قال الإمام القاسم بن إبراهيم: والفضاء أشد كراهة، وإنما كان أدخل في الكراهة لأوجه خمسة:
أما أولاً: فلأن الفضاء أعظم تكشفاً وأظهر في إفضاء الفروج إلى القبلة من العمران، لما يحصل في العمرانات من الستر بالجدرات بخلاف الفضاء.
وأما ثانياً: فلأن الفضاء كله يجوز أن يكون موضعاً للصلاة والعبادة، وليس كذلك حال هذه الكُنُف(2)، فإنها قد صارت مواضع لقضاء الحاجة من البول والغائط، فلهذا عظمت الكراهة فيها.
وأما ثالثاً: فلأن هذه الفضاءات ليست مخصوصة بكونها مقاعد للشياطين، بخلاف هذه الكنف فإنها صارت مقاعد للشياطين، ولهذا قال عليه السلام: (( إن هذه الحشوش محتضرة)). يعني أنها تحضرها الشياطين وتسكنها، وأكثر ما تكون واقفة فيها، فلهذا كانت أدخل في الكراهة من أجل ذلك.
__________
(1) لعل الصواب: أرجح من غيره. حيث تأتي (من) بعد صيغة (أفعل) للتفضيل.
(2) مفردها: كنيف، وهو المتخذ لقضاء الحاجة في العمران.
وأما رابعاً: فإن الفضاء أوضع، فالانحراف فيه عن القبلة أيسر على صاحبه وأسهل بخلاف هذه الكنُفُ فإن الانحراف فيها يكون فيه صعوبة لمّا كان محاطاً عليها بالأبنية وربما تعذر في بعض الحالات الانفتال عن جهة القبلة، لما كان مبنياً مستقراً لا يمكن الانحراف عن القبلة إلا بهدمه وخرابه، فلهذا فارق العمران بما ذكرناه.
وأما خامساً: فلأن الفضاء أشد اختصاصاً بالنهي؛ لأن العرب لم يكونوا يتخذون هذه الكُنُف، وإنما حدثت في الأمصار والأقاليم والمدن، فكان الخطاب من جهة الرسول ً مختصاً بها؛ لأنها هي المألوفة المتعارف عليها، فلا جرم كان الفضاء أشد كراهة لاختصاصه بالنهي لهذه الأوجه التي يحتملها كلام القاسم كما أوضحناه.
المسألة الرابعة: إذا ثبت كون الكراهة عامة في الاستقبال والاستدبار كما قررناه، فهل يكون ذلك خاصاً في الكعبة، أو يكون عاماً فيها وفي بيت المقدس؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول منهما: أن النهي عام على جهة الكراهة في القبلتين جميعاً استقبالاً واستدباراً كما مر تقريره في حق الكعبة، وهذا هو الظاهر من مذهب أئمة العترة، وقد صرح به الإمام المنصور بالله، وهو رأي أبي حامد الغزالي من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روى معقل بن أبي معقل الأسدي، عن رسول اللّه ً (( أنه نهى عن استقبال القبلتين بغائط أو بول )).
المذهب الثاني: أن ما ذكرناه من كراهة الاستقبال والاستدبار إنما هو خاص في الكعبة دون غيرها، وهذا هو الذي ذكره بعض أصحاب الشافعي كأبي نصر بن الصباغ صاحب (الشامل) والعمراني صاحب (البيان).
والحجة على ذلك: هو أن معظم الأحاديث إنما هي واردة في شأن القبلة، ولا شك أن القبلة المعهودة إنما هي الكعبة؛ لأنه السابق إلى الأفهام عند إطلاقه فيجب أن يكون محمولاً عليه، وتأولوا حديث معقل بن أبي معقل على أحد وجهين، ووجهوا له تأويلين:
التأويل الأول منهما: أن الرسول ً كان نهى عن استقبال بيت المقدس حين كان قبلة، ثم إنه نهى عن الكعبة حيث صارت قبلة فجمع الراوي بينهما.
التأويل الثاني: أن هذا الحديث إنما ورد في حق أهل المدينة ومن كان في جهتهم من البلدان؛ لأن من كان هناك إذا استقبل الكعبة فإنه يستدبر بيت المقدس ومن استدبر بيت المقدس، فإنه يستقبل الكعبة، وسمي بيت المقدس قبلة؛ لأنه كان قبلة قبل نسخه جرياً على عادة العرب في استصحاب الاسم بعد زوال معناه، فهذا تقرير ما عولوا عليه في كونه مخصوصاً بالكعبة، الاستقبال والاستدبار في العمران والصحارى كما أوضحنا فيه القول.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من كون الكراهة عامة في القبلتين جميعاً.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم، ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: من طريق القياس، وهو أن الكعبة إنما كره استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة لما كانت قبلة يُصلَّى إليها و يُوجَّه أفضل الأعمال إليها، وهذا حاصل في بيت المقدس فإنه كان قبل النسخ على هذه الصفة، وكثير من أصحاب الرسول ً صلّى القبلتين يعني وجه صلاته إلى بيت المقدس أولاً ثم إلى الكعبة آخراً، ثم استقرت الصلاة بعد النسخ إلى الكعبة، ولا يضر كونها منسوخة؛ فإن الحرمة باقية، وإن كانت الصلاة قد نسخت بالتوجه إليها.
الحجة الثانية: أنا نقول: إن التوارة التي أنزلت على موسى والإنجيل الذي أنزل على عيسى، هما كتابان من عند اللّه تعالى ووحيه وتنزيله على هذين النبيين، ولا خلاف في كونهما منسوخين بشريعة الرسول ً، والمعلوم أن الحرمة باقية فيهما بعد نسخهما، ولهذا فإن الرسول ً لما أراد أن يحكم بين اليهود في الزنا بما في التوراة وقد أنكرت اليهود أن يكون فيها حكم الرجم، فقال لهم الرسول ً: (( إئتوني بالتوراة أحكم بينكم بما فيها )) فجاءوا بها يحملون أسفارها على كرسيها، فقام لها عند إقبالها وقال: (( آمنت بمن أنزلك))(1). فهكذا نقول: حال قبلة بيت المقدس؛ حرمتها باقية في التعظيم والإجلال عن استقبالها بالفروج وبالبول والعذرة، وفي ذلك صحة ما نريده.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه حجة لهم.
قالوا: جميع ما ورد من الأحاديث كلها في كراهة الاستقبال والاستدبار إنما هو خاص في الكعبة، وظاهرها أنها مقصورة عليها؛ فلهذا لم يصح إدخال غيرها معها في ذلك إلا بدلالة ولا دلالة هناك.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلأن الأحاديث الواردة في كراهة استقبال القبلة مطلقة، كقوله عليه السلام في خبر أبي هريرة: (( لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول )). وفي حديث أبي أيوب الأنصاري مثله، ولفظ القبلة صالح للجهتين جميعاً، فيجب أن تكون صالحة لهما جميعاً؛ لأن بيت المقدس يسمى قبلةً استصحاباً للاسم.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن اسم القبلة لا يصلح إلا للكعبة، فحديث معقل بن أبي معقل دال على ما ذكرناه فيجب الاعتماد عليه.
قالوا: لم يشرف بيت المقدس إلا من أجل كونه قبلة، والآن قد زال كونه قبلة بالنسخ فلا حرمة له، فلم يكره استقباله واستدباره عند قضاء الحاجة.
__________
(1) أخرجه أبو داود.
قلنا: الحرمة باقية وإن زالت مواجهته عند الصلاة كما كان ذلك في التوراة والإنجيل، فإن حرمتهما باقية وإن زال التعبد بأحكامهما لكونهما كتابين من السماء، ويؤيد ما ذكرناه من بقاء حرمته، قوله ً: (( لا تُشَدُّ الرِّحَال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس)). وقوله ً: (( مسجد بيت المقدس بارك فيه سبعون نبياً )). فهذا يدل على القضاء بفضله وحرمته عندالله كالكعبة فلا ينبغي مقابلته بكشف العورة والبول والغائط .
المسألة الخامسة: إذا تقرر ما ذكرنا من إلحاق بيت المقدس بالكعبة في كراهة الاستقبال والاستدبار، فهل يكره استقبال الشمس والقمر أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكره استقبالهما واستدبارهما عند قضاء الحاجة، وهذا هو الذي ذكره المنصور بالله والناصر، وهو رأي الشيخ أبي حامد العزالي، والصيمري من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنهما آيتان عظيمتان لهما شرف وحرمة، ولهذا أقسم اللّه بهما في قوله: {وَالْشَّمْسِ وَضُحَاهَا }[الشمس:1]. وقوله تعالى:{كَلاَّ وَالْقَمَرِ }[المدثر:32]. وما ذاك إلا لأجل شرفهما عند اللّه تعالى فأشبها الكعبة، فلهذا كره استقبالهما عند قضاء الحاجة كما كره في القبلتين جميعاً.
المذهب الثاني: أن ذلك غير مكروه وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة كالقاسم، والهادي والمؤيد بالله، وأبي طالب، وهو رأي الأكثر من أصحاب الشافعي، وإنما قلنا بأن هذا هو رأي أكثر أئمة العترة مع أنهم لم ينصوا عليه ولا صرحوا به قطعاً، من جهة أن هذا موضع ذكره لو كان موافقاً للكعبة في الحرمة، فلما لم يذكروه مع إحفاز الحاجة إلى ذكره، دل على كونه مخالفاً لما يكره استقباله من القبلتين، وأنه مخالف لهما في الحكم.
والحجة على ذلك: هو أنا إنما قضينا بكراهة الاستقبال في الكعبة لما دل عليه الشرع من ذلك بالأخبار التي رويناها، ولم تدل على غيرهما(1) دلالة فلهذا كانا(2) باقيين على أصل الإباحة.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العترة، وهو رأي الأكثر من الفقهاء: أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا حجتين نوضحهما:
الحجة الأولى: ربما نقول: إن المعتمد في تقرير هذه الآداب المتعلقة بقضاء الحاجة إنما هو السنن المنقولة من جهة صاحب الشريعة (صلوات اللّه عليه وآله) وأكثرها شرعيات بيَّنها على لطائف من جهة اللّه تعالى، ولم يدل الشرع مما يكره استقباله إلا على ما ذكرناهُ من القبلتين، وما هذا حاله فلم تدل عليه دلالة، فلهذا وجب إبقاؤه على أصل الإباحة ولا معنى للقياس بجامع التعظيم؛ لأن الأقيسة مُنسَدَّة فيما هذا حاله لعدم فهم المعاني والاطلاع عليها؛ لأن مستندها أكثره أمر غيبي استأثر اللّه بعلمه، وما هذا حاله فلا مجال للقياس فيه لدقة معناه وكثرة التحكم فيه.
الحجة الثانية: هو أن قضاء الحاجة على التسهيل والتيسير والوسعة، وفي الحكم بكراهة استقبال ما ذكرناه من هذين الكوكبين الشمس والقمر نوع تضييق وعسرة تناقض ما فهم من قضاء الحاجة، وبيانه: أنا إذا كَرَّهنا استقبال القبلتين واستدبارهما وضممنا إلى ذلك استقبال ما ذكرناه من الشمس والقمر، فمن الجائز أن تكون الشمس في المشرق والقمر في المغرب فلا تستقبل هذه الجهات الأربع، وفي هذا صعوبة ونوع تعسير يضاد ما فهم من مقصود الشارع من التوسعة والتيسير في قضاء الحاجة، فلهذا كان متروكاً عن الكراهة لما ذكرناه.
__________
(1) على غير القبلتين.
(2) أي: الشمس والقمر.
وحجة ثالثة: وهي قوله ً في حديث أبي أيوب: (( ولكن شرقوا أو غربوا )). ولم يفصل في الإباحة في التوجه إلى جهة المشرق والمغرب بين مقابلة الكوكبين أو غير مقابلتهما، فقد وضح لك بما ذكرناه أنه لا وجه لكراهة استقبالهما، والله أعلم.
الانتصار: يكون بالكلام على من خالفه.
قالوا: لهذين الكوكبين من الحرمة ما للقبلتين، فلهذا كره استقبالهما عند قضاء الحاجة.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فبالفرق، وهو أن المعنى في القبلتين كونهما جهتين للعبادة والصلاة بخلاف هذين الكوكبين فإنهما لا يوجهان للعبادة فافترقا.
وأما ثانياً: فلأنا قد ذكرنا أن مضظرب النظر فيه بالأقيسة ضيق لا يتسع للمقارعة بالأسلحة النَّظرية، ولا يجوز في ميدانه جياد الأقيسة المعنوية.
وهل يكره استقبال هذه الأفلاك نحو زحل والمريخ والمشتري وغيرها من الآيات الباهرة الدالة على عظم القدرة؟ فيه تردد ونزاع بين العلماء، والخلاف فيها وفي الشمس والقمر واحد، فمن قال: يجوز استقبال الشمس والقمر، قال: بجواز استقبال هذه، ومن منع من تلك منع من هذه على جهة الكراهة، والكلام فيها واحد فلا وجه لإفرادها بالذكر والاعتراض والجواب، فهذه المسائل قد اشتمل عليها أدب الاستقبال والاستدبار.
الأدب الثاني: يكره الحديث في حال الاشتغال بقضاء الحاجة لما روى ابن عمر رضي اللّه عنه، عن النبي ً (( أنه(1) مر رجل به عليه السلام وهو يبول فسلم الرجل فلم يرد السلام عليه حتى تيمم ثم رد السلام عليه)). وفي حديث آخر حتى توضأ ثم اعتذر إليه، فقال: (( إني كرهت أن أذكر اسم اللّه إلا على طهر )) أو قال: (( على طهارة ))(2).
__________
(1) في الأصل: (أنه قال: مر رجل به...) إلخ. ولم يستقم المعنى إلا بحذف (قال).
(2) جاء في صحيح الألباني (406) بلفظ: ((إني كرهت أن أذكر اسم اللّه إلا على طهارة)). وأبو داود (17)، وفتح الباري ج11/13.
الأدب الثالث: ويكره التكشف في حال الاشتغال بقضاء الحاجة، لما روى أبو سعيد الخدري، قال: سمعت رسول اللّه ً يقول: (( لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتيهما يتحدثان فإن اللّه يمقت على ذلك))(1).
الأدب الرابع: ويستحب ألاَّ يكشف ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روى ابن عمر قال: (( كان رسول اللّه ً إذا أراد قضاء الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)).
الأدب الخامس: ويكره للرجل أن يبول قائماً لما روي عن النبي ً أنه قال: (( إذا أراد أحدكم أن يبول فلا يطمح ببوله ))(2). والتطميح: العلو والارتفاع. يقال: طمح الجدار إذا علاه. وعن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: ما بلت قائماً منذ أسلمت. وروي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائم، ولأنه لا يأمن مع القيام أن يترشش ببوله.
الأدب السادس: ويستحب أن يتفاجَّ عند بوله، لما روي عن بعض أزواج الرسول ً أنها قالت: (( كان النبي إذا أراد أن يبول تفاج حتى أنا لنأوي له))(3). والتفاج: هو تباعد ما بين الفخذين لما في ذلك من البعد عن الرشاش بالبول.
__________
(1) أخرجه أبو داود.
(2) أورده في الشفاء وفي البحر، وقال في التلخيص: وعن أبي هريرة قال: كان رسول اللّه ً يكره البول في الهواء. رواه ابن عدي وفي إسناده يوسف بن السفر وهو ضعيف.ا.هـ. جواهر.
(3) أوى إليه أوية وأيَّة ومأوية و مأواة: رق ورثى له. وفي الحديث: أن النبي ً كان يخوي في سجوده حتى كنا نأوي له. قال أبو منصور: معنى قوله كنا نأوي له، بمنزلة قولك: كنا نرثي ونشفق عليه من شدة إقلاله بطنه عن الأرض ومده ضبعيه عن جنبه.ا.هـ لسان.
الأدب السابع: ويكره للرجل أن يبول في جُحْرٍ لما روي عن الرسول ً (( أنه نهى عن البول في الجحر )) وقيل لعبادة: فما بال الجُحْر؟، فقال: (( إنها مساكن الجن )). وقيل: إن سعد بن عبادة ) خرج إلى الشام فسمع أهله هاتفاً يهتف في داره وهو يقول:
قتلنا سيد الخز
رميناه بسهـ ... رج سعد بن عبادة
م فلم نخط فؤاده(2)
ففزع أهله من ذلك وتعرفوا خبره وكان في تلك الليلة قد مات، وحكي أنه كان قد جلس يبول في جحر فاستلقى ميتاً. ولأنه لا يؤمن أن يخرج من الجحر ما يلسعه إذا ورد عليه البول.
الأدب الثامن: يكره للرجل أن يبول في الماء الرَّاكد لما روي عن الرسول ً، أنه نهى عن أن يبول الرجل في الماء الراكد، ولأنه ربما أفسده بالبول إذا كان قليلاً.
__________
(1) سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الخزرجي، سيد الخزرج، أحد الأمراء الأشراف في الجاهلية والإسلام. شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، اختلف في شهوده بدراً، وشهد أحداً والخندق، خرج إلى الشام مهاجراً أيام عمر فمات بحوران سنة 14هـ. له عشرون حديثاً، ومات قبل أوان الرواية. وله تراجم في كل طبقات الصحابة.ا.هـ. در السحابة.
(2) يفهم من إيراد المؤرخين للبيتين أنهما لهاتف من الجن، ولكن نفي قتل الجن سعداً ينفي إسناد البيتين إليهم. وفي هذه الحادثة قال حسان بن ثابت بيتين هما:
يقولون سعداً شقت الجن بطنه ألا ربما حققت أمرك بالعذر
وما ذنب سعد أنه بال قائماً ولكن سعداً لم يبايع أبا بكر
الأدب التاسع: يكره للرجل أن يبول في الظل والطريق والموارد للماء، لما روي عن الرسول ً أنه قال: (( اتقوا الملاعن الثلاثة : البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل ))(1).
الأدب العاشر: ويكره للرجل أن يبول في مساقط الثمار؛ لأنه ربما وقع على الثمرة فينجسها، ولأنه من جملة الملاعن أيضاً، قال أبو عبيد: وإنما قيل لها ملاعن؛ لأن من يأتي ذلك فإنه يقول: من فعل هذا فعليه لعنة الله(2).
الأدب الحادي عشر: ويكره للرجل أن يبول في موضع ثم يتوضأ فيه، لما روي عن الرسول ً أنه قال: (( لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه وإن عامة الوسواس منه ))(3). وسمي موضع التوضؤ مستحماً؛ لأنه ربما توضأ فيه بالماء الحار، فقيل له: مستحماً أخذاً من ذلك، والمستحم مكان التوضؤ بالماء الحار، هكذا قاله ابن الأثير في نهايته(4)، وهذا إنما يكون إذا كان يتوضأ على الأرض فيختلط الماء والبول فربما وقع على المتوضئ من ذلك البول ما ينجسه، فأما إذا كان هناك مجارٍ للماء والبول بحيث لا يظن الترشيش فإن البول جائز في مواضع الوضوء؛ لزوال العلة التي نهي عنه من أجلها لما ذكرناهُ.
__________
(1) أخرجه أبو داود، وفي جواهر الأخبار. وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه ً: ((اتقوا اللعانين)) قيل: وما اللعانان يا رسول اللّه؟ قال: ((الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم)). أخرجه مسلم وأبو داود، وأورده الإمام القاسم في الاعتصام بلفظ ((اتقوا اللاعنين...)).
(2) راجع غريب الحديث.
(3) وفي رواية ((..ثم يغتسل فيه)). أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وجاء في جواهر الأخبار: ولم يذكر الترمذي والنسائي الغسل والوضوء.
(4) كتاب النهاية لابن الأثير، مشهور ومطبوع عدة طبعات.
الأدب الثاني عشر: ويجوز أن يبول الرجل في الإناء لما روته أميمة بنت رقيقة(1)، قالت: (( كان للرسول ً قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل))(2).
الأدب الثالث عشر: إذا كان به علة جاز له البول قائماً لما روى حذيفة بن اليمان أنه قال: (( أتى رسول اللّه ً سُباطة(3) قوم فبال قائماً))(4). وذلك إنما يكون من علة لما تقدم من نهيه عن البول قائماً، ولا يمكن الجمع بينهما إلا بما ذكرناه، وقد روي أن تلك العلة التي بال من أجلها قائماً، وجع كان بمأبضه فلم يمكنه القعود. والمأبض: ما تحت الركبة، والسباطة: بالسين المهملة المضمومة: المزابل وأمكنة الأقذار.
الأدب الرابع عشر: ويستحب للرجل عند الاشتغال بقضاء الحاجة أن يتكيء على رجله اليسرى، لما روي عن الرسول ً أنه قال: (( إذا قعد أحدكم لحاجته فليعتمد على رجله اليسرى))(5). ولأنه يكون أوعب بخروج ما يخرج من المعدة من جهة أن فتحتها مما يلي الجانب الأيسر.
__________
(1) لعل هناك خطأ في ضبط الاسم.
(2) جاء من عدة طرق ومنها ما رواه عبدالرزاق عن ابن جريج وقد تقدم.
(3) السُّباطة، بضم السين: الكناسة، أي الموضع الذي يرمى فيه التراب والأوساخ وما يكنس من المنازل.ا.هـ. لسان.
(4) أخرجه الستة إلا الموطأ. وفي رواية للنسائي والترمذي عن عائشة قالت: من حدثكم أن النبي ً كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً. ورواية النسائي إلا جالساً. وفي رواية أخرى عن عائشة: ما بال قائماً منذ أنزل عليه القرآن.
(5) هذا الحديث مروي عن سراقة ولفظه قال: علمنا رسول اللّه ً إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسار. أورده في الجواهر وقال: حكاه في الشفاء والمهذب، وعزاه في التلخيص إلى الطبراني والبيهقي من طريق رجل من بني مدلج عن أبيه قال: مر بنا سراقة فذكره..ا.هـ.
الأدب الخامس عشر: يكره للرجل أن يطيل القعود عند قضاء الحاجة لما حكي عن لقمان أنه قال: لا تطل القعود فإن ذلك يلزم منه وجع الباسور، ولأن في ذلك حصول الاسترخاء في المقاعد بطول الإقامة على قضاء الحاجة، وقيل: إنه يلزم منه وجع الكبد.
الأدب السادس عشر: ويكره في حال اشتغاله بقضاء الحاجة أن يحمد اللّه إذا عطس، وأن يجيب المؤذن إذا سمعه وأن يقول مثل قوله، لقول الرسول ً: (( أكره أن أذكر اسم اللّه إلا على طهر )).
الأدب السابع عشر: ويستحب لمن قضى حاجته أن يتنحنح عند البول ويمسح ذكره ثلاث مرات، لما روي عن الرسول ً أنه قال: (( إذا بال أحدكم فليمز ذكره ثلاث مرات ))(1). ولأن ذلك يكون أقرب لخروج ما بقي من البول إن كان هناك بقية.
الأدب الثامن عشر: ويكره للرجل أن ينظر إلى ما يخرج منه عند قضاء حاجته، من جهة أن إدمان النظر إلى الأشياء النجسة يضعف النظر كما أن إدمان الشم للرائحة الخبيثة يضعف القوة(2).
الأدب التاسع عشر: يكره للرجل أن يبصق على ما يخرج منه فقد قيل: إنه يورث الوسواس، ولأنه يورث غثياناً، وعيفة في النفس.
__________
(1) أورده في الاعتصام نقلاً عن الجامع الكافي في قوله ً: ((إذا بال أحدكم فلينتتر ثلاثاً)). وفي رواية أخرى: ((فلينتر ذكره ثلاثاً)). أخرجه أحمد وابن ماجة والبيهقي وأبو داود.
(2) قوة حاسة الشم.
الأدب العشرون: ويستحب لمن أراد قضاء حاجته ومعه غيره أن ينحيه عنه، لما روي عن النبي ً أنه خرج يوماً لقضاء حاجة ومعه أنس بن مالك، فلما أراد الاشتغال بقضاء الحاجة قال: (( تنح عني يا أنس ))(1). ولأن ذلك(2) يناقض المروءة من جهة أنه لا يأمن عند قضاء الحاجة من صوت يُسمع منه، وليس من المروءة سماع الغير له واطلاعه عليه. فهذه الآداب كلها متعلقة بحال الاشتغال بقضاء الحاجة. والله أعلم بالصواب.
__________
(1) يؤيده ما روي عن جابر أن النبي ً كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. أخرجه أبو داود. وعن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع رسول اللّه ً في سفر، فأتى حاجته فأبعد في المذهب. قال في الجواهر: هذه رواية الترمذي، ولأبي داود والنسائي نحوه. ا.هـ.
(2) يعني قضاء الحاجة وبجانبه غيره.
---
القسم الثالث: في بيان ما يتعلق بالآداب بعد الفراغ منها
وجملة ما نذكره من ذلك آداب ستة:
الأدب الأول: يستحب لمن فرغ من قضاء حاجته [أن] يقول: الحمد لله الذي أذهب عني ما يضرني وأبقى لي ما ينفعني.
الأدب الثاني: يستحب لمن فرغ من قضاء حاجته في العمران، أن يقدم رجله اليمنى عند الخروج من الخلاء؛ لأن الخروج من الحشوش المحتضرة بالشياطين فضيلة، فلهذا كانت اليمين مقدمة فيها على اليسار بخلاف الدخول فقد قدمنا أنه على العكس من ذلك.
الأدب الثالث: يستحب لمن فرغ من قضاء حاجته أن يقول: غفرانك. لما روت عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه ً إذا فرغ من قضاء حاجته يقول: (( غفرانك))(1).
ووجه التخصيص في طلب المغفرة عقيب الخروج من قضاء الحاجة: إما لأنه لا يأمن التفريط في كشف العورة في الزيادة على مقدار ما تدعو إليه الضرورة، وكشفها لا محالة معصية، وإما من جهة أن هذه الحشوش محتضرة وهي أمكنة الشياطين فلا يمتنع أن يكون قد زاد في الوقوف فيها على مقدار الحاجة، فيكون ذلك وقوفاً في أمكنة الشياطين لغير حاجة، فيكون محتاجاً إلى مغفرة تلك الخطيئة، فهذا هو الوجه في اختصاص الدعاء بالمغفرة عند الخروج من الخلاء.
الأدب الرابع: يستحب لمن فرغ من قضاء حاجته أن لا يلين معاطفه للنهوض إلا بعد تستره وتلفعه بأثوابه، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( احفظ عورتك إلا عن زوجتك أو ما ملكتَ))(2). والكشف للعورة يعرض كثيراً عند قضاء الحاجة؛ فلهذا كان الاستحباب فيه أكثر من غيره لما ذكرناه.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي.
(2) أخرجه أبو داود والترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه، عن جده، قال: قلت يا رسول اللّه، عوراتنا، ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك...)) الحديث. أورده في الاعتصام ج4/426.
الأدب الخامس: يستحب لمن فرغ من قضاء الحاجة أن يستجمر بثلاثة أحجار، لما روته عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه ً: (( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بها فإنها تجزئ))(1). وسنقرره في باب الاستنجاء بمعونة اللّه تعالى.
الأدب السادس: يستحب لمن فرغ من قضاء حاجته أن يستنجي بالماء، لما روى أنس بن مالك (( أن رسول اللّه ً دخل حائطاً وتبعه غلام معه ميضاة، وهو أصغر إناء، فوضعها عند السدرة فقضى حاجته فخرج إلينا وقد استنجى بالماء))، ولا يجب ذلك لغير الصلاة. فأما وجوبه للصلاة فسنفرد فيه كلاماً يخصه عند الكلام في الاستنجاء بمعونة اللّه تعالى، فهذا ما أردنا ذكره في بيان الآداب المتعلقة بقضاء الحاجة، ونندفع الآن في كيفية الاستجمار وذكر خصائصه، والله الموفق.
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي، وفي روايتهما: ((.. يستطيب بهن فإنها تجزيه)).
---
الباب الرابع: في بيان حكم الاستجمار(1)
اعلم أن الاستجمار خاص في التطهير بالأحجار، والاستنجاء عام فيهما جميعاً، أعني: الاستجمار بالأحجار والاستنجاء بالماء. والاستجمار هو الاستجمار بالأحجار، واشتقاقه من أحد وجهين:
أحدهما: أن يقال: الجمرة هي الحصاة الصغيرة، وعلى هذا يكون الاستجمار استفعال من الجمرة، وهي استعمال الأحجار في تنقية النجاسة.
وثانيهما: أن يكون اشتقاقه من قولهم: جمرت النخلة إذا قطعت جمارها، فلما كان الاستجمار بالأحجار يقطع أثر النجاسة ويزيلها سمي استجماراً أخذاً له من ذلك، وكلا الوجهين لا غبار عليه، خلا أن الوجه الأول أقرب لمطابقته في لفظه، ومنه رمي الجمار أي رمي الأحجار الصغار من يدك إلى الجهة المعلومة. والاستجمار بالأحجار بعد الفراغ من قضاء الحاجة مستحب عند أئمة العترة، وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ولا يعرف خلاف في استحبابه.
والحجة على ذلك: ما روى خزيمة بن ثابت (2)
__________
(1) هذا الباب كما يلاحظه المطَّلع أقرب إلى أن يكون فصلاً من باب قضاء الحاجة السابق له، لأنه احتوى مسألتين فقط، ولم يتضمن أي فصل، ولأنه قبل كل هذا داخل في الموضوع العام لسابقه. إلا إذا أخذنا في الاعتبار أن الاستجمار باب مستقل بذاته؛ لأن بعض المؤلفين في الفقه والحديث صنفوه باباً مستقلاً.
(2) أبو عمارة خزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري الخطمي، صحابي جليل، قيل: إنه لم يشهد بدراً وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد. كان صاحب راية خطمة يوم الفتح، وكان مع علي عليه السلام يوم الجمل، ويقال: إنه كف سلاحه وما زال كذلك يوم صفين حتى قُتِل عمار رضي اللّه عنه فسل سيفه وقاتل حتى استشهد. (وكان قد شهد لرسول اللّه ً على أعرابي في قيمة بعير. فلما سأله الرسول ً كيف شهد وهو لا يعلم؟ قال: قد صدقناك يا رسول اللّه في أخبار السماء أفلا أصدقك في ثمن بعير! فقال رسول اللّه ً: (( من شهد له خزيمة فهو حسبه )).
فأصبحت شهادته بشهادتين وعرف بعد ذلك بذي الشهادتين). (در السحابة 657).
قال: سئل رسول اللّه ً عن الاستطابة فقال: (( بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ))(1). وفي حديث آخر: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن ))(2). وهذان الخبران دالان على كونه ندباً، وروت عائشة رضي اللّه عنها عن الرسول ً أنه قال: (( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهن )).
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال: قال رسول اللّه ً: (( إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب)))) .
وتقرير الدلالة من هذه الأحاديث على الاستحباب من وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن ظاهر الأمر وإن كان للوجوب لكن الإجماع منعقد على كونه مستحباً، فيجب حمله على الاستحباب لأجل هذه القرينة، وهذا هو الذي نصرناه في الكتب الأصولية بالأدلة، وقررنا قاعدة فهم الوجوب من ظاهره.
وثانيهما: أنا نقول: الأمر حقيقته الطلب لا غير، وهو نص فيه، فأما كون ذلك الطلب مانعاً من النقيض فيكون واجباً، أو غير مانع عن النقيض فيكون مندوباً، فإنما يُعلم بدلالة منفصلة غير ظاهرة، وإذا كان الأمر فيه كما قلناه، فظاهر هذه الأخبار الأمر، فيجب أن يكون مطلوباً وأدنى درجات الطلب هو الندب، فمن أجل ذلك قضينا بكونه مندوباً، فالحق أن مطلق الأمر نص في الطلب لا محالة، فأما كون ذلك المطلوب مندوباً أو واجباً فيحتاج إلى دلالة منفصلة لما يعرض من دلالته على الندب أو على الوجوب من الاحتمال(3)، فأما كونه للطلب فلا يعرض فيه شيء من الاحتمال.
__________
(1) جاء في الحديث المشهور عن سلمان أن رسول اللّه ً نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم. أخرجه أبو داود والترمذي. وهو مروي بعدة ألفاظ ومن عدة طرق.
(2) أورده في البحر والجواهر وحكاه في أصول الأحكام والشفاء.
(3) لعل صواب العبارة أن يقال: لما يعرض من احتمال في دلالته على الندب أو الوجوب.
مسألة: وهل يكون الاستجمار بالأحجار واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه ليس واجباً، وهذا هو قول أئمة العترة لا يختلفون فيه وهو رأي أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: ما قررناه من قبل من الأخبار فإنها دالة على الندب، إما بطريق الإرشاد كقوله: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن)).
وإما بطريق الأمر كما رويناه عن عائشة وابن عباس، والإجماع منعقد على استحبابه، فلهذا وجب حمل الأمر عليه إذ لا دلالة على حمله على الوجوب. ولا يكفي ظاهر الأمر في وجوبه فإن الأمر إنما يدل بظاهره على مطلق الطلب لا غير وهو ساكت عن الوجوب والندب إلا بدلالة خارجة عن ظاهره.
والحجة الثانية: قياسية، وهو أنها نجاسة فلم تجب إزالتها بالأحجار، أو نجاسة فعفي عنها لعدم الإيجاب كالدم اليسير.
المذهب الثاني: أن إزالتها واجب(1) بالأحجار، وهذا هو مذهب الشافعي.
والحجة على ذلك: ظواهر تلك الأخبار التي رويناها فإنها موجهة بصيغة الأمر، والأمر للوجوب بظاهره ومن ادعى خلاف ظاهره أقام دلالة على ذلك.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من عدم الوجوب فيه لما قالوه، ونزيد هاهنا وهو أنا لو قدرنا وجوبه كما زعموه لم يكن إلا من أجل الصلاة، وكون العبد مأخوذاً بالتطهر لأدائها، والماء كاف عندنا في وجوب الإزالة، فلا حاجة إلى إيجاب إزالته بالأحجار كما ظنوه، وسنقرر وجوب الإزالة بالماء عند الكلام في إيجاب الاستنجاء بمعونة اللّه تعالى.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في وجوبه.
قالوا: ظواهر الأوامر التي وردت في الاستجمار دالة على الوجوب فيجب القضاء بظواهرها من غير حاجة إلى تأويلها.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن ظاهر الأمر للوجوب وإنما ظاهره اقتضاء الطلب من غير تعرض لوجوب ولا ندب، وإنما يُعلمان من دلالة منفصلة على مطلقِهِ.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل المؤلف اعتبر كلمة (واجب) صفة لخبر محذوف تقديره (أمر واجب).
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن ظاهره دال على الوجوب لكنا نخصه بدلالة القياس، وهو أن المقصود هو رفع النجاسة للصلاة، والماء هاهنا كاف عن الأحجار فلا حاجة بنا إلى إيجابها، فبطل ما توهموه.
قالوا: نجاسة لا تلحق المشقة بإزالتها فتجب إزالتها كما لو كانت متفاحشة في الكثرة والتقذير.
قلنا: إن هذه لها مزيل وهو الماء عندنا فلا تجب إزالتها بالإحجار، وما ذكروه إنما يكون وجهاً في الوجوب إذا كان على رأيهم في عدم وجوب الاستنجاء بالماء وسنقرر وجوبه.
التفريع على هذه المسألة:
الفرع الأول منها: لا يجوز الاستجمار بعظم ولا روث عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو هريرة عن النبي ً، (( أنه نهى عن الاستجمار بالروث والرِّمة ))(1)، وفي حديث جابر: (( نهى النبي ً أن يُستنجى بعظم أو بعر )).
وحكي عن أبي حنيفة أنه جوز ذلك خلا أنه قال: إنه يكره.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود من ذلك التخفيف، وذلك يحصل بالعظم والروث.
__________
(1) الرِّمَّة بكسر الراء: العظام البالية، وبضمها: ما بقي من قِطَعِ الحبل. والمقصود هنا الأول. ا.هـ لسان (ملخصاً).
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من حظره ويدل عليه ما قالوه، ونزيد ههنا، وهو ما رواه عبدالله بن مسعود قال: قدم وفد من الجن على رسول اللّه ً فقالوا: يا محمد انْهَ أُمتك أن يستنجوا بعظم أو روث أو حممة فإن اللّه جعل لنا فيها رزقاً، فنهى عنه الرسول ً. وقوله عليه السلام حين ألقى الروثة: (( إنها ركس ))(1)، وفي حديث آخر أنه قال: (( إنها رجس )) وفيه دلالة على أن كل ما كان نجساً فلا يجوز الاستنجاء به، وروي عنه عليه السلام أنه نهى عن الاستجمار بالعظام وقال: (( إن فيه طعاماً لإخوانكم من الجن ))(2)، ومن جهة أن الروثة نجس فلا تزال به النجاسة كالماء النجس، ومن جهة أن العظم من جنس ما يتطعم به فلا يجوز الاستجمار به كاللحم، وفي حديث أبي هريرة أنه قال: (( نهانا رسول اللّه ً أن نستنجي برجيع أو عظم ))(3)، وفي حديث سلمان: أنه نهى عن الاستجمار بالروث والرِّمة(4). فهذه الأخبار كلها دالة على المنع من الاستجمار بالروث والعظم، وما كان ممنوعاً منه فلا وجه لجوازه.
__________
(1) تقدم في النجاسات. والركس: رجيع الدواب أو شبيه بالرجيع وهو الروث، ومنه رَكَسْتُهُ بمعنى: رَدَدْتُهُ.ا.هـ لسان (ملخصاً).
(2) عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه ً: ((لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن))
قال في الجواهر: هذه رواية الترمذي. وفي رواية للنسائي: ((إن رسول اللّه ً نهى أن يستطيب أحدكم بعظم أو روثة)).
(3) عن أبي هريرة قال: اتبعت النبي ً وقد خرج لحاجته فكان لا يلتفت، فدنوت منه فقال: ((ابغني أحجاراً أستنفض بها ولا تأتني بعظم ولا روثة)).
(4) ولفظ الحديث: عن سلمان قيل له: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل..لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في ذلك.
قالوا: المقصود من الاستجمار هو تخفيف النجاسة عن القبل والدبر، وهو حاصل بالعظم والروث، فيجب القضاء بجوازه مطلقاً.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه إنما كان صحيحاً لو لم يرد الشرع بالمنع منه، فأما مع كون الشرع قد منع منه بما ذكرناه من هذه الأخبار، فلا وجه لما قالوه من أن المقصود منه التخفيف.
وأما ثانياً: فلأن ما قالوه يبطل بالماء النجس فإنه يحصل منه(1) التخفيف من النجاسة، ولم يجز استعماله بحال.
قالوا: النهي عنه إنما كان من أجل حق الغير وهو أنه زاد للجن، وما هذا حاله فإنه يجوز استعماله كالماء المغصوب فإنه يجوز التوضؤ به لما كان متعلقاً بحق الغير.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم صحة الوضوء بالماء المغصوب، وقد قدمنا المسألة وذكرنا ما فيها فأغنى عن الإعادة.
وأما ثانياً: فلأنه لم ينه عنه لأجل تعلق حق الغير به، وإنما نهي عنه لعينه وهو أنه طعام، والماء المغصوب نهي عنه لحق الغير فافترقا، فبطل الاستجمار بالعظم من جهة كونه طعاماً، ولهذا فإنه لا يجوز الاستجمار به للمالك له، ويبطل الاستجمار بالروث لما كان نجساً فأشبه الماء النجس.
الفرع الثاني: هل يعتبر العدد فيما يستجمر به أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير معتبر، وعلى هذا يجوز بالحجر الواحد والحجرين ولا يجب ذلك، وهذا هو الظاهر من مذهب القاسم والهادي فإنهما لم يذكرا في ذلك عدداً منحصراً، وهو محكي عن أبي حنيفة ومالك.
والحجة على ذلك : ما رواه أبو هريرة عن الرسول ً أنه قال : (( من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ))(2).
فأطلق الوتر ولم يقيده بالثلاث، وفي ظاهره دلالة على جواز الاستجمار بالحجر الواحد لكونها وتراً.
__________
(1) في الأصل: فإنه يحصل من التجفيف في النجاسة.
(2) أخرجه أبو داود، وأورده في البحر.
الحجة الثانية: من جهة القياس، وهو أنه إزالة النجاسة عن السبيلين فلا يُشترط فيه عدد كالماء.
المذهب الثاني: أنه لا بد من رعاية العدد وهو الثلاثة، وهذا هو الذي حصله السيد أبو العباس من مذهب الهادي حيث قال: الاستجمار بالأحجار يستحب، وقال: ثم يمسح بأحجار، والأحجار جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما رواه سلمان الفارسي عن رسول اللّه ً أنه قال: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن)). وحديث خزيمة بن ثابت عن رسول اللّه ً قال: سئل رسول اللّه ً عن الاستطابة فقال: (( بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع)). وإلى اعتبار العدد في الاستجمار يشير كلام الناصر.
والمختار: ما قاله السيدان الأخوان من عدم اعتبار العدد في الاستجمار لما قالوه، ونزيد ههنا، وهو خبر عبدالله بن مسعود ليلة الجن، أنه جاءهُ بحجرين وروثة فألقى الروثة وقال ً: (( إنها ركس)). واقتصر على حجرين، فدل ذلك على عدم اعتبار العدد. ومن جهة القياس، وهو أن المقصود بالاستجمار إنما هو تنقية النجاسة فوجب أن لا يُعتبر فيه العدد كالماء.
الانتصار: يكون باعتراض ما أوردوه من ذلك.
قالوا: الأخبار التي رويناها فيها دلالة على اعتبار العدد.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن لهذه الأحاديث التي رووها في اعتبار العدد ظاهراً معتمداً عليه في اختيار العدد، من جهة أن هذه الأخبار ظاهرها دال على استعمال الأحجار الثلاثة في السبيلين جميعاً وهم لا يقولون بذلك، وإنما يستعمل لكل واحد منهما ثلاثة أحجار على الوجوب، ومن جهة أنهم قد قالوا: بجواز الاستجمار بالحجر الواحد له ثلاثة أحرف وليس في ظواهر الأخبار ما يُشعر به، فبطل تعلقهم بظواهر هذه الأحاديث فيما زعموه من اعتبار العدد.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن لها ظاهراً في العدد فإن ذلك إنما كان معتبراً على جهة العرف، وهو أن الثلاثة هي النهاية في التطهير، فذكر العدد من أجل ذلك لا من جهة كونه مرعياً على جهة الوجوب.
قالوا: قد نص على العدد فيما رويناه من تلك الأخبار، ولا يجوز أن تكون النصوصية فيها من جهة الإنقاء، فإن ذلك غير مختص بالثلاثة، وإذا بطل ذلك دل على أن اعتبار العدد من جهة التعبد كالعدد في العدة، فلهذا وجب التزامه.
قلنا: ليس المقصود في العدة براءة الرحم، ولهذا فإنه لو قال: إن تيقنت براءة رحمك فأنت طالق، وجبت عليها العدة، فلهذا كانت جارية على جهة التعبد بخلاف ما ذكرناه في الاستجمار فإن المقصود هو التنقية والتطهير، وهما حاصلان من غير اعتبار عدد، فبطل ما توهموه.
والاستجمار مشروع في السبيلين كليهما عند أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يختلفون في ذلك.
والحجة على ذلك: هو أن الظواهر من الأخبار الدالة على الاستجمار لم تفصل بينهما كقوله ً: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن ))
وهكذا حديث سلمان وحديث خزيمة بن ثابت، فدل ذلك على استوائهما. ومن جهة القياس وهو أن الغرض بالاستجمار إنما هو تقليل النجاسة، وهذا عام فيهما جميعاً، ولأن النجاسة خارجة منهما جميعاً فوجب استواؤهما في التطهير بالأحجار، ولأنه لو وقع تردد فإنما يكون في القبل لما كانت النجاسة فيه مائعة ليس لها أثر يلصق بمحلها، والقياس جامع بينهما من جهة أن القبل أحد السبيلين خارج منه نجاسة لا يعفى عنها فاستويا في الحاجة إلى الأحجار كالدبر.
الفرع الثالث: وهل يكون المدر وغيره قائماً مقام الحجر؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجوز بغَير الحجر كالتراب والعود واللِّبْن المطبوخ وغير ذلك، وهذا هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال : (( إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار أو ثلاثة أعواد أو ثلاث حثيات من تراب)) .
رواه الدارقطني في مسنده ولم يذكره أبو داود. ومن جهة القياس وهو أن المقصود تقليل النجاسة وهذا حاصل بغير الحجر كحصوله بالحجر، ولأنه جامد لم يعرض فيه ما يوجب الكراهة من كونه طعاماً ولا من جنس ما يتطعم فأشبه الحجر.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز بغير الحجر، وهذا هو المحكي عن زفر، وأحمد بن حنبل، وداود وطبقته من أهل الظاهر.
والحجة على ذلك: ما تكرر في لفظ الأحاديث من اعتبار الأحجار، كحديث أبي هريرة وحديث خزيمة وغيرهما من الأحاديث فإنها دالة على تخصيص الحجر من بين سائر الأشياء الجامدة، ولا يجوز أن يقال: إنما نص على الأحجار من أجل التنقية؛ لأن ذلك غير مختص بها فلم يبق إلا أن يقال: قصد به التعبد كرمي الجمار.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من فقهاء الأمة، وذلك لحديث ابن عباس الذي اختص به الدارقطني (1) في مسنده، والحديث وإن انفرد به واحدٌ من المحدثين فإنه مقبول باتفاق، ولأن ابن مسعود رضي اللّه عنه أتاه بحجرين وروثة فرد الروثة ولم يردها إلا من أجل النجاسة، ولهذا قال ً: (( (( إنها ركس)) )) ،
ولو كان عوضها عوداً أو غير ذلك من الأمور الطاهرة المخالفة للحجر لَقَبِلَهُ، ولهذا علل الرد بالنجاسة فدل على ما قلناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
__________
(1) هو أبو الحسن علي بن عمر البغدادي المعروف بالدارقطني إمام عصره في الحديث، وأول من صنف القراءات ووضع لها أبواباً. ولد سنة 306هـ بدار القطن (محلة كبيرة ببغداد). رحل إلى الشام ومصر، وروى عنه خلق وأئمة. وعاد إلى بغداد وتصدر للإقراء بها إلى أن مات سنة 385هـ. من كتبه: (السنن)، و(المختلف والمؤتلف) في الحديث و(العلل الواردة في الأحاديث النبوية). ا.هـ. ملخصاً من طبقات الشافعية لابن هداية اللّه ص102.
قالوا: أكثر الأحاديث على مراعاة الحجر، وفي هذا دلالة على أن المقصود إنما هو التعبد دون التنقية؛ لأنها حاصلة بغير الحجر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الاستجمار ليس من باب العبادة فيقال: إنه قصد به التعبد، ولهذا فإنه يصح ممن ليس مكلفاً كالمجنون والصبي بخلاف ما قالوه من رمي الجمار فإنه من باب العبادة، فأمكن أن يقال: فيه خصوصية الحجر لما كان عبادة فافترقا.
وأما ثانياً: فلأن السابق إلى الفهم من كون الاستجمار مشروعاً إنما هو من أجل التنقية، وهذا حاصل بغير الأحجار كحصوله بها، وليس العجب من إنكار داود وطبقته للاستجمار بغير الأحجار؛ لكونهم قد أصروا على إنكار القياس والتطلع إلى محاسن الشريعة في استنباط المعاني الدقيقة واللطائف المخيلة، فلأجل هذا جمدوا على النصوص والظواهر من غير تعرض لمعانيها، وإنما العجب ممن اعترف معنا بالقياس من علماء القياسيين كزفر وأحمد بن حنبل حيث لم يفهموا المعنى مع كونه سابقاً إلى الأفهام، وأصروا على الجمود على هذه الظواهر مع اشتمال المعاني على تسمير الأحكام بمسامير المصالح، وتضبيبها بضباب(1) المحاسن فلا عذر لهم في ذلك.
الفرع الرابع: إذا تقرر جواز الاستجمار بغير الأحجار بما ذكرناه، فلا بد من اعتبار كونه جامداً طاهراً منقياً غير مطعوم لا حرمة له ولا جزءاً من حيوان. فهذه شروط ستة لابد من إحرازها والإشارة إلى تفاصيلها:
الشرط الأول: أن يكون جامداً، فإن استجمر بمائع غير الماء كالخل واللبن والعسل وغيرها لم يجز من جهة أن النجاسة لا تزول عندنا بغير الماء من سائر المائعات، وقد قررناه من قبل فلا نعيده، ولأن ذلك يؤدي إلى التلوث بالنجاسة وكثرتها، فلا يجوز استعماله للوجه الذي ذكرنا.
__________
(1) الضبة: حديدة عريضة يضبب بها الباب والخشب، والجمع ضِبَاب. ا.هـ. لسان.
الشرط الثاني: أن يكون ذلك الجامد طاهراً، فلا يجوز الاستجمار بالروثة والعذرة لما قدمناهُ من قبل من نهي الرسول ً عن الاستجمار بالأشياء النجسة، فإن استجمر بالآجر جاز ذلك؛ لأن النجاسة قد ذهبت أجزاؤها بالنار وصار مستحجراً، وإن استجمر باللِّبْنِ الذي لم يطبخ نظرت، فإن [كان] خلطه من الأمور الطاهرة كالتبن وروث ما يؤكل لحمه جاز الاستجمار به، لكونه جامداً طاهراً، وإن كان خلطه مما يكون نجساً أو كان مضروباً بالأمواء النجسة كأبوال بني آدم، أو بالخمر أو غير ذلك، فلا يجوز الاستجمار به، فإن غسل ولم تكن النجاسة مرئية فيه طهر وجاز الاستجمار به لطهارته. وإن استجمر بحجر قد استجمر بها هو أو غيره لم يجز ذلك لنجاستها فهي كالروثة والقطعة من العذرة، فإن غسلت(1) جاز الاستجمار بها لطهارتها إذا غسلت بالماء القراح، فإن غسلت بالخَلِّ وماء الورد لم يجز الاستجمار بها؛ لأن النجاسة لا تزول بغير الماء. وحكي عن بعض أصحاب الشافعي جواز ذلك، لقوله ً: (((( الأرض تطهر بعضها بعضاً)).
ولأن المقصود إزالة عين النجاسة وقد زالت، فإن جفت النجاسة بالريح أو بطلوع الشمس عليها لم يجز الاستجمار بها؛ لأن النجاسة باقية فيها كما مر بيانه، وإن استجمر بحجر ثم وجده وشك هل جرى عليه ما يطهره أم لا؟ لم يجز له أن يستجمر به لأن الأصل بقاء النجاسة فلا وجه لاستعماله، وإن رأى وشك هل قد استجمر به أو غيره جاز له الاستجمار به؛ لأن الأصل هو الطهارة فلا تعويل على الشك في ذلك، فإن استجمر بشيء نجس أو بمائع غير الماء كره له ذلك لما ذكرناه من النهي عن استعمال النجس، وهل يجزيه عن الاستجمار أم لا؟ فيه لأصحاب الشافعي وجهان:
__________
(1) يقصد الحجر المستعملة في الاستجمار، لا ما شبهها به من الروثة والقطعة من العذرة.
أحدهما: أنه لا يجزيه ولا بد من غسله بالماء، لأن هذه نجاسة من غير الخارج من السبيلين فلم يجزه إلا الماء كما لو وقعت نجاسة على موضع من بدنه في غير موضع الاستجمار.
وثانيهما: أنه يجزيه الأحجار، لأن هذه النجاسة تابعة للنجاسة التي على المحل، فلهذا زالت بزوالها. وهذا التردد للشافعية لما كان عندهم أن الاستجمار بالأحجار واجب، وأن الاستنجاء بالماء غير واجب في السبيلين كما سنوضحه بعد هذا بمعونة اللّه تعالى، فأما على رأي أئمة العترة من وجوب الاستنجاء بالماء، فإنه إذا استجمر بالحجر النجسة أو بمائع غير الماء كالخل وماء الورد جاز ذلك؛ لأن المقصود بذلك هو تقليل النجاسة وتخفيفها من القبل والدبر، وهذا حاصل بما ذكرناه. وإذا أراد الصلاة فلا بد من غسلها بالماء لكون الموضع نجساً فلا تكون طهارته إلا بغسله بالماء من بين سائر المائعات بخلاف تقليل النجاسات فإنه حاصل بما ذكرناه، فلا جرم حكمنا بجوازه مع تعلق الكراهة به لكونه نجساً.
الشرط الثالث: أن يكون الجامد منقياً، فإن كان غير منق كالزجاج والحديد الصقيل وما أشبهه لم يجز الاستجمار به لبعده عن الإنقاء ويؤدي إلى تكثير النجاسة وتلطخه بها، فإن استجمر بهذه الأمور الصقيلة عقيب الاستجمار بالأحجار جاز ذلك، وهو أحد قولي الشافعي. وله قول آخر: أنه لا يجوز.
والحجة على ما قلناه: هو أن معظم النجاسة قد زال بِجُرِّي الأحجار عليه فلهذا جاز إزالة ما بقي من أثرها بالأشياء الصقيلة، ويفارق ذلك ما إذا كان مستجمراً بالشيء الأملس من أول الأمر فإنه لا يجزيه ذلك؛ لأنه لا يحصل به رفع النجاسة وقلعها فافترقا. ويكره الاستجمار بالفحم عند أئمة العترة، وهو أحد قولي الشافعي وله قول آخر: أنه يجوز.
والحجة على ما قلناه: ما ورد في خبر عبدالله بن مسعود: (( انْهَ أُمتك أن يستنجوا بعظم أو روث أو حممة )).
.إلى آخر الحديث، وقد مر فلا وجه لتكريره.
الشرط الرابع: ألا يكون الجامد مطعوماً، وهذا نحو الخبز واللحم فلا يجوز الاستجمار بهما؛ وإنما لم يجز ذلك لأن اللّه تعالى رفع من قدرهما بأن جعلهما غذاء لبني آدم وصلاحاً لأجسامهم وقواماً لها. ولا شك أن الاستجمار بهما إهانة له(1) وحط من قدره، وتنجيسه يناقض هذه القاعدة، فمن أجل ذلك لم يجز الاستجمار بهما فمن استجمر بهما فقد أتى محظوراً ويأثم بما فعله وتجزيه التوبة عن المأثم، ويكفي ذلك عن الاستجمار؛ لأن المقصود هو الرفع للنجاسة والقلع لها، وهذا حاصل وإن فعل محظوراً، كما قلناه في الوطء في زمان العدة من غير رجعة فإنه وإن كان محظوراً لأجل الطلاق لكنه موجب للحل والرجعة كما سنوضحه.
__________
(1) بهما، أي بالخبز واللحم، إهانة له، أي للغذاء الخاص ببني آدم.
الشرط الخامس: أن لا يكون للجامد حرمة وتلك الحرمة، إما بالإضافة إلى كونه صلاحاً لمعاش بني آدم، وهذا نحو هذه البقول من الفجل والبصل والثوم وغير ذلك، وسائر الحشائش التي [فيها] مصالح الأدوية، وصلاح الأغذية؛ فإنها وإن لم تكن لها حرمة الخبز واللحم لكنها غير خالية عن حرمةٍ لما لها من الاتصال بالأغذية والتفكه لبني آدم؛ فلأجل هذا جرت مجرى السكر والسفرجل والرمان فلا يجوز الاستجمار بها لما قررناه، وإما بأن تكون حرمته لنفعه في الدين، وهذا نحو أن يستجمر بما فيه من الكتب قرآن، أو من حديث رسول اللّه ً، أو من علم الفقه أو علم التفسير أو غير ذلك مما يكون له تعلق بالدين ونفع فيه، فإنه لا يجوز الاستجمار به لما له من الحرمة التي رفع اللّه شأنها، وعظم قدرها وأمرها، وإما أن يكون شرفه لنفاسة ثمنه وعلو قدره، وهذا نحو الاستجمار بقطعة من ذهب أو فضة، أو نافجة مسك أو عنبر، أو قطعة ياقوت أو خرقة من ديباج، أو غير ذلك من الأشياء الغالية في أثمانها، فما هذا شأنه يكره الاستجمار به لما فيه من السرف والمخيلة، وقد نهي عن ذلك؛ فإن فعل ذلك كره له لما ذكرناه، ولا يلزمه إعادة الاستجمار؛ لأن الغرض المطلوب حاصل بما ذكرناه وهو قلع آثار النجاسة وقطعها.
الشرط السادس: ألاَّ يكون جزءاً من حيوان متصلاً به، وهذا نحو أن يستجمر بيده أو بيد الغير أو بذنب حمار أو عصفورة حية، فما هذا حاله لا يجوز له الاستجمار به لماله من الحرمة فأشبه العظم، وإن استجمر بقطعة من صوف نظرت فإن نتفها من حيوان بالقرب منه كره له ذلك لما فيه من إيلام الحيوان وإتعابه وإن حصلت في يده من غير إيلام للحيوان جاز ذلك؛ لأنها رافعة للنجاسة قالعة لأثرها فجاز بها كالحجر، ولا يجوز الاستجمار بجلد الميتة قبل الدبغ لكونه نجساً فأشبه الميتة والروثة، وإن دبغ لم يجز الاستجمار به عند أئمة العترة خلافاً للفقهاء فإنهم جوزوا ذلك لكونه طاهراً عندهم وقد قررنا حكم هذه المسألة فأغنى عن الإعادة، وقد حُكي عن الشافعي عن(1) حرملة والبويطي أن الاستجمار به غير جائز، وإن كان طاهراً؛ لأنه في معنى الرِّمة وقد نهي عنها، فما جمع هذه الشروط جاز الاستجمار به.
الفرع الخامس: في بيان ما يستجمر منه. ويستجمر من كل نجاسة خارجة من السبيلين ملوثة بالنجاسة معتادة كانت أو غير معتادة، فهذه شروط ثلاثة لا بد من بيانها:
الشرط الأول: أن تكون خارجة من السبيلين، وهذا نحو البول والغائط.
أما الغائط فالحجة على الاستجمار منه: ما روى أبو هريرة، عن الرسول ً: (( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستنج بثلاث)).
وأما البول فالحجة عليه :
ما روى ابن عباس رضي اللّه عنه عن النبي ً أنه مر على قبرين فقال : (( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه عن بوله)).
وفي رواية أخرى : (( لا يستبرئ )) .
فإن قال قائل : فكيف قال عليه السلام : (( وما يعذبان بكبير))؟
والمعذب لا يعذب إلاَّ على كبيرة إما كفراً وإما فسقاً، وكل واحد منهما معدود في الكبر، فكيف نفى عنه الكبر، وما كان صغيراً فلا عقاب عليه؟
فجوابه: أن يقال فيه تأويلان:
__________
(1) في الأصل: في حرملة والبويطي.
التأويل الأول: أن غرضه بقوله: (( وما يعذبان بكبير )) ,
أي عندهما، بل هي كبيرة عند اللّه تعالى، وإن ظناها صغيرة، فرب معصية يعتقدها العاصي صغيرة وهي عند اللّه كبيرة، ومثل هذا ربما يسنح في هذه المعصية، فإنه ربما وقع فيها التساهل لكثرة اعتيادها وتساهل أكثر الخلق فيما هذا حاله فيظنونه صغيراً وهو عند اللّه كبير، ويؤيد هذا أن مقادير الثواب والعقاب مستندها أمر غيبي عند اللّه تعالى فلا يؤمن أن يعتقد في بعض المعاصي الصغر وهو كبير عندالله تعالى.
التأويل الثاني: أن يقال: إن هذه المعصية صغيرة على ظاهرها، لكنه إنما عذب عليها لما لم يكن لصاحبها ثواب تكون مكفرة في جنبه، فلا جرم عوقب عليها؛ لأن المعاصي الصغائر مثل الكبائر في استحقاق العقوبة عليها، لكن دل الشرع على كونها مكفَّرة في جنب الثواب الذي يكثر عليها، فإذا فرض(1) من لا ثواب له يكفرها، استحق العقوبة عليها.
وتستجمر المرأة من دم الحيض؛ لأنه أدخل في التقذير من البول؛ ولأنه خارج من مخرج الحدث فأشبه البول، وأما دم الاستحاضة فلا فائدة في الاستجمار عنه لدوامه وتكرره.
وهل يُسْتَجْمَرُ من المني إذا خرج أم لا؟ فالذي يأتي على مذهب أئمة العترة أنه يستجمر منه لكونه نجساً كما قررناه من قبل فهو كالبول، فأما على رأي الشافعي فلا وجه للإستجمار منه؛ لكونه طاهراً حكاه ابن الصباغ في (الشامل)، ولا يستجمر من خروج الريح؛ لأنه لم يلحق المحل تلوث بالنجاسة لكونها طاهرة(2) فلا وجه للاستجمار منها.
__________
(1) بمعنى: إذا فعلها.
(2) الأقرب لكونها عديمة الأثر؛ لأن الطهارة والنجاسة لا يوصف بأيهما إلا ما كان محسوساً، بصرف النظر عن كونها ناقضة للوضوء عند أهل المذهب، فذلك ليس لنجاستها بل لخروجها من مخرج الحدث، ويؤكد هذا عدم وجوب الاستنجاء منها لدى كثير من الأئمة وجمهور الفقهاء.
وإن انفتحت نُقبة(1) من تحت السرة وانسد المسلك المعتاد فهل يتوجه الاستجمار أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه غير مشروع فيما هذا حاله؛ لأنها نجاسة خارجة من غير المعتاد فلم يستجمر لأجلها، كما لو خرج الدم والقيء من مواضعهما.
وثانيهما: أنه يتوجه الاستجمار؛ لأنه موضع يخرج منه الغائط فأشبه الدبر، وهذا هو الأقرب لأن الغرض المقصود في توجه الاستجمار إنما كان من أجل النجاسة ولا عبرة بالمخرج، فلهذا توجه الاستجمار وإن لم يكن من مخرجه المعتاد.
الشرط الثاني: أن يكون الخارج ملوثاً بالنجاسة، فإن خرجت حصاة من الدبر أو دودة أو بعرة نظرت، فإن كانت عليها رطوبة استحب الاستجمار؛ لأنها نجاسة خارجة من الدبر فأشبهت الغائط، وإن لم يكن عليها رطوبة لم يستحب الاستجمار على رأي أئمة العترة، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه يجب من ذلك الاستجمار.
والحجة على ما قلناه: هو أنه لا بلل يصحبها فلم يستحب منه الاستجمار كالريح الخارجة، وهو الأصح من قولي الشافعي، ويستحب الاستجمار من المذي والودي والدم الخارج من الذكر؛ لأن هذه الأمور كلها نجاسة خارجة من الإحليل فأشبهت البول، وإن خرجت رائحة من الذكر فلا وجه لاستحباب الاستجمار منها؛ لأنها طاهرة فأشبهت الريح الخارجة من الدبر.
__________
(1) هي بضم النون، وهي الفتحة التي يحدثها البيطار تحت سرة الدابة. ا.هـ لسان.
الشرط الثالث: [نجاسة](1) الخارج [من السبيلين] سواء كان معتاداً أو غير معتاد؛ لأن الاستحباب إنما هو معلق بالخارج النجس، وهذا حاصل في جميعهاً فلا فصل بين العذرة والدم، والدود والحصاة والبعرة إذا كانت ملوثة بالنجاسة، ولا فصل بين الدم والبول، والمذي والمني، فكل هذه الأشياء إذا كانت خارجة من القبل والدبر ملوثة بالنجاسة، فإنها يستحب منها الاستجمار من غير تفصيل بين أجناسها، والبحث عن النجاسات فيه صعوبة ويكفينا من ذلك تعليق الاستجمار بالخارج النجس على أي وجه خرج.
الفرع السادس: في كيفية الاستجمار بالأحجار. فليس فيه تقدير واجب على رأي أئمة العترة، وإنما المقصود منه تخفيف النجاسة وتقليلها، وكيفية الاستحباب في ذلك له وجهان:
أحدهما: أن يأخذ ثلاثة أحجار بيساره فَيُمِرَّ حجراً على صفحته اليمنى ثم يرمي به، ثم يأخذ حجراً فَيُمِرَّهُ على صفحته اليسرى ثم يرمي به، ثم يأخذ حجراً فَيُمِرَّهُ على المسربة ويرمي به.
و الحجة على ذلك : ما روى سهل بن سعد الساعدي (2) أن النبي ً قال : (( يكفي أحدكم إذا قضى حاجته أن يستنجي بثلاثة أحجار : حجرين للصفحتين وحجر للمسربة )) (3).
وليس ذلك يكون إلا على ما ذكرناه .
__________
(1) في الأصل أن الخارج سواء...إلخ وهو غير مستقيم؛ لأن المراد: نجاسة الخارج كما يوضحه ما بعده، ولعله سهو من الناسخ.
(2) أبو العباس سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري، من أعلام الصحابة، ورواة الحديث. روى عن النبي ً وعن عدد من الصحابة، روي عن الزهري، عن سهل أن رسول اللّه ً توفي وهو ابن 15سنة، وتوفي سنة 88هـ، على خلاف في ذلك. (تهذيب التهذيب ج4/221).
(3) هذا الحديث جاء في نجوم الأنظار، عن سهل بن سعد الساعدي أنه ً قال: ((يكفي أحدكم إذا قضى حاجته...)) إلخ. ورواه في الشفاء.
وثانيهما: أن يأخذ حجراً فيمره من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها ثم يديره إلى اليسرى من مؤخرها إلى مقدمها، ثم يأخذ حجراً ثانياً فيمره من مقدم صفحته اليسرى إلى مؤخرها ويديرهُ من مؤخر صفحته اليمنى إلى مقدمها ثم يأخذ الحجر الثالث فيمره على جميعها مع المسربة.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( تُقْبِلُ بحجر وتُدْبِرُ بحجر وتُحَلِّقُ بالثالثة ))(1).
وهذا هو الأحسن؛ لأنه مشتمل على استيعاب الأحجار الثلاثة في جميع مواضع الاستجمار،
كما أشار إليه ظاهر الحديث بقوله : ((فليستنج بثلاث أحجار)) . ولم يفصل في ذلك.
ويستحب أن لا يمس ذكره بيمينه، لما روى أبو قتادة عن النبي ً أنه قال: (( إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه ))(2).
ويكره له أن يستجمر بيمينه لما روته عائشة قالت: (( كانت يد رسول اللّه اليمنى لطعامه وشرابه، وكانت يده اليسرى للاستنجاء))
وكان الرسول ً يجعل اليمنى لما علا من الأمور كلها، ويجعل شماله لما دنى من الأمور كلها. ويكره له أن يستعين بيمينه على الاستجمار بالأحجار؛ لأن الأحاديث لم تفصل في الكراهة بين الانفراد والإستعانة باليمين، فإذا كان يريد الاستجمار من الغائط فإنه يأخذ الحجر بشماله ويستجمر بها وإن كان استجماره من البول نظرت، فإن كان الحجر كبيراً أوكان قريباً من الحائط والجدار فإنه يأخذ ذكره بشماله ويمسحه، وإن كان الحجر صغيراً أو أمكنه أن يضعه بين عقبيه أو أصابع رجليه فعل ذلك، وإن لم يمكنه ذلك جاز له إمساكه بيمينه حذراً من التلوث بالنجاسة لو أرسله، فمن أجل ذلك جاز استعمال يمينه(3).
__________
(1) رواه في الشفاء. ونحوه في المهذب.
(2) تمام الحديث: ((.. وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه)). رواه أبو داود. وللبخاري نحو منه
.
(3) جاز هنا بمعنى انتفاء الكراهة كما جاء في حديث عائشة وأبي قتادة.
الفرع السابع: والنساء كالرجال في استحباب الاستجمار من البول والغائط، من جهة أن التكليف واحد في حقهم وحقهن، وإنما وجه الخطاب إلى الرجال ليس من أجل اختصاصهم للحكم؛ ولكن من أجل الشرف وعلو القدر عند اللّه تعالى، وما ذكرناه في كيفية استجمار الرجل في الدبر فهو في حق المرأة على سواء من غير مخالفة بينهما، وأما كيفية استجمارها [في القُبُل] فإنه مختلف لأجل اختلاف المحلين فينظر في حالها، فإن كانت بكراً وأرادت الاستجمار بالأحجار من البول فإنها تمسح بالحجر تلك الثقبة ولا تتعرض لموضع البكارة؛ لأنه مسدود تحت ثقبة البول وقد لا يصل إليه البول، فإن قدر وصوله إليه فإنها تمسح بالحجر مسحاً رفيقاً موضع البكارة وإن لم تفعل ذلك فلا حرج عليها؛ لأنه يخاف من جُري الأحجار عليه جرحه وانفتاحه لأجل التكرار، وإن كانت ثيباً فإنها إذا قعدت للبول انفتح فرجها، فإذا بالت نزل البول إلى موضع البكارة. ومدخل الذكر ومخرج الولد ومخرج الحيض فيستحب لها مسح موضع البول وموضع البكارة بالأحجار، وإن استيقنت أنه لم ينزل البول إلى مخرج الحيض لم يستحب لها مسحه واقتصرت على مسح مخرج البول لا غير. فأما الخنثى المُشْكِلُ فإنه ينظر في حاله، فإن خرج البول من كلا فرجيه استحب له أن يمسحهما جميعاً بالأحجار؛ لأنهما في حقه كالمخرج الواحد في حق الصريح، وإن كان البول خارجاً من أحدهما فالمستحب مسحه دون الآخر؛ لأن المسح إنما يتعلق بالخارج، فإذا لم يخرج منه شيء فلا استحباب في مسحه، فأما استجماره بالأحجار في الدبر فهو سواء هو وغيره من الرجال والنساء في ذلك، وأما الاستنجاء بالماء فسنفرد له باباً على حياله نذكر فيه ما يتعلق به بمعونة اللّه تعالى.
الفرع الثامن: فإن مسح دبره بثلاثة أحجار فلم يحصل النقاء زاد رابعاً، لأن المستحب هو الإنقاء، لقوله عليه السلام: (( فليستطب )) وهذه إشارة إلى الاجتهاد في التنقية . فإن حصل النقاء بالرابعة استحب له أن يزيد خامسة ليحصل الوتر لقوله عليه السلام : (( من إستحجر فليوتر )) ، ويستحب له أن يزيد في عدد الأحجار الأوتار حتى يستيقن أنه لم يبق إلا الأثر اللاصق الذي لا يخرجه إلا الماء، فمتى انتهى إلى هذه الحالة فقد زال استحباب مسحه بالأحجار وتوجه بالماء كما سنوضحه، فإن حصل الإنقاء بحجرين لم يلزمه استيفاء الثلاث عند أئمة العترة، وهو محكي عن مالك وداود من أهل الظاهر، وقال أصحاب الشافعي: يلزمه استيفاؤها. وعن بعضهم مثل قولنا.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود بالاستجمار إنما هو التنقية، فإذا كانت حاصلة بدون الثالثة فلا حاجة إلى الثالثة؛ لأن الحجرين بالإضافة إلى الكفاية كالثلاث، فكما أنه لا حاجة إلى الرابعة مع الاكتفاء بالثالثة، فهكذا لا حاجة إلى الثالثة مع الاكتفاء بالحجرين والله أعلم. وإنما قلنا: لم يلزمه استيفاء الثلاث من جهة أن المقصود قد حصل بالثنتين فلا حاجة إلى غيرهما، وتستحب له الثالثة لأجل الوتر كما قلنا في الخامسة إذا حصلت التنقية بالرابعة، ولا يمتنع استحباب الشيء من وجه، وعدم استحبابه من وجه آخر.
الفرع التاسع: في بيان حكم الاستجمار بالأحجار، وقد ذكرنا في أول هذه المسألة أنه واجب مطلقاً على رأي الشافعي، وأنه ليس واجباً على الإطلاق على رأي أئمة العترة وأبي حنيفة، ومهدناه بالأدلة فأغنى عن الإعادة، والذي نذكره هاهنا، هو ما نعرض له من الأحكام باعتبار أحواله وذلك يقع على خمسة أوجه:
أولها: أن يكون واجباً، وهذا إنما يكون في حال عدم الماء، فيتطهر المحدث بالأحجار على جهة الوجوب على رأي أئمة العترة.
والحجة على ذلك: ما في خبر عائشة (رضي اللّه عنها): (( فليستطب بثلاثة أحجار ... ))
وقوله في خبر أبي هريرة : (( فليستنج بثلاثة أحجار )) والأمر هاهنا دال على الوجوب بقرينة، وهو أنه إذا كان عادماً للماء وأراد الصلاة بعد مجيئه من قضاء الحاجة فإن المأخوذ عليه التنقي من النجاسات والأقذار، ولن يكون كذلك إلا بما ذكرناه من الاستجمار بالأحجار الثلاثة، فلأجل هذا حملناه على الوجوب في هذه الأخبار بهذه القرينة.
وثانيها: أن يكون مستحباً، وهذا إنما يكون مع وجود الماء معه؛ لأن في الماء كفاية عن التطهير بالأحجار، لكن الأخبار وردت بالاستجمار فحملناها على الاستحباب، من جهة أن مطلق الأمر دال على الطلب، وأقل ما يطلب في الأوامر الشرعية أن يكون مستحباً، فلا جرم حملناه على الاستحباب.
وثالثها: أن يكون محظوراً، وهذا نحو أن يستجمر بالخبز أو باللحم أو غير ذلك مما يكون له حرمة عند اللّه تعالى، فما هذا حاله يكون محرماً يأثم فاعله، وإن فعله عالماً بقبحه استغفر اللّه تعالى من الإثم الذي واقعه.
ورابعها: أن يكون مكروهاً، وهذا نحو الاستجمار باليمنى لما رويناه من حديث عائشة، وحديث أبي قتادة في نهيه عن الاستجمار باليمين، وأقل مراتب النهي المنع، وأقل المنع الكراهة إلا لقرينة.
وخامسها: أن يكون مباحاً، وهذا نحو أن يحصل النقاء بالحجر الواحدة فيزيد الثانية أو يحصل بالثنتين فيزيد الثالثة(1) فإن كل ما زاد على مقدار التنقية فهو مباح في حقه إن شاء فعله وإن شاء تركه. فهذه هي أحكام الاستجمار بالإضافة إلى ما يعرض من أحواله.
__________
(1) تأنيث الحجر هنا يخالف الأصل فيه وهو التذكير، كما مر في كلام المؤلف وفيما أورده من الأحاديث ولم نقف على استواء التذكير والتأنيث فيه، ولعل تأنيثه جاء هنا باعتباره بمعنى الجمرة أو المسحة كما سبق في الفرع الثامن. والله أعلم.
الفرع العاشر: ليس المقصود من الاستجمار هو إزالة الأثر بحيث تزول عنه الرائحة، وإنما المقصود هو إزالة ما تناوله الأحجار من الآثار النجسة فأما زوال الرائحة فإنما يكون بالماء، والاستقصاء في الاستجمار إنما يليق بمذاهب الفقهاء، لأنهم لا يوجبون الاستنجاء بالماء، فأما على رأي أئمة العترة فإن الاستنجاء بالماء واجب لمن أراد الصلاة، فهو وإن وقع تقصير في الاستجمار فإن الماء يزيل ما كان متبقياً من تلك الآثار ويقطع مادة تلك الروائح.
مسألة: الذي عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة من الصحابة (رضي اللّه عنهم) والتابعين الأكثر منهم، على أن البول يكره من الإنسان قائماً.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً، (( أنه نهى أن يبول الرجل قائما ))،
وقد ذكرناه من قبل إلا من علة، وقد ذكرنا وجه الرخصة في ذلك من أجل العلة، وحكي عن أبي هريرة من الصحابة، وعن الشعبي (1) وابن سيرين (2) من التابعين، الترخيص في ذلك وإن لم يكن هناك علة.
__________
(1) أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبدالشعبي من همدان. كان فقيهاً، وراوية للحديث، وعالماً بالمغازي والسير. قال مكحول: ما رأيت أعلم بسنة ماضية من عامر الشعبي. وقال ابن سيرين لأبي بكر الهذلي: الزم الشعبي فلقد رأيته يستفتى وأصحاب رسول اللّه في الكوفة. مات سنة 104هـ، وقيل: سنة 107هـ. عن 82 سنة. (طبقات الفقهاء 82).
(2) ابن سيرين: أبو بكر محمد بن سيرين مولى أنس بن مالك، من فقهاء التابعين في البصرة، سمع أبا هريرة وابن عمر وابن الزبير وأنس بن مالك من الصحابة، روى عنه قتادة. سبى خالد بن الوليد أباه سيرين وبعث به إلى عمر بن الخطاب فوهبه لأبي طلحة، فوهبه أبو طلحة لأنس بن مالك فكاتبه على أربعين ألفاً (ثمن حريته) فأدَّاها. قيل عنه: كان ورعاً في الفقه، وفقيهاً في الورع. توفي في تسع من شوال سنة عشر ومائة للهجرة. (طبقات الفقهاء).
والحجة لهم على ذلك: ما روي عن النبي ً، (( أنه أتى سُباطة(1) قوم فبال فيها قائماً))،
وما روي عن أمير المؤمنين أنه بال قائماً، وروي عن عمر أنه فعل ذلك، فكل واحد من هؤلاء قد فعله وفيه دلالة على أنه غير مكروه؛ لأنه الظاهر فيما يفعل أنه على جهة الاختيار، ولا يقدم على كونه مفعولاً لعلة إلا لدلالة، ولا دلالة هاهنا على اعتراض مرض أو غيره من العلل في إباحة ذلك.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وغيرهم من فقهاء الأمة ويدل عليه ما قالوه، ونزيد ههنا، وهو أنه قد ورد تَأكِيْدان من جهة الشارع، وهو ما ذكرناه من نهيه عنه غير مرة، وروت عائشة قالت: (( ما بَالَ رسول اللّه ً قائماً منذ أنزل عليه القرآن)).
وعن عائشة أنها قالت: من حدثك أن رسول اللّه بال قائماً فلا تصدقه. وفي بعض الأحاديث: فكذبه(2). ومن جهة أن البول قاعداً أقرب إلى ستر العورة، ولأنه إذا بال قائماً لا يأمن من الترشيش ببوله، فهذه الأحاديث كلها دالة على المنع منه وكراهته.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في ذلك.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه أتى سُبَاطَةَ قوم فبال فيها قائماً، فظاهر هذا الحديث دال على الإباحة والإطلاق من غير عذر، فمن ادعى عذراً فيه فعليه إقامة الدلالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإن ما ذكروه دال على الإباحة والجواز، وما رويناه من الأحاديث دال على المنع والكراهة فيتعارضان، فإذا تعارضا فلا بد من الترجيح، ولا شك أن خبرنا قد عمل عليه أكثر الأمة من الصحابة والتابعين، فما هذا حاله فهو راجح على غيره ممن ليس له هذه الخاصة.
ومن وجه آخر: وهو أن خبرنا دال على الكراهة والمنع، وخبركم دال على الجواز، والعمل على الكراهة أحوط؛ فلهذا غَلَّبْنا جانب الكراهة، كما لو تعارض حديثان وأحدهما دل على الحظر. والآخر دال على الإباحة، كان جانب الحظر أحق كما مر غير مرة.
__________
(1) السُّباطة: الكناسة وقد سبقت.
(2) بقية الحديث السالف.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أنه لا تعارض بينهما، فإنه يمكن الجمع بينهما، وهذه طريقة مستقيمة عند النظار من الأصوليين أنه مهما أمكن الجمع بين الأخبار كان أحق من الحكم بالتعارض، لأن في الجمع بين الخبرين عملاً بهما معاً، وفي الترجيح والتعارض إهمال أحدهما والعمل على الآخر. وبيان طريقة الجمع بينهما هو أن نقول: إن خبرنا كان من غير علة بل كان مطلقاً، وخبركم كان من أجل علة كانت من وجع كان في مأبضه(1)، فلهذا بال قائماً، وإذا كان الأمر كما قلناه كنا قد عملنا على الحديثين جميعاً من غير إبطال لأحدهما.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) وعمر أنهما بالا قائمين، والصحابي إذا فعل فعلاً فليس للاجتهاد فيه مدخل، فإنما يفعله عن توقيف من جهة الرسول ً.
قلنا: إن كان احتجاجكم بعمل الصحابة لكونهم ناقلين له عن الرسول ً فما أجبنا به عن الخبر الأول أجبنا به عن الخبر الثاني من غير مخالفة، لأن مستندهما هو الرسول ً فجوابنا عليه ما مر، وإن كان احتجاجكم على ذلك من جهة كونه عملاً من جهة الصحابة (رضي اللّه عنهم) فعنه جوابان:
أما أولاً: فنقول: الصحابي ليس حجة معتمدة، وقد قررنا هذه المسألة في الكتب الأصولية.
وأما ثانياً: فنهاية الأمر أن يكون مذهباً للصحابي، ومذاهب المجتهدين لا تلزم بعضهم لبعض، وإنما المعتمد ما كان من جهة صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه.
قالوا: خبرنا وافق حكم العقل، وخبركم ناقل عما قضى به العقل من الإباحة، فخبرنا معتضد بحكم العقل فيجب أن يكون راجحاً على غيره.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن العقل إنما دل على الإباحة بشرط أن لا يرد مغير لحكمه، فليس دالاً على الإباحة مع وجود المغير، فكيف يكون عضداً للخبر وقوة مع أنه غير دال على ما دل عليه الخبر لما قررناه من كون دلالة العقل على الإباحة مشروطة بعدم المغير لها.
__________
(1) المأبض: الركبة أو المفصل من كل شيء وقد تقدم.
وأما ثانياً: فخبرنا ناقل عن حكم العقل، والعمل على الناقل أحق من العمل على المبقي، من جهة أن أحكام الشريعة أكثرها على الانتقال عن حكم العقل، والعمل على الغالب من عادة الشرع أحق من العمل على النادر، من جهة أن النادر لا حكم له لندوره وقلته. فهذا ما أردنا ذكره من حكم الاستجمار بالأحجار وما يعرض من آدابه، وبالله التوفيق.
---
الباب الخامس: في بيان حكم الاستنجاء بالماء
اعلم أن النجو هو جعر السبع(1)، والنجو أيضاً: ما يخرج من بطن ابن آدم، والاستنجاء: استفعال، وفي اشتقاقه وجهان:
أحدهما: أن يكون مأخوذاً من النجو. فيقال: نجا الغائط عن نفسه ينجوه نجواً، واستنجى إذا مسح موضع الغائط ومكان النجو أو غسله(2).
وثانيهما: أن يكون مأخوذاً من قولهم: نجوت الشجرة إذا قطعتها، وكأن الآدمي لما كان يقطع عن نفسه آثار تلك النجاسات، قيل لفعله ذلك: استنجاء، وكلا الوجهين لا غبار عليه خلا أن الوجه الأول أقرب إلى ملائمة الغرض ومطابقة المقصود. وقد حكي عن العتبي(3) أنه قال: إنه مأخوذ من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض؛ لأن من أراد قضاء الحاجة استتر بها، وهذا وإن كان محتملاً لَكِنْ فيه بعد، ويرى عليه أثر التكلف.
مسألة: الاستنجاء هو إزالة أثر الغائط والبول بالماء، ولا خلاف في أنه غير واجب لمن لم يرد الصلاة.
والحجة على ذلك: ما روت عائشة (رضي اللّه عنها) أن الرسول ً بال يوماً فقام عمر خلفه بكوز من ماء فقال: (( ما هذا يا عمر))؟ فقال: ماءٌ تتوضأ به، فقال: (( ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ فلو فعلت ذلك لكان سُنَّة))(4). فدلالته على سقوط الوجوب من وجهين:
__________
(1) جعر: بجيم مفتوحة فعين مهملة ساكنة، فراء مهملة: نجو كل ذات مخلب من السباع، وما تيبس في الدبر من العذرة. ا.هـ لسان.
(2) قال ابن منظور في لسان العرب: والنجو ما يخرج من البطن من ريح وغائط، وقد نجا الإنسان والكلب نجواً وأنجا فلان إذا جلس على الغائط. ويقال: أنجا الغائط نفسه ينجو. وفي الصحاح نجا الغائط نفسه، والنجو: العذرة نفسه، والاستنجاء والاغتسال بالماء من النجو والتمسح بالحجارة منه. ا.هـ لسان.
(3) بهذه النسبة عدة أشخاص. راجع الأعلام 4/201.
(4) أورده في نجوم الأنظار للعلامة عبدالله بن الحسن بن يحيى الهادي القاسمي، وفي الشفاء، وأخرجه أبو داود.
أما أولاً: فلأنه صرح أنه لو فعله لكان سُنَّة، وهذا يدل على أنه لو فعل لكان سنة فضلاً عن كونه متروكاً.
وأما ثانياً: فلأنه لو كان واجباً لم يتركه فلما تركه دل على عدم وجوبه.
فأما من أراد القيام إلى الصلاة فهل يكون واجباً في حقه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب على الرجال والنساء عند القيام للصلاة، وهذا هو رأي أئمة العترة لا يختلفون فيه، القاسمية والناصرية جميعاً، وهو رأي الإمامين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب. ومن الفقهاء من ذهب إليه كالحسن البصري، وأبي علي الجبائي، وابن أبي ليلى، وابن عللة، ومحكي عن الحسن بن صالح.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُم ْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَ مَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوْا مَاءً فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً}[النساء:43].
ووجه الاستدلال من هذه الآية: هو أن اللّه تعالى أوجب على من جاء من الغائط ألا يعدل عن الماء مع تمكنه منه وقدرته عليه، ولم يفصل في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين خارج وخارج، ولا بين قُبُل ودُبُر، وهذا يدل على صحة ما قلناه من وجوب الاستنجاء بالماء على الرجال والنساء لمن أراد الصلاة منهم وهو مطلوبنا.
الحجة الثانية: ما روى أبو أيوب الأنصاري، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك، وهو أنه لما نزل قوله تعالى: {فِيْهِ رِجَالٌ يُحِبُّوْنَ أَنْ يَتَطَهَّرُوْا واللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِيْنَ }[التوبة:108]. فقال رسول اللّه ً: (( إن اللّه أثنى عليكم يا معشر الأنصار في الطهور فما طهوركم؟ )) فقالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء. فقال: (( هو ذلكم فعليكموه )).
ووجه تقرير الحجة من هذا الخبر: هو أنهم لما ذكروا له الاستنجاء في الطهارة صوَّبه، وقال: (( هو ذلكم فعليكموه))(1). فكان دليلاً على الوجوب من وجهين:
__________
(1) أخرجه البزار عن عويمر بن خزيمة.
أما أولاً: فلأنه أدرج الاستنجاء مع الوضوء للصلاة والغسل من الجنابة، فلما كانا واجبين باتفاق فهكذا حال الاستنجاء إذ لا فارق بينها فعدم التفرقة بينها فيه دلالة على شمول الوجوب لها وهذا هو مرادنا.
وأما ثانياً: فلأنه قال: (( هو ذلكم فعليكموه)). فقوله: (( فعليكموه)). اسم فعل دال على الإغراء فكأنه قال: الزموه. كما يقال: عليك زيداً، أي الزمه. وعَليَّ زيداً أي أولنيه، وإذا كان متضمناً للأمر كما أشرنا إليه؛ فظاهر الأمر للوجوب عند أئمة العترة فحصل من ذلك: وجوب الاستنجاء.
الحجة الثالثة: ما روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: إن من كان قبلكم يبعرون بعراً وأنتم تثلطون ثلطاً(1) فأتبعوا الحجارة الماء(2).
ووجه تقرير هذه الحجة: هو أن الطهارات لا مجال للأقيسة فيها، ولا يضطرب فيها بالخطوات الوساع؛ لأجل ضيق مسالك المعاني والاشتباه فيها، وإنما مستندها يكون أمراً غيبياً. وإذا كان الأمر كما قلناه فيها فكلام أمير المؤمنين فيما ذكره إنما قاله عن توقيف من جهة الرسول ً. لما ذكرناه من ضيق مسالك الأقيسة عن الجُرِيِّ فيها، فلما فهم من جهة صاحب الشريعة الوجوب في غسل ما هذا حاله أطلق العبارة الدالة على الوجوب وهو الأمر، إذ لو لم يكن فاهماً للوجوب لما جاز له إطلاق ما يوهم الوجوب من غير دلالة، فهذا تقرير ما قاله أصحابنا في الدلالة على الوجوب.
__________
(1) ثلط: بثاء مثلثة فلام مفتوحين، سلح سلحاً رقيقاً. ا.هـ. لسان.
(2) رواه في الشفاء، وفي شرح التجريد. قال في نجوم الأنظار: وفيه عبدالملك بن عمير، هالك، وأشار إليه في النهاية. وأخرجه عبدالرزاق وسعيد بن منصور. ا.هـ ص31 . (خ).
المذهب الثاني: أن الاستنجاء بالماء غير واجب على الرجال والنساء، وهو المحكي عن ابن الزبير، وحذيفة بن اليمان، وسعد بن أبي وقاص ) من عيون الصحابة (رضي اللّه عنهم)، فإنهم لا يرون بوجوب الماء في غسل الفرجين، ومروي عن جماعة من التابعين، قال عطاء ): غسل الدبر محدث. وقال سعيد بن المسيب: ما يفعل ذلك إلا النساء، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه فإنهم متفقون على أن استعمال الماء غير واجب. ثم اختلف الفريقان في كيفية تقرير المسألة، فذهب أبو حنيفة وأصحابه، إلى أنها نجاسة معفوٌّ عنها إذا كانت غير متعدية للشرج فإن تعدته نظرت فإن زادت على قدر الدرهم وجب غسلها بالماء لا غير ولا يجزيه إزالتها بالحجر، وإن لم تكن متعدية للشرج وكانت في محلها كان معفواً عنها ولا يلزمه استعمال الحجر ولا الماء، ولا يجب عليه بحال، فإن فعل كان على طريق
__________
(1) أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص، مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري، صاحب رسول اللّه ً شهد بدراً والمشاهد كلها. روى عن النبي ً، وعن خولة بنت حكيم، وروت عنه: عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وآخرون. كان أحد الفرسان من قريش الذين كانوا يحرسون رسول اللّه ً في مغازيه، وهو الذي كوف الكوفة وتولى قتال فارس، وفتح القادسية، وكان أميراً على الكوفة لعمر وهو من أشهر رواة الحديث من الصحابة، توفي بقصره في العقيق وحمل إلى المدينة، ودفن في البقيع. واختلف في تاريخ وفاته. ولعل الأقرب أنه توفي عام 58هـ. عن 74 سنة. (تهذيب التهذيب).
(2) عطاء بن السائب بن مالك الثقفي ويقال: الكوفي. روى عن أبيه، وسعيد بن جبير والزهري، والحسن البصري، والشعبي وغيرهم. كان من كبار التابعين والفقهاء. وثقه أحمد بن حنبل، وضعفه ابن معين. قال العلامة الجرافي: قلت: كان في حفظه شيء.ا.هـ. توفي سنة 136هـ، روى له الأربعة والشيخان متابعة. (مقدمة الأزهار. تهذيب التهذيب).
الاستحباب لا غير، هذا ملخص مقالة أبي حنيفة وأصحابه، وأراد بالشرج هو غضون(1) المقعدة ومعاطفها وهو [من] شَرجَ بفتح الراء والجيم، والشين منقوطة من أعلاها، واشتقاقه: إما من شرج العيبة وهو عراها ينضم مرة وينفتح أخرى، وإما من شرج الوادي وهو منفسحه؛ لأن رأس المقعدة ضيق، والشرج ما كان منفسحاً منها إلى ما يلي الإلية، وإما من الشرج وهو اشتقاق في القوس؛ لأن المقعدة تنشق وتنفتح عند قضاء الحاجة. فهذه الاشتقاقات ممكنة في تسمية الشرج شرجاً والغرض هو ما ذكرناه. وأراد بالدرهم الذي قدر به النجاسة التي يعفى عنها في البدن والأثواب بموضع الاستنجاء فلا تجب إزالتها، فإن زادت وجب، هو الدرهم الأسود البغلي، وهو درهم يكون كحافر البغل مجوف الوسط ملفوف الطرفين، والغرض من هذا التقدير إنما هو المساحة في الطول والعرض دون السُّمْكِ فلو علت مقدار شبر أو أكثر من ذلك ولم تكن زائدة في المساحة على ما ذكرناه من قدر الدرهم لم تجب إزالتها.
فأما الشافعي رضي اللّه عنه فقد حكى عنه المزني: أن النجاسة إذا كانت دون الشرج خُيِّر بين المجفف وهو الحجر، وبين المزيل وهو الماء، وإن كانت فوق الشرج فلا تُزال إلا بالماء. وذكر المروزي من أصحاب الشافعي أن الذي حكاه المزني عن الشافعي، لا يحفظ عنه في أي شيء من كتبه، وزعم أن الشافعي قد رد على من قال بهذه المقالة، والذي يتحصل من مذهب الشافعي (رحمه اللّه) أن له في المسألة قولين:
فالقول الأول: أنه مخير بين المجفف والمزيل إذا كانت النجاسة حاصلة في باطن الإليتين ولم تنتشر إلى خارجهما، فإن انتشرت إلى ظاهرهما فلا يجزئ إلا غسلهما بالماء.
__________
(1) الغضن: بفتح الغين المعجمة وسكون الضاد المعجمة، والغضن بفتحتين: الكسر في الجلد والثوب و الدرع (من الثياب) وغيرها وجمعه غضون. ا.هـ لسان.
القول الثاني: أن المرجع بذلك إلى ما يتعارف الناس من ذلك ويعتادونه، فإن تجاوز ذلك وبلغ النادر لزمه غسله سواء لطخ الإليتين أم لم يلطخهما، وإن كان الخارج من الدبر قيحاً أو صديداً أو دماً، فإن ذلك كله غير معتاد، اجزأه الاستنجاء بالأحجار ولم يلزمه الغسل بالماء، والأول هو المعمول عليه على رأي الشافعي فهذا تقرير مقالة الفقهاء فيما يجب غسله بالماء وما لا يجب.
والحجة لهم على ما قالوه: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن )). وقوله ً: (( فليستنج بثلاثة أحجار)).
ووجه الاستدلال بذلك: هو أن الرسول ً، إنما أرشد في الاستنجاء إلى الأحجار ولم يذكر الماء، وهذا فيه دلالة على عدم وجوبه وأنه إنما يفعل على جهة الاستحباب، لما روى أبوهريرة قال: نزلت هذه الآية، وهو قوله تعالى: {رِجَالٌ يُحِبُّوْنَ أَنْ يَتَطَهَّرُوْا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِيْنَ }[التوبة:108]. إلى سائر التقدير الذي ذكره أصحابنا دلالة على الوجوب، فجعلوه دلالة على الاستحباب لأجل ما ورد عنهم من الثناء بسببه وهو أقوى ما يؤخذ للفقهاء في الاحتجاج على بطلان وجوب الاستنجاء بالماء، وسنورد ما يحتجون به في الانتصار.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة، من القول بوجوبه لما ذكروه، ونزيد ههنا حججاً ثلاثاً:
الحجة الأولى: ما روى زيد بن علي، عن: آبائه، عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه عن: الرسول ً، أنه جاءته امرأة فسألته: هل يجزئ امرأة أن تستنجي بشيء سوى الماء؟ فقال: (( لا. إِلاَّ أَلاَّ تجد الماء ))(1).
ووجه الدلالة من هذا الخبر: من جهتين:
__________
(1) وهو في الاعتصام والجامع الكافي والروض النضير ج1/236.
الأولى منهما: أنها سألته بلفظ الإجزاء وقررها عليه وأجابها بما يوافقه، ولفظ الإجزاء إنما يستعمل في الواجب ولهذا يقال: هل تجزئ صلاة الظهر مجموعة إلى العصر أم لا؟ ولا يقال ذلك في النفل فلا يقال: هل تجزي صلاة الضحى أم لا؟ لأن الإجزاء هو ما يخرج به عن عهدة الأمر فلا يتأتى إلا في الواجب، وهذا يبطل كلام أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى حيث قال: إن الاستنجاء بالماء والحجر لا يجبان.
الثانية: أنه قال: (( لا. إلا ألا تجد الماء )). فمنع من استعمال غير الماء مع وجود الماء، وفي هذا دلالة على أن الحجر لا يقوم مقامه لمن أراد الصلاة وهذا هو مطلوبنا، ويبطل ما ذكرنا مذهب الشافعي حيث قال بوجوب الأحجار دون الماء، من جهة أنه لم يجعل الحجر بدلاً عن الماء إلا عند عدم الماء.
الحجة الثانية: ما روي عن عائشة (رضي اللّه عنها) أنها قالت لنساء الأنصار: (( مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول فإن رسول اللّه ً كان يفعله وأنا استحييهم))(1).
__________
(1) هذا الحديث مروي عن معاذة العدوية في الاعتصام وأصول الأحكام والشفاء. قال في الاعتصام: وأخرج أحمد والترمذي والنسائي عن عائشة. وأورد الحديث بلفظ: ((.. أن يستنجوا بالماء..)). ج1/200.
ووجه الاستدلال من هذه الحجة: هو أن الأمر ظاهره الوجوب عند أئمة العترة إلا لدلالة تخصه، والصحابي إذا أطلق فقال: مروا، فليس يطلق ذلك إلا لأنه قد فهم الوجوب من صاحب الشريعة (صلوات اللّه عليه)، لأن إطلاقه لما يوهم الوجوب فيما ليس واجباً يكون تلبيساً وجناية، فدل إطلاقها للأمر على فهم الوجوب لا محالة، وفي هذا حصول غرضنا، ويؤيد ما ذكرناه من فهمها للوجوب هو أنها قد أبانت مستندها في إطلاق لفظ الأمر؛ وهو قولها: إن رسول اللّه ً كان يفعله، لما فهمت الوجوب من الفعل بقرينة قد علمتها، هذا إذا قلنا: بأن مطلق الفعل في حقه ليس دالاً على الوجوب، فقد علمت بالقرينة وجوبه بفعله ولهذا أطلقت الأمر، وذلك لا يحسن إلا عند فهم الوجوب كما قررناه.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنا نقول: نجاسة يمكن إزالتها بالماء على من قام إلى الصلاة من غير مشقة تلحق بذلك فكانت إزالتها واجبة كما إذا تعدت الشرج على رأي الشافعي، وكما لو زادت على قدر الدرهم على رأي أبي حنيفة، ثم نقول: طهارة تعلق بالخارج من السبيل فوجب تعليقها بقليل الخارج وكثيره كالطهارة من الحدث، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه؛ هو أن الخارج يوجب حكمين:
أحدهما: غسل الموضع من النجاسة.
وثانيهما: الطهارة من الأحداث، ثم إنا قد اتفقنا على أن الطهارة من الحدث تجب من القليل والكثير، وهكذا غسل الموضع يجب أن يكون معلقاً بالقليل والكثير من غير فرق.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن )). فذكر الأحجار ولم يذكر الماء فدل على أنه غير واجب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما عرف بما ذكره ما يتعلق بأدب الاستجمار بالأحجار ولم يتعرض للاستنجاء بالماء بنفي ولا إثبات، فلا دلالة لكم على ذلك، وليس يلزم إذا ذكر شيئاً بحكم أن يذكر ما لا تعلق للواقعة به، فقصده بيان الاستجمار لا بيان الاستنجاء، فأحدهما مخالف للآخر.
وأما ثانياً: فلأن نفي وجوب الاستنجاء بالماء عند ذكر الاستجمار بالأحجار، إنما يكون تعويلاً على المفهوم، وقد قال بإبطال مفهوم اللقب كل محصل من الأصوليين وهذا منه، فمن أين أنه إذا شرع الاستجمار بالأحجار يبطل حكم وجوب الماء؟ فلا يؤخذ حكم هذا من هذا لعدم التعلق بينهما.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( فليستنج بثلاثة أحجار)). وهذا أمر، وظاهر الأمر للوجوب إلا لدلالة خاصة.
قلنا: ليس في هذا إلا أنه أمر بالاستجمار بالحجر، فمن أين أنه يدل على عدم إيجاب الماء؟ وليس في الحديث تعرض لذكر الماء، اللهم إلا أن يقال: إن دلالته عليه من جهة مفهومه، وقد مر الكلام عليه فأغنى عن الإعادة.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( عشر من سنن المرسلين)). وذكر فيها الاستنجاء(1)، وهذا يدل على كونه سنة وليس واجباً؛ لأن إطلاق السنة فيما يكون الأفضل فعله ويجوز تركه، ولو كان واجباً لما جاز تركه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن تسميته بكونه سنة لا يمنع كونه واجباً؛ لأن المسنون ما تكرر فعله، والواجب يتكرر فعله ولا يجوز الإخلال به، فهو مسنون وزيادة.
وأما ثانياً: فقد يجوز إطلاق المسنون على الواجب، ولهذا ذكر من جملتها الختان، وهو واجب في حق الرجال والنساء، ولهذا فإنه يقال: سن رسول اللّه ً فيما سقت السماء العشر، على أنا نقول: المراد بالأمر الاستجمار بالأحجار عند عدم الماء فإنه واجب كما مر بيانه.
__________
(1) روي بلفظ: ((عشر من الفطرة)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد والبيهقي وفيه رواية ((عشر من السنة)).
قالوا: إنما توجبون الاستنجاء لأجل الصلاة لكونه عضواً من أعضاء الوضوء، والله تعالى يقول في آية الوضوء: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوْا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة:6]. فذكر الأعضاء ولم يذكر الاستنجاء، وهذا فيه دلالة على أنه غير واجب ولا عضو من أعضاء الطهارة.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلأن كونهما عضوين من أعضاء الطهارة، سنوضحه بكلام يخصه ونذكر ما هو الأولى بمعونة اللّه تعالى.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا كونهما ليسا بعضوين من أعضاء الطهارة، فإيجاب غسلهما إنما كان من أجل النجاسة التي هي لاحقة بهما، ثم نقول: قد يجب في الوضوء مالم تدل عليه الآية كغسل اللحية، ومسح الأذنين، والمضمضة والاستنشاق، فليس يلزم إذا لم يذكر في الآية ألا يكون واجباً بدليل غير الآية فبطل ما توهموه.
قالوا: نجاسة يسن الاحتراز منها فلم تجب إزالتها كالدم اليسير.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم نجاسته، بل هو طاهر فلا يمكن القياس عليه بجامع النجاسة فقد مر ما فيه فلا نعيده.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا نجاسته، فإنه إنما يعفى عنه لما فيه من المشقة بالاحتراز عنه وكثرة البلوى به، بخلاف الاستنجاء فافترقا.
مسألة: في التفريع:
الفرع الأول: وإذا تقرر وجوب غسلهما بالأدلة النقلية التي ذكرناها، فهل يجب غسلهما لكونهما نجسين، أو لأنهما عضوان من أعضاء الطهارة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن وجوب غسلهما إنما كان لأنهما عضوان من أعضاء الطهارة كالوجه، وهذا هو رأي الهادي وأولاده، ولا أعرف أحداً قبل الهادي قال بهذه المقالة(1).
والحجة على ذلك: قوله ً للأنصار: (( يا معشر الأنصار إن اللّه أثنى عليكم في الطهور فما طهوركم ))؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء. فقال: (( هو ذاكم فعليكموه )).
ووجه الاستدلال بما ذكرناه: هو أن اسم الطهور واقع على هذه الأعضاء كلها، ومن جملتها الاستنجاء بالماء، فلما كان الوجه واليدان والرجلان من أعضاء الوضوء وجب في الاستنجاء مثله، ويؤيد هذا التقرير هو أنه عليه السلام لما قال: (( ما طهوركم ))؟ فسروه بما قالوه وجعلوا من جملته الاستنجاء، ثم حثهم على فعله بقوله: (( هو ذاكم فعليكموه )) على جهة الإغراء لهم على فعله والاهتمام به والحث عليه، وهذا يوضح كونه من أعضاء الوضوء.
الحجة الثانية: قياسية، وحاصلها أنا نقول(2): عضوان يؤديان بالماء فيجب أن يكونا من أعضاء الوضوء كالوجه واليدين، أونقول: عضوان لا تكون الصلاة مجزية من دون غسلهما مع التمكن، فيجب كونهما من أعضاء الوضوء كاليدين والرجلين.
المذهب الثاني: وهو أن وجوب غسلهما إنما كان من أجل إزالة النجاسة لا من جهة كونهما عضوين من أعضاء الطهارة، وهذا هو رأي المؤيد بالله وهو رأي أكثر العترة.
__________
(1) جاء رأي الهادي في كتابه (المنتخب) ما لفظه: ((قلت، (السؤال من محمد بن سليمان الكوفي): فالاستنجاء فريضة من فرائض الوضوء؟. قال الهادي: نعم، أكبر فرائض الطهور)). ا.هـ ص24.
(2) بلسان الهادي لا المؤلف كما قد يفهم من استخدامه ضمير المتكلم.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]. والرجز: هو النجس. فإذا كان مأموراً بهجران الرجز مطلقاً فأمره بهجره عند الصلاة يكون أحق وأولى من جهة أن المصلي مأمور بأن يكون على أحسن هيئة وأبعد عن القاذورات، وهكذا حديث عائشة وهو قولها: مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول. فقد فَهِمَتِ الوجوبَ من جهة الرسول ً، ولهذا أطلقت الأمر، وكل ما ذكرناه دلالة على وجوب غسلهما من أجل ما يلحقهما من النجاسة.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله وعليه أكثر العلماء وهو أنهما ليسا من أعضاء الوضوء.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوْا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة:6]..الآية.
ووجه تقرير الحجة من هذه الآية: هو أن اللّه تعالى ذكر فيها أعضاء الوضوء وبينها، ولم يذكر من جملتها غسل الفرجين، فلو كانا من جملتها لذكرهما فيها لأنه في موضع التعليم، والخلاف بين الأصوليين وإن وقع في جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، هل يجوز أو لا يجوز، فلم يقع بينهم خلاف في استحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا يجوز تأخير ذلك إلا على رأي من جوز تكليف ما لا يعلم، من الأشعرية، وقد قررناه في الكتب الأصولية.
الحجة الثانية: قوله عليه السلام لمن أمره بالوضوء: (( توض كما أمرك اللّه فاغسل وجهك ويديك وامسح رأسك واغسل رجليك)). ولم يذكر له غسل الفرجين عند تعليمه، فلو كانا واجبين لوجب أن لا يؤخر ذكرهما هاهنا.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في كونهما من أعضاء الوضوء، فأما وجوب غسلهما من أجل النجاسة فقد قررناه من قبل فأغنى عن التكرير.
قالوا: إن اللّه تعالى أثنى على الأنصار لما قالوا له(1) إنهم يستنجون، وجعله من جملة الذي هو عبارة عن غسل الأعضاء فلهذا كان من جملتها كما مر.
قلنا: ظاهر الحديث إنما دل على إيجاب غلسلهما ولم يدل على كونهما من أعضاء الطهارة(2) وهذا لا نزاع فيه، إنما النزاع في أنهما عضوان من أعضاء الوضوء وليس في الخبر ما يشعر بذلك.
قالوا: قد سماه طهوراً، والطهور عبارة عما يجب غسله فيجب كونهما من أعضاء الوضوء لما كان غسلهما واجباً.
قلنا: أما وجوب غسلهما فقد سلمناه ولكن من أين أنه إذا وجب غسلهما أنهما من أعضاء الوضوء؟ ولم يقع النزاع إلا فيه، ولم لا يكونان مثل النجاسة على الأبدان والأثواب فإنه يجب غسلها ولا تكون معدودة في أعضاء الوضوء. على أنه إذا كان مرادكم بكونهما من أعضاء الوضوء، وجوب غسلهما فقد ارتفع النزاع المعنوي، فإنا نريد بكونهما عضوين من أعضاء الطهارة أنهما محلان للنية، فإذا كانا غير محلين للنية فقد سلم المقصود.
قالوا: عضوان من أعضاء الطهارة يؤديان بالماء فكانا من أعضاء الوضوء كالوجه واليدين.
قلنا: المعنى في الأصل كونهما تضمنتهما الآية فكانا من أعضاء الوضوء(3)، بخلاف غسل الفرجين فلم يكونا في الآية، هذا من جهة الفرق، ثم نعارض ونقول: شرطان من شروط الطهارة فلا يكونان من أعضاء الوضوء كطهارة الثوب والمكان.
قالوا: عضوان فلا تكون الصلاة مجزية من دون غسلهما كاليدين.
__________
(1) أي: لما قالوا لرسول الله.
(2) يقصد: من أعضاء الوضوء.
(3) يقصد: الوجه واليدين.
قلنا: المعنى في الأصل هو أن غسلهما يفتقر إلى النية في الأصل، فلهذا كانا من أعضاء الوضوء بخلاف غسل الفرجين فإنه لا يفتقر إلى النية، فلهذا لم يعدا من أعضاء الوضوء، ثم نعارض ونقول: عضوان يغسلان للصلاة من أجل نجاستهما فلا يكونان من أعضائه كما لو وقعت نجاسة على الظهر والبطن، فصح بما ذكرناه أن وجوب غسلهما إنما كان من أجل ما يتصل بهما من النجاسة لا أنهما معدودان في أعضاء الطهارة. والله أعلم.
الفرع الثاني: إعلم أن ثمرة الخلاف بين من عدهما من أعضاء الوضوء وبين من لم يعدهما منها ظاهرة، وهو أنهما إذا كانا عضوين من أعضاء الطهارة فالنية تكون واقعة عند غسلهما للوضوء بعد غسلهما للنجاسة وتطهيرهما منها على رأي الهادي؛ لأن عنده لابد فيهما من غسلتين: الأولى منهما لتطهيرهما من النجاسة؛ لأنهما محل الحدث، والثانية لكونهما عضوين من أعضاء الوضوء، فالأولى تخالف الثانية عنده من جهة أن الأولى تحصيل شرط وهو الطهارة، والثانية عبادة لأنه أول عضو من أعضاء الوضوء فلهذا افتقر إلى النية، وغسل النجاسة ليس عبادة فلهذا لم يفتقر إلى النية، وعلى رأي المؤيد بالله ليسا محلاً للنية، وإنما محل النية هو غسل الوجه عنده فهما عنده في وجوب الغسل للطهارة كغسل الثوب والبدن، فهذه فائدة.
الفائدة الثانية في التفرقة بين المذهبين: هو أن من توضأ ثم انتقض وضوؤه بأمر ليس خارجاً من السبيلين مثل قيء أورعاف أو غير ذلك فإنه على رأي من يقول: إنهما من أعضاء الوضوء، فلابد من غسلهما وإن لم تكن هناك فيهما نجاسة؛ لأنهما عضوان من أعضاء الطهارة كالوجه واليدين، فأما على رأي من لا يجعلهما من أعضاء الطهارة فإنه لا يلزم غسلهما؛ لأنهما في أنفسهما طاهران.
الفائدة الثالثة: إذا وقع عليهما جرح فلم يمكن غسلهما ثم إنه غَسَل باقي الأعضاء للصلاة، فإنه على رأي الهادي، يكون ناقص الوضوء، من جهة أنه تارك لبعض أعضائه للعذر كما لو ترك الوجه واليدين، فأما على رأي المؤيد بالله فإنه يكون ناقص الطهارة لا غير، والوضوء في حقه قد كمل بغسل سائر الأعضاء كما لو كان الجرح على بطنه أو ظهره.
الفائدة الرابعة: إذا كان الفرجان طاهرين ثم انتقض الوضوء بناقض غير خارج منهما واتفق أنه ليس معه إلا ما يكفي عضوين من أعضاء الوضوء من الماء فإنه على رأي المؤيد بالله يغسل به الوجه واليدين، ويكون على هذا متوضياً إذ لا وجه للتيمم مع كمال عضويه بالغسل، ولا يحتاج إلى غسل الفرجين لأنهما طاهران من النجاسة، وليسا من أعضاء الوضوء. وأما على رأي الهادي، فإنه يغسل به الفرجين لا غير؛ لأنهما من أعضاء الوضوء فلابد من غسلهما، ثم إنه يُيَمِّمُ الوجه واليدين ويكون على هذا متيمماً لكمال عضوي التيمم في حقه مسحاً بالتراب.
الفائدة الخامسة: إذا انتقض وضوؤه بخارج من السبيلين ثم إنه توضأ قبل غسلهما وأيقن أنه لا خارج منهما، فإنه على رأي الهادي لا يصح وضوؤه، وإن تحقق أنه لا خارج منهما لبطلان الترتيب في أعضاء الوضوء وهو مراعى على الوجوب في حق المتوضئ كما سنوضحه، وأما على رأي المؤيد بالله فإن وضوءه صحيح إذا تيقن أنه لا خارج منهما عند غسلهما؛ لأنهما ليسا عنده من أعضاء الوضوء، وإنما هما يغسلان للنجاسة لا غير، فلا ترتيب بينهما وبين سائر أعضاء الوضوء إذ ليسا منها كما لوكانت النجاسة على ظهره أو بطنه، فإنه سواء غسلها قبل الوضوء أوبعده، فإن وضوءه صحيح من غير مراعاة ترتيب بينهما. فهذه الفوائد الخمس كلها تأتي للتفرقة بين مذهبي الإمامين: الهادي والمؤيد بالله في غسل الفرجين، هل يعدان من أعضاء الوضوء أو لا يعدان كما قررناه، والله أعلم بالصواب.
الفرع الثالث: في بيان ما يستنجى منه، وهو كل نجاسة خارجة من السبيلين معتاداً كان أو غير معتاد. فهذه قيود ثلاثة لابد من بيانها:
القيد الأول منها: أن يكون خارجاً من السبيلين، فيجب على من أراد الصلاة أن يستنجي بالماء من الغائط والبول والمني، ويجب على المرأة أن تستنجي من ذلك كله لاستوائهما فيما ذكرناه ويجب عليها أن تستنجي من الحيض، فأما دم الاستحاضة فلا فائدة في الاستنجاء منه في حقها لدوامه واستمراره.
فإن أولج الرجل ذكره في قبل المرأة ثم نزعه من غير إمناء ولا صب الماء، فهل يجب عليه الاستنجاء أم لا؟ فعلى رأي الهادي يجب عليه غسلهما جميعاً؛ لأنهما عنده من أعضاء الوضوء، وحين أولج وجب الغسل وبطلت الطهارة الصغرى؛ لأنه يتعدى الحكم ببقاء الوضوء لو كان الرجل متوضياً مع الحكم عليه بوجوب الاغتسال، فلهذا وجب عليه الاستنجاء على رأيه لما ذكرناه. وأما على رأي المؤيد بالله فالغسل وإن وجب عليه لأجل الإيلاج لكن الاستنجاء إنما يتوجه على قوله، لأجل النجاسة ولا نجاسة هناك، فلهذا توجه عليه الوضوء والاغتسال من غير استنجاء.
وهل يكون الاستنجاء من الريح واجباً أو غير واجب؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون واجباً، وهذا هو الذي ذكره القاسم بن إبراهيم في كتاب الطهارة، وهو الذي أشار إليه الهادي في المنتخب، وهو محكي عن محمد بن يحيى عليه السلام، وأبي العباس.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ }[المائدة:6].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن اللّه تعالى أوجب على الجائي من الغائط التطهر والاستنجاء، ولا شك أن الاستنجاء إزالة النجو، ولم يفصل بين نجو ونجو، وفي هذا دلالة على إزالة الآثار من مواضع النجاسة، وهذا هو مرادنا بوجوب الاستنجاء من الريح؛ لأنها من جملة ما يخرج من الدبر.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أنها عين خارجة من الدبر مجاورة للنجاسة، فيجب تطهير الموضع منها كما إذا خرج من ذلك ما يظهر أثره.
المذهب الثاني: أن الاستنجاء منها غير واجب، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة، وهو رواية محمد بن منصور، عن القاسم، والأصح من قول الهادي، وهو محكي عن الصادق، والباقر، وأحمد بن عيسى )، والناصر، وأبي عبدالله الداعي، واختيار الإمامين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب، ومحكي عن الإمام المنصور بالله، وهو رأي علماء الأمة أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً، أنه قال: (( ليس منا من استنجى من الريح )). والغرض بقوله: (( ليس منا )). أي ليس من عملنا وشأننا، وليس الغرض أنه على البرائة منه، ولكنه بالغ في نفي وجوبه كما ذكرناه.
الحجة الثانية: قياسية وحاصلها، هو أن الريح طاهرة في الأصل وما يجاورها من النجاسة لا حكم له ويعفى عنه؛ لأنه لا يُعلم له أثر ولا بلة تلحقها فلزم منها تطهير المحل كما في غيرها مما فيه بِلَّة ورطوبة.
والمختار: ما قاله الأكثر من أئمة العترة وعلماء الأمة من أنه غير واجب.
__________
(1) أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، أبو عبدالله فقيه أهل البيت حج ثلاثين مرة ماشياً. له كتاب الأمالي المعروف بأمالي أحمد بن عيسى في الفقه والحديث، رواه عنه محمد بن منصور المرادي. خرج أيام الرشيد فأُخِذَ وحبس ثم تخلص واختفى بالبصرة إلى أن مات متخفياً وقد تجاوز الثمانين وعمي، وذلك سنة 247هـ، وقيل: سنة 240هـ (مقدمة البحر).
والحجة عليه: ما نقلناه عنهم؛ ونزيد ههنا وهو أنا لو قضينا بوجوب تطهير المحل عن الريح لكان يلزم أن تطهيره إنما كان من أجل اتصال النجاسة به، فكان يلزم على هذا أن يكون ما جاورته من الأثواب نجساً كما كان في المحل فيلزم غسله وهذا لا قائل به، فيجب القضاء عليها بالتطهير كما قلناه.
الانتصار: يكون بأن ما اعتمدوه غير لازم ولا يدل على نجاسة.
قالوا: الآية في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}. دالة على وجوب التطهير على من جاء من الغائط وخرج منه شيء، ولا فصل بين خارج وخارج.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في ظاهر الآية لفظة عموم فتكون دالة على ما ذكرتموه، وإنما ظاهرها دال على وجوب الطهارة عقيب الجنابة، ودالة على أن من لا يجد الماء مع مجيئه من الغائط أو لامس النساء، وجب عليه التيمم عند عدم الماء، وليس فيها دلالة على وجوب الاستنجاء من الريح ولا تعرض لذكره.
وأما ثانياً: فلأن المقصود من سياق الآية، إنما هو إيجاب الطهارة على كل من أحدث حدثاً كبيراً أو صغيراً، إذا قام إلى الصلاة أن يتطهر من الحدث، والريح لا زيادة فيها على نقض الوضوء؛ لأن النقض يتعلق بالخارج فمن أين أنه إذا دل على تعلق نقض الطهارة يلزم تطهير محله ولا نجاسة فيه؟ فما قالوه تحكم لا دليل عليه.
قولهم في الاستدلال: لم يفصل بين خارج وخارج.
قلنا: في نقض الوضوء أو في تطهير محله؟
فالأول: مُسلَّم ولا ينفعكم تسليمه في تقرير ما ذكرتم.
والثاني: ممنوع وهو نفس المسألة فأقيموا دلالة عليه.
قالوا: ولأنها عين خارجة من السبيلين تجاورها النجاسة كما لوظهر أثرها وكانت مدركة بالحس.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلا نسلم أن هناك بِلَّة توجب التطهير لما قررناه من قبل في الاستدلال من أنه لو كان فيها بلة لوجب تنجيس الأثواب ولا قائل به.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن فيها بلة لكن اغتفر الشرع حكم هذه البلة لعموم البلوى بها كما اغتفر عندكم ما تحمله الريح وما يحمله الذباب، بل هاهنا أحق لما يظهر في الأحداث من الرخص على رأي أكثر العلماء كما قدمنا الخلاف فيه.
قالوا: بقاء الريح فيه دلالة على بقاء الأجزاء الحالَّة فيها، ولم تكن الريح من أجل اتصالها بالنجاسة، فيجب إذهاب الرائحة بالماء حتى تذهب تلك الأجزاء على جهة التبع.
قلنا: فأوجبوا غسل الأثواب؛ لأنها متصلة، وغسل ما يتصل به من الإليتين، من جهة أن السراويل والقميص وغيرهما من الأثواب متصل بها وهذا خلاف الإجماع ولا قائل به.
قالوا: أدلتنا دالة على الحظر وما ذكرتموه من الخبر والقياس دال على الإباحة، وقد تعارضا وتدافعا فيجب ترجيح أدلتنا لكونها حاظرة من جهة أن الحظر أحوط للدين، وأقرب إلى ملازمة التقوى، وقد قال عليه السلام: (( المؤمنون وقافون عند الشبهات)).
قلنا: الخبر الذي روينا أصرح بنفي الاستنجاء من الريح من إثبات الآية له، فإن خبرنا لا يحتمل تأويلاً لتصريحه بالغرض، بخلاف الآية فإنه لا ظاهر لها فضلاً عن كونها صريحة بالمطلوب، ومن جهة التعارض إنما يكون بين الآية والخبر إذا كان في الريح نجاسة يجب غسلها بالاستنجاء والخبر دال على نفي الاستنجاء، فيتعارضان لتنافي موجبيهما، ولكنا أوضحنا في الدلالة أنه لا نجاسة فيهما يجب لأجلها الغسل، فإذاً لا تعارض، وإذا كان لا تعارض فلا ترجيح.
قالوا: إنما قلنا بوجوب غسلهما لما كانا عضوين من أعضاء الطهارة كما هو رأي الهادي، ومحمد بن يحيى، وأبي العباس، وإحدى الروايتين عن القاسم، فيجب غسلهما لما ذكرناه.
قلنا: لوسلمنا لكم كونهما عضوين من أعضاء الطهارة لم نخالفكم في وجوب غسلهما بحال، وإن سلمتم أنهما ليسا عضوين من أعضاء الوضوء فلا وجه لإيجاب غسلهما على هذه المقالة، فإذاً لا نزاع هناك قائم من جهة المعنى مع التفصيل الذي ذكرناه، لكنا قد رمزنا إلى بطلان كونهما عضوين من أعضاء الوضوء فإذاً لا وجه لوجوب غسلهما، ولهذا فإننا لا ننازع الفقهاء في وجوب غسل الفرجين، هل كان للنجاسة أوكان لأنهما عضوان من أعضاء الوضوء، لما كان هذا متفرعاً على حد القول بوجوب غسلهما وهم قد منعوه، وقد رددنا عليهم المقالة وأظهرنا الوجه المختار والحمدلله، فبطل القضاء بوجوبهما لعدم الدلالة عليه، لا من جهة المنطوق بأمر ولا ظاهر عموم ولا من المعقول مخيل ولا شبه.
مسألة: إذا(1) بطل وجوب غسلهما فهل يستحب تطهيرهما أم لا؟ والظاهر من كلام أكثر الأئمة: استحباب تطهيرهما عن الريح الخارجة من الدبر.
والحجة على ذلك: هو أن الوجوب وإن كان ساقطاً بالأدلة التي ذكرناها، فالاستحباب باق فلهذا قضوا بالاستحباب، وهل يكون الاستحباب هو الغسل أو المسح؟ فحكى الشيخ أبوجعفر عن أكثر أئمة العترة استحباب الغسل للمقعدة عن الريح؛ لأن غسل ما تحقق من النجاسات واجب للصلاة، وهكذا يكون ما ظن من النجاسات يستحب غسله أيضاً، وحكي عن القاسم: أن مسح الموضع بالماء يجزيه؛ لأن النجاسة فيه غير متحققة فلهذا كان المسح كافياً، وحكى عنه محمد بن منصور أنه قال: من لقيتُ من أهلنا كانوا يستنجون من الريح تنظيفا لا وجوباً. فهذا تصريح بالاستحباب، وليس فيه تصريح على أن الوضيفة في التنظيف هل تكون مسحاً أو غسلاً؟
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، وهو أن مسح المقعدة أو غسلها من خروج الريح ليس واجباً ولا مستحباً بل يكون مكروهاً، وتدل على ذلك حجتان:
__________
(1) هذه المسألة بمثابة فرع عن سابقتها؛ لأنها جاءت أثناء التفريع على المسألة الخاصة بتعليل الاستنجاء.
الحجة الأولى منهما: قوله ً: (( ليس منا من استنجى من الريح ))(1). فظاهر هذا الخبر دال على الحظر؛ لأن ظاهره التبرؤ ممن فعل هذا الفعل، كقوله ً: (( ليس منا من غش )). وقوله: (( ليس منا من خان مسلماً أوغره )). وقوله عليه السلام: (( ليس منا من خَبَّث امرأة على زوجها ولا عبداً على سيده)). لكنا عدلنا عن كونه دالاً على الحظر لدلالة، وهو أن الإجماع منعقد على أن كل من مسح دبره من أثر الريح فإنه لا يستحق ذماً ولا يكون فاعلاً لفعل محظور، وإذا لم يكن دالاً على الحظر فلا أقل من الكراهة؛ لأنه قد تقرر كونه ممنوعاً وأدنى درجات المنع هو الكراهة، فلأجل ذلك قضينا بكونه مكروها.
الحجة الثانية: هو أن الوجوب والندب حكمان شرعيان فلابد لهما من دلالة ولا دلالة له هاهنا تدل على وجوبه ولا على ندبه، وإنما قضينا بكونه مكروهاً؛ لأنه نفي في ظاهر الخبر أنه ليس من عمله وشأنه، وأدنى ذلك: الكراهة. والعجب ممن قال من أئمة العترة بوجوبه أو ندبه مع ما في الخبر من التعرض للوعيد على فعله بقوله: (( ليس منا )) وما هذا حاله مما يتعرض فيه للوعيد فلا أقل من كونه مكروهاً، إذا لم يكن محظوراً.
__________
(1) قال في الجواهر: هكذا حكاه في الشفاء وغيره، ولم أقف عليه في شيء من كتب الحديث. وفي الهامش ما لفظه: بل هو موجود رواه ابن عساكر وغيره عن جابر بلفظ: ((من استنجى من الريح فليس منا)). لكنه ضعيف.
القيد الثاني: أن يكون الخارج معتاداً أوغير معتاد إذا كان ملوثاً بالنجاسة، فلا فرق في ذلك بين أن يكون الخارج مما ألف أو يكون غير مألوف كالدم وغيره من أنواع النجاسات الخارجة من المعدة، فإن الإيجاب في الاستنجاء واقع فيها لكل من أراد الصلاة، فإن خرج من المقعدة دود أوحصاة أونواة نظرت، فإن كان ملوثاً بالنجاسة وجب الاستنجاء بالماء؛ لأنها متصلة بها فأشبهت ما لو كانت خالصة، وإن لم تكن ملوثة بالنجاسة فهل يجب الاستنجاء بالماء أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجب عملاً على الغالب؛ لأنه لا يخلو عن نجاسة وإن قَلَّت، فلهذا كان الوجوب شاملاً.
وثانيهما: أنه لا يجب؛ لأن الوجوب إنما كان من أجل النجاسة وقد فرضنا أنه لا نجاسة فيها.
والمختار: هو الأول؛ لأن الغالب هو المُعَوَّلُ عليه ولا حكم لما يكون على جهة الندرة والقلة.
القيد الثالث: أن يكون المخرج معتاداً، وهو أن يكون من الإحليل والدبر فإن انفتحت ثقبة نظرت، فإن كانت في أسفل السرة كان في معنى الدبر من جهة أن فم المعدة يكون من أسفل السرة فلهذا وجب الاستنجاء بالماء لما كان في معناها، وإن كان الفتح من فوق السرة كان جرحاً ولم يكن في معنى المخرج المعتاد، وسواء كان المسلك المعتاد منفتحاً أو منسداً، فإن فيه هذا التفصيل الذي ذكرناه في وجوب الاستنجاء منه.
نعم.. هل يكون ناقضاً للطهارة إذا خرج من غير المخرج المعتاد أو انسد المسلك المعتاد؟ فيه تردد بين الفقهاء وتفصيل، نوضحه في نواقض الوضوء بمعونة اللّه تعالى. فهذا تفصيل ما اشتمل عليه هذا الفرع في بيان ما يستنجى منه.
الفرع الرابع: في بيان ما يستنجى به، وهو الماء الطاهر المطهر.
فقولنا: الماء. نحترز به عن سائر المائعات كاللبن والخل وماء الورد، فكما أنها غير رافعة للحدث(1) فلا تكون مزيلة للنجاسة وقد مر تقريره فأغنى عن الإعادة، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: تجوز إزالتها للنجاسة لأنها قالعة ورافعة.
وقولنا: الطاهر. نحترز به عن الماء النجس فإنه لا تزال به النجاسة؛ لأنه نجس فكيف يكون مزيلاً لها؟
وقولنا: المطهر لغيره. نحترز به عما كان مستعملاً من الأمواء، فإنه مختلف فيه كما قدمناه في إزالة الحدث به. فمن قال من العلماء من أئمة العترة وغيرهم بكونه رافعاً للحدث قال بأنه مزيل للنجس، كالمؤيد بالله وغيره من الفقهاء، ومن قال بأنه غير مزيل للحدث فإنه لا يكون رافعاً لحكم النجاسة.
والسبيلان في وجوب الاستنجاء بالماء على سواء من غير تفرقة بينهما، من جهة أن النجاسة متصلة بهما جميعاً فلهذا توجه غسلهما، فيجب على من أراد الاستنجاء للصلاة أن يغسل حلقة الدبر من خروج العذرة حتى تذهب جميع الأجزاء، وإذهاب الرائحة أيضاً من جهة أن بقاء الرائحة تدل على بقاء شيء من الأجزاء ويستقصي في ذلك، ويجب عليه أن يغسل بقية الذكر وما حوله إذا كان البول منتشراً إلى الكمرة، فإن انتشر حتى جاوز طرف الذكر وجب غسله بالماء لمن أراد الصلاة، ولا فصل فيما يخرج من الذكر بين البول والقيح والصديد والحصاة وغير ذلك إذا كان ملوثاً بالنجاسة، كما أنه لا تفرقة بين ما يخرج من الدبر من العذرة أو من القيح والصديد، والبعرة والنواة، والحصاة إذا كان ملوثاً بالنجاسة، فلهذا وجب استواء السبيلين واستواء ما يخرج منهما في وجوب الاستنجاء عنه للطهارة للصلاة.
الفرع الخامس: في بيان كيفية الاستنجاء بالماء.
__________
(1) في الأصل: فإنها كما أنها غير رافعة ...إلخ.
يستحب لمن أراد الاستنجاء أن يتفحج تفحج الظليم، والتفحج: بجيم وحاء مقدمة [على الجيم]: هو تباعد ما بين الرِّجْلين. والفجج: بجيمين مثله خلا أن الفجج بجيمين: أبلغ من الفحج، وأوسع وأقبح، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( تفحج تفحج الظليم ))(1). والظليم هو : ذكر النعام. لأن في مشيته تفككاً واتساعاً، ولأن ذلك يكون أبلغ في استقصاء النجاسة وإزالتها، والأفضل لمن أراد الاستنجاء وكان الخارج بولاً أو غائطاً، أن يستنجي بالأحجار أولاً ثم يتبعه الماء على جهة الوجوب لمن أراد الصلاة.
__________
(1) حكاه في البحر والشفاء عن النبي ً: أنه كان يتفحج تفحج الظليم.
والحجة على ذلك: ما رويناه من حديث أهل قبا، حيث قال تعالى فيهم: {فِيْهِ رِجَالٌ يُحِبُّوْنَ أَنْ يَتَطَهَّرُوْا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِيْنَ}[التوبة:108]. فلما نزلت هذه الآية دعاهم الرسول ً فقال لهم: (( إن اللّه قد أثنى عليكم وأحسن الثناء فماذا تصنعون ))؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة. فقال: (( فهل غير هذا ))؟ فقالوا: إلا أن أحدنا إذا خرج إلى الخلاء أحب أن يستنجي بالماء. فقال الرسول ً: (( هو ذاك فعليكموه ))(1). وهذا يدل على أنهم كانوا يستعملون الحجارة أولاً ثم يستعملون الماء بعدها، وفيه دلالة على استحبابه بالماء من غير صلاة، فأما الصلاة [فهو] على جهة الوجوب كما قررناه من قبل، والنساء والرجال في ذلك سواء، فأما استنجاء المرأة بالماء في الدبر فهي كالرجل في ذلك من غير مخالفة كما وصفناه، وأما استنجاؤها بالماء عن البول فإنه ينظر هناك، فإن كانت بكراً فإنها تستنجي بالماء كالرجل، فأما موضع البكارة فلا تعلق له بالبول؛ لأنه مسدود تحت ثقبة البول، فإن أصابه شيء من البول ونزل عليه واتصل به فالواجب عليها إجراء الماء عليه ومسحه مسحاً رفيقاً بالماء. وذكر العمراني صاحب (البيان) من أصحاب الشافعي: أنه يستحب لها أن تُدخل أصبعها في الثقب الذي يخرج منه البول فإن لم تفعل لم يلزمها شيء، وهذا لا وجه له فإن السنة لم ترد به وهو أضيق من أن يكون مكاناً لطرف الإصبع، وإمرار اليد بالماء يجزئ في ذلك ويطهره فلا معنى لإدخال الأصبع. وإن كانت ثيباً فإنها إذا قعدت للبول انفرج ذلك الموضع فربما نزل إليه البول، فإن تحققت نزول البول إلى موضع الحيض ومدخل الذكر وخروج الولد والمني، وجب غسله بالماء، وإن لم تتحقق وصول البول إليه استحب لها غسله عملاً على غلبة وصوله، وأنه لا يكاد ينفك البول عن
__________
(1) حكاه في البحر والاعتصام والشفاء والجامع الكافي من عدة طرق منها عن ابن عباس، وقد تقدم.
الاتصال به وأن النادر لا حكم له.
الفرع السادس: نص الإمام الهادي يحيى بن الحسين في الجامعين (الأحكام) و(المنتخب)، على أن المستحب لمن أراد الاستنجاء بالماء أن يرفع رجله اليسرى قليلاً وينقي بأصبعه الوسطى من يده اليسرى ما يمكنه، من داخل فرجه من الأقذار.
والحجة على ما قاله: ما روي عن النبي ً أنه كان يتفحج تفحج الظليم، وهذا لا يكون إلا بما ذكرناه من التنقية للمقعدة بالأصبع وإزالة الأقذار عنها.
واعلم أن ما ذكره هاهنا في الجامعين، محمول على من كان في مقعدته يبس في معاطفها وغضونها، وبواسير، فمن هذا حاله ربما لا يكاد ينقي مقعدته إلا ما ذكره من التنقية وإدخال الأصبع الوسطى، وإنما خص الوسطى تشريفا للمُسَبِّحة عن استعمالها فيما ذكرناه؛ لأنها موضوعة لأعلى الأشياء وأشرفها فلا تكون موضوعة لأنزلها وأدناها.
ووجه آخر: وهو أنها أمكن وأقوى في التنقية من غيرها لاختصاصها بالطول من بين سائر الأصابع، فما قاله في الجامعين محمول على ما ذكرناه، فأما من كان طبعه سلساً ومعدته صحيحة فلا يحتاج إلى ما ذكره من إدخال اليد في معاطف المقعدة والتنقية بالأصبع الوسطى، ويدل على ما قلناه حجتان:
الحجة الأولى: أن الرسول ً، قد ذكر محاسن الآداب في قضاء الحاجة وعند الاستنجاء، ولم يشر إلى شيء مما ذكره مع كثرة شفقته على الأمة وحُنُوِّهِ عليها وإرشادهم إلى معالم الدين، ولهذا قال: (( إنما أنا لكم كالوالد ))(1).
__________
(1) رواه أبوداود والنسائي بلفظ: ((إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه)) الجواهر، وقد تقدم.
الحجة الثانية: هو أنا قد أوجبنا الماء في الاستنجاء فليس يخلو حاله: إما أن يكون واصلاً إلى حيث تكون اليد واصلة، أو لا يكون واصلاً فإن وصل أغنى عما ذكره وكان كافياً لرقته واختصاصه بالتطهير ما لا يحصل من غيره من سائر المطهرات الجامدة والمائعة، فمع وصول الماء لا حاجة إلى ما قاله، وإن لم يكن الماء واصلاً إلى حيث تصل اليد كان في ذلك حرج ومشقة وعسرة وصعوبة لا وجه للتكليف بها، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. وقال: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. خصوصاً فيما تعم به البلوى ويكثر استعماله في اليوم والليلة مرة أومرتين أو أكثر من ذلك، ويؤيد ما ذكرناه من أن مقصود الشرع هو التخفيف، هو اتفاق الفقهاء على العفو من غسل السبيلين والاكتفاء بالأحجار، وما ذاك إلا لما فهموا من [أن] قصد الشرع تخفيف الأمر فيهما.
الفرع السابع: إذا أراد غسل الفرجين فبأيهما يبدأ؟ فالذي نص عليه الإمام الهادي في الجامعين أنه يبدأ بالفرج الأعلى، وعليه تعويل أكثر علماء العترة وهو قول الحنفية، وإنما كان الاستحباب في [ترتيب] غسلهما كما أشرنا إليه لغرضين:
أحدهما: أن المتوضئ إذا بدأ بالفرج الأسفل ورد الماء على الأعلى فينجس بما عليه ثم يصل إلى الأسفل وهو نجس فينجسه فلا يطهر إلا بإهراق ماء كثير، وإن صبه على الأسفل دون الأعلى كان في ذلك مشقة وتكليف وعُسْر.
وثانيهما: أنه إذا بدأ بالأسفل لم يسلم في أغلب الأحوال من أن تصيب يده النجاسة التي تكون على الإحليل من أثر البول فينجس يده فيحتاج إلى صب الماء الكثير وفيه سرف، وهو إذا بدأ بالأعلى لم يكن هناك مشقة وكان في الماء اقتصاد.
وحكي عن الشافعي وأصحابه أنه مخير في البداية بأيهما شاء.
والحجة لهم على ذلك: هو أن المقصود إنما هو الوصول إلى طهارة الفرجين من النجاسة، وذلك حاصل سواء بدأ بالأعلى أوبالأسفل فلا يفترقان. ومنشؤ التردد في هذا الخلاف بيننا وبين الشافعي وأصحابه هو أن عندنا، وهو رأي الحنفية: أن النجاسة إذا ورد عليها الماء نجسته كما تنجسه إذا وردت عليه. فاقتضى ذلك استحباب البداية بالفرج الأعلى، لما ذكرناه من أنه لو بدأ بالفرج الأسفل وصب الماء على الأعلى فإنه ينجس بورود الماء عليه فينزل إلى الأسفل فينجسه فيؤدي ذلك إلى السرف في إهراق الماء، وعلى رأي الشافعي يفترق الحال فإنه يقول: إذا ورد الماء على النجاسة لم تنجسه فاقتضى ذلك عدم الترتيب في غسلهما؛ لأنه إذا صب الماء على الإحليل فإنه لا ينجس بورود الماء عليه فينزل إلى الأسفل وهو طاهر.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، وحاصله أنا نقول: إن السنة لم تشر إلى ترتيب في الغسل بينهما، بل وردت الأحاديث مطلقة فيهما من غير ترتيب، ولهذا فإنه ورد الثناء على أهل قبا بالثناء عليهم(1) بالغسل عقيب الاستجمار بالأحجار ولم يفصل هناك في غسلهما.
نعم.. ما قاله أئمة العترة من استحباب الترتيب بينهما إنما هو أمر استحساني ولم ترد به السنة، وحاصله راجع إلى أن خلافه يحصل منه تبذير وإسراف وقد نُهي عنه، وإن خالف في ذلك مخالف في غسلهما لم يكن مخالفاً للسنة كما ذكرناه.
__________
(1) جملة: (بالثناء عليهم) بعد جملة: (ورد الثناء على أهل قباء) جاءت في الأصل وهي تكرار لا داعي له.
الفرع الثامن: ويستحب إذا فرغ من الاستنجاء أن يضرب بيده على الأرض ثم يغسلها، لما روى ابن عباس رضي اللّه عنه عن خالته ميمونة قالت: وضعت لرسول اللّه ً غسلاً يغتسل به من الجنابة، فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها، ثم غسل فرجيه بشماله، ثم ضرب بيده على الأرض فغسلها، ولو شئتُ لأريتكم أثر يده في الحائط(1). فإذا تقرر ذلك في غسل الجنابة كان مسحها بالتراب من العذرة أولى وأحق؛ لأن العفونة من أثر الغائط أكثر من العفونة من أثر الجماع، فإذا استُحِب في الأدنى فكيف لا يكون مستحباً في الأعلى؛ ولأن ذلك يكون أقرب إلى إزالة الأثر والرائحة. فأما غسل السبيلين بالتراب والأشنان وما أشبههما فليس من السنة ولا ورد فيه أثر، وإنما الوارد ما ذكرناه من غسل اليد بالتراب عقيب الاستنجاء فأما غسل الذكر بالتراب من أثر الجماع، ففيه كلام نذكره هناك بمعونة اللّه تعالى، ولأن في غسل المقعدة والإحليل من أثر البول والغائط بالترات حرجاً ومشقة فلا حاجة إليه وإنما السنة في غسل اليد بالتراب لا غير كما أشرنا إليه.
__________
(1) ومثله عن أبي هريرة، ورواية أخرى عن جرير. أوردهما في الجواهر. أخرج أبو داود ما رواه أبوهريرة، وأخرج النسائي كلتا الروايتين.
الفرع التاسع: يستحب الاستنجاء بشماله(1) لما روى أبوقتادة عن النبي ً أنه قال: (( إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه ولا يمسح بيمينه))(2). فإذا اقتضى ذلك في الاستعمال بالأحجار وجب مثله في الاستنجاء بالماء من غير تفرقة بينهما، والجامع بينهما تنزيه اليمنى عن ملامسة النجاسات ومباشرتها، وقد جاء(3)، في خبر عائشة الذي روته: (( كانت يمين رسول اللّه ً لطعامه وشرابه ولباسه، وشمالُه لخلائه)). ولأن اليمين إنما تستعمل في الأفعال الحسنة فلا ينبغي استعمالها في مباشرة الأقذار والنجاسات؛ لأن في ذلك مناقضة لمقصودها.
الفرع العاشر: يكره له أن يستنجي وفي يده شيء فيه اسم اللّه تعالى من خاتم أو درهم أو غير ذلك، لأن ما كان فيه اسم من أسماء اللّه تعالى فله شرف على غيره فلا ينبغي مباشرته للنجاسة وينبغي إكرامه عن ذلك. قال الإمام الناصر للحق: ولا أستنجي بخاتمي وفيه اسم اللّه تعالى ولا أجامع وفيه ذكر الله. حكاه الوليدي في ألفاظه(4)، ولم يرد دليل على عدد الغسلات في الاستنجاء في القبل والدبر في حق الرجال والنساء، وإنما يكون حكمه حكم إزالة النجاسة، وقد قدمنا الكلام فيمن اعتبر الغسلة الواحدة ومن اعتبر الثلاث، وقررنا حكم الغُسالة الأولى والثانية في التنجيس والطهارة فأغنى عن الإعادة، فهذا ما أردنا ذكره في أحكام الاستنجاء بالماء. وبالله التوفيق.
__________
(1) في الأصل بيمينه، وهو لا شك سهو وخطأ.
(2) أخرجه أبو داود والبخاري ومسلم والنسائي بلفظ: ((إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه، وإذا أتى الخلاء فلا يمسح بيمينه)). اللفظ لأبي داود. وراه في الاعتصام في ثلاث روايات متقاربة وقد تقدم.
(3) في الأصل: وقد قال عليه السلام في خبر عائشة...إلخ. وتم تصحيحه ليتناسب مع السياق؛ لأن عائشة روت فعلاً لا قولاً للنبي ً.
(4) من رجال الزيدية ومن أصحاب الناصر إلى الحق الحسن بن علي الأطروش، روى عنه أبو طالب في (الأمالي) كثيراً.
---
الباب السادس: في الوضوء وذكر خصائصه
والوضوء مهموز، قال أبوالحسن سعيد الأخفش ) الوضوء بفتح الفاء، هو الماء، وبضمها: المصدر، كالوَقُود والوُقُود: فبالفتح: ما يوقد، وبالضم: الاتقاد، ثم قال: وزعموا أن فيهما لغتين، يعني أن الوَقود بالفتح قد يقال لما يوقد وللاتقاد، وأن الوُقود بالضم قد يقال لهما جميعاً، وهكذا حال الوضوء يقال فيهما جميعاً. وقال غيره: لم يرد الفَعول بفتح الفاء مصدراً إلا في نحو القَبول والوَلوغ، وما عداهما فهو على الضم. وعن أبي عمرو بن العلاء ): الوُضوء بالضم، المصدر.
__________
(1) أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش فارسي الأصل، تتلمذ على سيبويه وأخذ عنه كلما عنده، وكان الطريق الوحيد لرواية كتاب سيبويه، وقد جلس بعده يمليه على طلابه ويشرحه، وعنه أخذه تلاميذه البصريون مثل الجرمي والمازني، وأخذ عنه علماء الكوفة ومنهم إمامهم الكسائي، والأخفش أكبر أئمة البصريين بعد سيبويه، وإليه يعزى الإعداد لنشأة المدرسة الكوفية، وله مؤلفات كثيرة ومنها: (كتاب المسائل الكبير)، في النحو والصرف، و (كتاب المسائل الصغير) وله كتب أخرى سقطت في يد الزمن كما يقول الدكتور شوقي ضيف، مثل: كتاب (الأوسط) في النحو، وكتاب (المقاييس) وكتاب (الاشتقاق) في الصرف. وظل الأخفش حتى بعد أن ترك البصرة إلى بغداد مقصداً لطلاب العلم وعلماء اللغة مكباً على التدريس والبحث حتى توفي سنة 211هـ. (المدارس النحوية 94 ابن خلكان في: سعيد. وأنباء الرواة ج2/36، الفهرست 83)
(2) زبان بن العلاء البصري النحوي أحد القراء السبعة. روى عنه القراءة: الدوري واليزيدي والسوسي والسويسي. واختلف في اسمه على أكثر من عشرين قولاً أشهرها هذا. وقيل: اسمه هو كنيته. لازم مجلس الإمام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن، وهو من أئمة اللغة والنحو، أخذ عنه فيهما كثير من الناس. مات بطريق الشام سنة 159هـ.
والمختار: ما عول عليه الأخفش من أن المصدر بالضم، والاسم بالفتح في الفاء، واشتقاقه من قولهم: وضئ الرجل إذا صار وضيئاً، والوضاءة هي الحسن والنظافة، فلما كان الوضوء للصلاة يُحَسّن الإنسان ويزيد في جماله ووضاءته قيل له: وضوء، ويزيل عنه سائر الأقذار ومصادمة الغبرات. وفي الحديث: (( الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، والوضوء بعده ينفي اللمم ))(1).
فإذا تمهدت هذه القاعدة، فلنذكر الفروض الواجبة في الوضوء ثم نذكر سننه ثم نردفه بذكر حكم الشك في تطهير الأعضاء ثم نذكر نواقضه، فهذه فصول أربعة نذكر ما يختص كل واحد منها بمعونة اللّه تعالى.
__________
(1) جاء بلفظ: ((الوضوء قبل الطعام وبعده مما ينفي الفقر وهو من سنن المرسلين)). رواه الهيثمي في مجمع الزوائد، والحاكم في المستدرك.
---
الفصل الأول: في بيان الفروض الواجبة في الوضوء
اعلم أن الطهارة بالماء جارية في لسان حَمَلَةِ الشريعة على نوعين: طهارة عن النجاسة، وطهارة عن الأحداث، فأما الطهارة عن النجس(1) فالذي عليه أئمة العترة والجماهير من علماء الأمة والحنفية والشافعية وغيرهم من الفقهاء، أنها غير مفتقرة إلى النية.
والحجة على ذلك: هو أن الأصل عدم النية ولا تفتقر إلى النية إلا بدلالة ولا دلالة عليها لا من جهة النصوص ولا من جهة الظواهر، ولا من جهة الأقيسة. فلما كان الأمر فيها كما قلناه لم يجز إثباتها إلا بدلالة شرعية تدل عليها، وحكى العمراني صاحب (البيان) عن صاحب (الإبانة)(2) منهم، أنه حُكي عن أبي العباس بن سريج: أن الطهارة من النجس لا تصح من غير نية كطهارة الحدث.
والحجة على ذلك: هو أنها طهارة بالماء لا يمكن تأدية الصلاة إلا بها فافتقرت إلى النية كطهارة الحدث.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وعلماء الأمة من كونها غير واجبة.
والحجة على ذلك: ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا حجتين:
__________
(1) هكذا في الأصل، والمراد: النجاسة.
(2) لأبي جعفر الهوسمي، وقد تقدمت ترجمته.
الحجة الأولى: هو أن المرجع لحقيقة الإزالة للنجاسة إلى أمر عدمي، وهو إزالة النجاسة وإعدامها وإذهابها، وما هذا حاله من التروك فلا يفتقر إلى النية كما تقول في ترك الزنا والسرقة وشرب الخمر، فإن هذه الأمور لما كانت حقائقها آيلة إلى الكف والترك عن الفعل لم تكن مفتقرة إلى النية، فهكذا إزالة النجاسة لا تفتقر إلى النية أيضاً؛ لأن النية غير متعلقة بالأمور العدمية، وإنما يكون متعلقها الأمور الثابتة. لا يقال: أفليس الصائم حقيقته آيلة إلى الكف عن المفطرات كالأكل والشرب والوقاع ومع ذلك فإنه مفتقر إلى النية عندكم، فهكذا ما نحن فيه؛ لأنا نقول: إنه ليس مطلق ترك وعدم، وإنما [هو] ترك شرعي يتعلق بالعبادة، فلهذا كان مفتقراً إلى النية وإن كان تركاً لما كان تركه مقرراً من جهة الشرع؛ فكان شرعياً بخلاف ما نحن فيه فإنه عدمٌ محضٌ فافترقا.
الحجة الثانية: هو أن طهارة النجاسة ليست من قبيل العبادات في شيء، ولهذا فإنها تصح ممن ليس من أهل العبادة كالكافر والصبي، فإنه يتأتى منهما إزالة النجاسة وإعدامها عن الأثواب والأماكن، ولو كانت عبادة لم يصح ذلك منهما كما لا يصح منهما تأدية الصلاة والصوم وسائر العبادات.
الانتصار: يكون بإبطال ما يمكن أن يكون عمدة لهم ووسيلة في تقرير ذلك.
قالوا: طهارة بالماء فافتقرت إلى النية كالطهارة من الحدث.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المعنى في الأصل هو أنها عبادة فافتقرت إلى النية، بخلاف طهارة النجس فإنها غير عبادة كما مر بيانه فافترقا.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بطهارة التبرد فإنها طهارة بالماء، ومع ذلك فإنها غير مفتقرة إلى النية فبطل ما قالوه.
قالوا: طهارةٌ، صحَّة الصلاة مشروطة بها فوجب افتقارها إلى النية كطهارة الأحداث.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لا يلزم في كل ما كان شرطاً أن يكون مفتقراً إلى النية، ولهذا فإنها(1) مفتقرة إلى الزمان والمكان واللباس، ومع ذلك فإنها(2) غير مفتقرة إلى النية.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل كونها عبادة مستقلة كما سنوضح القول فيه، فلهذا افتقرت إلى النية بخلاف طهارة النجاسة فافترقا.
قالوا: قد قلتم إن طهارة الحدث مفتقرة إلى النية، فأخبرونا عن افتقارها إلى النية، هل كان لأنها طهارة مطلقة؟ فطهارة النجاسة مثلها، وإن كان لأنها مشترطة في الصلاة فطهارة النجاسة مثلها. وإن كان لكونها عبادة فلا نسلم ذلك، فأقيموا برهاناً عليه ليتم ما ذكرتموه.
قلنا: افتقرت إلى النية لكونها عبادة ومن حق ما يكون عبادة ألا يكون عبادة من دون النية، كالصلاة والصوم وسائر العبادات.
قولهم: دلوا على ذلك.
قلنا: سنوضح الكلام على كونها عبادة وعلى افتقارها إلى النية بعد هذا بمشيئة اللّه وعونه.
مسألة: النية في اللغة هي القصد، ولهذا يقال: أين نيتك؟ يعني أين قصدك يكون إلى أي موضع؟ وقد تطلق على العزم يقال: نويت كذا أي عزمت عليه. قال الشاعر:
صرمت أميمة خلتي وصلاتي ... ونوت ولما تنتوي كنواتي(3)
__________
(1) الصلاة.
(2) الزمان والمكان واللباس.
(3) هذا البيت استشهد به ابن منظور في اللسان في مادة (نوى) ولم ينسبه لأحد.
والنواة: الحاجة، وأراد: أنها لم تنتو كما نويت في المودة والمواصلة. ويروى: تنتوي بنواتي، أي لم تقض حاجتي، يقال: نواه بنواته أي رده لحاجته، وحقيقتها آيلة إلى أنها الإرادة المؤثرة في وقوع الأفعال على وجوه مخصوصة كوقوع الفعل عبادة لله تعالى وعبادة للشيطان، فإن السجود واحد واختلاف أحواله إنما يكون بالإرادة كما قررناه، واشتقاق النية من النوى، وهو البعد والغَيبة. فلما كانت النية غائبة عن الناس لكونها حالَّة في القلب، قيل لها: نية. فإذا تمهدت هذه القاعدة، فاعلم أن الكلام في النية واسع لانتشارها وسعة أطرافها، لكنا نقتصر منها على ما يختص بالمقاصد الفقهية فنذكر جنسها ثم نذكر محلها ثم نذكر وقت فعلها ثم نذكر قسمتها ثم نردفه بذكر كيفيتها في الوجوب وغيره، فهذه مواقع النظر للكلام في النية نأتي على كل واحد منها بمعونة اللّه تعالى:
النظر الأول: في بيان جنس النية:
اعلم أن النية قصد مقارن للفعل وهي جنس برأسها مخالفة للاعتقاد والظن والشهوة، والكلام في كل واحد من هذه الأجناس يميز الأمر فيه، فلا يجوز أن تكون من قبيل الإعتقادات على أنواعها، من جهة أن الإرادة والقصد تابعان للعلم، لأن الواحد منا لا ينوي بالعبادة وجه اللّه تعالى حتى يكون عالماً بكونه فاعلاً لها، والتابع لا محالة غير المتبوع، فلهذا بطل كونها من قبيل الاعتقادات، ولا يجوز أن تكون من قبيل الظنون؛ لأنه قد يكون ناوياً بالعبادة القربة إلى اللّه تعالى وليس ظاناً لها، وإنما هو عالم بها، والظن لا يكون مصاحباً للعلم في متعلقه، فبطل كونها من قبيل الظنون. ولا يجوز أن تكون من قبيل الشهوات؛ لأن العبادات كلها غير مشتهاة بل منفور عنها، ولا تكون عبادة إلا بأن يقصد بها وجه اللّه تعالى، ولا يجوز أن تكون من قبيل الكلام، ولهذا فإنه لو اقتصر على التلفظ بلسانه من غير ضمير في قلبه لم تكن مجزية له، ولو اقتصر على ما في قلبه وضميره كان مجزياً له، وإن جمع بينهما كان التعويل على ما في القلب لا على اللسان، كما سنوضحه من بعد هذا.
فحصل من مجموع ما ذكرناه، بيان جنسية النية وأنها من قبيل الإرادات دون غيرها من سائر الأغراض المختصة بالقلوب، ولا يجوز أن تكون من قبيل العزوم؛ لأن العزم وإن كان إرادة لكن النية مخالفة من جهة أن النية من حقها أن تكون مقارنة لما هي نية فيه، بخلاف العزم فإنه من حقه التقدم على معزومه؛ لأن العزم إنما يؤتى به من أجل أن يكون الفعل خفيفاً على الفاعل؛ لأنه إذا أراده من قبل فعله خف عليه تحمله، ولهذا منعنا في حق اللّه تعالى أن يكون موصوفاً بالعزم لما كان هذا المعنى غير حاصل في حقه، فلا يجوز أن يكون من قبيل المحبة والرضا وإن كانا جميعاً من باب الإرادة، لأن الواحد منا قد يكون راضياً للفعل ومحباً له، ولا يكون قاصداً به وجه اللّه تعالى ومطابقة مراده، ولهذا فإنه إذا رضي الصلاة وأحبها ولم ينوبها وجه اللّه تعالى ولا أداها بنية الفريضة لله تعالى، لم تكن مجزية، فبان لك أن النية مخالفة لما ذكرناه من أجناس هذه الإرادات، فإن قال قائل: فإذا كانت النية من قبيل الإرادة كما ذكرتم فالمتكلمون مختلفون في الإرادة على ثلاثة مذاهب، فالذي عليه أصحاب الشيخ أبي هاشم من المعتزلة إثباتها شاهداً وغائباً، وذهب الشيخ محمود الملاحمي ) إلى نفيها شاهداً وغائباً، وقال: إن الداعي كاف عنها فلا يحتاج إلى تخصيص الإرادة. وذهب الشيخ أبوالحسين محمد بن علي البصري، [إلى] أنها ثابتة في الشاهد ونفاها في الغائب، فعلى أي هذه المذاهب تعولون في الإرادة؟
__________
(1) الملاحمي من كبار علماء المعتزلة البصريين، وهو مصنف (المعتمد الأكبر). (راجع طبقات المعتزلة ص119).
فجوابه: أن الصحيح عندنا أن الحق ما قاله أبوالحسين وهو إثباتها في الشاهد، من جهة أن الإرادة هي ميل القلب، وهذا إنما يكون في حق الشاهد دون الغائب، وعلى هذا تكون النية أيضاً في حق العبادات؛ لأنها إرادة مخصوصة مقارنة للفعل المَنْوِّي، فأما في الغائب فلا حاجة إلى إثباتها؛ لأن الداعي كاف عن تخصيص بعض الأفعال بوجه دون وجه، ولا حاجة إلى الإرادة، ولهم في ذلك شرح طويل قد أودعناه الكتب العقلية لكونها أخص به.
ثم تنقسم إلى ما تكون كاملة وهو ما يحصل الإجزاء بدون ذلك(1). وهذا نحو أن ينوي الظهر فرضاً لله تعالى مصلحة في الدين وتقرباً إلى اللّه تعالى وامتثالاً لأمره؛ ولكونه واجباً، ولأن اللّه تعالى أوجبه [فريضة] حاصلة على جهة الخضوع والذلة، إلى غير ذلك من الوجوه التي تستحق تأديتها عليها من طريق الاستحباب، وإلى ما تكون مجزية، وهذا هو القدر الذي لا تكون مجزية إلا به من غير زيادة ولا نقصان، وهذا نحو أن ينوي الظهر لله فلابد من هذا، فيذكر الظهر بذكر الفريضة وبالإضافة إلى اللّه تعالى تحصل القربة، فلابد من تأدية العبادة بالنية على أحد هذين الوجهين وسنوضح القول في ذلك في كيفية الإرادة إذا تكلمنا فيه، والله الموفق.
النظر الثاني: في بيان محل النية.
اعلم أن محل النية تارة يكون باعتبار وجوبها وحلولها، وتارة يكون باعتبار كيفية تأثيرها في منويها من المقارنة وعدمها، فهذان موقعان كلاهما مندرج تحت مسمى قولنا: محل النية. فنذكر ما يتعلق بكل واحد منهما بمشيئة الله:
الموقع الأول: في بيان محلها باعتبار وجودها وحلولها.
واعلم أنها في وجودها مفتقرة إلى ثلاثة شروط:
__________
(1) يقصد بأقل منها.
أولها: المحل، فلا يجوز وجودها في غير محل إلا في حق اللّه تعالى، على رأي الشيخ أبي هاشم، فإن إرادته تعالى موجودة على حد وجوده ولا شك أن وجوده ليس في محل ولا جهة لا على جهة الاستقلال كوجود الجواهر والأجسام، ولا جهة التبعية كوجود العرض فإنه يوجد في الجهة تبعاً لمحله، فإرادته بزعمهم حاصلة على حد حصوله كما ذكرناه، فأما من نفى الإرادة عن اللّه تعالى كما هو المختار، وهو رأي الشيخ أبي الحسين البصري، فإنه يجعلها نفس الداعي وهو العلم بالمصالح، فإرادته لفعل نفسه هو كونه يفعله لأجل المصلحة الحكمية، وكونه مريداً لفعل غيره على معنى أنه أمر به ومثيب له عليه.
وثانيها: أن المحل لابد أن يكون فيه حياة، فلا يجوز وجودها في الجمادات كالحجر والشجر وغيرهما، وتشاركها القدرة في هذين الأمرين أعني في المحل والحياة.
وثالثها: أن محلها القلب، فلا يقتصر فيها على محل فيه حياة بل لابد من تنبه القلب وتحالف القدرة في ذلك وتوافق العلم، أعنى الإرادة. لأن كل واحد منهما يفتقر في وجوده إلى هذه الشرائط الثلاث؛ لأنها من أعمال القلوب وأفعالها، فإذا تقرر أن محلها القلب فبأي شيء يكون فعلها في القلب؟
فعلى رأي الشيخ (1) وأصحابه من متكلمي البصريين، يكون فعلها بالقدرة الحاصلة في القلب كما تفعل الحركة في الجوارح كلها بقدرة الجوارح كاليد والرجل؛ لأن كل قدرة تختص بالفعل في محلها كما هو مقرر في كتبهم، وعلى رأي الشيخ أبي الحسين وأصحابه، حيث نفى القدرة التي هي جزء عرضي، يكون فعلها بالقلب نفسه على جهة الإيجاب كما تفعل الحركة تنبه اليد والرجل من غير حاجة إلى قدرة هي جزء عرضي.
__________
(1) أبي هاشم الجبائي.
والمختار: هو نفي القدرة أن تكون جزءاً عرضاً كما هو رأي الشيخ أبي هاشم وأصحابه، وإثبات القدرة بنية كما هو رأي الشيخ أبي الحسين البصري، وهذا المذهب قد قررناه في الكتب العقلية فلا نطيل ذكره هاهنا، وعلى الجملة فإن محلها القلب، سواء قلنا: إنها تفعل بالقدرة كمقالة أصحاب أبي هاشم، أو قلنا: إنها بإيجاب القلب كما هو رأي الشيخ أبي الحسين، فقد تقرر بما لخصناه أنه لابد من محل باعتبار وجودها وحلولها.
الموقع الثاني: في بيان محلها باعتبار كيفية تأثيرها فيما تؤثر فيه.
اعلم أن الأصل في النية أن تكون مقارنة لمنويّها فتجب مقارنتها لأول جزء منه، بحيث لا يجوز خلو جزء من الفعل عن النية فإذا قارنت الجزء الأول كانت مسترسلة على جميع تلك الأفعال لما كانت مقارنة لأولها، وإنما وجب اعتبار ذلك في النية من جهة أنها مؤثرة في كون هذه الأفعال عبادة وفي كونها قربة وفي إيقاعها على وجوه مختلفة من الخضوع والتذلل والخشية والمراقبة، وأنها خالصة لله تعالى دون غيره، وهذه الوجوه مستندها النية ومعتمدها عليها فمن حقها أن تكون مقارنة لأول جزء من تلك العبادة بحيث لا تكون متأخرة عن أول الفعل فيمضي بعضها من غير نية، فهذا هو الأصل في النية أعني المقارنة لما ذكرناه، ولا تكون على خلاف ذلك إلا بدلالة منفصلة تدل على ذلك من مخالطة أو تقديم أو تأخير، فصارت النية بالإضافة إلى الأفعال المفتقرة إلى النية واقعة على أربعة أضرب نفصلها:
الضرب الأول منها: يُشترط فيها المقارنة لأول جزء من تلك العبادة، وهذا نحو الوضوء والغسل من الجنابة و[من] الحيض و[من] النفاس، والتيمم والحج والعمرة، وكفارات المناسك إذا ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام، فإن هذه النيات كلها لابد من مقارنتها، وإنما وجبت النية لقوله ً: (( لا عمل إلا بنية)) ولقوله عليه السلام: (( الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى)). وإنما وجب اعتبار المقارنة فيما ذكرناه؛ لأنها هي الأصل، وتأثيرها في الفعل إنما يعقل مع المقارنة كما أشرنا إليه.
الضرب الثاني: يجب فيه المقارنة لما شرحناه، وهل يجوز تقديمها وتأخيرها أم لا؟
فأما تقديم النية في الصيامات فهو جائز عند أئمة العترة وفقهاء الأمة سواء كان فرضاً أو نفلاً، وسواء كان الفرض قضاءً أوأداءً، وإنما جاز فيها التقديم لدليل خاص دل على ذلك، وهو قوله ً: (( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)). وقوله ً: (( لا صيام لمن لم يُجْمِع الصيام من الليل)). وهذا دليل شرعي يدل على جواز تقديم النية فيجب لأجله أن ينسحب حكمها حتى يتصل بأول جزء من المنوي شرعاً. وأما جواز تأخرها(1) فهل يجوز أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه جائز، وهذا هو رأي الإمام الهادي، والسيدين: أبي طالب، وأبي العباس، في صوم رمضان، فتجزي النية مهما صادفت جزءاً من النهار سواء كان قبل الزوال أو بعده، وهو محكي عن أبي حنيفة.
وثانيهما: أن ذلك غير جائز، وهذا رأي المؤيد بالله ومحكي عن الشافعي، فمن جوز تأخيرها قال: إنها تنعطف على ما مضى من اليوم شرعاً والغرض هو ضرب المثال. وذكر هذه المسألة واستقصاء أدلتها وذكر المختار، نذكره في موضعه بمعونة اللّه تعالى.
الضرب الثالث: ما تجوز فيه المقارنة ويجوز فيه التقديم بأوقات يسيرة، وتجوز فيه المخالطة.
__________
(1) يقصد: تأخيرها.
وهذا نحو الصلاة على اختلاف أنواعها، وهذا نحو الصلوات المفروضة كالصلوات الخمس، وصلاة الجنازة، وصلاة السفر، وصلاة الخوف، وهكذا سائر النوافل نحو: صلاة الاستسقاء، والكسوفين، وصلاة العيدين، فأما المقارنة فيها فهو الأصل كما مر تقريره، وأما التقديم بأوقات يسيرة فمغتفر في حقها، وأما المخالطة فجائز فيها، وإنما جاز الأمران فيها من جهة أن التقديم في النية هو على شرف الملاقاة لأول جزء منها، فكان في حكم المقارن، وأما المخالطة فهي مقارنة وزيادة فإنها لا تشترط المقارنة إلا في أول جزء منها، ولا شك أن المخالطة قد قارنت أول جزء منها واستمرت النية إلى آخر التكبيرة فلهذا قلنا: بأن المخالطة مقارنة وزيادة.
الضرب الرابع: ما تجب فيه المقارنة والتقديم ولا يجوز فيه التأخير.
وهذا نحو صيام القضاء، والكفارات، والنذور غير المعينة، ونية الزكاة، وغير ذلك، فالمقارنة هي الواجبة خلا أنه لما تعذر التفرقة بين الليل والنهار لا جرم أوجبنا أن تكون حاصلة في جزء من الليل لأجل عدم القدرة في التمييز، فلو أمكن التمييز لم نوجب إلا المقارنة دون التقديم، ولهذا فإنه لما تعذر الفصل بين الوجه والرأس أوجبنا غسل جزء من الرأس ليحصل تعميم غسل الوجه، وهذا إنما نوجبه في حق من عجز عن التمييز لا في حق من أمكنه التمييز، فلهذا وجب تقدير النية في هذه الصيامات كما هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة، ولا يختلفون فيه لقوله عليه السلام: (( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل )). فحملنا الخبر على ما ذكرناه، ولا يجوز تأخير النية عن هذه الصيامات؛ لأن النية إنما تنعطف على ما قبلها بدليل الشرع، وهو إنما دل في الصيامات المعينة كرمضان دون ما عداه، وهكذا في النذور المعينة فإنها لاحقة بصوم رمضان في جواز التأخير، وتحكيم الانعطاف على ما قبلها بحكم الشرع، فأما ما عداه فلم تدل عليه دلالة في جواز الانعطاف، فبقي على حكم الأصل في المنع، فبقي التقديم في حق هذه الصيامات متحتماً لما قررناه.
النظر الثالث: باعتبار وقت فعلها.
فاعلم أن لها وقتين: استحباب ووجوب، فأما وقت الاستحباب فيستحب للمتوضئ أن ينوي التطهر للصلاة عند استعمال أول جزء من أجزاء الماء المستعمل في الطهارة ليكون مستكملاً الثواب والأجر عند الله، فإن استعمل ذلك من غير تحريك نية لم يكن مستحقاً للثواب لقوله ً: (( الأعمال بالنيات)). ولم يفصل بين عمل وعمل قليل أو كثير، وسواء كان ذلك عند غسل الكفين، أو الاستنجاء، أو عند المضمضة والاستنشاق، بل نقول: لو زاد على ذلك بأن ينوي عند مسيره إلى المتوضَّى أو نقله الماء أو حمله أو أخذه للسواك، فإن هذه الأمور كلها تستحب فيها النية لإحراز الثواب وتحصيله، فإن اللّه تعالى لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، فتقديم النية في هذه الأمور وإن لم تكن واجبة من باب ما يستحق عليه الثواب.
وأما وقت الوجوب، فتقريره إنما يكون على حد الخلاف في أول واجب من واجبات الوضوء بين أئمة العترة وفقهاء الأمة، فمن قال: بأن أول واجبات الوضوء هو غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة منهما كما هو رأي الإمام الهادي، وأولاده، فإنه يقول على هذا: هو أول وقت فعل النية، لكونه أول عضو من أعضاء الوضوء. ومن قال: بأن أول الواجبات هو غسل الكفين، كما هو المحكي عن الإمام القاسم بن إبراهيم في كتاب الطهارة، وهو رأي أحمد بن يحيى )، والسيد أبي العباس، فإن النية تكون عند غسلهما لأنهما أول أعضاء الوضوء، ومن قال من أصحابنا أن المضمضة والاستنشاق سنتان، فإنه يقول: بأن محل النية هو غسل الوجه، كما هو المحكي عن الإمام الشيهد زيد بن علي، ومروي عن الباقر، والناصر، ومن قال: بأنهما واجبان فإنهما مع الوجه تكون كلها(2) محلاً للنية؛ لأنها في حكم العضو الواحد، فصار محل الوجوب لفعل النية مرتباً على ما ذكرناه من الخلاف بين العلماء في أول عضو من أعضاء الطهارة.
__________
(1) الإمام الناصر أحمد بن الهادي لدين اللّه يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم. أحد مشاهير أئمة الزيدية وعلمائها، نشأ في حجر أبيه على الزهد والعبادة وطلب العلم، تولى الأمر من أخيه محمد بعد عودته من الحجاز سنة 301هـ، وواصل الجهاد ضد القرامطة، وله مؤلفات في الفقه والأصول، وظل مجاهداً، مدافعاً عن الدين، ناشراً للعلم حتى توفي بصعدة سنة 325هـ، ودفن بجانب أبيه في قبته بجامع الهادي المعروف بصعدة. أزهار ج1/6.
(2) يقصد المضمضة والاستنشاق والوجه.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، وحاصله أنا نقول: أما محل الاستحباب لفعل النية فهو الملابسة لفعل شيء من أمور الطهارة ليحصل الثواب ويستحق الأجر بفعل النية، فإن النية هي التي تخلص الأعمال لوجه اللّه تعالى، وعلى هذا تكون عند غسل الكفين؛ لأنهما أول ما يعاني من التطهير وما عدا ذلك فهو من جملة المقدمات دون المقاصد، وأما محل الوجوب لفعل النية، فإنما يكون عند أول عضو من أعضاء الطهارة، ولا شك أن أول عضو من أعضائها هو المضمضة والاستنشاق لأنهما واجبان، أو غسل الوجه؛ لأنهما في حكم العضو الواحد، لقوله ً: (( المضمضة والاستنشاق من الوضوء ولا يقبل اللّه الصلاة إلا بهما))(1). وقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6]. فهما عضوان كالعضو الواحد فأيهما وقعت عليه النية كانت مجزية، فإذا نوى عند المضمضة والاستنشاق أجزأه ذلك، وإن عزبت نيته بعد ذلك أجزأه؛ لأنه قد نوى الوضوء عند أول فرض من فروضه فلهذا كان مجزياً له، وسواء كان قد غسل عند المضمضة جزءاً من الوجه أولم يكن غاسلاً في كونه مجزياً، وإن قدم غسل الوجه ثم تمضمض بعد ذلك واستنشق فإنه يكون مجزياً في الوضوء وإن عزبت نيته قبل المضمضة أجزأه ذلك. هذا على رأي أئمة العترة؛ لأنهما عضوان من أعضاء الطهارة لا ترتيب بينهما فهما محلان لفعل النية كما ترى.
نعم.. لما ذهب الشافعي إلى أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين، اختلف قوله في أنه لو نوى عند غسلهما وعزبت نيته عند غسل الوجه أي انقطعت، فهل يجزيه أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: يجزيه.
__________
(1) أورده في الجواهر بلفظه عن الشفاء. وحكاه في البحر، وفي الاعتصام رواه عن علي عليه السلام بلفظ: ((المضمضة والاستنشاق من وظيفة الوضوء لا يتم إلا بهما)).
والآخر: أنه لا يجزيه، ولهم فيه تفصيل يطول شرحه وهو مبني على عدم القول بوجوبهما فلا حاجة إلى إيراده، وسنوضح القول في وجوبهما بمعونة الله.
النظر الرابع: في تقسيم النية:
واعلم أن لها تقسيمات منتشرة باعتبارات مختلفة ولكنا نذكر ما يختص بالمباحث الفقهية ونشير إلى تقسيمات ثلاثة:
التقسيم الأول: باعتبار ذاتها إلى مطلقة ومشروطة:
فالمطلقة: هي الواقعة كثيراً في العبادات كالصلاة، والحج، وأنواع العبادات كلها، فإن تدوارها كلها على الإطلاق من غير اعتبار شرط هناك، فالصلاة نوقعها بالنية عبادة لله، والصوم والحج كذلك، ولا خلاف في المطلقة أعني في إجزائها، وفي كونها شرطاً في العبادة.
وأما المشروطة: فمن العلماء من جوزها مع الشرط ومنهم من منعها، وسنوضح القول فيها عند الكلام في صوم يوم الشك، فإذا صام يوم الشك ونوى الوجوب بشرط أن يكون من رمضان فهو صحيح، وإذا نوى تأدية هذه الصلاة قضاء بشرط أن يكون الوقت فائتاً أجزأ، فالنية من حقها أن تكون مؤثرة في وجوه الأفعال المختلفة فيخصص بعضها عن بعض، ولا شك أن الشرط من جملة الأوجه التي تقع عليها النية فلهذا سوغنا وقوعها ودخولها عليها، فكما يصح وقوعها مطلقة يصح وقوعها مشروطة.
فإن قال قائل: إن من حق النية أن تكون أمراً جزماً، والشرط إنما يدخل في الأمور المشكوكة، ومن حق العبادات أن لا يدخلها الشك فلا يجوز دخول الشرط فيها.
فجوابه: أنا نقول: هذا فاسد، فإن أصل العبادات لا يتطرق إليها الشك وإنما يعترض التردد في بعض أحوالها فليس من قال: أنا أصوم هذا اليوم إن كان من رمضان فهو واجب وإن كان من شعبان فهو نفل. يقال: إنه قد شك في العبادة، فإنه قد جزم الصوم وتردد في كونه واجباً أوغير واجب، فلا جرم أدخل الشرط في الوجوب وعدمه، فما هذا حاله لا يكون شكاً في أصل العبادة كما زعموه.
التقسيم الثاني باعتبار حكمها: إلى ما تكون واجبة وغير واجبة:
فغير الواجبة: هي النيات المؤثرة في النوافل من الطاعات كالصلاة، والحج، والصوم، وغير ذلك من النوافل، لأنها إذا كانت نوافل فالإرادة في حقها نفل أيضاً.
فأما الواجبة فهي على وجهين: أداء وقضاء.
فالأداء يكون عبارة عما يكون مفعولاً في وقته كالصلاة والصوم، فإنها مؤداة في أوقات مخصوصة مقدرة لها، ولا تكون كذلك إلا بالنيات والإرادات.
وأما القضاء فهو عبارة عما فات وقته، وأدي مثله في وقت آخر كالصلاة والصوم، فإن ما هذا حاله من العبادات المؤقتة بالأوقات إذا فاتت من غير تأدية لها فيها فإن ما فعل في وقت آخر يكون قضاءً بالشرع، فأما نية الأداء فهي غير معتبرة فلا يحتاج إلى نية؛ لأن ظاهر الحال يقضي بكونها أداءً فلهذا لم تحتج إلى نية، وأما القضاء فلابد فيه من نية مخصوصة توجب كونه قضاءً؛ لأن له مزية مخصوصة، وهو أنه قد فات وقته فلابد من تخصيصه بالنية ليكون واقعاً عما في ذمته من القضاء، وسيأتي لهذا مزيد تقرير عند الكلام في كيفية تقرير النية.
التقسيم الثالث: باعتبار كونها شرطاً في الفعل وغير شرط:
فنقول: الأفعال التي يتناولها التكليف بالإضافة إلى النية على نوعين:
أحدهما: غير مفتقر إلى النية، وهذا نحو عقود المعاوضات كالبيع والشراء، والإجارة والسلم، وغير ذلك؛ لأن ما هذا حاله ليس من قبيل العبادات، فلهذا لم يكن مفتقراً إلى النية بحال.
وثانيهما: أن تكون مفتقرة إلى النية. وهذا هو العبادات كلها على اختلاف أنواعها فإنها لا تكون عبادة إلا باعتبار كونها قربة، ولا قربة إلا مع نية التقرب إلى اللّه تعالى بها.
ثم تنقسم العبادات المفتقرة إلى النية: إلى ما تكون وصلة وإلى ما تكون مقصودة.
فالتي تكون مقصودة كالصلاة والصيام والحج، وغير ذلك من العبادات المقصودة.
وأما التي تكون وصلة فهذا نحو الوضوء والغسل، فإن هذه لا تراد لنفسها بخلاف الأمور الأولى فإنها تراد لنفسها. وإنما تراد هذه لغيرها، فالوضوء يراد للصلاة، والغسل يراد للصلاة وغيرها مع كونها معدودة في القرب، ولهذا افتقرت إلى النية كلها كما مضى تقريره.
ولنقتصر على هذا القدر من تقسيم النية ففيه كفاية في مقدار ما يليق بالمقاصد الفقهية في المضطربات الاجتهادية والله الموفق.
النظر الخامس: في كيفية تأثير النية في مَنْوِيِّها.
اعلم أن هذا النظر هو عمدة النيات وعليه التدوار في أكثر مسائلها، ومنه تنشأ الفروع الكثيرة والمسائل المتشعبة، وهو مشتمل على [ستة عشر فرعاً] (1)، نُفَصلها بمشيئة اللّه تعالى:
الفرع الأولى: هل تشترط النية في الوضوء أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة وأنها شَرْطٌ في الوضوء لا يصح من دونها، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو محكي عن الشافعي، ومالك، والليث. وبه قال ربيعة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهو قول أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) من الصحابة (رضي اللّه عنهم).
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوْا إِلاَّ لِيَعْبُدُوْا اللّهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الْدِّيْنَ }[البَيِّنَة:5].
ووجه الاحتجاج بهذه الآية: من وجهين:
أما أولاً: فلأن قوله:{وَمَا أُمِرُوْا إِلاَّ لِيَعْبُدُوْا اللّهَ}.ولا شك أن العبادة من جملة الأفعال التي تقع على أوجه مختلفة، ولا يمكن تخصيصها إلا بالنية، فلهذا أوجبنا اعتبار النية لأجل كونها عبادة، والعبادة من حقها القربة، والقربة لا تكون قربة إلا باشتراط النية.
__________
(1) في الأصل: (وهو مشتمل على فروع عشرة) بينما هي في الواقع ستة عشر فرعاً بحسب تصنيف المؤلف.
وثانيهما: قوله تعالى:{مُخْلِصِيْنَ لَهُ الْدِّيْنَ}. والإخلاص لله تعالى بالفعل لا يكون إلا بالنية؛ لأن حقيقة الإخلاص هو أن يقصد بالفعل وجه اللّه تعالى لا يراد سواه، وهذا إنما يكون بالنية لا غير، فلهذا وجب اعتبارها في الوضوء بظاهر الآية.
الحجة الثانية: قوله ً: (( لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة )).
ووجه الاحتجاج بالخبر: هو أنه ً صرح بنفي العمل إلاَّ بالنية، والمعلوم أن العمل يوجد وإن لم تكن هناك نية، فدل على أن المراد: لا حكم للعمل إلا بالنية. وذلك الحكم هو الإجزاء فنفى الإجزاء عند عدم النية، وهذا هو مرادنا بكونه شرطاً في الوضوء.
الحجة الثالثة: من جهة القياس وحاصلها: أنها طهارة عن حدث فوجب أن تكون من شرط صحتها النية كالتيمم، أو نقول: طهارة موجبها في غير محل موجبها فكان من شرطها النية كالتيمم، ويؤيد ما ذكرناه من تقرير قاعدة القياس، قول من قال من علماء القياس لما فهم كثرة الموافقة بينهما، فلهذا وجب اشتراط النية في الوضوء.
المذهب الثاني: أن النية غير واجبة في الوضوء ولا تشترط في إجزائه، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: من جهة القياس، وحاصل ما قالوه: أنه أصل تستباح به الصلاة فلم يكن مفتقراً إلى النية، كإزالة النجاسة وستر العورة، أو نقول: طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة، ولهم أقيسة غير هذا نستقصيها في الانتصار عليهم، وهذا المذهب يحكى عن سفيان الثوري.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من علماء الأمة.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: قوله عليه السلام: (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه )).
ووجه الاحتجاج بالخبر: من أوجه أربعة:
أحدها: قوله عليه السلام: (( إنما الأعمال بالنيات )) فإنه لم يرد أن صور الأعمال لا توجد إلا بالنية؛ لأن صورها قد توجد من غير نية، وإنما أراد أن حكم الأعمال لا توجد إلا بنية ومن حكمها الإجزاء، فقد دل ظاهر الخبر على أن العمل لا يجزي من غير نية وهو المقصود.
وثانيها: قوله ً: (( وإنما لكل امرئ ما نوى)). وإنما ظاهرها الحصر؛ لأنها في معنى النفي والإثبات، والتقدير فيها: ما الأعمال إلا بالنيات، كقولك: إنما العالم زيد، أي: ما العالم إلا زيد. فحاصلها: نفي جميع أحكام الأعمال إلاّ بالنية.
وثالثها: قوله: (( وإنما لكل امرئ ما نوى)).
وهذا من أقوى أدلة الخطاب أعني ما كان متردداً بين النفي والإثبات، فحاصل خطابه: أن كل ما ليس فيه نية فليس له [وجود عملي] أي أنه غير مجزٍ له ولا ثواب له عليه.
ورابعها: أن الخطاب وارد على سبب خاص، وذلك أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة بسبب امرأة يقال لها: أم قيس، فبلغ ذلك رسول اللّه ً فقال: (( إنما الأعمال بالنيات )).. الخبر إلى آخره، فأخبر أن الأعمال لا تكون قربة وطاعة إلا بالقصد إلى الطاعة والقربة.
الحجة الثانية: قياسية، وتقريرها أن الوضوء عبادة محضة طريقها الأفعال، فلم تصح من غير نية كالصلاة.
قولنا: عبادة؛ لأنه من جملة العبادات لقوله ً: (( الوضوء شطر الإيمان )). وأراد بهذا أن الصلاة يقال لها: الإيمان، بدليل قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيْعَ إِيْمَانَكُمْ }[البقرة:143]. أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فلما كانت الصلاة هي الإيمان وهي لا تصح من دون الوضوء، فلا جرم قال: (( الوضوء شطر الإيمان)). يعني شطر الصلاة؛ لأن فعلها نصف وفعل الوضوء نصف.
وقولنا: محضة. نحترز به عن العدة فإنها وإن كانت عبادة لا يعقل معناها فليس الغرض بها براءة الرحم [فحسب]، ولهذا فإنه لو قال: إذا تيقنت براءة رحمك فأنت طالق، فإنها تجب عليها العدة، فدل ذلك على كونها عبادة لا يعقل معناها لكنها غير محضة، فلهذا لم تكن مفتقرة إلى النية، فلو اعتدت من غير نية أجزأها الاعتداد كما سنوضحه(1).
وقولنا: طريقها الأعمال، نحترز به عن الخطبة في الجمعة فإنها تصح من غير نية لما كان طريقها الأقوال، فتقرر بما ذكرناه اشتراط النية في الوضوء بما أشرنا إليه من الأدلة.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه في ذلك.
قالوا: أصل تستباح به الصلاة فلم يفتقر إلى النية، كستر العورة، وإزالة النجاسة.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن قولكم: أصل تستباح [به] الصلاة باطل، فإن الأصول والأبدال مستوية في الافتقار إلى النية، كالعتق، والصوم، والظهر، والجمعة، وغير ذلك من الأصول والأبدال، فلا وجه لتقييد عدم النية لكونه أصلاً لما ذكرناه.
وأما ثانياً: فلأن ستر العورة لا نسلم أنه لا يفتقر إلى النية بل نقول: إنه يفتقر، لكن نية الصلاة تشتمل عليه؛ لأنه من جملة الصلاة، كما تشتمل على سائر أفعال الصلاة، فلهذا لم يحتج إلى تخصيص بالنية، ثم لو سلمنا أنه لا يفتقر إلى النية؛ فلأنه ليس مقصوداً للصلاة على الخصوص، بل كما يجب للصلاة فهو واجب لغيرها.
وأما ثالثاً: فلأن أقرب ما تمسكوا به قياسهم على غسل النجاسة وهو فاسد من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن إزالة النجاسة نقل عين غير مستحقة فلم تفتقر إلى النية كرد الوديعة، والوضوء تطهير حُكْمِيٌّ فهو كالزكاة والصيام.
__________
(1) إذا يؤخذ من هذا أن العدة ليست عبادة؛ لأنها ليست قربة بدليل أنه لا يشترط فيها نية، بحسب ما سبق من كلام المؤلف في تعريف القربة.
وأما ثانياً: فلأن إزالة النجاسة من جملة التروك فلم تفتقر إلى النية(1)، والوضوء من جملة الأفعال فافتقر إلى النية، ولهذا فإن تروك الصلاة لا تفتقر إلى النية، كالمشي والكلام والضحك، وتفتقر أفعالها إلى النية كالقيام والقعود والركوع والسجود؛ لكنه لا يلزم مداومتها، بل قد اندرجت تحت النية الأولى، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن جميع التروك الشرعية غير مفتقرة إلى النية كالزنا والغصب والسرقة، بخلاف الأفعال الشرعية فإنها كلها مفتقرة إلى النية كالصلاة والصوم والحج وجميع العبادات.
وأما ثالثاً: فلأنه لا تأثير للنية في النجاسة فلهذا بطل كونها مشترطة فيها بخلاف الوضوء فإن للنية فيه تأثيراً، ولهذا فإنه لوصب الماء النجس على الماء الطاهر صار نجساً نوى أو لم ينو. ولو صب الماء على الحدث ونوى كان مستعملاً ولم يجز التوضؤ به، على رأي من زعم ذلك. ولولم يكن ناوياً لم يصر مستعملاً وجاز التوضؤ به، فظهر بما ذكرناه أن للنية مدخلاً في الوضوء، وليس لها مدخل في غسل النجاسة، فبان أنها مفارقة للوضوء من هذه الأوجه فبطل قياسه عليها.
قالوا: التيمم بدل ضعيف فلا جرم افتقر [إلى النية] كالكناية، والوضوء أصل قوي فلهذا لم يكن مفتقراً إلى النية كالصريح.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) بل إزالة النجاسة فعل هو الغسل، وإنما الترك تجنبها، ولعل المؤلف قصد أن الإزالة فعل سالب وليس موجباً، ولذا لا تقاس على الوضوء.
أما أولاً: فلأن الكناية إنما افتقرت إلى النية من أجل أنها تحتمل الطلاق وغيره احتمالاً واحداً، فلهذا افتقرت إلى النية لتخصيص أحد الاحتمالين إلى الآخر، بخلاف الصريح فإنه نص في الطلاق لا يحتمل غيره فلم يكن مفتقراً إلى النية، وهاهنا هو الوضوء كالتيمم في الافتقار إلى النية من أجل كونهما طهارتين، بل نقول: التيمم أظهر في القربة من جهة أنه لا يُفعل إلا عبادة، بخلاف الوضوء فإنه قد يُفعل للتبرد، فإذا كان التيمم مفتقراً إلى النية فالوضوء أحق بذلك وأولى.
وأما ثانياً: فلأن المسح على الخف والمسح على الجبيرة قد اشتركا في كونهما مسحين، كما اشترك الوضوء والتيمم في كونهما طهارتين، ولا شك أن المسح على الخف على رأيكم أقوى، والمسح على الجبيرة بدل ضعيف، ومع ذلك فإنه لا يفتقر إلى النية، فبطل ما توهموه من أن كل ما كان بدلاً ضعيفاً افتقر إلى النية.
قالوا: التيمم يقع تارة بدلاً عن الطهارة الصغرى وهو الوضوء، وتارة يقع بدلاً عن الطهارة الكبرى وهو الغُسل، بخلاف الوضوء فإنه لا يقع بدلاً عن غيره، فلما كان التيمم مختصاً بالأمرين جميعاً احتاج إلى النية؛ لتكون إحداهما متميزة عن الأخرى، ولما كان الوضوء لا يقع إلا عن نفسه لم يكن مفتقراً إلى النية.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فمن جهة الفرق، وحاصله هو أن الوضوء لما كان هو رافع للحدث لا جرم لم يكن إلا للطهارة الصغرى وهي طهارة الحدث، وهكذا الغسل فإنه لما كان رافعاً للحدث [الأصغر] كان رافعاً للحدث الأكبر وهو الجنابة بخلاف التيمم، فإنه غير رافع للحدث، ثم يستباح به ما كان محظوراً؛ فلأجل هذا جاز أن يكون بدلاً عن الطهارتين جميعاً بصفة واحدة فافترقا.
وأما ثانياً: فلأنه إذا كان حاجة التيمم إلى نية ليكون مميزاً لإحدى الطهارتين عن الأخرى، فيجب أن يشترطوا نية التمييز، وعند أبي حنيفة: أنه لا يحتاج التيمم إلى نية التمييز فبطل ما ظنوه.
قالوا: التيمم وردت فيه الأدلة الشرعية بالنص على اشتراط النية، فيه حيث قال تعالى: {فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً}[النساء:43]. ولا شك أن التيمم هو القصد، والوضوء لم يرد فيه نص يكون مقتضياً للنية، ومن حق المنصوصات أن لا يقاس بعضها على بعض؛ لأن النصوصية تمنع من جري القياس.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم التنصيص على النية في التيمم، وبيانه: ما تريدون بقولكم إن التيمم ورد فيه النص على النية؟ فإن أردتم أنه قال: تيمموا، ولا شك أن التيمم هو القصد، فهذا خطأ فإن هذا ليس نصاً على النية التي نريدها في الإجزاء للصلاة، فإنه قال:{فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً} والقصد إلى الصعيد ليس نية شرعية مقصودة للصلاة، وإن أردتم أن التنصيص من جهة الفاء حيث قال:{فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً فَامْسَحُوْا بِوُجُوْهِكُمْ} فرتب الفاء على ما قبلها، فليس هذا من قبيل التنصيص على العلة، وإنما هو من قبيل الإيماء، وقد حصل في الوضوء ما هو أقوى منه حيث قال تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6]. والغرض إذا قصدتم إلى الصلاة فاقصدوا إلى الغسل فيكون حالهما على جهة الاستواء من غير تفرقة.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أنه نص على القصد في التيمم، وعلى اعتباره فيه ولم ينص على اعتبار النية في الوضوء، فجائز أن يقاس أحدهما على الآخر كونهما طهارتين تؤدى بهما الصلاة، فإذا افتقر أحدهما إلى النية وجب في الآخر مثله، ومن جهة أن كل عبادة افتقر بدلها إلى النية وجب افتقارها إلى النية أيضاً كالعتق مع الصوم في الكفارة عن الظهار.
قولهم: المنصوصات لا يقاس بعضها على بعض، إنما لا يقاس المنصوص على المنصوص في الحكم الذي نص عليه، إذ لا فائدة في ذلك لأنهما جميعاً ثابتان بالنص فاستغنيا عن القياس، ولا شك أن النية في الوضوء غير منصوص عليها، فلهذا جاز قياسه على التيمم بالجامع الذي ذكرناه فسقط ما زعموه.
الفرع الثاني: في صفة النية، فإن نوى المتوضئ بوضوئه رفع الحدث، فهل تجزيه هذه النية أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يرتفع حدثه ويؤدي به ما شاء من الصلوات، وهذا هو رأي المؤيد بالله، وهو قول الشافعي وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه إذا نوى رفع الحدث على الإطلاق أو الطهارة عن الحدث فقد نوى ما هو المقصود، فيجب أن يؤدي به ما شاء من الصلوات؛ لأن الغرض هو رفع الأحداث وزوالها بالطهارة عنها.
المذهب الثاني: أنه لو نوى رفع الحدث لم يكن رافعاً للحدث ولم يُؤد به شيئاً من الصلوات، وهذا هو الذي ذكره محمد بن يحيى، وهو اختيار السيدين: أبي طالب وأبي العباس.
والحجة على ذلك: هو أن الواجب في الوضوء أن يكون له تعلق بالصلاة واختصاص، بدليل قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6]. لأن المراد فاغسلوا وجوهكم للصلاة التي قمتم إليها، ولا شك أن القيام إنما يكون إلى صلاة معينة؛ لأنه في حالة واحدة أو وقت واحد يستحيل أن يكون قائماً إلى جميعها، ومن توضأ ونوى به رفع الحدث، فإنه لا تعلق له بالصلاة بحال كما لو نوى التبرد به، أو نوى الطهارة من النجس.
والمختار: ما عول عليه المؤيد بالله وهو رأي الأكثر من علماء الأمة، ويدل عليه ما حكيناه عنه، ونزيد هاهنا وجوهاً من القياس:
أما أولاً: فلأن امتناع الصلاة إنما كان من أجل الحدث، فإذا نوى رفع الحدث فقد نوى رفع ما يكون مانعاً من الصلاة، فلهذا كان ذلك مجزياً في تأدية كل صلاة من فرض أو نفل.
وأما ثانياً: فلأن الإجماع منعقد على أن الخطاب في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا}. إنما يتناول المحدث دون من كان على طهارة، فهو مخصوص بالإجماع أنه لا يجب عليه الوضوء، وعلى هذا يكون التقدير في الآية: يا أيها الذي آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا، فرتب الفاء على قوله: وأنتم محدثون، وهي دالة على السببية، وهذا يقتضي بأن الحدث [حامل] على الوضوء وسبب فيه، وهذا يصدق ما قاله المؤيد بالله من أن الحدث إذا نُوي رفعه جازت به الصلوات كلها لما ذكرناه من أن الحدث لابد من اعتباره في الوضوء بالإجماع.
وأما ثالثاً: فلأن الحدث لما كان مبطلاً للصلاة ناقضاً للطهارة، فيجب أن يكون الوضوء والتطهير مؤثراً في الطهارة وسبباً في صحة الصلاة، فكيف يقال بأنه لا تعلق للوضوء بالصلاة كما زعموه؟ والعجب ممن قال بأن رفع الحدث لا تعلق له بالصلاة مع إشارة الآية إلى ذلك كما قررناه من إيمائها ولا تعلق أعظم من إشارة اللفظ إليه، ولهذا فإن الإيماءات الشرعية في تقرير العلة تِلْو للنصوص الشرعية عليها، وهي في الرتبة الثانية من بيان العلة، وقد أشارت إلى اعتبار الوضوء في الصلاة وتعلقها به مع ما ذكرناه من وجوه المقاييس الدالة على تعلقه بالصلاة وكونه مختصاً بها.
الانتصار: يكون بإبطال ما عداه.
قالوا: الواجب في الوضوء أن يكون له تعلق بالصلاة، بدليل الآية وهي قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا}[المائدة:6]. وليس الغرض القيام إليها أجمع ولا إلى صلاة مبهمة وإنما الغرض إلى صلاة معينة؛ فلهذا وجب تعيينها. ورفع الحدث لا تعلق له بالصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن اسم الصلاة اسم جنس لكونه مستغرقاً باللام، وعلى هذا يكون معنى الآية وفائدتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ}[المائدة:6]. أَي صلاة كانت، إما مؤداة في وقتها أو مقضية، أوكانت فرضاً أو نفلاً، فلابد من أن تكونوا على صفة الطهارة وشرطها، بأن تغسلوا وجوهكم، إلى آخرها، فهذا هو الذي تشير إليه الآية، فأين هذا عن قولهم: إن الصلاة لابد أن تكون معينة ليصح القصد إليها؟ والقصد صحيح إلى جميعها بالاعتبار الذي أشرنا إليه. وكان يصح ما ذكروه من اعتبار قصد الوضوء لصلاة معينة لو قال: إذا قمتم إلى الصلاة، أي وغرضكم الصلاة، فكان ذلك ظاهراً في تخصيص النية لفرض مخصوص، فأما إذا جعل الصلاة غاية كما في ظاهر الآية حيث قال:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ} كما تقول: قمت إلى عملي، وقمت إلى شغلي، فتجعله غاية، وانتهاء للفعل كما جعل القيام إلى الصلاة غاية للقيام وانتهائه، وعلى هذا يكون اعتبار القصد بالوضوء لفرض معين غير معتبر من ظاهرها، فبطل قولهم: إنه إذا نوى به فرضاً معيناً لم يجز أن يؤدي به فرضاً آخر.
وأما ثانياً: فكيف يصح ما زعموه(1) من أن رفع الحدث لا تعلق له بالصلاة؟ وأي تعلق أعظم من أنها لا تكون صحيحة إلا بوجوده وثبوته على شرائطه الشرعية المعتبرة فيه، فمتى ارتفع الحدث فالصلاة صحيحة، ومتى لم يكن مرتفعاً فلا وجه للصلاة، فقد اطرد صحة الصلاة، وانعكس بشرط ارتفاع الحدث ووقوعه كما قررناه، ولا تعلق أعظم من ذلك.
قالوا: من نوى بوضوئه رفع الحدث فقد نوى أمراً غير مختص بالصلاة، فيجب أن لا يكون صحيحاً، ولا ينعقد كما لو نوى به التبرد؛ لأنهما قد اجتمعا في كونهما غير مختصين بالصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) في الأصل: فكيف يصح ما زعموه مع أن. والصواب: ما زعموه من أن...إلخ. وإلاَّ انقلب المعنى والله أعلم.
أما أولاً: فلأنا قد أوضحنا وجه اطراد صحة الصلاة وانعكاسها برفع الحدث وثبوته فأغنى عن إعادته.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: ما تعنون بقولكم إن رفع الحدث لا تعلق له بالصلاة فهو كالتبرد؟ فإن أردتم أن رفع الحدث مباح كما أن التبرد بالماء مباح فهذا خطأ، فإن رفع الحدث قربة تعتبر في الصلاة بخلاف التبرد فإنه مباح لا تعلق له بالقُربة، وإن أردتم أن كل واحد من رفع الحدث والتبرد لا تعلق لهما بعين الصلاة المؤداة المفروضة، فهذا مسلم ولا يضرنا، فإنا نقول: إن رفع الحدث وإن كان غير متعلق بصلاة معينة فإنه إذا نوى به رفع الحدث فإنه يصلح أن يؤدي به جميع الصلوات، وإن كان لا تعلق له بصلاة معينة مفروضة ولا نافلة، بخلاف التبرد فإن غايته أمر مباح لا تعلق له بالقُرب، فلهذا لم يكن الوضوء المقصود به التبرد يصلح لتأدية شيء من الصلوات لعدم القربة فيه فافترقا.
قالوا: من ينوي بوضوئه رفع الحدث فقد يكون بنية متعلقة بنفس الطهارة دون أداء الصلاة بها بأن يكون ناوياً رفع الحدث فيكون على طهارة فقط، فلهذا قلنا: إنه لا يجوز تأدية شيء من الصلوات إذا كان ناوياً بوضوئه ذلك.
قلنا: ليس يخلوا لحال إما أن ينوي الطهارة مطلقاً أو ينوي الطهارة عن الحدث، فإذا نوى الطهارة مطلقاً لم يكن مجزياً له أن يؤدي بهذا الوضوء شيئاً من الصلوات؛ لأن الطهارة المطلقة لا تعلق لها بالصلوات كما لو نوى به التبرد، وقد حكى البويطي عن الشافعي: أنه إذا نوى الطهارة المطلقة بوضوئه أجزأه، والصحيح عند الأكثر من أصحاب الشافعي أنه لا يجزيه. وقالوا: إنما ذكره في (البويطي) محمول على أنه نوى به الطهارة عن الحدث لا مطلق الطهارة، وإن أراد الثاني وهو أنه نوى به الطهارة عن الحدث أجزأه لا محالة كما مر تقريره؛ لأنه مع نية رفع الحدث لا يحتمل إلا الصلاة، بخلاف ما إذا أطلقه فإنه كما يحتمل الصلاة فإنه محتمل لغيرها فافترقا، فوضح بما لخصناه: أنه مهما نوى بوضوئه رفع الحدث فإنه يكون مجزياً لتأدية جميع الصلوات، ولولا أن الأمارات الشرعية مختلفة باختلاف قرائح المجتهدين في مواقع الأنظار الفقهية والمضطربات الاجتهادية فحالها كحال المغناطيس يجذب الحديد ولا يجذب الرصاص والنحاس، لكنت شديد التعجب من نظر الإمام أبي طالب مع ما خصه اللّه تعالى به من اتقاد القريحة وجودة الفطنة والرأي الموفق حيث قال: بأن الوضوء المقصود به رفع الحدث لا يكون مجزياً لتأدية الصلاة على الإطلاق.
الفرع الثالث: في تقرير مسائل صفة النية على رأي المؤيد بالله.
إذا نوى المتوضئ بوضوئه رفع الحدث أو الطهارة عن الحدث أوالطهارة من أجل الحدث أجزأه ذلك؛ لأنه قد نوى به المقصود فلهذا كان مجزياً له، فإن نوى الطهارة المطلقة ولم ينو رفع الحدث لم يجزه؛ لأن الطهارة قد تقع عن حدث وتقع عن نجس، فلابد من النية ليحصل الميز بينهما، فقد حكينا ما كان في (البويطي) عن الشافعي وتأويل أصحابه له، وإن نوى المحدث بوضوئه رفع الجنابة لم يجزه على رأي المؤيد بالله وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه يجزيه.
والحجة على ما قلناه: أنه نوى غير ما هو المقصود فلم يكن مجزياً له كما لو نوى به التبرد، وإن نوى الجنب رفع الحدث عن جميع بدنه اجزأه ذلك، وإن نوى الجنب رفع الحدث الأصغر فهل يجزيه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجزيه وضوؤه؛ لأنه نوى به غير منويها فلا يجزيه إذ ليس هناك حدث أصغر مع وجود الأكبر.
وثانيهما: أنه يجزيه وهذا هو الأصح، ويرتفع الحدث عن أعضاء الوضوء لا غير، لأنه إذا كان جنباً فهو محدث أيضاً، فإذا رفع الحدث الأصغر أجزأه لكونه متحققاً في حقه. وإذا نوى الطهارة لأمر يتعذر وقوعه من غير طهارة أجزأه ذلك، كأن ينوي بوضوئه الصلاة على الإطلاق أو صلاة الجنازة أو صلاة الضحى أو الطواف أو سجود التلاوة أو سجود الشكر، على رأي من يعتبر الطهارة في هذه الأمور، فإنه يرتفع حدثه من جهة أن فعل هذه الأشياء لا يصح من غير طهارة، فإذا نوى الطهارة لها فقد تضمنت رفع الحدث، وإن نوى الطهارة لفعل يصح من غير طهارة ولا تستحب فيه الطهارة كالأكل والشرب واللباس والدخول على السلطان ودخول الحمام، وغير ذلك، لم يرتفع حدثه لأنه يستبيح فعل هذه الأشياء من غير طهارة، فلأجل هذا لم تكن نيته لها متضمنة لرفع الحدث، وإن نوى الطهارة لأمر يصح من غير طهارة؛ لكنه يستحب فيه الطهارة كقراءة القرآن، والاعتكاف، ورواية الحديث، وغير ذلك، فالأقرب على رأي المؤيد بالله: أنه لا يرتفع حدثه وهو أحد قولي الشافعي؛ وله قول آخر: أنه يرتفع حدثه لأنه يستحب له فعل هذه الأمور وهو طاهر، فلهذا كانت نيته لها متضمنة رفع الحدث.
والحجة على ما قلنا: هو أن فعل هذه الأشياء يصح من غير طهارة فلم تتضمن نيته لها رفع الحدث كما لو نوى بوضوئه أكل الطعام، وإن نوى بوضوئه غسل يوم الجمعة أجزأه ذلك؛ لأن غسل يوم الجمعة إنما يراد للصلاة، لقوله ً: (( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل))(1). فدل على أن الغسل قائم مقام الوضوء، وإن نوى رفع الحدث والتبرد ففيه تردد والأقرب صحته، كما قال الهادي عليه السلام: إن توضأ مُعَلّماً للغير أجزأه الوضوء، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه لا يجزيه من جهة أنه أشرك في النية بين القُربة وغيرها.
والحجة على ما قلناه: وهو المنصوص للهادي، والشافعي: هو أنه قد نوى رفع الحدث وضم إليه مالولم ينوه لحصل مقصوده، فصار كالصلاة ينوي بها الصلاة، وينوي دفع خصمه باشتغاله، فكما أن ذلك لا يؤثر في الصلاة فهكذا ما نحن فيه، وما ذكرناه أنه قول الهادي هو أنه إذا نوى مع نية الصلاة تعليم الغير لا إذا نوى رفع الحدث.
الفرع الرابع: في تقرير مسائل صفة النية على رأي الإمام أبي طالب.
__________
(1) سيأتي في الغسل وصلاة الجمعة.
إذا نوى بوضوئه أن يؤدي به فرضاً على الإطلاق جاز أن يؤدي به ما شاء من الفرائض؛ لأنه إذا نوى به فرضاً مطلقاً فالفرض عام وهو متعلَّق للوضوء، لأنه مفعول لأجله فلهذا كان مجزياً له، ويجوز تأدية النفل به؛ لأن ما صلح للفرض [فهو] صالح [للنفل] من جهة أن الفرض نفل وزيادة؛ لأن الفرض هو: ما الأولى(1) فعله ولا يجوز تركه، والنفل هو: ما الأولى فعله ولا يحرم تركه، فلما كان الفرض نفلاً وزيادة جاز أن يؤدي بالوضوء الذي نوى به الفرض النافلة لما ذكرناه، وإن نوى به فرضاً معيناً لم يجز أن يؤدي به فرضاً آخر من [جهة] أن هذه صلاة مفروضة لم ينوها بوضوئه، فيجب أن لا تكون صحيحة كما لو نوى للتَّبَرُدِ، ويجوز تأدية النفل بهذا الوضوء لما ذكرناه من أن ما صلح للفرض فهو بعينه صالح للنفل، ومن أجل أن النفل في المرتبة دون مرتبة الفرض، فإذا صلح لتأدية الفرض المعين كان صالحاً لتأدية النفل من غير تفرقة بينهما، وإن توضأ بنية النفل فإنه لا يجوز أن يؤدي الفرض، من جهة أن الوضوء طهارة تستباح بها الصلاة، فالمفعول بنية النفل لا يقع عن الفرض كالتيمم، ويجوز أن يؤدي به النفل؛ لأن ما صلح لتأدية النفل جاز أن يؤدى به نفل آخر لاندراجهما جميعاً تحت النافلة.
__________
(1) بمعنى: ما يجب.
ووجه آخر يبطل أن الوضوء للنفل لا يؤدى به الفرض: وهو أن الوضوء عبادة يبطل بالحدث، فالمفعول بنية النفل لا يقع عن الفرض كالتيمم، فحاصل الأمر على ما ذكره السيد أبوطالب: من أن الوضوء لابد من أن يكون له تعلق بالصلاة لقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6].فالمراد به فاغسلوا وجوهكم للصلاة التي تقومون إليها، والقيام إنما يكون إلى صلاة معينة؛ لأنه يستحيل القيام إليها أجمع ويستحيل القيام إلى صلاة غير معينة، وإذا كان القيام مأموراً به إلى صلاة معينة وجب في الوضوء أن يكون مخصوصاً بها موقوفاً في الصحة والثبوت عليها، وعلى هذا لا يجوز أن يؤدي به فرضاً آخر، ويجوز تأدية النافلة، وإن نوى وضوءه للنفل فإنه يجوز أن يؤدي [به] نافلة أخرى من جهة أن النوافل متسعة وللشرع فيها تساهل، فهكذا يكون تقرير كلام السيد أبي طالب فيما قاله. وقد أجبنا عن الكلمات التي أوردوها في تقرير هذه القاعدة وأوضحنا الانتصار عليها فأغنى عن التكرير.
الفرع الخامس: في تفريق النية:
اعلم أن المراد بتفريق النية في ألسنة الفقهاء: هو إفراد النية لغسل كل عضو من غير نية لغسل ما بعده، ومثاله: أن ينوي بالمضمضة والاستنشاق، ثم ينوي غسل الوجه، ثم اليدين، ثم الرجلين، فهذا معنى تفريق النية على اصطلاحهم. وهل يكون ذلك جائزاً أم لا؟ فيه لأصحاب الشافعي وجهان:
أحدهما: أنه لا يجزيه ذلك من جهة أن الطهارة عبادة واحدة فلم يصح تفريق النية [فيها] كالصلاة والصوم.
وثانيهما: أن ذلك صحيح ويكون مجزياً؛ لأن تفريق النية باعتبار أعضاء الوضوء لا تبطل ما فعله أولاً منها، فلهذا كان مجزياً، وهذا هو الذي عليه أئمة العترة أن النية إذا حصلت أولاً في أول أعضاء الوضوء فإنها تكون مجزية؛ لأنها تكون مسترسلة بحكم الشرع على جميع أعضاء الطهارة، وأما إذا كرر النية فذلك معنى الاستصحاب.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود من نية الوضوء أن يكون مراداً به القربة وتأدية الصلاة، وهذا حاصل بالنية في أوله فلا يفسدها تكريرها، ولأنه لا يحصل بالإرادة الثانية إلا ما كان حاصلاً بالأولى فلا مانع من تكريرها، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء.
وما يحكى عن المتكلمين من المعتزلة البغدادية والبصرية: من أن المصلي يحتاج إلى أن ينوي القربة لكل ركن من أركان الصلاة والصوم والوضوء والحج وسائر العبادات، فليس ذلك منهم على جهة الاشتراط في الإجزاء، فهذا لا دليل عليه، وإنما الغرض هو تكثير الثواب بتجديد النية في كل عضو من أعضاء الطهارة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن تفريقها على الأعضاء جائز، وأن ذلك ليس على جهة الشرط في الإجزاء فلا دليل عليه ولا برهان من جهة الشرع بحال.
نعم.. استدامتها وتكريرها في كل وقت تفعل فيه عند غسل كل عضو، يكون مستحباً لقوله عليه السلام: (( نية المؤمن خير من عمله ونية الفاسق شر من عمله)). وإنما كانت أحسن من العمل لما يحصل فيها من مضاعفة الثواب والأجر، ومن أجل أن العمل يكون متصلحاً بها، فمن أجل ذلك كانت خيراً من العمل لا من أجل أن العبادة مفتقرة في صحتها وإجزائها إلى تكريرها ودوامها.
الفرع السادس: في عزوب النية:
العزوب: هو البعد والانقطاع يقال: عزبت الإبل: إذا بعدت عن مراحاتها، وعَزَبَ فلان يَعْزُبُ: إذا بعد وغاب، وعزب عن فلان حلمه: إذا بعد عنه.
واعلم أن كل من أحدث نية الوضوء في أول أعضائه على حد اختلافهم في الأول منها كما مر تقريره، فإذا نوى عند غسل الوجه مثلاً ثم عزبت نيته أي انقطعت فلم يجددها مرة بعد مرة أجزأه ذلك؛ لأنه إذا نوى الوضوء في الابتداء ثم عزبت نيته بعد إحداثها، ثم غسل باقي الأعضاء، فإن الوضوء يكون مجزياً له، ما لم يصرفها عن منويها.
والحجة على ذلك: هو أنه فاعل لغسل باقي الأعضاء، والفعل من الفاعل لا يقع إلا لغرض، ولا شك أنه لم يحصل تجدد غرض آخر يكون مصروفاً إليه، فلهذا وجب اندراجه تحت الغرض الأول بحكم الشرع. قال السيد أبو العباس: فإن عزبت نيته أجزأه ذلك ما لم يصرفها عن منويها، يشير بكلامه إلى التلخيص الذي ذكرناه، فإن كان عند عزوب النية وانقطاعها صرفها عن منويها بأن أحدث إرادة مخالفة للأولى في متعلقها فسيأتي تقرير حكمه، وهو أنه يرجع إلى العضو الذي غير عنده النية فيستأنف غسله مطابقة للنية السابقة من غير مخالفة لها.
فإن قال قائل: قد ذكرتم فيما سلف أنه إذا نوى الوضوء مع التبرد فإن النية تكون مجزئة له في الوضوء ولا يضر مضامَّة النية ما ليس بقربة، فهلاَّ كانت النية الأولى كافية، وإن قطعها بنية التبرد في بعض أعضائه، فما التفرقة بينهما؟
قلنا: التفرقة ظاهرة، فإنه إذا ضم نية التبرد إلى نية رفع الحدث فقد نواهما جميعاً وفي ذلك تأدية غرضه من العبادة، فلهذا كان مجزياً له، بخلاف ما إذا نوى الحدث في أعضاء الوضوء ثم إنه نوى التبرد في بعضها فإنه إذا نوى التبرد فقد انتقل غرضه ولم تكن إضافته إلى الغرض الأول؛ لأجل كونه مستقلاً بنفسه لاستغنائه عنه، ويفارق ما إذا لم ينو فإنه يكون مندرجاً تحت الأول، ويفارق ما إذا نواهما كما قررناه فافترقا.
الفرع السابع: وإن غسل كفيه ونوى الوضوء عند غسلهما ثم عزبت نيته قبل المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه، فهل يجزيه الوضوء أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يجزيه ذلك، وهذا هو رأي أحمد بن يحيى، ورواية عن القاسم، فهو إذا نوى عند غسلهما أجزأه ذلك لأنهما أول أعضاء الوضوء عنده، كما لو نوى غسل الوجه وسنقرر حكمهما من بعد بمعونة اللّه تعالى.
وثانيهما: أنه إذا نوى عند غسلهما ثم عزبت نيته عند غسل الوجه أو المضمضة والاستنشاق لم تكن مجزية له هذه النية في وضوئه، وهذا هو رأي السيدين الإمامين الأخوين، وغيرهما من علماء العترة.
والحجة على ذلك: هو أنه أحدث النية في غير موضعها ثم عزبت عنه عند اشتغاله بأول أعضاء الطهارة، فلم يكن ذلك مجزياً له كما لو نوى عند خروجه من منزله ثم عزبت نيته عند اشتغاله بأول أعضاء الوضوء.
وإن أحدث نية وضوئه عند المضمضة والاستنشاق ثم عزبت نيته قبل غسل الوجه، فهل تكون تلك النية مجزئة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنها مجزئة سواء عزبت نيته قبل غسل جزء من أجزاء الوجه أو بعده، وهذا هو رأي المؤيد بالله؛ وغيره من علماء العترة.
والحجة على ذلك: هو أنه قد أحدث النية في أول عضو من أعضاء الوضوء ثم عزبت عنه بعد شروعه فيهما، فيجب أن يكون ذلك مجزياً في الوضوء كما لو أحدثها عند غسل الوجه، ثم عزبت عنه قبل غسل اليدين، ولأن محل النية هو أول الأعضاء ولا يلزم استمرارها، فانقطاعها وعزوبها لا يطرق خللاً في النية الأولى كما لو غسل الوجه وعزبت نيته بعد ذلك.
وثانيهما: أنه ينظر في ذلك، وهذا هو المحكي عن الشافعي، فإن كان قد نوى الوضوء عند المضمضة والاستنشاق ثم عزبت نيته وانقطعت بعد غسل جزء من وجهه نحو غسل رأس الأنف أو شق الشفة بنيته غسل الوجه، اجزأه ذلك ولم يؤثر انقطاع النية بعد ذلك؛ لأنها وجدت مع أول فرض من فروض الطهارة، وإن غسل جزءاً من الوجه لا بهذه النية فهل يجزي أم لا؟ فيه لهم وجهان:
أحدهما: أنه يجزيه، لأنه فعل مشروع في الوضوء فإذا عزبت نيته عنده أجزأه كغسل الوجه.
وثانيهما: أنه لا يجزيه، وهو الأصح من قولي الشافعي عند أصحابه؛ لأن نيته عزبت قبل غسل المفروض فلم تجز كما لو عزبت نيته عند غسل الكف، ثم لو عزبت نيته وانقطعت بعد غسل الكف فهل تكون مجزية أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها مجزية كما قاله أحمد بن يحيى.
وثانيهما: أنها غير مجزية كما قاله المؤيد بالله، وقد قدمنا ذكر التوجيه في الوجهين فلا حاجة إلى تكريره.
الفرع الثامن: في صرف النية:
اعلم أن كل من نوى في أول عضو من أعضاء الطهارة، رفع الحدث أو تأدية الصلاة على الإطلاق، ثم صرف نيته عن هذه الجهة وغَيَّرها عنها نظرت، فإن كان صرفه للنية من جهة العبادة إلى جهة المباح كأن يغسل بعض أعضائه بنية رفع الحدث وبعضها بنية التبرد أو بنية التنظيف عن الأدران، فإذا فعل ذلك فإنه يجب عليه أن يعود إلى الموضع الذي صرف النية فيه فيعيد غسله، وما بعده بنية مستأنفة مطابقة للنية الأولى.
والحجة على ذلك: هو أن النية معتبرة في الوضوء كما أسلفنا تقريره فإذا صرفها إلى ما ذكرناه فقد أخرجه عن نية القربة، فلهذا لم يكن مجزياً إلا بالإعادة فيما صرف منه النية ليكون الوضوء كاملاً على الوجه المشروع لتأدية الصلاة، ولا يلزمه غسل ما قد كان غسله بالنية المتقدمة؛ لأنها مطابقة للمقصود فلا وجه لإعادتها.
وإن كان صرفه للنية من جهة من العبادة إلى جهة أخرى نظرت، فإن صرفها من فرض إلى نفل أومن فرض إلى فرض فهل تكون النية مجزية أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنها مجزية مع هذا النوع من الصرف، وهذا هو رأي المؤيد بالله، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن ما ذكرناه لا يطرق خللاً في أصل النية؛ لأنه لو نوى هذه الأمور في أول أعضاء الوضوء كان مجزياً فهكذا إذا وقع الصرف والتغيير إليها يكون مجزياً أيضاً.
وثانيهما: أنه إن أراد بهذا الوضوء تأدية النوافل جاز ذلك وإن أراد به تأدية الفرائض لم يجز ويلزمه العود إلى العضو الذي غير فيه النية، فيغسله وما بعده بنية الفرض، وهذا هو رأي السيد أبي طالب.
والحجة على ذلك: هو أن ما قررناه من قبل من أن للوضوء خصوصاً بالصلاة المفعولة فإذا عينه لفرض تعين له ولم يجز تأدية فرض آخر به، وإن عينه لفرض جاز تأدية النفل به كما مر تقريره، فإن أراد الفرض الأول وجب أن يعود إلى العضو الذي غير النية عنده ثم يستأنف غسله وما بعده بنية مستأنفة، وإن أراد الفرض الثاني وجب إعادة الوضوء من الأصل ليكون الوضوء مؤدى على حالته المشروعة.
الفرع التاسع: في قطع النية، وإذا فرغ من الوضوء بنيته، ثم نوى قطعه فهل تبطل الطهارة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو المشهو ر لأصحاب الشافعي، أن الطهارة لا تبطل؛ لأنها عبادة فلم تبطل بنية القطع لها كالصلاة بعد فراغه منها.
وثانيهما: أنها تبطل، وهذا هو الذي ذكره بعض أصحابه؛ لأنه نوى قطعها فوجب أن تبطل كما لو ارتد.
والمختار على رأي أئمة العترة: أن الطهارة لا تبطل بهذه النية، لقوله تعالى:{وَلاَ تُبْطِلُوْا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. وقوله تعالى:{وَلاَ تَكُوْنُوْا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثَاً}[النحل:92]. ولأنه قد تقرر الوضوء بحكمه وإجزائه، والنية لا تأثير لها في إبطال الأعمال الصحيحة؛ لأن النية لا تكون مؤثرة إلا في الأعمال المستقبلة، ولا تكون مؤثرة بانعطافها على ما قبل إلا بدلالة شرعية؛ ولا دلالة هاهنا تدل على ذلك، فبطل حكمه.
وإن غسل بعض أعضائه ثم نوى قطع الطهارة ففيه وجهان أيضاً:
أحدهما: أنها تبطل، كما لو نوى قطعها بعد الفراغ منها.
وثانيهما: أنها لا تبطل، وهذا هو المختار على رأي أئمة العترة؛ لأن ما مضى قد تم لاستكمال شرائطه، فورود القطع عليه لا يبطل حكمه بعد ثبوته واستقراره ولا يبطل إلا بالحدث.
فإن قال قائل: قد ذكرتم فيما سبق أنه لو نوى بوضوئه رفع الحدث والتبرد جاز ذلك، وجاز تأدية الصلاة بهذا الوضوء، فلو نوى بصلاته الفرض والتطوع وفي صومه كذلك [فيلزم] أن يكون مجزياً، وإن منعتم من ذلك فما التفرقة بينهما؟
فجوابه: أنا نمنع من صحة ذلك في الصوم والصلاة، والتفرقة بينهما وبين الوضوء ظاهرة، وهو أن التبرد لا يفتقر إلى نية فلو غسل أعضاءه حصل التبرد وإن لم تكن هناك نية، فإذا أشرك بين الوضوء والتبرد لم يكن ذلك الاشتراك مؤثراً في نيته بخلاف صلاة الفرض والنفل فإن كل واحد منهما يحتاج إلى نية مستقلة بنفسها فكانا متغايرين، فلهذا كان الاشتراك مانعاً فافترقا. ونظير ما ذكرناه: أنه لو صلى وقصد بالصلاة دفع خصومة غيره فإن صلاته تكون صحيحة من جهة أن قطع خصومة غيره لا تفتقر إلى نية، فلهذا لم يكن بينهما تغاير فلهذا كان جائزاً.
الفرع العاشر: في حكم الأحداث إذا نوى رفع بعضها:
اعلم أن كل من أحدث أحداثاً في بعض الطهارة ونوى عند وضوئه رفعها ارتفعت؛ لأنه قد نوى رفعها فوجب ارتفاعها بحكم الشرع، وإن نوى رفع بعضها من غير تعيين لواحد منها وإبقاء غيره فهل يصح هذا الوضوء أم لا؟ فيه أربعة أوجه لأصحاب الشافعي:
أحدها: أنه لا يصح وضوؤه؛ لأنه لم ينو رفع الأحداث كلها، والأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
وثانيها: أنه إذا نوى رفع الحدث الأول ارتفع الجميع منها، وإن نوى غيره لم يصح وضوؤه؛ لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول فإذا نواه ارتفع الجميع.
وثالثها: أنه إذا نوى رفع الحدث الآخر ارتفع الجميع وإن نوى غيره لم يصح؛ لأنها تتداخل فيكون الحكم في التأثير في بعض الوضوء لآخرها.
ورابعها: أنه يصح وضوؤه وهذا هو المختار على رأي أئمة العترة؛ لأن الأحداث متداخلة فإذا نوى رفع واحد منها لا بعينه ارتفع الجميع.
ومن وجه آخر: وهو أن الواحد منها لا بعينه لما كان مؤثراً في نقض الطهارة فيجب أن تكون نية رفع واحد منها لا بعينه، مؤثرة في انعقاد الوضوء لا محالة، وإن نوى رفع واحد منها بعينه كان مجزياً على رأي أئمة العترة؛ لأن الوضوء غير مختص بنوع دون نوع مع صلاحيته وأهليته لرفع الحدث على جهة الإطلاق، وإن صلى بوضوئه صلاة بعينها ولا يصلي به غيرها، ففيه ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعي:
أحدها: أنه يرتفع حدثه للصلاة التي عينها دون غيرها، وهذا هو الذي يأتي على رأي الإمام أبي طالب.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى )). ونيته قد قصرها على ما ذكرناه فيجب كونها مقصورة عليه.
وثانيها: أنه يرتفع حدثه في حق جميع الصلوات، وهذا هو الذي يأتي على رأي الإمام المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: هو أنه لما نوى صلاة بعينها ارتفع حدثه في حق الجميع من الصلوات، ونيته أن لا يصلي غيرها لا حكم له فيصير كما لو نوى قطع الصلاة بعد الفراغ منها.
وثالثها: أنه لا يصح وضوؤه؛ لأنه لم ينوِ نيةً صحيحةً وهذا لا وجه له؛ لأنه مهما أمكن لهذه النية محمل على الصحة فلا حاجة إلى إبطالها مع إمكان صحتها.
الفرع الحادي عشر: إذا نوى ليُعَلِّمَ غيره فهل يجزيه لتأدية الصلاة أم لا؟ ينظر فيه، فإن لم يكن نوى رفع الحدث لم يكن مجزياً له للصلاة لما رواه عبد خير ) عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) قال: صلى بنا [أمير المؤمنين] صلاة الغداة ثم دخل الرحبة يعني ساحة المسجد فدعا بماء، فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا، فأفرغ على يده من الإناء ثم غسل كفيه إلى آخر الحديث(2). فظاهر الحديث أنه دال على أنه لم يرد بالوضوء إلا تعليم الناس وضوء رسول اللّه ً، ولهذا قال في آخر الحديث: من سره أن يعلم وضوء رسول اللّه ً فهو هذا، ولهذا فإنه لم يُرو أنه صلى بهذا الوضوء شيئاً من الصلوات لما نوى به التعليم لا غير، ولهذا جعله
__________
(1) أبو عمارة عبدخير بن يزيد ويقال: ابن نجيد بن جوني بن عبد عمرو بن عبد يعرب بن الصائب الهمداني الكوفي، أدرك الجاهلية، وروى عن جماعة من الصحابة، منهم: علي، وعائشة، وزيد بن أرقم، وابن مسعود. وثقه ابن معين كما أورد ابن حجر عن عثمان الدارمي. وقال ابن أبي شيبة عن يحيى ابن معين: جاهلي. قيل: إنه عُمِّرَ120سنة. وذكره ابن عبد البر وغيره في الصحابة لإدراكه، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وجزم عبدالصمد الحمصي بصحبته، ولم يذكر سنة وفاته. (تهذيب التهذيب ج6/113).
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ متقاربة. وفي رواية أبي داود عن عبدخير قال: أتانا علي عليه السلام وقد صلى فدعا بطهور، فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى؟ ما يريد إلا ليعلمنا، فدعا بإناء فيه ماء وطشت فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه، ثم تمضمض واستنثر ثلاثاً، تمضمض ونثر من الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثاً، وغسل يده اليمنى ثلاثاً، وغسل يده الشمال ثلاثاً، ثم فعل يده في الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثاً، ورجله الشمال ثلاثاً، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول اللّه ً فهو هذا.
بعد فراغه من تأدية المكتوبة ليكون خاصاً للتعليم، وسنقرر الحديث في صفة الوضوء بمعونة اللّه تعالى.
وإن قصد به رفع الحدث مع تعليم الغير أجزأ ذلك وجاز تأدية الصلاة به، لما روي عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه أنه سئل [عن] الوضوء فدعا بماء فمال إلى الميضاة فأفرغ على يده اليمنى ثم غسل أعضاءه كلها حتى ختم بغسل رجله اليسرى، ثم قال بعد ذلك: أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول اللّه ً يتوضأ، ثم قال(1): (( من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه ))(2). فدل ظاهر الحديث، أنه نوى مع تعليم الغير رفع الحدث عن نفسه، ولهذا صلى بعده هذه الصلاة فمطلق التعليم لا يكفي من غير نية، وإذا نوى به رفع الحدث أجزأ لتأدية الصلاة وإن اقترن به التعليم.
الفرع الثاني عشر: إذا وضَّأ الرجلَ غيرُه صح وضوؤه عند أئمة العترة والأكثر من فقهاء الأمة، خلافاً لداود فإنه منع من ذلك، وقال: إنه غير مجزٍ له.
وحجته على ذلك: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا}[المائدة:6]. وهذا خطاب لهم بإيجاب الغسل عليهم دون غيرهم، وما ذكره فاسد لأمرين:
__________
(1) يعني رسول اللّه ً.
(2) رواه البخاري ج3/40، وفي فتح الغفار ج4/158، وفيه: ((لا يحدث نفسه فيهما بشيء)).
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن قوله:{فَاغْسِلُوْا}. خطاب للمتوضئين على الخصوص بل هو خطاب للمتوضئ بنفسه، ولمن يكون آمراً بالوضوء، ولمن يكون له عناية بتحصيله، فإنه عام فيهما جميعاً(1) صالح لهما كما في قوله تعالى: {فَانْكِحُوْا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ }[النساء:3]. فإنه لا فرق بين أن يعقد وبين أن يوكّل من يعقد، في كونه ناكحاً في الأمرين جميعاً، وكقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوْا ذَوَي عَدْلٍ }[الطلاق:2]. فإنه لا فرق بين أن يشهد أو يأمر من يشهد في كونه مُشهداً.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أنه خطاب للمتوضئين بأنفسهم، لكنا نقول: إنما جرى ذلك على جهة ما ألف من العادة واطرد على منهاج الكثرة، في أن المتوضئ في الأغلب إنما هو الإنسان لنفسه دون غيره، فإنما يجري ذلك على جهة الندرة لمرض أو غيره، وليس على جهة الاشتراط فلا يكون محرّماً إذا وضأه غيره.
والحجة على ما قلناه: هو أن فعل المتوضئ ليس مقصوداً، ولهذا فإن الإجماع منعقد على أن من قعد تحت ميزاب أو مرت به جرية الماء ثم نوى الغسل أو الوضوء فإنه يكون مجزياً له لا محالة، فما ذكرناه من هذا الإجماع يبين أن المقصود تحصيل الغسل والعناية فيه دون تعيين الفعل بنفسه، كما قاله داود.
__________
(1) في المتوضئ بنفسه ومن يوضِّيه غيره ممن يصح منه.
الفرع الثالث عشر: قال السيد الإمام أبو طالب: إذا توضأ بنية الفرض على الإطلاق جاز أن يؤدي به النفل وإن لم ينوه، فإن كان الغسل واجباً عليه فاغتسل بنية الواجب فإنه لا يجزي عن النفل إلا إذا نواه، وهذا نحو أن يغتسل واجباً للجنابة يوم الجمعة أو يوم العيد فإنه إن نوى الجمعة أو العيد مع نية الجنابة أجزأه عن الجميع، وإن لم ينولم يجزه إلا عن الجنابة لا غير، والتفرقة بينهما ظاهرة، وحاصلها أن الوضوء سبب يُتوصل به إلى تأدية الفرض والنفل جميعاً، فإذا نوى به الفرض كان النفل مندرجاً تحته؛ لأن الفرض نفل وزيادة فلهذا لم يكن النفل مفتقراً إلى نية تخصه، فإذا نوى بوضوئه الفرض مطلقاً جاز تأدية النوافل به من غير نية بما ذكرناه، بخلاف واجب الغسل ومسنونه فإنه إذا اغتسل للجنابة فلم تندرج تحته الجمعة والعيد إلا بنية محدودة لما كان الغسلان طهارتين حاصلتين على جهة الاستقلال فلم يكن أحدهما مندرجاً تحت الآخر إلا بنية خاصة، فالغسلان يخالفان الوضوء للفرض والنفل بما أشرنا إليه وليس الغسلان وزاناً للوضوء(1) للفرض والنفل، وإنما وزانه أنه لو اغتسل من الجنابة لتأدية فريضة من الفرائض جاز أن يؤدي ما شاء من النوافل ويكون مندرجاً تحتها كما ذكرناه في الوضوء للفرض والنفل.
الفرع الرابع عشر: طهارة الصبي هل تكون شرعية أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها غير شرعية، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة، والرواية الصحيحة عن المؤيد بالله، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
__________
(1) وزانُ الشيء: ما يعادله، وجاء في اللسان: وازنت بين الشيئين موازنة ووزانا. ا.هـ.
والحجة على ذلك: قوله عليه السلام: (( رفع القلم عن ثلاثة: ، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق ))(1). ولا يعني برفع القلم إلا أنه [لا] يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها، فلأجل هذا لم يكن مخاطباً بها.
المذهب الثاني: أنها طهارة في حقه شرعية، وهذا هو المحكي عن المؤيد بالله أولاً، وهو رأي الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم وهم أبناء عشر ))(2).
ووجه الاحتجاج بهذا الخبر: هو أنه عليه السلام أمر بأن يؤمروا وهم في سن السبع ونضربهم وهم أبناء عشر، فلولا أن ما يفعلونه صلاة شرعية وإلا لما فعل ذلك. ولا شك أن الصلاة من شرطها الطهارة، فإذا كانت صلاتهم شرعية كانت طهارتهم أيضاً شرعية من غير تفرقة بينهما؛ إذ لا قائل بالفرق(3).
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من أنهم غير مخاطبين بالطهارة.
والحجة: ما حكيناه عنهم؛ ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: هو أن الوضوء عبادة، ونية العبادة مشترطة في صحتها، ولا تصح من جهته العبادة؛ لأنه ناقص العقل فأشبه المجنون.
الحجة الثانية: هو أن الوضوء عبادة بدنية، فوجب أن لا تكون صحيحة من جهة الصبي كالصوم والحج، ولأنه غير كامل العقل فوجب أن لا يصح منه فعل الطهارة كالذي يكون في الحولين.
__________
(1) أخرجه أبو داود بلفظه عدا أنه قدم المجنون وبعده النائم فالصبي.
(2) أخرجه أبو داود عن ابن عمرو بن العاص بلفظ قال رسول اللّه ً: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)). وجاء بروايات أخر لأبي داود أيضاً والترمذي.
(3) الذي يفهم من الحديث الشريف: ((مروهم...إلخ)) أنه لغرض التعليم وأن الوجوب ساقط عنهم بنص الحديث: ((رفع القلم...إلخ)) وهو رأي المؤلف، وسقوط الوجوب يقتضي سقوط شرعية الطهارة في حقهم كما سيأتي.
الانتصار: يكون بإبطال ما عولوا عليه.
قالوا: روي عن رسول اللّه ً: (( مروهم وهم أبناء سبع واضربوهم وهم أبناء عشر)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد بذلك المراهقون الذين يعقل منهم الاحتلام وكمال العقل، ومن هذه حاله فلا مخالفة فيه؛ لأن من هذه حاله فيمكن أن يكون كامل العقل مكلفاً بالعلم بالله تعالى وتصديق رسله، فإذا لم يفعل ذلك ومات فإنه يموت كافراً عندالله أو مؤمناً، وإنما الخلاف في من لا يعقل من حاله ذلك بأن يكون ابن خمس أو سبع أو ما دون ذلك ممن لا يُعقل منه الفعل ولا يتصور منه بحال.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: المراد بالحديث المروي إنما هو على جهة التمرين والتعويد كيلا يتساهلوا في ترك(1) الصلاة ويميلوا إلى اللعب، والمراد بذلك أمر الأولياء وليس في الحقيقة أمراً لهم؛ لأنهم لا يعقلون الشرع ولا يفهمون أوامره، ومن لا يكون صالحاً للفهم فإنه لا يخاطب بالتفهيم ومن لا يكون عاقلاً فإنه لا يكون مخاطباً بالأمور الشرعية لأن العقل ملاكها وشرط فيها.
قالوا: روى ابن عباس قال: كنت بائتاً عند خالتي ميمونة، فقام رسول اللّه ً من الليل فأطلق القِربة فتوضأ ثم أوكأ القِربة وقام إلى الصلاة، فقمت عن يساره فأخذ بيميني وأدارني من ورائه فقمت عن يمينه(2)، فلولا أن طهارته صحيحة وإلا لما كان هناك حاجة تحمل على إدارته؛ إذ لا طهارة له، وإذا كان لا طهارة له فلا صلاة في حقه شرعية، فلما فعل ذلك دل على كون طهارته طهارة شرعية وهو المقصود.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فمن أين أن ابن عباس لم يكن مراهقاً في سن البلوغ؟ فإذا كان هذا ممكناً في حقه لم يكن فيما ذكروه دلالة؛ لأن هذا مسلم، وإنما الكلام فيمن يكون صغيراً لا يُعقل البلوغ في حقه، وعلى هذا لا تُعقل منه الطهارة ولا الصلاة.
__________
(1) يقصد: في أداء الصلاة.
(2) سيأتي في صلاة الجماعة.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: هل كان ابن عباس في ذلك اليوم مراهقاً كامل العقل أو غير ذلك؟ فإن كان بالغاً كامل العقل فلا كلام، إذ لا حجة لهم فيه، وإن كان غير بالغ ولا كامل العقل فإنما فعل في حقه مع تحقق صغره بياناً وتعريفاً لأحكام الشرع، وأن الأطفال يعاملون في هذه الأحكام معاملة البالغين العقلاء، فلهذا عامل ابن عباس مع صغره هذه المعاملة، من أجل تعليم أحكام الشرع لا من جهة أن طهارته طهارة شرعية، وأن صلاته صلاة شرعية، وإنما المقصود أنه لو كان كبيراً لكان حاله على مثل تلك الحالة، ولا يمكن أن يقال لهم: إن قضية ابن عباس لعلها كانت في صدر الإسلام، ثم نسخت بعد ذلك لأن ما هذا حاله دأب العجزة، إذ لا يقدم على الدليل الشرعي بالنسخ إلا بدلالة وبصيرة تدل على ذلك، فأما دعوى النسخ بالتجويز فهذا ما لا يُلتفت إليه.
قالوا: رفع الحدث يمكن تأديته من جهة الصبي، وإذا كان الأمر كما قلناه كانت طهارته صحيحة وهذا هو مرادنا، ولهذا قال الإمام المؤيد بالله: والصبي إذا توضأ لإزالة الحدث صحت طهارته، فلو بلغ هذه الحالة جاز له أن يؤدي الصلاة المفروضة بتلك الطهارة.
قلنا: ما تريدون بقولكم إن رفع الحدث يمكن تأديته من جهة الصبي؟ فإن أردتم أن غسل هذه الأعضاء من جهته ممكن فهذا مُسَلَّمٌ ولا نزاع فيه، وإن أردتم أن إثباتها من جهته على الشرط الشرعي ممكن فهذا غير مُسَلَّم، فإن من شرطها مقارنة النية، والنية إنما تعقل من حق من كان مكلفاً عاقلاً يقصد بها القُربة ويجعلها خالصة لوجه اللّه تعالى، وهذا غير حاصل من جهة الصبي؛ لأنه لا يعرف اللّه تعالى فضلاً عن أن يقصد بها وجهه، ولا يمكنه تأدية المعارف العقلية من العلم بالصانع وقادريته وعالميته، وغير ذلك من المعارف الدينية، فمن هذه حاله فكيف يمكنه معرفة شيء من المقاصد الشرعية ويؤديها على الوجه المطابق لمقصود الشرع؟ فحصل من مجموع ما ذكرنا أن من ذكرناه من الصبيان لا معنى لإسلامه ولا وجه لتكليفه شيئاً من العلوم العقلية مع نقصان عقله ولا يعقل منه تأدية شيء من الأحكام الشرعية مما تكون طريقه العبادة.
الفرع الخامس عشر: المستحاضة ومن به سلس البول ومن فيه جرح سائل، لا ينوي في الوضوء رفع الحدث؛ لأن الحدث دائم غير مرتفع فلا معنى لرفعه وما يتوجه عليه فيه وجهان:
أحدهما: أنه ينوي استباحة الصلاة؛ لأن الحدث وإن كان قائماً في حقه لكنه يستبيح الصلاة بوضوئه من جهة الشرع وهو الممكن في حقه.
وثانيهما: أنه ينويهما جميعاً، فينوي رفع الحدث واستباحة الصلاة، وهذا هو الذي حكاه الشيخ أبوحامد الغزالي، عن الخضري من أصحاب الشافعي، فيكون رفع الحدث للسابق، وتكون استباحة الصلاة من أجل اللاحق، والذي يأتي على رأي الإمام أبي طالب: أنه ينوي من هذه حاله تأدية الصلاة على الإطلاق، وإن نوى استباحة [صلاة معينة] جاز ذلك؛ لأن عنده أن الوضوء لابد فيه من نية تكون متعلقة بالصلاة ولن تكون إلا بما ذكرناه، فأما على رأي الإمام المؤيد بالله فإن نوى استباحة الصلاة أو تأدية فرض أو نفل أو نوى رفع الحدث، فكل هذه الأمور مجزئة على مذهبه؛ لأن كل وضوء كان متعلقه القُربة فإنه يكون مجزياً للصلاة سواء كان متعلقاً بالصلاة مطلقاً أو بفرض معين أونفل معين أورفع الحدث على الإطلاق أو رفعه على الخصوص، فكل هذه الأمور متعلقة بالقُربة، فلهذا كان صحيحاً. فتنخل من مجموع ما ذكرناه، أن نية الوضوء واقعة على أوجه ثلاثة:
أولها: أن ينوي بوضوئه استباحة الصلاة، وما هذا حاله يكون مجزياً باتفاق من جهة أن له تعلقاً بالصلاة، فيصير كما لو نوى تأدية الصلاة على الإطلاق، فما هذا حاله موافق لما قاله أبو طالب ولما قاله المؤيد بالله وهو رأي الفقهاء.
وثانيها: أن ينوي بوضوئه رفع الحدث مطلقاً، فيكون ما هذا حاله مجزياً على رأي المؤيد بالله وهو قول الفقهاء خلافاً للسيد أبي طالب، فإنه لابد من أن يكون الوضوء متعلقاً بالصلاة كما مر تقريره، ورفع الحدث غير متعلق بالصلاة فلهذا بطل على رأيه ولم يكن مجزياً.
وثالثها: أن ينوي بوضوئه القُربة بالوضوء أو أداء الوضوء أو فريضة الوضوء، والأقرب على رأي المؤيد بالله أنه يكون مجزياً لاشتماله على القربة كما قاله إذا نوى به رفع الحدث، وهو على رأي الشافعي، وأما على رأي السيد أبي طالب فإنه لا يكون مجزياً؛ لأن الوضوء لابد من أن يكون متعلقاً بالصلاة، وكونه قُربة لا تعلق له بالصلاة، كما أن رفع الحدث لا تعلق له بالصلاة، فلهذا لم يكن مجزياً.
والحجة على كون الوضوء قُربة: هو ورود الشرع بتجديد الطهارة وإن كان على طهر، فلما تعلقت به القربة كان مجزياً.
الفرع السادس عشر: النية الواقعة في الطهارات على نوعين:
أحدهما: أن تكون واقعة على جهة الإجزاء بحيث لو نقص عنه لم يكن وضوؤه مجزياً، وهذا نحو أن يقارن أول جزء من أجزاء الطهارة النية فينوي عنده رفع الحدث أو نية تأدية الصلاة على ما مر تفصيله، فإن أخل بما ذكرناه لم تكن نيته مجزية له.
وثانيهما: أن تكون حاصلة على جهة الكمال، وهذا نحو أن يستديمها إلى آخر أعضاء الوضوء فيكون دوامها لكثرة الثواب، ونحو أن يضيفها إلى اللّه تعالى فينوي بوضوئه لوجه اللّه تعالى، ونحو أن ينوي الإخلاص والتقرب إلى اللّه تعالى، أو ينوي كونها مصلحة، وأن اللّه أمر بها إلى غير ذلك من الوجوه الدالة على الفضيلة المقربة إلى اللّه تعالى، فهذه الوجوه كلها ليس [شيء منها] شرطاً في كون النية مجزية، وإنما اشتراطها لكثرة الثواب، والفضل، وإعظام الأجر، فأما الكلام في صفة النية في الطهارات في غير الوضوء، كالغسل والتيمم فسنقرر كل واحد منها في بابه، وهكذا القول في جميع أنواع العبادات من الصلوات وغيرها بمعونة اللّه تعالى.
مسألة: غسل الوجه(1) واجب؛ لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}..(الآية)[المائدة:6]. ولقوله ً: (( توضأ كما أمرك اللّه فاغسل وجهك )).. الحديث. ولأنه لا خلاف في وجوب غسل الوجه مطلقاً، وإنما يتوجه الخلاف بين العلماء في تفاصيل نذكرها بمعونة اللّه تعالى. والمستحب أن يأخذ الماء بكفيه جميعاً، ثم يضرب بما فيهما وجهه، لما روى ابن عباس، عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه قال: قال لي أمير المؤمنين: ألا أريك وضوء رسول اللّه ً كيف كان؟ قلت: بلى. فأصغى الإناء على يده فغسلها، ثم أدخل يده اليمنى فأفرغ بها على الأخرى، ثم غسل كفيه، ثم تمضمض واستنشق ، ثم أدخل يديه في الإناء جميعاً فأخذ بهما حفنة فضرب بهما على وجهه(2). وحكى المزني عن الشافعي: أنه يأخذ الماء بيد واحدة، ولأنه لا يتمكن من غسل وجهه على جهة الاستيعاب والاستيفاء إلا بما ذكرناه، لهذا كان المسنون والمستحب في الوضوء الاشتنان لما في حديث أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه لما فرغ من غسل وجهه وقبل شروعه في يده اليمنى أخذ كفاً من ماء فصبه على ناصيته فتركها تشنن على وجهه ثم غسل ذراعيه، والمستحب أن يبدأ بأعلاه لأن ظواهر الأحاديث الواردة في صفة وضوء رسول اللّه ً عن
__________
(1) يلاحظ أن المؤلف بدأ في الوضوء بغسل الوجه قبل المضمضة التي هي مقدمة عليه في الوضوء وفي تصنيفات المؤلفين.
(2) بقية الحديث: ((.. ثم ألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه، ثم الثانية ثم الثالثة مثل ذلك، ثم أخذ بيده قبضة من ماء فصبها على ناصيته فتركها تشنن على وجهه، ثم غسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاثاً ثلاثاً، ثم مسح رأسه وظهور أذنيه، ثم أدخل يديه جميعاً فأخذ حفنة من ماء فضرب بها على رجله وفيها النعل ففتلها (وفي نسخة: فغسلها)، ثم الأخرى مثل ذلك، قال: قلت: وفي النعلين؟ قال: ((وفي النعلين)). هذه إحدى روايات أبي داود. ا. هـ. (جواهر).
أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه وعن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه، دالة على ذلك، ولأن أشرف كل شيء أعلاه، فلهذا كانت السنة البداية به.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: في حَدِّ الوجه الذي يجب غسله. قال الشيخ أبوجعفر: وَحَدُّ الوجه من مقاص الشعر إلى أصول الأذنين، وما أقبل من الوجه إلى الذقن، وهذا هو الذي حكاه المزني، عن الشافعي. وهذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه قال: من مقاص الشعر، فظاهر هذا أن مقاص الشعر من الوجه وليس الأمر كذلك فإن المقاص من الرأس فلا تكون من الوجه، والوجه ما دون مقاص الشعر.
وأما ثانياً: فلأنه قال: وما أقبل من الوجه. فحدّ الوجه بالوجه وفي ذلك تحديد الشيء بنفسه، وحد الشيء يكون مغايراً له، وعن بعض أصحابنا أنه قال في حد الوجه: من مقاص الشعر إلى الأذنين إلى اللحيين والذقن، وهذا وإن سَلِمَ عن أن يقال: إنه حد الشيء بنفسه، لكنه لم يسلم عن كونه أدخل مقاص الشعر في الوجه، وليست منه فسلم عن الاعتراض الأول ولم يكن سالماً عن الثاني. والأقرب في الحد الصالح للمذهب، أن يقال فيه: من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن في الطول ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، وإنما كان مختاراً لأمرين:
أما أولاً: فلأنه سالم عما ورد على الحَدَّيْنِ الأولين.
وأما ثانياً: فلأن فيه إشارة إلى تفصيل الحصر والضبط للوجه بالطول والعرض بخلاف غيره، فلهذا كان هو الأقرب.
ومن وجه ثالث: وهو أنه حده بتسطيح الجبهة مبتدأه. لم يحده بمقاص الشعر ولا بمنابته؛ لأنه ربما انحسر الشعر عن الناصية فيلزم عده من الوجه وهو باطل إجماعاً، وربما نبت الشعر على الجبهة فيلزم إخراجه من الوجه وهو باطل إجماعاً، فلا جرم وجب التعويل على ما قلناه.
الفرع الثاني: في بيان تفاصيل ما يدخل في حد الوجه.
والذي عليه علماء العترة ومن وافقهم من علماء الأمة، أن الجبهة من الوجه وهي موضع السجود، قال اللّه تعالى: {سِيْمَاهُمْ فِي وُجُوْهِهِمْ مِنْ أَثَرِ الْسُّجُوْدِ }[الفتح:29]. والجبينان من الرأس أيضاً، وهما: العظمان المشرفان على الجبهة عن يمينها وشمالها. قال اللّه تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِيْنِ }[الصافات:103]. أي اتكاه لجبينه إلى الأرض. والعذاران من الوجه وهما عبارة عن الشعر الخفيف الذي يكون على العظم الذي يحاذي وتد الأذن، وهما وتدان وهما عبارة عن الغضروفين الشاخصين عند مفتح السمع. والعارضان من الوجه أيضاً وهما عبارة عما نزل عن العذارين من الشعر على اللحيين. والذقن من الوجه أيضاً وهو: مجمع اللحيين والعنفقة من الوجه، وهي عبارة عن الشعر الذي على ظاهر الشفة السفلى. والفنيكان من الوجه وهما: عبارة عن البياض الحاصل من عن يمين العنفقة ويسارها ويقال لهما: الإفنيكان أيضاً، وفي الحديث: (( إذا توضأت فلا تنسين الإفنيكين ))(1). وحكي عن الكسائي )
__________
(1) هذا الحديث أورده في (لسان العرب) مادة: فنك. قال: وفي حديث عبدالرحمن بن سابط: ((إذا توضأت فلا تنس الفنيكين)). يعني جانبي العنفقة عن يمين وشمال.
(2) هو علي بن حمزة الكسائي من أصل فارسي، ولد بالكوفة سنة 119هـ، وأكب منذ نشأته على حلقات القراء، مثل: سليمان بن أرقم، وابن عياش، وسفيان بن عيينة، وحمزة بن حبيب. ويقال: إنه لقب بالكسائي لأنه كان يلبس كساءً أسود ثميناً، وقيل: بل لأنه أحرم في كساء، وكان فطناً ذكياً، رأى أنه لن يبرع في قراءة القرآن إلا إذا عرف إعرابه، ولن يحسن العربية إلا إذا استمع إلى معلميها بالبصرة، فجعل ينتقل بين حلقات القراء وعلماء اللغة والنحو بالكوفة والبصرة، ومنها: حلقات عيسى بن عمر، وأبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، وعكف على حلقة الخليل بن أحمد حتى أصبح أستاذاً وعلماً فاستقر في الكوفة فطلبه المهدي ليؤدب ابنه الرشيد حتى إذا ولي الرشيد الخلافة اتخذه مؤدباً لابنيه الأمين والمأمون. وكان يقرئ الناس في بغداد بقراءة حمزة، ثم اتخذ لنفسه قراءة صارت إحدى القراءات السبع. له مؤلفات تتصل بقراءة القرآن ومعانيه، وله في النحو كتابان هما: (مختصر النحو) و(الحدود في النحو) وله كتاب (ما تلحن فيه العوام) توفي سنة 189هـ، وهو مع الرشيد عندما خرج إلى خراسان، وتوفي معه العالم الحنفي المشهور محمد بن الحسن الشيباني، فحزن الرشيد عليهما وقال: (دفنا الفقه والنحو بالري). (المدارس النحوية 172، طبقات القراء لابن الجزري ج1/535).
: أنه لم يعرف هذه اللفظة أعني: الفنيك، والإفنيك. فهذه الأمور كلها يجب غسلها لأنها من الوجه، وهو عبارة عما يواجه وهي مواجهة(1).
فأما ما لا يدخل في الوجه فالنزعتان من الرأس، وهما عبارة عن البياض الذي انحسر عنه شعر الرأس من جانبي مقدم الرأس، يقال: رجل أنزع. والناصية من الرأس، وهي عبارة عن الشعر المشرف على الجبهة. والصدغان من الرأس، وهما عبارة عن الشعر الذي يجاور موضع الأذن المتصل بشعر الرأس مما يلي طرف الجبهة. وموضع التحذيف من الرأس في تعارف الناس، وهو عبارة عن الشعر الذي بين أول العذار والنزعة. والصدغ من جانبي الوجه جميعاً(2) [فيه] تردد، والذي عليه أئمة العترة أنه من الرأس لاتصاله به وثبوت الشعر عليه، وهو أحد قولي الشافعي، وحكى ابن سريج عنه قولاً آخر: أنه من الوجه، واعتل بأن العادة قد جرت بتحذيفه وإزالة الشعر عنه، فقد جعلوه وجهاً وهو فاسد، فإن اللّه تعالى قد جعله رأساً وخلقه من جملة الرأس فلا يكون وجهاً بفعل الناس، وأيضاً فإن التحذيف ليس سنة وإنما اعتاده الناس بإزالة الشعر عن موضعه بمخالفة السنة، فإزالة الشعر عنه لا يجعله وجهاً.
الفرع الثالث: وإذا كان لا شعر على لحيته وعارضيه بأن كان أمردَ أو أثط(3) وهو الذي لا تحلق له لحية فإنه يجب عليه غسل الوجه الذي تقدم حده بالمعيار الذي ضبطناه به، لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}. وهذه المواضع تقع بها المواجهة فيجب كونها من الوجه.
وهل يجب تخليل اللحية أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) أي أن هذ الأعضاء التي يجب غسلها هي المواجهة من الإنسان، وبالتالي فهي من الوجه.
(2) بياض في الأصل ولعل الكلمة المحذوفة هي: فيه.
(3) هكذا في الأصل، ولم نعثر لكلمة (واثط) أو(أثط) على أصل، ولعلها وابط بمعنى الضعيف الخسيس إذا صح أن يوصف به الشعر لضعفه وقلته.
المذهب الأول: أن تخليلها واجب وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والناصر، وهو رأي الأخوين وغيرهم من أئمة العترة، وهو محكي عن المزني، وأبي ثور من أصحاب الشافعي، ومحكي عن أهل الظاهر، والحسن بن صالح.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}. فالله تعالى أمر بغسل الوجه وهذا منه؛ لأن التخليل عبارة عن إيصال الماء إلى البشرة، فلما كان غسل البشرة واجباً من غير شعر فهكذا إذا وقع عليها الشعر؛ لأن المواجهة تقع عليها فلهذا كانت من الوجه؛ ولأنها كانت من الوجه قبل نبات الشعر باتفاق، فنبات الشعر لا يزيل عنها اسمه كالرأس.
الحجة الثانية: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( أتاني جبريل فقال: إذا توضأت فخلل لحيتك))(1). ولأنه عضو مغسول فإيصال الماء إلى بشرته واجب كاليد والرجل، ولأنه مأمور بغسل الوجه تعبداً لا للنجاسة فيجب إيصال الماء إلى البشرة كغسل النجاسة.
المذهب الثاني: أنه لا يجب تخليلها، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وحكي عن الشافعي: أنها إذا كانت خفيفة وجب تخليلها، وإذا كانت كثيفة لم يجب تخليلها. واختلف أصحابه في حد الكثيف والخفيف، فمنهم من قال: إن الكثيف هو الشعر الذي لا يصل الماء إلى باطنه إلا بمشقة، ومنهم من قال: الكثيف هو الشعر الذي يستر بشرة اللحية أن ترى، وهذا هو المشهو ر عندهم، والخفيف على عكس ذلك.
والحجة على ما قالوه: ما روى ابن عباس رضي اللّه عنه أن النبي ً توضأ فغرف غرفة فغسل بها وجهه، والمعلوم أن الغرفة الواحدة لا توصل الماء إلى باطن الشعر في اللحية مع كثافتها، وقد كان الرسول ً كثيف اللحية. رواه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه) في صفة خلقة الرسول ً.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من وجوب التخليل.
__________
(1) أورده في الاعتصام عن التجريد، وهو في أصول الأحكام والشفاء والبحر عن أنس بن مالك.
والحجة عليه: ما نقلناه عنهم، ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روى أنس بن مالك عن الرسول ً أنه كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته، ثم قال: (( هكذا أمرني ربي عز وجل ))(1). فإذا تقرر وجوبه على الرسول ً بما رويناه، وجب على الأمة إلا لدلالة خاصة، من جهة أن التأسي واجب على الأمة إلا فيما دلت عليه دلالة في تخصيصه به.
الحجة الثانية: ما روى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، أن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) مر برجل يتوضأ فوقف عليه حتى نظر إليه ولم يخلل لحيته، فقال: (ما بال أقوام يغسلون وجوههم قبل أن تنبت اللحى فإذا نبتت ضيعوا الوضوء)(2) ولأن أمير المؤمنين مر برجل يتوضأ فقال له: (خلل لحيتك)، ومثل هذا إنما يصدر عن توقيف؛ إذ لا مساغ للاجتهاد في العبادات والطهارات مما تنسد فيه معاني الأقيسة، وتمام تقرير هذه الدلالة تكون بإبطال ما اعتمدوا عليه من الأدلة.
الانتصار عليهم: يكون بإبطال متمسكاتهم.
قالوا: روى ابن عباس أنه(3) أخذ كفاً من [ماء]، والكف الواحد لا يوصل الماء إلى اللحية الكثيفة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الأحاديث الواردة في صفة وضوء رسول اللّه ً التي رواها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وغيرهما من جلة الصحابة (رضي اللّه عنهم) كانت مطلقة، وما أوردناه من الأحاديث دال على التخصيص بالتخليل، فيجب حمل ما أطلق على ما كان واضحاً من هذه الأحاديث توفقة بين الأدلة وجمعاً بينها، وهذه طريقة ارتضاها كثير من علماء العترة وفقهاء الأمة.
__________
(1) أخرجه أبو داود، وجاء بلفظه في الاعتصام والبحر.
(2) أورده في أصول الأحكام والشفاء.
(3) يعني رسول اللّه ً.
وأما ثانياً: فلأن لحيته عليه السلام وإن كانت كثيفة كما ورد في صفة خلقته فإن ذلك غير مانع من إيصال الماء إليها، فإن الماء رقيق يدخل بسهولة، فكثافتها لا تمنع من إيصال الماء إليها كما أشرنا إليه.
قالوا: اللحية إذا كانت كثيفة صعب إيصال الماء إليها فالتكليف بالإيصال يكون فيه حرج ومشقة، وقد قال تعالى: {ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن غسل الوجه أدخل في المشقة من تخليل اللحية.
وأما ثانياً: فلأن ما كان فيه مصلحة حسن التكليف به سواء كانت فيه مشقة أولم تكن، والغرض بقوله تعالى: {ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}. تعريفاً بأن هذه الأمة مرحومة عما كانت عليه الأمم السالفة من تكليف الآصار من جهة اللّه تعالى(1).
الفرع الرابع: ما استرسل من اللحية ونزل عن حد الوجه، هل يجب غسله أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير واجب، وهذا هو الذي ذكره الإمامان الأخوان: المؤيد بالله وأبو طالب، وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أنه غير ملاقٍ لمحل الفرض فلا يكون الفرض متعلقاً به، كالذؤابة.
والمذهب الثاني: أنه واجب، وهذا هو الذي ذكره أبو العباس في نصوصه حيث قال: ويجمع لحيته في بطون كفيه فيغسلها لأنها من الوجه. وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه شعر ظاهر نابت على بشرة الوجه، فكان غسله واجباً كشعر الحاجب وأهداب العينين.
__________
(1) الآصار: على صيغة الآباط، جمع إصر، وهو العهد الثقيل كما جاء في اللسان.
والمختار: ما قاله الأخوان، وحاصل ما قالاه، هو: أن تخليل اللحية قد دللنا على وجوبه بما ذكرناه، فإن أمكن تخليل اللحية من غير غسل ما استرسل من اللحية فلا وجه لوجوبه؛ لأن الواجب إنما هو التخليل دون غسل ما استرسل منها، وإن كان لا يمكن تخليل اللحية إلا بغسله فإن غسله واجب، فوجوبه ليس قصداً لنفسه وإنما هو على جهة التبع لغيره كما أشرنا إليه.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: شعر فوجب غسله كشعر الحاجب.
قلنا: المعنى في الأصل، هو أنه من جملة الوجه فلهذا وجب غسله، وما طال من اللحية فلا يعد من الوجه.
قالوا: الوجه عبارة عما كان مواجهاً وهذا مواجه فيجب كونه وجهاً.
قلنا: ليس الغرض أن كل ما واجه فإنه يجب غسله كالوجه، فإن الناصية والصدر تواجهان وليسا من الوجه في وجوب الغسل، وإنما الغرض أن كل ما كان معدوداً من جملة أجزاء الوجه فهو من الوجه فافترقا.
قالوا: الآية دالة على وجوب غسل ما استرسل، بدليل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6]. وهذا من الوجه فيجب غسله.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الآية إنما تتناول الحد الذي ذكرناه من الوجه، وليس ما استرسل من اللحية داخلاً فيه، ولهذا فإن اسم الوجه لا يختلف حاله بمن له لحية وبمن لا لحية له، فلا نسلم أن إطلاق اسم الوجه مقول على طرف اللحية.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا كونه مندرجاً تحت إطلاق اسم الوجه، لكنا نقول: إنما يجب غسله إذا كان الشعر على بشرة الوجه كشعر الحاجب وأهداب العينين فإذا كان مجانباً للبشرة فإنه لا يجب غسله.
الفرع الخامس: وهل يجب غسل ما تحت اللحية أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب غسله، خفيفة كانت اللحية أو كثيفة، وهذا هو الظاهر من مذهب أئمة العترة، وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن ما تحت الذقن بشرة ظاهرة من اللحية يثبت عليها شعر اللحية فأشبه العذار.
المذهب الثاني: أنه غير واجب، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن ما تحت الذقن ليس من الوجه بدليل أنه غير مواجه، فيجب أن لا يجب غسله كالناصية وغيرها مما لا يعد من الوجه.
والمختار: ما هو الظاهر من مذاهب علماء العترة من إيجابه.
والحجة على ذلك: ما روى أنس بن مالك أن النبي ً كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته، وقال: ((هكذا أمرني ربي عز وجل )). فإذا تقرر وجوبه على الرسول بما ذكرناه وجب ذلك على أمته، من جهة أن التأسي به واجب لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوْهُ}[الأعراف:158]. وقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }[الأحزاب:21]. ويحتمل عندي على رأي أئمة العترة مثل ما قال أبو حنيفة، ولا وجه لإيراد الانتصار فيما هذه حاله؛ لأن الانتصار إنما وضعناه حيث يكون الظن غالباً على أحد الاحتمالين في المسألة، فأما إذا كانا في أنفسهما(1) غالبين لا ترجيح لأحدهما على الآخر فهما مستويان بالإضافة إلى الأمارة الشرعية، وهذا إنما يأتي على جهة الندرة.
الفرع السادس: البياض الذي بين وتد الأذن وأول العذار من جانبي الوجه هل يجب غسله أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب غسله، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو ما ذكرناه في حد الوجه، فإنا ذكرنا أنه من الأذن إلى الأذن عرضاً، والعرض من هذا التحديد هو أن الوجه ما بين الوتدين عرضاً، فلما كان من الوجه وجب غسله لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}. فيجب حمل مطلق الآية على ما هو المفهوم في اللغة، فإذا كان ما ذكرناه هو حد الوجه في اللغة وجب حمله عليه.
__________
(1) يقصد: في نفسيهما، وجمع المثنى مثل هذا ورد في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}.
المذهب الثاني: أنه لا يجب غسله على أهل اللحى ويجب غسله على الأمرد، وهذا شيء يحكى عن أبي يوسف، وحكي عن مالك: أنه لا يجب غسله لا في حق الأمرد ولا في حق الملتحي.
والحجة لأبي يوسف: هو أن الشعر في العذار حال دونه فصار بمنزلة البشرة التي تحت الشعر في أنه لا يجب غسلها.
والحجة لمالك: هو أن البياض ليس مواجهاً فلا يكون من الوجه.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن وافقهم.
والحجة عليه: ما نقلناه عنهم؛ ونزيد ههنا، وهو أن حاله لا يخلو إما أن يكون من الأذن أو يكون من الوجه، ومحال أن يكون من الأذن إذ لا قائل بهذا، فإذا بطل كونه من الأذن فهو من الوجه لاندراجه في حده.
الانتصار: يكون بإبطال ما زعموه، فأما قول أبي يوسف: بأن الشعر حال دونه فهو بمنزلة البشرة التي تحت الشعر، فهو فاسد لأنه من جملة الوجه، لكونه حاصلاً فيما بين الوتدين من جانبي الوجه فلم ينتقل الفرض إلى غيره فوجب أن يكون من الوجه فيجب غسله، ويفارق ما نبت عليه الشعر؛ لأن الفرض انتقل إلى الشعر وهذا ليس فيه شعر فلهذا كان غسله واجباً.
وأما قول مالك: أنه غير مواجه فلا يكون من الوجه، فهو فاسد، من جهة أن منتهى الوجه في العرض هما الوتدان، فما وراءهما يكون من الوجه لا محالة، فإذا أطلق على الوجه في الآية وجب حمله على ما يكون مطابقاً للغة العرب. فأما الوتدان في الأذن فليسا معدودين من جملة الوجه فلا يجب غسلهما؛ لأن حد الوجه ينتهي بهما، والحد يجب أن يكون غير المحدود فلا يدخل في حكمه إلا بدلالة منفصلة كما نقوله في المرافق، فإنها غير داخلة في حد اليد إلا بدلالة منفصلة كما سنوضحها من بعد بمشيئة اللّه تعالى. وهذا هو الأصل في كل غاية فإنها غير داخلة في حكم ذي الغاية إلا بأمر خارجي.
الفرع السابع: هل يجب إدخال الماء في العينين أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن إدخال الماء فيهما واجب، وهذا هو الذي اختاره المؤيد بالله لمذهب الهادي.
والحجة على ذلك: ظاهر الآية في قوله تعالى:{فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}. ولا شك أن العينين من الوجه، ولأن العينين إحدى المحاسن المتعلقة بالوجه فوجب غسلها كالوجنة والأنف.
وقولنا: المتعلقة بالوجه، نحترز به عن الأذن فإنها وإن كانت من جملة المحاسن لكنها غير متعلقة بالوجه؛ لكونها غير داخلة في حده كما مر تقريره.
المذهب الثاني: أنه غير واجب، وهذا هو المحكي عن الناصر، والإمام أبي طالب، وهو رأي الفرق الثلاث: الشافعية، والحنفية، والمالكية.
والحجة على ذلك: هو أن غسل الوجه إنما ورد مطلقاً، ولا شك أن كل من غسل وجهه وظاهر عينيه دون باطنهما فإنه لا محالة يسمى غاسلاً لوجهه، فيجب حمله على الإطلاق لما كان لغوياً، وفي هذا دلالة على أن المطلق غير متناول لداخل العينين فيجب أن لا يكون مراداً بالآية، وهذا هو المطلوب بكونه غير واجب.
والمختار: ما عول عليه الإمامان: الناصر وأبو طالب، ويدل على ذلك ما حكيناه عنهما، ونزيد ههنا وهو: أن المعتمد فيما يكون واجباً من العبادات كلها تأصيلاً، وفيما يستحب منها ويكره تفصيلاً إنما هو على ما ينقل من جهة الرسول ً قولاً وفعلاً وتقريراً، والمعلوم أن إدخال الماء لم ينقل من جهة الرسول ً لا من قوله ولا من فعله ولا من تقريره، فيجب القضاء بكونه غير واجب؛ لأنا لو أوجبناه لكان واجباً من غير دلالة وهذا باطل لا يعول عليه.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: قوله تعالى:{فَاغْسِلُوْا}. ظاهره الدلالة على وجوب غسل الوجه، والعينان منه، فيجب القضاء بوجوب غسل باطنهما.
قلنا: هذا فاسد، فإنا نقول بموجب الآية ونحكم بظاهر إطلاقها، ومطلقها دال على وجوب ما ظهر دون ما بطن فيهما فلا تكون دلالة الآية بظاهرها إلا ما ذكرناه من ظاهر العينين دون باطنهما.
قالوا: إحدى محاسن الوجه فيجب غسلهما كالوجنة والأنف.
قلنا: إن ما ذكرتموه من ظاهر الآية وتقرير هذا القياس، إنما يتناولان المطلق من الوجه ونحن لا ننكر ذلك فأنتم مساعدون إليه، ولكنا نقول: إن ظاهر الآية وظاهر ما قلتموه من القياس لا يدلان على غسل باطن العينين فلا يكون فيهما دلالة على مرادكم، فبطل ما قالوه.
قالوا: روي عن ابن عمر: أنه غسل عينيه حتى عمي، فلولا أنه واجب وإلاَّ لما واظب على فعله هذه المواظبة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما فعله ليس دالاً على الوجوب، فلعله فعله على جهة الاستحباب حتى أثَّرَ في بصره لما أكثر من فعله، فلا دلالة في فعله على الوجوب.
وأما ثانياً: فليس فيه إلا فعل ابن عمر ولا دلالة في فعل الصحابي إلا بأن ينقله من جهة الرسول، غاية الأمر أنه من جملة المجتهدين فلا حجة فيه، وإنما الحجة المقبولة التي يجب الانقياد لها بالسمع والطاعة، هي كلام اللّه تعالى وكلام رسوله وما عداهما ليس حجة من عالم أو صحابي.
الفرع الثامن: إذا بطل كونه واجباً، فهل يكون مستحباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه وإن لم يكن واجباً فهو مستحب، وهذا هو المحكي عن الناصر، وهو مروي عن بعض أصحاب الشافعي، حكاه صاحب (البيان) العمراني.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}. فإذا بطل كونه واجباً فلا أقل من حمل الأمر على الاستحباب؛ لأنه هو أدنى مراتبه.
قال الإمام الناصر: ويستحب أن يفتح عينيه عند غسل الوجه حتى يدخل الماء فيهما وقال: إن ذلك يصح العين ويجلوها.
المذهب الثاني: أنه غير مستحب، وإنما هو هيئة في الوضوء وليس سنة.
والحجة على ذلك: هو أن السنة ما واظب الرسول على فعله، وهذا لم يكن من جهة الرسول فيه فعل فضلاً عن كونه مواظباً عليه.
والمختار: أنه ليس مسنوناً؛ لأنهما جوهران صقيلان لا يعلق بهما شيء من المكدرات، فلهذا لم يستحب غسلهما وهما مخالفان للفم والأنف في المضمضة والاستنشاق لأنهما يلحقهما من التغير ما لا يخفى، فلهذا شرع غسلهما ليزيل الماء تغيرهما بخلاف العين فإنه لا تغير فيها فافترقا؛ ولأن غسلهما يؤدي إلى المضرة العظيمة ويلحق في ذلك مشقة كبيرة، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. وقوله تعالى: {يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. ولا حرج ولا عسر أعظم من خشية العمى وإذهاب البصر وفساده، فكيف يقال: يكون مشروعاً؟
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا: إذا بطل وجوبه كان مستحباً.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه لابد في الاستحباب من دلالة مستقلة ولا يكفي فيه بطلان كونه واجباً، لأن حقيقة أحدهما أعني: الواجب والمستحب، مخالفة لحقيقة الآخر.
وأما ثانياً: فلأنا قد أوضحنا أنه لم ينقل عن الرسول ً فيه قول ولا فعل ولا تقرير، فكيف يقال: يكون مستحباً؟ والمستحب ما واظب الرسول ً على فعله.
الفرع التاسع: المُؤَقُ والمَآَقُ والمَآقي، مهموزات كلها، مؤخر العين مما يلي جانب الأنف، فأما اللحاظ فهو ما يلي مؤخر العين من جانب الأذن، والذي عليه أئمة العترة أنه يجب غسلهما.
والحجة على ذلك: هو أنهما من الوجه وما كان من الوجه وجب غسله لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}. ولأنه يلحقهما كحل ورمص(1) في العادة وعفونة من رطوبة العين فيجب إزالته بالماء، وحكى ابن الصباغ صاحب (الشامل): أنه يستحب مسحهما، وهذا تصريح منه بأنه لا يجب غسلهما.
والحجة له على ذلك: ما روي عن الرسول ً أنه كان يمسح المَأَقَين.
__________
(1) الرمص: بالصاد المهملة داء يصيب العين، وهو السائل الأبيض الغليظ الذي تفرزه العين، والرمص محركة: وسخ أبيض يجتمع في المؤق. ا.هـ. قاموس.
والمختار: ما عليه علماء العترة من وجوبهما.
والحجة على ذلك: أنهما من الوجه، وقد قال تعالى: {فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}. فأما ما قاله من أن الرسول ً كان يمسح المأقين فليس معارضاً لما قلناه من وجوب غسلهما؛ لأن المراد أنه ً كان يزيل ما علق بهما من العفونة من الرمص وغيره وما ينعقد فيهما من رطوبة العين قبل الغسل ثم يغسلهما بعد ذلك، وأيضاً فإن المسح هو خفيف الغسل، فعبر بالمسح عن الغسل لما كان موضعاً يرفق به لرقته وكونه متصلاً بالعين، ولم يُرد حقيقة المسح وإنما أراد الغسل الخفيف لما ذكرناه.
الفرع العاشر: والشعور التي يجب إيصال الماء إلى ما تحتها رقيقة كانت أوكثيفة، هي خمسة: الحاجب، والشارب، والعنفقة، والعذار، واللحية؛ لأن هذه الأمور كلها من الوجه، فلهذا وجب إيصال الماء إلى ما تحتها. وإن نبت له شعر تحت محاجر عينيه وجب إيصال الماء إلى البشرة؛ لأنه من الوجه ولكونه نادراً لا يوجد إلا على الندرة، وإن نبتت للمرأة لحية وجب إيصال الماء إلى بشرتها أيضاً كثيفاً كان الشعر أو رقيقاً، وإن خرج سبالاه وهما طرفا الشارب عن حد الوجه فهو مقرر على الخلاف في طرف اللحية، فعلى رأي أئمة العترة لا يجب غسله إذا كان خارجاً عن حد الوجه، وكان الماء واصلاً إلى البشرة، فأما ما كان حاصلاً على جلدة الوجه فلابد من غسله. فأما على رأي الشافعي: فهو واجب كما ذكرناه في طرف اللحية، وإن نبتت في وجهه سلعة وهي: لحم زائد على الوجه وخرجت عن حده، لم يجب غسلها على رأي أئمة العترة، وعلى رأي الشافعي: يجب غسلها، كما قلناه في غسل طرف اللحية لأنه ليس واقعاً على الوجه، فلهذا لم يجب غسله كما قررناه من قبل، والعنفقة إذا كانت منفصلة عن اللحية وجب إيصال الماء إلى بشرتها، وإن كانت متصلة بها وجب تخليلها كما قلناه في اللحية؛ لأنها منها، والله الموفق للصواب.
مسألة: والمضمضة: أن يجعل الماء في فيه ويديره فيه ثم يمجه. والاستنشاق: أن يجعل الماء في أنفه ثم يستطلعه بِنَفَسِهِ إلى خياشيمه ثم يدفعه بِنَفَسِهِ فذلك هو الإستنثار، وهما كالعضو الواحد فلا ترتيب بينهما وبين الوجه، وإنما قدمنا الكلام على الوجه لما صدره اللّه في أول آية الوضوء حيث قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَا غْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: هل يكونان واجبين من أعضاء الوضوء أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهما واجبان، وهذا هو الذي عليه أكثر أئمة العترة، نص عليه القاسم في (النيروسي)(1)، والهادي في الجامعين: (الأحكام) و(المنتخب)، وهو قول المؤيد بالله، وحكي عن أحمد بن حنبل، وأبي ثور، وإسحاق بن راهويه، وعطاء وابن أبي ليلى: وجوبهما على اختلاف بين أقوالهم نفصله بمعونة اللّه تعالى.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6]. وهما من الوجه.
الحجة الثانية: حديث ابن عباس عن الرسول ً أنه قال: (( تمضمضوا واستنشقوا والأذنان من الرأس))(2).
الحجة الثالثة: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( من توضأ فليتمضمض وليستنشق والأذنان من الرأس)).
الحجة الرابعة: قياسية، وحاصلها أنا نقول: طهارة رفاهية فوجب أن تكون بالفم والأنف كطهارة النجاسة. وقولنا: طهارة رفاهية، نحترز به عن طهارة الضرورة كالطهارة بالتراب، ولأنهما عضوان يسقطان في التيمم فوجب إيصال الماء إليهما كالرأس والرجلين.
المذهب الثاني: أنهما غير واجبين، وهذا هو قول زيد بن علي، والباقر، والناصر، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
__________
(1) كتاب (مسائل النيروسي) للنيروسي جعفر بن محمد، روى فيه مسائل وآراء للقاسم بن إبراهيم.
(2) أورده في شرح التجريد، وفي أصول الأحكام بلفظه.
والحجة على ذلك: ما روت عائشة (رضي اللّه عنها) أن النبي ً قال: (( عشر من الفطرة : قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة والاستنشاق، وقص الأظفار، وغسل البراجم(1)، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء))(2). فجعل المضمضة والإستشاق من جملة هذه المسنونات فدل على أن الجميع أمر واحد في السنة.
الحجة الثانية: قوله ً للأعرابي حين علمه الوضوء: (( تَوَضَّ كما أمرك اللّه، فاغسل وجهك ويديك وامسح رأسك واغسل رجليك))(3). ولم يذكر من جملة ذلك المضمضة والاستنشاق، فدل ذلك على أنهما ليسا من الأمور الواجبة.
والمختار: ما قاله الإمام الهادي في جامعيه ومن تابعه من علماء العترة وفقهاء الأمة، ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم في الاستدلال على وجوبه، ونزيد ههنا حججاً (خمساً):
الحجة الأولى: ما روى زيد بن علي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: جلست يوماً أتوضأ فأقبل رسول اللّه ً حين ابتدأت بالوضوء فقال: (( تمضمض واستنشق ثم استنثر))(4). وهذا أمر وظاهره للوجوب عند أصحابنا.
الحجة الثانية: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( المضمضة والاستنشاق من الوضوء فلا يقبل اللّه الصلاة من دونهما)). وفي رواية أخرى : (( إلا بهما)).
__________
(1) مفاصل الأصابع من ظاهرها.
(2) وفي الجامع الكافي ورد بتغيير في الألفاظ الآتية: ((واستنشاق الماء، وانتضاح الماء)). وجاء في الجواهر بعد إيراد الحديث: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضمة.
(3) أورده في الشفاء والبحر وجواهر الأخبار وقد تقدم.
(4) أخرجه النسائي، وأورده في شرح التجريد بسنده عن علي عليه السلام قال: جلست أتوضأ فأقبل رسول اللّه ً حين ابتدأت الوضوء فقال: ((تمضمض واستنشق واستنثر)).
الحجة الثالثة: ما روى عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ) قال: توضأ رسول اللّه ً ثم أتى مصلاَّه فقام في الصلاة فكبر ثم انفتل فقال: (( ذكرت شيئاً في الوضوء لابد منه فتمضمض واستنشق ثم استقبل الصلاة))(2) فلولم يكونا واجبين لما فعل ذلك.
الحجة الرابعة: ما روى عاصم ) عن أبيه قال: قال رسول اللّه ً: (( إذا توضأت فبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً))(4).
__________
(1) عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي الفقيه، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، سمع عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري، وغيرهم، وهو معلم عمر بن عبدالعزيز، كان فقيهاً، كثير الحديث، توفي سنة 99هـ، وقيل: سنة104هـ. خرج له الجماعة والأئمة الخمسة إلا الجرجاني. (طبقات الزيدية (خ) ج2/60، طبقات الفقهاء للشيرازي(42).
(2) حكاه في أصول الأحكام.
(3) عاصم بن لقيط بن صبرة.
(4) أورده في الاعتصام مع اختلاف في بعض الألفاظ. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي نحواً منه عن لقيط بن صبرة، قال: قلت: يا رسول اللّه أخبرني عن الوضوء، قال: ((أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلاَّ أن تكون صائماً)). وأورده بلفظه في الاعتصام عن الجامع الكافي.
الحجة الخامسة: قياسية، وهو أنهما عضوان يسن تكرير تطهيرهما في الوضوء فكان غسلهما مرة واحدة كالوجه واليدين، قال السيد الإمام أبو طالب: ولابد من الاحتراز في هذا القياس بأن يقال: غير مقصود بهما التحرز من النجاسة لئلا يرد في ذلك غسل الكفين في الابتداء فإنه يسن تكرير تطهيرهما في الوضوء، وليس غسلهما واجباً كما سنوضحه في ابتداء الوضوء. قال القاضي زيد: وهذا غير محتاج إليه، لأن اليدين لا خلاف في وجوب غسلهما في الوضوء، فالقياس غير منقوض بهذه الصورة فلا يحترز عنه. والصحيح ما قاله الإمام أبو طالب، لأن غسل الكفين في ابتداء الوضوء مسنون على رأيه فلولم نحترز بما ذكرناه لورد نقضاً على القياس، ولا ينفع كون غسل اليدين واجباً في الوضوء؛ إذ لا يرد نقضاً وإنما الوارد نقضاً هو غسلهما في الابتداء فافترقا.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: خبر عائشة (( عشر من الفطرة))، وعد من جملتها المضمضة والاستنشاق، وما كان سنة فليس واجباً.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن السنة قد تطلق على ما كان واجباً كقوله تعالى:{يُرِيْدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ }[النساء:26]. وأراد بذلك العلم بالله تعالى وتوحيده وحكمته، فكل هذه الأمور واجبة وقد عبر عن هذه الأمور بالسنن.
وأما ثانياً: فلأنه قد ذكر من جملتها الختان وهو واجب، فما أجابوا عنه فجوابنا مثله في المضمضة والاستنشاق.
قالوا: جاء في قصة الأعرابي: (( توضَّ كما أمرك اللّه فاغسل وجهك ويديك وامسح رأسك واغسل رجليك)). ولم يذكر هاهنا مضمضة ولا استنشاقاً.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنهما من جملة الوجه، وقد قال: (( اغسل وجهك )) فلا يحتاج إلى إفرادهما بالذكر لاندراجهما تحت غسل الوجه.
وأما ثانياً: فلأن قوله: (( اغسل وجهك )) فيه مضمضة واستنشاق، [و] إذا قلنا بأنهما لا يندرجان تحت غسل الوجه كان المَعْنِيَّ ذلك وعلى هذا لا يكون فيه حجة لهم بحال.
قالوا: لو وجبت المضمضة والاستنشاق لكان إ يجابهما زيادة على النص، فيكون نسخاً والنسخ لا يكون بالأخبار الآحادية فيما يكون مقطوعاً به.
قلنا: هذا بناء على أصل فاسد، فإن الزيادة على النص لا تكون نسخاً، فإن ما هذا حاله لا يعد نسخاً في لسان الأصوليين، ولهذا فإنه لو زيد ركعة خامسة على صلاة الظهر لم يكن ذلك نسخاً للأربع بل يكون مقرراً لها، لأن إيجاب الأربع ركعات لا يحيل إيجاب الخامسة، فلم يرتفع بإيجاب الخامسة إلا عدم وجوبها، وعدم وجوبها كان حاصلاً بالعقل فلم يرفع إيجابها إلا حكماً عقلياً وهو عدم الوجوب الأصلي فلهذا لم يكن نسخاً، وإذا لم يكن نسخاً بالتقرير الذي لخصناه جاز إثبات ما هذا حاله بالقياس والخبر الواحد، لأن البراءة الأصلية يجوز تغييرها بما ذكرناه لكونهما مثمرين للظن؛ لأن البراءة الأصلية إنما يقطع بها بشرط عدم المغير، ومتى ورد الخبر أو القياس كانا مغيرين لما ذكرناه من حكم العقل.
الفرع الثاني: والمستحب أن يأخذ من الإناء غرفة بيمينه، لما روى أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) في صفة وضوء رسول اللّه ً، أنه أدخل كفه اليمنى في الإناء فأخذ منه غرفة فتمضمض واستنشق. ولما روي عن النبي ً، أنه يحب التيامن في شربه ووضوئه وانتعاله(1)، ولأن اليمين مما يرجى أن يأخذ بها كتابه يوم القيامة، فلهذا استحب تقديمها في أعمال البر. والغُرفة بالضم، اسم للماء المغروف، وبالفتح المصدر، وهي المرة من الفعل، تقول: غرفت غرفة، كضربت ضربة، وإن مج الماء في فيه من غير إدارة لم يعتد به؛ لأن القصد قطع الرائحة من الفم وإزالة تغيره، وهذا لا يوجد من دون إدارة، وإن استنشق فجذب الماء بِنَفَسِه إلى خياشيمه ولم ينثره لم يعتد بما أتى به؛ لأن الغرض بما ذكرناه من الاستنشاق، هو إزالة العفونة من الأنف، وهذا لا يوجد من غير استنثار، والمستحب أن يبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائماً لقوله عليه السلام للقيط بن صبرة ): (( بالغ فيهما إلا أن تكون صائماً )). فإن كان صائماً لم يبالغ لما رويناه من الخبر، وإنما لم يستحب للصائم المبالغة لما كان لا يُؤْمَنُ دخول الماء إلى خياشيمه فيكون ذلك سبباً للإفطار.
الفرع الثالث: وهل يستحب الجمع بين المضمضة والاستنشاق، أو يستحب الفصل بينهما؟ فيه طريقان:
__________
(1) وفيه ما روته عائشة قالت: كان رسول اللّه ً يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. أخرجه الستة إلا الموطأ.
(2) لقيط بن عامر بن صبرة بن عبدالله بن المنتفق بن عامر بن عقيل، ويقال: إنه اسم لإثنين: لقيط بن صبرة ولقيط بن عامر. روى عن النبي ً. وعنه: ابنه عاصم وآخرون. وممن جعلوه اسماً لشخص واحد، ابن معين والأثرم عن ابن حنبل، وإليه نحا البخاري وابن حبان. والذين قالوا بأنه اسم لاثنين، ابن سعد ومسلم والترمذي وغيرهم، والله أعلم. (تهذيب التهذيب 8/409).
إحداهما: أنه يستحب الجمع بينهما، وهذا هو الذي ذكره يحيى(1) في (الأحكام) ونص عليه الشافعي في (الأم).
والحجة فيه: ما رواه أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) في صفة وضوء رسول اللّه ً، أنه تمضمض واستنشق بماء واحد.
وثانيتهما: أنه يستحب الفصل بينهما، وهذا هو الذي ذكره الناصر، وذكره الشافعي في (البويطي).
والحجة على ذلك: ما روى طلحة بن مصرف ) عن أبيه عن جده أنه قال: رأيت النبي ً يفصل بين المضمضة والاستنشاق(3)، وأراد بالفصل أنه يتمضمض بماء ثم يستنشق بماء آخر، ولأنه أشبه بالطهارة وأبلغ في النظافة. ثم في كيفية الجمع والفصل حالتان:
الحالة الأولى: أن يأخذ غرفة لفيه وأنفه فيجمع بينهما فيها، ثم غرفة ثانية وثالثة، يجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة، لما روى عبدالله بن زيد ) في صفة وضوء رسول اللّه ً أنه فعل ذلك.
__________
(1) إذا قيل: (يحيى) مطلقاً، المقصود الإمام الهادي يحيى بن الحسين.
(2) طلحة بن مصرف بن عمرو بن جحدب بن معاوية بن سعد بن الحارث الهمداني اليامي، فقيه، محدث، روى عن أنس وعبدالله بن أبي أوفى وآخرين، وثقه ابن معين وأبو حاتم، والعجلي وكانوا يسمونه سيد القُرَّاء. وعن العجلي: كان عثمانياً، وكان من أقرأ أهل الكوفة وخيارهم، توفي سنة 112هـ، وقيل عن ابن معين: لم يسمع طلحة من أنس. (تهذيب التهذيب ج5/24).
(3) أخرجه أبو داود. وجاء في الاعتصام وجواهر الأخبار.
(4) أبو محمد عبدالله بن زيد بن أسلم العدوي المدني مولى عمر. روى عن أبيه، وروى عنه جماعة. قال أبو طالب عن أحمد (بن حنبل): ثقة. وقال معاوية بن صالح عن ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وقال النسائي: ليس بالقوي. وذهب آخرون نحواً من هذه المذاهب فيه. توفي بالمدينة سنة 164هـ. (تهذيب التهذيب ج5/195).
الحالة الثانية: أن يأخذ غرفة لفيه وغرفة لأنفه، ثم غرفة ثانية وثالثة لكل واحد منهما غرفة على التكرر، لما روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) وعثمان رضي اللّه عنه في صفة وضوء رسول اللّه ً، أنه فعل كذلك.
والمختار: ما رواه أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه)، وعثمان رضي اللّه عنه لما فيه من الإكمال للطهارة والإتمام للنظافة(1)، وحكي عن الشافعي في الجمع والفصل بينهما طريقتان:
الطريقة الأولى: حكاها أبو يعقوب الماوردي من أصحابه، قال: الجمع بينهما أن يأخذ غرفة بيده فيتمضمض بها ويستنشق، ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك ثم يأخذ غرفة ثالثة يفعل بها كذلك مثل ما فعل في الثانية. وأما الفصل فهو أن يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للإستنشاق، فهذه طريقة الجمع والفصل على رأي الشافعي.
الطريقة الثانية: حكاها الشيخ أبوحامد المروزي ) من أصحابه فقال: الجمع: أن يغرف غرفة فيتمضمض بها ثلاثاً ويستنشق منها ثلاثاً يجمع في غرفة واحدة بينهما، وأما الفصل: فيغرف غرفة يتمضمض منها ثلاثاً ثم يأخذ غرفة ثانية فيستنشق منها ثلاثاً فهذه طريقة هؤلاء. وأما العمراني صاحب (البيان) فقال: إن طريقة أبي يعقوب الماوردي أشبه بكلام الشافعي، ثم قال العمراني: وكلام الشيخ أبي حامد أمكن وأثبت.
__________
(1) في الأصل، وإتمام النظافة.
(2) أحمد بن بشر بن عامر العامري المروزي، أخذ العلم عن أبي إسحاق المروزي، ونزل البصرة وأخذ العلم عن فقهائها، شرح مختصر المزني، وصنف الجامع في المذهب، توفي سنة 362هـ، ا.هـ. ملخصاً من طبقات الشافعية لابن هداية اللّه ص86.
والمختار: جواز الأمرين جميعاً، أعني الجمع والفصل، فإن أريد الجمع فإنه يجمعهما في غرفة واحدة ثلاث مرات، وإن أريد الفصل فإنه يفرد الفم بغرفة والأنف بغرفة واحدة، ثم تكون الثالثة موكولة إلى رأيه، فإن شاء أفردها للفم وإن شاء أفردها للأنف وإن شاء شرك بينهما لأجل إحراز الوتر في الوضوء، وهذا هو الأسهل الأقرب الأعرف في الوضوء في الجمع والفصل فيجب التعويل عليه من غير حاجة إلى أمر وراءه.
الفرع الرابع: الذي يتحصل من الخلاف بين أئمة العترة وفقهاء الأمة في المضمضة والاستنشاق، يقع على أربعة أوجه:
أولها: أنهما واجبان في جميع الطهارتين الكبرى والصغرى، وهذا هو رأي القاسمية أجمع، وهو محكي عن عطاء، وطاووس ).
وثانيها: أنهما سَيَّانِ في جميع الطهارتين كلتيهما، وهذا هو المحكي عن الناصرية أجمع، وهو رأي الشافعي. وقد قررنا الحجة لكل واحد من هذين المذهبين، وذكرنا المختار ونصرناه فأغنى عن تكريره.
وثالثها: أنهما إنما يجبان في الجنابة دون الوضوء، وهذا هو رأي الإمام الشهيد زيد بن علي، ومحكي عن أبي حنيفة، والثوري.
والحجة لهم على ذلك: ما روى أبوهريرة عن النبي ً أنه قال: (( المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثاً فريضة)).
فنقول: عما ذكرتموه جوابان:
أما أولاً: فلأن إيجابهما في الجنابة لا يناقض إيجابهما في الوضوء بالأدلة التي ذكرناها.
__________
(1) طاووس: هو ذكوان بن كيسان اليماني أبو عبدالله الحميري (مولاهم). الفارسي، يقال: اسمه ذكوان، وطاووس لقب له، قال ابن حجر: فقيه، ثقة، فاضل، في الثالثة، مات سنة 106هـ. روى عن: ابن عباس، وجابر، وابن عمر، وآخرين، وعنه: مجاهد، والزهري، وخلق، توفي ببعلبك وقبره بها. ا.هـ. ملخصاً من تراجم الأزهار ج3/14.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه يؤكد ما قلناه من إيجابهما في الوضوء، فإنه إنما خص الجنابة بالإيجاب ليس من أجل أنهما لا يجبان في الوضوء، وإنما غرضه أن لا يقع فيهما تساهل، ويتكل على أن تعميم الجسم بالغسل لا يكفي عن تخصيصهما بالإيجاب، فخصهما بالذكر تنبيهاً على ما قلناه.
ورابعها: أن الاستنشاق في الوضوء والجنابة واجب دون المضمضة، وهذا قول يحكى عن داود وأبي ثور.
والحجة لهما على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ً)). فخصه بالمبالغة ليدل على كونه واجباً دون غيره.
فنقول: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلأن الحديث الوارد (( بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً)) بالجمع بينهما من غير تفريق، وفي هذا دلالة على استوائهما في الإيجاب من غير تخصيص لأحدهما بالإيجاب دون الآخر.
وأما ثانياً: فلأن تخصيص الاستنشاق بالذكر لا يدل على كون المضمضة غير واجبة، ثم إنا نقول: إن جميع الأحاديث التي رويناها في إيجابهما جميعاً ظاهرة في الوجوب بعيدة عن الاحتمال، وأخباركم هذه معرضة للاحتمال فلأجل هذا كانت [أحاديثنا] أرجح من أحاديثكم.
الفرع الخامس: إذا تمضمض واستنشق ثم وجد بين أسنانه شيئاً من أجزاء المأكولات، فهل يجزيه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه غير مجز له لحديث لقيط بن صبرة، حيث أمره رسول اللّه ً، بالمبالغة فيهما إلا أن يكون صائماً، ولا مبالغة مع حصول الحاجز عن وصول الماء.
وثانيهما: أنه يكون مجزياً؛ لأن أحاديث المضمضة والاستنشاق وردت مطلقة ومع الإطلاق يحصل الإجزاء، لأن من هذه حاله فقد حصل منه مطلق الاسم وصدق عليه أنه قد تمضمض واستنشق.
والمختار: هو الإجزاء، وهو الذي أشار إليه الإمام المنصور بالله؛ لأن ما هذا حاله يصعب الاحتراز منه ويجزيه في المضمضة مج الماء في فمه وإدارته، لحديث أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) وحديث عثمان رضي اللّه عنه فإنه ليس في حديثهما إلا أنه مج الماء في فيه، من [غير] دلك بالأصبع فإنه ليس مسنوناً لما ذكرناه، فإن دلك بأصبعه فاهُ كان مبالغة في التنظيف، ويكفي في الاستنشاق دفع الماء بِنَفَسِه عما كان استجذبه، لما في حديث علي (كرم اللّه وجهه) وحديث عثمان، فإنه لم يزد في نثر الماء على دفعه بنفسه من غير إدخال لشيء من أصابعه في منخريه، فإن [كان] في المنخرين شيء جامد استحب له دفعه لما فيه من زيادة التنظيف وإيصال الماء إلى البشرة.
مسألة: ثم يغسل يديه لقوله تعالى:{فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ }[المائدة:6]. وقوله ً لمن علمه الوضوء: (( فاغسل وجهك ويديك))، ولأنه لا خلاف بين الأمة في وجوب غسلهما.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: المرفق فيه لغتان:
الأولى منهما: مِرْفَق بكسر الميم وفتح الفاء كأنه جعل على بناء الآلة، كقولك: مِقرض ومِفتح.
الثانية: بفتح الميم وكسر الفاء كأنه لم يسلك به مسلك الآلة. ويجوز فيه: مَرفَق بفتح الميم والفاء. وقرئ قوله تعالى:{وَيُهَيِّئ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقَاً }[الكهف:16]. بكسر الميم وفتح الفاء جعله آلة كالمقرض والمِخلب، ومن قرأه بفتح الميم وكسر الفاء جعله من باب المسموع كالمسجد. ويجوز فيه مَرْفَق بفتح الميم والفاء جميعاً كالمَطْلَع، ولم يُقرأ به ولكنه جائز من جهة القياس العربي، وهو عبارة عن مجتمع عظم الساعد وعظم العضد. وهل يجب إدخال المرفقين في غسل اليدين أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب إدخالهما في غسل اليدين، وهذا هو رأي أئمة العترة وهو قول أكثر الحنفية، والشافعية، والمالكية.
والحجة على ذلك: هو أن (إلى) موضوعة في كلام العرب للحد، والحد قد يدخل تارة وقد لا يدخل، فاستعماله في اللغة جائز على الوجهين جميعاً، فأما دخوله فقوله تعالى:{وَلاَ تَأْكُلُوْا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ }[النساء:2]. فالحد هاهنا داخل في المحدود، وقد يستعمل غير داخل كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوْا الْصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ }[البقرة:187]. فالليل هاهنا غير داخل، فلما كان الحد جارياً على هذين الوجهين وجب أن يكون مجملاً في هذين الاستعمالين، فلا يمكن العمل على ظاهره لإجماله فلابد من بيانه ليمكن العمل عليه، وقد بينه اللّه تعالى على لسان رسوله بقول أو فعل، بما روى جابر بن عبدالله أن الرسول ً، كان إذا توضأ أمرَّ الماء على مرفقيه، وهذا منه ً، خارج مخرج البيان لما أُجمل في الآية.
المذهب الثاني: أنه غير داخل، وهذا شيء يحكى عن أبي بكر بن داود الأصبهاني، ومروي عن زفر.
والحجة لهما على ذلك: هو أن ظاهر الآية على أن المرفق غاية للغسل ومنقطعه، ومن حق ما يُجعل غاية بأصل الوضع أن لا يكون داخلاً كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوْا الْصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}[البقرة:187]. فلما كان الليل غاية لم يدخل.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن تابعهم من علماء الأمة.
والحجة فيه: ما نقلناه عنهم؛ ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما قاله الزَّجَّاج ) في كتاب (معاني القرآن): أن (إلى) قد ترد بمعنى مع، كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ }[آل عمران:52]. أي مع الله، وقوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ }[هود:52]. أي مع قوتكم. وقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوْا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}[النساء:2]. أي مع أموالكم، فإذا كان الأمر فيها كما قلنا، صار التقدير: وأيديكم مع المرافق، فصارت (إلى) دالة على المعية وهو الاجتماع، ولا شك أن اليد اسم لجميع العضو إلى الآباط والمناكب، ومع ما ذكرناه من التقرير يصير المعنى في الآية، غسل جميعها خلا أنه اقتطع ما فوق المرفقين من اليد، وأدخلهما في الغسل بالدليل الذي لخصناه.
__________
(1) إبراهيم بن محمد أبو إسحاق الزَّجَّاج، النحوي، اللغوي، المفسر، أخذ عن المبرد، وثعلب، وله تفسير جليل في إعراب القرآن، كان يخرط الزجاج فنسب إليه، توفي سنة 310هـ. ا.هـ. ملخصاً من تراجم الأزهار للجنداري.
الحجة الثانية: ما حكي عن المبرد ) أنه قال: إذا كان الحد من جنس المحدود كان داخلاً فيه، في مثل قولك: بعت هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف. فلما كان العضد من جنس الساعد وحد الساعد بالمرفق لا جرم كان داخلاً فيه لما كان من جنسه، فحصل من مجموع ما ذكرناه دخول الحد في المحدود لغة بما نقلناه عن أئمة اللغة، فوجب حمل مطلق الآية عليه فصار المجمع على غسله هو عظم الساعد كله، والذي وقع فيه الخلاف هو غسل طرف العضد مما يلي عظم الساعد؛ لأن حده هو طرف العضد، فصار المرفق اسماً واقعاً على معنيين:
أحدهما: أنه مقول على مجمع العظمين: عظم الساعد وعظم العضد.
وثانيهما: أنه مقول على عظم الساعد لا غير، وإنما يجب غسل عظم العضد على جهة التبع بالدلالة الشرعية.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا: جعل اللّه المرافق غاية لغسل اليد، فلا تكون داخلة، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوْا الْصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}.[البقرة:187]
__________
(1) هو محمد بن يزيد الأزدي، إمام نحاة البصرة لعصره، ولد بها سنة 210هـ، وأكب منذ نشأته على اللغة، والنحو، والتصريف على علماء عصره مثل: أبي عمر الجرمي، ثم أبي عثمان المازني، وتتلمذ عليه كثير من طلاب علم اللغة، ولمع اسمه وطارت شهرته، فاستدعاه المتوكل إليه سنة 236هـ يفتي في المسائل اللغوية والنحوية، واستقر ببغداد للتدريس، وسرعان ما اصطدم بثعلبة زعيم مدرسة الكوفة وكثرت بينهما المناظرات، وما زال مفزع طلاب اللغة والنحو ببغداد حتى توفي سنة 285هـ، وبلغ من إعجاب المازني أن لقبه بالمبرِّد بكسر الراء، وحول الكوفيون اللقب إلى المبرَّد بفتح الراء عنتاً له وسوء قصد، كما قال د. شوقي ضيف في كتابه (المدارس النحوية)( راجع ترجمته للمبرد ص123، وتراجم المبرد في كل كتب ومعاجم الأعلام. ومنها معجم الأدباء ج19/111، والفهرست ص93، ومعجم الشعراء ص449، وتاريخ بغداد ج3/380).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإنا قد قررنا أن (إلى) ليست في الآية غاية وإنما هي بمعنى (مع) فالمعية دالة على الاجتماع فلهذا كانت داخلة فيه المرافق(1).
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا كونها دالة على الغاية لكونها أصلاً فيها، لكنا نقول: قد قررنا إجمال الآية وحاجتها إلى البيان، وقد حصل بيانها بما نقلناه عن جابر وبما رواه أمير المؤمنين، وعثمان بن عفان في صفة وضوء رسول اللّه ً، حيث كان يُمِرُّ الماء على مرافقه.
قالوا: المفهوم من الغاية أنها منقطع الشيء وحده، وإذا كان هذا هو المفهوم منها وجب أن لا تكون المرافق داخلة؛ لأنها صارت غاية ينتهي الغسل عندها.
قلنا: إن أردتم أن الحد غير داخل من جهة اللغة فهو فاسد؛ لأنا قد أوضحنا استعماله في اللغة تارة مع الدخول وتارة مع الخروج، فلا دلالة لكم من جهة اللغة على خروج الحد، وإن أردتم أنه غير داخل من جهة العقل فهذا وإن سلم لكنه خرج بدليل الشرع الذي لخصناه فبطل ما توهموه.
قالوا: لابد من التفرقة بين الغاية وذي الغاية وبين الحد والمحدود، ولا فرق هناك يعقل إلا بأن الحكم مقصور على المحدود دون حده وموقوف على ذي الغاية دون غايته، فإذا كان الحكم شاملاً لهما لم يقع هناك تفرقة بينهما.
قلنا: التفرقة بين الحد والمحدود ضرورية وبين الغاية وذي الغاية، فهما وإن اتفقا في الحكم فلا يقدح في هذه التفرقة الضرورية، ألا ترى أنا نفصل بين الليل والنهار في الصوم، وهكذا القول في كل حد ومحدود فإنهما يفترقان، فلا وجه لقولكم إنهما إذا كانا متفقين في الدلالة أنها تبطل التفرقة بينهما، فهما متميزان كما أشرنا إليه، لكن الدلالة الشرعية قاضية بإدخال الحد في المحدود فبطل ما توهموه.
__________
(1) الذي يظهر أن (إلى) هنا، ليست للغاية، لأنها لوكانت بمعنى (مع) للزم التغاير بين الأيدي والمرافق. ويرى الزمخشري أن (إلى) هنا هي للغاية، وذكره في الكشاف.
الفرع الثاني: إذا كان للرجل أصبع زائدة أوكف زائدة في كفه أوفي ذراعه، وجب عليه غسلها؛ لأنها في محل الفرض فوجب اندراجها تحت قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ}. لأن التقدير فيه: واغسلوا أيديكم. وإن كان له يدٌ زائدة على يديه نظرت، فإن كان أصلها في محل الفرض وجب غسلها مع اليد لكونها في محل الفرض، وإن كان أصلها في غير محل الفرض كأن يكون أصلها في منكبه أو عضده بعيداً عن محل الفرض، نظرت فإن كانت قصيرة لم تحاذ محل الفرض فإنه لا يجب غسلها لكونها بعيدة عن محل الفرض وغير محاذية له، وإن كان منها شيء قد حاذى محل الفرض فهل يجب غسل ما كان محاذياً لمحل الفرض مع اليد أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجب غسلها؛ لأن أصلها في غير محل الفرض وهي تابعة له.
وثانيهما: أنه يجب؛ لأنه يقع عليها اسم اليد.
والمختار على المذهب: هو الأول وهو أنه لا يجب غسلها لبعدها عن محل الفرض، وما قيل من أنه يقع عليها اسم اليد يبطل بما إذا كانت قصيرة لم تحاذ شيئاً من محل الفرض فإنه يقع عليها اسم اليد، ومع ذلك فإنه لا يجب غسلها فبطل ما قالوه.
الفرع الثالث: وإذا كان للرجل يدان متساويتان مبدأ خلقهما من المنكب أو من المرفق وجب غسلهما جميعاً لوقوع اسم اليد عليهما، فتكونان مندرجتين تحت قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}. وإن كان له أظفار قد طالت وخرجت عن حد اليد فهل يجب غسل ما خرج عن حد اليد أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك واجب؛ لأنه من جملة اليد ومتصل بها.
وثانيهما: أنه غير واجب؛ لأنه خارج عن حد الفرض فأشبه اللحية المسترسلة، فإن غسلها غير واجب كما مر بيانه، وإن انقشعت جلدة عن جانب ثم التحمت من جانب آخر نظرت، فإن كان انقشاعها من الساعد والتحامها فيه وجب غسلها؛ لأن ذلك كله في محل الفرض فلهذا وجب غسله، وإن كان انقشاعها من العضد والتحامها فيه لم يجب غسلها؛ لأن ذلك بمعزل عن محل الفرض، كما مر تقريره، وإن كان انقشاعها من الساعد والتحامها في العضد وجب غسل ما يحاذي المرفقين دون ما عداه لكونه محلاً للفرض، وإن كان انقشاعها من العضد وتدلت إلى الساعد والتحمت به وجب غسل ما كان على المرفقين والساعد لكونه محلاً للفرض، فلهذا وجب غسله، وإن انقشعت من الساعد والتحمت بالمرفق وبقي ما تحتها مجوفاً وجب غسل ما تحتها؛ لأنه محل الفرض وهو الساعد، ووجب غسلها أيضاً لكونها محاذية لمحل الفرض.
الفرع الرابع: والأقطع إذا قطعت يداه أوإحداهما نظرت، فإن كان مقطوعاً عند الزند وجب غسل ما بقي من الذراع لكونه محلاً للفرض، وإن كان مقطوعاً من العضد فلا فرض عليه هناك في الغسل؛ لأن العضد ليس محلاً للفرض فلا يجب غسله، ويستحب أن يمس ما بقي من العضد ماء حتى لا يخلو العضو عن الطهارة، وإن كان مقطوعاً من المرفقين فهل يجب غسله أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب غسله، وهذا هو الذي ذكره الإمام المؤيد بالله على رأي القاسم، ونقله الربيع ) عن الشافعي.
__________
(1) الربيع بن سليمان بن عبدالجبار بن كامل المرادي (مولاهم) أبو محمد المصري المؤذن صاحب الشافعي وخادمه وراوية كتبه الجديدة. قال الشافعي: الربيع راويتي. وقال الذهبي: كان الربيع أعرف من المزني بالحديث وكان المزني أعرف بالفقه منه بكثير. ولد سنة ثلاث أو أربع وسبعين ومائة، وتوفي في شوال سنة سبعين ومائتين. وهو آخر من روى عن الشافعي بمصر. (طبقات الشافعية الأعلام).
والحجة على ذلك: هو أن المرفق عبارة عما قررناه من قبل عن مجتمع العظمين، عظم الساعد وعظم العضد، فلهذا وجب غسل عظم العضد لكونه مراداً بالآية: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}. وهي عبارة عما ذكرناه، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف.
المذهب الثاني: أنه لا يجب غسله وهذا هو رأي مالك، ومحكي عن زفر، ونقله المزني عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن المرفق عند هؤلاء صار عبارة عن عظم الساعد فلأجل هذا لم يجب غسله، وكل موضع قلنا بأن غسله غير واجب فإنه مستحب؛ لئلا يخلو العضوعن وظيفة الطهارة فيه.
والمختار: ما قاله الإمامان: القاسم والمؤيد بالله ومن تابعهما من العلماء.
والحجة على ذلك: ما نقلناه، ونزيد هاهنا فنقول: ليس يخلو الحال في ذلك إما أن يكون المرفقان مقولين على مجتمع العظمين أو يكون [اللفظ] مقولاً على عظم الساعد لا غير، فإن كان الأول: فلا كلام في دخول عظم العضد لكونه من مفهومها فلهذا كان واجباً غسله بإطلاق الآية، وإن كان الثاني: فهو وإن كان الأمر فيه كما قالوه لكنا نقول: يدخل عظم العضد على جهة التبع لعظم الساعد، فلهذا وجب غسله على كلا الأمرين جميعاً.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: المرفق عبارة عن عظم الساعد وهو مفهومه اللغوي فلا يدخل عظم العضد، وفي هذا دلالة على أنه لا يجب غسله.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نُسَلِّمُ أنه عبارة عما ذكروه، ولكنه عبارة عن مجتمع العظمين عظم الساعد وعظم العضد، فيكون غسله لاندراجه تحت الآية، وهو قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ}.
وأما ثانياً: فهب أنا سَلَّمْنَا ما قالوه من أنه عبارة عن طرف عظم الساعد، لكن عظم العضد صار تابعاً له، فهو وإن لم يجب غسله قصداً فإنه واجب على جهة التبع، وأكثر البغداديين من أصحاب الشافعي على تخطئة المزني في نقله لهذه المقالة عن الشافعي، وإنما العمدة لمذهبه ما نقله الربيع من القول بوجوب غسل عظم العضد كما هو رأي أئمة العترة، فأما الخراسانيون من أصحاب الشافعي فقد صححوا ما قاله المزني، وقالوا: إن له [رأياً] في المُسَلَّمَيْنِ، والتردد منه إنما كان في وجوب غسل عظم العضد، هل يكون على جهة القصد أو يكون على جهة التبع؟، ويؤيد ما قلناه من وجوب غسله عند القطع هو، أن غسله كان واجباً قبل القطع فهكذا حاله إذا قطع كالزند إذا كان بعضه مُباناً.
قالوا: طرف عضو فلا يجب غسله كالطرف الآخر مما يلي المنكب.
قلنا: إنما لم يجب غسل طرفه الآخر لما كان ليس محلاً للفرض ولا متصلاً به، بخلاف ما يلي الساعد فإنه محل للفرض فوجب غسله لما كان متصلاً به فافترقا.
الفرع الخامس: وإن كان الأقطع لا يتمكن من الوضوء إلا ببذل الأجرة، وجب عليه ذلك إذا كان متمكناً منها؛ لأن ذلك تسبيب إلى تحصيل الصلاة فلزمه ذلك، كما نقوله في شراء الماء لتأدية الصلاة، فإن بذل له غيره أن يوضيه بغير أجرة لم يلزمه ذلك لما فيه من احتمال المنة في تأدية العبادة كما لا يلزمه قبول الهبة في المال ليكون مؤدياً للزكاة. وحكي عن الصيدلاني من أصحاب الشافعي: وجوب ذلك عليه، والوجه فيه ما قررناه.
وإن لم يجد من يوضيه بأجرة ولا بغير أجرة وجبت عليه الصلاة على حسب حاله لأمرين:
أما أولاً: فلأن الأمر بالصلاة ورد مطلقاً وهو قوله تعالى: {وَأَقِيْمُوْا الْصَّلاَةَ}. وعلم بدليل الإجماع، الشرطية للوضوء، فإذا تعذر الوضوء لمانع لم يبطل ما وجب من الأمر بالصلاة؛ لأن أحدهما مغاير للآخر، فالعذر في تأدية الوضوء لا يكون مسقطاً للصلاة.
وأما ثانياً: فلقوله عليه السلام: (( إذا أمرتم بأمرٍ فأتوا به ما استطعتم )). فلما كانت الاستطاعة في حق الوضوء مفقودة لم تبطل الاستطاعة في حق الصلاة.
وهل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تلزمه الإعادة وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن ما هذا حاله نادر والنادر لا تعريج عليه، فألحق بما لو صلى بغير وضوء مع تمكنه منه.
وثانيهما: أنها لا تلزمه الإعادة وهذا هو رأي الهادي.
والحجة على ذلك: هو أنه قد أدّى الصلاة على الوجه الممكن في حقه وهي فرض وقته، فلا يلزمه تأديتها مرة أخرى لقوله عليه السلام: (( لا ظهران في يوم)).
الفرع السادس: وإن توضأ ثم قطعت يده أو رجله فهل يجب عليه غسل ما ظهر لأجل القطع أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يلزمه غسله، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن الدم ناقض للوضوء كما سنقرره في نواقض الوضوء، وإذا كان الأمر فيه كما قلناه فقد تعلقت الطهارة بموضع القطع كما لو أحدث، فمن أجل ذلك وجب غسله.
وثانيهما: أنه لا يجب غسله، وهذا هو المحكي عن الإمام الناصر، وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن خروج الدم غير ناقض على رأيهما، وإذا كان الأمر كذلك فالطهارة هاهنا غير متعلقة بموضع القطع، وإنما تتعلق بموضع ما ظهر من اليد فقد غسله فلا يتوجه عليه سوى ذلك، فإن أحدث بعد ما قطعت يده أو رجله فقد اتفق الفريقان على وجوب غسل موضع القطع، من جهة أن الطهارة قد تعلقت بموضع القطع لأجل الحدث، وإن وقع في بعض أعضاء الطهارة جرح فتجوف وصار له قعر بعد اندمال جرحه فلابد من غسله وجوباً؛ لأنه صار ظاهراً يمكن غسله لأنه صار في محل الفرض.
ويستحب للمتوضئ إذا كان في يده خاتم أن يحركه بأصبعه إذا كان يعلم بوصول الماء إليه ودخوله تحته، فإن كان الخاتم واسعاً فلا يحتاج إلى التحريك لما روى أبو رافع )، عن النبي ً أنه كان إذا توضأ حرك خاتمه في أصبعه(2)، فإذا كان الخاتم منضغطاً في الأصبع بحيث لا يدخل الماء تحته وجب عليه إخراجه وغسل ما تحته؛ لأن ما تحته في محل الفرض فلابد من غسله.
الفرع السابع: وغسل البراجم واجب لكونه في محل الفرض فلابد من غسله(3). والبُرجمة: بضم الباء واحدة البراجم وهي عبارة عن [مفاصل] أصابع الكف، وعلامتها أن الإنسان إذا قبض كفه شخصت.
فإن قال قائل: فكيف تقولون: إن غسل البراجم واجب وقد عدَّ رسول اللّه ً غسل البراجم والمضمضة والاستنشاق وانتقاص الماء من جملة المسنونات في حديث عائشة وهي عندكم واجبة كلها؟
قلنا: قد أوضحنا البرهان على وجوب هذه الأمور من قبل فلا مطمع في إعادته، وإنما جاز إطلاق اسم السنة عليها على جهة الاستعارة والتَّجوز من جهة أن المسنون في لسان حملة الشريعة، ما واظب الرسول على فعله وتكرر من جهته تأديته، ولا شك أن الأمور الواجبة أحق الأفعال بالمواظبة والتكرير فلأجل هذا حسن تسمية الواجب بكونه مسنوناً، وأما الانتقاص بالماء فهو عبارة عن الاستنجاء بالماء وقد قررنا وجوبه من قبل، وإنما سمي الاستنجاء بالانتقاص لأمرين:
__________
(1) أبو رافع القبطي، مولى رسول اللّه ً، اختلف في اسمه، أسلم قبل بدر وشهد أحداً، وما بعدها، روى عن النبيً، وعن ابن مسعود، وعنه: أولاده، وأحفاده، أولاد علي بن أبي رافع، وعطاء، وسليمان بن يسار، وغيرهم، مات في المدينة بعد مقتل عثمان. ا.هـ (در السحابة ص767).
(2) رواه البيهقي في الكبرى ج1/57، وابن ماجة (449)، والدار قطني ج1/83.
(3) هكذا في الأصل، ربما باعتبار الضمير عائداً على (محل الفرض). والصواب: لكونها في محل الفرض فلابد من غسلها.
أما أولاً: فلأن المستنجي إذا استعمل الماء في غسل فرجيه فإنه ينقص لا محالة.
وأما ثانياً: فلأن الانتقاص هو انقطاع البول، فإذا استنجى بالماء انقطع البول فلأجل هذا سمي ما يقطع البول انتقاصاً.
مسألة: ثم يمسح رأسه لقوله تعالى: {وَامْسَحُوْا بِرُؤُوْسِكُمْ}. ولما روى أمير المؤمنين وعثمان بن عفان من صفة وضوء الرسول ً أنه مسح رأسه، ولقوله عليه السلام للأعرابي: (( توضَّ كما أمرك اللّه تعالى )) ثم قال: (( وامسح رأسك )) ولأنه لا خلاف بين الأمة في وجوب مسح الرأس.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في بيان مقدار الواجب من مسح الرأس، وفيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الواجب فيه التعميم مقبله ومدبره وجوانبه، وهذا هو رأي الهادي نص عليه في الجامعين، والقاسم في (النيروسي)، ومحكي عن المؤيد بالله، وهو رأي أكثر العترة، ومحكي عن مالك، والمزني؛ من أصحاب الشافعي، وأبي علي الجبائي، وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: ما روي [عن] أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) في صفة تعليمه الناس لوضوء رسول اللّه ً، فمسح رأسه مقبلاً ومدبراً.
الحجة الثانية: ما روى طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول اللّه ً مسح مقدم رأسه حتى بلغ القذال من مقدم عنقه.
الحجة الثالثة: قياسية، وهو أنه عضو من أعضاء الطهارة فلا يكون فرضه مقدراً بالربع كسائر أعضاء الطهارة، أو نقول: عضو من أعضاء الطهارة فرضه المسح في إحدى الطهارتين فوجب فيه التعميم كالوجه واليدين في التيمم، فهذه الحجج كلها دالة على وجوب التعميم في وظيفة الرأس.
المذهب الثاني: أنه لا يجب مسح الجميع وإنما يجب منه قدر معلوم، وهذا فيه آراء أربعة:
أولها: أن الواجب هو مسح مقدم الرأس، وهذا هو رأي الإمامين زيد بن علي، والناصر، ومحكي عن الباقر، والصادق.
والحجة على ذلك: ما روى أنس بن مالك، قال: رأيت رسول اللّه ً أدخل يده تحت العمامة ومسح على مقدم رأسه، وفي حديث آخر على ناصيته(1)، فالآية وردت مطلقة، وهذا الحديث كالبيان له فوجب بظاهره مسح مقدم الرأس كما ذكرناه.
وثانيها: أن المقدم جزء من الرأس، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة، فإنه روي عنه ثلاث روايات:
الأولى منها: أن الواجب مسح ربعه.
الثانية: أن الواجب مسح الناصية.
الثالثة: أن الواجب مسح مقدار ثلاث أصابع بثلاث أصابع.
والحجة على ما قاله: ما روي عن النبي ً أنه مسح مقدم رأسه، فظاهر الخبر دال على مسح جزء من الرأس، وهو وارد على جهة البيان لما في الآية، فَمَرَّة قدَّره بالربع؛ لأن مقدم الرأس ربع ومؤخره ربع وجانباه ربعان من عن يمين وشمال، فهذا وجه تقدير الربع، ومرة قدر الناصية موافقة لظاهر الحديث فإن المقدم هو الناصية، ومرة قال: مقدار ثلاث أصابع؛ لأن ذلك هو المفهوم من إطلاق لفظ المقدم، فمن أجل ذلك اختلفت الروايات عنه عملاً منه على هذا التقدير والأخذ من ظاهر الخبر.
وثالثها: أن الواجب من مسح الرأس هو الثلثان منه، وهذا هو المحكي عن محمد بن مسلمة صاحب مالك، وإحدى الروايتين عن: أحمد بن حنبل، والرواية الثانية: [مسحه] كله كمذهبنا.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَامْسَحُوْا بِرُؤُوْسِكُمْ}. وظاهر الآية دال على التعميم، فإذا مسح الأكثر من الرأس فإنه يكون قريباً من التعميم، ولن يكون ذلك إلا بتقدير الثلثين، فإذا ترك ثلثاً فما دون كان ذلك مجزياً له.
ورابعها: أن الواجب من الرأس مسح ثلاث شعرات، وهذا هو المحكي عن الشافعي في بعض أقواله، وحكي عن عبدالله بن عمر: أنه لو مسح شعرة أجزأه، وهذا هو المحكي عن أبي ثور أيضاً، وروى داود مثل ذلك.
__________
(1) أخرجه أبو داود عن أنس قال: رأيت رسول اللّه ً يتوضأ، وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة.
والحجة على ذلك: هو قوله تعالى: {وَامْسَحُوْا بِرُؤُوْسِكُمْ}. فظاهرالآية دال على إجزاء ما يقع عليه الاسم، ولا شك أن الاسم؛ أقل ما يقع على ما ذكرناه، وعن ابن الصباغ صاحب (الشامل)، أن ما هذا حاله ليس تقديراً من جهة الشافعي، وإنما هو عمل على أقل ما يطلق عليه الاسم، فهذا تقرير من قال من الفقهاء: بالتقدير في مسح الرأس.
المذهب الثالث: من قال إن الواجب من مسح الرأس ليس أمراً مقدراً وإنما يُكتفى عنه بأقل ما يقع عليه اسم المسح، وعلى هذا لو مسح بعض شعرات أجزأه.
والحجة على ذلك: هو أن اللّه تعالى أمر بالمسح في الآية ولم يقدره، وعدم تقديره فيه دلالة على أن اللّه ما أراد شيئاً مقدراً وإنما أراد ما يقع عليه الاسم؛ لأن المقصود هو خفة الوضوء في مسح الرأس، وما ذكرناه من أن الظاهر أَقَلُّ ما يقع عليه الاسم هو مطابق لهذه الوظيفة التي فرضها اللّه عز وجل في الآية، فهذا تقرير المذاهب كلها بحججها وأدلتها، والله أعلم بالصواب.
والمختار: ما عليه الأكثر من أئمة العترة وهو تعميم مسح الرأس.
والحجة: ما نقلناه عنهم ونزيد هاهنا حججاً قوية ستاً:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {وَامْسَحُوْا بِرُؤُوْسِكُمْ}. واعلم أن كل واحد من مخالفينا في هذه المسألة قد استدل بهذه الآية على ما يراه من مسح بعض الرأس لكن استدلالنا بها على التعميم في المسح أحق من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الباء موضوعة في الأصل للإلصاق في مثل قولك: أمسكت بالحبل أي الصقت يدي به حقيقة، ومجازاً في مثل قولك: اعتصمت بحبل اللّه وتمسكت بعروته، فالإلصاق هاهنا مجازي، وهي(1) وإن أفادت الاستعانة والمصاحبة والمقابلة لكن معناها الأصلي هو الإلصاق وإليه يرجع سائر المعاني، وإذا كان الأمر كما قلناه كانت فائدة الإلصاق في قوله تعالى:{وَامْسَحُوْا بِرُؤُوْسِكُمْ}. إلصاق المسح بكل جزء من الرأس، فهذه هي فائدة الإلصاق، وفي هذا حصول غرضنا من كونها دالة على تعميم المسح في الرأس خلافاً لما يزعمه مخالفونا من دلالتها على التبعيض.
__________
(1) يقصد: الباء.
وأما ثانياً: فلأن الشيخ أبا الفتح بن جني ) قال: ومن زعم أن الباء للتبعيض فشيء لا يعرفه أهل اللغة ولا ورد في شيء من كلام العرب منظومه ولا منثوره، وفي هذا دلالة على ضعف هذه المقالة أعني دلالتها على البعضية.
__________
(1) أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، كان أبوه مولى، رومياً، يونانياً، وكان مملوكاً لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي، ومن ثم فهو أزدي بالولاء. ولد حوالي سنة 320هـ بالموصل، وكان شديد الذكاء أكب على علوم اللغة العربية والفقه والحديث، وأخذ يدرس الطلاب بالموصل ويتعرض للأعراب الفصحاء، وحدث أن مر بحلقته أبو علي الفارسي إمام النحاة في عصره وعمر ابن جني لم يتجاوز الثامنة عشرة، ومن ثم لحق به ابن جني ولازمه أربعين سنة، وأتاحت له صحبته أن يستوعب آراءه في اللغة نحوها وصرفها، وأن يتعرف ببلاط سيف الدولة على المتنبي، وقامت بينهما صداقة رفيعة، فشرح ديوان المتنبي وفسر أشعاره حتى اشتهرت عن المتنبي مقولته: (ابن جني أدرى بشعري مني). وابن جني ممن أكثر في التصنيف حتى بلغت مصنفاته الخمسين، ومنها تسجيله لكلام أستاذه الفارسي مثل: (اللمع) و(ذي القد) و(تأييد تذكرة أبي علي). واشهر مصنفاته كتاب (الخصائص) في ثلاثة مجلدات مطبوعة. ومن أهم مصنفاته أيضاً كتاب (المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها). وقد نشر منه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة الجزء الأول. وله كتاب (المنصف) شرح فيه كتاب (التصريف) للمازني، نشر بالقاهرة في ثلاثة أجزاء. وكان يأخذ بوجهة النظر الكوفية في كثير من المسائل. وظل يوالي التأليف والتصنيف حتى توفي سنة 392هـ. وجني: معناه بالعربية فاضل وتترجم حين تكتب بالحروف اللاتينيه ممثلة للفظ اليوناني gennaius ، ومعناه: كريم، أو نبيل، أو عبقري، وجني بكسر الجيم وكسر النون مشددة وسكون الياء فلا تشدد كياء النسب إذ ليست بها. (المدارس النحوية الخصائص).
وأما ثالثاً: فلأنا نقول: الفعل في حالة إذا كان متعدياً بنفسه ثم عدي بالباء، فلا وجه لتعديته بالباء إلا من جهة الإشعار بالتعميم؛ لأنه إذا كان معدى بنفسه كان محتملاً للتعميم وغيره في مثل قولك: مسحت رأسي، فهو محتمل لأن يفيد الشمول في مسح الرأس، ويحتمل أن يكون مفيداً للتخصيص ببعضه، أما إذا كان معدى بالباء وكان في الأصل معدى بنفسه فالباء لم تأت إلا دالة على التعميم لا محالة، لأنها دالة على الإلصاق ومشعرة به فكأنها لإلصاق المسح بكل جزء من أجزاء الرأس وهذا هو مطلوبنا، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى:{وَلاَ تُلْقُوْا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الْتَّهْلُكَةِ }[البقرة:195]. وقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيْعَاً }[آل عمران:103]. وقوله تعالى:{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُوْنُ }[القلم:6]. فهي في جميع مواردها في كتاب اللّه لا تفيد التبعيض بحال فكيف يقال بأنها هاهنا دالة عليه مع أنها غير مستعملة فيه؟ فحصل من مجموع كلامنا هاهنا أنه لا دلالة لمخالفينا في الآية على مسح بعض الرأس وأنَّا أحق بالاستدلال بها على رأينا في تعميم مسح الرأس بالماء. والعجب من نظار الفقهاء من أصحاب الشافعي كابن الصباغ صاحب (الشامل)، وأبي إسحاق صاحب (المهذب)، والعمراني صاحب (البيان) وغيرهم من محصلي مذهبه، كيف جعلوا الآية عمدة لهم في التبعيض مع أنها غير موضوعة لإفادته ولا دالة عليه بحال، ومن أجل ذلك كان أئمة الأدب من أهل اللغة والنحاة ما ذكروا دلالتها على التبعيض ولا عدوه من جملة معانيها كالاستعانة والمصاحبة والمقابلة وغيرها، وما ذاك إلا لأنها لا تفيده بحال.
الحجة الثانية: أن مخالفينا في هذه المسألة وإن كان قد رووا الأحاديث في مسحه على الناصية ومقدم رأسه، لكن الحديث الذي رويناه في التعميم رواه أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) في تعليمه لوضوء رسول اللّه ً، ولا شك أن خبره راجح على خبر غيره لأوجه:
أما أولاً: فإنه لا خلاف بين أهل القبلة في أن أحداً من الأمة لم يذهب إلى عصمة أحد من الصحابة بخلاف أمير المؤمنين فإن من الزيدية والإمامية من يذهب إلى(1) عصمته، ولا شك أن رواية المعصوم الذي لا يجوز عليه الخطأ أرجح من رواية غير المعصوم لا محالة.
وأما ثانياً: فلأن اللّه تعالى قد خصه بالخصال الشريفة في الدين من العلم، والورع، والزهد، والتفقه، والعلم بالرواية، مالم يخص به أحداً من سائر الصحابة، ومن هذه حاله فلا إشكال في أن روايته راجحة على غيره.
وأما ثالثاً: فإنه لا منقبة لأحد من الصحابة بنص الرسول ً إلا وهي فيه على أتمِّ شيء وأكمله، فمن أجل ذلك كان ما يرويه في غاية القوة والوثاقة والرجحان على غيره، فمن أجل هذه الأوجه وغيرها اعتمدنا روايته في تعميم مسح الرأس وجعلناها أصلاً في تقرير ما ذهبنا إليه.
الحجة الثالثة: ما روي عن النبي ً أنه توضأ مرة مرة ومسح على رأسه مقدمه ومؤخره ثم قال بعد ذلك: ((هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة من دونه )).
ووجه الدلالة من هذا الخبر: هو أنه قال عقيب مسح رأسه وتوضيه مرة مرة: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة من دونه)). وهذه أمارة كون الشيء واجباً؛ لأنه لولم يكن واجباً كانت الصلاة مجزية من دونه كسائر السنن التي تختص الوضوء كما سنقررها بمعونة اللّه تعالى.
الحجة الرابعة: ما روي عن عبدالله بن زيد أنه قيل له: هل تستطيع أن ترينا وضوء رسول اللّه ً؟ فقال: نعم، فدعا بوضوء فأفرغ الماء على يديه، ثم ساق صفة وضوء رسول اللّه ً ثم كان بعد ذلك [أن] مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بِدْءاً بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه(2)، فظاهر هذا الخبر دال على تعميم مسح الرأس كما قلناه.
__________
(1) أي: إلى القول بعصمته.
(2) أخرجه البخاري ومسلم، عن عبدالله بن زيد بن عاصم الأنصاري.
الحجة الخامسة: ما روت الرُّبيِّعُ بنت معوذ بن عفراء ) قالت: كان رسول اللّه ً يأتينا فقال يوماً: (( اسكبي وضوءاً )). فذكرت وضوء رسول اللّه ً بصفته ثم قالت: ومسح رأسه يبدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه ثم بأذنيه بطونهما وظهورهما(2).
الحجة السادسة: ما روى المغيرة بن فروة ) عن الرسول ً، أنه توضأ فلما بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه، ثم مسح من مقدمه إلى مؤخره ومن مؤخره إلى مقدمه، فهذه الحجج كلها دالة على ما ذهبنا إليه من تعميم مسح الرأس. ثم نقول: الأحاديث الواردة في صفة وضوء رسول اللّه ً، هي إما مطلقة في مسح الرأس وإما دالة على التعميم فيجب حمل مطلقها على مقيدها؛ لأن التقييد صفة زائدة على الإطلاق، وهي مقبولة من جهة العدل(4)، فلا جرم وجب التعويل عليها.
الانتصار: يكون على من خالفنا في التعميم. إما بإيجاب جزء من الرأس مقدر أو غير ذلك، فهذان تقريران:
__________
(1) الرُبَيِّعْ بنت معوذ بن عفراء، وعفراء أم معوذ وأبوه الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غُنم بن مالك بن النجار، الأنصارية، صاحبت رسول اللّه ً وروت عنه. وعنها: ابنتها عائشة بنت أنس بن مالك، وخالد بن ذكوان وأبو سلمة ونافع وغيرهم. قال ابن أبي خيثمة عن أبيه: كانت من المبايعات تحت الشجرة. (تهذيب التهذيب ج12/447).
(2) أخرجه أبو داود.
(3) أبو الأزهر المغيرة بن فروة الثقفي الدمشقي، وقيل: إن أبا الأزهر الشامي شخص آخر اسمه فروة بن المغيرة كما روي عن ابن معين. ا.هـ. ذكره ابن حبان في الثقات. له في السنن حديثه عن معاوية في الوضوء ثلاثاً ثلاثاً ولم يُسَم. (تهذيب التهذيب ج10/239).
(4) في نسخة (ق): من جهة العقل.
التقرير الأول: في بيان الانتصار على من قال: بجزء مقدرٍ من الرأس، فأما ما يحكى عن الإمامين زيد بن علي، والناصر من إيجاب مسح مقدم الرأس أو الناصية اعتماداً على حديث أنس، حيث روى أنه مسح على مقدم رأسه أو ناصيته، فنقول(1): عن هذا أجوبة خمسة:
أما أولاً: فلأنه ليس في الخبر إلا ذكر الناصية، وليس تخصيصها بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداها، إذ لا منافاة بين مسح الناصية وغيرها، فيجوز أن يكون قد مسح الرأس كله خلا أن الراوي لم يشاهد إلا مسح الناصية فنقله كما رآه.
وأما ثانياً: فلأنه يجوز أن يكون مسحه على ناصيته تسوية للناصية عن الانقشاع، وتسوية للمفرق عن أن يكون مغطياً على العينين، ولم يقصد به وضوءاً ولا تعليم وضوء.
وأما ثالثاً: فلأنه يجوز أن يكون مسحه على الناصية إنما كان لعذر يمنع من مسح جميع الرأس وكلامنا إنما هو في حالة الرفاهية وزوال الأعذار.
وأما رابعاً: فلأن الناصية قد يعبر بها عن أعلى الشيء وخياره، ولهذا يقال: ناصية الجبل أي أعلاه، فعلى هذا يكون المعنى في قوله: مسح على ناصيته، أي على أعلاه وهو الرأس، فلا يكون فيه حجة على انفراد الناصية بالمسح.
وأما خامساً: فلأن أخبارنا دالة على الزيادة وخبركم غير دال عليها، فلهذا كانت أحق بالقبول لما ذكرناه.
وأما ما روي عن أبي حنيفة: من إيجاب جزء من الرأس على اختلاف الرواية عنه اعتماداً منه على ما روي عن النبي ً أنه مسح على مقدم رأسه، ثم قدره تارة بالربع وتارة بالناصية ومرة بثلاث أصابع، ففيه أجوبة:
أما أولاً: فلأن الأحاديث على كثرتها وسعتها في مسح الرأس، لم تدل على تقدير بالربع ولا بالأصابع الثلاث، فما ذكرتموه تحكم لا مستند له وشيء لا دليل عليه.
__________
(1) في الأصل: قلنا: إلا أن الجملة تأتي في موضع (الجواب، أو الخبر)، عن: (فأما ما يحكى..).
وأما ثانياً: فلأن الباب باب العبادات والطهارات، تنسد عنها طرق القياس، فلا وجه لاستعمال الرأي فيها مع انسداده، ولا شك أنكم قد استعملتم الرأي في تقدير الربع وثلاث أصابع، فلا وجه له.
وأما ثالثاً: فلأن في هذه الروايات تدافعاً، فإن مقدم الرأس يمنع من تقديره بالربع؛ لأن المقدم هو الناصية، والربع عام في جميع الرأس فيكون فيه تدافع.
وأما رابعاً: فلأن التقدير بالربع يمنع من تقديره بأصابع ثلاث؛ لأن الربع أكثر من الأصابع الثلاث، فإذاً لا وجه لما ذكروه من هذه التقديرات التي لا دلالة عليها، فحصل من مجموع ما ذكرناه: أن الذي وقع في الأحاديث إنما هو ذكر المقدم لا غير، فأما ما عداه من تقدير الربع وثلاث أصابع فإنما هو تعويل على الرأي فلا يكون مقبولاً؛ لأن الباب باب العبادة.
وأما ما يحكى عن محمد بن مسلمة: من أن مسح ثلثي الرأس يكون مجزياً اعتماداً على ظاهر الآية بكونها دالة على مسح أكثر الرأس فإذا ترك ثلثاً كان مجزياً له، فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن إيجابكم المسح لثلثي الرأس تَحَكُّمٌ لا مستند له وقول لا دليل عليه، فإنه ليس في الأحاديث ذكر إيجاب الثلثين ولا رواه أحد عن الرسول ً.
وأما ثانياً: فلأن إيجابكم لهذا القدر من الرأس، إما أن يكون لأنه الأكثر والآية دالة على الأكثر فهو فاسد، فإن الآية إنما دلت على التعميم من غير تقدير بالثلث ولا بالثلثين، وإن كان ذلك لدلالة دلت عليه فالواجب ذكرها لننظر فيها هل تكون دالة أو غير دالة فلابد من ذكرها لنعلم حالها. وأما ما يحكى عن الشافعي من إيجاب ثلاث شعرات أو شعرة واحدة اعتماداً منه على أقل ما يطلق عليه اسم المسح المأخوذ من ظاهر الآية، فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكرتموه بناء على أن الباء موضوعة للتبعيض وقد ذكرنا من قبل أنها غير دالة عليه، ولا مشعرة به في كلام العرب، فكيف ندعي عليهم خلاف لغتهم؟
وأما ثانياً: فلأنها لوكانت دالة على البعضية كما زعمتم لوجب إذا قال الواحد منا: مسحت برأس اليتيم كله، ومسحت بالحائط كله، أن يعد تناقضاً وهذا لا قائل به، أو لو قال: مسحت ببعض رأس اليتيم أن يكون تكراراً لكلامه، والمعلوم خلاف ذلك من الأدباء من أهل اللغة والإعراب، فبطل ما قالوه من دلالتها على التبعيض. فهذا هو الكلام على من زعم أن الواجب مسح قدر من الرأس معلوم قد أبطلناه على اختلاف القائلين به.
التقرير الثاني: في بيان الانتصار على من قال بجزء غير مقدر، وهو المشهور من قولي الشافعي، اعتماداً منه على ظاهر الآية، فإن اللّه تعالى أوجب مسح الرأس ولم يشر إلى جزء مقدر فيجب الاكتفاء فيه بأقل ما قيل، كما لو مسح بعض شعره، فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد قررنا دلالة الآية على التعميم، وأن دلالتها عليه أظهر من دلالتها على أقل ما يطلق عليه اسم المسح، فلا وجه لتكريره.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: إيجابكم لبعض الشعرة ليس يخلو حاله إما أن يكون مأخوذاً من ظاهر الآية، أو من دلالة منفصلة عن الآية، فإن [كان] الأول فهو فاسد، فإنه ليس في ظاهرها ما يدل على شعرة، ولا على بعض شعرة فإن زعموا أنهم لم يأخذوه من ظاهر الآية وإنما اكتفوا بأقل ما يطلق.
قلنا: فلم نعلم من صاحب الشريعة (صلوات اللّه عليه) أنه اكتفى بأقل ما يطلق، وهو المعلم للأحكام والذي يؤخذ منه الشرع، بل تارة عمم جميع رأسه، وتارة مسح مقدم رأسه، ومرة مسح على الناصية، فكيف يصح ما قلتموه من اكتفائه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح؟
وإن قالوا: أخذنا ذلك من دلالة منفصلة.
قلنا: فاذكروا هذه الدلالة حتى ننظر فيها.
فقد وضح لك بما ذكرناه من تلك الأدلة أن وظيفة الرأس هي استيعابه بالمسح خلافاً لما زعمه أكثر الفقهاء من أن الواجب منه جزء مقدر، ثم إن لهم [أقوالاً] أخر غير هذه نجيب عنها بمعونة اللّه تعالى.
قالت الحنفية: طهارة في عضو فلم يجز منها ما يقع عليه الاسم، كالغسل في سائر الأعضاء وكالمسح في التيمم.
قلنا: هذا غير لازم لنا؛ لأنا قد قررنا أن مذهبنا فيه التعميم فهذا القياس لا يتوجه علينا؛ لأن غرضكم منه إثبات جزء مقدَّر ونحن لا نقول به كالربع والثلاث الأصابع ومقدم الناصية، وإنما يلزم إخوانكم الشافعية حيث قالوا: بأن المفروض هو الاكتفاء بأقل ما يطلق عليه الاسم. وقد أجابوا عنه بأمرين:
أما أولاً: فلأنه لو كان كالأصل الذي قاسوا عليه من الغسل والتيمم لوجب استيعاب محل الفرض فيه وأنتم لا تقولون به فبطل هذا القياس.
وأما ثانياً: فبأن قلبوا هذا القياس عليكم قائلين: طهارة في عضو فلا تكون مقدرة بالربع كالغسل في الأعضاء والمسح في التيمم.
قالوا: قربة تتعلق بالرأس فلم يكن ما يقع عليه الاسم مجزياً فيها كالحلق(1).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا يبطل بكشف الرأس في حال الإحرام فإنه قُربة تتعلق بالرأس ومع ذلك فإنه يجب استيعابه.
وأما ثانياً: فلأن الحلق في حق المحرم محظور فلأجل ذلك كان الحكم متعلقاً بقليله وكثيره بخلاف ما نحن فيه من مسح الرأس فإنه عبادة تعلقت به، فلهذا وجب فيه الاستيعاب، دليله الكشف في حال الإحرام فإنه لما كان محظوراً تعلق بقليله وكثيره.
قالوا: ما يقع عليه الاسم يدخل في الربع من جهة التبع فلم يكن فرضاً في غيره كموضع الإسباغ في العضد.
قلنا: هذا غير لازم لنا؛ لأننا نقول بوجوب مسحه كله، فإنما يلزم إخوانكم الشافعية، وقد أجابوا بأن دية اليد تدخل في النفس على جهة التبع ومع ذلك فإنها أصل بنفسها، والسجدة الواحدة تدخل في الصلاة على جهة التبع، ثم إنها منفردة بنفسها، فحصل من هذا أن وجوبه ليس على جهة التبع وأنه يكتفى فيه بأقل ما يطلق عليه الاسم على هذا القول.
__________
(1) حلق الرأس، وفي الأصل: كالحلاق.
قالت الشافعية: مسح المتوضئ من الرأس ما يقع عليه اسم المسح فلا تلزمه الزيادة كما لو مسح مقدار الربع.
قلنا: هذا غير لازم لنا، لأن مذهبنا وجوب التعميم فيه فلا يكتفى بأقل ما يطلق عليه الاسم كما هو رأيكم، ولا يكتفى فيه بالربع كما هو رأي إخوانكم الحنفية، وقد أجابوا على ذلك: بما قد روي أنه ً مسح على مقدم رأسه وعلى الناصية وذلك يمكن تقديره بالربع، فلهذا أوجبنا قدر الربع من غير زيادة ولم نكتف بأقل ما يطلق عليه الاسم؛ إذ لا دلالة عليه من جهة الآية ولا من جهة غيرها.
قالوا: هذا الذي ذكرتموه في الرأس تقدير، والتقديرات عندكم لا يمكن ‘ثباتها إلا بتوقيف من جهة اللّه تعالى، أومن جهة رسوله أواتفاق من جهة الأمة، ولم تعتمدوا فيما ذكرتموه في هذه التقديرات على شيء من ذلك.
قلنا: هذا غير لازم لنا، لأنا لا نقول بتقدير الربع وإنما رأينا الاستيعاب كما مر بيانه، وإنما يلزم إخوانكم الحنفية وهم قد أجابوا عن ذلك بأن التقدير بالربع إنما كان من جهة الرسول ً حيث مسح على الناصية و على مقدم الرأس، فقدرنا ذلك بالربع بالرأي والمقاييس على ما يغلب به الظن وينقدح فيه الرأي كسائر المجتهدات في المقادير.
قالوا: تقديره بالربع ليس أحق بالتقدير بالخُمُس والسُّدُس، فإذا كان لا مخصص هناك لمقدار دون مقدار وجب إبطال الجميع وهو مطلوبنا.
قلنا: وهذا أيضاً غير لازم لنا كما مر بيانه؛ لأنا لا نقول بشيء من هذه التقديرات وإنما يلزم إخوانكم من الحنفية، وهم قد أجابوا عن ذلك: بأن تقدير الربع إنما كان بطريق شرعي وهو القياس دون غيره من سائر المقادير فلهذا قدرناه به، فهذا ما أردنا ذكره من وجوب ما يمسح من الرأس، والله الموفق للصواب.
الفرع الثاني: وإذا تقرر وجوب التعميم في مسح الرأس كما أشرنا إليه، فاعلم أن الرأس عبارة عن منابت الشعور المعتادة كالهامة والمقدم والقذال، والنزعتان منه لأنهما في سمت الناصية، والصدغان من الرأس؛ لأنهما في منابت شعره.
والمستحب أن يأخذ الماء بكفيه ثم يرسله ثم يلصق إحدى المسبحتين بالمسبحة الأخرى، ثم يضعهما على مقدم رأسه ويضع إبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، لما روى عبدالله بن زيد في وصف وضوء رسول اللّه ً، أنه مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدءاً بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ولأن منابت الشعور مختلفة ففي ذهابه يستقبل الشعر الذي يلي مقدم رأسه فيقع المسح على باطن الشعر دون ظاهره، وعلى ظاهر مؤخره، وإذا رد يديه يقع المسح على باطن مؤخر رأسه وظاهر مقدمه فيكون محيطاً بالرأس عند مسحه، فإن كان عليه شعر فمسح الشعر أجزأه، وإن لم يكن هناك شعر فمسح البشر أجزأه المسح على البشرة؛ لأن الجميع يسمى رأساً، فإن وضع أصبعه على رأسه أو كفه ولم يمرها على رأسه أو قَطَّرَ على رأسه ماءً لم يجزه؛ لأن ذلك لا يسمى مسحاً، ولا هو شامل لجميع الرأس، فلهذا بطل إجزاؤه، وإن كان محلوقاً أو أصلع فمسح على البشرة أجزأه؛ لأنه مسح على ما يقع عليه اسم الرأس، وإن كانت له ذؤابة قد نزلت عن حد الرأس فمسح على ما نزل منها عن حد الرأس لم يجزه؛ لأنه لا يقع عليه اسم الرأس، وإن رد الشعر النازل عن حد الرأس إلى وسط الهامة ثم مسح عليه لم يكن مجزياً له؛ لأنه صار بالرد كالعمامة، وإن كان له شعر مسترسل عن منبته ولم ينزل عن حد الرأس فمسح على رأسه أجزأه ذلك عندنا وهو القوي من قولي الشافعي، من جهة أن اسم الرأس متناول له، ومن أصحاب الشافعي من قال: إنه لا يجزيه لأنه مسح على شعر في غير منبته، فهو كما لو مسح على طرف الذؤابة، والصحيح هو الأول لما ذكرناه.
الفرع الثالث: وإن غسل رأسه مكان مسحه فهل يكون مجزياً له أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجزيه، وهذا هو اختيار السيد أبي طالب، وهو رأي القفال من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه عدول عن المشروع في وظيفة الرأس فلم يكن مجزياً في حقه كما لو مسح على وجهه ويديه.
وثانيهما: أنه يكون مجزياً له، وهذا هو رأي العمراني من أصحاب الشافعي، واختيار الشيخ أبي حامد الغزالي، وهو قول الإمام الناصر للحق عليه السلام وهو المختار لأمرين:
أما أولاً: فلأن الغسل فيه المسح وزيادة، كل من غسل فقد أتى بحقيقة المسح وزاد عليه، فلا يكون بالغسل خارجاً عن الأمر المشروع في حق الرأس.
وأما ثانياً: فلأن اللّه تعالى بلطف حكمته وسعة رحمته جعل الوظيفة في حق الرأس المسح، لما كان في أغلب الحالات مستوراً بالعمامة فلا يلحقه من الغبار والتصرفات في المهن ما يلحق سائر الأعضاء، وجعل الغسل هو المشروع فيما عداه لما كان يلحقها من الأدران بالتصرفات كثيراً، فالمتوضئ إذا زاد على الوظيفة لم يكن خارجاً بذلك عن حد ما شرع فيه لما ذكرناه.
ومن توضأ ثم حلق رأسه أوحلقت لحيته فهل تبطل طهارته أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن طهارته تبطل ولا يجوز له الصلاة إلا بإعادة وظيفة ذلك العضو إما غسلاً كاللحية أو مسحاً كالرأس، وهذا هو المحكي عن ابن جرير )، وابن خيران من أصحاب الشافعي.
__________
(1) أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، البغدادي، العلامة، المحقق، المفسر. قال الجرافي: أجمعوا أن تفسيره أحسن التفاسير، وله في خبر الغدير مؤلف مشهور، وهو من مشائخ الحديث الذي يُرجع إليهم في تصحيحه، وله التاريخ المشهور (الأمم والملوك)، توفي في شوال سنة 310هـ، عن 86 سنة، (طبقات الشافعية، تهذيب التهذيب، مقدمة الأزهار).
والحجة على ذلك: هو أن غسل شعر اللحية ومسح شعر الرأس إنما وجب غسل هذا ومسح ذاك عوضاً عن البشرة، فإذا أزيلا فالواجب بحكم الشرع إعادة الوظيفة في الغسل والمسح فإذا لم يعد ما ذكرناه من الوظيفة كانت الطهارة مخرومة، فلهذا قلنا ببطلان الطهارة.
و[ثانيهما] ذهب أئمة العترة، والفقهاء: أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وغيرهم من علماء الأمة: إلى أن الطهارة لا تبطل بما ذكرناه من إزالة الشعر.
والحجة على ذلك: هو أن الطهارة قد كملت بالمسح والغسل فإذا كملت لم تبطل بإزالة الشعر، ولأن الطهارة إنما تبطل بعد انعقادها بشيء من النواقض، وحلق الشعر لا يكون ناقضاً.
فإذا تقرر أنه ليس مبطلاً للطهارة فهل تعاد الوظيفة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن إعادة الماء فيما يغسل أو يمسح ليس مشروعاً، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه لم ترد بذلك دلالة من كتاب ولا سنة، فلو كان ذلك مشروعاً لنقل، فلما لم ينقل دل على كونه غير مشروع.
وثانيهما: أنه مشروع وهذا هو الذي عليه علماء العترة.
والحجة على ذلك: هو أنه إذا أزال الشعر فقد بطلت تلك الوظيفة التي كانت مستحقاً لها فلولم تعد تلك الوظيفة لخلا العضو عما يستحقه من الطهارة من مسح أو غسل، وإذا قلنا بكونه مشروعاً فهل يكون واجباً أو مستحباً؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يكون على الوجوب وهذا هو الذي ذكره الإمام أبو طالب لمذهب الهادي.
والحجة على ذلك: هو أن غسل اللحية هو الواجب ومسح الرأس كذلك، ولا شك أن الشعر قائم مقام البشر وخلف عنه فإذا أزيل الشعر بوجه ما كان عليه واجباً من تلك الوظيفة وإلا خلا العضو عما كان يستحقه من التطهير.
وثانيهما: أنه يكون مستحباً وهذا هو رأي الإمامين زيد بن علي والمؤيد بالله.
والحجة على ذلك: هو أن الوضوء قد صار منعقداً، وعروض ما عرض لا يبطل حكم الطهارة المنعقدة، فإذا كان ليس مؤثراً في بطلانها كانت باقية على الانعقاد، فإذا ظهر كونه غير واجب كان مستحبا تأكيداً للتطهير.
قال أبو خالد ): سألت زيد بن علي عمن قلم أظفاره بعد الوضوء، فقال: يمر الماء على أظفاره. فظاهر هذا هو الاستحباب كما ذكرناه.
والمختار: ما عول عليه الإمامان زيد بن علي والمؤيد بالله من القول باستحبابه وعليه دل كلام الإمام القاسم بن إبراهيم، ويدل على ذلك هو أن موضع الحلق والتقصير صار خالياً عما يتوجه له من الوظيفة فلأجل ذلك استحب مسحه لئلا يخلو عما كان له من التطهير.
الانتصار: يكون بإبطال ما عداه، فمن زعم أنه غير مشروع كما يحكى عن أكثر الفقهاء فهو فاسد؛ لأن المقصود بما نريده من كونه مشروعاً من أن الوظيفة في حقه قد زالت بتنحية الشعر فلهذا استحب إمرار الماء عليه إكمالاً للطهارة ورغبة في إتمامها.
__________
(1) هو الشيخ، الحافظ، المحدث، أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، الهاشمي بالولاء، الكوفي. كان أصله بالكوفة، ثم انتقل إلى واسط، روى المجموعين الحديثي والفقهي عن الإمام زيد بن علي، وكذا تفسير الغريب للإمام زيد، وكتاب الحقوق له عليه السلام، توفي في عشر الخمسين والمائة. أجمع أهل البيت على عدالته، وطعن البعض من غيرهم في عدالته. وفي ترجمته بمقدمة الروض النضير، قال ابن مرغم في شرحه على (البحر): أبو خالد، أهل الحديث يضعفون روايته وأهل البيت يصححونها، وذلك لأن أهل الحديث جرحوه بحب آل محمد. وقال ابن مظفر في (الترجمان): فمن رام جرحه (يعني أبا خالد) فقد كذب وافترى وظلم واعتدى. تراجع ترجمته في مقدمة الروض النضير ج1/66.
وأما من قال: إنه واجب محتجاً بأن المسح على الشعر إنما وجب من أجل كونه بدلاً عمَّا [كان] تحته فلما زال توجه الأمر بالوجوب في تأدية الوظيفة، فهو غير لازم، لأنا نقول: إن العبادة قد انعقدت لا محالة ولهذا جاز تأدية الصلاة بها، فإزالة الشعر لا تبطل الطهارة ولا تنقضها كما مر بيانه. وأما من زعم بطلان الطهارة فقد أبعد، فإن الشرع لم يدل على أن إزالة الشعر من جملة النواقض، فلأجل هذا قضينا بصحة الطهارة وصحة الصلاة بها لانعقادها من أول الأمر، والله أعلم.
الفرع الرابع: فإن كان على رأسه عمامة، فالواجب عليه تنحية العمامة ومسح رأسه كله، عند أئمة العترة لما روى أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه، وعثمان بن عفان رضي اللّه عنه في صفة وضوئه ً أنه مسح رأسه، فإن اقتصر على مسح العمامة لم يجزه عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي، ومالك.
والحجة على ذلك: قوله تعالى:{وَامْسَحُوْا بِرُؤُوْسِكُمْ}.والعمامة لا يقع عليها اسم الرأس، ولأنه عضو لا تلحق المشقة في إيصال الماء إليه فلم يجز المسح على حائل منفصل عنه كالوجه واليدين.
فقولنا: لا تلحق المشقة في إيصال الماء إليه، نحترز به عن الجبائر فإن حلها مما يلحق المشقة به.
وقولنا: حائل منفصل، نحترز به عن مسح الشعر النابت على الرأس. وحكي عن الأوزاعي، والثوري، وأحمد، وداود: جواز المسح على العمامة والاقتصار عليه، خلا أن أحمد والأوزاعي قالا: إنما يجوز ذلك على شرط، ثم اختلفا في الشرط، فقال الأوزاعي: الشرط أن يكون قد لبسها على طهارة كالخف. وقال أحمد: الشرط في ذلك أن يكون قد اختطم باللثام بأن وضعه على عذاريه وتحت حنكه.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً، أنه أمر بالمسح على المشاوذ والتساخين، والمشاوذ: بالشين بثلاث من أعلاها وذال بنقطة من أعلاها: هي العمائم. والتساخين: بالتاء بنقطتين من أعلاها وسين مهملة وخاء منقوطة هي: الخفاف. وهو فارسي مُعَرَّب.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن تابعهم من علماء الأمة، ودليلنا ما ذكرناه، ولأن العمامة لباس الرأس فلو جاز المسح عليها لجاز المسح على الكمين لما كانا لباساً لليدين، فلما لم يجز ذلك دل على بطلان ما زعموه.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه حجة لهم.
قالوا: مسح رسول الله ً على المشاوذ، وهي: العمائم جمع مشوذة.
قلنا: إن ما فعله رسول اللّه ً محمول على أنه مسح على العمامة مع مسحه على الرأس، وإنما تأولناه على هذا التأويل جمعاً بين ما ذكروه وما أوردناه من الأخبار الدالة على مسحه على رأسه وظاهر الآية. وحكي عن الشافعي: أنه إذا كان على رأسه عمامة ولم يُرِدْ نزعها فإنه يمسح على ناصيته وعلى العمامة. وهذا الخبر فيه حجة على من جَوَّزَ الاقتصار على العمامة، في المسح فإنه مانع من ذلك، وهو ما رواه المغيرة بن شعبة عن النبي ً، أنه مسح على عمامته وناصيته، وفيه حجة للشافعي على جواز الاقتصار على بعضه، وقد قررناه من قبل وذكرنا تأويله فأغنى عن الإعادة.
ويستحب أن يدخل بعض أصابعه في صماخ أذنيه لما روى هشام ) عن النبي ً أنه مسح رأسه فوضع كفيه على مقدم رأسه فأَمَرَّهما حتى بلغ القذال ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم أدخل أصابعه في صماخي أذنيه.
الفرع الخامس: في التكرار في مسح الرأس، وفيه مذاهب ثلاثة:
الأول: أن السنة أن يمسحه ثلاثاً، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي وهو قول عطاء.
__________
(1) لعله هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، أبو المنذر المتوفى سنة 146هـ، ثقة، حافظ، سمع ابن عمر وابن الزبير، وهو موصوف بالورع، والزهد، توفي عن 87 سنة. (راجع التاريخ الكبير، والتقريب، والجرح والتعديل).
والحجة على ذلك: ما روى أُبَيُّ بن كعب أن الرسول ً توضأ مرة مرة، وقال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة من دونه )) ثم توضأ مرتين مرتين وقال: (( من توضأ مرتين أعطاه اللّه أجره مرتين)). ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليلي إبراهيم)). ولم يفصل بين الرأس وغيره.
والحجة الثانية: قياسية، وهو أنه أحد أعضاء الطهارة قيس فيه التكرار كسائر الأعضاء.
المذهب الثاني: أن السنة فيه مرة واحدة، وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة، وبه قال الحسن، ومجاهد، ومالك، وسفيان الثوري، وأحمد، وأبو ثور، ومروي عن الشيخ أبي نصر(1) من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روي عن أمير المؤمنين وعثمان بن عفان في صفة وضوء رسول اللّه ً، فغسلا ثلاثاً ثلاثاً ثم مسحا الرأس مرة واحدة، فدل ذلك على أن المسنون فيه عدم التكرار كما قلنا.
المذهب الثالث: أن المسنون فيه مرتان، وهذا هو المحكي عن ابن سيرين والإمامية.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه توضأ مرتين وقال: (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء خليلي إبراهيم)). وهذا يدل على أن المسنون فيه مرتان، مرة فرضاً، ومرة سنة، كما في سائر أعضاء الطهارة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة، وهو أن السنة في مسحه تكريره ثلاثاً.
والحجة على ذلك: ما قالوه، ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما رواه أبو رافع وعبدالله بن أبي أوفى ) عن الرسول ً أنه مسح رأسه ثلاثاً.
__________
(1) هو أبو نصر بن الصباغ وقد تقدمت ترجمته.
(2) عبدالله بن أبي أوفى الأسلمي هو آخر الصحابة موتاً، توفي بالكوفة سنة 86هـ، وقيل: سنة 88هـ، وقد قارب المائة، وهو آخر من شهد بيعة الرضوان، فقيه، روى عنه: عطاء والأعمش. ا.هـ. سير أعلام النبلاء 3/428.
الحجة الثانية: ما روى ابن عباس رضي اللّه عنه عن النبي ً أنه مسح رأسه ثلاثاً، فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المسنون في مسحه التكرار كما أوضحناه؛ ولأن الثلاث أحد الاستيعابين فسن في الرأس كاستيعاب المحل.
الانتصار: يكون بإبطال ما عداه.
قالت الحنفية: التكرار ليس مسنوناً في الرأس، لحديث أمير المؤمنين وعثمان فإنهما رويا التكرار في الوضوء دون مسح الرأس.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الرواية عن أمير المؤمنين وعثمان في التكرار قد رواه عدة من الرواة عنهما، وإذا كان الأمر فيها كما قلناه فيجب الحكم بالتعارض في الروايتين ويبقى حديث أُبَي بن كعب خالياً عن المعارضة فيجب الاعتماد عليه.
وأما ثانياً: فلأن روايتنا أحق بالعمل من جهة أنها تختص بزيادة وهي مقبولة من الراوي، ومن جهة أن رواتها أكثر فلا جرم كانت أرجح وأحق بالعمل.
وأما ثالثاً: فلأنه محتمل أنه إنما مسح مرة واحدة على رأسه ليبين كونه مجزياً كما روي أنه توضأ فغسل وجهه ثلاثاً ويديه مرتين ليبين الجواز.
قالوا: مسح فلا يُسن فيه التكرار كالمسح على الخف والتيمم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن مسح الخف والتيمم بدلان عن غيرهما، فلأجل هذا ضعفا فلم يسن فيهما تكرار، بخلاف مسح الرأس فإنه أصل ليس بدلاً عن غيره فلهذا أكمل.
وأما ثانياً: فلأن مسح الخف والتيمم نقصا عن الأصل في المقدار فلهذا نقصا عنه في الصفة، وهي التكرار، وهذا لم ينقص في المقدار فلم ينقص في التكرار، على أن المسح على الخف ليس مذهباً لنا فلا يلزمنا الجواب عنه، وإنما هو رأي الفقهاء وسنوضح القول فيه.
قالوا: لو تكرر المسح لخرج عن حقيقته؛ لأنه يكون غسلاً فيكون في تصحيحه إبطاله، وكل ما كان في تصحيحه إبطاله فهو باطل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الغسل يكون بالجريان، والمسح لا جريان فيه للماء عليه؛ لأنه بتكرر المسح لا يصير غسلاً.
وأما ثانياً: فلأن كل مسحة بنفسها ليست غسلاً، ولا تكون محصلة للجريان، والجريان إنما يحصل بالجريان بالمجموع وما تفضي إليه بمجموعها فلا اعتبار به.
قالوا: لو قلنا بأن المسح يتكرر لاجتمع فيه شيئان: التكرار والاستيعاب.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن الاستيعاب سنة، وإنما هو فرض واجب كما مر تقريره، فهذا لا يلزمنا وإنما يلزم إخوانكم من الشافعية حيث قالوا: بأن الاستيعاب فيه سنة.
وأما ثانياً: فلأن مثل هذا غير ممتنع كما يجتمع ذلك في الوجه والرِّجل واليد، فالوجه: تطويل الغرة والاستنان، وفي اليد والرجل: تطويل الغرة والتكرار، فلا مانع من اجتماع السنتين.
قالوا: روت الربيع بنت معوذ أن الرسول ً مسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه مرة واحدة، وفي هذا دلالة على أن التكرير غير مسنون.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكرناه من حديث أبيّ في تكرير المسح أحق لكونه موافقاً للسنة في أعضاء الوضوء، ولأن الأخبار الواردة في تكرير المسح هي الأكثر كما ورد في حديث أمير المؤمنين وحديث عثمان.
وأما ثانياً: فلأنه إنما أراد بالمسح مرة واحدة ليدل بها على جواز الاقتصار فيه على مرة واحدة ولم يرد بيان المسنون، فلهذا مسح مرة واحدة.
قالوا: لوكان التكرار مسنوناً لتواتر النقل به كما ورد في مسنون الغسل، فلما لم يتواتر التكرار دل على كونه غير سنة.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا ينقلب عليكم، فإنا نقول: لو كان المسنون مرة واحدة لتواتر النقل به كما تواتر غيره، فلما لم يتواتر دل على بطلان ما ذكرتموه.
وأما ثانياً: فلأن الأحاديث قد وردت بالتكرير في مسح الرأس أكثر من ورودها مرة واحدة.
الفرع السادس: إذا تقرر أن التكرار مسنون في مسح الرأس ثلاثاً، فهل يكون ذلك التكرير بماء واحد ثلاث مرات أو يكون لكل مرة ماء واحد؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن تكرير مسحه يكون بأمواء مجددة مرة بعد أخرى حتى تستوفي ثلاثاً وهذا هو رأي الهادي.
والحجة على ذلك: ما روى أُبيّ بن كعب عن رسول اللّه ً أنه توضأ مرة مرة ثم قال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة من دونه)). ثم توضأ مرتين مرتين ثم قال: (( من توضأ مرتين أعطاه اللّه أجره مرتين )). ثم توضأ ثلاثاً ثم قال: (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء خليلي إبراهيم )). ثم إنه لم يفصل بين ما كان مغسولاً وبين ما كان ممسوحاً في أن السنة تكرير غسله أو مسحه ثلاث مرات بأمواء متجدد، وفي هذا دلالة على ما ذكرناه في ذلك.
المذهب الثاني: أن السنة في تكرير مسح الرأس يكون بماء واحد ثلاثاً، وهذا هو المحكي عن المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: ما في حديث الرُّبيع بنت معوذ قالت: رأيت رسول اللّه ً مسح رأسه ومسح ما أقبل منه وأدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة، فأخذنا من ظاهر هذا الحديث أن الماء واحد، وأخذنا من ظاهر حديث أبيّ بن كعب تكريره ثلاث مرات، فحصل من مجموع ذلك: أنه مسح رأسه بماءٍ واحد ثلاث مرات، وهذا هو المطلوب.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله لأوجه:
أما أولاً: فلأن وظيفة الرأس خفيفة، فلو كان المسنون في حقه بأمواء جديدة لكان ذلك مناقضاً لما فهم من حقيقته في الخفة والسهولة.
وأما ثانياً: فلأن تكرير الأمواء في مسحه ثلاث مرات فيه تقريب من ماهية الغسل وحقيقته، وفي ذلك مناقضة للمشروع في حقه.
وأما ثالثاً: فلأن المفهوم من حاله عليه السلام هو التساهل في مسح الرأس، ولهذا فإنه روي أنه كان مُعْتَمًّا فحسر العمامة عن رأسه، وأدخل يده فمسح على ناصيته، وروي عنه ً أنه مسح رأسه من فضل ما كان في يده. فهذه الأخبار كلها دالة على سهولة الأمر في وظيفة الرأس، وهذا يؤيد ما قلناه من أن مسحه ثلاث مرات بماء واحد يطابق ما ورد في هذه الأحاديث من التخفيفات.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: حديث أُبيّ فإنه لما توضأ ثلاثاً قال: (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي)).
قلنا: ليس في ظاهر هذا الحديث ما يدل على أنه مسح رأسه بأمواء ثلاثة مجددة، وإنما ظاهره دال على مسح الرأس مطلقاً، ولم يبين فيه هل كان بماء واحد أو بثلاثة أمواء، فمن حقكم إيضاح ما قلتموه بدلالة غير محتملة.
قالوا: حديث عثمان في صفة وضوء رسول اللّه ً أنه مسح رأسه ثلاثاً، فدل ذلك على صحة ما قلناه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فقد ورد في حديث أمير المؤمنين في صفة وضوء رسول اللّه أنه مسح رأسه مرة واحدة فيتعارضان.
وأما ثانياً: فليس فيه دلالة على أنه كان ذلك المسح بأمواء مجددة والنزاع إنما وقع في ذلك، وظاهر الحديث فيه على ما قلتم من اعتبار ثلاثٍ بأمواء مجددة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الأحاديث في صفة مسح رسول اللّه ً لرأسه مختلفة اختلافاً كثيراً، لكن في مسحه ثلاث مرات بماء واحد، جمع بين الأحاديث فيكون فيه وفاء بالعدد تصديقاً لقوله عليه السلام في بعض الأحاديث، إنه مسح ثلاثاً يريد به ذلك، وأنه مسح بماء واحد فيكون فيه تصديق لقوله(1) عليه السلام إنه مسح مرة واحدة يعني بماء واحد، فلهذا كان المستحب في وظيفة الرأس أن يكون ثلاثاً بماء واحد على جهة التعميم.
الفرع السابع: ومن دهن رأسه نظرت، فإن كان ذلك الدهن مما يجمد على الرأس فيكون مانعاً من وصول الماء إليه لم يكن مجزياً له، كما لو قطر عليه الشمع أو الشحم، فإنه إذا مسح على ذلك لم يكن ماسحاً على الرأس ولا على شعره فلا يجزيه، كما لو مسح على العمامة، وكما لو طين رأسه بطين ثم مسح عليه، وإن كان الدهن مما لا يمنع وصول الماء جاز ذلك، ولم يكن مانعاً من الإجزاء، كما لو دهن رأسه بالزيت والسليط وغير ذلك من المائعات التي هي غير مانعة من وصول الماء، والله أعلم.
__________
(1) صوابه: لفعله.
الفرع الثامن: المشروع هو المسح للأذنين لباطنهما وظاهرهما، فباطنهما مما يلي الوجه وظاهرهما مما يلي الرأس، لما روى المقدام بن معدي كرب ) أن الرسول ً توضأ فمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه(2)، وإذا كان المشروع هو المسح فيهما لما ذكرناه، فهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: [أنه واجب] وهذا هو رأي القاسمية، واختيار السيدين الإمامين المويد بالله، وأبي طالب.
والحجة على ذلك: ما روي عن أبي أمامة الباهلي ) أن النبي ً توضأ فمسح أذنيه مع رأسه وقال: (( الأذنان من الرأس )).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن قوله: (( الأذنان من الرأس )). لا يخلو الحال فيهما إما أن يريد أنهما متصلتان بالرأس من جهة الخلقة والصورة فهذا لا وجه له؛ لأن ما هذا حاله ظاهر لا يحتاج إلى بيان من جهة صاحب الشريعة وإنما يراد منه بيان الأحكام الشرعية، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال: إنهما من الرأس في وجوب مسحهما كالرأس فإنه واجب مسحه كما مر بيانه من قبل.
__________
(1) المقدام بن معد يكرب بن عمرو بن يزيد بن معدي كرب. روى عن النبي ً، وأبي أيوب، ومعاذ بن جبل، وخالد بن الوليد. وعنه: ابنه يحيى وآخرون. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل الشام وقال: مات سنة87هـ، وهو ابن 91سنة، وقيل: غير ذلك. (تهذيب التهذيب ج10/255) و(طبقات ابن سعد).
(2) زاد هشام: ((.. وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه)). أخرجه أبو داود. ا.هـ. وأورده في الاعتصام والشفاء عن المقدام بن معدي كرب بما فيه زيادة هشام دون نسبتها إليه.
(3) صُدَى بن عجلان بن وهب الباهلي، أبو أمامة، صحابي جليل. كان مع علي عليه السلام في صفين، وسكن الشام، فتوفي بأرض حمص سنة 81هـ - 700م. وهو آخر من مات من الصحابة بالشام. له في الصحيحين 250 حديثاً. ا.هـ. أعلام 3/203. راجع تهذيب التهذيب والإصابة.
المذهب الثاني: أن مسحهما مسنون، وهو هذا المحكي عن الناصر، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي.
والحجة على ذلك: قوله ً للأعرابي: (( توضَّ كما أمرك اللّه فاغسل وجهك ويديك وامسح رأسك واغسل رجليك )) ولم يذكر له مسحهما وهو في محل التعليم، وفي هذا دلالة على كونه غير واجب.
والمختار: ما قاله الإمام الناصر ومن تابعه من فقهاء الأمة.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم؛ ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: قوله تعالى في آية الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6].. إلى آخر الآية، فإنه ذكر مسح الرأس ولم يذكر مسح الأذنين، وفي هذا دلالة على كونه غير واجب، إذ لو كان واجباً لذكره؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
الحجة الثانية: هو أنهما لو كان مسحهما واجباً لكان لابد عليه من دلالة ولا دلالة هاهنا تدل على وجوبهما؛ لأن ما ورد من الأخبار في كونه مسح أذنيه، ليس فيه دلالة على الوجوب وإنما هو دال على أن المسح مشروع في حقهما، وأدنى الدرجات فيما يحمل عليه فعله في العبادات هو الندب، والوجوب إنما يؤخذ من دلالة أخرى، وهذا يدلك على أن المسح في حقهما مشروع على جهة الندب لا غير.
الانتصار: يكون بإبطال ما قالوه.
قالوا: روى أبو أمامة أنه ً، مسح أذنيه ولم يرد إلا بيان الوجوب في حقهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فليس في قوله: (( الأذنان من الرأس )). ما يدل على وجوب مسحهما، وإنما قصد أنهما يمسحان كمسح الرأس لا غير، والوجوب يحتاج إلى دلالة واضحة.
وأما ثانياً: فلأن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) وعثمان بن عفان رضي اللّه عنه في وصفهما لوضوء رسول اللّه ً، لم يذكرا: أنه مسح أذنيه، وفي هذا دلالة على أنه غير واجب؛ إذ لو كان واجباً لم يتركه كما في مسح الرأس.
قالوا: مسح لعضوين مغسولين فكان واجباً كمسح الرأس.
قلنا: المعنى في الأصل أنه منصوص لا من جهة كونه ممسوحاً بين مغسولين، على أنا نقول: مسح بين مغسولين فلا يكون واجباً كمسح الرقبة، فهذا ينقلب، وما انقلب من الأقيسة فهو باطل فبطل ما عولوا عليه.
الفرع التاسع: وإذا تقرر أن مسحهما ليس واجباً فهل يمسحان بفضلة ماء الرأس أو يؤخذ لهما ماء جديد؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يؤخذ لهما ماء جديد، وهذا شيء يحكى عن المؤيد بالله، ولم أعرف فيه قولاً للإمام الناصر، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روى عبدالله بن زيد أن الرسول ً توضأ فمسح أذنيه بماء غير الماء الذي مسح به رأسه وأدخل أصبعيه في صماخيه. وقال الشافعي في (الأم) و(البويطي): إنه يأخذ لصماخيه ماءً جديداً غير الماء الذي مسح به ظاهر الأذنين وباطنهما، من جهة أن الصماخ في الأذن كالأنف والفم في الوجه، فكما انفرد الأنف والفم عن الوجه بالماء فهكذا حال الصماخ.
المذهب الثاني: أنه يمسحهما بفضل ماء الرأس، وهذا هو رأي القاسمية، وهو محكي عن أبي حنيفة مع أنه مخالف في أصل المسح فإنه عنده ليس واجباً. وعندهم أنه واجب كما مر تقريره.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وعائشة وابن مسعود ومعاذ ) وأبو موسى الأشعري وغيرهم من جِلَّةِ الصحابة رضي اللّه عنهم عن النبي ً، أنه قال: (( الأذنان من الرأس )).
__________
(1) معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس أبو عبدالرحمن الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل، من مشاهير الصحابة، أسلم وهو ابن 18 سنة، وشهد مع رسول اللّه ً بدراً، والعقبة والمشاهد كلها، بعثه رسول اللّه ً إلى اليمن لتعليم الناس، وإليه ينسب بناء مسجد الجَنَد بتعز، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن في عهد رسول اللّه ً وروى عن النبي ً كثيراً من الأحاديث، وردت روايته في كل الصحاح والسنن، توفي سنة 18 هـ، وهو لم يبلغ الأربعين. ا.هـ. (تهذيب ج10/169).
ووجه الحجة من هذا الخبر: هو أنه ليس يريد أنهما متصلتان بالرأس؛ لأن ذلك معلوم ولا يحتاج إلى بيان، وإنما أراد أنهما بعض من أبعاض الرأس ولهذا أتى بـ(من) وهي دالة على التبعيض، وإذا كانا بعضاً من أبعاضه كانا داخلين في حكم مسحه فيمسحان بفضل مائه من غير إحداث ماء جديد.
والمختار: ما عول عليه الإمام المؤيد بالله ومن تابعه من علماء الأمة.
والحجة عليه: ما نقلناه عنهم؛ ونزيد هاهنا وهو أنهما عضوان مستقلان بأنفسهما لا يجزئ مسح أحدهما عن مسح الآخر، فلا يكونان ممسوحين بفضل ماء الرأس كالمسح على الجبائر وكالمسح على الرقبة.
ومن وجه آخر: وهو أن المسح أحد مُسَمَّي أفعال الوضوء فلا يؤدى المسنون فيه في عضو تام بما أدى به الفرض كالغسل في غيره من الأعضاء.
الانتصار: [يكون] بإبطال ما اعتمدوه في تقرير مذهبهم.
قالوا محتجين بقوله ً: (( الأذنان من الرأس)).
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن ظاهر هذا الحديث متروك لأنهما ليسا من الرأس في ظاهر الخلقة فلابد فيه من تأويل، فإذا أضمروا أنهما يمسحان مع الرأس أضمرنا أنهما يمسحان كالرأس حتى لا يظن ظانٌّ أنهما يغسلان كالوجه لقربهما منه.
وأما ثانياً: فإن من جملة رواة هذا الحديث ابن عمر، وقد قال أبو زرعة ): أنه موقوف عليه، وأيضاً فإنه روى عنه مولاه نافع ) أنه كان يأخذ الماء بأصبعيه لأذنيه.
قالوا: ممسوحان متصلان بالرأس فلا يؤخذ لهما ماء جديد كجوانب الرأس.
__________
(1) عبدالله بن عبدالكريم بن يزيد بن فروخ، أبو زرعة الرازي، محدث شهير، توفي سنة 264هـ عن 64 سنة. (راجع طبقات الشافعية ص102 رقم 47).
(2) مولى ابن عمر، أبو عبدالله القرشي ثم العدوي العُمري، روى عن ابن عمر وعائشة، وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم، وعنه: الزهري وابن جريج وعبيد الله بن عمر وغيرهم. كان كثير الحديث، وثقه الرواة، توفي سنة 117هـ. على خلاف في التاريخ. ا.هـ. سير أعلام النبلاء ج5/95.
قلنا: هذا فاسد، فإن جوانب الرأس من الرأس اسماً وخلقة وحكماً، والأذنان ليسا من الرأس اسماً وخلقة وحكماً، فلهذا لم يكونا ممسوحين بفضلة ماء الرأس بل يؤخذ لهما ماء جديد.
الفرع العاشر: هل يكون الغسل مشروعاً فيهما أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الواجب غسلهما مع الوجه، وهذا شيء يحكى عن الزهري.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره ))(1). فأضاف السمع والبصر إليه، فدل ذلك على أنهما من جملة أبعاضه؛ ولأن السمع من جملة حواس الوجه فوجب غسلهما معه كالبصر والشم.
المذهب الثاني: أنه يجب غسلهما مع الوجه ويجب مسحهما مع الرأس، وهذا شيء يحكى عن ابن سريج من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن مبنى العادة على الأخذ بالاحتياط، وإذا كان الأمر كما قلناه فليس يخلو الحال فيهما إما أن يكونا من جملة الرأس وجب مسحهما كالرأس، وإما أن يكونا من جملة الوجه وجب مسحهما معه، فلهذا أوجبنا غسلهما ومسحهما مع جهة التبع للوجه والرأس.
المذهب الثالث: أنه يجب غسلهما مع ما أقبل منهما مع الوجه، ويجب مسح ما أدبر منهما مع الرأس، وهذا شيء يحكى عن الشعبي، والحسن بن صالح.
والحجة على ذلك: هو أن الدليل الشرعي قد قام على أن ما كان مواجهاً فحكمه حكم الوجه في الغسل، وما أقبل منهما فهو من الوجه فلهذا وجب غسله، وما أدبر فليس من الوجه، وأقرب ما يكون إليه الرأس فلهذا كان حكمه في وجوب المسح، فلأجل هذا جمعنا بين المسح والغسل فيهما توفيراً على ما يقتضيه الدليل في حقهما من الغسل لما أقبل منهما والمسح لما أدبر.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة بأنه لا يشرع في حقهما غسل أصلاً وأنهما ممسوحان كما مر تقريره.
__________
(1) رواه مسلم (201)، والترمذي (580، 3421)، والطبراني في الكبير 19/232.
والحجة على ذلك: ما تقرر من الأحاديث المروية عن الرسول ً على لسان أمير المؤمنين (كرم اللّه وجه) وعثمان بن عفان رضي اللّه عنه وغيرهما من جِلَّة الصحابة (رضي اللّه عنهم) الذين رووا صفة وضوء رسول اللّه ً، فإنه لم يعرف غسل الأذنين في شيء من تلك الأحاديث وإنما روي مسحهما، وفي هذا دلالة على أن المشروع في حقهما إنما هو المسح دون الغسل.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
فأما ما قاله الزهري: من الاستدلال بدعاء الرسول ً حيث قال: (( سجد وجهي للذي خلقه ))...إلخ. فهو فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن المراد بالوجه هو الذات كقوله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ }[الرحمن:27]. أي ذاته.
وأما ثانياً: فلأن المعلوم من حاله ً، أنه كان يمسحهما مسحاً، فدل ذلك على أن المشروع فيهما المسح دون الغسل.
وأما ما قاله ابن سريج: من طريقة الإحتياط في إيجاب غسلهما مع الوجه ووجوب مسحهما مع الرأس، فهو فاسد بما أوردنا على الزهري، وهو أن الغسل غير مشروع فيهما ولأن ما ذكره وإن كان فيه احتياط من الوجه الذي ذكره فهو خطأ من وجه آخر، وهو مخالفة السنة في غسلهما، فلا وجه لما ذكره من الحيطة، وأما ما قاله الشعبي والحسن بن صالح فهو فاسد بما أوردناه على الزهري، وابن سريج، ثم هو باطل أيضاً بأن أحداً لا يعدهما من الوجه فضلاً عن أن يعد ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر منهما من الرأس، فإن ما هذا حاله تحكم لا مستند له ولا برهان عليه فبطل ما قاله(1). فحصل من مجموع ما ذكرناه أن المشروع في الأذنين فيه مذاهب ستة:
أولها: أنهما من الرأس في الاسم والحكم فيمسحان معه، وهذا هو الاسم، فيمسحان بفضلة مائه وهذا هو الحكم وهو رأي القاسمية، وأبي حنيفة.
__________
(1) لعل الصواب: (ما قالاه) لأن الضمير يعود إلى الشعبي والحسن بن صالح.
وثانيها: أنهما ليسا من الوجه فلا يغسلان معه، ولا هما من الرأس فيمسحان بفضلة مائه، ولكن يؤخذ لهما ماءً جديدًٌ وهذا هو رأي الناصر، والشافعي.
والمختار: كما مر بيانه.
وثالثها: أنهما من الرأس خلا أنه يؤخذ لهما ماء جديد غير ماء الرأس، وهذا هو رأي ابن عمر، وعطاء، ومالك؛ فقد وافقونا في الاسم دون الحكم.
ورابعها: أنهما من الوجه فيجب غسلهما كما هو محكي عن الزهري.
وخامسها: أنه يجب غسلهما ومسحهما كما رأى ابن سريج.
وسادسها: أنه يجب غسل ما أقبل منهما مع الوجه، ومسح ما أدبر مع الرأس، كما هو رأي الشعبي، والحسن بن صالح، والله أعلم.
مسألة: في غسل الرجلين، وهما من جملة أعضاء الوضوء بلا خلاف بين الأمة، ولكن الخلاف إنما وقع فيما هو الواجب في حقهما، هل يكون مسحاً، أو غسلاً، أو جمعاً بينهما، أو يكون مخيراً في ذلك كما سنوضح القول في ذلك بمعونه اللّه تعالى.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: في بيان ما هو المشروع في الرجلين، وفيه مذاهب أربعة نذكرها:
المذهب الأول: أن الفرض فيهما هو الغسل دون المسح فإن مسح عليهما لم يجزه، وهذا هو قول أكثر أئمة العترة ومحكي عن الفريقين: الحنفية، والشافعية.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ}، ووجه تقرير الحجة من هذه الأية: هو أن فيها قراءتين:
فالقراءة الأولى: بالنصب، ولا مقال في كونها معطوفة بظاهرها، [على: وُجُوهَكُم وَأَيْدِيَكُمْ]. ولهذا كانت منصوبة مثلها من غير حاجة إلى تأويل.
والقراءة الثانية: بالجر، وإنما كانت مجرورة بالمجاورة [لكلمة: برؤوسِكم]، لا بحكم العطف؛ لأنها غير ممسوحة، والجر على الجوار سائغ في لغة العرب. قال امرؤ القيس ):
كأن ثبيراً في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل(2)
__________
(1) الشاعر الجاهلي المشهور صاحب معلقة (قفا نبك...) له ديوان باسمه.
(2) هذا البيت من معلقة امرئ القيس التي مطلعها:
قِفَا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدَّخُول فحومل
وقد جاء في آخره كلمة (مُزَمَّلِ) مكسورة بالمجاورة لكلمة (بجاد) المجرورة بحرف (في) بينما هي مرفوعة حكماً لكونها صفة لخبر (كأن) وهو (كبير).
فإنما جر (مزملا) على الجوار لبجاد وليس وصفاً له وإنما هو وصف (كبير أناس)، وكان القياس رفعه على أنه صفة لكبير أناس، ولكنه جره لما جاور بجاداً.
الحجة الثانية: كل من وصف وضوء رسول اللّه ً كأمير المؤمنين وعثمان وغيرهما من أكابر الصحابة (رضي اللّه عنهم) فإنهم قالوا: غسل رجليه، ولم يقل أحد منهم إنه مسحهما، وهذا فيه دلالة على أن الفرض فيهما هو الغسل دون المسح.
المذهب الثاني: أن الفرض فيهما هو المسح ولا يجوز الغسل، وهذا هو المحكي عن الإمامية وأهل الظاهر.
والحجة على ذلك: قوله تعالى:{وَأَرْجُلِكُمْ}. بالجر فإنها معطوفة على الرأس كما عطف الأيدي بالنصب على الوجوه، وهذه القراءة بالجر محكية عن حمزة )، وأبي عمرو، وغيرهما من القُرَّاء، ومن قرأ بالنصب من القراء السبعة كالكسائي، وابن عامر )
__________
(1) أبو عمارة حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات الكوفي، التيمي بالولاء، القارئ المعروف، روى كثيراً من الأحاديث وخاصة فيما يتعلق بقراءة القرآن، وقرأ عليه القرآن جماعة كثيرة، وله قراءة تعرف به، هي إحدى القراءات السبع. وثقه ابن معين وغيره، وكره قراءته جماعة من الفقهاء، ورُوي أن أحمد بن حنبل كان يكره أن يصلي خلف من يقرأ بقراءة حمزة، ونُسب ذلك إلى ما في قراءته من المد المفرط، والسكت وتغيير الهمز في الوقف والإمالة وغير ذلك. وقال الحافظ بن حجر، عن الذهبي: انعقد الإجماع بآخره على تلقي قراءة حمزة بالقبول. ا.هـ. ونقل قول أبي حنيفة: غلب حمزة الناس على القرآن، والفرائض. (تهذيب التهذيب ج3/24).
(2) عبدالله بن عامر بن يزيد، أبو عمران اليحصبي الشامي، أحد القراء السبعة، ولي قضاء دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك. ولد في البلقاء في قرية رحاب سنة 8هـ - 630م، وانتقل إلى دمشق بعد فتحها، وتوفي فيها سنة 118هـ - 736م.
…قال الذهبي: مقرئ الشاميين، صدوق في رواية الحديث، ا.هـ. أعلام 4/95. راجع تهذيب التهذيب، النهاية وفيات الأعيان.
، ونافع، فإنما يكون منصوباً على محل الجار والمجرور لتتطابق القراءتان على مقصود، وعلى هذا تكون ممسوحة على القرائتين جميعاً.
المذهب الثالث: أن الواجب هو الجمع بين الغسل والمسح، وهذا هو المحكي عن الإمامين: القاسم بن إبراهيم، والناصر، فالمسح بالكتاب والغسل بالسنة.
والحجة على ذلك: هو أن ظاهر الآية دال على المسح بدليل قراءة الجر، ولا محمل لظاهرها إلا المسح، وقراءة النصب موافقة من جهة أنها عطف على محل الجار والمجرور، فإذن المسح حاصل بالكتاب كما قررناه، وأما الغسل فإنما كان بالسنة؛ لأن الرواة لصفة وضوء رسول اللّه ً لم يحكوا عنه أنه مسح، فلما كان الأمر كما قلناه لا جرم جمعنا بينهما توفيراً على الأدلة الشرعية ما يقتضيه حكمها في الدلالة على ما يدل عليه.
المذهب الرابع: أن الواجب هو التخيير بين الغسل والمسح، وهذا هو المحكي عن الحسن البصري، وأبي علي الجبائي، وابن جريج ).
__________
(1) عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج (بضم الجيم وفتح الراء للتصغير وآخره جيم)، الأموي ولاءً، أبو الوليد، أحد العلماء الأثبات، وجهابذة الحديث والفقه، ويقال: هو أول من صنف. روى عن: عطاء، وطاووس، وعكرمة، ونافع، وغيرهم، ونقل عنه الهادي في (المنتخب) في باب الأوقات بواسطة عبدالرزاق. وكان ثقة، ثبتاً، حافظاً، ليس فيه مقال. وهو أقدم شيخ لمحمد بن منصور المرادي، وروى له سائر الأئمة، توفي سنة 150هـ. وقد نيف على التسعين، وأصله من الروم ثم سكن مكة. (مقدمة الأزهار، تهذيب التهذيب).
والحجة على ذلك: هو أن الكتاب دال على المسح كما هو ظاهر من الآية، والسنة دالة على الغسل، فلما كان الأمر فيهما كما قلنا وجب التخيير بينهما؛ لأن كل واحد منهما أصل في الاستدلال على الأحكام الشرعية يجب العمل بهما جميعاً ولا حاجة إلى النسخ من غير دلالة على التاريخ، فلما بطل النسخ والترجيح لم يبق إلا أن يقال: الواجب هو التخيير إذ لا وجه هاهنا سواه. فهذه جملة ما يعتمده كل فريق في تقرير مذهبه وتصحيح مقالته.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من أئمة العترة ومن تابعهم من علماء الأمة [وهو الغسل لا غير].
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا حججاً ثلاثاً:
الحجة الأولى: ما روي عن النبي ً حين علَّم الأعرابي الوضوء: (( توضَّ كما أمرك اللّه فاغسل وجهك ويديك وامسح رأسك واغسل رجليك)). فلو كان المسح في الرجلين واجباً لذكره؛ لأنه في موضع التعليم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة باتفاق.
الحجة الثانية: ما روى زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: جلست أتوضأ فأقبل عليَّ رسول اللّه ً، إلى أن قال: ثم غسلت قدمي فقال النبي ً: (( يا علي خلل الأصابع لا تخلل بالنار))(1). والتخليل إنما يكون في حق من غسل لا في حق من مسح فلو كان المسح واجباً لما قال ذلك.
__________
(1) في أمالي أحمد بن عيسى عن علي عليه السلام بسنده قال: قال رسول اللّه ً: ((خللوا أصابعكم قبل أن تخلل بالنار)). وهكذا في شرح التجريد وأصول الأحكام، وفيه أيضاً عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام الحديث.
والحجة الثالثة: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( ويل للأعقاب من النار ))(1). وفي حديث آخر: (( ويل للعراقيب من النار )). فلو كان فرضهما المسح، إذن لم يقل ذلك، فهذه الحجج كلها دالة على أن الفرض في الأرجل إنما هو الغسل دون المسح، وحكي عن جابر بن عبدالله أنه قال: أمرنا رسول اللّه ً أن نغسل أرجلنا، ولأنهما عضوان يقطعان في السرقة فيجب أن يكون فرضهما في الوضوء الغسل كاليدين.
الانتصار: يكون بإبطال ما سواه من المذاهب.
فأما تَمَسُّك الإمامية بقراءة الجر فهو فاسد. وجوابه: من أوجه ستة:
الجواب الأول: أنا نقول: الظاهر من قراءة النصب هو الغسل من غير تأويل، والظاهر من قراءة الجر هو المسح من غير تأويل، ولا تعارض بين القراءتين إذ لا تنافي بينهما، ولهذا جاز الجمع بينهما كما هو مذهب الناصر كما سنوضح الكلام عليه بمعونة اللّه تعالى.
__________
(1) عن أبي هريرة أنه رأى قوماً يتوضئون من المطهرة فقال: أسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم ً قال: ((ويل للعراقيب من النار)). أخرجه البخاري ومسلم، والنسائي، وعن ابن عمرو بن العاص قال: تخلف عنا رسول اللّه ً في سفرة سافرناها فأدركناه وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: ((ويل للأعقاب من النار)). مرتين أو ثلاثاً، أخرجه البخاري ومسلم، وفي رواية أبي داود والنسائي نحوه، وكذا للموطأ ومسلم عن عائشة. ا.هـ. جواهر ملخصاً.
وفي قوله: تخلف عنا.. فأدركناه نظر. وفي شرح التجريد وأصول الأحكام والشفاء بلفظي: العراقيب والأعقاب في الحديثين وكلاهما عن جابر. ا.هـ.
فنقول: إذا كان لا تنافي بين القراءتين وكل واحدة منهما مقطوع بصحتها، فطريقة الجمع بينهما هو أن النصب في الأرجل إنما كان على طريقة العطف على الأيدي، والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه شائع كما قال تعالى:{يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيْهِ قُلْ قِتَالٌ فِيْهِ كَبِيْرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيْلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة:217]. وإنما عطف المسجد الحرام على الشهر الحرام لأن توجه السؤال إنما كان عن القتال فيهما؛ لأن تحريم القتال في زمن الجاهلية ربما كان بالإضافة إلى الزمان وهو تحريمه في الأشهر الحرم: ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب، وربما كان في المكان وهو المسجد الحرام، فسألوا الرسول ً عن ذلك، ولا يجوز عطفه على قوله: {عَنْ سَبِيْلِ اللّهِ} لما ذكرناه، ولا يجوز أن يكون الواو فيه واو (مع) لأن هذه الواو إنما يصار إلى النصب بها إذا كان العطف متعذراً فأما مع إمكان العطف فالعطف أحق، وهاهنا العطف ممكن فلا حاجة بنا إلى تقدير المعية والنصب بها ولا يجوز عطفها على المحل في قوله:{بِرُؤُوْسِكُمْ} من جهة أن العطف على المحل لم يرد في كتاب اللّه تعالى، فلما تعذر نصبها على هذه الوجوه لم يبق إلا نصبها [عطفاً] على ما هو مغسول وهو الأيدي لكونه أقرب، فلهذا وجب الحكم عليها بالغسل لعطفها عليه، ومن حق المعطوف أن يكون مشاركاً للمعطوف عليه في إعرابه وعامله.
الجواب الثاني: روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قرأها بالنصب، وقال: إن فيها تقديماً وتأخيراً، يشير إلى ما ذكرناه من تقديمها على الرؤوس وتفسير الصحابي يخالف غيره فضلاً عن تفسير أمير المؤمنين فإنه الأمين على معاني التنزيل وله اليد الطولى في تقرير وجوه التأويل، وقرأ ابن عباس بالنصب وقال: إنه راجع إلى الغسل، وذلك محكي عن: مجاهد، وعروة من علماء التابعين، حكاه أبوعبيدة، فإذا كانت هذه القراءة أعني قراءة النصب محكية عن من ذكرناه من علماء الصحابة والتابعين وجب العمل عليها على حد التفسير الذي ذكروه من غير مخالفة، لا يقال: فأي مانع من أن يكون نصبها على العطف على محل الرؤوس؛ لأنها في موضع المفعول، فيكون الجر عطفاً على ظاهرها والنصب يكون عطفاً على محلها، وعلى كلا الوجهين والقراءتين تكون ممسوحة وهو المطلوب، لأنا نقول: هذا فاسد، فإن القرآن الكريم كالآية الواحدة وهو مفسر لبعضه بعضاً ولم يرد العطف على المحل في القرآن، فلا يجوز تفسيره على ما لم يرد نظيره فيه فبطل ما توهموه.
الجواب الثالث: هو أن العمدة في تقرير [القواعد] اللغوية وتمييز الأسرار الإعرابية تأصيلاً وفيما يقبل ويرد من وجوه التأويلات تفصيلاً، إنما هو على كلام أئمة الأدب من أهل اللغة والنحاة، فما قالوه قلناه، ويجب الاحتكام لأقوالهم والرجوع إليها، وقد قال سيبويه ) وتلميذه الأخفش وغيرهما من أئمة اللغة والنحو: إن قراءة الجر إنما كانت على المجاورة لا بالعطف، وأنشدوا ما حكيناه عن امرئ القيس البيت الذي أنشدناه، وحكوا أيضاً: (هذا جحرُ ضبٍ خربٍ). فوصفوا الضب بالخراب وهو وصف للجحر، ولكن إنما كان ذلك على جهة المجاورة من جهة اللفظ لا غير، فإذا كان هذان الرجلان هما العمدة في علم الأدب من النحو واللغة قد فسروا الآية بما ذكرناه وجب الاعتماد عليه.
__________
(1) اشتهر بلقبه سيبويه وهو لقب أعجمي يدل على أصله الفارسي واسمه: عمرو بن عثمان بن قنبر من موالي الحارث بن كعب. ولد بقرية من قرى شيراز تسمى البيضاء، وفيها تلقى دروسه الأولى، وطمح في الاستزادة من الثقافة في اللغة والدين فقدم البصرة، والتحق بحلقات الفقهاء والمحدثين، ولزم حلقة حماد بن سلمة بن دينار المحدث المشهور حينئذ، وحدث أن لفته إلى أنه يلحن في نطقه ببعض الأحاديث فصمم سيبويه على التزود أكثر من علوم اللغة، ولزم حلقات النحويين واللغويين ومنهم: الأخفش، ويونس بن حبيب، واختص بالخليل بن أحمد، حتى استوعب علمه في النحو والصرف، ولما توفي الخليل خلفه سيبويه في حلقته، وكان قد أصبح عالماً ومرجعاً في علوم اللغة خاصة، وألف كتابه المشهور (الكتاب) وتألق نجمه في البصرة وبغداد وغيرهما، وهو صاحب مدرسة مشهورة في النحو واللغة، وكتابه يتضمن آراءه ونظرياته وكشوفه في هذا المجال. توفي في شيراز وقيل: في همذان، واختُلِف في تاريخ وفاته والأرجح أنه توفي سنة 180هـ. (المدارس النحوية ص57 د. شوقي ضيف).
الجواب الرابع: حكي عن الشيخ أبي علي الفارسي )، أنه قال: قراءة الجر وإن كان ظاهرها عطفاً على الرؤوس فالمراد بها الغسل هاهنا، من جهة أن العرب تسمي خفيف الغسل مسحاً، ولهذا فإنهم يقولون تمسحت للصلاة ويريدون به الغسل للأعضاء في الوضوء والغُسل من الجنابة.
الجواب الخامس: أنا نقول: ما كان من الأعضاء ممسوحاً فإنه غير مفتقر إلى التحديد كالرأس، وما كان مغسولاً فإنه ورد محدداً كاليدين، فلما ورد الرجلان محدوداً غسلهما إلى الكعبين دل ذلك على وجوب غسلهما. لا يقال: فالوجه مغسول ومع ذلك فإنه لم يرد محدوداً فكيف قلتم بأن كل مغسول فإنه محدود؟ لأنا نقول: إنما أطلق الوجه من غير حد لأن حد الوجه معلوم وهو ما واجه، فلهذا أغنى ذلك عن تحديده بخلاف اليد والرجل فإنه لا حد لهما فلهذا وردا محدودين.
__________
(1) الحسن بن أحمد بن عبدالغفار الفارسي أباً وأمه عربية من سدوس شيبان ولد بفسا من شيراز سنة 288هـ، وشب فطناً ذكياً فأكب على التعليم ورحل إلى بغداد سنة 307هـ، وعكف على حلقات البصريين مثل: ابن السراج، والأخفش الصغير، والزَّجَّاج، وابن دريد، ونفطويه، ودرس مؤلفاتهم ومؤلفات سابقيهم مثل: سيبويه، واعتنق مذهب المعتزلة، ونقل أنه كان شيعياً لغلبة التشيع حينئذ على أهل العراق وفارس، ودخل حلب سنة 341هـ، ومعه تلميذه ابن جني الذي شغف بأستاذه ثم عاد إلى بغداد سنة 346هـ، وكانت شهرته قد طارت إلى كل مكان، وأصبح علماً في علوم اللغة، وتوفي بها سنة 377هـ. (المدارس النحوية طبقات القُرَّاء لابن الجزري الفهرست لابن النديم).
الجواب السادس: أنا نقول: إن قراءة الجر ظاهرة في المسح كما زعمتم، ولكن الذي حملنا على الغسل في الأرجل إنما هو عمل الرسول ً، فإنه لم يؤثر عنه أنه مسح رجليه، فلو كان مفهوماً من ظاهر الآية وقد قرأه لفهمها الرسول ً لأنه أعرف الخلق بمقاصد كتاب اللّه تعالى والإحاطة به. فهذا ما أردنا من الكلام على الإمامية في إيجابهم المسح في الرجلين.
وأما ما يحكى عن الإمامين: القاسم، والناصر من الجمع بين المسح والغسل، ففيه جوابان:
أما أولاً: فإنا نقول: قد أقررتم بوجوب الغسل فلا منازعة فيه، فأخبرونا عن إيجابكم المسح، هل كان بالآية أو من دليل آخر؟ فإن أخذتموه من الآية بقراءة الجر فقد أفسدناه وأظهرنا البرهان الشرعي [على] أن جره إنما كان على المجاورة لتطابق قراءة النصب، وأوردنا عليه الشواهد اللغوية فلا مطمع لإعادته، وإن أخذتموه من دلالة أخرى غير الآية فلابد من إظهاره لننظر في صحته وفساده.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: هل توجبون المسح أو تستحبونه؟
فإن قالوا: بالاستحباب فلا مقال عليه، لأن كلامنا في بيان ما يكون واجباً في الوضوء.
وإن قالوا: بوجوبهما جميعاً.
فنقول: فهل توجبونهما على جهة الجمع أو على جهة التخيير؟
فإن قالوا: بوجوبهما على جهة التخيير، فسيأتي الكلام على مقالة من خير في الوجوب بينهما.
وإن قالوا: بوجوبهما على جهة الجمع، وهي مقالتهم.
فنقول: مستند إيجابهما جميعاً إن كان من جهة الكتاب فهو فاسد، لأن الآية إنما تناولت المسح لا غير كما زعمتم، وإن كان من جهة السنة فهي إنما تناولت الغسل لا غير، فكل واحد منهما ليس دالاً إلاَّ على المسح وحده أو على الغسل وحده، فمن أين أخذتم بدلالة الجمع بينهما؟
فإن قالوا: أخذناها من مجموع الكتاب والسنة، ولم نأخذها من كل واحد منهما على الإفراد.
قلنا: إنا قد أوضحنا أن الكتاب الكريم غير دال على المسح فلا وجه لضمه إلى دلالة السنة، والسنة، إنما دلت على الغسل لا غير.
فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا، أن دلالة الجمع بين المسح والغسل لا تؤخد من الكتاب ولا من السنة فإذن آل الأمر إلى أنه لا دلالة على وجوب الجمع بينهما، وما لا دليل عليه فلا وجه لإثباته، وأما ما يحكى عن الحسن البصري، وأبي علي الجبائي من التخيير بين الغسل والمسح، فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد أوضحنا أن الآية غير دالة على وجوب المسح وأوردناه على الإمامية، وإذا كان الأمر كما قلناه فلا وجه للتخيير بين ما هو واجب وما ليس واجباً.
وأما ثانياً: فلأن المسح والغسل في الرجلين لو كان واجباً على التخيير كما زعموا لكان رسول اللّه ً أحق من عمل به، فلما لم يعمل به دل على أنه غير واجب، ولأن الصحابة (رضي اللّه عنهم) لو فهموا ذلك من الآية لعملوا على المسح برهة، ولعملوا على الغسل برهة من الزمان، لأن هذا هو الأصل في الواجبين المخيرين، أن يعمل على هذا مرة، ويعمل على هذا مرة فلما تحققنا أن الصحابة لم يمسح أحد منهم على رجليه عوضاً عن الغسل دَلَّ على بطلان التخيير بينهما، فهذا ما أردنا ذكره على من خالفنا في هذه القاعدة.
الفرع الثاني: في بيان كيفية غسل الرجلين.
فإن كان المتوضئ هو الغاسل بنفسه فإنه يبدأ بصب الماء من أطراف أصابعه إلى كعبيه، وإن كان غيره هو الغاسل له صب الماء من كعبه إلى أطراف أصابعه لأن ذلك يكون أمكن في الغسل وأبلغ في الاستيعاب، فإن كانت أصابع رجليه ملتصقة لا يصل الماء إلى باطنها إلا بالتخليل فإنه يجب عليه التخليل وإيصال الماء إلى باطنها، لقوله ً: (( خللوا بين أصابعكم لا يخلل اللّه بينها بالنار )). وإن كانت متفرقة بحيث يصل الماء إليها من غير تخليل استحب تخليلها لقوله ً للقيط بن صبرة: (( وخلل بين الأصابع )).
وكيفية استحباب التخليل بين الأصابع أن يبدأ بخنصر رجله اليمنى ثم يختمها بإبهامها، ويبدأ بإبهام رجله اليسرى ويختمها بخنصرها، فإن خلقت أصابعه مرتقة فإنه لا يجب عليه فتقها لما في ذلك من الحرج والمشقة فلا يدخل تحت تكليفه.
ويجب إدخال الكعبين في الغسل عند أئمة الآل وهو قول أكثر الفقهاء من الشافعية والحنفية والمالكية خلافاً لزفر بن الهذيل، ولأبي بكر بن داود.
والحجة لنا ولهم، وذكر المختار من ذلك والانتصار على من خالفنا ما قد ذكرناه في اليدين فأغنى عن الإعادة، وقد قال تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبِيْنِ }[المائدة:6]. وقد قال علماء التفسير: أي مع الكعبين، وقد قال ً: (( ويل للأعقاب من النار)). أراد التي لا يصيبها الماء.
الفرع الثالث: الكعبان هما العظمان الناتئان في مفصل القدم والساق عند أئمة العترة، وهو قول أكثر الفقهاء: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ولم يرد حد جميعهما لأنه لو أراد لقال: إلى الكعاب كما قال تعالى:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فدل ذلك على أنه أراد الرِّجْلَ الواحدة، وليس للرِّجْلِ الواحدة كعبان إلا على ما قلناه، وعلى قولهم ليس للرِّجْلِ الواحدة إلا كعب واحد.
الحجة الثانية: ما روى النعمان بن بشير ) قال: أقبل علينا رسول اللّه ً بوجهه فقال: (( أقيموا صفوفكم وسدوا الخلل))(2). فلقد رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه، وهذا لا يكون إلا على الاعتبار الذي اعتبرناه في الكعب، وحكي عن محمد بن الحسن، والإمامية أنهم قالوا: معقد الشراك هو الكعب، وأراد به الشراك العربي وهو ظهر الكف، وقد أنكر الأصمعي ) هذه المقالة وتأوله أصحاب محمد بن الحسن على أن المراد بما قاله هو مقطع الخفين إذا لبسها المحرم، وهذا التأويل يقرب لأنه كان
__________
(1) أبو عبدالله النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي المدني، له ولأبويه صحبة، وأمه عمرة بنت رواحة، روى عن النبي ً، وعن خاله عبدالله بن رواحة، وعمر، وعائشة. وروى عنه: ابنه محمد ومولاه حبيب بن سالم، وعروة بن الزبير، وآخرون. قال الواقدي: ولد على رأس أربعة عشر شهراً من الهجرة وهو أول مولود في الأنصار بعد قدوم النبي ً، وقيل: غير ذلك. قال ابن معين: ليس يروي عن النبي ً حديثاً يقول فيه: سمعت، إلاَّ في حديث الشعبي: ((الجسد مضغة)). والباقي من حديثه إنما هو عن النبي ً، وليس فيه سمعت، كان عاملاً على حمص فبايع لابن الزبير بعد موت يزيد، فلما تمرد أهل حمص خرج هارباً فاتبعه خالد بن خلي الكلاعي فقتله سنة 66هـ. (تهذيب التهذيب ج10/399).
(2) سيأتي في صلاة الجماعة.
(3) عبدالملك بن قريب الباهلي المعروف بالأصمعي، ولد في البصرة، من مشاهير لغويي العرب، تعلم في البصرة على الخليل، وعيسى بن عمر، وأبي عمرو بن العلاء، وعليه تعلم أبو الفضل الرياشي، وأبو عبيدة، والسجستاني، والسكري. حفظ لغة البدو ولهجاتها، عهد إليه هارون الرشيد بتعليم الأمين. من مؤلفاته: (الفرس)، و(الأراجيز)، و(الميْسر)، ومجموعة (الأصمعيات). ولولاه لكنا فقدنا الكثير من دواوين العرب وأشعارهم. (راجع الأعلام، ووفيات الأعيان).
كثير الدرية بكلام العرب، وأخلق بمن كان شيخه أبو حنيفة أن يكون أديباً، واحتج الإمامية لما زعموه بأن قالوا: إن قوله تعالى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} غاية للغسل وغاية الشيء هي منقطعه ومن حق ما يكون غاية، أن يكون منقطعاً عن ذي الغاية؛ فلأجل ذلك حكمنا على أن الغسل ينتهي بالكعبين فلا يكونان داخلين، وإذا لم يكونا داخلين كان غاية الغسل ما دونهما وليس ما دونهما إلا معقد الشراك العربي، فلهذا كان هو الواجب لا غير.
وجوابه من وجهين:
أما أولاً: فلأنا قد قررنا دخول الحد في المحدود فأغنى عن تكريره.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: لِمَ أوجبتم غسل معقد الشراك دون غيره، هل كان ذلك بدلالة خاصة فلابد من ذكرها لننظر فيها، فإن كانت صحيحة اتبعناها وإن كانت فاسدة اتبعتمونا، وإن كان إيجاب معقد الشراك من جهة أن الحد في الغسل هو الكعبان، ومن حق أن الحد لا يكون داخلاً في المحدود فهذا شيء قد فرغنا من تقريره وأظهرنا بفعل الرسول ً وأدلة خطابه وجوب إدخال الحد في المحدود.
والمختار: ما عول عليه علماء أئمة العترة ومن تابعهم من علماء الأمة، ودليله ما حكيناه عنهم؛ ونزيد هاهنا وهو ما روي عن أمير المؤمنين في تعليم وضوء رسول اللّه ً، عن ابن عباس قال: دخل علينا علي بن أبي طالب وقد اهراق الماء فدعا بوضوء، فأتينا بتور(1) فيه ماء حتى وضعناه بين يديه فقال: يابن عباس ألا أريك كيف كان رسول اللّه ً يتوضأ؟ فغسل جميع أعضائه إلى أن قال: ثم غسل رجليه إلى الكعبين. فأفعال رسول اللّه ً دالة على إدخال الكعبين في غسل الأرجل.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم وعند هذا يصح المختار.
__________
(1) التور (بتاء مثناة فوقية مفتوحة، فواو ساكنة، فراء): من الأواني، عربي،وقيل: دخيل. وهو إناء معروف لدى العرب يشربون فيه، أي: إناء للماء وقد يتوضأ فيه. ا.هـ. ملخصاً من اللسان.
قالوا: الآية دالة على وجوب كون الكعبين غاية للغسل، ومن حق ما هو غاية أن ينقطع به الحكم.
قلنا: قد مر الجواب على ما أوردتموه فلا حاجة إلى تكريره.
قالوا: عبادة تتعلق بالأرجل كقطع الخف في حق المحرم فوجب تعلقها بمعقد الشراك.
قلنا: هذا فاسد، فإن ذلك إنما وجب في الأصل لما كان الإحرام متعلقاً بالكف من الرِّجل بخلاف الغسل في الأرجل فإنه متعلق بإدخال الكعبين بالآية.
قالوا: الكعب إنما سمي كعباً لظهوره، ومعقد الشراك شاخص من كف الرِّجل فلهذا وجب تسميته كعباً فيجب أن تتناوله الآية من غير زيادة.
قلنا: إنما سمي كعباً لشخوصه من جانبي مفصل القدم وهذا غير حاصل في كف الرِّجل فلا يجوز تسميته كعباً فبطل ما توهموه.
مسألة: وكيفية التطهير لهذه الأعضاء فيها مذاهب ثلاثة:
الأول: أن الواجب في تطهيرها مرة واحدة، وهذا هو قول أئمة العترة ومحكي عن الفريقين: الحنفية، والشافعية.
والحجة على ذلك: ما روى أُبَيُّ بن كعب عن رسول اللّه ً أنه توضأ مرة واحدة ثم قال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة بدونه )). والمرتان فضيلة لما روي في خبر أُبي أنه توضأ مرتين ثم قال: (( من توضأ مرتين أعطاه اللّه أجره مرتين)). وفي هذا دلالة على كثرة الأجر بزيادة الثواب. والثلاث هي السنة لما روي في خبر أبي أنه توضأ ثلاث مرات ثم قال: (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء خليلي إبراهيم )). (صلوات اللّه عليهما) فالخبر دال على ما ذكرناه من الواجب والفضيلة والسنة.
المذهب الثاني: أن الواجب هو الثلاث، وهذا شيء يحكى عن بعض الناس هكذا حكاه العلماء ولم أعلم قائله بعينه.
والحجة لهم على ما قالوه: ما روى عمرو بن شعيب )، عن أبيه، عن جده، عن الرسول ً أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: (( هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم))(2). فمعنى قوله: (( فقد أساء)). لمخالفته ما وجب إذا نقص عن الثلاث، ومعنى قوله: (( ظلم)). يعني إذا زاد عليها جاوز الحد؛ لأن الظلم مجاوزة الحد.
ووجه الاستدلال بالخبر على الوجوب: هو أنه سمى النُّقْصَان إساءة والزيادة ظلماً، وهذا إنما يكون في الأمور الواجبة.
المذهب الثالث: أن الواحدة كما هي الفرض الواجب فهي السنة من غير زيادة، وهذا هو المحكي عن مالك.
والحجة على ذلك: هو أنه لما قال: (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء خليلي إبراهيم)). ً جميعاً، فانصرف هذا إلى أول الخبر وهو أنه توضأ مرة واحدة، لأنه المبدوء به، فلهذا كان قوله هذا وما تعلق به منصرفاً إليه؛ لأنه أحق بالإنصراف إليه لكونه صدراً فهذا تقرير المذاهب بأدلتها.
__________
(1) أبو إبراهيم عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي. روى عن: أبيه، وعمته، والرُبَيِّع بنت معوذ، ومن التابعين: مجاهد، وطاووس، وعطاء، وآخرون. وروى عنه: جماعة من التابعين ضعفه بعض رواة الحديث، وعاب عليه البعض أنه كان لا يسمع شيئاً إلا حدث به. وروي أن أحمد قال: له أشياء مناكير. وقيل: روى عنه الثقات وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده، واختلف الرواة والفقهاء في مدى نسبته إلى التابعين، فقال الدارقطني: قال النقاش: عمرو بن شعيب ليس من التابعين وقد روى عنه عشرون من التابعين. وقال الحافظ ابن حجر: ضعفه ناس مطلقاً ووثقه الجمهور...إلخ. (تهذيب التهذيب 8/43).
(2) أخرجه أحمد، وابن ماجة، عن ابن عمر.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من تقرير الواجب بالمرة الواحدة والفضيلة بالمرتين والسنة بالثلاث لما ذكرناه من حديث أبيّ، فإنه صريح في ذلك، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن النبي ً أنه قال: (( لا يقبل اللّه صلاة امرىء حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ويغسل رجليه))(1). ولا شك أن من غسل هذه الأعضاء مرة واحدة فإنه يصدق عليه أنه غاسل لها، فلهذا كان الفرض غسلة واحدة وما عداها فهو على الفضيلة والسنة كما شرحناه من قبل.
الانتصار: يكون بإبطال ما عدا ذلك، فأما قول من أوجب الثلاث فهو فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه لا دلالة لكم في ظاهر الحديث؛ لأنه قال: (( فمن زاد على الثلاث أونقص)). ولم يبين حال الثلاث هل هي واجبة أو غير واجبة، فمعنى إساءته على ما نقوله هو أنه أساء لمخالفته السنة في نقصانه عن هذه العدة، ومعنى ظلمه بالزيادة هو أنه تجاوز الحد حتى خرج عن المسنون والواجب والفضيلة، وهذه الإساءة بالزيادة والظلم بالنقصان لا يقتضيان الإثم والمعصية وإنما يحملان على الكراهة لمخالفتهما للمشروع(2).
وأما ثانياً: فلأن قوله في حديث أبيّ لما غسل مرتين قال: (( ومن توضأ مرتين أعطاه اللّه أجره مرتين )). وقوله لما غسل الثلاث: (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي )). وقوله لما غسل الأولى: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة من دونه )). فهذا تصريح بحكم كل واحدة من هذه الغسلات وإيضاحه، فكيف يقال بكونها واجبة؟ فأما الإساءة بالزيادة والظلم بالنقصان، فقد تأولناه على وجه موافق لما نحن فيه فبطل ما توهموه.
وأما من قال: بأن الواحدة فرض وسنة. فعنه جوابان:
__________
(1) أورده في الجواهر، وشرح التجريد، والمهذب، بلفظ: ((حتى يضع الوضوء مواضعه، يغسل وجهه...)).
(2) في الحديث آنف الذكر، أفاد أن الإساءة بالنقص والظلم بالزيادة، وهنا عكس الصنفين مع النقيضين، وهو هكذا في الأصل، لذا لزم التنويه.
أما أولاً: فلأنا نستفسره عن هذه المقالة، فنقول: ما تريد بقولك: إن الغسلة الواحدة تكون فرضاً وسنة؟ أتريد أن الرسول ً ما مسح أعضاءه ولا غسلها إلا مرة واحدة؟ فهذا فاسد، فإن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه)، وعثمان بن عفان رضي اللّه عنه وغيرهما من أكابر الصحابة رووا عنه: أنه غسل أعضاءه ومسحها ثلاث مرات، وإن أراد أن الرسول ً غسلها ثلاث مرات، لكن الغسلة الواحدة قائمة مقام الثلاث، فهذا فاسد أيضاً، فإن الفرض لا يقوم مقام السنة والفضيلة لتغاير هذه الصفات فلا يقوم أحدها مقام الآخر، وإن أراد الغسلة الواحدة تكون فرضاً ونفلاً ولعله مراده فهذا فاسد أيضاً، فإن الفعل الواحد لا يكون موصوفاً بالفريضة والفضيلة(1) لما في ذلك من اجتماع النقيضين؛ لأنه إذا كان نفلاً جاز تركه وإن كان فرضاً لم يجز تركه فيلزم أن يجوز تركه ولا يجوز تركه.
وأما ثانياً: فلأن الظاهر من حديث أُبَيّ أن الرسول ً غسل ثلاث غسلات ومَيَّز كل واحدة منها بصفة في الوجوب والفضيلة والندب، فكيف يقال بأن الغسلة الواحدة قائمة مقام الثلاث؟ فبطل ما توهمه مالك.
مسألة: إذا تقرر بما لخصناه وجوب غسل هذه الأعضاء، فمفهوم الغسل ما هو؟
ولا يقع تردد في أن مفهومه ومعقوله: إمساسه الماء. وهل يعتبر فيه سيلان الماء عنه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لابد من اعتبار السيلان فيه فلا يعقل الغسل إلا بإمساسه الماء بحيث يسيل عنه، وهذا هو رأي القاسمية، ومحكي عن الفريقين: الحنفية، والشافعية.
والحجة على ذلك: هو أن أهل اللغة يفرقون بين المسح والغسل ولا فرق هنا يعقل بينهما إلا أن الغسل إمساس العضو الماء بحيث يسيل عنه والمسح إمساسه الماء بحيث لا يسيل عنه فلو لم يجعل ما ذكرناه فرقاً بينهما لم تعقل التفرقة بينهما وهي معلومة لا محالة.
__________
(1) الفضيلة هنا تعني: السنة كما يفهم من السياق، إذ إن الفريضة والفضيلة ليستا نقيضين، والله أعلم.
المذهب الثاني: أنه لا يعتبر السيلان في الغسل، وهذا هو المحكي عن الناصر. وهو قول محمد بن الحسن الشيباني.
والحجة على ذلك: هو أن مفهوم الغسل ليس السيلان وإنما مفهومه الاستيعاب للمغسول سواء سال الماء عنه أولم يكن سائلاً، فهذه هي التفرقة بينه وبين المسح فإن حقيقة المسح، إمساس العضو الماء بحيث يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ بخلاف الغسل فإنه لابد فيه من الاستيعاب، وفي ذلك ظهور التفرقة بينهما بذلك دون السيلان فلا عبرة به في ماهية الغسل.
والمختار: ما قاله القاسمية، وهو رأي الإمامين الأخوين: المؤيد بالله، وأبي طالب.
والحجة عليه: ما قالوه؛ ونزيد هاهنا: وهو أن المعلوم من عادة أهل اللغة التفرقة بين البلة الحاصلة بالمسح وبين الغسل، فإن البلل لا يعتبر فيه إلا إيصالها بالمحل من غير مسيل بخلاف الغسل فإن حقيقتة السيلان عن محله لا محالة، ويؤيد ما ذكرناه هو: أن اللّه تعالى أمر بغسل بعض أعضاء الوضوء وأمر بمسح بعضها فقال تعالى: {فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوْا بِرُؤُوْسِكُمْ}[المائدة:6]. ولا فصل هناك يعقل بينهما إلا بما ذكرناه من سيلان الماء؛ لأن الاستيعاب شامل لهما، فلولم تكن التفرقة بما ذكرنا لم يعقل الفصل بينهما.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: المعتمد بالتفرقة بينهما إنما هو بما أشرنا إليه من الاستيعاب في الغسل دون المسح، فأما سيلان الماء فلا عبرة به في واحد منهما.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن الاستيعاب في الآية شامل لهما فلو لم تكن التفرقة بما ذكرنا لم يُعْقَل الفصل بينهما.
[وأما ثانياً: فلو](1) لم يعتبر السيلان الذي هو أصل ومفعول حقيقة الغسل وجزء من ماهيته لبطل ما ذكرناه من التفرقة بينهما.
مسألة: وهل يكون الدلك من معقول الغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الدلك من مفهوم حقيقته، وهذا هو رأي القاسمية، وهو محكي عن مالك.
والحجة على ذلك: هو أن أهل اللغة لا يسمون إمساس العضو الماء بحيث يكون سائلاً عنه غسلاً، إلا إذا قارنه الدلك، فإن لم يقارنه الدلك فإنهم لا يسمونه غسلاً.
المذهب الثاني: أنه لا يعتبر في ماهية الغسل الدلك، وهذا هو رأي المؤيد بالله؛ ومحكي عن الفريقين: الحنفية، والشافعية.
والحجة على ذلك: هو أن الأحاديث الواردة في صفة وضوء رسول اللّه ً على لسان أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) وعثمان وغيرهما من الصحابة (رضي اللّه عنهم) [أنهم] ذكروا الغسل لهذه الأعضاء والمسح لما يمسح منها ولم يذكروا الدلك في الأعضاء، فلوكان الدلك معتبراً في الغسل لذكروه؛ لأنه لا تعقل حقيقة الغسل عند من اعتبره إلا به، فلو كان شرطاً في الغسل لذكروه في حال ذكرهم للغسل؛ لأنه جزء من ماهية الغسل ولم يُذكر في حديث واحد من أحاديث الوضوء، وفي هذا دلالة على عدم اشتراطه وأن حقيقة الغسل حاصلة من دونه.
والمختار: ما قاله الإمام المؤيد بالله ومن تابعه من علماء الأمة في عدم اشتراطه.
والحجة على ذلك: هو أن حقيقة الدلك مخالفة لحقيقة الغسل، ولهذا يقال: غسل جسمه وما دلكه، فلو كان جزءاً من ماهية الغسل كما زعموه، إذن لم تعقل ماهية الغسل من دونه، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن حقيقة الغسل على قول القاسمية مركبة من وصفين:
أحدهما: سيلان الماء على المحل.
__________
(1) ما بين القوسين إضافة من المحقق لأن ثاني الأمرين لم يذكر في الأصل من النسختين، ويظهر أن (أولاً) احتوى الأمرين، ولعل عدم الفصل بينهما سهو من المؤلف أو الناسخ، فكان الفصل بينهما هنا بإضافة (ثانياً) إلى الأمر الثاني.
وثانيهما: الدَّلك، فلا تفهم حقيقة الغسل إلا بمجموع هذين الأمرين.
وعند المؤيد بالله وسائر الفقهاء أن ماهية الغسل مفهومة عند سيلان الماء عن المحل وأنها حقيقة مفردة غير مركبة، وأنه لا يحتاج فيها الدلك بحال.
ووجه آخر: وهو أن الدلك عبارة عن تكرير اليد على الجسم واشتقاقه من قولهم: فلان يدالك غريمه بالدين إذا كان يطالبه مرة بعد مرة، ومنه الدلوك؛ لأنه يدلك به الجسم مرة بعد أخرى، فلما كان الأمر فيه كما ذكرناه لا جرم كانت حقيقته مخالفة لحقيقة الغسل(1).
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: أهل اللغة لا يسمون إمساس العضو الماء غسلاً إلا إذا كان مقترناً بالدلك.
قلنا: هذه دعوى فلابد من تصحيحها بنقل من جهة أهل اللغة وليس عنهم شيء مأثور في ذلك، وأيضاً فإنا قد أوضحنا مفارقة الدلك للغسل فلابد في اشتراطه في الغسل من دليل شرعي أو لغوي.
قالوا: من طرح الثوب في الماء من غير عرك لا يقال بأنه غاسل له.
قلنا: لا ننكر كون الدلك قد يضامُّ الغسل لتأكيد النظافة، ولكنا ننكر كونه شرطاً في الغسل بحيث لا يعقل الغسل من دونه، ولهذا يقال: غسل يده وما دلكها، وغسل جسده وما دلكه، وغسل الثوب وما عركه، فدل ذلك على أن حقيقة أحدهما مخالفة لحقيقة الآخر.
قالوا: طاهر عن حدث فيجب أن يكون من شرطها إمرار كالتيمم.
قلنا: عنه جوابان:
__________
(1) جاء في لسان العرب في مادة (دلك): دلك الشيء: مرسه وعركه، وتدلك بالشيء: تخلق به، وتدلك الرجل: أي دلك جسده عند الاغتسال، وقال الزَّجَّاج: دلوك الشمس زوالها في وقت الظهر، ودلك الرجل حقه: مطله، ا.هـ ملخصاً.
أما أولاً: فإنا نقول بموجب هذا القياس، وهو أن الغسل طهارة عن حدث فيجب أن يكون من شرطها إمرار اليد كالتيمم، ولكنا لا نقول بالدلك فإن الدلك عبارة عن تكرير اليد مرة بعد أخرى والمتكرر مخالف لإمرار اليد، فأين أحدهما عن الآخر؟ ولهذا فإنه يقال: أمرَّ يده على جسمه فغسله ولم يدلكه، وفي هذا دلالة على المغايرة بينهما.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكرتموه اعتبار للغسل بالمسح وأحدهما مخالف للآخر، فطهارة التراب من شرطها المسح، وطهارة الماء من حكمها الغسل فلا يؤخذ أحدهما من الآخر، ولأن المقصود من طهارة الماء هو رفع الحدث، والمقصود من طهارة التراب هو استباحة ما كان محظوراً فافترقا، ومن جهة أن التراب طهارة ضرورية، والطهارة بالماء طهارة اختيارية، وأيضاً فالطهارة بالماء تعم جميع الأعضاء، والطهارة بالتراب تختص بعضها، فمع هذه المخالفة كيف يقاس أحدهما على الآخر؟
قالوا: روي عن النبي ً: (( بلوا الشعر وأنقوا البشر فإن تحت كل شعرة جنابة))(1). والإنقاء لا يحصل إلا مع الدلك فلهذا وجب اعتباره.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، وفيه ما روي عن علي عليه السلام أن رسول اللّه ً قال: ((من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فُعِلَ به كذا وكذا في النار)). قال علي عليه السلام: ((فمن ثم عاديت رأسي)). قالها ثلاث مرات. ا.هـ. اعتصام1/250. قوله: عاديت رأسي: يعني كرهت طول شعره فحلقته.
قلنا: ليس في ظاهر الخبر ما يدل على الدلك فلا وجه للتعلق به، وأما الإنقاء فإنه كما يحصل بالدلك على زعمكم فإنه حاصل بالتعميم للمحل وإمساسه الماء وسيلانه عنه، فإذا كان الإنقاء يحصل بما ذكرنا فلا حاجة إلى اعتبار الدلك. فحصل من مجموع ما ذكرناه أنه لا يجب اعتبار الدلك، وأما سيلان الماء عن محله فلابد منه لأن معقول الغسل ذلك، وأما قطره على الأرض فلا عبرة به، وإنما المعتبر هو سيلانه عن محله وليس الغرض هو سيلانه وقطره على الأرض، لما روي عن النبي ً، أنه قال: (( وضوء المؤمن كدهنه ))(1). يعني في التعميم والاستيعاب للعضو لا في الدلك وتقطيره على الأرض.
فإن قال قائل: قد أوضحتم بما ذكرتموه هاهنا أن الدلك غير واجب في الوضوء، وأن الغسل إمساس العضو الماء بحيث يسيل عنه ولا يلزم تقطيره على الأرض، فما ترون في حال من علق به الوسواس في وضوئه حتى أسرف في استعمال الماء وخرج عن حد المشروع وجاوز عدة الثلاث وأتى بأعداد مضاعفة وكرر ذلك في هذه الأعضاء حتى خرج عن وقت الاختيار بفعله لهذه الأمور كلها، فما يقضي الشرع في أمره؟
__________
(1) جاء في (جواهر الأخبار) - تخريج أحاديث البحر الزخار: (( وضوء المؤمن كدهنه)). حكاه في (الانتصار). ا.هـ. وعن ذي مخبر ابن أخي النجاشي، خادم النبي ً في جملة حديث أخرجه أبو داود ما لفظه: فتوضأ - يعني النبي ً - وضوءاً لم يلت منه التراب. ا.هـ. (جواهر ج2/67)، وهو في معنى سابقه وفي باب مقدار ما يتوضأ به.
فالجواب: أن الذي يظهر هو القطع بخطأه لمخالفته المألوف من عادة الشرع بما ورد في الأخبار من التحذير من الزيادة على الثلاث، وأنه موصوف بالظلم لخروجه عن الحد بالزيادة ويقطع بكونه أتى بدعة مضادة للسنة وأن السنة على خلاف ما هو عليه، فهذا هو الذي يظهر من حكم الشرع في حاله، فأما الكفر أو الفسق بما أتى من هذه البدعة ومخالفة السنة فمعاذ اللّه عن ذلك وحاشا وكلا مع التزامه للأحكام الدينية واستمراره على الإتيان بالواجبات الشرعية وانكفافه عن المحرمات؛ لأن التفسيق والإكفار إنما يكون بأدلة قاطعة شرعية وبراهين يقينية، وليس في إتيانه لهذه البدعة ما يوجب ذلك بحال. وعن عبدالله بن مغفل قال: سمعت رسول اللّه ً يقول: (( إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء))(1).
قالوا: روى المستورد بن شداد ) قال: رأيت رسول اللّه ً إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره(3)، فهذا نص في وجوب اعتبار الدلك في الوضوء.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فإنا لا ننكر استعماله ووجوبه وليس فيما ذكرتموه دلالة على وجوبه.
وأما ثانياً: فلأن ذلك حكاية فعل لا يدرى حاله ولعل في رجله نجاسة، فلهذا كان دلكه للتنقية والنظافة لا من أجل كونه واجباً، ويجوز حمله على أنه أراد بيان الاستحباب في الدلك لا من أجل بيان وجوبه.
مسألة: وهل يتقدر ما يحتاج إليه من الماء في الوضوء والغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجة وابن حبان. وهو في المستدرك عن عبدالله بن مغفل.
(2) المستورد بن شداد بن عمرو بن حسل بن الأحب القرشي الفهري. ذكره في الصحابة في (أسد الغابة ج4/278).
(3) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
المذهب الأول: أنه لا معنى لتقديره وإنما يكون على مقدار الحاجة في التطهير في الوضوء والغسل وغسل الأثواب ما لم يكن هناك إسراف، وهذا هو الذي ذكره الهادي في (الأحكام) فإنه استقل الصاع في الغسل وقال: إن التحديد لم يتضمنه الكتاب والسنة، وقال: إن المقصود هو الإتيان بالطهارتين على ما أوجبه الشرع، وكلامه هذا يشير به إلى أن الغرض هو الكفاية من الماء من غير أن يكون هناك خروج عن الحد بالإسراف وتجاوز الحد في إهراق الماء من غير حاجة إليه.
المذهب الثاني: أنه مقدر وهذا هو المحكي عن زيد بن علي، وعليه أكثر العلماء، وحكي عنه أنه قال: لا يجزي المرأة إذا أرادت الاغتسال أقل من صاع ونصف الصاع، والصاع: خمسة أرطال وثلث. والمد: رطل وثلث، وقيل: رطلان، والأول أصح، والصاع بالكيل أربعة أمداد.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، وهو أن الرسول ً إنما أشار في التقدير إلى ما لا يكون مجزياً دونه، فروى عبدالله بن زيد الأنصاري: أن الرسول ً، توضأ بثلثي المد(1). وهذه الرواية هي أقل ما روي في تقدير الماء في الوضوء، وروت عائشة (رضي اللّه عنها) عن النبي ً أنه كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد، وهكذا روى جابر: أن الرسول ً، كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وعن أنس بن مالك: أن الرسول ً، كان يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع(2)، وقد حكي: عن أحمد بن حنبل: أن الصاع خمسة أرطال لا غير، ولعل هذه الرواية أعني رواية أنس، على رأي من يقول: المد رطلان لتتفق الروايتان، وروت عائشة قالت: اغتسلت أنا والرسول ً، من إناء فيه قدر الفَرق، والفَرق ثلاثة أصواع، فعلى هذا يكون الفَرق ستة عشر رطلاً، فالرسول ً إنما أشار بهذا التقدير إلى ما لا يكفي دونه ولهذا قال محمد بن الحسن الشيباني: إنه لا يمكن المغتسل أن يعم جميع بدنه بأقل من صاع ولا يكفي المتوضئ أن يسبغ وضوءه بأقل من مدٍّ، فالإشارة بهذه التقديرات إنما هي لأقل ما يجزي لا غير ولم يشر إلى ما يكفي فيما فوق ذلك؛ لأن الأمر في ذلك يختلف حاله باختلاف الشعور والأبدان والخرق والرفق بالماء، فلهذا ترك الشارع الإشارة إلى ما فوق ذلك، وإلى ما اخترناه يشير كلام الهادي في عدم التقدير وهو قول الشافعي فإنه قال: واجب ألا ينقص مما روي عن الرسول ً أنه توضأ بالمد واغتسل بالصاع، وقد روي عن جابر: أنه سئل عن الغسل فقال: يكفيك صاع، فقال رجل: ما يكفيني، فقال له جابر: فيكفي من هو خير وأوفر شعراً، يشير به إلى الرسول ً.
__________
(1) ونحوه عن أم عمارة، أخرجه أبو داود، وعن عائشة وجابر: كان النبي ً يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد. أخرجه أبو داود.
(2) هذه إحدى روايتي أبي داود، وفي رواية للترمذي: أن رسول اللّه ً قال: ((يجزئ في الوضوء رطلان من ماء)). قال في جواهر الأخبار: وفيه روايات أخر.
فتنخل من مجموع ما ذكرناه هاهنا أنه لا ينقص في الوضوء والغسل مما ذكره الرسول ً، فأما الزيادة فلم يقدرها، وما ذاك إلا لأنها مباحة ما لم يقع فيها إسراف وخروج عن الحد، وهو الذي يدل عليه كلام الهادي، والمؤيد بالله، والشافعي، والله أعلم.
مسألة: وهل يجوز أن يمسح الخفاف عوضاً عن غسل الرجلين أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك جائز، وهذا هو رأي الفريقين: الحنفية، والشافعية، ومحكي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه)، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس؛ من الصحابة (رضي اللّه عنهم)، فأما مالك فعنه فيه روايات خمس:
الأولى منها: يجوز المسح كمقاله أبي حنيفة، والشافعي، مؤقتاً باليوم والليلة في الحضر، وبالثلاث في السفر.
الثانية: المسح مطلقاً، من غير توقيت كما هو رأي الشافعي في القديم.
الثالثة: تجويز المسح في الحضر دون السفر.
الرابعة: تجويز المسح في السفر دون الحضر رواها عنه ابن أبي ذؤيب ).
الخامسة: إبطال المسح مطلقاً كما هو رأينا، والخف نعل من أدم(2) يغطي الكعبين، والجرموق يلبس فوق الخف وهو خف كبير فوق خف صغير، والجورب يتخذ من جلود تغطي الكعبين أيضاً، وهو فوق الجرموق، ويمسح على هذه الأمور الثلاثة، فأما النعال فهي وإن كانت من الجلود وهي تكون دون الكعاب فلا مسح عليها؛ لأن نزعها يخف ولا يكون فيه مشقة مثل الخف، والنظر عند القائلين به يكون في حكمه وفي شرطه وفي وقته وفي كيفيته وفي الحجة عليه. فهذه مواقع النظر وجملتها خمسة:
الموقع الأول: في حكمه.
__________
(1) أبو الحارث محمد بن عبدالرحمن بن مغيره بن الحارث بن أبي ذؤيب القرشي، كان فقيهاً، عالماً، من فقهاء المدينة، وممن عاصر مالك بن أنس، توفي بها سنة 159هـ. (طبقات الفقهاء).
(2) جمع أديم: وهو جلد الحيوان بعد دبغه.
وهو إباحته لمن لبس الخف وهو على طهارة في حضر كان أو في سفر، وهي رخصة من اللّه تعالى لعباده لما في نزعهما من المشقة لأجل المطر والوحل والبرد الشديد فلهذا اغتفر المسح عليهما، فإذا نزعهما بعد وفاء المدة المقدرة في السفر والحضر وجب عليه غسل الرجلين. وهل يجب عليه استئناف الوضوء أم لا؟ فيه قولان مبنيان على أن المسح هل يرفع الحدث أم لا؟
فإن قلنا: بأنه غير رافع للحدث فإنه يكفيه غسل الرجلين.
وإن قلنا: بكونه رافعاً له فقد عاد الحدث بالنزع فلهذا وجب استئنافه، فلو لبس فردة خف وكانت الرجل الأخرى سقط نصف كفها فلا يجوز المسح على ما بقي منها إلا إذا كان عليها ساتر كالخف، فإن سقطت الرجل من مفصل القدم جاز المسح مهما بقي منها بقية إذا كان مستوراً، والمسح جائز على كل خف صحيح يمكن متابعة المشي عليه لحوائجه.
فقولنا: صحيح، نحترز به عن الخف المخرق الذي لا يمكن المشي عليه لتخرقه؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى مثل ذلك.
وقولنا: يمكن المشي عليه، نحترز به عن الخف الذي لا يمكن المشي عليه إما لرقتة كالخف الذي يكون من الخرق الرقيقة، وإما لثقله، فإن ما هذا حاله لا يجوز المسح عليه فإن لبس خفاً من زجاج جاز المسح عليه، وإن بدا منه لون الرجل عندهم، وفرقوا بينه وبين ستر العورة بالزجاج فإن ذلك غير صحيح، لأن القصد من ستر العورة هو أن لا يراها الناس بخلاف الخف فإن المقصود منه هو إمكان المشي فيه فافترقا، والواجب في الخف الذي يمسح عليه أن يكون ساتراً للقدم مع الكعب من الجوانب كلها إلا من أعلى الكف فإنه غير لازم ستره.
الموقع الثاني: في شرطه، وله شرطان:
الشرط الأول: أن يكون لابساً للخف على طهارة تامة قوية.
فقولنا: على طهارة، نحترز به عما إذا لبسه على غير طهارة فإنه لا يجوز المسح عليه بحال بل يجب غسله.
وقولنا: تامة، نحترز به عما إذا غسل رجله اليمنى ثم أدخلها الخف قبل غسله للثانية فإنه لا يجوز الاعتداد بهذا اللبس لما كانت الطهارة غير تامة بغسل جميع الأعضاء كلها.
وقولنا: قوية، نحترز به عن طهارة المستحاضة فإنها لو طهرت ولبست الخف ولم تصلِّ بهذا الوضوء ثم أحدثت وأرادت أن توضأ وتمسح لتصلي به فريضة، فإن ما هذا حاله غير جائز لكون طهارتها ضعيفة ناقصة.
الشرط الثاني: أن يكون الخف ساتراً قوياً مانعاً للماء عن النفوذ إلى الرجل، حلالاً(1).
فقولنا: أن يكون الخف قوياً، نحترز به عَمَّا إذا كان الخف مخرقاً قد بدا منه محل الفرض فإنه لا يجوز المسح عليه لانخراقه.
وقولنا: ساتراً، نحترز به عما إذا كان دون الكعبين فإنه لا يجوز المسح عليه؛ لأن ما هذا حاله من سواتر الرجل لا يصعب مسحه.
وقولنا: مانعاً من نفوذ الماء، نحترز به عن الخف المنسوج، فإنه وإن كان ساتراً فإنه لا يمنع من نفوذ الماء فيه، فإن ما هذا شأنه فإنه لا يجوز المسح عليه.
وقولنا: حلالاً، نحترز به عن الخف المغصوب، فإنه مأمور بنزعه وإعطائه مالكه والمسح مانع من الاستدامة فمتى حصلت هذه القيود كلها كان المسح جائزاً.
الموقع الثالث: في وقته.
__________
(1) يقصد مباحاً.
حكى الزعفراني، عن الشافعي: جواز المسح على الخفين مطلقاً من غير توقيت، وهذا هو المحكي عن عمر، وابن عمر، وعائشة، وبه قال الليث، ثم رجع الشافعي عن هذه المقالة في قوله الجديد، وقال: يمسح المقيم يوماً وليلة ويمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وهذا هو قول أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه)، وابن عباس، وابن مسعود من الصحابة (رضي اللّه عنهم)، ومروي عن عطاء، وشريح )، والأوزاعي، وأبي يوسف، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. قال الشافعي في (الأم): ولو مسح المسافر يوماً وليلة ثم إنه دخل في الصلاة فنوى الإقامة في حال الصلاة بطلت صلاته؛ لأنه قد استكمل مسح المقيم، فإذا نوى الإقامة بطل مسحه فلهذا بطلت صلاته، وإن لبس الخف في الحضر ثم سافر قبل أن يحدث ثم إنه أحدث في السفر فإنه يمسح مسح المسافر، وإن أحدث في السفر ومسح ثم أقام فإنه يتم مسح المقيم لا غير، فإن أقام بعد استكمال مدة مسح المقيم نزع الخفين لا محالة، وإن أقام قبل استكماله كان له أن يتم مسح المقيم لا غير.
الموقع الرابع: في كيفيته.
__________
(1) أبو مضر شريح بن المؤيد القاضي الجيلي، علامة الشيعة، وحافظهم، من أتباع المؤيد بالله، وهو صاحب التصانيف في الفقه منها: (أسرار الزيادات)، و(لباب المقالات لقمع الجهالات). قال الإمام المهدي: وهو سبعه أو ثمانية مجلدات، والناس يغترفون منه. (مقدمة الأزهار).
قال الشافعي: وإذا أراد المتوضئ أن يمسح على الخفين فأحب إليَّ أن يغمس يديه في الماء ثم يضع كفه اليسرى باطنها تحت عقب الخف وكفه اليمنى على أطراف أصابعه ثم إنه يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف أصابعه، وهذا هو المحكي عن ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعمر بن عبدالعزيز، والزهري ومالك، وابن المبارك ). وقال الليث، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد: المستحب أن يمسح على أعلى الخف دون أسفله وكيف ما أتى بالمسح على الخف سواء كان بيده أو ببعضها أو بخشبة أو بخرقة وسواء مسح منه قليلاً أو كثيراً فإنه يجزيه؛ على رأي الشافعي، وحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يجزيه إلا إذا مسح منه قدر ثلاث أصابع بثلاث أصابع، وحُكِيَ عن زفر: أنه لا يجزيه إذا كان قدر ثلاث أصابع بأصبع واحدة، وعن أحمد بن حنبل: أنه لا يجزيه إلا إذا مسح أكثر المقدم، وهل يمسح على عقب الخف أم لا؟
فحكى البويطي، عن الشافعي: أنه يمسح عليه، وقال المزني: إن ذلك غير مسنون.
الموقع الخامس: في ذكر الاحتجاج على جواز المسح على الخفين.
__________
(1) أبو عبدالرحمن بن المبارك المروزي، تفقه على سفيان (الثوري)، ومالك، وكان فقيهاً، زاهداً، عالماً، عابداً، كما قال عنه سفيان بن عيينة. توفي سنة نيف وثمانين ومائة. (طبقات الفقهاء).
والحجة على ذلك: ما روى بلال ) عن النبي ً أنه توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ومسح خفيه(2)، وروى المغيرة بن شعبة: أن النبي ً مسح على الخفين، فقلت: يا رسول اللّه نسيت؟ قال: (( بل أنت نسيت ، بهذا أمرني ربي ))(3). وروى الحسن البصري قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول اللّه ً أنه مسح على الخفين، ولأن الحاجة تدعو إلى لبسه وتلحق المشقة في نزعه فجاز المسح عليه كالجبائر.
قالوا: ولا يجوز مسح الخفين في الغسل من الجنابة والغسل من الحيض، ولا يجوز المسح على الخفين في الغسل المسنون كالغسل يوم الجمعة والعيدين، ولكن يمسح من الغائط والبول والنوم، إن كان في حضر فيوماً وليلة وإن كان في سفر فثلاثة أيام بلياليها، فهذا ما أردنا ذكره في المسح على الخفين على رأي الفقهاء، وإنما أوردته في كتابي هذا وإن كان مشتملاً على أسرار ودقائق وتفاصيل اشتملت عليه كتب الفقهاء ليكون الناظر متمكناً من الاطلاع على بعض تفاصيله.
__________
(1) هو بلال بن رباح الحبشي، أبو عبدالله، مؤذن رسول اللّه ً، وأحد السابقين الأولين إلى الإسلام الذين أوذوا وعذبوا فاحتسبوا ذلك لله دون أن تنال قريش من إيمانهم شيئاً، شهد مع رسول اللّه ً كل المشاهد، بعد وفاة رسول اللّه ً خرج مجاهداً إلى الشام مع البعوث الإسلامية، وتوفي بدمشق أو داريا كما أورد الشوكاني في ترجمته، وقال: له أربعة وأربعون حديثاً منها في الصحيحين أربعة.
(2) أخرجه مسلم بلفظ: أن رسول اللّه ً مسح على الخفين والخمار.
(3) وهذه إحدى روايات أبي داود.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز المسح على الخفين، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية لا يختلفون في ذلك، ومحكيٌّ عن الإمامية، والخوارج، وأبي بكر بن داود من أهل الظاهر، وإحدى الروايات عن مالك، وعن أبي نصر من أصحاب الشافعي: أن غسل الرجلين أفضل من المسح على الخفين، على قياس قول الشافعي، وحكي عن الشعبي، والحكم، وحَمَّاد: أن المسح على الخفين أفضل من غسل الرجلين لقوله عليه السلام: (( إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمة))(1).
والحجة على بطلان المسح: قوله تعالى: {وَامْسَحُوْا بِرُؤُوْسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ }[المائدة:6].
ووجه الاستدلال بهذه الآية على بطلان المسح على الخفين: أن اللّه تعالى أوجب بظاهر الآية إما غسل الرجلين على ما نقوله وإما مسحهما على رأي من قال بالمسح فيهما، ولم يذكر المسح على الخفين، فلوكان واجباً كما زعموا لذكره؛ لأنه في محل التعليم للوضوء، فلما لم يذكره دل على كونه غير واجب ولا مشروع.
الحجة الثانية: قوله ً لمن علمه الوضوء: (( توضَّ كما أمرك اللّه فاغسل وجهك ويديك وامسح رأسك واغسل رجليك)). فلوكان واجباً لقال مع قوله: (( واغسل رجليك )). وامسح خفيك، لأنه مشروع كما زعموا.
الحجة الثالثة: ما روي عنه ً أنه توضأ مرة فقال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة من دونه )). ثم توضأ مرتين إلى أن قال: ثم توضأ ثلاثاً.
ووجه الاستدلال بهذا الخبر: هو أنه كرر الوضوء مرتين وثلاثاً بالغسل ولم يذكر مسح الخف مفرداً ولا مكرراً فدل ذلك على بطلان كونه مشروعاً في الرجلين.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من علماء الأمة، من كونه -أعنى المسح على الخفين- غير مشروع في الرجلين، ومعتمدنا في الدلالة على ذلك ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا حججاً:
__________
(1) تقدم برواية عن ابن عباس للبزار والطبراني وابن حبان.
الحجة الأولى: ما روي عن النبي ً أنه رأى قوماً تلوح أعقابهم، فقال: (( ويل للعراقيب من النار )). وفي حديث آخر: (( ويل للأعقاب من النار )). وفي حديث آخر: (( أسبغوا الوضوء )).
ووجه الاحتجاج بهذه الأخبار: هو أن ظاهرها أمرٌ بالغسل في الأعقاب فلوكان المسح على الخف واجباً أو مندوباً أو مباحاً لم يكن للوعيد وجه على ترك غسل الأعقاب، لأن له بدلاً وهو ما ذكروه من مسح الخفين، فلما أطلق الوعيد على ترك غسل الأعقاب دل على بطلانه.
الحجة الثانية: قوله ً: (( لا يقبل اللّه صلاة امرئٍ حتى يضع الوضوء مواضعه يغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ويغسل رجليه)).
ووجه تقرير الحجة من هذا الخبر: هو أنه عليه السلام لم يذكر مسح الخفين من جملة مواضع الوضوء كما ذكر غسل الرجلين لما كانا من مواضع الوضوء كالوجه واليدين، فلما لم يذكره دل على بطلانه.
الحجة الثالثة: قوله عليه السلام: (( خللوا أصابعكم لا يخللها اللّه بالنار)).
ووجه تقرير الحجة من هذا الخبر: هو أنه توعد على ترك تخليل الأصابع، فلوكان المسح على الخفين مشروعاً إذن لذكره، فدل ظاهر الأخبار على بطلان المسح على الخفين.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: قد وردت الأحاديث من طريق المغيرة بن شعبة ومن طريق ابن مسعود ومن طريق بلال، على أن الرسول ً مسح على خفيه في الحضر والسفر، ففي الحضر يوماً وليلة وفي السفر ثلاثة أيام بلياليها، وفي هذا دلالة على كونه مشروعاً من جهة الرخصة.
قلنا: إنا لا ننكر رواية هذه الأخبار عمن ذكرتموه من الصحابة (رضي اللّه عنهم) وغيرهم من الرواة، ولكنا نقول: إنها أخبار منسوخة بقوله تعالى: {وَامْسَحُوْا بِرُؤُوْسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}. ومهما كانت منسوخة فلا يعرج عليها لبطلانها، والذي يدل على كونها منسوخة وجوه خمسة:
أما أولاً: فلأن المسح على الخفين كان سابقاً في مكة، وآية المائدة، نزلت في المدينة، ولا شك أن كل ما كان من الأحكام مدنياً فإنه متأخر عما كان ثابتاً في مكة.
وأما ثانياً: فلما روى زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) قال: لما كان في ولاية عمر جاء سعد بن أبي وقاص فقال لعمر: يا أمير المؤمنين ما لقيت من عمار؟ فقال له: وما ذاك؟ فقال: خرجت وأنا أريدك ومعي الناس وأمرت منادياً ينادي بالصلاة ثم دعوت بطهور فتطهرت، ثم مسحت على خفيَّ وتقدمت أصلي فاعتزلني عمار، فلا هو صلى ولا هو ترك، وجعل ينادي من خلفي: يا سعد، صلاة من غير وضوء، فقال عمر: يا عمار أخرج مما قلت، فقال: نعم، كان المسح قبل المائدة، فقال عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أقول كان المسح من رسول اللّه ً في بيت عائشة والمائدة نزلت في بيتها، فأرسل عمر إلى عائشة، فقالت: كان المسح قبل المائدة. فقل لعمر: والله لأن تقطع قدماي بعقبيهما أحب إليَّ من أن أمسح عليهما. فقال عمر: لا نأخذ بقول امرأة.
وأما ثالثاً: فلما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: أنشد اللّه امرءاً شهد المسح من رسول اللّه ً إلا قام، فقام ثمانية عشر رجلاً كلهم رأى رسول اللّه ً يمسح، وعليه جبة شامية ضيقة اليدين فأخرج يديه من تحتهما ثم مسح على خفيه، فقال عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: سلهم أقبل المائدة أم بعدها؟ فسألهم فقالوا: لا ندري.
وأما رابعاً: فلما روي [عن] أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) [أنه] قال: أنشد اللّه امرءاً مسلماً علم أن المسح كان قبل المائدة إلا قام، فقام اثنان وعشرون رجلاً فتفرق القوم وهؤلاء يقولون: لا نترك ما رأينا، وهولاء يقولون: لا نترك ما رأينا(1).
وأما خامساً: فلما روي سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه لما قيل له: هل مسح رسول اللّه ً على الخفين؟ فقال: اسألوا الذين يزعمون ذلك هل كان قبل المائدة أو بعدها؟ ما مسح رسول اللّه ً بعدها، ولأن أمسح على ظهر عير في الفلاة أحب إليَّ من أن أمسح على الخفين(2).
وأما سادساً: فلما روى الصادق عن أمير المؤمنين أنه قال: سبق الكتاب الخفين(3).
وأما سابعاً: فلما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: سبق الكتاب الخفين.
وأما ثامناً: فلما روي عن عائشة أنها قالت: لأن أحزهما بالسكاكين أحب إليَّ من أن أمسح عليهما(4).
__________
(1) هذا وما قبله حديث واحد، وهو من الأحاديث المشهورة عند رجال الحديث وفي مسنداتهم، وهو مروي هنا عن الإمام زيد من طريق محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، وهذه الرواية بلفظها تتفق مع ما جاء في شرح التجريد وفي الاعتصام نقلاً عنه، وفي الروض النضير.
(2) أخرجه المؤيد بالله عن شيخه أبي العباس الحسني بسنده، كما جاء في الروض النضير ، وقال: وفيه عمرو بن حصين العقيلي وهو ضعيف جداً، ولكنه منجبر بما رواه عبدالله بن أحمد بن حنبل في مسند عبدالله بن عباس، من كتاب أبيه أحمد بن حنبل، فقال:.. وأورده بلفظه، ا.هـ. (روض ج1/433).
(3) أورده في الروض من رواية المؤيد بالله بلفظه، وجاء برواية أخرى، عن (مسند علي من جمع الجوامع) وبلفظ آخر، وقال نهايته: أخرجه ابن جرير. ا.هـ. وأعل بأن الراوي عن علي، مجهول.
(4) وفي رواية أخرى عن عروة: لأن أجذهما أو أجذ أصابعي بالسكين ..إلى آخره. كما جاء في الروض.
وأما تاسعاً: فلما روي عن أبي هريرة: ما أبالي على ظهر خفي مسحت أو على ظهر حماري(1).
وأما عاشراً: فلما روي عن ابن مسعود أنه لما قال: رأيت رسول اللّه ً يمسح على الخفين، فقال له أمير المؤمنين: أكان ذلك قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فسكت ابن مسعود ولم يعد شيئاً ولم يقل: وما الغرض بذلك(2).
فتقرر بما ذكرناه من هذه الأوجه أن المسح كان قبل نزول آية المائدة بشهادة من شهد من هؤلاء الصحابة ولم يرو عن أحد منهم أنه كان بعد نزول المائدة، وفي هذا دلالة على كونها ناسخة له وهو المطلوب.
قالوا: دعواكم النسخ إنما تكون صحيحة إذا كان بين المسح والغسل تنافٍ فلهذا توجه نسخ أحدهما بالآخر، فأما ما يصح الجمع فيه بينهما فلا وجه لتقدير النسخ فيه، ولهذا فإنه يغسلهما عند نزع الخفين ويمسحهما عند سترهما بالخفين فيكون في [ذلك] جمع بين الآية والخبر، وفي ذلك استعمالهما جميعاً وفي المسح استعمال لأحدهما دون الآخر، ومهما أمكن الجمع بينهما كان أولى.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن المعتبر في كون هذا ناسخاً لذلك هو قيام الدلالة الشرعية على ذلك سواء كان بينهما تنافٍ، أولم يكن بينهما تنافٍ، ولهذا فإن صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء وليس بينهما تنافٍ؛ لأنه يمكن الجمع بينهما، وهكذا فإن الصلاة إلى الكعبة ناسخة للصلاة إلى بيت المقدس ومع ذلك فإنه يمكن الجمع بينهما، وكذلك الجَلد والرجم يمكن الجمع بينهما في حق المحصن على قولكم ومع ذلك فإن الرجم ناسخ للجلد على قولكم، إلى غير ذلك من المسائل التي يمكن الجمع فيها بين ما هو ناسخ ومنسوخ.
__________
(1) أورده في الروض عن أبي رزين، قال: قال لي أبو هريرة...إلخ. قال: ورجاله على شرط مسلم. ا.هـ ج1/434.
(2) أخرجه الذهبي عن زاذان. وفي آخره: قال (ابن مسعود): لا أدري. قال (علي): لا دريت.. إنه من كذب على رسول اللّه متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. ا.هـ. (المصدر السابق).
وأما ثانياً: فلأنا لا نسلم عدم المنافاة بينهما بل نقول: إنهما في الحقيقة متنافيان، وبيانه: أن التضييق إذا كان وارداً على أمر مخير فيه بين أمرين فإنه يكون ناسخاً للتخيير، وهذا قد ورد التضييق على التخيير [فيه] فيجب أن يكون ناسخاً له، ومثاله: أن كفارة اليمين مخير فيها بين العتق والكسوة والإطعام، فلو قدرنا أنه تعالى قال: حتمت عليكم التكفير بالعتق لكان نسخاً لما تقرر من التخيير بينها، لأنه لم يمكن للمكلف من قبل الإخلال بالكسوة والإطعام إلا إلى بدل هو: العتق، فلما ضيقه بالعتق جاز له الإخلال بهما على جهة الإطلاق، وهذه إزالة حكم شرعي بحكم مثله شرعي فيجب كونه نسخاً.
وأما ثالثاً: فلأن أمير المؤمنين وغيره من جِلَّة الصحابة وأكابرهم قد صرحوا بكون الآية ناسخة فيجب التعويل على أقوالهم في ذلك من غير مبالاة بالتنافي وعدم التنافي، فبطل ما توهموه.
قالوا: روى جرير بن عبدالله البجلي ) إني رأيت رسول اللّه ً، يمسح على خفيه(2)، وكان جرير هذا إسلامه متأخراً عن نزول المائدة، وفي ذلك صحة ما نريده من كون المسح رخصة عن الغسل.
قلنا: عن هذا أجوبة أربعة:
__________
(1) جرير بن عبدالله بن جابر البجلي القسري، اليماني، أمير يماني، كامل الجمال والحسن، هاجر إلى رسول اللّه ً سنة 9للهجرة، وبايعه على النصح لكل مسلم. مسنده نحو 100 حديث. اتفق الشيخان على 8 منها، وانفرد البخاري بحديثين منها، ومسلم بستة، سكن الكوفة وأرسله علي عليه السلام إلى معاوية فلما وقعت الحرب بينهما خرج جرير، وعدي بن حاتم، وحنظلة الكاتب إلى قرقيسيا وسكنوها وبها مات. (در السحابة 682).
(2) وهو من رواية همام بن الحرث النخعي وغيره: أن جريراً بال ثم توضأ ومسح على الخفين وقال: ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول اللّه يمسح، قالوا: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: وما أسلمت إلا بعد نزول المائدة. ا.هـ. (روض ج1/437).
أما أولاً: فلأن ما ذكره جرير لا يعارض ما رواه أمير المؤمنين وابن عباس وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي اللّه عنهم بل نقول: لا وزن لرواية جرير بالإضافة إلى رواية هؤلاء الجلة من الصحابة رضي اللّه عنهم، بل نقول: روايتهم أرجح والعمل عليها أقوى، والتعارض إنما يكون حيث يكون التساوي فأما ما لا تساوي فيه فلا تعارض في حقه.
وأما ثانياً: فلأن الذي رواه جرير حكاية فعل يمكن حمله على أوجه كثيرة فلا يمكن الاحتجاج بظاهره لما فيه من الاحتمالات الكثيرة، فلعله مسح على الخفين لعلة عارضة مانعة من غسل الرجلين، فليس في ظاهر الحديث أنه مسح على الخفين وهو محدث ثم صلى، وهذا لا حجة فيه إلا إذا كان على هذه الصفة.
وأما ثالثاً: فلعله رآه يمسح على خفيه قبل نزول آية المائدة فروى ذلك وكان إسلامه بعد نزولها فإسلامه بعد نزولها لا يدل على تأخرها بعد المسح.
وأما رابعاً: فجرير هذا ضعيف العدالة مطعون فيه، ويروى أنه كان في أيام أمير المؤمنين وكان قد لحق بمعاوية ووالاه بعد ظهور عداوته وحربه لأمير المؤمنين، ومن هذه حاله فأدنى درجاته سقوط عدالته وعدم قبول روايته؛ لأن من شرط صحة الرواية الوثوق بالعدالة والتحرز من الأمور المكروهة في الدين، فإذا لم يكن فاسقاً بموالاة من ثبت فسقه وتمرده عن الدين وخروجه على أئمة الحق فلا أقل من إسقاط روايته واطراحها.
قالوا: روي عن الحسن البصري أنه قال: حدثني سبعون رجلاً من أصحاب رسول اللّه ً أنه مسح على الخفين وفي هذا دلالة على قوته ووضوحه(1).
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن رواية هؤلاء السبعين ربما كانت قبل نزول آية المائدة كما رويناه من حديث أمير المؤمنين وحديث عمر فلا وجه لتكريره؛ لأن كثرة الرواة لا تبطل ما ذكرناه من الاحتمال.
وأما ثانياً: فإنه وإن رواه سبعون رجلاً من الصحابة فقد روى مثل هذه العدة وأكثر أن المسح كان قبل نزول المائدة كما أشرنا إليه.
وأما ثالثاً: فلأنا نقول: ما تريدون بذكر هذه العدة؟ هل تريدون أن المسألة إجماعية؟ فهذا فاسد، فإن المسألة اجتهادية فلا وجه لذكر الإجماع فيما كان معدوداً في المسائل الاجتهادية، وإن أردتم الاستظهار بهذه العدة والتقوية بها فقد ذكرنا أن مثلها بل أكثر في جانبنا، فإذاً لا وجه لذكر هذه العدة.
قالوا: الحاجة تدعو إلى لبس الخفين، وتلحق المشقة في نزعهما فجاز المسح عليهما كالجبائر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن مشقة نزع الخف بمنزلة حل الجبائر؛ لأن أحدهما مخالف للأخر فلا مقايسة بينهما لظهور التفرقة؛ لأن الجبائر مشدودة على جرح فمن أجل ذلك صعب حلها بخلاف الخف فإنه لا حرج هناك فيهما فافترقا.
__________
(1) وممن رويت عنه الرخصة، في (مصنف ابن أبي شيبة)، وعبدالرزاق الصنعاني بالطرق الحسان، عمر وعلي وعبدالرحمن، وسعد، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبو مسعود، وأنس، والبراء، وحذيفة، وسلمان، والمغيرة، وبلال، وخزيمة، وعمرو بن أمية، وجرير بن عبدالله، وعبدالله بن جزء، وأبو أيوب، وأبو موسى، وسهل بن سعد، وأبو هريرة، ا.هـ. (روض)، وأورد الزمخشري (رحمه اللّه) في الكشاف: وعن عطاء: والله ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول اللّه ً مسح على القدمين. ا.هـ. ج1/598.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بقياس مثله، وهو أنا نقول: عضو من أعضاء الطهارة فلا يجوز المسح فيه على حائل منفصل كالبرقع والقفازين، أو نقول: إحدى الطهارتين فلا يجوز المسح فيها على الخفين كالغسل من الجنابة، أو يقال: مسح على الخفين فلا يكون جائزاً كما لو أدخلهما من غير طهارة، أو يقال: مسح على الخفين فلا يكون مجزياً عن غسل الرجلين كما لو مسح عليهما في اليوم الرابع، إلى غير ذلك من القياسات المعارضة لما ذكروه، فبطل ما توهموه، وقد نقل كثير من أصحاب الشافعي، كابن الصباغ صاحب (الشامل)، والعمراني صاحب (البيان)، عن أمير المؤمنين: المسح على الخفين. ونقل أصحابنا إنكار ذلك عنه عملاً وفتوى، والحكايتان يمكن حملهما على الصحة؛ لأن ما نقلوه يمكن حمله على أنه كان قبل نزول آية المائدة، وما نقله أصحابنا يمكن أن يكون بعد نزول المائدة، فلهذا كان القولان متفقين كما أشرنا إليه.
مسألة: وهل يجب الترتيب في أعضاء الوضوء أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الترتيب في أعضاء الوضوء واجب، فيغسل وجهه ثم يديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، وهذا هو رأي أئمة العترة. قال المؤيد بالله: ولا أحفظ عن أحدٍ منهم خلافاً فيه، وبه قال الشافعي، ومحكي عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وقتادة ).
__________
(1) قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي أبو الخطاب البصري، سمع أنس ابن مالك، وعبدالله بن سرحين، وأبا الطفيل من الصحابة، ومن التابعين: ابن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وعكرمة، وروى عنه: الأعمش، وشعبة، وحميد الطويل، وغيرهم. قيل: كان أحفظ الناس، وكان ثقة، حجة، مأموناً في رواية الحديث، وكان في التفسير لا يتقدمه غيره. ولد سنة 61هـ، ومات سنة 117هـ، روى له أئمتنا كلهم، والجماعة، قال المنصور بالله (عبدالله بن حمزة): كان قتادة ممن يقول بالعدل والتوحيد وهو مشهور عنه. ا.هـ. ملخصاً من تراجم الأزهار ج3/31.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6].. إلى آخر الآية، وتقدير الدلالة من هذه الآية يكون على أوجه خمسة:
أولها: قوله تعالى: {فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ} والفاء للتعقيب، فعطف الغسل على القيام معقباً، فمن قال إنه يبدأ بغسل اليد أو الرجل عقيب قيامه للصلاة فقد خالف ما دل عليه ظاهر القرآن من غير دلالة تدل على تأويله.
وثانيها: أن اللّه تعالى بدأ بغسل الوجه ثم باليدين بعده، والرأس أقرب إلى الوجه فلو كانت البداية به جائزة لذكره [تعالى] بعد الوجه لأنه أقرب إليه، فلما جعل بعده غسل اليدين دل ذلك على أن الترتيب مستحق من جهة التعبد.
وثالثها: أن اللّه تعالى أدخل ممسوحاً بين مغسولين، فأدخل مسح الرأس بين غسل اليدين وغسل الرجلين، وقطع النظير عن النظير، وكان الترتيب اللائق بالإعجاز عطف الشيء على ما يماثله(1)، فلا يقال: رأيت زيداً وضربت بكراً ورأيت عمراً، فلما وسط بين المتماثلين ما يخالفهما دل ذلك على أنه لغرض وفائدة، وليس ذلك إلا لأنه مقصود متعبد.
ورابعها: قوله تعالى: {وَامْسَحُوْا بِرُؤُوْسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.
فقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ}: يشتبه الأمر فيه لاحتماله أن يكون مغسولاً عطفاً على المغسول بقراءة النصب، ويحتمل أن يكون ممسوحاً عطفاً على الممسوح بقراءة الجر، ولو عدل عن هذا الترتيب فقال:فاغسلو وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم. لكان الاحتمال زائلاً، فلما عدل إلى هذا النظام في الآية المورث للاحتمال دل ذلك على أنه إنما عدل إليه لغرض وفائدة، وليس ذلك إلا مراعاة للترتيب الواجب في الوضوء.
__________
(1) يقصد: لو لم تكن هناك حكمة في ترتيبها على ما ورد في الآية الكريمة.
وخامسها: أن الواو موضوعة للترتيب مستعملة في اللغة والشرع والاستعمال والحكم، أما من جهة اللغة، فقد روي عن يحيى بن زياد الفرَّاء )، وأحمد بن يحيى ثعلب )، وأبي عبيد القاسم بن سلام )
__________
(1) أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، الكوفي، النحوي، اللغوي، نزيل بغداد، أحد أعلام المدرسة الكوفية في النحو واللغة له مصنفات فيهما، وروى الحديث في مصنفاته عن: قيس بن الربيع وأبي الأحوص، وهو أجل أصحاب الكسائي، وناظر سيبويه مع الكسائي (في مسألة العقرب والزنبور) وله تصانيف في إعراب القرآن. توفي سنة 207هـ. (مقدمة الأزهار).
(2) أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، كان أبوه من موالي بني شيبان ويغلب أن يكون فارسي الأصل، ولد ببغداد سنة200هـ، وألحقه أبوه بالكتاب فتعلم فيه الكتابة، وحفظ القرآن، وبعض الأشعار، وانطلق إلى حلقات العلماء، وخاصة علماء اللغة والنحو وهو في التاسعة، وعكف على حلقة سلمة بن عاصم حيث كان يملي كتب الفرَّاء. وفي اللغة حلقات ابن الأعرابي، وأخذ كتب الأصمعي عن تلميذه أبي نصر ابن حاتم، وكتب كثير من العلماء في النحو واللغة، وتزود بالكثير من القراءات في الحديث، والفقه، والشعر، والأخبار. وفي بعض الروايات عنه أنه سمع مائة ألف حديث، وحضر حلقات ابن حنبل أكبر المحدثين والفقهاء في عصره، وأخذ في الأخبار والشعر عن جماعة من مشاهيرهما ومنهم عمر بن شبه، وابن سلام الجمحي، وكان طوال حياته في بحبوحة من العيش لما كان يفيض عليه من هبات أصحاب الجاه والثراء والأمراء، له كثير من المؤلفات لم يصل منها إلا كتابه (المجالس)،توفي سنة 291هـ (المدارس النحوية244 معجم الأدباء 5/102).
(3) أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي، ذكره الشيرازي في فقهاء بغداد، ولقَّبه مرة بأبي عبدالله ومرة بأبي عبيد، وقال: قال إبراهيم الحربي: كان أبو عبيد كأنه جبل نُفِخَ فيه الروح يحسن كل شيء، ولي القضاء لطرسوس، ومات بمكة سنة 224هـ، عن سبع وستين سنة. (طبقات الفقهاء).
: أنها موضوعة للترتيب لغة، ورووا ذلك عن العرب، وليس عمدتنا في مثل هذه الأمور إلا نقلهم عن أهل اللغة(1)
__________
(1) قال ابن هشام في المغني، عن الواو العاطفة: إن معناها مطلق الجمع، فتعطف الشيء على مصاحبه وعلى سابقه وعلى لاحقه، وأورد عن ابن مالك: وكونها للمعية راجح وللترتيب كثير ولعكسه قليل. وقال ابن هشام: وقول السيرافي: إن النحويين واللغويين أجمعوا على أنها لا تفيد الترتيب مردود، بل قال بإفادتها إياه، قطرب، والربعي، والفراء، وثعلب، وأبو عمرو الزاهد، وهشام، والشافعي، ونقل الإمام (الجويني) في البرهان عن بعض الحنفية: أنها للمعية. ا.هـ. (مغني ج1/391).
…وقال ابن عقيل في شرحه: قالوا ولمطلق الجمع عند البصريين، فإذا قلت: جاء زيد وعمرو، دل ذلك على إجتماعهما في نسبة المجيء إليهما، واحتمل كون عمرو جاء بعد زيد، أو جاء قبله، أو جاء مصاحباً له، وإنما يتبين ذلك بالقرينة، إلى أن قال: ومذهب الكوفيين أنها للترتيب، ورُدَّ بقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَى}. وجاء في الهامش: لو كان الواو دالة على الترتيب، كما يقول الكوفيون، لكان هذا الكلام اعترافاً من الكفار بالبعث بعد الموت... إلخ. ا.هـ. (شرح ابن عقيل ج3/226).
(تنبيه): كون الواو العاطفة للترتيب ليس رأي المؤلف كما قد يفهم من السياق هنا، بل يرى أنها ليست للترتيب كما سيأتي، ولكنه يرى وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء بالأدلة الشرعية التي أوردها.
، وأما من جهة الشرع، فلما روي عن ابن عباس أن رجلاً سأله فقال: يابن عباس هل أبدأ بالصفا أو بالمروة؟ فقال: ابدأ بما بدأه اللّه تعالى وخذ ذلك من القرآن فإنه أجدر أن يحفظ قال اللّه تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ}.[البقرة:158] فالصفا قبل المروة، ولما روى جابر أن الرسول ً لما دنا من الصفا قرأ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ }، وقال: (( أبدأ بما بدأ اللّه به )). فبدأ بالصفا.
ووجه الاحتجاج بما ذكرناه من هذه الأخبار: هو أنه عليه السلام جعل المقدم في اللفظ هو المقدم في الحكم، والمؤخر في اللفظ هو المؤخر في الحكم مع الواو، وفي هذا دلالة على كونها مرتبة؛ لأنها لوكانت غير مرتبة لكان لا معنى لقوله: (( أبدأ بما بدأ اللّه به)) لأنهما أعني: الصفا والمروة في الحكم على سواء إذا كانت غير مرتبة، وأما من جهة الاستعمال فإنه يقال: دخلت البصرة والكوفة، فإنه دال على أنه دخل إحداهما قبل الأخرى لأنه يستحيل أن يدخلهما جميعاً [في وقت واحد]، وأما من جهة الحكم فلأنه إذا قال لامرأته: أنت طالق وطالق، فلو كانت الواو للجمع من غير ترتيب لوجب تطليقتان، كما إذا قال: أنت طالق تطليقة معها أخرى، فإنه يقع على أصلهم ثنتان، وفي مسألتنا قد أجمعنا على أنه يقع واحدة، فدل ذلك على أنها للترتيب لا للجمع، وقد احتج القاضي زيد من أصحابنا على أن الواو مرتبة، بما روي عن الرسول ً أنه سمع رجلاً يخطب فقال: من يطع اللّه ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوي، فقال له الرسول ً: (( بئس الخطيب أنت ، هلا قلت: ومن يعص اللّه ورسوله فقد غوى)) فقال: لوكانت الواو للجمع لا للترتيب ما نهاه ولا أنكر عليه؛ لأنه قد جمع بينهما، فلما نهى عن ذلك دل على أنها للترتيب، وهذه غفلة وإهمال للنظر لأمرين:
أما أولاً: فلأن الواو غير مذكورة في الكلام فلا وجه لإيراده حجة فيها، فالاحتجاج بما هو خال عن صورة المسألة وحقيقتها يكون غفلة وذهولاً عن المراد لا محالة.
وأما ثانياً: فلأن الإنكار إنما وقع من جهة جمعهما في ضمير واحد، وهو قوله: ومن يعصهما فقد غوى، فقد ساوى بينهما في صورة الضمير، والله تعالى أجل وأعلى عن المساواة لخلقه من جهة اللفظ ومن جهة الحقيقة، فحصل من هذا أن الإنكار إنما وقع من أجل المساواة في الضمير وليس من الواو في إيراد ولا إصدار ولا لها علقة في الكلام، فضعف ما قاله القاضي زيد (رحمه اللّه تعالى). والعجب من غفلته عن هذا على جليته وظهو ره فهذا تقرير مقالة الترتيب.
المذهب الثاني: أنها غير مرتبة، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول مالك، والثوري، والأوزاعي، وابن مسعود من الصحابة، ومن التابعين: الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والزهري، والنخعي، ومكحول، وحكي عن داود من أهل الظاهر، والمزني من أصحاب الشافعي.
والحجة لهم على ذلك: ما روى ابن عباس أن الرسول ً توضأ ثم غسل وجهه ويديه، ثم رجليه، ثم مسح رأسه ووجهه.
والحجة من هذا الخبر: هو أنه مسح رأسه بعد غسل رجليه، فلو كان الوضوء مرتباً على ما هو في ظاهر الآية إذاً لم يكن مجزياً؛ لأنه قد خالف ما في ظاهر الآية، وفي هذا دلالة على [أن] الترتيب غير مراعى وهو المقصود.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن تابعهم من علماء الأمة.
والحجة على ذلك: ما قلناه عنهم ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: خبرية، وهو ما روي أنه ً لما فرغ من الوضوء مرة مرة قال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة من دونه)). وفي رواية أخرى: (( لا يقبل اللّه الصلاة إلا به )). فليس يخلو الحال في ذلك إما بقوله في وضوء مرتب أو غير مرتب، فإن قال ذلك في وضوء غير مرتب فهو باطل؛ لأنه لوكان كذلك لوجب أن تكون الصلاة بوضوء مرتب غير مقبولة وهو خلاف الإجماع، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون مراده بوضوء مرتب فيجب القضاء بوجوبه وهو المقصود.
الحجة الثانية: قياسية، وحاصلها أن الوضوء عبادة تشتمل على أفعال متغايرة مرتبط بعضها ببعض، فيجب فيها الترتيب كالصلاة والحج، ولنفسر مقصودنا بهذه القيود.
فقولنا: عبادة. نحترز به عن غسل النجاسة فإنه ليس عبادة.
وقولنا: تشتمل على أفعال، نحترز به عن الخطبة فإنها مشتملة على أقوال متغايرة فلا يجب ترتيبها.
وقولنا: متغايرة يعني فرضاً، ونفلاً، ومسحاً، وغسلاً، نحترز به عن غسل الجنابة والنجاسة والعضو الواحد من أعضاء الوضوء فإنها مشتملة على أفعال، ولكنها غير متغايرة؛ لأنها مشتملة على فعل واجب وهو الغسل لا غير.
وقولنا: مرتبط بعضها ببعض، نحترز به، عن: فعل الصلاة والزكاة فإنهما مشتملان على أفعال متغايرة لكن بعضها غير مرتبط بالبعض فلهذا لم يجب بينها ترتيب.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: روى ابن عباس رضي اللّه عنه أن الرسول ً توضأ فغسل وجهه ويديه، ثم رجليه ثم مسح رأسه(1) وفي هذا بطلان الترتيب كما قلناه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد قررنا وجوب الترتيب بالأمور الشرعية قولاً وفعلاً فلا يعارض بفعل لا ندري كيف كان وقوعه لما فيه من الاحتمالات.
__________
(1) أورده في الروض نقلاً عن الانتصار. وفيه (الروض): ما رواه أحمد، وأبو داود عن المقدام بن معدي كرب، أن رسول اللّه ً توضأ فغسل وجهه، ثم ذراعيه، ثم تمضمض واستنشق. ا.هـ. ج10/234.
وأما ثانياً: فلأنه يمكن أن يحمل فعله هذا على أنه وقع في طهارة مجددة ولم يكن في طهارة عن حدث، فلا تكون فيه حجة على ما زعموه.
قالوا: روت الرّبيّع بنت معوذ بن عفراء عن الرسول ً أنه مسح رأسه بفضل وضوئه، وفي هذا دلالة على عدم الترتيب؛ لأنه مسحه بعد فراغه من الوضوء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الحديث الواقع في سنن أبي داود عن الربيّع هو أنه ً مسح رأسه بفضل ما في يده(1) فما ذكروه على ناقله تصحيحه، وهي إنما روت أحاديث في مسح قد ذكرناها من قبل فأغنى عن تكريرها.
وأما ثانياً: فلأن الغرض بما ذكره أنه إنما مسحه على جهة التبرك بأثر العبادة، وهو الوضوء، لأن الغرض هو تأدية الفرض كما وردت السنة بترك التنشيف عن أثر الوضوء لما كان أثر العبادة.
قالوا: ما سقط فرضه دفعة واحدة لم يجب فيه الترتيب، كالغسل واليمين والشمال.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن الوضوء يسقط فرضه دفعة واحدة، بل يجب فيه الترتيب مرة بعد أخرى.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الغسل أنه كالعضو الواحد، ولهذا فإنه يسقط فرضه بماء واحد ويخالف ما ذكرناه في أعضاء الوضوء فإنها متغايرة ولهذا فإنه لا يستعمل ماء عضوٍ في عضوٍ آخر فافترقا.
وأما ثالثاً: فلأنا لا نسلم ما ذكروه في اليمين واليسار بل يجب الترتيب بينهما كما سنوضح القول فيهما بمعونة اللّه تعالى، ثم لو سلمنا أنه لا ترتيب بينهما كما زعموه وكما هو رأيهم فيهما، فلأنهما صارا كالعضو الواحد، ولهذا جمع بينهما المسلمون وعدوهما عضواً واحداً حيث قالوا: أعضاء الطهارة أربعة: اليدان، والرجلان، والوجه، والرأس.
ومن وجه آخر: وهو أن الماسح على الخف على مذهبكم إذا ظهرت عن الستر بالخف إحداهما بطل المسح فيهما لما كانا كالعضو الواحد فلا جرم لم يجب الترتيب بينهما بخلاف أعضاء الوضوء فإنها أعضاء متغايرة مرتبط بعضها ببعض فلهذا وجب الترتيب بينها كالصلاة.
__________
(1) وهو عند الدارقطني.
قالوا: ما جاز أن ينفرد بعضه عن بعض لم يجب فيه الترتيب كإزالة النجاسة، وتفرقة الزكاة، والقطع في المحاربة، لا يجب فيها الترتيب لما كان بعضها منفصلاً عن بعض.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلأن الظهر والعصر ينفرد أحدهما عن الآخر، ثم إن الترتيب بينهما واجب عند الاجتماع، فهكذا حال أعضاء الوضوء ينفرد بعضها عن بعض، فإذا كانت مجتمعة وجب الترتيب بينها وهو المطلوب.
وأما ثانياً: فلأن إزالة النجاسة إنما بطل الترتيب بينها لما كان كل جزء منها عبادة على الانفراد، فلهذا لم يشترط فيها الترتيب وهكذا حال تفرقة الزكاة والقطع في المحاربة فهما كالصلوات في تعددها وكونها متغايرة، وأعضاء الوضوء عبادة واحدة يرتبط بعضها ببعض فصارت كالصلاة الواحدة في الاتصال والترتيب بينها فافترقا.
ومن وجه ثالث: وهو أن القصد في إزالة النجاسة إنما هو تركها واجتنابها والقصد بالزكاة إيصالها إلى الفقراء، والقصد في قطع المحارب وصلبه وقطع يده إنما هو العقوبة، وذلك يحصل من غير ترتيب، بخلاف الوضوء فإن المقصود به التعبد فلهذا اعتبر فيه جهة التعبد وهو الترتيب كالصلاة والحج.
دقيقة: اعلم أنا قد ذكرنا أن المختار هو الترتيب في أعضاء الوضوء ونصرناه بالأدلة الشرعية التي أسلفناها وأجبنا عن شكوك المخالفين لنا في هذه المسألة، فأما الدلالة على الترتيب من جهة أن الواو دالة على الترتيب وموضوعة له كما ذكره بعض أصحابنا فهو ضعيف لأوجه خمسة:
أما أولاً: فلأنها لو كانت للترتيب لما جاز ورودها في المساواة كقوله تعالى: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ }[الجاثية:21]. وكقولك: تضارب زيد وعمر. فإن ما هذه حاله لا يجوز ورود الفاء فيه لما كانت مرتبة؛ لأنه يزول حكم الاستواء.
وأما ثانياً: فلأنها قد وردت عاطفة للمتقدم على ما كان متأخراً كقوله تعالى: {نَمُوْتُ وَنَحْيَى }[المؤمنون:37]. وكقوله تعالى:{وَعِيْسَى وَأَيُّوْبَ }[النساء:163]. فلو كانت موضوعة للترتيب كما زعموا لما جاز ذلك كما لا يجوز في الفاء.
وأما ثالثاً: فقوله تعالى:{وَادْخُلُوْا الْبَابَ سُجَّدَاً وَقُوْلُوْا حِطَّةً }[البقرة:58]. والقصة واحدة فلو كانت مرتبة لكان المعنى مختلاً.
وأما رابعاً: فلأن أكثر النحاة وأهل اللغة كالخليل، وسيبويه، والمبرد، والمازني )، من نحاة البصرة وأكثر نحاة الكوفة كالكسائي وغيره، على أنها غير مرتبة وهكذا المتكلمون وأكثر الفقهاء، ولم يخالف في ذلك إلا ما يحكى عن الفرَّاء يحيى بن زياد، وثعلب، وأبي عبيد، ومن الفقهاء: الشافعي، فإنهم زعموا أنها مرتبة.
وأما خامساً: فقول الشاعر:
حتى إِذَا رَجَبٌ تَوَلى فَانقضى ... وَجمَادَيَانِ وجاء شهر مُقْبِلُ
فعطف جمادى على رجب وهما قبله، وفي هذا دلالة على أنها غير مرتبة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن دلالة الترتيب في الوضوء ليست مأخوذة من الواو، وإنما هي مأخوذة من أدلة خارجة كما قررناه من قبل، فأما وضع الواو فليس دالاً على الترتيب بحال، وترتيبها إنما يكون على جهة المجاز دون الحقيقة، والله أعلم بالصواب.
مسألة: وهل يجب الترتيب بين اليمنى واليسرى من اليد والرجل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الترتيب بينهما واجب، فتقدَّم اليمنى على اليسرى في اليد والرجل وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الإمامية.
__________
(1) أبو عثمان بكر المازني، من أعلام اللغة في البصرة، أخذ علم العربية عن الأخفش، وروى عن أبي عبيدة والأصمعي، وتعلم عليه المبرد، والفضل اليزيدي، كان إماماً في العربية، وله مؤلفان هما: كتاب (التصريف) وكتاب (ما يلحن فيه العامة). ا.هـ.(أعلام المنجد 628).
والحجة على ذلك: ما قدمناه من وجوب الترتيب بين الأعضاء في الوضوء، فإن ما دل على وجوب ذلك فهو بعينه دال على وجوب الترتيب بين اليمنى واليسرى من اليد والرجل، وهو قوله عليه السلام بعد توضيه مرة مرة: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة من دونه )).
الحجة الثانية: ما رواه أبو هريرة عن الرسول ً، وهو قوله: (( إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم ))(1). إلى غير ذلك من الأدلة على وجوب الترتيب بينهما.
المذهب الثاني: أن ذلك غير واجب وإنما هو مستحب، وهذا هو: رأي الشافعي، فأما أبو حنيفة فإنه مخالف في الأمرين جميعاً كما مر تقريره.
والحجة له على ذلك: قوله تعالى: {فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}. ولم يفصل بين اليمنى واليسرى، وقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} ولم يفصل بينهما، وفي هذا دلالة على أنه لا ترتيب بينهما بظاهر الآية.
والمختار: ما قاله أئمة العترة من وجوب الترتيب بينهما، ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم، ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: قوله عليه السلام: (( إذا لبستم أو توضأتم فابدأوا بميامنكم))(2). فهذا أمر، والأمر بظاهره دال على الوجوب فلا يحمل على الندب إلا لدلالة.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنهما عضوان منفصلان يؤخذ لكل واحد منهما ماء جديدٌ فوجب الترتيب بينهما كالوجه واليدين.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: ظاهر الآية دال على بطلان الترتيب بينهما كما قررناه.
__________
(1) حكاه في أصول الأحكام والشفاء والمهذب، ونسبه في التلخيص إلى: أحمد، وأبي داود، وابن ماجة، وابن خزيمة، وابن حبان. وزاد ابن حبان، والبيهقي، والطبراني: ((إذا لبستم..)) الحديث كما سيأتي. ا.هـ. روض.
(2) أورده في الاعتصام، وشرح التجريد.
قلنا: الآية مجملة في كيفية الغسل باليد والرجل وبيانها موكول إلى فعل الرسول ً، وقد بينه بما فعله من الترتيب بينهما، ثم قال بعد ذلك: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به )) والمعلوم أنه لم يتوض إلا مرتباً لليمنى على اليسرى من اليد والرجل فدل ذلك على وجوبه.
قالوا: روت عائشة (رضي اللّه عنها) أن النبي ً كان يحب التيامن في كل شيء حتى في وضوئه وانتعاله، وما كان مستحباً فليس واجباً، فدل على أن البداية باليمين في اليد والرجل إنما كان على جهة الندب.
قلنا: ليس في هذا إلا أنه بدأ بيمينه من يده ورجله، والبداية بهما لا تدل على عدم وجوب الترتيب بينهما كما زعموا.
ومن وجه آخر: وهو أن المحبة قد ترد على جهة الوجوب كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْتَّوَّابِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِيْنَ}[البقرة:222]. فالمحبة لا تدل على عدم الوجوب؛ لأن قبول التوبة واجب، والتطهر واجب، فالمحبة لا تدل على عدم ذلك(1).
قالوا: روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: ما أبالي بيميني بدأت أو بشمالي إذا أكملت الوضوء(2)، وفي هذا دلالة على كونه غير واجب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه محمول على أنه عليه السلام أراد غسل الكفين عند إدخالهما الإناء؛ لأن الشرع لم يدل على ترتيب بينهما.
__________
(1) ربما كان الأولى القول: لأن الإقبال على التوبة واجب، أو لأن التوبة واجبة...إلخ. حتى تكون المحبة من اللّه بمعنى إيجاب التوبة والتطهر على العبد؛ لأن مفهوم قول المؤلف: (لأن قبول التوبة واجب...)، يجعل الوجوب هنا على اللّه تعالى، وربما كان الخطأ من الناسخ، والله أعلم.
(2) نسبه في التلخيص إلى الدارقطني وهو في جواهر الأخبار وأصول الأحكام عن علي عليه السلام. وفي الروض: رواه الدارقطني، والبيهقي من رواية زياد مولى بني مخزوم، قال ابن معين فيه: لا شيء، وهو مقل لم يرو له أحد من الستة. ا.هـ. ج1/233.
وأما ثانياً: فلأنه عليه السلام أراد أن ذلك جائز من جهة العقل خلا أن الشرع دل على وجوبه.
واعلم أن كثيراً من نظار فقهاء أصحاب الشافعي نقلوا عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه)، القول: بأن الترتيب في أعضاء الوضوء غير واجب، ولم أعثر على هذه الحكاية في شيء من كتب أصحابنا ولا حكوها عنه، بل المنقول خلافها وهو وجوب الترتيب، ولا شك أن أولاد الرجل أعرف بمذهب أبيهم من غيرهم من الأجانب، فلهذا كان ما نقله أصحابنا هو الأعرف والأشهر من مذهبه، ويمكن أن يكونوا قد عثروا على ذلك بل يكون له في المسألة قولان، فالمسألة لا محالة اجتهادية، وقد حكى هذه المقالة منهم ابن الصباغ صاحب (الشامل) والعمراني صاحب (البيان)، ويجب حملها على ما ذكرناه.
فأما غسل الفرجين هل يعدان من أعضاء الوضوء أم لا؟ فقد قررناه في باب الاستنجاء، وذكرنا المختار، والانتصار له، وقد نص على وجوبه الهادي وصرح بكونهما أعني الفرجين عضوين(1) من أعضاء الوضوء وأظهرنا الحق فيه فأغنى عن الإعادة.
مسألة: وهل تعد الملة من فرائض الوضوء أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها غير معدودة من فروضه، وهذا هو قول الأكثر من أئمة العترة، وهو قول الفقهاء الحنفية، والشافعية، والمالكية.
والحجة على ذلك: الآية والخبر، فأما الآية فقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}. ولم يذكر الملة، وأما الخبر، فقوله ً لمن علمه الوضوء: (( توض كما أمرك اللّه فاغسل وجهك ويديك) ) ولم يذكر فيه الملة.
المذهب الثاني: أنها مشترطة في فروضه، وهذا شيء يحكى عن السيد أبي العباس، حكاه عنه السيد أبو طالب حيث قال: ومن أصحابنا من عدَّ من فرائضه الملَّة.
__________
(1) صوابه: عضواً، باعتبار عَدّ الفقهاء لأعضاء الوضوء أربعة، ومنها: اليدان عضو، والرجلان عضو، بدون تثنية.
والحجة له على ما ذكره: هو أن ما دل على وجوب التأسي فهو بعينه دال على ما ذكرناه من اشتراطه الملة؛ لأنا لا نريد بالملَّة إلا ملَّة الرسول ً، وهو قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوْهُ}[الأحزاب:21]. وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأعراف:158]. إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على وجوب الاتباع والتأسي به.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العترة ومن تابعهم من علماء الأمة [من عدم اشتراط الملة في الوضوء].
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم؛ ونزيد هاهنا: وهو أن المعتمد في تقرير الفروض في الوضوء إنما هو تقرير الشرع ودلالته من جهة الكتاب، أو من جهة السنة، أو غير ذلك من الأدلة الشرعية، وهاهنا لم يدل دليل على الملة في شيء من ذلك، فلهذا قضينا بكونها غير واجبة ولا مشترطة في الوضوء، فلو جوزنا إثباتها من غير دلالة لأدى ذلك إلى اثبات أمور كثيرة وهذا لا قائل به.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد ))(1). يعني أن كل فعل من الأفعال ليس على ملته وشريعته فهو مردود على فاعله.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد بالخبر أن كل فعل من الأفعال ليس على شريعته وما جاء به من أمر التوحيد والاعتراف بالألهية، فمن ليس على هذه الصفة فعمله رد عليه، لا يزن عند اللّه قلامة ظفر.
وأما ثانياً: فلأن المراد بالملة الدين والإسلام، وما هذا حاله فهو شرط في جميع العبادات كلها؛ إذ لا يختص بالوضوء وحده وإنما هو عام في جميع ما يفتقر إلى النية من الأفعال، ولهذا فإن ما هذا حاله فلا تكون تأديته من جهة الكفار، فبطل ما توهموه من ذلك. والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري وغيره من أهل السنن، وروي عن عائشة، وجاء في (اللسان) ج3/173 بلفظ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)). أي مردود عليه. ا.هـ.
واعلم أن كلام السيد أبي العباس في اشتراط الملَّة يحتمل وجوهاً ثلاثة:
أولها: أن يكون مراده التأسي بالرسول ً واتباعه.
وثانيها: الدين والإسلام.
وثالثها: التوحيد والنبوة على الخصوص، وهذه الأمور وإن كانت واجبة فلا وجه لِعَدِّهَا من فروض الوضوء؛ لأنها غير مختصة بها، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن فرائض الوضوء ضربان مجمع عليه ومختلف فيه:
فالضرب الأول منها: مجمع عليه بين علماء العترة وفقهاء الأمة لا يقع فيه خلاف، وهو ما تضمنته الآية، وهو الأعضاء الأربعة: الوجه واليدان، والرجلان، ومسح الرأس، وقد قررنا ذكر كل واحد من هذه الأعضاء، وما فيه من المسائل الفقهية، وميزنا مواضع الإجماع عن مواضع الخلاف فيه.
الضرب الثاني: ما هو مختلف فيه بين أئمة العترة وفقهاء الأمة، وهذا نحو غسل الفرجين، والنية، والترتيب، والملة والموالاة في أعضاء الوضوء، وقد ذكرنا كل واحد منها، وأوضحنا الخلاف فيه، وقررنا المختار من ذلك، والانتصار له.
وقد تم الكلام على الفصل الأول وهو بيان المفروض في الوضوء وبالله التوفيق.
---
الفصل الثاني في بيان السنن المشروعة في الوضوء
والسنة في اللغة: هي الطريقة والسيرة. قال أبو ذؤيب الهُذل ي (1):
فلا تعجبن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
وفي مصطلح الفقهاء: عبارة عما ليس واجباً من الأفعال ويجوز تركه، واشتقاقه مما يكون متكرراً لأن المسنون ما واظب الرسول على فعله وتكرر منه وجوده، وهو مخالف للمستحب من الأفعال فإنه لا يشترط فيه التكرر، ومنه قيل: سنن الطريق لما كان السير يتكرر فيه، وقيل للحجر: مسن لما تكرر فيها شحذ الشفرة، وجملة ما نذكره من ذلك ثلاث وعشرون [سُنَّةً]:
__________
(1) خويلد بن خالد الهذلي شاعر مخضرم قدم المدينة بعد وفاة النبي ً فأسلم ثم خرج إلى مصر والتحق بالجيش الفاتح، وقيل: إنه عاد مع عبدالله بن الزبير والجماعة ببشرى الفتح، مات بمصر، وقيل: في أفريقية، وهو في شرخ شبابه ويُروى أن قبره في جزيرة صقلية. ا.هـ. (الموسوعة الإسلامية ج3/36).
---
السُّنة الأولى: السواك
لما روي في تفسير قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيْمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ }[البقرة:124]. وتلك الكلمات عشر، خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فالتي في الرأس: السواك، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وفرق الشعر، والتي في الجسد: الختان، وحلق العانة، والاستنجاء، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: هل يكون السواك واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير واجب وهذا هو رأي أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي.
والحجة على ذلك: قوله ً: (( لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك))(1). فلو كان واجباً لأمرهم به، شق عليهم أو لم يشق، كسائر الواجبات المكلف بها(2).
المذهب الثاني: أنه واجب وهذا عن داود، وطبقته من أهل الظاهر.
__________
(1) مروي عن أبي هريرة، أخرجه مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، زاد في رواية: ((.. مع كل وضوء)). وفي أخرى: ((.. عند كل صلاة)). و ((.. مع كل صلاة)). قال في الجواهر: أخرجه الستة واللفظ للبخاري. وجاء الحديث من طريق أخرى عن زيد بن خالد الجهني مضافاً إليه: ((.. عند كل صلاة)).
(2) لا يفهم كلام المؤلف هنا على أنه أراد به إلغاء السبب المصرح به في الحديث الشريف لعدم إيجاب السواك، وهو المشقة، ولكن لعل المؤلف يرى أن المعنى المقصود في الحديث هو أن الرسول ً لولا أن يشق على أمته بفرض ما ليس واجباً، لأمرهم بالسواك، وهنا تكون العلة أو السبب في عدم فرضه، عدم كونه واجباً، والله أعلم.
والحجة على ذلك: ما روى العباس عن النبي ً أنه قال: (( استاكوا))(1). والأمر ظاهره الوجوب وقوله ً: (( استاكوا عرضاً ))(2). إلى غير ذلك من الأحاديث التي يذكر فيها الأمر.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة.
والحجة: ما حكيناه عنهم؛ ونزيد هاهنا أموراً تدل على كونه سنة.
الحجة الأولى: قوله ً (( ما زال جبريل يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يحفى دردري))(3). والدردر من قعر الأسنان والإحفاء إزالة لحمها.
الحجة الثانية: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( السواك مطهرة للفم))(4).
الحجة الثالثة: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( السواك يزيد في الفصاحة ))(5).
__________
(1) تمامه: ((.. ولا تدخلوا علي قلحاً)). وفيه: ((استاكوا عرضاً وادهنوا غباً، واكتحلوا وتراً)).
(2) تمامه: ((.. ولا تستاكوا طولاً)). حكي هذا الخبر وسابقه في الشفاء وأوردهما في البحر وجاء في الجواهر: ذكره في التلخيص بلفظ: ((إذا شربتم فاشربوا مصاً، وإذا استكتم فاستاكوا عرضاً)). ونسبه إلى أبي داود في مراسيله وأشار إلى ضعفه.
(3) وجاء بمعناه في الاعتصام ما روى الطبراني في الكبير، عن ابن عباس أن النبي ً قال: ((أُمرت بالسواك حتى خشيت على أسناني)). ذكره السيوطي في الجامع الصغير ج1/224. ا.هـ.
(4) رواية الحديث عن عائشة بلفظ: ((السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)). أخرجه النسائي وقد تقدم.
(5) روي عن علي عليه السلام عن النبي ً أنه ذكر في السواك اثنتي عشرة خصلة: ((هو من السنة، ومطهرة للفم، ويرضي الرحمن، ويبيض الأسنان، ويذهب بالحفره، ويشد اللثة، ويشهي الطعام، ويذهب بالبلغم، ويزيد في الحفظ، ويضاعف الحسنات، وتفرح به الملائكة، ويقرب الملائكة)). أورده في الاعتصام والشفاء. قال في الاعتصام والحفر بالفتح: وجع يصيب الأسنان في أصولها.
الحجة الرابعة: ما روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: (السواك يجلب الرزق). وهذا من الأمور التوقيفية التي علمها من جهة الرسول ً.
الحجة الخامسة: ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال: في السواك عشر خصال: مطهرة للفم، مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، مسخطة للشيطان، مذهب للحفر: (والحفر بالحاء المهملة والفاء والراء بسكون العين وهي اللغة الكثيرة(1) وبفتحها لغة بني أسد، وهو فساد في أصول الأسنان)(2)، ويجلو البصر، ويشد اللثة، ويقطع البلغم، ويطيب الفم، ويزيد في الحسنات، وهو من السنة. فهذه الأمور كلها دالة على أنه مستحب غير واجب.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: قد أمر به والأمر ظاهره الوجوب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن ظاهر الأمر الوجوب فما برهانكم على ذلك؟ وإنما هو نص في الطلب متردد بين الوجوب والندب فلا يحمل على أحدهما إلا لدلالة ولا دلالة هاهنا على وجوبه فبطل ما عولوا عليه.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا كون ظاهر الأمر للوجوب، لكنا نخصه بهذه الأحاديث التي ذكرناها، وأنها دالة على كونه مستحباً.
الفرع الثاني: إذا تقرر كونه سنة فهل يختص بالوضوء، أو يكون فيه وفي غيره سنة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه إنما يسن عند الوضوء، وهذا هو الظاهر من مذاهب أئمة العترة، وهو أحد قولي الشافعي.
__________
(1) الاستعمال الشائع في اللغة.
(2) هكذا في الأصل، ورد توضيح الحفر أثناء الحديث.
والحجة على ذلك: ما روى زيد بن علي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: قال رسول اللّه ً: (( من أطاق السواك مع الطهور فلا يدعه))(1).
وثانيهما: أنه لا يختص الوضوء بل يكون مسنوناً عند كل صلاة، وهذا شيء يحكى عن الشافعي في أحد قوليه.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( أفواهكم طرق القرآن، فطهروها بالسواك))(2). وهذا عام سواء كان متوضئاً أو غير متوضٍ.
__________
(1) رواه في مجموع الإمام زيد، وفي أمالي أحمد بن عيسى، عن زيد ابن علي، وفي شرح التجريد: وهو آخر حديث: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)). كما جاء في الاعتصام قال: وأخرج مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه ً: ((لولا أن أشق ..))الحديث. ولم يذكر: (ومن أطاق..). ا.هـ.
(2) رواه في شرح التجريد بسنده إلى علي عليه السلام.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من كونه مختصاً بالوضوء، ويدل على ذلك ما روي عن النبي ً أنه قال: (( يا علي عليك بتلاوة القرآن على كل حال وعليك بالسواك لكل صلاة))(1). فخص الصلاة، والصلاة إنما تكون بالوضوء، فلهذا كان مخصوصاً بالوضوء، ومما يقوي الوجه الأول قوله ً: (( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)). ولم يفصل بين الوضوء وغيره، وقوله عليه السلام لأمير المؤمنين: (( يا علي في السواك اثنتا عشرة خصلة: هو من السنة، وهو مطهرة للفم، ويرضي الرحمن، ويبيض الأسنان، ويذهب بالحفر، ويشد اللثة، ويشهي الطعام، ويذهب بالبلغم، ويزيد في الحفظ، ويضاعف الحسنات، وتفرح به الملائكة، ويقرب الملائكة)). ولم يفصل في ذلك بين أن يكون مع الوضوء أو من غير وضوء، وروي عن أصحاب رسول اللّه ً، أن السواك كان على أذن أحدهم بمنزلة القلم من أذن الكاتب، وقوله ً: (( صلاة بسواك خير من سبعين صلاة من غير سواك))(2). والمعنى في هذا أن صلاة بسواك ثوابها أكثر من ثواب سبعين صلاة بغير سواك، ولم يفصل هناك بين أن يكون عند الوضوء أو بعده.
الفرع الثالث: أن السواك يستحب عند خمسة أحوال:
__________
(1) أخرجه الموفق بالله في كتاب (الاعتبار وسلوة العارفين) في باب كلمات النبي ً لعلي عليه السلام.
(2) أورده في الاعتصام بلفظه نقلاً عن الشفاء.
أولها: عند القيام إلى الصلاة، لما روى حنظلة بن أبي عامر ) أن الرسول ً أُمِرَ بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أُمِرَ بالسواك لكل صلاة، فكان ابن عمر يرى أن له قوة فكان لا يدع الوضوء لكل صلاة. قال أبو سلمة ): رأيت زيداً يجلس في المسجد، وإن السواك لعلى أذنه موضع القلم من أذن الكاتب فكلما قام إلى الصلاة استاك.
وثانيهما: عند اصفرار الأسنان، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( استاكوا لا تدخلوا عليَّ قُلَحاً )). والقلح: بالقاف والحاء المهملة هو اصفرار الأسنان وعينه مفتوحة.
وثالثها: عند تغير الفم، وتغيره يكون بأكل الثوم والبصل والكراث وقد يتغير بالأزم، والأزم: بالزاي قد يكون بطول إطباق الفم وقد يكون بالجوع، ولهذا يقال: نعم الدواء الأزم، يريد الجوع.
__________
(1) حنظلة بن أبي عامر عمرو بن صيفي الأنصاري، الأوسي، المعروف بالغسيل لأنه استشهد يوم أحد، فقال الرسول ً: ((إن صاحبكم لتغسله الملائكة)). يعني حنظلة، فسئلت زوجته فأخبرتهم أن المعركة استعجلته فخرج جنباً لم يجد وقتاً للغسل، وعُرف أبوه بالراهب قبل الإسلام، فسماه النبي ً: بالفاسق؛ لأنه نزح من المدينة إلى مكة، ثم قدم مع قريش محارباً يوم أحد، وظل بمكة إلى أن فُتحت، فهرب إلى هرقل ومات هناك كافراً. (در السحابة 720).
(2) أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف بن عبد غوث الزهري، المدني، قيل: اسمه عبدالله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته، روى عن: أبيه، وعثمان، وأبي قتادة، وأبي الدرداء، وأسامة، وأبي هريرة، وعائشة وغيرهم، وعنه: عروة بن الزبير، والزهري، والشعبي، وغيرهم كثير، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من المدنيين، وقال: كان ثقة، فقيهاً، كثير الحديث، وأنه مات سنة94هـ. وقال الواقدي: سنة 104هـ. عن 72 سنة. ا.هـ. ملخصاً من تهذيب التهذيب ج12/127.
ورابعها: عند القيام للوضوء، وهذا هو الأكثر في العرف، لما روت عائشة (رضي اللّه عنها) أن النبي ً كان إذا قام من النوم يشوص فمه بالسواك(1).
وخامسها: عند قراءة القرآن، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( طهروا أفواهكم بالسواك فإنها طرق القرآن))(2).
__________
(1) ومثله: عن حذيفة بن اليمان قال: كان رسول اللّه ً إذا قام من اليل يشوص فاه بالسواك. أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. ولفظ حديث عائشة فيما أخرجه أبو داود عنها: أن النبي ً كان لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ.
(2) وفيه عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه ً: ((إن أفواهكم طرق القرآن فطهروها بالسواك)). وقال في التلخيص: رواه أبو نعيم ووافقه ابن ماجة. وهو في شرح التجريد، وأصول الأحكام، والاعتصام بهذا اللفظ.
الفرع الرابع: ويستوي الرجال والنساء في استحباب السواك؛ لأن الأدلة الشرعية لم تفصل في ذلك بين الرجال والنساء، ويستحب أن يؤمر الصبيان بالسواك تعويداً وتمريناً كما يؤمرون بالصلاة والوضوء، ويجوز للرجل أن يستاك بسواك غيره، ويستحب له غسل السواك لما روت عائشة (رضي اللّه عنها) قالت كان رسول اللّه ً يستاك فيعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك ثم أغسله وأدفعه إليه (1)، فصار خبرها دليلاً على ما ذكرناه من الأمرين جميعاً، ويستحب للرجل إذا دخل منزله للوضوء أن يكون أول ما يفعل أن يستاك، لما روى المقدام بن شريح ) قال: قلت لعائشة: بأي شيء كان يبدأ رسول اللّه إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك (3)، ويجوز للرجل أن يستاك وهو يقرأ لما روى ابن عباس رضي اللّه عنه قال: بيَّت عند رسول اللّه ً ليلةً، فلما استيقظ من منامه أتى طهوره فأخذ سواكه فاستاك وجعل يتلو هذه الآيات:{إِنَّ فِي خَلْقِ الْسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ }[آل عمران:190]. حتى ختم السورة.
وهل يكره السواك للصائم بعد الزوال أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يكره وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن جميع الظواهر الشرعية التي وردت في استحباب السواك لم تفصل في ذلك بين وقت ووقت، فلا وجه للتخصيص من غير دلالة.
المذهب الثاني: أنه يكره بعد الزوال وهذا هو المحكي عن الشافعي وأصحابه.
__________
(1) أخرجه أبو داود.
(2) المقدام بن شريح بن هانئ بن يزيد الحارثي الكوفي، روى عن أبيه. وعنه: ابنه يزيد والأعمش والثوري وآخرون. ذكره ابن حبان في الثقات. (تهذيب التهذيب ج10/255).
(3) أخرجه الستة.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( لخلوف فم الصائم أطيب عند اللّه من ريح المسك)). والخلوف بضم الخاء بنقطة من أعلاها وضم اللاّم، هو تغير فم الصائم. يقال: خلف فمه خلوفاً إذا تغير، والمعنى أن اللّه إذا أدرك خلوف فم الصائم فهو في حقه مما كان طاعة أطيب من رائحة المسك في حقنا، فيجب تأويله على ما ذكرناه لأنهما يختلفان في حق اللّه تعالى في حقيقة الإدراك، فيدرك هذا طيباً كما ندرك هذا كريهاً، لكون الخلوف لما كان مثاباً عليه نازلاً منزلة المسك في حقنا في طيبه ومحبة رائحته.
والمختار: أنه غير مكروه للصائم بعد الزوال كما قاله أصحابنا لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم زوال الخلوف بالسواك.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا زواله بالسواك، لكن المواظبة على السواك أفضل وإن زال الخلوف، لكثرة ما ورد في السواك من الأحاديث وتكرر فعل الرسول له؛ فلهذا كان التعويل عليه أحق، فالحديث في الصائم لا يناقض ما ذكرناه من استحباب السواك للصائم بعد الزوال.
الفرع الخامس: في بيان ما يُستاك به.
ويحرم الاستياك بقضبان أشجار السمومات لما فيها من المضرة وإتلاف النفس، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوْا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيْمَاً}[النساء:29]. ويكره بما كان يجرح اللثة كالعيدان اليابسة والحديد، وغير ذلك مما يكون صلباً ليس فيه تنقية للقلح، ويستحب بقضبان الأراك، لما روت عائشة أن الرسول ً استاك في مرضه بسواك من أراك(1)، ويجوز أن يستاك الرجل بقضبان الأشجار الرطبة بما يكون فيه تنقية للفم وإزالة القلحة، وإن استاك بالخرقة الخشنة أجزأه ذلك لمشاركتها للقُضُب في الإزالة، فإن أمرَّ يده على أسنانه لم يجزه عن السنة لعدم إطلاق اسم السواك عليها، وحكي عن مالك جوازه، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( يجزئ الرجل أن يستاك بأصبعه ))(2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي في باب وضوء النبي ً.
(2) قال في جواهر الأخبار ما لفظه: هكذا في الانتصار. وفي التلخيص ما لفظه: ((يجزئ من السواك الأصبع)). رواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي من حديث عبدالله بن المثنى، عن النضر بن أنس، عن أنس وفي إسناده نظر، وقال في الضياء: لا أرى بسنده بأساً. وقال البيهقي: المحفوظ عن ابن المثنى، عن بعض أهل بيته، عن أنس نحوه، ورواه أيضاً عن طريق ابن المثنى، عن ثمامة، عن أنس، ورواه أبو نعيم، والطبراني، وابن عدي من حديث عائشة، وفيه المثنى بن الصباح، ورواه أبو نعيم من حديث كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، وضعفه كثيرون. وأصح من ذلك ما رواه أحمد في مسنده من حديث علي بن أبي طالب عليه السلام: (أنه دعا بكوز من ماء فغسل وجهه وكفيه ثلاثاً وتمضمض فأدخل بعض أصابعه في فِيْهِ). الحديث. وفي آخره: (هذا وضوء رسول اللّه ً). وروى أبو عبيد في كتاب الطهور عن عثمان أنه كان إذا توضأ سَوَّك فاه بأصبعه. وروى الطبراني في الأوسط من حديث عائشة، قلت: يا رسول اللّه الرجل يذهب فوه أيستاك؟ قال: ((نعم)). قلت: كيف يصنع؟ قال: ((يدخل أصبعه في فيه)). رواه من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا عيسى بن عبدالله الأنصاري، عن عطاء عنها (عائشة) وقال: لا يروى إلا بهذا الإسناد. قلت: وعيسى ضعفه ابن حبان وذكر ابن عدي هذا الحديث من مناكيره. ا.هـ. جواهر.
. والحق ما قلناه، وهو رأي أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي؛ لأن اليد غير مزيلة لعفونة الفم من أجل لينها، فلهذا لم يكن سواكاً.
ويكره للرجل إذا استاك أن يدخل سواكه في وضوئه؛ لأنه بمنزلة من يبصق في وضوئه، ومثل هذا تعافه النفوس وتستقذره، ويستحب إذا أراد السواك مرة ثانية أن يغسله، لما رويناه من حديث عائشة حيث استاكت بالسواك ثم غسلته وناولته رسول اللّه ً، ويستحب الخلال لما فيه من إزالة ما بين الأسنان فأشبه السواك في إزالته لعفونة القلح، ويجوز اتخاذ عود الخلال مما يتخذ منه السواك؛ لأنهما سيان في تطهير الفم، وإزالة ما كان فيه.
الفرع السادس: في كيفية الاستياك.
ويستحب لمن أراد السواك أن يبدأ بالجانب الأيمن من فيه، لما روي عن النبي ً أنه كان يحب التيامن في كل شيء، ويستحب أن يستاك عرضاً لقوله ً: (( استاكوا عرضاً وادهنوا غباً واكتحلوا وتراً )). وادهان الغبّ أن يدهن يوماً ويترك يوماً حتى يجف رأسه عن الدهن ثم يدهن، لما روي عن النبي ً أنه نهى عن الإرفاه، قال أبو عبيدة: هو كثرة الدهن، واكتحال الوتر هو أن يكتحل لكل عين ثلاثة أطراف، لما روي أنه كان للنبي ً مكحلة يكتحل في كل ليلة في كل عين ثلاثة أطراف، والطول في الاستياك هو أن يكون في الفم إلى جهة الأنف والذقن، والعرض جانبا الفم خلاف ذلك، وإنما كره الطول لما فيه من قلع لحم الأسنان وإزالته، هذا كله إذا كان فاعلاً لأحدهما كان العرض أحق لما ذكرناه وإن جمع بينهما جاز عرضاً وطولاً برفق لئلا يؤدي إلى ما ذكرناه من قلع لحم الأسنان، ويحتمل أن يكون الطول منهياً في الاستياك سواء كان منفرداً أو مضموماً، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( استاكوا عرضاً ولا تستاكوا طولاً)). ولم يفصل في النهي عن الطول بين أن يكون منفرداً أو مضموماً إلى العرض، والأول أقرب؛ لأن النبي ً، قد روي أنه كان يستاك عرضاً وطولاً.
---
السنة الثانية: أن يوالي بين غسل أعضائه ولا يفرق بينها
لما روي عن أمير المؤمنين وعثمان بن عفان أنهما توضيا على جهة الموالاة والتتابع من غير تفريق، وقالا: هذا وضوء رسول اللّه ً، وأدنى درجاته الاستحباب.
وهل يكون ذلك واجباً أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه غير واجب وإنما هو مستحب كما أشرنا إليه، وهذا هو رأي أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة، والشافعي في الجديد، إذا كان الزمان كثيراً بحيث يجف العضو، فأما إذا كان يسيراً فلم يختلف قوله في جواز التفريق.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}.
وتقرير الحجة من هذه الآية: هو أن اللّه تعالى أمر بغسل هذه الأعضاء على جهة الإطلاق من غير تقييد ولا إشارة إلى التتابع، فإذا ورد الأمر مطلقاً من غير تفصيل دل على جوازه سواء كان متتابعاً أو متفرقاً، وظاهر الآية هو أدنى متمسك في حق من جوَّز التفريق حتى تدل دلالة من جهة الخصم على وجوب اشتراط التتابع كما زعموا.
الحجة الثانية: ما روى خالد بن معدان )، عن الرسول ً أنه رأى رجلاً على قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره بإعادة الصلاة بعد أن قال: (( إن كنت أمسسته الماء فامض في صلاتك وإن لم تكن أمسسته فاخرج من صلاتك)). فقال:يا رسول اللّه كيف أصنع؟ استقبل الطهور؟ فقال: (( لا بل اغسل ما بقي ))(2). وهذا نص صريح فيما ذهبنا إليه من جواز التفريق، وقد روي عن ابن عمر، والثوري.
__________
(1) أبو عبدالله خالد بن معدان بن أبي كليب الكلاعي الشامي الحمصي، روى الحديث عن: ثوبان، وابن عمر، ومعاوية، وأبي أمامة، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء. يعتد من الطبقة الثالثة من فقهاء الشام بعد الصحابة، وروي عنه أنه أدرك سبعين رجلاً من أصحاب النبي ً. وثقه العجلي والنسائي، اشتهر بالعلم والعبادة. توفي وهو صائم سنة 103هـ. (تهذيب التهذيب ج3/102).
(2) أورده في جواهر الأخبار بلفظ: أنه رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي ً أن يعيد الوضوء والصلاة. أخرجه أبو داود، وعلق عليه صاحب الجواهر بقوله: ولا دلالة فيه على المطلوب، بل ظاهره دليل للمخالف، لكن في أصول الأحكام عن علي عليه السلام أنه قال: بينا أنا ورسول اللّه ً جالسان في المسجد إذ دخل رجل من الأنصار حتى سلم وقد تطهر وعليه أثر الطهور فتقدم في مقدم المسجد ليصلي فرأى رسول اللّه جانباً من عقبه جافاً، فقال لي: ((يا علي هل ترى ما أرى))؟ قلت: نعم، فقال ً: ((يا صاحب الصلاة...)) إلخ. وفي نهايته: فقلت: يا رسول اللّه لو صلى هكذا أكانت صلاته مقبولة؟ فقال: ((لا حتى يعيدها)). ا.هـ. وجاء بلفظه في الجامع الكافي وأورده في الاعتصام.
المذهب الثاني: امتناع التفريق، وهذا هو قول الشافعي في القديم ويحكى عن أحمد بن حنبل، والأوزاعي، ثم اختلف أصحاب الشافعي في حد التفريق، فمنهم من قال: حد الكثير منه الذي يفسد الوضوء هو جفاف العضو قبل أن يغسل ما بعده في زمان معتدل مع استواء الحال.
فقولنا: في زمانٍ معتدل، نحترز به عن شدة الحر والبرد والريح، فإن هذه الأمور يتسارع فيها الجفاف.
وقولنا: واستواء الحال، نحترز به عما إذا كان المتوضئ محموماً فإن الجفاف يسرع إليه لأجل الحمَّى، فأما التفريق اليسير فلا عبرة به، ولا يكون مخلاً بالوضوء، ومنهم من قال: الاعتبار إنما هو بالتفريق الفاحش المتطاول زمانه.
والحجة على ذلك: قياسهم على الأذان، وتقرير قياسهم عليه هو قولهم: عبادة ذات أركان مختلفة تتقدم على الصلاة فلا يجوز فيها التفريق كالأذان، وقياسهم له على الصلاة، وتقرير ما قالوه: بأنها عبادة تبطل بالحدث أو ترد إلى الشطر(1) في حال العذر، فكان التتابع شرطاً فيها كالصلاة. فهذه زبدة ما أوردوه في نظرية القول بامتناع التفريق.
المذهب الثالث: محكي عن مالك وله فيه روايتان:
الأولى منهما: أنه إن فرق بين أعضاء الوضوء لعذر لم يبطل وإن فرق بينها من غير عذر بطل، وهذا مروي عن أبي ليلى، وعن الليث أيضاً.
الثانية: أنه إن تعمد التفريق بطل وإن نسي لم يبطل.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: الشرط.
والحجة على ما قاله: هو أن الأصل في الوضوء التتابع؛ لأن الرسول ً لم يفعله إلا كذلك، فلا يجوز العدول عن فعله؛ لأن التأسي به واجب، والتأسي لا يكون إلا بأن يفعل مثل ما فعله؛ لأنه فعله على الوجه الذي فعله وقد فعله متوالياً، فيجب فعله متوالياً وإذا كان الأمر فيه كما قلناه فلا يجوز العدول عن هذا إلا لعذر، أما للنسيان فهو عذر لقوله عليه السلام: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )). وأما لغيره كما فعل الرسول ً فيما فعل في الجنازة وغيرها من الأعذار الموجبة لتفريق أعضاء الوضوء في الغسل.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم، من جواز التفريق وهو الصحيح المعتمد لمذهب الشافعي، ومحكي عن الحسن البصري، وعطاء، وطاووس، وإبراهيم النخعي، وابن المسيب، وسفيان.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا حججا ثلاثاً:
الحجة الأولى: نقلية. وهي قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبَ اً فَاطَّهَّرُوْا } فأمر بالتطهر مطلقاً من غير تفصيل ولم يشترط التوالي وفي هذا دلالة على كونه غير مشترط.
الحجة الثانية: ما روى ابن عمر عن النبي ً، أنه توضأ في السوق فغسل وجهه ويديه، ومسح على رأسه، ثم دُعِيَ إلى جنازة فأتى المسجد فدعا بماء فمسح على خفيه ثم صلى عليها، ولا شك أن ذهابه إلى المسجد فيه تفريق كثير وفي هذا دلالة على جوازه مطلقاً.
الحجة الثالثة: قياسية، وهي أن الوضوء عبادة ليس من شرطها الاشتغال فلا يشترط فيها التوالي كالطواف، أو نقول: تفريق في الوضوء فوجب الحكم بإجزائه كالتفريق اليسير، ولأنها عبادة يجوز تفريق النية عليها فجاز تفريقها كالزكاة.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم، فأما قياس أصحاب الشافعي على الأذان فعنه جوابان:
أما أولاً: فبطريقة منع الحكم في الأصل، وهو أن الأذان لا يشترط فيه التتابع والموالاة ويجوز فيه التفريق، وهذه طريقة مفسدة للقياس أعني منع حكم الأصل.
وأما ثانياً: فبطريقة الفرق، وهو أنا نسلم وجوب التتابع في الأذان لكن التفرقة بينهما ظاهرة، وهو أن الأذان لما لم يكن شرطاً في الصلاة ولا طريقاً إلى صحتها فلهذا لم يجز تضييق طريق تحصيله باشتراط الموالاة والتتابع فيه فافترقا. وأما قياسهم على الصلاة فعنه جوابان:
أما أولاً: فبالفرق، وهو أن يسير التفريق في الوضوء غير مفسد له بخلاف يسير التفريق للصلاة فإنه مفسد لها، فافترقا.
وأما ثانياً: فبالمعارضة من الأقيسة فيجب اطراحها جميعاً، أو الترجيح لأقيستنا وهي راجحة بما أوردناه من الظواهر الشرعية التي أسلفناها، فأما ما قاله مالك فهو فاسد، لأن اعتبار الموالاة لا تخلوا حالها: إما أن لا تكون شرطاً في الوضوء وهو الذي نقوله، وإما أن تكون شرطاً فيه كما زعمه وجب الإتيان بها، سواء كان هناك عذر أو لم يكن هناك عذر، وسواء كان ساهياً أو متعمداً، كما نقول في النية، فإذاً لا وجه لكلام مالك في أن الموالاة شرط في الوضوء لكنها تسقط عند العذر وفي حال السهو، وكما لا تشترط الموالاة في الوضوء كما قررناه فلا تشترط الموالاة أيضاً في الغسل والتيمم؛ لأن الأدلة الشرعية في الأمر بالغسل والتيمم مطلقة غير مشترط فيها الموالاة كما ذكرناه في الوضوء.
فأما أصحاب الشافعي، فقد اختلفوا فيهما، فحكى ابن القاص ): أن التفريق لا يبطلهما قولاً واحداً، وأكثر أصحابه على أن فيهما قولين كالوضوء وهو الأصح عندهم، فإذا فرق تفريقاً فاحشاً فعلى قوله القديم: يلزمه استئناف الطهارة. وعلى قوله الجديد: لا يلزمه استئناف الطهارة مثل مذهبنا، والله أعلم.
__________
(1) أحمد بن أبي أحمد الطبري، أبو العباس ابن القاص، أخذ العلم عن ابن سريج، وله مؤلفات كثيرة منها: (التلخيص) مختصراً، وكتاب (المفتاح)، و(أدب القاضي)، و(المواقيت)، توفي بطرطوس سنة 335هـ. ولم نجد تاريخاً لمولده. ا.هـ. (طبقات الشافعية ج1/107، طبقات الشيرازي 120، له ترجمات في الأعلام، ووفيات الأعيان، وتاريخ بغداد وغيرها).
---
السُّنة الثالثة: التسمية
وهي مشروعة في الوضوء لقوله ً: (( كل أمر لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر ))(1). وقيل: أجذم، فظاهر الخبر دال على استحباب شرعها(2) في جميع الأفعال كما ترى، فالطهارة تكون أحق بذلك؛ لأنها تعنى للصلاة وفيها محادثة القلوب بذكر اللّه تعالى والوقوف بين يديه لأعظم الرغائب، وهو إحراز الثواب.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: هل تكون التسمية مع كونها مشروعة واجبة أو تكون مستحبة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن داود وطبقته من أهل الظاهر، وبه قال إسحاق بن راهويه، وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: ما روى أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) عن النبي ً، أنه قال: (( لا صلاة إلا بطهور ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه ))(3). وقوله ً: (( لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه))(4).
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنها عبادة هي أصل يبطلها الحدث فكان من شرطها الذكر كالصلاة.
وقولنا: هي أصل، نحترز به عن التيمم فإنها غير واجبة فيه، كما سنوضح القول فيه فيخرج لما كان بدلاً عن أصل.
المذهب الثاني: أنها مستحبة غير واجبة وهذا هو أحد القولين للهادي في (الأحكام). فأما ما قاله في (المنتخب) فقد صرح بوجوبها فيه، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومحكي عن مالك وربيعة، أعني: الاستحباب.
__________
(1) أخرج نحوه عبدالقادر الرهاوي في الأربعين عن أبي هريرة مرفوعاً: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم، أقطع)).
(2) هكذا في الأصل. والمقصود (على استحبابها).
(3) وهو في أصول الأحكام والشفاء بلفظه عن علي عليه السلام.
(4) أخرجه أبو داود عن أبي هريرة، وأخرج الترمذي من رواية أخرى: ((لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه)). وأورده السيوطي ضمن الأحاديث المتواترة.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عمر عن النبي ً أنه قال: (( من توضأ وذكر اسم اللّه كان طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اللّه عليه كان طهوراً لما مرَّ عليه الماء))(1).
ووجه تقرير هذه الدلالة: هو أن الرسول ً صحح الطهارتين جميعاً، وإنما جعل الطهارة التي ذكر اسم اللّه عليها طهارة لجميع بدنه من الذنوب، والتي لم يذكر اسم اللّه عليها طهارة لما مر عليه الماء من الذنوب، لأن رفع الحدث لا يتبعض، فهما رافعان للحدث جميعاً خلا أن ما ذكر اسم اللّه عليه فهو أفضل وأكمل في الرفع وكثرة الثواب، فهذا تقرير كلام العلماء في المذهبين جميعاً.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة، ولقد كان ينبغي منا إيرادها في الفروض الواجبة في الوضوء لما كانت واجبة، ولكنا اخترنا إيرادها في السنن لما كانت ذكراً، وما تقدم من الفروض في الوضوء إنما هي أفعال وليست أذكاراً ولهذا تلائم إيرادها في السنن لما كان في السنن أذكار مشروعة مستحبة كالأدعية عند غسل الأعضاء وغيرها كما سنوضحه، فهذا هو الوجه في إيرادها في سنن الوضوء مع كونها واجبة.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما رواه ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه ً يقول: (( إذا تطهر أحدكم فليذكر اسم اللّه عليه فإنه يطهر جسده كله وإن لم يذكر اسم اللّه عليه، فإنه لا يطهر من جسده إلا ما مرَّ عليه الماء )). فهذا أمر والأمر ظاهره الوجوب إلا لدلالة تدل عليه.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أن الوضوء عبادة ذات أركان مختلفة تبطل بالحدث فالذكر فيها يكون واجباً كالصلاة.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
__________
(1) ونحوه في رواية عن أبي هريرة منسوبة إلى الدارقطني والبيهقي، وفي شرح التجريد وأصول الأحكام والشفاء نحوه عن ابن مسعود.
قالوا: روى ابن عمر ما ذكرناه من الحديث وفيه دلالة على صحة الطهارتين اللتين ذكر اللّه عليها والتي لم يذكر اللّه عليها، وفي هذه دلالة على أن التسمية ليست فرضاً واجباً.
قلنا: ليس في ظاهر الحديث ما يدل على بطلان التسمية، ونهاية ما فيه هو أنه حكم بكونها طهارة من غير تسمية لبعض العوارض وهذا لا ننكره، وسنوضح القول في تركها عند النسيان، فالأخبار مصرحة ودالة على بطلان الوضوء عند ترك التسمية(1) بقوله: (( لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه )) وفي هذا دلالة على كونها فرضاً خاصة على قولنا في تقرير الأسماء الشرعية، فأما على رأي من أنكرها فالخبر يكون مجملاً يحتاج إلى بيان.
قالوا: لو كانت التسمية واجبة لكان لا فرق في تركها بين العمد والنسيان كغسل الوجه واليدين فلما افترق الحال في تركها بين العمد والنسيان دل ذلك على كونها غير واجبة وهو مطلوبنا.
قلنا: عما ذكرتموه جوابان:
أما أولاً: فلأن العمد مخالف للنسيان في العقوبة وانحطاط العذر فيه، وقد أشار إليه الشرع بقوله: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )). فإذا كان الأمر فيه كما ذكرناه، لم يمتنع أن يكون حال ترك التسمية مع العمد مخالفاً لحكمها مع النسيان فبطل الجمع بينهما كما زعموه.
__________
(1) هذا القول فيه نظر، لأن غاية التسمية في حال وجوبها أن يكون تاركها عمداً آثماً، لكن لا يبطل وضوؤه؛ لأنها ليست عضواً منه ولا شرطاً في صحته. وفي شرح الأزهار: فإن تركها عمداً أعاد من حيث ذكر، ثم قال: وإن ذكرها ثم نسيها قبل أن يغسل شيئاً حال ذكره فلا إعادة. ا.هـ. ج1/81.
وأما ثانياً: فإنا نعارض ما ذكروه بصورة على أبي حنيفة والشافعي، وهو أن من أكل في رمضان ناسياً لا يفسد صومه وإن أكل عامداً أفسده، وبصورة على رأي أبي حنيفة، وهو أن من ترك الترتيب في قضاء الفوائت ساهياً جاز، وإن تركه عامداً لم يجز، وبصورة على الشافعي، وهو أن من تكلم في الصلاة على جهة السهو لم تفسد صلاته وإن تكلم على جهة العمد فسدت، فإذا كنتم قد فرقتم في هذه المسائل بين السهو والعمد فهكذا نفرق في ترك التسمية بين العمد والنسيان.
قالوا: عبادة لم يكن الذكر شرطاً في المقام عليها والخروج منها، فلا يكون شرطاً في ابتدائها كالصوم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن رد الوضوء إلى الصلاة أولى من رده إلى الصوم؛ لأن الصوم أصله ومبناه على التروك، والوضوء أفعال متغايرة فرضاً ونفلاً فلأجل هذا كان إلحاقه بالصلاة أحق، بجامع اشتماله على أفعال وأقوال متغايرة، فلهذا كان الذكر من شرطه كالصلاة.
وأما ثانياً: فيبطل ما قالوه بالفرق، وهو أن الصوم لا يرد إلى الشطر في حال العذر ولا يبطله الحدث بخلاف الوضوء فإنه يبطل بالحدث ويرد إلى الشطر عند العذر فأشبه الصلاة، فلا جرم كان رده إليها أحق، ثم إن هذا ينتقض على أبي حنيفة بالحجج، فإن الذكر شرط في الابتداء فيه ولم يكن شرطاً في المقام عليه والخروج منه، فبطل ما توهموه.
الفرع الثاني: إذا تقرر كونها فرضاً فقد قال السيد أبو العباس: فإن نسيها ناسٍ أجزأه أن يؤدي بذلك الوضوء فرضاً ثانياً كما جاز الأول، أما إجزاؤه مع النسيان فالذي يدل على ذلك قوله عليه السلام: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)). فظاهر الخبر دال على إسقاط الإثم والغرامة مع النسيان إلا لدلالة خاصة مخرجة لما تناولته، وأما جواز تأديته فرضاً آخر بذلك الوضوء، فالذي يدل على ذلك هو أن وضوؤه قد وقع على نعت الصحة رافعاً للحدث فجاز أن يؤدي به فرضاً آخر كالفرض الأول فإن نسيها في ابتداء وضوئه وذكرها في أثنائه وجبت عليه التسمية لما ذكرناه من قبل من أن التسمية فرض على ذاكرها فإذا نسيها في الابتداء ثم ذكرها، توجهت عليه عند الذكر بالدلالة المتقدمة.
الفرع الثالث: في صفة التسمية.
وصفتها أن يقول: بسم الله، لأن هذا هو العرف الجاري في ذكر اسم اللّه تعالى على كل فعل من الأفعال. قال الهادي في (الأحكام): واليسير من ذكر اللّه يجزيه(1) لقوله عليه السلام: (( ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه)). ولم يفصل بين قليله وكثيره، فإن قال: لا إله إلا اللّه، أو اللّه أكبر أو قال: الحمد لله، كان ذاكراً لله وأجزأه في الوضوء، لأن الأدلة الشرعية لم تفصل في ذلك بين ذكر وذكر لأن الأحاديث الواردة في الوضوء في التسمية: (( لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله))(2). ومن هذه حاله فهو ذاكر لله تعالى وذاكر لاسمه فلهذا كان مجزياً، فإن قال: اللهم اغفر لي، لم يجزه في الوضوء، لأن ما هذا حاله فليس ذكراً لله تعالى وإنما هو ذكر لنفسه بالدعاء والمغفرة فافترقا.
ويستحب أن يكرر التسمية في أثناء وضوئه. قال الهادي في (الأحكام): ويستحب أن يذكر اللّه تعالى عند مبتدأ طهوره وفي وسطه وآخره(3)، لأن الوضوء أفعال مختلفة فمن أجل ذلك استحب أن يكون الذكر لله مقارناً لكل واحد من أعضائه ليكثر ثوابه وفضله.
__________
(1) هنا نهاية ما قاله الهادي، وتتمته: ولو نسيه ناسٍ لم يكن لينقض عليه وضوءه، ولا يفسد عليه طهوره؛ لأن الملة تكفيه والإقرار بتوحيد اللّه يجزيه. ا.هـ. ج1/50.
(2) هكذا في الأصل. ولعله سهو من الناسخ. فالأقرب أن يكون ((لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه)). وهو الحديث الشريف الذي يجري البحث في سياقه. إذا لا وجه لتكرار الشطر الأخير منه.
(3) هنا نهاية كلام الهادي في الأحكام ج1/49.
---
السُّنة الرابعة: غسل الكفين
وغسلهما مشروع في الوضوء، لما روى أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه علم الناس الوضوء فأُتِيَ له بإناء فيه ماء فأفرغ الماء على يمينه فغسل يديه ثلاثاً ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول اللّه ً فهو هذا، و روي عن عثمان مثله، أنه توضأ فأفرغ الماء على يديه ثلاثاً ثم قال: رأيت رسول اللّه ً توضأ وضوئي هذا.
وهل يكون مستحباً أو واجباً؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب، وهذا هو الذي ذكره الإمام القاسم في (كتاب الطهارة)، وهو الذي يشير إليه كلام الهادي في (الأحكام)، ومحكي عن محمد بن يحيى نص عليه في (المفرد)، واختاره أبوالعباس. قال الحسن البصري: إنما يجب لأجل النجاسة، فإن غمس يده في الإناء قبل غسلها تنجس، وقال داود: هو واجب على جهة التعبد، فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها صار الماء مجهوراً(1) وليس نجساً، وقال أحمد بن حنبل: إن كان قام من نوم النهار فهو مستحب غسلها، وإن قام من نوم الليل فهو واجب.
والحجة لهم على الوجوب: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده منه))(2). فهذا أمر والأمر ظاهره الوجوب إلا لدلالة.
__________
(1) جاء في (لسان العرب) ج4/152 في مادة جهر: جهرت البئر واجتهرتها، أي نقيتها وأخرجت ما فيها من الماء.
وجاء فيه أيضاً: والمجهور: الماء الذي كان سدماً فاستسقى منه حتى طاب...إلخ، فمعناه: طهارة الماء ونقاؤه.
(2) أخرجه البخاري من رواية أبي هريرة.
الحجة الثانية: ما روى أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً))(1). فإذا تقرر ذلك في الوضوء الذي يفعل للصلاة عقيب النوم، وجب أن يحكم بوجوبه كسائر الصلوات؛ لأن كل ما كان شرطاً في الوضوء لصلاة كان شرطاً لغيرها، دليله غسل سائر الأعضاء.
المذهب الثاني: أنه مستحب غير واجب، وهذا هو الذي أشار إليه الهادي في (المنتخب)، وهو رأي السيدين الإمامين الأخوين، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، و الشافعي وأصحابه، قال أبو الحسن الكرخي: والمسنون في الوضوء غسل كفيه ثلاثاً.
والحجة على ذلك: آية الوضوء، وهي قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6]. ولم يذكر فيه غسل اليدين.
الحجة الثانية: قوله ً، لمن علمه الوضوء: (( توض كما أمرك اللّه فاغسل وجهك ويديك )). ولم يأمره بغسل الكفين، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على استحبابه.
والمختار: ما عول عليه السيدان الإمامان وغيرهما من علماء الأمة، من استحبابه.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم، ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روي عن النبي ً، أنه قال: (( لا يقبل اللّه صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ويغسل رجليه))، ولم يأمره بغسل كفيه.
__________
(1) تمامه: ((.. فإنه لا يدري أين باتت يده))كما في رواية مسلم والنسائي، وفيه عدة روايات.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أن اليدين من أعضاء الوضوء، فلو أوجبنا غسل الكفين قبل الوجه لكنا قد أوجبنا غسلهما دفعتين وهذا لا قائل به، فعلى هذا إذا قام إلى الصلاة نظرت، فإن قام من النوم وعلى يده نجاسة، وجب عليه غسلهما لأجل النجاسة، وإن قام من النوم وشك في النجاسة استحب له غسلهما إذ لا يتحقق الوجوب إلا بتحقق النجاسة، فإذا لم يتحقق فالاستحباب حاصل في غسلهما، وإن لم يقم من النوم ولا كان شاكاً في النجاسة فهو بالخيار فإن شاء أدخلهما الإناء من غير غسل وإن شاء أفاض عليهما الماء قبل إدخالهما الإناء، لأن ظاهر الأحاديث دالٌّ على أن الاستحباب متعلق بالقيام من النوم دون ما عداه والله أعلم، كما ورد في حديث أبي هريرة: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً)). فهذا الحديث مشتمل على فوائد خمس:
الأولى منهن: استحباب غسل اليد ابتداء ثلاثاً قبل الطهارة، لأن القوم كانوا يستنجون بالأحجار ويقتصرون عليها وبلادهم في الحجاز حارة، فإذا ناموا لم يأمنوا أن تطوف أيديهم على تلك الآثار التي لم تفللها(1) الحجارة.
الثانية: أن ذلك ليس واجباً لأنه قال: (( لا يدري أين باتت يده منه)). وفي حديث آخر: (( أين طافت يده منه)). فبين أنه احتياط للنجاسة.
الثالثة: أن النجاسة إذا وردت على ماء قليل فإنها تنجسه، كما هو رأي الأكثر من أصحابنا كما مر بيانه.
الرابعة: أن الماء القليل إذا ورد على النجاسة أزالها، لأنه حكم بطهارة اليد بإيراد بعض ماء الإناء عليها.
الخامسة: أن النجاسة تجب إزالتها؛ لأنه إذا اسْتُحِبَّ الغسل فيما تُوُهِّمَتْ فيه، فالوجوب متحقق فيما كان مقطوعاً بنجاسته.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه في الوجوب.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده)) والأمر للوجوب.
قلنا: عنه جوابان:
__________
(1) يقصد: لم تنفها.
أما أولاً: فلا نسلم أن الأمر للوجوب، وإنما حقيقته للطلب لا غير.
وأما ثانياً: فهب أننا سلمنا أن ظاهره للوجوب لكن حملناه هاهنا على الندب لأجل أدلتنا، توفقة بين الأدلة وجمعاً بينها لئلا تتناقض.
قالوا: روى أبو هريرة: (( فلا يُدْخِل يده الإناء حتى يغسلها ثلاثاً)). فنهى عن ذلك والنهي ظاهره للتحريم فإذا كان ترك الغسل حراماً كان فعله واجباً وهذا هو مطلوبنا.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن النهي للتحريم وإنما هو للمنع لا غير فلا دلالة لكم.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا دلالته على التحريم، لكنا نحمله على المنع لأجل أدلتنا، لئلا يؤدي إلى تدافعها فيكون مكروهاً بدلالتكم، وفعله يكون مستحباً بأدلتنا لأن ترك المستحب يكون مكروهاً.
قالوا: الأحاديث التي رواها أمير المؤمنين وعثمان بن عفان وعبدالله بن زيد الأنصاري رضي اللّه عنهم في تعليم وضوء رسول اللّه ً وتعريفهم إياه، لم يختلفوا في غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء، وهذه الأخبار التي رووها في صفة وضوء رسول اللّه ً. وهي إنما وردت بياناً للآية، فما فعله فالظاهر وجوبه إلا ما خصته دلالة وغسل الكفين من جملتها، فيجب القضاء بوجوبهما لما ذكرناه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما رووه إنما هو صفة ما فعله رسول اللّه ً في الوضوء، وليس في الفعل دلالة على وجوب ما قالوه، والفعل قد اشتمل على بيان المسنون والواجب فلا نقضي بالوجوب من غير دلالة(1).
وأما ثانياً: فلأنه ً، قد كرر غسل أعضائه ثلاث غسلات فيجب القضاء بوجوبها ومسح رقبته فيلزم أن تكون هذه الأمور واجبة وهم لا يقولون به، فحصل من مجموع ما ذكرناه، أنه لا يقضى بوجوب الفعل من أجل أنه فعله مطلقاً، بل لا بد فيه من دلالة، فبطل ما توهموه.
__________
(1) لعل الصواب، أن فعله عليه السلام يحمل على الوجوب إلا بدلالة على كونه مسنوناً.
---
السُّنة الخامسة: تكرير الوضوء ثانية وثالثة
فالثانية فضل والثالثة سنة، وقد قررنا فيما سبق التفرقة بين الغسلة الثانية والغسلة الثالثة، وأظهرنا أن الواجب مرة واحدة، وزيفنا مقالة من قال بوجوب الثلاث ووجوب السُّنن، فأغنى عن الإعادة.
---
السُّنة السادسة: أن يتولى فعل الوضوء بنفسه وأن لا يستعين بغيره
لقوله ً: (( أما أنا لا أستعين على الوضوء بأحد ))(1). وهذا هو قول أئمة العترة والفريقين: الحنفية والشافعية، فإن استعان بغيره نظرت، فإن كان بتحصيل مقدمات الوضوء نحو نزح الماء إن كان في بئر أو نقله من الجرة إلى المتوضّئ لم يكره ذلك بحال؛ لأن ما هذا حاله ينزل منزلة غسل الثوب لتأدية الصلاة.
وإن استعان بغيره فيما سوى ذلك نظرت، فإن استعان بغيره لصب الماء جاز ذلك، لما روي أن أسامة بن زيد )، والمغيرة بن شعبة، والربيع بنت معوذ، صبوا على الرسول ً، الماء وهو يتوضأ. وإن وضأه غيره ولم يوجد من جهة المتوضئ إلا النية، فهل يجزيه ذلك أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون مجزياً له، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الفريقين: الحنفية، والشافعية، ومحكي عن مالك.
والحجة على ذلك: هو أن فعل المتوضئ غير مستحق في الطهارة، ولهذا فإنه لو وقف تحت مصب الماء أو مطر أو ميزاب، ونوى الطهارة ومر الماء على أعضاء الطهارة، أجزأه.
__________
(1) جاء في جواهر الأخبار ما لفظه: وقد قال في التلخيص: حديث أنه ً قال: ((أنا لا أستعين على الوضوء بأحد)). قاله لعمر وقد بادر ليصب على يديه الماء. قال النووي في شرح المهذب: هذا حديث باطل لا أصل له.
(2) أسامه بن زيد بن حارثه. ترجم له الشوكاني فقال: المولى الأمير الكبير حِبُّ رسول اللّه ً ومولاه وابن مولاه أبو محمد، ولد بمكة قبل الهجرة ونشأ على الإسلام؛ لأن أباه كان من أول الناس إسلاماً، وكان رسول اللّه ً يحبه حباً جماً، وينظر إليه نظره إلى سبطيه الحسن والحسين (عليهما السلام). أمَّره النبي قبل أن يبلغ العشرين من عمره وكان في الجيش أبو بكر وعمر والكبار من الصحابة، مات بالمدينة عام 54هـ.، روى له البخاري ومسلم 128حديثاً (در السحابة ملخصاً).
المذهب الثاني: أنه لا يجزيه، وهذا شيء يحكى عن داود وطبقته من أهل الظاهر.
والحجة على ذلك: قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}. وهذا خطاب للمؤمنين بفعل الغسل وتحصيله.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من علماء الأمة، من القول بإجزائه، ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا، وهو أن المقصود، هو حصول المصلي متوضئاً وهذا حاصل سواء كان بفعله أو فعل غيره.
الانتصار: قالوا: الآية دالة على أن المتوضئين مخاطبون بفعل الوضوء.
قلنا: هذا فاسد، فإن المراد من الآية، هو تحصيل الغسل بدليل ما ذكرناه وسواء كان حاصلاً بفعله أو فعل غيره، فإنه لا تفرقة بينهما فبطل ما توهموه.
---
السُّنة السابعة: مسح الرقبة
وذلك سنة عند أئمة العترة ومحكي عن الفريقين: الشافعية، والحنفية، ومروي: عن مالك.
والحجة على ذلك: ما روى زيد بن علي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه)، عن رسول اللّه ً أنه قال: (( من توضأ ومسح سالفتيه بالماء وقفاه أمن من الغل يوم القيامة))(1). وروي عن أمير المؤمنين، أنه لما مسح رأسه مسح عنقه.
وفي كيفية مسحها مذهبان:
أحدهما: أنه يمسح بباقي ماء الرأس، وهذا هو رأي الهادي.
وحجته على هذا: هو أن المأثور عن أمير المؤمنين أنه كان يمسح رأسه ويجيل يديه على عنقه، ولم يؤثر في مسح الرقبة أنه أخذ لها ماء جديداً(2).
وثانيهما: أنه يؤخذ لها ماء جديد، وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن الفريقين: الحنفية والشافعية.
__________
(1) رواه أحمد بن عيسى في الأمالي بلفظه عن علي عليه السلام وحكاه عنه أيضاً في الشفاء. الغل: بضم الغين: ما تغل به اليدان إلى العنق، وبكسرها: الحقد والكراهية. (الاعتصام 1/225).
(2) هذا الحديث روي من عدة طرق، ومنها: عن وائل بن حجر في صفة وضوء النبي ً، وفيه: ثم مسح رأسه ثلاثاً، ومسح ظهر أذنيه، ومسح رقبته، وباطن لحيته. رواه الطبراني في الكبير، والبزار. ا.هـ. (روض ج1/199).
والحجة على ذلك: هو أن الماء الواحد لا يجتمع كونه فرضاً ونفلاً، فإذا أخذ لهما ماءً جديداً، كان قد فصل بين الفرض والنفل، وهذا هو المختار لما ذكرناه في الاحتجاج ولأن ظاهر الأحاديث التي وردت في مسح الرقبة دالة على استقلالها بالمسح وأنه يؤخذ لها ماء جديد، وإذا مسحت الرقبة فلا تكرير في مسحها؛ لأنه لم يرد التكرير فيها من جهة الرسول ً، قولاً ولا فعلاً كما ورد التكرير في أعضاء الوضوء مغسولها وممسوحها، ومسح الرقبة أقل السنن الواردة في الوضوء، لأن الأحاديث الواردة في الوضوء على لسان أمير المؤمنين وعثمان وعبدالله بن زيد، وغيرهم من جلة الصحابة، ليس فيها ذكر تكرير مسح الرقبة، وقد روى أمير المؤمنين عن رسول اللّه ً فيها ما حكيناه، وهو حديث منفرد عما روي في الوضوء، وهو مصدق فيما قال ونقل، والسنة في مسح الرقبة، هو ما تضمنه الحديث الذي رواه أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه)، بأن يمسح القفى والسالفتين، فالقفى مقصور يُذَكَّرُ ويؤنث، وهو مؤخر العنق والسالفتان، هما جانبا الرقبة من عن يمينها وشمالها، إحداهما من ناحية مقدم العنق من لدن معلق القرط إلى قَلْتِ الترقوة(1). والثانية كذلك من الجانب الآخر، وأما باطن العنق فلا سنة في مسحه، وهو من ثغرة النحر إلى الحلقوم، وهو موضع الذبح، فيأخذ غرفة من الماء ثم يرسلها، ويضع على قافيته يديه، ثم يسحبهما على سالفتيه بباطنهما، فإذن هو قد مسح رقبته على السنة، فأما ما روي من أنه يؤخذ بشيء من الماء فيوضع في الحلق ثم في مؤخر العنق، فلم أقف عليه في شيء من كتب أصحابنا الفقهية ولا رأيته في كتب الأحاديث ولا عرفته لأحد من الفقهاء، إلا شيئاً حكاه العمراني من أصحاب الشافعي عن بعض الناس ولا أعرف قائله.
__________
(1) الترْقُوتان: العظمان المشرفان بين ثغرة النحر والعاتق تكون للناس وغيرهم. وجمعها: التراقي. ا.هـ. لسان 10/32.
---
السُّنة الثامنة: التنشيف للأعضاء
من بلل الوضوء والغسل وأي شيء يكون في حكمه، فيه مذاهب أربعة:
أولها: أنه جائز في الغسل والوضوء جميعاً، وهذا هو المحكي عن الحسن بن علي وعثمان وأنس بن مالك وبشير بن أبي مسعود ) كلهم من الصحابة رضي اللّه عنهم وهو مروي عن مالك، والثوري.
والحجة على ذلك: ما روى قيس بن سعد قال: أتانا رسول اللّه ً، فوضعنا له غسلاً فاغتسل به ثم أتيناه بملحفة مورسة(2)، فالتحف بها فرأيت أثر الورس على عُكَنِه(3)، والعكنة: بالضم هي معاطف البطن تكون من شدة السمن.
وثانيها: أنه يكون مكروهاً، وهو المحكي عن عمر رضي اللّه عنه فإنه كرهه في الوضوء، والغسل جميعاً، وبه قال ابن أبي ليلى.
__________
(1) واسمه: عقبة بن عمرو البدري الأنصاري المدني، قيل: إن له صحبة، روى عن أبيه، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وعروة بن الزبير، وهلال بن جبر الكوفي، ويونس بن ميسرة.
قيل: إنه قتل بالحرة سنة 63هـ. وثقه العجلي وابن شاهين وابن حبان. تهذيب الكمال 4/172.
(2) مصبوغة بالورس. وهو نبات يصنع منه صباغ أصفر.
(3) وروي نحوه في أمالي أحمد بن عيسى، عن ثوبان، وروايتان أخرجهما الترمذي، عن عائشة، وعن معاذ، (راجع الاعتصام ج1/232).
والحجة على ذلك: ما روت ميمونة (رضي اللّه عنها) قالت: دخل علينا رسول اللّه ً، فوضعت له غسلاً فاغتسل به، فلما فرغ ناولته المنديل فلم يأخذه وأعرض عنه(1).
وثالثها: ما حكي عن ابن عباس رضي اللّه عنه: أنه جائز في الغسل دون الوضوء.
والحجة على ذلك: هو أن البلل في الغسل يكثر فلهذا جاز التنشيف فيه بخلاف الوضوء فإن بلله قليل فلا حاجة إلى إزالته.
ورابعها: أنه مستحب، وهذا شيء حكاه الشيخ أبو حامد الغزالي عن بعض الفقهاء.
والحجة على ذلك: هو أن في إزالة البلل في الوضوء والغسل جميعاً التصاون عن الغبار الذي يلصق من أجلهما فلهذا كان مستحباً ولا أعرف لأئمة العترة نصاً فيه.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، والذي يقتضيه قياس المذهب أنه يكون جائزاً لحديث قيس بن سعد، وأن يكون المستحب تركه لما رويناه من حديث ميمونة، ولأنه أثر عبادة فاستحب تركها كخلوف فم الصائم.
__________
(1) أخرجه الستة إلا الموطأ بلفظ: ((.. فناولته المنديل فلم يأخذه ودخل ينفض الماء عن جسده)). واللفظ لأبي داود، وهذا الحديث يختلف في ظاهره عما روته عائشة: ((كان لرسول اللّه خرقة يتنشف بها بعد الوضوء)). أورده أحمد بن عيسى في الأمالي. وأخرجه الترمذي وفيه عن معاذ قال: رأيت رسول اللّه يمسح وجهه بطرف ثوبه، ومثله عن ثوبان مولى رسول اللّه ً. ولعل الجمع بين الحديثين يتطابق مع ما عليه جمهور الفقهاء من أن التنشف بعد الوضوء أو الغسل جائز وليس سنة، مع العلم بأن أدلة فعل النبي له أكثر وأقوى من إعراضه عنه. ويرى المؤلف أن التنشيف جائز. وأن تركه مستحب كخلوف فم الصائم عملاً بالجمع بين ما ورد في أحاديث الفعل والترك.
---
السُّنة التاسعة: الجمع بين المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة
اعلم أنا قد ذكرنا في بيان المفروض والمسنون فيهما، قولاً بالغاً يطلع على الأسرار والفوائد، والذي نذكره هاهنا، هو إفراد المسنون عن المفروض منهما، فالذي عليه أئمة العترة أن المسنون فيهما هو جمعهما في غرفة واحدة، وهو الذي نقله المزني عن الشافعي.
والحجة على ذلك: ما رواه أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) في وصف وضوء رسول اللّه ً، أنه تمضمض واستنشق من غرفة واحدة جمعهما فيها(1).
ونقل البويطي عن الشافعي: أنه يفصل بينهما، هذا هو المسنون فيهما.
والحجة على ذلك: ما رواه طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رسول اللّه ً يفصل بينهما، قال المحاملي: وهو الأصح على رأي الشافعي، وقد سبق ذكر المختار والانتصار له.
__________
(1) قال في الروض ج1/208: أخرجه أحمد، والبزار، وابن ماجة، وغيرهم، إلا أن التصريح بكون الثلاث من كف واحد إنما هو عند ابن ماجة. ا.هـ. ولكنه في الغرفة الواحدة جمع بينهما، مروي من أكثر من طريق.
---
السُّنة العاشرة: الاشتنان
وصفته: ما رواه ابن عباس عن أمير المؤمنين في صفة وضوء رسول اللّه ً وهو أنه لما فرغ من المضمضة والاستنشاق، وغسل وجهه، أخذ بكفه اليمين قبضة من ماء فصبها على ناصيته فتركها تشنن على وجهه، ثم غسل ذراعيه بعد ذلك حتى أتم وضوءه. فحديث الاشتنان إنما كان عن أمير المؤمنين دون غيره من الصحابة ممن وصف وضوء رسول اللّه ً، كعثمان وغيره من الصحابة فقد انفرد به كما ترى.
---
السُّنة الحادية عشرة: الموالاة في غسل الأعضاء
وقد قررنا بطلان وجوب الموالاة، وإذا تقرر بطلان وجوبها فهي من الأمور المسنونة، وهو القول الأخير للشافعي، وحكي عنه قول قديم في إيجابها، وقد مضى تقريرها فلا معنى لإعادة الكلام فيه.
---
السُّنة الثانية عشرة: إذا فرغ من وضوئه فلا ينفض يديه
وهكذا إذا فرغ من غسل يديه فلا ينفضهما، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم)). وفي حديث آخر: (( لا تنفضوها فإنها مراوح الشيطان ))(1). وإنما شبهها بالمراواح؛ لأنها لا تزال تضطرب في جذب الهواء فلهذا شبهها بها.
__________
(1) هذا الحديث ضعفه ابن حبان، وابن أبي حاتم، والنووي في شرح المهذب، ورجح إباحة ذلك. قلت ويؤيده ما جاء في حديث ميمونة حيث قالت: ((.. وجعل ينفض الماء عن جسده)). ا.هـ. (جواهر).
---
السُّنة الثالثة عشرة: تكرير المسح في الأذنين ظاهرهما وباطنهما
يستحب كما كان ذلك في الرأس.
وقد دللنا على وجوب مسحهما وذكرنا الانتصار له فأغنى عن الإعادة، لما روي عن أمير المؤمنين في صفة وضوء رسول اللّه ً، أنه ألقم بإبهاميه ما أقبل من أذنيه، ثم الثانية، ثم الثالثة.
وكيفية المسح فيهما على السنة، أن يدخل مسبحتيه في صماخي أذنيه، ويدير إبهاميه على ظاهر أذنيه، ثم يضع الكف على الأذنين استظهاراً على تعميم مسحهما.
---
السُّنة الرابعة عشرة: ويستحب إدخال الماء في العينين
قال الإمام الناصر: ويستحب أن يفتح عينيه عند غسل الوجه حتى يدخل الماء فيهما، وقال: إن ذلك يصحح العين ويجلوها.
وقد ذكرنا قول من أوجب ذلك وذكرنا المختار والانتصار له فأغنى عن تكريره.
---
السُّنة الخامسة عشرة: غسل ما استرسل من اللحية
لأنه ليس من الوجه وإنما يفعل زيادة في التنظيف.
وقد ذكرنا أنه ليس بواجب واخترناه وذكرنا الانتصار له.
---
السُّنة السادسة عشرة: مسح الذوائب من الرأس مستحب
لأن الواجب ما كان على تدوير الرأس، فأما ما نزل عن تدويره فإنما هو مستحب غير واجب زيادة في التنظيف.
---
السُّنة السابعة عشرة: يستحب تطويل الغرة والحجلة
لما روي عن النبي ً [أنه] قال (( تحشر أمتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء )) (1) فالغرة: ما كان في الوجه كغرة الفرس. والتحجيل: ما كان في اليد والرجل أخذاً له من تحجيل الفرس، وذلك إنما يكون فيما زاد على الفرض من الوجه، واليدين، والرجلين، فأما الفرض فهو خارج عن ذلك بدليل آخر.
__________
(1) وهو عن أبي هريرة بلفظ: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل))، وفي رواية أخرى: ((أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله)). أخرجه البخاري ومسلم.
---
السُّنة الثامنة عشرة: ويستحب إذا كان في يده خاتم بحيث يدخل الماء تحته، أن يحركه
لما روى أبو رافع أن رسول اللّه ً، كان يحرك خاتمه في يده، فإن كان واسعاً لم يستحب تحريكه وإن كان بحيث لا يمكن دخول الماء تحته وجب إخراجه وغسل ما تحته، وقد قررنا موضع الوجوب منه ودللنا عليه.
---
السُّنة التاسعة عشرة: ويستحب أن يكون استعمال الوضوء بيمينه دون يساره
لما روي عن النبي ً، أنه كان يحب التيامن في كل أفعاله، وفي حديث آخر: كانت يمين رسول اللّه ً لطعامه وشرابه ووضوئه، ويساره لما عدا ذلك، ولقوله ً في حديث الخاتم: (( اليمين أحق بالزينة ))(1) فإذا كانت أحق بالزينة في لبس الخاتم، كانت أحق بفضل الطاعة في الوضوء وغيره.
__________
(1) قوله: كان رسول اللّه يحب التيامن...إلخ. روته عائشة وأخرجه الستة إلا الموطأ وقد تقدم، وقوله: كانت يمين رسول الله...إلخ. عن عائشة أيضاً. أخرجه أبو داود، وفي رواية أخرى عن حفصة: أن رسول اللّه كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وأخذه وإعطائه، ويجعل شماله لما سوى ذلك. أخرجه أبو داود، وأشار في الجواهر إلى أن في إسناده مقالاً.
وحديث: ((اليمين أحق بالزينة))سيأتي في موضعه.
---
السُّنة العشرون: ويستحب تجديد الطهارة لكل صلاة
لما روى ابن عمر رضي اللّه عنه. قال: سمعت رسول اللّه ً، يقول: (( من توضأ على طهر كتب اللّه له بذلك عشر حسنات))(1) ، وفي حديث آخر عن النبي ً أنه قال: (( الوضوء على الوضوء نور على نور ))(2).
وهل يجب أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير واجب، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الفريقين: الحنفية، والشافعية، وهو قول مالك.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه كان يتوضأ لكل صلاة،. وكنا نصلي الصلوات بوضوء واحد(3). ومثل هذا لا يخفى حاله عن الرسول ً، فلو كان واجباً لأنكر عليهم تركه فلما لم ينكره دل على عدم وجوبه.
المذهب الثاني: أنه واجب، وهو محكي عن أقوام، وهذا الخلاف يليق بأهل الظاهر، وقد حكي عن غيرهم.
والحجة لهم على ذلك: قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6]..إلى آخر الآية.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي، وهو مروي عن ابن عمر بلفظه دون كلمة ((...بذلك)).
(2) أورده في البحر والشفاء وجواهر الأخبار والاعتصام بلفظه وغمز في صحته بعض الرواة. وفي جواهر الأخبار ما لفظه: قال الحافظ عبدالعظيم في هذا الحديث: لا يحضرني له أصل من حديث النبي ً ولعله من كلام بعض السلف. قلت: لكن في الجامع عن عثمان: أن النبي ً توضأ مرتين مرتين وقال: ((هو نور على نور)). ذكره رزين. ا.هـ. (جواهر).
(3) وفيه أنه ً: كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم فتح مكة فإنه صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد. أورده في (الاعتصام) وفي (الجامع الكافي)، و(شرح التجريد) بروايات إحداها عن علي عليه السلام.
وتقرير وجه الدلالة من الآية: هو أن اللّه تعالى أمر كل من قام إلى الصلاة بالوضوء، ولم يفصل في ذلك بين أن يكون على طهارة أو غير طهارة في إيجاب الوضوء عليه عند قيامه، ولهم حجج غير هذه الآية سنوضحها عند الكلام على الانتصار عليهم.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة من كونه غير واجب.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً، أنه كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات كلها بوضوء واحد، فحملنا تكرير الوضوء لكل صلاة على الأفضلية والندب، وحملنا ما خالف ذلك على الجواز توفقة بين الأدلة وعملاً عليها.
الحجة الثانية: ما روى جابر بن عبدالله، قال: ذهب رسول اللّه إلى امرأة من الأنصار ومعه أصحابه فقدمت له شاةً مقلية فأكل وأكلنا، ثم حانت صلاة الظهر فتوضأ وصلى ثم رجع إلى فضل طعامه، فأكل ثم حانت العصر فصلى ولم يتوضأ(1).
الحجة الثالثة: قياسية، وهو أنه لم يقع من المتوضئ شيء بعد انعقاد وضوئه إلا فعل المباحات، وفعل المباح لا يعد ناقضاً في العادة ولا من جهة الشرع، فلا يجوز نقض الوضوء بحال.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: آية الوضوء دالة على وجوب فعل الوضوء لكل صلاة.
قلنا: هذا فاسد لوجهين:
أما أولاً: فلأن الآية إنما تناولت من كان غير متوضئ، فأما المتوضئ فالإجماع منعقد على خروجه عن ظاهر الآية.
وأما ثانياً: فإنهم معارضون بما ذكرناه من الأخبار، ولن تكون طريقة التوافق بينها إلا بما ذكرناه من حمل الأخبار على الاستحباب، وحمل ظاهر الآية على من كان محدثاً، وهذه طريقة مستقيمة، أعني الموافقة بين الأدلة حذراً عن التعارض والإبطال لها.
قالوا: روي عن الرسول ً، أنه قال لمن علمه الوضوء: (( توضَّ كما أمرك الله )). ولم يفصل بين أن يكون على طهارة أو غير طهارة.
__________
(1) أخرجه ابن حبان في كتابه (التقاسيم والأنواع)، (راجع الروض النضير ج1/314).
قلنا: أمره إنما يكون لمن كان محدثاً دون من كان طاهراً كما وضح بالدلالة التي ذكرناها في الآية، فبطل ما قالوه.
قالوا: روي عن النبي ً أنه كان يتوضأ لكل صلاة، ولم يؤثر أنه صلى بوضوء واحد إلا يوم الفتح لأمر عارض، وفي هذا دلالة على وجوبه.
قلنا: قد نقلنا من الأخبار ما دل على أنه صلى صلوات عدة بوضوء واحد، وهذا يبطل ما قالوه، وإنما كان ذلك من جهته عليه السلام إيثاراً للفضل وعملاً على الاستحباب لكل صلاة بوضوء، فلو كان واجباً كما زعموه لم يؤثر عنه خلاف ذلك، كما لم يؤثر عنه أنه صلى بغير وضوء.
وهل يشترط في تجديد الطهارة لكل صلاة اشتغاله ببعض المباحات أم لا(1)؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك مشترط، وهذا هو الذي صرح به الإمامان: الهادي والمؤيد بالله، قال الهادي: وأحب لمن توضأ ثم اشتغل بشيء من المباحات من أمور الدنيا أن يعود لتطهيره فليتطهر. قال المؤيد بالله في (التجريد) وشرحه: ويستحب تجديد الطهارة لمن اشتغل بسائر المباحات مصرحاً بالاشتراط بالاشتغال.
وثانيهما: أنه لا يشترط ذلك في تجديدها بشيء من الإشتغال بالأمور المباحة.
والحجة للإشتراط: هي أنه لم يُرو عن أحد من السلف أنه جدد الطهارة مع الجمع بين الفرضين أو اتباع فرض بنفل أو نفل بفرض، فدل ذلك على أنه شرط في الاستحباب للتجديد.
والحجة لعدم الاشتراط وهو المختار: هو ما رويناه عن ابن عمر، وما رويناه عن غيره من قوله: (( الوضوء على الوضوء نور على نور)). وقوله: (( من توضأ على طهر كتب اللّه له بذلك عشر حسنات)). فهذان الخبران دالان على استحبابه من غير شرط.
وإذا قلنا بأنه مشترط، فهل يكون ذلك الأمر المباح مقدراً أم لا؟ فيه وجهان:
__________
(1) صواب العبارة: وهل يشترط تجديد الطهارة بعد اشتغاله ببعض المباحات.
أحدهما: أنه لا بد من أن يكون مقدراً، وهذا هو رأي الإمام الهادي، فإنه قال: وأُحِبَّ لمن توضأ ثم اشتغل بشيء من أمور الدنيا فأطال في ذلك حتى نسي ماله توضأ، من بيع أو شراء أو حديث. فقدره بالطول والنسيان.
وثانيهما: أنه غير مقدر، وهذا هو رأي المؤيد بالله، لأنه أطلق من غير تقييد، والتفرقة بين المذهبين ظاهرة، فعلى هذا يستحب الوضوء إذا كان قد اشتغل بالأمور المباحة مطلقاً من غير تقييد على رأي المؤيد بالله، فأما على رأي الهادي فلا يستحب إلا إذا كان جامعاً بين الأمرين: الإطالة والنسيان.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله إذا قلنا بالاشتراط؛ لأنه إذا اشتغل فكأنه قد صرفه عن مقصوده من العبادة، وهذا حاصل في كل فعل من الأمور المباحة من غير تقدير.
---
السُّنة الحادية والعشرون(1): يستحب للمتوضئ أن يدعو عند اشتغاله بغسل أعضائه
__________
(1) الدعاء عند غسل أعضاء الوضوء، مستحب كما أكده المؤلف بقوله: (يستحب للمتوضي).. وليس بسنة، وكذا كثير مما سبقه من تعداد للسنن ولعل تعدادها بلفظ: (السُنَّة..) فيما ندب إليه الرسول ً، أو استحبه العلماء وباعتبار المعنى اللغوي للسنة جاء تغليباً لما تضمنته من السنن مثل السواك، والتسمية، والولاء، والدعاء ...إلخ مما يستند إلى قول أو فعل يفيد الندب والاستحباب في السنة المطهرة. وهذا ما أوضحه المؤلف بعد فراغه من تعداد السنن.
لقوله تعالى:{أدْعُوْنِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }[غافر:60]. فيدعو عند كل عضو بما يكون مختصاً به، فيقول عند غسل فرجيه: اللهم استر عورتي في الدنيا وحصن فرجي من النار، وعند المضمضة والاستنشاق: اللهم لقني الشهادة عند الموت وشممنا روائح الجنة، وعند غسل وجهه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض الوجوه، وعند غسل يديه: اللهم اعطني كتابي بيميني ولا تؤتنيه بيساري ولا من خلفي ولا من وراء ظهري، وعند مسح رأسه: اللهم حرم شعري وبشري على النار، وعند مسح أذنيه: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعند غسل قدميه: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام(1)
__________
(1) جاء في الاعتصام ما لفظه: وروى أبو حاتم عن أنس قال: دخلت على النبي ً وبين يديه إناء من ماء فقال لي: ((يا أنس ادْن أُعلمك مقادير الوضوء)). فدنوت من رسول اللّه ً، فلما أن غسل يديه قال: ((بسم اللّه وبالله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله)). فلما استنجى قال: ((اللهم حصن لي فرجي، ويسر لي أمري)). فلما أن تمضمض واستنشق قال: ((اللهم لقني حجتي ولا تحرمني رائحة الجنة)). فلما أن غسل وجهه قال: ((اللهم بيض وجهي يوم تبيض الوجوه)). فلما أن غسل ذراعيه قال: ((اللهم اعطني كتابي بيميني)). فلما أن مسح يده على رأسه قال: ((اللهم غشنا برحمتك وجنبنا عذابك)). فلما أن غسل قدميه قال: ((اللهم ثبت قدمي يوم تزول فيه الأقدام)). ثم قال النبي ً: ((والذي بعثني بالحق نبياً ما من عبد قالها عند وضوئه لم يقطر من خلل أصابعه قطرة إلا خلق اللّه منها ملكاً يسبح اللّه بسبعين لساناً يكون ثواب ذلك التسبيح له إلى يوم القيامة)). ورواه ابن حبان في تأريخه في ترجمة عباد بن صهيب. قال الشيخ سراج الدين: لكن قال أبو داود: قدريٌ صدوق فيما يروي. قال أحمد: ما كان بصاحب كذب. قال: وله طرق أخرى موضحة ذكرتها في تخريج حديث الرافعي. ذكر هذا الشيخ سراج الدين في كتابه (تحفة المحتاج) واحتج به. ا.هـ.
.
---
السُّنة الثانية والعشرون: والمستحب لمن فرغ من الوضوء أن يستقبل القبلة
ويقول، ما روي عن عمر رضي اللّه عنه، أن النبي ً قال: (( من توضأ فأحسن وضوءه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله -صادقاً من قلبه-، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتح اللّه له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء))(1) . أو يقول ما روى أبو سعيد الخدري عن النبي ً قال: (( من توضأ فقال بعد فراغه من ضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق وطبع عليها بطابع فلم ينكسر إلى يوم القيامة))(2)
__________
(1) فيه روايات لمسلم وأبي داود والنسائي. وفي جواهر الأخبار استناداً إلى رواية الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللّه ً: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد ألاَّ إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء)). وروي نحوه أحمد بن عيسى في أماليه، وورد الحديث في البحر والاعتصام.
(2) جاء في روايات عدة مع اختلاف في بعض اللفظ، ونسب في بعض رواياته إلى الطبراني والنسائي، وقال صاحب الجواهر: وذكر في الترغيب والترهيب نحوه ونسبه إلى الطبراني والنسائي، وصوب وقفه على أبي سعيد. ا.هـ. والذي يظهر هو خلاف ذلك وهو أن الحديث ورد في أمالي أحمد بن عيسى بسنده عن علي عليه السلام وبلفظ: ((ما من مسلم يتوضأ ثم يقول عند وضوئه مرة: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألاَّ إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم اجعلني من المتطهرين واغفر لي إنك على كل شيء قدير، إلاَّ كتبت في رق ثم ختم عليها، ثم وضعت تحت العرش حتى تدفع إليه بخاتمها يوم القيامة)). ا.هـ. وهو في الشفاء، وفي الأمالي أيضاً بسنده عن أبي جعفر قال: قال رسول اللّه ً: ((.. ومن قال إذا فرغ من وضوئه: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إنك على كل شيء قدير، وجبت له الجنة وغفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)).
. أي ختم عليها بخاتم.
---
السُّنة الثالثة والعشرون: والمستحب لمن أحدث وضوءاً أن يصلي بعده ركعتين
، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( رأيت ليلة أُسريَ بي جارية في الجنة، . فقلت: لمن هذه يا جبريل؟ فقال: لبلال، فقلت لبلال: أي شيء تصنع؟ فقال: لا شيء، إلا أني ما أحدثت وضوءاً إلا صليت بعده ركعتين))(1). ويستحب الاجتهاد في الإخلاص فيهما، وتفريغ القلب من أجلهما، لما روى عقبة بن عامر )، قال: أدركت رسول اللّه ً، يخطب الناس فسمعته يقول: (( ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيركع ركعتين يقبل عليهما بقلبه وبوجهه إلا أوجب))(3)
__________
(1) قال الشوكاني في مناقب بلال: وأخرج أحمد والطبراني في المعاجم الثلاثة، عن أبي أمامة، ورجال بعض أسانيدها ثقات، قال: قال رسول اللّه ً: ((إني دخلت الجنة فسمعت خَشْفَةً بين يدي فقلت: يا جبريل ما هذه الخشفة؟ قال: بلال يمشي أمامك)). والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفي البخاري من حديث جاء بأطول من هذا، وفيه أنهً سأله (يعني بلالاً) بأرجى عمل عمله في الإسلام. فقال: لا أتطهر إلا صليت بذلك الطهور ما كُتِب لي أن أصلي. ا.هـ. (در السحابة 369). وجاء الحديث في (جواهر الأخبار) قال: أخرجه البخاري، ومسلم.
(2) عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو الجهني، صحابي مشهور اختلف في كنيته، ولي مصر لمعاوية سنة 44هـ، لثلاث سنوات. روى عنه: جابر، وابن عباس، وأبو أمامة، وقيس بن أبي حازم. توفي سنة 60هـ آخر أيام معاوية. ودفن بالمقطم. ا.هـ. (تهذيب التهذيب ج7/216). (در السحابة ص799).
(3) أخرجه أبو داود، والنسائي عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللّه ً: ((ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة)). أورده ابن بهران (رحمه اللّه) في (الجواهر). وأورد بعده ما لفظه: وعن زيد بن خالد الجهني، أن رسول اللّه ً قال: ((من توضأ فأحسن وضوءه ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)). أخرجه أبو داود، وفي ذلك أحاديث أخر. ا.هـ. ج2/80.
. ومعنى قوله: أوجب أي: وجبت له الجنة.
دقيقة: اعلم أن هذه الأمور المشروعة في الوضوء مما ليس فرضاً، يجمعها كلها أنها ليست شرطاً في صحة الصلاة، ثم إنها على ثلاثة أضرب:
فالضرب الأول: المسنونات التي تكرر فعلها من جهة الرسول ً، وكان مجمعاً على كونها سنة يداوم على فعلها، وهذا نحو السواك، ومسح الرقبة، وإدخال الماء في صماخيه، وتكرير الوضوء ثانية وثالثة، وتجديد الطهارة، وتطويل الغرة وأن يستعمل يمينه في وضوئه، ونعني بالإجماع: كونها متفقاً على كونها سنة عند أئمة العترة وعلماء الأمة، الفرق الثلاث: الحنفية والشافعية والمالكية دون من عداهم.
الضرب الثاني: ما وقع فيه خلاف في فرضيته وكونه مسنوناً، وهذا نحو غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء، والمضمضة، والاستنشاق، وتخليل اللحية الكثيفة، ومسح جميع الرأس، ومسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما، فهذه الأمور كلها قد وقع فيها تردد، فعندنا أنها مفروضة وخالفنا في ذلك الشافعي وغيره من الفقهاء، وزعموا أنها مسنونة وقد قررنا البرهان الشرعي على كونها مفروضة فأغنى عن الإعادة.
الضرب الثالث: المستحبات، وهي التي لم تكثر مواظبة الرسول ً على فعلها، وهذه في الرتبة دون رتبة المسنونات، لما ذكرناه من عدم تكرر فعلها من جهة الرسول ً، وهذا نحو الاشتنان والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة فإنه قد فعله وفعل خلافه، ولهذا عددناه في الأمور المستحبة، ونحو الدعاء عند غسل الأعضاء فإنه يعد من المستحبات إلى غير ذلك من الأمور التي يكون استعمالها دون استعمال غيرها من الأفعال المسنونة في الوضوء.
فأما الفقهاء فقد قالوا: إن جميع ما اشتملت عليه أعمال الوضوء منقسمة إلى أقسام ثلاثة: واجبات ومسنونات وهيئات:
فأما الواجبات: فهي ما كان شرطاً في صحة الصلاة وكان معتبراً في صحة الوضوء أيضاً، وهي إما مجمع عليها وهو غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين، وإما مختلف فيها، نحو النية، وغسل الفرجين، والترتيب، والموالاة، فهذه هي الفرائض الواجبة.
وأما المسنونات: فهي كل ما كان ليس شرطاً في الصلاة ولا في صحة الطهارة، وهذا نحو المضمضة، والاستنشاق، وتخليل اللحية، واستيعاب مسح الرأس، ومسح الأذنين والرقبة، وتكرير الوضوء ثانية وثالثة في الغسل، والمسح، والبداية باليمين.
وأما الهيئات عندهم: فهي التي تُعنَى(1) بالمستحبات، وهي دون المرتبة في المسنونات كما مر تقريره، وهذا نحو تخليل الأصابع، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتطويل الغرة، والدعاء عند غسل الأعضاء، هذا كله تقرير أصحاب الشافعي من الفقهاء، وقد وقع بينهم تردد في التسمية وغسل الكفين قبل إدخالهما الإناء، هل يعدان من المسنونات أو يكونان معدودين من الهيئات؟ ولهم فيهما وجهان، والأمر في ذلك قريب بعد إدراك المعنى المقصود من هذه العبارات والوقوف على حقائقها، والله أعلم.
__________
(1) في (ق): تُعرف.
الإنتصار
على علماء الأمصار
في تقرير المختار من مذاهب الأئمة
وأقاويل علماء الأمة
تأليف الأمام / يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم الحسيني
توفي عام 749 هـ
الجزء الثاني
تحقيق
عبدالوهاب بن علي المؤيد علي بن أحمد مفضل
أعده إلكترونياً
نزار بن عبدالوهاب المؤيد طارق بن محمد الصعدي
:ملاحظة : هذه نسخة إلكترونية أولى ونرحب بأي ملاحظات على البريد الإلكتروني:
info@awahab.com
حقوق الطبع محفوظة لدى مؤسسة الإمام زيد (ع) الثقافية
---
الباب السابع في الغسل وبيان خواصه
الغسل بفتح الفاء(1) في اللغة- هو المصدر فنقول: غسل يغسل غَسْلاً كما نقول: ضرب يضرب ضرباً،وبضمها الاسم من الاغتسال الذي يكون في مقابلة المصدر، وبكسرها ما يغسل به من سدر أو أشنان أو صابون أو غير ذلك مما يغسل به ويستعمل في النظافة.
وهو في لسان حملة الشريعة:عبارة عن إفاضة الماء على جميع البدن من قمة الرأس إلى قرار القدم باطناً وظاهراً مع الدلك مقروناً بالنية.
فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر الأمور الموجبة للغسل ثم نذكر صفة الغسل ثم نردفه بما يجوز للجنب فعله وما لا يجوز ثم نبين الغسلات المسنونة فهذه فصول أربعة:
__________
(1) الفاء: أول الكلمة من (فعل) كما هو معروف في مصطلح الصرف.
---
الفصل الأول في بيان الأمور الموجبة للغسل
المني إذا خرج لشهوة وجب الغسل عند أئمة العترة وفقهاء الأمة من الصحابة والتابعين ولا يعرف فيه خلاف.
والحجة على ذلك: قوله : ((الماء من الماء ))(1).
لأن من خرج منه المني عن شهوة فهو جنب، وقد قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6]
والجنابة في اللغة:خروج المني على جهة الشهوة فإن خرج المني من غير شهوة فإنه يكون ناقضاً للوضوء عند أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يعرف فيه خلاف، لقوله : ((الوضوء مما خرج " )). ولم يفصل ولأنه خارج من أحد السبيلين فنقض الوضوء كالبول. وهل يوجب الغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يوجب الغسل سواء كان خروجه لشهوة أو من غير شهوة، وهذا هو الذي ذكره أبو العباس لمذهب الهادي، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن النبي أنه قال: ((إذا كان ففيه الغسل " )). ولم يفصل بين حالة وحالة في كونه موجباً للغسل.
الحجة الثانية: قياسية: وهو أنه مني فيجب أن يكون خروجه موجباً للغسل كما إذا كان خارجاً مع الشهوة.
المذهب الثاني: أنه لا يوجب الغسل إلا إذا كان خارجاً لشهوة وهذا هو قول أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة ومالك، وأحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: ما روى أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه حيث قال: أمرت المقداد يسأل لي رسول اللّه عن المذي فقال: ((يا مقداد هي أمور ثلاث " إلى أن قال: والمني الماء الدافق إذا كان مع الشهوة وجب الغسل)). وهذا نص يرفع الخلاف.
الحجة الثانية: قياسية: وهو أنه خارج من قصبة الذكر متنوع نوعين: أعلى وأدني.
فأعلاه: ما كان خارجاً بشهوة.
وأدناه: ما كان خارجاً من غير شهوة.
فإذا وجب في أعلاه الغسل لم يجب في أدناه، دليله الحيض والاستحاضة فإن الحيض موجب للغسل وهو أعلى والاستحاضة غير موجبة وهي أدناه.
__________
(1) أخرجه النسائي عن أبي أيوب، وأخرج مسلم نحوه من رواية أبي سعيد كما جاء في البحر 1/97.
والمختار: ما قاله السيد أبو العباس أنه موجب للغسل بكل حال وهو رأي الشافعي.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهما من الاحتجاج، ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا فضخت الماء فاغتسل ))(1).
ولم يشترط كونه حاصلاً عن شهوة، فالعموم في الخبر لجميع الحالات حاصل حتى تدل دلالة، ولا دلالة هاهنا في ظاهر الخبر على قيد من القيود.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال: ((الماء من الماء)). ولم يفصل في ذلك، فوجب إبقاء هذه الأخبار على ظاهرها من غير تأويل.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: روي في حديث أمير المؤمنين عن النبي أنه قال: ((والمني الدافق إذا كان مع شهوة " )). فاشترط الشهوة في وجوب الغسل.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلأن ما قاله من تقييد الشهوة ليس وارداً على جهة الاشتراط فيلزم ما قالوه، وإنما أورده على أنه على جهة الغلبة والكثرة لا أنه شرط في وجوب الغسل وانتفائه مع عدمها.
__________
(1) هذا تتمة الحديث السالف عن علي أنه قال: (( كنت رجلاً مذاءً. إلى أن قال: فذكرت ذلك للنبي أو ذُكِرَ له فقال: ((لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة فإذا فضخت الماء فاغتسل)) أخرجه الستة بروايات عدة، وهذه لأبي داؤد، ذكر في (الجواهر تخريج آحاديث البحر) بعد هذا الحديث حاشية لفظها: فضخت الماء بالفاء ثم ضاد ثم خاء معجمتين، أي: دفقت المني.اه. ج1/11.
وأما ثانياً: فلأن حديث المقداد إنما ورد على جهة التفرقة بين الأنواع الثلاثة: الودي والمذي والمني، فذكر الشهوة في المني ليس على جهة الاشتراط ولكنه وارد على جهة التمييز والتفرقة بين هذه الأمور الثلاثة، وإذا كان هناك محمل لذكرها ضعف الاحتجاج به، والأحاديث التي رويناها في إيجاب الغسل من المني على الإطلاق في ورودها فلهذا كانت أرجح(1).
قالوا: متنوع إلى أعلى وأدنى فلا يكون الأدنى مؤثراً في وجوب الغسل كالحيض والاستحاضة.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن المعنى في الأصل أن دم الحيض مخالف لدم الاستحاضة فلا جرم كان الحيض موجباً للغسل دون الاستحاضة، ولهذا أشار صاحب الشريعة إلى التفرقة بينهما بقوله في دم الاستحاضة ((إنه دم عرق " )) بخلاف المني فإنه شيء واحد لا اختلاف فيه سواء كان عن شهوة أو غير شهوة.
وأما ثانياً: فلأنه في جنسه موجب للغسل فلا يختلف حاله بين أن يكون من شهوة أو غير شهوة، كالبول فإنه موجب لنقض الوضوء لا يختلف حاله في ذلك.
قالوا: ولأنه يخرج من البدن لا على جهة الشهوة والدفق فلا يكون موجباً للغسل كالمذي.
قلنا: المعنى في الأصل كونه غير مني فلا يوجب غسلاً بخلاف المني الخارج من غير شهوة فإنه مني كالخارج مع الشهوة فافترقا.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: إذا أمنت المرأة من فرجها وجب الغسل عليها عند أئمة العترة وفقهاء الأمة أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه ومالك.
والحجة على ذلك:
ما روت أم سليم الأنصارية(2)
__________
(1) يبدو من لفظ الحديث أن الشهوة شرط في إيجاب الغسل؛ لأنها اقترنت فيه بأداة الشرط، ثم إن بالإمكان القول بأن هذا الحديث مخصص أو مقيد للإطلاق أو العموم في الحديث السابق، والله أعلم.
(2) أم سليم بنت ملحان والدة أنس بن مالك، وزوج أبي طلحة الأنصاري، روت عن النبي وعنها ابنها أنس بن ملك، وعبد الله بن عباس وعمرو بن عاصم الأنصاري وغيرهم.
قال ابن عبد البر: كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية فولدت له أنساً، فلما جاء الله بالإسلام أسلمت وعرضت عليه الإسلام فغضب عليها وخرج إلى الشام فتزوجت بعده أبا طلحة. إ ه. تهذيب التهذيب ملخصاً ج12/497.
قالت: يارسول اللّه إن اللّه لا يستحي من الحق،
أرأيت المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل، أتغتسل أم لا؟
فقال الرسول : ((فلتغتسل إذا وجدت الماء ))(1)
وللمرأة ماء كماء الرجل لما روت عائشة عن الرسول أنه قال: ((إن للمرأة ماء كماء الرجل " ولكن اللّه أسر ماءها وأظهر ماء الرجل))(2)
والشبه بين الرجل(3) وأبويه أو أحدهما، يكون على حسب غلبة الماء لما روت عائشة عن النبي أنه اجتمع إليها نسوة من قريش ومن الأنصار فقالت عائشة: يا رسول اللّه هؤلآء النسوة جئنك يسألنك عن أشياء يستحين عن ذكرها فقال: ((إن اللّه لا يستحيي من الحق " )) فقالت: ترى المرأة في منامها ما يرى الرجل فهل عليها غسل؟ فقال: ((عليها الغسل إن لها ماء كماء الرجل فإذا ظهر ماؤها على ماء الرجل ذهب الشبه إليها وإذا ظهر ماء الرجل على مائها ذهب الشبه إليه وإذا اختلط كان الشبه منه ومنها، فإذا ظهر منها ما يظهر من الرجل فلتغتسل))(4).
وحكي عن إبراهيم النخعي: أنه لا يجب عليها الغسل.
والحجة له على ذلك: ما روي من حديث عائشة ((وأن اللّه أسر ماءها وأظهر ماء الرجل)).
__________
(1) الماء: المني.
(2) هو والحديث السابق له والتالي من بعده حديث واحد سيأتي.
(3) المقصود: المولود أو الرجل والمرأة.
(4) هذا الحديث روي من عدة طرق وبألفاظ مختلفة منها روايتان لمسلم، ومنها عن عائشة أن نسوة من الأنصار...إلخ، ومنها عن عائشة أن أم سليم سألت رسول الله، وفيه روايات أخر للموطأ وأبي داؤد و النسائي، بما يفيد أن المرأة إذا رأت في منامها ما يرى الرجل فعليها الغسل إذا وجدت الماء أي: المني.
ووجه تقرير الحجة: هو أن الغسل إنما يجب بظهور الماء كالرجل فإذا كان مستتراً فلا وجه لإيجاب الغسل عليها، وما ذكره النخعي فاسد فإنا لا ننكر أن الأغلب في العادة استتار مائها ولكنا نقول: إذا برز وجب الغسل، فإذاً الخلاف مرتفع بيننا وبينه في المسألة فإنا نقول: إذا لم يخرج منها فلا وجه لإيجاب الغسل، وهو لا يخالفنا في ذلك وهو يسلم لنا [أنه] إذا خرج وجب الغسل عليها، اللهم إلا أن يقول: إنه لا يجب عليها سواء خرج أو لم يخرج كان هذا خطأ فإن الرسول قال: ((الماء من الماء)) ولم يفصل بين الرجل والمرأة. ولأنه ماء خرج لشهوة عند الوقاع فكان موجباً للغسل كالمني.
الفرع الثاني: المني الذي يوجب الغسل من الرجل، هو ماء أبيض غليظ له ريح الطلع إذا كان رطباً وله ريح العجين إذا كان يابساً أو البيض، فهو متميز بالريح واللون والغلظ، وقد يتغير عما ذكرناه لعلة تحدث فيخرج رقيقاً أصفر لمرض، وقد يخرج متلوناً بالحمرة إذا أجهد [الرجل] نفسه في الجماع. وأما ماء المرأة فهو أصفر رقيق فإذا خرج وعرفته بانقطاع شهوتها فإنه يجب عليها الغسل كما أوضحناه، وإنما سمي منياً لأنه يراق ويصب في الأرحام ولهذا يسمى الموضع منا(1)
لما يراق فيه من الدماء ويصب،فأما المذي والودي فليس فيهما غسل وإنما يجب الوضوء منهما وقد مر الكلام على صفاتهما وعلى أنهما لا يوجبان الغسل فأغنى عن الإعادة.
وإن استدخلت المرأة مني الرجل في فرجها ثم خرج فإنه يجب عليها الوضوء، لقوله : ((الوضوء مما خرج)) ولم يفصل، ولا يجب عليها الغسل لأنه إنما يجب إذا كان المني حاصلاً عن الجماع ولا جماع هاهنا وإنما هو خارج كما لو أدخلت في فرجها دم حيض، فإنما يجب عليها الوضوء عند خروجه منها ولا يجب عليها الاغتسال.
وإن أمذى الرجل فهل يجب عليه مع غسل موضع المذي، [غسل] ذكره وأنثييه أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) جاء في حاشية الأصل: مِناً مُنَوَّناً أينما وقع ذكره.
أحدهما: أنه لا يجب عليه غسلهما، وهذا هو قول أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي أنه قال في بعض الأخبار: ((وينضح على فرجه ويتوضأ ))(1)
يعني بالنضح: غسل ما أصابه المذي لاغير.
وثانيهما: أنه يجب عليه غسل ذكره وأنثييه، وهذا هو المحكي عن أحمد بن حنبل، أو غسل ذكره وهذا هو رأي مالك.
والحجة على ما قالاه: ما روي عن المقداد بن عمرو(2) في حديث أمير المؤمنين لما سأله عن المذي فقال: ((يغسل ذكره ويتوضأ " )). وفي حديث آخر: ((يغسل ذكره وأنثييه " )).
والمختار: ما قاله أصحابنا والفقهاء من جهة أنه خارج لا يوجب غسل جميع البدن فلا يوجب غسل ما لم يصبه كالبول، وما قالوه محمول على الاستحباب لا غير.
الفرع الثالث: قال الهادي في الأحكام: من رأى في منامه أنه يجامع ثم انتبه ولم ينزل فلا غسل عليه(3) ، لقوله : ((فإذا فضخت الماء فاغتسل " )). وهذا لم يفضخ ماء فلم يجب عليه غسل.
وإن رأى في منامه أنه يجامع فاستيقظ فلمس رطوبة فنظره (4)
فوجده مذياً وأيقن أنه لم ينزل فإنه لا غسل عليه ;لأنه على يقين من الطهارة ولم يتحقق ما يوجب الغسل من إنزال المني
وإن شك في الإمناء لم يجب عليه الغسل لأن الطهارة ثابتة بيقين فلا يزول حكمها بالشك.
__________
(1) سبق في حديث علي.
(2) جاء في ترجمته للعلامة السياغي: هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة، من اليمن، وكان الأسود بن عبد يغوث ادعاه لأنه كان حليفاً له فنسب إليه ورجع إلى نسبه. وكان فارس رسول الله يوم بدر، إلى أن قال: ويكنى: أبا معبد، مات بالجرف فحمل على رقاب الرجال حتى دفن بالمدينة سنة 33هوهو ابن سبعين سنة أو نحوها. اه(الروض النضير) ج1 ص367.
(3) لفظ الأحكام: ولو أن رجلاً رأى في المنام أنه يجامع ثم انتبه ولم ينزل لم يكن عليه في ذلك غسل.ا ه. ج1ص59.
(4) أي: الخارج.
قال المؤيد بالله: ومن استيقظ من نومه فوجد بللاً فلا غسل عليه ما لم يعلم أنه مني، وهكذا إذا غسل البلل قبل أن يتحقق حاله لم يجب عليه الغسل وإن وجد بللاً مع ذكر الاحتلام.
والوجه في هذه المسائل كلها: أنه على يقين من الطهارة وشاك في الإمناء.
وحكي عن أبي حنيفة ومحمد: أنه إذا رأى بللاً ولم يذكر الاحتلام فعليه الغسل، وهو محكي عن الثوري و مالك؛ لأن الغالب من حال البلة عند النوم أنها مني.
وحكي عن أبي يوسف أنه لا غسل عليه كمقالتنا حتى يتيقن الاحتلام، وعندنا لا بد من اعتبار تحقق الإنزال مع يقين الاحتلام ولا يغني أحدهما عن الآخر.
وحكي عن الحسن بن صالح: أنه إذا وجد البلة حين استيقظ وجب عليه الغسل.
وإن وجدها بعدما يقوم ويمشي فلا غسل عليه لأنه لا يحتمل البلل عقيب النوم إلا أن يكون منياً بخلاف ما إذا وجده بعدما قام فإنه يحتمل أن يكون مذياً.
قال الشافعي: الأحب أن يغتسل، وظاهر كلامه دال على الاستحباب إذ لا وجوب هناك لعدم التحقق للإمناء.
الفرع الرابع: قال الهادي في الأحكام: وإن وجد في ثوبه منياً ولم يذكر جنابة وجب عليه الاغتسال(1).
لما روته عائشة أن الرسول سئل عن الرجل يجد بللاً ولا يذكر احتلاماً قال: ((يغتسل))(2).
__________
(1) لأنه قد رأى في ثوبه ما يجب فيه الغسل. ا.هبلفظه من كلام الهادي في الأحكام. ج1ص59.
(2) هذا الحديث جاء في (جواهر الأخبار) عن عائشة أن رسول الله سئل عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً، قال: ((يغتسل))، وعن الرجل يرى أنه احتلم ولا يجد بللاً، قال: ((لا غسل عليه)). قالت أم سلمة: والمرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ قال: ((نعم النساء شقائق الرجال)) أخرجه أبو داؤد والترمذي. اه. 1/99.
والخلاصة كما جاء في (متن الأزهار) للإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى: أن الغسل على من تيقن المني وظن الشهوة لا العكس.
والظاهر من كلام الهادي هو الإطلاق وحمله السيد أبو طالب أنه لا يلبسه سواه. فإن كان يلبسه غيره لم يجب عليه الاغتسال، وهذا جيد لأنه إذا كان يلبسه غيره لم يتحقق كونه من جهته لأجل الاحتمال، وإذا كان مقصوراً عليه فالظاهر أنه منه وإن لم يكن ذاكراً له.
وإن رأى رجلٌ في نومه أنه جامع ولم يجد البلل فإنه لا غسل عليه، لما روته أم سليم: أن المرأة ترى ذلك هل عليها غسل؟ فقال الرسول : ((نعم إنما النساء شقائق الرجال " ))(1).
ومن شك في الإمناء فلا غسل عليه من جهة أن الطهارة إذا كانت ثابتة بيقين فلا يزول حكمها بالشك.
وإن خرج المني من رجل فاغتسل ثم خرج منه المني ثانياً فهل يجب عليه الغسل أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
أولها: أنه لا غسل عليه بحال سواء كان خارجاً قبل البول أو بعده، وهذا هو المحكي عن مالك والزهري والليث وعطاء وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهذا هو الذي يأتي على كلام الإمامين الهادي والمؤيد بالله وأكثر العترة.
والحجة على ذلك: هو أن المني عندهم ليس موجباً للغسل إلا إذا كان خارجاً عن شهوة على جهة الدفق فإذا خرج دفعة ثانية لم تكن الشهوة مقارنة له، ولهذا لم يكن موجباً للغسل.
وثانيها: أن الغسل واجب عليه بكل حال سواء كان قبل البول أو بعده، وهذا هو الذي يشير إليه كلام أبي العباس الحسني وهو رأي الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن المني موجب للغسل على أي وجه خرج فالدفعة الثانية كالدفعة الأولى في إيجاب الغسل.
وثالثها: أنه ينظر فيه فإن كان قبل البول فإنه يوجب الغسل وإن كان بعد البول فإنه غير موجب له، وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة له على ذلك: هو أنه إذا خرج قبل البول فهو من المني الأول الخارج بالشهوة، فلهذا أوجب الغسل، وإن كان بعد البول لم يجب فيه الغسل لأنه لم يخرج بدفق وشهوة.
__________
(1) تقدم في الحديث السابق.
والمختار: إيجابه للغسل بكل حال لما قررناه من قبل من أن المني موجب للغسل سواء خرج لشهوة أو من غير شهوة(1)،
وقد قررناه من قبل، ولأن الغالب من المني أنه لا يخرج إلا عن شهوة وخروجه من غير شهوة إنما يكون على جهة الندرة والنادر لا حكم له وسيأتي لهذا مزيد تقرير عند الكلام في تقديم البول على غسل الجنابة، ولأن ما هذا حاله مني آدمي انفصل عن محله فأوجب الغسل كما لو خرج ابتداء.
الفرع الخامس: وإن أحس الرجل بانتقال المني منه ولم يخرج منه شيء فلا غسل عليه عند أئمة العترة وهو قول أكثر فقهاء الأمة.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي أنه سئل عن الرجل يرى أنه احتلم ولا يجد البلل فقال: ((لا غسل عليه " ))(2).
وحكي عن أحمد بن حنبل أنه قال: يجب عليه الاغتسال.
وحجته على ما قاله هو: أن إيجاب الغسل إنما هو معلق بانفصال المني والغالب من حاله أنه إذا انفصل فهو خارج لا محالة فإذا تأخر خروجه في بعض الأحوال فهو نادر. فلأجل هذا علقناه بالأمر الأكثري وهذا غلط، فإن كل ما أوجب الطهارة فالاعتبار فيه بالظهور لا بالإنتقال كالحدث، ويؤيده كلام صاحب الشريعة حيث قال: ((إذا فضخت الماء فاغتسل)). والفضخ إنما يكون عند الظهور لا غير.
وإن وجد المني على فخذه أو في ثوب لا ينام فيه غيره ولم يتيقن خروجه منه، وجب عليه الغسل عند أئمة العترة وهو قول الأكثر من أصحاب الشافعي.
__________
(1) في آخر الفرع الثالث السابق، قال المؤلف ما لفظه: عندنا لا بد من اعتبار تحقيق الإنزال مع يقين الاحتلام ولايغني أحدهما عن الآخر. إ.ه. وهنا يرى في (المختار) أن خروج المني موجب للغسل سواء خرج لشهوة أو لغير شهوة. وهذا قد يظهر تناقضاً ولا تناقض فيه وذلك لأمرين:
أحدهما: أن قوله الأول يتعلق بإمناء النائم.
وثانيهما: أنه يرى أن المني لا يخرج إلا لشهوة إلا في النادر الذي لا حكم له. فتأمل والله أعلم. إ.ه.
(2) تقدم قريباً.
والحجة على ذلك: ما روته عائشة رضي اللّه عنها أن الرسول سئل عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام فقال: ((يغتسل)) فإذا أوجب الغسل عند البلل مع تجويز كونه غير مني فلأن يجب الغسل لمن تحقق كونه منياً أولى.
وحكي عن بعض أصحاب الشافعي: أنه لا يوجب الغسل لأنه لم يتحقق كونه منياً ولأن الظاهر أنه خارج منه، فعلى هذا يجب عليه إعادة كل صلاة صلاها قبل الاغتسال بعد أقرب نومة نامها لأنه هو المتحقق بيقين والمستحب أنه يعيد كل صلاة صلاها من الوقت الذي تحقق أنه لم يكن معه المني إلى أن يراه.
وإن احتلم ولم يجد البلل أو شك هل خرج منه المني أم لا. فإنه لا يجب عليه الاغتسال كما ذكرناه من حديث عائشة، وإن رأى المني على فراش أو ثوب يتبذله هو وغيره لم يجب عليه الغسل لجواز أن يكون من غيره. والمستحب أن يغتسل لجواز أن يكون من جهته.
وإن تحقق[أن] المني خرج منه في النوم ولا يعلم متى خرج منه وجب عليه أن يغتسل لتحققه لما يوجب الاغتسال، ويجب عليه أن يعيد كل صلاة صلاَّها بعد أقرب نومة نامها لأن ذلك هو المتيقن، ويستحب له أن يعيد ما صلى من الوقت الذي تيقن أنه حدث بعضه(1).
ولا يجب الاغتسال من خروج المذي لحديث المقداد بن عمرو وقد مر فلا نعيده.
ولا يجب الاغتسال من الودي أيضاً وهو الذي يخرج بعد البول لأنه إذا لم يجب الغسل من خروج المذي لكونه أقرب إلى صفة المني فلأن لايجب بخروج الودي وهو أقرب إلى البول أولى وأحق.
الفرع السادس: وإن خرج من رجل شيء يشبه المني والمذي والودي ولم يتميز له واحد منها ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يجب عليه الوضوء لا غير لأن غسل أعضاء الوضوء متيقن على الأحوال كلها، فلهذا كان واجباً، وما زاد على ذلك من وجوب الغسل فهو مشكوك فلم يكن واجباً.
__________
(1) لعل الصواب (بعده) لأن المعنى غير واضح.
وثانيها: أنه مخير بين أن يجعل حكمه حكم المني فيجب الغسل منه ولا يجب غسل الثوب وبين أن يجعل حكمه حكم المذي فيجب الوضوء مرتباً ولا يجب غسل الثوب منه لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وثالثها: أن يجعل حكمه حكم المني وحكم المذي جميعاً فيجب عليه غسل جميع بدنه، ويجب عليه الترتيب في الوضوء، ويجب عليه غسل الثوب.
فهذه الأقوال كلها محكية عن الشافعي وأصحابه، وهذا هو المختار عندنا على رأي أئمة العترة، فيجب عليه غسل بدنه وغسل الثوب جميعاً ويجب عليه الوضوء مرتباً لأنا إذا أوجبنا الغسل وجب عليه الوضوء لأن الصلاة ثبت وجوبها بيقين فلا بد مما ذكرناه ليسقط فرضها بيقين. فلهذا وجب غسل بدنه وثوبه جميعاً كما ذكرناه.
وإن خرج من قُبُلَي الخنثى المشكل وجب عليه الغسل لأن المني قد خرج من الفرج الأصلي بيقين، وإن خرج من أحدهما فهل يجب عليه الغسل أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه غير واجب لجواز أن يكون ذكراً وقد خرج المني من عضو زائد غير الذكر. أو يكون أنثى ويكون المني قد خرج من عضو زائد غير الفرج، فلما كان الأمر فيه كما قلناه لم يجب الغسل مع الشك.
وثانيهما: أنه واجب بكل حال لحديث النبي مع أمير المؤمنين حيث قال له: ((يا علي إذا فضخت الماء فاغتسل " )).
وإن خرج المني من الدبر فهل يجب الغسل أم لا؟ فيحتمل أن يقال: إنه واجب كما يشير إليه كلام أبي العباس لأنه اعتبر خروج المني من غير شهوة موجباً للغسل.
وأما على كلام الهادي فلا غسل عليه لأنه قد اعتبر الشهوة ولا شهوة في خروجه من غير الذكر. وعن الشافعي فيه وجهان(1).
والمختار: أنا إذا قدرنا وقوع هذه الصور النادرة وجب الغسل عند خروج المني سواء قارن الشهوة أم لم يقارنها تعويلاً على الظواهر الشرعية والإطلاقات النقلية فإنها لم تفصل في ذلك بين محل ومحل في خروجه، ولا بين حالة وحالة. والله أعلم بالصواب.
__________
(1) وجوب الغسل وعدمه.
مسألة: التقاء الختانين: هو إيلاج الحشفة في الفرج من غير إنزال، واعلم أن الحشفة من الرجل هي موضع القطع عند ختانه المنحسر قليلاً عن الحشفة، والكمرة هي طرف الذكر وفيها ثقبة البول، فالحشفة متقدمة على قطع الختان،
والذكر والإحليل عبارتان(1)
عن مجموع العضو،وأما المرأة ففي فرجها ثقبتان، فالثقبة الأولى: في أعلى فرجها وهي مخرج البول وفوقها جلدة تشبه عرف الديك مغطية لمخرج البول تقطع عند ختانها. والثقبة الثانية: في أسفل فرجها هي مدخل ذكر الزوج ومخرج الولد والحيض. والملاقاة هي المحاذاة. يقال: التقى الفارسان إذا تحاذيا. فإذا لاقى ختان الرجل ختان المرأة فقد تقابلا وذلك لا يكون إلا بعد تواري الكمرة وهي طرف الذكر وتواري الحشفة أيضاً لأنها متقدمة على ختان الرجل وهو بعدها، فإذا حصل الإيلاج على هذه الصفة من غير إنزال المني فهل يكون موجباً للغسل أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه موجب له وهو قول أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه والخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من جلَّة الصحابة رضي اللّه عنهم وعائشة، وهو قول أئمة العترة وفقهاء الأمة أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وغيرهم من جلة الفقهاء.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ " }[النساء:43]. والجنابة إنما تقال لغة على الجماع سواء كان معه إنزال أو لم يكن.
__________
(1) هكذا في الأصل.
الحجة الثانية: ما روى زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن النبي أنه قال: ((إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل " أنزل أم لم ينزل))(1). وهذا نص فيما ذهبنا إليه.
المذهب الثاني: أنه غير واجب، وهذا هو المحكي عن جماعة من الصحابة كأبي سعيد الخدري وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم ومعاذ بن جبل ورافع بن خديج " (2)
وأبي أيوب الأنصاري وبه قال عروة. وروي عن داود وطبقته من أهل الظاهر. وقيل: إن أبي بن كعب وزيد بن أرقم رجعا عن ذلك وقالا بإيجاب الغسل عليه وإن لم ينزل.
والحجة على ذلك: ما روى أبو سعيد الخدري عن الرسول أنه قال: ((من جامع ولم يمن فلا غسل عليه " ))(3).
وفي حديث آخر أنه قال : ((من أقحط فلا غسل عليه " ))(4)
والمعنى في الإقحاط هو الإيلاج من غير إنزال أخذاً له من القحط وهو إنقطاع المطر.
__________
(1) رواه زيد بن علي عن آبائه، عن علي وهو حديث مشهور، ورد من عدة طرق، وهو مروي كما جاء في (الروض) عن أبي هريرة وابن عمر ورافع بن خديج، قال: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وفي أكثر الروايات بلفظ: ((إذا التقى الختانان وجب الغسل)) بدون ((أنزل أم لم ينزل)) وهي جملة مؤكدة لا يؤثر حذفها على الحكم بشيء.
(2) رافع بن خديج (بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة) بن رافع الأوسي الأنصاري، صحابي شهد أحداً والخندق. روى عن النبي وعن جماعة من الصحابة، وروى عنه فقهاء من التابعين منهم: سعيد بن المسيب، ونافع مولى ابن عمر، توفي سنة 73ه(تهذيب التهذيب) ج3ص198.
(3) حكاه في (الشفاء) وضعفه.
(4) روي الحديث عن أبي سعيد أنه خرج مع رسول الله إلى قبا إلى آخر الحديث، رواه مسلم، وللبخاري رواية أخرى بمعناه.
الحجة الثانية: ما روي أنه جاء إلى بعض الأنصار فاستخرجه من بيته وكان الرجل مخالطاً لامرأته فلما سمع قرع الرسول خرج وزال عن مخالطتها فلما بصر به الرسول قال له: ((عجلت عجلت ولم تنزل فلا تغتسل فإن الماء من الماء " ))(1).
وأراد أن الغسل بالماء لا يجب إلا على من أنزل المني وهو الماء.
المذهب الثالث: هو التوقف. وهذا هو المحكي عن الإمام القاسم بن إبراهيم فإنه قد صحح فيه الفتوى، وفي كلامه احتمال للوجوب وعدمه فإنه قال: قد اختلف فيما هذا حاله عن الرسول وعن أمير المؤمنين، واختلف فيه المهاجرون والأنصار وكثرت فيه الأحاديث والروايات. وهذا فيه دلالة على أنه واقف في حكمه. وقال: إن الإحتياط الغسل. وقال: ومن ترك الغسل منه وتوضأ وأخذ بما ذكر عن رجال من الأنصار لم يكن كمن لم يغتسل بعد الإنزال.
وأقول: إن مثل هذا التوقف غير بدع فإنه لا يمتنع تعارض الأمارات الظنية على المجتهد فيقف(2)،
ولا يكون له في المسألة قطع على أحد الاحتمالين. فأما السيد أبو طالب فقد حمل كلامه(3) على موافقة كلام ولده(4)
الهادي من القول بإيجاب الغسل. وغلط من حمل كلامه على خلاف ذلك وهذا فيه نظر، فإن ظاهر كلامه ونصه على الوقف كما نقلناه عنه ورواه الناقلون لمذهبه من أصحابه، وإذا كان الأمر كما قلناه فلا وجه لتخطئة من حمل كلامه على ظاهره(5)،
__________
(1) هذا الحديث والسابق له حديث واحد، والاختلاف لا يكاد يتجاوز الرواية وبعض الألفاظ.
(2) أي فيتوقف عن القطع برأي معين.
(3) أي كلام القاسم بن إبراهيم.
(4) يقصد حفيد القاسم وهو الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم.
(5) في نسخة: من حمله على ظاهر كلامه.
ولا حرج عليه في ذلك خاصة مع قيام الاحتمال وتعارض الأدلة. فأما قوله: غير أن الإحتياط هو الغسل(1)،
فهو مما يؤيد وقفه في المسألة لأنه لو صفا له دليل الوجوب قال به، فلما لم يَصْفُ عن المعارض له وقف، وهذه هي أمارة التقوى حذراً من الهجوم على القطع من غير بصيرة، وأمارة قوة الفهم حيث أحاط بالأدلة الشرعية وتحقق أنها متعارضة.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العترة وفقهاء الأمة ويؤيد ذلك ما حكيناه عنهم ونزيد ههنا حججاً ثلاثاً:
الحجة الأولى: ما روى أبو هريرة عن النبي أنه قال: ((إذا قعد بين شُعَبِهَا الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل " أنزل أم لم ينزل))(2)
__________
(1) وكلام القاسم في هذه المسألة من بدايته هو كما رواه الهادي قال: حدثني أبي عن أبيه في الرجل يجامع المرأة فلا يُنزل، هل عليهما الغسل أم لا؟ فقال (يعني القاسم) قد اختلف في ذلك عن النبي وعن علي رحمة اللّه عليه، واختلف المهاجرون والأنصار وكثرت فيه الروايات، غير أن الإحتياط أن يغتسل. وقد قيل إن ما أوجب الحدَّ أوجب الغسل. ا.ه. بلفظه من الأحكام ج1ص58.
(2) هذا الحديث روي عن أبي موسى أنه سأل عائشة عما يوجب الغسل فقالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله: (( إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل)) أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل)) زاد في رواية: ((وإن لم ينزل)) أخرجه البخاري ومسلم، وللنسائي نحوه، وهو بلفظه الذي أورده المؤلف في رواية لأبي داؤد. اه(جواهر)1/100.
.والشعب الأربع : شعبتا رجليها وشعبتا شفريها وهما جانبا فرجها(1) هكذا فسره الأزهري" (2)،
وروي عن أمير المؤمنين أنه قال: كيف يجب الحد ولا يجب الغسل.
الحجة الثانية: ما روي أن الصحابة لما اختلفوا في ذلك سألو أزواج رسول اللّه فأخبرن أن رسول اللّه كان يغتسل منه، وروت عائشة قالت: فعلته أنا ورسول اللّه فاغتسلنا. وعن محمد بن علي الباقر أنه قال: اجتمعت قريش والأنصار فقالت الأنصار: ((الماء من الماء)). وقالت قريش: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " )) فتدافعوا إلى أمير المؤمنين فقال: يامعشر الأنصار أيوجب الحد؟ قالوا: نعم. فقال لهم: فما بال ما يوجب الحد لا يوجب الغسل؟ فأبوا إلا ما قالوه وأبى إلا ما قاله، وهذا فيه دلالة على أن مذهبه وجوب الغسل.
الحجة الثالثة: قياسية وهو أن كل حكم يتعلق بالإنزال فإنه لا محالة يتعلق بالإيلاج كالحد والعدة والإحصان والإحلال للزوج الأول، ولأن الغسل حكم يتعلق بالإنزال فوجب أن يكون متعلقاً بالإيلاج، دليله: فساد الصوم.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
__________
(1) وبين شعَبها الأربع هي يداها ورجلاها أو رجلاها وشفرا فرجها، كَنَّى بذلك عن تغييب الحشفة في فرجها. ا.هقاموس.
(2) محمد بن أحمد بن الأزهر، أبو منصور: أحد الأئمة في اللغة والأدب، مولده ووفاته في هراة بين282و370هحرية بخراسان، نسبته إلى جده الأزهر، عني بالفقه واشتهر به أولاً، ثم غلب عليه التبحر في العربية، فرحل في طلبها وقصد القبائل وتوسع في أخبارهم، ووقع في أسار القرامطة، فكان مع فريق من هوازن (يتكلمون بطباعهم البدوية ولا يكاد يوجد في منطقهم لحن) كما قال في مقدمة كتابه (تهذيب اللغة-ط-) ومن كتبه: (غريب الألفاظ التي استعملها الفقهاء-خ-) و(تفسير القرآن) و(فوائد منقولة من تفسير للمزني-خ-). ا.ه(أعلام) 5/311، راجع (الوفيات1/311).
قالوا: الحديثان اللذان رويناهما(1)
دالان على أن وجوب الغسل لا يتعلق إلا بالإنزال فيجب الإعتماد عليه.
قلنا: هذان الحديثان منسوخان فلا يعمل عليهما، وإنما قلنا إنهما منسوخان فلما روى سهل بن سعد أنه أخبره أبي بن كعب أن رسول اللّه جعل: ((الماء من الماء))(2).
رخصة في أول الإسلام من البرد لعدم الأثواب ثم نهاهم عن ذلك وأمرهم بالاغتسال منه(3)،
وإنما قلنا: إن كل ما كان منسوخاً فلا يعمل عليه فلأن الشرط في العمل عليه هو أن لا يرد له ناسخ، ومن وجه آخر وهو أن الغسل منه فيه احتياط، خاصة في أمور العبادات، فيجب التعويل على الأخبار الدالة على وجوب الاغتسال منه لما ذكرناه، وقد قال : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " )) فإذا لم يكن الإحتياط واجباً فلا أقل من كونه راجحاً على غيره وهذا هو الغرض الأقصى في الأحكام الاجتهادية.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: وهل يعتبر تواري الحشفة في إيجاب الغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا بد من تواريها في وجوب الغسل، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة، ومحكي عن الفريقين أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما، وعلى هذا يكون قوله : ((وتوارت الحشفة)) يفيد فائدة جديدة غير قوله: ((إذا التقى الختانان)) وقوله: ((إذا لاصق الختان الختان)). من جهة أن الملاصقة لا توجب الغسل إلا بشرط تواري الحشفة.
والحجة على ذلك: حديث زيد بن علي عن آبائه عن الرسول أنه قال: ((إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل)). فظاهر الحديث دال على اعتبار تواريها في وجوب الغسل فلا يجوز إبطاله بالتأويل.
__________
(1) وهما: ((من جامع ولم يمن فلا غسل عليه)) و((من أقحط فلا غسل عليه)).
(2) أي: لا من الإيلاج.
(3) من الإيلاج الذي نهاهم عنه دون أن يغتسلوا.
المذهب الثاني: أن ذلك غير معتبر وإنما المعتبر هو المماسة والمجاوزة(1)
وهذا هو الذي يشير إليه كلام الهادي حيث قال: ولو دنى يقظان من يقظان حتى مس ختان ختاناً فالواجب الغسل، وذلك سواء في الرجال والنساء، وظاهر كلامه دال على أنه لو مس ختان المرأة مثله أو ختان الرجل مثله أو ختان الرجل [ختان] المرأة فإنه موجب للغسل في حقهما جميعاً،وبه قال مالك، فإنه صرح بأنه إذا تماس الختانان وجب الغسل وحمله ابن القاسم(2)
من أصحابه على تواري الحشفة، وظاهر كلامه الإطلاق.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي أنه قال: ((إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل " ))(3). وقوله : ((إذا قعد بين شعبها الأربع فقد وجب الغسل " )). وقوله : ((إذا أُلصِق الختان بالختان وجب الغسل " ))(4). وقوله : ((إذا ماسّ الختان الختان فقد وجب الغسل " )).
ووجه تقرير الحجة من هذه الأخبار هو: أنه أوجب الغسل بالمماسة والمجاوزة والملاصقة ولم يعتبر تواري الحشفة وفي هذا دلالة على أنه غير معتبر في وجوب الغسل(5).
__________
(1) يظهر أنه يقصد بالمجاوزة مجاوزة الختان للختان كما سيأتي في الحديث الشريف: ((إذا جاوز الختان الختان...))إلخ. وربما قصد المجاورة بالراء المهملة وهي الرادفة للمماسة.
(2) هناك عدد غير قليل من الأعلام يطلق على كل منهم: ابن القاسم، ومنهم على سبيل المثال: عبدالرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، والحسن بن القاسم بن الحفظ الدمشقي، ومحمد بن القاسم الطائي الشامي، وغيرهم. راجع( سير أعلام النبلاء) ج6 ص 5، ص 404، ج15 ص 309، (والكنى والأسماء)ج1 ص 63، ص 130. و(التاريخ الكبير)ج1 ص 214.
(3) تقدم.
(4) تقدم.
(5) أما المجاوزة ففيها نظر. لأن مجاوزة الختان للختان قد لا تحصل إلا بتواري الحشفة، بخلاف المماسة والملاصقة.
والمختار: ما عليه الأكثر من أئمة العترة وفقهاء الأمة من اعتبار تواري الحشفة وغيبوبتها في الفرج، وعلى هذا يكون ذكر التواري شرطاً كما أشرنا إليه من قبل، وعلى قول من لا يشترطه يكون ذكر التواري على جهة البيان والإيضاح من غير أن يكون شرطاً لأن الغسل واجب من دونه على رأي من لا يعتبره.
والحجة: ما حكيناه عنهم من الاحتجاج بخبر زيد بن علي، ونزيد ههنا وهو أن جميع الأحكام المتعلقة بالوطء من الحد والإحصان وغيرها لا بد فيه من اشتراط التواري دون الإمساس والملاقاة فهكذا الغسل من غير تفرقة بينهما.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: الأحاديث التي رويناها دالة على بطلان التواري فإنه لم يذكر فيها إلا الملاقاة والإلصاق والإلزاق والمماسة ولم يعتبر توارياً، وفي هذا دلالة على بطلان اعتبار التواري.
قلنا: قد روينا من حديث زيد بن علي وأبي هريرة في الخبرين اللذين رويناهما ذكر التواري، وسكوته عن ذكره فيما رووه من الأحاديث لا يدل على بطلان اعتباره بل إنما سكت عنه لأن يكون مردوداً إليه بالقياس كغيره مما يكون حكمه معلوماً بالقياس على غيره.
ومن وجه آخر: وهو أن الأحاديث التي رووها من غير ذكره، نهاية أمرها أنها مطلقة. وما ذكرناه من حديث زيد بن علي وأبي هريرة مقيد بما ذكرناه من اشتراط التواري فيجب حملها عليهما جمعاً بين الأدلة وحذراً عن المناقضة بينها.
الفرع الثاني: إذا أولج ذكره في دبر امرأة أو دبر رجل أو دبر خنثى مشكل وجب عليه الغسل عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما.
والحجة على ذلك هو: أنه أحد السبيلين فوجب الغسل بتغييب الحشفة كالفرج.
فإن أولج ذكره في دبر بهيمة أو فرجها أو في فرج امرأة ميتة أو دبرها فهل يجب عليه الغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يجب عليه، وهذا هو رأي الإمامين القاسم والهادي، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك هو: أنه يقع عليه اسم الفرج فوجب بتغييب الحشفة فيه الغسل كفرج المرأة الحية، وهل يجب غسل المرأة الميتة أم لا؟ والأقرب أنه غير لازم وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه يلزم.
والحجة على ذلك هو: أن الإيلاج في الميتة ليس يخلو حاله إما أن يكون قبل غسلها للموت أو بعده فإن كان قبل غسلها من الموت كان غسل الموت كافياً كما لو ماتت وهي حائض أو جنباً، وإن كان الإيلاج بعد غسلها للموت فلا وجه لإعادة غسلها لأن وجوبه إنما يكون للصلاة ولا صلاة في حقها لبطلان التكليف بالموت.
وثانيهما: أن الإيلاج في الميتة غير موجب للغسل في قُبُلٍ كان أو دبر، وهذا هو رأي المؤيد بالله، وهو قول أبي حنيفة.
والحجة على ذلك هو: أن هذا الإيلاج غير مقصود به التلذذ فلا يكون موجباً للغسل كما لو أدخل أصبعه.
وهل يجب الحد على من أولج في فرج الميتة أم لا؟ فيه أوجه ثلاثة:
أحدها: أنه يجب الحد لأنه فرج محرم فوجب بالإيلاج فيه الحد كالمرأة الأجنبية الحية.
وثانيها: لا يجب لأنه فرج غير مقصود كما لو أدخل الأصبع.
وثالثها: أنه ينظر فيه فإن كانت زوجته أو جاريته فلا حد عليه لأجل الشبهة وإن كانت أجنبية وجب عليه الحد لأنه لا شبهة هناك.
والمختار: سقوط الحد عنه لأنه غير مقصود فأشبه ما لو أولج في فيها أو أدخل يده في قبلها أو دبرها والله أعلم.
الفرع الثالث: قال الإمام المؤيد بالله: والصبية إذا جومعت وهي صغيرة لم تحض فلا يجب عليها الغسل من جهة أن وجوب الغسل إنما يكون من أجل وجوب الصلاة والصلاة غير واجبة عليها لفقد البلوغ في حقها، وهكذا حال الصبي إذا جامع فإنه لا يجب عليه الاغتسال لما ذكرناه في حق الصبية، ويستحب أن يؤمرا بذلك أعني بالاغتسال لقوله : ((مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع " واضربوهم وهم أبناء عشر))، والصلاة من شرطها الطهارة وهما جنبان لا محالة، فلهذا أمرا بتقديم الغسل لما ذكرناه.
وإن أرادا قراءة القرآن منعا عن قراءته وعن دخول المساجد لأن كونهما جنباً متحقق في حقهما لقوله : ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)). ولم يفصل هناك بين كبير وصغير وذكر وأنثى، فإن اغتسلا جاز لهما قراءة القرآن ودخول المسجد لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6].
فإن جومعت الصغيرة أو جامع الصغير في حال صغرهما ثم بلغا فهل يجب عليهما الاغتسال لما كانا من الجنابة في حال صغرهما أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك غير واجب لقوله : ((رفع القلم عن ثلاثة "))(1).
ومن جملتهم الصبي حتى يبلغ ولم يفصل بين حكم وحكم، وفي هذا دلالة على رفع وجوب الاغتسال عنهما لأجل صغرهما، فإذا رفع في حال الصغر لم يرجع بعد البلوغ إلا بجنابة طارئة بعده، وهذا محكي عن القاضي أبي يوسف " (2) من أصحابنا.
__________
(1) هذا من الأحاديث المشهورة، وهو مروي في معظم الصحاح والمسانيد، ومنها: صحيح ابن خزيمة، وابن حبان، والمستدرك، وفي سنن البيهقي ج3ص83، والدارقطني وأبي داؤد ج4 ص139، وابن ماجة ج1 ص658، ومسند أحمد وأبي يعلى وغيرها.
(2) هو القاضي أبو يوسف الخطيب من أصحاب الهادي. كما جاء في هامش شرح الأزهار للإمام المهدي 1/111، وليس الفقيه يوسف صاحب الثمرات؛ لأنه متأخر عن زمن المؤلف. ورأي القاضي أبي يوسف هنا هو أيضاً رأي المنصور بالله عبد الله بن حمزة.
وثانيهما: أنه يجب عليهما الاغتسال بعد البلوغ لأن الجنابة في حقهما محققة في التقاء الختانين وإن لم يكن هناك إنزال لكن عرضت حالة الصغر عن الأداء فسقط فلما بلغا توجه الغسل عليهما بزوال العارض وهو الصغر كما لو اجتنب العاقل ثم جن ثم ثاب إليه عقله فإنه يجب عليه الاغتسال فهكذا ههنا، وهذا هو الذي ذكره القاضي أبو مضر من أصحابنا. وهذا هو المختار من جهة أن الموجب للغسل حاصل في حقهما وهو الإيلاج، وعروض الصغر لا يبطل حكم الجنابة فلما بلغا توجه الأمر عليهما بالغسل كسائر التكاليف الشرعية. والله اعلم.
الفرع الرابع: وإن أولج رجل ذكره في فرج خنثى مشكل لم يجب الغسل والوضوء على واحد منهما لجواز أن يكون الخنثى رجلاً والذي أدخل فيه ذكره خلقة زائدة، فإذا كان هذا محتملاً فلا وجه لإيجاب الوضوء والغسل بحال لا بالإيلاج ولا بالإخراج للإحتمال الذي ذكرناه، فإن أولج الخنثى ذكره في دبر رجل لم يجب الغسل على واحد منهما لجواز أن يكون الخنثى امرأة والذي أولجه خلقة زائدة فلا يجب بإيلاجها غسل.
فأما الوضوء فإنه واجب على الرجل المولج فيه بالإخراج لا بالإيلاج، وقد قال : ((الوضوء مما خرج)). وأما الخنثى فلا وضوء عليه لما ذكرناه من احتمال كونه امرأة والذكر عضو زائد فلا يجب بإيلاجه وضوء عليه.
وإن أولج خنثى ذكره في قبل خنثى مثله لم يجب على كل واحدٍ منهما وضوء ولا غسل لاحتمال أن يكونا رجلين والفرجان زائدان.
وإن أولج الخنثى ذكره في دبر خنثى مثله لم يجب على المولج غسل ولا وضوء لجواز أن يكونا امرأتين، وأما المولج فيه فإنه يجب عليه الوضوء بالإخراج لا بالإيلاج.
وإن كان هاهنا خنثيان فأولج كل واحد منهما ذكره في فرج صاحبه لم يجب على واحد منهما وضوء ولا غسل لجواز أن يكونا رجلين والفرجان عضوان زائدان فلا يجب بإيلاجهما شيء، وإن أولج كل واحد منهما ذكره في دبر صاحبه وجب على كل واحدٍ منهما الوضوء لأنهما إن كانا رجلين أو كان أحدهما رجلاً وجب الغسل عليهما وإن كانا جميعاً امرأتين صار الذكران كالميلين فيجب الوضوء بإخراجهما لا بإيلاجهما، الوضوء على المولج فيه وكل واحد منهما مولج فيه، فلهذا وجب عليهما الوضوء لأنه هو المستيقن.
مسألة: والحيض موجب للغسل عند أئمة العترة وهو قول فقهاء الأمة، ولا يعرف فيه خلاف لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى " فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}[البقرة:222].
وتقرير وجه الحجة يكون من وجهين:
أحدهما: على قراءة التشديد في قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ " }[البقرة:222]. وليس المراد بالتطهير إلا استعمال الماء للإغتسال.
وثانيهما: على قراءة من قرأها بالتخفيف(1)،
ومعناه انقطاع الحيض. وقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}. أراد فإذا استعملن الماء للطهارة. فقد حصل مقصودنا من الدلالة وهو وجوب الغسل من الحيض من الآية، وسيأتي لهذا مزيد تقرير عند الكلام فيما يحل من الحائض وما لا يحل، فهذا تقرير الحجة الأولى من الآية.
الحجة الثانية: قوله لفاطمة بنت أبي حبيش: ((إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة " ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي))(2).
وهل يجب الغسل برؤية الدم أو بانقطاعه؟ فيه وجهان:
__________
(1) قراءة التشديد والتخفيف في فعل {حتى يطهرن} أما فعل {فإذا تطهرن} فلا كلام هنا حوله كونه مشدداً أي مُضَعَّفاً.
(2) تقدم.
أحدهما: أنه واجب بانقطاع الدم لأنه لا فائدة للغسل قبل انقطاع الدم فلو كان واجباً لجاز أداؤه وهو محال.
وثانيهما : أنه إنما يجب برؤية الدم لأن كل ما أوجب الطهارة فإنه يوجب بالخروج لا بالإنقطاع كالمني (1).
والمختار: هو الأول. لقوله : ((فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي " )). فأمر بالاغتسال والصلاة عند الإدبار فدل على أنه واجب بذلك، ويمكن نصره [بما جاء في] الوجه الثاني: بأن الوجوب قد تقرر بخروج الدم وإنما أمر بالغسل في الوقت الذي يصح فيه، فالوجوب سابق والفعل متأخر مقدر بانقطاع الدم. والله أعلم.
التفريع على هذه القاعدة: وجملة ما نورده فروع ثلاثة:
أولها: إذا استدخلت المرأة دم الحيض ثم خرج من رحمها فإنه غير موجب للغسل لأن دم الحيض عبارة عن الدم الذي ترخيه الرحم وهذا منفصل غير مرخي وهو بمنزلة الجرح في الرحم.
وثانيها: إذا أصابتها جنابة ثم حاضت لم [يجب عليها] أن تغتسل، من جهة أن غسلها غير صحيح فإذا انقطع دمها اغتسلت لهما غسلاً واحداً.
وثالثها: إذا كان في باطن فرج المرأة جرح ثم خرج منها دم في وقت إمكان الحيض فالتبس بدم الجرح فإنها ترجع في ذلك إلى الفصل بين الدمين، لأن دم الجرح رقيق صافٍ ودم الحيض أسود خبيث الرائحة فإن حصل بما ذكرناه التمييز بينهما عملت عليه، وإن لم يحصل ذلك لم يلزمها غسل لأن الطهارة متحققة في حقها فلا يمكن إيجاب الغسل إلا بيقين، والواجب عليها الوضوء بخروج دم الجرح لا غير.
مسألة: ودم النفاس موجب للغسل لما روي عن الرسول أنه قال : ((تقعد النفساء أربعين يوماً " ))(2)،
__________
(1) في الأصل: لا بالإنقطاع والمني.
(2) روي الحديث عن أنس قال: قال رسول الله : ((تقعد النفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك)).
ولأنه دم حيض اجتمع واحتبس من أجل الولد، والحيض يسمى نفاساً، لما روي عن النبي أنه قال للمرأة التي أردفها خلفه فحاضت فقال: ((مالك نفست " ))(1).
فسمى الحيض نفاساً فلا جرم وجب الغسل على النفساء كما يجب على الحائض.
التفريع على هذه القاعدة: وجملة ما يختص هذا الموضع فروع ثلاثة:
أولها: الغسل على النفاس، هل يجب بخروج الدم أو بانقطاعه؟ فيه الوجهان اللذان ذكرناهما في الحيض فقد قررناه فلا نعيده.
فإن ولدت المرأة ولم تر دماً فهل يلزمها الغسل أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجب عليها الغسل، وهذا هو الذي ذكره الشيخ علي بن الخليل من أصحابنا، وهو أحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الولد مخلوق من مائها وماء الزوج فخروجه كخروجهما فلهذا وجب عليها الغسل.
وثانيهما: أنه لا يجب عليها غسل وهذا هو الذي ذكره السيد أبو العباس، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك هي: أنه جامد فأشبه خروج الحصا والنواة من فرجها وهذا هو المختار، لأن الولد لا يقع عليه اسم المني، وعلى هذا لا يجب عليها إلا الوضوء لا غير كما لو خرج من فرجها ميل أو مسمار، ومن جهة أن النفاس حيض فكما أنه لا يجب الغسل على الحائض إلا إذا رأت الدم فهكذا في النفساء.
وثانيها: أن الذمية إذا نفست أو حاضت ثم اغتسلت فهل يلزمها الغسل بعد إسلامها؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يلزمها إعادة الغسل بعد الإسلام لأن غسلها قد تعلق به حقان: حق الآدمي، وحق اللّه تعالى.
__________
(1) ورد هذا الحديث في رواية عن أم سلمة أنها حاضت فأخذت ثياب حيضتها فلبستها فقال لها رسول الله وكانت مضطجعة معه في الخميلة: ((أنفست...إلخ)) أخرجه مسلم، وفي رواية عن عائشة. وفي كلتا الروايتين عن أم سلمة وعن عائشة أنها كانت مضطجعة مع رسول الله لا رديفة خلفه، والمؤلف يقصد صفية بنت ملحان، كما سيأتي في النفاس، اه(جواهر-البحر)ج1 ص 145.
فحق الآدمي: من أجل استباحة الوطء وهو صحيح من جهة أنه لا يفتقر إلى النية فلا جرم حكمنا بصحته في حق الآدمي.
وحق اللّه تعالى: قربةٌ تفتقر إلى النية، فلهذا لم يصح في حق اللّه تعالى لافتقاره إلى النية، والنية لا تصح منها فإذا أسلمت لزمها إعادة الغسل من أجل حق اللّه تعالى.
وثانيهما: أنه لا يلزمها إعادة الغسل بعد إسلامها بحق اللّه لأنه لا حق للآدمي في غسلها، وإنما حقه متعلق بالوطء وشرط استباحة الوطء صحة الغسل بحق اللّه تعالى فلو لم يصح غسلها بحق اللّه لما جاز استباحة الوطء لأنه لو كان حقاً للآدمي لجاز سقوطه بإسقاط الزوج، وإنما صح غسلها في حال كفرها لأجل الحاجة وهو الوطء، فلأجل هذا لم يلزمها إعادة الغسل بعد الإسلام. وهذان الوجهان محكيان عن الشافعي.
والمختار: هو الأول على المذهب(1) ويصير هذا كمن وجبت عليه الزكاة فامتنع من إظهارها فإن الإمام يكرهه على أخذها ويأخذها قهراً منه، فإذا أخذها على هذا الوجه فقد سقط حق الآدمي وهو وجوب دفعها ثانياً فلا يتوجه ذلك عليه. ولا يسقط حق القربة لما كان حقاً لله تعالى، فقد تعلق بها حقان:
حق الآدمي: وهو مطلق الدفع وقد حصل بالإكراه.
وحق اللّه تعالى: وهو القربة لم يسقط بالدفع بالإكراه.
وثالثها: قال الهادي في الأحكام: إذا اجتنبت المرأة ثم حاضت قبل الاغتسال فإن كان الدم مُقَصِّراً اغتسلت(2).
وهذا الكلام إذا اجتنبت ثم نفست. قال السيد أبو طالب: وهذا محمول على الاستحباب من جهة أن رفع الحدث عنها محال مع بقاء الدم فيها.
__________
(1) يظهر من مصطلح المؤلف أن كلمة (المذهب) إذا أطلقها فإن المقصود بها مذهب الزيدية أو أكثر أئمتهم وعلمائهم أو أرجح أقوالهم وأقوى ترجيحاتهم.
(2) بقية كلام الهادي: (.. لجنابتها وإن غلب دم طمثها أجزأها أن تغتسل عند وقت طهرها غسلاً واحداً لطهرها وجنابتها..). ا.ه. بلفظه من الأحكام ج1ص61.
ووجه الاستحباب فيه: هو أن النظافة مستحبة في حقها من جهة أن تجديد الطهارة مستحب وإن لم يكن هناك رفع للحدث، ومن أجل ذلك أمر رسول اللّه عائشة بالاغتسال للإحرام وهي حائض، وهذا إذا كان الدم مقصراً، فأما إذا كان [الدم] غالباً فلا وجه له كما قال أبو طالب؛ لأنه لا يؤثر في النظافة، والأقرب استحباب الغسل من أجل التنظيف في حقها لأن الرسول أمرها بالغسل للإحرام ولم يسأل عن كونه مقصراً أو غير مقصر فدل ذلك على أنه غير معتبر في استحباب الغسل في حقها خاصة إذا كان لها زوج فالاستحباب يكون آكد.
مسألة: إذا أسلم الكافر ولم يكن قد وجب عليه الغسل في حال كفره إما للجنابة إن كان رجلاً أو امرأة، وإما بالحيض والنفاس إن كانت امرأة، فهل يجب عليه الغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير واجب عليه في هذه الحالة، وإنما يستحب له الاغتسال وهو رأي الأكثر من أئمة العترة وهو قول أكثر الفقهاء أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما.
والحجة على ذلك هو: أنه قد أسلم في زمانه خلق كثير ولم يأمرهم بالغسل فلو أمرهم بذلك لكان منقولاً نقلاً ظاهراً لأنه قد نقل ما هو دونه من أحكام الشريعة.
المذهب الثاني: أنه واجب، وهذا هو المحكي عن أحمد بن حنبل وأبي ثور وابن المنذر.
وأقول: إنه ظاهر نص القاسم لأنه قال: المشرك نجس من وجهين:ـ
أحدهما: شركه.
والآخر: ما هو منغمس فيه من رجسه في مأكله ومشربه. فإذا أسلم زالت نجاسة شركه وبقي ما هو عليه من التضمخ(1)
بالنجاسات في كل أحواله فلهذا وجب عليه الغسل من أجل ذلك، وقد قال السيد أبو طالب: إن هذا وجه في إيجاب الغسل على مذهبه يشير إلى ما قلناه من مذهبه في الوجوب.
__________
(1) التضمخ: التلطخ، ولكنه خاص بالطيب كما هو مستعمل وكما جاء في القاموس. واستخدامها هنا للتلطخ بالنجاسة دال على أن المؤلف يرى أنها بمعنى التلطخ مطلقاً، نظراً لشدة التصاق المشركين بالنجاسات؛ لأن علمه في اللغة لا يقل عن علمه في الفقه.
والحجة على ذلك: ما روي أن الرسول أمر قيس بن عاصم المنقري " (1) بالاغتسال لما أسلم، وثمامة بن أثال، وقال لقيس بن عاصم: ((اغتسل بماء وسدر " ))(2). وظاهر الأمر للوجوب إلا لدلالة.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من عدم الإيجاب في الغسل لمن هذه حاله.
والحجة على ذلك: ما نقلناه عنهم، وهو أن الأصل هو عدم الإيجاب فلا يقدم على الإيجاب إلا لدلالة ولا دلالة هاهنا تدل على وجوبه، وهذا دليل ظاهر نستعمله في كثير من المسائل وحاصله: أن الأصل براءة الذمة عن الوجوب حتى تدل دلالة شرعية على شغل الذمة بالواجب.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في الوجوب.
قالوا: روي عن الرسول أنه أمر قيساً بالاغتسال بماء وسدر وأمر ثمامة، والأمر ظاهره الوجوب إلا لدلالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) هو قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر التميمي السعدي، ويقال: أبو علي وأبو قبيصة وأبو طلحة المنقري. وفد على النبي في وفد تميم سنة 9هفأسلم، وقال النبي : ((هذا سيد أهل الوبر)) وكان عاقلاً حليماً، روى عن النبي ، وعنه: ابناه حكيم وحصين وابن ابنه خليفة والأحنف بن قيس والحسن البصري وغيرهم.. نزل البصرة وبنى بها داراً، وبها مات عن اثنين وثلاثين ذكراً من أولاده. اه. راجع تهذيب التهذيب 8/357.
(2) جاء في (جواهر الأخبار) عن قيس بن عاصم قال: أتيت رسول الله أريد الإسلام فأمرني أن اغتسل بماء وسدر، هذه رواية أبي داؤد، وفي رواية الترمذي والنسائي: أنه أسلم فأمره النبي بذلك.
قلت: أما ثمامة فهو بالثاء المثلثة المضمومة، بن أثال الحنفي، وحديثه معروف وليس فيه: أن النبي أمره أن يغتسل، لكنه لما أطلقه من الأسر انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فأسلم، أخرج حديثه الستة إلا الموطأ والترمذي من رواية أبي هريرة، اه(البحر ج1/101).
أما أولاً: فلأن ما ذكرناه من إسلام كثير من الخلق ولم يؤمروا بالغسل يعارض ما ذكروه، وزوال التعارض بينهما يكون بحمل ما كان من الأمر في حق قيس وثمامة [أنه] إنما كان على جهة الاستحباب دون الوجوب، وعلى هذا تتفق الدلالتان على عدم الوجوب وهو مطلوبنا.
وأما ثانياً: فإنه محمول على أنه قد علم من حالهما أشياء موجبة للغسل وليس كلامنا في هذا وإنما كلامنا فيمن لم يعلم من حاله سبب يوجب الغسل فهل يجب عليه الغسل أم لا؟ وسيأتي تقرير الكلام فيمن هذه حاله هل يجب عليه أم لا.
قالوا: الكافر نجس لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ " }[التوبة:28]. ولأنهم متلوثون بالنجاسات في كل أفعالهم من أكل وشرب، فلهذا قلنا بوجوب الاغتسال عليهم بعد الإسلام.
قلنا:هذا لا ننكره ولكنا نقول: أما نجاسة الشرك فقد زالت بالإسلام لا محالة وهو أقوى الأسباب، وأما تلوثهم بالنجاسات فهو زائل أيضاً بالإسلام لأن الإسلام إذا كان مزيلاً لنجاسة الشرك فكيف لا يكون مزيلاً لنجاسة الرطوبات وهي أخف حكماً منه. وقد قال : ((الإسلام يَجُبُّ ما قبله " ))(1). ولم يفصل بين حكم وحكم، وأيضاً فإنا قد قررنا فيما سبق أن رطوبة المشركين وسائر أصناف الكفار طاهرة فلا وجه لتكريره.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: أن الكافر والكافرة قد وجب عليهما الغسل في حال كفرهما ثم إنهما أسلما قبل الاغتسال فهل يجب عليهما الغسل أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الغسل عليهما واجب، وهذا هو الظاهر من مذهب العترة وهو المشهور عن الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ " وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}[النساء:43].
__________
(1) أورده في (مجمع الزوائد) ج1 ص 31.
وثانيهما: أنه غير واجب عليهما الغسل وهذا شيء حكاه الشاشي " (1) من أصحاب الشافعي، وهو مروي عن المنصور بالله.
والحجة على ذلك: قوله : ((الإسلام يجب ما قبله " )). ولم يفصل بين حكم وحكم.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6] إلى غير ذلك من الأدلة.
الفرع الثاني: أن الكافر والكافرة إذا كانا قد اغتسلا من الأسباب الموجبة للغسل كالجنابة والحيض والنفاس ثم أسلما فهل يجب عليهما إعادة الغسل أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجب عليهما إعادة الغسل وهذا هو رأي أئمة العترة وهو أحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك هو: أن الغسل عبادة بدنية تفتقر إلى النية فلم يصح من جهة الكافر كالصلاة والصوم.
وثانيهما: أنه لا يجب عليهما إعادة الغسل وهذا هو قول أبي حنيفة ومحكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك هو: أن غسل الكافر صحيح بدليل أن المسلم إذا تزوج ذمية ثم اغتسلت من الحيض فإنه يحل وطئها، فلولا أن الغسل صحيح لم يحل وطئها.
والمختار: هو الأول لما قدمنا من أن وضوء الكافر غير صحيح فهكذا غسله، وإذا كان غير صحيح وجب عليه إعادة الغسل كما قررناه.
__________
(1) أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي، من أصحاب الشافعي الذين رووا أقواله ونشروا مذهبه، قال الشيرازي في طبقاته: وكان إماماً وله مصنفات كثيرة ليس لأحدٍ مثله، وهو أول من صنف (الجدل الحسن) من الفقهاء، وله كتاب في أصول الفقه وله شرح الرسالة، وعنه انتشر فقه الشافعي فيما وراء النهر. ا.ه. طبقات الشيرازي ص120، وفي طبقات أبي بكر المصنف: أنه ولد بمدينة شاش فيما وراء النهر سنة 291ه، وتوفي بها في ذي الحجة سنة 365ه. ا هص209.
الفرع الثالث: الكفر المانع من صحة الغسل لأجل عدم القربة إنما هو الكفر الصريح المعلوم من الدين كونه كفراً بالضرورة كالشرك بالله وعبادة غيره ونحو اليهودية والنصرانية والمجوسية وغير ذلك من الأديان الكفرية، فأما كفر التأويل نحو الجبر والتشبيه عند من قال بكونهما كفراً، فإنه ليس مانعاً من صحة الغسل فلو اغتسل من الجنابة وهو مجبر أو مشبه ثم تاب عن ذلك فإنه لا يجب عليه إعادة الغسل إجماعاً لأن من هذه حاله مصدق بالله وبرسله ومؤمن بالشرع وناكح على القرآن و مصل إلى القبلة ولكنه اعتقد اعتقاداً يوجب كفره فلهذا لم يكن ما اعتقده مانعاً من الغسل لما ذكرناه.
مسألة: ومن الأسباب الموجبة للغسل، الموت إذا لم يكن الميت شهيداً، عند أئمة العترة، وهو(1)
قول فقهاء الأمة لا يعرف فيه خلاف لما روي عن النبي أنه قال في الرجل الذي سقط من بعيره: ((اغسلوه بماء وسدر " ))(2).
وهو من فروض الكفايات التي إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين. وهل يغسل الشهيد أم لا؟ فيه تردد وخلاف للفقهاء.
وإن غسل الميت ثم خرج من فيه أو أنفه أو دبره أو قبله شيء فهل يعاد غسله أم لا؟ فيه كلام نستقصيه في كتاب الجنائز بمعونة اللّه تعالى. فهذا ما أردنا ذكره في الأسباب الموجبة للغسل والله الموفق للصواب.
__________
(1) يقصد غسل الميت لا الشهيد كما يوحي به السياق.
(2) سيأتي في الجنائز.
---
الفصل الثاني في بيان ما يجوز فعله للجنب وما لا يجوز وما يستحب فعله وما يكره
مسألة: يجوز للجنب أن ينام قبل أن يغتسل عند أئمة العترة وفقهاء الأمة لما روت عائشة قالت: كان النبي ينام وهو جنب لا يمس ماءً(1)،
ويجوز له أن يصافح غيره لما روي عن النبي أنه قال: ((تصافحوا ))(2).
ولم يفصل بين حالة وحالة، وروى أبو هريرة عن الرسول أنه لقيه ذات يوم وأبو هريرة جنب، [قال] فانتجشت منه، يعني: تنحيت، فاغتسلت ثم جئت فقال: ((أين كنت))؟ فقال: كنت جنباً. فقال: ((المؤمن لا ينجس ))(3).
ويجوز للجنب أن يدهن وأن يخضب رأسه ولحيته بالحناء والكتم وغير ذلك مما يكون فيه تغيير الشيب، وإن احتاج إلى خضاب يديه ورجليه بالحناء جاز له ذلك لما روي عن الرسول أنه ما جاء أحد إليه يشكو وجع رأسه إلا أمره بالحجامة، ولا أحد يشكو وجع رجليه إلا أمره بخضاب رجليه(4).
والوجه في جواز هذه الأمور للجنب هو: أنها باقية على أصل الإباحة ولم يرد فيها نهي شرعي فيغير حكمها فبقيت على ما كانت عليه من الإباحة، ويجوز له أن يعاود أهله وعدة منهن من غير أن يغتسل أو يتوضأ، وحكي عن ابن عمر وجوب الوضوء على من أراد المعاودة.
__________
(1) تقدم.
(2) وروى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أن النبي صافح حذيفة بن اليمان وهو جنب، فقال: يا رسول الله إني جنب، فقال له: ((إن المسلم ليس بنجس)) وهو مروي من طرق وبألفاظ عدة. اه(الروض النضير)ج1ص372.
(3) قال في (الروض): ذكره البخاري تعليقاً عن ابن عباس ((المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً))، وجاء في إحدى الروايات لحديث حذيفة السابق: أن رسول الله قال له: ((يا حذيفة أبرز ذراعك فإن المؤمن ليس بنجس)) اه(روض) ج1 ص372.
(4) في نسخة(و): ما جاء أحد يشكو وجع رأسه إلا أمره بخضاب رجليه اه، وما أثبتناه هنا زيادة وردت في حاشية النسخة (ق).
والحجة على ما عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة: ما روي عن النبي أنه طاف على نسائه في غسل واحد(1)،
ولأن الوطء من جملة المباحات فلا يجب له الوضوء كالوطء الأول أو لأنه مباح فجاز من غير وضوء كالأكل والشرب.
وحجة ابن عمر على وجوب الوضوء للوطء: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا أتى أحدكم امرأته ثم بدا له أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءاً ))(2).
فإن ما هذا حاله محمول على الاستحباب ليكون جمعاً بين الأدلة فلا تناقض.
ويجوز للجنب أن يحمل المصحف بعلاقته وغلافه عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن العلاقة والغلاف ليسا من جملة المصحف لأنهما غير داخلين في المصحف على جهة التبع في البيع، فلهذا جاز حمله بهما، وحكي عن الشافعي المنع من ذلك وقد قررناه فيما سبق في مس المصحف للمحدث فأغنى عن الإعادة.
ويجوز للجنب أن يذبح ما يجوز ذبحه وينحر ما يجوز نحره وأن يغسل الأثواب لأن هذه الأمور كلها من جملة المباحات فجاز فعله لها كالأكل والشرب.
__________
(1) عن أبي رافع أن رسول الله طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه، فقلت: يا رسول الله ألا تجعله غسلاً واحداً آخراً، قال: ((هذا أزكى وأطيب وأطهر)) أخرجه أبو داؤد.
(2) جاء الحديث بلفظه هنا عن أبي سعيد الخدري. أخرجه مسلم وأبو داؤد والترمذي، قال في (الجواهر حاشية البحر) 1/102، ولفظ رواية النسائي: ((إذا أراد أحدكم أن يعود فليتوضأ)).
مسألة: يستحب للجنب إذا أراد الأكل والشرب أن يتوضأ، لما روي عن النبي أنه كان إذا أراد أن ينام توضأ وضوءه للصلاة إذا كان جنباً(1)،
قال الإمامان القاسم والهادي: والجنب إذا أراد الأكل غسل فرجه ويديه وتمضمض استحباباً لما روته عائشة رضي اللّه عنها عن النبي أنه كان إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل يده وتمضمض(2)،
__________
(1) قال أبو سلمة: سألت عائشة هل كان رسول الله يرقد وهو جنب؟ قالت: نعم ويتوضأ، وفي رواية عروة عنها قالت: كان إذا أراد...الحديث، أخرجه البخاري، ولمسلم نحوه، وفي رواية الترمذي أنه كان ينام وهو جنب ولا يمس ماءً، ثم قال: وقد روي عنها: أنه كان يتوضأ قبل أن ينام، وهو أصح، والحديث أخرجه الستة بروايات متقاربة، اه(جواهر) ج1ص102.
(2) أخرجه النسائي وفيه روايات عن أم سلمة، وعن مجاهد وابن خزيمة وغيرهما عن عروة عن عائشة. راجع (الروض النضير 1/384).
والمضمضة في معنى غسل اليدين لأن الغرض في غسلهما أن يكون العضو الذي استعمله في الأكل مغسولاً، ويستحب إذا أراد المعاودة لأهله أن يتوضأ لما روى أبو سعيد الخدري عن النبي أنه قال: ((إذا أتى أحدكم أهله ثم بدا له أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءاً )). فالحاصل أن عائشة روت عن النبي فيما يستحب للجنب المضمضة وغسل اليدين والفرجين، وروت أيضاً استحباب الوضوء كوضوء الصلاة، فيجب القضاء بالاستحباب في الأمرين جميعاً، وأن أحدهما فاضل والآخر أفضل، فالفاضل غسل اليدين والفرجين والمضمضة، والأفضل هو وضوء الصلاة، وإنما كان أفضل لما روي عن الرسول أنه قال: ((من بات على طهر بات ومعه ملك ومن بات على غير طهارة بات ومعه شيطان)). وإنما استحب غسل الفرجين للجنب لما روى ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ذكر للرسول أنه تصيبه جنابة من الليل، فقال له رسول اللّه :((إغسل ذكرك ثم نم ))(1)،
ويستحب الغسل فيما بين الوطئين لما روى أبو رافع أن النبي طاف على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه، فقلت: يا رسول اللّه ألا جعلته غسلا واحداً؟ فقال: ((هذا أزكى وأطيب وأطهر ))(2).
وروى أنس بن مالك عن الرسول أنه طاف على نسائه في غسل واحد. قال أبو داود في سننه حديث أنس أصح من هذا.
والمختار: أن كل واحد من الحديثين صحيح لاستكماله لشرائط الصحة، لكن ما رواه أنس بن مالك بناء على تسهيل الأمر على الأمة وما قاله أبو رافع بناء على الأفضل في الأمة من جهة أن تجديد الطهارة على الطهارة قد ورد الشرع باستحبابه وهذا منه، ويستحب للجنب أن يتطيب ويكتحل لأن ما [هذا] حاله قد ورد الشرع باستحبابه في حق الطاهر، والجنابة غير مانعة منه فيجب بقاء الاستحباب في حق الجنب.
__________
(1) في رواية للترمذي عن عائشة أنه كان ينام وهو جنب ولا يمس ماءً، وعنها كان يتوضأ قبل أن ينام. اهجواهر 1/102.
(2) تقدم.
مسألة: ولا يجوز للجنب أن يصلي لقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } ثم قال: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}[النساء:43]، ولا يجوز له أن يطوف بالبيت لما روي عن النبي أنه قال: ((الطواف بالبيت صلاة ))(1).
وقد بينا تحريم الصلاة على الجنب فيجب أن يحرم الطواف.
وهل يحرم عليه قراءة القرآن أم لا؟ فيه مذاهب أربعة:
أولها: أنه لا يجوز له قراءة شيء من القرآن قل أو كثر، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة نص عليه الإمامان القاسم والهادي وهذا هو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روى أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه عن الرسول أنه كان يخرج من الخلا فيقرئنا القرآن وكان لا يحجزه عن القرآن شيء سوى الجنابة(2).
الحجة الثانية: ما روي عن ابن عمر قال: قال رسول : ((لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن ))(3).
وهذا عام في القليل والكثير.
وثانيها: أنه يجوز له قراءة ما دون الآية وهذا هو قول أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن القرآن إنما كان قرآناً لكونه معجزاً والإعجاز إنما يكون بالآية فما فوقها، فأما ما دون الآية فليس معجزاً ولا يعد من القرآن.
__________
(1) سيأتي في الحج.
(2) تقدم.
(3) أخرجه الترمذي موقوفاً على ابن عمر في (الجامع) و(المجتبى) وأخرج أبو داؤد بسنده عن عائشة قوله في حديث طويل: ((وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب)) وفي شرح التجريد عن نافع عن ابن عمر.. وذكر الحديث السابق. اه(اعتصام) ج1ص256.
وثالثها: أنه يجوز له قراءة القرآن إذ لم يقصد به القرآن وهذا هو المحكي عن المؤيد بالله وهو مروي عن بعض أصحاب أبي حنيفة وعلى هذا يجوز له أن يقرأ: {يَانُوحُ اهْبِطْ }[هود:48]. و{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ }[مريم:12]. و {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ }[آل عمران:43]. إذا قصد به خطاب هؤلاء الأشخاص ولم يكن قاصداً به القرآن. وهكذا يجوز له أن يقرأ ما جرى في ألسنة الناس من التحميد نحو قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة:2]. وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ }[الروم:14]. وقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}[الزخرف:13]. فهذه قد صارت معتادة في كلام الناس بغير تلاوة القرآن وهكذا ما شاكلها من العوذ والتحميدات والتسبيحات.
والحجة على ذلك: قوله ((الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى)) فإذا نوى بهذه الآيات ما ذكرناه لم يكن قارئاً للقرآن.
ورابعها: ما حكي عن داود وطبقته من أهل الظاهر، وهو أنه يجوز للجنب قراءة القرآن كله وما شاء منه، والجنابة غير مانعة من التلاوة.
والحجة على ذلك: ما حكي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه كان يقرأ ورده من القرآن وهو جنب. قال ابن المسيب: قلت لابن عباس: أيقرأ الجنب القرآن؟ قال: نعم أليس هو في صدره.
وقال مالك: يقرأ الجنب الآية والآيتين على جهة التعوذ. وقال الأوزاعي: يقرأ الجنب آية الركوب، قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ }[الزخرف:13]. وآية النزول، قوله تعالى: {رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ }[المؤمنون:29].
والحجة لهما على ذلك: ما حكيناه عن المؤيد بالله من أن هذه الآيات جارية على ألسنة الناس على جهة التعوذ والتسبيح والتهليل، وحاصل ما قالاه: أن القرآن يخرج عندهما عن كونه قرآناً بالقصد والنية،فهذه مذاهب العلماء في قراءة القرآن للجنب كما ترى.
والمختار: ما عول عليه الإمام المؤيد بالله من أن ماكان جارياً على جهة العادة في ألسنة الناس فإنه يجوز للجنب قراءته، وحاصل ذلك أنه يكون بالقصد، فما قصد به غير القرآن من الخطابات التي تصلح أن تكون خطاباً لغير من هي له كقوله: يا نوح، ويا يحيى إلى غير ذلك، وماكان جارياً على ألسنة الخلق في الإستعاذة والتهليل والتسبيح فإنه يجوز للجنب ذكره، ويدل عليه ما ذكرناه عنه ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: هو أن ما ذكرناه إذا كان جارياً على الألسنة على جهة الاضطراد فإما اغتفر الشرع حكمه ورفعه وإما أنه يكون في الحكم كأنه خارج عن القرآن جارياً مجرى العوذ والتسبيحات والتهليلات من غيره، فلهذا جاز فعله من جهة الجنب لما ذكرناه.
الحجة الثانية: هو أن ما ذكره المؤيد بالله فيه جمع بين الأدلة الشرعية فما ورد من الأخبار دالاً على المنع من القرائة فإنه محمول على ما كان خارجاً مما يعتاده الناس في تصرفاتهم، وما ورد دالاً على الإباحة فإنه يكون محمولاً على ما جرى في ألسنة الناس من ذلك. وما كان جامعاً بين الأدلة فلا شك في كونه طريقاً مستقيمة راجحة على غيرها من الطرق كما ذكرناه في أثناء الكتاب.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمده كل فريق، فأما من منع من ذلك على الإطلاق فقد قالوا: روى أمير المؤمنين أنه كان لا يمنع الرسول من قراءة القرآن إلا الجنابة وهذا عام في كل شيء منه.
قلنا: عن هذا جوا بان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه مخصوص بالآيات الصريحة التي هي غير جارية على ألسنة [الناس] وليس في هذا إلا تخصيص عموم وأكثر العمومات كلها مخصوصة، فلا جرم كان مخصوصاً بما ذكرناه.
وأما ثانياً: فلأنه معارضٌ بما روى زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين أنه قال: يقرأ الجنب الآية والآيتين، والحائض ويمسان الدرهم [الذي] فيه اسم اللّه ويتناولان الشيء من المسجد(1).
قالوا: روى ابن عمر عن النبي أنه قال: ((لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن ))(2).
وهذا عام في القليل والكثير.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم اندراج ما ذكرناه في القرآن بل هو خارج عنه بالطريقة التي ذكرناها من طريق الحكم.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا اندراجه تحت حقيقة القرآن لكنه عموم مخصوص بالأدلة التي أشرنا إليها.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين أنه قال: ((يقرأ أحدكم القرآن مالم يكن جنباً فإن كان جنباً فلا ولا حرفاً واحداً))(3).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه معارض بما روى زيد بن علي وقد قدمناه.
__________
(1) جاء في (الروض) بأن هذه الرواية أخرجها بلفظها في (الأمالي) من طريق أبي خالد موقوفة على علي وقال: بأنه قد روي عن علي ما يشعر بالتعارض مثل ما روي أنه سئل عن الجنب يقرأ؟ قال: لا ولا حرفاً، راجع(الروض) 1/494، وقال في (الجواهر) بعد أن أورد الحديث: حكاه في مجموع زيد بن علي، وذكر القاضي زيد أن هذه الرواية غير صحيحة، وفي (الشفاء) نحو ذلك، اه/103 ولم يذكر تعليلاً لعدم صحة الرواية.
(2) تقدم آنفاً.
(3) رواه الدار قطني وأخرجه البيهقي وأورده السيوطي وغيره بألفاظ مختلفة، وهو في (الشفاء) و(المهذب).
وأما ثانياً: فلأن الغرض بذلك ما لم يكن معتاداً في كلام الناس كآيات التعوذ والإسترجاع عند المصيبة وغير ذلك، ومن جهة أن الجنابة تعرض كثيراً والتعوذ والتسبيح والتهليل عند عروض العجائب في العالم فلا ينبغي تضييق ذكره بمانع الجنابة، وأما أبو حنيفة فقد جوز قراءة ما دون [الآية] محتجاً بأن القرآن إنما كان قرآناً لكونه معجزاً والإعجاز إنما يتعلق بالآية فما فوقها فأما ما دون ذلك فلا يتعلق به الإعجاز كالحرف الواحد والكلمة الواحدة.
قلنا:هذا فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن ما دون الآية وإن لم يكن معجزاً لكنه من جنس المعجز فساواه في المنع كالسجدة الواحدة ليست بصلاة لكنها لما كانت من جنسها منع منها الجنب.
وأما ثانياً: فلأن ما دون الآية جزء من القرآن فلا يجوز للجنب قراءته كالآية التامة.
وأما ثالثاً: فلأن قراءة القرآن عبادة تمنعها الجنابة فيستوي فيه حكم القليل والكثير كالصلاة.
وأما مالك فإنه قد جوز للجنب قراءة الآية والآيتين على جهة التعوذ، وفي معناه ما حكي عن الأوزاعي، فما ذكراه يقرب مما حكيناه عن المؤيد بالله وهو المختار.
مسألة: ولا يجوز للجنب اللبث في المسجد عند أئمة العترة وفقهاء الأمة أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((لا أحل المسجد لجنب ولا حائض ))(1).
وحكي عن داود وطبقته من أهل الظاهر جواز اللبث في المسجد للجنب.
__________
(1) أخرجه أبو داؤد عن عائشة بلفظ: ((وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)). اه(بحر1/104) وقد تقدم.
والحجة له على ذلك: قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } ثم قال: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}[النساء:43]. وذا جاز العبور للسبيل للجنب جاز اللبث فيه لأنهما مستويان في الكون في المسجد والحصول فيه، وما ذكره فاسد فإنا نمنع العبور ونمنع اللبث جميعاً فلا يلزمنا ما قاله وإنما يلزم الشافعي حيث جوز العبور دون اللبث كما سنحكيه عنه ونبطله، ومثل ما حكيناه عن داود من جواز اللبث محكي عن المزني من أصحاب الشافعي.
وحكي عن أحمد وإسحاق بن راهويه جواز اللبث في المسجد للجنب أيضاً إذا توضأ.
والحجة لهما على ذلك هو: أن المقصود من منع الجنب من المسجد ليس من أجل تنجيسه فإن الجنب لا نجاسة فيه وليس مثل الحائض فإنها ممنوعة من المسجد من أجل أنها تنجسه، وإذا كان الأمر كما قلناه دل على أنه إنما منع من أجل أنه لا يلابس المسجد وهو محدث ويلاصقه بالأعضاء المحدثة فإذا توضأ زال الحدث من الأعضاء التي تلاصق المسجد وتتصل به. وهذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه لو كان الأمر كما زعموه للزم أن لا يغسل وجهه لأنه لا يلابس المسجد، ولا يمسح رأسه.
وأما ثانياً:فلأن المعنى في منعه أنه حدث أكبر بخلاف الحدث الأصغر فإنه غير مانع لدخول المسجد، فبطل ما قالا.
وهل يجوز العبور فيه للجنب أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجوز العبور فيه له، وهذا هو رأي أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك.
والحجة على ذلك: قوله : ((لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض )) ولم يفصل بين العبور وغيره.
الحجة الثانية: قياسية، وهي: أن العبور كون في المسجد وحصول فيه للجنب من غير ضرورة فلم يكن جائزاً كاللبث.
المذهب الثاني: أن ذلك جائز، وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه، ومحكي عن ابن عباس وابن مسعود من الصحابة رضي الله عنهم.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}[النساء:43].
ووجه تقرير الحجة هو: أن المراد مواضع الصلاة، فعبر بالصلاة عن مواضعها فحاصل معنى الآية على هذا: لا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة وأنتم سكارى ولا جنباً إلا على جهة العبور ، فأباح العبور للجنب دون اللبث وهذا هو المقصود.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم وهو المنع منه لما قالوه، ونزيد هاهنا وهو أن كل حكم تعلق باللبث فإنه متعلق بالعبور كالتحريم على الحائض وملك الغير وإدراك الحج بعرفة فإنه كما يحرم على الحائض اللبث يحرم عليها العبور وهكذا ملك الغير أيضاً وكما يكون مدركاً للحج باللبث في عرفة فهكذا يكون العبور أيضاً، وإذا كان الأمر كما قلناه فكما حرم اللبث حرم العبور من غير تفرقة بينهما.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالف ما قلناهُ في ذلك، فأما الشافعي وأصحابه فقد قالوا: الآية دالة على جواز العبور بظاهرها فلهذا قضينا بجوازه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد من الآية: {َلاَ تَقْرَبُوا} نفس الصلاة كما هو مفهوم من ظاهرها من غير حاجة إلى التأويل كما قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى }[الإسراء:32] والمراد بقوله: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي إلا مسافراً فإنه يقربها وهو جنب بالتيمم من جهة أن انقطاع الماء في الأسفار يعرض كثيراً، فالمعنى: لا تقربوا وأنتم أجناب في أي حالة من الحالات إلا في حال عبور السبول(1)
في الأسفار لانقطاع الماء بالتيمم.
وأما ثانياً: فيحتمل أن يكون المراد: لا تقربوا مواضع الصلاة التي هي المساجد في حال الجنابة إلا أن تحتلموا في المساجد فتعبروا فيها للخروج منها، ففي هاتين الحالتين(2) يحوز العبور في المساجد فأما من غيرهما فلا وجه، فأما ما يحكى عن داود والأوزاعي فقد أفسدنا كلامهما فأغنى عن تكريره.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: قال الإمام المؤيد بالله: من اجتنب في المسجد تيمم إذا وجد التراب ثم يخرج فإذا لم يجد فعليه الخروج، هذا إذا كان زمان التيمم أقصر من زمان الخروج فإن كان أطول فليس عليه إلا الخروج.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعله خطأ من الناسخ وأن الصحيح هو (السبيل) أو (السُّبُل)، أو أن المراد بـ(السُّبُول) الطريق السالكة على صيغة فعول، والأقرب أن تكون (سُبُول) جمع سبيل لو لا أنه جمع لم يرد في الأمهات من المعاجم وإن كان جاء في بعض المعاجم الحديثة. راجع (القاموس المحيط) و (لسان العرب) و (العين).
(2) يبدو أن المقصود بالحالتين، حالة المسافر وحالة المحتلم في المسجد، مع أن ظاهر كلام المؤلف أن الاستثناء في الآية لعابر السبيل هو جواز الصلاة بالتيمم وليس عبور المسجد أو دخوله، إلا أن دخول المسجد قد يأتي ضمن متعلقات الصلاة.
والمختار: أنه يجب عليه الخروج من المسجد مطلقاً سواء كان زمان الخروج أضيق أو أوسع ولا يحتاج إلى التيمم لخروجه، لقوله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}[النساء43]. ولأن التيمم إنما يتوجه لمن أراد اللبث وهذا تارك له فلا يجب عليه التيمم لما هو تارك له.
الفرع الثاني: الذي ذهب إليه أئمة العترة أنه لا يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}[التوبة:28].وقوله : ((لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الجزية ولا لمشرك أن يدخل المسجد الحرام))(1).
وحكي عن أبي حنيفة أن ذلك جائز.
والحجة له على ذلك: هو أن كل موضع جاز للمسلم دخوله فإنه يجوز للكافر قياساً على سائر المواضع، وهذا فاسد فإن التفرقة بين المسلم والكافر ظاهرة، من جهة أن المسلم معظم الحرمة، والكافر لا حرمة له، فلا يجوز قياس أحدهما على الآخر لما بينهما من التفرقة، والحرم مخالف لسائر البقاع ولهذا فإنه يجب التوجه إليه في الصلاة ويمتنع القصاص ممن التجأ إليه عندهم فافترقا.
الفرع الثالث: هل يجوز للمشرك دخول ما سوى المسجد الحرام أم لا؟ وهذه المسألة من فروع رطوبة الكفار وقد أسلفنا القول فيمن جوز رطوبتهم [أنه] جوز لهم دخول المساجد لكونها طاهرة عنده وهذا هو رأي المؤيد بالله، وهو محكي عن الفقهاء أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما، ومن قال بتنجيس رطوباتهم فإنه يمنعهم من دخول المساجد، وهذا هو رأي القاسم والناصر والهادي ومحكي عن مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقد قررنا فيما سبق ذكر الاحتجاج للقولين وبيان المختار والانتصار له فأغنى عن تكريره.
ويكره للجنب ضد ما يستحب له، وهو ترك غسل يديه وفمه عند الأكل.
__________
(1) سيأتي في موضعه.
ويكره له معاودة الجماع من غير توضي ويكره له النوم من غير توضي، والمراد بالكراهة هو التنزيه من غير تحريم، وأن خلاف ذلك(1)
هو الأفضل له كالشرب باليسار والإستنجاء باليمين إلى غير ذلك من الكراهات المقصود بها التنزيه.
مسألة: ويستحب للجنب أن يبول قبل الاغتسال، قال الإمام زيد بن علي: أحب للجنب أن يبول قبل الاغتسال لما روي عن النبي أنه قال: ((إذا جامع الرجل فلا يغتسل حتى يبول " وإلا تردد بقية المني فكان منه داء لا دواء له))(2).
وهل يجب عليه ذلك أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن البول عليه واجب قبل أن يغتسل(3)
وهذا هو الذي نص عليه الهادي في الجامعين (الأحكام) و (المنتخب) وهو رأي المؤيد بالله وهو مبني على أصل وهو أن بقية المني مقطوع به في الإحليل بعد الإنزال ما لم يبل فمن أجل ذلك أو جبنا عليه البول ليكون دافعاً لما بقي منه.
والحجة على ذلك: هي أن المني خروجه موجب للغسل فلا جرم كان بقاؤه مانعاً من صحة الغسل كدم الحيض.
المذهب الثاني: أنه غير واجب وهو رأي زيد بن علي وأحمد بن يحيى، وهو اختيار السيد أبي طالب وهو مبني على أصل وهو أن بقية المني غير مقطوع به في الإحليل، وهو محكي عن أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما.
__________
(1) خلاف ذلك: يعني مخالفة الفعل المكروه الذي فيه الأكل باليسار..الخ، إلى الأكل باليمين، هو الأفضل.
(2) أخرجه في الشفاء، و(الروض النضير) 1/368، ووجه الاستحباب في البول قبل الغسل يستند إلى الحديث الذي احتج به القائلون بوجوب البول قبل الغسل وهو حديث: ((إذا جامع الرجل فلا يغتسل حتى يبول وإلا تردد بقية المني فكان فيه داء لا دواء له)) وقد ضعفه كثيرون لطعن بعضهم في بعض رواته فيما اعتبره البعض موضوعاً، وآخرون اعتبروه من المراسيل.
(3) بمعنى أن البول شرط في صحة الغسل لا واجباً لذاته.
والحجة على ذلك هي: أن موجب الطهارة إذا كان كامناً في البدن فإنه غير موجب للطهارة إلا أن يخرج كسائر الأحداث فإذا اغتسل من غير بول ولم يتحقق بعده خروج المني فإن الغسل غير لازم له من جهة أن الطهارة لا تزول إلا بحدث متيقن.
والمختار: ما قاله الإمام زيد بن علي والسيد أبو طالب ومن وافقهما من أن البول غير واجب وإنما هو مستحب فإذا تعرض له الجنب استحب له أن يبول فإن لم يبل اغتسل ولا حرج.
والحجة على ذلك ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا }[المائدة:6].
وتقرير هذه الحجة من الآية هو أن اللّه تعالى أوجب الاغتسال للجنابة من غير اشتراط أمر من الأمور وعقب الاغتسال بالفاء من غير فاصلة، وقوله لأمير المؤمنين: ((فإذا فخضت الماء فاغتسل )). ولم يشترط بين الفضخ والاغتسال أمراً من الأمور وفي هذا دلالة على أن البول قبل الاغتسال غير واجب.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: بقية المني مقطوع بها في الإحليل فكانت مانعة كبقية الحيض في الرحم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن بقية المني مقطوع بها في الإحليل بل خروجه يكون على وجه الدفق فلا يبقى له أثر.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن له بقية لكنه معفو عنه فلا يكون موجباً للغسل.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: هو أنا إذا قلنا بوجوب البول قبل الاغتسال كما هو رأي الهادي و المؤيد بالله، فإن بال أجزأه الغسل سواء كان في أول الوقت أو في آخره لأنه بالبول قد زال أثر المني المانع من صحة الغسل فلهذا كان مجزياً له، وإن لم يبل بعد التعرض له فهل يلزمه تأخير الغسل إلى آخر الوقت أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول:أنه يجب عليه تأخير الاغتسال إلى آخر الوقت، وهذا هو رأي الهادي.
والحجة على ذلك هي: أن البول شرط في صحة اغتساله وما من وقت إلا وهو متوقع لحصول البول [فيه] فلهذا وجب عليه التأخير، لتكون صلاته كاملة كالمتيمم فإنه يؤخر [الصلاة إلى آخر] الوقت لأنه مامن وقت إلا وهو يرجو وجود الماء [فيه]، فإن تعذر البول اغتسل وصلى مخافة أن تفوته الصلاة لفوات وقتها، وتجب عليه إعادة الغسل لهذا البول لأن بقية المني مقطوع به في الإحليل على رأيه(1)،
فإذا زال اندفع بقية المني مع البول وبقاؤه يمنع من صحة الاغتسال. وهل تجب عليه إعادة الصلاة على رأيه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا تلزمه إعادة الصلاة وهذا هو الذي ذكره المؤيد بالله، لأنه قد أداها كاملة وقد قال : ((لا ظهران في يوم ))، وهو الذي يأتي على رأي الهادي من جهة أن المسألة اجتهادية بين العلماء، والمسائل الخلافية على مذهبه لا يلزم فيها الإعادة مع فوات وقتها.
وثانيهما: أنه تلزمه الإعادة للصلاة، وهذا هو الذي ذكره الشيخ علي بن الخليل وغيره من أصحابنا على رأي الهادي، ووجهه: أنه وقع غسله على فساد من جهة أن بقية المني مانع من إجزاء الغسل فلم تكن الصلاة مجزية كما لو لم يغتسل.
المذهب الثاني: أنه يستحب له التأخير، وهذا هو الذي رآه المؤيد بالله، ووجهه: محاذرة عن تكرر الغسل عليه إذا بال؛ لأن غسله يقع صحيحاً لا محالة، فلم يكن الاستحباب في التأخير إلا لما ذكرناه.
المذهب الثالث: أنه لا يلزمه التأخير ولا يستحب له، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب مذهباً لأحمد بن يحيى(2)،
__________
(1) يعني:على رأي الهادي.
(2) ابن الإمام الهادي يحيى بن الحسين.
واختاره مذهباً لنفسه لأن الصلاة مؤقتة لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً }[النساء:103]. فلا وجه لتأخيرها عن وقتها المضروب لها، ومن جهة أن المني غير مقطوع بأثره في الإحليل فإذا تعرض للبول ولم يبل فعليه أن يغتسل للجنابة ويصلي ولا تلزمه إعادة الغسل والصلاة جميعاً لأنهما جميعاً قد وقعا على نعت الصحة فلا وجه لإعادتهما.
والمختار: ما قاله الإمامان أبو طالب وأحمد بن يحيى لما ذكرناه من قبل، وهو أن بقية المني غير مقطوع به في الإحليل وقد دللنا عليه بالآية والخبر وإذا كان لا أثر له صح الاغتسال والصلاة.
الفرع الثاني: إذا قلنا بأن بقية المني مقطوع به في قصبة الإحليل فهل يكون مانعاً من صحة الغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه مانع من صحة الاغتسال، وهذا هو الذي يأتي على رأي الهادي، وعلى هذا إذا اغتسل في آخر الوقت من غير بول جازت الصلاة مخافة فواتها ويكون معذوراً في تأديتها، ولا يجوز له دخول المسجد ولا قراءة القرآن لأنه في الحقيقة جنب فلا يجوز له فعل هذه الأمور بحال.
المذهب الثاني: أن بقية المني وإن كان مقطوعاً به في الإحليل لكنه إذا اغتسل صح اغتساله وجاز له دخول المسجد وقراءة القرآن، لأن غسله وقع صحيحاً وزالت عنه الجنابة وذلك مستمر حتى يبول فإذا بال عاد عليه حكمها من جهة اندفاع بقية المني عن الإحليل، وهذا هو رأي المؤيد بالله. ووجهه ما ذكرناه.
الفرع الثالث: إذا اغتسل في أول الوقت ولم يبل فإنه تجب عليه إعادة الغسل والصلاة جميعاً على رأي الهادي.
ووجه ذلك: هو أنه قد أخل بشرط الصلاة وهو الطهارة فلهذا وجبت عليه الإعادة لهما لوقوعهما على فساد، والتفرقة بين أول الوقت وآخره على رأيه حيث قال: بوجوب إعادة الغسل والصلاة إذا وقعا في أول الوقت بخلاف ما إذا وقعا في آخر الوقت فإنه لا يعيد إلا الغسل دون الصلاة، هو أنه إذا كان في آخر الوقت فهو معذور في تأدية الصلاة فلهذا كانت مجزية بخلاف ما إذا وقعت في أول الوقت فإنه غير معذور في تأديتها فلهذا وجبت عليه الإعادة لهما جميعاً فافترقا.
الفرع الرابع: إذا اغتسل في أول الوقت ولم يبل ولم يتعرض للبول فإنه تجب عليه إعادة الغسل والصلاة جميعاً، وهذا هو الذي يأتي على رأي أحمد بن يحيى، وظاهر كلامه أن التعرض للبول شرط في صحة الصلاة والغسل جميعاً فكأنه قد أخل بشرط، فلا جرم لم يكونا مجزئين في حقه، فأما على كلام السيد أبي طالب فلا يجب عليه ذلك بل يلزمه أن يستقصي في إنزال بقية المني، فإذا فعل ذلك واغتسل وصلى في أول الوقت فقد أدى ما وجب عليه.
قال الإمام المؤيد بالله: ولا بأس للرجل أن يدخل المسجد وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة أو معه شيء نجس وهو لا ينجس المسجد، لما روي عن النبي أنه دخل المسجد وعلى ثوبه نجاسة فأمر به إلى عائشة من المسجد فغسلته في بيتها ثم أمرت به إليه(1)،
ولأنه لا يخشى منه نجاسة المسجد فجاز ذلك كما لو كان طاهراً، وإن كان يخشى منه تنجيس المسجد لم يجز ذلك، لما روي عن النبي أنه أراد دخول المسجد فخلع نعليه من رجليه فلما رآه أصحابه من بعده حَلُّوا نعالهم فقال: ((ما بالكم))!؟ فقالوا: رأيناك حللت فحللنا. فقال: ((إن جبريل أخبرني أن فيها قذراً ))(2)،
فدل ذلك على أنه لا يجوز الدخول بها المسجد مخافة تنجيسه.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
الفرع الخامس: ما ذكرناه من وجوب تقديم البول قبل الاغتسال من الجنابة، إنما يكون شرطاً في حق الرجال، فأما في حق النساء فلا يكون شرطاً لأن مخرج الحيض والمني في حقهن غير مخرج البول كما وصفناه من قبل، فلا يحصل لهن في تقديم البول استنزال بقية المني لما كان المخرجان مختلفين.
قال السيد أبو العباس: فإن بال ثم خرج مَنيٌّ بعد الغسل فإنه لا يلزمه [إعادة]الغسل إلا باستحداث شهوة، لأنه ليس بمني. وهذا يلائم ما ذكره الهادي في (الإحكام)، فأما اختياره لنفسه فقد قررناه فيما تقدم أنه موجب للغسل واخترناه وهو رأي الشافعي.
قال أبو حنيفة ومحمد: إذا جامع الرجل واغتسل من ساعته قبل أن يبول ثم خرج بقية المني فعليه الغسل لأنه من آثار المني الأول.
قال أبو يوسف: لا غسل عليه.
وحكي أيضاً: أنه لو احتلم الرجل فأمسك على ذكره فلم يخرج منيه على الفور ثم خرج بعدما سكنت شهوته، ففي قول أبي حنيفة ومحمد: عليه الغسل كما لو خرج على الفور.
قال أبو يوسف: لا غسل عليه.
قال الشافعي وزفر: يجب عليه الغسل متى خرج بال أو لم يبل.
قال أبو يوسف ومالك: ليس عليه غسل بال أو لم يبل. وقد قدمنا الكلام في هذه المسألة وذكرنا المختار من ذلك والانتصار لما ذكرناه فأغنى عن الإعادة. والله الموفق.
الفرع السادس: إذا لَفَّ على ذكره خرقة ثم أولجه في فرج امرأته ولم ينزل الماء فهل يجب عليه الغسل أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه محكية عن أصحاب الشافعي:
أحدها: أنه لا يجب عليهما غسل لأن كل ما أوجب الطهارة عندهم من الملامسة من غير حائل فإنه لا يوجبها مع الحائل كالطهارة الصغرى.
وثانيها: أنه يجب عليهما الغسل لأنه يسمى مولجاً كما لو كان من غير حائل.
وثالثها: أنه إذا كانت الخرقة رقيقة وجب عليهما الغسل لأن وجودها كعدمها وإن كانت صفيقة لم يجب عليهما الغسل.
والمختار عندنا على المذهب: وجوب الغسل عليهما جميعاً لقوله : ((إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل))، ولم يفصل بين أن يكون هناك حائل أو لم يكن. وإذا قلنا بوجوب الغسل عليهما فهل يكونان جنبين(1)
محدثين فيتوجه عليهما الوضوء والغسل جميعاً أو يكونان جنباً من غير حدث فلا يجب عليهما إلا الغسل لا غير؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي:
أحدهما: أنهما يكونان جنباً من غير حدث، وهو محكي عن الشيخ أبي حامد الإسفرائيني منهم، لأنه يقال له جنب ولا يقال له محدث.
وثانيهما: أنهما يكونان جنبين محدثين وهذا هو المحكي عن الشيخ أبي الطيب الطبري، وهذا هو الذي نختاره للمذهب من جهة أن الحدث يكون بخروج الخارج من السبيلين، وا لجنابة تكون بخروج المني فاجتمع فيه العلتان، ولأنه إذا وجب الغسل استحال بقاء الطهارة الصغرى. وثمرة الخلاف في المسألة: هو أن كل من أوجب الوضوء والغسل لكونه جنباً محدثاً فإنه يوجب الوضوء مرتباً، ومن قال بأنه لا يجب الوضوء، لكونه جنباً غير محدث فإنه لا يجب عليه الوضوء بحال.
__________
(1) هكذا في الأصل هنا، وردت (جنباً) في صيغة المثنى وهي في الجملة التي تليها مفردة. وعلى اعتبار أنها إسم للجنس فإنها لا تثنى ولا تجمع كما جاء في القرءان الكريم: {وإن كنتم جنباً فاطهروا}. وفي القاموس: (.. وهو جنب يستوي للواحد والجمع، أو يقال: جنبان و أجناب). إ.ه. بلفظه.
الفرع السابع: وإذا قلنا بأن الرجل إذا أولج ذكره مع الحائل فإنه يكون جنباً من جهة أن الختانين قد التقيا وذلك موجب للغسل كما مر شرحه، ويكون محدثاً أيضاً من جهة أن الإيلاج مظنة الحدث وإن لم يحدث كما أن النوم مظنة بخروج الناقض وكما أن الخلوة مظنة لشغل الرحم، وإن لم يكن هناك وطء فلما كان الشرع يقيم مظنة الشيء مقامه لا جرم كان الإيلاج قائماً مقام خروج الخارج، فلأجل ذلك كان موجباً للوضوء. وإذا كان الرجل جنباً محدثاً بأن جامع فأنزل أو احتلم فأنزل أو أولج ذكره من غير إنزال فقد وجب عليه الوضوء والغسل جميعاً، فهل يجزيه الغسل فقط عن الوضوء أو لا بد من الوضوء؟ فيه كلام نستوفيه في واجبات الغسل وصفته بمعونة اللّه تعالى.
مسألة: قال الإمام القاسم، في ثلاثة(1)
أنفس في بيت واحد، جنب وحائض وميت، وهناك ماء في كوز ولا يقدر(2)
على غيره. الأحق بالماء من كفاه، ومن لم يكفه فالتيمم بالصعيد الطيب، فإن كان يكفي كل واحد منهم على الإنفراد ولا يكفي جماعتهم فالحائض أحق به.
واعلم أن هذه المسألة قد اشتملت على فروع خمسة نذكرها ونفصلها بمعونة اللّه تعالى:
الفرع الأول: أن يكون الماء مباحاً أو كان لغيرهم وأراد أن يجود به على أحدهم وكان كافياً له فأي هؤلاء الثلاثة يكون أحق به؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن تكون الحائض أحق به وهذا هو رأي القاسم كما حكينا في ظاهر المسألة وهو اختيار السيد أبي طالب.
والحجة على ذلك: هو أن الحائض إنما يراد من غسلها لحق الآدمي وهو الوطء بخلاف الجنب والميت فإن المراد بغسلهما هو لحق اللّه تعالى وهو أداء العبادة عليهما وإذا ازدحم حق اللّه تعالى وحق الآدمي، كان حق الآدمي أحق بالتقديم كالدَّيْنِ والوصية.
المذهب الثاني: أن الميت أحق، وهذا هو المحكي عن الشافعي.
__________
(1) هكذا في الأصل. ولعل تذكير الأنفس باعتبار الأشخاص المعبر عنهم.
(2) بمعنى: ولا يوجد غير الماء الذي في الكوز.
والحجة على ذلك هي: ما قاله الشافعي: وهو أن هذه خاتمة أمر الميت ولا ترجى له طهارة بعد هذا، والجنب و الحائض ترجى لهما الطهارة بعد ذلك.
والمختار: أن الأحق بالماء الميت كما قال الشافعي، ليس لما قاله ولكن من جهة أن غسله لا يراد به رفع الحدث للصلاة وإنما المقصود به التنظيف وذلك لا يحصل بالتراب، والقصد من طهارة الجنب والحائض إنما هو رفع الحدث واستباحة الصلاة ولا شك أن التيمم يقوم مقام الماء في استباحة الصلاة فلهذا كان [الميت] أحق بالماء لما ذكرناه. وأما ما ذكره الشافعي من التعليل فهو فاسد، لأن ظاهره دال على أن وجوب الطهارة متعلق به وليس الأمر كما ظنه ولكن التكليف بتطهيره متعلق بالأحياء إذ لا يعقل في حقه تكليف لانقطاعه بالموت، والحي إذا اجتمع عليه حقان يتعلقان بالعبادة، يتعلق أحدهما بنفسه والآخر يتعلق بغيره، قدم ما يختصه في نفسه كالصلاة في آخر الوقت والصلاة على الجنازة إذا اجتمعا. وكالصحيح إذا تضيق عليه وقت الصلاة وهناك مريض مدنف يحتاج إلى الوصية والوضوء إلى غير ذلك.
ويمكن الانتصار لما قاله القاسم وهو: أن الحائض قد بعد عهدها بالتنظيف وتكاثفت نجاستها في بدنها وأثوابها فلا جرم كانت أحق بالماء لتطهيرها مما هي [عليه]، وكلامه في ترجيحها بالأحقية إنما هو إذا كان لها زوج فأما إذا لم يكن لها زوج فسيأتي الكلام فيه.
الفرع الثاني: إذا اجتمع هؤلاء الثلاثة وكان الماء ملكاً لأحدهم نظرت، فإذا كان الذي يملكه هو الميت فإنه يكون أحق به ولا يجوز بذله لمن كان حياً إلا أن يخشى الحيان التلف من العطش فلهما أن يشتريا ذلك بقيمته من الورثة لأنه ملك لهم، وييمم الميت بالتراب ويوارى في حفرته لأن حفظ مهجة الحي وتدارك حشاشته أهم في مقصود الشرع من التطهر في حق الميت الذي له بدل يقوم مقامه، وإن كان الماء للحائض فإنها تكون أحق به لكونه ملكاً لها.
وهل يجوز بذله للميت؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك غير جائز، وهذا هو الذي يأتي على رأي أئمة العترة وهو الأصح من قول الشافعي لأنها محتاجة إليه لأداء العبادة فلا يحل لها بذله.
وثانيهما: أن الميت يكون أحق به، وهذا شيء يحكى عن الشيخ أبي إسحاق من أصحاب الشافعي وقد أنكره ابن الصباغ في (الشامل) وقال: هذا لا يعرف للشافعي، لأنه محتاج إليه(1)
كما أشرنا إليه فلا يحل له بذله(2)،
وإن كان الماء للجنب فهو أحق به ولا يجوز له بذله مع حاجته إليه فإن خالف الجنب والحائض وبذلا الماء للميت مع حاجتهما إليه وأخذا ثمنه لهما من مال الميت كانا مخطئين لما لهما فيه من الحاجة ولم يزل ملكهما عنه، فإن تيمما وصليا نظرت فإن كان مع وجود الماء لم يصح تيممهما لكونه تيمماً مع وجود الماء وإن كان مع عدمه جاز ذلك، وهل تلزمهما الإعادة أم لا؟ والأقرب على المذهب: أنه لا تلزمهما الإعادة لما صليا بالتيمم لقوله : ((لا ظهران في يوم )) وحكي عن الشافعي قولان.
__________
(1) محل هذه الجملة بعد قوله: وثانيهما أن الميت يكون أحق به.
(2) بمعنى: فلا يجوز أخذه.
الفرع الثالث: إذا اجتمع هؤلاء الثلاثة وكانت الحائض لا زوج لها، فالأقرب على ما اخترناه من قبل، وعلى رأي القاسم: أن الميت يكون أحق بالماء لما ذكرناه من أن المقصود بطهارة الميت هو التنظيف، ولا بَدَلَ لَهُ، بخلاف الحائض فإن المقصود بطهارتها رفع الحدث وله بدل وهو التراب، وعلى رأي القاسم أيضاً لأنه إنما رجح الحائض لأجل حق الآدمي وهو الوطء وهذه لا بعل لها فلا وجه للترجيح به، فلا جرم سلم المعنى المقصود في حق الميت فلهذا قضينا بكونه أحق بالماء من غيره، وإن اجتمع حي على بدنه نجاسة وميت، والماء يكفي أحدهما، فالذي يأتي على رأي الشافعي: أن الميت أحق، والأقرب: أن الحي أولى من جهة أن طهارة الميت لها بدل بخلاف طهارة النجاسة فإنه لا بدل لها، وإن كان الماء لا يكفي واحداً من هؤلاء الثلاثة فقد قال القاسم: ومن لم يكفه الماء فالتيمم بالصعيد الطيب. وهذا ظاهر لأن كلامنا في الأحق بالماء إنما هو مع كمال التطهير بالماء فأما مع أن الطهارة لا تكمل به فالواجب العدول إلى بدله.
الفرع الرابع: وإن اجتمع جنب وحائض قد طهرت وهناك من الماء ما يكفي أحدهما، فأيهما يكون أحق به؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الحائض أحق، لأنها تستبيح بالغسل أكثر مما يستبيح به الجنب وهو إباحة الوطء، وهذا هو الذي يأتي على رأي القاسم فيما إذا اجتمع الثلاثة.
وثانيها: أن الجنب أحق من جهة أن غسل الجنابة معلوم بنص القرآن وغسل الحيض مأخوذ من أخبار الآحاد وطرق الاجتهاد(1).
وثالثها: أنهما سواء من جهة أن كل واحد منهما مفتقر إلى الطهارة بالماء، والتراب بدل عنهما(2)
__________
(1) لم يسند المؤلف هذا الوجه إلى مذهب أو قائل معين، والمعروف أن الغسل من الحيض ثابت بالإجماع، وليست فقط بأخبار الآحاد وطرق الاجتهاد، والله أعلم.
(2) هكذا في الأصل، والمراد معلوم وهو أن التراب بدل عن الماء في الغسل للجنب والحائض عند انعدام الماء أو تعذر استعماله.
جميعاً فلهذا كانا مستويين.
والمختار: أنهما سواء من جهة أنه لا يشار إلى أحدهما بخصوصية إلاَّ ويمكن حصولها للآخر، ولهذا حكمنا عليهما بالإستواء.
وإن كان رجل على بدنه نجاسة وهو محدث ومعه من الماء ما يكفي أحدهما دون جميعهما فإنه يغسل النجاسة بالماء ثم يتيمم للحدث، من جهة أن التيمم لا يصلح لإزالة النجاسة ولا بدل لها(1)
والتيمم ينوب عن الحدث فلهذا وجب استعمال الماء فيما لا يقوم غيره مقامه.
الفرع الخامس: وإذا اجتمع جنب ومحدث وهناك ما يكفي أحدهما دون الآخر نظرت فإن كان يكفي المحدث ولا يكفي الجنب فالمحدث أحق به لأنه يرفع حدثه ويسقط فرضه، والجنب لا يرفع حدثه ولا يسقط فرضه على رأي بعض أهل الاجتهاد كما سنوضحه بعد هذا بمعونة اللّه تعالى.
وإن كان الماء يكفي الجنب ويفضل عنه ما يغسل به المحدث بعض أعضائه، ويكفي المحدث ويفضل عنه ما لا يكفي الجنب فالجنب أحق به، من جهة أن حدث الجنابة أغلظ من حيث أنه لا يقدر على الحصول في المسجد ولا على قراءة القرآن، وإن كان الماء يكفي الجنب ولا يفضل منه شيء ويكفي المحدث ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض أعضائه ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الجنب أولى من جهة أن حدثه أغلظ.
وثانيها: أن المحدث أحق به لما فيه من التشريك بينهما(2).
وثالثها: أنهما سواء لأنه يُرْفَعُ به حَدَثٌ عن كل واحد منهما.
والمختار على المذهب: أن المحدث أحق به لما فيه من مزيد الفائدة وهو أن كل واحد منهما يصلي وقد ارتفع عنه الحدث بالطهارة المائية، فهذا ما أردنا ذكره في هذه المسألة وبتمامه يتم الكلام على الفصل الثاني وهو ما يجوز للجنب فعله وما لا يجوز وبالله التوفيق.
__________
(1) أي: لغسلها أو لتطهيرها.
(2) بين النجاسة والحدث.
---
الفصل الثالث في بيان واجبات الغسل وذكر كيفيته
وقد أوضحنا أن الواجب من الغسل أنواع أربعة: الجنابة، والحيض، والنفاس، والموت، وما يتعلق [بها]. والذي نذكره هاهنا هو الأمور الواجبة في الغسل الذي لا يكون غسلاً شرعياً مجزياً في العبادة إلاَّ به(1)
فالنية في غسل الجنابة وغيره واجبة عند أئمة العترة لا يختلفون في ذلك، وهو قول الشافعي ومالك وعند أبي حنيفة وأصحابه، ومحكي عن سفيان الثوري أنها غير واجبة، والخلاف فيه وفي الوضوء واحد إذ لا قائل بالتفرقة بينهما، فمن أوجب النية أوجبها فيهما جميعاً، ومن منع النية منعها فيهما جميعاً، والأدلة التي أشرنا إليها في الوضوء في إيجاب النية جارية هاهنا، وذكر الإختيار والانتصار له قد أسلفناهُ فأغنى عن تكريره.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: النية في الجنابة، يجب أن تكون لرفع الجنابة أو رفع الحيض أو رفع النفاس أو غير ذلك من الأسباب الموجبة للغسل لأن ذلك السبب هو المؤثر في وجوب الغسل فلأجل ذلك أثر تعيينه في كون الغسل مجزياً، وهكذا لو نوى في غسله أنه للصلاة مطلقاً أو لصلاة معينة أو لرفع الحدث الأكبر أجزأه ذلك.
__________
(1) هنا فراغ في الأصل يتسع لكلمة واحدة لعلها: فنقول.
قال السيد الإمام أبو طالب: لأن نية الغسل لا تعلق لها بالصلاة بخلاف نية الوضوء فإن لها تعلقاً بالصلاة فلأجل ذلك أنه إذا نوى في الغسل ما ذكرناه من تلك الأمور أجزأه بخلاف الوضوء كما مر بيانه، وإنما لم يكن للغسل تعلق بالصلاة من جهة أنه لا تؤدى به الصلاة حتى ينضم إليه الوضوء، فمن أجل ذلك افترقا. وهكذا لو نوى بغسله قراءة القرآن أو دخول المسجد اجزأه ذلك، أو غير ذلك من الأفعال التي تمنع من فعله الجنابة، ولو نوى رفع الحدث الأصغر لم يكن غسله مجزياً من جهة أن الجنابة لا ترتفع بارتفاع الحدث الأصغر، ولهذا فإنه لو توضأ وهو جنب لم يكن حدث الجنابة مرتفعاً بالوضوء وهذا على رأي السيد أبي طالب وأبي العباس في التفرقة بين الوضوء وغسل الجنابة بالوجه الذي ذكرناه.
فأما على رأي المؤيد بالله وهو المختار عندنا، فإنه لا تفرقة بينهما في أنه لو نوى رفع الحدث أو نوى صلاة معينة أنه يكون مجزياً له في الوضوء والغسل جميعاً كما قررناه في الوضوء.
الفرع الثاني: نية الغسل يجب أن تكون مقارنة لأول جزء من أجزائه كما ذكرناه في الوضوء من جهة أن المقارنة في النية هي الأصل في كل فعل، وإنما جوزنا التقديم والتأخير في بعض النيات لدليل دل عليه وأمر اقتضاه، فإن لم تدل دلالة ظاهرة على جواز التقديم والتأخير وجب القضاء بالمقارنة لأنه هو الأصل كما أشرنا إليه.
قال الإمام المؤيد بالله: ومن كان جنباً فاغتسل من غير أن ينوي رفع الحدث أو أداء الصلاة لم يكن اغتساله صحيحاً وإنما كان الأمر كما قلناه من جهة أن النية شرط في صحة الاغتسال كما قررناه من قبل فإذا لم يأت بها فإنه يكون مخلاً بشرط من شروط الاغتسال فلهذا لم يكن غسله مجزياً له.
الفرع الثالث: قال الإمام المؤيد بالله: فإن صلى فعليه الإعادة إذا أعاد الغسل.
واعلم أن كل ما كان من المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف بين العلماء [في هذه المسألة] ففيه وجهان:
أحدهما: أنه تلزمه الإعادة على رأيه ولا يراعى في ذلك بقاء الوقت وخروجه.
وثانيهما: أن يُراعى في وجوب الإعادة بقاء الوقت فإن كان قد مضى الوقت لم تجب عليه الإعادة، وهذا هو رأي الهادي، وقد قررنا هذه المسألة في باب الوضوء وذكرنا المختار والانتصار له فأغنى عن تكريره.
الفرع الرابع: قال المؤيد بالله: ومن اغتسل للعيد أو للجمعة ثم ذكر أنه كان جنباً وجب عليه إعادة الاغتسال للجنابة من جهة أن النية واجبة كوجوبها في الوضوء ولأنه اغتسل لغير الجنابة فلا يجزيه عن غسلها كما لو نواه للتبرد. وقال أيضاً: فإن اغتسل وهو شاك في جنابته ثم إنه تيقن بعد ذلك جنابة أجزأه غسله لأنه قد نوى الجنابة عند الاغتسال فوجب أن يكون مجزياً له كما إذا كان متيقناً لها عند الغسل.
مسألة: المضمضة والإستنشاق مشروعان في غسل الجنابة عند أئمة العترة وهو قول فقهاء الأمة لما روت عائشة عن النبي أنه كان إذا اغتسل من الجنابة تمضمض واستنشق(1).
وروى ابن عباس عن خالته ميمونة أنها قالت: وضعت لرسول اللّه غسلاً فتمضمض واستنشق(2).
__________
(1) هذا الحديث جاء ضمن رواية عائشة في وضف غسل النبي من الجنابة، أخرجه النسائي، والتأكيد واضح على المضمضة والإستنشاق عند الغسل من الجنابة إذ ورد ذكرهما في فعل رسول الله ضمن الأحاديث المروية في صفة غسله، ومنها ما روته عائشة وميمونة وعلي في حديث تعليم النبي لمن سأله عن غسل الجنابة. وفي (الانتصار) حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثاً فريضة) كما سيأتي.
(2) ولفظ الحديث: عن ميمونة قالت: وضعت للنبي ماء يغتسل به فأفرغ على يديه فغسلها مرتين أو ثلاثاً ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكره ثم دلك يده بالأرض، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى من مكانه فغسل قدميه. هذه إحدى روايات البخاري ومسلم. اه(جواهر- هامش البحر 1/106).
وهل يكونان واجبين أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهما واجبان، وهذا هو قول الأكثر من أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه وعطاء وطاووس وابن أبي ليلى وإسحاق وسفيان الثوري.
والحجة على ذلك:قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6].
ووجه دلالة الآية هو:أنه تعالى أمر بالتطهير وظاهرها دال على وجوب التطهير في كل عضو يلحقه التطهير من غير تخصيص، ولا شك أن الفم والأنف من جملة الأعضاء التي يلحقها التطهير بالماء فيجب القضاء بوجوب تطهيرهما.
الحجة الثانية: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((تحت كل شعرة جنابة " فبلوا الشعر وأنقوا البشر))(1). ولا شك أن في الأنف شعراً وفي الفم(2) بشراً قال ثعلب: البشرة هي الجلدة التي تقي اللحم من الأذى.
المذهب الثاني: أنهما سنتان، وهذا هو رأي الإمام الناصر والشافعي وأصحابه، ومحكي عن مالك.
والحجة على ذلك: قوله لأم سلمة لما سألته عن غسل الجنابة: ((إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء " ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت))(3).
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من القول بوجوبهما في غسل الجنابة ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم ونزيد ههنا حجتين:
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي بلفظ: ((تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر...إلخ)).
(2) في الأصل: الأنف وهو تكرار لعله خطأ من الناسخ.
(3) رواه مسلم، وفيه روايات أخر، والحديث عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ظفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: ((لا إنما يكفيك...الحديث)) (جواهر)1/106.
الحجة الأولى: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6]. فالآية مجملة إذ لا يمكن امتثال الأمر من ظاهرها، وبيانها موكول إلى الرسول وقد أوضحها عليه الصلاة والسلام بقوله: ((المضمضة والإستنشاق فريضة في غسل الجنابة ثلاثاً " ))(1).
وبفعله، فإنه كان إذا اغتسل من الجنابة تمضمض واستنشق.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أن نقول: عضو من أعضاء الطهارة بدليل ما تقدم أنه يجب إيصال الماء إليه في الوضوء ويجب غسله من النجاسة فوجب غسله من الجنابة كالأذن وداخل اللحية ولأنهما عضوان يلحقهما حكم التطهير من النجاسة فوجب غسلهما من الجنابة كالرأس والرجل، ولأنه يُسُّن تكرير غسلهما في الجنابة فكان غسلهما مرة فرضاً واجباً كسائر الأعضاء.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: الآية في قوله تعالى: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا " }[النساء:43]. فأمر بالغسل ولم يأمر فيه بالمضمضة والإستنشاق فدل ذلك على أنهما غير واجبين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الآية على ما قلناه أدل لأن ظاهرها لم يفصل بين عضو وعضو فهي بأن تكون دلالة لنا أحق من أن تكون دلالة لكم.
وأما ثانياً: فلأنها تقتضي وجوب تطهير جميع ما يلحقه التطهير من البدن، وهذان العضوان من جملة ما يلحقه التطهير فلا جرم قضينا بوجوب غسلهما.
قالوا: حديث أم سلمة دال على أنهما غير واجبين لأنه قال لها: ((إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات " فإذا أنت قد طهرت)) ولم يذكرهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ظاهر الحديث متروك لأنه دال على أن الوجه غير مغسول لأنه لم يذكره في الحديث.
فإن قالوا: قد علم بالدلالة وجوب غسله.
قلنا: المضمضة والإستنشاق معلوم غسلهما بالدلالة.
__________
(1) أورده في (الجواهر-هامش البحر) 1/106 عن أبي هريرة.
وأما ثانياً: فلأنا قد دللنا على وجوب غسلهما بما ذكرناه من الأخبار فيجب الجمع بينها وبين ما أوردوه. وعلى هذا يكون التقدير فيما روته أم سلمة، أما أنا فأتمضمض وأستنشق ثم أحثي على رأسي ثلاث حثيات، وإذا كان الأمر فيه كما قلنا بطل ما توهموه.
قالوا: عضو باطن من أصل الخلقة دونه حائل معتاد فأشبه داخل العين.
قلنا: أما من قال بوجوب غسل داخل العين فلا يلزمه هذا القياس لأنه يمنع من الحكم من الأصل فلا يمكن القياس عليه، وأما من قال بأن غسل داخلهما غير واجب كما هو المختار عندنا وهو رأي أكثر العترة فالجواب عنه: أن في غسل داخل العين مشقة وحرجاً، وهذا غير حاصل في العضوين، ثم إنه معارض بما ذكرنا من الأقيسة المذكورة فيجب القضاء بتساقط الأقيسة والرجوع إلى الأدلة النقلية التي مهدناها.
قالوا: عضو ينطبق انطباق الخلقة أو عضو منطبق فلا يجب إيصال الماء إليه كداخل العينين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الطهارات كلها جارية على جهة التحكم من جهة الشارع، والمعاني فيها منسدة فلا تلوح فيها مخايل المعاني ولا تنقدح فيها مسالك الأشباه وإنما مستندها تحكمات الشارع في أقواله وأفعاله.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا جري الأقيسة فيها لكن ما ذكرتموه ليس من قبيل المعاني ولا من قبيل الأشباه المعتمدة، وإنما هو من قبيل الأوصاف الطردية التي لا يعول عليها محصل، ولهذا فإنه يعارض بأدنى معارضة على القرب، فيقال فيه: عضوان لهما أثر في جمال الوجه وكمال الخلقة فيجب غسلهما في الجنابة كالعين والشفة، أو عضوان تجب الدية الكاملة بقطعهما فيجب غسلهما في الجنابة كالعينين والشفتين إلى غير ذلك من الهذيانات الركيكة والركاكات المتروكة التي لا يعلق شيء من أحكام الشريعة عليها، ولولا أن القاضي زيد من أصحابنا حكاه عنهم لما تكلمنا عليه بالإبطال لكونه من الطرديات المهجورة. ولم أعلم أن أحداً من نظار أصحاب الشافعي أورده وما ذاك إلا لركته ونزول قدره وأنه صار في حيز الهجران باتفاق الفقهاء الخائضين بحر القياس الممهدين لقواعده.
قالوا: غسل واجب فلا يجب غسلهما فيه كالغسل من الموت.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فنمنع الحكم في الأصل ونقول: بل يجب غسلهما في حق الميت لأنهما من جملة جسمه وهذا إنما يلزم الحنفية حيث لم يوجبوه.
وأما ثانياً: فلأنهما عضوان يجب غسلهما من النجاسة ولا يبطل الصوم بترك [بقايا من] الطعام فيهما فيجب غسلهما في الجنابة كسائر الأعضاء فبطل ما توهموه.
مسألة: ويجب تخليل [شعر اللحية] وشعر الرأس وإيصال الماء إلى جميع البدن، ظاهره وهو ما لا يكون مستوراً بغيره، وغامضه وهو ما يكون مستوراً بغيره كالمعاطف و الأرفاغ(1)
__________
(1) الرَّفغ والرُّفغ أصول الفخذين من باطن وهما ما اكتنفا أعالي جانبي العانة عند ملتقى أعالي بواطن الفخذين وأعلى البطن، وهما أيضاً أصول الإبطين. وقيل: الرفغ من باطن الفخذ عند الأربية، والجمع أرفغ و أرفاغ ورفاغ. قال الشاعر:ـ
قد زوجوني جَيْأَلاً فيها حدب
دقيقة الأرفاغ ضخماء الركب
إ.هلسان. والجَيْأَلُ: الضبع.
في البدن، نص الهادي على ذلك في المنتخب. وهو قول أئمة العترة وفقهاء الأمة وذلك لما روي عن الرسول أنه قال: ((بلوا الشعر وأنقوا البشر " فإن تحت كل شعرة جنابة)). وقوله : ((من ترك موضع شعرة في جسده من جنابة فُعِلَ به كذا وكذا في النار " ))(1).
ويجب عليه غسل ظاهر أذنيه وباطنهما لأنهما من الأعضاء الظاهرة. ويدخل الماء فيما ظهر من صماخيه لما ذكرناه من الخبر، ولا يجب عليه غسل ما بطن كالعين وداخل الأنف على الرأي المختار وهو قول أكثر الفقهاء وأكثر أئمة العترة.
فأما على رأي المؤيد بالله فإنه يجب عليه غسل عينيه كما ذكره في الوضوء وقد سبق تقريرها فيه، ولو كان داخل عينيه شعر فإنه لا يجب عليه غسله لما ذكرناه من عدم وجوب غسلهما.
وهل يجب الدلك لما يمكن دلكه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب دلك ما يمكن دلكه من الجسم في غسل الجنابة، وهو رأي أئمة العترة وهو محكي عن مالك.
والحجة على ذلك: ما روى زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه قال: لما كان في ولاية عمر قدم وفد من العراق عليه فقالوا: جئنا نسألك عن أشياء.
فقال: هاتوا.
فقالوا: نسألك عن الغسل من الجنابة.
__________
(1) الحديث مروي عن علي أخرجه أبو داؤد بلفظه، ثم قال: فقال علي : فمن ثم عاديت راسي، قالها ثلاث مرات، وكان يجز [شعر] رأسه (الاعتصام) 1/250.
فقال: ويلكم أسحرة أنتم! ما سألني عنهن أحد منذ سألت رسول اللّه . ثم قال: ألست شاهداً يا أبا الحسن؟. قال: بلى. قال: فماذا أجابني رسول اللّه فإنك أحفظ مني. فقال: سألته عن الجنابة فقال: ((تصب على يديك الماء قبل أن تُدخل يدك إناءك " ثم تضرب بيدك إلى مرافقك فتنقي ثم تضرب بيدك إلى الأرض ثم تصب عليها من الماء ثم تتمضمض وتستنشق ثلاثاً وتغسل وجهك وذراعيك وتمسح رأسك وتغسل قدميك وتفيض الماء على جانبيك وتدلك من جسدك ما نالت يدك))(1).
فذلك أمر والأمر يقتضي الوجوب.
الحجة الثانية: قياسية وهو: أن الغسل إزالة مانع من الصلاة بماء فوجب أن يكون من شرطه إمرار اليد أو ما يقوم مقامها كغسل النجاسة(2).
المذهب الثاني: أنه لا يجب الدلك وهذا هو رأي الناصر وهو محكي عن الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما في حديث أم سلمة حين قال لها: ((أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت " )). ولم يشترط الدلك.
الحجة الثانية: قياسية وهي: أنها طهارة حكمية فكان المسح مجزياً فيها كالتيمم.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العترة من اشتراط الدلك.
__________
(1) هذا من الأحاديث المشهورة. رواه زيد بن علي عن آبائه. راجع (الروض النضير) (الاعتصام)1/245.
(2) جاء في حاشية الأصل: فإن لم تصل يده إلى موضع جسده فعن المنصور بالله يجب عليه استعمال [ما يقوم مقامها] وعن الأمير شمس الدين وجوبه، فإن قطعت يده أو يبست فعن المنصور بالله يجب الإستعمال وعن بعضهم لا يجب.
والحجة عليه: ما قالوه ونزيد ههنا وهو أن المفهوم من الغسل لغة وشرعاً هو إمرار اليد على الشيء المغسول ولهذا فإنه من طرح الثوب في الماء حتى جرى عليه فإنه لا يوصف بكونه غاسلاً له، وهكذا فإن من قعد بين الماء ولم يمر يده على جسده فإنه لا يكون غاسلاً له ولا يوصف بالغسل، ولأنه غسل مأمور به من أجل أداء الصلاة فلا بد فيه من الدلك أو ما يقوم مقامه كغسل النجاسة.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: حديث أم سلمة لم يشترط فيه الدلك(1).
قلنا: إنما لم يذكره اتكالاً في بيانه على ما هو المفهوم من الغسل في اللغة والعرف فلهذا لم يشترطه.
قالوا: طهارة فكان المسح مجزياً فيها كالتيمم.
قلنا: المعنى في الأصل كونها طهارة بالماء فلهذا وجب اشتراط الدلك فيها ثم إنا نعني بالدلك إمرار اليد مع جري الماء فإذا كان هذا مسلماً منكم ارتفع الخلاف.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: إذا قعد الغاسل من الجنابة تحت ميزاب يصب عليه ونوى عنده [غسل الجنابة] أجزاه ذلك لأنه قد حصل ما هو أبلغ من إمرار اليد وهو قوة الماء فلهذا كان كافياً، وهو الظاهر من كلام الإمامين القاسم والمؤيد بالله. والخلاف في وجوب الدلك في الوضوء والغسل واحد وقد قررناه في باب الوضوء وأن أهل اللغة يفرقون بين المسح والغسل فيقولون:
الغسل هو: إمساس العضو الماء حتى يسيل عنه مع الدلك.
والمسح: إمساسه الماء بحيث لا يسيل عنه.
وعلى رأي من لا يعتبر الدلك [شرطاً] يجعل الغسل مسحاً وتكون التفرقة عندهم بين الغسل والمسح هو أن التعميم مشترط في الغسل دون المسح فلا يعتبر فيه بل يصيب ما أصاب ويخطيء ما أخطأ، فصارت واجبات الجنابة خمسة عند أئمة العترة: النية، والمضمضة والإستنشاق(2)،
__________
(1) في الأصل: الغسل، وهو سهو.
(2) اعتبر المؤلف المضمضة والإستنشاق في عدد الواجبات الخمسة فرضين اثنين لا واحداً كما جرت العادة.
وتخليل شعر اللحية والرأس ليصل الماء إلى مغارز الشعر، ودلك جميع البدن كله، ونقص أبو حنيفة النية والدلك، ونقص الشافعي المضمضة والإستنشاق والدلك، وقد قررنا الأدلة على ما ذكرناه من هذه الأمور الواجبة فكان مغنياً عن الإعادة.
الفرع الثاني: ومن كان جنباً ونسي الجنابة واغتسل عن الحدث أجزأه ذلك الغسل في أعضاء الوضوء دون غيرها من سائر جسده، وهكذا إذا توضأ عن الحدث أجزأه ما غسله من أعضاء الوضوء عن الجنابة. وكذلك لو غسل الجنب جميع بدنه إلا رجليه ونسي الجنابة وغسلهما بنية الوضوء أجزأه عن الجنابة، لأن فرض الطهارة في أعضاء الوضوء من الجنابة والحدث واحد، فلهذا أجزأه غسلهما. وهكذا لو تيمم عن الحدث ونسي الجنابة أجزأه ذلك، لأنه لو ذكر الجنابة لم يكن عليه أكثر مما فعل، وكذا لو توضأ ينوي أن حدثه ريح فكان بولاً أو غائطاً. أو لو اغتسلت المرأة بنية الغسل عن الحيض أو كانت نفساء أو جنباً أجزأها ذلك لما ذكرناه.
الفرع الثالث: إذا غسل الجنب جميع بدنه إلا أطراف شعره ثم إنه قطع ما بقي من الشعر مما لم يغسله فهل يجب غسله أم لا؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي:
أحدهما: أنه يجب عليه غسل ما قطعه لقوله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}[النساء:43]. والقطع لا يسمى غسلاً.
وثانيهما: أنه لا يجب عليه شيء، وهذا هو المختار للمذهب لأنه قد زال عنه ما وجب عليه غسله فصار كما لو توضأ وترك غسل رجله ثم قطعت من نصف الساق فإنه لا يجب عليه غسل ما قطع. فهكذا هاهنا ولأنه غير مخاطب بغسل الرجل ولا مندرجاً تحت الخطاب بعد القطع.
الفرع الرابع: في التسمية في الغسل هل تكون واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنها واجبة، وهذا هو المحكي عن الشيخ الأستاذ(1)
من أصحابنا.
والحجة على ذلك هو: أنها طهارة مفعولة من أجل الصلاة أو طهارة عن حدث فكانت التسمية فيها واجبة كالوضوء.
__________
(1) هو الشيخ علي بن الخليل، وقد سبقت ترجمته.
وثانيهما: أنها غير واجبة وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب، وهو محكي عن الفريقين الحنفية والشافعية ، وهذا هو المختار، لأن الأصل هو عدم وجوبها وإنما يُقضَى بوجوبها لدلالة خاصة شرعية ولا دلالة هاهنا على الوجوب، والتفرقة بينه وبين الوضوء هو أن التسمية في الوضوء إنما شرعت ليرتفع الحدث عن سائر الجسد بغسل بعضه وقد دل على ذلك قوله : ((إذا تطهر أحدكم فليذكر اسم اللّه فإنه يطهر جسده كله " ))(1).
بخلاف الاغتسال فإن الماء جار على الجسم كله فلهذا كان مستغنياً عن التسمية.
الفرع الخامس: الترتيب في الغسل غير واجب عند أئمة العترة وفقهاء الأمة ولا يعرف فيه خلاف لأنه فعل واحد مختص بجميع البدن فهو كالعضو الواحد في الوضوء.
__________
(1) تمام الحديث: ((...وإلَّم يذكر اسم الله عليه لم يطهر إلآَّ ما مر عليه الماء)) أورده في (شرح التجريد). وجاء في غيره وبروايات أخر عن أبي هريرة وابن مسعود وهو في (الجامع الصغير) للسيوطي كما في (الاعتصام) 1/203.
مسألة: فإذا أراد الجنب أن يغتسل من الجنابة فالمستحب له أن يقول: بسم اللّه. على جهة الذكر ولا ينوي بذلك التلاوة، ثم ينوي الاغتسال من الجنابة أو الغسل لأمر لا يستباح إلا بالغسل كقراءة القرآن أو دخول المسجد أو ينوي الصلاة أو غير ذلك، ثم يغسل كفيه ثلاثاً قبل إدخالهما [الإناء] ثم يغسل ما على من فرجه من الأذى ثم يضرب بيده على الأرض حتى تحمل التراب ثم يغسل فرجه ثم يضرب الأرض بها ضربة أخرى فيغسلها بما تحمل من التراب ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً ثم يتوضأ وضوء الصلاة إلا غسل الرجلين ثم يدخل أصابعه العشر في الإناء فيحثي على رأسه ثلاث حثيات من ماء ثم يفيض الماء على سائر جسده ثم يدلك ما قدر عليه من بدنه ثم يدخل الماء في أصول الشعر من رأسه ولحيته. والأصل في هذه الكيفية ما روت عائشة وميمونة عن الرسول في كيفية الغسل من الجنابة قالت ميمونة: وضعت لرسول اللّه غسلاً يغتسل به من الجنابة فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها مرتين أو ثلاثاً ثم صب الماء على فرجه فغسله بشماله ثم ضرب بيده الأرض فغسلها ثم ضرب بيده على الأرض فحمل بها من التراب فغسل(1) به فرجه.
قالت عائشة: إن شئتم أريتكم أثر يد رسول اللّه في الحائط حيث كان يغتسل من الجنابة ثم إنه تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ثم صب على رأسه وجسده ثم تنحى ناحية فغسل رجليه ثم ناولته المنديل فلم يأخذه وجعل ينفض الماء عن جسده(2).
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: أن الرجل إذا كان جنباً إما جامع فأنزل أو أولج فلم ينزل أو احتلم في ليل أو نهار فأنزل الماء فقد وجب عليه الوضوء والغسل جميعاً، فوجوب الوضوء لأجل الصلاة لقوله : ((لا صلاة إلا بوضوء " )). والغسل من الجنابة لما روي عنه أنه قال: ((فإذا فضخت الماء فاغتسل)). فهما شيئان مختلفان كما أوضحناه، وفيما يجزيه من ذلك مختلف فيه على مذاهب خمسه:
__________
(1) أي: فمسح.
(2) تقدم.
المذهب الأول: أنه يجب عليه الوضوء والغسل جميعاً ولا يتداخلان، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة، الهادي، والمؤيد بالله وهو اختيار السيدين أبي العباس وأبي طالب.
قال الهادي:والوضوء واجب على كل من أراد الصلاة. وهو أحد أقوال الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا " ..}[المائدة:6] الآية إلى أخرها، وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة: 6].
ووجه تقرير هذه الدلالة هو: أن اللّه تعالى أوجب الوضوء على من أراد الصلاة وهو عبارة عن مسح وغسل مرتباً، وأوجب الغسل على من كان جنباً من غير ترتيب فيه، ولا شك أن إحدى الطهارتين مخالفة للأخرى فيجب أن لا تسقط إحداهما بالأخرى كحد الزنى والسرقة.
المذهب الثاني: إذا اغتسل بنية الجنابة وأَمَرَّ الماء على أعضاء الطهارة مرة واحدة من غير ترتيب أجزأه ذلك عنهما جميعاً فيتداخلان، وهذا هو الذي حكاه بعض أصحاب الناصر عنه، وحكي عنه أيضاً وجوب الوضوء. والمنصوص للشافعي أنهما يتداخلان، وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6]. ولم يفصل بينهما، وقوله لأمير المؤمنين: ((إذا فضخت الماء فاغتسل)) ولم يأمره بشيء سواه ولأنهما طهارتان فتداخلتا كالحيض والجنابة.
المذهب الثالث: أنه يجب عليه الوضوء مرتباً ويجب عليه غسل سائر بدنه ما خلا أعضاء الوضوء فلا يجب عليه تكرير غسلها لأنهما متفقان في الغسل مختلفان في الترتيب فتداخلا فيما اتفقا فيه، وعلى هذا يجزيه إمرار الماء على أعضاء الطهارة مرة واحدة لهما من غير تكرير وتجزيه نية الجنابة عن نية الوضوء، وهذا هو المحكي عن الشافعي في بعض أقواله.
والحجة على ذلك هو:أنه إذا توضأ مرتباً فقد أدى فريضة الوضوء وقد ارتفعت الجنابة بغسل هذه الأعضاء لأن المأخوذ عليه غسلها وقد غسلها بالتوضؤ فإذا غسل باقي جسده كان طاهراً ولم يلزمه تكرير غسلها مرة ثانية.
المذهب الرابع: أنه يجب عليه أن ينويهما معاً ولا يجب عليه إلا إمرار اليد على سائر الأعضاء كلها من غير ترتيب، وهذا هو المحكي عن الشافعي في بعض أقواله.
والحجة على ذلك هي: أنهما عبادتان مختلفتان فيجب أن ينويهما جميعاً ويفصل بينهما في نيته كالحج والعمرة فيمن جمع بينهما.
المذهب الخامس: وهو أنه ينظر فيه فإن أحدث ثم اجتنب فعليه الوضوء والغسل جميعاً وإن اجتنب ثم أحدث كفاه الغسل عن الوضوء، وهذا هو المحكي عن الشافعي في بعض أقواله.
والحجة: هو أنه إذا أحدث ثم اجتنب كان فيه طرؤ الأكبر من الطهارتين على الأصغر فلا يتداخلان، بخلاف ما إذا اجتنب ثم أحدث فإن فيه طرؤ الأصغر على الأكبر فوجب الحكم عليهما بالتداخل.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العترة وهو وجوب الوضوء والغسل جميعاً.
والحجة عليه: ما حكيناه عنهم، ونزيد ههنا وهو أن اللّه تعالى ذكر حكم الجنابة وبيّن ما يجب فيها وذكر حكم الحدث وبيّن ما يجب فيه فلو كانا يتداخلان كان لا وجه لتخصيص كل واحد منهما بحكم يخصه، وما روي عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه قال: من اغتسل من جنابة ثم حضرت صلاة فليتوضأ لها(1)، روى زاذان(2) عن ميسرة(3) أنه كان يفعل ذلك، وفي هذا دلالة على وجوبه.
الفرع الثاني: إذا تقرر كونه واجباً بالأدلة التي ذكرناها فهل يكون وجوب فعله قبل الغسل أو بعده؟ فيه مذهبان:
__________
(1) أورده في (الاعتصام)1/253 عن (شرح التجريد) من رواية زاذان عن علي وليس فيه ميسرة. وجاء في (الأحكام) 1/57 للهادي عن أبيه عن جده: أن النبي أعاد الوضوء بعد الغسل من الجنابة، وهو رأي المذهب.
(2) زاذان، وقيل: اسمه: دينار، وقيل: مسلم، وقيل: زبان، وقيل: عبدالرحمن بن دينار، أبو يحيى القتات الكوفي الكناني، روى عن مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح، وعنه الأعمش وإسرائيل والثوري وأبو داؤد وسليمان بن قرم بن معاذ النحوي وغيرهم، ضعفه شريك وابن معين، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به. ا هملخصاً نهذيب التهذيب 12/303.
(3) جاء اسم ميسرة لأكثر من واحد من الرواة من الصحابة والتابعين، فهم مثلاً: أربعة في (تجريد أسماء الصحابة ص89) للذهبي، وخمسة في (التاريخ الكبير 7/377) وسبعة وثمانية في مراجع أخرى، منها: (الجرح والتعديل) 8/252، ونعتقد أن المقصود به هنا: ميسرة بن يعقوب أبو جُميلة الطهوي (بضم الجيم والطاء) الكوفي صاحب راية الإمام علي؛ لأن زاذان، روى عنه هذا الحديث ولأنه رواه عن علي كما روى أحاديث أخرى عن عثمان والحسن بن علي، وعنه ابنه عبد الله وعطاء بن السائب وحصين بن عبد الرحمن وغيرهم، قال في التهذيب: وذكره ابن حبان في الثقات. ا.ه. 10/345.
المذهب الأول: أن فعله يجب أن يكون قبل الغسل، وهذا هو المحكي عن الناصر من أئمة العترة، ومروي عن أبي ثور من الفقهاء.
والحجة على ذلك:قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا " }[المائدة:6]،الآية ولم يفصل بين أن يكون جنباً أو محدثاً فالوضوء قبل الاغتسال واجب بظاهر الآية وفي هذا دلالة على أن الوضوء يقع وإن كان جنباً وأن الجنابة غير منافية للقربة وأن بدن الجنب محل للقربة كالمحدث.
المذهب الثاني: أنه لا يجب إلا بعد فعل الغسل وهذا هو رأي الهادي.
والحجة على ذلك هو:أن الوضوء على رأيه لا يقع إلا على طاهر البدن، وإذا كان الأمر عنده كما قلناه لم يجز الوضوء إلا بعد غسل الرجلين من الجنابة لتكون الطهارة كاملة وعند هذا يقع الوضوء بعد ذلك لما كانت الجنابة زائلة عنه. قال الهادي في (الأحكام) بعد ذكر الاغتسال. ثم يتوضأ للصلاة فإن الوضوء لا يقع إلا على طاهر البدن، ونص أحمد بن يحيى في (المفرد) على أن الرجل الجنب لا يتوضأ إلا بعد غسل قدميه أولاً.
والمختار: أن الغاسل مخير في تقديم وضوءه قبل الغسل لما رويناه من حديث ميمونة،وبين تأخيره بعد الغسل لما رويناه في حديث أمير المؤمنين وفعله وأن الوضوء كما يقع على بدن المحدث فإنه يقع على بدن الجنب وأن الجنابة غير منافية للوضوء وإنما الذي ينافيه هو الكفر فلا ينعقد الوضوء من جهة الكافر لعدم القربة كما مر بيانه، وقد ذكر القاضي أبو مضر من أصحابنا:أن ظاهر مذهب القاسم ويحيى يقتضي أن الجنابة غير منافية للقربة بالوضوء،وعلى هذا يصح الوضوء قبل غسل الجنابة.
وقال: وهو الذي يقتضيه رأي المؤيد بالله، فأما القاضي زيد من أصحابنا فقد قال: إن رأي الإمامين الهادي والقاسم يقتضي أن الوضوء لا يقع إلا على طاهر البدن، وما ذكره القاضي زيد هو الأقرب إلى بلاغة نصوص القاسم ويحيى لأن الهادي قد نص على ذلك وصرح به فلا وجه لأن يقال: إن مذهبه خلاف ما نص عليه، ولا يبعد أيضاً أن يكون رأي المؤيد بالله مثل ما اخترناه من جواز تقديمه وتأخيره وأن الوضوء يقع على بدن الجنب كوقوعه على بدن الطاهر، ويدل على ذلك أيضاً:هو أن الغرض الوصول إلى الصلاة بالوضوء، فهذا حاصل سواء كان قبل غسل الجنابة أو بعده من جهة أن قوله تعالى في آية الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}[المائدة:6]. ولم يفصل في ذلك بين تقدمه وتأخره عن الغسل فلهذا كان الوجه التخيير بين تقديمه وتأخيره.
الفرع الثالث: إذا كان الإجماع منعقداً على استحباب الوضوء فإنما يكون ذلك على رأي من أوجب الوضوء بعد الغسل كما هو رأي الهادي وابنه أحمد، ويحمل حديث ميمونة على الاستحباب، ولهذا قال في (الأحكام): الوضوء قبل الاغتسال مستحب وبعده فرض على من أراد الصلاة.
وقال في (المنتخب): وهو أحب إلينا، يريد به الوضوء بعد الاغتسال. فخفف الأمر فيه، والرواية المعتمدة على رأيه هي رواية (الأحكام) وهو وجوبه بعد الغسل، فأما على رأي من أوجب الوضوء قبل الاغتسال كما هو رأي الناصر وغيره من الفقهاء فلا وجه لاستحبابه إذ لا قائل بتكرر الوضوء مرتين من غير فاصل بينهما.
ويحمل حديث ميمونة على الوجوب في تقديمه. وأما على ما أخترناه من كونه مخيراً بين تقديمه وتأخيره فإن أخَّر الوضوء بعد الغسل كان واجباً للصلاة واستحب تقديم الوضوء قبل الاغتسال أيضاً وإن قدم الوضوء فلا وجه لاستحباب إعادة الوضوء لما ذكرناه من أنه لا قائل بتكرر الوضوء من غير فاصلة بين الوضوئين.
وأما من قال: بأن الوضوء يندرج تحت الغسل وتتداخل الطهارتان فلا مانع من استحباب تقديم الوضوء قبل الاغتسال أيضاً عندهم والمتداخل عندهم إنما هو الوضوء الواجب دون المستحب فإن أتى به فقد أتى بما هو مسنون وإن تركه أجزأه الوضوء الواجب للصلاة.
الفرع الرابع: والمرأة فيما ذكرناه كالرجل، فإن كان لها ظفائر نظرت فإن كان الماء يصل إليها فيبُلَّها لم يجب عليها نقضها لأن المقصود حاصل وهو بَلَّ الطفائر والوصول إليها، وإن كان الماء لا يصل إليها إلا بنقضها وجب عليها نقضها لقوله : ((بلوا الشعر)) وبله لا يمكن إلا بالنقض فلهذا وجب.
وحكي عن إبراهيم النخعي أنه قال: يجب عليها نقضها بكل حال.
وحجته على ما قاله قوله : ((بلوا الشعر)) والبل لا يمكن إلا بنقضها فلهذا وجب.
وحكي عن الحسن البصري وطاوس: أنه يجب عليها نقضها في غسل الجنابة دون غسل الحيض لأن غسل الجنابة ثابت بالكتاب والسنة، وغسل الحيض إنما تقرر بالسنة لا غير، ولأن الرسول أكد الأمر في غسل الجنابة بقوله: ((بلوا الشعر وأنقوا البشر)) ولم يذكر ذلك في غسل الحيض فلهذا قالا بالفرق بين الغسلين.
والحجة على ما قلناه: ما روي عن أم سلمة أنها قالت: إني امرأة أشد ظفر رأسي أفانقضه للغسل من الجنابة؟ فقال: ((لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء " فإذا أنت قد طهرت)) وإنما لم يأمرها بنقضه لعلمه بأن شعرها خفيف غير مانع من وصول الماء إلى أصوله من غير نقض لأن شعور العرب خفيفة فإذا كان في رأسها حشو كما يفعلونه في حق العرائس من النساء ذوات البعول نظرت في حاله، فإن كان رقيقاً لا يمنع من وصول الماء إلى باطنه لم يلزمها نقضه ولا حله ولا اعتبار بأن يصل الماء إلى باطنه صافياً غير متغير لأن تغير الماء على العضو غير مؤثر، وإن كان الحشو غليظاً يمنع من وصول الماء إلى باطنه وجب إزالته ليصل الماء إلى باطن الشعر لقوله : ((تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشر)). وإن كان على الرجل شعر فحكمه حكم المرأة كما فصلناه.
الفرع الخامس: وإذا اغتسلت المرأة من الحيض فعليها أن تنقض شعرها عند أئمة العترة وفقهاء الأمة وهكذا القول في النفاس بخلاف الجنابة فإنه على التفصيل الذي أسلفناه ولأن الحيض والنفاس أغلظ من الجنابة من جهة بعدهما عن الماء وانقطاعهما عن ملابسته في أكثر أوقاتهما.
والحجة على ذلك: ما روته عائشة رضي اللّه عنها أن النبي قال لها في الحيض: ((انقضي شعرك واغتسلي))(1). وهل يجب عليها ذلك أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه واجب وهذا هو الظاهر من مذهب الهادي ورواه عن جده القاسم.
والحجة على ذلك: خبر عائشة وهو قوله: ((انقضي شعرك واغتسلي " )) وهذا أمر منه والأمر ظاهره الوجوب إلا لدلالة.
__________
(1) أورده في (الروض) أن النبي قال ذلك لعائشة في حجة الوداع، وهو موضع خلاف بين الفقهاء في وجوب نقض الشعر في الغسل من الحيض والنفاس، فالموجبون استندوا إلى هذا الحديث، والقائلون بعدم الوجوب استندوا إلى حديث أم سلمة عندما سألت النبي فقال: ((يكفيك ثلاث غسلات)) راجع (الروض) 1/115.
وثانيهما: أنه لا يجب وهذا هو الذي رواه النيروسي عن القاسم وهو اختيار السيدين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب وهذا هو المختار أيضاً.
والحجة على [ذلك] هي: أنه غسل واجب على المرأة فلا يجب عليها فيه نقض شعرها كالجنابة ولأن المقصود هو إيصال الماء إلى أصول الشعر وهذا حاصل من غير حله فلهذا لم يكن واجباً، فأما ما روته عائشة من الخبر فإنه محمول على الاستحباب لدليل القياس الذي ذكرناه.
الفرع السادس: ويستحب للمرأة إذا اغتسلت من حيضها أو نفاسها أن تأخذ قطعة من مسك فتتبع بها آثار الدم، لما روته عائشة أن امرأة جاءت إلى الرسول تسأله عن الغسل من الحيض فقال : ((خذي فِرْصَةَ(1)من مسك فتطهري بها " ))(2)
فقالت: كيف أتطهر بها؟ قال: ((سبحان اللّه تطهري بها)). قالت عائشة: فاجتذبتها وعرفتها الذي أراد. فقلت: تتبعي بها آثار الدم، وذلك لأن دم الحيض والنفاس خبيث الرائحة يلحقه نتن وقذر فلهذا استحب تطييب المحل من أجل ذلك، فإن لم تجد مسكاً فطيباً غيره، لأن المقصود هو إزالة الريح وهذا حاصل بغير المسك كحصوله به، فإن لم تجد طيباً فالمستحب أن تأخذ قطعة من طين تتبع بها آثار الدم لأن رائحة الطين أطيب من رائحة الحيض(3)،
فإذا حصل الطين مع الماء فإنه يكون مزيلاً للرائحة لا محالة.
__________
(1) الفرصة بالفاء: القطعة من الصوف أو القطن. اهلسان العرب.
(2) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داؤد والنسائي عن عائشة ان امرأة من الأنصار...إلخ. قال في (الاعتصام)1/253 و(الجواهر)1/108: واللفظ للبخاري ومسلم.
(3) المقصود أن الطين يزيل رائحة الحيض، كما أوضحه في العبارة التالي.
الفرع السابع: ويجوز أن يتوضأ الإثنان والثلاثة من إناء واحد، لما روى أنس بن مالك قال: رأيت النبي أُتِيَ بوضوء في إناء فوضع يده في ذلك الإناء فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فأمر الناس أن يتوضأوا فتوضأ الناس من عند آخرهم، وكانوا نحواً من سبعين رجلاً، وهذا من جملة معجزات الرسول وهو أبلغ في الإعجاز من انفجار الماء لموسى من الصخرة لأن العادة جرت بخروج الماء من الأحجار ولم تجر العادة بخروجه من بين الأصابع فلهذا كانت أدخل في الإعجاز.
ويجوز أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد لما روت عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول اللّه من إناء واحد(1)،
ويجوز أن يغتسل الرجل ويتوضأ بفضل غسل المرأة ووضوءها خلافاً لأحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: ما روت ميمونة أنها قالت: اجتنبت فاغتسلت من جفنة ففضلت منها فضلة فجاء رسول اللّه ليغتسل بها. فقلت له: إني اغتسلت منه. فقال: ((الماء ليس عليه جنابة " )) ثم اغتسل منه.
وحجة أحمد ما روي عن الرسول أنه قال: ((لا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة " )). وهذا عندنا محمول على الكراهة، أو محمول على أنه قد أصابته نجاسة منها، ولأنه ماء فضل عن العبادة فجاز للرجل أن يتوضأ به كفضل الرجل، وعكسه الماء النجس. وجملة الأمر أن الفاضل من الماء على وجهين:
أحدهما: ما نزل من أعضاء المتطهر في الغسل والوضوء وهذا هو الماء المستعمل وقد مر بيانه في المياه فأغنى عن الإعادة.
وثانيهما: ما يفضل في الإناء، وقد حكي عن أحمد: أنه منع من الإجزاء فيما يفضل من المرأة، وروي عنه الكراهة فيه لا غير. وحكيت الكراهة عن الحسن البصري وابن المسيب وإسحاق بن راهويه.
__________
(1) رواه مسلم والنسائي بلفظين متقاربين عن عائشة.
وحكي عن ابن عمر: أنه لا يكره فضل ما بقي منها إلا أن تكون جنباً أو حائضاً. وهذا كله لا وجه له. والوجه هو: الجواز كما هو رأي أئمة العترة وأكثر فقهاء الأمة لما رويناه من حديث ميمونة وقد رواه أبو داود والبخاري في صحيحه وصححه الدار قطني في مسنده وغيرهم.
الفرع الثامن: وإن أدخل الرجل الجنب أو المرأة الحائض أيديهما في الإناء ولا نجاسة في أيديهما لم يضرهما ذلك، وحكي عن أبي يوسف أنه قال: إن ادخل الجنب يده في الإناء لم يفسده، وإن ادخل رجله أفسده من جهة أنه زعم أن الجنب نجس لكنه عُفي عن يده لموضع الحاجة وبقيت رجله على الأصل في النجاسة، وهذا فاسد لما روى أبو هريرة، قال: لقيني الرسول وأنا جنب فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد ثم انسللت فاغتسلت ثم جئت وهو قاعد فقال: ((أين كنت أبا هر " ))؟ فقلت: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا جنب. فقال: ((سبحان اللّه المؤمن لا ينجس)). وفي حديث آخر: ((المؤمن ليس بنجس)). وما ذكره من التفرقة بين اليد والرجل فهو خطأ لأن يده وجميع بدنه سواء في أنه لو أصابته نجاسة فأدخلها الماء فإنه يفسده كما لو أدخل رجله من غير فرق، فهذا ما أردنا ذكره فيما يجوز للجنب وما لايجوز [له] و[ما]يجب عليه فعله وبالله التوفيق.
---
الفصل الرابع في بيان الغسلات المسنونة
مسألة: يستحب الغسل في يوم الجمعة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة ولا يعرف خلاف في استحبابه لما روي عن الرسول أنه قال: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت " ، ومن اغتسل فالغسل أفضل))(1).
وهل يجب أم لا؟ فيها مذهبان:
أحدهما: أنه ليس واجباً وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول أكثر الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما رويناه من الحديث ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)).
ووجه الحجة من الحديث هو: أنه جعل الغسل في يوم الجمعة فضيلة وفي هذا دلالة على أنه غير واجب وفي بعض الأحاديث: ((فبها ونعمت فقد أدَّا الفرض)) فصرح بأن الوضوء هو الفرض وغيره يكون فضيلة، والضمير في قوله: ((فبها)) يعني فبالفريضة أخذ ونعمت الخلة الفريضة، وحكي عن الهروي أبي عبيد " (2)
أن الأصمعي فسره بقوله: فبالسنة أخذ. وقال بعض الأدباء: إنه راجع إلى الرخصة أي بالرخصة أخذ(3).
والمختار هو: الأول. لأمرين:
أما أولاً: فلأن كلامه إنما سبق من أجل تعريف الواجب والفرض، فمن أجل ذلك كان عود الضمير إلى الفريضة أحق.
__________
(1) عن سمرة بن جندب أن رسول الله قال: ((من توضأ...))إلخ الحديث، أخرجه أبو داؤد والترمذي والنسائي. وأورد في (الجواهر) حاشية على الحديث لفظها: معنى (فبها ونعمت): فبالسنة أخذ ونعمت الخصلة، جواهر 1/109.
(2) أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الباشاني أبو عبيد الهروي، باحث[في اللغة] من أهل هراة في خراسان، له كتاب الغريبين، غريب القرآن وغريب الحديث -خ- توفي سنة 401ه. أعلام الزركلي 1/211.
(3) وهنا يمكن القول بأن المؤلف لم يقصد أن الغسل وهو السنة أفضل من الوضوء وهو الفريضة، ولكن الفضيلة أن الغسل يضاف إلى الوضوء ولا يكتفى به وحده على عكس الوضوء. اه.
وأما ثانياً: فلأن الثناء على من أتى بالفرض أحق من الثناء على غيره، فلأجل ذلك كان أخلق بما ذكرناه من التفسير الأول.
المذهب الثاني: أنه واجب، وهذا هو المحكي عن الحسن البصري وعن داؤد وطبقته من أهل الظاهر، وروي عن بعض المحدثين.
والحجة لهم على ما قالوه: ما روي عن الرسول أنه قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم " ))(1).
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال: ((حق اللّه على كل مسلم أن يغتسل في كل ثمانية أيام يوماً " ))(2).
والمختار: ما عول عليه علماء العترة.
والحجة عليه: ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روي أن عثمان دخل المسجد وعمر يخطب على المنبر فقال: أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: كنت في السوق فلم أشعر أن سمعت النداء فما زدت على أن توضأت وجئت، فقال عمر: والوضوء أيضاً!؟ قد علمت أن الرسول كان يأمر بالغسل، فأقره عمر على ترك الغسل بحضرة الصحابة رضي اللّه عنهم، فلو كان واجباً لم يجز تركه ولا حسن إقراره عليه.
الحجة الثانية: قياسية. وهي أنه غسل مأمور به في يوم زينةٍ واجتماع فيه خطبة فلم يكن واجباً كغسل العيدين.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: روي أنه قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)).
قلنا: قد يعبَّر عن الأمر المسنون بالواجب تأكيداً لتحصيله والتزاماً للمواظبة على فعله وليس الغرض حقيقة الوجوب الذي يستحق الذم على تركه، وعلى هذا يكون الوجوب اختياراً وليس الزامياً.
__________
(1) روي الحديث عن أبي سعيد الخدري، قال في (الجواهر) 1/110: وفي رواية: ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم)) أخرجه الستة إلا الترمذي، واللفظ للبخاري.
(2) الخبر عن أبي هريرة. أخرجه البخاري ومسلم بلفظ: ((حق الله على كل مسلم أن يغتسل كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده)) قال في (الجواهر1/110): هكذا في رواية الجامع موقوفاً على أبي هريرة.
قالوا: قد روي عن الرسول : ((حق على كل مسلم أن يغتسل في كل ثمانية أيام يوماً " )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فليس في ظاهره ما يشعر بالوجوب فيحتاج إلى التأويل.
وأما ثانياً: فلأن الغرض بقوله: ((حق))، ترغيب في كثرة الثواب وإعظامٌ لحق هذا اليوم كما يقال: يحق على كل مسلم أن لا يدع ركعتين في آخر الليل، وليس الغرض على جهة الوجوب.
وهل يتعلق الغسل باليوم أو بالصلاة؟ فيه تردد نستوفيه في صلاة الجمعة بمعونة اللّه تعالى.
مسألة: ويستحب الغسل ويسن للعيدين الفطر والأضحى، عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، ولا يعرف في كونه مسنوناً خلاف، لما روي عن الرسول أنه قال في جمعة من الجمع للناس: ((إن هذا يوم جعله اللّه عيداً للمسلمين " ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك))(1).
وعن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه قال: أمرنا رسول اللّه أن نغتسل للعيدين، ومن جهة القياس وهو أنه يوم زينة واجتماع لصلاة مخصوصة في موضع مخصوص فكان الغسل فيه مسنوناً كيوم الجمعة.
وهل يكون واجباً أم لا؟
والذي عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه أنه غير واجب لما روى زاذان، قال: سألت أمير المؤمنين عن الغسل في يومي العيد. فقال: ((اغتسل إذا شئت " ))(2)
__________
(1) تقدم في الوضوء.
(2) أورده في (الاعتصام) 1/254 عن زاذان أنه سأل علياً عن الغسل فقال: إغتسل إذا شئت. فقال: إنما أسألك عن الغسل الذي هو الغسل، قال: يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر. وهو في (شرح التجريد) و(أصول الأحكام) و (الجواهر) و(الروض).
فلو كان واجباً لم يكله إلى إرادته كسائر الواجبات. ولما روى زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه قال: ((الغسل من الجنابة واجب ومن غسل الميت سنة " وإن تطهرت اجزاك وغسل العيدين وما أحب أن أدعهما))(1).
ولم أقف على مذاهب الظاهرية وأصحاب الحديث في وجوبه، والأقرب أنهم يميلون إلى وجوبه اعتماداً منهم على ظواهر الأحاديث وإعراضاً عما في أيدي مخالفيهم من آداب الشريعة، فلأجل ذلك قضوا بالوجوب من غير التفات على ما في أيدي مخالفيهم، ونحن حملنا الأدلة التي دلت على الندب على ظاهرها وتأولنا ما ورد من الأخبار الدالة على الأمر عليها فلا جرم جمعنا بين الدليلين، وهم أعرضوا عن ادلتنا كل الإعراض وعولوا على ما نقل من الأوامر فكنا أسعد حالاً لعملنا على الدليلين جميعاً وهم عملوا على أحدهما دون الآخر، فمن أجل ذلك كان تصرفنا أسد.
مسألة: والسنة الاغتسال في يوم عرفة، لما روى أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه قال: ((أمرنا رسول اللّه بغسل يوم عرفة " ))(2)
__________
(1) هذا الحديث رواه زيد بن علي في (المجموع). وجاء في تخريجه في (الروض): أخرجه محمد بن منصور في (الأمالي) عن أحمد بن عيسى عن حسين بن علوان عن أبي خالد عن زيد بن علي، عن آبائه عن علي إلى قوله: (وفي (مجمع الزوائد): عن علي قال: يستحب الغسل يوم الجمعة وليس بحتم. رواه الطبراني في (الأوسط) ورجاله ثقات.
(2) ولفظه في (الجواهر هامش البحر) 1/110: أمرنا رسول الله بغسل يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم العيد.
وعن زاذان قال: سألت أمير المؤمنين عن الغسل، فقال: اغتسل إذا شئت فقال: إنما اسألك عن الغسل الذي هو الغسل. فقال: ((يوم عرفة ويوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى " ))، فظن أنه سأله عن الغسل المباح فأجابه بأن وكَّلَهُ إلى خِيَرَتِه، وذلك فائدة المباح. فقال: إنما سألتك عن الغسل الذي هو الغسل يعني عن الغسل المستحب. فقال : إنما هو يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم الفطر ويوم الأضحى.
وهل يكون واجباً أم لا؟ ولم نعرف قائلاً بوجوبه ولكن قياس قول أهل الظاهر وأصحاب الحديث وجوبه لاعتمادهم على مجرد ظواهر الأخبار من غير جمع بينها كما مر بيانه.
مسألة: ويستحب أن يغتسل للإحرام. لما روى جابر بن عبدالله في صفة حج رسول اللّه أنه قال أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عُميس محمد بن أبي بكر " (1)
فأرسلت إلى رسول اللّه كيف أصنع فقال: ((اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي " ))(2).
__________
(1) محمد بن أبي بكر الصديق، وأمه أسماء بنت عميس، ولدته عام حجة الوداع، القرشي التيمي، روى عن أبيه مرسلاً وعن أمه أسماء، وروى عنه ابنه القاسم، قال ابن يونس: قدم مصر أميراً عليها من قبل علي بن أبي طالب في رمضان سنة 37ه، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: كان علي يثني عليه ويفضله؛ لأنه كان له عبادة واجتهاد. وكان على رجالة علي يوم صفين، وقال ابن حبان: قيل إن محمداً قتل في المعركة، وقيل: إن عمرو بن العاص قتله بعد أن أسره، ا هتهذيب 9/69، وفي الكاشف 2/160 أنه قتل بمصر سنة 38 ه. ا.ه.
(2) أخرجه مسلم وأبو داؤد والنسائي.
ووجه تقرير الحجة من الخبر هو: أنه أمرها بالغسل وهي نفساء، وفي ذلك دلالة على كونه مسنوناً، وفي حديث آخر أنه قال لعائشة حين حاضت وكانت مهلَّة بالعمرة: ((انقضي رأسك وامتشطي واغتسلي وأهلِّي بالحج " )). فدل ذلك على ما قلناه، ولأن الإحرام بالحج عبادة لا تشترط الطهارة في البقاء عليها فلا تكون شرطاً في ابتدائها كالصيام، وعكسه الصلاة فإن الطهارة شرط في ابتدائها فكانت شرطاً في البقاء عليها. والله أعلم.
مسألة: ويستحب الغسل لدخول الحرم عند أئمة العترة، وهو محكي عن أكثر الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك.
والحجة على ذلك: ما روى نافع عن ابن عمر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه لما أتى ذا طوى، وهو موضع بمكة، بات به حتى صلى الصبح ثم اغتسل ودخل مكة من أعلاها، وروت عائشة أنه لما أراد دخول مكة، اغتسل بذي طوى(1)،
ولما روي [عن] أمير المؤمنين وأولاده الحسن والحسين ومحمد بن علي، كانوا يغتسلون بذي طوى، ومثل هذا لا يصدر إلا عن توقيف من جهة الرسول لانسداد المعاني فيما هذا حاله فلا يؤخذ إلا توقيفاً من جهة اللّه تعالى، وحكي عن داؤد وطبقته من أهل الظاهر أنه غير مستحب.
وحجته على ذلك: أنه دخول مكان لأداء عبادة من فريضة أو نافلة فلا يستحب فيه الغسل كدخول المسجد.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من استحبابه.
والحجة على ذلك: ما نقلناه من فعل الرسول .
الانتصار: يكون بإبطال ما قاله وهو: أن ما ذكره إنما هو من جهة القياس فلا يكون معارضاً لما نقل من صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه لأن ما ينقل من الرسول أمور غيبية استأثر اللّه تعالى بالعلم بها ولا هداية للعقول إليها فلا تعارض بالأقيسة الظنية ومنصب الشارع فيما قال لا يعارض بمنصب القايس فيما قاس.
__________
(1) أخرج مسلم عن ابن عمر أنه كان لا يقدم [مكة] إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة، اه(جواهر-هامش البحر)1/111.
مسألة: ويستحب الغسل من غسل الميت عند الأكثر من أئمة العترة، وهو محكي عن مالك والشافعي في أحد قوليه، وهو إحدى الروايتين عن الناصر.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه كان يأمر بغسل من غسل الميت(1)،
وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والليث: أنه غير مستحب.
والحجة على ذلك: ما روي عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه :((لا غسل عليكم من غسل ميتكم " حسبكم أن تغسلوا أيديكم))(2).
وفي هذا دلالة على أنه غير مستحب كما قلناه.
والمختار فيه: الاستحباب كما قاله أصحابنا.
والحجة على ذلك: ما روى أبو هريرة عن النبي أنه قال: ((من غسل ميتاً فليغتسل ومن مسه فليتوضأ " ))(3).
وإلى ما اخترناه من الاستحباب ذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة، وما ورد من الأمر بالغسل فإنه محمول على الاستحباب جمعاً بينه وبين رواية ابن عباس.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه من رواية ابن عباس فإنه إنما ذكر ذلك رداً على من قال بالوجوب فأما الاستحباب فلم يدفعه.
وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير واجب، وهذا هو رأي أكثر العترة وغيرهم كما قررناه في الاستحباب.
__________
(1) في نسخة الأصل: أنه كان يغتسل من غسل الميت. وفي نسخة (ق) تصحيح للجملة كما هي هنا وهو الأقرب إلى الصواب، والله أعلم.
عن عائشة قالت: كان رسول الله يغتسل من أربعة: من الجنابة وللجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت، أخرجه أبو داؤد، وفي (جواهر الأخبار): عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من غسل الميت فليغتسل)) أخرجه أبو داؤد، وفي رواية الترمذي: ((من غسله الغسل ومن حمله الوضوء)).
(2) قال ابن بهران في جواهره: حكاه في (الانتصار) من رواية ابن عباس، ولفظه في (التلخيص): ((ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم)). قال البيهقي: هذا ضعيف. اه/111.
(3) تقدم في الحديث السالف.
والحجة على ذلك: ما رويناه عن ابن عباس، ولما روي عن عائشة أنها قالت: أأنجاس أمواتكم؟ تريد بذلك الإنكار على من قال بالوجوب للغسل من غسل الميت.
المذهب الثاني: أنه واجب، وهذا قول يحكى عن أمير المؤمنين وأبي هريرة من الصحابة، ومحكي عن الناصر في أحد قوليه وهو رأي الإمامية وبعض المحدثين.
والحجة على ذلك: ما رويناه عن أبي هريرة أنه قال: ((من غسل ميتاً فليغتسل)). والأمر ظاهره الوجوب إلا لدلالة.
والمختار: أنه غير واجب لأن الميت طاهر فلو أوجبنا غسله لم يكن إلا لمس الميت ومس الميت لا يوجب الغسل كما إذا مسه لا للغسل، وهكذا لو مس سائر الحيوانات الميتة ولأن ابن آدم لا يكون حاله أسوأ من حال سائر الحيوانات الميتة حيث كانت لا توجب الغسل ثم لمَّا انعقد الإجماع على أن مس سائر الحيوانات [الميتة] لا يوجب الغسل خاصة الكلب والخنزير فلأن لا يوجب مس ابن آدم أحق وأولى.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: حديث أبي هريرة حيث قال: من غسل ميتاً فليغتسل)) والأمر للوجوب.
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه محمول على الندب والاستحباب بدليل ما رويناه عن ابن عباس.
وأما ثانياً: فلأنه قال: ((ومن مسه فليتوضأ)) وأنتم لا توجبون بمسه الوضوء فهكذا لا يجب على فعله الاغتسال فيحمل الغسل على الاستحباب ويحمل مسه على غسل اليد.
ووجه الاستحباب في غسله: هو أن من غسله فلا يكاد يسلم عما يتنضح عليه من غسالة الميت ما ينجسه وفي رواية أخرى ((ومن حمله فليتوضأ)). وكل ذلك محمول على غسل اليد لأنه لا يكاد يسلم عن النجاسة في أغلب الأوقات، خاصة من طال مرضه، فإن الغالب من حاله تلوثه بالنجاسة فلهذا استحب الغسل لمن غسله، والوضوء لمن حمله أو مسه.
مسألة: ويستحب الغسل من الحجامة لما روى زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين أنه قال: ((الغسل من الحجامة سنة وإن تطهرت أجزأك " ))(1)،
__________
(1) تقدم في حديث المجموع.
ويستحب الغسل لدخول الكعبة ولدخول المدينة لأن الكعبة مكان شريف له حرمة لكونه قبلة للصلاة ولكونها قياماً للخلق كما قال اللّه تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ " }[المائدة:97] فاستحب الاغتسال لدخولها كالحرم المحرم، والمدينة أيضاً هي مهبط الوحي وموضع المهاجرة ومكان حفرة الرسول وموضع أعظمه فلا جرم استحب الغسل من أجل دخولها كالحرم، ويستحب الغسل من الحمام؛ لأن الحمامات مواضع الشياطين ولهذا كُرهت الصلاة فيها، فلهذا استحب الغسل من دخولها، ويستحب الغسل في أوتار النصف الأخر من رمضان تسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاثاً وعشرين وخمساً وعشرين، لما روي أن الرسول كان يعتزل النساء ويغتسل في هذه الأوتار، ولأنها تختص بفضل عظيم فاشبهت الجمعة والعيدين.
ويستحب الغسل لمزدلفة لأنها مكان شريف اختص بعبادة فأشبه الحرم المحرم، ويستحب الاغتسال في أيام التشريق لأنها أيام فاضلة تختص بأداء العبادة وأعمال الحج فلا جرم استحب فيها الغسل كيوم الجمعة، ويستحب الاغتسال لطواف الوداع لأن الطواف عبادة تختص بالقربة فاستحب الاغتسال لها كأداء فرض الجمعة، ويستحب للمجنون الاغتسال إذا أفاق لأن الجنون هو فساد العقل وزواله فلا يأمن عند زواله من مباشرة النجاسات والتلوث بها فلا جرم كان الغسل مستحباً له فصار جملة الغسلات الواجبة أربعاً، غسل الجنابة والحيض والنفاس والموت، وما عداها فهو مستحب غير واجب كما أوضحناه. ثم إنها واقعة على أضرب ثلاثة:
فالضرب الأول منها: يختص بالأزمنة كيوم الجمعة والعيدين وأوتار رمضان ويوم عرفة وغيرها.
الضرب الثاني: يختص بالأمكنة وهذا نحو دخول الحرم، ودخول مكة، ودخول المدينة، ومزدلفة وغيرها.
الضرب الثالث: ما يختص بالأحوال، وهذا نحو الحجامة والإحرام وزيارة قبر الرسول وغيره من الأئمة والفضلاء وأهل الصلاح.
قال الإمام القاسم : ولا بأس للرجل أن يقراء القرآن في الحمام(1)
إذا كان لا يجهر به، وهذا جيد لما روي عن النبي أنه قال: ((نعم البيت الحمام ينفي الدرن ويذكر بالآخرة " ))(2)
ومن جهة أنها بيوت تستر من دخلها وتوقيه فجازت القراءة فيها كالدور والخانات وإنما كره رفع الصوت فيها لما يحصل في ذلك من الأذية للقاريء ولغيره، ويكره للنساء دخول الحمامات إلا لنفساء أو مريضة لما روي عن الرسول أنه قال: ((يا علي من أطاع امرأته في أربع كبه اللّه على وجهه في النار " في الذهاب إلى الحمامات والعرسات والمناحات ولبس الثياب الرقاق))(3).
وبتمامه يتم الكلام على باب الغسل وما يتعلق به وبالله التوفيق والحمدلله رب العالمين وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
__________
(1) معروف أن الحمَّام هنا هو الحمام العام الذي يوجد في المدن الكبيرة.
(2) جاء في (الروض النضير): أن هذا الكلام لأبي الدرداء وأبي أيوب الأنصاري، وكانا من جملة الصحابة الذين دخلوا الحمام في الشام، وأورد أحاديث تنفر من الحمامات وتحذر من دخولها. ومن ذلك ما روي عن ابن عباس عن النبي أنه قال: ((شر البيوت الحمام...إلخ)) وغيره (روض 1/285-286) وجاء في (الجواهر هامش البحر 1/114: ان الحديث من كلام الصحابة وليس من كلام النبي.
(3) أخرج أبو داؤد معنى الحديث بلفظين: أحدهما: ((وامنعوا النساء إلا مريضة أو نفساء)) والآخر: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام إلا من عذر)) وجاء بروايات أخر للطبراني وغيره، راجع (الروض) 1/287.
---
الباب الثامن في الطهارة بالتراب
وهو التيمم، ومعناه في اللغة: القصد. تقول العرب: تيممت فلاناً إذا قصدته لحاجة. قال امرئ القيس الطائي:
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي(1)
يعني بذلك: قصدتها. والعرمض: شجر يطفو على الماء، وضارج: إسم موضع.
وفي لسان حملة الشريعة: عبارة عن مسح الوجه و اليدين بالتراب مرتباً مقرونا بالنية.
فإذا تمهدت هذه القاعدة [فاعلم] أن هذا الباب قد اشتمل على معرفة الأسباب الموجبة للتيمم وبيان ما يجوز به التيمم وما لا يجوز وما يستباح به وما لا يستباح وبيان مفروضه ومسنونه وبيان وقته وصفته وبيان أحكامه، فهذه خمسة فصول نذكر ما يتعلق بكل واحد منها من المسائل والله الموفق.
__________
(1) راجع لسان العرب ج2ص187 -مادة عرض.
---
الفصل الأول في بيان الأسباب الموجبة للتيمم
اعلم أن التيمم طهارة ضرورية بدلية، ونعني بكونها ضرورية: هو أنها لا تباح إلا لضرورة من إعواز الماء أو تعذر استعماله، ونعني بكونها بدلية: هو أنها لا تقصد إلا عند اليأس من الطهارة الأصلية بالماء، والأصل أن التيمم لا يباح إلا عند العجز عن استعمال الماء لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً }[النساء:43]
وقوله
لأبي ذر الغفاري((1)):((الصعيد الطيب طهور لمن لم يجد الماء ولو إلى عشر حجج))(2)
. لكن العجز له ستةأسباب السبب الأول: عدم الماء قال السيد الإمام أبو طالب: التيمم مشروط بعدم الماء في سفر كان أو حضر، والعدم يكون بعد الطلب والإستقصاء بثمن أو بعين، إلا أن يكون الثمن يجحف بحاله ويجب أن يطلبه ممن يجوز أنه يجده عنده.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: التيمم لعدم الماء في حال السفر واجب للصلاة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة ولا يعرف فيه خلاف.
__________
(1) جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد من بني غفار من كنانة بن خزيمة، صحابي من كبارهم قديم الإسلام، يقال: أسلم بعد أربعة وكان خامساً، يضرب به المثل في الصدق [لما روي عن النبي ÷ أنه قال: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر))].. هاجر إلى الشام بعد وفاة النبي لما لقيه من الجفاء والنبذ.. سكن دمشق وظل يحرض الفقراء على أخذ مالهم من أموال الأغنياء، فشكاه معاوية إلى عثمان، فاستقدمه عثمان ثم نفاه إلى الربذة فمات بها وحيداً سنة 32هم، ولم يكن في داره ما يكفن به.. روى له البخاري ومسلم 281 حديثاً. راجع (الأعلام) 2/140، وطبقات ابن سعد 4/161.
(2) تمام الحديث: ((...فإذا وجدت الماء فامسه جلدك فإن ذلك خير)) أخرجه أبو داؤد، وجاء في (الجواهر) بلفظ: ((الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء...إلخ))، قال: وللترمذي والنسائي قريب من ذلك.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[المائدة:6]. وهل يجوز التيمم لعدم الماء في حال الحضر أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك جائز، وهذا هو قول أئمة العترة ومحكي عن الشافعي ومالك وأبي يوسف ومحمد والأوزاعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[المائدة:6]. ولم يفصل هناك بين الحضر والسفر.
الحجة الثانية: من جهة القياس، وهو أنه عادم للماء فوجب أن ينتقل فرضه إلى التيمم كالمسافر، أو نقول: محدث عادم للماء لزمه فرض الصلاة فوجب انتقاله إلى التيممم كما لو كان مسافراً.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز له التيمم ولا يصلي حتى يتمكن من الماء وهذا هو قول أبي حنيفة ومحكي عن زفر من أصحابه.
والحجة على ذلك: أن اللّه تعالى حصر الآية بالمسافرحيث قال: {وَإنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}
(1) فرتب حكم التيمم على من كان عادماً للماء في حال سفر وبقي حكم المقيم على الأصل فلا يجوز له التيمم في حال حضره.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وأكثر الفقهاء من جوازه في حال الحضر إذا عدم الماء.
والحجة عليه: ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا حججاً ثلاثاً.
الحجة الأولى: ما روى زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين أن النبي قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )) (
__________
(1) هكذا في الأصل جاءت الآية منقوصة، ولا توجد في القرآن الكريم آية بهذه الصيغة تبدأ بالسفر كما أشار المؤلف، وهو لا شك سهو أو سقط من الناسخ، وصيغة الآية الكريمة كما هي في المذهب الأول السابق لهذا.
( ) أخرجه النسائي. وجاء في مجموع زيد بن علي عن علي عن النبي ÷: ((أعطيت ثلاثاً لم يعطهن نبي قبلي: جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا...إلخ)). ) ولم يفصل في ذلك بين حضروسفر.
الحجة الثانية: ما روى أبو ذر الغفاري عن الرسول أنه قال: ((الصعيد الطيب طهور لمن لم يجد الماء ولو إلى عشر حجج))، ولم يفصل في ذلك بين الحضر والسفر.
الحجة الثالثة: ما رُوي عن الرسول أنه قال: ((التراب كافيك ولو إلى عشر حجج ))
(1). فهذه الأمور كلها دالة على جواز التيمم عند عدم الماء من غير اشتراط السفر.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: الآية واردة في السفر فيجب قصرها عليه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: كما وردت في السفر فقد وردت أيضاً في حال الحضر كما قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة:6]. فأوجب على كل من جاء من الغائط التيمم إذا لم يكن واجداً للماء.
وأما ثانياً: فلأنه إنما ذكر السفر ليس من أجل أنه لا يجوز التيمم إلا معه ولكن ذكره لما كان عدم الماء يسنح فيه كثيراً وإعواز الماء لا يكاد ينفك عنه لا من أجل كونه شرطاً في جواز التيمم، ولأنه قد أغفل كثيراً من الأعذار المبيحة للتيمم لتُقاس على عدم الماء فهكذا أغفل ذكر الحضر ليكون مردوداً بالقياس إلى السفر.
قالوا: التيمم وارد على جهة الرخصة والرخص لا تعقل معانيها فيجب إقرارها حيث وردت لا يقاس عليها.
قلنا: عما ذكرتموه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لم نثبت ما قلناه بالأقيسة وإنما قررناه بالظواهر الشرعية كما مر بيانه وهي دالة على جواز التيمم في الحضر والسفر.
__________
(1) جاء في الحديث عن أبي ذر في (الاعتصام 1/259) قال: قلت: يا رسول الله أصبت أهلي ولا أقدر على الماء. قال: ((أصب أهلك ولو لم تجد الماء عشر سنين فإن التراب كافيك)).
وأما ثانياً: فالمعاني القياسية يجب اتباعها سواء كانت واقعة في رخصة أو غير رخصة وههنا الجامع هو عدم الماء وهو حاصل في الحضر كحصوله في السفر فلهذا قضينا به.
قالوا: ليس الحضر كالسفر ولهذا جاز قصر الصلاة في السفر ولم يجز قصرها في الحضر ولو حصلت المشقة لم يجز القياس كما في المريض فإنه لا يجوز له القصر بخلاف المسافر فافترقا.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن المعنى المقصود من إباحة التيمم إنما كان من أجل عدم الماء وقد استوى الحاضر والمسافر في ذلك فلا جرم استويا في الإباحة.
وأما ثانياً: فلأنا لا نقيس إلا حيث تكون المعاني منقدحة والأوصاف الشبهية ظاهرة، فنقول: عدم الماء هل هو حاصل في الحضر أم لا؟ فإن لم يكن حاصلاً فالآن ارتفع النزاع الأصولي، فإنا لا نقيس حيث لا علة جامعة. وإن كان حاصلاً فأي مانع عن القياس على السفر بواسطته فبطل ماتوهموه.
الفرع الثاني: إذا قلنا بأنه يجوز التيمم في الحضر، فهل يجب عليه الإعادة لما صلى بالتيمم أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا تجب عليه الإعادة، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة وهو أحد قولي الشافعي و محكي عن مالك والمزني والأوزاعي والليث.
والحجة على ذلك: هو أنه صلى بالتيمم حا ل اليأس من الماء فوجب أن لا تلزمه الإعادة ولا القضاء كالمسافر، ولأنه أتى بالفرض على الوجه الذي أمر به فلا يلزمه القضاء كما إذا كان مريضاً أو مسافراً.
المذهب الثاني: أنه يلزمه القضاء إذا مضى الوقت، والإعادة إذا كان الوقت باقياً وهذا هو المحكي عن أبي يوسف و محمد، وهو أحد قولي الشافعي والذي يأتي على رأي المؤيد بالله(1).
__________
(1) جاء في حاشية الأصل ما لفظه: (أخذه % من المسافر الناسي للماء في رحله فأجراه مجراه).
والحجة على ذلك: هو أن عدم الماء في حال الحضر إنما يأتي على جهة الندرة والقلة وما هذا حاله لا يعرج عليه فيكون في الحقيقة كأنه صلى من غير طهارة ويكون كمن صلى بغير ماء ولا تراب.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العترة ومن وافقهم من الفقهاء من أنه لا يجب عليه القضاء.
والحجة على ذلك: ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا، وهو قوله : ((لا ظهران في يوم)). فلو أوجبنا عليه الإعادة والقضاء لكان مناقضة لظاهر هذا الحديث.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه.
قالوا: العذر نادر فيصير كما لو صلى من غير طهارة.
قلنا: هذا فاسد، فإنه قد أتى بما أمر به من الطهارة البدلية فلا يجب عليه القضاء كالمسافر.
قالوا: لو كانت طهارة صحيحة لما أمر بالإعادة فلما أمر بالإعادة دل على فساد طهارته.
قلنا: ما تعنون بفساد طهارته؟ [هل] تعنون أن حدثه غير مرتفع؟ فهذا مسلم كما سنقرره ولكنا نريد بصحة الطهارة أنه متيمم وهذا حاصل لا نزاع فيه، وإن أردتم بعدم صحة طهارته أنه مأمور بالإعادة فلا نسلمه ولو سلمناه لكان أول المسألة فإنه لم يقع النزاع إلا فيه.
الفرع الثالث: والمشروع طلب الماء قبل التيمم لأن تأدية الصلاة بالوضوء أفضل ولأن الوضوء رافع للحدث بخلاف التيمم، ولا يعرف في ذلك خلاف. وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب، وهذا هو قول أئمة العترة وهو محكي عن الشافعي، وحكي عن أبي يوسف أنه إذا عرفه عند رفيقه وجب عليه طلبه عنده، وظاهر كلامه وجوب الطلب كما قلناه.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا }[لمائدة:6] وهذا الوصف وهو عدم الوجدان إنما يتناول من طلب فأما من لم يطلب فلا يقال إنه غير واجد، ولهذا يقال لمن قال: لم أجد طعاماً في بيتي، من غير طلب: لو طلبت وجدت، وفي هذا دلالة على أنه لا يقال لم أجد إلا بعد طلب الماء.
الحجة الثانية:ما روي عن أمير المؤمنين أنه قال: يتلوم الجنب ما بينه وبين آخر الوقت(1) )؛ والتلوَّم: الإنتظار والمكث، وفي هذا دلالة على أنه لا وجه للإنتظار إلا توقع وجود الماء وذلك لا يكون إلا بعد الطلب له.
المذهب الثاني: أنه لا يجب الطلب، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك هو: أنه عادم للماء في الظاهر فلا يلزمه الطلب كالفقير فإنه لا يلزمه طلب الرقبة في الكفارة.
والمختار: ما قاله علماء العترة من وجوب طلب الماء قبل التيمم.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم، ونزيد ههنا، وهو ما رواه ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي ليلة الجن، أنه قال له: ما في إداوتك؟ وسؤال الناس مكروه إلا عن ضرورة ولا ضرورة بالرسول ÷ هناك، فدل ذلك على أن الداعي هو أمر الشرع وإيجابه بالطلب، وما روي عن النبي ÷ أنه أمر أمير المؤمنين في طلب الماء(2) فلو لم يكن واجباً لكان لا وجه للطلب خاصة مع تحقق البدل عنه.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنه لم يثبت عنده عدم الماء فلم يجز تيممه بحكم العدم المطلق كما لو طلع عليه ركب، ولأن من شرط عدمه في حقه عند الإنتقال إلى غيره فإنه لا يجوز له الإنتقال قبل ثبوت عدمه كالنص في الحادثة والرقبة في الكفارة.
الانتصار: يكون بإبطال ما زعموه.
قالوا: عادم للماء في ظاهر الأمر فلا يلزمه الطلب كالفقير فإنه لا يلزمه طلب الرقبة في الكفارة.
__________
(1) أورده في (الروض) بلفظ: عن أمير المؤمنين % أنه قال: يتلوم الجنب إلى آخر الوقت، فإن وجد الماء اغتسل وصلى، وإن لم يجد الماء تيمم وصلى، فإذا وجد الماء اغتسل ولم يعد. وقال: أخرج البيهقي بإسناده إلى الحرث عن علي % أنه قال: اطلب الماء حتى يكون آخر الوقت، فإن لم تجد ماء تيمم ثم صل. قال (يعني البيهقي): وهذا لم يصح عن علي.
(2) أخرجه البخاري ومسلم.
قلنا: العدم في الظاهر لا يكفي حتى يستبرئ بالطلب كما أن الحاكم عادم لفسق الشاهد في الظاهر ولا يحكم بشهادته حتى يستبرئ بالسؤال عن حاله في العدالة، وكذلك المرأة فإنها عادمة للحمل في الظاهر ثم إنها يجب عليها الإستبراء بالعدة، ويخالف الفقير لأن في طلبه الرقبة ضرراً في بذل الوجه والدخول تحت مِنَّةِ الغير، ولا ضرر في طلب الماء خاصة بالقيمة فهو كالمؤسر في طلب الرقبة في السوق، ويجب عليه أن يطلبه ممن يجوز وجوده معه لأنه لا فائدة للطلب إلا إذا كان على هذه الصفة فلا يجوز أن يطلبه ممن هو طالب له ولا من طفل لا يعقل ولا من بهيمته(1) ) لأن من هذه حاله فلا يظن وجوده معه، فإن دخل قرية لطلب الماء ثم إنه لم يسأل أو سأل من ذكرناه ثم تيمم وصلى ثم أخبر بالماء أعاد صلاته لأن الطلب شرط وقد أخل به حيث لم يسأل عنه، فلهذا لم يكن في الحقيقة طالباً له.
الفرع الرابع: في كيفية الطلب، وإذا كان معتبراً كما أوضحناه. فكيفيته تكون بأن يبدأ يفتش رحله لأنه أقرب الأشياء إليه وأوفر ما يظن تحصيله، فإن لم يجد شيئاً من الماء نظر إلى الناحية التي هو فيها يميناً وشمالاً وخلفاً وأماماً هذا إذا كان في السهول والأرض المستوية التي لا يحول دون نظره من أقصاها شيء، وإن كانت الأرض غير مستويه إما بالهبوط في الأودية وإما بالصعود إلى موضع عال فإنه يلزمه الصعود والهبوط والنظر إلى ما حوالي تلك الأمكنة فإذا نظر وتلفت ولم ير الماء فإنه يجب عليه أن يسأل ويستخبر من يظن أن عنده علماً من الماء فإذا دل على موضع يعلم أو يغلب على ظنه أن فيه ماء وجب عليه وصوله باعتبار شرائط أربع:
الشريطة الأولى: أن لا يخاف على نفسه تلفاً أو ضرراً من سبع أو عدوٍ، وأن يكون آمناً على متاعه(
__________
(1) هكذا في الأصل. ولعل المراد أن الوجوب لا يسقط بمجرد الطلب، بل يجب طلبه في نطاق وجوده.
( ) في الأصل: كلمة غير مفهومة أبدلناها بكلمة ((متاعه)) لأنها المقصودة بحسب السياق، ولعلها (أدواته) للتشابه الكبير بينهما. ) وراحلته من اللصوص لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78].
الشريطة الثانية: أن لا ينقطع عن الرفقة والقافلة لما يلحقه من ذلك من المشقة والحرج بتأخره عن الرفقة في الطريق.
الشريطة الثالثة: أن يعلم أو يغلب على ظنه إدراك المقصود بالماء وهو الوضوء والصلاة جميعاً في الوقت إذ لا فائدة في الوصول إليه إلا لهما، فإن علم أو غلب على ظنه أنه يدرك الوضوء في الوقت دون الصلاة فهل يجب عليه الوصول أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يجب عليه، وهذا هو رأي المؤيد بالله، لأن من هذه حاله فهو موصوف بوجود الماء في حقه، فلهذا وجب عليه الوصول إليه والتوخي.
وثانيهما: أنه غير واجب عليه، وهذا هو رأي السيد أبي طالب لأن الوضوء إنما تعين من أجل الصلاة لا لنفسه فإذا لم يكن مدركاً للصلاة فلا وجه لإيجابه.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله لأن الشرط في فعل التيمم إنما هو عدم الماء وهذا غير عادم والأدلة الشرعية لم تفصل بين أن يكون مدركاً للصلاة والوضوء جميعاً أو لأحدهما في أنه لا معنى لفعل التيمم مع وجود الماء، والتعويل على الظواهر أحق من التعويل على المعاني.
الشريطة الرابعة: أن لا تكون المسافة التي بينه وبينها بعيدة طويلة، فما هذا حاله لا يجب ويعدل إلى التيمم، لما فيه من المشقة وبطلان المقصود، فلا يجب لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ \s \c 1}[البقرة:185]. ولا قائل به.
فإن كان بحيث يمكنه إدراكهما معاً ولكن لا بد من قطع مسافة فكم مقدار تلك المسافة؟ فيه أربعة أوجه:
أولها: أن تكون تلك المسافة مقدار الميل فما دونه، فإن كان فوق ذلك لم يلزم وجاز له العدول إلى التيمم، وهذا شيء يحكى عن الإمام المنصور بالله.
وثانيها: أن حد المسافة مقدر بموضع محتطب القرية ومرعاها فهذه المسافة وما دونها يلزمه الوصول إليها إذا كان عالماً بوجود الماء فيها، وهذا محكي عن بعض أصحاب الشافعي.
وثالثها: أن المسافة مقدرة بالمكان الذي يلحقه فيه الغوث إذا استصرخ من عدوٍ أو لص، وهذا هو الذي ذكره الشيخ أبو حامد الغزالي.
ورابعها: أن ذلك مقدر بالزمان دون المكان والجهة، فمن كان يعلم أنه يلحق الماء ويبلغه قبل مغيب الشمس من النهار وقبل طلوع[الفجر] من الليل فإنه يجب عليه طلبه في مقدار هذه المدة، وهذا هو الذي ذكره الهادي فإنه قال في الأحكام: ومن أصابته جنابة في ليله أو نهاره والماء عنه على مسافة يعلم أنه يلحقه أو يبلغه قبل طلوع الفجر أو في آخر النهار قبل مغيب الشمس وجب عليه طلبه والمصير إليه إلا أن يمنعه عنه مانع أو يقطعه عن بلوغه قاطع(1).
__________
(1) الأحكام ج1 ص71.
والمختار: ما قاله الإمام المنصور بالله من تقدير المسافة بالميل من جهة أن الميل معيار معلوم قد روعي في تقدير البريد لحد القصر وروعي في حد القصر من الخروج من المنزل وغير ذلك، فمن أجل ذلك كان التقدير به أولى، وما ذكرناه من المحتطب والمرعى والتقدير بموضع الإغاثة عن الفقهاء، فهو قريب مما ذكره المنصور بالله مع أن المحتطب أبعد من موضع الإغاثة لكنها تختلف الحال فيها بالإضافة إلى البلدان والقرى والأصقاع، وأما الميل فهو تقدير غير مختلف فلا جرم كان أحق، وأغربها ما حكيناه عن الهادي وحاصله وجوب السعي للطلب من وقت الزوال إلى قبل غروب الشمس ومن أول الليل[إلى] قبل طلوع الفجر، ولم أعرف أحداً قال بهذه المقالة قبله وإنما المحكي عن العلماء ما نقلناه، والوجه له فيما ذكره على غرابته هو أنه إذا دخل عليه وقت الزوال فإنه مخاطب بتأدية الصلاة وجوباً موسعاً بوضؤ، فإذا كان يعلم أنه يحصل الوضوء في مقدار هذه المدة فإنه يجب عليه بحكم الأمر بالصلاة، السعي في تحصيله ليكون مؤدياً للصلاة الواجبة إلا أن يحول عنه حائل.
الفرع الخامس: اعلم أن حاصل الأمر فيما ذكرناه من إيجاب الطلب على من عدم الماء أن له أربعة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون متحققاً لعدم الماء حواليه فمن هذه حاله فإنه يتيمم من غير طلب إذ لا فائدة للطلب ولا معنى له مع اليأس عنه وهذا إنما يكون في الخبير بالمواضع السهلية والجبلية فيمكنه القطع بعدم الماء فيها.
الحالة الثانية: أن يتوهم وجود الماء حواليه فيلزمه الطلب الحصر ومع الرفاق ويصعد ويهبط كما شرحناه من قبل، ثم إن ذلك يختلف باختلاف الأراضي والبقاع فليجتهد المكلف وليعمل رأيه في تحصيله بكل ممكن يجد إليه سبيلاً. فإن صلى صلاة بهذا الطلب ثم دخل وقت صلاة أخرى وأراد أداؤها بالتيمم فهل يلزمه تجديد الطلب أم لا؟ والأقرب أن حالته إن كانت قد تغيرت بأن صعد جبلا أو هبط وادياً أو طلع ركب أو غير ذلك مما يظن فيه وجود الماء وجب عليه إعادة الطلب لأنه لا يأمن وجوده مع تغير الحال، وإن كانت حاله غير متغيرة فلا وجه لإعادة الطلب لأن الأمارة باقية بعدمه.
الحالة الثالثة: أن يكون متيقناً لوجود الماء ويلزمه أن يسعى إليه إذا يعلم أو يغلب على ظنه إدراك الوضوء والصلاة جميعاً في الوقت، وحد المسافة التي يجب السعي إليها هو الميل كما قررناه من قبل فما دونه، فأما ما فوقه فلا يلزمه ذلك، وإن طلب الماء فلم يجد فتيمم ثم طلع عليه ركب قبل أن يدخل في الصلاة لزمه أن يسألهم عن الماء فإن لم يجد معهم ماء أعاد التيمم لأنه لما توجه عليه الطلب بطل تيممه لأن التيمم في صحته مشروط بتقديم الطلب فلهذا بطل، فإن وجد معهم ماء واشتراه ثم اهراق أو تنجس أعاد التيمم والصلاة جميعاً لأن تيممه كان قد بطل بوجود الماء.
الحالة الرابعة: أن يكون الماء حاضراً كماء البئر إذا تنازع عليه النازحون ثم غلب أن نوبته لا تنتهي إ ليه إلا بعد فوات وقت الصلاة فيكون على ما حكيناه من الخلاف بين السيدين، فعلى رأي المؤيد بالله يجب عليه الوضوء وإن فات وقت الصلاة لكونه واجداً للماء وهو منصوص الشافعي. وعلى رأي أبي طالب يجوز له التيمم وهو القول المخرج على أصل الشافعي.
الفرع السادس: وإن وُهِبَ له الماء فهل يجب عليه [قبوله] أم لا؟ فالذي عليه أئمة العترة أنه يجب عليه قبوله، وهو أحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: هي أنه لا منة في ذلك لأن العادة جارية في التسامح في الماء وأن الفقير يبذله للغني، وحكي عن أبي حنيفة أنه لا تجب عليه قبوله ولا يلزمه.
والحجة على ذلك: هو أنها عبادة لها بدل فلا تجب ببذل الغير لها كما لا يلزمه قبول الرقبة في الكفارة.
والمختار: ما قاله علماء العترة، لأن الرسول ÷ سأل ابن مسعود وضوءاً وقال: ((ما في أدواتك)) وهو أجل وأعلى من الدخول تحت منة غيره، ولأنه صار متمكناً من الوضوء بطريق تلزمه فوجب عليه ذلك كما لو دله غيره على الماء.
وإن بذل له ثمن الماء لم يلزمه قبوله لما فيه من الدخول تحت منة الغير في آداء عبادة لها بدل، وإن بذلل له الماء بثمن مثله وكان واجداً للثمن غير محتاج إليه في سفره لزمه شراؤه، ولا يجوز له التيمم. وإن كان غير واجد لثمن مثله، أو كان واجداً له إلا أنه يحتاج إليه لخاصته في سفره جاز له أن يتيمم لأن الماء الذي معه محتاج إليه لإحياء نفسه فصار كما لو كان معه ماء وهو محتاج إليه لأجل العطش. فإن كان بيع الماء بثمن المثل وأنظره البائع إلى بلده وكان له في بلده مال وجب عليه شراؤه ولم يجز له التيمم لأنه لا ضرر عليه في ذلك، و إن كان مع غيره ماء وهو غير محتاج إليه لنفسه ولم يبذله له بقيمة ولا بغيرها لم يجز له أن يكرهه على أخذه(1) لقوله ÷: ((لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه \s " \c 2)). ولأن له بدلاً فلا يجوز اكراهه عليه، وإن وجد الماء بأكثر من ثمن مثله نظرت فإن كان يحجف بحاله لم يلزمه شراؤه عند أئمة العترة وفقهاء الأمة ولا يعرف فيه خلاف لأنه يلحقه في ذلك مضرة وحرج، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ \s \c 1}[الحج:78]. وإن كان لا يجحف بحاله فهل يجب عليه شراؤه أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يجب عليه شراؤه وهذا هو رأي أئمة العترة.
__________
(1) بمعنى: على بذله.
والحجة على ذلك: قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا \s \c 1}[النساء:43]. ومن كان يمكنه شراء الماء بأكثر من ثمن مثله فإنه لا يوصف بأنه غير واجدٍ، ولأنه متمكن من الأصل فلا يجوز له العدول إلى البدل كما لو كان بثمن مثله.
وثانيهما: أنه لا يلزمه ذلك، وهذا هو المحكي عن فقهاء الأمة أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه غير واجد للماء بثمن مثله فلا يلزمه شراؤه كما لو كان مجحفاً به.
والمختار: ما قاله علماء العترة من وجوب شرائه بأكثر من ثمنه.
والحجة على ذلك: ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا، وهو أن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة دالة على أن من هذا حاله فإنه يوصف بكونه واجداً للماء، ومن وجه آخر، وهو أن الأموال بدل لا قيمة لها في نظر الشرع فإن كان متمكناً من تحصيله بالقيمة وجب عليه ذلك سواء كان بثمن مثله أو بأكثر من ذلك مالم يكن مجحفاً بحاله فإن من هذا حاله فإنه مخرج بدليل شرعي وهو قوله تعالى: {لاَ يُكَلِفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا \s " \c 1}[البقرة:286]. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78] إلى غير ذلك من الأدلة الشرعية الدالة على أن كل ما كان فيه ضرر على النفوس فإنه لا يتوجه تحمله في أداء العبادة.
الانتصار: يكون بإبطال ما زعموه حجة لهم.
قالوا: إذا لم يكن لازماً له مع الإجحاف فلا يلزمه وإن عدم الإجحاف والجامع بينهما هو أنه عادم للماء.
قلنا: هذا فاسد فإن مع الإجحاف ضرراً على النفس لا يحصل من غير إجحاف فافترقا، والفرق مِنْ أَدْخَلِ ما توجه في إفساد العلة وإبطالها فبطل ما توهموه.
الفرع السابع: وفي كيفية اعتبار المثلية في الماء وجهان:
أحدهما: أنه يعتبر مثله في موضعه الذي هو فيه دون غيره فإن كان ثمنه درهماً على مجرى العادة توجه شراءه، وإن زاد على قدر الدرهم كان ذلك على الخلاف بيننا وبين الفقهاء فنحن نوجبه وهم لا يوجبونه.
وثانيهما: أن الماء لا قيمة له بحال ولكن يراعى في ذلك أجرة مثله فيمن يحمله إلى موضعه لأن أصل الماء على الإباحة وهذا هو المحكي عن بعض أًصحاب الشافعي.
والمختار: جواز الأمرين جميعاً، فحيث تكون له قيمة تعتبر قيمته في موضعه، وإن كان لا قيمة له فإنه يعتبر أجرة من يحمله من موضعه فالأمران جائزان كما ترى لأن المنافع لها قيمة كالأعيان، والمثلية جارية فيهما جميعاً وسواء كانت القيمة زائدة على ثمن مثله أو مساوية فإنه يلزم تحصيله لما لم يكن مجحفا بحاله.
السبب الثاني: أن يكون الماء موجوداً ويخاف من استعماله ضرراً في نفسه فمن هذا حاله يجوز له التيمم.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: هو أن المريض إذا كان لا يخاف فيه من استعمال الماء تلف نفسه ولا تلف عضو من أعضائه ولا حدوث مرض مخوف ولا إبطاء البرء ولا زيادة في علته ومثل هذا كالصداع في الرأس ووجع الضرس والحمى فما هذا حاله من الأمراض لا يجوز لأجله التيمم عند أئمة العترة وفقهاء الأمة الفريقين الحنفية والشافعية.
والحجة على ذلك: قوله ÷: ((لا يقبل اللّه صلاة امرء حتى يضع الوضوء مواضعه \s \c 2)) فهذا عام في جميع الأحوال إلا ما قامت عليه دلالة، ويروى عن الرسول ÷ أنه قال: ((الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء \s \c 2)). وفي حديث آخر: ((فاطفئوها بالماء)) فندب إلى إطفاء حرها بالماء فلا يجوز أن تكون هي سبباً في ترك الماء.
وحكي عن بعض أصحاب مالك وعن داؤد وطبقته: جواز ذلك.
والحجة لهم على ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ \s " \c 1}[النساء:43]. وهذا عام في جميع أحوال المرض لأنه لم يخص مرضاً من مرض فيجب الإعتماد عليه.
وا لمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من المنع من استعمال التراب فيما ذكرناه، ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم ونزيد ههنا وهو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا \s " \c 1 وُجُوهَكُمْ}[المائدة:6]. وهذا عام في كل مرض إلا ما دلت عليه دلالة تخرجه عنه. وما قلناه فيما هذا حاله من المرض فإنه لاحق بالصحة فلا وجه لإخراجه عن عموم الآية لما ذكرناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: عموم الآية في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} دال على إباحته في كل مرض.
قلنا: قد تعارضت هذه العمومات، ولنا عنها جوابان:
أما أولاً: فلأن عموماتنا موافقة للقياس وهو أن هذا واجد للماء لا يخاف الضرر على نفسه من استعماله فأشبه الصحيح.
وأما ثانيا: فلأنا نقول المراد بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى}، المرض الذي يخاف منه الضرر على الروح أو على بعض الأعضاء من استعماله.
الفرع الثاني: هو أن المرض إذا كان يخشى من الوضوء معه تلف النفس أو تلف عضو من الأعضاء، فما هذا حاله يجب فيه التيمم عند أئمة العترة وأكثر فقهاء الأمة الحنفية والشافعية والمالكية.
والحجة على ذلك: ما روي أن رجلاً كان في بعض الغزوات فاجتنب فسأل الناس فقالوا: ما نجد لك رخصة عن الغسل فاغتسل فمات، فبلغ ذلك الرسول ÷ فقال: ((قتلوه قتلهم اللّه \s " \c 2 هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على رأسه خرقة ويمسع عليها ويغسل سائر بدنه))(1) وهذا نص فيما نحن فيه.
وحكي عن الحسن البصري وعطاء أنهما قالا: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء.
__________
(1) أخرجه أبو داؤد عن جابر.
وا لحجة على ما قالاه: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ \s \c 1} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[المائدة:6]. فأباح للمريض التيمم عند عدم الماء وهذا واجد له فلا يكون مندرجاً تحت الآية لما ذكرناه.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة.
والحجة عليه: ما حكيناه عنهم ونزيد ههنا حديث عمرو بن العاص \s \c 3(1) وهو أنه تيمم لخوف التلف من البرد مع وجود الماء فعلم به رسول اللّه÷ فعاتبه على ما فعل فقال له: إني سمعت اللّه تعالى يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا \s \c 1}[النساء:29] فسكت الرسول ÷(2) فلو لم يكن جائزاً لما أقره عليه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: الآية دالة على أنه لا يجوز التيمم إلا مع عدم الماء وهذا واجد له فلا يجوز استعمال التراب.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
__________
(1) عمرو بن العاص بن وائل القرشي السُّهمي، أبو عبد الله، توفي سنة 42 ه، داهية قريش، أسلم عام الحديبية سنة ثمان، وكان فاتح مصر وواليها، وأخباره كثيرة. ا ه، در السحابة للشوكاني 803، وجاء في (التاريخ الكبير) أنه توفي إحدى وستين أو اثنتين وستين في ولاية يزيد، سكن مصر ومات بها 6/303، وهو ابن تسع وسبعين سنة كما في (معرفة الثقات) 2/178.
(2) جاء في (الجواهر-تخريج البحر)1/115: عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إذا اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فَذُكر ذلك للنبي ÷ فقال: ((يا عمر، صليت بأصحابك وأنت جنب))؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: ...إلخ، فضحك رسول الله ولم يقل شيئاً، وفي رواية أخرى: فغسل مغابنه وتوضوأ وضوءه للصلاة ثم صلى. وذكر نحو ما سبق ولم يذكر التيمم، أخرج الروايتين أبو داؤد.
أما أولاً: فلأن المراد من الآية أمر مضمر وأن التقدير فيها: وإن كنتم مرضى فلم تقدروا على استعمال الماء أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا، وكثير ما يضمر في كتاب اللّه تعالى ما يدل عليه سياق الكلام كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ \s " \c 1}[البقرة:60] فالتقدير: فضرب فانفجرت.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أنه لا إضمار فيها فالمراد به المرض الذي لا يخشى منه التلف فإن من هذه حاله لا يجوز له التيمم كما مر تقريره.
الفرع الثالث: إذا كان المرض لا يُخشى منه تلف النفس ولا تلف عضو من أعضائه ولكن يُخشى منه إبطاء البرء وزيادة الألم لا غير فهل يجوز له التيمم أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجوز له التيمم وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو المحكي عن الشافعي في القديم و(الإملاء)، وحكاه البويطي عنه وهو قول أبي حنيفة ومالك.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ \s " \c 1}[النساء:43]. وهذا عام لجميع الأمراض من غير تخصيص إلا بدلالة.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز له التيمم وهذا هو المنصوص عليه للشافعي في (الأم) و(المختصر).
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ \s " \c 1 أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[النساء:43] فأباح التيمم لمن لا يجد الماء، وهذا واجد فلهذا لم يبح له التيمم.
والمختار: ما عليه علماء العترة ومن وافقهم من فقهاء الأمة من جواز التيمم لمن هذه حاله.
والحجة: ما قالوه ونزيد ههنا، وهو أن من هذه حاله فإنه يتضرر بالماء فجاز له التيمم فأشبه من خاف التلف.
الانتصار على من خالفنا: يكون بإبطال ما اعتمدوه وإلى ما حكيناه عن الشافعي في (الأم) و(المختصر) ذهب الحسن البصري واحمد بن حنبل وعطاء.
قالو: ظاهر الآية دال على أن التيمم إنما يباح لمن لا يجد الماء وهذا واجد فلا يباح له.
قلنا: الآية مشتملة على جملٍ كل واحدة منها مستقلة بنفسها، والتقدير فيها: وإن كنتم مرضى ولم تقدروا على استعمال الماء أو كنتم على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فتعذر عليكم استعمال الماء فتيمموا، أو لم تجدوا الماء بلا فرق بين عدم الماء وتعذر استعماله في جواز ما ذكرناه من التيمم.
الفرع الرابع: إذا كان لا يخشى من استعما الماء زيادة علة و لاحدوثها ولا استمرارها ولكن يخشى الشين وقبح المنظر في جسمه فهل يباح له التيمم من أجل ذلك أم لا؟ فيه لأصحاب الشافعي قولان:
أحدهما: أن ذلك لا يجوز لأنه لا يخشى تلفاً ولا إبطاء علة عن البرء فهو كما لو خاف من البرد.
وثانيهما: أن ذلك جائز لأن قبح المنظر في الخلقة وتشويه الوجه ربما كان ضرره أكثر من ضرر بعض الآلام وزيادتها واستمرارها.
والمختار عندنا في ذلك: تفصيل نشير إليه لأنها غير منصوصة لأصحابنا، وهو أنه ينظر في حال ذلك الشين الذي يلحق المتوضي فإن كان شيئاً يسيراً لا يشوه خلقة الإنسان ولا يقبحها في المنظر كآثار الجرب وآثار الجدري أو قليل حمرة أو خضرة فإنه لا يجوز له التيمم لأنه لا يتضرر بذلك ولا يكون له موقع، وإن كان يحصل منه شين كثير وقبح عظيم في الوجه وغيره نحو أن يسود وجهه كله أو بعضه أو يحصل فيه آثار تقبح المنظر، فمن هذه حاله يجوز له التيمم لأن الإنسان يألم قلبه ويحصل عليه من الغم مثل ما يحصل من زيادة العلة واستمرارها، بل ربما كان هذا أعظم من ذلك لا محالة.
الانتصار: يكون بإبطال ما زعموه.
قالوا: هو لا يخشى على نفسه ولا يؤدي إلى ضرر في أعضائه فلا يباح له التيمم.
قلنا: ربما كان الشين أعظم ضرراً من الألم كما أوضحناه فكما أبيح لأجل الضرر أبيح لأجل ما يلحقه من الشين وقبح المنظر.
السبب الثالث: تعذر الوصول إلى الماء وذلك يكون بعروض أمور تمنع منه وهذه نحو عدو أو لص أو سبع عادٍ أو غير ذلك من الأمور العارضة عن استعماله مع كونه موجوداً، فما هذا حاله يجوز [معه] التيمم.
التفريع لهذه القاعدة:
الفرع الأول منها: إذا كان الخوف من عدو أو لص أو سبع، فإن كان الخوف على تلف الروح أو على قطع الأوصال أو حصول الضرر أو شين يلحقه جاز له التيمم عند أئمة العترة، وهو قول جماهير الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك إلا ما يحكى عن الحسن البصري وعطاء فإنهم قالوا: لا يجوز له التيمم، والاحتجاج عليهم والانتصار قد ذكرناه من قبل فأغنى عن الإعادة.
الفرع الثاني: أن لا يخاف ضرراً في نفسه ولكنه خاف أخذ ماله وسلب أثوابه كلها، فينظر فيه فإن كان أخذ المال مجحفاً بحاله جاز له التيمم، وإن كان غير مجحف بحاله لم يجز له التيمم. وفي اعتبار حال الإجحاف وجوه ثلاثة:
أولها: أن يكون بحيث لا يجد عوضاً عما أخذ منه فمن هذه حاله يجوز له التيمم.
وثانيها: أن يكون غمه بما أخذ منه مثل غمه لو أصابه ضرر في نفسه من جرح أو قطع عضو من أعضائه.
وثالثها: أن يكون ما أخذ منه يبيح له السؤال لأجل فقره وضيق حاله، فهذا هو حد الإجحاف. والأول أقواها وأحسنها لأن كل من لا يجد عوضاً عما سلب عنه من الأثواب وأخذ منه فذلك إجحاف بحاله، والإجحاف هو الذهاب يقال: سيل جحاف إذا جرف كل شيء لاقاه وأصابه، وكل ما كان من الأمور مُذهِبَاً للمال وللنفوس فهو مجحف.
الفرع الثالث: أن يكون الماء في بئر وليس معه حبل ولا دلو يخاف إن نزل إليها(1) على نفسه التلف، ونحو أن يكون الماء في حفرة أو مطهرة وعلى بدنه نجاسة ولا يتمكن من الوضوء به إلا بتنجيسه، فإن من هذه حاله فإنه يجوز له التيمم، وإن عجز عن تسخين الماء لبرده وكان يضره جاز له التيمم لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ \s " \c 1}[المائدة:6].
السبب الرابع: أن يكون محتاجاً إلى الماء خوفاً من العطش في الوقت أو يتوقع الحاجة إليه في باقي الحال أو لعطش رفيقه أو لعطش حيوان محرم أكله، وكل ما ذكرناه يبيح له التيمم مع وجود الماء لما ذكرناه لأن تدارك الحشاشات عن التلف أو الأضرار عمن ذكرناه أهم في مقصود الشرع من الوضوء بالماء، من جهة أن الوضوء له بدل وهو التيمم فتسكين العطش بالماء لا بدل له، وأيضاً فإنه لو كان مع رجل ماء فمات ومعه رفقة يحتاجون إليه من أجل العطش جاز لهم أن ييمموه ويشربوا الماء ويجب عليهم صرف ثمنه إلى ورثته إذا كان له قيمة في مثل ذلك الموضع، ويكون صرف قيمته أحق لأن مثله حقير في غير ذلك الموضع، فلأجل ذلك كان العدول إلى القيمة أولى، وهكذا لو كان معه رفيق ومات الرفيق ومعه ماء جاز أخذه بالقيمة، ويعدل إلى التيمم لأجل المصلحة إلحاصلة بتدارك حشاشة النفس عن العطش فمتى خشي تلف نفسه من أجل العطش وجب عليه التيمم لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا \s \c 1}[النساء:29]. ولا يعرف خلاف في ذلك [إلا] ما حكيناه عن الحسن وعطاء، وإن خشي الضرر جاز له التيمم لأجل دفع الضرر. قال السيد أبو طالب: وكان أبو العباس يقول: إذا خشي التلف وجب عليه التيمم وإن خشي الضرر بالعطش والتألم جاز له التيمم، والوضوء أفضل، يشير به إلى ما فصلناه من أن صيانة النفس عن التلف بالعطش أهم، وإن لم يكن هناك إلا الضرر والتألم فالوضوء أفضل، وهذا جيد لأن
__________
(1) في الأصل: عليها.
التكليف لا ينفك عن ضرارة(1) وثقل على النفوس فلا جرم كان الوضوء أفضل، وإن كان في العطش مشقة.
السبب الخامس: العجز بسبب فقدان العلم وفيه صور خمس:
الصورة الأولى: النسيان، وهو أن ينسى الماء في رحله بعد ان كان علمه فتيمم وصلى ثم يعلم بعد ذلك فهل تلزمه الإعادة مع بقاء الوقت أو يلزمه القضاء بعد فواته أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه تلزمه الإعادة مع بقاء الوقت والقضاء بعد فواته، وهذا هو رأي المؤيد بالله وهو المنصوص عن الشافعي في عامة كتبه، ومحكي عن أبي يوسف.
والحجة على ذلك: هو أن الوضوء شرط في صحة الصلاة فلا يسقط بالنسيان كالركوع والسجود وستر العورة ولأنها طهارة تستباح بها الصلاة فعدمها لأجل النسيان يمنع من صحة الصلاة كما لو كان على بدنه نجاسة ونسيها وصلى فإنه تلزمه الإعادة فهكذا هذا.
المذهب الثاني: أن لا تلزمه الإعادة ولا القضاء، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة ومحمد.
والحجة على ذلك: هو أنه غير قادر على استعمال الماء لعذر من جهة اللّه تعالى وسقط عنه الفرض بالتيمم كما لو حال بينه وبين الماء سبع أو مرض.
المذهب الثالث: أنه إن كان الوقت باقياً وجبت عليه الإعادة، وإن كان فائتاً فلا إعادة عليه، وهذا هو رأي الهادي والذي يأتي على أصل الناصر وهو قول مالك من الفقهاء.
وا لحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً \s \c 1}[المائدة:6]. والناسي للشيء غير واجد له لأن الوجود عبارة عن التمكن من استعمال الماء والقدرة عليه، وهذا غير متمكن من استعماله، هذا كله إذا كان الوقت باقياً فإن كان فائتاً لم تجب عليه الإعادة.
و الحجة على ذلك: هو أن هذا مبني على أن التيمم إنما يجب في آخر الوقت كما سنوضحه، فإذا صلى بالتيمم وبقي من الوقت بقية ثم علم بالماء في رحله فإنه إنكشف الآن أن تيممه وقع على فساد فلهذا وجبت عليه الإعادة.
__________
(1) ضرارة: النقصان يدخل في الشيء. اهلسان.
والمختار: ما قاله الهادي والناصر من التفرقة بين بقاء الوقت وزواله.
والحجة على ذلك: ما نقلناه عنهما ونزيد ههنا، وهو أن الوقت إذا كان فائتاً فلا وجه لإيجاب القضاء على من هذه حاله من جهة أن الناسي لا يعقل تكليفه في حال نسيانه لفقد علمه وهو من شرائط التكليف لأنه يستحيل أن يقال له استعمل الماء وأنت ناسٍ له. وإذا تيمم وصلى فقد أدَّى الفرض على الوجه الذي أمر به وخرج عن عهدة الأمر فلا يلزمه القضاء.
ووجه آخر وهو: أن القضاء إنما يجب بأمر جديد ودلالة منفصلة ولا دلالة ههنا على وجوب القضاء عليه لأنا سنورد الجواب على الشكوك التي يذكرونها دلالة على وجوب القضاء عليه، وإنما توجب عليه الإعادة إذا كان الوقت باقياً فلأن الخطاب متوجه نحوه بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء:103]. يريد موقتاً بوقت محدود لا تجوز مخالفته، فمهما كان في وقت الصلاة فهو مخاطب بأدائها، فلا جرم كان أداؤها لازماً له ولا ينفع أداؤها بالتيمم لأنا قد بينا وقوعه على فساد بالعلم بوجود الماء.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه. أما من قال بسقوط الإعادة عليه والقضاء على الإطلاق كما هو المنصوص لأبي حنيفة وهو رأي محمد.
قالوا: روي عن الرسول ÷ أنه قال: ((لا ظهران في يوم)). فلو قلنا بوجوب الإعادة عليه لكان ذلك مدافعة لنص الحديث، وهو باطل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نقول بظاهر الحديث فإنا لا نوجب عليه إلا ظهراً واحداً، وأما أداءه بالتيمم فليس في الحقيقة ظهراً عليه لكونه وقع فاسداً فقد وفينا بما دل عليه ظاهر الحديث.
وأما ثانياً: فلأنا قائلون بموجب الخبر فإنا نقول: لا ظهران في يوم على جهة الأداء فأما أن يكون أحدهما معاداً والآخر أداءً فلا مانع من ذلك، ويؤيد ما ذكرناه أنه إذا جاز أن يكون أحدهما مؤدى والأخر مقضياً لمن عليه فائتة فهكذا لا يمتنع أن يكون أحدهما معاداً لفوات شرطه والأخر مؤدى كما ذكرناه.
قالوا: إنه غير قادر على استعمال الماء لعذر من جهة اللّه تعالى فسقط الفرض عنه بالتيمم فلا تلزمه الإعادة كما لو حال بينه وبين الماء مرض أو سبع.
قلنا: هذا فاسد فإنا لا نسلم عدم قدرته على استعمال الماء بل هو قادر على استعماله لأنه يمكنه التوصل إليه من غير مشقة ولا ضرر عليه بأن يطلبه عند توجه الفرض عليه ويشكك نفسه فيتذكر الماء و[هذا] يخالف السبع والمرض فإنه لا يقدر على دفعهما، ولهذا فإنه لا يحسن أن يقال له: لا تمرض ولا يمنعك السبع، ويحسن في العادة أن يقال له: لا تنس، ويلام على ما وقع منه من النسيان، فيقال: لم نسيت؟ ولا يقال له: لم مرضت ولم منعك السبع؟
قالوا: فقد العلم بموضع يتيح له الصلاة بالتيمم ويمنع من وجوب القضاء كمن بجنبه بئر وهو لا يعلمها.
قلنا: إن كان يعلم بها وجبت الإعادة والقضاء لوقوع تيممه على خلل وفساد، وإن لم يعلم فلأن ذلك خارج من يده فاكتفي فيه بالظاهر، وليس هكذا حال الرجل فإنه في يده فلم يُكتف فيه بالظاهر فلأجل ما ذكرناه فارق مسألة الرجل مسألة البئر، ويؤيد ما ذكرناه أنه يرجع فيما حكم به غيره إلى الظاهر بالشهادة ولا يرجع فيما حكم به هو إلا إلى اليقين والإحاطة فهذا هو الكلام على أبي حنيفة إذا قال بسقوط الإعادة عنه إذا كان الوقت باقياً وهو رأي محمد، فأما سقوط القضاء عند تقضي الوقت فهو المختار عنه كما مر تقريره.
وأما من قال بلزوم الإعادة في الوقت والقضاء بعده كما هو رأي المؤيد بالله والشافعي فقالوا: إن الوضوء. شرط من شرائط الصلاة فلا يسقط بالنسيان كالركوع والسجود وستر العورة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه معارض بالقياس الذي أوردناه، وهو أن عروض النسيان عن استعمال الماء كعروض اللص والسبع، وإذا كان هذا مجزياً معه التيمم فهكذا ما قلنا، فإما أن يتساقطا لتعارضهما وإما أن يرجح أحدهما على الآخر، وقياسنا أرجح لأنه يشهد له قوله ÷: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان \s " \c 2)) فلو أوجبنا عليه القضاء مع فوات الوقت لم يكن النسيان مرفوعاً كما دل عليه ظاهر الخبر.
وأما ثانياً: فلأن هذه الأمور إنما وجبت الإعادة والقضاء مع نسيانها من جهة أنه لا بدل لها بخلاف ما نحن فيه فإن الطهارة بالماء لها بدل وهو التيمم فافترقا.
قالوا: ولأنه بدل لو أتى به مع العلم بحال المبدل لم يعتد به فإذا أتى به مع النسيان لم يعتد به كالصوم في الكفارة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم الأصل المقيس عليه فإنه إذا نسي الرقبة وصام أجزأه ذلك وهو الذي حكاه الكرخي عن أبي حنيفة. قال السيد أبو طالب: والمسألة غير منصوصة لنا فإن قلنا بأن الصوم يجزي مع نسيان الرقبة فإنه لا يلزمنا قياسهم.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن الصوم غير مجز له فالتفرقة بينهما ظاهرة فإن الاعتبار تملك الرقبة لا بالتمكن منها على كل وجه ولهذا فإن من لا يملك الرقبة لو وهبت له لم يلزمه قبولها وأجزأه الصوم، وإذا كان الأمر كما قلنا فالاعتبار في الماء بالتمكن لا بالملك ولهذا فإنه إذا وهب له وجب عليه قبوله، ولم يجز له التيمم كما مر تقريره، ومع النسيان فهو غير متمكن فلهذا كان التيمم مجزياً له فافترقا.
قالوا: ولأنه تطهير واجب فلم يسقط بالنسيان كما لو نسي بعض أعضائه.
قلنا: المعنى في الأصل أنها طهارة أصلية بخلاف التيمم فإنها طهارة بدلية فهذا فرق واضح يبطل فيه الجمع وأعظم فساد الأقيسة هو الفرق، فهذا كله دال على بطلان مقالة من قال: إنه يتوجه عليه الإعادة والقضاء مع بقاء الوقت وزواله، وبعد ذلك يصح ما قلناه من التفرقة بين بقاء الوقت وزواله، فإذا كان [الوقت] باقياً توجهت الإعادة وإن كان فائتاً بطل القضاء من جهة أن مع بقاء الوقت يقوى أمر الخطاب بالصلاة كما مر بيانه.
الصورة الثانية: إذا أدرج في رحله ما يملكه ولم يكن شاعراً به فتيمم ثم صلى هل تلزمه الإعادة أم لا؟ فإن قلنا: إنه في معنى الناسي جاء الخلاف الذي ذكرناه في الناسي، فعلى رأي الهادي إن الوقت إن كان باقياً وجبت عليه الإعادة وإن كان فائتاً فلا إعادة، وعلى رأي المؤيد بالله و الشافعي يتوجه عليه الإعادة وعلى رأي أبي حنيفة لا إعادة عليه كما مر بيانه من قبل، وإن قلنا بأنه يخالف الناسي فلا إعادة عليه ولا قضاء، وهذا هو المختار من جهة أنه لا تقصير من جهته فلهذا لم يكن مشبهاً للناسي لأن الناسي قد يلام ويعد مقصراً وهذا مخالف له فافترقا.
الصورة الثالثة: لو أضل الماء في رحله فالتبس بسائر الأقمشة مع توهم وجوده فتيمم ثم صلى، فإن لم يكن قد أمعن في طلبه وجب عليه القضاء لكونه قد أخل بشرط التيمم وإن كان قد أمعن في طلبه فلم يجده وغلب على ظنه فقدانه فهل يجب عليه القضاء أم لا؟ فيه احتمالان:
أحدهما: إلحاقه بالناسي فيكون على الخلاف.
وثانيهما: أنه بخلاف الناسي فلا تلزمه الإعادة.
الصورة الرابعة: لو ضل رحله في رحال القافلة فلم يدر به في جنح الليل فتيمم ثم صلى فهل يلزمه القضاء أم لا؟ فيه احتمالان أيضاً:
الصورة الخامسة: إذا ضل الزمالة والرفقة الذين معهم متاعه ورحله فتيمم ثم صلى فهل يتوجه عليه القضاء أم لا؟ فيه احتمالان كما ذكرنا في غيره. فهذه صور متقاربة يقع فيها التردد بين الحاقها بالناسي ومفارقتها له فعلى الناظر إمعان نظره على ما يوفق اللّه له من الصواب فيه.
السبب السادس: إذا خاف فوت صلاة العيدين بانقضاء وقتها وفوت صلاة الجنازة لأجل الجماعة فهل يجوز التيمم مع وجود الماء أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك وهذا هو الذي نص عليه الهادي % في (الأحكام) و(المنتخب) وهو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
وا لحجة على ذلك: ما روي عن ابن عمر أنه قال: مر رجل على رسول اللّه ÷ في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول فسلم عليه فلم يرد السلام حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب بيده على الحائط ومسح بها على وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد السلام على الرجل وقال: ((إنه لم يمنعني ألا أرد عليك السلام \s \c 2 إلا أني كنت على غير طهر فلم أحب أن أذكر اسم اللّه إلا على طهارة))(1).
ووجه تقرير هذه الحجة هو أن رد السلام فرض على الكفاية على الفور فإذا تراخى سقط، فالرسول ÷ لما خشي الفوت جاز له التيمم فهكذا صلاة الجنازة إذا خشي فوتها مع الجماعة جاز له التيمم لأدائها.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز له التيمم مع وجود الماء لهاتين الصلاتين وهذا هو المحكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنها صلاة فلا يجوز التيمم لها مع القدرة على الماء كسائر الصلوات.
__________
(1) أخرجه أبو داؤد عن ابن عمر، وأورد في (الروض) ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي جهيم الأنصاري قال: أقبل رسول الله ÷ من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد %. الحديث، قال الحافظ ابن حجر: زاد الشافعي: ((فحته بعصى)) اه. 1/474. أي: فحت الجدار.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من جواز التيمم لما ذكرناه من هاتين الصلاتين للعذر الذي ذكرناه فيهما وهو فوات الجماعة في صلاة الجنازة وفوات الوقت في صلاة العيدين.
والحجة على ذلك: ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا حججاً ثلاثاً:
الحجة الأولى: ما روى ابن عمر رضي اللّه عنه عن النبي ÷ أنه قال: ((إذا جاءتك الجنازة وأنت على غير طهر فتيمم وصل عليها \s " \c 2)) (1). وهذا نص فيما نحن فيه وهو مقرر على أنها إذا فاتت فإنها لا تقضى كما سنوضحه من بعد بمعونة اللّه تعالى.
الحجة الثانية: قياسية وهي أن هذه الصلاة تفوت إما بانقضاء وقتها كصلاة العيدين وإما بفوات شرطها وهو الجماعة فإذا جاز التيممم لخوف فوات الوقت في السفر فلأن يجوز لخوف فوات أصل الصلاة أولى وأحق، ولأنا لو أمرنا بالطهارة لما ذكرناه من هاتين الصلاتين مع بطلانهما وفواتهما لكنا قد أمرنا بالطهارة لا لصلاة وهذا محال فإن الطهارة لا تراد ولا تعنى إلا للصلاة لأنها غير مقصودة لنفسها، فإذا كانت الصلاتان فائتتين بما ذكرناه فلا وجه لإيجاب الطهارة، ولأن من لا صلاة له فلا وضوء عليه كالحائض والنفساء وهذا لو تطهر بالماء لم يتمكن من أدائها بهذه الطهارة.
__________
(1) سيأتي في صلاة الجنازة.
الحجة الثالثة: هي أن صلاة الجنازة ليست صلاة على الإطلاق لأنه لا ركوع فيها ولا سجود، ولهذا فإن الشعبي \s \c 3(1) وابن جرير زعما أنها تجوز من غير طهارة(2) فلهذا جاز فيها التيمم مع وجود الماء.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: إنها صلاة فلا تجوز بالتيمم مع القدرة على الماء كسائر الصلوات.
قلنا: هذا فاسد فإن التفرقة بينها وبين سائر الصلوات ظاهرة فإن غيرهما من الصلوات إذا استعمل الماء فإنه يمكنه الإتيان بها أو ببدل يقوم مقامها وفي مسألتنا لو اشتغل بالتوضي فإنه لا يمكنه الإتيان بهما ولا بما يقوم مقامهما فافترقا.
قالوا: إذا لم يجزِ التيمم لخوف فوات صلاة ا لجمعة وفرضها أوكد فلأن لا يجوز التيمم لخوف فوت صلاة الجنازة وصلاة العيدين أولى وأحق وفرضهما لا شك أضعف وأبعد.
قلنا: الجمعة لها بدل وهو الظهر ولهذا لم يكن فرضها فائتاً بخلاف ما ذكرناه فإنه لا بدل لهما فافترقا.
قال السيد أبو العباس: وإذا حدث مع الإمام في صلاة العيدين لم يتيمم لها لأنه يمكنه تأديتها منفرداً ولا يجوز له التيمم إلا إذا خشي فوت وقتها.
__________
(1) هو: عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار الشعبي الحميري، أبو عمرو، راوية من التابعين، يضرب المثل بحرصه، ولد ونشأ بالكوفة ومات بها فجأة، عاش بين 19هو103ه. كان نديم عبد الملك بن مروان ورسوله إلى ملك الروم، استقضاه عمر بن عبد العزيز، وكان فقيهاً شاعراً، نسبته إلى شعب وهو بطن من همدان. إ. ه(أعلام3//251) راجع (تهذيب التهذيب 5/65)، و(الوفيات 1/244).
(2) في حاشية الأصل: وهو تخريج المؤيد بالله على أصل الهادي %.
قال أبو حنيفة: إذا دخل الرجل في صلاة العيد في الجبان فسبقه الحدث جاز له أن يتيمم، وقال صاحباه: لا يجوز له ذلك ولكن يعود إلى المصر فيتوضأ ويصليها، والذي يأتي على القاعدة التي ذكرناها: أنه إذا كان يخشى فوت وقتها جاز ذلك، فأما إذا خشي فوتها مع الإمام فإنه لا يباح له التيمم لأنها تصلى منفردة عندنا من غير إمام وإنما جاز التيمم إذا كان يخشى فوات الوقت لأنها غير مقضية عندنا كما سنقرره في كتاب الصلاة.
لا يقال: كيف تقولون بأن صلاة العيدين لا يجب قضاؤها وقد حكى أبو العباس عن الإمام القاسم بن إبراهيم أن صلاة العيد تقضى من الغد وهذا تصريح بأنه يجب قضاؤها.
لأنا نقول: هذا فاسد فإن ما ذكره محمول على أن الهلال غُم ذلك اليوم ثم أنه تحقق بعد الزوال برؤيته في الليلة الماضية فعلى هذا يصلي من الغد، فما هذا حاله ليس قضاء وإنما هو أداء لما روي عن النبي ÷ أنه قال: ((فطركم يوم تفطرون وعرفتكم يوم تعرفون \s \c 2))(1). فدل ذلك على أنه ليس قضاء وإنما هو أداء. والمسألة مفروضة في حق من عرف أن ذلك اليوم هو يوم العيد فإنه لا يقضيها بحال فافترقا بما ذكرناه. فهذه جملة الأسباب الموجبة للتيمم ويندرج تحتها صور كثيرة لا حاجة بنا إلى إفرادها بالذكر لإندراجها بالذكر في أثناء التفريع بمعونة اللّه وحسن توفيقه.
التفريع لهذه القاعدة:
الفرع الأول: الجبائر عبارة عن الأخشاب التي توضع على الكسر ولا يشترط في وضعها أن يكون المجبَّر على وضوء عند أئمة العترة، وحكي عن الشافعي اشتراط كونه على وضوء.
__________
(1) سيأتي.
والحجة على ما قلناه: ما روي عن أمير المؤمنين أنه كسرت إحدى زنديه وجبرها فاستفتى رسول اللّه ÷ في الوضوء فأفتاه بالمسح على الجبائر(1). ولم يسأله عن كونه واضعاً لها على وضوء أو غير ذلك.
وتوضع الجبائر على[الموضع] الصحيح والعليل على قدر الحاجة عندنا وحكي عن الشافعي أنها لا توضع إلا على العليل.
والحجة على ذلك: أن وضع الجبائر إنما يكون على قدر الحاجة في إصلاح الحال في برء العضو وإصلاحه وشده ومده وهذا لا يكون إلا إذا دعت الحاجة إلى موضع البرء والصحة فإن ذلك جائز وقد حمل أصحاب الشافعي كلامه على منع ذلك، أن الحاجة غير داعية إلى شده على موضع الصحة وعلى هذا يكون كلامه موافقاً لما قلناه.
فإذا وضع الجبيرة ثم أراد الواضع الوضوء أو الغسل فإن كان لا يخاف من نزعها ضرراً نزعها وغسل ما تحتها لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا \s " \c 1} [المائدة:6] وقوله %: ((توضأ كما أمرك اللّه \s " \c 2)). وإن خاف من نزعها تلفاً للنفس أو تلف عضو أو إبطاء البرء أو الزيادة في العلة أو في الألم لم يلزمه حلها، وما يلزمه من ذلك فيه وجهان:
أحدهما: غسل ما جاور الشد والمسح على الجبيرة، وهذا رأي المؤيد بالله وهو مذهب الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روي عن أمير المؤمنين أنه قال: إنكسرت إحدى زندي مع رسول اللّه ÷ فسألته كيف أفعل بالوضوء فأمرني أن أمسح على الجبائر.
وإذا قلنا بوجوب المسح كما هو المختار كما مر في الوضوء فيمن كسر وجبر فهل يلزمه الإستيعاب أم لا؟ والأقرب على المذهب أنه يلزمه الإستيعاب وهو أحد قولي الشافعي وله قول أخر أنه لا يلزمه الإستيعاب.
والحجة على ما قلناه: هو أنه لا ضرر عليه في إستيعاب المسح فلزمه كالتيمم.
__________
(1) أخرجه السيوطي في (جمع الجوامع) من مسند علي %، وعبد الرزاق في مصنفه، والدار قطني، وابن السني، وأبو نعيم معاً في الطب، وسنده حسن، اه(روض) 1/445.
وهل يتعدد المسح بالأيام أم لا؟ والأقرب أنه لا وجه لتقديره بالأيام كالمسح على الخفين إذ ليس مذهباً لنا، وهو أحد قولي الشافعي وله قول آخر أنه يتقدر مسحه كما قررناه.
والحجة على ما قلناه من بطلان تقديره، وعليه الأكثر من أصحاب الشافعي، هو أن الحاجة داعية إلى استدامة اللبس للجبائر والمسح عليها إلى البرء فلهذا وجب استدامته ولا يكون مقدراً.
وثانيهما: أنه لا يلزمه المسح وهذا هو الذي ذكره السيدان أبو العباس وأبو طالب لمذهب الهادي، وقد مرَّ دليله فلا وجه لتكريره.
الفرع الثاني: إذا عدم الماء في سفر المعصية فهل يجوز له استباحة الصلاة بالتيمم أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أن ذلك جائز وهذا هو رأي أئمة العترة وهو المشهور من قول الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ \s \c 1} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[المائدة: 6]. ولم يفصل في ذلك بين سفر وسفر وعلى هذا لا تلزمه إعادة ما صلى بالتيمم لأنه صلى صلاة صحيحة بتيمم في سفر طويل ولا يلزمه الإعادة كما لو صلى في سفر مباح.
وثانيهما:أنه لا يجوز له استباحتها بالتيمم وهذا شيء محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن التيمم إنما ورد على جهة الرخصة كما في أكل الميتة، والوجه أن يقال له: تب إلى اللّه تعالى من هذه المعصية واستبح الصلاة بالتيمم كما يقال: تب وكل الميتة إن كنت مضطراً.
والمختار: ما عليه أئمة العترة للآية التي تلوناها، والخبر وهو قوله ÷: ((الصعيد الطيب طهور لمن لم يجد الماء ولو إلى عشر حجج)). ولم يفصل هناك بين سفر وسفر ولا بين حضر وسفر، وإذا قلنا إنه لا يجوز له استباحة الصلاة بالتيمم في سفر المعصية كما نقل عن الشافعي فهو إذا صلاها والحال هذه فإنه تجب عليه الإعادة لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تختص بالسفر، والرخص إ نما تكون مشروعة في الأمور الحسنة المباحة دونما كان معصية لأنا لو سوغناها في المعاصي لكان في ذلك إعانة على المعاصي وهو محظور شرعاً.
الفرع الثالث: إذا كان مع الرجل ماء ومعه ثوب نجس والماء لا يكفي إلا أحدهما فأيهما يكون به أحق؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أن الأحق به غسل الثوب ثم يتيمم للصلاة وهذه هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه ولشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: أن إزالة النجاسة عن الثوب ليس لها بدل والوضوء له بدل، وقد تردد هذا الماء في الإستعمال بين ما له بدل وبين ما ليس له بدل فلأجل هذا كان صرفه إلى ما ليس له بدل، كما إذا كان معه ماء وهو يخاف العطش على نفسه فإنه يجب استعماله في النفس التي لا بدل لها.
وثانيهما: أنه يستعمله في الوضوء ويصلي في الثوب النجس وهذا شيء يحكى عن أبي يوسف وحماد.
والحجة لهما على ذلك: هو أن من هذه حاله فهو واجد للماء ولا عذر له من استعماله إذ لا سفر هناك ولا مرض ولا تعذر استعمال، فلهذا لم يجز له العدول إلى التيمم كما لو لم يكن ثوبه نجساً.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من علماء العترة وفقهاء الأمة.
والحجة عليه: ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا وهو أنه مدفوع إلى أمرين:
إما أن يتوضأ بالماء ويصلي في الثوب النجس.
وإما أن يستعمل الماء في إزالة نجاسة الثوب ثم يتيمم، لكنا عدلنا إلى التيمم ليكون جامعاً بين الطهارتين طهارة النجس بإزالته بالماء وطهارة الحدث باستباحتها بالتيمم بخلاف ما لو توضأ بالماء فإنه لا يكون آتياً إلا بواحدة منهما وهي الطهارة للحدث فلهذا كان ما قلناه أولى لما قررناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: هذا واجد للماء فلا يجوز له التيمم كما لو كان ثوبه طاهراً.
قلنا: عن هذا جوبان:
أما أولاً: فلأنه مأخوذ بتقديم طهارة الأثواب فإذا استعمل الماء في طهارة الثوب كان مستعملاً للتراب في حال عدم الماء، فمن أين أنه مستعمل للتراب مع وجود الماء والحال ما ذكرناه؟.
وأما ثانياً: فهب إنا سلمنا وجود الماء لكنا نقول: يجب عليه استعماله في طهارة الثوب للترجيح الذي ذكرناه وهو أن طهارة الحدث لها بدل بخلاف طهارة النجس فإنه لا بدل لها فبطل ما توهموه.
الفرع الرابع: إذا كان مع الرجل ماء فأراقه ثم تيمم وصلى نظرت فإن كان أراقه قبل دخول وقت الصلاة لم تلزمه الإعادة لما صلى بالتيمم عند أئمة العترة، وهو محكي عن الشافعي لأنه أراقه قبل توجه فرض الصلاة للطهارة، وإن أراقه بعد دخول الوقت فهل تلزمه الإعادة للصلاة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا تلزمه الإعادة وهذا هو الذي يأتي على رأي أئمة العترة وهو اختيار القاضي أبي الطيب من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه بعد الإراقة عادم للماء وقد عصى بالإراقة فهو كمن قطع رجله فإنه يعصي بالقطع ولا تلزمه الصلاة قائماً فهكذا ههنا لا تجب عليه الإعادة.
وثانيهما: أنه تجب عليه الإعادة وهو أحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه فرط في الإراقة بإتلاف الماء فكانه ترك الطهارة بالماء مع القدرة عليها.
الفرع الخامس: إذا كان على جراحات الرجل دم ويخشى من غسله زيادة في علته أو حدوث علة أخرى أو استمرار تلك العلة الأولى، فإنه يصلي من غير غسل لها، وهل يعيد ما صلى إذا كان الوقت باقياً أو يقضي مع فواته أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا تتوجه عليه الإعادة ولا القضاء، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أنها نجاسة لا تمنع فعل الصلاة مع العلم بها فأشبه دم الاستحاضة والبول إذا سلس.
وثانيهما: أنه تجب عليه الإعادة مع بقاء الوقت والقضاء بعد زواله وهذا هو المحكي عن الشافعي.
والحجة له على ذلك: هو أن ما هذا حاله نجس نادر فأشبه ما إذا صلى وفيه نجاسة فنسيها.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة لقوله ÷: ((لا ظهران في يوم)). فلا وجه للإعادة، ولا وجه للقضاء أيضاً لأن هذه صلاة صحيحة قد أديت على حكم فرض الوقت فلا يلزم القضاء كما لو غسلها.
الانتصار: قالوا: هذا مشبه للناسي فيجب عليه القضاء.
قلنا: الناسي غير معذور لكونه تاركاً لما وجب لكونه شرطاً في الصلاة وهذا معذور قد عذره الشرع في تأديته للصلاة على حالته التي هو عليها فافترقا.
الفرع السادس: إذا خاف الرجل التلف من شدة البرد فتيمم وصلى هل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا تلزمه الإعادة مع بقاء الوقت ولا القضاء بعد مضيه، وهذا رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن هذا عذر من جهة اللّه تعالى يبيح التيمم له فسقط معه الفرض فلا تلزمه الإعادة ولا القضاء كالمرض وعدم الماء.
وثانيهما: أنها تلزمه الإعادة وهذا هو المحكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن ما هذا حاله عذر نادر فلم يسقط معه الفرض كالمحبوس في المصر إذا تيمم.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة لأن هذا قد أدى الصلاة على فرض وقته فلا تلزمه الإعادة بحال.
الانتصار: قالوا: المحبوس في المصر يعيد لكونه نادراً فهكذا هذا.
قلنا: برد الماء غير نادر فأشبه المرض فلا جرم لم تلزمه الإعادة.
الفرع السابع: إذا خاف الزيادة في مرضه من استعمال الماء فهل يجوز له التيمم أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يجوز له التيمم، وهذا هو رأي أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه يخشى الضرر من استعمال الماء فجاز له التيمم كما لو خشي التلف.
وثانيهما: أنه لا يحوز له التيمم، وهذا هو المحكي عن الشافعي في أحد قوليه وله قول آخر مثل قولنا.
والحجة على ما قاله: هو أنه واجد للماء لا يخاف من استعماله التلف فلم يجز له التيمم كما لو خاف جفاف الفم من العطش، وكما لو كان الألم يسيراً في استعمال الماء.
والمختار: ما قاله أئمة العترة ومن وافقهم على ذلك.
والحجة على ذلك: ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا، وهو أن كل عبادة جاز تركها لخوف التلف جاز تركها لخوف المرض كالصيام والقيام في الصلاة.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: واجد للماء فلا يجوز له التيمم كما لو كان الضرر يسيراً.
قلنا: قال اللّه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ \s \c 1}[المائدة:6]. فأباح التيمم عند المرض ولم يفصل بين مرض ومرض، ولا شك أن توقع الزيادة من جملة الأمراض وتعد في العادة مرضاً وتقع المشقة في الزيادة مثل ما يقع في ابتداء المرض فلا جرم جاز التيمم مع توقع الزيادة لما ذكرناه.
الفرع الثامن: إذا كان أكثر بدنه صحيحاً غسل الصحيح للوضوء والغسل جميعاً، وهو يجب عليه لأنه ممكن لا مانع منه وقد قال %: ((لا صلاة إلا بوضوء..)). وهل يجب عليه التيمم لِمَا كان مجروحاً أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
أحدها: أنه لا يجب عليه أن يتيمم لِمَا كان جريحاً وهذا هو رأي الإمامين زيد بن علي والناصر من العترة ويحكى عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن الأكثر يقوم مقام الجميع ولا حكم للأقل مع الأكثر، وأمثلة هذا كثيرة في أصول الشريعة تَطَّرد في جميع المذاهب. وعلى كل الآراء فإن هذا الأصل معتبر في أنه لا تعويل على الأقل بالإضافة إلى الأكثر.
وثانيهما: أنه يغسل الصحيح ويتيمم للجريح وهذا هو المحكي للشافعي.
والحجة له على ذلك: ما ورى جابر أن رجلاً أصابه حجر فشجه فاغتسل فمات، فقال النبي ÷: ((إنما كان يكفيه أن يتيمم \s \c 2 ويعصب على رأسه خرقة ويمسح عليها ويغسل سائر جسده)). فأوجب عليه غسل سائر جسده لأنه هو الأكثر ويمسح عليها من حيث كان الماء يضره ثم أوجب عليه التيمم عوضاً عما فات بترك غسلها وهذا هو المقصود.
وثالثها: التفصيل في ذلك، وهو رأي الإمامين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب وتحصيلهما على مذهب الهادي ويشير إليه كلام أبي العباس، وهو أنه يغسل ما صح ويترك ما اعتل ولا يعول على الأكثر والأقل ولا يحتاج إلى التيمم(1).
والحجة على ذلك: هو أن اللّه تعالى أمر بالوضوء للطهارة من الحدث وبالغسل لطهارة الجنابة بالماء وجوز للمريض أن يعدل عن الطهارة الصغرى والكبرى إلى التيمم فقال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا \s " \c 1}[المائدة:6]. ولم يفصل بين مرض ومرض، والمجروح مريض، فإذا تقرر هذا فالمأخوذ عليه أن يغسل ما يمكنه غسله قليلاً كان أو كثيراً لأنه هو الواجب عليه والإتيان ممكن، وقد قال %: ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم \s \c 2)) فإذا كان الجرح في أعضاء التيمم يممها وغسل الباقي قل أو كثر، وإن كان الجرح في غيرها فإنه يغسلها ولا يتيمم لئلا يجمع بين البدل والمبدل جنباً كان أو محدثاً.
__________
(1) في حاشية الأصل: يريد % أنه إذا كان الجرح في غير أعضاء التيمم.
وحاصل هذه المقالة: أنه لا يسقط حكم الأقل بالأكثر كما قاله أبو حنيفة، ولا يلزمه أن يتيمم للجريح كما قاله الشافعي وسيأتي لهذا مزيد تقرير وكشف عند الكلام فيمن خشي ضرراً من استعمال الماء.
والمختار في العضو المجروح: أنه إن كان يمكنه غسله وجب عليه غسله، وإن لم يمكنه غسله وكان صب الماء لا يضره وجب عليه الصب وإن كان الصب يضره وجب عليه مسحه بالماء وإن كان المسح يضره عصب عليه خرقة أو شد عليه ما يقيه من رطوبة الماء ثم يتيمم لما فات من وجوب غسله قل أو كثر كما قاله الشافعي.
والحجة على ذلك: هي ما ذكرناه من حديث جابر في صاحب الشجة فإنه نصٌّ فيما نحن فيه، فلا حاجة إلى مخالفته من غير دلالة، ومن جهة أن التيمم إنما شرع من أجل جبران ما نقص من استعمال الماء في الطهارة، فلهذا وجب فعله عوضاً عما نقص من غسل الأعضاء المجروحة وإن لم تكن من أعضاء التيمم.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
فنقول: أما من قال بالتفصيل كالذي رويناه عن الإمامين الأخوين حيث أحبا التيمم إذا كان الجرح في أعضاء التيمم دون غيره، ومن قال بإبطال التيمم من غير تفصيل إذا كان الأكثر من بدنه صحيحاً كالذي رويناه عن الإمامين زيد بن علي والناصر وهو رأي أبي حنيفة، فإنما كان تعويلهم على الأقيسة النظرية والتشبيهات الفقهية وكان مضطرب أنظارهم ومجاري أفكارهم، إنما هو تقرير قواعد القياس، لا جرم أدَّاهُم ذلك القياس إلى ما قالوه، ونحن نقول: الباب ههنا باب العبادة وهو جار على مداق التحكمات الجامدة والأسرار الغيبية التي لا يعلمها إلا اللّه فلا ينبغي أن نُحكِّم فيه القياس لتعارض المعاني فيه والأشباه ولكن الأحق فيه أن يتلقى من جهة الرسول ÷ ولا يضطرب بالخطوات الوساع لضيق مجاله وعدم السعة في مسالكه، فلهذا وجب الإحتكام لما ورد فيه عن الرسول ÷ في حديث صاحب الشجة فإنه نص في إيجاب التيمم عن غسل الرأس لما كان مجروحاً وغسل سائر جسمه لما كان صحيحاً وعصب الخرقة عليه ومسحها بالماء، وما هذا حاله فلا يُصادَم بالأقيسة التي هي معرضة للاحتمال ويعرض عن نص صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه، وإذا كان التعويل على الخبر حيث تنقدح المعاني المخيلة ويقوى استنباط الأشباه القوية فالتعويل على الخبر في المواضع التي تنسد فيها أبواب الأقيسة ويضيق مضطرب النظر أحق وأولى، فمهما وجدت الأخبار النبويه فالعمل عليها أخلص. والأقيسة متهمة للتعريض للخطأ، والأخبار بريئة عن التهمة في الخطأ بعصمة قائلها، والقياس غير معصوم.
قالوا: إنما ذكرتموه يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل منه ولا وجه له.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الجمع بين البدل والمبدل منه جائز إذا كانت الوجوه والأسباب مختلفة وإنما المحذور اجتماعهما من غير أن يكون هناك مغايرة.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بمن كان بدنه مجروحاً وهو جنب فإنه يتوضأ ثم يتيمم للجنابة، وفي هذا جمع بين البدل والمبدل منه، فإذا جاز هذا فلم لا يجوز مثله في مسألتنا؟. فهذا ملخص عما قالوه في نصرة هذه القاعدة، وهو تعويل على الأقيسة ولا وقع لها في العبادات كما أوضحناه، وتنخل من مجموع ما ذكرناه أن المجدور والمحترق بالنار إذا كان أكثر بدنه صحيحاً فإنه يغسل ما كان صحيحاً للطهارة ثم يتيمم لمَّا [كان] معذوراً بالجرح كما دل عليه خبر جابر في صاحب الشجة.
الفرع التاسع: إذا كان الأكثر[من بدنه] جريحاً كالجدري إذا كان عاماً لأكثر البدن والمحترق بالنار إذا كان شاملاً لأكثره فإنه يتيمم إذا أراد الصلاة، وكان الغسل والصب والمسح يضره فإنه يتيمم عند أئمة العترة وفقهاء الأمة أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه لأنه قد تعذر عليه استعمال الماء فجاز له التيمم كالعادم له وقد قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ \s " \c 1 أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[النساء:43]. وهل يجب عليه غسل الأقل من بدنه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب عليه غسل ما سلم من الجرح وإن كان قليلاً وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة وهو محكي عن الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن غسله شرط من شروط الصلاة والعجز عن بعضه لا يسقط فرض ما قدر عليه كستر العورة.
المذهب الثاني: أنه لا يلزمه غسله بل يقتصر على التيمم لا غير.
والحجة على ذلك: هو أنا لو قلنا بأنه يجب عليه غسله لكنا قد أوجبنا عليه البدل والمبدل منه فيكون جامعاً بينهما وهو باطل لا وجه له كما لا يجب على المكفر لليمين الجمع بين العتق والإطعام ولا الصوم والهدي على المتمتع، وهذا هو رأي الإمام الناصر، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من أئمة العترة من أنه يجب عليه غسل ما قل من بدنه إذا كان صحيحاً.
والحجة على ذلك: هو أنه مقدور على غسله من غير ضرر فلا يجوز له تركه كما لو كان الأكثر صحيحاً.
والحجة على ذلك والجامع بينهما: هو ما ذكرناه من القدرة على غسله.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: لو أوجبنا عليه الغسل لكان في ذلك الجمع بين البدل والمبدل منه وهو باطل.
قلنا: التيمم ليس بدلا عما غسل وإنما هو بدل عما لم يغسل، فلهذا لم يكن ما قلناه جمعاً بين البدل والمبدل منه.
الفرع العاشر: وإذا وجد جماعة من المسلمين ماء مباحاً أو كان ملكاً لرجل فقال: قد أبحته لكم، نظرت فإن كان الماء لا يكفي واحداً منهم لم يبطل تيممهم لأنهم غير واجدين للماء فلا يبطل ما فعلوه من الطهارة بالتراب، وإن كان يكفي واحداً منهم بطل عليهم التيمم لأن كل واحد منهم بصدد أن يكون مستحقاً له وهو يكفيه، فصار كما لو قال: هو له على التعيين، وإن قال: قد جعلته لكم لم ينتقض عليهم ما فعلوه من التيمم لأنه قد صار لكل واحد منهم جزء منه على جهة التمليك وهو غير كافٍ له، فلأجل ذلك لم يبطل عليهم ما قد تلبسوا به من الطهارة البدلية، فهذا ما أردنا ذكره في الأسباب الموجبة للتيمم وما يتعلق بها.
.
---
الفصل الثاني في بيان ما يجوز التيمم به وما لا يجوز وما يستباح به من العبادات
قال الإمامان القاسم بن إبراهيم وولده الهادي يحيى بن الحسين: ولا يجوز التيمم إلا بالتراب الطاهر ولا يجوز بالرمل والنورة والزرنيخ وما أشبهها.
واعلم أن الذي يجوز التيمم به هو التراب الطاهر الحلال المنبت الخالص المطلق، فما هذا حاله من التراب لا يعرف خلاف في جواز التيمم به وإنما يقع التردد فيما خالف هذه الأمور كما سنوضح القول فيه، والأصل في ذلك قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا }[المائدة:6] فذكر الصعيد تنبيهاً على جنسه وذكر الطيب تنبيهاً على وصفه، وقد وقع الخلاف والنزاع بين العلماء من حملة الشريعة فيما يعتبر من أجناسه وأوصافه وما لا يعتبر مع اتفاقهم على جواز التيمم بما كان مختصاً بهذه الصفات التي ذكرناها، ونحن نوردها واحداً واحداً ونوضح المختار وننصره بمعونة اللّه تعالى.
مسألة: لا يجوز التيمم إلا بالتراب الذي له غبار كما [هو] مفهوم من ظاهر الآية والخبر.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: جنسية التراب لا بد من اعتبارها في جواز التيمم عند أئمة العترة، القاسمية والناصرية، وهو محكي عن الشافعي و أحمد بن حنبل وداؤد من أهل الظاهر.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً}. والصعيد في اللغة هو التراب لقوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا }[الكهف:40]. يعني تراباً أملساً لا نبات عليه وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزً }[الكهف:8]. أي: تراباً لا نبت فيه، وحكي عن ثعلب أنه قال: يطلق على التراب وعلى وجه الأرض، وعن غيره: أنه يقع أيضاً على الطريق. وتقرير الدلالة من الآية: هو أن اللّه تعالى قصر الإجزاء على ما كان تراباً طيباً وفي هذا دلالة على أن غيره لا يجزي في التيمم. وهل يجوز بغيره أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه يجوز التيمم بكل ما كان على وجه الأرض من شجر أو حجر أو مدرمتصلاً بها كان أو غير متصل، وهذا أعم المذاهب وأشملها، وهو محكي عن الثوري والأوزاعي.
والحجة على ذلك: ما روى أبو هريرة عن الرسول أن رجلاً أتاه فقال: يا رسول اللّه إنا نكون بأرض رمل فتصيبنا الجنابة والحيض والنفاس ولا نجد الماء أربعة أشهر، فقال: ((عليكم بالأرض فتمسحوا بها فإنها بكم برة ))(1)
ولم يفصل في ذلك بين جنس وجنس متصل أو غير متصل.
المذهب الثاني: أخص منه وهو أنه يجوز التيمم بالأرض وما كان متصلاً بها كالأشجار والملح وغيرهما، ولا يجوز بالذهب والفضة والرصاص والحديد والنحاس.
والحجة على ذلك: ما روى أبو ذر عن رسول اللّه أنه قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ))(2)
فما جاز أن يسجد عليه جاز أن يكون طهوراً إلا ما خصه الدليل.
المذهب الثالث: أنه يجوز بكل ما كان من جنس الأرض كالرمل والجص والكحل والزرنيخ والشب وغير ذلك من جميع الأجناس التربية ولا يشترط أن يكون فيه غبار بل لو ضرب بيده على صخرة ملساء أو على حائط أملس أجزأه ذلك، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه ومالك إلا الذهب والفضة والأشجار كلها فإنها غير مجزية عندهم.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((فضلت على الأنبياء من قبلي بخصال )) (3)
وذكر من جملتها أن الأرض كانت له مسجداً وطهوراً ولم يفصل هناك بين جنس وجنس إلا ما قامت عليه دلالة في المنع.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم.
والحجة لهم: ما ذكروه ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روى حذيفة عن الرسول قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً )) فخص التراب من بين سائر ما على وجهها من الأشجار والأحجار، وفي هذا دلالة على أن التراب مقصود بالإجزاء من بين سائر الأجناس الأرضية.
__________
(1) قال في (الجواهر): تخريج (البحر) ج1/118: حكاه في الانتصار وضعفه إلخ.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
والحجة: أن اللّه تعالى خص الصعيد بالإجزاء وأن ما سواه لا يسمى صعيداً، وروي عن أمير المؤمنين وابن عباس أنهما قالا: الصعيد هو التراب. وروي عن النبي أنه قال: ((التراب كافيك ولو إلى عشر حجج)) وقوله : ((الصعيد الطيب طهور لمن لم يجد الماء )) فهذه الأمور كلها دالة على أنه لا بد من اعتبار التراب في التيمم كما أشرنا إليه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: الخبر الذي رواه أبو هريرة والخبر الذي رواه أبو ذر وغيره من الأخبار كلها مشعرة بالعموم في جواز التيمم بما على الأرض فإنهالم تفصل بين شجر ومدر سواء كان متصلاً بالأرض أو منفصلاً عنها فمن خص شيئاً من ذلك فعليه الدلالة، فظاهر هذه الأخبار متمسكنا حتى تقوم دلالة على خلاف ظاهرها.
قلنا: عما ذكروه أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الأخبار التي رويناها ظاهرة في النقل وما رووه أخبار ضعيفة فخبر أبي هريرة يرويه المثنى بن الصباح (1)
وهو ضعيف الرواية عند أهل النقل يروي المناكير من الأحاديث عن عمرو بن شعيب، فلا جرم ضعف التمسك به.
__________
(1) المثنى بن الصباح اليماني الأبناوي، ويقال: أبو يحيى المكي، أصله من أبناء فارس، روى عن طاووس ومجاهد وابن أبي مليكة وغيرهم، وعنه: ابن المبارك وعيسى بن يونس، وعبدالرزاق ومحمد بن سلمة الحراني وغيرهم، قال عمرو بن علي: كان يحيى وعبدالرحمن لا يحدثان عنه، وقال ابن المديني:سمعت يحيى بن سعيد ذكر عنده مثنى بن الصباح، فقال: لم نتركه من أجل عمرو بن شعيب، ولكن كان منه اختلاط في عطاء، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: لا يساوي حديثه شيئاً، وقال الترمذي: يضعف في الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، توفي سنة 149ه، راجع (تهذيب التهذيب) 10/32.
وأما ثانياً: فلأن الأخبار التي رويناها فائدتها ظاهرة مكشوفة لا تفتقر إلى تأويل لما فيها من التصريح بالمراد بخلاف الأخبار التي رووها فإنها مطلقة معرضة للتأويل من حيث أن أخبارنا مصرحة بصفة التُّربية فيها وما نقلوه مطلقة فيجب حملها على ما دلت عليه أخبارنا من أن المراد بها التراب حتى تتطابق الأخبار وتكون مؤدية لفائدة واحدة.
وأما ثالثاً: فلأن المراد بما ورد في خبر أبي هريرة من الرمل، إنما هو الرمل الذي يخالطه التراب لأن العرب إنما تقيم في الأرض التي تكون منبتة للكلا ولا تكون في الرمل المستحجر الذي لا يخالطه شيء من التراب، وهكذا تأويل خبر أبي ذر على ما قررناه فالمراد بالطهور: التراب، لتطابق ما ورد عن الرسول أنه قال: ((فضلنا على الناس بخصال ثلاث : جعلت الأرض لنا مسجداً، وجعل ترابها لنا طهوراً، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة))(1).
فعلق الصلاة بجميع الأرض إلا ما خص بدلالة كما سنوضحه في الأماكن، وعلق التيمم ببعضها، فلو كان التيمم بجميع الأرض جائزاً لم يعدل من الأرض إلى بعضها.
قالوا: تطهير بجامد فلم يختص بجنس واحد كالإستنجاء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه معارض بقياس مثله وهو أنها طهارة عن حدث أو طهارة تفعل لأجل الصلاة، فوجب اختصاصها بجنس واحد لا يخير فيه بينه وبين غيره كالوضوء.
وأما ثانياً: فلأن المقصود من الاستنجاء إنما هو القلع لأثر النجاسة فلم يكن مختصاً بجنس دون غيره مما يكون قالعاً للآثار ومزيلاً لها بخلاف التيمم فإنه إنما يقصد لاستباحة الصلاة فلهذا كان مختصاً بجنس دون غيره كالوضوء.
قالوا: كل بقعة جازت الصلاة عليها جاز التيمم بما عليها كالأرض التي عليها تراب.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) تقدم.
أما أولاً: فلأن الشرع قد فرق بين الصلاة وبين التيمم باشتراط كونه تراباً فلا يجوز الجمع بينهما من جهة أن المقصود من الصلاة هو وقوع الجبهة على الأرض، وهذا عام في كل موضع إلا ما خصته دلالة بخلاف التيمم فإن المقصود هو التواضع بتعفير الوجه واليدين وهذا إنما يكون فيما كان له غبار.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه باطل بالأرض إذا أصا بتها نجاسة وذهب أثرها بالشمس فإنه تجوز الصلاة فيها على رأيكم ولا يجوز التيمم منها.
قالوا: جزء من الأرض فجاز التيمم منه كالتراب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الزرع وا لكحل والشب والمرتك(1)
وغير ذلك من الأحجار المعدنية ليست من الأرض وإنما هي أحجار معدنية خلقها اللّه لمنافع الخلق ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً ، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}[النبأ:6،7] فأفردها بالذكر.
وأما ثانياً: فلأنا نعارض ما قالوه بأن هذه الأمور ليست تراباً فلا يجوز التيمم بها دليله: سحالة(2)
الذهب والفضة.
الفرع الثاني: التراب المأكول كالطين الأرمني وغيره مما له ريح ويؤكل فهل يجوز التيمم به أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجوز التيمم به وهذا هو المشهور عن أصحاب الشافعي.
وثانيهما: أنه لا يجوز لأنه مأكول.
والمختار: على رأي أئمة العترة أنه يجوز التيمم به لأنه تراب فأشبه الصعيد الطيب.
وهل يجوز التيمم بالرمل أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أن ذلك جائز على الإطلاق، وهذا هو الذي يأتي على رأي من جوز التيمم بما كان من جنس الأرض، وهو المحكي عن أبي حنيفة وأصحابه ومالك.
وثانيهما: أنه لا يجوز التيمم به وهذا هو الذي نص عليه الشافعي في (الأم).
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) جاء في حاشية الأصل: السحالة: ما سقط من الذهب والفضة ونحوهما البرادة.
والمختار فيه: أنه يكون على حالين، وهذا هو الذي نص عليه الهادي في (المنتخب) فإن كان ليس له غبار يعلق بالكف فإنه لا يجوز التيمم به لأنه يشبه الأحجار الصغار، وإن كان فيه غبار جاز التيمم به لما روى أبو هريرة أن رجلا جاء إلى رسول اللّه فقال: يا رسول اللّه إنا نكون بأرض الرمل وتصيبنا الجنابة والحيض والنفاس ولا نجد الماء أربعة أشهر أو خمسة؟ فقال النبي : ((عليكم بالأرض)). فيجب أن يكون الرمل على ما ذكرناه من الوجهين، وهذا هو الذي تأول عليه أصحاب الشافعي كلامه في (الأم) وفي (الإملاء)، فحملوا كلامه في (الأم): على أنه لا غبار فيه، فلهذا لم يجز التيمم به، وحملوا كلامه في (الإملاء): على أن فيه غباراً، ومنهم من زعم أن فيه قولين، والأقرب ما قلناه من الفصل فيه، لأن الرمل له حالتان كما أشرنا إليه، فإذا اختلط بالتراب صار مجزياً، وإن لم يختلط بالتراب صار كالحجارة المدقوقة.
الفرع الثالث: وإن دق الآجر والخزف وهو ما أحمي عليه في النار حتى صار تراباً لم يجز التيمم به على رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، وهو محكي عن الشافعي لأن الطبخ قد أحاله وأخرجه عن أن يقع عليه اسم التراب، وإن نحت الرخام حتى صار تراباً لم يجز التيمم به، والطين الأرمني(1)
إذا دق جاز التيمم به لأن دقه لا يخرجه عن صفة التراب، وإن أحرق الطين الخرساني لم يجز التيمم به على رأي أئمة العترة وهو أحد قولي الشافعي وله قول أخر أنه يجوز التيمم به لأنه يقع عليه اسم التراب.
__________
(1) جاء في حاشية الأصل: الطين الأرمني: الذي يؤكل تداوياً، والطين الأبيض: الذي يؤكل سفهاً، هذا كلام الرافعي في (الغريب) قال الأسنوي: قد اختصره في (الروضة) اختصاراً فاسداً فإنه جعل المأكول تداوياً هو المأكول سفهاً فخلط قسماً بقسم نسياناً لما بينهما فاعلمه، اه.
والحجة على ما قلناه: هو أنه إذا أحرق صار بالحريق خارجاً عن صفة التراب، كما لا يصح بالخزف المدقوق، وإن لطخ وجهه بالطين المبلول(1)
لم يكن مجزياً له عن التيمم عند أئمة العترة وهو الذي ذكره الشافعي في (الأم) لأنه لا يقع عليه اسم التراب فصار كالدقيق والعجين، ولما روى عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه سئل عن رجل واقف في طين لا يستطيع أن يخرج منه، فقال: يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده فإذا جف تيمم به، ولا يعرف له مخالف فلهذا كان إجماعاً يعمل عليه، فإن خاف فوت الوقت قبل جفافه كان بمنزلة من لم يجد الماء ولا تراباً وسيأتي حكمه إن شاء الله.
الفرع الرابع: ويجوز التيمم بالصلصال، وهو التراب الذي يقع عليه الماء فيجف ويتقشع فيكون له صلصلة فإذا سحق صار تراباً فجاز التيمم به لأنه صعيد طيب، ويجوز التيمم بالمدر وهو التراب الذي أصابه الماء فاستحجر وجف فإذا فُتت صار غباراً يجوز التيمم به، ويجوز التيمم بالبطحاء ولها تأويلات:
أحدها: أنه التراب المستحجر فيصير كالمدر فإذا سحق صار تراباً.
وثانيها: أنها أرض ذات حجارة صغار، وما هذا حاله فلا يجوز التيمم به لأنها لا يقع عليها اسم التراب فصارت كالحجارة المدقوقة، ويجوز التيمم بما يخرج من العين الحارة من التراب الأسود إذا جف وسحق لأن اسم التراب واقع عليه فهو من جملة الصعيد الطيب، ولا اعتبار بألوان التراب من غبرة وبياض وسواد وحمرة إذا كانت كلها يطلق عليها اسم التراب ولقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}. ولم يفصل بين لون ولون. وقوله : ((التراب طهور المؤمن ما لم يجد الماء )) ولم يفصل بين ألوانه.
__________
(1) في حاشية الأصل: قال الجوهري: هو الملح، وبه ورد التنزيل، والله أعلم، اه. كأن كاتب الحاشية يشير إلى قوله تعالى: {مِنْ طِيْنٍ لاَزِب}.
الفرع الخامس: فأما السبخ من الأرض فهو المالح فينظر فيه فإن كان قد زاد عليه الماء المالح وغلبه حتى صار معجونا به لم يجز التيمم به كما لا يجوز بالطين العذب المبلول، وما هذا حاله فإنه يقال فيه: أرض ثرية إذا صارت ندية بالماء المالح ولهذا تقول العرب: التقى الثريان، وأرادوا به إذا التقى ماء الأرض وماء السماء، والثرية بالثاء المثلثة الفوقانية وبالياء المثناة التحتانية. وإن كان سبخاً لا نداة فيه جاز التيمم به، وحكي عن بعضهم أنه لا يجوز التيمم به ولعل ما قاله محمول على ما كان فيه نداة وبلة.
والحجة على ذلك: هو أن أرض المدينة سبخة وقد تيمم منها رسول اللّه ، ولأن التراب مطهر كالماء فكما انقسم الماء إلى مالح وعذب فهكذا التراب منقسم إلى سبخ وعذب فجاز التيمم به كالماء، وقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فالمراد به الطاهر كما سنوضح القول فيه بمعونة اللّه تعالى.
ويجوز أن يتيمم جماعة من إناء واحد فيه تراب واحداً بعد واحد إذا كان ضيقاً، وإن وسع أيديهم جاز أن يتيمموا منه في وقت واحد كما يجوز ذلك في الماء فيأخذون منه واحداً بعد واحد ومجتمعين لأن الأخذ لا يغير حاله ولا يصير مستعملاً بما ذكرناه وسنذكر المستعمل بعد هذا بمعونة اللّه تعالى.
مسألة: ولا بد من اشتراط كون التراب طاهراً لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} والطيب يقع على كل ما تستطيبه النفس، فيقال: هذا طعام طيب، ويقع على الحلال كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } [المؤمنون:51]. بمعنى الحلال، ويقع على الطاهر. ولا يجوز أن يكون المراد من الآية ما تستطيبه النفس ولا الحلال لأن التراب لا يوصف بما ذكرناه فثبت أنه واقع على الطاهر ولأنها طهارة للصلاة فلا تصح بالنجس كالوضوء.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: هل يجوز التيمم بالتراب النجس أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجوز التيمم به وهذا هو رأي أئمة العترة الأكثر من القاسمية، وهو رأي الناصرية أجمع، ومحكي عن الفريقين الحنفية والشافعية، وهو رأي مالك.
والحجة على ذلك: ما قررناه أولاً من اشتراط الطيب وهو مقصود به الطهارة دون غيره.
المذهب الثاني: أنه ينظر فيه فإن كانت النجاسة المتصلة به غالبة له في الطعم والريح واللون فإنه لا يجوز التيمم به وإن كان التراب غالباً للنجاسة جاز التيمم به وهذا شيء يحكى عن الإمام المنصور بالله وهو قول داؤد من أهل الظاهر.
والحجة على ذلك: هو أنه أمر يشترط في تأدية الصلاة للمحدث فوجب أن يكون ما يخالطه من النجاسة مغلوباً بالطاهر كالماء فهذا قياس على الماء وهذا إنما يتحقق دلالة على رأي من اعترف بالقياس وهم أكثر علماء الأمة من أئمة العترة والفقهاء القياسيين، فأما داؤد فلا يليق منه الإستدلال لأنه من منكري القياس فلا يجوز له التعويل على القياس وإنما حجته على ما قاله ما نذكره من الظواهر الشرعية في تقرير المختار من ذلك لأنه يعترف بها دون الأقيسة.
والمختار: ما قاله الإمام المنصور بالله وغيره من القول بجواز التيمم بالتراب الذي خالطته نجاسة إذا كان غالباً لها.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنه. ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: قوله : ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا )). وفي حديث آخر: ((وترابها طهوراً)) ولا شك أن اسم الفعول من الأسماء المتعدية على معنى أن يستعمل فيما كان مطهراً لغيره كما مر تقريره في الماء كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً }[الفرقان:48]. فإذا كان الماء مطهرا لغيره فهكذا حال التراب يكون مطهراً لغيره فإذا أصاب التراب البول أو غيره من سائر النجاسات ثم كوثر بالتراب الطاهر حتى يغلبه فإنه يكون طاهراً كالماء إذا خالطته النجاسة ثم كوثر بالماء الطاهر فزالت أوصاف النجاسة المتصلة به فإنه يعود طاهرا فهكذا حال التراب لأنهما جميعاً مطهران لغيرهما كما أشرنا إليه.
الحجة الثانية: قوله : ((التراب طهور المؤمن ما لم يجد الماء )). كما قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ }[الأنفال:11]. فقد استويا في التطهير فيجب أن يكون حال التراب كالماء في اعتبار الغلبة للنجاسة.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: اشترط اللّه الطيب في الصعيد والمراد به الطهارة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نقول بموجب الآية فإن التراب إذا كان غالباً للنجاسة فإنه يوصف بالطيب لا محالة.
وأما ثانياً: فلأن الغرض باشتراطه حذراً عما يظهر من النجاسة فيكون غالباً للتراب، ومثله يمنع من التيمم به لنجاسته، فأما ما كان من النجاسة مغلوباً بالتراب فإنه يكون طاهراً.
قالوا: طهارة تراد للصلاة فلا يجوز فعلها بالنجس كالوضوء.
قلنا: نحن نقول بموجب هذا القياس، فإنه لا يجوز التيمم بالتراب النجس ولكن كلامنا في تراب خالطته النجاسة وكان الطاهر غالباً لما هو نجس منه فإن ما هذا حاله لا يعد نجساً.
قالوا: الماء له قوة ترفع النجاسة عن نفسه بخلاف التراب فإنه لا قوة له على دفعها فإذا تنجس بالمخالطة كان نجساً، بخلاف الماء فإن له قوة على دفع ما وقع فيه من النجاسات إذا كان غالباً لها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن ليس له قوة بل له قوة كقوة الماء، وأمارة ذلك: أنه يغلب النجاسة الواقعة فيه كما كان الماء غالباً لها.
وأما ثانياً: فلأن الرسول سماه طهوراً في قوله: ((التراب طهور المؤمن ما لم يجد الماء )). واسم الفعول من الألفاظ المتعدية إلى غيرها كما مر تقريره في أبواب الطهارة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن التراب طهور بنص صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه وإذا كان طهوراً جاز أن يكون مبيحاً لما منع منه الحدث وأن يكون غالباً لما وقع فيه من النجاسة وأن تؤدى به الصلاة في أول وقتها وتؤدى به أكثر من صلاة واحدة كما سنوضح القول في هذه المسائل بمعونة اللّه تعالى.
الفرع الثاني: وإن تيمم بتراب المقابر نظرت، فإن كانت تلك المقبرة على حالها لم تنبش جاز التيمم منها لأنه صعيد طيب طاهر، فجاز كغيرها مما هو طاهر، وإن كانت المقبرة قد نبشت حتى اختلط ما على ظهرها بما قد اتصل به الصديد والقيح والبلة النجسة نظرت فإن كان ما اتصل بالصديد والقيح منها غالباً للطهار لم يجز التيمم به لما مر بيانه من أعتبار الطهارة في التراب. وإن كان الطاهر هو الغالب حتى صار[النجس] مستهلكاً بالطاهر، جاز التيمم به لأنه بالغلبة صار طاهراً، وإن جهل الأمر في التراب فلم يعلم حاله بعد نبشها هل هو الغالب أو هو النجس فهل يجوز التيمم بما هذا حاله أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجوز التيمم به لأن الظاهر نبشها ومع النبش يكون الأغلب هو النجاسة.
وثانيهما: أنه يجوز لأن الظاهر من التراب الطهارة إلا لعارض ولا عارض ههنا.
الفرع الثالث: وإن أصاب التراب بول أو كان ملوثاً بماء السرقين أو غير ذلك من الأمور المائعة النجسة ثم إنه جف بالشمس نظرت، فإن كان التراب قد ظهرت عليه أحد أوصاف النجاسة لم يجز التيمم به لنجاسته وإن كانت النجاسة غير ظاهرة عليه أوصافها بأن كان كثيراً فغلبها أو كان قليلاً خلا أنه كوثر بتراب طاهر جاز التيمم به لأنه بالمكاثرة صار طاهراً كالماء كما أوضحناه من قبل.
مسألة: ولا بد من اشتراط كون التراب حلالاً(1)
فلا يجوز التيمم بالتراب المغصوب لأن التيمم قربة، ولهذا كان مفتقراً إلى النية فلا تضام المعصية، ولأنه مأمور به لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فلا يجوز أن يكون مغصوباً لأنه منهي عن متاع الغير لقوله :((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه )). والشيء الواحد لا يكون مأموراً به منهياً عنه للتضاد فيه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: الغصب في التراب يتصور وقوعه على أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فبأن يكون التراب له قيمة كالطين الأرمني والطين الخراساني فإن هذا يباع في العادة وتكون له قيمة فيعقل غصبه بأخذه من مالكه على جهة الإكراه.
وأما ثانياً: فبأن لا يكون مأكولاً ولا له قيمة ولكن صاحبه أحرزه في جوالقه وفي قفصه لغرض من الأغراض، فما هذا حاله يعقل أخذه من غير إذن صاحبه ولا رضاه.
وأما ثالثاً: فبأن يكون في أرضه ويكره أخذه.
الفرع الثاني: وإذا كان غصبه يعقل على هذه الأوجه فهل يجوز التيمم بالتراب المغصوب أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجوز التيمم به وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }[البقرة:188].
ووجه تقرير الحجة من هذه الآية: هو أن اللّه تعالى نهى عن استهلاك مال الغير وأكله والنهي دال على فساد المنهي عنه ومانع منه ومن اجزائه وهذا هو مطلوبنا.
__________
(1) يقصد: مباحاً.
المذهب الثاني: أنه يجزي وهذا هو رأي الفقهاء والمعتزلة.
والحجة على ذلك: قوله : ((التراب طهور المؤمن إذا لم يجد الماء )). ولم يفصل في ذلك بين أن يكون مغصوباً أو حلالاً. وقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا }. والمراد بالطيب: الطاهر وليس المراد به الحلال لأن الطيب لا يستعمل في الحلال.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن تابعهم من فقهائهم، وهو محكي عن داؤد من أصحاب الظاهر.
والحجة على ذلك: ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: قوله : ((لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه)). وإذا كان لا يحل استعماله لم يكن مجزياً له.
الحجة الثانية: أنه مأمور بالتيمم إذا كان عادماً للماء ومنهي عن الغصب فيلزم أن يكون مأموراً منهياً لوجوزنا التيمم به، وهو محال.
ومن وجه أخر: وهو أنه مطيع بالتيمم عاص بالغصب فلو جوزناه لكان مطيعاً عاصيا بأمر واحد وهو محال.
ومن وجه آخر: وهو أنه مراد لله تعالى من أجل ما فيه من تأدية العبادة ومكروه من أجل [كونه] مغصوباً فلو سوغناه لكان مراداً مكروهاً وهذا فيه تناقض فيجب القضاء ببطلانه وفساده.
الانتصار: يكون بإبطال ماجعلوه عمدة لهم.
قالوا: الظواهر الشرعية كلها الدالة على وجوب استعمال التيمم لم تفصل بين أن يكون مغصوباً أو غير مغصوب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكرتموه من هذه الظواهر لم يتناول ما قلناه بل قد خرج بما أوردناه من الدلالة كما خرج التراب النجس وغير ذلك مما لا يجوز التيمم به.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بقياس مثله، وهو أن يقال: عبادة تقررت بأصل الشرع فلا يجوز أن تؤدى بالمغصوب كالزكوات والكفارات.
قالوا: صعيد مطلق فجاز التيمم به كما لو لم [يكن] مغصوباً.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فبالفرق وهو أن المعنى في الأصل أنه غير ممنوع منه شرعاً وهذا قد منع منه الشرع.
وأما ثانياً: فبالمعارضة وهو أن يقال: شرط من شروط الصلاة المشترطة في أدائها فلا يجوز تأديته بما هو ممنوع منه كالصلاة في الثوب النجس، والوضوء بالماء المغصوب.
قالوا: عبادة تدخلها النيابة فأشبه الذبح بالسكين المغصوب والطواف على جمل مغصوب.
قلنا: عما ذكروه أجوبة أربعة:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه من القياس فاسد الوضع من جهة[أنه] وارد على مخالفة نص الكتاب والله تعالى يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا }[النساء:43] والطيب هو الحلال، ولهذا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ }[المؤمنون:51]. يعني: المأكولات الحلالية، فلما كان مصادماً لنص الكتاب على المناقضة كان باطلاً.
وأما ثانياً:فلأن ما ذكرتموه من الوصف الجامع ممنوع فلا نسلم جواز النيابة فيه لأن حقيقة النيابة هو أن يتيمم عنه غيره ولا قائل بهذا.
وأما ثالثاً: فبمنع الحكم في الأصل وهو أنا لا نسلم الإجزاء بالذبح بالسكين المغصوب في الأضحية والهدايا(1)
ونمنع من الإجزاء في الطواف على جمل مغصوب.
وأما رابعاً: فبالفرق وهو أن المعصية لم تضام القربة نفسها في الذبح بالسكين والوقوف على الجمل. لأن القربة إنما هي بنفس الأضحية وبنفس الوقوف والسكين والجمل وصلتان إليها فلهذا جازا لما كانا منحرفين عن مقصود القربة بخلاف التيمم بالتراب المغصوب والمسروق فإن استعماله هو نفس القربة، وقد ضام المعصية، فلهذا لم يكن مجزياً فافترقا، ونظير ما ذكروه من السكين والجمل أنه لو غصب حبلاً ودلواً واستقى بهما أو وضع التراب الحلال في إناء مغصوب فإنه يكون مجزياً لا محالة فبطل ما توهموه.
الفرع الثالث: إذا تيمم بتراب من أرض مغصوبه فهل يجزيه أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يكون مجزياً له وهذا هو رأي المنصور بالله.
__________
(1) في حاشية الأصل: المذهب جوازه، ولعله ذهب إلى مقالة المهدي أحمد بن الحسين في أنه يقول بذلك.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود بالغصب إنما هو الضرار وما يكون هذا حاله فليس فيه ضرر على المالك فلهذا كان باقياً على الإباحة كأخذ الخلا(1)
من الأرض المغصوبة.
وثانيهما: أن ذلك غير جائز وهذا هو رأي المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: هو أن الأرض إذا كانت مغصوبة فكل ما فيها فهو ممنوع لحق صاحبه فلا يجوز كما لو غصبه نفسه على صاحبه.
والمختار: ما قاله الإمام المنصور بالله أن المفهوم من الغصب هو منع صاحب الأرض من الإنتفاع بها، وأخذ التراب غير ممنوع منه فلهذا لم يكن داخلاً في ماهية الغصب وحقيقته لما ذكرناه، فلا جرم جاز التيمم به ولأن الرسول دخل أرض اليهودي مع كراهته لدخوله فيها وقال: ((ما ضررناك يا يهودي )) فعلل المنع بالضرار دون الكراهة، فهكذا ههنا من غير فرق.
الفرع الرابع: لو تيمم بتراب مباح في الإناء المغصوب جاز التيمم لأن العبادة إنما هي باستعمال التراب، ووضعه في الإناء المغصوب لا ينافي القربة كما لو توضأ بماء مباح في إناء مغصوب جاز التوضي ولا يضره ذلك.
مسألة: ولابد من اشتراط كون التراب منبتاً في جواز التيمم به، نحترز به عما لا يكون منبتاً كالنورة والزرنيخ والرماد والشب وغير ذلك مما ليس تراباً ينبت، وعن الرمل الذي لا تراب فيه، والأحجار الصغار، فما هذا حاله لا يجوز التيمم به لما كان لا ينبت شيئاً.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل المقصود بها قضاء الحاجة والاستجمار من الأرض المغصوبة.
واعلم أن صفة الإنبات في التراب قد وقعت في بعض كتب المذهب، وظاهر أمرها: أنه لابد من اعتبارها في جواز التيمم. والأقرب أنه لا حاجة بنا إلى اعتبارها لأنه إن كان الغرض بإيرادها هو الإحتراز عن النورة والزرنيخ والرماد والكحل وغير ذلك فقد خرج ما ذكرناه باعتبار صفة كونه تراباً لأن هذه الأمور لا تعد تراباً، وإن كان الغرض باعتبارها الإحتراز عن الرمل والحصى الصغار فقد اندرجت في ضمن التراب، وإن كان الغرض هو إخراج السبخ من التراب فالتيمم جائز به إذا لم يكن ثرياً وأيضاً فإنه منبت وإن ضعف نباته، وإن كان الغرض من المنبت هو الإحتراز عن المخلوط بالذريره والنورة أو عن التراب المستعمل فهو فاسد، لأن هذه الأمور سنذكرها بقيود تخصها ونفصل ما فيها من المسائل فلا تكون مندرجة تحت قيد الإنبات، فظهر بما قررناه أنه لا حاجة إلى اعتبار هذا القيد وأنه مستغنى عنه بصفة التربية، وإن أرادوا أنه مستقل بالاعتبار في نفسه من غير أن يضاف إلى غيره فهو فاسد لأن التراب النجس والتراب المسروق والتراب المستعمل كل هذه منبتة ومع ذلك فإنه لا يجوز التيمم بها، فحصل من هذا أنه لا حاجة إلى ذكره سواء كان ذكره على جهة الإستقلال أو على جهة الإنضمام إلى غيره من الأوصاف.
مسألة: ولابد من اعتبار كونه خالصاً، نحترز به عما إذا خالطه ما يزيل حكم التطهر به، وليس يخلو الحال فيما يخالطه إما أن يكون طاهراً أو يكون نجساً، فإن كان المخالط له نجساً فقد قدمنا الكلام على التراب النجس وفصلنا ما فيه فأغنى عن الإعادة، وإن كان المخالط له طاهراً فإما أن يكون مما يتطهر أو مما لا يتطهر به فعنه تفصيل نشير إليه تفريعا.
التفريع لهذه القاعدة:
الفرع الأول: إذا اختلط التراب الأرمني بالتراب الخرساني أو اختلط هاذان الترابان بسائر أنواع التراب الطيبة جاز التيمم بها لأنها كلها مشتركة في كونها ترابات طاهرة طيبة لا يعرض لها شيء سوى الإختلاط وهو غير مغير لأجزائها، كما لو كانت الأمواء مختلطة عذبها بمالحها واختطلت العذبة بعضها ببعض فإنها كلها مطهرة ولا يضرها الإختلاط.
الفرع الثاني: وإن خالطه ما ليس بمطهر نحو أن يخالطه الدقيق والنورة والذريرة وغير ذلك مما يكون مخالطاً للتراب نظرت، فإن كان المخالط للتراب هو الغالب له لم يجز التيمم به لأنه يكون غير تراب فأشبه الدقيق والنورة والذريرة وإن كان التراب هو الغالب فهل يجوز التيمم به أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك غير جائز وهذا هو رأي أئمة العترة وهو قول الأكثر من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن المخالط للتراب من الذريرة والنورة يمنع من وصول التراب إلى العضو لكونه جامداً فلا يكون على [ذلك] متيمماً بالتراب وحده، فلهذا لم يكن مجزياً، ويفارق الماء إذا خالطه غيره وكان الغالب هو الماء كماء الورد إذا خالط الماء من جهة أن الماء رقيق فيكون المخالط يستهلكه الماء فلا يمنع من وصول الماء إلى الأعضاء لما فيه من الرقة بخلاف التراب فإنه جامد كما أشرنا إليه فافترقا.
وثانيهما: أنه يجوز التيمم به إذا كان التراب هو الغالب وهذا هو المحكي عن الشيخ أبي حامد من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه مطهر، فإذا كان غالباً لما خالطه جاز التيمم به كالماء وهذا هو المختار، ويدل عليه قوله : ((التراب طهور المؤمن )). فسماه طهوراً كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا }[الفرقان:48] فنزله منزلته في كونه مطهراً تطهير غيره، فإذا تقرر هذا فنقول: إذا صار ما خالطه مخلوط به صار التراب مستهلكاً له غالباً له، فلا جرم جاز التيمم كما كان ذلك في حق الماء كما مر تقريره من أن الماء إذا خالطه شيء من المغيرات كمآء وردٍ انقطعت رائحته أو قطرة من زعفران أو لبن أو خل وكان غالباً لها جاز التطهر به، فهكذا يجب أن يكون حال التيمم.
الفرع الثالث: التراب إذا خالطه شيء من الأمور الطاهرة كالذريرة والزرنيخ والنورة أو من الأمور النجسة، فالعلماء فيه فريقان:
الفريق الأول: لا يجيزون التيمم به على أي وجه سواء كان التراب غالباً أو غير غالب ويفرقون بينه وبين الماء، وتلك التفرقة من وجهين:
أحدهما: أن التراب غير رافع للحدث عند هؤلاء بخلاف الماء فإنه رافع للحدث الأكبر والأصغر جميعاً بلا خلاف في ذلك.
وثانيهما: أن للماء خاصة في نفسه وقوة ورقة تمنع من أن تكون الأجزاء المخالطة متصلة بالعضو بخلاف التراب فإنه لا يختص برقة وصقالة وصفاء جوهر فلا يمتنع أن تكون تلك الأجزاء المخالطة غير متصلة بالعضو الميمم فلأجل هذا بطل التيمم به عندهم.
الفريق الثاني: الذين جوزوا التيمم بالتراب الذي خالطه غيره إذا كان غالباً له فإذا خالطه ما هو طاهر فالمعتبر عندهم بغلبة التراب له لأنه إذا كان مستهلكاً له جاز التيمم به كما مر شرحه فأما إذا خالطه النجس فمنهم من اعتبر القلتين في التراب كما يعتبرهما في الماء إذا خالطه نجاسة، فكما كانت القلتان من الماء لا تحملان خبثاً فهكذا القلتان من التراب لا تحملان خبثاً لأنهما جميعاً مطهران، ومنهم من لا يعتبرهما ولكن يعتبر بالغلبة واستهلاك النجاسة بالتراب كما تكون مستهلكة بالماء عند تكاثره فيجريه مجرى الماء من غير تفرقة بينهما.
والمختار: إلحاقه بالماء لما ذكرناه من الدليل على كون التراب مطهراً بدلالة الخبر، فلا جرم كان حكمه حكمه.
مسألة: ولابد من اشتراط كون التراب مطلقاً، نحترز[به] عما يكون مستعملاً، فإذا كان مستعملاً فهل يجوز التيمم به أم لا؟ فيه نظر نذكره بمعونة اللّه تعالى.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الإستعمال في التراب يكون على وجهين:
أحدهما: أن يبقى على أعضاء التيمم شيء من غبار التيمم فيتيمم به هو أو غيره.
وثانيهما: أن يتساقط من أعضاء التيمم غبار فيتيمم به أو غيره، فما هذا حاله يكون مستعملاٌ باستعمال الأول لأنه قد سقط به الفرض، واستعمال الثاني من جهة أنه تساقط من التراب الذي وقع به التيمم فكان مستعملاً كما لو تساقط من الماء من أعضاء الطهارة، فأما ما يفضل في الإناء من أثر التيمم فلا يكون مستعملاً كما قررناه من قبل من جهة أن ما فضل لم يتغير حكمه في التطهير ولا أسقط به فرض، فلهذا لم يكن مستعملاً كالماء الذي يفضل في الإناء من أثر المتوضي، ولا يقع التردد بين من أثبت الإستعمال بالتراب في الوجه الأول، وإنما وقع التردد في الوجه الثاني هل يكون مستعملاً أم لا؟ والذي يأتي على رأي من أثبت الاستعمال من أئمة العترة، أنه يكون مستعملاً وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه لا يكون مستعملاً.
والحجة على كونه مستعملاً: هو أنه لو مسح يديه بالضربة التي مسح بها وجهه لم يصح وإن كان قد بقي فيها غبار، فلأن لا يصح فيما تناثر من الوجه أولى من جهة أن سقوطه من العضو إلى الأرض لا يزيل حكم الاستعمال عنه فلهذا وجب الحكم عليه بكونه مستعملاً.
الفرع الثاني: هل يجوز التيمم بالتراب المستعمل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة القاسمية والناصرية كما قالوه في الطهارة بالماء المستعمل، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي، وإحدى الروايتين عن مالك.
والحجة على ذلك: هو أنه إحدى الطهارتين فلا تجوز بالمستعمل كالطهارة الأخرى.
المذهب الثاني: أن ذلك جائز، وهذا هو رأي المؤيد بالله، وهو محكي عن الحسن البصري والزهري وبه قال زفر، وإحدى الروايتين عن مالك.
والحجة على ذلك: قوله : ((التراب طهور المؤمن )) ولم يفصل بين كونه مستعملاً أو غير مستعمل، وقوله : ((الصعيد الطيب طهور المؤمن ما لم يجد الماء )) ولم يفصل.
والمختار: جوازه كما قاله الإمام المؤيد بالله، ويدل عليه ما أوردناه حكاية عنهم ولأن الأدلة الشرعية والظواهر النقلية الواردة في جواز التيمم وإباحته لم تفصل في ذلك، ولقوله : ((جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً )). ولم يفصل بين تراب وتراب إلا ما خصته دلالة، ولأنه باق على ما كان عليه قبل الإستعمال فوجب القضاء بإجزائه كما لو لم يكن مستعملاً.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: إحدى الطهارتين فلا تجوز بالمستعمل كالطهارة الأخرى، وطهارة تفعل للصلاة فلا تجوز بالمستعمل كالوضوء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نمنع الأصل في الوضوء ونجيز التوضؤ بالماء المستعمل وقد قدمنا دليله فأغنى عن الإعادة إذ لا وجه للتفرقة بينهما وقد أسلفنا أن الماء المستعمل طاهر مطهر فهكذا حال التراب يكون طاهراً مطهراً مع الإستعمال.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما أوردناه من الأدلة الشرعية النقلية فإنها دالة بظواهرها على ما قلناه.
الفرع الثالث: والغبار الذي يحصل في البرذعة والأثواب الخلقه والأهدام المتقطعة، هل يجوز التيمم به أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا يجوز التيمم به وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، وهو رأي الإمامين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب، ومحكي عن محمد بن الحسن.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا }[النساء:43]. وما يحصل من البراذع ليس طيباً ولا خالصاً لأنه لا يؤمن أن يكون مجتمعاً من العفونات كالرماد والدقيق والزرنيخ والكحل والجص والتراب وما هذا [حاله] لا يكون صعيداً فضلاً عن أن يكون موصوفاً بالطيب فلهذا لم يكن مجزياً.
وثانيهما: أنه جائز وهذا هو رأي أبي حنيفة، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه ضرب بيده على حائط من حيطان المدينة وتيمم؛ ولأن هذا تراب فجاز التيمم به كغيره من الترابات.
والمختار عندنا في ذلك: تفصيل. فإن كان الذي علق بالثياب تراب له غبار يعلق بالأكف جاز التيمم به كما لو كان موضوعاً على حصير، وإن كان الذي يعلق بالثياب ليس تراباً خالصاً لم يجز التيمم[به] كما قلناه في الرمل، ومع هذا التفصيل ربما زال الخلاف في المسألة بيننا وبين الشافعي لأنه معنا في أنه لا يجوز التيمم بغير التراب، فأما أبو حنيفة فإنه من القائلين بجواز التيمم بغير التراب فلا وجه للكلام معه. وإن علق بثيابه غبار فضرب بيده عليها فعلق منه غبار جاز التيمم به لأنه غبار يعلق بالكف فجاز التيمم به، وحكي عن أبي يوسف: المنع منه، وحكاه ابن المنذر عن مالك. والحق: جوازه لما ذكرناه من قبل من أنه صعيد طيب.
وحجتهما: أن ما هذا حاله ليس صعيداً طيباً فلا يجوز التيمم به، وهذا فاسد فإن الصعيد هو التراب وهذا تراب فجاز التيمم به.
الفرع الرابع: استعمال التراب يدخل على وجهين:
أحدهما: أن يستباح به الفرض ويؤدى به في الصلوات المفروضة.
وثانيهما: أن يؤدى به النفل كالقراءة ودخول المسجد وغير ذلك فمتى كان الأمر فيه كما قلناه كان مستعملاً كما قلناه في الطهارة بالماء فإنه لا يكون مستعملا إلا بما ذكرناه من هذين الوجهين دون التبرد وقد مضى شرحه. وقد حكى الشيخ أبو حامد الغزالي عن الشافعي قولاً آخر في جواز التيمم بالتراب المستعمل، وحكى ابن الصباغ في (الشامل) عن بعض أصحاب أبي حنيفة ذلك، وفرقوا بينه وبين الوضوء من جهة أن الوضوء بالماء يرفع الحدث بخلاف التراب فإنه لا يرفع الحدث.
والمختار عندنا: هو جواز المستعمل في الطهارتين معاً كما مر تقريره، فهذا ما أردنا ذكره في الأوصاف المعتبرة في كون التراب مجزياً للتيمم.
مسألة: في بيان ما يستباح بالتيمم: واعلم أن التيمم جائز من الحدث الأصغر وهو البول والغائط والريح وخروج الخارج كالدم والقيء لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ يعني من النوم- أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ}[المائدة:6]. ومن الحدث الأكبر كالجنابة والحيض والنفاس والموت لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[المائدة:6]. وروى عمار بن ياسر، قال: اجتنبت فتمعكت بالتراب فقال له الرسول : ((إنما يكفيك هذا وضرب بيديه على الأرض ومسح بهما وجهه وذراعيه)). وروى أبو ذر رضي اللّه عنه أنه قال: اجتويت المدينة يعني: كرهت المقام فيها فأمرني رسول اللّه بذود فيها وقال: ((أبدُ فيها))(1)
__________
(1) جاء في حاشية الأصل: والذي في البيان: بذود غنم وقال: ((أبدُ أبدُ)) مرتين.
يعني أخرج إلى البادية، فخرجت بأهلي إلى الربذة فكنت أعدم الماء خمسة أيام وستة وأنا جنب فأصلي بغير طهور ثم قدمت المدينة فأتيت النبي فقال: ((أبو ذر؟)) فقلت: نعم هلكت فقال: ((وما أهلكك؟)). فقصصت عليه القصة وقلت: إني كنت أصلي بغير طهور فأمر لي بماء فاستترت براحلتي واغتسلت ثم أتيته فقال: ((يا أبا ذر الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك))(1).
فدل ما ذكرناه على جواز التيمم من الحدثين جميعاً، فإذا حصل التيمم بما ذكرناه فإنه يستبيح به ما كان محظوراً عليه كالصلاة المؤداة والمقضِّية ودخول المسجد وقراءة القرآن والوطء في حق الأزواج وغير ذلك.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: لا خلاف في كونه يستباح به ما كان محظوراً كما ذكرناه، وهل يكون رافعاً للحدث أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يكون رافعاً للحدث، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية والسادة الهارونيين الإمامين الأخوين وأبي العباس الحسني، وهو قول الفريقين الحنفية والشافعية، ومروي عن جلة الفقهاء.
__________
(1) هذا الحديث أخرجه أبو داؤد عن أبي ذر بلفظ: اجتمعت غنيمة عند رسول الله فقال: ((يا أبا ذر أبد فيها)) فبدوت إلى الربذة... إلى أخر الحديث، كما جاء في (الروض النضير)1/466 مع اختلاف اللفظ في: ((...فأمسسه جلدك)) مكان: ((...فامسسه بشرتك))، قال: وقال المنذري: أخرجه ايضاً الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. إ.ه. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح ولم يخرجاه
والحجة على ذلك: ما روى عمرو بن العاص عن الرسول ، قال: كنت في عزوة ذات السلاسل فاجتنبت في ليلة باردة فأشفقت على نفسي إن اغتسلت هلكت فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح فَذُكِرَ ذلك لرسول اللّه فقال: ((يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ))؟ فقلت: سمعت اللّه يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء:29]. فضحك رسول اللّه ولم يقل شيئاً.
المذهب الثاني: أنه رافع للحدث، وهذا هو المحكي عن داؤد وطبقته من أهل الظاهر، ومروي عن بعض أصحاب مالك، وحكي عن بعض الخراسانيين من أصحاب الشافعي.
والحجة لهم على ذلك: هو أنها طهارة عن حدث تستباح بها الصلاة فوجب أن تكون رافعة للحدث كالطهارة بالماء.
والمختار: ما عليه أئمة العترة ومن تابعهم من علماء الأمة وفقهاء العامة. ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم، ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روى أبو ذر الغفاري عن الرسول أنه قال: ((الصعيد الطيب وضوء المسلم ما لم يجد الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك))(1)
فلو ارتفع حدثه لكان لا وجه لوجوب إمساس بشرته للماء بعد ارتفاع حدثه.
الحجة الثانية: قياسية، وحاصلها أنه لو كان رافعاً للحدث كما زعموه لكان لا وجه لانتقاض تيممه برؤية الماء ولأنه لو كان رافعاً للحدث لوجب أن يكون حكمه حكم الطهارة بالماء في تعلقه بجميع ما يتعلق به الحدث كالوضوء والغسل فكان يلزمه استعماله في جميع الأعضاء وهو محال.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: طهارة تستباح بها الصلاة فوجب رفعها للحدث كالطهارة بالماء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فبالفرق وهو أن المعنى في الأصل، طهارة الماء شاملة لمحل الحدث وغيره كالوضوء والغسل بخلاف التيمم فإنه ليس واقعاً إلا على بعض أعضاء الطهارة فلأجل هذا لم يكن رافعاً للحدث.
__________
(1) الرواية السابقة للحديث بلفظ: ولو لم يجد الماء...إلخ، ولعلها الصواب.
وأما ثانياً: فلأن الطهارة بالماء ليس ورآها غاية في رفع الحدث بخلاف التيمم فإنه طهارة ضرورية صارت بدلاً عن الطهارة بالماء عند عدم الماء أو تعذر استعماله فلا يلزم أن يكون حكمها حكم الطهارة بالماء في رفع الحدث.
الفرع الثاني: في بيان الفوائد المستنبطة من خبر ذات السلاسل وجملتها فوائد إحدى عشرة:
الأولى: أن التيمم جائز لخوف التلف من البرد خلافاً للحسن و عطاء كما مر تقريره.
الثانية:أن التيمم يجوز للجنب خلافاً لأقوام.
الثالثة:أن الجنب إذا صلى بالتيمم في السفر فلا قضاء عليه خلافاً لقوم.
الرابعة: أن كل من تيمم لأجل البرد في السفر فلا قضاء عليه.
الخامسة: أن التيمم لا يرفع الحدث؛ لأن الرسول سماه جنباً مع علمه أنه قد تيمم، وفي هذا دلالة على أن حدث الجنابة باقٍ.
السادسة: أن المتيمم إذا كان تيممه للجنابة جاز له أن يقرأ في غير الصلاة القرآن. لأن عمراً قال: سمعت اللّه يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }[النساء:29]. ولم ينكر الرسول عليه القرائة.
السابعة: أنه يجوز للمتيمم أن يؤم المتوضين لأن أصحابه كانوا متوضين وقد قال : ((صليت بأصحابك يا عمرو وأنت جنب ))؟ فأقره على ذلك ولم ينكره عليه، على رأي من جوزه.
الثامنة: أن هذا المتلو هو كلام اللّه لأن عمراً قال سمعت اللّه يعني كلام اللّه ولم يسمع إلا هذا المتلو.
التاسعة: أنه يجوز للصحابي أن يجتهد رأيه في زمن الرسول إذا لم يكن بحضرته لأن عمراً كان غائباً عن الرسول فأداه اجتهاده إلى التيمم مع وجود الماء للعذر.
العاشرة: أنه يجوز العمل على الرأي والاجتهاد لأن ما فعله عمرو غير منصوص عليه ولكنه أخذه من جهة الرأي والاجتهاد.
الحادية عشرة: أنه يستحب للإمام أن يأمر السرايا ويجهز المغازي في سبيل اللّه تعالى؛ لأن عمراً كان في عزوة ذات السلاسل مجهزاً في سرية من أجل الجهاد ونصرة الدين وإعزاز الحوزة عن الكفر، وتحته فوائد غير هذه لا يليق ذكرها بالمقاصد الفقهية.
الفرع الثالث: وإذا تيمم عن الحدث الأصغر فإنه يستبيح به ما يستبيح بالوضوء من الصلاة والطواف بالبيت ومس المصحف على رأي من يشترط الطهارة فيهما؛لأن التيمم بمنزلة الوضوء فوجب فيه ما ذكرناه، فإن أحدث نظرت فإن كان حدثه بالإيلاج وإنزال الماء فإنه يحرم عليه ما يحرم على الجنب من قراءة القرآن ودخول المسجد والصلاة وغير ذلك لأن تيممه قد بطل كما يبطل وضوؤه، وإن كان حدثه بخروج الخارج من السبيلين وغير ذلك من نواقض الوضوء فإنه يمنعه من الصلاة و الطواف ومس المصحف على رأي من أوجب الطهارة فيهما ولا يمنعه من قراءة القرآن ودخول المسجد كما لا يمنع ذلك من انتقض وضوءه، وإن كان تيممه عن الحدث الأكبر فإنه يستبيح به ما يستبيح بالغسل كالصلاة ودخول المسجد وقراءة القرآن، فإن أحدث نظرت فإن كان بالجماع وإنزال الماء فإنه يعود عليه حكم الجنابة لأنه قد بطل تيممه بما يوجب الغسل فيجب أن يمنع مما كان ممنوعاً منه قبل تيممه الأول، وإن كان حدثه بخروج الخارج من السبيلين وهو الحدث الأصغر، فهل يعود عليه حكم الجنابة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يعود عليه حكم الجنابة بالحدث الأصغر، وهذا هو الذي يشير إليه كلام المنصور بالله؛ لأنه لما بطل تيممه بالحدث صار في الحكم كأنه لم يتيمم فلأجل هذا حرم عليه ما يحرم على الجنب من الصلاة وقراءة القرآن ودخول المسجد وحمل المصحف ومسه.
وثانيهما: أنه يستبيح به ما يستبيح بالغسل من الصلاة وقراءة القرآن وغير ذلك فإذا أحدث منع من الصلاة ولم يمنع من قراءة القرآن ودخول المسجد، وهذا هو الذي يظهر من رأي أئمة العترة وهو قول الشافعي وأصحابه من جهة أن التيمم صار كالغسل في استباحة ما ذكرناه، ولا شك أن الحدث لا يبطل الغسل فهكذا لا يبطل ما كان قائماً مقامه، وهذا هو المختار، ويدل عليه هو أن الحائض إذا تيممت لعدم الماء فإنه إذا باشرها قبل الإيلاج وإنزال المني فلا يعيده من جهة العادة خروج المذي لأجل المباشرة الفاحشة وذلك يوجب نقض الطهارة فلو كان مبطلاً للتيمم لحرم الوطء، لا يقال: فالإيلاج وإنزال الماء يوجبان الغسل ويبطلان التيمم ولا يحرمان جماع الحائض فهكذا حال الحدث يبطل التيمم ولا يحرم جماع الحائض لأنا نقول: هذا فاسد فإن التفرقة بينهما ظاهرة. فإن الإيلاج وإنزال الماء إنما يوجبان غسل الجنابة فأما غسل الحائض لأجل الحيض فلا يبطلانه ولا شك أن التيمم قائم مقامه فلهذا لم يكن باطلاً فافترقا.
الفرع الرابع: إذا تيمم للنوافل جاز أن يؤدي به ما شاء منها عند أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يختلفون في ذلك من جهة أن النوافل يكثر وقوعها ويستحب الترغيب فيها والإستكثار منها، فلو أوجبنا لكل نافلة تيمماً لكان في ذلك حرج ومشقة، وذلك يؤدي إلى قطعها والإقلال منها، وإن تيمم لأداء فريضة قضاءاً أو أداءاً بانفرادها مع نافلتها جاز ذلك عند أئمة العترة وفقهاء الأمة من غير خلاف فيه لأنها هي المقصودة فلو منعنا من تأدية فريضة واحدة مع نافلتها بالتيمم لكان في ذلك إبطال للغرض به.
وهل يجوز أن يؤدَّى بالتيمم الواحد أكثر من فريضة واحدة؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: المنع من ذلك قضاءاً كان أو أداءاً واجبة كانت على الأعيان أو على الكفاية، وعلى هذا لا يجوز أن يؤدي بتيمم واحد مؤداتين أو فائتتين ولا فائتة وفريضة الوقت ولا مكتوبة وصلاة جنازة، وهذا هو الذي نص عليه الإمامان القاسم والهادي واختاره الإمامان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب وهو رأي الصادق والباقر وزيد بن علي وهو قول الناصر في (الألفاظ) و(المختصر)، وهو محكي عن أمير المؤمنين وابن عباس وعبدالله بن عمر(1)
من الصحابة رضي اللّه عنهم، وهو مروي عن قتادة والنخعي وربيعة، وهو مروي عن الشافعي ومالك خلا أن مالك يقول: لو تيمم لركعتي الفجر فعليه أن يعيد التيمم للفرض، وروي عن الشافعي في بعض كتبه مثل ما قاله مالك.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }[المائدة: 6] ..الآية.
ووجه تقرير هذه الدلالة: هو أن ظاهر الآية يقتضي أن كل من قام إلى الصلاة فعليه الغسل لهذه الأعضاء إن كان واجداً للماء أو التيمم إذا كان عادماً له أو تعذر عليه استعماله كلما قام إليها، لكنا تركنا هذا الظاهر لما روي أن الرسول جمع بين صلوات عدة يوم الفتح بطهارة واحدة فخرج هذا من مقتضى دليل الآية وبقي التيمم على ما اقتضاه ظاهر الآية.
المذهب الثاني: أنه يجوز الجمع بين الفريضتين بالتيمم الواحد قضاءً أو أداءً، فإذا تيمم الرجل جاز أن يؤدي ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يحدث أو يتمكن من الماء، و هذا هو نص الإمام الناصر في الكبير وهو الأصح من قوليه، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((التراب طهور المؤمن ما لم يجد الماء )) ولم يفصل بين صلاة وصلاة ولأنها طهارة يجوز بها أداء النوافل الكثيرة فهكذا حال الفرائض.
__________
(1) في الأصل: وابن عمر وعبد الله بن عمر، ويبدو هذا تكراراً للعلم الواحد والله أعلم.
المذهب الثالث: محكي عن أبي ثور، وهو أنه يجوز أن يجمع بين فريضتين في وقت واحد بتيمم واحد ولا يجوز ذلك في وقتين.
والحجة على ذلك: هو أن الخطاب بتأدية الصلاة إنما يكون متوجهاً عند حضور وقتها وقبل ذلك لا معنى له فإذا دخل وقت الصلاة الأولى فهو مخاطب بتأديتها بوضوء عند إمكان الماء وبالتراب عند عدمه فإذا قام الدليل الشرعي على جواز الصلاتين المفروضتين إما مؤداتين أو مقضيتين وإما أداءاً أو قضاءاً كانا في حكم الفريضة الواحدة، فلهذا جاز تأديتهما بتيمم واحد بخلاف ما إذا كانا في وقتين فإنهما متغايرتين من جهة أن خطاب أحدهما مخالف لخطاب الأخرى فلا جرم افتقرت إلى تيمم آخر، فهذا تقرير هذه المذاهب بأدلتها.
والمختار: ما عول عليه الإمام الناصر ومن وافقه من جواز تأدية الفرائض الكثيرة والسنن بتيمم واحد إلى [أن] تعرض رؤية الماء أو ما ينقضه.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنه ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: الظواهر الشرعية من الكتاب والسنة كقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً }[المائدة:6]. وقوله في خبر أبي ذر ((الصعيد الطيب طهور المؤمن ما لم يجد الماء )). وقوله: ((التراب كافيك ولو إلى عشر حجج )) فهذه الأدلة كلها لم تفصل في مطلق الإباحة للصلاة بين فرض وفرض فدل ذلك على الجواز.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أنها طهارة تؤدى بها فريضة فجاز أن تؤدى بها فرائض كالوضوء، فحصل من مجموع ما ذكرناه أنه يجوز أن يؤدى بالتيمم الواحد جميع الفرائض والنوافل ما لم يعرض فيه عارض يبطله.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: الآية دالة على وجوب تكرير الوضوء لمن قام إلى الصلاة لكن خصصنا الوضوء بالإجماع فبقي التيمم على الأصل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إذا بطل تكرير الوضوء على من قام إلى الصلاة لأجل الإجماع وجب ذلك في حق التيمم إما بالرد إليه بجامع كونهما طهارتين فلا يفترقان في الحكم وإما لأنه لا فائدة في تكرير التيمم لأنه موضوع للإستباحة وفائدتها أنه غير ممنوع من الصلاة بعد التيمم وهذا لا فائدة في تكريره ولا وجه لتزايده لأنه سلب صرف والسلوب لا يعقل فيها تزايد.
وأما ثانياً: فلأنه إذا صلى بتيمم واحد فريضة واحدة ثم أراد صلاة العصر بعد فراغه من صلاة الظهر فلأي وجه تلزمه إعادة التيمم، هل تكون لرفع الحدث؟ فالتيمم غير رافع للحدث كما مر بيانه وأيضاً فلو رفع الحدث لكان قد رفعه بالأول فلا فائدة في تكريره مرة ثانية، وإن كان من أجل استباحة الصلاة فقد استباحها بالتيمم الأول فلا فائدة في تكرير الإستباحة، أو لزيادة الفضل كما وجب في الوضوء فهذا فاسد فإن الشرع قد ورد بتكرير الطهارة على الطهارة ولم يرد في التيمم، ثم إن تكرير الوضوء إنما كان على جهة الاستحباب وأنتم توجبونه في التيمم فلا يكون مثله، ثم نقول: لو استدللنا بالآية على ما ذهبنا إليه من كفاية التيمم الواحد لجميع الفرائض لكنا أسعد حالاً، وبيانه: هو أن اللّه تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا }[المائدة:6] هذه الأعضاء، والوضوء لأداء كل فريضة ونافلة كافٍ، ثم قال عقيب ذلك: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. فعلى هذا يكون معناه: فتيمموا لأداء كل فريضة ونافلة، وهو مقصودنا فإذا حملناه على ذلك اتسق نظام الآية وكانت جارية على جهة الإنتظام في حكم الطهارتين جميعاً في تأدية كل فريضة ونافلة بهما، ثم يقال لهم: التيمم بدل عن الوضوء بلا منازعة في ذلك ومن حكم البدل أن يكون قائماً مقام المبدل منه قياساً على سائر الأبدال والمبدلات في ذلك الحكم كما نقوله في كفارة اليمين من العتق والإطعام والكسوة، وكما نقول فيمن فعل محظوراً في حجه فإنه مخير بين النُسُك
والإطعام والصوم، وإذا كان الأمر كما قلنا وقد تقرر كون التيمم بدلا من الوضوء فكما كان الوضوء يؤدى به أكثر من فريضة واحدة فهكذا حال التيمم يؤدى به أكثر من فريضة واحدة إلا أن يعرض له ما يبطله.
قالوا: روي عن ابن عباس أنه قال: من السنة أن لا يصلى بتيمم واحد إلا فريضة واحدة ثم يتيمم للفريضة الأخرى، والسنة إذا أطلقها الصحابي فالمفهوم منها سنة الرسول .
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في كلام ابن عباس ما يشعر بالوجوب وإنما قال من السنة ولا شك أن السنة ليست دالة على الوجوب، وكلامنا إنما هو فيما يجب من ذلك.
وأما ثانياً: فلأن مستند ابن عباس في هذا الإطلاق، إما أن يكون قولاً أو فعلاً من جهة الرسول فما هذا حاله يكون مقبولاً فلا بد من بيانه لينظر فيه، ويحتمل أن يكون قوله ذلك من جهة الاجتهاد فهمه من جهة القول والفعل فلهذا أساغ له إطلاق السنة بهذا الاعتبار وإذا كان هذا ممكناً لم يلزمنا قبوله كسائر الآراء الاجتهادية من جهة الصحابة رضي اللّه عنهم وإنما يجب الإحتكام لما كان من جهة صاحب الشريعة .
قالوا: روي عن أمير المؤمنين أنه تيمم لكل صلاة وروي مثله عن ابن عمر ولا مخالف لهما في الصحابة فيجب قبوله وأن يكون حجة.
قلنا: عما ذكرتموه أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن ما نقل عن أمير المؤمنين ليس فيه دلالة على الوجوب وإنما هو حكاية فعل فعله لا ندري كيف أوقعه، ونهاية الأمر فيه أنه تيمم لكل صلاة، وما هذا حاله لا يشعر بالوجوب فلعله فعله على جهة الندب.
وأما ثانياً: فلأنه لم يحكه عن صاحب الشريعة فيكون حجة وإنما فعله على جهة الاجتهاد، والصحابي إذا فعل فعلاً لم يلزم اتباعه في الفعل، والمجتهد لا يجوز له اتباع مجتهد آخر، وإنما عليه إعمال فكره وكد قريحته في تحصيل حكم الواقعة من غير تقليد فيها لغيره.
وأما ثالثاً: فلأن كلام أمير المؤمنين إنما يعول عليه إذا روى خبراً كان خبره راجحاً على خبر غيره أو تأول تأويلاً كان تأويله أحق بالقبول من تأويل غيره من الصحابة رضي اللّه عنهم، ولا يلزم أن يكون حكمه حكم صاحب الشريعة في الإحتكام لقوله خاصة مع عدم العصمة وإن دعواها غير ممكنة في حقه لما يعرض في دلالتها من الاحتمال القوي، وعلى هذا لا يكون ما نقلوه عنه فيه حجة على ما زعموه.
قالوا: طهارة لا ترفع الحدث فلا يجوز أن يؤدى بها أكثر من فريضة واحدة مع نافلتها كطهارة المستحاضة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فنقلب عليهم ما أوردوه من القياس بأن نقول: طهارة فوجب أن يجوز الجمع فيها بين الفريضتين أو فلا يجب تجديدها لكل صلاة كالمستحاضة.
وأما ثانياً: فلأنا لو أخذنا بهذا(1)
القياس لوجب في حق المستحاضة أن لا ينتقض وضؤها لكون طهارتها أصلية لكن الشرع قد دل على انتقاض وضؤها بدخول الوقت كما سنوضح القول فيه، فلأجل هذا جاز تأديتها الفريضتين في وقت واحد، وهكذا حال المتيمم فإنه يجوز له أن يؤدي الفريضتين وأكثر في وقت واحد، وأيضاً فإنا نقول: المستحاضة مخالفة في حكمها لحكم المتيمم من وجهين:
أحدهما: أن التيمم لا يرفع الحدث بخلاف طهارة المستحاضة فإنها رافعة للحدث.
وثانيهما: أن صلاة المتيمم لا تكون إلا في آخر الوقت بخلاف المستحاضة فإنها تكون في أوله وآخره، وإذا كان مفارقاً لها لم يجز أن يقاس المتيمم على المستحاضة لافتراقهما فيما ذكرناه.
فأما ما يحكى عن أبي ثور أنه يجوز أن تؤدَّى بالتيمم فريضتان في وقت واحد ولا يجوز ذلك في وقتين فهو فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه تحكم لا مستند له.
__________
(1) في الأصل: (وأما ثانياً فلأنا لو خلينا والقياس.. وهي جملة غير مفهومة يبدو أنها نقلت خطأ. وقد أبدلناها بما تعنيه من خلال السياق، وهو جملة (فلأنا لو أخذنا بهذا القياس...) والله ولي التوفيق.
قوله: إنهما إذا كانا في وقت فهما كالفريضة الواحدة بخلاف ما إذا كانا في وقتين.
قلنا: الفريضتان في أنفسهما متغايرتان وتأديتهما في وقت واحد لا يبطل تغايرهما.
وأما ثانياً: فلأن ما جاز التأدية به فريضتين في وقت واحد جاز تأديته فريضتين في وقتين كالوضوء، فبطل ما قاله.
فأما [ما] يحكى عن الشافعي ومالك أنه إذا [أدَّى] بالتيمم نافلة فلا يجوز أن يؤدي به الفريضة بعد ذلك بل لابد من تجديد التيمم للفريضة، فوجهه أن التيمم عبادة فإذا وضعها على عبادة لم يجز أن يؤدي به عبادة أخرى، كالإحرام إذا وضعه على العمرة فلا يجوز أن يؤدي به الحج الواجب. فهو فاسد، فإن الإحرام جزء من أجزاء العبادة، بخلاف التيمم فإنه ليس جزءً من أجزاء الصلاة فافترقا، وسيأتي لهذا مزيد تقرير فيما نذكره على إثر هذا بمعونة اللّه تعالى.
الفرع الخامس: إذا تيمم للنافلة هل يجوز تأدية الفريضة به أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما:أنه تجوز تأدية الفريضة به، وهذا هو الذي يأتي على رأي الإمام المؤيد بالله وهو الذي يحكى عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أنها طهارة عن حدث أو طهارة تُراد للصلاة فلا تفتقر إلى نية تعيين الفرض كالوضوء.
وثانيهما: أنه لا تجوز تأدية الفريضة [به]، وهذا هو الذي يأتي على كلام الإمام أبي طالب وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه لم ينو بتيممه الفرض فلا يصلي به الفرض كما لو لم ينو.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله وأبو حنيفة.
والحجة على ذلك: ما قالوه ونزيد: أنه إذا تيمم للفرض صلى به النفل فهو إذا تيمم للنفل صلى به الفرض من غير مخالفة.
الانتصار: يكون بإبطال ما زعموه.
قالوا: لم ينو الفريضة بتيممه. فصار كما لو لم ينو.
قلنا: هذا فاسد لأن المعنى في الأصل أنه خال عن النية مطلقاً فلهذا لم يكن مجزياً بخلاف ما لو نوى النفل فإنه ناوٍ لا محالة، وسيأتي لهذا مزيد تقرير عند الكلام في نية التيمم وكيفية ايقاعها بمعونة اللّه تعالى.
الفرع السادس: إذا قلنا بجواز تأدية الفروض والنوافل الكثيرة بالتيمم الواحد مالم يعرض ما يبطله، فعلى هذا يجوز الجمع بين فرضين مؤديين وبين فرضين مقضيين وبين فرضين قضاء وأداء، ويجوز الجمع فيه بين صلاة واجبة وصلاة منذورة وبين صلاتين منذورتين وبين طوافين و اجبين ونفلين وبين صلاة مفروضة وركعتي الطواف، وبين طواف واجب وركعتي الطواف وبين صلاة الجنازة والصلاة المفروضة وبين صلاة العيد وصلاة الجنازة إلى غير ذلك من الفروض الواجبة المعددة؛ لأن الدليل الذي ذكرناه في جواز الجمع لم يفصل بين صورة وصورة، وقد منع من أبى تأدية الفروض الكثيرة بتيمم واحد هذه الصور كلها ولم يجوز أداءها بتيمم واحد، وهم أكثر العترة والشافعي من الفقهاء، وقد تردد في الصلاتين المنذورتين وفي تأدية ركعتي الطواف والطواف الواجب، فمرة أجازه ومرة منعه حكاهما (المسعودي) من أصحابه.
والمختار: أنه لا تفرقة بين هذه الأمور كلها في جواز تأديتها بالتيمم الواحد وقد قررنا دليله.
وإن أراد أن يصلي على جنائز متفرقة في أوقات مختلفة فإنه يصليها بتيمم واحد كما قلناه في فرائض الأعيان، وحكي عن الشافعي أنه قال: ينظر فيها فإن لم تكن الصلاة متعينة في حقه بل كانت فرض كفاية جاز له تأديتها بتيمم واحد؛ لأنها كالنافلة في حقه، ولهذا فإنه يجوز له تركها، وإن تعينت عليه فله قولان:
أحدهما: لا يجوز لأنها قد صارت فرض عين فلا يجوز تأديتها بتيمم واحد.
وثانيهما: الجواز وهو المنصوص له حكاه (ابن الصباغ) في كتابه (الشامل) وهو الصحيح على المذهب الذي اخترناه من جواز تأدية الفروض الكثيرة بتيمم وا حد، فأما النوافل فمتفق على جواز تأديتها وإن كثرت بتيمم واحد لأن أمرها على التخفيف وقد فسح الشرع في حالها بأن جوّز أدائها على الراحلة وترك القيام فيها مع القدرة عليه بخلاف الفرائض.
الفرع السابع: في حكم من نسي من صلوات اليوم والليلة وكان عادماً للماء وأراد أداءها بالتيمم أو كان زائداً على صلاة واحدة، وفي ذلك خمس صور نفصلها بمعونة اللّه تعالى:
الصورة الأولى: أن يكون المنسي صلاة واحدة من خمس في يوم وليلة ولا يعلمها بعينها فكم يلزمه من التيمم؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه يلزمه تيمم واحد، وهذا هو الذي يأتي على رأي أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأكثر أصحابه.
والحجة على ذلك: وهو الذي عليه التعويل لمذهب الشافعي، هو أن الفائت ليس إلا صلاة واحدة فلا يجب أكثر من تيمم واحد لأن وجوب ما زاد على المنسية إنما كان ليتوصل به إلى تأدية المنسية فهو كالتابع للمنسية، فلهذا لم يفتقر إلى زيادة تيمم ينفرد به.
القول الثاني: أنه يفتقر إلى تيممات خمسة، وهذا هو المحكي عن بعض أصحاب الشافعي. ووجهه: هو أن كل صلاة من الصلوات الخمس قد صارت فرضاً فلهذا وجب عليه تيممات خمسة.
والمختار: هو الأول، من أجل أن التيمم إنما يقصد من أجل الصلاة المؤداة، والفائت ليس إلا واحدة فلا جرم لم يجب إلا تيمم واحد كما قررناه.
الصورة الثانية: إذا كان المنسي صلاتين مختلفتين من صلوات اليومين والليلتين ولا يعرف أعيانهما فإذا أراد أداءها بالتيمم ففيه قولان أيضاً:
فالقول الأول: أن يتيمم لكل صلاة كما قررناه من قبل، وهذا شيء يحكى عن (الخضري) من أصحاب الشافعي.
والحجة له: ما ذكرناه أولاً.
القول الثاني: وهو الذي يأتي على رأي أئمة العترة وعليه التعويل لأكثر أصحاب الشافعي وهو الذي ارتضاه (أبو بكر الحداد) وتقرير ذلك: هو أن الفائت عليه فرضان مختلفان من يومين، وعليه ثماني صلوات مفروضات فإذا أراد الأخذ باليقين فعليه أن يتيمم ويصلي الفجر والظهر والعصر والمغرب، ثم يتيمم مرة ثانية فيصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء فإذا فعل ذلك فقد أدَّا ما عليه باليقين والباقيات نوافل، فيكون قد صلى فرضين مختلفين بتيممين فعلى أي تنزيل نُزلت المنسيتان فإنه قد أدَّى إحداهما بالتيمم الأول والثانية بالتيمم الثاني، وهذا التقرير الذي لخصناه مبني على أصلين:
أحدهما: أن التيمم الواحد لا تؤدى به أكثر من فريضة واحدة.
وثانيهما: أن الصلاتين مختلفتان وعلى هذا يكون الأمر كما حققناه، ولا بد من رعاية هذا الترتيب في تأدية الصلوات حتى يحصل تأدية المنسيتين بيقين، فإن غير هذا الترتيب بأن صلى بالتيمم الأول الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم صلى بالتيمم الثاني الصبح والظهر والعصر والمغرب لم يجز لاحتمال أن يكون عليه العشاء مع الظهر أو مع العصر أو مع المغرب فلا تحصل للفائت بيقين. وقد ذكر بعض أصحاب الشافعي أصلاً في امتحان صحة هذه الطريقة، وهو أنك تضرب المنسي في عدد المنسي منه ثم تزيد المنسي على ما صح لك من الضرب ثم تحفظ مبلغ ذلك كله ثم إنك تضرب المنسي في نفسه فما بلغ من ضربه نزعته من الجملة التي حفظتها، فما بقي من ذلك فهو عدد الصلوات التي يجب تأديتها وعدد التيمم يكون على قدر عدد المنسي، مثال ذلك في مسئلتنا هذه أن تضرب اثنين وهما عدد المنسي في خمسة وهو عدد المنسي منه فذلك يكون عشرة ثم تزيد عدد المنسي على ذلك فيصير اثنى عشر ثم تضرب اثنين في اثنين وهو المنسي في نفسه فيصير أربعة فإذا نزعت ذلك من اثني عشر بقي لك ثمانية وهي عدد ما تصلي بتيممين على قدر المنسيتين.
الصورة الثالثة: إذا كان المنسي ثلاث صلوات مختلفات من خمس صلوات، فعلى القول الأول: يتيمم لكل صلاة كما مر تقريره، وعلى القول الثاني وهو المختار للمذهب وعليه تعويل الأكثر من أصحاب الشافعي، فعلى هذا يتيمم أولاً ثم يصلي الفجر والظهر والعصر، ثم يتيمم ثانياً ويصلي الظهر والعصر والمغرب، ثم يتيمم ثالثاً فيصلي العصر والمغرب والعشاء، وإذا أردت امتحانه بتلك الطريقة فإنك تضرب ثلاثة في خمسة فيكون خمسة عشر ثم تزيد عليها ثلاثة فذلك ثمانية عشر ثم تضرب ثلاثة في ثلاثة فذلك يكون تسعة فتنزعه من ثمانية عشر فيبقى لك تسع وهو عدد ما تصلي بثلاثة تيممات.
الصورة الرابعة: أن يكون المنسي أربع صلوات مختلفات من صلاة يوم وليلة، وذلك أن يتيمم ويصلي الصبح والظهر أولاً ثم يتيمم ثانيا ويصلي الظهر والعصر ثم يتيمم ثالثاً فيصلي العصر والمغرب ثم يتيمم رابعاً ويصلي المغرب والعشاء، فإذا أردت امتحانه بما ذكرناه من تلك الطريقة فإنك تضرب أربعة في خمسة فذلك عشرون ثم إنك تزيد عليه أربعة فيجتمع لك أربعة وعشرون ثم تضرب أربعة في أربعة فذلك ستة عشر فتنزع ذلك من أربعة وعشرين فيبقى لك ثمانية وهو عدد ما يصلى من الصلوات بأربعة تيممات هذا كله إذا كان الفائت صلاتين أو ثلاثاً أو أربعاً مختلفات سواء كن من يوم وليلة أو من يومين وليلتين فهو يكون على التقرير الذي لخصناه.
الصورة الخامسة: أن يكون المنسي صلاتين متفقتين بأن تكونا فجرين أو ظهرين أو عصرين أو عشائين فإذا أراد التيمم لذلك ففيه قولان:
أحدهما: أن يتيمم عشرة تيممات على قدر الصلوات وهو المذكور عن بعض أصحاب الشافعي.
وثانيهما وهو المختار: وهو الذي عليه الأكثر من أصحاب الشافعي، هو أن الفائت صلاتان متماثلتان فعلى هذا يتيمم أولاً ثم يصلي أولاً صلاة يوم وليلة ثم يتيمم ثانياً ويصلي صلاة يوم وليلة، فإذا فعل ذلك فقد أدّا ما عليه باليقين، فإن شك هل هما متفقتان أو مختلفتان لزمه أن يأخذ بالأَسَدِّ من حالهما وهو أنهما متفقتان لأنه أغلظ حكماً والتكليف شديد، وإن غلب على ظنه أحدهما عمل عليه لأن لغلبة الظن مدخلاً في الأمور العملية فلهذا وجب التعويل عليه، فإذا لم تغلب على ظنه عمل على الأخذ بالأشق كما أشرنا إليه.
دقيقة: هذا كله ينزل على رأي من أوجب لكل فريضة من الصلوات تيمماً ومنع من تأدية الفروض الكثيرة بتيمم واحد، وهو الأكثر من أئمة العترة والشافعي فعلى هذا يكون التيمم على مقدار الفائت واحداً واثنين وثلاثة وأربعة على ما فصلنا، فأما على رأي الإمام الناصر وأبي حنيفة وهو المختار الذي قررناه فإنه يكفي في ذلك تيمم واحد سواء كان الفائت من الصلوات قليلاً أو كثيراً، ودليله قد مرَّ فأغنى عن الإعادة.
الفرع الثامن: والسنن المضافة إلى الصلاة المفروضة نحو ركعتي الظهر والفجر والمغرب، تؤدى بالتيمم المفعول للصلاة لأنها تابعة لها باتفاق القائلين بأن التيمم لا يجوز أن يؤدى به أكثر من فريضة واحدة ولا يجوز أن تؤدى به النوافل المستقلة؛ لأنها منفردة بنفسها فأشبهت الفرائض، فأما من قال بأن التيمم يجوز أن يؤدى به أكثر من فريضة واحدة كما هو رأي الناصر وأبي حنيفة [وهو] المختار عندنا: فإن النوافل يجوز أداءها به سواء كانت تابعة أو مستقلة للدليل الذي أسلفناه، فأما الوتر فهل يجوز تأديته بالتيمم المفعول للعشاء أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: الجواز وهذه هو رأي المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: هو أن الوتر لا يخرج عن كونه سنة للعشاء وإن كان مؤكداً فإذا جاز تأدية سنة الظهر بتيمم الفريضة فهكذا حال العشاء من غير تفرقة بينهما.
وثانيهما: أنه لا يجوز ذلك وهذا هو المحكي عن السيد أبي طالب.
والحجة على ذلك: هو أنها وإن كانت نافلة لكنها مستقلة بنفسها غير مضافة فجرت مجرى الفرائض فلهذا كانت محتاجة إلى تيمم على حياله.
والمختار: تفريعاً على رأي من زعم أن التيمم لا يؤدى به أكثر من فريضة واحدة، أنها مخالفة للسنن المضافة لأمور ثلاثة:
أما أولاً فلأنه قد وقع الخلاف في وجوبها بخلاف غيرها من سائر الرواتب.
وأما ثانياً: فلأنها مخالفة لها في العدد فإن الرواتب ثنائية وهذه ثلاثية.
وأما ثالثاً: فلأجل عظم الإعتناء بحالها كانت على الرسول واجبة بخلاف غيره فلما كانت مخالفة لسائر الرواتب في هذه الخصال لا جرم جرت مجرى الإستقلال فلهذا احتاجت إلى تيمم آخر غير تيمم الفريضة، فأما من قال بجواز أداء الفرائض الكثيرة بالتيمم الواحد فتأديتها أجوز لا محالة لأنه إذا جاز الفرض جاز النفل كما مر بيانه.
الفرع التاسع: وإذا اجتنب الرجل ثم نسي جنابته في سفر كان أو حضر، فكان يتيمم عند عدم الماء أو تعذر استعماله ويتوضأ عند وجوده حتى أتى على ذلك أيام ولم يذكر الجنابة فيها ثم ذكرها فاغتسل فإنه يعيد كل صلاة صلاها بالوضوء ولا يعيد ما صلى بالتيمم.
والحجة على ذلك: هو أنه إذا كان ذاكراً للجنابة فإنه لا يلزمه أكثر من التيمم فكذلك إذا كان ناسياً وليس كذلك حال الوضوء فإنه لو كان ذاكراً للجنابة وجب عليه الاغتسال والوضوء جميعاً، فيكون على هذا مخلاً بشرط من شرائط الصلاة في حال الوضوء وهو الاغتسال بخلاف التيمم فإنه لا يكون مخلاً بشيء من شرائطها فافترقا، هذا كله على رأي من أوجب عليه الإعادة مع نسيان الجنابة فأما من لم يوجب عليه الإعادة مع النسيان فلا معنى للإعادة فيهما جميعاً، وسنذكر ما يوجب الإعادة وما لا يوجبها في الصلاة بمعونة اللّه سبحانه.
الفرع العاشر: والجنب إذا أراد فعل شيء من فعل العبادات المطلقة التي لا وقت لها مقدر وعَدِمَ الماء وأراد التيمم لذلك نحو قراءة القرآن ودخول المسجد فإنه يجب عليه أن يقدر ذلك من جهة أن التيمم لا يرفع الحدث و إنما يستباح به فعل ما كان محظوراً عليه، وإذا كان الأمر فيه كما قلناه فلا بد فيه من التقدير بتفرق الحال بين ما يكون رافعاً للحدث وبين ما لا يكون رافعاً له، وتقدير ذلك يكون على وجهين:
أحدهما: أن يكون تقدير الفعل بالإضافة إليه في نفسه كأن ينوي استباحة جزء من القرآن أو ربع أو نصف أو ثلث أو للبث في المسجد حتى يقضي سبحة الضحى أو يصلي فيه ركعتين أو ركعات.
وثانيهما: أن يكون التقدير فيهما بالإضافة إلى الوقت فينوي اللبث في المسجد حتى تطلع الشمس أو يقرأ القرآن حتى تزول الشمس أو تغيب فلا بد من تقديره بما ذكرناه فإن لم يكن اللبث مقدراً بما ذكرناه، فهل يكون جائزاً أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أن ذلك غير جائز وهذا هو الذي يأتي على رأي من منع تأدية الفروض الكثيرة بالتيمم الواحد.
والحجة على ذلك هي: أنه غير رافع للحدث، وإذا كان غير رافع له كان قاصراً فلأجل هذا وجب ما يستباح به مقدراً ليكون منحصراً.
قال الإمام القاسم بن إبراهيم: لا بأس للمتيمم أن يأخذ المصحف ويقرأ فيه جزءاً من القرآن، يعني به إذا تيمم لذلك، ولم يكن قد صلى بعد، فإن كان قد صلى لم يجز له ذلك، وهذه إشارة إلى أن وجه المنع أنما كان من أجل كونه غير رافع للحدث فمن أجل ذلك وجب قصره على أمر مقدر محدود لا يتجاوزه.
وثانيهما: أن ذلك جائز وهذا هو الذي يأتي على رأي من قال بجواز تأدية الفروض الكثيرة والسنن بالتيمم الواحد كما هو رأي الناصر وهو قول أبي حنيفة لأنه إذا جاز تأدية الفروض الكثيرة لم يكن منحصراً فلهذا جاز فيه ما ذكرناه.
الفرع الحادي عشر: ومن حبس في موضع فلم يجد ماء ولا تراباً، أو وجد تراباً نجساً، فهل يصلي على الحال التي هو عليها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه تجب عليه الصلاة من غير ماء ولا تراب إذا كانا متعذرين، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية لا يختلفون في ذلك وهو محكي عن الشافعي وأبي يوسف.
قال الهادي في (الأحكام) و(المنتخب): ومن عدم الماء والتراب فإنه يصلي على الحال التي هو عليها.
والحجة على ذلك: قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ }[الإسراء:78]. وقال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]. وقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا }[النساء:103]. فهذه الظواهر كلها دالة على وجوب تأدية الصلاة ولم يفصل بين حالة وحالة، فيجب تناولها لما ذكرناه.
والحجة الثانية:ما روي عن الرسول أنه قال:((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم )) وما روي عن النبي أنه قال:((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماءً)) ولم يفصل بين حال وحال فهذه الآيات والأخبار كلها دالة على وجوب تأدية الصلاة على كل حال إلا ما خصته دلالة شرعية.
المذهب الثاني: أنه لا تجوز له الصلاة على هذه الحالة وهذا هو رأي أبي حنيفة ومحمد،ومحكي عن داؤد وطبقته من أهل الظاهر.
وعن مالك روايتان:
إحداهما:مثل مذهبنا.
والثانية:مثل رواية أبي حنيفة.
والحجة لهم على ذلك:هو أن هذه صلاة بغير طهارة فلا يكون مأموراً بها كصلاة الحائض والنفساء.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روي عن الرسول أنه أمر أسيد بن حضير (1)
وناساً معه في طلب قلادة أضلتها عائشة يوم المريسيع فلما حضرت الصلاة ولا ماء معهم، فصلوا بغير طهارة فأتوا النبي فأخبروه بذلك فنزلت آية التيمم، ولم ينكر عليهم الرسول ما فعلوه فدل ذلك على أنه هو المتوجه عليهم.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنه تطهير واجب فالعجز عنه لا يبيح ترك الصلاة كما لو كان بعض أعضائه جريحاً.
ووجه آخر: وهو أن الصلاة لا تسقط عن المكلف بتعذر شرط من شروطها كتعذر ستر العورة وإزالة النجاسة وغيرهما من الشروط.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا:صلاة بغير طهارة فلا يكون مأموراً بها كصلاة الحائض.
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً:فلأن حدث الحائض متصل ولانقطاعه غاية فلهذا لم تجز الصلاة منها قبل انقطاعه.
وأما ثانياً:فهو أن التفرقة بينهما ظاهرة فإن الحائض ممنوعة من الصلاة بدليل قوله:((دعي الصلاة أيام أقرائك)). بخلاف ما نحن فيه فإنه ليس ممنوعاً من الصلاة فافترقا.
قالوا: لو كان ما يأتي به صلاة لم يؤمر بإعادتها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم كونه واجباً عليه الإعادة كما سنوضح القول فيه بدليل قوله : ((لا ظهران في يوم )).
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا كونه مأموراً بالإعادة فهو منقوض بالحجة الفاسدة، فإنه مأمور بإتمامها ومع ذلك فإنه تتوجه عليه الإعادة.
__________
(1) أسيد بن الحضير بن سماك بن عتيك الأوسي، أبو يحيى، صحابي كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، مقدماً في قبيلته الأوس من أهل المدينة، ويعد من عقلاء العرب وذوي الرأي فيهم.. شهد العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار، وكان أحد النقباء الإثني عشر. وشهد أحداً وجرح سبع جراحات، وثبت مع رسول الله حين انكشف الناس عنه، وشهد الخندق والمشاهد كلها. وفي الحديث: ((نعم الرجل أسيد بن الحضير)) توفي في المدينة سنة20هم له 18 حديثاً. اه. (الأعلام1/331).
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((لا يقبل اللّه صلاة من غير طهور )).
قلنا: إنا نقول بموجب الخبر، فإنا نقول: لا يقبل اللّه صلاة بغير طهور مع التمكن منه فأما مع عدم البدل والمبدل منه فلا نتناوله، ولأن ظاهر الخبر دال على أن الصلاة غير مقبولة بالتيمم فإذا كان التيمم خارجاً بدلالة فهكذا يخرج من لا يجد ماء ولا تراباً بدلالة.
قالوا: ما يستباح بالبدل مرة وبالمبدل أخرى فلا يجوز استباحته مع عدمهما كوطء المظاهر.
قلنا: التفرقة بينهما ظاهرة من وجهين:
أما أولاً: فلأنه لا يوجد في شروط الوطء ما يستباح الوطئ مع عدمه، وفي شروط الصلاة ما تستباح الصلاة مع عدمه وهذا نحو ستر العورة وإزالة النجاسة.
وأما ثانياً: فلأنه لو التبست امرأة بنساء وأمته بإماء، فإنه لا يحل له الوطئ بخلاف الصلاة فإنه لو نسي صلاة من صلوات فإنه يجب عليه أن يصلي جميعها، فقد افترقا فيما ذكرنا، وفي هذا دلالة على أن أحدهما لا يقاس على الآخر.
الفرع الثاني عشر: إذا قلنا بوجوب الصلاة عليه وهو على تلك الحالة فهل توجه عليه الإعادة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه إن تمكن من الماء والتراب في الوقت وجبت عليه الإعادة، وإن فات الوقت وهو على حالة التعذر فلا إعادة عليه، وهذا هو رأي (الهادي) نص عليه في (الجامعين) الأحكام والمنتخب.
والحجة له على ذلك هي: أنه إذا كان الوقت باقياً فالخطاب متوجه عليه بتأدية الصلاة، وما صلى إنما كان بحكم الوقت لا غير، وأما إذا كان الوقت فائتاً فإنه لا يتوجه عليه القضاء لأن القضاء إنما يجب بخطاب جديد ولم تدل دلالة على وجوب ما هذا حاله أصلاً.
وثانيهما: أنه لا تتوجه عليه الإعادة على الإطلاق، وهذا هو رأي المؤيد بالله والشافعي وهو محكي عن أبي يوسف.
والحجة على ذلك: قوله : ((لا ظهران في يوم )) فلو أوجبنا عليه الإعادة لكان نقضاً لهذا النص.
والمختار: ما عول عليه الهادي لأنه مهما كان الوقت باقياً فالخطاب متوجه فلهذا توجهت عليه الإعادة بخلاف ما لو كان الوقت ماضياً فإنه يضعف الحكم فلا يكون مخاطباً وكيف لا وقد أدّى الصلاة الواجبة عليه على حال هو معذور فيها فأشبه ما لو أداها في حالة الصحة وعدم العذر، وإذا قلنا بأنه لا يصلي وتحرم عليه الصلاة فهل يتوجه عليه القضاء والإعادة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يجب عليه القضاء وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: قوله : ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها )). فإذا كان أداء الصلاة متوجهاً على النائم والناسي مع سقوط التكليف عنهما فلأن يجب على من هذه حاله أحق وأولى، لأنه في الحكم كأنه قد تركها عامداً، وإن كان معذوراً في تركها.
وثانيهما:أنه لا تجب عليه الإعادة ولا القضاء، وهذا هو المحكي عن داؤد وطبقته من أهل الظاهر.
والحجة لهم على ذلك: هو أنه لما كانت الصلاة من غير طهارة باطلة غير مجزية فلما كان معذوراً في ترك الطهارة لا جرم لم يكن مخاطباً بالصلاة، فلما بطل خطابه بها لم تجب الإعادة ولا القضاء لأنهما إنما يجبان على من توجه عليه الخطاب بالصلاة، وهي غير متوجهة كما قررناه.
هذا كله تفريع على رأي من منع من تأدية الصلاة لمن هذه حاله، ونحن قد أبطلنا هذه المقالة فأغنى عن إبطال ما تفرع عليها والله أعلم.
الفرع الثالث عشر: وإن انقطع دم الحائض والنفساء ولم تجد ماء ولا تراباً فحكمهما في الصلاة حكم غيرهما في وجوب الصلاة عليهما أو منعهما عنها وفي وجوب الإعادة والقضاء كما مر بيانه من قبل. وهل يجوز وطئها أم لا؟
أحدهما: أنه لا يجوز الوطئ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}[البقرة:222] فشرط في جواز الإتيان الطهارة والتطهر ولم يفصل هناك بين حالة وحالة.
وثانيهما: جواز ذلك لأنه إذا جازت الصلاة جاز الوطئ لأن المانع من أحدهما مانع من الآخر والمبيح لأحدهما هو المبيح للآخر فلما أوجبنا عليه الصلاة على هذه الحالة ابحنا له الوطء من غير تفرقة بينهما. ويمكن نصرة الوجه الأول: بأنها لم تأت في رفع حدثها بأصل ولا بدل، فلهذا لم يبح له الوطء، ويمكن نصرة الوجه الثاني وهو الأقوى: بأن الأصل من الماء والبدل من التراب إنما يؤمر بهما إذا كانا ممكنين فأما إذا تعذرا فلا وجه للأمر بهما، والأصل هو الإباحة للوطء في حق الأزواج إلا لمانع، ورفع المانع إنما يكون متوجهاً مع الإمكان فلهذا جاز الوطء لها لا محالة من أجل احفاز(1)
حاجة الزوج. فهذا ما أردنا ذكره في صفة التراب الميمم به وما يستباح به من العبادات المؤقتة والمطلقة والله الموفق للصواب.
__________
(1) في حاشية الأصل: الإحفاز شدة الشباق، وحفزه دفعه من خلفه. اه.
---
الفصل الثالث في بيان وقته وكيفيته
وقت التيمم
أما وقته: فاعلم أن الصلاة التي يجب من أجلها التيمم لا يخلو حالها إما أن تكون مؤداة أو مقضية، فإن كانت مؤداة فالواجب على المكلف بها أن يتحرى وقتاً يغلب على ظنه أنه إذا تيمم وصلى صلاة الظهر لم يبق من غروب الشمس إلا ما يتسع لصلاة العصر وتيممها، وإذا أراد أن يصلي العصر فإنه يتحرى مرة أخرى وقتاً يغلب على ظنه أنه يصادف فراغه منها غروب الشمس، ثم إذا أراد أن يصلي المغرب فإنه يتحرى وقتاً يغلب على ظنه أنه إذا تيمم وصلى لم يبق من الوقت إلى طلوع الفجر إلا ما يتسع لصلاة العشاء الآخرة وتيممها، وإذا أراد أن يصلي العشاء الآخرة فإنه يتحرى وقتاً يغلب على ظنه أنه يصادف طلوع الفجر عند الفراغ منها، فإذا أراد أن يصلي الفجر فإنه يتحرى وقتاً يغلب على ظنه أنه يصادف فراغه منها طلوع الشمس.
وإن كانت الصلاة مقضية نحو أن تكون عليه صلوات عدة وأراد قضائها بالتيمم فإنه يتحرى وقتاً يغلب على ظنه أنه إذا تيمم وصلى الصلوات المقضية لم يبق من الوقت إلا ما يتسع للصلاة المؤداة وتيممها.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: هل يجوز التيمم للصلاة المؤداة قبل دخول الوقت أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجوز التيمم للصلاة المفروضة قبل دخول وقتها وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية والهارونية لا يختلفون في ذلك، وهو محكي عن الشافعي ومالك وداؤد من أهل الظاهر وروي عن أحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: هو أنها طهارة ضرورية سبقت وقت الفريضة فأشهبت طهارة المستحاضة للطهر قبل دخول وقته.
المذهب الثاني: أن ذلك جائز وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنها طهارة فجاز أن تكون متقدمة على وقت الصلاة كالوضوء.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من امتناع التيمم قبل دخول وقت الصلاة.
والحجة على ذلك: ما حكيناه عنهم، ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا " } إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[المائدة:6].
ووجه الحجة من الآية: هو أن اللّه تعالى أجاز التيمم للقائم إلى الصلاة، وإنما يصح القيام إليها بعد دخول وقتها وأما الطهارة بالماء فظاهر الآية دال على أنه غير جائز قبل دخول الوقت لكنا تركنا هذا الظاهر للسنة والإجماع وبقي التيمم على ظاهر الآية في المنع من ذلك.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أنه تيمم لصلاة في وقت هو مستغن عن التيمم فيه فلم يكن صحيحاً ولا منعقداً كما لو تيمم مع وجود الماء.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا: طهارة فجاز تقدمها على الوقت كالوضوء.
قلنا: عن هذا جوبان:
أما أولاً: فلأن الوضوء طهارة كاملة تفعل على جهة الرفاهية، والتيمم طهارة ناقصة ضرورية فلأجل هذا جاز الوضوء في كل وقت بخلاف التيمم، وإنما قلنا أنها ضرورية فلأنها لا تجوز إلا عند عدم الماء أو تعذر استعماله ولا تجوز من غير ضرورة كأكل الميتة.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل أنها طهارة رافعة للحدث بخلاف التيمم فإنه غير رافع الحدث فلأجل هذا لم يجز قبل دخول وقت الصلاة.
قالوا: أوجب اللّه الطهارة بالماء على كل من قام إلى الصلاة محدثاً، فإن لم يكن واجداً للماء فإنه يتيمم، في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا " } إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[المائدة:6] وهما طهارتان فإذا جاز فعل طهارة الماء قبل دخول الوقت جاز في الثانية لاستوائهما جميعاً في كونهما مفعولين للصلاة وهذا هو مقصودنا.
قلنا: تعويلكم في الدلالة هل كان على ظاهر الآية أو على القياس؟ فإن كان مأخوذاً من ظاهرها فهو فاسد لأنه يكون حجة لنا من جهة أن ظاهرها يقضي بأن لا يجب القيام إلى الصلاة إلا حين وقتها فبقي التيمم على الأصل وخرج الوضوء بالدلالة كما مر بيانه، وإن كان مأخوذاً من جهة القياس فهو باطل أيضاً بجامع كونهما طهارتين فإن التفرقة بينهما ظاهرة من جهة أن الوضوء يرفع الحدث بخلاف التيمم فإنه غير رافع له فلهذا بطل فعله في غير وقت الصلاة.
الفرع الثاني: إذا كان الفعل للتيمم لا يجوز إلا بعد دخول وقتها، فهل يجوز فعله في أول الوقت أو لا يفعل إلا في آخره؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجوز فعله إلا في آخر وقت الصلاة، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية وهو رأي السادة الهارونيين المؤيد بالله وأبي طالب وأبي العباس، وهو محكي عن الحسن البصري وعطاء وابن سيرين.
والحجة على ذلك:قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا " } ثم قال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[المائدة:6].
ووجه تقرير الدلالة من الآية، هو أن اللّه تعالى أمر بالوضوء للواجد ثم بالتيمم للعادم بدلاً منه، وقد تقرر أن الأمر إذا ورد بشيء على طريقة البدل لأجل العجز عن مبدله فالعدول عنه إلى البدل لا يجوز إلا عند اليأس منه، وهذا لا يكون إلا عند تضَيُّق الوقت وخشية فوت الفرض فلأجل ذلك وجب أن يكون في آخر الوقت.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أن التيمم بدل لا قربة في الجمع بينه وبين المبدل فوجب أن لا يجوز الإنتقال إليه إلا بعد اليأس من المبدل كالمعتدة بالأشهر.
وقولنا: لا قربة في الجمع بينه وبين المبدل، نحترز به عن الكفارات فإنها وإن كان كل واحد منها بدلاً عن الأخر لكن القربة شاملة لها أجمع فلهذا جاز الإتيان بكل واحد منها مع القدرة على الآخر وإمكانه.
المذهب الثاني: أنه لا يجب تأخيره إلى آخر الوقت، وهذا هو قول الفريقين من الحنفية والشافعية.
والحجة على ذلك: قوله تعالى في آية الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا}. ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[المائدة:6]. والخطاب بهما واحد فإذا جاز أن تكون الطهارة بالماء في أول الوقت جاز ذلك في طهارة التيمم لأنهما مستويتان في تأدية الصلاة فيجب استواؤهما في جواز تأديتها بهما في أول وقتها وهذا هو مطلوبنا.
الحجة الثانية: قياسية. وهو أنها طهارة تراد من أجل الصلاة أو طهارة موجبها في غير محل موجبها فجاز فعلها في أول الوقت كالطهارة بالماء.
وقولنا: موجبها في غير محل موجبها نحترز به عن طهارة النجاسة فإنها لا توقيت فيها.
والمختار: جواز فعل التيمم في أول الوقت كما هو رأي الفقهاء، ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم ونزيد ههنا حججاً ثلاثاً:
الحجة الأولى:قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ " }[الإسراء:78].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن اللّه تعالى أمرنا بإقامة الصلاة عند زوال الشمس الذي هو الدلوك ولم يفصل هناك بين من يكون متطهراً بالماء أو متطهراً بالتراب، فيجب حمل الآية على صلاحية الوقت كله من أوله إلى آخره للأداء للمتيمم والمتوضي.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء:103].
ووجه تقرير الدلالة من هذه الآية: هو أن الآية مصرحة على كونها مكتوبة أي مفروضة وأنها مؤقتة أيضاً بأوقات مخصوصة وقد دل الشرع على أن تلك الأوقات موسعة ومضيقة ولها أول وآخر ولم يفصل هناك بين ما يكون من الصلاة مؤدى بالماء وبين ما يكون مؤدى بالتيمم، فيجب القضاء بكونها شاملة للأمرين في صحة تأديتهما جميعاً بالتيمم والوضوء في أول الوقت إذ لا وجه للتخصيص من غير دلالة.
الحجة الثالثة: هو ما ورد من الأخبار النبوية في التيمم كقوله : ((التراب طهور المؤمن حتى يجد الماء " )). وقوله : ((الصعيد الطيب وضوء المؤمن ما لم يجد الماء " )). وقوله : ((التراب كافيك ولو إلى عشر حجج)) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في التيمم.
ووجه تقرير الدلالة منها: أنها وردت مطلقة في صحة تأدية الصلاة عند عدم الماء بالتراب ولم تفصل بين أول الوقت وآخره، وفي هذا دلالة على جواز التأدية بالتيمم في أول الوقت وآخره، ثم نقول: طهارة تقصد للصلاة، فكان أول الوقت كآخره في جواز فعلها كالوضوء، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه: أنه لو كان الأمر كما زعموه من أن التيمم طهارة بدلية فلا يجوز الإتيان بها إلا بعد اليأس من المبدل منه لوجب في حق العليل الذي لا يرجو زوال علته أن يتيمم في أول الوقت لأنه حال الإياس(1) فهذا يبطل ما قالوه من تعليل التأخير باليأس فإذا جاز التقديم للآيس من البُرء جاز في العادم للماء، إذ لا قائل بالتفرقة بينهما.
لا يقال: إنما ذكرتموه من جواز تقديم الفرض للعليل الأيس من البُرء يكون مخالفاً لما انعقد عليه الإجماع من العترة على وجوب التأخير لمن هذه حاله فيجب رده.
لأنا نقول: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه لا نص لأئمة العترة فيما ذكرناه فلا يعقل إجماعهم فيما لم يخوضوا فيه لأنه لا ينسب إلى ساكت قول فلا وجه لدعوى الإجماع.
__________
(1) الإياس هنا: من أيس، وهو فعل دخل عليه القلب كما يقول اللغويون، والأصل فيه يئس، بتقديم الياء كما هو في القرآن الكريم {أُولَئكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِيْ} وقد أوردها المؤلف في السطر نفسه على الأصل.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا وقوع الإجماع منهم، لكنه منقول بالآحاد فلا يكون قاطعاً. والمسألة لا شك في كونها اجتهادية، وإ نما يجب إخراجها عن الاجتهاد إذا كان الإجماع منقولاً بالتواتر لأنا قد قررنا في الكتب الأصولية كونه قاطعاً بالبراهين الشرعية وإنما يكون محرماً للإجتهاد بهذه الشريطة.
فحصل من مجموع ما ذكرناه: جواز تقديم الفرض في أول وقته بالتيمم في كل أحواله.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالف هذه القاعدة.
قالوا: الآية في الوضوء دالة بظاهرها على وجوب الوضوء وبإيجاب التيمم على جهة البدلية وما كان بدلاً فلن يكون إلا عند الإياس من المبدل منه والإياس لا يتحقق إلا في آخر الوقت.
قلنا: الآية دالة بظاهرها وملفوظها على جواز تقديم الصلاة المفروضة المؤداة بالتيمم في أول وقتها وهي دالة بمفهومها ومعناها على وجوب تأخيرها إلى آخر وقتها، فحاصل الأمر أن ظاهرها ومعناها المقتبس منها متعارضان لكنهما إذا كانا متعارضين فالعمل على ما يحصل من ظاهرها أرجح لأمرين:
أما أولاً: فلأن ظاهر الآية مقبول معمول عليه باتفاق المسلمين بخلاف المعاني القياسية فإنه مختلف في قبولها فمنهم من قبلها ومنهم من ردها، والعمل على ما كان متفقاً عليه أولى مما كان مختلفاً فيه.
وأما ثانياً: فلأن المعاني القياسية يظهر فيها من الاحتمال ما لا يعرض في الظواهر وما كان احتماله قليلاً فهو أرجح بما كان احتماله كثيراً، فلأجل هذا كان العمل على الحاصل من ظاهر الآية، وهو أن جواز التقديم اولى من العمل على ما يحصل من معنى الآية وهو وجوب التأخير.
قالوا: التيمم بدل لا قربة في الجمع بينه وبين المبدل منه، فيجب ألا يجب الإنتقال إلى المبدل منه إلا بعد اليأس من البدل كالإعتداد بالأشهر.
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نسلم أن التيمم بدل وأن البدل لا يجوز فعله إلا بعد الإياس من المبدل منه، ولكنا نقول قد حصل الإياس في أول الوقت فإنا لا نعني بالإياس إلا أنه يغلب على الظن تعذر الماء في هذه الساعة وتعذر استعمال الماء وهذا حاصل في أول الوقت فلا جرم جاز فعله في أول الوقت.
وأما ثانياً: فلأنه إذا حصل الإياس في آخر الوقت، أليس لا بد من فعل الصلاة؟ فلا بد من بلى، وإذا كان الأمر هكذا فما قلتموه في آخر الوقت من حصول الإياس بغلبة الظن فهو مقالتنا في أول الوقت من غير تفرقة بينهما خاصة مع أن الظواهر الشرعية دالة على استحباب تأدية الصلاة في أول وقتها فإنه هو الأفضل والأولى، ولم تفصل تلك الأدلة بين أن تكون الصلاة مؤداة بالوضوء أو بالتيمم.
لا يقال: ولا سواء فإن في آخر الوقت قد حصل الإياس المحقق بحيث لو لم تؤدَّ الصلاة كانت فائتة بخروج وقتها بخلاف أول الوقت فإنه ما من وقت إلا ويمكن بُرء العلة ووجود الماء[فيه] فلهذا لم يجز تأديتها في أول وقتها لما ذكرناه، لأنا نقول هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فما برهانكم على أن الإياس إنما يكون بحيث لو لم تؤدَّ الصلاة وإلا فاتت، ولم لا يجوز أن يكون الإياس هو غلبة الظن على عدم [وجود] الماء في الوقت وتعذر استعماله في الوقت وهذا كاف في جواز استعمال التيمم من غير حاجة إلى ما ذكروه لأنه لم تدل عليه دلالة شرعية.
وأما ثانياً: فكان يلزم علىتعليلكم هذا أنه إذا يئس من برء علته أو كان يعلم أنه لا يجد الماء في آخر الوقت أنه يجوز له التقديم في أول الوقت وأنتم لا تقولون به، فبطل ما قلتموه من التعليل.
قالوا: طهارة فلا يجوز أداؤها إلا في حال الضرورة كطهارة المستحاضة.
قلنا: نقلب هذا القياس عليهم، ونقول: طهارة فيجوز أداؤها في أول الوقت، دليله: طهارة المستحاضة.
ومن وجه آخر: وهو أن طهارة المستحاضة طهارة أصلية وهذه طهارة بدلية على زعمكم فلا يجوز قياس أحدهما على الآخر.
قالوا: عبادة بدنية أبيحت لأجل الضرورة فلا يجوز فعلها إلا بعد الضرورة كصلاة المريض.
قلنا: وهذا يبطل أيضاً بالقلب المصرح به، فإنا نقول: عبادة بدنية فيجوز أدائها في الأول من أوقاتها، دليله: صلاة المريض، وإنما كان قلبنا هذا قلباً مصرحاً به من جهة أنه تحصيل للمراد من ظاهره وما ذكروه من القياس ليس فيه تصريح بالمراد.
قالوا:عبادة أبيحت للمعذور على وجه الرخصة وما أبيح على وجه الرخصة فلا يجوز فعله إلا عند الضرورة كأكل الميتة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فمن جهة الفرق، وهو أن ما نحن فيه عبادة مؤقتة، وما قالوه ليس من جهة العبادة فضلا عن أن يكون مؤقتاً أو مطلقاً.
وأما ثانياً: فلأنا نقول بموجب ما قالوه ونستمر على الخلاف فإن الضرورة في حق المتيمم هي عدم الماء وهذا حاصل في أول الوقت فلهذا جاز تأديته في أوله، والضرورة في حق الجائع إنما هو تدارك حشاشة نفسه عن التلف فقد قلنا بموجب قياسكم مع استمرارنا على الخلاف، وهذا يبطل ما قررتموه من القياس.
قالوا: ولأنه تيمم في حال استغنائه عنه فلا يجوز كما إذا تيمم مع وجود الماء.
قلنا: ما تريدون بقولكم: في حال استغنائه عنه؟ هل تعنون به أنه واجد للماء؟ فهذا لا نقول به وهو باطل فإن الإجماع منعقد على فساد التيمم مع وجود الماء، أو تعنون به أنه يمكنه التيمم في آخر الوقت فلا حاجة به إلى إيقاعه في أوله؟ فهذا هو الذي وقع فيه النزاع، فلم منعتم منه وما حملكم على منعه؟ ولو سلمناه لكان أول المسألة، وكيف وفيه إحراز فضيلة الوقت، أو تعنون به معنى آخر فاذكروه حتى نتكلم عليه.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين أنه قال: ((يتلوم الجنب إلى أخر الوقت " ، فإن وجد الماء وإلا تيمم وصلى))(1)
فكلامه هذا دال على إيجاب التأخير على من فرضه التيمم والباب باب عبادة فلا يقوله إلا من جهة التوقيف من جهة الرسول .
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) تقدم.
أما أولاً: فلأنه ليس في كلام أمير المؤمنين ما يدل على إيجاب التأخير فلا يكون لكم في ظاهره دلالة أصلاً.
وأما ثانياً: فلأنا نحمل كلامه على من غلب على ظنه وجود الماء في آخر الوقت فلهذا استحب له التأخير ليكون محرزاً لفضيلة الصلاة بالطهارة بالماء.
ومن وجه آخر: وهو أنه لم يقل ما قاله نقلاً عن الرسول إذ لم يصرح بالنقل عن الرسول فيلزمنا قبوله وإنما ظاهره أنه رأيه، والمسألة اجتهادية، الأراء فيها كلها صائبة فيكون لنفسه ولا يلزم غيره.
قوله: إلا أن يغلب على ظنه وضوح دليله فيتبعه للدليل الشرعي لا من أجل مقالته، ولهم أقيسة غير هذه أعرضنا عنها لقلة جدواها ومن أحاط علماً بما ذكرناه هان عليه الجواب عنها والله الموفق.
الفرع الثالث: وإذا قلنا بجواز التيمم للفريضة في أول الوقت، فهل الأفضل أن يقدم الصلاة بالتيمم أو يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها؟ فيه ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون على يقين من وجود الماء في آخر الوقت، فمن هذه حاله فالأفضل له أن يؤخر الصلاة ليصليها بالوضوء في آخر وقتها.
ووجه ذلك: هو أن الصلاة في أول الوقت فضيلة قد دل عليها الشرع بقوله: ((من أداها في أول وقتها فكأنما أهدى بدنة " ))(1) والطهارة بالماء فريضة لقوله : ((لا صلاة إلا بطهور " )). فلهذا كان مراعاة إحراز الفريضة أحق من مراعاة إحراز الفضيلة.
الحالة الثانية: أن يكون على يأس من وجود الماء بيقين فمن هذه حاله فتقديم الصلاة بالتيمم أفضل من جهة أن الظاهر من حاله أنه لا يجد الماء، وإذا كان الأمر فيه كما قلناه فإنه إذا صلى بالتيمم في أول الوقت كان محرزاً لفضيلة الوقت، وإذا صلاها في آخر وقتها بالتيمم كان قد فاته فضل الوقت وهو في كلتا الحالتين مصلّ بالتيمم كما فرضناه.
الحالة الثالثة: أن يكون راجياً من غير يقين، فمن هذه حاله ففيه وجهان:
__________
(1) سيأتي.
أحدهما: أن التأخير أفضل له من جهة أن مراعاة الفريضة وهي الطهارة بالماء، أحق من مراعاة الفضيلة وهي الصلاة في أول الوقت.
وثانيهما: وهو الأقرب، أن تقديم الصلاة في أول الوقت بالتيمم أفضل، من جهة أنها فضيلة متيقنة فلا يتركها لأمر مشكوك[فيه] وهو إحراز الفريضة بالماء لأنه ليس على يقين من وجوده.
فإن خاف فوات الجماعة لو أسبغ الوضوء، فأيهما أحق بالإيثار؟ والأقرب إن إدراك الجماعة في الصلاة أولى من الإحتباس لإسباغ الوضوء وإكماله لأنهما وإن كانا جميعاً مستحبين لكن فضيلة الجماعة آكد في الاستحباب لا محالة لما ورد فيها من التآكيد. العظيمة.
وإن حضر العشاء والصلاة فالأفضل تقديم الصلاة لأن المباح لا يساوي الأمور الواجبة والمستحبة، ولا شك أن تأدية الصلاة في أول وقتها من الأمور المؤكدة، وما روي عن الرسول من قوله: ((إذا حضر العَشَاء والعِشَاء فابدؤا بالعَشَاء " ))(1)
فإنه محمول على الجوع المشوش للخشوع في الصلاة. فلهذا كان إيثاره أفضل، فأما إذا كان الحال مستقيماً فتقديم الصلاة أفضل لما ذكرناه.
الفرع الرابع: على رأي من أوجب تأخير الصلاة بالتيمم إلى آخر وقتها.
قال الهادي في الأحكام: وقت التيمم إذا كان في ليل لمغربه وعشائه قبل طلوع الفجر أو في النهار فلظهره وعصره قبل غروب الشمس(2).
قال أبو العباس: ليس للصلاة بالتيمم إلا وقت واحد سواء كانت الصلاة مؤداة أو مقضية فمن انتهى في آخر النهار إلى آخر وقت يكون الظهر مستحقاً فيه فإن وقت العصر بالتيمم لا يكون قد دخل. قال الهادي: التيمم لا يجوز إلا في آخر الوقت. وهذا الكلام له تفسيران:
التفسير الأول منهما: أنه لا يجوز إلا في آخر النهار للظهر والعصر وأنه لا يجوز إلا في آخر الليل للمغرب والعشاء.
التفسير الثاني: أن المراد منه آخر وقت الصلاة لغير المتيمم.
__________
(1) سيأتي.
(2) ملخص من كلام الهادي في (الأحكام) ج1 ص66.
وهذان التفسيران متقاربان يؤديان فائدة واحدة، ومقصودهما أمر واحد وهو أن الصلاة بالتيمم ليست كالصلاة المؤداة بالوضوء، فإن الصلاة بالوضوء لها أول وآخر وفيها التوسيع والتضييق والكراهة والفضيلة كما سنوضحه في الأوقات المشروعة للصلاة بمعونة اللّه تعالى، بخلاف الصلاة المؤداة بالتيمم فإنه ليس لها هذه الأحوال وإنما تكون مؤداة في آخر وقتها بحيث لو أديت قبل ذلك لم تكن مجزية. وهكذا لو كانت مقضية فإنه ليس لها إلا وقت واحد وهو أن تفعل قبل الصلاة المؤداة، والتفسير الأول أدل على المقصود من التفسير الثاني لأن الأول اعتبار بوقت الصلاة نفسها، والثاني اعتبار بوقت غيرها وهي المؤداة بالوضوء.
قال أبو العباس: إذا توخا آخر الوقت ثم تيمم وصلى فإن صادف فراغه منها بقية من الوقت اجزأه ذلك التيمم ولم تلزمه الإعادة إذا لم يجد الماء وإنما لم تلزم الإعادة لأمرين:
أما أولاً: فلأنه مأمور بطلب آخر الوقت على التحري وغالب الظن دون اليقين إذ لا يكلف ما ليس في طوقه ووسعه.
وأما ثانياً: فلأنا لو أمرناه بالإعادة لم تكن تأدية المعاد إلا بتحرٍّ آخر، والاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله إذ لا مزية لأحدهما على الآخر وإنما ينقض الاجتهاد بالقطع كالنص إذا صادف الاجتهاد، وكالخبر إذا صادف القياس المظنون، فأما نقض مظنون بمثله مظنون فلا وجه له وهذا الذي قررناه من بطلان لزوم الإعادة إذا صادف المؤدي بالتيمم بقية من الوقت، هو قول الهادي والناصر والمؤيد بالله وغيرهم من أئمة العترة ممن أوجب تأخير الصلاة بالتيمم.
الفرع الخامس:اعلم أن كل ما يؤدى بالتيمم من العبادات فهو ضربان:
فالضرب الأول منهما:عبادات مؤقتة بأوقات وهذا نحو الصلوات الخمس في اليوم والليلة، ويجب تأديتها به في آخر وقتها كما قررناه من قبل ليلاً كانت أو نهاراً، ونحو صلاة الجمعة إذا كانت مؤداة من جهة الإمام والمؤتمين بالتيمم فإن وقتها في آخر الوقت للظهر في غير الجمعة وهو عند أن يصير ظل كل شيء مثله وهو أول وقت الإختيار للعصر وبعد ذلك فإنه ليس وقتا لها بحال كما سنوضحه في صلاة الجمعة بمعونة اللّه تعالى.
فإن كان الإمام متوضئاً والمؤتمون عادمون للماء فإنهم يتيممون للجمعة مع الإمام لقوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ " }[الجمعة:9] ولم يفصل بين من كان متيمماً ومن كان متوضئاً. وقوله : ((إن الله فرض عليكم الجمعة " في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا))(1). وهو متناول للمتيمم والمتوضي جميعاً من غير تفرقة بينهما ولا يجوز لهم تأخيرها مخافة أن يفوت عليهم فرضها لأن خشية الفوات لصلاة الجمعة تتيح أداؤها بالتيمم كالمنفرد في آخر الوقت فإنه لما خشي فوات الصلاة أُبيح له التيمم، وهذا يأتي كالناقض لما ذهب إليه الهادي من إيجاب التأخير فيما كان مؤدى من العبادات المؤقتة بالتيمم لأنه قد أوجب تقديم الصلاة للمتيمم في صلاة الجمعة إذا كان الإمام متوضئاً والمؤتمون متيممون.
__________
(1) سيأتي في موضعه.
ولقد كان يمكنه الجري على ما أصَّله من هذه القاعدة بأن يقول ببطلان الجمعة ويأتون بها ظهراً لأن الجمعة بدل منها من غير حاجة إلى نقض هذه القاعدة. كما أن الإمام إذا كان متيمماً وهم متوضئون فلا جمعة للإمام لأنه لا يرى إئتمام المتوضئ بالمتيمم لنقصان حاله ولا جمعة لهم أيضاً على رأيه لأن الإمام شرط في الجمعة كما نوضحه من مذهبه، فهذا ملخص ما ذكره أبو العباس تخريجاً على رأي الهادي، ولعمري إنه تخريج مخالف لنصوصه على هذه القاعدة وقد ذكر أبو العباس في التحرير هذه المسألة، وحاصل كلامه: أنه ليس لهم التيمم في أول الوقت بل تأخيرها حتى يؤدوها ظهراً لأنها بدل من الجمعة وهذا جيد لا عثار عليه جار على منهاج أصول مذهبه وقواعده، وهكذا القول في صلاة العيدين فإنها تؤدى في آخر وقتها بالتيمم فتؤدى في يوم العيدين قبل الزوال بما يتسع لركعتين لأن ذلك هو آخر وقتها في الأداء، هذا كله على رأي من يوجب التأخير في الصلاة المؤداة، فأما من لا يوجب التأخير كما هو المختار عندنا، فإنه يجوز تأدية هذه الصلوات المؤقتة في أول الوقت وآخره كما يؤديها بالماء من غير تفرقة بينهما للدليل الذي لخصناه.
الضرب الثاني: عبادات غير موقتة، وهذا نحو صلاة الجنازة والكسوفين ونحو قراءة القرآن ودخول المسجد وغير ذلك من الأمور التي تفعل بالتيمم عند عدم الماء فإنه لا يراعى في فعلها إلا وجود أسبابها من غير التفات إلى وقت هناك إذ لا وقت من جهة الشرع كما كان للضرب الأول.
الفرع السادس: وإذا تيمم الرجل لفريضة ثم فات وقتها قبل فراغه منها قبل أن يتيمم لصلاة العصر فلم يفرغ منها حتى دخل وقت المغرب أو تيمم لصلاة العشاء فلم يفرغ منها حتى طلع الفجر، وهكذا القول في سائر الصلوات فهل يبطل تيممه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن تيممه ينتقض وصلاته تبطل بفوات وقتها وهذا هو رأي القاسمية والهارونية من أئمة العترة وهو رأي الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن ما هذا حاله مبني على أن التيمم لا يجوز أن يؤدى به أكثر من فريضة، وإذا كان الأمر كما قلنا فإنه إذا فات وقت الصلاة بطلت الصلاة لبطلان وقتها وبطل التيمم لأنه إنما عقد للفريضة المؤداة وبعد فوات الوقت لا يجوز أداؤها به لأنها صارت مقضية والتيمم للقضاء مخالف للتيمم للأداء فلأجل هذا وجب ما ذكرناه.
المذهب الثاني: أنه لا ينتقض تيممه، وهذا هو الذي يأتي على رأي الناصر وأبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن من مذهبهما جواز التأدية بالتيمم أكثر من فريضة واحدة فإذا فات الوقت وهو غير واجد للماء فإنه يجوز أن يؤدي به الفائتة وعلى هذا إذا تيمم للعصر فلم يفرغ منها حتى دخل وقت المغرب جاز أن يؤدي به المغرب لأن من مذهبهما أنه لا ينتقض إلا بوجود الماء أو غيره من النواقض، وقد قررنا وجه الحجة لهذا المذهب واخترناه فأغنى عن الإعادة، وهل تبطل تلك الصلاة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تكون باطلة كما حكيناه من مذهب الهادي خرجه على أصله بعض فقهاء المذهب(1)،
من جهة أن الوقت شرط في آخر الصلاة فلما فات والمصلي لم يفرغ منها لا جرم كانت باطلة لبطلان شرطها كما لو بطلت طهارته وهو في صلاته أو انكشفت عورته فيها.
وثانيهما: أنها لا تبطل وهذا هو رأي المنصور بالله وعلي بن الخليل.
والحجة على ذلك: قوله :((من أدرك ركعة من العصر فقد أدركها " ، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدركها))(2).
وهذا هو الأقرب لأن التيمم طهارة تقصد للصلاة فلم يكن خروج الوقت مبطلاً لها كالوضوء.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
__________
(1) في حاشية الأصل: هو صاحب (الوافي) علي بن بلال رحمه الله، اه.
(2) سيأتي في الأوقات.
واعلم أنهم قد اعتمدوا في بطلان التيمم على أنه ينتقض بخروج الوقت كالمستحاضة وعلى أن التيمم لا يجوز أن يؤدى به أكثر من فريضة واحدة وهذا فاسد، فإن التيمم ليس رافعاً للحدث وإنما هو مقصود للإستباحة فيما كان محظوراً قبله ودخول الوقت لا يبطل هذه الإستباحة بل هي مستمرة على ما كانت عليه والوقت باق بخلاف المستحاضة فإن طهارتها رافعة للحدث فلا جرم انتقض بدخول الوقت لقوله :((توضئي لكل صلاة " ))(1)
فافترقا، وإن بنوه على أن التيمم لا يجوز أن يؤدى به أكثر من فريضة واحدة فهذا أصل قد مهدنا فساده وقررنا جوازه(2)
فلا مطمع في إعادته.
فتنخل من مجموع ما ذكرناه أن التيمم لا يبطل بدخول الوقت وأن الصلاة صحيحة بتأدية بعضها في الوقت وبعضها في غير الوقت كالصلاة بالوضوء، وسيأتي لهذا مزيد تقرير فيمن أدرك ركعة من الصلاة بمعونة اللّه تعالى.
الفرع السابع: اعلم أن التيمم كما أسلفنا غير رافع للحدث وإنما المقصود به هو استباحة ما كان محظوراً من دونه من العبادات التي اشْتُرِطَ فيها الطهارة، وما ورد عليه من الأمور الناقضة له فليس حدثاً في حقه وإ نما بطل من أجل زوال شرط صحته وذلك[في] أمور خمسة:
أولها: انتقاضه بالحدث الأصغر، وإنما كان ناقضاً له لأن التيمم إنما يراد من أجله فلهذا كان ناقضاً له فإذا تيمم انتقض بخروج الغائط والبول لأنهما لذاتهما مبطلان له لما وجب التيمم من أجلهما.
__________
(1) سيأتي في الحيض.
(2) في الفرع السادس من (مسألة في ما يستباح بالتيمم).
وثانيها: الحدث الأكبر، وهو خروج المني لشهوة فإنه مبطل للتيمم فإنه إذا تيمم ثم أنزل المني فإنه ناقض له كما ذكرناه في الوضوء لأن المني موجب للتيمم عند عدم الماء للصلاة، فإذا طرأ كان موجباً لنقضه وإبطاله، فحصل من هذا أن التيمم من الحدث الأصغر ينتقض بما ينتقض به الوضوء وأن التيمم من الحدث الأكبر ينتقض بالحدث الأكبر والأصغر لكنه إذا انتقض بالحدث الأكبر لم يجز له الصلاة ولا قراءة القرآن ولا دخول المسجد، وإذا انتقض بالحدث الأصغر جاز له قراءة القرآن ودخول المسجد ولا يجوز له الصلاة لأن التيمم من الحدث الأكبر بمنزلة الغسل، فلهذا كان الأمر فيه كما قررناه، والتيمم من الحدث الأصغر بمنزلة الوضوء فلهذا نقضه ينقض الوضوء.
وثالثها: رؤية الماء، يكون مبطلاً للتيمم لأن الشرط في انعقاد التيمم والشرط في كونه مبيحاً لما كان محظوراً إنما هو عدم الماء كما هو من ظاهر الآية في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا " }[النساء:43].
ورابعها: تجدد الطلب(1)
فإن الطلب شرط في إنعقاد التيمم فإذا تيمم من غير طلب لم يكن منعقداً ولم يجز أن يستباح به شيء مما كان محظوراً وإن طلب ثم تيمم ثم طلع عليه ركب قبل الصلاة انتقض تيممه(2)
__________
(1) تجدد الطلب شرط في انعقاد التيمم لا ناقضاً، ولعل المؤلف قصد أن الناقض هنا هو إذا طلع عليه ركب قبل الصلاة.
(2) في حاشية الأصل: إن تبين أن معهم ماء يتمكن من الوضوء به بشراء أو بغيره. اه.
لأنه يجوز أن يكون معهم ماء ولم يطلبه منهم فلهذا كان منتقضاً لما لم يجدد الطلب الذي هو شرط في انعقاده، وإن تيمم ثم دخل في الصلاة المكتوبة ثم رعف فإنه يجب عليه الإنصراف، فإن وجد الماء لزمه أن يغسل ما أصابه من الدم ثم يتوضأ، وإن طلب الماء فلم يجد إلا ما يغسل به الدم عنه، فإنه يبدأ بغسله عنه لأنه لا بدل له ويجب عليه أن يستأنف التيمم لأنه لما لزمه الطلب بطل تيممه الأول فلأجل هذا وجب عليه استئنافه.
وخامسها: فوات وقت الصلاة التي أداها بالتيمم ولم يفرغ منها، فإن ما هذا حاله يبطل تيممه كما تبطل طهارة المستحاضة بدخول الوقت، وهذا [هو]الذي حصله بعض فقهاء المذهب تخريجاً على رأي الهادي وقد أوضحنا القول فيه فلا فائدة في إعادته، فهذه الأمور كلها مبطلة للتيمم على رأي من لا يقول بكونه رافعاً للحدث، فأما على رأي من قال بكونه رافعاً للحدث فإنه لا ينتقض إلا بما كان ينقض الوضوء لا غير كخروج الخارج بولاً كان أو غائطاً أو منياً أو غير ذلك من النواقض التي أسلفنا تحقيقها ولا ينتقض برؤية الماء ولا بتجدد الطلب كما لا ينقض الوضوء.
الفرع الثامن: إذا تحرى وغلب على ظنه عند فعله التيمم، [أن] الوقت يتسع للتيمم وأداء الفريضة ثم لما فرغ من التيمم غلب على ظنه أنه يتسع لأكثر من ذلك قبل فعله للصلاة، فهل يصح تيممه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن تيممه صحيح ولا يبطل بغلبة الظن بما ذكرناه.
والحجة على ذلك: هو أن التيمم عبادة فُعِلت على جهة التحري فلا تبطل بمخالفة التحري كالصلاة.
وثانيهما: أنه يكون باطلاً.
والحجة على ذلك: هو أن من شرط صحة التيمم أن يكون في آخر الوقت فإذا تحرى وغلب على ظنه أنه يتسع لأكثر من أداء الفريضة كان التيمم واقعاً على فساد كما لو وقع في أول الوقت.
والمختار: هو الأول لأن فعل التيمم إنما تكون تأديته بالتحري فلو أبطلناه بتحرٍ على مخالفته لكان في ذلك نقض للإجتهاد بمثله وهذا محال إذ ليس أحدهما بأحق بالفساد من الآخر فيجب القضاء بصحة التحري الأول ولا ينقضه انكشافه على مخالفته، وإذا قضينا بصحة التيمم أدى به الصلاة في آخر الوقت وكان عليه التربص حتى يغلب على ظنه تأدية الصلاة في آخر وقتها كما مر بيانه، هذا كله تفريع على رأي من يوجب تأخير التيمم للصلاة، فأما على رأي من يقضي بجواز التيمم للصلاة في أول وقتها فإنه لا يفتقر إلى تحرٍ لآخر الوقت فضلاً عن أن يكون تحريه موافقاً أو غير موافق كما هو المختار، لا يقال: فإذا كان التيمم صحيحاً تفريعاً على رأي من أوجب تأخيره فلِمَ لا يجوز فعل الصلاة ولأي شيء ينتظر بالصلاة مع كونه صحيحا؟ لأنا نقول: التيمم ليس مقصوداً لنفسه وإنما يراد للصلاة والواجب تأخيرها في آخر وقت يغلب على ظنه، فلا جرم قضينا بصحة التيمم ووجوب تأخير الصلاة لما ذكرناه. ويمكن نصرة جانب الإبطال للتيمم بأن يقال: إنه بدل وفعل التيمم لا يكون إلا مع الإياس وبعد الإنكشاف إن في الوقت بقية لا يكون آيساً عن وجود الماء فلأجل هذا قضينا ببطلانه واستئناف تيمم آخرتؤدى به الصلاة.
الفرع التاسع: والجنب والمحدث إذا وجدا الماء وخافا أنهما لو استعملاه في الوضوء والغسل فاتهما وقت الصلاة، أو كان هاهنا جماعة معهم دلوٌ ينزحون به الماء وخاف بعضهم فوت الوقت حتى تنتهي إليه النوبة، أو جماعة معهم حبل يتداولونه للنزح فخاف بعضهم فوت الوقت لو صبر إلى نوبته، فهذه الصور كلها وماشاكلها هل يجب عليه الصبر حتى تأتي نوبته فيصلي بالطهارة بالماء أو يتيمم؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يصبر حتى تأتي نوبته ولا يجوز له التيمم، وهذا هو رأي الإمامين الهادي والمؤيدم بالله. وهو الأصح من قول الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا " }[النساء:43] فالإباحة للتيمم إنما هي بشرط عدم الماء ومن هذه حاله فإنه واجد فلا يجوز له التيمم بحال.
المذهب الثاني: أنه إذا خاف فوات الصلاة عند اشتغاله بالوضوء والغسل تيمم، وهذا هو الذي كان يذهب إليه أحمد بن يحيى وهو محكي عن الشافعي في بعض مسائله. قال أحمد بن يحيى: فإن استيقظ قرب طلوع الشمس جُنباً تيمم وصلى وأعادها بعد الغسل.
والحجة على ذلك: هو أن الوضوء والغسل ليسا مقصودين وإنما هما وُصلتان إلى العبادة والمقصود هو الصلاة فإذا كانت الصلاة فائتة عند الإشتغال بالوضوء والغسل وكان المقصود يحصل بالتيمم، لا جرم وجب التيمم لما ذكرناه.
والمختار: ما عول عليه الإمامان الهادي والمؤيد بالله.
والحجة: ما قالاه، ونزيد ههنا وهو: أن الظواهر الشرعية والأحاديث النبوية كلها مشعرة بأن التيمم لا يجوز إلا عند عدم الماء فلأجل ذلك قضينا بأنه لا يجوز التيمم مع وجود الماء.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا: المقصود هو العبادة دون الوضوء والغسل وهي حاصلة بالتيمم دون الطهارة بالماء فلهذا وجب التيمم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن المقصود هو العبادة وحدها وإنما المقصود الوضوء مع الصلاة والغسل مع الصلاة فلا وجه لقولكم إن المقصود هو العبادة وحدها.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن العبادة هي المقصودة وحدها وأن الوضوء والغسل وصلتان إليها لكنا نقول إن الشرع قد دل بظاهره على أن الشرط في استعمال التراب إنما هو عدم الماء فأما مع وجوده فلا وجه له، وفي هذه المسألة الماء موجود فلا وجه لكونه مجزياً معه فبطل ما توهموه.
الفرع العاشر: اعلم أن العلماء متفقون على أن التيمم طهارة ضرورية، وقال الناصر: التيمم وضوء الضرورة، وأراد بكونه ضرورياً مخالفته للطهارة. وذلك يحصل من أوجه خمسة:
أولها: بالإضافة إلى اسمه وتسميته طهارة مجاز لأمرين:
أما أولاً: فمن جهة اللغة، فإن الطهارة هي النقاء عن مواقعة الغبرات والإزالة عن التضمخ بالقاذورات وليس في استعمال التراب والتلوث به طهارة ولا نقاء.
وأما ثانياً: فمن جهة الشرع، وهو عبارة عن غسل هذه الأعضاء تنظيفاً لها وتطهيراً، وهذا المعنى غير موجود في التيمم فلأجل هذا كان تسميته طهارة على جهة المجاز والضرورة.
وثانيها: بالإضافة إلى وقته، فإن وقته ضيق إما بالإضافة إلى أوله فإنه لا يجوز فعله قبل دخول الوقت بخلاف الوضوء، ولا في أوله بعد دخول الوقت على رأي من قال بذلك، وإنما يتعين وقته في آخر الوقت كما قررناه، بخلاف الوضوء فإنه يجوز فعله في كل هذه الأوقات كما مر بيانه، ولا خلاف في جواز فعل الوضوء في هذه الأوقات إلا ما يحكى عن المهدي أحمد بن الحسين " (1) فإنه ذهب إلى أنه لا يجوز فعل
__________
(1) الإمام المهدي لدين الله أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن عبد الله بن القاسم بن أحمد بن أبي البركات إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن محمد بن القاسم[الرسي] بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب. أطلق دعوته إلى الله سنة 646ه. فاستجاب له العلماء والشيعة من كثير من الأقطار، ودخل الحرمان الشريفان ضمن ولايته، وأطاعه كافة بني الحسن والحسين بالحجاز والمدينة، وبلغت دعوته الجيل والديلم، ونواحي العراق واليمن بكل علمائه، وامتثل لإمامته أئمة منهم: المتوكل على الله المطهر بن يحيى وعلي بن الحسين صاحب (اللمع) والمنصور بالله الحسن بن بدر الدين، وأخوه الأمير الحسين، وذكر السيد العلامة أبو الحسين مجدالدين بن محمد المؤيدي في كتابه: التحف شرح الزلف. تحقيق الأستاذين محمد يحيى سالم عزان وعلي أحمد محمد الرازحي. طبعة أولى سنة 1414ه/1994م ما ملخصه ورود أحاديث ودلالات على مآثر لهذا الإمام تدل على مرتبته في الفضل والعلم والعدل، لا يتسع المقام هنا للخوض في تفاصيلها. ا هص 171.
الوضوء قبل دخول وقت الصلاة ولا يجوز فعله في الأوقات المكروهة وزعم أنه عبادة كالصلاة، ولم أعرف أحداً قال بهذه المقالة قبله.
و عمدته في ذلك قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا " }[المائدة:6] ولا فائدة في القيام إلى الصلاة إلا في وقتها إذ لا حاجة في القيام إليها في غير وقتها.
والمختار: جوازه قبل دخول الوقت لقوله لمن علمه الوضوء: ((توض كما أمرك الله " )).ولم يخصه بوقت دون وقت كما خص اللّه الصلاة بالأوقات في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء:103]. وقوله :((صلوا الصلاة لوقتها " فإن ترك الصلاة عن وقتها كفر)) (1).
فخص الصلاة بالتوقيت دون الوضوء فدل ذلك على جواز ذلك في كل الأوقات، فأما قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ}. فليس الغرض بذلك القيام في وقتها وإنما قصد بذلك إذا نهضتم لتأدية الصلاة وأردتم تحصيلها فاغسلوا وجوهكم.
وثالثها: بالإضافة إلى ما تؤدى به الفريضة الواحدة ونافلتها على رأي من قال به، بخلاف الوضوء فإنه يؤدي به ما شاء من الفرائض والنوافل.
ورابعها: بالإضافة إلى ما ينقضه، فإن الطهارة الحقيقية إنما تنتقض بخروج الخارج من السبيلين وما شاكله، بخلاف التيمم فإنه ينتقض برؤية الماء وتجدد الطلب فلهذا قضينا بكونه ضرورياً.
وخامسها: بالإضافة إلى كيفية تأثيره، فإنه إنما يراد لإباحة ما كان محظوراً ولا يكون رافعاً للحدث، بخلاف غيره من الطهارات فإنه رافع للحدث. فهذه الأمور الخمسة كلها دالة على كونه ضرورياً في التطهير وقد تم غرضنا فيما يتعلق بوقت التيمم بمعونة اللّه تعالى.
__________
(1) سيأتي.
---
كيفية التيمم
وأما كيفية التيمم: فاعلم أن كل من أراد التيمم فإنه يقصد إلى التراب الطاهر فيضرب بيديه عليه مصفوفتين ويفرج بين أصابعه ثم يرفعهما وينفضهما ثم يمسح بهما وجهه مسحاً غامراً ويدخل إبهاميه تحت غابته(1)
تخليلاً للحية إن كانت، ثم يضرب بهما ضربة أخرى فيمسح يمينه من ظاهرها من عند الأظفار بيده اليسرى فيمرها عليه إلى المرفق وراحته محفوظة لم يمسح بها ثم يقلب راحته على باطنها فيمرها على إبهامه فيمسح جميع ذلك، ثم يمسح بيده اليمنى يده اليسرى فيمرها عليها إلى المرفق وراحته محفوظة لم يمسح بها، ثم يقلب راحته على باطنها فيمرها إلى إبهامه ويمسح جميع ذلك.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: إذا بقيت لمعة من الوجه أو من اليدين لم يمر عليها التراب فهل يجزيه التيمم أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجزيه وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية والهارونية، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنها طهارة تراد للصلاة فيجب فيها إتمام وظيفتها كالوضوء.
المذهب الثاني: أنه إذا مسح أكثر وجهه أجزأه، وهذا هو الذي حكاه الحسن بن زياد (2) عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أنه إذا مسح أكثر العضو كان مندرجاً تحت قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ }[المائدة: 6]. من جهة أن الباء تقتضي التبعيض فإذا مسح بعض الوجه الأكثر منه كان ماسحاً.
__________
(1) في حاشية الأصل: الغابة باطن اللحية، ويستحب لمن توضأ نضحها ثلاثاً بعد فراغه؛ لأنه لم يكن يتركه، ذكره الصادق جعفر بن محمد الباقر ×. ا ه.
(2) الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي، أبو علي، قاض، فقيه، من أصحاب أبي حنيفة، أخذ عنه وسمع منه، وكان عالماً بمذهبه بالرأي، ولي القضاء بالكوفة سنة 194ه، ثم استعفى، من كتبه: (أدب القاضي) و(معاني الإيمان) و(النفقات) و(الخراج) وغيرها، نزل بغداد، وعلماء الحديث يطعنون في روايته. (الأعلام) 2/191.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة والشافعي من وجوب التعميم في المسح في العضوين لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ " }[المائدة:6]. والباء للإلصاق، وظاهره دال على وجوب الإلصاق بالتراب في جميع العضو.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمده أبو حنيفة وأصحابه.
قالوا: إذا مسح أكثر العضو كان ماسحاً له.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن أكثر العضو لا يقوم مقام جميعه كما قلناه في الوضوء.
وأما ثانياً: فلأن معنى الباء للإلصاق وهذا فيه دلالة على وجوب اتصال كل العضوين جميعاً.
قولهم: الباء للتبعيض.
قلنا: هذا فاسد فإن هذا غير مأثور عن أئمة العربية أعني: كونها للبعضية، وإنما المأثور عنهم كونها للإلصاق ولم ترد للتبعيض مشعرة بالبعضية لا في منظوم ولا منثور، وإنما يؤخذ معنى البعضية من دلالة أخرى كقولهم: مسحت يدي بالمنديل. فإن القرينة دالة على البعضية وهو أن الغرض[وهو] إزالة ما في اليد من الأثر حاصل ببعض المنديل لا بكله فلهذا كان مأخوذاً من القرينة لا غير.
قال أبو الفتح ابن جني: وكون الباء دالة على البعضية فشيء لا يعرفه أهل اللغة. وقد مر الكلام على شيء من استدلاله(1)
بالآية على مسح بعض الرأس فأغنى عن تكريره.
الفرع الثاني: وإذا أمر غيره فيممه ونوى عند ذلك أجزأه عند أئمة العترة وهو المنصوص عن الشافعي، ونقل البغداديون عن ابن القاص من أصحابه: أنه لا يجزيه لأن قوله تعالى: {فَامْسَحُوْا} خطاب للمكلفين بفعل التيمم، وقال المسعودي: إذا يممه غيره فإن كان لعجز صَحَّ ذلك لأجل العذر وإن كان لغير عجز فوجهان.
والحجة على ما قاله علماء العترة، وهو المختار: هو أنه طهارة تقصد للصلاة فجاز فيها دخول النيابة كالوضوء.
__________
(1) أي: استدلال أبي حنيفة.
وإذا تمخر الريح فعمد إلى بعض مهابها فسفت عليه تراباً ناعماً فأمَرَّ يده ونوى به التيمم أجزأه ذلك عند أئمة العترة، وهو محكي عن أبي حامد الإسفرائيني من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه قد أتى بصفة التيمم فيجب الحكم بإجزائه كما لو قعد تحت المطر وغسل أعضاءه للوضوء. ونص الشافعي في (الأم) على أنه لا يجزيه، وحمله بعض أصحابه على أن التراب غير واصل إلى جميع أعضاء الوضوء، فإن أدنى بوجهه من الأرض وتمعك في التراب فحصل الغبار في أعضاء التيمم ونوى به التيمم أجزأه ذلك، وعن بعض أصحاب الشافعي أنه لا يجزيه.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود من التيمم هو حصول الغبار في وجهه ويديه وهذا حاصل بما ذكرناه فيجب كونه مجزياً.
الفرع الثالث: وهل يضرب بيده على التراب أو يضعهما عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يضرب بيديه على التراب ضرباً رفيقاً، وهذا هو الذي أشار إليه الإمامان الهادي في (الأحكام) والناصر في (الإبانة) لأنهما قالا: ويضرب على التراب بيديه، وهو الذي حكاه المزني عن الشافعي.
والحجة على ذلك: ما في حديث عمار أنه قال: أصابتني جنابة فتمعكت فأتيت رسول اللّه فذكرت ذلك له فقال: ((إنما يكفيك أن تفعل هكذا وضرب بيده الأرض " ))(1).
__________
(1) تمام الحديث: ((ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك)) أخرجه البخاري ومسلم، وهو عن عبد الرحمن بن أبزي أن رجلاً أتى عمر فقال: إني أجنبت ولم أجد ماءً، فقال: لا تصل، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأصابتنا جنابة فلم نجد ماءً، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت. فقال رسول الله : الحديث، فقال عمر: اتق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أحدث به، فقال عمر: إتق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أحدث به، فقال عمر: نوليك ما توليت، وفيه رواية أخرى لأبي داؤد أوردها في هامش البحر-جواهر- 1/140.
وثانيهما: أن يضعهما على التراب من غير ضرب وهذا هو المأثور عن الشافعي في بعض كتبه.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عمر رضي اللّه عنهما عن الرسول أنه أقبل من الغائط فلقيه رجل عند بئر جمل(1)
فسلم عليه فلم يرد عليه رسول اللّه حتى أقبل على الحائط فوضع يده على الحائط ثم مسح بهما وجهه ويديه ثم رد على الرجل السلام ثم قال: ((إنه لم يمنعني من رد السلام عليك إلا أني لم أكن على طهر " )) (2).
فقال: وضع يديه ولم يقل: ضرب بهما(3).
والمختار: فيه تفصيل، وهو أن يقال: إن كان التراب ناعماً دقيقاً فإنه لا يحتاج إلى الضرب بهما بل يضعهما على التراب وضعاً رفيقاً من جهة أن التراب إذا كان دقيقاً ناعماً فإنه يعلق بالكفين من غير ضرب، وأما إذا كان غير ناعم فإنه يفتقر إلى الضرب بهما ليطلع الغبار ويعلق، والأمر في ذلك قريب وقد ورد الأمران عن الرسول وأكثر الأخبار كلها واردة في التيمم بالضرب باليدين ولم يرد بالوضع من غير ضرب إلا ما حكيناه من حديث ابن عمر، ولهذا عول عليه الإمامان كما رويناه.
الفرع الرابع: وهل يفرِّج بين أصابعه عند الضرب أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يفرِّج بين الأصابع، وهذا هو الذي نص عليه الإمامان الهادي والناصر لأنهما قالا في صفة التيمم: ويُفرِّجُ بين أصابعه.
والحجة على ذلك: هو أنه إذا فرج بين أصابعه كان أقرب إلى دخول التراب في خللهما لئلاَّ يخلو موضع من يديه من الغبار وهو المذكور عن الشافعي.
وثانيهما: أنه لا يحتاج التفريج بين أصابعه، وهو الذي حكاه المسعودي من أصحاب الشافعي.
__________
(1) جاء في معجم البلدان: بئر جمل، بالجيم بلفظ الجمل من الإبل. موضع بالمدينة في مال من أموالها، اهج1ص299.
(2) تقدم الحديث.
(3) بل جاء في رواية أبي داؤد للحديث السابق: ((ضرب... ثم ضرب ضربة أخرى...)) وقد تقدم في السبب السادس للتيمم.
والحجة على ذلك:هو أنه إذا فرجهما دخل الغبار بين أصابعه فيكون ماسحاً لجزء من يديه قبل وجهه فلهذا ترك حذراً من ذلك.
والمختار عندنا: أنه لا يحتاج إلى التفريج بين أصابعه لأنه لم يذكر في شيء من الأحاديث الواردة في التيمم تفريج الأصابع، فلهذا كان الأحق وضعهما على التراب على شكل الحلقة من غير ضم الأصابع ولا تفريق بينهما لأن الغرض المقصود حاصل بما ذكرناه من غير ضم ولا تفريج، وهو أن يعلق الغبار بهما.
الفرع الخامس: وهل ينفخ يديه عند رفعهما قبل أن يمسح بهما وجهه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه ينفخ، وهو الذي أشار إليه الإمام الهادي في (الأحكام).
والحجة على ذلك: ما في حديث عمار حين علمه التيمم فقال له: ((إنما يكفيك هكذا )) وضرب بيديه على الأرض ونفخهما ثم مسح بهما وجهه.
وثانيهما:أنه لا يحتاج إلى النفخ، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام الناصر في (الإبانة) فإنه لم يذكر النفخ.
والحجة على ذلك: ما في حديث عمار، أنه لما أنزل اللّه الرخصة التطهير بالصعيد الطيب فأمر المسلمين فضربوا بأيديهم الأرض ورفعوا أيديهم إلى وجوههم ولم ينفضوا من التراب شيئاً(1).
__________
(1) جاء في (الاعتصام): وأخرج أبو داؤد والنسائي عن عمار قال: إن رسول الله عرس بأولات الجيش ومعه عائشة، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء، قال: فتغيض عليها أبو بكر وقال: حبست الناس وليس معهم ماء. فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله وضربوا بأيديهم الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط. اه1/259. وفي رواية: ولم ينفضوا من التراب شيئاً.
…عرس: إذا نزل المسافر ليستريح. وأولات الجيش: واد بالقرب من المدينة. اه، من هامش الاعتصام على الحديث السالف.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إليه، وهو الجمع بين الروايتين عن عمار بن ياسر، فحيث نفض فإنه محمول على كثرة ما علق بهما من التراب وفيما ذكرناه خلاص عما وقع من التعارض في حديث عمار فيجب حملهما عليه.
الفرع السادس: ثم يمسح بهما وجهه مسحاً غامراً لما روى أسلع (1)
قال: قلت يا رسول اللّه أنا جنب. فنزلت آية التيمم. فقال: ((يكفيك هكذا فضرب بكفيه على الأرض ومسح بهما وجهه))(2).
وهل يجب إمرارهما على الشعور التي في الوجه؟ فيه تفصيل نذكره في الفروض بمعونة اللّه. ثم يمرهما على لحيته إن كانت لما في حديث أسلع: ثم أمرهما على اللحية. ويدخل إبهاميه تحت غابته يفعل ذلك تخليلاً لِلِّحية والغابة: بالغين المعجمة والباء الموحدة التحتية، هي الأجمة، وجمعها غاب على حد تمره وتمر، وهي الكظائم وهي اسم لباطن طرف الذقن ويقال: أسد الغاب أيضاً، هذا إذا كانت له لحية فأما إذا كان أمرد فإنه يكتفي بإجراء يديه على خده إلى أسفل ذقنه.
__________
(1) هو: أسلع بن شريك بن عوف الأعوجي التميمي، قيل: كان يرحل ناقة النبي ، روى حديثه العلاء بن أبي سويه عن الهيثم بن رزين عن أبيه عنه.إ.ه. بلفظه من (تجريد أسماء الصحابة) للحافظ شمس الدين الذهبي. ج1 ص 15 جزآن في مجلد واحد).
(2) تمام الحديث: ...ثم أمر على لحيته ثم أعادهما إلى الأرض فمسح بهما الأرض، ثم دلك إحداهما بالأخرى ثم مسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما. هكذا في (المهذب). اه(جواهر 1/145. رواه الدارقطني والطبراني مع اختلاف في اللفظ
الفرع السابع: ثم يضرب بيديه ضربة أخرى فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى ويمرها على ظهور الكف فإذا بلغ الكوع جعل أطراف أصابع يده على حرف الذراع ثم يمرُّ ذلك إلى المرفق ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمره عليه ويحفظ إبهاميه فإذا بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى ثم يمسح بكفه اليمنى يده اليسرى مثل ذلك ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل بين أصابعهما.
والحجة على ما قلناه: ما روى أسلع أنه قال: قلت يا رسول اللّه أنا جنب، فنزلت آية التيمم فقال: ((يكفيك هكذا وضرب بيديه الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما وجهه ثم أمرهما على لحيته ثم أعادهما إلى الأرض فمسح بهما الأرض ثم دلك إحداهما بالأخرى ثم مسح ذراعيه باطنهما وظاهرهما)). كما أشرنا في تفصيله، فإذا فعل ذلك فقد سقط الفرض عن الراحتين بدلك إحداهما بالأخرى وعما بين الأصابع بالتخليل لوصول التراب إلى ما بينهما.
لا يقال: فإذا كان الفرض ساقطاً عن الراحتين بدلك إحداهما بالأخرى فقد صار التراب مستعملاً، فكيف جاز مسح الذراعين به؟ وعند القاسمية وأصحاب الشافعي أنه لا يجوز نقل الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى.
لأنا نقول:عن هذا جوابان:
أحدهما: على رأي من يجوز الوضوء بالماء المستعمل كما هو رأي المؤيد بالله ومن وافقه، وإذا جاز الوضوء بالماء المستعمل جاز بالتراب المستعمل كما مر تقريره، وعلى هذا لا كلام في الجواز لذلك إذ ليس فيه إلا كونه مستعملاً وهذا لا مانع منه على رأي هؤلاء.
وثانيهما: على رأي من منع من الإستعمال في الوضوء والتيمم كما هو المحكي عن (القاسمية) و(الناصرية)، والفريقين (الحنفية) و(الشافعية) لأنهم يمنعون من غسل اليدين بما فضل من ماء الوجه فهكذا حال التراب أيضاً، فعلى هذا تحصل التفرقة بين الماء والتراب من جهة أن الماء ينفصل من إحدى اليدين إلى الأخرى بخلاف التراب فإنه لا ينفصل من إحداهما إلى الأخرى فافترقا.
الفرع الثامن: إذا كان في يده خاتم فإنه ينزعه قبل الضربة الثانية لليدين لئلا يمنع من وصول التراب إلى ما تحته. وقد حكي عن الشافعي أنه ذكر في (الأم) ترتيباً آخر فقال: يضع باطن كفه اليسرى على ظاهر أصابعه اليمنى ثم يضم إبهامه إلى أصابعه ثم يمر يده فإذا بلغ الكوع أدار إبهامه على ذراعه وقبض بإبهامه وأصابعه على باطن ذراعه ثم يمر ذلك إلى المرفق فإن بقي شيء من ذراعه لم يمر التراب عليه أدار يده عليه حتى يصل التراب إلى جميعه، وما حكيناه عن أئمة العترة في صفة التيمم أحق لأمرين:
أما أولاً: فلأنه أشمل وأعم لمسح اليدين بحيث لا يحتاج إلى تتبع بخلاف ما ذكره في (الأم) فإنه يحتاح إلى تتبع وزيادة كلفة.
وأما ثانياً: فلأن الأصابع جعلناها مسحاً لظاهر الكف والساعد، والراحة محفوظة لباطن الساعد، وما ذكره في (الأم) ليس حاصلاً على هذه الصفة، بل قال: يقبض الأصابع بالإبهام ثم يمر يده إلى المرفق فلا تكون الراحة محفوظة، فلأجل ذلك كان ما ذكرناه أولى، وقد حكاه المزني عنه في ترتيب هيئة التيمم.
الفرع التاسع:هل تكون اليدان مصفوفتين أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنهما يكونان مصفوفتين وهذا هو الذي أشار إليه الهادي في (الأحكام) فإنه قال: يضرب بيديه على التراب مصفوفتين.
والحجة على ذلك: هو أن المراد بالصف الإستواء أخذاً من قولهم: ناقة صفوف، إذا كانت تصف يديها عند الحلب، يريد أنها تجعلهما مستويتين من غير مخالفة بينهما، لما في حديث أسلع فإنه قال فيه: يضرب بكفيه الأرض فالظاهر منه أنه سوى بينهما في الضرب على الأرض، ولا نريد بالصف إلا أنه سوى بينهما في وضعهما على الأرض من غير مخالفة في الوضع بينهما.
وثانيهما: أنه لا يحتاج إلى الصف فيهما، وهذا هو الذي أشار إليه الناصر في (الإبانة) فإنه لم يذكر صفهما، والظاهر أنه غير مشترط لأنه قال: يضرب بيديه على الأرض لا غير.
والمختار: ما قاله الناصر، فإن الأحاديث كلها في التيمم ليس فيها تصريح بالصف أعني كونهما على جهة الإستواء فإن صف فلا بأس و إن خالف بينهما فلا حرج.
الفرع العاشر: ويستحب للرجل أن تكون أعماله في التيمم متصلة في مسح الوجه واليدين من غير تفريق بين الوجه واليدين ولا بين اليدين أنفسهما بل تكون الأعمال حاصلة على جهة الإتصال في مسحها إلى أن يفرغ منها لما في حديث أسلع، فإنه قال: يكفيك [أن تفعل] هكذا وضرب بيديه الأرض ومسح بهما وجهه ويديه على جهة الولاء من غير تفريق بينهما، ولأنها طهارة تراد للصلاة فاستحب فيها الموالاة من غير تفريق كالوضوء وقد مر بيانه فأغنى عن الإعادة.
الفرع الحادي عشر: أن المرأة في هذه الصفة كالرجل من غير مخالفة لأن الخطابات الواردة في التيمم لم تفصل في ذلك بين الرجال والنساء فلهذا وجب الحكم بعمومها.
قاعدة: اعلم أن الخطابات الواردة في الشريعة بالإضافة إلى الرجال والنساء واقعة على ثلاثة أضرب:
فالضرب الأول منها: ما يكون عاماً لا يقع خلاف بين الأصوليين في كونه عاماً في حق الرجال والنساء وهذا نحو الخطاب بـ (من) و (أيّ) في قوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:7،8].وقوله : ((من باع نخلة مؤبرة فثمرتها للبائع )) وهكذا الخطاب بـ (أيّ).
الضرب الثاني: ما يكون خاصاً في أحد الجنسين دون الآخر، وهذا نحو الخطاب بقوله: يا أيها الرجال. فإنه خاص في الرجال لا تدخل النساء فيه ونحو الخطاب بلفظ النساء في قولك: ياأيها النساء. فإنه خاص لهن دون الرجال.
الضرب الثالث: ما وقع فيه تردد بين الأصوليين، وهذا نحو قولنا: المؤمنون، المسلمون، فهل يكون عاماً في الرجال النساء أو يكون خاصاً للرجال دون النساء؟ فيه خلاف، فزعم قوم أنه عام لهما جميعاً وأن اندراج النساء تحت هذا الخطاب على جهة التغليب للذكور على الإناث ومنهم من أبى ذلك وقال إنه خاص في الرجال دون النساء.
والمختار: أنه يحتمل أن يكون خاصاً للرجال من جهة أن الظاهر في استعمال جمع السلامة إنما هو في الذكور بنص أئمة الأدب، ويحتمل أن يكون حاصلاً على جهة التغليب لأن من عادة العرب تغليب خطاب المذكر على خطاب المؤنث لما له من الفضل على المؤنت.
نعم، الظاهر من قولنا: المؤمنين والمسلمين، أنه خطاب للمذكرين فمن ادعى تغليباً ويزعم أنه عام فيهما جميعاً فإنه يفتقر إلى الدلالة للتغليب، فهذا ما أردنا ذكره في وقت التيمم وكيفيته.
.
---
الفصل الرابع في بيان المفروض والمسنون منه
اعلم أن التيمم مشتمل على أمور بعضها مفروض وبعضها مسنون، ونحن نشير إلى كل واحد من النوعين ونقرره بدليله، وقد أشار اللّه تعالى إلى فروضه بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً " فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}[المائدة:6]. ونورد الفروض في صور المسائل ليتضح الكلام فيها.
مسألة: التسمية عند التيمم مشروعة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة؛ لأن التسمية بذكر اللّه تعالى مستحبة في سائر الأفعال كلها فضلاً عن العبادات، لقوله : ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر " )) (1).
وهل تكون واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة وهذا هو الذي ذكره السيد الإمام أبو طالب للمذهب.
والحجة على ذلك هو: أنها طهارة تستباح بها الصلاة فالتسمية فيها واجبة كالوضوء كما مر بيانه.
المذهب الثاني: أنها غير واجبة وهذا هو رأي الفرق الثلاث من الحنفية والشافعية والمالكية.
والحجة على ذلك: هو أن الوجوب حكم فلا يجوز إثباته إلا بدلالة ولا دلالة هاهنا تدل على وجوب التسمية، فلهذا قضينا بأنها مستحبة كما مر بيانه.
والمختار: أنها غير واجبة.
والحجة على ذلك: ما حكيناه ونزيد ههنا حجتين:
الحجة الأولى: قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ " }[المائدة:6] فذكر ما هو واجب ولم يذكر التسمية، وفي هذا دلالة على أنها غير واجبة لأنها لو كانت واجبة لذكرها لأنه في موضع تعليم الشرع.
الحجة الثانية: قوله لأسلع ولعمار حين علمهما كيف صفة التيمم، فضرب بيديه على الأرض ومسح وجهه وذراعيه ولم يذكر لهما التسمية فلو كانت واجبة لنطق بها.
__________
(1) رواه أبو هريرة، وأخرجه أبو داؤد والنسائي وابن ماجة وأبو عوانة، والدار قطني وابن حبان وغيرهم. اه. (فتح الغفار 1/49).
الانتصار: يكون بإبطال ما قالوه.
قالوا: طهارة تستباح بها الصلاة فكانت التسمية فيها واجبة كالوضوء.
قلنا: التيمم مفارق للوضوء من جهة أن الوضوء يرفع الحدث بخلاف التيمم فإنه غير رافع له فلا يلزم من وجوب التسمية في الوضوء لدلالة خاصة، وجوبها في التيمم من غير دلالة تدل عليها فافترقا.
ومن وجه آخر: وهو أن التيمم طهارة تستباح بها الصلاة فلا تجب فيه التسمية كالغسل، ولأن التسمية إذا لم تكن واجبة في الغسل مع كونه أقرب إلى الوضوء فلأن لا تكون واجبة في التيمم أحق وأولى.
مسألة: النية مشروعة في التيمم لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " }[البينة:5]. والإخلاص في العمل بأن يقصد به وجه اللّه تعالى دون غيره، وقوله : ((الأعمال بالنيات ولكل امرء ما نوى " )). وقوله : ((إنما الأعمال بالنيات)). فهذه الأدلة كلها دالة على أن التيمم تشرع فيه النية ويستحب أداؤه بها فلا خلاف في ذلك لأن من خالف في الوجوب لا ينكر كونها مشروعة في التيمم وأنه يكون أداؤه أفضل مع النية.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: النية قصد تقارن منويها كما مر تقريره في الوضوء، وهي مخالفة للإعتقاد في جنسها فإنها في ذاتها مخالفة للإعتقادات والظنون وتخالف العزم في وقتها دون حقيقتها؛ لأن العزم من جنس الإرادات والنية من جنسها أيضاً ولا تخالف العزم إلا في مقارنتها لمنويها بخلاف العزم فإنه يجب تقدمه على معزومه، ومن حقها أن تكون مقارنة لأول جزء من الفعل المنوي، ولا يجوز تقديمها ولا تأخيرها إلا لدلالة شرعية، والتيمم يجب مقارنته لها كما في الوضوء، وقد قدمنا تحقيق تقسيمها في الوضوء فأغنى عن إعادة أكثر تلك المسائل.
الفرع الثاني: هل تكون واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة فيه وهذا هو قول أئمة العترة القاسمية والناصرية والهارونية لا يختلفون في ذلك، وهو محكي عن الفرق الثلاث الحنفية والشافعية والمالكية.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً " }[المائدة:6] والتيمم هو القصد إلى الشيء.
قال الشاعر:
سل الربع أنى يممت أم مالك ... وهل عادة للربع أن يتكلما(1)
ونحن لا نريد بالنية إلا القصد كما شرحناه من قبل.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أنه عبادة تبطل بالحدث فكان من شرط صحتها النية كالصلاة.
المذهب الثاني: أنها غير واجبة، وهذا شيء يحكى عن الحسن بن صالح والأوزاعي وزفر.
والحجة لهم على ما زعموه: قوله : ((التراب كافيك ولو إلى عشر حجج)) وقوله : ((التراب وضوء المؤمن ما لم يجد الماء " )). فهذه الأخبار كلها دالة على أن النية غير معتبرة في التيمم لأنه لم يشترطها في كونه مجزياً للصلاة.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وارتضاه الجلة من فقهاء الأمة وهو أنه لابد من اعتبار النية فيه، ويدل عليه ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا وهو أن التيمم عبادة يترتب عليها أذكار وأفعال فوجب اعتبار النية فيها كالإحرام.
الانتصار: يكون بإبطال ما زعموه.
قالوا: الظواهر الشرعية من الأحاديث واردة في إيجاب التيمم من غير اشتراط النية فيه.
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الآية قد أشارت بظاهرها إلى اشتراط النية وهي مقطوع بأصلها والأخبار مظنونة فكان الإعتماد على الآية أحق وأولى.
__________
(1) هو البيت الثالث من قصيدة مطلعها:
ألا هيَّما مما لقيت وهيَّما
وويحاً لمن لم ألق منهن ويحما
وهي قصيدة في حوالي 130 بيتاً للشاعر حميد الهلالي.
وأما ثانياً: فلأن الأخبار مطلقة والآية وردت مقيدة بالنية، والمطلق من حقه حمله على المقيد؛ لأنا إذا حملناه على المقيد كان فيه عمل بالدليلين جميعاً، وإذا عملنا على أحدهما دون الآخر كان فيه إبطال لأحدهما، فلا جرم حملنا الأخبار مع إطلاقها على كونها دالة على النية بمعناها حملاً لها على الآية لكونها دالة على النية بصريحها جمعاً بينهما.
قالوا: طهارة. فوجب أن لا تعتبر فيها النية كالطهارة من النجاسة والجامع بينهما كونهما طهارتين تقصدان من أجل الصلاة.
قلنا: المعنى في الأصل كونها طهارة بالماء بخلاف التيمم فإنه ليس طهارة بالماء فافترقا.
وأبطل ما يكون لقاعدة القياس الفرق، فإنه مهما كان مبطلاً للجامع بطل القياس ومن أجل ذلك كان العذر لأبي حنيفة في إبطال النية في الوضوء أدخل من عذر هؤلاء في إبطال النية قياساً على طهارة النجس لما كان الوضوء مشاركاً للنجاسة في كونها طهارة بالماء بخلاف التيمم فإنه ليس طهارة بالماء، فلهذا كان ما قالوه باطلاً لما بينهما من المخالفة في جنس الطهارة.
قالوا: وصلة إلى الصلاة فلا تعتبر فيها النية كستر العورة.
قلنا: المعنى في الأصل هو أن ستر العورة واجب في الصلاة وفي غيرها، بخلاف التيمم فإنه لا يقصد إلا للعبادة فقط فافترقا، على أن هذا معارض بقياس مثله، وهو أن التيمم عبادة فوجب اعتبار النية فيها كالصلاة والحجّ، وما ذكرناه من الأقيسة فهي راحجة على ما قالوه من جهة أن النية معتبرة في أصل العبادات كلها والتيمم منها وما ذكروه من سقوط النية فيه توجب مخالفته كسائر العبادات. فمن أجل ذلك [كانت] اقيستنا أحق بالقبول، وممن قال بإسقاط النية في التيمم الشيخ أبو علي الجبائي وقد فسد بما أوردناه.
الفرع الثالث: في كيفية النية في التيمم للصلاة، وفيه مذاهب ثلاثة نفصلها بمعونة اللّه تعالى:
المذهب الأول: أن النية تكون فيه من أجل رفع الحدث، وهذا هو الذي حكيناه عن داؤد وطبقته من أهل الظاهر.
والحجة لهم على ذلك: هو أنها طهارة تقصد من أجل الصلاة فوجب أن تكون رافعة للحدث كالوضوء، وعلى هذا إذا تيمم فإنه يؤدي به ما شاء من الفرائض والنوافل من غير تقييد ولا تبطل إلا بما يُبطل الوضوء ولا تنتقض برؤية الماء كالطهارة بالماء.
المذهب الثاني: أن النية لابد من أن تكون متعلقة بالصلاة وهو أن ينوي بالتيمم الفرض بعينه ولا يجوز أن ينوي به استباحة الصلاة ولا رفع الحدث ولا ينوي به الفرض على الإطلاق، وهذا هو رأي الهادي، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ " }[المائدة:6] ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا " }[المائدة:6] وتقرير هذه الدلالة هو أن اللّه تعالى اعتبر غسل هذه الأعضاء التي يكون القصد بها القيام إلى تلك الصلاة المعينة ثم عطف عليها حكم التيمم عند عدم الماء. فدل ظاهر الآية على أن النية لابد من أن تكون متعلقة بالصلاة التي قيم إليها على جهة التعيين في الوضوء والتيمم جميعاً وهذا هو المطلوب.
الحجة [الثانية]: ما روي عن ابن عباس أنه قال: من السنة أن لا تصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة ثم تيمم للصلاة الأخرى(1).
وهذا فيه دلالة على أن النية لابد من أن تكون متعلقة بتلك الصلاة وليس ذلك إلا على الوجه الذي لخصناه.
المذهب الثالث: أن تكون النية فيه من أجل استباحة الصلاة، وهذا هو رأي الإمامين الناصر والمؤيد بالله وهو قول أبي حنيفة وأصحابه إلا ما حكاه الجصاص من أصحابه فإنه قال: يحتاج إلى التعيين للصلاة، مثل مذهب الشافعي.
__________
(1) أورده في (الروض) عن ابن عباس قال: قال علي-يعني: الدارقطني-: الحسن بن عمارة ضعيف. اه، 1/470.
والحجة على ما قاله الإمامان ومن وافقهما، هو أن الوضوء طهارة كاملة تفعل في حال الرفاهية، والتيمم طهارة ناقصة تفعل في حال العذر والضرورة، فالوضوء لا محالة رافع للحدث بخلاف التيمم فإنه غير رافع للحدث، فلما كان الأمر فيه كما قلناه وجب أن تكون النية فيه من أجل استباحة ما كان محظوراً قبله ليكون ذلك تفرقة بين الطهارتين، فهذا تقرير هذه المذاهب بأدلتها.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله والناصر وهو أن النية تكون فيه من أجل استباحة الصلاة، ويدل على ذلك ما حكيناه عنهم، ونزيد ههنا وهو أن الوضوء والتيمم واجبان في سياق الآية التي تلوناها، وظاهر الآية دال على كونهما موضوعين لاستباحة الصلاة إذ ليس في ظاهر الآية ما يشعر بكونهما رافعين للحدث، لكن قام البرهان الشرعي على أن الوضوء رافع للحدث وبقيت الآية دالة بظاهرها على ان التيمم موضوع لإستباحة الصلاة، وهكذا حال الأخبار فإن ظاهرها دال على كون التيمم وضع بالشرع للإستباحة، فلا جرم قلنا إنه يجب أن ينوي به الإستباحة.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
فأما من زعم أنه رافع للحدث وأنه يجب أن ينوي رفع الحدث لتكون النية مطابقة للمقصود منه فقد أفسدناه من قبل فأغنى عن الإعادة، وأما ما حكي عن الهادي والشافعي من أنه لا بد في النية من اعتبار تلك الصلاة بعينها ولا يجوز أن ينوي رفع الحدث اعتماداً على أن آية الوضوء دالة على أنه لا بد من تعيين تلك الصلاة كما في الوضوء.
فعنه جوابان:
أما أولاً: فلانا لا نسلم أن الصلاة في الآية معينة وإنما المراد جنس الصلاة كأنه قال: إذا قمتم إلى ما يسمى صلاة.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا ما ذكرتموه في الوضوء لظاهر الآية فإنه دال عليه لكن لا نسلمه في التيمم لأن الوضوء رافع للحدث بخلاف التيمم فافترقا.
قالوا: روي عن ابن عباس أنه قال: من السنة أن لا يصلى بالتيمم إلا فريضة واحدة، وفي هذا دلالة على أن النية في التيمم متعلقة بالصلاة كما قلناه.
قلنا: هذا فاسد، فإن مراد ابن عباس إنما هو كلام فيما تؤدى به وما لا تؤدى وليس في كلامه ما يشعر بأن قصده تعلق النية بالصلاة المعينة، فأين أحدهما عن الآخر؟ على أنه يحتمل أن يكون مذهباً لابن عباس فلا يكون فيه دلالة على ما نحن فيه. فتقرر بما لخصناه أن تعلق النية في التيمم إنما هو استباحة الصلاة والله أعلم.
الفرع الرابع: الذي يأتي على رأي الهادي أنه لا يجزيه التيمم إلا إذا نوى صلاة بعينها فريضة كانت أو نافلة لأنه عنده غير رافع للحدث، ولا يجوز أن تؤدى به أكثر من فريضة واحدة ولم يخرج عن هذا إلا نافلة الصلاة فإنها مندرجة تحت الفريضة سواء تقدمت قبلها أو تأخرت عنها، والوتر في حكم النافلة للعشاء كما مر بيانه، فإن نوى استباحة الصلاة لم يكن التيمم مجزياً له.
والذي يأتي على رأي المؤيد بالله أنه إذا نوى بالتيمم استباحة الصلاة أجزأه ذلك لكنه لا يؤدي به أكثر من فريضة واحدة ونافلتها لكن نية الإستباحة للصلاة كافية في كونه مجزياً لأي صلاة على الإنفراد أداها.
والذي يأتي على رأي الناصر أنه إذا نوى استباحة الصلاة أجزأه لكنه على رأيه يجوز أن يؤدي به أكثر من فريضة واحدة ما لم ينتقض بنواقض الوضوء أو برؤية الماء وتجدد طلبه، فرأيه في كيفية النية كرأي المؤيد بالله خلا أنه يخالفه في جواز تأدية الفروض والسنن من الصلاة بتيمم واحد كما مر شرحه، والمؤيد بالله لا يرى ذلك.
فتنخل من مجموع ما ذكرناه أن المختار ما قاله الناصر في المسألتين جميعاً:
إحداهما: جواز تأدية الصلوات الكثيرة بالتيمم الواحد فرضاً كانت أو نفلاً أو غير ذلك من أنواع القرب.
والثانية:أن المجزي من النية هو أن ينوي استباحة الصلاة.
الفرع الخامس: في بيان وقت النية، وإذا كانت النية واجبة فمتى يجب فعلها؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن وقتها هو عند مسح الوجه، وهذا هو الذي يأتي على رأي الهادي والناصر والمؤيد بالله؛ لأنه أول عضو من أعضاء الوضوء فلأجل ذلك كان محلاً للنية كما قلناه في الوضوء أن وقت النية هو غسل الوجه، فنحرر ونقول: أول عضو من أعضاء الطهارة فوجب أن يكون محلاً للنية كالوضوء. فهذا تقرير كلام الناصر والمؤيد بالله.
وأما الهادي فليس يقيسه على الوضوء لأن أول أعضاء الطهارة عنده في الوضوء هو غسل الفرجين كما مر تفصيله لكنه يأخذه من ظاهر الآية وهو قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا " }[المائدة:6]. فإذا كان ظاهر الآية لابد من اعتبار النية فيه فيجب أن يكون محلها هو مسح الوجه إذ ليس قبله شيء من أعضاء الطهارة فيكون محلاً لها.
وثانيهما: أن يكون محل النية هو عند الضرب باليدين على التراب وهو الذي يأتي على كلام أحمد بن يحيى وأبي العباس؛ لأنهما يوجبان غسل اليدين عند إدخالهما الإناء وعلى هذه يكون محل النية عندهما في التيمم هو عند ضرب اليدين على التراب من جهة أن الضرب بالكفين على التراب بمنزلة غسل الدين قبل غسل الوجه فلهذا اقتضى ذلك على رأيهما.
والمختار: هو الأول لأمرين:
أما أولاً: فلأن مسح الوجه هو أول العبادة فلأجل ذلك كانت النية متعلقة بها.
وأما ثانياً: فلأن وضع اليدين على التراب ليس جزءاً من العبادة ولا بعضاً من أبعاضها وإنما هو وصلة إلى العبادة ينزل منزلة نقل المطهرة ووضعها للوضوء فكما أن ما هذا حاله ليس محلاً للنية فهكذا وضع اليدين على التراب.
الفرع السادس: في تغيير النية وصرفها.
اعلم أنا قد ذكرنا فيما سلف حكم تغيير النية وصرفها في الوضوء. والذي نذكره ههنا هو صرفها وتغييرها في التيمم من جهة أنهما طهارتان تتفقان في أكثر أحكامهما.
فنقول: النية إذا وقعت في أول الفعل المنوي فمن حقها أن تكون جارية على جهة الموافقة من غير مخالفة فإذا نوى عند مسحه لوجهه استباحة الصلاة كما هو رأي المؤيد بالله والناصر، أو نوى الصلاة المعينة كما هو رأي الهادي والشافعي ثم غير نيته عند مسح اليدين نظرت، فإن كان مسحهما بنية التعفير بطلت لأنه لابد من اعتبار القربة في مسحهما فإذا مسحهما بنية التعفير كان مباحاً وفي ذلك بطلان القربة والواجب عليه أن يعود إلى مسحهما بنية القربة وهو استباحة الصلاة ولا يجب عليه العود إلى مسح الوجه لأنه قد مسحه بنية استباحة الصلاة، وإن كان مسحه لهما بنية قربة أخرى كأن يمسح الوجه بنية استباحة الصلاة ويمسح اليدين بنية استباحة قراءة القرآن أو دخول المسجد أو غير ذلك من القرب أو بنية صلاة أخرى، فعلى رأي الهادي والمؤيد بالله والشافعي أنه يعود إلى الموضع الذي غير فيه النية فيمسحه بالنية المطابقة لنية الوجه من جهة أن التيمم عند هؤلاء لا يجوز أن يؤدى به أكثر من فريضة واحدة بعينها، فلهذا وجب عليه العود إلى موضع التغيير لتكون النية و احدة في جميع أعضاء التيمم لتكون مجزية فيه، ويوضح ذلك أن تغيير النية إذا كان مبطلاً للوضوء مع كونه رافعاً للحدث فلأن يكون تغييرها مبطلاً للتيمم مع أنه غير رافع للحدث أولى وأحق.
وأما على رأي الناصر وهو قول أبي حنيفة، والمختار عندنا: فإنه إذا مسح الوجه بنية استباحة الصلاة ومسح اليدين بنية فرض معين أو مسح الوجه بنية فرض مطلق ومسح اليدين بنية فرض معين ففيه احتمالان:
أحدهما: أنه لا يجزي لنقصان التيمم وكونه طهارة ضرورية فلا بد من أن تكون النية فيه على جهة الإطراد من غير مخالفة؛ لأن الوضوء إذا كانت النية مؤثرة في صحته إذا كانت متغيرة فلأن تكون مؤثرة في صحة التيمم بالزوال والإبطال أحق.
وثانيهما: أنه يكون مجزياً لأن التيمم الواحد يجوز أن تؤدى به أكثر من فريضة واحدة فإذا غيرت فيه النية مع استكمال القربة كان مجزياً كالوضوء كما مر شرحه فإنه إذا غيرت فيه النية مع استكمال القربة فإنه يكون مجزياً كما لو غير من فرض إلى فرض أو من فرض إلى نفل. وقلنا: مع استكمال القربة، نحترز به عما لو غيره من فرض إلى مباح فإنه يبطله لعدم القربة في ذلك.
الفرع السابع:في حكم النية في التيمم، ولها بالإضافة إلى الإجزاء أحوال سبعة(1):
الأولى: أن ينوي رفع الحدث فلا يصح التيمم؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، ولهذا فإنه يجب الوضوء أو الغسل على المحدث والجنب إذا رأيا الماء، وحكي عن أبي العباس بن سريج من أصحاب الشافعي أنه يرفع الحدث في فريضة واحدة، وقد قررنا دليله فأغنى عن الإعادة.
الثانية: إذا نوى استباحة الصلاة جاز وهو المختار على ما أوضحناه آنفاً، وإن نوى به الإستباحة عن الحدث وهو جنب أو عن الجنابة وهو محدث لم يضره لأنه غلط وذكر ما يستغنى عن ذكره.
الثالثة: أن ينوي بتيممه الفرض والنفل جميعاً على الإطلاق.
فالمختار: صحة تيممه، وقيل: يقتصر على النفل، وهو بعيد.
الرابعة: إذا نوى الفرض مطلقاً جاز له أن يؤدي به النفل على جهة التبعية.
الخامسة: إذا نوى النفل مطلقاً فهل يؤدي به الفرض؟ فيه تردد.
والمختار: جوازه ويجوز تأدية النفل به إذا كان معيناً.
السادسة: إذا نوى النفل المعين جاز له تأدية الفرض به والنفل جميعاً.
السابعة: إذا نوى به تأدية فرضين جاز ذلك على ما اخترناه من جواز تأدية أكثر من فرض واحد بتيمم واحد.
مسألة: ويجب مسح الوجه ولا خلاف فيه لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ}..الآية. ولأنه مسح وجهه، وفِعْلُه بيان لما أجملته الآية لحديث أسلع حين مسح وجهه بيانا له وتعريفاً له كيف يتيمم.
__________
(1) لعل الأقرب إلى الصواب (حالات سبع) لتتناسب مع قوله: الأولى... الثانية...إلخ.
وهل يجب الإستيعاب للوجه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب استيعاب الوجه مسحاً وهذا هو رأي القاسم، ومحكي عن المؤيد بالله وأبي طالب وهو رأي الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ}. وظاهره دال على الإستيعاب، ولأنه صلى الله عليه وآله مسح وجهه بكفيه، وظاهره دال على التعميم، ولأنها طهارة تفعل للصلاة فكان من شرطها تعميم وظيفتها كغسل الوجه.
المذهب الثاني: أنه لا يجب الإستيعاب، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة فإنه قال: لو اقتصر على ربع الوجه في المسح جاز وهو ظاهر كلامه فإنه قال: يمسح وجهه أصاب ما أصاب وبقي ما بقي.
والحجة على ذلك: هو أن الخطاب بالمسح وفعله فيهما دلالة على ما قلناه من بطلان التعميم والإستيعاب لأن المسح خفيف الغسل وهو مفارقه إلا أن المسح يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ لأنها طهارة يتوصل بها إلى الصلاة فلا يكون من شرطها التعميم، كالمسح على الرأس.
والمختار عندنا: أن الإستيعاب غير مشروط في مسح الوجه.
والحجة على ذلك: هو أنها طهارة ضرورية شرعت عند إعواز الماء وعدمه، والمقصود هو الوفاء بالتعبد، فهذه الوظيفة في الخضوع والذلة بالصاق كرائم الوجوه بالتراب فإنها أعز الأعضاء والتراب أوضع ما يكون فلا جرم كان المقصود حاصلاً من غير استيعاب ولا تعميم في العضو كما أشرنا إليه.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه.
قالوا: ظاهر الآية دال على الإستيعاب.
قلنا: لا نسلم بل هي دالة على مطلق المسح من غير إشارة إلى قيد من قيوده وهو حاصل من غير تعميم.
قالوا: إنه مسح وجهه بكفيه وفيه دلالة على الإستيعاب.
قلنا: هذا من الطراز الأول فلعله دال على مطلق المسح وليس فيه دلالة على الإستيعاب كما قلتم.
قالوا: طهارة تفعل للصلاة فكان من شرطها التعميم كغسل الوجه.
قلنا: نحن نقول بموجب قياسكم هذا فإنا لا نسلم الإستيعاب لما أصاب الكف دون مالم يصب وننكر ما قلتموه من وجوب التعميم لجميع الوجه والقول بالموجب يبطل القياس مع الإستمرار على الخلاف.
مسألة: وهل يجب تخليل اللحية وإيصال التراب إلى منابت الشعور كالحاجبين وأهداب العينين أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول:تخليل اللحية بالتراب واجب، وهذا هو رأي الهادي والمؤيد بالله. والتخليل:هو إ دخال أصابع اليدين في شعر اللحية.
والحجة على ذلك:هو أن ما في أثناء تخليل اللحية من الشعر من الوجه وستره لا يوجب خروجه من الوجه فلهذا وجب إمساسه التراب بالتخليل ولأنها طهارة تقصد للصلاة فكان من شرطها تخليل اللحية كالوضوء.
المذهب الثاني: أن التخليل في اللحية بالتراب غير واجب وهو الذي يشير إليه كلام الناصر وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن المشقة حاصلة بتخليل اللحية بالتراب فلهذا لم تكن مشروعة في التيمم، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ " }[الحج:78]. وقوله : ((بعثت بالحنفية السمحة " ))(1).
__________
(1) جاء هذا في حديث طويل وبروايات وألفاظ عدة، منها ما رواه الترمذي وأبو داؤد عن أبي أمامة قال: خرجنا مع رسول الله في سرية من سراياه، فمر رجل بغار فيه شيء من ماء، قال: فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء، ويصيب ما كان حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا، إلى أن قال: فذكرت ذلك لرسول الله فقال له النبي: ((لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكن بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة)) وفيه من رواية عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله يومئذٍ: ((لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة)). اه. مسند احمد رقم الحديث 21460.
والمختار عندنا: ما حكيناه عن الناصر وغيره من أن تخليل اللحية غير واجب بالتراب لما ذكرناه من أن الطهارة بالتراب طهارة بدلية عن الماء قصد بها التخفيف عند عدم الماء وإعوازه وتعذر استعماله، وتخليل اللحية ينافي التخفيف في هذه الوظيفة، فلا جرم لم يكن مشروعاً ولأنه قد ذكرنا من قبل أن الإستيعاب في المسح غير واجب فهكذا تخليل اللحية أدخل في عدم الوجوب لأن عدم التعميم ترك جزء من أجزاء الوجه واليدين، وتخليل اللحية ليس فيه ترك جزء من أجزاء العضوين فلهذا كان أظهر في ترك الوجوب.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه دلالة.
قالوا: تخليل اللحية من الوجه.
قلنا: لا نسلم لأن التخليل تفريق الشعر وليس جزءاً من الوجه، ثم إنا لو سلمنا كونه جزءاً فإجراء اليد بالمسح كافٍ عن التخليل فلا حاجة إليه.
قالوا: طهارة يقصد بها الصلاة فكان من شرطها التخليل كالوضوء.
قلنا: الوضوء طهارة أصلية، وطهارة التراب طهارة بدلية يقصد بها التخفيف، والتخليل ينافي التخفيف والتفرقة بينهما ظاهرة، على أن هذا الذي ذكرتموه قياس والأقيسة في العبادات منسدة لا تعقل معانيها لأنها أمور غيبية استأثر اللّه بأسرارها ودقائقها فتتعذر الأقيسة في تقرير أحكامها، فأما إيصال التراب إلى منابت الشعور كالحاجبين وأشعار أهداب العينين فلا أعلم قائلاً بوجوبه. أعني: أن يقصد المسح بالتراب، بل يكفي مسح الوجه العام، أما إيصال التراب إلى بادي العذارين والعنفقة والشارب، فالظاهر من كلام الهادي والمؤيد بالله وجوب ذلك كما ذكرناه، فأما إيصال التراب إلى باطن العذارين والعنفقة والشارب فالظاهر من كلام الهادي والمؤيد بالله وجوب ذلك كما ذكرناه في تخليل اللحية، وأما كلام الناصر وأبي حنيفة وعلى المختار الذي ذكرناه فلا يجب ذلك وهو القوي من قول الشافعي وله قول آخر بوجوبه، والمعتمد لنا ما ذكرناه من أن التيمم رخصة موضوعها التخفيف فلا يجب فيها ما فيه حرج ومشقة لأنه ينافي موضوعها.
مسألة: ويجب مسح اليدين لقوله تعالى: {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}. ولا خلاف في وجوب مسحهما وإنما الخلاف في مقدار المسح من اليدين وفيه مذاهب خمسة:
المذهب الأول: أن مقدار مسح اليدين إلى المرفقين، والمرفقان قد فسرناهما في أعضاء الوضوء فلا نعيده، وهذا هو رأي الهادي ورواه عن جده القاسم ورأي الإمامين المؤيد بالله وأبي طالب، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ " }[المائدة:6] فالآية مجملة في مقدار اليد لكنها مبينة بخبر جابر وابن عمر وابن عباس وأبي أمامة أنه قال: ((التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين " إلى المرفقين))(1)
ويجوز بيان مجمل الكتاب بالسنة الواضحة لأن ظواهر الآي والأخبار كلها مرشدة إلى غلبات الظنون في الأحكام الشرعية كلها.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أنها طهارة بدلية يؤتى بها في محل مبدلها فكان حده فيهما واحداً كحد الوجه.
المذهب الثاني: أن مقداره في اليدين إلى الزندين، وهذا هو المحكي عن الصادق والناصر ومروي عن علي وعطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
والحجة على ذلك: هو أن اسم اليد في عرف اللغة موضوع على الزند لأن ما قبله يقال فيه الكف وما بعده يقال الذراع والعضد، فيجب حمل الآية عليه، والزندان هما العظمان المتصلان بمفصل الكف ويقال له الرسغ أيضاً، والكوع هو العظم الشاخص تحت الإبهام، والكرسوع هو العظم المقابل للكوع تحت البنصر(2).
الحجة الثانية: ما روي أن عماراً سأل رسول اللّه كيف يتيمم، فأمره بأن يمسح وجهه وكفيه(3)
وهو المقدار الذي ذكرناه فيجب الإعتماد عليه، والكفان حدهما الزندان فلا جرم كان التحديد بالزندين.
المذهب الثالث: أن حد التيمم في اليدين: المنكبان وهما العظمان اللذان تتصل بهما الترقوتان، وهذا هو المحكي عن الزهري ولم يحك عن غيره.
__________
(1) جاء في (الجواهر-تخريج أحاديث البحر): قال في (الشفاء): روى ابن عباس وابن عمر وجابر وأبو أمامة وأسلع بن شريك، أن النبي قال: ((التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين)) ونحوه في (التلخيص) 1/147.
(2) لعل الصواب: تحت الخنصر، وهي أولى الأصابع وأصغرها وتحتها يقع العظم المقابل للكوع، والبنصر بكسر الباء والصاد التي بين الوسطى والخنصر كما في اللسان، اه.
(3) تقدم في كيفية التيمم.
والحجة على ذلك: هو أن الآية دالة على مسح اليدين مطلقاً واليدان مقولتان في اللغة على الكف والذراع والعضد إلى المنكب فوجب حمل اليد على ما ذكرناه.
المذهب الرابع: أن المسح يكون إلى الذراعين وهذا هو المحكي عن ابن سيرين وابن المسيب.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عباس رضي اللّه عنه أن الرسول فرغ من قضاء حاجته فمر به رجل فسلم عليه فلم يسلم، ثم ضرب بيديه على الجدار ومسح كفيه وذراعيه ثم رد .
المذهب الخامس: حكاه بعض أصحابنا في شرحه ولم أعلم قائله؛ أن الواجب من مسح اليدين أربع أصابع.
والحجة على ذلك: هو أن الآية واردة بمطلق المسح فيجب حملها على أقل ما يطلق عليه المسح ومطلقه إنما يكون بالأنامل الأربع دون الإبهامين لأن مسح الأشياء إنما يكون بما ذكرناه، فلا جرم اكتفى بأقل ما يطلق عليه عملاً بالمتحقق من المفهوم من المسح كما يقال: مسحت ناصيته، ومسحت على رأسه وعلى وجهه، فهذه أقاويل العلماء في مقدار المسح من اليدين.
والمختار عندنا: ما قاله الهادي في الأحكام ومن تابعه، وهو محكي عن علي في إحدى الروايتين وعن جماعة من الصحابة رضي اللّه عنهم كابن عمر وجابر وعن جماعة من التابعين كالحسن البصري والشعبي وسفيان الثوري.
والحجة عليه: ما أسلفناه آنفاً ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روي عن علي أنه قال في تعليم التيمم ((الوجه واليدان إلى المرفقين " ))(1)
وهذا لا يقوله عن رأي واجتهاد و إنما ينقله عن صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه لأن الباب باب عبادة.
__________
(1) هو في (شرح التجريد) و (الاعتصام) عن الهادي يحيى بن الحسين عن أبيه عن جده القاسم بسنده إلى علي أنه قال: أعضاء التيمم الوجه واليدان إلى المرفقين. وهو في (أصول الأحكام). اه(اعتصام) 1/261، والحديث رواه الإمام زيد في مجموعه عن أبيه عن جده عن علي بلفظه.
قال في (الروض): ذكره السيوطي في (جمع الجوامع) من مسند علي وقال: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه. اه1/460.
الحجة الثانية: أن التيمم طهارة عن حدث فيجب فيها استيعاب الوجه واليدين إلى المرفقين.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه حججاً على مخالفة ما اخترناه، أما من زعم أن مقداره إلى الزند فقد قالوا: الآية دالة على ما قلناه لأن عرف اللغة موضوع على الزند.
قلنا: عما أوردوه أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلا نسلم أن اليد موضوعة على الزند وإنما هي موضوعة إلى المنكب على جهة الحقيقة وإن استعملت في الزند فإنما هو على جهة المجاز وعلى المرفق مجاز لكنا حملناها على مجاز المرافق لدلالة قامت وحجة وضحت فلهذا كان مجازنا أحق من حملها على مجازكم.
وأما ثانياً: فلأنه لامستروح لكم في الآية لإجمالها وإنما المعتمد على ما أوضحها من الأخبار التي ذكرناها فيجب حملها عليه.
وأما ثالثاً: فلأن اسم اليد باق وإن قطعت من الكوع ولا يبقى اسم اليد إذا قطعت من المرفق وفي هذا دلالة على أن إطلاق إسم اليد على المرفق أصدق من إطلاق اسم اليد على الكوع والزند فبطل ما قالوه.
قالوا:روي أن عماراً أمره [الرسول] أن يمسح وجهه وكفيه.
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه قد روي أنه أمر عماراً بأن يضرب ضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وخبرنا دال على الزيادة فلهذا كان أحق بالقبول من خبركم الذي ليس فيه زيادة.
وأما ثانياً: فلأن عماراً لما تمرغ بالتراب حين نزلت أية التيمم أمره بما يقتضي التخفيف لما حمل نفسه المشاق بالتمرغ على جهة الاستحباب ثم أمره ثانياً بالقدر الواجب وهو المرفقان.
وأما من زعم أن القدر في اليدين هو المنكبان فقد قالوا: الآية موضوعة على اليد، واليد إلى المنكب فيجب حملها عليه.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه لا قائل بهذه المقالة قبل الزهري، من الصحابة رضي اللّه عنهم ولا من جهة التابعين بعدهم وما هذا حاله يبطل لأن الصحابة والتابعين هم الغواصون في علوم الشريعة والمتبحرون في البحث عن أسرارها ولم يعهد عن أحد منهم هذه المقالة فلا جرم حكمنا ببطلانها.
وأما ثانياً: فلأن الطهارة بالتراب طهارة ضرورية شرعت على جهة التخفيف وإيجابها إلى المناكب يخالف مقصودها في التخفيف فلا جرم قضينا ببطلان هذه المقالة.
وأما من زعم أن مقدار المسح في الكف والذراعين فقد زعموا أن ابن عباس روى أن الرسول فرغ من قضاء حاجته ومسح كفيه وذراعيه.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه إنما كان على جهة الاستحباب في التيمم لرد السلام وكلامنا إنما هو على جهة الوجوب لتأدية الصلاة المفروضة، فأحدهما بمعزل عن الآخر.
وأما ثانياً: فلأنه أطلق مسح الذراع ولم يقدره بالنصف والربع والثلث، فظاهره التعميم إلى المرفق، وهذا هو مقصودنا، فإذاً لا فرح لهم فيما أوردوه لمطابقته لما قلناه.
وأما من زعم أن مقدار المسح من اليدين أربع أصابع فقد قالوا: إن الآية واردة بمطلق المسح فيجب حمله على أقل ما يطلق عليه المسح وأقله بالأنامل الأربع.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنه إذا كان المقصود هو الاقتصار على الأقل فالأصبع الواحدة كافية في المسح فلا حاجة إلى التقدير بالأربع فتقديره بالأربع تحكم لا مستند له من جهة الشرع.
وأما ثانياً: فلأن هذه المقالة لم تُحكَ عن أحد من الصحابة والتابعين، فلا جرم حكمنا ببطلانها لمخالفتها لأقاويل العلماء من غير أن تكون عليها دلالة شرعية.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: لو لطخ على وجهه ويديه بالطين المبلول لم يجزه؛ لأنه لا يقع عليه اسم التراب كما مر.
والحجة على ذلك: ما رواه عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن رجل في طين لا يمكنه الخروج منه، فقال: يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده فيتركه حتى يجف فإذا جف تيمم به، ولا يعرف له مخالف.
وإن خاف فوات الوقت قبل جفافه كان بمنزلة من لم يجد ماء ولا تراباً، فهل يصلي على هذه الحالة أم لا؟ فيه تردد.
فحكي عن أبي حنيفة أنه تحرم عليه الصلاة ويقضي، وعن الشافعي أنه يصلي على هذه الحالة ويقضي، وعن مالك لا يصلي ولا يقضي.
والمختار عندنا: أنه يصلي ولا يقضي.
والحجة على ما قلناه: خبر أسيد بن حضير أنه أمره رسول اللّه في طلب قلادة لعائشة فحضرت الصلاة ولا ماء معهم فصلوا بغير طهارة فأتوا الرسول فسألوه عن ذلك فنزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم ولا أمرهم بالقضاء، ويحتمل وجوب الإعادة لان ما هذا حاله نادر وإنما لم يأمرهم الرسول بالإعادة لأن الإعادة على التراخي ويجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وقد تقدم في الفرع الحادي عشر من مسألة ما يستباح بالتيمم وهي آخر الفصل الثاني في فصول التيمم.
الفرع الثاني: وإن ألصق رجل على يديه ووجهه لصوقاً فإن كان نزع اللصوق يضره وأراد التيمم فإنه يمسح على اللصوق بالتراب وإن كان لا يضره نَزَعَهَا وتيمم، وهكذا الحكم في العصابة والجبيرة.
والحجة على ذلك:هو أن إزالة اللصوق فيه حرج ومشقة كما ذكرناه فلهذا سقط حكمه لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].
وهل تجب عليه الإعادة إذا برأ؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا تجب عليه الإعادة وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنها تجب.
والحجة على ما قلناه: قوله : ((لا ظهران في يوم)) ولأنه قد أدَّى الفرض على حكم الخطاب فلا تلزمه الإعادة كما لو كان صحيحاً.
الفرع الثالث: وإن قُطعت يده من الكوع وجب مسح الذراع إلى المرفق لأن الباقي موضع للفرض فلا يسقط بزوال الكف، وهكذا إذا قطع من وسط الذراع يجب مسح الباقي لما ذكرناه، وإن قطع من المرفق هل يتوجه مسح الباقي أم لا؟ فيه تردد، وظاهر مذهب أصحابنا وجوب مسحه إذا تيمم وهو محكي عن أكثر الحنفية.
والمختار: أنه لا يجب مسحه لأن مسحه إنما كان بإدخال الحد في المحدود، وهذا إنما يكون مع الإيصال للمحدود بالحد فأما مع القطع فلا وجه، وهو محكي عن زفر من أصحاب أبي حنيفة، ولأن المرفق اسم لطرف الذراع مما يلي العضد فإذا قطع بطل المرفق فلا وجه لمسح طرف العضد من غير دلالة.
الفرع الرابع:اليد الشلاء التي لا حراك بها سواء كان فيها حياة أو لم تكن، يجب غسلها في الوضوء ومسحها في التيمم للآية والخبر فإنهما جميعاً متناولان لها ولا أعرف قائلاً بخلاف ذلك، ولأنها كاملة في الخلقة وإن نقصت الحياة والقدرة فيجب مسحها كاليد الصحيحة، والأصبع السادسة يجب مسحها لأنها من جملة أصابع اليد لما ذكرناه من الأدلة الشرعية.
مسألة: والترتيب مشروع في عضوي التيمم للآية والفعل، أما الآية فقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ " }[المائدة: 6]. وأما الفعل فلما روي عنه أنه مسح وجهه ويديه، فظاهر الآية والفعل يدلان على أنه مشروع كما أشرنا إليه، وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الترتيب واجب فيبدأ بالوجه ثم يردفه باليدين وهذا هو المحكي عن أئمة العترة ومروي عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وقتادة وأبي ثور وأبي عبيدة.
والحجة على ذلك: هو أنه تعالى قال عقيب قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ " }[المائدة:6]. فأوجب البداية بمسح الوجه لأن الفاء موضوعة للترتيب والتعقيب جميعاً عند أئمة الآدب من النحاة وأهل اللغة، وإذا وجبت البداية بالوجه دل على ما قلناه من وجوب الترتيب.
الحجة الثانية: فعله ، فإنه بيان لما أجملته الآية في المقدار فإنه بدأ بمسح وجهه وثنى بمسح يديه، والبيان يجب أن يكون مطابقاً للمبين فإذا كان الترتيب مرعياً بالوجوب في المبين وجب في بيانه أن يكون كذلك من غير تفرقة بينهما.
المذهب الثاني:أنه غير واجب، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة ومروي عن مالك والثوري والأوزاعي.
والحجة على ذلك: هو أن نظام الآية مسوق بالواو، والواو موضوعة للجمع من غير ترتيب، وهو محكي عن سيبويه وغيره من النحاة كالمبرد والمازني.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وغيرهم من فقهاء العامة، والبرهان عليه ما حكيناه عنهم من الدلالة ونزيد هاهنا، وهو أن الطهارات أمور غيبية استأثر اللّه بأسرارها وقد بدأ رسول اللّه بمسح وجهه وثنى بمسح ذراعيه، وما فعله فلا يجوز تغييره خاصة في أسرار الطهارات فلا يجوز العدول عنه من غير دلالة.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه حجة لهم.
قالوا: الواو موضوعة بالحقيقة للعطف من غير ترتيب فلا يجوز العدول عن الحقيقة من غير دلالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أحدهما: أنه قد نقل أنها حقيقة في الترتيب عن جماعة من أهل الأدب والنحاة فهو يعارض ما ذكرتموه.
وثانيهما: أنا لو سلمنا كونها مجازاً في الترتيب فإنما عدلنا إلى المجاز لما ذكرناه من الدلالة فلهذا عدلنا إلى القول بمجازها توفقة بين الأدلة، والمجازات في كتاب اللّه تعالى أكثر من أن تحصى واستعمال المجازات في القرآن أكثر من استعمال الحقائق فإذا حملنا الواو على مجازها في عدم الترتيب لم يكن بدعاً.
مسألة: والترتيب مشروع أيضاً بين اليمنى واليسرى لما قررناه من الأدلة الشرعية من الأقوال والأفعال فلا وجه لتكريره. وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب، وهذا هو قول أئمة العترة لا يختلفون فيه وهو رأي الإمامية.
والحجة على ذلك: هو ما دل على وجوب الترتيب بين الوجه واليدين فهو بعينه دال على وجوب الترتيب بين اليمنى واليسرى، وقد أسلفناه فلا وجه لتكريره.
المذهب الثاني: أنه مستحب وليس وا جباً، وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه فأما أبو حنيفة فإنه مخالف لوجوب الترتيب في الطهارتين جميعاً بين الأعضاء كلها.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ " }[المائدة:6] ولم يفصل في المسح بين اليمنى واليسرى.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة.
والحجة على ذلك: هو أنه مسح يده اليمنى قبل اليسرى فيجب التأسي بفعله لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ}[الأعراف:158] وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ " }[الأحزاب:21]. ولن يكون التأسي إلا بأن يفعل مثل فعله على الوجه الذي فعله لأنه فعله، فعلى هذا يكون التأسي به، وقد قدم اليمنى على اليسرى في تيممه فلهذا وجب اتباعه فيه.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا:الآية دالة على بطلان الترتيب بين اليمنى واليسرى لقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ " }[المائدة: 6]. ولم يفصل في مسحهما.
قلنا: الآية مجملة في مقدار المسح وكيفيته، والفعل يكون بيانا للخطابات المجملة كالبيان بالخطاب فإنهما سيان في البيان، وقد أوضح التيمم بفعله بتقديم اليمنى على اليسرى فوجب الإنقياد لفعله كالإنقياد لأمره من غير فرق، فهذه جملة الفروض في التيمم قد ذكرناها بأدلتها وتفاصيلها وجملتها أمور سبعة:
أولها: إحضار التراب المطلق.
وثانيها: القصد إلى الصعيد.
وثالثها: نقل التراب إلى أعضاء التيمم.
ورابعها: النية للصلاة التي استباح بها.
وخامسها: مسح الوجه.
وسادسها: مسح اليدين.
وسابعها: الترتيب.
---
القول في بيان السنن الواردة في التيمم
وجملتها عشر.
السنة الأولى: التسمية وهي مشروعة قبل الشروع في هذه الطهارة وهي مستحبة في سائر الأمور المباحة للتبرك وهي في العبادات أحق وأولى لما فيها من مزيد القربة فَذِكْرُ اللّه فيها يكون أحق وأولى، وهل تكون واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة وهو رأي السيد أبي طالب.
والحجة على ذلك: هو أنها طهارة تستباح بها الصلاة فكانت التسمية فيها واجبة كالوضوء.
المذهب الثاني: أنها غير واجبة، وهذا هو الظاهر من مذهب الأئمة الهادي والناصر والمؤيد بالله ورأي الفريقين الشافعية والحنفية، ومحكي عن مالك.
والحجة على ذلك:هو أن المقصود من التسمية التبرك وتزكية الأعمال ولم تدل على الوجوب دلالة فلا جرم قضينا بالاستحباب لقوله : ((أفضل الأعمال ذكر الله ))(1)
كما قال تعالى:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }[العنبكوت:45].
والمختار: ما عليه الأكثر من الأئمة والفقهاء من كونها مستحبة.
والحجة على ذلك:هو أن الأصل براءة الذمة عن الملزوم بالإيجاب فلا يمكن شغل الذمة بالوجوب إلا بدلالة واضحة.
الانتصار: يكون بإبطال ما جُعِلَ عمدة لهم في الوجوب.
قالوا: طهارة تستباح بها الصلاة فكانت [التسمية فيها] واجبة كالوضوء.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) يدخل هذا الحديث في معنى الحديث المروي عن عبد الله بن عمر أن رجلاً أتى النبي فسأله عن أفضل الأعمال. فقال رسول الله : ((الصلاة)) قال: ثم مه؟ قال : ((ثم الصلاة)) قال: ثم مه؟ قال : ((ثم الصلاة)) ثلاث مرات، قال: ثم مه؟ قال : ((ثم الجهاد في سبيل الله)) رواه أحمد وابن حبان. ا ه. جواهر 1/152.
أما أولاً: فلأنه لا مجرى للأقيسة في العبادات؛ لأنها أمور لا تعقل معانيها ولا تفهم أسرارها، وحيث أوردنا شيئاً من الأقيسة في العبادات فليس على جهة الإعتماد عليها وإنما هو على جهة المعارضة لمن خالفنا في تلك المسألة أو على جهة الإستظهار مع إيراد المعتمد من الأدلة الشرعية.
وأما ثانياً: فإنا نقلب عليهم هذا القياس ونقول: طهارة تُستباح بها الصلاة فلا تكون التسمية فيها واجبة كالطهارة من النجس. ولا شك إن قلب العلة وتعليق علتها بنقيض الحكم مفسد للقياس.
السنة الثانية:تجديد النية واستصحابها عند مسح كل عضو من أعضاء التيمم وصورتها: أن ينوي عند مسح الوجه استباحة الصلاة وينوي عند مسح اليد اليمنى استباحة الصلاة وهكذا عند مسح اليد اليسرى ولا خلاف في استحباب تجديدها.
والحجة على ذلك: قوله : ((الأعمال بالنيات ولكل امرء ما نوى )). وفي حديث آخر: ((نية المؤمن خير من عمله )). وإنما كانت خيراً لأن الأعمال تزكو بها وتحصل بها مضاعفة الأجر والثواب.
السنة الثالثة: تفريق النية والتفرقة بين التجديد في النية والتفريق لها، هو أن التجديد أن ينوي في كل عضو ما ينوي في جملة أعضاء التيمم ويكررها حتى يفرغ من مسح الأعضاء، بخلاف التفريق فإنه يفرق النية على الأعضاء على الخصوص فينوي عند مسح الوجه للصلاة وينوي عند مسح اليد اليمنى للصلاة وهكذا يفعل عند مسح اليد اليسرى. فإذا فرقها على الأعضاء على الخصوص فهل تكون مجزية أم لا؟ فيه وجهان عن أصحاب الشافعي ذكرناهما في الوضوء عند تفريق النية، فمنهم من قال إن التفريق يفسدها، ومنهم من قال بأنها تجزيه مع التفريق.
والمختار: هو الإجزاء مع التفريق لأن التفريق إعمالها في كل عضو مع الخصوص، ومثل هذا لا يطرق خللاً فيها لاتصالها بالعبادة وتخصصها بكل عضو وهذا يزيدها تأكيداً في مضاعفة الثواب وزيادة في الفضل، وليس تفريقها واجباً ولكنه إن فعل هذا لم يكن مفسداً لها، وهذا كان السبب في إيرادها في السنن لكونه خليقا بها، والله أعلم.
السنة الرابعة:الموالاة في مسح أعضاء التيمم من غير تفريق بينها، وهل تكون واجبة أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنها غير واجبة وإنما هي مستحبة.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه}[المائدة:6]. والواو للجمع من غير تفريق فإن فرق حتى زال غبار التراب من الوجه كان مكروهاً ولم يدخل زواله بهبوب الرياح خللاً في الإجزاء وقد رمزنا إلى ما في التفريق في أعضاء الوضوء من الخلاف ونصرنا القوي من ذلك بمعونة اللّه تعالى.
السنة الخامسة: المستحب أن يضرب بيديه على التراب سواء كان التراب ناعماً أو غير ناعم لما في حديث عمار قال: أصابتني جنابة فتمرغت على الأرض فأتيت رسول اللّه فذكرت له ذلك فقال: ((يكفيك أن تفعل هكذا وضرب بيديه على الأرض )). وحكي عن الشافعي في أحد أقواله أنه إن كان التراب ناعماً فلا ضرب وإن كان غير ناعم ضرب.
والحجة عليه: ما رويناه من حديث عمار وأسلع ولأن فيه مبالغة في إتصال غبار التراب باليدين فلهذا كان مستحباً.
السنة السادسة: نفخ التراب عن اليدين فإنه مستحب لما في حديث عمار وأسلع؛ لأنه % رفع يديه من الأرض ثم نفخهما لتقليل التراب لأن كثير الغبار غير محتاج إليه في مقصود العبادة فلهذا خففهما بالنفخ.
السنة السابعة: تفريق الأصابع وتفريجها، والمستحب أن لا يفرج أصابعه في الضربة الأولى مخافة أن يحصل التراب بين أصابعه فيكون ماسحاً لها قبل الوجه وفي ذلك مسح جزء من أجزاء اليد قبل مسحه لوجهه، فيبطل الترتيب وهو واجب، والمستحب أن يفرج أصابعه في الضربة الثانية لأنها مشروعة في اليدين ولا ترتيب في مسحهما.
السنة الثامنة: ويستحب نزع الخاتم من الخنصر قبل الضربة الثانية باليدين لئلا يمنع من وصول التراب إلى ما تحته، فإن ترك نزعه وكان واسعاً كره وأجزأه المسح.
السنة التاسعة: ويستحب صف اليدين في الضرب للوجه وفي الضربة الثانية لليدين.
والحجة على ذلك: هو أن الظاهر من حديث عمار وحديث أسلع أنه ضرب بيديه على الأرض على جهة الإستواء في حالهما من غير مخالفة فإن خالف فيهما كره وأجزأه.
السنة العاشرة: الضربة الثالثة وهي سنة وهي محكية عن القاسم ومروية عن ابن المسيب وابن سيرين وأصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الضربتين للوجه واليدين قد تقرر وجوبهما بما ذكرناه من الأدلة بالأحاديث التي رويناها، والضربة الثالثة مستحبة بالقياس على غسلات الوضوء في الوجه واليدين بجامع كونهما طهارة مقصودة للصلاة فلهذا كانت الثالثة مستحبة لما ذكرناه.
تنبيه: اعلم أن المذاهب في عدد الضربات أربعة:
المذهب الأول: أن الواجب ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين وهذا هو المحكي عن الإمامين الهادي والناصر ورأي السيدين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب، ومروي عن فقهاء الأمصار الشافعي وأصحابه وأبي حنيفة ومالك.
والحجة لهم على ذلك: ما رويناه عن عمار بن ياسر وحديث أسلع وقد قدمناه فلا نعيده، وهو المختار عندنا وقد مضى تقريره بأدلته الواضحة.
المذهب الثاني: أن الواجب ضربة واحدة للوجه واليدين، وهذا هو قول الصادق والإمامية، ومحكي عن الأوزاعي وأحمد بن حنبل.
والحجة على ما قالوه: ما رواه البخاري في صحيحه عن عمار أنه قال: إجتنبت فتمرغت كما تتمرغ الدابة فأتيت الرسول فقال: ((يكفيك هكذا وضرب ضربة بيديه ومسح وجهه وكفيه واحدة))(1).
المذهب الثالث: أن الواجب ضربتان كل واحدة من الضربتين تستعمل في العضوين جميعاً وهذا هو المحكي عن ابن أبي ليلى.
والحجة له على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((التيمم ضربتان)). ولما في حديث عمار وأسلع فقد تقرر وجوب الضربتين من جهة الرسول قولاً وفعلاً، والآية ظاهرها دال على مسح العضوين فأخذنا من الأخبار العدد ومن الآية مسح العضوين بالضربتين جمعاً بين الأدلة وتوفقة بينها، ولن يكون الجمع بين الآية والأخبار إلا بما ذكرناه.
المذهب الرابع: أن الواجب ثلاث ضربات ضربة بالكفين للوجه وضربة بالكفين لليد اليمنى وضربة بالكفين لليد اليسرى، فضربتان واجبتان والثالثة سنة، وهو الذي حكيناه عن القاسم وابن المسيب وابن سيرين، وظاهر كلامهما وجوب الثلاث، ضربة للوجه وضربة للكفين وضربة للذراعين فأما القاسم فقد صرح بأن الثالثة سنة.
وحجته: ما ذكرناه من قياسه على الغسلة الثالثة في الوضوء.
والمختار: ما حققناه من قبل في العدد والكيفية، فالعدد: ضربتان، والكيفية: أن واحدة للوجه وواحدة لليدين.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، فأما من زعم أن الواجب ضربة واحدة محتجاً بما روى البخاري عن الرسول في خبر عمار فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن ما رواه عمار من الضربتين راجح لحديث أسلع وغيره من الأحاديث فإنها مطابقة له فلهذا كان أرجح من رواية البخاري.
وأما ثانياً: فلأنها مشتملة على الزيادة والزيادة مقبولة من الراوي لما فيها من الفائدة دون غيرها، وأما من زعم أن الواجب ضربتان مستعملتان في العضوين توفقة بين الأخبار والآية كما حكيناه عنهم، فعنه أجوبة ثلاثة:
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم، وفيه رواية لأبي داؤد.
أما أولاً: فلأن الآية مجملة والأخبار صريحة فيما تناولته وكل واحد على حياله دال على ما يدل عليه فلا وجه للجمع بينهما فيما لا يتفقان فيه.
وأما ثانياً: فلأن ما دل من الأخبار على وجوب الضربتين فهو بعينه دال على استعمال كل واحدة فيهما في كل عضو على انفراده.
وأما ثالثاً:فلأنا إذا استعملنا كل واحدة من الضربتين في عضو على انفراده كان أدخل في الفائدة وأزيد في المعنى، فوجهه أن ما ذكروه تكرار لا فائدة فيه، وما قلناه ليس فيه تكرار فلهذا كان أحق بالقبول وأدخل في المقصود مما قالوه، فأما ما حكيناه عن الإمام القاسم بن إبراهيم من أن الواجب ضربتان والثالثة سنة ففيه نظر، من جهة أن الطهارات كلها لا تجري فيها الأقيسة وإنما هي أمور غيبية استأثر اللّه بأسرارها فلا جريان للمعاني فيها وجري الأشباه فيها عسير، وقياسه على الوضوء فيه بعد من جهة أن تكرار الغسلات فيه زيادة للتطهير فلهذا شرع فيه الفرض والسنة، بخلاف الطهارة بالتراب فإن زيادة الثالثة فيه تكثير للتعفير بالتراب فإذا حصل الفرق بطل القياس، ووجه ثالث: وهو أن صاحب الشريعة قد أشار إلى السر الذي ذكرناه في طهارة التراب ولم يذكر السنة في الثالثة وهو في محل التعليم، فظهر بما حققناه أن تحكيم الآراء النظرية في العبادات يضيق مسلكه ويدق مجراه فيجب الإقتصار فيها على الآي القرآنية والأخبار النبوية وتكون الأقيسة بمعزل.
---
خاتمة لمفروض التيمم ومسنونه
اعلم أن جميع ما اشتملت عليه أعمال الطهارة بالتراب فهي منقسمة إلى مفروضات ومسنونات وهيئات فهذه أقسام ثلاثة:
القسم الأول: المفروضات، ونعني: ما لا تكون الطهارة والصلاة مجزيتين إلا بفعله وهذا نحو النية ونقل التراب ومسح الوجه واليدين إلى المرفقين وغير ذلك فهذه الأمور كلها لا تتم الطهارة وإجزاء الصلاة إلا بها.
القسم الثاني: المسنونات، وهو كل ما كان ليس شرطاً في الطهارة وتكون الصلاة مجزية من دونه، وهذا نحو تجديد النية والموالاة في مسح الأعضاء والضرب باليدين وغير ذلك من السنن التي حصرناها.
القسم الثالث: الهيئات، وهذا نحو الصف في اليدين ونفخهما من التراب وتفريق الأصابع وضمها وغير ذلك من المستحبات.
وتنقسم الأعمال قسمة أخرى إلى ما يكون مجمعاً على كونه فرضاً، وإلى ما يكون مجمعاً على كونه سنة، وإلى ما وقع فيه الخلاف والتردد في كونه فرضاً أو سنة، فهذه ضروب ثلاثة:
فالضرب الأول: وقع الإجماع على كونه فرضاً وهو ما تضمنته الآية من مسح الوجه واليدين ولا خلاف في هذا.
الضرب الثاني: ما وقع الإجماع على كونه سنة وهذا نحو صف اليدين ونفخهما وتفريق الأصابع وضمها.
الضرب الثالث: ما وقع فيه التردد والخلاف، وهذا نحو النية واعتبار التراب وطهارته والترتيب.
وقد تم غرضنا من بيان المفروض والمسنون من طهارة التراب.
---
الفصل الخامس في بيان أحكام التيمم
اعلم أنا قد اسلفنا نبذاً في أحكامه فيما قدمناه في الفصول السابقة ونحن الآن نذكر ما لم نذكره من قبل، وجملة ما نذكره من ذلك أحكام خمسة:
الحكم الأول: المأثور من كلام الأئمة وإطلاقات علماء الأمة أن الطهارة بالتراب طهارة ضرورية فيستخرج من هذا قواعد عشر:
أولها: أن الطهارات كلها إنما تقصد لإزالة الأحداث الموجبة للغسل نحو الجنابة والحيض والنفاس أو الأحداث الموجبة للوضوء كالبول والغائط فإنها رافعة لها، بخلاف الطهارة بالتراب فإنها غير رافعة لهذه الأحداث وإنما هي مبيحة لما كان محظوراً.
وثانيها: أنها إنما تكون عند عدم الماء وتعذر استعماله، ولا يجوز فعلها مع وجود الماء والتمكن من استعماله كما مر بيانه.
وثالثها: أنها إنما تفعل في آخر الوقت لأنها طهارة بدلية وإنما يجوز فعلها عند الإياس من المبدل.
ورابعها: أنها مقصورة على عضوين بخلاف طهارة الغسل فإنها موضوعة لطهارة البدن كله والوضوء موضوع للأعضاء.
وخامسها: أن المقصود منها هو مسح العضوين بالتراب بخلاف الطهارة بالماء فإن المقصود منها هو الغسل، والمسح يفارق الغسل في حقيقته وحكمه.
وسادسها: أن موضوعها وإن كان المسح فليس المقصود منه الإستيعاب فلا يلزم فيه إدخاله تحت الشعور كالحاجبين وأهداب العينين بل يمسح فيصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ.
وسابعها: أنه مقصور على أداء الفريضة الواحدة مع نافلتها بخلاف الوضوء فإنه يؤدى به كل فريضة ونافلة.
وثامنها: أن الطهارة بالتراب تنتقض برؤية الماء لما كانت بدلية بخلاف الطهارات بالماء فإنها إنما تنتقض بالأحداث الشرعية لا غير.
وتاسعها: أن كل ما أُدّيَ من العبادات بالطهارة المائية فإنه لا يعاد سواء كان الوقت باقياً أو زائلاً بخلاف ما أُدّيَ بالطهارة بالتراب من العبادات فإنه يعاد إذا كان الوقت باقياً وما ذاك إلا لنقصانها وكونها ضرورية.
وعاشرها: أن الطهارة كلها بالماء مشروعة للتطهير والتنظيف وإزالة العفونات من الفم والأنف والعين وسائر الأعضاء وتنحية الغبرات عنها، ولهذا جعل وظيفة الرأس المسح لما كان الغالب ستره بالعمامة والقلنسوة، بخلاف الطهارة بالتراب فإنها مشروعة لتعفير أعضائه بالتراب وإلصاق الغبرات به. وفيه فوائد غير ما ذكرناه وأشرنا إليه لا تخفى على من له خوض وممارسة لعلم الفقه، وفيما أوردناه عينة وكفاية في التنبيه على مقاصد العلماء في كون هذه الطهارة ضرورية.
الحكم الثاني: أجمع العلماء واتفق الفضلاء من أئمة العترة وفقهاء الأمة على أن الطهارة بالتراب إنما تراد لتأدية الأمور التي تشترط فيها الطهارة وذلك أنواع ثلاثة:
أولها: تأدية الصلوات المفروضة نحو [الصلوات] الخمس وصلاة الجنازة.
وثانيها: القُرَب المندوبة، وهذا نحو صلاة النافلة ودخول المسجد وقراءة القرآن.
وثالثها: الأمور المباحة، نحو الوطء بعد انقضاء النفاس والحيض، فالطهارة بالتراب تراد لهذه الأمور الثلاثة عند عدم الماء وتعذر استعماله.
وهل يزال حكم النجاسة بالتراب أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن التراب لا يقوم مقام الماء في إزالة النجاسة، وهذا هو قول أئمة العترة وفقهاء الأمة أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك.
والحجة على ذلك: ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أن امرأة سألت رسول اللّه ، هل يجزي المرأة أن تستنجي بشيء غير الماء؟ فقال: ((لا إلا أن لاتجد الماء " )) (1).
فنص على أن النجاسة من موضع الإستنجاء لا تزول إلا بالماء، ولم يفصل أحد بين ذلك الموضع وبين سائر المواضع من الأجسام والثياب.
__________
(1) حكاه في (أصول الأحكام). وهو هنا مروي عن زيد بن علي في مجموعه.
والحجة الثانية: ما روي عن الرسول أن أعرابياً بال في المسجد فقال: ((صبوا عليه ذنوباً من ماء " )). فلو كان شيء يقوم مقام الماء في إزالة النجاسة لذكره أو لخيَّر بينه وبين الماء فلما لم يذكره وهو في محل التعليم للشريعة دل على بطلانه.
المذهب الثاني: محكي عن أحمد بن حنبل، أن التراب يقوم مقام الماء عند عدمه في إزالة النجاسة ولم أعرف أحداً قال بهذه المقالة قبله ولا بعده.
والحجة له على ما قاله: هو أن إزالة النجاسة طهارة يتوصل بها إلى إصلاح الصلاة وصحتها فقام التراب فيها مقام الماء كالوضوء والغسل ولا أعرف له دلالة على ما ذكر سوى القياس لا غير.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ويدل عليه ما ذكرناه ونزيد حججاً ثلاثاً:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا " }[الفرقان:48]. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ " }[الأنفال:11] ووجه الإستدلال من هاتين الآيتين هو أن الله تعالى امتن علينا بأن جعل الماء لنا طهوراً ومطهراً وخص التطهير به، فلو قلنا: إن غير الماء يقوم مقامه ويشاركه لبطل الإمتنان بالتخصيص.
الحجة الثانية: ما روي أن أسماء بنت أبي بكر " (1)
رضي اللّه عنها سألت رسول اللّه عن دم الحيض يصيب الثوب فقال : ((حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء " )). وهذا نص فيما اختلفنا فيه، ولأنه أمر بالحت أولاً ثم بالقرص ثانياً ثم بالغسل ثالثاً، فلو كان غير الماء يقوم مقامه في التطهير لذكره وهو في موضع التعليم فدل على بطلانه.
__________
(1) هي أسماء بنت أبي بكر عبد الله بن قحافة، أم عبد الله القرشية التيمية المكية، تزوجت الزبير بن العوام وانجبت منه عبد الله وعروة، روى عنها إبناها وحفيدها عبد الله بن عروة، وابنه عباد بن عبد الله بن عروة وغيرهم مثل: ابن عباس، وأبو واقد الليثي، وابن مليكة، عُمِّرت طويلاً، وهي آخر المهاجرات وفاة، وهي وأبوها وجدها وابنها عبد الله صحابيون، روى شعبة بسنده قال: دخلنا على أم ابن الزبير فإذا هي امرأة ضخمة عمياء نسألها عن متعة الحج فقالت: قد رخص رسول الله فيها، وروى هشام بن عروة بسنده طرفاً من هجرة رسول الله عن أسماء أنه كان في بيت أبي بكر فلم أجد لسفرته ولا لسقائه ما أربطهما فقلت لأبي: ما أجد إلا نطاقي فقال: شقيه باثنين فاربطي بهما، قال: فلذلك سميت ذات النطاقين، مسندها ثمانية وخمسون حديثاً، وجاء في (تهذيب التهذيب) للعسقلاني: قال هشام بن عروة عن أبيه: كانت أسماء قد بلغت مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل، وقال ابن إسحاق: أسلمت قديماً بعد إسلام سبعة عشر إنساناً، وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بابنها عبد الله، وماتت بمكة بعد قتله بعشرة أيام، وقيل: بعشرين يوماً، وذلك في جمادى الأولى سنة 73ه. ا ه14/426.
الحجة الثالثة: هو أن الطهارات أمر شرعي فلا يمكن إثبات ما يتطهر به إلا بالأمور الشرعية والشرع إنما ورد بالماء دون غيره فلهذا لم يجز التطهر إلا به، وقد أعرضنا عن ذكر الأقيسة في الطهارات من جهة كونها أموراً غيبية لا يعلمها إلا اللّه فهو المستأثر بعلمها فلا وجه لإيراد الأقيسة في تقريرها وإبطالها لإنسداد جريانها فيها.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعله حجة من القياس وهو فاسد لأوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأنا قد ذكرنا غير مرة، تعذر جري الأقيسة في الطهارات لإنسداد المعاني والأشباه المثمرة للأحكام فلا مطمع في إعادتها.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل: كونها طهارة بمائع، وما ذكرتموه: طهارة بجامد فلا جرم افترقا والفرق مبطل للقياس.
وأما ثالثاً: فلأنا نعارض قياسه بما يكون مبطلاً له. فنقول: طهارة بجامدٍ فلا تكون من شرط صحة الصلاة كالإستجمار بالأحجار، فبطل ما عول عليه، وصح بما ذكرناه أنه لا مستروح له فيما قاله.
الحكم الثالث: في رؤية المتيمم للماء، واعلم أن المتيمم إذا تيمم وفرغ من تيممه على الصفة المشروعة فله ثلاث حالات(1):
الحالة الأولى: أن تكون رؤيته للماء قبل دخوله في الصلاة وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أن تيممه يبطل وهذا هو قول أئمة العترة وفقهاء الأمة الشافعي وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه ومالك.
والحجة على ذلك: قوله : ((الصعيد الطيب وضوء المسلم ما لم يجد الماء " فإذا وجده فليمسسه بشرته)) (2).
الحجة الثانية: وهو أن التيمم إنما يراد لإستباحة الصلاة، فإذا قدر على الأصل قبل الشروع في المقصود لزمه العود كالحاكم إذا حكم بالاجتهاد ثم وجد النص في الواقعة قبل التنفيذ.
__________
(1) في الأصل: ثلاثة أحوال.
(2) تقدم.
المذهب الثاني: أنه يصلي بتيممه ولا ينتقض، وهذا شيء حكاه العمراني صاحب البيان عن سلمة بن عبدالرحمن(1) من أصحاب الشافعي.
والحجة له على ما قاله: قوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ " }[محمد:33]. ولا شك أن التيمم من جملة أعمال العبادات وهو إذا عدل عنه إلى الوضوء فقد أبطله إذا لم يُصلِّ به.
الحجة الثانية: قوله هو أن التيمم قد انعقد على الصحة فلا يبطل برؤية الماء كما لو رآه بعد فراغه من الصلاة.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة.
والحجة عليه: ما رويناه عنهم ونزيد ههنا حججاً ثلاثاً:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا " }[المائدة: 6] وهذا واجد للماء.
الحجة الثانية: قوله : ((التراب كافيك حتى تجد الماء " )) وهذا واجد للماء.
الحجة الثالثة: قوله: ((فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك " )). ولم يفصل بين أن يكون قد فعل الصلاة أو لم يفعل، فهذه الحجج كلها دالة على ما ذكرناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه.
قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ " }[محمد:33].
قلنا: هذه الآية مجملة لأحتمالها لمعان، فيحتمل أن يراد بها لا تبطلوا أعمالكم لعدم القصد فيها وجه اللّه تعالى، ويحتمل أن يراد بها لا تبطلوا أعمالكم باقتحام الكبائر المحبطة لثوابها، ويحتمل أن يراد لا تبطلوا أعمالكم بإخلال شروطها، فهذه الآية محتملة لهذه المعاني فلا تحمل على بعضها دون بعض إلا بدلالة ولا دلالة هاهنا.
__________
(1) لم نجد في طبقات الشافعية شخصاً باسم سلمة بن عبد الرحمن، ولكن وجدنا في (تهذيب التهذيب) شخصين: الأولى اسمه: سلمة بن رجاء التميمي أبو عبد الرحمن الكوفي 4/147، والآخر باسم: سلمة بن شبيب النيسابوري، أبو عبد الرحمن الحجري المسمعي 4/149، وإذا كان هذا أحدهما فهذا يعني أن هناك خطأ في نقل الاسم من المخطوطة وجل من لا يسهو. والمعروف أن هناك شخصاً من رواة الحديث.
قوله: هو أن التيمم قد انعقد من أول وهلة على الصحة فلا وجه لإبطاله.
قلنا:هذا فاسد فإنا نقول: ما تريد بكون التيمم قد انعقد على الصحة، تريد مع رؤية الماء أو من غير رؤيته فممنوع مسلم(1)،
فإن صحة انعقاده على الصحة مشروطة بعدم رؤية الماء.
الحالة الثانية: أن تكون رويته للماء بعد دخوله في الصلاة، فهل تبطل صلاته ويلزمه الخروج منها أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنها تنتقض طهارته وتبطل صلاته ويلزمه الخروج للوضوء والصلاة، وهذا هو رأي الهادي والناصر واختاره السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب، ومحكي عن أبي حنيفة والثوري والأوزاعي، ومحكي عن المزني وابن شريح من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً " }[المائدة:6]. فظاهر الآية دال على فساد التيمم مع وجود الماء ولم يفصل بين حالة وحالة في الفساد.
الحجة الثانية: قوله : ((فإذا وجدت الماء فامسسه بشرتك " )) فأمرنا باستعمال الماء ولم يفصل بين أن يكون قبل الدخول في الصلاة أو في أثنائها.
المذهب الثاني: أن صلاته صحيحة ولا يجوز له الخروج عنها وهو رأي مالك، ومحكي عن داؤد من أهل الظاهر.
والحجة على هذا: هو أنه قد تلبس بصلاة صحيحة فلا يجوز له الخروج عنها كما لو رأى الماء بعد الفراغ منها.
المذهب الثالث: التفصيل، وهو أنه إن كان في الحضر أو في سفر قصير بطلت صلاته ووجبت عليه الإعادة وإن كان في سفر طويل لم تبطل صلاته ولم تجب عليه الإعادة وهذا هو رأي الشافعي.
__________
(1) العبارة المقصودة هي: هل تريد صحة التيمم مع رؤية الماء أو مع عدمها؟ فإن كان الأول فممنوع، وإن كان الثاني فمسلم. والله أعلم.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في صلاته " فينفخ بين اليتيه ويقول له: أحدثت أحدثت فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) (1).
فمن قال بأنه ينصرف في هذه الحالة وهي رؤية الماء فقد خالف ظاهر هذا الحديث، ثم قال أصحاب الشافعي: فإذا تقرر هذا فهل له الخروج منها أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الأفضل أن يخرج منها كما إذا وجد الرقبة في أثناء الصوم فالأفضل أن يرجع إلى العتق.
وثانيهما: أنه لا يجوز له الخروج منها لأنها صلاة مفروضة صحيحة فلا ينصرف عنها.
قالوا: والأصح هو الأول وهو الخروج منها.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن تابعهم من فقهاء العامة.
والحجة على ذلك: هو أن الظواهر الشرعية من الآية والأخبار دالة على بطلان التيمم عند رؤية الماء ولم يفصل، ولأنه رأى الماء بعد تلبسه بطهارة التراب فكان مبطلاً لها كما لو رأى الماء قبل دخوله في الصلاة.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه. أما من زعم أن صلاته صحيحة وأنه لا يجوز له الخروج منها.
قالوا: صلاة صحيحة قد تلبس بها فلا يجوز له الخروج منها.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنها طهارة بدلية فلا يحكم بصحتها مع وجود مبدلها وهو الماء.
__________
(1) حكاه في (أصول الأحكام) و(الشفاء) وقال: وروي: ((...او يستيقن حدثاً)) قال في (الجواهر): وقد حكاه في (التلخيص) وذكره البيهقي في (الخلافيات). وذكر المزني في (المختصر) عن الشافعي، نحوه بغير اسناد ثم ساقه البيهقي من حديث عبد الله بن زيد، بمعناه، اه. ملخصاً 1/80.
وأما ثانياً: فلأن صحتها مشروطة بعدم رؤية الماء والآن فهو موجود فلهذا حكمنا ببطلانها، فأما ما حكيناه عن الشافعي من التفصيل فقد حكى صاحب البيان أن الأصح من القولين هو بطلان الصلاة ووجوب الإعادة مثل قولنا، فأما احتجاجهم بالخبر فهو حجة لنا عليهم؛ لأنه قال: ((فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)). فظاهره دال على أنه يحكم ببطلان الطهارة عند تحقق الناقض ونحن قد حكمنا ببطلان الطهارة وأوجبنا عليه الإعادة لما تحققننا الناقض لها وهو رؤية الماء فبطلت دلالة الخبر على ما قالوه.
الحالة الثالثة: في المتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة. اعلم أن المتيمم إذا فرغ من الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء بعد مضي الوقت للعبادة وتقضيه فلا خلاف بين العلماء [في] أنه لا يجب عليه القضاء لما صلى بالتيمم.
والحجة على ذلك: هو أنه قد خرج عن عهدة الأمر بتأدية الصلاة بالتيمم بشرائطه فلا يجب عليه القضاء، ولأن القضاء إنما يجب بأمر جديد ولا دلالة تدل على وجوب القضاء.
التفريع على هذه القاعدة وجملتها فروع خمسة:
الفرع الأول: إذا فرغ الرجل من صلاته بالتيمم وقد بقي من الوقت ما يسع لتأدية ما صلى بالتيمم على الكمال، فهل تتوجه عليه الإعادة أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه يجب عليه الوضوء ويعيد الصلاة، وهذا هو الذي اختاره السيدان الإمامان(1)
لمذهب الهادي والناصر وهو رأيهما ومحكي عن طاؤوس من الفقهاء.
والحجة على ذلك: هو أن الطهارة بالتراب طهارة بدلية ومهما كان الوقت باقياً فالخطاب متوجه بتأدية الصلاة بالماء.
المذهب الثاني: أنه لا يلزمه استئناف الوضوء ولا الصلاة بحال لا في الوقت ولا بعده، وهذا هو قول زيد بن علي ورأي أبي حنيفة وأصحابه.
وحجتهم: قوله : ((لا ظهران في يوم)).
المذهب الثالث: أن السفر إذا كان طويلاً لم تجب عليه الإعادة، وإن كان قصيراً وجبت عليه الإعادة وهذا هو رأي الشافعي.
__________
(1) المؤيد بالله وأبو طالب.
والحجة على ذلك: ما روي أن رجلين كانا في سفر فعدما الماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فأتيا الرسول فأخبراه بذلك، فقال للذي لم يعد: ((أصبت السنة " )). وقال للذي أعاد: ((لك أجران)) (1).
والمختار: أن إعادة الصلاة بعد تأديتها بالتيمم غير واجبة وإنما هي مستحبة.
والحجة على ما قلناه: هو أنه قد خرج عن عهدة الأمر بتأدية الصلاة بالتيمم وأسقط الوجوب عن ذمته فلا وجه لتوجه الإعادة.
الحجة الثانية: قوله في خبر الرجلين للذي لم يعد: ((أصبت السنة " )). أي حكم الشريعة. كما قال : ((من رغب عن سنتي فليس مني " )) أراد: شرعي الواجب؛ لأن البراءة منه(2)
لا تكون إلا على الإخلال بما هو واجب على الإنسان، وأما استحباب، الإعادة فدليله خبر الرجلين حين قال للذي أعاد: ((لك أجران)). أراد أجر الوجوب وأجر الاستحباب فأجر الوجوب بالأولى وأجر الاستحباب بالثانية.
الانتصار: يكون بإيراد الإعتراض على ما أوردوه حجة.
قالوا: مهما كان الوقت باقياً فالخطاب متوجه عليه بالإعادة لما كانت الأولى طهارة بدلية.
قلنا: إن الوجوب قد سقط بتأدية الصلاة بالتيمم فلا وجه لتأدية صلاة غير واجبة عن صلاة واجبة من جهة أن النفل لا يقوم مقام الفرض.
ثم نقول: هذه الصلاة المؤداة بالوضوء، واجبة أو غير واجبة؟ فإن كانت غير واجبة فكيف يقولون بوجوب ما ليس واجباً على المكلف؟ وإن كانت واجبة فقد سقط الفرض بالتيمم فكيف تكون واجبة مع وجوب الأولى؟ وقد قال : ((لا ظهران في يوم)). ((ولا عصران في يوم)). وإن كانت مستحبة فهو المراد وقد سقط الوجوب.
__________
(1) أخرجه أبو داؤد بلفظ: فقال للذي لم يعد: ((أصبت السنة واجزأتك صلاتك)) وقال للذي اعاد: ((لك الأجر مرتين)) اه. (جواهر) 1/149.
(2) بقول الرسول: ((فليس مني)).
ثم نقول: إذا فرغ من الصلاة بالتيمم وفي الوقت بقية يدرك بها الفرضين فهل قد سقط الفرض بالتيمم أو لم يسقط؟ فإن كان قد سقط بالتيمم فلا وجه لإيجاب الإعادة لما ليس واجباً، وإن كان لم يسقط الفرض بالتيمم فكيف أوجبتم ما ليس واجباً، وأما ما حكيناه عن الشافعي من أن السفر إذا كان قصيراً وجبت الإعادة، وإن كان طويلاً فلا إعادة فإنما هو مبني على أن التيمم إنما يجب في السفر دون الحضر، فإذا كان قصيراً فلا سفر فيبطل التيمم وتجب الإعادة، وإن كان طويلاً صح فعل التيمم فلا تجب الإعادة، وقد قررنا فيما سبق الكلام عليه وصحة التيمم في السفر والحضر إذا كان العذر خارجاً، والله اعلم.
الفرع الثاني: إذا فرغ المتيمم من الصلاة وقد بقي من الوقت ما يتسع لركعة فهل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها لا تلزمه الإعادة وهذا هو رأي المؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو أنه قد أداها على الكمال بالتيمم والخطاب بالإعادة إنما يكون متوجهاً إذا كان المعاد كاملاً فأما مع النقصان فلا.
المذهب الثاني: أنه يتوجه عليه الإعادة.
والحجة على هذا هو أنه بإدراك ركعة من الفريضة قد أدركها، لما روي عنه أنه قال: ((من أدرك ركعة من العصر فقد أدركها " ومن أدرك ركعة من الفجر فقد أدركها)) (1)
وإذا كان الأمر هكذا وجبت عليه الإعادة كما لو أدرك الكل من الفريضة في الوقت، وهذا هو رأي السيد أبي طالب.
والمختار: أنه لا تلزمه الإعادة.
والحجة على ذلك: ما قررناه آنفاً، وهو أنه إذا لم تلزمه الإعادة مع إدراك الفريضة كلها في الوقت فلأن لا تلزمه الإعادة مع إدراك الركعة الواحدة[أولى]، فلا وجه لتكريره.
__________
(1) جاء في (الجواهر) عن أبي هريرة بلفظ: إن رسول الله قال: ((من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) أخرجه الستة. اه. ج1 ص154.
والانتصار: على ما ذكره الإمام المؤيد بالله قد أسلفناه فلا نعيده. وأما ما ذكره الإمام أبو طالب فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن في الخبر إجمالاً من جهة أنه يحتمل أن يكون المراد من الخبر أنه إذا أدرك الركعة أو أدرك الصلاة، وإذا كان محتملاً لما ذكرناه كان مجملاً وبطل الاحتجاج به.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: إذا بطلت الإعادة مع إدراكه لكل العبادة في الوقت بالأدلة التي ذكرناها فلأن تبطل مع إدراك بعض العبادة [أولى].
الفرع الثالث: وإن كان معه ماء فأراقه وتيمم فإن كان قد أراقه قبل دخول الوقت لم تلزمه إعادة ما صلى بالتيمم لأنه عادم للماء قبل توجه الخطاب له بالتيمم وإن كان قد أراقه بعد دخول الوقت فهل يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أن الإعادة غير لازمة له لأنه بعد الإراقة عادم للماء وإن كان قد عصى بالإراقة فهو كمن قطع رجله فإنه يعصي بالقطع ولكنه إذا صلى قاعداً أجزأه.
الفرع الرابع: وإن دخل في صلاة نافلة بالتيمم ثم رأى الماء في أثنائها فإن كان قد نوى عدداً من الأربع والإثنتين أتم ما نواه وإن لم ينو عدداً سلم على ركعتين لأنهما هما الأقل من النوافل.
والحجة على ذلك: هو أن الشرع يغتفر في النوافل ما لا يغتفر في الفرائض ولهذا فإنه يجوز أداء النافلة على الراحلة دون الفريضة ويصح تأديتها عن قعود مع القدرة على القيام، فلهذا ساغ ما ذكرناه من إتمام العدد الذي نواه بخلاف الفريضة، والإقتصار على ركعتين.
الفرع الخامس: قد ذكرنا فيما مر أن طلب الماء شرط في صحة انعقاد التيمم فإذا تيمم الرجل لعدم الماء بعد طلبه ثم رأى الماء ودونه حائل من سبع أو عدوٍ أو لصٍ، فإن رأهما معاً فتيممه باقٍ على الصحة وإن رأى الماء أولاً ثم عرف ثانياً أنه محول دونه بالحوائل المانعة عنه فإنه يعيد الطلب ويعيد التيمم لما كان شرطاً فيه، وإن وجد الماء بعد ما تيمم وهو محتاج إليه لعطشه، أو لبهائمه لم يبطل تيممه لأنه لو كان معه قبل تيممه لم يلزمه استعماله للحاجة التي ذكرناها.
الحكم الرابع: في الناسي، واعلم أن الإعادة اسم لما أُدِّيَ من العبادة لضرب من الخلل في المفعول والوقت باقٍ، والقضاء إسم لما أُدِّيَ من العبادات لضرب من الخلل والفساد في المفعول مع زوال الوقت وتقضيه، فمن تيمم وصلى ناسياً للماء في رحله، فهل تلزمه الإعادة في الوقت أو يلزمه القضاء بعد مضي الوقت؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه تلزمه الإعادة في الوقت ولا يلزمه القضاء بعد فوات الوقت، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب لمذهب الإمامين الهادي والناصر وهو محكي عن مالك.
والحجة على ذلك:أما أنه لا يلزمه القضاء بعد مضي الوقت فالذي يدل عليه هو أنه قد أدَّى الطهارة بالتراب على الشروط المعتبرة وصلى فلا يلزمه القضاء بعد فوات الوقت كما لو لم يذكر الماء، وأما أنه يلزمه الإعادة مع بقاء الوقت فالذي يدل عليه هو أن الوقت مهما كان باقياً فالخطاب متوجه عليه في تأدية العبادة، وعلمه بالماء مع بقاء الوقت مبطل للتيمم فلهذا وجبت عليه الإعادة.
المذهب الثاني: أن الإعادة لازمة له في الوقت أو القضاء لازم له بعد تقضي الوقت، وهذا هو رأي السيد المؤيد بالله ومحكي عن أبي يوسف وأحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الطهارة من شرطها تمام صحتها في الإبتداء والعاقبة فلما علم بوجود الماء كان مبطلاً لتيممه فلهذا توجهت عليه الإعادة في الوقت والقضاء بعده ويؤيده قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا " } [المائدة:6]. وهذا واجد لكنه غير ذاكر.
المذهب الثالث: أنه لا يعيد في الوقت ولا يقضي بعده، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة و محمد وأحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله : ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)). فظاهر الخبر دال على رفع الإعادة عنه في الوقت ورفع القضاء عنه بعد زواله وتقضيه.
والمختار: في الناسي ما قاله الإمامان الهادي والناصر من وجوب الإعادة في الوقت ولا يجب عليه القضاء بعد زواله.
والحجة لهما: ما ذكرناه من قبل ونزيد هاهنا، وهو أنه إنما وجبت عليه الإعادة مع بقاء الوقت فلأن تيممه مع علمه بالماء وقع على فساد لكونه واجداً للماء في الوقت فلا بد من خروجه عن عهدة الأمر بالعبادة، فلهذا وجبت عليه الإعادة في الوقت، وأما أنه لا يجب عليه القضاء بعد تقضي الوقت فلأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ومع تقضي الوقت فلا دلالة تدل على وجوب القضاء في حقه مع كونه قد أدى العبادة بالشروط المعتبرة فيها.
الانتصار: يكون بإبطال ما عداه، أما من زعم أن القضاء متوجه عليه بعد مضي الوقت فقد قالوا إن علمه بوجود الماء مبطل لتيممه فلهذا توجه القضاء.
قلنا: إن تيممه قد انعقد على الصحة فلابد من دليل خاص يدل على القضاء بعد إنقضاء الوقت.
وأما من زعم أنه لا تجب عليه الإعادة في الوقت كما هو رأي أبي حنيفة وغيره فقد احتجوا بظاهر الخبر.
قلنا: ظاهر الخبر غير معمول عليه لأن الغرامات المالية خارجة عنه، فإن من أتلف مالاً لغيره وجب عليه غرامته ولا يسقط بالنسيان فلابد من تأويله. فنقول: الخبر محمول على ما إذا كان الوقت باقياً فأما مع تقضيه فلا.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: إذا كان في رحله ماء فحال العدو بينه وبين رحله أو حال بينهما سبع أو لصوص حتى لا يمكنه الوصول إليه ثم تيمم وصلى فهذا لا إعادة عليه ولا قضاء فإنه في حكم العادم للماء.
الفرع الثاني: إن كان في رحله ماء فضلَّ عنه ولم يجده فحضرت الصلاة وطلبه ولم يجده ثم تيمم وصلى فإنه لا تجب عليه الإعادة والقضاء لأنه غير منسوب إلى التفريط في طلب الماء.
الفرع الثالث: وإن ضل عن القافلة أو عن الماء فلم يجده بعد الطلب وتيمم وصلى فلا إعادة عليه ولا قضاء.
الحكم الخامس: في المريض إذا كان به قروح ولها غور عظيم ويخاف إذا مسها الماء أن يكون فيها تلف النفس أو تلف عضو، وجملة الأمر أن المرض يقع على أوجه ثلاثة:
الوجه الأول: أن لا يخاف من استعمال الماء تلف نفس ولا فساد عضو ولا حدوث مرض مخوف ولا إبطاء برء العلة وهذا نحو صداع الرأس ووجع الضرس والدمل والحمى الخفيفة، فما هذا حاله فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجوز التيمم، وهذا هو قول أئمة العترة وأكثر فقهاء العامة.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((لا يقبل اللّه صلاة امرء حتى يضع الوضوء مواضعه)).
المذهب الثاني: أنه يجوز له، وهذا هو المحكي عن داؤد وبعض أصحاب مالك.
والحجة على ما قالوه: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ " } إلى أن قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[المائدة: 6]. فظاهر الآية يقضي بجواز التيمم للمريض من غير فصل بين مرض [ومرض].
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة.
والحجة لهم: ما قررناه من قبل ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: قوله: ((مفتاح الصلاة الطهور " ))(1).
__________
(1) تمامه: ((...وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم)). أخرجه أبو داؤد والترمذي من رواية علي وأخرجه الترمذي أيضاً مع الزيادة من رواية أبي سعيد. اهبلفظه من (الجواهر) حاشية البحر 1/96.
الحجة الثانية: قوله : ((الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)). وروي ((فأطفئوها بالماء)) فندب إلى إطفاء حرها بالماء فلا يجوز أن تكون سبباً يزيل استعمال الماء ولأن هذا واجد للماء لا يخاف من استعماله تلف نفس ولا تلف عضو فلا يجوز له التيمم كالصحيح.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة.
قالوا: الآية دالة على جواز التيمم للمريض.
قلنا: الآية محمولة على مرض يخاف منه تلف النفس أو تلف عضو وإنما وجب تأويلها حذراً من تعارض الأدلة وتناقضها.
الوجه الثاني من الأمراض: هو أن يخاف منه تلف النفس أو يخاف منه حدوث مرض يخاف منه تلف النفس أو تلف عضو أو يخاف منه استمرار علة تؤدي إلى التلف لما ذكرنا أو إبطاء البرءُ الذي يخشى منه التلف فما هذا حاله، هل يجوز له التيمم أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجوز له التيمم في هذا المرض، وهذا هو رأي أئمة العترة والأكثر من فقهاء العامة أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك.
والحجة على ما قلناه: ما روي أن عمرو بن العاص تيمم مع وجود الماء لخوف التلف فعلم به الرسول فقال له: ((يا عمرو صيلت بأصحابك وأنت جنب " ؟)). فقال: يارسول اللّه إني سمعت اللّه يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}[النساء:29] فعذره الرسول ولم ينكر عليه.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز له التيمم وهذا شيء يحكى عن الحسن البصري وعطاء.
والحجة لهما على ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ " } إلى أن قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[المائدة: 6]. فأباح التيمم عند عدم الماء وهذا واجد للماء فلا يجوز له التيمم.
والمختار: ما عول عليه الأئمة وفقهاء العامة.
والحجة: ما أسلفناه ونزيد هاهنا، وهو ما روي أن رجلاً أصابته شجة في رأسه في بعض العزوات فاجتنب فسأل الناس فقالوا: لا بد من الغسل فاغتسل فمات فبلغ ذلك الرسول فقال: ((قتلوه قتلهم اللّه " هل لا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على رأسه خرقة ويمسح عليها ويغسل سائر بدنه)). وهذا نص لا تجوز مخالفته.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه دلالة لهم.
قالوا: الآية دالة على ما قلناه.
قلنا: الآية فيها حذف والتقدير فيها، وإن كنتم مرضى فلم تقدروا على استعمال الماء، أو على سفر فلم تجدوا ماءً فتيمموا، ثم ولو سلمنا أنه لا حذف في الآية فالمراد منها المرض الذي يخشى منه تلف النفس أو تلف الأعضاء من استعمال الماء بدليل ما رويناه وإنما وجب هذا التأويل حذراً من تعارض الأدلة الشرعية.
الوجه الثالث من الأمراض: وهو الذي لا يخاف منه تلف نفس ولا عضو من الأعضاء ولكن يخاف منه إبطاء البرء أو زيادة الألم لا غير، فهل يجوز له التيمم أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجوز له التيمم، وهذا هو قول أئمة العترة والمروي عن أبي حنيفة ومالك وهو أحد قولي الشافعي والأصح منهما.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ " } إلى أن قال: {فَتَيَمَّمُوا}[المائدة:6].
المذهب الثاني: أنه لا يجوز له التيمم وهذا هو المحكي عن الحسن البصري وعطاء وأحمد بن حنبل وأحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا " }[المائدة:6]. وهذا واجد للماء فلا يجوز له التيمم.
والمختار: ما عول عليه الأئمة، واختاره ابن الصباغ الذي ذكره في الإملاء والبويطي(1).
والحجة: هو أنه يستضر باستعمال الماء فأشبه ما إذا خشي التلف.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
__________
(1) الإملاء) من مؤلفات الشافعي، و(البويطي) تأليف يوسف بن يحيى البويطي صاحب الشافعي.
قالوا: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا " }[المائدة: 6]. وهذا واجد للماء فلا يجوز له أن يتيمم.
قلنا: ليس لكم في الآية حجة؛ لأن المعنى: وإن كنتم مرضى فلم تقدروا على استعمال الماء أو كنتم على سفر فتيمموا، وإذا كان الأمر كما قلناه بطل تعلقهم بالآية.
وقد نجز غرضنا من كتاب التيمم وربما وقع تكرار في شيء من مسائله من أجل تراخي المدة بين تعليق أوله وآخره قدر اثنتي عشرة سنة لاشتغالنا في هذه المدة بأمر الجهاد للظلمة وإشادة معالم الدين ثم عاودنا إتمامه بعد هذه المدة. والرجوى في اللّه عز سلطانه أن يعيننا على ما نرومه من إيضاح مسألة أو إرشاد متعلم أو جهاد في سبيله أو إتيان شيء من القربات الموصلة إلى ثوابه وإحراز كرمه ورضوانه.
---
الباب التاسع في الحيض
والحيض مصدر من قولهم: حاضت المرأة تحيض حيضاً، مثل: ضرب يضرب ضرباً، وأما المحيض فهو مَفْعِل بكسر العين كالمسير والمقيل، هذا لفظه، واختلف في معناه على ثلاثة أقوال:
فالقول الأول: أنه للمكان كالمبيت، والغرض به مكان الحيض وهو الفرج.
والقول الثاني: أنه زمان الحيض كما يقال: منتج الناقة أي زمان نتاجها.
والقول الثالث: أنه مصدر كلفظ الحيض والعبارة في كتاب اللّه تعالى بلفظ: المحيض، والعبارة في السنة بلفظ: الحيض، وهما عبارتان تقعان على معنى واحد، هذا معناه اللغوي، وهل يكون باقياً على أصل اللغة أو يكون منقولاً بالشرع، فيه تردد.
والمختار: أنه قد صار مفيداً لمعان شرعية دلالة على أحكام البلوغ في حق المرأة وعلة في أحكام نحو تحريم الوطئ وتحريم العبادات الشرعية فصار في وضع لفظه كوضع لفظ الصلاة والزكاة في كونها شرعية.
والمختار: أنه إسم مشترك بين زمان الحيض ومكان الحيض وإسم الحيض لأنه مفيد لهذه المعاني على جهة الإشتراك مستعمل فيها أجمع على جهة البدلية كسائر الأسماء المشتركة. والأصل في تقرير قاعدة الحيض الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً \s " \c 1 فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}[البقرة:222].
وأما السنة: فقوله ÷ لعائشة وقد خرجت تريد الحج معه ÷، فلما كانت بسرف(1) حاضت فدخل رسول اللّه ÷ وهي تبكي فقال لها: ((مالك أنفست \s " \c 2؟)) فقالت: نعم. فقال: ((إن هذا أمر كتبه اللّه تعالى على بنات آدم فأقضي ما يقضي الحاج غير أنك لا تطوفين بالبيت))(2).
وأما الإجماع: فمنعقد على تحريم الوطء وسائر العبادات، وسنقرر تفاصيل أحكامه بمعونة اللّه تعالى.
فإذا تقررت هذه القاعدة، فاعلم أن مقصودنا من هذا الباب يحصل بأن نرسم فيه فصولاً خمسة بها نحصل الغرض من حصر مسآئله ونحن نوضحها بلطف اللّه تعالى ومنه.
__________
(1) سرف بفتح أوله وكسر ثانيه وآخره فاء. قال ياقوت في معجم البلدان: موضع على ستة أميال من مكة، وقيل: سبعة وتسعة واثني عشر. اه. 3/212.
(2) أخرجه مسلم والبخاري عن عائشة، ورواية عن أم سلمة.
---
الفصل الأول
في ماهية الحيض وبيان معناه
اعلم أن الحيض عبارة عن الدم الذي ترخيه الرحم، وما في حكمه، في زمان الإمكان.
فقولنا: هو الدم الذي ترخيه الرحم، نحترز به عن دم البكارة ودم الجرح فإنها دماء لا ترخيها الرحم وإنما هي جروح تلحق الرحم ولهذا يلحقها الألم، ودم الحيض حاصل من جهة اللحم من غير ألم يلحق بخروجه في غالب الأحوال.
وقولنا: وما في حكمه نحترز عن الصفرة والكدرة وعن النقاء المتوسط بين الدمين، فإن هذه الأمور كلها معدودة في الحيض كما سنوضحه فيما بعد بمشيئة اللّه تعالى.
وقولنا: في زمان الإمكان، نحترز به عما يحصل في زمان الصغر والكبر الخارجين عن حدِّ المعتاد فإنه لا يعد من الحيض، ومن أصحابنا من جعل في تتمة الحد: جعل دلالة على أحكام وعلة في أحكام. وهذا لا حاجة إليه لأن الحد قد تم بما ذكرناه فلا حاجة إلى الزيادة بهذه الأمور لأن المعنى مفهوم من دونها كما أشرنا إليه، والتفرقة بين ما يكون دلالة على الحكم وعلة فيه هو أن من حق العلة أن تكون مناسبة للحكم وملائمة له، وهذا نحو تحريم الوطئ وتحريم قراءة القرآن وتحريم دخول المسجد ونحو تحريم الصلاة والطواف إلى غير ذلك، فالحيض جعلناه علة في هذه الأحكام لما كان مناسباً لها وملائماً، فلما كان أذىً كان مانعاً من هذه الأمور، فأما ما جعلناه دلالة على الحكم فلا يحتاج فيه إلى المناسبة والملائمة بحال وهذا نحو جعل الحيض أمارة للبلوغ وعلامة لإنقضاء العدة فلا يحتاج في هذا إلى مناسبة وإنما هو أمارة ودلالة وعلامة، فافترقا بما أشرنا إليه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: قال الإمامان الهادي والناصر ×: الحيض هو الدم الخالص الذي تراه المرأة فتصير بالغة عند ابتدائه بها وتعتاده النساء الوقت بعدى الوقت.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً}[البقرة:222]. وقوله: (( إذا أقبلت الحيضة فأمسكي وإذا أدبرت فاغتسلي ))(1).
والإجماع منعقد على ما ذكرناه. ودم الحيض أسود محتدم(2)
بحراني ذو دفقات له رائحة خبيثة تعرف. والمحتدم: بحاء مهملة ودال منقوطة من أسفلها، هو اللذاع للبشرة لحدته وله الرائحة الكريهة. والبحراني: بباء بنقطة من أسفلها وحاء مهملة، هو الناصع في سواده وفيه ثخن وغلظ، والاعتبار في كونه حيضاً بالسواد دون سائر صفاته من الإحتدام والرائحة.
وهل يكون التعويل في علامة الحيض على السواد أو على الوقت؟ فيه مذهبان:
__________
(1) هذا الحديث روي من عدة طرق منها عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت لرسول الله: إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله: ((إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي)) وفي رواية صفوان: ((فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)) أخرجه البخاري ومسلم، وأخرج الأولى الموطأ وأبو داؤد والترمذي والنسائي، وفي (الجواهر): كما جاء في (الشفاء) بلفظ: ((إذا رأيتي الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة، وإذ كان الآخر فتوضئي وصلي فإنه دم عرق)) اه1/134، وهذا الحديث أشهر حديث في الحيض والاستحاضة، وهو مروي من طرق كثيرة وبألفاظ مختلفة.
(2) جاء في حاشية الأصل: احتدم الدم اشتدت حمرته حتى يسود، من: احتدمت النار إذا التهبت، والبحر (في بحراني) عمق الرحم ومنه قيل للدم الخالص الحمرة باحر وبحراني، والبحراني الشديد الحمرة، نسب إلى البحر لصفاء لونه بخلاف دم الفساد، وقيل: لأنه يخرج من قعر الرحم كما يخرج الماء من قعر البحر، حكاه البندنجي، وقيل: لأنه يخرج بسعة يتدفق كما البحر، قاله الأسنوي. اه.
المذهب الأول: أن التعويل على اللون دون الوقت وهذا هو المحكي عن الناصر في الكبير(1) ورواية عن مالك وهو رأي الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ "}[البقرة:222].
ويعني بكونه أذى: ما كان جامعاً لتلك الأوصاف التي ذكرناها، ولم يذكر الوقت.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى " وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}[الرعد:8]. فخص معرفته بنفسه ولو كان بالوقت والعدد لعرفناه فلما وكله إلى نفسه دل ذلك إلى ما قلناه من تعلقه بالدم وأوصافه لا غير.
المذهب الثاني: أن التعويل في التمييز [هو] على الوقت والعدد دون لون الدم وصفته، وهذا هو قول الهادي والقاسم وأحد قولي الناصر ذكره في الألفاظ(2) ومحكي عن زيد بن علي وأبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال لحمنة " (3)
__________
(1) كتاب للناصر.
(2) كتاب (ألفاظ الناصر).
(3) حمنة بنت جحش الأسدية، أخت زوج النبي، كانت تحت مصعب بن عمير، فقتل عنها يوم احد، فخلف عليها طلحة بن عبيد الله، وهي التي كانت تستحاض في أغلب الروايات.
قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب)12/440: وأما الواقدي فزعم أن المستحاضة أم حبيبة بنت جحش أخت حمنة.
: ((تحيضي في علم اللّه تعالى ستاً أو سبعاً " كما تحيض النساء في كل شهر)) (1) وفي حديث أنس بن مالك عن النبي أنه قال: ((الحيض ثلاث أربع خمس ست " سبع ثمان تسع عشر وما زاد فهو استحاضة)) (2).
والمختار: أن الحيض متميز باللون والوقت جميعاً والعدد، وأن الأدلة الشرعية مشيرة في تمييزه إلى ما ذكرناه من هذه الأمور الثلاثة.
__________
(1) أخرجه أبو داؤد في حديث طويل عن حمنة بنت جحش أنها كانت تستحاض حيضة شديدة فمنعتها من الصلاة والصوم، فشكت حالها إلى رسول الله فقال: ((أبعث لك الكرسف فإنه يذهب الدم)) قالت: هو أكثر من ذلك قال: ((فاتخذي ثوباً)) قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجاً، فقال: ((سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك، وإن قويت عليهما فأنت أعلم)) قال لها: ((إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء)) إلى آخر الحديث كما ورد في (جواهر الأخبار-هامش البحر) 1/130.
(2) جاء الحديث في (جواهر الأخبار) أنه من كلام أنس وليس من كلام النبي كما نقله عن (الشفاء)بأن أنساً لم يقل ذلك إلا توقيفاً؛ لأنه ليس بمجتهد إلى آخر ما ذكره، ولم يرفع الحديث إلى النبي كما في الكتاب (الشفاء) وفي (الانتصار) اه. 1/130.
والحجة على ما قلناه من تميزه باللون: ما روي عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها استحيضت فسألت الرسول فقال لها: ((إذا رأيت الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة " وإذا كان أحمر فتوضائي وصلي فإنه دم عرق)) وقوله : ((دعي الصلاة أيام أقرائك " ))(1) وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:222]. وقال اللّه تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ " }[البقرة:228]. فجميع الآي القرآنية والأخبار النبوية كلها دالة على ما ذكرناه من [اعتبار] اللون والوقت والعدد وأن الحيض متميز بما ذكرناه، وهذه طريقة مرضية أعني: الجمع بين الأدلة الشرعية والعمل بها أجمع فما كان دالاً على اللون من الأحاديث عملنا به وما كان يدل على العدد والوقت من الأحاديث وجب العمل عليه ولا معنى لتمييز الحيض بواحد من هذه الأمور الثلاثة دون سائرها.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، فأما من زعم أنه متميز باللون[وحده] فلا وجه[له]، كما حكي عن الناصر ومن وافقه.
قلنا: الآية دالة على مطلق الأذى ولم يذكر لوناً، والأحاديث دالة على اللون والوقت والعدد.
وما حكي عن الهادي والقاسم أنه لا اعتماد على اللون فإنما يريدان أنه لا يعتد به وحده وإنما يقع التمييز بما ذكرناه من الأمور الثلاثة ولهذا فإن الوقت إذا بطل كأن يكون في وقت الإمتناع بطل كونه حيضاً، وإن بطل العدد كأن ينقطع في يوم واحد بطل كونه حيضاً، وهكذا فإنه لو بطل اللون في أول الحيض بطل كونه حيضاً، فحصل من مجموع ما ذكرناه: أنه لابد مما أشرنا إليه من اعتبار الوقت والعدد واللون في كونه حيضاً شرعياً.
__________
(1) هذا من حديث فاطمة بنت أبي حبيش وقد تقدم.
نعم إذا وقعت الاستحاضة واتصل الدم وعبر على العشر فإنه يجب مراعاة صفة الدم في المبتدأة، وذات العادة فإن كان أسود في عشر المبتدأة فكله حيض، وإن كان أسود في الزائد على العادة في ذات العادة فكله حيض، فأما دم الاستحاضة فإنه رقيق أحمر مشرق له رائحة الدم لا غير بخلاف دم الحيض كما أوضحنا أوصافه، وعلى هذا يكون التميز بين الدمين يظهر عند الاستحاضة، ويؤيد ما ذكرناه من اعتبار حال الدم الأسود في الاستحاضة أنها كما ترجع عادة النساء في المبتدأة فهكذا ترجع إلى عاداتها في ذات العادة والباقي يكون استحاضة، فهكذا يرجع قبل عادة النساء وقبل عادتها إلى حال الدم في سواده فيكون حيضاً وإلى إشراقه فيكون دم استحاضة، كما أشار إليه صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه حيث قال: ((إذا رأيت الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة " فإذا كان أحمر فتوضائي وصلي فإنه دم عرق)). وهذا هو رأي الشافعي في أحد قوليه قد اخترناه وأوضحناه بالدلالة كما مر بيانه.
الفرع الثاني: في حكم الصفرة والحمرة والكدرة والغبرة.
اعلم أن هذه الأمور من جملة الأذى وقد قال تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ " }[البقرة:222]. ولا خلاف بين علماء الأمة أن الأذى الحاصل في رحم المرأة كالبول والمني والودي والمذي والمصل والمدة والقيح ليست حيضاً ولا تتعلق بها أحكام الحيض، وإنما الخلاف في الصفرة والكدرة والغبرة، ولا خلاف أيضاً في أن هذه الأمور لا تكون حيضاً إذا كانت حاصلة في أيام الإمتناع وإنما الخلاف إذا حصلت في أيام الإمكان وفيها مذهبان:
المذهب الأول: القائلون بالتعميم، وهو إذا حصلت في أيام الإمكان فهي حيض سواء حصلت في المبتدأة وفي ذات العادة أو كانت حاصلة في أول الحيض أو في آخره أو بين الدفقات، وهذا هو رأي الإمامين زيد بن علي والهادي ورأي الإمامين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب ومحكي عن أبي حنيفة ومحمد ومالك والليث وعبدالله بن الحسن.
والحجة على ذلك، قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ " }[البقرة: 222]. ولم يفصل في الآية بين أذى وأذى وهذه الأمور كلها من جملة الأذى.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ " }[البقرة: 222] وظاهر الآية دال على تحريم القرب إلا بعد الطهارة من كل ما يتعلق بالأذى، وهذه الأمور من جملة الأذى.
الحجة الثالثة: قوله لحمنة بنت جحش لما استفتته: ((إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي " )) فدل كلامه هذا على أن حكم الحيض لا يرتفع بيقين ما دامت ترى شيئاً من هذه الأمور.
المذهب الثاني: القائلون بالتفصيل ولهم أقوال أربعة:
فالقول الأول: محكي عن القاسم وعنه روايتان:
الرواية الأولى: ما حكاه عنه ولده الهادي، ورواية: محمد بن منصور عنه في كتاب الطهارة أنهما(1)
في أيام الإمكان حيض بكل حال وفي أيام الإمتناع ليسا حيضاً(2)
وهو رأي الهادي وغيره.
والحجة فيه: ما حكيناه حجة للهادي فلا فائدة في تكريره.
الرواية الثانية: أنه قال إن المرأة لا تترك الصلاة إذا رأت الصفرة والكدرة ابتداء وتغتسل إذا رأت الدم الأسود وإن بقيت الصفرة فظاهر هذه الرواية أنهما لا تكونان حيضاً إذا توسط بينهما الدم الأسود.
والحجة على هذه الرواية: ما روي عن الرسول أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش: ((إذا رأيتي الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة " فإذا كان أحمر فتوضائي وصلي فإنه دم عرق)). فاعتباره دم الحيض بأنه أسود دال على أنهما ليسا من الحيض.
والحجة الثانية: ما روي عن أم عطية الأنصارية أنها قالت: ما كنا نعد الصفرة والكدرة بعد الحيض شيئاً(3). ومثل هذا القول لا يصدر إلا عن توقيف من صاحب الشريعة إذ لا مدخل للإجتهاد فيه.
القول الثاني:محكي عن الناصر وعنه روايتان:
__________
(1) الصفرة والكدرة.
(2) الأحكام 1/76.
(3) أخرجه أبو داؤد والنسائي.
الرواية الأولى: ما قاله في (الكبير) وحصله الشيخ أبو جعفر لمذهبه أنهما إذا كانا في أيام الإمكان فهما حيض بعد الدم وقبله، وإذا كانا في أيام الإمتناع فليسا حيضاً مثل ما حكيناه عن الهادي.
والحجة على هذه الرواية: ما حكيناه حجة للهادي فلا نعيده.
الرواية الثانية: أنهما إذا حصلا قبل مجيء الدم الأسود فليسا حيضاً، وإن كانا بعده فهما حيض إلى العشر فإن زاد فهما استحاضة.
والحجة على هذه الرواية: ما حكيناه عن فاطمة بنت أبي حبيش من أن دم الحيض أسود يخالف دم الاستحاضة فإذا حصلا قبل السواد فليسا من آثاره وإذا حصلا بعد السواد فهما من جملة آثاره فلا جرم حصلت التفرقة بين الحالين.
القول الثالث: محكي عن الشافعي وعنه روايتان:
الرواية الأولى: أنهما حيض في الأزمنة الممكنة وليسا حيضاً في الأزمنة المستحيلة مثل ما حكيناه عن الهادي.
والحجة له: ما حكيناه حجة للهادي من دون فرق.
الرواية الثانية:أنهما إذا حصلتا قبل مجيء الدم الأسود فليستا حيضاً وإن كانتا بعده فهما حيض.
والحجة له على هذه الرواية: هو أن الاعتبار عنده بصفة الدم وهو السواد فما ليس بسواد فلا يكونان حيضاً خلا أنهما إذا وقعتا بعده فهما من آثاره.
القول الرابع: محكي عن أبي يوسف وقد قال: ما كان منهما قبل الدم فحكمه حكم الطهر فلا يكون حيضاً وما كان منهما بعد الدم فهو حيض، ولم يعتبر ما اعتبره القاسم في الرواية الثانية من توسط الدم بينهما في أنهما لا يكونان حيضاً.
والحجة له على ذلك: هو أن التعويل في دم الحيض على صفته وسواده كما أشار الرسول في حديث بنت أبي حبيش فإذا تقدمه الطهر فليستا حيضاً لأنهما لاحقتان به وإن تأخرتا بعد الحيض فهما لاحقتان به في كونهما حيضاً. فهذه جملة الأقاويل في الكدرة والصفرة قد فصلناها كما ترى.
والمختار منها: ما قاله الإمامان زيد بن علي والهادي واختاره الإمامان الأخوان، وهو قول الأكثر من علماء الأمة.
وحجتهم: ما أشرنا إليه ونزيد هاهنا حججا ثلاثاً:
الحجة الأولى: قوله لعائشة: ((لا تصلي حتى تري القَصَّة البيضاء " ))(1) والقصة فيها روايتان:
الرواية الأولى: بالقاف والصاد المهملة ولها معنيان:
أحدهما: أنه يريد بها الخرقة من القطن تستدخلها المرأة في رحمها فإذا رأتها نقية من الكدرة والصفرة فقد حصل الطهر فوجب الاغتسال.
والثاني: أنه يريد بالقصة تراباً شديد البياض يُستخرج من معادنه وأراد أنها لا تغتسل حتى ترى النقاء مثل القصة في البياض، وكلا المعنيين لا غبار عليه وهما جميعاً يفيدان تنقية الرحم من الحيض والمبالغة في ذلك.
الرواية الثانية:بالفاء والضاد بنقطة من أعلاها، والغرض أنها لا تغتسل حتى ترى النقاء مثل بياض الفضة في الصفاء والتنقية.
الحجة الثانية: ما روي عن عائشة قالت: كنا نعد الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيضاً(2) وظاهر هذا التوقيف من صاحب الشريعة؛ لأن الطهارات وسائر المقادير لا مدخل للإجتهاد فيها.
__________
(1) في (الجواهر) ما جاء في (الجامع الكافي) عن مولاة عائشة واسمها مرجانة قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيضة يسألنها عن الصلاة، فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، تريد بذلك: الطهر من الحيضة، أخرجه الموطأ، وأخرجه البخاري، والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة، هي الجص بكسر الجيم لا يجوز فيها غير ذلك، اه. 1/132.
(2) حكي في (الشافي) عن عائشة بلفظه: قال في (الجواهر): ولفظه في (التلخيص) كنا نعد الصفرة والكدرة حيضاً، ثم قال النووي في شرح المهذب: ولا أعلم من رواه بهذا اللفظ. اه1/132.
الحجة الثالثة: هو أن ما هذا حاله من الصفرة والكدرة أذى يرخيه الرحم في زمان الحيض فلا جرم عددناه من جملة الحيض كالدم الأسود، أو نقول: صفرة أو كدرة خارجة من الرحم في أوقات الحيض فوجب الحكم عليهما بكونهما حيضاً كالصفرة والكدرة بين دفقات الدم، أو نقول: إن الأصل في الكدرة والصفرة أنهما دمان خالصان لكن شابهما شائب غَيَّرَ لونهما، فحصول الشوب فيهما لا يخرجهما عن كونهما حيضاً، فحصل بما حققناه أنهما حيض في أزمنة الحيض.
فأما ما حكي عن أبي العباس من التلفيق والجمع بين مذهب الهادي والقاسم وبجعل قولهما واحداً، وزعم أن مراد الهادي بأن الصفرة والكدرة حيض إذا كانتا بين دفقات الدم ليكون موافقاً لكلام القاسم، وهذا فيه تعد من ثلاثة أوجه:
أولها: أن الهادي صرح بكونهما حيضاً إذا حصلتا في أزمنة الإمكان ولم يفصل بين حالة وحالة ولا بوقت دون وقت، والقاسم إنما قال بكونهما حيضاً إذا كانتا بين دفقات الدم في أحدى الروايتين وهاذان القولان لا يمكن الجمع بينهما لما فيهما من البعد والتفاوت.
وثانيها: أن كل واحد من الإمامين قد حاز منصب الاجتهاد وأحرز علومه فكل ما أفتى به وذهب إليه فهو حق وصواب فلا معنى لجمع القولين قولاً واحداً، فأقاويل المجتهدين ومذاهبهم في المسائل الفقهية لاخطأ فيها فلا معنى للتلفيق حذراً من الخطأ إذ لا خطأ، وأظن أن ما حمله على ذلك هو أن مذهبه أن المسائل الاجتهادية فيها حق معين وليس الأمر كما زعم وإنما هي صواب كلها وقد قررناه في الكتب الأصولية.
وثالثها: أنهما مختلفان في غير هذه المسائل الاجتهادية، فإذا كان لا تلفيق هناك فهكذا لا حاجة إلى التلفيق هاهنا.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه. فأما ما احتج به الناصر من حديث بنت أبي حبيش في التفرقة بين حصولهما قبل الدم الأسود فلا يكونان حيضاً وبعده يكونان حيضاً، فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن التفرقة التي ذكروها بين الدم الأسود وبعده تحكم لا مستند له من جهة الشرع.
وأما ثانياً: فلأن حاله بعد الدم كحاله قبله، فإذا كان حيضاً قبله فهكذا يكون حيضاً بعده.
وأما ما حكي عن القاسم من أن المرأة لا تترك الصلاة إذا رأت الصفرة والكدرة وتغتسل إذا انقطع الدم الأسود وإن بقيت الصفرة لما روي من حديث بنت أبي حبيش، فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن الخبر محمول على الدم الذي عبر على العشر فإنه إذا كان مجاوزاً للعشر فهو استحاضة.
وأما ثانياً: فإنه معارض بما ذكرناه من الأدلة من الآي والأخبار فإنها دالة على كونهما حيضاً.
وأما ما حكيناه عن الشافعي في الرواية الثانية من أن التعويل على صفة الدم في الحيض فإذا وقعت قبله لم تعد من الحيض وإذا وقعت بعده فهي حيض فالجواب عنه مثل ما أوردناه على كلام الناصر من غير فرق بينهما وبمثل هذا يبطل ما حكيناه عن أبي يوسف فقد حصل تقرير الإختيار بما أوردناه من الأدلة الشرعية وبما أوردناه من الإعتراضات على ما يخالفه والحمد لله.
الفرع الثالث: الدم الذي تراه الحبلى هل يكون حيضاً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهما لا يجتمعان(1) وهذا هو المحكي عن زيد بن علي وهو رأي الهادي والناصر وأحمد بن عيسى وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وعبدالله بن الحسن(2).
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ " }[الطلاق:4]. فجعل عدتها بالوضع فلو كانت من ذوات الأقراء لكانت عدتها منقضية بها لا بالوضع كالحامل(3).
__________
(1) الحيض والحبل.
(2) العنبري.
(3) كلمة (كالحامل) هنا ليس لها داع لأنها حامل، وهي موضوع البحث.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال في سبايا أوطاس(1): ((ألا لا توطأ حامل حتى تضع " ولا حائل حتى تُستبرأ بحيضة))(2) فجعل الحيض علامة لبراءة الرحم من الحبل. فلو كان يجامعه الحبل لكان لا يجوز أن يجعل وجوده علماً لانتفاء الحبل.
الحجة الثالثة: ما روي عن علي % أنه قال: رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم رزقاً للولد(3).
الحجة الرابعة: روي عن عائشة أنها قالت: الحامل لا تحيض(4). وما هذا حاله فإنه لا يجوز صدوره من جهة الصحابي إلاَّ عن توقيف من جهة الرسول لأن هذه أمور غيبية لا يمكن علمها إلا من جهة الوحي لأنه لا مدخل للاجتهاد فيها.
المذهب الثاني: جواز اجتماعهما وهذا هو الأصح من قولي الشافعي، وله قول آخر مثل قولنا، ومحكي عن مالك والليث.
والحجة على ما قالوه: ما روي عن الرسول أنه قال لبنت أبي حبيش: ((إذا كان دم الحيض أسود يعرف فأمسكي عن الصلاة " وإن كان الأحمر فاغتسلي وصلي)). ولم يفصل بين أن تكون حاملاً أو حائلاً.
__________
(1) أوطاس: وادٍ في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين للنبي ببني هوازن، اهملخصاً من (معجم البلدان) للحموي. 1/281.
(2) أخرج نحوه النسائي عن أبي سعيد، وأورده في (الاعتصام) عن أمالي أحمد بن عيسى بسنده عن أبي سعيد في أن قوله تعالى: {وَالْمُحصَناتُ مِنْ النِّسَاء} نزلت في سبايا أوطاس، وأورده في (الروض) بلفظ قوله في سبايا أوطاس: ((ألا لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة)). اه/518.
(3) أورده في (الروض) بلفظه: وقال: أخرجه أبو العباس الحسني بإسناده إلى أمير المؤمنين موقوفاً. اه1/518.
(4) جاء في سنن الدارقطني 1/219 وفي الميزان 6/223 والكامل 6/185 والأوسط2/239.
الحجة الثانية: ما روي عن عائشة أنها قالت: رأيت رسول اللّه يخصف نعله وأسارير وجهه تبرق فقلت يا رسول اللّه أنت أحق بما قاله أبو كبير الهذلي(1) " :
ومبرأ من كل غبر حيضة
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... وفساد مرضعة وداء معيل
برقت كبرق العارض المتهلل
فقال ÷: ((وأنت مبرأة من أن تكون أمك حملت بك في غبر الحيض " )) والغبر بغين بنقطة من أعلاها وباء بنقطة من أسفلها مضاعفة، هي البقايا.
الحجة الثالثة: قالوا: وإذا ثبت أن المرأة تحمل على الحيض ثبت أنها تحيض على الحمل.
والمختار: ما عول عليه الإمامان الهادي والناصر والمؤيد بالله ومن وافقهم من علماء الأمة.
والحجة عليه: ما قررناه ونزيد هاهنا أدلة:
الحجة الأولى: ما روي عن الرسول أنه قال لابن عمر لما أراد أن يطلق امرأته للسنة: ((طلقها طاهراً أو حاملاً " )) (2). فجعل الحمل وقتاً لإيقاع الطلاق للسنة فلو كانت ممن تحيض لم تكن مدة الحمل كمدة الطهر وفي هذا دلالة على أنهما لا يجتمعان.
الحجة الثانية: هو أن الزوج لو طلقها وهي حامل جاز له أن يطلقها عقيب الوطئ فلو كانت ممن تحيض لوجب أن يفصل بين وطئها وطلاقها بحيضة كالحائل التي لا حمل معها.
__________
(1) أبو كبير هو عامر بن الحليس، قال في الأعلام (ج3ص250): شاعر فحل من شعراء الحماسة، قيل أدرك الإسلام وأسلم، وله خبر مع النبي ، له ديوان شعر مطبوع...إلخ.
(2) جاء نحوه عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر ذلك للنبي، فقال: ((مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم تعتد بتطليقة ولا تعتد بحيضة))) وهو مروي بعدة طرق وألفاظ.
الحجة الثالثة: لو كانت ممن تحيض لوجب انقطاع عدتها بالأقراء كالحائل فلما اتفقنا على أن انقضاء عدتها بالوضع ثبت أنها لا تحيض أصلاً، ويؤيد ما ذكرناه من هذه الأدلة أنها تعتد من الطلاق بغير الحيض وهو الوضع، فوجب أن لا مساغ للحيض فيها كالآيسة ولأن المعهود في مطرد العادة أنها لا تحيض وأن الدم منقطع عنها في أغلب أحوالها مع السلامة فوجب الحكم بأنها لا تحيض في تلك الحالة كالصغيرة والكبيرة ولأن المعهود من عادات النساء في أغلب أحوالهن أن ذات العادة إذا تأخر حيضها عن وجوده وحصوله يومين أو ثلاثاً فإنه يغلب على ظنها وقوع الحمل بتأخر الحيض عنها، فلو كان الحيض جائزاً وقوعه لم تكن هذه أمارة قوية بحصول الحمل في بطنها.
الانتصار لما قلناه: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا: حديث بنت أبي حبيش يدل على ما قلناه.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما أورده تعريفاً للمستحاضة الحائل في التفرقة بين الدمين لأجل الصلاة ولم يخطر بباله الحبلى عند صدور هذا الكلام.
وأما ثانياً: فلأنا نحمله على الحائل ليطابق ما ذكرناه من الأدلة السابقة.
قالوا: حديث عائشة دال على جواز الحمل في غُبَّر الحيض وهي البقايا وفيه دلالة على ما قلناه من اجتماعهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد بالغُبَّر: الآثار بعد إنقضاء الحيض وانقطاعه لأن الغالب العلوق بعد تقضي الحيض وانقطاعه بخلو الرحم وفراغها، ويؤيد ما ذكرناه ما قاله تعليماً لمن طهرت من الحيض: ((خذي فرصة من مسك فاستدخليها وتتبعي بها آثار الدم
)) ( ( ) تقدم في الغسل. ). وفي هذا دلالة على أن الآثار تكون بعد إنقضاء الحيض وانصرامه.
وأما ثانياً: فلأنا نحمله على المستحاضة التي تقضى حيضها واتصل الدم فكان استحاضة ووطأها زوجها فحملت على أثر الحيض، فأين هذا عما ذكروه من اجتماع الحيض والحبل؟ وإنما حملناه على ذلك توفقة بين الأدلة حذراً من تناقضها.
قالوا: إذا ثبت أن المرأة تحمل على الحيض ثبت أنها تحيض على الحمل.
قلنا: عما أوردوه جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه مجازفة وقياس من أمر جامع بينهما وما هذا حاله فلا يكون طريقاً إلى تحصيل الأحكام الشرعية ولا مثمراً لثبوتها، وهل هذا إلا بمنزلة من يقول: إذا ثبت في حق الصغيرة أنها تبول ثبت أنها تحيض، فكما ان مثل هذا لا يعول عليه في الأقيسة فهكذا ما قالوه، ولولا أن صاحب (البيان) احتج به لما أوردناه لضعفه تنزيهاً لكتابنا هذا عن إيراد الأقيسة الركيكة.
وأما ثانياً: فلأن التفرقة بينهما حاصلة، فلأنه إنما جاز حمل الحائض لخلو الرحم عن الحوائل وتطهيرها عن جميع الشواغل التي تمنع وقوع النطفة في قرارها التي استأثر اللّه بعلمها ولهذا فإن عدم الحيض قد جعله اللّه تعالى مظنة لحصول العلوق بالولد كما ذكرناه بخلاف الحامل فإنها قد صارت رحمها مشغولة بالولد فلا وجه لاتصال الحيض بها فبطل ما توهموه.
الفرع الرابع: دم الحيض ينقطع لأجل الإياس لا خلاف فيه لقوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الْخَلْقِ }[يس:68]. فإذا كانت في حال صغرها حيضها منقطع فهكذا ينقطع حيضها في حال كبرها تصديقاً للآية في نكس الخلقة بالكبر والشيخوخة في كل الأحوال ولأنها بالكبر والشيخوخة تبطل الرطوبات وينحل الجسم وتذهب الماوية وذلك يكون سبباً لانقطاع الحيض. ولكن التردد والخلاف في وقته، وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن حد الإياس: بلوغ المرأة ستين سنة وهذا هو رأي القاسمية نص عليه في (الأحكام)، واختيار السيدين الإمامين المؤيد بالله وأبي طالب، ولم يحك عن الناصر في حال الإياس شيء.
والحجة على ذلك: هو أن من العلماء من لم يقدره بتقدير، ومنهم من قدره فبعضهم قال هو خمسون سنة وبعضهم خمس وخمسون، ولم يحك عن أحد الزيادة على الستين فأخذنا بأكثر ما قيل لأنه قد روي أن كثيراً من النساء حضن بعد خمسين سنة ولم يعلم في الغالب من العادة أن واحدة منهن حاضت فوق الستين، فلهذا قضينا بأن الستين أصدق المقادير.
المذهب الثاني: أن حد الإياس خمسون سنة وهو المحكي عن زيد بن علي، وهو محكي عن محمد من أصحاب أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن هذه التقديرات لا مجال للإجتهاد فيها وإنما هو على حسب الإعتياد من حال النساء وقد اطردت العادة على هذا القدر من غير زيادة فلهذا وجب التعويل عليه والله اعلم.
المذهب الثالث: أن حد الإياس: خمس وخمسون وهذا هو رأي الحنفية غير محمد.
والحجة لهم على هذا: أن هذا هو الأغلب من عادة النساء خاصة الروميات فإنهن أرق طبعاً، فذكروا أنهن لا يزدن على هذا القدر وأن المرأة لا تزيد على الخمسين إلا أن تكون قرشية لصلابة أبدانهن وشدة لحومهن.
المذهب الرابع: أنه لا تقدير في حد الإياس وإنما يرجع به إلى عادة النساء وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة له: أن هذه المقدرات لا يجري فيها شيء من الأقيسة لانسداد مسالك القياس فيها، وإنما يرجع فيها إلى ما كان من جهة اللّه تعالى ومن جهة رسوله، فإذا لم يكن من اللّه فيها شيء ولا من جهة الرسول فالمرجوع فيها إلى عادة النساء لأن هذا أمر يختص النساء ويعرف من جهتهن فلهذا كان التعويل فيه على عادتهن في القلة والكثرة لأنهن به أخص وبه أعرف.
والمختار: ما قاله الهادي في الأحكام.
والحجة لهم: ما أسلفناه ونزيد هاهنا وهو أن الإجماع منعقد على المنع من الزيادة على ما قلناه فالأخذ بالأكثر هو الأولى والأحوط ولأنه لا مانع منه إلا بدلالة شرعية ولا دلالة هناك، ويؤيد هذا أنهم اختلفوا في مقدار الجذعة فقال بعضهم: ما تمت لها ستة أشهر، وعن بعضهم: ثمانية، وقال بعضهم: أكثر الحول. وقلنا: ما تمت لها سنة لأنه متفق بهذا القدر على كونها جذعة وفيما دونها الخلاف فأخذنا بما اتفقوا عليه، وهكذا هاهنا فإنهم اتفقوا على أن حد الإياس الستون واختلفوا فيما دونه، وكما قلنا إن أكثر الحمل أربع سنين وفيما دونها وقع الخلاف فالأخذ بالأكثر يكون إجماعاً على أن لا زيادة على ذلك المقدار بحال.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
اعلم أن الحاجة ماسة إلى تقدير حد الإياس في المطلَّقة حتى تنتقل إلى العدة بالأشهر بعد أن كانت معتدة بالأقراء ليصح حلها للأزواج، فأما من زعم تقديرها بالخمسين والخمسة والخمسين فهو تحكم لا مستند له من جهة الكتاب ولا من جهة السنة وقد أوضحنا أن هذه المقدرات لا مدخل للإجتهاد فيها وإنما حكمنا لها بالستين من جهة أن الإجماع منعقد على عدم الزيادة عليها، وفائدة تقديرها بالستين هو انتقالها من عدة الأقراء إلى عدة الأشهر كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ " إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ}[الطلاق:4]. فصارت عدة الآيسات لصغر أو كبر ثلاثة أشهر بالنص.
نعم لو اعتدت بالأشهر للإياس ثم حاضت قبل انقضائها فإنها تنتقل إلى الإعتداد بالحيض كما سنوضحه بمشيئة اللّه تعالى، فأما من زعم الرجوع في ذلك إلى عادة النساء كما هو محكي عن الشافعي فهو ردٌّ إلى عماية؛ لأنه لا عادة هناك فيردها إليها، ولأن العادة إنما تستقر بدليل شرعي ولا دلالة هناك ثم لو قدرنا أن هناك دلالة شرعية على تقدير العادة فقد علمت بالشرع فلا حاجة إلى تحكيم العادة مع الدلالة الشرعية.
الفرع الخامس: الدم إذا عبر على العشر، فهل تكون التفرقة بين الحيض والاستحاضة هي الرجوع إلى صفة الدم في السواد والحمرة أو يكون التعويل على الرجوع إلى عادتها في ذات العادة وإلى عادة نسائها في المبتدأة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن التعويل إنما هو إلى الرجوع إلى العادة، وهذا هو رأي الهادي والقاسم والمؤيد بالله ومن وافقهم فإن عندهم أنه لا تعريج في التفرقة على صفة الدم.
والحجة على ذلك: هو قوله : ((دعي الصلاة أيام أقرائك " )). وقوله : ((تحيضي في علم اللّه كما تحيض النساء " )) ولم يذكر صفة الدم.
المذهب الثاني: أن الاعتبار في ذلك بصفة الدم، وهذا هو رأي الناصر ومحكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله لفاطمة بنت أبي حبيش: ((إذا رأيت الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة " وإذا رأيت الأحمر فتوضئي وصلي فإنما هو دم عرق)).
والمختار: ما ذكره الإمام الناصر ورآه الشافعي، والحجة له: ما رويناه من خبر بنت أبي حبيش فإنه نص في الرجوع في الميز إلى صفة الدم.
نزيد هاهنا وهو أن الدم إذا كان أسود فهو أمارة قوية في كونه حيضاً وإن تغير عن صفة السواد فهو أمارة قوية في كونه استحاضة ولأنه أخص وأقوى من الرجوع إلى عادتها في ذات العادة وعادة نسائها في المبتدأة، ومن جهة أن التعويل في الحيض والاستحاضة إنما هو على الأمارات.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((اعتدي بالأقراء " )) وقوله: ((دعي الصلاة أيام أقرائك " )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد بالخبرين: اعتدي بالدم الحاصل في الأقراء ويكون على حذف مضاف كأنه قال: بدم الأقراء كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ " }[يوسف:82]. أي أهلها، وحذف المضاف إليه كثير في كلام اللّه تعالى وكلام رسوله .
وأما ثانياً: فلأنا نحمله على أن المراد: اعتدي بالدم الذي يكون مقدراً بالأقراء، وإذا كان الأمر كما قلناه لم تكن فيما أوردوه حجة على عدم الاعتبار بصفة الدم. فهذه الفروع الخمسة نشأت عن ماهية الحيض أثرناها وحركناها، وكما ذكرنا ما هيته فلنذكر على أثره أحكام الحيض.
---
الفصل الثاني
في بيان الأحكام المتعلقة بالحيض
اعلم أن المرأة إذا ورد عليها الحيض تعلقت بها أحكام شرعية وجملتها أربعة عشر حكماً:
الحكم الأول: أنه تحرم عليها الصلاة والدخول فيها والتلبس بها لقوله : ((دعي الصلاة أيام أقرائك " )). وقوله : ((إذا رأيت الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة " وإذا رأيت الدم الأحمر فتوضئي وصلي)). ولا خلاف في هذا الحكم بين الأئمة وعلماء الأمة، وروى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه قال: ((الحائض تقضي الصوم دون الصلاة " ))(1).
وفي هذا دلالة على أنها غير واجبة عليها لأنها لو وجبت عليها وفات الوقت وجب قضاؤها، ومثل هذا لا يطلقه الصحابي إلا عن توقيف من جهة الرسول إذ لا مجرى للإجتهاد في العبادات الشرعية.
الحكم الثاني:سقوط وجوبها، لما روت عائشة قالت كنا نحيض عند رسول اللّه فلا نقضي الصلاة ولا نؤمر بقضائها(2)
وهذا أيضاً مما لا خلاف فيه بين الأئمة وفقهاء العامة، ولما رويناه من خبر زيد بن علي.
الحكم الثالث: أنه يحرم عليها الصوم والدخول فيه والتلبس به والتشبه بالصائمين، لما روى أبو سعيد الخدري أن الرسول قال: ((إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم " ))(3)
ولا يسقط وجوبه عليها فإذا طهرت وجب عليها القضاء لما روت عائشة أنها قالت: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة(4).
__________
(1) رواه الإمام زيد في مجموعه.
(2) أخرجه النسائي، و للباقين إلا الموطأ نحوه. وهو مروي عن معاذة أنها سألت عائشة، فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داؤد بلفظه. إه. (جواهر) 1/135.
(3) تضمنه الحديث السابق.
(4) تقدم.
ولما روينا من حديث زيد بن علي، والظاهر أنه لا خلاف في هذا الحكم بين الأئمة وفقهاء الأمة، ولأن إيجاب قضاء الصلاة فيه حرج ومشقة لتكرره في كل شهر بخلاف الصوم فإنه لا يتكرر في السنة إلا مرة واحدة، وقد قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185]. ولا عسر أعظم من إيجاب العبادات المتكررة في الأوقات، وقد ذكرنا من قبل أن الإجماع منعقد على سقوط قضاء الصلاة وإيجاب قضاء الصيام مجمع عليه، وقد حكي الخلاف في إيجاب قضائهما جميعاً عن الخوارج.
ويحكى أن امرأة دخلت على عائشة فقالت لها: نقضي الصلاة والصوم؟ فقالت: يا هذه أحرورية أنت؟ إن فعلتها فإن هذا مذهب الخوارج. وحرورا قرية الخوارج بالحاء المهملة والراء [المضمومة والراء] المفتوحة المهملة بألف تأنيث مقصورة(1)
وخلافهم هذا خلاف ساقط لا يعتد به والإجماع السابق من الصدر الأول والتابعين على فساد ما قالوه فهم خارقون للإجماع فلا يلتفت إليه بحال.
الحكم الرابع: وهل يجوز لها قراءة القرآن أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجوز لها قراءة القرآن ويحرم عليها النطق به وهذا هو رأي أئمة العترة وأكثر فقهاء الأمة.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن))(2).
المذهب الثاني: أنه يجوز لها قراءة القرآن وهذا هو المحكي عن مالك وقول قديم للشافعي.
__________
(1) قال ياقوت في معجم البلدان: حروراء: بفتحتين وسكون الواو وراء أخرى وألف ممدودة، إلى أن قال: قيل: هي قرية بظاهر الكوفة، وقيل: موضع على ميلين منها نزل به الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، نسبت إليها الحرورية من الخوارج، اهج2 ص245، وفي لسان العرب: قال الجوهري: حروراء اسم قرية يمد ويقصر. اه. ج4 ص 185.
(2) أخرجه الترمذي موقوفاً على ابن عمر، وقد تقدم في الغسل.
والحجة على ذلك: هو أنها إذا لم تقرأ القرآن أدَّى ذلك إلى نسيانها للقرآن.
والمختار: ما عول عليه الأئمة ومن وافقهم من علماء الأمة.
والحجة على ما قلناه: قوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ " }[الواقعة:79]. فإذا كان المس ممنوعاً بظاهر الآية فالقراءة ممنوعة أحق وأولى بكل حال.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه(1).
وهو قول قديم حكاه المسعودي عن الشافعي وهو غير معمول عليه عند أصحابه، ويدل على بطلان هذه الحجة، هو أنا نقول: إنها تقرأ القرآن بقلبها وتتذكره دون التلفظ بلسانها وفيه حصول الغرض من عدم النسيان كما قالوه.
الحكم الخامس: يحرم عليها الطواف لقوله : ((الطواف بالبيت صلاة))(2).
وقد دللنا على أنها ممنوعة من الصلاة فهكذا حال الطواف، ولقوله لعائشة، لما حاضت: ((اصنعي ما يصنع الحاج " غير أنك لا تطوفين بالبيت)) ولأن الطواف لا بد[له] من دخول المسجد وهي ممنوعة منه، ولا خلاف في تحريم الطواف عليها بين الأئمة وفقهاء الأمة.
الحكم السادس: ويحرم عليها مس المصحف وحمله لقوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ " }[الواقعة:79]. ويجوز لها حمل المصحف بعلاَّقته لأنها ليست مباشرة له ويجوز لها مس الجلد أيضاً ويجوز لها مس حواشيه. وهل يجوز لها أن تقرب أوراق القرآن بقلم أو عود؟ فيه وجهان:
أحدهما: الجوار. لأنها غير حاملة ولا ماسة.
وثانيهما: المنع لأن ما كان بيدها من عود أو غيره فالفعل منسوب إليها.
وإن حملت متاعاً فيه القرآن فهل يجوز أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: الجواز لأن المقصود إنما هو المتاع دون القرآن.
وثانيهما: المنع لأنها حاملة للقرآن، ويجوز لها حمل كتب التفسير وإن كان فيها القرآن لأن الإطلاق عليها أنها من كتب التفاسير دون القرآن.
__________
(1) من القول بأنها إذا لم تقرأ القرآن أدَّى ذلك إلى نسيانها للقرآن.
(2) سيأتي في الحج.
الحكم السابع: يحرم عليها اللبث في المسجد لقوله : ((لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " ))(1).
وأما العبور في ساحة المسجد فهو ممنوع عندنا لظاهر الحديث الذي رويناه، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر بجوازه، لحديث عائشة لما قال لها الرسول : ((ناوليني الخمرة " )).فقالت له: إني حائض. فقال: ((حيضتك ليست في يدك))(2)
والخمرة: حصير صغير. وهذا الخلاف في العبور في المسجد إذا كانت مستوثقة بالشد فأما إذا لم توثق بالشد فإنه يحرم العبور لأنه لا يؤمن فيها أن تلوث المسجد بالنجاسة.
الحكم الثامن: والحيض يمنع من صحة الإعتكاف لأنه إذا حرم عليها اللبث في المسجد من غير عبادة كما أوضحناه فلأن يحرم عليها ذلك مع نية العبادة والتلبس بها[أولى]، ومن جهة أن الإعتكاف يفتقر إلى الصوم وهو مستحيل في حق الحائض فلهذا بطل الإعتكاف منها.
الحكم التاسع: وجوب الغسل عليها عند انقطاع الدم، وهل يجب الغسل عليها برؤية الدم أو بانقطاعه؟
والمختار: أنه لا يجب عليها الغسل إلا بانقطاع الدم وهو القول الجديد للشافعي، وله قول آخر قديم [أنه] يجب برؤية الدم، وعلى هذا إذا اجتنبت المرأة ثم حاضت قبل أن تغتسل فلا غسل عليها للجنابة من جهة أن الدم غير منقطع ولأن ما أوجب الطهارة فهو مانع من صحتها كالبول.
الحكم العاشر: الحكم ببلوغ المرأة عند حيضها ولا خلاف في كونه أمارة للبلوغ في حق النساء، بين الأئمة وفقهاء الأمة.
الحكم الحادي عشر: أنها إذا حاضت ثم طلقت امتنع اعتدادها بالشهور لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ " }[البقرة:228] ولا خلاف في ذوات الحيض أن العدة في حقهن بالأقراء.
__________
(1) تقدم في الغسل، أخرجه أبو داؤد عن عائشة.
(2) أخرجه الستة إلا البخاري عن عائشة، بلفظ: ((ناوليني الخمرة من المسجد))اه، جواهر ج1ص126.
الحكم الثاني عشر: أنها إذا طلقت وهي حائض فإنه يأثم لحديث ابن عمر، ولا تعتد بتلك الحيضة في العدة بل تستأنف كما سنوضحه في العدد بمعونة اللّه تعالى.
الحكم الثالث عشر: أنه يحرم طلاق المدخول بها في حال حيضها لقوله تعالى: {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. والغرض: مستقبلات للعدة.
الحكم الرابع عشر: أنه يحرم وطؤها في فرجها لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ " وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:222]. ولما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((من أتى كاهناً أو عَرَّافاً أو منجماً " يصدقه فيما يقول أو أتى امرأة في دبرها أو حائضاً فقد كفر بما أنزل على محمد))(1).
فهذه الأحكام كلها متعلقة بالحائض.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: لا خلاف بين أئمة العترة وفقهاء الأمة في تحريم وطئ الحائض في فرجها لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ " } [البقرة:222]. مع علمه بحيضها وعلمه بتحريمه وذكره للحيض، فإن خالف النهي ووطأ والحال ما ذكرناه فإنه يأثم لمخالفة النهي، وهل يكفر أو يفسق بالوطئ المحرم أم لا؟ فيه نظر.
والمختار: أنه لا يكفر ولا يفسق لأن الكفر والفسق إنما يكونان بأدلة قطعية ولا دلالة تدل على ما قلناه من كفره وفسقه، ولأنا لا نقطع بكونه كبيرة. والإكفار أو التفسيق إنما يكون بإرتكاب الكبائر. فأما ما روي عن الرسول :((من أتى امرأة وهي حائض فقد كفر بما أنزل على محمد " )) فلا يلزم لأمرين:
أما أولاً: فلأنه خبر واحد فلا يقع به إكفار ولا تفسيق لأنه لا يثمر اليقين ولا القطع.
__________
(1) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة بلفظ: ((من أتى حائضاً في فرجها أو امرأة في دبرها أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد)). اه(جواهر) 1/37، ورواه أحمد وأبو داؤد والترمذي عن أبي هريرة بزيادة ((...أو كاهناً فصدقه..) اه(فتح الغفار) 1/98.
وأما ثانياً: فلأنه محمول على استحلال الوطئ لأن استحلاله يكون ردة لأن تحريمه معلوم بضرورة الدين. وتلزمه التوبة من هذه المعصية والاستغفار إلى الله تعالى لقوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ " }[النور:31].
وهل يلزمه مع التوبة غرم مال أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه إن أتاها في أول الدم لزمه أن يتصدق بدينار، وإن أتاها في آخره تصدق بنصف دينار وهذا قول قديم للشافعي، ومحكي عن الأوزاعي وإسحاق.
والحجة على هذا: ما روى ابن عباس عن الرسول أنه قال: ((من أتى امرأة وهي حائض فليتصدق بدينار ومن أتاها وقد أدبر الدم فليتصدق بنصف دينار)). وفي حديث آخر: ((من أتى امرأته وهي حائض فليتصدق بدينار أو نصف دينار))(1).
وثانيهما: أنه لا يلزمه شيء، وهذا هو قول أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والقول الجديد للشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن علي أن رجلاً أتاه فقال: يا أمير المؤمنين إني وطأت امرأتي على غير طهر. فقال: ((اذهب فما أنت بصبورٍ ولا قذورٍ " واستغفر اللّه من ذنبك ولا تعد إلى مثلها ولا حول ولا قوة إلا بالله))(2)
ولم يأمره بالكفارة.
والمختار: ما قاله أصحابنا لما ذكرناه من الحجة لهم ونزيد فنقول: وطءٌ محرم للأذى، فلا تتعلق به الكفارة كالوطء في الدبر، واحترزنا بقولنا: محرم للأذى عن الوطئ في الحج وفي شهر رمضان على رأي من يوجب الكفارة.
__________
(1) وجاء في (فتح الغفار) عن ابن عباس عن النبي في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو بنصف دينار، رواه الخمسة وصححه الحاكم وابن القطان وابن دقيق العيد.
وقال أحمد: ما أحسنه من حديث، وفي لفظ للترمذي: إن كان دماً أحمر فدينار، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار، وفي رواية لأحمد: جعل في الحائض تُصاب ديناراً، فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل، فنصف دينار، وكل ذلك عن النبي اهبلفظه 1/99.
(2) حكي نحوه في (أصول الأحكام).
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، أما حديث ابن عباس فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن الرواية مضطربة فيضعف.
وأما ثانياً: فلأنه محمول على الاستحباب.
وقد حكي عن الحسن البصري وعطاء أنه من وطأ امرأته وهي حائض وجب عليه ما يجب على المجامع في شهر رمضان.
وحجتهما على ذلك: هو أنه وطءٌ محرم فأشبه الوطءَ في نهار رمضان، وعنه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم وجوب الكفارة على الواطئ في نهار رمضان لما سنقرره في كتاب الصوم.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل: هو أنه وطءٌ محرم في زمان لا يحل فيه الوطءُ فافترقا.
وإن وطأها من غير علم بالحيض ولا علم بتحريمه ومع نسيان الحيض فلا إثم عليه، لقوله : ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)) والجهل وعدم العلم سواء في سقوط الإثم.
الفرع الثاني: في الإستمتاع من غير جماع وله ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: الإستمتاع بها بما فوق السرة وبما دون الركبة فهل يجوز أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: الجواز وهذا هو رأي أئمة العترة وأكثر فقهاء الأمة.
والحجة على هذا: ما روت عائشة قالت: كان رسول اللّه يباشر نساءه وهن حُيَّضٌ في إزار واحد(1).
الحجة الثانية: ما روي عنها أيضاً قالت: كان رسول اللّه يأمرنا في وقت حيضنا أن نأتزر ثم يباشرنا، وأيكم يملك من إربه(2)
ما كان رسول اللّه يملك(3).
__________
(1) تضمنه الحديث الذي يليه.
(2) جاء في حاشية الأصل: أربه، يروى بفتح الألف والراء المهملة، وبكسر الألف وسكون الراء، والمعنى فيهما: حاجة النفس، ذكره الخطابي في المعالم، قال: والأرب هو العضو.اه.
(3) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داؤد عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضاً وأراد رسول الله أن يباشرها أمرها أن تأتزر بإزار في فور حيضتها (أول الحيض) ثم يباشرها، وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله يملك إربه. وللترمذي رواية بمعناه، وفيه روايات وأحاديث أخر, اه(جواهر) 1/137.
المذهب الثاني: المنع من ذلك وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ " }[البقرة:222].
والمختار: ما عول عليه الأكثر من الأئمة والفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد ما روي عن عمر أنه قال، سألت رسول اللّه ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقال: ((ما فوق الإزار)) (1).
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا: الآية تدل على المنع من الإستمتاع من جميع الوجوه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد بالمحيض هو دم الحيض وليس المراد منه لا الزمان ولا المكان لأن اللّه تعالى قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ " }[البقرة:222]. وفسره بأنه الأذى وفي هذا دلالة على أن المراد منه الدم فالمراد هو اعتزال الدم فلا تقربوا الدم.
وأما ثانياً: فتحمل الآية على ما يوافق الأخبار لئلا يؤدي إلى مناقضة الكتاب والسنة وهما متوافقان.
نعم، فإن كان على هذه المواضع دم الحيض فهل يجوز مباشرتها أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما المنع لأنه دم الحيض فأشبه الفرج.
والثاني: الجواز لحديث عمر وعائشة وقد ذكرناه.
والمختار: الجواز لأنها مجانبة للفرج فأشبه سائر الأعضاء الخارجة فإن لم يصبها شيء من الدم جاز ولا خلاف فيه بين أئمة العترة وأكثر فقهاء العامة.
الحالة الثانية: في الإستمتاع بما فوق الركبة ودون السرة، فهل يجوز أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) أورده في (الجواهر) عن معاذ أنه سأل رسول الله عما يحل له من امرأته وهي حائض. فقال: ((ما فوق الإزار، والتعفف من ذلك أفضل)) ذكره رزين، وفي رواية عن زيد بن أسلم أن رجلاً سأل رسول الله فقال له: ((تشد عليها إزارها ثم شأنك في أعلاها)) أخرجه الموطأ، اه1/137.
وفي (فتح الغفار) عن حزام بن حكيم أنه سأل رسول الله فقال : ((لك ما فوق الإزار)) رواه أبو داؤد، اه1/99.
المذهب الأول: جواز ذلك وهذا هو رأي الإمامين الهادي والناصر ومحكي عن القاسم وحكي عنه الكراهة وهو رأي الإمامين الأخوين ، ومروي عن محمد ومالك، والقول الأصح للشافعي.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح " ))(1)
وفي هذا دلالة على أنه لا يجتنب إلا الفرج لا غير.
المذهب الثاني: المنع من ذلك وهذا هو قول مالك وأحد قولي الشافعي، ومحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((لك ما فوق الإزار وليس لك ما تحته " )). وهذا نص فيما نريده ولأنه استمتاع في الحائض بما تحت الإزار فأشبه الوطءَ في الفرج.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن وافقهم من فقهاء العامة.
والحجة على ذلك: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو أنه استمتاع بالحائض فيما دون الفرج فأشبه التلذذ بما بين الفخذين والساقين.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا: الخبر دال على إباحة ما فوق الإزار دون ما تحته.
قلنا: الخبر محمول على أنه تلوث بالدم وما هذا حاله فنحن نمنع منه، أو نقول: إن الخبر محمول على من [لا] يملك نفسه عن الوقوع في المحظور، وإنما وجب حمله على ما ذكرناه لتكون الأدلة متطابقة.
قالوا: استمتاع بما تحت الإزار فيحرم كما لو وطأ في الفرج.
قلنا: هذا معارض بما ذكرناه من القياس فيبطل القياسان ويجب الرجوع إلى الأدلة الشرعية، وممن قال بالجواز الأوزاعي وأحمد وإسحاق والمروزي من أصحاب الشافعي.
__________
(1) وفي لفظ: ((...إلا الجماع)) رواه الجماعة إلا البخاري، ومناسبة الحديث ما رواه أنس بن مالك أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُوْنَكَ عَنِ المَحِيْضِ قُلْ هُو أذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِيْ الْمَحِيْضِ)) [البقرة: 122]. اه(فتح الغفار 1/98).
الحالة الثالثة: الإستمتاع بالتلذذ بالفرج إذا كان الدم مقصراً أو غسلته، فهل ذلك جائز أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع، وهذا هو الظاهر من مذهب العترة وفقهاء الأمة.
والحجة لهم على ذلك: هو أن ظاهر الأخبار التي رويناها عن عائشة وعن غيرها دالة على اجتناب الفرج ومصرحة بالمنع منه، ثم ظاهر الآية دال على المنع منه فإنه علل الإعتزال ومنع من القرب لأجل الأذى والأذى في زمان الحيض فيه دائم فلهذا قضينا بامتناعه.
المذهب الثاني: الجواز وهو المختار. ويدل عليه حجج ثلاث:
الحجة الأولى: هو أن الآي والأخبار إنما منعت من الإستمتاع لما فيه من التلوث بالنجاسة وقد فرضنا الجواز في حال كون الدم مقصراً أو كان مغسولاً، وإذا كان الأمر هكذا زال المنع بزوال التلوث فلا مانع من التلذذ به في هذه الحالة إذ لا نجاسة ظاهرة فيه كما قررناه.
الحجة الثانية: قوله : ((اصنعوا بالحائض كل شيء ما خلا الجماع " )) وهذا فيه دلالة ظاهرة على جواز التلذذ به من غير إيلاج فيه وهو المقصود.
الحجة الثالثة: ما روى أنس بن مالك عن الرسول أنه قال: ((يتجنب منها زوجها مكان الدم وله ما رواءه " ))(1).
وظاهر هذا الخبر دال على أن الفرج تلوث بالدم ونحن نمنع منه في هذه الحالة ولكن إذا فرضنا إقصار الدم أو غسله جاز ذلك، فقد وضح لك بما أوردناه جواز ذلك.
الفرع الثالث: إذا انقطع دم الحائض بحصول الطهر حل لها أن تصوم لأن تحريمه إنما كان بالحيض وقد زال ولا يحل لها الصلاة والطواف واللبث في المسجد والإعتكاف وقراءة القرآن لأن المنع من هذه الأمور إنما هو للحدث، ولا شك أن الحدث باق.
وهل يجوز وطؤها قبل الاغتسال أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: المنع من ذلك، وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر وزيد بن علي والسيدين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب وهو رأي الشافعي ومالك.
__________
(1) أورده في (الجواهر) وقال: حكاه في (الشفاء) 1/138.
والحجة على ذلك:قوله تعالى:{وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " } [البقرة: 222]. فجعل لحل الوطءِ والقرب غايتين:
إحداهما: الطهر وهو النقاء بقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}. يقال: طهر من النجاسة يطهر إذا نقى.
وثانيتهما: التطهر بالماء بقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} يقال: تطهر بالماء إذا اغتسل به، فهذه القراءة مفيدة لهذين المعنيين المختلفين فقد أفادت الطهر من الحيض والطهارة بالماء فيجب حملها عليهما كما أوضحناه.
والقراءة الثانية: بالتشديد في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطَّهَرْنَ}. وهي مفيدة للتطهير بالماء لأن المعنى ولا تقربوهن حتى يَطَّهَرْنَ بالماء فإذا تَطَّهَرْنَ بالماء فأتوهن، لكنا أخذنا اشتراط الطهر بالنقاء من دليل آخر ومن جهة أن الطهارة بالماء غير مفيدة حتى يحصل الطهر بالنقاء، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن القراءتين متطابقتان على المنع من وطئها حتى تغتسل وهذا هو المطلوب.
المذهب الثاني: أنها إن طهرت لأكثر الحيض وهو عشر جاز وطؤها وإن لم تغتسل وإن طهرت لأقل من عشر لم يجز وطؤها حتى تغتسل أو تيمم إن لم تجد الماء وهذا هو قول زيد بن علي وهو رأي أبي حنيفة.
والحجة على ما قاله، قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " }[البقرة:223] ولم يفصل. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ " ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}[المؤمنون:5ـ6]. من غير فصل بين حالة وحالة، وفي هذا دلالة على ما قلناه.
الحجة الثانية: قولهم: لو كان ثم مانع عن وطئها لكان لأجل بقاء الاغتسال عليها وبقاء الاغتسال عليها لا يمنع من وطئها كما لو كانت جنباً.
الحجة الثالثة: قالوا: ولأن هذا سبب يتعلق به تحريم وطئها وقد علمنا زواله بدليل الإحرام والصوم فوجب أن يزول التحريم.
المذهب الثالث: أنها إذا غسلت فرجها جاز لزوجها وطؤها بعد العشر، وهذا شيء يحكى عن الأوزاعي وداؤد من أهل الظاهر.
والحجة لهما على ما قالاه: هو أنها قد أمنت من معاودة الحيض في هذه الحالة فجاز له وطؤها كما إذا اغتسلت أو تيممت، وما ذكرناه حجة لأبي حنيفة فهو حجة لهما لأنهما يعتبران انقضاء مدة الحيض وكمالها كما يعتبره إذ لا قائل بجواز وطئها قبل تمام حيضها وإنما أوجبا غسل الفرج من أجل ما يلحقه من آثار الدم والعفونة. وذكرهما غسل الفرج يحتمل الوجوب ويحتمل الاستحباب.
والمختار: ما قاله أصحابنا.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو قوله لفاطمة بنت أبي حبيش: ((إذا أقبلت الحيضة فأمسكي عن الصلاة " وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)). فأوجب عليها الاغتسال عند الإدبار وهو نص فيما قلناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما يخالفه.
قالوا: الآيتان تدلان على ما قلناه.
قلنا: ظاهرهما متروك بالإجماع لأنهما متناولتان للحيض والنفاس فلابد من تأويلهما فنحملهما على حل الوطءِ بعد الاغتسال، كما حملتموها على حل الوطء بعد الانقطاع.
قالوا: بقاء الاغتسال لا يكون مانعاً عن الوطءِ كالجنابة.
قلنا: ليس المانع هو بقاء حكم الاغتسال كما زعمتم وإنما المانع من الوطءِ بقاء حكم الحيض الذي يذهب بالاغتسال.
قالوا:قد علمنا زوال السبب الذي يتعلق به تحريم وطئها بدليل الإحرام والصوم.
قلنا: بقاء حكم الحيض لا يمنع من الإحرام والصوم لأن الصوم إمساك. والإحرام لا يمنع منه الحيض فضلاً عن الاغتسال، بخلاف الوطءِ والصلاة فإن بقاء حكم الاغتسال مانع منهما فافترقا.
وأما من زعم أنها تغسل فرجها لا غير فالكلام عليه كالكلام على أبي حنيفة إلا أنهما اشترطا غسل الفرج للنظافة عن سائر العفونات التي في الفرج عقيب الحيض.
الفرع الرابع: فإن لم تجد الماء جاز لها التيمم للصلاة لأنها عادمة للماء. وهل تؤدي الصلاة بالتيمم في أول الوقت أو في آخره؟ يكون على الخلاف الذي ذكرناه في باب التيمم.
ويجوز لها أن تتيمم للوطء لأن التيمم طهارة تستباح بها الصلاة فأباحت الوطء كطهارة الماء. وهل يشترط في التيمم للوطء شرط آخر أم لا؟ فالذي عليه أئمة العترة أن التيمم كاف في صحة الوطئ وهو رأي الشافعي، وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يجزي التيمم للوطءِ حتى تؤدي به فريضة، وله في هذه المقالة نظر دقيق.
والحجة على ذلك: هو أن التيمم إنما شرع لتأدية العبادات ولما فيه قربة ولم يشرع لتأدية الأمور المباحة كالوطءِ، ولهذا فإن سبب نزوله عدم الماء لتأدية الصلاة، فقال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا " }[المائدة:6]. فلما كان مشروعاً لما ذكرناه من العبادة لم يجز تأدية الأمور المباحة حتى يؤدى به المقصود من العبادة فلهذا كانت العبادة مقصودة وتأدية المباح على جهة التبع، وعنه رواية أخرى أنه يستباح به الوطءُ من غير صلاة وهو مروي عن محمد وزفر.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة لأن الطهارة بالتراب نازلة منزلة الماء عند عدمه فلهذا استبيح به الوطءُ كالطهارة بالماء.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، فأما ما قاله أبو حنيفة من أنه شرع من أجل تأدية العبادات فلا ننكره لكنه قد نزل منزلة الماء عند عدمه وهو بدل عنه وليس يكون أعلى حالاً من الماء، فإذا جاز تأدية الأمور المباحة بالماء جاز تأديتها بالتراب من غير تفرقة بينهما.
الفرع الخامس: إذا أراد وطءَ امرأته فقالت: أنا حائض، فهل يقبل قولها أم لا؟ فيه تردد، منهم من قال: ينظر في حالها فإن كانت مسلمة قبل قولها لأن الغالب من حالها الصدق لأجل الإسلام. وإن كانت فاسقة فإنه لا يلتفت إلى قولها لفقد العدالة.
والمختار في ذلك: التعويل على شمائلها وأحوالها، والمعتمد في ذلك هو غلبة ظنه فإن غلب ظنه صدقها لم يجز له وطؤها، وإن غلب على ظنه كذبها جاز له وطؤها من غير التفات إلى الإسلام والفسق لأنه ربما يغلب على الظن صدقها ولو كانت فاسقة لقرائن أحوالها وما يظهر من شمائلها.
الفرع السادس: إذا تيممت وصلت بهذا التيمم فريضة أو نافلة فهل يحل وطؤها أم لا؟ فعلى ما اخترناه من جواز تأدية الفرائض الكثيرة بالتيمم الواحد يحل وطؤها ولو صلت، فأما من يمنع من تأدية الفروض الكثيرة بالتيمم الواحد، فمنهم من منعه حتى تعيد التيمم للوطءِ، ومنهم من أجازه لأنه نازل منزلة الغسل وهو القوي على أصلهم.
الفرع السابع: ويستحب للنساء الحيَّض ذوات الأزواج وغير ذوات الأزواج أن يتعهدن أنفسهن في أوقات الصلاة بالتطهر والتنظيف إذا كان الدم مقصراً، وذكر اللّه تعالى في أوقات الصلوات يكون ذلك على جهة التمرين لئلا يقع التساهل في تأدية الصلوات في حال الطهارة من الحيض كما ورد به الشرع في أمر الصبيان بالصلاة قبل البلوغ تمريناً لهم على فعلها بعد البلوغ، ويستحب لذوات الأزواج منهن التعهد لأنفسهن بالتطهير والتنظيف واستعمال الطيب لإزالة الروائح الكريهة بالحيض لأجل المباشرة التي فصلناها للأزواج في حال الحيض.
الفرع الثامن:الحيض له سن مخصوص وقدر مخصوص فإذا وجد ذلك تعلقت به أحكام الحيض، والمرجع في إثباته وتقريره على الوجود وهو ما يوجد عادة مستمرة فإذا وجد ذلك صار أصلاً.
قال الإمامان الناصر والهادي: وأقل السن الذي ترى فيه المرأة الحيض تسع سنين وما زاد على ذلك فهو عادة مستمرة وهذا هو المحكي عن الشافعي.
والحجة لنا على ذلك: هو أن كل ما ورد به الشرع مؤقتاً فالإعتماد فيه على التوقيت، وما ورد مطلقاً فلا بد من تقديره، و[إن] لم يكن لتقديره أصل في الشرع ولا في اللغة فإنه يرجع فيه إلى العرف والعادة، وهذا كما نقول في قبض المقبوضات في البياعات، والحرز في السرقة، والأيمان فإن هذه الأمور كلها التعويل فيها على مجرى العادة والعرف.
قال الشافعي في الأم: أعجل من سمعت في الحيض من النساء نساء تهامة يحضن لتسع سنين، وقال: رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة. وقال أصحابه: يجيء على أصله أن تكون جدة لها تسع عشرة سنة لأنها تحمل لتسع سنين وتضع لستة أشهر ثم تحمل ابنتها لتسع سنين وتضع لستة اشهر فذلك يكون تسع عشرة سنة وهذا كله يأتي على مذهبنا.
---
الفصل الثالث
في بيان الأقل والأكثر من الطهر والحيض
اعلم أن الذي عليه الأكثر من أئمة العترة والأكثر من فقهاء الأمة هو تقدير أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر دون أكثره، وخالف الناصر في هذه القاعدة وقال: إنه لا تقدير فيه وهو محكي عن مالك، فهذان مذهبان نذكر ما يتوجه في كل واحد منهما بمعونة الله:
المذهب الأول: قال الإمام الناصر في كتابه (الكبير)، لا وقت للحيض عن اللّه ولا عن رسوله لا لقليله ولا لكثيره لأنه يزيد وينقص وإنما الاعتبار في ذلك بلون دم الحيض ودم الاستحاضة دون وقتها وعادتها لا غير.
والحجة له على ما قاله: قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ " وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}[الرعد:8].
ووجه الدلالة من هذه الآية، هو أن اللّه تعالى أورد هذه الآية على جهة التمدح بأنه مختص بالعلم بهذه الأمور فلو علمنا قليله وكثيره وزيادته ونقصانه لبطل تمدحه باختصاصه وانفراده به.
الحجة الثانية: قوله تعالى:{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ " } [البقرة:228].
ووجه الحجة من هذه الآية:هو أن اللّه تعالى نهاهن عن كتمان ما خلق في أرحامهن من الحيض فلو كان الحيض مقدراً بالوقت والعدد لكان ظاهراً مكشوفاً لا يمكن كتمانه فلما نهاهن عن الكتمان دل ذلك على أن الغرض ما يعلمه اللّه تعالى من الولد والحيض دون الوقت والعدد فإنهما معلومان.
الحجة الثالثة: قوله لفاطمة بنت أبي حبيش: ((إذا أقبلت الحيضة فدعي " وإذا أدبرت فتوضائي وصلي)). وفي هذا دلالة على أن الاعتبار إنما هو باللون دون الوقت والعدد.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}[البقرة:222].
ووجه الدلالة من هذه الآية: هو أن اللّه تعالى أمر باعتزالهن في حال المحيض في قليله وكثيره يدل ذلك على أن الاعتبار باللون دون الوقت والعدد، فهذا جملة ما أوردوه نصرة لمذهبه.
المذهب الثاني: أن الحيض مقدر أقله وأكثره، والطهر مقدر أقله دون أكثره، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة الهادي والقاسم ورأي السيدين الأخوين وهو قول الأكثر من فقهاء الأمة أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه على اختلافٍ بينهم فيه، وهو القول الآخر للناصر ذكره في (الألفاظ) وفي (المختصر) وفي كتاب (أصول الدين).
والحجة على هذه المقالة:هي أن الأخبار المأثورة من جهة الرسول دالة على هذه المقادير في الطهر والحيض ومصرحة بها تصريحاً لا يمكن دفعه ولا يسع إنكاره، وسنقررها ونوضح دلالتها على ما يذهب إليه كل واحد منهم فيما رآه من المقدار في الطهر والحيض.
والمختار: ما عليه الأكثر من علماء العترة وفقهاء الأمة من تعريف الأوقات والمقادير في الطهر والحيض.
والحجة لهم: ما قدمناه ونزيد هاهنا، وهو أن الإجماع منعقد من جهة العترة وأكابر أهل البيت بعد عودة الناصر إلى مقالتهم، ومن جهة علماء الأمة من يوم نشأ الخلاف في المسائل الفقهية، على أن الحيض مقدر بالوقت والعدد وهذا الاحتجاج إنما نقيمه على مالك فأما الناصر فقد رجع إلى مقالة آبائه في تقديره بوقته وعدده.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، وهو قول الناصر القديم.
قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ " وَمَا تَزْدَادُ}[الرعد:8].
قلنا: المراد به الولد في كونه ذكراً أو أنثى وما ينقص وما يزيد من اللبث في بطن أمه وما يذهب ويصير غيضاً في الأرحام، فهذا هو المراد بالآية وليس فيها ذكر الحيض في قدره ووقته.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ " }[البقرة:228].
قلنا: مقداره من الثلاثة إلى العشرة ووقته من التسع إلى ما فوقها فالله تعالى خوَّفهُن أن يكتمن مقداره ووقته لأغراض فاسدة، فتقول: حيضي عشر وهو خمس أو تقول: قد انقطع دمي، ولم ينقطع، إلى غير ذلك مما يتعلق بأغراضهن.
قوله لفاطمة بنت أبي حبيش: ((إذا أقبلت الحيضة فأمسكي " وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)).
قلنا: الغرض أنها في أيام الحيض، والخبر دال على وجوب ترك الصلاة عند الحيض فلابد من تقديرها بالأيام ليعرف الحيض مما يكون استحاضة، وفي ذلك ما نريده.
وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَىً}[البقرة:222]. ولم يذكر المقدار ولا الوقت.
قلنا: قد أمر باجتناب الأذى في المحيض فلابد من تقدير وقته وعدده ليعرف ما يجتنب وما لا يجتنب، فليس كل أذى يجب اجتنابه وإنما يجب اجتنابه مع العلم بوقته وعدده، فقد ظهر لك بما قررناه ضعف هذه المقالة. فأما التعويل على صفة الدم مع القول بالمقدار والوقت فسنوضحه بمعونة اللّه تعالى.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: في مقدار أقل الحيض، وللعلماء فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول:أن أقله ثلاثة وهذا هو المروي عن زيد بن علي والصادق وأحمد بن عيسى ونصه الهادي في (الأحكام) واختيار السيد المؤيد بالله وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري.
والحجة على هذا: ما روى واثلة بن الأسقع " (1) عن الرسول أنه قال: ((أقل الحيض للجارية البكر ثلاثة أيام " وأكثره عشرة))(2). وروي عن الرسول أنه قال: ((أقل الحيض ثلاث وأكثره عشر " ))(3) وهذا رواه أبو أمامة ((وما زاد على عشرة أيام فهو استحاضة)). وروى أنس بن مالك عن الرسول أنه قال: ((أقل الحيض يكون ثلاثاً إلى خمس " وإلى عشر وما زاد فهو استحاضة)). وروي عنه أيضاً: أنه قال: الحيض ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة " وما زاد فهو استحاضة. ومثل هذا لا مساغ للإجتهاد فيه ولا يقوله الصحابي إلا عن توقيف من جهة الرسول ، وروى معاذ عن الرسول أنه قال: ((أقل الحيض ثلاثة أيام " وأكثره عشرة أيام)). فهذه الأخبار كلها دالة بصريحها على أن أقله ثلاث وأكثره عشر فيجب التعويل عليها والله
__________
(1) واثلة بن الأسقع بن كعب، صحابي أسلم قبل تبوك وشهدها، روى عن النبي وعن أبي مرثد الغنوي، وأبي هريرة وأم سلمة، وعنه: ابنته فسيلة وبسر الحضرمي ومكحول وغيرهم، خرج إلى الشام بعد وفاة رسول الله ، وكان يشهد المغازي بدمشق وحمص، ومات بدمشق سنة 83هعن 105سنين. اهملخصاً من (تهذيب التهذيب) 11 89.
(2) جاء الحديث بلفظه عن أبي أمامة، وحديث واثلة (بالثاء المثلثة) بن لأسقع (بالسين المهملة والقاف والعين المهملة) بلفظ: ((أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة)). وجاء في (الجواهر)) عن معاذ أنه قال: ((أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام)) حكى هذه الأخبار جميعها في (الشفاء) اه133، ورواه بلفظه عن معاذ في مسند زيد بن علي قال: سمعت زيد بن علي يقول: ...إلخ. وخرجه السياغي في (الروض) عن أبي أمامة بلفظ: ((أقل ما يكون الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثاً، وأكثر ما يكون الحيض عشرة أيام، فإذا رأت الدم أكثر من عشرة أيام فهي مستحاضة)) اه1 503. وهو بلفظه هذا أشمل إذ لا فرق في مدة الحيض بين البكر والثيب، المحقق.
(3) تقدم في الأحاديث السالفة.
أعلم.
المذهب الثاني: محكي عن الشافعي وهو أن أقله يوم وليلة، وحكي عنه يوم واحد. قال الشيخ أبو حامد من أصحابه: والصحيح من قوله أنه يوم وليلة وهو الذي يفرع عليه ويفتي به ويناظر عليه ولا أعرف له ولا أصحابه حجة على ما قالوه إلا الوجود ولم يوردوا كتاباً ولا سنة.
قال الشافعي: رأيت امرأة ثبت لي عنها أنها لا تحيض أكثر من يوم واحد وثبت لي عن نساء أنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام، هكذا في (البيان). ونقلوا صوراً عن عدة من النساء من تحيض يوماً ومن تحيض أقل من ثلاثة أيام وما زادوا على النقل من أحوال النساء شيئاً.
المذهب الثالث: أن أقله يومان وأكثر الثالث، وهذا هو المحكي عن أبي يوسف ولا أعرف له حجة يدلي بها في نصرة مذهبه هذا إلا الوجود كما حكيناه عن الشافعي.
المذهب الرابع: محكي عن مالك أنه قال: لا حد لقليله.
وحجته على هذا: ما حكيناه عنه آنفاً من أن الاعتبار بوجود الدم وصفته من غير حاجة إلى تقدير وقته وعدده، وعمدته في هذا خبر بنت أبي حبيش حين قال لها الرسول : ((إذا رأيت الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة " وإذا رأيت الدم الأحمر فتوضائي وصلي)). فعول على الصفة ولم يجعل له حداً في القلة.
والمختار: ما عول عليه الأكابر من أهل البيت ومن وافقهم.
وحجتهم:ما قررناه،ونزيد هاهنا:وهو أن اللّه تعالى قال في كتابه الكريم: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذئً فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}[البقرة:222] ولم يقدر في الكتاب قليله وكثيره ولكنه أشار إلى مطلق الأذى وأمر باجتنابه، ثم وجدنا الأخبار من جهة السنة مصرحة بحده ومقداره في قليله وكثيره فقضينا بها جمعاً بين الكتاب والسنة وعملاً بهما، وهذه طريقة مرضية في جمع الأدلة واتفاقها على المقصود من غير معارضة ولا تناقض.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، أما ما زعمه الشافعي من أن أقله يوم وليلة فتعويله في ذلك على الوجود وهذا مردود، فإن المعتمد في هذه المقدرات ليس على الوجود فإنه معيار مضطرب لا يعول عليه لاختلافه فإنه لا يستقر على قاعدة واحدة وإنما التعويل على ما كان من جهة الشارع لأنها أمور غيبية قد استأثر اللّه بعلمها ووكلها إلى لسان الرسول ، وبهذا يبطل ما حكيناه عن أبي يوسف فإنه عول على الوجود ولم يأت بدلالة شرعية.
وأما ما حكي عن مالك من أنه لا حد لأقله فإنه بنى ذلك على بطلان وقت الحيض ومقدراه وقد أوضحنا فساده بما مر من الأدلة.
وقد حكي عن القاسم أنه لا حد لأقله قال المؤيد بالله: ولا أحفظ له في أقله نصاً وليس مذهبه مثل مذهب مالك في بطلان حده وقدره فإنه قد صرح بأن له وقتاً وعدداً وليس معرجاً على صفة الدم مثل قول مالك ولكنه حدَّ أكثره ولم يحد أقله.
الفرع الثاني: في مقدار أكثره. وفيه مذاهب خمسة:
المذهب الأول: أن أكثره عشرة أيام، وهذا هو رأي القاسم والهادي والأكثر من أئمة أهل البيت زيد بن علي والصادق وأحمد بن عيسى والمؤيد بالله والأقوى من قولي الناصر، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري.
والحجة لهم على ذلك: ما قررناه في قليله، فإن الأخبار التي رويناها متصل بها الكثير بالقليل من غير فصل فلا حاجة إلى تكرير الكلام بإعادتها.
المذهب الثاني: أن أكثره خمسة عشر وهذا هو المحكي عن الشافعي ويحكى عن أحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن " )) قيل: وما نقصان عقولهن؟ قال: ((شهادة امرأتين كشهادة رجل ونقصان دينهن أن إحداهن تمكث نصف دهرها فلا تصلي))(1). وفي هذا دلالة على أن من النساء من تكون حائضاً نصف عمرها وذلك يوجب أن يكون حيضها خمسة عشر يوماً.
المذهب الثالث: أن أكثره سبعة عشر يوماً، وهذا هو المحكي عن مكحول والشعبي وطاووس والحسن بن صالح.
والحجة على هذا: الإستقراء والعادة المألوفة في حيض النساء، وأظن أن هؤلاء إنما عولوا على الوجود كما حكيناه عن الشافعي في تعويله على الوجود في مقدار أقله وقد عثروا على بعض النساء تحيض سبعة عشر يوماً فجعلوه أصلاً في مقدار أكثره.
__________
(1) جاء في (الجواهر-تخريج أحاديث البحر) ما جاء في (الجامع الكافي) عن أبي سعيد قال: خرج رسول الله في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء فقال: ((يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) فقلن: لِمَ يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن اللعن وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الحازم من إحداكن)) قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: ((أليس شهادة المرأة منكن مثل نصف شهادة الرجل))؟ قلن: بلى. قال: ((أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم))؟ قلن: بلى. قال: ((فذلك من نقصان دينها)) أخرجه البخاري ومسلم. ولا دلالة فيه على المطلوب (يعني مدة الحيض).
وفي (التلخيص) لفظه: قوله: روي أنه قال: ((تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي)) لا أصل له بهذا اللفظ، ثم حكى في (الجامع الكافي) عن ابن مندة: أنه لا يثبت بوجه من الوجوه.
وقال البيهقي: هذا الحديث يذكره بعض فقهائنا وقد طلبته كثيراً فلم أجده في شيء من كتب الحديث، ثم حكى في (التلخيص) نحو كلامهما عن ابن الجوزي وأبي إسحاق، والنووي والمنذري. اه1 133. وأورده في (فتح الغفار) ملخصاً، وقال: مختصر من البخاري ومسلم،اه99.
المذهب الرابع: وروي عن سعيد بن جبير أن أكثره ثلاثة عشر يوماً.
والحجة على هذا: هو التعويل على الوجود فإنه روى أن بعض النساء تحيض هذه المدة فلا جرم عول عليها.
المذهب الخامس: حكي عن مالك ثلاث روايات:
أولاها: يوم وليله.
وثانيتها:سبعة عشر يوماً.
والثالثة:لا حد لأكثره.
والحجة على هذا: أما يوم وليلة فحجته حجة الشافعي، وأما سبعة عشر يوماً فمقالته مقالة الشعبي وتعويله على الوجود والإستقراء، وأما أنه لا حد لأكثره فقد قررنا وجهها فيما سبق فأغنى عن الإعادة.
والمختار: ما عول عليه الأكابر من أهل البيت من أن أكثره عشرة أيام وهي محكية عن علي .
والحجة على ذلك: ما رويناه من تلك الأخبار فإنها نصوص في مقدار أقله وأكثره فلا وجه لتكريرها.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، فأما ما أورده الشافعي من الاحتجاج بالخبر فعنه جوابان:
أما أولاً: فإنا نقول بموجب الخبر مع الإستمرار على الخلاف لأن عندنا أن أقل الطهر عشر وأكثر الحيض عشر وإذا كان طهرها عشراً وحيضها عشراً فقد مكثت نصف عمرها لا تصوم ولا تصلي.
وأما ثانياً: فلأن قوله نصف دهرها، ليس ثابتاً في الأخبار وإنما الثابت في الرواية شطر دهرها، والشطر عبارة عن بعض الشيء لأنه يقال: جعلت لك شطر مالي أي بعضه. وقال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " }[البقرة:144،149،150] أي بعضه. ولا شك أنها تقعد بعض عمرها لا تصوم ولا تصلي، فأما ما يحكى عن الشعبي والحسن بن صالح أنه سبعة عشر، ويحكى عن سعيد بن جبير أنه ثلاثة عشر، وعن مالك أنه سبعة عشر أو يوم وليلة، فكله تعويل على الإستقراء والعادة المألوفة والوجود وما هذا حاله فليس معولاً عليه في هذه الأمور العددية والأحكام المقدرة فإنه لا تعويل فيها على العادات واستقراء الوجود لكونها غير مستقرة وتضطرب أحوالها ولا تطرد مجاريها ولم يلتفت إليها الشرع، وإنما يعول على ما كان من جهة الرسول في كل ما تكلم به ونطق، فأما رواية مالك أنه لا حد لأكثره فقد أوضحنا الكلام عليه.
الفرع الثالث: في مقدار أقل الطهر.
وقد اختلف العلماء في مقدار أقله ولهم في ذلك مذاهب ستة:
المذهب الأول: أن أقل ما يكون الطهر في الحائضات من النساء عشرة أيام وهذا هو رأي أئمة العترة لا يختلفون فيه.
والحجة على ذلك: قوله : ((النساء ناقصات الحظوظ ناقصات العقول ناقصات الأديان " ، فأما نقصان حظوظهن فلهن نصف ما للذكر من الميرات كما قال تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنثَيَيْنِ " }[النساء:11]، وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد، وأما نقصان دينهن فتمكث إحداهن نصف دهرها لا تصلي)) وفي هذا دلالة على أن أقل طهرها عشر وأكثر حيضها عشر وهو المقصود.
المذهب الثاني: محكي عن الشافعي وأقله عنده خمسة عشرة يوماً.
والحجة له على ما قاله: ما روي عن الرسول أنه قال في النساء: ((ناقصات الأديان)). وأوضح بقوله: ((إن إحداهن تمكث شطر دهرها لا تصلي)).
وثالثها: أن أقله تسعة عشر يوماً، وهذا شيء يحكى عن يحيى بن أكثم " (1).
ورابعها: أن أقله ثمانية أيام.
وخامسها: أن أقله خمسة أيام، وهذا شيء يحكى عن عبدالملك الماجشون.
وسادسها: أن أقله ثلاثة أيام، وهذا إنما يحكى عن أحمد بن حنبل.
والحجة لهؤلاء فيما قالوه: هي الإعتماد على ما يحصل من الإستقراء والعادة المألوفة من النساء، فكل واحد من هؤلاء عول فيما ذهب إليه على ما يجده من نساء أهل زمانه وبلده فلا جرم اختلفت مذاهبهم في القلة والكثرة.
__________
(1) يحيى بن أكثم بن قطن بن سمعان الفرماء أبو محمد، وهو مروزي، سمع عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وغيرهما، روى عنه البخاري وأبو حاتم الرازي وإسماعيل ابن إسحاق القاضي وغيرهم. وكان عالماً بالفقه بصيراً بالأحكام. ولاه المأمون قضاء القضاة ببغداد، وروي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: ذكر يحيى بن أكثم عند أبي فقال: ما عرفت فيه بدعة ((يحيى بن أكثم من أصحاب أحمد)) تولى قضاء البصرة وعمره عشرون سنة، ومات بالربذة منصرفه من الحج يوم الجمعة لخمس عشرة خلت من ذي الحجة سنة 242هوسنه 83 سنه. ا ه. بتصرف. (المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد) ج3 ص89.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة، فإنهم قد اجمعوا على ذلك وإجماعهم حجة للآية والخبر(1) وقد نصرناه في الكتب الأصولية وأجبنا عن الأسئلة الواردة عليه، ونزيد هاهنا: وهو أن اللّه تعالى أوجب على المعتدة بالأقراء ثلاث حيض وأوجب على المعتدة الآيسة لصغر أو كبر ثلاثة أشهر فأقامها مقام أكثر الحيض وأقل الطهر، وفي هذا دلالة على أن أقله عشرة أيام كما قلناه ولم نقمه مقام أكثر الطهر لأنه لا حد له والإعتماد عندنا في العدة إنما هو بالحيض دون الأطهار كما سنوضحه في كتاب العدة بمشيئة اللّه تعالى.
فحصل من مجموع ما ذكرناه أن إيجاب العدة بالأشهر قائمة مقام العدة بالأقراء وكما هي دالة على أقل الطهر فهي دالة على أكثر الحيض. فإن قلنا: إن العدة بالأطهار فهي دالة على أقله وإن قلنا: إن العدة بالحيض فهي دالة على أكثره وهي ثلاثون يوماً إما للأقراء بالطهر أو بالحيض.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، أما حجة الشافعي بالخبر فقد أوضحنا أن المراد به في الخبر شطر دهرها وأنه كما هو دال على ما يقوله فهو دال على ما نذهب إليه، وأما سائر المذاهب التي نقلناها في بيان أقل الطهر فإنها كلها مبنية على الوجود والإستقراء وليس على كل واحد منها دلالة شرعية من كتاب ولا سنة ولكنها مقررة على العرف والعادة ولا مدخل للعرف والعادة في هذه المقدرات والأمور العددية فإن مستندها أمر غيبي وليس فيها إلا ما كان من جهة اللّه أو من جهة رسوله، وأيضاً فإنها متدافعة مضطربة لا تعويل على مقدار فيها بحجة واضحة.
__________
(1) الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. والخبر: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي.)) الحديث.
الفرع الرابع: في مقدار أكثر الطهر، وأكثره لا حد له، لا خلاف فيه بين الأئمة وفقهاء الأمة لأن الطهر هو الأصل سواء كان قبل الحيض أو بعده فلا حد له ولا منتهى لقدره، فإذا تمهدت هذه القاعدة من بيان هذه المقادير من أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر وأكثره كما أوضحناه، فإنما تظهر ثمرة هذه المقادير في المستحاضات وعَبر الدم على أكثر الحيض. فما كان من الدم في الثلاث فهو حيض بيقين تتعلق به أحكام الحيض من ترك الصلاة والصوم، وما كان زائداً على العشر فهو طهر بيقين فتلحقه أحكام الطهارة من جواز الصلاة والصوم وما كان فوق الثلاث إلى اليوم العاشر فهو مشكوك في حاله لكونه محتملاً للحيض والاستحاضة، فذات العادة ترد إلى عادتها والمبتدأة ترد إلى عادة نسائها أو إلى صفة الدم ولونه كما سنوضحه بمعونة اللّه تعالى.
الفرع الخامس: في بيان التقسيمات المتعلقة بالحيض وأيامه.
وهو ينقسم إلى أقسام كثيرة باعتبارات مختلفة ولكنا نشير إلى ما يتعلق بالمقاصد الفقهية والأحكام الشرعية وجملتها تقسيمات أربعة:
التقسيم الأول: باعتبار ماهية الحيض وحقيقته، إلى أسود ثخين محتدم بحراني له رائحة كريهة، وإلى ما يكون أحمر مشرق اللون رقيقاً له رائحة الدم.
فالضرب الأول: هو الذي يعول عليه في الحيض، فالأسود والثخين ظاهران لا يحتاجان إلى تفسير، والمحتدم: الحار الذي يلذع البشرة بحرارته أَخْذاً من قولهم احتدم الماء إذا حُرَّ، وأما البحراني فقد قال ابن عباس: هو شديد الحمرة الذي يضرب إلى سواد ويقال له: القاني، وقيل: البحراني الذي يخرج من قعر الرحم وأعماقها لأنها تخرج من لحمها.
الضرب الثاني: هو دم الاستحاضة وهو دم مشرق اللون رقيق له رائحة الدم وهو من عرق ينفتق، وهل يعول على صفة الدم في كونه حيضاً أو استحاضة؟ فيه تردد نذكره على أثر هذا بمعونة اللّه.
التقسيم الثاني: باعتبار حكمه، إلى ما يكون ممكناً وإلى ما يكون ممتنعاً، فالممكن في الأيام هي التي بين أيام العادة وبين أكثر الحيض إذا كانت عادتها دون أكثر الحيض من الخمس إلى السبع وكذلك الأيام التي تكون بعد مضي أقل الطهر إلى مجيء أيام العادة، فهذه هي الأيام الممكنة ليكون الدم حيضاً وأما الأيام الممتنعة فهي أقل أيام الطهر وأيام الحمل وفي حال الصغر لدون التسع وفي حال الكبر لما بعد الستين كما مر بيانه.
التقسيم الثالث: باعتبار وقت وروده، إلى أيام الإبتداء وإلى أيام العادة، فأما أيام الإبتداء فهي الأيام التي يطرق المرأة الحيض بها في سن الحيض ولم تسبقها لها عادة، وأما أيام العادة فهي عبارة عن الأيام التي تحيض المرأة فيها في كل شهر على الاستمرار، وينقسم إلى: عادة وقت، وإلى عادة عدد، فعادة الوقت من أول الشهر وآخره ووسطه، وعادة العدد من خمس إلى ست إلى سبع إلى عشر. قال الإمام المؤيد بالله: والأيام أربعة، أيام العادة، وأيام الإبتداء، وأيام الإمكان، وأيام الإمتناع، وقد فسرنا هذه الأيام فأغنى عن تكريره.
التقسيم الرابع: باعتبار العلم به، إلى ما يكون حيضاً بيقين، وهو الثلاث. وإلى ما يكون طهراً بيقين، وهو ما زاد على العشر. وإلى ما يكون مشكوكاً، وهو ما فوق الثلاث إلى العشر. ونقتصر على هذا القدر من التقسيمات ففيه مقنع وكفاية لقصدنا.
الفرع السادس: في كيفية انتقال العادة. قال السيد أبو العباس: وانتقال العادة يكون على أوجه ثلاثة:
انتقال العدد دون الوقت، وانتقال الوقت دون العدد، وانتقال الوقت والعدد جميعاً.
فإذا حاضت المرأة في أول الشهر أربعاً وطهرت إحدى عشرة ثم حاضت في النصف الثاني أربعاً وطهرت إحدى عشرة فقد تقرر بها الوقت والعدد جميعاً في الطهر والحيض لأنها رأت عدداً واحداً مرتين واتحد الوقت مرتين أيضاً في الأولية، أول النصف الأول وأول النصف الآخر فصارالوقت والعدد متحدين كما أوضحناه، فإن استحيضت في الشهر الثاني عملت في الحيض والطهر عليهما فيكون حيضها في كل شهر أربعاً وطهرها إحدى عشرة فهكذا يكون استقرار العادة وثبوتها.
ومثال انتقالها عن الوقت والعدد جميعاً، هو أن هذه المرأة من عادتها أنها تطهر في أول الشهر عشراً وتحيض خمساً ثم طهرت بعد ذلك عشراً، وحاضت خمساً فقد تغيرت عادتها فيهما جميعاً، إلى ما ذكرنا، فقد انتقلت عادتها في الوقت والعدد جميعاً لأن عادتها في أول الشهر كان طهراً فصار حيضاً وعدد حيضها كان أربعاً فصار خمساً وكان طهرها عشراً فصار إحدى عشرة.
ومثال انتقال الوقت دون العدد أن تكون العادة واحدة طهراً عشراً وحيضاً سبعاً مرة في أوله ومرة في وسطه.
ومثال انتقال العدد دون الوقت هو أن يكون الوقت واحداً في أول كل شهر لكن العدة مختلفة طهراً خمس عشرة وحيضاً خمساً وسبعاً فقد وضح الإنتقال على هذه الأوجه.
الفرع السابع: في بيان ما تستقر به العادة وتثبت عليه.
اعلم أن الحاجة ماسة إلى بيان ما تثبت به العادة في الحيض لترجع إليه المستحاضة إذ عبر الدم على العشر في حقها وفي حق نسائها لأنها ترجع إلى العادتين جميعاً، فإذا تكررت العادة الأخيرة من غير زيادة ولا نقصان فلا يقع خلاف بين الفقهاء في وجوب الرجوع إليها وإنما الخلاف فيما تثبت به العادة مع الإختلاف وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أن العادة تثبت بقرأين عند تغيرها وهذا هو الظاهر من مذهب أصحابنا وحصله أبو العباس لمذهب الهادي، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش: ((أقعدي عن الصلاة أيام أقرائك " )) فعلق الحكم بالأقراء وليست الأقراء عبارة عن قرء واحد لا حقيقة ولا مجازاً والثلاثة غير معتبرة بالإجماع فوجب أن يكون المراد قرئين.
المذهب الثاني: أن المعتبر في تقرير العادة قرء واحد، وهذا هو المحكي عن أبي يوسف وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((دعي الصلاة أيام أقرائك " )). والأقراء: جمع قرء. و لا خلاف أن أقل الجمع ثلاثة ولا قائل بالثلاثة فيجب حمله على الواحد لأنه هو المستيقن وما عداه لا دلالة عليه.
والمختار: ما قاله أصحابنا.
والحجة لهم ما قررناه، ونزيد هاهنا وهو أنه لا فرق بين النادر والمعتاد إلا أن النادر يكون بالمرة الواحدة والمعتاد يكون بالتكرر ولا يعقل أقل التكرر إلا مرتين فلهذا قلنا بأن العادة لا يمكن تحققها إلا بقرأين.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا: الأقراء تحمل على الواحد دون الإثنين والثلاثة.
قلنا: هذا فاسد فإن الأقراء جمع فلا يجوز حملها على الواحد حقيقة ولا مجازاً وحملها على الإثنين أحق لأن حقيقة الجمع وهو الضم، حاصلة فيهما، ولأن من العلماء من قال: أقل الجمع اثنان، فلا جرم كان حمل الأقراء على الإثنين هو المعتمد.
الفرع الثامن: الدم إذا كان أسود ثخيناً أو كان أحمر رقيقاً فهل يعول على الأسود الثخين في كونه حيضاً أو على الأحمر الرقيق في كونه استحاضة أو لا يعول إلا على الوقت والقدر؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يعول على صفة الدم في الحيض والاستحاضة وإنما التعويل على وقته وقدره.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال لحمنة بنت جحش: ((تحيضي في علم اللّه ستاً أو سبعاً " كما تحيض النساء في كل شهر)). فأحالها على قدره بالوقت دون الصفة.
الحجة الثانية: ما روى أنس بن مالك عن رسول اللّه أنه قال: ((الحيض ثلاث أربع خمس ست سبع ثمان تسع عشر " وما زاد فهو استحاضة)). فوقته دون الصفة.
الحجة الثالثة: ما روى أسامة عن الرسول أنه قال: ((أقل ما يكون الحيض للبكر ثلاثة أيام وأكثره عشرة " ))(1).
الحجة الرابعة: ما روي عن الرسول أنه قال: ((تقعد المستحاضة أيام أقرائها لا تصلي ولا تصوم " ))(2). فهذه الأخبار كلها دالة على توقيته بالوقت والقدر دون الصفة. وهذا هو رأي القاسم والهادي وأحد قولي الناصر والقول المشهور عن أبي حنيفة.
المذهب الثاني: أن التعويل في الحيض على الصفة التي ذكرناها وهذا هو قول الناصر الثاني(3) والقول الصحيح عن الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال لفاطمة " (4): ((إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف فامسكي عن الصلاة " ، وإذا كان الآخر فاغتسلي وصلي)). فذكر الصفة ولم يعرج على الوقت والقدر في كونه حيضاً.
الحجة الثانية: وروي عنه أنه قال: ((للحيض أمارات وعلامات " فدم الحيض محتدم أسود بحراني ثخين)). ولم يقدر ولا فصل بين يوم وبين ثلاثة ايام وإنما عول على صفته لا غير.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه أبو داؤد والترمذي، وقد شمله حديث بنت أبي حبيش الذي تقدم.
(3) يعني: القول الثاني للناصر.
(4) فاطمة بنت أبي حبيش كما تقدم.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إلى أسراره وهو أن صفة الدم أمارة قوة يعتمد عليها في أحكام الحيض ويجب الرجوع إليها في أحكام المستحاضات، فكما جاز رد المستحاضة إلى عادتها في حق ذات العادة وردها إلى عادة نسائها في حق المبتدأة فهكذا يجب ردها إلى التمييز بين الدمين وهو أقوى من ردها إلى العادتين لما فيه من الإختصاص ومزيد القوة، ولا بد فيه من اعتبار الوقت والعدد فإن أراد الناصر انفراده عن الوقت والعدد في كونه أمارة للحيض فهذا يضعف لأن الوقت والعدد في حق الحيض لا بد من اعتبارهما لما قررناه من الأدلة في بيان أقله وأكثره وإن كان مراده أن صفة الدم معتبرة مضمومة إلى الوقت والعدد فهذا جيد لا غبار عليه في كونه أمارة قوية في الميز بين دم الحيض ودم الاستحاضة كما سنقرر ثمرته في حكم ورود الدم على المرأة.
ويدل على ما اخترناه من مراعاة صفة الدم حديث فاطمة وما روينا من الحديث الدال على اعتبار صفات الدم، ونزيد هاهنا وهو أن الأحكام الشرعية معلقة بخروج الدم في وقت إمكانه فإذا كان التعويل على خروجه فصفته تابعة له في التمييز وجري الأحكام فالصفة بالذات أخص وبها أمس من جهة أن الصفة تابعة للذات، ويؤيد ما ذكرناه أن التعويل في وجوب الغسل بخروج المني ويعتمد على صفاته التي تختص به فهكذا حال الحيض كما يجب التعويل على خروج الدم فيجب التعويل على صفته وهو المقصود.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا: الأحاديث التي رويناها، حديث فاطمة وحديث أنس وحديث أسامة كلها دالة على الوقت والعدد دون صفة الحيض.
قلنا: الجواب عنها بحرف واحد، وهو أن أخبارنا دالة على اعتبار الصفة وأخباركم دالة على اعتبار الوقت والعدد فيجب الجمع بين الأخبار في الدلالة فيجب القضاء باعتبار الأمور الثلاثة الصفة والوقت والعدد وتكون هذه طريقة قوية على مراعاة الجمع بين الأخبار في الدلالة، وهي(1) إنما تتناول إبطال قول من قال باعتبار الصفة مجردة من الوقت والعدد فأما إذا قلنا باعتبارهما أجمع فهي موافقة في الدلالة لأخبارنا، والله اعلم بالصواب.
الفرع السابع: في حكم النقاء المتوسط بين الدمين.
ومثاله أن ترى المرأة يوماً دماً وثماني نقاءً ويوماً دماً، فهل يكون هذا النقاء حيضاً أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن النقاء إذا لم يبلغ طهراً كاملاً وأقله عشرة أيام فهو حيض كله، وهكذا حالها إذا رأت يوماً دماً وخمسة أيام نقاء ويومين دماً فهو كله حيض، وهكذا في جميع الصور التي لا يبلغ النقاء كمال أقل الطهر. وهذا هو المحصل للمذهب تفريعاً على ما قررناه من قبل في أقل الطهر وأقل الحيض، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وأحد قولي الشافعي وهو الذي قرره أبو العباس وحصله لمذهب الهادي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ " }[البقرة:222] وقد حصل الأذى محفوفاً بطرفي أقل الطهر فوجب القضاء بكونه حيضاً لما لم تكمل فيه مدة الطهر سواء كملت مدة أقل الحيض أو لم تكمل.
المذهب الثاني: أن كل دمين تخلل بينهما طهر أقل منهما في العدد أو مثلهما في العدد أو كان الطهر بينهما أقل من ثلاثة أيام فحكمه حكم الدم وهو كالدم المتصل. وإن تخلل بين الدمين طهر أكبر منهما في العدد لم يكن ذلك الطهر في حكم الدم وكان في حكم الطهر، وهذا شيء يحكى عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة.
__________
(1) الأخبار الدالة على الوقت والعدد.
والحجة على ذلك: هي أن الطهر إذا كان أقل منهما في العدد أو مثلهما فهو مغلوب بالأذى فلهذا كان حيضاً كله اعتماداً على الإعتزال في الأذى، وإن كان أكثر منهما في العدد كان غالباً لهما فلهذا كان طهراً.
المذهب الثالث: أن النقاء كله طهر من غير حاجة إلى هذا التفصيل الذي حكيناه عن محمد بن الحسن، وهذا محكي عن مالك وهو الصحيح من قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هي أنه ليس هناك ما يدل على وجود الحيض إلا الدم ولا ما يدل على وجود الطهر إلا النقاء فلا جرم كان التعويل على وجود الطهر في هذا النقاء لبطلان أمارة الحيض فيه.
والمختار: ما عول عليه أصحابنا تحصيلاً للمذهب من كون الطهر محكوماً عليه بالحيض إذا لم يكمل.
والحجة: ما قررناه من قبل ونزيد هاهنا، وهو أن الطهر إنما يحكم عليه بالنقاء إذا كاملاً في العدة فأما إذا قصر عن العدة كان لاحقاً باليوم الأول واليوم الآخر في كونه حيضاً.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
أما ما قاله محمد من التفصيل فهو تعويل منه على الغلبة وليس عليه دلالة شرعية خاصة في الطهارات والأمور التقديريه فإن مستندها الشرع وكلام صاحب الشريعة فأما المقاييس فلا تعويل عليها في إثباتها.
وأما ما قاله مالك وأحد قولي الشافعي فهو تعويل على أنه ليس هناك دلالة شرعية على كون النقاء حيضاً فلا نسلمه بل قد قررنا من قبل أن أقل الطهر عشر فإذا لم يكمل عشراً كان محكوماً عليه بكونه حيضاً.
الفرع العاشر: فأما ما روي عن الهادي في (المنتخب) من أن المرأة إذا رأت يومين دماً ويومين نقاءً أو يوماً دماً ويوماً نقاء فإنها تترك الصلاة إذا رأت الدم وتصلي إذا رأت النقاء، فإنه محمول على ما تدل عليه العاقبة، فإن كمل الطهر فاليومان ليسا حيضاً وإنما استحاضة وتغير، وإن لم يكمل الطهر عشراً فكله حيض، وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه أصوله ونصوصه، وأما ما حكي عن القاسم من أن المرأة إذا رأت يومين أو أربعاً أو خمساً دماً ومثلها نقاء صلت في أيام النقاء وليس له في قليل الحيض نص وإنما نصه في مقدار كثيره، فإنه قال لا يزيد كثيره على عشر، فيحتمل أن يقال بأنها تصلي في مقدار النقاء إذا كمل طهراً فإذا لم يكمل الطهر كان النقاء مضافاً إلى الحيض، وأما أيام الدم فظاهرها أنها حيض لأن فيها أمارة الحيض على ما تدل عليه العاقبة في إكمالها من الطهر إذا نقص عن كمال الطهر أو يكون حيضاً برأسه سواء نقص عن الثلاث أو زاد عليها لأنه لم ينص على قليله فلهذا احتمل ما ذكرناه، وبتمامه يتم الكلام على الفصل الثالث في بيان الأقل والأكثر من الطهر والحيض.
---
الفصل الرابع
في حكم المرأة إذا ورد عليها الدم
اعلم أن المرأة إذا رأت الدم في سن الحيض التي يجوز أن تحيض فيها فإنها تمسك عما تمسك الحائض لأن الظاهر أنه حيض لأنه أذى حصل في وقت إمكانه فوجب الحكم بكونه حيضاً حتى تدل العاقبة على خلافه، فإن انقطع دون ثلاث عُلم أنه دم فساد ولم تأثم بخروج وقت الصلاة عنها لأنها معذورة في تركها لأن الشرع قد أمرها بالترك ويجب عليها قضاؤها لأنا بينا أنه لم يكن حيضاً هذا كله إذا كان بلوغها بغير الحيض من الإنبات والسنين فعند هذا يتحقق وجوب القضاء وإن كان بلوغها بالحيض فلا وجه للقضاء على من ليست بالغة، وإن انقطع للثلاث أو لما دون العشر أو للعشر وكان أسود أو أحمر أو كان صفرة أو كدرة فهو حيض لقوله تعالى: { قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ " }[البقرة:222]. ولم يفصل بين أذى وأذى كما مر تفصيله، وإن رأت الدم قد عبر على العشر فقد أختلط الحيض بالاستحاضة لأنا حكمنا بأن أكثر الدم حيض ولا يزيد أكثر الحيض على عشرة أيام فيجوز أن تكون الاستحاضة واردة على الحيض ويجوز أن يكون الحيض وارداً على الاستحاضة لأن الحيض جبلَّةٌ في النساء وعادة وصحة ولا ينقطع إلا من علة ومرض أو كبر، والاستحاضة مرض وسقم وتغير والمرض يطرأ على الصحة والصحة تطرأ على المرض فهكذا الحيض يطرأ على الاستحاضة والاستحاضة تطرأ على الحيض فلابد من التمييز بينهما عند الاختلاط، فإذا تقررت هذه القاعدة فلنذكر من المستحاضات ثلاثاً مبتدأة وذات عادة ومميزة، وقد ورد فيهن ثلاثة أحاديث نجعلها أصلاً للكلام فيهن ونذكر في كل واحدة منهن ما يخصها من الكلام بمعونة اللّه ونرتبها على ثلاث مراتب:
---
المرتبة الأولى: في المستحاضة المبتدأة
وصفتها أن ترى المرأة أول ما طرقها الحيض دماً بصفةٍ واحدة عبر على العشر، والمستند فيها الخبر الذي روته حمنة بنت جحش، وقيل أختها أم حبيبة بنت جحش(1)
قالت: كنت أحيض حيضة كثيرة شديدة. فقد قيل إنها استحيضت سبع سنين، قالت: فأتيت الرسول فوجدته في بيت اختي زينب فقلت: يارسول اللّه إن لي حاجة وإنه لحديث لابد منه وإني لأستحي، فقال الرسول :((ما هو ياهناه ))(2).
فقالت: إني أحيض حيضة كثيرة شديدة وقد منعتني الصلاة والصوم فما ترى؟ فقال : ((أنعت لك الكرسف وهو القطن فإنه يذهب الدم فاحتشي به)). فقالت: هو أشد من ذلك: فقال لها: ((تلجمي)) قالت: هو أشد من ذلك. فقال لها: ((اتخذي ثوباً)) فقالت: هو أشد من ذلك إنما أثج ثجاً، فقال لها الرسول :((إنها ركضة من ركضات الشيطان تحيضي في علم اللّه ستاً أو سبعاً ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستيقنت وفي بعض الروايات واستنقأت فالأول من اليقين والثاني من النقاء فصلي أربعاً وعشرين ليلة أو ثلاثاً وعشرين وأيامها وصومي فإن ذلك يجزئك وهكذا فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرهن))(3).
واعلم أن هذا الحديث قد اشتمل على حكم وآداب وأحكام شرعية نفصلها ونضمنها فوائد عشرين:
__________
(1) أم حبيبة بنت جحش هي حمنة بنت جحش الأسدية أخت زينب زوج النبي ، كانت تحت مصعب بن عمير فقتل عنها يوم أحد، وخلف عليها طلحة بن عبيد الله، وهي التي كانت تستحاض، وهناك خلاف حول كون أم حبيبة هي حمنة كما هو قول الأكثر من الرواة، وجاء في (تهذيب التهذيب) قوله: وأما الواقدي فزعم أن المستحاضة أم حبيبة بنت جحش أخت حمنة، قال: ومن زعم أنها حمنة فقد غلط، وعلق في (التهذيب) على قول الواقدي بأنه لا وجه لرد الأقوال الصحيحة لقوله وحده، اه. ملخصاً 14/440.
(2) يا هناه، للنداء، راجع (لسان العرب).
(3) تقدم.
الفائدة الأولى: أن السؤال عن أحكام الشريعة وأنواع التكاليف واجب على المكلفين في أحكام الحيض وفي غيرها من أمور الدين ولهذا فإن الرسول أقبل على تعليمها وعرفها ما تصنع في أمور استحاضتها وحيضتها على جهة البيان وشرح الأحكام لأن أحكام الشريعة مأخوذة من جهته ولا تعرف إلا منه قولاً وفعلاً.
الفائدة الثانية: أنه يستحب التداوي ولهذا فإنه وصف لها الكرسف وهو القطن وأمرها باستعماله وفي هذا دلالة على استحباب الأدوية واستعمالها.
الفائدة الثالثة: هو أن القطن يقطع الدم ولهذا قال : ((فإنه يذهب بالدم )) فنبه على هذه الخاصية في القطن فيستعمل في الجراحات كما نبه على استعماله في الاستحاضة لأنها جرح وفتق في العروق.
الفائدة الرابعة: أنه يستحب التلجم إذا غلب الدم وكثر على المرأة كما أشار إليه لما قالت له: إنه غالب وكثير فقال لها: ((تلجمي)) والتلجم أن تأخذ المرأة خرقة مشقوقة بنصفين من أعلاها وأسفلها فيكون وسط الخرقة في فم الفرج والطرف الأعلى يخرج طرفه إلى الخاصرة اليمنى وطرفه إلى الخاصرة اليسرى والطرف الأسفل يخرج بين الإليتين إلى ناحية الظهر ثم يلتقي الطرفان في الخاصرتين وتوثق ربطاً لتكون حابساً للدم عن الظهور والخروج، وهو مأخوذ من لجام الفرس لأنه يقحم في فم الفرج كما يقحم اللجام في فم الفرس فيدخل فيه.
الفائدة الخامسة: يستحب اتخاذ الثوب وقاية من كثرة الدم، لقوله : ((اتخذي ثوباً)) فيحتمل أن يكون اتخاذ الثوب على جهة الإستثفار كما أشار إليه في حديث المرأة(1)
__________
(1) ولفظه في (الجواهر): عن أم سلمة أن امرأة كانت تهرق الدماء في عهد رسول الله فاستفتت لها أم سلمة رسول الله فقال: ((لتنظر إلى عدد الأيام التي كانت تحيض من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل)) أخرجه الموطأ وأبو داؤد والنسائي 1/139.
التي استفتت لها أم سلمة، واستوضحت الاستثفار هناك، ويحتمل أن يكون اتخاذ الثوب على وجه الوقاية للدم عن التلوث منه.
الفائدة السادسة: أنه لما أمرها بالتلجم واتخاذ الثوب قالت: إنه أكبر من ذلك، قال: ((هذه ركضة من ركضات الشيطان)) وفيها احتمالان:
الاحتمال الأول: أن تكون الركضة على جهة الحقيقة مضافة إلى الشيطان، وأن الله تعالى مكنه من الركض في الرحم وتغييرها كما مكنه من الإغواء للخلق بالوسوسة والدعاء، ويؤيد هذا الاحتمال قوله تعالى: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البقرة:275] فأضاف التخبط إلى الشيطان.
والاحتمال الثاني: أن تكون إضافة الركضة إلى الشيطان على جهة المجاز، والله تعالى هو الفاعل لها كسائر أمراض الفروج، لكنه أضافها إلى الشيطان لما كانت بسبب عقوبة دعا إليها الشيطان وسول فيها، فلا جرم أضيفت إلى الشيطان.
الفائدة السابعة: قوله : ((تحيضي))،أمرها عند رؤية الدم والتباس الحيض بالاستحاضة بأن تفعل ما تفعله الحائض؛ لأن الظاهر أنه حيض، كما يقال: تَصَبَّر وتَحَلَّم، أي افعل فعل أهل الصبر والحلم.
الفائدة الثامنة: قوله : ((في علم الله)) ليس الغرض فيما استأثر الله بعلمه من أمر الحيض، فإن الله تعالى لا يتعبدنا بعلمه؛ لأن علمه مطوي عنَّا، فلا يمكنا الإحاطة به، وإنما الغرض منه أمران:
أحدهما: فيما علمكِ الله تعالى به من أمر الحيض، وجاء على لسان صاحب الشريعة صلوات الله عليه.
وثانيهما: في علم الله، أي فيما علمَّ ودل عليه من الأمارات من الحيض والاستحاضة.
الفائدة التاسعة: قوله : ((ستاً أو سبعاً)) وإنما خص هذين العددين؛ لأنهما هما الغالب من عادات النساء في الحيض، فلهذا أمرها بكف الصلاة والصيام في هذه الأيام لما كانت هي المطردة في العادة للنساء في الحيض.
الفائدة العاشرة: اعلم أنه لما أمرها بأن تتحيض ستاً أو سبعاً اتجه في حال حمنة وجهان:
أحدهما: أن تكون ذات عادة، فردها في الست والسبع إلى عادتها.
وثانيهما: أن تكون مبتدأة وهذا هو الأقوى؛ لأنه لم يسألها عن عادتها، ولو كانت معتادة لسألها عن عادتها وردها إليها، وعلى هذا يكون لها أربعة أحوال: حيض يقين وهو الثلاث فما دونها، وطهر بيقين وهو ما فوق العشر، وحيض مشكوك فيه وهو ما زاد على الثلاث إلى الست والسبع، وطهر مشكوك فيه وهو ما زاد على الست والسبع إلى تمام العشر وهو أقل الطهر.
الفائدة الحادية عشرة: أن الرسول إنما خيرها بين الست والسبع لأمرين:
أحدهما: أنه إنما خيرها في ذلك من جهة أن الست والسبع غالبة في النساء، ويؤيد ما ذكرناه أنه قد روي أنه قد قال لها: ((أيهما قعدت فلا حرج لأنك لم تخرجي عن عادة النساء)).
وثانيهما: أنه شك في العادة الغالبة فردها إلى اجتهاد نفسها في ذلك.
الفائدة الثانية عشرة: إذا قضينا بكون حمنة مبتدأة على القول الذي اخترناه، فهل لها في التمييز بين دم الحيض ودم الاستحاضة. فإن كانت تميز بينهما على الصفة التي ذكرناها فيه، فإن ميزت بينهما كان الرجوع إلى التمييز قبل الرجوع إلى عادة النساء؛ لأن التمييز بينهما أقوى أمارة وأخص حكماً بها، فلهذا رددناها إليه لما فيه من القوة والاختصاص، فإن عبر الدم على العشر وكان كله أسود فالعشر كلها حيض، وإن اسودَّ الدم خمساً وكان أحمر خمساً كان الأسود حيضاً والباقي استحاضة مع العبور إلى العشر.
وإن كانت غير مميزة بين الدمين فإنها ترجع إلى عادة نساءها من قبل أبيها لما لها من الاختصاص بهن، فتأخذ بإحداهن مع الاستواء، وإن اختلفت عادتهن اخذت بأكثرهن عادة لما في ذلك من الاحتياط.
الفائدة الثالثة عشرة: قوله : ((حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستيقنت )) أراد أن الاغتسال إنما يقع بالتحقيق للبرائة من الحيض وليس ذلك إلا بالعمل على من قال بالتمييز أو بالرجوع ولم يذكر التمييز بين الدمين في حديث حمنة وإنما ذكره في حديث فاطمة بنت أبي حبيش وسنقرره هنا بمعونة اللّه تعالى، فلهذا كان قوله: ((حتى إذا رأيت أنك قد طهرت )). معناه بوصول غاية التطهير من الحيض بالعلامات التي ذكر لها. واستيقنت، أراد حصل اليقين بزوال الحيض، وفي حديث آخر: ((استنقأت)) أراد حصل النقاء عن دم الحيض ببلوغ غايته وقصاراه، وفي هذا دلالة على الاجتهاد في بلوغ الغاية في التمييز بين دم الحيض ودم الاستحاضة بالأمارات القوية التي تغلب على الظن صحتها وقوتها.
الفائدة الرابعة عشرة: قوله : ((فصلي أربعاً وعشرين ليلة أو ثلاثاً وعشرين ليلة وأيامها )). وإنما خيَّر في الصلاة هاهنا كما خيَّر في الحيض هناك، فإذا كان تربصها في الحيض ستاً كانت صلاتها بالطهارة أربعة وعشرين وإن كان تربصها في الحيض سبعاً كانت صلاتها ثلاثاً وعشرين وأيامها؛ لأن الاعتبار بالليالي والأيام جميعاً ليكمل الحيض.
الفائدة الخامسة عشرة: أمرها بالصوم في هذه الأيام التي حصلت فيها الصلاة لأن الصلاة والصوم سيان في افتقارهما إلى الطهارة من الحيض فحيث جازت جاز الصوم من غير فرق بينهما، فلهذا قال: ((وصومي)) ثم قال: ((فإنها تجزئك)) أراد فإن الصلاة والصيام تجزي في هذه العدة من الأيام لما فيها من يقين الطهارة عن الحيض وتميز الحيض عن الاستحاضة كما أوضحناه.
الفائدة السادسة عشرة: قوله : ((وكذلك فافعلي في كل شهر )) أراد إذا كانت الاستحاضة متصلة والدم جارياً غير منقطع كما وصفنا حالها، فمهما عبر الدم على العشر وكانت مبتدأة فهكذا تفعل بالتمييز بين الدمين أو بالرجوع إلى عادة النساء إن فقدت التمييز فإذا فعلت ذلك كان ذلك المقدار حيضاً والباقي استحاضة يحكم عليها بالتطهير فيها والصلاة والصوم لأن هذا هو منتهى النظر في حقها بتعريف صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه.
الفائدة السابعة عشرة: قوله: ((كما تحيض النساء )) فيحتمل أن تكون اللام للعموم وهو الظاهر، والغرض نساء العالم فإن الغالب من عادتهن ما ذكره من الست والسبع، ويحتمل أن تكون اللام للعهد والغرض نساء أهلها أو أقاربها من قبل آبائها من جهة أن وشائج القرابات وتقارب الأنساب تدل على تماثل الجبلات والطبائع.
الفائدة الثامنة عشرة: قوله: ((ويطهرن لميقات حيضهن وطهرهن )). فأشار في كلامه هذا إلى الإعتماد على ما ذكرناه من عادة نسائها والعمل عليها في ميقات الحيض والطهارة من غير مخالفة لأن هذا هو الممكن في حقها في التمييز بين الحيض والاستحاضة ولا مزيد على ما ذكره من البيان بحال هذه المستحاضة.
الفائدة التاسعة عشرة: إذا رددنا المبتدأة إلى عادة النساء فإذا كانت عادتهن دون الست وفوق السبع، فهل ترد إلى الست والسبع أو تتبع النساء في العادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها ترد إلى هذين العددين لأن الرسول عينهما في حقها فلا تغير تعيينه بحال.
وثانيهما: أن الغرض اتباع العادة كما أشار إليه بقوله: ((تحيضي في علم اللّه كما تحيض النساء )).
والمختار: هو الأول لأن التخيير لم يجرِ وفاقاً وإنما جرى على جهة التعيين لما تعلم من حالهن في العادة فلا تعدل عن تخييره لغير موجب شرعي.
الفائدة العشرون:في بيان حال هذه المستحاضة، واعلم أنا نأمرها في الشهر الأول بالإمساك عن الصلاة والصوم من حين رأت الدم فإذا جاوز العشر فإنا نأمرها بالاغتسال وبالصوم والصلاة وتقضي ما تركت من الصلاة مما زاد على الست والسبع إلى العشر؛ لأنا بينا أن ما زاد على الست والسبع ليس حيضاً وأما الشهر الثاني فإنا نأمرها بالاغتسال والصوم والصلاة عند انقضاء الأيام الست أو السبع؛ لأن الظاهر أنها مستحاضة في هذا الشهر كالشهر الأول فإنا نقطع دمها في هذا الشهر لدون عشرة أيام أو للعشر فما دونها علمنا أنها إنما كانت مستحاضة في الشهر الأول دون الثاني وعلى هذا لا يلزمها إعادة ما صلت وصامت ولا إثم عليها بفعل الصلاة والصوم والوطءِ فيما زاد على الست والسبع لأنا قد حكمنا لها بالطهر، فإذا انقطع الدم لدون العشر تيقنا أنه كان حيضاً وإن زاد الدم في هذا الشهر على العشر فإنها لا تقضي ما أتت به من الصلاة والوصوم بعد العشر لأنه طهر بيقين. فهذا ما أردنا ذكره في المبتدأة التي ليست لها عادة ولا لها قوة في التمييز بين الدمين وهي محتملة لأكثر مما ذكرنا ولكن فيما قررناه مقنع وكفاية في المقصود بمعونة اللّه.
---
المرتبة الثانية: في المستحاضة المعتادة
وصفتها أن يثبت لها حيض صحيح ثم عبر الدم على عادتها وعلى العشر، وحكمها أنها لا تغتسل في الشهر الأول عند مجاوزة الدم على عادتها إذا كانت عادتها دون العشر لجواز أن ينقطع للعشر فإذا جاوز الدم العشر علمنا أنها مستحاضة فتغتسل عند ذلك وتقضي ما زاد على أيام عادتها، وأما الشهر الثاني فتغتسل عند مجاوزة الدم أيام عادتها ويكون حيضها أيام عادتها، والأصل في هذه ما روي أن أمراة كانت تهراق الدماء على عهد رسول اللّه فاستفتت لها أم سلمة الرسول فقال : ((لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتدع الصلاة قدر ذلك فإذا خلَّفت ذلك فلتغتسل وتستثفر بثوب تصلي)).
واعلم أن هذه المستحاضة قد اشتملت على أحكام نفصلها بمعونة اللّه وجملتها عشرة:
الحكم الأول: أنه أمرها بالرجوع إلى عادتها وجعلها أصلاً للفصل بين الحيض والاستحاضة وهي أمارة قوية في حقها عند اختلاط الحيض بالاستحاضة فلهذا قال: ((لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها ما أصابها)) فردها إليها لأنها أقرب أمارة في حقها.
الحكم الثاني: أنه أمرها بترك الصلاة في هذه الأيام والليالي لما كانت حيضاً في حقها والحيض قاطع لسائر العبادات وهكذا حال الصوم أيضاً مثلها، ودخول المسجد وقراءة القرآن.
الحكم الثالث: قوله: ((فإذا خلفت ذلك فلتغتسل )). أراد فإذا خرجت عن أيام العادة مع إتصال الدم وعبوره على العشر فلتغتسل لأن الحيض قد انقضت أيامه، فالواجب عليها الغسل والتطهر للصلاة والصوم والوطء وسائر العبادات لأن الحيض مانع من هذه وبعد الغسل صار الحيض مرتفعاً.
الحكم الرابع:أنه ندبها إلى الإستثفار وهو ثوب يجعل من تحت الفرج يقي [من] الدم عن التلوث به مأخوذ من ثفر الدابة وهو حبل يجعل من تحت الذيل.
الحكم الخامس: أنه قد مر أن العادة تثبت بقرئين وقد دللنا عليه وحكينا فيه الخلاف ونصرناه وهو الأصح من قولي الشافعي، وحكي عنه قول آخر، أنه يثبت بقرء واحد واحتج بما روي عن النبي أنه قال: ((لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها ما أصابها))(1).
فأمرها بالرجوع إلى عادتها ولم يفصل بين الحيض مرة أو مرتين.
والجواب أن العادة مأخوذة من العود والتكرر وذلك لا يستعمل في أقل من مرتين وهي عادة معروفة ولهذا لم يسألها لظهور الحال فيها فإذا رأت الدم في خمسة أيام من شهر مرتين ثم استحيضت في الشهر الثالث فإنها ترد إلى الخمس لا محالة، وإن رأت الدم خمسة أيام مرة، وأربعة أيام مرة، كانت عادتها أربعة أيام؛ لأن الأربع قد تكررت مرتين مرة وقفت عليها ومرة جاوزتها إلى الخمسة فصارت العادة لها أربعة أيام.
الحكم السادس: في المستحاضة الذاكرة لوقتها وعددها ثم عبر الدم على عادتها وعلى العشر فإنها لا تغتسل في الشهر الأول عند مجاوزة الدم عادتها إذا كانت عادتها دون العشر لجواز أن ينقطع الدم للعشر، فإذا جاوز الدم العشر وعبرها علمنا أنها مستحاضة فتغتسل عند ذلك وتقضي صلاة ما زاد على أيام عادتها، وفي الشهر الثاني تغتسل عند مجاوزة الدم أيام عادتها ويكون حيضها أيام عادتها.
الحكم السابع: وكما ثبتت العادة في ذات العادة والمبتدأة بانقطاع[الدم] فإنها تثبت بالتمييز بين الدمين فإن كانت عادتها أن ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعاً أو خمساً من أول الشهر وهو الأسود وترى باقي الشهر الدم الأحمر ويستمر ذلك شهوراً كثيرة فلما كان في بعض الشهور رأت دماً واستبهم عليها أمره في السواد والحمرة وعبر العشر فإنه يجعل حيضاً أيام السواد.
ووجهه أنا قد أوضحنا من قبل أن الدم الأسود أقوى في كونه أمارة للحيض من الوقت والعدد لما له من مزية القوة والإختصاص.
__________
(1) تقدم.
الحكم الثامن: وإن كان هاهنا امرأة معتادة مميزة بين الدمين وكانت عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول الشهر فلما كان في بعض الشهور رأت من أول الشهر عشرة أيام دماً أسود ثم احْمَرَّ الدم إلى آخر الشهر فهل ترجع إلى عادتها وهي الخمسة الأيام؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الرجوع إلى عادتها أحق فيكون حيضها الخمس الأولى لأنها قد ثبت أنها عادتها فلا تنتقل عنها إلا بحيض صحيح.
وثانيهما: وهو الأقوى، أن التمييز بين الدمين، فيكون حيضها هاهنا العشرة الأولى من جهة أن التمييز كما أشرنا إليه علامة قائمة في شهر الاستحاضة، فلا جرم كان الرد إليها هو الأولى من رده إلى عادة قد نقضت.
الحكم التاسع: هو أن ذات العادة إذا رأت الدم في أيام عادتها كان الدم حيضاً فإن استقر الدم على العشر فهو حيض كله وإن عبر الدم على العشر واتصل بالحادي عشر فما فوقه، فهل ما زاد على عادتها كله استحاضة أو يكون الإعتماد على صفة الدم؟ فيه مذهبان:
أحدهما:أن الزائد على عادتها يكون استحاضة وهذا هو رأي القاسمية.
والحجة على هذا:هو أن التعويل على العادة أمارة قوية في كون الدم حيضاً وقد وقع الدم في أيام العادة فلهذا قضينا بكونه حيضاً، وما زاد عليه يكون استحاضة لخروجه عن العادة واتصاله بالاستحاضة.
وثانيهما: أن التعويل في ذلك على صفة الدم ولونه الأسود فإذا أتى في أيام العادة فهو حيض وما زاد عليه فهو استحاضة، وهذا هو رأي الناصر في أحد قوليه.
والحجة على هذا: هو أن اتصاف الدم بالسواد أمارة قوية يعول عليها في كون الدم حيضاً، فإذا كان الدم خارجاً عن(1)
صفة السواد حكمنا عليه بكونه استحاضة، وهذا يخالف المبتدأة فإن المبتدأة إذا رأت الدم في العشر فما دونها فهو حيض فإذا عبر الدم على العشر فهل يكون الزائد على العشر استحاضة وحده أو يكون الدم كله استحاضة؟ فيه مذهبان:
__________
(1) في الأصل: على.
أحدهما: أن الدم إذا جاوز العشر في المبتدأة فهو حيض كله وهذا هو رأي المؤيد بالله وأحد قولي الناصر.
والحجة على هذا: هو أن المبتدأة ليست لها عادة فترجع إليها في نفسها فلهذا قضينا بأن الدم كله استحاضة.
وثانيهما: أن الزائد على العشر يكون استحاضة لا غير، وهذا هو رأي الإمام أبي طالب.
والحجة على هذا: هو أن الحيض واقع في زمان الإمكان وهو العشر فيصير بمنزلة العادة، إذا عبر على العشر كان الزائد استحاضة كما في ذات لعادة.
والمختار: ما قاله الإمام المؤيد بالله لأنا إنما نعول في كون العشر حيضاً لو لم تتصل بها الاستحاضة فأما مع اتصال الحيض بالاستحاضة لم يتخصص بعضه من بعض فيكون بعضه حيضاً وبعضه استحاضة، فلهذا كان الكل ستحاضة.
الحكم العاشر: في المعتادة التي نسيت عادتها وقتاً وعدداً وهي المتحيرة التي خفي عليها جميع معاني حيضها وطهرها وأطبق عليها الدم فلا تعرف الإبتداء ولا الإنتهاء، وصورة وجود ذلك أن يصيبها الجنون سنين كثيرة ثم أفاقت من جنونها وقد استحيضت فلا تذكر وقتاً ولا عدداً ثم يستوضح أمرها بأن يقال لها: هل تذكرين ابتداء حيضك؟ فإن ذكرته كان ابتداء حيضها من ذلك الوقت. وإن قالت: لا أذكره. قيل لها: فهل تذكرين وقتاً كنت فيه طاهرة؟ فإن ذكرته جعل ابتداء حيضها من ذلك الوقت. وإن قالت: لا أذكره، فالمختار عندنا: فيمن بلغت حالها إلى هذه الحالة واستبهم أمرها هذا الإستبهام أن يرجع بها إلى أصلين:
الأصل الأول: أن يكون حالها كحال الطاهرات في إيجاب العبادات من الصلاة والصوم ويحرم عليها ما يحرم على الحائضات وتؤمر بالإحتياط والأخذ بأسوأ الأحوال في أمور سبعة:
أولها: أنها لا تدخل المسجد ولا تقرأ القرآن ولا تصلي صلاة نافلة.
وثانيها: أنها إذا طلقت فعدتها تكون بثلاثة أشهر ولا تقدر [بالحيض] لتباعد حيضها وتعذره إلى سن اليأس أخذاً بأسوأ الاحتمالات، فإن ما هذا حاله فيه حرج عظيم وتشديد كثير في حقها وإضرار بها في ذهاب شبابها وزوال غضارتها بالتربص إلى ستين سنة في انقضاء عدتها.
وثالثها: أنها تؤدي الصلوات المكتوبات لإحتمال الطهر في أول أوقاتها ولا تقرأ القرآن إلا في الصلوات المفروضة.
ورابعها: أنها تغتسل لكل صلاة لإحتمال انقطاع الدم ولا تغتسل لكل صلاة إلا بعد دخول وقتها.
وخامسها: أنها يجب عليها صوم رمضان جميعه لإحتمال دوام الطهر.
وسادسها: أنه لا يلزمها قضاء الصلاة والصوم لأنها إن كانت طاهرة وقت الصلاة والصوم فقد صحت صلاتها وإن كانت حائضاً فلا صلاة على حائض.
وسابعها: أنها لا يأتيها زوجها لإحتمال الحيض. فهذه الوظائف السبع يحب عليها الأخذ بها والعمل عليها.
الأصل الثاني: أنها ترد إلى المبتدأة في العمل على الطهر والحيض بالرجوع إلى عادة نسائها والأخذ بأكثرهن عادة وتعمل [بذلك]في وظائف العبادات من الصلاة والصوم، وإن كانت تميز بين الدمين عملت على التمييز عند اتصال الاستحاضة والتباسها، فهذان الأصلان يمكن الرجوع إليهما فيمن هذه حالها من النساء، لكن التعويل على الأصل الأول أعجب وأقرب، لأن المبتدأة قد عرف حالها من ابتداء الحيض وهذه لم يعرف حالها في الإبتداء ولا في الإنتهاء فلهذا كان التعويل على ما ذكرناه في حالها من مراعاة الأمور السبعة والله اعلم بالصواب.
وللعلماء الخائضين في تفاصيل الفقه تردد في أحكام حيضها وطهرها وأمرها بالصلاة والصوم والقضاء، وأمرها بالقضاء فيما يتحقق من طهرها على حد ما يغلب على الظن من الطهر والحيض في كل حالاتها، ولنقتصر على هذا القدر في المعتادة.
---
المرتبة الثالثة: في المميزة بين الدمين
فهذه المرأة إذا ابتدأها الحيض وعبر على العشر خلا أن الدم على لونين قوي وضعيف بأن يكون الدم في بعض الأيام ثخيناً أسود محتدماً قانياً وفي بعضها أحمر مشرقاً رقيقاً، فالقوي هاهنا هو الأسود. والضعيف هو الأحمر والأصفر، فإذا تقرر هذا فإنها لا تغتسل عند تغير صفة الدم لجواز أن لا يعبر على العشر لأنه إذا لم يعبر على العشر كان الدم كله حيضاً على اختلاف أحواله كما مر بيانه في الصفرة والكدرة أنها حيض، فإذا عبر الدم على العشر تحققنا أنها استحاضة فيكون حيضها أيام السواد، وأيام الأحمر يكون استحاضة، والرجوع إلى التمييز في الصفات المتعلقة بالدم هو أحد قولي الناصر والقول الصحيح للشافعي وبه قال مالك.
وأما القاسمية وأحد قولي الناصر وهو قول أبي حنيفة فلا يعرجون على صفة الدم وإنما الاعتبار عندهم بالوقت والعدد في الحيض والاستحاضة، وقد قررنا فيما سبق الحجة للمذهبين وأوضحنا المختار والانتصار له فلا وجه لتكريره.
والأصل في هذه المميزة ما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت يارسول اللّه إني استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال : ((إنما ذلك دم عرق وليس حيضاً إن دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الأحمر فتوضائي وصلي)). وهذا الخبر قد اشتمل على فوائد ثلاث عشرة:
الفائدة الأولى: أنها لما قالت: أفأدع الصلاة؟ أجابها بأن ذلك دم عرق فأفاد ظاهر الخبر أن دم الحيض يخالف دم الاستحاضة، وأن لكل واحد منهما مخرجاً معروفاً معتاداً فدم الاستحاضة دم عرق ينفتق ويكون جرحاً وقد قيل إن دم الحيض يخرج من قعر الرحم وأنه ينفصل من لحمها.
الفائدة الثانية: قوله ((وليس حيضة)) فأكد بذلك قوله إنه دم عرق ونفى أن يكون من الحيض في شيء فلا تتعلق به أحكام الحيض ولأن أمرها بالصلاة لما كان ليس من الحيض في ورد ولا صدر.
الفائدة الثالثة: قوله : ((إن دم الحيض أسود يعرف )). فكلامه هذا دال على أن صفة دم الحيض هو السواد بصريح كلامه هاهنا وأنه معروف للنساء ولكل واحدة منهن لا لبس فيه على واحدة منهن لكثرة ملابسته وعلاجه فلهذا أضاف معرفته إليهن.
الفائدة الرابعة: قوله : ((فإذا كان ذلك يعني الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة )). فأمْرهَا بالإمساك عند رؤية الدم الأسود فيه دلالة قوية وأمارة شرعية على التعويل على صفة الدم ولونه وأنه أمارة في الحيض يجب الإعتماد عليها وأن عدمه أمارة في الاستحاضة عند مجاوزة الدم لأكثر الحيض لا محالة.
الفائدة الخامسة: قوله ((وإذا كان الأحمر فصلي )) فدل ظاهر كلامه هذا على أن وجود الأحمر أمارة الاستحاضة مع تقدم الأسود ولهذا فإنه أمرها بالصلاة عند رؤيته، فدل ذلك على ما قلناه من اعتبار التمييز بين الدمين من الحيض والاستحاضة وهذا هو مطلوبنا.
الفائدة السادسة: أن المرأة إذا رأت الدم الأسود أقل من ثلاثة أيام أو أكثر من عشرة أيام لم يكن حيضاً لأن الحيض لا ينقص عن ثلاثة أيام ولا يزيد على عشرة أيام، وإنما [هو] تغير وفساد فلا تعريج عليه.
الفائدة السابعة: إذا رأت الدم ثلاثة أيام دماً أسود وثلاثة أيام دماً أحمر وثلاثة أيام صفرة ويوماً كدرة ثم انقطع فالكل حيض لأنه لم يزد على أكثر الحيض فلا جرم حكمنا بكونه حيضاً لما كان حاصلاً في مدة الإمكان ولم يجاوز أكثر الحيض.
الفائدة الثامنة: إذا رأت المرأة يوماً دماً أسود ثم احمرَّ الدم أو اصفرَّ وجاوز العشر مع السواد فإنا نأمرها بالغسل عند انقضاء العشر وبالصلاة والصوم لأنه لا يجوز أن يكون حيضاً مع المجاوزة فأما دون العشر فتعمل على ما تعهد من حالها في المبتدأة وذات العادة.
الفائدة التاسعة: فإذا رأت السواد في الشهر الثاني يوماً وليلة أو ثلاثاً أو أربعاً ثم أحمرَّ الدم أو اصفرَّ فإنا نأمرها بالاغتسال عند تغير الدم وبالصلاة والصوم لأن الظاهر أنها استحاضة في هذا الشهر كالأول مع مجاوزة العشر فإن لم يجاوز الدم العشر في هذا الشهر علمنا أن الكل حيض وأنها إنما استحيضت في الشهر الأول دون الثاني.
الفائدة العاشرة: وإن رأت المرأة خمسة أيام دماً أسود وخمسة أيام طهراً وعشرة أيام دماً أحمر فالأسود مع الطهر يكون حيضاً كله وعشرة الأيام يكون استحاضة لأن الطهر ما لم يستكمل العشر فهو حيض مع ما قبله.
الفائدة الحادية عشرة: وإن رأت نصف يوم دماً أسود ونصف يوم دماً أحمر وكذلك فيما بعده أربعة أيام فلما كان في اليوم الخامس رأت في جميعه دماً أسود ثم احمرَّ الدم وعبر العشر، فالدم الأسود الذي وجد في الخامس يكون حيضاً لا محالة مع ما قبله من الأنصاف الأربعة.
الفائدة الثانية عشرة: وإن رأت ثلاثة أيام دماً أحمر وثلاثة أيام دماً أسود ثم احمر الدم وعبر على العشر فإن حيضها يكون أيام السواد مع ما قبله، وما بعده يكون استحاضة لأن السواد هو صفة الحيض فكان حيضاً كما لو تقدم.
الفائدة الثالثة عشرة: وإن رأت ثلاثة عشر يوماً دماً أسود وثلاثة عشر دماً أحمر فإنه يحكم بحيضها ستاً أو سبعاً والباقي يكون استحاضة لأنه لما أناف على أكثر الحيض كانت هذه الأيام حيضاً والباقي استحاضة، وأما الأحمر فكله استحاضة ولا نحيضها من الأحمر شيئاً لأنها قد بطلت دلالته لما زاد على أكثر الحيض، ونختصر على ما ذكرناه في حال المميزة بين الدمين، ومن عرف ما أوردناه هاهنا هان عليه معرفة ما لم نورده قياساً عليه. فهذا هو الكلام على الأحاديث الثلاثة الواردة في أحكام المستحاضات قد أوردنا ما يتعلق به من الأحكام، فما ورائها من تفاصيل المستحاضات مميز مردود إليها ويؤخذ منها والله أعلم.
---
الفصل الخامس
في ذكر أحكام المستحاضة
اعلم أن المستحاضة مختصة بأحكام ونحن نذكر كل واحد منها نوضح ما فيه بمعونة اللّه تعالى:
الحكم الأول: أن المستحاضة يستحب لها الطهارة لقوله : ((مفتاح الصلاة الطهور " )). وهل تجب عليها الطهارة للصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه تلزمها الطهارة للصلاة ويجب عليها الوضوء وهذا هو قول أئمة العترة القاسمية والناصرية، ومحكي عن زيد بن علي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه والأوزاعي وهو مذهب الإمامية.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ " }[النساء:43] وهذا صالح لكل ما يخرج من السبيلين وهذا وإن لم يكن فيه صيغة من صيغ العموم لكن المعنى مفهوم فإنه أوجب الوضوء على كل من جاء من الغائط ولم يفصل بين شخص وشخص، وفي هذا دلالة على أن كل ما خرج من السبيلين فإنه موجب للوضوء وهذا هو مطلوبنا.
الحجة الثانية:قوله لفاطمة بنت أبي حبيش: ((إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف " فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضائي وصلي فإنما هو دم عرق)).
المذهب الثاني: أنها لا تجب عليها الطهارة للصلاة وهذا هو المحكي عن مالك وربيعة.
والحجة على ذلك: هو أن الطهارة في حقها لا معنى لوجوبها لا لغة ولا شرعاً.
أما لغة: فهي النقاء من سائر الأنجاس وهذا غير حاصل في حقها.
وأما الشرع: فلأن الطهارة شرعاً إنما تنعقد إذا لم يكن هناك حدث فأما إذا كان الحدث متصلاً غير منقطع فلا وجه لطهارتها ولا لإيجابها عليها بحال.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من فقهاء الأمة.
وحجتهم: ما أوردناه ونزيد هاهنا، وهو ما روى جعفر بن محمد عن رسول اللّه أنه أمر المستحاضة إذا مضت أيام أقرائها أن تغتسل وتوضأ وهذا نص فيما ذهبنا إليه، وفي ذلك أخبار كثيرة لا حاجة إلى إيرادها وفيما ذكرناه كفاية.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعله حجة له.
قوله: إيجاب الطهارة عليها إما أن يكون لغة أو شرعاً وكلاهما لا وجه له.
قلنا: إن الطهارات ونواقضها غير معقولة المعاني لا يمكن جري الأقيسة فيها لانسداد المعاني وأنها أمور غيبية استأثر اللّه بالإحاطة بعلمها وإذا كان الأمر فيها كما قلناه فلا معنى لقول مالك إن طهارتها غير متعقلة لغة ولا شرعاً فإن صاحب الشريعة لما أمرها بالوضوء علمنا أن حدثها غير ناقض لطهارتها وأنها منعقدة في حقها مع جري الحدث منها.
الحكم الثاني: المستحاضة التي قد تحقق كونها مستحاضة بعبور دمها على أكثر الحيض يستحب لها الطهارة بالغسل لدلالة أكثر الأحاديث على ذلك وهي محمولة على الاستحباب، وهل يجب عليها الغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الغسل عليها غير واجب وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية وهو قول الفرق الثلاث الحنفية والشافعية والمالكية.
والحجة على ذلك: حديث فاطمة بنت أبي حبيش حين قال لها الرسول : ((إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف " فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الأحمر فتوضائي وصلي فإنه دم عرق)). فأمرها بالوضوء لا غير ولم يأمرها بالاغتسال.
الحجة الثانية: هو أنه دم عرق سائل فلا يكون فيه إلا الوضوء كالفصد والحجامة.
المذهب الثاني: أن الغسل واجب عليها وهذا شيء يحكى عن الإمامية.
والحجة لهم على ما قالوه: الأحاديث الواردة فإنها دالة على وجوب الغسل عليها.
أولها: حديث علي أنه قال للمستحاضة: ((تدع الصلاة أيام حيضها " ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة))(1).
__________
(1) هذا الحديث تضمنه حديث فاطمة بنت أبي حبيش الذي تقدم، وأخرج ابن حبان في صحيحه بإسناده عن أبي عوانة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رسول الله سئل عن المستحاضة فقال: ((تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل غسلاً واحداً ثم تتوضأ عند كل صلاة)) إ.ه..1/487.
وثانيها: حديث عائشة أن أم حبيبة بنت جحش كانت تحت عبدالرحمن بن عوف " (1)
فاستحيضت حتى لا تطهر فذكر شأنها للرسول فقال: ((إنها ليست بالحيضة لكنها ركضة في الرحم " لتنظر قدر قرئها التي تحيض فلتترك الصلاة ثم لتنظر ما بعد ذلك فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي))(2).
وثالثها: حديث عائشة أن سهلة بنت سُهيل "(3)
استحيضت على عهد رسول اللّه فأمرها رسول اللّه بالغسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها بأن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد وتغتسل للصبح(4).
ورابعها: حديث زينب بنت جحش " (5)
__________
(1) عبدالرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث، أبو محمد الزهري القرشي، صحابي من أكابرهم وهو أحد العشرة المبشرين، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة فيهم.. اسمه في الجاهلية عبد الكعبة أو عبد عمرو، وسماه رسول الله عبد الرحمن. ولد بعد الفيل بعشر سنين، وتوفي بالمدينة سنة 32ه-652م، اهراجع (الأعلام) 3/321.
(2) هذه إحدى روايات النسائي.
(3) سهلة بنت سهيل بن عمرو، صحابية هاجرت إلى الحبشة مع زوجها أبي حليفة بن عتبة بن ربيعة، قرشية عامرية، روت عن النبي الرخصة في رضاع الكبير، روى عنها القاسم بن محمد [بن أبي بكر]. (الثقات) 3/184، (الإكمال) للحسيني 1/624.
(4) قال في (الجواهر): هذه إحدى روايات أبي داؤد، وفي رواية النسائي أن امرأة مستحاضة على عهد رسول الله قيل لها: ((إنه عرق عاند)) وأُمرت أن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلاً واحداً، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلاً واحداً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً واحداً، اه1/143.
(5) زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية، أم المؤمنين، كانت زوجة زيد بن حارثة واسمها برة، فطلقها وتزوجها النبي وسماها زينب. روت أحد عشر حديثاً، وتوفيت سنة 20هم، (أعلام) 3/66.
أنها قالت: سألت رسول اللّه عن أختي حمنة وقد استحيضت فقال: ((لتجلس أيام أقرائها " ثم تغتسل وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل وتصلي وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل وتصلي، وتغتسل للفجر)).
خامسها: حديث عدي بن ثابت " (1)
عن الرسول أنه قال: ((تدع المستحاضة الصلاة أيام حيضها " وتغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصوم))(2).
فهذه الأحاديث كلها دالة على وجوب الاغتسال للمستحاضة.
والمختار: ما قاله أئمة العترة وجماهير فقهاء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده علي أن الرسول لما أمر المستحاضة بالاغتسال للظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلما فارقته ولت وهي تبكي وتقول: يا رسول اللّه لا أطيق ذلك، فرق لها رسول اللّه ثم قال: ((اغتسلي لكل طهر كما كنت تفعلين " واجعليه بمنزلة الجرح في جسدك كلما حدث دم أحدثت طهوراً))، فهذا الخبر دال على أنه إنما أمرها بالغسل من الحيض، والوضوء من دم الاستحاضة وهو مقصودنا ويؤيد هذا من جهة القياس: وهو أنه حدث خارج من أحد السبيلين فلا يجب فيه إلا الوضوء كالبول.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
فنقول: أما الأحاديث التي رووها في إيجاب الغسل على المستحاضة فلا ننكرها، ولها تأويلات ثلاثة:
__________
(1) عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي، روى عن أبيه وعن البراء بن عازب وابن أبي أوفى وغيرهم، وعنه: أبو إسحاق السبيعي، والأعمش وحجاج بن أرطأة وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال الطبري: ممن يجب التثبت في نقله، وقال ابن معين: شيعي مفرط، راجع (تهذيب التهذيب) 7/149، مولده في الكوفة وتوفي سنة 116هه. (أعلام) 4/219.
(2) جاء هذا الحديث في (الاعتصام) عن (شرح التجريد) عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي بلفظ: ((المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي وتصوم)). وهذا في (الشفاء) عن علي موقوفاً. اه.
التأويل الأول: أن إيجاب الرسول عليها الغسل إنما كان من أجل الحيض وليس من جهة الاستحاضة من جهة أن الاستحاضة إنما تتحقق إذا جاوز دمها العشر فأما إذا استقر على العشر فهي حيض لا محالة فإذا عبر الدم على العشر تحققنا الاستحاضة لاتصالها بدم الحيض ووجب عليها الغسل لأجل تقدم الحيض في أيامه ولا يتوجه عليها الغسل بعد تحقق الاستحاضة.
التأويل الثاني: أن هذه الأخبار محمولة على من لها عادة فنسيتها فصارت إلى حال يجوز عندها في كل وقت أن تكون حائضة وخارجة من الحيض إلى الطهر فعليها أن تغتسل في كل وقت لكل صلاة وذلك يتحقق بعد خروجها من أقل الحيض لأنها بعد خروجها من أقل الحيض المتحقق يجوز أنه حيض وأنه أول الطهر فلهذا وجب عليها ما ذكرناه، والغسل واجب عليها لكل صلاة لدليل خاص دل على ذلك، فمن أين يلزم الغسل لكل صلاة في كل مستحاضة كما زعموه؟.
التأويل الثالث: أن كلما أوردوه من الأحاديث فإنها محمولة على الاستحباب للطهارة والنظافة لأن الغالب من حالها هو التلوث بالدم في كل أحوالها فلهذا استحب لها الغسل لإزالة عفونة الدم.
فأما من حمل هذه الأخبار على أنها منسوخة فيضعف لأمور ثلاثة:
أما أولاً: فلأن النسخ في الأخبار وفي غيرها من الأدلة النقلية لابد عليه من حجة واضحة وبرهان قائم يرفع حكمه ويزيل أمره فأما بمجرد الدعوى فلا يلتفت إليه.
وأما ثانياً: فلأنه لابد من إقامة البرهان على تقدم المنسوخ وتأخر الناسخ حتى يكون رافعاً له وهذا أمر يجب اعتماده فيما نسخ من القرآن والسنة.
وأما ثالثاً: فلأن هذه الأحاديث معتمدة في غير موضع فكيف يقال بأنها منسوخة؟ ويرجع إليها في أحكام المبتدأة وذات العادة وذات التمييز بين الدمين فبطل تأويل نسخها بما ذكرناه، ثم هاهنا مقام آخر جد لي: وهو أن الأصل براءة الذمة عن الوجوب فلا يمكن شغلها إلا بدليل شرعي يدل على الوجوب عليها في الاغتسال: وما ذكروه من الأحاديث فهي غير دالة، لما ذكرناه من الاحتمالات والتأويلات التي أوردناها عليها، ثم إنها معارضة بما ذكرناه من الأحاديث الدالة على عدم الاغتسال، ثم إنها راجحة على أحاديثهم لمطابقتها للبراءة الأصلية فلهذا وجب التعويل عليها.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين علي وابن عباس وابن الزبير أنهم كانوا يرون وجوب الاغتسال على المستحاضة.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن الإعتماد إنما هو على قول صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه في الأمور العملية والتعبدات الشرعية.
وأما ثانياً: فلأن المأثور عنهم إنما هو الاجتهاد وليس هذا من مواطن الاجتهاد وإنما تتلقى أحكامه من جهة الكتاب والسنة وليس من مضطربات الاجتهاد في ورد ولا صدر. فتنخل من مجموع ما ذكرناه بطلان كلام الإمامية.
الحكم الثالث: أنا إذا قلنا بأن الواجب عليها هو الوضوء لا غير فهل تجمع بين الصلاتين بوضوء واحد أو يلزمها الوضوء لكل صلاة فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها يجوز لها الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد وهذا هو رأي أئمة العترة من القاسمية والناصرية وهو رأي الحنفية وغيرهم من فقهاء الأمة.
والحجة على ما قالوه: حديث سهلة بنت سُهيل أن رسول اللّه أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد. وحديث زينب بنت جحش قالت: سألت رسول اللّه عن مستحاضة فقال: ((لتجلس أيام أقرائها ثم تغتسل " وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل وتصلي وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل وتصلي وتغتسل للفجر)).
ووجه الدلالة من هذين الخبرين هو أنه أمرها بأن تؤدي فرضين بطهارة واحدة وقد بطل وجوب الغسل بما قررناه من قبل وبقي الوضوء على الوجوب والغسل صار مستحباً في حقها وفي هذا حصول مقصودنا.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز لها أن تؤدي بضوء واحد إلا فريضة واحدة وما شاءت من النوافل وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة له على ذلك: حديث بنت أبي حبيش فإنه قال: ((إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وتوضائي لوقت كل صلاة)).
الثانية: قولهم: إن طهارتها طهارة ضرورية لأنها منعقدة تؤدى بها الصلاة مع جري الحدث في كل ساعة منها فلو جوزنا لها أن تصلي فرضين بطهارة واحدة كنا قد ألحقنا حكمها بحكم من كانت طهارته في حال الرفاهية وذلك ممنوع من جهة الشرع.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم.
وحجتهم: ما أوردناه، ونزيد هاهنا حديث فاطمة بنت أبي حبيش قالت: إني استحاض فلا أطهر فقال لها الرسول : ((إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وتوضائي لوقت كلا صلاة)). وهذا تصريح بما قلناه فإنه يدل على أنها تتوضأ لوقت كل صلاة، ومن مذهبنا أن وقتاً واحداً يجمع الصلاتين كما سنقرره في الأوقات بمعونة اللّه فيكون وقتاً لهما وفي ذلك حصول غرضنا.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم، أما حديث فاطمة فعنه جوابان:
أما أولاً: فإنما أراد الأفضلية بالوضوء لكل صلاة، وأما الإجزاء فهو حاصل بوضوء واحد لصلاتين.
وأما ثانياً: فلأنه إذا جاز تأدية النفل مع الفرض بوضوء جاز تأدية الفرض مع الفرض بوضوء واحد، لأن كل واحد منهما يشترط فيه الطهارة، فلما جاز أن يكون مجزياً في حق النفل جاز إجزاؤه في حق الفرض من غير فرق بينهما.
قالوا: طهارة المستحاضة طهارة ضرورية فلا تؤدي بوضوئها إلا فرض واحد.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن كونها ضرورية لا تمنع من الجمع بين الفرضين كما لا تمنع من الجمع بين الفرض والنفل.
وأما ثانياً: فلأنا لا نريد بكونها ضرورية إلا أنها منعقدة تؤدى بها الصلاة مع جري الحدث وهذا غير مانع من تأدية الفرضين بوضوء واحد.
الحكم الرابع: إذا سوغنا لها الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد. فهل يجوز لها أن تجمع بين فرضي الوقت بوضوء واحد أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك جائز وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، والأوزاعي والفقهاء.
والحجة على هذا: ما في حديث زينب بنت جحش، وسهلة بنت سُهيل بن عمرو فإن الرسول أمرها بتأخير الظهر وتعجيل العصر وأن تجمع بينهما بطهارة واحدة وهكذا المغرب والعشاء، وهذا نص فيما ذهنبا إليه.
الحجة الثانية: هو أنها طهارة أصلية فجاز أن تؤدي بها فرضا الوقت كالسليمة.
وقولنا: طهارة أصلية. نحترز بها عن الطهارة البدلية وهي التيمم فإنه لا يؤدى بها إلا فريضة واحدة على رأي القاسمية، وأما على ما اخترناه فإنه يجوز أن تؤدى بها الفرائض والنوافل.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن تؤدي به من فروض الوقت إلا فريضة واحدة ويجوز أن تجمع به بين فريضة الوقت وما شاءت من الفوائت وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا ما روى أبو حنيفة عن الرسول أنه قال لبنت أبي حبيش: ((توضأي لكل صلاة " )). فظاهر هذا الحديث يدل على إحداث الوضوء لكل صلاة، فعمومه دال على إدخال الفوائت مع فرض [الوقت]، لأنه لم يفصل بخلاف فرض الوقت فإنه لم يتناول إلا فريضة واحدة لأن المعنى توضائي لكل صلاة واحدة من فروض الوقت.
والمختار: ما قاله علماء العترة ومن وافقهم من جواز تأدية فرضي الوقت بوضوء واحد.
والحجة على ذلك: ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي قال: أتت الرسول امرأة فزعمت أنها تستفرغ الدم فقال : ((هذه ركضة من الشيطان في رحمك " فلا تدعي الصلاة إلى أن قال لها ثم أخري الظهر إلى أول وقت العصر واغتسلي واستدخلي الكرسف ثم صلي المغرب وقد دخل وقت العشاء ثم صلي الفجر)). فهذا نص صريح فيما قلناه من جواز تأدية فرضي الوقت بوضوء واحد.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا: حديث فاطمة يدل على ما قلناه.
قلنا: ظاهره حجة لنا لأنه قال: ((توضائي لكل صلاة " )). فظاهره يقضي بجواز تأدية كل صلاة من فروض الوقت ومن الفوائت والنوافل فلا وجه لإبطال عمومه من غير دلالة.
الحكم الخامس: إذا كانت طهارة المستحاضة منعقدة لتأدية الصلوات كما شرحناه فهل تنتقض طهارتها بدخول الوقت أو بخروجه أو بمجموعهما؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن طهارتها تنتقض بدخول الوقت لا بخروجه، وهذا هو قول الإمامين الهادي والناصر ونصره السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبي طالب، ومحكي عن الأوزاعي وزفر.
والحجة على هذا: قوله للمستحاضة: ((توضائي لوقت كل صلاة " )). ومفهوم هذا الحديث يقتضي وجوب التوضي عند دخول وقت كل صلاة وفيه دلالة على أن طهارتها تنتقض بدخوله ولولا أن طهارتها تنتقض بدخول الوقت لما أمرها بتأخير الظهر إلى وقت العصر وتأخير المغرب إلى دخول وقت العشاء ولم يأمرها بتقديم العصر إلى وقت الظهر لأنه ليس وقتاً للعصر ولا وقت المغرب وقتاً للعشاء، فلما أمرها بالتأخير دل ذلك على أن وقت العصر يدخل مع بقاء وقت الظهر وكذلك وقت العتمة يدخل مع بقاء وقت المغرب وأنه وقت واحد يجمعهما، فدل ذلك على أن المفسد لطهارتها هو دخول الوقت.
المذهب الثاني: أن المفسد لطهارتها هو خروج الوقت وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه والصحيح من قول الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن تعليق بطلان الطهارة بخروج الوقت في حق المستحاضة أولى من تعليقه بدخول الوقت لأن الوقت أصل في توجه الخطاب بتأدية العبادات المؤقتة بالأوقات فإذا كان دخول وقت العبادة مبطلاً لطهارتها كان خروجه في إبطال الطهارة أحق وأولى، ويؤيد هذا أن خروج الأوقات في حق العبادات المؤقتة مبطل لها لكون الوقت شرطاً في صحة تأديتها فإذا كان مبطلاً لها كان مبطلاً لشرطها من جهة الأولى.
المذهب الثالث: أن طهارتها تبطل بدخول الوقت وخروجه وهذا هو المحكي عن أبي يوسف.
والحجة له على هذا:هو أن كل ما أوردناه نصرة للمذهبين في بطلان الطهارة بدخول الوقت وخروجه فهو حجة له لكونه قائلاً بهما فلا وجه لإيراد حجة له على انفرادها.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إليه، وتقريره هو أن هذه الطهارات ثبوت أصولها وتقرير شروطها ونواقضها إنما هي أسرار غيبية وتعبدات دينية وأمور مصلحية لا تؤخذ أدلتها إلا من جهة الآي القرآنية والأخبار النبوية لكونها غيوباً استأثر اللّه بعلمها ووكل بيانها على لسان نبيه ، والأخبار كلها ليس فيها إشارة إلى نقض الطهارة بخروج الوقت ولا بدخوله ولكنها مشيرة إلى الفراغ من العبادة، ولهذا قال :((توضائي لكل صلاة " )). من غير إشارة منه إلى بطلان طهارتها بخروج وقت ولا بدخوله، وإذا كان الأمر كما قررنا كان تعليق نقض الطهارة بالفراغ من العبادة أولى وأحق كما هو المفهوم من ظاهر الأخبار الواردة في حق المستحاضة من غير حاجة إلى تكلف أمر لم يدل عليه شيء من الأدلة النقلية.
لا يقال: هذا قول يخالف أقوال الأمة فإن أحداً لم يذهب إلى هذه المقالة من علماء العترة وفقهاء الأمة، وما هذا حاله فلا يعتمد عليه بحال.
لأنا نقول: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنهم لم ينصوا على فساد ما زاد على أقوالهم فيقضي ببطلانه فإذا كان الأمر هكذا جاز إحداث قول يخالف أقوالهم.
وأما ثانياً: فلأن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لا يزال الإستنباط منها للأحكام الشرعية غضاً طرياً على مر الدهور والأزمان وتكرر الحوادث فأي حرج على من استنبط حكماً من دلالة شرعية وأيده بالدلالات النقلية، فما هذا حاله يجب التعويل عليه.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه ، فنقول: إن تعويلهم في نقض الطهارة بدخول الوقت وخروجه إنما هو على ما يفهم من ظاهر الأخبار في حق المستحاضة، ونحن لا نسلم أن شيئاً من الأخبار دال على تعليق نقض الطهارة بالدخول ولا بالخروج وإنما ظاهرها دال على نقضها بالفراغ من العبادة كما أوضحناه، فقد استقر بما ذكرناه حكم المسألة واتضح بيانها والحمد لله، فإذا توضأت للظهر في آخر وقته وفرغت من تأديته توضأت للعصر في أول وقته وهكذا تفعل في المغرب والعشاء والفجر أنها تتوضأ لكل صلاة بعد الفراغ من الأولى من غير حاجة إلى التعليق في نقض الطهارة بخروج الوقت ولا دخوله.
نعم، يظهر الخلاف بين القائلين بنقض الطهارة في حق المستحاضة بدخول الوقت وخروجه في مسألتين:
الأولى منهما: إذا توضأت بعد طلوع الفجر فلها أن تصلي، عند القائلين بانتقاضه بالدخول، إلى أن تزول الشمس، وعند القائلين بالخروج، إلى أن تطلع الشمس.
والثانية: إذا توضأت بعد طلوع الشمس فلها أن تصلي، عند القائلين بانتقاضه بالدخول، إلى وقت الزوال، وعند القائلين بالخروج، إلى دخول وقت المثل، وأما على ما اخترناه فإنما يكون نقضها بالفراغ منها لا غير.
تنبيه: اعلم أنا حيث سوغنا لها الجمع بين الصلاتين فيما مر وتأدية فرضي الوقت بوضوء واحد واخترناه، فإنما كان قبل الإنتهاء إلى هذه المسألة فيما تنتقض به طهارتها وتحقيق النظر فيها، فإذا فرغت من صلاة فإنها تجدد الوضوء للصلاة الثانية سواء كانت تلك الصلاة مؤداة أو مقضية وعلى هذا إذا أدّت الظهر في آخر وقتها فإنها تستأنف وضوءاً لصلاة العصر وهكذا تفعل في صلاة المغرب والعشاء والفجر وصلاة القضاء وصلاة الجنازة والطواف، بخلاف النوافل فإنه لا يحتاج إلى استئناف الوضوء لتأديتها لما كانت متسعاً في حالها ولهذا فإنه يجوز تأديتها على الراحلة مع التمكن من القرار ويجوز تأديتها من قعود مع القدرة على القيام.
الحكم السادس: ويجب على المستحاضة إذا أرادت أن تصلي أن تغسل فرجها وتحتشي بالقطن لترد به الدم فإن كان يسيراً فإنها تدخل قطنة أو خرقة تحبسه عن الخروج بفعل ذلك فإن لم ينقطع وكان كثيراً غزيراً تلجمت وقد قدمنا صفة التلجم فأغنى عن الإعادة وهو الإستثفار أيضاً، ولا يجب على المستحاضة إلا غسل واحد عند أن يحكم بانقطاع الحيض وإنما يجب عليها الوضوء لكل صلاة كما دل عليه ظاهر الخبر، وإن استوثقت المستحاضة بالشد على ما وصفنا وتوضأت ثم خرج منها الدم قبل الدخول في الصلاة أو في حال الصلاة فإن كان لرخاوة الشد وجب عليها إعادة الشد وإعادة الطهارة، وإن كان ذلك لغلبة الدم وقوته لم تجب عليها إعادة الشد والطهارة لأنه لا تقصير من جهتها.
الحكم السابع في إنقطاع الدم عن المستحاضة: واعلم أن لإنقطاعه عنها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون انقطاعه قبل الدخول في الصلاة فإذا كان منقطعاً قبل دخولها في الصلاة نظرت فإن كان انقطاعه غير معتاد بأن يكون أول ما استحيضت فتوضأت ودمها سائل ثم انقطع فإنه يجب عليها إعادة الوضوء إذا أرادت أن تصلي لأن هذا الإنقطاع يجوز أن يكون كزوال الاستحاضة فيبطل ذلك طهارتها ويجوز أن يكون ليعود فلا يبطل خلا أن الظاهر أنه لا يعود فإن خالفت ودخلت في الصلاة من غير تجديد طهارة فإن اتصل الطهر لم تصح صلاتها، وإن عاودها الدم نظرت فإن كان بين معاودة الدم وانقطاعه مدة يمكن فيها فعل الصلاة لم تصح صلاتها لأنها قد أمكنها فعل الصلاة من غير نجاسة وإن [كان] بينهما مدة لا يمكن فيها فعل الصلاة فإنها لا تجب عليها الإعادة لأنا تيقنا بعود الدم أن الإنقطاع لا حكم له، وإن كان إنقطاع الدم معتاداً قبل أن تستمر عادتها بأن ينقطع دمها ساعة ثم يعود ثم ينقطع فإن كانت مدة الإنقطاع في عادتها مما يمكن فيها فعل الطهارة والصلاة فعليها أن تعيد الصلاة والطهارة لأنها قد أمكنها فعل الطهارة والصلاة من غير نجاسة وإن كانت مدة الإنقطاع يسيرة بحيث لا تتمكن فيها من فعل الطهارة والصلاة فهو كما لو كان الدم متصلاً فلا تلزمها الإعادة لهما.
الحالة الثانية: أن يكون انقطاع الدم بعد دخولها في الصلاة فينظر في ذلك، فإن كان قد جرت عادتها بأن دمها ينقطع ثم يعود وبين وقت انقطاعه وعودته مدة لا تتمكن فيها من فعل الطهارة والصلاة أو كان هذا الإنقطاع لم تجر لها به عادة فالظاهر أنه لا يعود فلا تبطل صلاتها فهي كالمسافر إذا عدم الماء ثم تيمم ثم وجد الماء بعد الدخول في الصلاة.
الحالة الثالثة: أن يكون إنقطاع الدم بعد خروجها من الصلاة، فإنه لا يلزمها شيء لأنها قدفعلت الصلاة على الوجه المأمور به فلا يلزمها سواء عاد الدم أو لم يعد وقد قال : ((لا ظهران في يوم)).
الحكم الثامن: وإذا توضأت المستحاضة بعد دخول الوقت فالأولى أن تصلي عقيب الطهارة، فإن أخرت الصلاة إلى آخر الوقت أو وسطه فإن كان ذلك لمصلحة الصلاة كانتظار ستر العورة جاز ذلك وإن كان التأخير لغير ذلك جاز مع الكراهة، وإن خرج الوقت قبل أن تصلي الفرض بتلك الطهارة كان لها أن تصليه لأن طهارتها لا تبطل بخروج الوقت كما مضى تقريره، وإذا توضأت المستحاضة ارتفع حدثها السابق لأنه لو انقطع الدم أجزأها الوضوء لتأدية الصلاة وأما حدثها الموجود حال الطهارة والطارئ فلا يرتفع ولكن يعفى عنه لأنه لا يمكن الإحتراز منه. وهل يرتفع حدثها بالطهارة أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يرتفع، وإذا قلنا بأنه لا يرتفع فكيف تكون نية الطهارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تنوي استباحة الصلاة ولا تنوي رفع الحدث لأنه لا يرتفع.
وثانيهما: أن تجمع بينهما فتنوي رفع الحدث واستباحة الصلاة.
الحكم التاسع: هل يجوز لزوج المستحاضة أن يأتيها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: الجواز، وهذا هو قول أئمة العترة والحنفية والشافعية والمالكية.
والحجة على ذلك: قوله تعال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ " }[البقرة:222]. ولم يفصل بين حالة وحالة، ولما روي عن الرسول أنه قال: ((إنه دم عرق)). وفي حديث آخر في دم الاستحاضة: ((إنها ليست بحيضة " )). لأن حكمها حكم الطاهرة في دخول المسجد وقراءة القرآن وغير ذلك من الأحكام.
المذهب الثاني: المنع من ذلك، وهذا هو المحكي عن عائشة وابن سيرين والحكم والنخعي وأحمد بن حنبل.
والحجة على ما قالوه: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ " }[البقرة:222]. فأمر بالإعتزال لأجل ملابسة الأذى والتلوث به في حال الحيض، والمستحاضة مثل الحائض في ملابسة النجاسة والأذى فلهذا وجب الإمتناع منه.
والمختار: ما عليه الأكثر من العلماء من الأئمة وفقهاء الأمة.
وحجتهم: ما أسلفناه، ونزيد هاهنا وهو أن حمنة بنت جحش كانت تحت طلحة بن عبيدالله(1)،
وأم حبيبة كانت تحت عبدالرحمن بن عوف وكانتا مستحاضتين وكانا يجامعانهما والظاهر أن مثل ذلك لا يخفى على الرسول لأنه قد بين أحكامها ولم يذكر الوطءَ فدل على جوازه.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا: هو أذى فاعتزلوا النساء.
قلنا: النهي إنما ورد في الحيض وزمانه، وما هذا حاله فليس حيضاً ولهذا يجوز لها ما يجوز للطاهرة من النساء من الصلوات وقراءة القرآن.
__________
(1) جاءت ترجماته في معظم معاجم وأعلام الصحابة ورواة الحديث مثل: (الكنى والأسماء) و(التاريخ الكبير) و(تهذيب التهذيب) وغيرها وهو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، ينتهي نسبه إلى تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، القرشي، أحد الصحابة العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب عند وفاته، شهد مع رسول الله كل المشاهد إلا بدراً، ولكن رسول الله ضرب له يوم بدر بسهمه وأجره كمن حضر، فقد كان بالشام بعثه رسول الله هو وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان الأخبار، ثم رجعا إلى المدينة يوم وقعة بدر، وجاء في (تهذيب التهذيب) قال محمد بن عمر بن علي: آخى النبي بمكة بين طلحة والزبير، وبالمدينة بين طلحة وأبي أيوب خالد بن زيد. ج5 ص 19، بينما جاء في (الإستيعاب) ج2/ ص 764: أن طلحة لما قدم المدينة آخى النبي بينه وبين كعب بن مالك، ويتفق عدد من المراجع على أنه روى 38 حديثاً، قتل يوم الجمل لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 36هوهو ابن 74 سنة، كما جاء في (التعديل والتجريح) 2/601، وفي (صحيح البخاري): وهو ابن 64 سنة.
الحكم العاشر: وحكم من به سلسل البول والمذي واتصال الودي حكم المستحاضة في التحشي والوضوء لكل صلاة لأن ذلك من نواقض الوضوء فهو كالاستحاضة، وأما من به جرح لا ينقطع منه الدم والقيح فإنه بمنزلة المستحاضة في وجوب غسله لكل صلاة وشده بالعصابة، فأما نقض الوضوء فهل يكون ناقضاً للطهارة أم لا؟ فيه تردد قد ذكرناه من قبل وذكرنا المختار فأغنى عن تكريره.
الحكم الحادي عشر: قال الإمام المؤيد بالله: والمستحاضة إذا خرج منها حدث آخر غير دم الاستحاضة فإنه يكون ناقضاً لطهارتها ويجب عليها تجديد الوضوء لأنه يمكنها أن تصلي رافعة لذلك الحدث فلا تصح صلاتها معه كما لو لم تكن مستحاضة.
الحكم الثاني عشر: ويجب على المستحاضة التوقي عن سائر النجاسات غير دم الاستحاضة فإنها معذورة فيه فأما غيره من سائر النجاسات فيلزمها التحرز منه ولا تجزيها الصلاة مع ملابسته، وهكذا حال من به سلس البول وسيلان الجرح فإنه يلزمه التوقي عن سائر النجاسات لأنه غير معذور في ذلك. فهذا ما أردنا ذكره في أحكام المستحاضة. وبتمامه يتم الكلام في باب الحيض وقد أعرضنا عن أكثر مسائل المستحاضات لأمرين:
أما أولاً: فلأنا قد اكتفينا بإيراد الأخبار التي هي أصل في قاعدة الحيض وتتفرع عليها مسائله.
وأما ثانياً: فلأنه ليس ورائها كثير فائدة ومن عرف الأصول التي أوردناها في باب الحيض هان عليه تنزيل تلك المسائل والإحاطة بتفاصيلها.
.
---
الباب العاشر
في النفاس وهو آخر أبواب الطهارة
والنفاس مصدر نفست(1) المرأة نفاساً
وفعله مبني لما لم يسم فاعله كقوله: جُنَّ وحُمّ. ولا يجوز بناؤه لما سمي فاعله، وإنما سمي نفاساً لتنفس المرأة بالولد والدم، والحيض يقال له نفاساً لتنفسها بدم الحيض، ويقال للنفاس حيضاً لما روي أن صفية بنت ملحان استأذنت الرسول في الخروج للجهاد تداوي الجرحى وتسقي الماء فأذن لها وأردفها خلفه على ناقته فحاضت وهي خلفه فجمعت عليها ثيابها فقال لها الرسول لما شعر بحالها: ((مالك نفست))؟ يعني حضت فقالت: نعم يا رسول اللّه فسماه نفاساً فقال لها: ((إنزلي وأصلحي حالك واغسلي ما أصاب الحقيبة بماء فيه ملح وعودي لمركبك))(2).
والنفاس اسم شرعي وهو عبارة عن الدم الذي تراه المرأة عقيب الولادة فيكون دلالة على انقضاء العدة وعلة في تحريم الوطءِ ودخول المساجد وقراءة القرآن، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }[الطلاق:4]. فجعل انقضاء العدة بوضع الحمل.
وأما السنة: فما روي عن النبي أنه قال: ((تقعد النفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك))(3).
وأما الإجماع: فلا خلاف على أن المرأة تكون نفسآء بخروج الدم بعد الولادة.
هذا تمهيد الباب وينحصر المقصود بأن نرسم فيه فصولاً ثلاثة هي وافية بالغرض المطلوب من مسائله والله الموفق.
__________
(1) في حاشية الأصل: نُفِست المرأة بضم النون وكسر الفاء (إذا وضعت). وبفتح النون وكسر الفاء (لما سمي فاعله) إذا حاضت. اه.
(2) تقدم.
(3) عن أنس قال: قال رسول الله : ((تقعد النفساء أربعين يوماً إلاَّ أن ترى الطهر قبل ذلك)) أورده في أمالي أحمد بن عيسى، وفي (الاعتصام) وفي (الأحكام) للهادي، إ.ه(اعتصام) 1/272.
---
الفصل الأول
في بيان أقل النفاس وأكثره وأقل الطهر منه وأكثره
اعلم أن دم النفاس يحرم ما يحرم الحيض من الوطء والصلاة والطواف، ويسقط ما يسقطه الحيض من العدة وغير ذلك. وهو دم الحيض يجتمع لأجل الحمل فإذا ولدت المرأة وخرج منها دم بعد الولادة فلا خلاف في كونها نفساء.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في بيان أكثره وفيه مذاهب [أربعة]:
المذهب الأول: أن أكثره أربعون يوماً وهذا هو رأي القاسمية والناصرية من أئمة العترة وأحد قولي الشافعي، ومحكي عن أبي حنيفة في رواية عنه، ومحكي عن الثوري والمزني وأحمد بن حنبل، وقد قال الشافعي: إن الغالب من حاله في الكثرة أربعون يوماً. وهو قول عطاء ومالك والشعبي وداود.
والحجة على ما قلناه ما روى ابن عمر قال قال رسول اللّه ÷: ((تنتظر النفساء أربعين ليلة \s " \c 2 مالم تر الطهر قبل ذلك وإن جاوزت الأربعين فهو بمنزلة الاستحاضة تغتسل وتصلي فإن غلبها الدم توضأت لكل صلاة)) (1).
الحجة الثانية: ما روت أم سلمة قالت: كانت النفساء تجلس على عهد رسول اللّه ÷ أربعين يوماً وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف(2). ومثل هذا إذا صدر من جهة الصحابي فلا يصدر إلا عن توقيف لأنه لا مجال للأقيسة فيه لأنه أمر مقدر لا يصدر إلا عن الرسول ÷.
الحجة الثالثة: ما روى أنس بن مالك عن رسول اللّه ÷ أنه قال: ((تقعد النفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك)) (3). فهذه الأخبار كلها دالة على صحة تقدير أكثره بالأربعين وهو الذي ارتضاه السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب.
المذهب الثاني: أن أكثره سبعون يوماً وهذا شيء حكي عن بعض الناس.
والحجة على هذا: إنما هو الوجود فإنهم زعموا أنه قد وجد من النساء من تقعد سبعين يوماً نفاساً. ولا أعرف أحداً قال بما فوق هذه العدة من العلماء.
__________
(1) أورده في (الجواهر) 1/146.
(2) أخرجه أبو داؤد والترمذي مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(3) تقدم.
المذهب الثالث: أن أكثره ستون يوماً وهذا هو المحكي عن الشافعي في أحد قوليه ومروي عن مالك ثم رجع عنه إلى عادة النساء فيسألن عنه، ومحكي عن عبدالله بن الحسن. وحكاه الشيخ أبو جعفر عن الإمامين إسماعيل بن جعفر \s " \c 3(1) وموسى بن جعفر \s " \c 3(2)
__________
(1) إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي، قال في (الأعلام): جد الخلفاء الفاطميين وإليه نسبة (الإسماعيلية) و هي من فرق الشيعة في الأصل، وتميزت عن (الإثني عشرية) بأنها قالت بإمامته بعد أبيه، صحب إسماعيل أباه، وروى عنه ومات في حياته ولم يدع الإمامة. وقال ابن خلدون: توفي قبل أبيه، وكان أبو جعفر المنصور طلبه فشهد له عامل المدينة بانه مات، وقال صاحب تهذيب الكمال: إسماعيل إمام مات وهو صغير، ولم يرد عنه شيء من الحديث، ونقل ناشر فرق الشيعة أنه مات بالعريض ودفن بالبقيع سنة 133 ه، انتهى (أعلام) 1/311.
(2) موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الملقب بالكاظم، روى عن أبيه، وروى عنه ابنه علي [الرضى] ا ه(الجرح والتعديل) 8/139، وفي (لسان الميزان): هو أبو الحسن الملقب بالكاظم المدني الهاشمي، روى عن أبيه وعنه ابنه على الرضى وأخواه علي ومحمد ابنا جعفر بن محمد وطائفة، قال أبو حاتم: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين، مات سنة 133هرحمه الله. ج7/402، وفي (تهذيب التهذيب): روى عن أبيه وعبد الله بن دينار، وعبد الملك بن قدامة الجمحي، وعنه: اخواه علي ومحمد، وأولاده إبراهيم وحسين وإسماعيل وعلي الرضى وصالح بن يزيد ومحمد بن صدقة العنبري. ثم ساق ما قاله أبو حاتم عنه بأنه ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين، وزاد: قال يحيى بن الحسن بن جعفر النسابة: كان موسى بن جعفر يدعى: العبد الصالح من عبادته واجتهاده، وقال الخطيب: يقال أنه ولد بالمدية في سنة 128ه، وأقدمه المهدي إلى بغداد، ثم رده إلى المدينة وأقام بها إلى أيام الرشيد، فقدم هارون منصرفاً من عمرة رمضان سنة 179، فحمله معه إلى بغداد وحبسه بها إلى أن توفي في محبسه، وقال محمد بن صدقة العنبري: توفي سنة 183ه، ومناقبه كثيرة.
قلت: إن ثبت أن مولده سنة 128 فروايته عن عبد الله بن دينار منقطعة؛ لأن عبد الله بن دينار توفي سنة 127 ه.
ويلحظ القارئ أن هناك بعض الأخطاء في تأريخ ميلاده ووفاته الواردة في بعض المراجع السابقة وهو سهو كما يبدو، والراجح ما جاء في (تهذيب التهذيب) تؤكده مراجع أخرى منها (الأعلام) 7/321 من أنه عاش ما بين 128 إلى 183 ه= 745 إلى 799م.
.
والحجة لهم على ذلك: هو تعويلهم على الوجود فإنه قد وجد في النساء من يكون نفاسها ستين يوماً.
المذهب الرابع: أن أكثره خمسون يوماً، وهذا هو المروي عن الحسن البصري، وعن الإمامية أن أكثره نيف وعشرون يوماً.
والمختار: ما قاله الأكثر من أئمة العترة وهو اختيار الإمام زيد بن علي.
وحجتهم ما نقلناه من الأخبار ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي % عن امرأة من بني أسد قالت: قلت لأم سلمة: هل كنتم سألتم رسول اللّه ÷ عن النفساء كم تجلس في نفاسها؟ قالت: نعم. سألنا رسول اللّه عن ذلك فقال: ((تجلس أربعين ليلة إلا أن ترى الطهر قبل ذلك \s " \c 2)).
الحجة الثانية: ما روى عثمان بن أبي العاص \s " \c 3(1) وأم سلمة قالا وقَّت رسول اللّه ÷ أربعين يوماً [للنفساء](2).
__________
(1) عثمان بن أبي العاص بن بشر، الثقفي، أبو عبد الله، أسلم بوفد ثقيف فاستعمله النبي ÷ على الطائف، ثم استعمله عمر على عمان والبحرين سنة خمس عشرة، ثم سكن البصرة حتى مات بها ستة 50هوقيل: 51ه. وكان هو الذي منع ثقيفاً عن الردة خطبهم فقال: كنتم آخر الناس إسلاماً فلا تكونو أولهم ارتداداً.
قال في (الاصابة): وجاء عنه أنه شهد آمنة لما ولدت النبي ÷ وهي قصة أخرجها البيهقي في (الدلائل) والطبراني من طريق محمد بن أبي سويد الثقفي عنه قال: حدثتني أمي. فعلى هذا يكون عاش نحواً من مائة وعشرين سنة، روى عن النبي ÷ أحاديث في صحيح مسلم وفي السنن. وروى عنه ابن أخيه يزيد بن الحكم ومولاه أبو الحكم وسعيد بن المسيب وموسى بن طلحة وآخرون. ا ه4/451.
(2) تمام الحديث: فإن جاوزت أربعين اغتسلت وصلت وكانت بمنزلة المستحاضة تصلي وتصوم ويأتيها زوجها، اه، أورده في (الاعتصام) عن علي % بلفظه.
الانتصار عليهم: يكون بإبطال ما أوردوه حجة، أما من قال بأن أكثره سبعون يوماً وستون وخمسون ونيف وعشرون، فكله اعتماد منهم على الوجود وليس لهم فيه حجة شرعية معتمدة، ويدل على بطلان هذه التحكمات أن هذه الأمور التقديرية والأحكام العددية إنما تثبت من جهة الشارع لا مجال للعقل والأقيسة[فيها] بحال، وما جعلناه حجة لنا فإنما مستنده من جهة الشارع فلهذا وجب التعويل عليه. ومن وجه آخر وهو أن هذه المذاهب كلها متدافعة فليس بعضها أولى من بعض لأنهم لم يسندوها إلى توقيف من جهة الشارع فيجب اطراحها والإعتماد على ما أثر من جهة صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه.
الفرع الثاني: في بيان أقله وفيه مذاهب ثلاثة نفصلها:
المذهب الأول: أن أقله لا حد له وهذا هو قول أئمة العترة القاسمية والناصرية، ومحكي عن الشافعي ومحمد بن الحسن وهو رأي السيدين الأخوين أبي طالب والمؤيد بالله.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول ÷ أنه قال: ((تنتظر المرأة أربعين يوماً \s " \c 2 فإذا رأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر)).
ووجه الحجة من هذا الحديث: هو أ نه ÷ أطلق بأنها إذا رأت الطهر قبل ذلك ولم يفصل بين وقت ووقت، وفي هذا دلالة على أنها إذا رأته بعد الولادة فهي طاهرة محكوم عليها بإنقضاء النفاس بلا مرية، وفي هذا دلالة على أنه لا حد له. وقد روي أن امرأة ولدت ولم تر دماً عقيب الولادة فكانت تسمى ذات الجفاف(1).
المذهب الثاني: أن أقله ثلاثة قروء فإن كانت عادتها ستاً فثمانية عشر يوماً، وإن كانت عادتها سبعاً فأحد وعشرون يوماً، وإن كانت عادتها عشراً فثلاثون يوماً،وهذا هو المحكي عن زيد بن علي.
__________
(1) لم نعثر على شيء يدل على صاحبة اللقب هذا في ما أتيح من المراجع، ومنها: كتب الكنى والأسماء، وتراجم النساء، وبعض آخر من كتب الأعلام والمعاجم والأوائل.
والحجة على ذلك: أنه قد تقرر أن عدة الحامل بالوضع وعدة الحائل بثلاثة قروء فجعل الشرع الوضع بمنزلة الأقراء، فلهذا قلنا بأن أقله يكون معتبراً بالأقراء على اختلاف أحوالها في عدد الأقراء.
المذهب الثالث: أن أقله أحد عشر يوماً وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وحكي عن الثوري: أن أقله ثلاثة أيام.
والحجة على ما قالوه: هو التعويل على الوجود على ما يعهد في أزمنتهم فكل واحد منهم يعتمد على ما جرى في زمنه من التقدير بهذه الأعداد.
والمختار: ما عليه علماء العترة من أن أقله لا حد له.
والحجة لهم: ما قررناه ونزيد هاهنا، وهو ما روى أبو أمامة عن الرسول ÷ أنه قال: ((إذا طهرت المرأة حين تضع صلت \s " \c 2))(1) فهذا نص صريح في أنه لا حد لأقله، ولهذا قال الإمام(2) في (التحرير)، والاعتبار في زواله بحصول النقاء ولو ساعة واحدة. وأراد بهذا أن الاعتبار بزوال النفاس إنما يكون بحصول النقاء من الدم ولو ساعة واحدة فإذا طهرت ساعة واحدة فقد زال النفاس على ما تدل عليه العاقبة في إستمرار النقاء وبطلانه.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه حجة لهم، فأما ما حكي عن زيد بن علي من جعله الوضع بمنزلة الأقراء واعتباره بها، فكل واحد منهما أصل برأسه في العدة وبراءة الرحم فالحائل لها ثلاثة أقراء والحامل عدتها بالوضع فلا وجه لقياس أحدهما على الآخر فإن كل واحد منهما منصوص عليه في كتاب اللّه فلا وجه للرد والمقايسة بينهما.
__________
(1) أورده في (الروض) 1/513 وفي (الجواهر -البحر) 1/145 عن (الانتصار).
(2) أبو طالب.
وأما من زعم أن أقله أحد عشر يوماً و[من قال]ثلاثة أيام فكله تحكم لا مستند له من جهة الشارع فلا تعويل عليه إذ ليس هذا العدد أحق من غيره من الزيادة والنقصان، فأما الإمام زيد بن علي فلم يخالف في أكثره أنه أربعون ولهذا قال: ولا يكون النفاس أكثر من أربعين يوماً(1)، وهو المأثور عن عدة من الصحابة رضي اللّه عنهم، أمير المؤمنين وعمر وعثمان وابن عباس وابن عمر وعائشة وأم سلمة.
الفرع الثالث: أقل الطهر من النفاس، وفيه مذهبان:
أحدهما: أن أقله مثل أقل الطهر من الحيض وهو عشرة أيام وهذا هو رأي أئمة العترة.
وثانيهما: أن أقله خمسة عشر يوماً، وهذا هو المحكي عن الشافعي وقد قدمنا وجه الحجة لكل واحد من المذهبين وذكرنا الإختيار والانتصار له فلا وجه لتكريره. فعلى هذا إذا رأت المرأة الدم في النفاس ثم رأت النقاء فإن استمر النفاس عشرة أيام فهو طهر، وإن رأت الدم بعد ذلك فهو حيض، وإن رأت الدم لدون العشر فهو نفاس من جملة الأربعين.
الفرع الرابع: في بيان أكثر الطهر من النفاس.
وأكثره لا حد له كما مضى تقريره في الحيض.
وإن رأت المرأة الحامل دماً قبل الولادة فهل يكون دم حيض أو دم فساد؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه دم حيض وهو المحكي عن الشافعي في أحد قوليه.
وثانيهما: أنه دم فساد، وهذا هو رأي أئمة العترة وسواء كان ذلك الدم مقدار أكثر الحيض أو دونه أو فوقه في كونه محكوماً عليه بدم الفساد والتغير. وهذا هو المختار وقد قررنا وجه المذهبين وأوضحنا أن الحبلى لا تحيض فأغنى عن تكريره.
الفرع الخامس: إذا ولدت المرأة ولم تر دماً عقيب الولادة لم تكن نفساء لأمرين:
أما أولاً: فلأن النفاس دم مسقط للصلاة فصار كدم الحيض والحائض إذا لم ترى دماً لم يحكم لها بالحيض.
__________
(1) راجع (الروض) 1/512 ومسنده الإمام زيد ص 91.
وأما ثانياً: فلأن النفاس اسم لما تنفس به المرأة من الدم عند الولادة فإذا لم يوجد بطل نفاسها. وهل يجب عليها الغسل لخروج الولد أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجب بخروج الولد وإن لم يكن معه دم لأنه بمنزلة الإيلاج من غير إنزال ولأن الولد منعقد من ماء الرجل وماء المرأة وهما موجبان للغسل فهكذا ما ينعقد منهما.
وثانيهما: أن الغسل غير واجب بخروج الولد من غير دم لأن الموجب للغسل إنما هو التنفس بالدم وهاهنا لا دم فلا وجه لإيجابه.
والمختار: أن الغسل غير واجب عليها لما روى أبو أمامة عن الرسول ÷ أنه قال: ((إذا طهرت المرأة حين تضع صلت \s " \c 2)). فأوجب الصلاة عليها بالوضع ولم يوجب عليها غسلاً ولو كان واجباً لذكره لأن هذا موضع الحاجة والتعليم. وهل يجب عليها الوضوء أم لا؟ فيه التردد الذي ذكرناه في نواقض الوضوء فإن كان فيه بلل فهو ناقض وإن لم يكن هناك بلل لخروجه من فرج المرأة فهو لاحق بخروج الدود والحصاة والنواة في كونه ناقضاً أو غير ناقض، وقد ذكرنا الخلاف فيه وذكرنا المختار والانتصار له فلا حاجة بنا إلى تكريره.
الفرع السادس: وإذا ولدت المرأة توأمين(1) فإن لم يكن بينهما دم وكان خروج الدم عند ولادة الثاني فهو نفاس واحد بإتفاق لأن التنفس إنما حصل بوضع الثاني فصار النفاس متحققاً بوضعه كما لو كان الولد واحداً، وإن كان الدم خارجاً بوضع الأول ففيه مذاهب ثلاثة نوضحها بمعونة اللّه تعالى:
المذهب الأول: أنه لا يحكم عليها بحكم النفاس إلا بوضع جميع ما في بطنها سواء كانا ولدين أو أكثر وعلى هذا يعتبر أول النفاس وآخره بوضع الثاني، وهذا هو الذي حصله السيدان أبو العباس وأبو طالب للمذهب.
ووجهه: أن الولدين في حكم الولد الواحد فلهذا لم ينقطع النفاس إلا بوضعهما جميعاً.
__________
(1) التوأم: أحد المولودين الإثنين فما فوق اللذين يولدان في مخاض واحد.
المذهب الثاني: أنه يعتبر أول النفاس وآخره بوضع الأول وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف وهو أحد أقوال الشافعي.
ووجهه: أن اسم النفاس يقع بوضع الولد الأول فأشبه ما إذا كان وحده.
المذهب الثالث: أنه يعتبر ابتداء مدة النفاس من الأول ثم تستأنف المدة من الثاني.
ووجهه: هو أن كل واحد منهما سبب في تقرير حكم النفاس واثباته إذا انفرد فإذا اجتمعا ثبت لكل واحد منهما نفاس وتداخلا فيما اجتمعا فيه، وهذا شيء يحكى عن بعض أصحاب الشافعي.
والمختار: ما قاله أصحابنا وهو الأصح من أقوال الشافعي ويؤيد ما ذكرناه من كونهما في حكم الولد الواحد هو أن الزوج لا يملك نفي أحدهما دون الآخر وإذا أقرَّ بأحدهما لزمه الآخر وأيضاً فإن العدة لا تنتقض إلا بوضعهما جميعاً فلهذا كان نفاسهما واحداً.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، أما من زعم أنه ينقضي النفاس بوضع الأول لأن اسم النفاس يقع عليه فلا نسلم بل يجب أن يضاف حكم النفاس إلى جميع الخارج كما يضاف نقض الوضوء إلى جميع أجزاء البول عند خروجه.
وأما من زعم أنه ثبت لكل واحد منهما حكم النفاس ثم يتداخلان فيما اجتمعا فيه.
قلنا: إن[الأخذ] بإعتبار التداخل في المدة الموضوعة لحكم النفاس فيه دلالة على أن النفاس واحد فلولا أنه واحد لما وجب التداخل وإلا لوجب أن يكون لكل واحد كمال مدة النفاس وأنتم لا تقولون به.
نعم، الذي اخترناه صالحاً للمذهب وهو أن يكون النفاس بولادة التوأمين إنما هو بشرط أن لا ترى المرأة الدم عند الولادة أو تراه لكنه أقصر دون الأربعين فعلى هذا يكون النفاس واحداً ويتم بولادة الثاني، فأما إذا كان بين الولدين أكثر مدة النفاس والدم متصل بولادة الثاني فهما نفاسان لا محالة وينفصل الأول بالولادة ثم تستأنف نفاساً ثانياً بولادة الثاني.
الفرع السابع: والسقط إذا تنفست به المرأة فحالها كحال الولادة للتمام في كونها نفاساً إذا تبين فيه أثر الخلقة والتخطيط(1) فإن لم يكن كذلك لم يكن نفاساً.
واعلم أن ما تلقيه المرأة من رحمها فله حالات أربع:
الحالة الأولى: أن يكون الخارج نطفة إما منياً خالصاً أو منياً مختلطاً بماء المرأة تعلوه صفرة، وإما منياً مختلطاً بدم الحيض تعلوه حمرة، فما هذا حاله لا تكون به المرأة نفساء وهو أول أطوار خلقة الإنسان في الرحم كما أشار اللّه تعالى إليه في غير آية من كتابه، ولا خلاف في أنها لا يتعلق بها حكم النفاس.
الحالة الثانية: العلقة، وهي الطور الثاني من خلقة الإنسان في الرحم كما أشار اللّه تعالى بقوله: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ}[الحج:5]. وهل تكون المرأة بإلقاء العلقة نفساء أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنها لا تكون به نفساء وهذا هو رأي أئمة العترة وقول أكثر الفقهاء.
ووجهه: أنه أمر لم يتبين فيه أثر خلقة الإنسان فأشبه ما إذا كان نطفة.
وثانيهما: أنها تكون بإلقائها نفساء وهو أحد قولي الشافعي.
ووجهه: أنها صورة ناقصة تتكون منها خلقة الإنسان فأشبهت ما ظهر فيه صورة الخلقة.
والمختار: ما قاله أصحابنا؛ لأن إطلاق إسم النفاس إنما يكون على ما ظهر فيه التخطيط والتشكيل في خلقة الآدمي.
الحالة الثالثة: المضغة، وهي الطور الثالث من خلقة الآدمي كما أشار إليه تعالى بقوله: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً \s " \c 1}[المؤمنون14]. وهل تكون المرأة بإلقائها نفساء أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تكون بإلقائها نفساء وهو الذي يأتي على قول الشافعي في أحد قوليه لأنه إذا قال: تكون نفساء بإلقاء العلقة فبإلقاء المضغة أحق وأولى.
وثانيهما: أنها لا تكون بإلقائها نفساء وهذا هو الظاهر من مذهب العترة؛ لأن المضغة قطعة من اللحم لا يظهر فيها شيء من التخطيط والتشكيل اللذين يظهران في خلقة الآدمي.
__________
(1) يقصد: تكون الأعضاء كاملة.
الحالة الرابعة: وهي الطور الرابع الذي أشار اللّه تعالى إليه بقوله: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا \s " \c 1}[المؤمنون:14] ولا شك أن تخلق العظام واللحم قد تظهر فيه صورة خلقة الآدمي فإذا ألقت المرأة ما هذا حاله فإنها تكون به نفساء كالخلقة التامة فصارت الرحم مشتملة على ما ذكرناه، فما تيقنا فيه خلقة الآدمي حكمنا عليها بالنفاس ولحقها أحكامه. وما شككنا فيه في كونه آدمياً لم يثبت لها حكم النفاس لأن الظاهر لزوم الصلاة والصيام وسائر أحكام العبادات عليها فلا نسقطها عنها إلا بيقين.
.
---
الفصل الثاني
في حكم المرأة عند الولادة
واعلم أن المرأة إذا تنفست بالولد فلا يخلو حالها إما أن ترى الدم أو لا تراه، فإن لم تر دماً لم يكن نفاساً وكان حكمها حكم الطاهرة في التلبس بالعبادات كلها من الصلاة والطهارة والصيام والإعتكاف والطواف وسائر العبادات. وإن رأت الدم فلا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن ينقطع دون الأربعين، فإما أن يتلوه طهر صحيح أم لا، والطهر الصحيح عشرة أيام فإن تبعه طهر صحيح كان ما قبله من الدم نفاساً وما بعده حيضاً إذا عاود الدم فالأول يتبعه حكم النفاس والثاني يتبعه حكم الحيض، وإن لم يتبعه طهر صحيح فهو نفاس إلى الأربعين لأنه زمان إمكان النفاس وحدّه ومقداره الشرعي كما قررناه من قبل.
الحالة الثانية: أن يستقر الدم على رأس الأربعين من غير زيادة وما هذا حاله فهو نفاس كله لأنه أكثر النفاس كما قلناه في الدم إذا استقر على العشر من غير زيادة فهو حيض لأنه زمان إمكان الحيض فلا وجه لخروجه عن حكم الحيض.
الحالة الثالثة: أن يعبر الدم على الأربعين فإذا كان كذلك فهو استحاضة وخرج عن حد النفاس.
التفريع على هذه القاعدة وتتصل بها فروع:
الفرع الأول: الدم إذا جاوز الأربعين في النفاس فليس يخلو حال المرأة إما أن تكون متبدأة أو ذات عادة فإن كانت مبتدأة بأن يكون هذا أول نفاس طرقها فالواجب عليها الرجوع إلى عادة نسائها فإن اختلفت عاداتهن في النفاس رجعت إلى أكثرهن عادة لأن الظاهر من الدم أنه نفاس لأنه في زمان الإمكان وإن لم يمكن الرجوع إلى عادة نسائها من قبل أبيها فإنها ترجع إلى أكثر النفاس وهو الأربع، فإذا اتصل دم النفاس بدم الاستحاضة وجاوز الأربعين فهل يكون كله استحاضة أو يكون الزائد على الأربعين استحاضة لا غير، فيه تردد. فذكر المؤيد بالله أن الكل يكون استحاضة لاتصال دم النفاس بدم الاستحاضة وذكر السيد أبو طالب أن الزائد على حد النفاس يكون استحاضة لا غير لأنه في زمان الإمكان. ولا خلاف أن الزائد على الأربعين يكون استحاضة بكل حال لكونه قد جاوز أكثر النفاس، وإن كانت المرأة ذات عادة فعادتها إنما تثبت بولادتين مرة يقف عليها ومرة يزيد عليها، وهذا نحو أن يكون نفاسها مرة عشرين يوماً ثم مرة خمسة وعشرين يوماً فتكون عادتها على هذا عشرين، و إذا كان الأمر فيها هكذا كانت أيام عادتها نفاساً والباقي يكون استحاضة.
الفرع الثاني: إذا انقطع دم النفاس لدون أربعين يوماً فهل يكره وطؤها في هذه المدة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكره، وهذا شيء يحكى عن علي وابن عباس وهو رأي زيد بن علي والإمامين الهادي والناصر ومروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف. قال الهادي: ولا ترتفع الكراهة إلا أن يكمل طهرها عشرة أيام(1).
__________
(1) راجع كتاب (الأحكام) 1/72.
والحجة على هذا: هو أن زمان الأربعين زمان إمكان النفاس فلا يأمن الواطئ أن يعود الدم فيكون قد وطأها في حال النفاس، وقد قال : ((المؤمنون وقافون عند الشبهات " ))(1).
المذهب الثاني: أنه لا يكره وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أنها مأمورة بالصلاة والصيام وإذا جاز لها تأدية الواجبات من العبادات جاز المباح وهو الوطء.
والمختار: أن امتناع وطئها إنما هو على جهة الاستحباب دون الوجوب لأن الظاهر الإباحة بحصول النقاء في هذه الأيام وهو أمارة الإباحة ونحن على شك من عودة الدم فلا نترك اليقين لعروض الشك.
الانتصار: فإن قيل: الزمان زمان الإمكان فلا يأمن الواطئ أن يعود الدم فيقع الواطءُ في زمان النفاس.
قلنا: اليقين حاصل بالنقاء ونحن على شك من عودة الدم والشك لا يعارض اليقين بحال.
الفرع الثالث: قال الإمام المؤيد بالله: ولو أن امرأة نفست وزاد الدم على الأربعين وكان ما بعدها من الأيام أيام عادتها في الحيض ولم يتخلل بينهما طهر صحيح كان عليها الصلاة بعد انقضاء الأربعين لأن الحيض والنفاس في المعنى واحد فيما يتعلق بالعبادات فكما لابد بين دمي الحيض من طهر صحيح فهكذا بين الحيض والنفاس، وهكذا حال المبتدأة إذا نفست وزاد دمها على الأربعين لأن أكثر النفاس أربعون فالزائد لا يكون نفاساً لا خلاف فيه بين الأئمة.
الفرع الرابع: في المرأة إذا نفست بالولد وخرج منها دم فخروجه يكون على ثلاثة أوجه.
__________
(1) أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن النعمان بن بشير عنه : ((إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإمن لكل ملك حمى ألا وحمى الله محارمه)) (الجواهر 1/139).
أولها: أن يكون خارجاً بعد الولد وما هذا حاله يكون نفاساً باتفاق بين الأئمة وفقهاء الأمة، وهكذا لو كان صفرة أو غبرة أو كدرة فإنه يكون نفاساً كما قلنا إن الصفرة والغبرة والكدرة في أيام الحيض حيض، فهكذا يكون حالها في أيام النفاس نفاساً من غير فرق، فإن خرج ماء صافٍ فهل يكون نفاساً أم لا؟
والمختار: أن ما هذا حاله يبعد تصوره وأنه لابد فيه من الغبرة والكدرة فيلحق بالنفاس فإن قدرناه صافياً مع بعده، كان فيه الوضوء لا غير.
وثانيها: أن يكون الدم خارجاً مع الولد، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يحكم عليه بكونه نفاساً لأنه دم خرج بخروج الولد فأشبه ما لو خرج بعده.
وثانيهما: أنه لا يكون نفاساً لأنه دم انفصل قبل خروج الولد فأشبه الدم الخارج قبل خروجه.
والمختار: أنه يكون نفاساً لأن المرأة تكون نفساء بخروج الدم بعد الولد فهكذا حال ما يكون متصلاً به من الدم.
وثالثها: أن يكون الدم خارجاً قبل خروج الولد، وهل تكون به نفساء أم لا؟ فظاهر كلام أصحابنا والفقهاء(1)
أنه ليس حيضاً من جهة أن الحبلى لا تحيض وأنه ليس نفاساً لأن النفاس ما كان بعد خروج الولد.
والمختار: أنه يكون نفاساً في تحريم العبادات كالصلاة والصوم لأنه دم حصل في زمان الإمكان فأشبه ما لو كان خارجاً بعد الولد ولأن المرأة قد تنفست به على حد تنفسها بالدم بعد خروج الولد فأما انقضاء العدة وبطلان الرجعة عليها فلا يكونان إلا بعد خروج الولد لقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:4]. وقوله في سبايا أوطاس: ((لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة " ))(2).
__________
(1) في هامش الأصل (خ-و) ما لفظه: في الحكاية عن الفقهاء نظر لأن الشافعي ومالك يقولان باجتمع الحيض والحبل، اه.
(2) تقدم في حديث سبابا أوطاس.
فلو خرج نصف الولد لم تكن عدتها منقضية والرجعة عليها[ممكنة] حتى ينفصل الولد كله بخلاف العبادات فإنها ممنوعة منها حتى يحصل الطهر ولا طهر مع وجود الدم واتصاله.
الفرع الخامس: النقاء المتوسط في زمان الأربعين إذا بلغ أقل الطهر هل يحكم بكونه طهراً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون طهراً شرعياً وهذا هو رأي الهادي واختاره الإمامان الأخوان.
والحجة على ذلك: قوله : ((تقعد النفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك)). فظاهره الحكم بارتفاع النفاس بدون الطهر في الأربعين وهذا هو مطلوبنا.
المذهب الثاني: أنه لا يكون طهراً وهذا هو رأي أبي حنيفة فإنه زعم أن كل دم تراه المرأة في الأربعين فهو دم نفاس وإن رأت بعده فهو طهر صحيح.
والحجة على هذا: هو أن النفاس حيض لقوله لعائشة: ((مالك أنفست " ))؟. فسماه نفاساً. وإذا تقرر كونه حيضاً فكما أن معاودة الدم في مدة أكثر الحيض يكون حيضاً فهكذا يجب أن تكون معاودة الدم في أكثر النفاس يجب أن يكون نفاساً كله.
والمختار: ما نص عليه في (المنتخب)(1)
ويدل عليه ما حكيناه ونزيد هاهنا وهو خبر الإمرأة الأسدية: ((تجلس النفساء أربعين ليلة " إلا أن ترى الطهر قبل ذلك)).
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه.
قوله: معاودة الدم في مدة أكثر الحيض تكون حيضاً.
قلنا: هذا فاسد فإن مدة أكثر الحيض لا تسع لأقل من الطهر الشرعي من جهة أن أكثر الحيض عشر وأقل الطهر عشر فلا ينعقد توسط الطهر الشرعي في أكثر مدة الحيض لما ذكرناه، وإذا كان الأمر كما قلناه كان معاودة الدم فيه يكون حيضاً لا محالة فافترقا.
الفرع السادس: في الحيض هل يتعقب النفاس أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: الجواز، وهذا هو الظاهر من مذهب العترة وهو أحد قولي الشافعي.
__________
(1) كتاب مطبوع تضمن إجابات الإمام الهادي على أسئلة محمد بن سليمان الكوفي في الفقه.
والحجة على ذلك: هو ما ذكرناه من حصول الطهر المتوسط في أيام النفاس فإذا كمل كان ما بعده حيضاً كما أشرنا إليه هاهنا.
والمذهب الثاني: المنع وهذا هو المحكي عن أصحاب الشافعي تفريعاً على ما ذهبوا إليه من أنه لا يجوز توسط الطهر في أيام النفاس فإذا عاد الدم في أيام النفاس كان كله نفاساً.
والمختار: ما قاله أصحابنا ويدل عليه حديث الإمرأة الأسدية، وقد قدمناه فلا نعيده.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا:عودة الدم في أيام النفاس تكون نفاساً.
قلنا:لا نسلم ما قلتموه بل إنما يكون نفاساً ما لم يتوسط الطهر الشرعي، فأما إذا كان متوسطاً كان ابتداء حيض سواء كان في حق المبتدأة أو ذات العادة لأنه زمان إمكان في الحيض فلهذا قضينا بكونه حيضاً.
الفرع السابع: قال السيد أبو العباس: وإذا قال الرجل لامرأته: إذا ولدت فأنت طالق، فإذا ولدت وادعت انقضاء عدتها ففي أي قدر من الأيام تصدق مقالتها؟ ففي هذا روايات كل واحدة منها مبنية على الأصول المقررة في حد النفاس في أكثره وأقله ونحن نوردها وجملتها أربع:
الرواية الأولى: عن السيد أبي العباس قررها على أصول المذهب، قال: لا تُصَدَّق إلا في تسعة وثلاثين يوماً بعد الولادة لأن هذه المدة وإن لم تكن معتادة فهي ممكنة محتملة وإذا كانت محتملة صدق قولها لإمكانها، وبيانه: أنا نقدر أنها طهرت من النفاس عقيب الولادة وكان طهرها من النفاس عشرة أيام ثم أنها حاضت ثلاثة أيام ثم طهرت عشرة أيام ثم حاضت ثلاثة أيام ثم طهرت عشرة أيام ثم حاضت ثلاثة أيام فتكون أطهارها ثلاثون يوماً وحيضها تسعة أيام وذلك تسعة وثلاثون يوماً.
قال الإمام أبو طالب: والأولى أن لا تُصَدَّق إلا في تسعة وثلاثين يوماً وساعة؛ لأنه يبعد أن لا ترى شيئاً من الدم عقيب الولادة، وهذا لا وجه له فإنه ليس القصد إلا الأمور الممكنة وإن لم تكن معتادة ومقدار الإمكان يحصل بما ذكرناه ولأنه كما يستبعد ألا ترى الدم عقيب الولادة فيبعد أيضاً أن ترى الدم ساعة واحدة.
الرواية الثانية: تحكى عن أبي حنيفة قال: تُصَدَّقُ في خمسة وثمانين يوماً. لأنه يجعل نفاسها خمسة وعشرين يوماً ويجعل خمسة عشر طهراً هذه أربعون يوماً وخمسة حيضاً نصف أكثر الحيض، وخمسة عشر طهراً وخمسة حيضاً وخمسة عشرة طهراً وخمسة حيضاً تم الكل خمسة وثمانين يوماً فهذا يأتي تقريراً على أصوله.
الرواية الثالثة: عن أبي يوسف قال: لا تصدق في أقل من خمسة وستين يوماً؛ لأنه يجعل نفاسها أحد عشر يوماً وهو أكثر من أكثر مدة الحيض وثلاثة أطهار خمسة عشر وثلاث حيض ثلاثة ثلاثة كملت خمسة وستين يوماً.
الرواية الرابعة: عن محمد بن الحسن فإنه قال: تصدق في أربعة وخمسين يوماً وساعة؛ لأنه يجعل النفاس ساعة ثم الطهر خمسة عشرة يوماً والأقراء يجعلها تسعة أيام ثلاثة ثلاثة والطهران ثلاثون كملت أربعة وخمسين يوماً. فقد عرفت بما أوردناه أن هذه الإختلافات بينهم على ما يذهب إليه كل واحد منهم في مقدار النفاس والطهر منه، وقد قررنا المختار فيما سبق والانتصار له فلا وجه لتكريره.
الفرع الثامن: اعلم أن المرأة إذا تمت ولادتها بوضع جميع ما في بطنها فإنها تتعلق بها أحكام شرعية محرمات وواجبات ومستحبات ومكروهات ومباحات، فهذه ضروب خمسة نذكر ما يتعلق بكل واحد منها.
الضرب الأول منها: المحرمات، تحرم عليها الصلاة والتلبس بها والدخول فيها ويحرم عليها الصوم ويحرم عليها الإعتكاف والطواف ويحرم عليها اللبث في المسجد وتحرم عليها قراءة القرآن ويحرم عليها مس المصحف ويحرم طلاقها في نفاسها ويحرم وطؤها في فرجها.
الضرب الثاني: في المستحبات. ويستحب للنفساء أن تتطهر في أوقات العبادات وتسبح اللّه تعالى وتهلله وتكبره ليكون فرقاً بينها وبين نساء الذميات في أوقات الصلاة، ويستحب لها أن تكحل عينيها وتمشط شعرها ولا تعطل نفسها من الطيب إذا كانت مزوجه لأن للزوج الإستمتاع بها فيما دون الجماع لأن الرسول كان يأمر نساءه بجميع ما ذكرناه.
الضرب الثالث: في الواجبات. ويجب عليها الاغتسال عند انقطاع نفاسها لتأدية العبادات من الصلاة والصوم ويجب عليها قضاء ما فاتها بالولادة من الصوم دون الصلاة.
الضرب الرابع: في المباحات. ويباح لها الفصد والحجامة ويباح لزوجها تقبيلها ومباشرتها ما فوق الإزار وما تحته ما خلا الإيلاج في الفرج كما قررناه ويباح لها الأكل في نهار شهر رمضان والشرب إذا وقع نفاسها فيه كما يباح في حق الحائض، ويباح لها دخول الحمام.
الضرب الخامس: المكروهات يكره لها ضد ما وقع فيه الاستحباب من الأمور التي ذكرناها في الاستحباب.
الفرع التاسع: في بيان ما يتفقان ويختلفان فيه، أعني الحيض والنفاس، وأكثر أحكامهما على الموافقة كما أسلفنا تقريره وإنما نذكر المخالفة بينهما وذلك من أوجه سبعة:
أما أولاً: فلأن أقل الحيض ثلاثة أيام وأقل النفاس ساعة(1).
وأما ثانياً: فلأن أكثر الحيض عشرة أيام وأكثر النفاس أربعون يوماً.
وأما ثالثاً: فلأن انقضاء العدة في حق أيام النفاس بالوضع وانقضاء العدة في حق الحائض بثلاثة أقراء.
وأما رابعاً: فلأن المراة يحكم ببلوغها بالحيض بخلاف النفساء فإنه لا يحكم ببلوغها بنفاسها وإنما يحكم بالبلوغ بالحمل.
__________
(1) لعل الأولى القول: ولا حَدَّ لأقله، لأنه إذا فقد أحد شروطه فلا نفاس، كما هو رأي المذهب وجمهور الفقهاء.
وأما خامساً: فلأن النفساء إنما يحكم بنفاسها إذا قد وضعت ما ظهر فيه أثر الخلقة دون النطفة والعلقة والمضغة التي لم تُخلَّق بخلاف الحائض فإنه يحكم لها بالحيض إذا حصل الدم في أيام الإمكان من غير نظر إلى صفات ما يخرج ولهذا قضينا بالصفرة والكدرة والغبرة أنها حيض.
وأما سادساً: فلأن النفساء إذا استحيضت فابتداء النفاس معلوم من أوله بخلاف الحائض المتحيرة التي نسيت ابتداء حيضها وانتهائه ووقته وعدده فالأمر فيها كما قررناه.
وأما سابعاً: فلأن توسط الطهر بين أكثر النفاس معلوم ممكن بخلاف الحائض فإن توسط الطهر في أكثر الحيض غير ممكن لأن أقل الطهر عشر وأكثر الحيض عشر فلا يمكن توسطه. ولنقتصر على هذا القدر من المخالفة ففيه كفاية.
الفرع العاشر: إذا نفست المرأة بولد ثم طلقت فهل تربص إلى سن اليأس في إنكاحها وتعتد بالأشهر إذا انقطع حيضها أو نردها إلى عدة الوفاة؟ فليس المقصود بالتربص إلا براءة رحمها وهذا حاصل بردها إلى عدة الوفاة. فيه تردد وغموض في مخالفة ظاهر قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ " c 1}[البقرة:228] لمعارضة المصلحة في نكاحها سنذكره في العدد ونوضح الكلام فيه بمعونة اللّه تعالى.
---
الفصل الثالث
في بيان المستحاضات في النفاس
اعلم أن الاستحاضة كما هي واردة في الحيض فهي واردة في النفاس لأن المقصود بالاستحاضة إنما هو إنافتها على الحد المعتاد في النفاس واختلاط دم النفاس بدم الاستحاضة وعند هذا يقع النظر في التمييز بين الدمين بالإضافة إلى المتبدأة وذات العادة والمميز ة والمتحيرة. فهذه أربع نذكرها في المستحاضات وما عداها مردود إليها بمعونة اللّه تعالى.
المستحاضة الأولى: المتبدأة وهي التي لم يسبق لها عادة في مقدار التنفس بالدم فإن المعيار الصادق والفيصل الفارض بين كونها مستحاضة أو غير مستحاضة إنما هو عبور الدم ومجاوزته على الأربعين فهو نفاس كله، فإذا كانت متبدأة فإنا نردها إلى عادة نسائها من قبل أبيها لأنه هو الممكن في حقها والأخص في أمرها. والبرهان الشرعي على صحة ما قلناه من ردها إلى عادة نسائها هو أن الاحتمالات هاهنا أربعة:
الاحتمال الأول: أن ترد إلى لحظة واحدة وهو أقل النفاس وهذا قول للشافعي حكاه الغزالي وغيره ولا وجه له لقلته وندوره وخروجه عن الإعتياد.
الاحتمال الثاني: أن تكون مرودودة إلى الأغلب والأكثر من النفاس وهو الأربعون، وهذا قول يحكى عن الشافعي أيضاً وهذا وإن كان له وجه في الاحتمال لكن الباب باب العبادة فيجب فيه الإحتياط فلهذا وجب الرجوع إلى دون الأربعين لما ذكرناه.
الاحتمال الثالث: الرجوع إلى أكثر النفاس وهو الستون وهذا شيء يحكى عن المزنى من أصحاب الشافعي وهذا أيضاً مردود لما حققناه من [أن] أكثر النفاس هو أربعون لا غير وأن التعويل على الستين إنما هو أمر وجودي لا دلالة عليه من جهة الشرع ويعارضه غيره من سائر الأمور الوجودية النادرة.
الاحتمال الرابع: أن تكون مرودودة إلى عادة نسائها، وهذا هو المحكي عن الإمام القاسم بن إبراهيم ومحكي عن أبي حنيفة.
والمختار: ما عول عليه أصحابنا واختاروه للمذهب من رد المبتدأة إلى عادة النساء في النفاس.
والحجة على هذا: ما في حديث حمنة بنت جحش أنها لما استحيضت قال لها الرسول : ((تحيضي في علم اللّه تعالى كما تحيض النساء " ستاً أو سبعاً وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن))(1).
فردها الرسول إلى عادة النساء. وإذا تقرر ذلك في الحيض ثبت مثله في النفاس لأنهما سيان من جهة اللفظ والمعنى.
أما اللفظ فقد سماه الرسول نفاساً كما قررناه وأما من جهة المعنى فلأنه ترخية الرحم يوافق الحيض في أكثر أحكامه فلهذا كان حكمهما واحداً إلا أن يخالفه دليل شرعي يدل عليه وقد أشرنا إليه.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، وقد أشرنا إلى بطلان هذه الاحتمالات، وأن أكثرها تحكم لا دليل عليه، فإذا تقرر بما أشرنا إليه وجوب رجوعها إلى عادة نسائها فإن اتفقت العادات فالمأخوذ بواحدة منهن، وإن اختلفت عاداتهن فإنها تأخذ بأكثرهن عادة احتياطاً في حق العبادة من أجل مخامرة الأذى ومخالطته. وإن لم يكن هناك لها نساء أو كان لها نساء لكن جهلت عادتهن فالواجب الرجوع إلى أكثر النفاس وهو أربعون. فإذا رجعت إلى عادة النساء قضت ما زاد على عادتهن أو عادة أكثرهن؛ لأنها معذورة في ترك العبادات لأجل اتصال الدم وإنافته على الغاية، فأما ما زاد على الأربعين فهو استحاضة بكل حال فيجب عليها تأدية العبادات بعد الخروج من الأربعين واتصال الدم به. وإن ولدت امرأة متبدأة وكانت ذات جفاف فينظر في حالها فإن استمر بها الجفاف أقل الطهر وهو عشرة أيام كان ما بعده يكون حيضاً ويبطل حكم الأربعين لتوسط الطهر وكما عولنا على خبر حمنه في حق الاستحاضة والحيض فهو معولنا في حق المبتدأة واستحاضتها بالنفاس لأنهما مثلان في حق الإبتداء.
المستحاضة الثانية: المعتادة. وإذا جاوز دمها الأربعين فإنها ترد إلى عادتها التي قد تقررت مرتين كما ذكرناه في الحيض. وهل تقضي ما زاد على عادتها أو يكون الدم في الأربعين كله استحاضة؟ فيه وجهان:
__________
(1) تقدم.
أحدهما: أنها تقضي ما زاد على عادتها لأن رجوعها إلى عادتها هو الواجب مهما كان ممكناً في حقها كما أشار إليه % بقوله: ((لتنظر عدد الأيام والليالي " التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها ما أصابها)) وهذا هو القوي لدلالة الخبر عليه.
وثانيهما: أن الدم كله استحاضة؛ لأن الدم لما عبر على الأربعين دل ذلك على كونه استحاضة، إذ لا اختصاص لبعضه من بعضه بالنفاس، فلهذا كان الكل استحاضة، وهنا الوجهان حاصلان في حق المتبدأة لكن الأقوى في ذات العادة رجوعها إلى عادتها والزائد استحاضة، والأقوى في حق المبتدأة أن الكل يكون استحاضة. فأما الزائد على الأربعين فإنه يكون استحاضة بكل حال بخروجه عن حد النفاس والشأن كله والتردد إنما هو فيما دون الأربعين إذا كان متصلاً بما فوقها فإنه يقع فيه التردد والنظر كما قررناه.
دقيقة: اعلم أن التردد الذي أشرنا إليه من الرجوع إلى العادة في حق ذات العادة وأن الدم كله استحضاة في حق المبتدأة وإن كان محتملاً لخلافه كما أشرنا إليه، فإنما هو في حق الحيض فأما في النفاس فالقوي أن الدم كله استحاضة إذا كان مجاوزاً لحد الأربعين ومنيفاً عليها، والتفرقة بين الحيض والنفاس هو أن النفاس وجوده معلوم قطعاً ويقيناً لأنه يخرج عقيب الولد وهو نفاس لا محالة فلم يجز أن ينتقل عن النفاس إلى الاستحاضة إلا باليقين وهو مجاوزة الأربعين باتصال الدم، بخلاف الحيض فإنا لا نحكم بكونه حيضاً من جهة الظاهر لا بالقطع واليقين فجاز أن ينتقل عنه من غير قطع فافترقا. فهذا ما أردنا ذكره في النفاس المعتاد في المرأة إذا استحيضت فيه.
المستحاضة الثالثة: المميزة. فإذا ابتدأها دم النفاس وعبر على أربعين يوماً فيجري فيها ما يجري في الحائض. والأربعون يوماً بمنزلة العشر في الحيض والتمييز بين الدمين إنما يكون معتبراً إذا كان مجاوزاً للأربعين، وأما إذا كان دون الأربعين فكله نفاس لا محالة فإذا رأت النفاس عشرة أيام دماً أسود محتدماً قانياً، وعشرة أيام صفرة، وعشرة أيام غبرة. فالعشر الأولى كلها نفاس، وأما العشرون الثانية فكلها استحاضة إذا عبرت على الأربعين لأجل التمييز بين العشر الأولى والثانية والثالثة، واعتمدنا في التمييز بين الدمين على حديث فاطمة بنت أبي حبيش لما استحيضت حيضة شديدة فقال الرسول : ((إنها ليست حيضة إنما هو دم عرق " فإن دم الحيض أسود يعرف)). وأراد بكونه معروفاً إنما يكون في حق النساء لكثرة علاجه ومباشرتهن له.
ووجه آخر: وهو أن اعتمادنا على التمييز عند اتصال الاستحاضة أقوى وأخص من عودها إلى عادة نسائها لأن ما هذا حاله فهو أمارة قوية بين دم النفاس ودم الاستحاضة. وإن نفست المرأة بدم أحمر وتلاه الغبرة والصفرة فإن الأحمر نفاس والغبرة والصفرة استحاضة عند عبورها الأربعين من جهة أن الأحمر يقوم مقام الأسود عند عدمه فلهذا كان قائماً مقامه في التمييز بين الدمين، وإن اسودَّ الدم أو إحمرَّ أو كان غبرة أو صفرة في الأربعين فما دونها فكله نفاس لأنه في مدة إمكان النفاس فلا تغير عن حاله، وإن رأت المرأة عند نفاسها عشرة أيام دماً أحمر وعشرة أيام دماً أسود ثم اتصلت الاستحاضة بالأسود وعبر على الأربعين ففيه وجهان:
أحدهما: أن نفاسها من أول الأحمر لأن له قوة بالسبق على الأسود ولا حكم للأسود لاتصاله بالاستحاضة بالزيادة على الأربعين.
وثانيهما: أن الأسود يرفع حكم الأحمر، ومعنى قولنا: أنه يرفعه[أي] أنه يسقط حكمه ويكون ابتداء نفاسها من أول الأسود عشراً أو سبعاً أو خمساً، والباقي استحاضة والأول أصح؛ لأنه لا وجه لإسقاط الأحمر عن الاعتبار، وعلى هذا يكون الأحمر نفاساً والأسود وما بعده استحاضة. فهذا ما أردنا ذكره في المميزة بين الدمين وهي مشتملة على أسرار وتفاصيل، ومن أحاط بما ذكرناه هان عليه إدراك ذلك وتمييزه.
المستحاضة الرابعة: وهي المتحيرة التي لم يعرف لها عادة في النفاس لأجل النسيان، ولا عرفت عدد نفاسها وأطبق عليها دم النفاس فلا تعرف شيئاً من معانيه إلا ابتداء الولادة لا غير. فهذه تكون كالناسية لوقتها وعددها في الحيض. وقد قررنا فيها أصلين: إما بالرد إلى المبتدأة، وإما العمل على الطهارات في الصلاة والصوم وسائر العبادات والعمل على تحريم ما يحرم على الحائضات وتؤمر هذه النفساء بالأخذ بالإحتياط في الأمور السبعة التي أسلفنا ذكرها.
وقد تم غرضنا من باب الحيض وبتمامه يتم الكلام على أبواب الطهارة. ونشرع الآن في بيان أسرار الصلاة مستعينين بالله وهو خير معين.
---
كتاب الصلاة
اعلم أن الذي أسلفناه من كتاب الطهارات إنما هو وصلة إلى تأدية الصلاة وشرط في صحتها والكلام فيها يطول لإشتمالها على أسرار وتفاصيل، وهي أصل العبادات وقاعدتها، وهي أطول الكتب وأوسعها.
وقبل الخوض في مقاصدها وحصر مسائلها نذكر مقدمة تشتمل على مباحث خمسة مشتملة على: لفظ الصلاة، ومعناها، ووجوبها، وعلى من وجبت، وبيان فضلها والله الموفق .
---
المبحث الأول: في لفظ الصلاة واشتقاقه
اعلم أن لفظ الصلاة مقول على معان ثلاثة:
أولها: الدعاء، قال اللّه تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}[التوبة:103] أي: أدع لهم. وقال الشاعر:
عليكِ مثل الذي صليتِ فاعتمضي(1)
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ " }[الأحزاب: 56].
وثانيها: الرحمة من اللّه تعالى، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ " }[الأحزاب:56]. لأن التقدير: إن اللّه يصلي وملائكته يصلون.
وثالثها: بمعنى الاستغفار وهي صلاة الملائكة. فصار إطلاق لفظ الصلاة على هذه المعاني الثلاثة الدعاء والرحمة والاستغفار. وهل يكون إطلاقها عليها على جهة الإشتراك أو على جهة التواطؤ؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن إطلاقها عليهما إنما هو على جهة الإشتراك؛ لأن هذه المعاني مختلفة وكل لفظ أطلق على معانٍ مختلفة فهو مشترك كلفظ القرء ولفظ الشفق.
وثانيهما: أن يكون إطلاقه على جهة التواطؤ لأنه يجمعها جامع معنوي كإطلاق لفظ الإنسان والفرس، فإطلاق لفظ الإنسان على أفراد متعددة كزيد وعمرو وبكر وخالد تجمعها الإنسانية، وهكذا لفظ الفرس فإنه يطلق على أفراد متعددة يجمعها جامع الفرسيَّة. فالصلاة من اللّه تعالى ومن ملائكته ومن المؤمنين يجمعها جامع معنوي وهو الإهتمام بأمر الرسول ÷.
والمختار: هو الأول، من جهة أن هذه الأمور الثلاثة مختلفة في أنفسها لا يجمعها جامع معنوي على حال ولو سوغنا هذا الجامع المعنوي الذي ذكروه وهو الإهتمام بأمر الرسول فما يعجز عن تقدير أمر معنوي في الألفاظ المشتركة فيلزم ألا يوجد لفظ مشترك وهذا فاسد. فصح إفادته لهذه المعاني بالإشتراك وهو مطلوبنا.
__________
(1) تمامه كما في حاشية الأصل:
يوماً فإن لجنب الحي مضطجعا
قلنا: هذا البيت من قصيدة للأعشى، يزيد عدد أبياتها عن 70 بيتاً، مطلعها:
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا
واحتلت الغَمْرَ فالجُدَّين فالفرعا
---
المبحث الثاني: في بيان معنى الصلاة وحقيقتها بالشرع
اعلم أن لفظ الصلاة صار منقولاً بالشرع لإفادة معانٍ شرعية تخالف موضوعها اللغوي، ويوضح ما قلناه ويؤيده أن القائل إذا قال: فلان يصلي فلا يسبق إلى الفهم
الدعاء وإنما يفيد اشتغاله بأفعال مخصوصة شرعية تخالف الدعاء فصارت حقيقة في إفادة تلك المعاني الشرعية وحقيقة فيها لسبقها إلى الفهم عند الإطلاق، وصارت المعاني اللغوية مجازاً لا تفهم إلا بقرينة وهذه أمارة كون اللفظ مجازاً.
فإن قال قائل: إذا كان لفظ الصلاة منقولاً بالشرع لإفادة معانٍ شرعية فهل يفيد الدعاء أو يصير الدعاء غير مستفاد منه ويكون نسياً منسياً.
قلنا: المقصود أنه قد حصل تغيير المعنى اللغوي بإفادة معانٍ شرعية وسواء كان الدعاء مفهوماً منه أو غير مفهوم، بل نقول: لا يمتنع أن يكون مفهوماً مع تعبيرات من جهة الشرع قد صار اللفظ مفيداً لها عند الإطلاق وهو مطلوبنا. وهكذا القول في جميع الألفاظ الشرعية من الزكاة والحج والصوم لا تمتنع إفادتها لمعانيها اللغوية مع تحكمات من جهة الشرع بأمور مخصوصة، قد أعتبرها وشرطها. فإذا تمهدت هذه القاعدة من كونه منقولاً بالشرع لإفادة معان شرعية مختلفة.
فنقول: ما هذا حاله لا يجوز أن يُحَدَّ بحقيقة واحدة فلا يجوز أن يقال في تعريف ماهيتها: هي عبارة عن أقوال وأفعال وركوع وسجود مؤقتة بأوقات مخصوصة على كيفية مخصوصة؛ لأنا نجد كثيراً من الصلوات خالياً عما ذكرتموه مع كونها صلاة، ولهذا فإن صلاة الجنازة خالية عن الركوع والسجود وكلها صلاة فلما كان الأمر كما قلناه بطل إدخالها في ماهية واحدة.
نعم.. يمكن أن يقال في تعريفها على جهة التقريب: إنها عبادة مؤقتة مؤداة على حسب الحال وحكم الشرع.
فقولنا: عبادة، يخرج عنه ما ليس بعبادة كالبيع والإجارة وسائر عقود المعاوضات.
وقولنا: مؤقتة، يخرج منها ما ليس مؤقتاً من العبادات كالزكاة والحج.
وقولنا: مؤداة على حسب الحال، يدخل فيه جميع ما نقص منها لأجل العذر من قيام وقعود وسائر الأمور المعتبرة في حقها.
وقولنا: وحكم الشرع، يدخل فيه صلاة الجنازة فإنها مؤداة من غير ركوع وسجود لأجل حكم الشرع وأمره في ذلك.
---
المبحث الثالث: في بيان وجوبها
اعلم أنه لا خلاف بين أهل القبلة والمعترفين بأحكام الشريعة في وجوب خمس صلوات مكتوبات في اليوم والليلة، ووجوبها معلوم بالضرورة من دين صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه. فإنكار وجوبها يكون ردة وكفراً لما كانت معلومة بالضرورة من دينه، فمنكرها غير معترف بالنبوة لرده ما لا يمكن جحده، ولا يحكى الخلاف إلا عن ناس من الزنادقة وسفاسف الملاحدة وأهل الغلوِّ من الحشوية، فإنهم زعموا أبادهم اللّه وقطع دابرهم، أنها غير واجبة وأن الأمر إلى المصلي ما شاء أن يفعل فعل. وبعضهم قال: ليس الواجب إلا صلاتين صلاة بالليل وصلاة بالنهار إلى غير ذلك من الأقاويل المحرقة والمذاهب الردية.
والمعتمد في وجوبها: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[النور:56]. وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء:103]. وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ}[البينة:5].وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78]. وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ""يعني به صلاة المغرب وصلاة العشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ ""أراد به صلاة الفجر"" وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا""أراد به العصر"" وَحِينَ تُظْهِرُونَ}[الروم:17،18] أراد به الظهر، وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ }[هود:114]. وطرفا النهار هما الفجر والعصر، زلفاً من الليل يريد به العشاء والمغرب. وقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238].
وأما السنة: فما روي عن إبن عمر عن الرسول أنه قال: ((بني الإسلام على خمس، شهادة ألا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج إلى بيت اللّه الحرام من استطاع إليه سبيلا))(1).
وجاء رجل إلى الرسول ، يسأله عما فرض اللّه عليه فقال له: ((خمس صلوات في اليوم والليلة إلا أن تطوع )) (2).
وفي حديث ضمام بن ثعلبه " (3)
__________
(1) هذا من مشاهير الأحاديث المتواترة من عدة طرق، فقد جاء بأسانيد متقاربة في صحاح مسلم والبخاري وابن حبان وابن خزيمة، وفي سنن الترمذي والبيهقي والنسائي، ومسند أحمد وغيره.
(2) الحديث بكماله أخرجه الستة إلا الترمذي، وفي هذا المعنى احاديث أخر، ا ه(جواهر 1/148).
(3) ضمام بن ثعلبة السعدي، قال في (الاستيعاب) 2/751: ويقال: التميمي، قدم على النبي بعثه بنو سعد بن بكر وافداً، قيل: في سنة خمس، وقيل: سبع، وقيل: تسع، ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة. فسأله عن الإسلام ثم رجع إلى قومه فأسلموا، روى قصته عدد من الصحابة. قال: ومن أكملها حديث ابن عباس وهي أنه لما قدم على النبي وهو جالس في أصحابه في المسجد فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله : ((أنا ابن عبد المطلب))، قال: محمد؟ قال: ((نعم))، قال: يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك. قال : ((لا اجد في نفسي سل عما بدالك)) قال: فأنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك [آلله أمرك] أن تصلي هذه الصلاة الخمس؟ قال: ((اللهم نعم)) قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة ويرد عليه رسول الله، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وسأُؤدي هذه الفرائض واجتنب ما نهيتني عنه لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف، فقال رسول الله : ((إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة)) وكان ضمام رجلاً جعد الشعر، انتهى بتصرف.
أنه سأل الرسول عن فرائض الإسلام وعددها، حتى قال له: آللّه أمرك أن تصلي هذه الصلوات الخمس فقال له الرسول: ((نعم))(1).
وقال الرسول يوماً لأصحابه: ((أنتم رعاة الشمس والقمر )) فمراعاة الشمس لمعرفة أوقات الصلاة ومراعاة القمر للصيام والفرائض والنوافل. وفي حديث: ((إن للّه عباداً يراعون حركة الشمس لذكر الله )). وما ورى عبادة بن الصامت (2)
أن الرسول قال: ((افترض اللّه على عباده خمس صلوات فمن جاء بهن وأحسن وضوءهن وأتم ركوعهن وخضوعهن وخشوعهن كان عهداً عند اللّه أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن وضيع حقوقهن لم يكن له عندالله عهد فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له))(3).
__________
(1) أخرجه الستة إلا الموطأ، ا ه(جواهر 1/148)، وفيه زيادة في أوله: ((أنشدك الله))، وفي آخره: ((اللهم نعم)).
(2) أبو الوليد عبادة بن الصامت الأنصاري رضي الله عنه، من أصحاب رسول الله المشاهير في الصحبة، ورواية الحديث، روى عن النبي ، وهو بدري أحد نقباء الأنصار. وروى عنه: أنس بن مالك وأبو أمامة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وغيرهم كما في (الجرح والتعديل) 6/95، وفي (مشاهير علماء الأمصار): أنه توفي سنة 34هوهو ابن 82 سنة، وفي (تهذيب التهذيب) 5/97: أحد النقباء ليلة العقبة، شهد بدراً فما بعدها، وفي ((تقريب التهذيب)1/292: أحد النقباء بدري مشهور، مات بالرملة سنة 34ه، وله اثنتان وسبعون، وقيل غير ذلك.
(3) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، وقال فيه: ((ومن جاء بهن قد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن...إلخ)) وأخرجه مالك في الموطأ وابن حبان في صحيحه وابن السكن.
…قال ابن عبد البر: هو صحيح ثابت، ا ه(فتح الغفار) ج1 ص 104. جاء هنا عن عبادة أيضاً ولكن بلفظ: ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن...إلخ)).
وروى أبو هريرة أن رسول اللّه قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر )) (1).
وروى ابن هشام في سيرته في حديث المعراج أن الرسول لما عرج به إلى السموات وكان ابتداء فرض الصلوات هنالك، فقال الرسول : ((فرض اللّه على أمتي خمسين صلاة فلما لقيت موسى بن عمران فقال: ما فعل معك ربك فقال: فرض اللّه على أمتي خمسين صلاة. فقال: إرجع فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق على ذلك، فراجعه فنقص خمساً وفي رواية أخرى فنقص شطرها فما زلت أتردد بين ربي وبين موسى حتى جعلها خمس صلوات. فقال: موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق على ذلك. فقلت: أستحي، فإذا النداء من عندالله: ((ألا إني قد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي وجعلت الحسنة بعشرة أمثالها، هي خمس وهنَّ خمسون {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[ق:29])).
وأما الإجماع: فمنعقد من جهة الأمة قولاً وفعلاً على وجوب هذه الصلوات الخمس من الصدر الأول إلى يومنا هذا، لا مخالف لهم في ذلك إلا من جهة من حكيناه من الملاحدة، وخلافهم لا يعول عليه وهو مردود لأنهم غير معدودين من الأمة لكفرهم وردتهم.
فإذا تقررت هذه القاعدة من وجوبها بهذه الأدلة التي أوردناها، فاعلم أن أول ما فرض اللّه تعالى من الصلوات قيام الليل أو نصفه أو دونه لقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّل ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزمل:1""4]. ثم نسخ ذلك وخففه الله تعالى بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }[المزمل:20].
__________
(1) أخرجه مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجة، بلفظه وبلفظ: ((الصلاة إلىالصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر)).
قال ابن عباس: كان بين أول السورة وآخرها سنة، وقيل: نسخ بالصلوات الخمس، وقيل: نسخ بقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[الإسراء:78]. ثم أول ما فرض اللّه من هذه الصلوات الخمس صلاة الظهر، لحديث جابر: (( صلى بي جبريل [الظهر] عند باب البيت حين زالت الشمس ثم صلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله)) كما سنقرره في باب المواقيت بمعونة اللّه تعالى.
---
المبحث الرابع: في بيان من وجبت عليه الصلاة
واعلم أن الصلاة إنما تجب على من كان مسلماً بالغاً عاقلاً طاهراً، فنذكر كل ما يتوجه في كل واحد من هذه، ونذكر حكم تاركها بعد وجوبها عليه، فهذه مراتب خمس نفصلها بمعونة اللّه تعالى:
---
المرتبة الأولى: في اشتراط الإسلام في وجوبها
ولا بد من تقدم الإسلام لتكون الصلاة صحيحة من جهته، فأما الكافر إذا كان أصلياً فلا خلاف في كونه مكلفاً بتأدية المسائل الإلهية والأحكام العقلية نحو العلم بالله تعالى وصفاته، ومعرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز، والعلم بالحكمة والعلم بالنبوءة، إلى غير ذلك من أمور الديانة لأن مستندها إنما هو العقل لا غير. والكفار فعقولهم حاصلة فلهذا كلفوا بما ذكرناه، وهل يكون الكفار مخاطبين بالأحكام الشرعية نحو الصلاة والزكاة والحج والصوم؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنهم مخاطبون بهذه الشرائع ومعاقبون على تركها في الآخرة إذا ماتوا على الكفر، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدثر:42-45]. ونحو قوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}[فصلت:6،7].
المذهب الثاني: أنهم غير مخاطبين بهذه الأعمال الشرعية ولا يأثمون بتركها ولا يعاقبون على تركها وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن فعلها لا يصح منهم قبل الإسلام ولو كانت واجبة عليهم لوجب عليهم قضاؤها(1).
المذهب الثالث: أنهم مخاطبون بترك المنهيات نحو ترك الزنا والقتل وسائر المناهي وغير مخاطبين بالمأمورات نحو الصلاة والصيام والحج.
والحجة على هذا: هو أن المقصود من المنهيات إنما هو الترك والإنكفاف عن فعلها، وهذا يمكن تأتِّيه من الكفار، بخلاف المأمورات فإنها عبادات يقصد بها وجه المعبود، وما هذا حاله فلا يعقل من كافر بل لا بد من تقدمة الإسلام ليمكن أن يقصد بها وجه اللّه تعالى.
__________
(1) إذا أسلموا.
والمختار: أنهم معاقبون على ترك هذه الأعمال كما يعاقبون على ترك الإسلام الذي هو شرط في صحتها، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه، أن الواحد منا يعاقب على ترك رد الوديعة مع المطالبة كما يأثم ويعاقب على ترك السير لرد الوديعة لأنه وصلة إليها فكذلك هاهنا.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا: إنه لا يصح منهم فعلها مع الكفر فكيف يقال بأنهم يعاقبون على تركها.
قلنا: كما يعاقبون على ترك الإسلام فهم يعاقبون على تركها أيضاً لما كانت واجبة عليهم بشرط تقدم الإسلام، وأما من زعم الفرق بين المأمورات والمنهيات فهو فاسد أيضاً؛ لأنها كلها أمور شرعية لا يمكن معرفة قبح تركها وفعلها إلا بتقدم الإسلام فلا وجه للتفرقة بينهما.
وإن أسلم الكافر الأصلي لم يتوجه عليه قضاء ما تركه من الصلوات في حال الكفر سواء قلنا إنه مخاطب بفعلها أو غير مخاطب، لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ }[الأنفال:38]. وقوله : ((الإسلام يجب ما قبله))(1)
ولا خلاف في هذا، ومن جهة أن إيجاب القضاء على الكفار فيه تنفير عن الإسلام.
وأما الكافر المرتد فإنه مخاطب بهذه العبادات من الصلاة والصيام لأنه قد التزم الإسلام ولا يصح منه فعلها في حال الردة من جهة أن الردة، تنافي الإسلام فإذا أسلم المرتد فهل يجب عليه قضاء ما فاته في حال الردة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يلزمه القضاء، وهذا هو مذهب الهادي وارتضاه السيدان الأخوان، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
__________
(1) أورده في (مجمع الزوائد) ج1 ص31 وج9 ص351، وفي (فتح الغفار): وهو لمسلم من حديث بلفظ: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وان الحج يهدم ما كان قبله)) ا هج1 ص106.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ }[الأنفال:38] وهذا عام في جميع الكفار. وهذا يقتضي أنه بعد الإنتهاء لا تبعة عليه فلو أوجبنا عليه القضاء لكان بمجرد إنتهائه عن الكفر غير مغفور له لأنه يكون مستحقاً للعقوبة بترك القضاء، والظاهر يمنع منه.
المذهب الثاني: أنه يتوجه عليه القضاء وهذا هو المحكي عن الشافعي.
والحجة على ما قالوه: هو أنه قد التزم العبادة بالإسلام فيجب أن لا يسقط عنه بالردة، دليله حقوق الآدميين ولأنه تركها بعد التزام وجوبها فصار كالمسلم.
والمختار: ما قاله السيدان الأخوان تحصيلاً للمذهب. ويدل عليه ما قررناه ونزيد هاهنا وهو قوله لعمرو بن العاص: ((الإسلام يجب ما قبله ))، وهذا يقتضي أن الإسلام قاطع لما قبله من التبعات إلا لدلالة قائمة على خلافه، ولأنه أرتكب معصية توجب إحباط العمل على وجه الجحود فوجب ألا يلزمه القضاء كالكافر الأصلي، ولأنه ترك الصلاة في حال الكفر فوجب ألا يتوجه عليه قضاؤها كالحربي، ولأنه بالردة قد حبطت جميع أعماله لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }[الزمر:65]. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ }[المائدة:5]. فوجب أن لا يتوجه عليه القضاء كسائر الكفار من أهل الشرك.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا:إنه قد التزم العبادةفيجب أن لا تسقط عنه بالردة كحقوق الآدميين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً:فلأن المعنى في الأصل:كونه حقاً لآدمي،والعبادة حق لله تعالى.
وأما ثانياً: فلأن اللّه تعالى أغنى الأغنياء عن كل حق يجب له، والخلق فهم فقراء إلى حقوقهم. فلا جرم كان حق الآدميين آكد من حق اللّه لما ذكرناه، ولهذا سقط حق اللّه لأجل إحباطه بالكفر دون حق الآدمي كالدين والوصية.
قالوا: ولأنه تركها بعد التزامها فصار كالمسلم.
قلنا: المعنى في الأصل أنه لم يعرض ما يسقط العبادة في حقه فلهذا وجب عليه قضاؤها بخلاف المرتد فإنه عرض في حقه ما يبطل العبادة وهي الردة فافترقا.
---
المرتبة الثانية: الصبا
ووجوب الصلاة إنما يتعلق بالبلوغ بأحد الأمارات إما بالاحتلام أو الإنبات أو بلوغ خمس عشرة سنة، فأما قبل ذلك فهل تجب عليه الصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها غير واجبة، وهذا هو رأي أئمة العترة لا يختلفون فيه، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والقول الصحيح للشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق))(1).
المذهب الثاني: أن الصلاة واجبة على الصبي وإن لم يبلغ بأحد تلك العلامات الثلاث. وهذا هو المحكي عن أحمد بن حنبل، وحكي عن الطبري أنه وجده في بعض كتب الشافعي، وأنكره أكثر أصحابه.
والحجة له على ما قاله: قوله : ((مروهم وهم أبناء سبع واضربوهم وهم أبناء عشر))(2).
فظاهر الأمر للوجوب.
والمختار: ما عليه الأكثر من الأئمة والفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه. ونزيد هاهنا وهو أن الصبا فيه نقصان العقل فلم يجز أن يخاطب الصبي بالصلاة كالمجنون.
الانتصار: يكون بإبطال ما قالوه. وما أوردوه من الخبر فإنه محمول على الاستحباب.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: إذا صلى الصبي في حال صباه فهل تكون صلاته شرعية أو غير شرعية؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن صلاته ليست شرعية، وهذا هو المحكي عن أئمة العترة وهو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
__________
(1) جاء في فتح الغفار ج1 ص105 عن عائشة عن النبي قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)) رواه أحمد والنسائي وأبو داؤد وابن ماجة وابن حبان والحاكم، وقال: على شرط مسلم، وأخرجه أبو داؤد والترمذي من حديث علي ، وقال: حديث حسن...إلخ. اه.
(2) تقدم، رواه أحمد وأبو داؤد والحاكم والترمذي وابن خزيمة بألفاظ متقاربة، ا ه.
والحجة على ذلك: هو أن الصلاة الشرعية إنما تكون شرعية إذا تناولها الخطاب، ولا شك أن الخطاب غير متناول للصبي في حال صباه لأنه غير كامل العقل فأشبه المجنون فلهذا قضينا بأن صلاته غير شرعية.
المذهب الثاني: أنها شرعية، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة له على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((مروهم وهم أبناء سبع واضربوهم وهم أبناء عشر)). فلولا أنها صلاة شرعية في حقهم وأن ما فعلوه عبادة وإلا لما أمر بضربهم، ولأنها عبادة يرجع إلى شرطها العذر فجاز أن يتعبد بها في حال الصغر كالطهارة.
والمختار: ما قاله الأئمة ومن وافقهم من الفقهاء، ويدل عليه ما رويناه من الخبر، ونزيد هاهنا وهو أنها لو كانت شرعية لاستحق عليها ثواباً ولكان مستحقاً للعقاب على تركها، ولو مات في حال صغره من غير صلاة لكان مستحقاً للعقاب. والإجماع على خلاف ذلك.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة.
قالوا: لولا أنها شرعية لما أمر بها وأمر بالضرب عليها.
قلنا: إنه لم يأمرهم بها وإنما أمر الأولياء على جهة التمرين والإرهاص بفعلها ليخف عليهم الإتيان بها عند البلوغ.
قالوا: ولأنها عبادة ترجع إلى شرطها في حال العذر كالطهارة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن الطهارة تصح منه لأن الطهارة عبادة فلا تصح منه لافتقارها إلى النية وليس الصبي من أهل النية.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل أنها وصلة وليست مقصودة كالصلاة ويغتفر في الشروط ما لا يغتفر في الأمور المعتمدة.
الفرع الثاني: إسلام الصبي هل يكون صحيحاً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: إسلامه غير صحيح، وهذا هو الذي يأتي على رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما رويناه من الخبر: ((رفع القلم عن ثلاثة )). وقد قدمناه فلا وجه لتكريره.
المذهب الثاني: أن إسلامه صحيح، وهذا هو رأي السيد أبي العباس، وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه مأمور بالعبادات من الصلاة والصوم والحج وأن يكون إماماً للجماعة والجمعة وهذه لا يصح شيء منها إلا مع سبق الإسلام منه فلهذا قضينا بكونه مسلماً.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إليه، وهو أن الشرع قد دل على أنه غير مأخوذ بفعل شيء من العبادات كالصلاة والصيام والحج لكونه غير مكلف بها حتى يبلغ بأحد تلك الأمارات الثلاث، فإذا بلغ واحدة منها فإنه يؤخذ بجميع العبادات كلها. فأما من جهة الدين فلا يمتنع من جهة الدين والعقل(1)
أن يكون هاهنا صبي له كياسة وفطنة وجودة في الذكاء يكون عمره ثماني أو تسعاً أو عشراً من السنين يكمل اللّه له عقله فينظر في ذات اللّه تعالى وصفاته وحكمته وتصديق الرسول في كل ما جاء به، فما هذا حاله غير مانع من وجوده.
فإن نظر وحصلت له هذه المعارف الدينية كان مؤمناً عند اللّه تعالى، وإن أعرض عن النظر وتركه كان كافراً عند اللّه تعالى، فأما الأمور الشرعية والعبادات البدنية فلا نؤاخذه بتركها لأن الشرع قد عذره عن تأديتها إذ من المستبعد أن يكون كمال عقله عند بروز الفطنة أو بلوغ خمس عشرة أو إنبات الشعر.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا: هو مأمور بالعبادات كما قررناه من قبل.
قلنا: إن كان الغرض الحكم بإسلامه عند الله لما كمل عقله في الصورة التي ذكرناها فهذا جيد لا غبار عليه، وإن كان غرضكم أنه مكلف بالأمور الشرعية ولم يبلغ أحد هذه الحالات التي هي أمارة في بلوغه فلا نسلم ذلك، فإن الشرع قد منع من تكليفه كما شرحناه.
الفرع الثالث: وإذا صلى الصبي في أول الوقت ثم بلغ في آخره فهل يلزمه الإعادة لما صلى أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الإعادة لازمة له وهذا هو رأي أئمة العترة وهو قول أبي حنيفة.
__________
(1) يبدوا أن في العبارة تكرار، والقصد أن الصبي لا يمتنع من جهة العقل أن يكون كيساً فطناً ...إلخ.
والحجة على ذلك:هو أنا قد قررنا أن العبادات لا تصح من جهة الصبي إلا بعد بلوغه فإذا أدَّاها قبل بلوغه لم تكن واجبة(1)
فلهذا توجهت عليه الإعادة مع بقاء الوقت وسيأتي لهذا مزيد تقرير في الأعذار إذا زالت، وهذا هو أحد قولي الشافعي.
المذهب الثاني: أنه لا إعادة عليه وهذا هو المحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن صلاته صحيحة وقد أدركه الوجوب وهو فيها فلهذا لزمه إتمامها كمن دخل في صوم تطوعاً ثم نذر إتمامه، وحكي عن الشافعي أنه قال: تستحب له الإعادة، واستحاب الإعادة دال من كلامه على أن عدم الإعادة معلوم لا محالة.
والمختار: ما قاله أئمة العترة ومن وافقهم.
والحجة على هذا: هو أن العبادات وجوبها ساقط عن الصبي فإذا فعل الصلاة قبل بلوغه لم يكن مؤدياً لها بنية الوجوب فلهذا توجهت الإعادة عليه.
الانتصار: قالوا: صلاته صحيحة.
قلنا: قد قررنا فيما سبق أن الصبي غير مخاطب بالعبادات، وأوضحنا الدلالة عليه من قبل.
الفرع الرابع: قد قررنا من قبل أن تأديتها من جهته غير صحيحة وهل تصح عقوده في المعاوضات من البيع والإجارة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن عقوده صحيحة بإذن وليه وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة، فأما من غير إذن وليه فلا يجوز.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ }[البقرة:275] ولم يفصل بين صغير وكبير، وقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }[النساء:29]. وهذا صادر على جهة التراضي فيجب القضاء بجوازه.
المذهب الثاني: أن عقوده غير جائزة، سواء كانت صادرة عن إذن وليه أو من غير إذنه، وهذا هو قول الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه غير كامل العقل فأشبه المجنون، أو نقول شخص لا تصح منه العبادات فلا تصح عقوده كالمجنون.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن وافقهم.
__________
(1) أي: صحيحة.
والحجة لهم: ما أوردناه، ونزيد هاهنا وهو قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النساء:6] والآية فيها دلالة على ما قلناه من وجهين:
أحدهما: أن الإبتلاء هو الإمتحان والإختبار وهما مترتبان على البيع والشراء ومتوقفان عليه فلا يحصلان إلا بعد حصولهما.
وثانيهما: أنهما علامتان للإبتلاء والإختبار، ليعرف حاله في الرشد. فإذاً الآية دالة على ما قلناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا: هو غير كامل العقل فأشبه المجنون.
قلنا: نقصان العقل في المجنون إنما هو فساد وتغير، وزوال العقل في الصغير ليس فساداً وإنما نقصان فيكمل تصرفه بإذن الولي.
قالوا: شخص لا تصح عباداته فلا تصح عقوده.
قلنا: المقصود من العقود إنما هي المعاوضات وليس المحذور منها إلا الغبن وهذا يرتفع بإذن الولي، بخلاف العبادات فإن المقصود منها القربة والصبي ليس من أهل القربة فافترقا، فلا يلزم من بطلان عباداته بطلان عقوده.
الفرع الخامس: ينبغي لولي الصبي أن يأمره بفعل الطهارة والصلاة إذا صار ابن سبع وكان مميزاً ويضربه على ترك ذلك إذا كان ابن عشر، لما روي عن الرسول أنه قال: ((مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع))(1).
والخطاب بالأمر بالصلاة والضرب عليها إنما هو للآباء ويجب عليهم ذلك لظاهر الأمر ويأثمون بتركه كما يأثمون بترك المنع لهم عن شرب المسكر وسائر المنكرات، والأمر لهم بالطهارة والصلاة إنما هو على جهة التعويد والتمرين، حتى إذا بلغوا خف عليهم ذلك، وليس المقصود أن تأدية الصلاة منهم على جهة النفل إذاً لكانوا مثابين عليها وهو ممنوع، و إنما الغرض ما ذكرناه.
__________
(1) تقدم.
---
المرتبة الثالثة: العقل
فإنه يشترط في صحة تأدية الصلاة، فمن زال عقله بجنون أو إغماء أو شرب دواء يزيل العقل، فإن الصلاة غير واجبة عليه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: أن كل من زال عقله بالجنون لم يجب عليه فعل الصلاة لقوله :((وعن المجنون حتى يفيق)) فإن كان الجنون مستولياً على فساد [العقل] وتغييره سقط عنه وجوب الصلاة في كل الأحوال؛ لأن من هذه حاله فلا يرجى في حقه زوال ولا إقلاع، وإن كان يصرع أحياناً ويفيق أحياناً لم يسقط عنه فرض الصلاة عند إفاقته، لأن الجنون مرض فكما جاز في حق المريض أن تعتريه القوة والضعف، فهكذا في حق المجنون يعتريه الصرع والإفاقة.
الفرع الثاني: ومن زال عقله بشرب داوء ولم يكن الغالب منه ذهاب العقل ثم زال عقله فإنه لا يجب عليه فرض الصلاة لأنه زال عقله بسبب مباح فهو كما لو زال بالجنون، وإن تناول دواء فيه سم نظرت، فإن كان الغالب فيه أن يسلم منه جاز له تناوله، و إن لم يكن الغالب من حاله السلامة فإنه يحرم عليه تناوله. وأقل زوال العقل أن يزول أحياناً ويثوب أحياناً، وأكثره ما كان مستولياً على إفساد العقل وتغيره.
الفرع الثالث: وإن شرب مسكراً أو دواء لا حاجة له إليه فزال عقله، فإن فرض الصلاة بالخطاب متوجه عليه لأنه مفرط فيما فعل لكن لا يصح منه فعل الصلاة لأنه لا يمكنه فعلها في حال سكره لقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}[النساء: 43]. فإذا أفاق لزمه قضاء ما فاته في حال السكر لأنه غير معذور بزوال عقله، وأقل السكر أن يغلب عليه الخمر فيذهب عنه بعض ما كان لا يذهب عنه في حال صحوه. وأكثر السكر أن يصير متخبطاً ثرثاراً وقحاً، لا يفهم أكثر أحواله. وسيأتي لهذا مزيد تقرير في طلاق السكران.
الفرع الرابع: ومن سكر ثم جُنَّ في حال سكره ثم أفاق وجب عليه قضاء ما فاته في حال السكر، وإن سكرت المرأة ثم حاضت ثم طهرت فإنه لا يجب عليها قضاء ما فاتها في حال حيضها. والتفرقة بينهما ظاهرة فإن سقوط الصلاة عن المجنون إنما كان من أجل التخفيف. والسكران ليس من أهل التخفيف بخلاف الحائض فإن سقوط الصلاة عنها عزيمة واجبة، والسكران من أهل العزائم فافترقا. وكم العدد الذي يجب قضاؤه على المجنون في حال سكره من الصلوات إذا أفاق، فيه وجهان:
أحدهما: قدر ما يدوم به السكر ويستمر به لأنه السابق.
وثانيهما: ما فاته في حال جنونه لأن الجنون مرض وتغير وفساد في العقل ربما زال وربما استمر بخلاف السكر فإنما هو تغطية العقل وعن قريب يزول، فلهذا كان القضاء قدر جنونه لكونه مرضا، والمريض من أهل العزائم والوجوب. والأول هو الوجه.
الفرع الخامس: اعلم أن العقل ملاك التكليف ومستند الأحكام العقلية من الحسن والقبح والوجوب وغيرها من الأحكام، وهو أصل التكرمة التي خص اللّه بها بني آدم حيث قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء: 70] وبه يستحق الثواب والعقاب من جهة اللّه تعالى، وفي زواله وتغيره بطلان التكاليف. لكن زواله يختلف فتارة يكون بفساد وتغير من غير مرض كالجنون، وتارة يكون بمرض كالإغماء، وتارة يكون بالتغطية والستر كما في الخمر فإنه يطفح على العقل ويغطيه، ومرة يكون بعدم تحديد علومه كما نقوله في النوم، فإن الإنسان إذا نام ذهبت عنه علوم العقل بترك تحديد اللّه تعالى لها، فإذا انتبه عاد تحديدها فصار عاقلاً، وإذا أفاق المجنون المغمى عليه أو من زال عقله لم يجب عليهم قضاء ما فاتهم من الصلوات في حال زوال العقل.
وحكي عن أبي حنيفة أنه إ ذا أغمي عليه يوماً وليلة وجب عليه قضاؤها، وسيأتي تفصيل الخلاف في قضاء الفوائت بمعونة اللّه تعالى.
---
المرتبة الرابعة: الطهارة
ولابد من اشتراطها في وجوب الصلاة فلا تجب الصلاة على الحائض والنفساء لعدم الطهارة كما مر بيانه في باب الحيض والنفاس، وحدثهما يخالف حدث الجنب، وإن كان الغسل واجباً على الكل لكن حدث الجنب يزول بالاغتسال وحدثهما إنما يزول بالطهر لميقاته، ولا يذهب بالغسل قبل إنقضائه. فهذه الأمور الأربعة كلها شرط في وجوب الصلاة.
---
المرتبة الخامسة: في بيان حكم تاركها
واعلم أن من وجبت عليه الصلاة فلم يصل حتى خرج وقتها فإنه يُسأل عن تركها فيقال له: لم تركتها؟ فإن قال: لأني أعتقد بأنها غير واجبة عليَّ فإنه ينظر في حاله، فإن كان ناشئاً في بلد نائية عن المسلمين بعيدة عن الإختلاط بهم أو أسلم ولم يختلط بأهل الإسلام، فإنه يُقال[له]: إنها واجبة عليك فيجب عليك أداؤها، وإن كان ممن تقدم إسلامه وهو مخالط للمسلمين حكم بكفره لا محالة؛ لأن وجوبها معلوم ضرورة من دين صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه، فالمنكر لوجوبها يكون ردَّة ورجوعاً عن الإسلام شكاً في الدين، ويجب قتله لقوله : ((من بدل دينه فاقتلوه ))(1)،
والمرتد مبدل لأنه غير معترف بالوجوب، ويتولى قتله الإمام لأنه أعظم الحدود وهي مفوضة إليه، ويجب استتابته ثلاثة أيام لما روى زيد بن علي، عن علي أنه قال: يستتاب المرتد ثلاثة أيام. ولا يدفن في مقابر المسلمين لكونه كافراً بالردة، ولمن يكون ماله هل يكون فيئاً لبيت المال، أو يكون لورثته؟ فيه تردد نذكره في الحدود بمعونة اللّه. وإن قال التارك للصلاة: نسيتها، قيل له: فاقضها؛ لأن قضاءها واجب؛ لقوله :((من نام عن صلاته أو نسيها فوقتها حين يذكرها ))(2)
__________
(1) هذا من الأحاديث المشهورة، رواه البخاري في صحيحه، وابن حبان والترمذي والبيهقي والدار قطني، وابن ماجة وأحمد وغيرهم كثير.
(2) هذا الحديث مروي من طرق وبألفاظ شتَّى منها: ما جاء عن أنس بن مالك عن النبي قال: ((من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)) متفق عليه، ولمسلم: ((إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول: {أقم الصلاة لذكري} ا ه، (فتح الغفار) ج1 ص 245، وفيه روايات للنسائي والترمذي وأبي داؤد وغيرهم عن أبي هريرة وأبي قتادة وغيرهما.
فإن قال: لا أستطيع، قيل له: صل كيف ما استطعت لقوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ماستطعتم ))(1)
وهل يكون قضاءها على الفور أو على التراخي؟ فيه تردد نذكره في قضاء الفوائت.
وإن قال: أنا أعتقد وجوبها ولكني لا أصلي تكاسلاً وتمرداً عن أدائها وميلاً إلى الراحة والدَّعة، فهل يحكم بكفره أم لا؟ وإذا لم يحكم بكفره فهل يقتل أم لا؟ وإذا لم يقتل فهل يحكم بفسقه أم لا؟ فهذه مسائل ثلاث نذكر ما يتعلق بكل واحدة منها بمشيئة اللّه تعالى.
المسألة الأولى: هل يحكم بكفره أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن تارك الصلاة ليس كافراً، ولا يحكم عليه بالكفر. وهذا هو رأي أئمة العترة وجماهير المعتزلة البغدادية والبصرية، ومحكي عن جلَّة الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه وهو رأي مالك.
والحجة على هذا: هو أن إطلاق إسم الكفر والحكم عليه بالكفر لا بد فيه من دلالة شرعية لأنه لا مستند للإكفار إلا من جهة الشرع لأن العقل لا مجال له في الإكفار بحالٍ ولا دلالة من جهة الكتاب ولا من جهة السنة المتواترة على إكفار الفاسق فيجب القضاء بفساده.
المذهب الثاني: أنه محكوم عليه بالكفر وهذا هو رأي الخوارج، ومحكي عن أحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب الحديث.
والحجة على هذا قوله : ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ))(2)
وفي حديث آخر: ((تارك الصلاة ثلاثة أيام لا حظ له في الإسلام ))(3).
__________
(1) أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)). جواهر 1/39.
(2) أخرجه أبو داؤد والترمذي من رواية جابر، وللترمذي في رواية أخرى: ((بين الكفر والإيمان ترك الصلاة)) وفي رواية مسلم عن جابر: ((بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة)) ا هجواهر 1/151.
(3) سبق بمعناه في روايات الحديث السابق.
والمختار: ما عليه أئمة العترة ومن وافقهم من علماء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا، وهو قوله : ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده وروسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان والحج إلى بيت اللّه))(1)
ولا شك أن الفاسق قائل بهذه الأمور كلها فيجب القضاء بإسلامه، وإذا كان مسلماً بطل إكفاره.
الانتصار لما ذكرناه: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا: قد صرح الرسول بإكفار تارك الصلاة فيما رويناه من الحديث.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن الخبرين محمولان على أنه إنما تركها استحلالاً لتركها، وما هذا حاله فلا مقال في كفره وردته، كما أوضحناه من قبل.
وأما ثانياً: فلأن هذين الخبرين من أخبار الآحاد وهما لا يرشدان إلا إلى الظن، والإكفار فإنما طريقه القطع بالأدلة الشرعية دون الأمور المظنونة.
المسألة الثانية: إذا بطل إكفار تارك الصلاة بما ذكرناه، فهل يجب قتله أم لا إذا لم يتب؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير مستحق للقتل بترك الصلاة، وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن الثوري وأبي حنيفة وأصحابه، والمزني من أصحاب الشافعي.
الانتصار: والحجة على هذا: قوله : ((لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق))(2).
وقتل تارك الصلاة ليس بواحد من هذه، فيجب القضاء ببطلانه.
المختار: المذهب الثاني: أنه يقتل، وهذا هو المحكي عن الهادي وأولاده، وهو رأي الشافعي، ولهم على هذا حجج.
__________
(1) تقدم في أول الباب.
(2) أخرجه الترمذي النسائي، وفي تخريج أحاديث البحر: وعن ابن مسعود أن رسول الله قال: ((لا يحل دم امرءٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) أخرجه الستة إلا الموطأ، ونحوه عن عائشة، أخرجه أبو داؤد والنسائي. ا هج1 ص 151.
الحجة الأولى: قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ }[التوبة: 5].
ووجه الحجة من هذه الآية: هو أن اللّه تعالى أمر بالكف عن قتلهم بالتزام التوبة وإقامة الصلاة فمن قال: إنه إذا تاب ولم يقم الصلاة سقط عنه القتل فقد ترك أحد الشرطين المذكورين في القرآن.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال: ((من ترك الصلاة فقد برئت منه الذمة ))(1)
وفي هذا دلالة على إباحة دمه.
وروي عن النبي أنه قال: ((نهيت عن قتل المصلين ))(2)
فدل مفهومه على أنه لم ينه عن قتل غير المصلين.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أن الصلاة عبادة محضة تجب لا بقوله، لا تدخلها النيابة ببدل ولا مال فوجب أن يقتل تاركها كالشهادتين.
فقولنا: عبادة محضه. نحترز بها عن العدة، فإن تركها لا يوجب القتل لما كانت غير محضة، ولهذا فإنها لا تفتقر إلى النية.
وقولنا: تجب لا بقوله. نحترز به عن الصلاة المنذورة.
وقولنا: لا تدخلها النيابة ببدل، نحترز به عن الحج، فإنها تجوز فيه النيابة ببدل المال في الإجارة عنه.
__________
(1) أورده في المعجم الكبير ج20 ص 117 وأورده ابن بهران في الجواهر1/151، وعقب عليه بجملة: حكاه في الانتصار..
(2) رواه عدد من الرواة، وورد بشيء من الاختلاف في لفظه، في كثير من الصحاح والسنن والمسندات، ومنها: مجمع الزوائد 1/296، 6/227، وسنن البيهقي 8/224، وسنن أبي داؤد 4/282، وجاء في الصحاح ما رواه أبو هريرة في قصة الحديث، أن النبي أُتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحنا. فقال النبي : ((ما بال هذا؟)) فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع، فقالوا: يا رسول الله ألا تقتله؟ فقال: ((إني نُهيت عن قتل المصلين)).
قال أبو أسامة: والنقيع: ناحية عن المدينة وليس بالبقيع، وجاءت بنون مفتوحة فقاف فيا مثناة تحتية فغين مهملة، ا ه.
وقولنا: ولا بمال: نحترز به عن الزكاة، فإنها تؤخذ من مالكها كرهاً، ونحترز به من الصوم أيضاً، فإن الشيخ الهِمَّ إذا عجز عنه أفطر وفدى. فتقرر بما ذكرناه وجوب قتله.
فإذا تقرر فمتى يقتل؟ وهل يستتاب أم لا؟ وعلى أي حالة يكون قتله؟ فهذه أحكام ثلاثة:
الحكم الأول: في أي وقت يكون قتله. وللشافعي في ذلك أقوال ثلاثة:
أولها: أنه يقتل إذا ضاق وقت الصلاة الرابعة لا بما مضى؛ لأنه إذا ترك ثلاث صلوات علم تهاونه بها وإذا ترك دونها جاز أن يكون ذلك لعذر أو تأويل، وهذا هو رأي الأصطخرى(1)
من أصحابه.
وثانيها: أنه يقتل إذا ضاق وقت الصلاة الثانية، وهذا هو قول الشيخ أبي حامد؛ لأن الأولى مختلف في جواز تأخيرها فإذا ترك الثانية عُلِم أنه قد عزم على الترك مداومة عليه.
وثالثها: أنه يقتل إذا خرج وقت الأولى، وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي، والقولان الأولان مخرجان على مذهبه.
الحكم الثاني: أنها تجب استتابته كالمرتد، وإذا قلنا بوجوب الإستتابة، فهل تكون ثلاثة أيام أو في الحال؟ فيه تردد. وإذا قلنا بوجوب الإستتابة في الثلاث فقتله قاتل في الثلاث فقد أساء ولا ضمان عليه من دية ولا قصاص لأن دمه هدر لمن قتله، وقتله إلى الإمام لأنه حد من الحدود بل هو أعظمها.
__________
(1) قال في (سير أعلام النبلاء) 15/250 في ترجمته: الإمام القدوة العلامة شيخ الإسلام أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد الاضطخري الشافعي، فقيه العراق ورفيق ابن سريج، سمع سعدان بن نصر وحفص بن عمرو الربالي وأحمد بن منصور الرمادي، وروى عنه محمد بن المظفر والدار قطني، وابن شاهين وغيرهم، وقال الخطيب: ولي قضاء قم وحسبة بغداد، له تصانيف منها: كتاب أدب القضاء. وقد استقضاه المقتدر على سجستان. مات في جمادى الآخرة سنة 328 هعن نيف وثمانين سنة، وفي (الأعلام) 2/179: ذكر الزركلي عن ابن النديم أن للأصطخري من الكتب: (الفرايض الكبير) وكتاب الشروط والوثائق والمحاضر والسجلات.
الحكم الثالث: في كيفية قتله، واختلفوا في ذلك فالمنصوص للشافعي أنها تحز رقبته، ومنهم من قال يضرب بالخشب حتى يصلي أو يموت، ومنهم من قال يسوى عليه التراب بحيث لا يعلم أن هناك قبراً عقوبة له. وإذا وجب قتله فإن قتله يكون حداً كما يقتل الزاني المحصن فيدفن في مقابر الإسلام، وترثه ورثته من المسلمين. فهذا تقرير مذهبهم في قتل تارك الصلاة.
والمختار: عندنا ما قاله المؤيد بالله ومن وافقه من علماء الأمة.
والحجة لهم: قد حكيناها عنهم ونزيد هاهنا وهو قوله : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله))(1).
فظاهر الخبر دال على عصمة الدماء بالشهادتين واحرازهما إلا ما قامت عليه دلالة ظاهرة، وتارك الصلاة لم تدل دلالة على إهدار دمه، ولأن تارك الصلاة مقر بالله تعالى وبرسوله وبالشريعة مصدق بالقرآن خلا أنه ترك الصلاة تمرداً وتكاسلاً من غير تكذيب ولا استحلال واستخفاف بموجبها، ولا إنكار لوجوبها ومثل هذا لا يوجب إهدار دمه.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا: الآية دالة على وجوب قتله.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
الجواب الأول: أن ظاهر الآية متروك لأن ظاهرها دال على وجوب قتل مانعي الزكاة وهو غير جائز لأن للإمام أن يأخذها منهم كرهاً فلا وجه لقتلهم عليها.
__________
(1) رواه أبو هريرة بلفظ: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإاذ فعلوا...إلخ))، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وفي رواية عن ابن عمر: ((أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك ....إلخ)) متفق عليه. ا ه، فتح الغفار 1/102
الجواب الثاني: أن كل من لم يصل في زمن الرسول ويؤتِ الزكاة فهو كافر لا محالة باق على الشرك، فلهذا قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} عن تكذيب الرسول، ورد ما جاء به من الشر يعة {وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ }[التوبة:5] لأن من هذه حاله فهو مؤمن بالله مصدق بالرسول في كل ما جاء به، وفي أول الإسلام لم يكن الفسق ظاهراً، وما كان إلا كفر أو إسلام لا غير، بخلاف حال تارك الصلاة فإنه مقر بما جاء به الرسول وما عليه إلا أنه ترك الصلاة لعارض الكسل.
الجواب الثالث: هو أن ما ذكرتموه معارض بما أوردناه من الأدلة على عصمة دمه فأدنى أحوالها أنها تورث الشك والوقف فلا يمكن أهدار دمه وهو معصوم بالشك.
قالوا: ورد عن الرسول : ((تارك الصلاة)) أو ((من ترك الصلاة فقد برئت منه الذمة )).
قلنا عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الخبر من جملة أخبار الآحاد وليس دالاً على القطع فيما تناوله، وطريق الإكفار وإهدار الدماء إنما هو القطع.
وأما ثانياً: فلأنه محمول على أنه تركها استحلالاً وتهاوناً بحقها، ومثل هذا لا شك يوجب الإكفار والردة.
وأما ثالثاً: فلأن قوله: برئت منه الذمة، إنما أراد خذلانه بترك الألطاف الخفيه لما أعرض وعصى اللّه بترك الصلاة.
قالوا: روي عنه أنه قال: ((نهيت عن قتل المصلين )). فمفهومه أن كل من لا يصلي جاز قتله.
قلنا: هذا فاسد فإن كل من كان في زمن الرسول ليس مصلياً فهو كافر، فنحن نقول بموجب الخبر ومفهومه. ومن وجه آخر وهو أن هذا من مفهوم الصفة فإذا قلت: أكرمت العلماء فليس فيه دلالة على أنك لم تكرم الفقهاء بل إكرام العلماء حاصل ونفي الإكرام عن الفقهاء موقوف على الدلالة لا يؤخذ من المفهوم.
قالوا: الصلاة عبادة محضة لا تدخلها النيابة، فيجب أن يكفر تاركها كالشهادتين.
قلنا: عن هذا جوابان: أما أولاً: فلأن المعنى في الأصل أنهما أصلان في حقن الدماء وعصمة الأموال كما دل الخبر على ذلك بخلاف الصلاة فإن الدماء معصومة بتركها كالزكاة.
وأما ثانياً: فلأن هذا القياس معارض بمثله، فإنا نقول: عبادة واجبة على الأعيان فلا يقتل بتركها كالزكاة، أو نقول: شخص مقر بالله تعالى وكتبه ورسله وناكح على القرآن ومعترف بالشريعة، فلا يجوز استحلال دمه كالمسلم. فقد وضح لك بما ذكرناه بطلان قتل تارك الصلاة بما ذكرناه من الأدلة وبما أجبنا عما أوردوه دلالة لهم.
فإذا لم يتوجه عليه القتل فأي شيء يفعل [به]؟ فحكي عن الإمام المؤيد بالله أنه يكره على فعل الصلاة ولا يمنع الإكراه صحة الصلاة لأن الإكراه فعل المكره وهو لا ينافي الإرادة، وإنما ينافي الكراهة فيحبس ويضيق عليه ويؤدب ولا يقتل، ومنهم من قال: لا يعترض له لأنها أمانة في رقبته. وصاحب هذه المقالة يلزمه ترك النكير على ترك الواجبات وهو باطل قطعاً ويقيناً.
والمختار عندنا: تعزيره بأنواع التعزيرات بالضرب والحبس والإستخفاف والإهانة والطرد والإبعاد على حد ما يراه الإمام من المصلحة في ردعه وزجره؛ لأنه مستحق لذلك وأهل لما أصابه من النكال والتعزير.
المسألة الثالثة: إذا بطل كفره بما ذكرناه فهل يحكم عليه بالفسق أم لا؟ وهل يستحق العذاب من اللّه تعالى أم لا فهذان تقريران:
التقرير الأول: في أنه هل يحكم عليه بالفسق أم لا؟ اعلم أن الإجماع منعقد على أن من ترك خمس صلوات من اليوم والليلة فإن تركه لذلك يكون كبيرة في حقه ثم اختلف العلماء فيما يطلق عليه من الأسماء لأجل ملابسته لهذه الكبيرة على مذاهب أربعة:
أولها: أنه يسمى فاسقاً مجرماً ملعوناً منهمكاً ولا يجوز تسميته كافراً ولا مؤمناً، وعلى هذا يكون له اسم بين الإسمين وحكم بين الحكمين، وهذا هو مذهب أئمة العترة والجماهير من الزيدية والمعتزلة.
وثانيها: أنه يسمى كافراً ولا يجوز تسميته مؤمناً، وهو شيء يحكى عن الخوارج.
وثالثها: أنه يسمى مؤمناً ولا يجوز تسميته كافراً، وهذا هو رأي المرجئة فإنهم زعموا أنه مؤمن بالله مصدق برسله.
ورابعها: أنه يسمى منافقاً، وهذا هو المحكي عن الحسن البصري.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن تابعهم من الزيدية والمعتزلة، والأدلة لهذه المذاهب وذكر المختار بأدلته والانتصار لما اخترناه. مذكور في الكتب الكلامية فإنه أليق بالمسائل والمباحث العقلية. واللائق هاهنا ما يتوجه بالمباحث الفقهيه والأسرار الشرعية والله الموفق.
التقرير الثاني: هل يستحق العذاب من اللّه تعالى على إرتكاب الكبيرة أم لا؟ فنقول: اختلف أهل القبلة في من مات مصراً على كبيرة ليست كفراً، على مذاهب أربعة:
أولها:أن اللّه يعذبه بالنار مهما مات مصراً على الكبيرة من غير توبة، وهذا هو رأي أئمة العترة والمعتزلة والزيدية.
وثانيها: أن اللّه تعالى لا يعذبه بالنار لأجل إيمانه، وهذا هو مذهب المرجئة الخالصه.
وثالثها: مذهب من قال بأنا نقطع على أن اللّه يعذبه ويعفو عنه، ولكن لا ندري على أي كبيرة[يعذبه] ولا على أي كبيرة يعفو عنه، وهذا هو المحكي عن الأشعريه.
ورابعها: مذهب الواقفيه، فإنهم قالوا: نتوقف في فساق أهل القبلة فلا ندري يعذبهم اللّه أو يعفو عنهم أو يخلدهم أو لا يخلدهم، فهذه مذاهب أهل القبلة فيمن فعل كبيرة ومات مصراً عليها. وذكر المختار والانتصار له قد بيناه في الكتب العقلية فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكره هاهنا، وانجر بنا الكلام في إسمه وحكمه لما ذكرنا حكم تركه للصلاة وهل يجب قتله أم لا؟. وقد نجز غرضنا في ذكر من تجب عليه الصلاة ونذكر الآن فضل الصلاة والله الموفق.
---
المبحث الخامس: في بيان فضل الصلاة
والحث على فعلها والوعيد الشديد على من تركها
أما من جهة الكتاب: فقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى}[البقرة: 238]. وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}[العنبكوت: 45]. وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:1-2]. وقال تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ}[البقرة:2،3]. وقال تعالى: {قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ}[إبراهيم:31]. وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون: 4،5] أي تاركون لها. فهذه الآي كلها دالة على فضلها فأما الآي الدالة على وجوبها فقد تقدم ذكرها.
وأما من جهة السنة: فقوله : ((الصلاة عماد الدين فمن هدمها فقد هدم الدين))(1).
وقوله : ((الصلاة من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد))(2).
وقوله :((الصلاة خير موضوع فمن شاء فليقلل ومن شاء فليكثر ))(3).
__________
(1) جاء الحديث بلفظه وبألفاظ أخر منها: ((الصلاة عماد الدين، والجهاد سنام الإسلام)) كما في الفردوس ج2 ص 404.
(2) جاء في تخريج أحاديث البحر: عن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له، ولا دين لمن لا صلاة له، إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد)) رواه الطبراني، وفي البحر: ((الصلاة من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)). ا هج1/152.
(3) عن أبي أمامة قال: كان رسول الله في المسجد فأقبل أبو ذر فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أبا ذر هل صليت اليوم))؟ ققال: لا، قال: ((قم فصل الصلاة خير موضوع من شاء استقل ومن شاء استكثر)) رواه أحمد في مسنده بلفظه، وهو من حديث طويل بألفاظ مختلفة.
وقال :((تدرون ما مثل هذه الصلوات مثلها كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتمس فيه كل يوم خمس مرات ما عسى أن يبقى عليه من الدرن))(1).
وقال : ((الصلاة مكيال فمن أوفى استوفى))(2).
وقال :((مثل من لا يتم صلاته كمثل الحامل حملت حتى إذا دنا نفاسها أملصت(3)
فلا هي ذات حمل ولا هي ذات ولد))(4).
وقال : ((إذا ترك الرجل صلاة الفجر نادى منادٍ من السماء يا فاسق، وإذا ترك صلاة الظهر نادى منادٍ من السماء يا فاجر، وإذا ترك صلاة العصر نادى منادٍ من السماء يا خاسر، وإذا ترك صلاة المغرب نادى منادٍ من السماء يا كافر، وإذا ترك صلاة العشاء الآخرة نادى منادٍ من السماء أطلب لك رباً فلست لك برب)).
وقال :((من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله، وماله))(5)
أراد: نقص.
وقال : ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " ))(6).
__________
(1) جاء في فتح الغفار عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لو أن نهراً بباب أحدكم فيغتسل فيه كل يوم خمس مرات ما تقولون في ذلك يبقى من درنه؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيئاً، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا)) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ا هج1/104، وأورده في الجواهر عن أبي هريرة بلفظه بزيادة: ((أرأيتم...) في أوله، أخرجه الستة إلا الموطأ وأبا داؤد، وجاء بألفاظ مختلفة في مصادر أخرى، منها صحيح ابن حبان ج5 ص 14،13، بلفظ: ((المكتوبات كمثل نهر...إلخ)) وفي سنن البيهقي ومسند أحمد: ((الصلوات الخمس كمثل ...إلخ)).
(2) أورده في مصنف ابن أبي شيبة ج1 ص 259.
(3) أملصت المرأة والناقة فهي مملص، رمت ولدها لغير تمام.. أي أسقطت، ا هلسان ج7 ص94.
(4) أورده في مجمع الزوائد ج2 ص 142.
(5) أخرجه أبو داؤد عن ابن عمر.
(6) أخرجه أبو داؤد والترمذي من رواية جابر بلفظه، وفي رواية مسلم عن جابر: ((بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة)) ا هجواهر 1/150.
وقال : ((صلاة العشاء الآخرة في جماعة تعدل قيام نصف ليلة وصلاة الفجر في جماعة تعدل قيام ليلة))(1).
وقال : ((لا خير في دين لا صلاة فيه))(2).
فهذه الأخبار كلها دالة على فضلها وعلى الحث على فعلها وعلى بيان الوعيد الشديد على تركها.وبتمامه يتم الكلام على هذه المقدمة التي أردنا تقديمها ونشرع الآن في شرح أسرار الصلاة وبيان معانيها. ويحصل مقصودنا بأن نرسم فيها عشرة أبواب تحيط بالغرض المقصود وبالله التوفيق.
__________
(1) جاء في الروض النضير عن(التخريج) وابن بهران في المعتمد عن عثمان قال: سمعت رسول الله يقول: ((من صلى صلاة العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى صلاة الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله)) أخرجه مسلم، وفي رواية الترمذي وأبي داؤد: ((من شهد العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة)).
(2) جاء الحديث في سنن أبي داؤد ومسند أحمد عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف سألوه ألا يُحشَّروا ولا يُعشَّروا وأن يسقط عنهم الصلاة فقال لهم: ((لكم ألاَّ تُحشَّروا ولا تُعشَّروا ولا يُستعمل عليكم غيركم، ولا خير في دين ليس فيه ركوع)) انفرد به أحمد، وفي سنن أبي داؤد جاء الحديث برقم (2631).
---
الباب الأول
في بيان الأوقات المضروبة للصلاة
[توقيت] الصلاة بأوقات مخصوصة لتأديتها لا خلاف فيه، والدلالة على ما قلناه من التوقيت قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء:103] أي: موقتاً. وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}[الروم:17-18]. قال إبن عباس رضي اللّه عنه: المراد بالتسبيح هاهنا هو الصلاة، والمراد بقوله: حين تمسون، المغرب والعشاء، وحين تصبحون، الفجر، وعشياً، العصر، وحين تظهرون، الظهر.
وقوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}[الإسراء:78] فالدلوك الزوال،والغسق الظلام، فتضمن ذلك: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقرآن الفجر أراد به الصبح.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: لا خلاف بين أئمة العترة " في أن الوقت المضروب للظهر والعصر من زوال الشمس إلى غروبها، وأن الوقت المضروب للمغرب والعشاء هو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وأن الوقت المضروب للفجر هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ويدل على ذلك قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ " }[هود:114] فالطرف الأول صلاة الفجر، والطرف الثاني صلاة العصر، والظهر صار متوسطاً فيمكن إدخاله في الطرف الأول ويمكن إدخاله في الطرف الثاني وزلفاً من الليل أراد به المغرب والعشاء. والزلف جمع زلفة وهي عبارة عن الوقت الواحد، ولكن الخلاف في متعلق الوجوب هل يكون معلقاً بأوله أو بآخره. وفيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن متعلق الوجوب هو أول الوقت على جهة التوسيع وآخره على جهة التضييق. فأول الوقت هو وقت الفضيلة وآخر الوقت هو وقت الجواز. وهذا هو الذي حصله السيدان الأخوان للمذهب لأن الهادي والقاسم ليس لهما نص صريح في متعلق الوجوب من الوقت، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء: 78].
ووجه الحجة: هو أن اللّه تعالى أمره بإقامة الصلاة من أول الوقت إلى آخره، وظاهر الأمر للوجوب إلا لدلالة على خلافه، وفي هذا دلالة على أن الوقت متعلق الوجوب بالتوسعة من أوله والتضييق من آخره، ويؤيد ما قلناه ويوضحه، أن دلالة الوجوب هو لفظ الأمر وقد اقتضى فعله في أول الوقت كما اقتضى فعله في آخره، فكما أن آخر الوقت وقت للوجوب فهكذا يكون أوله من غير فرق بينهما فصار أوله كآخره في الإجزاء من غير حاجة إلى بدل.
المذهب الثاني: أن متعلق الوجوب هو آخر الوقت، وهذا هو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وإنما ضرب أول الوقت لجواز فعل الصلاة فيه ثم اختلفوا في وقت الوجوب من آخر الوقت، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف و محمد: إن الصلاة إنما تجب إذا بقي من آخر الوقت قدر تكبيرة، وذهب زفر إلى أنها إنما تجب إذا بقي مقدار ما يصلي فيه صلاة الوقت ثم اختلفوا إذا صلى في أول الوقت، فذهب أكثرهم إلى أنه موقوف مراعى فإن جاء آخر الوقت وهو من أهل الصلاة في آخر الوقت تبين أنها كانت فرضاً فإن خرج عن أن يكون من أهل الصلاة في آخر الوقت تبين أنها كانت نفلاً، فأما الكرخي منهم فعنه ثلاث روايات:
الأولى: أن يكون في أول الوقت واجبا موسعاً.
الثانية: أن وقت الظهر كله وقت لأداء الفرض، والوجوب فيه بأحد المعنيين إما بفعل الصلاة من أول الوقت إلى آخره، وإما بمجيء آخر الوقت.
الثالثة: أنه موقوف مراعى إلى أخر الوقت فإن كان بصفة المكلفين فهي فرض، وإن خرج عن صفة المكلفين فهي نفل كما حكيناه من قبل عن غيره.
والحجة على هذا: هو أنه إذا كان مخيراً بين فعلها وبين تركها لا إلى بدل لزم أن لا تكون واجبة كالنفل، ومن وجه آخر، وهو أن كلما جاز للإنسان تركه من غير عذر ولا بدل لم يكن واجباً. وفي هذا دلالة على أن الوجوب غير متعلق بأول الوقت.
المذهب الثالث: أن الوجوب يتعلق بأول الوقت موسع فيه، وبآخره مضيق. وهذا هو المحكي عن الشيخين أبي علي وأبي هاشم من المعتزلة، قالا: والمصلي في أول الوقت مخير بين فعل الصلاة وتركها إلى آخر الوقت فإذا لم يؤدها في أول الوقت فلا بد من العزم ليكون بدلاً عنها.
والحجة على هذا: هو أن المكلف إذا لم يكن مؤدياً للصلاة في أول الوقت وأخر فعلها ولم يعزم على تأديتها كان إلحاقاً لها بالنفل لأنه قد تخلى عن الأداء وعن العزم فلا يفترق الحال بين الفعل الموسع إذا لم يفعل في أول الوقت إلا بالعزم؛ لأن النفل يجوز تركه من غير بدل، فالواجب الموسع لا يجوز تركه إلا مع البدل. وظاهر كلام الحنفيه أنهم لا يوجبون العزم بدلاً من جهة أن الوجوب متعلق بآخر الوقت بكل حال، وإنما يوجب العزم بدلاً من قال بأن الوجوب متعلق بأول الوقت موسعاً، فأما الشيخان فقد صرحا بوجوب العزم بدلاً عن تأخير الصلاة إلى آخر الوقت.
والمختار: ما عول عليه السيدان الأخوان ومن وافقهما من العلماء.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روى عبدالله بن عمرو بن العاص، عن الرسول أنه قال: ((إن للصلاة أولاً وآخراً وأول وقت الظهر حين زوال الشمس وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر))(1).
ووجه الدلالة من هذا الخبر: أنه أثبت للصلاة وقتاً لأولها ولا يعني بوجوب التوسيع إلا أن لها أولاً وآخراً فإن أداها في أوله فهو وقت للوجوب وإن أداها في آخره فهو وقت للوجوب أيضاً.
الحجة الثانية: قوله في آخر حديث جابر: ((أمني جبريل عند باب البيت )) إلى أن قال: ((الوقت ما بين هذين هذا وقت الأنبياء قبلك ))(2).
ووجه الحجة من هذا الخبر: أنه % أثبت للظهر في اليوم الأول وقتاً، وأثبت لها في اليوم الثاني وقتاً، ثم قال: ((وقتها فيما بين هذين الوقتين " ))، وهكذا سائر الصلوات، ولا نعني بالتوسيع إلا هذا، وفي هذا دلالة على أن تعليق الوجوب إنما هو بأول الوقت كما قررناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه.
قالوا: لو جاز تأخير الصلاة عن أول الوقت لكانت نفلاً.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) أورده في الجواهر لابن بهران بلفظ مقارب من رواية أبي هريرة، وتمامه: ((... وإن وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وإن آخر وقتها حين منتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس)) أخرجه الترمذي. ا ه1/152.
(2) هذا الحديث مشهور، وورد من عدة طرق، وفي مختلف الصحاح والسنن، ومنها ما أورده المؤلف عن جابر، أخرجه النسائي بتمامه، كما أورده ابن بهران في الجواهر ج1 ص153، ورواه أحمد والنسائي والترمذي بنحوه، وقال البخاري: هو أصح شيء في المواقيت، وأخرجه الدار قطني، وابن حبان، والحاكم، وللترمذي في رواية عن ابن عباس بنحوه، اه. فتح الغفار 1/107.
أحدهما: أنا نقول: إن النفل ما جاز تركه على الإطلاق. والصلاة في أول الوقت فإنا لا نجوِّز تأخيرها على الإطلاق ولكن نجوز تأخيرها إلى آخر الوقت، وأوله وآخره وقتان للوجوب كما شرحناه من قبل.
وثانيهما: أنا نوجب فعل العزم في أول الوقت بخلاف النفل، فإنا لا نوجب بتركه العزم، وإيجابنا العزم في أول الوقت ليس لكونه بدلاً عن الصلاة في أول وقتها فإنه لو كان بدلاً عنها وقائماً مقام المصلحة لها لم يكن لإيجاب الصلاة في آخر وقتها وجه لأن البدل قائم مقام المبدل كسائر الأبدال والمبدلات، والعزم لا يقوم مقام الصلاة بحال فبطل كونه بدلاً وإنما نوجب فعله لئلا يكون معرضاً عن خطاب الشرع ولا مستهيناً به بل إذا كان تاركاً لتأدية الصلاة في أول وقتها انقض نفسه بتجديد العزم في كل وقت.
قالوا: كل ما جاز تركه من غير بدل ولا عذر فليس واجباً.
قلنا: الواجب إنما يبطل وجوبه إذا جاز تركه على الإطلاق، فأما إذا جاز تركه على بعض الوجوه لم يبطل وجوبه، والصلاة لا يبطل وجوبها إذا أُخرت إلى آخر الوقت مع توجه وجوبها في أوله.
وأما ما زعمه الشيخان من إيجاب العزم بدلاً عن ترك الصلاة في أول الوقت، فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن العزم لو كان بدلاً عن الصلاة في أول الوقت لبطل وجوبها وفعلها في آخر الوقت من جهة أن البدل يقوم مقام المبدل في كل أحواله كالتراب مع عدم الماء فإنه يقوم مقامه في تأدية الصلاة حتى يجد الماء، وهكذا القول في الأبدال كلها.
وأما ثانياً: فلأنه كان يلزم فيمن دخل عليه وقت الزوال وهو نائم أن يجب إيقاظه لفعل العزم مخافة أن يخلو عن الصلاة وبدلها، والإجماع منعقد على بطلان ذلك. فحصل من مجموع ما ذكرناه أنا وإن أوجبنا العزم فإنا لا نوجبه لكونه بدلاً ولكن للوجه الذي أشرنا إليه.
الفرع الثاني:اعلم أن الزوال عبارة عن زوال الشمس من الإرتفاع إلى الإنحطاط لأن السماء مثل القبة وسطها عال وأطرافها نازلة والشمس تطلع من أطرافها فيكون ظل الشمس عند الطلوع طويلاً إلى قدام الشخص لدنو الشمس من الأرض، وكلما ارتعفت الشمس تناقص ظل الشخص ودار حتى إذا حصلت الشمس في كبد السماء تناهى نقصانه، فيُعلَّم حينئذٍ على ظل الشخص بعلامة فإذا أخذت الشمس في الإنحطاط زاد الظل، فذلك هو الزوال. وظل الشخص الذي يكون عند الزوال يختلف باختلاف الأزمان والبلدان، فأما الأزمان فإنه يكون في الصيف قليلاً وفي الشتاء أكثر منه لأن الشمس في الصيف سيرها يكون في وسط السماء حتى تقابل ماء البئر فإذا حصلت في وسط الفلك لم يبق للشخص إلا ظل قليل، ثم تسير في الشتاء في جانب الفلك وعرض السماء ولا تبلغ إلى وسطها لميلها إلى الجانب اليماني فلهذا كانت أقرب إلى الأرض فيطول الظل بذلك قبل الزوال. وأما اختلاف ذلك بالبلدان فإذا كانت بلد قريبة من المشرق أو من المغرب فإنها تبعد عن وسط الفلك فيكون ظل الشخص عند الزوال أكثر منه في البلاد التي تحت وسط الفلك، وربما ينتهي الشخص إلى أن لا يكون [له] عند الزوال ظل أصلاً، وهذا إنما يكون عند حلول الشمس في الجوزاء(1).
الفرع الثالث: والدلوك علامة لأوقات الصلاة كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ }[الإسراء: 78] وهل يكون الدلوك هو الزوال أو الغروب؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الدلوك هو الزوال وهذا هو رأي القاسمية واختاره السيدان الأخوان وهو قول الشافعي، ومحكي عن ابن عمر، وابن عباس وعائشة.
__________
(1) ما ورد في هذا البحث حول السماء وأنها كالقبة وأن الشمس تطلع من أطرافها إلى آخره.. هو كما هو مفهوم تجوَّز وافتراض، الغرض منه تحديد حركة الظل كعلامة على الوقت للصلاة، وليس الغرض الحقائق العلمية الفلكية.
و الحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((صلى بي جبريل الظهر حين دلكت الشمس )).
المذهب الثاني: أن الدلوك هو الغروب وهذا هو رأي علي % وابن مسعود وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه يقال: دلكت الشمس إذا مالت للغروب.
والمختار: هو الأول من جهة أن الشمس إذا توسطت في الفلك ومالت للزوال وطلع(1)
إليها الرائي فإنه يدلك عينه لشدة ضوءها وحرارتها عند زوالها فلهذا سمي دلوكاً(2)،
وإذا كان الدلوك هو الزوال فإنا نستفيد منه وقتاً لأربع صلوات، وإذا كان هو الغروب فإنما نستفيد وقتاً لصلاتين، فلهذا كان الزوال أحق. ولنقتصر على هذا القدر ونرجع إلى المقصود من بيان مواقيت الصلاة، فنذكر أوقات الفضيلة ثم نذكر أوقات الكراهة ثم نردفه بذكر أهل الأعذار. فهذه فصول ثلاثة.
__________
(1) هكذا في الأصل، والمعنى: نظر إليها.
(2) دلكت: أي مالت للزوال.. حتى كاد الناظر يحتاج إذا تبصرها أن يكسر الشعاع عن بصره براحته. ا هلسان ج10 ص 427.
---
الفصل الأول
في بيان أوقات الفضيلة للصلوات الخمس
والأصل فيه ما روى ابن عباس رضي اللّه عنه عن الرسول أنه قال: ((أمني جبريل عند باب البيت فصلى بي الظهر حين زالت الشمس " وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم وصلى بي العشاء حين ذهب الشفق الأحمر وصلى بي الصبح حين حرم الطعام والشراب على الصائم، ثم عاد فصلى بي الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه وصلى بي المغرب كصلاته بالأمس وصلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل وصلي بي الصبح حين كاد حاجب الشمس يطلع، ثم قال: يامحمد الوقت ما بين هذين))(1) وهكذا خبر جابر وخبر أبي مسعود البدري(2)
فإنها متفقة على بيان ما ذكرناه من هذه الأوقات.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: أول وقت الظهر يدخل بالزوال، وإنما بدأنا بها تأسياً بجبريل وهي أول ما فُرض على الرسول من الصلوات.
والزوال: عبارة عن ظهور زيادة الظل في ناحية المشرق بعد تراخيه من ناحية المغرب، ولا يجوز افتتاحها قبل الزوال عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، ولا يعرف فيه خلاف بينهم.
__________
(1) تقدم في الحديث السابق.
(2) جاء في حاشية الأصل عن البدري: منسوب إليها لأنه ممن شهدها، أي بدر، ا ه. واسمه: عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري، صاحب النبي وروى عنه، شهد العقبة، روى عنه ابنه بشير وعبد الله بن يزيد الخطمي، وأبو وائل وعلقمة وقيس بن أبي حازم، وغيرهم، قال ابن سعد: شهد أحداً وما بعدها ولم يشهد بدراً، وقال شعبة عن الحكم: كان أبو مسعود بدرياً، وهكذا قال أكثر الرواة: قال المدائني: مات سنة 40ه. وقيل غير ذلك. ا ه. (تهذيب التهذيب) 7/220.
وحكي عن ابن عباس جواز افتتاحها قبل الزوال وهي رواية ضعيفه لا أعرف لها وجها في الجواز. ويستحب إقامتها عند زوال الشمس لما روي عن الرسول أنه قال: ((وقت الظهر حين تزول الشمس " )) (1)وروي أن جبريل نزل حين زالت الشمس فقال: ((يا محمد قم فصل الظهر " ))(2).
وهل ينتظر بها حتى يصير الفيء قدر الشراك أم لا. فيه تردد.
والمختار: أنه لا يستحب فيها الإنتظار لأن جبريل وقَّتَها للرسول بالزوال لا غير، فأما ما روي عن النبي أنه صلى به جبريل حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك، فله تأويلان:
أحدهما: أنه صلى حين زالت الشمس والفيء كان مثل الشراك، وليس الغرض أنه أخر إلى أن صار الظل مثل الشراك.
وثانيهما: أن ذلك إنما كان لغرض في انتظار الجماعة لا غير، وقد روي عن علي أنه قال للأشتر
(3) لما ولاَّه مصر: صل بهم الظهر حين يصير الظل مثل مَرْبَض العنز لغرض استكمال الجماعة. والشراك من النعل وهما شراكان أحدهما سير مستطيل على ظاهر الكعب إلى الأصابع والآخر سير مستطيل من أسفل العقب يعقدان في وسط الكعب قدر السير.
__________
(1) تقدم في حديث: ((إن للصلاة أولاً وآخراً...إلخ)).
(2) تقدم في حديث جابر بن عبد الله.
(3) مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة، وينتهي إلى مالك بن النخع، النخعي الكوفي المعروف بالأشتر، (والشتر: انقلاب في جفن العين كما في لسان العرب ج4 ص 393) أدرك الجاهلية، وروى عن علي وأبي ذر وعمر، وعنه: ابنه إبراهيم وعبد الرحمن بن يزيد، وعلقمة بن قيس وغيرهم. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، قال: وكان من أصحاب علي، وشهد معه الجمل وصفين ومشاهده كلها، وولاه على مصر، فلما كان بالقلزم شرب شربة عسل فمات، وقال العجري: تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، قال ابن يونس عن وفاته: ما سبق حتى بلغ القلزم فمات بها يقال مسموماً في شهر رجب سنة 37ها ه. (تهذيب) بتصرف. 10/10.
وآخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله من عند الزيادة لا من أصل ظل الشخص، وإن لم يكن للشخص ظل عند الزوال فمن أصل الشخص.
الفرع الثاني: الظهر له أربعة أوقات وقت الفضيله وهو مقدار صلاة الظهر ونافلتها من أول الزوال، ووقت الإختيار وهو ما بعد ذلك إلى المثل، ووقت الجواز وهو ما بعد المثل إلى الإصفرار، ووقت الكراهة وهو عند الإصفرار، ويخرج وقت الظهر بدخول المثل. وهل يحتاج في خروجه إلى فاصلة في ذهابه، فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه غير محتاج في ذهابه إلى فاصلة وهذا هو قول القاسمية واختاره الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب، ومحكي عن مالك والمزني من أصحاب الشافعي، وإبن جرير الطبري، وإحدى الروايات عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال : ((أول وقت الظهر حين تزول الشمس " وآخره حين يدخل وقت العصر))(1)
فظاهر الخبر دال على أن خروج وقت الظهر وذهابه إنما هو دخول المثل لا غير.
المذهب الثاني: أن العصر يدخل بالمثل لكن لا يذهب وقت الظهر إلا بمجاوزة أقل زيادة فيعلم بذلك ذهاب وقت الظهر وتقضيه، وهذا هو قول الشافعي والليث، والأوزاعي.
قال الشافعي في الأم: إذا جاوز في المثل بأقل زيادة فقد خرج وقت الظهر وذلك حين ينفصل وقت الظهر من وقت العصر.
والحجة على هذا: هو أن الأوقات ممزوجة بعضها ببعض فلا بد من فاصلة بين ذهاب الظهر ودخول العصر ولا يتم التمييز بينهما إلا بما ذكرناه من دخول الزيادة ألا ترى أنا أوجبنا غسل جزء من الرأس ليكمل غسل الوجه فهكذا هاهنا لا يتميز خروج الظهر إلا بدخول الزيادة في المثل.
المذهب الثالث: أنه يدخل وقت العصر بالمثل ولا يذهب وقت الظهر بل يمتزج الوقتان إلى غروب الشمس، وهذا هو المحكي عن عطاء وطاووس ومالك.
__________
(1) تقدم في حديث: ((إن للصلاة أولاً وآخراً ...إلخ)).
والحجة على هذا: حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وآله صلى به جبريل الظهر في اليوم الأول عند الزوال وصلى العصر في المثل ثم صلى الظهر في اليوم الثاني في المثل، فدل ذلك على امتزاجهما في هذا الوقت، ولم يفصل بين وقت ووقت، فدل هذا على امتزاجهما إلى غروب الشمس وصلاحية الوقت لهما إلى غروب الشمس.
والمختار: ما عول عليه أصحابنا.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا وهو: ما رواه أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس " وآخره حين يدخل وقت العصر))(1) وفي هذا بطلان هذه الواسطة وأن خروج الظهر بدخول المثل من غير زيادة.
فأما أبو حنيفة فعنه روايات ثلاث:
الأولى: وعليها الإعتماد للحنفيه، أن وقت الظهر باق إلى أن يصير ظل كل شيء مثله.
الثانية: أن آخره إذا صار ظل كل شيء مثله وهو الذي يأتي على كلام أصحابنا كما مر بيانه.
الثالثة: أن وقت الظهر باق حتى يصير ظل كل شيء دون مثله.
قالوا: ويدخل وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثليه ويكون ما بينهما فصلاً بين الوقتين.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم، وهو أن ما أوردوه تحكم لا مستند له لأن جميع الأخبار كلها تشهد لما ذكرناه بالصحة وأنه لا واسطة بين الوقتين، ويؤيد ما ذهبنا إليه ما روى عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول اللّه أنه قال: ((إن للصلاة أولاً وآخراً " وإن أول وقت الظهر حين زوال الشمس وآخر وقتها حين يدخل العصر))(2) وفي هذا دلالة على بطلان الوسائط والفصول التي ذكروها.
الفرع الثالث: هل يشترك الظهر والعصر في مقدار معلوم، والمغرب والعشاء أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهما يشتركان في مقدار أربع ركعات من حين يصير ظل كل شيء مثله ثم يصير الوقت بعد ذلك متمحضاً للعصر. وهذا هو رأي أئمة العترة ومن وافقهم من أتباعهم، وهو محكي عن المزني من أصحاب الشافعي، وابن جرير الطبري، وأبي ثور، وإسحاق بن راهويه.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عباس رضي اللّه عنه عن رسول اللّه أنه قال: ((صلى بي جبريل الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس " ثم صلى بي الظهر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء بقدر ظله وقت العصر بالأمس))(1).
فظاهر الحديث دال على أن وقتاً واحداً مشتركاً يجمعهما.
المذهب الثاني: أنه لا وقت يجمعهما وأن الشركة غير حاصلة، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((أول وقت الظهر حين تزول الشمس " وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر))(2).
فظاهر هذا الحديث دال على بطلان الشركة بينهما.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من حصول الإشتراك بينهما ويدل على ذلك ما روينا من حديث ابن عباس وجابر وأبي مسعود البدري، فإنها كلها دالة على الإشتراك في مقدار أربع ركعات كما دلت عليه صلاته[مع جبريل] في اليوم الأول والثاني.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه حجة.
قالوا: خبرنا دال على ألاَّ شركة بينهما.
قلنا: ليس في الخبر إلا بيان أول وقت الظهر وآخره بدخول وقت العصر وليس في ظاهره ما يدل على بطلان المشاركة وحديث ابن عباس دال عليها فلهذا كان أحق بالدلالة لتصريحه بالمقصود.
الفرع الرابع: وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله غير الظل الذي يكون له وقت الزوال، وآخر وقتها حين يصير ظل كل شيء مثليه، فصار العصر له أربعة أوقات: وقت الفضيلة وهو مقدار أربع ركعات من أول الوقت، ووقت الإختيار إلى مصير الظل مثليه، ووقت الجواز بعده إلى الإضطرار، ووقت الكراهة عند الإصفرار.
__________
(1) تقدم الحديث برواية الترمذي قال: هذا حديث حسن، وصححه ابن عبد البر وابن العربي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وصححه ابن خزيمة. ا هفتح الغفار 1/107.
(2) تقدم بلفظه أخرجه الترمذي عن أبي هريرة.
فالذي عليه أئمة العترة ومن وافقهم أن أول وقت العصر معتبر بالمثل وآخره معتبر بالمثلين. وقد حكي عن الشافعي أن أول العصر لا يعتبر بالمثل بل لابد من أدنا زيادة فيه ليكون أوله متحققاً بالزيادة، وحكي عن أبي حنيفة أن أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثليه ولم يقع بالمثل الواحد في أوله وآخره إذا كانت الشمس مصفرة، وحكي عن أبي سعيد الأصطخري أنه إذا صار ظل كل شيء مثليه فقد ذهب وقت العصر بالمثلين وكان ما بعده وقت القضاء.
والمختار: ما قاله أئمة العترة ومن تابعهم لما رويناه من حديث أبي هريرة أن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخره حين يدخل وقت العصر، فظاهر الخبر دال على خروج وقت الظهر بدخول وقت العصر، وحديث ابن عباس دال على أن دخول وقت العصر بالمثل من غير زيادة، يدل على أنه لا يدخل إلا بأدنا زيادة، وما قاله أبو حنيفة من اعتبار المثلين في دخول وقت العصر فهو محجوج بحديث ابن عباس فإنه لم يعتبر في دخوله إلا المثل لا غير، وفي هذا دلالة على بطلان اعتبار المثلين في دخوله. فأما الأصطخري فقد بطل كلامه من أن ما بعد المثلين وقت للقضاء للعصر، بما روي عن الرسول من قوله: ((من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر " ))(1) فسماه مدركاً بإدراك ركعة فكيف يقال بأنه قاضٍ لها والوقت متسع بعد المثلين.
والانتصار عليهم بما قررناه فأغنى عن الإعادة.
__________
(1) هذا الخبر مروي عن أبي هريرة بألفاظ مختلفة، منها: ((من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) رواه الجماعة، وفيه عن عائشة: ((من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها)) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة، قال في مسلم: والسجدة هنا: الركعة، ا هجواهر 1/154، وفتح الغفار 1/118.
الفرع الخامس: الأوقات ثلاثة: وقت يختص الظهر وهو الزوال إلى المثل اختياراً، ووقت يختص العصر وهو من المثل إلى المثلين اختياراً، ووقت مشترك بينهما اضطراراً وهو ما بعد المثلين إلى قبل غروب الشمس بما يتسع للعصر. فإذا عرفت هذا فنقول: الظهر بعد المثل والعصر بعد المثلين هل يكونان قضاء أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهما أداء وهذا هو قول أئمة العترة، ومحكي عن مالك.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء: 78] فظاهر الآية دال على جواز تأدية الفرضين وأنه وقت لهما جميعاً على جهة الإشتراك.
المذهب الثاني: أنه لا اشتراك بينهما في هذا الوقت وإنما يكونان قضاء، وهذا هو المحكي عن الأصطخري من أصحاب الشافعي.
والحجة لهم على هذا: ما روى أبو فزارة(1) عن الرسول أنه قال: ((ليس في النوم تفريط " إنما التفريط في اليقظة وهو أن تؤخر صلاة إلى وقت صلاة أخرى))(2) وظاهر الخبر دال على بطلان الإشتراك وأن الوقت الواحد لا يكون وقتاً لهما.
والمختار: ما عول عليه أصحابنا ومن وافقهم.
وحجتهم ما ذكرناه ونزيد هاهنا حديث جابر وابن عباس أنه صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس فدل ذلك على أن الوقت صالح لهما جميعاً، وقوله : ((من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها " ))(3). وفي هذا دلالة على ما ذكرناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه.
قالوا: حديث أبي فزارة يدل على بطلان الإشتراك.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأن خبرنا قوي تلقته الأمة بالقبول وكان معمولاً عليه عند كافة العلماء.
__________
(1) المترجم له بهذه الكنية في (تهذيب التهذيب) 3/196: رشد بن كيسان العبسي أبو فزارة الكوفي، والذي يبادر إلى الذهن من سياق المؤلف أنه صحابي، لكن ترجمته هنا تفيد بغير ذلك، وانه من التابعين، إذ قال عنه في المرجع السالف: روى عن أنس ويزيد بن الأصم وأبي زيد مولى عمرو بن حريث، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى. وعنه: ليث بن أبي سليم والثوري، وجرير بن حازم وشريك وغيرهم. قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح، وقال الدارقطني: ثقة كيس.
(2) جاء الحديث في الروض النضير في رواية أبي داؤد من حديث أبي قتادة: ((ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر الصلاة حتى تدخل صلاة أخرى)) قال: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي بنحوه، ا ه1/602، وجاء الحديث عن أبي قتادة ضمن حديث طويل اخرجه مسلم يروي فيه نومة رسول الله وأصحابه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس وهو حديث مشهور ومنشور في مختلف كتب الحديث. ا هجواهر 1/172.
(3) تقدم.
وأما ثانياً: فلأن المراد تأخير الظهر إلى وقت يختص العصر وهو الإصفرار وهو التفريط المحرم.
الفرع السادس: اعلم أن الترتيب على وجهين:
أحدهما: ترتيب في الوقت وهذا نحو تقديم وقت الظهر على وقت العصر ونحو تقديم وقت المغرب على وقت العشاء.
وثانيهما: تقديم في الفعل وهذا نحو تقديم فعل الظهر على فعل العصر وتقديم فعل المغرب على فعل العشاء. فإذا عرفت هذا فنقول: الترتيب في الصلاة المؤداة يكون على أوجه ثلاثة:
أولها: المسافر إذا جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في أول الوقت فإنه يجب فيها مراعاة الترتيب في تقديم الظهر على العصر والمغرب على العشاء من جهة أن الوقت ليس صالحاً للعصر ولا للعشاء وإنما هو وقت للظهر والمغرب فلهذا وجب التقديم.
وثانيها: إذا أخر الظهر والعصر بعد تقضي المثلين، وأخر المغرب والعشاء بعد انقضاء الشفق الأحمر فهل يجب الترتيب بينهما أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يسقط الترتيب بينهما لأن الوقت قد صار مستحقاً لهما جميعاً بطريق الجواز.
وثانيهما: أنه يجب الترتيب بينهما كما لو كان في غير حال السفر.
وثالثها: أنه إذا أخر الظهر والعصر حتى لم يبق من الوقت إلا مقدار ثلاث ركعات أو أربع فهل يسقط الترتيب بينهما ويكون مخيراً في الإتيان بأيهما شاء أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مخير في تأدية أيهما شاء، ويكون الترتيب ساقطاً بينهما من جهة أن الوقت صالح لهما جميعاً.
وثانيهما: أن الوقت قد صار مستحقاً للعصر لا غير، لقوله :((من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها " )) (1).
فلهذا خص الوقت بتأدية العصر لما ضاق الأمر فيه وعلى هذا لو أدَّى فيه الظهر كان قاضياً لهما جميعاً، ولو أدى فيه العصر كان قاضياً للظهر لا غير فلهذا كان الوقت أحق بتأدية العصر على الخصوص.
__________
(1) تقدم.
الفرع السابع: أول وقت المغرب هو غروب الشمس وآخره ذهاب الشفق الأحمر، فصار المغرب له ثلاثة أوقات، وقت الفضيله وهو مقدار ثلاث ركعات بعد غروب الشمس، ووقت الإختيار وهو بعد الفضيلة إلى غروب الشفق الأحمر، ووقت الجواز وهو ما بعد الشفق الأحمر إلى قبل طلوع الفجر بما يتسع لتأدية العشاء الآخرة. ولا خلاف في تعليق أول وقتها بغروب الشمس لما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ((وصلى بي المغرب حين غابت الشمس حين أفطر الصائم " )) وإنما الخلاف في الأمارة التي يعرف بها غروب الشمس وفيها مذهبان:
المذهب الأول: أن علامة غروبها هو إقبال الظلام وانهزام الضوء وسقوطها من الجبال العالية وهذا هو رأي زيد بن علي وأحمد بن عيسى وعبدالله بن موسى بن جعفر " (1)، وأحد قولي الناصر، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
__________
(1) عبد الله بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب، عُرف كآبائه بالعلم والتقى، والزهد والعبادة. راجع ترجمته في (لسان الميزان) 1/104.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا أقبل الليل من هاهنا " (وأشار إلى المشرق) وأدبر النهار من هاهنا (وأشار إلى المغرب) فقد أفطر الصائم))(1) وأراد انقضاء صومه بدخول الليل سواء أكل أو لم يأكل ولم يذكر رؤية الكوكب.
المذهب الثاني: أن علامة غروبها إنما يكون بظهور الكوكب، وعلامته أن يكون صغيراً يتلألأ. وكواكب النهار هي الكواكب المضيئة التي ترى ضحوة ونهاراً، وهذا هو رأي القاسمية واختاره السيد المؤيد بالله.
والحجة على هذا: ما روى أبو بصرة الغفاري " (2)
__________
(1) هذا ا لحديث من الأحاديث المشهورة في ادلة الصيام، وأوردها البعض في الأوقات، جاء الحديث بألفاظ وأسانيد عدة نورد منها هاهنا ما جاء في (فتح الغفار) بلفظه: عن ابن عمر قال: سمعت النبي يقول: ((إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم)) متفق عليه، وفي رواية للترمذي: ((...فقد أفطرت)) وقال (يعني الترمذي): حسن صحيح، وفي رواية لأبي داؤد: ((إذا جاء الليل من هاهنا وذهب النهار من هاهنا)) زاد في رواية: ((... فقد أفطر الصائم))، وللبخاري من حديث عبد الله بن أبي أوفى: ((إذا رأيت الليل أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم))، ولمسلم من حديثه: ((إذا غابت الشمس من هاهنا وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم)). ا هج1/494.
(2) أبو بصرة جميل بن بصرة الغفاري كما جاء في (تجريد أسماء الصحابة) 2/152.
عن رسول اللّه أنه قال: صلى بنا رسول اللّه صلى الله عليه المغرب فقال: ((إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها " فمن حافظ عليها منكم أوتي أجره مرتين ولا صلاة حتى يطلع الشهاب)) وفي رواية أخرى: ((حتى يطلع الشاهد))(1).
الحجة الثانية: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً " }[الأنعام:76] فجعل علامة دخول الليل هو رؤية الكوكب وما كان علامة للشيء فلا يجوز تأخيره عنه.
والمختار: ما قاله الإمامان زيد بن علي والناصر ومن تابعهما.
والحجة لهم: ما أسلفناه ونزيد هاهنا حجتين:
__________
(1) لفظه: عن أبي بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله بالمخمص صلاة العصر فقال: ((إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد)) والشاهد: النجم، وفي رواية أخرى: قال أبو بصرة : ((ولا يصلي حتى يطلع الشاهد)) أخرجه مسلم والنسائي، ولعل قوله: الشهاب، في بعض روايات الحديث والله أعلم، هذا لفظ ما جاء في الجواهر تخريج أحاديث البحر ج1 ص154 ذيله بحاشية لفظها: بصرة..بالباء الموحدة المفتوحة والصاد المهملة الساكنة، والمخمص.. بضم الميم الأولى وفتح الخاء المعجمة وفتح الميم الثانية وتشديدها ثم صاد مهملة، وقيل: بفتح الميم الأولى وسكون الخاء وكسر الميم الثانية مخففة ثم صاد مهملة، وهو اسم طريق معروف، ا ه.
ويلحظ المطلع اختلافاً قليلاً بين متني الروايتين، فالمؤلف لم يذكر المخمص من ناحية وأن الصلاة هي المغرب من ناحية ثانية، بينما جاء في لفظ الحديث الوارد في الجواهر أنها العصر، وعبارة: حتى يطلع الشاهد،ولعل الأرجح أنها المغرب إذا كان لفظ الحديث: ولا صلاة حتى يطلع...إلخ، بدون كلمة: بعدها، وأنها العصر مع وجود كلمة: بعدها، أي: ولا صلاة بعدها. ا ه المحقق.
الحجة الأولى: روي عن رسول اللّه ، أنه صلى المغرب حين غابت الشمس بالحجب وكنا نصلي معه على ذلك حتى فارق الدنيا(1).
الحجة الثانية: روي عن الرسول أنه صلى المغرب حين أفطر الصائم وحين سقط حاجب الشمس(2). .
فهذه الأخبار كلها ليس فيها شيء من مراعاة الكوكب.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن رسول اللّه أنه قال: ((لا تصلوا حتى يطلع الشاهد " )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ظاهر ما قالوه متروك لأنه يفيد جواز الصلاة عند رؤية الكواكب النهارية وهم لا يقولون به، فإن تأولوه وحملوه على رؤية الكواكب الليلية تأولناه وحملناه على رؤية الكواكب بعد مغيب الشمس.
وأما ثانياً: فلأن رؤية الشاهد لا تكون إلا بعد غيبوبة الشمس فإذا غابت ظهرت الكواكب، فلاجل هذا كان مغيب الشمس سابقاً على رؤية الشاهد وهو المطلوب.
قالوا: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً " }[الأنعام:76] فجعل علامة دخول الليل رؤية الكوكب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه أخبر بأن الليل قد جن عليه ثم رأى بعد ذلك كوكباً، فظاهره دال على سبق اجتنان الليل على رؤية الكواكب، وفي ذلك حصول غرضنا.
__________
(1) وجاء الحديث بألفاظ مختلفة منها في رواية للنسائي عن بريدة بلفظ: ثم أمره حين وقع حاجب الشمس فأقام المغرب، وفي رواية عن ابن عباس: ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس، ا هجواهر ج1 ص 155، وفي فتح الغفار ما لفظه: عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، رواه الجماعة إلا النسائي، ولأبي داؤد: كان النبي يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس إذا غاب حجابها، ا هج1/ ص 111.
(2) سبق مضمونه في الأحاديث السالفة، وفي حديث جبريل وقد تقدم.
وأما ثانياً: فلأنه لا يجوز أن يحصل غروب الشمس وظهور الكواكب معاً لأن الحكم معلق بغروبها لا بظهور الكواكب كما أن الفجر إذا طلع فإن الحكم معلق به لا بما يرى عنده من الكواكب.
وهذه الصلاة في لسان الشرع تسمى المغرب، ويكره تسميتها بالعشاء لما روى البخاري في صحيحه عن الرسول أنه قال: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إنها المغرب " ))(1) والعرب يسمونها العشاء.
الفرع الثامن: إذا تقرر أن أول وقت المغرب هو ذهاب كوكب الشمس كما قررناه فهل يمتد ويكون له آخر أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه ليس لها إلا وقت واحد، فإذا غابت الشمس وأخذ المصلي في الأهبة بالتطهر وستر العورة وأذن وأقام ودخل في الصلاة فهو مؤدٍ للمغرب، وإن تراخا عما ذكرناه أثم وكان قاضياً لها. وهذا هو أحد قولي الشافعي، ومحكي عن الأوزاعي، وحكي عنه قول آخر، أن آخرها ذهاب الشفق الأحمر، وأنكره أبو حامد من أصحابه، وقال إن هذا لا يعرف قولاً للشافعي، وقال: إن عبارة أصحابنا أن للمغرب وقتاً واحداً ولسائر الصلوات وقتين خطأ بل الصلوات كلها لها وقت واحد، وإنما سائر الصلوات أوقاتها ممتدة وتطول بخلاف وقت المغرب فإنه قصير غير ممتد.
__________
(1) في هذا لحديث اختلاف في اللفظ بين ما أورده المؤلف بأنها صلاة المغرب وليست العشاء كما يسميها الأعراب، وبين ما ورد في روايات أخر بأنها العشاء، وليست العتمة، فيما أخرجه مسلم وأبو داؤد والنسائي عن ابن عمر: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء، وهم يعتمون بالإبل)).
قال ابن بهران: وفي رواية: ((... على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء، فإنها تعتم بحلاب الإبل)) ا هجواهر ج1/ ص 158، وهو في (فتح الغفار) بلفظه السابق. رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والنسائي، ا هج1/ ص 115.
والحجة على هذا: ما في حديث ابن عباس رضي اللّه عنه أن الرسول قال: ((صلى بي جبريل المغرب في المرة الثانية لوقتها الأول " )) من غير مخالفة وفي هذا دلالة على أنه ليس لها إلا وقت واحد.
المذهب الثاني: أن آخر وقتها هو سقوط الشفق الأحمر، وهذا هو رأي الإمامين القاسم والهادي، ومحكي عن داؤد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((إن للصلاة أولاً وآخراً " وإن أول المغرب حين تغيب الشمس وآخره حين يغيب الشفق))(1).
الحجة الثانية: ما روى عبدالله بن عمر عن الرسول أنه قال: ((إن وقت الظهر ما لم يحضر العصر " ، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط الشفق))(2).
الحجة الثالثة: ما في حديث جابر عن رسول الله أنه قال: ((صلى بي جبريل في الليلة الثانية قبل غيبوبة الشفق " )) فهذه الأخبار كلها دالة على أن آخر المغرب هو ذهاب الشفق الأحمر.
المذهب الثالث: أن وقتها ممتد إلى طلوع الفجر وهو أحد قولي الناصر، ومحكي عن أبي حنيفة، ومالك.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه سئل فقيل يا رسول اللّه هل في الليل ساعة ينهى عن الصلاة فيها؟ فقال: ((صلاة الليل مقبولة مشهودة " ))(3) ولا شك أن صلاة المغرب من صلاة الليل فيجب أن تكون مقبولة.
والمختار: ما قررناه أولاً من أن لها ثلاثة أوقات، الفضيله وهو مقدار ثلاث ركعات ونافلتها بعد غروب الشمس، ووقت الإختيار وهو إلى ذهاب الشفق الأحمر، ووقت الجواز وهو من ذهاب الشفق إلى طلوع الفجر.
__________
(1) تقدم.
(2) هذا الحديث جزء من سابقه في رواية أبي هريرة، وأخرجه الترمذي، وقد تقدم.
(3) لفظ الحديث عن عمرو بن عبسة أنه قال: قلت يا رسول الله أي الليل أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح)).كما جاء في رواية أبي داؤد، ا هجواهر ج1 ص 155.
والحجة على هذا هو أن الأخبار كلها متفقة على الدلالة على تأديتها في هذه الأوقات ومشيرة إليها، فتارة تدل على الفضيلة وهو تأديتها عند غروب الشمس ومرة تدل على تأديتها قبل غروب الشفق الأحمر، وأخرى تدل على جواز تأديتها قبل طلوع الفجر، فلأجل هذا قضينا بأن لها هذه الأوقات الثلاثة.
الانتصار: اعلم أنه لا وجه لإبطال شيء من هذه المذاهب بل نقول بها أجمع ونحمل كل خبر من هذه الأخبار على موافقة أوقاتها التي أشرنا إليها، والله أعلم.
الفرع التاسع: وإذا دخل المصلي في وقت صلاة المغرب فكم القدر الذي يجوز له استدامتها. فيه احتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: أنه يجوز استدامتها إلى غيبوبة الشفق لما روي عن الرسول من قراءة سورة الأعراف في صلاة المغرب(1). وهو لا يفرغ منها إلا بعد غيبوبة الشفق.
الاحتمال الثاني: أنه يجوز له أن يستديمها قدر ثلاث ركعات لا طويلة ولا قصيرة لأن الرسول صلاَّها ثلاث ركعات على الحد المعتاد من غير تكثير في قرائتها.
الاحتمال الثالث: أن يستديمها بمقدار أول الوقت من سائر الصلوات وذلك ما لا يبلغ مقدار نصف وقتها كما في غيرها من سائر الصلوات.
__________
(1) جاء في جواهر الأخبار: عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت رسول الله يقرأ فيها بطول الطولتين، هذه رواية البخاري، وزاد أبو داؤد، قال: قلت: وما طول الطولتين؟ قال: الأعراف، وللنسائي نحوه.
قال ابن بهران: هكذا وقعت الرواية، يقرأ بطول الطولتين، والقياس: طولى الطولتين كما ورد في آخر رواية أبي داؤد، ا هج 1 ص 155.
والمختار: أن الأمر في ذلك إلى المصلي فتارة يطول القراءة، وتارة يقصِّرها، ومرة يتوسط في القراءة، وكأن يقرأ في المغرب بسورة[من] المفصل(1)
وهي مختلفة في الطول والقصر، وفي هذا دلالة على أن استدامة القراءة فيها غير مقدرة. ويكره تأخير المغرب حتى تشتبك النجوم لما روي عن الرسول أنه قال: ((لن تزال أمتي بخير مالم تؤخر صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم " ))(2)، ويستحب تعجيلها لما روي عن الرسول أنه قال: ((بادروا صلاة المغرب قبل طلوع النجم " ))(3).
__________
(1) والمفصل هو جملة ما جاء من السور في ترتيب المصحف قبل قصار السور، وقد أولى السيوطي رحمه الله في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) موضوع جمع وترتيب المصحف اهتماماً كبيراً، فذكر تقسيم المصحف ضمن ترتيب سوره ابتداء من (السبع الطوال) ثم (المئون) فـ(المثاني) ويليها (المفصل) فقال: والمفصل ما ولي المثاني من قصار السور سمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة، وقيل: لقلة المنسوخ منه، ولهذا يسمى بالمحكم أيضاً كما روى البخاري عن سعيد بن جبير، قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم وآخره سورة الناس بلا نزاع، هكذا عرف السيوطي المفصل وذكر آخره، لكنه قال: إن أوله اختلف فيه على اثني عشر قولاً، ثم أوردها كاملة، راجع: الاتقان ج1 ص 57-طبعة عالم الكتب- بيروت 1951م.
(2) رواه أحمد وأبو داؤد والحاكم، وأخرجه ابن ماجة والحاكم وابن خزيمة في صحيحه من حديث العباس بلفظ: ((لا تزال أمتي على الفطرة...إلخ)) ا ه، فتح 1/112.
(3) أورده في الجواهر وقال: هكذا في الشفاء ا ه1/156.
الفرع العاشر: وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق لا خلاف فيه بين أئمة العترة وفقهاء الأمة لما روى ابن عباس رضي اللّه عنه عن الرسول أنه قال: ((صلى بي جبريل العشاء حين غاب الشفق " )). وروى أبو هريرة أن الرسول قال: ((أول وقت العشاء إذا غاب الشفق " ))(1).
وهل يكون الشفق الحمرة أو البياض؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه الحمرة وهذا هو قول ابن عمر، وابن عباس وأبي هريرة وعبادة بن الصامت من الصحابة، ومن أئمة العترة: زيد بن علي والهادي والقاسم والناصر والأخوان المؤيد بالله وأبو طالب، ومن الفقهاء: مالك والشافعي، وابن أبي ليلى، والثوري وأبو يوسف، ومحمد.
والحجة على هذا: ما روى جابر أن رجلاً سأل الرسول عن مواقيت الصلاة فقال له: ((لو صليت معنا " ))(2)
ثم ساق الحديث، ثم إنه صلى المغرب معلماً له حتى غابت الشمس، وصلى العشاء قبل غيبوبة الشفق، ولا يجوز أن يريد به الأحمر(3)
لأن ذلك ليس وقتاً بالإجماع فثبت أنه أراد الأبيض.
__________
(1) تقدم في حديث أبي هريرة: ((إن للصلاة أولاً وآخراً... إلخ)) أخرجه الترمذي.
(2) جاء الحديث عن جابر بلفظ: أن رجلاً سأل النبي عن مواقيت الصلاة، فقال : ((صل معي)) فصلى الظهر حين زاغت الشمس، والعصر حين كان فيء كل شيء مثله والمغرب حين غابت الشمس، والعشاء حين غاب الشفق... إلخ. أورده في الشفاء وفي الجواهر 1/156.
(3) والأحمر هنا غير الحمرة؛ لأن الحمرة جاءت في حديث ابن عمر أن الشفق الحمرة، ثم إن الحمرة هي المقابلة للبياض موضع الخلاف بين المذهبين، بينما الأحمر ليس وقتاً بالإجماع، والفرق بينهما كما يظهر من الخلاف، أن الحمرة حمرة الشفق لا الضوء الأحمر الذي يظهر من وقت الغروب، والمقصود باختصار: هو وصف الشفق سواء بلفظ الحمرة أو الأحمر، والله أعلم.
الحجة الثانية: روى النعمان بن بشير أن النبي كان يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر(1).
وهذا إنما يكون قبل غيبوبة الشفق الأبيض.
وحكي عن أحمد بن حنبل أنه إن كان في الصحاري فحين يغيب الأحمر وإن كان في البنيان فحين يغيب الأبيض.
المذهب الثاني: أنه البياض وهذا هو المحكي عن الباقر، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي، والمزني من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء:78]. والدلوك عبارة عن الزوال والغروب، فاقتضى ظاهر الآية أن له أن يصلى المغرب والعشاء إلى غسق الليل وهو اجتماع الظلمة، واجتماعها لا يكون إلا بعد سقوط البياض.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة والأكثر من الفقهاء، وهو أن المراد بالشفق الحمرة.
والحجة: ما حكيناه عنهم، ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روى ابن عمر عن رسول اللّه أنه قال: ((الشفق الحمرة " ، فإذا غابت وجبت الصلاة))(2).
وهذا نص صريح فيما قلناه.
__________
(1) وحكي في الشفاء عن نافع عن ابن عمر أن النبي قال: ((إذا سقط الهلال قبل الشفق فهو لليلة، فإذا سقط بعد الشفق فهو لليلتين)).
(2) وفي (الاعتصام) نقلاً عن (بلوغ المرام) جاء الحديث بلفظه عن ابن عمر، وقال: رواه الدارقطني.
وفي صحاح الجوهري: الشفق: بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب العتمة، وفي السياق نفسه من (الاعتصام) ما ملخصه: قال الخليل: الشفق: الحمرة، وقال الفراء: سمعت بعض العرب تقول: عليه ثوب كأنه الشفق، أي أحمر، وفي (القاموس): الشفق.. محركة.. الحمرة في الأفق، ا هاعتصام ج1 ص 324، وهذا ما أورده المؤلف مع بعض الإختلاف في المصادر واللفظ، وجاء في لسان العرب: أبو عمرو: الشفق: الثوب المصبوغ بالحمرة ا.ه.ج10 ص 180.
الحجة الثانية: ما روي عن أئمة اللغة أن الشفق هو الحمرة، قال الخليل في كتاب العين: الشفق هو الحمرة التي هي من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، وعن الفراء أنه قال: سمعت بعض العرب تقول: عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق، من أجل حمرته، قال الشاعر:
كالشمس غابت في حمرة الشفق
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا: الآية دالة على جواز الصلاة في غسق الليل وهو اجتماع الظلمة وهذا إنما يكون بعد سقوط البياض.
قلنا: قد تحصل الظلمة من غير سقوط البياض لأن بقاء البياض لا يمنع من اجتماع الظلمة و البياض كما أن ضوء الكواكب لا يمنع من اجتماعها. فأما ما حكي عن أحمد بن حنبل من الفرق بين البنيان والصحاري فهو تحكم لا مستند له، وقد قررنا من قبل أن المراد هو الشفق الأحمر سواء كان في عمران أو صحارى.
الفرع الحادي عشر: وآخر وقت العشاء فيه مذهبان:
المذهب الأول: آخر وقتها هو ذهاب ثلث الليل وهذا هو رأي الهادي والقاسم والشافعي، ومحكي عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وعمر بن عبدالعزيز.
والحجة على هذا: ما في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول قال: ((ثم صلى بي العشاء الآخرة في الليلة الثانية حين ذهب ثلث الليل " )).
المذهب الثاني: أن آخره هو ذهاب نصف الليل وهذا هو قول الشافعي في القديم و(الإملاء).
والحجة على هذا: ما روى عبدالله بن عمرو بن العاص عن الرسول أنه قال: ((وقت العشاء ما بينك وبين نصف الليل " )) (1).
والمختار: أن لها ثلاثة أوقات، وقت الفضيلة وهو بعد الشفق الأحمر بمقدار أربع ركعات مع نافلتها، ووقت الإختيار وهو ما بعد ذلك إلى ثلث الليل، ووقت الجواز وهو ما بعد ثلث الليل إلى طلوع الفجر.
__________
(1) أورده في البحر بلفظ: ((... وأول العشاء ما بينك وبين نصف الليل)) وقال عنه ابن بهران في الجواهر: لم أقف على هذا اللفظ في كتب الحديث. ا هالبحر الزخار ج1/157.
وإذا قلنا: بأن وقتها للإختيار إلى ثلث الليل فهل تكون بعده قضاء أو أداء؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها تكون أداء بعد النصف والثلث إلى طلوع الفجر وهذا هو رأي أئمة العترة وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى أبو سعيد الخدري قال: أعتم رسول اللّه ذات ليلة حين ابهارَّ الليل(1).
أي: تهور وذهب، وعن بعض الصحابة أنه قال: إنتظرنا رسول اللّه ذات ليلة حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح(2).
وأراد بالفلاح: السحور. ويكره أن تسمى صلاة العشاء العتمه لما روى ابن عمر رضي اللّه عنه أن النبي قال: ((لا تغلبنكم الأعراب على صلاتكم هي العشاء " )) لأنهم كان يعتمون بالإبل أي يؤخرون حلب الإبل إلى أن يعتم الليل ويسمون الحلبة العتمة.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى أن رسول الله أعتم بالصلاة، يعني: صلاة العشاء، حين ابهارَّ الليل. وتتمة الحديث: ثم خرج رسول الله فصلى بهم فلما قضى صلاته قال لمن حضر: ((على رسلكم أعلمكم وأبشركم أن من نعمة الله عليكم أنه ليس من الناس أحد يصلي هذه الصلاة هذه الساعة غيركم، أو قال: ما صلى هذه الساعة أحد غيركم)) الحديث، اهجواهر 1/157، وجاء الحديث في مصادر أخرى عن عائشة بشيء من الإختلاف في اللفظ. وقال الرباعي في الفتح: رواه النسائي برجال الصحيح ... إلخ. ا ه 1/113.
(2) جاء الحديث عن أبي ذر، أخرجه أبو داؤد والنسائي، وسيأتي في موضعه في قيام شهر رمضان، وقد أخرجه أبو داؤد مع بعض الإختلاف في اللفظ، وأخرجه النسائي عن النعمان بن بشير.
ويكره النوم قبلها والحديث بعدها لما روي عن النبي أنه نهى عن النوم قبلها والحديث بعدها(1).
المذهب الثاني: أنه يكون قضاء بعد انقضاء ثلث الليل أو نصفه وهذا هو المحكي عن الشافعي، قال: وإذا ذهب ثلث الليل فلا أراها إلا فائتة.
والحجة على هذا: هو أنا قد قررنا أن وقتها للإختيار هو النصف والثلث، فإذا ذهبا فقد فات وقتها فلا جرم كانت قضاء بعد الوقت الذي ذكرناه.
والمختار: ما ذكرناه من كونه أداء إلى طلوع الفجر لأنا قد أوضحنا أن وقت الجواز إلى طلوع الفجر فإذا كانت مؤداة في وقت هي جائزة تأديتها فيه فلا وجه لكونها قضاء. وما قاله الشافعي من كونها قضاء بعد مضي الثلث والنصف فلا وجه له لأن وقت أدائها آخره طلوع الفجر فبطل القضاء.
الفرع الثاني عشر: وأول وقت الصبح فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه بطلوع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق المنتشر عرضاً وسمي صادقاً لأنه صدقك بمعرفة الفجر، وأما الفجر الأول المستدق المتنفس صعداء كذنب السرحان وهو الذئب، ويقال له: الفجر الكاذب لأنه يضيء ثم يسودّ بعد ذلك، ويقال له الخيط الأسود، ولا يتعلق به شيء من الأحكام. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الفريقين الحنفية والشافعية.
__________
(1) وفي هذا الباب ما جاء عن ابن مسعود قال: جذب لنا النبي السمر بعد العشاء، رواه ابن ماجة، وقال: جذب يعني زجرنا عنه، ورجاله رجال الصحيح، وأحاديث أخر منها: ((لا سمر بعد العشاء إلا لأحد رجلين، مصلٍ أو مسافر)) أخرجه أحمد عن ابن مسعود، وفي حديث عن عائشة بلفظ: ((لا سمر إلا لثلاثة: مصلٍ أو مسافر أو عروس)) أخرجه الضياء المقدسي في الأحكام. ا هفتح 1/114.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((الفجر فجران فأما الذي هو كذنب السرحان فلا يحل الصلاة " ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم، وأما المستطير في الأفق فإنه يحرم الطعام والشراب على الصائم ويحل الصلاة))(1).
المذهب الثاني: أن أول وقت الفجر هو إذا كانت النجوم مشتبكة، وهذا هو المحكي عن مالك، وهذا الخلاف ليس ورآءه كثير فائدة لأنه إن أراد بالإشتباك للنجوم قبل طلوع الفجر فهو باطل لا وجه له، وإن إراد بالإشتباك بعد طلوع الفجر فلا معنى لإشتباكها بعد طلوعه، فإذن لا وجه على الإعتماد على ما ذكره من الإشتباك.
والمختار: ما عليه أئمة العترة وعلماء الأمة، ويدل على ذلك ما روى سمرة بن جندب عن رسول اللّه أنه قال: ((لا يمنعنكم)) وفي حديث آخر: ((لا يهيدنكم أذان بلال عن السحور " ولكن الفجر المستطير في الأفق))(2). وكلام مالك فقد بطل بما أوردناه.
الفرع الثالث عشر: وآخر وقت الفجر هو أن يبقى قدر ركعة قبل طلوع الشمس للإختيار عند أئمة العترة.
__________
(1) نسبه في التلخيص إلى الحاكم من رواية جابر بلفظه، لكنه قال: ((.. وأما الذي يذهب مستطيلاً في الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام)) ونسب نحوه للدارقطني من طريق آخر، انتهى ما قاله في الجواهر، وجاء نحوه فيما رواه ابن خزيمة والحاكم عن ابن عباس وصححاه.اه.
(2) جاء الحديث بشيء من الإختلاف في اللفظ بين كلمتي: ((الفجر المستطير، والفجر المستطيل)) وفي رواية عن ابن مسعود: ((لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم))، رواه الجماعة إلا الترمذي، وفي رواية لأحمد والترمذي: ((لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق)) ا هالترمذي ج3 ص86، ومسند أحمد ج5 ص13.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((من أدرك ركعة من الفجر " قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها)) (1). وعند الشافعي إلى الإسفار لما روى ابن عباس رضي اللّه عنه عن الرسول أنه قال: ((صلى بي جبريل الفجر في اليوم الأول حين طلع الفجر " وصلى بي في اليوم الثاني حين أسفر، وقال فيما بين هذين الوقتين وقت)). ثم يذهب عنده وقت الإختيار ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس.
وجملة الأمر أن لصلاة الفجر ثلاثة أوقات: وقت الفضيلة وهو مقدار الفريضة ونافلتها، ووقت الإختيار وهو ما بعد ذلك، ووقت الجواز وهو قبل طلوع الشمس بركعة.
واعلم أن الغوارب ثلاثة: كوكب الشمس، ثم حمرتها وهو الشفق الأحمر، ثم البياض.
والطوالع ثلاثة: الفجر الأول وهو ذنب السرحان، والفجر الثاني وهو الصادق، ثم كوكب الشمس.
ثم إذا أسفر الفجر فهل تكون الصلاة بعده قضاء أو أداء؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها أداء وهذا هو رأي أئمة العترة وأكثر الفقهاء.
والحجة على هذا: ما روي عن رسول اللّه أنه قال: ((من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها " )) فكيف إذا كان مدركاً لها على الكمال.
المذهب الثاني: أنه يكون قاضياً لها بعد الإسفار وهو رأي الأصطخري من أصحاب الشافعي.
وحجته على هذا: هو أن وقت الأداء إنما هو الإسفار فما بعده يكون قضاء كما لو كان الأداء بعد طلوع الشمس، وهذا لا وجه له فإن وقت الإجزاء باقٍ فلا وجه بعده في القضاء بعد بقائه.
ويكره أن تسمى صلاة الصبح صلاة الغداة لأن الرسول سماها صلاة الصبح في قوله: ((وصلى بي جبريل صلاة الصبح)) وسماها اللّه تعالى صلاة الفجر في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}.
الفرع الرابع عشر: ذهب أئمة العترة وفقهاء الأمة إلى أن صلاة الصبح من صلاة النهار، وزعم قوم لا عبرة بأقوالهم، أن من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ليس من الليل ولا من النهار.
__________
(1) تقدم في رواية عن أبي هريرة، رواه الجماعة.
والحجة على ما قلناه قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ " }[هود:114] وقد قال أهل التفسير: أراد به الصبح والعصر، وفي هذا دلالة على أنها من صلاة النهار، ويدل على بطلان قول من قال: إن من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ليس من الليل ولا من النهار، قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ " }[الحج:61] فلم يثبت واسطة بين الليل والنهار.
ومن أين يكون حد الليل؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن حد الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وهذا هو رأي أئمة العترة وأكثر فقهاء الأمة، وعلى هذا تكون صلاة الصبح من صلاة النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائم بطلوع الفجر.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ " }[البقرة: 187]. وأراد بالخيط الأبيض بياض الفجر، وبالخيط الأسود سواد الليل.
المذهب الثاني: أن حد الليل من غروب الشمس إلى طلوعها، وهذا هو المحكي عن حذيفة(1)
__________
(1) الذي يظهر من السياق أن هذا ليس حذيفة بن أسيد أو حذيفة بن اليمان الصحابيين؛ لأن المؤلف أطلق الاسم مجرداً وهناك من التابعين وتابعيهم من رجال الحديث المترجم لهم أكثر من واحد بهذا الاسم، ومنهم حذيفة بن أبي حذيفة وحذيفة البارقي الأزديان، قال في (تهذيب التهذيب) عن الأول: روى عن صفوان بن عسال، وعنه الوليد بن عقبة، روى له أبو داؤد حديثاً واحداً في الطهارة، قلت: وذكره ابن حبن في (الثقات) وقال: روى عنه أهل الكوفة. ا ه2/192.
وعن حذيفة البارقي جاء في (تهذيب التهذيب): روى عن جنادة الأزدي، روى عنه أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني، روى له النسائي حديثاً واحداً في صوم يوم الجمعة، وفي سنده اختلاف. ا هص193.
والأعمش " (1)،
وعلى هذا تكون صلاة الصبح من صلاة الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم إلا بطلوع الشمس.
والحجة على هذا: ما رووا عن الرسول أنه قال: ((صلاة النهار عجماء " ))(2)
ولا شك أن صلاة الصبح مما يجهر فدل ذلك على أنها من صلاة الليل.
والمختار: ما قاله علماء العترة وفقهاء الأمة.
والحجة على ذلك: أن الإجماع منعقد على تحريم الطعام والشراب على الصائم بطلوع الفجر وخلافهم هذا مسبوق بالإجماع على خلافه.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا: صلاة النهار عجماء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن هذا من كلام الرسول فعلى ناقله التصحيح.
وأما ثانياً: فلو سلمنا أنه من كلام الرسول فالمراد معظم صلاة النهار عجما ولهذا فإن الجمعة والعيدين من صلاة النهار وهو يجهر بها فبطل ما قالوه.
__________
(1) واسمه: سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم، أبو محمد الكوفي المعروف بالأعمش، يقال: أصله من طبرستان، وولد بالكوفة، روى عن أنس وابن أبي أوفى وزيد بن وهب، وغيرهم كثير، وروى عنه الحكم بن عتيبة وزبيد اليامي وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم كثير.
ونقل العسقلاني في (تهذيب التهذيب) عن ابن معين [قوله]: كلما روى الأعمش عن أنس مرسل، وعن العجلي: كان ثقة ثبتاً في الحديث، وكان محدث أهل الكوفة في زمانه، ولم يكن له كتاب، وكان رأساً في القرآن( ...) عالماً بالفرائض، لا يلحن حرفاً، وكان فيه تشيع، ويقال: إنه ولد يوم قتل الحسين وذلك يوم عاشوراء سنة 61 ه، ومات سنة 147 ه، وقيل: 148 هفي ربيع الأول وهو ابن ثمان وثمانين سنة. 4/195.
(2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ج2 ص337، وابن أبي شيبة في مصنفه ج1 ص 320وعبد الرزاق في المصنف ج2/ ص 493.
الفرع الخامس عشر: و إن كان في السماء غيم راعى المصلي ظهور الشمس من فرج السحاب فإن ظهرت عمل على ما يدله على الوقت منها، وإن استدام الغيم استدل على الوقت بما كان يعتاده من قراءة أو درس أو تدريس أو عمل مباح، فإذا غلب على ظنه دخول الوقت عمل عليه بتلك الأمارة. وإنما جاز له أن يصلي بغلبة الظن لأن السماء لو كانت مصحية وغلب على ظنه دخول الوقت من غير أن يراعي أحوال الشمس جاز له أن يصلي، فبأن يجوز أن يصلي في يوم الغيم أحق وأولى، ولأن غلبات الظنون معتمد عليها في أكثر العبادات والعادات والمعاملات فإذا صلى بالاجتهاد وبان له أنه صلى في الوقت أو بعده أجزأه، و إن بان له أنه صلى قبل الوقت لم يجزه كالحاكم إذا حكم باجتهاده ثم وجد النص بخلافه.
الفرع السادس عشر: وأما الأعمى والمحبوس في ظلمة إذا اخبرهما غيرهما عن الوقت نظرت فإن كان أخبرهما عن مشاهدة وكان مصدقاً في قوله لزمهما قبول قوله كما يلزم المجتهد قبول الخبر عن الرسول والعمل عليه، وإذا أخبرهما عن اجتهاد نظرت فإن كان لهما طريق إلى الاجتهاد في إدراك الوقت بورد من الأوراد من قراءة أو درس أو تدريس أو عمل مباح لم يجز لهما العمل بقول من يجتهد لهما كما لا يجوز للحاكم أن يحكم باجتهاد غيره، وإن لم يكن لهما طريق إلى الاجتهاد في الوقت، فهل يجوز لهما تقليد من يجتهد لهما أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: جواز ذلك؛ لأن في أمارات الوقت وعلاماته ما يدرك بالنظر فيعمل على نظره وفيها ما يدرك بالعمل في حصول غالب الظن فإذا تعذر عليه الأمران لم يبق إلا الرجوع إلى إجتهاد غيره فيعمل عليه. فإن صلى الأعمى والمحبوس في ظلمة أو البصير من غير إعمال في تحصيل غلبة الظن فوافقوا الوقت أعادوا الصلاة لأنهم صلوا من غير خبر ولا غلبة ظن.
والمؤذن إذا أذن للصلاة جاز الرجوع إلى قوله للبصير والأعمى إذا كان ثقة عارفاً بالأوقات في حال الصحو؛ لأن لا يؤذن في الصحو إلا بعد العلم بدخول الوقت من طريق المشاهدة فيكون ذلك خبراً ويعمل على خبره، وإن كان غيماً جاز للأعمى تقليده إذا كان لا يغلب على ظنه دخول الوقت لأن ظن نفسه أولى من ظن غيره، ولا يجوز للبصير لأنه يحتمل أن يكون تأذينه بالاجتهاد، والبصير من أهل الاجتهاد، وإذا كان المؤذن منجماً عارفاً بسير الفلك ومجاري الشمس والقمر في منازلهما، فهل يقبل قوله في الوقت أو في شهر رمضان بانفصال القمر عن الشمس أولا يقبل منه؟
والمختار: أنه إذا غلب على ظنه دخول الوقت بمعرفة في سيرهما وإدراك في إنفصال القمر جاز له العمل بغالب ظنه لنفسه فأما لغيره فلا يجوز له العمل عليه لأن ذلك ليس أمارة شرعية فلا يلتفت إليه بحال.
الفرع السابع عشر: ويجب المحافظة على الصلوات في أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها وخشوعها لقوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ " }[البقرة:238] ولم يفصل في ذلك، فدل على المحافظة عليها في كل أحوالها {وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} فقد خصها بالذكر من بينهن لفضلها. واحتلف في تعيينها على مذاهب خمسة:
المذهب الأول: أنها الظهر، وهذا هو المحكي عن علي في رواية، وهو رأي الإمامين القاسم والهادي وأبي طالب وأبي العباس، وهو قول عائشة وزيد بن ثابت وأسامه بن زيد.
والحجة على هذا: هو أن صلاة الليل صلاتان من غير واسطة، وصلاة النهار ثلاث صلوات وواسطهن الظهر فيجب أن تكون هي الوسطى.
الحجة الثانية: هو أنها تصلى وسط النهار وليس شيء من الصلوات تصلى وسط النهار إلا هذه، فيجب أن تكون هي الوسطى.
المذهب الثاني: أنها هي العصر وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة، ورواية ثانية عن علي ، وهو مروي عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة وأبي أيوب.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه شغل في قتال أهل الشرك عن صلاة العصر، فقال : ((شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ اللّه قبورهم ناراً " ))(1) ومن وجه آخر وهو أنها متوسطة بين صلاة الليل وصلاة النهار فصلاة النهار الفجر والظهر وصلاة الليل المغرب والعشاء.
المذهب الثالث: أنها هي الصبح وهذا قول الشافعي ورواه مالك عن علي ، وهو محكي عن ابن عباس وابن عمر وجابر.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ " }[البقرة: 238]. قال الشافعي فقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. دلالة على أنها هي الفجر لأن في سياق الآية ذكر القنوت وليس القنوت مشروعاً من الصلاة إلا في صلاة الفجر.
الحجة الثانية: روي عن أبي يونس(2)
__________
(1) قال ابن بهران: عن علي ، أن النبي قال يوم الأحزاب، وفي رواية يوم الخندق: ((ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)) وفي رواية: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)) أخرجه الستة إلا الموطأ، واللفظ للصحيحين، ا هجواهر ج1 ص 159، وفيه روايات عن ابن مسعود وسمرة بن جندب.
(2) مولى عائشة، جاء في (المقنى) 2/164 أبو يونس التيمي، روى عن مولاته عائشة، وكتب لها مصحفاً. ا ه، روى عنه زيد بن أسلم وأبو طوالة الأنصاري والقعقاع بن حكيم ومحمد بن أبي عتيق، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، وذكره ابن حبان في (الثقات). له في صحيح مسلم وفي السنن حديثان عن عائشة، وروى له البخاري في (الأدب) آخر. إ ه. (تهذيب التهذيب) 12/310، قال: وذكره مسلم في الطبقة الأولى من المدنيين.
مولى لعائشة، قال: أمرتني عائشة أن أكتب مصحفاً لها وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني فلما بلغتها أذنتها فأملت عليَّ: {حافظوا على الصلوات وصلاة العصر والصلاة الوسطى}(1)
ثم قالت: سمعتها من رسول اللّه . ولأن صلاة الفجر يدخل وقتها والناس في أطيب نوم فخصت بالذكر كي لا يتغافل الناس عنها.
المذهب الرابع: يحكى عن قبيصة بن ذؤيب " (2)
أنها هي المغرب.
__________
(1) لعل في الرواية تقديماً وتأخيراً، إذ المروي أنها أملت عليه: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) أخرجه الستة إلا البخاري، كما في (جواهر الأخبار)، ثم لا يظهر أن إيراد هذا الحديث في موضع الإستدلال، لأن البحث في صلاة الفجر لا العصر، وهناك اختلاف في الروايات بين عمر بن رافع أنه كان يكتب مصحفاً لحفصة وبين أبي يونس هذا أن عائشة أمرته أنه يكتب لها مصحفاً ...إلخ، والأول أخرجه الموطأ بينما الأخير أخرجه الستة إلا البخاري، ومع أن الحديثين واردان كل منهما مستقل عن الآخر بوصفهما حديثين اثنين لا حديثاً واحداً بلفظين وروايتين، فإنه قد يصعب على الباحث القبول بكونهما أكثر من حديث واحد اختلف الرواة فيه ما بين حفصة وعائشة، والله أعلم، المحقق.
(2) قبيصة بن أبي ذؤيب بن حلحلة الخزاعي، أبو سعيد المدني، ولد عام الفتح، روى عن عمر بن الخطاب، وعن بلال وعثمان وحذيفة وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وأبي الدرداء، وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة وغيرهم، وروى عنه ابنه إسحاق والزهري، ورجاء بن حيوة، وعثمان بن إسحاق وابن أبي مريم، ومكحول وغيرهم.
قال ابن سعد عنه: كان ثقة مأموناً كثير الحديث، وذكره أبو الزناد في الفقهاء، وقال محمد بن راشد عن مكحول: ما رأيت أحداً أعلم منه، توفي سنة 86ه، وقيل: 87 ه، وقيل: 88ه، وقيل: 89ه، وقيل: 96هفي الشام. ا ه، ملخصاً من (تهذيب التهذيب) 8/311.
والحجة على هذا: هو أن صلاة المغرب من أضيق الصلوات وقتاً ولهذا فإن جبريل صلاها في اليوم الثاني في الوقت الذي صلاها [فيه] في اليوم الأول، وما ذاك إلا من أجل ضيق وقتها فلأجل ذلك كانت المواضبة عليها أحق من غيرها من الصلوات، وسميت وسطى لفضلها من جهة أن وسط الشيء خياره وأفضله، قال اللّه تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " }[البقرة:143].
المذهب الخامس: أنها هي العشاء الآخرة وهذا شيء يحكى عن الإمامية.
والحجة لهم على ذلك: هو أن العشاء صارت متوسطة بين صلاة الليل وهي المغرب وبين صلاة النهار وهي الفجر فلهذا كانت وسطى مع ما فيها من الصعوبة ومكابدة النوم ومشقة أدائها. فهذه مذاهب العلماء في الصلاة الوسطى وهو خلاف غريب ولم أعرف قائلاً به إلا إياهم ولا أعرف لهم دليلاً شرعياً على ما زعموه، وأغرب من خلافهم هذا قولهم إن الشمس إذا زالت دخل وقت الظهر والعصر جميعاً. وهو وإن كان له وجه في النظر من جهة الخطاب لكن لا قائل به.
والمختار: أنها صلاة العصر كما قاله المؤيد بالله وأبو حنيفة، لما ورد من الترغيب في فعلها والوعيدات الشديدة على تركها، كقوله : ((من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله " وماله))(1). وقيل: إنها هي الصلاة التي شغل عنها سليمان حتى توارت بالحجاب، ولما روي عن حفصه أنها قالت لمن كتب لها المصحف: إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت من رسول اللّه يقرؤها، فأملت عليه: {والصلاة الوسطى صلاة العصر}(2) فهذه الأدلة ظاهرة فيها كما ترى.
__________
(1) أخرجه أبو داؤد في سننه عن ابن عمر، وهو في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي بلفظ: ((الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) ا ه.
(2) ينظر في نسبة الحديث إلى حفصة لأنه مروي لعائشة عن مولاها أبي يونس كما سلف.
الفرع الثامن عشر: والأفضل تأدية الصلوات على أوقاتها لما روي عن الرسول أنه قال: ((أفضل الأعمال الصلاة لوقتها " )) (1) وفي حديث آخر ((صلوا الصلاة لوقتها فإن تأخيرها عن وقتها كفر " )). ونحن نذكرها واحدة واحدة ونذكر ما تحتمله كل واحدة من التقديم والتأخير ونرسم في كل صلاة من الصلوات المكتوبة مسألة.
المسألة الأولى: في صلاة الفجر، والأفضل أن تصلى الصبح في أول وقتها إذا تحقق طلوع الفجر، وهل الأفضل الإسفار أو التغليس؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الأفضل هو التغليس وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصريه، وهو محكي عن عمر وعثمان وابن الزبير وأنس بن مالك وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة و غيرهم من الصحابة، ومن الفقهاء: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه.
والحجة: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ " }[البقرة: 238] ومن المحافظة عليها تأديتها في أول وقتها.
الحجة الثانية: ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان نساء من المؤمنات ينصرفن من صلاة الصبح مع رسول اللّه متلفعات بمروطهن لا يعرفن من الغلس(2) وهذا إخبار عن المداومة.
__________
(1) جاء الحديث من عدة طرق منها عن عبد الله بن عمر أن رجلاً سأل رسول الله عن أفضل الأعمال، فقال: ((الصلاة)) قال: ثم مه؟ قال: ((ثم الصلاة)) قال: ثم مه؟ قال: ((ثم الصلاة)) ثلاث مرات، قال: ثم مه؟ قال: ((ثم الجهاد في سبيل الله)) رواه أحمد وابن حبان، واللفظ له. اهجواهر 1/152، وأخرج أبو داؤد والترمذي عن أم فروة قالت: سئل رسول الله عن أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الصلاة لأول وقتها)) وعن ابن مسعود بلفظ: ((الصلاة لميقاتها)) أخرجه الستة إلى الموطأ وأبا داؤد.
(2) رواه الجماعة بلفظ: كن نساء مؤمنات يشهدن مع النبي الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس، فتح الغفار 1/115.
المذهب الثاني: أن الأفضل هو الإسفار، وهذا محكي عن ابن مسعود وهو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((صلى بي جبريل حين أسفر الفجر " ))(1).
والمختار: ما عول عليه أكابر الصحابة وأئمة العترة من أن الأفضل فيها التغليس لما روى أبو مسعود البدري قال: صلى بنا رسول اللّه صلاة الصبح مرة بغلسٍ ثم صلاها بعدما أسفر ثم لم يزل يصليها بغلس إلى أن مات ولم يعد إلى الإسفار(2).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: صلى جبريل برسول اللّه حين أسفر الفجر.
قلنا: إن جبريل صلى به في اليوم الثاني حين إسفار الفجر بياناً لآخر وقتها وكلامنا هاهنا إنما هو في الأفضل وليس كلامنا في الجواز.
المسألة الثانية: في صلاة الظهر وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن الأفضل هو تعجيلها على الإطلاق وهذا هو رأي أئمة العترة.
والحجة: ما روي عن الرسول أنه قال: ((أفضل الأعمال عند اللّه الصلاة لوقتها " )).
المذهب الثاني: أن [الأفضل] تأخيرها حتى يصير الظل قدر ذراع بعد الزوال لانتظار الجماعة، وهذا هو قول مالك.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((أبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " )) (3) فإذا جاز تأخيرها لأجل الإبراد جاز تأخيرها لانتظار الجماعة ولغير ذلك من الأغراض، فلا جرم كان التأخير في كل الأوقات إلى قدر الذراع لأن فيه وفاء بأغراض دينية في الصلاة.
المذهب الثالث: أن تعجيلها في الشتاء أفضل، وتأخيرها في الصيف أفضل، من غير مراعاة الإبراد. وهذا هو رأي أبي حنيفة.
__________
(1) تقدم.
(2) رواه أبو داؤد برجال الصحيح، وأصل الحديث في الصحيحين والنسائي وابن ماجة وفي صحيحي ابن خزيمة ج1/ 181 وابن حبان ج4/298. ا ه.
(3) وفي (فتح الغفار) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا اشتد الحر فابردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم)) رواه الجماعة 1/108 ا ه، وفيه روايات أخر عن أنس وأبي ذر. اه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((اشتكت النار إلى اللّه تعالى فقالت " : يارب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف))(1). فالتعجيل في الشتاء لينكسر البرد، والتأخير في الصيف لقتر الحر.
والمختار: تفصيل نشير إليه، وهو أن تعجيلها في غير وقت الحر هو الأفضل لقوله : ((أفضل الأعمال الصلاة لوقتها " ))، فإن كان وقت الحر فتأخيرها أفضل باعتبار أربع شرائط:
الأولى: أن تكون الصلاة تؤدى في جماعة في مسجد الجماعات.
الثانية: أن يكون ذلك من شدة الحر.
الثالثة: أن يكون فعلها في البلاد الحارة.
الرابعة: أن يقصد الناس المسجد للصلاة من الأمكنة البعيدة.
والحجة على ما قلناه: ما روي عن النبي أنه قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة " ))(2). وهكذا حال الجمعة يبرد عنها كما يبرد عن الظهر باعتبار تلك الشرائط الأربع، وهل يكون التأخير للإبراد رخصة أو سنة؟ فيه تردد.
والمختار: أنه سنة لأن شدة الحر تذهب بالخشوع وتشوش الخواطر وتشغل عن الإقبال إلى الصلاة.
المسألة الثالثة: صلاة العصر. وفيها مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن تعجيلها هو الأفضل. وهذا هو رأي الهادي والقاسم، ومحكي عن الشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
__________
(1) أخرجه مسلم ج1/431، والبخاري 1/199، وابن حبان 4/377، وغيرهم.
(2) في الحديث السالف لهذا حجة للقائلين بأنه يفيد الإبراد بالصلاة بتعجيلها، وفي هذا الحديث حجة للقائلين بأن الإبراد يفيد التأخير ويسنده ما رواه أبو ذر أن النبي كان في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال له النبي : ((أبرد)) ثم أراد أن يؤذن فقال له: ((أبرد)) حتى رأينا فيء التلول...إلخ)) وكذا ما جاء في حديث أنس أن النبي كان يبرد بالصلاة في الحر ويعجل بها في البرد.
والحجة عليه، ما روى أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللّه يقول في حق من أخر صلاة العصر: ((تلك صلاة المنافق " يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر اللّه فيها إلا قليلا))(1).
المذهب الثاني: تأخيرها يسيراً، وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن مالك.
والحجة على ذلك: ما روت أم سلمة قالت: ((كان رسول اللّه أشد تعجيلاً للظهر منكم " وأنتم أشد تعجيلاً للعصر منه))(2). فظاهر هذا الحديث دال على أنه كان يؤخرها قليلاً.
المذهب الثالث: أن الأفضل هو تأخيرها إلى آخر الوقت، وهذا هو قول أبي حنيفة.
والحجة عليه: ما روى رافع بن خديج عن رسول اللّه أنه كان يؤخر العصر، وهذا الحديث استضعفه الترمذي من أهل الحديث.
__________
(1) وفي (الجواهر) ما لفظه: عن العلاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر وداره بجنب المسجد، قال: فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا فلما انصرفنا قال: سمعت رسول الله يقول: ((تلك صلاة المنافق ...إلخ)) هذه رواية مسلم والترمذي والنسائي، وللموطأ وأبي داؤد قريب من ذلك. ا ه1/161.
(2) أخرجه الترمذي في سننه 1/303 وأحمد في مسنده 6/289،310.
والمختار: ما قاله الإمامان الهادي والقاسم: أن الأفضل هو تعجيلها لما روى أنس بن مالك، قال: ((كان رسول اللّه يصلي العصر والشمس بيضاء نقية " ثم يذهب أحدنا إلى العوالي فيأتيها والشمس مرتفعة بيضاء))(1) وبين المدينة والعوالي ستة أميال قاله الترمذي. وقيل: أربعة أميال قاله البخاري، وروت عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه ((صلى العصر والشمس في حجرتها " لم يظهر الفيئ من حجرتها))(2).
المسألة الرابعة: صلاة المغرب وفيها مذهبان:
المذهب الأول: أن تعجيلها لوقتها [أفضل] وهذا هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يختلفون في ذلك.
والحجة على ذلك: ما روى جابر قال: ((كنا نصلي مع رسول اللّه صلاة المغرب فنتناضل " حتى نبلغ دور بني سلمة وننظر مواضع النبل من الإسفار))(3) والمناضلة هي الرشق بالسهام.
المذهب الثاني: محكي عن الروافض، وهو أن الأفضل تأخيرها حتى تشتبك النجوم، وهؤلاء فرقة من أصحاب زيد بن علي راودوه على التبرء من الشيخين رضي اللّه عنهما وعداوتهما فأبا عن ذلك فرفضوه لما لم يوافقهم على [ذلك]، فلهذا سموا روافض، وهم قوم بدعية لا يلتفت إلى أقوالهم ولا أعلم لهم وجهاً فيما ذهبوا إليه من كتاب ولا سنة.
والمختار: ما عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة من أن الأفضل تعجيلها.
__________
(1) وعن رافع بن خديج عن علي بن شيبان قال: قدمنا على رسول فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية. كما أورده في الجواهر 1/162، ورواه الجماعة إلا الترمذي عن أنس بلفظ: ((...والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة)) ا ه، فتح الغفار 1/109.
(2) رواه البخاري في صحيحه ج1/201 وأبو عوانة في مسنده ج1/292.
(3) أورده الشافعي في مسنده ج1 ص 28.
والحجة على ذلك: ما روى أنس بن مالك عن رسول اللّه أنه قال: ((لن تزال أمتي بخير مالم يؤخروا صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم " ))(1) وفي حديث آخر: ((لن تزال أمتي على الفطرة مالم تؤخر صلاة المغرب " )) وفي حديث آخر: ((بادروا صلاة المغرب قبل طلوع النجم " )) (2).
وعن عمر رضي الله عنه: صلوا هذه الصلاة، يعني المغرب، والفجاج مسفرة، يعني مضيئة(3).
المسألة الخامسة: صلاة العشاء الآخرة وفيها مذهبان:
المذهب الأول: أن تعجليها هو الأفضل، وهذا هو قول الهادي والقاسم والشافعي في القديم.
والحجة على هذا: ما رُوي [عن] النعمان بن بشير أنه قال: أنا أعلمكم بوقت هذه الصلاة صلاة العشاء الآخرة كان رسول اللّه يصليها لسقوط القمر لثلاث، وهذا إخبار عن دوام فعله لذلك.
المذهب الثاني: أن تأخيرها هو الأفضل، وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبدالله.
والحجة على ذلك: قوله : ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير هذه الصلاة إلى ثلث الليل " ))(4).
والمختار: هو تأخير وقتها.
__________
(1) تقدم.
(2) هكذا في الشفاء وهو مجمع الزوائد ج1 ص 310، ومسند أحمد ج5 ص 415 وفي مصادر أخرى بألفاظ مختلفة.
(3) أورده ابن أبي شيبة في مصنفه ج1 ص 289 وعبدالرزاق في المصنف 1/552 بلفظه كما أورده المؤلف.
(4) جاء في (جواهر الأخبار) عن أبي هريرة بزيادة ((.. أو نصفه)) أخرجه الترمذي، وعن ابن عباس قال: أعتم رسول الله بالعشاء فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان، فخرج ورأسه يقطر يقول: ((لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة)) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي بروايات عدة، وفي بعض ألفاظها اختلاف. ا ه1/162.
والحجة على ذلك: ما روى أنس بن مالك أن رسول اللّه أخَّر صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال: ((قد صلى الناس وناموا إنكم في صلاة ما انتظرتموها " ))(1).
الفرع التاسع عشر: أنه يجوز تأخير الصلاة عن أول وقتها مهما كان وقت الإختيار باقياً؛ لأن جبريل صلى بالرسول صلى اللّه عليهما الصلوات في المرة الأولى في أول وقتها، وصلى به في المرة الثانية في آخر وقتها، وفي هذا دلالة على جواز التأخير. وروي عن الرسول أنه قال: ((أول الوقت رضوان اللّه وأوسطه رحمة اللّه وآخره عفو اللّه "))(2)
والرضوان إنما يكون للمحسنين والرحمة تكون للمجتهدين والعفو يكون للمقصرين. وله تأويلان:
التأويل الأول: أنه أراد أنه مقصر بالإضافة إلى من صلى في أول الوقت وإن لم يكن مقصراً في نفسه، كما أن من تنفل بعشر ركعات فهو مقصر بالإضافة إلى من تنفل بعشرين ركعة.
التأويل الثاني: أنه أراد أنه مقصر في تأخير الصلاة عن أول وقتها وليس آثماً بالتأخير؛ لأن الله وسع عليه في ذلك، ويحتمل أن يكون المراد بالمقِصر من آخر الصلاة إلى وقت الجواز وهو آخر وقتها قبل دخول وقت الكراهة.
الفرع العشرون: ومن صلى ركعة في الوقت ثم خرج الوقت ففيه وجهان:
__________
(1) للخبر بقية أوردها في (فتح الغفار)، قال أنس: كأني أنظر إلى وبيص خاتمه لَيْلَتئذ، وفي رواية أخرى عن أبي سعيد قال: انتظرنا رسول الله ليلة لصلاة العشاء حتى ذهب نحو من شطر الليل فجاء فصلى بنا ...إلخ، ((...ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل)) رواه أحمد وأبو داؤد وابن ماجة وابن خزيمة بإسناد صحيح. اه1/113.
(2) أخرجه الترمذي في السنن 1/321 بلفظ: ((... والوقت الآخر عفو الله)) والبيهقي في السنن الكبرى 1/435، والدارقطني في السنن 1/249.
أحدهما: أنه مدرك لتلك الصلاة كاملة لما روي عن الرسول أنه قال: ((من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر " ))(1).
وقوله :((من أدرك ركعة من الفجر فقد أدرك الفجر " ))(2)
فصرح بإدراك الصلاة كلها بإدراك ركعة منها.
وثانيهما: أنه مدرك لما صلى في الوقت قاضياً لما صلى بعد خروجه كما لو صلى جميع الصلاة بعد خروج الوقت، لقوله : ((من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدركها " ومن أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها)). فيحتمل أن يكون أراد بالإدراك الركعة وحدها، ويحتمل أن يكون أراد بالإدراك الصلاة كلها وقد تم غرضنا من بيان مواقيت الصلاة.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
---
الفصل الثاني
في بيان الأوقات المكروهة
وهي في ذلك ضربان:
فالضرب الأول: تعلق الكراهة بالفعل وهو ما بعد صلاة الفجر وصلاة العصر، ولا تتعلق الكراهة إلا بعد فعل الفرضين الفجر والعصر، فأما ما قبلهما فلا وجه للكراهة، وذلك لحديث عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عن رسول اللّه أنه ((نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس " ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس))(1)،
فهذان وقتان يتعلقان بكراهة الفعل كما قررناه.
الضرب الثاني: يتعلق بالوقت نفسه، وجملتها(2)
ثلاثة: وقت الطلوع، ووقت الغروب، ووقت الإستواء،
ولهذا قال ((إن الشمس إذا طلعت فإنها تطلع بين قرني شيطان "، فإذا ارتفعت فارقها فإذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها وإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها))(3)
__________
(1) متفق عليه، وفي لفظ عن عمر (أيضاً) أن النبي قال: ((لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس)) أخرجه البخاري وأحمد وأبو داؤد، وقالا: (أحمد وأبو داؤد) فيه: ((...بعد صلاة العصر)).
(2) هكذا في الأصل، والمراد جملة أوقات الكراهة في الضرب الثاني.
(3) هذا جزء من حديث طويل رواه عمرو بن عَبَسَة قال: قلت: يا نبي الله خبرني عن الصلاة فقال: ((صل صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي العصر، ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب (الشمس) فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار)) رواه أحمد ومسلم، ولأبي داؤد نحوه، ا ه، فتح الغفار 1/119 وهو مروي باختلاف متقارب في اللفظ.
فلهذا نهى عن الصلاة في هذه الأوقات، فأما متعلق الكراهة بالطلوع فهو من أول إشراق الشمس إلى أن يستوي سلطانها بالإرتفاع. وقيل: حتى تبيض ويصفو لونها، وقيل: ارتفاعها ثلاثة أرماح. وأما الإستواء فهو عبارة عن وقت وقوف الظل قبل ظهور الزيادة وأما الغروب فتدخل الكراهة باصفرار الشمس إلى تمام الغروب.
والأصل في هذه الأوقات خبر عقبه بن عامر قال: ((ثلاثة أوقات نهانا رسول اللّه أن نصلي فيهن " أو ندفن فيهن موتانا، حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف للغروب حتى تغرب))(1).
وروي أنه سئل فقيل يا رسول اللّه هل في الليل والنهار ساعة نهي عن الصلاة فيها؟ فقال: ((أما الليل فالصلاة فيه مقبولة مشهودة حتى تصلي الفجر ثم اجتنب الصلاة حتى ترتفع الشمس وتبيض فإذا ابيضت فالصلاة مقبولة مشهودة حتى تنتصف فإذا مالت فالصلاة مقبولة مشهودة حتى تضيف للغروب))(2).
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: لا خلاف بين أئمة العترة وفقهاء الأمة أنه لا يجوز تأدية شيء من النوافل المبتدأة في هذه الأوقات الثلاثة، ولا صلاة جنازة، ولا دفن الموتى، ولا صلاة كسوف ولا يسجد فيها سجدة التلاوة ولا سجدة شكر، وعمدتنا في ذلك ما ذكرناه من حديث عقبه بن عامر فإنه دال على المنع من هذه الأمور في هذه الأوقات؟ وهل تقضى فيها الصلوات أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز تأدية القضاء في هذه الأوقات الثلاثة لما فات من الصلوات المكتوبة، وهذا هو رأي الإمامين القاسم والهادي والناصر، ومحكي عن الشافعي ومالك.
__________
(1) أورده ابن بهران في (الجواهر)1/165 بلفظه وقال: أخرجه الستة إلا البخاري والموطأ، وقال في فتح الغفار: رواه الجماعة إلا البخاري. ا ه1/140.
(2) جاء في لسان العرب: وضافت الشمس تضيف وضيَّفَت وتَضَيَّفَتْ: دنت للغروب. ا هج9 ص210.
وا لحجة على ذلك: ما روى أنس بن مالك عن رسول اللّه ، أنه قال: ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها " ))(1).
وفي بعض الأحاديث، ((لا وقت لها غيره)) فاقتضى عموم هذا القول جواز فعل الفوائت في كل وقت تذكر فيه وأن النهي خاص في ما عدا ما ذكرناه.
المذهب الثاني: المنع من ذلك، وهذا هو رأي زيد بن علي والمؤيد بالله وأبي عبدالله الداعي، والحنفية.
والحجة على هذا: ما في حديث عقبه بن عامر من المنع من تأدية الصلوات في هذه الأوقات الثلاثة سواء كانت قضاء أو أداء إلا فجر يومه وعصر يومه لا غير.
والمختار: ما قاله الإمامان زيد بن علي والمؤيد بالله ومن تابعهما.
والحجة لهم ما ذكرناه، ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روي عن الرسول ، أنه ((لما نام عن صلاة الفجر هو وأصحابه " فاستيقظ وقد طلعت الشمس فانتظر حتى استقلت في طلوعها))، وفي بعض الأخبار ((هنيهة)) يعني وقتاً يسيراً، فاقتضى ظاهر ما ذكرناه من هذه الأخبار المنع من تأدية القضاء في هذه الأوقات.
الحجة الثانية: قوله : ((أما الليل فالصلاة فيه مقبولة مشهودة " حتى تصلي الفجر ثم اجتنب الصلاة حتى ترتفع الشمس وتبيض)). إلى آخر الحديث الذي مر بيانه فاقتضى بظاهره المنع من تأدية الصلوات في هذه الأوقات إلا ما استثناه من عصر يومه وفجر يومه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه مما يخالف ما ذكرناه.
قالوا: قوله : ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها " )) فظاهره وعمومه يقتضيان جواز القضاء في هذه الأوقات الثلاثة.
قلنا: عما ذكرتموه أجوبة ثلاثة:
الجواب الأول: أنه ليس في خبركم هذا لفظ عموم لا في قوله صلاة ولا في قوله فوقتها لأن الفاظ العموم محصورة، وهاتان اللفظتان ليستا من ألفاظ العموم في ورد ولا صدر، فبطل احتجاجكم بالعموم.
__________
(1) تقدم.
الجواب الثاني: أن خبرنا خاص في الأوقات عام في القضاء والأداء وخبركم عام في الوقت خاص في القضاء، فصار كل واحد من خبرنا وخبركم خاصاً من وجه عامَّاً من وجه، فخبرنا خاص فيما خبركم عام فيه، وخبركم خاص فيما خبرنا عام فيه، وإذا كان الأمر فيهما كما ذكرناه كان خبرنا أرجح لأنه خاص في الوقت وكلامنا إنما هو في الوقت وما نجوزه وما نمنع منه، فلا جرم قضينا بما دل عليه على جهة الخصوص.
الجواب الثالث: هو أنا نجمع بين أخبارنا وأخباركم ونستعمل الكل فيما تدل عليه، فنحمل أخبارنا على المنع من الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة سواء كانت مؤداة أو مقضية ونحمل أخباركم على جواز تأدية القضاء في غير هذه الأوقات الثلاثة فيكون جمعاً بين الأدلة الشرعية فيما تناولته حذراً من التناقض فيها والتدافع، وهذه طريقة مرضيه.
قالوا: روي عن رسول اللّه أنه قال: ((من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدركها " ومن أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها))، فإذا جاز الأداء في هذين الوقتين جاز القضاء من غير فرق.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما هذا حاله قد خصه الشرع بدلالة ظاهرة فخرج عن القاعدة وبقي ما عداه على أصل المنع.
وأما ثانياً: فلأن ما هذا حاله هو فرض الوقت، فأدي فيه لأجل ضرورة التفريط بخلاف وقت القضاء فإنه حال الرفاهيه، فلهذا كانت تأديتها في غير هذه الأوقات الثلاثة.
الفرع الثاني: لا خلاف بين أئمة العترة وفقهاء الأمة فيمن له أوراد في العبادات من الصلوات والصيامات في أوقات مخصوصة وفاتت عليه لشاغل من الشواغل، فإنه لا يعقل فيها القضاء؛ لأن القضاء إنما يكون في عبادات مؤقتة من جهة الشرع فأما النوافل المبتدأة فلا قضاء فيها. وهل يستحب قضاء النوافل المؤقتة بأوقات من جهة الشرع نحو راتبة الظهر والمغرب والفجر والوتر أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يستحب قضاؤها، وهذا هو رأي القاسم والهادي والمؤيد بالله، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها " )) ولم يفصل بين الواجب والنفل فيما كان مؤقتاً بوقت.
الحجة الثانية: ما روى أبو هريرة عن رسول اللّه أنه قال: ((من لم يصل ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس فليصلهما " ))(1).
المذهب الثاني: المنع من قضاء هذه الرواتب، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
والحجة على هذا: أن هذه الصلوات تطوع فلا تقضى بعد فواتها عن وقتها كصلاة الكسوف والخسوف والإستسقاء.
الحجة الثانية: هو أنها صلاة مؤقتة مسنونة فسقطت بفوات محلها كالتشهد الأول إذا تركه الإمام.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن وافقهم.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: روي عن رسول اللّه أنه رأى قيساً يصلي بعد صلاة الصبح، فقال له: ((ما هاتان الركعتان " ؟ فقال: ركعتا الفجر)) فلم ينهه ولم ينكر عليه(2).
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك ج1 ص 408، والدار قطني في سننه 1/382.
(2) عن عمر بن إبراهيم عن قيس قال: خرج رسول الله فأقيمت الصلاة فصليت معه الصبح، ثم انصرف النبي فوجدني أصلي فقال: ((مهلاً يا قيس أصلاتان معاً))؟ فقلت: يا رسول الله إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر، قال: ((فلا إذن)). هذه رواية الترمذي، وفي رواية أبي داؤد عن قيس أن النبي رأى رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال رسول الله : ((صلاة الصبح ركعتان)) فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن، فسكت رسول الله ، ا هجواهر 1/168، والحديث ورد من عدة طرق بألفاظ متقاربة أخرجه الحاكم في المستدرك 1/409، والبيهقي في السنن الكبرى 2/456،483،484، والدار قطني في سننه 1/383 وغيرهم.
الحجة الثانية: روت عائشة عن أم سلمة [قالت]: ((إن الرسول صلى في بيتي ركعتين بعد العصر " فقلت: ماهاتان الركعتان؟ فقال: كنت أصليهما بعد الظهر فشغلني عنهما مال فصليتهما الآن))(1).
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا: إن هذه الصلوات تطوع فلا تقضى بعد فوات وقتها كصلاة الكسوف و الخسوف.
قلنا: المعنى في الأصل أن هذه الصلوات ليست مؤقتة بوقت لكن لها أسباب تبطل ببطلان أسبابها.
قالوا: المسنون يسقط بسقوط محله كالتشهد الأوسط.
قلنا: إنه لم يسقط بفوات محله وإنما سقط بالإنتقال إلى الفرض المقصود بعده لا لفوات محله، ألا ترى أنه إذا نهض إلى القيام ولم يستكمله فقد انتقل عن المحل ومع ذلك فإنه يرجع إليه لما لم يستتم الغرض المقصود فافترقا.
الفرع الثالث: إذا قلنا: باستحباب قضاء النوافل المؤقتة فهل يكون قضاؤها في هذه الأوقات الثلاثة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك، وهذا هو رأي القاسم والهادي.
والحجة على ذلك: ما ذكرناه في قضاء الصلوات الواجبة إذا فاتت فلا وجه لتكريره.
المذهب الثاني: المنع من ذلك، وهذا هو رأي زيد بن علي والمؤيد بالله وأبي عبدالله الداعي.
والحجة لهم: ما أسلفناه.
والمختار: وذكر الانتصار قد قررناه في المنع من القضاء في هذه الأوقات فأغنى عن تكريره.
نعم. وإذا منعنا من تأدية النوافل المبتداة في هذه الأوقات فهل يُستثنى شيء أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يستثنى شيء، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
__________
(1) أورده في شرح معاني الآثار 1/302.
والحجة على هذا: ما في حديث عقبة بن عامر من قوله: ثلاثة أوقات نهانا رسول اللّه ، الخبر الذي قدمناه. وحديث عمرو بن عبسه(1)
((صلاة الليل مقبولة مشهودة وصلاة النهار مقبولة مشهودة " )) الخبر. وقد قدمناه فإنهما دالان على تحريم النوافل في هذه الأوقات الثلاثة من غير فصل بين وقت ووقت ولا بين مكان ومكان.
المذهب الثاني: أنه يستثنى عن ذلك من الزمان الجمعة ومن المكان مكة، وهذا هو رأي الشافعي. أما استثناء الجمعة فلما روى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه ((أنه نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة " ))(2)
وقد قيل: إن ذلك مختص بمن يغشاه النوم فيقصد طرده بركعتين. وقيل: إنه لا يختص به بل هو خاصة يوم الجمعة، هذا تقرير أصحابه لمذهبه.
__________
(1) قال ابن بهران عن ابن عنبسة: هكذا هو في أكثر نسخ البحر وغيره من كتب أصحابنا بنون ساكنة بعد العين، وهو تصحيف، والصواب: عَبَسة، بفتع العين والباء الموحدة والسين المهملة. كذا ضبطه المحققون، ا ههامش البحر ج1/ 166.
(2) رواه البيهقي والشافعي عن أبي هريرة بإسناد لا تقوم به حجة. ا ه، فتح الغفار 1/141 وفي جواهر الأخبار نقلاً عن الجامع الكافي عن أبي سعيد أن رسول الله قال: ((لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس)) أخرجه البخاري ومسلم بروايات كثيرة ليس في شيء منها قوله: ((...إلا في يوم الجمعة)) فإن ذلك في حديث أخرجه أبو داؤد عن أبي قتادة ولفظه: ان رسول الله كان يكره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال : ((إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة)) ا ه. 1/166.
وأما استثناء مكة فلما روي عن أبي ذر الغفاري ((أنه أخذ بعضادتي الكعبة وقال: من عرفني فقد عرفني " ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جناده سمعت رسول اللّه يقول: ((لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس " ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكه))(1).
وكذلك لا يكره الطواف في سائر الأوقات لقوله :((يابني عبد مناف من ولي من أمور المسلمين شيئاً فلا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت في ساعة من ليل ولا نهار " ))(2).
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة والحنفيه.
وا لحجة لهم: ما قررناه من قبل من الأخبار فلا وجه لتكريره، ونزيد هاهنا وهو أن مكه مسجد من المساجد فلا يجوز أن يصلى فيه في الأوقات الثلاثة، دليله سائر المساجد، وهكذا حال يوم الجمعة لأنه فعل صلاة نافلة حال الإستواء والطلوع والغروب فوجب أن يكون ممنوعاً كسائر الأيام.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: خبر أبي سعيد الخدري وخبر أبي ذر الغفاري يدلان على ما قلناه.
قلنا: عما ذكرتموه أجوبة ثلاثة:
الجواب الأول: أن أخبارنا منقولة مشهورة عند أهل العلم لا يختلفون في صحة نقلها ومتفقون على العمل عليها، وهي دالة بظواهرها على المنع من الصلاة في الأوقات الثلاثة، وما أوردتموه من هذه الأخبار مختلف فيه فلا جرم كانت أخبارنا أحق بالقبول.
__________
(1) وعن أبي ذر عن النبي قال: ((لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة)) ثلاثاً، رواه أحمد والشافعي وابن عدي بإسناد ضعيف. ا ه1/141.
(2) وفي (فتح الغفار) ورد الحديث عن ابن عباس وقال: رواه الدارقطني والطبراني وأبو نعيم والخطيب في تلخيصه، قال في التلخيص: وهو معلول، ا ه1/140.
الجواب الثاني: أخبارنا دالة على الحظر والمنع من العبادة في هذه الأوقات وأخباركم دالة على الإباحة، والخبران إذا تعارضا وكان أحدهما حاظراً والآخر مبيحاً كان العمل على الحاظر أولى من العمل على المبيح لما فيه من الإحتياط خاصة في العبادات فإن مبناها على الإحتياط والبعد عن الآثام، فلهذا كانت أحق بالقبول.
الجواب الثالث: إن ما ذكرتموه معارض بما أوردناه من الأخبار فيجب تأويلها على وفق ما دلت عليه أخبارنا، وهو أن المراد بقوله: إلا مكة، وإلا يوم الجمعة فإنهما أحق بالمنع والتحريم في تأدية العبادة في هذه الأوقات الثلاثة دفعاً لوهم من يتوهم أنهما مخالفان لسائر الأزمنة وسائر البقاع. فإذا حملنا هذين الخبرين اللذين أوردوهما على ما ذكرناه كانت أخبارنا وأخبارهم متفقة على المطلوب.
الفرع الرابع: اختلف السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب في تحصيل مذهب الهادي في قضاء هذه النوافل، فالذي حصله السيد أبو طالب من مذهبه: استحباب قضائها في غير هذه الأوقات الثلاثة، وكراهة قضائها فيها، وحصَّل المؤيد بالله: جواز ذلك من غير كراهة. وكلا التحصيلين لا غبار عليه على ما فهما من كلامه في مصنفاته، خلا أن ما قاله المؤيد بالله هو الأحرى على أصوله والأقيس على رأيه، من جهة أن الفرائض آكد من النوافل وأعلى حالاً منها، فإذا جاز ذلك في الفرائض جاز في النوافل من طريق الأولى والأحق. نعم النوافل التي لها أساب نحو تحية المسجد وركعتي الطواف وغيرهما مما لها أسباب تضاف إليها، هل يجوز قضاؤها في هذه الأوقات الثلاثة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على ذلك قوله : ((من نام عن صلاته أو نسيها فوقتها حين يذكرها " ))، ولم يفصل بين وقت ووقت ولا بين فرض ونفل.
الحجة الثانية: ولأنها صلاة لها وقت معلوم فأشبهت الفرائض.
المذهب الثاني: المنع من ذلك، وهذا هو الظاهر من قول الهادي والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: خبر عقبه بن عامر فإن ظاهره المنع من تأديتها في هذه الأوقات الثلاثة.
الحجة الثانية: ما في خبر عمرو بن عَبَسَة فإنه دال على المنع من تأديتها في هذه الأوقات الثلاثة.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله لأنها نافلة فَكُرِهَ فعلها في هذه الأوقات كسائر النوافل التي لا سبب لها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه، وهو أن الخبر الذي رووه ليس فيه عموم ولا فيه شيء من ألفاظ العموم، والقياس الذي ذكروه فهو معارض بمثله من الأقيسة، ثم إنه لا مجرى للأقيسة في العبادات فإنها أمور غيبية مستندها ما كان من جهة اللّه تعالى ومن جهة رسوله فأما الأقيسة فهي بمعزل عنها، وإنما نوردها للفقهاء على جهة التقوية لما دلت عليه الآي والأخبار.
الفرع الخامس: إذا صلى ركعة من الفجر ثم طلعت الشمس أو صلى ركعة من العصر ثم غربت الشمس، فهل يتمها أو يقطعها أو يتوقف؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه يتمها وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((من أدرك ركعة من الصبح فقد أدرك الفجر " )) و((من أدرك ركعة من صلاة الغداة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الفجر " )) إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على إدراكه للصلاتين.
المذهب الثاني: أن الركعة تفسد عليه ويعيدها، وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: حديث عقبه بن عامر وهو قوله: ((ثلاثة أوقات نهانا رسول اللّه عن أن نصلي فيهن " )) ولم يفصل بين أن يكون قد شرع فيهن أو لم يشرع.
المذهب الثالث: أنه يمكث على حالته حتى ترتفع الشمس ثم يتم صلاته بتلك التحريمة، وهذا هو المحكي عن أبي يوسف.
والحجة على ذلك: هو أن الشروع صحيح فلا يجوز إبطاله بعروض المفسد، لقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33] وأما الإتمام فمحظور لدخول الوقت المفسد للعبادة وهو الطلوع، فلأجل هذا قضينا بالوقف على حاله حتى يزول الوقت المحظور ويمضي في صلاته.
والمختار: ما عليه أئمة العترة ومن وافقهم.
وحجتهم: ما حكيناه ونزيد هاهنا وهو قوله : ((من أدرك من صلاة الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فليصل إليها أخرى " ))(1)،
ويروى: ((فليضف إليها أخرى)) فهذه الأخبار كلها دالة بصريحهاعلى الإتمام للعبادة والإجزاء.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه، فأما احتجاج أبي حنيفة بحديث عقبه بن عامر فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأنه محمول على الشروع في العبادة فأما بعد الدخول فيها فلا نسلم أنه متناول لها.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما ذكرناه من الأخبار التي رويناها فإنها صريحة في الإتمام. وأما إحتجاج أبي يوسف على التوقف فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن الأخبار دالة على الإتمام ولا وجه للوقف.
وأما ثانياً: فلأن وقوفه لا يخلو حاله في حال وقفه إما أن يكون مصلياً أو غير مصل، فإن كان مصلياً أتم صلاته ولا فائدة في الوقف، وإن كان غير مصل فقد بطلت صلاته، فكيف يقال بأنه يتمها بعد ذهاب وقت الفساد وقد خرج عن كونه مصلياً. ومن وجه آخر وهو أن الأخبار قد دلت بصراحتها على صحتها وثباتها فلا يمكن معارضة كلام صاحب الشريعة بالرأي والاجتهاد.
__________
(1) وفيه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وإن أدرك سجدة من صلاة الصبح فليتم صلاته)) أخرجه البخاري، والمراد بالسجدة: الركعة بتمامها. ا ه، (جواهر) نقلاً عن (الجامع الكافي) 1/167.
الفرع السادس: إذا قلنا: بأن إدراك ركعة قبل غروب الشمس يكون إدراكاً للعصر وإن إدراك ركعة قبل طلوع الشمس يكون إدراكاً للفجر، فلو أدرك دون الركعة هل تلزمه تلك الصلاة أم لا؟ فيه مذاهبان:
المذهب الأول: أن إدراك دون الركعة لا يلزم تلك الصلاة وهذا هو رأي أئمة العترة، وأحد قولي الشافعي ومحكي عن مالك، وهو رأي المزني، والمروزي من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو الخبر: ((من أدرك ركعة من العصر أو من الفجر فقد أدركهما " )) فجعل الإدراك للصلاة بإدراك ركعة كاملة، فإذا أدرك دون الركعة لم يكن مدركاً لها وهو مرادنا.
المذهب الثاني: أنه يكون مدركاً بتكبيرة الإفتتاح وهذا هو قول أبي حنيفة، وقول آخر للشافعي، واختيار القاضي أبي حامد من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن إدراك يسير الوقت يتعلق به وجوب الصلاة كما أن إدراك المسافر من صلاة المقيم يتعلق به وجوب الركعتين الأخيرتين عليه، ثم لا فرق بين أن يدرك المسافر من صلاة المقيم ركعة كاملة أو قدر الإفتتاح فإنه يلزمه الإتمام.
والمختار: ما عليه علماء العترة ومن تابعهم.
والحجة لهم: ما أسلفناه، ونزيد هاهنا، وهو أنه قد حد الإدراك في الخبر بالركعة الواحدة الكاملة فلو كان دونها يكون إدراكاً لذكره لأنه في موضع التعليم فلا يجوز تأخير التعليم عن موضع الحاجة، فلما لم يذكر دل على أن ما دونها لا يكون إدراكاً للصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إدراك يسير الوقت يتعلق به وجوب الصلاة كما أن إدراك المسافر من صلاة المقيم يتعلق به وجوب الركعتين عليه إلى آخر ما قرروه.
قلنا: عن هذا جوابان:
الجواب الأول: يأتي على كلام القاسميه القائلين بأن القصر عزيمة وأن المسافر لا يقتدي بالمقيم فيما يختلف فرضاهما فيه كالظهر والعصر والعشاء ولا يلزمه فرضه ويجوز له الإقتداء به فيما يتفق فرضاهما فيه كالمغرب والفجر ولا يلزمه شيء للإقتداء ولا يتغير فرضه فهذا غير لازم لهم.
الجواب الثاني: يأتي على كلام الناصرية القائلين بأن القصر رخصة وأنه يلزمه فرضه بالإقتداء به وقد أجابوا عن ذلك بوجهين:
أما أولاً: فلأن إدراكه صلاة المقيم لا يوجب عليه شيئاً لأن فرضه أربع كفرض المقيم لكن رخص له القصر بشرط أن لا يكون مقتدياً بالمقيم، فإذا اقتدى به بقي على أصل فرضه.
وأما ثانياً: فلأن من شرط جواز القصر وجوب نية القصر، فلما لم تصح نية القصر لم يجز له القصر، فالإتمام إنما وجب لعدم نية القصر لا من جهة إدراكه صلاته والدخول فيها فافترقا. وسيأتي لهذا مزيد تقرير عند الكلام في إمامة الصلاة ونذكر المختار والانتصار له بمعونة اللّه تعالى.
الفرع السابع: وإذا أدرك أحد من المعذورين الظهر وركعة معها قبل غروب الشمس أو أدرك المغرب وركعة معها قبل طلوع الفجر، هل يكون مدركاً للصلاتين جميعاً أو لا يكون مدركاً إلا لما تأخر وقته كالعصر والعشاء؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون مدركاً للصلاتين جميعاً، وهذا هو رأي القاسمية والناصريه وأحد قولي الشافعي، والأصل في الباب أنه إذا أدرك خمس ركعات قبل الغروب كان مدركاً للصلاتين جميعاً، وإن أدرك أربع ركعات قبل طلوع الفجر كان مدركاً لهما معاً.
والحجة على هذا: هو أنه صلى اللّه عليه جعل مدرك الركعة مدركاً للعصر قبل الغروب وهكذا مدرك الركعة مدركاً للعشاء قبل الطلوع، وإذا كان الأمر كما قلناه وقد بقي قبل ذلك مدة يمكنه أن يصلي فيها أربع ركعات فلا ينبغي إهماله وإذهابها هدراً فلهذا جعلناها وقتاً لإيجاب الظهر وأدائه، وإذا صح ذلك في الظهر والعصر فهكذا الحال في المغرب والعشاء لأن كل من قال [به] في الظهر والعصر قال به في المغرب والعشاء.
المذهب الثاني: أنه لا يجب عليه إلا الأخيرة من الصلاتين، ففي المسألة الأولى لا يجب عليه إلا العصر، وفي الثانية لا يجب عليه إلا العشاء، وهذا هو قول أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو أن متعلق الوجوب للصلاة هو آخر الوقت عنده فإذا لم يكن الوقت متسعاً لهما جميعاً كان الوقت متعيناً للفريضة الآخرة، كما لو لم يتسع إلا لأداء فريضة واحدة.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن وافقهم.
والحجة لهم: ما قررناه، ونزيد هاهنا وهو أن هذا الوقت وقت للظهر والعصر جميعاً، وصالح لهما فإدراك أربع ركعات يكون مدركاً للظهر بها وركعة واحدة يدرك بها العصر كما دل عليه الخبر، فلهذا توجه وجوبهما جميعاً.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: متعلق الوجوب آخر الوقت فإذا لم يكن الوقت متسعاً لهما على الكمال كان الوقت متعيناً للفرض الآخر وتبطل الأولى كما لو لم يتسع إلا لركعة واحدة.
قلنا: لا نسلم أن متعلق الوجوب آخر الوقت وقد مر بيانه، ولكن بعد المثل يكون وقتاً لهما جميعاً فيؤدى الظهر لاتساعه له، ويؤدى العصر لاتساعه بركعة واحدة فيكون مدركاً لهما لا محالة، وكل ما ذكرناه في وجوب تأدية الفرضين إنما هو مع اتساع الوقت للطهارة الكبرى أو الطهارة الصغرى في حق الحائض أو المحدث، فأما إذا كان الوقت متسعاً لخمس ركعات من غير طهارة كان الوقت فائتاً لا محالة إذا كانت الطهارة تستوعب الوقت.
الفرع الثامن: إذا كان الوقت لا يتسع إلا لفريضة واحدة فهل تجب الصلاة التي قبلها تبعاً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن إدراك الثانية لا يلزم فعل الأولى وأن الأولى غير واجبة، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن الوقت هذا لم يكن متسعاً إلا لفريضة واحدة سواء كان بعضها أو كلها فلا وجه لإيجاب الأولى كما لو لم يتسع لواحدة منهما.
المذهب الثاني: أنه ينظر في ذلك فإن كان وقت الصبح أو الظهر أو المغرب لم يلزم وجوب ما قبلها لأنه ليس وقتاً لها بحال، وإن كان في وقت العصر أو العشاء لزمت الصلاة الأولى بإدراك الثانية، وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما روي عن ابن عباس وعبدالرحمن بن عوف أنهما أوجبا على الحائض تطهر قبل الفجر بركعة واحدة، المغرب والعشاء ولا مخالف لهما من الصحابة.
والمختار: ما قاله أئمة العترة ومن وافقهم.
والحجة على هذا: هو أن الخطاب إنما يتوجه بأداء العبادة إذا كان الوقت متسعاً لأدائها فأما إذا كان لا يتسع لأدائها فلا وجه لإيجابها.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن ابن عباس وعبدالرحمن بن عوف أنهما أوجبا على الحائض تطهر قبل الفجر بما يتسع لركعة واحدة المغرب والعشاء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما أوردوه ليس حجة وإنما الحجة ما كان عن صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه، ونهايه الأمر أن يكون هذا اجتهاداً لهما، وقول المجتهد ليس حجة على غيره وإنما يلزم اجتهاده لنفسه لا غير.
قولهم:لا مخالف لهما في الصحابة.
قلنا: ليس ينسب إلى ساكت قول، فسكوتهم ليس دلالة على رضاهم بهذا القول وربما سكت الساكت لعوارض كبيرة من جملتها الرضا، فلعلهم إنما سكتوا من جهة أن المسألة اجتهادية وكل مجتهد مصيب في إجتهاده وهذا لا يكون إجماعاً.
وأما ثانياً: فإن هذا محمول على أنهما قالا: إذا أدركت ركعة قبل طلوع الفجر فهي مخيرة بين تأدية المغرب أو العشاء على جهة التخيير لما كان الوقت صالحاً لها، فظن السامع أنهما قالا: يجب الفرضان عليها جميعاً، والغرض إيجاب أحدهما على جهة البدل فالتبس على السامع.
قاعدة: اعلم أن الشافعي إنما يلزم تأدية الفريضة الأولى بإدراك فرض الثانية بشرط أن يكون مدركاً من الثانية جزءاً منها أو كلها، فأما إذا لم يدرك شيئاً منها فلا وجه لإيجاب الأولى، ثم لهم(1)
في ذلك أقوال ستة:
أولها: أنه يلزمه الظهر إذا أدرك من العصر قدر تكبيرة واحدة ويلزمه المغرب إذا أدرك من العشاء قدر تكبيرة.
وثانيها: أنه لا تلزم الصلاة الأولى إلا إذا أدرك من وقت الصلاة الثانية قدر ركعة واحدة.
__________
(1) أصحاب الشافعي.
وثالثها: أنه لا تلزمه الصلاة الأولى إلا إذا أدرك من وقت الثانية قدر ركعة وطهارة.
ورابعها:أن الظهر لا يلزمه إلا إذا أدرك من وقت العصر قدر خمس ركعات.
وخامسها: أن الظهر يلزمه إذا أدرك من وقت العصر قدر أربع ركعات وتكبيرة ويلزمه المغرب مع العشاء إذا أدرك من وقت العشاء قدر ثلاث ركعات وتكبيرة.
وسادسها: أن الظهر يلزمه إذا أدرك من وقت العصر قدر أربع ركعات ويلزمه المغرب إذا أدرك من وقت العشاء قدر أربع ركعات. فهذه الأوجه كلها متفقة على أن الأولى لا تجب إلا إذا أدرك من الثانية كلها أو بعضها كما أشرنا إليه وبعضها مخرج على مذهبه لأصحابه وبعضها منصوص له.
الفرع التاسع:في الصلاة بعد صلاة الفجر وصلاة العصر.
اعلم أن جميع ما أسلفناه إنما هو كلام في الأوقات المكروهة لنفسها وهي الأوقات الثلاثة،وهذا الكلام في الكراهة المتعلقة بالفعل، فهل تجوز الصلاة بعد صلاة العصر والفجر أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: جواز الصلاة في هذين الوقتين للقضاء وللنافلة المبتدأة والنافلة التي لها سبب، وهذا هو رأي الأئمة القاسم والهادي والناصر، ومحكي عن مالك.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه ((رأى قيساً يصلي بعد صلاة الفجر فقال له ما هتان الركعتان " ؟ فقال هما ركعتا الفجر فأقره على ذلك ولم ينهه)).
الحجة الثانية: ما روت عائشة عن أم سلمه رضي اللّه عنهما [أنها قالت] ((إن رسول اللّه صلى في بيتي ركعتين بعد العصر " فقلت: ما هاتان الركعتان؟ فقال: هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر فشغلني عنهما الوفد فصليتهما الآن))، وفي رواية أخرى ((فشغلني عنهما مال)).
المذهب الثاني: كراهة فعل النوافل في هذين الوقتين وهو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري، ومعاذ بن عفراء " (1)
وأبي هريرة عن الرسول أنه ((نهى عن الصلاة في هذين الوقتين بعد العصر والفجر " ))(2).
الحجة الثانية: عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال: حدثني رجال مرضيون وأرضاهم عمر رضي اللّه عنه أن الرسول ((نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس " وبعد العصر حتى تغرب الشمس)) فهذان الخبران دالان على كراهة الصلاة في هذين الوقتين.
المذهب الثالث: أن كل ما كان له سبب من الصلوات جاز فعله في هذين الوقتين وما ليس له سبب كالنوافل المبتدأة فلا يجوز فعله فيهما فصلاة الجنازة وتحية المسجد وركعتا الفجر وقضاء السنن الراتبة وقضاء الصلوات المفروضة يجوز فعل هذه لأن لها أسباباً، فأما النافلة المبتدأة فمكروه فعلها وهذا هو رأي الإمام المؤيد بالله وهو قول الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روى أبو سعيد أنه رأى الحسن والحسين رضي اللّه عنهما طافا بعد الفجر وصليا(3)،
ومثل هذا لا يصدر عن اجتهاد وإنما يصدر عن توقيف من جهة الرسول لأن الباب هو باب العبادة لا مجال للاجتهاد فيه.
__________
(1) واسمه: معاذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث الأنصاري الخزرجي، وعفراء أمه، صحابي شهد العقبة الأولى مع الستة الذين هم أول من لقي النبي من الأوس والخزرج، وشهد بدراً وشرك في قتل أبي جهل، وعاش بعد ذلك، وقيل: بل جرح ببدر فمات من جراحه، له رواية عن النبي في السنن للنسائي وغيره، عن طريق نصر بن عبد الرحمن. ا ه. (الإصابة) 6/140، وفي تهذيب (الكمال): أنه توفي يوم قُتل عثمان.
(2) تقدم في هذا الباب ما فيه الكفاية.
(3) جاء في (الجواهر): حكاه في (الشفاء)، وروي نحو ذلك عن ابن عمر وابن الزبير والله أعلم. ا ه1/168.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ " }[هود:114] فظاهر هذه الآية جواز الصلاة في هذين الوقتين لأنهما طرفا النهار، وروي عن ابن عمر وابن الزبير أنهما طافا بالبيت بعد العصر وصليا، فهذا كله دال على جواز الصلاة في هذين الوقتين لأن لها أسباباً فدل ذلك على أن الصلاة إنما جازت لما اختصت به من هذه الأسباب.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله.
والحجة له: ما أسلفناه ونزيد هاهنا تقريراً نشير إليه، وهو أن هذه الأخبار كلها دالة ومشيرة إلى أن الصلاة التي وقعت في هذين الوقتين إنما كانت لأسباب عارضه وأنت إذا تصفحتها وجدتها مثل ما ذكرناه دالة على أسباب كالقضاء للفرض والنفل والطواف وركعتيه وصلاة الجنازة وركعتي الفجر وركعتي الظهر وتحية المسجد، فكلها مفعولة لهذه الأسباب ولم يمنع إلا ما كان من النوافل المبتدأة فما دل من الأخبار على المنع حملناه على النوافل المبتدأة وما دل على الوقوع والجواز حملناه على أنه فعل لأسباب عارضة، فهذه طريقة جامعة بين الأخبار وهي طريقة مستحسنة لما فيها من الجمع بين الأدلة حذراً من التناقض والله أعلم.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: خبر قيس وعائشة وأم سلمه يدل على جواز الصلاة في هذين الوقتين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن أخبارنا حاظرة وأخباركم مبيحة والحاظر في العبادات أولى من المبيح لأن الباب فيها باب الإحتياط فلهذا كانت أحق بالقبول.
وأما ثانياً: فلأنا نحملها على النوافل المبتداة جمعاً بين الأخبار وحذراً من التناقض بين الأدلة، فكل ما كان من الأخبار والآثار دال على المنع فهو محمول على ابتداء النوافل وكل ما كان دالاً على الجواز فهو محمول على ما له سبب وبهذا تتفق الأدلة وتتناصر على مقصود واحد.
الفرع العاشر: مشتمل على أحكام في الجمع:
الحكم الأول: اعلم أن الصلاة لها ثلاثة أوقات:
فالوقت الأول: حال المقام والرفاهية وهو للذي ليس بمضطر ولا مسافر، والمقام بضم الميم هو الإقامه والمقام يفتح الميم هو المكان. والرفاهية هي الخفض والدعة.
والوقت الثاني: هو وقت العذر نحو السفر والمطر.
والوقت الثالث: هو وقت الإضطرار كالكافر يسلم والصبي يبلغ والمجنون والمغمى عليه يفيقان، والحائض والنفساء يطهران، فإذا تقررت هذه القاعدة فالذي استقر عليه رأي أئمة العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة مالك وعطاء أن ما بين زوال الشمس إلى غروبها وقت للظهر والعصر وما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقت للمغرب والعشاء، وذهب الفريقان الحنفية والشافعية إلى أن ذلك لا يكون وقتاً للصلاتين، وهذا الخلاف في الحقيقة ليس ورائه كبير فائدة فإنهم يسلمون لنا جواز تأدية العصر في وقت الظهر لمن كان له عذر كالمسافر والممطور ويسلمون لنا جواز تأخير الظهر عن المثل في الجواز. وإذا كان هذا مسلماً فلا معنى لقولهم إنه ليس وقتاً للصلاتين فإنا لا نريد بكونه وقتاً للصلاتين إلا ما قررناه.
نعم، يمكن أن يقال: ليس وقتاً للإختيار وإنما هو وقت للعذر والإضطرار فعلى هذا يمكن تقرير الخلاف ونحن وإن قلنا بأن ما بين زوال الشمس إلى غروبها وقت للظهر والعصر فلسنا نقول بمقالة الإمامية أنها إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين جميعاً الظهر والعصر ولكن يجب تقديم الظهر على العصر لأن وقت الظهر لا يتسع لهما فكيف يقال بدخول الزوال يدخل وقت العصر.
ووجهه: أن وقت الظهر ليس وقتاً للعصر على جهة الإختيار كما سنقرر الكلام عليهم بمعونة اللّه تعالى.
والحجة على ما قلناه من صلاحية الوقت للصلاتين الظهر والعصر: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء:78]. فظاهر الآية دال على أن من وقت الزوال إلى غسق الليل صالح لكل صلاة إلا ما خرج بدلالة أنه ليس وقتاً لها كالمغرب والعشاء، وليس وقتاً للإختيار كالزوال إلى المثل فيبقى ما ذكرناه مندرجاً تحت ظاهرها.
الحجة الثانية: ما روى ابن عباس رضي اللّه عنه عن رسول اللّه : أنه جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر(1)
__________
(1) أورده السياغي في الروض النضير بلفظ: جمع بالمدينة من غير خوف ولا سفر، وعن أبي هريرة: جمع رسول الله بين الصلاتين بالمدينة من غير خوف، رواه البزار. وفيه عثمان بن خالد الأموي وهو ضعيف، ا ه، كما جاء في الروض ما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد عن عبد الله بن مسعود قال: جمع رسول الله بالمدينة بين الأولى والعصر وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك فقال: ((صنعت هذا لكي لا تحرج أمتي)) رواه الطبراني في (الأوسط والكبير) وفيه عبد الله بن عبد القدوس ضعفه ابن معين والنسائي ووثقه ابن حبان، وقال البخاري: صدوق إلا أنه يروي عن أقوام ضعفاء، وفي الباب نفسه ورد في (الروض) حديث جابر، رواه الطحاوي بسند صحيح، قال: جمع رسول الله بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة للترخيص من غير خوف ولا علة، ومنها حديث ابن عمر، رواه عبد الرزاق بلفظ سابقه إلا أنه قال: وهو غير مسافر، قال رجل لابن عمر: ولم تر النبي فعل ذلك؟ قال: لئلا يحرج أمته إن جمع رجل، رواه الهادي في (المنتخب) بلفظ: وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال: قال عبد الله بن عمر فذكر الحديث، وفي عمرو بن شعيب مقال: والرواية فيها انقطاع؛ لأن عمراً لم يدرك عبد الله بن عمر. ومنها حديث ابن عباس وهو أقوى ما يحتج به هنا، (وهو ما أورده المؤلف) وقد رواه جماعة من أئمة أهل البيت وكثير من غيرهم، وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ومالك واحمد والبخاري ومسلم والطبراني والحافظ الهيثمي وغيره من طرق كثيرة بألفاظ مختلفة، ا هبتصرف ج1/604.
،
وفي رواية أخرى: من غير مطر ولا سفر. وفي هذا دلالة على ما قلناه من صلاحية الوقت الذي ذكرناه لهذه الصلوات.
ولهم حجتان:
الحجة الأولى: ما في خبر ابن العاص عن الرسول أنه قال: ((وقت الظهر مالم يدخل وقت العصر " ووقت العصر مالم تصفر الشمس))(1)
فخص كل صلاة بوقت وفيه دلالة على ما قلناه.
الحجة الثانية: ما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه عن الرسول أنه قال: ((للصلاة أول وآخر " فأول وقت المغرب إذا غابت الشمس وأخره حين يغيب الشفق))(2)
فجعل لكل صلاة وقتاً يخصها.
والمختار: ما قررناه آنفاً من أن الخلاف مرتفع بيننا وبينهم لأنا نريد الجواز وهو متسع عام وهم يريدون الإختيار وهو ضيق خاص، فإن كان الغرض العموم فالوقت صالح للصلاتين من الزوال إلى الغروب وإن كان الغرض الخصوص فليس صالحاً إلا لجزء منه كما أوضحنا وقت كل صلاة على الخصوص في اختيارها وبيان الأفضلية في حق كل صلاة فيها فأغنى عن تكريره.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه من الأخبار.
قالوا: حديث عبدالله بن عمرو بن العاص وحديث أبي هريرة يدلان على خصوصية الوقت لكل صلاة كما هو مفهوم من ظاهرهما وفي هذا دلالة على ما قلناه من اختصاص كل صلاة بوقتها الخاص.
قلنا: الخبران محمولان على وقت الإختيار وهذا لا نزاع فيه فإن لكل صلاة وقتاً في الفضيله وفي الإختيار لا يشاركها غيرها من سائر الصلوات وإنما كلامنا في وقت الجواز والإجزاء وهو عام من وقت الزوال إلى الغروب للظهر والعصر، ومن الغروب إلى طلوع الفجر للمغرب والعشاء.
الحكم الثاني: في جواز الجمع بين الصلاتين.
__________
(1) هو في حديث ابن عمرو بن العاص ولفظه: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر)) ا ه، جواهر ج1 ص169.
(2) تقدم مروياً عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
اتفق العلماء(1)
أئمة العترة وفقهاء الأمة الحنفية والشافعية والمالكية وغيرهم على أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين في وقت أحدهما في حال الإقامة من غير عذر ولا سبب يبيح الجمع لما روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا الصلاة لوقتها " ))(2).
وهل يجوز الجمع بينهما في وقت أحدهما في حال السفر أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز الجمع للمسافر، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن ابن عمر وابن عباس ومعاذ بن جبل وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وسعيد بن زيد " (3)
من الصحابة رضي اللّه عنهم، وبه قال: مالك والشافعي وعليه حجتان:
الحجة الأولى: ما روى عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه كان إذا زاغت الشمس وهو بمنزله جمع بين الظهر والعصر وإذا لم تزع حتى ارتحل فصار إلى وقت العصر نزل فجمع بينهما، وإذا غربت الشمس وهو في منزل جمع بين المغرب و العشاء.
__________
(1) جاء في حاشية الأصل ما لفظه: وهذا ذكر في الشرح، قال سيدنا: ودعوى الإجماع فيها نظر، لأنه قد روي عن الإمام المتوكل على الله (أحمد بن سليمان) والإمام المهدي أحمد (بن الحسين) وأحد قولي الناصر، وابن المنذر وابن سيرين، وهو قول الإمامية: أنه يجوز جمع التقديم والتأخير لمن لا عذر له. ا ه.
(2) تقدم.
(3) سعيد بن زيد أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، شهد المشاهد كلها بعد بدر مع رسول الله ضرب له رسول الله سهمه وأجره في بدر هو وطلحة، وكان بعثهما يتحسسان له أمر عير قريش فلم يحضرا بدراً، هاجر هو وامرأته فاطمة بنت الخطاب، وروى عن النبي ، وعنه ابنه هشام وأبو الطفيل وقيس بن حازم وغيرهم، نقل ابن حجر العسقلاني عن الواقدي أنه توفي في العقيق فحمل إلى المدينة، فدفن بها، وذلك سنة خمسين أو إحدى وخمسين، وكان يوم مات ابن بضع وسبعين سنة، قال: وهذا أثبت عندنا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وروي أنه مات بالكوفة، والله أعلم. (تهذيب التهذيب) 4/30.
الحجة الثانية: ما روى معاذ بن جبل أن رسول الله كان في غزوة تبوك فإذا زغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، فإن ارتحل قبل أن ترتفع الشمس أخر الظهر حتى ينزل وجمع بينهما في وقت العصر، وإن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس جمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء، ففي هذين الخبرين تصريح بأنه صلى العصر في وقت الظهر والعشاء في وقت المغرب وأنه صلى الظهر في وقت العصر والمغرب في وقت العشاء.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز الجمع في حال السفر، وهذا هو قول أبي حنيفة، ومحكي عن الحسن البصري وابن سيرين ومكحول والنخعي، فمنعوا الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما وأجازوه لأجل النسك في عرفة ومزدلفة.
والحجة على ذلك: أخبار المواقيت كالذي روى عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول اللّه أنه قال: ((وقت الظهر مالم يدخل وقت العصر " ووقت العصر مالم تصفر الشمس)) وما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((إن للصلاة أولاً وآخراً، " وإن أول وقت المغرب إذا غابت الشمس وآخره حين يغيب الشفق)). فهذان الخبران دالان على أن لكل صلاة وقتاً لا يشاركها فيه غيرها وفي هذا دلالة على المنع من الجمع لإحداهما في وقت الثانية وهو المطلوب.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من جواز الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما.
وحجتهم: ما ذكرنا ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روت عائشة رضي اللّه عنها عن رسول اللّه في السفر، قالت: كان يؤخر الظهر ويقدم العصر ويؤخر المغرب ويعجل العشاء(1).
__________
(1) تقدم.
الحجة الثانية: ما روى[عن] عبدالله بن دينار " (1)
أنه قال: غربت الشمس ونحن مع ابن عمر في سفر فسار حتى أمسى فقلنا: الصلاة، فسار حتى غاب الشفق وتصوبت(2)
النجوم، فجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء وقال: كان رسول اللّه إذا جد به السير صلى صلاتي هذه(3).
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: أخبار المواقيت كلها كالذي رواه عبدالله بن عمرو بن العاص ورواية أبي هريرة كلها دالة على اختصاص كل صلاة بوقتها فلهذا لم يجز الجمع بين الصلاتين إلا ما ذكرناه في عرفة ومزدلفة فإنهما نسكان فلا يجوز تغييرهما عن النسك وهو الجمع بينهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا معارض بما رويناه من الأخبار الدالة على صحة الجمع التي لا مدفع لها إلا بالمكابرة فإنها دالة بصرائحها على جواز الجمع بين الصلاتين.
__________
(1) أبو عبدالرحمن عبد الله بن دينار العدوي المدني، مولى ابن عمر، روى عن ابن عمر وأنس وآخرين، وعنه ابنه عبد الرحمن والسفيانان وشعبة وجماعة، وثقه غير واحد، توفي سنة 147 ه، انتهى من هامش (البساط) للإمام الناصر الأطروش، تحقيق الأستاذ عبد الكريم أحمد جدبان، منشورات مكتبة التراث الإسلامي. ط(1) 1418ه/1997م.
وفي (تهذيب التهذيب) قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة مستقيم الحديث، وقال ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي: ثقة، وقال الليث عن ربيعة: كان من صالحي التابعين، صدوقاً ديناً، زاد ابن سعد: كثير الحديث. ا ه5/177.
(2) أي مالت. هكذا في هامش الأصل.
(3) أورد في الجواهر عن ابن عمر أن رسول الله جمع بين المغرب والعشاء بجمع ليس بينهما سجدة.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه محمول على بيان وقت الإختيار وليس كلامنا فيه فإنه ظاهر لا مرية فيه، وإنما كلامنا في جواز الجمع للمسافر فإن السفر عذر في تأخير الأولى إلى وقت الثانية أو تقديم الثانية إلى وقت الأولى وما هذا حاله فليس وقتاً للإختيار وإنما هو من رخص السفر بالتقديم والتأخير.
الحكم الثالث: وإذا قلنا بجواز جمع التقديم للمسافر فهل يجوز لمن له عذر في نفسه كالمريض المتوضئ والخائف ومن به سلس البول وسيلان الجرح والمستحاضة والحائض(1)
ولمن كان مشغولاً بالطاعات بتعلم أو تعليم أو مشغولاً بحوائج الإمام وحوائج المسلمين أو كان مشغولاً ببعض المباحات كإصلاح المعيشة أو مشغولاً بطلب مال يحصله أو غير ذلك من الأمور المباحة، فهل يجوز لهؤلاء جمع الصلاتين في أول الوقت أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك لمن ذكرناه وهذا هو رأي الهادي والقاسم، وارتضاه السيدان أبو طالب وأبو العباس، ولهم على ذلك حجتان:
الحجة الأولى: ما روى ابن عباس عن الرسول أنه جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر وجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء من غير خوف ولا سفر، وروي من غير سفر ولا مطر.
وروى ابن عباس أنه ربما جمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب بالمدينة(2)
__________
(1) جاء في هامش الأصل: يريد في ابتداء الحيض إذا كانت تعتاد مجيء دمها في آخر الوقت جاز لها (جمع التقديم) ا ه.
(2) جاء بروايات كثيرة وطرق متعددة وألفاظ مختلفة بمعانٍ متقاربة، وفيما تقدم كفاية، وقد تناولها الفقهاء بآراء واجتهادات مختلفة نذكر منها هنا ما ورد في (الروض النضير) ضمن أقوال خمسة:
الأول: قول الهادي وأحد قولي المنصور بالله: أنه يجوز لعذر ولا يجوز لغير عذر، فإن فعل أجزأه.
الثاني:قول المؤيد بالله: أنه لا يجوز إلا للمسافر، قال: ولولا خلاف الإمامية [فيه] لفسقت من يفعله، ولا فرق عندي بين أن يصلي العصر بعد الميل -يعني بعد الزوال- أو قبله، أنه لا حكم لصلاته.
الثالث: للناصر وأبي حنيفة: أنه لا يجوز لأي عذر كان إلا في عرفة ومزدلفة سواء كان مقيماً فيها أو مسافراً، ولأبي حنيفة رواية ثانية: أنه يجوز في سفر الحج.
الرابع: قول الشافعي: أنه لا يجوز إلا في سفر أو مطر.
الخامس: قول الإمامية والمهدي احمد بن الحسين والمتوكل على الله أحمد بن سليمان وأحد قولي المنصور بالله وابن المنذر وابن سيرين وإحدى الروايتين عن الهادي، وإحدى الروايتين عن زيد بن علي، واختاره من المتأخرين المحقق الجلال، أنه يجوز لعذر ولغيره. إ.ه. 1/603.
.
فدل هذان الخبران على أن الجمع غير مقصور على السفر فقط.الحجة الثانية: القياس، فنقول: إنه مشتغل بغير معصية فجاز له الجمع كالمسافر. أو معذورٌ بالإشتغال بالطاعات والمباحات، فجاز له الجمع بين الصلاتين أول الوقت كالمسافر.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز جمع التقديم لأحد إلا للمسافر وهذا هو رأي الإمامين الناصر والمؤيد بالله ولهما على ذلك حجتان:
الحجة الأولى: ما روى ابن عباس وجابر في أحاديث مواقيت الصلاة فإن ظاهرها يقضي باختصاص كل صلاة بوقتها المعين فلا يجوز الخروج عن ظاهرها من غير دلالة، والمسافر فهو خارج بدلالة قامت عليه فبقي ما عداه على المنع.
الحجة الثانية: من جهة القياس، وهو أن هؤلاء الذين ذكرناهم ليسوا مسافرين فلا يجوز لهم جمع التقديم فأما الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في وقت المغرب في عرفة ومزدلفة فإنه خارج بدلالة وهو تحصيل النسك فلهذا كان جائزاً، فأما ما عداهما فهو باق على أصل المنع.
والمختار: ما قاله الإمامان الناصر والمؤيد بالله.
وحجتهما: ما أسلفناه ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: ما روى عبدالله بن مسعود أنه قال: ما رأيت رسول اللّه صلى صلاة إلا لوقتها ما خلا عرفة ومزدلفة، فلو كان الرسول يجمع بينهما في أول وقت الأولى من أجل المرض والخوف والجهاد وسائر الأعذار لما خفي على عبدالله مع صحبته للرسول في حضره وسفره.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أنها صلاة لها وقت معين مخصوص فلا يجوز ترك وقتها المشروع لها إلا لدلالة خاصة قياساً على صلاة الفجر.
قال المؤيد بالله: والمريض لا أرى له تقديم العصر إلى أول وقت الظهر بل يصليه في وقته إن أمكنه وإن فاتته لشدة علته فقضاؤه أولى من تقديمه على وقته(1).
واعلم أن كلامه هذا قد اشتمل على شدة ومبالغة في المنع من جمع التقديم وذلك من أوجه ستة:
أولها: قوله: والمريض. فإذا كان لا يجوز في حق المريض فالمنع في حق غيره أحق لعجزه وتخاذل قواه كالحائض ومن به سلس البول والمستحاضة والخائف والمشغول ببعض الطاعات والمباحات.
وثانيها: قوله: لا أرى له جمع التقديم. أراد في نظره واجتهاده وأنه لا يشارك المسافر غيره في هذه الرخصة.
وثالثها: قوله: بل يصليه لوقته. أراد أن الشرع قد حد لها حداً فلا يجوز خروجها عن حدها المشروع لها إلا لدلالة شرعية مبيحة.
ورابعها: قوله: إن أمكنه. أراد مهما كان مطيقاً لتأديتها في وقتها فلا عذر له في جمع التقديم بل يكون فرضه العزم على تأخيرها كصلاة العصر حتى يؤديها لوقتها من غير تقديم.
وخامسها: قوله: وإن فاتت لشدة علته فقضاؤها أولى من تقديمها على وقتها. أراد أن تأخير العصر وإن كان المريض يغلب على ظنه أنه إذا أخرها فاتت لشدة علته فهو معذور في التأخير وليس معذوراً في التقديم فلهذا كان التأخير أولى، وكلامه هذا محمول على مريض يغلب على ظنه أنه إذا أخرها يغمى عليه ثم يفيق وفي الوقت بقية فتأديتها بعد الإفاقة أحق من تقديمها على وقتها.
__________
(1) هذا الرأي يحتاج إلى مزيد من النظر فيه، لأن القول بتأخير العصر عن وقتها ثم يقضيها أولى من تقديم أدائها في أول وقت الظهر؛ لأن تقديم العصر مع الظهر يتفق مع كثير من الأدلة السابق ذكرها وغيرها كثير، ويتفق مع أقوال كثير من العلماء، على عكس تأخيرها إلى أن يخرج وقتها، وفي ما تناوله المؤلف من البحث ما يسد الحاجة ويكشف الحقيقة، والله أعلم. اه المحقق.
وسادسها: أن تقديمها إلى وقت الظهر ليس وقتا لها بحال ولا يعذر في ذلك كما لو أداها قبل الزوال بخلاف ما لو أخرها لشدة العلة فهو معذور، فإذا أخرها فقد أدَّاها في وقتها قضاءً أوأداءً، فكلامه هذا دال على المبالغة والشدة من هذه الأوجة.
واعلم أن المؤيد بالله وإن بالغ في هذه المسألة وشدد فيها فهي غير خارجة عن المسائل الاجتهادية والآراء النظريه. والرأي المقطوع به والحق الذي لا مراء فيه تصويب الأراء في المسائل الاجتهادية، وأن كل مجتهد مصيب كما قررناه في الكتب الأصوليه، وهي كغيرها من المسائل الخلافيه والمضطربات الفقهيه في العبادات والمعاملات فلا وجه للتشديد في هذه دون غيرها من مسائل التحليل والتحريم.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روى ابن عباس أنه ( ) جمع بين المغرب والعشاء من غير سفر ولا مطر، وروي: من غير خوف ولا سفر.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن هذه حكاية فعل مجملة ولا ندري كيف وقعت وما كان مجملاً فلا حجة فيه فلا بد من بيانها بدلالة منفصلة.
وأما ثانياً: فلأن ظاهر هذا الحديث يقضي بجواز جمع التقديم من غير عذر وأنتم لا تقولون به.
وأما ثالثاً: فلأن ما ذكرتموه معارض بحديث ابن مسعود وهو أرجح والعمل عليه أقرب لأنه حاظر وأحاديثكم مبيحة والعمل على الحاظر أولى من العمل على المبيح عند التعارض، فلهذا كان أرجح خاصة في أبواب العبادات والطهارات.
قالوا: إنه مشتغل بأمر ليس فيه معصية فجاز له الجمع في أول الوقت كالمسافر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لا جريان للأقيسة في العبادات خاصة في رخص السفر فإنها غير معقولة المعاني فالأقيسة فيها منسدة.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بقياس مثله قد قررناه فيجب القضاء ببطلان جريان الأقيسه، والإعتماد على الأخبار المروية التي أوضحناها.
الحكم الرابع: زعمت الإمامية أن الشمس إذا زالت دخل وقت الصلاتين معاً خلا أن الظهر يؤدى قبل العصر، وهذه المقالة فاسدة لأوجه أربعة:
أما أولاً: فلأن الإجماع منعقد قبل خلافكم هذا من الصدر الأول على أن وقت الزوال لا يصلح إلا للظهر وأنه وقت لاختياره إلى المثل وإنما سوغنا للمسافر ومن في حكمه على ما قررناه من الخلاف لدلالة قامت وحجة وضحت بخلاف ما ذكرتموه فإنه لا دلالة عليه.
وأما ثانياً: فلأن أخبار المواقيت إنما تؤخذ من جهة الشرع وهي دالة على أن كل صلاة مختصة بوقت لا يشاركها فيه غيرها، وإن دلت دلالة على المشاركة قضينا بها، وما ذكرتموه فلا دلالة عليه.
وأما ثالثاً: فلأن قولكم دخل وقت الصلاتين بالزوال، إما أن يكون على جهة الجمع أو يكون على جهة البدل، ومحال أن يكون على جهة الجمع فإنه لا يتسع لهما جميعاً. وإما أن يقال أنه على جهة البدل إما هذه وإما هذه على جهة الإشتراك، فما هذا حاله لا دلالة عليه ولو قامت عليه دلالة قضينا بها كما قضينا بالإشتراك في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية، وقامت عليه دلالة.
وأما رابعاً: فيلزم مثله إذا غربت الشمس، فإذا دخل الغروب دخل وقت المغرب والعشاء خلا أن المغرب يجب تقديمه وأنتم لا تقولون به فبطل ما ذكروه ، والله أعلم.
الحكم الخامس: في جمع التأخير. واعلم أن جمع التأخير لا يخلو حاله إما أن يكون لعذر أو من غير عذر فهاتان حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون من غير عذر، وهو ممنوع لا يجوز فعله لما روى زيد بن علي عن علي قال: قال رسول اللّه : ((سيأتي على الناس أئمة بعدي يميتون الصلاة كميتة الأبدان " فإذا أدركتم ذلك فصلوا الصلاة لوقتها ولتكن صلاتكم مع القوم نافلة فإن ترك الصلاة عن وقتها كفر))(1)
ثم إن هذا الحديث قد اشتمل على فوائد خمس:
الأولى منها: قوله: ((سيأتي على الناس أئمة بعدي يميتون الصلاة كميتة الأبدان " )) فيحتمل أن يكون هذا الزمان قد سبق وتقدم وهو ما كان في زمان الدولتين دولة بني أميه وبني العباس فإنهم غيروا الأحكام وتلبسوا بالأثام وأماتوا كل سنة وأحيوا كل بدعة وطغوا وبغوا وظلموا الأمه وقتلوا الأئمة لما أرادوا تغيير ما هم عليه من الظلم والفسوق، ويحتمل أن هذا زمان سيأتي فالناس من عام إلى عام يرذلون.
الثانية: تحريم تأخير الصلاة من غير عذر عن وقتها ولهذا سماه إماتة.
الثالثة: وجوب تأدية الصلاة في أول وقتها ولهذا قال: ((فصلوا الصلاة لوقتها " )).
الرابعة: أنه أمر بالصلاة معهم لإدراك فضل الجماعة ولهذا قال: ((ولتكن صلاتكم مع القوم نافلة " )) لأنه ((لا ظهران في يوم ولا عصران في يوم)).
الخامسة: قوله: ((فإن ترك الصلاة عن وقتها كفر " )) فيحتمل وجوهاً ثلاثة:
__________
(1) هذا لفظ الحديث في مجموع الإمام زيد بن علي، وأخرج نحوه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو داؤد، واللفظ له من حديث أبي ذر، قال: قال لي رسول الله : ((يا أبا ذر كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة -أو قال: يؤخرون الصلاة-؟ قلت: يا رسول الله فما تأمرني؟ قال: ((صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلها فإنها لك نافلة)) ومثله عن معاذ بن جبل، أخرجه أبو داؤد، وهو في حديث عمرو بن ميمون عن معاذ وابن مسعود، أخرجه أبو عمرو في تمهيده من طرق وهو على شرط الصحيح، ا ه1/595، ونحوه عن عبادة بن الصامت.
أما أولاً: فبأن يكون تركها على وجه الإستحلال فيكون ردَّة وكفراً كما قررناه من قبل.
وأما ثانياً: فبأن يكون محمولاً على أن تركها من أفعال الكافرين.
وأما ثالثاً: فبان يقال بأنه كفر لنعمة اللّه تعالى في مخالفة أمره، ومعصيته بترك الصلاة. فهذه الفوائد يحتملها الحديث كما ترى وهو محتمل لأكثر من هذه الفوائد ولكنا اقتصرنا على هذه لمقدار غرضنا، ولله در كلام صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه فما أكثر غرائبه وأحسن عجائبه وأدق أسراره وأعجب غوامضه وأغواره، ونحن الآن نشير إلى كلام الأئمة في حكم المؤخر للصلاة.
قال الإمام القاسم : ليس للناس تأخير الصلاة متعمدين، ولسنا لمن فعل ذلك إذا لم يكن معتلاً بحامدين(1).
وكلامه هذا فقد اشتمل على فوائد:
الأولى: كراهة تأخير الصلاة وتأثيم من أخرها على جهة العمد من غير عذر.
الثانية: جواز التأخير للعذر وعلى جهة السهو والنسيان.
الثالثة: توجه النكير عليه إذا لم يكن هناك عذر يعذره في التأخير.
الرابعة: إذا كان عليلاً جاز له التأخير.
قال المؤيد بالله : والأقرب أن المختار إذا ترك الصلاة حتى أخر الظهر عن المثل والعشاء عن وقته والمغرب عن وقته في الإختيار وهو ذهاب الحمرة فإنه يأثم ولا تكون كبيرة لأنه آخر الوقت عن مثله(2).
وكلامه هذا مشتمل على فوائد:
الأولى: أنه إذا أخر من غير عمد كالساهي والناسي والعليل فلا إثم عليه للعذر.
الثانية: أنه إذا أخر عن وقت الاختيار فإنه يأثم.
الثالثة: أن تأخيره لا يكون كبيرة ولا يفسق بها.
قال الإمام أبو طالب رضي اللّه عنه: ومن لا يكون معذوراً وأخر الصلاة فالظاهر أنها تجزيه وإن كان مسيئاً(3).
__________
(1) راجع البحر الزخار 1/170.
(2) تقدم في رأي المؤيد بالله في هذه المسألة ضمن الأقوال الخمسة المنقولة عن (الروض).
(3) راجع البحر الزخار ج1/ ص 168.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إليه وهو أن المصلي إذا أخر الظهر عن المثل والعصر عن المثلين أو صلى عند اصفرار الشمس، فإن كان ذلك لعذر على جهة الندرة لشاغل عرض، لم يكن آثماً وأجزته الصلاة، وإن كان متخذاً لذلك عادة على جهة الإستمرار فإنه يكون آثماً عاصياً يستحق النكير لتهاونه بتأدية الصلاة على وجهها، ولتركه لما أوجب اللّه عليه من المحافظة على أوقاتها.
وهل يكون تأخيره كبيرة يفسق بها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: التردد في كونها كبيرة والاحتمال من غير صرم، وهذا هو رأي الإمامين القاسم والهادي، فقد قطعا على الإثم والعصيان، ووقع التردد في الفسق وهو لا يقدم عليه إلا بدلالة قاطعة ولم تحصل فلهذا كان الاحتمال منهما. وناهيك بما هذه حاله في القبح في وقوع التردد في كونه فسقاً أو غير فسق.
المذهب الثاني: القطع بعدم الفسق، وهذا هو رأي المؤيد بالله.
والمختار عندنا: [المذهب الأول] وهو الأصح من كلام الهادي والقاسم ×.
والحجة على ذلك: هو أن الإكفار والتفسيق لا يقدم عليهما إلا بدلالة قاطعة شرعية لا احتمال فيها ولا تردد، ومن هذه حاله فلم تدل في حقه دلالة شرعية على فسقه فلهذا قضينا بإثمه ومعصيته من غير كِبَرٍ في المعصية يدل على الفسق. فقد أوردنا كلام الأئمة هاهنا لنطلع على ما فيه من الأسرار والفوائد،والله الموفق.
الحالة الثانية:إذا كان التأخير لعذر وهذا نحو المتيمم العادم للماء، والأمي الذي يتعلم الصلاة، والموميء الذي لا يستطيع قياماً ولا قعوداً، والقاعد والعريان والواقف في الماء الذي لا يتمكن من الخروج منه، وراكب الراحلة الذي لا يستطيع النزول ومن في حكمهم. فأما المتيمم فقد قدمنا الكلام فيه وهل يلزمه التأخير أم لا؟ فلا مطمع في إعادته، وأما سائر هؤلاء الذين ذكرناهم فهل تكون صلاتهم بدلية فيلزمهم التأخير أو تكون صلاتهم أصلية فيؤدونها في وقتها للإختيار؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن صلاة هؤلاء بدلية عن صلاة من ليس معذوراً فيلزمه تأخير الصلاة حتى يحصل الإياس عن صلاة الصحة، وهذا هو المحصل على رأي الهادي والقاسم وذكره أبو العباس في (النصوص)(1)
وفصل بين هؤلاء وبين المستحاضة ومن به سلس البول وسيلان الجرح، فقال: إن صلاة هؤلاء بدلية عن صلاة الأصحاء فلهذا وجب عليهم التأخير في الوقت حتى يحصل الإياس بخلاف المستحاضة ومن كان في حكمها فإن صلاتهم أصلية فلا يلزمهم التأخير.
والحجة على هذا: هو أن صلاة هؤلاء بدلٌ عن صلاة الصحيح فتقرير القياس أن نقول: بدل عن مبدول لا مرية في فعله معه فلا يجوز فعله إلا عند الإياس من البدل كالإعتداد بالأشهر ولا إياس إلا في آخر الوقت.
المذهب الثاني: أن صلاة هؤلاء أصلية فلا يجب عليهم التأخير كصلاة الصحيح.
والحجة على هذا قوله لرجل من الأنصار وقد دخل يزوره وقد شبكته الريح: ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب " ))(2)
ولم يأمره بتأخير الصلاة عن وقتها ولو كان شرطاً لذكره لأنه في موضع التعليم والبيان، وهذا هو رأي المؤيد بالله والفريقين الحنفية والشافعية.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله والفريقان.
__________
(1) تأليف أبي العباس أحمد بن إبراهيم الحسني (352) (مؤلفات الزيدية) تأليف السيد أحمد الحسيني 30/ 106، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، الطبعة الأولى العام 1413 (3مجلدات).
(2) هذا الحديث روي عن علي في مجموع الإمام زيد، وأورده في الجواهر بلفظ: دخل رسول الله على رجل من الأنصار وقد شبكته الريح، فقال: يا رسول الله كيف أصلي؟ قال: ((إن استطعتم أن تجلسوه فاجلسوه وإلا فوجهوه إلى القبلة)) حكاه في أصول الأحكام وغيره، وزاد في المجموع: ((...ومروه فليومئ إيماءً، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن كان لا يستطيع أن يقرأ القرآن فاقرأوا عنه)) ا ه1/171.
وحجتهم: ما أسلفناه ونزيد هاهنا، وهو قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ " }[آل عمران: 191] فأثنى عليهم بفعل الذكر على هذه الأحوال ولم يأمرهم بالتأخير. ولأن فضيلة الوقت مما يجب الإعتناء به وإحرازه فلا يجوز إهماله وتركه وقد قال تعالى مشيراً إلى هذا: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ " }[النور:37] وأراد: الصلوات في أوقاتها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: بدل عن مبدول لا قربة في فعله معه فلا يجوز فعله إلا عند الإياس كالمعتدة.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلا جريان للأقيسة في باب العبادات ولا يسوغ استعمالها بحال.
وأما ثانياً: فعمدتنا فيما ذهبنا إليه الآية والخبر فلا يمكن معارضتهما بالقياس لأن رأي القائس لا يساوي كلام اللّه ولا كلام رسول اللّه .
وأما ثالثاً: فنعارضه بقياس مثله فنقول: صلاة مؤداة على حكم صاحبها في توجه الخطاب فلا تؤخر عن وقتها كصلاة الصحيح.
الحكم السادس: في حكم جمع المشاركة: اعلم أن جمع التقديم والتأخير إنما شرعا في حق المسافر رخصة ورفقاً به وتسهيلاً لحاله وليسا من أوقات الفضيلة، بخلاف جمع المشاركة فإنه محرز للفضيلة فإن جمع الفرضين بالمشاركة يكون في آخر اختيار الأولى وهي الظهر وإدراك فضيلة الثانية وهي العصر وهكذا حال المغرب والعشاء تكون في آخر اختيار المغرب وإحراز فضيلة العشاء وهو أول وقتها، وليس معدوداً في التقصير ولا يحتاج إلى العذر في جواز فعله، وإنما ذكرناه بياناً لحاله وأنه غير معدود في رخصة الجمع بالتقديم والتأخير. فإذا تقرر هذا فالأفضل في [حال] المسافر إذا كان نازلاً في وقت الأولى أن يجمع بين الصلاتين في وقت الأولى وإن كان سائراً فالأفضل أن يجمع بينهما في وقت الثانية لما ذكرناه من حديث ابن عباس ومعاذ بن جبل ولأن ما ذكرناه أرفق بالمسافر وأيسر لحاله وأسهل في أمره.
الحكم السابع:وإن أراد المسافر الجمع بينهما في أول وقت الأولى فلا بد من اعتبار شروط ثلاثة:
الشرط الأول: نية الجمع لأنه رخصة وقد قال : ((الأعمال بالنيات ولكل امرء ما نوى " )) وأي وقت تكون النية فيه؟ فإن نوى الجمع عند الإحرام بالأولى صح ذلك، وإن نوى عند الإحرام بالثانية جمعها إلى الأولى جاز ذلك.
الشرط الثاني: الترتيب بينهما إذا كان جامعاً في وقت الأولى.
قال السيد أبو طالب: ذكر أصحابنا أنه إذا جمع بينهما في أول الوقت فلا بد من تقديم الأولى على الثانية لأن الوقت لها والثانية تابعة لها فلهذا وجب تقديمها، وإن جمع بينهما في وقت الأخرى فهو مخير في تقديم إحداهما على الأخرى(1).
الشرط الثالث: المتابعة بينهما، فإن فصل بينهما بفصل يسير جاز ذلك لأن ذلك لا يمكن الإحتراز منه، وإن كان الفصل بفعل كثير طويل خارج عن الحد والعرف منع الجمع.
__________
(1) سبق البحث باستفاضة في هذه المسألة عند بدايتها في (الفرع العاشر: أحكام الجمع).
وهل يسبح بينهما ويفعل نافلة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: المنع من ذلك، وهذا هو رأي المؤيد بالله وأحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الرسول أمر بالإقامة ولم ينتفل بينهما(1).
وثانيهما: جواز ذلك، وهو رأي الهادي وقول آخر للشافعي.
والحجة على هذا: هو أن هذه السبحة من سنن الصلاة فلا يمنع منها.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله لأن ذلك أخلق بحقيقة الجمع لأن مع الفصل لا وجه للجمع، وإن أراد المسافر الجمع بينهما في وقت هذه الثانية فلا بد من اعتبار هذه الشرائط التي ذكرناها لأنهما مستويان في وقوع الرخصة فما اعتبرناه في احدهما اعتبرناه في الآخر.
الحكم الثامن: هل يجوز الجمع في سفر المعصية أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز الجمع وهذا هو الذي رآه المزني وهو قول أبي حنيفة، واختاره السيدان أبو العباس وأبو طالب لمذهب الهادي.
والحجة على ذلك: هو أن الجمع رخصة في السفر كما أن القصر رخصة فيه فإذا جاز القصر في سفر المعصية جاز الجمع من غير فرق بينهما.
المذهب الثاني: المنع من ذلك، وهذا هو رأي الناصر واختاره السيد أبو طالب في (التذكرة) وهو قول الشافعي.
والحجة على هذا: هو ان الجمع رخصة في السفر والرخصة مأخوذة من فعل الرسول ، وأفعاله كلها حسنة لا يدخلها محظور لأجل العصمة. فلهذا لم يجز فعله في سفر المعصية.
والمختار: ما قاله الناصر.
والحجة على ذلك: هو أن الجمع رفق وتسهيل على المسافر فلو شرعناه في سفر المعصية لكان ذلك إعانة على المعصية، والعاصي لا يعان على فعل معصية لأن المعين يكون شريكاً له.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الجمع رخصة فيجوز في السفر كما يجوز القصر لأنهما كليهما من رخص السفر فإذا جاز أحدهما جاز الآخر من غير فرق.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) تقدم في حديث رواه مسلم أن رسول الله جمع بين المغرب والعشاء بجمع ليس بينهما سجدة.
أما أولاً: فلا نسلم جواز القصر في سفر المعصية وسيأتي تقريره في صلاة السفر.
وأما ثانياً: فلئن سلمنا فالفرق ظاهر فالقصر مأخوذ من الآية ولم يفصل بين حالة وحالة وليس كذلك الجمع فإنه مأخوذ من فعل الرسول وأفعاله كلها موصوفة بالحسن والوجوب، فافترقا، فهذا ما أردنا ذكره في الأحكام المتعلقة بالجمع ونرجع إلى تمام التفريع في الأوقات.
الفرع الحادي عشر: ومن وجبت عليه الصلاة فلم يصلها حتى خرج وقتها وجب عليه قضاؤها، لقوله : ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها " ))(1)
فإذا وجب القضاء على الساهي والناسي فوجوب القضاء على العامد أحق وأولى. وإذا وجب قضاؤها فهل يكون على الفور أو على التراخي فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الأوامر المطلقة كلها على الفور وهذا نحو الحج وقضاء الفوائت، وهذا هو رأي الإمامين الهادي والمؤيد بالله، وروي عن الناصر، ومروي عن الكرخي، وأبي يوسف وأبي حنيفة والمزني من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً " وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97] . فأوجب الحج وتوعد على تركه وفي هذا دلالة على المسارعة إلى أدائه ونحن لا نعني بالفور إلا ذلك.
الحجة الثانية: قوله : ((من مات ولم يحج مات ميتة جاهليه " )) وفي حديث آخر: ((فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً))(2).
ووجه الحجة من هذين الخبرين: هو أنه لم يرد عصيانه بالموت فإنه من فعل اللّه فلا يلام على ما فعله اللّه وإنما الغرض عصيانه بالتأخر عن أدائه عند إمكانه وهذا هو حقيقة الفور.
الحجة الثالثة: قياسية، وهي أنه واجب غير مؤقت فوجب أن يكون أداؤه على الفور، دليله: حقوق بني آدم.
المذهب الثاني: أن وجوبه على التراخي وهذا هو المروي عن القاسم، واختاره السيد أبو طالب، وهو قول الشافعي.
__________
(1) تقدم.
(2) سيأتي في الحج.
والحجة على ذلك: هي أن فرض الحج نزل سنة ستٍ وحج الرسول سنة عشر(1)،
وفي هذا دلالة على التراخي.
الحجة الثانية: هو أن الأوامر المطلقة كلها تقتضي وجوب تحصيل الفعل وليس فيها دلالة على تخصيص الفعل بالوقت الأول ولا بالثاني ولا بالثالث لا من جهة لفظ الأمر ولا من جهة معناه، وفي هذا دلالة على وجوبها على التراخي.
والمختار عندنا: تفصيل نشير إلى أسراره، وهو أن الأوامر المطلقة لا نعني بكونها مطلقة إلا أنها غير مقيدة بشيء من القيود المتعلقة بها، فلو قلنا إنها للفور أو للتراخي لبطل كونها مطلقة. لأنا لا نعني بكونها مطلقة إلا أنها خاليةعن القيود الشرعيه. فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الأوامر المطلقة ساكته عن الفور والتراخي لا دلالة عليها لا من لفظها ولا من معناها وإنما يؤخذ الفور والتراخي من دلالة منفصلة لا من مطلق الأمر المطلق، فالمقصود من الأوامر المطلقة إنما هو تحصيل الفعل من غير إشارة فيها إلى قيد من هذه القيود.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه من الحجج.
قالوا: الآية دالة على الفور بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ}(2)
وهذا الوعيد إنما يتناول التراخي.
قلنا: لا ننكر وجوب تحصيله عند كمال شرائطه بمطلق الأمر لا من جهة دلالته على الفور.
قالوا: الخبران يدلان على الفور لاشتمالهما على الوعيد الشديد بتركه.
قلنا: الوعيد إنما تناول على تركه عند استكمال شرائطه لا من جهة فوره فليس فيه دلالة على فور في تحصيله.
__________
(1) يبدو أن هذا الإستطراد جاء في سياق الإستدلال على وجوب أداء الصلاة على الآراء حول وجوب أداء الصلاة عند دخول وقتها وجواز التراخي عنها في القولين اللذين أوردهما المؤلف، وليس البحث هنا وارداً في الحج، والله أعلم.
(2) { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97].
قالوا: واجب غير مؤقت فوجب القضاء بفوره، دليله: ديون بني آدم.
قلنا: ديون بني آدم إن كانت مؤجلة وجب أداؤها عند انقضاء الأجل، وإن كانت غير مؤجلة فوجوب أدائها إنما كان بالمطالبة، فإنه يتضيق أداؤها عندها، بخلاف الأوامر المطلقة فإنه لم يرد فيها إلا مطلق الأمر لا غير وليس فيه دلالة على الفور.
وأما من قال بالتراخي فهو أبعد.
قالوا: ورد الأمر بالحج سنة ست وحج الرسول في سنة عشر، وفي هذا دلالة على التراخي.
قلنا: التراخي إنما أخذ من فعله، لا من جهة مطلق الأمر فلا دلالة فيه على التراخي، ومثل هذا لا ننكره أن تدل دلالة على التعجيل فيكون فوراً أو على الإمهال فيكون تراخياً وكلاهما إنما هو في مطلق الأمر.
قالوا: الأوامر المطلقة تقتضي وجوب تحصيل الفعل وليس فيها دلالة على تخصيص الفعل بالوقت الأول ولا بالثاني ولا بالثالث، فدل على أنها على التراخي.
قلنا: إذا لم تكن دالة على تحصيل الفعل في وقت بعينه فليس فيها أيضاً دلالة على تحصيل الفعل في أوقات متراخيه. فخصل من مجموع ما ذكرناه أن الأوامر المطلقة لا دلالة فيها على قيد من القيود لا بالفور ولا بالتراخي وهو المطلوب.
الفرع الثاني عشر: إذا وجب القضاء للفائتة فهل يجب الترتيب بين المؤداة والفائتة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب الترتيب بين الفائتة وفرض الوقت، وهذا هو رأي الناصر وزيد بن علي وأبي حنيفة وأحمد وأبي يوسف ومحمد، ومحكي عن مالك وزفر والزهري، والنخعي وربيعة، ثم اختلف هؤلاء في كيفية الترتيب بين الفائتة وفرض الوقت.
فقال أبو حنيفة وأصحابه: إنه إذا نسي المصلي صلاته حتى دخل وقت صلاة أخرى ثم ذكرها، فإن ذكرها بعد فراغه من الحاضرة أجزته، ويقضى الفائتة سواء كان الوقت واسعاً أو ضيقاً وإن ذكرها وقد أحرم بصلاة وقته، فإن كان الوقت واسعاً بطلت المؤداة، فعليه أن يصلي الفائتة ويصلى الحاضرة، وإن كان الوقت ضيقاً مضى عليها ولم تبطل ثم يقضي الفائتة، وإن كانت الفوائت ستاً سقط الترتيب وإن كن أربعاً لم يسقط الترتيب، وإن كن خمساً ففيها روايتان:
إحداهما: أنها كالست. والثانية: أنها كالأربع.
وذهب مالك والليث: أنه إذا نسي صلاة حتى دخل وقت صلاة أخرى فإن ذكر ذلك وقد أحرم بالحاضرة فيستحب له أن يتم التي هو فيها ثم يقضي الفائتة ثم يجب عليه أن يصلي الحاضرة ويعيدها إلا أن تكون الفوائت ستاً سقط الترتيب.
وذهب الزهري والنخعي وربيعة، إلى أن من نسي صلاة فذكرها وقد دخل وقت غيرها وأحرم بالحاضرة أن صلاته تبطل وعليه أن يصلي الفائتة ثم يصلي الحاضرة بعد ذلك.
وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى أنه إن ذكر الفائتة وهو مع الإمام في الحاضرة مضى فيها على الوجوب ثم يقضي الفائتة ثم يعيد الحاضرة، وحكي عن أحمد بن حنبل أيضاً أنه قال: إذا ترك الرجل صلاة في شبابه إلى أن شاخ فعليه أن يقضي الفائتة ثم يعيد كل صلاة صلاها قبل قضائها، فهذه أقاويل الفقهاء في كيفيه الترتيب بين الفائتة وفرض الوقت وهم متفقون على وجوب تقديم الفائتة على الحاضرة على ما حققناه من أقاويلهم.
والحجة لهم: [على] ما قالوه: هو أن صفة الصلاة مجملة في كتاب اللّه فيراعى في عددها وكيفية فعلها في الأداء والقضاء فعل رسول اللّه وقد روي أنه فاتته أربع صلوات في يوم الخندق فلما كان هوى من الليل قام فقضاهن قبل فرض الوقت، وفعله وارد مورد البيان في الوجوب والإمتثال فظاهره الوجوب إلا إذا خشي فوت فرض الوقت لتضايقه فإنه يسقط ويؤثر المؤداة للدلالة(1).
__________
(1) السالفة من فعل الرسول .
الحجة الثانية: هو أن الصلاة المؤداة والفائتة صلاتان واجبتان مفعولتان مع الذكر في وقت متسع لفعلهما فيجب الترتيب بينهما، كصلاة المغرب والعشاء في مزدلفه فلا يلزم عليه إذا ذكر الفائتة وصلاة الوقت قد بلغت آخرها وتضايقت فإنه يبدأ بها لدلالة خاصة.
المذهب الثاني: أنه لا ترتيب بين المؤداة والفائتة وهذا هو رأي القاسم والهادي، ومحكي عن الشافعي وحكي عنه أنه قال: فإن ذكر الفائتة في وقت صلاة حاضرة فإن كان قد ضاق وقت الحاضرة لزمه أن يبدأ بالحاضرة ثم يصلي الفائتة وإن كان وقت الحاضرة واسعاً فإنه يستحب له أن يبدأ بالفائتة ثم بالحاضرة وإن بدأ بالحاضرة قبل الفائتة أجزأه ذلك. وظاهر كلامه أنه لا يوجب الترتيب بين الفائتة والمؤداة كما ترى.
والحجة على ذلك: قوله : ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " ))(1)
وفي هذا دلالة على سقوط الترتيب بينها وبين فرض الوقت لأنه خص المكتوبة بالأداء ولم يفصل بين أن تكون عليه فائتة أولا.
الحجة الثانية: ما روى إبن عباس رضي اللّه عنه عن الرسول أنه قال: ((إذا نسى أحدكم صلاة وهو في مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها " فإذا فرغ منها صلى التي نسيها))(2)
وهذا نص صريح في سقوط الترتيب بينها وبين فرض الوقت. فهذه حجج الفريقين قد أشرنا إليها ولهم حجج غير هذه أعرضنا عنها لضعفها.
__________
(1) هذا الحديث ورد من طرق وبروايات كثيرة لعل أشهرها ما أورده المؤلف وهو: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) رواه أبو هريرة وغيره، وأخرجه مسلم 1/493 والبخاري 1/235، وابن حبان 5/567، والترمذي في سننه2/282 وهو في سنن البيهقي والنسائي وأبي داؤد وابن ماجة وغيرها.
(2) قال ابن بهران في (الجواهر): ولفظه في (الجامع) عن نافع أن ابن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي ثم ليصل بعدها الأخرى، أخرجه الموطأ هكذا موقوفاً على ابن عمر. ا ه1/173.
والمختار: ما قاله الإمامان القاسم والهادي.
والحجة: ما أسلفناه، ونزيد هاهنا وهو أنا لو أمرناه بالقضاء للفائتة قبل فرض الوقت لكنا قد منعناه عن أداء الفرض في الوقت، وأنه غير جائز لقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى " ، عَبْداً إِذَا صَلَّى}[العلق: 9،10] وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء:78]. وظاهر الآية دال على وجوب فعله عند الدلوك من غير اشتغال بالفائتة قبلها، وفي هذا ما نريده من سقوط الترتيب بينها وبين فرض الوقت فهذا تقرير كلام الإختيار.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: بيان الأوقات للصلاة وكيفيتها وأعدادها موكول إلى بيان الرسول وقد فات عليه أربع صلوات في الخندق فقضاهن قبل فرض الوقت.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإن هذا حكاية فعل لا ندري كيف وقعت فهي مجملة تحتاج إلى البيان.
وأما ثانياً: ففرض الوقت المتأخر لم يحضر فليس فيما ذكرتموه دلالة على تقديم الفائتة على فرض الوقت.
قالوا:هما صلاتان واجبتان فيجب الترتيب بينهما، دليله: صلاة المغرب والعشاء بعرفة(1).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإن المعنى في الأصل كونهما صلاتين مؤداتين وهذه مقضية فلا تقاس إحداهما على الأخرى.
وأما ثانياً: فإنما وجب الترتيب بينهما لأجل النسك فافترقا.
الفرع الثالث عشر: إذا بطل الترتيب بين الفائتة وفرض الوقت بما أوضحناه فهل يجب الترتيب بين الفوائت أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: وجوب الترتيب بينها، وهذا هو رأي الناصر، ومحكي عن زيد بن علي وأبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول ، أنه فاته أربع صلوات في الخندق وقضاهن على الترتيب. وفي هذا دلالة على مراعاة الترتيب بين الفوائت. وحكي عن الشافعي: استحباب الترتيب بين الفوائت في أنفسها.
المذهب الثاني: أنه لا ترتيب بينها، وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن الشافعي.
__________
(1) يريد مزدلفة.
والحجة على هذا: هو أن الترتيب إنما يستحق لأجل الوقت وقد فات الوقت فلهذا سقط الترتيب.
والمختار: ما قاله [الهادي].
والحجة على ذلك: هو أن الوقت لما بطل بالفوات صارت مستوية في البداية بأيها شاء، ومن وجه آخر: وهو أن الغرض الإتيان بالصلاة المقضيه سواء كانت مرتبة أو غير مرتبة، فمن أدعى الترتيب افتقر إلى دلالة شرعية ولا دلالة هاهنا تدل على مراعاة الترتيب بينها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه فاته أربع صلوات فأداهن مرتبات.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فهذه حكاية فعل لا ندري كيف كانت، والفعل مجمل فيما دل عليه حتى يحصل بيانه.
وأما ثانياً: فلو سلمناه دالاً على ما ذكرتموه فإنما هو محمول على الاستحباب دون الوجوب، وهذا الخبر قد أوردوه دلالة على وجوب الترتيب بين الفائتة وفرض الوقت وأوردوه دلالة على وجوب الترتيب بين الفوائت في أنفسها وقد أجبنا عنه فبطل تعلقهم به.
الفرع الرابع عشر: في كيفية قضاء الفوائت. قال الهادي في (المنتخب): إن شاء قضى مع كل صلاة صلاة مثلها وإن شاء قضاها متتابعة في يوم أو أيام ويقضيها كما كان يصليها أداء إذ لا فرق بينهما إلا في النية، فالقضاء لا بد فيه من نية القضاء، والأولى أن يقول: من آخر ما عليه، وإنما كان أولى لقربه من المؤداة. ولو قال: من أول ما عليه لكان جائزاً لإستوائهما جميعاً في بطلان الوقت فصارت مستحقة معاً. وقال في (الأحكام): في الناسي صلاة حتى فات وقتها أن عليه إعادتها عند أن يذكرها. فظاهر كلامه في الجامعين(1)
بطلان [شرط] الترتيب في قضائها. ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه، أن من استدان دراهم مراراً كثيرة ثم قضاها فإنه لا يفترق الحال بين أن يقضي من أول ما عليه أو من آخر ما عليه أو من وسطه لأنها كلها مستوية في الإستحقاق فلهذا سقط الترتيب في القضاء.
__________
(1) الأحكام والمنتخب.
قاعدة: اعلم أن كل من كان عليه صلوات فائتة وأراد قضاءها واختلف حاله في الفوات والقضاء، نظرت فإن كان الإختلاف بالإضافة إلى حال المرض والصحة فإنها تؤدى كحال فرض الوقت فإن فاتت في المرض وقضاها في حال الصحة فهي كفرض الوقت وإن فاتت في حال الصحة فقضاها في حال المرض قضاها كما يؤدي فرض الوقت من قعود وإن كان الإختلاف بالإضافة إلى حالة القصر والإتمام كان اعتبارها بحال الفائتة نفسها فإن فاتت في حال السفر وأراد قضاءها في الحضر قضاها قصراً لأنه عزيمة وإن كان القصر عنده رخصة قضاها تماما لأن الرخصة كانت متعلقة بالوقت وقد فات، والخطاب متوجه إليه بقضائها على الكمال من غير نقص، وإن كان فواتها في حال الحضر وأراد قضاءها في حال السفر قضاها تماماً كالفائتة.
نعم، وإن فاتته في حال السفر، وكان يرى أن القصر رخصة أو عزيمة ثم تغير اجتهاده فإنه يقضيها على رأيه يوم القضاء لأن الخطاب متوجه إليه عند القضاء ولا اعتبار بما تقدم من تغير الاجتهاد.
الفرع الخامس عشر: في بيان أوقات رواتب الصلاة، وهي تابعة للفرائض، فإذا دخل وقت هذه الفرائض دخل وقتها وتؤدى بعدها لأنها تابعة لها إلا راتبة الفجر فإنها قبلها وأداؤها في وقت الأفضليه ثم في وقت الإختيار فإذا خرج وقت الإختيار بقي وقت الجواز ونحن نذكرها واحدة واحدة.
الراتبة الأولى: سنة الفجر. والسنة فيها أن تصلى قبل المكتوبة لما روت حفصة عن رسول اللّه قالت: كان إذا سكت المؤذن من أذان الفجر صلى ركعتين خفيفتين قبل أن يقام للصلاة(1)
وروت عائشة عن الرسول [أنه] كان يصلي بين أذان الفجر وإقامته ركعتين. وروي عنها، قالت: كان رسول اللّه يصلي في بيتي ركعتين بعد طلوع الفجر ثم يخرج فيصلي بالناس الفجر(2).
وهل تكونان من صلاة الليل أو من صلاة النهار فيه مذهبان:
__________
(1) قال ابن بهران: هكذا حكاه في (الشفاء) ونحوه. والذي في الجامع [الكافي] عن حفصة أن رسول الله كان إذا أذن المؤذن للصبح وبدا الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة، وفي رواية كان رسول الله إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين، أخرجه البخاري ومسلم، والموطأ والنسائي، وقال ابن بهران عن الخبر المروي عن عائشة: ولفظه: كان رسول الله إذا سكت المؤذن بالأذان الأول من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل أن يستنير الفجر، ثم اضطجع على شقه الأيمن، ا هجواهر الأخبار ج1/163.
(2) تقدم ضمن هامش الحديث السابق.
المذهب الأول: أنهما من صلاة الليل وتصليان عند طلوع الفجر الكاذب، وهذا هو رأي الناصر، ومحكي عن الباقر والصادق وعلي بن موسى الرضا(1)
والإمامية.
والحجة على هذا: ما روي عن رسول اللّه أنه قال: ((احشوهما في الليل حشواً " )) وفي حديث آخر: ((دسوهما في الليل دساً))(2).
فظاهر هذين الخبرين يدل على أن وقتهما في الليل كما ذكرناه.
المذهب الثاني: أنهما من صلاة النهار، وهذا هو رأي الإمامين الهادي والقاسم، ومحكي عن الفريقين الشافعية والحنفية.
__________
(1) والرضى: لقبه، ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، أبو الحسن، ثامن الأئمة الإثني عشر عند الإمامية، كان عالماً عابداً، زاهداً ورعاً، مشهوراً بالتقى وأعمال البر، ومن اجلاء السادة أهل البيت وفضلائهم، ولد بالمدينة سنة 153ه، وتوفي بطوس سنة 203ه، ترجم له كثيرون منهم الزركلي في (الأعلام) فقال: وأحبه المأمون العباسي وعهد إليه بالخلافة من بعده، وزوجه ابنته وضرب اسمه على الدينار والدرهم، وغير من أجله الزي العباسي الذي هو السواد، فجعله أخضر، وكان هذا شعار أهل البيت، فاضطرب العراق وثار أهل بغداد وخلعوا المأمون وهو في طوس، وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي فقصدهم المأمون بجيشه فاختبأ إبراهيم ثم استسلم وعفى عنه المأمون، مات علي بن موسى في حياة المأمون بطوس، فدفنه إلى جانب أبيه الرشيد. إ.ه. 5/26.
(2) جاء الخبر باللفظين، حكى ذلك في (الشفاء) وغيره، وقال ابن بهران: في حاشية على الحديث: كان من عادته المبادرة لصلاة ركعتي الفجر بعد الأذان، أما حديث((دسوهما)) فلم يوجد في الصحاح، بل نص العلماء على أنه لم يصح رفعه 1/163 ولم يذكر ابن بهران مرجعاً لنص العلماء.
والحجة على هذا: ما روينا عن عائشة وحفصة من الأحاديث فإنها دالة على أنه كان يصليهما بعد طلوع الفجر، وروى أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه عن رسول اللّه ، أنه كان يوتر عند الأذان ويصلي ركعتي الفجر عند الإقامة(1).
والمختار: ما قاله الإمامان الهادي والقاسم.
والحجة ما قدمناه: ونزيد هاهنا وهو ما روى زيد بن علي عن رسول اللّه أنه كان لا يصليهما يعني ركعتي الفجر، حتى يطلع الفجر(2).
ويعتضد ما نقلناه من الأخبار بالقياس، وهو أنها نافلة تختص فرضاً فلا تفعل إلا في وقتها كنوافل سائر الفرائض.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
__________
(1) الذي جاء في مجموع الإمام زيد بن علي بسنده عن علي قال: كان رسول الله يوتر بثلاث ركعات...إلخ، وفي حديث آخر عن علي قال: من كل الليل قد أوتر رسول الله حتى انتهى وتره إلى السحر، ا هروض ج2/249،252.
ولعل ما يسند خبر المؤلف هو ما رواه زيد بن علي عن أبيه عن جده علي قال: أتاه رجل فقال: إن أبا موسى الأشعري يزعم أنه لا وتر بعد الفجر، قال علي: لقد أغرق في النزع وأفرط في الفتوى، الوتر ما بين الأذانين، قال (راوي المجموع): فسألت الإمام أبا الحسين (زيد بن علي) عما بين الأذانين؟ فقال: ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر إلى الإقامة. ا هج2/ ص 253.
هامش: (أغرق في النزع): مأخوذ من أغرق الرامي في القوس...استوفى مدها، ا هنفس المصدر، ولعل هذا التفسير غير مناسب للغرض؛ لأن الإغراق ليس استيفاء فعل الشيء، بل تجاوزه إلى ما ليس مطلوباً أو مقبولاً، وهذا ما يفهم من كلام الإمام علي؛ لأنه جاء استنكاراً لما أفتى به أبو موسى، وإلا لتحول هذا الإستنكار إلى تصويب، والله أعلم. المحقق.
(2) والحديث بلفظه في مجموع زيد بن علي عن علي. قال في (الروض): ويشهد له ما أخرجه ابن ماجة عن علي قال: كان النبي يصلي الركعتين عند الإقامة ا هج2 ص 233. وقد تقدم في أخبار حفصة وعائشة في الباب نفسه.
قالوا: روي عن رسول اللّه أنه قال: ((دسوهما في الليل دساً واحشوهما في الليل حشواً " )). وفي هذا دلالة على أنهما من صلاة الليل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه كان يسفر بالفجر في أول الأمر ثم عاد إلى التغليس وقبض عليه(1)
فالغرض: صلوهما في وقت يلي الليل. وهذا التأويل يجب قبوله لما فيه من الجمع بين الأخبار وتوفقة بين الأدلة حذراً عن التناقض.
وأما ثانياً: فالأخبار التي رويناها راجحة على ما ذكروه لكثرتها ولتصريحها بالمقصود فلهذا كانت أحق بالقبول.
قالوا: هذه الأخبار التي رويتموها محمولة على الفجر الأول، وهو الفجر الكاذب، وعلى هذا تكون موافقة لما قلناه.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن السابق إلى الفهم عند إطلاق إسم الفجر إنما هو الفجر الصادق المنتشر عرضاً وبه تتعلق الأحكام الشرعية، دون الفجر الكاذب المستطيل فلا يجوز حمله عليه.
وأما ثانياً: فلأنه لا يطلق اسم الفجر على الفجر الأول لا لغة ولا شرعاً ولا عرفاً، وقد بين الفجر وحدَّه فيجب حمل خطابه الشرعي على ما بينه من جهة الشرع.
الراتبة الثانية: الوتر. وهو سنة وليس واجباً ولا فرضاً عند أئمة العترة، ومحكي عن الشافعي وأصحابه ومحمد وأبو يوسف، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إنه واجب وليس فرضاً لأن الفرض ما ثبت بدليل مقطوع والواجب ما كان وجوبه بدليل مظنون وليس من همنا ذكر حكمه فسنوضحه في باب التطوعات، وإنما نذكر هاهنا وقته ومتى يكون. فيه مذهبان:
__________
(1) في حديث طويل أخرجه أبو داؤد عن أبي مسعود الأنصاري قال: سمعت رسول الله يقول: ((نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة...)) إلى أن قال أبو مسعود: وصلى (رسول الله) الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات [و]لم يعد إلى أن يسفر.
المذهب الأول: أن وقته [من] بعد العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر وهذا هو رأي القاسمية، ومحكي عن أكثر الفقهاء.
والحجة على ذلك: ما روى خارجة " (1)
قال: خرج علينا رسول اللّه لصلاة الغداة فقال: ((لقد أمدكم اللّه الليلة بصلاة هي خير لكم من حمر النعم " قلنا: وماهي يا رسول اللّه قال: الوتر جعلها اللّه لكم من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر)) (2).
وعن علي قال: كان رسول اللّه يوتر في أول الليل وفي وسطه وفي آخره ثم ثبت الوتر في آخره(3).
__________
(1) خارجة بن حذافة بن غانم من بني كعب بن لؤي، صحابي من الشجعان، أمد به عمر بن الخطاب عمرو بن العاص فشهد معه فتح مصر، وولي شرطته، واتفق أن عمراً اشتكى بطنه ليلة الإئتمار بقتله وقتل الإمام علي ومعاوية،، فاستخلف [عمرو] خارجة على الصلاة بالناس فقتله عمرو بن بكر الذي انتدب لقتل عمرو بن العاص، وقال قاتله لما علم خطأه: أردت عمراً وأراد الله خارجة، وذلك سنة 40 ه. ا ه(أعلام)2/293. راجع الإصابة 1/399.
(2) أخرجه أبو داؤد والترمذي عن خارجة بن حذافة بلفظ: ((قد أمدكم الله بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر)) ذكره ابن بهران في الجواهر 1/163، وفي الروض: أخرجه الخمسة إلا النسائي وصححه الحاكم.
(3) أخرجه أبو داؤد الطيالسي وابن أبي شيبة وابن ماجة وابن خزيمة والطحاوي وأبو يعلى وابن جرير وصححه. ا هروض ج2 ص252.
وعن مسروق " (1)
قال: قلت لعائشة: متى كان رسول اللّه يوتر قالت: كل ذلك قد فعل أوتر أول الليل وآخره ووسطه، ولكن انتهى وتره حتى مات إلى السحر(2).
المذهب الثاني: أن وقته بعد ثلث الليل وهذا شيء يحكى عن الناصر والإمامية.
والحجة على هذا: ما روت عائشة رضي اللّه عنها أن الرسول كان يوتر في وقت السحر. ووقت السحر: آخر الليل، وفي هذا دلالة على ما قلناه من فعله بعد ثلث الليل.
والمختار: أن وقته بعد العشاء فإذا فعله قبله لم يجزه وأعاده كما لو صلى على ظن أن وقت الفريضة قد دخل ثم بان أنه لم يدخل فإنها تلزمه الإعادة لا محالة(3).
__________
(1) مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي العابد، أبو عائشة، روى عن جمع غفير من الصحابة، وعنه ابن أخيه محمد بن المنتشر بن الأجدع وأبو وائل وأبو الضحى والشعبي وإبراهيم وأبو إسحاق وغيرهم. تأبعي من أوعية العلم، شهد مشاهد علي ، وثقه غير واحد. ا ه(البساط) ص 95، وزاد العسقلاني: الهمداني الوادعي، روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وخباب بن الأرت، وابن مسعود وأبي بن كعب، ونقل عن أنس ابن سيرين عن امرأة مسروق: كان يصلي حتى تورم قدماه، وعن أحمد بن حنبل عن ابن عيينة: بعد علقمة لا يفضل عليه أحد، وعن وكيع وغيره: لم يتخلف مسروق عن حروب علي، وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: كان من عُبَّاد أهل الكوفة، ولاه زياد على السلسلة ومات بها سنة اثنتين أو ثلاث وستين، وثقه كثيرون، منهم: العجلي وابن سعد وآخرون. ا ه(تهذيب التهذيب) 10/100 بتصرف.
(2) أخرجه الدارمي عن مسروق عن عائشة قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله وانتهى وتره إلى السحر، قال في (التخريج): ورجاله رجال الصحيح، ومثله في البخاري ومسلم وأبي داؤد والترمذي والنسائي وابن ماجة، ا هالمصدر السابق ص 252.
(3) لم يذكر المؤلف قول أحد بأن صلاة الوتر قبل العشاء، ومن ثم يظهر أن المختار هنا جاء تأكيداً لا دحضاً لرأي معارض.
والحجة على ذلك: ما نقلناه من الأخبار الدالة على أن وقته من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، فإن كان المصلي ممن لا يتهجد فالأفضل أن يوتر بعد العشاء، وإن كان ممن يتهجد فالأفضل أن يوتر في آخر الليل، لما روى جابر أن الرسول قال: ((من خاف منكم أن لا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أول الليل " ثم ليرقد ومن طمع منكم أن يقوم آخر الليل فليوتر آخر الليل))(1).
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن رسول اللّه أنه مات على الوتر في السحر. فدل على ما قلناه من أن وقته بعد ثلث الليل.
قلنا: الأخبار كلها مصرحة بأنه أوتر في أول الليل وآخره ووسطه كل هذا توسعة على الأمة ورحمة لهم فلا وجه لقصر وقته على ما بعد ثلث الليل.
الراتبة الثالثة: سنة المغرب. وهي بعد صلاة المغرب وقتها وهو وقت الفضيله، ووقتها في الإختيار إلى غيبوبة الشفق الأحمر، ومن بعد الشفق الأحمر إلى طلوع الفجر وقت للجواز، ولا تصلى قبل المغرب ومن صلاها قبلها أخطا وأعادها، ويدخل وقتها بالفراغ من المغرب، فأما الركعتان قبل المغرب فهما نافلة غير الراتبة، وقد روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء " ))(2)
__________
(1) رواه مسلم عن جابر بلفظ: ((من خاف ألاّ يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم فليوتر آخر الليل)) كما جاء في (الروض)، قال بعده: وتحمل باقي الأحاديث المطلقة على هذا التفصيل الصريح الصحيح، ا ه، ج2 ص253.
(2) ورد الخبر في تخريج أحاديث البحر لابن بهران عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله : ((صلوا قبل المغرب ركعتين)) ثم قال: ((صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء)) خشية أن يتخذها الناس سنة، هذه رواية أبي داؤد، وفي رواية البخاري ومسلم: ((صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين)) قال في الثالثة: ((...لمن شاء)) كراهة أن يتخذها الناس سنة. ا ه1/164.
خشية أن يتخذها الناس سنة. فدل ذلك على الجواز، وروي عن أنس بن مالك أنه قال: صليت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول اللّه ، فقيل لأنس: هل رآكم رسول اللّه ؟ قال: نعم رآنا فلم يأمرنا ولم ينهنا(1)،
وسئل إبن عمر عن الركعتين قبل المغرب فقال: ما رأيت أحداً صلاهما على عهد رسول اللّه (2).
__________
(1) أخرجه أبو داؤد قال ابن بهران: و هو طرف من حديث أخرجه مسلم، وعن أنس قال: كان المؤذن إذا أذن قام الناس يبتدرون السواري حتى يخرج النبي وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء، وفي رواية: لم يكن بينهما إلا قليل، وفي رواية بلفظ يرادف سابقه بزيادة: حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صُلِّيت لكثرة من يصليها، أخرج الأولى البخاري والنسائي، والثانية مسلم، ا ه، جواهر الأخبار 1/164، بتصرف.
(2) وفي فتح الغفار: عن ابن عمر قال: صليت مع النبي ركعتين قبل المغرب في بيته، أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، ا ه1/251 وفي الروايتين تناقض إلا أنه يمكن ترجيح الأخيرة هذه؛ لأن ابن عمر روى الخبر مرفوعاً عن النبي بينما ما أورده المؤلف موقوفاً على ابن عمر، وقد لا يكون هناك داعٍ لمحاولة الجمع بينهما بالقول أن ما روي عن ابن عمر نفى فيه أنه رأى أحداً يصليهما في المسجد لكنه صلاهما مع رسول الله في بيته فلا تناقض كما قد يقال، والله أعلم. المحقق.
الراتبة الرابعة: سنة الظهر. ويدخل وقتها بالفراغ من الظهر، وهو وقت الفضيلة، ووقتها في الإختيار إلى عند المثل، وبعد المثل وقت جوازها إلى غروب الشمس، فأما العصر والعشاء فليس لهما راتبتان واضب الرسول على فعلهما بعد هاتين الفريضتين مثل غيرهما من الفروض، فأما الأربع قبل العصر والركعتان بعد العشاء فهي من جملة النوافل المبتدأة، وسنوضح الكلام في الأفضل من هذه الرواتب، ونذكر النوافل ما يتكرر منها بحسب الأعوام، وما يتكرر بحسب الأسابيع، عند الكلام في صلاة التطوع بمعونة اللّه تعالى.
الفرع السادس عشر: يكره النوم قبل العشاء لما روى أبو برزة " (1)
عن رسول اللّه قال: كان يكره [النوم قبل العشاء] والحديث بعدها(2).
ويكره السمر. لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا سمر إلا لمصل أو مسافر " ))(3).
__________
(1) نضلة [بضاد معجمة ساكنة] بن عبيد أبو برزة الأسلمي، صحابي روى عن النبي وعن أبي بكر الصديق، وعنه ابنه المغيرة وبنت ابنه منية بنت عبيد بن أبي برزة، وأبو المنهال الرياحي والأزرق بن قيس، وغيرهم كثيرون، قال البخاري: نزل البصرة وذكر له حديث: غزوت مع النبي سبع غزوات، وقال ابن سعد: كان من ساكني المدينة ثم البصرة.
وقال الخطيب: شهد مع علي فقاتل الخوارج بالنهروان، وغزا بعد ذلك خراسان فمات بها، وقيل: بنيسابور، وقيل: بالبصرة بعد سنة أربع وستين، وبه جزم الحاكم أبو أحمد. اهمختصراً من (تهذيب التهذيب) 1/399.
(2) أخرجه البخاري هكذا وأخرجه هو ومسلم في جملة حديث، وللترمذي نحوه، وفي أبي داؤد: وكان رسول الله ينهى عن النوم قبلها، والحديث بعدها. ا هجواهر 1/158.
(3) تقدم من الأحاديث في كراهة السمر بعد صلاة العشاء إلا الثلاثة: (مصلٍ أو مسافر أو عروس) منها ما أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما عن عائشة وابن مسعود. ا ه.
ويستحب إذا كان في مصلحة من مصالح الدين وأمر الجهاد وحوائج المسلمين. لما روى عمر بن الخطاب قال: كان رسول اللّه يسمر في الأمر من أمور المسلمين.
وإن أحرم الرجل بالصلاة في هذه الأوقات المكروهة الثلاثة(1)
فهل يقطع الصلاة ويخرج منها أم لا؟ فيه تردد في انعقادها.
والمختار: قطعها ويأثم إن أتمها ولا تنعقد صلاته كما لو صلى بغير وضوء لأن اشتراط صحة الوقت للصلاة كاشتراط الوضوء للصلاة ولأنه قد نُهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة والنهي يقتضي فساد المنهي عنه خاصة في العبادات، فإنه لا يقع فيه تردد بخلاف عقود المعاوضات فإن فيها تردداً هل يكون النهي مفسداً لها أم لا؟
ومن اشتبه عليه الوقت صلى بالاجتهاد، ويظهر ذلك بالوظائف والأوراد بالقرآءة فإن وقع في الوقت أو بعده فلا قضاء عليه، وإن كان قبل الوقت فإن أدرك الوقت أعاد لأن الخطاب متوجه إليه في تأدية الصلاة وإن لم يدرك الوقت فلا قضاء عليه، لقوله : ((لا ظهران في يوم ولا عصران في يوم)). فهذا ما أردنا ذكره في بيان الأوقات المكروهة وما يتعلق بها من تفاصيل المسائل والله الموفق للصواب.
__________
(1) السالف ذكرها في الفصل الثاني.
---
الفصل الثالث
في بيان صلاة العليل وأرباب العذر
اعلم أن الذي يتعلق بما نحن فيه من بيان الأوقات إنما هو الكلام في أرباب الأعذار فأما الكلام في صلاة العليل فلا تعلق لها بالأوقات وإنما مواضعها باب الصلاة ولكنا أوردناها هاهنا لغرضين:
أحدهما: أن المرض نوع من العذر، كالجنون والإغماء.
وثانيهما: أنا جمعناهما هاهنا تبركاً بكلام السيد أبي طالب وتيمناً بإيراده فإنه جمعهما في (التحرير) في باب واحد فتابعناه، فنجعل الكلام في قسمين: قسم في العليل، وقسم في أرباب الأعذار.
القسم الأول: في بيان صلاة العليل.
العليل يصلي على الحالة التي يقدر عليها فإن كان عاجزاً عن القيام صلى قاعداً فإن لم يقدر على القعود صلى على جنب، لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}[آل عمران:191] وقيل في تفسير الآية: قياماً إذا قدروا عليه وقعوداً إذا لم يطيقوا القيام، وعلى جنوبهم إ ذا لم يطيقوا القعود.
وروي عن عمران بن الحصين أنه قال: كان بي بواسير، والباسور: ورم يقع في باطن المقعدة ينفجر وربما قتل(1).
فسألت رسول اللّه عن الصلاة فقال: ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب " ))(2).
وقال أنس بن مالك: سقط رسول اللّه من راحلته فجحش شقه الأيمن فصلى قاعداً وصلى الناس معه قعوداً. فهذا تمهيد الباب.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: العاجز الذي يجوز له ترك القيام لا يخلو حاله إما أن يكون زمناً(3)
__________
(1) هذه الجملة حاشية من كلام المؤلف لتعريف الباسور.
(2) هذه إحدى روايتي البخاري وأبي داؤد، وكذا الترمذي إلا أنه لم يذكر البواسير، وإنما قال: سألته عن صلاة المريض، فذكر الحديث، ا هجواهر 1/175.
(3) قال ابن منظور: ورجل زمن أي مبتلى بيّن الزمانة، والزمانة: العاهة، اهلسان ج13ص 199.
لا يستطيع القيام بحال أو يكون صحيحاً خلا أنه لا يستطيع القيام إلا بتحمل مشقة شديدة أو يخاف إن قام تأثيراً ظاهراً في العلة إما بزيادتها أو استمرارها أو حدوث علة أخرى بالقيام، جاز له ترك القيام لأن كل عبادة لم يقدر على أدائها إلا بتحمل مشقة شديدة جاز تركها إلى بدلها كالمسافر في شهر رمضان فإنه يجوز له الإفطار(1)
وإن كان قادراً على الصيام لتحمل المشقة، لما روى جابر أن رسول اللّه ، سقط من فرس فانفكت قدمه فدخلنا عليه نعوده وهو يصلي قاعداً وصلينا قياماً بصلاته فأومى إلينا أن اجلسوا، فلما فرغ من صلاته قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به " فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً وإذا صلى جالساً فاجلسوا))(2).
فإذا ثبت هذا فكيف يكون الاستحباب في القعود؟ فيه مذاهب ثلاثة:
__________
(1) يبدو أن لا مساغ هنا للقياس؛ لأن المسافر يجوز له الإفطار مطلقاً دون اشتراط المشقة، بينما الصلاة من قعود يشترط في صحتها العجز أو المشقة.
(2) أورد الحديث في جواهر الأخبار عن جابر بلفظ: ركب رسول الله فرساً في المدينة فصرعته على جذم نخل، فانفكت قدمه فأتيناه نعوده فوجدناه في مشربة لعائشة يصلي جالساً قال: فقمنا خلفه فسكت عنا، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده، فصلى المكتوبة جالساً فقمنا خلفه فأشار إلينا فقعدنا، قال: فلما قضى الصلاة قال: ((إذا صلى الإمام جالساً فصلوا جلوساً، وإذا صلى الإمام قائماً فصلوا قياماً، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائهم)) هذه إحدى رويتي أبي داؤد، ا ه، كما اورده في رواية أخرى عن أنس باختلاف في لفظ الرواية، ومتن الحديث بقوله: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع لله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون)) زاد بعض الرواة: ((..فإذا صلى قياماً فصلوا قياماً)) هذا لفظ البخاري ومسلم، وللباقين نحو من ذلك، اه. 1/175.
المذهب الأول: أنه يقعد متربعاً، وهذا هو الذي نص عليه الإمامان القاسم والهادي وهو قول المؤيد بالله وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روت عائشة قالت: رأيت رسول اللّه يصلي متربعاً. (1).وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي " )).
الحجة الثانية: هو أن التربع بدل عن القيام وقد أخذ في القيام الإستواء والتمكن، فبدله يكون على حاله في الإستواء والتمكن في الصلاة. وصورة التربع: أن يجعل باطن قدمه اليمنى تحت فخذه اليسرى وباطن قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى حتى يكون مطمئناً للقعود، ويضع كفيه على ركبتيه مفتوحة أنامله كما يصنع في الركوع.
المذهب الثاني: أن يقعد مفترشاً، وهو أحد قولي الشافعي، ومحكي عن زفر.
والحجة على هذا: هو أن الإفتراش قعود العبادة وهو المشروع في قعود الصحة للصلاة، والتربع هو قعود العادة. فلهذا كان الإفتراش أدخل في الاستحباب من التربع، وصورة الإفتراش وهو التورك: أن يفترش وركه اليسرى وينصب قدمه اليمنى ويبسط يديه على فخذيه كما يفعل ذلك في التشهد الأخير.
المذهب الثالث: أن العاجز عن القيام يقعد كيف شاء، وهذا هو رأي محمد بن الحسن وحكاه عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا هو أن هذه حالة ضرورة فلهذا جعلناها موكولة إلى رأي المريض يفعل كيف شاء من التربع والإفتراش.
والمختار: ما قاله الإمامان الهادي والقاسم لما قررناه، ونزيد هاهنا وهو أن التعويل على ما دلت عليه الأخبار أحق من التعويل على ما يحصل من الأراء خاصة في العبادات، فإذا أثر عن صاحب الشريعة قول فهو أحق بالقبول من غيره لأنه لا ينطق عن الهوى وإنما ينطق عن الوحي بتأييد العصمة.
__________
(1) أخرجه النسائي قال: ولا أحسب هذا الحديث إلاَّ خطأً، المصدر السالف. وفي فتح الغفار: رواه النسائي وصححه الحاكم وهو للنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم من حديثها (يعني: عائشة) بلفظ: لما صلى جالساً تربع، ورواه ابن خزيمة والبيهقي، ا هج1 ص 329.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: التربع هو فعل العادة، والإفتراش هو فعل العبادة فلهذا كان أدخل في الاستحباب.
قلنا: تلك حالة الرفاهية، وهذه حالة الضرورة بالعجر والمرض فأحدهما مخالف للآخر.
قالوا: يفعل المريض لنفسه ما شاء وإليه الخيرة في ذلك من التربع والإفتراش على قدر حاله في التمكن.
قلنا: لا ننكر ما قلتموه ولكن إذا أشار صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه إلى شيء في العبادات فكلامه أحق بالقبول من تحكيم الأراء القياسيه. فكلامه أصدق وفعله أوفق وهذه الأقاويل كلها إنما هي في الاستحباب لكن ما اخترناه أحق لإشارة صاحب الشرع إليه.
الفرع الثاني: وإذا قعد المريض نظرت فإن أمكنه الركوع والسجود فعل ذلك لأنه قادر عليه لكنه ينحني في الركوع حتى يصير بالإضافة إلى القاعد كالراكع بالإضافة إلى القائم، وإن لم يقدر أن يسجد على الأرض لعلة في جبهته وظهره إنحنى أكثر ما يقدر عليه وإن أمكنه أن يسجد على صدغه الأيمن أو الأيسر فعل ذلك لأنه يكون أقرب إلى هيئة السجود على الجبهة. والصدغ ما يلي العين لأن كل ما كانت الجبهة أقرب إلى الأرض فهو أولى. وإن كان يمكنه السجود على عظم الرأس وهو ما فوق الجبهة كان أولى لأن الرسول سجد على قصاص رأسه، فإذا جاز ذلك في حال الصحة كان جوازه في حال المرض أجوز، وإن سجد على حجر أو مخدة أو وسادة نظرت فإن كان يحملها بين يديه ليسجد عليها لم يجز لأنه يكون ساجداً على ما يحمل، وإن وضعها على الأرض وسجد عليها جاز ذلك، لأنه سجد على الأرض، وهكذا لو سجد على شيء مرتفع وهو صحيح أجزأه ما لم يكن خارجاً عن هيئة السجود، وإذا كان قادراً على أن يصلي قائماً منفرداً ويخفف الصلاة وحده، وإذا صلى خلف الإمام احتاج إلى أن يقعد في بعضها، فالأولى له أن يصلي منفرداً وكان هذا عذراً في ترك الجماعة. فإن صلى مع الإمام وجلس فيما عجز عنه كانت صلاته صحيحة.
الفرع الثالث: وإذا كانت به علة يقدر معها على القيام، وتمنعه من الركوع والسجود، وجب عليه القيام فيقوم ويقرأ في حالة القيام. وكيف يفعل بالركوع والسجود؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يومئ للركوع من قيام ثم يقعد ويومئ للسجود من قعود وهذا هو رأي أبي طالب، ومحكي عن الشافعي.
وثانيهما: أنه يفعل ما شاء وهو بالخيار إن شاء صلى قائماً وإن شاء صلى جالساً، وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والمختار: ما قاله الشافعي لقوله لعمران بن حصين: ((صل قائماً فإن لم تستطع فجالساً " )) ولأنه إذا أومأ للركوع من قيام كان أقرب إلى هيئة الركوع، وإذا أومأ للسجود من قعود كان أقرب إلى هيئة السجود، فلهذا كان أولى، و إذا بلغ إلى الركوع وعجز عن أن ينحني حنى رقبته، فإن لم يقدر إلا بأن يعتمد على عكاز أو عصا إعتمد عليها وانحنى. وإن تقوس ظهره من الكبر أو انحدب حتى صار كالراكع ولا يقدر على الإستواء فعليه أن يصلي على حالته فإذا بلغ الركوع انحنى وإن كان يسيراً ليقع الفصل بين القيام والركوع.
وإن كان بعينيه رمد وكان يقدر على الصلاة قائماً فقيل له: إن صليت مستلقياً على قفاك كان أقرب إلى عافيتك وأسرع إلى برئك، فهل يجوز له ذلك أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك وهو رأي المنصور بالله ودل عليه كلام المؤيد بالله، والمحكي عن بعض أصحاب الشافعي، وهو رأي أبي حنيفة والثوري.
والحجة على هذا: هو أنه لو كان صائماً ورمدت عيناه واحتاج إلى الفطر لسرعة العافية جاز له ذلك، فهكذا هاهنا يجوز له ترك القيام لأجل العافيه.
المذهب الثاني: المنع من ذلك وهذا هو المحكي عن مالك والأوزاعي، وهو رأي أكثر أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه لما نزل في عينيه الماء كف بصره فقال له الطبيب: إن صبرت على سبعة أيام تصلي مستلقياً على قفاك داويتك ورجوت لك العافية، فأرسل إلى عائشة وأم سلمه وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة يسألهم عن ذلك، فقالوا له: إن مت في هذه الأيام ما تفعل بصلاتك؟ فترك مداواة عينيه، وفي هذا دلالة على المنع من ذلك، ولله در العلماء وأهل الفضل والمراقبة لخوف اللّه ما أشد مراقبتهم وأخوفهم لله وأقومهم بما وجب عليهم وأعظم تواضعهم، أنظر إلى ابن عباس مع علمه الباهر وتبحره في علوم الشريعه ما اكتفى بنظره حتى أرسل إلى الصحابة ولم يقبل الرخصة واعتمد على ما قالوا لما فيه من الحيطة للدين وآثر الضرر بنفسه على ترك الصلاة(1).
والمختار: الجواز لأمرين:
أما أولاً: فلقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
[الحج: 78] وأي حرج أعظم من ذهاب البصر وفساده، وفي صحته قوام أمر الدين وتأدية العبادات على أكمل حالة وأتمها فلهذا جاز فعل الصلاة على الوجه الممكن حتى يتم هذا الغرض من الصحة.
وأما ثانياً: فلأنه إذا جاز الإفطار بعروض المرض والسفر ميلاً إلى التخفيف، فإذا جاز ترك هذه العبادة أعني الصوم لعارض المرض والسفر جاز مثله في الصلاة. بل هاهنا أجوز لأن الصوم في السنة مرة والصلاة في كل يوم وليلة فالرخصة فيها أقرب مع أنه يأتي بالصلاة بالممكن بما هو بدل عن صلاة الصحة. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا أبداً ما أبقيتنا واجعله الوارث منا.
فأما ما حكي عن فتوى الصحابة بالمنع فله تأويلان:
أحدهما: أنهم عملوا في ذلك على الإحتياط والورع دون الشرع فلهذا أفتوه بالإمتناع.
وثانيهما: أنه لم يغلب على ظنهم العافية والبرؤ لاستحكام العلة، فلهذا كان جوابهم: منع ذلك.
__________
(1) أورده في الجواهر وقال: هكذا حكاه في المهذب، ولم يذكر معهما (عائشة وأم سلمة) أبا هريرة والله أعلم، ا ه1/176.
الفرع الرابع: إذا عجز المريض عن الركوع والسجود وهو قادر على القعود فإنه يصلي بالإيماء يكون إيماؤه لسجوده أخفض من إيمائه لركوعه لما روي عن ابن عمر أنه قال: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ إيماءاً.
وقلنا: يكون إيماؤه لسجوده أخفض من إيمائه لركوعه، لما روى زيد بن علي عن علي قال: دخل رسول اللّه على رجل يعوده فقال: يا رسول اللّه كيف [أصلي]؟ فقال: ((إن استطعتم أن تجلسوه فأجلسوه " وإلا فوجهوه إلى القبلة ومروه فليومئ إيماءً ويجعل السجود أخفض من الركوع وإن كان لا يستطيع أن يقرأ فاقرأوا عنه))(1).
قال الهادي في (الأحكام): ولا يُقَرِّب شيئاً من وجهه فيسجد عليه ولا يقرب وجهه إليه. وقد قال به غيرنا، وليس له عندنا معنى ولم أعرف قائلاً به من أهل العلم. وكلامه هذا محمول على أنه لا يحمل شيئاً بيديه فيسجد عليه ليطابق ما قاله القاسم في (النيروسي)، وإن أطاق السجود سجد على الأرض وإلا فعلى ما يمكنه من وسادة أو غيرها على ما فصلناه من قبل لأنه يكون ساجداً على الأرض.
الفرع الخامس: إذا عجز المريض عن الصلاة قاعداً فإنه يصلي مضطجعاً لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}[آل عمران:191] ولما رويناه من حديث عمران بن حصين. وكيف يكون الإضطجاع، فيه ثلاثة أوجه:
__________
(1) جاء الحديث في الروض النضير شرح مجموع الإمام زيد بن علي بزيادة: ((...وإن كان لا يستطيع أن يقرأ القرآن فاقرأوا عنه)) وأورد صاحب الروض أحاديث وروايات من عدة طرق كلها تسند الحديث السابق منها ما رواه علي: ((يصلي المريض قائماً إن استطاع...إلخ)) أخرجه الدارقطني، ومنها حديث عمران بن حصين السالف ذكره، وحديث عن ابن عمر: ((يصلي المريض مستلقياً)) وغيرها من الأحاديث عن جابر وابن عباس وغيرهما، ا هملخصاً ج2/282-286.
الأول: أن يعترض على جنبه بين يدي القبلة كما يفعل في لحده، وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن الشافعي وأحمد بن حنبل، وروي عن عمر أيضاً.
والحجة على هذا ما روي عن الرسول أنه قال: ((يصلي المريض قائماً فإن لم يستطع صلى قاعداً " فإن لم يستطع صلى على جنبه مستقبل القبلة))(1).
الوجه الثاني: أن يستلقي على قفاه ويستقبل القبلة برجليه وهذا هو رأي الهادي، ومحكي عن إبن عمر، والثوري، والأوزاعي وأبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول حيث دخل على المريض فقال: ((وجهوه إلى القبلة " ))(2).
وهو إذا كان مستلقياً على ظهره كان متوجهاً بجميع بدنه إليها.
الوجه الثالث: أن يكون مضطجعاً على جنبه الأيمن ويستقبل القبلة برجليه ويكون وجهه إلى جهة المشرق أو المغرب، وهذا شيء حكاه بعض أصحاب الشافعي، ولم يحك أن أحداً قال به ولم أعرف له قائلا، وإنما حكيناه لكونه ممكناً من جملة أحوال الإضطجاع.
والمختار في الإضطجاع: أن يكون لجنبه كما يكون في اللحد. وتعضده الآية في قوله تعالى: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} وهذا نص صريح في إضطجاعه على جنبه، وأما الخبر فقوله: ((فإن لم يستطع فعلى جنب مستقبل القبلة " )).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روينا عن الرسول أنه قال: ((وجهوه إلى القبلة " )). وهو إذا كان على ظهره كان متوجهاً بجميع بدنه إلى القبلة.
قلنا: خبرنا يعارض خبركم وتبقى الآية لا معارض لها فيجب العمل على ظاهرها.
__________
(1) أورده الرباعي في فتح الغفار عن علي عن النبي بلفظ: ((يصلي المريض قائماً إن استطاع فإن لم يستطع صلى قاعداً، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ برأسه وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقياً))رواه الدار قطني بإسناد ضعيف. اه 1/328.
(2) هذا جزء من حديث زيد بن علي عن علي وقد تقدم في الباب نفسه.
قالوا: إذا كان مسلقياً على قفاه كان متوجهاً بجميع بدنه إلى القبلة فيكون أولى.
قلنا: لا نسلم ما ذكرتموه بل إذا كان على جنبه فهو مستقبل القبلة بجميع بدنه، وإذا كان على قفاه كان رأسه مستدبراً للقبلة ورجلاه نحو القبلة لا غير والإستقبال للقبلة بالوجه أفضل من استدبارها بالرأس، والإستقبال بالوجه للقبلة أفضل من استقبالها بالرجلين، فلهذا كان الأفضل هو الإضطجاع على جنب.
الفرع السادس: وإذا صلى على جنبه كما أشرنا إليه فإنه يومي برأسه للركوع والسجود ويكون إيماؤه لسجوده أخفض من إيمائه لركوعه لما روينا من حديث ابن عمر، فإن لم يستطع المريض السجود أومأ إيماءاً فإن عجز عن الإيماء برأسه فهل يسقط عنه فرض الصلاة أو يتوجه عليه تكليف آخر؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن المريض إذا عجز عن الإيماء بالرأس سقط عنه فرض الصلاة. وهذا هو الذي حصله السيدان أبو طالب وأبو العباس لمذهب الهادي وهو قول أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن الصلاة إنما هي أعمال هذه الجوارح اليدان والرجلان والرأس، وكل واحد من هذه الأعضاء له عمل في الصلاة فإذا عجز المريض عن هذه الأمور الثلاثة سقط عنه فرضها لأن ما عداها لا يقال له صلاة.
المذهب الثاني: أن المريض إذا عجز عن الإيماء بالرأس توجه عليه الإيماء بعينيه وحاجبيه ولا يسقط عنه فرض الصلاة، وهذا هو الذي حصله الشيخ علي بن الخليل من مذهب المؤيد بالله، وهو قول الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن علي عن الرسول أنه قال: ((يصلي المريض قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب " مستقبل القبلة فإن لم يستطع صلى على قفاه وأومأ بطرفه))(1).
__________
(1) تقدم في حديث الأنصاري الذي شبكته الريح، أورده زيد بن علي في مجموعه عن علي، وفي هذه الرواية زيادة بعد كلمة مستلقياً ((...على قفاه إلى القبلة وأومأ بطرفه)) أورده ابن بهران في الجواهر نقلاً عن المهذب من رواية علي أيضاً، ا هج1/176.
فهذا فيه دلالة على أنه لا يسقط عنه فرض الصلاة مهما قدر على الإيماء بطرفه.
المذهب الثالث: أنه إذا عجز عن الإيماء بالعينين والحاجبين سقط عنه فرض الصلاة، وهذا هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك، وحكي عن زفر والغزالي: أنه يتوجه الإيماء بالقلب إذا عجز عن الإيماء بطرفه.
والحجة على هذا قوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم " )) وهذا يستطيع ما ذكرناه فوجب الإتيان به.
والمختار: ما حُصِّل على رأي الهادي واختاره السيدان أبو طالب وأبو العباس لمذهبه.
والحجة له: ما ذكرناه ونزيد هاهنا، وهو أن الآية اقتصر فيها على القيام والقعود والجنب ولم يزد على ذلك، وفي هذا دلالة على أن التكليف بالصلاة مقصور على ما ذكرناه من غير زيادة. وهكذا حال الخبر فإنه دال على ما ذكرناه من الإقتصار على هذه الأمور الثلاثة فلو كان شيئاً واجباً تكون صلاة لذكرها لأنه في موضع التعليم فلا يجوز تأخيره عن البيان في وقت الحاجة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين [ما] رواه عن الرسول أنه إذا عجز عن الإيماء بالرأس أومأ بطرفه، وفي هذا دلالة على أن الإيماء ليس مقصوراً على الرأس.
قلنا: إنما كان ذلك على جهة الاستحباب حتى لا يخلو المريض من ذكر اللّه فأما أنه يعد صلاة فلا يعد صلاة، فأما ما روي عن زفر أنه يتوجه على المريض الإيماء بالقلب.
قلنا: الإجماع منعقد على بطلان هذه المقالة من جهة الصدر الأول وإن ما هذا حاله لا يعد من الصلاة.
قوله: روي عن الرسول : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم " )).
قلنا: إنما يعني ما كان من المأمورات الداخلة تحت القدرة والإمكان، وما هذا حاله فلا يعد صلاة، وأيضاً فإن المقصود هو إيقاظ المريض عن الغفلة عن ذكر اللّه وأنه مأمور بذلك فأما أنه مكلف بالصلاة إذا انتهى إلى هذه الحالة فلا قائل به، فيجب أن يكون باطلاً.
الفرع السابع: وإن افتتح الصلاة قائماً ثم عجز عن القيام فله أن يجلس ويبني على صلاته، وهذا قول أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يعرف فيه خلاف بينهم، ولو قرأ الفاتحة في حال الإنحطاط إلى آخر الجلوس أجزأه لأن الإنحطاط أعلى من حال الجلوس، فإذا كانت القراءة مجزية له في حال الجلوس فلأن تجزيه في حال الإنحطاط أحق وأولى، وهكذا لو افتتح الصلاة جالساً ثم عجز عن الجلوس واضطجع في صلاته بنى عليها كما قلناه في التي قبلها، وإن افتتح الصلاة جالساً عند العجز عن القيام ثم قدر على القيام في أثناء الصلاة وجب عليه القيام. وهل يبني على صلاته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يستأنف الصلاة ولا يبني وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن محمد بن الحسن.
و الحجة على ذلك هو: أنه قد عاد بعد زوال العذر إلى الحال التي لو كان عليها في الإبتداء لم يجز الدخول فيها وهو عليها(1) فلهذا لزمه الإستئناف كالمستحاضة إذا زال عذرها بانقطاع الدم في الصلاة وكالمتيمم إذا وجد الماء في خلالها.
المذهب الثاني: أنه يجوز له البناء ولا يلزمه الإستئناف وهذا هو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأبي يوسف.
والححة على ذلك هو: أن زوال العذر لا يورث عملاً طويلاً فلا تبطل الصلاة لأجله كالأَمَةِ إذا صلت بغير الخمار ثم اعتقت فإنه لا يلزمها استئناف الصلاة لأنه لا يورث عملاً طويلاً.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة.
والحجة لهم: ما نقلناه ونزيد هاهنا، وهو أن صلاة القاعد بدل عن صلاة القائم لأجل العذر فإذا وجد المبدل منه بدل البدل وجب عليه الإستئناف كالمتيمم إذا رأى الماء.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: زوال العذر لا يورث عملاً طويلاً فلا يلزم الإستئناف كالأَمَةِ إذا أعتقت.
__________
(1) أي: حالة الجلوس.
قلنا: المقصود: هو بطلان الصلاة ووجوب استئنافها مع وجود المبدل سواء كان بعمل قليل أو كثير ولا تلزم عليه الأَمَة إذا أعتقت لأن صلاتها ليست بدلاً وإنما وجب عليها الستر من عند العتق بأمر جديد لا من أول الصلاة ولهذا فإنه يجوز لها الصلاة من غير خمار من أول الصلاة فجاز لها البناء بخلاف القاعد فإنه إنما وجب عليه القعود بدلاً عن القيام فإذا وجد القيام استأنف الصلاة فافترقا.
قاعدة:اعلم أن المصلي إذا تغير حاله في الصلاة نظرت فإن تغير حاله من الأعلى إلى الأدنى جاز له البناء على ما فعله في حال العذر كالقائم يقعد والقادر إذا عجز عن القيام واللابس إذا عدم ستر العورة، فمن هذه حاله يبني على صلاته ولا يستأنفها لقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ " }[محمد:33] ولأنه إذا بنى عليها فقد أدى بعضها على التمام وبعضها على النقصان، وإذا استأنفها أداها كلها على النقصان فلهذا كان البناء أحق وأولى.
وإن انتقلت حاله من الأدنى إلى الأعلى استأنف الصلاة لأنه قد قدر على البدل فلا يجوز البقاء عليه مع وجود مبدله وتمكنه منه، كالمستحاضة إذا زال عذرها والمتيمم إ ذا وجد الماء في الصلاة. ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا الأمة إذا صلت من غير خمار ثم أعتقت فإنه لا يلزمها الإستئناف لأن الخطاب بالستر إنما توجه عليها في الحال ولهذا فإنه يجوز لها الصلاة من غير خمار مع القدرة عليه.
الفرع الثامن: قال المؤيد بالله: يفسق المريض إذا ترك الصلاة وهو يقدر عليها بالإيماء والطهارة لا خلاف فيه.
واعلم أن الإكفار والتفسيق لا يكون إلا بالأدلة الشرعية؛ لأن العقل لا مجال له فيهما، وإنما مستندهما هو القطع بأدلة الشرع، إما بآيات منصوصة لا يتطرق إليها التأويل، وإما بسنة منصوصة متواترة، وإما بإجماع قاطع منقول بالتواتر، وما عدا هذه من الأمور الظنية فلا مدخل له في الإكفار والتفسيق والإجماع منعقد على ما قلناه. فإذا عرفت هذا فاعلم أن كلام الإمام محمول على أن تارك الصلاة لا يفسق إلا بصلاة يوم وليلة إذا تركها وهو قادر على الإيماء والطهارة؛ لأن مستندنا في التفسيق بما ذكرناه إنما هو الإجماع ولم ينعقد الإجماع إلا على ما قلناه. لأن من الفقهاء من قال: يفسق بصلاة واحدة ومنهم من قال: يفسق بصلاتين ومنهم من قال: بثلاث، والإجماع إنما انعقد بصلاة يوم وليلة وهو مستند التفسيق بالترك. فأما ما حكي عن الهادي من تفسيق تارك الصلاة إذا لم يجد ماء ولا تراباً ففيه نظر، لأنا قد قررنا أن التفسيق والإكفار إنما يكون بالأدلة القاطعة الشرعية، وأن التفسيق بمسائل الخلاف ومسالك الظنون فلا وجه له، اللهم إلا أن يحمل على أنه يجوز أن يكون فاسقاً عند اللّه دون ظاهر الشرع، وهذا وإن كان محتملاً لكن لا وجه للتكليف بما كان عندالله.
الفرع التاسع: قال المؤيد بالله: وإذا كان بالإنسان سيلان جرح كلما قام أو سجد سال منه الدم، ولو كان قاعداً لم يسل وبقيت له الطهارة، فالأصح عندي أن يترك القيام لضبط الطهارة وهذا جيد مطابق للأصول والقواعد، ويقوى لأمور ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الطهارة لازمة في جميع الصلاة والقيام بعض أركان الصلاة فلهذا كانت الطهارة أحق بالمراعاة.
وأما ثانياً: فلأن الطهارة لا بدل لها، والقيام له بدل وهو الإيماء فلهذا كانت أحق بالمواظبة.
وأما ثالثاً: فلأن مراعاة جانب الطهارة أحق في نظر الشرع ولهذا فإن المتنفل يجوز له ترك القيام مع القدرة عليه بخلاف الطهارة فلا يجوز له تركها، وقال أيضاً: والمجروح إذا كان يغشى عليه متى أخذ في التوضي للصلاة في حال وضوءه أو صلاته بحيث لا يستمر له من الصحة وكمال العقل في وقت الصلاة قدر ما يتمكن من أدائها إلا ويغمى عليه، فالأقرب أنه لا صلاة عليه. وهذا صحيح أيضاً من وجهين:
أما أولاً: فلأن العقل ملاك التكليف فلا يعقل تكليف إلا مع كماله وبقائه.
وأما ثانياً: فلأن الإغماء يبطل الطهارة وينقضها. فهذان أصلان في سقوط الصلاة، فإذا كان المريض يغمى عليه ولا يتمكن من تأدية الوضوء والصلاة مع ملازمة الإغماء فمن هذه حاله فلا يتوجه وجوبها عليه لما ذكرناه. وقال أيضاً: والمجروح إذا اضطربت عليه الفتيلة في جرحه ولا تأخذ قرارها إذا ركع أو سجد جاز له تركهما أعني الركوع والسجود، و[كفاه]الإيماء لهما. وهذا صحيح أيضاً لما ذكرناه عنه في مسألة من به سيلان الجرح. ويجوز له الإفطار إذا كان جرحه لا يلتئم إلا مع الإفطار من جهة أن المرض يبيح الإفطار كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " }[البقرة: 184] فهذه المسائل كلها صحيحة لجريها على قواعد الأدلة الشرعية.
الفرع العاشر: قال الإمام زيد بن علي: يصلي الأخرس راكعاً وساجداً ويجزيه ما في قلبه. والأمي يسبح اللّه ويذكره.
اعلم أن الأخرس الذي لا يسمع ومختوم على لسانه فلا ينطق، والأصم الذي لا يسمع وهو ينطق بلسانه، والأبكم الذي يسمع ولا ينطق بلسانه، والأمي هو الذي لا يحسن القراءة وهو ينطق ويسمع، والواجب عليه أن يتعلم من القرآن ما لا بد له منه في الصلاة فإن لم يمكنه وتعذر ذلك عليه فإنه يسبح اللّه تعالى ويهلله ويكون ذلك بدلاً عن القرآن لما روى عبدالله بن أبي أوفا قال: جاء رجل إلى الرسول فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً فعلمني ما يجزيني؟ قال: ((قل سبحان اللّه والحمد لله " ولا إله إلا اللّه والله اكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)) قال: يا رسول اللّه هذا لله فما لي؟ قال: ((قل اللهم ارحمني وعافني وارزقني " )) (1)
ويجب تعليمه من القرآن ما تصح به الصلاة على سبيل الكفاية لما روى رفاعة بن رافع " (2)
__________
(1) قال في (الجواهر) ما يفيد بأن الحديث ينتهي بآخره عند: ((.. ولا حول ولا قوة إلا بالله)) أخرجه أبو داؤد والنسائي. قال: وزاد أبو داؤد، قال: يا رسول الله هذا لله فمالي؟ قال: ((قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني)) فقال هكذا بيديه وقبضهما، فقال رسول الله : ((أما هذا فقد ملأ يديه بالخير)) ا ه1/178.
(2) رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان، أبو معاذ الزرقي، صحابي شهد بدراً، وروى عن النبي وعن أبي بكر الصديق وعبادة بن الصامت، وعنه: ابنه عبيد ومعاذ وغيرهما، مات في أول دولة معاوية.
قال العسقلاني: وأبوه أول من أسلم من الأنصار، وشهد هو وابنه العقبة، وقال ابن عبد البر: وشهد رفاعة مع علي الجمل وصفين، وقال ابن قانع: مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين. (تهذيب التهذيب) 3/243.
أن الرسول كان جالساً في المسجد ورجل يصلي فقال: ((إذا قمت في الصلاة فكبر " واقرأ إن كان معك قرآن فإن لم يكن معك قرآن فاحمد اللّه وهلل ثم اركع))(1).
فجعل الرسول التهليل بدلاً عن القرآن.
وأما الأبكم الذي يسمع ولا يمكنه النطق فالواجب عليه الركوع والسجود ولا يتوجه عليه شيء من أذكار الصلاة، وإذا سقط الذكر لتعذره واستحالته منه فلا تسقط أفعال الصلاة لأنها ممكنة في حقه، لما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم " )) وهذا مستطيع للأفعال فلا تسقط عنه ولأن الميسور وهو الفعل لا يسقط بالمعسور وهو الذكر.
__________
(1) هذا جزء من حديث طويل عن رفاعة بن رافع أن النبي بينما هو في المسجد، قال رفاعة: ونحن معه إذ جاء رجل كالبدوي فصلى وأخف صلاته، ثم انصرف فسلم على النبي فقال النبي: ((وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل)) فرجع فصلى، ثم جاء فسلم عليه، فقال : ((وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل)) ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يأتي النبي فيسلم على النبي فيقول النبي: ((وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل)) فخاف الناس وكبر عليهم أن يكون من أخف صلاته لم يصل، فقال الرجل في آخر ذلك: فأرني وعلمني فإنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فقال : ((أجل، إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله به، ثم تشهد فأقم، فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وكبره وهلله ثم اركع فاطمئن راكعاً، ثم اعتدل قائماً ثم اسجد فاعتدل ساجداً ثم اجلس فاطمئن جالساً ثم قم، فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً فقد انتقصت من صلاتك)) قال: وكان أهون عليهم من الأول، من انتقض من ذلك شيئاً انتقص من صلاته ولم تذهب كلها، هذه رواية الترمذي. ولأبي داؤد والنسائي روايات أخر، ا هجواهر1/178،وزاد في فتح الغفار: وحسنه.
وأما الأخرس والأصم وهما اللذان لا يتأتى منهما سماع الكلام فظاهر كلام الإمام إيجاب الركوع والسجود عليهما، وقال في الأخرس: يجزيه ما في قلبه وهما سواء في تعذر السماع منهما. وهذا فيه نظر لأن مستند الوجوب في الشرائع كلها وجميع التكاليف الشرعية إنما هو قول الشارع صلوات اللّه عليه ولا بد من العلم بأنه كان في الدنيا وأنه ادعى النبوة ودعا الخلق إلى طاعته وجاء بالقرآن وأمر ونهى وبلَّغ هذه التكاليف كلها بأمره ونهيه وهذا كله مستنده السماع، والأصم والأخرس يستحيل منهما ذلك، فإذاً لا وجه لإيجاب شيء من التكاليف الشرعية عليهما لما ذكرناه.
فأما العلم بالصانع وصفاته وما يجب له ويستحيل عليه فمستنده العقل، وهما(1)
كاملان في العقل فلا تسقط عنهما التكاليف العقلية، فأما التكاليف الشرعية فلا مذهب لصحتها في حقهما بحال.
فأما قول الإمام: يصلي[الأخرس] راكعاً وساجداً فهو محمول على الاستحباب لما رأى المسلمين يفعلون ذلك فعل مثلهم إذ لا وجه لوجوب الصلاة في حقه، وقوله: يجزيه ما في قلبه. فيحتمل أن يريد العلم به تعالى وصفاته وسائر المعارف الدينية، ويحتمل أن يريد تعظيم اللّه تعالى في قلبه لما يرى من خلق هذه المكونات وعظمها فيعظم خالقها. فأما قول الإمام أبي طالب: أن كلامه محمول على النية وعلى إمرار الفاتحة وسورة معها على قلبه فلا وجه لوجوب ما ذكره في حقه كما حققناه بحال.
قال القاسم في من يشتكي بطنه أو ظهره أو شيئاً من جسده في صلاته: فلا بأس بأن يضع يده عليه ليسكنه، وهذا جيد أيضاً لما روى أنس بن مالك أن رسول اللّه اتخذ عوداً يعتمد عليه إذا قام من السجود(2)
__________
(1) الأخرس والأصم.
(2) وفي فتح الغفار: عن أم قيس بنت محصن أن النبي لما أسن وحمل اللحم اتخذ عوداً في مصلاه يعتمد عليه، رواه أبو داؤد بإسناد فيه مجهول، ا ه1/229.
ولأن في هذا صلاحاً للصلاة ومحافظة على خشوعها. فهذا ما أردنا ذكره في صلاة العليل ونذكر الآن ما يتعلق بأرباب العذر.
---
القسم الثاني
في بيان حكم أرباب الأعذار
وهم: الصبي إذا بلغ، والمجنون والمغمى عليه إذا أفاقا، والحائض والنفساء إذا طهرتا، وإنما سموا بهذا الإسم لأنهم معذورون عن الفرض مضطرون إلى تركه. وفي معناهم: الكافر إذا أسلم، وإنما جعلناه من المعذورين لأنه إذا أسلم سقطت عنه المؤاخذة بما تركه في حال كفره. وإذا زالت أعذارهم أو عذر واحد منهم أو حصل العذر وفي الوقت بقية تعلقت بهم أحكام بالزوال والحصول على حسب ما تقتضيه الحال، وسنوضحه في هذه الفروع بمعونة اللّه تعالى.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في ابتداء العذر في الحائض إذا أتاها الحيض أو نفست المرأة أو جُنَّ الرجل أو أغمي عليه في آخر الوقت نظرت، فإن [كان] ذلك قبل فراغهم من الصلاة فإذا كان قد بقي من الوقت في النهار إلى غروب الشمس ما يتسع للطهارة وخمس ركعات لم يجب عليهم قضاء الصلاة لأنهم معذورون في الترك بالإدراك كما لو كان بعد الزوال، وإن كان قد بقي ما يتسع لركعة واحدة أو لأربع مع الطهارة وجب عليهم قضاء الظهر دون العصر لأن الظهر فائت بالتقصير فلهذا وجب قضاؤه، والعصر مدرك بالركعة، فلهذا لم يجب قضاؤه. وإن كانت هذه الأعذار حاصلة في آخر الليل قبل الصلاة للمغرب والعشاء الآخرة نظرت، فإن كان قد بقي من الوقت إلى طلوع الفجر ما يتسع للطهارة وركعة أو ثلاث وجب عليهم قضاء المغرب دون العشاء لما ذكرناه من أن وقت المغرب فائت بالتقصير فلهذا وجب قضاؤه، فإن كان قد بقي للطهارة وأربع ركعات لم يجب قضاء واحدة من الصلاتين لأنه قد أدرك المغرب بكمالها وركعة من العشاء الآخرة فلهذا لم يتوجه القضاء لإدراكهما، وإن كان ما بقي لا يتسع للطهارة وركعة وجب قضاء الصلاتين جميعاً لأنهما فائتتان بالتقصير، وإن كان العذر حاصلاً قبل طلوع الشمس بما يتسع لركعة واحدة مع الطهارة لم يجب قضاء الصلاة لأجل الإدراك، وإن كان دون ذلك وجب القضاء لفوات الوقت بالتقصير.
والأصل في هذا ما روي عن الرسول أنه قال: ((من أدرك ركعة من العصر فقد أدركها " ومن أدرك ركعة من الفجر فقد أدركها))(1).
فظاهر الخبر دال على [أن] الإدراك بالركعة يكون إدراكاً للصلاة كلها فلما كان الأمر كما قلناه دل على أن هؤلاء إذا أدركوا من الصلاة ركعة لم يلزمهم القضاء كما فصلناه.
الفرع الثاني: في حكم زوال العذر عن هؤلاء في آخر الوقت كالحائض والنفساء إذا طهرت أو المجنون والصبي المغمى عليه إذا أفاقوا والكافر يسلم، فالعذر زائل عنهم كما فرضناه.. نظرت فإن زال وقد بقي من النهار إلى غروب الشمس ما يتسع للطهارة وخمس ركعات فالصلاتان واجبتان عليهم لأن الظهر مدرك على الكمال والعصر مدرك بركعة واحدة، فلهذا وجبا بالأداء، وإن لم تحصل الصلاة حتى خرج الوقت وجب قضاء الصلاتين معاً لأجل التقصير بفوات الوقت. وإن بقي ما يتسع لركعة واحدة أو لأربع مع الطهارة لم يجب قضاء الظهر لأن العذر حاصل بتركه ووجب العصر لإدراك وقته، فإن لم يصل وفاتت وجب قضاؤها لأجل التقصير في الأداء، وإن بقي من الوقت ما لا يتسع للطهارة وركعة لم يجب قضاء الصلاتين جميعاً لأجل العذر فلا تقصير هناك. وإن زال العذر في آخر الليل نظرت، فإن كان قد بقي من الوقت ما يتسع لأربع ركعات مع الطهارة وجب المغرب والعشاء بالأداء لإدراك وقتهما فإن خرج الوقت من غير صلاة وجب قضاؤهما جميعاً لأجل التقصير وإن بقي من الوقت ما يتسع للطهارة وركعة أو ثلاث وجب تأدية العشاء لإدراك وقته ولم يلزم المغرب لأجل العذر. فإن خرج الوقت بطلوع الفجر وجب قضاء العشاء. وإن طلع الفجر وبقي من الوقت ما يتسع لركعة واحدة من الفجر وجب عليه الصلاة بالأداء لإدراك وقتها وإن لم يصلها حتى خرج الوقت فعليه فعلها بالقضاء، وإن أدرك دون الركعة لم يكن مدركاً وقد مضى تقريره.
__________
(1) تقدم.
الفرع الثالث: واعلم أن المنهيات في نظر الشرع آكد من المأمورات، ولهذا فإن من شرب المسكر و[فعل] غيره من المنكرات يقتل إذا لم يتركها، بخلاف تارك الصلاة وغيرها من المأمورات فإنه لا يقتل على فعلها(1)
كما مر بيانه، وفي هذا دلالة على أن ملابسة المنكرات أدخل في فساد الدين من ترك المأمورات. فإذا ثبت هذا فنقول: من دخل عليه وقت الصلاة ورأى منكراً فإنه تجب عليه إزالته إذا كان قادراً على إزالته وحصلت في حقه شروطه ثم إما أن يكون في الوقت سعة. أو لا يكون فيه سعة فإن كان في الوقت سعة اشتغل بإزالة المنكر؛ لأن فعله يتضيق فلا يجوز التراخي في فعله، وإن كان في آخر الوقت نظرت في المنكر فإن كان مما لا يمكن تأخيره كالقتل والغرق والحَرَق فإنه يشتغل بإزالة المنكر لأنه لا يمكن تداركه ثم يرجع لتأدية الصلاة، وإن كان مما يمكن تأخيره فإنه يشتغل بالصلاة لأنها مؤقتة فيلاحظ اداءها في وقت الفضيلة ثم يأخذ في إزالة المنكر، فيكون جامعاً بين تأدية الواجبين فعل الصلاة وإزالة المنكر. فإن صلى في أول الوقت وكان هناك منكر يتضيق وقته ومضى في صلاته والحال هذه، فالقوي بطلان صلاته لأنه يكون عاصياً بالدخول فيها لأنه ترك بفعلها منكراً يتضيق وقته. وإن كان في آخر الوقت نظرت، فإن كان المنكر لا يمكن تأخيره اشتغل بإزالته وقضى الصلاة بعد فوات وقتها لأن المنكر حق لآدمي والصلاة حق للّه تعالى فإذا تعارضا وضاق الوقت عن تأديتهما فتقديم حق الآدمي أولى، كالدين والوصية.
__________
(1) يقصد على فعل تركها كما يبدو، وفي المسألة خلاف واسع.
الفرع الرابع: والعذر إذا عم جميع الوقت سقط القضاء بالحيض والنفاس والجنون والكفر والصبا،والسكران لا يخاطب بالصلاة في حال سكره لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}[النساء:43] وهكذا حال من زال عقله بسبب محرم نحو شرب البنج، ومن تردَّا فزال عقله فهؤلاء لا يخاطبون بالصلاة لأنها زائلة عقولهم كالسكران، وهل يجب عليهم قضاء الصلاة الفائتة بالسكر أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجب عليهم لأنه زائل العقل فأشبه المجنون والمغمى عليه وهذا هو رأي الناصريه.
وثانيهما: أنه يتوجه عليهم القضاء، وهذا هو رأي القاسمية، وهذا إنما يتوجه في حق من زال عقله بالسكر وشرب البنج والأفيون حتى لا يدري ما يقول، فأما من لم يزل عقله بشرب الخمر ولكن بدا منه أوائل النشاط والطرب، فطلاقه وعقوده صحيحه وجميع تصرفاته حاصلة [على] نعت الصحة لبقاء العقل وصحته.
والمختار: أنه إذا زال عقله بالسكر فلا يصح طلاقه ولا بيعه ولا شراؤه ولا ردته؛ لأن ملاك الأمور العقل وقد زال فلا تكليف عليه بشيء من التكاليف الشرعية والعقليه ولو أخطأ وأثم بشرب المسكر فلا يكلف بما لا يعقله ولا يفهمه كمن كسر رجله فإنه لا يكلف بالصلاة قائماً. وسيأتي لهذا مزيد تقرير عند الكلام في طلاق السكران ونذكر الخلاف والإختيار والانتصار له، وقد تم غرضنا من الباب الأول وهو باب مواقيت الصلاة وما يتعلق بها وبالله التوفيق.
---
الباب الثاني
في الأذان و الإقامة
والأذان هو الإعلام بدخول وقت الصلاة يقال: أذن يؤذن تأذيناً. وهو قياسه في الصحيح، كما يقال: كرمه تكريماً، وجرحه تجريحاً، وهو التفعيل وقياسه من المعتل بفعله يقال: عزَّى تعزية وروَّى تروية. والأذان الإسم من التأذين فعلى هذا يقال: أذن بالصلاة تأذيناً وأذاناً أي أعلم الناس، قال اللّه تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }[التوبة: 3]. أي إعلام. وإنما قيل: أذّن بالتشديد مبالغة في تكثير الفعل كما يقال: علّم وخبّر إذا أكثر منهما، وإنما سمي الإعلام بالصلاة أذاناً اشتقاقاً من الآذن لأن بهذه الآلة يسمع الأذان هكذا حكي عن الزجاج. والأصل في الأذان الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }[الجمعة:9]. وقوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً }[المائدة: 58].
وأما السنة: فما روى ابن عمر رضي اللّه عنه عن رسول اللّه أنه قال: ((من أذّن اثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب اللّه له بكل أذان ستين حسنة وبكل إقامة ثلاثين حسنة))(1).
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه عن الرسول أنه قال: ((من أذن سبع سنين محتسباً كتب له برآة من النار ))(2).
__________
(1) لفظه في جواهر الأخبار: عن ابن عمر أن النبي
قال: ((من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة وبكل إقامة ثلاثون حسنة))، رواه ابن ماجة والدراقطني والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري 1/179.
(2) أخرجه الترمذي بلفظ: ((... كتب الله له...إلخ)).
فهذه الأخبار كلها دالة على فضله(1).
وأما الإجماع: فقد انعقد من الصدر الأول إلى يومنا هذا على كونه مشروعاً للصلاة.
فهذا تمهيد الباب فلنذكر بدأ الأذان وحكمه ومحله ثم نردفه بصفة الأذان وصفة المؤذنين فهذه فصول خمسة تنحصر فيها مسائل الباب.
__________
(1) هذان الخبران كما قال المؤلف، يدلان على فضيلة الأذان، إلا أن الباب هنا باب استدلال تبعاً لقوله في أول الباب: والأصل في الأذان الكتاب والسنة والإجماع، ولعله اكتفى بكونه واجباً غير خفي ولا موضع خلاف فلا يحتاج إلى استدلال، وأن حكمه سيأتي بعد التمهيد. اه.
---
الفصل الأول
في بيان ابتداء الأذان
وللعلماء في إثبات ابتدائه طريقان:
الطريق الأول: يعتمدها أئمة العترة وأكابر أهل البيت " ولهم في إثباتها تقريران:
التقرير الأول: تسلكه القاسمية، وهو أن ابتداء الأذان إنما كان في ليلة المعراج. وهو أن الرسول لما جاءه جبريل بالبراق وهو دابة ما بين الحمار والبغل فركبه الرسول ثم انتهى إلى السموات ومر على الأنبياء وسلم عليهم وسلموا عليه واستبشروا به واستروّا ببعثته، آدم وإبراهيم وإدريس وعيسى وموسى وغيرهم من الأنبياء، ثم انتهى إلى البيت المعمور وصلى بالملائكة والنبيين وأكمل اللّه له الشرف، وجبريل بجنبه لا يفارقه ثم انتهى إلى سرادقات الحجب والأنوار فخرج ملك من تلك الحجب وهو ينادي بصوته: اللّه اكبر اللّه اكبر. فأجابه مجيب من خلف تلك الأنوار: صدق عبدي أنا الكبير وأنا الأكبر، فقال الملَك: أشهد أن لا إله إلا اللّه. فقال المَلِك: صدق عبدي لا إله إلا أنا. فقال الملك: أشهد أن محمداً رسول اللّه. فقال المَلِك: صدق عبدي هو رسولي وأنا أرسلته. ..إلى آخر الأذان، ثم قال بعد ذلك: اللّه اكبر لاإله إلا الله(1)
__________
(1) ورد الخبر بألفاظ مختلفة ومن طرق عدة، واختلاف في ابتداء الأذان وأين تم وكيف شُرع، والذي أورده المؤلف تسنده روايات بأن ابتداءه كان ليلة الإسراء والمعراج كما جاء في أمالي أحمد بن عيسى وفي الأحكام للهادي وفي صحيفة علي بن موسى الرضى، وفي مجمع الزوائد عن علي %: لما أراد الله أن يعلم رسول الله الأذان أتاه جبريل % بدابة... وساق الحديث بطوله حتى قال: فقال الملَك: الله أكبر الله أكبر... إلخ، وقال (يعني في مجمع الزوائد): رواه البزار وفيه عن عمر: أن النبي لما أسري به إلى السماء (هكذا) أوحي إليه بالأذان فنزل به فعلمه جبريل (لعل الصواب فعلمه جبريل فنزل به) قال: رواه الطبراني في الأوسط، وكذا ما رواه الأمير الحسين في الشفاء بسنده عن علي إلى آخره.
…قال الإمام القاسم بن محمد: قال الهادي: والأذان من أصول الدين، وأصول الدين لا يتعلمها رسول الله على لسان بشر من العالمين، ا ه، اعتصام، باب الأذان ج1/ ص 276، وهذه الروايات تسند ما أورده المؤلف وتنكر ما روي أن الأذان شُرع برؤيا في المنام رآها عبد الله بن زيدٍ بن عبد ربه قال: لما أجمع رسول الله أن يضرب بالناقوس وهو له كاره لموافقته النصارى، طاف بي من الليل طائف وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله، قال: فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعوا به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ فقلت: بلى، قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، حتى انتهى في سياق الرواية إلى قوله: فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت، فقال رسول الله : ((هذه الرؤيا حق إن شاء الله)) ثم أمر بالتأذين... إلى آخره في حديث طويل، أورده في فتح الغفار، وقال: رواه أحمد وأبو داؤد من حديثه. ا هج1/ ص 123.
.
التقرير الثاني: تعتمده الناصرية، وهو أن ابتداء الأذان ما كان إلا من جهة جبريل نزل به على الرسول وعلمه إياه كما علمه مواقيت الصلاة وغيرها من أصول الشريعة لأن الأذان من جملة الأصول والمصالح الغيبية التي استأثر اللّه بعلمها فلا يكون إلا بالتوقيف من جهة جبريل صلوات اللّه عليه.
فهذان التقريران هما المعتمدان في ابتداء الأذان عند أهل البيت " وكل واحد منهما مرشد إلى تقريره وإثباته ولا يفترقان إلا أن الأول كان في ليلة المعراج والثاني كان تعليماً من جبريل كسائر الشرائع التي نزل بها وأوضحها للرسول .
الطريق الثاني: يعتمده الفقهاء الفرق الثلاث الشافعيه والحنفيه والمالكيه وهو: ما رواه أبو عمير \s " \c 3(1) عن عمومته من الأنصار قال: اهتم رسول اللّه في أمر الصلاة كيف يجمع الناس لها واستشار المسلمين في ذلك فقيل له انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رآها الناس آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، فذكروا له البوق فقال: ((هو مزمار اليهود)) فذكروا له الناقوس فقال: ((هو مزمار النصارى)) فذكروا له النار فقال: ((ذلك من شأن المجوس \s " \c 2)). فانصرف عبدالله بن زيد وهو مهتم لاهتمام رسول اللّه ، فأُري الأذان في منامه فغدا إلى الرسول فأخبره بذلك فقال: يا رسول اللّه إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آتٍ فأراني الأذان قال: وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً ثم أخبر به الرسول فقال له: ((ما منعك أن تخبرنا به \s " \c 2)). فقال: سبقني عبدالله بن زيد فاستحييت فقال الرسول : ((قم يا بلال فانظر ماذا يأمرك به عبدالله بن زيد فافعله))(2)
__________
(1) أبو عمير بن أنس بن مالك الأنصاري، أكبر ولد أنس، قال الحاكم أبو أحمد: اسمه عبد الله، روى عن عمومة له من الأنصار من أصحاب النبي في رؤية الهلال وفي الأذان، وعنه أبو بشر جعفر بن أبي وحشية، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال ابن عبد البر: مجهول لا يحتج به، اه. المصدر السابق 12/206.
(2) تقدم في الحديث السالف من رواية عبد الله بن زيد، وفي آخره: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله : ((فلله الحمد)) وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والبخاري، المصدر السالف.
فائدة: ومن ا لمفيد في هذا الباب تلخيص بعض التعليقات والفوائد الواردة حوله، ومنها: ما أورده في الجواهر بعد قول عمر: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى...إلخ، قال ابن بهران: وقد أخرج الستة إلا الموطأ حديثاً في الأذان ليس فيه ذكر المنام المذكور إلى آخر ما أورده من روايات متقاربة عن أنس وعن ابن عمر وغيرهما، قال: (فائدة) قد استشكل كثير من أصحابنا وغيرهم حديث رؤيا الأذان والعمل به، قالوا: لأن الأذان شرع، والشرع لا يبنى على الرؤيا، ثم أورد ابن بهران ما جاء في (الشفاء) من كلام الهادي السابق ذكره حتى انتهى إلى قوله (ابن بهران). قلت: وقد أشار النووي في شرح مسلم إلى الجواب عن ذلك حيث قال: ثم رأى عبد الله بن زيد الأذان فشرعه النبي بعد ذلك إما بوحي وإما بإجتهاده على مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد له، وليس هو عملاً بمجرد المنام، هذا ما لا شك فيه بلا اختلاف، واسترسل مؤلف الجواهر إلى ذكر (فائدة أخرى) جاء فيها ما لفظه: قال الترمذي: لا يصح لعبد الله بن زيد بن عبد ربه عن النبي شيء غير حديث الأذان، وهو غير عبد الله بن زيد بن عاصم...يعني: راوي حديث الوضوء كما تقدم، فله أحاديث كثيرة في الصحيحين، وهو عم عبادة بن تميم، ا ه.
ونقل عن التلخيص قول الترمذي: لانعرف لعبد الله بن زيد شيئاً يصح إلا حديث الأذان، وكذا قال البخاري قال: وفيه نظر فإن له عند النسائي وغيره حديثاً غير هذا في الصدقة، وعند احمد آخر في قسمة النبي شعره وأظفاره وإعطائه لمن لم يحصل له أضحية. ا ه، بتصرف ج1 ص 181.
قال: فأذن بلال. قال أبو عمير عن عمومته من الأنصار، وإنما لم يأمر عبدالله بن زيد بالأذان لأنه كان يومئذ مريضاً. فهذه طريقة الفقهاء في ابتداء الأذان.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من أن طريق ابتداء الأذان وحي من اللّه تعالى على رسوله إما بما كان من طريق خبر المعراج كما نقلناه لأن ابتداء فرض الصلاة كان في ليلة المعراج أيضاً وأنها فرضت خمسين صلاة وما زال موسى صلى الله عليه يردد الرسول في الرجوع إلى ربه وأن أمته لا تطيق عليها حتى بلغت خمساً، وإما من طريق الإبتداء من جبريل على طريق الوحي كما في سائر الأصول الشرعية المتلقاة من جهة جبريل، فهذا هو الأصح في طريق ابتداء الأذان.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روينا عن عبدالله بن زيد أنه أري ذلك في المنام فحكاه للرسول لما اهتم بأمر الإجتماع للصلاة فأقره الرسول على هذه الرؤيا وأمر بلالاً فأذن به، والشرع متلقى من جهة الرسول إما بقوله وإما بفعله وإما بتقريره، كما كان منه هاهنا، وإما بإشارته وقد قرر ما رآه عبدالله بن زيد فدل ذلك على كونه شرعاً.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
الجواب الأول: إنا لا ننكر ما ذكرتموه إذا حمل على وجه مستقيم وإنما أنكرنا أن يكون أصل من أصول الشريعة والإشعارات المفعولة من أجل الصلاة مبنياً على المنامات التي أكثرها أضغاث أحلام وإن مثل هذا لا يعهد له نظير فلهذا كان مستبعداً لما ذكرناه.
الجواب الثاني: أن ما عولتم عليه محمول على أن جبريل صلوات اللّه عليه قد كان نزل به على الرسول وأخبره به وقص عليه صفته ولكن اتفق أن رآه عبدالله بن زيد فكانت الرؤيا مطابقة لما نزل به جبريل من غير حاجة إلى تقريره على المنام على انفراده.
الجواب الثالث: أن الرواية فيه مضطربة، فمرةً رأى الرجل على ظهر الكعبة في المنام، ومرة قالوا: على حرم من أحرام المدينة، وتارة عليه بردان أخضران وجثا مستقبل القبلة، ومرة مستدبراً بيت المقدس، وهذا الإضطراب يضعف الرواية مع ما فيها من الضعف في النقل وبنائها على الأحلام.
قالوا: لو كان الأمر كما قلتموه لما كان لتعليمه بلالاً بالأذان [فائدة] إذا كان معلوماً من قبل.
قلنا: عن هذا جوابان:
الأول: أن يكون جبريل قد نزل به على الرسول وأعلمه أصحابه بما نزل عليه من أمر الأذان فطابق ما رأوه وكان بلالٌ لم يعلمه فلما رأيا(1) ذلك أمرهما أن يعلماه بلالاً فيكون لهما في ذلك فضيلة وأجر وثواب.
الجواب الثاني: أن هذا معارض بما ذكرناه من الرواية في ابتدائه فإذا حملنا ما نقوله على هذه التأويلات كانت الأدلة متوافقة من غير مناقضة بينها والله أعلم بالصواب.
قالوا: هذه الرواية قد نقلها المحدثون في كتب الحديث كالبخاري والترمذي ومسلم وغيرها من كتب الصحاح، يدل ذلك على صحتها وثبوتها.
قلنا: عن هذا جوابان:
الأول: أنا لم ننكر ما نقلتموه على جهة التكذيب للرواية وإنما قلنا: إنها ضعيفة لما قررناه.
الجواب الثاني: أنا قبلناها وتأولناها على ما حكيناه من التأويلات لتكون مطابقة لروايتنا، وهذا هو دأب العلماء في مضطرباتهم الاجتهاديه في الأخبار المروية والقياسات المعنوية في ترجيح بعضها على بعض ليتسع منهاج الاجتهاد ويعظم أمره وتتضح مسالك الشريعة.
التفريع على هذه القاعدة:
__________
(1) المقصود بضمير المثنى، عمر وعبد الله بن زيد.
الفرع الأول: لا يجوز الأذان قبل دخول وقت الصلاة؛ لأن الأذان إنما شرع للإعلام بدخول الوقت فلا معنى له قبل دخول وقتها. فإن أذن أعاد لأن الأول ليس مشروعاً ولا مجزياً للصلاة. ولو افتتح الأذان قبل الوقت ثم دخل الوقت استأنفه لأنه مشروع على فساد فلا يعتد به ولا يكون مجزياً كما لو صلى قبل الزوال ثم دخل وقت الزوال فإنه يستأنف فهكذا في الأذان.
وهل يؤذن لصلاة الفجر قبل طلوعه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك وهذا هو رأي الإمامين القاسم والهادي ومحكي عن الناصر وزيد بن علي والمؤيد بالله وأبي حنيفة ومحمد والثوري.
والحجة على ذلك: ما روي أن بلالاً أذن بليل فدعاه الرسول فقال: ((ما حملك على أن تجعل صلاة الليل في النهار وصلاة النهار في صلاة الليل \s " \c 2، عد فناد: ألا إن العبد قد نام)) فصعد بلال وهو يقول:
ليت بلالاً لم تلده أمه ... وابتل من نضح دمٍ جبينه
فنادى بلال: ألا إن العبد قد نام، وأعاد الأذان(1).
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال لبلال: ((لا تؤذن حتى ترى الفجر هكذا \s " \c 2)) (2) ومد يده عرضاً.
الحجة الثالثة: ما روى أنس بن مالك الأنصاري عن النبي أنه قال لبلال: ((لاتؤذن حتى يكون الفجر هكذا \s " \c 2)) ومد يده. فهذه الأخبار كلها دالة على النهي عن التأذين قبل الفجر، والنهي في العبادات يقتضي فسادها.
المذهب الثاني: جواز الأذان قبل الفجر لصلاة الفجر وهذا هو رأي الشافعي ومالك وأبي يوسف.
__________
(1) رواه الترمذي وأبو داؤد، وقال الترمذي: هذا حديث غير محفوظ، المصدر السالف.
(2) هذا جزء من الحديث السالف عن بلال، أخرجه أبو داؤد بلفظ: ((حتى يتبين لك الفجر)).
والحجة على ذلك: ما روى ابن عمر عن رسول اللّه أنه قال: ((إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم \s " \c 2))(1).
والحجة الثانية: ما روى زياد بن الحرث الصدائي(2) قال: لما كان أول الفجر أمرني رسول اللّه أن أؤذن فأذنت فجعلت أقول: أقيم يا رسول اللّه؟ فجعل ينظر إلى ناحية المشرق فيقول: ((لا)) حتى إذا طلع الفجر نزل وتوضأ وصلى(3). فدل هذا الخبر على جواز الأذان قبل طلوع الفجر.
__________
(1) متفق عليه كما جاء في فتح الغفار، قال: ولأحمد والبخاري ((فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)) ولمسلم: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا، ا ه1/126 وفيه رواية عن عائشة أخرجه البخاري ومسلم والموطأ.
(2) قال في (تهذيب الأسماء) 1/195: صحابي مذكور في باب الأذان منسوب إلى صُداء بضم الصاد المهملة، قدم على النبي وأذن له في سفره في صلاة الصبح لغيبة بلال، وحديثه في سنن أبي داؤد، قالوا: وبعثه النبي إلى قومه ليسلموا فأسلموا، ا ه، وولاه رسول الله على قومه.
(3) جاء الحديث في (الجواهر) بلفظ: عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أمرني رسول الله أن أؤذن في صلاة الفجر فأذنت فأراد بلال أن يقيم فقال رسول الله : ((إن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم)) هذه رواية الترمذي، ثم أورد في الجواهر رواية لأبي داؤد تضارع ما أورده المؤلف حتى انتهى إلى قوله: ... حتى إذا طلع الفجر نزل فبرز ثم انصرف إلي وقد تلاحق أصحابه فتوضأ فأراد بلال أن يقيم الصلاة فقال له: ... إلخ، ا ه1//184. وفي (فتح الغفار) في باب: من أذن فهو يقيم: عن زياد نفسه قال: قال رسول الله : ((من أذن فهو يقيم)) رواه الخمسة إلا النسائي وضعفه أبو داؤد، وله شواهد أضعف منه، وقال في الخلاصة: إن ما نعرفه من حديث الإفريقي، وهو ضعيف، وحسنه الحازمي وقواه العقيلي وابن الجوزي. ا ه1/128.
الحجة الثالثة، قياسية: وهي أنها عبادة تجب بطلوع الفجر فوجب أن يجوز تقديم سببها المنفصل عنها على طلوع الفجر قياساً على نية الصوم.
فإن كان للمسجد مؤذنان فالمستحب أن يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر والثاني بعد طلوعه، لأن بلالاً كان يؤذن قبل طلوع الفجر وابن أم مكتوم كان يؤذن بعد طلوعه. وذكر أصحاب الشافعي لمذهبه أن كل من كان في بلدة قد جرت عادتهم بالأذان بعد طلوع الفجر لم يسع أحد أن يؤذن لها في ذلك البلد قبل طلوع الفجر لئلا يغرهم بأذانه، واختلف أصحاب الشافعي في أول وقت الأذان للفجر على خمسة أقوال:
أولها: وهو المشهور: أنه يكون بعد نصف الليل كالدفع من مزدلفة.
وثانيها: أنه إذا كان في الشتاء فلسُبُعٍ يبقى من الليل، وإن كان في الصيف فلنصف سُبُع يبقى من الليل وهو رأي الجويني عبدالملك قال: وتلك سنة رسول اللّه .
وثالثها: ما ذكره المسعودي أنه يكون لوقت السحر قبل الفجر.
ورابعها: ما قاله صاحب (العدة)(1) أن الليل كله وقت لأذان الصبح، واستضعف هذا القول.
وخامسها: أن ذلك يبنى على آخر وقت العشاء المختار، فإن قلنا: إنه يكون إلى ثلث الليل، أذن للفجر إذا ذهب ثلث الليل، وإن قلنا: إنه إلى نصف الليل، أذن للفجر إذا ذهب نصف الليل. هذا كله تفريع على قولهم بأن الأذان للفجر قبل طلوع الفجر كما حكيناه عنهم.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة.
وحجتهم: ما حكيناه عنهم ونزيد هاهنا حججاً ثلاثاً:
__________
(1) كتاب (العدة).
الحجة الأولى: ما روى سنان(1) قال: دخلت على رسول اللّه وهو يتغدَّا فقلت: يا رسول اللّه إني أريد الصوم؟ فقال: ((وأنا أريد الصوم إن مؤذننا في بصره سوء \s " \c 2 أذن قبل طلوع الفجر وقدمه على أذانه في الليل))(2) وهذا هو مرادنا.
الحجة الثانية: ما روي عن علي % أنه قال: من أذَّن قبل الفجر أعاد ومن أذن قبل الوقت أعاد.
__________
(1) لم يحدد المؤلف نسباً أو لقباً له، ولكن موضوع الحديث رجح أن المقصود هو سنان بن سنَّة (بفتح المهملة وتشديد النون) الأسلمي المدني، له صحبة، روى عن النبي ، وعنه: حكيم بن أبي حرة، ويحيى بن هند الأسلمي، وروى له ابن ماجة حديثاً واحداً ((الطاعم الشاكر له مثل أجر الصائم الصابر)) قيل: توفي سنة 32ه. ا ه4/213 (التهذيب). لم يرد في ترجمته شيء عن الأذان، ولا في تراجم ابن حجر لمن اسمه سنان، ومن ثم فلعل هذا هو المقصود، والله أعلم.
(2) أورده في الجواهر بزيادة: فقال -يعني رسول الله -: ((هلموا إلى الغداء المبارك...إلخ)) اه1/185، وفي الحديث السالف كما أورده المؤلف زيادة: ((.. وقدمه على أذانه في الليل)) ولم يظهر في المصار ما إذا كانت من الحديث أم من كلام المؤلف إلا أنه يسند الأول ما أورده ابن بهران عقب الحديث السالف في رواية عن علي % أنه قال: من أذن قبل الفجر أعاد ومن أذن قبل الوقت أعاد، ويظهر أن هذا موقوفاً على الإمام علي، والمؤلف يعتبر ما جاء موقوفاً عن علي مأخوذاً من صاحب الشريعة صلوات الله عليه وآله.
الحجة الثالثة: ما روي عن علقمة \s " \c 3(1): أنه شُيِّعَ إلى مكة فخرج بليل فسمع مؤذناً يؤذن قبل الفجر فقال: أما هذا فقد خالف سنة رسول اللّه ولو كان نائماً لكان خيراً له. فهذه الأخبار كلها دالة على أن الأذان قبل الفجر خلاف السنة وأنه غير مجزي.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روى ابن عمر عن الرسول أنه قال: ((إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم \s " \c 2)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن أذان بلال ليس أذاناً للصلاة وإنما هو تذكير، وكلامنا إنما هو في أذان الصلاة المكتوبة ولهذا قال %: ((لا يهيدنكم(2) أذان بلال عن السحور)).
وأما ثانياً: فلأن أخبارنا دالة على المنع وأخباركم دالة على الإباحة والباب باب العبادة فلهذا كانت أخبارنا أحق بالقبول لما فيها من الإحتياط للعبادة.
قالوا: روى زياد بن الحرث الصدائي أنه لما كان أول الفجر أمرني رسول اللّه بالأذان فأذنت فأردت أن أقيم فجعل ينظر إلى ناحية المشرق فيقول: ((لا)) حتى إذا طلع الفجر نزل وتوضأ وصلى.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن قوله: لما كان أول الفجر. ليس من كلام الرسول وإنما هو من كلام زياد فلا حجة فيه ولعله ظن أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع.
وأما ثانياً: فيحتمل أنه يريد بقوله: حتى إذا طلع الفجر انتشر الضوء وكثر وانكشف الظلام وكل ذلك كان بعد طلوع الفجر.
__________
(1) علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ولد في حياة رسول الله ، ورورى عن جملة من الصحابة منهم: علي وعمر وعثمان وسعد وحذيفة وأبو الدرداء وعائشة وغيرهم، وعنه: ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد وإبراهيم النخعي، وعامر الشعبي وغيرهم، اشتهر بالفقه والرواية، قال أبو طالب عن أحمد: ثقة، كما وثقه ابن معين، وكان الناس بالكوفة يأتون إليه ويستفتونه، توفي سنة 62 ه، وقيل: غير ذلك. ا ه.
(2) هاده الشيء هيداً وهاداً: أفزعه وكربه، ا هلسان 3-440.
قالوا: عبادة تجب بطلوع الفجر فيجب(1) تقديم سببها المنفصل عنها على طلوع الفجر كَنِيَّةِ الصوم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا يوجب عليكم جواز الإقامة قبل طلوع الفجر على منهاج هذا التعليل ولا قائل به.
وأما ثانياً: فعلى هذا لا يختلف الحال قبل نصف الليل أو بعده، وأنتم لا تجوزون التأذين إلا في الثلث الأخير. فبطل ما عولوا عليه.
الفرع الثاني: لا تخلو بلدة في الغالب عن متطوع بالأذان لما فيه من الأجر وإحراز الفضل ويؤيد ذلك قوله : ((المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة \s " \c 2))(2). وهذا الحديث له تأويلات خمسة:
التأويل الأول: أن يكون مراده أطول الناس رجاءً لأنه يقال: طال عنقي إلى رجائك، أي: إلى وعدك.
التأويل الثاني: أن يكون المراد منه، المؤذنون أكثر الناس أتباعاً يوم القيامة لأنهم يتبعهم كل من صلى بأذانهم يقال: جاءني عنق(3) من الناس، أي: جماعة.
التأويل الثالث: أن يكون مراده أن تكون أعناقهم تطول يوم القيامة حتى لا ينالهم العرق في ذلك اليوم لأنه قد روي أن العرق يلجم الناس.
التأويل الرابع: أن يكون الغرض أطول الناس أصواتاً، وعبر بالعنق عن الصوت لأنه منه يخرج.
التأويل الخامس: أن تكون الرواية في الخبر: إعناقاً بكسر الهمزة، أي: أشد الناس في السير إسراعاً ومنه العنق وهو ضرب من السير بين الإرقال والخبب.
فإن لم يوجد من يؤذن إلا بأخذ الجعل نظرت في حال الجعل. فإن كان حاصلاً من غير شرط جاز ذلك على جهة البر والصلة والمواساة، هكذا قاله الإمامان القاسم والهادي لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى \s " \c 1}[المائدة:2] وإن كان على جهة الشرط لم يجز.
__________
(1) يقصد: فيجوز.
(2) رواه احمد ومسلم وابن ماجة بلفظه عن معاوية كما في فتح الغفار 1/121.
(3) والعُنُق: الجماعة الكثيرة من الناس. ا هلسان 10/273.
قال الإمام أبو طالب: التفرقة بين ما يكون على جهة البر وبين ما يكون على جهة الشرط هو أن ما كان على جهة الشرط فإن الأذان ينقطع بإنقطاعه وما كان على جهة البر فإنه لا ينقطع بإنقطاعه.
دقيقة: ثم هاهنا صور يقع التردد في أخذ الأجرة عليها مفارقة للأذان.
الصورة الأولى: القاضي. ولا خلاف في جواز أخذ الرزق له من بيت المال لأنه من جملة المصالح الدينيه فيرزقه الإمام منه، والتفرقة بينه وبين المؤذن هو أن القاضي لا يلزمه التصرف في القضاء لا على وجه الكفاية ولا على وجه التعيين وإنما يلزم الإمام لقيامه بمصالح الدين، فإذا لم يمكن الإمام القيام بالخصومات استعان بالحاكم وتوجه عليه رزقه مفوضاً إلى رأي الإمام ونظره.
الصورة الثانية: ولا خلاف في جواز أخذ الأجرة على حفر الآبار وبناء المساجد والمناهل والقناطر والخانكات(1) وحفر القبور. والتفرقة بينها وبين الأذان ظاهرة فإن هذه الأشياء قد تكون واقعة لغير القربة كمن يبنى بناء لنفسه، وحفر القبر يجوز أن يجعل لغيره فلهذا لم يمنع أخذ الأجرة عليها فصارت القربة غير متعلقة بها وإنما تتعلق القربة بجعله مسجداً أو منهلاً.
__________
(1) ليست واضحة في الأصل لعدم عجمها، ولعلها أقرب إلى ان تكون (الخانكات)، وهي ربما باللغة التركية ما يعني مباني النزل للمسافرين كما كانت تسمى في اليمن بـ (السماسر) جمع (سمسرة) وتسمى أيضاً بـ(الخان) مفردة، ولم نجد لكلمة الخانكات أصلاً في معاجم اللغة، نظراً لكونها غير عربية، ولم تدخل ضمن المفردات المعربة. والله أعلم.
الصورة الثالثة: الجهاد، ولا خلاف في أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأنه من أعظم قواعد الدين كالصلاة والصيام والحج وهو من مهمات الإسلام لما فيه من إشادة معالمه وتقوية أمره، والإمام إنما يعطي المجاهدين والمرتزقة من أموال اللّه فليس يعطيهم على الجهاد وإنما يعطيهم ما يتقوون به من السلاح والكراع(1) والآلات التي لا تصلح أمورهم إلا بها على قدر كفاياتهم وعلى ما يراه من المصلحة في التوسعة.
الصورة الرابعة: الختان، وهو وإن كان واجباً ولكن وجوبه على المختون في ماله لأن الوجوب متعين عليه، فإن أمر به غيره جاز دفع الأجرة منه، وإن كان المختون فقيراً لا يقدر على دفع الأجرة من نفسه، توجه على الإمام ذلك لأنه من جملة ما يقوم به الإمام ويكون مفوضاً إليه لقوله : ((من ترك مالاً فلأهله ومن ترك كلاً أو عيالاً فإليَّ \s " \c 2))(2). والإمام قائم مقامه.
الصورة الخامسة: تردد الإمامان المؤيد بالله وأبو طالب في غسل الميت هل يكون لاحقاً بالأذان أو بحفر القبور فقال المؤيد بالله: لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأنه مؤدٍ للواجب عن نفسه فيكون كالأذان والجهاد. وقال أبو طالب: هو غير متعين عليه فلهذا كان لاحقاً بحفر الآبار وبناء المساجد. وكلا المذهبين جيد لا غبار عليه خلا أن ما قاله المؤيد بالله أقرب؛ لأنه يفتقر إلى النية كافتقار العبادات إلى النية وإن لم ينوِ أجزأ لأن المقصود هو التطهير.
__________
(1) والكراع من الدواب وهو من ذوات الحوافر ما دون الرسغ وقد يستعمل للإبل. ا هلسان 8/306.
(2) سيأتي في موضعه، وهو عن أبي هريرة بلفظ: إن رسول الله كان يقول: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً أو كلاً أو ضياعاً فإلي وعلي، ومن ترك مالاً فلورثته)) هذا طرف من حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وفي معناه أحاديث أخر. ا هجواهر 1/186.
الفرع الثالث: فإن لم يوجد من يقوم بالأذان إلا بشرط الأجرة فهل يجوز ذلك أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه بالشرط، وهذا هو الذي رآه الإمامان القاسم والهادي، ومحكي عن الناصر وأبي حنيفة.
والحجة على ذلك: ما روى عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه قال: يا رسول اللّه اجعلني إمام قومي قال: ((أنت إمام قومك فاقتد بأضعفهم واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً \s " \c 2))(1).
الحجة الثانية: ما روي عنه أنه قال لرجل: ((إنْهَ مؤذنك لا يأخذ على أذانه أجرة \s " \c 2))(2). فهذان الخبران دالان على ما نريده من المنع عن أخذ الأجرة على الأذان.
الحجة الثالثة: قياسية، وحاصلها هو أن الأذان قربة محضة واجبة لا يصح دخول النيابة فيها فلا يجوز أخذ الأجرة عليها كالصلاة والصيام.
فقوله: قربة، يحترز به عمن لا قربة في أذانه كالصبي والمجنون والحربي والذمي فإن هؤلاء لا يصح أذانهم لعدم القربة.
وقوله: محضة، يحترز عن حفر القبور وبناء المساجد فإنها ليست قربة محضة ولهذا يصح أخذ الأجرة عليها.
المذهب الثاني: جواز أخذ الأجرة على الأذان وهذا هو رأي الشافعي.
__________
(1) في فتح الغفار بلفظ: عن عثمان بن أبي العاص قال: آخر ما عهد إلي رسول الله أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً، رواه الخمسة وصححه الحاكم وحسنه الترمذي، وقال ابن المنذر: ثبت أن النبي قال لعثمان بن أبي العاص: ((واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)) ثم عقب الرباعي على الحديث بقوله: وأما ما أخرجه ابن حبان عن أبي محذورة أنه قال: ألقى علي رسول الله الأذان فأذنت ثم أعطاني حين قضيت التأذين صرة فيها شيء من فضة، فذلك من باب التأليف لحداثة عهده بالإسلام، وأيضاً حديث عثمان متأخر عن قصة أبي محذورة. اه1/129. وقد ورد الحديث في مصادر عدة.
(2) أورده في (الشفاء) ولم نعثر على مصادر لتخريجه، وربما كان حديث عثمان بن أبي العاص السالف بزيادة فيه و بلفظ آخر.
والحجة على هذا قولهم: نفع الأذان مما يعود إلى الغير من غير أن يودي فرض نفسه فجاز له أخذ الأجرة عليه، دليله كتابة المصاحف وبناء القناطر وحفر الآبار.
والمختار: ما قاله أئمة العترة من المنع من أخذ الأجرة عليه.
وحجتهم: ما قدمناه ونزيد هاهنا وهو ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي % أنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني أحبك في الله. فقال: وأنا أبغضك في اللّه قال: ولم؟ قال: لأنك تتغنى في أذانك وتأخذ على القرآن أجراً وقد سمعت رسول اللّه يقول: ((من أخذ على تعليم القرآن أجراً كان حظه يوم القيامة \s " \c 2))(1).
__________
(1) جاء الحديث في (الروض النضير)، شرح مجموع الإمام زيد باختلاف في اللفظ إذ جاء بلفظ: أنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، والله لإني أحبك في الله، قال: ولكني أبغضك في الله، قال: ولِمَ ذاك؟ قال: لأنك تتغنى بأذانك وتأخذ على تعليم القرآن أجراً، وقد سمعت رسول الله يقول: ((من أخذ على تعليم القرآن أجراً كان حظه يوم القيامة)).
قال في (الروض) ما ملخصه: أن الإمام المهدي في(البحر) قال: وندب التطريب، وقال الإمام زيد بن علي وأحمد بن عيسى والنخعي وعمر بن عبد العزيز: يكره. لنا: (زينوا القرآن بأصواتكم) ونحوه. (لأن حديث زينوا.. لم يصح لديهم كما يبدو) ا ه1/554، ونسب السياغي إلى الإمام يحيى قول: وإذا جاز التطريب في القرآن جاز في الأذان.
فائدة: وكما سلف من حديث علي عن النهي عن التغني بالأذان وردت أخبار وآراء لعدد من الصحابة والتابعين سواء ما كان مرفوعاً أو موقوفاً أو اجتهاداً تخالف الحديث السابق منها: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) و((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) هذا الإختلاف محمول على أن المذموم من التغني أو التطريب هو إخراج الأذان إلى صفة الألحان المعروفة عند أهل اللهو، وكراهته معلومة، بل لا يبعد القول بتحريمه وعدم إجزائه. ا ه، المصدر السابق ملخصاً.
الحجة الثانية: هي أن الأذان واجب على الكفاية كما سنقرره، فالقيام به قيام بعبادة فيحرم أخذ الأجرة عليه قياساً على سائر العبادات من الصلاة والصيام.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إن نفعه راجع إلى الغير من غير أن يؤدي فرض نفسه فجاز أخذ الأجرة عليه قياساً على كتابة القرآن وعمارة المساجد.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم قولكم أنه يؤدي غير فرض نفسه بل هو مؤدٍ فرضاً عن نفسه لكونه واجباً على الكفاية كما سنوضحه، فإذا قام به فقد أدَّا فرضاً عن نفسه.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل أنه ليس بقربة محضة لأنه يصلح ممن ليس من أهل القرب كالذمي والحربي ويصح وقوعه على وجه لا تتعلق به القربة وليس كذلك الأذان فإنه قربة محضة فصار كالصلاة والصيام.
الفرع الرابع: وإذا أقام المؤذن فأي وقت يفتتح الإمام الصلاة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يفتتحها عند فراغ المؤذن من الإقامة وهذا هو رأي الهادي في (المنتخب)(1)، ومحكي عن الشافعي ومالك وأبي يوسف.
__________
(1) المنتخب) أحد كتب الهادي، وهو وكتاب (الفنون) كلاهما في الفقه مؤلف من إجابات الإمام الهادي على أسئلة القاضي العلامة محمد بن سليمان الكوفي. وقد طبع الكتابان في مجلد واحد في 1414ه/1993. عن (دار الحكمة اليمانية) تحقيق الباحث محمد يحيى سالم عزان.
والحجة على ذلك: ما روى أبو داؤد في سننه أن بلالاً أخذ في الإقامة فلما قال: قد قامت الصلاة. قال الرسول : ((أقامها اللّه وأدامها سوّوا صفوفكم \s " \c 2))(1) فدل هذا على أن الرسول لم يفتتح الصلاة إلا بعد الفراغ من الإقامة.
المذهب الثاني: أن المؤذن إذا قال: حي على الصلاة، قام الإمام والمسلمون، فإذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، كبر الإمام والمسلمون بعده، وهذا هو الذي ذكره الهادي في (الأحكام)(2) ومحكي عن زيد بن علي والباقر وأحمد بن عيسى وأبي حنيفة ومحمد.
والحجة على هذا: هو أن قول المؤذن: حي على الصلاة، دعاء إلى الصلاة وتصديقه: التأهب للصلاة بالقيام إليها والإشتغال بفعلها، فإذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة، فتصديقه: الدخول فيها والشروع في أولها بالإحرام بتكبيرة الإفتتاح ليكون ذلك تصديقاً للحال.
والمختار: ما قاله الهادي في الأحكام وهو رأي زيد بن علي والباقر وغيرهم.
والحجة على ذلك: ما أسلفناه، ونزيد هاهنا وهو أن المؤذن إذا قال: قد قامت الصلاة، ولم يقم الإمام والمسلمون إلا بعد الفراغ من الإقامة لا يطابق قول المؤذن: قد قامت الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
__________
(1) روى الحديث أبو داؤد بلفظه عن أبي أمامة أو بعض أصحاب رسول الله ، ا هجواهر 1/198، وجملة: أو بعض أصحاب رسول الله يبدو أنها ضمن رواية أبي داؤد إذ لم يعلق عليها مؤلف الجواهر ويؤيد ما سلف أن هذه الجملة وردت ضمن رواية أبي داؤد في مسندات منها: فتح الغفار. وزاد فيها: رواه أبو داؤد بإسناد فيه شهر بن حوشب، تكلم فيه غير واحد، ووثقه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل. ا ه1/127.
(2) أشهر وأكبر مؤلفات الإمام الهادي، وعنوانه الكامل: (كتاب الأحكام في الحلال والحرام) في الفقه، جمعه ورتبه أبو الحسن علي بن أحمد بن أبي حريصة، مطبوع في مجلدين طبعة أولى في العام 1410ه/1990م، تولى طبعه وتحقيقه الباحث محمد بن قاسم الهاشمي.
قالوا: إن بلالاً لما أخذ في الإقامة قال الرسول: ((أقامها اللّه ..إلى آخر الحديث))، فدل على أن قيامه إلى الصلاة كان بعد الإقامة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإنا لا ننكر الجواز في الإفتتاح بعد الفراغ من الإقامة وقبلها ولكن كلامنا في الأفضل.
وأما ثانياً: فلأن الدعاء في حال الإقامة وأمرهم بتسويه الصفوف إنما هي حالة عارضة، فلعله رأى في بعض الصفوف ميلاً وازوراراً واضطراباً فأمرهم بتسويتها وسد الخلل فيها فهذه حالة عارضة والأصل هو ما ذكرناه.
الفرع الخامس: هل الأذان أفضل أو الإمامة؟ فيه أقوال أربعة:
فالقول الأول: أن الأذان أفضل من الإمامة لقوله : ((الأئمة ضمناء والمؤذنون أمناء، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين \s " \c 2)) والأمين أحسن حالاً من الضمين. ومن وجه آخر، وهو أنه دعا للأئمة بالرشد وللمؤذنين بالمغفرة. والغفران أفضل من الرشد من جهة أن الرشد تحصيل الألطاف في تحصيل الطاعات والتكاليف، والمغفرة يكون بها استحقاق الجنة.
ومعنى قوله: المؤذنون أمناء، فوصفهم بالأمانة، فيه احتمالات أربعة:
الاحتمال الأول: أنهم أمناء على الأوقات فلا يؤذنون إلا بعد دخول الوقت ولا يؤذنون قبله لما فيه من الغرر والخيانة.
الاحتمال الثاني: أنهم يؤذنون على المنازل والأمكنة العالية فيكونون أمناء على الإطلاع على المحارم وعلى عورات المسلمين في بيوتهم.
الاحتمال الثالث: أنهم أمناء في تبرعهم بالقيام بالأذان من دون غيرهم.
الاحتمال الرابع: وإذا كانوا أمناء فإنه يسقط عنهم بالأذان فرض الكفايه.
وأما الأئمة فهم ضمناء إذا قاموا بفروض الصلاة وواجباتها؛ لأنهم يتحملون سهو المأمومين إذا وقع عليهم ويتحملون القراءة والقيام إذا أدركهم المأمومون في الركوع.
القول الثاني: أن الإمامة أفضل من الأذان لأن الرسول والخلفاء الراشدين والأئمة السابقين والمقتصدين، كانوا أئمة في الصلاة ولم يكونوا مؤذنين، وفي هذا دلالة على فضل الإمامة ولهذا اختصوا بها.
القول الثالث: أنهما سواء في الفضل لأن الأئمة والمؤذنين قد خص الشرع كل واحد منهما بفضيلة ودرجة في الفضل ومنزلة في الثواب والأجر.
القول الرابع: أن الإمام إذا كان يعلم من نفسه القيام بحقوق الإمامة في الصلاة وما يتوجه عليه فيها فالإمامة أفضل، و إن كان يعلم من نفسه أنه لا يقوم بما يتوجه عليه من حقوقها ولوازمها فالأذان أفضل؛ لأنه أقل خطراً وأسهل حالاً في التكليف. فهذه الأقاويل كلها كما ترى في أيهما الأفضل؟ ولم أعلم لأئمة العترة في هذه المسألة قولاً في ترجيح أحدهما على الآخر.
والمختار: أن الإمامة أفضل لما روي عن الرسول أنه قال: ((الإمام وافد فقدموا أفضلكم \s " \c 2))(1). وما روي عن النبي أنه قال: ((كن إمام قومك تدخل الجنة \s " \c 2))(2). وقوله : ((أول ما تفاض الرحمة على الإمام ثم على من يليه \s " \c 2 ثم على الصف الأيمن ثم على الصف الأيسر ثم على سائر الصفوف))(3) فهذه الأخبار كلها دالة على فضل الإمامة على الأذان.
الفرع السادس: ومن جمع بين الصلاتين ممن يجوز له الجمع بينهما نظرت، فإن جمع بينهما في أول وقت الأولى منهما فإنه يؤذن للأولى ويقيم لأنها مؤداة في وقتها ثم يقيم للثانية من غير أذان، وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ويجب تقديم الأولى على الثانية.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه جمع بين الظهر والعصر في عرفة.
وإن جمع بينهما في وقت الثانية فإنه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين كما في الأولى عند أئمة العترة.
__________
(1) هو في مسند الحارث 1/265.
(2) هو في مصنف ابن أبي شيبة 1/332.
(3) سيأتي موضعه في صلاة الجماعة.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه جمع بين المغرب والعشاء في مزدلفة في أول وقت الثانية بأذان واحد وإقامتين.
وحكي عن الشافعي: أنه لا يؤذن للثانية قولاً واحداً، فأما الأولى ففيها قولان.
وحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يؤذن للعشاء الآخرة ولا يقيم في مزدلفة.
الفرع السابع: ذهب أئمة العترة والفريقان الشافعية والحنفية ومالك إلى أنه ليس على النساء أذان للرجال ولا إقامة لهم(1).
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((ليس على النساء جمعة ولا جماعة \s " \c 2 ولا أذان ولا إقامة))(2).
__________
(1) ولا لأنفسهن، كما سيأتي.
(2) ذكره ابن بهران في رواية عن ابن عباس بزيادة: ((...فإن أذنَّ كان ذِكْراً)) وفي الروض النضير ما رواه الإمام زيد بن علي عن علي % قال: ((ليس على النساء أذان ولا إقامة)).
قال: ويشهد له ما ذكره في (التلخيص) من حديث ابن عمر: ليس على النساء أذان، رواه البيهقي من حديثه موقوفاً بسند صحيح، وزاد: ...ولا إقامة.
قال ابن الجوزي: لا يُعرف مرفوعاً، ورواه ابن عدي والبيهقي من حديث أسماء مرفوعاً، وفي إسناده الحكم بن عبد الله الأيلي، وهو ضعيف جداً، ا ه. واستطرد السياغي -رحمه الله- إلى أن أورد ما جاء في التلخيص من حديث عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم، رواه الحاكم والبيهقي، وزاد: وتؤم النساء وتقوم وسطهن، ا ه، وزاد في الروض في الباب نفسه: بأن الحديث يدل على نفي وجوب الأذان والإقامة على النساء.
قال الإمام عز الدين: ولا خلاف في ذلك؛ لأنهما من الأمور الشرعية، ولم يثبت أنه أمرهن بذلك، وظاهر كلام الهادوية: تحريمه؛ لأنه يجب عليها خفض صوتها ولذلك نمنعها من الأذان والإقامة في جميع أحوالها، كما جاء في الروض من كلام القاسم، وزاد: قال القاضي زيد: و إليه ذهب الناصر والمؤيد بالله وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي.
قال الصعيتري: وتوقف أبو طالب في استحباب الأذان والإقامة للنساء...إلخ 1/553.
الحجة الثانية: ما روى زيد بن علي عن علي % عن رسول أنه قال: ((ليس على النساء أذان ولا إقامة \s " \c 2))(1).
الحجة الثالثة: هو أن الأذان والإقامة أمور شرعية مستندها صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه وهي مفوضة إلى رأيه وموكولة إلى أمره ولم يثبت أنه أمرهن بذلك، وفي هذا دلالة على عدم الوجوب.
وهل يؤذنَّ لأنفسهن أو يقمن؟ فيه أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه ليس لها أن تؤذن لنفسها ولها أن تقيم، وهذا هو رأي الشافعي ذكره في (الأم) واختير لمذهبه.
القول الثاني: يحكى عن المروزي من أصحاب الشافعي: أنه يكره لها أن تؤذن لنفسها ولها أن تقيم لنفسها استحباباً.
القول الثالث: أن الأذان غير مسنون في حق المرأة سواء صلت بانفرادها أو كن جماعات، فإن أذنت كان ذكراً. وهذا هو المحكي عن ابن الصباغ صاحب (الشامل).
والمختار: جواز الأذان والإقامة للنساء في أنفسهن في خفية.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عباس رضي اللّه عنه عن النبي أنه قال: ((ليس على النساء أذان فإن أذن كان ذكراً \s " \c 2))(2). وإذا جاز الأذان جازت الإقامة في حقهن لأنها أولى وأحق.
الحجة الثانية: هو أن الأذان والإقامة مشروعان في حق المصلين والنساء من جملة أهل الصلاة فلهذا استحب لهن الأذان والإقامة.
الحجة الثالثة: هو أن المحذور من ذلك إنما هو رفع الصوت خوفاً من الإفتتان بسماع أصواتهن، فإذا أذن وأقمن في أنفسهن فلا يكره ذلك لأنه ذكر لله تعالى سواء كن منفردات أو جماعات.
الفرع الثامن: إذا أذن لصلاة المغرب فما المستحب له؟ فيه ثلاثة أقوال:
أولها: أنه يبقى قائماً حتى يقيم ولا يقعد، وهذا هو رأي أبي حنيفة.
وثانيها: أنه يقف مقدار ثلاث آيات ثم يقيم، وهذه أيضاً رواية عن أبي حنيفة.
وثالثها: أنه يجلس جلسة خفيفة ثم يقيم، وهذا هو قول أبي يوسف ومحمد.
والمختار: ما قاله أبو حنيفة أولاً.
__________
(1) سبق في الحديث السالف.
(2) سبق آنفاً.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((لن تزال أمتي بخير مالم يؤخروا صلاة المغرب إلى اشتباك النجوم \s " \c 2)) وفي حديث آخر: ((لن تزال أمتي على الفطرة مالم يؤخروا صلاة المغرب \s " \c 2))(1).
ويستحب أن يكون المؤذن غير الإمام وعلى هذا جرت عادة السلف الصالح من الصدر الأول إلى يومنا هذا، ويحكى عن عمر أنه قال: لولا الخِلِّيفى(2) لكنت مؤذناً. فهذا يؤيد ما ذكرناه.
ويستحب أن لا يصلي المصلي منفرداً أو بجماعة إلا بأذان وإقامة.
قال القاسم بن إبراهيم: ومن نسي الأذن حتى دخل في صلاته مضى في صلاته ولا نقص عليه. ولا يعرف في هذا خلاف لأن الأذان فرض من فروض الكفايات كما سنوضحه فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، فمن تركه من آحاد الناس أجزته صلاته وكان مسيئاً لترك السنة.
وسئل الإمام أبو طالب عمن ترك الأذان هل تبطل صلاته إن كان في قرية يعلم أنه لم يؤذن فيها؟ فقال: لا تبطل لأن الأذان ليس من شروط الصلاة. قال: ويحتمل أنها تبطل لأنه ترك الذكر المفروض المفعول للصلاة متقدماً عليها في وقتها فمنع من صحتها كالخطبة في صلاة الجمعة.
وجوابه الأول هو الصحيح المعمول عليه؛ لأن المعنى في الأصل: أن الخطبتين بدلاً عن ركعتي الظهر بخلاف الأذان فافترقا. فهذه الفروع الثمانية نشأت من ابتداء الأذان ولم تدخل في الفصول الخاصة كصفة الأذان وصفة المؤذنين فلا جرم أفردناها بالذكر لما كانت غير مندرجة فيما يأتي مما نريد ذكره وبالله التوفيق.
__________
(1) تقدم في الأوقات.
(2) في حاشية الأصل ما لفظه: الخِلِّيفى: الخلافة، وكلام عمر لو أطيق الأذان مع الخليفى لأذنت، ا ه. وفي لسان العرب: والخلافة الإمارة وهي الخِلِّيفى، وإنه لخليفة بيِّن الخلافة والخليفى، وفي حديث عمر: لولا الخليفى لأذنت، ا هلسان 9/83.
.
---
الفصل الثاني
في حكم الأذان
اتفق أهل القبلة على أن الأذان مشروع للصلوات في مساجد الجماعات وأنه شعار للدين وسنة من سنن سيد المرسلين معتمد عليه في جميع الأمصار والأقاليم بين المسلمين، ويؤيد ذلك ما روى أبو هريرة عن رسول اللّه في صحيح البخاري، قال: ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط " حتى لا يسمع الأذان فإذا قضي الأذان أقبل حتى إذا ثوب للصلاة أدبر حتى إذا مضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه. فيقول: أذكر كذا أذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الإنسان لا يدري كم يصلي))(1).
ورفع الصوت به مستحب أيضاً لما روى أبو سعيد الخدري في صحيح البخاري عن الرسول ، قال: قال لي رسول اللّه : ((إني أراك تحب الغنم والبادية " فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولاإنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) (2).
قال أبو سعيد: هكذا سمعته من رسول اللّه . فهذا أمرٌ وادنى درجات الأمر هو الندب والاستحباب، هذا تمهيد الفصل.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: هل يكون [الأذان] واجباً؟
اعلم أن الأذان قد تقرر كونه مشروعاً وسنة بالأدلة التي ذكرناها ويبقى الكلام في كونه واجباً أم لا؟ وفيه مذاهب أربعة:
__________
(1) أخرجاه (البخاري ومسلم) وأخرجه مالك وأبو داؤد والنسائي، ا هفتح الغفار1/122 باختلاف يسير في بعض الألفاظ.
(2) في فتح الغفار بلفظ: وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي يقول: ((إذا كنت في غنمك أو باديتك فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مد صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة)) رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجة. ا ه1/125، وفي رواية أخرى: ((إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة...)) إلى قوله: ((...جن ولا إنس ولا شيء...إلخ)) قال: وهو في البخاري والموطأ والنسائي، اهالمصدر السابق.
المذهب الأول: أنه واجب، وهذا هو رأي أئمة العترة وسادات أهل البيت القاسمية والناصرية، ومحكي عن السيدين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب وهو قول مالك والأوزاعي وعطاء، وهو قول الأصطخري من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ " }[الجمعة:9].
ووجه الإستدلال من هذه الآية، هو: أن اللّه تعالى أوجب السعي عقيب النداء بقوله: {فَاسْعَوْا} والأمر ظاهره الوجوب إلا بدلالة، وهو مرتب على النداء من جهة أن الفاء موضوعة للتعقيب والترتيب فإذا كان السعي مرتباً على النداء وهو واجب فيجب القضاء بكون النداء واجباً لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب مثله، ألا ترى أن غسل الوجه لما لم يتم استيعابه إلا بجزء من الرأس وجب غسل جزء من الرأس تبعاً لوجوب غسل الوجه.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا نزلتم الغيطان فأذنوا " ))(1)،
وقوله لبلال: ((قم فأذن))(2)،
__________
(1) في (الجواهر) جاء الخبر بلفظه: ويأتي الإستدلال به هنا في غير موضعه، لأن المطلوب هو الإستدلال على وجوب الأذان، ويؤكد هذا ويوضحه تعليق ابن بهران في تخريجه لأحايث البحر بقوله: قلت: لعل هذا من روايات حديث جابر الذي حكاه النووي عن كتاب ابن السني أن رسول الله قال: ((إذا تغولت لكم الغيلان فنادوا بالأذان)) ولا دلالة فيه على المطلوب هنا، فالأولى الإستدلال بحديث مالك بن الحويرث، قال في إحدى رواياته: أتيت النبي أنا وصاحب لي، فقال لنا: ((إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليؤمكما أكبركما)) أخرجه الستة إلا الموطأ بروايات متعددة وهذا اللفظ لمسلم ا هجواهر 1/182.
(2) تقدم في الاستدلال على مشروعية الأذان وكيف شرع.
وقوله : ((ألقه على أبي محذورة فإنه أندا منك صوتاً))(1)،
وقوله لمالك بن الحويرت " (2)
وإبن عمه: ((إذا سافرتما فأذنا وليؤمكماوأقرؤكما " )). فهذه الأخبار كلها مشتملة على الأوامر بالأذان. وظاهر الأمر للوجوب إلا لدلالة تدل على خلافه.
المذهب الثاني: أن الأذان سنة، وهذا قول الفريقين أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه والأصطخري(3)
وابن خيران.
والحجة على ذلك: قوله لمن أساء في صلاته: ((إذا أردت الصلاة فأحسن وضوءك ثم استقبل القبلة وكبر " ))(4)
ولم يأمره بالأذان وفي هذا دلالة على كونه سنة غير واجب.
__________
(1) تقدم أيضاً مع سالفه في كيفية بداية الأذان ورؤيا عبد الله بن زيد على رأي من قال بها، وفيما ثبت من مشروعية الأذان في حديث الإسراء، إلا أن معظم الروايات تثبت أن أمر رسول الله عبد الله بن زيد بأن يلقي الأذان على بلال وليس على أبي محذورة، ولعل ما يؤكد هذا أن رسول الله ولى أبا محذورة الأذان بمكة يوم الفتح كما جاء في تهذيب التهذيب 12/244.
(2) مالك بن الحويرت بن حشيش بن عوف بن جندع، أبو سليمان الليثي الصحابي، وقيل في نسبه غير ذلك، روى عن النبي . وعنه: أبو قلابة الجرمي، وأبو عطية مولى بني عقيل، ونصر بن عاصم الليثي، وغيرهم، وذكر ابن حجر عن ابن عبد البر أنه توفي سنة أربع وتسعين. وقيل: سنة أربع وسبعين. ا ه. (تهذيب التهذيب) 12/10.
(3) هكذا في الأصل، وفيه نظر؛ لأن الاصطخري كما تقدم يرى وجوب الأذان، ولعل تكراره هنا خطأ من الناسخ.
(4) في جواهر الأخبار عن رفاعة بن رافع أن لنبي قال لمن علمه الصلاة: ((إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد فأقم ، فإن كان معك قرآن فاقرأ...)) إلى قوله : ((...ثم اجلس فاطمئن جالساً ثم قم، فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت شيئاً فقد انتقصت من صلاتك)) رواه الترمذي، ولأبي داؤد والنسائي نحوه. ا ه1/277 ملخصاً.
الحجة الثانية: قوله : ((المؤذنون أمناء " ))(1). والأمين هو المتطوع.
المذهب الثالث: أن الأذان سنة إلا في صلاة الجمعة فإنه من فروض الكفايات، وهذا شيء محكي عن بعض أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن الجمعة لما كانت مختصة بوجوب الجماعة اختصت بوجوب الدعاء إليها.
المذهب الرابع: أن الأذان ليس واجباً والإقامة واجبة فإن تركها المصلي نظرت، فإن كان الوقت باقياً أعاد الصلاة، وإن كان الوقت خارجاً لم يعدها، وهذا محكي عن الأوزاعي.
والحجة على هذا هي: أن الإقامة تختص الصلاة فلما كانت الصلاة واجبة وجبت تبعاً لها بخلاف الأذان فإنه شعار للدين وسنة للمسلمين.
والمختار: ما اعتمده علماء العترة والأكابر من أهل البيت من كونه واجباً.
وحجتهم على وجوبه: ما أسلفناه، ونزيد هاهنا وهو اهتمامه بأمر الأذان حتى بات مهموماً بالنظر الذي يكون سبباً لاجتماع المسلمين للصلاة، ففرج الله عنه بما أنزل من امر الأذان وبما كان منه من أمر المسلمين بالأذان في السفر والحضر وبما كان منه من أمر بلال وأبي محذورة وابن أم مكتوم بالأمر بالأذان، فاهتمامه بما ذكرناه من الأذان من هذه الأوجه فيه دلالة على وجوبه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: أمر من أساء في صلاته بالوضوء ولم يذكر الأذان فدل ذلك على أنه غير واجب.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/430 والشافعي في مسنده 1/33 بلفظ: (الأئمة ضمنا والمؤذنون أمناء)) وجاء الخبر عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)) أخرجه أبو داؤد والترمذي كما في جواهر الأخبار 1/182، وفي فتح الغفار: رواه أحمد وأبو داؤد والترمذي، وصححه ابن حبان، وقد أخرجه في صحيحه من حديث عائشة، وقال أبو زرعة: حديث أبي هريرة أصح من حديث عائشة إلى آخر ما أورده الرباعي ج1 ص 121.
أما أولاً: فإنما لم يذكر الأذان في تلك الساعة لإحتمال أن يكون قد أذن في المدينة، فلهذا لم يأمره به.
قالوا: روي عنه أنه قال: ((المؤذنون أمناء " )) والأمين: هو المتطوع. لأنه لا حرج على الأمين فيما فعله وهذا لا يتأتى إلا في السنة والنفل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد بالأمين: المؤتمن على الأوقات في أن المؤذن لا يؤذن قبل دخولها وأنه يكون أميناً في أنه لا يكون مشرفاً على عورات المسلمين وهذا هو المراد بالأمين.
وأما ثانياً: فلأن الأمين كما يكون في المتطوع كما زعمتم فقد يكون في المؤدي للواجب لأن الأمانة يحتاج إليها في الواجبات والمندوبات لأن المقصود هو الإتيان بها على الوجه الذي أمر بها، وهذا إنما يكون في حق الأمين دون الخائن فإنه لا يوثق به في صحة أدائها على ما أمر بها.
وأما من زعم أنه سنة إلا في صلاة الجمعة فهو تحكم لا مستند له فقد وافقنا في الجمعة وخالفنا في كونه سنة وبما اجبنا به الفريقين فهو جواب له لإفراده بالحجة.
وأما من زعم أن الأذان ليس واجباً وأن الإقامة واجبة فقد وافقنا في الإقامة وخالفنا في الأذان وقد دخل جوابه في جواب الفقهاء.
الفرع الثاني: إذا تقرر وجوبه بما ذكرناه فهل يكون الوجوب على الكفاية أو يكون على الأعيان، فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الوجوب يكون على الكفاية، على معنى أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقين وبهذا يفارق الواجب على الكفاية الواجب على الأعيان، وهذا كما نقوله في دفن الموتى وحفر القبور وإصلاح الطرقات والتعلم والتعليم وإحياء معالم الشريعة بالجهاد بالسيف، فكل هذه الأمور من فروض الكفايات، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسم والهادي والناصر وهو رأي الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب.
والحجة على ذلك هو: أن الأذان أمر شرعي يشتمل على التكبير ليس فيه ركوع ولا سجود لا يختص الأعيان فوجب أن يكون فرضاً على الكفاية كصلاة الجنازة.
فقولنا: أمر شرعي، نحترز به عما يكون من الأمور العقلية كقضاء الدين ورد الوديعة فإنهما عقليان ومن فروض الأعيان أيضاً.
وقولنا: يشتمل على التكبير، نحترز به عن الصوم.
وقولنا: ليس فيه ركوع ولا سجود، نحترز به عن سجود التلاوة.
وقولنا: لا يختص الأعيان، نحترز به عن الصلاة المفروضة.
المذهب الثاني: أنه فرض على الأعيان، وهذا هو قول أهل الظاهر، داؤد وطبقته، ثم منهم من قال: إنه من شروط الصلاة، ومنهم من قال: ليس شرطاً في الصلاة، وكلهم متفقون على أنه لا بد لكل مصلّ منه وهذا هو فائدة فرض العين.
والحجة على ذلك هي: أنه ذكر يتقدم الصلاة ليس فيه تكبير فيجب أن يكون شرطاً في صحة الصلاة كالخطبة في صلاة الجمعة.
فقولنا: ذكر يتقدم، نحترز به عن أذكار الصلاة.
وقولنا: ليس فيه تكبير، نحترز به عن الإفتتاح للصلاة. فهذا تقرير حجتهم فيما زعموه.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة.
وحجتهم: ما حكيناه، ونزيد هاهنا وهو قوله : (( إذا نزلتم الغيطان فأذنوا " )) وهذا خطاب شامل لكل أحد لا يختص به واحد دون واحد وهو الذي نريده بكونه واجباً على الكفاية.
ووجه آخر: وهو أنه فعل شرعي جعل شعاراً للإسلام من غير أن يكون مختصاً بالأعيان فوجب القضاء بكونه واجباً على الكفاية كالجهاد.
فقولنا: فعل شرعي، نحترز به عما يكون عقلياً نحو الإنصاف وشكر المنعم.
وقولنا: جعل شعاراً للإسلام، نحترز به عن النوافل.
وقولنا: من غير أن يكون مختصاً بالأعيان [نحترز به عن ما يكون مختصاً بالأعيان] كالصلاة المفروضة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: ذكر يتقدم الصلاة ليس فيه تكبير فيجب أن يكون شرطاً في صحة الصلاة كالخطبة في صلاة الجمعة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن اعتمادكم فيما قررتموه إنما هو على القياس والأقيسة الشرعيه لا جريان لها في تقرير العبادات والصلوات لأنها أمور غيبية استأثر اللّه بالعلم بمقاديرها وأحوالها وشرائطها وحيث اعتمدنا الأقيسة فإنما هو على جهة المعارضة لما يذكره المخالف وعلى وجه الإستظهار والإعتضاد بالأدلة وتناصرها.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل [هو أن الخطبتين] إنما كانتا واجبتين لكونهما بدلاً عن ركعتي الظهر فافترقا بخلاف الأذان فإنه ليس بدلاً عن غيره.
الفرع الثالث: إذا تقرر كونه واجباً على الكفاية بما أوضحناه فإذا وقع الإخلال به والترك له، فهل يتوجه الحرج والإثم عن الكل أم لا؟
والمختار فيه: تفصيل نشير إلى حقائقه فنقول: المراد بقولنا في الشيء: إنه واجب على الكفاية، هو أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذا نحو الجهاد بالسيف والجهاد بالحجة بالعلم والتعليم وحفر الآبار وبناء القناطر والمساجد والخانكات وحفر القبور ودفن الموتى وإصلاح الطرقات وغيرها مما لا يختص به الآحاد من فروض الأعيان فمتى حصل القيام بهذه الأمور من جهة شخص من الأشخاص فإنه يسقط وجوبها عن الباقين لأنه ليس المقصود إلا فعله ووجوده، وهذا حاصل بقيام الواحد بها. فإذا لم تحصل هذه الأمور، فإلى من يكون الحرج والإثم متوجهين والعقوبة من اللّه تعالى؟.
فنقول: إذا اتفق الكل على تركها وإهمالها والإخلال بها والإعراض عنها، فالحرج والإثم يلزم من كان متمكناً من فعلها ولم يفعلها، ومن لا يكون متمكناً من فعلها فلا إثم عليه ولا حرج، فإن كان الواجب على الكفاية من باب ما يختص العلماء وأهل الفضل وممارسة العلوم نحو حل الشبه والتدريس في العلوم وجواب المسائل، فمتى وقع الإخلال بهذه فالإثم إنما يتعلق بالعلماء دون العوام، فإن الوجوب غير متوجه إليهم، وإن كان مما يمكن الكل فعله نحو حفر القبور ودفن الموتى وأخلوا به فإن الإثم لاحق بالكل لتركهم الواجب مع القدرة عليه والتمكن من فعله، وهكذا القول في واجبات الكفاية فإنه ينظر في حاله ولا يحكم بالإثم على تاركه على الإطلاق بل لابد من التفصيل الذي أشرنا إليه.
الفرع الرابع: إذا قلنا بأن الأذان واجب على الكفاية، فلو كان هاهنا قرية من القرى وأقليم من الأقاليم وصقع من الأصقاع تمالوا على تركه وإهماله، فهل يحاربهم الإمام على تركه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز حربهم على تركه وهذا هو رأي المؤيد بالله وأحد قولي الشافعي، ومحكي عن محمد بن الحسن.
والحجة على هذا: هو أن الأذان ركن من أركان الدين فُرِض شعاراً للإسلام فيجب على الإمام قتالهم على تركه كالصلاة والزكاة والصوم.
المذهب الثاني:المنع من قتالهم على تركه، وهذا هو قول أبي يوسف وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه سنة من السنن فلا يقاتلون عليه ولا تباح دماؤهم على تركه كسائر السنن إذا تركوها.
والمختار: أنهم لا يقاتلون على تركه.
والحجة على هذا: قوله : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه " فإذا قالوها منعوا دمائهم وأموالهم إلا بحقها))(1).
__________
(1) هذا الحديث من أشهر الأحاديث ورد من عدة طرق، أخرجه الستة والبيهقي في السنن الكبرى والدار قطني والشافعي في مسنده، والزجاج والدارمي وعبد الرزاق الصنعاني، والبزار وابن حبان وأحمد في مسنده وغيرهم كثير.
الحجة الثانية: قوله : ((لايحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث: " كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل النفس بغير حق))(1)
وترك الأذان ليس واحداً من هذه الأمور فلهذا لم يكن قتلهم مباحاً.
والعجب من الإمام المؤيد بالله حيث منع من قتل تاركي الصلاة وأباح قتل(2)
تارك الأذان مع أن الصلاة من فروض الأعيان، والأذان من فروض الكفايات ومع أن وجوب الصلاة آكد من وجوب الأذان فلا خلاف في وجوب الصلاة والخلاف حاصل في وجوب الأذان. والقوي عندنا أن كلامه محمول في جواز قتل الإمام لهم على أنهم تركوه على جهة الإستحلال والإنكار دون التمرد، وعلى هذا يجوز قتلهم لأن استحلال تركه وإنكار كونه مشروعاً يكون كفراً أو ردة لأن كونه مشروعاً معلوم من ضرورة الدين فإنكاره يكون رِدَّةً وجحداً للنبوة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قوله: إنه فرض جعل شعاراً للإسلام فإذا أطبقوا على تركه قوتلوا كالصلاة والصوم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن على مذهبكما أنهم لا يقتلون على ترك الصلاة والصوم، وإنما يؤدبون كما مضى تقريره ولا على أخذ الزكاة؛ لأنها تؤخذ منهم كرهاً.
__________
(1) أخرجه أبو داؤد في سننه 4/170.
(2) هكذا في الأصل، وواضح أن المقصود قتال أو حرب الإمام لتاركي الأذان لا قتلهم، إذ إن ما سبق أن أورده المؤلف عن المؤيد بالله، أنه يوجب قتال تاركي الأذان لا قتلهم، وأن من يقاتلهم جماعة كما ورد بلفظ المؤلف: ((فلو كان هاهنا قرية من القرى أو إقليم من الأقاليم ...إلخ)) فليس الغرض الفرد الواحد (تارك) كما جاء هنا، ومما يحتاج إلى التنبيه في لفظ هذا السياق هو أن ما ورد في بداية الفرع الرابع في ذكر تاركي الأذان وقوله: ((...قرية من القرى وإقليم...إلخ)) المقصود بواو العطف التخيير بمعنى (أو) لأن المقصود أنه لو ترك الأذان أهل قرية أو أهل إقليم.. وليس جميعهم مما يدخل في التمثيل بما ليس وارداً. والله ولي التوفيق.
وأما ثانياً: فلأن الصوم والصلاة من فروض الأعيان، والأذان من فروض الكفايات فهما مفترقان فلا يقاس أحدهما على الأخر.
الفرع الخامس: ويستحب استدعاء الأمراء إلى الصلاة عند الفراغ من الأذان، لما روي أن بلالاً كان إذا فرغ من الأذان دخل على الرسول وهو في بيته يؤذنه بالصلاة فيقول: السلام عليك يا رسول اللّه، الصلاة يرحمك اللّه، فيقوم الرسول للصلاة، وهكذا روي عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه وأبي بكر وعمر وعثمان يفعلون هكذا اهتماماً بأمر الصلاة.
فإن دخل رجل مسجداً من المساجد قد أذن فيه وأقيم فالمستحب أن يؤذن ويقيم في نفسه، و لايجهر بالأذان لئلا يظن السامع أن هذه الصلاة هي المجزية وأن الصلاة كانت غير مجزية؛ لأنها كانت قبل دخول الوقت، فيفسد قلب الإمام ويوغر(1) صدره.
ويستحب إذا كان الناس في السفر في اليوم المطير والليلة المطيرة، وفرغ المؤذن من الأذان أن يقول بعده: الصلاة في الرحال، لما روى البخاري أن ابن عباس رضي الله عنه خطب يوم رزغ فلما فرغ المؤذن من الأذان أمره أن يقول: الصلاة في الرحال , والرزغ براء وزاي وغين منقوطة , هو الوحل، فنظر القوم إلى بعضهم بعض. فقال: فعل هذا من هو خير مني أراد الرسول صلى الله عليه.
وروى البخاري عن ابن عمر مثلة في الليلة البادرة والمطيرة كل هذا في السفر.
وروي عن الرسول صلى الله عليه أنه كان يأمر منادياً بعد أذان المؤذن يقول: ((إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال )) وربما أمر رسولاً بعد المؤذن يقول: ((صلوا في رحالكم)) يفعل هذا تخفيفاً على المسلمين ورفقاً بهم في السفر.
__________
(1) في الأصل: ويوحر. وهي خطأ في النسخ، والله أعلم.
---
الفصل الثالث
في بيان محل الأذان
ومحله الصلوات الخمس، وهو رأي أئمة العترة والناصرية، ومتفق عليه بين الفقهاء.
قال الإمام زيد بن علي : الأذان للصلوات الخمس.
والحجة على هذا ما روى عبادة بن الصامت عن رسول الله أنه قال: ((فرض الله علىعباده خمس صلوات من حافظ عليهن حين ينادى لهن وأحسن وضوءهن وأتم ركوعهن وخضوعهن وخشوعهن كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة، وإن لم يأت بهن وضيع حقوقهن لم يكن له عند الله عهداً، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له))(1).
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: ومن كانت عليه فوائت فأراد قضاءها في وقت واحد، فالذي عليه أئمة العترة والفريقان الشافعية والحنفية أن المسنون أن يقيم لكل واحدة منهنَّ إقامة، لما روى أبو سعيد الخدري قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوى من الليل فدعى رسول الله بلالاً فأقام لصلاة الظهر فصلاها، ثم أقام للعصر فصلاها، ثم أقام للعشاء الآخرة فصلاها(2).
وهل يسن فيها الأذان أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الأذان فيها مسنون، وهذا قول أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر، وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأبي ثور.
والحجة على هذا ما روى عمران بن حصين قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه غزوة أو قال سرية فلما كان آخر الليل عرسنا(3)
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه الترمذي والنسائي عن ابن مسعود. ا هجواهر 1/174.
(3) جاء في لسان العرب: والتعريس: نزول القوم في السفر من آخر الليل يقفون فيه وقفة للاستراحة، ثم ينيخون وينامون نومة خفيفة...إلخ. ج6 ص 136.
فما أيقظنا إلا حر الشمس فأمرنا[رسول الله] فارتحلنا ثم سرنا حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالاً فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمر بلالاً فأقام فصلى صلاة الغداة(1).
المذهب الثاني: أن الأذان غير مسنون، وهذا قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم: ثم يؤذن لها، وهو قول أحمد وأبي ثور.
وقال في الإملاء(2):
إن رجا اجتماع الناس أذن، وإن لم يرج اجتماعهم لم يؤذن. والكلام على الشافعي إنما يتوجه على قوله الجديد، وهو قول مالك والأوزاعي، وأما على قوله القديم فهو موافق لقولنا.
والحجة على ما قاله(3):
__________
(1) جاء الخبر بألفاظ مترادفة ومن عدة طرق، ومن رواته: البخاري والنسائي وأبو داؤد عن أبي قتادة قال: سرنا مع رسول الله ليلة فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله، قال : ((إني أخاف أن تناموا عن الصلاة)) فقال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا واسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ رسول الله وقد طلع حاجب الشمس فقال: ((يا بلال أين ما قلت؟)) فقال: ما ألقيت عليَّ نومة مثلها قط، قال : ((إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء، يا بلال قم فآذن الناس بالصلاة)) فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابيضت قام فصلى بالناس جماعة، وفيه زيادة لأبي داؤد: فما أيقظهم إلا حر الشمس...إلخ، وأخرجه مسلم وأبو داؤد والترمذي عن أبي هريرة في رواية، وأخرج الثانية مسلم والنسائي.
قال في جواهر الأخبار: وفي هذا المعنى روايات وأحاديث أخر، منها: ما أخرجه الموطأ عن زيد بن أسلم قال فيه: ...فاستيقظ القوم وقد فزعوا، فأمرهم رسول الله أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي. ا ه1/172، وفي روايات: أنهم كانوا في غزوة خيبر، وأخرى: في تبوك، وروايات لم تذكر فيها الغزوة، وإنما جاء فيها: سرنا مع رسول الله ليلة...، أو: كنا مع رسول الله في غزاة... والله أعلم.
(2) للشافعي.
(3) من أن الأذان غير مسنون في قضاء الفوائت.
ما روى أبو سعيد الخدري عن النبي ، فإنه لم يذكر الأذان في قصة الخندق، فدل على أنه غير مسنون.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من كون الأذان مسنوناً.
والحجة على ذلك: ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: أن المشركين شغلوا الرسول عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذن وأقام للظهر، ثم أقام للصلوات التي بعدها.
ومن وجه آخر، وهو ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي قال: كنا مع رسول الله فلما نزلنا قال رسول الله : ((فمن يكلأنا هذه الليلة " )) فقال بلال: أنا يا رسول الله، قال: فبات بلال مرة قائماً ومرة جالساً حتى إذا كان قبل الفجر غلبته عيناه، فنام فلم يستيقظ رسول الله إلا بحر الشمس، فأمر رسول الله صلى الله عليه الناس فتوضأوا وأمر بلالاً فأذن ثم صلى ركعتين، ثم أمر بلالاً فأقام ثم صلى بهم الفجر، وهذا الخبر كما دل على الأذان فهو بعينه دال على قضاء الفوائت في جماعة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: خبر أبي سعيد الخدري ليس فيه ذكر الأذان، فدل على كونه غير مسنون.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه قد روي عن أبي سعيد الخدري في رواية أخرى تدل على ثبوت الأذان، وأنه أمر بلالاً فأذن وأقام للظهر فسقط التعلق به.
وأما ثانياً: فلأنه محمول على أنه إنما ترك الأذن خوفاً من اللبس لا لكونه غير مسنون.
وأما ما ذكره الشافعي في الإملاء من أنه إذا رجا اجتماع الناس أذن وإن لم يرج اجتماعهم لم يؤذن، فهذا شرط لم تقم عليه دلالة، وليس كلامنا في الجواز، وإنما كلامنا في المسنون الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد دللنا على أن السنة واردة على الأذان في الفائتة، وقد أنكر ابن الصباغ صاحب الشامل هذه، وقال: لعل الشرط لم يصح عند الشافعي.
الفرع الثاني في النوافل: ثم إنها متفقة في أنها لا يسن فيها الأذان ولا يشرع، ثم فيها ما يسن في الاجتماع، ولا يسن فيه الأذان ولا الصلاة جامعة(1)
،
ومنها ما لا يشرع فيه واحد من هذه الأمور الثلاثة فصارت على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول منها: يسن فيه الجماعة ولا يشرع الأذان، ولكن يشرع فيه: الصلاة جامعة، وهذا نحو صلاة العيدين والكسوفين والاستسقاء، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وهو مما لا يعرف فيه خلاف.
والحجة على هذا ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: خرج رسول لله صلى الله عليه وآله يوم العيد فصلى من غير أذان ولا إقامة.
الحجة الثانية: ما روى جابر أن النبي خرج يوم العيد فصلى من غير أذان ولا إقامة.
الحجة الثالثة: عن جابر بن سمرة " (2) قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه يوم العيد مرة أو مرتين من غير أذان ولا إقامة(3).
وإنما قلنا: أن هذه الأمور يسن فيها الإجتماع، فلأنه قد جرى عمل المسلمين بذلك، وتوارثوه خلفاً عن سلف من لدن الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا باستحباب الإجتماع فيها.
__________
(1) يقصد، ولا النداء بـ(الصلاة جامعة).
(2) جابر بن سمرة بن جندب بن حبيب، سمع النبي وروى عنه، وعن أبي أيوب الأنصاري وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب، وغيرهم من جلة الصحابة، وعنه: سماك بن حرب وتميم بن طرفة، وجعفر بن أبي ثور، وغيرهم. توفي في ولاية عبد الملك بن مروان سنة 73ه. وقيل: 76هبالكوفة، كما جاء في (تهذيب الكمال)4/437.
(3) هذا الحديث بألفاظه ورواياته الثلاث سيأتي في موضعه من صلاة العيدين، أخرج حديث جابر، البخاري ومسلم. وحديث ابن عباس. قال في فتح الغفار: متفق عليه، ورواه أحمد ومسلم وأبو داؤد والترمذي من رواية جابر بن سمرة.
وإنما قلنا: إنه يسن فيها: الصلاة جامعة، فلما روى الزهري عن الرسول أنه كان ينادي في الإستسقاء: الصلاة جامعة، وهكذا يفعل في الكسوفين، وهذا يدل على كونه سنة.
نعم. يحكى عن عبد الله بن الزبير وعمر بن العزيز ومعاوية " (1)
أنهم أمروا بالأذان الشرعي في صلاة العيدين.
والحجة على ذلك: أنها صلاة يسن فيها الإجتماع والطيب ولباس الزينة، فيسن فيها الأذان الشرعي كصلاة الجمعة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة من منع الأذان الشرعي فيهما، وإنما يقال: الصلاة جامعة.
والحجة على ذلك: هو أن هذه السنن الشرعية وجميع الآداب التعبدية مستندها صاحب الشريعة في أفعاله وأقواله وهي أمور غيبية وليس للأقيسة فيها مجرى، ولم يكن من جهته فيها إلا ما ذكرناه فيجب الإقتصار عليه من غير زيادة.
الضرب الثاني: ما يسن فيه الإجتماع ولا يسن فيه الأذان، ولا قولنا: الصلاة جامعة، وهذا نحو صلاة الجنازة. فإن عمل المسلمين قد دل فيها على الإجتماع، وفعله دال على ذلك ولم يؤثر فيها الأذان ولا قولنا: الصلاة جامعة، فيجب الإعتماد عليه. ومن وجه آخر وهو أنها في نفسها ليست من فرائض الأعيان فيسن فيها الأذان الشرعي ولا من صلاة النوافل فيسن فيها الصلاة جامعة.
__________
(1) معاوية بن أبي سفيان بن حرب. من الطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، ولاَّه عمر بن الخطاب الشام وأقره عثمان مدة ولايته، ثم بعد مقتل عثمان بايع المسلمون الإمام علي وتخلف معاوية عن البيعة، وخرج على الخليفة الشرعي وقاتله، ويرى المؤرخون أنه أول من حول الخلافة إلى ملك، والشورى إلى ولاية عهد.
واعتبر العلامة محمد بن مهدي المقبلي-رحمه الله-: حرب معاوية لعلي حرباً لله ولرسوله، وقال: وقد صح لدينا قوله لعلي: ((حربك حربي، وسلمك سلمي)) انظر: (الأبحاث المسددة) للمقبلي، مات معاوية في رجب سنة 60ه، وكانت مدة حكمه عشرين سنة.
قال الإمام زيد بن علي ، الأذان المشروع للصلوات الخمس ولصلاة الجمعة وليس للعيدين ولا للوتر أذان ولا إقامة، فكلامه هذا قد وضح فيه ما يسن فيه الأذان الشرعي وهو الجمعة والصلوات المكتوبة، وأشار إلى ما يسن فيه: الصلاة جامعة، ولا يؤذن فيه الأذان الشرعي وهو صلاة العيدين، وإلى ما لا يسن فيه واحد من الأمرين وهو الوتر.
الضرب الثالث: ما لا يسن فيه الأذان الشرعي ولا يسن فيه الإجتماع ولا يسن فيه: الصلاة جامعة، وما هذا حاله فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول منها: ما يتكرر بتكرر الأعوام والسنين وهذا نحو صلاة الشعبانية وصلاة الرغائب في أول جمعة من رجب.
والقسم الثاني: ما يتكرر بتكرر الأيام والليالي، وهذا نحو الصلوات في أيام الأسبوع ولياليه.
والقسم الثالث: ما ليس له وقت مخصوص، وهذا نحو صلاة التسبيح وغيرها من الصلوات التي لا تختص وقتاً دون وقت مهما اجتنبت الأوقات الثلاثة(1). فهذا حكم الأذان يجري في النوافل على ما ذكرناه.
الفرع الثالث: ويستحب إذا أذن المؤذن والرجل في غير المسجد أن يمشي على التؤده والإرواد دون الفشل والعجلة، لما روى قتادة قال: بينما نحن نصلي مع الرسول [إذ سمع] جلبة فلما فرغ من صلاته قال: ((ما شأنكم))؟ قالوا: استعجلنا للصلاة يا رسول اللّه. قال: ((فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا))(2).
__________
(1) المكروهة فيها النوافل، وهي وقت شروق الشمس ووقت غروبها وقبل زوالها عند الظهيرة.
(2) وهو بلفظه في الجواهر، أخرجه البخاري ومسلم. ا ه1/188.
ويستحب إذا كان المسجد واسعاً وسمع الرجل الإقامة أن يمشي رويداً وعليه السكينة والوقار لما روى أبو هريرة عن رسول الله أنه قال: ((إذا أقيمت الصلاة)) أو قال: ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة " ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا)). ويستحب أن لا يقوم المسلمون حتى يقوم الإمام، لما روى أبو قتاده قال: قال رسول اللّه : ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني " )) (1).
ويجوز للإمام إذا عرضت له حاجة بعد الإقامة أن يقف لها، لما روى أنس بن مالك قال: أقيمت الصلاة فعرض للرسول رجل فحبسه بعدما أقيمت الصلاة(2).
الفرع الرابع: ويجوز للإمام إذا عرض له عارض بعد الإقامة أن يخرج من الصف. لما روى أبو هريرة رضي اللّه عنه قال أقيمت الصلاة فسوَّى الناس صفوفهم وتقدم وهو جنب فقال: ((على مكانكم)) فخرج واغتسل ورجع ورأسه يقطر ماء فصلى بهم. وفي حديث آخر أن الرسول خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف، حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر، فانصرف فقال: ((على مكانكم)) فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه ماء وقد اغتسل(3).
__________
(1) أخرجه الستة إلا الموطأ، بزيادة: ((..قد خرجت وعليكم بالسكينة)).
قال في الجواهر: إلا أن النسائي لم يذكر: ((..وعليكم بالسكينة)). المصدر السالف.
(2) وقد جاء في المصدر السالف عن أنس بلفظ: أُقيمت صلاة العشاء فقال رجل: لي حاجة، فقام النبي بناحية حتى قام القوم أو بعض القوم، أخرجه الستة إلا الموطأ، واللفظ لمسلم، ا ه.
…ملاحظة:قوله: فقام النبي بناحية، لعل الصواب: يناجيه. والله أعلم.
(3) أورده ابن بهران بشيء من الاختلاف في اللفظ عن أبي هريرة كما جاء هنا، وقال: أخرجه الستة إلا الترمذي. ا ه1/189.
الفرع الخامس: ويستحب للإمام إذا سمع المؤذن في صلاة الفجر وهو في بيته، أن يصلي ركعتي الفجر ثم يضطجع حتى يأتيه المؤذن لما روت عائشة رضي اللّه عنها، قالت: كان رسول اللّه إذا سكت المؤذن في صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر قبل أن يستبين الفجر ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة(1).
وتستحب الصلاة بين كل أذانين، لما روى عبدالله بن مغفل عن الرسول قال: (( " بين كل أذانين صلاة)) مرتين ثم قال في الثالثة ((لمن شاء))(2). وعن أنس بن مالك قال: كان المؤذن إذا أذن للمغرب قام ناس من أصحاب الرسول يبتدرون السواري حتى يخرج الرسول يصلون الركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الأذان والإقامة إلا شيء يسير(3).
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه الستة إلا الموطأ. قال في الجواهر: ولا تكرار عند الترمذي وعند أبي داؤد، مرتين، اه 1/189.
(3) تقدم.
---
الفصل الرابع
في صفة الأذان
وصفته ظاهرة، وهي: اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر، أشهد ألا إله إلا اللّه، أشهد ألا إله إلا اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، حي على خير العمل، حي على خير العمل، اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلا الله. هذا تمهيد الفصل.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في عدد كلمات الأذان وفيه مذاهب ستة:
المذهب الأول: عدد كلماته خمس عشرة كلمة، تكبيران في أوله والشهادتان أربع كلمات والحيعلات ست كلمات والتكبيرتان في آخره والشهادة كلمة كملت خمس عشرة وهذا هو رأي الهادي والقاسم والصادق.
والحجة على هذا ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عن رسول اللّه أنه قال: ((الأذان مثنى مثنى " ..إلخ))(1).
وما روى أبو محذوره أنه قال: علمني رسول اللّه أقول في الأذان: اللّه أكبر اللّه أكبر، مثنى مثنى إلى آخره(2).
__________
(1) روى زيد بن علي عن أبيه عن علي قال: الأذان مثنى مثنى، ويرتل في الأذان ويحدر في الإقامة، ا همسند الإمام زيد ص 93، قال في الروض: والحديث أخرج نحوه في جمع الجوامع عن الهِزَنَّع بن قيس عن علي إلخ، ونقل عن (التخريج) تضعيف الدارقطني للهزنع، إلى أن قال: وفي شرح التجريد للمؤيد بالله بسنده: كان أصحاب عبد الله بن مسعود وعلي يشفعون الأذان والإقامة. ا ه، ورجال هذا الإسناد ثقات. ا هروض ج1 ص524.
(2) هذه إحدى روايات أبي داؤد عن أبي محذورة أن رسول الله علمه لأذان يقول: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله)) إلى آخره.
قال في الجواهر: وقال أبو داؤد في حديث مالك بن دينار، قال: سألت ابن أبي محذورة، قلت: حدثني عن أذان أبيك عن رسول الله قال: الله أكبر الله أكبر، فقط ا هج1 ص 190.
وعن بلال أنه قال: أذنت خلف رسول اللّه مثنى مرتين مرتين(1).
المذهب الثاني: أن عدد كلماته سبع عشرة كلمة زاد على ما ذكره الهادي تكبيرتين في أوله وهذا هو رأي الإمامين الناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة ومحمد.
والحجة على هذا: ما روي عن أبي محذورة " (2)
__________
(1) ورد الحديث في الروض ج1 ص 526، وفي الجواهر ج1 ص 190 من طريق عبد الرزاق الصنعاني بسنده عن الأسود [بن يزيد] عن بلال: أنه كان يثني الأذان والإقامة، وفي الجواهر: روي عن عون بن أبي حنيفة عن أبيه قال: أذان بلال وراء رسول الله بمنى مرتين مرتين وأقام كذلك. ا ه، وهو مروي من عدة طرق ووارد في مسندات عدة.
(2) أبو محذورة القرشي الجمحي، واسمه: أوس. وقيل: غير ذلك، صحابي مشهور، روى عن الرسول وكان أحد مؤذنيه بمكة.
قال ابن حبان: إنه مات بعد أبي هريرة، وقبل سمرة بن جندب ما بين ثمان وخمسين إلى ستين، وفي هذا إشارة إلى الحديث الشريف الذي رواه أبو محذورة قال: كنت أنا وأبو هريرة وفلان في بيت فقال النبي : ((آخركم موتاً في النار)). فمات أبو هريرة، ثم مات أبو محذورة، ثم مات ذلك الرجل، كما جاء في رواية الحديث عن أبي محذورة (علي بن زيد بن صوحان عن أوس بن خالد) (تهذيب التهذيب) 1/343، وذلك الرجل الثالث هو سمرة بن جندب كما يفهم من قول ابن حبان السالف.
أنه القى عليه الأذان الرسول بنفسه، وقال: اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر.. أربعاً، أشهد ألا إله إلاَّ الله مرتين أشهد أن محمداً رسول اللّه مرتين إلى آخره(1).
__________
(1) ويقابل إحدى روايات أبي داؤد السالفة في تثنية الأذان روايته هذه لهذا الحديث. ولفظه كما في الجواهر: عن أبي محذورة، قال: ألقى علي رسول الله النداء هو بنفسه، فقال: ((قل: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله)) ثم قال: ((إرجع فمد بهذه صوتك: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله)) ا ه، المصدر السالف.
قال في الروض النضير عن حديث تثنية التكبير: وظاهر الحديث حجة للصادق والقاسم والهادي ومالك وأبي يوسف. قال: واحتجوا أيضاً بما أخرجه ابن خزيمة والديلمي عن عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة، أنه قال: إن النبي أمر نحو عشرين رجلاً فأذنوا، فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان مثنى إلا التهليل.
قال الطفاري: سنده صحيح، إلى أن قال السياغي رحمه الله: وعند الباقر والنفس الزكية وأحمد بن عيسى والناصر للحق والمؤيد بالله والإمام يحيى ومحمد بن منصور، ان التكبير في أول الأذان أربع، ونسبه في (المنهاج) والقاضي (زيد) في شرحه إلى زيد بن علي وجده علي وحمل حديث الأصل على تغليب أكثر ألفاظ الأذان، والإقامة على أقلها، واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد إلى آخره، وقد تقدم. ا ه1/527 ملخصاً.
المذهب الثالث: أن الأذان تسع عشرة كلمة، التكبير في أوله أربع مرات، وابتداء الشهادتين أربع كلمات والترجيع فيهما أربع كلمات والحيعلتان أربع كلمات والتكبير في آخره كلمتان والتهليل في آخره كلمة و احدة كملت تسع عشرة كلمة، هذا كله في غير الفجر فأما في الفجر فتكون عدة كلماته إحدى وعشرين كلمة لأن التثويب كلمتان وهذا هو المحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى أبو داود في سننه عن أبي محذورة قال: قلت يا رسول اللّه علمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسي وقال: ((قل: اللّه أكبر)) وذكر ما قلناه إلى آخر.
المذهب الرابع: أن عدد كلماته سبع عشرة كلمة التكبير في أوله كلمتان وابتداء الشهادتين أربع كلمات والترجيع فيهما أربع كلمات والتكبير في آخره كلمتان والشهادة كلمة واحدة والحيعلتان (1)
أربع كلمات كملت سبع عشرة كلمة وهذا هو رأي مالك.
والحجة على هذا: أما حجته على تثنية التكبير فما حكيناه عن الهادي والقاسم. وحجته على باقي كلمات الأذان ما حكيناه عن الشافعي.
المذهب الخامس: أن الأذان خمس عشرة، التكبير في أوله أربع مرات والشهادتان أربع كلمات والحيعلتان أربع كلمات والتكبير في آخره كلمتان والشهادة كلمة واحدة فهذه خمس عشرة كلمة، وهذا هو رأي أبي حنيفة، وأسقط الترجيع من الأذان وهو أربع كلمات فإذا سقط من تسع عشرة أربع بقي خمس عشرة كلمة.
المذهب السادس: أن الأذان ثلاث عشرة كلمة، التكبير في أوله كلمتان؛ لأنه لا يقول بالتربيع، والشهادتان أربع كلمات، والحيعلتان أربع كلمات، والتكبير في آخره كلمتان والشهادة كلمة واحدة، وأسقط الترجيع من الشهادتين وأسقط تكبيرتين من أوله وإذا سقط ست كلمات من تسع عشرة بقي ثلاث عشرة، وهذا هو رأي أبي يوسف. فهذا تقرير الخلاف في أعداد كلمات الأذان.
__________
(1) في كلمات هذا المذهب تقديم التكبير وتأخير الحيعلتين (حي على الصلاة، حي على الفلاح) كما هو في الأصل.
الفرع الثاني: في بيان أحكام الأذان وجملتها عشرة:
الحكم الأول: في التربيع وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أن التكبير في أول الأذان مرتين، وهذا هو رأي الإمامين الهادي والقاسم ومحكي عن الصادق وعبدالله بن الحسن وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
والحجة على هذا: ما قدمناه عن زيد بن علي وعن أبي محذورة وعن بلال، فإن أخبارهم كلها دالة على كون الأذان مثنى مثنى، ونزيد هاهنا وهو ما رواه عبدالله بن زيد الأنصاري قال: رأيت شخصاً نزل من السماء فاستقبل القبلة وقال: اللّه أكبر اللّه أكبر، وروى عمار بن سعد القرظي " (1)
عن سعد وكان مؤذناً لرسول اللّه بقبا أنه سمعه يقول: هذا أذان بلال الذي أمره به رسول اللّه، وهو: اللّه أكبر اللّه أكبر مرتين(2).
المذهب الثاني: أن التكبير في أوله أربع تكبيرات وهذا هو رأي الإمامين الناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن الصادق في رواية ومروي عن الباقر وقول الفريقين الشافعية والحنفية(3).
__________
(1) هو عمار بن سعد القرظي المؤذن، هكذا في تجريد أسماء الصحابة ص 394، وفي تهذيب التهذيب: سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤذن، روى عن أبيه عن جده ا ه1/696، وفي الجزء الثالث من التهذيب ص 202: عمار بن سعد بن عابد المؤذن المعروف أبوه بسعد القرظ (بفتحتين على القاف والراء) لذا لزم التنبيه، وأطلق عليه ابن بهران في الجواهر: عثمان بن سعد القرضي، وهو عمار.. كما سبق، ثم قال: والصواب أنه سعد القرظ بإضافة سعد إلى القرض بفتح القاف.
(2) أورده ابن بهران بزيادة.. وإقامته الله أكبر الله أكبر، لم يزد على مرتين. حكاه في (الشفاء).اه.
(3) في حاشية الأصل ما لفظه: قال الأمير الحسين بن محمد في كتابه (شفاء الأوام): وذهب زيد بن علي والنفس الزكية والباقر والصادق وأحمد بن عيسى وأبو عبد الله الداعي والناصر للحق والمؤيد بالله، إلى أن التكبير في أول الأذان والإقامة أربع مرات. ا ه.
والحجة على ذلك: ما روي عن أبي محذورة أنه قال: ألقى عليَّ رسول اللّه الأذان بنفسه فقال: ((قل: اللّه أكبر " ، اللّه أكبر أربع مرات)).
والمختار: ما قاله الإمامان الناصر والمؤيد بالله.
وحجتهم: ما ذكرناه عنهم، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن علي أنه قال: الأذان هكذا اللّه أكبر، اللّه أكبر، اللّه أكبر الله أكبر أربعاً.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه من خبر زيد بن علي وأبي محذورة وبلال أن الأذان مثنى مثنى في تكبيره.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن خبرنا مشتمل على الزيادة فكان مختصاً بفائدة فلهذا كان راجحاً على غيره مما لم يفد تلك الفائدة.
وأما ثانياً: فلأن خبرنا رواه أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه، وما رواه فهو في نهاية القوة والوثاقة،والأخبار إنما تكون راجحة تارة بالإضافة إلى متنها باشتمالها على الزيادة والفائدة ومرة بالإضافة إلى قوة الراوي ووثاقته، ولا شك أن أخبارنا قد جمعت هذين الوجهين اشتمالها على الزيادة وقوة الراوي وصلابته في الدين، فما يرويه أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه لا تساويه رواية غيره لما خصه اللّه تعالى به من القوة والضبط في الرواية والورع والصلابة في الدين وهي راجحة على غيرها من كل الوجوه.
الحكم الثاني: في الترجيع. ومحله الشهادتان، وصورته: أن ينطق بالشهادتين أولاً يخفض بهما صوته ثم يرجع يمد بهما صوته. وهل يكون الترجيع مشروعاً في الأذان أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير مشروع في الأذان، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية وهو قول الحنفية.
والحجة على هذا: ما روي أن الرسول لما همه أمر الإعلام بالصلاة فطلب شيئاً يدعو به المسلمين للصلاة فذكروا النار فقيل إنها من عادة المجوس، ثم ذكر الشبَّور وهو البوق، فقيل إنه من عادة اليهود، ثم ذكروا الناقوس فقيل إنه من عادة النصارى، حتى كان ما كان من أمر اللّه بالمعراج به إلى السماء أو ما كان من ليلة الإسراء ففرض عليه الأذان فأمر بلالاً وسائر مؤذنيه من غير ترجيع(1).
المذهب الثاني: أن الترجيع مشروع وهذا هو رأي الشافعي ومالك.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو سعيد القرظي(2)
أن الرسول أمره بالترجيع وأن سعداً أول من رجع.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة.
والحجة عليه ما ذكرناه ونزيد هاهنا وهو ما رواه أصحاب الشافعي عن عمر وعبدالله بن زيد في الرؤيا التي رأياها في ابتداء الأذان وأمرهما رسول اللّه ، ولم يذكر فيهما ترجيعاً في الشهادتين فدل ذلك على أنه غير مشروع.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روى أبو سعد القرظي أنه أذن بالترجيع.
قلنا: هذه رواية شاذة لا يعمل عليها والمشهور من الرواية هو ما ذكرناه.
قالوا: عمل أهل الحرمين على الترجيع فيجب قبوله.
قلنا: الحجة إنما هو كلام الرسول وإجماع الأمة، فأما أهل الحرمين فأقوالهم ليست حجة بحال، فبطل ما عولوا عليه وصح أنه غير مشروع.
الحكم الثالث: في التأذين بحي على خير العمل، هل هو مشروع في الأذان أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) يمكن التنبيه هنا إلى أن الإسراء والمعراج كما هو معروف كانا في ليلة واحدة في مكة، وأن الأذان فرض في تلك الليلة على أرجح أراء أئمة وفقهاء المذهب، ولكن إعلان بلال بالأذان بأمر الرسول كان في المدينة، ولذا لزم التنبيه لإزاحة أي لبس قد يفهم من كلام المؤلف غير مقصود، والله أعلم.
(2) هكذا في الأصل، والصواب: سعد القرظ، كما سبق في الترجمة آنفاً، وكما أورد المؤلف في آخر هذه الحجة بقوله: ...وأن سعداً أول من رجع.
المذهب الأول: أنه مشروع في الأذان معمول عليه، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية لايختلفون فيه وأنه كان ثابتاً في زمن الرسول إلى يومنا هذا، وهو رأي فرق الزيدية متفقون عليه.
والحجة على ذلك: ما روي عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه قال: سمعت رسول اللّه يقول: ((اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة " ))(1)
وأمر بلالاً أن يؤذن بحي على خير العمل، وهذا خبر قوي لا يوازيه في صحة العمل به إلا آية من كتاب اللّه تعالى لصحة سنده ومتنه.
الحجة الثانية: ما رواه القاسم عن الرسول ، أنه أمر بالتأذين بحي على خير العمل وكان القاسم يعمل به ويجعله في أذانه، وفي هذا دلالة على صحة نقله ولهذا عمل به واختاره لنفسه كما يعمل على سائر الأخبار المنقولة من جهة الرسول .
الحجة الثالثة: ما روى محمد بن منصور في كتابه (الجامع) (2)
بإسناده عن رجال مرضيين عن أبي محذورة أحد مؤذني رسول اللّه ، أنه قال: أمرني رسول اللّه أن أقول في الأذان: حي على خير العمل(3).
فهذا نص صريح في صحة التأذين به.
__________
(1) رواه أبو العباس الحسني بسنده عن أحمد بن عيسى عن أبيه عن جده عن علي قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن خير أعمالكم الصلاة)) وأمر بلالاً أن يؤذن بحي على خير العمل. هكذا في الاعتصام، وفيه عن أبي العباس الحسني بسنده عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول في أذانه: حي على خير العمل. ا ه1/309.
(2) الجامع الكافي.
(3) أورده في الاعتصام عن أبي بكر المقري بسنده إلى عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة قال: علمني رسول الله الأذان كما يؤذنون الآن: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، حي على خير العمل حي على خير العمل، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. ا ه. 1/309.
الحجة الرابعة: ما روى نافع عن إبن عمر رضي اللّه عنه، أنه زاد في أذانه: حي على خير العمل، ومثل هذا لا يقوله عن نظر واجتهاد وإنما يقوله عن توقيف من جهة الرسول لا مساغ للإجتهاد فيه بحال.
الحجة الخامسة: ما روى أبو بكر بن أبي شيبة " (1)
عن علي بن الحسين " (2)
__________
(1) واسمه: عبد الله بن محمد بن إبراهيم العبسي مولاهم، يأتي في مقدمة الأسماء المنتشرة في كتب الأسانيد والصحاح وتراجم رجال الحديث، روى عن أبي الأحوص وعبد الله بن إدريس وابن المبارك، ووكيع وابن عيينة وغيرهم. وروى عنه: البخاري ومسلم وأبو داؤد وابن ماجة، وكان مشهوراً بحفظ الحديث ورجاله، وثقه أعلام من أصحاب الصحاح ورواة الحديث، توفي سنة 235ه. ا هملخصاً من (التهذيب) 6/3. و(طبقات الحفاظ) 1/192.
(2) علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسين، روى عن أبيه وعمه الحسن بن علي، عن جده علي، وروى عن ابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين، وروى عنه أولاده محمد وزيد وعبد الله وعمر، وطاووس والزهري وأبو الجناد وغيرهم، كان أشهر أهل عصره بالعبادة، ولذا لقب: زين العابدين، قال ابن سعد عنه: كان ثقة مأموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً ورعاً. وابن عيينة عن الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل من علي بن الحسين، وقال حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد: سمعت علي بن الحسين وكان أفضل هاشمي أدركته...إلخ، وصفاته في التقوى والورع والزهد والعلم والعبادة مدونة في كل كتب التراجم، ولد سنة 33ه، وكان مع أبيه سيد الشهداء عندما استشهد بكربلاء يوم عاشوراء سنة 61 ه، مات سنة 100هوقيل: سنة 99ه. ا ه ملخصاً.
أنه كان يؤذن فإذا بلغ حي على الفلاح قال: حي على خير العمل(1).
ومثل هذه لا يصدر إلا من جهة الرسول لأنه أمر توقيفي لا مساغ للاجتهاد فيه.
الحجة السادسة: ما روى زيد بن علي عن أبيه علي بن الحسين أنه كان يقول في أذانه: حي على خير العمل. ولنكتف بما أوردناه من هذه الأخبار ففيها كفاية وفيها تصريح بما نريده من كونه مشروعاً في الأذان.
المذهب الثاني: أنه غير مشروع في الأذان، وهذا هو رأي الفقهاء عن آخرهم لا يختلفون في إنكاره ورده.
والحجة لهم على ما قالوه: هو أن خبر عبدالله بن زيد وخبر عمر فيما رويا في ابتداء الأذان في تلك الرؤيا، لم يذكرا حي على خير العمل. وفي هذا دلالة على كونه غير مشروع.
الحجة الثانية: روي عن علي بن الحسين أنه كان يؤذن في صلاته، فإذا بلغه(2)
قال: حي على خير العمل مرتين، وقال لأصحابه هذا هو الأذان الأول، وفي كلامه هذا دلالة على كونه منسوخاً.
الحجة الثالثة: أن عمر أمر بكفه عن التأذين به ولو كان مشروعاً من جهة الرسول لم يكن له أن يكفه ويأمر بتركه؛ لأن كل ما كان من جهة الرسول فلا يجوز لأحد تركه برأيه واجتهاده. فهذه الأمور كلها دالة على كونه غير مشروع في الأذان.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وعمل عليه الأكابر من أهل البيت واختاروه قولاً وعملاً.
وحجتهم على ذلك: ما نقلناه عنهم من الاحتجاج، ونزيد هاهنا وهو أن التأذين بحي على خير العمل، إجماع أهل البيت، وإجماعهم حجة.
__________
(1) جاء في الاعتصام من طريق ابن أبي شيبة قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، وهو ثقة من رجال البخاري ومسلم، عن جعفر بن محمد عن أبيه الباقر. ومسلم بن أبي مريم، وهو مسلم بن يسار المزني، وهو ثقة من رجال البخاري، أن علي بن الحسين× كان يؤذن فإذا بلغ: حي على الفلاح، قال: حي على خير العمل، ويقول: هو الأذان الأول وإنه أذان النبي. ا ه1/310.
(2) درج المؤلف على استخدام ضمير المذكر لكلمة (حي على خير العمل).
وإنما قلنا: إنهم أجمعوا فهذا ظاهر فإنه لم ينقل عن أحد منهم إنكاره وإنهم عاملون عليه معترفون بصحته ولو أنكره منهم منكر لنقل كما في سائر المسائل الخلافية، فلما لم ينقل دل على اتفاقهم عليه.
وأما أن إجماعهم حجة فللآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً " } [الأحزاب:33]. فظاهر هذه الآية دال على تطهيرهم من جميع الأرجاس كلها، والمعاصي من جملة الرجس فيجب تبرئتهم عنها، ولا نريد بكون إجماعهم حجة إلا أنهم لا يجمعون على خطأ. وأما الخبر فقوله : ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا " كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))(1)
فظاهر هذا الخبر دال على وجوب التمسك بالكتاب والعترة، ولن يكون الأمر هكذا إلا وهم معصومون فيما أجمعوا عليه عن الخطأ والزلل، وقد دللنا في كتبنا الأصولية على أن إجماعهم حجة وأجبنا عن الأسئلة الواردة على الآية والخبر فمن أرادها فليأخذها من كتاب (الحاوي)(2)
فإنه يجد فيه ما يشفي ويكفي من ذلك، ووضحنا أن الأدلة الشرعية الدالة على كون إجماع العترة حجة أصرح وأقوى من الأدلة الدالة على أن إجماع الأمة حجة لما فيها من التصريح بالغرض المقصود.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه حجة لهم.
قالوا: خبر عمر وعبدالله بن زيد في الرؤيا التي قررها الرسول في ابتداء الأذان ليس فيها ذكر التأذين بحي على خير العمل.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) تقدم تخريجه في المجلد الأول.
(2) الحاوي لحقائق الأدلة الفقهية) أحد كتب المؤلف المشهورة في أصول الفقه، ثلاثة مجلدات. اه(مؤلفات الزيدية) للسيد أحمد الحسيني 1/315.
أما أولاً: فلأنا قد قررنا أن الإعتماد في إبتداء الأذان إنما هو على ما أوضحناه من حديث المعراج وحديث الإسراء وأن إبتداءه ما كان إلا في هاتين الحالتين فأغنى عن التكرير والإعادة.
وأما ثانياً: فلأنه ولو لم يذكر في حديث عمر وعبدالله بن زيد فهو مذكور في غيرهما كما قررناه في تلك الأحاديث التي رويناها.
قالوا: روي عن علي بن الحسين انه كان يؤذن في صلاته فإذا بلغ إلى حي على خير العمل، قال لأصحابه هذا هو الأذان الأول، وفي هذا دلالة على كونه منسوخاً بما بعده من صفة الأذان.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فالأصل هو الثبوت ولا يقدم على نسخ الآي والأخبار إلا بدلالة تزيل حكمه ولا دلالة تدل على نسخه، ومجرد الدعوى لا يعمل عليها ولا يلتفت إليها.
وأما ثانياً: فلأنه محمول على أنه لم يكن من الأذان الأول الذي نزل به جبريل يوم المعراج أو ليلة الإسراء ولكن الرسول أوضحه من بعدُ وليس على الرسول فيما أوضحه من أمور الشريعة في التقدم والتأخر حرج، فإليه الأمر في ذلك على قدر ما يراه من المصلحة الشرعية.
قالوا: إن عمر أمر بتركه ولو كان من جهة الرسول لم يكن له أن يأمر بتركه لأن ما كان من جهة الرسول وجب امتثاله والمسارعة إلى فعله.
قلنا: عما ذكروه أجوبة ثلاثة:
الجواب الأول: أن إسقاطه من الأذان فيه دلالة على أنه كان ثابتاً في أيام الرسول وفي خلافة أبي بكر، ولولا ثبوته في هذه الأزمنة ما أمر بإسقاطه.
الجواب الثاني: أن إسقاطه إنما كان لغرض ديني قد رآه عمر واستصلحه للمسلمين خوفاً من الإتكال على الصلاة لما كانت خير الأعمال(1)
فيقع التساهل في الجهاد والإعتماد على الصلاة فأراد إحياء أمر الجهاد بما فعله، وإذا رأى من يلي أمر المسلمين منعهم عن بعض المسائل الاجتهادية لمصلحة رآها جاز له ذلك، ولم يكن لأحد الإعتراض عليه.
__________
(1) وفي هذا أورد ابن بهران عن علي بن الحسين زين العابدين، أنه كان يؤذن فإذا بلغ حي على الفلاح، قال: حي على خير العمل، ويقول: هو الأذان الأول، وفيه عن محمد بن علي بن الحسين أنه قال: وكانت هذه الكلمة في الأذان فأمر عمر بن الخطاب أن يكفوا عنها مخافة أن تثبط الناس عن الجهاد ويتكلوا على الصلاة. ا ه، قال ابن بهران: قلت: وحكى سعد الدين التفتازاني في حاشيته على شرح العضد عن عمر أنه كان يقول: ثلاث كن على عهد رسول الله أنا أحرمهن وأنهى عنهن: متعة الحج، ومتعة النكاح، وحي على خير العمل. ا هجواهر 1/192، وهو في الاعتصام كما جاء، وأورد الإمام القاسم فيه عن كتاب السنام ما لفظه: الصحيح أن الأذان شرع بحي على خير العمل لأنه اتفق على الأذان به يوم الخندق، ولأنه دعاء إلى الصلاة، وقد قال رسول الله : ((خير أعمالكم الصلاة))، وقد اتفق أيضاً على أن ابن عمر والحسن والحسين وبلال وجماعة من الصحابة أذنوا به، حكاه في شرح الموطأ وغيره من كتبهم. ا ه1/310.
الجواب الثالث: أن عمر لما رأى اتساع ملك الإسلام وانفتحت الأقطار والأقاليم وقوي الأمر، خشي أن الناس يتكاسلون عن الجهاد ويتكلون على الصلاة والصيام وأنواع القربات ويتركون الجهاد، فلهذا أمر بقصره من أجل ما ذكرناه، وهذا توهم لا وجه له وإن اللّه تعالى قد خص المجاهدين بما خص فقال تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا " } [النساء:95]. فأخبر اللّه تعالى أن ثواب المجاهد أعظم من ثواب القاعد الذي ليس بمجاهد وإن كان يصلي ويصوم ويحج ويعتمر فدل ما ذكرناه على ضعف هذا التوهم. فأما ما حكاه النيروسي عن الإمام القاسم من إسقاط هذه الكلمة حي على خير العمل من الأذان فهو وهم وخطأ من النيروسي لأمرين:
أحدهما: أن الإمام إنما حكى قول المخالفين في إسقاطها من الأذان وليس مذهباً له وإنما وهم النيروسي في اضافته إليه على أنه مذهب له وهو غير قائل به و إنما نقل مذهب المخالفين ليرد عليهم ما زعموه.
وثانيهما: أن أخباره التي رواها عن الرسول وأقواله ورده على من خالف مؤذنه بخلاف ما قاله النيروسي فإذن لا وجه لما قاله.
قاعدة: اعلم أنا لا ننكر فضل الفقهاء ولا إحرازهم لمنصب الاجتهاد وهم الغواصون في أسرار الشريعة والمتبحرون في علومها، لكنا نقول إنهم ما أنصفونا في إنكار هذه الكلمة وإسقاطها من الأذان وقوتها ظاهرة من جهات ثلاث:
الجهة الأولى: ما نقلناه من الأخبار المروية عن الرسول من الرواة الذين يوثق بهم وبرواياتهم كأمير المؤمنين وزيد بن علي وعلي بن الحسين وابن عمر وأبي محذورة وبلال وغيرهم من جلَّة الصحابة والتابعين، فإنها دالة على إثباتها في ألفاظ الأذان.
الجهة الثانية: ما قررناه وأوضحناه من إجماع أهل البيت عن آخرهم على ثبوتها واتفاقهم على ذلك، وأن إجماعهم حجة قاطعة كإجماع الأمة ولا يفترقان في كونهما قاطعين فيما دلا عليه خلا أن إجماع الأمة مخالفه يفسق بظاهر الآية بخلاف المخالف لإجماع العترة فإنه لا يفسق ولكن يأثم ويخطئ لمخالفة القاطع.
الجهة الثالثة: المعارضة بالتثويب وهو قولهم: ((الصلاة خير من النوم " )) فإذا كانوا قد قبلوا هذه الكلمة وليس فيها نص من جهة الرسول ولا دل عليها دليل شرعي، ولكن مستندها أمران: إما استصلاح عمر من نفسه من غير نقل من جهة الرسول مخافة أن يترك الناس الجهاد ويتكلوا على الصلاة(1).
__________
(1) عبارة: مخافة أن يترك الناس الجهاد ويتكلوا على الصلاة جاءت هنا في الأصل، ويبدو أن محلها في مبحث الكلام على (حي على خير العمل) وأنها جاءت هنا خطأ، والله أعلم.
وإما كلام بلال لما أراد أن يؤذن الرسول للصلاة قالوا: إنه نائم. فقال: الصلاة خير من النوم(1)،
فإذا قبلوا التثويب مع ما فيه من الضعف في تقريره وثبوته، كيف لا يقبلون هذه الكلمة مع ما فيها من مزيد القوة كما أوضحناه، فلينظر الناظر فيما ذكرناه وليحقق ما بين الكلمتين من الضعف والقوة وما بينهما من التفرقة في الرد والقبول، وغاية ما نقول: تحسين الظن بأحوالهم وأن المسألة اجتهادية وكل مجتهد فيها مصيب كما في غيرها من المسائل الفقهية.
__________
(1) أورده في الجواهر بلفظه نقلاً عن الانتصار: وعلق ابن بهران على الخبر بقوله: قلت: المعروف أن هذه القصة إنما وقعت لعمر ومؤذنه كما أخرجه في الموطأ، والمروي في ذلك عن بلال ما أخرجه الترمذي عنه قال: قال رسول الله : ((لا تثوبن في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر)) ا ه/193، وفي هذا الباب روايات كثيرة كما أشار إليها في الجواهر بأن التثويب كان على عهد عمر فيما أورده عن مالك ما بلغه أن المؤذن جاء (إلى) عمر يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائماً، فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعله في نداء الصبح، أخرجه الموطأ، وروي عن عمرو بن حفص أن جده سعد القرظ أول من قال: الصلاة خير من النوم بخلافة عمر ومتوفى أبي بكر، فقال عمر: بدعة، هكذا في أصول الأحكام، ومثله في الشفاء إلا قوله: وقال عمر: بدعة، وفيه عن مجاهد قال: دخلت مع ابن عمر مسجداً وقد أذن فيه ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوب المؤذن فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال: أخرج بنا من عند هذا المبتدع، ولم يصل فيه، أخرجه الترمذي، وقد رُوي عن ابن عمر أنه كان يقول في صلاة الفجر: الصلاة خير من النوم، ا ه، وفي رواية أبي داؤد إن مجاهد قال: كنت مع عبد الله بن عمر فثوب رجل في الظهر والعصر، فقال: اخرج بنا فإن هذه بدعة، ا ه، وفي الشفاء عن طاووس أنه قال له رجل: متى قيل: الصلاة خير من النوم؟ فقال: أما إنها لم تقل على عهد رسول الله .
الحكم الرابع:في التثويب في الأذان، والتثويب في اللغة هو الرجوع إلى الشيء بعد الخروج عنه، قال اللّه تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ " } [البقرة: 145] أي: يرجعون إليه مرة بعد أخرى، وقال الشاعر:
وكل حي وإن طالت سلامته ... يوماً له من دواعي الموت تثويب
وفي صفته ثلاثة أقوال:
فالقول الأول: تثويب أهل العراق، وهو أن يقول بعد الأذان: حي على الصلاة حي على الفلاح.
القول الثاني: أن يقول بعد الإقامة للصلاة: يرحمكم اللّه، وهو محكي عن أهل العراق أيضاً.
القول الثالث: أن يقول: الصلاة خير من النوم(1)،
وهو المحكي عن الشافعي وأين يكون محله؟ فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه مخصوص بأذان الفجر بعد قوله حي على الفلاح، وهذا هو قول الشافعي.
القول الثاني: أنه يكون في جميع الصلوات، وهذا هو قول أبي يوسف.
القول الثالث: أنه يكون في صلاة العتمة، وهذا هو قول الحسن بن صالح. وهل يكون مشروعاً في الأذان أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير مشروع، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الشافعي في الجديد.
__________
(1) جاء في حاشية الأصل ما لفظه: قال ابن الأثير: والأصل في التثويب أن يجيء الرجل مستصرخاً ليُرى ويشتهر، فسمي الدعاء تثويباً، وكل داعٍ مثوب، وقيل: إنما سمي الدعاء تثويباً من ثاب يثوب، إذا رجع، وهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلىالصلاة، فإن المؤذن إذا قال: حي على الصلاة. فقد دعا إليها، فإذا قال: الصلاة خير من النوم. فقد رجع إلى كلام معناه المبادرة إليها، ذكره في النهاية.اه.
والحجة على هذا: ما روى سعد القرظي أن أول من قال: الصلاة خير من النوم في صلاته عمر بن الخطاب بعد وفاة أبي بكر، فقال ابن عمر: هذه بدعة، وعن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه سمع مؤذناً في أذان الفجر يقول: الصلاة خير من النوم. فقال: لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه. قال القاسم : الصلاة خير من النوم، محدث ضعيف أحدثوه في زمان عمر.
قال السيد أبو طالب: التأذين به عندنا بدعة(1).
الحجة الثانية: روى ابن أبي شيبة قال جاء رجل يؤذن عمر بصلاة الفجر فقال: الصلاة خير من النوم، فأعجب عمر بذلك فأمره أن يجعلها في أذانه. وموضع الدلالة من هذا الخبر يكون من أوجه ثلاثة:
أولها: أنه لم يكن في أذان رسول الله وأن الرجل تفرد بها وأمره عمر.
وثانيها: أنه لو كان مشروعاً في الأذان لم يعجب به عمر لأن الأذان الشرعي كان معهوداً لعمر.
وثالثها: أن عمر أمره بها، وفيه دلالة على أنه لم يؤذن بها من قبل.
المذهب الثاني: أنها مشروعة في الأذان، وهو أن يقول: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، بعد قوله: حي على الفلاح، وهذا هو قول الشافعي في القديم، ومحكي عن مالك والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور، فأما أبو حنيفة فعنه في التثويب خمس روايات:
الرواية الأولى: حكاها الجصاص من أصحابه، وهو أن يقول: الصلاة خير من النوم، بعد قوله حي على الفلاح مرتين كما هو رأي الشافعي.
الرواية الثانية: حكاها الطحاوي، وفيها تثويبان، الأول بعد قول المؤذن: حي على الفلاح، والثاني: بعد الأذان والإقامة.
__________
(1) قال في الجواهر: لفظ هذا الخبر في أصول الأحكام عن الأسود بن يزيد أنه سمع مؤذناً يقول في الفجر: الصلاة خير من النوم، فقال: لا تزيدن في الأذان ما ليس منه، ومثله في الشفاء إلا قوله: في الفجر. ا ه1/193.
الرواية الثالثة: عن محمد بن شجاع " (1)
تثويبان أيضاً، الأول في نفس الأذان والثاني بعد الأذان والإقامة.
الرواية الرابعة: تثويبان أيضاً الأول بعد الأذان والإقامة والثاني حي على الصلاة حي على الفلاح بين الأذان والإقامة.
الرواية الخامسة: عن الحسن بن زياد، أنه ينتظر بعد الأذان بقدر عشرين آية، ثم يقول حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين. فهذا تقرير الخلاف في التثويب.
والحجة على ذلك: ما روى أبو محذورة عن الرسول أنه قال له: ((حي على الفلاح " وإن كان في صلاة الفجر قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم))(2).
الحجة الثانية: روي أن بلالاً جاء إلى الرسول يؤذنه بالصلاة فقيل له إنه نائم، فقال بلال: الصلاة خير من النوم، فقال له رسول اللّه : ((إجعلها في أذانك " ))(3)
فهذا تقرير ما جعلوه عمدة لهم.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة.
وحجتهم على هذا: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن ابن عمر أنه دخل المسجد فسمع المؤذن يثوب للصلاة فقال: أخرجنا عن هذه البدعة(4)،
وروي أن رجلاً سأل طاووس فقال: يا أبا عبدالرحمن متى كان الصلاة خير من النوم؟ فقال طاووس: أما إنه لم تكن على عهد رسول اللّه .
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إن رسول اللّه علَّم أبا محذورة أن يؤذن بالتثويب في صلاة الفجر.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) أبو عبد الله، ويعرف بابن الثلجي، قيل عنه: كان فقيه أهل العراق في وقته، طعن أهل الحديث في روايته، وعده صاحب الكامل في الضعفاء 6/291. مات سنة 266ه.
(2) أورد الرباعي-رحمه الله- في فتح الغفار عن أنس قال: من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حي على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم، رواه ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي وقال: إسناده صحيح، وقال في الخلاصة: قد أخرجه مرفوعاً ابن ماجة من رواية بلال، والنسائي من رواية أبي محذورة، وغيرهم. ا ه1/145.
(3) تقدم.
(4) تقدم.
أما أولاً: فإنما كان على جهة التنبيه للناس عن النوم لا أنه مشروع في الأذان.
وأما ثانياً: فلأنه لو كان مشروعاً لما أنكره الأفاضل من الصحابة والتابعين.
قالوا: روي أن بلالاً قال له: الصلاة خير من النوم لما آذنه بالخروج للصلاة.
قلنا: عن هذان جوابان:
أما أولاً: فإنما قاله على جهة التنبيه والإشعار بالصلاة، ولم يجعله من كلمة الأذان، كقولنا: الصلاة جامعة.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما ذكرناه من الأدلة الدالة على كونه غير مأثور في الأذان.
الحكم الخامس: في التهليل. وهو مشروع في الأذان، وقد أمر رسول اللّه مؤذنيه بالتهليل في آخر الأذان، وهل يكون مفرداً أو مثنى؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن التهليل في آخره مرة واحدة، وهذا هو رأي القاسمية وعامة الفقهاء.
والحجة على هذا: ما روي عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه كان يؤذن بالتهليل في آخر أذانه مرة واحدة(1)،
ومثل هذا لا يصدر عن نظر واجتهاد و إنما يصدر عن توقيف من جهة صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه إذ لا مجرى للاجتهاد فيه.
الحجة الثانية: ما كان من مؤذني رسول اللّه ، بلال وأبي محذورة وغيرهما ممن كان مختصاً بالأذان، فإنه لم يرو عن أحد منهم تكرير التهليل في آخره، وفي هذا دلالة على إفراده وتوحيده.
المذهب الثاني: أن التهليل في آخره مثنى، وهذا هو رأي الناصر والباقر والصادق وموسى بن جعفر وإسماعيل بن جعفر وعلى بن موسى الرضا.
والحجة على هذا: ما رووه عن أمير المؤمنين أنه كان يجعل التهليل في أذانه مرتين ويجعل التكبير في أوله أربعاً، وهذا إنما يكون عن شيء سمعه من رسول اللّه لأنه من جملة العبادات التي لاتعلم إلا من جهة الرسول .
والمختار: ما اعتمده أئمة القاسمية من إفراده.
__________
(1) تقدم في حديث مسند الإمام زيد بن علي في صفة الأذان، وفيه التهليل مرة واحدة.
وحجتهم: ما نقلناه، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن أبي محذورة أنه قال: لقَّنني رسول اللّه الأذان سبع عشرة كلمة(1)
ولن يكون هذا إلا والتهليل في آخره مرة واحدة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين أنه كان يجعل التهليل في آخر أذانه مرتين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لم يقل أنه من جملة الأذان المشروع وإنما هو على جهة الذكر لاسم اللّه كما في التسبيح والتهليل.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما ذكرناه برواية أخرى عنه دالة على إفراده.
الحكم السادس: الترتيب في الأذان. ومعنى الترتيب أن يؤتى به على الصفة المشروعة من تقديم التكبير ويتلوه كلمة التوحيد وبعدها كلمة الرسالة والشهادة بهما، والحيعلات الثلاث إلى آخر الأذان، وترتيبه واجب فإن نكسه وخالف ترتيبه لم يجزه وأعاده مرتباً، لا يعرف فيه خلاف. ويؤيد ما ذكرناه ما روي عن الرسول أنه علَّم أبا محذورة الأذان مرتباً، ولأن الأذان متميز عن سائر الأذكار بترتيبه فإذا نكس بطل ترتيبه ولم يعلم السامع أن ذلك من الأذان وما كان فيه بطلان الحقيقة فرعايته واجبة.
الحكم السابع: ويستحب رفع الصوت بالأذان لأن المقصود به الإشعار ولا يحصل إلا برفع الصوت إذا كان يؤذن للجماعة، ولقوله : ((يغفر اللّه للمؤذن مدى صوته " ويشهد له كل رطب ويابس))(2).
والمدى هو المدد لكنه أبدل من أحد حرفي التضعيف ألفاً، والمدد: هو الغاية والمنتهى وله معنيان:
__________
(1) تقدم في الخبر الذي أورده القاسم في الاعتصام، وفيه: حي على خير العمل، والتهليل مرة واحدة من طريق أبي بكر المقري بسنده.
(2) تقدم، وهو في فتح الغفار عن أبي هريرة بلفظ: أن النبي قال: ((المؤذن يغفر له مد صوته، ويشهد له كل رطب ويابس)) رواه الخمسة إلا الترمذي، ورواه ابن خزيمة وابن حبان وصححاه. ا ه1/145.
أحدهما: أن يريد أن اللّه يغفر له مدى صوته، أي يرفع له درجات عالية في الجنة فوضع المغفرة مكان جزائها لأنها سبب فيه.
وثانيهما: أن يريد أن اللّه تعالى يكرر عليه العفو والمغفرة بمقدار تقطيع صوته في الأذان. وكلاهما لا غبار عليه.
ويكره رفع الصوت بحيث يخشى انشقاق حلقه لما روي أن عمر قال لأبي محذورة وقد بالغ في رفع صوته: أما خشيت أن تنشق مريطآؤك والمريطأ ما بين السرة والعانة ويجوز فيها المد والقصر والغالب هو المد فيها. وإن أذن في نفسه لم يرفع صوته لأنه لا يحتاج فيه إلى الإعلام(1).
الحكم الثامن: ويستحب التطريب في الأذان، والتطريب هو حسن الصوت مع البيان لما روي عن الرسول أنه قال: ((زينوا القرآن بحسن أصواتكم " فإن حسن الصوت يزيد القرآن حسناً)) (2)
وإذا جاز ذلك في القرآن جاز في الأذان؛ لأن المقصود هو خشوع القلب بالإقبال إلى الصلاة، ولما روي أنه قال لأسيد بن حضير(3)
__________
(1) المريطاوان: عرقان في مراقّ البطن عليهما يعتمد الصائح، ولا يتكلم بها إلا مصفرة تصغير مرطاء. ا.ه. لسان 7/401.
(2) عن البراء بن عازب أن رسول الله قال: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) أخرجه أبو داؤد والنسائي.
(3) جاء في حاشية الأصل ما لفظه: القارئ هو أبو موسى الأشعري، قال له : ((لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داؤد)) أخرجه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم أن رسول الله قال له: ((ولقد رأيتني وأنا استمع لقرآنك البارحة)). ا ه.، وأسيد بن حضير بضم الهمزة، ابن سماك بن عتيك الأنصاري الأشهلي، أيو يحيى، كان أحد النقباء ليلة العقبة، واختلف في شهوده بدراً، روى عن النبي ، وعنه أبو سعيد الخدري، وأنس وأبو ليلى الأنصاري، وكعب بن مالك وعائشة وغيرهم.
قال ابن حجر: ذكره ابن إسحاق في البدريين، وروى الواقدي ما يخالفه، وأخرج البغوي وابن السكن وفاته سنة 20، وعن المدائني سنة 21. إ ه. تهذيب التهذيب 1/303.
وقد قرأ عنده وكان حسن الصوت: ((لقد أوتيت من مزامير آل داود " ))، ويكره تمطيط الأذان وهو تطويل الصوت وتمديده، ويقال: مط حاجبه إذا مده. ويكره البغي في الأذان، وله معنيان:
أحدهما: أن يمد صوته حتى يجاوز المقدار ويخرج عن الحد.
وثانيهما: أن يراد التشدق في الكلام يتكلم بملء فيه كما يفعله الجبَّارون. ويكره التغني في الأذان أيضاً، والتغني هو: سلوك طريق ألحان الغناء وتقطيع الكلمات، لما روي عن علي أنه كره مؤذناً كان يتغنى في أذانه(1).
الحكم التاسع: وإن جهر في شيء من الأذان وخافت بالباقي نظرت، فإن كان يؤذن لنفسه لم تضره المخافتة لأنه قد أتى بلفظ الأذان كاملاً، وإن كان الأذان في مساجد الجماعات فإنه يجهر به ولا يخافت في شيء منه لأن المقصود منه الإشعار والإعلام، فإن خافت في جميعه أعاده، وإن خافت في بعضه فإن شاء أعاد ما خافت فيه وإن شاء استأنف في الكل.
ويستحب الترتيل في كلمات الأذان لأنها عبادة تتعلق بالقول فاستحب فيها الترتيل كقراءة القرآن ولأنه لا يؤمن مع الإدراج والعجلة نقصان الأحرف والكلمات في الأذان، فلهذا كان الترتيل فيه مستحباً لما ذكرناه.
__________
(1) تقدم. رواه زيد بن علي في مسنده عن علي .
الحكم العاشر: ويستحب الموالاة في كلمات الأذان من غير فاصلة فإن وقع فصل بالكلام نظرت، فإن كان يسيراً لم يكره لأنه في حكم المتصل كما لو عطس أو سعل، والمستحب أن لا يتكلم في أذانه لا لمصلحته ولا لمصلحة غيره، فإن تكلم كره ولا يبطل أذانه، لما روي عن سليمان بن صرد " (1)
أنه كان يتكلم في أذانه بحوائجه وكانت [له] صحبة، وعن نافع عن ابن عمر أن الرسول أمر مؤذنه في ليلة باردة أن يقول: ألا صلوا في رحالكم. والظاهر أنه كان كلامه في حال الأذان. وإن كان الكلام كثيراً أو سكت سكوتاً طويلاً فهل يبطل أذانه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يبطل أذانه لأنه باستطالة الكلام والسكوت يخرج عن حد الأذان كما لو أكل وشرب.
وثانيهما: أنه لا يبطل لقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ " }(2).
فإن قلنا: بأنه يبطل لم يبن عليه غيره، وإن قلنا: إنه لا يبطل جاز البناء عليه، والله أعلم بالصواب.
فهذا ما أردنا ذكره في أحكام الأذان ونرجع الآن إلى تمام التفريع بمعونة اللّه تعالى ولطفه.
__________
(1) سليمان بن صرد بن الجون أبو مطرف الكوفي، روى له البغوي عن النبي وعن أبي بن كعب وعن علي بن أبي طالب والحسن بن علي، وعنه: أبو إسحاق السبيعي، ويحيى بن يعمر وعدي بن ثابت، سكن الكوفة وشهد مع أمير المؤمنين صفين وتخلف عن الخروج مع الحسين السبط مع أنه ممن دعاه إلى الخروج، ثم عاد مع آخرين يطالب بدم الحسين، والتقوا بعبيد الله بن زياد واقتتلوا فقتل سليمان ومن معه في ربيع لآخر سنة 65ه.
(2) محمد:23 {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.
الفرع الثالث: في الإقامة، وأصلها: إقوامة. فقلبت الواو ألفاً والتقى ألفان ساكنان فحذف أحدهما، وهي مشروعة كالأذان، لما روي من مؤذني رسول اللّه بلال وأبي محذورة وأبي سامعة [أنهم] كانوا يؤذنون للصلاة ويقيمون لها، ولا خلاف بين المسلمين في كونها مشروعة للصلوات الخمس المكتوبات، وتتعلق بها أحكام:
الحكم الأول: اعلم أن الخلاف في الإقامة مترتب على الخلاف في الأذان، فمن قال: بأن الأذان سنة. قال: إن الإقامة سنة كما هو رأي الفريقين، ومن قال: بأن الأذان واجب على الأعيان، قال: بأن الإقامة واجبة على الأعيان كما هو رأي أهل الظاهر. والذي عليه أئمة العترة وسادات أهل البيت: أنهما واجبان على الكفاية وأن الأذان إذا وقع في بلدة أو محلة أو قرية أو مدينة فإنه يسقط الوجوب عن أهل تلك القرية والمدينة بخلاف الإقامة فإنه لا يسقط فرضها إلا عن أهل ذلك المسجد لا غير. والتفرقة بينهما ظاهرة فإن وجوب الأذان إنما كان من أجل أنه شعار الإسلام ومن قواعد الدين ومن سيماء المسلمين بخلاف الإقامة فإنها أمر يختص الصلاة، فلا جرم لم يسقط فرضها إلا عن أهل ذلك المسجد بخلاف الأذان فإنه يسقط الفرض بفعله عن أهل تلك القرية والمدينة.
الحكم الثاني: في بيان عدد كلمات الإقامة. وهو تابع للخلاف في عدد كلمات الأذان، فمن قال: بأن الأذان خمس عشرة كلمة كما هو رأي القاسمية والحنفية قال: إن الإقامة سبع عشرة كلمة لأنها تزداد على الأذان بكلمتي الإقامة(1)،
ومن قال: بأن عدد كلمات الأذان سبع عشرة كلمة قال: بأن الإقامة تسع عشرة كما هو رأي الإمامين الناصر والمؤيد بالله.
__________
(1) وهما: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة.
نعم، يمكن أن يقال: إن على رأي الناصر تكون الإقامة ثماني عشرة كلمة، لأنه يقول: بأن التهليل في آخر الأذان مرتين، فلهذا كان عدتها ثماني عشرة كلمة فإذا أضاف إليها الإقامة كانت عدة الإقامة عشرين كلمة على رأيه، فأما على رأي المؤيد بالله فإن الأذان سبع عشرة كلمة ويضاف إليها كلمتا الإقامة فتكون تسع عشرة كلمة.
فأما على رأي الشافعي فالإقامة له فيها قولان:
فالقول الأول: وهو الجديد فإنها إحدى عشرة كلمة، التكبيرتان والشهادة بالتوحيد والرسالة مرتان(1)
والدعاء إلى الصلاة والدعاء إلى الفلاح مرة ولفظ الإقامة مرتان والتكبير في آخرها مرتان والتهليل مرة، وإلى هذا ذهب الأوزاعي وأحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه وأبي ثور.
القول الثاني: القديم، وهو كما ذكره في الجديد إلا الإقامة فإنها تكون مرة واحدة، فعلى هذا يكون عدد كلمات الإقامة في القديم عشر كلمات وفي الجديد إحدى عشرة كلمة.ورأي مالك مثل ما قاله في القديم تكون عشر كلمات. ومن قال: بأن الأذان ثلاث عشرة كلمة. قال: الإقامة تكون خمس عشرة كلمة كما هو رأي أبي يوسف. فهكذا يكون تقرير الخلاف في كلماتها.
الحكم الثالث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة لما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " ))(2)
بخلاف الأذان فإنه يستحب بين الأذان والإقامة صلوات النوافل، وذلك لما روي عن الرسول أنه قال: ((بين كل أذانين صلاة))(3).
يعني صلاة النافلة، وكما أنه لا أذان لصلاة الجنازة وصلاة العيدين والإستسقاء والكسوف وجميع النوافل المبتدأة فلا إقامة أيضاً لها كما مر بيانه.
__________
(1) المراد بقوله: والشهادة بالتوحيد والرسالة مرتان، أي مرة لكل منهما، وهذا يؤيده رأي الشافعي والتأكيد هنا على أن رأي الشافعي في الجديد أنها إحدى عشر كلمة.
(2) أخرجه مسلم وأبو داؤد والترمذي والنسائي من رواية أبي هريرة.
(3) تقدم.
ومن أذَّن فهو الذي يقيم وإن أذن جماعة كان السابق أحق بالإقامة لما روي عن الرسول أنه قال: ((إن أخا صداء هو الذي أذن فهو يقيم " )) (1).
وحكي عن أصحاب أبي حنيفة: أنه يجوز أن يتولى الإقامة من لم يؤذن في حال الإختيار. ودليلنا عليهم: ما ذكرناه من الخبر.
قالوا: يحتمل أن يكون بلال لما غاب عند الأذان أراد الرسول أن يقصره عن فضيلة الإقامة عقوبة له على غيبته وتقصيره.
قلنا: هذا الاحتمال لا وجه له فإنه قد أوضح السبب بقوله: ((إن أخا صداء هو الذي أذن فهو يقيم " ))، ومع ذكر السبب لا معنى لتقدير هذا الاحتمال.
قالوا: إذا جاز أن يخطب إحدى الخطبتين خطيب ويخطب الأخرى خطيب آخر فهكذا حال الأذان والإقامة يجوز أن يتولاهما شخصان.
قلنا: كلامنا إنما هو في الأفضل لا في الجائز وعلى أنه يجوز أن يؤذن رجل ويقيم آخر لعذر وضرورة لكن كلامنا إنما هو في الأفضل والمسنون.
الحكم الرابع: ولا تجوز الإقامة على الراحله كما لا يجوز أداء الفريضة على الراحلة، لما روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا على رواحلكم فإذا كانت المكتوبة فالقرار " ))(2)،
ويجوز الأذان على الراحلة كما يجوز أداء النوافل على الراحلة.
__________
(1) تقدم.
(2) روى أبو خالد الواسطي عن زيد بن علي بسنده أن رجلاً سأل رسول الله هل أصلي على ظهر بعيري؟ قال: ((نعم حيث توجه بك بعيرك إيماءً، ويكون سجودك أخفض من ركوعك، فإذا كانت المكتوبة فالقرار)) هكذا حكاه في (الشفاء)، إ ه. (جواهر) 1/204 وهناك روايات أخر منها: أن النبي كان يتطوع على راحلته في غير القبلة، وكذلك الإمام علي وابن عمر كما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، وأبو داؤد في أكثر من رواية.
ولا تجوز الإقامة من قعود لأن المعلوم من حال المؤذنين من زمن الرسول والصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، أنهم لا يقيمون للصلاة إلا قياماً، ويجوز الأذان من قعود إذا كان هناك عذر من مرض أو غيره لأن المقصود بالأذان هو الإشعار وهذا حاصل سواء كان المؤذن قائماً أو قاعداً.
والسنة في الإقامة الحدر والإدراج لأن المقصود هو الإستعجال للصلاة والدخول فيها، بخلاف الأذان فإن السنة فيه الترتيل كما مر بيانه لأن المقصود منه الإشعار، ومن جهة أن المقصود من الأذان هو الإشعار بدخول وقت الصلاة والتأهب لها والدعاء إليها فلهذا كان مرتلاً واضحاً بيِّناً بخلاف الإقامة فإن المقصود منها الدخول في الصلاة والإشتغال بها فلهذا كانت حدراً.
الحكم الخامس: وإذا أراد المؤذن أن يقيم فالمستحب أن يتحول من موضع الأذان إلى غيره، لما روى عبدالله بن زيد في الرجل الذي رآه يؤذن أنه استأخر عن موضع الأذان غير كثير ثم قال مثل ما قال في الأذان(1)،
والمستحب في الإقامة ألا يقيمها المؤذن حتى يرى الإمام، لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا تقيموا الصلاة حتى تروني " )) (2).
__________
(1) وقد تقدم حديث عبد الله بن زيد في أول الباب، وفيه: أن الرجل الذي رآه قال له: تقول: الله أكبر الله أكبر إلى آخر الأذان، ثم قال: ثم استأخر غير بعيد، قال: ثم تقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر.. إلى حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة إلى آخر الخبر، أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والبخاري. اهفتح الغفار 1/143، وفيه: الأذان مثنى والإقامة وتراً، وليس فيه حي على خير العمل.
(2) تقدم بلفظ: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت وعليكم بالسكينة)) أخرجه الستة إلا الموطأ عن أبي قتادة، إلا أن النسائي لم يذكر: ((...وعليكم بالسكينة)).
ويؤذن المؤذن عند دخول الوقت من غير أمر بخلاف الإقامة فإنه لا يقيم إلا بأمر، لما روى جابر بن سمرة قال كان مؤذن رسول اللّه يمهل فلا يقيم حتى إذا رأى رسول اللّه قد خرج أقام الصلاة حين يراه(1)،
والمستحب لمن سمع الإقامة أن يقول مثل قوله إلا في الحيعلات فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وفي لفظ الإقامة يقول: أقامها اللّه وأدامها(2)
لما روي أن رسول اللّه قال ذلك عند الإقامة(3).
الحكم السادس: وإن تكلم في الإقامة بالكلام الخفيف لم تبطل إقامته عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، وحكي عن الزهري: أنها تبطل.
__________
(1) تقدم الخبر بمعناه آنفاً، وهو عن جابر بن سمرة، أخرجه مسلم وأبو داؤد والترمذي.
(2) جاء في حاشية الأصل: وجعلني من صالحي أهلها، رواه الرافعي في الغريب.
(3) وفيه ما ورد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((إذا سمعتم النداء فقولوا كما يقول المؤذن)) أخرجه الستة، وعن عمر قال: قال رسول الله : ((إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة))أخرجه مسلم وأبو داؤد.
وعن أبي أمامة أو عن بعض أصحاب النبي : أن بلالاً أخذ في الإقامة فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال رسول الله : ((أقامها الله وأدامها)) وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان، أخرجه أبو داؤد. اهجواهر 1/198.
والحجة على ذلك هو: أن الخطبة أعلى حالاً من الإقامة لأنها عوض عن بعض الظهر وشرط في صحة الجمعة فإذا لم تبطل بالكلام فهكذا حال الإقامة تكون بذلك أحق وأولى.
ويستحب الدعاء بين الأذان والإقامة، لما روى أنس بن مالك عن الرسول أنه قال: ((بين الأذان والإقامة دعوة لا ترد " ))(1).
وإذا أذن المؤذن وهو في المسجد كره له الخروج منه إلا لعذر، لما روى أبو الشعثاء " (2)
قال: خرج رجل من المسلمين بعد الأذان فقال أبو هريرة: أما هذا فقد [عصى] أبا القاسم، فإن خرج بعد الإقامة كان أشد كراهة سواء كان لعذر أو غير عذر لأنه يصير كالمعرض عن تأدية الصلاة والقيام بأمرها، وفي الحديث عن الرسول أنه قال: ((من أراد البلاء عاجلاً غير آجل فليولِّ عند الدعاء وليغن عند الأذان " )).
__________
(1) جاء في الجواهر عن أنس بلفظ: ((الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد)) قيل: فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: ((سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة)) أخرجه الترمذي. ا ه1/196.
(2) أبو الشعثاء، واسمه سليم بن أسود بن حنظلة المحاربي الكوفي، روى عن عمر وأبي ذر وحذيفة وابن مسعود وغيرهم من الصحابة، وروى عنه ابنه أشعث وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن الأسود، وثقه ابن معين والعجلي والنسائي وابن خراش، شهد مع علي رضي الله عنه مشاهده وهلك في ولاية عبد الملك أو الوليد.
قال ابن حجر رحمه الله في التهذيب تعقيباً على القائلين بأن أبا الشعثاء مات بعد وقعة الجماجم سنة 82: قلت: وقعة الجماجم كانت سنة 83 بالإتفاق، فلعل خليفة قال: مات بعد الجماجم وأرخه ابن قانع سنة 85 فهو أشبه(أقرب إلى الصحة). ا ه4/145.
الحكم السابع: وإذا أراد أن يقيم للصلاة فإنه يخفض صوته ويجعله دون أذانه لأن المقصود بالإقامة إعلام أهل المسجد بالصلاة وهذا حاصل، بخلاف الأذان فإن المقصود منه إشعار أهل القرية والمدينة فافترقا. ويستحب أن تكون الإقامة في موضع الصلاة ولا تُصْعَدُ لها الأمكنة العالية، بخلاف الأذان فإنه يكون على المنارات والسطوح لأن فيه تمام الإعلان به فافترقا. فهذا ما أردنا ذكره في الأحكام المختصة بالإقامة واللّه الموفق.
قاعدة: اعلم أن الأذان والإقامة يشتركان في أحكام ويفترقان في أحكام، ونحن نورد ما يختص كل واحد من الأمرين في تقريرين:
التقرير الأول: في بيان ما يشتركان فيه، فيشتركان في كونهما من الأذكار المشروعة للصلاة، ويشتركان في أنهما واجبان على الكفاية، ويشتركان في كونهما ذكرين يتقدمان الصلاة، ويشتركان في الجهر بهما، ويشتركان في كونهما موضوعين للإشعار بالصلاة، ويشتركان في نية التقرب بهما، ويشتركان في أنهما لا يفعلان إلا بعد دخول وقت الصلاة، ويشتركان في أن كل واحد منهما مثنى مثنى، ويشتركان في أن التارك لهما يقاتل حتى يأتي بهما، ويشتركان في الترتيب بين كلماتهما، ويشتركان في الموالاة بين كلماتهما، فهذه أحد عشر حكماً يشتركان فيها.
التقرير الثاني: في بيان ما يفترقان فيه، فيفترقان في أن عدد كلمات الإقامة زائدة على عدد كلمات الأذان بكلمتي الإقامة، ويفترقان في الحدر والترتيل فإن الحدر يختص بالإقامة والترتيل مختص بالأذان، ويفترقان في أن الإقامة لا تصلح بعدها إلا المكتوبة بخلاف الأذان فإنه تصلح بعده النوافل، ويفترقان في أن الأذان يتولاه أكثر من واحد بخلاف الإقامة فإنه لا يتولاها إلا واحد، ويفترقان في أن الإقامة لا تكون إلا بأمر بخلاف الأذان فإنه لا يحتاج إلى أمر، ويفترقان في أن الإقامة تستحب أن يقال عندها: أقامها اللّه وأدامها، بخلاف الأذان فإن هذا لا يقال عنده، ويجوز عنده ذكر آخر، ويفترقان في أن الأذان دعاء إلى الإشعار بوقت الصلاة بخلاف الإقامة فإنها إشعار بفعل الصلاة والدخول فيها، ويفترقان في أن الأذان يكون في المسجد وغيره بخلاف الإقامة فإنها لا تكون إلا في موضع الصلاة، ويفترقان في جواز الخروج من المسجد بعد الأذان لعذر بخلاف الإقامة فإنه لا يجوز الخروج من المسجد بعدها(1)،
فهذه جملة ما يشتركان فيه ويفترقان جمعناها هاهنا لأنها لا تخلو عن فائدة بالجمع وقد تقدم ذكر هذه الأحكام في أثناء التفريع بحمد الله، ونرجع إلى تمام التفريع بمعونة اللّه.
الفرع الرابع: والسنة في الأذان أن يقف المؤذن على آخر الكلمات بالسكون؛ لأنه روي موقوفاً.
قال أبو عبيد الهروي صاحب الغريب: وعوام الناس يضمون الراء من قوله: اللّه أكبر، ويعربون باقي الأذان بما يقتضيه الإعراب من الرفع والجر في كلماته وهو خلاف السنة لأن السنة وقفه.
وأقول: إن وقف المؤذن على الأواخر فهو السنة وإن وصله أعربه بما يقتضيه إعرابه من رفع أو جر ولا يضره إعرابه مع الوصل لأن وصله من غير إعراب يكون لحناً والأفضل اتباع السنة في الوقف.
__________
(1) جاء في حاشية الأصل: أما الجواز فيجوز، ولكن يُكْرَهُ كراهة شديدة كما ذكره في الحكم السادس قبل هذا. ا ه.
قال أبو العباس المبرد: السنة الوقف. وكان يفتح الراء ويقول: اللّه أكبرَ اللّه أكبر، فيفتحها في الكلمة الأولى ويقف [في] الثانية بالسكون، واحتج بأن الأذان سمع موقوفاً وغير معرب في مقاطعه كقولهم حيَّ على الصلاة حي على الفلاح، وكان الأصل أن يقول: اللّه أكبر اللّه أكبر بتسكين الراء فيهما لكن حولت فتحة الهمزة من اسم اللّه من اللفظة الثانية على الراء قبلها، وهذا نظر حسن من أبي العباس. ونظيره فتحة الميم فيمن قرأها مفتوحة في قوله تعالى: {الم الله} لأن الوقف على الميم هو الأصل لأجل البناء لكنها فتحت الميم لأجل إلقاء حركة الهمزة من إسم اللّه على الميم.
الفرع الخامس: والمستحب لغير المؤذن إذا سمع الأذان أن يقول مثل ما يقول إلا في الحيعلات الثلاث فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عمر رضي اللّه عنه أن الرسول قال: ((من قال حين يسمع ذلك خالصاً من قلبه دخل الجنة " ))(1).
وروي عن عبدالله بن علقمه " (2)
__________
(1) تقدم آنفاً.
(2) عبد الله بن علقمة الليثي. روى عن أبيه، وعنه ابن أخيه عمر بن طلحة بن علقمة وعيسى بن عمر، ذكره ابن حبان في الثقات، انتهى بلفظه من (التهذيب) 5/283.
قال: إني لعند معاوية إذ أذن مؤذنه فقال: معاوية كما قال مؤذنه حتى إذا قال: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح ثم قال بعد ذلك مثل ما قال المؤذن ثم قال معاوية: سمعت رسول اللّه يقول ذاك. وإنما كان المسنون أن يقول كما يقول المؤذن في غير الحيعلات ليدل على رضاه لقوله، وأما الحيعلة فمعناها الدعاء لأن معنى حيّ على الصلاة أي: هلموا إلى الصلاة، ومعنى حي على الفلاح أي: هلموا إلى العمل الذي يوجب الفلاح وهو البقاء ومعنى حي على خير العمل: هلموا إلى خير الأعمال وهو الصلاة، وهذا المعنى لا يصلح لغير المؤذن فلهذا استحب للسامع أن يأتي بذكر لله غيره وخص قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله عند ذكر الحيعلة لأن معناها: لا حول عن معصية اللّه ولا قوة على طاعة اللّه إلا بالله أي بإقداره وتمكينه وحسن ألطافه الخفية في فعل الطاعة والإنكفاف عن المعصية، والصلاة من أعمال الطاعات.
الفرع السادس: يستحب لمن سمع النداء أن يدعو بالدعاء المأثور الذي رواه جابر عن رسول اللّه أنه قال: ((من قال حين يسمع النداء: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة " آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته) حلت له شفاعتي يوم القيامة))(1).
وروى سعد بن أبي وقاص أن الرسول قال: ((من قال حين يسمع النداء " : وأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً، غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه)) (2).
__________
(1) أخرجه الستة إلا مسلماً والموطأ، جواهر 1/197.
(2) أخرجوه إلا البخاري والموطأ، المصدر السابق.
وهذا يدل على أنه يقول ذلك في أثناء الأذان، وروى عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبي قال: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول " ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى عليَّ مرة صلى اللّه عليه بها عشراً ثم سلوا اللّه لي الفضيلة والوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللّه وأرجو أن يكون أنا هو فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) (1)
وهذا يدل على أنه يقول ذلك بعد الأذان. ويحتمل أن يقول مثل ما يقول المؤذن ثم يدعو في حال تطويل المؤذن صوته وأي ذلك فعل كان جائزاً، وإن كان في أذان المغرب فالمستحب أن يقول: ((اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك " وحين أوان صلواتك وأصوات دعاتك فاغفر لي))(2)
لأن الرسول أمر أم سلمة أن تقول ذاك عند أذان المغرب. وإن كان في أذان الصبح فالمستحب أن يقول: ((اللهم إن هذا إقبال نهارك وإدبار ليلك " وأصوات دعاتك فاغفر لي)).
__________
(1) أخرجوه إلا مسلماً والموطأ، وأورد ابن بهران في الهامش حول قوله: أخرجوه إلا مسلماً والموطأ في الحديث الأخير قوله: حصل للمؤلف سهو، فإن الحديث أخرجه مسلم ولم يخرجه البخاري، ا ه. المصدر السابق.
(2) الخبر في رواية أبي داؤد عن أم سلمة بدون: ((..وحضور صلواتك)) وعند الترمذي بلفظه إلا أن في آخره: ((...اسألك ان تغفر لي)) وهي بمعنى ما جاء في في رواية أبي داؤد، قالت أم سلمة: علمني رسول الله أن أقول عند أذان المغرب، وفي رواية الترمذي: علمني رسول الله أن أقول إذا أمسيت...إلخ. كما في الجواهر 1/197. ا ه، وجاء الحديث في فتح الغفار بلفظ رواية أبي داؤد، وقال: أخرجه أبو داؤد والترمذي، وقال (الترمذي): هذا حديث غريب.
الفرع السابع: والمستحب إذا سمع المؤذن وهو في قراءة أو ذكر لله تعالى قطع القراءة والذكر وتابع المؤذن فيما يقول لأن الأذان يفوت والقراءة والذكر لا يفوتان، وهكذا إذا سمع المؤذن وهو مشتغل بشيء من المباحات فإنه يقطعه أحق وأولى. وإن سمعه وهو في الصلاة فهل يتابعه أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يتابعه ويشتغل بالصلاة فإذا فرغ قال مثل ما يقوله لأن ذلك يقطعه عن إتمام الصلاة ويشتغل بغيرها، فإن خالف المصلي وتابع المؤذن فيما يقوله في حال صلاته وقال مثل ما يقول وقال في الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله، لم تبطل صلاته لأن هذا ذكر لله وذكر اللّه لا يبطل الصلاة.
الفرع الثامن: والمستحب إذا أذن المؤذن أن ينتظر حضور الجماعة في غير المغرب، لما روي عن الرسول أنه قال: ((بين كل أذانين صلاة " )). ولأنه إذا وصل الأذان بالإقامة لم يحصل المقصود بانتظار الجماعة بزيادة الفضل بها. وإذا أذن الأول خرج الإمام ولم ينتظر أذان غيره فإذا خرج الإمام قطع أذان المؤذنين لأنه إذا صلى في ذلك الوقت أدرك الناس فضيلة أول الوقت وإذا أخره وانتظر فضيلة الأذان للباقين فاتت فضيلة أول الوقت، فلا جرم كان تحصيل فضيلة أول الوقت أولى وأحق.
الفرع التاسع: والمستحب أن يؤذن للجمعة أذاناً واحداً عند المنبر، لما روى السائب بن يزيد " (1)
__________
(1) السائب بن سعيد بن ثمامة بن الأسود، ويقال: الأسدي أو الليثي أو الهذلي، أورد ابن حجر عن البغوي عن محمد بن يوسف قوله عن السائب بن يزيد: حج أبي مع النبي وأنا ابن سبع سنين، روى عن النبي وعمر وعثمان وعائشة وغيرهم، وعنه: ابنه عبد الله وعمر بن عطاء والزهري ومحمد بن يوسف، وتوفي في المدينة سنة 91هوقيل غير ذلك. ا ه. (تهذيب التهذيب) 1/228.
قال: كان الأذان على عهد رسول اللّه وأبي بكر وعمر إذا جلس الإمام على المنبر أذاناً واحداً، فلما كان في زمن عثمان وكثر الناس أمر بالأذان الثاني فأذَّن به فكان يؤذن به على الدور ولأهل الأسواق وجموع الناس(1).
والأفضل مراعاة ما كان يُفعل على عهد رسول اللّه فإن فعل ذلك لمصلحة يراها الإمام فلا بأس. ويستحب أن يكون المؤذن واحداً لأنه لم يكن يؤذن يوم الجمعة إلا بلال على انفراده.
الفرع العاشر: قال الإمام المؤيد بالله: ولو أحدث المقيم بعد الإقامة للجماعة كانت مجزية لهم وبطل إجزآؤها له كالإمام إذا دخل في الصلاة على الطهارة ثم أحدث فالحدث يبطل إجزآؤها له وصح إجزآؤها للجماعة، وعلى هذا لو أحدث المؤذن بعد أذانه كان أذانه مجزياً للجماعة ويتوضأ للإقامة للصلاة ولا يلزمه إعادة الأذان لأن الإقامة إذا كانت مجزية بعد الحدث فالأذان أحق وأولى بذلك، فهذا ما أردنا ذكره فيما يتعلق بصفة الأذان وأحكامه والله أعلم.
.
__________
(1) المقصود بالأذان الثاني الأذان الذي يسبق أذان الصلاة لغرض إبلاغ عامة الناس وإشعارهم بالتوجه إلى المسجد، وإنما أطلق عليه الثاني لأنه أضيف إلى الأول وهو أذان الصلاة للسبب المذكور، والله أعلم.
---
الفصل الخامس
في بيان صفة المؤذنين
اعلم أن الصفات المعتادة في الإجزاء أربع، الإسلام والذكورة والعقل والبلوغ.
والصفات المسنونة ثلاث: الطهارة والعدالة وحسن الصوت. هذا تمهيد الفصل.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الكافر لا يصح أذانه. واعلم أن الكفار صنفان:
الصنف الأول: كفار التصريح، وهؤلاء هم الملاحدة والمعطلة والدهرية والفلاسفة والزنادقة والطبائعية وعبدة الأوثان والأصنام والنجوم وسائر الكواكب، فهؤلاء كفار لا دين لهم ولا كتاب منزل عليهم، وهكذا حال أهل الكتب المنزلة كاليهود والنصارى والمجوس على اختلاف في حالهم. فهؤلاء هم كفار التصريح، ونعني بالتصريح: أنه لا خلاف في كفرهم بين أهل القبلة وأهل الإسلام، ولا يصح أذانهم لأنهم ليسوا من أهل العبادة فلا يكونون أهلاً للقيام بشيء من أمورها، وإن أذن واحد من هؤلاء فهل يكون أذانه إسلاماً منه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يكون إسلاماً لجواز أن يأتي بالشهادتين على جهة الحكاية ولهذا فإن أبا محذورة وأبا سامعة كانا يؤذنان قبل إسلامهما على جهة الحكاية والإستهزاء بأذان المسلمين.
وثانيهما: أنه يكون إسلاماً ويحكم بصحة إسلامه وهذا هو المختار والصحيح؛ لأنه قد أتى بصريح الإسلام وهما الشهادتان فهو كالآتي بالشهادتين باستدعاء غيره منه.
الصنف الثاني: كفار التأويل، وهؤلاء هم المجبرة والمشبهة والروافض والخوارج، فهؤلاء اختلف أهل القبلة في إكفارهم فبعضهم كفَّرهم وبعضهم حكم بإسلامهم، فالذين ذهبوا إلى إكفار المجبرة والمشبهة أئمة العترة وجماهير المعتزلة والزيدية، ونعني بإكفار التأويل، هو أن هؤلاء مقرون بالله تعالى وبصفاته وبحكمته وبالنبوة ويعترفون بالشريعة ويصلون إلى القبلة وينكحون على السنة ومقرون بصدق الرسول وصدق القرآن، خلا أنهم اعتقدوا اعتقاداً يوجب إكفارهم مع كونهم على هذه الصفة.
والمختار: أنهم ليسوا كفاراً لأن الأدلة التي تُذكَر في إكفارهم، فيها احتمالات كثيرة، وعلى الجملة فإن من قضى بكفرهم ومن حكم بإسلامهم فإنه يقضي بصحة أذانهم وقبول أخبارهم وشهاداتهم ولا يضرهم ما اعتقدوه من الجبر والتشبيه في صحة إسلامهم وإيمانهم، وقد ذكرنا ما يتعلق بإكفار الفرق في الكتب العقلية فمن أراده باستيفاء فليطالعه من كتاب (التحقيق في الإكفار والتفسيق) فإنه يجد فيه ما يكفي ويشفي بمعونة اللّه تعالى.
الفرع الثاني: الصبي، اعلم أن الصبي إذا كان لدون خمس عشرة سنة نظرت في حاله، فإن كان مختلاً ضعيف العقل مشوش الذهن فإنه لا يصح أذانه اتفاقاً بين الأئمة والفقهاء، وإن كان كيِّساً فطناً له تمييز وجودة في الذكاء والفطنة فهل يصح أذانه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يصح أذانه، وهذا هو رأي الإمام زيد بن علي ومذهب القاسمية، ومحكي عن داؤد من أهل الظاهر.
والحجة على هذا: قوله : ((رفع القلم عن ثلاثة)) وذكر من جملتهم الصبي حتى يبلغ، والمعنى بالحديث أنه مرفوع عنه جميع التكاليف كلها فلا تعقل في حقه، وإذا كان الأمر كما قلناه كان الإجزاء مرفوعاً من أذانه، وهذا هو الذي نريده من كون أذانه غير مجزٍ ولا مسقط لوجوب الأذان.
المذهب الثاني: أنه يصح أذانه وهذا هو قول الفريقين من الفقهاء(1).
والحجة على ذلك: ما روى عبدالله بن أبي بكر " (2)
أنه قال: أمرني عمومتي أن أُوذن وأنا غلام لم أحتلم وأنس بن مالك شاهد لم ينكر ذلك، فدل ذلك على جواز أذانه.
__________
(1) الحنفية والشافعية.
(2) عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، روى عن أبيه وخالة أبيه عمرة بنت عبد الرحمن، وأنس وحميد بن نافع، وسالم بن عبد الله وغيرهم، وعنه: الزهري وابن جريج وحماد بن سلمة والسفيانان وغيرهم، كان كثير الأحاديث، وقال ابن معين وأبو حاتم: ثقة، وقال النسائي: ثقة ثبت، توفي سنة 135ه، انتهى ملخصاً من (التهذيب) 5/143.
والمختار: أن أذانه مبني على صحة إسلامه وقد قررنا في بيان من تجب عليه الصلاة صحة إسلامه قبل بلوغه الحلم، وأنه مؤاخذ عند اللّه تعالى بصحة الإيمان والإسلام لكنا لا نؤاخذه في ظاهر الشرع بالأحكام الشرعية إلا بظهور أمارات البلوغ، وعلى هذا لا يحكم بصحة أذانه لأن صحته من جملة الأحكام الشرعية فلا يصح وقوعها من جهته حتى يظهر أمر البلوغ بأحد الأمارات الثلاث(1).
والحجة على هذا هو أنه غير مخاطب بالصلاة فلا يصح أذانه كابن الخمس. ولأنه غير كامل العقل فلا يصح أذانه كالمجنون.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: خبر عبدالله بن أبي بكر، أنه أذن ولم يحتلم ولم ينكر عليه أنس بن مالك فدل على الجواز.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فسكوت أنس بن مالك لا يدل على جوازه فلعله كان غافلاً أو لأنه قد سقط الوجوب بأذان غيره أو لأنه كان في مهلة النظر(2)
ومع هذا الاحتمال لا حجة فيه.
وأما ثانياً:فهب أنا سلمنا أن سكوته سكوت رضى، فكلام الصحابي ليس حجة وإنما الحجة فيما يروي من كلام الرسول دون كلامه.
الفرع الثالث: الذكورة، اعلم أنا قد أسلفنا فيما تقدم صحة أذان النساء وإقامتهن لأنفسهن فلا مطمع في إعادته، فأما صحة أذانهن للرجال فهل يصح أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه ممنوع، وهذا هو رأي الإمام زيد بن علي والقاسمية، ومحكي عن الشافعي قال الإمام زيد بن علي: ولا يجوز أذان المرأة للرجال.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ " }[النور:31].
ووجه الإستدلال من الآية هو: أن اللّه تعالى نهاهن عن ضرب أرجلهن حذراً من ظهور أصوات الخلاخيل، فإذا ورد النهي عن سماع صوت الخلخال من الزينة فكيف يجوز سماع الصوت؟ فالنهي عنه أولى وأحق.
__________
(1) وهي: الإنبات (في شعر العانة) والاحتلام، ومضي 15 سنة.
(2) لعل المراد: مهلة النظر في صحة أذان من لم يحتلم أو عدم صحته
الحجة الثانية: هو أن الأذان حكم شرعي وأمر ديني لا يقوم به إلا من ورد عليه الشرع بإقامته، ومن زمن الرسول إلى يومنا هذا لم يعلم أن أحداً من النساء قام بالأذان ولا تلبس به، وفي هذا دلالة على منعهن من الأذان.
الحجة الثالثة: أنه لا يؤمن وقوع الفتنة بسماع أصواتهن وما كان يؤدي إلى الفتنة فهو محظور لا يجوز فعله.
المذهب الثاني: جواز أذانهن للرجال مع الكراهة وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن المرأة من أهل الصلاة لهذا اعتد بأذانها كالرجل، وأما الكراهة فإنما كانت لأمر عارض وهو أن المأخوذ عليها التستر والخفارة، وما هذا حاله فليس يخل بالإجزاء.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من امتناع الإجزاء في الأذان.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا، وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((النساء عيٌّ وعورات فاستروا عيهن بالسكوت وعوراتهن بالبيوت " )).
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: المرأة من أهل الصلاة فلهذا جاز أذانها كالرجل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما هذا حاله مورده الشرع ولا مدخل للأقيسة فيه لإشتماله على الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا من جهة اللّه تعالى ومن جهة رسوله .
وأما ثانياً: فلأنا قد أوردنا من أدلة الشرع في المنع من ذلك ما فيه كفاية فلا حاجة إلى التعويل على القياس، وهكذا حال الإقامة فإنه لا يجوز توليها للرجال ولم أعرف لأبي حنيفة في الإقامة للنساء جوازاً ولا منعاً، وكلامه محتمل في الإقامة للجواز والمنع.
والحجة على ما قلناه: قوله : ((من أذَّن فهو الذي يقيم " ))(1)
فإذا كانت ممنوعة من الأذان فهي أيضاً ممنوعة من الإقامة بظاهر الخبر.
__________
(1) تقدم. رواه الخمسة إلا النسائي، وضعفه أبو داؤد، وهو مروي عن زياد بن الحارث الصدائي.
ومن وجه آخر: وهو أنها ليست من أهل الأذان فلا تكون من أهل الإقامة كالمجنون ولأنها ممنوعة من حضور مساجد الجماعات فوجب ألا يعتد بأذانها كالصبي والمجنون ولأن المأخوذ عليها هو التستر والعفاف والخفارة، وحضورها للإقامة للرجال يناقض ذلك فبطل.
الفرع الرابع: العقل، ولا يصح أذان المجنون ولا يعتد به، واعلم أن الجنون فساد في العقل من غير مرض ويختلف حال الجنون فربما كان يعرض أحياناً كالصرع فما هذا حاله يجوز أذانه وسائر تصرفاته إذا صحى عن الصرع لأنه يكون عاقلاً وعلى هذا يجوز أذانه وعقوده ونكاحه إذا زال الصرع، وربما كان دائماً لا ينفك عنه ومن هذه حاله فإنه لا يصح شيء من عقوده ولا أذانه ويكون مولَّى عليه في كل أحواله لضلال العقل وفساده، والعقل فهو ملاك هذه الأمور كلها، ويزيد ما ذكرناه وضوحاً قوله : ((رفع القلم عن ثلاثة)) وذكر من جملتهم المجنون، وفي هذا دلالة على صحة ما قلناه من أذانه(1).
الفرع الخامس: السكران، وهو الذي زال عقله بشرب المسكر.
واعلم أن السكران ليس يخلو حاله إما أن يكون مميزاً للأمور ولم يبد منه إلا النشاط والطرب والهزَّة التي تكون من الخمر، فمن هذه حاله فهو عاقل وعقوده صحيحة وجميع تصرفاته جارية على نعت الصحة لأن عقله صحيح وأذانه وصلاته صحيحان، وإن كان قد شرب حتى صار ثملاً طائحاً لا يدري ما يقول وما يفعل ثرثاراً وقحاً فإذا انتهى إلى هذه الحالة فلا يصح شيء من عقوده لاختلال عقله فصار كالمجنون، قال الشيخ عبدالملك الجويني: وإن نظم الشارب للخمر كلمات الأذان على جهة الإستقامة فليس بسكران. وهذا جيد لأن السكران إذا استحكم سكره لم يدر ما يقول فضلاً عن نظم الأذان واستقامة كلماته، فأما شرب المزران(2)
__________
(1) أي ما قلناه من عدم صحة أذانه.
(2) المزر: نبيذ الشعير أو الحنطة. (المنجد في اللغة والأدب والعلوم). ص759/ مادة: مزر.
من الذرة والعسل والبر والشعير فليس مسكراً، وإنما هو مفتر للعقل من غير اختلال في العقل، وهكذا هذه الحشائش التي تغير العقل ولا تفسده، وأما البنج فإنه يفسد العقل ويخبل الجسم ويلحق بالخمر في فساد العقل، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق في الأشربة بمعونة اللّه تعالى.
الفرع السادس: في الصفات المسنونة، وهي ثلاث: الطهارة والعدالة وحسن الصوت.
الصفة الأولى: الطهارة من الحدث الأكبر وهي الجنابة. وهل يجوز أذان الجنب أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير مجزٍ، وهذا هو الذي ذكره الإمامان القاسم والناصر، وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أنه ذكر يتقدم الصلاة فلم يصح مع الجنابة كالخطبة. أو نقول: ذكر يختص بنظام مخصوص فوجب أن تكون الجنابة مانعة منه كقراءة القرآن.
المذهب الثاني: أنه يكره ويجزي، وهذا هو رأي المؤيد بالله والشافعي، فإن كان خارج المسجد صح أذانه ولم يأثم وإن كان في المسجد أو في حجرته أثم وأجزى أذانه.
والحجة على ما قالاه: هو أن الأذان ذكر تتعلق به القربة فجاز فعله من جهة المحدث، دليله التسبيح.
والمختار: ما عول عليه الإمامان القاسم والناصر من أنه لا يعتد بأذان الجنب كما قال أبو حنيفة، وهو محكي عن مجاهد والأوزاعي وأحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه.
والحجة: ما ذكرناه عنهم، ونزيد هاهنا ما روي عن الرسول أنه قال: ((لا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر " )) (1)
__________
(1) ورد الحديث بلفظ: عن علي أنه قال: ((حق وسنة أن لا يؤذن لكم أحد إلا وهو طاهر)) حكاه في الشفاء، والمهذب، ويظهر من لفظه أنه موقوف، ومن عمومه الطهارة من الحدثين، وقد علق عليه في الجواهر في الهامش بلفظ: المعروف أن هذا الأثر من كلام وائل بن حجر، كذلك رواه الدارقطني في الأفراد وغيره، بزيادة: ولا يؤذن إلا وهو قائم، وسنده حسن على إرسال فيه.
فظاهر هذا الحديث دال على أن الطهارة من الجنابة معتبرة في صحة الأذان كما قلناه، وطهارة المحدث وصحة أذانه تخرج بدليل منفصل.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه.
قالوا: يرد إلى التسبيح بجامع كونه قربة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن القياس لا يعارض ما ذكرناه من الخبر فإن القياس يشترط في العمل به ألاَّ يعارض شيئاً من الأخبار المروية لأن كلام الرسول لا يعارضه كلام المجتهد.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكرناه من القياس يعارض قياسكم فيجب القضاء ببطلان الأقيسة والرجوع إلى الخبر الذي رويناه.
وهكذا حال الإقامة فإنها لا تصح من الجنب أيضاً، وظاهر كلام الشافعي: المنع من إقامة الجنب وأنها لا يعتد بها لأنه قال: وإذا كرهت الأذان على غير طهارة فأنا للإقامة أكره. ولا معنى للمبالغة في الكراهة إلا لأن الأذان مكروه والإقامة لا يعتد بها.
قال الشافعي: لأنه إذا لم يكن على طهارة فأقل ما في ذلك أنه عرض نفسه للتهمة ويستهزئ به الناس ويسخرون منه في أنه يكون مقيماً للصلاة لغيره ولا يكون مصلياً فيصير هزأة وضحكة، ويصدق ذلك قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ " }[البقرة:44].
ومن وجه آخر: وهو أن الإقامة إنما تراد لاستفتاح الصلاة فلهذا احتاج إلى أن يكون على صفة يستفتح بها الصلاة.
وأما الطهارة من الحدث الأصغر فهل يجوز أذان المحدث وإقامته أم لا؟ فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: الجواز من غير كراهة، وهذا هو رأي أئمة العترة في الأذان وحده، قال زيد بن علي: لا بأس بأن يؤذن الرجل وهو على غير وضوء، وعن الناصر أنه قال: ويجوز أن يؤذن الرجل وهو محدث، وحكي عن الهادي أنه قال: ولا بأس بأن يؤذن المحدث، فأما الإقامة فاتفق هؤلاء الأئمة على أن الرجل لا يقيم إلا وهو على طهارة. فظاهر كلامهم هاهنا أن الإقامة غير مجزية ولا معتد بها.
قال الهادي: ولا يقيم إلا وهو على طهارة لأنه ليس بعد الإقامة إلا الصلاة.
و الحجة على جواز أذان المحدث: هي أن الأذان ذكر يقصد به القربة فلم يكن الحدث مانعاً منه كقراءة القرآن. ويدل على المنع من إقامة المحدث هو أن المعهود من مؤذني رسول اللّه أنهم ما كانوا يقيمون إلا على طهارة ولم يعلم أن أحداً أقام ثم توضأ بعد ذلك. وفي هذا دلالة على جواز أذان المحدث والمنع من الإقامة وهو المطلوب.
المذهب الثاني: كراهة أذان المحدث وإقامته، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((لا يؤذن إلا متوضئ " )) (1)
__________
(1) هذا الحديث يوضح سالفه، وقد رواه الترمذي وضعفه، ورواه أبو الشيخ في كتاب الأذان من حديث ابن عباس بلفظ: إن الأذان متصل بالصلاة، فلا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر، ويشهد لذلك قوله : ((إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر)) أخرجه أبو داؤد من حديث المهاجر، وصححه ابن خزيمة وابن حبان. ا هفتح الغفار 1/130، وفي رواية عن أبي هريرة أيضاً قال: ((لا ينادي بالصلاة إلا متوضئ)).
قال ابن بهران: وهذا أصح، و نقل عن التلخيص الحديث السابق بلفظه: ((لا يؤذن إلا متوضئ)) أخرجه الترمذي من حديث الزهري عن أبي هريرة، وهو منقطع، والراوي له عن الزهري ضعيف، ورواه أيضاً من رواية يونس عن الزهري عنه (يعني: أبا هريرة) موقوفاً، وهو أصح، قال: ثم رواه أبو الشيخ كما سلف. ا هجواهر 1/200 ملخصاً.
تعليق: لعل خلاصة ما سلف: أنه لا يصح أذان الجنب قياساً على الخطبة وقراءة القرآن، ولقوله : ((إلا وهو طاهر)) وهو رأي المذهب، وتكون الطهارة هنا من الحدث الأكبر، ويصح أذان المحدث كقراءة القرآن، والمقصود هنا: الحدث الأصغر، ولا تصح إقامته، وعند الشافعي: يكرهان فقط، وعند أبي حنيفة: لا كراهة فيهما، ا ه، ملخصاً من البحر. وعند الإمام زيد: لا بأس أن يؤذن الرجل على غير وضوء، وأكره للجنب أن يؤذن، قال: ولا يقيم إلا وهو طاهر، ا هروض 1/547.
.
ولأنه إذا لم يكن متوضياً انصرف لأجل الطهارة فإذا جاء غيره لا يرى أحداً فيظن أن ذلك ليس أذاناً. فإن أذن وهو محدث صح ذلك مع الكراهة لأنه قد أتى بالمقصود، وهكذا حال الإقامة.
المذهب الثالث: عن أبي حنيفة وعنه روايتان:
الرواية الأولى: أنه يكرههما جميعاً.
والرواية الثانية: جوازهما من غير كراهة.
المذهب الرابع:أنه لا يعتد بهما بحال، وهذا هو المحكي عن الأوزاعي ومجاهد وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه.
والحجة على هذا هو أنهما ذكر يتقدم الصلاة فكان الحدث مانعاً منهما كالخطبة في الجمعة.
والمختار: هو الكراهة في الأذان والإجزاء، والمنع في الإقامة.
والحجة على الكراهة في الأذان ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((لا يؤذن إلا متوضي " )) فهذا نهي وأقل درجاته الكراهة. ويدل على أن إقامته غير معتد بها، هو أن المعلوم من حال مؤذني رسول اللّه أنه لم يعلم من أحدهم أنه أقام ثم خرج يتوضأ، وفي هذا دلالة على عدم الإعتداد بها إذا كان فاعلها على غير وضوء.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: ذكر يراد به القربة فلا يكون الحدث مانعاً منه، دليله قراءة القرآن.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن القياس لا يكون معارضاً للخبر الذي رويناه، ورأي المجتهد لا يساوي منصب الشارع.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل: هو أنه ليس وصلة إلى الصلاة بخلاف الأذان فافترقا.
وأما من زعم أنه لا يعتد بأذان المحدث فقالوا: إنه ذكر يتقدم الصلاة فكان الحدث مانعاً من إجزائه كالخطبة في صلاة الجمعة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نعارضه بقياس مثله وهو أن نقول: ذكر تقصد به القربة فلا يكون الحدث مانعاً منه كالتهليل والتسبيح.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل: كونهما بدلاً عن الركعتين في الظهر فاشترطت الطهارة فيهما كمبدلهما فافترقا.
الصفة الثانية: [العدالة] واعلم أن اعتبار العدالة لها معنيان:
المعنى الأول: أن يراد بالعدل من تقبل شهادته وعلى هذا يعتد بأذان من لم تقبل شهادته لأمرين:
أما أولاً: فلأن الشهادة أغلظ حكماً من الأذان لأن الشهادة تقتطع بها الأموال وتستحل بها الفروج.
وأماً ثانياً: فلأن الشهادة قد ترد بملابسة ما ليس فسقاً كالبول في الشوارع وإفراط المزاح وسرقة بصلة وغير ذلك مما يجانب المروءة ويسقط العدالة(1) والأذان لا يرد بهذه الأمور لكونه أخف حكماً منها.
المعنى الثاني: أن يراد بالعدالة أن لا يكون فاسقاً، وعلى هذا هل يعتد بأذان الفاسق المجاهر بملابسة الكبائر كالزنا والسرقة وشرب المسكر وغير ذلك من الكبائر الفسقية؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يعتد بأذانه مع احتمال جوازه، وهذا هو المحكي عن الإمام المؤيد بالله فإنه تردد فيه ولم يمض على صرم في المسألة.
والحجة على عدم الإعتداد بأذانه قوله : ((يؤذن لكم خياركم " ))(2)
والفاسق ليس من الخيار.
المذهب الثاني: جواز أذانه مع الكراهة وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا هو: أن الفاسق من أهل الإسلام ومن المصلين إلى القبلة والمقرين بالشريعة فلهذا جاز أذانه كالتقي وإنما كره لمكان تهتكه وملابسته للكبائر الفسقية.
والمختار: أن من هذه حاله في التهتك وملابسة الكبائر والولوع بفعلها والإكباب عليها في ليله ونهاره أنه لا يعتد بأذانه.
والحجة: ما ذكرناه من الخبر فإنه مانع من الإعتداد بأذانه، ونزيد هاهنا حجتين:
__________
(1) في الأصل: (وتسقط الحالة) ولعله خطأ من الناسخ؛ لأن المعنى لا يستقيم بها.
(2) عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرأكم)) أخرجه أبو داؤد. ا هجواهر 1/200.
الحجة الأولى: هو أن المعلوم من مؤذني رسول اللّه أنهم كانوا في غاية الصلاح والوثاقة في الدين والتلبس بالورع والديانة وكانوا على أحسن هيئة في الدين وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ " }[الأحزاب:21]. فيجب الإقتداء بمؤذنيه فمن خالف حالهم لم يعتد بأذانه.
الحجة الثانية: هو أن الفاسق المجاهر بالكبائر يفعلها فلا يبالي بالخيانة ولا بما يفعله من القبائح والمعاصي فإذن لا يؤتمن على الأوقات في تغييرها بالزيادة والنقصان فيها ولا يؤتمن على الإطلاع على عورات المسلمين في المئذنة لجرأته على اللّه تعالى وخروجه بالفسق عن طاعة اللّه وولايته.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إنه من أهل القبلة ومن المقرين بالشريعة فلهذا اعتد بأذنه كالتقي.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نعارض قياسكم بمثله وهو أن الفاسق قد صار من أهل العداوة لله تعالى وانقطاع الولاية عنه فلا يعتد بأذانه كالكافر.
وأما ثانياً: فلانا نسلم ما ذكرتموه لكنه يبطل المقصود بملابسته الكبائر والخيانة فإنه لا يؤمن على أداء هذه العبادة بالخيانة فيما ذكرتموه، فتقرر بما لخصناه أنه غير معتد بأذان الفاسق فلا يُمكَّن من أداء عبادة الأذان بحال، والله أعلم.
الصفة الثالثة: حسن الصوت، والمستحب في المؤذن أن يكون صَيِّتَاً ونعني بالصيت: أن يكون صوته عالياً مرتفعاً، لما روي عن الرسول أنه أمر عبدالله بن زيد بالقاء الأذان على بلال وقال: ((إنه اندى منك صوتاً " ))(1)،
واختار أبا محذورة للأذان لعلو صوته، وندا الصوت: علوه وظهوره. قال الشاعر:
فقلت ادعي وأدعو إن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان(2)
__________
(1) تقدم في باب مشروعية الأذان.
(2) أحد بيتين للحطيئة أولهما:
تقول حليلتي لما اشتكينا
فيدركنا بنو القرم الهجان
ولأن المقصود بالأذان إنما هو الإشعار والإعلام بوقت الصلاة فلهذا استحب أن يكون صوته عالياً مرتفعاً، والمستحب مع علوه وظهوره أن يكون حسناً لاشتماله على ذكر اللّه تعالى وذكر رسوله، فإذا كان صوته حسناً رطباً رقت القلوب إليه وأصغت الأسماع إلى قبوله وكان أقرب إلى خشوع القلب في الصلاة وإلى رقة القلب فيها والإقبال عليها، فهذا ما أردنا ذكره في الصفات المسنونة ونرجع إلى التفريع.
الفرع السابع: ويستحب في المؤذن أن يكون حراً لقوله : ((يؤذن لكم خياركم " )) والعبد ليس من أهل الخيار(1)
فإن منعه مولاه عن الأذان كان له منعه عن أذان النافلة لأنه مستغرق لخدمة سيده. وإن لم يكن هناك من يسقط فرض الكفاية إلا العبد، جاز من غير إذن سيده، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإسقاط فرض الكفاية متوجه على الأحرار والعبيد. فإن أعتق جاز أذانه ولم يكره لأن بلالاً كان عبداً لأبي بكر فاعتقه، واختاره رسول اللّه للأذان فكان مؤذناً له لاختصاصه بالجهاد والدين والورع، ولهذا قال : ((بلال أول من يقرع باب الجنة من الحبشة " )). ويستحب في المؤذن أن يكون عارفاً بالمواقيت لئلا يغتر الناس بأذانه، فيعرف الزوال في الشتاء والصيف ويتحقق علامة الغروب في صلاة المغرب وغيبوبة الشفق الأحمر للعشاء الآخرة ويفرق بين الفجرين الصادق والكاذب ليكون على حقيقة في أذانه.
__________
(1) أراد المؤلف كما هو واضح، أن العبد ليس من أهل الخيار؛ لأن لسيده منعه من أذان النافلة، ولعل هذا لا يخرجه عن أهل الخيار إذا كان فيه صفاتهم؛ لأن طاعته لسيده واجب وهو بأداء واجبه مثاب عليه، فلا يكون بأداء الواجب ناقصاً عن صفات أهل الخيار. والله أعلم. المحقق.
الفرع الثامن: ويستحب أن يجعل الأذان في أولاد من جعل الرسول الأذان فيهم، مثل أولاد بلال لأن الرسول قال: ((الأذان في الحبشة)) " (1)
إكراماً لبلال وتخصيصاً لعقبه بهذه الخصلة، ومثل أولاد أبي محذورة لأن الرسول جعل إليه الأذان بمكة وجعل الأذان إلى بلال في المدينة، وهكذا أولاد سعد القرظي؛ لأن عمر جعل الأذان إليه بعد بلال، فإن انقرض أولاد هؤلاء أو لم يكونوا عدولاً فيستحب أن يجعل في أولاد الصحابة رضي اللّه عنهم تشريفاً لهم وإكراماً لما اختصوا به، فإن لم يوجدوا جعله الإمام إلى من يراه من خيار المسلمين فإن تنازع جماعة فيه مع تساويهم في الفضل والدين، أقرع بينهم لقوله : ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليه " ))(2)
__________
(1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((الملك في قريش والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة والأمانة في الأزد)) يعني: اليمن. أخرجه الترمذي، قال: وقد روي عن أبي هريرة ولم يرفع وهو أصح. جواهر 1/201.
(2) جاء عن أبي هريرة بلفظ: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه، ولو علموا ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً)) (يعني صلاتي العشاء والفجر) أخرجه الستة إلا أبا داؤد والترمذي. ا ه. المصدر السابق.
وروي أن الناس تشاجروا يوم القادسية في الأذان فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص فأقرع بينهم، وروي أنه اختصم جماعة إلى عمر في الأذان فقضى بينهم لكل واحد بأذان صلاة(1).
الفرع التاسع: ويعتد بأذان الأعمى لأن إبن أم مكتوم "(2)
كان يؤذن وهو أعمى فدل ذلك على جوازه، وهل يكره أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير مكروه، وهذا هو رأي الهادي والقاسم واختاره السيدان المؤيد بالله وأبو طالب.
قال الهادي في (الأحكام): ولا بأس بأذان الأعمى إذا كان من أهل المعرفة والأمانة.
والحجة على هذا: ما ذكرناه من أذان إبن أم مكتوم ومعرفة الرسول بحاله ولم ينكر عليه أذانه وفي هذا دلالة على جوازه.
قال الإمام أبو طالب: ولا يمتنع أن يقال: إنه أولى بالأذان من غيره لأنه لا يقع بصره على عورات المسلمين وحرمهم في دورهم إذا صعد المنارة بخلاف المبصر فلهذا كان أحق من غيره.
__________
(1) وردت رواية ا لخبرين دون إسناد أو تعليق سوى قول ابن بهران: هكذا روي والله أعلم، وواضح أن المؤلف لم يرد الإستدلال بها إلا على جواز الإستهام بين المختلفين على الأذان استناداً إلى الحديث، هذا إلى جانب التأكيد على حرص الصحابة على التسابق إلى الفضل، فاستهموا واختصموا إلى ولاتهم في هذه المسألة كل منهم يطلب السبق إليها والفوز بها، والله أعلم. ا ه. المحقق.
(2) عبد الله بن شريح المعروف بابن أم مكتوم، صحابي شهير، ترجم له في (التاريخ الكبير)5/7 وفي (الجرح والتعديل) 5/79 وفي (المشاهير) 1/16، وفي (الثقات) 3/214 وغيرها، قالوا: عبد الله بن أم مكتوم الأعمى القرشي ابن عمرو بن شريح بن قيس بن زائدة، من بني عامر بن لؤي بن غالب. قدم المدينة بعد بدر بسنتين مهاجراً فذهب بصره، وهو أحد مؤذني الرسول [وأشهرهم بعد بلال] وكان النبي يستخلفه على المدينة يصلي بالناس، وشهد القادسية ومعه راية سوداء وعليه درع، ثم رجع إلى المدينة ومات بها في خلافة عمر، وأمه عاتكة بنت مخزوم.
المذهب الثاني: أنه يكره، وهذا هو المحكي عن ابن مسعود وارتضاه الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه إذا كان أعمى فربما غر المسلمين بأذانه ولهذا قال ابن مسعود: لا أحب أن يكون مؤذنوكم عميانكم(1)،
ومثل هذا إذا صدر من جهة الصحابي كان مقبولاً لأنه إنما يقوله عن توقيف لتعذر الاجتهاد فيه. قال الشافعي: إذا وجد بصير يكون معه لم يكره أذانه؛ لأن ابن أم مكتوم كان أعمى وكان يؤذن مع بلال.
والمختار: ما عليه أئمة العترة من الجواز؛ لأن ابن أم مكتوم كان مؤذناً والرسول عالم بأذانه فلو كان مكروهاً لنهاه عن ذلك، ثم إذا كان موثوقاً بديانته وصلاحه وأمانته لم يؤذن إلا عن بصيرة وتحقق.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن ابن مسعود كراهة أذان الأعمى.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكره محمول على أذانه إذا لم يعرف الأوقات حتى تتفق الأدلة على الصحة والثبات.
وأما ثانياً: فلأن ما قاله ابن مسعود ليس فيه حجة لأن الظاهر أنه أخبر عن رأيه فلا يكون مقبولاً لأن الحجة اللازمة ما كان عن اللّه وعن رسوله فأما ما كان عن نظر واجتهاد فكل ورأيه فيما قال به.
الفرع العاشر: ويعتد بأذان ولد الزنا ومن ليس لرشده.
__________
(1) راجع كلام المؤلف حول هذه المسألة، واعتباره ما روي عن ابن مسعود اجتهاداً خاصاً به. واحتجاج المؤلف بأن ابن أم مكتوم كان يؤذن لرسول الله وهو أعمى كما هو معروف بين الصحابة الذين رووا هذا من عدة طرق، منها ما جاء عن عائشة وابن عمر وغيرهما، والأمر شائع وذائع ولم ينكره أحد من الصحابة ومن تبعهم حتى من قال بكراهة أذان الأعمى كابن مسعود الذي هو من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم.
قال الهادي: ولا بأس بأذان ولد الزنا إذا كان من أهل المعرفة والأمانة، وما هذا حاله فلا يعرف فيه خلاف بين العلماء فإذا كان بهذه [الصفات] جاز أذانه ولا يضر فجور والديه فلا تزر وازرة وزر أخرى وقد قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " }[الحجرات:13].ولم يفصل بين شخص وشخص، وما عاب اللّه أحداً بنسب إلا ما كان من الوليد بن المغيرة " (1) والأخنس بن شريق " (2)
__________
(1) أبو عبد شمس بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم من قضاة العرب في الجاهلية ومن زعماء قريش ومن زنادقتها، كان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وأدرك الإسلام وهو شيخ هرم، فعاداه وقاوم دعوته، وهلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر، وهو والد خالد بن الوليد. ا ه(أعلام) 8/122.
(2) الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة، واسمه: أُبي. وإنما لقب الأخنس؛ لأنه رجع ببني زهرة من بدر لما جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا بالعير، فقيل: خنس الأخنس ببني زهرة، وقد أسلم بعد ذلك، فكان من المؤلفة، وشهد حنيناً ومات في أول خلافة عمر، وذكر ابن عطية عن السدي أنه أظهر الإسلام، ثم هرب بعد ذلك فمر بقوم من المسلمين فحرق لهم زرعاً وقتل لهم حمراً، فنزلت [فيه]: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} إلى قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} وقال ابن عطية كما جاء في (الإصابة) 1/38: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، قلت: قد أثبته في الصحابة من تقدم ذكره ولا مانع أن يسلم ثم يرتد ثم يرجع إلى الإسلام، والله أعلم. ا ه، الآيات الثلاث الكريمة 204-206 من سورة البقرة.
فإن اللّه عابهما بتلك الخصال القبيحة، ومن جملتها قوله تعالى: {عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ " }[القلم:13] والزنيم: الذي تداعاه الرجال وما ذاك إلا لما كان منهما من شدة العداوة للرسول وإغراقهما في أذيته وعداوته والمكر به، فتولى اللّه تعالى لنبيه الكريم المثوبة وأنزل في [مبغضه](1)
قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
قال الإمام المؤيد بالله: ومن لم يكن بصفة العدالة والأمانة فلسنا نمنع من الإعتداد بأذانه إذا كان من أهل الملة، لكن الأولى ما ذكرناه. وكلامه هذا دال على أن المؤذن وإن لم يكن من أهل العدالة والأمانة بأن يكون فاسقاً بفسق الجوارح أو بفسق التأويل، فإن أذانه جائز لكونه من أهل الملة وإن كان غير موثوق به في ديانته وأمانته وإن كان مكروهاً، والأولى خلافه لمن كان على خلاف صفته، وفي هذا دلالة على أن الشرع وإن دل على الإجزاء فالأولى من جهة الدين المواضبة على مراعاة أحوال الديانة.
الفرع الحادي عشر: ويستحب أن يؤذن المؤذن على موضع عالٍ، لما روى عبدالله بن زيد أنه رأى رجلاً عليه ثوبان أخضران على جدر حائط يؤذن. وجدر الحائط أعلاه. وقالت عائشة ما كان بين أذان بلال وأذان ابن أم مكتوم إلا قدر ما ينزل هذا ويرقى هذا، فأخبرت أنهما كانا يرقيان إلى موضع عند أذانهما، ولأن ذلك يكون أبلغ في الإعلام وأعظم في الإشهار.
قال الإمام المؤيد بالله: ويجوز تقليد المؤذن في أذانه والعمل عليه إذا كان أميناً عارفاً بالأوقات مع إمكان البروز من المسجد ومراعاة زوال الشمس لقوله : ((المؤذنون أمناء " ))(2)
__________
(1) هنا كلمة في الأصل غير مفهومة وغير معجمة، وهي في الشكل والمعنى والمقصود بحسب السياق، شبيهة بكلمة (مبغضه) لذا وضعناها مكانها بين القوسين إشارة إلى أنها ليست في الأصل. والله أعلم.
(2) تقدم.
ولا يعني بذلك إلا أمانتهم في دخول الأوقات وهذا محمول على أن السماء مصحية فمتى كان الصحو فأذانه كافٍ في العمل عليه فأما إذا كانت السماء (ملبدة)(1) بالغيم فإنه مأمور بالتحري والعمل على غالب ظنه ولا يجوز تقليده.
نعم اختلف رأي السيدين الأخوين في المؤذن إذا أقام من غير وضوء فهل تجب عليه إعادة الإقامة أم لا؟ فقال السيد أبو طالب: لا إعادة عليه، وهذا هو قول أبي حنيفة والشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه ممن يعتد بأذانه فوجب أن يعتد بإقامته كالمتطهر. أو نقول: دعاء إلى الصلاة فصح من المحدث كالأذان.
وقال المؤيد بالله: تجب عليه الإعادة(2).
والحجة على هذا: هو أن المعلوم من حال مؤذني رسول اللّه ومن الجلة من الصحابة والتابعين أنهم ما أقاموا على غير وضوء ولا اشتغلوا بعد الإقامة بالطهارة، وفي هذا دلالة على أنه لا يقيم إلا على الطهارة.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله.
وحجته: ما نقلناه عنه ونزيد هاهنا وهو قوله : ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " )) (3).
وموضع الدلالة من الخبر هو أنه عقَّب الصلاة بالفاء عقيب الإقامة فلو سوغنا له الطهارة بعد الإقامة لكان فيه إبطال ظاهر الخبر وما دلت عليه الفاء من التعقيب.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: إنه ممن يعتد بأذانه فوجب أن يعتد بإقامته كالمتطهر.
قلنا: موضوع الأذان بخلاف الإقامة فإنه لا يشتغل بعدها إلا بفعل الصلاة فافترقا.
قالوا: الإقامة دعاء إلى الصلاة فصحت من المحدث كالأذان.
__________
(1) في الأصل كلمة غير واضحة بمعنى (ملبدة) لذا تم وضع (ملبدة) مكانها بين القوسين.
(2) لعل الصواب أن إقامته لا تجزئ، إذ لا لزوم هنا لاعتبارها إعادة، فالمقيم هنا لدى المؤيد بالله أشبه بمن صلى دون وضوء، مع الإشارة هنا إلى أن التعبير بوجوب الإعادة عن عدم الصحة أو الإجزاء والعكس كثير في أسلوب المؤلف رحمه الله، ونظائره كثيرة في كتبه. والله أعلم.
(3) تقدم.
قلنا: المعنى في الأصل أن وقته فيه فسحة لفعل التطهر بخلاف الإقامة فإنه لا فسحة بعدها لفعل الطهارة فلهذا لم تكن جائزة من المحدث.
الفرع الثاني عشر: والمستحب للمؤذن أن يؤذن قائماً لقوله لبلال: ((قم فأذن))(1)
ولأنه إذا كان قائماً كان أظهر لصوته وأقصى لسماعه، ويستحب(2)
أن يستقبل القبلة لأن عمل المسلمين قد جرى بذلك وتوارثوه خلفاً عن سلف وقد قال : ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عندالله حسن " )). وهل يكون القيام واستقبال القبلة شرطين في صحة الأذان أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهما لا يشترطان لصحة الأذان، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن فقهاء الأمة.
والحجة على هذا: هو أن المقصود إنما [هو] الإعلان والإشهار وتعريف الغائب والحاضر بدخول وقت الصلاة، وهذا حاصل سواءً كان قائماً أو قاعداً أو مستقبل القبلة أو غير مستقبل.
المذهب الثاني: أنهما شرطان في صحة الأذان، وهذا شيء يحكى عن عبدالملك الجويني.
والحجة على هذا: هو أن مؤذني رسول اللّه وعادة الصدر الأول من الصحابة والتابعين جارية على الأذان قياماً مستقبلي القبلة فلما واظبوا عليه أشد المواظبة دل ذلك على وجوبه.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة.
__________
(1) تقدم بمعناه، وقد جاء في نهاية الحديث المطول عن مشروعية الأذان في ما رواه ابن عمر: أن المسلمين حين قدموا المدينة كانوا يجتمعون فيتحينون الصلاة، وليس ينادي بها أحد إلى أن قال: فقال عمر: ألا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله : ((قم يا بلال فناد بالصلاة)) أخرجه الستة إلا أبا داؤد. ا هجواهر 1/181.
(2) جاء في حاشية الأصل ما لفظه: قال في (الهداية) ويستقبل بهما القبلة لأن النازل من السماء أذن مستقبل القبلة وتركه (أي الاستقبال) يكره لمخالفة السنة. ا ه.
وحجتهم ما نقلناه عنهم، ونزيد هاهنا أن القيام واستقبال القبلة هيئتان في الأذان وتركهما لا يخرجه عن موضوعه وهو الإعلان والإشهار فلا يمنع ذلك من الإعتداد به، ولا يلزم على هذا [عدم] استقبال الإمام الناس عند الخطبة لأن تركه يخرجه عن موضوعه لأن الغرض مخاطبة الناس فلهذا لم تجز إذا تركها(1) فافترقا.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: علمنا من حال مؤذني الرسول وعادة الصحابة والتابعين، مواظبتهم على القيام في الأذان واستقبال القبلة فدل ذلك على وجوبه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المواظبة لا تدل على الوجوب فكم من سنة كثرت المواظبة عليها ولا يخرجها ذلك عن كونها سنة.
وأما ثانياً: فلأن استمرار الداعي على القيام واستقبال القبلة في الأذان ليس من جهة الوجوب كما زعمتم إنما كان من أجل أن المقصود هو الإعلان والإشهار وهذا حاصل من دونهما فبطل أن يقال أن الأذان لا يعتد به من دونهما.
الفرع الثالث عشر: ويستحب أن يجعل أصبعيه وهما المسبحتان في صماخي أذنيه لما روى أبو جحيفة " (2)
__________
(1) لعل الصواب: (إذا تركه) ليعود الضمير إلى (الإستقبال) إلا إذا قصد المؤلف عودة الضمير إلى كلمة (مخاطبة) الناس، كونها مترتبة على الإستقبال الذي هو موضوع البحث، فهذا احتمال ربما كان وارداً. والله أعلم.
(2) واسمه وهب بن عبد الله، جاء في تاريخ بغداد (1/199): أنه رأى رسول الله وروى عنه، وهو ممن نزل الكوفة، وشهد مع علي يوم النهروان، مات في ولاية بشر بن مروان على الكوفة، وفي تهذيب الكمال 31/132 أنه كان من صغار أصحاب النبي ، قيل: مات رسول الله و[أبو جحيفة] لم يبلغ الحلم، روى عن النبي وعن البراء بن عازب وعلي بن أبي طالب، وذكر الواقدي أنه توفي في ولاية بشر بن مروان، وقال غيره: سنة 74ه.
أن بلالاً خرج يؤذن واصبعاه في صماخي أذنيه، ومن جهة أن الصوت إذا خرج من الحلق انتفش من منافذ الأذنين فإذا سدهما فإن الصوت يجتمع في الفم ويشتد حاله ويقوى جرسه ويخرج عالياً، ولأنه قد يكون هناك من لا يسمع صوته فيحصل له العلم بالأذان بمشاهدة حاله بالبصر وإن لم يسمع. ويستحب أن يترسل في الأذان وهو الترتيل ويدرج في الإقامة وهو القطع لما روى جابر أن رسول اللّه قال لبلال: ((يا بلال إذا أذنت فرسل " وإذا أقمت فاحدر واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته ولا تقوموا حتى تروني))(1).
ذكره الترمذي في صحيحه. والمعتصر هو الذي يجد في بطنه عصراً لخروج ما فيه من الطعام، وروي أن عمر قال للمؤذن: إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر.
قال أبو عبيد الهروي: والرواية في الحدر بالحاء المهملة والذال بنقطة من أعلاها(2)
وكذلك الجذم أيضاً بالجيم والذال بنقطة هو القطع أيضاً. ومن جهة أن الأذان للغائبين فكان الترسل فيه أبلغ والإقامة للحاضرين فكان الجذم فيها أولى.
__________
(1) وفي رواية الترمذي التي أوردها المؤلف: (..فترسل..) بدلاً عن (فرسل) و(..وأفصل..) بدلاً عن (..واجعل..) جاء بها في الجواهر عن الجامع الكافي، وفي فتح الغفار، رواه الترمذي وضعفه، ورواه الحاكم ومال إلى تصحيحه. ا ه1/130.
(2) نسب ابن منظور إلى الجوهري: وحَدَرَ في قرائته وفي أذانه حدراً، أي أسرع (انتهى كلام الجوهري) وفي حديث الأذان: ((إذا أذنت فترسَّل وإذا أقمت فأحْدُرْ)) أي أسرع، ا هلسان ج4 ص 172، ومن ثم فإن ما أورده المؤلف عن الهروي في أن الحدر بالذال المعجمة فيه نظر، والله أعلم.
الفرع الرابع عشر: وإذا أذن المؤذن وهو قائم مستقبل القبلة فبلغ الحيعلة لوى عنقه ورأسه يميناً وشمالاً دون سائر بدنه وقدميه فلا يلتوي سواء كان أذانه على الأرض أو على المنارة، فإذا تقرر هذا فلنذكر الخلاف ثم نردفه بذكر كيفية الإلتواء فهذان تقريران:
التقرير الأول: في ذكر الخلاف وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أنه يستدير في أذانه يمنة ويسرة ويحول وجهه عن يمينه وشماله إذا قال حي على الصلاة حي على الفلاح، وهذا هو رأي القاسم، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن عبدالله بن زيد أنه لما رأى الأذان في منامه فقال الرسول : ((القه على بلال فإنه أندى منك صوتاً " )) قال ويستدير في أذانه يمنة ويسرة ويحول وجهه عن يمينه وعن شماله عند ذكر الحيعلتين.
المذهب الثاني: أنه إن كان أذانه على المنارة إستدار بجميع بدنه وإن كان على الأرض لوى عنقه لا غير وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أنه إذا كان على المنارة كانت المنارة مانعة عن نفوذ الصوت وظهوره فلهذا استحب له الإستدارة ببدنه وإذا كان على الأرض لم يحتج إلا إلى إدارة العنق لا غير.
المذهب الثالث: أنه إن كان فوق المنارة لوى عنقه دون سائر بدنه وقدميه وإن كان على الأرض لم يحتج إلى شيء من ذلك، وهذا هو المحكي عن أحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: هو أنه إذا كان فوق المنارة ولوى عنقه كان أبلغ في إبلاغ الصوت ونفوذه فأما إذا كان على الأرض فالصوت فيه كفاية.
المذهب الرابع: أنه لا يستحب له شيء من ذلك سواء كان على المنارة أو على الأرض وهذا هو المحكي عن إبن سيرين.
والحجة على هذا: هو أن المقصود هو الصوت في الإبلاغ والإشهار، وهذه كيفيات لا حاجة إليها، واستقبال القبلة في جميع الأذان هو الأحق والأولى لما فيه من الفضل من غير حاجة إلى تحويل الوجه والعنق عنها.
والمختار: ما عول عليه الإمام القاسم.
وحجته: ما ذكرناه ونزيد هاهنا ما رواه أبو جحيفة قال: أتيت الرسول وهو في قبة حمراء من أُدُمٍ فأمر بلالاً فخرج فأذن فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدر واصبعاه في أذنيه وخرج بلال بين يديه بالعَنَزَة وهي عصا فركزها بالبطحاء فصلى إليها رسول اللّه حتى لا يمر بين يديه الكلب والحمار وعليه حلة حمراء وكأني أنظر إلى بريق ساقيه(1).
__________
(1) ورد الحديث عن أبي جحيفة من طرق عدة وبألفاظ مختلفة أو مجزأة من حديث طويل منها: ما أخرجه الترمذي بسنده عن أبي جحيفة قال: رأيت بلالاً يؤذن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وأصبعاه في أذنيه، وفي رواية أبي داؤد عن أبي جحيفة: ثم رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فأذن، فلما بلغ: حي على الصلاة حي على الفلاح، لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدر، ا هجواهر 1/194. وأورده الرباعي في فتح الغفار عن أبي جحيفة قال: أتيت النبي بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه (بفتح الواو: ماء وضوء النبي) فمن ناضح ونائل، فخرج النبي عليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه، قال: فتوضأ وأذن بلال، فجعلت أتبع فاه هاهنا وهاهنا يقول يميناً وشمالاً، حي على الصلاة حي على الفلاح، متفق عليه، ولأبي داؤد: فلما بلغ حي على الفلاح لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدر، وفي رواية لأحمد والترمذي وصححه، وأصبعاه في أذنيه، ولابن ماجة، وجعل أصبعه في أذنيه، وزاد ابن ماجة أيضاً: يدور في أذانه، قال البيهقي: الإستدارة لم ترد من طرق صحيحة. قوله: فمن ناضح ونائل، الناضح: الآخذ من الماء لجسده تبركاً ببقية وضوئه ، والنائل: الآخذ مما في جسد صاحبه. ا ه 1/125.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه. واعلم أنهم لم يذكروا فيما ذهبوا إليه من هذه الأقوال قولاً عن رسول اللّه ولا اعتمدوا شيئاً من جهة الصحابة وإنما عولوا فيما ذهبوا [إليه] على آرائهم واستحسنوه بأنظارهم على حسب ما يعن لكل واحد منهم في ظهور الصوت وخفائه وفي بلوغه وتراخيه فوق المنارة وعلى الأرض، وما ذكرناه فهو أخبار منقولة عن الرسول فلهذا كان راجحاً على غيره خاصة في أمور العبادات وأحوالها فإنها أمور غيبية لا مدخل للآراء فيها ولا مجال للنظر في أحكامها.
التقرير الثاني: في كيفية الإلتواء وفيه حالتان:
الحالة الأولى: أن يكمل كل واحدة من الحيعلتين في كل واحد من الجانبين من غير فصل بينهما ثم هي على وجهين:
الوجه الأول منهما: أن يلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيمن فيقول: حي على الصلاة حي على الصلاة، ويلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيسر ويقول: حي على الفلاح حي على الفلاح.
الوجه الثاني: هو الوجه الأول خلا أنه يرد وجهه إلى القبلة متوسطاً بين الحيعلتين، فعلى هذا يلوي عنقه ورأسه فيقول: حي على الصلاة حي على الصلاة ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيسر ويقول: حي على الفلاح حي على الفلاح.
الحالة الثانية: أن يفصل بين كل حيعلة برد الوجه إلى القبلة ثم ذلك يكون على وجهين:
الوجه الأول: أن تكون كل واحدة من الحيعلتين كاملة في الجانبين جميعاً فيلوي عنقه إلى الجانب الأيمن فيقول: حي على الصلاة ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيمن ويقول: حي على الصلاة ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيسر فيقول: حي على الفلاح ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيسر ويقول: حي على الفلاح ثم يرد وجهه إلى القبلة ويتم أذانه على الكمال.
الوجه الثاني: أن يقسم كل واحدة من الحيعلتين على الجانبين فيلوي عنقه إلى الجانب الأيمن فيقول: حي على الصلاة ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيسر فيقول: حي على الصلاة ثم يرد وجهه إل القبلة ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيمن فيقول: حي على الفلاح ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيسر ويقول: حي على الفلاح، وإنما خصت الحيعلة بالإلتواء دون سائر ألفاظ الأذان، من جهة أن ألفاظ سائر الأذان ذكر لله تعالى ولرسوله فلهذا كان استقبال القبلة بها أولى والحيعلة إنما تراد للإعلام والإشهار بدخول الوقت فلا جرم كان الإلتواء بها أشبه.
وهل يلتوي في الإقامة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يلتوي لأنها إشعار بالصلاة كالأذان.
وثانيهما: أنه لا يلتوي لأن الإقامة للحاضرين فلا تحتاج إلى التواء بخلاف الأذان فإنه دعاء للغائبين، فلهذا استحب فيه الإلتواء ليحصل الإعلام لجميع الجهات، وهذا هو المختار لأن بلالاً وسائر المؤذنين لم يكن من جهتهم التواء لأعناقهم في الإقامة فافترقا.
الفرع الخامس عشر: وإن أراد المؤذن الأذان فارتد قبل أذانه منع من الأذان لأنه قربة فلا يصح أداءه من كافر وقد قال : ((لا قربة لكافر " )) وإن أذن ثم أرتد فهل يعتد به أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يعتد به(1)
لأن الردة تحبط الطاعات.
وإن ارتد في حال أذانه لم يصح منه إتمامه في حال ردته لأن الكافر لا يعتد بأذانه ولا يجوز لغيره أن يبني عليه لأنه قد انحبط بالردة. فإن رجع إلى الإسلام عن قريب، فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجوز البناء عليه لأنه قد بطل بالردة.
__________
(1) جاء في هامش الأصل ما لفظه: المذهب صحة أذانه والإعتداد به، وقد رجع (المؤلف) عما اختاره فيه إلى كلام أصحابنا، حيث قال في آخر الكلام: ويعتبر بأذانه؛ لأنه قد وقع على نعت الصحة. وربما كان قولاً ثانياً ليندفع التدافع ويبطل التناقض فليلمح. ا ه.
والثاني: أنه يجوز البناء لأنه تدارك نفسه بالإسلام على القرب كما لو لم يرتد.
والمختار: هو الأول لأنه قد بطل بالردة وقد قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا " }[الفرقان:23].
وإن إرتد بعد أذانه منع من الإقامة لأنه ليس من أهل الإقامة بردته ويقيم غيره ويعتد بأذانه لأنه قد وقع على نعت الصحة والمقصود به الإعلام وقد حصل ولو بطل ثوابه بالردة فقد حصل مقصود الأذان وإن مات بعد الأذان أقام غيره، وإن مات في وسط الأذان بنى على أذانه غيره، وإن أغمي عليه في حال الأذان بنى على أذانه وأتمه غيره.
وقد نجز غرضنا من باب الأذان وبتمامه يتم الكلام في الجزء الثاني من كتاب الانتصار ويتلوه في السفر الثالث باب استقبال القبلة.
---
ا
الباب الثالث
في إستقبال القبلة
قال الإمامان القاسم والهادي : يجب على كل مصلٍ أن يستقبل الكعبة إن أمكنه وإن لم يتهيَّأ تحرى جهتها.
اعلم أن القبلة كانت في أول الإسلام إلى بيت المقدس وقد استقبلها الرسول مدة إقامته بمكة قبل الهجرة وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة لأنها قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل، وبيت المقدس هي قبلة اليهود، وكان من شدة حبه لذلك يصلي من ناحية الصفا ليستقبل الكعبة وبيت المقدس، يجعلها بينه وبين بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر عليه استقبالهما جميعاً لأن من استقبل بيت المقدس فيها استدبر الكعبة فأقام بالمدينة يصلي إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً وقيل ستة عشر فعيرته اليهود فقالوا: إنه على ديننا ويصلي إلى قبلتنا، فسأل اللّه أن يحول قبلته إلى الكعبة فنزل جبريل فأخبره أنه يجب إستقبال الكعبة فعرج جبريل صلى الله عليه وسلم والرسول يتبعه نظره ويقلب طرفه نحو السماء ينتظر نزول جبريل، فنزل عليه بقوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] والمسجد الحرام هاهنا هو الكعبة قال اللّه تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ }[المائدة:97]. يعني: مقاماً لهم ولصلاتهم. وقال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }[الحج:26]. يعني: المصلين. وقوله تعالى: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي: نحوه. قال الشاعر:
ألا من مبلغ عمراً رسولاً ... وما تغني الرسالة شطر عمرو
أي: نحو عمرو، فإذا تقرر هذا فاعلم أن هذا الباب موضوع للإستقبال فلابد من بيان القبلة المستقبلة، ثم المصلي إليها يستقبلها، ثم الصلاة التي تستقبل لها، فهذه فصول ثلاثة تشتمل عليها.
---
الفصل الأول
في بيان القبلة في الصلاة إليها
قال الناصر في كتابه الكبير: على المصلي أن يستقبل القبلة حضرها أو غاب عنها، فمن صلى بالمدينة فعليه استقبال بيت اللّه الحرام بالنية والإرادة. وأراد بالنية والإرادة: الصلاة؛ لأن استقبال القبلة لا تأثير للنية فيه كما سنوضحه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: اعلم أنه لا خلاف بين أئمة العترة وفقهاء الأمة في أن النية للتوجه إلى القبلة غير واجبة إلا السيد أبا العباس فإنه أوجبها مرة واحدة، وإنما تكون النية واجبة للصلاة وسائر العبادات دون الإستقبال.
والحجة على ذلك: هو أن النية إنما تكون مؤثرة في وقوع الأفعال على وجوه مختلفة نحو كونها طاعة ومعصية وقربة وعبادة لله تعالى، فأما ما كان يتعلق بوجود الأفعال ووقوعها فلا تأثير للنية فيه نحو إستقبال القبلة ودخول وقت الصلاة وأعداد الركعات نحو كون الظهر أربعاً والمغرب ثلاثاً فهذه الأمور لا تأثير للإرادة فيها، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن كل أمر لا تأثير للنية فيه فلا يصح أن تجعل النية شرطاً في صحته كالصلاة إذا دخل وقتها لم تكن النية شرطاً في دخوله. لأنه لو قصد إلى أن الوقت لم يدخل لم يكن لقصده تأثير، وهكذا لو أزال النجاسة وقصد إلى أنها غير زائلة لم يؤثر قصده فيه، وهكذا الحال فيمن توضأ بماء طاهر أو صلى في ثوب طاهر أو صلى على موضع طاهر فنوى أنه توضأ بماء نجس أو صلى على ثوب نجس أو موضع نجس فإنه لا يخرج عما كان عليه بهذه النية، وهكذا في قضاء الدين ورد الوديعة فإنه لا تأثير للنية فيها فإذا كان لا تأثير فيه فما كان من الأفعال واقعاً على وجه دون وجه وقف وجوبه على الدليل فإن قامت دلالة على وجوبها فيه قبل به وإلا فهو باقٍ على جوازه من غير نية. وعلى هذا جميع أصول الشريعة من الوضوء والصلاة والزكاة والحج والصيام والإحرام بالحج والعمرة، فالقدرة يحتاج إليه في وقوع الفعل ووجوده، والعلم يحتاج إليه في أحكام الفعل وانتظامه والإرادة يحتاج إليها في وقوع الأفعال على وجه دون وجه.
الفرع الثاني: في بيان المعاين للقبلة. اعلم أنه لا خلاف بين أئمة العترة وفقهاء الأمة أن كل من كان معايناً للقبلة فإنه يجب عليه التوجه إلى عينها.
والحجة على هذا قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }[البقرة:144]. وشطر الشيء: بعضه يقال: شطر المال وشطر الدار. وقوله : ((الوضوء شطر الإيمان )) أي: بعضه. وجملة المقامات التي يجب فيها التوجه إلى العين، خمسة نفصلها بمعونة اللّه تعالى:
المقام الأول: جوف الكعبة، فالمصلي فيها له أن يستقبل أي جدار شاء ويجوز لهم عقد الجماعة متدابرين مستقبلين للجدرات، ولو استقبل الباب وهو مردود(1) صح لأنه من أجزاء البيت، فإن كان مفتوحاً والعتبة(2) مرتفعة قدر مؤخرة الرحل(3) جاز ذلك وإن كانت أقل فهل يجزي أم لا يجزي؟ فيه تردد.
والمختار: أنه إذا كان قدامه جزء من البيت أجزأه، وإلا فلا يجزي لأنه ليس مقابلاً للبيت ولا لجزء من أجزائه، ولو انهدمت الكعبة والعياذ بالله فصلى في وسط العرصة فهل تجزيه الصلاة أم لا؟ فيه تردد، فحكي عن بعض أصحاب الشافعي منعه.
والمختار: جوازه لأن بين يديه أرض الكعبة وساحتها فهو مستقبل لها.
المقام الثاني: سطح الكعبة، فإن صلى على ظهرها نظرت فإن كان قدامه شيء من أجزائها صحت صلاته لأنه مقابل لجزء من أجزائها فصحت صلاته كما لو كان مواجهاً له، وإن لم يكن قدامه شيء من أجزائها فهل تجزيه الصلاة أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن صلاته غير مجزية، وهذا هو الذي ذكره الأخوان الإمامان أبو طالب والمؤيد بالله للمذهب.
__________
(1) يقصد وباب الكعبة مغلق.
(2) جاء في حاشية الأصل: والعتبة الدرج، وكل مرقاة عتبة، والعتبة أسكفة الباب، جمعها عتب وعتاب. ا ه.
(3) جاء في حاشية الأصل: الصحيح أن مُؤْخِرة الرحل بميم مضمومة ثم همزة ساكنة ثم خاء معجمة مكسورة بعدها رآء وهاء، وهي عبارة عما يستند إليه راكب الرحل من خلف ظهره، والرحل منزلته من ظهر الجمل البردعة من ظهر الحمار، وقال في غريب المهذب: المؤخرة بفتح الهمزة وتشديد الخاء. اه.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " }[البقرة:144] وإذا كان قدامه جزء منها كان متوجهاً إلى شطر منها فوجب أن يجزيه ذلك.
المذهب الثاني: أنه لا يجزيه إلا إذا كان قدامه شيء شاخص يصلي إليه مغروزاً فيصلي إليه وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: أنه لا يسمى مستقبلاً إلا إذا كان بين يديه سترة، ويخالف ما إذا كان على رأس [جبل] أبي قبيس والكعبة تحته فإنه يسمى مستقبلاً لها لخروجه منها.
المذهب الثالث: جواز الصلاة وإن لم يكن قدامه شيء منها وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ " }[البقرة:115] ولم يفصل. فهذه المذاهب على ما ترى، وسيأتي لهذا مزيد تقرير عند الكلام في أماكن المصلي، والانتصار له بمعونة اللّه تعالى.
المقام الثالث: الواقف في المسجد فإنه تلزمه محاذاة الكعبة فإن وقف على طرف وبعض بدنه في محاذاة ركن من أركانه فهل تصح صلاته أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنها غير مجزية لأنه ليس مواجهاً للبيت بكل بدنه، وإن أمتد صف مستطيل قريب من البيت فالخارجون عن سمت البيت ومحاذاته لا صلاة لهم لبطلان مواجهتهم له.
المقام الرابع: الواقف خارج المسجد أو في بيت من بيوت مكة أو يكون بينه وبينها حائل يمنعه من النظر إلى عينها فمن هذه حاله ففرضه التوجه إلى عين الكعبة لأنه في حكم المعاين لها فلا يسقط عنه فرض المعاينة لعارض يمكن زواله.
المقام الخامس: الواقف في مسجد الرسول للصلاة فإن محرابه ينزل منزلة الكعبة في حقه إذ لا يمكن الخطأ فيه ولا يجوز الاجتهاد من أجله لا بالتيامن ولا بالتياسر.
قال الإمام المؤيد بالله: وهذا الاعتبار إنما يصح إذا علم أن المحراب لم يُغيَّر عما وضعه الرسول لا بزيادة ولا نقصان، فأما إذا حول عما كان عليه فإنه لا يتحقق أنه متوجه إليها. وهذا نظر حسن جارٍ على القواعد والأصول. فهذه المقامات كلها دالة على اعتبار المعاينة للكعبة، والعمارة هذه في حرم رسول اللّه قد غيرت عن عمارته وهي من عمارة المستعصم " (1)
آخر خلفاء الدولة الجائرة الظالمة الذين غيَّروا الأحكام الإسلامية وتلبسوا بالمعاصي والآثام الفسقية، وقد قطع اللّه دابرهم وعفا آثارهم فبعداً لقوم لا يؤمنون.
دقيقة: اعلم أن الذي في حكم المعاين للكعبة ممن يكون من أهل مكة في بعض بيوتها ودورها التي لا تشاهد منها الكعبة ويكون بينه وبينها حائل يمنعه عن المشاهدة لها، ففرضه التوجه إلى عينها فإذا كان لا يمكنه الإطلاع عليها إلا بقطع مسافة بعيدة بطلوع جبل أو صعود هضبة فما المتوجه عليه؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: وجوب ذلك وتأخير الصلاة إلى أن يخشى فوتها فحينئذ يجوز له التحري في هذه الحالة وهذا هو رأي القاسمية واختيار السيدين أبي طالب والمؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو أن هذه الصلاة بالتحري بدل عن صلاة المعاينة فلا يجوز التلبس بها إلا بعد الإياس من المشاهدة في آخر وقتها كالمتيمم.
المذهب الثاني: أنه إن كان يمكنه الإطلاع والمشاهدة في أول الوقت وإلاَّ صلى بالتحري ولا ينتظر آخر الوقت، وهذا هو رأي المنصور بالله والفقهاء.
__________
(1) المستعصم: عبد الله بن منصور (المنتصر) بن محمد (الظاهر) بن أحمد(الناصر) من سلالة هارون الرشيد العباسي، وكنيته أبو أحمد، آخر ولاة الدولة العباسية في العراق، ولد بالعراق وتولى الخلافة بعد أبيه سنة 640ه، ومدة خلافته 15سنة، وقتل على يد هولاكو الذي دخل بالتتار إلى بغداد سنة 656ه. ا.ه. أعلام4/140 ملخصاً.
والحجة على هذا: هو أنه مخاطب بالصلاة في أول وقتها وهو معذور بترك المعاينة لأنها ليست بدلاً عن غيرها.
وهذا هو المختار.
والحجة عليه: هو أن هاهنا فضيلتين إحداهما معاينة الكعبة، والأخرى تأديته الصلاة في أول وقتها للإختيار، فإذا قامت فضيلة المعاينة بالبعد لم تغب فضيلة الوقت فلأجل هذا وجب عليه تأديتها في أول وقتها من غير انتظار للمعاينة، ولأنه لا قائل بأن أهل منى يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت.
الفرع الثالث: في بيان من ليس معايناً ولا في حكم المعاين فإنه يرجع إلى خبر غيره ويترك إجتهاد نفسه.
والحجة على ذلك: هو أن الأخبار المروية عن الرسول مبطلة للاجتهاد فهكذا خبر العدل الموثوق بصدقه يقبل خبره في مراعاة أحوال القبلة قبل إجتهاد نفسه فإن أخبره مخبر عن علم بأن يكون على رأس جبل وهو يشاهد الكعبة وجب عليه قبول خبره فإن أخبرته امرأة أو عبد عن مشاهدة وجب قبول خبرهما كما يقبل خبرهما في رواية أخبار الرسول لأنهما من أهل الإسلام والعدالة فلهذا كان خبرهما مقبولاً، وإن أخبره صبي عن القبلة فهل يقبل خبره أم لا؟ فيه تردد بين أصحاب الشافعي.
والمختار: أن خبره غير مقبول لأنه متهم ولا يعرف قبح الكذب فلا يمتنع من الإقدام عليه، وإن أخبره كافر لم يقبل خبره لأنه ليس من أهل الإسلام فلا يقبل قوله في شيء من أحكامه، وإن أخبره فاسق لم يقبل خبره لأنه متهم في دينه فلا يمتنع إقدامه على الكذب لجرأته على اللّه تعالى بملابسته الكبيرة، فمتى حصلت هذه الأمور الثلاثة المعاينة للكعبة ومن هو في حكم المعاين لها، والخبر عنها بخبر الثقة كان مبطلاً للإجتهاد فيها لأن ما ذكرناه من هذه الأمور الثلاثة أقوى من الاجتهاد نفسه فلهذا كانت سابقة عليها لقوتها وإرشادها إلى المقصود من طلب القبلة. ويؤيد ما ذكرناه هاهنا أن الأخبار المروية عن الرسول في أحكام الشريعة في التحليل والتحريم مبطلة للإجتهاد فهكذا خبر العدل الموثوق بصدقه مبطل للإجتهاد نفسه لأن طريق الاجتهاد مظنون بالنظر في الأمارات الموصلة إلى الظن بخلاف المخبر فإنه يخبر عن مشاهدة فلهذا كان أقوى من اجتهاده.
الفرع الرابع: إذا لم يكن المصلي معايناً ولا في حكم المعاين ولا أخبره مخبر فإلى ماذا يرجع وما يكون فرضه؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن فرضه الرجوع إلى الاجتهاد وطلب الأمارات في جهة القبلة، وهذا هو رأي علماء الشريعة وأهل الحل والعقد من أئمة العترة وفقهاء الأمة وهم القائلون بالقياس والمتبحرون في علومه والمظهرون لعجائبه وأسراره والمتعمقون في غوائله وأغواره.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ " }[البقرة:144].
ووجه الدلالة من هذه الآية: هو أن اللّه تعالى أمر نبيه وأمته بالتولية لشطر المسجد الحرام، والشطر: هو البعض أو الجهة. وعلى كلا التفسيرين فإما أن يكون المراد هو العلم أو الظن والعلم إنما يحصل بالمعاينة أو لمن هو في حكم المعاين لمن كان قريباً من مكة، فأما من بعد عنها من أهل الأقاليم والأمصار في المشرق والمغرب والشام واليمن فلا يحصل لهم العلم وإنما يحصل الظن بالنظر في الأمارات وهو مرادنا بالتحري، والأمارات هي: مطالع الشمس والقمر والنجوم كما قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ " }[النحل:16] ومهاب الريح، فالنظر في هذه الأمارات به يقتدح الظن في جهة الكعبة.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ " }[البقرة:115].
ووجه الدلالة من هذه الآية: هو أن اللّه تعالى أخبر وخبره صدق وقوله حق، أن أينما تولينا فهو المقصود للعبادة في جهة القبلة فليس يخلو الحال فيه إما أن يريد أن المصلي يصلي إلى أي جهة شاء فهذا باطل لأن المعاين للكعبة ليس له أن يصلي إلا إليها ولا خيرة له في ذلك، وإما أن يريد الصلاة إلى الجهات الأربع فهذا باطل أيضاً لأنه ليس في الآية ما يدل على ذلك ثم إن الإجماع منعقد على خلاف ذلك، فلم يبق إلا أن يكون مراده الصلاة إلى أي جهة أوصل إليها التحري والنظر في الأمارات وفي هذا حصول المقصود من العمل على التحري في طلب القبلة.
المذهب الثاني: مذهب نفاة القياس كالأصم والإمامية وغيرهم من منكري القياس، فهؤلاء قد أنكروا القياس وعولوا على الظواهر القرآنية والأخبار المروية وأنجرَّ بهم الحال إلى إنكار التحري والعمل على الأمارات. وهم فرق كثيرة قد فصلناها في الكتب الأصولية ورددنا مقالتهم هذه.
والحجة لهم فيما زعموه هو: أنهم أعرضوا عن محاسن القياس وعجائبه وأعرضوا صفحاً عن اقتباس معانيه وإحراز غرائبه وعولوا على الظواهر وزعموا أن القياس لا يؤمن فيه الزلل إلى غير ذلك من الأوهام التي ليس لها حاصل ولا ثمرة وراءها ولا طائل، وموضع الرد عليهم الكتب الأصولية وقد أنهينا القول عليهم فيها نهايته.
والمختار: ما عول عليه علماء الشريعة أهل الرأي والاجتهاد من التعويل على القياس فإنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي وفيه معظم النظر في مجاري الاجتهاد في أساليب الشريعة وهو المفضي إلى الإستقلال بجميع أحكام الوقائع في المسائل الاجتهادية والمضطربات النظرية.
الانتصار: يكون بإبطال ما عولوا عليه في إنكار القياس والتعويل على الظواهر. وهم قد أشاروا في إنكاره إلى أمور موهومة وتزاييف مزخرفة وإنكارهم للقياس الذي عول عليه العلماء الراسخون فيه دلالة على الفهاهة وضيق الحواصل وأنهم فيما أتوا به على غير قرار وبنوه على شفا جرف هار فانهار.
الفرع الخامس: وإذا كان المطلوب هو التحري فهل يكون الفرض هو العين أو الجهة؟
اعلم أن الكعبة شرَّفها اللّه تعالى وأعلاها عبارة عن المكان الذي استقرت عليه قواعد إبراهيم وإسماعيل فصارت الحرمة متعلقة بالأمرين جميعاً والقواعد تابعة للقرار، فلو زالت القواعد والعياذ بالله والبناء الذي عليها بقيت الحرمة للمكان فصارت الكعبة كالنقطة في مركز الدائرة فما قرب منها فهو مسامت للعين وما بعد منها فهو مسامت للجهة، فإذا عرفت هذا فاختلف العلماء القائلون بالتحري هل يكون فرض المصلي العين أو الجهة؟ على مذهبين:
المذهب الأول: أن الفرض هو الجهة، وهذا هو رأي القاسمية ومحكي عن أبي حنيفة وعن الكرخي والجصاص من أصحابه وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المشرق " ))(1).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن المراد بالخبر الجهة لا العين لأنه يستحيل أن تكون عين الجهة تحاذي ما بين المشرق والمغرب، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: قبلة العراق ما بين مشرق الشمس ومغربها، فهذا تصريح بأن الفرض هو الجهة.
الحجة الثانية: هو أنه لو كان الفرض هو العين لما صحت صلاة الصف الطويل لأن بعضهم لا محالة يخرج عن العين.
قال الإمام أبو طالب: والمراد بالتحري هو أن تطلب بالأمارات الجهة التي يغلب على الظن أنها جهة الكعبة.
__________
(1) رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، وقواه البخاري، وهو عن أبي هريرة بلفظ: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) بدون: لأهل المشرق. فتح الغفار 1/172.
قال في الجواهر: والظاهر أن قوله: لأهل المشرق زيادة في لفظ الحديث مفسدة للمعنى، أما كونها زيادة في لفظ الحديث فلما ورد آنفاً من لفظ الحديث دون زيادة.
قال الترمذي: وقد روي هذا الحديث عن غير واحدٍ من أصحاب النبي ، منهم عمر وعلي وابن عباس، وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن شمالك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة. وعلق ابن بهران على هذا بقوله: وكلام ابن عمر هذا [يصدق] في حق من كان في جهات المدينة ونحوها، وأما من كان في اليمن فإنما يجعل المشرق عن يمينه والمغرب عن شماله وذلك ظاهر. إلى أن قال: وأما كون تلك الزيادة مفسدة للمعنى، فلأنه لا يستقيم أن تكون الجهة التي ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المشرق، وإنما يستقيم أن تكون تلك الجهة قبلة لأهل الشام أو لأهل اليمن كما سبق في حديث ابن عمر ونحوه، وأما أهل المشرق والمغرب فقبلتهم التي بين الشام واليمن كما لا يخفى على أحد، فلا شك بأن تلك الزيادة سهو فسبحان من لا يجوز عليه السهو. ا ه1/203.
وحكي عن السيد أبي العباس أنه قال: يقصدون العين التي هي فرضهم إذا حضروا والجهة إذا غابوا، وكل هذا تصريح من هؤلاء بأن الفرض هو الجهة لا غير.
المذهب الثاني: أن الفرض هو العين حضر أو غاب عنها، وهذا هو رأي الإمامين زيد بن علي والناصر والمروزي وأحد قولي الشافعي، وحكى الشيخ أبو جعفر أن أبا عبدالله البصري حصَّل من مذهب أبي حنيفة أن الفرض هو العين في الحالين جميعاً.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ " }[البقرة:144] وشطر الشيء بعضه، يقال: شطر المال، وشطر الدار أي بعضها وهذا هو مرادنا بالعين.
الحجة الثانية: قياسية، وحاصلها هو أن من لزمه فرض التوجه إلى الكعبة لزمه إصابة العين كالمشاهد لها، فثبت بما ذكرناه أن الواجب بتحريه قصد عينها لا جهتها، فهذا تقرير كلام الفريقين في إعتبار العين والجهة كما ترى.
والمختار: تفصيل نشير إليه فيه كشف الغطاء عن المسألة، وحاصله أن نقول: إعتبار الجهة لايكفي بدليل أن القريب من الكعبة إذا خرج عن محاذاة الركن فإن صلاته غير صحيحة مع استقبال الجهة، ومحاذاة العين أيضاً ليست شرطاً فإن الصف الطويل في آخر المسجد إذا تزاحفوا إلى جهة الكعبة يخرج بعضهم عن محاذاة العين وصلاتهم لا شك في صحتها فكيف بالصف الطويل في أقصى المشرق والصف الطويل في أقصى المغرب؟ فلعل الأقرب بما قاله العلماء من الأئمة والفقهاء من العين والجهة، هو أن بين موقف المحاذي الذي يقول فيه الناظر المحقق: إنه على غاية السداد، وبين موقفه الذي يقول فيه: إنه قد خرج فيه عن اسم الإستقبال بالكلية، مواقف يقال فيها: إن بعضها أسد من بعض فإذا كان الكل سديداً فمن طلب الأسد عنى به العين، ومن طلب السديد عنى به الجهة. فهل يجب طلب الأسد أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما:أنه يجب لأنه ممكن.
وثانيهما:أنه غير واجب لأن حقيقة المحاذاة في المسجد ممكنة مع أنها غير واجبة، فإلى هذا ترجع حقيقة الخلاف في المسألة في العين والجهة والله أعلم بالصواب، وربما كان الخلاف راجعاً إلى عبارة من أراد الجهة فلابد له من مراعاة العين ومن أراد العين فلابد له من مراعاة الجهة، فإذا كان لابد من مراعاتهما جميعاً كان الخلاف لفظياً.
الانتصار: يكون بتصفح كلام الفريقين وانتقاد أدلتهم، وأنت إذا نظرت فيها وجدتها آيلة إلى ما ذكرناه وحققناه فلا جرم استغنت عن النظر في كل واحد منها وما يرد عليه من الاحتمال.
الفرع السادس: في بيان المعذورين من التوجه إلى القبلة، وهم في ذلك على ضروب خمسة:
الضرب الأول: الأعمى، وفرضه الرجوع إلى غيره لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ " }[النحل:43] فإن وجد من يقلده عمل على قوله من حر أو عبد أو امرأة لأن كل واحد من هؤلاء من أهل الاجتهاد فجاز له تقليده فإن اتفقوا على جهة واحدة كان له أن يقلد من شاء منهم لاستوائهم في صحة القبلة، وإن اختلفوا في الجهات استحب له أن يقلد أفقههم وأعرفهم بحدود الشرع وبالأمارات فأيهم قلده جاز، ولأنه قلد من يجوز تقليده، فإن لم يجد من يقلد صلى على حسب حاله، وهل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنها لا تلزمه الإعادة لقوله : ((لا ظهران في يوم)). وإن عرف القبلة باللمس للمحاريب المنصوبة التي نصبها العلماء وأهل الفضل أجزأه ذلك لأنها بمنزلة الخبر، وإن دخل الأعمى بالتقليد ثم أبصر في حال الصلاة بأن بان له حين أبصر أنه على جهة القبلة أتم الصلاة، وإن احتاج إلى الاجتهاد بطلت صلاته لأنه صار من أهل الاجتهاد، وإن دخل البصير باجتهاد في الصلاة ثم عمي في أثنائها مضى في صلاته لأن اجتهاده أولى من اجتهاد غيره، فإن تحول عنها بطلت صلاته لأنه لا يمكنه الرجوع إليها ويحتاج إلى أن يقلد وذلك لا يمكنه في حال الصلاة.
الضرب الثاني: الذي لا يعرف الدلائل على القبلة وإن عُرِّفَ بها لم يعرف. فمن هذه حاله فهو كالأعمى وفرضه التقليد. فإن دخل المقلد في الصلاة بالتقليد وفرغ منها ثم قال له من قلده، القبلة في غير الجهة التي صليت إليها فإن بان له ذلك باجتهاد لم تجب على المصلي الإعادة لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وإن بان له بيقين فهل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا تلزمه الإعادة لقوله : ((لا ظهران في يوم، ولا فجران في يوم، ولا عصران في يوم)).
وإن قال له آخر وهو في أثناء الصلاة: قد أاخطأتك القبلة والقبلة في جهة أخرى، فإن كان قول الثاني على اجتهاد لم يلزمه قبول قوله من جهة أن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وإن كان الثاني كاذباً عنده لم يجب عليه الرجوع إلى قوله، وإن كان الثاني أصدق من الأول عنده فعليه أن ينحرف إلى الجهة الثانية لأن الثاني أحق من الأول عنده، وإن كان الثاني عنده مثل الأول في الصدق فعليه أن يمضي في صلاته ولا ينحرف لاستوائهما في الصدق، وقد تَلَبَّس بالصلاة فلا وجه لخروجه منها، وإن قال الثاني ذلك القول على جهة الإخبار عن مشاهدة من غير اجتهاد لزمه الإنحراف إلى الجهة الثانية ولا يلزمه الإستئناف لأن دخوله فيها كان باجتهاد والخبر كان عن مشاهدة فلهذا وجب قبوله من غير تغيير لما فعله من قبل.
الضرب الثالث: الذي لا يعرف الدلائل ولكنه إذا عُرِّفَ بها عرفها. فإن كان الوقت واسعاً لزمه أن يتعرفها ولا يقال: إن هذا تقليد. كما أن العامي إذا أخبره العالم بخبر عن الرسول واستدل به لا يقال: إنه قد قلده فيما يحكم به لأنه متابع للرسول دون العالم، وإن أمكنه التعلم وأخره حتى ضاق الوقت عن التعلم والاجتهاد صلى بالتقليد، فإن لم يجد من يتعلم منه إلى أخر الوقت وضاق عن التعلم والاجتهاد جاز له التقليد. وإنما قررنا هذا التقرير لتعلم بأن ما يكفي من دلائل القبلة فرض من فروض الأعيان لا يمكنه أداء الصلاة إلا به من جهة أن استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة، لما روى أسامة عن الرسول أنه دخل الكعبة فلم يصل فيها ثم خرج منها وصلى إليها وقال: ((هذه هي القبلة " )).
الضرب الرابع: الذي يعرف الدلائل ولكن خفيت عليه لظلمة أو غيم فهل يقلد أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يقلد لأنها قد خفيت عليه الدلائل والأمارات فصار كالأعمى.
وثانيهما:أنه لا يجوز له التقليد لأنه صار من أهل الاجتهاد.
والمختار: هو الأول لأنه وإن كان من أهل الاجتهاد فقد انسد عليه الاجتهاد لعروض هذا العارض فلهذا كان معذوراً في التقليد كالأعمى.
الضرب الخامس: المُسَايِفُ(1) والمربوط على خشبة والمريض الذي لا يجد من يوجهه نحو القبلة وراكب السفينة يتحرى جهده إلى القبلة ويدور بدورانها فإن لم يمكنه لاضطرابها صلى إلى أي جهة توجهت، والخائف سواء كان الخوف من آدمي أو سبع أو حيّة والأصل في هذا قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ " }[البقرة:115]. وقوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم " )).
__________
(1) في الأصل هامش: المسيف: الذي عليه السيف، والمسايفة: المجالدة. ا ه.
ومن كان من أهل العذر يمكن زوال عذره ويرجى، فهل ينتظر آخر الوقت أو يصلي في أول الوقت؟. فمن قال: صلاته بدلية وجب عليه انتظار آخر الوقت كالمتيمم، ومن قال: صلاته أصلية جازت له الصلاة في أول الوقت وقد مضى تقريره في أوقات الصلاة وذكرنا المختار والانتصار له فأغنى عن الإعادة وبالله التوفيق.
---
الفصل الثاني
في بيان الصلوات التي تُستَقْبل لها القبلة
اعلم أن الصلوات التي يشرع فيها استقبال القبلة على نوعين: واجبة، ونافلة. فالواجبة: نحو الصلوات المكتوبة والصلاة المنذورة وصلاة الجنازة. والنافلة: نحو صلاة الكسوف والسنن الرواتب للصلاة ونحو سجود الشكر وسجود التلاوة. فما كان من الصلوات الواجبة فإنه يجب فيه مواجهة القبلة ولا تؤدى على الراحلة، وما كان نافلة فإنه يجوز تأديته على الراحلة ولا يشترط فيه مواجهة القبلة، هذا تمهيد الفصل.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الصلوات المكتوبة يجب فيها مواجهة القبلة إلا لعذر كما مر بيانه، ولا يجوز تأديتها على الراحلة لما روى زيد بن علي عن أبيه عن علي " أن رجلاً سأل الرسول فقال له: يا رسول اللّه هل تصلي على ظهر بعيرك؟ فقال: ((نعم صل حيث توجه بك بعيرك " إنما يكون إيماؤك لسجودك أخفض من إيمائك لركوعك فإذا كانت المكتوبة فالقرار))(1).
فإن كان راكباً لسفينةٍ واسعةٍ أو عمارية يمكنه أن يدور ويركع ويسجد ويستقبل القبلة ويقوم، فهل يجوز أن يصلي فيها الفريضة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: المنع من ذلك لأن البهيمة لها اختيار في نفسها ولا تكاد تثبت على حالة واحدة فيؤدي ذلك إلى تغير القبلة بخلاف السفينة فإنها لا تسير بنفسها وإنما يسيرها الملاح فهي واقفة على اختياره فافترقا.
وثانيهما: الجواز كما لو صلى على سرير يحمله أربعة.
والمختار: هو الأول وهو المنصوص للشافعي في كتاب (الأم)، فأما إذا كان راكباً في محمل ضيق أو سرج أو على قتب فلا يجوز تأدية الفريضة عليه بحال.
الفرع الثاني: صلاة الجنازة هل تجوز تأديتها على الراحلة أم لا؟ فليس يخلو حالها إما أن تكون متعينة عليه أم لا؟ فإن كانت متعينة عليه لم يجز تأديتها عليها لأنها من فروض الأعيان، وإن لم تتعين عليه فهل يجوز تأديتها على الراحلة أم لا؟ فيه وجهان:
__________
(1) تقدم.
أحدهما: أنها غير واجبة في حقه فهي كسائر النوافل.
وثانيهما: المنع لأنها وإن لم تتعين عليه فهي واجبة في نفسها، وهذا هو المختار وهو المنصوص للشافعي.
وأما صلاة النذر الواجبة فهل يجوز تأديتها على الراحلة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما:المنع لأنها واجبة فأشبهت المكتوبة.
وثانيهما: الجواز لأنه ليس لها وقت معين فاشبهت المبتدأة.
والمختار: هو الأول، من جهة أنها لاحقة بالمفروضة من الصلاة في الوجوب. وهكذا الكلام في ركعتي الطواف فيهما الوجهان الجواز والمنع.
والمختار: هو الجواز لأنهما لاحقتان فلهذا جاز تأديتهما على الراحلة.
فأما رواتب الصلوات المكتوبة وصلاة الكسوفين وسجود الشكر والتلاوة فيجوز تأديتها على الراحلة، وهكذا حال صلاة العيدين عند من قال إنها سنة؛ لأن هذه الصلوات كلها نافلة فلا جرم قضينا بجواز تأديتها على الراحلة. وإنما جاز ذلك من جهة أن النوافل يستحب الإكثار منها فلم يضيق الشرع مسلكها فلهذا خفف الأمر فيها بالأداء على الراحلة وقائماً وقاعداً لما روي عن الرسول أنه قال: ((من صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء من أعمال الدنيا غفر اللّه له " )).
الفرع الثالث: النوافل المبتدأة. يجوز أداؤها على الراحلة لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ " }[البقرة:115]. ويتوجه إلى جهة مقصده لما روي عن ابن عمر قال: نزلت هذه الآية في التطوع في السفر.
وروى ابن عمر قال: رأيت الرسول يصلي على حماره متوجهاً إلى خيبر ومن توجه إلى خيبر من المدينة فإنه يستدبر القبلة. قال الإمام القاسم: ويجوز اداء الوتر على الراحلة لأنها سنة وليست واجبة ويجوز ذلك في السفر الطويل لأن ما هذا حاله من تسهيلات السفر ورخصه فلهذا كان مختصاً بالطويل من الأسفار، وهل يجوز في القصير أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز الأداء على الراحلة في النوافل في القصير من الأسفار وهذا هو رأي أئمة العترة وهو أحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الرسول كان يصلي حيث توجهت به راحلته ولم يفصل بين طويله وقصيره.
المذهب الثاني: اختصاص ذلك بالسفر الطويل دون القصير، وهذا هو رأي مالك وأحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن هذا تغيير ظاهر لهذه الصلاة فلهذا كان مختصاً بالسفر الطويل كالقصر.
والمختار: ما قاله الأئمة لما روى جابر عن الرسول أنه كان يصلي على راحلته حيث توجهت، وعن علي % أنه كان يصلي على راحلته التطوع حيث توجهت، وعن ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته ويوتر، وقال: كان الرسول يفعله(1).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قوله: إنه تغيير هيئة في الصلاة فلا يجوز إلا في السفر الطويل كالقصر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه معارض بما ذكرناه من الأخبار فإنها لم تفصل بين الطويل والقصير والأخبار أحق بالقبول من القياس خاصة مع أن الباب باب عبادة فلا تحكم فيه إلا الأخبار المروية عن الرسول .
وأما ثانياً: فلأنه معارض بقياس مثله وتقريره: أنه مسافر فجاز له فعل النوافل على الراحلة كالسفر الطويل فضعف ما عول عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم، يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه، ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
قال ابن بهران: وفيه لهما ولغيرهما روايات أخر. ا ه1/205، وفيه عن ابن عمر أيضاً بلفظ: كان النبي يسبح على راحلته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت به، وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه، ا هفتح 1/143، والتسبيح هنا: صلاة النوافل.
الفرع الرابع: وإذا دخل الراكب بلداً وهو في الصلاة نظرت فإن كان بلد إقامته أو نوى فيه الإقامة فعليه أن ينزل ويتم صلاته إلى القبلة ولا يكون النزول مفسداً للصلاة لأنه عمل قليل عمل لإصلاح الصلاة، وإن كان مجتازاً عن البلد فإنه يتم صلاته راكباً إلى جهة مقصده ولا تأثير للعمارة والبنيان، وإن دخله لينزل ثم يرتحل فإنه يمضي في صلاته ما دام سائراً فإذا نزل صلى إلى القبلة، وإن كان له في البلد أهل ومال نظرت فإن نوى الإقامة نزل وأتم صلاته إلى القبلة وإن لم ينو الإقامة ففيه وجهان:
أحدهما: أن يلحقه حكم المقيم تغليباً لأهله وماله.
وثانيهما: أنها في حكم الصحراء لأنه مسافر فيها.
والمختار: هو الأول لأن المال والأهل تزيل عنه حكم السفر والغربة فلهذا لحقه حكم الإقامة وإن لم يكن ناوياً لها فلهذا لزمه استقبال القبلة لما ذكرناه.
الفرع الخامس: وإذا كان المسافر ماشياً فهل يجوز له ترك القبلة والتوجه إلى جهة مقصده أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك وهذا هو الذي يأتي على رأي أئمة العترة وهو قول الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه أحد حالتي السفر فجاز له التنفل في غير جهة القبلة كحالة الركوب.
المذهب الثاني: المنع من ذلك، وهذا هو قول أبي حنيفة ومحكي عن أحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: هو أن الأدلة الشرعية دالة على الرخصة في ترك القبلة لمن أراد النافلة في حال الركوب فلهذا وجب قصرها عليه دون المشي.
والمختار: جواز ذلك في حالة المشي كما جاز في حال الركوب.
والحجة على هذا: هو أن المقصود التساهل في حال النوافل واتساع مسلكها فإذا جاز ذلك في حال الركوب جاز في حال المشي من غير تفرقة بينهما بل ربما تكون الرخصة في حال المشي أدخل منها في حال الركوب.
الانتصار: قالوا: يجب قصر الرخصة حيث وردت في حالة الركوب.
قلنا: لا نسلم قصرها على الركوب وإنما وردت في حال الركوب لأن الغالب في الأسفار هو الركوب على الرواحل وليس من جهة كونه شرطاً و إنما جاز تعويلاً على مطرد العادة فلهذا سوغناه للماشي لما كان المقصود هو الترفه في حق النوافل واتساع نطاقها في حق من أرادها.
الفرع السادس: وإذا كان المتنفل حاضراً في غير سفر نظرت، فإن كان واقفاً من غير سير لم يجز له التنفل إلا مع استقبال القبلة لأنه لا عذر له في ترك الاستقبال مع الوقوف عن السير وأما إذا كان سائراً فهل يجوز له ترك الاستقبال في صلاة النفل أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما:الجواز لأن عادة الناس في الحضر هو المشي في حوائجهم أكثر النهار فلهذا جوَّز لهم ترك الإستقبال في النافلة مخافة أن ينقطعوا عن النوافل كما قلنا في حال السفر.
وثانيهما: المنع من ذلك لأن الغالب من حال الحضر اللبث والإقامة، وهذا هو المختار؛ لأنه ممكن فلا وجه لتركه مع المسير لسهولة الأمر فيه، والله أعلم.
الفرع السابع: في كيفية استقبال المتنفل للقبلة في حال صلاته. وليس يخلو الحال في إشتراط الإستقبال إما أن يكون في إبتداء الصلاة أو في حال الإشتغال بها أو الخروج منها فهذه حالات ثلاث:
الحالة الأولى: في إبتداء الصلاة وفيه وجوه أربعة:
أولها: أنه يجب الإستقبال عند التحريم لأنه لا حرج فيه ولا عسرة بخلاف الدوام فأشبه النية.
وثانيها: أنه لا يجب لأن هذه الحالة تعم جميع الصلاة فإذا لم يلزم في جميعها لم يلزم الإبتداء به.
وثالثها: أن العنان والزمام إن كان في يديه وجب الإستقبال لسهولته وتيسره، وهكذا حالها إن كانت مقطورة إلى غيرها، وإن كانت مرسلة لم يلزم؛ لأنه لا يملكها.
ورابعها: إن وجه الدابة إن كان في جهة القبلة فلا يجوز تحريفها وإن كان وجهها في غير القبلة لم يلزمه تحريفها إلى القبلة.
الحالة [الثانية]: في دوام الصلاة وحال الإشتغال بها، فلا يجب الإستقبال فيها لكن تلزمه الإستقامة على وجه الطريق لا يدل على القبلة(1) فلو كان راكباً للتعاسيف(2)
فلا يتنفل أصلاً لما كان غير مستقيم على صوب واحد(3).
الحالة الثالثة: في الخروج عن الصلاة، ولا يلزمه الإستقبال عند الخروج من الصلاة النافلة لأنه تارك للصلاة فلا يلزمه الإستقبال كما لو لم يتلبس بها.
الفرع الثامن: والمستحب لمن يصلي في الصحراء أن يجعل بين يديه سترة فلا يبالي بما مر من ورائها لما روى أبو هريرة وعائشة وابن عمر وغيرهم من جلة الصحابة رضي اللّه عنهم عن الرسول أنه قال: ((إذا صلى أحدكم ووضع بين يديه سترة " مثل مؤخرة الرَّحْل فليصل ولا يبالي مِنْ مَنْ مر وراء ذلك))(4).
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: لأنه بدل عن القبلة.
(2) قال ابن منظور: والتعسيف: السير على غير عَلَم ولا أثر، ا ه، لسان العرب ج9 ص245.
(3) في حاشية الأصل تصحيح للجملة لتكون: على صوب واحد.
(4) جاء الخبر من عدة طرق وبألفاظ مختلفة. منها: عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود)) قلت [الراوي عن أبي ذر]: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأصفر من الكلب الأحمر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله كما سألتني، فقال : ((الكلب الأسود شيطان)) أخرجه مسلم، وزاد الترمذي بعد قوله: كآخرة الرحل، ((..او كواسطة الرحل)) وجعل عوض الأصفر الأبيض، وأورد ابن بهران رواية عن ابن عباس: أن رسول الله قال: ((إذا صلى أحدكم إلى غير السترة فإنه يقطع صلاته الحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة، وتجزئ عنه إذا مروا من بين يديه على قذفة بحجر)) هذه من رواية أبي داؤد. ا ه. جواهر 1/205.
وقال هؤلاء من الصحابة: سترة الإمام سترة لمن وراءه.
ويستحب لمن يصلي إلى السترة أن يدنو منها لقوله : ((إذا صلى أحدكم إلى السترة فليدن منها " )) (1).
ويستحب أن يكون بينه وبين السترة قدر ذراع، لما روي عن الرسول أنه كان بينه وبين قبلته قدر ممر الشاة(2).
قال الشافعي: ويستحب أن يكون بينه وبين السترة قدر ثلاثة أذرع. وهذا التقدير فيه زيادة على الحد ولم يذكر المحدثون البخاري والترمذي وغيرهما إلا مقدار ممر العنز وهذا حاصل بقدر الذراع من غير زيادة. ويكره التباعد عن السترة بأكثر من قدر الذراع لما روى ابن المنذر " (3) أن مالكاً كان يصلي مبايناً للسترة فمر به رجل لا يعرفه فقال له: أيها المصلي أدن من سترتك فجعل مالك يتقدم ويقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ " وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}[النساء:113].
__________
(1) عن سهل بن أبي حثمة، يبلغ به النبي قال: ((إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته)) أخرجه أبو داؤد. ا هجواهر 1/206.
(2) لفظه: عن سهل بن سعد قال: كان بين مصلى رسول الله وبين الجدار ممر الشاة، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وفي رواية أبي داؤد: كان بين مقام النبي وبين القبلة ممر عنز، ا هالمصدر السالف.
(3) هو محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، أبو بكر: فقيه مجتهد من الحفاظ، كان شيخ الحرم بمكة.
قال الذهبي: ابن المنذر صاحب التي لم يصنف مثلها، منها: (المقصود) في الفقه، و(الأوسط في السنن والإجماع والإختلاف -خ-) و(الإشراف على مذاهب أهل العلم-خ-) الجزء الثالث منه فقه، و(اختلاف العلماء-خ-) الأول منه، و(تفسير القرآن) وغير ذلك، ولد سنة242، وتوفي سنة319هبمكة. ا.ه. (أعلام)5/294، راجع (تذكرة الحفاظ)3/4، و(الوفيات) 1/461، و(طبقات الشافعية) 2/126.
فإن كان المصلي في البنيان فالمستحب أن يدنو من الجدار، وإن كان في الصحراء فالمستحب أن يجعل سترة بين يديه، لما روي عن الرسول أنه كان إذا خرج للعيد تنصب له الحربة فيصلي إليها(1).
وهكذا كان يفعل في السفر تركز له العنزة.
ولا يستتر بامرأة ولا دابة، ويكره له ذلك لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا صلاة إلى امرأة " )) (2)
__________
(1) عن ابن عمر: أن النبي كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، وفي رواية أخرى: كان يركز الحربة قدامه يوم الفطر والنحر ثم يصلي، أخرجه البخاري ومسلم، اهالمصدر السالف، وفيه روايات أخرى بألفاظ متقاربة للبخاري وأبي داؤد والنسائي، ومنها: أنه كان يغدو إلى المصلى والعنزة بين يديه تحمل وتنصب بالمصلى بين يديه فيصلي إليها. وعن أبي جحيفة: أن رسول الله صلى بالبطحاء وبين يديه عنزة، الظهر ركعتين والعصر ركعتين، يمر بين يديه، وفي رواية: بين يدي العنزة، المرأة والحمار، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داؤد والنسائي، وفي الجواهر ما لفظه: (حاشية) قال في النهاية: العنزة: مثل نصف الرمح أو أكثر ولها سنان مثل سنان الرمح، ا هالمصدر السابق، وهي بفتحتين على العين المهملة والزاي كما في لسان العرب ج5/ ص 384.
(2) لم نجد هذا الحديث بلفظه في المصادر المتاحة، وقد أورده ابن بهران في الجواهر نقلاً عن الانتصار، وقال: ولم يرد، وأورد أحاديث تتضمن النهي عن الصلاة إلى النائم وإلى المتحدث، أو الحائض أو الجنب، ا ه، المصدر السابق ملخصاً.
ويستحب للمصلي أن يداري في صلاته مخافة أن يمر بين يديه مارٌ لما روي عن النبي أنه كان يصلي ذات يوم إلى الجدار فأراد تيس أن يمر بين يديه فجعل يداريه عن المرور وهو يزحف إلى الجدار حتى لصق بالجدار ومر التيس من ورائه(1).
الفرع التاسع: والمستحب إذا لم يجد المصلي عوداً يغرزه أن يخط بين يديه خطاً، لما روي عن الرسول أنه قال: ((فإن لم يكن معه عصا فليخط خطاً " ))(2)
قال أبو داود في سننه، وليكن الخط مثل الهلال، أراد: يكون معوجاً كهيئة المحراب.
__________
(1) أخرجه أبو داؤد عن ابن عباس بلفظ: أن رسول الله كان يصلي فذهب جدي يمر بين يديه فجعل ينفيه، وفيه عن ابن عمرو بن العاص قال: هبطنا مع رسول الله من ثنية أذاخر فحضرت الصلاة فعنى إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه فجاءت بهمة تمر بين يديه فما زال يدرأها حتى ألصق بطنه بالجدار فمرت من ورائه، أو كما قال مسدد. أخرجه أبو داؤد.
حاشية أوردها ابن بهران جاء فيها: قال في النهاية: ثنية أذاخر موضع بين مكة والمدينة وكانت مسماة بجمع الأذخر. ا ه، والبهمة: واحدة البهم، وهي صغار الضأن. ا ه1/207.
تصحيح: وردت جمع الأذخر، بالزاي في المصدر السالف، وهي بالذال المعجمة. وهي كما في لسان العرب، ثنية أذاخر موضع بين مكة والمدينة وكانت مسماة بـ: جمع الأذخر. ا.ه4/303، ولعل ورودها في الجواهر بالزاي خطأ مطبعي.
(2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد فليخط خطاً، ثم لا يضره ما مر أمامه)) أخرجه أبو داؤد، قال: الخط بالطول، وقالوا: بالعرض مثل الهلال. ا ه. المصدر السابق.
ويكره المرور بين يدي المصلي إذا كان يصلي إلى سترة من عصا أو حربة أو خط بين يديه، لما روى أبو هريرة وابن عمر وعبدالله بن عمرو وأبو سعيد الخدري عن الرسول أنه قال: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ما عليه " لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه)) (1).
وحكى أبو عيسى الترمذي " (2)
عن النضر راوي الحديث له قال: لا أدري أربعين يوماً أو شهراً أو سنةً. والقريب: أنه أراد أربعين سنة، لما روي عن الرسول أنه قال: ((لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي " )) فإن لم يجعل المصلي تلقائه شيئاً لم يكره المرور بين يديه لأنه فرَّط في نفسه بترك الستر فبطل حقه(3).
__________
(1) روي الحديث عن بسر بن سعيد-بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله في المار بين يدي المصلي؟ قال أبو جهيم: قال رسول الله : ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه)). قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة، أخرجه الستة.
قال الترمذي: وقد روي عن النبي أنه قال: ((لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي)). ا ه، المصدر السابق.
(2) محمد بن عيسى بن سورة بن الضحاك السلمي، الراوية المشهور أحد أصحاب الصحاح الست، طاف بالبلدان وصنف مؤلفات في الحديث والرجال، منها: كتاب الجامع والعلل والتواريخ، كان يضرب به المثل في الحفظ، مات بترمذ في رجب سنة 279ه، ترجماته منتشرة في مختلف كتب الطبقات والتراجم والمعاجم والأعلام.
(3) في هامش الأصل: ظاهر الحديث وإطلاقه الكراهة، وإن لم يكن هناك سترة. قال في (الهداية): ويدرأ المار إذا لم يكن بين يديه سترة أو مر بينه وبين السترة لقوله : فادرأوا ما استطعتم، اهحاشية الأصل.
الفرع العاشر: والمستحب للمصلي إذا صلى إلى سترة قدامه من جدار أو أسطوانة وغيرهما أن لا يصمد إليها صمداً كلياً بل يكسر بحاجبيه شيئاً قليلاً، لما روي عن الرسول أنه كان إذا صلى إلى السترة قدامه لم يصمد إليها صمداً ولكني رأيته يكسر بحاجبيه شيئاً قليلاً فإن مر مارٌ بين المصلي وبين السترة عمداً جاز له مخاصمته، لما روي عن الرسول أنه قال: ((فإن شاء أن يخاصمه فليخاصمه " )) وفي حديث آخر: ((فإن شاء أن يقاتله فليقاتله))(1).
وهل يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي وليس بين يديه سترة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يقطع صلاة المصلي ما يمر بين يديه كالكلب والمرأة والحمار، وهذا هو رأي أئمة العترة والفقهاء.
__________
(1) الخبر عن ابن عمر بلفظ:((إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين)) أخرجه مسلم. والقرين: الشيطان كما في حاشية البحر لا ما ذكره في (الجامع) بدليل الحديث الثاني عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان)) هكذا في رواية البخاري. وفي رواية لمسلم بزيادة: ((... وليدرأ ما استطاع فإن أبى... إلخ)). ا هجواهر 1/208 ملخصاً.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عباس رضي اللّه عنه قال: كنت رديف الفضل بن عباس " (1)
على أتان لنا فجئنا والرسول يصلي بأصحابه في منى، قال: فنزلنا عنها فوصلنا الصف ومرت بين أيديهم فلم تقطع صلاتهم(2).
المذهب الثاني: أنه يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، وهذا يحكى عن بعض الفقهاء.
قال أحمد بن حنبل: لا أشك أن الكلب الأسود يقطع الصلاة وفي نفسي من الحمار والمرأة شيء.
قال إسحاق بن راهويه: لا يقطعها إلا الكلب الأسود.
__________
(1) الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ابن عم رسول الله ، وأخو عبد الله بن العباس الصحابي حبر الأمة، كان رديف رسول الله على ناقته في حجة الوداع، قتل يوم اليرموك بالشام في عهد عمر وهو ابن 22 سنة، وعليه درع النبي ، وفي (تهذيب التهذيب)8/252: قال أبو داؤد: قتل بدمشق، وقال الواقدي: مات بطاعون عمواس سنة 18، وقال ابن سعد: كان أسن ولد العباس، وثبت يوم حنين ومات بناحية الأردن في خلافة عمر، حضر غسل رسول الله ، وإلى جانب مواقفه هذه المشهورة مع رسول الله فقد كان هو وابن عمه علي الرجلين اللذين خرج رسول الله أثناء مرضه إلى بيت عائشة متكئاً عليهما كما جاء في روايات عدة، منها ما جاء عن عائشة بلفظ: فخرج رسول الله يمشي بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر، عاصباً رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتي.
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، راوي الحديث عن عائشة: فحدثت هذا الحديث عبد الله بن العباس، فقال: هل تدري من الرجل الآخر؟ قال: قلت: لا، قال: علي بن أبي طالب. ا ه، من روايةابن إسحاق بسنده عن الزهري، سيرة النبي لابن هشام 4/298.
(2) هذه رواية الترمذي لحديث أخرجه الستة، وزاد أبو داؤد في إحدى رواياته: وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب اقتتلتا فأخذهما ففرع بينهما، وفي رواية: ففرع إحداهما من الأخرى فما بالى ذلك. ا هالمصدر السابق.
والحجة على ذلك: ما روى أبو ذر عن الرسول أنه قال: ((إذا صلى الرجل وليس بين يديه كواسطة الرحل " قطع صلاته الكلب الأسود والمرأة والحمار)) قال الراوي: فقلت لأبي ذر ما بال الأسود من الأحمر والأبيض؟ فقال: يا ابن أخي سألتني عما سألت رسول اللّه فقال: ((الكلب الأسود شيطان " ))(1).
والمختار: ما عليه علماء العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا، وهو ما روى أبو سعيد الخدري أن النبي قال: ((لا يقطع صلاة المرء شيء " وادرأوا ما استطعتم))(2).
__________
(1) تقدم.
(2) أورده في الاعتصام وفي جواهر الأخبار وغيرهما، وهو من مشاهير الأحاديث. جاء في المصدرين السابقين بزيادة: ((فإنما هو شيطان)) أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داؤد والنسائي عن أبي سعيد. ا هاعتصام 1/251. وروى الإمام زيد بسنده عن علي % قال: كانت لرسول الله عنزة يتوكأ عليها ويغرزها بين يديه إذا صلى، فصلى ذات يوم فمر بين يديه كلب ثم حمار ثم مرت امرأة. فلما انصرف قال: ((قد رأيتم الذي رأيتم ليس يقطع صلاة المسلم شيء، ولكن ادرأوا ما استطعتم)) ا ه139، أخرجه محمد بن منصور في الأمالي بسنده، عن أبي كريب عن ابن أبي زائدة عن أبيه عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي قال: لا يقطع الصلاة شيء ولكن ادرأوا ما استطعتم. أورده في الروض بألفاظ وطرق عدة منها: ((لا يقطع الصلاة شيء وادرأ عن نفسك ما استطعت)) أخرجه عبد الرزاق، قال: وأخرج البيهقي بإسناه إلى سعيد بن المسيب أن علياً وعمر قالا: لا يقطع صلاة المسلم شيء وادرأوا ما استطعتم، أخرجه (البيهقي) في باب الدليل على أن مرور الكلب وغيره بين يدي المصلي لا يفسد الصلاة. كما أورده في الروض بزيادة: ((...فإنما هو شيطان)) ا هروض 2/151.
ويكره أن يجلس رجل مستقبلاً للمصلي لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا صلاة إلى متحدث " )) فإن فعل رجلان ذلك عمداً أدبا. لما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه رأى رجلين فعلا ذلك فضربهما(1).
الانتصار: يكون بالجواب عما رووه من حديث أبي ذر وعنه جوابان:
أما أولاً: فيحتمل أن يكون منسوخاً بحديث أبي سعيد لاتفاق العلماء على ذلك من أئمة العترة وفقهاء الأمة.
وأما ثانياً: فلأنه متأول على أنه قطع الصف عن الإتصال لا أنه قطع الصلاة عن الإجزاء وهذا التأويل وإن كان فيه بعد لكنه مغتفر في جنب مخالفة الأحاديث الدالة على صحة الصلاة واتفاق العلماء عليها، فهذا ما أردنا ذكره في بيان الصلاة التي يستقبل بها القبلة.
__________
(1) وفيه عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((لا تصلوا خلف النيام ولا المتحلقين ولا المتحدثين)) وفي رواية: ((لا تصلوا خلف النائم ولا المتحرك)) أخرج الثانية أبو داؤد. والأولى ذكرها رزين، وفي الجواهر نقلاً عن المهذب، أن عمر رأى رجلاً يصلي ورجل جالس مستقبله بوجهه فضربهما بالدرة، ا ه1/207.
---
الفصل الثالث
في بيان حال المستقبل للصلاة
اعلم أن المستقبل للصلاة نحو الكعبة لا يخلو حاله إما أن يكون قادراً على معرفة القبلة باليقين جزم عليه التحري وإن عجز عن التحري بالعمى قلد غيره وإن عجز عن اليقين وجب عليه التحري فإن صلى من غير تحرٍ أو تحرى وأخطأ أو صلى إلى جهة غير متحراة أو غلب على ظنه الإصابة أو صلى من غير تحرٍ وعلم الإصابة أو كان الوقت باقياً أو فائتاً إلى غير ذلك من اختلاف أحواله في طلب القبلة فلابد من إيراد هذه المسائل واستقصاء الكلام فيها بمعونة اللّه تعالى، هذا تقرير قاعدة الفصل.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: استقبال القبلة هل هو شرط من شروط الصلاة أو يكون ركناً من أركانها؟.
حكى المسعودي من أصحاب الشافعي فيها وجهين.
فإن قلنا بكونه ركناً من أركان الصلاة افتقر إلى النية كالقيام والقراءة.
وإن قلنا بأنه شرط لم يفتقر إلى النية كالطهارة في المكان والثياب وستر العورة.
والمختار: أنه بحقيقة الشرط أشبه لأنه لا يفتقر إلى النية كما أوضحناه من قبل من جهة أن النية غير مؤثرة فيه وما لا تكون النية مؤثرة فيه فلا تشترط فيه النية فإذا دخل في الصلاة من غير تحرٍ وهو من أهل التحري فقد أخل بشرط من شروطها فإن كان الوقت باقياً وجب عليه الإعادة لأن المعاد اسم لما أدِّيَ على نوع من الخلل مع بقاء الوقت، وإن كان الوقت فائتاً وجب عليه القضاء لأن القضاء اسم لما أعيد مع فوات وقته فلهذا توجه عليه القضاء لإخلاله بشرط من شروط العبادة مع التمكن منه.
نعم، لو دخل مسجداً من المساجد فصلى فيه المكتوبة من غير تحرٍ ولا نظر في شيء من الأمارات خلى أنه نظر إلى هذه المحاريب المنصوبة في المساجد فصلى إليها فمن هذه حاله لا يقال بأنه لم يتحر لأنه قد عول عليها في صلاته وهي أقوى من تحريه لوجهين:
أما أولاً: فلأنها بمنزلة الخبر والخبر أقوى من التحري كما مر بيانه.
وأما ثانياً: فلأنه إنما نصبها أهل البصر والمعرفة والفضل من أهل الدين باجتماع فهلذا صار التعويل عليها في الإستقبال للصلاة.
الفرع الثاني: إذا تحرى المصلي جهة القبلة وصلى ثم علم أنه أخطأها وصلى إلى غيرها.
قال السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب: والاعتبار في حكم المسألة بالعلم دون الظن.
واعلم أنه لا سبيل إلى العلم بإصابة القبلة أو بالخطأ فيها إلا لمن عاينها وشاهدها فأما من لم يشاهدها بالحاسة فالغرض بالعلم بأنه أخطأ: هو أنه صلى إلى جهة لا يصلي إليها أحد من أهل التحري. وإذا كان الأمر كما قلناه فما المتوجه عليه والحال هذه، فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الإعادة واجبة عليه في الوقت ولا يجب عليه القضاء بعد فوات الوقت، وهذا هو رأي الأئمة الهادي والقاسم والناصر وهو قول مالك.
والحجة على وجوب الإعادة في الوقت وهو أحد قولي الشافعي،قوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] والشطر هو الجانب والجهة، فإذا تيقن أنه لم يتوجه إلى شطره لم تكن صلاته مجزية، وما بعد مضي الوقت مخصوص من الظاهر بدلالة خارجة.
الحجة الثانية: قياسية وتقريرها: هو أنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء فوجب أن لا يعيد بما فعله كالحاكم إذا حكم بحكم ثم وجد النص بخلافه.
فقولنا: تعين له، نحترز به عما إذا صلى صلاتين إلى جهتين باجتهادين فإنه تعين الخطأ في أحدهما ولا إعادة عليه؛ لأنه لم يتعين الخطأ في أحدهما (أي لم يتحدد في أي منهما).
وقولنا: يقضي الخطأ، نحترز به عما إذا صلى إلى جهة ثم أداه اجتهاده إلى أن القبلة في جهة أخرى فإنه قد تعين له الخطأ ولا تلزمه الإعادة لأنه لم يتيقن ذلك و إنما كان ذلك من طريق الاجتهاد.
وقولنا: فيما يأمن مثله في القضاء، نحترز به عن الأكل في الصوم ناسياً، ومن الوقوف بعرفة في اليوم الثامن أو اليوم العاشر على وجه الخطأ فإنه لا يأمن مثله في القضاء فلهذا لم تتوجه عليه الإعادة.
وإنما قلنا: إن القضاء غير متوجه عليه بعد الوقت وفواته، فالذي يدل عليه حجتان:
الحجة الأولى: ماروى جابر قال: بعث رسول اللّه سريَّة وكنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نبصر معها القبلة فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة قِبَلَ الشمال. فصلوا إليها وخطوا خطاً. وقال بعضهم: القبلة نحو الجنوب. وصلوا إليها وخطوا خطا. فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط إلى غيرجهة القبلة، فلما قفلنا من السفر سألنا رسول اللّه فسكت ولم يقل شيئا فنزل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ " }[البقرة:115]. وفي بعض الروايات أنه قال لهم: ((قد أجزأتكم صلاتكم)).
الحجة الثانية: قياسية، وتقريرها هو: أنها جهة مأمور بالصلاة إليها كما لو صلى إلى غير جهة القبلة في شدة الخوف.
المذهب الثاني: أن الإعادة متوجهة عليه مع بقاء الوقت، والقضاء بعد إنقضائه. وهذا هو رأي المؤيد بالله وله في المسائل الخلافية والمجتهدات الفقهية إذا وقع الخطا فيها أقوال مختلفة وآراء مضطربة بعضها على جهة التنصيص، وبعضها على جهة التخريج، فهذان تقريران في الضبط لأقواله.
التقرير الأول: ماكان على جهة التنصيص وجملتها أقوال ثلاثة:
فالقول الأول: ذكره في (المسائل)(1)
وحاصل ماقاله هو: أن المصلي إذا نسي شيئا مما طريقه الاجتهاد في وضوءه ثم ذكره بعد مضي الوقت وجبت عليه الإعادة فهذا تصريح بأنه تجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء بعد انقضائه.
__________
(1) جاء في حاشية الأصل: هو (الزيادات) (كتاب للمؤيد بالله).
القول الثاني: هو أن المصلي إذا نسي شيئاً أوتركه من فروض وضوءه جاهلاً بوجوبه أياماً كثيرة ثم علم بعد ذلك نُظر، فإن كان المتروك مما طريق وجوبه الاجتهاد لم تجب عليه إعادة ماصلى في هذه الحالة، وإن لم يكن من مسائل الاجتهاد وجبت عليه الإعادة على كل حال.
القول الثالث: ذكره في (الإفادة)(1)
.قال: إذا صلى بالتحري ثم علم خطأه في الوقت أعاد. ولم يذكر إذا علم بعد فوات الوقت، فهذه أقواله المنصوصة التي أشار إليها في كتبه.
التقرير الثاني: ما ذُكِرَ على وجه التخريج على أقواله المنصوصة، والمذكور له تخريجان:
التخريج الأول: أنه إذا ترك ما طريقه الاجتهاد فإنه تلزمه الإعادة في الوقت، ولا يجب القضاء عليه بعد فوات الوقت كما هو رأي الهادي والقاسم والناصر ".
التخريج الثاني: التفرقة بين الجاهل والناسي، فقال في الجاهل: لا تلزمه الإعادة بعد مضي الوقت فيما طريقه الاجتهاد. وقال في الناسي: تلزمه الإعادة في الوقت والقضاء بعد فواته، فهذه أقواله كما ترى بالنص والتخريج، ولعل الأقوى من مذهبه ماصرح به في المسائل.
والحجة عليه: أما وجوب الإعادة في الوقت فلقوله تعالى{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " }[البقرة:144] وهذا الذي أخطأ القبلة لم يولّ وجهه شطر المسجد الحرام لأجل خطأه.
وأما الحجة على وجوب القضاء بعد مضي الوقت: فلأن استقبال القبلة شرط من شروط[الصلاة] فإذا تعين له يقين الخطأ لزمه القضاء بعد فوات الوقت كما لو كان مشاهد اللقبلة.
__________
(1) الإفادة) تأليف الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني الديلمي. في فقه نفسه، وهو في مجلد جمعه تلميذه القاضي أبو القاسم ابن تال، ويسمى أيضاً (التفريعات) وسمي في بعض المصادر (الفائدة) ا ه(مؤلفات الزيدية) للسيد أحمد الحسيني 1/138 ط. أولى.
المذهب الثالث: أن الإعادة غير لازمة له في الوقت ولا يلزمه القضاء بعد فوات الوقت، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة، والحجة على ماقاله: هو أنه قد أدّى فرضه على الوجه المأمور به فلا تلزمه الإعادة ولا القضاء لخروجه بذلك عن عهدة الأمر، ولقوله : ((لا ظهران في يوم ولا عصران في يوم ولا فجران في يوم)). ومن جهة المعنى أن المعاد اسم لما فعل لخلل في المأمور به في الوقت. والقضاء اسم لما فعل لخلل في المأمور به بعد تقضي الوقت وزواله. والإعادة والقضاء إنما تجبان بدلالة منفصلة ولا دلالة تدل على ذلك، فهذا تقرير المذاهب كما ترى.
والمختار ماقاله الأئمة من وجوب الإعادة في الوقت وسقوط القضاء بعد فوات الوقت، وإنما اخترناه لما كان أعدل المذاهب وأقواها.
والحجة على [ذلك]: ماحكيناه عنهم آنفا ونزيد هاهنا: وهو أن الخلل إذا حصل فيما طريقه الاجتهاد فالأمر فيه أخف لأجل الخلاف فإذا كان الوقت باقياً فالخطاب متوجه إليه في سقوط العبادة عن ذمته فلهذا وجبت عليه الإعادة، بخلاف ما إذا كان الوقت فائتاً فإن الخطاب غير متوجه لفوات وقت العبادة، والقضاء إنما يجب بأمر جديد ولا دلالة تدل على وجوب القضاء فلاجرم كان الأمر به كما قلناه، ويؤيد ماذكرناه من التفرقة بين مضي الوقت وبقائه، في هذه المسألة مسائل أوردها الفقهاء نحن نوردها:
الأولى منها: إذا صلى ثم بان له أنه كان في ثوبه نجاسة لم يعلم بها حتى فرغ من الصلاة .
الثانية: إذا صلت الأمة مكشوفة الرأس ثم أعتقت في أثناء الصلاة وبقربها سترة ولم تعلم بالعتق والسترة حتى فرغت من صلاتها.
الثالثة: إذا ترك قراءة الفاتحة ناسياً لها، هل تلزمه الإعادة أم لا؟
الرابعة: إذا دفع الزكوة إلى من ظاهره الفقر ثم بان له أنه غني، هل يلزمه الضمان والإعادة أم لا؟
الخامسة: إذاصام الأسير شهرا بالاجتهاد ثم بان بعد رمضان أنه صام شعبان هل يجزيه أم لا؟
السادسة: إذا توضأ بسؤر الدجاجة المخلاَّة، فهل تلزمه الإعادة أم لا؟
السابعة: إذا توضأ بسؤر الطيور التي تأكل الجيف، هل تلزمه الإعادة أم لا؟
الثامنة: إذا صلى في ثوب أصابه خمر . فهل تجب عليه الإعادة في الوقت أوبعده؟
التاسعة: إذا اشتبه عليه يوم عرفة فتحرى ثم وقف قبله، إن علم بذلك يوم عرفة فعليه إعادة الوقوف، وإن علم بعد مضيه فلا إعادة عليه.
العاشرة: إذا توضأ بماء وقعت فيه نجاسة مما قد وقع في نجاسته الخلاف. فهل تلزمه الإعادة أم لا؟
فهذه المسائل وقع فيها التردد والخلاف بين العلماء الأئمة وفقهاء الأمة، في وجوب الإعادة في بقاءِ الوقت ومضيّه على حد ماذكرناه من الخلاف، وقد ذكرنا أن المختار في هذه المسائل الاجتهادية، التفرقة بين مضي الوقت وبقائه، فإن كان الوقت باقياً توجهت الإعادة، لأن الخطاب متوجه مع بقاء الوقت، وإن كان الوقت فائتاً فلا إعادة هناك. فهكذا يجري القول في هذه المسائل الخلافية.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه، والخلاف مع الإمام المؤيد بالله في أحد شقي المسألة وهو قوله: بلزوم القضاء بعد الوقت للعبادة على ما نص عليه في (المسائل) وهو المعمول عليه.
وحجته على هذا: هو أن استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة، ومن هذه حاله فقد خالفها بتحقق الخطأ في الإستقبال لجهتها فلهذا وجبت عليه الإعادة ولو فات وقتها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا قد أدَّى الفرض كما أمر، وتحقق الخطأ بعد ذلك لا يطرق خللاً في المؤدَّى، وهو معذور في الأداء على جهة القضاء بعد فوات الوقت فالخطاب عنه ساقط.
وأما ثانياً: فلأن بعد فوات الوقت تكون العبادة مقضية لا محالة لفوات وقتها، والقضاء إنما يتحقق بأمر جديد يشغل الذمة ولم تدل دلالة عليه فلهذا قضينا بسقوط القضاء بعد فوات الوقت.
والخلاف مع أبي حنيفة في أحد شقي المسألة وهو أنه أسقط عنه الإعادة مع بقاء الوقت.
وحجته على هذا: قوله : ((لا ظهران في يوم ولا عصران في يوم)). وهذا فقد أدَّى العبادة على كمالها فلا جرم قضينا بسقوط الإعادة عنه في الوقت.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا الحديث غير معمولٍ عليه لأن من صلى صلاة من ظهر أو عصر ثم انكشف له بعد ذلك بطلان وضوءه فقد أبطل صلاته الأولى ووجب عليه ظهر أو عصر فقد حصل ظهران في يوم.
وأما ثانياً: فلأن الوقت مهما كان باقياً فإن الخطاب متوجه إليه في تأدية العبادة، والخطاب بشغل الذمة في الوقت حاصل فلهذا وجبت عليه الإعادة مع بقاء وقت العبادة.
الفرع الثالث: إذا صلى إلى جهة بغير تحرٍ فلما فرغ من صلاته استيقن أنها جهة القبلة، فهل تجزيه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: الإجزاء وهذا هو رأي الأكثر من القاسمية، ومحكي عن أبي يوسف.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ " }[البقرة:144] وهذا فقد توجه إلى حيث أمر فلهذا قضينا بإجزاء صلاته.
الحجة الثانية: قياسية، وحاصلها هو: أن هذا قد صلى إلى القبلة المتيقنة فوجب أن تجزيه صلاته كما إذا تحققها قبل دخوله في صلاته، وقد قررنا ما نريد بقولنا: إنه قد تحقق القبلة في حق من ليس مشاهداً لها فلا نعيده.
المذهب الثاني: المنع من الإجزاء، وهذا هو رأي السيد المؤيد بالله والشافعي ومحمد بن الحسن.
والحجة على هذا: هو أن استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة، ومن هذه حاله فقد أخلَّ بترك التحري في أول الأمر، وعِلْمُه بصحة الإستقبال بعد ذلك لا يوجب القضاء بالصحة لأن من حق الشرط أن يكون متقدماً على مشروطه.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من أئمة العترة من القضاء بالإجزاء.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا وهو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}[البقرة:144]. وهذا فقد ولَّى وجهه جهة الكعبة فوجب القضاء بإجزاء صلاته، ولأنه قد تحقق باليقين أداء العبادة على الشرط المأمور به، ومن جهة أنه قد صار حاله فيما ذكرناه كمن صلى صلاة ظن أنها عليه ثم تحقق بعد ذلك أنها عليه.
الفرع الرابع: إذا صلى إلى غير متحراه. وصورة المسألة: أن يغلب على ظنه أن جهة القبلة نحو الشجرة ثم خالف بأن صلى إلى غير جهتها، فهل تجزيه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: الإجزاء، وهذا هو المحكي عن القاسمية، إذا تحقق كونها قبلة.
والحجة على هذا:قوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " }[البقرة:144]. ومن هذه حاله فقد ولى وجهه القبلة بيقين لجهة القبلة فوجب القضاء له بإجزاء صلاته.
المذهب الثاني: المنع من الإجزاء، وهذا هو رأي المؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو أنه إذا خالف متحراه الذي أدَّى إليه نظره واجتهاده صار كأنه دخل في الصلاة بغير تحرٍ فلهذا يصير كأنه قد أخل بشرط الصلاة في عدم التحري فوجب القضاء بكونها غير مجزية.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله.
والحجة على ذلك: ما ذكرناه عنه ونزيد هاهنا، وهو أنه بمخالفته لمتحراه قد أخل بما وجب عليه من شرط العبادة الذي وجب عليه فلهذا لم تكن مجزية له وتحققه للقبلة بعد ذلك لا يصحح إخلاله بالشرط المعتبر في العبادة.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: الآية دالة على الإجزاء وهي قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة:144] وهذا قد تحقق التولية فلهذا حكمنا بإجزائها.
قلنا: إن المراد بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة:144] أي فول وجهك الشطر الذي يغلب على ظنك أنه شطره، وهذا فبمخالفته لمتحراه لم يول وجهه الشطر الذي أمر بمواجهته فلهذا لم تكن مجزية له.
الفرع الخامس: وإذا اجتهد جماعة في القبلة فأدَّاهم اجتهادهم إلى جهة واحدة، وإمامهم واحد منهم ثم تغير اجتهاد بعضهم في الصلاة نظرت، فإن تغير اجتهاد الإمام وجب عليه أن ينحرف إلى الجهة الثانية التي اجتهدها ولا يلزم المأمومين اتباعه بل يجب عليهم أن ينووا مفارقته في الصلاة لاعتقادهم بطلان اجتهاده، وإن تغير اجتهاد المأمومين وجب عليهم أن ينووا مفارقته وينحرفوا إلى الجهة الثانية، ويبنون على صلاتهم لأنها لم تبطل لأنهم فارقوه لعذر. ومن صلى إلى جهة بغير تحرٍ فلما فرغ من صلاته كان الأغلب من حاله إصابة القبلة، لم تجزه صلاته وهذا هو قول أئمة العترة والفقهاء وهو مما لا خلاف فيه.
وا لحجة على هذا: هو أنه أخل بما هو واجب عليه من التحري فلهذا لم تكن صلاته مجزية، وغلبة ظنه على إصابة القبلة لا تكفي لإخلاله بالتحري من أول أمره.
الفرع السادس: وإذا دخل المصلي في الصلاة باجتهاد ثم شك في أثناء الصلاة هل تلك الجهة التي هو فيها جهة القبلة أم لا؟ فالواجب عليه أن يمضي في صلاته ولا ينحرف لأنه دخل في الصلاة باجتهاد والاجتهاد إنما يتغير باجتهاد آخر أو يقين، فأما الشك فلا يؤثر في بطلان الاجتهاد بحال.
وإن صلى المصلي إلى جهة باجتهاد ثم حضرت صلاة أخرى ولم يتغير اجتهاده الأول فهل يعيد الاجتهاد الأول أم لا؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي:
أحدهما: أنه لا تلزمه الإعادة بل له أن يصلي إلى الجهة الأولى من غير اجتهاد لأنه قد عرف القبلة بالاجتهاد الأول، وهذا هو رأي السيد أبي طالب.
وثانيهما: أنه يعيد الاجتهاد الأول للصلاة الثانية كما لو حكم الحاكم في قضية بحكم ثم حضرت تلك القضية بعينها مرة أخرى فإنه يعيد الاجتهاد لها.
والمختار: هو الأول لأنه قد وفىَّ الاجتهاد حقه ولم يعرض ما ينقضه فلهذا وجب البقاء عليه ويخالف الحاكم فإن القضية الثانية لا تنفك عن أدنى مخالفة فلهذا وجب على الحاكم إعادة نظره في الثانية فإن لم تكن بينهما مخالفة اكتفى بالنظر الأول من غير حاجة إلى إعادة نظر ثانٍ.
الفرع الثامن: وإن اجتهد رجلان في القبلة نظرت، فإن أداهما اجتهادهما إلى أن القبلة واحدة استحب لأحدهما أن يصلي بالآخر لأن صلاة الجماعة مندوب إليها، وإن اختلف اجتهادهما فأدَّى اجتهاد أحدهما إلى أن القبلة في غير الجهة التي أدَّى اجتهاد الآخر إليها فإن كل واحدٍ منهما يصلي إلى الجهة التي أدَّاه اجتهاده إليها ولا يأتم أحدهما بالآخر. وحكي عن أبي ثور جواز ائتمام أحدهما بالآخر مع اختلاف الاجتهاد لهما في القبلة ويصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي أدَّاه اجتهاده إلى الصلاة إليها.
والحجة على ما قلناه: هو أن كل واحد منهما يعتقد بطلان اجتهاد صاحبه فلا يجوز أن يعلق صلاته بمن يعتقد بطلان صلاته.
الفرع التاسع: إذا صلى المصلي أربع صلوات بأربعة اجتهادات في القبلة، فهل يتوجه عليه القضاء أم لا؟
فالذي عليه أئمة العترة أنه لا قضاء عليه لأن الخطأ لم يتعين في واحد منها وهو الأصح من قولي الشافعي، وحكي عن بعض أصحابه أنه يقضي الكل.
والمختار: هو الأول لأن القضاء اسم لما فات وقته مع حصول خلل فيه يمنع من إجزائه وهذا غير حاصل فيما نحن فيه فإن الاجتهادات كلها صائبة فلا وجه لإيجاب القضاء.
الفرع العاشر: وإذا دخل بلداً فوجد فيها محاريب منصوبة نظرت، فإن لم يعرف أنها مما بناها المسلمون فلا يجوز استقبالها لأنه لا حرمة لما عمله الكفار ولا يعرَّج عليه، وإن عرف أنها من بناء المسلمين وأهل الدين فإن كانت تلك البلدة من البلاد التي صلى فيها رسول اللّه وجب اتباعه لأنه لا يجوز عليه الخطأ، وإن كانت مما صلى فيها أكابر الصحابة رضي اللّه عنهم وجب اتباعهم لأن ذلك بمنزلة أخبارهم التي رووها فلهذا وجب العمل عليها، وإن كانوا لم يصلوا إليها نظرت فإن كان القوم الذين بنوها بحيث يقع العلم بخبرهم ويصير إجماعهم قاطعاً لوجود الاجتهاد جازت الصلاة إليها، وإن كان عددهم قليلاً أو كان في بلد تختلف فيها أحوال المحاريب وجب على المصلي الاجتهاد لصلاته.
والقويُّ في هذه المحاريب المنصوبة في الجوامع العظيمة والمشاهد المشهورة في الأمصار والأقاليم نحو بغداد والبصرة والكوفة وغيرها من المدن العظيمة تجوز الصلاة إليها من غير اجتهاد لأن ما هذا حاله لا يعمل إلا بنظر واجتهاد من جهة أهل الفضل والدين، ثم سكوت العلماء وأهل الفضل في دخول هذه الجوامع والمشاهد فيه دلالة على صحتها واستقامتها على الصحة والثبات ومطابقة الشرع وأنها أقوى من خبر من يخبر عن مشاهدة الكعبة، فإذا جاز التعويل على الخبر وهو أقوى من الاجتهاد من غير أمارة فهكذا ما نحن فيه من غير فرق.
الإنتصار
على علماء الأمصار
في تقرير المختار من مذاهب الأئمة
و أقاويل علماء الأمة
تأليف الأمام / يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم الحسيني
توفي عام 749 هـ
الجزء الثالث
تحقيق
عبد الوهاب بن علي المؤيد علي بن أحمد مفضل
أعده إلكترونياً
نزار بن عبد الوهاب المؤيد طارق بن محمد الصعدي
ملاحظة : هذه نسخة إلكترونية أولى ونرحب بأي ملاحظات على البريد الإلكتروني:
info@awahab.com
حقوق الطبع محفوظة لدى مؤسسة الإمام زيد (ع) الثقافية
---
الباب الرابع في بيان شروط الصلاة
اعلم أن الشروط في صحة الصلاة أربعة:
الشرط الأول: في الطهارة من النجاسات، الشرط الثاني: في الطهارة من الأحداث، الشرط الثالث:في إستقبال القبلة، الشرط الرابع: في ستر العورة. فهذه هي الشرائط المعتبرة في كون الصلاة مجزية نخرج بها عن عهدة الأمر. فأما الطهارة من الأحداث، واستقبال القبلة فقد مضى تقريرهما بما فيه مقنع وكفاية فلا حاجة إلى تكريرهما، والذي نذكره هاهنا هو الطهارة من النجاسات في الأثواب والأمكنة والأبدان، وستر العورة، فهذه فصول أربعة بالكلام عليها يتم المقصود في الباب بمعونة الله.
---
الفصل الأول طهارة الأثواب
اعلم أن الذي عليه أئمة العترة وأكثر علماء الأمة على أن الطهارة عن النجاسة في الأبدان والأثواب والبقاع شرط في صحة الصلاة، وحكي عن مالك أنه إذا صلى وعليه نجاسة أعاد في الوقت، وفي هذا دلالة على أن رأيه الاستحباب في ذلك، وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس على الثوب جنابة وأراد أنه لا يجب غسله من النجاسة كما يجب الغسل عن الجنابة، وروي أن رجلاً سأل سعيد بن جبير عمن صلى وفي ثوبه نجاسة فقال: اقرأ عليَّ الآية التي فيها غسل الثوب من النجس، وفي كلامه هذا دلالة على أنها غير واجبة، وروي عن ابن مسعود أنه نحر جزوراً فأصاب ثوبه من دمه وفرثه فصلى ولم يغسله. هذا تمهيد الفصل.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: النجاسات غير الدم والقيء كالخمر والبول والعذرة هل يعفى عن شيء منها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يعفى عن شيء منها إلا ما كان لا يدركه الطرف فإنه يعفى عنه، وهذا هو رأي أئمة العترة وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ }[المائدة:90].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله تعالى أمر باجتناب هذه الأمور وسمَّاها رجساً والرجس هو النجس ومن جملتها الخمر فيجب القضاء بنجاسته.
الحجة الثانية: ما روى عمار بن ياسر قال مرَّ بي رسول الله وأنا أغسل ثوبي من نخامة فقال: ((إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والودي والدم والقيء " ))(1).
الحجة الثالثة: قوله لعائشة في دم الحيض: ((حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء " )) فهذه الأدلة كلها دالة على وجوب إزالة النجاسة وأنه لا يعفى عن شيء منها.
المذهب الثاني:أنه إذا كان على ثوب المصلي من النجاسة غير الدم مقدار الدرهم فلا بأس به وإن غسله فأحسن، وهذا هو رأي أبي حنيفة.
__________
(1) تقدم.
والحجة على هذا: هو أنها نجاسة لا تزيد على قدر الدرهم فيجب القضاء بأنها معفو عنها، دليله موضع الإستنجاء.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وأكثر الفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا ما روي عن الرسول أنه قال: ((تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه ))(1).
الحجة الثانية: ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول مر بقبرين يعذبان فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر كان لا يستنزه من بوله))(2).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن الإنسان لا يعذب على ترك شيء إلا إذا كان واجباً وترك ذلك لا يجب لغير الصلاة فيجب أن يكون واجباً لأجل الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: نجاسة لا تزيد على قدر الدرهم فيجب العفو عنها كموضع الإستنجاء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أنه لا يجب غسل موضع الإستنجاء وقد قدمنا الدلالة عليه في باب الوضوء فلا نعيده.
وأما ثانياً: فلأنا لو سلمنا أنه لا يجب غسله فإنما كان ذلك لعموم البلوى به وتكرره فخفف الشرع حكمه بخلاف ما نحن فيه فافترقا. ومن وجه آخر: وهو أن الطهارات أمور غيبية وتعبدات شرعية لا تعقل معانيها فلا تجري فيها الأقيسة لانسداد معانيها.
الفرع الثاني: اختلف العلماء في الدم على قولين:
فالقول الأول: أن جميع الدماء طاهرة إلا دم الحيض والنفاس، وهذا شيء يحكى عن الحسن بن صالح.
والحجة على هذا: هو أنه خارج من أعماق البدن فيجب القضاء بطهارته كاللبن.
القول الثاني: أن كثير الدماء نجسة، وهذا هو رأي أئمة العترة وأكثر الفقهاء لا يختلفون في ذلك، ولا يحكى الخلاف في نجاسة الكثير إلا عن الحسن بن صالح.
والحجة على ذلك: قوله لعمار: ((إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والدم والقيء )) ولم يفصل بين قليله وكثيره.
وهل يكون قليله نجساً أو طاهراً؟ فيه مذهبان:
__________
(1) تقدم في باب الطهارة.
(2) تقدم في باب الطهارة.
المذهب الأول: أنه يكون نجساً، وهذا هو رأي الإمام زيد بن علي والباقر والناصر والصادق والمؤيدبالله وأبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الأدلة الشرعية الدالة على كون الدماء نجسة لم تفصل بين قليلها وكثيرها فلهذا قضينا بكونها نجسة، فإذا تقرر كونها نحسة كلها فهل يعفا عن قليلها أم لا؟ فيه رأيان:
فالرأي الأول: أنه لا يعفا عن قليلها، وهذا شيء حكاه المروزي عن الشافعي.
والرأي الثاني: يعفا عن قليله، وهذا هو قول من قال بكون القليل نجساً كزيد بن علي والصادق والباقر والمؤيد بالله وهو قول الفقهاء ولكن اختلفوا في مقدار القليل المعفو عنه بعد اتفاقهم على أن العفو إنما يتعلق بالقليل منه لنجاسته وعنهم فيه روايات خمس:
الرواية الأولى: عن الإمام زيد بن علي والحنفية، وهي أن القليل من الدم مقدر بالدرهم البغلي وهو أكبر ما يكون من الدراهم عندهم على ما ذكره هشام بن عبدالله الرازي(1)
فإن زاد على قدر الدرهم فهو كثير لا يعفى عنه.
الرواية الثانية: محكية عن الناصر والمؤيد بالله، وهي أن القليل من الدم مقدر بحب الخردل وهو حب أسود صغير القدر، ورؤس الإبر ومقدار اللمعة، ومرة قدره المؤيد بالله بدم البراغيث وقال: لا يجوز عندي إلا ذلك.
الرواية الثالثة: محكية عن الإمام القاسم، فإنه قال: إذا كان الدم في الصغر والقلة شبيهاً بالخردلة أو زاد قليلاً كقدر نصف الدرهم فلا حكم له في النجاسة.
__________
(1) هشام بن عبيد الله الرازي السِدي-بكسر السين المهملة- هكذا جاء في (تهذيب التهذيب) 11/43 و(لسان الميزان) 6/195 و(طبقات الحفاظ) 169 وغيرها، روى عن بسر بن سليمان ومالك والليث وحماد بن زيد وغيرهم، وروى عنه: الوليد والحسن بن عرفة وأبو حاتم الرازي، وقال: ما رأيت أعظم قدراً منه، ومن أبي مسهد بدمشق، وقال ابن حجر: ذكر الدارقطني أنه تفرد بحديث مالك....إلخ، وأورده ابن حبان في الضعفاء لمخالفته الأثبات، فبطل الاحتجاج به كما قال.
الرواية الرابعة: عن الشافعي فإنه قال: الدم مماله نفس سائلة من الحيوان غير الكلب والخنزير وما يولد منهما أو من واحد منهما فله فيه ثلاثة أقوال، فقال في (الإملاء) لا يعفى عن قليله ولا عن كثيره كالبول والعذرة. وقال في القديم: يعفى عما دون الكف ولا يعفى عن الكف فما فوقه لأن ما دون الكف قليل فلهذا عفي عنه والكف فما زاد عليه كثير فلا يعفى عنه. وقال في (الأم): يعفى عن القليل منه وهو ما يتعافاه الناس في العادة. وهذا هو الأصح على مذهبه، وقدره بعض أصحابه بمقدار اللمعة لأنه يشق الإحتراز منه ولا يشق الإحتراز عما زاد عليه.
الرواية الخامسة: محكية عن مالك قال في الدم والقيح: تصح الصلاة معهما إلا أن يكون فاحشاً، وحكي عنه في الكثير الفاحش: أنه يكون نصف نصف الثوب. وأراد الربع وإنما قال نصف نصف الثوب ولم يقل الربع مبالغة في تفاحشه، فذكر النصف وما دون ذلك يعفا عنه.
فهذه الروايات كلها على قول القائلين بالتنجيس، واستثنى القليل لأجل العفو عنه.
والحجة على ذلك: ما ذكر في خبر عمار عن الرسول أنه قال: ((إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والدم والقيء )). وهذا عام في قليله وكثيره، فلهذا حكمنا به.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أنه مائع خارج من البدن يتعلق نقض الطهارة[به] فوجب أن يستوي حكم قليله وكثيره في التنجيس كالبول والعذرة. أو نقول: ما كان كثيره نجساً فقليله مثله في النجاسة كالبول والخمر وسائر النجاسات.
المذهب الثاني: أن قليل الدم طاهر، وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن السيدين أبي طالب وأبي العباس، وقدره الهادي بما دون السفح مرة، وتارة بما دون القطرة، فإن سفح أو قطر فهو نجس.
وقال في (الأحكام): ما كان من الثياب قد أصابه شيء من الدم مما كان مثله لو كان على رأس الجرح لقطر لا تجوز فيه الصلاة، فدل ذلك من مذهبه على أن ما دون التقطير وما دون السيلان فهو طاهر.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} فعلق التحريم بالسفح، فدل خطابه على أن ما دون السفح لا يتعلق به التنجيس.
الحجة الثانية: ما روي عن علي ، قال: خرجت مع رسول الله وقد تطهر للصلاة فأمس إبهامه أنفه فرأى عليه دماً فأعاد مرة أخرى فلم ير شيئاً وجف الدم في إبهامه فأهوى به إلى الأرض فمسحه ولم يحدث وضوءاً ومضى للصلاة. فدل ذلك على أنه ليس نجساً.
الحجة الثالثة: أنه لما تعذر الإحتراز منه خفف الشرع حكمه لما فيه من الحرج والمشقة والله تعالى يقول: {ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ " }[الحج:78]. والتفرقة بين مذهبي الإمامين الهادي والمؤيد بالله هو أن ما دون القطرة أو ما دون السافح(1)
إذا وقع في مائع فإنه لا ينجسه على رأي الهادي لأنه طاهر، وعلى رأي المؤيد بالله ينجسه لأنه نجس يعفى عنه في غير المائعات فلهذا نجسها، فهذا تقرير الكلام على المذهبين جميعاً.
والمختار: تفصيل نشير إليه، وحاصله: هو أن ظواهر الأخبار كلها دالة على نجاسة [الدماء] وعلى التنزه عن ملابستها ومخالطتها وكل هذا دال على تنجيسها والبعد عن تقذيرها، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ " }[المائدة:3] ولم يفصل في التحريم بين أكلها وملابستها واستعمالها في الثياب وغيرها ولا يستثنى من ذلك إلا ما يتعذر الإحتراز منه وما يتعلق بمماسته الحرج والمشقة فإن هذا مرفوع بحكم الشرع لقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. وقوله : ((بعثت بالحنيفية السمحة )).
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه كما حكيناه عن الهادي ومن وافقه.
قالوا: قوله تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} فعلق النجاسة بالسفح فدل على أن ما عدا المسفوح يكون طاهراً بظاهر الخطاب.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) السافح من الدم: ما سال عن موضعه.
أما أولاً: فلأن ما ذكروه استدلال بدليل الخطاب ونحن لا نقول به.
وأما ثانياً: فقد دل الخطاب على أن ما فوق السفح نجس، ونحن ندلل بالخبر على أن ما دون السفح فهو نجس أيضاً، ومن وجه آخر وهو أن قوله: {مَسْفُوحاً} إنما ذكر على جهة التأكيد كما يقال: أمس الدابر. لأن الغالب من الدم هو السفح والسيلان فذكر الصفة تأكيد والغرض بالتحريم مطلق الدم.
قالوا: روي عن الرسول أنه أدخل إبهامه في أنفه فظهر عليها شيء من الدم ثم مسحها بالأرض ولم يعد وضوءاً. وفي هذا دلالة على طهارة القليل من الدم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ظاهر الخبر دال على العفو عنه وليس فيه دلالة على طهارته لكونه قليلاً فنحن أحق بالإستدلال به على ما نذهب إليه.
وأما ثانياً: فلعله لم يجد في تلك الحالة ما يغسله به وقد حضر وقت الصلاة فدعت الضرورة الشرعية إلى فعل الصلاة على تلك الحالة، ومن وجه آخر: وهو أن إسراعه إلى مسحه بالأرض فيه دلالة على نجاسته وإزالته عما كان ملاصقاً له.
قاعدة: اعلم أن البق هو الكتان بلسان أهل اليمن، والبراغيث هي القمل. وتردد العلما في دم البق والبراغيث إنما هو إذا قصعت فأما ما يخرج من أدبارها فهو طاهر لخروجه عن صفة الدم واستحالته في بطونها لكونه غذاء لها فأما عند قتلها فهو باق على صفة الدم فيقع التردد في كونه طاهراً أو نجساً عفي عنه، فالذي ذكره السيدان أبو طالب وأبو العباس: أنه طاهر، وهو محكي عن الكرخي. وعن السيد المؤيد بالله: أنه يجب إزالته عن الثوب إذا كان فاحشاً وهو محكي عن الشافعي.
والمختار: أنه معفو عنه إلا إذا كثر كثرة يندر وقوعه فيجب غسله والتنزه عنه، وربما يختلف ذلك باختلاف الأوقات والأماكن فإن الحاجة تختلف به، والاجتهاد فيه موكولٌ إلى المكلف وإلى نظره فإن رآه مجاوزاً لحد الحاجة وجب عليه غسله وإن رآه قاصراً عن حد الحاجة فليصل معه، وإن تردد احتمل أن يقال: الأصل هو العفو إلا فيما علم كثرته، أو يقال: الأصل المنع إلا فيما تحققت الحاجة إليه، وطريق الإحتياط لا يخفى والميل إلى الرخصة هاهنا هو الأليق بالفتاوى الفقهية، وطريق الحيطة أحق بالعبادات البدنية. وفيما قدمناه في ذكر الأعيان النجسة كفاية.
الفرع الثالث: قد ذكرنا أن طهارة الثوب شرط في صحة الصلاة وذكرنا الخلاف فيه، وهذا هو رأي أئمة العترة وأكثر الفقهاء(1).
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ " }[المدثر:4] والمراد: عن النجاسات لأن الثوب لا تتأتى فيه الطهارة عن الأحداث ولا يجب ذلك إلا للصلاة لأن ما عداها ليس واجباً.
الحجة الثانية: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم " ))(2)
وقوله : ((تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه " )).
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو قوله لعائشة في دم الحيض: ((حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء " )).
الانتصار: يكون بالجواب عما زعموا أنه حجة لهم.
__________
(1) أن طهارة الثوب شرط في صحة الصلاة.
(2) أورده ابن بهران بلفظه عن أبي هريرة ثم قال: هذا الحديث رواه روح بن غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه، وقال النووي: هو حديث باطل لا أصل له عند أهل الحديث، وروح متروك الحديث. وانتهى ابن بهران إلى حاشية ذكر فيها ان روح بن غطيف
-بفتح الراء المهملة وسكون الواو والحاء المهملة- وغطيف 0بضم الغين المعجمة وفتح الطاء المهملة- ا ه1/211.
قالوا: قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ " }[الأعراف:31].
ووجه الدلالة من هذه الآية: هو أن الله تعالى أمر بأخذ الزينة وهي اللباس ولا معنى لأخذها إلا للصلاة في المساجد ولم يفصل بين أن تكون طاهرة أو نجسة وفي هذا ما نريده.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فليس في الآية لفظة للعموم فيحتج بها وإذا لم يكن هناك عموم في الآية بطل الاحتجاج بها فإنه لا يمتنع أن يكون أراد الزينة التي تجزي فيها الصلاة من الأثواب الطاهرة دون النجسة.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الأدلة التي تدل على طهارة الأثواب فيجب تأويل هذه الآية على ما يوافق دلالة الأخبار حذراً من تناقض الأدلة.
قالوا: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ " }[الأعراف:32] ولم يفصل في هذا بين الطاهر من الأثواب وبين الأثواب النجسة، وفي هذا دلالة على أن الطهارة في الأثواب غير معتبرة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلم تعرض الآية لمقصود اللباس في الصلاة فيكون فيها دلالة على ما قلتموه وإنما أراد أخذ الزينة لغير الصلاة ونحن لا نمنع من جواز لبس غير الطاهر في غير الصلاة.
وأما ثانياً: فلأن ما أوردناه من الأدلة على اشتراط الطهارة في الأثواب صريحة فيما ذكرناه بخلاف هذه الآية فإنها غير دالة، فلهذا كان ما قلناه أرجح فيجب التعويل عليه. فهاتان الآيتان يحتج بهما من لم يشترط الطهارة في الأثواب في الصلاة كابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومالك، وقد أجبنا عنها فبطل تعلقهم بها، والحمد لله.
الفرع الرابع: إذا كان مع المصلي ثوب عليه نجاسة غير معفو عنها ولا يجد ما يغسله به ولا يجد سترة سواه، فهل يصلي فيه أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه يصلي عرياناً. وهذا هو رأي الإمامين الهادي والقاسم(1)
__________
(1) جاء في حاشية الأصل ما لفظه: نصاً للقاسم وتخريج أبي طالب للهادي.ا ه.
والأصح من قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن طهارة ما يصلي فيه شرط في صحة الصلاة كطهارة الماء، وأجمعنا على أنه لو لم يجد إلا ماء نجساً لم يجز استعماله للصلاة فهكذا إذا لم يجد إلا ثوباً نجساً فإنه لا تصح صلاته فيه.
المذهب الثاني: جواز الصلاة فيه. وهذا هو رأي المؤيد بالله وهو أحد قولي الشافعي، ومحكي عن محمد [بن الحسن الشيباني].
والحجة على هذا: هو أنه إذا صلى فيه استفاد ستر العورة والقيام الذي هو ركن من أركان الصلاة وكل واحد من هذين شرط في صحة الصلاة فكان أولى.
المذهب الثالث: أنه مخير بين الصلاة عرياناً وبين الصلاة فيه، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف.
والحجة على هذا: هو أنه قد تعارض محظوران في هذه المسألة: الصلاة عرياناً والصلاة في الثوب النجس وكل واحد منهما لا يجوز فعله في حال الرفاهية وإنما يجوز في حال الضرورة ولا ترجيح لأحدهما على الآخر بوجه شرعي، فلهذا كان مخيراً بين هذين الأمرين.
والمختار: ما ذكره المؤيد بالله(1).
وحجته: ما ذكرناه عنه ونزيد هاهنا: أنه إذا صلى فيه فقد أحرز ستر العورة وهي من أهم مقاصد الشرع وهي واجبة في الصلاة وفي غير الصلاة، وأحرز القيام وهو فرض من فروض الصلاة ولم يبق هناك إلا أنه صلى في الثوب النجس، وللشرع تسامح في مباشرة النجاسات وتوسع فيها ولهذا فإن الإجماع منعقد على جواز ملابسة شيء من النجاسات ولكن اختلفوا في قدره كما قررناه في الأشياء النجسة، فلهذا كانت الصلاة فيه أحق وأولى.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: أجمعنا على أنه إذا لم يجد إلا ماء نجساً فإنه لا يجوز له استعماله للصلاة فهكذا إذا لم يجد إلا ثوباً نجساً لم يجز له استعماله.
قلنا: الفرق بينهما ظاهر، فإنه إذا لم يجد إلا ماء نجساً لم يجز استعماله لأن له بدلاً وهو التيمم بخلاف الصلاة في الثوب النجس فإنه لا بدل له فافترقا.
__________
(1) من جواز الصلاة في الثوب المتنجس.
قالوا: تعارض محظوران، الصلاة عرياناً والصلاة في الثوب النجس ولا ترجيح فلهذا وجب التخيير يفعل المصلي ما شاء.
قلنا: لا ننكر التعارض، ولكن ما ذكرناه أرجح لما فيه من الوفاء بما ذكرناه من الغرضين، وهما إحراز القيام وإحراز ستر العورة، فلأنه كان أرجح من التخيير.
الفرع الخامس: وإن وجد من الماء ما يغسله نظرت فإن كان الثوب نجساً كله وجب عليه غسله وإن كانت النجاسة في بعضه نظرت، فإن عرف موضع النجاسة لزمه غسله دون غيره وإن خفي عليه موضع النجاسة من الثوب لم يجز له أن يتحرى موضع النجاسة لأن التحري إنما يكون في عينين وهذه عين واحدة، وما الذي يلزمه؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يغسل موضعاً منه فإذا غسل موضعاً منه فإنه يتحقق طهارة ما غسله وصار يشك في باقيه هل هو نجس أم لا؟ والأصل بقاؤه على الطهارة.
وثانيهما: أنه يلزمه غسل جميع الثوب كما لو نسي صلاة من خمس صلوات فإنه يلزمه أن يصلي الخمس ليسقط عنه الفرض بيقين، وهذا هو الأصح والأقوى لما فيه من التحقق واليقين في إسقاط الفرض وهو لا يسقط بغسل بعضه؛ لأنه قد تحقق حصول النجاسة فيه وهو يشك هل ارتفعت بغسل بعضه ولا شك أن الأصل بقاؤها فإن شقه نصفين وأراد أن يتحرى في أحد الشقين لم يجز له ذلك لجواز أن تكون النجاسة في وسط الشق فتكون القطعتان نجستين.
وإن صلى وعلى رأسه عمامة وطرفها على نجاسة نظرت فإن كانت النجاسة تتحرك بتحرك العمامة بطلت صلاته؛ لأنه يصير كأنه بتحريكها ملابساً لها، وإن لم تتحرك بتحركه جازت صلاته، وهذا هو المختار؛ لأنه ليس ملابساً لها، وحكي عن أصحاب الشافعي أن صلاته تبطل على كل حال سواء تحركت بحركته أم لا.
الفرع السادس: وإن كان معه ثوب بعضه طاهر وبعضه نجس، فلبسه وصلى فيه وموضع النجاسة على الأرض نظرت، فإن كان موضع النجاسة يتحرك بحركة المصلي لم تصح صلاته، وإن كان لا يتحرك بتحركه صحت صلاته على المختار(1)
لأن موضع النحاسة إذا كان يتحرك بحركته صار ملابساً له وإذا كان غير متحرك بحركته صار كالمنفصل عنه، وعن أصحاب الشافعي أن صلاته باطلة في هذه الصورة بكل حال من غير مراعاة للحركة وعدمها.
وإن كان معه ثوبان وفي أحدهما نجاسة واشتبها عليه جاز التحري وإعمال النظر للصلاة في أحدهما فأيها غلب على ظنه عمل عليه وهو قول أبي حنيفة. وفرق أبو حنيفة بين الثياب والآنية فقال في الثياب: يتحرى في الثوبين. وقال في الآنية: إن كان عدد الطاهر أكثر تحرى وإن كانا سواء أو كان عدد النجس أكثر لم يتحر، وقد مضى تقريره في باب الوضوء، وإن كان معه ثوب طاهر يتحقق طهارته لم يتحر في الثوبين المشتبهين لأنه قد تمكن من إسقاط الفرض بيقين فلا وجه للتحري.
__________
(1) في حاشية الأصل ما لفظه: هذا اختياره في العمامة والثوب إذا كان في طرفهما نجاسة، وهو كلام الأزرقي والحقيني. وكلام القاسمية مثل كلام أصحاب الشافعي:أن صلاته باطلة.اه.
الفرع السابع: اعلم أن ظاهر مذهب أصحابنا هو التفرقة في محل التحري بين الآنية والأثواب، فإذا وقع الشك في ثوبين أحدهما طاهر والآخر نجس صلى فيهما جميعاً، وهكذا لو كانت ثلاثة، إثنان طاهران وواحد نجس فإنه يصلي في اثنين، ولو كان إثنان نجسين وواحد طاهر صلى في الثلاثة من غير حاجة إلى التحري لأن إسقاط الفرض بيقين ممكن فلهذا وجب فعله بخلاف الآنية فإن وقع الشك في واحد من اثنين فإنه يعدل إلى التيمم ولا يتحرى وإن كان إثنان نجسين والثالث طاهراً فإنه لا يتحرى ويعدل إلى التيمم وإن كان إثنان طاهرين وواحد نجساً فإنه يتحرى لأن هاهنا تعارض جانب الحظر وجانب الإباحة فإن استويا غلب جانب الحظر لأجل الإحتياط وإن غلب جانب الحظر فلا تحري وإن غلب جانب الإباحة فالتحري.
قال الإمام المؤيد بالله: فإن وجد ثوبين وعلم أن أحدهما طاهر ولم يتميز له الطاهر عن النجس صلى في كل واحد منهما وكان الوجه ما ذكرناه من سقوط الفرض بيقين فلهذا وجب التفرقة بين الآنية والأثواب.
وإن حمل المصلي حيواناً نجساً كالكلب والخنزير لم تصح صلاته لأنه حامل لنجاسةٍ غير معفو عنها، وإن كان الحيوان طاهراً ولا نجاسة عليه صحت صلاته لأن الرسول حمل أمامة بنت أبي العاص وهو يصلي، ومن جهة أن النجاسة في جوف الحيوان لا حكم لها كالنجاسة التي في جوف المصلي، وإن حمل صُرَّةً من الدنانير أو من الدراهم والفلوس في كمه أو في جيبه أو في منطقته وصلى صحت صلاته لأنها أعيان طاهرة، فإن اتصل بها نجاسة وحملها بطلت صلاته، وإن حمل المصلي حيواناً طاهراً مذبوحاً وقد غسل الدم عن موضع الذبح لم تصح صلاته؛ لأن في بطنه دماً غير دم الذبح يظهر عند نحره فيكون حاملاً للنجاسة، وإن حمل المصلي قارورة فيها نجاسة وسد على فمها بالنحاس والرصاص ففيها وجهان لأصحاب الشافعي.
والمختار: فساد الصلاة لأنه حامل للنجاسة وهكذا لو شد على فمها بشمع أو طين وحملها بطلت صلاته قولاً واحداً لأصحاب الشافعي لأنه حامل للنجاسة.
الفرع الثامن: وإن شد المصلي حبلاً في كلب أو خنزير ووضعه تحت رجله وصلى صحت صلاته؛ لأنه ليس حاملاً للنجاسة ولا لما هو متصل بها، وإن كان الحبل مشدوداً في يديه أو في وسطه أو في عنقه، فيه وجهان لأصحاب الشافعي.
والمختار: بطلان الصلاة لأنه حامل للنجاسة ولا يفترق الحال بين أن يكون صغيراً أو كبيراً.
وإن شد حبلاً في سفينة فيها نجاسة نظرت فإن كان الشد في موضع نجس من السفينة وكان الحبل في يده أو وسطه بطلت صلاته، وإن كان تحت قدمه لم تبطل صلاته، وإن كان شد الحبل في موضع طاهر من السفينة لم تبطل صلاته لأنه ليس حاملاً للنجاسة.
وتجوز الصلاة في ثوب الحائض إذا لم تتصل به نجاسة لها ولغيرها، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أحيض عند رسول الله ثلاث حيض ولا أغسل ثوبي(1).
وإنما أرادت أنه لم يصبه شيء من دمها. وروي أن رسول الله قال لعائشة: ((ناوليني الخُمْرَةَ من المسجد " ، فقالت إني حائض، فقال: ليست الحيضة في يدك ولا المؤمن ينجس)) (2).
فأشار بهذا الكلام إلى أنها وإن كانت حائضاً فإن عرقها ولعابها طاهران وعلى أن الحيض إذا لم يكن متصلاً بشيء من أعضائها فهي طاهرة.
وتجوز الصلاة في الثوب الذي يجامع الرجل فيه امرأته لما روي عن أم حبيبة زوج الرسول أنها قالت: كان يصلي في الثوب الذي يجامع فيه إذا لم تصبه نجاسة(3).
وتجوز الصلاة في ثوب الصبي الصغير إذا لم تعلم فيه نجاسة لأن الرسول كان يحمل أمامة بنت أبي العاص وعليها ثيابها.
__________
(1) تقدم في الحيض.
(2) تقدم في الحيض.
(3) أخرجه أبو داؤد والنسائي بلفظ: سأل معاوية أخته أم حبيبة زوج النبي هل كان رسول الله يصلي في الثوب الذي كان يجامعها فيه؟ فقالت: نعم، ما لم ير فيه أذى. ا هجواهر 1/214.
ولا تجوز الصلاة في جلود الميتة دبغت أو لم تدبغ لأنها تنجس بالموت فلا تجوز الصلاة فيها وقد قررناه في كتاب الطهارة فأغنى عن تكريره.
الفرع التاسع: الصلاة في الثوب المغصوب والمسروق محرمة لقوله : ((لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه)) (1).
وهل تكون مجزية ومسقطة للفرض أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: المنع من الإجزاء، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله لا يختلفون فيه.
والحجة على هذا: ما روى ابن عمر عن الرسول أنه قال: ((لو أن رجلاً كان معه تسعة دراهم من حلالٍ " وضم إليها درهماً من حرام فاشترى بالعشرة ثوباً فصلى فيه لم يقبل الله فيه صلاته))(2).
فقيل له: سمعت هذا من رسول الله ؟ فقال: سمعت رسول الله يقول ذلك ثلاث مرات.
المذهب الثاني: جواز ذلك، وهذا هو قول أبي حنيفة والشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن المحذور أن يكون المصلي مطيعاً بنفس ما هو عاصٍ به والأمر هاهنا ليس كذلك فإن المصلي مطيع بالقيام والقعود والذكر والخشوع والخضوع، وعاصٍ باللباس للثوب المغصوب وهو بمعزل عن نفس الصلاة، فلما كان الأمر هكذا من حصول التغاير بين الأمرين كانت الصلاة مجزية وإن كان لابساً للثوب المغصوب لأجل ما ذكرناه من حصول التغاير.
__________
(1) أخرجه أبو داؤد في سننه عن حنيفة الرقاشي بلفظ: ((لا يحل مال امرءٍ مسلم إلا بطيبة نفس منه)). ا ه. منتخب كنز العمال 1/69.
(2) ورد بلفظ: ((من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يتقبل الله عز وجل له صلاة ما دام عليه)) ثم أدخل (ابن عمر) أصبعيه في أذنيه فقال: صُمتا إن لم يكن النبي سمعته يقوله، قال في فتح الغفار: رواه أحمد وعبد بن حميد والبيهقي وضعفه، وإسناده ضعيف. ا ه1/235. وهو في جواهر الأخبار بلفظه السالف. وقال: رواه أحمد . ا ه1/213.
المذهب الثالث: التفصيل في ذلك، وهو أنه إذا عليه ما يستره من الحلال جازت صلاته، وإن كان ليس عليه إلا الثوب المغصوب لم تصح صلاته، وهذا هو المحكي عن الشيخ أبي هاشم من المتكلمين حكاه عنه قاضي القضاه عبدالجبار بن أحمد.
والحجة على هذا هو أنه إذا كان ساتراً لجسمه بالثوب المغصوب كان عاصياً به، وإن كان قد ستر جسمه بالثوب الحلال لم يضره ذلك لأنه فضلة لا يحتاج إليه في العبادة. وهذا تقرير الخلاف والحجة لكل واحد من هذه المذاهب الثلاثة.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من عدم الإجزاء.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا وهو أن المصلي منهيٌ عن لباس الثوب المغصوب واستعماله والنهي يقتضي فساد المنهي عنه خاصة في العبادات فلهذا قضينا ببطلان صلاته.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إنَّا معاشر الفقهاء إنما جوزنا الصلاة في الثوب المغصوب لأن المغايرة حاصلة في حق المصلي فإنه صلى به بمعزل عن لباسه فلهذا جازت صلاته ولهذا يعقل كونه لابساً من غير صلاة ويعقل كونه مصلياً من غير لباس فلما حصل التغاير حصل الإجزاء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه منهي عن الصلاة في الثوب لا محالة، ولا شك في أن النهي يقتضي الفساد في العبادات سواء فرضنا هناك مغايرة أو لم نفرض.
وأما ثانياً: فلأنه إذا كان مطيعاً بالصلاة لابساً للحلال كان عاصياً لا محالة بالصلاة لابساً للثوب المغصوب فالنهي[أنه كان] لا محالة ملابساً للصلاة في حال اللبس وفي هذا حصول غرضنا فبطل ما قالوه، فأما ما يحكى عن الشيخ أبي هاشم من التفصيل الذي ذكره عنه قاضي القضاة وهو أنه إذا كان عليه ما يستره من الحلال جازت صلاته، وإن لم يكن عليه ما يستره من الحلال بطلت صلاته.
فالجواب عنه من وجهين:
أما أولاً: فلأنه منهي عن لبسه في حال الصلاة، والنهي مقتضٍ للفساد، وهذا هو مرادنا ببطلان الصلاة لأجل كونها منهياً عنها.
وأما ثانياً: فلأن النهي إنما ورد عن ملابسته واستعماله في الصلاة وهذا حاصل سواء كان الثوب وحده أو معه غيره فبطل ما قاله.
الفرع العاشر: في لبس الحرير واستعمال غيره(1)
وتتعلق به أحكام عشرة:
الحكم الأول: ويباح لبس الحرير للنساء والصلاة فيه بجميع أنواعه من الديباج والأطلس وغيرهما، لما روي عن الرسول أنه خرج يوماً وفي إحدى يديه ذهب وفي الأخرى حرير فقال: ((هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها " )) (2).
فظاهره دال على الإباحة لهن في الذهب والحرير، ولا يحرم عليهن من الذهب والفضة إلا ما كان على جهة الآلة نحو المكحلة والميل والمرآة المفضضة والمذهبة والمحك من الذهب والفضة، ويفسق الرجال والنساء باستعماله لإنعقاد الإجماع على تحريمه كسائر المحرمات الفسقية، فأما الحرير فلا يستثنى في حقهن شيء منه في اللباس والصلاة فيه وعليه والتكفين لهن به.
__________
(1) كالذهب والفضة.
(2) في (الشفاء) عن أمير المؤمنين علي قال: خرج رسول الله وفي إحدى يديه ذهب وفي الأخرى حرير فقال: ((هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها)). وهو في (أصول الأحكام)، قال في (الاعتصام): وأخرج أبو داؤد والنسائي عنه بلفظه غير أنهما لم يذكرا((..حل لإناثها)) قال: وأخرج الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله قال: ((حُرم الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثها)) وفي رواية النسائي: ((أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها)) ا ه4/409.
الحكم الثاني: ويحرم على الرجال لبس الحرير والديباح الصرف من غير ضرورة فإن لَبِسَهُ أحد من الرجال من غير ضرورة فإنه يحكم بفسقه لإنعقاد الإجماع على تحريمه كسائر المحرمات من الزنا والسرقة وشرب المسكر، ويباح القليل منه نحو علم الثوب ورأس التكة وحاشية الأثواب، وقد جرى عمل المسلمين على ذلك وتوارثوه خلفاً عن سلف من غير نكير، لقوله : ((ما رأه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " )). ولا تباح الجبة من الديباج ولا القلنسوة من الحرير الخالص لظاهر الخبر المحرم، ويباح الزر في القميص والأزرار في الجبة من الحرير لقلته.
ويباح للعذر لما روي عن الرسول أنه أباح لبس الحرير لعبدالرحمن بن عوف حين كثر عليه القمل والحكة في جسمه(1).
وهل يكون مخصوصاً به أو يقاس عليه غيره ممن كان على صفته؟ فيه تردد، والقوي: إلحاق غيره به لجامع الرخصة لأجل الاستواء.
الحكم الثالث: ويباح استعمال الذهب والحرير في الجهاد مع الإمام، وتباح حلية السيف رأسه وصدره لما روي عن الرسول أنه كانت قبيعة سيفه محلاة بالفضة، وتباح حلية السكين والرُّكُب(2)
الفضية والذهبية ونحو الأبازيم(3)
__________
(1) قال في (الاعتصام): وفيه قال محمد: روينا عن النبي وعن كثير من الصحابة وعن العلماء من آل رسول الله أنهم قالوا: إن النبي قال: ((إن الذهب والديباج والحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم)).
قال الإمام القاسم بن محمد: وهذا المعمومل عليه إلا عند الضرورات فقد أذن النبي للزبير بن العوام في لبس الحرير تحت الدرع في الحرب، وأذن لعبد الرحمن بن عوف في لبس قميص حرير أبيض على جلده لجرب كان به وقمل. ا ه4/411.
(2) الركب جمع ركاب، وهي غرز الرحل التي يضع الراكب رجليه فيها.
(3) قال في (لسان العرب): والإبزيم والإبزام: الذي في رأس المنطقة وما أشبهه وهو ذو لسان يدخل فيه الطرف الآخر، والجمع الأبازيم، ا هج14 ص 49.
الفضية وروؤس البراشم(1)
لمحلاة بالفضة والذهب وحلية اللبب(2)
والسرج(3)
المذهب والخياصة(4)
الذهبية والفضية وزيج(5)
البيضة وحلية المغفر(6)
كل ذلك في قتال الحق والحرب مع إمام المسلمين ما دامت الحرب قائمة ولم تضع أوزارها.
والحجة على جواز ذلك وإباحته: ما ورد في الأثر أن أصحاب الرسول كانوا يلبسون الديباج بين يديه لقتال المشركين، ولما يظهر في ذلك من الهيبة والرعب وإظهار القوة بالمسلمين لقلوب أهل الشرك رجالاً وفرساناً، وكانوا يتخذون الذهب والفضة في جميع مراكبهم وآلات الحرب ولم يظهر من جهته نكير في ذلك بل أقرهم(7)
عليه وهكذا جميع الخلفاء بعده، وجرت سنة المسلمين على هذا في مقاتلة أهل الشرك والبغي.
الحكم الرابع: في المخلوط من الحرير بالقطن والكتان والصوف فينظر فيه فإن كان الغالب هو الحرير حرم لبسه لأن الخلط صار مستهلكاً بالقلة واسم الحرير ينطلق عليه، وإن كان الخلط هو الغالب جاز لبسه لأن الحرير يصير مستهلكاً بكثرة غيره فلا يطلق عليه اسم الحرير، وإن كان الخلط هو النصف فهو الذي يقال له المنصف(8)
__________
(1) قال في (لسان العرب): البرشم: البرقع والبرشمة تلوين النقط. ا هج14 ص 47.
(2) اللبب بالضم جمع لبب بالفتح، وهو ما يوضع في السرج أو الرحل.
(3) رحل الفرس، أو ما يوضع على ظهر الفرس للراكب.
(4) تخويص التاج ماخوذ من خوص النخل يجعل له صفائح من الذهب. ا هلسان ج7 ص33.
(5) الزيج كما في (لسان العرب): خيط البنَّاء وهو المطمر، فارسي معرب، قال الأصمعي: لست أدري أعربي هو أم معرب. ا ه2/
(6) والمغفر والمغفرة والغفارة: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القِلَنْسَوَة، وقيل: هو رفرف البيضة، وقيل: هو حلق يتقنع به المتسلح. ا هلسان 5/26، المغفر، بكسر الميم وسكون الغين وفتح الفاء.
(7) في الأصل: بل قارهم.
(8) المُنَصَّف: بضم الميم وفتح النون وتضعيف الصاد المهملة.
فاختلف كلام الهادي في الجامعين فقال في (المنتخب): يجوز لبسه؛ لأن الحرير يصير مستهلكاً بما خلط به فيباح لبسه، وقال في (الأحكام): يحرم لبسه وهذا هو الأقوى وهو رأي الإمامين الناصر والمؤيد بالله. قال العلماء من الأئمة والفقهاء:
والحجة على ذلك: هو أن الحاظر والمبيح اجتمعا فيجب أن يكون الحكم للحاظر دون المبيح، ويؤيد ذلك قوله : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )). ومن جهة أن الخبر الوارد في تحريم الحرير لم يفصل بين الجميع وبين المنصف فإن وقع الشك في كون الخلط أقل من النصف أو النصف فالأولى الترك عملاً على التحريم لقوله : ((المؤمنون وقافون عند الشبهات " )).
الحكم الخامس: في الصلاة في الحرير وهل يكون مكروهاً أو حراماً؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها محظورة حرام، وهو رأي الشافعي لظاهر الخبر ولأن لباسه إذا كان محظوراً كانت الصلاة أولى بالحظر.
وثانيهما: أنه يكون مكروهاً، وهذا هو رأي المؤيد بالله؛ لأن الحرير إنما حرم من أجل الخيلاء، والصلاة هي موضع خضوع وذلة فلهذا جاز مع الكراهة فإن صلى جاز لأن النهي كما ذكرناه لا يختص الصلاة، فإن لم يجد العريان إلا الثوب الحرير جازت الصلاة فيه ولا يصلي عرياناً ويخالف الثوب النجس؛ لأنه أخف حكماً باتفاقٍ من القائلين بالمنع من الصلاة في الثوب النجس فإن صلى عرياناً مع تمكنه من الثوب الحرير بطلت صلاته لأنه يصير كأنه صلى عرياناً مع تمكنه من غير عذر.
وحكي عن أحمد بن حنبل: صحة صلاته عرياناً مع تمكنه من الحرير، ولا وجه له لأن معه سترة طاهرة فلا يعذر في الصلاة عرياناً.
الحكم السادس: وتكره الصلاة في الأثواب المشبعة صبغاً. واعلم أن الإصباغ على ضربين:
فالضرب الأول منهما: مكروهة، وهذا نحو المعصفر والمزعفر والمورس، المصبوغة بالعصفر والورس والزعفران، فما هذا حاله يكره لبسه للرجال وتكره فيه الصلاة للرجال أيضاً، ويباح لبسه للنساء ولصلاتهن أيضاً لما روي عن الرسول أنه رأى رجلاً عليه ثوب مصبوغ فقال: ((لو وضعت هذا في تنور أهلك لكان خيراً لك " )). فلما سمع الرجل كلامه وضعه في التنور فرآه الرسول فقال له: ((ما صنعت؟)). فقال يارسول الله الذي قلت لي، وضعته في التنور، فقال: ((لو شققته على أهلك لكان خيراً لك " ))(1). فدل ذلك على إباحته للنساء وعلى كراهته للرجال.
الضرب الثاني: ما يباح من الأصباغ، وهذا نحو النيل والبقَّم والفوَّه(2)
__________
(1) وفي فتح الغفار: عن عبد الله بن عمرو قال: رأى النبي علي ثوبين معصفرين فقال: ((أمك أمرتك بهذا))؟ قلت: أغسلهما يا رسول الله، قال: ((بل احرقهما)) رواه احمد ومسلم والنسائي. وهذا لفظ مسلم، قال: وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أقبلنا مع النبي من ثنية فالتفت إلي وعلي ريطة مضرجة بالعصفر فقال: ((ما هذه))؟ فعرفت ما كره، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم فقذفتها فيه ثم أتيته من الغد فقال: ((يا عبد الله ما فعلت بالريطة))؟ فأخبرته، فقال: ((ألا كسوتها بعض أهلك)) رواه أحمد، وكذلك رواه أبو داؤد وابن ماجة وزاد: ((..فإنه لا بأس بذلك للنساء)) قال: والحديث ليس في اسناده إلا عمرو بن شعيب، وقد حسن حديثه جماعة من الأئمة. ا ه1/138، وقد جاء الخبر بلفظه في الجواهر.
(2) البُقَّم: شجر يصبغ به، دخيل معرب. قال الأعشى:
بكأس وإبريق كان شرابها
إذا صب في المسحات خالط بَقَّما
ا هلسان 14/52، وهو مضبوط بفتح الباء الموحدة وتضعيف القاف مفتوحة.
والفوَّة: عروق نبات تستخرج من الأرض يصبغ بها، وفي التهذيب: يصبغ بها الثياب. ا هلسان 15/166، وهي مضبوطة بضم الفاء وتضعيف الواو مفتوحة.
وغير ذلك من الأصباغ التي لا زينة فيها بخلاف الأصباغ التي ظاهرها الزينة كالذي ذكرناه فإنه لايتعاطا لبسها إلا الأرذال والذين لا ورع لهم ولا تمسك بالديانة والصلاح، فلهذا كانت مكروهة، وتكره الصلاة واللبس في الثوب الذي فيه صور الحيوان لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان لي ثوب فيه صورة وكنت أبسطه لرسول الله فقال لي: ((أخريه عني " ))(1).
فجعلت منه وسادتين.
الحكم السابع: وتستحب الصلاة في النعال إذا كانت طاهرة ولم يصبها قذر لما روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا في نعالكم وخالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم " ))(2).
فإن كان فيها قذر نزعها وحلها لما روى أبو سعيد الخدري قال: بينا رسول الله يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما على يساره فلما رآه القوم خلعوا نعالهم فلما قضى رسول الله صلاته قال لهم: ((ما حملكم على إلقاء نعالكم " ؟)). فقالوا: رأيناك خلعت نعليك فألقينا نعالنا فقال: ((إن جبريل أتاني فقال إن فيهما قذراً))(3). ويستحب افتقاد النعال عند دخول المسجد لما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى " فليمسحه وليصل فيهما))(4).
وهذه حجة لأبي حنيفة حيث قال: بأن المسح كافٍ في إزالة النجاسة عن الكف من غير غسل.
__________
(1) وفي رواية لأبي داؤد عن عائشة بلفظ: أنها نصبت ستراً وفيه تصاوير فدخل رسول الله فنزعه، قالت: فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما، قال في فتح الغفار: متفق عليه، وفي لفظ لأحمد: فقطعته مرفقتين فلقد رأيته متكئاً على إحداهما وفيها تصاوير. ا ه1/140.
(2) عن شداد بن أوس أن رسول الله قال: ((خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا نعالهم)). أخرجه أبو داؤد. ا هجواهر 1/214.
(3) أخرجه أبو داؤد وزاد: ((إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً فليمسحه وليصل فيهما)) وفي رواية: ((خبثاً)) في الموضعين. ا ه. المصدر السالف.
(4) سبق آنفاً.
نعم، إنما تستحب الصلاة في النعال إذا كان الذابح لها(1)
من جملة المسلمين فأما إذا كان الذابح لها من الكفار أهل الشرك وعبدة الأصنام والأوثان والنجوم والمرتدين فلا تجوز الصلاة فيها، فأما ذبائح أهل الكتابين فمخالفة لغيرهم من الكفار، وسيأتي تقرير ذلك في الذبائح بمعونة الله تعالى.
وتجوز الصلاة في الثوب الواحد والقميص الواحد، لما روي عن الرسول أنه سئل عن الصلاة في الثوب الواحد فقال: ((أوكلكم يملك ثوبين " ؟)) فإن صلى في القميص وكان فتحه ضيقاً جازت الصلاة وإن كان واسعاً فليزره بزرار فإن لم يكن رزار فليزره بشوكة، وإن صلى في الثوب الواحد فليعقد طرفيه في قفاه لما روي عن الرسول أنه صلى بالناس في مرضه الذي قبض فيه في شملة خيبرية عاقداً لطرفيها في قفاه(2)
فإن كان القميص رقيقاً يصف البدن أو كان مهلهل النسيج كرهت الصلاة فيه لرقته وهلهلة نسجه فيرى كأنه عريانٌ.
الحكم الثامن: قال الهادي في (الأحكام): وتكره الصلاة في الفراء إذا لم يكن معه غيره. قال السيد أبو طالب: وأصحابنا يختلفون في نقل هذه اللفظة ولها تأويلان:
التأويل الأول: أنها الفراء بالفاء والراء وهو جمع فروة يقال: فروة وفراء كقرية وقراء(3).
وهو شيء يتخذ من الجلود المدبوغة يستعمله أهل اليمن مفتوح من قدام، وإنما كرهت الصلاة [فيه] لأنه إذا كان وحده تجافى عن بدن المصلي ولم يقع عليه فيكون إذا ارتفع عن بدنه كالعريان.
__________
(1) يقصد الذابح لذات الجلد الذي صُنِع منه النعل.
(2) وفي الاعتصام: وأخرج فيه الترمذي عن أنس بن مالك أن النبي خرج وهو متكئ على أسامة بن زيد وعليه ثوب قِطْري قد توشح به فصلى بهم، وقطري-بكسر القاف فسكون الطاء-: ضرب من البرد وفيه حمرة واعلام مع خشونة. ا ه4/405.
(3) لا يبدو هناك تطابق بين المادتين في الإشتقاق.
التأويل الثاني: أنه القزُّ بالقاف والزاي، وهو الأبريسم من الحرير، فإنها تكره فيه الصلاة كما أوضحناه من قبل ومعناه إذا لم يكن معه غيره من الثياب المباحة فإنه أدخل في الكراهة أو نعني إذا لم يكن معه غيره منسوجاً فيه مخلوطاً معه والأول هو المعتمد عليه.
فالتأويل الأول: محكي عن السيد أبي طالب، والتأويل الثاني: محكي عن السيد المؤيد بالله، وكلاهما جيد لا غبار عليه خلا أن الأول أجرى على أصول الهادي ومسائله.
الحكم التاسع: والخزُّ حيوان يستعمل جلده ووبره، فأما وبره فيجوز لبسه في الصلاة وفي غيرها لما روي عن الرسول أنه كان يعتم بعمامة سوداء من خز وكان يقال لها (السحاب) أعطاها علياً وكان يعتم بها ويقال: طلع علينا أمير المؤمنين وعلى رأسه (السحاب)(1)،
وروي أن الحسين بن علي رضي الله عنه استشهد وعليه جبة من خزٍّ، وروي أن الحسن البصري رأى علي بن الحسين وعليه جبة من خزٍّ. رؤية متعجب من لباسه لها فقال له علي بن الحسين: مهٍ يا أبا سعيد قلب كقلب عيسى ولباس كلباس كسرى. وعن الناصر: أنه كان يلبس الخز ويقول: لا بأس بلباسه، وأما جلده فقال الهادي في (الأحكام): وأكره الصلاة في الخز لأني لا أدري ما هو ولا ما ذكاة دوابه ولا ما أمانة عماله، وقد أشار في هذا الكلام إلى مداخل الشك وجملتها ثلاثة:
المدخل الأول: قوله: لا أدري ما هو. فما هذا حاله يحتمل وجهين:
__________
(1) قال في (الجواهر): وفي كتاب الإحياء ما لفظه: وكانت له عمامة تسمى السحاب فوهبها من علي فربما طلع فيها فيقول : ((أتاكم علي في السحاب)) وفي النهاية ما ملخصه: أنها سُميت بالسحاب تشبيهاً بسحاب المطر لانسحابه في الهواء. ا ه1/215، ولعل الصواب: تعليل تشبيهها بالسحاب بجامع اللون الأسود، وكما أكد هذا رواة بزيادة صفة (عمامة سوداء من خز) كما أورده المؤلف.
أحدهما: أن يريد: هل هو مما يؤكل أو مما لا يؤكل؟ وهل الأصل التحريم بالعقل إلا ما دل الشرع على تحليله أو الأصل هو التحليل بالشرع لعموماته إلا ما دل الشرع على تحريمه؟
وثانيهما: أن يريد: هل هو من حيوان البر فلابد له من ذكاة أو من حيوان البحر فتكون ذكاته صيده، فقوله يحتمل ما ذكرناه.
المدخل الثاني: قوله: ولا ما ذكاة دوابه. وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يريد: هل ذكي أو لم يذكَّ.
وثانيهما: أن يريد: هل ذكاته النحر أو الذبح على قانون الشرع في الذبح والنحر لأنهما إذا لم يكونا على ما شرطه الشرع لم يحل المذبوح وكان ميتة.
المدخل الثالث: قوله: ولا ما أمانة عماله. فهو محتمل لوجهين:
أحدهما: هل هم كفار أو مسلمون؟ فإذا كانوا كفاراً لم تحل ذبائحهم.
وثانيهما: أنهم وإن كانوا مسلمين فلا يُدْرَى بحال عدالتهم فلا يؤمن أن يخلطوا فيه الميت والمذكى؛ لأن ما هذا حاله إنما يحجزه الورع والعدالة فإذا لم يكن هناك عدالة لم يؤمن ما ذكرناه، فهذه مداخل الشكوك التي أوجبت الكراهة.
دقيقة: اعلم أن السيد أبا طالب ذكر في شرحه: أن من أصحابنا من ذكر وجهاً ثالثاً في الاحتمال: وهو أنه يجوز أن يكون قد ذهب إلى أنه وإن كان مما لا يؤكل لحمه فإنه يصير طاهراً بالذبح ولكن لم يعلم حال الذابح فيجيء على هذا أن السباع التي هي طاهرة في حال الحياة إذا ذبحت فإنه يجوز الإنتفاع بجلودها والصلاة فيها، إلا أن الظاهر من المذهب: أن كل ما حرم الله أكل لحمه فلا يجوز لبس جلوده فهذا التخريج يضعف، فإذا عرفت هذا فاعلم أن هذا الاحتمال في التخريج من كلام الهادي جيد لا غبار عليه لأمرين:
أما أولاً: فلقوله تعالى عقيب ذكر المحرمات: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}. فظاهر الآية التحليل لكل ما ذكيتم لعمومه ولم يفصل بين أن يكون مما يحل أكل لحمه أو مما لا يحل.
وأما ثانياً: فلأن فائدة التذكية الشرعية، هو طهارة الجلد ويبقى حال الأكل موقوفاً على الدلالة الشرعية، فإن دلت على حل أكله أكل، وإن لم تدل على حل أكله انتفع بجلده وكان طاهراً، فهذا الاحتمال لا مانع منه. ولا أدري من يعني بقوله: بعض أصحابنا، أخاه السيد المؤيد بالله أو غيره من أهل التخريج لمذهب الهادي؟ فحصل من مجموع ما ذكرناه طهارة شعر الخز ووبره ذكي أو لم يذك.
وعن الشعبي أنه قال: رأيت الحسن بن علي يلبس الخز، وعن جماعة رضي الله عنهم من الصحابة سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك وأبي هريرة، أنهم كان يلبسون الخز وأن جلده يطهر بالذكاة الشرعية سواء حل أكل لحمه أو لم يحل على ما قررناه.
الحكم العاشر: اعلم أن لبس الحرير الصرف مع العلم بتحريمه في حال الرفاهية من غير عذر، معصية لله تعالى ومخالفة لما عليه المسلمون، وتحصل منه ثمرتان:
الثمرة الأولى: إجماعية، وهي فسق اللابس لأن الإجماع منعقد على فسق من لبسه من غير عذر.
الثمرة الثانية: خلافية، وهي نقض الوضوء بلبسه فإنا قد قدمنا أن الكبائر الفسقية والكفرية هل تكون ناقضة للوضوء أم لا؟ وذكرنا الخلاف والمختار والانتصار فأغنى عن تكريره، فأما لبسه في حال الصلاة فلا سبيل إلى الفسق بالمسائل الخلافية، وهل يكون محرماً أو مكروهاً؟ فيه روايتان:
الرواية الأولى: التحريم، وهي رواية (المنتخب) تقتضي بطلان الصلاة، وهو محكي عن الناصر واختيار السيد أبي طالب.
والحجة على ذلك: هو أنه منهي عن لبسه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وهو إذا كان مصلياً فيه فهو لابسٌ له، فوجب أن يكون النهي متناولاً له في حال الصلاة كحاله في اللباس.
الرواية الثانية: رواية (الأحكام)، وهي الكراهة، وهذا هو رأي المؤيد بالله وهو رأي أكثر الفقهاء.
والحجة على ذلك: هو أنه ثوب طاهر غير مغصوب فصحت الصلاة فيه كما لو كان الغالب هو القطن، أو نقول: ولأنه ثوب تصح صلاة المرأة فيه فجازت صلاة الرجل فيه.
والمختار: جواز الصلاة فيه؛ لأن النهي إنما تعلق به لما يختص به من الخيلاء، والصلاة تنافي الخيلاء لما فيها من الخضوع والذلة للمعبود.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: النهي يقتضي الفساد.
قلنا: النهي ليس مختصاً بالصلاة لعينها وإنما كان لما ذكرناه من الخيلاء فلهذا جازت الصلاة فيه، فهذا ما أردنا ذكره في الأحكام المختصة بلبس الحرير وما يتعلق به، ونرجع إلى الفصول والله الموفق للصواب
---
الفصل الثاني في بيان الأمكنة التي يصلى عليها
طهارة الموضع الذي يصلى عليه شرط في صحة الصلاة.
قال الإمامان القاسم والناصر: وعلى كل مصلٍ فريضةً أو نافلة ألا يصلي [في أي] من البقاع إلا في بقعة نقية. وحكي عن الهادي مثل ذلك، وهو رأي سائر أئمة العترة، ومحكي عن الفريقين الشافعية والحنفية. فأما أبو حنيفة فقد قال: إذا كان موضع قدمي المصلي طاهراً صحت صلاته، وإن كان موضع ركبتيه نجساً. وفي موضع الجبهة روايتان.
وحكي عن مالك: أن من صلى في موضع نجس استحسن له أن يقضي، وفي هذا دلالة على جواز الصلاة عليه.
والحجة على ما قاله القاسم: وهو قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[البقرة:145].
ووجه الدلالة من هذه الآية: هو أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت لكل طائف وعاكف، وشرع من قبلنا لازم لنا ما لم ينسخ عنا، هذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة.
والمختار: أن كتابنا ناسخ لما قبله من الكتب السالفة وأن شريعتنا ناسخة لما تقدمها من الشرائع.
والحجة على ما قلناه: هو أن الإجماع على ما ذكرناه من نسخ كتابنا لكل كتاب وشريعتنا لكل شريعة، وإذا كان الأمر هكذا فكيف يصح الاحتجاج بالمنسوخ وقد رفع حكمه.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه رأى كراسة من التوراة في يد عمر ينظر فيها فاغتاظ واحمر وجهه وقال: ((والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " )) . وفي هذا دلالة على أن الكتب المتقدمة لا يلتفت إليها في تقرير حكم من أحكام الشريعة بل ما أثر عن الرسول ونطق به كتابنا فهو كاف عن طلب حكم الحادثة من غيرهما من الكتب السابقة.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: المواطن التي نهي عن الصلاة فيها سبعة، لما روى عمر رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((سبعة مواطن لا تجوز الصلاة فيها: المزبلة والمجزرة والمقبرة ومعاطن الإبل والحمام وقارعة الطريق وفوق بيت الله العتيق))(1) .
وإنما منع من الصلاة في المجزرة والمزبلة لنجاستهما فدل ذلك على أن كل بقعة فيها نجاسة فلا تجوز الصلاة فيها، وإنما منع من الصلاة في قارعة الطريق والكعبة لمعان أخر غير النجاسة وسيأتي تقريرُهُ بمعونة اللّه.
ومن صلى على الأرض أو على بساط وكان بحذائه(2)
على الأرض أو على البساط نجاسة ولم تصبها ثيابه ولا بدنه فهل تصح صلاته أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: جواز الصلاة وهو الأصح من مذهب الشافعي؛ لأنه غير مباشر للنجاسة ولا حاملٍ لها ولما هو متصل بها فوجب القضاء بجوازها، وإن صلى على موضع طاهر من البساط وفي موضع منه نجاسة لا تحاذيه صحت صلاته، وحكي عن أبي حنيفة: أنه إن كان البساط لا يتحرك بتحركه صحت صلاته وإن كان يتحرك بتحركه بطلت صلاته.
__________
(1) هذه رواية ابن عمر وليس عمر، وهذا أثبته تصحيحاً ابن بهران عن رواية الحديث في الجامع، وفيه أحاديث أخرى تضمنت المواطن المنهي عن الصلاة فيها متفرقة، ومنها: عن أبي سعيد: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) رواه الخمسة إلا النسائي.
قال في فتح الغفار: وقد اختلف في وصله وارساله، وأخرجه الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه ابن حزم، وأشار ابن دقيق العيد في الإمام إلى صحته، وقال في الخلاصة: قال الترمذي: روي مرسلاً، وكأنه أصح، قلت: صححه مرفوعاً ابن حبان والحاكم من طرق على شرط الشيخين. ا ه1/161.
(2) أي بمحاذاته.
والحجة على ما قلناه: هو أنه غير حامل ولا مباشر للنجاسة ولا لما هو متصل بها فصار كما لو صلى على أرض طاهرة وفي طرف منها نجاسة، وإن أصابت الأرض نجاسة فإن عرف موقعها تجنبها وصلى في موضع آخر غير ذاك، وإن فرش فوقها بساطاً طاهراً وصلى عليها صحت صلاته. وحكي عن أبي حنيفة: أن البساط إن كان يتحرك بتحركه لم تصح صلاته.
والمختار: ما قلناه وقد مضى الدليل عليه فلا وجه لتكريره.
وإن خفي عليه موضع النجاسة وجب عليه أن يتباعد إلى موضع يتحقق أن النجاسة لا تبلغ إليه، وإن كانت النجاسة تحت قدميه بطلت صلاته عندنا، وهو قول أبي حنيفة لكونه مباشراً للنجاسة، وإن كانت النجاسة في موضع ركبتيه أو موضع سجوده بطلت صلاته عندنا، وحكي عن أبي حنيفة: أنه إذا كان موضع قدميه طاهراً صحت صلاته ولو وقعت ركبتاه على النجاسة، وفي جبهته روايتان.
والحجة على ما قلنا: هو أنه موضع يلاقيه بدن المصلي فلم تصح صلاته كما لو كانت النجاسة تحت قدميه.
الفرع الثاني: والمصلي إذا كان مربوطاً إلى خشبة أو كان محبوساً في حشٍ، والحش: موضع إلقاء العذرة بالحاء المهملة والشين بثلاث من أعلاها، أو كان في موضع نجس وهو متوضىء، فإذا كان على هذه الحالة فهل تلزم الصلاة ويؤديها على حالته هذه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يؤديها على حالته هذه، وهذا هو رأي أئمة العترة وأكثر علماء الأمة.
والحجة على هذا: قوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم )) .
الحجة الثانية: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء:103]. والمعنى أنها موقتة بأوقاتها فيجب تأديتها على حد حالته ولا يجوز إسقاطها من غير عذر في سقوطها.
المذهب الثاني: أن الصلاة ساقطة عنه في هذه الحالة، وهذا هو الذي حكاه الطحاوي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أنه مأمور بالصلاة في الأثواب الطاهرة والأمكنة الطاهرة فإذا لم يتمكن من ذلك سقط عنه وجوب الصلاة كما لو كان زائل العقل أو أغمي عليه لأن [المكان] الطاهر شرط في الصحة كما أن العقل شرط في التكليف بها.
والمختار: ما قاله الأئمة والعلماء.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ }[النساء:103]. ومع هذه فهو متمكن من أداء الصلاة ولم يتأخر عنه إلا بنجاسة الموضع، وهو معذور فيه، فلهذا توجه عليه أداء الصلاة، ولعل هذه الرواية محمولة على أنه لا يلزمه السجود على القذر ولا التلوث بالنجاسة وإنما يلزمه الإيماء كما سنوضح ما يتوجه عليه، فأما سقوط الصلاة عنه بالكلية فقدره(1)
أعلى من إنكار ما هذا حاله لكونه مخالفاً للإجماع المنعقد على وجوب تأدية الصلاة على هذه الحالة، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه هو أن من لزمه فرض الوقت فإنه يلزمه الإتيان به على حسب حاله كالمريض فإنه يصلي على قدر ما يمكنه من غير سقوط الفرض عنه فهكذا هاهنا.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكره.
قال: إنه مأمور بتأدية الصلاة في أمكنة طاهرة وأثواب طاهرة فإذا لم يتمكن منها سقط عنه فرضها كما لو زال عقله.
قلنا: إن العقل ملاك التكليف وهو شرط في جميع التكاليف العقلية والشرعية وهذا فإنه كامل العقل [ولم يتعذر عليه من شروطها](2)
__________
(1) يقصد أبا حنيفة.
(2) في الأصل: (ولم يسقط عنه إلا الأمكنة الطاهرة) وتم استبدالها بعبارة: (ولم يتعذر عليه من شروطها إلا الأمكنة الطاهرة) لأن الأولى غير واضحة.
إلا الأمكنة الطاهرة فلا تسقط عنه الصلاة كما لو لم يتمكن من القيام لزمه القعود وكما لو لم يتمكن من ستر العورة صلى عرياناً. فإذا تقرر لزومها له فإنه يحرم للصلام ويأتي بالقيام إن قدر عليه، والقراءة والركوع فإذا أراد أن يسجد فإنه يدني رأسه من الأرض إلى القدر الذي لو زاد عليه لاقى النجاسة ولا يضع جبهته وأنفه ولا يديه ولا ركبتيه على موضع النجاسة. ولا يفترق الحال في الإمتناع عن ملاقاة النجاسة بين أن تكون رطبة أو يابسة لأنه إذا سجد على النجاسة حصلت على جبهته وكفيه وأنفه فلهذا كانت مباشرته للنجاسة بقدميه أهون من مباشرته لها بجبهته وأنفه وكفيه، ومهما أمكن تقليل المخالطة للنجاسة فهو أولى، فإذا صلى على هذه الحالة ثم قدر فهل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها لا تلزمه الإعادة لأنه صلى على حسب حاله فهو كالمريض.
وثانيهما: أنها تلزمه الإعادة لأن ما هذا حاله فهو عذر نادر فلا يسقط عنه الفرض.
والمختار: هو الأول لقوله : ((لا ظهران في يوم)) . ولكن تستحب له الإعادة لأنه قد تمكن من أدائها على الوجه الذي كلف [به] من غير مانع، فأما الشافعي فقد أوجب عليه الإعادة وهو الأصح من قوليه واختلف قوله في المعاد فقال في (الأم): الفرض هو الثانية لأنا إنما أمرناه بالأولى ففعلها لحرمة الوقت. وقال في القديم: الفرض هو الأولى لأنها هي التي أسقطت الفرض. وقال في (الإملاء): الجميع فرض عليه لأنه يجب عليه فعل الجميع وهو اختيار إبن الصباغ في كتابه (الشامل) . فإن صلى الأولى من غير طهارة لا بالتراب ولا بالماء فالفرض هو الثانية لندور العذر وقلته.
الفرع الثالث: والمصلي إذا فرغ من صلاته فرأى على بدنه أو ثوبه أو البقعة التي صلى عليها نجاسة غير معفو عنها نظرت، فإن كان قد علم قبل الصلاة لكنه نسيها فهل تصح صلاته أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أن صلاته صحيحة لقوله : ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " ))(1) .
__________
(1) تقدم.
وإن لم يعلم نظرت، فإن جوز وغلب على ظنه أنها وقعت بعد الصلاة لم تلزمه الإعادة لأن الأصل عدم مصاحبته لها في الصلاة خلا أن المستحب أن يعيدها لجواز أن تكون مصاحبة له في حال صلاته. وإن كانت مما لا يجوز حدوثه بعد الصلاة فهل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه تردد.
والمختار فيه تفصيل: وهو أن هذه النجاسة إن كانت مما وقع فيه الخلاف والاجتهاد وجبت عليه الإعادة في الوقت ولا يلزمه القضاء بعد فوات الوقت، وإن كانت النجاسة مما وقع الإجماع عليها وجبت عليه الإعادة في الوقت، والقضاء بعد فوات الوقت كما قررناه من قبل. فهذا أصل يجب اطراده في مسائل الخلاف ومسائل الإجماع يجب أن يكون الحكم فيها ما ذكرناه وهو أعدل المذاهب وأولاها.
الفرع الرابع: قال الإمامان القاسم والهادي: وتكره الصلاة في المقابر لكرامة أهلها إن كانوا مؤمنين وإيثاراً لتجنب قذرهم إن كانوا فاسقين.
واعلم أن المقابر لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: المقبرة التي قد تحقق أنها قد نبشت وجعل أسفلها أعلاها، فهذه لا تصح الصلاة فوقها لما روى أبو سعيد الخدري عن الرسول أنه قال: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " ))(1) .
ولأنه قد اختلط بها صديد الموتى وبقيت(2)
فيها عظامهم ولحومهم فصارت نجسة.
الحالة الثانية: المقبرة التي لم يتحقق أنها نبشت، فهذه تكره الصلاة بينها وعليها لنهي عن الصلاة في المقبرة ولم يفصل بين حالة وحالة، فإن صلى صحت الصلاة مع الكراهة، وحكي عن أحمد بن حنبل: بطلان الصلاة. وإنما صحت الصلاة لأن النجاسة مندفنة فيها فصار(3)
كبساط على نجاسة. وحكي عن داود: بطلان الصلاة.
__________
(1) تقدم آنفاً.
(2) لعل الكلمة في الأصل: (وتفتتت) لكنها غير معجمة وبدون تاء ثالثة.
(3) موضع المصلي فيها.
والحجة على صحتها: ما روى أبو ذر عن الرسول قال: سألت النبي عن أول مسجد وضع على الأرض " ؟ فقال: ((المسجد الحرام)) . قلت: ثم أيُّ؟ قال: ((المسجد الأقصى)) . فقلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون عاماً وحيث ما أدركتك الصلاة فصل))(1) .
ويكره استقبال القبر عند الصلاة لما روي عن الرسول أنه قال: ((لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ))(2) .
الحالة الثالثة: المقبرة التي لم يقع الشك فيها هل هي جديدة أو دارسة، فهل تصح الصلاة فيها أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: جواز الصلاة فيها مع الكراهة لأن الأصل هو عدم النبش وبقاء الأرض على الطهارة.
الفرع الخامس: الصلاة في الحمام. وقد نهى رسول الله عن الصلاة في الحمامات، لما روى أبو سعيد الخدري عن الرسول أنه قال: ((الأرض كلها مسجد وطهور إلا الحش والحمام " )) . ثم اختلف العلماء في الوجه الذي وقع [فيه] النهي عن الصلاة في الحمامات على قولين:
فالقول الأول: أنه إنما نهى عن الصلاة فيها لأجل ما يهراق من النجاسات فيها فعلى هذا تكون على أوجه ثلاثة:
الوجه الأول: أن يتحقق أن جميع بيوتها نجسة، فعلى هذا لا تجوز الصلاة فيها لأجل النجاسة.
الوجه الثاني: أن يتحقق أنها ليس فيها شيء من النجاسة، فعلى هذا تجوز الصلاة فيها مع الكراهة.
__________
(1) أورده الرباعي بزيادة: قلت: ثم أيّ؟ قال: ((حيثما أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد)) متفق عليه. ا ه.
(2) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داؤد عن أبي هريرة، وفي رواية للنسائي بلفظ: ((قاتل الله اليهود والنصار...)) وجاء الخبر عن عائشة وعنها وعن ابن عباس بمعناه وبلفظ: لما نزل برسول الله جعل يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر مما صنعوا. أخرجه البخاري ومسلم. اه. جواهر 1/216.
الوجه الثالث: أن يقع الشك في طهارتها ونجاستها، وعلى هذا تصح الصلاة فيها لأن الأصل في الأرض هو الطهارة وعدم النجاسة. فأما المخلع(1)
فلا يدخل في النهي لأنه بمعزل عن النجاسة التي تهراق في البيوت الداخلة.
القول الثاني: أنه إنما نهى عن الصلاة فيها لأنها مأوى الشياطين لما يكشف فيها من العورات ويحصل بالإجتماع فيها من الرفث بالكلام، كما روي عن النبي أنه عرَّس(2)
هو وأصحابه في موضع في وادٍ فناموا فيه فلم يوقضهم إلا حرُّ الشمس فقال لهم الرسول : ((ارتفعوا عن هذا الوادي فإن فيه شيطاناً " ))(3) .
ولم يصل فيه فعلى هذا تكره الصلاة في بيوتها وإن تحققت طهارتها. وحكي عن أحمد بن حنبل: بطلان الصلاة فيها وفي سطوحها.
والحجة على صحة الصلاة فيها، ما روى أبو ذر: ((وحيث أدركتك الصلاة فصل " )) . ولم يفصل، ولأنها أمكنة طاهرة فصحت الصلاة فيها كالمساجد.
الفرع السادس: قال الإمام الهادي: وأكره الصلاة في الطرق السابلة، لحديث ابن عمر. ثم اختلف العلماء في النهي ومتعلقه في الطرق السابلة على قولين:
فالقول الأول: أنه إنما نهى عن الصلاة فيها لما يقع فيها من النجاسات لأجل المارة لأنها تداس بالنعال فعلى هذا تكون على ثلاثة أوجه كما ذكرناه في الحمامات والمقابر، فإن تحقق النجاسة لم تجز الصلاة، وإن تحقق الطهارة جازت الصلاة، وإن وقع الشك جازت الصلاة لأن الأصل طهارة الأرض إلا أن تطرأ النجاسة.
المذهب الثاني: أنه إنما نهي عن الصلاة في قارعة الطريق لأجل حق الغير وهو الضرر بالمارة وعلى هذا يتصل(4)
فيها رأيان للإمامين الأخوين أبي طالب والمؤيد بالله:
__________
(1) المخلع: المكان الذي يخلع فيه المستحمون ثيابهم، حسب عرف أهل المدن في اليمن.
(2) عرس المسافر: نزل في وجه السحر، أو في آخر الليل. ا هلسان ج6 ص 136.
(3) تقدم.
(4) هكذا في الأصل، وهي غير مفهومة، ولعلها: يتضاهى، ومعناها: يقع. والله أعلم.
فالرأي الأول رأي السيد أبي طالب: أنها لا تجوز الصلاة فيها واسعة كانت أو ضيقة. والظاهر من كلامه هو منع الإجزاء وبطلان الصلاة.
وحجته على هذا: قوله : ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " ))(1) .
مع نهيه عن الصلاة في الطريق، والنهي يقتضي الفساد خاصة في العبادات.
الراي الثاني ما قاله المؤيد بالله: وهو أن الطريق إذا كانت واسعة فلا ضرر على أحد فيها فلهذا جازت الصلاة [فيها]، والظاهر أنه لا كراهة مع سعتها. فإن كانت ضيقة كانت الصلاة مكروهة مع الإجزاء. هذا كله إذا لم يكن المصلي مانعاً بصلاته عن المرور، فأما إذا كان مانعاً بصلاته عن المرور بطلت صلاته لأنه يصير مانعاً بصلاته عن حق الغير كما لو صلى في دار مغصوبة. فحصل من مجموع ما ذكرناه أن المختار هو: رفع الكراهة مع السعة، وحصول الكراهة مع الضيق والإجزاء، والبطلان مع منع المارة.
الفرع السابع: في الصلاة في الدار المغصوبة. قال الإمام القاسم: ولا تجوز الصلاة في الدار المغصوبة.
واعلم أن الكلام في هذا الفرع تتعلق به أحكام ثلاثة نفصلها بمعونة الله تعالى.
الحكم الأول: تكره الصلاة في الدار المغصوبة، لا خلاف فيه بين أئمة العترة وفقهاء الأمة وذلك لقوله : ((لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه)) . وهل تكون مجزية مسقطة للفرض أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) أورده الإمام عبد الله بن حمزة في (المهذب) ص 280، وكذا في (النور الأسنى) .
المذهب الأول: أنها غير مجزية، وهذا هو رأي أئمة العترة لا يختلفون فيه ومحكي عن الشيخين أبي على وأبي هاشم وغيرهما من المتكلمين المعتزلة البصرية والبغدادية وهو قول أبي سمرة(1)
من فقهاء البصرة، وداود من أهل الظاهر.
والحجة على ذلك: هو أن الصلاة في الدار المغصوبة منهي عنها، والصلاة مأمور بها فلو قضينا بكونها مجزية لمن فعلها لأدَّى إلى أن يكون الفعل الواحد مأموراً به منهياً عنه، وهذا محال. ومن وجه آخر وهو: أن الفعل إذا كان مأموراً به وجب أن يكون مراداً، وإذا كان منهياً عنه وجب أن يكون مكروهاً، ومحال في الشيء أن يكون مراداً مكروهاً لما في ذلك من إجتماع الضدين وما هذا حاله فهو محال.
والحجة الثانية: أنا نقول: الكون في الدار المغصوبة مع التمكن من الخروج منها معصية، والصلاة في نفسها قربة وعبادة وطاعة، ومحال في الفعل الواحد أن يكون طاعة معصية لما في ذلك من التناقض والتضاد.
الحجة الثالثة: وهي أن نقول: القيام ركن من أركان الصلاة لا تتم الصلاة من القادر إلا به وهو فعل واحد والفعل الواحد لا يكون طاعة معصية، حسناً قبيحاً، مثاباً معاقباً عليه، ولا شك أن القول بصحة الصلاة في الدار المغصوبة يقضي بما ذكرناه فيجب القضاء بفساده وبطلانه.
__________
(1) أحمد بن سالم بن خالد أبو سمرة، كوفي. جاء في (الكامل في ضعفاء الرجال)1/169: ليس بالمعروف، وله أحاديث مناكير، روى عن هشيم بن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله : ((إن الله ليبتلي عبده بالبلاء والهم والغم حتى يتركه من ذنبه كالفضة المصفى)) قال الشيخ: هذا الحديث لا أعرفه، وضعفه ابن الجوزي في (الضعفاء والمتروكين) 1/72، وقال: يروي عن الثقات الطامات لا يجوز الاحتجاج به.
…لم نجد في المراجع المتاحة غير هذا، ويبدو أن المقصود غيره؛ لأن المؤلف وصفه بأنه من فقهاء البصرة بينما المترجم له كوفي محدث، والله أعلم.
المذهب الثاني: أن الصلاة في الدار المغصوبة مكروهة لكنها مجزية مسقطة للفرض فلا يلزم قضاؤها، وهذا هو رأي الفريقين الشافعية والحنفية.
والحجة على ذلك: هو أنها أرض طاهرة والمنع منها ليس راجعاً إليها وإنما هو لحق المالك وما هذا حاله فليس مانعاً لأنه بمعزل عن كونها صلاة فلهذا لم يعد مانعاً عن الإجزاء.
الحجة الثانية: قالوا: الإيمان من أعظم القرب وأولاها وهو أصلها وقاعدتها فإذا كان جائزاً في الدار المغصوبة فهكذا الصلاة من غير فرق بينهما.
الحجة الثالثة: قالوا: الصلاة عبادة وقربة وطاعة، وايقاعها على وجه الحظر لا يكون مانعاً من إجزائها إذا لم يكن الحظر مما يخل بشرط من شرائطها فأما إذا كان يخل فإنه يكون مانعاً من الإجزاء.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا، وهو أن القول بإجزاء الصلاة في الدار المغصوبة يفضي إلى المحال وما أفضى إلى المحال فهو محال. فالقول بإجزائها محال، وإنما قلنا: أن القول بإجزائها يفضي إلى المحال فلأنه يؤدي إلى إجتماع الأمور المتضادة فتكون العين الواحدة مأموراً بها منهياً عنها ومرادةً مكروهة وطاعة معصية وحسنة قبيحة وقربة وغير قربة، وهذه الأمور المتضادة قد اجتمعت في الصلاة في الدار المغصوبة واجتماعها من أعظم المحال، وإنما قلنا: إن ما أفضى إلى المحال فهو محال، فما هذا حاله معلوم بضرورة العقل فإنه لو كان صحيحاً لم يكن مؤدياً إلى المحال. فهذا مسلك قوي يجمع جملة الإلزامات التي يوردها الفقهاء متفرقة جمعناها هاهنا.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: هي أرض طاهرة والمنع منها ليس راجعاً إليها وإنما هو لحق المالك وهو بمعزل عن كونها صلاة.
قلنا: إن ما هذا حاله فليس وجهاً في التغاير لأن الذي وقع به منع حق الغير هو نفس كونها صلاة وفي هذا دلالة على أنه مطيع بنفس ما هو عاصٍ به وهو محال.
قالوا: الإيمان جائز في الدار المغصوبة فهكذا حال الصلاة من غير فرق.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإن عنيتم بالإيمان مجرد التصديق فلا نسلمه وإنما الإيمان ما عليه السلف الصالح وهو أنه اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان والصلاة من جملته وفيها وقع النزاع.
وأما ثانياً: فلو سلمنا أن الإيمان هو التصديق فلا تعلق له بالمكان فافترقا.
قالوا: الصلاة عبادة وقربة وإيقاعها على وجه الحظر لا يكون مانعاً من إجزائها إذا لم يكن الحظر مما يخل بشرطٍ من شرائطها.
قلنا: وأي إخلال أعظم من بطلان القيام في الصلاة فإنه ركن من أركانها لأنه عاصٍ به فلهذا بطل، ومن وجه آخر وهو أنه إذا كان الشرط مبطلاً للصلاة فبطلانها ببطلان ركن من أركانها أحق وأولى.
الحكم الثاني: هل تكون هذه المسألة قطعية أو اجتهادية، وفيها تقريران:
التقرير الأول: أنها قطعية، ونعني بكونها قطعية: أن الحق فيها واحد، وهذا هو رأي الشيخين أبي علي وأبي هاشم وغيرهما من شيوخ المعتزلة وعلماء الكلام.
والحجة على هذا: هو أن المختلفين في المسألة كل واحد منهم أخذ بحجته من مسلك قاطع، وفي هذا دلالة قطعية لا مجال للإجتهاد فيها، وبيانه: هو أن من قال بكون الصلاة في الدار المغصوبة غير مجزية فإنه يأخذ حجته من دليل العقل وهو أن هذه الصلاة غير مجزية لكونها معصية لله تعالى لكونه حائلاً بينها وبين مالكها وما يكون معصية فلا قربة فيه والصلاة من شرطها القربة لكونها عبادة لله تعالى، ومن قال بكونها مجزية كما هو رأي الفريقين من الفقهاء، فإنه يأخذ مذهبه من الإجماع، وهو أن الإجماع منعقد على أن أحداً من العلماء لم يأمر الظلمة بإعادة ما صلوا في هذه الدور المغصوبة، وفي هذا دلالة على كونها مجزية مسقطة للفرض عن ذممهم. فقد عرفت بما ذكرناه أن كل واحد من المذهبين يأخذ مذهبه من مسلك قاطع، وفي هذا دلالة على كونها قاطعة خارجة عن مسائل الاجتهاد.
التقرير الثاني: أنها إجتهادية، وهذا هو الذي قرره السيد أبو طالب وهو المختار.
والحجة على هذا: هو أن كلاً من الفريقين غير منكر على صاحبه مذهبه ورأيه، وهذه أمارة كون المسألة إجتهادية لأن الرأي المقطوع به والحق الذي لا معدل عنه هو تصويب الآراء في المسائل الاجتهادية والمضطربات النظرية.
ومن وجه آخر: وهو أن الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم ما زالت الحوادث في أيامهم غضة طرية وكل واحد منهم يجتهد رأيه ويخالف صاحبه ولم يعلم من أحد منهم إنكارٌ لمذهب صاحبه ولا تحريج عليه فيما يذهب إليه وهذا مسلك قاطع في التصويب يعقله الأكياس ويغفل عنه الأكثر من طبقات الناس.
الحكم الثالث: هل تكون الصلاة في الأرض المغصوبة كالصلاة في الدار المغصوبة أم لا؟
والمختار: التفرقة بينهما لدلالة المنع في الدار دون الأرض.
ولتحريم الصلاة فيها وجهان:
أحدهما: أن التحريم إنما يكون لأجل الكراهة من مالكها، وهذا هو رأي المؤيد بالله، فإنه قال: إن من صلى في أرض مغصوبة جازت صلاته إلا أن تظهر منهم الكراهة في ذلك فحينئذ لا يجوز الدخول ولا الصلاة لأن المصلي يكون في حكم الغاصب لأجل ما يظهر من الكراهية، فإذا لم يعلم منهم الكراهة جاز الدخول والصلاة، وهي مخالفة للدور لأن الغالب من حال الأرض أن أربابها لا يكرهون الصلاة فيها.
وثانيهما: أن الاعتبار في التحريم إنما هو بالضرر فإذا لم يكن هناك ضرر جاز الدخول والصلاة، وهذا هو المختار لما روي أن الرسول دخل أرضاً ليهودي فكره دخوله فيها فقال الرسول : ((ما ضررناك يا يهودي " )) . فعلق التحريم بالضرر فدل على أن الاعتبار به لا غير.
الفرع الثامن: قال الإمامان القاسم والهادي: وتجوز الصلاة في مرابض الغنم لما روى عبدالله بن المغفل أن الرسول قال: ((إذا أدركت الصلاة وأنت في مراح الغنم فصل فيه فإنها سكينة وبركة))(1) .
__________
(1) أخرجه أبو داؤد عن البراء بن عازب.
ومراح الغنم: هو الموضع الذي تأوي إليه. [و] لما روي عن الرسول أنه قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا " )) (1) .
ولم يفصل، ولأنه موضع طاهر لا نجاسة فيه فليس مغصوباً فلهذا جازت الصلاة. دليله: المساجد.
وتكره الصلاة في أعطان الإبل لما روي عن الرسول أنه قال لعبدالله بن المغفل: ((إذا أدركتك الصلاة في أعطان الإبل فاخرج منها " وصل فإنها جن من جن خُلِقت ألا تراها إذا نفرت كيف تشمخ بآنافها))(2) .
والعَطَن بوزن الوَطَن، واختلف أهل الأدب في معناها على وجهين:
أحدهما: أن أعطان الإبل هي مواضع قرب الحوض الذي تشرب منه تُنَحَّى إليه الإبل حتى يرد غيرها للشرب.
وثانيهما: أن أعطان الإبل هي المواضع التي تناخ فيها الإبل في الصيف إذا شربت المرة الأولى ثم يملأ الحوض مرة أخرى ثم ترد إليه فتعل، والشرب الأول يسمى: النهل، والشرب الثاني يسمى: العلل. قال لبيد:(3)
__________
(1) تقدم في التيمم، عن زيد بن علي عن علي وعن جابر، أخرجه النسائي.
(2) أخرجه النسائي عن عبد الله بن مغفل، وأخرج الترمذي عن أبي هريرة: ((صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل)) .
قال ابن بهران: وقد روي موقوفاً على أبي هريرة، وهذا الحديث في (نيل الأوطار) للعلامة الشوكاني من حديث عبد الله بن مغفل عن أحمد بإسناد صحيح وبلفظ: ((لا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خُلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيأتها إذا نفرت)) ا هج2 ص 137.
(3) لبيد بن ربيعة العامري، أبو عقيل، قال في (الإستيعاب)2/1325: قدم على النبي سنة وفد قومه بنو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة الراوي [فأسلم] وحسن إسلامه، وروي عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل))، من مطلع قصيدة له، شطره الآخر: وكل نعيم لا محالة زائل، وقد قال أكثر أهل الأخبار أنه لم يقل شعراً منذ أسلم إلا قوله:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى اكتسيت من الإسلام جلبابا
وفي (تهذيب الأسماء)2/379: لبيد الشاعر الصحابي رضي الله تعالى عنه، من فحول شعراء الجاهلية، ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق، وقال: كان لبيد من المعمرين عاش 154 سنة. توفي سنة 41 من الهجرة، وقيل: غير ذلك.
تكره الشرب فلا يعطنها ... إنما يعطن من يرجو العلل(1)
فجعل ذلك عطناً لما كانت ترجو أن تشرب مرة ثانية.
واختلف العلماء في وجه التفرقة بين مراحات الغنم وأعطان الإبل من جهة المعنى فقال بعضهم: لأنها جن من جن خلقت، والصلاة بقرب الشياطين مكروهة، والغنم فيها سكينة وبركة. وقيل: إن الغنم من دواب الجنة دون الإبل، وقيل: إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل لما يخاف من نفورها وذلك يقطع الخشوع ولا يخاف ذلك في الغنم، وقيل: إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل لأنها مأوى الجن والشياطين بخلاف الغنم. وقيل: إنما نهى عن ذلك لأن أعطان الإبل يكثر فيها القذر في العادة من جربها ومن عفونتها، ومراحات الغنم طيبة في العادة لأن الغنم إنما تراح إلى كل موضع استعلت أرضه وطابت تربته ولا تصلح إلا على ذلك. والإبل لا تراح إلا [إلى] الدقعاء من الأرض والأراضي الرخوة ولا تصلح إلا على ذلك، والدقعاء من الأرض هي كثيرة الترب.
ولا بأس أن يجعل البعير سترة عند الصلاة لما روى نافع عن ابن عمر أن الرسول كان يصلي إلى بعيره، وروى عبادة بن الصامت أن الرسول صلى إلى بعير من المغنم.
الفرع التاسع: وتكره الصلاة خلف النائم والمتحدث والحائض والجنب، لما روي عن الرسول أنه قال: ((لاصلاة إلى نائم " لا صلاة إلى متحدث لا صلاة إلى حائض لا صلاة إلى ميت)) (2) .
__________
(1) من قصيدة للبيد العامري، ويروى الشطر الأول من هذا البيت بأنه:
عافت الماء فلا يعطنها... إلخ
(2) تقدم حديث أبي ذر في اتخاذ المصلي سترة بين يديه ((فإنه يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الأسود)) وجاء في (نيل الأوطار): وقد ذهب مجاهد وطاؤوس ومالك والهادوية إلى كراهة الصلاة إلى النائم، واستدلوا بحديث ابن عباس عند أبي داؤد وابن ماجة بلفظ: ((لا تصلوا خلف النائم والمتحدث)) وقد قال أبو داؤد: طرقه كلها واهية، وقال النووي: هو ضعيف بإتفاق الحفاظ. ا هج3/ ص 8 ملخصاً.
فهذا كله محمول على الكراهة. وإن صلى إليها أجزت الصلاة إذ لا وجه يقتضي فسادها فلهذا حملنا هذه الأخبار على الكراهة، وتكره الصلاة على بساط أو حصير فيه تماثيل الحيوانات، لما روي أن الرسول دخل الكعبة فوجد فيها حمامة مصورة فكسرها، فإذا كان هذا في غير حال الصلاة كان أدخل في الكراهة في الصلاة، وإن قطعت رؤوسها حتى صارت كالأشجار لم تكره لما روي عن علي أنه قال: ما بقاء الجسد بعد ذهاب الرأس، ولما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((أتاني جبريل فقال " : يا محمد جئتك البارحة فلم استطع أن أدخل البيت لأنه كان في البيت تمثال رجل فَمُرْ بالتمثال فليقطع رأسه حتى يكون كهيئة الشجرة))(1) .
فتقرر بهذا الخبر على أنه لا كراهة في تصوير ما ليس بحيوان وإن ما قطع رأسه فلا كراهة فيه، وإن جعلت الصورة تحت القدمين فلا كراهة لما روت عائشة. قالت: جعلت ستراً فيه تصاوير الحيوان إلى القبلة فأمرني رسول الله فنزعته وجعلت منه وسادتين، وكان يقعد عليهما. وإن كانت التصاوير [بين] يديه وركبتيه أو موضع جبهته كرهت لحديث عائشة؛ لأن التصوير كان بحذاء القبلة فأمرها بإزالته، فإذا كانت مكروهة في القبلة فكراهتها في مواضع السجود أدخل في الكراهة، وإن كانت الصورة فوق القامة لم تكره لحديث عائشة لأنه غير مستقبل لها، وإن كانت الصورة في موضع منخفض وبينه وبينها حائل لم تكره، وإن لم يكن هناك حائل كره.
__________
(1) جاء الخبر عن أبي هريرة، أخرجه أبو داؤد والترمذي بزيادة في آخره: ((... ومر بالقرام فيجعل منه وسادتان توطآن. ومر بالكلب فليخرج)) قال: وكان الكلب جرواً للحسن أو الحسين يلعب به كان تحت نضد له فأمر به فأخرج. ا هجواهر 1/218.
قاعدة: اعلم أن تصوير الحيوانات مستوية في الكراهة، ويؤيد ذلك ما روي أن الرسول دخل الكعبة فرأى إبراهيم مصوراً يستقسم بالأزلام فقال: ((قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام " ))(1) .
لكنها تختلف باختلاف مجالها في صورها وأشكالها فمنها ماله شبح قائم يتخذ من النحاس والرصاص والخشب والأحجار وهذا أدخلها في الكراهة. وأحقها بالتغيير والإزالة، ومنها ما يكون بالرقوم والطرز على الوسائد والثياب بخيوط الذهب والفضة والحرير، ومنها ما يعمل بألوان الأصابيغ المموهة في الجدرات والألواح والسقوف، ومنها ما يكون بالحفر على الجدر والخشب وكلها مستوية في الكراهة والتنزه عنها أفضل، وبعضها أدخل في الكراهة من بعض كما أوضحناه.
الفرع العاشر: أفضل البقاع المساجد لما روي عن الرسول أنه قال: ((ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا " ويرفع به الدرجات، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة))(2) .
والغرض من الإكثار والتردد إليها من أجل الصلاة فيها. وروي عنه أنه قال: ((إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه " ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حطت عنه سيئة))(3) .
وروي عن الرسول أنه قال: ((يا جبريل فيم يختصم الملأ الأعلى " ؟ فقال جبريل: في ثلاث: نقل الخُطا إلى مساجد الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات(4)
وإنتظار الصلاة بعد الصلاة))(5) .
ويتعلق بالمسجد أحكام [عشرة]:
الحكم الأول: المسجد لا يكون مسجداً إلا باجتماع شروط أربعة:
__________
(1) أخرج ابن أبي شيبة 7/403 عن جابر نحوه برقم (36905) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه ج1/219 برقم (251) عن أبي هريرة، والموطأ والنسائي والترمذي.
(3) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. جواهر 1/219.
(4) في حاشية الأصل: السَّبَرة: الغداة الباردة وجمعها سَبَرات.
(5) أخرج الترمذي نحوه عن ابن عباس. 5/366.
أولها: أن تكون البقعة لمالكها(1)
حتى يصح وقفها وتسبيلها للصلاة.
وثانيها: أن يخرجها من ملكه بالوقف للصلاة فإن لم يسبلها لم تكن خارجة عن ملكه ولا تكون مسجداً.
وثالثها: أن يكون بابها مشروعاً إلى سكة أو شارع من شوارع المسلمين ليكون الناس فيها على سواء من غير مانع عنها لمصلٍّ.
ورابعها: أن يكون العلو والسفل(2) مسجداً.
قال الإمام القاسم: من بنى مسجداً ولم يشرع بابه إلى الطريق فليس بمسجد ويورث بعده ولا يكون مسجداً حتى يشرع بابه إلى شارع أو إلى سكة وإنما وجب ذلك ليكون المسلمون متمكنين من دخوله والصلاة فيه من غير إذن أحدٍ، ويكون الناس فيه شرعاً، فإذا كانت الطريق إليه مملوكة لم يكن مسجداً وهكذا إذا لم يشرع بابه إلى سكة أو شارع.
قال الإمام المؤيد بالله: وإذا بنى رجل مسجداً على طريق أو جعل سفله حانوتاً والعلو مسجداً فالأقرب عندي أنه لا يصير مسجداً إذا لم يكن القرار مسجداً وإذا كان لرجل سفل بيت وعلوه فجعل السفل مسجداً دون العلو فإنه يصير السفل مسجداً ويرفع عنه العلو فإن جعل العلو مسجداً دون السفل لم يصر واحد منهما مسجداً أما السفل فلبقائه على ملك صاحبه وأما العلو فإنما لم يصر مسجداً لما كان قراره غير مسجدفلهذا بطلا جميعاً.
الحكم الثاني: أنه إذا كان لرجل سفل بيت وعليه علو لرجل آخر فجعل صاحب السفل حقه مسجداً فهل يصح أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك وهذا هو رأي الإمامين القاسم والمؤيد بالله، وهو قول أبي حنيفة ومحمد.
والحجة على ذلك: هو أن البقعة ليست خالصة لله تعالى لوقوع الشركة فيها وذلك يبطل كونه مسجداً لقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ }[الجن:18]. فظاهر الآية دال على خلوصها لله تعالى من الحقوق والأملاك.
المذهب الثاني: الجواز، وهذا شيء يحكى عن أبي يوسف.
__________
(1) يقصد أن تكون ملكاً لواقفها.
(2) قال في اللسان: السفل نقيض العلو في البناء. ا ه.
والحجة: هي أن السفل قد صار ملكاً له وجعله مسجداً فانعقد مسجداً ولا يضره ما فوقه من ملك الغير كما لو بنى على ظهر المسجد بيتاً لم يبطل فهكذا هاهنا.
والمختار: ما قاله الإمامان لما فيه من إبطال حق الغير فلهذا بطل كونه مسجداً.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قوله: إن السفل صار ملكاً له.
قلنا: لا ننكره ولكنه يبطل حق الغير بجعله مسجداً.
قوله: كما لو بنى على ظهر مسجد.
قلنا: إنه إذا بنى على ظهر مسجدٍ فإنه يؤمر بخرابه بخلاف ما نحن فيه فإنه حقٌ للغير فلا يؤمر بخرابه فافترقا.
الحكم الثالث: وأفضل المساجد أربعة:
مسجد الرسول لأنه مهبط الوحي ومقام التنزيل ومحط الملائكة ومدارس الآيات والسور ومهاجر الرسول ومغرس الدين ومكان الشريعة وقرار الصالحين ومحل البركة ومكان الأَعْظُم الشريفة.
وبيت الكعبة فإنه بيت الله المعظم المكرم وقبلة المسلمين وبه يتعلق الحج والعمرة وقد روي أنه زاره الأنبياء وحجوا إليه من لدن آدم إلى زمان الرسول ، ومهبط الوحي ومبدأ النبوة.
ثم مسجد بيت المقدس فإنه مسجد الخليل وموضع البركة حيث قال الله تعالى: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ " }[الإسراء: 1]. وهو موضع الإسراء حيث قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى " }[الإسراء:1].
ثم مسجد الكوفة، ففي الحديث أنه صلى فيه سبعون نبياً، فهذه المساجد الأربعة هي أفضل من جميع مساجد الدنيا
لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا تشد الرحال إلاَّ إلى أربعة(1)
__________
(1) في حاشية الأصل: المشهور في الحديث : ((إلى ثلاثة...) وقد ذكره المؤلف في آخر الجزء الأول.
مساجد " مسجدي هذا الذي أسس على التقوى من أول يوم، والمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس، ومسجد الكوفة))(1) .
الحكم الرابع: وأفضل هذه المساجد الأربعة، الكعبة ومسجد الرسول ، لما روى أبو ذر أنه قال: ((يا أبا ذر صلاة في مسجدي تعدل مائة صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام " ، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد))(2) .
__________
(1) أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة بلفظ: (( لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) ولم يرد ذكر مسجد الكوفة، ورواه أحمد والطبراني وابن حبان وغيرهم. اهفتح الغفار 1/295.
وقد ذكر بعض الأئمة فضل مسجد الكوفة إستناداً إلى أن في الأثر أنه صلى فيه سبعون نبياً كما جاء في (شرح الأزهار) وفي (البحر) للإمام المهدي المرتضى، قال في هامش الشرح تعليقاً على ما سلف: أي صلى في مكانه سبعون نبياً؛ لأنها [الكوفة] إنما عمرت في زمان عمر. كما جاء في الحاشية نفسها، أن مسجد قبا يأتي في الأفضلية بعد مسجد الكوفة أي الخامس، لقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} إلى آخر الآية الكريمة 108 من سورة التوبة. ا هج1 ص200.
(2) جاء في فتح الغفار ما ملخصه: عن أبي هريرة: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)) رواه الجماعة إلا أبا داؤد. وفي رواية بمعناه عن ابن عباس عن ميمونة، وثالثة عن جابر بن عبد الله بزيادة ((... وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات، وفيه روايات أخر عن عبد الله بن الزبير وأبي الدرداء وأنس. ا ه1/295، ولم تتضمن أي من هذه الروايات لفظ: ((تعدل مائة صلاة)) كما أورد المؤلف، وتلك الروايات السالفة أوردها ابن بهران في الجواهر 1/220.
وفي حديث آخر: ((صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام " ، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد وأفضل من هذا كله صلاة يصليها الرجل في بيت مظلم حيث لا يراه إلا الله عز وجل يطلب بها وجه الله تعالى)) .
والصلوات المكتوبة في المساجد أفضل لما يحصل فيها من جماعات المسلمين ونزول الرحمة وكونها مبنية لهذه العبادات مقصودة لأجلها ولما يحصل باجتماع أهل الصلاح والدين بمعرفة فروضها وسننها.
وأما النوافل فالذي عليه أئمة العترة أنها كالفرائض وأن تأديتها في المساجد أفضل.
والحجة على هذا: هو أن الأخبار الدالة على أن الصلوات في المساجد أفضل لم تفصل بين الفريضة والنافلة ولأن النافلة يكثر فضلها في المساجد كما يكثر فضل الفريضة.
وحكي عن أصحاب أبي حنيفة: أن تأدية النوافل في البيوت أفضل لما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا فرغ من الفرض فالنوافل في البيوت أفضل " )) . فإنما أراد أن إخفاءها في البيوت يكون أبعد من الرياء، ولما روي عن الرسول أنه قال: ((إجعل في بيتك قسطاً من صلاتك " ))(1) .
وفي هذا دلالة على أن أكثر تأديتها في المساجد.
الحكم الخامس: والأفضل من هذين المسجدين هو المسجد الحرام لما رويناه من الحديث الدال على فضله على مسجد الرسول فلا نعيده، ثم ما المراد بالمسجد الحرام؟ فيه أقوال [ثلاثة]:
__________
(1) هذا الحديث جاء بمعناه عن جابر: ((إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته قسطاً من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً)) أخرجه مسلم، وعن زيد بن ثابت: ((صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)) أخرجه أبو داؤد والترمذي، ورُوي موقوفاً على زيد. ا هجواهر 1/220، والحديث هذا في نيل الأوطار عن زيد بن ثابت بلفظ: ((أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)) رواه الجماعة إلا ابن ماجة. ا ه3/76.
فالقول الأول: أن المراد هو الكعبة وما حولها من المسجد وسائر بقاع الحرم.
والحجة على هذا قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى " }[الإسراء: 1]. والمعلوم أنه أسري به من بيت خديجة، وكل موضع أطلق عليه المسجد الحرام فالمراد به جميع الحرم المُحَرَّمِ وله أعلام منصوبة معلومة من كل جهة في مكة.
القول الثاني: أن المراد بالمسجد الحرام إنما هو الكعبة وما في الحجر من البيت لما روت عائشة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أصلي في البيت؟ فقال: ((صلي في الحجر فإنه من البيت " ))(1) .
فلو كان المسجد وسائر بقاع الحرم يساوي الكعبة في الفضل لم يكن لتخصيصها بالبيت معنى بالنذر ولأمرها رسول الله أن تصلي في سائر بقاع الحرم، وإذا تقرر أن البيت الحرام إنما هو الكعبة فهكذا الكعبة فهكذا المسجد الحرام، وهذان القولان محكيان عن الفقهاء.
القول الثالث: أن المسجد الحرام: الكعبة والحرم وما وراء ذلك إلى المواقيت، وهذا هو رأي أئمة العترة ذكروه في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " }[البقرة:169].
__________
(1) أخرجه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه الترمذي من حديث عائشة بلفظ: كنت أحب أن ادخل البيت أصلي فيه، فأخذ رسول الله بيدي فأدخلني الحِجر، فقال لي: ((صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت)) ا هفتح الغفار 1/568. وفي الحديث روايات بألفاظ أخر عن عائشة وعن جابر. وقد اورده المؤلف هنا في سياق الحديث عن أماكن الصلاة بينما موضعه الحج على الأرجح، والله أعلم.
والمختار: أن المراد بالمسجد الحرام هو الكعبة لأنه الظاهر والأشهر عند الإطلاق لقوله تعالى: {جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ " }[المائدة:97]. ولا فصل بين البيت الحرام والمسجد الحرام، فأما الآية(1)
فإنما سمي بيت خديجة المسجد الحرام على جهة المجاورة لما كان متصلاً به.
الحكم السادس: ويجب النهي عن البيع والشراء في المساجد وذلك مما لا يحفظ فيه الخلاف من زمن الرسول إلى يومنا هذا لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهَُّ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ " }[النور:36]. والبيع والشراء ليسا من ذكر الله تعالى في شيء، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهَِّ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ " }[البقرة:114] وإذا شغلت بالبيع والشراء فقد منعت عن ذكر الله وذكر اسمه، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ " }[التوبة:18]. ولم يقل: إنما يعمر مساجد الله من باع فيها واشترى. وهكذا القول في سائر الأمور المباحة من الخياطة والنساجة والوراقة، ولما روي عن الرسول أنه قال لمن سأله عما يجوز فعله في المساجد فقال: ((إنما المساجد لذكر الله تعالى وللعبادة " ))(2)
__________
(1) يقصد الآية الأولى من سورة الإسراء.
(2) أسنده ابن بهران في (الجواهر) إلى (الانتصار)، ويستفاد من مجموع الأخبار الواردة في هذا الموضوع ومن أقوال واجتهادات الأئمة والفقهاء: أنه لا يجوز في المساجد إلاَّ الطاعات إجماعاً، واستثني بعض المباحات ذات الصلة بالطاعة أو بالضرورة كالتشاور في أمر يهم المسلمين ونوم عابر السبيل والأكل والشرب وما إليها. اه. المحقق.
ومنما ورد من الأخبار في معنى الحديث السالف ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله نهى عن البيع والشراء في المسجد، وأن تُنْشَد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن الحلق قبل صلاة يوم الجمعة، أخرجه أبو داؤد والترمذي. وفيه عن أبي هريرة: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: لا رد الله عليك))، وعن ابن عمر عن النبي قال: ((خصال لا ينبغين في المسجد لا يتخذ طريقاً ولا يشهر فيه سلاح ولا ينتضل فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل، ولا يُمر فيه بلحم ني، ولا يضرب فيه حد، ولا يقتص فيه من أحد، ولا يتخذ سوقاً)) رواه ابن ماجة. ا هجواهر 1/221.
.
ولأن عمل المسلمين قد جرى على المنع من ذلك وتوارثوه خلفاً عن سلف وفي هذا دلالة على كراهته. فإن باع واشترى فلا خلاف في انعقاد البيع مع الكراهة(1) .
الحكم السابع: قال الإمام الناصر : ولا تغلق أبواب المساجد في أوقات الصلوات ليلاً ولا نهاراً لأنها إذا أغلقت في أوقات الصلوات ليلاً أو نهاراً كان منعاً للمسلمين عن الصلاة والذكر والعبادة فيها، وهذا هو الظلم الذي أراده الله تعالى بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ الَّلهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا " }[البقرة:114]. فقوله: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}: يحتمل أن يكون المراد به منعها عن الصلاة والعبادة والذكر لأن هذا هو عمارتها، ويحتمل أن يراد به هدمها وإزالة عمارتها. ولا بأس بإغلاق أبوابها لحفظ بسطها وحصرها وقناديلها وسرجها من اللصوص والسُّراق، ويعهد إلى السرادار في فتح أبوابها للصلاة ليلاً ونهاراً فإذا خرج المسلمون بفراغهم من الصلوات أغلق الأبواب وأطفأ القناديل إذا لم يكن هناك من يدرس عليها أو يطالع في العلوم، ويتعهدها بالكنس والتنظيف وإزالة العفونات عنها والإنكار على من في بدنه أو ثوبه نجاسة تؤدي إلى تنجيس المسجد، ويتعهدها بالروائح الطيبة من أموالها، ولا بأس بدخول الصبيان إذا كان لا يخشى منهم تنجيس المساجد، يشهدون الصلوات ويكون تمريناً لهم على المحافظة عليها عند دخولهم. ويُنهى الداخلون عن رفع الأصوات والأحاديث المباحة التي لا مصلحة فيها ولا يكون اشتغالهم إلا بما فيه طاعة الله تعالى، لما روي عن الرسول أنه قال: ((من دخل المسجد فحظه لما دخل " ))(2) .
الحكم الثامن: ويكره نقش المساجد بالذهب والفضة وألوان الصباغات، سقوفها ومحاريبها، وإنما كره لأمرين:
__________
(1) جاء في حاشية الأصل: داؤد وطبقته قالوا: (لا ينعقد البيع) . فلا يكون إجماعاً.
(2) ورد معناه في الأحاديث السالفة الذكر.
أما أولاً: فلأن ما هذا حاله يشغل المصلي عن التفكُّر في الصلاة ويشوش قلبه عن الخشوع.
وأما ثانياً: فلأن هذا إضاعة للمال وسرف من غير فائدة تعود على المسلمين، والمساجد فلا حاجة إليه، فأما نقش الكعبة ومسجد الرسول فلم يكن بإذن من أحد من الأئمة ولا من أحد من العلماء وإنما فعله أهل الدول الجائرة من غير مؤاذنة لأحد من أهل الفضل، وسكت المسلمون والعلماء على ذلك من غير رضا، وكرهوا خراب ذلك لما فيه من التبذير بالخراب، وتكره الستور على جدرات المساجد لأنه لا مصلحة فيه لا للمسلمين ولا للمساجد ولأن فيه تشبيهاً بالبيوت في وضع الستور على جدراتها، فأما أستار الكعبة فهي مخصوصة بالإجماع على ذلك فلهذا كانت خارجة عن حكم المساجد؛ لأن ذلك كان مشروعاً في حقها في الأزمنة الماضية قبل الإسلام وأقرها الإسلام على ذلك. ويستحب بياضها، لما روى ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((أُمِرْنا أن نبني مساجدنا بيضاء " ))(1) .
يعني من غير نقش وزينة.
وروي أن الأنصار جاؤا إلى الرسول فقالوا له: زيِّن مسجدك. فقال: ((إنما الزينة للكنائس والبِيَع بيضوا مساجدكم " )) (2) .
وعن علي أنه قال: من علامات القيامة، زخرفة المساجد، وتطويل المنارات، وإضاعة الجماعات.
__________
(1) جاء في الجواهر ما حكاه في الانتصار عن علي أنه قال: من علامات القيامة زخرفة المساجد...)) إلى آخره، ا ه1/222، وعن ابن عباس مرفوعاً: ((ما أمرت بتشييد المساجد)) قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى، أخرجه أبو داؤد. قال في (نيل الأوطار): الحديث صححه ابن حبان ورجاله رجال الصحيح، إلى أن قال: وقد أخرج البخاري في صحيحه قول ابن عباس المذكور تعليقاً إلى آخره. ا ه 2/149.
(2) سبق معناه في الحديث السالف؛ لأن زخرفة اليهود والنصارى كانت للكنائس والبيع.ا ه.
الحكم التاسع: في المنارات والصوامع. والمنارات: أبنية على شكل الصوامع وهي دونها في السمك والطول تُجعل على سطوح المساجد يصعد عليها المؤذنون تكون فوق القامة. وأما الصوامع فهي أعظم حالاً منها في السمك والإرتفاع للتأذين أيضاً، فالصوامع تكون في الجوامع العظيمة، والمنارات تكون في سائر المساجد. وهل تكره عمارتها ويؤمر بهدمها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها مكروهة ويؤمر بهدمها وهذا هو رأي أئمة العترة. وروي عن علي أنه قال: رفع المنارات من البدع، وذم من فعله على فعله.
وحكي عن الهادي: أنه أمر بهدم الصوامع المشرفة على دور المسلمين [لمنع] التطلع على عوراتهم لمن يرتقي عليها، وهكذا حكي عن الناصر أنه قال: لا ترفع المنارات فوق سطوح المساجد، وهكذا الصوامع لإشرافها على دور المسلمين.
والحجة على هذا: هي أن رفع هذه المنارات والصوامع إنما تعمر لمصالح المسلمين في التأذين فإذا كان لا يؤمن فيها الإشراف على عورات المسلمين والإطلاع على حُرمهم وجب هدمها لأنها من جملة المنكرات، ويخالف رفع الرواشن(1)
والأبنية للمالكين لها فإنه لا يجوز هدمها لأنها ملك لمن ملكها فلا يمنع عن رفعها وإشادتها ويؤمر الجيران بالستر عليهم إذا أضر عليهم ذلك بخلاف هذه الصوامع والمنارات فإنها عمرت لمصالح المسلمين، فإذا كانت فيها مفسدة بطلت لأن من حق المصلحة الدينية ألاَّ يعارضها شيء من المفاسد.
المذهب الثاني: أنه لا بأس بها ولا يؤمر بهدمها وهذا هو رأي الفقهاء.
والحجة على هذا: هي أن عمل المسلمين قد جرى بها وسكت العلماء في كل وقت على عملها وعمارتها وفي هذا دلالة على جوازها.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من كراهة العمارة للمنارات والصوامع.
والحجة لهم: ما ذكرناه. ونزيد هاهنا حجتين:
__________
(1) في (لسان العرب) و(القاموس) الروشن: الكوة والرف. ا ه. مادة (رشن) .
الحجة الأولى: أنها لم تعمر في زمن الرسول ، فإحداثها يكون بدعة فلو كانت المنارات سنة لأمر بعمارتها كما أمر بعمارة المساجد ولفعلها لمسجدِهِ نفسه كما أمر برفع حيطانه وسقفه ومحرابه.
الحجة الثانية: هو أن المقصود منها إنما هو ظهور أصوات المؤذنين وارتفاعها وهذا حاصل بالأذان في سطوح المسجد وحجراته المرتفعة، وكيف لا وما يحصل في عمارتها من المفسدة بالإطلاع على عورات المسلمين وحرمهم كافٍ في هدم ما عمر منها والكف عما يعمر منها.
الانتصار: يكون بإبطال ما يوردونه حجة لهم.
قالوا: حرم مكة فيه أربع منارات وما علم من أحد من العلماء وأهل الفضل إنكارها وفي هذا دلالة على الجواز.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنهم عمروها بغير إذن من جهة أهل العلم والفضل بالدول الجائرة، وسكت العلما بعد ذلك ولم يروا خرابها بعد عمارتها مصلحة.
وأما ثانياً: فلأن كلامنا إنما هو في الكراهة وطلب الأفضل دون التحريم وربما كانت هذه المنارات بحيث لا يطلع منها على عورات المسلمين بسد الطاقات التي فيها وعند هذا تسلم من المفسدة التي ذكرناها.
قالوا: هذه المنارات والصوامع فيها إشادة بذكر الله وذكر رسوله بالشهادتين، وجمال للمسلمين فيجوز عمارتها لهذه المصلحة كعمارة المساجد.
قلنا: هذا المقصود حاصل من دون عمارتها، وإشادة ذكر الله وذكر الرسول بالشهادتين حاصل من سطوح المساجد كما كان في زمن الرسول فإن جميع المؤذنين في زمانه ما كانوا يؤذنون إلا على السطوح المرتفعة كبلال وأبي محذورة وفي ذلك كفاية عن إحداث الصوامع والمنارات التي لا تؤمن منها المفسدة.
الحكم العاشر: في بيان ما يفعل في المساجد. فتارة تكون محظورة، ومرة تكون مكروهة وتارة تكون مستحبة. فهذه ضروب ثلاثة:
الضرب الأول: الأمور المحظورة، فلا يجوز البول في المسجد لما روي أن أعرابياً بال في المسجد فأمر رسول الله بأن يُصب عليه ذنوبٌ من الماء. فلولا أنه ينجس المسجد لما أمر بتطهيره عنه، ويحرم التغوط في المسجد لأنه أقذر من البول وأشد عفونة منه فإذا حرم البول فحرمة الغائط أولى وأحق. ويحرم الجماع في المسجد لأنه يؤدي إلى تنجيس المسجد بما ينفصل من المني ولأن الجنب ممنوع من دخول المسجد فكيف يجتنب فيه، ويحرم البقاص والمخاط في المسجد لما روي أن الرسول قال: ((إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة من النار " ))(1) .
ويحرم غرس الأشجار المثمرة وغير المثمرة في داخل المسجد وفي عرصته لأن ما هذا حاله يبطل الغرض من المسجد لأن المسجد إنما عمر من أجل الصلاة والعبادة وهذا يبطلها ولأن عرصة المسجد منه فلا يجوز شيء من ذلك فيها. ويحرم أيضاً حفر الآبار في المسجد لأن ذلك يكون مانعاً للصلاة وسواء كانت تلك البئر للشرب والوضوء والغسل أو كانت للخلاء(2) أ
__________
(1) وعن أبي أمامة عن النبي قال: ((من تنخم في المسجد فلم يدفنه فسيئة وإن دفنه فحسنة)) أخرجه أحمد بإسناد حسن، وعن أنس: ((البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)) أخرجاه. وعنه: أن النبي رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه فقام فحكها بيده، فقال: ((إن احدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدميه)) ثم أخذ طرف ردائه وبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض فقال: ((أو يفعل هكذا)) رواه البخاري، قال في (فتح الغفار): وهو له: أي للبخاري من حديث أبي سعيد مختصراً، وفيه: رأى نخامة في حائط المسجد. وفي لفظ: في قبلة المسجد. اه 1/167.
(2) للحمامات.
و كانت بئراً يحفظ فيها الحب ويدفن. أما الشرب والوضوء فإنها تكون مانعة من الصلاة، وأما بئر الخلاء فلأنها تؤدي إلى تنجيس المسجد. أو كانت بئراً للحب يحفظ فيه لأن حفره لما ذكرناه يبطل الغرض به من الصلاة والعبادة.
وهل يحرم دخول المشركين وأهل الذمة وسائر أصناف الكفار المساجد أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: تحريم ذلك على جميع المشركين وأهل الكفر من أهل الذمة وغيرهم وهذا هو قول الإمامين الناصر والهادي ومحكي عن مالك.
والحجة على هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ " فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}[التوبة:28].
ووجه الدلالة: أن الله تعالى منعهم من أن يقربوا المسجد الحرام لنجاستهم وهذا المعنى موجود في سائر المساجد.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:114]. وجميع أصناف الكفار يريدون قتالنا ويمنعوننا عن ذكر الله في مساجدنا فيجب أن يكونوا ممنوعين عن دخولها إلا خائفين أن نوقع بهم بالقتل والإهانة.
المذهب الثاني: جواز ذلك وإباحته، وهو رأي الإمام المؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قدم إليه وفدُ ثقيف فأنزلهم المسجد وصرف لهم فيه خيمة
فقالوا له(1):يا رسول الله إنهم قوم مشركون أنجاس. فقال: ((إنما نجاستهم على أنفسهم " ))(2) .
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه اسرى سرية فوجدوا ثمامة بن أثال فأتوا به أسيراً فربطه الرسول إلى سارية من سواري المسجد وكان يمر عليه في أوقات الصلاة، ثم أسلم بعد ذلك(3) ففي هذا دلالة على جواز دخول أهل الشرك المسجد.
المذهب الثالث: أن الكفار يُمنعون عن دخول المسجد الحرام فأما سائر المساجد فإن عوهدوا على الإمتناع منه لم يدخلوه وإن لم يعاهدوا على الإمتناع منه جاز دخولهم، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على منعهم من دخول المسجد الحرام، ظاهر الآية فإنها صريحة في منعهم عن دخوله وأما سائر المساجد فهي موقوفة فإن وقع العهد على منعهم عنها وجب امتناعهم وإن لم يعاهدوا جاز دخولهم لما ذكرناه من وفد ثقيف ولما رويناه من قصة ثمامه فإنها دالة على جواز دخولهم، فهذا تفصيل المذاهب كما ترى.
__________
(1) أي: فقال له أصحابه أو المسلمون.
(2) هذا طرف من حديث يروي حكاية وفد ثقيف لما قدموا على النبي فضرب لهم قبة في المسجد، فقال المسلمون: يا رسول الله قوم أنجاس، فقال : ((إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء، إنما أنجاس الناس على أنفسهم)) رواه في حاشية البحر، وهو في (أصول الأحكام)ا هجواهر 1/14.
(3) ربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية مسجد رسول الله، تقدم في كتاب الطهارة.
والمختار: ما عول عليه الإمامان الهادي والناصر ومن تابعهما، وتقرير حجتهم هو أن الآية صريحة في منع الكفار وأهل الشرك عن دخول المسجد الحرام فلا حاجة إلى تأويلها ومن جهة أنهم قوم أنجاس لا يتنزهون عن ملابسة النجاسات فيجب تنزيه المسجد عن دخولهم لأنه لا فرق بين تنجيس المسجد وبين إدخال من ينجسه، ويؤيد ذلك ويوضحه ما روي عن الرسول أنه قال: ((المؤمن والكافر تتراءى نيرانهما " )) والغرض من الخبر هو التباعد وقطع العلائق بين الكافر والمؤمن، وإذا كان الأمر هكذا فلا وجه لإيناسهم بدخولهم مساجدنا وتحكيمهم فيها، ومع ذلك فإنه لا حاجة لهم إليها لأنها إنما تدخل للعبادة والصلاة وليسوا من أهل الصلاة والعبادة فلهذا وجب القضاء بامتناعهم عنها.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
فأما ما روي عن الإمام المؤيد بالله من احتجاجه بوفد ثقيف وبما كان من قصة ثمامة بن أثال فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه حكاية فعل مجملة لا يُدرى على أي وجه وقعت وهي مجملة فلا يصح الاحتجاج بها إلا بما يوضحها ويبينها.
وأما ثانياً: فلعلها واردة قبل وقوع النهي وإذا كان هذا محتملاً لم يصح الإعتراض به على ما استدللنا به من صريح الآية الدالة على المنع والتحريم.
وأما ما روي عن الشافعي فقد سلم منعهم عن دخول المسجد الحرام وقال: إن عوهدوا جاز وإن لم يعاهدوا لم يجز.
قلنا: ليس للإمام أن يعاهدهم على مخالفة نص الكتاب ولا يباح له ذلك.
الضرب الثاني: في بيان الأمور المكروهة، فقد قدمنا كراهة النقوش لها وكراهة الستور على جدرانها، وتكره النخامة في المسجد ويكره إنشاد الضالة في المسجد لما روي عن الرسول أنه سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فقال له: ((لا وجدتها إنما بنيت المساجد لذكر الله " )) (1) .
ويكره النوم في المسجد إلا لمن كان معتكفاً، ليلاً ونهاراً لأمرين:
__________
(1) تقدم.
أما أولاً: فلأنه من الأعمال المباحة والمساجد إنما عمرت للصلاة والعبادة وذكر الله تعالى.
وأما ثانياً: فلأنه لا يؤمن أن يتنجس المسجد بالاحتلام، فإن وقع اضطرار إلى ذلك ارتفعت الكراهة إما لخوف أو مطر أو مسلم لا يجد أين يأوي لغربته، ويكره دخول المجانين والصبيان وسل الأسلحة وارتفاع الأصوات في الخصومات، والبيع والشراء لما روى واثلة بن الأسقع عن الرسول أنه قال: ((جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانيكم وشرائكم وبيعكم " وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم، وجمروها في الجمع واعدوا على أبوابها المطاهر)) .
الضرب الثالث: في بيان الأمور المستحبة. فيستحب خلاف ما يكره، ويستحب إذا رأى نخامة أن يحكها ويجعل مكانها شيئاً من الطيب لما روي عن الرسول أنه رأى نخامة في جدار المسجد فقال لمن كان حوله: ((أروني عبيراً " ))(1) .
__________
(1) عن جابر قال: أتى رسول الله مسجدنا هذا وفي يده عرجون أبن طاب، فرآى في قبلة المسجد نخامة فحكها بالعرجون ثم أقبل علينا فقال: ((أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟ فخشعنا، ثم قال: أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟ فقلنا: لا أينا يا رسول الله، فقال: فإن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا)) ثم لوى ثوبه على بعض وقال: ((أروني عبيراً)) فثار فتى من الحي يشتد إلى أهله فجاء بخلوق في راحته فأخذ رسول الله الخلوق فجعله على رأس العرجون ثم لطخ به على أثر النخامة، قال جابر: فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم، أخرجه أبو داؤد كما جاء في الجواهر 1/224، وهو طرف من حديث طويل أخرجه مسلم.
…الخلوق بالخاء المعجمة والقاف: نوع من الطيب يتخذ من الزعفران وغيره، وابن طاب: نوع مخصوص من النخل، والعرجون: العود الأصفر المنحني الذي يكون فيه شماريخ الرطب.
والعبير: أخلاط الطيب من الزعفران وغيره، وكان في يده عرجون من النخل فحكها به وحضر العبير فلطخها به، ويستحب أن يجعل في المحاريب شيء من الطيب لأن عمل المسلمين قد جرى عليه وعمدتهم في ذلك هو هذا الحديث الذي حكيناه، ويستحب عقد الأنكحة في المساجد، ويستحب إذا جرت على الإمام والمسلمين نائبة أن يجتمعوا للإشتوار في المسجد؛ لأن ما هذا حاله من الأمور المرضية لله تعالى والمقربة إليه فجرت مجرى سائر النوافل، ويستحب التدريس في المساجد وأخذ العلم وإعطائه لأنه لا يخلو إما أن يكون واجباً فهو كالواجبات من الصلوات، وإما أن يكون مندوباً فهو كالنوافل من العبادات فلهذا استحب فعله في المساجد لما قررناه، وتستحب المناظرة في العلوم في المساجد لطلب الصواب سواء كانت المناظرة في العلوم العقلية أو في العلوم الشرعية إذا كان فيها إنصاف بالوصول إلى الحق من غير أن يكون هناك طول أصوات ولغط وعدم إنصاف فربما يكره ذلك لما فيه من إيغار الصدور وجرح القلوب لعدم الإنصاف، ويستحب للمسلمين إذا لم يكن في بقعتهم مسجد أن يشتروا عرصة ويعمروها؛ لأن الرسول لما دخل المدينة اشترى مسجده وكان مربداً(1)
لابني أخ لأبي أيوب فباعاه منه وشراه وجعله مسجداً له(2)،
__________
(1) المربد: موضع يجفف فيه التمر. ا هلسان. مادة ربد.
(2) جاء في سيرة النبي لابن هشام ج1 ص 141، قصة هجرة رسول الله إلى المدينة وأنه نزل على أبي أيوب الأنصاري وكانت ناقته قد بركت على باب مسجده وهو يومئذٍ مربد فسأل النبي عن المربد لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي (كانا في حجره يعولهما) وسأرضيهما منه فاتخذه مسجداً، قال: فأمره به رسول الله أن يبنى مسجداً. ا ه. بتصرف.
ويستحب إذا كان ضيقاً أن يوسعه المسلمون فيكون فسيحاً للصلاة وإجتماع المسلمين فيه، ويستحب إذا كان في أمواله سعة أن يتخذ منه بركة أو يحفر بئر للوضوء(1)
لما في ذلك من تمهيد قاعدة الوضوء للصلاة وتسهيل أحوالها، ويستحب إيضاً إذا كان في أمواله فضلة أن ينفق على من يشتغل بالقراءة والذكر والصلاة في المسجد، والتدريس لأن ذلك من أعظم القرب عند الله وأزكى الأعمال، وإن أُوصي للمسجد بعمارة، كانت العمارة بالذكر واجتماع المسلمين من أعظم العمارات لقوله [تعالى]: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الّلهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الَّلهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[التوبة:18]. ولنقتصر على هذا القدر مما يتعلق بالمساجد ففيه كفاية لمقدار غرضنا ونرجع إلى التفريع.
الفرع الحادي عشر: والمصلي في السفينة إذا كان لا يمكنه القيام لشدة جريها، صلى قاعداً وأجزأه لقوله : ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً " ))(2) .
وإذا أمكنه(3) فصلى قاعداً فهل تلزمه الإعادة في الوقت أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: الإعادة لازمة، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي ومالك ومحكي عن أبي يوسف ومحمد.
__________
(1) خارج المسجد كما سلف.
(2) تقدم.
(3) أن يصلي على السفينة قائماً.
والحجة على هذا: ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول بعث جعفر(1)
__________
(1) جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله ، صحابي مشهور من الأوائل، ترجم له أصحاب كتب الحديث والتراجم باستقصاء واسترسال في معظمها، جاء في مجملها: جعفر بن أبي طالب بن هاشم القرشي الهاشمي أبو عبد الله الطيار، ابن عم رسول الله، أخو علي وعقيل وأم هاني، أسلم قديماً وهاجر الهجرتين، واستعمله رسول الله على غزوة مؤتة بعد زيد بن حارثة، واستشهد بها وهي بأرض البلقاء، كان ثالث من أسلم من الرجال، لم يشهد بدراً مع من معه من المهاجرين في الحبشة إذ تأخر قدومهم إلى ما بعدها، ولكن النبي ضرب لجعفر بسهمه وأجره، روى عن النبي وعنه ابنه عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن مسعود وعمرو بن العاص، وأم سلمة، وبعض أهل بيته، وهو وعلي وعقيل بنو أبي طالب، أمهم: فاطمة بنت أسد بن هاشم. ا ه(تهذيب الكمال) 5/50-63، وقد عرف بالطيار؛ لأنه عندما استلم الراية في مؤتة بعد استشهاد زيد بن حارثة تكاثر عليه جيش الروم، فاقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى بُتر ساعده الأيمن، فتلقى الراية بالأيسر، وظل يقاتل حتى بُتر فانكفأ على الراية حتى قُتل.
قال في (الإصابة) 1/485: وقال ابن إسحاق: هو أول من عقر في الإسلام، وروى الطبراني من حديث نافع عن ابن عمر قال: كنت معه في تلك الغزوة فالتمسنا جعفراً فوجدنا فيما أقبل من جسمه بضعاً وتسعين بين طعنة ورمية، وفيه قال النبي : ((رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة)) و((ملكاً ذا جناحين مضرجاً بالدماء)) رواه الطبراني من حديث ابن عباس، وكان يحب المساكين ويخدمهم، فكان رسول الله يكنيه أبا المساكين، وقال له النبي : ((أشبهت خلقي وخُلقي)) رواه البخاري ومسلم، وكانت غزوة مؤتة في جمادى من سنة 8 للهجرة وكان عمر جعفر حينها 41 سنة.
إلى الحبشة فقال له: ((صل في السفينة قائماً إلا أن تخشى الغرق " ))(1) .
الحجة الثانية: ما روى ابن عمر أن الرسول سئل عن الصلاة في السفينة فقال للسائل: ((صل قائماً إلا أن تخشى الغرق " )) .
المذهب الثاني: جواز ذلك(2) وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: ما روى ابن سيرين(3)
قال: صلى بنا أنس بن مالك في السفينة قاعداً على شاطئ السفينة وإنها لتخر بنا خرَّاً من شدة جريها.
الحجة الثانية: قالوا: كل صلاة جاز أداؤها في حال السفر فإن فرض القيام يسقط فيها كالصلاة على الراحلة.
__________
(1) هذا الحديث رواه الدارقطني، والحاكم في المستدرك، عن ابن عمر قال: سئل النبي كيف أصلي في السفينة؟ قال: ((صل فيها قائماً إلا أن تخشى الغرق)) قال في فتح الغفار: قال في المستدرك: وهو على شرط مسلم، وفي المنتقى على شرط الصحيحين، ويشهد له قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وحديث: ((إذا أمرتم بأمر فاتوا منه ما استطعتم)) وقد تقدم. ا ه1/163.
(2) يقصد: جواز الصلاة في السفينة من قعود، وعدم لزوم الإعادة في الوقت.
(3) محمد بن الحسن بن سيرين. ترجم له في (سير أعلام النبلاء) 4/606-622 فقال: الإمام شيخ الإسلام أبو بكر الأنصاري الأنسي البصري، مولى أنس بن مالك، إلى أن قال: سمع أبا هريرة وعمران بن حصين، وابن عباس وعدي بن حاتم، وابن عمر وغيرهم، روى عنه: قتادة وأيوب ويونس بن عبيد وغيرهم. روي عن أخيه أنس أنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، توفي عن نيف وثمانين سنة، وقيل: ثمان وسبعين، وكان يوصف بالعلم والحفظ، يأتي بالحديث على حروفه كما روي عن ابن عون، وعن عون بن عمارة حدثنا هشام: أصدق من أدركت محمد بن سيرين، كما اشتهر بسعة العلم في الفرائض والقضاء والحساب، راجع (تقريب التهذيب) و(تاريخ بغداد) 5/331.
والمختار: ما اعتمده علماء العترة من منع ذلك(1) .
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا، وهو قوله لعمران بن حصين: ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً " )) . وروي عن علي أنه قال: يصلي صاحب السفينة قائماً إلا أن لا يستطيع ذلك صلى قاعداً وإن توجهت به السفينة كل جهة(2) .
وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: صل في المركب قائماً. ومثل هذا إذا صدر من جهة الصحابي فلا يقوله إلا عن توقيف من جهة الرسول لأن ما هذا حاله من جملة العبادات فلا يعرف من طريق الاجتهاد والمقاييس النظرية وإنما بابها التوقيف من جهة صاحب الشريعة صلوات الله عليه.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: روي عن أنس بن مالك أنه صلى في سفينة قاعداً.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا نهاية الأمر فيه أن يكون مذهباً لأنس فلا يلزمنا اجتهاده.
وأما ثانياً: فلعله محمول على عدم القدرة على القيام لشدة جريها وسعيها.
قالوا: كل صلاة جاز أداؤها في حال السفر فإن فرض القيام يسقط كالصلاة على الراحلة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن القيام على الراحلة وظهر الدابة مما يتعذر ويشق فلهذا قلنا بأنه لا يلزمه، بخلاف مسألتنا فإنه مستطيع للقيام من غير مشقة فلهذا لزمه فرضه.
وأما ثانياً: فلأن الراحلة لو كانت واقفة لا يلزمه القيام فهكذا إذا كانت سائرة بخلاف مسألتنا فإن القيام لازم في الحالين جميعاً فافترقا.
__________
(1) القصد المنع من الصلاة قاعداً في السفينة للمتمكن من القيام، ولزوم الإعادة في الوقت.
(2) تقدم معناه في الحديث السالف.
الفرع الثاني عشر: قال الإمام الهادي في (الأحكام): ولا تجزي الصلاة في البيع والكنائس التي لأهل الكتابين، فالبيع للنصارى والكنائس لليهود. وإنما لم تكن الصلاة مجزية في هذه الأماكن لما يظهر فيها من النجاسات بأقذارهم وخمورهم وما يتعلق بها من العفونات برطوباتهم فلأجل ذلك كانت الصلاة غير مجزية، فإذا طهرت عما ذكرناه جازت الصلاة كسائر المواضع التي تطهر عن النجاسة بعد وقوعها فيها، ولا تجوز الصلاة في الحشوش لأنها موضع الأقذار والنجاسات وملتقاها فلهذا لم تكن الصلاة فيها مجزية كسائر المواضع النجسة وإذا كانت بالوعة وقد ردمت جازت الصلاة عليها لأنها بإلقاء الطين الطاهر عليها قد تغيرت عن النجاسة وصار ما يلاقي المصلي طاهراً، وما تحتها فلا يضر المصلي ولو كان نجساً لملاقاته الطاهر.
قال الهادي في (الأحكام): والمصلي إذا كان مضطراً إلى الوقوف في الماء نظرت فإن كان الماء ذا كدر يستر عورته فإنه يصلي قائماً لأن القيام فرض فلا يجوز سقوطه مع إمكان الإتيان به ويؤمي للركوع والسجود ويكون إيماؤه لسجوده أخفض من إيمائه لركوعه إذا لم يستطع خلاف ذلك، وإن كان الماء صافياً لا يستر عورته في حال قيامه فإنه يصلي قاعداً إلا أن يكون الماء غمراً فلا يتمكن من القعود لكثرته فإنه يومي لركوعه وسجوده لقوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم " )) . ومن هذه حاله فلا يستطيع إلا ما ذكرناه ويُنَزَّلُ منزلة العليل في الإتيان بالممكن من حاله.
الفرع الثالث عشر: نجعله خاتمة لما يصلَّى عليه يشتمل على ما يحرم وما يكره وما يستحب، فهذه ضروب ثلاثة:
الضرب الأول: في بيان ما تحرم الصلاة فيه.
قال الإمام المؤيد بالله: ومن صلى على سطحٍ جذوعه مغصوبة أو فراديجه(1)
__________
(1) الفردج: الأخاسي، ويقال: خاساه: لاعبه بالجوز. ا ه. قاموس.
والطين غير مغصوب، فالأقرب أن لا تجوز صلاته. وإن كان البيت على قواعد مغصوبة لا يمتنع أن تصح الصلاة، والتفرقة بينهما هو: أن القواعد قد بعدت عن الغصب، والسقوف والجلال(1)
مستقلة حائلة من دونها بخلاف الخشب فإن الفراديج غير مستقلة فلهذا جازت الصلاة في مسألة القواعد ولم تجز في مسألة الفراديج لما ذكرناه.
قاعدة: اعلم أن المصلي إذا لاقى الغصب في حال صلاته فصلاته غير مجزية سواء كانت الملاقاة في دار أو سرير أو عريش أو ثوب أو بساط أو غير ذلك من الآلات سواء كانت موضوعة على حلال أو غصب، لكونه ملاقياً لها، تقريراً على ما أصَّلنا من بطلان الصلاة في الدار المغصوبة وعلى الثوب المغصوب والثوب المسروق، فأما إذا لم يكن الغصب ملاصقاً للمصلي فإن المسائل النظرية والمضطربات الاجتهادية تختلف فيه، وعلى هذا لو صلى على سرير مباح في دار مغصوبة، أو صلى على عريش في سفينة مغصوبة فما هذا حاله يقع فيه التردد والنظر في الصحة والفساد.
وإن أراد المصلي أن يصلي في بيتين وكان أحدهما نجساً واشتبها عليه نظرت فإن كان هناك بيت ثالث طاهر صلى فيه لأن طهارته متيقنة وإن لم يكن هناك بيت ثالث فهل يتحرى ويعمل على غالب ظنه أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا وجه لتحريه لأن الحظر والإباحة قد تعارضا فوجب التعويل على جانب الحظر والإمتناع عن التحري لما ذكرناه.
__________
(1) الطين الموضوع على الخشب في السقوف.
الضرب الثاني: في بيان ما تكره الصلاة إليه، وتكره الصلاة إلى الأقذار لأن المأخوذ على المصلي أن يكون خالصاً في حال صلاته على أحسن هيئة في الثياب النقية والبقعة الطاهرة، وإذا كان الأمر كما قلناه من كراهة استقبال الأقذار نظرت، فإن كان بين المصلي وبين القذر مثل ما بين الإمام والمأموم كره ذلك، وإن كان فوق ذلك لم تكره، ومن صلى على نشز من الأرض وتحته قذر كره له استقباله إذا كان بينه وبين النجاسة مثل ما بين الإمام والمأموم، فإن كانت النجاسة في موضع مرتفع نظرت، فإن كانت فوق قدر القامة فلا كراهة لعدم المواجهة لها، وإن كانت دونها كره ذلك ولا يفترق الحال بين أن تكون النجاسة في الموضع المنخفض أو المستوي في زوال الكراهة إن كان بينها وبين المصلي أكثر مما بين الإمام والمأموم، وإن كان دون ذلك كره، وإن كانت النجاسة في موضع مرتفع اعتبر في زوال الكراهة أن تكون فوق قدر القامة، فإن كان دونها كره. [والمصلي إذا كان مضطراً إلى الوقوف في الماء نظرت فإن كان الماء كدراً يستر عورته فإنه يصلي قائماً ويؤمي للركوع والسجود إنما يكون إيماؤه لسجوده أخفض من إيمائه لركوعه إذا لم يكن مستطيعاً لأكثر من ذلك، وإن كان الماء صافياً لا يستر عورته فإنه يصلي قاعداً إلا أن يكون الماء غمراً فلا يتمكن من القعود فيه لكثرته فإنه يؤمي للركوع والسجود. والوجه في ذلك: قوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما ستطعتم )) . ومن هذه حاله فلا يستطيع إلا ما ذكرناه وينزل منزلة العليل في الإتيان بالصلاة بالممكن من حاله](1) .
وهل تكره الصلاة في السرير المعلق بالحبال إلى السقف أو تكون باطلة؟ فيه تردد.
والمختار: بطلانها لأنه غير مستقر على الأرض كما لو صلى على الأرجوحة، ولا تشبه السفينة لأن قرارها على الماء فافترقا.
__________
(1) ما بين القوسين مكرر في الأصل. وقد سبق في الفرع الثاني عشر قبل هذا.
قال الإمام القاسم في الطهارات: ومن شاق الله تعالى بكبيرة فواجب ألا يُتَّخَذ سترة ولا قبلة في الصلاة(1)
وواجب إعادتها.
قال الإمام أبو طالب: وهذا محمول على الاستحباب يعني في وجوب الإعادة، فأما وجوب العدول عن إتخاذه سترة فهو على ظاهره لأن التبرؤ من أصحاب الكبائر الكفرية والفسقية والبعد عنهم واجب على المسلمين، ولله در هذا الإمام ما أقومه بأمر الله وأشد شكيمته على أعداء الله بالبعد عنهم والطرد لهم والإيحاش حتى آل أمره إلى أن من ارتكب كبيرة من الكفر والفسق فواجب أن يُتَجنب ولا يخالط المسلمين في مساجدهم ولا يكون قبلة لأحد في المساجد، ومصداق ما قاله القاسم قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الَّلهَ وَرَسُولَهُ " وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ}[المجادلة:22]. إلى آخر الآية، فهذه الآية أعظم آية في كتاب الله تعالى، في انقطاع الموالاة والمودة والمحبة، لمن حاد الله ورسوله بارتكاب الكبائر الفسقية والكفرية.
قال القاسم: وأحب ألا أُصلى إلا في موضع مستوٍ. وأراد: أنه يكره ما خالف ذلك لأن المكان إذا كان منحدراً فإن المصلي ينكس رأسه ويرفع عجيزته وإرتفاعها مكروه، وإن كان المصلي متصعداً فإن المصلي يرفع رأسه وفيه نقص لهيئة السجود فلهذا كره.
قال الهادي: ولا تسجد على كور العمامة، واعلم أن الكُور بضم الكاف: هو كور الناقة وهو سرجها، والكَور بفتحها: طاقات العمامة، ويطلق على الزيادة أيضاً ومنه الحديث: ((أعوذ بك من الحور بعد الكور " ))(2) .
أراد النقصان بعد الزيادة. وهل يكون السجود على العمامة مفسداً للصلاة أو يكون مكروهاً؟ فيه مذهبان:
__________
(1) في الأصل: في صلاته.
(2) أخرجه الترمذي عن عبد الله بن سرخس. 5/250.
المذهب الأول: أنه يكون مفسداً للصلاة، وهذا هو المحكي عن محمد بن يحيى، ورأي السيدين أبي طالب وأبي العباس إذا لم يخش حراً أو برداً فإن خشي ذلك جاز له ولم يكن مفسداً.
والحجة على ذلك: ما روى رفاعة عن الرسول أنه قال لمن علمه الصلاة: ((ثم تستقبل القبلة ثم تكبر)) إلى أن قال: ((ثم تسجد فتمكن جبهتك من الأرض))(1) .
وإذا كان على الأرض شيء مبسوط فهو مخصوص بالدلالة وليس كلامنا في هذا وإنما كلامنا في كور العمامة.
الحجة الثانية: قياسية: وهي أن هذا فرض يتعلق بالجبهة فوجب مباشرة الجبهة له من غير عذر. دليله: الطهارة عن الحدث.
المذهب الثاني: جوازه مع العذر وكراهته من غير عذر، وهذا هو رأي المؤيد بالله، وحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه سجد على كور العمامة.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة القاسم والهادي والناصر ومحمد بن يحيى وأبو طالب وأبو العباس وهو رأي الشافعي.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا: وهو ما روى خباب بن الأرت(2)
قال شكونا إلى رسول الله حر الرمضاء في جباهنا وأكفِّنا فلم يُشْكِنَا(3)
فدل ذلك على وجوب السجود على الجبة من غير حائل.
الانتصار: يكون بالجواب عما قالوه.
__________
(1) تقدم.
(2) أبو عبد الله خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد التميمي، صحابي معروف شهد بدراً، وكان قيناً في الجاهلية، روى عن النبي ، وروى عنه أبو أمامة الباهلي وابنه عبد الله وقيس بن أبي حازم وغيرهم. وفي (تهذيب التهذيب) 3/115: قال ابن سعد: أصابه سبأ فبيع بمكة، ثم حالف بني زهرة وأسلم قبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم، وكان من المستضعفين الذين يعذبون بمكة، وحكى الباودردي: أنه أسلم سادس ستة، وحكى ابن عبد البر في (الإستيعاب) أنه شهد صفين مع علي، مات بالكوفة سنة 37هوهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وصلى عليه علي بن أبي طالب، وقيل غير ذلك.
(3) في حاشية الأصل: تمامه: وأمرنا أن نصلي إذا زالت الشمس.
قالوا: روي عن الرسول أنه سجد على كور العمامة.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن الخبر محمول على أن هناك عذراً من حرٍ أو بردٍ ولا خلاف بيننا إذا كان مع العذر.
وأما ثانياً: فلعله سجد على كور العمامة وبعض الجبهة، ومثل هذا فهو مجزٍ فإنه ليس الواجب السجود على كل الجبهة.
وأما ثالثاً: فلأن ما أوردناه من الأخبار أظهر من هذا الخبر فلهذا كان ما قلناه أرجح لأن الرواية فيه أشهر وأظهر.
قالوا: إن الرسول أمر الأعرابي بالسجود، وهذا فقد سجد على الكور وهو يسمى ساجداً.
قلنا: أمره بالسجود الشرعي لأنه إنما يتكلم بشرعه، والظاهر أن السجود الشرعي إنما هو بكشف الجبهة كما قال لمن علمه: ((مكن جبهتك من الأرض )) .
قالوا: إذا جاز السجود مع الحائل المنفصل جاز مع الحائل المتصل والكور متصل والبساط والحصير منفصلان.
قلنا: ولاسواء فإن الحصير والبساط مما لا خلاف في السجود عليهما مع الإنفصال بخلاف كور العمامة فإن فيه النزاع، وهي مسألة الخلاف فافترقا بدليل خبر خباب بن الأرت.
الضرب الثالث: في بيان ما يستحب، ويستحب خلاف ما يكره.
قال الإمامان القاسم والهادي: ويستحب السجود على حضيض الأرض وهو التراب لما روى زيد بن علي عن علي عن الرسول أنه قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا )) . فتبين بهذا الحديث أن الله خص رسول الله بأن جعل له الأرض موضعاً للسجود. وفي هذا دلالة على الترغيب في السجود عليها، ويستحب السجود على الرمل والحصى والرضراض(1)
__________
(1) الرضراض: ما دق من الحصى. ا هلسان، وفي القاموس: الحصى أو صغارها. ا ه.
لما روي عن الرسول أنه رأى أصحابه يدخلون [إلىالمسجد] شيئاً من الرمل والحصى والرضراض فقال: ((ما أحسن هذا))(1) .
فدل ذلك على استحبابه. ويستحب لكل مُصَلٍ تعفير الوجه بالسجود لله تعالى وأن يضع جبهته على التراب والحضيض لما روي عن الرسول أنه قال لأعرابي: ((عفر جبينك بالتراب " ))(2) .
وروي عن علي بن الحسين أنه كان يقوم على البساط ويسجد على التربة، وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان لا يسجد إلى على التراب. فإذا كان يصلي على حصير في المسجد أو في غيره أُدخل له تراب يسجد عليه. ويستحب أن يسجد على ما أنبتت الأرض من حصير أو قطن أو كتان، لقوله : ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) . وهذا من الأرض فلهذا كان مستحباً.
وروى ابن عباس عن رسول الله أنه كان يسجد على الحصير، وروي عن الهادي أنه كان يقوم على الحصير ويسجد على التراب. وتستحب الصلاة في البساتين لما روى معاذ بن جبل أن النبي كان يستحب الصلاة في البساتين. حكاه الترمذي.
وتجوز الصلاة على الثلج والجليد إذا كانا ملبدين؛ لأنهما عين طاهرة صالحة للسجود ولا يعرف فيه خلاف.
قال الإمام المؤيد بالله: وتجوز الصلاة على الفرش المرتفعة إذا كانت جبهة المصلي مستقرة على موضع سجوده لأنها عين طاهرة تصلح للسجود فأشبه الصلاة على الحصير والبساط.
وهل تكره الصلاة على الشعر والوبر والصوف والمسوح واللبود؟ فالصوف من الغنم والشعر من المعز والوبر من الإبل واللبد: هو الصوف الملبد، والمسح: هو ثوب من شعر، فيه مذهبان:
__________
(1) أخرجه أبو داؤد عن ابن عمر 1/145 بلفظ: عن أبي الوليد قال: سألت ابن عمر عن الحصى الذي كان في المسجد فقال: إنا مطرنا ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة فجعل الرجل يجيء بالحصى في ثوبه فيبسطه تحته فلما قضى رسول الله صلاته قال: ((ما أحسن هذا)) .
(2) أخرج الترمذي عن أم سلمة قالت: رأى النبي غلاماً لنا يقال له أفلح إذا سجد نفخ، فقال : ((يا أفلح ترب وجهك)) .
المذهب الأول: أن ذلك يكره، وهذا هو المحكي عن الإمامين القاسم والهادي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) . وما روي عن الرسول أنه صلى على حصير.
ووجه الدلالة من هذين الخبرين: هو أنهما دالان على السجود على الأرض وعلى ما أنبتته الأرض، والتعفير بالأرض فيه نهاية الخضوع فيجب أن يكون مستحباً وما عدا ذلك يجب أن يكون خارجاً عن حكم الاستحباب. ولا نعني بالكراهة إلا ذلك فهذا معنى قولنا: أنه مكروه. فإن صلى على ما ذكرناه كان مجزياً لأنه صلى على موضع طاهر فصار كما لو صلى على ما أنبتت الأرض، وحكى بعض أصحاب الشافعي عن الرافضة: أنه لا يجزئ، وهذا قول خارق للإجماع فلا يلتفت إليه، فإن الإجماع منعقد على أن الصلاة [على ما ذكرناه] مجزية ومسقطة للفرض.
المذهب الثاني: أن الصلاة غير مكروهة على الصوف والوبر والشعر والمسوح واللبود، وهذا هو رأي الإمامين الناصر والمؤيد بالله وهو قول كافة العلماء.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه كان يصلي على نمرة، والنمرة: كساء من صوف فيه خطوط. وهذا هو المختار، ويدل عليه ما روى ابن عباس أن الرسول كان يصلي على الخُمرة، والخمرة: ثوب من صوف. وحكى الترمذي في صحيحه أن أكثر أهل العلم من الصحابة رضي الله عنهم لم يروا بالصلاة على البسط والطنافس(1) بأساً.
__________
(1) الطنفسة: مثلثة الطاء والفاء وبكسر الطاء وفتح الفاء والعكس، واحدة الطنافس للبُسُط والثياب والحصير من سعف، عرضه ذراع. ا ه. قاموس.
ويؤيد ذلك ما روي عن الرسول أنه كان له كساء يصلي عليه من صوف وكان فيه خطوط فشغلته تلك الخطوط في الصلاة فقال: ((أرسلوا به إلى أبي جهم (1)
وائتوني بانبجانية))(2) .
والإنبجاني: كساء أبيض ليس فيه خطوط.
ومن وجه آخر: وهو أن لباس الصوف فيه خشوع وتذلل وهو لباس الصالحين وأهل الدين والنسك فإذا جاز لباسه جازت الصلاة عليه من غير كراهة، ولأنه ثوب حلال طاهر فجازت الصلاة عليه كالحصير وما أنبتت الأرض.
والمصلي إذا صلى على حصير غليظ وكانت النجاسة متصلة به أو صلى على ثوبين قد خيط أحدهما إلى الآخر وكان ما يلي الأرض نجساً فهل تجوز الصلاة في الحصير وفي الثوبين أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أن الصلاة غير مجزية فيما ذكرناه وهو اختيار السيد المؤيد بالله ورأي الحنفية؛ لأن الحصير وإن غلظ فهو كالشي [الواحد] والثوبان قد صارا بالخياط كالثوب الواحد فلهذا لم تجز الصلاة لأجل الإتصال.
وثانيهما: أن الصلاة جائزة، وهذا هو رأي الإمام المنصور بالله والحقيني(3)
__________
(1) أبو جهم بن حذيفة بن غانم، ينتهي نسبه إلى عدي كعب القرشي العدوي. قيل اسمه: عامر، أسلم عام الفتح وصحب النبي ، وكان مقدماً في قريش وأحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ منهم علم النسب، قيل: إنه شهد بنيان الكعبة في الجاهلية، وشهد بنيانها في أيام ابن الزبير، وتوفي في ذلك العهد، وقيل: بعده.
(2) أخرجه البخاري عن عائشة. ج1 ص 146.
(3) علي بن جعفر بن الحسن بن عبيد الله بن علي بن الحسين المعروف بالحقيني، نسبة إلى قرية سكن بها يقال لها: حقينة بالقرب من المدينة. ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب" قال في تراجم رجال الأزهار 3/24: أبو الحسن الإمام الهادي المعروف بالحقيني الصغير والكبير والده.
قال حميد الشهيد: أجمع أهل عصره على أن سبع علمه [كاف] للإمامة، قام في أرض الديلم سنة 472ه، وكان فقيهاً متكلماً، قائماً بأمر الله إلى أن وثب عليه رجل حبشي في المسجد فقتله في يوم الاثنين في رجب سنة 490ه. ا هله مؤلفات وآراء واجتهادات كثيراً ما ترد في مؤلفات رجال المذهب.
ومحكي عن الشافعي؛ لأن غلظ الحصير يبعده عن مباشرة النجاسة كما لو ردمت الأرض بالتراب لم يضر المصلي ما في باطنها من النجاسة، وهكذا حال الثوبين ولو خيطا وكان أحدهما نجساً فإنه ينزل منزلة ما لو بسط ثوباً على بساط نجس فكما أن هذا يصح فهكذا ما ذكرناه وهذا هو المختار، لأن المقصود أن يكون ما يلاقي المصلي طاهراً وهذا حاصل في الحصير الغليظ وفي الثوبين المخيط أحدهما إلى الآخر فإنه يلاقي الطاهر فلهذا كانت صلاته مجزية. فهذا ما أردنا ذكره فيما يتعلق بطهارة الأثواب
---
الفصل الثالث في بيان ما يتعلق بطهارة الأبدان
اعلم أن الأثواب كما يجب تطهيرها للصلاة فهكذا حال الأبدان. ويتعلق بالبدن طهارتان، طهارة الحدث، وطهارة النجاسة.
فأما طهارة الحدث: فقد مضى الكلام عليها.
وأما طهارة البدن من النجاسة: فهي واجبة على كل مصلٍ لقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }[المدثر:5]. ولم يفصل، ولأنه إذا وجب تطهير البقعة والثوب عن النجاسة للصلاة فتطهير البدن أولى وأحق لأن طهارته أخص بالصلاة وأكثر ملابسة لها من الثوب والبقعة ولأنا قد دللنا على وجوب إزالة النجاسة من البول والغائط من البدن فهكذا سائر النجاسات يجب إزالتها من الأبدان، هذا تمهيد الفصل.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: وإذا كان على بدن المصلي نجاسة غير معفو عنها نظرت، فإن وجد ما يغسلها به وجب عليه غسلها لأنه ممكن فلهذا لم يسقط وجوبه، وإن لم يجد ما يغسلها به صلى على حالته كمن لم يجد ماء ولا تراباً، وهل يعيد الصلاة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تلزمه الإعادة لأن ما هذا حاله فهو عذر نادر فلا يعتد به فصار كأنه ترك الصلاة من غير عذر.
وثانيهما: لا تلزمه الإعادة، وهذا هو المختار لقوله : ((لا ظهران في يوم ولا عصران في يوم)).
فإن كان على جرحه دم يخاف من غسله تلف النفس أو تلف عضو من أعضائه أو خشي زيادة في علته أو حدوث علة أخرى أو خشي إبطاء العلة، فإنه يغسل ما أمكنه غسله ويتيمم لأجل الجراحة إن كان جنباً. وإن كان محدثاً والجراحة في أعضاء الوضوء. فهل تلزمه الإعادة إذا قدر على الغسل أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الإعادة غير لازمة وهذا هو قول أبي حنيفة واختيار المزني من أصحاب الشافعي؛ لأنه صلى على حسب حاله وعلى ما أوجب عليه الشرع فلا إعادة عليه كما لو كان صحيحاً.
وثانيهما: أنها تلزمه الإعادة لأن ما هذا حاله فهو عذر نادر.
والمختار: هو الأول لما ذكرناه من الخبر في قوله: ((لا ظهران في يوم)).
الفرع الثاني: في من انكسر عظمه أو سقطت ثنيته فأراد أن يبدلهما عظماً آخر نظرت، فإن كان المبدل [به] عظماً طاهراً كعظم الحيوان المأكول بعد الذكاة جاز ذلك لأن فيه منفعة ولم يمنع منه مانع، وإن كان عظماً نجساً نحو عظم الكلب والخنزير والميتة إذا قلنا بأنها تحلها الحياة فهي نجسة، فإن ما هذا حاله لا يجوز له فعله لأجل النجاسة فإن فعل جرأة على الله تعالى في استعمال النجاسة أو كان لا ينفعه غيره فهل يجب عليه كسره وإخراجه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يلزمه إخراجه، وهذا هو رأي المؤيد بالله، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أن ما هذا حاله ليس بأكثر من نجاسة الدم الذي في باطنه لأنه صار في اتصاله واندمال اللحم عليه بمنزلة الدم الحاصل في العروق.
المذهب الثاني: وهو رأي الشافعي، أنه يلزمه قلعه إذا لم يخش التلف فإن امتنع أجبره السلطان على قلعه فإن مات قبل قلعه لم يلزم قلعه لأن الجميع قد صار نجساً بالموت والله تعالى حسبه فيما فعل من الصلاة مع النجاسة في حال حياته. فإن خيف من قلعه التلف فقد اختلف فيه أصحابه، فمنهم من قال: لا يقلع لأن حكم النجاسة قد سقط لأجل الضرورة كما يقول في دم المستحاضة وسلس البول، ومنهم من قال: يقلع فإن مات بالقلع فالحق قتله كما يقول فيمن قطعت يده بالسرقة ثم مات.
والحجة للشافعي فيما ذهب إليه، ما حكيناه عنه، وهو قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ " }[المدثر:5]. والعظم النجس من جملة الرجز فوجب هجرانه.
والمختار: ما قاله الإمام المؤيد بالله.
والحجة عليه: ما أسلفناه ونزيد هاهنا، وهو أن هذه النجاسة لا يمكن إزالتها إلا بحرج ومشقة واحتمال ألم فلهذا سقط حكمها في الإزالة لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. وقوله تعالى: {يُرِيدُ الَّلهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]. ولا حرج ولا عسر أعظم من تقطيع الجسم لإزالة هذه النجاسة، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه: هو أن النجاسة في الفرجين سقط غسلهما عند الفقهاء وما ذاك إلا من أجل عموم البلوى فإذا كان غسلهما ساقطاً لعموم البلوى فكيف لا يسقط ما هذا حاله لأجل ما فيه من الحرج والمشقة بالتقطيع للجسم.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إن الله تعالى يقول: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5] فيجب القضاء بهجرانه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في الآية ما يقتضي العموم لأن الإسم المفرد لا دلالة فيه على العموم إلا بقرينة ولا قرينة هاهنا تقتضي عمومه.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا كونه دالاً على العموم فهو مخصوص بالدلالة بصور كثيرة وما ذكرناه من الأدلة يعارض عمومه ويقضي بخلافه.
قالوا: العروق لا تنفك عن اتصال الدم بها فسقط حكمه فلا يلزم إخراجها منها للضرورة وليس كذلك في مسألتنا فإنه لا ضرورة تدعو إلى ترك العظم النجس في بدنه.
قلنا: إذا انجبر العظم ونبت اللحم عليه كانت الضرورة داعية إلى تركه من حيث يخشى الضرورة والتلف بتقطيع جسده.
ومن وجه آخر: وهو أنها نجاسة حاصلة في باطن بدنه فلم يجب إخراجها كما لو شرب الخمر وتناول الميتة فإنه لا يلزمه إخراجها بالتقيء.
قالوا: نجاسة وصلت إلى موضع لا يحتملها فوجب أن يلزمه قلعها عند عدم الضرورة كما لو ألصقها بظاهر البدن.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المعنى في الأصل: هو أن النجاسة لم تحصل في باطن البدن بخلاف مسألتنا.
وأما ثانياً: فلأن مقصود المسألة والذي عليه التعويل هو ما يلزم من الحرج والمشقة بتقطيع الجسم وإتلافه بإخراج العظم وهو خلافٌ لمقصود الشرع في رفع المشاق والآلام عن الخلق بالتيسير والتسهيل المعروفين من قصد صاحب الشريعة صلوات الله عليه.
الفرع الثالث: فإن شرب خمراً أو أكل ميتة من غير ضرورة فهل يلزمه التقيؤ أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يلزمه التقيؤ، وهو المنصوص للشافعي.
وحجته على هذا: ما ذكرناه في العظم فإنه أوجب نزعه بكل حال.
وثانيهما: أنه لا يلزمه التقيؤ لأن المعدة معدن النجاسات وقد صار متصلاً بها فلا يلزم إخراجه منها، وهذا هو المختار على المذهب لأن المعلوم من حال الشَّرَبة للخمر وأَكَلَة الأموال الحرامية من الربا وسائر المظالم، أنهم لم يؤمروا بالتقيؤ لما شربوه وأكلوه بل تجري عليهم الحدود في شرب الخمر ولا يؤمرون بإخراجها من بطونهم، وهذا معلوم من حال السلف والخلف فوجب التعويل عليه.
قالوا: أكل الميتة وشرب الخمر محرمان، واستدامتهما في المعدة محرم أيضاً؛ فلهذا أوجبنا التقيؤ لإزالتهما عن المعدة.
قلنا: إن الله تعالى يريد من الخلق اليسر في جميع الأحوال، والتقيؤ فيه حرج ومشقة؛ فلهذا كان مرفوعاً برحمة الله ولطفه؛ ولهذا فإن من كسر رجله وجنى عليها فإنه لا يكلف أن يصلي قائماً؛ فهكذا ما نحن فيه من شرب الخمر وأكل السحت فإنه لا يلزمه التقيؤ لها.
قالوا: روي أن أبا بكر رضي الله عنه أكل من أجرة غلام له رقى عليه برقى الجاهلية، فلما أخبره بذلك أدخل يده في فيه وتقيأه ثم قال بعد ذلك: اللهم لا تؤاخذني بما في العروق. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه شرب لبناً فقيل له: إنه من إبل الصدقة فتقيأه. وفي هذا دلالة على ما ذكرناه من إخراجه من المعدة.
قلنا: إن كلامنا في فتوى الشرع وما هو المتوجه من جهة أوامر الشرع ونواهيه وليس كلامنا في أبواب الورع فإن له طريقةً تخالف فتوى الشرع.
ومن وجه آخر: وهو أن هذا نهاية الأمر فيه أن يكون مذهباً لأبي بكر وعمر واجتهاداً لهما فلا يلزمنا قبوله، ومذهب الصحابي ليس حجة وإنما الحجة فيما قاله صاحب الشريعة صلوات الله عليه.
الفرع الرابع: ومن أدخل تحت جلده دماً زائداً على مقدار ما يعفى عنه ونبت عليه اللحم فإنه لا يلزمه إخراجه ولا قلعه، كما ذكرناه في مسألة العظم لما في ذلك من الحرج والمشقة، وهما مرفوعان من جهة الشرع.
وحكي عن الشافعي أنه قال في (الأم): يجب عليه أن يخرجه ويقلعه من جلده ويعيد كل صلاة صلاها مع ذلك الدم.
والمختار:ما قررناه في حكم العظم؛ لأنهما مستويان في الحرج والمشقة.
والعجب من الشافعي رضي الله عنه في تهالكه في إيجاب إخراج العظم والدم اللذين انجبر عليهما اللحم وصارا من جملة الجسد ولم يغتفر نجاستهما مع الاتصال، مع علمه بقول الرسول : ((بعثت بالحنيفية السمحة)). وبالتساهل والمسامحة في شيء من النجاسات واغتفارها في صور متعددة كالعفو عن محل النجو بعد الاستجمار على رأيه في السبيلين جميعاً وبالعفو عن طين الشوارع وزبلها المتحقق نجاسته وبالعفو عن دم البراغيث والبق وبالمسامحة عن القيح والصديد في البثرات التي تبدو في الوجه، فكيف أصر على نزع العظم والدم مع الاتصال والإقدام على الحرج والمشقة، ولم يغتفره كما اغتفرها في هذه الصور.
الفرع الخامس: قال الإمام الهادي: ولا يجوز للمرأة أن تصل شعرها بشعر النساء.
اعلم أن الشعور في تحليلها وتحريمها تجري على ضروب أربعة:
الضرب الأول منها: شعر طاهر لا خلاف في طهارته، وهو شعر ما يؤكل لحمه بعد الذكاة أو الجز في حال الحياة فما هذا حاله فلا خلاف في طهارته إذا لم يتصل به شيء من النجاسات.
الضرب الثاني: شعر نجس ولا خلاف بين أئمة العترة في نجاسته إلا الناصر، وهذا [هو] شعر الكلب والخنزير فإنه [لا] يستثنى شيء منهما سواءً كان مما تحله الحياة أو لا تحله.
الضرب الثالث: شعر طاهر في حال الحياة والممات عند أئمة العترة وهذا هو شعور بني آدم سواءً أخذ في حال الحياة أو في حال الموت.
الضرب [الرابع]: شعر طاهر في حال الحياة والموت، وهذا نحو شعر ما لا يؤكل لحمه ونحو شعر الميتة والكافر.
فإذا عرفت هذا وأرادت المرأة أن تصل شعرها بشعر طاهر من أحد الشعور التي ذكرناها نظرت في حالها، فإن كانت غير ذات زوج ولا سيد في حق الأمة فهل يحرم أو يكره؟ فيه احتمالان:
الاحتمال الأول: أنه يحرم عليها الوصل بالشعور الطاهرة أو بالخرق.
والحجة على هذا: ما روت أسما بنت أبي بكر أن امرأة أتت الرسو فقالت: يا رسول الله إن ابنتي أصابتها حصبة فتمزق شعرها أوَ أَصله؟ فقال الرسول : ((لعن الله الواصلة والمستوصلة " والواشمة والمتشمة والنامصة والمنتمصة والمفلِّجة للحسن المغيرة خلق اللّه، والمتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال))(1).
فأما الواصلة: فهي التي تصل شعرها بغيره، وأما المستوصلة: فهي التي يوصل لها الشعر، وقيل: إن الواصلة هي التي تصل بين الرجال والنساء لفعل الفاحشة، والأول أظهر، وأما الواشمة: فهي المرأة التي تجعل في وجه غيرها من النساء وكفيها ويديها خالاً للحسن بغرزه بالإبرة وبدفنه بالنؤور(2)
وهو الصدأ، والموشومة: هي الطالبة للوشم أن يفعل بها هكذا. هذا هو تفسير أئمة اللغة والمذكور في غريب الهروي(3) وغيره.
__________
(1) راجع لسان العرب ج11 ص 727، والحديث المروي عن عائشة.
(2) في هامش الأصل: النؤور: النيلح وهو دخان الشحم يعالج به الوشم حتى يخضر. ا ه.…ر. ا ه.
(3) أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الباشاني، أبو عبيد الهروي صاحب الغريبين، غريب القرآن وغريب الحديث، وقد سبقت ترجمته. أعلام الزركلي 1/210.
وأما في العرف في ديارنا هذه فالواشمة هي التي تغرز حنك المرأة بالأبرة وتدفنه بالنؤور، والمستوشمة هي الطالبة لأن يفعل بها هكذا، وكل هذا إنما يفعل لطلب الحسن، وأما النامصة من النساء فهي التي تزيل الشعر من وجه غيرها وتدقق حاجبها مأخوذ من المنماص وهو الملقاط الذي يزال به الشوك، وأما المنتمصة فهي [التي] يفعل بها ما ذكرنا، وأما الواشرة من النساء فهي التي تشر أسنانها وتدققها تفعل ذلك الكبار من النساء تشبهاً بالصغار، وأما الموشرة فهي التي يفعل بها ذلك، وأما المتفلجات في قوله : ((لعن الله المتفلجات من النساء " )). فهن اللواتي يفرقن بين الأسنان عن الإتصال. فهذا الخبر دال على التحريم لما فيه من الوعيد باللعن ومثل هذا إنما يكون على الأفعال المحرمة.
الاحتمال الثاني: أن يكون مكروهاً لأنها تغر غيرها بكثرة الشعر وبما ذكرناه من هذه الأفعال وقد نهى رسول الله عن الغرر والتدليس وفي الحديث: ((ليس منا من غش " )). ولا يحرم ذلك عليها لأنه من الزينة بالأمور الطاهرة.
والمختار: هو الأول لما دل عليه ظاهر الحديث وهو دال على التحريم، ولأنها إذا كانت لا زوج لها ولا سيد فالإشتغال بهذه الأفعال يوجب الريبة ويدعو إلى فعل الفاحشة فلهذا كان محرماً.
وإن كان للمرأة زوج أو سيد في حق الجارية فهل يجوز ولا يكره أو لا يجوز؟ فيه احتمالان:
الاحتمال الأول: أنه يجوز ولا يكره.
والحجة على هذا: هو أن لها أن تَزَّين وهذا من الزينة المباحة.
الاحتمال الثاني: أنه لا يجوز، والدليل عليه هو ظاهر الخبر الذي رويناه فإنه لم يفصل بين أن يكون لها زوج أو لم يكن.
والمختار: في ذوات الأزواج وفي الإماء الموطوءات بالملك: تفصيل نشير إليه وحاصله أنا نقول: المأخوذ على من ذكرناه هو استعمال الزينة في كل الأحوال لأجل الدعاء إلى الوطء والاستمتاع.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ}[النور:31]. فقدم البعولة على غيرهم، لما كان استعمال الزينة إنما هو لأجلهم، ولأن غيرهم من سائر الأرحام المحارم لا ثمرة للزينة في حقهن وإنما الغرض ذكر ما يباح من إظهار الزينة. وقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور:31]. وفي هذا دلالة على استعمال الزينة وأنه لا يبدو فيها لغير الأزواج من الأرحام المحارم إلا ما ظهر وهو موضع الكحل والخاتم والخلخال. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها لبست فتخاً(1)
في أصابعها فرآها رسول الله فقال لها: ((ما هذا يا عائشة " )). قالت: هذه فُتُخ أتجمل بهن لك. فقال: ((أحسنت يا عائشة)).
ومن وجه آخر: وهو أن المأخوذ على ذوات البعول من النساء التجمل بالحلية واستعمال الطيب والتنظف، وكل ما كان داعياً إلى الوطء، وهذا معلوم لا يقع فيه نكير بين المسلمين في جميع ما ذكرناه. فإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول: الزينة في الوجه هي تحميره وتصفيف الطرة وترحيج(2)
الحواجب وتدقيقها وتفليج الأسنان(3)
ووشم الحنك بغرز الإبرة ودفنه بالنؤور ليكون أسود في مقابلة بياض الأسنان، وإزالة الشعر عن الوجه ليظهر رونقه وبهاؤه فإزالته من ملتقى الحاجبين وهو البلج. وثقب الأذن لتعليق الأخراس(4)
__________
(1) خاتم يكون بفص وبغير فص، اهلسان العرب ج3/40.
(2) في هامش الأصل: الرحج دقة في الحاجبين وطول، ورحجت المرأة حاجبها: دققته وطولته.
(3) في اللسان: وفلج الأسنان تباعد بينها، وثغر مفلج أفلج، ورجل أفلج إذا كان في أسنانه تفرق. اه2/346.
(4) يقصد الأخراص بالصاد المهملة. وفي لسان العرب: الخُرص والخِرص: القرط بحبة واحدة، والجمع: خرصة، وهي حلقة صغيرة من الحلي وهي من حلي الأذن. ا.ه.7/22.
ونقش الوجه بالحبر، والزينة في اليدين يكون بالخضاب بالحناء وتسويدهما بالحبر وهكذا الرِّجلان. فهذه الأمور كلها تكون مستحبة في حق ذوات البعول من النساء ومن كان لها سيد من الإماء، وهكذا القول في استحباب استعمال الطيب ولبس الثياب الغالية، وكل ما يكون داعياً إلى الوطء والإستمتاع فإنه يكون مستحباً لما ذكرناه. فأما الخبر الذي رويناه عن أسما بنت أبي بكر فإنه محمول على وجهين:
أحدهما: أن ذلك إنما ورد في حق من لا زوج لها لأن استعمال هذه الأمور في حق من لا زوج لها لا وجه يدعو إليه ولا ثمرة له فلهذا كان محرماً.
وثانيهما: أنه محمول على من تفعل ذلك لغير الأزواج وهذه عادة الزواني والمومسات، وعلى الجملة فإن هذه الأفعال جارية في حق نساء المسلمين من غير نكير، وفي هذا دلالة على إباحته وعلى كونه مستحباً لقوله : ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " )). وبتمامه يتم الكلام على [ما] يتعلق بطهارة الأبدان والله الموفق للصواب
---
الفصل الرابع في بيان العورة ووجوب سترها للصلاة
ستر العورة واجب في غير الصلاة لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حيٍّ ولا ميت ))(1)،
فإن اضطر إلى كشفها للمداواة جاز ذلك؛ لأنه موضع حاجة وضرورة، وهل يجب ستر العورة في حال الخلوة في غير الصلاة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك غير واجب لأنه ليس هناك من ينظر إليها، ولم يحرم إلا النظر إليها.
وثانيهما: أنه يجب لقوله : ((لا تبرز فخذك )). ولم يفصل بين أن يكون هناك من ينظر إليها أو لا يكون. وهذا هو المختار لقوله لما سأله رجل فقال: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال له: ((احفظ عورتك إلا على امرأتك أو ما ملكت يمينك)). فقال الرجل: أرأيت لو كان أحدنا في خلوة؟ قال: ((فالله أحق أن يستحيى منه))(2).
فدل ذلك على المنع في الخلوة.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في بيان عورة الرجل وفيها مذهبان:
المذهب الأول: أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة، وهذا هو رأي أئمة العترة وهو قول الفريقين ومحكي عن مالك.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((ما بين السرة والركبة عورة ))(3).
المذهب الثاني: أن العورة من الرجل ليست إلا القبل والدبر، وهذا هو رأي داود وطبقته من أهل الظاهر.
والحجة على هذا: قوله : ((احفظ عورتك إلا على امرأتك أو ما ملكت يمينك )).
__________
(1) أخرجه الترمذي عن ابن عباس.
(2) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وكانت له صحبة، قال: قلت: يا رسول الله...إلخ، أخرجه أبو داود والترمذي.
(3) لفظه في (المهذب) كما في (جواهر الأخبار): لما روى أبو سعيد الخدري عن النبي قال: ((عورة الرجل ما بين سرته وركبته)).
قال في(التلخيص): حديث أبي أيوب: ((عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته)) أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه، واسناده ضعيف، فيه عباد بن كثير، وهو متروك، ا ه1/226.
ووجه الدلالة من هذا الخبر: هو أن السابق إلى الفهم من اسم العورة إنما هو القبل والدبر فلهذا وجب قصرها عليهما.
والمختار: ما قاله علماء العترة وفقهاء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه. ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((الفخذ عورة ياعلي لاتنظر إلى فخذ حي ولا ميت))(1).
فأثبت بما ذكرناه أن غير القبل والدبر عورة وفي هذا دلالة على بطلان ما قالوه من قصر العورة على القبل والدبر.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: السابق إلى الفهم من العورة هو القبل والدبر فلهذا حملنا ما ورد من الأخبار عليه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أنه مقصور على إفادة القبل والدبر فما قلتموه لابد عليه من دلالة ولا دلالة على ما قالوه.
وأما ثانياً: فلو سلمنا ما ذكروه من أن السابق[إلى الفهم] عند الإطلاق من اسم العورة القبل والدبر لكنا نأخذ ما سوى القبل والدبر من دلالة ثانية فبطل ما قالوه.
الفرع الثاني: في السرة والركبة، هل تكونان عورة كلتاهما أو إحداهما؟ فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن الركبة عورة والسرة ليست بعورة، وهذا هو رأي الإمامين الهادي والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة وعطاء.
والحجة على هذا: ما نقرره، فأما الركبة فالذي يدل على كونها[عورة] قوله : ((كل شيء أسفل من سرته إلى ركبته فهو عورة " ))(2).
ووجه الحجة من هذا الخبر: وهو أن ظاهره دال على أن ما تحت السرة عورة ثم قال: ((إلى الركبة)). فدل ظاهره على أن ما دونهما ليس عورة فبقيت الركبة في الجملة التي هي عورة.
ومن وجه آخر: وهو أن الحد قد يدخل في المحدود وقد لا يدخل فهو موقوف على الدلالة الشرعية وكلا الأمرين محتمل، لكنا نُغَلِّب جانب الحظر على جانب الإباحة من جهة أن الحظر أحوط للدين خاصة فيما يتعلق بجانب العبادات فهو لا محالة أرجح من الإباحة.
__________
(1) أخرجه أبو داود عن علي.
(2) حكاه في(الشفاء).
وأما السرة فالذي يدل على أنها ليست من العورة، أمران:
أما أولاً: فقوله في هذا الخبر: ((كل شيء أسفل من سرته إلى ركبته فهو عورة " )) فعلق العورة على ما كان أسفل من السرة فبقيت السرة على حكم الأصل في أنها ليس عورة.
وأما ثانياً: فلما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للحسن بن علي: أرني الموضع الذي كان رسول الله يقبله منك: فكشف عن ثوبه فقبل أبو هريرة سرته، فدل ذلك على أنها ليست عورة.
المذهب الثاني: أن السرة والركبة جميعاً ليستا من العورة، وهذا هو الأصح من أقوال الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته " ))(1).
ووجه الدلالة من هذا الخبر: هو أنه جعل عورة الرجل ما بين السرة والركبة ولفظ البين يستعمل في الوسط بين الشيئين، فيقال: فلان بيني وبينك. فإذن العورة ما بينهما وهما غير داخلين في العورة.
المذهب الثالث: أنهما جميعاً من العورة وهذا هو أحد أقوال الشافعي.
والحجة على هذا: أما عورة الركبة فقد ذكرنا دليله وأما عورة السرة فالحجة عليه ما روى أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله أنه قال: ((ما فوق الركبتين عورة " )). وأجمعنا على أن ما فوق السرة ليس بعورة فبقيت السرة تحت العموم في كونها عورة.
المذهب الرابع: أن السرة عورة والركبة ليست بعورة وهذا هو أحد أقوال الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((ما بين السرة إلى الركبة عورة )).
ووجه الدلالة من هذا: هو أنه جعل الركبة غاية للتحريم وحداً له فيجب ألا يدخل الحد في المحدود لأن غاية الشيء حده ومنقطعه.
__________
(1) رواه] الحارث بن أسامة في مسنده من حديث أبي سعيد وفيه شيخ الحارث داود بن المحبر، رواه عن عباد بن كثير، عن أبي عبد الله الشامي، عن عطاء عنه، وهي سلسلة ضعف إلى عطاء. اهبلفظه من الجواهر 1/226.
والحجة على أن السرة عورة: ما ذكرناه من حديث أبي أيوب الأنصاري وهو قوله : ((ما فوق الركبة عورة )). ولم يفصل فدل على دخوله في العورة. فهذه هي المذاهب في بيان عورة الرجل قد ذكرنا وجوهها.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن تابعهم من علماء الأمة من كون الركبة عورة والسرة غير عورة.
والحجة: ما ذكرناه عنهم، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن علي أنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((الركبة عورة))(1).
وهذا نص في كونها عورة لا يحتمل التأويل.
فأما الدلالة على أن السرة غير عورة فهي أن الأدلة إنما تناولت الركبة في التحريم فبقي ما عداها على أصل الإباحة إلا ما دلت عليه دلالة شرعية.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
واعلم أن معتمدنا فيما ذهبنا إليه إنما هو سنن منقولة عن الرسول ، وما ذكروه أقيسة ضعيفة والأقيسة لا تعارض الأخبار خاصة في باب العبادات في الطهارة وستر العورة فإنه لا مجرى للأقيسة فيها.
قالوا: روي عن رسول الله أنه قال: ((ما بين السرة إلى الركبة عورة " )).فجعل الركبة غاية للتحريم وقد تدخل الغاية كقوله [تعالى]: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ }[المائدة:6]. وقد لا تدخل كقوله[تعالى]: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }[البقرة:187]. وإذا كان الأمر هكذا بطل الاحتجاج لأجل ما ذكرناه من الاحتمال.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد أجمعنا على تحريم الفخذ وأنه من العورة. والفخذ: عبارة عن العظم من عند الورك إلى ملتقى الساق، وقد علمنا أن بعضه داخل في الركبة، وبعض الساق أيضاً داخل فيه من جهة أن المفصل يجمعهما فلهذا وجب دخولها؛ لأنه لا يتم تحريم الفخذ إلا بدخول جزء من الركبة، ومن قال بتحريم البعض قال بتحريم الكل فلهذا وجب دخولها في التحريم.
__________
(1) حكاه في (الشفاء).
وأما ثانياً: فلو سلمنا أن الركبة حدٌ وأن الحد ربما دخل في المحدود وربما لم يدخل، لكن الدلالة التي ذكرناها وروينا فيها الأخبار دالة على دخولها فوجب القضاء بدخولها للدلالة وبطل الاحتمال لما ذكرناه.
قالوا: روى أبو أيوب الأنصاري عن الرسول أنه قال: ((ما فوق الركبتين عورة )). وفي هذا دلالة على خروج الركبة من العورة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن قوله: ((ما فوق الركبتين )). أن الفوق إنما ذكر على جهة الصلة والتأكيد. والغرض: الركبتان فما فوقهما عورة كما قال تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ }[الأنفال:14]. أي: الأعناق.
وأما ثانياً: فهب أنه محتمل هاهنا، لكن الأخبار التي رويناها ترفع هذا الاحتمال لكونها صريحة في المقصود فلهذا حمل هذا عليها وفيه حصول الغرض.
الفرع الثالث: في بيان عورة المرأة، وفيها مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن جميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين، وهذا هو رأي الهادي في (الأحكام) والذي حصله السيدان الأخوان للمذهب، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي، ورواية عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور:31]. وقيل في تفسيرها: إنه موضع الكحل والخاتم. وهو الذي اختاره القاسم في رواية النيروسي وهو أن القدمين من المرأة عورة كرأي الهادي وما عدا ذلك من شعرها وبشرها فهو عورة لقوله : ((النساء عيٌّ وعورات ))(1).
ولم يخرج عن هذا إلا ما قام الدليل على كونه [غير] عورة ولم يقم إلا على ما ذكرناه، فبقي ما عدا الوجه والكفين على المنع والتحريم.
__________
(1) حكاه في (الشفاء)، وأخرج الترمذي عن ابن مسعود أن النبي قال: ((المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) ا ه. واستشرف الرجل الشيء: إذا نظر إليه نظر متطلع متحقق، كما فسره في (الجواهر).
المذهب الثاني: أن جميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين والقدمين، وهذا هو رأي الإمام القاسم الذي حكاه عنه أبو العباس، وهو محكي عن الثوري ورواية ثانية عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور:31]. وقد قيل في تفسيره: موضع الكحل والخاتم والخلخال.
المذهب الثالث: أن جميع بدنها عورة إلا الوجه، وهو الذي حصله السيدان الأخوان لمذهب الهادي، وهو محكي عن أحمد بن حنبل وداود من أهل الظاهر.
والحجة على هذا: هو أن الشرع قد دل على أن جميع بدنها عورة إلا ما استثني ولم يقع الإستثناء بالشرع إلا وجهها من جهة أن الإجماع منعقد على كشفه للإحرام وعلى كشفه للنظر عند تحمل الشهادة، فبقي ما عدا الوجه على الحظر الشرعي.
المذهب الرابع: أن جميع بدنها عورة حتى ظفرها، وهذا شيء يحكى عن بعض أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((النساء عيٌّ وعورات )). فظاهره دال على أن جميعها عورة ولم يفصل بين عضو وعضو ولا بين شعر وبشر، وفي هذا دلالة على ما قلناه من عموم العورة في كلها.
والمختار: ما قاله الإمامان القاسم والهادي في (الأحكام) و(النيروسي) واختاره السيدان الأخوان من [أن جميع بدنها](1)
عورة ما خلا الكحل والخاتم.
__________
(1) ما بين القوسين غير موجود في الأصل، وهو كما يفهم من السياق بهذا المعنى إن لم يكن باللفظ نفسه.
والحجة لهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا تفصيلاً نشير إليه. وحاصله أن الله تعالى أعظم الأمر وشدد في حفظ العورات فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ}[الأحزاب:59]. وقال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ }[النور:31]. وقال تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ }[النور:31]. وقال تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور:31]. وقال تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ}[النور:31]..إلى آخر الآية. وفي الحديث عن الرسول أنه قال: ((أغروا النساء يلزمن الحجال )).
وقوله : ((صلاة المرأة في مخدعها أفضل من الصلاة في حجرتها ))(1).
وظواهر الكتاب والسنة دالة على حفظ عورات النساء والتأكيد في ذلك والمبالغة في البعد عن الإطلاع عليها، فإذا عرفت هذا فالظاهر أن جميع بدن المرأة عورة إلا ما أباحه الشرع ولم نجد الإباحة إلا في هذين العضوين وجهها وكفيها فيجب الإقتصار عليه والباقي داخل تحت الحظر كما قررناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: القدمان لاحقان بالوجه والكفين في كونهما ليسا من العورة لما ذكرناه من تفسير الآية بموضع الكحل والخاتم والخلخال.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فالتفسير المشهور عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور:31]. إنما عنى الكحل والخاتم ولم يزد عليه ولا شك أن تفسير الصحابي أرجح من تفسير غيره فلهذا كان التعويل عليه.
__________
(1) أخرجه أبو داود عن ابن مسعود بلفظ: ((صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)).
وأما ثانياً: فلأنه مُعَارَضٌ بالأحاديث الدالة على كونهما من العورة وإذا تعارض جانب الحظر وجانب الإباحة كان الميل إلى جانب الحظر أحق لما فيه من الحيطة للدين لقوله : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)).
قالوا: روي عن ابن مسعود أنه فَسَّرَ قوله[تعالى]: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور:31]. بالثياب والقرط والدملج والخلخال والقلادة، فذكر الخلخال والمقصود موضعه، وفي هذا دلالة على أنه ليس عورة.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فنهاية الأمر أن هذا مذهب لابن مسعود ولا يلزمنا قبوله لأن قول الصحابي ليس حجة وإنما الحجة كلام صاحب الشريعة صلوات الله عليه.
وأما ثانياً: فلأنه أراد هذه الحلية ولم يرد مواضعها ليكون أدخل في النهي وأبعد عن الريبة لأنه إذا كان النهي متناولاً لهذه الحلية فكيف حال محالّها يكون أبعد لا محالة.
وأما ثالثاً: فلأنه لو أراد بذكر الخلخال موضعه للزم مثله في القلادة والقرط فيجوز الإطلاع عليه ولا قائل به.
والذي يدل على كونهما عورة ما روت أم سلمة قالت سألت رسول الله : هل تصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: ((نعم إذا خمرت الذراعين والقدمين)). وفي حديث آخر: ((إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها))(1).
وفي هذا دلالة على كونهما من العورة، ولأنه عضو سقط في التيمم فوجب أن يكون عورة من المرأة كالرأس.
قالوا: جميع بدنها عورة إلا الوجه.
__________
(1) لفظه في (الجامع): عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة زوج النبي ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت: تصلي في الخمار والدرع السابغ إذا غيب ظهور قدميها، أخرجه الموطأ وأبو داود، وفي رواية أخرى لأبي داود عن أم سلمة أنها سألت النبي أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال : ((إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها)) قال أبو داود: رواه جماعة موقوفاً على أم سلمة، ولم يذكروا النبي .
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}. وأراد الكحل والخاتم هكذا جاء في التفسير.
وأما ثانياً: فلقوله : ((إذا أراد أحدكم أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها ))(1).
وفي هذا دلالة على أنهما ليسا عورة كما قلناه.
قالوا: جميع بدنها عورة حتى ظفرها محتجين بقوله : ((النساء عيٌّ وعورات )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا نقول بموجبه وهو أن النساء كلهن عورات إلا ما خرج عن كونه عورة بدليل شرعي.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما أوردناه من الأدلة المبيحة لما تناولته فيجب العمل بموجب الأخبار فيما تناولته حذراً من تناقضها وتدافعها، وهذه طريقة مرضية أعني الجمع بين الأدلة الشرعية.
الفرع الرابع: في الأمَة.
قال الإمام القاسم: ولها أن تصلي بغير قناع لما روي أن عمر رضي الله عنه رأى أمة لآل أنس بن مالك قد قنعت رأسها فجذب قناعها وضربها بالدرة وقال: يالكاع اكشفي رأسك ولا تشبهي بالحرائر. فإذا عرفت هذا فما حد العورة من الأمة؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن عورتها ما بين السرة والركبة وهذا هو رأي أئمة العترة وهو الأصح من أقوال الشافعي.
قال الإمام أبو طالب: والأمة كالرجل في العورة.
والحجة على ذلك: ما روي أن أبا موسى الأشعري تكلم على المنبر وقال: لا أعرف أحداً أراد أن يشتري أمة فينظر ما بين السرة والركبة لا يفعل ذلك أحد إلا عاقبته. ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فجرى مجرى الإجماع على حكم المسَلَّمة لسكوتهم عن النكير عليه وفي هذا دلالة على كونه حجة.
__________
(1) وأخرج أبو داود عن جابر أن رسول الله قال: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) قال: فخطبت امرأة فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها.
المذهب الثاني: أن جميع بدنها عورة إلا مواضع التقليب عند شرائها وهو ما يبدو عند مباشرة الخدمة مثل الكفين والذراعين والساقين والرأس، لأن ذلك تدعو الحاجة إليه وتمس إلى كشفه وما سواه لا تدعو الحاجة إليه ولا إلى كشفه فهو ممنوع منه، وهذا محكي عن بعض أصحاب الشافعي.
المذهب الثالث: أن عورتها كعورة الحرة خلا أنها تكشف رأسها لحديث عمر وهذا أيضاً يحكى عن الطبري من أصحاب الشافعي.
والمختار: ما قاله علماء العترة لما ذكرناه من حديث عمر وحديث أبي موسى وسكوت الصحابة رضي الله عنهم عليه وفي هذا دلالة على صحته.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: جميع بدنها عورة إلا مواضع التقليب.
قلنا: قد قررنا أن عورتها ما بين السرة إلى الركبة فإن كان مواضع التقليب تدخل فيما بين السرة إلى الركبة فلا وجه له لحديث أبي موسى، وإن كان مواضع التقليب ما وراء ما بين السرة والركبة فهذا مسلم ولا ننكره وهو موضع اتفاق.
قالوا: إن عورتها عورة الحرة خلا أنه لابد من كشف رأسها.
قلنا: هذا فاسد فإن المعلوم من حال الخلف والسلف من المسلمين بل الإجماع منعقد على أن حال الإماء مخالف لحال الحرائر من النساء في العورة وأن أحداً من العلماء لم ينكر تقليب الأمة في حال شرائها لما ذكرناه من أعضائها، وفي هذا دلالة على جواز الإطلاع على ما ذكرناه من الإماء بخلاف عورة الحرائر فافترقا.
الفرع الخامس: الأمة المدبرة والمكاتبة وأم الولد. فنذكر ما يتعلق بهن ثم نذكر ما يتعلق بعورة الخناثى ثم نردفه بعورة غير البالغين، فهذه أحكام ثلاثة نذكر ما فيها بمعونة الله:
الحكم الأول: في المدبرة والمكاتبة. وحكمهما حكم المملوكة في العورة لأن كل واحدة من هاتين بصدد الرق على تقدير العجز في المكاتبة وتقدير إفلاس السيد في حق المدبرة.
فأما أم الولد فهل تكون لاحقة بالمملوكة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها لاحقة بالمملوكة في حق العورة وهذا هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة.
ووجهه: أنها مضمونة بالقيمة فأشبهت المملوكة.
وثانيهما: أنه يجب عليها التقنع، وهذا محكي عن مالك وابن سيرين.
ووجهه: أنها قد ثبت فيها سبب الحرية بمطلق الإستيلاد على رأي من يمنع من بيعها، وإما بموت السيد على رأي من جوَّز بيعها.
والمختار: هو الأول: لأنها بصدد الرق ولهذا يجوز بيعها كما سنوضحه في التدبير بمعونة الله تعالى.
الحكم الثاني: في الخناثى الذين التبس حالهم في الذكورة والأنوثة. فينظر في حاله فإن كان رقيقاً كانت عورته كعورة الأمة من السرة إلى الركبة، وإن كان حراً فإنا نأمره بستر جميع بدنه إلا الوجه والكفين لجواز أن يكون امرأة فإن خالف وستر ما بين السرة والركبة ثم صلى فهل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها غير لازمة لاحتمال أن يكون رجلاً.
وثانيهما: أنها لازمة له الإعادة لأن ذمته قد اشتغلت بفرض الصلاة وهو شاك في إسقاطها والأصل بقاؤها في ذمته.
والمختار: هو الأول لقوله : ((لا ظهران في يوم)).
الحكم الثالث: في عورة الصبي والصبية. فينظر في حالهما فإن كانا في حال التربية جاز الإطلاع على عورتهما؛ لأنهما غير مستقلين بأنفسهما ومحتاجان إلى المعالجة لأحوالهما والتعهد لمصالحهما، وفي الستر مشقة وحرج فلهذا سقط، وإن كانا قبل التسع وجب الستر للقبل والدبر لأن ذلك ممكن في حقهما فلهذا لم يكن ساقطاً، وإن كانا بعد التسع كانت عورتهما عورة البالغين من الرجال والنساء لأن ذلك زمان البلوغ فلهذا وجب الستر كالبالغين.
الفرع السادس: اعلم أنا قد ذكرنا وجوب ستر العورة في غير الصلاة، وأوضحنا أحوال العورة في الرجال والنساء والمماليك واللبَّس والأطفال، ونحن الآن نذكر وجوب ستر العورة في الصلاة وما يتعلق بها، ويتم المقصود بذكر أحكام:
الحكم الأول: هل يجب ستر العورة في الصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن سترها واجب في الصلاة وهذا هو رأي أئمة العترة وهو محكي عن الفريقين.
والحجة على ذلك قوله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف:31]. وظاهر الأمر للوجوب وأدنا الزينة: ستر العورة في الصلاة، وليس يتعلق بالمساجد إلا الصلاة والعبادة فلهذا كانت واجبة.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }[المدثر:4]. وإذا وجب تطهيرها للصلاة وجب لبسها لستر العورة لأنه لا فائدة في تطهيره للصلاة إلا بلباسه.
الحجة الثالثة: ما روت عائشة عن الرسول أنه قال: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ))(1).
ومعناه: التي بلغت المحيض، وإذا وجب ذلك في حق النساء وجب في حق الرجال إذ لا قائل بالفصل.
المذهب الثاني: أنه لا يجب ستر العورة في الصلاة. وهذا هو المحكي عن مالك وعنه في ذلك ثلاث روايات:
الرواية الأولى منها: حكي عنه أنه من صلى مكشوف العورة لم تجب عليه الإعادة وفي هذا دلالة على أن الستر للعورة غير واجب.
الرواية الثانية: أنه إن قصد أن يصلي مكشوف العورة بطلت صلاته.
الرواية الثالثة: أن ستر العورة غير واجب في الصلاة وإنما هو مستحب.
والحجة على هذا: هو أن شروط الصلاة إنما تجب بأمر شرعي فما ورد من الأدلة على اشتراط الستر في الصلاة بلفظ الأمر فإنه محمول على الاستحباب وما رود من ذلك بغير لفظ الأمر فليس فيه دلالة على الوجوب فلما كان الأمر هكذا قضينا بامتناع اشتراط ستر العورة في الصلاة.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة من وجوب اشتراط ستر العورة.
وحجتهم: ما ذكرناه. ونزيد هاهنا، وهو ما رواه القاسم عن الرسول أنه قال: ((لا يقبل الله صلاة امرأة بلغت بغير خمار ))(2).
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي عن عائشة، والحائض هنا: التي بلغت الحيض، أي المكلفة سواء كانت من ذوات الحيض أم لا.
(2) سبق معناه في الحديث السابق، ولعلهما حديث واحد مع اختلاف في اللفظ.
وما روى ابن عمر عن الرسول أنه قال: ((إذا صلى أحدكم فليستتر بثوبه )). فهذه الأخبار كلها دالة على وجوب سترة العورة في الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكره مالك.
قوله: إن شروط الصلاة إنما تجب بأمر شرعي، ولا دلالة شرعية على وجوب ستر العورة في الصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن نهاية الأمر في هذه الحجة هو عدم الدلالة على هذا الشرط ولسنا ننكر ذلك فإنا لا نوجب شرطاً في الصلاة من غير دلالة، فإذن النزاع بيننا وبين مالك مرتفع فهو يسلم إذا كانت هناك دلالة شرعية وجب قبولها ونحن نسلم أنه إذا لم يكن هناك دلالة شرعية فلا معنى لإيجابه، فقد ارتفع النزاع على هذه الصورة.
وأما ثانياً: فلأنا قد دللنا على وجوبه بما أوردنا من الآيات والأخبار الدالة على وجوب اشتراطه في الصلاة بما لا مدفع له إلا بالمكابرة والجحود.
ومن وجه آخر: قياسي، وهو أن الصلاة عبادة لها تعلق بالكعبة فوجب اشتراط ستر العورة فيها كالطواف.
الحكم الثاني: إذا انكشفت عورة المصلي في الصلاة فهل تبطل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه إذا انكشف شيء من العورة مع القدرة على الستر بطلت الصلاة، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن هذا حكم يتعلق بالعورة فاستوى فيه القليل والكثير كالنظر.
المذهب الثاني: أنه إن انكشف من العورة المغلظة قدر الدرهم لم تفسد صلاته، وإن انكشف أكثر من ذلك بطلت صلاته، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
والحجة على هذا: قولهم: كلما صحت الصلاة مع كثيره حال العذر فرق بين قليله وكثيره في غير حال العذر كالمشي والعمل.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من علماء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه أن رسول الله قال: ((لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت )).
ووجه الدلالة من هذا: هو أنه نهى عن كشف الفخذ والنظر إليها ولم يفصل بين أن يكون في الصلاة أو في غيرها ولا بين قليل العورة وكثيرها والنهي يقتضي الفساد خاصة في العبادات.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: كلما صحت الصلاة مع كثيره للعذر فرق بين قليله وكثيره في غير حال العذر كالمشي والعمل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أحدهما: من جهة الفرق. وحاصله: أن العمل اليسير إنما لم يكن مبطلاً للصلاة لأنه لا يمكن الإحتراز منه وتلحق به المشقة بخلاف ستر القليل من العورة فإنه يمكن التحرز منه ولا يلحق به مشقة، فلهذا لم يعف عنه فافترقا.
وثانيهما: من جهة المعارضة، وهو أن ما ذكروه يبطل بترك غسل أعضاء الطهارة فإنه يجوز ترك جميعها حال العذر عند عدم الماء ثم لا يفرق بين ترك القليل والكثير في غير حال العذر.
الحكم الثالث: اعلم أن الذي عليه أئمة العترة القاسمية والناصرية، أن العورات كلها مستوية من الرجال والنساء في أنه إذا انكشف شيء منها مقدور على ستره في ركن من أركان الصلاة بطلت عليه صلاته ووجب عليه استئنافها. وهو رأي الشافعي، ولا ينفعه أن يعيد بعد ذلك سترها لأنها قد بطلت كما لو ابتدأها مكشوفة أو انتقض وضوءه فإنه يجب استئنافها.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: العورة ضربان: مغلظة ومخففة، فإذا انكشف من المغلظة وهي السوءتان القبل والدبر من الرجال والنساء وما بين السرة والركبة من النساء، أكثر من قدر الدرهم بطلت الصلاة فأما مقدار الدرهم فما دونه فمعفو عنه لا يبطلها. وأما المخففة منها كالفخذ من الرجال وكالرأس والشعر والبطن والظهر والعضد والشعر من الحرائر، فإذا انكشف شيء منها فإنه لا يبطلها عند أبي حنيفة ومحمد إلا أن يكون المنكشف ربع العضو أو أكثر فإنه يبطلها. وقال: ولا يبطلها إلا أن يكون المنكشف من كل عضو كله أو نصفه، ذكره في (الجامع الصغير)(1).
__________
(1) لعله جامع الأصول لابن الأثير المتوفى سنة 606ه.
وحكي عنه أيضاً: أنها لا تبطل الصلاة إلا أن يظهر العضو الكامل أو أكثر من نصفه، وهذا كله إذا [لم] يسارع إلى سترها وصلى عارياً، فإن سترها على الفور صحت صلاته ومضى عليها ولهم على ما زعموه حجتان:
الحجة الأولى: قولهم: إن كشف العورة جارٍ مجرى النجاسة، وقد تقرر أن النجاسة يختلف قليلها وكثيرها فيعفا عن قليلها دون كثيرها فهكذا حال العورة والجامع بينهما هو: أن كل واحدة منهما شرط في صحة الصلاة.
الحجة الثانية: قالوا: العورة لا يتعدى حكمها عن محلها وموضع كشفها فصارت كالنجاسة في أنها لا يتعدى حكمها عن محلها إلى غيره، وثمرة هذا: أن النجاسة يجب غسلها عن محلها ولا تجب فيها إعادة الوضوء فهكذا حال العورة يجب سترها ولا يجب لأجلها إعادة الصلاة.
والمختار: ما قاله علماء العترة ومن وافقهم.
والحجة على ما قالوه: قوله : ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )). ولم يفصل بين يسير الرأس وكثيره، وقال للذي رآه مكشوف الفخذ: ((غط فخذك))(1)
ولم يخص موضعاً دون موضع، وإذا ثبت أن تغطية الجميع واحدة فمن ترك تغطية شيءٍ منها مع القدرة على ستره بطلت صلاته كما لو ترك أكثر من قدر الدرهم أو ترك أكثر من النصف والربع.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: كشف العورة جار مجرى النجاسة فيجب أن يفترق الحال بين قليلها وكثيرها فهكذا حال العورة.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) نقل في (الاعتصام)1/350 عن (أصول الأحكام) و(الشفاء)، أن رسول الله مر بخزيمة وهو كاشف فخذه، فقال: ((غطها فإن الفخذ عورة)).
أما أولاً: فمن جهة الفرق، وهو أنا لا نسلم أن ستر العورة كالنجاسة بل هما مختلفتان من جميع الوجوه، وبيانه: أن الإنسان إذا كان معه ثوب جميعه نجس وهو لا يجد ثوباً غيره فإنه يصلي فيه ولا يصلي عارياً لأن حكم العورة آكد من حكم النجاسة على ما قررناه من قبل، وهكذا فيمن وجد ثوباً ديباجاً ولم يجد غيره فإنه يصلي فيه ولا يصلي عارياً لأن تحريم كشف العورة أشد من تحريم لبس الديباج على الرجال. وإذا تقرر هذا فلا يمتنع أن يعفى عن يسير النجاسة، ولا يعفى عن يسير العورة فافترقا.
وأما ثانياً: فمن جهة الجمع، وهو أنا لو خلينا والقياس لسوينا بينهما ولم نعف عن يسيرهما جميعاً لأنهما من شرط صحة الصلاة خلا أن الدلالة الشرعية وردت بتخصيص يسير النجاسة، فلا جرم استحسنا جوازه لعموم البلوى فيه وشدة الحاجة، ولم تقم دلالة على العفو عن يسير العورة فلهذا بقي على أصل القياس في التحريم.
قالوا: العورة لا يتعدى حكمها عن موضع كشفها فصارت كالنجاسة فإنه لا يتعدى حكمها عن محلها إلى غيره.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن النجاسة لا يتعدى حكمها عن محله، ولهذا فإن من بال وجب عليه تجديد الوضوء في غير محل النجاسة وهكذا خروج المني فإنه يوجب الغسل في غير محل النجاسة ونحو قطرات الحيض والنفاس فإنهما يوجبان الغسل في غير محل النجاسة.
وأما ثانياً: فلأنا لا نقول: بأن النجاسة نجاستان مغلظة ومخففة. ولا نقول في العورة: عورتان مغلظة ومخففة. بل نقول: إن جميعها عورة يجب سترها بكل حال وجميع النجاسات يجب إزالتها من غير تفصيل كما ذكروه، وإذا تقرر هذا وجب أن يكون حال العورة كحال النجاسة في مساواة القليل للكثير.
الحكم الرابع: ذكر السيد أبو العباس، أن المصلي إذا انكشفت عورته وقد أدى من الركن مقدار الفرض ثم أعاد سترها قبل أن يأخذ في ركن آخر أجزته صلاته، وإن لم يكن قد أدى من الركن قدر الفرض أو لم يعده حتى أخذ في ركن آخر لم تجزه الصلاة وعليه الإعادة، وما ذكره محكي عن أصحاب أبي حنيفة وهو نظر دقيق حسن وحملوا ما حكي أن أبا جهل(1)
القى جيفة على الرسول وهو يصلي فجاءت فاطمة فأزالتها عنه ومر في صلاته ولم يقطعها على هذا التفصيل(2).
وحاصل ما قالوه، وهو أن النجاسة وقعت بعد إكمال الركن فلا يؤثر طريانها بعد كماله وقبل الشروع في الركن الثاني حتى لا يقع من أوله على فساد، فإن وقعت على خلاف هذين الوجهين إما قبل تمام الأول وإما بعد الشروع في الثاني كانت مفسدة للصلاة لا محالة.
فأما الإمامان الأخوان، فلم يفصلا هذا التفصيل بل قالا: إن إنكشاف العورة مبطل للصلاة قليلها وكثيرها(3)
__________
(1) هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، أشد الناس عداوة للنبي في صدر الإسلام [وحتى قتل مع المشركين في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة 624م] وأحد سادات قريش وأبطالها في الجاهلية، قال صاحب عيون الأخبار: سودت قريش أبا جهل ولم يغض شاربه فأدخلته دار الندوة مع الكهول، أدرك الإسلام، وكان يقال له أبا الحكم، فدعاه المسلمون أبا جهل، ضل على عناده وتحريضه لقريش ولقبائل العرب ضد الإسلام رغم ما ظهر من يقينه بصدق رسول الله ، واستمر على هذا الحال حتى قتل في وقعة بدر الكبرى. ا هالأعلام للزركلي 5/86 بتصرف.
(2) وهو قياس كشف عورة المصلي إذا عاد وسترها على وقوع النجاسة عليه أثناء الصلاة فأزالها بحكم أن كليهما مفسد لها إذا لم يفعل ذلك، والله أعلم، وهذا طرف من حديث أخرجه بكماله البخاري ومسلم.
(3) يقصد: قليل العورة وكثيرها.
على أي وجه وقعت وهذا هو الأقيس والأحسن. وما قاله أبو العباس هو الأدق والأغوص. فهذا ما أردنا ذكره في الأحكام المتعلقة بالعورة ونرجع إلى التفريع.
الفرع السابع: وأقل ما يجزي المرأة في ستر العورة من الثياب: الدرع والخمار إذا كان الدرع سابغاً لما روت أم سلمة قالت: يا رسول الله فالمرأة، لما ذكر الإزار، قال: ((ترخي شبراً لا تزيد عليه " )). قالت: إذاً ينكشف عنها. قال: ((فذراع))(1).
ولما ذكرناه من حديث عائشة: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " )).
والمستحب أن تصلي المرأة في ثلاثة أثواب قميص سابغ يغطي بدنها وقدميها، وخمار يغطي رأسها وعنقها، وإزار غليظ فوق القميص والخمار.
روي ذلك عن عمر وابن عمر وعائشة ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف من جهة الرسول ، ويستحب أخذ الجلباب فوق الدرع والخمار لما فيه من زيادة الستر والحفظ على العورة ولقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ}[الأحزاب:59].
قال أبو عبيد: الجلباب: هو الخمار والإزار.
وعن الخليل بن أحمد: الجلباب أوسع من الخمار وألطف من الإزار، وهذا هو الأصح؛ لأنه زيادة عليهما فيجب أن يكون مغايراً لهما.
ويستحب أن يكون الجلباب كتافاً أي موضوعاً على كتفيها أو يكون كفاتاً أي جامعاً لثيابها أخذاً من قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً " }[المرسلات:25]. أي: تكفت الأحياء في البيوت وتكفت الأموات في القبور.
__________
(1) جاء بلفظه في (الشفاء) و(الأحكام).
الفرع الثامن: وأقل ما يجزي الرجل أن يصلي فيه ثوب واحد فإذا صلى فيه وحده فالمستحب أن يستر منكبيه وهما رأسا الكتف وهما من الإنسان المنكب ومن الفرس المنسج ومن الجمل الجارك(1) والغارب. ويستر هبريتيه. والهبرية: هي القطعة من اللحم، وهما عبارة عن اللحمتين اللتين على لوح الإنسان. ويستر ظهره والظهر معروف لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء " ))(2).
ويروى: ((على منكبه)). والقميص الواحد يجزي، فإن كان فتحه واسعاً فإنه يزره بشوكة وإن كان ضيقاً لم يزره لما روى سلمة بن الأكوع(3)
قال: قلت يا رسول الله إنا نكون في الصيد أفيصلي أحدنا في القميص الواحد؟ قال: ((نعم وليزره ولو لم يكن إلا أن يخله بشوكة )). وإن كان في القميص خرق وستره بيده جاز ذلك لأنه ستر طاهر فأشبه الثوب فإن لم يجد إلا الإزار فإنه يأتزر به على حقويه، ويستحب أن يجعل على عاتقه شيئاً فإن لم يجد طرح عليه حبلاً فإن لم يجد إلا السراويل فإنه يصلي فيه ويجعل على عاتقه شيئاً لما ذكرناه. هذا كله كلام في أقل ما يجزي.
__________
(1) المنسج بكسر الميم: للفرس بمنزلة الكاهل للإنسان، والجارك من البعير. ا هلسان 2/377.
(2) أخرجه الستة إلا الموطأ والترمذي عن أبي هريرة بلفظه.
(3) سلمة بن عمرو بن سنان الأكوع الأسلمي، صحابي من الذين بايعوا تحت الشجرة، غزا مع النبي غزوات منها: الحديبية وخيبر وحنين، وكان شجاعاً بطلاً رامياً عداءً، وهو ممن غزى إفريقية أيام عثمان، له 77 حديثاً، توفي بالمدينة عام 74ه693م. ا ه(الأعلام) 3/113، عن طبقات ابن سعد وطبقات أفريقية والروض الآنف، وتهذيب ابن عساكر وغيرها.
وأما ما يستحب، فالمستحب للرجل أن يصلي في قميص ورداء أو قميص وإزار أو قميص وسراويل أو إزار ورداء. لما روى ابن عمر عن الرسول أنه قال: ((إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله أحق من تزين له))(1).
فإن اجتمع قميص وثوب وأراد أن يصلي في أحدهما فأيهما يكون أولى؟ فالقميص أولى لما روي أنه كان أحب الثياب إلى الرسول القميص، ولأنه أعم في الستر وأصون للعورة، فإن لم يكن هناك قميص واجتمع إزار ورداء وأراد الصلاة في أحدهما فأيهما يكون أولى؟ فالرداء أولى لسعته فليحتف ويخالف بين طرفيه على عاتقيه. وإن اجتمع إزار وسراويل فأيهما يكون أولى؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الإزار أحق لأن السراويل تصف العورة بخلاف الإزار.
وثانيهما: أن السراويل أحق لأنها أجمع للستر.
والمختار: أنهما سواء.
ويكره اشتمال الصماء لما روي عن الرسول أنه نهى عن اشتمال الصماء. واختلف في صفتها على تفسيرين:
فالتفسير الأول: رأي أهل اللغة، وصفتها: أن يشتمل الرجل في ثوب واحد فيجلل به جسده ويدخل يديه من داخل الثوب ولا يترك ليديه منفذاً من أحد الجانبين يخرجهما منه. وإنما سميت صماء؛ لأنه سد على يديه المنافذ مأخوذ من الصخرة الصماء التي ليس فيها صدع. ولم يذكر ابن الصباغ في تفسيرها في كتابه الشامل إلا هذا الوجه.
التفسير الثاني: حكاه أبو عبيد عن الفقهاء. وصفتها: هو أن يشتمل الرجل بالثوب الواحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيبدو منه فرجة.
قال أبو عبيد: والفقهاء اعلم بالتأويل.
والمختار: أن ما قاله أهل اللغة أحسن من جهة الإشتقاق، وما قاله الفقهاء أجود من جهة الفتوى لمطابقته للنهي من جهة الرسول لما فيه من ظهور العورة.
ويكره السدل وأن يغطي فاه في الصلاة لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه نهى عن السدل وأن يغطي فاه في الصلاة.
__________
(1) حكاه في (المهذب) عن ابن عمر.
قال أبو عبيد: والسدل أن يرخي الرجل إزاره من جانبيه ولا يضم طرفيه بيده. ويقال لإرخاء الستر: سدل.
ويكره للمرأة أن تتنقب في الصلاة لأن وجهها ليس عورة، والنقاب: هو شيء من الثياب ترخيه المرأة على وجهها فيه ثقبان لموضع العينين، ويكره البرقع للمرأة في الصلاة لمثل ما ذكرناه في النقاب. والبرقع: هو شيء رقيق ترخيه المرأة على وجهها تبصر من ورائه لرقته.
الفرع التاسع: فإن لم يجد ما يستر عورته إلا ورق الأشجار والحشيش فإنه يلزمه أن يستتر بذلك لأنها سترة طاهرة يمكنه الستر بها فوجب عليه استعمالها في ستر العورة كالأثواب، فإن لم يجد إلا طيناً طاهراً فهل يلزمه أن يستتر به أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: وجوبه، وهو الأصح من قولي الشافعي؛ لأنها سترة طاهرة فأشبه الثوب. ذكره المحاملي من أصحاب الشافعي، وعلى هذا يلزم استعماله سواء كان غليظاً أو رقيقاً إذا كان ساتراً للعورة ويلصق بجسمه، فإن لم يجد من الأثواب إلا ما يستر بعض العورة فإنه يستر القبل والدبر لأنهما أغلظ من غيرهما وأفحش في الإنكشاف، فإن لم يجد إلا ما يستر به أحدهما فأيهما يكون به أحق؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن القبل أحق لأنه لا يستتر بغيره والدبر مستور بالإليتين ولأنه يستقبل به القبلة.
وثانيهما: أن الدبر أحق لأنه أفحش في العورة في حال الركوع والسجود.
والمختار: أنهما سواء فيكون مخيراً في ستر أيهما شاء، ويؤيد هذا ما روي عن الرسول أنه قال: ((احفظ عورتك إلا عن زوجتك )) ولم يفصل بينهما، فإن خالف وستر بذلك فخذه أو سائر عورته غير الفرجين جاز ذلك لأن حكم الجميع واحد في وجوب الستر ولكنه قد خالف المستحب من ذلك.
الفرع العاشر: قال الإمام الهادي في الأحكام: ومن ابتلي بالعري صلى قاعداً متربعاً ويضع على عورته ما أمكن وقدر عليه من الحشيش وغيره فإن لم يجد ذلك ستر عورته بيده اليسرى ويومئ كإيماء المريض ولا يستقل من الأرض، واعلم أن هذا الفرع قد اشتمل على أحكام تتعلق بالعورة نفصلها بمعونة الله تعالى:
الحكم الأول: إذا كان عارياً فهل يصلي قائماً أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه يصلي قاعداً متربعاً، وهو رأي الإمامين الهادي والمؤيد بالله ومحكي عن مالك والأوزاعي والمزني من أصحاب الشافعي وحكاه المسعودي عن الشافعي.
والحجة على هذا، هو أن القيام والقعود والركوع والسجود لها أبدال يرجع إليها عند تعذر الإتيان بها بخلاف ستر العورة فإنه لا بدل له فلهذا كان أحق بالتقديم.
ومن وجه آخر: وهو أنه قادر على ستر العورة المغلظة بالقعود فلا يجوز له تركه كما إذا وجد ثوباً.
المذهب الثاني: أنه يصلي قائماً وهذا هو رأي الشافعي ومحكي عن زفر.
والحجة على هذا: قوله : ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً )). ولم يفصل بين العريان وغيره.
ومن وجه آخر: وهو أنه قادر على القيام فلا يجوز له تركه كما لو كان لابساً.
المذهب الثالث: أنه مخير بين أن يصلي قائماً أو يصلي قاعداً، وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن ستر العورة فرض واجب على المصلي والقيام فرض من فروض الصلاة وقد دفع العريان إلى ترك أحدهما ولا مزية لأحدهما على الآخر فلهذا كان مخيراً بينهما ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.
والمختار: ما عول عليه الإمامان الهادي والمؤيد بالله ومن تابعهما على هذه المقالة.
والحجة لهم ما ذكرناه من قبل. ونزيد هاهنا وهو أنا وجدنا نظر الشرع إلى تأكيد المحافظة على ستر العورة وصيانتها عن الظهور والإطلاع عليها شديد وأن الوعيد على إبرازها عظيم ولو لم يكن إلا ما نزل في سورة (النور)(1)
وما ورد في الأخبار من التأكيد على حفظها.
__________
(1) النور: 30-31.
ومن وجه آخر: وهو أنا نرى الشرع قد واضب على ستر العورة وأسقط القيام، فلهذا فإنه يجوز تأدية النوافل على الراحلة مع القدرة على القيام ولم يرخص في سترة العورة في سفر ولا حضر ولا نافلة ولا فريضة مع القدرة عليها.
ومن وجه آخر: وهو أن ستر العورة يحتاج إليه في جميع الصلاة بخلاف القيام، فإنه إخلال بركن من أركانها وفرض من فروضها للعذر.
ومن وجه آخر: وهو أن القيام له بدل يقوم مقامه بخلاف ستر العورة فإنه لا بدل له. فهذه الأوجه كلها دالة على أن ستر العورة أحق بالمحافظة من القيام.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي أنه قال لعمران بن حصين: ((صل قائماً)). فأمره بالقيام فدل على وجوبه إذا كان عارياً.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا محمول على ما إذا كان مستور العورة.
وأما ثانياً: فلأن هذا مُعَارض بما ذكرناه من التفات الشرع إلى المحافظة على ستر العورة بما لا مطمع في إنكاره.
قالوا: العاري مستطيع للقيام والقعود والركوع والسجود فيجب الإتيان بها ولا يعذر في تركها.
قلنا: العاري لا يمكنه الإتيان بجميع الفروض ولا بد له من ترك بعضها لأجل العذر والإتيان بالبعض، فيجب أن يأتي بآكدها ووجدنا ستر العورة آكد من الجميع فلهذا وجب الإتيان به كما قررناه من قبل.
قالوا: القيام والقعود والركوع والسجود أركان الصلاة فلا يجوز إسقاطها بالعجز عن ستر العورة كسائر الأركان.
قلنا: إنما لا يجوز الإخلال بهذه الأركان مع كون العورة مستورة، فأما مع العذر في كشفها فيجوز الإخلال بها لما ذكرناه من الترجيح الذي أوضحناه من قبل.
قالوا: إذا صلى قائماً فقد حصل له الوفاء بثلاثة أركان، القيام والركوع والسجود. وإذا صلى قاعداً فإنما يحصل له سترة العورة لا غير.
قلنا: إذا صلى قاعداً حصل له ستر العورة المغلظة التي يحتاج إليه في جميع أفعال الصلاة وما عداها فحكمه أخف فلهذا كانت المحافظة عليها أحق من غيرها.
وأما من قال بالتخيير كما حكي عن أبي حنيفة فقد قال: هما فرضان واجبان لا تصح الصلاة إلا بفعلهما فلا ترجيح لأحدهما على الآخر.
قلنا: إنه لا مقال في كونهما واجبين وفرضين من فروض الصلاة لكنا قد دللنا على أن ستر العورة أحق بالمحافظة وأولى بالمواضبة فلهذا كان أحق.
الحكم الثاني: أن الواجب أن يصلي قاعداً متربعاً، وقد قررنا صفة التربيع في صلاة العليل والمعذور فأغنى عن الإعادة، ويضع على عورته شيئاً من حشائش الأرض لأن الواجب ستر العورة بكل ممكن، فإذا تعذر اللباس لم تتعذر الحشائش ويومئ للركوع والسجود، يكون إيماؤه لسجوده أخفض من إيمائه لركوعه لما ورد في الخبر عن الرسول فيمن علمه ممن لا يقدر على القيام. فإن صلى عرياناً قاعداً فهل تجب عليه الإعادة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تجب عليه الإعادة لأن ما هذا حاله فهو عذر نادر كما لو لم يكن له عذر.
وثانيهما: أن الإعادة غير واجبة عليه وهذا هو المختار. لقوله : ((لاظهران في يوم )). ولأن العري عذر عام وربما اتصل ودام وقد يعدم اللباس في السفر والحضر فلو ألزمناه الإعادة لكان في ذلك مشقة وحرج.
الحكم الثالث: في المصلي إذا لم يجد سترة فدخل في الصلاة وهو عريان ثم وجد السترة في أثناء الصلاة. أوصلت الأمة مكشوفة الرأس فأعتقت في أثناء الصلاة ثم وجدت ما تستر به رأسها، فإن كانت السترة قريبة منهما فالواجب عليهما تناولها واستتارهما بها ويتمان صلاتهما لأن ذلك عمل قليل يفعل لإصلاح الصلاة، وإن كانت السترة بعيدة منهما تحتاج إلى أن يمشي إليها خطوات فإن كان هناك من يناولهما السترة فإن ناولهما سريعاً صحت صلاتهما، وإن طال الإنتظار فصبرا إلى أن ناولهما الغير فهل تبطل صلاتهما أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها لا تبطل الصلاة لأنه انتظار واحد فلم تبطل به الصلاة كالإمام إذا انتظر المأموم في الركوع.
وثانيهما: أنها تبطل لأنهما تركا السترة مع القدرة عليها.
وإن لم يكن هناك من يناولهما السترة فهل تبطل صلاتهما أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: بطلان الصلاة لأنهما يحتاجان إلى عمل كبير وذلك ينافي أعمال الصلاة.
وثانيهما: أنها لا تبطل ويلزمهما المسير إلى السترة ويستتران لأن هذه أفعال يقصد بها إصلاح(1)
الصلاة فلا تكون مفسدة لها.
وإن اعتقت الأمة ولم تعلم بالعتق حتى فرغت من الصلاة أو علمت بالعتق وجهلت وجوب السترة عليها فهل تلزمها الإعادة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تجب عليها الإعادة لأنها قد أخلت بشرط من شروط الصلاة وهو السترة.
وثانيهما: أنها لا تجب عليها الإعادة لأنها معذورة بالجهل وقد قال : ((لا ظهران في يوم)).
والمختار في مثل هذه المسائل التي وقع فيها الخلاف: أن الوقت إذا كان باقياً وجب عليها الإعادة لأن الخطاب مع بقاء الوقت متوجه إليها، وإن كان الوقت فائتاً لم يجب عليها القضاء، وقد قررناه من قبل فلا وجه للإعادة.
الحكم الرابع: وإذا اجتمع جماعة عراة رجال ونساء فإن النساء لا يصلين مع الرجال لأنا إن قلنا: يقفن مع الرجال في صف خلفهم فإنهن يبصرن عورات الرجال لأنهن لا يمكنهن غض أبصارهن، وإن كان هناك حائل بينهن وبين الرجال وقفن فيه وصلى الرجال وحدهم وصلى النساء وحدهن وكان أحق لما فيه من غض البصر عن العورات. وإن لم يكن هناك حائل فهل يصلي الرجال جماعة أو فرادى؟ فيه طريقان نذكرهما:
الطريق الأول: التخيير بين أن يصلوا جماعة أو فرادى، ووجهه أنه قد تقابل هاهنا أمران فضيلة الجماعة وترك نظر بعضهم إلى عورة بعض فلهذا حصل التخيير، والأولى إحراز فضيلة الجماعة لأنه لا مندوحة عنها، وترك نظر بعضهم إلى عورة بعض يمكن إحرازه بغض البصر عن ذلك.
الطريق الثاني: استحباب الإنفراد، ووجهه أن الجماعة فضيلة وترك النظر إلى العورة واجب، فلا جرم قدمنا الواجب على ما هو فضيلة.
__________
(1) في الأصل: أفعال، ولعله خطأ من الناسخ.
فإذا صلى الرجال جماعة فإن الإمام يقف وسطهم ويكونون صفاً واحداً لأن ذلك يكون أغض لأبصارهم، فإن لم يمكن إلا صفين فلا بأس في صلاتهم صفين ويغضون أبصارهم.
فأما النساء فإنهن يصلين جماعة لأن سنة الموقف في حقهن لا تتغير بالعري كما سنوضحه في صلاة الجماعة بمعونة الله.
الحكم الخامس: وإن كان مع الرجال رجل يصلح للإمامة معه سترة، فالأولى أن يصلوا جماعة لأنه يمكنهم الجمع بين فضيلة الجماعة وسنة الموقف بأن يكون الإمام متقدماً عليهم، وإن كان مع رجل سترة يزيد على ستر عورته استحب له أن يعير العراة لأنها إعانة على تأدية الواجب لقوله : ((الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )). فإن أعار واحداً منهم فهل يلزمه قبول العارية أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يلزمه قبول العارية لما فيه من الدخول تحت مِنَّة الغير. وإن وهبت له السترة لم يلزمه قبولها لما فيه من المِنَّة والمنة لله في قبول الصلاة عارياً.
وإن اجتمع رجل وامرأة عاريين، ومع رجل سترة تكفي أحدهما وأراد الصدقة بها على أحدهما، كانت المرأة أحق لأن عورتها أغلظ فسترها يكون أحق. وإن أعار صاحب السترة جميع العراة أو أباحها لهم فإنهم يصلون فيها واحداً واحداً فإن كانت النوبة لا تفضي إلى أحدهم إلا وقد فات الوقت جاز انتظارها وإن فات الوقت لأنه لا تجوز الصلاة عارياً مع وجود السترة كما لو وجد الماء وخاف من استعماله في الوضوء فوات الوقت فإنه يستعمله وإن فات الوقت لأنه واجدٌ للماء فلا يجوز له العدول إلى غيره كما مر بيانه في التيمم.
الحكم السادس: قال الإمام الناصر: ولا يجوز للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته ولا إلى شعر الحرة لأن رأس الحرة وشعرها عورة بالإجماع وليس بينها وبين مملوكها نكاح ولا ملك يبيح الوطء، والنظر إلى العورة إنما يجوز للضرورة والعذر، ويجوز النظر إلى وجه الحرة وكفيها له ولسائر الأجانب لقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور:31].
وهل يشترط في النظر إلى الوجه والكفين للأجانب ألاَّ تقترن به شهوة؟ فيه تردد. فظاهر الآية دال على الإباحة من غير شرط، وعدم اقتران الشهوة لابد فيه من دلالة ولا دلالة هاهنا تدل على ذلك فبقي ما ذكرناه على الإباحة من غير شرط.
ويجوز للمولى أن ينظر إلى جميع مملوكته ومدبرته وأم ولده، ويجوز له وطئهن بملك اليمين، ولا يجوز له وطء المكاتبة ولا النظر إلى عورتها ما دامت على كتابتها لأنها قد صارت أملك بنفسها لأجل كتابتها.
والمملوكة إذا زوجها من مملوكه أو من غيره لا يجوز له الإطلاع على عورتها ولا وطئها لأن زوجها قد صار أملك بها كالأجنبية.
ويجوز لكل واحد من الزوجين أن ينظر إلى عورة صاحبه، وهكذا حال الخصيان من العبيد الذين هم قد ذهبت مذاكيرهم لا يجوز لهم الإطلاع على عورات النساء ولا الدخول عليهن من غير إذن لأنهم قد صاروا أجانب من جملة الرجال الأجانب في العورات، والمثلة التي حصلت فيهم بإذهاب آلة النكاح في حقهم لا تبيح لهم الإطلاع على عورات النساء لأن الرجولية والأجنبية والشهوة حاصلة في حقهم فلا وجه لإباحة الإطلاع.
الحكم السابع: في مسألة ذكرها ابن الصباغ في كتابه (الشامل) قال: إذا قال لأمته: إن صليت مكشوفة الرأس فأنت حرة الآن. فإنها إذا صلت مكشوفة الرأس صحت صلاتها ولم تعتق قبل الصلاة لأن هذه صفة باطلة من جهة أن تقدم المشروط على الشرط محال فيكون بمنزلة إيقاع العتق في الزمان الماضي. هذه ألفاظه، وأراد أن قوله: فأنت حرة الآن. لا معنى للعتق في الحال لأنه جواب للشرط فلا تعتق إلا بحصول الصلاة مكشوفة الرأس فلو قضينا بعتقها في الحال لبطل التعليق وكان المشروط متقدماً على الشرط.
قاعدة: اعلم أن جميع ما أسلفناه من الشرائط المعتبرة في صحة الصلاة كالطهارة من الحدث والطهارة من النجس في الثوب والمكان والبدن وستر العورة واستقبال القبلة ودخول الوقت فهو عام في الرجال والنساء ولا يخرج عن ذلك إلا ما استثني في حق النساء ودلت دلالة على خروجهن عنه، كلبس الحرير والذهب وغير ذلك مما قامت عليه الدلالة الشرعية ونحو المنع من دخول المساجد لما يلحق من التهمة وظهور الريبة. وما ورد عن الرسول : ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )). فإنه محمول على ما كان في زمنه فأما بعد زمانه فقد وقع الإختلاط وحصلت الجرأة وكثر الفسوق، ويؤيد ما ذكرناه ما روي أن عمر رضي الله عنه لما روى هذا الحديث وكان رأيه جواز دخولهن المساجد وتسويغه، قال له ولده عبيدالله بن عمر(1)
__________
(1) عبيد الله بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي، صحابي من أنجاد قريش وفرسانهم، ولد في عهد رسول الله وأسلم بعد إسلام أبيه، ثم سكن المدينة، وغزا إفريقية مع عبد الله بن سعد، ورحل إلى الشام في أيام علي، فشهد صفين مع معاوية وقتل فيها سنة 37ه. ا هأعلام 4/195 عن طبقات ابن سعد والنووي والاستيعاب ومقاتل الطالبيين، وغيرها.
: والله لنمنعهن. فقال: يالكع أحدثك عن رسول الله وتحدثني عن رأيك؟ فقال: إنه لم يدر ما أحدثن بعده. فدل ذلك على جواز المنع لما يحصل فيه. وقد تم غرضنا فيما نريده من شروط الصلاة والحمدلله.
---
الباب الخامس في بيان صفة الصلاة
واعلم أن الصلاة الشرعية مشتملة على أركان و مسنونات وهيئات وشرائط.
فالشرائط:عبارة عن الأمور الواجبة وجملتها خمس: الطهارة من الحدث، والطهارة من النجس في الثوب والمكان والبدن، وستر العورة، واستقبال القبلة، ودخول وقت الصلاة.
فأما الأركان: فهي عبارة عما كان واجباً داخل الصلاة فكل ركن فهو شرط وكل شرط فليس ركناً. وإنما قلنا: كل ركن فهو شرط من جهة أن الصلاة لا تصح إلا به. وإنما قلنا: وكل شرط فليس ركناً من جهة أن الشرط ما كان واجباً خارج الصلاة.
وأما الأركان التي تشتمل عليها الصلاة ففي كل ركعة من كل صلاة واجبة أركان مفروضة ففي الركعة الأولى خمسة عشر ركناً: تكبيرة الافتتاح، والنية، والقيام، وقراءة الفاتحة والسورة معها، والركوع والطمأنينة، والرفع من الركوع والطمأنينة فيه، والسجدة الأولى والطمأنينة فيها، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والسجدة الثانية والطمأنينة فيها، والترتيب في أفعال هذه الركعة.
وأما الركعة الثانية: ففيها اثنا عشر ركناً نقص عنها مما كان في الأولى ثلاثة: النية، وتكبيرة الافتتاح والقراءة، وكذلك الثالثة والرابعة في كل واحدة منهما اثنا عشر ركناً، وفي الجلوس الأخير خمسة أركان: الجلوس والتشهد فيه والصلاة على الرسول وعلى آله والتسليمة الأولى والتسليمة الثانية. فعلى [هذا] يكون في الصلاة الرباعية ستة وخمسون ركناً، وفي الصلاة الثلاثية وهي المغرب أربعة وأربعون ركناً: في الأولى خمسة عشرة وفي الثانية والثالثة أربعة وعشرون ركناً، وخمسة في القعدة. الجملة أربعة واربعون ركناً، وفي الفجر اثنان وثلاثون ركناً: في الأولى خمسة عشر ركناً وفي الثانية اثنا عشر ركناً وفي القعدة خمسة. الجملة اثنان وثلاثون ركناً. وتختلف هذه الأعداد في زيادتها ونقصانها بحسب الإختلاف في الأركان، فهل يكون التسليم ركناً أو ركنين وهل تكون الصلاة على الرسول وعلى الآل ركناً أو ركنين، وعلى من يرى الطمأنينة في الركوع والسجود ركناً واحداً أو ركنين. والأمر في ذلك قريب مع الإتفاق في المقاصد والإحاطة بها.
وأما المسنونات: فقد يقال لها: الأبعاض كما يقال للأركان: الفروض، وهذا نحو الجلوس الأول والتشهد فيه والصلاة على الرسول، والقنوت في الفجر.
وأما الهيئات: فهي ما عدا ذلك، وهذا نحو وضع اليدين حذاء الخدين في السجود ونحو تفريق الأصابع عند الركوع وضمها عند السجود ونحو الجهر والمخافتة على رأي من يقول أنهما هيئتان. والتفرقة بين ما يكون سنة وما يكون هيئة هو أنه إذا أتى بالهيئات فقد أكمل صلاته وإذا تركها لم يلزمه سجود السهو لأنها ليست سنة مستقلة وإنما هي أمور إضافية، بخلاف السنن المستقلة فإنه إذا أتى بها فقد أكمل صلاته وإذا تركها توجه عليه سجود السهو جبراناً لما نقص بتركها.فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر مقدمات الصلاة ثم نردفه بذكر مقاصدها ثم نذكر لواحقها، فهذه فصول ثلاثة اشتمل عليها هذا الباب.
---
الفصل الأول في بيان مقدمات الصلاة
واعلم أن أول ما يبتدئ به المصلي من الأذكار في الصلوات، الاستفتاح فيقول بعد الإقامة: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. وأما المنقول في الخبر عن الرسول فيقول: ((وأنا أول المسلمين)). وهذا لا يقوله إلا الرسول لأنه أول المسلمين من هذه الأمة، هذا تمهيد الفصل.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في حكم الاستفتاح وهل يكون مشروعاً للصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه مشروع لأجل الصلاة، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية وهو قول الفريقين.
والحجة على هذا: ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: كان الرسول إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال: ((وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إلى قوله: وأنا من المسلمين)). فهذا نص صريح فيما قلنا برواية أمير المؤمنين وهي أوثق الروايات وأوضحها.
المذهب الثاني: أن الاستفتاح للصلاة غير مشروع وهذا هو المحكي عن مالك فإنه قال: لا وجه له في الصلاة.
والحجة على هذا: هو أن الاستفتاح لا يخلو حاله إما أن يكون قبل الدخول في الصلاة أو بعده فإن كان قبل الدخول في الصلاة فلا وجه له لأنه ليس بعد الإقامة إلا التلبس بالصلاة، وإن كان بعد الدخول في الصلاة فلا معنى له لأن الله تعالى يقول: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }[الأعلى:15]. والمعنى أنه كبَّر ودخل في الصلاة. فحصل من هذا أن الافتتاح بالتوجه ليس مشروعاً.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وعلماء الأمة.
وحجتهم: ما نقلناه، ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن الرسول أنه كان إذا افتتح الصلاة قال: ((وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما -إلى قوله- وأنا من المسلمين)). وروت عائشة عن الرسول أنه كان يقول عند الافتتاح: ((سبحانك اللهم وبحمدك ))(1).
وفي هذا دلالة على كونه مشروعاً لأنه لا معنى لكون الفعل مشروعاً إلا أن الرسول فعله غير مرة فدل ذلك على كونه مشروعاً ومسنوناً.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: لو كان الافتتاح مشروعاً لكان لا يخلو فعله إما أن يكون قبل الدخول في الصلاة أو بعده، وقد بطلا بما ذكرناه.
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه قد ورد فعله قبل التحريم بالتكبير وبعده كما سنوضحه، واختلاف العلماء في وقته لا يبطل كونه مشروعاً.
وأما ثانياً: فلأنه قد كثر النقل فيه وتناقله الخلف والسلف من جهة الصدر الأول من الصحابة والتابعين قولاً وفعلاً فلا وجه لإنكار كونه مشروعاً عند افتتاح الصلاة.
الفرع الثاني: في بيان صفة الافتتاح، وفيه اختيارات لأكابر أهل البيت وغيرهم من علماء الأمة ونحن نذكرها بمعونة الله:
الاختيار الأول: محكي عن الهادي وهو رأي زيد بن علي والصادق والباقر. وهو الاستفتاح بقوله تعالى:{وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً ــ مسلما ــ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:79] {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162،163].
والحجة على هذا الاختيار: ما رواه علي عن الرسول أنه كان إذا افتتح الصلاة قال:((وجهت وجهي -إلى قوله- ولم يكن له وليٌّ من الذل )).
__________
(1) أخرجه صاحب المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري 1/360، والبيهقي في السنن الكبرى2/33، والدار قطني في سننه 1/299.
الاختيار الثاني: محكي عن القاسم أنه مخير بين افتتاحات ثلاثة:
أولها: أن يقول المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}[الإسراء:111]. وهذا هو الذي اختاره السيد أبو طالب في الافتتاح.
وثانيها: أن يقول: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين).
وثالثها: أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. فرأيه التخيير بين هذه الأذكار في الافتتاح للصلاة.
الاختيار الثالث: محكي عن الناصر، وتقريره هو: أن المؤذن إذا فرغ من الإقامة استقبل المصلي القبلة ثم يستفتح بثلاث تكبيرات يقول: الله أكبر اللهم بك آمنت وبك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي وأنا عبدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت لا منجا منك إلا إليك سبحانك وحنانيك، تباركت ربي وتعاليت، ثم يقول: الله أكبر ويقرأ: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وأما أنا من المشركين، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم يكبر الثالثة للإفتتاح للصلاة.
والحجة على هذا: ما روي عن علي أنه كان يستفتح الصلاة على هذه الصفة، ومثل هذا إنما يصدر عن توقيف من جهة الرسول لأن ما هذا حاله لا مجال للاجتهاد فيه.
وروي عن الناصر أيضاً أنه يبتدئ فيقرأ: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ــ إلى قوله ــ وأنا من المسلمين، ثم يقول: الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليٌّ من الذل. ثم يتعوذ ثم يكبر ويقرأ.
الاختيار الرابع: محكي عن المؤيد بالله. وهو أن المصلي إذا قام للصلاة يكبر للإفتتاح للصلاة ثم يقرأ: وجهت وجهي -إلى قوله- وأنا من المسلمين، ثم يتعوذ ثم يبتدئ {بسم الله الرحمن الرحيم} ويقرأ فاتحة الكتاب.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر وقال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ــ إلى قوله ــ وما أنا من المشركين، ثم يتعوذ ثم يبتدئ القراءة.
الاختيار الخامس: محكي عن أبي حنيفة فإنه قال: يستحب إذا كبر المصلي أن يقول عقيب التكبيرة: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك ولا إله غيرك.
والحجة على هذا: ما روت عائشة رضي الله عنها أن الرسول كان يقول ذاك إذا كبر وافتتح الصلاة.
الاختيار السادس: محكي عن الشافعي، وهو الذي استحسنه ورآه، وهو أن يقول المصلي إذا استفتح الصلاة: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، ثم يقول: اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفرلي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدني لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت أنا بك وإليك لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك.
قال ابن الصباغ صاحب (الشامل): فإن كان المصلي منفرداً أتى بذلك كله وإن كان إماماً أتى به إلا أن يكون في ذلك مشقة على المأمومين.
الاختيار السابع: محكي عن الطبري من أصحاب الشافعي قال: والمستحب للمصلي أن يقول: الله أكبر كبيراً والحمدلله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً وجهت وجهي -إلى قوله- وما أنا من المشركين.
والحجة: ما روي عن الرسول أنه كان يقول ذاك. فهذه أقاويل العلماء في اختيار الافتتاح للصلاة وكلها منقولة عن الرسول .
والمختار: ما ذكره الهادي واستحسنه لأوجه:
أما أولاً: فلأن هذا من ألفاظ القرآن وما كان من ألفاظ القرآن فهو أرجح على غيره من سائر الأدعية؛ لأن القرآن أفضل الأذكار؛ لأنه كلام رب العزة.
وأما ثانياً: فلأن أمير المؤمنين كرم الله وجهه نقله عن الرسول وخبره لا يوازيه خبر غيره لما خصه الله تعالى من الورع والثقة في الرواية والثقة في الدين، إلى غير ذلك من الخصال التي خصه الله بها.
وأما ثالثاً:فلأنه فعله ودعا به، واستفتح الصلاة بفعله، واختاره لنفسه، فلهذا كان راجحاً على غيره.
وأما رابعاً: فلكونه مشاكلاً لحالة المصلي التي هو عليها من كونه مقبلاً إلى الله تعالى متوجهاً نحو القبلة راجياً للمغفرة من الله تعالى بتوجهه بالعبادة إليه بقوله: وجهت وجهي.
وأما خامساً: فلأنه مختص بزيادة بينة على العظمة والكبرياء بما أشار إليه من خلق السموات والأرض وفطرها، بخلاف سائر أذكار الصلاة فإنها ليست فيها إشارة إلى ما قلناه.
وأما سادساً: فلما فيه من الإشارة بالتحنف إلى الله تعالى والتقرب إليه بطاعته التي هي العبادة والخضوع والتذلل لجلاله.
وأما سابعاً: فلما فيه من ذكر الإسلام الذي هو أعظم الوسائل إلى الله تعالى في التقرب إليه وأقوى الأسباب في إحراز الرقبة عن القتل والمال عن السحت.
وأما ثامناً: فلما فيه من البرآءة عن الشرك والبعد عنه لقوله: وما أنا من المشركين.
وأما تاسعاً: فبما فيه من ذكر الإخلاص بالعبادة لوجه الله تعالى بقوله: إن صلاتي ونسكي.
وأما عاشراً: فبما فيه من الإشارة بالتسلم إلى الله تعالى في المحيا والممات بقوله: ومحياي ومماتي لله، فإنه مفوض أمره إلى الله تعالى في حياته ومماته لا تصرف له في نفسه وأنه متسلم منقاد. فهذه الوجوه كلها دالة على ترجيح هذا الاستفتاح على غيره من سائر الاستفتاحات التي أشرنا إليها.
الفرع الثالث: اعلم أن بعض المتفقهة من أصحاب الشافعي زعم أن قوله في الخبر المأثور عن رسول الله وهو قوله: ((والخير كله بيديك والشر ليس إليك )). يقتضي أن الخير من فعل الله وأن الشر ليس من فعل اللّه، وزعم أن أحداً من الأمة لم يفرق بينهما لأن أصحاب الحديث يقولون: إن الخير والشر من فعل اللّه، والمعتزلة يقولون: إنهما من فعل العبد. لكن الخبر له تأويلان:
التأويل الأول: ذكره المزني وحاصل كلامه أن معنى قوله: والشر ليس إليك أي: لا يضاف إليك وإن كنت خلقته لأنه لا يضاف إليه إلا الحسن من أفعاله، فيقال: ياخالق النور والشمس والقمر، ولا يقال: يا خالق القردة والخنازير وإن كان خالقاً لها، ولا يضاف إليه الشر وإن كان خالقاً له.
التأويل الثاني: محكي عن ابن خزيمة(1)
من أصحاب الشافعي أيضاً، وأراد: أن الشر لا نتقرب به إليك وإنما نتقرب إليك بالخير. هذا تقرير كلامه في تأويل الخبر.
__________
(1) محمد بن إسحاق بن المغيرة، أبو بكر السلمي المعروف بابن خزيمة، فقيه ومحدث واسع الشهرة، اخذ عن المزني، وقال عنه ابن حبان: ما رأيت على وجه الأرض من يحسن السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها حتى كأنها بين عينيه إلا ابن خزيمة.
…وقال الدار قطني: كان إماماً ثبتاً معدوم النظير، وقال الحاكم: ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتاباً سوى المسائل والمسائل المصنفة أكثر من مائة جزء، ولد سنة223، وتوفي سنة311، راجع ترجماته في (الأعلام)6/253، وطبقات الشافعية1/100 تحت رقم45، و(طبقات الفقهاء) للشيرازي ص86، و(البداية والنهاية)11/49.
واعلم أن ما ذكروه رمز منهم وإشارة إلى ما يهذون به في نصرة الخبر وإيضاح منهاجه وتقويم زيغه وأوده وإعوجاجه، يالها والله من عقيدة كاذبة ونحلة خبيثة وفرية على الله ما فيها مرية عنوانها الإنكار المحض وثمرتها العناد الصرف، يا لله لقد عموا عن طريق الحق واتباع مسالكه وتاهوا في غمرات الباطل فوقعوا في مهالكه {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:71]، ولنا معهم في إبطال هذه المقالة مقامات ثلاثة: المطالبة والرد والإلزام.
المقام الأول: في المطالبة، فنقول: ما حملكم على هذا التأويل الذي لفقتموه والإحتمال الذي اخترصتموه من غير دلالة عليه ولا عليه علم قائم يستند إليه.
قالوا: لا قائل بالتفرقة وظاهر الخبر دال على التفرقة.
قلنا: إن المقصود من الخبر هو أن ما كان من الخيرات من أفعال الله فإنها حاصلة من عنده ومضافة إليه وإفاضة الخيرات بيده، وأفعاله كلها حسنة وحكمة ومصلحة لا يتطرق إليها شيء من الخلل والنقصان والفساد والقبح، فالخيرات كلها بيده والشر من أفعال العباد من الكفر والفسق وسائر أنواع المعاصي من الشرك وعبادة الأوثان والأصنام وتكذيب الرسل وغير ذلك من المعاصي الكفرية والفسقية لاتضاف إليه ولا تكون متعلقة بقدره ولا منسوبة إليه، وإذا كان الأمر هكذا فلا حاجة به إلى التأويلات التي ليس لها حاصل ولا ثمرة لها ولا طائل، فأما قول المزني: إن الله تعالى خلق الشر ولكنه لا يضاف إليه. فهذا كلام من لم يغمس يده في أصابيغ المباحث الكلامية ولا شم رائحة منها، فكيف يقال بأنه خلقها ولكنها لا تضاف إليه؟ وليت شعري أيهما أبلغ خلقها وإيجادها أو إضافتها؟ فعرفت أنه لم يتحاش عن التصريح بهذه المناقضة، ولا نزه نفسه عن إطلاع النظار على خطئها وعوارها وما درى ولا أشعر نفسه أن بضاعة الفقهاء والإطلاع على أسرار الحيض والنفاس لا تكفي في الإحاطة بالمباحث الإلهية والأسرار الدينية، ولقد صدق من قال: ربما كان العمى خيراً من بصيرة حولا.
وأما قول صاحبه ابن خزيمة: إن الشر لا نتقرب به إليه وإن كان خالقاً له فقد ظهر فساده لأمرين:
أما أولاً: فلأن الله تعالى إذا كان خالقاً للشر من أفعال العباد فلا يعقل في حقه نفي القربة بها ولا إثباتها لأن القربة إنما يعقل ثبوتها ونفيها فيما كان فاعلاً له.
وأما ثانياً: فلأن هذا إنما يعقل على قول أهل العدل من الزيدية والمعتزلة لأن أفعال العباد إذا كانت موجودة بقدرهم وفاعلين لها، انعقل انتفاء التقرب بما كان شراً منها، فأما إذا كانت بقدرة الله تعالى وفاعليتها مضافة إليه لم يعرف نفي التقرب بهذه، فعرفت بما ذكرناه هاهنا ضعف كلام هذين الرجلين وبطلان ما ذكراه في تأويل هذا الحديث وأنهما لم يصنعا شيئاً في الإقدام على ما لا يحيطان بمعرفته، رميٌ في العمى وخبط في العشواء.
المقام الثاني: في الرد عليهم فيما زعموه وحاصله أن نقول: إن هذا التأويل مبني على أصل منهارٍ وهو أن أفعال العباد كلها طاعاتها ومعاصيها مخلوقة بقدرة الله تعالى وأنه لا تعلق لقدرة العبد بها. وهذا له من الفساد غرر وحجول فإن البراهين العقلية والسمعية قد دلت على اختصاص العبد بفعله وأنه قادر على إيجاده ومتعلق بقدرته وواقف على قصده وداعيته والأمر والنهي متوجهان إليه والمدح والذم متعلقان به وكل هذه الأمور دالة على تعلق أفعال العباد تعلق إيجاد وتحصيل، وعلى الجملة فالعلم بكون العبد موجداً وفاعلاً هو علم ضروري وإنكاره يكون عناداً وميلاً عن الحق. والمجبرة فهم متفقون على تعلق قادرية العبد بأفعاله ولكن اختلفوا في وجة التعلق فمنهم من تعلق بالكسب كما يحكى عن ابن أبي بشر الأشعري ومنهم من قال: التعلق بالقدرة لكونه طاعة ومعصية كما هو محكي عن القاضي أبي بكر الباقلاني وهو من حُذَّاقهم، ومنهم من قال: التعلق بالعبد من جهة الوجود كما هو محكي عن عبدالملك الجويني. فهؤلاء قد أثبتوا هذه التعلقات حتى تكون مستنداً للأمر والنهي والمدح والذم وتكون واقعة على القصد والداعية، ويجوز في حق بعضهم أن يجعل وجه التعلق هو الوجود، وهذا لا مانع منه. فحصل من مجموع ما ذكرناه أن دعوى الضرورة في تعلق أفعال العباد بهم صحيح لا يمكن دفعه ولا يسع إنكاره، وإذا كانت أفعال العباد متعلقة بهم بطل ما قالوه من إضافتها إلى قادرية الله تعالى.
المقام الثالث: في بيان ما يتوجه عليهم من الإلزامات. اعلم أن الإلزامات المتوجهة عليهم على القول بخلق الله تعالى لأفعال العباد كثيرة شنيعة.
فقولهم هذا يؤدي إلى بطلان المدح والذم والأمر والنهي؛ لأن هذه الأمور إنما تكون متوجهة على من له فعل تضاف إليه هذه الأحكام فأما من ليس له فعل فلا وجه لتوجهها إليه، ويؤدي إلى بطلان بعثة الأنبياء لأن الله تعالى إذا كان هو المتولي لفعلها فلا وجه لبعثة الرسل وإرسالهم لأن بعثتهم إنما تكون لطلب الطاعات من العباد والإنتهاء عن المعاصي فإذا كانت هذه الأفعال حاصلة بقدرة الله تعالى بطل الغرض بالبعثة لأن الله تعالى لا يبعث الرسل لأن يفعل فعلاً من الأفعال من جهته.
ويؤدي إلى بطلان الشرائع لأن حاصل الشريعة هو الأمر والنهي وهذا لا يتأتى إلا ممن يقدر على الفعل حتى يتعقل كونه مأموراً منهياً، فإذا كانت حاصلة من جهة الله تعالى بطل الشرع وكان لامعنى له.
ويؤدي إلى إفحام الرسول. وبيانه أن الله تعالى إذا بعث الأنبياء إلى الخلق كان للخلق أن يقولوا: إنا لا نصدقكم فيما قلتموه ولا ننقاد لكم فيما أمرتموه لأن الله تعالى لم يخلق فينا قدرة التصديق ولا قدرة الإنقياد لكم فلا وجه لدعائكم لنا. فهذا ما أردنا ذكره على ما قالوه في تأويل الخبر وهو أمر عارض وإنما أحوج إليه كلامهم في المخلوق وقد أودعنا الكتب العقلية ما يكفي ويشفي في إبطال مقالاتهم وما يتوجه عليهم من الإلزامات.
الفرع الرابع: في وقت الافتتاح وهل يكون قبل التكبير للصلاة أو بعده؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن وقت الافتتاح يكون قبل التكبير وهذا هو رأي الإمامين القاسم والهادي ومحكي عن السيدين أبي طالب وأبي العباس.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}[الإسراء:110،111].
ووجه الدلالة من هذه الآية: هو أن الله تعالى أمر عقيب هذا الافتتاح بالتكبير، وفي هذا ما نريده من أن الافتتاح مشروع وقته قبل التكبير وإلى هذا ذهب الناصر.
المذهب الثاني: أن وقت الافتتاح إنما هو بعد التكبير، وهذا هو رأي زيد بن علي والباقر والصادق والمؤيد بالله، ومحكي عن الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه كان إذا افتتح الصلاة بالتكبير قال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا المشركين. وفي هذا دلالة على أن وقته بعد التكبير.
والمختار: هو التخيير بين الافتتاح قبل التكبير أو بعده، فقد ورد في تقدمه على التكبير أحاديث، منها ما روت عائشة رضي الله عنها أن الرسول كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمدلله رب العالمين(1)،
وفي هذا دلالة على أن الافتتاح قبل التكبير، ومنها ما روي في سنن أبي داود أن الرسول قال: ((إذا قمت إلى الصلاة فارفع يديك وكبر واقرأ ما بدالك))(2).
فدل ظاهره على تقديم الافتتاح، ومنها ما روى أبو رفاعة(3)
عن الرسول أنه كان جالساً في المسجد فقال له الرسول : ((إذا قمت في صلاتك فكبر ثم اقراء ما بدالك)). فهذه الأخبار كلها دالة على أن الافتتاح مشروع قبل التكبير كما ذكره الهادي.
__________
(1) أخرجه الدارمي في سننه 308 عن عائشة، والبيهقي في السنن الكبرى 2/15، وجاء في سنن أبي داود 1/208، ومصنف ابن أبي شيبة1/360، ومصنف عبد الرزاق وغيرها.
(2) سنن أبي داود 1/226.
(3) أبو رفاعة العدوي تميم بن أسد، وقيل: ابن أسيد، وقيل: اسمه عبد الله بن الحارث بن أسد بن عدي، روى عن النبي وعنه: حميد بن هلال وصلة بن أشيم العدويان البصريان.
…قال ابن حجر: قال ابن عبد البر: كان من فصحاء الصحابة بالبصرة، قتل بكابل سنة 44.
ووردت أحاديث دالة على كونه مشروعاً بعد التكبير، منها ما روى عبدالله بن رافع(1)
عن علي قال: كان الرسول إذا قام إلى الصلاة كبر ثم قال: ((وجهت وجهي للذي فطر السموات والإرض )). ومنها ما روى زيد بن علي عن علي أنه كان إذا افتتح الصلاة قال: الله أكبر وجهت وجهي. ومنها ما روي من طريق أبي رافع أن رسول الله كان إذا افتتح الصلاة قال: ((وجهت وجهي)). وظاهره دال على أن افتتاحه بعد التكبير وفيه دلالة على أن الافتتاح بعد التكبير. فهذه الأحاديث كلها متعارضة فيما دلت عليه وهي متقاربة في ترجيحها بالإضافة إلى المتن والسند فلهذا كان الأقرب التخيير. نعم يمكن أن يقال: إنما ذكره الهادي من الإستدلال بالآية الدالة على أن الافتتاح قبل التكبير راجح على ما ذكره المؤيد بالله ومن كان معه لأن الآية لا يوازيها شيء من الأخبار في القوة؛ لأنها مقطوع بأصلها ودالة على المقصود بظاهرها، فلا جرم كان ما ذكره الهادي راجحاً على غيره.
الفرع الخامس: في بيان محله. ومحله الفرض والنفل لأن الأدلة الشرعية لم تفصل في الافتتاح بين الفرض والنفل لكنه في الفرض آكد في الاستحباب من النفل لأمرين:
أما أولاً: فلأن الإهتمام بالفرض أكثر وآكد في نظر الشرع من الإهتمام بالنفل لأن الشرع قد خفف في النوافل كثيراً من التخفيفات كالأداء على الراحلة وترك القيام في النافلة مع القدرة عليه.
وأما ثانياً: فلأن النوافل كثيرة يتسع فيها، فربما شق الافتتاح فيها مع كثرتها واتساعها، وسواء كان إماماً أو مؤتماً أو منفرداً في إستحباب الافتتاح، والإجماع منعقد على ذلك، وسواء في ذلك الرجال والنساء لأن الأدلة ما فصلت.
__________
(1) في (تهذيب) التهذيب)5/181 اثنان باسم عبد الله بن رافع، الأول: عبد الله بن رافع المخزومي مولى أم سلمة، والآخر: الحضرمي المصري، كلاهما روى عن بعض من الصحابة منهم أبو هريرة، ولعل الأول هو الأقرب إلى المقصود من كلام المؤلف.
الفرع السادس: في التعوذ. ويقع النظر في حكمه وصفته ووقته و الجهر به ومحله، فهذه أحكام خمسة نذكر ما يتعلق بكل واحد منها بمعونة الله:
الحكم الأول: في حكمه. وهل يكون مشروعاً في الصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه مشروع في الصلاة وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، وهو محكي عن الفريقين.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98].
الحجة الثانية: ما روى أبو سعيد الخدري عن الرسول أنه كان يتعوذ إذا أراد الصلاة فيقول: ((أعوذ بالله من الشيطان الرحيم )) (1).
المذهب الثاني: أن التعوذ غير مشروع في الصلاة وإنما يكون مشروعاً في قيام شهر رمضان وهذا هو المحكي عن مالك حكاه الأبهري(2)
عنه في شرح المختصر.
والحجة على هذا: هو أن التعوذ إنما كان مشروعاً في قراءة القرآن بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}[النحل:98]. ولم تدل دلالة على كونه مشروعاً في غير القراءة، ولا شك أن الصلاة غير القراءة فلهذا لم يكن مشروعاً فيها، وأما رمضان فإنما كان مشروعاً فيه لدلالة قامت عليه.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة من كونه مشروعاً في الصلاة كما شرع الاستفتاح.
والحجة: ما ذكرناه عنهم. ونزيد هاهنا وهو أن الرسول كان يتعوذ قبل القراءة وما كان من الأخبار دالاً على الاستفتاح فهو دال عليه.
__________
(1) أخرجه البيهقي في الكبرى2/35، وعبدالرزاق في مصنفه 2/75.
(2) محمد بن عبدالله بن محمد بن صالح، أبو بكر التميمي الأبهري، شيخ المالكية في العراق، سكن بغداد، وسئل أن يلي القضاء فامتنع، له تصانيف في شرح مذهب مالك، والرد على مخالفيه، منها: (الرد على المزني) و(الأصول) و(إجماع اهل المدينة) و(فضل المدينة على مكة) وفي الحديث (العوالي) و(الأمالي). راجع (الأعلام)6/225، و(تاريخ بغداد)5/432.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قوله: إن التعوذ لم يشرع إلا في القرآن بدليل الآية.
قلنا: عن هذا جوبان:
أما أولاً: فلا نسلم أنه لم يشرع إلا في القراءة فإنه قد ورد عن الرسول أنه كان يتعوذ في الاستفتاح للصلاة.
وأما ثانياً: فهب أنه لم يرد التعوذ إلا في حال القراءة فالاستفتاح هو نوع من القراءة فإنه آية من كتاب الله تعالى وهو قوله: {وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ }[الأنعام:79]..إلى آخره، فلهذا قضينا بكونه مشروعاً.
الحكم الثاني: في صفته. وفيه اختيارات أربعة:
الاختيار الأول: أن يقول فيه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا هو رأي المؤيد بالله، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98].وما روى أبو سعيد الخدري عن الرسول أنه كان يقول في تعوذه: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )).
الاختيار الثاني: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. وهذا هو رأي الإمام الناصر، ومحكي عن الحسن بن صالح.
والحجة على هذا هو أن ما ذكرناه جمع بين الآيتين الواردتين في التعوذ وهو قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:36]. وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]. فما ذكرنا هو جمع بينهما.
الاختيار الثالث: محكي عن الإمام الهادي وهو قوله:أعوذ بالله السميع العليم.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]. فخص هذه العوذة بقوله:{السميع العليم}. ولم يذكر فيها الشيطان الرجيم.
الاختيار الرابع: محكي عن سفيان الثوري وهو قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم. فهذه الاختيارات كلها واردة في صفة التعوذ.
والمختار من هذه العوذ: ما عول عليه الناصر وإنما اخترناه لأن فيه الجمع بين ما ورد في الكتاب وما ورد في السنة فلهذا كان مختاراً وغير تعويل على أحدهما دون الآخر ولا شك أن الجمع بينهما أقوى وآكد وكلها مرشدة إلى المطلوب لكن هذا راجح على غيره.
الحكم الثالث: في بيان وقته. وفيه مذاهب:
أولها: أن وقت التعوذ قبل الاستفتاح وهذا هو رأي الهادي والقاسم في رواية أبي العباس.
والحجة على هذا قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]. أراد فإذا أردت القراءة. كقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }[المائدة:6]. والمعنى إذا أردتم.
وثانيها: أن وقته بعد الاستفتاح وقبل التكبير، وهذا هو رأي الناصر.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ}. والفاء دلالة التعقيب، والتوجه من القرآن، فلهذا كان التوجه بعده لظاهر الآية.
وثالثها: أن وقته بعد الاستفتاح وبعد التكبير، وهذا هو رأي الإمامين القاسم في النيروسي والمؤيد بالله وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه كان يكبر للصلاة ثم يستفتح ثم يتعوذ.
ورابعها: أنه يتعوذ بعد القراءة وهذا شيء يحكى عن أبي هريرة وابن سيرين والنخعي.
وخامسها:أنه يتعوذ قبل القراءة وهذا محكي عن سفيان الثوري.
وسادسها: أنه لا يتعوذ [إلا في] قيام رمضان وهذا هو رأي مالك، يفعله بعد القراءة.
والمختار من هذه المذاهب: هو أن التعوذ يكون بعد الاستفتاح لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ }. والفاء للتعقيب والترتيب فظاهر الآية دال على أن التعوذ عقيب الاستفتاح من غير فصل وأنه مرتب عليه لا يفعل قبله.
الحكم الرابع: الجهر والمخافتة فيه، وحكي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يجهر به وحكي عن ابن عمر أنه كان يسر به. وعلى هذا أيهما فعل كان مجزياً في السنة، والذي يأتي على كلام الهادي: أن صفة القراءة كالقراءة، وعلى هذا إذا كانت الصلاة سراً كان التعوذ سراً وإن كانت الصلاة مجهورة كان التعوذ جهراً.
وأما الشافعي فله قولان: قال في (الإملاء): أنه مخير بين الجهر والإسرار. وقال في (الأم): أن السنة أن يجهر بالتعوذ، وهذا هو الصحيح من مذهبه لما روي أن الرسول كان يتعوذ قبل القراءة فلولا أنه يجهر به لما سمع منه، وحكي عن أبي علي الطبري من أصحاب الشافعي أن السنة أن يسر بالتعوذ لأن السنة هو الجهر بالتأمين والقراءة دون غيرهما من الأذكار.
الحكم الخامس: في بيان محله، يستحب عند أئمة العترة أن يكون محله في الركعة الأولى، وهو أحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أنه ذكر مشروع قبل القراءة وقبل الاستفتاح فلم يكن مسنوناً في غير الركعة الأولى كدعاء الافتتاح، وهل يستحب فيما سواها من الركعات أم لا؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي:
أحدهما: أنه يستحب الإتيان [به]في كل الركعات لقوله تعالى: {{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]. ولم يفصل بين ركعة وركعة لأن في كل ركعة واحدة قرآناً.
وثانيهما: أنه لا يستحب لما ذكرناه أولاً، وإذا قلنا بأنه يستحب في الركعة[الأولى] لا غير فإذا تركه ناسياً أو جاهلاً أو عامداً لم يكن عليه الإعادة ولا يلزمه سجود السهو. وقد تمت المقدمات بما ذكرناه والحمد لله.
---
الفصل الثاني في بيان المقاصد للصلاة
ونعني بالمقاصد: فروضها وأركانها، وجملتها فروض عشرة: النية والتكبيرة والقراءة والقيام والركوع والإعتدال منه مع الطمأنينة فيهما والسجود والقعدة بين السجدتين مع الطمأنية والتشهد الأخير والقعود فيه والصلاة على الرسول والتسليمتان. ونحن نذكر كل واحد من هذه الفروض ونذكر ما يختص كل واحد منها بمعونة الله.
القول في النية: والإجماع منعقد على وجوبها في الصلاة إلا عن شذوذ نذكرهم في الفرع الثالث، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين " }[البينة:5]. والإخلاص هو نية العبادة خالصة لله تعالى. وقوله : ((الأعمال بالنيات ولكل امرءٍ ما نوى " )). وفي حديث آخر: ((لا قول إلا بعمل " ولا قول ولا عمل إلا بنية ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة)).
واعلم أنه قد أشار في هذا الحديث إلى قواعد الإيمان وهي ثلاثة:
القاعدة الأولى: إحراز الاعتقادات الدينية بتحصيل المعارف الإلهية وهذا نحو العلم بالله تعالى وما يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه، ونحو العلم بصدق الرسول فيما جاء به من أمور الديانة.
القاعدة الثانية: الإقرار بالشهادتين وبصحة ما جاء به الرسول من أمور الدين وأحكام الآخرة فإن هذه الإقرارات أصل في كمال الإيمان؛ لأن في الإقرار بها إحراز الرقبة عن القتل وإحراز الأموال عن الأخذ والسحت.
القاعدة الثالثة: العمل بتأدية هذه الأفعال التي ورد بها الشرع ودل على وجوبها العقل من العبادات وغيرها فمتى حصلت هذه القواعد فقد كمل الإيمان، فأشار إلى أن القول غير نافع إلا بانضمام العمل إليه وأن القول والعمل غير نافعين إلا بانضمام النية إليهما وأن الأقوال والأفعال والنيات غير مجزية إلا بإصابة السنة. والغرض بإصابة السنة: هو اعتقاد(1)
__________
(1) لعل الصواب هو: أداؤها كما جاءت به السنة، والله أعلم.
أن كل ما جاء به الرسول فهو حق وصدق. وهذا تمهيد الفصل.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في حقيقة النية وجنسها.
أما حقيقتها فهي: الإرادة المقارنة التي تؤثر في وقوعه على وجه دون وجه.
فقولنا: هي الإرادة، عام في سائر الإرادات.
وقولنا: المقارنة، نحترز عما تقدم من الفعل من الإرادات فإنه يكون عزماً ولا يكون نينة، والعزم مخالف للنية.
وقولنا: التي تؤثر في وقوعه على وجه دون وجه، لأن هذا هو حكم النية وثمرتها والذي يؤتى بها لأجله ولهذا فإن السجدة الواحدة يمكن إيقاعها للصنم ويمكن إيقاعها لله تعالى ولا تميزها لأحدهما إلا النية، وهكذا حال الصلاة وجميع العبادات فإنه لا يمكن إيقاعها على جهة القربة والإخلاص لله تعالى إلا النية، ولهذا أشار إلى ما قلناه بقوله:((لا قول ولا عمل إلا بنية)) فنفى على جهة العموم أنه لا ثمرة للقول والعمل إلا بواسطة النية، وإعمالها في الأقوال والأعمال وأنها هي العمدة في إيقاع الأفعال على الوجوه المختلفة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن تأثير مطلق الإرادة في وجوه الأفعال من كونها حسنة وقبيحة وكون الكلام أمراً ونهياً وخبراً. وأن النية مختصة من بين سائر الإرادات بالتأثير في كون الأفعال عبادة وقربة وخالصة لوجه الله تعالى.
وأما جنسها: فهي نوع مخصوص مخالف للعلم والظن والاعتقاد؛ لأن الاعتقاد ربط القلب على معتقده سواء كان معتقده مطابقاً أو غير مطابق فلا بد من الجزم بالاعتقاد.
وأما الظن فهو تغليب بالقلب على أحد المجوزين ظاهري التجويز.
فقولنا: ظاهري التجويز: نحترز به عن اعتقاد التقليد فإن المقلد وإن كان يعتقد خلاف ما هو عليه لكنه ليس ظاهراً لأجل التصميم على ما هو عليه وإنما هو أمر خفي، يخلاف محتملي الظن فإنهما ظاهران، والظن ترجيح أحدهما على الآخر مع ظهورهما.
وأما العلم فهو اعتقاد مع سكون النفس واطمئنان القلب على معتقده، فحاصله أنه جزم مع سكون لا يتطرق إليه تجويز ولا احتمال بحال.
وأما الإرادة فهي مخالفة لهذه الأجناس الثلاثة في حقيقتها وفي تأثيرها كما أشرنا إليه.
قال الإمام المؤيد بالله: ولو صلى الظهر وهو عالم بأنه ظهر فإنه لا يجوز أن يقال إن ذلك نية لأن العلم من جنس الاعتقاد. وهذا الكلام نشير به إلى ما لخصناه من كون النية مخالفة للعلم والظن والاعتقاد وأنه لا يؤثر في كون العبادة عبادة وقربة وخالصة لله تعالى إلا النية، وذكر الصلاة ليس نية فيها. وحكى المؤيد بالله أن بعض الناس(1)
قال: إذا كان ذاكراً لما يفعله فهو نية. ذكره في (الزيادات). قال: وهذا غير صحيح وإنما كان فاسداً لأن الذِّكرُ هو تجدد العلوم بما كان غافلاً عنه، وقد قررنا أن النية مخالفة للعلوم والاعتقادات. والنية مخالفة للكلام، وعلى هذا فاللفظ باللسان مجرداً لا يكون نية، فإن نوى بقلبه وتلفظ بالنية بلسانه أجزأه، وإن نوى بقلبه ولم يلفظ بلسانه كان مجزياً له وكان أفضل من الأول لأن الكلام بين الإقامة والتكبير يكره وإن لفظ بلسانه بالنية دون قلبه لم يكن مجزياً له لفقد النية التي اعتبرناها وكما أن النطق بالنية غير معتبر فهكذا تصور الحروف بالقلب وترتيبها في الذهن غير معتبر أيضاً من جهة أن النطق بالحروف لما كان غير معتبر في النية بصريحه، فهكذا حال تصور الحروف غير معتبر أيضاً لأنها تابع للنطق، ومحل النية القلب لأنه من جملة أفعال القلوب كالعلوم والاعتقادات والظنون ولأنها مؤثرة في الإخلاص والإخلاص إنما يكون بالقلب.
الفرع الثاني: النية هل تكون ركناً من أركان الصلاة أو تكون شرطاً كاستقبال القبلة وستر العورة؟ فيه لأصحاب الشافعي طريقان:
الطريق الأول: أنها ركن من أركان الصلاة وهذه طريقة أهل بغداد.
__________
(1) حاشية الأصل: قيل إنه الناصر ، وقيل أبو العباس الحسني.
الطريق الثاني: أنها شرط من شروط الصلاة وهذه طريقة أهل خراسان لأنها لو كانت ركناً لافتقرت إلى النية كسائر الأركان.
والمختار على مذهبنا وعليه الجلة من أصحاب الشافعي: أنها ركن بل هي أجلُّها وأعظمها ولا تنصلح الصلاة إلا بها وإنما لم تكن النية مفتقرة إلى نية لأمرين:
أما أولاً: فلانعقاد الإجماع على أنها غير مفتقرة إلى النية.
وأما ثانياً: فلأن النية إرادة مخصوصة تقصد لايقاع الأفعال على أوجهٍ مخصوصة، والإرادة لا تراد، إذ لا فائدة في إرادتها، والصلاة إنما تكون مفتقرة إلى نية في ابتدائها ولا يضر عزوبها بعد انعقادها في أولها، فلو نوى المصلي في صلاته قطعها والخروج منها مع كونه متلبساً بها فهل تبطل صلاته بهذه النية أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن صلاته لا تبطل بمجرد نية الخروج إذا لم يفعل فعلاً يفسدها ويبطلها لكنه يبطل ثوابها عند الله تعالى، وهذا هو رأي الهادي والناصر والمؤيد بالله ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن حقائق هذه الأفعال موجودة وصورها ثابتة مع وجود نية الخروج منها، ولهذا فإن من قرأ القرآن ونوى به أنه غير قارئ، وهكذا من حج وصام وصلى وجاهد ونوى أنه غير فاعل لهذه العبادات فإنه لا يكون خارجاً عن فعلها بمجرد هذه النية، فهكذا في الصلاة لا يكون خارجاً عنها ولا مبطلاً بمجرد نية الخروج عنها.
المذهب الثاني: أن مجرد نية الخروج يكون مبطلاً لها، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو العباس ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الصلاة عبادة تفتفر إلى النية فيجب أن تكون نية الخروج منها مبطلاً لها كالوضوء.
والمختار: ما عول عليه الأئمة.
وحجتهم: ما ذكرناه. ونزيد هاهنا وهو قوله : ((لا يقطع الصلاة شيء " )). فيجب بحكم العموم أن لا تكون منقطعة بهذه النية.
ومن وجه آخر: وهو أن المصلي غير داخل في الصلاة بمجرد النية فيجب أن لا يكون خارجاً عنها بمجرد نية الخروج عنها، وقد وافقنا الشافعي على أن نية الخروج من الصوم لا تكون مبطلة له والتفرقة بينه وبين الصلاة هو أن حقيقة الصوم راجعة إلى الكف عن المفطرات وليس له عقد وتحلل ولكنه ينتهي بغروب الشمس مع الكف عما يفطر.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الصلاة عبادة تفتقر إلى النية فنية الخروج منها يجب أن تكون مبطلة لها كالوضوء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الوضوء وصلة، والصلاة هي المقصود فلا يلزم إذا كانت نية الخروج مبطلة للوضوء أن تكون مبطلة للصلاة لافتراقهما.
وأما ثانياً: فإن الوضوء يتعين فعله لأجل الصلاة بدليل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَة " }[المائدة:6]. فلهذا كان صرفه عما عين له مبطلاً له بخلاف سائر العبادات من الصلاة والصوم والحج فافترقا. نعم لو علق نية الخروج من الصلاة بدخول شخص أو خروجه فهل تبطل الصلاة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: البطلان لأن هذا الشرط يبطل الجزم بالصلاة ويقطع الاستمرار عليها.
وثانيهما: أنها لا تبطل، وهذا [هو] المختار لأنه مستمر في الصلاة ولسنا على قطع في وقوع الدخول والخروج فلهذا لم تكن باطلة بهذه النية.
الفرع الثالث: قد ذكرنا من قبل أن النية جنس الإرادات وأنها إذا تقدمت فهي عزم، وإن قارنت الفعل فهي قصد، وإن أثَّرت في وجوه الأفعال فهي نية، فإذا تقرر ذلك فهل تكون واجبة في الصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية ومحكي عن فقهاء الأمة الشافعية والحنفية والمالكية لا يختلفون في ذلك ولم يحك الخلاف في وجوب النية في الصلاة عن أحد من العلماء من الصدر الأول من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم إلى أن نبغ الخلاف من هؤلاء المخالفين(1).
__________
(1) أصحاب المذهب الثاني.
والحجة على ذلك: ما قررناه من الآية والأخبار التي رويناها فإنها دالة على وجوبها، ثم [إن] الإجماع في كل وقت من جهة العلماء فيه دلالة كافية على الوجوب وهي من الأدلة الشرعية المعتبرة في تقرير الأحكام الشرعية.
المذهب الثاني: محكي عن الأصم وإسماعيل بن عُلَّيه(1) فإنهما زعما أن النية غير واجبة وأن الذكر في الصلاة غير واجب وإنما الواجب ليس إلا الأفعال كالقيام والقعود والركوع والسجود.
والحجة على ما زعموه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا " " }[الحج:77].
ووجه الدلالة من هذه الآية: هو أن الله تعالى أمر بهذه الأفعال الشرعية في العبادة ولم يوجب غيرها من النية وسائر الأذكار في الصلاة فلهذا كان الوجوب مقصوراً عليها.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وعلماء الأمة من إيجاب النية والذكر في الصلاة. وسنقرر وجوب الأذكار في الصلاة في مواضعها اللائقة بها، وأما النية فقد دللنا عليها بالآية والخبر فلا فائدة في تكريره.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه من أوجه ثلاثة:
الجواب الأول: أن هذه الآية(2)
وإن دلت على وجوب هذه الأفعال فقد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على وجوب النية وسائر الأذكار فليس في الآية ما يدل على أنه لا واجب في الصلاة إلاَّ ما دلت عليه الآية فيلزم ما قالوه.
__________
(1) إسماعيل بن إبراهيم بن عُلَيَّة،قال في (الجرح والتعديل): ابن إبراهيم بن مقسم، أبو بشر الأسدي، وأمه عُلَيَّة. روى عن أيوب وعبد العزيز بن صهيب، وحميد الطويل، وروى عنه شعبة وأحمد بن حنبل. اهـ. 2/153، وثقه عدد من رجال الحديث، ووصفوه بأنه ثبت، ومنهم يحيى بن معين، ويحيى القطان، واحمد، وغيرهم.
(2) في الأصل: النية. ولعله سهو أو خطأ من الناسخ؟
الجواب الثاني: أن الإجماع منعقد من جهة علماء الشريعة أهل الحل والعقد من أئمة العترة وفقهاء الأمة، على بطلان هذه المقالة وأن خلافهم ساقط للإجماعات السابقة لهم من الصدر الأول إلى أن نبغ الخلاف منهم ثم الإجماعات اللاحقة بعدهم على سقوط مقالتهم وبطلانها.
الجواب الثالث: أن من هذه حاله في الغباوة والجهل بمقاصد الشريعة وعلومها لا يعتد بخلافه بل يكون من جملة العوام الذين لا عبرة بكلامهم ولا يعتد كلامهم، وإذا كان نفاة القياس لا يُعَدُّون من علماء الشريعة المطلعين على أسرارها والمتبحرون في علومها لإنكارهم القياس وإنما تعويلهم على الظواهر القرآنية والأخبار المروية فهؤلاء الذين نفوا الأذكار أدخل منهم في الغباوة وأكثر جرأة في الإنكار لما ظهر أمره في الصلاة واشتهر حاله.
الفرع الرابع: في وقت النية، وهو وقت التكبير وفيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: جواز المخالطة بالنية للتكبير، وجواز التقديم على التكبير إما بأوقات يسيرة كما ذكره المؤيد بالله، وتقديره: إما بقدر عطاس أو سعال يعرض قبل التكبير، وإما بأوقات كثيرة كما ذكره السيد أبو طالب، ومقداره: ألاَّ يحول بينها وبين التكبير قول أو فعل ليس من الصلاة فلا بأس بقدر التوجه، وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله والسيد أبي طالب. فأما أبو حنيفة فقد حكى عنه الطحاوي وجوب المقارنة للتكبيرة وكان الجصاص ينكر ذلك ويقول: أن مذهبه جواز التقديم؛ فإذن الظاهر أن مذهبه كمذهبنا في جواز التقديم والمقارنة.
والحجة على ذلك: قوله : ((الأعمال بالنيات ولكل امرء ما نوى " )). فاقتضى ظاهر هذا الخبر أن النية متى وقعت على منويها كانت مطابقة ولم يفصل بين أن تكون مقارنة له أو متقدمة عليه.
المذهب الثاني: أن تكون النية مع التكبير لا قبله ولا بعده ولكن تكون مخالطة للتكبير، وهذا هو رأي الشافعي ويقع على أوجه ثلاثة:
أولها: أن يبسط النية على التكبير بحيث ينطبق أولها على أوله وآخرها على آخره.
وثانيها: أن تقترن النية بالهمزة. وهل يشترط استدامتها إلى آخر التكبير أم لا؟ فيه وجهان.
وثالثها: أن يكون المصلي مخيراً بين البسط للنية على التكبير وبين تقديم النية.
والحجة على هذا: هو أن النية من حقها أن تكون مطابقة لمنويها ولا تعقل المطابقة إلا إذا كانت على وفق منويها من غير تقدم لأوله ولا تأخر عن آخره.
المذهب الثالث: وجوب تقديم النية على المنوي، وهذا هو المحكي عن داود.
والحجة على هذا: هو أن النية إذا كانت متقدمة على منويها كان محرزاً لأن لا يمضي شيء من التكبير من غير نية. فهذا تقرير المذاهب.
والمختار: تفصيل نشرحه ونشير إليه، وحاصله: أن النية حضرة في القلب يحصل فعلها على القرب تؤثر في كون المنوي قربة وعبادة وظهراً وأداءً. وهذا أمر يحصل على القرب والسهولة، ولقد عرفنا من حال صاحب الشريعة صلوات الله عليه، ودأب الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم، التساهل في أمرها حذراً عن المشقة وميلاً عن استدعاء الشكوك وبعداً عن الوسوسة، وكان من عادتهم أن المؤذن إذا قال: قد قامت الصلاة. أمرهم بتسوية الصفوف ثم أقبل إلى محرابه وكبر على الخفة وكبر المسلمون خلفه على أسرع ما يكون وأقرب، وفي هذا دلالة على التساهل في حال أمر النية وبناء الأمر على الخفة فيها، سواء كانت مخالطة للتكبير أو متقدمة عليه، فالأمر فيها مبني على التيسير والسهولة. وإلى ما ذكرناه يشير كلام أئمة العترة إذا تصفحت كلامهم في مصنفاتهم وجدتها مبنية على الإنشراح من غير اشتراط مشقة.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالف ما ذكرناه.
فنقول: اشترط الشافعي أن تكون النية مع التكبير لا قبله ولا بعده وتكون مخالطة للتكبير بحيث ينطبق أولها على أوله وآخرها على آخره أو تكون النية مقترنة بالهمزة ويشترط إدامتها إلى آخر التكبير أو يكون المصلي مخيراً بين البسط وبين التقديم على ما أثر من اختلاف أقواله في وقت النية.
قلنا: النية من أعمال القلب وفعلها يحصل على القرب والسهولة وتأثيرها فيما ذكرناه في كون الصلاة عبادة وقربة وظهراً وأداءً. وهذا أمر يسهل تحصيله بالتقدم والمخالطة من غير حاجة إلى اشتراط ما ذكره من انطباق أولها على أول التكبير وآخرها على آخره وأنها لا تكون قبل التكبير ولا بعده، فما هذا حاله فيه صعوبة وعسرة وربما أورث الوسوسة وحصول الشك وتغير الحالة وكان شاغلاً للقلب عن الإقبال والخشوع، ولقد رأينا من أغرق في ملاحظة الإنطباق وأن النية لا تتقدم ولا تتأخر حتى خرج إلى البدعة في تكرير التكبيرات الكثيرة والخروج إلى اللحن بمدها وتطويلها حتى أخرجها عن قانونها الشرعي الذي أشار إليه صاحب الشريعة صلوات الله عليه بقوله: ((التكبير جزم والتسليم جزم " )). وأراد: أنه يكون قطعاً وحتماً من غير مدٍ فيه ولا تطويل.
وما قاله داود أيضاً من اشتراط التقدم للنية على التكبير لا وجه له ومقصوده المحاذرة عن أن يمضي جزء من التكبير من غير مصادفة النية فلا تكون الصلاة مجزية.
قلنا: الأمر كما يحصل بالتقدم بأوقات يسيرة فهو حاصل بالمخالطة فلا وجه لإيجاب التقدم فالإجزاء حاصل بهما جميعاً فيبطل اشتراط التقدم كما زعم. فتنخل من مجموع ما ذكرناه: أن وقت النية التكبير، وأن الإجزاء يحصل بتقدمها ومخالطتها على أيسر حال وأسهله من غير تعمق ولا تعسير كما لخصناه.
الفرع الخامس: في بيان كيفية النية، ويشتمل على أحكام [عشرة] نفصلها:
الحكم الأول: اعلم أن النية تتعلق بالفرض والنفل. فأما الفرض فالنية المجزية في إسقاطه عن الذمة: أن ينوي المصلي بالصلاة ظهراً أو عصراً فيخرج بنية الظهر عن العصر وعن النفل، ولا يحتاج في كونه مجزياً إلى نية الفرضية ولا إلى نية الإضافة إلى الله تعالى ولا إلى نية عدد الركعات. وأما النفل فرواتب الصلاة لا بد فيها من التعيين نحو سنة الظهر وسنة المغرب، وأما غير الرواتب فلا بد من الإضافة إلى أسبابها نحو صلاة الكسوف وصلاة الإستسقاء وصلاة الرغائب وصلاة شعبان، فإذا كانت مبتدأة لا سبب لها فإنه يكفي فيها نية الصلاة مطلقاً.
قال الإمام المؤيد بالله: النية ضربان:
نية تسقط بها العبادة عن الذمة وهي التي لا يحفظ الخلاف في أن القدر الكافي منها أن ينوي الصلاة ظهراً أو عصراً.
ونية يحرز بها الفضل وزيادة الأجر نحو أن ينوي بالصلاة مصلحة في الدين وقربة إلى الله تعالى واعترافاً بعظمته وجلاله.
ثم اختلف أصحاب الشافعي فيما يجب اشتراطه في النية وما لا يشترط على مذاهب خمسة:
أولها: أنه لابد من اشتراط نية الأداء في كون الصلاة مجزية، وهذا هو رأي الشيخ أبي حامد الغزالي. وهو غير لازم لأمرين:
أما أولاً: فلأن ما هذا حاله فلا تأثير للنية فيه فإنه إذا أدَّى الفريضة في وقتها نوى أو لم ينو.
وأما ثانياً: فلأن قرينة التأدية في الوقت كافية في الأداء فلا يحتاج إلى شرطه.
وثانيها: نية الفريضة، وهذا هو رأي المروزي. وهذا أيضاً غير لازم لأن نية كونها ظهراً كافية في الفرضية لأن الظهر لا يكون إلا فرضاً فلهذا لم يكن مفتقراً إلى نية الفرضية.
وثالثها: نية عدد الركعات، وما هذا حاله فهو غير لازم فإنه إذا أدَّى الظهر أربع ركعات فإنه يكون أربعاً، نوى أو لم ينو، وإن صلاها ثلاثاً ونواها أربعاً لم تكن أربعاً، وفي هذا دلالة على أنه لا تأثير للنية في عدد الركعات.
ورابعها: نية استقبال القبلة. فمنهم من اشترطه، وهو غير لازم أيضاً فإن ما هذا حاله لا تأثير للنية فيه.
وخامسها: إضافة العبادة إلى الله تعالى، فمنهم من اشترطها [وهو] غير لازم أيضاً فإن الإيمان بالله كافٍ في هذا الشرط فإن المصلي إذا كان مؤمناً فصلاته لله وعبادته له فلا وجه لاشتراطه.
وذكر الشيخ يحيى بن أبي الخير العمراني في كتابه (البيان): أن الإرادة ليست من قبيل الكلام وإنما هي من قبيل الاعتقاد، وهذا خطأ فإنا قد أوضحنا فيما سبق أن النية من قبيل الإرادات وأنها مخالفة في حقيقتها للاعتقاد والظن والعلم. وإنما أُتِيَ في هذه المقالة من جهة أنه لم يأنس بشيء من المباحث الكلامية فلهذا لم يميز بين الاعتقاد والإرادة.
الحكم الثاني: والمصلي إذا أراد أن يصلي الفائتة فهل تلزمه نية القضاء أم لا؟
فحكي عن بعض أصحاب الشافعي: أن نية القضاء غير لازمة، والذي اختاره السيدان الأخوان: أنه لابد من نية القضاء، وهو الأصح من قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الصلاة منقسمة إلى قضاء وأداء لكن الأداء غير مفتقر إلى النية لما قدمنا من أن قرينة الوقت كافية عن نية الأداء بخلاف القضاء فإنه صفة زائدة لا تتقرر ولا تنفصل عن الإحتمال إلا بالنية. قال الإمام المؤيد بالله: والأصح أن ينوي في القضاء من أول ما عليه أو من آخر ما عليه أيهما شاء فعل. وهذا جيد لأن وقت الأداء قد سقط بالفوات فصارت في الذمة على جهة الإستواء كمن إدَّان دراهم على ذمته شيئاً بعد شيء ثم قضاها فإن شاء قضى من أول ما عليه أو من آخر ما عليه.
الحكم الثالث: ولو فاته الظهر والعصر جميعاً فدخل في الصلاة ينويهما جميعاً لم يجزه لأن التعيين واجب في العبادة، وتشريكه بين الصلاتين يمنع وقوعها لأحدهما. ولو دخل بنية أحدهما ثم شك ولم يدر أيهما نوى لم تجزه هذه المفعولة عن أحدهما حتى يتيقن أيهما نوى، وإن قيد النية بمشيئة الله. بأن يقول: أصلي هذه الصلاة إن شاء الله نظرت؛ فإن قصد به الاستثناء بطلت الصلاة لأنه أدخل في النية ما ينافيها ويرفعها فلهذا كانت باطلة؛ وإن أراد إيقاعها بمشيئة الله أجزأه ذلك؛ لأن أفعال الطاعات كلها مرادة لله تعالى واقعة بمشيئته. وإن نوى الفرض والنفل جميعاً لم تنعقد صلاته، وحكي عن أبي حنيفة: أنه ينعقد الفرض ويبطل النفل.
والحجة على ما قلناه: هو أنه نوى صلاتين مختلفتين فلا تصح كما لو نوى الظهر والعصر جميعاً.
الحكم الرابع: وإن نوى ظهر وقته نظرت، فإن لم يكن عليه ظهر فائت أجزأه لأن الوقت هو وقت الأداء، وإن كان عليه ظهر فائت فهل يجزيه ذلك أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجزيه إلا أن يكون صلى في آخر الوقت بحيث لم يبق من الوقت إلى غروب [الشمس] إلا ما يتسع للعصر فحينئذ تجزيه وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب.
والحجة على هذا: هو أن هذا الوقت كما هو صالح للأداء فهو صالح للقضاء فلا ينصرف إلى أحدهما دون الآخر فلهذا لم تكن مجزية مع الإحتمال إلا أن يكون لم يبق من الوقت إلا ما يتسع للعصر فعند هذا قد تعين الوقت للظهر فلهذا كانت مجزية فأما قبل ذلك فالإحتمال قائم.
وثانيهما: أنه يجزيه وإن كان في أول الوقت وهذا هو رأي المؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو أن الوقت هو وقت الأداء ولا ينصرف إلى القضاء إلا بالنية فإذا أطلق انصرف إلى المؤداة بكل حال.
هذا هو المختار من جهة أن الوقت هو وقت للظهر بدليل الشرع وليس وقتاً للمقضيَّة إلا بالنية لأنه صالح لهما فلا ينصرف إلى المقضية إلا بالنية.
الحكم الخامس: قال المؤيد بالله: ومن كان عليه ظهر فائت، وهو في وقت الظهر نظرت فإن نوى ظهر يومه صح ذلك وانصرف إلى المؤداة؛ لأنها ظهر اليوم، وإن نوى ظهر وقته فعلى رأي المؤيد بالله يصح ذلك وتنصرف إلى المؤداة، وعلى رأي السيد أبي طالب يجزيه ذلك، كما مر بيانه من قبل، فلا وجه لتكريره، وإن نوى الظهر مطلقاً فذكر المؤيد بالله أنه لا يصح؛ لأنه كما يصح عن المؤداة فهو صحيح على المقضية، ومع الإحتمال تبطل إلا أن يخص بالنية أحدهما دون الآخر، وهذا فيه نظر فإنه إذا كان لا ينصرف إلى القضاء إذا قيدنا بالوقت مع أن الوقت صالح للمؤداة والمقضية كما أشار إليه الرسول بقوله: ((فوقتها حين يذكرها " )). فهكذا نية الظهر مطلقاً لا تنصرف إلى المقضية؛ لأن قرينة الوقت [أقرب] فلهذا انصرف إلى المؤداة مع الإطلاق.
الحكم السادس: قال المؤيد بالله: إذا اشتبه عليه بقاء الوقت وخروجه نوى عصر يومه أو فجر يومه، وهذا محمول على أن المصلي غلب على ظنه بقاء الوقت فلهذا أجزأه نية فرض اليوم، فأما إذا غلب على ظنه خروج الوقت لم يكفه نية عصر اليوم وفجر اليوم بل لابد من نية القضاء لما أوضحناه من وجوب نية القضاء في كل ما فات وقته، وقال أيضاً: ومن صلى خلف إمام أدركه في صلاته ولم يعلم أنه يصلي الجمعة أو الظهر فنوى أنه يصلي ما يصلي الإمام صحت صلاته؛ لأنها تختص بوجه واحدٍ وهذا محمول على جمعة ليس لها شعار ولا ظهور ولا علو شنار، فإن أمر الجمعة لا يخفى فإنها متميزة عن سائر الأيام بما يظهر فيها من الأحكام الشرعية، فإذا كانت هذه الصورة ممكنة أو مقدرة صح ما قاله الإمام.
فأما قوله: أنها تختص بوجه واحد فإنه يحتمل أوجهاً ثلاثة:
أولها: أن المصلحة هي الجمعة عند تكامل شروطها فإن لم تكن كاملة فالمصلحة هي الظهر فأحدهما ساد مساد(1)
الآخر في المصلحة على جهة البدلية.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: ساد مسدَّ. والله أعلم.
وثانيها: أن يقال: الأصل في يوم الجمعة هو الظهر أو الجمعة على اختلافٍ بين العلماء، فمنهم من قال الأصل هو الظهر والجمعة طارئة، ومنهم من قال الأصل في يوم الجمعة هو الجمعة إلا أن يختل شرط من شروطها كانت ظهراً.
وثالثها: أن يقال الخطاب في يوم الجمعة هل يكون متعلقاً بالجمعة أو الظهر؟ فهذه الأوجه كلها دالة على اختصاصها بوجه واحد، ويزيد ما ذكره المؤيد بالله في أصل المسألة وضوحاً ما روي أن الرسول لما حج حجة الوداع وكان علي غائباً في اليمن فلما وصل قال له الرسول: ((بأي شيء أهللت " ))؟ فقال: أهللت بما أهل به رسول اللّه. فقال: ((إني سقت الهدي " ))(1)
فأشركه في هديه.
الحكم السابع: قال المؤيد بالله: ومن صلى فرض وقته ثم اعترضه الشك فأراد أن يعيدها احتياطاً فإنه ينوي آخر ما عليه من تلك الصلاة فإن لم تصح صلاته المفعولة أولاً فالثانية تكون لوقته وإلا فهي آخر ما عليه من فائتة وهذا جيد أيضاً، فإن قوله: آخر ما عليه إذا كانت الصلاة المفعولة أولاً صحيحة تكون واقعة عن القضاء وإن لم ينو كونها قضاء، ولهذا فإنه لو صلى بعد صلاة الأداء ونوى فيها آخر ما عليه فإنها تكون واقعة عن القضاء؛ لأنه لا معنى لكونها آخر ما عليه إلا القضاء. وهذه المسألة مبنية على دخول الشرط في النية هل تكون صحيحة أم لا؟ فالذي عليه أئمة العترة القاسمية والناصرية، صحة دخول الشرط في النية.
والحجة على هذا هو أن النية إرادة ومن حقها أن تكون مؤثرة في وجوه الأفعال وفي وقوعها على وجه دون وجه ومن جملة الوجوه كونها مشروطة، فلهذا جاز دخول الشرط في متعلقها ويحكى عن السيد أحمد بن عيسى وأبي عبدالله الداعي، وهو رأي أبي حنيفة ومالك أنه لا يجوز دخول الشرط في النية؛ لأن النية جزم والشرط يورث الشك.
والمختار: ما قاله أئمة العترة، وهو رأي الشافعي.
__________
(1) سيأتي في موضعه في الحج.
والحجة على ذلك: هو أن النية تابعة للعلم والاعتقاد والظن فلا تفعل إلا تبعاً لهذه الأمور فإذا جاز دخول الشرط في المتبوع جاز دخولها في التابع أحق وأولى.
الحكم الثامن: قال المؤيد بالله: ومن كان عليه قضاء صلاة المغرب واحدة أو أكثر فصلى ثلاث ركعات ينوي بها قضاء ما عليه جاز وإن لم ينو المغرب لأن ثلاث ركعات فريضة لا يكون غيرها، وفي سائر الصلوات لا يصح ذلك ما لم ينو ما عليه من الفريضة بعينها وهكذا الكلام في صلاة الفجر فإنه لو صلى ركعتين ينوي بهما قضاء ما عليه جاز وإن لم ينو الفجر؛ لأن ركعتين فريضة لا تكون إلا إياها. قال أيضاً: ولو كان شاكاً هل عليه فائتة فقضاها بنية مشروطة ثم ذكر أنها كانت فائتة عليه صح القضاء ولا إعادة عليه مع التحقق وهذا مبني على صحة النية المشروطة وقد قررناه.
وقوله بعد ذلك: ويقصد في ذلك أنه يقضي الصلاة التي شك فواتها زيادة إيضاح وبيان؛ لأن المقصود أنه أدَّى القضاء بنية مشروطة وتحققه بعد ذلك لا يطرق خللاً فيما شرطه في نيته.
الحكم التاسع: ويستحب إذا كان إماما أن ينوي الإمامة فإن لم ينو لم يحصل له فضيلة الإمامة لأن الأعمال بالنيات، وتجوز نية الإمامة بعد التكبير وقبله لأن المقصود هو إحراز فضيلة الإمامة وهذا حاصل قبل التكبير وبعده، وإن كان مأموماً فعليه أن ينوي الإقتداء لإحراز فضيلة الجماعة. وهل يجب على الإمام أن يكون إماماً لغيره، أو يجب على المأموم أن يكون مقتدياً بغيره أم لا؟ فيه تفصيل نذكره في صلاة الجماعة ونذكر المختار بمعونة الله تعالى.
الحكم العاشر: قال السيد أبو طالب وإن نوى المصلي القضاء في الصلاة المؤداة لم تكن مجزية وإن نوى الأداء في الصلاة المقضية لم تكن مجزية أيضاً كما لو صلى الظهر بنية العصر وصلى العصر بنية الظهر، والوجه في هذا هو أن الإشتراك موجب للفساد في العبادة بل يجب أن تكون كل صلاة واجبة كانت أو نفلاً قضاءً كانت أو أداء مخصوصة بنية على حيالها وانفرادها حتى تكون مطابقة للوجه الذي شرعت من أجله، وليكون الإخلاص متحققاً في العبادة، وقد تم غرضنا من الكلام في النية.
---
القول في التكبير
وهو المشروع في الصلاة لقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي )). ولقوله : ((تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)). ولا خلاف في كون التكبير مشروعاً في الصلاة بيننا وبين نفاة الأذكار فإنهم لا يخالفون في كونه مشروعاً وإنما خلافهم في أنه غير واجب في الصلاة كما سبق تقرير الكلام عليهم.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: إذا تقرر كونه مشروعاً فهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن التكبير واجب وأنه فرض مفروض وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن فقهاء الأمة.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }[المدثر:3]. وهذا أمر والأمر للوجوب.
الحجة الثانية: قوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي )). والمعلوم أنه كان يكبر في أول الصلاة ولا يفتتح الصلاة إلا بالتكبير.
المذهب الثاني: أن التكبير غير واجب في الصلاة، وهكذا سائر الأذكار، وهذا هو رأي نفاة الأذكار في الصلاة وهو معزو إلى الأصم وإسماعيل بن عُلَيَّة وهؤلاء محجوجون بالإجماع كما أسلفنا الكلام عليهم في النية.
والمختار: هو ما اعتمده علماء العترة وفقهاء الأمة من القول بوجوب التكبير.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}[الإسراء:111]. ولا خلاف أنه لايجب التكبير إلا في الصلاة. وقوله للأعرابي:((توضَّ كما أمرك الله تعالى)). ثم قال له: ((ثم استقبل القبلة وكبر)).
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه في بطلان الذكر في الصلاة وقد مر احتجاجهم وإبطاله فلا حاجة إلى تكرير الكلام على من بلغ في العناد هذا المبلغ في إنكاره على السلف الصالح من أكابر أهل البيت وعلماء الأمة.
الفرع الثاني: إذا تقرر وجوب التكبير بما ذكرناه من الأدلة الشرعية فهل يكون انعقاد الصلاة بالتكبير مع النية أو يكون انعقادها بالنية؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن انعقادها إنما يكون بمجموع الأمرين، التكبير مع النية، وهذا هو رأي أئمة العترة وعلماء الأمة لا يختلفون فيه. أما النية فقد تقدم الدليل على وجوبها، وأما التكبيرة فالدليل على وجوبها قوله : ((مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم)).
والحجة الثانية: قوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي )). وفعله بيان لما أجمل من خطابه، والمعلوم من حاله أنه كان لا يفتتح الصلاة إلا بالتكبير، وفي هذا دلالة على أنها لا تنعقد إلا به مع النية.
المذهب الثاني: أن انعقاد الصلاة إنما يكون بالنية لا غير، وهذا شيء يحكى عن الزهري.
والحجة على ذلك: قوله : ((الأعمال بالنيات )). وقوله: ((لا عمل إلا بنية)). وظاهر هذين الخبرين دال على أن النية كافية في كل عمل وهذا هو المراد.
والمختار: ما عليه علماء العترة وفقهاء الأمة من أن انعقاد الصلاة إنما يكون بمجموع الأمرين التكبير مع النية.
وحجتهم: ما ذكرناه،ونزيد هاهنا وهو قوله تعالى في تعليم الاستفتاح للصلاة: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } إلى قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111].
ووجه الدلالة: هو أنه تعالى أمر بالتكبير عقيب التوجه والأمر ظاهره الوجوب إلا لدلالة تدل على خلافه ولأن التكبير أمر يتوصل به إلى صحة الصلاة فيجب القضاء بوجوبه كالطهارة وستر العورة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قوله : ((الأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى)). فظاهره دال على أن النية كافية في الأعمال للصلاة من غير حاجة إلى التكبير.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإن هذا إنما يدل على وجوب النية ونحن نقول بموجبه فإن النية أصل في العبادات كلها وليس في الخبرين دلالة على أنه لا يشترط إلا النية لا غير، فأوجبنا النية لدلالة وأوجبنا التكبير لدلالة أخرى شرعية.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكره من الإستدلال يُبطل عليه بالقراءة فإنه يقول بوجوب الأذكار كلها والزهري ممن لا يقول بإبطال أذكار الصلاة، فكان يلزم أن لا تجب القراءة وتكون النية كافية، وأيضاً فإن قوله هذا مخالف لما قد وقع من الإجماع السابق قبله واللاحق بعده على بطلان مقالته هذه فلا يعتد بها فبطل ما قاله الزهري. ونحن لا ننكر روايته لحديث رسول الله وتفقهه في الحديث لكن إن صح ما روي عنه أنه كان ممن حرس خشبة زيد بن علي فما هذا حاله يحط من مرتبته ويوقع التهمة في روايته ويسقط فضله؛ لأن ما هذا حاله من الأفعال الركيكة والهمم النازلة لا ينسب إلى من له أدنى مسكة في الدين وتعلق بفضل الرواية لحديث رسول الله .
الفرع الثالث: هل يكون التكبير من الصلاة أو يكون خارجاً عنها؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه معدود من جملة فروض الصلاة وركن من أركانها وهذا هو رأي الإمامين الهادي والناصر والسيد أبي طالب ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا:حديث الأسلمي(1)
لما فعل في الصلاة ما ليس منها[فقال الرسول ] (( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)). فظاهر الخبر دال على أن التكبير فيها كالقراءة.
الحجة الثانية: من جهة القياس، وهي أن التكبير ذكر من أذكار الصلاة متصل بها فوجب أن يكون منها كالقراءة.
المذهب الثاني: أن التكبير ليس من الصلاة وإنما يدخل به فيها، وهذا هو رأي الإمام المؤيد بالله ومحكي عن أبي حنيفة والكرخي من أصحابه، وما حكيناه عن أبي حنيفة فقد رواه الثقاة من أصحاب الشافعي عنه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:15]. فظاهره دال على أنه جعله مصلياً عقيب الذكر والذكر الذي يكون عقيبه الصلاة هو تكبيرة الافتتاح فلو كان التكبير منها لكان مصلياً معها.
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 2/35، وابن حبان 2/24، ومسلم وأبو داود والنسائي.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنه ذكر يتقدم أذكار الصلاة فوجب أن لا يكون منها كالخطبة والأذان والإقامة.
والمختار: ما قاله الهادي والناصر.
والحجة:ما ذكرناه عنهما، ونزيد هاهنا وهو أن التكبير ركن من أركان الصلاة فوجب أن يكون منها كالقراءة والقيام.
ومن وجه آخر: وهو أن الصلاة عبادة فيجب أن يكون الشروع فيها بجزء من أجزائها كالصوم.
ومن وجه آخر: وهو أنها عبادة ذات تحليل وتحريم فوجب أن يكون التحريم جزءاً من أجزائها كالإحرام في الحج.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الآية في قوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:15]. دالة على أنه يكون مصلياً بعد الذكر وهو التكبير وفيه دلالة على ما قلناه من أن التكبير ليس من الصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه الآية إنما ذكرها عقيب قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى:14،15]. والمعنى أنه قد أفلح من زكى بالدين والإسلام والإقرار بالتوحيد وذكر اسم ربه بالشهادة لله بالوحدانية ثم عقبه بالصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام فهذا هو المراد دون ما قالوه.
وأما ثانياً: فلأنا نحمله على الأذكار المتقدمة قبل الصلاة من الخطبة والأذان والإقامة فإن كلها أذكار متقدمة على الصلاة.
قالوا: ليس يخلو الحال إما أن يدخل في الصلاة بابتداء التكبير أو بالفراغ منها ولا يصح أن يكون بابتدائه؛ لأن الإجماع منعقد على أنه لا يكون داخلاً في الصلاة إلا بمجموعها وكمالها وإن دخل في الصلاة بالفراغ منها فابتداء التكبير يكون واقعاً خارج الصلاة فلا يصير ما بعده من الصلاة.
قلنا: إنه لا يمتنع ألا تنعقد صلاته بأول جزء من التكبير؛ لأنه لا يكون له حكم على انفراده، ثم إذا انضاف إليه غيره من أجزائها يصير له حكم وتنعقد صلاته بكماله كما أن المصلي لا يخرج بأول جزء من التسليم من الصلاة، فإذا كمل التسليم كان خارجاً به ولهذا نظائر كثيرة في الطلاق والعتاق والأنكحة وسائر العقود مما يكون مفتقراً إلى العقود فإنه لا يتم ولا يثمر الحكم إلا إذا كمل بأجزائه، وهذا عام في الحقائق المفردة والمركبة فإنه يحصل في المركبات ما لا يحصل في المفردات من الأحكام العقلية والشرعية.
قالوا: لو كان التكبير من الصلاة لوجب أن يتحمل عنه الإمام إذا أدركه في حال الركوع.
قلنا: إن الإمام إنما يتحمل عن المأموم سائر أجزاء الركعة بعد شروعه فيها وهو لا يدخل فيها إلا بتكبيرة الافتتاح فلا يتحمل عنه شيئاً ما لم يدخل فيها، وفائدة الخلاف بين الإمامين هو أن المصلي لو وقعت عليه نجاسة أو وضع رجله على نحاسة ثم طرحها أو طرحت عنه أو رفع رجله عن النجاسة في تلك الحالة فعلى قول المؤيد بالله تصح صلاته؛ لأنها ليست من الصلاة، وعلى قول الهادي والناصر تفسد الصلاة، وهكذا الحال لو عمل عملاً في تلك الحالة ليس من الصلاة فالحكم فيه يكون على ما ذكرناه من الخلاف، وهكذا لو انكشفت عورته في تلك الحالة كان جارياً على ما ذكرناه من الخلاف بينهما.
الفرع الرابع: في بيان صفة التكبير. وفيه أحكام:
الحكم الأول: في بيان الصيغة التي تنعقد بها الصلاة، وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن الصلاة إنما تنعقد بقولنا: الله أكبر. فهذا هو رأي الهادي والناصر والمؤيد بالله ومحكي عن أبي يوسف.
والحجة على هذا: قوله : ((تحريمها التكبير وتحليلها التسليم )). فظاهر هذا الخبر دال على أن الصلاة لا تنعقد إلا بهذه اللفظة دون ما سواها كما أن لفظة التسليم تختص دون ما سواها.
الحجة الثانية: قوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي )). وقد بين قوله بفعله والمعلوم من حاله [أنه] طول عمره لا يفتتح الصلاة إلا بقوله: الله أكبر. دون غيرها من سائر الألفاظ الدالة على التعظيم والتمجيد.
المذهب الثاني: أن الصلاة تنعقد بكل اسم لله تعالى دال على التعظيم والتمجيد، كقولنا: الله أكبر والله الكبير والله العظيم والله الجليل. وتنعقد بقولنا: الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله إلى غير ذلك من الألفاظ الدالة على تمجيد الله وتعظيمه بأسمائه الحسنى وتقديسه بأوصاف العظمة والكبريا،فأما الألفاظ الدالة على الدعاء نحو قولك: اللهم اغفر لي اللهم ارحمني، فلا تنعقد الصلاة بها وهذا هو رأي الإمام زيد بن علي، ومحكي عن أبي حنيفة ومحمد.
والحجة على هذا: هو أن التكبير معناه التعظيم بدليل قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}[يوسف:31]. أي عظمنه فكل واحدً من اللفظين قائم مقام صاحبه، وإذا كان الأمر كما قلناه فإذا انعقدت الصلاة بقوله: الله أكبر انعقدت الصلاة بقولنا: الله الأجل والله الأعظم، والجامع بينهما أن كل واحد منهما دال على التمجيد والتعظيم.
الحجة الثانية: هي أن التكبير جعل شرطاً في صحة الصلاة والإعتبار إنما هو بمعناه دون لفظه وإذا كان الأمر كما قلناه فكلما شاركه في معناه جاز افتتاح الصلاة به وهذا هو مطلوبنا فهذه حجج الفريقين كما ترى.
المذهب الثالث: أنه إنما ينعقد بما فيه أفعل التفضيل فقط نحو الله أعظم وأجل وأعزّ وهذا هو رأي أحمد بن يحيى وأبي العباس.
المذهب الرابع: أنه ينعقد بالتهليل دون التسبيح، وهذا هو رأي السيد أبي طالب فعنده أنها تنعقد بما فيه أفعل التفضيل وبالتهليل دون التسبيح.
والمختار: تفصيل نشير إليه، وحاصله أن المصلي إذا أتى بالأسم معرفة والخبر نكرة فقال: الله أكبر على صورة أفعل التفضيل فإن الصلاة تنعقد به بلا خلاف فيه، فإن قال: الله الأكبر انعقدت الصلاة أيضاً؛ لأنه زاد فيه زيادة لا تخل بالمعنى، فإن قال: الله العظيم الخالق أكبر، أجزاه ذلك؛ لأن زيادة هذه الأوصاف لا تخل بالمعنى فلهذا كان جائزاً، وإن قال: الله أكبر وأجل وأعظم أجزاه ذلك لأنه زاد زيادة لا تخل بالمعنى وإن قال: الله أكبر كبيراً أجزاه؛ لأن هذه الزيادة غير مخلة بالمعنى وإن قال: الله أكبر من كل شيء وأعظم، ونوى به التكبير دخل به في الصلاة بقوله: الله أكبر، وكان ما زاد على جهة النافلة غير مغير للمعنى، وإن قال: الله الكبير والكبير الله لم تجزه ولم تنعقد به الصلاة لأنه لا يعد تكبيراً على الصفة المشروعة، وإن قال: أكبر الله أو الأكبر الله فهل يكون مجزياً أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه غير مجز لأنه غير ترتيبه فلم يكن مجزياً للصلاة كما لو غير ترتيب الفاتحة، ومن جهة أن للنظم حظاً في تقرير المعنى والمبالغة فيه فلا يجوز إسقاطه خاصة في العبادات وإنما اخترنا ما قررناه لما فيه من ملاحظة المعاني وما يحصل فيه من التغيير بالزيادة غير مخل بالمعاني، فلهذا كان مغتفراً وليس فيه خروج عن مراسم الشرع في اعتبار صيغة التكبير ولفظه كما ذهب إليه من خالف وعول على اعتبار المعاني.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: التكبير معناه التعظيم بدليل قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ }[يوسف:31]. أي عظمنه.
قلنا: لا ننكر ما قلتموه من المعاني اللغوية وإنما الشرع قد غيره فيجب الإحتكام لمعاني الشرع ومراسمه خاصة في العبادات فإن مبناها على التحكمات الجامدة التي لا تعقل معانيها، وقد أشار إليه صلى الله عليه وآله بقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي )).
قالوا: التكبير جعل شرطاً في الصلاة والإعتبار إنما هو بمعناه دون لفظه فكلما شاركه في معناه جاز افتتاح الصلاة به.
قلنا: لا نسلم أن الإعتبار بالمعاني وحدها في هذه العبادة بل نقول لا يمتنع أن يكون الشرع قد قصد اجتماع اللفظ والمعنى مع أن المعاني منسدة في العبادات فلا تجري الأقيسة فيها، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الأولى والأحق هو الجمود على تقريرات الشرع وأوضاعه في اعتبار صيغة التكبير من غير تغيير لصيغته ولفظه، ثم أقول قولاً كلياً: إن لله سراً ومصلحة استأثر بعلمها في افتتاح الصلاة بالتكبير، وإن كل من قال إن غيره قائم مقامه في تحصيل هذه المصلحة فقد أهمل رعاية النظر في تحكمات الشرع وتعداته ورام الإطلاع على أسرار غيبية استأثر الله بالإطلاع عليها والإحاطة بعلمها وسد على الخلق الإطلاع على فجها والاقتحام على سددها(1)
ويتأيد ما ذكرناه بوجهين:
أحدهما: هب أنا سلمنا أن قولنا: سبحان الله ولا إله إلا الله يشارك قولنا: الله أكبر في التعظيم والتمجيد فما برهانكم على أن افتتاح الصلاة يشترط فيه التعظيم والتمجيد فهذا أمر غيبي لا يعلمه إلا اللّه.
وثانيهما: أن كل من قال لعبده إن كبَّرت فأنت حر فقال العبد: لا إله إلا الله وسبحان اللّه. فإنه لا يعتق وهكذا لو قال لامرأته: إن كبَّرت فأنت طالق فقالت هذا القول(2)
فإنها لا تطلق، وفي هذا دلالة على أن هذه الألفاظ الدالة على التمجيد والتعظيم لا تقوم مقام التكبير في إفتتاح الصلاة والدخول فيها وانعقادها وما ذاك إلا لما حققناه من السر والمصلحة التي لا يطلع عليها إلا اللّه.
__________
(1) يقصد بالفج: الطريق الواسع بين جبلين، والسدد جمع سدة، وهي باب الدار أو فناؤه، ا هـ لسان العرب 2/338 و3/208.
(2) أي: لا إله إلا الله وسبحان الله.
الحكم الثاني: وإن كبر بالفارسية نظرت فإن كان لا يحسن العربية أجزاه لقوله : ((إذا أمرتم بأمر فأْتوا به ما استطعتم )). وإن كان يحسن العربية وكبر بالفارسية فهل يجزيه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجزيه لقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) والمعلوم من حاله أنه ما افتتح الصلاة إلا بالتكبير بالعربية دون الفارسية، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي ومحمد وأبي يوسف.
والحجة: ما رويناه من الخبر فإنه دال على عدم الإجزاء بالفارسية.
المذهب الثاني: أنه يجزيه مع القدرة بالعربية وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن التعويل إنما هو على المعاني دون الألفاظ ولا شك أن من كبر بالفارسية فقد أتى بمقصود المعاني وإنما خالف في العبارة لا غير.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من أنه لا يجزي مع القدرة على التكبير بالعربية؛ لأن الرسول عربي اللسان، وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قوله: التعويل إنما هو على المعاني دون الألفاظ ولا شك أن المعاني متفقة بالعربية والفارسية.
قلنا: المقصود من هذه العبادة هو اتفاق اللفظ والمعنى فيجب الإتيان باللفظ المعتبر في الشرع ويجب على القاريء أن يتعلم كلمة التكبير؛ لأنها من فروض الصلاة الواجبة على الأعيان فإن اتسع الوقت للتعلم فلم يفعل وكبر بالفارسية لم يجزه؛ لأنه ترك الفرض مع القدرة عليه وإن لم يتسع الوقت للتعلم وكبر بالفارسية أجزاه لضيق الوقت، فإن لم يمكنه التعلم إلا بأن يقصد بلدة لإحكام كلمة التكبير وجب أن يقصدها ولا يلزمه ذلك لقصد الماء لأجل الوضوء، والتفرقة بينهما هو أن التعلم يبقى وحاله والوضوء معرض للإنتقاض فافترقا، وإن كان المصلي عربياً وكان في لسانه اضطراب والتواء يمنعه عن أن يفصح بالتكبير أو كان مقطوع اللسان فإنه يجب عليه أن ينوي التكبير وأن يحرك لسانه وشفتيه بقدر ما يمكنه، وكذلك في جميع الأذكار الواجبة لقوله : ((إذا أمرتم بأمر فأْتوا به ما استطعتم)).
الحكم الثالث: وينبغي مراعاة خصال في التكبير:
الأولى منها: الجهر بالتكبير في حق الإمام والمأموم؛ لأن الرسول كان يجهر به في صلاته والمسلمون بعده وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وأقل الجهر في حق الإمام [أن] يسمع المسلمين تكبيره ليقع الإقتداء به، وأقل الجهر في حق المأموم أن يسمع من بجنبه لأنه يقتدي به، ولا حاجة إلى الزيادة في الجهر على ما ذكرناه؛ لأنه يكون أعتداء وخروجاً عن الحد المشروع في الصلاة برفع الصوت والإعتداء من غير حاجة إليه.
الثانية: يجب بيانه وجزمه، أما بيانه فيكون بفتح الهمزتين في الإسم والصفة ولا يجوز كسر همزة الجلالة ولا ضمها ولا يجوز إسقاط همزة أكبر بالتخفيف والقاء حركتها على ما قبلها بل يجب إيضاحها وقطعها ويجب رفع الجلالة وخلافه لحن بالفتح والكسر، والوقف على الراء في أكبر من غير إعراب فيها، وأما جزمه فلقوله : ((التكبير جزم " )). وأراد بالجزم القطع فلا يغيره بالزيادة عليه والنقصان منه، إما الزيادة بالتمطيط(1)
وزيادة المد فيه كأن يمد همزة الجلالة ولا يجزيه؛ لأنه يصير استفهاماً ونحو أن يمد الصوت في ألف إلاه حتى يخرجه عن الحد فإنما هو لين لا غير فإذا تجاوز الحد بطل ونحو أن يزيد ألفاً في نحو أكبر فيقول: أكبار لأن الأكبار جمع كبر وهو الطبل(2)
وما هذا حاله يفسد التكبير، وأما النقصان فنحو أن يقصر الصوت عن بيان ألف إلاه أو ينقص بعض حروف الإسم والصفة فالنقصان مفسد لها لا محالة.
الثالثة: محله القيام فإن كبر قائماً وبقي من التكبير حرف فأتى به وهو منحنٍ للركوع لم يكن داخلاً في الصلاة المفروضة فإن كان في نافلة جاز لأنها قد علم من دأب الشرع الخفة والتساهل فيها.
الرابعة: ويجب التفخيم في اسم الله تعالى فلا يجوز ترقيقه فإن رققه فقد نقص من حروفه حرفاً فيجب الحكم بفسادها وقد جرت عادة الرسول والمسلمين بالتفخيم وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وإذا كبر المصلي وقف على الراء بالسكون ولا يقف عليها بالحركة فإن حرك كان لاحناً، ولا ينبغي أن يصل التكبير بالقراءة لقوله : ((التكبير جزم)) ولم يفصل في الجزم بين ترك التمطيط فيه وبين الوقف في آخره فكله جزم، وإن أبدل من هاء الجلالة واواً كان لاحناً ولا تبطل به الصلاة؛ لأنها زيادة لا تغير المعنى كما لو قال الله هو أكبر.
__________
(1) مط الشيء يمطه مطاً: مده، اهـ لسان 7/403.
(2) في اللسان: الطبل ذو الوجه الواحد. اهـ 5/130.
الحكم الرابع: في رفع اليدين عند التكبير ووضعهما وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في حكمه، وهل يستحب رفع اليدين عند التكبير أم لا؟ وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أنه يستحب رفع اليدين عند افتتاح الصلاة بالتكبير في كل صلاة فريضة كانت أو نافلة وفي صلاة الجنازة، وهذا هو رأي الإمام زيد بن علي، وإحدى الروايتين عن القاسم ومحكي عن المؤيد بالله وأبي حنيفة والثوري وأبي ليلى ولا يستحب في غير ذلك من ركوع ولا الرفع منه.
والحجة على هذا: ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه عن الرسول أنه كان يرفع يديه عند افتتاح الصلاة بالتكبير ولا يعود إلى رفعهما بعد ذلك.
المذهب الثاني: أنه لا يستحب رفع اليدين في شيء من الصلوات، وهذا هو رأي الهادي، وإحدى الروايتين عن القاسم، وعن مالك روايتان أيضاً.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة))(1).
المذهب الثالث: أنه يستحب رفع اليدين عند افتتاح الصلاة في كل صلاة فريضة كانت أو نافلة إلا صلاة الجنازة، وهذا هو المحكي عن الناصر.
والحجة على هذا: ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فأما صلاة الجنازة فلا يستحب فيها رفع اليدين لأن المقصود منها الدعاء للميت وليس فيها ركوع ولا سجود ولا قعود ولا تشهد فلهذا لم يسن فيها رفع اليدين؛ لأنها تكبيرات متوالية فأشبهت تكبيرات العيد.
__________
(1) عن جابر بن سمرة قال: دخل علينا رسول الله والناس رافعوا أيديهم، قال: ((مالي أرى أيديكم كأنها أذناب خيل شمس...))الحديث، أخرجه مسلم في صحيحه 1/322، وابن حبان 5/197، وأبو داود 1/262، وهو في مصنف ابن أبي شيبة 6/86، ومسند أحمد وغيرها.
المذهب الرابع: أنه يستحب رفع اليدين عند الافتتاح للصلاة وعند الركوع والرفع منه ولا يستحب في غير ذلك وهذا هو المحكي عن الشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق والليث ورواه ابن وهب(1)
عن مالك.
والحجة على هذا ما روى ابن عمر عن الرسول أنه قال رأيت الرسول إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا أراد أن يركع رفع وإذا رفع رأسه من الركوع رفع ولا يرفع بين السجدتين.
والمختار: ما قاله الإمامان زيد بن علي والمؤيد بالله ومن تابعهما على هذه المقالة.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يرفع يديه قبل النطق بتكبيرة الافتتاح ثم يرسلهما ويقول: ((اللّه أكبر)). وزعم الشيخ يحيى بن أبي الخير العمراني أن أحداً من الزيدية لا يقول برفع يديه في شيء من الصلوات وهذا خطأ في هذا الإطلاق فإنا قد حكينا على أئمة الزيدية زيد بن علي والناصر والمؤيد بالله ما حكيناه عنهم من استحباب رفع اليدين عند الافتتاح ولم يحك منع الإستحباب في الرفع إلا عن الهادي من أئمة أهل البيت، فهذا الإطلاق خطأ لا ينبغي من مثله لما عهد من حاله من التحرز في نقل المذاهب ونخل المقالات وانتقاد الأخبار والسبب في ذلك عدم الإحاطة بمذاهبهم وعلى الجملة فهي هفوة لو صدرت من غيره لفوقت إليها سهام التقريع.
__________
(1) عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري بالولاء، المصري، أبو محمد، فقيه من الأئمة، من أصحاب الإمام مالك، جمع بين الفقه والحديث والعبادة، له كتب منها: (الجامع) -ط- في الحديث مجلدان، و(الموطأ) في الحديث كتابان، وكان حافظاً ثقة، مجتهداً، عرض عليه القضاء فخبأ نفسه ولزم منزله، ووفاته بمصر145سنة -197هـ (الأعلام)4/144،(تهذيب)6/71هـ (الوفيات) 1/249.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالف ما اخترناه، أما مقالة الهادي من كونه غير مستحب في شيء من الصلوات محتجاً بقوله : ((مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس)). فظاهره الإنكار على من رفع يديه في الصلاة فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا محمول على من يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع.
وأما ثانياً: فلأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة على اليمين واليسار أشاروا بالمسبحة عن اليمن واليسار فنهاهم الرسول عن ذلك وقال: ((اسكنوا في الصلاة )). أراد عن الإشارة بالأصبع، وأما ما قاله الناصر من أن الرفع إنما يكون في جميع الصلوات الفرض والنفل إلا في صلاة الجنازة فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه صلاة واجبة فيجب أن يسن فها الرفع كالصلاة المفروضة على الأعيان.
وأما ثانياً: فلأنها وإن لم يكن فيها ركوع وسجود وتشهد وقعود فقد فرض فيها القيام، ورفع اليدين إنما يستحب في حال القيام فلهذا كان مستحباً فيها كسائر الصلوات، وأما ما قاله الشافعي من كونه يسن في الركوع وفي القيام من الركوع فعنه جوابان:
أما أولاً: فلما روى البراء بن عازب عن الرسول أنه رفع يديه عند التكبير للصلاة في افتتاحها ثم أنه لم يعد إلى رفع اليدين بعد ذلك.
وأما ثانياً: فلأن ما رويناه من الأخبار أكثر وأشهر ورواياتها ظاهرة بين أهل الحديث فلهذا كانت أحق بالقبول، ويؤيد ما ذكرناه أن القياس يقتضي ألا ترفع الأيدي في شيء من الصلوات لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ " }[النساء:77].(1)
__________
(1) ولا يبدو الاستدلال بها وارد هنا كون المقصود بها كما في الكشاف للزمخشري: أي كفوها عن القتال، وذلك أن المسلمين كانوا مكفوفين عن مقاتلة الكفار ما داموا بمكة) يؤيد هذا أن بقية الآية الكريمة: {فلما كتب عليهم القتال...} إلخ، 1/543، والله أعلم.
ولقوله : ((أسكنوا في الصلاة )). لكنا قضينا باستحباب رفع اليد عند تكبيرة الافتتاح دون ما سواها جمعاً بين الآي والأخبار فما ورد من الأخبار في الرفع فهو محمول على تكبيرة الافتتاح وما ورد من المنع عن ذلك فهو محمول على ما عداه توفقة بين الأدلة الشرعية.
المسألة الثانية: في بيان مقدار الرفع وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أنه يرفع إلى حذاء أذنيه، وهذا هو رأي أئمة العترة زيد بن علي والناصر والمؤيد بالله ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روى وائل بن حجر(1)
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى2/24، والحديث مروي من طريق آخر عن علي وعن عائشة أن رسول الله كان يرفع يديه عند افتتاح الصلاة بالتكبير ولا يعود إلى رفعهما بعد ذلك.
…وائل بن حجر بن سنان الحضرمي، جاء في (التأريخ الكبير8/175): له صحبة، سكن الكوفة، ثم روى بسنده عنه: بلغني ظهور النبي فتركت ملكاً عظيماً وطاعة عظيمة، فهبطت إلى النبي...إلى أن قال: ثم لقيته فقرب مجلسي وأدناني... إلى آخر ما قاله من أن النبي صعد المنبر وأصعدني معه، ثم خطب وقال: ((هذا وائل بن حجر أتاكم من بلاد بعيدة من حضرموت، راغباً في الله وفي رسوله وفي دينه...إلخ، انتهى بتصرف، وفي (مشاهير علماء الأمصار1/44) نحواً من هذا، وأن رسول الله أقطعه أرضاً، وبعث معه معاوية بن أبي سفيان يسلمها له، وكتب له كتاباً ولأهل بيته بماله... إلى آخره.
…قال في (الثقات3/484): مات وائل بن حجر في إمارة معاوية بن أبي سفيان، وذلك يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة 44هـ، ودفن في الحضارمة، وكنيته أبو هنيدة، وكان قد قصد معاوية لما تولى، فتلقاه معاوية وأقعده على سريره.
…قال في (الثقات3/424): مات وائل بن حجر في إمارة معاوية بن أبي سفيان، وذلك يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من ذي الحجة، سنة (44)، ودفن في الحضارمة، وكنيته أبو هنيدة، وكان قد قصد معاوية لما تولَّى، فتلقاه معاوية وأقعده على سريره.
قال: رأيت النبي افتتح الصلاة ورفع يديه إلى حذاء أذنيه حتى بلغ بهما فروع أذنيه.
المذهب الثاني: أنه يرفع يديه حتى تجاري كفاه منكبيه، وهذا هو قول الشافعي ومحكي عن مالك، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: ما روى البراء بن عازب عن الرسول أنه افتتح الصلاة وكبر ورفع يديه حذاء منكبيه(1).
المذهب الثالث: أنه يستحب رفع اليدين إلى الهامة وهذا شيء حكاه الشيخ أبو جعفر من المحصلين لمذهب الناصر عن قوم لم أعرف أسماءهم، ولعل الحجة لهم [ما] حكاه الترمذي عن أبي هريرة أن الرسول كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مداً، وفي حديث آخر عن أبي هريرة عن الرسول [أنه] كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مداً.
المذهب الرابع: استحباب رفع الدين إلى الصدر وهذا مذهب قوم لما روى وائل بن حجر في خبر فرجعت إليهم يعني الصحابة فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم.
والمختار: تفصيل نشير إليه يكون جامعاً لهذه الأحاديث التي رويناها، وتقريره هو أنه إذا كان رافعاً ليديه حتى يحاذي بهما أذنيه كان مطابقاً لما رواه وائل بن حجر وعلى هذا تكون كفاه محاذيتين لمنكبيه فيكون مطابقاً لما رواه ابن عمر. والرواية الثانية: عن وائل بن حجر أنه رجع إليهم وهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم فإنما كان رجوعه إليهم في الشتاء وكانت عليهم برانس(2)
__________
(1) أخرجه أبو داود، وقال: هذا الحديث ليس بصحيح.
(2) جمع برنس، قال في اللسان: كل ثوب رأسه منه ملتزق به...إلخ، والبرنس: قلنسوة طويلة، وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، وقد تبرنس الرجل إذا لبسه، وهو من البرس بكسر الباء: القطن، والنون زائدة، وقيل إنه غير عربي. اهـ (لسان) 6/26.
والثياب من الصوف الثقال فلم يمكنهم رفع أيديهم إلى حذاء الآذان ولا إلى حد المناكب لثقل ما عليهم من الثياب فلهذا رفعوها إلى صدورهم، فظهر بما حققناه اتفاق هذه الأحاديث على مقصود واحد وهذه طريقة سديدة لما فيها من الجمع بين الأحاديث واتفاقها على الصحة والكمال، ويزيد ما ذكرناه وضوحاً وبياناً أن الشافعي رضي الله عنه لما دخل العراق جاءه أبو ثور والكرابيسي وكانا شيخي العراق والعالمين فيه فأرادا أن يستعلما ما عنده من الفضل فقالا له: تكلم. فقال: تكلما. فقالا له: ما تقول في رجلين اصطدما ومع كل واحد منهما بيضة فانكسرت البيضتان؟ فقال الشافعي هذا سهل على كل واحد منهما نصف قيمة بيضة صاحبه، ولكن ما تقولان في رفع اليدين عند الافتتاح؟ فقالا: نرفع اليدين إلى المنكبين؛ لما روى ابن عمر أن النبي رفع يديه حذو منكبيه. فقال: ما تقولان فيما روى وائل بن حجر أن الرسول رفع يديه حتى حاذى بهما أذنيه؟فقالا: نرفع اليدين إلى الأذنين، فقال: فما تقولان فيما روى وائل بن حجر في خبر فرجعت إليهم يعني الصحابة رضي الله عنهم فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم؟ فقالا: لا نعلم شيئاً. فقال الشافعي لهما: أما رواية وائل بن حجر فأراد به رفع أطراف الأصابع إلى أذنيه. وأما رواية ابن عمر فأراد به رفع الكفين إلى المنكبين، وأما الرواية الأخرى عن وائل بن حجر فلأنه كان في زمن الشتاء وكان يلبسون الثياب الغليظة من الصوف البرانس والجباب وكان يثقل عليهم رفعها إلى الأذان والمناكب فلا جرم رفعوها إلى صدورهم. فأعجبهما ما رأيا من فضله وجمعه بين هذه الأحاديث المروية واستحسنا ما ذكره.
فأما ما روي عن قوم أنهم يرفعون أيديهم إلى الهامة، فقد أورد الترمذي في صحيحه هذه المقالة، وذكر أن الراوي لها أبو هريرة، ولا مشروح لهم فيها، فإن القصد أنه لم يكن ينشر أصابعه وإما يمدها، أو يكون المراد أنه كان يمد يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا كان الأمر كما قلناه بطل ما حملوا عليه من أنه كان يرفعهما إلى الهامة.
الانتصار: قد ذكرنا أن هذه الأحاديث دالة على مقصود واحد وأنه لا اختلاف فيها كما أوضحناه فلا حاجة بنا إلى تأويلها لأجل اتفاقها ورددنا مقالة من زعم أنه كان يمد يديه فوق الهامة.
المسألة الثالثة: في بيان وقت الرفع وله حالتان نذكرهما:
الحالة الأولى: أن يرفع يديه حذو منكبيه غير مكبر ويرسلهما غير مكبر ويكون تكبيره ويداه حذو منكبيه قارتان، وهذه رواية ابن عمر.
الحالة الثانية: أن يرفع يديه غير مكبر ثم يرسلهما مكبراً فيكون انتهاء التكبير مع انتهاء اليدين إلى مقرهما، وهذه رواية وائل بن حجر، وهذا هو المختار؛ لأن رفع اليدين هو هيئة للتكبير فلهذا يرفع عند [أن] يكبر، فإذا كبر كان الفراغ من التكبير بانتهاء اليدين إلى مقرهما ثم إن التحقق أن هذا ليس اختلافاً بين العلماء؛ لأنه يمكن العمل على صحة الروايات كلها فنقبل الكل ونجوزها على نسق واحد كما أشرنا إليه من قبل.
وحكي عن الشيخين إبي إسحاق المروزي وأبي علي الطبري من أصحاب الشافعي أنه يبتدئ بالرفع مع ابتداء التكبير ويفرغ بفراغه منه وهذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن من سنة التكبير أن يأتي به مبيناً مرتلاً ولا يمكنه أن يأتي به على هذه الصفة في حال رفع اليدين؛ لأن رفعهما يحصل في وقت يسير لا يتمكن فيه من بيان التكبير وترتيله.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكراه مخالف لما رواه ابن عمر ووائل بن حجر فإن روايتهما متفقة على أن يرفع يديه غير مكبر فلا وجه لما قالاه.
المسألة الرابعة: والمستحب أن يرفع يديه في كل فريضة ونافلة، ولا فرق بين الإمام والمأموم، ولا فرق بين أن يصلي قائماً أو قاعداً في استحباب الرفع، فإن ترك رفع اليدين حيث أمر به كره له ذلك ولا إعادة عليه ولا يلزمه سجود السهو، وينشر أصابعه عند التكبير لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه كان إذا كبّر للصلاة نشر أصابع يديه(1)
فإن نسي الرفع حتى فرغ من التكبير لم يسن له الإتيان به؛ لأن محله قد فات وإن ذكره في أثناء التكبير أتى به؛ لأن محله باقٍ فيستحب له الإتيان به وإن كان بيديه علة لا يمكنه رفعهما إلى المنكبين فإنه يرفعهما إلى حيث أمكنه لقوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما ستطعتم)). وإن كانتا قائمتين لا يمكنه رفعهما إلى المنكبين إلا بأن يعلوا على المنكبين رفعهما إلى أعلى المنكبين وإن كان يتعذر عليه الرفع إلى المنكبين ويمكنه الرفع إلى ما دونهما وإلى ما فوقهما فإنه يرفع يديه إلى ما فوقهما أولى، لأنه أتى بزيادة هو مغلوب عليها، وهو أتى بالمسنون وزاد زيادة هو معذور فيها، وإن كانت إحد ىيديه صحيحة والأخرى عليلة فإنه يرفع الصحيحة إلى المنكب ويرفع العليلة إلى حيث يمكنه؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور.
المسألة الخامسة: وإذا فرغ من التكبير وحط يديه فهل يستحب وضع اليد على اليد في الصلاة أو يكره؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكره، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية.
__________
(1) هذه إحدى روايات الترمذي في سننه 2/5، ورواه البيهقي في سننه 2/27، والسيوطي في الجامع الصغير 1/195.
والحجة على ما قلناه: من الكراهة قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:1،2]. ولا شك أن رفع اليد على اليد ينافي الخشوع، وقوله : ((اسكنوا في الصلاة )). ومن وضع اليد على اليد فليس ساكناً في الصلاة، فظاهر هذه الأدلة المنع من ذلك، وأدنى المنع هو الكراهة الشرعية(1)،
وإذا حكمنا عليه بالكراهة لما ذكرناه، فإذا فعل فهل تبطل الصلاة أو لا؟ فظاهر كلام الهادي والقاسم فساد الصلاة بفعله، وهو اختيار السيد أبي طالب، وحكي عن المؤيد بالله أنه يكره ولا تبطل الصلاة بفعله، وحكي عن الناصر أنه إذا رفع يديه ثم أرسلهما، ثم وضعهما بطلت صلاته في المرة الثالثة؛ لأنه يكون فعلاً كثيراً، وحكي عن الباقر أنه قال: إن فعله فلا يعود إليه، ولم يذكر حديث الصلاة هل تبطل أو لا تبطل؟
والحجة على بطلان الصلاة بفعله قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[النساء:77]. ومن رفع يديه ثم وضعهما في كل ركعة فلم يكفهما فصار [ما يفعل] منهياً عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه لأن القربة معتبرة فيها والنهي يضاد القربة.
الحجة الثانية: هو أن وضع اليد على اليد مرة بعد مرة في كل ركعة عمل كثير، وما كان من الأفعال الكثيرة فإنه يكون مبطلاً للصلاة كالأكل والشرب.
__________
(1) لا يبدو الاستدلال هنا في محله من حيث أن وضع اليد على اليد حتى عند عدم القول به ينافي الخشوع، ولعل القائلين بهذا أرادوا أن المصلي يظهر مشغولاً بقبض اليدين عن الإرسال والاسترسال في فعل غير متسق مع هيئة المصلي، والله أعلم.
المذهب الثاني: أنه مستحب فإذا أرسل يديه بعد التكبير وضع إحداهما على الأخرى تحت صدره وفوق سرته ويأخذ الكوع من يده اليسرى بيمناه ويبسط أصابع اليمنى في عرض المفصل أو في طول ساعده، واليمنى مكرمة بكونها عالية، وهذا هو رأي الفقهاء الحنفية والشافعية، ثم اختلفوا بعد ذلك فقال الشافعي في (الأم): القصد هو سكون يدي المصلي فإن أرسل يديه ولم يعبث بهما فلا بأس(1)،
وحكي ذلك عن ابن الزبير وقال الليث إن اشتغل في الصلاة فعلَه وإلا فلا يفعله.
وقال الأوزاعي: من شاء فعله ومن شاء تركه. وقال أبو إسحاق المروزي: يضع إحدى يديه على الأخرى تحت السرة. وعن أبي حنيفة وإسحاق بن راهويه مثله.
والحجة على هذا: ما رووه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }[الكوثر:2]. قال وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت النحر(2)،
ومثل هذا لا يقوله عن توقيف من جهة الرسول .
الحجة الثانية: روى ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((أمرنا معاشر الأنبياء أن نعجل الفطور ونؤخر السحور ونأخذ بأيماننا على شمائلنا في الصلاة)) (3).
وروى وائل بن حجر أنه رأى رسول الله فعل ذلك.
__________
(1) المفهوم من رأي الشافعي رحمه الله واضح، وهو أن الغرض من الضم أن لا يعبث المصلي بيديه، فإذا ضمن عدم العبث فلا بأس بإرسالهما، وبالتالي فإن الإرسال ليس مخالفة لسنة أو إخلالاً بهيئة، والله أعلم.
(2) رواه البيهقي2/29، والدار قطني1/285، وابن أبي شيبة 1/343.
(3) قال في (جواهر الأخبار) قال في (التلخيص): ورواه ابن حبان، والطبراني في (الأوسط) من حديث ابن وهب عن عمرو بن الحرث، أنه سمع عطاء يحدث عن ابن عباس، سمعت رسول الله.....الحديث. ا هـ 1/242، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4/238، والدارقطني في سننه1/284.
والمختار: أنه مكروه غير مفسد للصلاة، وإنما قلنا أنه مكروه فلقوله لما رأى رجلاً يعبث بلحيته فقال: ((أما هذا فلو خشع قلبه لخشعت جوارحه " ))(1).
والمعلوم من حال من يرفع يديه ويرسلهما في كل ركعة أنه ليس خاشعاً؛ لأنه مشتغل بهذه الأفعال فإذا كان العبث باللحية يخرجه عن الخشوع مع أنه يفعله مرة واحدة فلأن يكون من يرفع يديه ويضعهما مراراً في كل الركعات يكون أحق بترك الخشوع. وفي هذا دلالة على ما ذكرناه من الكراهة، وإنما قلنا: إنه ليس مفسداً للصلاة فلأنه لا يمكن الإقدام على فساد الصلاة وبطلانها إلا بدلالة؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }[محمد:33]. وهو الذي يشير إليه كلام المؤيد بالله.
ومن وجه آخر: وهو أنهم قد رووا فيه أخباراً وأفعالاً من جهة الصحابة رضي الله عنهم ولو ضعفت في الرواية والنقل فقد أوردوها وتعلقوا بها، فلأجل هذا قضينا بكونه مكروهاً لضعف الرواية ولم نقطع بالفساد لعدم ما يدل عليه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
__________
(1) هذا من مشاهير الأحاديث، رواه عبد الرزاق في المصنف2/266، والبيهقي 2/285، وهو في شرح سنن ابن ماجة1/95 وغيرها.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجه في تفسير قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }[الكوثر:2]. أنه وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت النحر، وروى جرير الضبي(1) قال: رأيت علياً يمسك شماله بيمينه في صلاته فوق السرة(2).
قلنا:عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأنه لا يظن بأمير المؤمنين مخالفة قوله تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون1،2] وليس من الخشوع أن يرفع يديه أربع مرات في الصلاة الرباعية ثم يشد ويمسك ثم يرسل، ولا يخالف قوله : ((مالي أرى أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة)). فالمظنون بحاله مع تفقهه في الدين وإحاطته بعلوم الشريعة أنه لا يخالف خبراً واحداً من هذه الأخبار فكيف يخالف مجموعها وظواهر الآي أيضاً.
وأما ثانياً: فلأن المراد بقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2]. هو الأمر بالذبح للحيوان الذي ينحر كالأبل فأمر بالصلاة في عيد الأضحى ثم بالنحر بعدها، فأما تفسير الآية بقوله: ((اجعل يديك تحت نحرك " )) فتأويل بعيد لا تدل عليه دلالة لغوية ولا شرعية.
__________
(1) جرير الضبي مولاهم الكوفي، ترجم له ابن حجر في (تهذيب التهذيب2/67) قال: وهو جد فضيل بن غزوان، روى عن أبيه عن علي من فعله في الصلاة، قال: رأيت علياً يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة، وعنه ابنه، وقد ذكره ابن حبان في (الثقات)، وأخرج له الحاكم في (المستدرك)، وعلق البخاري حديثه هذا في الصلاة مطولاً بصيغة الجزم عن علي، ولا يعرف إلاَّ من طريق جرير هذا، روى له أبو داود هذا الحديث الواحد ولم يسمه.
(2) أخرجه أبو داود في سننه 1/201، وهو في تهذيب التهذيب 2/67.
وأما ثالثاً: فيمكن أن يقال: إن المراد بقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2]. أي قابل صدرك نحو القبلة تشبهاً باستقبال ما ينحر إلى القبلة من الحيوان أخذاً من قولهم دور متناحرة(1)
أي متقابلة متواجهة.
ومن وجه آخر: هو أن هذا لو كان مذهباً لأمير المؤمنين كرم الله وجهه لم تجتمع العترة على خلافه، وهم قد أجمعوا على كراهة هذا الفعل وفساده للصلاة(2).
قالوا: روى ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((أمرنا معاشر الأنبياء أن نعجل الإفطار ونؤخر السحور ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة)).
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا محمول على وضع الأيمان على الشمائل قبل افتتاح الصلاة وهذا فلا مانع منه.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما ذكرناه من الأدلة الدالة على كراهة ذلك في الصلاة وعند التعارض فلابد من الترجيح وأخبارنا راجحة على ما ذكروه لقوتها وكثرتها ولكونها موافقة للقياس فإن الأصل والقياس هو المنع من حدوث الأفعال في الصلاة وأخبارنا موافقة لهذا القياس فلهذا كانت راحجة.
قالوا: روينا عن الرسول من طريق وائل بن حجر أنه وضع يمينه على شماله فجعلها تحت صدره.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأنه محمول على أنه وضع يمينه على يساره تحت صدره لوجعٍ أصابه ليسكنه من التألم.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه حكاية فعل مجملة لا ندري على أي وجه وقعت، وإذا كانت مجملة لم يحصل لهم منها غرض في الاحتجاج لأجل الإجمال فيحتاج إلى البيان.
__________
(1) يقال: منازل بني فلان تتناحر، أي تتقابل، ا هـ. لسان 5/197.
(2) مما سبق ومن رأي المؤلف في المختار: أن لا إجماع على إفساده للصلاة، فليتأمل، وفي البحر 1/142: يكره ولا تفسد، إذ لا دليل، قلنا: الكثرة. ا هـ.
وأما ثالثاً: فلأن ما ذكروه خبر واحدٍ وخبرُ الواحدِ إذا ورد بخلاف الكتاب والسنة والإجماع وجب رده، أما مخالفته للكتاب فلأن الله تعالى أمر بالخشوع في الصلاة وهذا منافٍ للخشوع والسكون فيها مضاد لهما، وأما مخالفة السنة فلقوله : ((أسكنوا في الصلاة )). وهذه أفعال تضاد السكون، وأما مخالفة الإجماع فلأن الأمة مجمعة على تحريم الأفعال في الصلاة والنهي عنها وهذا عمل كثير فيجب منعه.
ومن وجه آخر: وهو أن القائلين بهذه المقالة أقاويلهم فيها مضطربة ومذاهبهم فيما زعموه مختلفة، فحكي عن الشافعي أنه قال: القصد هو سكون يدي المصلي فإن أرسل يديه ولم يعبث بهما فلا بأس(1).
فكلامه هذا مشعر بأنه غير مسنون ولا مستحب، وعن مالك: أنه مسنون في النافلة دون الفريضة.
وقال الأوزاعي: من شاء فعله ومن شاء تركه، وما كان مسنوناً فليس هذا حاله. وقال الليث: إن اشتغل في الصلاة فعله وإلا لم يفعله، فهذه كلها في غاية الاضطراب لا تثبت على حالة واحدة ولا هي جارية على قياس واحد، وما هذا حاله فلا يكون معدوداً من السنن ولا يقال أنه من المستحبات في الصلاة.
المسألة السادسة: في المرأة هل ترفع يديها في تكبيرة الافتتاح أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة نذكرها:
المذهب الأول: أن رفع يديها عند التكبير غير مشروع في حق النساء ولا يكون مستحباً، وهذا هو رأي الإمامين الهادي والقاسم.
والحجة على هذا هو أنه غير مشروع في حق الرجال فتركه في حق النساء أحق وأولى؛ لأنهن مأمورات في جميع أحوالهن بالتستر والخفارة في جميع أحوال الصلاة ورفع اليد مخالف لما ذكرناه.
المذهب الثاني: أنها ترفع كرفع الرجل، وهذا هو رأي المؤيد بالله ومحكي عن الفريقين الشافعية والحنفية.
__________
(1) جاء في هامش الأصل ما لفظه: قال صاحب (الفصيح) لثعلب: عهدة هذا تفسير على قائله، وأنكره على الشافعي جداً وزينه.
والحجة على هذا: هو أن الرجال والنساء مستوون في أحوال العبادات كلها إلا ما خرج بدلالة، ورفع اليد في حال التكبير لم تدل دلالة على إخراجهن عنه فيجب أن يكون مشروعاً في حقهن.
المذهب الثالث: محكي عن بعض الفقهاء من أصحابنا(1)
وهو أنها ترفع يديها إلى صدرها ولا ترفع كرفع الرجل.
والحجة على هذا: هو أن ركوعها وسجودها وقعودها للتشهد مخالف لما ذكرناه في حق الرجال من الستر والانضمام، فيجب أن يكون حالها في الرفع للتكبير إلى الصدر دون رفع الرجال، فيكون فيما ذكرناه وفاء بالغرضين بالخفارة في حقها وبالمشروع في حق التكبير.
والمختار: ما قاله الإمام المؤيد بالله والفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا، وهو أن سنن الصلاة كلها مشروعة في حق النساء إلا ما خرج بدلالة، ورفع اليدين من جملة السنن الواردة في التكبير فلهذا كان مشروعاً في حقهن.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: رفع اليدين في التكبير غير مشروع في حق الرجال فيجب أن لا يكون مشروعاً في حق النساء.
قلنا: قد أقمنا البرهان الشرعي على كونه مشروعاً في حق الرجال فيلزم ألا يفترق الحال في ذلك بين الرجال والنساء إلا لدلالة خاصة ولا دلالة هناك على التخصيص.
قالوا: لا ترفع كرفع الرجال ولكن يكون رفعها إلى صدرها.
قلنا: الرفع إلى الصدر لا يكون إلا لعذر في حق الرجال فإذا قامت الدلالة على الرفع في حقهن كان على ما هو في حق الرجال إما إلى المنكب أو إلى فروع الأذن كما قررناه من قبل. وقد تم غرضنا في الرفع في التكبير.
__________
(1) وفي بعض المراجع التعبير عن أصحاب هذا الرأي بكلمة (قيل) دون تحديد، وقوله هنا (من أصحابنا) أي من فقهاء الزيدية.
الفرع الخامس: إذا [كبر] المصلي مع نية الصلاة ثم كبر ثانياً من غير نية لم تبطل الأولى لأن زيادة التكبير في الصلاة لا تفسدها، وإن كبر أولاً من غير نية ثم كبر ثانياً مع النية كانت الأولى لغواً وانعقدت الصلاة بالثانية وإذا كبر أولاً ينوي به إفتتاح صلاة الأداء ثم كبر ثانياً ينوي به افتتاح صلاة القضاء، فهل يكون داخلاً في الثانية وخارجاً عن الأولى أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون خارجاً عن الأولى وداخلاً في الثانية بالنية مع التكبير، وهذا هو رأي المؤيد بالله فإنه قال: لو افتتح صلاة الظهر وكبر لها ثم ذكر أن عليه فائتة العصر فكبر تكبيرة أخرى ونوى بها الدخول في العصر كان خارجاً بهذه التكبيرة من الظهر وداخلاً في العصر.
المذهب الثاني: أنه لا يكون داخلاً في الثانية وخارجاً في الأولى بالتكبير مع نية الخروج بل لابد من إنضمام شيء آخر يكون خارجاً به، ومنشأ الخلاف في المسألة هو أن الشيء الواحد هل يكون خارجاً به عن الأولى وداخلاً في الثانية أم لا؟ فعلى رأي المؤيد بالله يصح ذلك، وعلى رأي أصحاب الشافعي يمتنع ذلك، ثم اختلفوا فيما يزاد على قولين:
فالقول الأول: محكي عن ابن القاص فإنه قال: تبطل الأولى ولا تصح الثانية؛ لأن الشيء الواحد لا يكون صالحاً للدخول في الثانية والخروج من الأولى فلابد من تكبيرة ثالثة حتى تصح صلاته.
القول الثاني: محكي عن الصيدلاني، فإنه قال: إن الأولى لا تبطل بالثانية بل لابد أن ينوي بطلان الأولى حتى تصح الثانية.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله لأمرين:
أما أولاً: فلقوله : ((الأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى)). فإذا انضمت النية مع التكبير كان خارجاً عن الأولى وداخلاً به في الثانية.
وأما ثانياً: فلأنه إذا كان داخلاً في الصلاة بالنية مع تكبيرة الافتتاح جاز أن يكون خارجاً عنها بالنية مع التكبير من غير فرق بينهما. وبتمامه يتم الكلام على ركن التكبير.
القول في القيام: وهو ركن من أركان الصلاة واجب والدلالة على وجوبه قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }[البقرة:238]. والأمر للوجوب والإجماع على أنه لا يجب القيام إلا في الصلاة. وقوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ}[النساء:102]. وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ}. وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ " }[هود:114]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب القيام في الصلاة والإجماع منعقد على وجوبه في الصلاة، وهو معلوم ضرورة من دين صاحب الشريعة صلوات الله عليه، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}. وهذا خطاب مجمل وبيانه على لسان الرسول قولاً وفعلاً وقد كان يقوم في الصلاة وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). فتقرر وجوبه بما ذكرناه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الحد المجزي من القيام في حق الصحيح هو الإنتصاب مع الاستقلال فلو انحنى لم يعتد به ولو اتكى على شيء لم يجزه أيضاً، فإن عجز عن الإستقلال لعلةٍ انتصب متكئاً، وإن عجز عن الانتصاب قام منحنياً، فإن عجز عن القيام قعد، وإن عجز عن القعود اضطجع وأومأ برأسه، وإن عجز عن الإيماء بالرأس أومأ بالحاجبين، وإذا قعد فليتجنب الإقعاء، وهو أن يقعد على وركيه وينصب فخذيه وركبتيه وساقيه؛ لقوله : ((لا تقعوا إقعاء الكلب " ))(1)
__________
(1) روي هذا الحديث عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله أن يقعى إقعاء القرد.
…وعن علي أن رسول الله قال له: ((يا علي إني أحب لك ما أحب لنفسي و أكره لك ما أكره لها، لا تُقْعِ بين السجدتين)) أخرجه الترمذي.
…وعن ابن عمر قال: نهى رسول الله أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يديه، أخرجه أبو داود، انتهى بلفظه من (جواهر الأخبار) 1/270، وهو مروي بألفاظ مختلفة في مجمع الزوائد 1/271 ((لا تقع إقعاء الكلب)) أو قال: ((... الثعلب))، ومثله في مسند أبي يعلى 6/308، وفي سنن ابن ماجة 1/289 ((...إقعاء الكلب)).
.
وهل يكون القعود بالافتراش أو بالتورك؟ قد ذكرنا في صلاة المعذورين فأغنى عن الإعادة.
وعن بعض أصحاب الشافعي: أن القعود يكون بأن يضع ركبته اليسرى على الأرض وينصب اليمنى ويفضي بمقعدته إلى الأرض كما يفعله القارئ بين يدي استاذه للقراءة.
الفرع الثاني: في بيان أقله. اعلم أن أقل المفروض من القيام في الصلاة هو مقدار ما يؤدي فيه فاتحة الكتاب وثلاث آيات كما سنقرره في مفروض القراءة على أثر هذا بمعونة الله تعالى، فإن فرقها على الركعات فهو المعيار في أقله وإن قرأها في الركعة الأولى كما هو المسنون كان أقل القيام في باقي الركعات الانتصاب فلا ينحني، والاستقلال فلا يعتمد على شيء.
الفرع الثالث: هذه الأحوال مرتبة فلا يصلّ قاعداً إلا إذا عجز عن القيام ولا يصلّ مضطجعاً إلا إذا عجز عن القعود كما في حديث عمران بن حصين: ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب " )). ولقوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " )). فالخبران دالان على أنه لا يجوز العدول إلى الأدنى إلا عند تعذر الإتيان بالأعلى فإن فعل ذلك المصلي لم تجزه الصلاة لاخلاف فيه.
الفرع الرابع: رعاية الترتيب بين القيام وفاتحة الكتاب وتكبيرة الافتتاح هل يكون واجباً أم لا؟ فيه تفصيل. فإن قلنا: إن التكبيرة ليست من الصلاة كما هو رأي المؤيد بالله فلا ترتيب بينهما فيجوز على هذا أن يكبر قاعداً ويمد التكبير حال قيامه حتى يتصل آخر التكبير بالقيام ويجوز أن يقوم ثم يكبر، وإن قلنا: إنها من الصلاة كما يقوله الهادي والناصر، وهو المختار، فالترتيب بينها وبين القيام واجب، وعلى هذا فالواجب الإتيان بالقيام ثم التكبير بعده لقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وهذا خطاب مجمل وبيانه بفعله والمعلوم من حاله أنه كان لا يكبر إلا بعد القيام.
الفرع الخامس: الموالاة بين القيام وتكبيرة الافتتاح هل يجب أم لا؟ ولا تجب الموالاة على رأي الإمامين، أما على رأي الهادي فلأن التوجه قبل التكبير بعد القيام، وأما على رأي المؤيد بالله فلأنه إذاً قام للصلاة جاز أن يشتغل بتسبيح أو تهليل قبل التكبير فإذاً لا تجب الموالاة، وفائدة الترتيب أن يكون هذا بعد هذا، وفائدة الموالاة ألاَّ يفصل بين الشيئين فاصل.
القول في القراءة: وهي ركن من أركان الصلاة ولا خلاف في وجوبها بين أئمة العترة وفقهاء الأمة، وإنما يحكى الخلاف فيها عن نفاة الأذكار الحسن بن صالح والأصم وإسماعيل بن عُليَّة فإنهم نفوا الوجوب في أذكار الصلاة وزعموا أن الواجب إنما هي الأفعال من القيام والقعود والركوع والسجود، وقد أوضحنا أن خلافهم ساقط وأنهم مخالفون للإجماع السابق لهم واللاحق بعدهم، والدلالة على وجوبها قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ " }[المزمل:20]. ولا خلاف أن القراءة لاتجب إلا في الصلاة، وقوله : ((لا صلاة إلاَّ بفات " حة الكتاب وقرآنٍ معها " )) (1).
وقوله : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وشيء معها " )) (2).
وما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: أمرني رسول الله أن أنادي أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد(3)
والإجماع منعقد على وجوب الذكر في الصلاة.
التفريع على هذه القاعدة:
__________
(1) روي هذا الحديث عن عبادة بن الصامت بلفظ: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) أخرجه الستة إلا الموطأ، وزاد أبو داود: ((...وقرآن معها)) وفي مجمع الزوائد 2/115: ((...وآيتين معها))، وكذا في المعجم الأوسط للطبراني 2/372، وفي سنن البيهقي 2/380: ((...ومعها غيرها)) وكذا في مسند أحمد 1/130.
(2) الحديث بهذا اللفظ حكاه في (الشفاء) عن النبي وهو في (الفردوس بمأثور الخطاب) 4/155.
(3) رواه ابن حبان في صحيحه 5/94، والبيهقي في السنن 2/37.
الفرع الأول: القراءة مشروعة في الصلاة لا خلاف فيه وإنما الخلاف في وجوبها، فنفاة الأذكار نفوا جميع أذكار الصلاة كلها القراءة وغيرها عن الوجوب وقد مضى الكلام في إبطال هذه الخارجة عن الإجماع. والذي نذكره هاهنا هو وجوب القراءة على الخصوص فهل تكون واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية وهو محكي عن علماء الأمصار لا يختلفون فيه.
والحجة على هذا قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20]. وقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}[الإسراء:110]. وقوله : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها )). إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على وجوب القراءة.
المذهب الثاني: أن القراءة في الصلاة غير واجبة، وهذا شيء يحكى عن ابن عباس رضي الله عنه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً }[النساء:103]. ولم يفصل بين أن يكون فيها ذكر أو لا يكون فيها، وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}. ولم يفصل بين أن تكون فيها قراءة أو لا، وقوله : ((صلوا الصلاة لوقتها)) (1).
فذكر الوقت لما كان شرطاً ولم يذكر القراءة، وفي هذا دلالة على أنها غير واجبة.
والمختار: ما عليه أئمة العترة وعلماء الأمة من وجوب القراءة.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي }[طه:14]. والمعنى لأن تذكرني فيها، وفي هذا دلالة على وجوب الذكر فيها ولم يفصل بين القراءة وغيرها من سائر أذكار الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
__________
(1) رواه مسلم 1/317،449، وابن خزيمة 3/9، والبيهقي 2/295، و هو في مصنف ابن أبي شيبة8/154،385، وفي مصنف عبد الرزاق 1/192.
قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً }[النساء:103]. ولم يفصل بين أن يكون فيها ذكر أم لا. وقوله: {أقيموا الصلاة}. وقوله: ((صلوا الصلاة لوقتها )). ولم يوجب فيها قراءة فدل ذلك على أنها غير واجبة.
قلنا: عن هذا جوابان:
الجواب الأول: أن اسم الصلاة قد صار منقولاً بالشرع عن الأوضاع اللغوية إلى معان شرعية حتى صارت المعاني الشرعية حقائق في حقها سابقة إلى الفهم عند إطلاقها فإذا صدر اسم الصلاة من جهة الله تعالى ومن جهة رسوله وجب حملها على ما تقتضيه المعاني الشرعية. والمعلوم أن هذه الصلاة عبارة عن هذه الأفعال المخصوصة من الأقوال والأفعال والهيئات المخصوصة، وإذا كان الأمر كما قلنا وجب حمل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}[النساء:103]. وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}. وقوله : ((صلوا الصلاة لوقتها)). على موضوعاتها الشرعية المشتملة على الذكر والفعل فكيف يصح إخراج الذكر منها، وهو من جملة ما يطلق عليه اسمها عند إطلاقها.
الجواب الثاني: أن هذا معارض بما أوردناه من الآي والأخبار فإنها دالة على وجوب الذكر في الصلاة بظواهرها وصرائحها، وإذا تعارض الدليلان الشرعيان وجب العدول إلى الترجيح بينهما، ولا شك أن أدلتنا أرجح لظهورها وتصريحها بالغرض؛ ولأنها دالة على الزيادة والزيادة مقبولة فإن قال قائل: فهل يكون ابن عباس خارقاً للإجماع السابق من جهة الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم؟ أو للإجماع اللاحق من جهة التابعين وتابعيهم؟ فإنهم مجمعون على وجوب القراءة في الصلاة لا يختلفون في ذلك بحال.
قلنا: أما الصحابة فلم يؤثر عنهم خوض في المسألة ولا تصريح بوجوب القراءة فيكون خارقاً لإجماعهم، وإنما يعد خارقاً لو صرحوا بالوجوب، وأما الإجماع اللاحق من جهة التابعين وتابعيهم فإجماعهم بعد خلاف ابن عباس لا يعد إجماعاً؛ لأن التابعين وَمَن بعدهم [هم] بعض الأمة بالإضافة إلى هذه المسألة التي خالف فيها ابن عباس.
وهل يقال بأن حاله كحال نفاة الأذكار؟
قلنا: حاشا لفكرته الصافية وقريحته المتقدة أن يكون حاله مشبهاً لحالهم، فإنهم نفوا جميع أذكار الصلاة، وهو إنما خالف في جوب القراءة مع اعترافه بكونها مشروعة في الصلاة، وكيف لا وهو الغواص على أسرار الشريعة والمتبحر في علومها.
الفرع الثاني: هل تكون سورة الفاتحة متعينة في الصلاة بحيث لا تجزي إلا بقراءتها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها متعينة، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي ومالك.
والحجة على هذا: ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال: ((لا صلاة مجزية إلا بقراءة فاتحة الكتاب )) (1).
وروى عبادة بن الصامت عن رسول الله أنه قال: ((لاصلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب " )) (2).
وفي حديث آخر: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن )) (3).
وروى أبو هريرة عن رسول الله أنه قال: أمرني أن أنادي ((أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب )).
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى 2/380 بلفظ: ((ولا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب ومعها غيرها)) ومثله في مسند أبي حنيفة 1/130.
(2) تقدم تخريجه قريباً.
(3) جاء هذا الحديث في الكثير من الصحاح منها: صحيح مسلم 1/295، وصحيح ابن حبان5/87، وسنن البيهقي2/61، وسنن الدارقطني1/322، ومسند أحمد5/321، وكلها بلفظ: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن)).
المذهب الثاني: أن القراءة واجبة لكنها غير متعينة، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه، ثم اختلفوا بعد ذلك فيما يجزي منها، فالمشهور عن أبي حنيفة أن المجزي آية طويلة أو قصيرة، وفي رواية أخرى: أنه يجزي ما يقع عليه اسم القراءة.
وقال أبو يوسف ومحمد: إن قرأ آية طويلة كآية الكرسي أو آية الدَّيْن أجزأه، وإن كانت قصيرة أجزأه ثلاث آيات.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ }[المزمل:20].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن قوله: {مَا تَيَسَّرَ}. عام في جميع القرآن فيجب أن يكون ما قرئ منه إجزاء في الصلاة من غير تعيين للفاتحة كما قلناه.
الحجة الثانية: قولهم: الفاتحة سورة من القرآن فيجب أن لا يتعين قراءتها في الصلاة كسائر السور.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن رسول الله أنه قال: ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج )) (1).
وناقة خداج: وهي التي لم يتم حملها وما لم يتم فهو باطل، وعن الخليل: أخدجت الناقة إذا بطلت عن الولد فهي مُخدج والولد خديج إذا ألقته ميتاً، وأخدجت إذا ألقت دماً فهي خداج، والغرض من هذا أن الصلاة باطلة من غير قراءة سورة الفاتحة شبهها بالناقة المخدج التي بطل ولدها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20]. عام في جميع القرآن فيجب أن يكون ما قرئ منه في الصلاة إجزاء من غير تعيين لشيء منه.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
__________
(1) رواه عن أبي هريرة مسلم ومالك في الموطأ والترمذي والنسائي، وهو في صحيح ابن حبان5/90، وسنن ابن ماجة1/274، ومصنف ابن أبي شيبة 1/317.
الجواب الأول: أن هذه الآية عامة، وما رويناه من الأخبار خاص، ومن مذهبنا بناء العام على الخاص وتنزيله عليه فيجب أن يكون المراد بالآية ما ذكر في الأخبار، وهذه هي فائدة بناء العام على الخاص، لا يقال: فلا حاجة بنا إلى بناء العام على الخاص. واجعلوه نسخاً؛ لأن الآية تقتضي التخيير في القراءة والأخبار مانعة من التخيير فإذا تناقضا كان نسخاً؛ لأنا نقول: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن القرآن لا ينسخ بالأخبار الآحاد وما ذكرتموه يؤدي إلى ذلك.
وأما ثانياً: فلأن النسخ لابد فيه من المناقضة ولا مناقضة هاهنا فإن حكم التخيير باقٍ فلا مناقضة هناك فكأنه قال: اقرأوا سورة الفاتحة واقرأوا ما تيسر منه بعد قراءتها.
الجواب الثاني: أن يكون المراد {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20] بعد الفراغ من الفاتحة فإن القراءة فيها مشروعة فله أن يقرأ بعدها ما شاء من القرآن.
الجواب الثالث: أن الآية محمولة على من لا يحسن قراءة الفاتحة فله أن يقرأ غيرها لأجل العذر.
قالوا: الفاتحة سورة من القرآن فيجب ألا تتعين قراءتها في الصلاة كسائر السور.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فكان هذا هو القياس لكن الآثار وردت على تخصيص الفاتحة بالقراءة في الصلاة فلم يمكن إبطالها.
وأما ثانياً: فلأن السور متفاوتة في الفضل وهكذا الآيات، ولهذا فإن الآيات الدالة على التوحيد ليست في الفضل كالآيات الدالة على الأحكام الشرعية من البيع والإجارة والطلاق والنكاح فلأجل ما اختصت به من الفضل جعلت شرطاً في صحة الصلاة ولأمرٍ ما يُسَوَّدُ من يسود.
قالو: قوله : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب )). يحتمل نفي الإجزاء، ويحتمل نفي الكمال كقوله: ((لا صلاة لجار المسجد إلا فيه " ))(1).
لكن لا يمكن حمله على نفي الإجزاء؛ لأنه يؤدي إلى نسخ التخيير في الآية.
قلنا:عن هذا جوابان:
__________
(1) سيأتي في موضعه.
أما أولاً: فلأنه كما يحتمل نفي الكمال فهو محتمل لنفي الإجزاء فيصير مع الإحتمال مجملاً فلا يمكن الإحتجاج به لإجماله وافتقاره إلى بيان.
وأما ثانياً: فنحمله على نفي الإجزاء خاصة مع صحة نقل الأسماء بالشرع وإذا انتفى الإجزاء انتفى الكمال لأن ما لا يكون مجزياً فلا يكون كاملاً.
قوله: يؤدي إلى نسخ التخيير في الآية.
قلنا: الآية عامة والخبر خاص فيجب بناء العام على الخاص كما أشرنا إليه من غير حاجة إلى النسخ.
الفرع الثالث: هل يجب مع الفاتحة قراءة شيء من القرآن أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب مع الفاتحة قراءة شيء من القرآن إما سورة وإما ثلاث آيات، وهذا هو رأي الهادي والمؤيد بالله خلا أن المؤيد بالله ربما اشترط ثلاث آيات وربما اشترط آية طويلة، وإلى وجوب قراءة شيء من القرآن ذهب عمر بن الخطاب وابن عمر وعثمان بن أبي العاص.
والحجة على هذا: ما في خبر أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ورفاعة فإنها كلها نصوص في وجوب ما زاد على قراءة الفاتحة.
الحجة الثانية قوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) والمعلوم من حاله أنه يقرأ في صلاته بالفاتحة وسورة أخرى.
المذهب الثاني: أن قراءة ما عدا الفاتحة سنة وليس واجباً، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا قوله : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب )). فنفى الصلاة بعدمها وأثبتها بوجودها، وفي هذا دلالة على أنه لا واجب سواها. وقوله : ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج " )).
والمختار: ما قاله الإمام القاسم فإنه قال: وليس للقراءة عندي حد محدود من سورة أو غيرها، أراد بعد قراءة الفاتحة . وإلى هذا يشير كلام المؤيد بالله حيث قال: وإن قرأ آية طويلة أجزاه.
والحجة على هذا: هو أن الآية في قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20]. وقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ " }[المزمل:20]. وظواهر الأخبار كقوله : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها)). وقوله: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وشيء معها)). فهذه الآية والأخبار دالة على اعتبار شيء من القرآن قَلَّ أو كَثُرَ فيه كفاية وإسقاط لواجب القراءة في الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكره الشافعي وأصحابه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)). ولم يعتبر شيئاً آخر فدل ذلك على أنه لا يجب سواها من سور القرآن.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ظاهر هذا الخبر دال على اشتراط قراءة الفاتحة لا غير وليس فيه نفي لما عداها فلا يلزم مما ذكرتموه نفي لغيرها في الوجوب، كما أنه إذا قال: لا صلاة إلا بركوع،لاتدل على نفي السجود فهكذا هاهنا.
وأما ثانياً: فلأن ما رويناه من الأخبار دال على وجوب قرآن مع الفاتحة فلا وجه لردها وإسقاطها، فقد تقرر بما ذكرناه وجوب قرآن مع الفاتحة، وهو المطلوب.
الفرع الرابع: هل تجب القراءة في ركعة واحدة أو في أكثر؟ فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن القراءة إنما تجب في ركعة واحدة لا بعينها، وهذا هو رأي الإمامين الهادي والمؤيد بالله.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20]. فهذا أمر والأمر إنما يقتضي الفعل مرة واحدة وما زاد احتاج إلى دلالة.
المذهب الثاني: أن الواجب القراءة في الركعتين الأوليين وهذا هو رأي الإمام الناصر ومحكي عن الإمام زيد بن علي، وهو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن القراءة إنما تجب في الركعتين الأولين على رأي هؤلاء فأما الركعتان الأخريان فالقراءة فيهما غير واجبة بل هو بالخيار إن شاء قرأ وإن شاء سبح؛ وقد قال : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)).
ووجه الدلالة من ظاهر الخبر: هو أنه نفى أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب(1)
وقد تقرر أن موضع القراءة هما الركعتان الأوليان فيجب حمل وجوب القراءة عليهما من غير زيادة.
المذهب الثالث: أن القراءة واجبة في كل ركعة، وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: ما روى أبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت عن رسول الله قالا: أمرنا رسول الله أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة.
الحجة الثانية: ما روى رفاعة بن مالك(2)
أنه قال دخل رجل المسجد، فصلى بقرب الرسول فلما فرغ جاء فسلم على الرسول فقال له الرسول: ((أعد صلاتك فإنك لم تصل " )). فصلى مثل ما صلى من قبل فقال له الرسول : ((أعد صلاتك فإنك لم تصل " )). فقال: يارسول الله علمني كيف أصلي؟ فقال له: ((إذا أقمت الصلاة فكبر " ثم اقرأ فاتحة الكتاب ثم اركع حتى تطمئن)) وذكر الخبر إلى أن قال: ((وهكذا تفعل في كل ركعة))(3).
المذهب الرابع: أن القراءة إنما تجب في معظم الصلاة فإن كانت رباعية قرأ في ثلاث منها وإن كانت ثلاثية قرأ في اثنتين وإن كانت ركعتين قرأ فيهما؛ وهو المحكي عن مالك.
والحجة على هذا: هو أن الأدلة الشرعية من الآي والأخبار بعضها دال على وجوب القراءة في كل ركعة وبعضها دال على وجوبها في ركعة أو ركعتين فأوجبنا القراءة في الأكثر من الصلاة عملاً بمقتضى الأدلة الشرعية فهذا تقرير مذاهب العلماء في هذه المسألة.
__________
(1) المقصود أنه نفى الصلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب.
(2) هو رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان، بدري، سبقت الترجمة له في (المجلد الثاني)، وله ترجمات في كتب الطبقات وأعلام الحديث، ومنها: (الثقات3/145) و(تقريب التهذيب1/210) و(تهذيب التهذيب3/243) و (الكاشف) و(الاستيعاب) وغيرها.
(3) أخرجه الستة إلاَّ الموطأ، ولم ينص فيه على الفاتحة، وجاء الحديث في صحيح ابن حبان5/88، ومسند الشافعي1/34، ومسند أحمد4/340.
والمختار: ما قاله الإمامان الهادي والمؤيد بالله من وجوب القراءة في ركعة واحدة، وهذا هو المحكي عن الحسن البصري وداود من أهل الظاهر.
والحجة لهم: ما قررناه من قبل، ونزيد هاهنا وهو أن الأدلة الشرعية دالة على وجوب القراءة والمعلوم أنه يخرج من عهدتها بفعل القراءة مرة واحدة فيجب الاقتصار[عليها] حتى تدل دلالة على وجوب التكرار.
ومن وجه آخر: قياسي، وهو أن القراءة ذكر هو من شرط الصلاة فوجب أن يكون الفرض منه مرة واحدة كالتكبير والتشهد.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
فأما ما ذكره من أن القراءة واجبة في الركعتين الأوليين محتجاً بأن محل القراءة هو الركعتان الأوليان والأخريان هو بالخيار إن شاء قرأ وإن شاء سبح فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأنه لا دلالة تدل على ما قاله من وجوب القراءة في الركعتين الأوليين، وإنما الواجب هو في ركعة واحدة.
وأما ثانياً: فلأن القراءة وإن كانت واجبة فإنما تجب في ركعة واحدة لا بعينها؛ لأن الأدلة الدالة على وجوب القراءة لم تخص ركعة دون ركعة فلهذا أوجبناها في ركعة واحدة على جهة البدلية.
وأما ما قاله الشافعي: من أن القراءة واجبة في كل ركعة محتجاً بما روي أنه أمر بالقراءة في كل ركعة فعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن ذلك إنما كان على جهة الاستحباب دون الوجوب ونحن لا ننكر ذلك، وإنما كلامنا فيما يكون واجباً لا يجوز الإخلال به.
وأما ثانياً:فلأن المقصود بالأمر في كل ركعة على جهة البدل لا على جهة الجمع ونحن لا ننكر ذلك، وإنما الشأن كله في كونها واجبة في كل ركعة على جهة الجمع ولا دلالة تدل على ذلك.
وأما ما قاله مالك: من أن الواجب في أكثر الركعات، ففي الرباعية ثلاث ركعات تجب فيهن القراءة، وفي الثلاثية في ركعتين. فعنه جوابان:
أما أولاً:فلأن ما ذكره تحكم لا مستند له.
وأما ثانياً: فلأنه إذا فعل ذلك عملاً بمقتضى الأدلة الشرعية فنحن نوجبها في ركعة واحدة عملاً بأقل ما قيل في الأدلة الشرعية، والأقل إنما هو إيجاب القراءة في ركعة واحدة، وهو المطلوب.
الفرع الخامس في وجوب الإبتداء في القراءة بـ{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. وهو يشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: الذي عليه أئمة العترة القاسمية والناصرية أن قولنا: {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أنها مشروعة في الصلاة. وهل هي من كتاب الله أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها آية من القرآن؛ وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها في المصاحف في أول كل سورة إلا في سورة برآءة فلم يثبتوها فيها وهم لا يثبتون إلا ما كان من القرآن مقطوعاً بكونه قرآناً، ويؤيد هذا ويوضحه أن هذه المصاحف نقلت إليها بالنقل المستفيض المتواتر من جهة الصحابة رضي الله عنهم ولم يكونوا يثبتون إلا ما تواتر نقله وقطع بأنه قرآن ولهذا فإن عمر رضي الله عنه قال: لولا أن يقال إن عمر زاد في كتاب الله آية لكتبت آية الرجم في حاشية المصحف ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله)). وإنما لم تُكتب البسملة في أول سورة برآءة لأمرين:
أما أولاً: فلأنها لما نزلت قال الرسول : ((اثبتوها في آخر سورة الأنفال " )) فأثبتوها اتباعاً لأمره.
وأما ثانياً: فلأنها سورة غضب والبسملة آية رحمة فلهذا لم تكتب في أولها.
المذهب الثاني: أنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل فإنها بعض آية منها وفي سائِر السور إنما ذكرت تبركاً بها ولا تقرأ في الصلاة إلا في قيام رمضان فإنها تقرأ في ابتداء السورة بعد الفاتحة ولا تقرأ في إبتداء الفاتحة؛ وهذا هو رأي الأوزاعي ومحكي عن مالك، ورواية عن أبي حنيفة رحمه الله.
والحجة على هذا: هو أن القرآن عبارة عما كان بين الدفتين وكان منقولاً بالتواتر مقطوعاً به وهذه البسملة قد وقع فيها الخلاف والنزاع، فلو كانت من القرآن لم يقع فيها النزاع كسائر آيات المصحف وسوره.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من أنها آية من كتاب اللّه.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا، وهو أن القرآن الذي يقطع بكونه قرآناً ويكفر من رده أو رد آية منه هو ما جمع صفات ثلاثاً:
الصفة الأولى: أن يكون منقولاً بالتواتر مقطوعاً بنقله.
والثانية: أن يكون مطابقاً لاصطلاح أهل الأدب من النحو واللغة.
والثالثة: أن يكون مطابقاً لخط المصحف الذي وضعه عثمان باتفاق الصحابة عليه، فما جمع هذه الخلال الثلاث كان قرآناً وكفر من رده، وهذه البسلمة فحالها ما ذكرناه فإنها منقولة بالتواتر ومطابقة للأوضاع اللغوية والمعاني الإعرابية وموافقة لما وضع بخط المصحف، فلا جرم قطعنا بكونها من جملة آي القرآن.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: لو كانت من جملة آي القرآن لما وقع فيها خلاف كما لم يقع في غيرها من السور والآيات.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لم يقع [تردد] في كونها مكتوبة في المصاحف كلها، وأن عثمان كتبها في مصحفه في كل السور إلاَّ في براءة، وأن جبريل: نزل بها وإنها مقروءة في المحاريب على ألسنة الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، وإنما وقع التردد هل تكون آية منفردة أو تكون آية مع أول كل سورة وهذا التردد لا يبطل كونها من القرآن فمثل هذا يقع فيه اللبس.
وأما ثانياً: فلأن خلاف ابن مسعود لا يبطل كون المعوذتين من القرآن، وخلاف أبيٍّ في أن الفاتحة لا تكتب في المصحف لا يبطل كونها من القرآن فتقرر بما ذكرناه أنها آية من كتاب الله.
المسألة الثانية: إذا تقرر أنها من كتاب الله فهل تكون آية منفردة برأسها أو تكون آية مع أول كل سورة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها آية مستقلة من كل سورة، وهذا هو رأي أئمة العترة وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الإجماع منعقد على إثباتها في كل سورة ما خلا سورة براءة ويشهد له كِتْبَة المصاحف كلها فإنها ثابتة في أول كل سورة، فلولا أنها آية من كل سورة وإلاَّ لما أتفقت المصاحف على ذلك. ويؤيد ما ذكرناه ما روى أنس بن مالك أن معاوية لما قدم المدينة فصلى صلاة فقرأ {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول الفاتحة ثم تركها لما قرأ السورة الثانية، فلما فرغ نادى المهاجرون والأنصار من كل مكان أسرقت الصلاة يا معاوية أم نسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وفي هذا دلالة على أنها آية مستقلة من كل سورة.
المذهب الثاني: أنها آية مع أول كل سورة، وهذا شيء يحكى عن الشافعي في بعض أقواله، واختاره بعض أصحابه.
والرواية لثانية: عن أبي حنيفة التي اختارها أصحابه التي عليها يعتمدون وبها يناظرون، أنها آية في كل موضع ذكرت إلا أنها ليست آية من السورة.
والحجة على هذا هو أنها لم تنفرد عن أول كل سورة لا في قراءتها ولا في كِتْبَةِ المصاحف، وفي هذا دلالة على أنها غير مستقلة بنفسها وإنما هي آية مع أول كل سورة.
والمختار: أنها مستقلة بنفسها في القراءة وفي كتبة المصاحف.
والحجة: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا، وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((سورة ثلاثون آية شفعت لقارئها وهي سورة الملك " ))(1)
ومعلوم أنها ثلاثون من غير البسملة، فهذا فيه دلالة على استقلالها من أول كل سورة.
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/753،و الترمذي في السنن 5/164 في باب ما جاء في فضل سورة الملك، وفي السنن الصغرى للبيهقي 1/552 عن أبي سعيد الخدري.
ومن وجه آخر: وهو أن اتصالها بما بعدها ليس يخلو إما أن يكون من جهة اللفظ أو من جهة المعنى، أما اللفظ فبأن تكون أوائل السور منخرمة لا تكمل إلا بذكر البسملة. وإما من جهة المعنى فبأن تكون فواتح السور لا تستقيم معانيها ولا تكون مفهومة إلا بذكر البسملة، وكل واحد من هذين الوجهين لا وجه له فإن فواتح السور مستقلة ومفهومة المعاني من غير ذكر البسملة غير مفتقرة في لفظها ومعناها إليها، وفي هذا دلالة على ما قلناه من انفرادها وأنها غير مضافة إلى أول كل سورة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: اتصالها في القراءة بأول كل سورة وكتبتها في أول كل سوة تدل على أنها غير مستقلة بنفسها.
قلنا: الظاهر استقلالها بنفسها من جهة الكتبة ومن جهة القراءة، وإنما لم يجز انفصالها تنبيهاً على أنها آية من كل سورة فلهذا وجب دوام الاتصال.
المسألة الثالثة: البسملة هل تكون آية من الفاتحة أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنها آية من سورة الفاتحة على جهة القطع، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، وهو محكي عن الشافعي في أحد أقواله وهؤلاء لا يقبلون في إثباتها خبر الواحد وإنما يثبتونها بالنقل المتواتر.
والحجة على هذا: هو أن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها فيها خطأ في المصاحف ونطقاً بالألسنة وتواتر النقل عنهم بِعَدِّها آية من سورة الفاتحة، وفي هذا دلالة على أنها مقطوع بها. ويتأيد ما ذكرناه بما ورد فيه من أخبار الآحاد، وهو ما روى جابر قال: قال لي رسول الله : ((كيف تقول إذا أقمت صلاتك ))؟. قال: أقول الحمدلله رب العالمين. قال: ((قل: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين)) (1).
وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: فاتحة الكتاب كم آية؟ قال: سبع. قلت: فأين سابعتها؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم(2).
__________
(1) جاء في جواهر الأخبار هذا الحديث عن جابر، وفيه عن أم سلمة عن النبي أنه عد (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من فاتحة الكتاب، ولفظه في (المهذب) عنها: أن النبي قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) يعدها آية، ولفظه في (التلخيص): أنه قرأ بفاتحة الكتاب فقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) وعدها آية، وعزاه إلى الشافعي وغيره، وفيه أيضاً ما لفظه: حديث: ((إذا قرأتم فاتحة الكتاب فاقرأوا (بسم الله الرحمن الرحيم) فإنها أم القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها)) وعزاه إلى الدار قطني، وحكى في (الشفاء) عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((إذا قرأت الحمد لله رب العالمين فاقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها)) انتهى بلفظه 1/246.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك1/737، والبيهقي في السنن الكبرى2/45، وعبد الرزاق في المصنف 2/94، وقد سبق الحديث عن جابر أن رسول الله قال له: ((كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة))؟ قال: أقول الحمد لله رب العالمين، قال: ((قل: بسم الله الرحمن الرحيم)).
وعن أمير المؤمنين كرم الله وجهه وعن أم سلمة وعن أبي بن كعب، أن الرسول عدَّ بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب وقال: ((هي السبع المثاني ))(1).
المذهب الثاني: أنها آية من الفاتحة على جهة الحكم على معنى أنه يجب قراءتها في الصلاة ولا تصح الصلاة إلا بها ويقبل فيها خبر الواحد ولا يقطع بكونها آية من الفاتحة؛ لأن خبر الواحد يوجب العمل ولا يوجب العلم، وهذا هو قول بعض أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن هذا القائل قد جعلها من باب العمل ولم يجعلها مقطوعاً بها لأجل ما وقع فيها من الخلاف فلأجل هذا يوجب قراءتها في الصلاة ولا تكون الصلاة صحيحة إلا بقراءتها.
المذهب الثالث: أنها ليست آية من الفاتحة ولا تكون شرطاً في صحة الصلاة خلا أنه يستحب قراءتها في الصلاة سراً ومن تركها فقد أساء ولا تبطل صلاته، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((يقول الله تبارك وتعالى: قسمت هذه السورة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي فإذا قال: الحمدلله رب العالمين. يقول الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم. يقول الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي. فإذا قال: ملك يوم الدين. قال: مجّدني عبدي إلى هاهنا لي؛ ولعبدي ما سأل))(2).
ولم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم ولو كانت منها لذكرها.
والمختار: ما عليه أئمة العترة من أنها آية من فاتحة الكتاب خلا أن من ردها لا يكفر ومن تركها في الصلاة لا يفسق لأجل ما وقع فيها من الخلاف، والكفر والفسوق إنما يكونان بالأدلة القاطعة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
__________
(1) تقدم آنفاً وفيه ما جاء عن علي أنه قال: آية من كتاب الله تعالى تركها الناس: بسم الله الرحمن الرحيم، حكاه في (جواهر الأخبار) و(أصول الأحكام).
(2) أخرجه الستة إلا البخاري وأبا داود، ورواه البيهقي في سننه 2/39، وابن حبان 3/53.
قالوا: روى أبو هريرة أن الفاتحة نصفين لله تعالى وللعبد ولم يذكر فيها البسملة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أنه لم يذكرها، فقد قيل: إنه ذكرها من طريق أبي السائب(1)
عن أبي هريرة.
وأما ثانياً: فلأنه إنما لم يذكرها اكتفاءً بعلم العبد بما فيها من التمجيد لله تعالى والاعتراف له بالإلهية واختصاصه بالرحمة.
قالوا: لو كانت آية من الفاتحة لوجب الحكم على من أنكرها وردها بالكفر والمعلوم خلافه وفي هذا دلالة على أنها ليست آية منها.
قلنا: إنما لم يكفر من ردها لأمرين:
أما أولاً: فلأجل ما وقع فيها من الخلاف.
وأما ثانياً: فإنما يكفر من ردها بعد اعترافه بكونها آية منها فأما من لم يثبتها فليس يكون راداً، كما أن ابن مسعود لم نكفره لرده المعوذتين؛ لأنه لم يعترف بكونهما من القرآن(2).
__________
(1) اشتهر بكنيته، قال في (الكنى والألقاب 1/406): أبو السائب، مولى هشام بن زهرة، [روى] عن أبي هريرة، والمغيرة، روى عنه شريك بن أبي نمر، والعلاء بن عبد الرحمن، وفي (الثقات5/561) زيادة: وبكير بن عثمان والزهري، قال: وأصله من فارس، يروي عن أبي هريرة، وفي (تقريب التهذيب1/643): يقال: اسمه عبد الله بن السائب.
(2) في حاشية الأصل ما نصه: لم ينكر ابن مسعود نزول جبريل بهما، ولا أنهما من القرآن، وإنما أنكر كتبهما في المصحف، وقد ذكره (المؤلف) بعد هذا في أول الفرع التاسع فليتأمل،اهـ.
المسألة الرابعة: قد أوضحنا أن البسملة آية من سورة الفاتحة فإن تركها المصلي عامداً بطلت صلاته، وإن تركها ناسياً نظرت فإن كان الوقت باقياً وجبت عليه الإعادة لأن ما كان واجباً في الصلاة لم يسقط وجوبه بالنسيان مع بقاء الوقت، وإن كان الوقت فائتاً لم يلزمه القضاء لما ذكرناه من قبل من أن المسائل الإجتهادية التي وقع فيها خلاف العلماء لا يلزم فيها قضاء بعد فوات الوقت وانقضائه كما قررناه من قبل، فهذه المسائل كلها نشأت من البسملة ونرجع الآن إلى التفريع في مسائل القراءة.
الفرع السادس: قال الإمام المؤيد بالله: يجب على كل مكلف معرفة فاتحة الكتاب وسورة معها مع سائر ما تصح به الصلاة من الركوع والسجود لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا }[الحج:77]. ولا خلاف في وجوب ذلك، وهو معلوم من دين صاحب الشريعة ضرورة. قال أصحاب الشافعي: إذا ترك المصلي بعض التشديدات التي في صورة الفاتحة لم تصح صلاته، ولم ينص الشافعي على هذا كما حكاه أصحابنا عنه، وإنما ذكره أصحابه؛ لأن أهل اللغة والعربية قالوا: التشديد يقوم مقام حرف؛ لأن كل موضع ذكر فيه التشديد فإنه مدغم حرف في حرف مثله أو مقاربه فإذا ترك التشديد فكأنه قد ترك حرفاً من حروف الفاتحة، والذي نص عليه الشافعي هو قوله: فإن أخل المصلي ببعض الفاتحة أو بحرف من حروفها إما بألف ولام أو غير ذلك لم تجزه صلاته، وفي الفاتحة أربع عشرة تشديدة [الأولى] اللام من الجلالة في بسم اللّه، الثانية: تشديدة الراء من الرَّحمن، الثالثة: تشديدة الراء من الرَّحيم، الرابعة: تشديدة اللام في لله، الخامسة: تشديدة الباء في ربِّ، السادسة: تشديدة الراء من الرَّحمن، السابعة: تسديدة الراء من الرَّحيم، الثامنة: تشديدة الدال من الدِّين، التاسعة: تشديدة الياء من إيَّاك، العاشرة: تشديدة الياء من وإيَّاك، الحادية عشرة: تشديدة الصاد من الصِّراط، الثانية عشرة: تشديده اللام من الَّذين، الثالثة عشرة: تشديدة الضاد من الضَّالين، الرابعة عشرة: تشديدة اللام من الضالِّين.
الفرع السابع: ويجب على المصلي أن يقرأ الفاتحة كما أنزلت؛ لأن القرآن معجز وإنما كان معجزاً لما اشتمل عليه من النظم والتأليف فإذا غير نظامه بطل إعجازه فإن بدأ فقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة:2] لم تجزه حتى يبتدئ بـ{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لقوله : ((اقرأوا كما علمتم " )) (1).
فإن قدَّم آية على آية أو حرفاً على حرف فإن فعل ذلك عامداً بطلت صلاته وإن فعله ساهياً لم تبطل صلاته وبطلت قراءته واستأنفها فحصل من مجموع هذا الفرع أحكام خمسة:
الحكم الأول: رعاية الترتيب بين حروف الفاتحة وكلماتها فإن غيَّر ذلك بتقديم مؤخر أو تأخير مقدم بطلت قراءته وصلاته؛ لأن ذلك يبطل الإعجاز ويلحقه بكلام الناس.
الحكم الثاني: رعاية الموالاة بين كلماتها فإن فصل بين الكلمات بسكوت بسير لم يضره، وإن كان كثيراً بطلت قراءته والأوْلَى أن يستأنفها، وإن فصل بين كلماتها بتسبيح أو تهليل كره له ولم يضر قراءته.
الحكم الثالث:وإذا كرر قراءة الفاتحة أو كرر بعض كلماتها في أولها أو آخرها أو وسطها كره له ذلك ولم يضر قراءته ولا يلزم استئنافها.
الحكم الرابع: ولا يجب الترتيب بين الفاتحة والسورة لأنهما فرضان واجبان لا ترتيب بينهما ولا تجب الموالاة بينهما، فإن فصل بينهما بسكوت يسير لم يضر، وإن كان طويلاً لم يستأنفها وإن فصل بتسبيح أو تهليل لم يضر القراءة.
الحكم الخامس: وإن فرق كلمات الفاتحة والسورة على الركعات كره له ذلك؛ لأنه خلاف المشروع، وأجزأه ذلك لأنه يكون آتياً بها كما هو المفروض.
الفرع الثامن: في الجهر والمخافتة، ويشتمل على أحكام أربعة:
الحكم الأول: في حد الجهر والمخافتة.
__________
(1) رواه ابن حبان بلفظ: ((أن تقرأوا كما علمتم)) وفي السنن الصغرى 1/566: ((فاقرأوا كما علمتم)) وفي مصنف ابن أبي شيبة6/147: ((فاقرأوه كما علمتم وإياكم والتنطع....إلخ)) وكذا في المعجم الكبير للطبراني 9/138.
قال الإمام المؤيد بالله: حدُّ الجهر إذا قرأت أن يسمع من بجنبك، والمخافتة أن تحرك لسانك وتثبت في الحروف وإن لم يسمع، وعن زيد بن علي: ما خافت من أسمع أذنيه. واستضعف المؤيد بالله ذلك وقال: إنه مخافت وإن سمع، فحاصل الأمر أن أقل الجهر أن تُسمع من بجنبك، وأقل المخافتة أن تحرك لسانك بالقراءة وإيضاح الأحرف وإن لم يكن المصلي سامعاً لها، ولهذا قيل لابن عباس بم كنتم تعرفون قراءة رسول الله في صلاة النهار؟ قال: نعرفها باضطراب لحيته. وفي هذا دلالة على أنهم كانوا لا يسمعون قراءته ولو سمعها المصلي لم يخرج عن المخافتة، ولهذا قال تعالى: {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ }[القلم:23]. فسماها مخافتة وإن سمعوها، وفي هذا دلالة على أن سماعها لا يخرجها عن حدِّ المخافتة.
الحكم الثاني: الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة هي صلاة الفجر والركعتان الأوليان من المغرب والعشاء، والتي تشرع المخافتة فيها هي صلاة النهار والركعة الثالثة من المغرب والركعتان الأخريان من العشاء؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}[الإسراء:110]. والسبيل هو ما ذكرناه من الجهر والمخافتة في هذه الصلوات، وقد روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يجهر ويخافت في الصلوات كما أشرنا إليه وقد تظاهرت الأخبار بما ذكرناه وتوارثه الخلف عن السلف قولاً وفعلاً وروي ذلك عن الرسول أنه كان يجهر في صلاة الفجر ويجهر في الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، والأصل أن صلاة النهار عجماء لقوله : ((صلاة النهار عجماء " ))(1).
__________
(1) هذا الحديث مروي عن أبي هريرة، أورده في (جواهر الأخبار) بلفظ: ((إذا رأيتم من يجهر في صلاة النهار فارموه بالبعر، ويقال: صلاة النهار عجماء)) اهـ. البحر 1/247.
إلا ما خصته دلالة نحو صلاة الفجر وصلاة الجمعة وصلاة العيدين، وصلاة الليل مجهورة إلا ما خصته دلالة نحو الركعة الثالثة من المغرب والركعتين الأخريين من العشاء.
الحكم الثالث: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، هل هو مشروع في الصلاة التي يجهر بها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الجهر بها مشروع في هذه الصلوات المجهورة والقائل بهذا طائفتان:
الطائفة الأولى: من الصحابة رضي الله عنهم، وهي إحدى الروايتين عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وإحدى الروايتين عن عمر، وهو محكي عن ابن عباس، فهؤلاء من أكابر الصحابة رضي الله عنهم روي عنهم الجهر في الصلوات المجهورة قولاً وفعلاً.
الطائفة الثانية:التابعون، وهو محكي عن زيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، ومروي عن محمد(1)
__________
(1) محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، أبو عبد الله، ولد بالمدينة سنة 93هـ، وصفه محقق (الفلك الدوار) فقال: أحد رواد الثورة ضد الظلم، كان غزير العلم واسع المعرفة، وفيه شجاعة وحزم وسخاء، وكان من الدعاة إلى تجاوز الخلافات بين المسلمين، ولذا بايعه كثيرون من سائر الاتجاهات الفكرية، استشهد سنة 145هـ، انظر (مقاتل الطالبيين 232) (تأريخ الطبري 6/183) (الأعلام 6/220) (الشافي1/227،196) (أعيان الشيعة 9/389). ا هـ، ص (30).
…وفي (الجرح والتعديل7/295): قتل سنة 145هـ بالمدينة وهو ابن خمس وأربعين سنة (الصواب 52 سنة؛ لأنه من مواليد 93هـ كما سلف، وهذا الخطأ وقع فيه بعض المصادر، ومنها (الثقات)،وكان قد لقي نافعاً وغيره وحدث عنهم، روى عنه الدار وردي وغيره، سمعت أبي يقول ذلك: ا هـ.
…وفي (الثقات7/363): يروي عن جماعة من التابعين، روى عنه أهل المدينة، امه: هند بنت أبي عبيدة بن علي بن ربيعة بن الأسود بن الأُسيدي.
وإبراهيم(1)
ابني عبدالله بن الحسن وأبيهما وعبدالله بن موسى بن عبدالله(2)
__________
(1) إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ولد بالمدينة سنة 97هـ، قال عنه محقق (الفلك الدوار) (محمد يحيى سالم)ص (31): وكان عالماً شاعراً عارفاً بأيام العرب وأشعارها، رحل إلى العراق داعياً إلى بيعة أخيه محمد، دعا إلى نفسه حتى بلغه استشهاد أخيه، استشهد سنة 145هـ، ودفن بـ(باخمراء)، وقال عنه الزركلي في (الأعلام) 1/48: أحد الأمراء الأشراف الشجعان، خرج بالبصرة على المنصور العباسي، فبايعه أربعة آلاف مقاتل، وخافه المنصور فتحول إلى الكوفة، وكثر شيعة إبراهيم، فاستولى على البصرة وسيّر الجموع إلى الأهواز وفارس وواسط، وهاجم الكوفة، فكانت بينه وبين يجيوش المنصور وقائع هائلة إلى أن قتله حميد بن قحطبة.
…قال أبو العباس الحسني: ( حُز رأسه وأرسل إلى أبي الدوانيق، ودفن بدنه الزكي بـ(باخمراء)، وكان شاعراً عالماً باخبار العرب وأيامهم وأشعارهم، وممن آزره في ثورته الإمام (أبو حنيفة) أرسل إليه أربعة آلاف درهم لم يكن عنده غيرها، ترجم له ابن الأثير في (الكامل) 5/208، و(مقاتل الطالبيين) 315، والطبري 9/243، وغيرهم.
(2) عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن المثنى بن علي بن أبي طالب، أبو موسى، قال عنه الجنداري رحمه في تراجم رجال الأزهار ج3 ص (21): روى عن أبيه عن جده، وعنه ولده موسى ومحمد بن منصور (المرادي).
…قال ابن عنبة: وهو أكثر بني الحسن عدداً وأشدهم بأساً، وقال أبو العباس [الحسني]: كان ممن يُشار إليه ويفزع منه السلطان، واجتمع مع القاسم [بن إبراهيم الرسي] في بيت محمد بن منصور، وطلبه القاسم للبيعة فأبى، وبويع القاسم سنة 220هـ، وقال المنصور بالله [عبدالله بن حمزة]: -وما زال الكلام للجنداري- كان شيخ وحده ووحيد عصره، وله من الفضل والعلم ما تعرفه الفضلاء، توفي في السنة التي مات فيها أحمد بن عيسى [بن زيد بن علي بن زين ا لعابدين] سنة 247هـ، وفي (الطبقات) أن أحمد مات سنة 240هـ، وهذا هو الصحيح.
وأحمد بن عيسى؛ وهو محكي عن الناصر والهادي والقاسم والمؤيد بالله وعلى الجملة فإنه إجماع من أهل البيت.
والحجة على هذا:ما روى النعمان بن بشير عن رسول الله أنه قال: ((أمَّني جبريل عند باب الكعبة فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم " )) (1).
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول أنه جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله : ((كل صلاة لا يجهر فيها ببسم الله الرحمن الرحيم فهي أية اختلسها الشيطان " )) (2).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: صليت خلف رسول الله فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في كلتا السورتين حتى قبض، وصليت خلف أبي بكر فلم يزل يجهر بها حتى قبض، وصليت خلف عمر فجهر بها حتى قبض، ولن أدعها حتى أموت، فهذه الأخبار كلها دالة على ما ذكرناه من الجهر فيهما- أعني السورتين- بالبسملة.
المذهب الثاني: أنه يسر بها في كل صلاة والقائل بهذا طائفتان:
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك1/326، والدارقطني في السنن1/303، والطبراني في الأسوط1/15، والكبير 10/277.
(2) وفيه عن مسلم بن حيان وجابر بن زيد قالا: دخلنا على ابن عمر في داره فصلى بنا الظهر والعصر، ثم صلى بنا المغرب والعشاء فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في كلتا السورتين، فقلنا له: لقد صليت بنا صلاة ما تعرف بالمبصرة، فقال ابن عمر: صليت خلف رسول الله فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في كلتا السورتين حتى قبض، وصليت خلف أبي بكر فلم يزل بها في كلتا السورتين، وصليت خلف أبي عمر فلم يزل يجهر بها حتى هلك، وأنا أجهر بها ولن أدعها حتى أموت، هكذا حكاه في (أصول الأحكام) وذكر في (التلخيص) نحوه، وعزاه إلى الدارقطني وضعفه اهـ. من الجواهر هامش (البحر)1/248.
الطائفة الأولى: من الصحابة رضي الله عنهم، وهو إحدى الروايتين عن علي وابن مسعود، وإحدى الروايتين عن عمر.
الطائفة الثانية:من التابعين، وهو مروي عن سفيان الثوري وأحمد بن حنبل فإنه قال: إنها من الصلاة ولكن يسر بها، فأما أبو حنيفة ومالك والأوزاعي فإنهم ذهبوا إلى أنها ليست من القرآن عندهم.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ " }[الأعراف:205]. وروي أنها نزلت في بسم الله الرحمن الرحيم، وروي عن قتادة عن أنس بن مالك قال صليت خلف الرسول وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم(1).
وروى عبدالله بن المغفل أنه رأى أمة تجهر بها فقال لها: إياك والحدث في الإسلام فإني صليت خلف النبي وأبي بكر وعمر ولم أسمع أحداً منهم يقولها(2).
وروى ابن مسعود رضي الله عنه: ما جهر رسول الله في صلاة مكتوبة ببسم الله الرحمن الرحيم.
__________
(1) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى2/51، والدار قطني في سننه1/315، وفي مصنف ابن أبي شيبة 1/361.
(2) أخرجه ابن ماجة في سننه1/267، وفي جواهر الأخبار1/248 بزيادة فلا تقلها، إذا أنت صليت فقل: الحمد لله رب العالمين. قال: وهذه رواية الترمذي.
وروي عن ابن عباس أنه قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من قراءة الأعراب. وروى أبو وائل(1)
عن علي وعمار أنهم كانوا لا يجهرون بها فهذه الأخبار كلها دالة على ترك الجهر بها.
والمختار: ما عول عليه الأكابر من أهل البيت والصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي ومحكي عن عطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن جبير من الجهر بها في الصلاة المجهورة والإسرار بها في الصلاة التي يسر بها.
والحجة: ما رويناه، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن أمير المؤمنين أنه قال: من لم يجهر في صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم فقد أخدج صلاته(2).
وعن عمار بن ياسر أنه قال: صلينا خلف رسول الله فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
واعلم أن ألأخبار قد تعارضت في هذه المسألة والناس فيها فريقان من الصحابة والتابعين والفقهاء؛ والأخبار إذا تعارضت وجب الترجيح إذ لا يمكن إهمالها أجمع، ولا القول بها أجمع فلم يبق إلا ما ذكرناه من ترجيح بعضها على بعض، وهذه هي طريقة الأصوليين والحذاق من العلماء لكن الأخبار التي رويناها راجحة على غيرها من أوجه أربعة:
__________
(1) هو شقيق بن سلمة الأسدي، قال في (مشاهير علماء الأمصار 1/99):كان مولده سنة إحدى من الهجرة، أدرك النبي وليست له صحبة، وسمع من الصحابة، مات سنة 83هـ،اهـ. وفي (تهذيب التهذيب 4/317): أدرك النبي ولم يره، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وسعد بن أبي وقاص وحذيفة وابن مسعود، وآخرين من الصحابة، منهم أبو هريرة، وعائشة وأم سلمة، وأسامة بن زيد، وعنه: الأعمش ومنصور وزبيد اليامي، وغيرهم كثيرون، إلى أن قال-ابن حجر-: قال عاصم بن بهدلة عنه:أدركت سبع سنين من سني الجاهلية، ثم أورد في (التهذيب) عن ابن حبان، ولد سنة إحدى من الهجرة، وعن ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة.
(2) أورده في كتاب (التحقيق في أحاديث الخلاف1/353) عن علي .
أولها: أن كل ما رويناه من الأخبار يفيد زيادة حكم شرعي وهو الجهر بها والخبران إذا تعارضا وأحدهما مختص بزيادة حكم شرعي كان المصير إليه أحق وأولى وكان راجحاً على غيره.
وثانيها: أن ما رويناه من الأخبار مستند إلى المشاهدة والعلم وما رووه يستند إلى نفي العلم، والخبران إذا تعارضا وكان أحدهما دالاً على الإثبات والآخر دال على النفي فالذي يكون دالاً على الإثبات أحق بالقبول؛ لأن التحقق فيه أكثر والقطع به أعظم وأوثق.
وثالثها: أن بعض أحاديثهم قد وقع فيه الإنكار كما حكينا في قصة معاوية لما صلى وترك البسملة في أول السورة الثانية فبادروه: أسرقت الصلاة يا معاوية أم نسيت؟ وأخبارنا لم يقع فيها شيء من الإنكار فدل ذلك على كونها صادقة.
ورابعها: أن ما رووه محمول على أنه لم يجهر بالبسملة على حد ما يجهر بالسورتين على حسب العادة فإن الإنسان إذا جهر بشيء من [القرآن] في أول قراءته فإنه لا يكون جهره في أول الأمر كجهره في آخره فيجب القضاء بكونها مجهوراً [بها] كالسورتين وإن كان الجهر مختلفاً، وهذا لا يبطل كونها مجهوراً بها. فحصل من مجموع ما ذكرناه رجحان أخبارنا على أخبارهم فيجب القضاء بها والحكم عليها.
الحكم الرابع: وإذا تقرركون الجهر بها مشروعاً فهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الجهر بها واجب وأن صفة القراءة كالقراءة في الوجوب وبطلان الصلاة بتركه، وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن محمد بن يحيى ومن الفقهاء من ذهب إليه كابن أبي ليلي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}[الإسراء:110]. والأمر بابتغاء السبيل بين الجهر والمخافتة يقتضي أن يكون على الصفة المشروعة التي ذكرناها في الصلاة الرباعية والثلاثية وحمله على صلاة النهار في ترك الجهر وعلى صلاة الليل في ترك المخافتة لا يمنع من صحة حمله على ما ذكرناه لأن أحد الإحتمالين لا يمنع من الإحتمال الآخر فلهذا وجب حمله عليهما جميعاً وفيه حصول المقصود.
الحجة الثانية: قوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وفعله بيان للمجمل وقد كان يجهر ويخافت في صلاته فيجب أن يكون واجباً.
المذهب الثاني: أن الجهر غير واجب في البسملة، وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن الفريقين الشافعية والحنفية.
والحجة على هذا: هو أن الجهر والمخافتة هيئتان لركن من أركان الصلاة، وهو القراءة فلا يكونان واجبين، دليله ترك التجافي في الركوع والسجود وتفريق الأصابع عند الركوع وضمها عند السجود إلى غير ذلك من الهيئات.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله؛ لأن المقصود من هذا الركن هو حصول الذكر وكونه مجهوراً به أو مخافتاً صفة تابعة فلا يكون الإخلال بها إخلالاً بالقراءة كسائر صفات الأذكار كلها.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وفعله يكون بياناً لما أجمل في هذا الخبر والمعلوم من حاله أنه كان يجهر بالبسملة فيجب القضاء بوجوبها.
قلنا: لا ننكر أنه كان يجهر في الصلاة ويخافت وأنه كان يجهر بالبسملة ولكنا نقول ليس كل ما كان يفعله في الصلاة فهو واجب فإن أفعال الصلاة منقسمة إلى واجب ومسنون والجهر والمخافتة قد دل الدليل على كونهما صفتين ليستا بواجبتين ولا يتعلق بهما سجود السهو كما سنوضحه في بابه بمعونة الله تعالى.
قالوا: قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }[الإسراء:110]. ولا شك أن السبيل وجوب الجهر والمخافتة على الصفة المشروعة والبسملة من جملة ما يجب فيه الجهر؛ فلهذا كان واجباً فيها.
قلنا: ليس في الآية ما يدل على الوجوب، وإنما الآية [دالة] على كونهما مشروعين، فأما وجوب الجهر فلا يؤخذ من الآية بحال ولكنها تقتضي فعلها، فأما الوجوب فيؤخذ من دلالة آخرى غير الآية فبطل التعلق بظاهر الآية، وقد نجز غرضنا من أحكام البسلمة ونرجع إلى التفريع.
الفرع التاسع: المعوذتان من القرآن فمن قرأهما في صلاته أجزأه ذلك، ولم ينكر ابن مسعود أن جبريل نزل بهما ولا أنهما من القرأن وإنما أنكر كتبهما في المصحف وزعم أنهما عوذتان للحسن والحسين نزل بهما جبريل كما أنكر أبيٌّ كتبة الفاتحة في المصحف لظهورها واشتهارها، وفي الحديث عن الرسول أنه قال: ((تعوذوا بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما " )) (1).
ومن قرأ القرآن بالفارسية في صلاته لم تكن مجزية له سواء أحسن العربية أو لم يحسن؛ لأن القرآن إنما كان قرآناً لإعجازه ولم يكن معجزاً إلا لما اشتمل عليه من الفصاحة في ألفاظه وللبلاغة في معانية وإذا حولت ألفاظه إلى الفارسية بطل أعجازه وبطل كونه قرآناً، وإذا قرأ المصلي من وسط السورة فهل تستحب له البسملة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها تستحب بعد قراءة الفاتحة، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الفقهاء.
والحجة على هذا: هو أن هذه الآيات قائمة مقام السورة التي يجب قرأتها بعد الفاتحة ولابد فيها من البسملة، فهكذا هذه الآيات لابد فيها من ذكر البسملة لأنها قائمة مقامها في الوجوب.
المذهب الثاني: أنه لا يحتاج إلى ذكر البسملة إذا قرأ من وسط السورة وهذا هو رأي القُرَّاء وأهل الأداء.
__________
(1) أخرجه البيهقي وأبو داود في سننهما2/394،2/73، وهو في شعب الإيمان2/511، وفي الترغيب والترهيب2/251.
والحجة على هذا: ما روي من جهة الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا: ما كنا نفرق بين أوائل السور إلا بذكر البسملة، وفي هذا دلالة على أنه إذا قرأ من وسط السورة فلا بسملة هناك.
والمختار: ما قاله القُرَّاء؛ لأن الفقهاء هم أهل الفتوى والقُرَّاء فهم أهل الأداء وكلامهم فيما يتعلق بالقرآن وتأدية القرآن أرجح من غيرهم لاختصاصهم بالقرآن ومعرفة سننه وآدابه في القرآءات.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الآيات قائمة مقام السورة فتستحب فيها البسملة.
قلنا: إنما قامت مقامها في وجوب إجزاء القراءة في الصلاة، فأما في استحباب البسملة فلا، وإذا قرأ في صلاته من المصحف فذلك يكون على أوجه ثلاثة:
أولها: أن يكون محتاجاً إلى أن يرفع المصحف ويضعه في صلاته ويعد سطوره فهل تبطل صلاته أم لا؟ فالذي عليه أئمة العترة أنها تبطل؛ وحكي عن الشافعي وأبي يوسف ومحمد أنها لا تبطل.
والحجة على ما قلناه: هو أن ما هذا حاله عمل كثير فلهذا قضينا ببطلانها.
وثانيها: أن يكون حافظاً للقرآن والمصحف موضوع في مسجده، وهو ينظره ويقرأ منه لم تبطل صلاته، وهذا هو رأي أئمة العترة؛ ومحكي عن الشافعي ومحمد وأبي حنيفة، وهو الذي حصله الجصاص من مذهب أبي حنيفة.
والحجة على ما قلناه: هو أن ما هذا حاله عمل قليل، والنظر بمجرده لا يكون مفسداً للصلاة.
وثالثها: أن يكون القرآن مكتوباً في المحراب فينظر إلى آياته ويصلي بها فهل تصح صلاته أم لا؟ فالذي يأتي على رأي الأكثر من أئمة العترة أن صلاته لا تبطل، وهو محكي عن أبي الحسن الكرخي، وحكي عن السيد أبي طالب وأبي سعيد البرذعي(1)
أنها تبطل.
والحجة على ما قلناه: هو أن ما هذا حاله عمل قليل وهو مجرد النظر فلهذا قضينا بصحتها، ومن صلى بالتلقين من غيره بطلت صلاته؛ لأنه إنما قرأ تبعاً لغيره ولم يقرأه لصلاته فلهذا بطلت صلاته.
الفرع العاشر: في التأمين، وهو تفعيل واشتقاقه من قولهم أمَّن إذا قال: آمين. ويحكى فيه المد والقصر فإذا مد فهو بزيادة ألف وإذا قصر كان بحذفها وشاهد المقصور قوله:
تباعد مني فطحل وابن أمه ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وشاهد الممدود قوله:
يارب لا تَسْلُبَنِّي حبها أبداً ... ويرحم الله عبداً قال آمينا
فأما تشديد الميم فليس منه؛ لأنه بمعنى قاصدين قال الله تعالى: {وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ " }[المائدة:2]. ومعناه: اللهم استجب، وهل يكون سنة أو بدعة أو جائزاً؟ فيه مذاهب ثلاثة:
__________
(1) لم نجد في المصادر المتاحة البرذعي بكنية أبي سعيد، ولكن الراجح أن المقصود به أبو بكر البردعي لكونه معتزلياً من معاصري أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني الذي قرنه المؤلف به، واسمه: محمد بن عبد الله البردعي، توفي سنة 350هـ، وكان فقيهاً عالماً في الأصولين والفقه، والتفسير والحديث، جاء في ترجمة الزركلي له 6/224: قال ابن النديم: (رأيته في سنة 340هـ وكان بي آنساً، يظهر مذهب الاعتزال، وكان خارجياً وأحد فقهائهم، له عدة كتب منها: (المرشد) في الفقه، و(الجامع) في أصوله، و(الإمامة) و(الرد على من قال بالمتعة) و(تذكرة الغريب) فقه، و(الناسخ والمنسوخ في القرآن) و(نقض كتاب ابن الرواندي في الإمامة) اهـ. راجع (فهرست ابن النديم) 237 و(التراث) 476.
المذهب الأول: أنه بدعة تفسد الصلاة، وهذا هو قول أئمة العترة القاسمية ومن تابعهم.
والحجة على هذا: ما روى معاوية السلمي(1)
عن رسول الله قال: صليت معه صلاة فعطس رجل فقلت: يرحمك اللّه؛ فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وآثكل أماه أراكم تنظرون إليَّ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يُصَمِّتوني، فلما قضى رسول الله صلاته بأبي وأمي ما رأيت قبله ولا بعده أحسن تعليما منه والله ما كهرني ولا سبّني ولكنه قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتحميد وقراءة القرآن)).
والمذهب الثاني: أن التأمين جائز، وهذا هو شيء يحكى عن أحمد بن عيسى بن زيد.
والحجة على هذا: هو أن قولنا: آمين دعاء؛ لأن معناه: اللهم استجب. والدعاء غير ممنوع منه في الصلاة ولا في غيرها وقد قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]. وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}[الأعراف:55] ولم يفصل بين أن يكون في الصلاة أو خارج الصلاة، وفي هذا دلالة على جواز التأمين.
المذهب الثالث: أنه سنة يستحب فعله في الصلاة، وهذا هو رأي الفريقين الشافعية والحنفية.
__________
(1) هو معاوية بن الحكم السلمي كما سيأتي فيما بعد، صحابي من بني سليم حجازي، وهو كما في (الثقات 3/373): من قيس عيلان بن مضر. ا هـ، وفي (تهذيب الكمال) 28/170: روى عن النبي وعنه: عطاء بن يسار وابنه كثير بن معاوية، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
…قال ابن عبد البر: كان ينزل المدينة ويسكن في بني سليم، له عن النبي حديث واحد حسن في الكهانة والطيرة و الخط وفي تشميت العاطس في الصلاة جاهلاً، إلى أن قال: (روى له البخاري في القراءة خلف الإمام، وفي أفعال العباد، ومسلم وأبو داود والنسائي، وأورد في (الإصابة) 6/148 قصة الحديث الذي أورده المؤلف عن تحريم الكلام في الصلاة.
والحجة على هذا: ما روى وائل بن حجر عن رسول الله أنه لما فرغ من قراءة الفاتحة رفع بآمين صوته حتى سمع من يليه من الصف الأول، والسنة فيه عند الشافعي أن يجهر به إن كانت الصلاة مجهورة ويسر به إن كانت الصلاة إسراراً؛ لأنه تابع للقراءة فحاله يكون كحالها، وعن أبي حنيفة وأصحابه يؤمن الإمام والمأموم جميعاً ولكن يسران به وعن مالك روايتان:
الأولى منهما: لا يؤمن الإمام ولكن يؤمن المأموم.
والثانية: يخفيها الإمام ويكون تأمين الإمام سابقاً على تأمين المأموم؛ لقوله : ((إذا أمّن الإمام فأمّنوا )) (1).
فالفاء للتعقيب من غير مهلة، والسنة عندهم أن يكون التأمين بعد الفراغ من قراءة الفاتحة في الصلاة وغيرها لاشتمالها على طلب الهداية التي هي سبب في نيل السعادة الأخروية؛ ولقوله : ((إذا أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن بتأمين الإمام فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)).
قال الشافعي: فإن آخر التأمين عن موضعه لم يأت به فيما بعد لأنه سنة مرتبة بعد قوله: {وَلاَ الضَّالّينَ}. فإذا لم يأت بعدها ودخل في غيره فقد فات موضعه فلا وجه لقضائه كالتشهد الأول إذا فات موضعه لم يقض بعده، وحكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: الأخبار الدالة على الإذن بالتأمين فيها دلالة قوية على أن لكل مصلٍّ أن يدعو في صلاته بما شاء وأحب من المنافع الدينية والدنيوية مع ما ورد فيه من الأخبار الخاصة؛ لأن معنى التأمين اللهم افعل لي ما سألتك. فدل ذلك على جواز الدعاء فيها، والمستحب عندهم أن لا يصل التأمين بقوله: {ولا الضالين} بل يفصل بينهما بسكتة يسيرة ليعلم بها أن التأمين ليس من كلام الله.
__________
(1) هذا الحديث رواه الجماعة إلاَّ الترمذي عن أبي هريرة بلفظ: ((إذا أمّن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه))اهـ، المصدر السابق 188.
والمختار تفصيل نشير إليه، وهو جواز فعله في الصلاة لما ورد فيه من الأخبار، وكراهة فعله لما وقع عليه الإجماع من أكابر أهل البيت على منعه في الصلاة، وإن فعله المصلي لم يكن مفسداً للصلاة؛ لأنه مفعول لإصلاحها وما فعل لإصلاحها، فلا يكون مفسداً لها، والمنع من إفساد الصلاة بالتأمين محكي عن الناصر، وما ذكرناه من هذه الأخبار فهو توفقه بين الأدلة وجمع بينها كما ترى.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذهبوا إليه من استحبابه، فإذا حملنا الأخبار التي رووها على جواز فعله وحملنا ما وقع من إجماع الأكابر من أهل البيت على كراهة فعله وأنه إذا فعل لم يكن مفسداً للصلاة بطل ما زعموه من الإستحباب ولم يكن لهم مستروح إليه؛ لأن إجماعهم حجة مقبولة معمول عليه في المسائل القطعية فضلاً عن المسائل الإجتهادية، والأخبار تتطرق إليها الاحتمالات ومعرضة للتأويلات بخلاف الإجماع فإنه بعيد عن الاحتمال، وهذه الطريقة التي أشرنا إليها كافية في المنع من استحباب التأمين من غير حاجة إلى إيراد الطعن على عدالة الرواة الذين رووا أخبار التأمين؛ لأنهم كما رووه فقد رووا غيره من أخبار الشريعة فالوجه قبولها وحملها على ما ذكرناه.
الفرع الحادي عشر: والمستحب في قراءة القرآن أن يكون قراءة مرتلة من غير عجلة ولا تمطيط لكل قارئ في الصلاة وفي غيرها لقوله تعالى: {وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزمل:4]. والاستحباب في الصلاة أكثر؛ لأن القراءة واجبة في الصلاة دون غيرها، ويكره للإمام القراءة بالسور الطوال؛ لما روى أن معاذ بن جبل قرأ في صلاة مكتوبة سورة البقرة فقال له الرسول : ((أفتَّانٌ أنت يامعاذ صل بهم صلاة أضعفهم )) (1).
__________
(1) قال ابن بهران في تخريج أحاديث البحر1/251: هذه إحدى روايات البخاري ومسلم، وفي رواية لأبي داود فقال: ((يا معاذ لا تكن فتّاناً فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة والمسافر)) وفيه روايات أخرى، وفي معناه أحاديث.
ولا يكره ذلك في النوافل ولا في الصلاة المفروضة إذا كان منفرداً؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه )) والمئنة: القوة. ويستحب في الفرائض أن يقرأ فيها بسور المفصل، والمفصل من سورة محمد إلى سورة الناس؛ لأن الرسول كان يقرأ بها في صلواته. ويكره الجمع بين السورتين في الصلاة المكتوبة في ركعة واحدة لما ذكرناه من كراهة التطويل إذا كان إماماً. ويستحب للمصلي إذا كان في صلاة الفجر تطويل القراءة لقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً " }[الإسراء:78]. وأراد أن ملائكة النهار وملائكة الليل يشهدونه فيقرأ بطوال المفصل، وهو السبع الأخر من القرآن مثل قاف والحجرات وسورة الذاريات والطور والقمر. وإن كان في يوم الجمعة قرأ في الأولى: {الم تَنزِيلُ} السجدة وفي الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ }[الإنسان:1]؛ لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه كان يقرأ ذلك فيها يوم الجمعة(1)،
__________
(1) ومثله عن ابن عباس أن النبي كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح...إلخ، هكذا في روايتي ابن عباس وأبي هريرة.
فإن قرأ فيها أوساط المفصل وقصاره جاز ذلك نحو سورة كورت والبروج، لما روى عمرو بن حريث أنه قال كأني أسمع صوت رسول الله في صلاة الغداة: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ }[التكوير:14]. وروى رجل من جهينة أنه سمع رسول الله يقرأ في صلاة الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ}[الزلزلة:1]. وإن كان المصلي في صلاة الظهر فيستحب أن يقرأ شبهاً مما يقرأ في صلاة الصبح؛ لما روى أبو سعيد الخدري قال: حزرنا صلاة رسول الله فوجدنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية على قدر سورة (الجرز)(1) وحزرنا قيامه في الركعتين الأخريين منها على النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك(2)،
ومعنى قوله: حزرنا أي قدَّرنا، ويستحب أن يقرأ في صلاة المغرب بقصار المفصل؛ لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل، ويستحب أن يقرأ في صلاة العشاء بطوال المفصل مثل ما فعل في صلاة الظهر؛ لما روي عن الرسول أنه قرأ في صلاة العشاء الآخرة بسورة (الجمعة) و(المنافقين) فإن قرأ غيرهما جاز؛ لما روي عن الرسول أنه قرأ في العشاء الآخرة بـ{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}. {وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ}(3).
__________
(1) سورة الجرز هي السجدة، وآياتها 30 آية.
(2) هذه إحدى روايات مسلم، ولأبي داود والنسائي نحو من ذلك.
(3) جاء الحديث من حديثين: أحدهما عن البراء بن عازب أن النبي كان في سفر فصلى العشاء الآخرة فقرأ في الركعتين بـ: (التين والزيتون) فما سمعت أحسن صوتاً أو قراءة منه، هذه رواية الترمذي والنسائي، والآخر عن بريدة قال: كان رسول الله يقرأ في العشاء بـ (الشمس وضحاها)، ونحوها من السور، هذه رواية الترمذي، وللنسائي نحوه، (جواهر الأخبار)1/252.
وتجوز القراءة بغير هذه السور لما روي عن الرسول أنه قرأ في المغرب بسورة (الأعراف)(1)
وروى جبير بن مطعم(2)
أنه قرأ في صلاة المغرب بالطور(3)
وروت أم الفضل(4)
__________
(1) رواه النسائي عن عائشة بلفظ: أن النبي قرأ في المغرب بسورة الأعراف فرقها في الركعتين، قال الرباعي في (فتح الغفار)1/193: رواه النسائي بإسناد فيه بقية، وقد تابعه أبو حيوة، ويشهد بصحته ما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي من حديث زيد بن ثابت أن النبي قرأ في المغرب بطولى الطوليين،زاد أبو داود: قلت: وما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف.
(2) جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي، كنيته أبو سعيد، وكان من عظماء قريش في الجاهلية والإسلام معاً، كما جاء في (مشاهير علماء الأمصار)1/13، استقر بالمدينة ومات بها سنة59هـ وقيل:73هـ، وفي (تهذيب التهذيب) 2/56: قدم على النبي في فداء أسارى بدر، ثم أسلم بعد ذلك عام خيبر، وقيل: يوم الفتح، روى عن النبي ، وعنه: سليمان بن صرد وابناه محمد ونافع ابنا جبير، وسعيد بن المسيب وغيرهم، وروي أنه توفي سنة 59هـ عن ابن البرقي، وقال المدائني: سنة 58هـ.
(3) رواه الجماعة إلاَّ الترمذي.
(4) هي لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير الهلالية، زوجة العباس عم النبي وأم أولاده الرجال الستة النجباء، كما في (سير أعلام النبلاء) 2/314، وهي أخت أم المؤمنين ميمونة وخالة خالد بن الوليد، وأخت أسماء بنت عميس لأمها، جاء عنها في (الجرح والتعديل)9/465: روت عن النبي أحاديث، وروى عنها ابنها عبد الله بن عباس، وفي (تهذيب التهذيب)14/476: روت عن النبي وعنها ابناها عبد الله وتمام، ومولاها عمير بن الحارث، وأنس بن مالك، وآخرون.
…قال ابن عبد البر: يقال أنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكانت من المنجبات، وكان النبي يزورها.
…قال ابن حبان في (الصحابة): ماتت قبل زوجها العباس بن عبد المطلب في خلافة عثمان، وصلى عليها. ا هـ.
وروى ابن مسعود أنه قرأ فيها بـ{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}(1).
وروي عن رسول الله أنه خرج يوماً وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب فقرأ فيها بـ(المرسلات) فما صلاها حتى قبضه الله(2).
الفرع الثاني عشر: في حكم من يتعذر عليه قراءة القرآن.
اعلم أن كل من تتعذر عليه قراءة القرآن فله أحوال أربعة:
الحالة الأولى: أن تتعذر عليه قراءة الفاتحة وقراءة شيء من القرآن؛ فمن هذه حاله فهل يلزمه الإتيان بالذكر أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه يلزمه الإتيان بالذكر وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى رفاعة بن مالك عن رسول الله أنه قال: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله وليكبر فإن كان معه شيء من القرآن قرأ به وإن لم يكن معه شيء من القرآن فليحمد الله وليكبره)) (3).
المذهب الثاني: أنه لا يلزمه الإتيان بالذكر ويقوم ساكتاً وهذا رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أنه معذور في الإتيان بالفاتحة وقرآن معها لأنه لا يحسنها وقد قال : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها)). فأوجبها ولم يوجب الذكر عند تعذرهما فدل ذلك على أنهما غير واجبين أعني التكبير والتحميد،وأما القيام فهو فرض واجب لابد من الإتيان به فلهذا قلنا:يقوم ساكتاً.
__________
(1) وفيه عن ابن عمرقال: كان النبي يقرأ في المغرب: قل ياأيها الكافرون وقل هو الله أحد، رواه ابن ماجة، وقال في (الفتح): ظاهر إسناده الصحة، إلاَّ أنه معلول، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب، ا هـ. (فتح الغفار) 1/193.
(2) عن ابن عباس أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ المرسلات عرفاً، فقالت: يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله يقرأ بها في المغرب، رواه الجماعة إلا ابن ماجة، المصدر السابق.
(3) هذا طرف من حديث أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي، واللفظ له.
المذهب الثالث: أنه لا يلزمه الذكر ولا القيام، وهذا هو المحكي عن مالك.
والحجة على هذا: هو أن الذكر لا دلالة على وجوبه وقد عذر عن الإتيان بالذكر لما كان لا يحسنه، والقيام إنما يجب لأجل القراءة، فلما سقطت القراءة لا جرم كان القيام غير واجب لأجل تعذر القراءة.
والمختار: أن هذه المسألة غير منصوصة لأحد من أئمة العترة لكن الذي يأتي على أصولهم وجوب الإتيان بالذكر عند تعذر القراءة.
والحجة على هذا: ما روى عبدالله بن أبي أوفى أن رجلاً أتى الرسول فقال: إني لا أستطيع أن أحفظ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزيني في الصلاة! فقال: ((قل سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله))(1)
فهذه الكلمات الخمس قائمات مقام الفاتحة والسورة. وهل يلزم إتمامها بذكر آخر حتى تكمل عدتها بعدة الفاتحة سبع آيات أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يلزم إتمامها بذكر آخر؛ لأن الرجل لما قال: علمني ما يجزيني في الصلاة؟ فعلمه الرسول هذه الكلمات ولم يأمره بالزيادة فدل ذلك على أن الزيادة غير واجبة، وقد روي أن الرسول لما فرغ من تعليمه هذه الكلمات قال الرجل: هذا لله فمالي؟ فقال الرسول قل: ((اللهم ارحمني وعافني وارزقني ))(2).
فإن لم يحسن شيئاً من القرآن ولا من الذكر وجب عليه القيام بقدر قراءة الفاتحة ويجب عليه أن يتعلم.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قال أبو حنيفة: يقوم ساكتاً.
قلنا: قد دللنا على وجوب الذكر عوضاً عن القراءة بما لا مدفع له فلا وجه للقيام بالسكوت لما ذكرناه.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدار قطني، قال في (فتح الغفار)1/190 ولفظه: فقال: إني لا أستطيع أن أتعلم القرآن فعلمني ما يجزيني في صلاتي، فذكره، وقال الحافظ في (بلوغ المرام): الحديث صححه ابن حبان والدار قطني والحاكم.
…قال في (الخلاصة): وهو كما قال، وصححه ابن السكن. اهـ.
(2) هذا داخل ضمن الحديث السالف.
قال مالك: لا يجب الذكر ولا القيام.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد دللنا على وجوب الذكر عند تعذر القراءة فلا وجه لإعادته.
وأما ثانياً: فلأنه إذا تعذرت القراءة لأنها غير ممكنة فلم يتعذر الذكر لإمكانه فإذا كان الذكر غير واجب كما زعمت فلم يسقط وجوب القيام وهما فرضان أحدهما مخالف للآخر.
الحالة الثانية: أن يكون محسناً لنصف الفاتحة وإذا كان كذلك نظرت، فإن كان محسناً للنصف الأول منها فإنه يأتي بقراءته أولاً ثم يأتي بالبدل من الذكر بعده، وإن كان يحسن النصف الآخر منها فإنه يأتي بالبدل أولاً ثم يأتي بالنصف الآخر الذي يحسنه؛ لأن الترتيب شرط في القراءة، ولو تعلم الفاتحة في حالة إتيانه بالبدل فإنه يترك البدل ويشتغل بقراءة الفاتحة، ولو تعلم الفاتحة بعد فراغه من البدل فإنه لا يلزمه قراءة الفاتحة لأنه قد أتى ببدلها.
الحالة الثالثة: أن يكون محسناً لآية من الفاتحة فيلزمه الإتيان بها لأنه قادر عليها ويأتي بعدها من القرآن بقدر عددها إن كان يحسنه فإن لم يحسنه أتى بقدرها من الذكر الذي ذكرناه؛ لأن هذه الآية قد سقط فرضها بقراءتها ويأتي بغيرها بدلاً منها كما لو فقد بعض الماء فإنه يغتسل به(1)
ثم يتيمم.
الحالة الرابعة: ألا يحسن قراءة الفاتحة فإذا كان الأمر كذلك نظرت فإن كان يحسن غيرها من القرآن فإنه يقرأ سبع آيات من غيرها بقدر عددها سواء كانت من سورة واحدة أو سور وإن لم يحسن شيئاً من القرآن فليأت بالذكر الذي وصفناه عوضاً عن القرآن. فحصل من مجموع ما ذكرناه أنه إن كان يحسن الفاتحة وجب عليه قراءتها وإن لم يحسن الفاتحة وأحسن شيئاً من القرآن وجب عليه [قراءته] وإن لم يحسن شيئاً من القرآن وجب عليه الذكر عوضاً عن القرآن.
__________
(1) المقصود: بما بقي من الماء كما هو و اضح، إلا أن عودة الضمير إلى كلمة بعض الماء تحتاج إلى تنبيه.
الفرع الثالث عشر: وهل يقوم تفسير القرآن بالعربية أو بالفارسية مقام القراءة ويكون مجزياً في الصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك لا يجزي، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي ومالك وعامة الفقهاء.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20] وقوله : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها)).
المذهب الثاني: أن المصلي بالخيار إن شاء قرأ القرآن وإن شاء قرأ معنى القرآن وتفسيره بالعربية إن شاء أو بالفارسية أو غير ذلك سواء كان يحسن قراءة القرآن أو لا يحسنها، وهذا هو قول أي حنيفة، واختلف أصحابه في المصلي إذا قرأ معنى القرآن وتفسيره هل يكون قارئاً للقرآم أم لا؟ فمنهم من قال: إذا قرأ معنى القرآن فقد قرأ القرآن وعلى هذا يناظرون ويحتجون. ومنهم من قال: إذا قرأ معنى القرآن فلم يقرأ القرآن وإنما يكون في الحكم يقوم مقامه، وقال محمد وأبو يوسف: إن كان المصلي يحسن القرآن لم يجز له أن يقرأ معنى القرآن وإن كان لا يحسن القرآن جاز أن يقرأ معنى القرآن ويعتبر عن القرآن بعبارة كما قالا في التكبير.
والحجة على هذا: هو أن المقصود من القرآن معانية دون ألفاظه فلا عبرة بها، فإذا حصَّل المصلي معاني القرآن وتفسيره سواء كانت بالعربية أو بغيرها جازت صلاته.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من علماء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه عنهم؛ ونزيد هاهنا وهو قوله : ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)). وقوله : ((لا صلاة إلا بقرآن )).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: المقصود من القرآن معانيه فإذا قرأ القرآن بمعناه كانت صلاته مجزية.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد دللنا على وجوب قراءة القرآن في الصلاة بالأخبار التي رويناها فلا وجه لإعادتها.
وأما ثانياً: فلأنه لا يمتنع أن يكون المقصود من القرآن هو المعنى والعبارة خاصة والباب باب العبادة فلا يجوز الإخلال باللفظ.
ومن وجه آخر: وهو أن المقصود بالقرآن إنما هو بيان إعجازه والإعجاز إنما يتعلق بألفاظه ومعانيه فيحصل من الألفاظ الفصاحة ويحصل من المعاني البلاغة؛ لأن الإعجاز حاصل بهما فلهذا لم يكن بد من إحراز لفظه ومعناه، وإذا كان الأمر هكذا بطل التعويل على المعاني بانفرادها كما قاله أصحاب أبي حنيفة، والله أعلم.
الفرع الرابع عشر: الركعتان الأخريان من الظهر والعصر والعشاء والركعة الثالثة من المغرب لا خلاف بين علماء العترة في كون قراءة الفاتحة والتسبيح مشروعة فيهما، خلافاً للشافعي فإنه أوجب القراءة فيهما وقد قدمنا الكلام عليه فيقرأ الفاتحة فيهما على الانفراد. والتسبيح أن يقال فيهما: سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر. ولكن الخلاف في أن القراءة فيهما أفضل أو التسبيح؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن التسبيح فيهما هو الأفضل، وهذا هو رأي الإمامين القاسم والهادي.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه كان يسبح فيما ذكرناه من هذه الركعات، وما هذا حاله فليس للاجتهاد فيه مجرى وإنما طريقه الأخذ من رسول الله .
المذهب الثاني: أن القراءة أفضل، وهذا هو رأي الإمامين الناصر والمؤيد بالله؛ ومحكي عن أبي حنيفة. فأما الشافعي فإنه يقول بوجوب القراءة في الركعتين الأخريين.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة معها وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب لا غير.
والمختار: ما قاله الناصر والمؤيد بالله من أفضلية القراءة في الركعتين.
والحجة: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو أن القرآن فضله ظاهر في كل موضع على غيره من سائر الكلامات(1)
__________
(1) هكذا في الأصل مع أنه اسم جنس لا يجمع بحسب القاعدة اللغوية، والله أعلم.
وسائر أنواع الذكر فلهذا كان أفضل من التسبيح هاهنا.
ومن وجه آخر: وهو أن التسبيح إذا كان مسنوناً فيهما كانت القراءة أفضل بأن تكون مسنونة فيهما.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي ذلك عن زيد بن علي عن علي" أنه كان يسبح في الركعتين الأخريين فدل ذلك على الأفضلية فيهما؛ لأنه لا يفعل لنفسه إلا ما كان أفضل وأدخل في الثواب والأجر.
قلنا: ليس كلامنا في الجواز فإنهما أعني القراءة والتسبيح مستويان في الجواز وإنما كلامنا في طلب الأفضل؛ والمعلوم أن القرآن أفضل من كل كلام؛ لأنه كلام الله وله من الشرف على غيره من سائر التسابيح والتهاليل[ما لا يخفى] فلهذا كان مستبداً بالأفضلية. فأما الشافعي فله قولان، والأصح منهما أنه يقرأ فيهما فاتحة الكتاب وشيئاً من القرآن فيكونان كالأوليين في تمام الذكر، وهذا قول لم يؤثر عن غيره ولا قال به قائل من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أيامه وزمنه.
دقيقة: اعلم أن القراءة عبارة عن هذه الأحرف المسموعة والأصوات المقطعة، فمتى حصلت على هذا التأليف والنظام المخصوص فهي قراءة وأجزت في الصلاة، فإن قرأ بقلبه أو أمرَّ الأحرف على فكرته من غير نطق بها لم تكن مجزية له، وإن أمرها على لسانه ولم يسمعها لشغل في قلبه كانت مجزية. وقد نجز غرضنا من الكلام في القراءة.
---
القول في الركوع
وهو واجب بنص الكتاب كقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا }[الحج:77]. ومن جهة السنة: كقوله : ((ثم اركع حتى تطمئن راكعاً )). والإجماع منعقد على وجوبه، وهو معلوم بالضرورة من دين صاحب الشريعة صلوات الله عليه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: وأقل ما يجزئ من الركوع أن ينحني المصلي إلى حد لو أراد أن يقبض بيديه على ركبتيه أمكنه ذلك ويطمئن بحيث ينفصل هوية من ارتفاعه، وتحقيقه أن يلبث بعد أن بلغ حد الإجزاء لبثاً ما هذا أقله، وأما الأكمل من الركوع فهو أن يقبض على ركبتيه ويفرق بين أصابعه ويجافي مرفقيه عن جنبيه ويمد ظهره وعنقه ولا يقبع رأسه ولا يخفضه ولا يطبق يديه بين ركبتيه فإن رفع رأسه من الركوع وشك هل بلغ ركوعه إلى حد الإجزاء لم يجزه وعليه الرجوع إلى حد الإجزاء لأن الأصل هو بقاء الفرض في ذمته فلا يسقط إلا بيقين أو غالب ظن. وهل تجب الطمأنينة في الركوع أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي في خبر الأعرابي الذي أساء في صلاته فقال له الرسول : ((ثم اركع حتى تطمئن راكعاً)) إلى أن قال في آخر صلاته: ((فإذا قعدت فقد تمت صلاتك)).
المذهب الثاني: أنها غير واجبة، وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن الواجب إنما هو الانحناء لا غير بدليل قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا " }. ومهما حصل الانحناء فإنه يسمى راكعاً وفي هذا حصول المقصود الشرعي.
والمختار: ما اعتمده علماء العترة ومن تابعهم، وهو وجوب الطمأنينة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى أبو مسعود البدري عنه أنه قال: ((لا يقبل الله صلاة رجل حتى يقيم صلبه في ركوعه " وسجوده)) (1)؛
ولأن الرسول كان إذا ركع اطمأن في ركوعه، وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الواجب إنما هو الانحناء بدليل قوله: {ارْكَعُوا}. وهو يسمى راكعاً بانحنائه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما يأمر بالركوع الشرعي، والركوع الشرعي هو ما بيناه بدليل قوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
وأما ثانياً: فلأن الطمأنينة غير الإنحناء، والأمر إنما وقع بالطمأنينة؛ لأنه قال: ((ثم اركع حتى تطمئن راكعاً)). فالأمر خاص بالطمأنينة فيجب حصولها وهو مطلوبنا.
الفرع الثاني: هل يستحب تسبيح الركوع أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه مستحب غير واجب، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، وهو قول عامة الفقهاء.
والحجة على هذا: قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ولم يأمر بتسبيح في الركوع؛ ولأن الأصل هو عدم الوجوب فلا يشغل الذمة بالوجوب إلا بدليل شرعي ولا دلالة على ذلك.
المذهب الثاني: أنه واجب وهذا هو المحكي عن إسحاق ومحمد بن خزيمة وداود وطبقته من أهل الظاهر، ومحكي عن أحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً " }[الأحزاب:42]. ولا خلاف أن التسبيح لا يجب في غير الصلاة فيجب أن يكون المراد به فيها.
والمختار: ما قاله علماء العترة ومن تابعهم.
__________
(1) رواه الخمسة وصححه الترمذي، ومثله عن علي بن شيبان، رواه أحمد وابن ماجة بإسناد رجاله ثقات، وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي بلفظ: ((لا تجزئ صلاة أحدكم حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود)) هـ.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول أنه قال للذي علمه الصلاة: ((ثم اركع واسجد )). ولم يأمر بالتسبيح، وفي هذا دلالة على كونه غير واجب، لأنه في محل التعليم ولو جاز تأخير الخطاب بالبيان عن وقت الخطاب بالمجمل فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وهذا موضع الحاجة ولو كان واجباً لذكره.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ} وهذا أمر وظاهر الأمر للوجوب.
قلنا: لا ننكر أن ظاهر الأمر للوجوب ولكنا نخصه بالأدلة التي ذكرناها جمعاً بين الأدلة وتوفقة بينها لئلا تتاقض وهذه طريقة مرضية.
الفرع الثالث: في بيان أحكام الركوع. ويشتمل على أحكام:
الحكم الأول: هل يستحب التكبير في كل رفع وخفض أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يستحب التكبير في كل خفض ورفع وهذا هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عن الرسول أنه كان يكبر في كل رفع وخفض.
المذهب الثاني: أنه لا يستحب التكبير في كل ركوع ولا سجود، وهذا هو المحكي عن عمر بن عبدالعزيز وسعيد بن جبير.
والحجة على هذا: هو أن جميع ما ورد من الأمر بالتكبير فإنه محمول على تكبيرة الافتتاح فأما ما عداها فلم تدل عليه دلالة فلهذا قصرنا التكبير عليه.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وعامة الفقهاء من استحباب التكبير في الرفع والخفض.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه[ ] كان يكبر في كل رفع وخفض وكذلك أمير المؤمنين وأبو بكر وعمر، وروى عكرمة قال: صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة فأتيت ابن عباس فقلت: إني صليت خلف شيخ أحمق فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة! فقال: ثكلتك أمك تلك صلاة أبي القاسم .
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: كلما ورد من الأخبار دال على التكبير فإنه محمول على تكبيرة الافتتاح من غير زيادة.
قلنا: ما رواه زيد بن علي وابن مسعود من أنه كان يكبر في كل رفع وخفض يبطل ما قالوه، وقد تكررت الأخبار على استحبابها فلهذا قضينا بها.
الحكم الثاني: التطبيق في الركوع ليس مشروعاً في الركوع وصفته أن يطبق يديه ويجعلهما بين ركبتيه عند الركوع وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير مشروع في الركوع، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن فقهاء الأمة.
والحجة على هذا: ما روى أبو حميد(1)
في وصف صلاة رسول الله بمحضر من الصحابة فذكر فيها وضع اليدين على الركبتين في حال الركوع فقالوا له: صدقت، وأقرُّوه على ذلك(2).
__________
(1) اختلف في اسمه فقيل: عبد الرحمن بن المنذر من بني ساعدة بن كعب كما في (مشاهير الأنصار)1/20، وفي (تهذيب الكمال)33/264 و(الاستيعاب)4/633، قيل: اسمه: المنذر بن سعد بن عمرو بن سعد بن المنذر بن سعد الساعدي الخزرجي الأنصاري، ويقال: إنه عم سهل بن سعد الساعدي، كان من صالحي الأنصار وقرائهم، وممن واضب على حفظ الصلاة عن النبي روى عنه من الصحابة جابر بن عبد الله، ومن التابعين عروة بن الزبير، وعمرو بن سليم الزرقي، والعباس بن سهل بن سعد، وخارجة بن زيد بن ثابت، توفي بالمدينة في آخر حكم معاوية.
(2) هذا طرف من حديث طويل أورده ابن بهران في (الجواهر)1/253، وقال: هذه إحدى روايات أبي داود.
المذهب الثاني: أن التطبيق مشروع في الركوع وهذا هو رأي ابن مسعود؛ وروى عنه صاحباه الأسود بن يزيد(1)
وعبدالرحمن بن الأسود(2)
قالا: كان يطبق يديه ويجعلهما بين ركبتيه.
والحجة على هذا: هو أن الصحابي إذا فعل فعلاً لا مدخل للاجتهاد فيه، ففيه دلالة على أنه سمعه من جهة الرسول ورءاه يفعله، فلما فعل ابن مسعود ما ذكرناه دل على أنه فعله الرسول .
والمختار: ما عليه علماء العترة من كراهة ذلك في الركوع وأنه غير مشروع فيه.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روي عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص(3)
__________
(1) الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، أبو عمرو، قال في (الجرح والتعديل)2/291: روى عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وروى عنه ابنه عبد الرحمن بن الأسود وإبراهيم النخعي، وفي (الثقات)1/229: تابعي ثقة، كان من أصحاب عبد الله الذين يقرؤون ويفتون، وفي (تهذيب التهذيب)1-299: روى عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وبلال وعائشة وغيرهم، وعنه: ابنه عبد الرحمن وأخوه عبد الرحمن وأبو بردة بن أبي موسى، توفي الأسود بن يزيد في الكوفة سنة 75هـ، وقيل:سنة 74هـ.
(2) عبدالرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي،أبو حفص، أدرك عمر وروى عن أبيه وعائشة وأنس وغيرهم، وعنه: أبو إسحاق السبيعي وأبو إسحاق الشيباني، ومالك بن مغول وغيره.
…قال ابن معين والنسائي والعجلي وابن خراش: ثقة، مات قبل المائة هجرية، وذكره ابن حبان في (الثقات)، انظر: (تهذيب التهذيب) 6/127.
(3) مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري، روى عن أبيه وعلي وطلحة وعكرمة وعدي بن حاتم، وابن عمر وغيرهم.
…قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب)10/145: وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقة كثير الحديث، وذكره ابن حبان في (الثقات)، وروي عن العجلي: تابعي ثقة، وقال البخاري في (الصغير): لم يسمع من عكرمة، توفي سنة 103هـ، اهـ، وفي (تهذيب الكمال) 28/24: روى عنه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، وابن أخيه إسماعيل بن محمد بن سعد والزبير بن عدي وغيرهم، وذكر آخرين.
قال: صليت إلى جنب أبي فطبقت يدي وجعلتهما بين ركبتي فضرب أبي في يده فلما انصرف قال: يابني إنا كنا نفعل هذا فنهينا عنه وأمرنا بأن نضرب بالأكف على الركب. وفي هذا دلالة على كونه منسوخاً.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إذا فعل الصحابي فعلاً دل على كونه من جهة الرسول في باب العبادات وفي هذا دلالة على أن التطبيق سنة لما فعله ابن مسعود.
قلنا: لا ننكر أن ابن مسعود قد فعله، ولكنا دللنا على كونه منسوخاً كما روى مصعب عن أبيه ففيه دلالة على ما قلناه من نسخه.
الحكم الثالث: في صفة التسبيح في الركوع، وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن الأفضل في صفة تسبيح الركوع (سبحان الله العظيم وبحمده) وهذا هو رأي الصادق والقاسم والهادي.
والحجة على هذا: ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه عن رسول الله أنه قال: ((من صلى ركعتين يقرأ في إحداهما {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجا}[الفرقان:61] إلى آخر السورة، ويقرأ في الثانية صدر سورة المؤمنين إلى قوله: {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} ويقول في ركوعه: سبحان الله العظيم وبحمده أعطاه الله كذا وكذا)) (1).
فصح بهذا أن لهذا التسبيح مزيَّة على غيره في الفضل والكمال.
المذهب الثاني: أن الأفضل أن يقال فيه: (سبحان ربي العظيم) وهذا هو رأي زيد بن علي وأحمد بن عيسى والمؤيد بالله؛ وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روى عقبة بن عامر الجهني أنه لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }[الواقعة:74] قال الرسول : ((اجعلوها في ركوعكم))(2).
__________
(1) رواه ابن بهران في (الجواهر) 1/255، كما حكاه في (أصول الأحكام) عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي.
(2) تمامه: ((...فلما نزلت {سَبِّحْ اسْم رَبكَ الأَعْلَى} قال : ((اجعلوها في سجودكم)) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وابن حبان في صحيحه.
وهذا تصريح بما ذكرناه في صفة تسبيح الركوع، وكل من قال: سبحان الله العظيم في الركوع زاد قوله وبحمده، وكل من قال: سبحان ربي العظيم حذف هذه الزيادة.
المذهب الثالث: مروي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يقول في ركوعه مع تسبيح الركوع الذي رويناه عنه: اللهم لك ركعت ولك أسلمت وبك آمنت، أنت ربي خشع لك سمعي وبصري وعظامي وشعري وبشري وما استقلت به قدمي لله رب العالمين(1).
المذهب الرابع: مروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقول في ركوعه: ((سبوح قدوس رب الملائكة والروح )) (2).
فهذه المذاهب كلها قد نقلت عن الرسول لكن الأفضل منها ما هو، والمختار من هذه الأقاويل: وهو أن الأكمل والأفضل ما حكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الركوع فإنه لا مجال للاجتهاد فيما ذكره وإنما أخذه من عين صافية من جهة الرسول فإنه روي عنه أنه قال:علمني رسول الله ألف باب فانفتح لي من كل باب ألف باب؛ ولأنه كان في حجر رسول الله وكان يعلمه العلم، وهم يقولون: العلم في حال الصغر كالنقش في الحجر، وكان الرسول في غاية الحرص على تعليمه وكان في غاية القبول لما ألقي إليه من جهة الرسول.
الانتصار: وهذه المذاهب كلها منقولة من جهة الرسول ولا خلاف في جوازها ولكن الشأن كله في طلب الأفضل منها وقد أوضحناه.
الحكم الرابع: في عدد تسبيحات الركوع وفيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن أدناه في الكمال ثلاث مرات وتجوز الزيادة على الثلاث فتكون خمساً أو سبعاً أو تسعاً ولا يزاد على ذلك، وهذا هو رأي الصادق والباقر والناصر ولا يزاد على هذه الأوتار الثلاثة.
__________
(1) أخرجه مسلم والترمذي.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان يقول في ركوعه وسجوده: ((سبوح قدوس رب الملائكة والروح)).
المذهب الثاني: أنه لا يتجاوز على الخمسة، وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن سفيان الثوري وحكي عن الحسن البصري أنه لا يجاوز الخمسة والسبعة.
المذهب الثالث: أنه لا يزاد على الثلاثة، وهذا هو رأي زيد بن علي ومحكي عن القاسم.
والمختار في الاستحباب: هو الاقتصار على الثلاث من غير حاجة إلى الزيادة بهذه الأوتار التي رويناها عن الأئمة والفقهاء؛ لما روى ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعه وذلك أدناه))(1).
الانتصار: اعلم أن الذي وردت به الأحاديث عن الرسول أنه لا يزاد في تسبيح الركوع على ثلاث مرات وإنما زاد من زاد في هذه الأوتار التي ذكرناها من الخمس والسبع والتسع لأغراض تعرض إما لإدراك الرجل للإمام في حال الركوع وإما لأن يستوفي المأموم إكمال الثلاث خلف الإمام إلى غير ذلك من الأغراض ولا يستحب النقصان من الثلاث من غير عذر.
__________
(1) بقيته: ((...وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه)) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة.
…قال في (فتح الغفار)1/198: وقد أعله البخاري وغيره بالإرسال، وأورد ما جاء في (التلخيص) من رواية أبي داود عن حديث عقبة بن عامر، وفيه: فكان رسول الله إذا لاكع قال: ((سبحان ربي العظيم وبحمده)) ثلاث مرات، وإذا سجد قال: ((سبحان ربي الأعلى)) ثلاث مرات.
…قال أبو داود: وهذه الزيادة [وبحمده] نخاف أن لا تكون محفوظة.
الحكم الخامس: في بيان معنى تسبيح الركوع، ومعنى قولنا: سبحان اللّه: البراءة والتنزيه عما لا يليق بذاته من العجز والجهل وعما لا يليق بأفعاله من الظلم والكذب والجور وإخلاف الوعد وعقوبة من لا يستحق العقوبة وترك الثواب لمن يستحقه. ومعنى الرب هو المالك، ولهذا رب الدار ورب العبد ورب الإبل لمن يملكها؛ لأن الله تعالى هو المالك للخلق والمدبر لأمورهم كلها. ومعنى العظيم: المختص بالكبرياء والعظمة على الإطلاق حتى لا قدر من العظمة إلا وهو مستحق له في السموات والأرض. ومعنى قولنا: الله -على الرواية الثانية- أن هذا الإسم هو المختص بذات الله تعالى، وباقي الصفات كلها تابعة لها من قولنا: الخالق البارئ المصور القدوس الحكيم، وهو الدال على الوحدانية والمنفرد بالإلهية واشتقاقه من قولهم إله إذا تحيَّر؛ لأن العقول والأحلام كلها متحيرة في كنه ذاته؛ أو من قولهم لأهل العروش إذا احتجبت؛ لأن الله تعالى محتجب عن جميع الإدراكات كلها فهذه فائدة قولنا في الركوع: سبحان الله العظيم أو سبحان ربي العظيم، ومعنى قولنا: وبحمده في الرواية الثانية: أي أنه تعالى يستحق البراءة والتنزه والحمد والمدح كما قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ }[غافر:7]. وقوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }[البقرة:30]. أي نمدحك بما تستحق من الممادح ونحمدك على ما تستحق من النعم.
الحكم السادس: والمستحب في حال القيام سكتتان:
فالسكتة الأولى: إذا فرغ من تكبيرة الافتتاح سكت سكتة خفيفة قبل القراءة.
والسكتة الثانية: بعد القراءة قبل تكبير الركوع لما روى سمرة بن جندب أن الرسول كان يسكت سكتة إذا افتتح الصلاة بالتكبير قبل القراءة وسكتة أخرى إذا فرغ من القراءة فأنكر عليه عمران بن حصين هذه الرواية فكتبوا بذلك إلى أبي بن كعب فقال: صدق سمرة بن جندب، ويستحب أن يكبر للركوع فيبتدي بالتكبير قائماً ويمذ تكبيره حتى يكون انقضاؤه مع تمام ركوعه؛ لأن التكبير هيئة للركن فلهذا كان متصلاً به.
الحكم السابع: وإذا أراد الرجل أن يركع فركع حتى بلغت يداه إلى ركبتيه فأراد أن يرفع رأسه فسقط على وجهه أجزأه ركوعه؛ لأنه قد وفاه إلى حده وكان عليه أن ينتصب قائماً ثم يهوي ساجداً من غير استئناف ركوع، وتكره القراءة في حال الركوع لما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه أن الرسول : ((نهى عن لبس القسي والمعصفر وعن التختم بالذهب وعن القراءة في الركوع))(1).
القول في الاعتدال من الركوع: ثم يرفع رأسه من الركوع ويعتدل، وهل يكون الاعتدال واجباً أو مستحباً مسنوناً؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي وأحد الروايتين عن مالك.
والحجة على هذا: قوله لمن علمه الصلاة: ((ثم ارفع حتى تعتدل قائماً )).
المذهب الثاني:أن الاعتدال غير واجب، وهذا هو رأي أبي حنيفة إحدى الروايتين عن مالك.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77]. ولم يأمر بالاعتدال وإنما أمر بمطلق الركوع والسجود.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم.
__________
(1) هذا الحديث يفهم من روايته أنه حديثان كلاهما عن علي الأول: جاء في (فتح الغفار)1/138، قال: نهى النبي عن لبس القسي والمعصفر، أخرجه الجماعة إلاَّ البخاري، والثاني: عن علي قال: ((نهاني رسول الله أن أقرأ القران وأنا راكع أو ساجد، ولا أقول: نهاكم)) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي.
…قال في (الجواهر)1/257: وفيه روايات أخر. اهـ.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى أبو مسعود البدري عن النبي أنه قال: ((لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه " )) (1).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77] ولم يأمر بالاعتدال.
قلنا: الآية دالة على وجوب الركوع والسجود على الإطلاق واحد، وأخذنا وجوب الاعتدال من جهة الخبر. وإذا كان الأمر كما قلناه وجب العمل على ما دلاَّ عليه من غير مخالفة بينهما.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: اعلم أن الاعتدال رجوع كل عضو إلى مستقره عند القيام من الركوع وأكمله الطمأنينة ورجوع كل عضو إلى محله ومستقره وروي عن حذيفة بن اليمان [أنه] رأى رجلاً يصلي ولم يرفع رأسه من الركوع بل انحط من ركوعه فقال: مذ كم تصلي هذه الصلاة؟ فقال: منذ ثلاثين سنة. فقال: ما صليت منذ ثلاثين سنة. ولا مخالف له من الصحابة فجرى مجرى الإجماع، فإذا ثبت هذا [فما] الذكر الذي يستحب له عند رفع رأسه من الركوع فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن يقول: إذا كان إماماً أو منفرداً سمع الله لمن حمده. والمأموم يقول: ربنا لك الحمد. وهذا هو رأي القاسم والهادي وإحدى الروايتين عن الناصر ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) (2).
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) جاء في حاشية الأصل ما لفظه: ليس في حديث أبي هريرة: ((...وما تأخر...) وفيه بعد: ((فقولوا))((اللهم...)) وليس فيه ((غفر الله...)) وإنما ((...غفر له...)) والحديث مخرج في الصحيحين، ورواه الجماعة إلا ابن ماجة.
ووجه الاستدلال من الخبر: هو أن الرسول جعل لكل واحد من الإمام والمأموم وظيفة من الذكر ينفرد بها أحدهما دون الآخر والباب باب عبادة فيجب الاحتكام لقوله وهو في موضع التعليم.
المذهب الثاني: أن الإمام والمنفرد يجمعان بينهما والمأموم يقتصر على قوله: سمع الله لمن حمده. وهذا هو القول المشهور عن الناصر وهو محكي عن زيد بن علي وأبي يوسف ومحمد.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول أنه كان يقول إذا رفع رأسه من الركوع: ((سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد " )) (1). وكان أبو هريرة يقول والذي نفسي بيده إن صلاة رسول الله كانت هكذا حتى فارق الدنيا، وعن عبدالله بن أبي أوفى، كان رسول الله إذا رفع رأسه من الركوع يقول: ((سمع الله لمن حمده " اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد))(2).
وعن أمير المؤمنين أنه كان يقول: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد.
المذهب الثالث: أن الإمام يجمع بينهما والمأموم يقتصر على قوله: ربنا لك الحمد. وحده من غير زيادة، وهذا محكي عن الأوزاعي وسفيان الثوري.
والحجة على أن الإمام يجمع بينهما: ما جاء في حديث أبي هريرة أن الرسول كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: ((سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد)). وروي: ((اللهم ربنا لك الحمد)). وروي بالواو أيضاً: ((ربنا ولك الحمد)) (3).
__________
(1) أخرجه النسائي.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود.
(3) جاء بالواو في: ربنا ولك الحمد في أحاديث منها عن علي قال: كان النبي إذا رفع رأسه من الركوع قال: ((سمع الله لمن حمده ربنا ولك ا لحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد)) أخرجه الترمذي.
…وعن أنس أن الرسول قال: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد)) متفق علي.
والحجة على أن المأموم يقتصر على قوله ربنا لك الحمد: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده " فقولوا ربنا ولك الحمد)) (1).
المذهب الرابع: أن كل مصل فإنه يجمع بين قولنا: سمع الله لمن حمده. وبين قولنا: ربنا لك الحمد. إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً وهذا هو رأي الشافعي فإن المستحب عنده إذا استوى المصلي قائماً من ركوعه أن يقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. وإن قال:ربنا ولك الحمد ما يقوله العبد حق وكلنا لك عبد. وإن قال: اللهم ربنا لك الحمد والحمد لربنا. أو قال: من حمدالله سمع له، جاز ذلك لأن معنى الجميع واحد إلا أن الأولى أن يأتي بالأول لما روى أبو سعيد الخدري أن الرسول كان يقول ذاك، ومعنى قوله سمع الله لمن حمده أي تقبل الله منه حمده وأجاب حمده ومعنى قوله: لا ينفع ذا الجد منك الجد أي لا ينفع ذا العظمة منك العظمة لأن العظمة يعبر عنها بالجد كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَاِ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً }[الجن:3]. أي عظمته. وقيل في معناه: لا ينفع ذا الغنى منك غناه والأول أقرب وأحق.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه كان يقول ذلك وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
والمختار: ما رواه الترمذي في صحيحه عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يقول بعد فراغه من تسبيح الركوع في حال قيامه بعد قوله: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد. وإنما كان هذا مختاراً لأن أمير المؤمنين رواه عن الرسول وروايته لا يشابهها في القوة رواية غيره لما فيها من مزيد القوة والوثاقة.
__________
(1) سبق آنفاً.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه وما جعلوه عمدة لهم فيما ذهبوا إليه، فإنما قرروه على سنن منقولة وأخبار مروية عن الرسول لكنها أخبار معرَّضة للإحتمال يمكن تأويلها على ما خترناه لكن ما اخترناه أصرح بالغرض وأتم للمطلوب.
قالوا: روى أبو هريرة عن الرسول : ((إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد)) فجعل لكل واحد من الإمام والمأموم ذكراً ينفرد به من غير زيادة على ذلك.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نقول بموجب الخبر فإنا نستحب للإمام أن يقول: سمع الله لمن حمده ويضم إليه ربنا لك الحمد، كما هو ظاهر الخبر من غير مخالفة.
وأما ثانياً: فلأن خبرنا دال على الزيادة وهي مقبولة من العدل لما فيها من مزيد التعظيم وملازمة الحال فلهذا كانت أحق بالقبول.
قالوا: الإمام والمنفرد يجمعان بينهما؛ والمأموم يقتصر على قوله: سمع الله لمن حمده.
قلنا: المشهور أن المشروع في التسميع إنما هو في حق الإمام والمنفرد فأما المؤتم فإن المستحب في حقه إنما هو التحميد لا غير والزيادة التي ذكرناها مشروعة في [حق] الإمام فيأتي بالتسميع والتحميد معاً. ويزيد تلك الزيادة التي رويناها.
قالوا: كل مصلٍ فإنه يجمع بين التحميد والتسميع إماماً كان أو منفرداً أو مأموماً كما أثر عن الشافعي.
قلنا: لسنا ننكر الجواز وإنما كلامنا في طلب الأفضل ولم يرد الجمع بين التحميد والتسميع إلا في الإمام فأما المأموم فإن المشروع في حقه التحميد لا غير، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن التسميع والتحميد والزيادة في الدعاء المأثور إنما يكون مشروعاً في حق الإمام فأما المأموم فيقتصر على التحميد واستماع الدعاء كما دلت عليه ظواهر الأخبار المنقوله عن الرسول والرواية المأثورة عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
الفرع الثاني: وإذا كانت الطمأنينة واجبة كما ذكرناه فلو سجد المصلي ثم شك هل رفع رأسه من الركوع أم لا؟ فإنه يجب عليه أن ينتصب فإذا انتصب سجد وإن أتى بقدر الركوع الواجب فاعترضته علة منعته عن الانتصاب فإنه يسجد عن ركوعه ويسقط عنه الرفع لتعذره فإن زالت العلة قبل أن يبلغ بجبهته إلى الأرض فإنه يرتفع وينتصب للإعتدال ثم يسجد لأن العلة قد زالت قبل فعله لركن وفعل مقصود وإن زالت العلة بعدما حصلت جبهته على الأرض ساجداً فإنه لا ينتصب ويسقط عنه الانتصاب لأن السجود قد صح فسقط ما قبله(1) فإن خالف فانتصب من السجود قبل تمامه نظرت، فإن كان عالماً بتحريمه بطلت صلاته وإن كان جاهلاً لم تبطل ويسجد للسهو، والمستحب إذا رفع رأسه من الركوع الأول والثاني والثالث والرابع في صلاة الخسوف والكسوف أن يكبر إماماً كان أو منفرداً وإن رفع رأسه من الركوع في الخامس فالمستحب أن يقول: سمع الله لمن حمده، إن كان إماما أو منفرداً وإن كان مأموماً فيقول: ربنا لك الحمد، والوجه في ذلك هو أن التسميع إنما يكون مستحباً في ركوع يتبعه سجود من غير فصل فأما إذا كان رفعاً من ركوع لا يتبعه سجود لم يكن التسميع مستحباً في حق الإمام والمنفرد والمأموم ولا يستحب له التحميد إلا في القيام من الركوع الخامس لأنه الركوع الذي يتبعه السجود.
الفرع الثالث: في القنوت، وإذا رفع المصلي رأسه من الركوع الثاني في صلاة الفجر وفي الثالثة من الوتر فالمستحب له أن يقنت.
واعلم أن القنوت مشتمل على أحكام عشرة نذكرها ونفصلها بمعونة الله تعالى:
الحكم الأول: في القنوت في صلاة الفجر ولا قائل بوجوبه في شيء من الصلوات. وهل يكون مسنوناً في صلاة الفجر أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) جاء في حاشية الأصل ما لفظه: مقتضى كلام أصحابنا وجوب رجوعه؛ لأنه قدر على الأعلى فلم يكن معذوراً مع............مكان.
المذهب الأول: أنه مسنون فيها وهذا هو رأي طوائف من أهل العلم من الصحابة والأئمة والفقهاء:
الطائفة الأولى: الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم أمير المؤمنين وأبو بكر وعمر وعثمان وأنس بن مالك ذهبوا إلى كونه مشروعاً في صلاة الفجر.
الطائفة الثانية: الأئمة من العترة القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله وزيد بن علي وغيرهم من أئمة العترة[ذهبوا] إلى كونه مسنوناً.
الطائفة الثالثة: الفقهاء وهو محكي عن الشافعي ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح.
والحجة على هذا: ما روى أنس بن مالك قال: صليت خلف رسول الله فلم يزل يقنت في صلاة الفجر حتى فارقته، وصليت خلف أبي بكر فلم يزل يقنت في صلاة الغداة حتى فارقته، وصليت خلف عمر فلم يزل يقنت في صلاة الغداة حتى فارقته(1).
الحجة الثانية: ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه كان يقنت في صلاة الفجر وهذا إنما يكون تلقاه من جهة الرسول لأنه لا مدخل للإجتهاد فيه.
الحجة الثالثة:ما روى سويد بن غفلة(2)
__________
(1) جاء في (الجواهر)1/258: هكذا في (الشفاء) ولفظه في (التلخيص) عن أنس قال: صليت مع رسول الله فلم يزل يقنت في صلاة الغداة حتى فارقته، وخلف أبي بكر...إلخ، قال: والذي في (أذكار النووي) عن أنس أن رسول الله لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا، رواه الحاكم في كتاب الأربعين. اهـ.
(2) أبو أمية الجعفي الكوفي، أدرك الجاهلية، ومات سنة 80هـ، عن 128 سنة، راجع (طبقات الحفاظ)1/24، وفي (الجرح والتعديل)4/234: عن يحيى بن معين قال: سويد بن غفلة ثقة.
…وقال ابن حجر في ترجمته: وقد قيل: إنه صلى مع النبي ولا يصح لأنه قدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفن رسول الله وهذا أضح،شهد فتح اليرموك، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وبلال وأبي وأبي ذر وأبي الدرداء، والحسن بن علي، وروى عنه: أبو إسحاق وخيثمة وإبراهيم النخعي والشعبي وآخرون، ا هـ (تهذيب التهذيب) 1/244، قال في (الخلاصة): سويد بن غفلة بفتح المعجمة والفاء واللام.
أنه قال صليت خلف أمير المؤمنين فقنت وخلف أبي بكر فقنت وخلف عمر فقنت وخلف عثمان فقنت. فهذه الحجج كلها دالة على كونه مشروعاً في صلاة الفجر.
المذهب الثاني: أنه غير مشروع فيها وهذا هو المأثور عن طائفتين:
الطائفة الأولى: الصحابة العبادلة ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو الدرداء فهؤلاء ذهبوا إلى أنه غير مشروع في صلاة الفجر.
الطائفة الثانية: من الفقهاء وهم أبو حنيفة وأبو يوسف، وقيل لأبي يوسف: إذا قنت الإمام؟ قال: فاقنت معه. وقال أحمد بن حنبل: القنوت للأئمة يدعون للجيوش فإن ذهب إليه ذاهب فلا بأس.
والحجة على هذا: ما روت أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: نهى رسول الله عن القنوت في صلاة الفجر(1).
الحجة الثانية: ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قنت رسول الله شهراً لم يقنت قبله ولا بعده(2).
الحجة الثالثة: قياسية وهو أنها صلاة مفروضة فلم يسن فيها القنوت كسائر الصلوات.
والمختار: ما عليه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة العترة ومن تابعهم من كونه مشروعاً في صلاة الفجر.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه كان يقنت في الركعة الثانية من الفجر وفي الركعة الثالثة من الوتر حين يرفع رأسه من الركوع وما روي أيضاً أنه قيل لأنس بن مالك: إنما قنت رسول الله شهراً؟ فقال: ما زال يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روت أم سلمة أن الرسول نهى عن القنوت في صلاة الفجر.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
__________
(1) أورده في (الجواهر) وقال: حكاه في (الشفاء) وضعفه وتأوله.
(2) ومثله عن أنس أن النبي قنت شهراً ثم تركه، رواه أحمد وفي لفظ: قنت شهراً يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه، رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة، وفي لفظ: قنت شهراً حين قُتل القراء فما رأيته حزن حزناً قط أشد منه، رواه البخاري، هكذا جاء في (نيل الأوطار)2/347.
الجواب الأول: أن هذا الخبر غير مشهور لمخالفته ما عليه الصدر الأول من الصحابة وما عليه التابعون من الأئمة والفقهاء وما كان هكذا فهو غير مقبول.
الجواب الثاني: أنه محمول على أنه كان يدعو لناس من المسلمين غابوا بأمره فيقول: ((اللهم أنج الوليد بن الوليد " (1)
وسلمة بن هشام(2)
__________
(1) الوليد بن الوليد بن المغيرة، له صحبة، وهو ممن دعا لهم النبي بالنجاة من قريش، وهو قرشي من بني مخزوم، أخو خالد بن الوليد، أسره عبد الله بن جحش، وقيل: سليط المازني يوم بدر كافراً، فجاء أخواه خالد وهشام لفدائه، فتمنع عبد الله بن جحش حتى بلغ فيه أربعة آلاف درهم، وخالد يزيد في الفداء، فلما افتكاه أسلم، فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدى وأنت مع المسلمين؟ فقال: كرهت أن تظنوا أني جزعت من الأسر، فحبسوه بمكة، وجعل رسول الله يدعو له فيمن دعا لهم من مستضعفي المؤمنين بمكة حتى أفلت من أسارهم، ولحق برسول الله وشهد عمرة القضاء، وكتب إلى أخيه خالد فوقع الإسلام في قلب خالد، وكان سبب هجرته وإسلامه، انظر: (الثقات) 3/430، و(الاستيعاب)4/1558.
(2) سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي من قريش، ممن عُذب في الله (الجرح والتعديل) 4/146، وفي (الثقات)3/164، أن جده المغيرة من بني مخزوم بن يقظة بن مرة أخو تيم وكلاب، وكان سلمة ممن دعا له النبي بالنجاة يوم مرج، وقتل يوم مرج الصفر في المحرم سنة 14هـ، كان من مهاجرة الحبشة قديم الإسلام، احتُبس بمكة وعُذب في الله ولم يشهد بدراً لذلك، راجع (الاستيعاب)2/643 قال: وهو واحد من خمسة أخوة: أبو جهل، والحارث، وسلمة، والعاص، وخالد، فأما أبو جهل والعاص فقتلا ببدر كافرين، وأسر خالد يومئذٍ، ثم فدي ومات كافراً، وأسلم الحارث وسلمة فكانا من خيار المسلمين.
وعياش بن أبي ربيعة(1)،
اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر اللهم، اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)) (2).
وروي أنه كان يلعن قبائل من العرب خالفوه: رعل وذكوان وعصية وبني هودة وجديم فترك الدعاء للمؤمنين فقيل له في ذلك فقال: ((أما تراهم قد قدموا)). وفي هذا دلالة على أنه ترك الدعاء لما ذكرناه.
الجواب الثالث: أنه إنما نهى عن القنوت في صلاة الفجر إما في الركعة الأولى وإما قبل الركوع في الثانية.
قالوا: روى ابن مسعود أنه قنت شهراً لا غير.
__________
(1) عياش بن أبي ربيعة، واسمه عمرو ذو الرمحين بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن المخزومي، كان أحد المستضعفين بمكة وهاجر الهجرتين، ومات بالشام في خلافة عمر، وقيل: يوم اليمامة، وقيل: يوم ا ليرموك، وهو أحد من كان يدعو له النبي بالنجاة من المستضعفين في القنوت، روى عن النبي ، وعنه: ابنه عبد الله وأنس بن مالك ونافع وغيرهم.
…قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب)8/146: قلت: أرخ ابن قانع والقراب وغيرهما وفاته سنة 15هـ.
(2) رواه أحمد والبخاري عن أبي هريرة.
قلنا: هذا محمول على أنه قنت بالدعاء على من خالف أمره فتركه بعد ذلك أو على أنه دعاء لجماعة من المؤمنين بالسلامة فترك الدعاء بعد قدومهم، ويؤيد هذا أنه كان لا يحزنه شيء إلا ذكره في الصلاة ودعا به مما يصيبه من المشقة وضيق صدره بالمخالفة لأمره وقد فعل هذا أمير المؤمنين كرم الله وجهه تأسياً به ومتابعة له على فعله حيث كان يقول في قنوته: ((اللهم العن معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وأبا الأعور السلمي(1)،
وأبا موسى الأشعري)). لما خالفوا أمره وكان هواهم إلى قبول أمر معاوية والإصغاء إليه.
قالوا: إنها صلاة مفروضة فلم يسن فيها القنوت كسائر الصلوات.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لا مدخل للأقيسة في العبادات فإنها أمور غيبية أحكامها على لسان صاحب الشريعة موقوفة على أمره.
وأما ثانياً: فلأنا نعارضهم بقياس يناقضه؛ وهو أنا نقول: صلاة يجهر فيها بالقراءة لا تتقدمها خطبة فيسن فيها القنوت كصلاة الوتر.
فقولنا: لاتتقدمها خطبة: نحترز به عن صلاة الجمعة والعيدين. وللفقهاء في هذه المسألة في الرد والقبول أقيسة كثيرة أعرضنا عن ذكرها لكونها من الأقيسة الطردية التي لا تثمر الظن وتصلح لمعارضة الفاسد بالفاسد.
الحكم الثاني: في وقت قنوت الوتر؛ وهو مشروع في النصف الأخير من رمضان بلا خلاف فيه بين الأئمة والفقهاء، وهل يكون مشروعاً في باقي السنة أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) اسمه: عمرو بن سفيان بن عبد شمس بن سعد، سمع جماعة من الصحابة، كان ممن شهد صفين مع معاوية، راجع (الثقات)5/169، وفي (الاستيعاب) 4/160، عن أبي حاتم الرازي: لا تصح له صحبة ولا رواية، شهد حنيناً كافراً ثم أسلم، قال: ثم كان هو وعمرو بن العاص مع معاوية بصفين، ومن أشد من عنده على علي، وكان علي يذكره في القنوت في صلاة الغداة يقول: اللهم، عليك به، مع قوم يدعو عليهم في قنوته.
المذهب الأول: أنه مشروع في باقي السنة وهذا هو رأي أئمة االعترة القاسمية والناصرية، ومحكي عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ومحكي عن اليزيدي(1)
من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن علي أنه قال: راعيت صلاة رسول الله فكان يقنت في صلاة الوتر ولم يخص شهراً دون شهر ولا زماناً دون زمان، وفي هذا دلالة على كونه مشروعاً في كل الأزمنة.
الحجة الثانية: [ما روى] أُبَيّ بن كعب عن رسول الله أنه كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن، ويقنت في الثالثة قبل ركوعه وظاهره دال على أنه يقنت في رمضان وفي غيره.
الحجة الثالثة: قياسية، وحاصلها أن القنوت ذكر مسنون فوجب أن لا يختص بزمان دون زمان، دليله سائر الأذكار ولأنها صلاة قد شرع فيها القنوت فوجب ألا تختص بوقت دون وقت دليله قنوت الفجر.
المذهب الثاني: أنه مختص بالنصف الأخير من رمضان وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن مالك.
والحجة على هذا: ما روي عن عمر أنه كان إذا انتصف الشهر من رمضان لعن الكفرة في الوتر بعد ما يرفع رأسه من الركوع.
الحجة الثانية: ما روي عن أبي بن كعب أنه كان يصلي بالناس التراويح في كل ليلة عشرين ركعة ولا يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير من رمضان ثم ينفرد في بيته بعد ذلك فكانوا يقولون: أبق أبي.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من كونه مشروعاً في جميع الأزمنة.
__________
(1) يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي اليزيدي أبو محمد، كان نازلاً في بني عدي فقيل له: العدوي، سكن بغداد وصحب يزيد بن منصور الحميري، خال المهدي العباسي، يؤدب ولده، واتصل بالرشيد فعهد إليه بتأديب المأمون، كانا عالماً بالعربية والأدب، ولد بالبصرة سنة 138هـ، وتوفي بمرو سنة 202هـ، من كتبه النوادر في اللغة والمقصور والممدود، ومناقب بني العباس ومختصر في النحو، انظر (الأعلام)8/163 و(الوفيات)2/230.
وحجتهم: ما نقلناه؛ نزيد هاهنا وهو ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: كلمات علمهن جبريل رسول الله يقولهن في الوتر وهو قوله: ((اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخرهن)) (1).
ولم يفصل بين وقت ووقت، وما روى الحسن بن علي أن رسول الله علمه كلمات يقنت بهن في الوتر وهو قوله: ((اللهم اهدني [إلى آخره])). فهذه الأدلة كلها دالة على كون القنوت مشروعاً في صلاة الوتر في جميع الأوقات والأزمنة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن عمر أنه كان إذا انتصف الشهر من رمضان لعن الكفرة في صلاة الوتر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن عمر لم ينقل عن الرسول كلاماً ولا حديثاً؛ والحجة: إنما هي فيما نقل عن الرسول دون غيره.
وأما ثانياً: فلأن عمر أخبر عن رأيه واجتهاده ولسنا ننكر عليه اجتهاده ولكنه لا يلزمنا قوله لأنه ليس حجة علينا.
قالوا: روي عن أُبَيّ بن كعب أنه كان لا يوتر إلا في النصف الأخير من رمضان.
قلنا: وما ذكرناه من حديث عمر فهو بعينة وارد في حديث أبي بن كعب فإن عندنا أن مذهب الصحابي ليس حجة على غيره وإنما هو من جملة المجتهدين.
والحجة إنما هو فيما نقل عن صاحب الشريعة صلوات الله عليه من أقواله وأفعاله.
الحكم الثالث: في محل القنوت، وهل يكون قبل الركوع أو بعده؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن محله بعد الركوع وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي بكر وعمر والمنصوص للشافعي في [رواية] حرملة.
والحجة على هذا: ما روى ابن عمر وأبو هريرة والبراء بن عازب وأنس بن مالك أن الرسول كان يقنت بعد الركوع.
الحجة الثانية: ما روي عن علي أنه كان يقنت في صلاة الصبح وفي الوتر بعد الركوع في الركعة الأخيرة منها.
المذهب الثاني: أن محله فيهما قبل الركوع، وهذا هو رأي زيد بن علي، ومحكي عن أبي حنيفة ومالك وابن أبي ليلى والأوزاعي.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
والحجة على هذا: ما روى ابن عباس وابن مسعود عن الرسول أنه قنت قبل الركوع.
والمختار: ما عليه أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ لأن القنوت إذا كان بعد الركوع حصل الفصل بين القراءة والقنوت إذا كان القنوت بآي القرآن وإذا كان قبل الركوع لم يكن هناك فصل، وعلى الجملة فالكل جائز لكن الغرض في طلب الأفضل، وقد روي عن الرسول أنه قنت في صلاة الصبح بعد الركوع وقنت في الوتر قبل الركوع، وروي أن أمير المؤمنين وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقنتون بعد الركوع إلا أن عثمان لما كان في آخر عمره قدمه على الركوع طلباً للتخفيف على الناس ليدركوا معه الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: قنت رسول الله قبل الركوع في رواية ابن عباس وابن مسعود.
قلنا: قد ذكرنا أن الأمرين جائزان وإنما كلامنا في طلب الأفضل وما قلناه هو الذي عمل عليه أكثر الصحابة وكثرت فيه الأخبار فلهذا كان التعويل عليه وما نقل عن ابن عباس وابن مسعود فإن ذلك كان محمول على أن ذلك كان في مبدأ الأمر فلا يبعد كونه منسوخاً.
قالوا: القنوت ذكر يفعل في حال الإستقرار فأشبه الاستفتاح والقراءة فإنهما يفعلان قبل الركوع.
قلنا: نقول بموجب هذه العلة مع الإستمرار على الخلاف فإن القنوت يفعل في حال القيام والاستقرار لأنه إذا رفع رأسه من الركوع واستوى قائماً فقد استقر.
الحكم الرابع: هل يسن القنوت فيما عدا الفجر والوتر أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه لا يسن القنوت في غيرهما من الصلوات، وهذا هو رأي أئمة العترة وهو محكي عن الفريقين الشافعية والحنفية.
والحجة على هذا: ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يقنت في الفجر والوتر ولم يؤثر عنه أنه قنت في غيرهما إلا لأمر عارض، وفي هذا دلالة على أنه لا يسن القنوت إلا فيهما.
المذهب الثاني: أن القنوت مشروع في كل صلاة مجهورة، كالمغرب والعشاء والفجر والجمعة وهذا هو رأي الناصر، وروي عنه أنه رجع عن القنوت في العشاء الآخرة لما رجع إلى طبرستان وكان يقنت في العشاء الآخرة حين خرج إلى خوستان بن مانا.
والحجة على هذا: ما روى ابن عمر والبراء بن عازب وأنس بن مالك أن الرسول قنت في المغرب والصبح، وعن عطاء وطاووس أن الرسول قنت في الفجر والمغرب.
المذهب الثالث: جواز القنوت في جميع الصلوات ليلاً ونهاراً، وهذا هو المحكي عن الصادق والباقر وهو مروي عن الإمامية.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238]. ولم يفصل بين صلاة وصلاة وفي هذا دلالة على جواز القنوت في جميع الصلوات.
والمختار: تفصيل نشير إليه وحاصلة أن القنوت في الفجر والوتر قد حصل فيه النقل عن الرسول وعمل عليه الصحابة والتابعون فأما ما عداهما من الصلوات فلم يؤثر عنه وإن أثر فإنما كان لأمور عارضة وأسباب متجددة. ويؤيد ما قلناه ما روى أنس بن مالك قال: قنت رسول الله شهراً ثم تركه وروى ابن مسعود أن الرسول لم يقنت إلا شهراً لم يقنت قبله ولا بعده، وفي خبر أبي هريرة أن الرسول كان يقنت فأنزل الله عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}[آل عمران:128]. فهذه الأخبار كلها دالة على أن قنوته كان بالدعاء على من خالفه ولم يتبع أمره وأنها منسوخة لأنه لا معنى للنسخ إلا الإزالة بعد الثبوت ومعنى الإزالة هو ألا يثبت مثل الحكم الذي كان ثابتاً من قبل.
الانتصار:يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روى ابن عمر وابن مسعود أنه قنت في صلاة المغرب والفجر.
قلنا: إنما كان ذلك من أجل أمور عارضة يدعو فيها على أحياء من العرب وقبائل.
قالوا: قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }[البقرة:238]. فدل على جواز القنوت في كل صلاة ليلية أو نهارية كما زعمته الإمامية وغيرهم.
قلنا: لا ننكر أنه قد وقع في بعض الصلوات لأمور عارضة لكنه نسخ بعد ذلك فلم يبق له حكم والمراد بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }[البقرة:238]. فإنما أراد بالقنوت فيما دل عليه الشرع من الصلوات التي شرع فيها القنوت ويحتمل أن يكون المراد بالقنوت الخشوع في الصلاة.
الحكم الخامس: في صفة القنوت، اعلم أنه لا خلاف بين أئمة العترة وفقهاء الأمة في جواز القنوت بالقرآن في الفجر والوتر والآيات المشروعة للقنوت من القرآن ما كان مشتملاً على الدعاء.
وروى زيد بن علي عن أبيه عن جده أن أمير المؤمنين كان يقنت بقوله تعالى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].(1)
وروى الصادق رضي الله عنه عن الرسول أنه كان يقول في قنوته: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8]، {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا }[البقرة:286]..إلى آخر الآيات. وحكي عن الناصر أنه قال: ولا أحب القنوت في الفجر والوتر بغير آي القرآن كقوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }[البقرة:286] إلى آخر الآيات. ويكره القنوت بالآيات التي لا دعاء فيها لأن القنوت موضع الدعاء وليس موضعاً للقراءة.
وهل يجوز القنوت بالدعاء في الوتر أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) أورده في (جواهر الأخبار) وهو في (مجموع الإمام زيد) و(أصول الأحكام) و(الشفاء).
المذهب الأول: أنه لا يجوز القنوت في الوتر بغير القرآن وهذا هو الظاهر من مذهب الهادي فإنه قال: وكل قنوت بغير القرآن فإنه غير جائز ولا يرى القنوت في الفرض وغيره إلا بالقرآن.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما [هي] تكبير وتسبيح وقراءة القرآن)).
المذهب الثاني: جواز ذلك وهذا هو رأي الإمامين الناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن الفريقين الشافعية والحنفية.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي أنه قال: كلمات علمهن جبريل رسول الله يقولهن في قنوت الفجر: ((اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك ولا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت)).
والمختار: ما قاله الناصر والمؤيد بالله.
وحجتهم:ما ذكرناه، ونزيد هاهنا ما روى الحسن بن علي عن الرسول أنه قال: علمني رسول الله كلمات أقولهن في قنوت الوتر وهي قوله: ((اللهم اهدني...)) إلى آخرها. وزاد بعض أهل العلم فيها قوله: ((فلك الحمد على ما قضيت استغفرك وأتوب إليك)). وهي زيادة حسنة، وروي عن الرسول أنه كان يقول في آخر وتره: ((اللهم، إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي ثناء عليك)). فإذا فرغ من القنوت فالمستحب أن يقول: سبحان الله الملك القدوس رب الملائكة والروح، لما روي عن رسول الله أنه كان يقول ذاك ثلاثاً ويمدَّ بها صوته، فإذا فرغ مسح وجهه بيديه(1).
__________
(1) هذا الحديث روي عن علي ، رواه الخمسة والبيهقي والحاكم، وصححه مقيداً بالقنوت، وأخرجه الدارمي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود في كتبهم.
…قال في (فتح الغفار): وليس فيه ذكر الوتر. ا هـ 1/258.
وروي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه في أيام حربه لمعاوية قنت في الوتر قبل الركوع يقول في قنوته: ((اللهم، إليك رفعت الأبصار، وبسطت(1)
الأيدي وتحركت بالأعمال الصالحات، اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين نشكوا إليك غيبة نبينا وكثرة عدونا وقِلَّة أنصارنا وتظاهر الفتن وشدة الزمان علينا، اللهم أعنا بفتح تعجله ونصر تعز به أولياءك وتذل به أعدائك وسلطان حق تظهره إله الحق آمين. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يلعن الكفرة في وتره ويقول: قاتل الله الكفرة اللهم العنهم.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((إن صلاتنا هذه ليس فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)).
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
الجواب الأول: أن الصلاة حقيقتها الدعاء وأولها دعاء وآخرها دعاء ووسطها دعاء فكيف ننكر فيها الدعاء أم كيف يفسدها دعاء وهي آيلة إليه ومتضمنة له.
الجواب الثاني: أن الدعاء المشروع ليس من كلام الناس وإنما كلام الناس الذي يفسدها قولك: أدخل أخرج كُلْ أشرب فما هذا حاله هو الذي يفسدها.
الجواب الثالث: أنا قد أوضحنا الأدعية التي كان الرسول يدعو بها في الصلاة في الوتر فلا وجه لإنكاره ولا نقضي بكونها مفسدة لها.
الحكم السادس:هل يصح القنوت في صلاة الفجر بالدعاء أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول:أن ذلك غير جائز وأنه مفسد للصلاة، وهذا هو رأي الهادي والظاهر من مذهب الناصر والمؤيد بالله؛ لأن المحكي عن الناصر أنه قال: ولا أحب القنوت في الفرض بغير آي القرآن وعن المؤيد بالله أنه قال: ويقنت في صلاة الفجر بعد الركوع بشيء من القرآن.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إن صلاتنا هذه ليس فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير والقراءة)).
__________
(1) في الأصل: وسقطت الأيدي.
المذهب الثاني: جواز الدعاء في قنوت صلاة الفجر وهذا هو رأي الناصر في كتاب (الألفاظ) والقاسم ورأي الفريقين الشافعية الحنفية.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً }[الأعراف:55]. ولم يفصل بين أن يكون في الصلاة أو في غيرها. وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَانَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الإسراء:110]. ولم يفصل في ذلك فما هذا حاله دال على جواز الدعاء في الصلاة.
والمختار: ما ذكره الناصر في كتاب (الألفاظ) من جواز الدعاء في الفرائض على الظلمة، وكان يقنت بالدعاء عليهم، وذهب إليه الفريقان الشافعية والحنفية، ويدل على ذلك ما روي عن الرسول أنه كان يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع يقول في قنوته: ((اللهم، العن العصاة والغواة من قريش الذين عادوا نبيك وجهدوا ألا يقال: لا إله إلا الله، محمد رسول اللّه)). وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قنت في صلاة الصبح بعد الركوع يقول في قنوته: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ولك نسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك الجد، إن عذابك بالكفار ملحق، اللهم عذب الكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياء، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وأصلح ذات بينهم وألِّف بين قلوبهم وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وثبتهم على ملة رسولك وأنصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق واجعلنا منهم. قوله نحفد: أي نخدم والحفد: الخدمة، ومنه قوله تعالى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً}. قيل: الحفدة: الخدم. وقوله: عذابك الجد أي الذي لا يلحقه الهزل، وقوله بالكفار ملحق أي لاحق(1) فما هذا حاله إذا صدر من جهة الصحابي فإنما يكون عن توقيف من جهة الرسول لأنه لا مدخل للإجتهاد فيما يختص بجانب العبادات وبما كان يفسد الصلاة ويصلحها.
__________
(1) في حاشية الأصل: ملحق بكسر الحاء على المشهور، ويقال بفتحها، ذكره ابن قتيبة وغيره.
ومن وجه آخر: وهو أنه إذا جاز القنوت في صلاة الوتر بالأدعية المأثورة والكلمات التي رواها أمير المؤمنين عن جبريل على لسان الرسول والكلمات الثماني التي علمها رسول الله الحسن بن علي، فإذا جاز ذلك في الوتر جاز في الفريضة أيضاً لأن ما أفسد الفريضة فهو مفسد للنافلة فلما جاز ذلك في النافلة جاز في الفريضة من غير تفرقة بينهما.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه، وتعويلهم إنما هو على ما ذكرناه من قول الرسول : ((إن صلاتنا هذه ليس فيها شيء من كلام الناس)) وقد أجبنا عن هذا وأوضحنا مقصوده بما ذكره فأغنى عن الإعادة، ويؤيد ما ذكرناه من جواز الدعاء في الصلاة هو أنه كان يتلو القرآن في الصلاة فلا يمر بآية رحمة إلا سألها ولا بآية عذاب إلا استعاذ منه، وقوله : ((اللهم أنج الوليد بن الوليد ، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين)). فكل هذه الأخبار دالة على جواز الدعاء في الصلاة.
الحكم السابع: وأما سائر الصلوات غير الفجر والوتر، فإن نزل بالمسلمين نازلة جاز القنوت لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه كان لا يقنت في صلاة إلا إذا دعا لأحدٍ أو دعا عليه، وإن لم ينزل بالمسلمين نازلة فهل يجوز القنوت فيها أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: الجواز لما روى أبو هريرة أن الرسول قنت في جميع الصلوات.
وثانيهما: أن ذلك غير جائز وهذا هو الصحيح؛ لأن الرسول إنما قنت فيها لنازلة؛ وهو أن قوماً قتلوا أصحابه أهل بئر معونة خبيباً وأصحابه فكان يدعو عليهم ثم أسلموا فترك الدعاء عليهم(1)،
تستحب الصلاة على الرسول عقيب هذا الدعاء الذي رويناه عن الحسن بن علي لأن الرسول قال عقيب قوله: ((تباركت ربنا وتعاليت وصل اللهم على النبي وآله وسلم)). ولما روي عن النبي أنه قال: ((إذا سألتم الله حاجة فأبدأوا بالصلاة عليَّ فإن الله أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما دون الأخرى)).
__________
(1) تقدم.
الحكم الثامن: والسنة الجهر بالقنوت وهو رأي أئمة العترة واختيار البغداديين من أصحاب الشافعي وعن بعض أصحابه الإسرارية أفضل.
والمختار: هو الأول لأن الرسول كان يجهر به وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
وهل يرفع يديه في القنوت أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الرفع مستحب لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن بالدعاء عند رؤية البيت وعلى الصفا والمروة وفي الصلاة وفي الموقف بعرفة وعند الجمرتين)) (1).
وثانيهما: أن الرفع غير مستحب لأن الرسول لم يرفع يديه إلا عند الاستسقاء والاستنصار وعشية عرفة، وهذا هو المختار عند أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة ومحمد. فأما الرفع في الصلاة فإنما نعني به تكبيرة الافتتاح لا غير والقنوت خارج عن ذلك.
الحكم التاسع: وإذا قنت الإمام فهل يقنت المأموم معه أم لا؟ فيه أوجه ثلاثة:
أولها: أن المأموم يقنت مع الإمام وهذا هو رأي المؤيد بالله؛ لأن القنوت موضوع للدعاء فلهذا شاركه المأموم فيه واختاره ابن الصباغ لمذهب الشافعي وقال:إنه لم يجد فيه نصاً له.
وثانيها: أن المأموم يؤمن عند قنوت الإمام، وهذا هو المحكي عن الحسن البصري لما روى ابن عباس أن الرسول كان يدعو ويؤمن من خلفه.
__________
(1) وفي هذا الباب روايات أخر منها ما أورده ابن بهران عن أنس أن رسول الله كان لا يرفع اليد إلا في ثلاثة مواطن: الاستسقاء، والاستنصار، وعشية عرفة، قال: وهذا لفظه في (التلخيص) ولا أصل له من حديث أنس، بل في الصحيحين من حديث أنس: (كان رسول الله لا يرفع يديه في كل دعاء إلا في الاستسقاء، فإنه يرفع يديه حتى نرى بياض إبطيه). اهـ (جواهر)1/264.
وثالثها: أن يسكت المأموم عند قنوت الإمام، وهذا هو رأي الهادي وهو المختار لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف:204]. والقنوت تارة يكون بالقرآن وتارة بالدعاء المأثور فلهذا كان السكوت والاستماع أفضل.
الحكم العاشر: وهل يكبر إذا أراد القنوت أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا حاجة إلى التكبير عند إرادة القنوت لأن القنوت إنما يكون بعد الركوع وقد حصل الفصل بين القراءة والقنوت بالركوع فعلى هذا لا يحتاج إلى التكبير وهذا هو رأي أئمة العترة.
ووجهه: ما ذكرناه.
وثانيهما: أنه يكبر وهذا هو رأي أبي حنيفة.
ووجهه: أن القنوت عنده قبل الركوع فلهذا كان التكبير مسنوناً للفصل بين القراءة والقنوت.
والمختار: هو الأول للوجه الذي أوضحناه، وقد نجز غرضنا من بيان الاعتدال في الصلاة.
---
القول في السجود
وهو واجب للكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى:{وَاسْجُدُوا}. وقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ }[العلق:19].
وأما السنة: فلأن المعلوم من حاله السجود وقد نقل نقلاً متواتراً وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
وأما الإجماع: فقد انعقد على وجوب السجود وهو معلوم بالضرورة من دين صاحب الشريعة صلوات الله عليه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في بيان أقله وأكمله.
اعلم أن السجود عبارة عن وضع الجبهة على الأرض وأقله أن يطمئن على الأرض وأكمله أن يقف مقدار التسبيح المسنون. فإذا فرغ المصلي من اعتدال الركوع خر لله ساجداً ويكبر، والتكبير مستحب لما روى ابن مسعود أن الرسول كان يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود ويكون ابتداؤه عند انحنائه للسجود، وهل يكون ممتداً أو مقصوراً؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن السنة فيه أن يكون ممتداً فيكون ابتداؤه عند ابتداء انحنائه للسجود، وآخره مع أول السجود وهذا هو الظاهر من المذهب، ومحكي عن الشافعي في الجديد.
والحجة على هذا، هو أن الإهواء إلى السجود فعل من أفعال الصلاة فاستحب مد التكبير فيه لئلا يخلو من ذكر كسائر أفعال الصلاة.
المذهب الثاني: أن السنة فيه القصر وهذا هو رأي أبي حنيفة، والقول القديم للشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((التكبير جزم )). أراد مقصوراً.
والمختار: جواز الأمرين، فإن مد التكبير فلأنه هيئة للركن فلهذا استحب مده وإن قصره فلأن السنة قصره وقطعه كما ورد في الخبر.
الفرع الثاني: في بيان أول ما يقع على الأرض من الساجد،فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن السنة في أول ما يقع من المصلي على الأرض في سجوده يداه ثم ركبتاه وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، ومحكي عن ابن عمر والأوزاعي وإحدى الروايتين عن مالك.
والحجة على ذلك: ما روى نافع عن ابن عمر أن الرسول كان إذا سجد بدأ بوضع يديه قبل ركبتيه.
الحجة الثانية: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه))(1).
وهذا نص فيما قلناه.
المذهب الثاني: أن المستحب أن يبدأ بوضع ركبتيه قبل يديه وهذا هو رأي الفريقين الشافعية والحنفية ومحكي عن عمر بن الخطاب والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والنخعي.
والحجة على هذا: ما روى مصعب بن سعد قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأُمرنا أن نبدأ بالركبتين قبل اليدين.
الحجة الثانية: ما روى وائل بن حجر عن الرسول أنه كان إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا رفع نهض يديه قبل ركبتيه(2).
المذهب الثالث: أنه مخير في البداية بأيهما شاء،وهذا هو المحكي عن الناصر(3)
وإحدى الروايتين عن مالك.
والحجة على هذا: هو أن الأحاديث قد رودت بكل واحد من الأمرين وهي في مزيد القوة على سواء فلهذا قضينا بالتخيير.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة.
__________
(1) رواه احمد وأبو داود والنسائي.
(2) رواه الخمسة إلاَّ أحمد، وحسنه الترمذي وقال: غريب، وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان وابن السكن في صحاحهم.
…قال الرباعي في (فتح الغفار)1/201: وقال الخطابي: حديث وائل أثبت من حديث أبي هريرة فحديث أبي هريرة قد تُكلم في إسناده، وقال الجاحظ في (بلوغ المرام): بل هو أقوى من حديث وائل؛ لأن له شاهداً من حديث ابن عمر، صححه ابن خزيمة وذكره البخاري تعليقاً موقوفاً، وأورد ابن القيم: أنه وقع في حديث أبي هريرة قلب لأن آخره يخالف أوله، فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير.
(3) في حاشية الأصل، لعله يعني الناصر هنا في قول؛ لأنه قد ذكره في المذهب الأول، وتنبه هنا إلى أن المذهب الأول هو باسم الناصرية لا الناصر، والفرق واضح.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو قوله : ((أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء اليدين والركبتين)) (1)
.. إلى آخرها.
ووجه الدلالة:هو أنه بدأ في الخطاب باليدين فلهذا كان المستحب البداية بهما في الفعل عند السجود ليكون الفعل مطابقاً للقول.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: حديث مصعب دال على وضع الركبتين قبل اليدين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه قال: أمرنا وهذا الخطاب إذا ورد كان محتملاً أن يكون الآمر الرسول أو غيره وإذا كان محتملاً لما ذكرناه ضعف الإحتجاج به.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما رويناه من حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة فإنه يدل بصريح القول،و[جملة]ما ذكرتموه من الأحاديث دالة بالفعل، والقول والفعل إذا تعارضا كان العمل على القول أحق لأمرين:
أما أولاً: فلأن الخطاب يتعدى إلينا بظاهره بخلاف الفعل فإنه يحتاج إلى دلالة في تعديه.
وأما ثانياً: فلما في الفعل من الإجمال.
قالوا: حديث وائل بن حجر يدل على ما قلناه من تقديم الركبتين.
__________
(1) ورد الحديث بعدة روايات وألفاظ منها: عن ابن عباس قال: أُمر النبي أن يسجد منه على سبعة ونهي أن يكفت الشهر والثياب، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وعند أبي داود قال: النبي ((أُمِرْتُ)) وفي أخرى: ((أُمِرَ نبيكم أن يسجد على سبعة ولا يكف شعراً ولا ثوباً)) وفي رواية : ((....أن يسجد على سبعة آراب)) لم يزد، وفي رواية للبخاري ومسلم أيضاً: امرنا النبي أن نسجد على سبعة أعضاء ولا نكف شعراً ولا ثوبا: الجبهة واليدين والركبتين والرجلين، وفي أخرى لهما: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: علىالجبهة وأشار بيده إلى أنفسه، واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب ولا الشعر.
قلنا: أخبارنا رواها أفاضل الصحابة كابن عمر وأبي هريرة الموثوق بعدالتهما وروايتهما، وخبركم رواه وائل بن حجر وقد روي أنه كان يكتب بأسرار أمير المؤمنين كرم الله وجهه إلى معاوية وأدنى أحواله الخيانة للإمام بإظهار أسراره، وما هذا حاله يطرق التهمة ويضعف الرواية.
قالوا: إنه مخير في البداية بأيهما شاء كما هو محكي عن الناصر ورواية عن مالك.
قلنا: التخيير إنما يكون مع استواء الروايتين في القوة فأما وقد أوضحنا أن رواية أخبارنا أوثق فلا وجه للتخيير لما أوضحناه.
الفرع الثالث: في أعضاء السجود وجملتها سبعة: اليدان، والركبتان، والقدمان، والجبهة، لما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أُمِرَ النبي أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وأطراف أصابع رجليه، وجبهته(1)،
وما هو الواجب من هذه الأعضاء؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الواجب إنما هو الجهبة دون الأنف وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الحسن البصري وابن سيرين وعطاء وطاووس والثوري وأبي يوسف ومحمد.
والحجة على هذا: ما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أمر الرسول أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وقدميه، وجبهته، ولم يذكر الأنف، وما كان مأموراً به فلا يجوز تركه.
الحجة الثانية: ما روى ابن عمر رضي الله عنه أنه قال له النبي : ((إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض ))(2).
ولم يذكر الأنف.
المذهب الثاني: أن الواجب السجود عليهما وهذا شيء يحكى عن سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: هو أن المعلوم من حاله أنه كان يسجد على الجبهة والأنف في كل صلواته وفي هذا دلالة على وجوبها لقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي )). والظاهر أنها واجبة حتى تخرج بدلالة.
المذهب الثالث: أنه إذا اقتصر على أحدهما جاز وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة.
__________
(1) تقدم.
(2) حكاه في (الجواهر) و(المهذب) وعزاه في (التلخيص) إلى ابن حبان وغيره، ثم حكى تضعيفه.
والحجة على هذا: هو أن عظم الجبهة والأنف واحد فلو كانا عظمين لكان السجود على ثمانية أعظم وإذا كانا عظماً واحداً جاز أن يتعلق الفرض به، فإن سجد عليهما جميعاً أجزأه باتفاق، وإن سجد على الأنف أجزأه على قول أبي حنيفة، وإن سجد على الجبهة أجزأه على قولنا، ولم يجز على قول من ذهب إلى وجوبهما جميعاً.
والمختار: ما ذهب إليه أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو ما روى ابن عمر رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض )). ولم يذكر الأنف. وما روى جابر عن رسول الله أنه سجد على قصاص رأسه، والقصاص: هو أعلى الجبهة. والمعلوم أنه إذا سجد على ذلك لم يسجد على الأنف.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: المعلوم من حاله أنه كان يسجد على الجبهة والأنف في كل صلاة. وفي هذا دلالة على وجوبها وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
قلنا: قد بينا خروج الأنف عن الوجوب بأدلة خطابية بما رويناه من حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة وليس معكم في الدلالة على وجوب دخولهما(1)
إلا مجرد الفعل ولا شك أن أدلة الخطاب راحجة على الدلالة الفعلية من جهة أن أدلة الخطاب منقسمة إلى النص والظاهر والمجمل.
ودلالة الأفعال مجملة من جهة تعديها ومن جهة احتمالها في الوقوع على أوجه مختلفة من الوجوب والندب والإباحة فلا جرم كان ما قلناه أحق.
قالوا: عظم الجبهة والأنف واحداً وإذا كانا عظماً واحداً جاز أن يتعلق الفرض بهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أنهما هنا عظم واحد فإن عظم الجبهة مسطح وقصبة الأنف عظم مستقيم فهما مختلفان.
__________
(1) يقصد الجبهة والأنف، والمطلوب أن يكتفي بكلمة (دخوله) أي دخول الأنف؛ لأن الجبهة لا خلاف حولها إلا ما حكي عن أبي حنيفة كما سلف في جواز الاقتصار على أحدهما.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أنهما عظم واحد فلا يمتنع تعلق الفرض ببعضه كعظم الساق فإن الفرض وهو الغسل متعلق ببعضه ولا يكون جميعه موضعاً للفرض.
الفرع الرابع: في هيئة السجود. والكمال في السجود أن يجافي مرفقيه عن جنبيه والغرض بالجنب الخاصرة حتى لو لم يكن عليه ثوب لظهرت عفرة أبطيه والعفرة بضم العين المهملة والفاء والراء هو بياض الإبط لما روى جابر أن النبي كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه حتى يرى بياض إبطيه(1)
ويقل بطنه عن فخذيه لما روى البراء بن عازب أن الرسول كان إذا سجد جخ(2)
ويروى: جحَّى والجخ:الإخواء وهو بالجيم والخاء ويروى مشدداً ويروى بألف أبدلت من أحد الخائين. وروت ميمونة عن رسول الله أنه كان إذا سجد خوَّى في سجوده ورفع عجيزته هكذا رأيت رسول الله يفعل(3).
__________
(1) أخرجه أبو داود بلفظ: كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه حتى تأوي له.
(2) أخرجه أبو داود.
(3) ولفظه عند مسلم: كان إذا سجد لو أن بهيمة أرادت تمر بين يديه مرت، وزاد أبو داود والنسائي بعد قوله: سجد: جافى بين جنبيه حتى لو ...الحديث، وعند النسائي: حتى كان إذا سجد خوى بيديه حتى يرى وضح إبطيه من ورائه، وإذا رفع اطمأن على فخذه اليسرى. ا هـ.
ومعنى خوَّى أي رفع مرفقيه عن جنبيه وخاصرته، ويروى: خوى بالتخفيف أي فعل الإخواء وبالتشديد أي فعله مرة بعد مرة كما قال تعالى: {نَزَّلَ الْكِتَابَ} أي شيئاً بعد شيء، ويروى أخوى بالهمزة أي صار ذا إخواء وحدُّ الإخواء المجافاة بحيث لو أرادت بهيمة تحته لمرت، لما روت ميمونة قالت: كان رسول الله إذا سجد جافا يديه ومرفقيه عن خاصرتيه حتى لو أرادت بهيمة أن تمر لمرت، وإن كانت امرأة ضمت بطنها إلى فخذيها وألصقته بهما لأنه أستر لها، ويضع يديه حذو منكبيه وذكر أصحابنا أنه يضعهما حذو خديه والأمر فيه قريب لكني لم أعثر على الخدين في الأحاديث، ويضم أصابعهما ويضم إبهاميه إليها ويستقبل بهما القبلة لما روى وائل بن حجر أن الرسول كان إذا سجد ضم أصابعه تجاه القبلة وجعل يديه حذو منكبيه، ويجعل يديه حذو القبلة لما روت عائشة، قالت: كان رسول الله إذا سجد وضع أصابعه تجاه القبلة. والتفرقة بين الركوع والسجود في ضم الأصابع في السجود وتفريقها في الركوع هو أنه إذا فرق أصابعه في الركوع، على ركبتيه كان أمكن في ركوعه وأبعد عن السقوط بخلاف السجود فإنه لا يخاف السقوط ولأنه في السجود إذا ضم أصابعه استكمل مقابلة القبلة وإذا فرقها لم يستكمل استقبال القبلة بخلاف الركوع فإنه لا يستقبل بها جهة القبلة سواء فرقها أو ضمها، ويرفع مرفقيه ويعتمد على راحتيه لما روى البراء بن عازب أن الرسول قال: ((إذا سجدت فضم كفيك وارفع مرفقيك )) (1).
ويكره افتراش الذراعين لما روى أبو هريرة أن النبي قال: ((إذا سجد أحدكم فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب )) (2).
ويفرج بين رجليه لما روى أبو حميد أن الرسول كان إذا سجد فرج بين رجليه(3)
__________
(1) رواه مسلم.
(2) أخرجه أبو داود بزيادة: ((..وليضم فخذيه)).
(3) رواه أبو داود عن أبي حميد الساعدي بلفظ: فإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه.
وينصب قدميه لما روى سعد بن أبي وقاص أن الرسول أمر بوضع اليدين ونصب القدمين يعني في السجود(1)،
ولا يكف شعره ولا ثوبه عند السجود لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي أمر أن يسجد على سبعة ولا يكف شعراً ولا ثوباً. وروي ولا يكفت والكفت الجمع.
الفرع الخامس: قد أوضحنا أن السجود على الجبهة واجب بلا خلاف وأن السجود على الأنف غير واجب على الخلاف، فهل يجب السجود على اليدين والركبتين والقدمين أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن السجود على هذه الأعضاء واجب، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، وحكي عن المؤيد بالله أنه سئل هل يجب السجود على القدمين؟ قال: لا يجب. وحكي عن الشافعي في أحد قوليه وجوب السجود عليهما.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عباس (أمرت أن أسجد على سبعة آراب(2).
وروي عن الرسول أنه قال: ((أُمر نبيكم أن يسجد على سبعة أعظم))(3).
المذهب الثاني: أن السجود عليها غير واجب وهذا هو أحد قولي الشافعي، ومحكي عن أبي حنيفة وبه قال أكثر الفقهاء.
والحجة على هذا: قوله لمن علمه السجود: ((إذا سجدت فمكن جبهتك على الأرض )). وقوله : ((سجد وجهي)) (4).
فأضاف السجود إلى الجبهة لا غير وفي هذا دلالة على أن هذه الأعضاء لا يجب السجود عليها.
والمختار: ما قاله علماء العترة من وجوب السجود على هذه الأعضاء.
__________
(1) قال في (الجواهر): قلت: الوارد في ذلك ما رواه عامر بن سعيد عن أبيه، أن النبي أمر بوضع اليدين ونصب القدمين.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) هذا الحديث مروي عن علي في باب ذكر الاستفتاح، أخرجه مسلم وفيه وإذا ركع قال: ((اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي))، وإذا سجد قال: ((اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين)).
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا، وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف ثوباً ولا شعراً))(1).
وما روى خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا. وما روى البراء بن عازب عن الرسول أنه قال: ((إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك)) (2).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((إذا سجدت فمكن جبهتك )). وقوله: ((سجد وجهي)). فدل ذكر هذه على أن غيرها ليس بواجب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ذكره الجبهة لا يدل على أن غيرها غير واجب فتخصيصها بالذكر لا يدل على نفي ما عداها عن الوجوب.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الأخبار الدالة على وجوب السجود على هذه الأعضاء وإذا تعارضت الأخبار وجب الترجيح ولا شك أن أخبارنا راحجة لأنها دالة على الزيادة والزيادة مقبولة لإفادتها فائدة جديدة غير ما دلت عليه أخباركم، وإذا قلنا: بوجوب السجود على هذه الأعضاء فسجد على ظهر قدميه لم يجزه، وهكذا إن سجد على حرف راحته مما يلي ظهر كفيه لم يجزه، وإن سجد على بعض كفيه أجزأه كما لو سجد على بعض جبهته، وإن قلنا: بأن السجود عليها غير واجب فهو لا يمكنه السجود إلا بأن يعتمد على بعض هذه الإعضاء فله أن يعتمد على أيها شاء ويرفع أيها شاء لأنها غير واجبة فلهذا جازت المراوحة بينها.
الفرع السادس: في كشف هذه الأعضاء في السجود.
ولا خلاف في أنه لا يجب كشف القدمين ولا يجوز كشف الركبتين لأنهما عورة، وهل يجب كشف الكفين أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجب كشفهما عند السجود وهذا هو رأي الهادي والقاسم ومحكي عن أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((أُمرت أن أسجد على سبعة اليدان والركبتان والقدمان والجبهة)) (3).
ولم يفصل بين كشفها وسترها.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
المذهب الثاني: أنه يجب كشفهما ولا يجوز تغطيتهما وهذا هو أحد قولي الشافعي.
قال الإمام القاسم: من صلى ويداه تحت ثوبه من بردٍ أو غيره فلا بأس. ويحتمل أن يقال: إنه واجب.
والحجة على هذا: خبر خباب وهو أنه قال:شكونا إلى رسول الله حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يُشْكِنَا. فهذا يدل على وجوب الكشف فيهما.
والمختار: هو الأول وهو أن الكشف فيهما غير واجب.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو قوله لمن علمه الصلاة: ((توض كما أمرك الله واستقبل القبلة وكبر واقرأ ما تيسر من القرآن)) ولم يأمره بكشف يديه.
ومن وجه آخر: وهو أنهما عضوان لا يبرزان في العادة إلا لحاجة(1)
فلم يجب كشفهما في السجود كالركبتين والقدمين.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: خبر خباب يدل على وجوب الكشف.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه حكاية فعل لا ندري على أي وجه وقعت.
وأما ثانياً: فلأن ظواهر الأخبار التي رويناها دالة على أن الكشف غير واجب وأنه يجوز سترها بالأردية والأثواب ولا شك أن الظواهر التي يدل عليها الخطاب أصرح بالمراد من دلالة الأفعال لما فيها من الإجمال.
الفرع السابع: وهل يجب كشف الجبهة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه إن سجد على حائل متصل مثل كور العمامة وطرف المنديل أو بسط كفه ليسجد عليه لم يجزه ذلك، وهذا هو المحكي عن محمد بن يحيى ونصره السيد أبو طالب، وهو قول الشافعي.
__________
(1) قد تدعو هذه العبارة إلى الاستغراب في أن اليدين لا يجب كشفهما؛ لأنهما في العادة لا يبرزان إلا لحاجة، إلا أن المعروف في الماضي وحتى عصرنا هذا أن كثيراً من الفقهاء وتلامذتهم خاصة وكذا بعض أسر العلم يلبسون قمصاناً ذوات أكمام طويلة، ولكنها اليوم قد أصبحت نادرة ولا تكاد تظهر إلا لدى القلة من الفقهاء، لذا أشرنا إلى أن مسألة وجوب كشف اليدين من عدمه قد يثير الاستغراب كونهما أصبحتا مكشوفتين لدى عامة الناس، والله أعلم.
والحجة على هذا: ما روى رفاعة بن رافع عن رسول الله أنه قال: ((لايقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه)) إلى أن قال ((ثم يسجد فيمكِّن جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله))(1).
المذهب الثاني: جواز ذلك وهذا هو رأي المؤيد بالله ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله بمنزلة عصابة المرأة والإجماع منعقد على جوازها فهكذا هاهنا من غير تفرقة بينهما.
والمختار: ما قاله محمد بن يحيى ورآه الشافعي.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو ما رواه أبو حميد، وهو أن الرسول سجد ومكَّن جبهته من الأرض، وهو إذا سجد على حائل متصل فلم يمكِّن جبهته من الأرض فلهذا لم يكن مجزياً.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الحائل المتصل يكون بمنزلة عصابة المرأة.
__________
(1) هذا طرف من حديث طويل رواه رفاعة بن رافع أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن، وفيه رواية لأبي داود بلفظ: ((لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه... إلى أن قال: ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله))، وفي رواية أخرى له: ((لم يكبر ويسجد ويمكن وجهه)) وفي رواية: ((جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله)) انظر: (فتح الغفار)1/205.
قلنا: إن عصابة المرأة دعت إليها الضرورة وأوجبتها الحاجة بخلاف ما نحن فيه فإنه لا ضرورة فيه ولا حاجة ملجئة إليه فلهذا لم يجز. وإن كان بجبهته جراحة فعصب على تلك الجراحة بعصابة وسجد عليها جاز ذلك لأنه لما جاز ترك أصل السجود لعذر فبأن يجوز ترك مباشرة الجبهة لعذر أولى وأحق، ويستحب السجود على جميع الجبهة لما روى أبو حميد: ((أنه[ ] مكن جبهته من الأرض))، والتمكين يكون بأن يسجد عليها فإن سجد على بعضها أجزأه لحديث جابر أنه سجد على قصاص رأسه وهو أعلى الجبهة، ويؤيد ما ذكرناه أن الجبهة عظم مستطيل من الصدغ إلى الصدغ فحكم جانبيها حكم وسطها، وفي الخبر عن رسول الله أنه أمر الساجد بوضع الجبهة وهي بين الصدغين عند السجود، ومن تعذر عليه السجود على الجبهة يعدل إلى السجود إلى جانبيها من الصدغين فإن تعذر عليه الصدغان والسجود على جانبيهما فإنه يعدل إلى الإيماء ولا يسجد على الأنف بحال. وإن هوى الرجل ليسجد فسقط على جنبه ثم انقلب فماست جبهته الأرض فإن كان بانقلابه نوى السجود أجزأه وإن لم ينوه لم يجزه لأنه إذا سقط على جنبه فقد خرج عن سمت السجود فلا يرجع إليه إلا بفعل ونية والفعل أن يعود جالساً ثم يسجد لأنه عمل قليل والنية أن ينوي بانقلابه السجود.
الفرع الثامن: وهل يجب الإطمئنان في السجود أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب وهو أن يلبث ساجداً لبثاً ما وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله لمن علمه الصلاة: ((ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً)).
المذهب الثاني: أنه غير واجب وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا }[الحج:77]. ولم يفصل بين الطمأنينة وغيرها.
والمختار: ما قاله علماء العترة من وجوب الطمأنينة لأن الأحاديث كلها متظاهرة على الأمر بالإطمئنان في السجود.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الآية دالة على مطلق السجود من غير اطمئنان.
قلنا: الآية دالة على مطلق السجود والأخبار دالة على تقييده بالطمأنينة فيجب حمل الآية على ما دلت عليه الأخبار توفقه بين الأدلة الشرعية وجمعا بينها وحذراً من تناقضها وهكذا يجب حمل الخلاف في تمكين الجبهة فإن كل من قال بوجوب تمكينها فهي الطمأنينة عنده كما هو رأي أئمة العترة ومن قال بأن التمكين غير واجب فيها قال: إن الطمأنينة غير واجبة كما هو رأي أبي حنيفة فإلى هذا نريد بالخلاف في تمكينها والله أعلم. ويستحب الإسترخاء عند السجود لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا سجد كالخرقة البالية، ويستحب التفجج في السجود. والتفجج بجيمين ويروى [بحاء وجيم] وبتقديم الحاء على الجيم، وهو تباعد ما بين الفخذين وهو نقيض الإحتفاز لما روي أن الرسول كان إذا سجد تفجج في سجوده مثل تفجج الظليم(1)
وهو ذكر النعام لتباعد ما بين فخذيه، يكون في مشيته تفكك، وأما المرأة فتحتفز في سجودها وتضم فخذيها وتضم يديها عند ركوعها ولا تفرج آباطها كما يفعل الرجل لقوله : ((النساء عي وعورات، فاستروا عيهن بالسكوت، وعوراتهن بالبيوت)). وقد وافقنا الفقهاء في مخالفة سجود المرأة لسجود الرجل وخالفونا في الركوع وقالوا: إن الركوع في حق الرجال والنساء واحد.
والمختار: المخالفة في الركوع السجود للنساء كما أوضحناه.
الفرع التاسع: في بيان الذكر المشروع في السجود ويشتمل على أحكام ثلاثة:
__________
(1) جاء في حاشية الأصل: ويجافي بطنه عن فخذيه؛ لأنه كان إذا سجد جافى حتى أن بهيمة لو أرادت تمر بين يديه مرت، وقيل: إذا كان في الصف لا يجافي كيلا يؤذي جاره، وقيل: هذا في النافلة وأما ا لفريضة فيجافي. ا هـ.
الحكم الأول: أن الذكر مشروع في حال السجود والركوع كما مر بيانه ولا خلاف في كونه مشروعاً لما روي عن الرسول أنه قال: ((أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجداً " ))(1). فلهذا استحب الذكر بالتسبيح والثناء على الله تعالى وطلب الرغائب من عنده في هذه الحالة القريبة منه. وهل يكون واجباً في الركوع والسجود أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه مستحب غير واجب وهذا هو رأي أئمة العترة وأكثر الفقهاء.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا }[الحج:77]. ولم يأمر بالتسبيح في الركوع والسجود، وقوله لمن علمه الصلاة: ((ثم اركع حتى تطمئن راكعاً واسجد حتى تطمئن ساجداً)). ولم يأمره بالتسبيح، فدل ذلك على أنه غير واجب.
المذهب الثاني: أنه واجب، وهذا شيء يحكى عن بعض أهل الظاهر، ورواية عن أحمد بن حنبل ولم تصح عنه.
والحجة لهم على ما قالوه: قوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}[الأحزاب:42]. وهذا أمر ولا خلاف أنه لا يجب في غير الصلاة فلهذا قلنا بوجوبه في الصلاة.
والمختار: ما عليه العلماء من أئمة العترة وغيرهم من الفقهاء من استحبابه.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو أن الأصل براءة الذمة عن الوجوب ولا يشغل إلا بدليل شرعي ولا دلالة على وجوبه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ}. وهو أمر والأمر للوجوب.
قلنا: يجب حمل الآية على الاستحباب لما اذكرناه من الدليل على عدم الوجوب جمعاً بين الأدلة الشرعية وملآئمة بيهما.
الحكم الثاني: في صفة التسبيح في حال السجود، وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن المستحب الأفضل فيه أن يقال: سبحان الله الأعلى وبحمده. وهذا هو رأي القاسم والهادي ومحكي عن الصادق.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة بلفظ: ((وهو ساجد فأكثروا من الدعاء)).
والحجة على هذا: ما ذكرنا من الفضل بالتسبيح على هذه الصفة في الركعتين بآخر سورة ((الفرقان)) وبصدر سورة ((المؤمنون)) وفي هذا دلالة على أن الأفضل فيه إيراده على هذه الصفة التي ذكرناها.
والمذهب الثاني: أن الأفضل فيه أن يقال: سبحان ربي الأعلى. وهذا هو رأي الإمام زيد بن علي وأحمد بن عيسى والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا ما روي أنه لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ " }[الواقعة:74]. قال[ ]: ((اجعلوها في ركوعكم)). و[لما] نزل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى " }[الأعلى:1]. قال: ((اجعلوها في سجودكم " ))(1).
المذهب الثالث: أن الأفضل أن يقال في تسبيح السجود: ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يقول في سجوده: اللهم لك سجدت ولك أسلمت وبك آمنت وأنت ربي سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين.
ويستحب: أن يدعو في سجوده بما أحب من أمر دينه وديناه، لما روى أبو هريرة أن الرسول كان يدعو في سجوده فيقول: ((اللهم، اغفر لي ذنبي كله؛ " دقة وجله، آخره وأوله، علانيته وسره)) (2).
المذهب الرابع: محكي عن الشافعي بقوله في سجوده: سجد وجهي حقاً حقاً تعبداً ورقاً. وهذه الأدعية الطويلة إنما تستحب إذا كان منفرداً فأما إذا كان إماماً فربما يثقل على المؤتمين وإذا كان مأموماً خالف إمامه.
والمختار من هذه المذاهب إذا لم يقتصر على التسبيح: المأثور من جهة الرسول ما نقل عن أمير المؤمنين فإنه لا يقوله إلا [عن] توقيف من جهة الرسول وهل يزاد في الدعاء أو ينقص على ما ورد من جهة الرسول ؟ فيه تردد.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود.
والمختار: جواز الزيادة لما روي عن الرسول أنه قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)). ومعنى قوله: ((قمن)) أي جدير وحقيق وحريٌّ أن يستجاب لكم، ويروى بفتح الميم وكسرها، وتكره القراءة في حال السجود لما روى ابن عباس رضي عنه أن الرسول قال: ((نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً ))(1).
الانتصار: واعلم أن هذه المذاهب كلها منقولة من جهة الرسول والغرض أنها كلها في حيز الجواز وإنما المطلوب هو الأفضل وقد ذكرنا ما هو الأفضل منها.
الحكم الثالث: في عدد تسبيحات السجود، والمستحب هو الإقتصار على ثلاث تسبيحات في حال السجود لما روى ابن مسعود عن الرسول : ((إذا سجد أحدكم فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى فقد تم سجوده))(2).
ولا خلاف أنها هي المشروعة. وهل يزاد على هذه العدة؟ فحكي عن الهادي أنه لا يتجاوز من الأوتار إلا إلى خمسة، وعن الصادق والباقر والناصر أنه يزاد على هذه الثلاثة فيكون سبعاً أو تسعاً، وعن الحسن البصري لا يزاد على الخمسة والسبعة، وعن زيد بن علي والقاسم لا يزاد في السجود على ما ورد من جهة الرسول على هذه الثلاث، ومعنى الرب هو المالك لجميع المكونات في العالم يتصرف بها كيف شاء من جميع أنواع التصرفات ألا له الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود عن ابن عباس بلفظ: كشف رسول الله الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: ((يأيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً وساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)).
(2) وفي رواية الترمذي عن ابن مسعود بلفظ: ((إذا قال أحدكم في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثاً فقد تم ركوعه و ذلك أدناه، وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً فقد تم سجوده، وذلك أدناه)).
الفرع العاشر: في الرفع من السجود،ويستحب أن يكبر عند رفع رأسه من سجوده لما روى أبو هريرة أنه كان يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود وهل يكون التكبير مقصوراً أو ممدوداً فقال أبو حنيفة يكون مقصوراً وحكي عن الشافعي أن ابتداء التكبير يكون مع أول الرفع ويمده حتى ينتهي آخره مع انتهاء الرفع لئلا يخلو فعل، من ذكر وفيه التردد الذي ذكرناه في الركوع فأغنى عن الإعادة.
---
القول في القعود بين السجدتين
ولا خلاف في استحباب القعود بن السجدتين، وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((ثم يرفع رأسه من السجود حتى يطمئن جالساً))(1).
المذهب الثاني: أنه غير واجب وهذا هو رأي أبي حنيفة، ومحكي عن مالك فمتى رفع رأسه رفعاً ما وإن قل أجزأه ذلك ولا يجب عليه الطمأنينة حتى روي عن أبي حنيفة أنه قال: لو رفع جبهته بقدر ما يدخل بين جبهته والأرض مقدار صفيحة السيف أجزاه فأما مالك فإنه يعتبر ما كان أقرب إلى الجلوس فإنه يجزيه وهكذا يعتبر في الإعتدال عن الركوع ما كان أقرب إلى القيام.
والمختار: ما عليه أئمة العترة ومن تابعهم.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو أن المعلوم من حاله أنه كان يعتدل من الرفع لرأسه عن السجود ويطمئن وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
والحجة لأبي حنيفة ومالك: هو أن المأخوذ على المصلي إنما هو الركوع والسجود كما قال تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا }[الحج:77]. وهذا يقال له: راكع وساجد وإن لم يعتدل بين السجدتين وفي هذا ما نريده من بطلان الإعتدال.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: المأخوذ عليه هو الركوع والسجود بدليل قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77].
قلنا: إن قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77] نص في طلبهما جميعاً وظاهر في الوجوب ومجمل في كيفية السجود وقد بين كيفية السجود بقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). ويفعله فإنه كان يعتدل بين السجدتين ولنا فيه أسوة حسنة في إتباعه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في صفة هذه القعدة. وفيها مذهبان:
المذهب الأول:أن يثني رجله اليسرى ويقعد عليها وينصب قدمه اليمنى وهذا هو رأي أئمة العترة وأحد قولي الشافعي.
__________
(1) ورد في الحديث الطويل الذي رواه رفاعة بن رافع، أخرجه الترمذي وقد تقدم.
والحجة على هذا:ما روي أن أبا حميد وصف صلاة رسول الله قال: فلما رفع رأسه من السجدة الأولى ثنى رجله اليسرى وقعد عليها واعتدل حتى رجع كل عضو إلى موضعه.
المذهب الثاني: محكي عن الشافعي أنه يجلس على صدور قدميه والأول هو المشهور عن الشافعي ولم أعثر على هذا القول للشافعي في شيء من الأحاديث في صحيح البخاري وصحيح الترمذي.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم.
وحجتهم:ما ذكرناه ونزيد هاهنا وهو ما رواه رفاعة بن رافع أنه قال لمن علمه الصلاة:((فإذا سجدت فمكن سجودك وإذا قعدت فاقعد على فخذك اليسرى)) (1).
الانتصار: أن القعدة على الفخذ اليسرى مما لا خلاف فيها بين الأئمة والفقهاء، وأما ما روي عن الشافعي في الرواية الثانية فغير مشهورة ولا لها وجه في الأحاديث.
الفرع الثاني:وهل يكره الإقعاء في الجلوس أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول:أنه مكروه وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي.
والحجة على [هذا]:ما روي عن الرسول أنه نهى عن الإقعاء في الصلاة.
المذهب الثاني:أنه من السنة وأنه غير مكروه وهذا مروي عن العبادلة عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير فهؤلاء من الصحابة، ومن التابعين نافع وطاووس ومجاهد واختلف في تفسير الإقعاء على أقوال ثلاثة:
فالقول الأول:محكي عن أبي عبيد هو أن ينصب ساقيه معاً على الأرض ويجلس على أليته.
القول الثاني:حكاه أبو عبيد عن أئمة الأدب يقول: الإقعاء هو: أن يفترش رجليه ويجلس على عقبيه.
القول الثالث:حكاه الشيخ أبو إسحاق من أصحاب الشافعي أن الإقعاء هو: أن يجعل يديه في الأرض ويقعد على أطراف أصابعه.
__________
(1) تقدم في حديث رافع بلفظ: ((إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر، ثم أقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ، وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك وإذا سجدت فمكن سجودك، فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى..)) الحديث، وفيه روايات عدة.
والحجة على ما قالوه:هو أن هذه القعدة إنما شرعت من أجل الإعتدال والاطمئنان وللفصل بين السجدتين ولا شك أن الإقعاء والافتراش سواء في الاعتدال والطمأنينة، فلا جرم كان الإقعاء مسنوناً كالافتراش من غير فرق.
والمختار: ما قاله علماء العترة من كراهة الإقعاء.
وحجتهم:ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو ما روي أن الرسول قال لعلي كرم الله وجهه: ((يا علي، أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقع بين السجدتين))(1).
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا:إن هذه القعدة شرعت من أجل الإعتدال فكانت مسنونة كالافتراش.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لا وجه للقياس في العبادات فإنه لا مجرى للأقيسة فيها.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما رويناه عن الرسول فإنه نص صريح في كراهة الإقعاء والقياس لا يمكن معارضته للأخبار المروية عن الرسول لأن القياس مشروط في العمل به والاعتماد عليه بأن لا يعارضه نص من الكتاب والسنة.
الفرع الثالث: هل في هذه القعدة ذكر مشروع أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا ذكر فيها مشروع وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة فأما الشافعي فلم يرو أصحابه عنه في هذا شيئاً من الذكر.
والحجة على هذا: ما في حديث رفاعة: ((ثم يكبر فيسجد ثم يكبر فيستوي قاعداً )). ولم يذكر فيها ذكراً. وما روى أبو مسعود البدري عن رسول الله أنه قال: ((لا تجزي صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود " )) (2).
ولم يذكر فيها ذكراً وفي هذا دلالة على عدم الذكر فيها.
المذهب الثاني: أن الذكر فيها مشروع وهذا شيء يحكى عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
__________
(1) أخرجه الترمذي.
(2) تقدم.
والحجة على هذا: ما روى ابن عباس عن الرسول أنه كان يقول بين السجدتين: ((اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وارزقني))(1).
وفي رواية أم سلمة: ((واهدني السبيل الأقوم)).
والمختار: ما قاله ابن عباس.
والحجة: الخبر الذي رويناه عنه. نزيد هاهنا وهو أن أفعال الصلاة لا ينفك شيء منها عن ذكر يخصه.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: حديث رفاعة وحديث ابن مسعود يدلان على أنه لا ذكر مشروع فيها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما لم يذكره في حديث رفاعة وابن مسعود لأن الغرض هو ذكر القعدة وبيان وجوبها ولم يتعرض للذكر المشروع فيها.
وأما ثانياً: فلأن خبر ابن عباس مشتمل على بيان زيادة ليست في خبرهما والزيادة مقبولة من جهة العدل فلهذا وجب قبولها.
الفرع الرابع: ثم يسجد سجدة ثانية على ما وصفنا في الأولى من التكبير والهيئة، فإذا رفع رأسه منها فهل يستوي قاعداً ثم ينهض أو يقعد قعدة خفيفة ثم ينهض؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن هذه القعدة غير مشروعة وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقول للشافعي حكاه المزني.
والحجة على هذا: ما رواه وائل بن حجر أن الرسول كان إذا رفع رأسه من السجود استوى قائماً بتكبيرة ولم يقعد. وإذا قلنا: لا يقعد فإنه يبتدئ بالتكبير مع ابتداء الرفع وينتهي به مع انتهاء الرفع وذلك يكون عند أول حالة القيام.
المذهب الثاني: أنه يقعد قعدة خفيفة للإستراحة وهذا هو المذكور عن الشافعي في (الأم).
__________
(1) رواه الترمذي وأبو داود، قال في (فتح الغفار)1/205: إلاَّ أنه قال فيه-يعني أبا داود-: وعافني مكان واجبرني، وأخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه، ا هـ، وليس في لفظ هذه الرواية: ((وارفعني)) كما جاء في لفظ المؤلف المحقق.
والحجة على هذا: ما روى أبو حميد الساعدي أنه ذكر ذلك في صفة صلاة رسول الله ، وروي عن مالك بن الحويرث أنه رأى الرسول يصلي فكان إذا كان في وتر في صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً ومعنى الوتر أنه يقعد في ركعة واحدة لا غير، هذا هو مراد المحدثين بالوتر إذا قالوا: أقام في وتر من صلاته. وإذا قلنا: يقعد فإنه يقعد مفترشاً لما روى أبو حميد في صفة صلاة رسول الله . ومتى يبتدئ بالتكبير؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يبتدئ به عند ابتداء رفع رأسه من السجود وينتهي به إلى حالة القعود.
وثانيهما: أنه يطيل التكبير ولا يطيل القعود ويتم التكبير في حال النهوض للقيام، وهذا هو الأشبه بهذه القعدة لأن أفعال الصلاة لا تخلوا عن ذكر.
والمختار: ما قاله أئمة العترة ومن وافقهم.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو أن هذه القعدة مخالفة لأصل الصلاة وموضعها لأنه ليس في الصلاة المفروضة قعود في ابتداء ركعة ولا معنى لكونها فصلاً بين الركعة الأولى والثانية لأن الفصل في الوتر لا وجه له فثبت أنها [فعل] غير مشروع.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روى [أبو] حميد الساعدي ومالك بن الحويرث هذه القعدة في صفة صلاة رسول الله وأنها مشروعة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه حكاية فعل لا ندري على أي وجه وقع والأفعال الغالب من حالها الإجمال في وقوعها وهي محتاجة إلى البيان.
وأما ثانياً: فلعل ذلك إنما كان من أجل ضعف عرض فقعد فيها للإستراحة فعلى هذا يبطل كونها مشروعة في الصلاة لأن ما كان مشروعاً فلا يختلف حاله بالضعف والقوة.
الفرع الخامس: وإذا أراد القيام إلى الركعة الثانية من السجود فهل ينهض معتمداً على الأرض بيديه أو يكون معتمداً على صدور قدميه؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه ينهض معتمداً على الأرض بيديه وهذا هو رأي أئمة العترة ومروي عن ابن عمر وعمر بن عبدالعزيز ومالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: ما روى مالك بن الحويرث في صفة صلاة رسول الله قال: فلما رفع رأسه من السجود في السجدة الأخيرة من الركعة الأولى اعتمد على الأرض بيديه.
المذهب الثاني: أن يعتمد على صدور قدميه عند النهوض ولا يكون معتمداً على يديه، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة، ومروي عن أمير المؤمنين وابن مسعود.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله ينهض في الصلاة على صدور قدميه.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو أن المصلي إذا كان معتمداً علي يديه في القيام كان أعوز له وأشبه بالتواضع ثم يرفع ركبتيه قبل رفع يديه بخلاف السجود فإنه يضع يديه قبل ركبتيه فعلى هذا يكون أولهما وضعاً وآخرهما رفعاً وعلى هذا يكون الترتيب في الوضع عند السجود على الأرض فيضع أولاً يديه ثم ركبتيه ثم جبهته.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روى أبو هريرة أنه اعتمد عند النهوض على صدور قدميه.
قلنا: ما رواه مالك بن الحويرث في صفة صلاة رسول الله أرجح لأنه قصد الوصف والمبالغة فيها والتحفظ على أداء هيئتها، وما رواه أبو هريرة فإنما كان على جهة الرواية دون الصفة فيحتمل أن يكون اعتماده على صدور قدميه لأمر عارض بخلاف ما توهموه فكان ما قلناه أحق بالقبول.
الفرع السادس: ثم يقوم إلى الركعة الثانية فيصليها مثل الأولى إلا في النية ودعاء الاستفتاح لأن ذلك إنما يراد للدخول في الصلاة وهو داخل فيها، فإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين من الرباعيات فإنه يجلس ويتشهد، وهذان أعني التشهد والجلسة هل يكونان واجبين أو سنتين؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهما سنتان وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أكثر الفقهاء من أهل العلم.
والحجة على هذا: ما روى ابن بحينة(1)
أن رسول الله قام على ركعتين من الظهر أو العصر لم يقعد بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين للسهو ثم سلم، ولو كانتا واجبتين لم يجبرهما بسجود السهو كالركوع والقيام.
والمذهب الثاني: أنهما واجبتان وهذا شيء يحكى عن الليث وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود وأبي ثور.
والحجة على هذا: ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: علمنا رسول الله إذا قعدنا في الركعتين أن نقول: ((التحيات.. إلى آخره))(2).
وظاهر التعليم دال على الوجوب إلا لدلالة وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
ومن وجه آخر: وهو أنها قعدة تشتمل على الذكر فكانت واجبة كالقعدة الأخيرة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وأكثر أهل العلم من كونهما سنتين.
__________
(1) في حاشية الأصل: هو عبد الله بن بحينه بباء موحدة مضمومة، وحاء مهملة مفتوحة، وياء مثناة من تحت ساكنة، ونون ثم هاء، بنت ا لأرت، وهو الحرث بن المطلب بن عبد مناف، وأمها أم صيفي بنت الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، أسلمت وتابعت رسول الله ذكره النووي. وهو أزدي حليف لبني عبد المطلب بن عبد مناف.
…قال في (الجرح والتعديل)5/150: له صحبة،روى عنه عبد الرحمن الأعرج، وحفص بن عاصم، وابنه علي اهـ، له عن النبي أحاديث يسيرة لإقباله على العبادة، روى عنه أهل المدنية وبها مات في آخر ولاية معاوية، راجع (مشاهير علماء الأمصار)1/15 و(الثقات)3/216، و(الاستيعاب)3/982.
(2) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، قال في (جواهر ا لأخبار) حاشية (البحر) 1/275: وفيه للستة إلا الموطأ روايات أخر، يتضمن بعضها زيادات، ولفظه هنا: عن ابن مسعود قال: علمني رسول الله التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن: ((التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد ألاَّ إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)).
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو أن الوجوب مفتقر إلى دلالة من قول أو فعل وهذان أعني القعدة والتشهد ليس فيهما دلالة على وجوبهما فلهذا بطل وجوبهما.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روى ابن مسعود تعليم التشهد فلهذا قضينا بوجوبه.
قلنا: إنه كما يعلم الأمور الواجبة فهو يعلم السنن والآداب والحكم فليس تعليمه مقصوراً على الواجبات فمجرد التعليم لا يدل على الوجوب.
الفرع السابع: في التشهد الأوسط، وقد ذكرنا حكمه في كونه سنة فلا نعيده.
واعلم أن القعدات في الصلاة ثلاث فاثنتان واجبتان وواحدة مسنونة، فأما الواجبتان فهما القعدة في التشهد الأخير كما سنوضحه والقعدة بين السجدتين للاعتدال، وأما المسنونة فهي للتشهد الأوسط، وهو مشتمل على أحكام خمسة:
الحكم الأول: في هيئة القعود وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: الافتراش في كلا التشهدين الأول والأخير وهو أن ينصب قدمه اليمنى ويفرش رجله اليسرى ويفضي ببطون أصابعه إلى الأرض وهذا هو رأي الهادي والقاسم ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: وهو رأي زيد بن علي والمؤيد بالله وهو ما رواه أبو حميد الساعدي في وصف صلاة رسول الله فإنه قال: إذا قعد للتشهد أن [نصب] رجله اليمنى وافترش رجله اليسرى وقعد عليها وأفضى ببطون أصابع رجله اليمنى إلى الأرض(1).
المذهب الثاني: التَّوَرُّك هو السنة فيهما جميعاً وهذا هو قول مالك.
__________
(1) جاء الحديث في روايتين كلتاهما تختلف إلى حد ما في لفظها عن رواية المؤلف الأولى لأبي داود قال: فإذا قعد في الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى ونضب اليمنى، فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى في الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة.
…وفي رواية الترمذي: فإذا جلس في الركعتين جلست على رجله اليسرى ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته.
والحجة على هذا: ما روي عن رسول الله أنه قعد في الركعة الأخيرة فأفضى بمقعدته إلى الأرض ونصب قدمه اليمنى وأخرج رجله اليسرى من تحت مأبض رجله اليمنى وإذا كانت السنة هي التورك في الأخيرة فهكذا يكون الجلوس في التشهد الأوسط بجامع كونهما قعدة تشتمل على ذكر فلهذا كان التورك فيها مسنوناً.
المذهب الثالث: الإفتراش في التشهد الأول والتورك في التشهد الأخير وهذا هو رأي الشافعي.
الحجة على هذا: أن أبا حميد الساعدي وصف صلاة رسول الله فقال: لما جلس في الأوليين ثنى رجله اليسرى وقعد عليها ونصب اليمنى ولما قعد في الرابعة أخَّر رجله عن وركه وأفضى بمقعدته إلى الأرض ونصب وركه اليمنى(1).
المذهب الرابع: الإفتراش في التشهد الأول الذي وصفنا فإذا كان في الركعة الأخيرة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وقدم رجله اليسرى وأخرج قدميه من ناحية واحدة وهذا شيء يحكى عن الناصر.
والحجة على هذا: ما روى [أبو] حميد الساعدي أن الرسول فعل هذا في صلاته فصارت هذه المذاهب كما ترى في هيئة القعود.
والمختار: هو الإفتراش في التشهد الأول والتَّوَرُك في التشهد الأخير كما وصفنا من حالهما.
والحجة على هذا: ما رواه أبو حميد من صفة صلاة رسول الله فإنه فرق بين قعوده في التشهد الأوسط وبين قعوده في التشهد الأخير فإنه افترش في الأول وتَورَّك في الثاني.
والتفرقة بينهما ظاهرة، ولهذا كان المختار لأنه في التشهد الأول يريد القيام لإتمام الصلاة والافتراش أقرب إلى حاله القيام فهلذا آثره بخلاف التشهد الأخير فإنه آخر الصلاة فلا يحتاج فيه إلى قيام فلهذا تَوَرَّك فيه جمعاً بين الغرضين وتوفيراً على كل واحد منهما ما يستحق من الهيئتين.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
__________
(1) تقدم في حديث الساعدي في إحدى روايات أبي داود.
واعلم أن كل واحدة من القعدتين قد فعلها الرسول فآثر الإفتراش في الأولى لما ذكرناه، وآثر التَّورُّك في الثانية فمن العلماء من غلَّب حكم الأولى على الثانية فجعلهما جميعاً على هيئة الإفتراش ومنهم من غلَّب حكم الثانية على الأولى فجعلهما جميعاً على هيئة التَّورُّك ولهذا كان ما أخترناه جمعاً بين المذاهب لما وافيا بما نقل من الأحاديث في هيئة التشهدين كلامهما، فأما ما حكي عن الناصر فلم أعلم أن أحداً من أئمة العترة ولا من الفقهاء ذهب إليه، واعتماده على ما روي عن أبي حميد في صفة صلاة رسول الله من أنه أخرج رجليه جميعاً وقعد على وركه اليسرىـ فالمشهور عن أبي حميد خلاف هذا وهو الإفتراش في التشهد الأول والتَّورك في التشهد الأخير.
الحكم الثاني: في هيئة وضع اليد عند التشهد، فإذا قعد للتشهد فإنه يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ويبسط أصابعه اليسرى ويجعلها على شكل خلقتها من غير قصد منها لضم ولا تفريق، ومن العلماء من قال يضمها ومنهم من قال: يفرقها، والأولى ما ذكرناه، وأما اليمنى ففي كيفيه وضعها أربعة أقوال:
فالقول الأول: أن يضعها مبسوطة على فخذه اليمنى ويشير بالسبابة وهي المسبحة إلى الوحدانية عند الإثبات من غير قبض لشيء من الأصابع، وهذا هو الظاهر من مذهب القاسم والهادي لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول كان إذا جلس في الصلاة وضع يده على ركبته ورفع أصبعه التي تلي الإبهام اليمنى يدعو بها ويده اليسرى على ركبته يبسطها عليها، فظاهر هذا الخبر [دال] على أن اليدين مبسوطتان على الفخذين من غير قبض لأصابع اليمنى ولا عقدتها، وهل تكون الأصابع مضمومة أو منشورة؟ والمستحب أن تكون على شكل الخلقة لأن الخبر لم يشر فيها إلى قبض ولا بسط.
القول الثاني: أن يضعها على فخذه اليمنى مقبوضة الأصابع إلا المسبحة لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثاً وخمسين وأشار بالمسبحة(1).
القول الثالث: أن يقبض الخنصر والبنصر ويُحَلِّق بالإبهام والوسطى ويشير بالمسبحة لما روى وائل بن حجر أن الرسول فعل هكذا كأنه عاقد على ثلاثة وعشرين.
__________
(1) هذه في رواية لمسلم والنسائي عن ابن عمر، وقد حدد ابن بهران في (الجواهر) روايات عقد النبي أصابعه في التشهد بأربع هيئات، قال: وكلها مروية عن النبي .
…أما الأولى: وهي بسط الأصابع فهي في رواية ابن عمر ونحوها في إحدى روايات الأسعدي، وعن نمير الخزاعي قال: رأيت رسول الله واضعاً يده اليمنى على فخذه اليمنى رافعاً أصبعه السبابة قد …حباها شيئاً، أخرجه أبو داود والنسائي نحوه.
…والهيئة الثانية: وهي بصورة العقد على ثلاثة وعشرين، قيل: رواها وائل بن حجر، والذي في (التلخيص) عنه: ان رسول الله كان يحلق بين الإبهام والوسطى، وعزاه إلى ابن ماجة والبيهقي.
…والثالثة: وهي صورة العقد على ثلاثة وخمسين، وهي في رواية لمسلم وللنسائي عن ابن عمر.
…والرابعة: قيل: هي في إحدى روايات حديث أبي حميد الساعدي.
…قال ابن بهران: ولم أقف عليها فلعل دليلها ما عزاه في (التلخيص) إلى مسلم من رواية ابن الزبير بلفظ: كان يضع إبهامه علىالوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته، والله أعلم.
القول الرابع: أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى ويبسط الإبهام والمسبحة يشير بها لما روى أبو حميد الساعدي أن رسول الله فعل ذلك. فهذه الأخبار كلها دالة على [أن] النبي فعل هذه الهيئات مرة هكذا ومرة هكذا تسهيلاً للأمر وتوسعة في العبادة فكيفما وضع يده على هذه الحالات فقد أتى بالسنة وأصابها، ويشير بالمسبحة على جميع الأقوال كلها لما ذكرناه من الأخبار الدالة عليها والمستحب أن يشير بها عند الإثبات وهي قوله: (إلا الله) لا عند كلمة النفي وهي قوله: (لا إله). والسنة أن لا يجاوز بضره إشارته بإصبعه وهل يحركها أم لا؟ فيه روايتان:
الأولى: رواية ابن الزبير وهي أن لا يحركها. روى أن الرسول كان يشير بها ولا يحركها.
الرواية الثانية: رواية ابن عمر، روى عن رسول الله أنه كان يحركها وقال: ((إنها مذعرة للشيطان))(1).
وإذا قلنا: بأنه يحركها فإن حركتها يسيرة فلا تبطل بها الصلاة لأنه عمل قليل كما لو غمض عينيه.
والمختار: أنه لا يحركها لأن تحريكها لا فائدة فيه بحال.
الحكم الثالث: في بيان صفة الذكر المسنون في التشهد.
واعلم أن هذا التشهد قد كثرت فيه الأدعية وعظم اختلاف الناس فيما يختار فيه من الذكر. فحكي عن الطحاوي أنه قال: إن العلماء اتفقوا مع اختلافهم في ألفاظ التشهد[على] أن الرجل يختار لنفسه تشهداً واحداً يعمل به دون غيره.
قال المؤيد بالله: والأقوى عندي خلاف ذلك وهو ما قاله القاسم وهو أن ما تشهد به المتشهد فهو مغنٍ.
والمختار: ما قاله الطحاوي لأمرين:
أما أولاً: فلأن الأذكار متفاضلة وألفاظها متباينة وأدخلها في الفضل وأعلاها ما كان دالا على التوحيد والتنزيه والثناء على الله تعالى.
__________
(1) في رواية النسائي عن ابن عمر نحوه.
وأما ثانياً: فلأن الصحابة رضي الله عنهم متفاوتون في درجات الفضل والإختصاص بالرسول فلأجل هذا يتفاوت ما نقلوه في زيادة الأجر والثواب فلهذا كان الأحسن أن يختار الإنسان لنفسه تشهداً يعمل به كما يختار عالماً يقلده في العمليات في المسائل الاجتهادية. ونحن الآن نذكر اختلاف العلماء واختيار كل واحد منهم لما اختاره من ذكر التشهد.
القول الأول: محكي عن الإمام زيد بن علي والقاسم والهادي وهو أن الأفضل ما روى جابر عن رسول الله أنه كان يقول في تشهده: ((بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلها لله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله))(1).
القول الثاني: أن الأفضل عند المؤيد بالله ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يقول في تشهده: ((بسم الله والحمدلله والأسماء الحسنى كلها لله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله))(2).
فما اختاره الهادي والقاسم موافق لما اختاره المؤيد بالله إلا في قوله: ((وبالله)). وقوله: ((وحده لا شريك له)) فإن المؤيد بالله لم يذكرهما في تشهده ويكتفي بقوله: ((وأن محمداً عبده ورسوله)).
القول الثالث: أن الأفضل عند الناصر ما رواه عن أمير المؤمنين أنه كان يقول في تشهده: ((بسم الله الرحمن الرحيم وخير الأسماء لله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله)). فهذه الأقوال في التشهد مأثورة عن أكابر أهل البيت كما روينا.
__________
(1) التشهد المروي عن جابر عزاه ابن بهران إلى (الجامع الكافي) وهو بلفظ: ((بسم الله وبالله والتحيات لله والصلوات والطيبات...))إلخ، أخرجه النسائي.
…قال في (الجواهر)1/274: وأما الرواية التي قصد المصنف (المرتضى، مصنف البحر) فإنما رواها في (أصول الأحكام) عن الحرث عن علي أنه كان يقول في التشهد في الركعتين الأوليين: بسم الله وبالله والحمد لله...إلخ، قال: وظاهره الوقف على علي .
(2) تقدم.
القول الرابع: أن الأفضل عند الشافعي ما رواه ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول وهو أن يقال: ((التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمته وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله))(1).
ورواه أبو داود عنه خلا أن أبا داود زاد الألف واللام في السلامين والأمر فيه قريب لأن الألف بدل من التنوين فهما يتعاقبان.
القول الخامس: أن الأفضل عند أبي حنيفة ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن الرسول أن يقال فيه: ((التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) (2).
وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والثوري واختاره ابن المنذر من أصحاب الشافعي.
القول السادس: أن الأفضل عند مالك ما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله أنه علم الناس التشهد على المنبر فقال: ((التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) (3).
القول السابع: محكي عن أبي علي الطبري من أصحاب الشافعي أن الأفضل أن يقال: بسم الله وبالله التحيات المباركات الزاكيات والصلوات والطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فهذه أقاويل العلماء في اختيار التشهد كما ترى.
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود بتعريب السلام في الموضعين؟
(2) تقدم.
(3) أخرجه في الموطأ عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد، ويقول: قولوا: التحيات لله والزاكيات لله...إلخ.
والمختار عندنا: ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه واختاره المؤيد بالله وهو قريب مما اختاره الهادي والقاسم وزيد بن علي لأن ما اختاره هؤلاء الأكابر من أهل البيت فهو الأفضل عند الله لما خصهم الله به من الفضل وعلو المنزلة في العلم والعمل ومالهم من العناية في أمر الدين وإحياء معالمه والإجتهاد في أن تكون كلمة الله هي العليا فلهذا كان مختاراً على غيره.
الانتصار: يكون ببيان أفضلية ما اخترناه وقد ظهر ذلك بالإضافة إلى من أختاره وهم أكابر أهل البيت وساداتهم وبالإضافة إلى ما رووه من جهة أمير المؤمنين وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، نعم الكل مصيب وآخذ من جهة صاحب الشريعة صلوات الله عليه وكل ما ذكرناه قد أمر به وفعله وأشار إلى المواضبة عليه والدعاء إليه لكن الغرض في طلب الأفضل والأكثر أجراً وثواباً إتباعاً لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }[الزمر:18]. وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }[الزمر:55].
الحكم الرابع:في تفسير هذه الكلمات:
فأما التحيات:فروي عن ابن عباس وابن مسعود، أنهما قالا: معنى التحيات لله العظمة لله،وحكي عن ابي عمرو بن العلاء أن التحيات لله: الملك لله، وعن بعضهم التحيات لله: تعني سلام الخلق مأخوذ من قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ }[الأحزاب:44].
وأما الصلوات:فأراد أن هذه الصلوات فروضها ونوافلها مضافة إلى الله لإستحقاقه للعبادة بها لوجهه.
وأما الطيبات:فأراد أن الأعمال الصالحة لله تعالى كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }[فاطر:10]. وقيل:الطيبات المحامد والممادح والثناآت الحسنة يستحقها الله وتكون مضافة إليه.
وأما السلام:ففيه وجهان:
أحدهما:أن المراد اسم السلام والسلام هو الله كما يقال: اسم الله عليك.
وثانيهما:أن الغرض به الدعاء كأنه قال: سلمك الله تسليماً وسلاماً، وقد ورد السلام في التشهد تارة معرفاً باللام وتارة منكراً من غير لام كما ورد من جهة الله تعالى على الوجهين جميعاً فقال في السلام على عيسى {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً }[مريم:15]. وقال تعالى: { وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ }[مريم:33] فأتى به معرفاً باللام. وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى }[النمل:59]. وقال تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [القصص:55]. فأتى به منكراً وكله دال على السلامة من جهة الله تعالى.
الحكم الخامس: وهل تسن الصلاة في التشهد الأول أو لا؟ والظاهر من مذهب الهادي والقاسم أنها غير مسنونة لما روى ابن مسعود رضي الله عنه عن الرسول أنه كان إذا جلس في التشهد الأول فكأنما يجلس على الرضف والرضف بسكون الضاد وتحريكها هو الحجارة المحماة وفي هذا دلالة على أنه كان لا يُصَلَّى فيه على الرسول ، وحكي عن مالك أنه يصلي فيه على الرسول ويدعو.
وهل تسن الصلاة على الآل أم لا؟ فمن قال: الصلاة عليه مسنونة، قال: الصلاة على آله مسنونة؛ لأنهم تابعون له، ومن قال: الصلاة عليه غير مسنونة، قال: الصلاة على الآل غير مسنونة، فهذه الأحكام الخاصة للتشهد الأوسط.
الفرع الثامن: ثم يقوم إلى الركعة الثالثة معتمداً على الأرض بيديه لما رويناه من حديث مالك بن الحويرث، ويكره تقديم إحدى رجليه عند النهوض في الصلاة، وقال مالك: لا بأس به.
والحجة على ما قلناه: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ما هذه الخطوة الملعونة فدل ذلك على كراهتها ثم يركع لها ويسجد كما قلناه في الثانية، فإن ركع وسجد في الفريضة بنية النافلة فهل تبطل صلاته أم لا؟ فالظاهر على المذهب بطلان صلاته وهو قول الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه يقع عن فرضه وإن نواه عن النفل.
والحجة على ما قلناه: أن الركوع والسجود ركنان من أركان الصلاة فإذا أراد بهما نية النفل لم يكن مجزياً له كسائر الأركان، ثم يقوم إلى الرابعة يفعل فيها مثل ما فعل في الثالثة فإذا فعل ذلك فقد أكمل الركوع والسجود.
---
القول في التشهد الأخير
ولا خلاف في كونه مشروعاً لأن الرسول فعله وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول في هذه القعدة: هل تكون واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة، وهذا هو رأي القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وهو أحد قولي الشافعي ورأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن الرسول كان يواضب على فعله ويستمر عليه وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). فدل ذلك على وجوبه، ومقدار الواجب منه ما تؤدى فيه الشهادتان والصلاة على الرسول وعلى آله لأنهما واجبان كما سنوضحه.
المذهب الثاني: أن هذه القعدة مستحبة غير واجبة وهذا هو المحكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه وهو قول مالك والزهري والثوري.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77].
ووجه الحجة من هذه الآية: هو أن الله تعالى أمر بالركوع والسجود من غير زيادة ولم يأمر بالقعود فإذا فرغ من الركعة الرابعة فقد تمت صلاته قعد أو لم يقعد.
والمختار: ما قاله أئمة العترة ومن تابعهم.
وحجتهم:ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو قوله : ((إذا قعدت فقد تمت صلاتك " )) (1).
فظاهر الخبر دال على أن آخر واجبات الصلاة من الأفعال هو هذه القعدة فإن فيها إتمام الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا:الآية دالة على أن هذه القعدة غير واجبة لأنها ليست ركوعاً ولا سجوداً.
قلنا:عن هذا جوابان:
__________
(1) جاء هذا في رواية للترمذي عن رفاعة أن النبي قال لمن علمه الصلاة: ((إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ)) إلى آخر الحديث، وقد تقدم.
أما أولاً: فلأن الآية وإن كانت نصاً في طلب الركوع والسجود فهي ظاهرة في طلب الأمر لكنها مجملة بالإضافة إلى كيفية آداء الركوع والسجود فتكون مفتقرة إلى البيان وبيانها موكول إلى لسان صاحب الشريعة وقد بينها بفعله بأن قعد عقيب الركوع والسجود، وفي هذا دلالة على أنها من جملة الركوع والسجود في الوجوب.
وأما ثانياً:فلأن ما ذكروه معارض بما روينا من الخبر والجمع بينهما ممكن لأن الآية ليس في ظاهرها ولا في صريحها ما يدل على بطلان هذه القعدة وإذا كان الأمر هكذا وجب حمل الآية على وجوب الركوع والسجود والخبر على إيجاب هذه القعدة فيكون جمعاً بينهما من غير مناقضة وهذا هو مطلوبنا.
الفرع الثاني: في الشهادتين ولا خلاف في كونهما مشروعتين في هذه القعدة وإنما الخلاف هل تكونان واجبتين أم لا؟ وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهما واجبتان، وهذا هو رأي الهادي والقاسم وزيد بن علي ومحكي عن عمر بن الخطاب وأبي مسعود البدري وابن عمر.
والحجة على هذا: ما روي عن ابن مسعود أنه قال: أخذ بيدي رسول الله فقال: ((قل التحيات لله " )) (1)...
إلى آخره. والأمر للوجوب.
المذهب الثاني: أنهما غير واجبين، وهذا هو رأي الناصر ومحكي عن أمير المؤمنين والزهري ومالك والثوري وهو قول أبي حنيفة.
والحجة عليه: هو أن الرسول علم الأعرابي الصلاة حتى قال له: ((ثم اقعد حتى تطمئن قاعداً فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك)). فعلق صحة الصلاة بالقعود ولم يذكر التشهد فلو كان واجباً لذكره لأنه في محل التعليم والبيان وإن جاز تأخيره عن وقت الخطاب فلا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.
والمختار: ما قاله الأكثر من علماء العترة من وجوب الشهادتين.
__________
(1) تقدم.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن ابن مسعود أنه قال: كنا نؤمر قبل أن يفرض علينا التشهد بأن نقول: السلام على اللّه.قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فقال الرسول صلى الله عليه: ((لا تقولوا: السلام على الله " ، فإن الله هو السلام ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات))(1).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه قال: قبل أن يفرض علينا التشهد. فدل على أنه قد فرض.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إن النبي علَّم الأعرابي الصلاة ولم يذكر الشهادتين فدل على أنهما لا تجبان.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإنه إنما لم يذكر الشهادة لأنه اعتمد على بيان الأفعال لما كانت أهم إذ لا خلاف فيها ويرجع في مقام ثاني إلى بيان ما يجب من الأقوال والأذكار.
وأما ثانياً: فلأن هذا مُعَارَض بما ذكرناه وإذا تعارضا فلا بد من الترجيح وخبرنا دال على الزيادة فلهذا كان راحجاً على غيره مما لم يدل على الزيادة.
الفرع الثالث: في الصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله، ولا خلاف في أنها مشروعة، وهل تكون واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة، وهذا هو رأي القاسم ومحكي عن عمر بن الخطاب وابنه عبدالله بن عمر وأبي مسعود البدري وهو قول الشافعي وأصحابه واختيار الأخوين لمذهب الهادي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56]. وهذا أمر وظاهر الأمر للوجوب ولا خلاف أنها لا تجب الصلاة على الرسول إلا في الصلاة(2).
__________
(1) في الحديث روايات بألفاظ متقاربة لأبي داود والنسائي والدار قطني والبيهقي، وأصله في الصحيحين دون قوله: قبل أن يفرض علينا.
(2) في حاشية الأصل: وخطبة الجمعة وعند ذكره على قول بعضهم ا هـ.
المذهب الثاني: أن الصلاة على الرسول غير واجبة وهذا هو رأي الناصر ومحكي عن أمير المؤمنين والزهري ومالك والثوري، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه علم عبدالله بن مسعود التشهد وقال له: ((إذا قلت هذا فقد تمت صلاتك، إن شئت أن تقوم، فقم وإن سئت أن تقعد فاقعد)).
ووجه الدلالة من هذا الخبر: هو أنه علمه التشهد ولم يذكر فيه الصلاة على الرسول وهو في موضع التعليم فدل هذا على أنها غير واجبة كما قلناه.
والمختار: هو القول بوجوبها كما حكيناه عمن تقدم ذكره.
وحجتهم:ما ذكرناه ونزيد هاهنا ما روته عائشة عن الرسول أنه قال: ((لا يقبل الله صلاة إلا بطهور وبالصلاة عليَّ ))(1).
ويؤيد هذا ما روي أنه كان يقول في الصلاة: ((اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم))(2).
__________
(1) قال في (الجواهر1/277: هكذا حكاه في (المهذب) عن عائشة عن النبي وعزاه في (التلخيص) إلى البيهقي والدار قطني وضعفه.
(2) هكذا في (الشفاء) ونص عليه في الأحكام قال: وكذلك حدثني أبي عن أبيه في التشهد، وكان يرويه عن زيد بن علي عن آبائه عن علي وورد الحديث في الصلاة على النبي في التشهد من عدة طرق وبألفاظ عدة متقاربة منها ما جاء في (نيل الأوطار)2/285، عن طلحة بن عبيد الله عند النسائي وهو أقربها إلى ما سلف بلفظ: ((اللهم، صل على محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)) وفي رواية: ((... وآل محمد)) في الموضعين، ولم يقل فيهما: ((...وآل إبراهيم)).
هكذا رواه أبي بن كعب عنه وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي )). والواجب هو قولنا: ((اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد)). لأن ذلك أقل ما يكون من الصلاة. والأفضل أن يقال: ((اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). روى أبو حميد أنه قيل للرسول : كيف نصلي عليك؟ فقال: ((قولوا: اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)) (1).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: علَّم بن مسعود التشهد ولم يذكر فيه الصلاة فدل على عدم وجوبها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإن امتناع تعليمه للصلاة لابن مسعود في هذا الموضع لا يدل على أنها غير واجبة فلعله منع هناك مانع من ذكره ويريد ذكره من قبل فلا يبطل وجوبها بالاحتمال.
وأما ثانياً: فلأن ما قالوه مُعَارَض بما رويناه عن عائشة وأبي بن كعب وإذا تعارضا فلا بد من الترجيح، وما ذكرناه راجح لكونه أصرح بالغرض وأدل على المقصود فلهذا كان هو الأولى بالعمل عليه.
الفرع الرابع: في الصلاة على الآل. ولا خلاف في كونها مشروعة وأنها مستحبة، وهل تكون واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها واجبة على الآل وهذا هو رأي الهادي والقاسم ومحكي عن المؤيد بالله، قال الإمام المؤيد بالله: ولا يصح التشهد حتى تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. فهذا تصريح بوجوبها عليهم.
والحجة على هذا: أنه كان يقول في صلاته: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد )) . وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
المذهب الثاني: أنها غير واجبة؛ وهذا هو المحكي عن أمير المؤمنين والزهري ومالك والثوري والمنصوص للشافعي.
__________
(1) تقدم.
والحجة على هذا: هو أن من لم يكن ذكره شرطاً في صحة الأذان لم يكن شرطاً في صحة الصلاة كالصحابة.
والمختار: ما عليه أئمة العترة من القول بوجوبها عليهم.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا، وهو ما روى أبو حميد [أنه قيل]: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد )).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: من لا يكون ذكره شرطاً في صحة الأذان فلا يكون شرطاً في صحة الصلاة كالصحابة.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأنه لا معنى لإيراد الأقيسة في العبادات فإنه لا مدخل لها فيها ولا تجري فيها الأقيسة المعنوية ولا الشبهية.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل أنه كلمات محصورة معدودة لا يتصرف فيها بزيادة ولا نقصان بخلاف الأدعية.
وأما ثالثاً: فلأنه إنما بطل ذكر الآل في الأذان لما كان المقصود به الإشعار للصلاة والدعاء إليها بخلاف ذكر الآل في الصلاة فإن الأذكار مشروعة في الصلاة من أجل إحراز الفضل، وذكر الآل من الأذكار الفاضلة فافترقا، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن ذكر الآل في الصلاة واجب وهو رأي أحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي.
فأما ذكر إبراهيم وآل إبراهيم فهل يكون واجباً أم لا؟ فيه تردد فذكر بعض أصحاب الشافعي أن الصلاة عليهم واجبة.
والمختار: أنه سنة وليس واجباً. قال المؤيد بالله: والأقرب أن آل رسول الله إنما هم الأخيار دون الأشرار كما أن المراد بآل إبراهيم الأبرار دون الأشرار ولم يمنع الإطلاق من صحة التشهد به فهكذا هاهنا. ثم اختلف الناس في آل الرسول من هم؟ فمن العلماء من قال: هم بنو هاشم وبنو المطلب لأنهم قرابة الرسول وأقرب من يتصل به والآل هم الأهل لكن الألف واللام أبدلت من الهاء. ومنهم من قال: هم الذين كانوا على دينه لقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }[غافر:46]. ومنهم من قال: هم من تحرم عليهم الزكاة وهم آل جعفر وآل عقيل وآل عباس وآل علي ومن كان ينسب إلى هاشم، وهذا هو الأقرب لأن هؤلاء هم خاصة الرسول وأقرباؤه.
الفرع الخامس: في بيان هيئة هذه الجلسة وصفة الذكر المشروع فيها. أما ما هية هذه القعدة فقد أوضحنا فيما سبق ذكر الخلاف فيها وبينا أن الأفضل في هيئتها هو التَّورّك بخلاف القعدة الأولى فإن الأفضل فيها هو الإفتراش دون التَّورّك وقد أوضحنا وجه التفرقة بينهما فأغنى عن الإعادة، وأما بيان صفة الذكر المشروع فيها فللأئمة والعلماء فيه اختيارات ونحن نوردها لاشتمالها على فوائد وجملتها سبعة:
الاختيار الأول: مأثور عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه يقول فيه: التحيات لله والصلوات والطيبات الغاديات الرائحات الطاهرات الناعمات السابغات ما طاب وطهر وزكا وخلص لله وما خبث فلغيره أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً أشهد أنك نعم الرب وأن محمداً نعم الرسول. ثم بحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على النبي وآله ثم يسلم عن يمينه وعن شماله.
الاختيار الثاني: ما ذكره الهادي في الأحكام يقول فيه: بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلها لله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. ثم يسلم عن يمينه ويساره رواه عن أبيه وأبوه يرويه عن زيد بن علي عن علي".
الاختيار الثالث: ذكره في المنتخب قال: التحيات لله والصلوات والطيبات أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. ثم يسلم عن يمينه ويساره، فهذا ما ذكره في الجامعين (الأحكام) و(المنتخب) وكل واحد من هذين الاختيارين على انفراده وحياله داخل في الفضل محرز لكمال السنة في الدعاء عند القعدة الأخيرة.
الاختيار الرابع: محكي عن الناصر يقول فيه: بسم الله وخير الأسماء لله وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله التحيات لله والصلوات الطيبات الطاهرات الزاكيات الغاديات الرائحات لله ما طاب وزكا وطهر ونما وما خبث فلغير الله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. ثم يسلم عن يمينه ويساره. وحكى الشيخ أبو جعفر من أصحاب الناصر والجامعين لمذهبه أن للناصر اختيارات مختلفة في التشهد الأخير في كتبه (الصغير) و(الكبير) وفي (المسائل) و(الألفاظ) خلا أن الذي ذكرناه هاهنا هو المختار من مذهبه.
الاختيار الخامس: مروي عن المؤيد بالله وهو الجمع بين التشهدين اللذين رويناهما عن الهادي وهو أن يقول: بسم الله والحمد لله والأسماء الحسنى كلها لله، التحيات لله، والصلوات والطيبات، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد إلى قوله إنك حميد مجيد. ثم يقول بعد ذلك: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ربنا آتنا في الدينا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ثم يسلم عن يمينه ويساره.
الاختيار السادس: محكي عن الإمام أبي طالب وحاصله أنه يجمع بين التشهدين اللذين ذكرهما الهادي في (الأحكام) و(المنتخب) من غير زيادة فيقول: ((بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلها لله التحيات لله والصلوات والطيبات أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، إلى قوله: حميد مجيد. ولا يزيد الزيادة التي ذكرها أخوه المؤيد بالله فهذه الاختيارات كلها التي نقلناها عن أكابر أهل البيت وعلمائهم مأثورة عن جِلَّة الصحابة نقلوها عن صاحب الشريعة صلوات الله عليه.
الاختيار السابع: محكي عن الشافعي رضي الله عنه قال: فإذا فرغ المصلي من التشهد والصلاة على الرسول فله أن يدعو بما شاء من دين ودنيا والأفضل أن يدعو بما روى أبو هريرة عن الرسول فإنه قال: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع من عذاب النار ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال))(1).
__________
(1) هذه رواية مسلم، ووافقه البخاري إلاَّ أنه لم يذكر: ((...إذا تشهد أحدكم)) ولأبي داود والنسائي نحو مسلم، وزاد النسائي: ((...ثم ليدع لنفسه بما بدا له)).
الدعاء الثاني: رواه أمير المؤمنين كرم الله وجهه أن الرسول كان يقول بين التشهد والسلام: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسررت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت)) (1).
الدعاء الثالث: رواه عن ابن مسعود رضي اله عنه قال: كان رسول الله يعلمنا كلمات ولم يكن يعلمناهن كلما تعلمنا التشهد: ((اللهم، ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، " واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها قابليها، وأتمها علينا إنك على كل شيء قدير)) (2).
ولنكتف بهذا القدر من الاختيارات في الدعاء في القعدة الأخيرة ونردفه بالمطلوب في الدعاء ومقداره فهذان تقريران:
__________
(1) نقله في (الجواهر) عن (المهذب) بلفظه ثم قال: والذي في (الجامع) عن علي ما لفظه: قال: كان رسول الله إذا سلم من الصلاة قال: ((الهم اغفر لي...)إلخ ا هـ 1/279.
(2) وفي رواية: ((...واجعلنا شاكرين لنعمك فأدمها وأتمها علينا)) أخرجه أبو داود ا هـ، المصدر السابق.
التقرير الأول: في بيان المطلوب بالدعاء قال أبو حنيفة: لا يدعو المصلي إلا بالأدعية المأثورة عن الرسول أو بما يشبه ألفاظ القرآن. ومن أصحابه من قال: ما لا يطلب إلا من الله يجوز أن يدعو به في الصلاة، وما يجوز أن يطلب من المخلوقين إذا سأله الله في الصلاة أفسدها، فعلى هذا يجوز أن يدعو في الصلاة بقوله: اللهم أغفر لي وارحمني واهدني. إلى غير ذلك مما لا يطلب إلا من اللّه. وإن قال: اللهم يسر لي بنت فلان زوجة لي فسدت صلاته. وقال الشافعي: يجوز أن يقول في صلاته: اللهم ارزقني جارية حسنة وزوجة صالحة وضيعة مباركة وخلص فلاناً من الحبس واهلك فلاناً لظلمه. إلى غير ذلك. وهذا هو المختار لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي علمه التشهد إلى قوله: ((وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)). ثم قال بعد ذلك: وليدع بما شاء ولم يفصل بين مطلوب ومطلوب من منافع الدين والدنيا. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن الرسول رفع رأسه من الركوع الأخير في الفجر فقال: ((اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وأنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، وأهلك رعل وذكوان وعصية، واجعل سنيهم كسني يوسف)). وعن أبي الدرداء أنه قال: إني لأدعو لسبعين صديقاً في كل صلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم،فهذا فيه دلالة على ما قلناه من جواز الدعاء في الصلاة لمن أحب وعلى من أحب ممن يستحق ذلك.
التقرير الثاني: في بيان مقدار ما يدعى به في الصلاة، وليس يخلو حال الداعي إما أن يكون إماماً أو مأموماً. فإن كان إماماً فإنه يدعو بمقدار القنوت والتشهد لئلا يثقل الكثرة على من بعده من المأمومين، وإن كان منفرداً فإن يطيل ما شاء. ولقد كان يدعو بكلمات طيبات خفيفات مباركات في الصلاة على من دعا له أو دعا عليه وبعد فراغه من الصلاة لا يطيل في الدعاء ويقوم بعد فراغه من الصلاة تارة من عن يمينه وتارة من عن شماله وتكره قراءة القرآن في حالة التشهد لأمرين:
أما أولاً: فلأن موضوعه الدعاء وليس موضوعه القراءة.
وأما ثانياً: فلأنها حالة في الصلاة لم تشرع فيها القراءة فكرهت فيها كالركوع والسجود.
دقيقة: اعلم أن الدعاء المأثور عن الرسول في التشهد الأخير يرد على وجهين:
أحدهما: أن يكون وارداً من غير واوٍ وعلى هذا تبطل المغايرة بين الأوصاف فإذا قال: ((التحيات لله الصلوات)). كانت الصلوات هي التحيات. وإذا قال: ((الطيبات)). كانت الطيبات هي الصلوات لأن حذف الواو دال على الإتحاد في الأوصاف على الوجه الذي ذكرناه وقد جاء في القرآن كقوله تعالى: {هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ }[الحشر:24].
وثانيهما: أن يكون وارداً بالواو وعلى هذا تحصل المغايرة بين الأوصاف لأن الشيء لا يعطف على نفسه فإذا قال: التحيات والصلوات. كانت الصلوات غير التحيات. وإذا قال: والطيبات. كانت الطيبات غير الصلوات وقد ورد الأمران جميعاً أعني اتحاد الواو وحذفها والمعنى فيهما على ما ذكرناه، وقد تم غرضنا من الكلام في القعدة الأخيرة ونذكر الآن التسليم وهو آخر أركان الصلاة والحمد لله.
---
القول في التسليم من الصلاة
فإذا فرغ من التشهد فإنه يسلم عن يمينه ويساره ولا خلاف في كونه مشروعاً للخروج من الصلاة لقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في حكمه وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب وهذا هو رأي أئمة العترة زيد بن علي والهادي والقاسم والمؤيد بالله وهو قول الشافعي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَسَلّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56]. وقوله تعالى: {فَسَلّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ }[النور:61]. والأمر ظاهره الوجوب ولا تسليم واجب إلا في الصلاة لا خلاف فيه.
الحجة الثانية:ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه عن النبي أنه قال: ((مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم))(1).
فليس يخلو إما أن يريد أنه لا يمكن الخروج منها مع كونها غير مجزية إلا بالتسليم فهذا فاسد فإنه يمكن الخروج منها بما ينقضها ويفسدها من الحدث وسائر ما يفسدها فلم يبق إلا أن الغرض أنه لا يمكن الخروج منها مع صحتها إلا بالتسليم فهذا صحيح.
المذهب الثاني: أن التسليم غير واجب وهذا هو رأي الناصر ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه وإنما هو سنة واستحباب.
__________
(1) رواه زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي" بلفظ قال: قال رسول الله :((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريهما التكبير، وتحليلها التسليم)).
…قال السياغي رحمه الله في (الروض النضير) 1/643: قال في (البدر المنير): له خمس طرق عن علي. …وعن جابر، وعن أبي سعيد، وعن عبد الله بن زيد، وعن ابن عباس، وروي عن ابن مسعود وأنس موقوفاً.
…قال في (التلخيص) بعد إيراد الحديث: الشافعي، وأحمد، والبزار، وأصحاب السنن إلاَّ النسائي، وصححه الحاكم وابن السكن من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن الحنفية عن علي . اهـ.
والحجة على هذا: ما روى ابن عمر رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((إذا رفع الإمام رأسه من السجدة وقعد ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته))(1).
الحجة الثانية: أنه علَّم الأعرابي الصلاة وذكر له فروضها ولم يذكر التسليم وفي هذا دلالة على أنه مستحب غير واجب.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة.
وحجتهم:ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى سمرة بن جندب أن الرسول كان إذا سلم أحدنا في الصلاة أومأ بيده يميناً وشمالاً: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة اللّه. فقال الرسول : ((مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس يكفيكم أن تقولوا عن يمينكم وشمالكم السلام عليكم ورحمة الله)).
الحجة الثانية: ما روى واثلة بن الأسقع أن الرسول سلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله وقال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
الحجة الثالثة: قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[الأنعام:72]. فهو نص في الطلب وظاهر في الوجوب ومجمل في كيفية أداء الصلاة وكيفيتها موكول إلى أفعاله وقد بينها بفعله للمسلم وبيان المجمل واجب فلهذا قضينا بوجوب التسليم لما ذكرناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا:حديث ابن عمر: ((إذا رفعت رأسك من السجود فقد تمت صلاتك )).
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الغرض بقوله: ((قد تمت صلاتك)). أراد تمت من جهة الأفعال، فأما الأقوال فهي ناقصة حتى يحصل التسليم.
__________
(1) أورده السياغي في (الروض النضير)2/73 قال: واختلف العلماء في حكم التسليمتين فذهب الناصر وأبو حنيفة إلى أنهما سنة وهو إحدى الروايتين عن زيد بن علي كما ذكر في (المنهاج) وهو ظاهر صنيع البخاري في صحيحه، فإنه ترجم له في (باب التسليم) ولم يبين حكمه، وكأنه لم يَقْوَ له الدليل على وجوبه، فدل الحديث على أن التسليم ليس بركن واجب، وإلاَّ وجبت الإعادة مع الحدق قبل تأديته. اهـ ملخصاً.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما ذكرناه من الأدلة فلابد من الترجيح ولا شك أن أدلتنا دالة على الوجوب وأدلتهم دالة على عدم الوجوب وما كان دالا على الوجوب فهو أحق لأنه يفيد فائدة جديدة بخلاف ما يدل على عدم الوجوب فهو باق على حكم العقل والوجوب أمر جديد بحكم الشرع فافترقا.
قالوا: إنه علَّم الأعرابي فروض الصلاة ولم يذكر له التسليم فدل على أنه غير واجب.
قلنا:وعن هذا أيضاً جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه فعل مجمل لا ندري كيف وقع وهو مفتقر إلى البيان فلا يصح الاحتجاج به.
وأما ثانياً: فلعله قد كان علم وجوبه فلهذا لم يذكره له.
قالوا: السلام ينافي الصلاة ويبطلها فكيف يقال إنه من فروضها.
قلنا: الصلاة قد أوضحها الشارع على هذه الكيفية المخصوصة فإن أردتم أنه يبطلها عند فعله في غير موضعه فهذا مُسَلَّم، وإن أردتم أنه يبطلها إذا فعل في موضعه فهذا ممنوع غير مُسَلَّم فبطل ما قالوه.
الفرع الثاني: في بيان عدد التسليم وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن الواجب تسليمتان من عن يمينه وعن شماله وهذا هو رأي أئمة العترة زيد بن علي والهادي والقاسم والمؤيد بالله، وأحمد بن حنبل والحسن بن صالح وقول الشافعي في الجديد.
والحجة على هذا: ما روى سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن سهل أن الرسول كان يسلم تسليمتين عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله(1).
الحجة الثانية: ما روى جابر بن سمرة أن الرسول قال: ((إنما يكفي أحدكم أن يسلم عن يمينه وشماله " ويقول السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله)) (2).
المذهب الثاني: أنه ثلاث تسليمات تسليمة عن يمينه وتسليمة عن يساره وتسليمة عن تلقاء وجهه، وهذا شيء يحكى عن عبدالله بن موسى بن جعفر.
وحجته على هذا: هو أن ابن مسعود روى أن الرسول سلم تسليمين من عن يمينه ومن عن يساره(3)،
وروى ابن عمر، وعائشة، وأنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع: أنه سلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، فأخذنا بالروايتين جميعاً، وجمعنا بينهما.
المذهب الثالث: أن التسليم مرة واحدة من تلقاء وجهه وهذا شيء يحكى عن مالك، ويروى عن الإمامية، وإليه ذهب الحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز وابن سيرين والأوزاعي.
والحجة على هذا: ما روت عائشة وأنس بن مالك عن رسول الله أنه سلم تسليمة واحدة من تلقاء وجهه.
المذهب الرابع: أنه إن كان المسجد صغيراً ضيقاً أو لا لغط هناك سلم تسليمة واحدة، فالمحكي عن الشافعي قولان:
__________
(1) روي في التسليمتين جميعاً أحاديث عن جماعة من الصحابة منهم: عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص، وسهل بن سعد الساعدي، ووائل بن حجر، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشقر،طلق بن علي، وأوس بن أويس، وأبو رمثة وعدي بن عميرة، والمغيرة بن شعبة، وواثلة بن الأسقع، ويعقوب بن الحصين، أخرجت أحاديثهم بأسانيد مختلفة، نقل السياغي في (الروض)2/73 ما في (التلخيص) عن العقيلي: أن الأسانيد صحاح ثابتة في حديث ابن مسعود في تسليمتين ولا يصح في تسلمية واحدة شييء، اهـ باختصار.
(2) تقدم ضمن الحديث السابق.
(3) تقدم.
الجديد: أن يسلم تسليمتين إحداهما عن يمينه والأخرى عن شماله.
والقديم: أن يسلم تسليمة تلقاء وجهه وإن كان المسجد كبيراً مثل الجوامع والناس كثير أو هناك ضجة فالمستحب أن يسلم تسليمتين من عن يمينه ومن عن شماله قولاً واحداً.
والحجة على هذا: ما روى ابن مسعود أنه سَلَّم تسليمتين وروى ابن عمر أنه سلم تسليمة واحدة فحملنا الروايتين على حالتين جمعاً بين الأحاديث فحيث كان المسجد ضيقاً فتسليمة واحدة، وإن كان كبيراً فتسليمتان. فهذا تقرير المذاهب في التسليم.
والمختار: ما اعتمده علماء العترة وهو مروي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه وأبي بكر وعمر وابن مسعود والثوري ومحكي عن أبي حنيفة كما مر بيانه.
وحجتهم:ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى ابن مسعود أن الرسول كان يسلم تسليمتين عن يمينه ويساره حتى يرى بياض خده. وعلى هذا أهل العلم من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
أما من قال بثلاث تسليمات اعتماداً على الجمع بين رواية ابن مسعود ورواية ابن عمر. وأما من قال بتسليمة واحدة اعتماداً منه على رواية ابن عمر. فالجواب عنه من وجهين:
أما أولاً: فلأن الأخبار التي رويناها في التسليمتين عن اليمين واليسار هي أكثر وأشهر وعليها تعويل العلماء من أكابر الصحابة والتابعين.
وأما ثانياً: فلأن أخبارنا دالة على زيادة مشروعة وعبادة زيادة فلهذا كانت أحق بالقبول.
وقولنا: مشروعة. نحترز عمن قال بالثالثة فإنها غير مشروعة. ومن قال بها فاعتماده على التلفيق كما أشرنا إليه.
الفرع الثالث: في بيان صفة السلام. والواجب في صفته أن يقول المصلي: السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله عن يساره، لما روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وقد فعل في التسليم هكذا، ولما روى ابن عمر وابن مسعود عنه أنه سلم في الصلاة كما ذكرناه، فإن قال: السلام عليكم ولم يذكر ورحمة الله أجزأ ذلك لأنه نقص ما لا يضر في التسليم، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أجزأ ذلك لأنه زاد زيادة. وهكذا لو قال: ورحمة الله وبركاته ورضوانه وكراماته لأن ما هذا حاله زيادة في الفضل وإحراز الثواب لما روي عن الرسول أنه قال: ((سلام عليكم عشر حسنات ورحمة الله عشر حسنات وبركاته عشر حسنات ورضوانه عشر حسنات وكراماته عشر حسنات ومن زاد زاد الله له)) (1).
فإن قال: السلام ولم يقل: عليكم، لم يكن مجزياً، وإن قال: سلام عليكم من غير ألف ولام فهل يجزي أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجزئ؛ لأنه خالف المشروع في الصلاة والسلام وهذا هو المحَصَّل من مذهب الهادي.
وثانيهما: أنه يجزيه لأنه نقَّص الزائد في السلام فلهذا كان مجزياً.
__________
(1) روى نحواً منه عمران بن حصين عن النبي وأخرجه أبو داود والترمذي في رد الرسول السلام على رجل جاءه فقال: السلام عليكم، فرد عليه، وقال: ((عشر)) ثم جا ء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه وقال: ((عشرون)) ثم جاء آخر فقال:السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه رسول الله وقال: ((ثلاثون)).
والمختار: هو الأول لأن السلام اسم من أسماء الله فلا يكون كذلك إلا بالألف واللام، وإن قال: عليكم السلام. لم يكن مجزياً له؛ لأن ما [هذا]حاله سلام في حق الموتى فلا يكون مشروعاً في حق الأحياء ولأنه خالف المشروع فلا يجزئ ويحتمل الإجزاء لأنه ليس بمعجز فيراعى فيه الترتيب بخلاف نظم القرآن فإنه معجز فلهذا روعي في حقه الترتيب في الآي، وإن قال: عليكم سلام لم يكن مجزياً لأنه خالف المشروع في التقديم والتنكير.
الفرع الرابع: هل يكون التسليم من الصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن التسليم من الصلاة، وهذا هو رأي الهادي والقاسم والسيد أبي طالب وهو قول الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). والمعلوم من حاله أنه كان يسلم عن يمينه ويساره كما روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: لا أنسى سلام رسول الله في صلاته يميناً وشمالاً، والظاهر أن ما فعله واجب إلا لدلالة تدل على أنه غير واجب.
المذهب الثاني: أن التسليم لا يكون من الصلاة، وهذا هو رأي الناصر ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن السلام مما يخرج به من الصلاة فأشبه الحدث والكلام وثمرة الخلاف بين المذهبين هو أنا إذا قلنا:إنه من الصلاة فالمصلي إذا أحدث حدثاً عند التسليم أو انكشفت عورته أو انحرف عن القبلة بطلت صلاته. وإذا قلنا:إنه ليس من الصلاة لم تبطل صلاته بما ذكرناه كما قلناه في تكبيرة الافتتاح.
والمختار: أنه ركن من أركان الصلاة لأمرين:
أما أولاً: فلأن آخر جزء من أجزاء الشيء معدود من جملته كما أن أول كل جزء من أجزائه معدود من جملته.
وأما ثانياً: فلأنه ذكر مشروع في موضع يجوز أن يرد عليه ما يفسد الصلاة فيكون مفسداً لها كالقيام والركوع والسجود.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: التسليم يخرج به من الصلاة فصار كالحدث والكلام.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الحدث والكلام مفسدان للصلاة على أي وجه وقعا بخلاف السلام فإنه إنما يكون مفسداً إذا وقع في غير موضعه المشروع له فافترقا.
وأما ثانياً: فلأن الفساد بالكلام والحدث وقع بهما مطلقاً والسلام إنما وقع الفساد عنده لا به لأن الكلام والحدث مبطلان للصلاة لأنهما بمعزل عن الصلاة، والسلام إنما أبطل لأنه وقع به التمام للصلاة وهو آخر جزء من أجزائها وأركانها فلهذا وقع الفساد عنده لا به.
قالوا: التسليم معنى ينافي الصلاة فصار كالحدث.
قلنا: وهذا من الطراز الأول، فإنا نقول: ما تريدون بقولكم: إنه معنى ينافي الصلاة؟ فإن أردتم بأن الصلاة منقضية بانقضائه فهذا مُسلَّم لأنه آخر أجزائها، وإن أردتم أنه ليس منها فهذا لا نسلمه وفيه وقع النزاع وإن أردتم به معنى آخر فاذكروه حتى نتكلم عليه.
الفرع الخامس: والنية في التسليم مستحبة لقوله : ((الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى )). ولما روى سمرة أنه قال: أمرنا رسول رسول الله أن نسلم على أنفسنا وأن يسلم بعضنا على بعض(1).
وروي أن رسول الله كان يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين وقبل العصر أربعاً يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن معهم من المؤمنين(2).
__________
(1) جاء في حاشية الأصل، حديث سمرة رواه أبو داود وابن ماجة ولفظه: أمرنا أن نرد على الإمام وأن نتحاب وأن يسلم بعضنا على بعض، وفي رواية: أمرنا رسول الله أنه نسلم على أئمتنا وأن يسلم بعضنا على بعض.
(2) قال في حاشية الأصل: إن الراوي علي قال: كان النبي ...الحديث، رواه الترمذي وحسنه النسائي، وعن علي أن النبي كان يصلي قبل العصر ركعتين، رواه أبو داود بإسناد صحيح. ا هـ.
وعلى من تكون نية السلام؟ ينظر فيه فإن كان إماماً فإنه ينوي بالتسليمة الأولى ثلاثة أمور: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة وهم الملائكة، والسلام على المأمومين عن يمينه، وينوي بالتسليمة الثانية أمرين: السلام على الملائكة وعلى من عن يساره من المأمومين. وإن كان مأموماً عن يسار الإمام، فإنه ينوي بالتسليمة الأولى أموراً أربعة: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، والرد على الإمام، والسلام على المأمومين عن يمينه، وينوي بالثانية أمرين: السلام على الملائكة وعلى من يساره من المأمومين، وإن كان عن يمين الإمام فإنه ينوي بالتسليمة الأولى ثلاثة أمور: الخروج من الصلاة والسلام على الحفظة وهم الملائكة، والسلام على المأمومينعن يمينه، وينوي بالثانية ثلاثة أمور: السلام على الملائكة، والسلام على المأمومين عن يساره، والرد على الإمام، وإن كان الإمام محاذياً نوى الرد عليه في أي التسليمتين شاء، وإن كان المصلي منفرداً نوى بالتسليمة الأولى أمرين: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، ونوى بالثانية السلام على الحفظة. فهكذا تكون النية في التسليم وكل هذه النيات مستحبة؛ إلا نية الخروج من الصلاة فهل تكون واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن نية الخروج من الصلاة غير واجبة ولا مفروضة وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن السيد أبي طالب والقول الأخير للمؤيد بالله وهو قول بعض أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه عن يمينه وعن شماله، يقول السلام: عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة اللّه)). فتبين أن الكفاية تقع بمجرد السلام من غير حاجة إلى نية الخروج من الصلاة.
المذهب الثاني: أنها واجبة وهذا هو قول الأكثر من أصحاب الشافعي والقول القديم للمؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو أنه ذكر في أحد طرفي الصلاة فوجب مقارنة النية له دليله تكبيرة الافتتاح.
والمختار: أنها غير واجبة كما ذكره الهادي.
وحجته: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو قوله : ((تحريمها التكبير وتحليلها التسليم )). ولم يذكر النية فلا يجوز إثباتها إلا بدلالة شرعية.
ومن وجه آخر: وهو أن نية الصلاة قد اشتملت على جميع أفعالها وأقوالها فلا معنى لإيجاب نية الخروج وإعادة نية أخرى له.
ووجه ثالث: وهو أن نية الخروج لو وجبت لوجب تعيين الصلاة التي يخرج منها كنية الإحرام للصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: ذكر في أحد طرفي الصلاة فوجب مقارنة النية له دليله تكبيرة الافتتاح.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المعنى في الأصل كونه يدخل به في الصلاة بخلاف التسليم فإنه خروج منها فافترقا.
وأما ثانياً: فإنا نقلب عليهم هذا القياس فنقول: ذِكْرٌ في أحد طرفي[الصلاة] فلا يكون واجباً كالافتتاح للصلاة وإذا سلم من الظهر ونوى الخروج من العصر.
فإن قلنا: أن نية الخروج من الصلاة واجبة بطلت صلاته لإخلاله بما هو واجب عليه.
وإن قلنا: أن نية الخروج من الصلاة غير واجبة كما هو المختار لم يضره ذلك كما لو شرع في الظهر وظن في الركعة الثانية أنه في العصر ثم تذكر في الثالثة أنه في الظهر لم يضره ذلك، ويستحب في التكبير والتسليم أن يكونا مجزومين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: حذف التسليم من السنة. والمراد بذلك ألا يمده مداً، وروي عن الرسول أنه قال: ((التسليم جزم والتكبير جزم ))(1).
__________
(1) قال ابن بهران في (الجواهر)1/239 حاشية (البحر): قال في (التلخيص): لا أصل له بهذا اللفظ، وإنما هو قول إبراهيم النخعي حكاه عنه الترمذي وجاء معناه عند الترمذي وأبي داود والحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ: ((حذف السلام سنة)) وقال الدار قطني: الصواب [أنه] موقوف.
…تنبيه: حذف السلام: الإسراع به، وهو المراد بقوله جزم.
الفرع السادس: وتستحب النية على الحفظة وعلى الإمام والمسلمين كما فصلناه لحديث سمرة، وهل تجب النية على الحفظة من الملائكة أم لا وعلى الإمام وعلى سائر المسلمين؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن هذه النية واجبة وهذا هو الذي ذكره السيدان الإمامان الأخوان فإنهما قالا إن هذه النية واجبة، ولم أعلم أن أحداً من الفقهاء ذهب إلى وجوب هذه النية قبلهما.
والحجة على هذا: ما في حديث جابر بن سمرة أن الرسول قال: ((إنما يكفي أحدكم أن يقول :هكذا وأشار بأصبعه يسلم على أخيه من عن يمينه ويساره)) (1).
وهذا يشتمل على الحفظة وعلى الإمام وسائر المسلمين الذين معه فإنه لا يكون مُسَلِّماً عليهم إلا بالقصد والنية. وقيل للسيد أبي طالب فهل تكون هذه النية على الملائكة والمسلمين واجبة؟ فقال: نعم لأنه لا يكون مسلماً إلا بهذه النية. وهكذا عن المؤيد بالله. قال أبو طالب: فإن نسيها المصلي؟ فتجب عليه الإعادة في الوقت ولا يجب عليه القضاء بعد انقضاء الوقت.
المذهب الثاني: أنها غير واجبة وهذا هو المحكي عن الفقهاء وقد حكي عن السيدين الأخوين الرجوع إلى أن هذه النية غير واجبة وأن المصلي إذا ترك هذه النية لم تكن صلاته فاسدة.
والحجة على هذا: ما روى سمرة أن الرسول أمرنا أن نسلم على أنفسنا وأن يسلم بعضنا على بعض. يعني في الصلاة ولم يذكر النية وفي هذا دلالة على أنها غير واجبة فلو كانت واجبة لذكرها لأنه في موضع التعليم لأحكام الصلاة.
والمختار: ما رجع إليه السيدان من عدم وجوبها وهو رأي الفقهاء.
__________
(1) أخرجه أبو داود بلفظ: كنا إذا صلينا خلف رسول الله فسلم أحدنا أشار بيده عن يمينه وعن يساره، فلما صلى قال: ((ما بال أحدكم يومئ بيده كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم، أو ألا يكفي أحدكم أن يقول هكذا، و أشار بأصبعه يسلم على أخيه عن يمينه وعن شماله)).
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن الوجوب إنما يعلم بأمر من جهة الله تعالى أو من جهة رسوله، وظاهر الأخبار الدالة على السلام على الحفظة والإمام والمسلمين مطلقة لا دلالة فيها على الوجوب لنية السلام على من ذكرناه، ثم إن دلت دلالة شرعية على ما قلناه فإنها محمولة على الندب والاستحباب دون الوجوب.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: حديث جابر بن سمرة دال على أن السلام مشروع وليس يكون مشروعاً إلا بالقصد والنية لأنه خطاب بالتحية فلهذا قلنا بوجوبها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في ظاهر الحديث ما يدل على النية فضلاً عن وجوبها.
وأما ثانياً: فلأن الخطاب وإن كان لا يعقل إلا بالقصد والنية في السلام فهذا مسلم لا محالة فإن السلام لابد فيه من القصد لكن القصد مستحب لأجل أنه لا دلالة على الوجوب ولا حاجة بنا إلى الإكثار فيما قد رجع عنه بالنظر الشرعي فإن رجوع المجتهد عن بعض أقواله يبطل العمل عليه للمجتهد ولمن قلده من العوام. وهل يكون نسياً منسياً أو يجوز العمل عليه لبعض العوام؟ فيه تردد أصولي يليق ذكره بالكتب الأصولية.
دقيقة: اعلم أن جابر بن سمرة روى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة أومأ كل واحد منهم بيده يميناً وشمالاً: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة اللّه. فقال الرسول : ((مالي أراكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفيكم أن تقولوا عن شمالكم ويمينكم: السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بأصبعه على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله)) وهذا كالأمر بالالتفات عن اليمين والشمال عند التسليم فلابد من بيان المكروه من الإشارة والمستحب. فالمكروه ما أشار إليه من رفع اليد بالسلام يميناً وشمالاً، وشبهة بالأشمس من الخيل، والأشمس من الخيل هو الذي يضرب بذيله على جاعريته(1)
يميناً وشمالاً، فهكذا حال من يرفع يده بالسلام يميناً وشمالاً، وأما المستحب الذي أشار إليه بأصبعه يميناً وشمالاً فهو أنه إذا وضع يده على فخذه اليمنى وبسطها عليها وعقد الإبهام على الوسطى فإذا سلم على اليمين فتح العقد وفتل أصبعه إلى ناحية اليمين وهكذا يفعل بيده اليسرى وهي مبسوطة على فخذه اليسرى يفتلها إلى ناحية اليسار فهكذا تفسير إشارته بإصبعه على هذه الكيفية.
الفرع السابع:قال الهادي في الأحكام ومن جلس في آخر تشهده فسلم تسليمتين مستقبل القبلة غير منحرف عن يمينه وعن يساره بطلت صلاته، وهو اختيار السيدين الأخوين.
__________
(1) الجاعرتان: حرفا الوركين المشرفان على الفخذين، وقيل: هما ما اطمئن من الورك والفخذ في موضع المفصل، وقيل: هما رؤوس أعالي الفخذين، وقيل: هما مضرب الفرس بذنبه على فخذيه. اهـ لسان4/141،
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله مخالفة للمشروع في التسليم للصلاة فيجب القضاء ببطلانه ولقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي )). فما خالف صلاته يجب القضاء بفساده إلا لدلالة، فأما الشافعي فالظهاهر من كلامه أنه يقول بوجوب الترتيب بين التسليمتين لأنه قال: لو سلم تسليمة واحدة من تلقاء وجهه أجزأه وقال: لو سلم تسليمتين الأولى عن يمينه وهي من الصلاة والثانية عن يساره وليست من الصلاة أجزأه فاقتضى ذلك أنه لو سلم تسليمتين تلقاء وجهه كان مجزياً له، والظاهر من المذهب وجوب الترتيب بين التسليمتين فيبدأ أولاً بالتسليم عن يمينه ثم بالتسليم عن يساره.
قال الإمام المؤيد بالله: من سلم على يساره قبل يمينه بطلت صلاته.
والحجة على هذا: قوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). ولم يكن مصلياً على هذه الصفة فلهذا قضينا ببطلانها.
وإذا قلنا: بوجوب الترتيب بينهما فسلم أولاً على يساره ثم سلم ثانياً على يمينه ثم أعاد تسلميه على يساره صحت صلاته وتسليمة واحدة لا تضره في صحة صلاته.
الفرع الثامن: والمستحب إذا فرغ من صلاته أن يمكث قليلاً لما روي عن الرسول أنه كان إذا فرغ من صلاته مكث قليلاً ثم انصرف(1)
__________
(1) روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول إذا سلم يمكث في مكانه يسيراً، قالت: فيرى والله أعلم لكي تنصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال، وفي رواية: أن النساء في عهد رسول الله كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله ومن صلى معه من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله قام الرجال، أخرجه البخاري، وأخرج النسائي الثانية، وأخرج أبو داود نحو الأولى.
وروى ابن الزبير أن الرسول كان إذا سلم من الصلاة يقول بصوته الأعلى: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعبد إلا إياه وله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)) (1).
وروي أنه كان يقول بعد السلام: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد))(2)،
وروي أن الرسول كان إذا أراد الإنصراف من الصلاة استغفر ثلاث مرات ثم قال: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام " تباركت ياذا الجلال والإكرام)) (3).
وروي أنه كان يقول: ((سبحان ربك رب العزة عما يصفون، " وسلام على المرسلين، والحمدلله رب العالمين)). فنحمل رواية من روى أنه مكث قليلاً وانصرف على أنه دعا سراً بحيث يسمع نفسه، ونحمل رواية من روى أنه دعا وجهر أنه أراد أن يعلم الناس الدعاء.
الفرع التاسع: والمستحب إذا كان خلف الإمام نساء أن يقف مكانه بعد التسليم ساعة بحيث لو خرج سرعان الناس لم يلحقوا بالنساء، لماروت أم سلمة رضي الله عنها أن الرسول كان إذا سلم من الصلاة انصرف النساء حين يقضي سلامه ويمكث في مكانه يسيراً(4).
__________
(1) رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
(2) متفق عليه عن المغيرة بن شعبة بدون: ((... وهو حي لا يموت)).
(3) أخرجه مسلم والترمذي عن عائشة، وفيه رواية عن ثوبان بلفظه.
(4) تقدم.
قال الزهري: أرى ذلك كيلا يلحق الرجال بالنساء، وإن كان خلفه رجال لا نساء معهن فإنه يستحب أن يمكث ساعة يدعو بدعاء ولا يطيل القعود بعد الصلاة لأنه إذا أطال القعود كان مخالفاً للسنة وربما وقع عليه سهو لطول قعوده أنه قد سلم أم لا، فإن وقف الإمام استحب لمن بعده أن يقفوا معه لأنه ربما يذكر سهواً فيتبعونه للسجود للسهو ويستحب للإمام والمأمومين إذا قضوا فروضهم من الصلاة أن تصلي النافلة في البيوت لما روى [ابن] عمر رضي الله عنه أن الرسول قال: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً " ))(1).
فإن لم يصل في البيت فالمستحب إذا صلاها في المسجد أن يتحول يميناً وشمالاً وقداماً ووراء لما روى أبو رمثة(2)
__________
(1) أخرجه الستة إلاَّ الموطأ عن ابن عمر.
(2) أبو رمثة البلوي، ويقال: التميمي، و يقال: التيمي، تيم الرباب، قيل: اسمه رفاعة بن يثربي، وقيل: يثربي بن رفاعة، وقيل: ابن عوف، وقيل: عمارة بن يثربي، وقيل: حبان بن وهب، وقيل: حبيب بن حبان، وقيل: خشخاش، ويبدو من الأسماء النادرة التي اختلف فيها رجال التراجم اختلافاً كثيراً، وعُرف بأبي رمثة بكسر الراء، قال في الكنى والأسماء 1/328: له صحبة، وفي (تهذيب التهذيب)12/106: روى عن النبي وعنه إياد بن لقيط، وثابت بن أبي متفذ، قال: وفرق ابن عبد البر بين أبي رمثة التيمي وبين أبي رمثة البلوي، فذكر أن البلوي سكن مصر ومات بإفريقية، وفي (الإصابة)7/141: روى له أصحاب السنن الثلاثة، ابن خزيمة وابن حبان، والحاكم.
عن النبي أنه قال: ((أيعجز أحدكم إذا صلى المكتوبة أن يتقدم أو يتأخر " ))(1).
الفرع العاشر:والمستحب لمن أراد الإنصراف من الصلاة، فإن كانت له حاجة توجه لها إلى أي جهة كانت يميناً أو شمالاً، وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن أكثر انصراف رسول الله كان ذات الشمال(2)؛
لأن منازله كانت ذات الشمال فإن لم يكن للمصلي غرض ولا حاجة فالمستحب أن يكون انصرافه ذات اليمين لما روي عن النبي أنه كان يحب التيامن في كل أفعاله وحركاته وأشغاله(3)،
ويستحب لمن دخل المسجد للصلاة أن يكون دخوله برجله اليمنى ويقول عند دخوله: ((اللهم افتح لنا أبواب رحمتك )). ويستحب إذا خرج من المسجد أن يكون خروجه برجله اليسرى وأن يقول عند خروجه: ((اللهم، إني أسألك من فضلك )). لما روي أن الرسول كان يفعل ذلك ويقوله(4).
__________
(1) في (جواهر الأخبار): عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر وعن يمينه أو عن شماله)) زاد حماد: يعني في الصلاة، يعني في السبحة، أخرجه أبو داود، وعن المغيرة قال: قال رسول الله : ((لا يصلي الإمام في موضعه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتحول)) أخرجه أبو داود. اهـ 1/284.
(2) رواه الجماعة إلاَّ الترمذي، ويستحب هنا التنبيه إلى ما أورده ابن بهران في (الجواهر)1/284 فيما جاء عن عمارة قال: أتيت المدينة بعد فرأيت منازل النبي عن يساره.
(3) وذلك فيما روت عائشة قالت: كان رسول ا لله يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله، وفي رواية: أنه كان يحب التيمن ما استطاع، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود، وللترمذي والنسائي نحوه.
(4) روى أبو أسيد وأبو قتادة أن رسول الله قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك))، وإذا خرج فليقل: ((اللهم إني أسألك من فضلك)) أخرجه مسلم والنسائي، وكذا أبو داود، وزاد في الدخول: ((فليسلم على النبي وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك)).
الفرع الحادي عشر:ومعنى قولنا: السلام عليكم ورحمة الله أما السلام فإن كان إسماً من أسماء الله تعالى فالغرض بركات السلام ورضوان السلام عليكم، وإن كان معناه السلامة فالغرض سلامة الله عليكم من عدائه وسلامة من غضبه، ومعنى الرحمة من الله تعالى للأحياء والأموات هو استحقاق الأجر والمثوبة والمباعدة من الغضب والسخط والعقوبة، فإذا قال المصلي: السلام عليكم ورحمة اللّه. فالمقصود رضوان الله وبركاته وسلامه من كل سوء، فالمعنيان محتملان كما أشرنا إليه وكل واحد منهما لا غبار عليه والحمدلله.
وقد تم غرضنا من بيان أركان الصلاة وفروضها وجملتها عشرة: النية وتكبيرة الافتتاح والقيام والقراءة والركوع والقيام منه والسجود والقيام منه والقعود للتشهد والتسليم وبتمامه يتم الفصل الثاني في مقاصد الصلاة ونشرع الآن في لواحقها.
الفصل الثالث: في بيان لواحق الصلاة من السنن والهيئات.
اعلم أن من العلماء من يعدُّ ما ليس بركن ولا فرض مسنوناً، ولا يفرق بين المسنون والهيئة، ومنهم من يقسم المسنونات في الصلاة إلى هيئة وغير هيئة وقد قدمنا التفرقة بين المسنون والهيئة فلا نعيده والأجود التفرقة بينهما فلا جرم جعلنا هذا الفصل قسمين:
القسم الأول: في بيان سنن الصلاة المستقلة وجملتها أربعون:
السنة الأول: يستحب للإمام ومن بعده من المسلمين إذا قال المؤذن: حي على الصلاة أن يقوموا لأنه دعا إلى الصلاة، فإذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة كبَّر ليكون التكبير مطابقاً لمقالة المؤذن.
السنة الثانية: المستحب أن يقول الإمام والمؤتمون به عند قوله: قد قامت الصلاة ((أقامها الله وأدامها ما دامت السماوات والأرض )). لما روي أن الرسول قال ذلك(1).
السنة الثالثة: يستحب الاستفتاح بالأدعية المأثورة عن الرسول وهو يستحب في حق الإمام والمأموم جميعاً.
__________
(1) تقدم في الإقامة، أخرجه أبو داود عن أبي أمامة.
السنة الرابعة: يستحب التعوذ لما روي عن الرسول أنه كان يتعوذ في الصلاة وقد قدمنا وقته وكيفيته فأغنى عن التكرير.
السنة الخامسة: يستحب رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح لا غير وقد ذكرنا وقت الرفع وكيفيته.
السنة السادسة: يستحب القراءة في الصلاة الرباعية في ثلاث ركعات وفي الصلاة الثلاثية في ركعتين وفي الثنائية في الركعة الثانية.
السنة السابعة: يستحب الترتيب بين قراءة السورة والفاتحة فتقدم الفاتحة على قراءة السورة بعدها.
السنة الثامنة: تستحب الموالاة بين السورة والفاتحة فلا يفرق بينهما بفاصلة.
السنة التاسعة: تستحب الموالاة بين آي الفاتحة في ركعة واحدة فلا يفرق على الركعات.
السنة العاشرة: تستحب القراءة في الركعتين الأخريين من الصلاة الرباعية والركعة الثالثة من المغرب.
السنة الحادية عشرة: يستحب التطويل في قراءة صلاة الفجر بخلاف سائر الصلوات، وإذا كان يوم الجمعة استحبت القراءة بتنزيل السجدة وفي الركعة الثانية بهل أتى على الإنسان.
السنة الثانية عشرة: يستحب تسبيح الركوع ثلاثاً على الصفة التي ذكرناها.
السنة الثالثة عشرة: يستحب تسبيح السجود على الصفة التي أوردناها.
السنة الرابعة عشرة: يستحب التسميع للمنفرد والإمام والتحميد للمأموم.
السنة الخامسة عشرة: يستحب التشهد الأوسط القعدة وما فيه من الذكر.
السنة السادسة عشرة: يستحب القنوت في صلاة الفجر وصلاة الوتر وإن نزلت بالمسلمين نازلة استحب القنوت لأجلها.
السنة السابعة عشرة: أول التشهد الأخير وآخره بالأدعية التي ذكرناها فيه.
السنة الثامنة عشرة: يستحب للمصلي أن يكون نظره في حال القيام إلى موضع سجوده وفي حال ركوعه إلى موضع قدميه وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره.
السنة التاسعة عشرة: يستحب أن تكون القراءة في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية بمقدار تنزيل السجدة والقراءة في الركعتين الأخريين على النصف من ذلك ومقدار الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر ومقدار الأخريين من العصر على النصف من ذلك.
السنة العشرون: يستحب سكتتان الأولى منهما بعد تكبيرة الافتتاح قبل القراءة والسكتة الثانية بعد القراءة قبل الركوع.
السنة الحادية والعشرون: ويستحب أن يكون أول ما يقع على الأرض عند السجود اليدان ثم الركبتان ثم الجبهة ثم الأنف لما روي أن الرسول كان إذا سجد فعل ذلك.
السنة الثانية والعشرون: ويستحب السجود على الأنف لأنها غير واجبة لما روي عن الرسول أنه سجد على أنفه.
السنة الثالثة والعشرون: ويستحب السجود على جميع الجبهة لما روي عن الرسول أنه قال لمن علمه الصلاة: ((ثم اسجد ومَكِّن جبهتك على الأرض )).
السنة الرابعة والعشرون: يستحب مساعدة اللسان للقلب في النية فيلفظ بلسانه ما يكون مطابقاً للنية بقلبه خاصة لمن بلي بوسواس في النية فإنه إذا تلفظ بالنية بلسانه كان فيه خلاص عن الوسوسة مع المطابقة للنية لما يلفظ به بلسانه.
السنة الخامسة والعشرون: الترتيل في القراءة من غير عجلة ولا تمطيط، ويستحب ذلك لكل قارئ لكنه في الصلاة أكثر استحباباً لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }[المزمل:4].
السنة السادسة والعشرون: تستحب قراءة السورة في الركعتين الأوليين وحذفها في الثانيتين من الرباعية وفي الثالثة من المغرب وإثباتها في الركعتين من الفجر كلتيهما لما روي أن الرسول كان يفعل ذلك.
السنة السابعة والعشرون: يستحب للإمام إذا فرغ من صلاته أن يقف مكانه ساعة حتى ينصرف النساء إذا هن خلفه فإن كان خلفه رجال لا نساء معهن فإنه يقف ساعة ليتم صلاته من دخل معه من أول الصلاة(1)
ولا يطيل الوقوف مخافة أن يظن أنه سهى في تسليمه.
__________
(1) لعل الصواب: أثناء الصلاة.
السنة الثامنة والعشرون: يستحب للإمام والمأموم إذا فرغا من الصلاة المكتوبة أن يتحولا يميناً وشمالاً لما روي عن الرسول أنه قال: ((أيعجز أحدكم إذا صلى المكتوبة أن يتقدم أو يتأخر " )) (1).
السنة التاسعة والعشرون: أن الإمام والمأموم إذا فرغا من تأدية الصلاة المكتوبة أن يصليا النافلة في البيت لما روي عن الرسول أنه قال: ((أجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً )).
السنة الثلاثون: يستحب الدعاء في حال السجود لما روي عن الرسول أنه قال: ((أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا كان في السجود فادعوا في السجود فقمن أن يستجاب لكم)).
السنة الحادية والثلاثون: ويستحب الإستكثار من النوافل لما روي عن الرسول أنه قال: ((الصلاة خير موضوع فمن شاء أن يقلل فليقلل ومن شاء أن يكثر فليكثر)). وقوله : ((خير أعمالكم الصلاة )).
السنة الثانية والثلاثون: وتستحب الزيادة في نوافل الليل لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))(2).
وتكون مثنى مثنى لما روى ابن عمر رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((صلاة الليل مثنى مثنى ))(3).
__________
(1) يقصد أن يتحول عن مكان صلاة المكتوبة عند أن يصلي السنة، وقد تقدم.
(2) رواه الجماعة عن أبي هريرة بلفظ: سئل النبي أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: ((الصلاة في جوف الليل)) قال [السائل]: فأي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: ((شهر الله المحرام)).
(3) تتمة الحديث: ((... فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى)) متفق عليه.
السنة الثالثة والثلاثون: ويستحب حمل النفس على مشاق النوافل وتكلفها لما روى المغيرة بن شعبة أن الرسول قام حتى اسمعرت قدما أي انتفخا من القيام في الصلاة فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً )). وقيل: كان بين إيجاب قيام الليل عليه بقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ}[المزمل:2]. وبين نسخه بقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ }[المزمل:20]. سنة وقيل: عشر سنين والله أعلم.
السنة الرابعة والثلاثون: وتستحب المداومة على ما أعتاده الإنسان من النوافل وإن قل لما روي عن الرسول أنه قال: ((إن الله يحب المداومة على العمل وإن قل ))(1).
السنة الخامسة والثلاثون: ويستحب لمن فرغ من الصلاة أن ينصرف يميناً وشمالاً إذا كان له حاجة في اليمين أو الشمال فإن لم يكن له حاجة فالمستحب أن يكون أنصرافه إلى جهة اليمين لما روي عن الرسول أنه كان يحب التيامن في تصرفاته.
السنة السادسة والثلاثون:ويستحب في القنوت في صلاة الفجر بآي القرآن التي تدل على الدعاء دون غيرها من آي القرآن لأن موضوعه الدعاء وإن قنت بالأدعية المأثورة عن الرسول جاز ذلك.
السنة السابعة والثلاثون: ويستحب إذا قنت بالدعاء ألا يزيد مقداره على مقدار القنوت بالقرآن كقوله تعالى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا }[البقرة:136]. وكقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة:286]. اللهم إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة جاز الزيادة في الدعاء على قدر الحال.
__________
(1) أخرج الستة عن عائشة أن رسول الله قال: ((أكلفوا من العمل ما تطيقوا، فإن الله لا يَمَلّ حتى تملُّوا وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل)) وجاء الخبر بروايات عدة، وهذا اللفظ لأبي داود.
السنة الثامنة والثلاثون: ويستحب أن يكون القنوت في صلاة الوتر بالأدعية المأثورة عن الرسول بالكلمات التي علمنهن جبريل رسول الله وعلمهن رسول الله الحسن بن علي وهي قوله: ((اللهم اهدني فيمن هديت )) إلى آخرها؛ لأن الرسول خصهن بصلاة الوتر فدل ذلك على الإستحباب فيهن من غيرها.
السنة التاسعة والثلاثون: ويستحب الجهر بالقنوت للإمام والمنفرد لأنه من جملة القرآن، ويستحب ألا يخص نفسه بالدعاء إذا كان إماماً ويقنت بالآي التي تشمل الكل كقوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ}. وقوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا}. إلى غير ذلك من الآي الدالة على الشمول.
السنة الأربعون: ويستحب للمصلي إماماً كان أو منفرداً أن يرغب إلى الله تعالى بالأدعية المأثورة عن الرسول لقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح:7،8]. وقيل في تفسير: {فَإِذَا فَرَغْتَ} من الصلاة فانصب في الدعاء وارغب إلى الله تعالى في إعطاء الوسائل وإحراز الفضائل. ولنقتصر على هذا القدر من السنن المستقلة ونذكر على أثره السنن في الهيئات.
القسم الثاني في بيان سنن الهيئات في الصلاة، قد ذكرنا فيما سبق التفرقة بين السنة والهيئة فأغنى عن الإعادة، وتنقسم الهيئة: إلى ما يكون بالإضافة إلى جملة الصلاة، وإلى ما يكون بالإضافة إلى أبعاضها.
فالذي يكون مضافاً إلى جملة الصلاة، فيستحب للمصلي إذا افتتح الصلاة بالتكبير أن يكون خاضعاً خاشعاً متذللاً لجلال العظمة والكبرياء، وأن يعرف بين يدي من هو ومن يناجي ومن يخاطب، وعلى قدر ما يكون من هذه الأمور يعظم قدر الصلاة ويتفاضل أجرها وثوابها كما ورد عن الرسول : ((أن الرجل ليصلي ثم ينصرف ولم يكتب له من صلاته إلا نصفها " ثلثها ربعها خمسها سدسها سبعها ثمنها عشرها))(1).
وأراد بذلك الفضل وزيادة في الثواب فأما الإجزاء فهو حاصل بتمام ركوعها وسجودها وسائر فروضها. ويحكى عن بعض الصالحين أنه دخل في الصلاة فانهدم جدار المسجد ولم يشعر به وعن بعضهم أنه تآكل بعض أطرافه فأرادوا قطعه فقيل اقطعوه في الصلاة فإنه لا يشعر به فهذه صلاة الأوابين الذين ليس لهم شغل إلا فيما عند الله وإحراز معرفة جلاله وعظمته فهذه الهيئة تعم جميع الصلاة وكيفما كان أدخل في الإشتغال بما ذكرناه كان أدخل في الفضل.
__________
(1) أخرجه أبو داود عن عمار بن ياسر بلفظ: ((إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها)).
وأما ما يكون متعلقاً بأبعاض الصلاة من الهيئات كالقراءة من الجهر والمخافتة على رأي من يقول أنهما هيئتان على ما هو الأقوى والمختار ونحو الترتيل في القراءة وبيان الأحرف وإيضاحها ولا يهدها هداً من غير بيان وهكذا حال القيام فإنه يجب عليه الإنتصاب فيه ويستحب ألا يميل رأسه إلى يمينه وشماله ولا يجعل ذقنه في صدره، وأما الركوع فيستحب فيه مد الظهر وتسوية الرأس لا رافعاً له ولا يكبه ويفرج أصابع يديه فهذا كله هيئة مستحبة تركها لا يخل بالوجوب، وأما السجود فيخوي في سجوده ويرفع يديه عن خاصرته ويضع كفيه حذاء منكبيه أو حذاء خديه خلا أنه إذا وضعها حذاء منكبيه كان أبعد من أن يفترش ذراعيه، ويضم أصابعه نحو القبلة ويفترش رجله اليسرى في كلتا القعدتين أو يفترش رجله في القعدة الأولى ويتورك في الثانية على ما مضى من الخلاف في هاتين القعدتين فكله هيئة لا تضر مخالفة فيه لما كان هيئة ليست بركن فيكون تركه مفسداً للصلاة ولا يكون نقصاً فيكون بتركه يجبر بالسجود للسهو وإنما هو هيئة تابعة غير مستقلة فلهذا لم يكن فيها سجود سهو، وهكذا الكلام في الجهر في الأذكار نحو التشهد في الأول والأخير ونحو تسبيح الركوع والسجود فإن المخافتة هي السنة فيه لكنه هيئة تابعة لا يخل تركها بالصلاةـ وبتمامه يتم الكلام في الباب الخامس في صفة الصلاة وبالله التوفيق.
الباب السادس في بيان ما يفسد الصلاة و ما يكره فعله فيها
و ما لا بأس بفعله و لا يكون مفسداً لها
واعلم أن هذا الباب قد اشتمل على بيان ما يكون مفسداً للصلاة، وعلى بيان ما يكره فعله فيها وليس موجباً للفساد وعلى بيان ما يباح فعله فيها من غير كراهة ولا فساد، فهذه فصول ثلاثة قد اشتمل عليها هذا الباب نفصلها ونشرحها بمعونة الله تعالى.
---
الفصل الأول في بيان الأمور المفسدة للصلاة
اعلم أن الصلاة اسم شرعي منقول عن اللغة وإطلاق الصحة والفساد أمر شرعي ولها في الصلاة تفسيرات ثلاثة:
التفسير الأول: أن يراد بالصحيح ما لا حرج بفعله عن عهدة الأمر والمراد بالفاسد ما لم يخرج به عن عهدة الأمر.
التفسير الثاني: أن يراد بالصحيح ما لا يتوجه فيه القضاء والإعادة ومرادنا بالفاسد ما يجب فيه القضاء بعد فوات الوقت والإعادة في الوقت.
التفسير الثالث: أن يراد بالصحيح ما حصل بفعله براءة الذمة من الشغل بالخطاب ويراد بالفاسد ما حصل بفعله شغل الذمة بالخطاب بلزومه وهذه الأمور كلها معانيها متقاربة فإن من صلى وغلب على ظنه أنه متطهر ثم تحقق بعد ذلك أنه على غير طهارة فلم يخرج بهذه الصلاة عن عهدة الأمر والإعادة متوجهة إليه في الوقت والقضاء لازم له بعد انقضاء الوقت وذمته مشغولة بتأدية الصلاة.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: والصلاة مشتملة على شروط وأركان وأبعاض وهيئات.
فأما الشروط: فنحو استقبال القبلة، وستر العورة، ودخول وقت الصلاة، وطهارة المكان واللباس والبدن من النجاسات، ونحو طهارة الحدث، فإن هذه الأمور كلها شروط في صحة الصلاة ومتى اختل شرط منها كان مبطلاً للصلاة فإن كان الوقت باقياً وجبت الإعادة، وإن كان الوقت فائتاً وجب القضاء وهكذا حال الأركان في الصلاة نحو النية وتكبيرة الافتتاح والركوع والسجود والقيام والقعود فهذه أركان إذا اختل ركن منها أبطل الصلاة ولا يجبر بالسجود.
وأما الأبعاض: فنحو القنوت والتشهد الأول وغير ذلك من السنن فما هذا حاله فتركه لا يبطل الصلاة وتجبر بالسهو كما سنوضحه ونفصل القول فيه في السهو بمعونة اللّه.
وأما الهيئات: فتركها ينقض الفضل في الصلاة ولا يوجب بطلان الصلاة ولا يكون فيها سجود السهو، وإن ترك ركناً من أركان الصلاة كالركوع والسجود بطلت صلاته عمداً كان ذلك أو سهواً لقوله للأعرابي وقد ترك ركناً من أركان الصلاة: ((أعد صلاتك فإنك لم تصل )). ولأن ما هذا حاله من الأركان مقطوع بوجوبه ولم تفصل الأدلة بين تركه عامداً أو ناسياً في أن تركه مبطل للصلاة وإن ترك قراءة الفاتحة عمداً بطلت صلاته لأنه غير معذور في قراءتها وإن تركها ناسياً نظرت فإن كان الوقت باقياً وجبت عليه إعادتها لأن الخطاب مع بقاء الوقت متوجه إليه لأنه غير معذور في قراءتها، وإن كان الوقت فائتاً فلا يتوجه عليه القضاء، وإن انكشفت عورته في الصلاة نظرت فإن كان إنكشافها لعذر لم تبطل صلاته وإنما لم تبطل صلاته لأنه معذور في انكشافها، وإن انكشفت لغير عذر بطلت صلاته سواء كان المنكشف قليلاً أو كثيراً كما دل عليه كلام الهادي والمؤيد بالله وهو رأي الشافعي وقد قدمنا ما قاله السيد أبو العباس وما ذكره السيدان الأخوان في باب العورة.
الفرع الثاني: في الحدث في الصلاة. ومن أحدث في صلاته نظرت فإن كان عامداً نحو أن يقصد إلى الحدث عامداً مع علمه أنه في الصلاة أو أحدث ناسياً مثل أن ينسى أنه في الصلاة فيعمد إلى الحدث فإن صلاته وطهارته تبطل عند أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يختلفون في ذلك.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في الصلاة فينفخ بين إليتيه ويقول: أحدثت فلا ينصرفن حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً))(1)
__________
(1) أخرجه البزار عن ابن عباس بلفظ: ((يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)).
…قال في (فتح الغفار)1/223: وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد، وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً: ((إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت فليقل: كذبت)) واخرجه ابن حبان بلفظ: ((...فليقل في نفسه...)).
.
ومن هذه حاله فقد سمع الصوت ووجد الريح، وإن سبقه الحدث وهو في الصلاة مثل أن يخرج منه الغائط أو البول أو الريح بغير اختياره فإن طهارته تبطل باتفاق بين أئمة العترة وفقهاء الأمة لقوله : ((الوضوء مما خرج )) وهذا فقد خرج منه الحدث، وهل تبطل صلاته أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن صلاته باطلة فيستأنفها بوضوء جديد وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله ومحكي عن الشافعي في الجديد وهو مروي [عن] ابن سيرين.
والحجة على هذا: ما روى أبو داود في سننه أن الرسول قال: ((إذا قاء أحدكم في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته ))(1).
الحجة الثانية: ما روى أبو ضمرة(2)
عن الرسول أنه قال: ((من رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته))(3)
__________
(1) عن علي بن طلق قال: قال رسول الله : ((إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليعد الصلاة)) هذه رواية أبي داود، وفي (أصول الأحكام) عن عائشة عن النبي أنه قال: ((إذا قاء أحدكم في صلاته أو رعف فلينصرف وليتوضأ)) قال ا بن بهران في (الجواهر) حاشية البحر1/286: هما خبر واحد ولفظه ما جاء في (أصول الأحكام) قال: وفيه أيضاً عن علي أنه قال: ((من رعف وهو في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليستأنف الصلاة)) اهـ.
(2) محمد بن سليمان الشامي، يروي عن راشد بن سعد عن أبي أمامة، قال: رأيت النبي في حجة الوداع على بغلة شهباء يقوده خالد بن الوليد، روى عنه عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار اهـ، من (الثقات)7/434، وفي (تهذيب التهذيب) 9/178: قال أبو حاتم حدثنا عنه الوحاضي بأحاديث مستقيمة، وذكره ابن حبان في (الثقات) روى له ابن ماجة حديث ابن عمر في الطواف.
(3) روى الإمام زيد بن علي في مجموعه عن أبيه عن جده عن علي " في الرجل تخرج منه الريح أو يرعف أو يذرعه القيء و هو في الصلاة، فإنه يتوضأ ويبني على ما مضى من صلاته، فإن تكلم استأنف الصلاة، وإن كان قد تشهد فقد تمت صلاته.
…قال السياغي رحمه الله في (الروض النضير)2/157: أخرج الحافظ أبو الحسن الدارقطني في سننه بسنده عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: إذا وجد أحدكم رزاً أو قيئاً أو رعافاً فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم.
…قال ابن منظور في (لسان العرب) 5/353: والرِّزُّ بالكسر: الصوت، وقيل: هو الصوت تسمعه من بعيد، وقيل: هو الصوت تسمعه ولا تدري ما هو، ووجدتُ في بطني رِزاً أو رزِّيزَاً، مثال خصِّيْصَي: وهو الوجع، وفي حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجه: من وجد في بطنه رِزَّاً فلينصرف وليتوضأ.
.
المذهب الثاني: أن صلاته لا تبطل فيتوضأ ويبني على صلاته ما لم يحدث شيئاً يبطلها غير الحدث الذي سبقه، وهذا هو رأي أمير المؤمنين كرم الله وجهه ومحكي عن عمر وابن عمر ومحكي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم.
والحجة على هذا: ما روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله أنه قال: ((من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبين على صلاته ما لم يتكلم))(1).
الحجة الثانية: ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا رعف في صلاته توضأ وبنى على ما مضى من صلاته.
المذهب الثالث:أنه إذا سبقه الحدث بنى على صلاته وإن غلبه المني أو شجه أدمي فخرج منه الدم بطلت صلاته، وهو رأي أبي حنيفة، وقال سفيان الثوري: إن كان حدثه من رعاف أو قيء توضأ وبنى على صلاته وإن كان من بول أو ريح أو ضحك أعاد الوضوء والصلاة.
والحجة لأبي حنيفة والثوري: هو أن الأحاديث التي دلت على البناء إنما هي في القيء والرعاف دون سائر الأحداث فوجب قصر البناء عليهما، فأما إذا كان الحدث بالمني والدم كما قال أبو حنيفة أو بالبول والريح والضحك كما قال الثوري فالصلاة باطلة ويجب إعادتها واستئنافها.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من بطلان الصلاة بسبق الحدث.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول أنه قال:((إذا فسا أحدكم فليأخذ بطرف أنفه ولينصرف فليتوضأ ويعيد صلاته))(2).
الحجة الثانية: قوله : ((لا صلاة إلا بطهور )). وقوله : ((لا صلاة لمن لا وضوء له )). فإذا انتقض وضوءه لم يكن مصلياً من حيث أن الصلاة لا تكون إلا بطهور فمن فسد طهوره يجب أن تكون صلاته فاسدة.
__________
(1) أورده ابن حجر في (التلخيص) عن ابن ماجة والدار قطني من حديث تابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن الرسول بلفظ: ((من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ولين على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم)).
(2) تقدم قريباً من رواية أبي داود.
الحجة الثالثة: قياسية؛ وحاصلها هو أن هذا حدث يمنع من المضي في الصلاة فمنع من البناء عليها كحدث العمد.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روت عائشة ((من قاء أو رعف فلينصرف وليتوضأ ويبني على صلاته )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا الحديث معارض بما روي عن الرسول أنه قال: ((من قاء أو رعف فلينصرف وليتوضأ وليستأنف )). وخبرنا أرجح لظهوره واشتهاره بين الرواة وما كان راحجاً فهو أحق بالعمل.
وأما ثانياً:فإنا نتأوله وهو أن المراد بالبناء هو الاستئناف؛ لأن كل من فعل من الفعل مثل ما مضى فإنه يصح وصفه بأنه يبنى عليه، وقوله : ((ما لم يتكلم...)) إنما هو حث على المسارعة قبل الأخذ والاستقبال بعمل آخر لأنه إذا كان مأموراً بترك الكلام مع خفية فلأن يكون مأموراً بترك غيره أحق وأولى.
قالوا: روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول كان إذا رعف توضأ وبنى على ما مضى من صلاته.
قلنا: ما أجبنا به عن حديث عائشة فهو بعينه جواب عما رواه ابن عباس ونزيد هاهنا وجهين:
أما أولاً: فلأن خروج الدم غير ناقض عندنا للطهارة إذا كان خروجه من غير السبيلين.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا كونه ناقضاً فيحتمل أن يكون قليلاً غير سائل وإذا كان الأمر كما قلناه فلا مستروح لهم فيما أوردوه، فأما ما ذكره أبو حنيفة والثوري من التفرقة بين القيء والرعاف وسائر الأحداث الناقضة في صحة البناء على القيء والرعاف دون غيرهما فإنما هو مقرر على حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث ابن عباس وقد قررنا ما يتوجه عليه من الإحتمال فلا وجه لتكريره.
الفرع الثالث: في حكم الأفعال في الصلاة.
اعلم أن دخول الأفعال واقع على أضراب ستة:
الضرب الأول: يحرم دخوله فيها وهو مفسد لها، وهذا نحو الأكل والكتابة والمشي الطويل وغير ذلك من الأفعال المحرمة في الصلاة فما هذا حاله فهو مفسد لها والإجماع منعقد على فساد الصلاة بما ذكرناه.
ومن وجه آخر: وهو أن أفعال الصلاة قربة وهذه الأفعال مباحة والقربة مرادة لله تعالى والأفعال المباحة غير مرادة لله تعالى والفعل الواحد لا يجوز أن يكون مراداً غير مراد لله تعالى ولا فرق بين الفريضة والنافلة في أن هذه الأفعال مفسدة لها كما هي مفسدة للفريضة لأن القربة شاملة للفرض والنفل فما أفسد أحدهما كان مفسداً للآخر من غير فرق. وهل يكون الشرب مفسداً لنافلة الصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: ان الشرب مفسد للصلاة، وهذا هو رأي أئمة العترة،و محكي عن الفقهاء.
والحجة على هذا: هو أن الشرب محرم في الصلاة، فكان فعله مبطلاً للصلاة كالأكل.
المذهب الثاني: أن الشرب لا يفسد النافلة وهذا شيء يحكى عن سعيد بن جبير وطاووس.
والحجة على هذا: هو أن النافلة قد تساهل فيها الشرع وخفف أمرها حتى جوَّز أداءها قاعداً مع القدرة على القيام تخفيفاً لحالها وتوسعاً في أمرها، وشرب الماء فعل خفيف فلهذا جاز فعله فيها، وعن هذا قالا لا بأس بشرب الماء في صلاة النافلة.
والمختار: ما عليه علماء العترة وأكثر علماء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو قوله : ((صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس )). فإذا كان الكلام يبطلها فالشرب يبطلها أحق وأولى. وإن كان بين أسنان المصلي طعام فنزل به الريق لم تبطل صلاته لأن مثل هذا لا يبطل الصوم.
ومن وجه آخر: وهو أن مثل هذا يتعذر الإحتراز منه ويشق، وإن ترك في فيه سُكَّرة ولم ينزل منها شيء إلى جوفه لم تبطل صلاته لأن مثل هذا لا يبطل الصوم فهكذا حال الصلاة وإن نزل إلى جوفه شيء منها لم تبطل صلاته أيضاً لأنه لم ينزل باختياره ولا بازدراده وإنما نزل مع ريقه فيشابه الريق وإن أكل جاهلاً أو ناسياً لم تبطل صلاته كما لا يبطل صومه هذا إذا كان قليلاً فعله فإن كان كثيراً بطلت.
الضرب الثاني: ما يوجب خروجه منها لأمر عارض ويكون مفسداً لها وهذا نحو أن يحضر منكر تجب إزالته.
واعلم أن الصلاة وإزالة المنكر أمران واجبان لكن الصلاة مؤقتة وإزالة المنكر مطلقة وإذا كان الأمر كما قلناه نظرت فإن كان المنكر واقعاً قبل تلبس المصلي بالصلاة ودخوله فيها فأيهما يكون أحق بالتقديم والإيثار؟ فيه تردد.
والمختار: إيثار الصلاة بالتقديم لأنها مؤقتة وإدراك فضيلة وقت التقديم(1)
للعبادة يكون أحق لا محالة وإن كان عروض المنكر بعد دخوله في الصلاة وتلبسه بها نظرت فإن كان المنكر مما يمكن تأخيره وجب تقديم الصلاة ولا يحل له الخروج منها لقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }[محمد:33]. وإن كان المنكر مما لا يمكن تأخيره وجب عليه الخروج منها وهذا نحو أن يكون هناك صبي يغرق أو يحرق أو رجل يقتل ظلماً لأن تدارك حشاشة النفس أهم في مقصود الشرع من الصلاة في وقتها سواء كان ذلك في أول وقت الصلاة أو في آخر وقتها فإن الصلاة يمكن تداركها بالقضاء وما هذا حاله من المنكر لا يمكن تداركه لفواته، فإن صلى والحال هذه وأعرض عن إزالة المنكر لم تكن الصلاة مجزية له لأنه يكون عاصياً لأنه ترك بالصلاة واجباً توجه عليه وجوبه لا يمكن تأخيره.
__________
(1) في حاشية الأصل: إذا كان لا يخشى فوات المنكر.
الضرب الثالث: ما يوجب خروجه من الصلاة ويكون مفسداً لها، وهذا نحو أن يحضر صاحب المظالم وصاحب الوديعة وصاحب الدين فما هذا حاله يجري على نحو ما ذكرناه في الذي قبله، فهذان واجبان أحدهما مؤقت والآخر مطلق وأحدهما حق لأدمي والآخر حق لله تعالى وإذا كان الأمر كما قلناه فليس تخلو المطالبة بهذه الحقوق إما أن تكون قبل دخول المصلي في الصلاة وتلبسه بها أو بعده، فإن كانت المطالبة بتأديتها قبل الدخول في الصلاة كانت الصلاة أحق بالتقديم والإيثار لأن إدراك فضيلة الوقت أحق بالعبادة لا محالة وإن كانت المطالبة بعد تلبسه بالصلاة ودخوله فيها نظرت فإن كان ذلك في آخر وقت الصلاة وجب المضي فيها ولا يحل له الإخلال بها لأن وقتها فائت ووقت الأداء للمظلمة غير فائت فلهذا كان أحق بالإيثار وإن كانت المطالبة بهذه الحقوق في أول وقت الصلاة وجب عليه الخروج منها لأنه قد تعارض هاهنا واجبان، أحدهما حق لله تعالى على الخصوص والآخر حق لآدمي فآثرنا حق الآدمي على حق الله تعالى كالدين والوصية، فإن مضى في صلاته والحال هذه كانت صلاته باطلة لأنه ترك بها واجباً توجه عليه وجوبه فيكون عاصياً ولا تجزيه صلاته لبطلان كونها طاعة ولعدم القربة في الصلاة.
نعم وذكر أصحابنا المتكلمون من الفئة العدلية المعتزلة أن المصلي إذا صلى وصبيٌ يغرق وكان يمكنه تخليصه فإذا صلى والحال هذه فإن صلاته غير مجزية وهذا جيد قوي لا غبار عليه لأمرين:
أما أولاً: فلأنه تارك بالصلاة فعل واجب قد توجه عليه فعله فيكون عاصياً بصلاته.
وأما ثانياً: فلأن تدارك حشاشة النفس وإنقاذها أهم في مقصود الشرع من الصلاة.
ومن وجه آخر: وهو أن الصلاة حق لله تعالى والإنقاذ حق لأدمي وإذا تعارض حق الله تعالى وحق الآدمي كان حق الآدمي أحق بالإيثار كالدين والوصية.
الضرب الرابع: في حكم الأفعال الداخلة في الصلاة من غير جنسها.
وإن عمل المصلي عملاً في صلاته من غير جنسها نظرت فيه فإن كان عملاً قليلاً مثل دفع المار جاز لقوله : ((ادرأوا ما استطعتم)) و[مثل] خلع النعل؛ لأن الرسول خلع نعله في صلاة، وتسوية الرداء لكونه عملاً قليلاً والحمل والوضع والإشارة لأن الرسول كان يحمل أمامة بنت بنته زينب وهي بنت لأبي العاص وهو يصلي فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها وسلم عليه الأنصار وهو يصلي فرد عليهم السلام بالإشارة. فهذه الأفعال كلها قد دل الشرع على أنها غير مبطلة للصلاة والإجماع منعقد على ذلك. ومن جهة أن المصلي لا يخلو من عمل قليل في الصلاة فلهذا كان مغتفراً لما ذكرناه، وإن كان عملاً كثيراً متوالياً فإنه مبطل للصلاة لأنه لا حاجة إليه ولا ضرورة تدعو إلى فعله فلهذا كان مبطلاً لها ولا فرق في العمل الكثير بين أن يفعله عامداً أو ناسياً أو جاهلاً بتحريمه فإنه مبطل للصلاة. وإن عمل في الصلاة عملاً كثيراً متفرقاً لم تبطل صلاته لأن الرسول حمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة فكان إذا قام رفعها وإذا سجد وضعها ولم تبطل الصلاة لذلك لما كانت أفعالاً متفرقة غير متوالية فلهذا كانت مغتفرة.
ومن وجه آخر: وهو أن الأفعال الكثيرة إذا تفرقت فكل جزء منها قليل بنفسه فلا يجوز ضمه إلى غيره، والتفرقة بين القول والفعل حيث اغتفر الشرع القليل من الأفعال فلم يكن مبطلاً للصلاة بخلاف القليل من القول فإنه مبطل للصلاة من جهة أن القليل من الأفعال تدعو الضرورة إليه في الصلاة وتمس الحاجة إلى فعله فلهذا لم يكن مبطلاً بخلاف الأقوال فإنها لا تمس الحاجة إليها ولا تدعو الضرورة فافترقا. والتفرقة بين قليل الأفعال وكثيرها حيث بطلت الصلاة بكثيرها ولم تبطل بقليلها هو ما ذكرناه من أن الضرورة تدعو إلى القليل فاغتفر ولا تدعو إلى الكثير فلم يغتفر فافترقا.
الضرب الخامس: في حكم الأفعال الداخلة على الصلاة من جنسها وهذا نحو أن يركع أو يسجد في غير موضعه فإذا كان الأمر هكذا نظرت فإن كان فعله عامداً مع علمه بتحريمه بطلت صلاته لأنه خالف مشروع الصلاة وموضوعها الذي وضعت له من جهة الرسول حتى صار متلعباً بها وقد قال تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً}(1).
وإن فعل ذلك ناسياً لم تبطل صلاته سواء كان ذلك قليلاً أو كثيراً لأن الرسول صلى الظهر خمس ركعات ساهياً، وإن فعل ذلك جاهلاً لم تبطل صلاته لأنه معذور لأجل جهله كالناسي وإن قام في الركعة الرابعة من الظهر قبل السلام وأحرم بالعصر نظرت فإن كان عامداً عالماً بتحريمه صح إحرامه بالعصر لأنه بقيامه عمداً قبل السلام بطل ظهره(2)
وصح شروعه وإحرامه للعصر وإن قام ناسياً أو جاهلاً لم تبطل الظهر ولم يصح إحرامه بالعصر وإن قرأ فاتحة الكتاب في الركعة عامداً مرتين فهل تبطل صلاته أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تبطل لأنه زاد ركناً في صلاته عامداً فبطلت به الصلاة كما لو زاد ركوعاً أو سجوداً.
وثانيهما: أنها لا تبطل صلاته وهذا هو المختار لأنه زاد زيادة ذكر فهو كما لو قرأ السورة بعد الفاتحة مرتين.
الضرب السادس: في التفرقة بين القليل والكثير من الأفعال.
اعلم أن الإجماع منعقد بين الأئمة وعلماء الأمة على أن القليل من الأفعال يجوز فعله في الصلاة وأنه غير مفسد لها وأن الكثير من الأفعال محرم في الصلاة وأنه مفسد لها، فإذا كان الأمر فيهما كما قلناه فلا بد من التفرقة بينهما ليتميز حكم أحدهما عن الآخر وللعلماء في التفرقة بينهما أقوال ستة:
__________
(1) هكذا في الأصل وهو خطأ، إذ ليس في القرآن الكريم آية بهذه الصيغة، ولعل الأقرب إلى الدلالة قوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً} [البقرة:231]، أو قوله تعالى: {الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً}[الأعراف:51].
(2) قال في حاشية الأصل: هذا مبني على عدم الترتيب.
القول الأول: يحكى عن الإمام المؤيد بالله وهو أن المعتمد في الفصل بين القليل والكثير هو الإجماع فما وقع الإجماع على كونه كثيراً فهو مفسد للصلاة وما لم يقع الإجماع على كونه كثيراً فهو في حكم القليل فلا يكون مفسداً فالاعتماد على الإجماع على الكثرة لا غير.
القول الثاني: عن الإمام أبي طالب وهو أن المعتمد في ذلك على غلبة الظن فما غلب الظن على كونه كثيراً فهو مفسد للصلاة، وما غلب الظن على كونه قليلاً فليس مفسداً للصلاة، فالتعويل في القلة والكثرة على ما ذكرناه من غلبة الظن. قيل للسيد أبي طالب: فإن لم يغلب على ظنه شيء من كونه قليلاً أو كثيراً، هل تجب عليه الإعادة أم لا؟ فقال: لا يمتنع أن تجب عليه الإعادة.
القول الثالث: حكاه المؤيد بالله عن أصحابنا وهو أن القليل ما وقع عليه الإجماع على كونه قليلاً فليس مفسداً وما لم يقع عليه الإجماع فهو في حكم الكثير فيكون مفسداً لأن الأصل هو تحريم الأفعال في الصلاة فلهذا وجب ما ذكرناه.
القول الرابع: محكي عن محمد بن شجاع(1)
__________
(1) محمد بن شجاع الثلجي، الفقيه الحنفي البغدادي، أبو عبد الله صاحب التصانيف.
…قال في (ميزان الاعتدال)6/182: قرأ على اليزيدي، وروى عن ابن عُلية ووكيع، وتفقه على الحسن بن زياد اللؤلؤي وغيره، قال: وقال ابن عدي: كان يضع الحديث في التشبيه ينسبها إلى أصحاب الحديث، وكان المتوكل يريد أن يوليه القضاء، فقيل له: إنه من أصحاب بشر المريسي، وكان ينال من أحمد في مسألة خلق القرآن.
…قال المروزي: أتيته ولمته فقال: إنما أقول: كلام الله، كما أقول: سماء الله، وأرض الله، وله كتاب المناسك في نيف وستين جزءاً، مات سنة 66هـ عن 86 سنة، وإليه ينسب الحديث المكذوب، إن الله خلق الفرس فأجراها فعرقت، ثم خلق نفسه منها، راجع ( الكامل في ضعفاء الرجال)6/291، تعالى الله عما يقول هذا الثلجي وأمثاله علواً كبيراً.
من أصحاب أبي حنيفة ومروي عن بعض أصحاب الشافعي وحاصل ما قالاه راجع إلى رؤية الرائي فما رأه الرائي فظن أنه غير مصل فهو في حكم الكثير وما رآه الرائي فظن أنه مصلٍ فهو قليل غير مفسد وفي الأول يكون مفسداً.
القول الخامس: محكي عن بعض أصحاب الشافعي وحاصل كلامه هو أن التعويل في الفصل بينهما إنما هو على العرف والعادة فما كان من طريق العرف والعادة يقال إنه كثير فهو مفسد وما كان من طريق العادة والعرف يقال إنه قليل فهو غير مفسد فبهذا تدرك التفرقة بينهما.
القول السادس: يحكى عن بعض أصحاب الشافعي وهو أن كل ما كان يفتقر إلى أعمال اليدين فهو كثير مفسد وهذا نحو تكوير العمامة والكتابة فهو كثير مفسد وما كان مفتقراً إلى أعمال اليد الواحدة فهو قليل غير مفسد وهذا نحو الحك اليسير وإدخال اليد في جيب القميص، فهذه أقاويل العلماء في مقدار القليل والكثير والفصل بينهما.
والمختار: من هذه الأقوال ما ذكره المؤيد بالله وهو أن كل ما وقع الإجماع على كونه كثيراً فهو مفسد وما لم يقع الإجماع على كونه كثيراً فهو في حكم القليل فلا يكون مفسداً.
والحجة على هذا هو أن الإجماع قد انعقد على إباحة الفعل القليل في الصلاة نحو الحك اليسير وتسوية الرداء إلى غير ذلك من الأفعال القليلة فإن وقع الإجماع على كونه كثيراً قضينا بإفساده وإن لم يقع الإجماع على كثرته فهو داخل في حكم ما أبيح من الفعل القليل ونرجع إلى التفريع.
الفرع الرابع: في الكلام في الأفعال الخارجة عن الصلاة نوردها في مسائل ست:
المسألة الأولى: يجوز الفعل القليل للإرشاد والتعليم لأحكام الصلاة.
والحجة على ذلك: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: بت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله من الليل فتوضأ ثم قام إلى الصلاة فقمت وتوضأت كما توضأ هو ثم جئت فقمت عن يساره فأخذ بيميني فأدارني من ورآءه حتى أقامني عن يمنيه فصليت معه. وهذا الحديث مشتمل على فوائد عشر:
الأولى منها: أن موقف الواحد عن يمين الإمام هو المشروع والواجب.
الثانية: أنه إن وقف على يساره كره وأجزته صلاته لأن ابن عباس افتتحها عن يساره فأقره على ذلك.
الثالثة: أن صلاة المأموم خلف الصف حائزة مع الكراهة إذا كان هناك ضرورة.
الرابعة: أن اليسير من الأفعال لا يفسدها ولا يكره فعله فيها إذا كان للإرشاد والتعليم كما فعله الرسول .
الخامسة: أن التعليم جائز في الصلاة كما علم ابن عباس.
السادسة: أن الصغير كالكبير في المقام للصلاة خلف الإمام.
السابعة: أن نية الإمام غير واجبة للإمامة لأن الرسول لم يشعر بابن عباس عند دخوله في الصلاة.
الثامنة: أن الفعل القليل من المأموم غير مفسد للصلاة كما فعل ابن عباس في الإستدارة.
التاسعة: أن قيام الليل مستحب في حقنا كما فعله الرسول وأدنى الدرجات في العبادات الإستحباب، فأما في حقه فالتهجد واجب عليه كما قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ }[الإسراء:79].
العاشرة: ظاهر الحديث دال على أن نية المأموم غير واجبة لأن الرسول لم يأمره بها ولا سأله هل نوى أو لم ينو.
فهذه الفوائد كلها مأخوذة من حديث ابن عباس وهو محتمل لأكثر من هذه الفوائد وقد ذكرنا فيما مضى عشرين فائدة فلا وجه لإعادتها. وكلامه لا يزال يستخرج منه الفوائد على مر الدهور وتكرر الأعصار غضة طرية للمجتهدين.
المسألة الثانية: قال المؤيد بالله الأفعال التي تفعل في الصلاة ثلاثة: فعل يفسد الصلاة سواء انضمت النية إليه أو لم تنضم وهذا كالكلام، وفعل يفسد الصلاة بانضمام النية إليه وإن لم تنضم لم يفسدها وهذا هو التسليمتان في الصلاة في غير موضعهما وهكذا إذا سلم في موضعهما ولم ينو الخروج من الصلاة وهذا هو قوله الأول، وقوله الآخر أنه يسلم ويقصد التسليم دون الخروج من الصلاة، وفعل لا يفسدها وإن نوى الإفساد به وهو نحو أن ينوي عند قراءة القرآن إفساد الصلاة فما هذا حاله لا يفسدها. فهذه أقسام الأفعال بالإضافة إلى النية في الصلاة.
المسألة الثالثة: المستحب هو الإتيان بالسنن في الصلاة التي ذكرناها وتشتد الكراهة في تركها لقوله : ((من رغب عن سنتي فليس مني )). والغرض أنه ليس من عملي وشأني وأمري لا على البراءة منه، فإن تركها ناسياً توجه عليه سجود السهو كما سنوضحه وهذا هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يختلفون فيه، فإن تركها عامداً فهل تبطل صلاته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن صلاته صحيحة وهذا هو المشهور من قول الأئمة والفقهاء.
والحجة على هذا: هو أن الأدلة الشرعية الموجبة لفساد الصلاة إما ترك شرط من شروطها أو إخلال بفرض من فروضها أو إدخال فعل ليس مشروعاً فيها على ما تدل عليه الأدلة النقلية من جهة الرسول فأما السنن المنفصلة فلم تدل دلالة على كونها مفسدة لها إذا تركت عمداً وإنما ينسب العامد إلى التقصير من غير إفساد لها.
المذهب الثاني: إن تركها عمداً توجب إفساد الصلاة وهذا هو المحكي عن الناصر.
والحجة على هذا: هو أن الاستخفاف بالسنة يكون استخفافاً بالرسول والإهانة للسنة إهانة له وما هذا حاله يبطل الصلاة ولا شك أن التارك للسنة عمداً كالمستخف فيجب إبطال الصلاة.
والمختار: ما عليه علماء العترة وفقهاء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا وهو أن الإجماع منعقد على التفرقة بين الفرض والسنة وأن تارك الفرض له حكم مخالف لمن ترك السنة على جهة العمد أو على جهة السهو فأما فساد الصلاة بترك السنة على جهة العمد فلا قائل به ولأن الرسول قد ترك شيئاً من السنن على جهة العمد خوفاً من أن توجب وبياناً للفسحة في أمرها في جواز تركها فكيف يقال بأن تركها عمداً يفسد الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكره.
قوله: إن تارك السنة على جهة العمد يكون في حكم المستخف فلهذا بطلت صلاته.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نقول: الاستخفاف بالسنة وبالرسول كفر وردة لا محالة والتارك للسنة لا يكون في حكم المستخف، وإنما تركها ليس لهذا الوجه ولكن تركها لأنه لا عقاب على تاركها.
وأما ثانياً: فيلزم إذا كان التارك للسنة في حكم المستخف أن يكون كافراً مرتداً كالمستخف[بالفريضة] ولا قائل بهذه المقالة ولعل كلامه محمول على أن التارك للسنة عمداً قصد به الاستخفاف وعلى هذا تبطل صلاته لردته فأما إذا تركها عمداً من غير هذا القصد فلا يلزم ما قاله من فساد الصلاة والله أعلم.
المسألة الرابعة: ومن رأى أعمى يتردى في بئر أو رأى صبياً تدب إليه حية ففعل فعلاً كثيراً يرشدهما إلى النجاة فهل تبطل صلاته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن صلاته باطلة ويجب عليه إرشادهما بكل حيلة يجد إليها سبيلاً في نجاتهما وهذا هو رأي أئمة العترة وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنا قد دللنا فيما مضى أن الفعل الكثير مبطل للصلاة وهو ينافي الخشوع في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2]. ولأنه فعل كثير ينافي الصلاة فوجب أن يكون مبطلاً لها كما لو فعل من غير إرشاد لهما.
المذهب الثاني:أنه غير مبطل للصلاة وهذا هو أحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا:هو أن ما هذا حاله فعل واجب عليه فلم يكن مبطلاً للصلاة كإجابة الرسول لمن دعاه في الصلاة.
والمختار: ما عليه علماء العترة من القول بإبطالها.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أنا على غير ثقة من تردي الأعمى ولا على وصول الحية والعقرب إلى الصبي فلعلهما لا يصلان إلى ذلك فلهذا حكمنا ببطلان الصلاة لأمر موهوم، ثم لو تحققنا ذلك فالفعل الكثير يبطل الصلاة ولو كان واجباً كما ذكرناه في فعل المنكر فإنه يجب عليه الخروج لإنكاره وتبطل الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: فعل واجب فلا يبطل الصلاة كدعاء الرسول .
قلنا: إن الوجوب شيء وإبطال الصلاة شيء آخر فالفعل وإن توجه على المصلي لكنه مفسد للصلاة لكثرته كما قلنا فيمن توجه عليه إنكار منكر وهو في الصلاة فإنه يفسدها ويجب عليه فعله كما مضى شرحه.
المسألة الخامسة: هل يجوز قتل الأسودين في الصلام أم لا؟
فظاهر الخبر دال على الجواز والإستحباب لقوله : ((اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة ))(1).
وعنى بالأسودين: الحية، والعقرب، وذلك محمول على الاضطرار على قتلهما خشية من مضرتهما فلهذا كان مستحباً لما فيه من دفع الضرر عن نفسه، فإذا قتلهما في الصلاة فهل تفسد الصلاة أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه مفسد للصلاة على الإطلاق وهذا هو الظاهر من مذهب القاسمية.
والحجة على هذا: هو أن قتلهما إنما يكون بفعل كثير في الغالب فلهذا حكمنا بالفساد على الإطلاق.
المذهب الثاني: أن قتلهما لا يكون مفسداً للصلاة على الإطلاق من غير تفصيل وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: قوله : ((اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة )). فإنه أمر بقتلهما ولم يفصل في ذلك بين أن يكون الفعل كثيراً أو قليلاً.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بلفظ: ((اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب)) وأخرج النسائي نحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم.
المذهب الثالث: أن قتلهما إن كان بضربة أو ضربتين فإنه غير مفسد للصلاة وإن كان أكثر من ذلك كان مفسداً وهذا هو المحكي عن الناصر.
والحجة على هذا: هو أن الضربتين فعل قليل فلهذا كان مغتفراً فإذا زاد على ذلك فهو فعل كثير فلهذا كان مفسداً.
والمختار: هو التفصيل فإن كان مضطراً إلى القتل خوفاً منهما نظرت فإن كان القتل بفعل كثير فهو مفسد للصلاة وإن كان فعلاً قليلاً فهو غير مفسد.
والحجة على هذا: هو أن ما ذكرناه من التفصيل فيه جمع بين ظاهر الخبر والقياس، فالخبر: ظاهره الأمر بالقتل في الصلاة فلا جرم حملناه على ما إذا كان القتل خفيفاً بفعل يسير. والقياس: فهو دال على أن الأفعال الكثيرة مبطلة للصلاة كما هو المحكي عن الناصر، وروي أن النبي لدغته عقرب في صلاته فلما فرغ منها قال: ((لعن الله العقرب لا يدع المصلي ولا غيره " ولا حرمة للنبي ولا غيره فأيكم لقيها فليأخذ نعله بشماله وليقتلها وإن كان في الصلاة)). وفيما ذكرناه من التفصيل وفاء بالأمرين جميعاً فلهذا كان مختاراً وفيه جمع بين الأدلة وهي طريقة مرضية.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إن قتلهما إنما يكون بفعل كثير وقد قامت الدلالة الشرعية على أن الأفعال الكثيرة مبطلة للصلاة.
قلنا: الأن ارتفع النزاع لأنا قلنا: إن كان بفعل كثير فهو مبطل للصلاة، وإن كان القتل بفعل يسير جازت الصلاة، ويؤيد ما ذكرناه أنا نقول: فما رأيكم إذا حصل القتل بفعل يسير هل تصح الصلاة أم لا؟ فلابد من نعم. وفيه بطلان القول بفساد الصلاة على الإطلاق.
قالوا: ظاهر الخبر دال على الإطلاق فلا وجه لتأويله بالتفصيل الذي ذكرتموه.
قلنا: ظاهر الخبر دال على الإباحة للقتل في الصلاة ولم يتعرض لفسادها وصحتها بشيء، وفيما ذكرناه من التفصيل وفاء بما دل عليه الخبر وبالقياس فلهذا وجب العمل عليه، وأيضاً فلا خلاف أن الأفعال الكثيرة مبطلة للصلاة فلا وجه لحمل الخبر على الصحة على الإطلاق.
المسألة السادسة: في وضع اليد على اليد في الصلاة بعد تكبيرة الافتتاح هل تكون مفسدة للصلاة أم لا؟ فيه تردد وخلاف قد ذكرناه من قبل وقررنا أنه يكره وأنه غير مفسد للصلاة، وإن حزن في الصلاة واستعبر ففاضت عيناه لم تبطل صلاته لقوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}[مريم:58]. وروي أن الرسول كان يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل(1).
والأزيز: غليان صدره وحركته بالبكاء والإستغفار.
قال الهادي في المنتخب: من وجد قملة وهو في الصلاة طرحها. فإن قتلها فالإعادة أحب إلينا، وكلامه هذا قد اشتمل على حكمين:
الحكم الأول: استحباب طرحها لأنه ربما شغله في الصلاة تركها وهو يتضمن إصلاح الصلاة فلهذا كان مستحباً.
الحكم الثاني: استحباب الإعادة إذا قتلها لأمرين:
أما أولاً: فلأنه يلتبس الحال في قتلها بين أن يكون قليلاً أو كثيراً وهو إذا أعاد بنى على اليقين في سقوط الفرض عن ذمته.
وأما ثانياً: فلأنه إذا أعادها كان عملاً على الإحتياط وقد قال : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )). فأما تخلل المرأة لصفوف الرجال ومخالفة المأموم لإمامه فيما يجب عليه فيه متابعته والزيادة على الصلاة المشروعة ما هو من جنسها فستأتي هذه المسائل في صلاة الجماعة وفي السهو ونشرحها هناك بمعونة اللّه، وقد نجز غرضنا من الكلام في إفساد الصلاة بالأفعال.
الفرع الخامس: في إفساد الصلاة بالكلام وما يتعلق به.
ويشتمل على أحكام نفصلها بحمد الله:
الحكم الأول: اعلم أن الكلام في الصلاة ربما كان على جهة العمد وربما كان على جهة السهو وتارة يكون من كلام الناس ومرة يكون من غيره وفيه أضرب خمسة نفصلها:
__________
(1) في حاشية الأصل: المرجل القدر، والأزيز صوت البكاء، وقيل: هو أن يجيش جوفه ويغلي بالبكاء، شبه ما يسمع من نشيجه في صدره بغليان القدر عند شدة الإيقاد عليه. ا هـ.
الضرب الأول: أن يكون الكلام في الصلاة من قبيل التسبيح والتهليل وقراءة القرآن وغير ذلك من ذكر الله تعالى فما هذا حاله لا يكون مفسداً للصلاة لقوله : ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير والتهليل وتلاوة القرآن)).
ووجه الدلالة من الخبر: أنه استثنى في الفساد ما لا يتعلق بكلامات(1)
الناس وهذه الأمور ليست من كلام الناس فلهذا لم تكن مفسدة للصلاة.
الضرب الثاني: أن يقصد إلى الكلام وهو عالم أنه يبطل الصلاة وكان ذلك لغير مصلحة للصلاة، فما هذا حاله مبطل للصلاة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وغيرهم من الفقهاء.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين )). وما هذا حاله فهو من كلام الناس فلهذا كان مبطلاً. قوله : ((الكلام ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء ))(2).
فهذان الخبران يدلان على بطلان الصلاة بما ذكرناه من هذا الكلام الذي ذكرنا صفته.
الضرب الثالث: أنه يتكلم بالكلام على جهة العمد وعالماً بتحريمه في الصلاة لكنه لمصلحة الصلاة وهذا نحو أن يتكلم بكلام لدرء المار ونحو أن ينبه الإمام عن سهوه بكلام فما هذا حاله هل يكون بمطلاً للصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون مبطلاً للصلاة وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الفريقين الحنفية والشافعية.
والحجة على هذا: قوله : ((الكلام ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء )). ولم يفصل بين أن يكون مفعولاً لاصلاحها أو لغير إصلاحها.
__________
(1) هكذا في الأصل، وقد سبقت بهذه الصيغة وهي جمع اسم الجنس وهو غير وارد عن أهل اللغة، والله أعلم.
(2) قال في (الجواهر)1/290: هكذا حكاه في (المهذب) وعزاه في (التلخيص) إلى الدارقطني من حديث جابر بإسناد ضعيف فيه أبو شيبة الواسطي، رواه من طريقه بلفظ: ((الضحك)) بدل ((الكلام)) وهو أشهر وصححه، والبيهقي وقفه، والله أعلم.
الحجة الثانية: قياسية، وهو أنه خطاب لآدمي مفعول على جهة العمد مع العلم بتحريمه فأبطل الصلاة كما لو كان مفعولاً لغير إصلاح الصلاة.
المذهب الثاني: جواز ذلك لإصلاح الصلاة وهذا شيء يحكى عن مالك والأوزاعي.
والحجة على ذلك: قوله : ((إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال ولتصفق النساء ))(1).
ووجه الدلالة من هذا الخبر: هو أنه أمر بالتصفيق إذا عرض عارض في إصلاح الصلاة فإذا جاز التصفيق جاز الكلام لإصلاحها لاستوائهما جميعاً في الغرض المطلوب وهو إصلاح الصلاة.
والمختار: ما عليه علماء العترة والفريقان.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى عبدالله بن مسعود عن رسول الله قال: كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجاتنا فقدمت على رسول الله وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد عليِّ فأخذني ما قدم وما حدث فلما قضى رسول الله قال: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن الله قد أحدث ألا تكلموا في الصلاة)) (2).
ورد على السلام، ولم يفصل بين أن يكون لإصلاحها أو لغير إصلاحها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إنه أمر إذا عرض عارض في الصلاة بالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء فإذا جاز التصفيق جاز الكلام لإصلاح الصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فقد قيل إن هذا الخبر منسوخ بخبر عبدالله بن مسعود حيث قال: ((وإن الله قد أحدث ألا تكلموا في الصلاة )). فدل ذلك على نسخه.
__________
(1) هذا طرف من حديث أخرجه بكماله الستة إلاَّ الترمذي، وهذا اللفظ لأبي داود والنسائي، قال أبو داود: قال عيسى بن أيوب: التصفيق للنساء تضرب بأصبعين من يمينها على كفها اليسرى.
(2) رواه أبو داود، وأخرج البخاري ومسلم نحواً منه، وأخرج الستة إلا الموطأ عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه، وهو إلى جنبه حتى نزلت: {وَقُوموا لله قَانِتِيْن}[البقرة:238] فأُمِرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وأما ثانياً: فلأن الخبر حجة لنا لأنا نقول لولا أن الكلام مفسد للصلاة إذا فعل لإصلاحها لما عدل إلى التسبيح والتصفيق فلما عدل إليهما عن الكلام دل على ما قلنا من إفساد الكلام للصلاة إذا فعل لإصلاحها.
الضرب الرابع: كلام الناسي، وهذا نحو أن يعتقد أنه قد سلم من الصلاة أو أنه ليس في الصلاة فيتكلم على جهة النسيان ولا يطيل الكلام فما هذا حاله من الكلام هل يكون مبطلاً للصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه مبطل للصلاة وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية ومحكي عن أبي حنيفة خلا أن أبا حنيفة قال: إلا أن يسلم من يسلم من اثنتين فإنه لا يبطل الصلاة.
والحجة على هذا: ما رويناه من حديث عبدالله بن مسعود وهو أن الرسول قال: ((إن الله قد أحدث ألا تكلموا في الصلاة)) ولم يفصل بين السهو والعمد فيه وفي هذا دلالة على ما قلناه.
المذهب الثاني: أن كلام الساهي لا يفسد الصلاة وهذا هو رأي الشافعي ومحكي عن الناصر ومالك والأوزاعي.
والحجة على هذا: قوله : ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )).
والمختار: أن كلام الساهي غير مفسد للصلاة.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة قال: صلى بنا رسول الله العصر فسلم في الركعتين الأوليين فقام ذو اليدين(1)
__________
(1) ترجم له في (الأسماء المفردة) و(الجرح والتعديل) و(الكامل في الضعفاء) وغيرها على اختلاف في كونه ذا الشمالين أم غيره، واختلاف في اسمه، وفي (الاستيعاب)2/475 و(الإكمال) للحسيني 1/133: أنه ذو اليدين واسمه الخرباق السلمي، حجازي من ناحية المدينة، شهد النبي وروى عنه حديث السهو في الصلاة الذي اورده المؤلف هنا.
…قال في (الاستيعاب): وليس هو ذا الشمالين، ذو الشمالين رجل من خزاعة استشهد يوم بدر، وذو اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين، وشهد أبو هريرة يوم ذي اليدين وهو الراوي لحديثه، وقال: إن أبا هريرة أسلم بعد بدر بأعوام، فلا يصح أن يكون ذو اليدين هو ذا الشمالين. اهـ باختصار.
[فقال]: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله : ((كل ذلك لم يكن)) ثم أقبل على القوم وقال: ((أصدقٌ ما يقول ذو اليدين))؟. فقالوا: نعم. فقام رسول الله فتمم ما بقي من صلاته وسجد سجدتي السهو وهو جالس بعد السلام(1).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه سلم من اثنتين ساهياً وعنده أنه آخر الصلاة فلما قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ لم يتذكر سهوه وقال: ((كل ذلك لم يكن)). ثم كَلَّمَ القوم وقال: ((أصدق ما يقول ذو اليدين)). وعنده أنه خارج من الصلاة فلما قيل: نعم. تذكر السهو ورجع وبنى على صلاته وسجد للسهو فقد تكلم ساهياً على أنه قد خرج من الصلاة فلهذا لم يكن الكلام على جهة السهو مبطلاً للصلاة وبنى عليها وأتم صلاته، فكلامه لذي اليدين وللقوم لما سألهم لم يكن مبطلاً لصلاته لأنه خارج على جهة السهو، وإنما لم يبطل الرسول صلاة ذي اليدين بكلامه لأنه جوز النسخ بقوله: أقصرت الصلاة. وجوز السهو بقوله: أو نسيت. فلهذا كان سهوه تابعاً لسهو الرسول وإنما لم يبطل الرسول صلاة القوم الذين أجابوه لأنه روي أنهم لم يتكلموا في تصديق ذي اليدين وإنما أومأوا برؤسهم.
وقيل: إنهم قالوا: نعم. وهذا كلام يسير لا تبطل لأجله الصلاة. واختلف العلماء في مقدار ما يغتفر من كلام الساهي في الصلاة على أقوال ثلاثة:
فالقول الأول: أنه يغتفر فيه مقدار ما تكلم به رسول الله في قصة ذي اليدين لأن الأصل هو المنع إلا ما قامت عليه دلالة ولم تقم إلا بما ذكرناه.
القول الثاني: أنه تغتفر الكلمة والكلمتان والثلاث وما زاد على الثلاث لا يغتفر ويكون مفسداً لأن للثلاث مدخلاً في التقدير ولهذا اعتبرت في أقل الحيض وغيره من المقادير.
__________
(1) جاء الحديث من عدة طرق منها عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس كما في روايات أبي داود وابن ماجة والبيهقي، والبزار والطبراني، وبألفاظ متقاربة، وسيأتي في موضعه في باب سجود السهو.
القول الثالث: أنه يغتفر كلام الساهي وإن كان كثيراً لأن السهو هو الرافع لحكمه ولم يفصل بين أن يكون قليلاً أو كثيراً، وهذا هو المختار لأن الله تعالى قد رفع حكم السهو ولم يفصل بين قليله وكثيره.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: حديث ابن مسعود: ((إن الله أحدث ألا تكلموا في الصلاة )).
قلنا: هذا الحديث محمول على الكلام المعمود ولا شك في كون العمد مبطلاً للصلاة.
الضرب الخامس: أن يعمد إلى الكلام وهو يجهل أن الكلام يبطل الصلاة فما هذا حاله هل يكون مبطلاً للصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه مبطل للصلاة وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن الله أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)). وهذا عام في المنع من الكلام في الصلاة ولم يفصل بين الجهل والعمد.
المذهب الثاني: أن فعل الكلام على جهة الجهل يكون غير مفسد لا يبطل الصلاة، وهذا هو رأي الناصر والشافعي ومحكي عن مالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: هو أنه غير عالم بكونه مبطلاً للصلاة فأشبه الناسي.
والمختار: أن الجاهل كالناسي في أن كلامه غير مبطل للصلاة.
والحجة على هذا: ما روي عن معاوية بن الحكم أنه قال: بينا أنا مع رسول الله في الصلاة إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فحذفني القوم بأبصارهم فلما رأيتهم ينكرون عليَّ قلت: وآثكل أماه مالكم تنظرون إليَّ فأخذوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يسكتونني فلما علمت أنهم يسكتونني سكت فلما انصرف رسول الله من صلاته دعاني بأبي وأمي ما رأيت معلماً أحسن منه تعليماً والله ما كهرني ولا شتمني ولا ضربني وقال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير والدعاء)). وروي: ((وقراءة القرآن)).
ووجه الدلالة من هذا الخبر: هو أنه لم يأمره بالإعادة فلو كان كلامه مبطلاً للصلاة لأجل جهله بكونه مفسداً لها لأوجب عليه الإعادة، والكهر هو الإنتهار. وفي قراءة عبدالله بن مسعود: {وأما اليتيم فلا تكهر}.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: حديث ابن مسعود دال على المنع من الكلام ولم يفصل بين الجاهل وغيره.
قلنا: الناسي معذور من أجل جهله وهو محمول على العامد والأخبار التي رويناها دالة على ما ذكرناه في حال الجاهل والناسي فلهذا قضينا بأن كلامهما غير مفسد.
الفرع الخامس: في إفساد الصلاة باللحن.
اعلم أن اللحن في اللغة هو الميل عن الصواب قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}[محمد:30]. أراد تعرفن ميلهم عن تصديقك والإقرار بنبوتك، وفي الحديث أن الرسول كان بينه وبين بني قريظة حلف فبلغه أنهم مالوا عنه إلى حلف قريش فأمر قوماً من أصحابه يدرون بحالهم هل هم باقون على الحلف أو قد غدروا ومالوا وقال لهم: ((إن كانوا باقين على الحلف فصرحوا به وإن كانوا قد غدروا ومالوا فالحنوا لي لحناً أعرف به حتى لا تفتوا في أعضاد الناس))(1).
__________
(1) ولعل أشمل وأجمل ما جاء في تفسير اللحن ما أورده ابن منظور في لسان العرب، فقال: قال ابن برِّي وغيره: للحن ستة معان: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى، واستدل ابن منظور بهذا الحديث على التعريض اهـ،13/381-382، وهو في تأريخ الطبري2/93 والسيرة النبوية 4/179.
فجاء أصحابه فقالوا: يا رسول الله، عضل والقارة، أرادوا: أنهم قد مالوا عنك مثل ما مال عضل والقارة وهما قبيلتان غدروا بأصحابه وقتلوهم، وأراد: أنهم يميلون عن التصريح بغدر بني قريظة، وصار اللحن الآن متعارفاً بالميل عن قانون اللغة والإعراب، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاللحن لا محالة مغير لقانون اللفظ والإعراب وربما كان مغيراً للمعنى مع اللفظ فهذان طرفان لا يخرج اللحن عنهما، ونحن الآن نذكر ما يتعلق بكل واحد بمعونة الله تعالى.
الطرف الأول: في بيان اللحن الذي يكون مغيراً للمعاني مع تغييره لقانون اللفظ والإعراب وإنما بدأنا به لأنه الذي يتعلق به إفساد الصلاة وبطلانها فلا جرم كانت العناية به أحق والإهتمام به أعظم، قال الإمامان الناصر والمؤيد بالله: وإذا لحن المصلي في القراءة لحناً يغير معنى القرآن ولا يوجد مثله في القرآن ولا في أذكار الصلاة بطلت صلاته وكلامهما هذا مشتمل على مسائل ست:
المسألة الأولى: أن يكون اللحن خطأ في اللغة وخطأ في القرآن فلا يوجد فيهما جميعاً، ومثاله أن يقرأ الحمد بالخاء والعالمين بالغين والرحمن بالخاء ويقرأ العصف مأكول بالغين إلى غير ذلك مما يلحق اللحن اللفظة بالإهمال وإخراجها عن اللغة العربية فما هذا حاله يكون مفسداً للصلاة وإنما كان مفسداً لها لأن القرآن كله معجز وإنما كان معجزاً لتضمنه للفصاحة والبلاغة في لفظه ومعناه ولا شك أن اللحن على هذه الصفة يخرجه عن الفصاحة والبلاغة وفي ذلك خروجه عن الإعجاز وعن كونه قرآناً وعلى هذا يكون المصلي كأنه يصلي بغير القرآن.
المسألة الثانية: أن تكون اللفظة موجودة في اللغة ومستعملة فيها لكنها لحن في القرآن ومثاله قوله تعالى:{ونادى نوحاً}. بالنصب. وقوله تعالى: {وأرسلنا نوح} بالرفع. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} بالنصب والجر في اسم الله وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} بالنصب في إسم اللّه. وفي قوله: {نَصْرُ}. فما هذا حاله لا يفسد الصلاة ولا يبطلها لأن مثل هذا موجود في القرآن وفي اللغة فيكون كأنه انتقل من موضع إلى موضع لأن القرآن كله كالآية الواحدة في انتظامه وفي عدم المناقضة في ألفاظه ومعانيه ولأن الظاهر صحة الصلاة فلا تفدم على إفسادها وبطلانها إلا بدليل شرعي لقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. وهاهنا لم تدل دلالة على الفساد فلهذا قضينا بالصحة.
المسألة الثالثة: أن تكون اللفظة غير موجودة في اللغة ولا توجد في القرآن ومثاله قوله تعالى: {مَعَاذُ اللَّهِ}. برفع الذال منه. وقولنا: سبحان الله العظيم. برفع النون. وقوله تعالى: {أكان الناس عجب} برفع عجب. فإن مثل هذه لا توجد في القرآن ولا في أذكار الصلاة فما هذا حاله يبطل الصلاة لأنه يصير كأنه خارج عن القرآن فتصير صلاته بغير قراءة فلهذا حكمنا ببطلانها، ويؤيد ما ذكرناه قوله : ((إن صلاتنا هذه ليس فيها شيء من كلام الناس)). وإذا كانت هذه اللفظة ليست موجودة في القرآن ولا في سائر أذكار الصلاة صارت كأنها من كلام الناس.
المسألة الرابعة: أن يوجد مثله في القرآن لكنه غير المعنى واعتقده المصلي وقصده وأراد ذلك التغيير ومثاله أن يقرأ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بضم التاء. ونحو أن يقرأ قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " }[التين:4] ثم يخذف المعطوف ويستثني قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " }[لعصر:3]. من قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:4]. وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:5-7]. وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى " ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:8-10]. فما هذا حاله إذا اعتقده وأراده بطلت صلاته وكفر وارتد لأنه كذب على الله تعالى في اعتقاده لذلك وانتقض وضوءه إذا قلنا أن الوضوء عبادة وليس شرطاً.
المسألة الخامسة: أن يفعل ذلك على جهة السهو أو على جهة العمد جاهلاً لمعناه، وإذا كان الأمر كما قلناه نظرت فإن كان في القدر الزائد على الواجب لم يضره ذلك وكانت الصلاة مجزية له لأن فساده ليس بأعظم من تركه وإذا كان تركه غير مخل بالصلاة ففساده غير مخل بالصلاة أيضاً، وإن كان في القدر الواجب نظرت فإن أعاده على الصحة والثبات صحت صلاته لقوله : ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)) ولأنه قد جبر ما أفسده بالإعادة فصار كأنه لم يأت به، وإن لم يعده بطلت صلاته لأنه قد أخل بقدر القراءة فكأنه غير قاريء فلهذا حكمنا ببطلانها.
المسألة السادسة: أن يكون التغيير بحيث لو اعتقده المصلي لم يكن كفراً وهذا كقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ " ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ،وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:1-3]. فلو قال عوض هذا: {إذا السماء انتثرت وإذا الكواكب انفطرت وإذا الجبال كورت}. فما هذا حاله لو غيَّره واعتقده لم يكن كفراً لأنه ليس شيء مما يتعلق بالدين، فتكون مخالفته كفراً، وإذا كان الأمر هكذا نظرت فإن كان في الزائد على الواجب من القراءة لم يكن مبطلاً للصلاة لأنه نهاية الأمر فيه أن يكون تغييره كأن لم يكن وإذا كان معدوماً لم يضر تركه بصلاة المصلي فهكذا إذا تغير. وإن كان في القدر الواجب نظرت فإن أعاده على الصحة كانت صلاته صحيحة وإن لم يعده بطلت صلاته لأنه إذا أعاده فقد أدى ما وجب عليه على ما أمر به وإن لم يعده فقد أخل بالواجب في القراءة فكأنه لم يقرأ في صلاته، فهذا هو الكلام فيما كان مغيراً للمعنى. وذكر أصحابنا أن من جعل الظاء ضاداً والضاد ظاء بطلت صلاته كمن يجعل الحاء خاء والخاء حاء وهذا فيه نظر فإن الضاد والظاء مخرجهما متقارب وليس حالهما كحال الحاء والخاء فإن محرجهما متباعد فأحدهما مخالف للآخر وليس في القرآن ما يقرأ بالضاد والظاء جميعاً إلا قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ " }[التكوير:24]. في وصف جبريل فإن قرأ بالضاء فالغرض الضنة وهي البخل وإن قرأ بالظاء فالغرض التهمة وكلا المعنيين حاصل في حقه فهذا ما أردنا ذكره في اللحن الذي يغير المعنى على التفصيل الذي ذكرناه.
الطرف الثاني: في بيان اللحن الذي لا يكون مغيراً للمعنى ونذكر فيه مسائل أربع:
المسألة الأولى: ألا يكون مغيراً للمعنى وفيه نقصان حرف من أصل الكلمة وهذا نحو أن يترك التشديد فيما عدا القراءة الواجبة كقوله تعالى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ " }[الشعراء:26]. ونحو قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه}[الزلزلة:7،8]. فما هذا حاله فيه نقصان حرف ولا يخل بالمعنى ولا يغيره.
المسألة الثانية:ألا يكون فيه تغيير للمعنى وفيه نقصان حرف ليس من أصل الكلمة ومثاله قوله تعالى:{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً}{وَالصَّافَّاتِ صَفّاً}. فيقرأ هاتين الآيتين من غير تشديد ففيه نقص حرف ليس من أصل الكلمة لأن لام التعريف زائدة مدغمة فيما بعدها، فإذا ترك التشديد كان لاحناً ولكنه لا يضره في صلاته لما كان نقصاناً، ليس من أصل الكلمة ونحو أن يترك التنوين من الكلمة كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى " }[القصص:20]. وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ}[الرحمن:39].
المسألة الثالثة: اختلاف الحركة وهذا كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ}. بفتح همزة اهدنا ونحو كسر النون الأولى في نستعين وفتح النون الثانية وكسرها فإن ما هذا حاله فيه تغيير للقراءة ولكنه لا يفسد الصلاة ولا يغير المعنى فلهذا اغتفر.
المسألة الرابعة: زيادة المد في نحو قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ}. {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ}. {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ}.{جَاءَ أَشْرَاطُهَا}. فإن ما هذا حاله الزيادة فيه لا تغير المعنى وهكذا زيادة اللين في مثل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. وزيادته في مثل قوله: {لله}. وفي مثل: {بسم الله}. فهذه حروف اللين الزيادة فيها لا تغير المعاني وفيها زيادة هذه الأحرف وهي غير مخلة بقراءة الصلاة، فهذا جملة ما أردنا ذكره في بيان ما يفسد الصلاة من اللحن وما لا يفسدها.
والمختار: فيما يكون مفسداً للصلاة من اللحن يرجع إلى تغييرات أربعة:
التغيير الأول: يرجع إلى اللفظ وهو ما كان اللحن فيه غير موجود في اللغة العربية وهذا نحو أن يقرأ الخمد بالخاء والغالمين بالغين والرحمن بالخاء، فما هذا حاله يكون مفسداً للصلاة لخروجه عما يوجد في اللغة وفي ذلك خروجه عن حد الإعجاز وإلحاقه بالمهمل من الكلام كما مر تقريره.
التغيير الثاني: ما يرجع إلى فساد المعنى وبطلانه وهذا نحو أن يقرأ المصلي: {إن الله بريء من المشركين ورسوله}. بالجر ونحو أن يقرأ: {أَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ}. بضم التاء ومثل قوله تعالى: {فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره للعسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى فسنيسره لليسرى}. وقوله: {فأنذرتكم ناراً تلظى، لا يصلاها إلا الأتقى}. وقوله: {وسيجنبها الأشقى}. فهذه الإشياء كلها إذا غيرها واعتقد مضمونها كان كذباً على الله تعالى وكان كافراً بذلك مرتداً.
التغيير الثالث: ما يرجع إلى نظم القرآن وتأليفه لأنه إنما كان معجزاً من أجل النظام والتأليف الذي عجز عنه كل أحد من الخلق فإذا خالفه المصلي بتقديم المؤخر وتأخير المقدم بطل كونه قرآناً وبطلت الصلاة به.
التغيير الرابع: ما يكون راجعاً إلى مفرادات الكلمات وهذا نحو أن يترك بعض التشديدات في الفاتحة وفي قراءة السورة الثانية فإن ما هذا حاله يكون نقصاناً من القراءة المعتبرة في الصلاة، فمتى حصل في الصلاة أحد هذه التغييرات كانت مبطلة للصلاة ومتى سلم عن هذا التغييرات وزاد في المد أو نقص من الأحرف الزائدة نحو نقصان اللام للتعريف أو نقصان التنوين فإنه غير مخل في إفساد الصلاة وبطلانها، يؤيد ما ذكرناه ما روي عن الرسول أنه خرج إلينا يوماً وفينا العربي والعجمي فقال: ((اقرأوا وكل حسن " )) (1).
__________
(1) ورد في مسند أحمد 3/397، وفي سنن سعيد بن منصور 1/152.
ففي هذا دلالة على ما ذكرناه فأما هذه الأمور الأربعة فإنها غير مغتفرة فلا جرم أبطلت الصلاة وأفسدتها فأما الخطأ بما وراء هذه الأمور الأربعة التي ذكرنا أنها غير مفسدة للألفاظ والمعاني فهو إثم وخطأ وتقصير في التعلم الواجب لكنه غير مخل في الصلاة و إبطالها لإحتمال الأمر فيه وكونه قد أحرز هذه الأمور الأربعة التي هي أصل في صحة الصلاة بالقراءة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: قد يكون مفسداً للصلاة وإن سلم من هذه التغييرات الأربعة التي ذكرتموها بأن يكون خللاً في مقدار ما يشترط في الصلاة من القراءة.
قلنا: بعد أن سلم من هذه التغييرات التي ذكرناها فالأمر فيما وراءها قريب لا يخل بالصلاة ولا يكون مفسداً لها لكنه يأثم ويخطىء وينكر عليه ذلك ويؤمر بالتعلم لكنه وإن أخل بما أوجبناه عليه من التعلم فلا تكون صلاته فاسدة ويؤيد ذلك قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. وقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ " }[البقرة:185]. وقوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ " }[الشورى:19]. وقوله : ((بعثت بالحنيفية السمحة)). فهذه الأمور كلها دالة على السهولة في أمر العبادة والأخذ فيها بالتيسير من غير تعمق ولا حاجة إلى الحكم على أكثر الخلق بالهلاك.
الحكم السابع: ومن قرأ بالفارسية في صلاته هل يكون مجزياً له أو مبطلاً للصلاة؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن القراءة بالفارسية غير مجزية ومبطلة للصلاة وهذا هو رأي أئمة القاسمية والناصرية وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها)). وما يقرأ بالفارسية فليس قرآناً لقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً}[الشورى:7]. وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " }[الشعراء:195]. وقوله: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ " }[الزمر:28]. وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً " }[الزخرف:3].
الحجة الثانية: أن الله تعالى أخبر أن القرآن لا يقدر أحد على مثله كما قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ " لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}[الإسراء:88].
الحجة الثالثة: هو أن الإجماع منعقد على أن القرآن إنما يكون قرآناً إذا كان متواتراً مطابقاً للعربية موافق لخط المصحف فما كان جامعاً لهذه الصفات الثلاثة فهو قرآن، وما نقص منها فليس قرآناً فلو جاز أن يقرأ بالفارسية لم يمكن دعوى التواتر فيه لأن ذلك متعذر في حقه فلذلك لم يكن قرآناً بقراءة الفارسية.
المذهب الثاني: أن ذلك يجري على الإطلاق وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ " " }[الأنعام:19].
ووجه الدلالة من هذه الآية: هو أن الله تعالى أخبر أنه ينذرهم بالقرآن ولا شك أن العجم من الفرس وغيرهم لا يمكن إنذارهم بلغة العرب؛ وإنما يكون منذراً بلغته وفي هذا دلالة على ما قلناه من جواز الصلاة به لأنه إذا جاز الإنذار به جازت الصلاة.
المذهب الثالث: أنه ينظر في حاله فإن كان ممن يحسن القراءة بالعربية لم يجزه وإن كان ممن لا يحسن القراءة بالعربية أجزأه القراءة بالفارسية وهذا هو المحكي عن أبي يوسف ومحمد.
والحجة على هذا: هو أن الصلاة من جملة العبادات مشروطة في الأداء بصحة الإمكان لقوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم)) فمن كان قادراً يحسن العربية فإنه يتوجه عليه الإتيان بها ومن لا يقدر على العربية ولا يحسنها فإنها تجزيه الفارسية لأنها ممكنة في حقه.
والمختار: ما قاله علماء العترة ومن تابعهم من أن القراءة بالفارسية غير مجزية.
والحجة على هذا: ما قررناه آنفاً ونزيد هاهنا وهو أن القرآن عبارة عن الخطاب الذي أعجز الخلق عن الإتيان بمثله أو بعشر سور منه أو بسورة واحدة ولن يكون معجزاً إلا بما اشتمل عليه من الفصاحة في ألفاظه والبلاغة في معانيه وهذا إنما يكون إذا كان عربياً فأما مع كونه مقروءاً بالفارسية فلا يتعلق به الإعجاز ولا تتعلق الفصاحة بألفاظه ولا تتعلق البلاغة بمعانيه لأن هذه الأمور إنما تتعلق باللغة العربية فأما الفارسية فلا تتصف بهذه الأوصاف بحال.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعام:19]. ولا يمكن الإنذار للعجم إلا بلغتهم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فالمطلوب من القرآن أمران:
أحدهما: التعبد بألفاظه وتلاوته في الصلاة والأذكار، وما هذا حاله فإنه متعلق بألفاظه فلا تجوز مخالفته إلى غيره من اللغات.
وثانيهما: أن الغرض شرح أوامره ونواهيه وهذا يمكن شرحه لكل أهل لغة بلغتهم لتمكنهم امتثال الأوامر والنواهي.
وأما ثانياً: فلأن المراد بالإنذار هو إبلاغ الوعد والوعيد والزجر والتهديد، وهذا حاصل بالترجمة بالفارسية وغيرها من سائر اللغات فإن المقصود حاصل بما ذكرناه، فأما الصلاة به وتلاوته فلا تكون إلا بألفاظه على الخصوص.
قالوا: قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ " لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}[الإسراء:88]. فقد تحدي العرب والعجم جميعاً بالقرآن، والعجم لا يمكن تحديهم بمثله بلغة العرب لأن عجزهم عن ذلك ظاهر وإنما يقع التحدي بلغته فظاهره دال على أنه لو أتى بمثله من لغته لكان قرآناً وهو مطلوبنا.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن التحدي إنما وقع للعرب لما كانوا أهل الفصاحة والبلاغة والطلاقة في ألسنتهم والذلاقة وهم قد عجزوا وصرحوا بالفهاهة عن الإتيان بمثله فإذا كانوا قد عجزوا مع أنهم مختصون بالفصاحة فغيرهم أحق بالعجز وأدخل في التأخر من سائر أصناف اللغات من غير العربية.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: إن العجم كلهم مخاطبون بالتحدي على تقدير أنهم يتعلمون العربية ويأتون بمثله وإذا كان الأمر كما قلناه بطل قولهم: إنه لو أتى بمثله من لغته لكان قرآناً لما قررناه.
قالوا: القرآن ألفاظ دالة على معان مخصوصة، فما كان دالاً على تلك المعاني وجب أن يكون قرآناً وأن يكون حكمه حكم القرآن.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله وهو المكتوب في المصاحف والمتلو في المحاريب فإذا أزيل عن لفظه ونظامه بالعبارات العجمية من الفارسية والتركية والعبرانية والرومية والحبشية واليونانية وغيرها من سائر اللغات خرج من أن يكون قرآناً وتتعلق به ألفاظه ومعانيه.
وأما ثانياً: فلا نسلم أن المقصود منه هو المعاني فقط بل المقصود هو ألفاظه ومعانيه فلا جرم كان التعبد بهما جميعاً وهو المطلوب فبطل ما توهموه.
الفرع الثامن: الدعاء في الصلاة بغير الأدعية المذكروة في القرآن هل يكون مفسداً للصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن كل ما كان من الأدعية مخالفاً لأدعية القرآن فهو مفسد للصلاة وهذا هو رأي الهادي والمؤيد بالله ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا: كل دعاء في الصلاة مما في القرآن فهو خاص فيها وما أشبه حديث الناس فإنه يفسدها، فلو قال: اللهم ارزقني جارية محبة أو حرفة طيبة أفسدها.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتحميد وقراءة القرآن)). وقول القائل: اللهم ارزقني جارية منحبة ليس مما ذكرناه في شيء.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن الله أحدث ألا تكلموا في الصلاة)).
المذهب الثاني: جواز ذلك في الصلاة وهذا هو رأي القاسم والشافعي وعليه دل كلام الناصر.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من عذاب النار " ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا ومن فتنة الممات ومن فتنة المسيح الدجال))(1).
الحجة الثانية: ما روى فضالة بن عبيد(2)
__________
(1) تقدم.
(2) فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، أبو محمد.
…قال في (الإصابة)5/371: أسلم قديماً ولم يشهد بدراً وشهد أحداً فما بعدها، وشهد فتح مصر والشام، ثم سكن الشام، وولي الغزو، ولاه معاوية قضاء دمشق بعد أبي الدرداء، روى عن النبي وعن عمر وأبي الدرداء، وروى عنه ثمامة بن شفي، وحبيش بن عبد الله الصنعاني، مات في ولاية معاوية، وكان ممن حمل سريره، وذلك سنة 53هـ، وذُكر أنه كان شاعراً، وله ذكر في حرب الأوس والخزرج.
أن الرسول رأى رجلاً لا يحمد الله ولا يصلي على الرسول فقال: ((عجز هذا إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه " ثم ليصل على النبي ثم ليدع بما شاء))(1). فهذا تقرير المذهبين.
والمختار: جواز الدعاء في الصلاة بأي شيء كان من منافع الدين والدنيا.
والحجة: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه كان لا يقنت إلا إذا دعا لأحد أو دعا عليه وكان يقول في قنوته: ((اللهم نج الوليد بن الوليد " اللهم نج سلمة بن هشام اللهم نج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على من خالف أمرك)).
الحجة الثانية: ما روى الحسن بن علي أنه قال: علمني رسول الله كلمات أقنت بهن في الوتر وهن: ((اللهم اهدني فيمن هديت " ))..إلى آخر الكلمات، فهذه الأدعية كلها ليست من أدعية القرآن فدل ذلك على جوازه.
ومن وجه آخر: وهو أنا نقول الدعاء المأثور في التشهدين: التحيات لله.. إلى آخره، ليس من ألفاظ القرآن ومع ذلك فإنه لا يفسد الصلاة فإذا جاز ذلك في التشهد جاز الدعاء بغيره في الصلاة.
فإن قالوا: إن ذلك مأثور من جهة الرسول .
قلنا: وهذه الأدعية مأثورة من جهة الرسول وما ليس مأثوراً عن الرسول فنحن نقيسه على المأثور بجامع كونها أدعية تطلب بها الرغائب من جهة الله تعالى في منافع الدين والدنيا.
ومن وجه آخر: وهو أن الصلاة موضع الرحمة وموضع الخضوع والخشوع بالركوع والسجود فهي أحق المواطن بالدعاء فكيف يقال بأن الدعاء ليس بمشروع فيها فقد ظهر لك بما ذكرناه أنه لا مانع من جواز الدعاء في الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
__________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن إلاَّ ابن ماجة وصححه الترمذي وابن حبان، والحاكم بلفظ: (عجل) مكان (عجز).
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((إن صلاتنا هذه ليس فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتحميد)). وما روي عن الرسول أنه قال: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء وأن الله أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما أرد بكلام الناس ما كان من الأمور المباحة كقولنا: يا زيد قم واقعد وهات المتاع وكل واشرب، فما هذا حاله هو كلام الناس وهو مفسد للصلاة بخلاف الأدعية المأثورة فإنها إصلاح للصلاة ودعاء بكل خير من الله تعالى.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما رويناه من الأحاديث الدالة على كون الدعاء مشروعاً في الصلاة قولاً وفعلاً، وأحاديثنا أرجح لأنها دالة على زيادة مشروعة مطابقة لموضع الصلاة فلهذا كانت أحق بالقبول.
الفرع التاسع: في بيان ما يعرض في الصلاة من الأحداث هل يكون مفسداً أم لا؟ وفيه مسائل نفصلها:
المسألة الأولى: إذا نوى المصلي قطع صلاته والخروج منها في حال تلبسه بها هل تكون باطلة وفاسدة بمجرد هذه النية أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يخرج بهذه النية عن الصلاة ولا تكون باطلة بل تكون مجزية وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو أن مجرد النية لا يغير الفعل عن صفته.
المذهب الثاني: أنه يقطعها ويفسدها ويخرجها عن كونها صلاة وهذا هو المحكي عن الشافعي وقد قدمنا هذه المسألة في النية وذكرنا المختار والانتصار فأغنى الإعادة.
المسألة الثانية: إذا ارتج على الإمام في قراءته يتعتع فهل لمن خلفه أن يفتح عليه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك واستحبابه، وهذا هو رأي أمير المؤمنين ومحكي عن أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ " }[البقرة:238]. وهذا من المحافظة عليها.
الحجة الثانية: ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: إذا استطعمكم الإمام فأطعموه. ولأن ما هذا حاله معاونة على البر والتقوى، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى " }[المائدة:2].
المذهب الثاني: أنه هذا يكره وهذا هو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، ومحكي عن زيد بن علي لأنه قال: لا تفتح على الإمام فإن فتحت فالصلاة تامة. فاقتضى مذهبه ما ذكرناه من الكراهة.
والحجة على هذا: هو أنه إذا فتح على الإمام نزل منزلة التلقين له في القراءة فلهذا كان مكروهاً.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة والأكثر من فقهاء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو ما روى المسور(1)
قال: شهدت رسول الله يقرأ في الصلاة فترك شيئاً لم يقرأه فقال رجل: يا رسول الله تركت آية كذا وكذا؟ فقال له رسول الله ((هلا أذكرتنيها " ))(2)
فدل ذلك على الجواز.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: ينزل ذلك منزلة التلقين فلهذا كان مكروهاً.
قلنا: ليس هذا كالتلقين فإن الإمام عالم بالآية ولكن نسيها فلم يكن من جهته إلا التذكير وما هذا حاله فليس تلقيناً لأن الملقن غير عالم بالقرآءة وإنما يتابع من يلقنه فلهذا لم تكن صلاته مجزية بخلاف من يفتح على الإمام فافترقا.
__________
(1) المسور بن يزيد الأسدي، الكاهلي، روى عن النبي في الفتح على الإمام في الصلاة، وعنه: يحيى بن كثير الكاهلي.
…قال ابن حجر: قال الأمير ابن ماكولا: المسور بضم الميم وفتح السين وتشديد الواو، ثم حكى عن البخاري أنه قال: له حديث واحد في الصلاة لا يُعرف، اهـ (تهذيب التهذيب)10/138.
(2) أخرجه أبو داود عن المسور بن يزيد ا لكاهلي، وهو في سنن أبي داود 1/238، والمعجم الكبير 20/27.
المسألة الثالثة: وإذا جاز الفتح على الإمام كما ذكرناه نظرت فإن فتح بقراءة تلك الآية أو بغيرها من آي القرآن صح ذلك ولا خلاف في صحة ذلك وجوازه، وإن فتح بغير الآية من التكبير والتسبيح والتنحنح أو برفع الصوت بالقراءة أو بالإشارة فهل يجوز ذلك أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك وهذا هو رأي محمد بن يحيى وظاهر مذهب الإمامين الهادي والقاسم.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)).
ووجه الدلالة من الخبر وجهان:
أحدهما: أنه نفى أن يدخل فيها شيء من كلام الناس، والنفي يقتضي بطلان ما خالفه كما قال : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها)).
وثانيهما: أنه وصف الصلاة بكونها مقصورة على التسبيح والتكبير وقراءة القرآن والمراد بالتكبير والتسبيح المشروعين فيها دون غيرهما.
المذهب الثاني: جواز ذلك من أجل التنبيه على الإمام، وهذا هو رأي المؤيد بالله ومحكي عن أبي حنيفة والشافعي.
والحجة على ذلك: قوله : ((إنما هي التسبيح والتكبير)) ولم يفصل بين حالة وحالة.
وروي عن الرسول أنه قال: ((من نابه شيء في صلاته فليسبح " ))(1).
والمختار: ما قاله المؤيد بالله من جواز ذلك.
وحجته: ما ذكرناه ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا نابكم شيء في صلاتكم فسبحوا " )) (2).
وروي عنه أيضاً أنه قال: ((من نابه شيء في صلاته فليسبح)). وروي عنه أنه قال: ((التسبيح للرجال والتصفيق للنساء في الصلاة " )) (3).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((إن صلاتنا هذه ليس فيها شيء من كلام الناس)). وروي عنه أنه قال: ((إن الله أحدث ألا تكلموا في الصلاة " )). وظاهر هذين دال على أنه لا يجوز أن يفتح على الإمام إلا بقراءة تلك الآية.
__________
(1) رُوي الحديث عن سهل بن سعد أن رسول الله ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فصلى أبو بكر بالناس فجاء رسول الله والناس في الصلاة فصفق الناس فالتفت أبو بكر فرأى رسول الله فأشار إليه رسول الله أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله من ذلك، ثم استأخر وتقدم النبي فصلى ثم انصرف فقال: ((يا أبا بكر، ما منعك أن تثبت إذ أمرتك))؟ فقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله، فقال رسول الله :((مالي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح ألتُفت إليه وإنما التصفيق للنساء)) متفق عليه، وهو في صحيح ابن خزيمة وسنن البيهقي وغيرها.
(2) أخرجه في السنن الكبرى 1/90 وفي (التمهيد) لابن عبد البر21/108.
(3) روى أبو هريرة عن النبي أنه قال: ((التسبيح للرجل والتصفيق للمرأة في الصلاة)) رواه الجماعة ولم يذكر البخاري وأبو داود والترمذي ((...في الصلاة)) وعنه: ((التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)) متفق عليه، زاد مسلم: ((... في الصلاة)).
قلنا: إن التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ليست من كلام الناس إنما هي عبادة واردة لإصلاح الصلاة فصارت كالقرآن على أن الأخبار قد دلت عليها فلا وجه لإنكارها وردها.
المسألة الرابعة:وإن سبح أو كبر أو هلل أو أشار بيده أو تنحنح جواباً لمن دعاه في حال صلاته، فهل تفسد صلاته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الاول: أن صلاته تفسد، وهذا رأي محمد بن يحيى وهو محكي عن أبي حنيفة ومحمد.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)). وما روي من حديث بن مسعود: ((إن الله قد أحدث أن لاتكلموا في الصلاة " )).
المذهب الثاني: جواز ذلك وهذا هو الذي ذكره المؤيد بالله ومحكي عن لاشافعي وأبي يوسف.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا نابكم شيء في الصلاة فسبحوا " )).
والمختار: ما قاله المؤيد بالله.
وحجته: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو ماروي عن أمير المؤمنين كرم بالله وجهه، أنه كان يضرب باب رسول الله وكان في صلاته فتنحنح فيها تطييباً لقلب أمير المؤمنين، فكان علي يقول: كان لي من رسول الله مدخلان بالليل والنهار فإذا جئته وهو يصلي تنحنح، فإنه كان يجيبني إذا سألت، ويبتديني إذا سكت، وكان حريصاً على تعليمه علوم الشريعة، وعلي في غاية القبول.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إن حديث بن مسعود عن الرسول : ((إن صلاتنا هذه ليس فيها شيء من كلام الناس)) و((إن الله أحدث أن لا تكلموا في الصلاة " )).
قلنا: قد أجبنا عن هذين الحديثين غير مرة، وقلنا: إن التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ليست من كلام الناس، فيلزم ما ذكرتموه وإنما كلام الناس كقولنا قم واقعد وكل واشرب، وما هذا حاله فهو مفسد للصلاة لا محالة باتفاق.
المسألة الخامسة: العُطاس والسعال لا يفسدان الصلاة لأنهما أمران ضروريان لا يمكن الاحتراز منهما كجري النفس، والإجماع منعقد على أنهما لا يبطلان الصلاة فأما التنحنح فهل يبطل الصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه مبطل للصلاة وهذا هو رأي القاسمية الهادي وأولاده ومحكي عن الحنفية.
و الحجة على هذا: هو أن التنحنح حرفان متواليان على جهة العمد فصار كلاماً فلهذا كان مفسداً للصلاة كالكلام المعمود إليه.
المذهب الثاني: أنه غير مبطل للصلاة، وهذا هو رأي الناصر ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: كان لي مدخلان على الرسول بالليل والنهار فإذا جئت وهو يصلي تنحنح، وفي هذا دلالة على ما ذكرناه من كون التنحنح غير مفسد للصلاة.
والمختار: ما قاله الناصر ومن تابعه.
وحجته: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو أن التنحنح ليس حرفاً صافياً من الحروف العربية وإنما هو صوت لا تقطيع فيه فأشبه السعال والعُطاس.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: التنحنح حرفان متواليان على جهة العمد فصار كلاماً.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نُسلم أنه حرف وإنما هو صوت ليس فيه بيان للأحرف فصار كالسعال والعُطاس.
وأما ثانياً: فلأنه أمر ضروري يتعذر الإحتراز منه فيجب أن يكون حكمه مرفوعاً كالعُطاس والسعال.
المسألة السادسة: قال المؤيد بالله: والإشارة التي يدرء بها المار لا تفسد الصلاة لقوله : ((ادرأوا ما استطعتم " )). ولأنها فعل قليل فعل لإصلاح الصلاة فلا تكون مفسدة لها، وعنه أيضاً قال: والأقوى عندي أن المصلي إذا مر بآية وعيد قال: اللهم، لاتجعلني منهم، وإذا مر بآية رحمة، قال: اللهم اجعلني منهم. وعن أبي الحسن الكرخي أن المصلي إذا مر بآية فيها ذكر الموت توقف عندها واسترجع أو تعوذ بالله واستغفر. وعن الشافعي أنه قال: يستحب للمصلي إذا مر بآية رحمة سألها وإذا مر بآية عذاب استعاذ منه.
والحجة على هذا: ما روى حذيفة عن رسول الله أنه قال: صليت خلف رسول الله فقرأ سورة البقرة فما مر بآية رحمة إلا سألها ولا مر بآية عذاب إلا استغاذ منه(1)
وهكذا في سورة آل عمران والنساء يفعل ذلك، والذي يقتضيه مذهب القاسمية المنع من ذلك.
والحجة على ذلك: ما روى ابن مسعود رضي الله عنه: ((أن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)).
والمختار: ما قاله المؤيد بالله.
وحجته: مانقلناه؛ ونزيد هاهنا وهو قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " }[غافر:60] ولم يفصل بين أن يكون في الصلاة أو غيرها ولأن هذه الأفعال تدعو إليها الضرورة فيجب أن لا تكون مفسدة كالأفعال القليلة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: ((إن صلاتنا هذا ليس فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نُسلم أن هذه الأدعية من كلام الناس وإنما هي من جملة أذكار الصلوات وأدعيتها.
وأما ثانياً:فلأن أخبارنا هذه التي رويناها دالة على الزيادة فيجب أن تكون راجحة على غيرها مما لم يدل على تلك الزيادة.
المسألة السابعة: قال المؤيد بالله: ومن رفع صوته بتكبيرة وينوي بها إعلام الغير لا أستبعد جواز صلاته(2).
__________
(1) رواه أحمد في المسند5/384، ومسلم والنسائي في سننه2/177، وهو في السنن الكبرى2/310.
(2) المقصود صحتها كما هو واضح، ورفع الصوت إعلاماً إلا للمار والمؤتمين مفسد للصلاة في رأي المذهب.
والحجة على ذلك: هو أنه إنما يكبر للصلاة وإنما انضم إليه قصد آخر لم يكن مفسداً للصلاة كما أن الإمام يطيل الركوع إذا أحس بداخل وتصح صلاته، وكذلك هذا خلافاً لأبي حنيفة وهو الذي يأتي على رأي الهادي وعند الشافعي إذا سبح أو كبر وذكر الله تعالى من أجل التنبيه للإمام عن السهو أو حذر ضريراً عن الوقوع في البئر وهكذا إذا دق الباب فسبح وهو في الصلاة يقصد به إعلام الدَّاق أنه في الصلاة أو يأذن له بالدخول لم تبطل صلاته، ومن قرأ آية يقصد بها جواباً للغير كأن يختم(1)
كتاباً ثم يقول: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ " }[مريم:14] لمن اسمه يحيى أو يخاطب رجلاً يسمى نوحاً فيقول: {يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا " }[هود:32]. أو يقول: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ " }[ص:26] أو غير ذلك من خطابات القرآن وأوامره ونواهيه، وزواجره وتهديداته إذا قصد بها زجراً للغير وتهديداً له في حال الصلاة، فهل تفسد الصلاة أم لا؟ فالذي يأتي على رأي القاسمية وهو محكي عن أبي حنيفة ومحمد بطلان الصلاة لقوله : ((إن صلاتنا هذه ليس فيها شيء من كلام الناس)). والذي يأتي على كلام المؤيد بالله وهو رأي الشافعي وأبي يوسف صحتها؛ لقوله : ((إذا نابكم في صلاتكم شيء فسبحوا " )).
قال الإمامان الهادي والمؤيد بالله: وإن شمَّت العاطس في صلاته بطلت صلاته، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، والتشميت: بالسين والشين معاً هو قول القائل: يرحمك الله.
والحجة على هذا: ما روي أن رجلاً عطس خلف الرسول وهم يصلون خلفه فقال رجل من الصف: يرحمك الله. فلما فرغ قال الرسول : ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)). وهذا يوجب فساد الصلاة لأمرين:
أما أولاً: فلأنه نفى صحة الصلاة بوقوع الكلام فيها.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعله أراد أن المصلي قرأ كتاباً لشخص دخل عليه وهو في الصلاة فأذن له بأخذه، والله أعلم.
وأما ثانياً: فلأن ما عدا التسبيح والتهليل وقراءة القرآن ليس من الصلاة.
نعم وكان القياس على رأي من يجوز الدعاء في الصلاة صحة الصلاة بقوله: يرحمك الله. لأنه دعا كما لو قال: اللهم اغفر له. لكنا قضينا بالفساد لأجل قوله : ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)). فلا جرم قضينا بفساد الصلاة لأجل الخبر.
المسألة الثامنة: قال الشافعي رحمه الله: وإن أراد المصلي أن يعلم غيره من إمام أو سواه بأنه سهى فيستحب للرجل أن يسبح وللمرأة أن تصفق، وصورة التصفيق أن تضرب بطن كفها الأيمن على ظهركفها الأيسر وقيل تضرب بالمسبحة والوسطى كفها الأيسر. وقال مالك: يسبح الرجل والمرأة.
والحجة لما قاله الشافعي: ما روى أبو داود عن سهل بن سعد عن الرسول أنه قال: ((إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال ولتصفق النساء " )). فإن صفق الرجل وسبحت المرأة لم تبطل صلاتهما لكنهما خالفا السنة، فإن صفق الرجل والمرأة على وجه اللهو لا على جهة الإعلام بطلت صلاتهما لأن اللعب ينافي الصلاة.
والحجة لما قاله مالك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((من نابه شيء في صلاته فليسبح " )). ولم يذكر التصفيق وما قاله مالك فهو الأحرى على المذهب. وما أوردوه من الخبر الدال على التصفيق فعنه جوابان:
أما أولاً: فهو منسوخ بما روي عن الرسول : ((إن صلاتنا هذه ليس فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن)).
وأما ثانياً: فلأن المراد بقوله التسبيح للرجال أي أن التسبيح يشرع للتنبيه عن السهو في حق الرجال بخلاف النساء فإن دأبهن التصفيق، وليس الغرض أن التصفيق مشروع للتنبيه في حقهن وإنما هن أهل للتصفيق واللهو كما يقال الرماح للرجال وللنساء المغازل، وليس المقصود أن المغازل للحرب كما أن الرماح للحرب وإنما المقصود بيان نزول القدر وركة الهمة.
وروى يونس بن عبد الأعلى(1) عن الشافعي أنه قال: من شمت غيره في الصلاة لم تبطل صلاته لأنه دعاء له بالرحمة فهو كالدعاء لأبويه بالرحمة وهذا جيد من جهة القياس لأن من مذهبه أن الدعاء لا يبطل الصلاة والمشهور عند أصحابه أنه مبطل للصلاة وهذا هو الذي يأتي على أصولنا كما مر بيانه لأنه كلام وضع لمخاطبة آدمي وهو كرد السلام وقد مر الكلام في التأمين في القرآن وذكرنا ما فيه من الأخبار والانتصار فأغنى عن الإعادة.
المسألة التاسعة: وتكره مطالعة شيء من أسفار التوراة والإنجيل لما روي أن الرسول رأى كراسة من التورات في يد عمر بن الخطاب فاحمر وجهه وقال: ((لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " )). فلو قرأ في صلاته شيئاً من التوراة والإنجيل فهل تصح صلاته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه إذا قرأ في صلاته بالتوراة والإنجيل لم تصح صلاته ولم تكن مجزية وهذا هو الذي يأتي على المذهب وهو قول أبي حنيفة ومحمد.
والحجة على هذا: هو أن الإجماع واقع على نسخ هذه الكتب المنزَّلة حكمها وتلاوتها ولا معنى لكون الشيء منسوخاً إلا لأنه لا يعمل به لا في تلاوة ولا عمل.
المذهب الثاني: أنه إن كان ما في التوراة شيئاً من التسبيح والتهليل لم تفسد صلاته وهذا هو رأي أبي يوسف وربما يقال على قياس قول أبي حنيفة أنه إن كان من أمر التوارة والإنجيل ما يوافق القرآن من جهة المعنى جازت صلاته.
__________
(1) يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة الصدفي المصري، أبو موسى، جاء في (الجرح والتعديل) 9/243: روى عن سفيان بن عيينة ومعن بن عيسى وعبد الله بن وهب والشافعي، وروى عنه مسلم (تهذيب التهذيب) 11/387 والنسائي وابن ماجة وابنه أحمد. وقال ابن أبي حاتم: سمعت يوثقه ويرفع من شأنه، وقال النسائي: ثقة، توفي سنة 264هـ، وكان مولده في الحجة سنة 170هـ، وقال عنه ابن حجر: كان إماماً في القراءات قرأ على ورش وغيره، وقرأ عليه ابن جرير وجماعة.
والحجة على هذا: هو أن التعويل على المعاني، فإذا كان في ألفاظ التوراة والإنجيل ما يطابق معاني القرآن، جازت الصلاة به، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن هذه الكتب كلها أعني التوارة والإنجيل كلها كتب سماوية نزل بها جبريل على موسى وعيسى فإذا كانت موافقة للقرآن في معانيه ودالة على ما يدل عليه القرآن جازت الصلاة بها؛ لأن المقصود هو مطابقة المعاني.
والمختار: هو المنع من الصلاة بألفاظ التوراة والإنجيل.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا، وهو أن الصلاة إنما تكون مجزية بما كان قرآناً؛ لقوله : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها))، والقرآن إنما يكون قرآناً بما به يكون معجزاً وليس يكون معجزاً إلا بالبلاغة والفصاحة، وهذان يكونان باللغة العربية، والتوراة والإنجيل نازلان بلسان العجم فلأجل هذا بطلت الصلاة بهما.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إذا كان التوارة والإنجيل مطابقين للقرآن في معانيه جازت الصلاة بهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد قررنا كونهما منسوخين في الحكم والتلاوة فلا وجه لإجزاء الصلاة بهما.
وأما ثانياً: فلأن المطابقة في المعاني غير كافية بل لابد من التعبد بألفاظه ومعانيه لأن التعبد كما هو جار بتلاوته فهو جار بالتعبد بامتثال معانيه في أوامره ونواهيه وزواجره ومواعظه وحكمه.
المسألة العاشرة: قال الإمامان الهادي(1):
__________
(1) يبدو أن هناك سقطاً في الأصل، ولعل المحذوف: والقاسم، وقصر الإمام المرتضى في (البحر) هذا القول على الهادي، راجع البحر 1/293.
من ضحك حتى ملأ فاه وشغله عن القراءة بطلت صلاته لما روي عن الرسول : ((من ضحك في صلاته قرقرة بطلت صلاته وعليه الوضوء " )). وهكذا حال القهقهة ولأنهما أفعال كثيرة لما فيه من تكرير الضحك واستغراق النفس فيه وهو مناف للصلاة، فأما إعادة الوضوء بالقهقهة فقد مر في نواقض الوضوء وذكرنا المختار والانتصار له فلا وجه لتكريره، وأما التبسم فليس فيه صوت وإنما هو حركة للشفة وهو فعل قليل غير مفسد للصلاة فلهذا كان لاحقاً بالأفعال القليلة التي هي غير مفسدة، والضحك من غير قهقهة ولا قرقرة مفسد للصلاة أيضاً لما روي عن الرسول أنه قال: ((الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء " )). وأما التأوُّه فهو مفسد للصلاة سواء قال: أوه أو آاه أو قال: أه. فكله مبطل لها لأنه كلام من كلام الناس وقد قال : ((إن صلاتنا هذه ليس فيها شيء من كلام الناس)). وأقل الكلام اللغوي حرفان، فأما الكلام في ألسنة النحاة فهو المركب من جزئين وهو شيء اصطلحوا عليه والكلام اللغوي هو ما ذكرناه، فأما ما قاله السيد أبو العباس: من أن المصلي لو لفظ بالحرف الواحد فالأقرب أن صلاته لا تفسد وعلل ذلك بأن قال: الحرف الواحد لا يكون كلاماً فهذا منه تساهل، فإن الحرف الواحد لا يعقل كونه كلاماً لأنه لابد من حرف يبتدأ به وحرف يوقف عليه والضرورة قاضية بما ذكرناه في الكلام، وأراد أنه لو قدر إمكان اللفظ بالحرف الواحد لم يكن مفسداً على جهة التقدير دون التحقيق وقد أشار إليه في آخر كلامه حين قال: إن الحرف الواحد لا يكون كلاماً في الحقيقة وأراد بالحقيقة التقدير دون الوجود. وأما الأنين فإن كان من خوف الله أو رغبة في الجنة أو خوفاً من النار لم يكن مفسداً للصلاة عند أئمة العترة الهادي والناصر وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الأنين ليس حرفاً واضحاً وإنما هو صوت قليل يفعل لإصلاح الصلاة فلهذا لم يكن مفسداً لها كالأفعال القليلة نحو تسوية الرداء ودرء المار وغير ذلك، وإن كان الأنين من وجع أو مصيبة فهل يكون مفسداً لها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير مفسد لها وهذا هو رأي الناصر ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله تدعو إليه الضرورة وهو من الأفعال القليلة فلا جرم لم يكن مفسداً لها ولا مبطلاً.
المذهب الثاني: أنه مفسد للصلاة وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن هذا فعل ليس يفعل لإصلاح الصلاة، ولا تدعو الضرورة[إليه] فلهذا أبطلها كالكلام.
والمختار: ما قاله الناصر ومن تابعه.
والحجة على ذلك: هو أن الله تعالى أثنى على نبيه إبراهيم بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاََوَّاهٌ حَلِيمٌ " }[التوبة:114]. والتأوُّه لا ينفك عن الأنين والتحزن ولهذا روي أن الرسول كان إذا صلى كان لقلبه أزيز كأزيز المرجل في الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الأنين ليس يفعل لإصلاح الصلاة.
قلنا: إذا كان قليلاً فسوى فعل لإصلاح الصلاة أو لم يفعل لصلاحها فهو مغتفر لقلته، وأما البكاء فإن كان بنشيج وصياح وتأوُّه فهو مفسد للصلاة لما فيه من الأفعال الكثيرة، وإن كان فيه عبرة وسيلان الدموع وأنين وتوجع فليس مفسداً لها لقوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً " }[مريم:58]. وقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً " } [الإسراء:109]. وإن شم رائحة خبيثة في صلاته فقال: أف أو كخ. فسدت صلاته لكونه كلاماً من كلام الناس، وإن شم رائحة طيبة في صلاته فاستطلع نفسه لم تفسد صلاته لأنه فعل قليل، وأما النفخ في الصلاة فينظر فيه فإن كان فيه حرفان فهو مفسد للصلاة وإن لم يكن فيه حرفان فهو عمل قليل ليس مفسداً لها.
والحجة على هذا: ما روى ابن عمر عن الرسول أنها كسفت الشمس على عهد الرسول حتى آضت كأنها تنومة ومعنى آضت عادت والتنوم شجر أسود يأكله النعام وهي فعولة بتاء بنقطتين من أعلاها ونون، فصلى رسول الله صلاة الكسوف فلما كان آخر سجدة جعل ينفخ ويبكي ويقول: ((لم تعذب وأنا فيهم ولم تعذب ونحن نستغفرك " )) (1). وأراد أن الله تعالى وعده بقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأأنفال:33]. فلما قضى صلاته قال: ((والذي نفسي بيده لقد عرضت عليَّ النار حتى إني لأطفيها خشية أن تغشاكم " )). فلولا أنه نفخ ورفع صوته لما سمع، وقد نجز غرضنا من ذكر هذه المسائل في إفساد الصلاة. ونرجع إلى التفريع.
الفرع العاشر: وسجود التلاوة في النوافل غير مفسد لها عند أئمة العترة وفقهاء الأمة فأما سجود التلاوة في الفرائض فهل تفسدها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون مفسداً لها وهذا هو رأي أئمة العترة القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو أنها سجدة زائدة في أثناء الصلاة على وجه العمد فوجب القضاء ببطلانها كما لو زاد سجدة لغير التلاوة.
المذهب الثاني: أنه غير مبطل للصلاة وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه سجد في صلاة الصبح حين قرأ {الم، تَنزِيلُ} السجدة.
والمختار: أن سجود التلاوة غير مفسد لصلاة الفريضة إذا وقع فيها.
والحجة: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا هو أن موجب السجود حاصل في الصلاة وهو التلاوة فالموجب يكون في الصلاة كسجود السهو فإنه لما كان موجبه في الصلاة كان موجبه في الصلاة نفسها.
__________
(1) سيأتي في صلاة الكسوف إن شاء الله، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبخاري تعليقاً، ولأحمد بمعناه من حديث المغيرة.
الحجة الثانية: ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول سجد في صلاة الظهر وسجد أصحابه بعده قرأوا أنه ما سجد إلا لعروض السجدة في التلاوة(1).
الحجة الثالثة: قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ " ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ}[الانشقاق:20،21]. فجعل السجود للتلاوة نظيراً للإيمان وجمعهما في التوبيخ على تركهما ولم يفصل بين أن تكون التلاوة في فريضة أو نافلة.
الحجة الرابعة: الآيات الدالة على السجود في القرآن ما كان منها بلفظ الأمر وما كان منها بلفظ الخبر لم يفصل بين أن [تكون] في فريضة أو نافلة، فهذه الحجج كلها دالة على جوازها في الفريضة كجوازها في النافلة.
ومن وجه آخر: وهو أنه إذا جاز فعلها في النافلة ولم تفسدها جاز فعلها في الفريضة لأن كل ما أفسد الفريضة فهو مُفْسد للنافلة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إنها سجدة زائدة في أثناء الصلاة على وجه العمد فوجب القضاء ببطلانها كما لو سجد لغير التلاوة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإن هذه سجدة فُعِلت لعارض فيها فجاز بخلاف ما لو كان لغير سبب عارض فإنه مبطل لها ويصير لاغياً عابثاً في الصلاة.
وأما ثانياً: فلأن هذه زيادة من جنس مفروضها فلم تكن مبطلة لها كزيادة الركوع في صلاة الكسوفين.
ومن وجه آخر: وهو أن هذا معارض بما ذكرناه من الأخبار الدالة على جواز فعلها في الصلاة المفروضة والأقيسة لا تعارض الأخبار لأن منصب صاحب الشريعة أعلى من منصب القايس، وقوله أحق بالقبول.
قالوا: يحمل ما ورد من الأخبار في سجود التلاوة في الفريضة على أنه كان بعد الفراغ منها فلا يكون فيه حجة.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود ولفظه: سجد في صلاة الظهر ثم قام، فركع فرأينا أنه قرأ: {الم، تنزيل} السجدة.
…قال في (فتح الغفار)1/280: وأخرجه الطحاوي والحاكم بإسناد ضعيف، ورواه في (نيل الأوطار3/142، وفي السنن الصغرى1/508.
أما أولاً: فلأن العمل على ما يدل عليه ظاهر الأخبار أحق من العمل على التأويل.
وأما ثانياً: فلأن التأويل يفتقر إلى دلالة تدل عليه والظاهر كاف في العمل عليه وسيأتي لهذا مزيد تقرير في سجود التلاوة عند الكلام في سجود السهو وسائر السجدات بمعونة الله.
الفرع الحادي عشر: والسكوت الطويل هل يكون مبطلاً للصلاة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما:أنه غير مبطل للصلاة لأنه لا يطرق خللاً في نظم الصلاة وتأليفها.
وثانيهما:أنه مفسد لها لأنه يقطع الموالاة بين أفعال الصلاة.
والمختار: أنه ينظر فيه، فإن كان سكوتاً طويلاً أفسدها، والتفرقة بين الطويل والقصير هو أن الطويل إذا رأه الرائي ظن أنه غير مصلٍّ فلهذا حكمنا بإفساده للصلاة لما كان قاطعاً للموالاة في أفعالها وأذكارها، وإن كان سكوتاً قصيراً لم يكره؛ لأن الرسول كان له سكتتان: سكتة بعد فراغه من تكبيرة الافتتاح قبل القراءة وسكتة ثانية بعد فراغه من القراءة قبل الركوع، فما هذا حاله مشروع في الصلاة، وإن كان غير مشروع نظرت فإن كان فعله على جهة السهو فهو معذور ولم يكره وفيه سجود السهو، وإن كان فعله متعمداً كره وفيه سجود السهو، وإن سبق لسانه إلى الكلام في الصلاة فهل يفسدها أم لا؟ فالذي يأتي على كلام الهادي والمؤيد بالله أنه مفسد لها، كما قالا في كلام الناسي، والذي يأتي على كلام الناصر والشافعي أنه غير مفسد لها، كما قالاه في كلام الناسي أنه غير مفسد، وهذا هو المختار؛ لأنه معذور فيما فعله فأشبه كلام الناسي.
والمكره على الكلام في الصلاة هل يكون مفسداً لها أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما:أنه مبطل لها لأنه معذور غير مختار فأشبه كلام الناسي وهذا هو الذي يأتي على كلام الهادي والمؤيد بالله.
وثانيهما:أنه غير مبطل وهذا هو المختار، ويدل على ما قلناه هو أنها عبادة مؤقتة فلم تبطل بالإكراه على فعل ما يفسدها كالصوم فإنه لا يبطله إيجار(1)
الشرب في حلقه.
الفرع الثاني عشر:نجعله خاتمة للكلام فيما يفسد الصلاة.
اعلم أن كل ما يفعل في الصلاة مما ليس مشروعاً فيها فهو نوعان: قليل وكثير.
فالنوع الأول الكثير وقد قدمنا الكلام فيه، والنوع الثاني قليل وهو غير مفسد لها لقلته واغتفار الشرع له، ثم هو ضربان:
الضرب الأول:يفعل لإصلاح الصلاة ثم هو على وجهين:
الوجه الأول: يفعل على جهة الوجوب وهو كل ما كان تركه يفسد الصلاة ففعله لا محالة يكون واجباً، وهو نحو أن يَنْحَلَّ إزاره فيخشى أن تبدو عورته فيجب عليه سترها بالفعل القليل.
الوجه الثاني: يفعل على جهة الإستحباب وهذا نحو تسوية الرداء إذا خشي انكشاف ما يستحب ستره ونحو تسوية الحصا لإصلاح موضع السجود.
الضرب الثاني: ما يفعل لا لإصلاح الصلاة، ثم هو على وجهين:
الوجه الأول منهما: تدعو الضرورة إليه فلا يكره فعله فيها، وهذا نحو أن يحك جسده إذا كان تركه يؤذيه ويشغله فما هذا حاله يباح ولا يكره.
الوجه الثاني: لا تدعو الضرورة إليه فيكره فعله وهذا نحو تغميض عينيه ونحو أن يضع يده على فيه عند التثاؤب، فهذه جملة الأفعال التي تفعل في الصلاة تكون على هذه الكيفية أجملناها هاهنا لتكون محصورة.
__________
(1) في لسان العرب: توجر الدواء: بلعه شيئاً بعد شيء، الرجل إذا شرب الماء كارهاً فهو التوجر والتكاره ا هـ. 5/299.
---
الفصل الثاني في بيان الأمور المكروهة في الصلاة
اعلم أنا نريد بالأمور المكروهة في الصلاة ما لا يكون فعله ولا تركه مبطلين لها ولا موجبين لفسادها، وإنما نريد ما يوجب سجود السهو وينقص الثواب.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: يكره ترك السنن في السنن وسواء كانت السنة من باب الأذكار أو من باب الأفعال أو من باب الهيئات لما روي عن الرسول أنه قال: ((من رغب عن سنتي فليس مني )). وأراد ليس من عملي وشاني ولم يرد البراءة ممن ترك السُنَّة، ولما روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). والمعلوم من حاله أنه كان يأتي بالسنن في الصلاة وهيئاتها كلها، وفي الحديث عن الرسول أنه قال: ((الصلاة مكيال فمن أوفى استوفى )). وأراد من أتى بها على الحد الذي شرعت له فقد وفَّاها حقها فيجب أن يستوفي حقه من الأجر والثواب على أدائها كاملة وافية، وفي حديث آخر: ((مثل الذي لا يتم صلاته يعني الذي لا يأتي بفروضها وسننها كمثل الحامل حملت حتى إذا دنى نفاسها أملصت فلا هي ذات حمل ولا ذات ولد)).
الفرع الثاني: يكره أن يلتفت المصلي في صلاته لغير حاجة لما روي عن عائشة أنها قالت سألت رسول الله عن التفات الرجل في الصلاة فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ))(1).
وروي عن الرسول أنه قال: ((إذا التفت العبد في صلاته يقول الله تعالى " : عبدي إلى من تلتفت أنا خير ممن تلتفت إليه)) (2).
__________
(1) أخرجه البخاري1/261، ومسلم، والنسائي في المجتبى3/8، وعبد الرزاق في مصنفه2/258، وهي في السنن الكبرى1/190،191،1/357.
(2) رواه البزار عن جابر وعبد الرزاق عن أبي هريرة2/257، وهو في مصنف ابن أبي شيبة1/395 وفي مجمع الزوائد2/80.
وروي عن الرسول أنه قال: ((لا يزال الله مقبلاً على عبده في صلاته ما لم يلتفت، " . فإذا التفت صرف وجهه عنه))(1)
فإن التفت يميناً وشمالاً لحاجة لم يكره لما روي عن الرسول أنه كان يلتفت يميناً وشمالاً ولا يلوي عنقه خلف ظهره(2)
رواه ابن عباس، ولا تبطل به الصلاة لخبر ابن عباس ولأنه عمل قليل، وإن التفت حتى استدبر القبلة بطلت صلاته لأنه ترك شرطاً من شروط الصلاة.
الفرع الثالث: يكره أن يرفع بصره إلى السماء في الصلاة؛ لما روى أنس بن مالك عن الرسول أنه قال: ((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة " حتى اشتد قوله في ذلك فقال: لينتهن أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارهم))(3).
فإن طلع ببصره نحو القبلة لحاجة لم يكره لما روي أن الرسول لما نزل بطن واد في بعض غزواته قال: ((من يحرسنا هذه الليلة " )) فقال رجل: أنا يا رسول الله فطلع أعلى ليحرسهم فلما طلع الفجر قال الرسول : ((هل أحسستم بفارسنا))؟ قالوا: لا يا رسول اللّه، فصلى الرسول صلاة الفجر وهو يلحظ ببصره أعلى الوادي يرقب الرجل(4).
الفرع الرابع: يكره أن ينظر الرجل في صلاته إلى شيء يلهيه من ثوب أو بساط أو غيرهما لما روي عن عائشة قالت: كان الرسول يصلي وعليه خميصة ذات أعلام فلما فرغ من صلاته قال: ((ألهتني أعلام هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم " فليبعها وأتوني بانبجانية)) (5)
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي ذر، وهو في سنن البيهقي الكبرى2/281، وسنن ا لترمذي 5/148، وصحيح ابن خزيمة3/195.
(2) أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه6/66.
(3) أخرجه البخاري1/261 وأبو داود1/240 والنسائي3/7، عن أنس بن مالك، وأخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه2/253.
(4) أخرجه أبو داود عن سهل بن الحنظلية من حديث طويل، والبيهقي في الكبرى9/149، والطبراني في الكبير6/96.
(5) أخرجه الستة إلا الترمذي، عن عائشة، واللفظ للصحيحين، وأخرجه غيرهم.
…والخميصة: ثوب أنيق له أعلام يكون من خز أو صوف، والإنبجانية: كساء من صوف له خمل ولا علم فيه، قيل: وهي نسبة إلى موضع اسمه: أنبجان، وقيل: غير ذلك، انتهى من (جواهر الأخبار)1/294.
.
والإنبجاني: كساء ليس فيه خطوط وهو بالنون والباء بنقطة من أسفلها وبالجيم. فإن فعل ذلك لم تبطل صلاته لأنه لم ينقل عن رسول الله أنه أعاد الصلاة.
الفرع الخامس: يكره الإختصار في الصلاة لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه نهى أن يصلي الرجل مختصراً وإنما كره الإختصار لأمرين:
أما أولاً:فلما روي أن أبليس إذا مشى مشى مختصراً.
وأما ثانياً:فلما روي أن الاختصار راحة أهل النار واختلف في تفسير الاختصار على أقوال ثلاثة:
القول الأول: هو أن يضع الرجل يده على خاصرته. حكاه أبو داود في سننه.
القول الثاني: أن الاختصار أن يأخذ الرجل عصا في يده يتكئ عليها في الصلاة يقال لها المخصرة.
القول الثالث:أن الاختصار هو أن يقرأ الرجل من آخر السورة آية أو آيتين ولا يقرأ السورة بكاملها.
الفرع السادس:ويكره مسح الحصا في الصلاة لما روى أبو ذر عن الرسول أنه قال: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى " فإن الرحمة تواجهه)) (1).
ولما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه عن الرسول أنه كره المسح في الصلاة وقال: ((إن كنت لابد فاعلاً فمرة واحدة)). وعن معيقيب(2)
أنه قال: سألت رسول الله عن المسح في الصلاة؟ فقال: ((إن كنت لابد فاعلاً فمرة واحدة))(3)
كأنه رخص في ذلك.
__________
(1) أخرجه الترمذي2/219، وأبو داود1/249، والنسائي3/6، وعبد الرزاق2/38.
(2) معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، حليف لبني عبد شمس، بدري، مات سنة40هـ، وكان ممن هاجر إلى الحبشة، وكان على خاتم النبي، واستعمله أبو بكر وعمر على بيت المال، روى عن النبي وعنه ابنه محمد وابن ابنه إياس، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
…قال ابن حجر: قال ابن عبد البر: كان قد نزل به داء الجذام فعولج منه بأمر عمر بن الخطاب بالحنظل فتوقف، اهـ. (تهذيب التهذيب)10/227.
(3) رواه الجماعة عن معيقيب بلفظ: سألت رسول الله عن مسح الحصا في الصلاة، فقال: ((إن كنت لابد فاعله فمرة واحدة)) وهذا اللفظ للترمذي.
الفرع السابع:يكره العقص، وتفسيره: أن يعقص الرجل ضفيرة رأسه إلى قفاه، لما روي عن أبي رافع أنه مر بالحسن بن علي وهو يصلي وقد عقص ضفرته في قفاه، فحلها أبو رافع، فالتفت إليه الحسن مغضباً فقال: أقبل على صلاتك فإني سمعت رسول الله يقول: ((هذا كِفْلُ الشيطان " ))(1).
قال أبو عيسى الترمذي: وعلى هذا عمل أكثر أهل العلم فإنهم كرهوا أن يصلي الرجل وشعره معقوص إلى قفاه.
الفرع الثامن: ويكره النفخ في الصلاة لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: رأى الرسول غلاماً لنا يقال له أفلح إذا سجد نفخ في الصلاة فقال له النبي : ((يا أفلح ترب وجهك " ))(2).
وقد قدمنا فيما سبق أن النفخ ليس مفسداً للصلاة وإنما يكره، واختلف الفقهاء فيه، فذهب أهل الكوفة والثوري إلى أن من نفخ في صلاته أعادها، وحكي عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أنه غير مفسد للصلاة.
الفرع التاسع: يكره الشبك في الصلاة، وهو إدخال الأصابع بعضها في بعض لما روى كعب بن عجرة(3)
عن رسول الله أنه قال: ((إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يُشَبِّكَنَّ بين أصابعه فإنه في صلاة))(4).
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي رافع مولى رسول الله وصححه الترمذي بلفظ: ((ذلك كفل الشيطان)).
(2) أخرجه الترمذي، وقد تقدم، وهو في صحيح ابن حبان 5/241 ومسند أحمد 6/301 وسنن البيهقي الكبرى2/252.
(3) كعب بن عجرة السالمي الأنصاري، المدني، صحابي، روى عن النبي وعن عمر وبلال، وروى عنه: بنوه إسحاق والربيع ومحمد وعبد الملك، وابن عمر وابن عباس وجابر، وغيرهم.
…قال في (مشاهير علماء الأمصار) كنيته: أبو محمد، مات سنة52 بالمدينة،و له خمس وسبعون سنة اهـ 1/20.
(4) أخرجه أبو داود1/154، وأخرج الترمذي المسند منه فقط 2/228.
الفرع العاشر: ويكره التثاؤب في الصلاة لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((التثاؤب في الصلاة من الشيطان " )). وقال: ((إذا تثاءب أحدكم فليكظمن ما استطاع " ))(1).
وفي حديث آخر: ((إذا تثاءب الرجل في صلاته ضحك الشيطان " ))(2).
الفرع الحادي عشر: ويكره التَّخصيص في الصلاة، وهو أن يخص الإمام نفسه بالدعاء دون من بعده؛ لما روى ثوبان عن رسول الله : ((لا يحل لرجل أن يؤم قوماً فيخص نفسه بدعوة " فإن فعل ذلك فقد خانهم ولا يحل لامرئٍ أن ينظر في جوف بيت حتى يستأذن))(3).
الفرع الثاني عشر: وتكره الصلاة عند غلبة النعاس؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب النعاس بالنوم " فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه))(4).
__________
(1) رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة بلفظ: ((التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع)) وزاد الترمذي: ((...في الصلاة)) وهي لأبي داود من حديث أبي سعيد، وهو طرف من حديث أخرجه البخاري، وفيه قال رسول الله : ((إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع، فإذا قال: ها، ضحك من الشيطان)).
(2) تقدم ضمن الحديث السالف، وقد رواه مسلم 4/2293، والبخاري 3/1197، والترمذي2/206، وأبو داود 4/306.
(3) أخرجه أبو داود عن ثوبان بلفظ قال: قال رسول الله : ((ثلاث لا يحل لأحدٍ أن يفعلهن: لا يؤمن رجل قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم فإن فعل فقد خانهم، ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن فإن فعل فقد خانهم، ولا يصل وهو حقن حتى يتخفف)) وللترمذي نحوه، وقد أورده الشوكاني في (نيل الأوطار)3/196.
(4) أخرجه مسلم1/542، وأبو داود2/33، والترمذي2/186عن عائشة، والبخاري1/87 وابن حبان 6/320.
الفرع الثالث عشر: يكره التطبيق في الصلاة وهو أن يطبق يديه ويجعلهما بين ركبتيه وقد كان مشروعاً ثم نسخ وهو محكي عن ابن مسعود وقد قدمنا الكلام عليه في الركوع فأغنى عن الإعادة فلا وجه لتكريره.
ويكره للرجل أن يؤم قوماً وهم له كارهون؛ لما روى أنس بن مالك أنه قال: لعن رسول الله ثلاثة: ((رجلاً أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجلاً سمع حيَّ على الفلاح فلم يجب))(1).
وهذا محمول إما على أئمة الظلمة وأهل الجور فأما من أقام السنة وكانت طريقته مستقيمة على الدين فإن الإثم على من كرهه، وإما على أن الأكثر كاره فأما إذا كان الواحد والإثنان فلا بأس بصلاته، وفي حديث آخر: ((ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم : العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام أمَّ قوماً وهم له كارهون))(2).
الفرع الرابع عشر: ويكره المرور بين يدي المصلي؛ لما روى أبو جُهَيْم قال: قال رسول الله : ((لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمرَّ بين يديه))(3).
__________
(1) رواه الترمذي في سننه2/191، والشوكاني في (نيل الأوطار)3/217.
(2) رواه الترمذي عن أبي أمامة وقال: هذا حديث حسن غريب، وضعفه البيهقي، وقال النووي: الأرجح قول الترمذي، وأورده ابن أبي شيبة في مصنفه 1/358 والطبراني في الكبير8/284.
(3) رواه الجماعة، ووقع للبزار من وجه آخر: ((أربعين خريفاً)) ولابن ماجة وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة: ((لكان أن يقف مائة عام خيراً له من الخطوة التي خطاها)) وهو في (مجمع الزوائد) 2/61، وفي مصنف ابن أبي شيبة 1/253.
قال الراوي للحديث: لا أدري أربعين يوماً أو شهراً أو سنة. وفي حديث آخر عن الرسول أنه قال: ((لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمرَّ بين يدي أخيه وهو يصلي ))(1).
الفرع الخامس عشر: وتكره الصلاة للرجل وهو حاقن أو حاقب، فالحاقب: بالباء هو الذي يدافع الغائط والحاقن: بالنون هو الذي يدافع البول؛ لما روي عن الرسول أنه نهى عن أن يصلي الرجل وهو يدافع الأخبثين في الصلاة(2)،
وهذا محمول على أنه يشغله ويؤذيه، فأما إذا كان لا يمكنه إستيفاء أركانها فهو مفسد لها.
الفرع السادس عشر: وتكره الصلاة إلى القبر؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " )) (3).
وإذا كان اليهود ممنوعين من مثل هذا فالمسلمون أدخل في ذلك؛ لأن القصد هو التحذير عن هذا الفعل.
الفرع السابع عشر: ويكره التدبيح(4)
__________
(1) رواه الترمذي، وقد تقدم، وهو مروي بألفاظ مختلفة ومتقاربة فيها (أربعون) بدون تمييز وأربعون خريفاً ومائة عام كما روى الترمذي 2/159 وابن ماجة 1/304 وغيرهما.
(2) جملة ((في الصلاة)) تبدو زائدة عن الغرض؛ لأن عبارة النهي عن أن يصلي الرجل تغني عن إضافة تلك الجملة وتجعلها تكراراً لا مسوغ له، والله أعلم، وقد ورد في بعض الروايات أن رسول الله نهى أن يصلي الرجل بحضرة الطعام ولا وهو يدافع الأخبثين، اخرجه في المسند المستخرج على صحيح مسلم 2/158، والبيهقي في سننه 3/71، وأبو عوانة في مسنده 1/224 وغيرهم.
(3) أخرجه البخاري 1/165، ومسلم وأبو داود، وقد تقدم.
(4) والتدبيح بدال مهملة ثم باء موحدة وحاء مهملة. ا هـ جواهر.
في الصلاة، وهو بالحاء المهملة والدال بنقطة من أسفلها ومن رواه بالذال بنقطة من أعلاها فهو تصحيف، وصفة التدبيح أن يكب رأسه ويرفع عجيزته لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا يدبح أحدكم في الصلاة كما يدبح الحمار " )) (1).
الفرع الثامن عشر: ويكره الإقعاء في الصلاة وصفته أن يقعد على عجزه وينصب ساقيه؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا يقعي أحدكم في الصلاة كإقعاء الكلب))(2).
الفرع التاسع عشر: ويكره للرجل أن يعبث بلحيته في الصلاة وتنقية أنفه لما روي عن رسول الله أنه رأى رجلاً يعبث بلحيته فقال: ((أما هذا فلو خشع قلبه لخشعت جوارحه " ))(3).
الفرع العشرون: ويكره التمطي في الصلاة وتغميض عينيه، وأن يغطي على فيه بيديه، وأن يرواح بين رجليه يرفع إحداهما ويضع الأخرى، وأن يحذف الهواء بالمروحة إلى وجهه أو بيديه؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((اسكنوا في الصلاة)). وهذه الحركات تنافي السكون. وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:1،2]. والخشوع ينافي هذه الأمور كلها.
__________
(1) قال في (جواهر الأخبار) أشار إلى هذا الحديث ابن الأثير في (النهاية) وفسره بأن يطأطئ رأسه في الركوع حتى يكون أخفض من ظهره. ا هـ 1/296، روواه الدارقطني في سننه 1/118، وابن أبي شيبة في مصنفه 1/221،226.
(2) أخرجه الترمذي وأبو داود من حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: ((لا تقع بين السجدتين)) وفي إسناده فقال: قال في (فتح الغفار): وأخرجه ابن ماجة من حديث أنس بلفظ: ((إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقع الكلب)) الحديث، قال: وإسناده ضعيف، قال: وقال طاووس: رأيت العبادلة يقعون. ا هـ 1/211، وهو في (مجمع الزوائد) 2/85، ومصنف عبد الرزاق 2/190، وسنن ابن ماجة 1/289.
(3) حكاه في مجموع الإمام زيد بن علي، ورواه البيهقي في سننه 2/285، وابن ابي شيبة في مصنفه2/86، وعبد الرزاق في مصنفه2/266.
الفرع الحادي والعشرون: ويكره الصَّفن والصفد في الصلاة، والصفن: هو أن يقوم على أصابع إحدى الرجلين دون الأخرى أخذاً له من صفن الفرس [وهو] أن تقوم على حرف سنبك رجلها وهو خاص في الخيل دون غيرها من البهائم، ولهذا قال تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ }[ص:31]. والصفد: هو أن يلاقي الكعبين من الرجلين في حال قيامه لما روي عن الرسول أنه نهى عن الصفن والصفد في الصلاة.
الفرع الثاني والعشرون: ويكره للمصلي إذا سجد أن يكف شعره وثوبه لما روي عن الرسول أنه قال: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء ولا أكف شعراً ولا ثوباً)).
الفرع الثالث والعشرون: ويكره الكفت في الصلاة وهو أن يصلي الرجل ويداه مكفوتتان إلى ورائه؛ لما روي عن الرسول أنه نهى عن الكفت في الصلاة.
الفرع الرابع والعشرون: وتكره الصلاة عند وضع الطعام لما روى ابن عمر عن الرسول أنه قال: ((إذا وضع العشاء وأُقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء))(1).
وروي أن ابن عمر تعشى وهو يسمع قراءة الإمام.
الفرع الخامس والعشرون: ويكره السدل في الصلاة لما روى أبو هريرة أنه قال: نهى رسول الله عن السدل في الصلاة، وحكمه مختلف فيه فمنهم من حمله على الكراهة على الإطلاق؛ لأنه من فعل اليهود ومنهم من جوزه إذا كان السدل على القميص ولم يكره، ومنهم من حمله على منع الإجزاء إذا كان السدل في ثوب واحد. وصفة السدل: أن يرخي جانبي الثوب من عن يمينه ويساره ولا يكفته. قال القاسم: لا بأس بالسدل في الصلاة. وهذا محمول على السدل على القميص.
__________
(1) هذا إحدى روايتي الصحيحين، وهي بلفظ: ((إذا وضع عشاء احدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه)) وللباقين إلا النسائي نحوها.
الفرع السادس والعشرون: ويكره للمصلي حبس النخامة في فِيْهِ حال الصلاة؛ لأنها تشغله عن اتمام القراءة فيستحب له إزالتها عن فِيْهِ ليكون متمكناً من القراءة، فإن كان في المسجد لم يجز له رميها فيه؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((إن المسجد لينزوي عن النخامة كما تنزوي الجلدة في النار ))(1).
وفي حديث آخر: ((ليعلم الذي يتنخم في المسجد أنه يبعث يوم القيامة وهي في وجهه))(2).
وفي حديث آخر أنه دخل يوماً المسجد وفي يده عرجون من عراجين النخلة فرأى نخامة في القبلة فحكها بالعرجون ثم التفت إلى أصحابه فقال: ((أروني عبيراً)). فخرج رجل من القوم فجاء بعبير، والعبير: هو أخلاط الطيب فوضعه مكان النخامة، وذلك هو الأصل فيما يفعله المسلمون في الطيب في المسجد. فإذا كان في المسجد أخذها بطرف ثوبه ورد بعضها(3)
على بعض، وإن كان في غير المسجد فإن كان منفرداً رمى بها على يساره وإن كان في جماعة رمى بها تحت قدمه [اليسرى]؛ لأن اليمنى لها فضل على اليسار، وقلنا: يرمي بها تحت قدمه إذا كان في جماعة لئلا يؤذي من عن يمينه ويساره من المسلمين.
الفرع السابع والعشرون: ويكره للمصلي أن يكثر التفكر في صلاته؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا يزال الشيطان بالمرء في صلاته " يقول: أذكر كذا ما لم يكن يذكر حتى لا يدري كم صلى))(4)
ولا تبطل صلاته وإن أكثر التفكر فيها؛ لأن أفعال القلوب لا تأثير لها في إفساد الصلاة.
__________
(1) تقدم، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه 2/144 وعبدالرزاق1/433.
(2) الخبر في صحيح ابن خزيمة2/278، وصحيح ابن حبان 4/517.
(3) لعل الصواب بعضه على بعض، أي الثوب.
(4) أورده في المسند المستخرج على صحيح مسلم 2/166، والترمذي5/478.
الفرع الثامن والعشرون: ويكره للمصلي تمطيط القراءة وتمديدها لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزمل:4]. ويكره للمصلي أن يكون نظره في حال قيامه إلى غير موضع سجوده وفي حال ركوعه إلى غير قدميه؛ لما روي عن الرسول أنه كان يفعل ذلك وخلاف فعله يكون مكروهاً.
الفرع التاسع والعشرون:وتكره للإمام القراءة في الصلاة بالسور الطوال، ولا تكره إذا كان منفرداً لما روي عن الرسول أنه قال لمعاذ لما طوّل القراءة: ((أفتان أنت يا معاذ " صلِّ بهم صلاة أضعفهم ))(1).
الفرع الثلاثون: وتكره للمصلي القراءة في حال الركوع والسجود والتشهد؛ لأن هذه الأماكن لم تشرع فيها القراءة فلهذا كرهت فيها، ويكره للمصلي الإستعجال في الركوع والسجود مخافة ألا يدركه الضعيف والشيخ الكبير.
الفرع الحادي والثلاثون: ويكره أن يشير بيده عند التسليم؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة)).
الفرع الثاني والثلاثون: ويكره للمصلي أن يرمي بالسلام رمي المستعجل بل يُسلِّم وعليه السكينة والوقار؛ لما روي عن رسول الله أنه كان إذا سلم عن يمينه وشماله التفت وعليه السكينة والوقار وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
الفرع الثالث والثلاثون: ويكره ترك الترتيب بين الفاتحة والسورة لما روي عن الرسول أنه كان يقرأ الفاتحة قبل السورة، وتكره قراءة السورة في الركعتين الأخرتين من الصلاة الرباعية والثالثة من المغرب.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده 3/299، وابن خزيمة في صحيحه 3/51، وابن حبان 6/160، وغيرهم.
الفرع الرابع والثلاثون: ويكره للمصلي الجهر بالدعاء؛ لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[الأعراف:55]. وقد قال أهل التفسير إن الاعتداء رفع الصوت بالدعاء(1).
الفرع الخامس والثلاثون: ويكره للمصلي إذا فرغ من الصلاة ترك الدعاء عقيب الصلاة لقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ " }[الشرح:7]. والمراد إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، فهذا ما أردنا ذكره في ذكر ما يكره في الصلاة.
__________
(1) قال الزمخشري رحمه الله: ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} وقد أثنى على زكريا فقال: {إذ نادى ربه نداءً خفيا} وبين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً {إنه لا يحب المعتدين} أي: المجاوزين ما أمروا به في كل شيء من الدعاء وغيره، وعن ابن دريد: هو رفع الصوت بالدعاء، إلى أن قال الزمخشري: وعن النبي : ((سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل)) ثم قرأ قوله تعالى: {إنه لا يحب المعتدين} اهـ. 2/83، وهذا يناقض ما أصبح اليوم منتشراً في المساجد من رفع الأصوات بالدعاء عبر مكبرات الأصوات.
---
الفصل الثالث في بيان ما لابأس بفعله في الصلاة.
اعلم أنا قد ذكرنا في الفصل الأول ما يكون مفسداً للصلاة وذكرنا في الفصل الثاني ما يكون مكروهاً في الصلاة، والذي نذكره في هذا الفصل هو ما يكون فعله غير مفسد للصلاة ويقع التردد في جواز فعله أو تركه ونحن نورد هذه الفروع ونفصلها بمعونة الله تعالى:
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في ضبط المصلي لعدد الركعات بالأصابع أو بخط على الأرض أو بوضع الحصا، هل يجوز ذلك أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه لا بأس به، وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن مالك والثوري وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وأبن أبي ليلى والنخعي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ " }[البقرة:238]. وهذا من جملة المحافظة على أعداد ركعاتها وسجداتها.
المذهب الثاني: كراهة ذلك، وهذا هو رأي أبي حنيفة والشافعي.
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله ليس من عمل الصلاة في شيء فلهذا كان تركه أولى؛ ولأنه يمنع من الخشوع ويشغل القلب عن الإقبال إلى الصلاة.
المذهب الثالث: أنه يكره في الفرض دون النفل، وهذا هو رأي أبي يوسف حكاه المنهلي(1) عنه.
والحجة على هذا: هو أن الفرائض المأخوذ فيها التصون والاحتراز عما يكون فيها نقصان لها من الاشتغال فيها بالمباحات بخلاف النوافل فإن الشرع قد تساهل فيها ولهذا يجوز أداؤها من قعود مع القدرة على القيام، فلأجل هذا جاز ما ذكرناه في النفل دون الفرض.
والمختار: ما قاله الهادي ومن تابعه من العلماء من جواز المحافظة بما ذكرناه على أعداد الركعات.
__________
(1) هكذا جاء في الأصل، وهو اسم لم يرد من قبل هنا، ولعله جاء عن خطأ من قبل الناسخ في النقل، والله أعلم.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن المقصود هو سد باب الشكوك في الصلوات والإتيان بها على تمام وكمال في أعداد ركعاتها وسجداتها وبما شرع من تكرير التكبيرات في صلاة الكسوف وفيما شرع من تكرير التسبيحات في صلاة التسبيح وغير ذلك من النوافل المكررة قراءتها وتسبيحاتها، وما هذا حاله يضبطها وتكون بمراعاته مؤداة على الحد المشروع فيها فلهذا كان جائزاً.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: ليس هذا الذي ذكرتموه من الحصر بالخط على الأرض، وعقد الأصابع ليس من عمل الصلاة في ورد ولا صدر فلا حاجة إليه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد أوضحنا ما فيه من مصلحة الصلاة باحراز أركانها وتأديتها على الوجه المطابق لبراءة الذمة عن اللزوم.
وأما ثانياً: فالآن قد ارتفع النزاع فإن حاصل كلامكم أنه لا فائدة فيه وقد أوضحنا ما فيه من الفائدة والمصلحة فإذاً الخلاف فيه يرتد إلى الفائدة وعدمها فإذا أوضحنا فائدته فلا وجه للنزاع.
قالوا: إنما يجوز في الفرض دون النفل؛ لأن النفل متسع فيه بخلاف الفرض.
قلنا: الفرض مثل النفل في مراعاة مقصود المصلحة في الصلاة فإذا جاز ذلك في النفل جاز في الفرض.
ومن وجه آخر: وهو أن المقصود بما ذكرناه إنما هو التحفظ في تأدية الأركان فإذا جازت المحافظة في النفل فهي في الفرض آكد وأجوز.
الفرع الثاني: قال الهادي في الأحكام: ولا بأس بأن يعتمد على الحائط أو على عود عند نهوضه من السجود إذا كان به ضعف أو كِبر.
والحجة على هذا: ما روي أن الرسول كان له عود يعتمد عليه عند نهوضه للقيام من سجوده حين كبر وضعف(1)، وحكي عن أنس بن مالك أنه قال: ما تدرون لأي شيء هذا العود؟ وقد رأوا عوداً مركوزاً في الجدار فقال: هذا عود كان رسول الله إذا قام من سجوده إلى القيام[اعتمد عليه] لما دخل في السن وكبر وضعف، ولأنه مفعول لإصلاح الصلاة والوفاء بتمام ركوعها وقيامها فجاز فعله لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}[البقرة:238].
الفرع الثالث: قال الهادي في المنتخب: ولا بأس أن يصلي الرجل وفي منطقته دراهم أو دنانير أو فلوس أو غير ذلك مما يكون طاهراً، فما هذا حاله جائز حمله باشتراط أمور ثلاثة:
أما أولاً: فبأن يكون طاهراً فإنه لا يجوز حمل النجس في الصلاة كما مر بيانه.
وأما ثانياً: فبأن لا يكون حمله شاغلاً له عن استيفاء شرائط الصلاة وأركانها وسجودها وركوعها.
وأما ثالثاً: فبأن يكون حلالاً فلا يجوز حمل الأشياء المغصوبة في الصلاة فإذا سلم من هذه الأمور الثلاثة جاز له حمله والإجماع منعقد على ذلك.
الفرع الرابع: ولا بأس في تسوية الرِّداء عن السقوط. واعلم أن ما هذا حاله يكون على أوجه ثلاثة:
أولها: أن يكون واجباً وذلك إذا خاف انكشاف ما تحت ستره في الصلاة فعلى هذا يكون الستر واجباً.
وثانيها: أن يكون الستر مستحباً وهذا إذا خاف انكشاف ما يستحب ستره في الصلاة كالمنكب والهبريتين.
وثالثها: أن يكون مكروهاً وهذا إذا خاف انكشاف ما يجوز ستره في الصلاة نحو العضدين والساقين لأن ما هذا حاله فعل قليل لا يخل بالصلاة.
الفرع الخامس: قال القاسم في مسائل عبدالله بن الحسن: ولا بأس أن يشد الرجل وسطه بخيط في حال الصلاة وهو محكي عن الكرخي من أصحاب أبي حنيفة.
__________
(1) عن وابصة بن معبد قال: حدثتني أم قيس بنت محصن أن الرسول لما أسن وحمل اللحم اتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه، أخرجه أبو داود في سننه 1/249، (المستدرك) 1/397، وسنن البيهقي2/288.
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله فيه تقوية على الركوع والسجود في حق من يعتريه الضعف والكِبر.
ووجه آخر: وهو أنه يكون أقرب إلى ضم الثياب عن الانتشار، وحكي عن أبي حنيفة أنه مكروه.
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله عادة للنصارى بالشد بالخيوط على أوساطهم، فكره التشبه لأن لكل واحد من أهل الكتابين شعاراً يعرف به فلليهود الزنار على رؤسهم وللنصارى الغيار يشد على أوساطهم يخالف لون ثيابهم يعرفون به،
قال ابن المعتز(1) يصف حالهم:
قد طال ما نبهتني للصبوح به
أصوات رهبان دير في صوامعهم
مزيرين على الأوساط قد جعلوا ... في غرة الفجر والعصفور لم يطر
سود المدارع نعارين في السحر
فوق الرؤوس أكاليلاً من الشعر
الفرع السادس: قال القاسم فيمن يشتكي بطنه أو ظهره أو شيئاً من جسده في صلاته فلا بأس أن يضع يده عليه أو يغمزه إذا كان ذلك يسكنه، والوجه في ذلك أمران:
أما أولاً: فلما فيه من تضمن إصلاح الصلاة والمحافظة عليها وقد قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}[البقرة:238].
وأما ثانياً: فلأنه يتضمن فراغ القلب عن الشغل بالألم وفيه تمام الخشوع والإقبال إلى الصلاة بفراغ قلب وخاطر فلهذا كان جائزاً.
__________
(1) عبدالله بن محمد المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد، أبو العباس، الشاعر المبدع، خليفة يوم وليلة، صنف كتباً في الأدب منها (الزهر والرياض) و(البديع) و(الآداب) و(طبقات الشعراء) وله ديوان شعر في جزئين، ومما كتب في سيرته (ابن المعتز وتراثه في الأدب)، لمحمد خفاجة. و(عبدالله بن المعتز أدبه وعلمه) لعبد العزيز سيد الأهل، آلت الولاية في عهده إلى المقتدر العباسي فاستصغره القواد وخلعوه، وأقبلوا على ابن المعتز فبايعوه، فأقام يوماً وليلة ووثب عليه غلمان المقتدر فخلعوه، وعاد المقتدر فقبض عليه وسلمه إلى خادم له فقتله خنقاً. اهـ (أعلام)4/118، وانظر (تأريخ بغداد)10/92.
الفرع السابع: قال المؤيد بالله: وعلى المصلي إزالة ما كان يشغله في الصلاة على وجه لا يفسدها، وهذا جيد لأن المأخوذ على المصلي فراغ قلبه عما يشغله بقدر الطاقة والإمكان وفراغ جوارحه عن الإشتغال بغير أركانها ولهذا قال الرسول لبلال: ((أرحنا يابلال بالدعاء إليها " )) (1).
وابتلاع الريق جائز في الصلاة لأنه أمر ضروري فأشبه العطاس والسعال ولأنه فعل قليل فلا بأس به، وإخراج الزكاة في حال الإشتغال بالصلاة جائز لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " }[المائدة:55]. وهذه الآية نزلت في أمير المؤمنين كرم الله وجهه فأثنى عليه بإخراجها في حال الصلاة فلو كان مفسداً للصلاة لم يمدح عليه، ولأن الإخراج عمل قليل فجاز فعله كتسوية الرداء ولأن المباح إذا كان لا يفسدها فعمل الطاعة أحق بألا يفسدها، وقد حمل الرسول بنت أبي العاص على عاتقه في حال قيامه ووضعها عند سجوده، فإذا كان هذا غير مفسد فإخراج الزكاة غير مفسد أحق وأولى وقد نجز غرضنا من بيان المفسدات للصلاة والمكروهات فيها والمباحات والحمدلله.
__________
(1) جاء الخبر في (فيض القدير) 2/427، وعلل الدار قطني 4/141.
---
الباب السابع في صلاة الجماعة
ولا خلاف في كونها مشروعة بين أئمة العترة وفقهاء الأمصار ويدل على فضلها ما روي عن زيد بن علي عن علي" قال: قال رسول الله : ((لن تزال أمتي يكف عنها مالم يظهروا خصالاً : عملاً بالربا، وإظهار الرشا، وقطع الأرحام، وترك الصلاة في جماعة، وترك هذا البيت أن يؤم، فإذا ترك هذا البيت أن يؤم لم يناظروا))(1).
وما روي عن ابن مسعود أنه قال: قال الرسول : ((من أحب أن يلقى الله عبداً مسلماً .فليحافظ على هيئة الصلوات المكتوبة حيث ينادى لهن)) إلى أن قال: ((وإن صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده خمساً وعشرين درجة))(2).
وعن الرسول أنه قال: ((من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل ، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة))(3).
وعن الرسول أنه قال لجبريل: ((يا جبريل فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال في ثلاث: إسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الخطا إلى مساجد الجماعات، وإنتظار الصلاة بعد الصلاة))(4).
__________
(1) حكاه في مجموع الإمام زيد بن علي بسنده عن أبيه عن جده عن علي .
(2) في معنى الحديث روايات عن ابن عمر وعن أبي هريرة بلفظ: ((صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة)) و((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه بضعاً وعشرين رجة)) متفق عليهما.
(3) عن عثمان قال: سمعت رسول الله يقول: ((من صلى صلاة العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله)) هذه رواية مسلم، وفي رواية أبي داود والترمذي قال: قال رسول الله : ((من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة)).
(4) أورده في (مجمع الزوائد)1/237، وفي (الترغيب والترهيب)1/174، عن ابن عباس، و(نوادر الأصول في أحاديث الرسول)3/140.
وماروي عن علي أنه قال: قال الرسول : ((من سمع المنادي من جيران المسجد لم يحبسه مرض أو علة ولم يشهد الصلاة فلا صلاة له))(1).
وما روي عن الرسول أنه قال: ((أفضل الأعمال إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى مساجد الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة)). وعن أنس بن مالك عن رسول الله أنه قال: ((لقد هممت أن آمر رجلاً أن يصلي بالناس ثم أنظر إلى قوم يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بحزم الحطب))(2).
وعن ابن عمر عن الرسول أنه قال: ((صلاة الرجل في جماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )). فإذا عرفت هذا فلنذكر حكم صلاة الجماعة ثم نردفه بذكر صفات الأئمة، ثم نذكر موقف الإمام من المأموم، ثم نذكر على إثره أحكام القدوة، فهذه فصول أربعة نفصلها بمعونة الله تعالى وتوفيقه.
__________
(1) لفظه عن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر)) قيل: وما العذر؟ قال: ((خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى)) أخرجه أبو داود، ورواه البيهقي في الكبرى3/57، وعبد الرزاق في المصنف 1/198.
(2) أورده الشوكاني في (نيل الأوطار)3/142 والرباعي في (فتح الغفار)1/289 وغيرهما عن أبي هريرة، متفق عليه، بألفاظ مختلفة.
---
الفصل الأول في حكم صلاة الجماعة
واعلم أن الاجتماع ليس شرطاً في صحة الصلاة إلا في صلاة الجمعة فإن الاجتماع فرض على الأعيان وحكى ابن الصباغ صاحب (الشامل) عن بعض أصحاب الشافعي أن الجماعة في الجمعة فرض على الكفاية وليس شيئاً كما سنوضحه في صلاة الجمعة بمعونة اللّه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: صلاة الجماعة هل تكون واجبة أم لا؟ فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أنها سنة مؤكدة وهذا هو رأي أئمة العترة زيد بن علي والقاسم والهادي والناصر ومحكي عن السيدين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي ومحكي عن الكرخي وهو مروي عن بعض أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا ما روي عن الرسول أنه قال: ((من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة)).
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال: ((صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى اللّه))(1).
ولا يكون كذلك إلا إذا كانت صلاته وحده صحيحة.
ومن وجه آخر: وهو أنها صلاة شرع فيها الجماعة فلم تكن الجماعة فيها واجبة كصلاة الكسوف والإستسقاء.
المذهب الثاني: أنها واجبة على الكفاية وهذا هو المحكي عن السيد أبي العباس فإنه قال: الجماعة واجبة على كل من أطاقها إلا لعذر بيِّن من فساد إمام أو مرض مانع أو مطر جود أو غير جود وهو المنصوص للشافعي وإلى هذا ذهب المروزي وابن سريج من أصحاب الشافعي وبه قال الثوري ومالك ورواية عن أبي حنيفة.
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي بن كعب، ورواه البيهقي في (السنن الكبرى)3/61. والطبراني في (الأوسط) 2/232.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((ما من ثلاثة في قرية أو بدوٍ لا يقيمون الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية من الغنم))(1).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن استحواذ الشيطان إنما يكون على ترك واجب.
المذهب الثالث: أنها واجبة على الأعيان وهذا هو المحكي عن الأوزاعي وأحمد بن حنبل وكلام أبي العباس يقتضيه أيضاً وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود من أهل الظاهر وابن المنذر.
والحجة على هذا: ما ورد من الوعيدات الشديدة على مفارقة الجماعة كقوله : ((عليكم بالسواد الأعظم )) (2).
وقوله : ((من فارق الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية )) (3).
وقوله : ((الجماعة رحمة والفرقة عذاب " ))(4).
وفي هذا دلالة على أنها واجبة على الأعيان.
المذهب الرابع: أن الجماعة شرط في صحة الصلاة ومن لم يحصرها بطلت صلاته وهذا شيء يحكى عن بعض أهل الظاهر.
والحجة على هذا: هو أن صلاة الجماعة عبادة شرع فيها الجماعة فكانت الجماعة شرطاً في صحتها كصلاة الجمعة.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من كونها سنة مؤكدة.
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي الدرداء مع اختلاف في لفظ: ((... من الغنم القاصية)) وأخرجه ابن حبان 5/458، والبيهقي 3/54 وهو في مسند أحمد 5/196.
(2) رواه ابن ماجة في سننه2/1303 وأحمد في المسند4/278 وضعفه بعض أصحاب المسانيد.
(3) أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أن الرسول ثال: ((من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية)) وروي بألفاظ مختلفة في (مجمع الزوائد)5/219، وسنن البيهقي الكبرى 8/157، والمعجم الكبير 20/86.
(4) رواه في (مجمع الزوائد)5/214، ومسند البزار 8/226 ومسند أحمد 4/278.
وحجتهم: ما حكيناه ونزيد هاهنا وهو ما ورد من الترغيبات العظيمة على فضل الجماعة كقوله : ((أفضل الأعمال إسباغ الوضوء في السبرات ، ونقل الخطا إلى مساجد الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)). ولما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا حضر العشاء والعشاء فابدأوا بالعَشاَء )). فلو كانت واجبة لم يجز الإخلال بها عن وقتها.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((ما من ثلاثة في قرية أو بدوٍ لا يقيمون الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة)). وفي هذا دلالة على كونها واجبة لأن الوعيد لا يكون إلا على ترك الواجبات.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الاستحواذ محمول على كراهة فعل الأفضل لا على معنى أنه واجب على الكفاية.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الأخبار الدلالة على كونها سنة مؤكدة وأخبارنا أولى بالعمل لظهورها ولكونها معتضدة بحكم العقل فإن الأصل هو عدم الوجوب إلا بدلالة شرعية مصرحة باللزوم للذمة للواجب لأن فائدة كونها واجبة على الكفاية هو أن صقعاً من الأصقاع أو إقليماً من الأقاليم أو قرية من القرى لو تمالوا على تركها وجب على الإمام حربهم على الإخلال بهذا الواجب كما لو أخلوا بواحد من الأمور الواجبة على الكفاية كدفن الموتى وعمارة الطرقات والمناهل والمساجد.
قالوا: وردت فيها من الوعيدات الشديدة على تركها أخبار تدل على كونها واجبة عن الأعيان كالصلوات الخمس.
قلنا: الصلوات الخمس وجوبها معلوم بالضرورة من دين صاحب الشريعة والمنكر لوجوبها مرتد لأنه يكون منكراً للنبوة والشريعة، وأما صلاة الجماعة فالأخبار إنما دلت على المواظبة عليها وعلى الترغيب في فعلها والدعاء إليها وليس فيها دلالة على كونها فرض عين.
قالوا: صلاة الجماعة مثل صلاة الجمعة في كونها شرطاً في صحة الصلاة فلا تكون الصلاة مجزية إلا بفعلها مع الجماعة.
قلنا: هذا فاسد فإنما قضينا باشتراط الجماعة في الجمعة لدلالة شرعية وحجة واضحة على اشتراط الاجتماع في كونها جمعة وغيرها من الشرائط بخلاف صلاة الجماعة فإن الأدلة الشرعية إنما دلت على فضلها لا على كونها شرطاً في صحة الصلاة فافترقا، ويؤيد هذا ويوضحه أن صلاة الجمعة متميزة عن سائر الصلوات في الهيئة والوقت والعدد فلا وجه لقياس أحدهما على الآخر لافتراقهما فيما ذكرناه، فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا أنه لا وجه لإيجابها على الكفاية، ولا وجه لإيجابها على الأعيان، وأنها ليست شرطاً في صحة الصلاة، وهذه الأمور قد دللنا على فسادها وبطلانها وأن الصحيح كونها سنة مؤكدة ويؤيد ما ذكرناه ما روي عن الرسول أنه قال لرجل سأله عما فرض الله عليه فقال: ((خمس صلوات في اليوم والليلة )). فقال هل عليَّ شيء غير هذا؟ فقال: ((لا إلا أن تطوع)). فلو كانت صلاة الجماعة واجبة على الكفاية أو على الأعيان لذكرها لأنه في موضع التعليم وفي موضع الحاجة فلما لم يذكرها دل على أنها غير واجبة وهو المطلوب.
الفرع الثاني: في أقل الجماعة وأقل الجماعة اثنان فصاعداً، لقول الرسول : ((الاثنان فما فوقهما جماعة ))(1)
ويكره للرجل أن يصلي وحده لما روي عن الرسول : ((صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )). فإن صلى في بيته بزوجته أو بنته أو أخته أو بجاريته أو بمحرم من محارمه فقد أتى بفضيلة الجماعة لأن قوله : ((الاثنان فما فوقهما جماعة ))
لم يفصل بين شخص وشخص، وأما الأفضل في الجماعة فكلما كثرت كان أفضل لقوله ((صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى اللّه)) فإن كان بالبعد منه مسجد تكثر فيه الجماعة وبالقرب منه مسجد فيه جماعة أقل من المسجد البعيد ففيه وجهان:
__________
(1) أورده في المستدرك على الصحيحين4/371، وسنن البيهقي الكبرى3/69 والدار قطني1/281 وابن ماجة 1/312.
أحدهما: أنه ينظر فيه فإن كانت جماعة المسجد القريب منه تختل بتخلفه عنه بأن يكون إماماً له أو بأن يكون ممن إذا حضر حضر الناس بحضوره فيه فصلاته في المسجد القريب أفضل لتحصل الجماعة في تلك البلدة في موضعين وإن كانت الجماعة في المسجد القريب لا تختل بتخلفه عنه فالأفضل أن يصلي في المسجد البعيد الذي تكثر فيه الجماعة.
وثانيهما: أن صلاته في مسجد الجوار أفضل لقوله : ((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ))(1)
ولئلا يؤدي إلى تعطيل الجماعة الأخرى.
والمختار: هو الأول لقوله : ((صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده v وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل الواحد وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى)). فإن كان إمام المسجد البعيد ممن يعتقد الجبر ويذهب إليه أو ممن يقول بالتشبيه أو صاحب بدعة أو رافضياً أو فاسقاً مظهراً لفسقه فالأفضل أن يصلي في المسجد القريب الذي تقل فيه الجماعة بكل حال لأن من هذه حاله من اعتقاد الجبر والتشبيه واعتقاد الرفض والبدعة والفسق الظاهر فهذه العقائد مما يطرق خللاً في صحة الديانة، كاذبون في اعتقاد هذه العقائد الردية مجيزون على الله تعالى [ما لا يجوز]والرسول قد قال: ((لا يؤمكم ذو جرأة في دينه ))(2).
وسيأتي لهذا مزيد تقرير وتحقيق عند الكلام في صفات الأئمة بمعونة الله تعالى.
الفرع الثالث: وأما النساء فجماعتهن في البيوت أفضل لقوله : ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن))(3)
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك 1/373، والبيهقي في الكبرى3/111، وابن أبي شيبة في المصنف1/303، وعبد الرزاق1/497
(2) حكاه في (الشفاء) وفي (سبل السلام) 2/29 و(نيل الأوطار)3/199.
(3) رُوي في صحاح مسلم 1/327 والبخاري 1/305، وابن خزيمة 3/90، وابن حبان 5/587، وهو في سنن البيهقي 3/132، والدارمي 1/330، وأبي داود 1/155 وابن ماجة 1/8.
فإن أرادت المرأة حضور الجماعة في المساجد مع الرجال نظرت،فإن كانت شابة أو كبيرة يشتهى مثلها فإنه يكره لها الحضور لأنه يخاف الافتتان بها، وإن كانت كبيرة لا يشتهى مثلها لم يكره لها الحضور لما روي عن الرسول أنه نهى عن خروج النساء إلى المساجد إلا عجوزاً بمنقلها، والمنقل بفتح الميم والقاف هو الخف ولم يرد أن المنقل هو شرط في رخصة الخروج وإنما ذكره لأن الغالب من حال العجائز ليس الخفاف ويجوز كسر الميم لأنه من جملة الآلات كالمقبض والمجلب، والمستحب لمن قصد الجماعة أن يمشي إليها على التوأدة والوقار من غير عجلة ولا طيش لما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة)). وروي عن ابن مسعود أنه اشتد إلى صلاة الجماعة في سيره وقال: أدركوا حد الصلاة يعني التكبيرة الأولى، والصحيح هو الأول لأن الخبر لم يفصل في ذلك، وفيه دلالة على أن إتيانها على الوقار والسكينة هو الأفضل ولهذا قال في آخر الخبر: ((فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا ))(1).
فإذا تقرر هذا فقد روي عن الرسول : ((من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان:براءة من النار، وبراءة من النفاق))(2).
واختلف العلماء متى يكون مدركاً للتكبيرة الأولى على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه متى أدركه في الركوع من الأولى فإنه يكون مدركاً لها وإن أدركه بعد الركوع من الأولى لم يكن مدركاً لها.
القول الثاني: أنه ما لم يكن مدركاً للقيام من الأولى فإنه لا يكون مدركاً لها.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 1/421 وابن حبان 5/522، والترمذي 2/148، والنسائي 2/114، وابن ماجة 1/255، وهو في مصنف ابن أبي شيبة 2/138، والموطأ 1/68 ومسند أحمد 2/238.
(2) أخرجه الترمذي عن أنس2/7، وعبد الرزاق 1/528، وهو في مسند الشهاب 1/285، وفي الترغيب والترهيب 1/160.
القول الثالث: أنه إن كان مشتغلاً بأسباب الصلاة مثل الطهارة والسواك وما أشبه ذلك ثم أدرك الركوع من الأولى فإنه يكون مدركاً لها وإن كان مشتعلاً بأمر الدنيا فلا يكون مدركاً لها ما لم يدرك القيام فيها.
والمختار: أنه لا يكون مستوجباً لهاتين البرآئتين إلا بسماع التكبيرة الأولى وإدراك القيام لأنه إذا كان سامعاً كان مدركاً للصلاة بكمالها كما كان المسلمون يفعلون مع الرسول من الإهتمام بأمر الصلاة فكان لا يفوتهم فضل أولها واستكمال حالها.
الفرع الرابع: وصلاة الجماعة يجوز تركها للعذر سواء قلنا بكونها سنة أو واجبة على الكفاية على رأي من يذهب إلى ذلك، والإعذار في ذلك عامة وخاصة فهاذان ضربان:
الضرب الأول: الأعذار العامة وهي المطر والريح في الليلة المظلمة فأما الريح بالنهار فليست عذراً في تركها لما روى ابن عمر أن الرسول كان يأمر مناديه في الليلة المظلمة المطيرة ذات الريح: ((ألا صلوا في رحالكم )) (1).
وهكذا حال الوحل فإنه يكون عذراً خاصة في الأراضي الرخوة لما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال )) (2).
__________
(1) أخرجه البخاري 1/227، ومسلم 1/484، والموطأ عن ابن عمر، وهو في صحيحي ابن خزيمة 3/79، وابن حبان 5/436، وفي سنن أبي داود 1/279 والنسائي 2/14 وابن ماجة1/302.
(2) قال ابن بهران: في (الجواهر)1/300: وقال في (التلخيص): حديث: ((إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال)) لم أر هذا اللفظ في كتب الحديث، وقد ذكره ابن الأثير في (النهاية) كذلك، لكن ذكره في (النهاية) وقال: النعال جمع نعل، وهو ما غلظ من الأرض في صلابة، قلت: الظاهر أنه أراد بالنعال معناها المشهور لا ما ذكره ابن الأثير، ويشهد لذلك ما رواه أبو المليح عن أبيه أنه شهد مع رسول الله زمن الحديبية يوم جمعة وقد أصابهم مطر لم يَبُلَّ أسفل نعالهم فأمرهم أن يصلوا في رحالهم، أخرجه أبو داود.
وهكذا حال الحر الشديد في الأمكنة الحارة فإنه عذر في ترك الجماعة لما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم)) (1).
والبرد الشديد فإنه عذر في ترك الجماعة كالحر الشديد لاستوائهما في حصول المشقة، فهذه الأعذار كلها عامة لأنها لا تختص بشخص دون شخص.
الضرب الثاني: الأعذار الخاصة وجملتها اثنا عشر عذراً.
العذر الأول: أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه فينبغي أن يبدأ بالأكل لقوله : ((إذا حضر العشاء والعشاء فابدأوا بالعَشاء إذا أقيمت الصلاة)). ولأن ذلك يمنعه من تمام الخشوع والإقبال إلى الصلاة فإن كان طعاماً يمكنه أن يستوفيه قبل فوات وقت الصلاة فإنه يستوفيه وإن كان يخشى فوات الوقت إن استوفاه فإنه يأكل منه ما يسد رمقه به لا غير.
العذر الثاني: أن يحضر الصلاة وهو يدافع الأخبثين أو حدهما فيبدأ بقضاء حاجته لقوله : ((لايصلين أحدكم وهو يدافع الأخبثين )) فإن خالف وصلى مع ذلك صحت صلاته وحكي عن المروزي من أصحاب الشافعي أن صلاته غير صحيحة لعموم الخبر.
والمختار: هو الأول: لأنه غير محدث والخبر محمول على الإستحباب.
العذر الثالث: أن يكون معه مرض يشق عليه لأجله القصد إلى صلاة الجماعة لما روي عن الرسول ((إذا مرض العبد قال الله تعالى لملائكته : ما كان يصنع عبدي هذا؟ فيقولون: كان يصنع كذا وكذا، فيقول الله تعالى: اكتبوا له ما كان يعمل)) ولأنه يشق عليه القصد إلى الجماعة.
__________
(1) رواه أبو هريرة، متفق عليه، وهو في (مجمع الزوائد) 1/307 ومصنف عبد الرزاق 1/542، ومصنف ابن أبي شيبة1/286.
العذر الرابع: الخوف، وهو أن يكون عليه دين ولا مال له يقضيه غريمه ويخشى أن يحبسه غريمه إن رءاه أو يخشى أن يحبسه السلطان العالم ظلماً وعدواناً، فمن هذه حاله يجوز له ترك الجماعة لما روى ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول : ((من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر)). قالوا: يا رسول الله، وما العذر؟ قال: ((خوف أو مرض)) (1).
العذر الخامس: السفر وهو أن تقام الصلاة وهو يريد السفر أو يخشى أن ترحل القافلة ولا يلحقها، فله ترك الجماعة لأن عليه ضرراً بتخلفه عن القافلة.
العذر السادس: خوف غلبة النوم إن انتظر الجماعة فله أن يشتغل بالنوم؛ لأن النعاس يمنعه عن الخشوع في الصلاة والإقبال عليها وربما انتقضت إذا نام مضطجعاً.
العذر السابع: أن يكون قيماً على مريض يخشى ضياعه؛ لأن حفظ الآدمي آكد من حرمة الجماعة فإن كان له قيم سواه لكن قلبه مشتغل به جاز له ترك الجماعة لأجل فراغ قلبه عن الخشوع والإقبال.
العذر الثامن: أن يكون له قريب قد حضره الموت ونزل به أمر الله فيجوز له ترك الجماعة ليقف عليه ويقوم بتجهيزه لأن قلبه يألم بتخلفه عنه.
العذر التاسع: أن يخاف تلف ماله وضياعه إن اشتغل بالجماعة وهذا نحو أن يخشى عليه احتراقاً أو يقدم من سفر بأمواله فيخشى أخذ الظالم لها بالغصب والأخذ لأن عليه ضراراً في ذلك.
العذر العاشر: أن يكون قد ضاع له مال فيرجو بترك الجماعة وجوده وحصوله لأن قلبه يألم بذهاب المال ويضيق صدره فيكون ذلك عذراً في تركها.
__________
(1) رواه ابن ماجة والدار قطني وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه بلفظ: ((من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر)) وأخرجه أبو داود بالزيادة المذكورة في الأصل.
العذر الحادي عشر: إذا كان آكلاً من هذه البقول التي لها رائحة كريهة كالبصل والثوم والكُرَّاث فإن ذلك يكون عذراً في ترك الجماعة لما روي عن الرسول أنه قال: ((من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يؤذين مساجدنا ))(1).
وهذا إذا كان لا يمكنه إزالة هذه الرائحة يغسل فمه أو بدواء يأكله فإن كان يمكنه لم يكن عذراً في ترك الجماعة فإن أكلهما مطبوختين لم يكن عذراً في تركها لما روى ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: من أراد أن يأكلهما فليطبخهما.
العذر الثاني عشر: أن يكون عرياناً لا يمكنه الخروج من العري فهذه الأعذار كلها مؤذنة بالرخصة في ترك الحضور للجماعة في المساجد والجوامع وكل ذلك لما فهم من مقصود الشرع المواضبة عليها والمسارعة إلى تأديتها.
__________
(1) رواه في (السنن الكبرى) 4/158 و(شرح معاني الآثار)4/238،و(التمييز) لابن عبد البر6/416.
الفرع الخامس: وإن حضر المؤتمون ولم يحضر الإمام نظرت فإن كان قريباً أُرْسِلَ إليه رسول سواء كان إمام المسجد أو الإمام الأعظم فإن جاء فهو [أولى] بالصلاة، وإن استخلف كان من استخلفه أحق لأنه بأمره، وإن لم يأت ولا يستخلف جازت الصلاة لأن بعد الإرسال لا يكون هناك تغيير لقلبه ولا تضييق لصدره، وإن كان بعيداً نظرت فإن كانوا لا يخافون فتنة قدموا واحداً منهم يصلي بهم إذا خافوا فوات الوقت، وإن خافوا إنكاره وتغير قلبه وفتنته انتظروا مخافة إيغار صدره إلا أن يخافوا فوات الوقت فإن خافوا فوات الوقت صلوا لأنه لا يجوز إخراج الصلاة عن وقتها، والأصل في هذا ما روي عن الرسول على أنه خرج إلى صلح بني عمرو بن عوف فقدم المسلمون أبا بكر فصلى بهم، ثم جاء النبي وهم في الصلاة، فتأخر أبو بكر لما أحس بالرسول وتقدم الرسول المحراب فصلى أبو بكر بصلاة الرسول وصلى المسلمون بصلاة أبى بكر، وانصرف النبي في عزوة تبوك لبعض حوائجه فقدم الناس عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم ثم رجع الرسول فصلى خلفه ركعة فلما سلم قام الرسول فقضى ما عليه فلما سلم قال: ((أحسنتم)) (1). أو قال: ((أصبتم)). وإن حضر الإمام وبعض المؤتمين فالمستحب أن الإمام يصلي بمن حضر ولا ينتظر الباقين لأن الصلاة في أول الوقت مع الجماعة القليلة أفضل من فعلها في آخر وقتها مع الجماعة الكثيرة.
الفرع السادس: ولا تصح الجماعة للمأموم حتى ينوي الإقتداء بالإمام هذا هو رأي الهادي واختاره الأخوان وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
__________
(1) أخرجه الستة بروايات متعددة، وهو في صحيح ابن حبان 5/603، وسنن البيهقي 3/123.
والحجة على هذا: قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا))(1).
ومعنى الائتمام هو الإتباع ولا يعقل الإتباع إلا بنية كونه تابعاً فإن تابعه في أفعاله ولم ينو الإقتداء به بطلت صلاته لأنه يصير مؤتماً غير مؤتم فيكون مؤتماً من حيث أنه تابعه وغير مؤتم من جهة أنه لم ينو الإقتداء، وما هذا حاله فهو لعب وهزؤ بالصلاة والله تعالى يقول: {لا تتخذوا دينكم هزواً ولعبا}(2).
فإن نوى الإقتداء بالإمام ولم يعلم الإمام صحت صلاته عند أئمة العترة الهادي والمؤيد بالله لأن علم الإمام بكونه إماماً ليس بشرط في صحة كونه إماماً لأنه يكون إماماً وإن لم يكن عالماً، وحكي عن الأوزاعي أنه لابد من علم الإمام بكونه إماماً حتى تصح إمامته فإن أراد العلم فليس شرطاً في صحة الإمامة، وإن أراد النية فسنقرر الكلام فيها هل يجب اعتبارها أم لا؟ وأما الإمام فهل تجب النية عليه في كونه إماماً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن النية تجب في كونه إماماً، وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن الجويني والمسعودي من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى )). والمعلوم أن كون الإمام إماماً للصلاة من جملة الأعمال فيجب اشتراط النية فيه.
__________
(1) رواه أبو هريرة، متفق عليه، وجاء بألفاظ مختلفة في بعضها: ((فإذا كبر فكبروا)) و((فإذا ركع افركعوا)) و ((فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً)) و((فإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً)) وهو مروي في أكثر الصحاح والسنن والمسانيد.
(2) سبقت الإشارة في موضع سالف إلى أن هذه العبارة ليست آية ولا بعض آية من القرآن الكريم بهذا النسق أو الصيغة، ولعله وهم من المؤلف أو خطأ من الناسخ، وسبحان الذي لا يضل ولا ينسى، ولعل الأقرب إلى الاستدلال قوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات الله هزؤا}[البقرة:231].
الحجة الثانية: قوله : ((الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن ))(1).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن الرسول جعل الأئمة ضُمَناً وليس يعقل الضمان إلا بنية كونه ضامناً لأن الضمان تحمل ولا يمكن تصوره من غير نية.
المذهب الثاني: أن نية الإمام غير واجبة في صحة كونه إماماً للصلاة وهذا هو رأي المؤيد بالله وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي خلا أن الإمام لا يحرز فضيلة الإمامة إلا بالنية من غير أن تكون شرطاً في صحة الإمامة.
والحجة على هذا: ما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: بت عند خالتي ميمونة فجاء النبي فقام وتوضأ ووقف يصلي فقمت وتوضأت ثم جئت فوقفت على يساره فأخذ بيدي وأقامني على يمينه.
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن الرسول لم ينو الإمامة في حال شروعه في الصلاة، ويحتمل أنه لم يشعر بدخول ابن عباس في الصلاة معه حتى دخل.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله ومن تابعه.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن الإمام إنما يكون إماماً بمتابعة غيره له سواء نوى الإمام أو لم ينو بخلاف المأموم فإنه لا يعقل كونه تابعاً إلا بنية المتابعة لكن النية للإمام لأحراز ثواب الجماعة وإدراك فضلها وإحراز أجرها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله : ((الأعمال بالنيات)). والإمامة من جملة الأعمال.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فنهاية الأمر أن هنا عموماً ونحن نخصه بخبر ابن عباس ولا يكون مندرجاً تحت العموم.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما ذكرناه من حديث ابن عباس فإذا تعارضا وجب الترجيح ولا شك أن خبر ابن عباس راجح لأن فيه تصريحاً بالمقصود وخبركم إنما يدل على المقصود من جهة عمومه فلهذا كان خبر ابن عباس أحق بالعمل والقبول لما ذكرناه.
قالوا: روي عن الرسول : ((الإمام ضامن)). وليس يكون ضامناً إلا بالنية.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) أخرجه أبو داود1/148، والترمذي 1/402،عن أبي هريرة، وهو في سنن البيهقي 1/425، وصحيح ابن حبان 4/559 وغيرها.
أما أولاً: فالضمان يصح بغير نية وضمان التبرع صحيح من غير أن يقصد الضمان.
وأما ثانياً: فلأن الشرع قد ضمنه فلم يشترط النية وفي هذا دلالة على أن النية غير مشترطة.
الفرع السابع: حكي عن أبي حنيفة أنه إذا كان إماماً للرجال والنساء فلابد من نية كونه إماماً.
وحجته على هذا: أن الأصل أن الإمام لا يكون إماماً إلا بالنية لكنا أخرجنا إمامته بالرجال بخبر ابن عباس فبقي إمامته للرجال والنساء على حكم الأصل ووجوب اعتبار النية في حقهن، وهذا لا وجه له فإنه إذا كان الإمام لا يفتقر إلى النية إذا أمَّ بالرجال لحديث بن عباس فهكذا إذا أمَّ بالرجال والنساء من غير فرق بينهما، وإن رأى رجلين يصليان فنوى الإئتمام بهما أو بأحدهما لا بعينه لم تصح صلاته لأنه لا يمكنه الإئتمام بهما جميعاً لاختلاف أحوالهما في الصلاة ولا يمكن الائتمام بأحدهما لا بعينه لأنه لا بد أن يكون الإمام معيناً ليمكن متابعته في الأفعال كلها وإن كان أحدهما يصلي بالآخر فنوى الائتمام بالمأموم لم تصح صلاته لأنه مؤتم بمن ليس إماماً. لا يقال فقد روي عن الرسول أنه لما وجد خفة في مرضه خرج يتهادى بين رجلين وقد تقدم أبو بكر فصلى بالناس فتقدم الرسول فصلى بأبي بكر وأبو بكر يصلي بالناس فدل على جواز ما ذكرناه من الاقتداء بالمأموم، لأنا نقول: إن هذا لا قائل به من أحد من العلماء وأما ما فعله الرسول فهو محمول على أنه صلى بأبي بكر وبالناس جميعاً وإنما كان أبو بكر يبلغ الناس التكبير ويسمعهم لما عجز الرسول عن الإبلاغ بنفسه. وإن رأى رجلين يصليان فأتم بمن عن يسار القبلة وظنه الإمام لأن السنة أن يكون ذلك موقف الإمام ثم انكشف بعد ذلك أنه كان مأموماً فإن صلاته غير صحيحة لأنه بان أنه أئتم بمن ليس إماماً لكونه مأموماً قد خالف سنة الموقف. وإن صلى رجلان في مكان واحد وقصد كل واحد منهما أنه مؤتم بالآخر لم تصح صلاتهما جميعاً لأن كل واحد منهما مؤتم بمن ليس إماماً وإن
قصد كل واحد منهما أنه إمام للآخر صحت صلاتهما جميعاً لأن كل واحد منهما يصلي لنفسه ولا يتبع غيره، وإن فرغا من صلاتهما فشك كل واحد أنه الإمام أو المأموم لم تصح صلاتهما لأن كل واحد منهما لا يدري هل صحت صلاته أم لا لأنه إن كان إماماً صحت صلاته وإن كان مأموماًلم تصح صلاته لجواز أن يكون نوى الاقتداء بمن ليس إماماً وهكذا لو طرأ الشك عليه في أثناء صلاته أنه إمام أو مأموم بطلت صلاته لأنه لا يدري أنه تابع أو متبوع فلهذا حكمنا ببطلانها لأن الأصل هو لزوم الصلاة فلا تسقط عن ذمته إلا بيقين فإذا طرأ الشك فلا يقين هناك فلهذا توجه عليه الاعادة لما ذكرناه.
الفرع الثامن: وإذا كان للمسجد إمام راتب للصلاة مثل مساجد المحال والدروب والقرى الصغيرة فأقيمت فيه الجماعة فهل تكره إقامة الجماعة مرة أخرى أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن مثل هذا يكره لأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم بفعلوا ذلك بل ربما عابوه، وفي هذا دلالة على كراهته ولأنه قد يكون بين الإمام وبعض الجيران بغضة وكراهة فيقصد أن تصلي بعده جماعة في ذلك المسجد مغايظة للإمام وإيحاراً لصدره فيؤدي ذلك إلى تفريق الكلمة وتأكد العداوة بينهم.
وثانيهما: أن ذلك مستحب غير مكروه، وهذا هو المحكي عن الشافعي وعطاء والحسن البصري وقتادة والنخعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن المنذر لأن تكثير الجماعات مستحب كما لو كان في غيره من المساجد، وهذا هو المختار. والأول محكي عن الشافعي أيضاً لأن أحوال الناس في الأشغال وأعمال الدنيا تختلف فربما لا يتفقون لصلاة الجماعة في وقت واحد وعلى هذا يجوز عقد جماعة بعد جماعة لئلا يؤدي إلى إهمال صلاة الجماعة لأجل تفاوتهم في أعمالهم وحرفهم وصناعاتهم فأما إذا كان المسجد ينتابه الناس من كل جهة مثل المساجد القريبة من الأسواق ومساجد الجوامع فإنه لا يقع فيه خلاف في إقامة الجماعة فيه مرة بعد مرة لأنه لا يؤدي إلى تفريق الكلمة ولا إلى تأكد العداوة. والمستحب لمن رأى رجلاً يصلي وحده أن يصلي معه لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: ((ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ))(1).
الفرع التاسع: والمستحب للإمام ألا يكبر للإحرام في صلاة الجماعة حتى يلتفت يميناً وشمالاً ويقول لمن بعده من الصفوف: سووا صفوفكم، لما روى أنس بن مالك أن رسول الله كان يلتفت إلينا قبل أن يكبر ويقول: ((سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة )) (2)
ويستحب أن يمسح الصدور لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن الرسول كان يمسح صدورنا في الصلاة ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فيخالف الله بين قلوبكم ))(3).
__________
(1) ذكره ابن حبان6/158، والحاكم في المستدرك1/328، ورواه عبد الرزاق في المصنف2/294، وأبو داود 1/157.
(2) متفق عليه وهو في صحيح ابن حبان5/548، وسنن أبي داود1/149، ومسند أحمد3/254.
(3) جاء الخبر عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ: كان النبي يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم لِيلينِّي منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) رواه أحمد 4/122، ومسلم1/323، والنسائي2/90، وابن ماجة.
وهذا الاختلاف الوارد في الخبر له معنيان:
المعنى الأول: أن يكون وارداً على جهة الإخبار وأراد الرسول أن الاختلاف بالتقدم والتأخر يكون سبباً في تغيير قلوبهم على بعضهم بعض وإضافته إلى الله تعالى على جهة المجاز دون الحقيقة.
المعنى الثاني: أن يكون وارداً على جهة الدعاء وهو أنهم إذا خالفوا بالتقدم والتأخر في الصلاة كان ذلك سبباً في أن الله تعالى هو المغير لقلوبهم على بعضهم البعض لما فعلوا ما يستوجبون به التغيير بالتقدم والتأخر في الصلاة،وكلا المعنيين دال على التحذير عن المخالفة في الصلاة بما ذكرناه من تقديم الأقدام أو تأخيرها لما فيه من تغيير هيئة الصلاة.
وروي عن عمر أنه كان له أعوان يأمرهم بتسوية الصفوف فإذا رجعوا إليه كبر للصلاة، ويستحب للإمام في الصلاة أن يخفف في القراءة وسائر الأذكار لقوله : ((إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة فإذا صلى لنفسه فليطل ما شاء)). فإن صلى وحده طول ما شاء للخبر وهكذا إذا صلى بقوم يعلم من حالهم أنهم لا يشق عليهم التطويل ويؤثرونه فلا بأس بالتطويل.
الفرع العاشر: وإذا صلى الرجل صلاة في منزله ثم أدركها في جماعة فالمستحب أن يعيدها في جماعة لما روى يزيد بن عامر(1)
__________
(1) في (التأريخ الكبير)8/316: يزيد بن عامر له صحبة، وهو في (الجرح والتعديل): يزيد بن عامر السوائي، وكنيته: أبو حاجر، كان مع المشركين يوم حنين ثم أسلم، اهـ.9/281، روى عن النبي في الصلاة، وعنه نوح بن صعصعة والسائب بن أبي حفص. اهـ (تهذيب التهذيب)11/296، السُوائي بضم السين المهملة.
قال: جئت ورسول الله في الصلاة فجلست فلم أدخل معهم في الصلاة قال: فانصرف علينا رسول الله فرآني جالساً فقال: ((ألم تُسلم يا يزيد )). قال: بلى يا رسول الله قد أسلمت قال: ((فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم))؟ قال: إني كنت قد صليت في منزلي وأنا أحسب أن قد صليت قال: ((إذا جئت الصلاة فوجدت الناس فصل معهم وإن كنت قد صليت فلتكن تلك لك نافلة وهذه مكتوبة))(1)
وهل يستحب الدخول في الثانية بكل حال أو لا يستحب الدخول في الثانية إلا إذا كان قد أدَّى الأولى منفرداً من غير جماعة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يستحب الدخول في الثانية سواء كانت الأولى مؤدَّاة في جماعة أو منفرداً وهذا هو رأي بعض أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى يزيد بن الأسود العامري(2)
أن الرسول صلى الصبح في مسجد الخيف فلما فرغ من صلاته رأى رجلين في آخر القوم لم يصليا معه فقال: ((عليَّ بهما)). فأُتي بهما ترعد فرائصهما فقال: ((ما منعكما أن تصليا معنا ))؟ فقالا: يا رسول الله كنا قد صلينا في رحالنا فقال: ((لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة))(3).
ولم يفصل بين أن يكون قد صليا وحدهما أو في جماعة فدل ظاهر الخبر على أنه لا يشترط في الإعادة كون الأولى منفردة.
__________
(1) أخرجه أبو داود1/157، والدار قطني1/276، والبيهقي في الكبرى2/302.
(2) يزيد بن الأسود العامري الصحابي، أبو جابر الحجازي السوائي، حليف لقريش، روى عن النبي الحديث المذكور عن الرجلين اللذين جلسا في أخريات الناس... إلخ، وفي (الاستيعاب)4/571: رو ى عنه ابنه جابر بن يزيد، وجاء في (الإصابة)6/648: أنه سكن الطائف، روى الحديث السالف وصححه الترمذي وهو في السنن الثلاث وغيرها.
(3) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وهو في (المستدرك) 1/372، ومصنف عبد الرزاق2/421، ومسند أحمد 4/161.
المذهب الثاني: أنه لا يستحب الدخول مع الجماعة إلا إذا كانت الأولى مؤدَّاة على الانفراد وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن بعض أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: ما في خبر يزيد بن عامر فإنه قال: يا رسول الله قد كنت صليت في منزلي. فظاهر خبره دال على أن الأولى كانت منفردة من غير جماعة فدل على أن الأولى إذا كانت في جماعة فلا حاجة إلى إعادتها ولأنه قد أحرز فضيلة الجماعة بأداء الأولى في جماعة فلا يفتقر إلى إعادتها.
والمختار: هو استحباب الإعادة مع الجماعة سواء كان الأولى مؤدَّاة على الانفراد أو في جماعة لأمرين:
أما أولاً: فإن كانت الأولى مؤدَّاة على الإنفراد أحرز بالثانية فضيلة الجماعة، فإن كانت الأولى قد أدت بالجماعة أحرز فضيلة الجماعتين.
وأما ثانياً: فلأن مقصود الرسول هو أنه لا يتسبب إلى الإعراض والاستهانة بصلاة الرسول ومن معه من المسلمين فلهذا حث على الدخول سواء كان الأولى مؤدَّاة على الانفراد أو في الجماعة لهذا الغرض.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: حديث يزيد بن عامر دال على أن الأولى كانت مودَّاة على الانفراد.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما قال: قد كنت صليت في منزلي. ليعذره عن التخلف عن الجماعة لا من جهة كون الانفراد بالصلاة شرطاً في استحباب الدخول مع الجماعة.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكرناه من الإعراض والاستهانة هو السبب في الدخول مع الجماعة فلا فصل فيه بين الانفراد والجماعة.
قالوا: إذا كانت الأولى قد أُدِّيَت جماة فقد أحرز فضيلة الجماعة بخلاف ما لو كانت منفردة فافترقا.
قلنا: مقصود الإستحباب حاصل بالإعادة مع الجماعة سواء كانت الأولى [مؤداة على الانفراد] أو بجماعة لما ذكرناه من أن غرض الرسول ألا ينسب المتأخر عن صلاة الجماعة إلى التساهل والإعراض خاصة في أول الإسلام ولهذا قال الرسول ليزيد بن عامر: ((ألم تُسلم يا يزيد ))؟ قال: بلى يا رسول اللّه. وفيه إيضاح الغرض الذي ذكرناه.
الفرع الحادي عشر: هل يكون الاستحباب في إعادة الأولى والدخول مع الجماعة في كل صلاة أو في صلاة معينة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يستحب في كل صلاة وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه وحذيفة وأنس بن مالك وهو قول الشافعي خلا أن أصحابه قالوا في المغرب: إذا أعادها ضم إليها ركعة وسلم بها.
والحجة على هذا: ما في خبر يزيد بن الأسود ويزيد بن عامر فإنهما لم يفصلا بين صلاة وصلاة وفي هذا دلالة على استحباب الدخول في كل صلاة مع الجماعة.
المذهب الثاني: أن الاستحباب إنما يكون في صلاة معينة ثم اختلفوا في تعيينها على أقوال ستة:
القول الأول: أنه يعيد في كل صلاة إلا العصر والصبح وهذا هو المحكي عن الشافعي لكراهة الصلاة بعد الصبح والعصر.
القول الثاني: أنه يعيد في كل صلاة إلا في الصبح والعصر لكراهة الصلاة يعدهما ولا يعيد المغرب لأنها تصير شفعاً لما ورد من الصحابة أنهم يضمُّون إليها ركعة قبل التسليم وهذا هو رأي أبي حنيفة.
القول الثالث: أنه يعيد في كل صلاة إلا المغرب وهذا هو رأي مالك ومحكي عن الأوزاعي لأنها تصير شفعاً.
القول الرابع: أنه يعيد إلا المغرب لصيرورتها شفعاً والصبح لكراهة الصلاة بعدها وهذا هو المحكي عن إبراهيم النخعي.
القول الخامس: أنه يعيد إلا الصبح والعصر لكراهة الصلاة بعدهما وهذا هو المحكي عن الحسن البصري(1).
__________
(1) في هامش الأصل: قول الحسن هو قول الشافعي وقد تقدم.
القول السادس: أنه يعيد إلا الصبح لكراهة الصلاة بعدها وهذا مروي عن الحكم فهذه أقاويل العلماء في تعيين الصلاة المُعَادة.
والمختار: ما عول عليه الهادي ومن تابعه من شمول الصلاة وأن المُعَاد لا يختص بصلاة دون صلاة.
وحجتهم ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا ما ورد من حديث ابن عامر وحديث يزيد بن الأسود فإن ظاهرهما دال على استحباب الإعادة في كل صلاة ولم يفصلا بين صلاة وصلاة وأيضاً فإن الغرض ألا ينسب القاعد عن الصلاة إذا حضر وهم يصلون إلى الإعراض والاستهانة وهذا حاصل بكل صلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: كل واحد من هذه الأقوال قد قام الدليل فيها على استثناء بعض الصلوات دون بعض فيجب القضاء به والتعويل عليه وقد أشرنا إلى العلة في استثناء كل واحدة من هذه الصلوات فأغنى عن الإعادة والمقصود أن المُعَاد لا يكون على الإطلاق بل لابد من تعيينه كما أوضحناه.
قلنا: هذه تحكمات جامدة ومذاهب في الإستثناء لا دليل عليها، والتعويل إنما هو على حديث صاحب الشريعة الذي رواه يزيد بن عامر ويزيد بن الأسود وليس فيهما إشارة إلى تعيين صلاة وفي هذا دلالة على ما قلناه من بطلان التعيين فيجب القضاء به ولا حاجة إلى منع هذه التعيينات بالإبطال ويكفينا في بطلانها أنها لم تدل عليها دلالة فلا جرم اكتفينا بظاهر الحديث في إبطالها والله الموفق للصواب.
الفرع الثاني عشر: وإذا قلنا باستحباب الإعادة فهل يكون الفرض الأولى أو الثانية فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الفريضة هي الثانية وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن مالك والأوزاعي وبعض أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى يزيد بن عامر عن رسول الله الذي رويناه فإنه قال له: ((إذا صليت في منزلك ثم أتيت مسجد جماعة وصليت معهم فلتكن تلك نافلة وهذه هي المكتوبة)) وهذا نص في موضع الخلاف فيجب القضاء به.
المذهب الثاني: أن الفريضة هي الأولى وأن الثانية نافلة وهذا هو رأي زيد بن علي ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على هذا: ما روى يزيد بن الأسود عن رسول الله الذي رويناه للذين تأخرا عن الصلاة فإنه قال لهما: ((إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة)). وهذا نص صريح أيضاً بأن الأولى هي الفريضة.
المذهب الثالث: أن الله تعالى يحتسب بأيهما شاء وهذا هو المحكي عن الشافعي في القديم وأما الجديد فهو مثل ما رويناه عن زيد بن علي.
والحجة على هذا هو أن الأولى قد تحقق إسقاطها للفرض لما كانت فريضة والثانية فقد دل على كونها فرضاً خبر يزيد بن عامر، فإذا كانا فرضين كلاهما لا جرم احتسب الله بأيهما شاء لما كان فرضين.
والمختار: ما قاله الإمام زيد بن علي ومن تابعه.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا أمرين:
أما أولاً: فلأنا لو قدرنا أن المصلي لم يرد على قوم يصلون لكانت الأولى مجزية مسقطة لفرضه عن ذمته لا محالة.
وأما ثانياً: فلأن الثانية لو كانت هي الفريضة لم يكن الإتيان بها مستحباً بل كان واجباً لأنها هي الفريضة فلما كان الإتيان بها مستحباً دل ذلك على كونها نافلة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: خبر يزيد بن عامر دال على كون الثانية فريضة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا محمول على ما إذا عرض للأولى فساد، فالثانية هي الفريضة لا محالة.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بحديث يزيد بن الأسود فإنه دال بصريحه على أن الأولى هي الفريضة.
قالوا: حكي عن الشافعي في القديم أن الله تعالى يحتسب بأيهما شاء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا مبني على أنهما فرضان فيحتسب الله بأيهما شاء مع استوائهما في الفرضية ونحن لا نسلم ذلك وإنما الفرض هو الأولى كما مر بيانه.
وأما ثانياً: فلأن هذا قوله في القديم وهو مرجوع عنه في الإجتهاد، والتعويل إنما هو على الجديد من أقواله وهو أن الفرض هو الأولى، فأما ما حكي عن الهادي من رفض الأولى ففيه نظر من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. فنهى عن إبطال العمل بعد ثبوته وتقرره.
وأما ثانياً: فلأن العمل إذا أُدِّي على الوجه المأمور به شرعاً فقد أجزى وخلصت الذمة وخرج به عن عهدة الأمر وإذا كان الأمر كما قلناه فلا وجه لرفضه بعد قبوله لأنه لا حكم للعبد على العمل بعد رفعه ولهذا فإنه لا يقدر العبد على إسقاط ثوابه ولا يمكن منه بحال.
وأما ثالثاً: فلأن هذا مبني على أن الفريضة هي الثانية وقد أوضحنا أن الفريضة هي الأولى.
ومن وجه رابع: وهو أنا نقول متى يكون الرفض للأولى بعد تمام الثانية فهما فرضان جميعاً أو قبل تمام الثانية فالأولى تكون باطلة بالرفض والثانية باطلة لأجل نقصانها فحصل من مجموع ما ذكرناه أنه لا وجه للرفض في الأعمال من جهة العباد وأن أمرها إلى الله لا تصرف للعباد فيها بعد مطابقتها للأمر الشرعي ورفع الحفظة لها وأن الفرض هو الأولى والثانية نافلة، وأما ما حكي عن الأوزاعي والشعبي أن الجميع فرضه فهو فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلقوله : ((لا ظهران في يوم، ولا عصران في يوم " ))(1).
وفي هذا دلالة على نفي كونهما جميعاً فرضين.
وأما ثانياً: فلأن لا قائل بكونهما فرضين لأن العلماء على قولين: فقائل يقول: بأن الفرض هو الأولى. وقائل يقول: بأن الفرض هو الثانية، فقول من قال بأنهما فرضان يكون إحداث قول ثالث.
__________
(1) تقدم في المجلد الأول الحديث وتخريجه في ص 336، وهو من الأحاديث التي تترد كثيراً في الانتصار.
ومن وجه ثالث: وهو ما روى ابن عمر عن رسول الله أنه نهى أن تعاد الفريضة في يوم مرتين(1).
وروي أن أهل العوالي كانوا يصلون في منازلهم ثم يصلون مع الرسول فنهاهم النبي أن يعيدوا الصلاة مرتين في يوم واحد.
الفرع الثالث عشر: ولا خلاف أن الإعمى إذا لم يجد قائداً فلا يتوجه عليه حضور مساجد الجماعات لتعذر ذلك في حقه لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ}[النور:61 والفتح:14]. فإن وجد قائداً فهل يتوجه عليه الحضور أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: توجه ذلك عليه إما على الاستحباب على ما اخترناه في كونها سنة، وإما على الوجوب على رأي من أوجبها على الكفاية وهذا هو رأي أبي يوسف ومحمد.
والحجة على هذا: هو أنه إذا وجد قائداً فقد زال عذره فأشبه الصحيح ولأنه يمنزلة الضال عن الطريق فلا يسقط عنه حضور الجماعة.
المذهب الثاني: أنه لا يتوجه عليه حضورها وهذا هو رأي أئمة العترة وهو محكي عن أبي حنيفة والشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه لا يتوصل إلى حضورها إلا بالأجرة فيصير كالمقعد والزمن والمفلوج.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أنها غير واجبة، فلا تكون واجبة على الأعمى وإن وجد قائداً كما أوضحناه من قبل، ويسقط الاستحباب لأجل العذر، وهو العمى، ولا يلزم على هذا وجوب الحج، ووجوب صلاة الجمعة لأنهما واجبان على الأعيان بخلاف صلاة الجماعة فإنها سنة ولا يلزم الحج والجمعة على رأي من أوجب صلاة الجماعة لأن وجوبها عنده إنما هو على الكفاية وهما واجبان على الأعيان فافترقا.
__________
(1) جاء في (جواهر الأخبار) تخريج أحاديث (البحر)1/304: والذي في (الجامع الكافي) عن سليمان مولى ميمونة قال: أتيت ابن عمر على البلاط والناس يصلون، فقلت: ألا تصلي معهم؟ فقال: قد صليت، وإني سمعت رسول الله يقول: ((لا تصلوا صلاة في يوم واحد مرتين)) أخرجه أبو داود والنسائي.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قد زال عذره فأشبه الصحيح.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن زوال عذره إنما يكون بالأجرة فصار كالمقعد والزمن أو بالدخول تحت مِنَّة الغير فلا يلزم تحمل المِنَّة لأجل أداء العبادة كما لا يلزم العريات الدخول تحت مِنَّة الغير بهبة الثوب لأداء الصلاة.
وأما ثانياً: فلأنها غير واجبة فلا يلزم الحضور لها وأما الإستحباب فسقط بالعذر.
الفرع الرابع عشر: صلاة الجماعة إذا دخل فيها الكافر الحربي هل يحكم بإسلامه لأجل ذلك أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه لا يحكم بإسلامه لأجل دخوله في الصلاة وهذا هو رأي المؤيد بالله ويقتضيه كلام الهادي وهو قول الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها))(1).
ووجه الدلالة من الخبر هو أن ظاهره دال على أن الإسلام الذي يكون عصمة للدم والمال إنما هو بذكر هاتين الشهادتين، فمن لا يذكرهما ولا ينطق بهما فليس مسلماً، والدخول في الصلاة ليس فيه إقرار بالشهادتين ولا نطق بهما فلهذا لم يكن مسلماً بالدخول فيها.
المذهب الثاني: أنه يحكم عليه بالإسلام بالدخول في صلاة الجماعة وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }[التوبة:18]. وعمارتها إنما تكون بالصلاة فلهذا كان الدخول في الصلاة عمارة لها فيكون من جملة الإيمان وهو المقصود.
__________
(1) تقدم في المقدمة الثانية للمجلد الأول ص 150 بلفظ: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله...)) إلى آخره، وبقيته في جواهر الأخبار: ((...فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله)) أخرجه الستة إلا الموطأ من رواية، أبي هريرة واللفظ للصحيحين، اهـ. 1/311 من هامش البحر الزخار.
المذهب الثالث: أنه إذا صلى منفرداً حكم بإسلامه وهذا هو رأي محمد بن الحسن.
والحجة على هذا: هو أن الصلاة عبادة يكون تركها كبيرة فكان الدخول فيها إسلاماً وإيماناً كالشهادتين.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله ومن تابعه.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا وهو أن الصلاة عبادة من شرط صحتها تقدم الإيمان فلا يحكم بالإسلام بالدخول فيها كالصوم والحج.
قال المؤيد بالله: ودخول الكافر في صلاة الجماعة لأداء صلاة لا يكون إسلاماً.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[التوبة:18]. وعمارتهاتكون بالصلاة فلهذا كان الدخول فيها إيماناً.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا الفعل من الكافر ليس يعدُّ عمارة وإنما هو استخفاف بالمساجد وهزؤٌ بالصلاة ولهذا يؤدب ويعزر على ذلك.
وأما ثانياً: فلأن المراد بالعمارة هو إشادتها بالبناء والأساطين، ويؤيد هذا ما روي عن الرسول أنه قال: ((من بنى لله مسجداً ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له قصراً في الجنة)) (1).
قالوا: الصلاة عبادة تركها يكون كبيرة فيكون الدخول فيها إسلاماً وإيماناً كالشهادتين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا يبطل بالحج والصوم فإن الكافر إذا فعله لم يكن إيماناً فهكذا صلاة المنفرد.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل أنه لو أتى به منفرداً لزمه حكم الإسلام فهكذا إذا أتى به في جماعة بخلاف ما نحن فيه فإنه لما لم يكن إيماناً في الجماعة فهكذا في المنفرد.
__________
(1) رواه أحمد عن ابن عباس، وهذه الزيادة: ((كمفحص قطاة)) أخرجها البيهقي. قال العراقي: بإسناد صحيح، وأخرجها ابن أبي شيبة من حديث عثمان، وابن حبان والبزار من حديث أبي ذر وغيرهم من غير هؤلاء.
الفرع الخامس عشر: إذا أقيمت صلاة الجماعة في مسجد جرت العادة فيه بأنه يأتيه الناس فوجاً بعد فوج وجماعة بعد جماعة كمساجد الأسواق والجوامع الكبيرة التي يردها الناس كثيراً فأراد الإمام أن يطوِّل القراءة لكي تكثر الجماعة ويلحقوا الإمام، فالأقرب على المذهب أن هذا الإنتظار مكروه لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((إذا أمَّ أحدكم فليخفف فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة)). وهكذا يكره أيضاً أن يطوِّل الإمام القراءة والصلاة لأجل حضور رجل له محل وديانة وعلم وصلاح لأن الأدلة ما فصلت في الكراهة في ذلك، فأما الإمام إذا ركع فأحس برجل يريد الصلاة فهل ينتظره ويطول في الركوع أم لا؟ فيه أقوال ستة:
القول الأول: أنه يستحب هذا القدر من التطويل لأجل إدراك الرجل للصلاة وهذا هو رأي المؤيد بالله وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، ومحكي عن بعض أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى عبدالله بن أبي أوفى عن الرسول أنه كان يقوم في الركعة الأولى من الظهر حتى لا يسمع وقع قدم(1)
وهذا الانتظار إنما كان من أجل إدراك الركعة الأولى، وروي عن الرسول أنه كان يطيل الركوع إذا أحس بداخل، فإذا جاز تطويل القراءة لهذا الغرض جاز تطويل الركوع أيضاً لأجله إذ لا فرق بينهما.
القول الثاني: أنه يكره؛ وهو أحد قولي الشافعي.
والحجة على ذلك: قوله : ((إذا أمَّ أحدكم فليخفف)). ولم يفرق بين الركوع وغيره، ولأن كل من لا ينتظر في غير الركوع فلا ينتظر في الركوع كما لو أحس قبل دخول المسجد.
القول الثالث: أنه يحرم الانتظار وهذا شيء يحكى عن بعض أصحاب الشافعي.
__________
(1) أشار ابن بهران 1/319 إلى أن الذي في (الجامع) عن ابن عمر أن رسول الله كان يقوم في الصلاة الأولى من الظهر حتى لا يسمع وقع قدم، أخرجه أبو داود.
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله يكون فيه إشراك لمقاصد الخلق في الصلاة وهو مبطل لها فلهذا كان محرماً، ويؤيد هذا قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}[الكهف:110].
القول الرابع: محكي عن بعض أصحاب الشافعي وهو أن هذا الداخل إن كانت له عادة بحضور المسجد وملازمة الجماعة جاز انتظاره، وإن كان غريباً لم يجز انتظاره.
القول الخامس: محكي عن بعض أصحاب الشافعي وهو أن هذا الانتظار إن كان لا يضر بالمأمومين ولا يدخل عليهم مشقة جاز ذلك وإن كان مما يدخل عليهم مضرة ومشقة لم يجز.
القول السادس: محكي عن بعض أصحاب الشافعي وهو أن هذا الفعل الذي يقع به الإنتظار لا يحرم ولا يستحب ولا يكره ولا تبطل به الصلاة.
والمختار: تفصيل نشير إليه، وهو ما روي أن الرسول كان يصلي يوماً وقد أجلس الحسن بن علي بين يديه فلما سجد النبي ركب الحسن بن علي على ظهره فانتظره الرسول ساجداً حتى نزل فلما فرغ من صلاته قيل له أطلت السجود؟ فقال: ((إن ابني هذا كان ارتحلني فأطلت السجود ليقضي وطره وكرهت أن أعجله)) (1).
__________
(1) رواه في (المستدرك) 3/181، وسنن النسائي 2/229، والبيهقي في (السنن الكبرى)2/263، وأحمد في مسنده 6/467.
فإن كان هذا الإنتظار لغير من هو في الصلاة فليكن لم يريد الصلاة أحق وأولى. ولما روي عن الرسول أنه حمل أمامة بنت أبي العاص ووضعها في الصلاة، فهذه الأفعال كلها فعلت من غير مصلحة في الصلاة كما أوضحناه فإذا فعلت لغير مصلحة الصلاة ففعلها أو فعل مثلها لمصالح الصلاة يكون لا محالة أحق وأولى، وإذا كان الأمر هكذا فعلى المصلي إعمال نظره وفكره فما كان مماثلاً لما فعله الرسول جاز له فعله اقتداء به وتأسياً بما فعله مما يكون فيه مصلحة للمصلي ولمن يريد الدخول في الصلاة، وإن رأى المصلي أن الترك أحوط للصلاة عمل عليه لأن الأصل هو تحريم الأفعال في الصلاة وليكن تعويل المصلي على حراسة الصلاة أن يكون فيها ما يشوشها من الأمور المباحة في مراعاة الداخل واختلاف حال من يراعي ومن لا يراعي فإذا أعمل نظره وراعى مصلحة الصلاة وراقب الصلاة فلا عليه فيما فعل من الأفعال القليلة في الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
واعلم أنا قد أشرنا إلى ما يعتمده المصلي في صلاته وما يباح له من الأفعال وما لا يباح وهذه الأقوال التي حكيناها عن الفقهاء ترجع إلى ما ذكرناه من مراعاة المصلحة والاعتماد في الفعل والترك على ما فعله الرسول من الأفعال وأباحه وفعله فهو العمدة وبه القدوة وفي أفعاله لنا الأسوة ولا حاجة إلى تتبع هذه الأقاويل بالنقوص فكل واحد منهم معول على ما فعله الرسول وفهم من مقصوده وأفعاله وشمائله فكل ما فعله فهو حق وصواب.
الفرع السادس عشر: قد ذكرنا أن الإمام لا يطول القراءة في المساجد المأهولة بدخول المسلمين وذكرنا كراهة ذلك وأن الإمام يطيل الركوع لمن يلحق به ليكون مدركاً للصلاة، وذكرنا ما يباح منه وما لا يباح، فأما وهو في غير هاتين الحالتين فلا معنى للانتظار في غير ذلك من أحوال الصلاة؛ لأنه إن كان قبل الركوع فلا وجه لانتظاره؛ لأنه يدرك الركعة في الركوع، وإن كان بعد الركوع فقد فاتته الركعة فلا معنى لانتظاره، وإن كان في التشهد الأخير فلا معنى لانتظاره فيه لأنه غير مدرك للصلاة بإدراكه، وقد ذكر بعض أصحاب الشافعي أنه يطول التشهد الأخير لمن يلحق ولا وجه له كما سنوضحه، وإن عقد المأموم صلاته مع الإمام ثم انفرد بإتمامها وحده فهل تبطل صلاته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن صلاته باطلاة وهذا هو رأي السيدين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم " )) (1).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه نهى عن الاختلاف والنهي يقتضي فساد المنهي عنه لأن الانفراد قد أوجب المخالفة من جهة أن صلاة المنفرد مخالفة لصلاة المؤتم فلهذا قضينا بفسادها لما ذكرناه.
المذهب الثاني: أنه إن خالف وانفرد لعذر لم تبطل صلاته كأن يكون مدافعاً للأخبثين أو أحس بحريق في داره أو كانت دابته واقفة على باب المسجد فخشي ضياعها، وهو محكي عن الشافعي فما هذا حاله من الأعذار تجزيه الصلاة إذا انفرد، وإن انفرد من غير عذر فقولان.
والحجة على هذا: قوله : ((اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة)).
ووجه الدلالة من الخبر: أنه أباح قتل الأسودين لأجل عذر الضرر فهكذا هاهنا يجوز الخروج للعذر.
والمختار:ما قاله الأخوان.
__________
(1) قال في (جواهر الأخبار)1/313: قد ورد ما يتضمن هذا الحديث، وأما بهذا اللفظ فيغير معروف، وقد ذكر نحو هذا في (التلخيص)اهـ، وهو في (نيل الأوطار)3/204 بلفظه.
وحجتهما: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أنه خالف إمامه فيما يجب عليه المتابعة فيه فوجب إبطال الصلاة كما لو كانت الصلاة من غير عذر.
الانتصار: يكون بإبطال ما قالوه.
قالوا: أمر الرسول بقتل الأسودين في الصلاة لعذر الضرر فهكذا تجوز المخالفة لأجل العذر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فهذا حجة لنا لأن قتل الأسودين يوجب بطلان الصلاة كما مر بيانه فهكذا ما نحن فيه يوجب بطلان الصلاة.
وأما ثانياً: فلأن العذر إنما يوجب سقوط الإثم وأما بطلان الصلاة فهو حاصل بالمخالفة.
قالوا: الائتمام أفاد الفضيلة دون وجوب المتابعة فإذا خالف العذر لم تبطل الصلاة كما قلناه.
قلنا: الائتمام كما أفاد الفضيلة فإنه مفيد لوجوب المتابعة فإذا لم تحصل المتابعة كانت مفسدة للصلاة إذا فقدت.
قالوا: روي أن معاذ بن جبل صلى بالناس العشاء الآخرة فافتتحها بسورة البقرة فخرج رجل من القوم وانفرد بصلاته فقالوا له: قد نافقت. فقال: لا ولكني آتي رسول الله فأتاه فقال: يا رسول الله إن معاذاً صلى بنا العشاء الآخرة فافتتح بسورة البقرة فلما رأيت ذلك منه تأخرت وصليت وإنما نحن أهل نواضح نعمل بأيدينا، فأقبل رسول الله على معاذٍ وقال: ((أفتان أنت يا معاذ إما أن تخفف بهم الصلاة أو تجعل صلاتك معنا)). وقد كان يصلي مع الرسول ثم يصلي بعد ذلك بأصاحبه فأقره الرسول ولم يأمره بالإعادة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فيحتمل أنه لما انفرد أعاد صلاته لهذا لم يسأله الرسول عن الإعادة.
وأما ثانياً: فلأنه إنما ترك الأمر بالإعادة لما خالف إمامه لأنه اشتغل بالإنكار على معاذ فيما جاء به من تطويل القراءة فسكوت الرسول عن أمره بالإعادة لا يدل على صحة صلاته.
الفرع السابع عشر: وإذا فتح الرجل صلاة منفرداً ثم جاء إمام المحراب فأتمها مؤتماً به فهل تبطل صلاته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن صلاته على هذه الصفة باطلة وهذا هو الذي نصه الهادي وهو قول أبي حنيفة، ومحكي عن النخعي والمزني من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم )).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن من هذه حاله فقد حصل منه المخالفة والنهي دال على الفساد لأنه قد افتتح الصلاة منفرداً ثم عقدها بعد ذلك مؤتماً ولا شك أن صلاة المنفرد مخالفة لصلاة المأموم من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن المأموم يلزمه سهو غيره والمنفرد لا يلزمه ذلك.
وأما ثانياً: فلأن المأموم يلزمه فساد صلاته من جهة غيره بخلاف غيره.
وأما ثالثاً: فإن المأموم يتحمل عنه غيره بعض الأركان ولا يتحمل عن المنفرد غيره. فهذه الأوجه دالة على اختلافهما، فإذا افتتحها منفرداً فقد عقدها على جهة مخصوصة لها حكم مخصوص فلا يجوز أن يصرفها إلى جهة مخالفة لما عقدها عليه أولاً كما لو عقدها أولاً بنيه النفل فلا يجوز أن يصرفها إلى جهة الفرض وعكسه أيضاً فلهذا كانت باطلة.
المذهب الثاني: أنه إن ائتم به قبل الركوع أجزأه وإن ائتم به بعد الركوع فقولان ومنهم من قال: إن اقتدى به قبل الركوع فقولان: أحدهما: يجزيه. والآخر: أنه لا يجزيه، وإن اقتدى به بعد الركوع فإنه لا يجزيه قولاً واحداً وهذا هو المحكي عن أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: هو الخبر المروي عن الرسول أنه افتتح الصلاة ثم ذكر أن عليه جنابة فقال: ((على رسلكم)). ودخل منزله واغتسل ثم خرج ورأسه يقطر ماءً وصلى بهم الصلاة(1).
__________
(1) عن أبي بكرة أن النبي استفتح الصلاة فكبر، ثم أومأ إليهم أن مكانكم ثم دخل ثم خرج ورأسه يقطر فصلى بهم فلما قضى الصلاة قال: ((إنما أنا بشر وإني كنت جنباً)) رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والبيهقي، وأخرجه البخاري1/106.
ووجه الدلالة من هذا الخبر: هو أنه افتتح الصلاة وهو جنب فلم تنعقد صلاته مع الجنابة وانعقدت صلاة القوم وكانوا منفردين ثم جاء واستأنف التكبير وصلى بهم فقد صلوا لأنفسهم بغير إمام ثم صلوا لأنفسهم بعد ذلك بإمام وهو عين مسألة الخلاف.
والمختار: جواز الصلاة وصحتها كما قاله الشافعي.
وحجته: ما حكيناه ونزيد هاهنا وهو ما روي أن الرسول أمر أبا بكر يصلي بالناس فتقدم وكبر للصلاة فوجد الرسول خِفَّةً فخرج يتهادى بين اثنين علي والعباس فتقدم الرسول إماماً لأبي بكر والناس يأتمون بأبي بكر وقد كان سبق تكبيرهم تكبير الرسول ومع ذلك اقتدى أبو بكر به.
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن إمامة أبي بكر بطلت بتقدم الرسول ثم صلى أبو بكر مؤتماً بالرسول فقد انفرد أبو بكر ثم أتم وهو عين ما وقع فيه النزاع.
الحجة الثانية: هو أن من هذه حاله فقد اتفق فرضه مع فرض الإمام ولم يتأخر عن الإمام ولا خالفه إلا بأنه قد كان انفرد بصلاته لعدم الإمام ثم حضر الإمام فدخل معه ومثل هذا لا يعد مخالفة لأنه انتقل من الأدنى إلى الأعلى لأن صلاته مع الإمام أفضل من صلاته وحده فلهذا كانت مجزية له.
الحجة الثالثة: هو أن الأدلة الدالة على فضل صلاة الجماعة لم تفصل بين أن يكون قد دخل في الصلاة لنفسه أو لم يكن قد دخل فلأجل هذا قضينا بصحة صلاته سواء كان قد انفرد بالصلاة أو لم ينفرد.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: ورد عن الرسول : ((لا تختلفوا عن إمامكم )). والنهي دال على الفساد وما ذكرناه مخالفة فلهذا كانت الصلاة فاسدة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ظاهر الحديث غير معمول به فإن من المخالفة ما لا يفسد الصلاة وهذا نحو أن يقوم الإمام إلى الخامسة فيخالفه بالتخلف عنه، ونحو أن يُسَلِّم الإمام على ركعتين في الرباعية وتعذر تنبيهه فإن هذه المخالفة غير مفسدة للصلاة فإذا بطل التعلق بظاهر الحديث وجب تأويله على مخالفة مخصوصة فنقول وهذه المخالفة من جملة ما لا تفسد معه الصلاة لمثل ما ذكرتموه في تلك المخالفة.
وأما ثانياً: فلأن الغرض بالإفساد بالمخالفة ما كان يطرق خللاً في العبادة بالمخالفة فأما إذا كان يزيد الصلاة فضلاً وإجزاء فالمخالفة غير ضارة في فسادها.
قالوا: صلاة المنفرد مخالفة لصلاة المأموم من تلك الوجوه الثلاثة التي ذكرناها فإذا عقدها منفرداً ثم ائتم بغيره فهذه مخالفة فلهذا كانت مفسدة.
قلنا: لا ننكر أن هذه مخالفة ولكن لا نُسَلِّم أن كل مخالفة تفسد الصلاة بل هي منفسمة إلى: ما يكون مفسداً وهو ما كان يطرق نقصاً في الصلاة. وإلى: ما لا يطرق نقصاً في الصلاة بل يزيد في فضلها فلا يكون مفسداً.
الفرع الثامن عشر: ويكره للإمام والمأموم أن يصليا النافلة في موضع الفريضة لما روى أبو رمثه أنه صلى إلى جنب عمر بن الخطاب وقد كان سبقه الرسول ببعض الصلاة فلما أتم صلاته قام فصلى النافلة في موضع الفريضة فالتفت إليه عمر وقال له: إنما هلك من كان قبلكم لأنهم كانوا لا يفصلون بين الفريضة والنافلة. فشري(1)
الحديث بينهما في المنازعة فقاما إلى الرسول فحكى له عمر بصورة الحديث، فقال النبي : ((أصاب الله بك يابن الخطاب )) (2).
__________
(1) شري يشتري شريً: إذا تمادى الرجل في غيه وفساده، واستشرى في الشر، إذا لج فيه، والمشاراة: الملاجَّة، يقال: هو يشاري فلاناً أي يلاجَّه، ا هـ لسان العرب 14/429. وفي هامش الأصل: المشاراة: الملاحاة والمخاصمة، وقد شري واستشرى إذا لج في الأمر.
(2) رواه أبو داود1/264، والبيهقي في السنن الكبرى2/190.
فصوبه في مقالته ولم ينكر عليه، ويستحب أن يتقدم أو يتأخر لما روي عن النبي أنه قال: ((أيعجز أحدكم إذا صلى المكتوبة أن يتقدم أو يتأخر )). ولم يفصل في ذلك بين الإمام والمأموم، وحكي عن أبي حنيفة أن ذلك إنما يكره في حق الإمام دون المأموم.
والحجة عليه: ما ذكرناه من الخبر فإنه لم يفصل بينهما.
قال القاسم: ويستحب للإمام إذا فرغ من صلاة القوم أن يتحول عن موضعه متقدماً أو متأخراً.
والحجة: ما ذكرناه من الحديث ويكره أن يتحول عن يمينه ويساره لأن القوم ربما كانوا يصلون بعد الفريضة النافلة فيحول بينهم وبين القبلة، ويكره أن يستقبلهم بوجهه لقوله : ((لا صلاة إلى متحدث ))(1).
لأن الحديث إنما يكون مع الاستقبال.
قال الهادي: ولا بأس بالقعود مع الإمام فيما لا يقعد فيه المؤتم من صلاته ولا يخالفه لقوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا)). ولم يفصل بين أن يكون القعود مشروعاً للمؤتم أو لا يكون مشروعاً في حقه فإن تخلف عنه لتأدية التشهد الأوسط بعد قيام الإمام ناسياً له بطلت صلاته لأجل المخالفة ولأنه عدل من فرض إلى نفل فلهذا بطلت الصلاة.
قال المؤيد بالله: وإن قام الإمام إلى الخامسة لم يتابعه المأموم إن تعذر تنبيهه ويعزل صلاته عنه لأن المتابعة غير واجبة فيما ليس مشروعاً من الصلاة بحال.
الفرع التاسع عشر: إذا نوى قطع الإقتداء في أثناء الصلاة فهل يجوز ذلك أم لا؟ فحكى الشيخ أبو حامد الغزالي فيه أقوالاً ثلاثة:
__________
(1) قال الشوكاني في (نيل الأوطار)3/8: وقد ذهب مجاهد وطاووس ومالك والهادوية إلى كراهة الصلاة إلى النائم خشية ما يبدو منه مما يلهي المصلي عن صلاته، واستدلوا بحديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجة، بلفظ: ((لا تصلوا خلف النائم والمتحدث)) وقد قال أبو داود: طرقه كلها واهية. اهـ.
القول الأول: يمنع من ذلك لأنه قد التزم الإقتداء فلا يجوز له الإخلال بما قد التزمه ولقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. ومن نوى الخروج من الصلاة فقد أبطل ثواب الإقتداء بهذه النية.
القول الثاني: الجواز لأن الدخول في الجماعة سنة ونفل فلهذا جاز الخروج منها كما في سائر النوافل من غير فرق.
القول الثالث: إن كان لعذر جاز، وإن كان لغير عذر لم يجز لأن صلاة الجماعة يجوز تركها للأعذار كما مر بيانه.
والمختار: هو المنع. وإذا قلنا بالمنع ونوى الخروج من الإقتداء لم تبطل الصلاة كما لو نوى الخروج منها لم تبطل ولأن بطلان الإقتداء أمر وصحة الصلاة أمر آخر فإذا بطل الإقتداء لم تبطل الصلاة، وإن صلى جماعة بإمام في ليلة مظلمة فصلى بعضهم جهة المشرق تحراها وتحرى بعضهم جهة المغرب وصلى بعضهم جهة القبلة تحراها أجزت صلاتهم هذه إذا كان دخولهم بالتحري لأن الرسول صوبهم على ذلك ولم يأمرهم بالإعادة ولقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }[البقرة:115].
الفرع العشرون: قد قررنا في أول الفصل كراهة حضور النساء مساجد الجماعات لأجل المحاذرة من الفتنة فإذا تقرر هذا فهل تكره صلاتهن في بيوتهن جماعات أو يجوز ذلك؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: جواز ذلك واستحبابه وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بخمس وعشرين درجة )). ولم يفصل بين الرجال والنساء.
الحجة الثانية: هو أن النساء أهل الفرض ومن أهل العبادة. والتعبد بالشريعة حاصل في حقهن، فلهذا استحب لهن الجماعة كالرجال.
المذهب الثاني: أن الجماعة في حق النساء مكروهة وهذا هو قول أبي حنيفة، ومحكي عن مالك.
والحجة على هذا: هو أن الجماعة حكم يختص الصلاة فكره في حق النساء كالأذان.
المذهب الثالث: أن الجماعة في حقهن تكره في الفروض دون النوافل وهذا هو رأي الشعبي والنخعي.
والحجة على هذا: هو أن النوافل مخالفة للفروض والتساهل حاصل من جهة الشرع في النوافل ولهذا فإنه يجوز أداؤها على الراحلة، ويجوز فيها ترك القيام مع القدرة عليه بخلاف الفرائض، فلما كان الأمر هكذا جاز لهن الجماعة في النوافل كصلاة العيدين وغيرهما ولم يجز لهن في الفرائض.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من استحباب الجماعة في حقهن.
وحجتهم على ذلك: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن التعبد بالصلاة حاصل في حق الرجال والنساء فوجب أن يكون التعبد بفروض الصلاة وسننها حاصلاً في حق النساء إلا ما خصته دلالة ومن جملة السنن في الصلاة هو الجماعة لأجل فضلها فلهذا كانت مشروعة في حق النساء كما هي مشروعة في حق الرجال.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الجماعة في حقهن مكروهة كالأذان.
قلنا: النساء المأخوذ عليهن الخفارة والتستر في البيوت والأذان ينافي ذلك لما فيه من إظهار أصواتهن وحصول الفتنة بها بخلاف الجماعة فإنها تؤدى في خفية في قعر البيوت فافترقا.
قالوا: تستحب الجماعة في حقهن في النفل دون الفرض.
قلنا: إذا جاز النفل في حقهن جاز الفرض من غير فرق بينهما لأنهما سيان في استحباب الجماعة فالفرق بينهما تحكم من غير دلالة.
الفرع الحادي والعشرون: إذا تقرر كونها مستحبة في حق النساء فهل تكون هيئتها على حد صلاة الرجال صفاً بعد صف أو تكون إمامتهن وسطهن؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن تكون إمامتهن وسطهن ويكن عن يمينها وشمالها وهذا هو رأي الإمامين الهادي والقاسم واختاره السيد أبو طالب.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: دخلت أنا ورسول الله على أم سلمة فإذا نسوة في جانب البيت يصلين فقال الرسول : ((يا أم سلمة أي صلاة يصلين ))؟ فقالت: يا رسول الله المكتوبة. فقال: ((أفلا أممتهن)). قالت: يا رسول الله أويصلح ذلك؟ قال: ((نعم تقومين وسطهن لاهن أمامك ولا خلفك ولكن عن يمينك وشمالك))(1).
المذهب الثاني: أن تكون صلاتهن مثل صلاة الرجال صفاً بعد صف وهذا هو رأي الأستاذ(2)
والقاضي زيد من أصحابنا.
والحجة على جواز ما ذكرناه: هو أن النساء كالرجال في أبواب العبادة من الصلاة والصوم والحج إلا ما خصته دلالة فلما كانت الجماعة مشروعة في حق الرجال صفاً بعد صف جاز ذلك في حق النساء من غير فرق.
والمختار: ما قاله الإمامان الهادي والقاسم وهو رأي الشافعي من أنهما مختلفان في صلاة الجماعة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روي عن عائشة أنها صلت بنسوةٍ العصر فوقفت في وسطهن، ومثل هذا إذا صدر من جهة الصحابي فلا يكون إلا عن توقيف لأن ما هذا حاله فلا مدخل للإجتهاد فيه ولأنه من باب العبادات وهي أمور غيبية لا يعلم أسرارها إلا الله تعالى، وما حصل من جهة صاحب الشريعة صلوات الله عليه.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: النساء كالرجال فلهذا كانت صلاتهن مثل صلاة الرجال.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لا مدخل للأقيسة في العبادات وإنما موردها التحكم والتلقي من جهة الرسول وقد حصل التوقيف منه على ما ذكرناه من صلاة النساء فلا يجوز مخالفته فيما قاله.
__________
(1) رواه الإمام زيد في مجموعه بسنده عن أبيه عن جده عن علي قال السياغي في تخريجه في (الروض النضير)2/194: قال في (ِشرح السنن) وأخرجه ابن عبد البر في (الاستيعاب) والبيهقي والشافعي وأخرجه غيرهم وهو على شرط مسلم.… النضير)2/194: قلا
(2) علي بن الخليل.
وأما ثانياً: فلأن القياس لا يعارض النصوص من جهة الشارع بل يكون الاعتماد عليها أحق وأولى من القياس، وقد نجز غرضنا من الفصل الأول في حكم الصلاة.
الفصل الثاني في بيان صفات الأئمة
اعلم أنا نذكر في هذا الفصل من تجوز إمامته ومن لا تجوز إمامته ومن تكره إمامته فهذه أقسام ثلاثة نذكر في كل واحد منها ما يختصه.
القسم الأول: في بيان من تجوز إمامته
والذي يجوز أن يكون إماماً في الصلاة هو من يختص بصفات البلوغ والعقل والإسلام والذكورة وكمال الطهارة والصلاة فمن كان مختصاً بهذه الصفات جازت إمامته ومن لم يكن حاصلاً عليها لم تصح إمامته ونحن نذكر كل واحد منها بما يختصه ونشرحها بمعونة الله.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الإمامة في الصلاة خصلة شريفة لا يتولاها إلا أهل الصلاح والدين والتقوى لما روي عن الرسول أنه قال: ((الإمام وافدٌ فقدموا أفضلك م )) (1).
ولا يتولاها من كان متهتكاً خبيثاً فاسقاً لا دين له ولا أمانة لما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه قال: كنت مع الرسول فأتى بني مجمجم فقال: ((من يؤمكم))؟ فقالوا: فلان. فقال : ((لا يؤمكم ذو جرأة في دينه )). وأراد بالجرأة من كان مقدماً على الكبائر من غير مبالاة خبيثاً عدواً لله ولرسوله منحرفاً عما عليه أهل الدين والمروءات والحياء، وروى أبو مسعود[البدري] رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((يؤم القوم أقرأوهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم في الهجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه))(2).
__________
(1) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم)) رواه الدار قطني.
(2) هذا الحديث أورده الشوكاني في (نيل الأوطار)3/157 عن أبي مسعود عقبة بن عمرو بلفظه مع اختلاف فيه: ((...ولا يؤمّن الرجل...)) قال: وفي لفظ: ((...سلماً...)) بدل: ((....سناً...) روى الجميع أحمد4/141، ومسلم1/465، والترمذي 1/459، وأبو داود 1/159.
وعنى بالسلطان الإمام وأراد أن أحداً لا يؤمه لما كان سلطاناً لأنه أحق بالإمامة وأولى بها من غيره لما خصه الله به من الفضائل وقيامه بمصالح الدين وتوليه لأمور المسلمين، والتكرمة بضم الراء كالتهلكة وبكسرها كالتقدمة لغتان فيها ولها معنيان:
المعنى الأول: أنها المائدة وأراد أنه لا يقعد أحد على مائدته إلا بأذنه ولا يؤكل طعامه ألا برضاه.
المعنى الثاني: أنها البساط الذي يقعد عليه ويلحق بذلك المخدة والوسادة والمرتبة التي يقعد عليها وكل ما كان يوطأ للقاعد، وفي الحديث كان لرسول الله كساء أحمر يوضع تحته إذا قعد يجعل طافين أو ثلاثة. فإذا عرفت هذا فالذين تجوز إمامتهم في الصلاة على الإطلاق هو كل بالغ عاقل ذكر مؤمن كامل في الطهارة والصلاة.
فقولنا: بالغ. نحترز [به] عن الصبي.
وقولنا: عاقل. نحترز ]به] عن المجنون.
وقولنا: مؤمن. نحترز [به] عن الكافر والفاسق.
وقولنا: كامل في طهارته. نحترز[به] عمن كان ناقصاً في الطهارة كالمتيمم في حق المتوضين ومثل من كان معذوراً في غسل بعض أعضائه فإنه لا يصلي بمن كان كاملاً في طهارته.
وقولنا: كاملاً في صلاته. نحترز به عن المقعد فإنه لا يصلي بمن كان صحيحاً وهكذا حال النساء فإن المرأة تؤم النساء إذا كانت بهذه الصفة بالغة عاقلة مؤمنة كاملة في الطهارة كاملة في الصلاة فمن حصلت في حقه هذه الصفات جاز أن يكون إماماً لمن هو على مثلها أو غيرها وما خالف هذه فسنورده في الفصل الثاني إذا ذكرنا من لا تجوز إمامته بحال وعلى هذا تجوز صلاة العاري بالعاري كما تجوز صلاة اللابس باللابس وتجوز صلاة الأمي بالأمي كما تجوز صلاة القاريء بالقاريء.
والوجه في ذلك: هو أن حال الإمام والمأموم سواء لا يزيد أحدهما على صاحبه فوجب القضاء بإجزاء الصلاة لهما ولأنهما قد استويا في النقص فجازت صلاة أحدهما بالآخر كما استويا في الفضيلة فإن صلى الأمي بالقاريء فهل تصح صلاتهما أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن صلاة الأمي صحيحة وصلاة القارئ فاسدة.
والحجة على هذا: هو أن الأمي قد صلى لنفسه فلهذا حكمنا بصحة صلاته كما لو صلى منفرداً والقاريء صلى مؤتماً من غير إمام فحكمنا بفساد صلاته وهذا هو رأي القاسمية ومحكي عن أبي يوسف ومحمد.
المذهب الثاني: أن صلاتهما جميعاً فاسدة وهذا هو رأي أبي حنيفة، ومحكي عن مالك.
والحجة على هذا: أما بطلان صلاة القاريء فلقوله : ((يؤم القوم أقراؤهم لكتاب اللّه )). فإذا قدم الأمي كانوا كلهم قد دخلوا تحت النهي وذلك يقتضي فساد المنهي عنه. وأما بطلان صلاة الأمي فلأنه كان يمكنه أن يقدم القارئ ويأتم به؛ لأن قراءة الإمام له قراءة فإذا لم يفعل فقد ترك القراءة مع القدرة عليها وهذا هو قول الناصر أعني بطلان صلاتهما جميعاً.
المذهب الثالث: أن صلاتهما جميعاً صحيحة وهذا هو أحد قولي [الشافعي] وله قول آخر: أن صلاة الأمي صحيحة وصلاة القاريء فاسدة.
والحجة على صحة صلاة الأمي: هو أنه مصل لنفسه غير تابع لغيره فلهذا كانت صحيحة ويدل على صحة صلاة القاريء هو أن القراءة على قوله في الجديد لازمة للمأموم بكل حال ولا يتحمل الإمام فلهذا قضينا بصحة صلاتهما لما ذكرناه.
والمختار: ما حكيناه عن القاسمية من بطلان صلاة القاريء دون صلاة الأمي.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن الإمام يتحمل القراءة عن المأموم فإذا ائتم بالأمي فكأنه قد صلى من غير قراءة ولقوله : ((الإمام ضامن )). ولن يكون الضمان إلا بتحمل القراءة والأمي لا يتأتى منه تحمل القراءة فلهذا كانت صلاته باطلة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: صلاتهما تكون باطلة.
قلنا: أما صلاة الأمي فلا نُسلم بطلانها لأنه مصلٍ لنفسه.
قالوا: يدل على بطلانها قوله : ((يؤمكم اقرأكم لكتاب الله)). والنهي يقتضي الفساد.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لا صيغة للنهي في الحديث فلا معنى لدعوى النهي.
وأما ثانياً: فلأن المراد بالخبر القاريء فلأن ظاهر الخبر دال على أنه أحق بأن يكون إماماً فلهذا بطلت صلاته لما خالف الأمر.
قالوا: صلاتهما صحيحة.
قلنا: أما صحة صلاة الإمي فقد أوضحناه وأما صحة صلاة القاري فلا نسلمها.
قالوا: القراءة لازمة للمأموم وهو من أهل القراءة فلهذا كانت صلاته صحيحة.
قلنا: إن فساد صلاته ليس من جهة القراءة كما زعمتم وإنما فسادها من جهة أنه ائتم بغير إمام لأن الأمي لا يكون إماماً لمن هو أفضل منه وأعلى حالاً لما ذكرناه.
الفرع الثاني: وإن كان هاهنا رجلان أحدهما يحسن جميع القرآن غير الفاتحة والآخر يحسن سبع آيات غير الفاتحة كان الذي يحسن جميع القرآن غير الفاتحة أولى ممن يحسن سبع آيات غير الفاتحة لأنهما قد اتفقا على تعذر الفاتحة من جهتهما لكن أحدهما أكثر قرآناً من الآخر فلهذا كان أحق، فإن أمَّ الذي يحسن سبع آيات لا غير بالذي يحسن جميع القرآن غير الفاتحة صحت صلاتهما لاستوائهما جميعاً في تعذر فرض الفاتحة فيهما كما لو أم من يحسن الفاتحة لا غير بمن يحسن الفاتحة مع غيرها لأن الأولين استوى حالهما في تعذر الفاتحة والآخرين استوى حالهما في وجودها لهما(1)
وإن كان هاهنا رجلان أحدهما يحسن أول الفاتحة لا غير والآخر يحسن آخرها لا غير. ففيه وجهان:
أحدهما: أنهما سواء كما لو أحرز أحدهما عشرين آية غير الفاتحة وأحرز الآخر مثلها غير الفاتحة.
وثانيهما: أن من يحسن أول الفاتحة أحق لأن من قرأها من أولها كان قارئاً للفاتحة ومن قرأها من آخرها فإنه لا يقال بأنه قارٍئ لها فافترقا.
__________
(1) في الأصل: في وجود حالها، والغرض في وجود الفاتحة لديهما فتم تصحيحها كما هي، والله أعلم.
وإن ائتم رجل برجل لا يدري هل يحسن القراءة أم لا. كانت صلاته صحيحة لأن الظاهر أنه لا يؤم الناس إلا من يحسن القراءة في الفاتحة، فإن كانت الصلاة مما يجهر بها فلم يجهر هذا الإمام بالقراءة فعلى المأموم أن يعيد الصلاة لأن الظاهر أنه لما ترك الجهر في الصلاة فإنه لا يحسن القراءة لهذا القرينة، فإن قال بعد الفراغ من الصلاة أنا أحسن القراءة وقد قرأت سرّاً لكني نسيت الجهر أو تركته عمداً لم تلزم المأموم الإعادة لأن الظاهر صدق مقالته وأمره محمول على السلامة والصحة ولأنه قد صلى المكتوبة فلا وجه لإعادتها من غير أمر يوجب الإعادة لقوله : ((لا ظهران في يوم ولا عصران في يوم )). والمستحب أن يعيد الصلاة لجواز أن لا يصدق فيما قال. والباب باب عبادة فلهذا يستحب الإحتياط فيها بما ذكرناه من إعادتها.
الفرع الثالث: في بيان الأسباب الموجبة للقيام في الصلاة.
وأعلم أن إمامة المحاريب هي الإمامة الصغرى ولا تليق إلا بمن اختص بالخصال الشريفة والمناقب العالية ليكون أحق بها وأخص بالمواظبة عليها وجملتها تسع خصال: الفقه، والقراءة، والورع، والنسب، والسن، والهجرة، والأبوة، والحرية، والحسن، فهذه الخصال يحصل بها العلو في الدين والأولوية في التقدم بعد إحراز خصال الإجزاء من الستر والعفاف والدين والإسلام فصارت في الاعتبار على ثلاث مراتب نفصلها بمعونة اللّه.
المرتبة الأولى في بيان الخصال الثلاث: الفقه والقراءة والورع
واعلم أن الورع ليس مذكوراً في أحاديث الأفضلية وأولوية التقدم في الصلاة ولكن أصحابنا أدخوله لما له من المكانة في الدين والاختصاص بالتقدم في إمامة الصلاة فهذه الخصال مُقَدَّمَات على غيرها من سائر الخصال ثم أنها في أنفسها متفاضلة فالأفقه أحق بالتقدم لقوله : ((يؤم القوم أعلمهم بالسنة)). فإن استووا في الفقه فالورع لقوله : ((ملاك الدين الورع)).
وقوله : ((لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار وتوفيتم بين الركن والمقام ما نفعكم ذلك إلا بالورع)). وفي حديث آخر: ((أولياء الله هم أهل الزهد والورع في الدنيا )) فإن استووا في الورع فالأقرأ لقوله : ((يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم في الهجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً)). فهذا الحديث دال على الأفضلية في أيام الرسول فإن الأقرأ منهم كان هو الأفقه، وقيل إنه لم يكن في أيام الرسول من يحفظ القرآن جميعه إلا سبعة أنفس أمير المؤمنين كرم الله وجهه وأبو بكر وعثمان وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود بخلاف أهل زماننا هذا فإن فيهم من يتعلم الفقه ومنهم من يتعلق بالقراءة وعلى هذا إذا تساويا في القراءة وأحدهما أفقه فالأفقه أحق بالتقديم لافتقار الصلاة إلى الفقه والعلم بفروضها وسننها، وإن كان أحدهما يحسن الفقه ولا يحسن الفاتحة والآخر يحسن الفاتحة ولا يحسن الفقه كان الذي يحسن الفاتحة أولى لأن الصلاة لا تصح إلا بالفاتحة فإن كان أحدهما يحسن القرآن كله ومن الفقه ما يحتاج إليه في الصلاة والآخر يحسن من القرآن ما يجزي في الصلاة لكنه يحسن فقهاً كثيراً فيحتمل أن يكونا على السوية لاختصاص كل واحد منهما بمزية في الفضل. والأقوى أن تقديم الأفقه أحق لأن ما يحتاج إليه من القرآن في الصلاة محصور وما يحتاج إليه من الفقه في الصلاة غير محصور وربما يحدث في الصلاة حادثة تحتاج إلى الفقه فيها وما قلناه من اختيار تقديم الفقيه هو رأي الشافعي، ومالك وأبي حنيفة، والأوزاعي وحكي عن الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن المنذر من أصحاب الشافعي أن الأقرأ هو الأولى بالتقديم.
والحجة عليهم ما ذكرناه من أن الحاجة للصلاة في القراءة محصورة والحاجة للصلاة من الفقه غير محصورة فلهذا قضينا بكونه أحق وأن أحداً من الصحابة لم يختص بالقراءة إلا وهو مختص بالفقه.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف حكمها وأمرها ونهيها ولهذا فإنه لا يكاد يوجد منهم قاريء غير فقيه ويوجد فيهم من هو فقيه غير قارئ، وما ذاك إلا أن الغالب فيهم الفقه والعلم بالسنة وأحكام الشريعة.
المرتبة الثانية: وهي دون الأولى في الاعتبار [يدخل تحتها أمور] وجملتها ثلاثة: السن والنسب والهجرة وفي ترتيبها قولان:
القول الأول: محكي عن الشافعي في الجديد وهو أن السن مقدم ثم النسب ثم الهجرة وأراد بالسن أن الرجل إذا نشأ في الإسلام وشاخ فيه فإنه مقدم على من أبلى عمره في الشرك وتاب منه وهكذا يقدم من تقدم إسلامه على من تأخر إسلامه وهكذا حال من نشأ في الفسق وشاخ فيه ثم تاب عنه فإن من نشأ في الإسلام والدين مقدم عليه، وأما النسب فالمراد منه تقديم الفاطمية على سائر بطون قريش لشرفهم بالرسول ويقدم بنو هاشم على غيرهم وتقدم قريش على سائر القبائل وتقدم العرب على العجم.
وأما الهجرة فتقدم من هاجر على من لم يهاجر ومن تقدمت هجرته على من تأخرت هجرته وهكذا أولاد المهاجرين يقدمون على أولاد من لم يهاجر وسواء كانت الهجرة قبل الفتح أو بعده، فأما قول الرسول لا هجرة بعد الفتح فإنما أراد لا هجرة من مكة بعد الفتح فإن طلب الإمام الهجرة إليه وجب على المسلمين امتثال أمره في ذلك إذا رأى في ذلك مصلحة ويكون الفضل في التقديم بالهجرة إليه.
القول الثاني: محكي عنه في القديم فالنسب مقدم على الهجرة ثم الهجرة بعده ثم السن فهاذان القولان محكيان عن الشافعي.
والمختار: تفصيل نشير إليه وهو تقديم النسب على السن لقوله : ((الأئمة من قريش ))(1).
وقوله : ((قدموا قريشاً ولا تقدموها )). ولم يفصل بين الإمامة الصغرى والكبرى. وقوله : ((تعلموا من قريش ولا تعلموها)). وروي: ((ولا تعالموها)) أراد تغالبوها في العلم، ((فإن عالمها يملأ الأرض علماً)) (2).
وروي عن الرسول أنه قال: ((الناس في هذا الشأن تبع لقريش فمسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم))(3).
فهذه الأدلة كلها دالة على استحباب تقديم النسب. على السن وأما تقديم السن على الهجرة فلما روي عن الرسول أنه قال لرجلين: ((وليؤمكما أكبركما))(4)
ولما روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي، وليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) فما ذكرنا يدل على تقدم الأكابر على الأصاغر ومن جهة أن الأكبر الغالب من حاله الخشوع والإقبال إلى الصلاة فلهذا كان أحق بالتقدم وهذه الأمور الثلاثة إنما يقع الترجيح بها إذا عدمت الأمور الثلاثة الأول أو كانوا مشتركين فيها فيقع النظر فيها على هذا الحد.
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى 3/141، وأحمد 3/149، وابن أبي شيبة في مصنفه 6/402.
(2) الكامل في ضعفاء الرجال)5/162، و(مسند الشافعي)1/278، و(فيض القدير)4/514.
(3) أخرجه البخاري3/1488، ومسلم3/1451 عن أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري1/226 وهو في صحيحي ابن خزيمة3/5، وابن حبان5/502، وفي سنن أبي داود1/161.
المرتبة الثالثة: وهذه فهي دون ما ذكرناه في المرتبة الأولى والثانية، وجملتها [أمور] ثلاثة: الأبوة والحرية و الحسن. فالأب يكون أحق بالتقدم من الإبن إذا كانا مستويين في المعرفة بحدود الصلاة ولما روي عن الرسول أنه جاءه رجلان(1)
أخوان أحدهما أكبر من الآخر فأراد الأصغر السبق بالحديث فقال له النبي : ((الكُبْر الكُبْر))(2).
وأما الحرية فلا شك أن العبد نازل في القدر لأجل الرق وإمامة الصلاة فهي منزلة رفيعة فإذا اجتمع الحر والعبد وكانا مستويين في الفضل والعلم بحدود الصلاة فالحرية خصلة مرجحة لتقديم الحر على العبد. وأما الحسن فيحتمل أن يراد حسن الوجه لما روي عن الرسول أنه قال: ((اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه من أمتي))(3).
وقبول الصلاة من جملة الحوائج المطلوبة فلهذا كان راحجاً في التقدم على غيره ممن ليس وجهه كوجهه.
ويحتمل أن كون المراد بالحسن في الأفعال؛ لأن كل من حسنت أفعاله بالطاعة لله فهو لا محالة أحق بالتقدم وهذه الأمور الثلاة إنما يقع الترجيح بها إذا عدمت تلك الخصال المتقدمة أو كانوا مشتركين فيها فعلى هذا يقع الترجيح بهذه.
__________
(1) في هامش الأصل: هما حويصة ومحيصة ابنا مسعود بن كعب، خزرجيان أنصاريان، أسلم حويصة على يد أخيه محيصة، وكان أكبر منه، وكان محيصة أنجب وأفضل وهو ممن شهد قتل كعب بن الأشرف وأعان عليه، وله في إسلام أخيه كلام عجيب ذكره في الاستيعاب. ا هـ.
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه13/358، وأبو داود4/177، والبيهقي في (الكبرى)8/118.
(3) جاء الحديث في (مجمع الزوائد)8/194، ومصنف ابن أبي شيبة 5/298، ومعجم الطبراني الأوسط 6/186، وفي الصغير والكبير أيضاً.
الفرع الرابع: وإذا حضر إمام المسجد الراتب للصلاة فيه مع غيره من المسلمين فإمام المسجد أحق بالتقديم، وإن كان هناك من هو أفقه منه واقرأ لما روي أن ابن عمر قدم مولى له كان إماماً للمسجد وقال: أنت أحق بالإمامة في مسجدك. ومثل هذا إذا صدر من جهة الصحابي فإنه يتوجه قبوله لأنه إنما يقوله عن توقيف من جهة الرسول وإن أذن إمام المسجد لمن حضر أن يتقدم عليه جاز ذلك لأنه رضي فإسقاط ما كان له من الأولوية بالتقدم، وإن حضر الإمام الأعظم مع إمام المسجد فالإمام الأعظم أحق بالتقدم لقوله : ((لا يؤم الرجل في سلطانه )) ولأنه راع وهم رعيته. فلهذا كان أحق بالتقدم لما له عليهم من الولاية. فإن قدم الإمام الأعظم رجلاً من المسلمين ورضيه كان أحق من غيره لأن الإمام قد رضيه وإن دخل الإمام الأعظم بلداً وله فيها خليفة كان أحق بالتقدم من خليفته لأن ولايته أعم من ولاية غيره.
الفرع الخامس: وإذا حضر جماعة في دار رجل وحضرتهم الصلاة وصاحب البلد يحسن من القرآن ما يجزي في الصلاة وكان عارفاً بحدود الصلاة فصاحب البيت أحق بالإمامة ممن حضر معه وإن كانوا أفقه منه واقرأ إلا أن يكون الحاضر هو الإمام الأعظم فهو أحق لما روى أبو مسعود البدري عن رسول الله أنه قال: ((لا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بأدنه)). ولأن لصاحب البيت ولاية على الدار فلا يشاركه فيها غيره. وقد قدمنا تفسير التكرمة فأغنى عن الإعادة، وإن حضر المستأجر ومالك الدار في الدار المستأجرة ثم حضرت الصلاة كان المستأجر للدار أحق بالتقدم من مالكها؛ لأنه أحق بمنافعها، وإن حضر العبد وغيره في دار جعلها السيد لسكنى العبد فالعبد أحق بالإمامة لما له عليها من الولاية لما كان أحق بمنافعها من جهة سيده. وإن استعار رجل من رجل داراً فحضر المستعير وغيره فالمستعير أحق بالتقدم وإن حضر العبد وسيده في الدار التي جعلها سيده لسكنى العبد فالسيد لا محالة أحق بالتقدم لأنه هو المالك لرقبة الدار ورقبة العبد والله أعلم. فلهذا كان العبد مخالفاً للمستعير لما ذكرناه.
الفرع السادس: وتجوز إمامة الأعمى للبصير والأعمى لما روي أن الرسول استخلف ابن أم مكتوم في بعض غزواته على المدينة يصلي بالناس، وهل يكون أولى أو البصير؟ فيه أقوال ثلاثة:
القول الأول: أن الأعمى أحق من البصير، وهذا هو الذي أشار إليه الهادي في المنتخب ورأي المؤيد بالله وهو محكي عن المروزي من أصحاب الشافعي؛ لأنه لا ينظر إلى ما يلهيه فيكون متوفراً على الخشوع في الصلاة.
القول الثاني: أن البصير أحق وهذا هو المحكي عن زيد بن علي والقاسم ومحكي عن أبي إسحاق من أصحاب الشافعي لأن البصير يتوقى من النجاسات التي تكون مفسدة للصلاة.
القول الثالث: أنهما مستويان وهذا هو رأي الشافعي ومحكي عن محمد بن الحسن لأن الأعمى لو تم خشوعه فليس يحترز عن النجاسات والبصير ولو احترز عن النجاسات فليس يتم خشوعه فلهذا حكمنا باستوائهما.
والمختار: أن البصير أحق لأن حال الأعمى في جميع تصرفاته حاصل على جهة النقصان ولهذا فإن الله قال: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ}[النور:61، الفتح:17]. يشير بذلك إلى ضعف حاله.
الفرع السابع: وتجوز صلاة العبد بالأحرار والعبيد عند أئمة العترة ومحكي عن الشافعي لما روى ابن عمر كان له عبد وكان يصلي ورآءه، وروي عن عائشة وأنس بن مالك أنه كان لهما عبدان وكانا يصليان خلفهما ولأنه من أهل العبادة والصلاة ويصح منه سائر العبادات فصار كالحر. وهل تكره الصلاة خلفه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: الكراهة للصلاة خلفه مع كونها مجزية، وهذا هو رأي الهادي والقاسم ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن العبد مستحقر بالرق وملك المنافع والإمامة حالة رفيعة بالشرع فلأجل هذا كرهت إمامته للصلاة.
المذهب الثاني: رفع الكراهة وهذا هو رأي زيد بن علي ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((أطيعوا السلطان ولو كان عبداً حبشياً أجدع مهما أقام فيكم الصلاة))(1).
فهذا دال على رفع الكراهة.
والمختار: جواز من غير كراهة لما روي أن عمر جعل الخلافة شورى بين ستة نفر منهم سالم مولى أبي حذيفة فإذا كان عمر جعله صالحاً للشورى فكيف لا يكون صالحاً للصلاة خلفه(2).
__________
(1) أخرجه مسلم3/1468، وابن حبان1/179، وابن أبي شيبة6/187.
(2) في هامش الأصل: أن عمر رضي الله عنه قال: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لا ستخلفته، وجعلها شورى بين ستة كلهم من قريش، وما روى هاهنا سهو لا شك فيه، والله أعلم.
…قلنا: لعل مراد المؤلف أن قول عمر يعطي سالماً الحق في الخلافة وأنه لم يرده عن ذلك وفاة سالم لا غير، والله أعلم.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: العبد مستحقر بالرق والإمامة للصلاة منزلة رفيعة فلأجل هذا كرهت الصلاة خلفه.
قلنا: جواز الصلاة خلفه إنما كان من أجل اختصاصه بالإسلام والدين والعلم بحدود الصلاة كالحر والرق لا يمنع من ذلك فلا جرم لم تكره الصلاة خلفه.
الفرع الثامن: وتجوز الصلاة خلف من ليس لرشدة؛ لأن حكمه حكم من هو لرشدة في جميع العبادات كلها ولا خلاف في جواز الصلاة خلفه لأن فجر أبويه لا يضره في جميع الأمور الدينية والدنيوية إذا كان من أهل الصلاح والديانة والمعرفة بحدود الصلاة.
قالت عائشة: ليس عليه من وزر أبويه شيء. وهل تكره الصلاة خلفه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الصلاة خلفه غير مكروهة وهذا هو المحكي عن زيد بن علي والهادي والقاسم ومحكي عن الثوري وأحمد بن حنبل والشافعي وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }[الأنعام:164].
المذهب الثاني: الكراهة وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأصحابه ومالك.
والحجة على هذا: ما روي عن عمر بن عبدالعزيز أن رجلاً بالعقيق لا يعرف أبوه وكان يصلي بالناس فنهاه عمر عن ذلك.
والمختار: جواز ذلك من غير كراهة لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13]. ولم يفصل بين من يكون لرشدة أو من غير رشدة ولأن فسق أبويه لا يضر دينه ولا ينقصه فلأجل هذا جاز أن يكون إماماً للصلاة لغيره من سائر المسلمين.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن عمر بن عبدالعزيز كراهة ذلك.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فكلام عمر ليس حجة إنما الحجة فيما ورد عن صاحب الشريعة صلوات الله عليه.
وأما ثانياً: فنهاية الأمر أن هذا اجتهاد لعمر فلا يلزم قبول اجتهاده، وما دللنا عليه من الظواهر القرآنية فهي أولى وأحق بالقبول واجتهاد المجتهد لا يمكن أن يعارض الظواهر الشرعية من الكتاب والسنة.
الفرع التاسع:تجوز الصلاة خلف البدوي وهو الرجل الذي من أهل البادية إذا كان مسلماً عارفاً بحدود الصلاة عند أئمة العترة وفقهاء الأمة ولا تكره الصلاة خلفه بين الأئمة والفقهاء.
والحجة على هذا: قوله : ((صلوا خلف من قال لا إله إلا اللّه )) (1).
فظاهر هذا العموم دال على صحة الصلاة خلفه.
وتجوز الصلاة خلف المسافر للمقيم ولا خلاف في ذلك بين أئمة العترة وفقهاء الأمة.
والحجة على هذا: هو أن صلاته مجزية ويكون بمنزلة اللاحق ولا يضره قصر صلاة إمامه لأنها عزيمة عنده ولم يخالف إمامه في المتابعة فلهذا كانت مجزية له، وهل تكره أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها غير مكروهة وهذا هو رأي أئمة العترة لا يختلفون في ذلك.
والحجة على هذا: هو أن كل واحد من الإمام والمأموم صلاته صحيحة لم يعترضها ما ينقصها ولم يعرض إلا نقصان صلاة المأموم بالسفر وهذا لا يطرق خللاً في صلاة المأموم لأنه يكون بمنزلة اللاحق.
المذهب الثاني: أنها تكره وهذا هو المحكي عن الشافعي في أحد قوليه وله قول آخر أنها لا تكره.
والحجة على الكراهة: هو أن صلاته ناقصة عن صلاة المقيم فلهذا كره له التقدم على المقيم.
والمختار: أنها غير مكروهة لأن نقصانها فرض واجب وعزيمة في حقه فصار كالمقيم في أداء ما فرض عليه.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: صلاة المسافر ناقصة فلهذا كره له التقدم من أجل نقصان صلاته.
قلنا: إن القصر عنده حتم واجب لا يجوز له مخالفته فكيف يقال بأنها ناقصة مع أنه لو أتمها لم تكن مجزية عنده ولأنا نقول نقصان الصلاة في حقه هل تكون بالإضافة إلى الصلاة التامة فهذا مُسَلَّمٌ لا ننكره أو تكون بالإضافة إلى ما وجب عليه فهذا لا نسلمه لأن الواجب عليه هو الإتيان بها ناقصة عن التامة لأجل ما عرض من السفر.
__________
(1) أورده في (ميزان الاعتدال)5/53 وفي(لسان الميزان)4/143، وفي (نيل الأوطار)3/200.
الفرع العاشر: قال الهادي: ولا بأس أن يصلي المطلق خلف المقيد. نص عليه في كتابه (المنتخب).
واعلم أن كل من كان سليماً وصلى خلف رجل مقيد نظرت في حال المقيد فإن كان يمكنه التصرف في ركوعه وسجوده وقيامه وقعوده على الحد المأمور به بأن يكون القيد فسيحاً جازت الصلاة خلفه[لأنه] لا يكون كالمطلق في جميع أحواله والإجماع منعقد على صحة ما ذكرناه، وإن كان لا يمكنه استيفاء هذه الأركان لأجل ضيق القيد كانت صلاته ناقصة وهي مجزية له وليست مجزية لغيره كالمقعد وعلى [هذا] يحمل ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه من النهي عن صلاة المطلق خلف المقيد فلابد من حمله على ما ذكرناه من التفصيل.
قال الإمام المؤيد بالله: ولا بأس أن يؤم الرجل قوماً وفيهم من تكره إمامته إذا كان أكثرهم راضياً. اعلم أن الذي نذكره هاهنا هو الجواز من غير كراهة فأما الكراهة فسيأتي ذكرها في الفصل الثالث، والجواز الذي لا كراهة فيه مشروط بأمرين:
أما أولاً: فبأن يكون الأكثر راضياً فإن كان الأكثر راضياً فلا عبرة به.
وأما ثانياً: فبأن يكون الأكثر الراضي من أهل الصلاح والدين، فإذا حصل هذان الشرطان فلا كراهة هناك والجواز حاصل من غير كراهة وذلك لأن الغالب من حال الخلق هو حصول الإحن والعداوات بينهم والشحناء في القلوب فلابد من اعتبار هذين الشرطين في الجواز فلو لم نعتبرهما لأدى ذلك إلى امتناع الاقتداء؛ لأن مثل هذا لا يعدم على ممر الأوقات، ويؤيد ما ذكرناه قوله : ((قد دب إليكم داء الأمم أما إني لا أقول إنها الحالقة للشعر وإنما هي الحالقة للدين الحسد والبغضاء)) (1).
وقد نجز غرضنا مما نريده ممن تجوز إمامته ونذكر الآن من لا تجوز إمامته في الصلاة والله الموفق.
__________
(1) أخرجه الترمذي 4/664، والبيهقي في(الكبرى)10/232، وأحمد في (المسند) 1/164.
القسم الثاني: في بيان من لا تجوز إمامته في الصلاة.
اعلم أن من تمتنع الصلاة خلفه فهو منقسم إلى:من يمتنع على الإطلاق وهذا نحو الكافر والفاسق المجاهر والمجنون والصبي. وإلى: من تجوز إمامته على حال، دون حال وهذا نحو ناقص الطهارة وناقص الصلاة فتجوز إمامته لمن كان على مثل حاله، ولا تجوز لمن كان أكمل منه حالاً ونحن نفصل هذه الأمور ونشرحها بمعونة الله تعالى.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في الكافر المصرح لا تجوز إمامته ونعني بكونه مصرحاً أن الإجماع منعقد على كفره لا يقع فيه اختلاف. واعلم أن الكفار المصرحين بالكفر على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: أهل الكتب المنزلة وهم اليهود وكتابهم التوارة ونبيهم موسى صلوات الله عليه، والنصارى وهم أهل الإنجيل ونبيهم عيسى صلوات الله عليه. وأهل الكتب المنزلة غير اليهود والنصارى كأهل الزبور وصحف شيث(1)
وغيرها، فلا يوجد لهم أثر ولا خبر فلا حاجة إلى الكلام عليها، وهؤلاء كفار لا تجوز إمامتهم في الصلاة لأنهم ليسوا من أهل الصلاة ولا من أهل الملة ولا من أهل الشريعة.
__________
(1) في (تهذيب الأسماء)1/236: شيث النبي صلى الله عليه وسلم، مذكور في التثنية وغيره من هذه الكتب، وهو ابن آدم لصلبه.
…قال ابن قتيبة في (المعارف): قال وهب بن منبه: كان شيث من أجمل ولد آدم وأشبههم به وأحبهم إليه، وكان وصي آدم وولي عهده وإليه انتهت أنساب الناس كلهم، وهو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة، وأنزل ا لله تعالى عليه خمسين صحيفة، وعاش تسعمائة واثنتي عشرة سنة.
الصنف الثاني: الذين لهم شبهة كتاب وهؤلاء هم المجوس فرأي أئمة العترة أنه لا كتاب لهم، ورأي الشافعي أن لهم كتاباً ونبيهم يقال له زرادشت(1) وكانت معجزته أن يصب الصفر المحمَّى على جسمه فلا يضره.
الصنف الثالث: الذين لا كتاب لهم ولا شبه كتاب وهؤلاء هم الملاحدة والمعطلة والدهرية والزنادقة والصابئة وأهل التنجيم وأصحاب علم الهيئة، فأما اليهود فهم موحدة يعتقدون الوحدانية وهم مشبهة لقولهم بالبنوة لعزير كما قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ }[التوبة:30]. وأما النصارى فهم مشركون لقولهم بالأهية عيسى والبنوة له، وأما المجوس فلهم مقالات خبيثة في الصانع وهؤلاء قد اتفق الكل من أئمة العترة وعلماء الأمة على أنهم لا يصلحون لإمامة الصلاة وهذا الفرع قد تعلق به أحكام يليق ذكرها هاهنا:
__________
(1) زعيم ديني فارسي، أسس مذهب الزرادشتية حوالي القرن7،6 قبل الميلاد وكتابه المعروف بالمقدوس مؤلف من الأفيستا أو الزند أفيستا، ومعنى زند: تفسير، والأيستا قانون، وهذا الكتاب حسب ( الموسوعة العربية)922مؤلف من خمسة كتب بعضها مختص بالشعائر وبعضها أناشيد في المدح وأخرى نصوص قانونية، إضافة إلى تفصيلات خاصة بالطهارة، والزرادشتية في أصلها ضرب من الإصلاح لدين فارس الطبيعي، ترمي إلى تنمية الحصاد والرفق بالحيوانات المستأنسة، وقد أضيف إلى هذه الديانة طقوس أخرى أُدخلت عليها لم تكن مقرة كما يبدو من زرادشت، والحديث واسع عن زرادشت وديانته ليس هذا مكانها، راجع المزيد من التفاصيل في (الموسوعة العربية) والمراجع المما ثلة.…افة…افة
الحكم الأول: قد ذكرنا فيما سبق أن الدخول في صلاة الجماعة للكافر ليس حكماً بإسلامه وذكرنا المختار والانتصار له فأغنى عن تكريره، ويؤيد ذلك ويوضحه ما روي أن رجلاً مر بالرسول وهو يقسم الغنيمة فقال له: يا محمد أعدل فإني أراك لم تعدل. فقال له الرسول : ((ويحك إن لم أعدل فَمَنْ )) (1).
ثم مر الرجل فوجه الرسول أبا بكر وراءه ليقتله فوجده يصلي فقال: يا رسول الله إني وجدته يصلي. فوجه عمر ليقتله فوجده يصلي فقال: يا رسول الله وجدته يصلي. فوجه علياً فقال له النبي إنك لن تدركه فذهب علي فلم يجده.
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن الرسول أمر بقتله لأنه نسبه إلى الجور وذلك يوجب كفره وقد علم الرسول بخبر أبي بكر وعمر أنه يصلي فدل ذلك على أن صلاته لا يصير بها مسلماً بنفس الصلاة ما لم يتشهد الشهادتين.
الحكم الثاني: إذا أتى الكافر بالشهادتين على سبيل الحكاية مثل أن يقول سمعت فلاناً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. لم يكن هذا إسلاماً منه بلا خلاف بين أئمة العترة وهو رأي الشافعي؛ لأنه حكى ذلك، كما أن من حكى الكفر لا يكون كافراً، وإن أتى بالشهادتين على جهة الإجابة واستدعاء الغير له فإن قال له: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فقال ذلك وبريء من كل دين خالف دين الإسلام فإنه يحكم بإسلامه عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، وإن أتى بالشهادتين من غير استدعاء من جهة الغير أو أتى بهما في الصلاة أو في الأذان فهل يكون إسلاماً أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: هو الحكم بإسلامه لأنه قد أتى بالشهادتين لا على جهة الحكاية فصار كما لو دعي إليهما فأجاب، وروي أن أبا محذورة وأبا سامعة كانا مؤذنين قبل إسلامهما على جهة الحكاية فلهذا لم يكونا مسلمين بما ذكرناه.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه5/2281، وهو في (السنن الكبرى)8/171.
الحكم الثالث: وإذا صلى الكافر بالمسلمين عُزِّر لأنه أفسد على المسلمين صلاتهم واستهزأ بدينهم فلهذا كان مستحقاً للتعزير، وتجب عليه(1)
الإعادة سواء كان الكافر يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو غير من ذكرناه من الملاحدة والزنادقة لأنه علق صلاته بصلاة باطلة كما لو صلى خلف امرأة، وإنما أوجبنا الإعادة فيمن تظاهر بالكفر كاليهود والنصارى لأمرين:
أما أولاً: فلأن لهم علامة يعرفون بها كالغيار للنصارى والزنَّار لليهود.
وأما ثانياً: فلأنهم لا يحسنون صلاة المسلمين فهاتان علامتان يعرفون بهما فإذا لم يعرفهما المؤتم فقد فرَّط للنظر لنفسه فلهذا وجبت عليه الإعادة، وأما الكافر الملحد الزنديق المسرُّ لدينه فإنما وجبت عليه الإعادة لأنه صلى بمن لا يؤتم به فلا جرم أوجنبا عليه الإعادة.
الحكم الرابع: وإذا أسلم الكافر ثم صلى خلفه رجل فلما فرغ من الصلاة قال: إني كنت قد جحدت الإسلام وارتددت، فهل تبطل صلاته أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنها لا تبطل لأنه إذا عُرِفَ منه الإسلام فلا يزول عن حكمه إلا بأن يسمع الحجود والرِّدَّةِ ولم يسمع ذلك إلا بعد الصلاة وتمامها فلهذا لم يحكم ببطلان الصلاة، وإن كان له حال ردَّةٍ وحال إسلام فصلى خلفه ولم يدر في أي حالتيه وقعت الصلاة فإعادة الصلاة غير واجبة لأن الأصل هو الإسلام والرِّدَّة طارئة فلا يحكم بها إلا بيقين، وإن صلى خلف رجل غريب في دار الإسلام لا يدري هو مسلم أو كافر فلا إعادة عليه لأن الظاهر ممن هو في دار الإسلام هو الإسلام والظاهر ممن يصلي أنه مسلم فلا وجه لوجوب الإعادة.
__________
(1) أي على المسلم الذي صلى خلفه.
الفرع الثاني: في الكافر المتأول هل تجوز إمامته في الصلاة أم لا؟ ونعني بالكافر المتأول من كان مصلياً إلى القبلة مقرَّاً بالتوحيد مصدقاً للرسول فيما جاء به مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر خلا أنه اعتقد اعتقاداً يوجب إكفاره وهذا نحو المجبرة والمشبهة فإنهم مصلون إلى القبلة ناكحون على الشريعة، خلا أنهم اعتقدوا اعتقاداً أوجب كفرهم فالذي عليه الأكثر من أئمة الزيدية والجِلَّة من المعتزلة هو إكفارهم بهذا الاعتقاد من الجبر وهو إضافة أفعال العبد إلى الله تعالى. ومن التشبيه وهو قولهم: إن الله جسم. وحكي عن المؤيد بالله أنه لا يقول بإكفار المجبرة ويقطع بخطأهم لأجل إضافة القبيح إلى الله تعالى، وهو محكي عن الشيخ أبي الحسين من المعتزلة أنهم ليسوا كفاراً، فأما المشبهة فالظاهر من مذاهب العترة وجماهير أهل العدل من الزيدية والمعتزلة أنهم كفَّار لأنهم وصفوا الله تعالى بالصفات الجسمية والله تعالى يتعالى عن ذلك.
والمختار: أن المجبرة لم يثبتوا قبيحاً وأضافوه إلى الله تعالى ولكنهم نفوا الأحكام العقلية كلها فلا قبيح عندهم إلا بالشرع بالأمر ولا أمر في حق الله ولا نهي فلهذا لم يعقل في حقه حسن ولا قبح، وأما المشبهة فالذين صرحوا بالجسمية كفار لا محالة، تعالى الله عن مقالتهم علواً كبيراً، وأما من قال: هو جسم من جهة العبارة دون اعتقاد المعنى فليس كافراً لكنه مخطٍ من جهة اللفظ لأن إطلاقه يوهم الخطأ من غير إكفار. فإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول: من سَلِمَ من المجبرة عن كل ما يثلم الدين إلا اعتقاد الجبر جازت الصلاة خلفه لأن أمور الديانة في حقه حاصلة ولم يعرض ما يوجب بطلان الصلاة خلفه إلا هذا الاعتقاد وهو غير مبطل، وأما المشبهة فمن اعتقد التجسيم المعنوي وصرح به ودان باعتقاده لم تجز الصلاة خلفه لكونه كافراً مرتداً ومن خالف في اللفظ لا غير جازت الصلاة خلفه إذا سلمت ديانته عما يثلم من سائر الأمور الفسقية في الجوارح، وقد ذكرنا ما يتعلق بالإكفار لهذين الفريقين وأوضحنا الخصال الكفرية في حقهما في كتاب (التحقيق) فمن أرادها باستيفاء فليطالعه فإنه يجد فيه ما يشفي ويكفي بمعونة الله.
الفرع الثالث: في الفاسق المصرح بالفسق هل تجوز إمامته في الصلاة أم لا؟
اعلم أن الفاسق المصرح هو الذي يرتكب الكبائر من غير شبهة، وهذا نحو ملابسة الكبائر وفعلها كشرب الخمر والزنا والسرقة والقذف والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وغير ذلك من أنواع الكبائر الفسقية التي تتعلق بالجوارح فمن هذه حاله فهو مهتوك الستر خارج من ولاية الله تعالى داخل في عداوته تجري عليه الحدود على جهة الإهانة لاختصاصه بغضب الله تعالى وسخطه فيكره أن يكون إماماً للصلاة لما ذكرناه، وهل تكون مجزية أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها غير مجزية خلف الفاسق المصرح ونعني بالتصريح هو أنه بارتكاب هذه الكبيرة خرج من ولاية الله فليس كافراً ولا هو مؤمن وإنما له اسم بين الاسمين ولا هو مستحق لعذاب الكافر ولا يستحق تعظيم المؤمن فله حكم بين الحكمين وهذا هو رأي أئمة العترة.
والحجة على هذا: قوله : ((لا يؤمكم ذو جرأة في دينه )). ولا جرأة أعظم من ارتكاب الكبائر ومبارزة الله عز وجل بالمعاصي.
المذهب الثاني: أن الصلاة مجزية خلف الفسَّاق وتكره، هذا وهو المحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي ورأي أبي علي الجبائي من المعتزلة. قال قاضي القضاة عبدالجبار بن أحمد: إن الصلاة خلف الفسَّاق مجزية عند مشائخ المعتزلة.
والحجة على هذا: قوله : ((صلوا خلف كل بر وفاجر )). وقوله : ((صلوا خلف من قال لا إله إلا الله )). فهذان الخبران دالان على جواز الصلاة خلف الفسَّاق بظاهرهما فلا حاجة إلى التأويل.
والمختار: ما عليه علماء العترة من منع ذلك.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو قوله : ((لا يَؤُمْنَّ فاجر مؤمناً ولا امرأة مؤمناً)). وهذا نهي والنهي يقتضي الفساد فلهذا قلنا ببطلانها وفسادها لما قررناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا خلف كل من قال لا إله إلا اللّه )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإن ظاهر هذا الخبر متروك؛ لأن ظاهره دال على أن كل من أقرَّ بالتوحيد، و لم يقر بالرسالة جازت الصلاة خلفه وهذا باطل لا قائل به، فإذا تأولوه على أن المراد به ومن أقر بالرسالة، فأولناه على أن من ضم إلى التوحيد الإتيان بالطاعات واجتناب الكبائر الموبقات، فليسوا بالتأويل أحق منا.
وأما ثانياً: فلأنه إنما خص كلمة الوحدانية ليس لكونها كافية في الإجزاء لكن من جهة أن الله تعالى بعث الرسول من أجل ألا يعبد غيره فلأجل هذا خص كلمة الوحدانية لما كانت هي الأصل في البعثة وباقي أصول الإسلام مضافة إليها وفرع عليها، فلهذا خصها بالذكر لا من أجل الاستكفاء بها.
ومن وجه ثالث: وهو أن ما ذكروه معارض بما أوردناه من الأخبار الدالة على منع الفاسق من إمامة الصلاة، وأخبارنا أحق بالقبول عند التعارض لقوة أصلها في الرواية ولكونها دالة على الحظر والمنع وأخباركم دالة على الإباحة، والحظر أحوط للدين خاصة في باب العبادات.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا خلف كل بَرٍّ وفاجر )). وفي هذا دلالة على جواز الصلاة خلف الفاسق.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه متأوَّل على من كان ظاهره الستر والعفاف، وهو فاجر عند الله تعالى لأنه يجوز أن يكون فاسقاً عند الله ولا نعلمه ولا دليل عليه؛ لأنه يجوز عندنا وعند المعتزلة فسق لا دليل عليه، ولا يجوز عند المعتزلة كفر لا دليل عليه.
والمختار: أنه كما يجوز فسق لا دليل عليه جاز أن يكون كفرٌ لا دليل عليه لمصلحة يعلمها الله تعالى ولا نعلمها؛ لأنهما سيان في الجواز وقد قررناه في كتاب (التحقيق في الإكفار والتفسيق).
وأما ثانياً: فلأن المراد جواز أن يكون سترة يصلي إليه ولا يضر صلاة المصلي إذا صلى إلى فاجر غير مقتدٍ به في صلاته وقد أشار إليه القاسم بقوله: ومن شاق الله بكبيرة فواجب أن لا يتخذ سترةً ولا قِبْلةً في صلاته. هذا كلامه وهو محمول على الكراهة دون الإفساد.
قال المؤيد بالله: والإجماع منعقد من جهة أهل البيت على المنع من إمامة الفاسق لا يختلفون فيه وإجماعهم حجة عندنا للآية والخبر.
قالوا: روي عن ابن عمر وأنس بن مالك أنهما كانا يصليان خلف الحجاج(1)
ولا شك في فسقه وارتكابه للمحرمات.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه حكاية فعل لا ندري على أي وجه وقعت فهي أقرب إلى الإجمال فلا يصح الإحتجاج بها.
وأما ثانياً: فلأن هذا مذهب لهما وهما من جملة المجتهدين فلا يلزمنا قبول مذهبهما. و[الحجة إنما هي في كلام الله تعالى وكلام رسوله.
__________
(1) الحجاج بن يوسف الثقفي الأمير العربي المشهور، ولاه عبد الملك بن مروان على الكوفة، حاضرة العراق آنذاك، اخضع العراق للأمويين بالعسف والجور، وفي (تهذيب الأسماء)1/158: تكرر ذكر الحجاج في (المختصر) و(المهذب) و(الوسيط) و(الروضة) وهو أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب الثقفي.
…قال ابن قتيبة: هو من الأجلاف، وكان أخفش دقيق الصوت، وأول ولاية وليها: تبالة، فلما رآها احتقرها وتركها، ثم تولى قتال ابن الزبير فقهره وقتله،وصلبه بمكة سنة 73هـ فولاه عبد الملك (ابن مروان) الحجاز ثلاث سنين، ثم ولاه العراق وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فوليها عشرين سنة وحطم أهلها وفعل ما فعل، وتوفي بواسط ودفن بها و عفى قبره، وأجري عليه الماء، وكان موته سنة 1095هـ، قتل فيمن قتل عدداً من العلماء، ومنهم التابعي المشهور سعيد بن جبير رحمه الله.
ومن وجه ثالث: وهو أن ذلك ربما وقع على وجه التقية لأن الخبيث كان شديد الجرأة عظيم السطوة على أهل الدين وما كان واقعاً على هذه الصفة فلا حجة فيه، وقد اجترأ على سعيد بن جبير بالقتل لما عرَّفه قدره وفسقه ولم تأخذه في الله لومة لائم، ولله در علماء الدين وأهل الصلابة في ذات الله تعالى ما أنفذ عزائمهم وأشد شكائمهم على أعداء الله والمخالفين لأمره، ومما يحكى من وقاحته وعظم جرأته على الله تعالى وعلى تغيير كتابه الكريم أن لسانه سبق في مقطع سورة العاديات إلى فتحه إن من قوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ }[العاديات:11]. فأسقط اللام في قوله: {لَخَبِيرٌ}. فأما الجعفران من الفئة العدلية المعتزلة فقد قالا: بأنه لا يصح إقامة الجمعة والعيدين وسائر الصلوات خلف الفسَّاق كما رأى أهل البيت، ومحكي عن مالك خلافاً لما قاله أصحابهما من المعتزلة، ويؤيد ما قلناه قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ }[هود:113]. والنهي يقتضي فساد المنهي عنه ولأن الفاسق صار من أهل العداوة لله تعالى ومن أهل الوعيد والفجور فلا تجوز الصلاة خلفه كالكافر.
الفرع الرابع: في فسق التأويل. ونعني بالفاسق المتأوَّل من يكون مجانباً للكبائر لكنه اعتقد اعتقاداً خطأ يوجب فسقه، وهذا نحو الخارجي والناصبي فإن الخروج على إمام الحق ومنعه عن التصرف فيما له الولاية عليه فسق بالإجماع لكنه اعتقد حلَّه بشبهة طرت عليه فاعتقد حلَّه وجوازه، فمن هذه حاله فإنه لا تجوز الصلاة خلفه لجرأته على الدين ونبذ بيعة الإمام العادل ومنعه عن التصرف، وجهله بفسقه لا يجوز عذراً في جواز الصلاة خلفه. قال الإمام زيد بن علي: لا تصلي خلف الحرورية ولا المرجئة ولا القدرية ولا من نصب حرباً لآل محمد. وأراد بالحرورية فرقة من الخوارج وحرورا قرية من قراهم، وأما المرجئة فهم الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل وهم فرق كثيرة، وأما القدرية فهم المجبرة، وأما النواصب فهم الذي نصبوا العداوة لآل محمد وأخافوهم وشردوهم إلى أقاصي البلاد وأقطارها، وهؤلاء هم بنو أمية وبنو العباس فإنهم اعتمدوا على عداوة الفاطمية لما قاموا عليهم وأرادوا فطامهم عن ظلمهم وفسقهم فنصبوا العداوات لهم وفعلوا بهم الأفاعيل المنكرة من قتل وطرد وحبس، فمن هذه حاله فأقل أحواله أن لا تجوز الصلاة خلفه لما هم عليه من الظلم والفسق وعداوة أولياء الله وأهل خاصته من العترة الطاهرة فإنهم أقاموا السنن وأماتوا البدع وجاهدوا في الله حق جهاده حتى لقوا الله وقد رضي عنهم وروضوا عنه: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة:17]. ويلحق بفساق التأويل الذين قالوا بفسق السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم واعتقدوا إكفارهم فإنهم اعتقدوا كفرهم وفسقهم بشبهة طرت عليهم واعتمدوا عليها في مخالفتهم لأمير المؤمنين كرم الله وجهه في الإمامة والتقدم واعتقدوا أن تقدمهم عليه يكون كفراً وفسقاً فعولوا على ذلك، وما هذا حاله فهو خطأ وضلالة فإن الخطأ فيما هذا حاله لا يكون كفراً ولا فسقاً
فإقدامهم على هذه المعصية يكون فسق تأويل لما ذكرناه من هذه الشبهة وكيف لا وإسلامهم وإيمانهم مقطوع به، فلا يخرجون عن ذلك إلا بدلالة واضحة وأمر بيِّنٍ وما ذكروه لم تدل عليه دلالة شرعية في كونه كبيرة ومطلق الخطأ لا يوجب قطع الولاية ولا تنقطع الولاية إلا بالإقدام على كبيرة قد دل الشرع على كبرها، فمن هذه حاله في سبهم واعتقاد إكفارهم وفسقهم لا تجوز الصلاة خلفه لجرأته على الله تعالى في الإقدام على الكفر والفسق على من ظهر إسلامه وإيمانه فضلاً عمن له هذه الدرجة عند الله بالصحبة للرسول والجهاد بين يديه وعنايته في ظهور الإسلام والجهاد لأعداء الله وإبانة السنن ومحو البدع فالخطيئة في حقهم تعظم لا محالة، وقد قال : ((لا يؤمكم ذو جرأة في الدين)). وأي جرأة أعظم من اعتقاد هلاك من له الفضل والسبق إلى الإسلام والهجرة وإحراز الفضائل والمراتب العالية والانفاق في الجهاد وبذل النفوس والأموال لله تعالى ولرسوله وقد قال : ((لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهباً ما بلغ مُذّ أحدهم ولا نصيفه ))(1).
فنعوذ بالله من الجهل والخذلان.
الفرع الخامس: في حكم الصلاة خلف أهل البدع والضلالات.
اعلم أن المخالفين لنا من أهل القبلة فرق كثيرة فيما يتعلق بمسائل الديانة، وجملة ما نذكره من ذلك فرق ست:
الفرقة الأولى: من خالفنا في الصفات وقال بقدم القدرة والعلم والحياة والإرادة، وهؤلاء هم الأشعرية ومن وافقهم من طبقات المجبرة.
الفرقة الثانية: الذين خالفونا في الرؤية، وهم الفقهاء من الشافعية وحكوها عن الشافعي وحكاها البويطي عنه.
الفرقة الثالثة: القائلون بقدم القرآن، وحكي عن الشافعي أنه قال: من قال أن القرآن مخلوق فقد كفر.
الفرقة الرابعة: القائلون بأن أفعال العباد متعلقة بقدرة الله تعالى، وأن الله هو المتولي لإيجادها وفعلها.
__________
(1) أخرجه البخاري3/1343، والبيهقي في السنن10/209، وأبو داود4/214.
الفرقة الخامسة: الذين قالوا بأن الاستطاعة مع الفعل وأن القدرة موجبة
الفرقة السادسة: الذين قالوا إن الله تعالى مريد للواقع من أفعال العباد كلها حسنها وقبيحها. وهذه المقالات كلها محكية عن الأشعرية وطبقات المجبرة ثم إن للناس في مقالاتهم هذه مذهبين:
المذهب الأول: إكفارهم بهذه المسائل، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة وشيوخ المعتزلة الأكثر منهم.
المذهب الثاني: أنهم لا يكفرون بهذه المسائل لظهور الاحتمال فيها، وهذا هو رأي المؤيد بالله وأبي الحسين البصري من المعتزلة. فإذا تمهدت هذه القاعدة فمن كفرهم فإنما يكون إكفارهم من جهة التأويل ومن لم يكفرهم فهم باقون على الإسلام والدين.
والمختار: أن الصلاة خلف هؤلاء جائزة إذا سلموا عن ملابسة الكبائر وظهور الخلل في العدالة مع كونها مكروهة(1)
فأما الإجزاء فهي مجزية؛ لأن كل من قال بإكفارهم فإنما يكفرهم بالتأويل مع كونهم من أهل القبلة محرزون للعدالة، ومن هذه حاله فالصلاة جائزة خلفه كالذين سلموا عن الاعتقاد لهذه الجهالات ومن قال بأنهم سالمون عن الإكفار فلا كلام فإنهم من جملة المسلمين، فحصل من مجموع ما ذكرناه جواز الصلاة خلفهم على كل قول كما جازت روايتهم للأخبار وكما جازت شهاداتهم، بل نقول إن الصلاة أخف حكماً من الشهادة وقبول الخبر فإذا جاز فيهما جاز في حق الصلاة أولى وأحق، ويؤيد ما ذكرناه أنا لو مُنِعْنَا من الصلاة خلفهم لأدَّى إلى انقطاع الولاية بين المسلمين، والمعلوم من دين الرسول خلافه.
__________
(1) أي الصلاة خلفهم.
ومن وجه آخر: وهو أنهم قد نظروا في هذه الأدلة وأدَّاهم نظرهم إلى هذه الاعتقادات الرديَّة فقد نظروا ولكنهم قصروا في النظر وأخطأوا في الإصابة فخطأهم بعد الاجتهاد يعذرهم عن الكفر ولا يطرق خللاً في أصل العدالة لا يقال فإذا كان نظرهم وخطأهم في النظر يعذرهم عن الإكفار فقولوا بأن الملاحدة والفلاسفة والمعطلة والدهرية نعذرهم عن الإكفار فقد نظروا مثل نظر هؤلاء؛ لأنا نقول ولا سواء فإن هؤلاء من أهل القبلة ومقرون بالشرائع وبما جاءت به الرسل صلوات الله عليهم فلهذا كان خطأهم يعذرهم عن الإكفار مع بقائهم لاعتقاد الشريعة والنبوة والقرآن بخلاف غيرهم من الفرق الكفرية فإنهم ليسوا من أهل القبلة ولا داينون بالشريعة ولا مقرون بما جاءت به الرسل صلوات الله عليهم بل لهم اعتقادات في حدوث العالم وفي إثبات الصانع وصفاته وفي النبوات يخالف ما عليه أهل الإسلام فلهذا لم يكونوا معذورين عن الإكفار.
الفرع السادس: في حكم الخلاف في المسائل الاجتهادية.
اعلم أن الذي عليه أهل القبلة من أئمة العترة وجماهير المعتزلة وطبقات الفقهاء الحنفية والشافعية والمالكية وغيرهم من الفرق هو تصويب الآراء في المسائل الخلافية والمضطربات الفقهية في المسائل الإجتهادية ونريد بالحكم الإجتهادي هو الذي ليس عليه دلالة قاطعة وهذه المسألة قد أوردناها في الكتب الأصولية وأنهينا القول فيها نهايته، ونزيد هاهنا وهو أن الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم ما زالت مجالس الاشتوار تجمعهم وتفرقهم في مسائل التحليل والتحريم ومسائل الفرائض وكل واحد منهم يفتي بفتوى تخالف مذهب صاحبه من غير نكير من أحد منهم على الآخر بل ربما يصرح ويقول: تقول برأيك وأقول برأيي، كما كان في مسألة الحدود ومسألة الحرام وغيرهما من المسائل الخلافية، وفي هذا دلالة على القول بالتصويب فإذا تمهدت هذه القاعدة وكان التصويب شاملاً في مسائل الاجتهاد فهل يصح الإقتداء في مسائل الطهارة ومسائل الصلاة أم لا؟ فيه أقول ثلاثة:
القول الأول: أنه يجوز إلا أن يعلم أن الإمام ترك شيئاً من فروض الصلاة أو أخل بشرط من شروط الطهارة فإنه لا يجوز الائتمام، وهذا هو رأي المؤيد بالله ومحكي عن بعض أصحاب الشافعي فإنه قال: إذا كان هاهنا رجلان أحدهما يرى أن هذا الماء نجس أو مستعمل والآخر يرى أنه طاهر مطهر جاز لمن يرى أنه طاهر غير مطهر أو نجس أن يصلي خلف صاحبه ما لم يعلم أنه طهر بذلك الماء، وهكذا القول فيما أشبهه من الاختلاف في العبادات.
القول الثاني: أنه لا يجوز الإئتمام بمن ذكرناه وإن أتوا بجميع الواجبات في الطهارة والصلاة؛ لأنهم ولو أتوا به فإنهم يعتقدون أنه نافلة ولا يعتقدون وجوبه فلهذا لم يصح الإئتمام بهم.
القول الثالث: أنه يصح الإئتمام بهم وإن لم يأتوا بشيء من الواجبات عند من خالفهم لأنه محكوم بصحة صلاتهم في الشرع ولهذا فإنهم لا يفسقون بترك الصلاة ولا يؤمرون بقضائها فدل ذلك على وقوع الإجزاء في حقهم وفي حق غيرهم ممن اقتدى بهم، وهذا هو المحكي عن السيد أبي طالب والإمام المنصور بالله وقاضي القضاة عبدالجبار بن أحمد والغزالي، وهذه الأقوال الثلاثة محكية عن بعض أصحاب الشافعي.
ولنضرب في ذلك أمثلة ليتضح الأمر فيما نريده:
المثال الأول: إذا كان القاسم يرى أن الماء القليل لا ينجس إلا إذا تغير بالنجاسة وهو دون القلتين ثم توضأ بما خالطته النجاسة من غير تغير فهل يجوز الاقتداء به في الصلاة أم لا؟
المثال الثاني: إذا توضأ الناصري والشافعي بما هو قلتان وقد وقعت فيه نجاسة لم تغيره فهل يجوز لمن يرى ذلك نجساً في حقه أن يأتم بهما أم لا؟
المثال الثالث: إذا احتجم الناصري والشافعي بعد الوضوء ثم تقدما للصلاة اعتماداً على أن الحجامة غير ناقضة للوضوء فهل يجوز لمن لا يرى ذلك أن يأتم بهما أم لا؟.
المثال الرابع: إذا ترك الحنفي النية في الوضوء أو أخل بترتيب أعضاء الطهارة أو ترك قراءة سورة الفاتحة ثم تقدم للصلاة فهل يجوز لمن لا يرى ذلك أن يأتم به أم لا؟.
المثال الخامس: إذا أمَّن الشافعي عقيب قراءة الفاتحة فهل يجوز لمن يرى أن ذلك مفسد للصلاة الاقتداء به أم لا؟. وهكذا القول في جميع المسائل الخلافية في العبادات تجري على ما ذكرناه من الأقوال الثلاثة.
الفرع السابع: في بيان المختار من هذه الأقوال الثلاثة فيما يعرض من المسائل الخلافية في العبادات، فنقول: القوي من جهة النظر الشرعي والتصرف الأصولي جواز الإئتمام بمن خالف مذهبه مذهب المؤتم سواء علم المؤتم بالمخالفة أو لم يعلم، ونورد على ذلك حججاً نفصلها:
الحجة الأولى: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم ))(1).
__________
(1) تقدم تخريج الحديث.
فنهى عن المخالفة للإمام على الإطلاق ولم يفصل بين أن يكون مذهب الإمام مخالفاً لمذهب المأموم أو غير مخالف فظاهره دال على صحة ما قلناه من وجوب المتابعة وعدم المخالفة على كل الأحوال.
الحجة الثانية: قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا لك الحمد(1).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه أمر باتباع الإمام في أفعاله وأقواله ولم يفصل، فترك الاستفصال فيه دلالة ظاهرة على وجوب المتابعة سواء وافق مذهبه [مذهب] المؤتم أو خالفه.
الحجة الثالثة: قوله : ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تناجشوا وكونوا أخوانا مسلمين)) (2).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه نهى عن المباغضة والمحاسدة. والمناجشة: بالنون والجيم والشين بثلاث من أعلاها وهو أن يزيد في ثمن المبيع لا ليشتريه ولكن لأن يشتريه الغير بذلك الثمن، وأمر بالتواخي والإسلام ولا شك أن التخلف عن الإمام في الصلاة يؤدي إلى هذه الأمور ويؤدي إلى التقاطع والمباعدة ويورث الشحناء والعداوة ولم يفصل بين أن يكون موافقاً له في مذهبه أو مخالفاً له وفي هذا دلالة على ما ذكرناه من صحة الائتمام.
الحجة الرابعة: هو أنا قد دللنا فيما سبق على حصول التصويب في المسائل الخلافية فيما تقتضيه الآراء الاجتهادية بما لا مدفع عنه، وإذا كانت الآراء صائبة كان مذهب الإمام حقاً وصواباً ومذهب المأموم حق وصواب، وإذا كان كلاهما صواباً وحقاً فأي مانع من اقتداء أحدهما بالآخر مع مخالفة مذهب أحدهما لمذهب الآخر والتصويب شامل لهما والحق عام في كل واحد منهما.
__________
(1) تقدم تخريج الحديث.
(2) تقدم تخريج الحديث.
الحجة الخامسة: وهو أن الإجماع منعقد من جهة الأمة على أنه إذا تقدم الرضا في إمامة الصلاة فلا ينبغي التأخر عنه، ولا شك أن كل واحد من أهل هذه المذاهب المختلفة رضا في أفعاله وأقواله ومصيب فيما ذهب إليه واعتقده وعمل عليه وإذا كان الأمر كما قلناه وتقدم للصلاة فإن الواجب عليه هو العمل على ما يؤدي إليه ظنه ويقوى عليه اجتهاده وهو حكم الله عليه فلا تجوز له مخالفته والعمل على غيره وفي ذلك حصول غرضنا من جواز الصلاة خلفه، وإن كان عاملاً على مذهبه فلا ينبغي التخلف عنه لأجل مخالفته لمذهب إمامه وتجب عليه متابعته، فهذه الحجج كلها دالة على ما نذهب إليه من جواز الاقتداء بالإمام وإن خالف مذهبه مذهب المؤتم، ثم هاهنا مقام آخر جد ليّ المرامي، وتقريره أنا لو جوزنا للمأموم التأخر عن إمامه في صلاة الجماعة إذا كان مخالفاً لمذهبه لأدَّى ذلك إلى تعطيل صلاة الجماعة واندراس أحكامها وبطلان المواضبة؛ لأن الاختلاف في المسائل الاجتهادية كثير لا يمكن ضبطه وحصره، فلو سوغنا الامتناع من الصلاة لأجل ما يعرض من الاختلاف لأدَّى إلى سدها وإبطالها، ويؤيد ما ذكرناه أن الأمور المجمع عليها في الطهارة والصلاة قليلة نادرة ومواضع الخلاف كثيرة لا يمكن عدها ولا حصرها فلا تكاد مسألة في الأغلب تنفك عن الخلاف بين الأئمة والفقهاء. فحصل من مجموع ما ذكرناه أن المصلي خلف كل إمام ممن ظهرت عدالته وكان له ستر وعفاف وسواء وافقه في المذهب أو خالفه فإنه حاكم على كل من كان إماماً له.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إن علم المؤتم بأن إمامه قد أبطل شرطاً من شروط الطهارة لم يجز الائتمام به، وإن لم يعلم أنه أبطل شيئاً من فروضها أو واجباتها جاز الائتمام به.
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الأدلة التي ذكرناها في وجوب المتابعة للإمام لم تفصل بين حالة [وحالة] فسواء علم أو لم يعلم في أن الاقتداء واجب عليه بكل حال.
وأما ثانياً: فلأن الإمام إذا كان حنفي المذهب وقدرنا أنه ترك نية الوضوء وقراءة الفاتحة فإنهما ليسا واجبين في حقه فكيف يقال بأنه قد أخلَّ بما هو واجب عليه ومذهب المأموم إنما هو في حق نفسه لا في حق الإمام فالإمام صلاته صحيحة، وإن ترك النية عند الإمام والمأموم جميعاً فكيف يمتنع المأموم عمن صلاته صحيحة عند نفسه وعند المأموم ولهذا فإن المأموم لا يلزمه النكير على الإمام فيما خالفه لما كانت صلاته مجزية له بلا مرية.
قالوا: إن الصلاة غير مجزية، وإن أتوا بجميع الواجبات في الطهارة والصلاة عند من قال بوجوبها؛ لأنهم يعتقدون أنها نافلة وما هذا حاله فإنه مبطل لها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الحنفي لم يعتقد الصلاة نفلاً إذا لم يقل بوجوب قراءة الفاتحة وإنما قال إن قراءة الفاتحة غير واجبة، وفرق بين أن يعتقدها نفلاً فلا تكون مسقطة للفرض عن ذمته مع اعتقاد كونها نفلاً وبين أن يعتقد أن القراءة غير واجبة.
وأما ثانياً: فإذا قال الحنفي إن القراءة غير واجبة في الصلاة وأن النية غير واجبة في الوضوء فهل تكون الصلاة مجزية له مسقطة للفرض عن ذمته أم لا؟ فإن قالوا: إنها غير مسقطة لفرض الصلاة عن ذمته مع هذا الاعتقاد فهذا فاسد فإن الإجماع منعقد مع هذا الاعتقاد على أنها مجزية وعلى سقوطها عن ذمته. وإن قالوا: إنها مجزية له ومسقطة للفرض عنه لأنه قد نظر في الأدلة الشرعية فلم يوصله نظره إلى وجوب النية في الوضوء ولا إلى وجوب القراءة في الصلاة وهذا هو نهاية نظره ولا يكلف سواه وليس على المجتهد إلا النظر في الأخبار والأمارات الشرعية فما أدَّاه نظره إليه عمل عليه فتقرر بما ذكرناه جواز الإقتداء مع اختلاف المذاهب. وقد أطلنا في تقرير هذه المسألة بعض الإطالة وما ذاك إلا لكثرة فوائدها وعظم موقعها.
الفرع الثامن: وهل يجوز أن تكون المرأة إماماً للرجال أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك ممنوع، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((لا تؤم امرأة رجلاً ولا فاجر مؤمناً ))(1).
المذهب الثاني: جواز ائتمام الرجل بها، وهذا شيء يحكى عن أبي ثور والمزني من أصحاب الشافعي وابن جرير الطبري فإنهم جوَّزوا إمامتها في صلاة التراويح إذا كان لا يحفظ القرآن سواها وتكون متأخرة عن الرجال.
والحجة على هذا: قولهم نرى الشرع قد تسامح في هذه النوافل وجعلها متسعة المسالك سهلة المأخذ في مجاريها فلما كان الأمر فيها كما ذكرناه جاز تولي النساء لها مواضبة على هذه النافلة وهي التراويح فلهذا اغتفر إمامة النساء في حقها لما قلناه.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من المنع من إمامة النساء للرجال.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو قوله : ((أخِّروهن حيث أخرهن اللّه))(2).
ومن قدمها للإمامة بالرجال فقد خالف ظاهر هذا الخبر فلا جرم كان باطلاً.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: النوافل قد اتسع مسلكها وخفف الشرع أمرها فلهذا جازت إمامة النساء فيها محافظة على أدائها واهتماماً بأمرها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن النوافل كالفرائض في جريها على قانون الصلاة فكما لم تجز إمامة النساء في الفرائض فهكذا لا تجوز في النوافل.
__________
(1) رواه في (سنن البيهقي)3/171، وابن ماجة1/343،و المعجم الأوسط2/64.
(2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه3/99، وعبد الرزاق في مصنفه3/149، والطبراني في الكبير9/295، وهو في شرح سنن ابن ماجة1/70.
وأما ثانياً: فلأن صلاة التراويح لم تبلغ في التأكيد مبلغاً بحيث تخالف مقصود الشرع فيها في إمامة النساء، فلو قلنا بها لكانت أحق النوافل. ومن العجب أنهم قالوا: إذا أمَّت الرجال في صلاة التراويح فإنها تقعد خلفهم ويأتمون بها لما كانت تحسن قراءة القرآن غيباً، وهذه بدعة لا قائل بها وكيف يقال بإمامتها وهي خلفهم!! فهذا مخالفة لأمر الشرع وحكمه وقد قال : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به )). فإذا كان الإمام خلفهم فكيف يمكن الإئتمام به والتقيد بأقواله وأفعاله فهذا خطأ ومخالفة لمقصود الشرع وأمره وحكمه، ويجوز أن تأتم المرأة بالخنثى المشكل؛ لأنه لابد من أن يكون رجلاً أو امرأة فلا ينفك عنهما وصلاة المرأة خلفهما صحيحة فلهذا جازت، ولا يجوز أن يكون الخنثى إماماً للرجل ولا للخنثى لجواز أن يكون الإمام امرأة والمأموم رجلاً فإن صلى الخنثى خلف امرأة فإنا نأمره بالإعادة لاحتمال أن يكون الخنثى رجلاً، فإن لم يعد حتى بان أنه امرأة، فهل تلزمه الإعادة أم لا؟ وهكذا إذا صلى الرجل خلف الخنثى أمر الرجل بالإعادة لاحتمال أن يكون الخنثى امرأة، فإن لم يعد حتى بان أن الخنثى رجلاً فهل تلزمه الإعادة أم لا؟ وهكذا إذا صلى الخنثى خلف الحنثى فإنا نأمره بالإعادة، فلو لم يعد حتى بان أنه امرأة أو بان أن الإمام رجل أو بانا امرأتين فهل تلزم الإعادة في هذه المسائل أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الإعادة لازمة؛ لأنهم استفتحوا الصلاة وهم شاكون في صحتها فلم تصح بالتبين كما لو دخل في الصلاة وهو شاك في دخول الوقت وبان أن الوقت قد دخل.
وثانيهما: أن الإعادة غير لازمة؛ لأنهم صلوا خلف من تصح صلاتهم خلفه بالإنكشاف والتَّبين.
والمختار: هو الثاني لقوله : ((لا ظهران في يوم ولا فجران في يوم )). وهذه لها نظائر منها: أنه لو باع مال أبيه وهو يظن أنه حي فبان أنه كان ميتاً فهل يصح البيع أم لا؟ ومنها أنه إذا اشترى وكيله شيئاً ثم باعه على تَوَهُّمٍ أنه لم يكن قد اشتراه وكيله ثم بان أنه قد اشتراه فهل يصح؟ فيه الوجهان اللذان ذكرناهما.
الفرع التاسع: ولا تصح الصلاة خلف المحدث ولا خلف الجنب لأنهما ليسا من أهل الصلاة لأجل حدثهما ولأن الطهارة من شرط صحة الصلاة فإن صلى أحد خلفهما ولم يعلم بحالهما ثم علم بعد ذلك فهل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن الإعادة غير لازمة للمؤتم وهذا محكي عن طائفتين:
الطائفة الأولى: من الصحابة رضي الله عنهم علي وعمر وعثمان وابن عمر وابن عباس.
الطائفة الثانية: التابعون الحسن البصري والنخعي وابن جبير، ومن الفقهاء الشافعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور.
والحجة على هذا: ما روى أبو بكرة(1)
عن الرسول أنه دخل في صلاة الفجر ثم أحرم الناس خلفه فذكر أنه جنب فأومأ إليهم أن مكانكم ثم خرج واغتسل وجاء ورأسه يقطر ماءً وأحرم بالصلاة ولم يأمرهم بالإعادة وإنما لم يأمرهم وأومأ إليهم لأن الكلام إلى المصلي يكره.
المذهب الثاني: أن الإعادة واجبة على المؤتم، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة القاسمية والناصرية ومحكي عن طائفتين:
الطائفة الأولى: التابعون وهو محكي عن الشعبي وابن سيرين وحماد.
الطائفة الثانية: الفقهاء وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
__________
(1) اسمه: نُفيع بن متروح بن كلدة، ويقال: نُفع بن الحارث، قال في (الاستيعاب): ذكره أحمد بن زهير في موالي النبي سكن البصرة ومات بها سنة 51هـ، وكان ممن اعتزل يوم الجمال، وكان ممن شهد على المغيرة، فلم تتم تلك الشهادة فجلده عمر ثم سأله الإنصراف عن ذلك فلم يفعل وأبى فلم يقبل له عمر شهادة. اهـ.4/1530.
والحجة على هذا: هو أن المؤتمين صلوا من غير إمام فصار كما لو صلوا خلف الإمرأة والكافر ولأنهم صلوا خلف من لا تصح منه الصلاة وهو على حالته تلك من الجنابة والحدث فصار كما لو صلوا خلف النفساء والحائض.
المذهب الثالث: أن الإمام إن كان عالماً بجنابته وحدثه لم تصح صلاة المؤتمين به، وإن كان غير عالم صحت صلاتهم وهذا هو المحكي عن مالك، وقول آخر للشافعي وليس مشهوراً عنه.
والحجة على هذا: هو أنه إذا كان عالماً بجنابته وحدثه فهو غير معذور في صلاته فلهذا بطلت صلاتهم، وإن كان غير عالم بما ذكرناه من الحدث فهو معذور فلهذا حكمنا بصحة صلاتهم.
المذهب الرابع: أن حدث الإمام إن كان جنابة وجبت عليهم الإعادة وإن كان حدثه عير جنابة لم تجب عليه الإعادة.
والحجة على هذا: هو أن حدث الجنابة أغلظ من نقض الوضوء فلهذا كان تأثيرها في فساد صلاة المؤتمين بخلاف ما إذا كان الحدث نقض الوضوء فإنه إنما يؤثر في بطلان صلاة الإمام دون المؤتمين.
والمختار: بطلان صلاة الإمام لأجل حدثه دون صلاة المؤتمين كما رأى أمير المؤمنين وغيره من جلة الصحابة والتابعين.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا سهى الإمام فصلى بقوم وهو جنب فقد مضت صلاتهم ثم يغتسل هو ويعيد وإن كان على غير وضوء فمثل ذلك)) (1).
الحجة الثانية: ما روي عن أبي بكر وعمر أنهما فعلا ذلك ولأنه ليس على حدثه من الجنابة أمارة تدل عليه فلهذا كانوا معذورين فلا تجب عليهم الإعادة.
الحجة الثالثة: ما روى البخاري في صحيحه عن الرسول أنه قال: ((إنكم تصلون بهم فما صلح فلكم ولهم وما فسد فعليكم دونهم))(2).
__________
(1) رواه الدارقطني في السنن1/364، وهو في (فيض القدير)3/136، وفي تخريج أحاديث الهداية1/174.
(2) روى الحديث عن أبي هريرة ابن حبان في صحيحه5/607، وجاء في سنن البيهقي2/396، والدارقطني2/55، ومصنف عبدالرزاق2/379، ومسند أحمد2/355.
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه أوجب الفساد على الأئمة دون المؤتمين، وفي هذا دلالة على ما قلناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إن المؤتمين صلوا خلف من لا صلاة له كالحائض والنفساء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الحائض والنفساء لا تجوز الصلاة خلفهما للرجال سواء كانتا طاهرتين أو في حال الحيض فافترقا(1).
وأما ثانياً: فلأن هذا القياس لا وجه له ولا عمل عليه مع ما رويناه من تلك الأخبار فإن من شرط العمل على القياس ألا يعارض شيئاً من الأدلة الكتاب والسنة والإجماع.
ومن وجه آخر: وهو أن صلاة المؤتمين ظاهرها الصحة فلا يقدم على فسادها إلا بدلالة ولا دلالة تقتضي فساد صلاتهم.
قالوا: إن كان حدث الإمام جنابة بطلت صلاة المؤتمين، وإن كان حدث الإمام نقض الوضوء لا غير لم تبطل صلاة المؤتمين؛ لأن حدث الجنابة أغلظ ولهذا أثر في وجوب الغسل بخلاف نقض الوضوء فإنه إنما يؤثر في تطهير الأعضاء لا غير فلهذا أثرت الجنابة في وجوب الإعادة على المؤتمين ولا يؤثر نقض الوضوء في حقهم.
قلنا: نحن لا ننكر أن الجنابة أغلظ حكماً من نقض الوضوء لكنا نقول أن الأخبار التي رويناها لم تفصل بين نقض الوضوء وبين الجنابة وأن الإمام معذور بالنسيان فلهذا لم تجب عليهم الإعادة.
قالوا: إن كان الإمام عالماً بالجنابة وبالحدث وجبت على المؤتمين الإعادة، وإن كان غير عالم لم تجب عليهم الإعادة.
قلنا: ليست المسألة مفروضة إلا مع النسيان وعدم العلم فأما إذا كان الإمام عالماً بحدثه وبجنابته بطلت عليهم وعليه؛ لأنهم صلوا من غير إمام فلهذا كانت باطلة في حقه وحقهم.
الفرع العاشر: في من نقص عقله بالصغر أو بالجنون أو بالسكر هل تصح إمامتهم في الصلاة أم لا؟ فيه أحكام ثلاثة نفصلها بمعونة الله:
__________
(1) الغرض القول: فلأن المرأة لا تجوز الصلاة خلفها للرجال، سواء كانت طاهرة أو في حال الحيض والنفاس.
الحكم الأول: في الصبي. والصبي إذا كان ابن سبع سنين أو ثماني سنين وهو مميز من أهل الصلاة هل تصح إمامته للبالغين في الفرض والنفل أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن إمامته غير صحيحة للبالغين، وهذا هو رأي الهادي والناصر والمؤيد بالله، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: قوله : ((رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم والمجنون)) (1).
ولأنه غير كامل العقل فلا يصح أن يكون إماماً كالمجنون ولأنه غير مخاطب بأحكام الشريعة فلا تكون واجبة عليه فيصير المؤتم كأنه ائتم بغير إمام.
المذهب الثاني: أنه إمامته مجزية للبالغين، وهذا هو ظاهر مذهب القاسم وهو محكي عن الشافعي وله في الجمعة قولان. قال القاسم وتجوز إمامة الصبي إذا راهق وإن لم يحتلم مهما كان محكماً لحدود الصلاة عارفاً بها.
والحجة على هذا: ما روي عن عمرو بن سلمة أنه قال: كنت غلاماً قد حفظت قرآناً كثيراً فانطلق بي أبي وافداً على رسول الله في نفر من قومه فعلمهم الصلاة وقال: ((يؤمكم أقرؤكم لكتاب اللّه )). فكنت أصلي بهم وعلى جنائزهم وأنا ابن سبع سنين أو ثماني سنين(2).
ووجه الحجة من هذا الخبر: هو أن القوم إنما قدموا به على الرسول ليعرفوه أنه أقرأوهم فلما عرف ذلك قال: ((يؤمكم أقرأوكم لكتاب اللّه)). ولا أقرأ هنالك غيره فكأنه قال: يؤمكم هذا.
المذهب الثالث: أنه يجوز أن يكون إماماً في النفل دون الفرض، وهي الرواية الثانية عن أبي حنيفة فإنه قال: إن صلاة الصبي غير صحيحة وإنما يؤمر بها على جهة التعويد والتمرين[وهو قول مالك] وعلى هذا لا تصح إمامته. وروي عنه أنه قال: صلاة الصبي صحيحة. وعلى هذا تصح إمامته.
__________
(1) تقدم في المجلد الأول ص (806 و910).
(2) أخرجه أبو داود1/195 في باب من أحق بالإمامة، وفي مختصر المختصر1/79 في إمامة الصبي.
والحجة على ما قاله مالك: فإن المروي [عنه] أن صلاته صحيحة في النفل دون الفرض هو أنه غير مكلف فلا تكون الصلاة واجبة عليه؛ لأنه غير مخاطب بأحكام الشرع فلا يتعقل منه الفرض فلهذا كانت صلاته نافلة.
والمختار: ما قاله القاسم من جواز إمامة الصبي في الصلاة، وهو مبني على صحة إسلام الصبي، وقد قررنا فيما سبق أنه لا يمتنع في حق بعض الصبيان كمال عقله وإيمانه بالله ويكون مكلفاً عند الله لكنا لا نحمله على أداء هذه التكاليف الشرعية إلا بإحدى العلامات الدَّالة على بلوغه من الإنبات والاحتلام وبلوغ خمس عشرة سنة، فإذا كان هذا ممكناً أعني صحة إسلامه دل الخبر على جواز الصلاة خلفه لما كان إسلامه صحيحاً كما قررناه، فأما ما قاله أبو العباس من حمل كلام القاسم على بلوغ الصبي فظاهر كلامه يخالفه ولا حاجة إلى تأويله بما لا يدل عليه ظاهر كلامه فإن العمل على ظاهر كلام المجتهد أحق من حمله على ما لم تدل عليه دلالة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول : ((رفع القلم عن ثلاثة )). ومن جملتهم الصبي.
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا محمول على الصبي الذي لا كياسة له ولا تمييز ومن هذه حاله فلا تجوز له إمامة الصلاة.
وأما ثانياً: فلأن الخبر معارض بما رويناه عن عمرو بن سلمة وخبر عمرو أصرح بالمراد وأدل على المقصود من خبركم فلهذا كان التعويل عليه أحق؛ لأنه خاص في جواز الصلاة وفي بيان السِّن فلهذا كان أرجح.
قالوا: تجوز إمامته في النفل دون الفرض.
قلنا: هذا مبني على إن إسلامه غير صحيح فإذا صح إسلامه كان إماماً في الفرض والنفل، وروي عن عائشة أنها قالت كنا نأخذ الصبيان من المكاتب ليصلوا بنا قيام رمضان. فإن كان غرضها الفرائض في رمضان فمذهبها جواز إمامته في الفرائض والنوافل، وإن كان غرضها التراويح لم يكن إماماً في الفرائض فكلامها محتمل، وهي لا تقول بهذا إلا عن توقيف من جهة الرسول لأن ما هذا حاله من العبادات فلا مدخل له في الاجتهاد.
الحكم الثاني: في المجنون. والمجنون ينظر في حاله فإن كان فساد عقله مُطْبِقاً في كل أحواله بحيث لا يُفيق فإنه لا تصح الصلاة خلفه لأنه ليس من أهل الصلاة ولا يخاطب بها، وإن كان يُفيق في حالة دون حالة فهو الذي يقال له الصرع فإن صلى في حال الإفاقة جازت صلاته لأنه كالصحيح، وإن كان له حالة إفاقة وحالة جنون فصلى رجل خلفه ولم يدر في أي حاليه صلى فهل تجب عليه الإعادة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الإعادة واجبة عليه؛ لأن الجنون بعد طريانه صار أصلاً فالظاهر هو الجنون.
وثانيهما: أن الإعادة غير واجبة؛ لأن الأصل هو العقل والجنون طارئ فلهذا كان التعويل عليه، والأمران مُحْتَمَلان كما ترى.
الحكم الثالث: السكران. ولا يجوز أن يكون إماماً للصلاة سواء كان سكره مبطلاً لعقله أو غير مبطل لقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى }[النساء:43]. ولأنه متغير العقل فلا تصح إمامته كالمجنون.
الفرع الحادي عشر: في صلاة الأنقص حاله بمن كمل حاله ويشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: في صلاة القائم خلف القاعد، حكي عن إسحاق وأحمد بن حنبل أن القائم يقعد بقعود الإمام.
وحجته على هذا: قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا)). ولأن المأموم تابع للإمام فلا يخالفه، وعند أئمة العترة وسائر الفقهاء أن المأموم لا يقعد بقعوده إذا كان قادراً على القيام وهذا هو المختار؛ لأن المأموم قادر على القيام وهو فرض من فروض الصلاة؛ لقوله[ ] لعمران بن حصين: ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً)). وهذا قادر على القيام.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قوله: قال رسول الله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا)).
قلنا: إنما أراد بكلامه هذا وجوب المتابعة كما قال : ((لا تختلفوا على إمامكم )). ولم يرد أن الإمام إذا قعد لعذر توجه على المأموم القعود مع القدرة على القيام، فإذا كان المأموم لا يقعد بقعود الإمام فهل يجوز له الاقتداء مع قعوده؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه لا يجوز له الاقتداء به، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله، وهو محكي عن مالك ومحمد بن الحسن.
والحجة على هذا: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). وهذا نهي والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ومن صلى قائماً خلف قاعدا فقد خالفه.
المذهب الثاني: جواز ذلك على الإطلاق، وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن زفر من أصحاب أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي أن رسول الله صلى قاعداً في مرضه وصلى المسلمون خلفه قياماً وقال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً)). وروي عنه أنه سقط من فرس فصلى قاعداً وصلى المسلمون خلفه قياماً(1)
__________
(1) روُي الحديث عن أنس قال: سقط رسول الله عن فرس فجحش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى قاعداً فصلينا وراءه قعوداً... الحديث، أخرجه الستة، واللفظ للصحيحين، وفيه رواية عن جابر قال: ركب رسول الله فرساً بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانفكت قدمه...الحديث، رواه أبو داود، وفيه روايات أخر.
فهذان الخبران دالان على ما قلناه من اختلاف حال الإمام والمأموم في القيام والقعود.
المذهب الثالث: منع ذلك من جهة القياس وجوازه من جهة الاستحسان، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، والاستحسان هو: أخص من القياس وأدخل في الإعجاب وهو ترك وجه من وجوه القياس لوجه أقوى منه. وقد أنكر الشافعي الاستحسان وقال: من استحسن فقد شرَّع. وعول عليه أبو حنيفة وأصحابه في كثير من المسائل الفقهية.
وحجتهم على ما قالوه: هو أن القياس يقتضي منعه من جهة مخالفة المأموم لإمامه في كون الإمام قاعداً والمأموم قائماً، وهذه مخالفة قد كرهها الشرع وأباها فلهذا منعوه من جهة القياس والاستحسان فإنه يقتضي جوازه من جهة ما كان من جهة الرسول من قعوده والناس قيام خلفه في مرضه، ومن جهة أمور قياسية أوجبت الجواز فهذا تقرير وجه الاستحسان عندهم.
والمختار: ما قاله أصحاب أبي حنيفة من أن القياس يقتضي المنع من جهة أن الإمام ينبغي أن يكون أكمل حالاً من المأموم أو مساوياً له لما روي عن الرسول أنه قال: ((الإمام وافد فقدموا أفضلكم)). ولا فضل مع نقصان حاله عن حال المأموم بكونه قائماً والإمام قاعد فلهذا كان ممنوعاً من جهة القياس، وأما من جهة الاستحسان فهو جائز وبيانه بما ورد عن الرسول أنه صلى قاعداً والمسلمون خلفه قيام وقال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قاعداً قصلوا قعوداً)). لكنه معذور في القعود وهم غير معذورين فلهذا ساغ قيامهم وهو قاعد، ويؤيد ما ذكرناه على العمل على الإستحسان في الجواز هو أن القيام ليس شرطاً في صحة الصلاة ولهذا فإنه لو أدركه راكعاً أجزأه وكان داخلاً في الصلاة فلأجل هذا عوَّلنا على الاستحسان لما ذكرناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((لا تختلفوا على إمامكم)). وهذا نهي والنهي يقتضي الفساد.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما هذا حاله فليس مخالفة؛ لأن المأموم ليس له أن يصلي قاعداً مع قدرته على القيام وإن ترك الجماعة فقد عدل عن الأفضل فلم يبق إلا أن يصلي قائماً لقدرته عليه والإمام معذور في القعود.
وأما ثانياً: فلأن كل مخالفة ليس ممنوعاً منها ولهذا فإن المأموم يخالف الإمام إذا قام إلى الخامسة ويخالفه إذا سَلَّمَ على ركعة واحدة فهكذا هاهنا قيامه والإمام قاعدٌ لا يعد مخالفة تبطل الصلاة.
قالوا: إن ذلك جائز على الإطلاق من غير تفصيل كما زعمتم.
قلنا: إنا لا ننكر جوازه من جهة الاستحسان كما فصلناه، وأما القياس فالأدلة الشرعية مانعة منه لكن الاستحسان أقوى من القياس وأخص فلهذا عوَّلنا عليه.
المسألة الثانية: هل يجوز أن يصلي اللابس خلف العريان أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك ممنوع، وهذا هو قول أئمة العترة الهادي والناصر والمؤيد بالله ومحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
والحجة على ذلك: هو ما ذكرناه من أن الواجب ألا يخالف الإمام وهذه مخالفة، ومن جهة أن الإمام يكون أفضل من المأموم لكونه صار إماماً له فلهذا قضينا بفساد هذه الصلاة.
المذهب الثاني: جواز ذلك، وهذا هو رأي الشافعي ومحكي عن زفر من أصحاب أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن كل من صحت صلاته لنفسه صحت إمامته لغيره كاللابس بمثله والقائم بمثله ولا شك أن العريان معذور فصلاته صحيحة لنفسه لأجل العذر وإذا صحت له صحت لغيره.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من منع ذلك.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا وهو أن الستر لا يتركه(1)
__________
(1) في الأصل ما لفظه: (أن ترك الستر لا يتركه...) إلخ، وهذا غير متطابق مع المقصود الذي هو (أن الستر لا يتركه) فلزم حذف كلمة (ترك) والله أعلم.
إلا العاجز فلا يجوز الاقتداء بالعاجز كالمتطهر خلف المحدث والسليم عمن به سلس البول، والأفضل إذا عجز الإمام عن القيام وعن الستر أن يستخلف في الصلاة من هو قادر على القيام وقادر على اللباس.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: كل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره كاللابس لمثله.
قلنا: العريان معذور في حق نفسه وليس معذوراً في حق غيره، وهذا التقدير والتناهي في التصوير في الصلاة خلف القاعد للقائم وخلف العريان لمن هو لابس إنما يليق على رأي من يوجب صلاة الجماعة إما على الأعيان وإما على الكفاية، فأما من يقول: بأنها سنة فالكلام في هذه المسائل إنما هو على ما تقتضيه فتوى فيمن هذه حاله، والأفضل إذا كان الإمام قاعداً أو عارياً أن يصلي منفرداً أو بجماعة أخرى، وإنما لم يذهب أصحاب أبي حنيفة إلى القول بالاستحسان هاهنا كما ذهبوا إليه في مسألة صلاة القائم خلف القاعد لظهور الحال في مسألة القعود دون مسألة اللُّبس.
المسألة الثالثة: وهل يجوز أن يصلي المتوضي خلف المتيمم أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن ذلك ممتنع، وهذا هو رأي الهادي والمؤيد بالله، ومحكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه وهو قول محمد بن الحسن.
والحجة على هذا: ما روى جابر بن عبدالله قال: كنا في غزاة فأصابت عمرو بن العاص جنابة فتيمم فقدمنا إلى أبي عبيدة بن الجراح فروى عن رسول الله أنه قال: ((لا يؤم المتيمم المتوضين )).
المذهب الثاني: جواز ذلك على الإطلاق، وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن زفر من أصحاب أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روى عمرو بن العاص أنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت على نفسي فتيممت وصليت الصبح بأصحابي فذكرت ذلك لرسول الله فقال: ((يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ))(1)؟
__________
(1) تقدم، وهو مروي في سنن البيهقي1/185، والدار قطني1/178، وأبي داود 1/92 في باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟
فقلت: يا رسول الله خشيت أن يقتلني البرد وقد سمعت الله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }[النساء:29].
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن أصحابه صلوا خلفه وهم متوضون وهو متيمم فدل ذلك على صحة ما قلناه.
المذهب الثالث: جواز ذلك من جهة الاستحسان ومنعه من جهة القياس، وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن القياس يقتضي أن الطهارة ركن من أركان الصلاة لا تكون الصلاة صحيحة إلا بها فلو جوَّزنا صحة صلاة المتوضي خلف المتيمم لكنا قد سوغنا الصلاة من غير طهارة كما لو صلى خلف المحدث والحائض والنفساء وهو باطل، وإنما قلنا بجوازه من جهة الاستحسان فلأنه أخص من القياس وأدخل في الاعتماد عليه، وهو خبر عمرو فإنه نص صريح في المسألة فلا وجه لمخالفته فترك القياس والاعتماد على الخبر يكون استحساناً لا محالة.
والمختار: هو العمل على الاستحسان.
والحجة على هذا: هو أن الاستحسان عدولٌ عن القياس إلى الخبر، ولا شك أن الخبر أحق من العمل على القياس؛ لأن القياس نظر القيَّاس، والخبر عن صاحب الشريعة فلا يمكن تساويهما، وأيضاً فإن من حق العمل على القياس ألا يعارضه دليل شرعي من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله ، وهذا القياس فقد عارضه فلهذا توجب الاعتماد على الخبر.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: إن ذلك ممنوع على الإطلاق لحديث عمرو بن العاص حيث [روى أبو عبيدة لمن صلى بهم عمرو] ((لا يؤم المتيمم المتوضين )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا محمول على متوضي وضوءه صحيح وعلى متيمم بطل تيممه بنقضه بأمر عارض ينقض التيمم.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما ذكرناه من حديث عمرو بن العاص فإنه صلى بأصحابه متيمماً وأقرَّه الرسول على ذلك فدل على الجواز.
قالوا: ذلك جائز على الإطلاق لخبر عمرو بن العاص فإنه قال: [إنه] قال له الرسول : ((صليت بأصحابك يا عمرو وأنت جنب)).
قلنا: ليس الأمر كذلك فإنا قلنا: إن القياس يمنع من ذلك من جهة أن الوضوء ركن من أركان الصلاة لا يمكن تأدية الصلاة إلا به والتيمم خالٍ عن الوضوء فلهذا لم يكن مجزياً من جهة القياس، والاستحسان قاضٍ بجوازه لحديث عمرو بن العاص فلأجل هذا عملنا بالدليلين جميعاً وجعلنا الاستحسان هو المُعَوِّل عليه لما يظهر فيه من القوة فإن الاستحسان نوع من القياس حاضر، وهو ينزل من القياس منزلة الدهن من اللبن وهو واحد من أوديته معول عليه في غاية القوة والظهور فلأجل هذا كان القياس تابعاً والاستحسان متبوعاً كما أشرنا إليه.
المسألة الرابعة: هل يصح ائتمام القارئ بالأمي أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه ممنوع، وهذا هو رأي الهادي والمؤيد بالله، ومحكي عن الشافعي في القديم.
والحجة على هذا: هو أن القراءة ركن من أركان الصلاة وشرط في صحتها ويؤيد ما قلنا [حديث]الرسول حيث قال: ((يؤمكم أقراؤكم لكتاب الله )). ومعنى الحديث من كان قارئاً فليؤم، فظاهر الشرط في صحة الإمامة كما لو قال: يفتيكم أعلمكم بالشريعة ويحكم بينكم من يحسن الفصل والقضاء، فكما أن تلك شروط فيما ذكرناه فهكذا حال القراءة تكون شرطاً في صحة الإمامة للصلاة.
المذهب الثاني: جواز ذلك، وهذا هو قول الشافعي في الجديد؛ ومحكي عن مالك والمزني من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن كل من صحت صلاته لنفسه صحت إمامته لغيره كالقارئ للقارئ.
والمختار: هو المنع من ذلك، وهو قول أبي حنيفة، والصحيح من مذهب الشافعي.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن الإمام يتحمل القراءة عن المأموم إذا لحقه في حال الركوع، فإذا كان أمياً لم يتأت منه ذلك ولأن الرسول قال: ((الإمام ضامن)). ومعنى كونه ضامناً تحمله للقراءة عن المأموم، والمأموم لا يصح منه التحمل.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: من صحت صلاته لنفسه صحت إمامته لغيره كالقارئ للقارئ.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه معذور في حق نفسه حتى يتعلم القراءة وليس معذوراً في حق الغير.
وأما ثانياً: فلأن ما قالوه معارض بما ذكرناه من الخبر، وهو أحق من القياس فلا يمكن معارضة الخبر بالقياس.
المسألة الخامسة: هل يصح ائتمام السليم بمن به سلس البول وسيلان الجرح أم لا؟ فيه مذاهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك.
والحجة على هذا: هو أن الطهارة ركن من أركان الصلاة وشرط في صحتها ولهذا قال : ((لا صلاة إلا بطهور)). ومن هذه حاله فلا وضوء له مع جري الحدث من جهته فالائتمام به يكون بمنزلة من ائتم بالجنب والحائض فلهذا كان باطلاً.
المذهب الثاني: الجواز وهذا شيء يحكى عن زفر من أصحاب أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن كل من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره كالمتوضي للمتوضي.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وفقهاء الأمة من المنع من ذلك.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو قوله ((الوضوء مما خرج )) وهذا خارج منه فانتقض الوضوء وتبطل الطهارة فالائتمام به غير صحيح.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قوله: كل من صحت صلاته لنفسه فإنها صحيحة لغيره كالسليم للسليم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنها إنما صحت في حق نفسه للعذر ولا تكلف نفس إلا وسعها، وهذا هو الوسع في حقه فلهذا اغتفر فأما غيره فلا يغتفر في حقه، وصلاة المؤتم متعلقة بصلاة الإمام وصلاة الإمام ناقصة بالإضافة إلى صلاة المأموم فلهذا لم يكن إماماً له لأن المقصود هو حصول الفضل بالجماعة ولا فضل مع النقصان.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما روينا من الأخبار والقياس فإنه لا يعارض الخبر.
المسألة السادسة: وهل يصح أن يؤم الرجل بالنساء وحدهن لا رجل معهن أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول أنه قال: ((خير صفوف الرجال المقدم وشرها المؤخر وخير صفوف النساء المؤخر وشرها المقدم)) (1).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه وصف الصف المقدم من النساء بكونه شراً ولا شك أن الشر منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه فاقتضى ظاهر الخبر النهي عن كونهن في الصف الأول فإذا صلى الرجل بالنساء وحدهن كانت صلاتهن في موضع الصف الأول المنهي عنه فلهذا كانت صلاتهن فاسدة.
المذهب الثاني: أن صلاة الرجل وصلاتهن صحيحة وهذا هو رأي الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن النساء صفهن خلف إمامهن على الحد المشروع في الإصطفاف فجازت صلاتهن من غير فساد كما لو كان معهن رجل.
والمختار: ما عليه علماء العترة من المنع من ذلك.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو قوله : ((أخروهن حيث أخَّرَهُنَّ الله )). ولا شك أنا إذا قدمناهن في الصف الأول فقد خالفنا ظاهر هذا الخبر وإذا بطلت صلاة النساء بطلت صلاة الإمام؛ لأن كل من قال ببطلان صلاة النساء قال ببطلان صلاة الإمام إذ لا قائل بالفرق؛ ولقوله : ((شر صفوف النساء المقدم )). ولا شك أن الإمام مما يلي الصف المقدم والشر منهي عنه فلهذا كان دالاً على الفساد، فحصل من مجموع ما ذكرناه بطلان صلاة الإمام وبطلان صلاة النساء إذا كان لا رجل معهن لما ذكرناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: صفُّ النساء على الحد المشروع فجازت صلاتهن كما لو كان معهن رجل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن صفهن كان على الحد المشروع لأن من جملة المشروع أن يكون معهن رجل.
__________
(1) ورد الحديث في مسانيد أبي عوانة1/378 وأحمد2/336، وابن أبي يعلى2/354.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما روينا من الأخبار لأن القياس لا يعارض الأخبار ولا يكون للقياس حكم مع الخبر، وروي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه منع من صلاة الرجل بالنساء اللاتي لا رجل معهن ومثل هذا لا يصدر إلا عن توقيف من جهة الرسول لأنه لا مساغ للإجتهاد في مثل هذا وإنما مصدره ما كان من جهة الرسول .
نعم، فإذا كان الرجل معهن ونوى الإمام الصلاة بها وبه أو بهن وبه فلا خلاف بين أئمة العترة وبين الفقهاء في صحة الصلاة بالرجل وبهن لأنه قد وافق المشروع في صحة الصلاة بهن وبه.
المسألة السابعة: وإذا تقرر تحريم الصلاة جماعة بالنساء لا رجل معهن، فإذا قامت المرأة إلى جنب الرجل في شيء من الصفوف فهل تفسد صلاة من عن يمينها وشمالها ومن خلفها من الصفوف ولو كانوا عدة من الصفوف الكثيرة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: فساد ما ذكرناه، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((أخّروهن حيث أخَّرهن الله )).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن الله تعالى أمر بتأخيرهن وفي هذا دلالة على تحريم القيام بجنبهن والأمر للوجوب إلا لدلالة خاصة، وإن كان واجباً كان ترك الواجب معصية مضادة للقربة بالصلاة.
المذهب الثاني: جواز ذلك، وهذا هو رأي الشافعي ومالك.
والحجة على هذا: وهو جواز صلاة الرجال، وصلاة المرأة هو أن هذه صلاة لو وقف الرجل فيها قدَّام النساء لصحت صلاته فهكذا إذا وقف معهن، دليله صلاة الجنازة.
والمختار: ما قاله أئمة العترة، وهو محكي عن أبي حنيفة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو قوله : ((شر صفوف الرجال المؤخر وشر صفوف النساء المقدم)). وقد وصفه بالشر والشر منهي عنه والنهي دال على الفساد.
والحجة الثانية: قوله : ((ألا لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ))(1).
وإذا صلى إلى جنبها فقد خلى بها وهذا نهي والنهي دال على الفساد في العبادات خاصة.
الحجة الثالثة: ما روي عن الرسول أنه صلى في بيت أم سلمة فأقام أنساً واليتيم معاً ثم أقام أم سليم خلفهما مع نهيه عن صلاة المنفرد خلف الصف وفي هذا دلالة على أنه لم يكن لها المقام في صف الرجال.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: صلاة لو وقف فيها الرجل قدَّام النساء لصحت صلاته فهكذا إذا وقف معهم دليله صلاة الجنازة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم اشتراك المرأة للرجل في صلاة الجنازة؛ لما روي أن الرسول رأى نسوة في جنازة ولده إبراهيم فقال لهن: ((أتحملن فيمن يحمل ))؟ فقلن: لا. فقال: ((أتصلين على الموتى مع من يصلي))؟ فقلن: لا. فقال: ((أتدلين فيمن يدلي))؟ فقلن: لا. فقال: ((يامفتنات الأحياء ومؤذيات الأموات إرجعن مأزورات غير مأجورات)) (2).
فبطل بما ذكرناه بطلان المشاركة للرجال في صلاة الجنازة بما ذكرناه من الخبر فلا يقاس عليه.
وأما ثانياً: فلأن قياسكم هذا لا يعارض بما ذكرناه من الأخبار التي رويناها؛ لأن القياس لا يعارض الخبر كما أوضحناه غير مرة.
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه14/399 وهو في (المستدرك) على الصحيحين1/199، وفي مسند البزار9/272، وأبي يعلى1/133، والحميدي1/19.
(2) رواه عبد الرزاق في مصنفه3/456، وأورده في (الجواهر)1/316 نقلاً عن (الشفاء) عن محمد بن الحنفية عن علي .
المسألة الثامنة: وإذا كانت صلاة الرجال لا تبطل بوقوف المرأة. قال السيد أبو طالب: ومرور المرأة فيما بين صفوف الرجال لا يكون مبطلاً لصلاة الرجال وإنما يبطل بالمشاركة لهم في الصلاة وبأي شيء تكون المشاركة. فالإجماع منعقد على أن نية الإمام كونه إماماً لها تكون مشاركة لا محالة وعلى هذا تبطل صلاتها وصلاة الرجال من عن يمينها ويسارها ومن وارئها من الصفوف، فإذا لم ينو الإمام فهل تكون مشاركة له؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها لا تدخل في الصلاة على جهة المشاركة إلا بأن ينوي الإمام الصلاة بها فإن لم ينو لم تكن داخلة في الصلاة، وهذا هو رأي القاسمية ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الإمام قد لحق صلاته نقص وفساد من جهتها إذا قامت إلى جنبه فوجب ألا يكون الأمر كذلك إلا إذا نوى أن يكون إماماً لها كما أن المؤتم لما كان تفسد صلاته بصلاة الإمام لم تنعقد صلاته بصلاة الإمام إلا إذا نوى الإئتمام به.
المذهب الثاني: أنها تكون داخلة في صلاة الإمام نوى أو لم ينو وهذا هو رأي الشافعي ومحكي عن مالك وزفر.
والحجة على هذا: قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) فأوجب على المؤتم أن يعقد صلاته بصلاة الإمام بالنية ولم يوجب ذلك على الإمام وفي هذا دلالة على أن نية الإمام غير واجبة.
والمختار: أن صلاة المرأة لا تكون مفسدة لصلاة الإمام والمأمومين إلا إذا دخلت معهم على نعت المشاركة ولن تكون المشاركة إلا بأن ينوي الإمام أنه إمام لها فعلى هذا يتعقل دخول الفساد والنقص فأما بمجرد الدخول فلا.
وحجتهم أعني القاسمية والحنفية: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن الأصل هو صحة صلاة الإمام والمأمومين ولم يعرض إلا مجرد صيرورة المرأة معهم وهو معصية لأجل مخالفة الأمر والنهي بوقوفها والمعصية مختصة بها لمخالفتها للأمر، وبطلان صلاة الإمام والمأموم إنما وقع بالسراية من جهتها ولا تعقل السراية إلا بنيَّة الإمام أن يكون إماماً لها فلهذا بطلت الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)). فأوجب على المؤتم النية ولم يوجبها على الإمام وفي هذا دلالة على أن نيته غير واجبة فلا يشترط في فساد صلاة الإمام والمؤتمين كما قلناه.
قلنا: قد قدمنا فيما سبق أن نية الإمام غير واجبة وإنما لم تكن واجبة للأدلة التي ذكرناها من قبل، ومن جهة أنه لا يلحق صلاة الإمام فساد بصلاة الرجال بخلاف المرأة فإنه يلحق صلاة الإمام والمأمومين فساد بصلاتها فلهذا لم يكن بدٌّ من نية الإمام كونه إماماً لها فافترقا.
المسألة التاسعة: وإذا قلنا ببطلان صلاة الإمام والمأمومين بمشاركة المرأة لهم في الصلاة فهل تكون صلاتها باطلة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن صلاتها باطلة وهذا هو رأي القاسمية.
والحجة على هذا: قوله : ((أخِّرُوهن حيث أخَّرَهن الله )). فظاهر الخبر دال على الأمر ومخالفة الأمر معصية فلهذا كانت عاصية بالتقدم.
المذهب الثاني: أن صلاتها مجزية، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على هذا: هو أن عصيانها في الموقف لا يوجب بطلان صلاتها ولهذا فإنها إذا أمت الرجل كانت عاصية ولا تبطل صلاتها.
والمختار: هو بطلان صلاتها كما هو رأي أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو قوله : ((شر صفوف النساء المقدم)). والشر منهي عنه والنهي يقتضي الفساد فلأجل هذا قضينا بفساد صلاتها لأجل تقدمها.
ومن وجه آخر: وهو أنها عاصية في الموقف مع الرجال كما لو كانت متقدمة على الإمام.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: عصيانها في الموقف لا يوجب بطلان صلاتها كما لو أمَّت الرجال.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نُسَلِّمُ الأصل المقيس عليه فإن عندنا أن صلاتها باطلة إذا أمَّت الرجل لأنها عاصية في الموقف فلهذا قضينا بالبطلان لصلاتها.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا صحة صلاتها إذا أمّت الرجل فقد تركت هاهنا فرضاً من فروض الصلاة وهو التأخر عن الرجال فإنها مأمورة بذلك وما هذا حاله مفسد للصلاة.
قالوا: المأموم إذا ترك موقفاً مسنوناً له إلى موقف آخر يكون مسنوناً له لم تبطل صلاته كالرجل إذا ترك الصف المقدم ووقف في الصف المؤخر.
قلنا: هذا فاسد فإن هذا ليس مماثلاً لمن نحن فيه فإن الرجل إذا تأخر إلى الصف الأخير فليس منهياً عنه فهلذا لم تكن صلاته فاسدة بخلاف المرأة فإنها إذا تقدمت إلى الصف الأول فهي منهية عنه، فلا جرم قضينا بفساد صلاتها فافترقا، فبطل ما قالوه.
المسألة العاشرة: ويجوز أن يأتم المقيم بالمسافر عند أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يعلم فيه خلاف لما روي عن الرسول أنه أقام بمكة ثماني عشرة ليلة يصلي ركعتين ثم يقول: ((يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين فإنا قوم سفر )) (1).
فالخبر دال على جواز القصر وعلى جواز صلاة المقيم خلف المسافر، وروي عن ابن عمر ذلك ولأنه غير مخالف لإمامه فيما يجب عليه اتباعة فيه فأشبه اللاحق للإمام في صلاته، وهل يجوز أن يأتم المسافر بالمقيم أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك إلا فيما يتفق فرضاهما فيه وهو المغرب والفجر وهذا هو الذي نصه الهادي في الأحكام، وهو رأي القاسم ومحكي عن طاووس والشعبي وداود من أهل الظاهر وبه قالت الإمامية.
__________
(1) رواه البيهقي في (السنن الكبرى)3/153، وأحمد في مسنده4/430، والطبراني في (الكبير)18/208 بروايات في بعضها زيادة: ((...ركعتين أخريين-و- أخراوين)).
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به)). وهذا يقتضي وجوب متابعته له في جميع أقواله وأفعاله والمسافر إذا ائتم بالمقيم فلا يكون تابعاً له في أقواله وأفعاله لأن قعوده في الثانية يكون فرضاً عليه وهو للإمام نفل فيؤدي ذلك إلى أن يسلم قبل تسلميه فيكون مخالفاً له وقد قال : ((لا تختلفوا على إمامكم)).
الحجة الثانية: قياسية. وهو أن فرض أحدهما مخالف لفرض الآخر فإن فرض المسافر ركعتان وفرض المقيم أربع فقد خالفه في النية وفي عدد الركعات فلا تكون مجزية مع هذا الاختلاف لما ذكرناه من ظاهر الخبر.
المذهب الثاني: جواز ذلك، وهذا هو رأي زيد بن علي والباقر وأحمد بن عيسى ومحكي عن المؤيد بالله والفريقين الحنفية والشافعية وهو المحكي للهادي في كتابه (المنتخب).
والحجة على هذا: هو أن الأدلة الشرعية الدالة على فضل صلاة الجماعة لم تفصل بين أن يكون الإمام مسافراً أو مقيماً فلهذا قضينا بصحة صلاة المسافر خلف المقيم.
والمختار: ما ذهب إليه زيد بن علي ومن قال بمقالته.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن إسم الإئتمام لاحق بالمسافر خلف المقيم فلهذا جاز له الائتمام به ولأنه لم ينقص عليه إلا خروجه من الصلاة قبل الإمام في الركعتين الأوليين ومثل هذا غير ضار في صلاته لأجل العذر ولأن الخروج عن الإمام في إمامة الصلاة جائز لأجل الأعذار.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن رسول الله أنه قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) وهذا يقتضي وجوب المتابعة ولا شك أن المسافر يخالف إمامه المقيم فلهذا لم تصح صلاته.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نقول بموجب الخبر فإن المسافر قد تابع إمامه في أقواله وأفعاله ولكن عرضت المخالفة في أمر هو معذور فيه فلم يكن ذلك موجباً لفساد صلاته.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما أوردناه من الأخبار الدالة على المواضبة على صلاة الجماعة فإنها لم تفصل بين المسافر والمقيم.
قالوا: فرض المقيم يخالف فرض المسافر لأن فرض المقيم أربع وفرض المسافر ركعتان فإذا صلى المسافر خلف المقيم كان قد خالفه وهو منهي عن المخالفة.
قلنا: المخالفة مغتفرة إذا كانت لعذر ولا تغتفر من غير عذر، ولهذا فإن المأموم يخالف الإمام إذا سلم على ركعة واحدة ويخالفه إذا قام إلى الخامسة فمطلق المخالفة لا يفسد الصلاة وهاهنا المخالفة لعذر فلهذا لم تكن مفسدة للصلاة.
المسألة الحادية عشرة: وإذا قلنا بصحة صلاة المسافر خلف المقيم فإذا دخل معه في الصلاة فأي شيء يتوجه عليه؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه إذا أدرك معه الصلاة لزمه الإتمام أربعاً وهذا هو رأي زيد بن علي والباقر وأحمد بن عيسى والفريقين الحنفية والشافعية.
والحجة على هذا: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). وهذا إذا صلى خلف إمامه ركعتين فقد خالفه في عدد الركعات فلهذا قلنا بوجوب الإتمام عليه ليخلص عن المخالفة.
المذهب الثاني: أنه إن أدرك مع الإمام ركعة بكمالها لزمه إتمام الركعات وإن أدرك بعض الركعة لزمه صلاة المسافر وسلم وخرج، وهذا هو رأي مالك.
والحجة على هذا: هو أنه إذا أدرك الركعة بكمالها فهو مدرك للصلاة؛ لقوله : ((من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها ومن أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدركها)) وسماه مدركاً بإدراك الركعة بكمالها فهكذا هاهنا يعمل على صلاة المقيم بإدراك الركعة بكمالها وإذا أدرك بعض الركعة عمل على صلاة المسافر وسلم على ركعتين.
المذهب الثالث: أنه يعمل على صلاة المسافر ولا يلزمه الإتمام وهذا هو رأي الإمامين الهادي والمؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو أن السفر عزيمة ودخول المسافر في صلاة المقيم لا تغير فرضه مع قيام السبب في القصر وهو السفر فلهذا لم يكن فرض المقيم لازماً له وإذا قلنا بأن فرضه لا يتغير فما المتوجه عليه؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه إذا دخل معه من أول الصلاة فهو مخير إن شاء خرج في الركعتين الأوليين لأنه معذور في الخروج لأنهما فرضه، وإن شاء قعد في الركعتين الأخريين حتى يسلم الإمام من الأربع ثم يسلم معه؛ لأنه معذور في هذه المخالفة ثم هو أيضاً مخير في جعل أي الركعتين فرضه إما الأوليان وإما الأخريان، وهذا هو رأي المؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو أن فرضه في القصر عير متعذر لأنه عزيمة في حقه فلا تبطل بالدخول ثم إنه مخير فيما ذكرناه من هذه الصورة.
القول الثاني:أنه إن دخل مع الإمام المقيم من أول صلاته فإنه يجعل الركعتين الأوليين نافلة له ويجعل الأخريين فرضه، وهذا هو رأي الهادي في (المنتخب).
والحجة على هذا: هو أنه إذا فعل ما ذكرناه كان سالماً عن مخالفة الإمام في فرضه لأنه يسلم بتسليمه.
والمختار: أن القصر رخصة والاتمام أفضل كما سنوضح القول فيه وإذا كان رخصة ودخل مع الإمام المقيم في الصلاة فإن الأفضل له الإتمام؛ لأن الإمام حاكم عليه لقوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا)). وعلى هذا يكون، وإذا كان متماً للصلاة فأتموا لقوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). وهذا يقتضي ما ذكرناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوروده.
قالوا: الواجب عليه صلاة السفر؛ لأنه عزيمة فبدخوله مع الإمام لا يخرجه عن عزيمة السفر، فالواجب عليه ركعتان.
قلنا: سنوضح أن القصر رخصة وإذا قام البرهان الشرعي على كونه رخصة فالإتمام مع الإمام أفضل ولا حاجة إلى مخالفة الإمام لما فيه من فساد الصلاة.
قالوا: إذا أدرك ركعة بكمالها وجب عليه الإتمام وإن أدرك دون الركعة فهو باقٍ على صلاة السفر.
قلنا: القصر رخصة فلا فرق بين أن يدرك مع الإمام ركعة كاملة أو بعض ركعة في أنه يلزمه الإتمام لأجل التزامه بالدخول في صلاة المقيم، فهذا ما أردنا ذكره في صلاة الأكمل خلف الأنقص ونرجع إلى التفريع.
الفرع الثاني عشر: وهل يجوز للمفترض أن يأتم بالمفترض في صلاة أخرى مخالفة كمن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر أم لا؟ فيه مذاهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك، وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، وهو محكي عن أبي حنيفة ومالك والزهري وربيعة ويحيى الأنصاري(1).
والحجة على هذا: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). وهذه مخالفة فيجب ألا تجوز.
الحجة الثانية قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا)). وفي هذا دلالة على أن مخالفته لا تجوز وأن متابعته واجبة.
المذهب الثاني: جواز ذلك، وهذا هو رأي الشافعي وهو محكي عن عطاء وطاووس والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
__________
(1) يحيى الأنصاري السلمي، من ولد كعب بن مالك، روى حديثه الليث بن سعد عن عبد الله بن يحيى عن أبيه عن جده أن جدته خيره امرأة كعب بن مالك أتت رسول الله بحلي لها... الحديث.
والحجة على هذا: ما روي أن معاذاً كان يصلي مع رسول الله العشاء ثم يرجع إلى قومه من بني سلمة فيصلي بهم العشاء هي له تطوع لأنه قد قضى فرضه مع الرسول فأخر رسول الله ليلة صلاة العشاء ثم رجع معاذ إلى قومه فصلى بهم واستفتح بسورة البقرة فتنحى عنهم رجل وصلى، فقال له قومه: نافقت، فأتى النبي فقال: يارسول الله إن معاذاً يصلي معك العشاء ثم يرجع إلينا فيصلي بنا فأخَّرْت العشاء فرجع إلينا فصلى بنا واستفتح بسورة البقرة فتنحيت وصليت وحدي، وإنَّا أصحاب نواضح نعمل بأيدينا، فقال الرسول : ((أفتان أنت يا معاذ)). وأمره أن يقرأ سورة كذا وكذا، وفي رواية أخرى وأمره أن يقرأ سورة والسماء والطارق وسبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى(1).
ووجه الدلالة من الخبر: أن الرسول صوبه على صلاته بقومه بعد صلاته مع الرسول وهذا هو موضع الخلاف؛ ولأن الإقتداء يقع في الأفعال الظاهرة وذلك ممكن مع اختلاف النية.
والمختار: المنع من ذلك كما هو رأي أئمة العترة.
وحجتهم: ما حكيناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن هذه إن لم تكن مخالفة للإمام فلا معنى للمخالفة؛ ولأن نية الإمام مخالفة لنية المأموم فوجب أن لا تصح إمامته به كما لو صلى الجمعة بمن يأتم بالظهر.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي أن معاذاً كان يصلي مع الرسول الفريضة أو العشاء أظنه(2)
ثم يصلي بقومه وهذا هو موضع الخلاف فيجب القضاء بجوازه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فيحتمل أن معاذاً كان يصلي مع الرسول نافلة ويصلي بأصحابه الفريضة فلا حجة فيما قلتموه(3).
__________
(1) يبدو أن الاستدلال هنا في غير موضعه؛ لأن موضعه اختلاف الفرضين وليس المفترض خلف المتنفل، ومكانه الفرع الثالث عشر كما سيأتي، والله أعلم.
(2) كلمة (أظنه) يبدو أنها من الراوي، والثابت الشائع أنها العشاء.
(3) في هامش الأصل: ولهذا قال له الرسول : ((إما أن تخفف بهم وإما أن تجعل صلاتك معنا)) يعني الفرض. ا هـ.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكرتموه معارض بما رويناه من الأخبار وإذا تعارضا فلابد من الترجيح لكن أخبارنا أرجح؛ لأنها دالة على الحظر وأخباركم دالة على الإباحة وما دل على الحظر أولى مما دل على الإباحة لما في الحظر من الإحتياط للدين فلهذا كانت بالقبول أحق.
قالوا: الإقتداء يقع في الأفعال الظاهرة وذلك ممكن مع اختلاف النية.
قلنا: الخبر دال على المنع من المخالفة في الأفعال الظاهرة كما دل على امتناع الإختلاف في النية.
الفرع الثالث عشر: يجوز للمتنفل أن يأتم بمن يصلي الفرض كمن يصلي أربع ركعات نافلة عقيب من يصلي الظهر أو العصر أداء، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الفقهاء ولا خلاف فيه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه صلى الظهر فرأى رجلين لم يدخلا معه في الصلاة فلما فرغ منها قال: ((عليَّ بهما)) فجاءا ترعد فرائصهما. فقال: ((أمسلمان أنتما))؟ فقالا: نعم يارسول اللّه. فقال: ((ما منعكما أن تصليا معنا ))؟ فقالا: يارسول الله كنا قد صلينا في منازلنا. فقال لهما: ((إذا صليتما في منازلكما ثم وجدتما ناساً يصلون فصليا معهم فتكون هذه نافلة وتلك فريضة)). وهل يجوز الائتمام للمفترض بمن يصلي نافلة كمن يصلي الظهر أو العصر خلف من يصلي أربع ركعات نافلة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك وهذا هو أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). ولم يفصل في ذلك. ومن صلى الفرض خلف من يصلي النافلة مقتدياً به فقد خالفه لا محالة.
الحجة الثانية: قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به والمراد من الخبر هو المتابعة في كل أقواله وأفعاله ومن صلى الفرض خلف من صلى النافلة فلم يتابعه فدل ذلك على صحة ما يقوله.
المذهب الثاني: الجواز وهذا شيء يحكى عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي أن الرسول صلى ببطن النخل صلاة الخوف فصلى بطائفة ركعتين ثم صلى بطائفة ركعتين وسلم ولابد من أن يكون في إحدى الصلاتين متنفلاً لأنه في السفر ففرضه ركعتان(1).
والمختار: ما عليه علماء العترة من المنع من ذلك.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن نية المأموم الفرض ونية الإمام النفل ولا شك أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام فلا يصح أداء الفرض بنية النفل ولأن هذه مخالفة للإمام في مقصود النية فلا تصح الصلاة لقوله: ((لا تختلفوا على إمامكم)). والنهي يقتضي الفساد.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: صلى الرسول ببطن النخل ركعتين بطائفة وركعتين بطائفة أخرى ولابد من أن تكون إحداهما نفلاً وفي هذا دلالة على ما قلناه.
قلنا: عن هذاجوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما فعل ذلك لأنه كان يجوز أداء الفرض مرتين ثم نسخ ذلك بقوله: ((لا ظهران في يوم ولا عصران في يوم )).
وأما ثانياً: فلأن القصر رخصة فلعله كان متماً فصلى بطائفة ركعتين وبطائفة أخرى ركعتين لأجل العذر بالخوف والتزام صلاة الجماعة.
قالوا: روي أن معاذاً بن جبل كان يصلي مع الرسول صلاة العشا ثم يعدو إلى أصحابه فيصلي بهم هذه الصلاة فيكون له فرضاً ولهم تطوعاً.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه حكاية فعل مجملة لا ندري كيف وقعت فلا يجوز الاحتجاج بها لإجمالها.
وأما ثانياً: فلعله كان يصلي مع الرسول نافلة وبقومه الفرض كما قدمنا فلا يكون فيه دلالة على ما قالوه.
الفرع الرابع عشر: وهل يجوز أن يأتم القاضي بالمؤدي فيقضي صلاة العصر خلف من يؤدي العصر أو المؤدي بالقاضي فيؤدي الظهر خلف من يقضي الظهر أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) أخرجه البيهقي في (السنن الكبرى)3/259، والشافعي في مسنده1/57.
المذهب الأول: المنع من ذلك، وهذا هو رأي الهادي والقاسم والناصر ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه(1).
والحجة على هذا: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). وما هذا حاله فهو اختلاف من جهة أن القضاء يخالف الأداء.
المذهب الثاني: جواز ذلك، وهذا هو رأي المؤيد بالله قديماً، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: خبر معاذ فإنه إذا جاز أن يصلي المُفْتَرِضُ خلف المتنفل جاز أن يصلي المؤدي خلف القاضي لاشتراك الصلاتين في كونهما واجبتين.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله والشافعي.
وحجته: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن المؤداة والمقضية قد اشتركتا في الوجوب وفي الجنسية ولم تختلفاً إلا في نية القضاء والأداء ومثل هذا لا يطرق خللاً في الإقتداء فإن اتفقا في الوجوب واختلفا في الجنسية نحو أن يؤدي الظهر خلف من يقضي العصر أو يقضي العصر خلف من يؤدي الظهر فهل يجوز ذلك أم لا؟ فالذي يأتي على رأي العترة أنه غير جائز والذي يأتي على كلام الشافعي أنه جائز.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه في الصلاتين إذا اشتركتا في الوجوب وفي الجنسية وهو الذي اخترناه.
قالوا: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). وهذا هو اختلاف لا محالة.
قلنا: الاقتداء يقع في الأفعال الظاهرة وذلك ممكن مع اختلاف النية في القضاء والأداء فإن ذلك مغتفر كما أشرنا إليه، والله أعلم. وهل يجوز أن يصلي الفرض خلف من يصلي على الجنازة أو خلف من يصلي صلاة الكسوف؟ فالذي يأتي على رأي أئمة العترة أن ذلك غير صحيح.
__________
(1) في هامش الأصل: أن هذا القول رجع إليه المؤيد بالله أخيراً.
والحجة على هذا: هو أنه لا يمكنه الاقتداء مع اختلاف الأحوال، وهذا هو نقل أهل بغداد من أصحاب الشافعي، فأما أهل خراسان فقد جوّزوا ذلك على رأي الشافعي بتلفيق ذكروه مع اختلاف حال الصلاتين، وهل يصح أن يقتدي من يصلي المغرب بمن يصلي العشاء؟ فعلى رأي أئمة العترة لا يجوز ذلك لقوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). ولأنه يؤدي إلى أن يخرج من الصلاة قبل خروج الإمام، وحكى المسعودي من أصحاب الشافعي جواز ذلك ويكون معذوراً في الخروج.
الفرع الخامس عشر: قال المؤيد بالله: ولا يجوز الائتمام بمن يصر على معصية لا يرتكبها غالباً إلا من كان فاسقاً وإن لم يمكن القطع على كونه فاسقاً بها، وهذا جيد لأن ارتكابه لها وفعله إياها يدل على ركَّة في الدين وجرأة على اللّه، وإن لم تكن فسقاً بنفسها فلا تجوز إمامته لقوله : ((لا يؤمكم ذو جرأة في دينه)). ومثاله: من يكون مولعاً ببيع الخمر وشرائها فإن هذا وإن لم يكن فسقاً فإنه دال على جرأة على الله في إرتكاب المحظور لأن الغالب أن من كان مولعاً ببيعها وشرائها فإنه يشربها لا محالة. ومثال آخر: من كان مولعاً بالدخول على الشربة وقضاء حوائجهم ومنادمتهم فإن هذا وإن لم يكن فسقاً فهو جرأة لأن الغالب فيمن يباشر أحوالهم وينادمهم أنه يشرب معهم لا محالة.
ومثال آخر: من كان مولعاً بالدخول على الزواني والمباشرة لهن فإن هذا وإن لم يكن فسقاً فإنه لا يفعله إلا من كان زانياً فاجراً فلهذا منعنا من إمامته للصلاة وإن لم يكن فاسقاً لما ذكرناه من التهاون في الدين. وقال أيضاً(1)
__________
(1) يقصد المؤيد بالله.
: ومن صلى خلف رجل ظاهره الستر والعفاف ثم انكشف حاله خلاف ذلك لم تلزمه الإعادة وهذا جيد أيضاً لأن الصلاة من الأمور العملية فيعمل فيها على ظاهر الحال فإذا تبيَّن خلاف ذلك من فسق أو ردَّة فلا تلزم الإعادة؛ لأنها قد أجزت بظاهر الحال وعروض ما يعرض لا يؤثر لأن علم العواقب إلى الله تعالى فلا يكلف أحد بعلم الله تعالى.
---
خاتمة لهذا القسم
واعلم أن من خالفنا في مسائل التكليف فلا يخلو حاله إما أن يكون خلافه في المسائل الدينية أو في المسائل الأصولية، أو يكون في المسائل الاجتهادية، فهذه ثلاث مراتب نذكر ما يتعلق بكل واحدة منها في حكم الخطأ فيها هل يكون كفراً أو فسقاً أو خطأ لا غير أو يكون صواباً. فهذه ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: في بيان حكم الخلاف في المسائل الدينية وتارة يكون كفراً ومرة يكون خطأ فهذان ضربان:
الضرب الأول: ما يكون كفراً، وهذا نحو الخلاف في إثبات الصانع وجحدانه من [قبل] الملاحدة والطبعية وأهل النجوم والمعطِّلة والدهرية وهكذا من خالف في نفي القادِرَّية والعِالميَّة وسائر صفات الله تعالى وجحد أصلها، فمن هذه حاله فإنه يكون كافراً لا محالة لمخالفته في هذه المسائل بالكفر والجحود.
الضرب الثاني: ما يكون خطأ لا غير وهذا نحو خلاف المتكلمين من المعتزلة وغيرهم من فرق الإسلام في صفة القادرية والعالمية وسائر الصفات بعد إثباتها والإقرار بها هل تكون حكماً أو صفة أو إثباتاً أو نفياً؟ فما هذا حاله ليس كفراً ولا فسقاً وإنما هو خطأ لا غير؛ لأن الحق فيه واحد فلا جرم قد تحققنا الخطأ ولم يدل دلالة على كونه من قبيل الكفر أو الفسق. فالأول(1)
لا تجوز الصلاة خلفهم لكفرهم وخروجهم عن الدين، والآخرون تجوز الصلاة خلفهم؛ لأن خطأهم إنما هو في أمور لا تدل على جرأة في الدين وإنما خطأهم فيما يتعلق بالخطأ في الأنظار في المسائل الدينية.
__________
(1) أي من يدخلون ضمن الضرب الأول.
المرتبة الثانية: في حكم الخلاف فيما يتعلق بالمسائل الأصولية وهذا نحو الخلاف في أن الأمر للوجوب وأن النهي يدل على الفساد وأن في اللغة لفظة موضوعة للعموم إلى غير ذلك من المسائل الأصولية، فما هذا حاله فيها أدلة قاطعة فالحق فيها واحد، لكنه لا يتعلق بالخطأ فيها شي من الإكفار والتفسيق وإنما يكون خطأ لا غير وعلى هذا فالخطأ لا يقطع، وتجوز الصلاة خلف من يخالف في هذه المسائل كما أوضحناه والله أعلم.
المرتبة الثالثة: ما لا يتعلق بها خطأ فضلاً عن الكفر والفسق وإنما هي صواب كلها وهذه هي المسائل الاجتهادية فإنا قد قررنا أن التصويب شامل لجميع المسائل الخلافية في الأبواب الفقهية والمسائل الشرعية والخطأ فيها لا وجه له كما أوضحناه وقد قررنا الكلام فيها في الكتب الأصولية وذكرنا أن الخلاف فيها لا يمنع من الاقتداء لأن الكل مصيب فيما ذهب إليه. وبتمامه يتم الكلام على هذا القسم في بيان [من] لا تجوز إمامته. والله الموفق للصواب.
---
القسم الثالث: في بيان من تكره إمامته في الصلاة
اعلم أن المكروه في لسان حَمَلَةِ الشريعة يطلق على معان:
أولها: أنه يطلق على المحظور فيقال بأن أكل الميتة مكروه والغرض تحريمه وهو أقلها إطلاقاً.
وثانيها: أن يطلق ويراد به ترك الأفضل كما يقال: ترك الصلاة في آخر الليل مكروه. على معنى أنه تارك لما هو الأفضل والأحق.
وثالثها: يطلق ويراد به التنزيه كما يقال: يكره الأكل بالشمال، والإستجمار باليمين. على معنى أنه ينبغي التنزه عما هذا حاله.
ورابعها: نقصان الثواب كما يقال: تكره الصلاة في الثوب المشبع صبغاً بالعصفر والورس على معنى أن ثوابها ناقص مع كونها مجزية، فهذه معان الكراهة.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: يكره أن يؤم الرجل قوماً وهم له كارهون؛ لما روى أبو داود في سننه أن الرسول قال: ((لا تقبل الصلاة من ثلاثة من رجل تقدَّم قوماً وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دباراً))(1)
وله معنيان:
__________
(1) جاء في هامش الأصل: قال ابن الأثير: دبار أي بعدما يفوت وقتها، وقيل دبار جمع دبر، وهو آخر أوقات الشيء، ومنه {وأدبار السجود} ويقال: فلان ما يدري قبال الأمر من دباره، أي ما أوله من آخره، والمراد أنه يأتي الصلاة آخر وقتها، ومنه الحديث: ((لا يأتي الجماعة إلا دبرا)) ويروى بالضم والفتح، وهو منصوب على الظرفية، وحديث ابن مسعود: ((ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبراً)) وحديث أبي الدرداء: ((هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبرا)) والحديث الآخر: ((لا يأتي الصلاة إلا دبريا)) يروى بفتح الباء وسكونها، وهو منسوب إلى الدبر آخر الشيء، وفتح الباء من تغييرات النسب ونصبه على الحال من فاعل يأتي، ذكره في النهاية.
…قال ا لجوهري:قال أبو زيد: فلا يصلي الصلاة إلا دبرياً بالفتح أي في آخر وقتها، والمحدثون يقولون: دبريا بالضم، ويقال أيضاً: شر الرأي الدبري، وهو الذي يسخ آخراً عند فوات الحاجة.
أحدهما: أن يريد في آخر وقتها. وثانيهما: أن يريد بعدما فرغ الإمام من الصلاة لتفريطه ((ورجل اعتبد محرراً)). وفي حديث آخر: ((لا يقبل الله صلاة رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون ولا صلاة امرأة زوجها عاتب عليها)) أراد غاضب عليها ((ولا صلاة عبد آبق حتى يرجع)). فإن كان الرجل غير مصلح في أمر دينه فإنه يحرم عليه التقدم للصلاة؛ لما روى الترمذي في صحيحه عن الرسول أنه قال: ((لعن الله رجلاً أمَّ قوماً وهم له كارهون وامرأة بات زوجها عليها ساخطاً، ورجلاً سمع حي على الفلاح فلم يجبه)). وفي هذا دلالة على تأكيد أمر إستحباب صلاة الجماعة وظاهره دال على الوجوب والإعتبار بكراهة الأكثر فإن كره الأقل لم يكره لأن أحداً لا يخلو ممن يكرهه، وإن نصب الإمام رجلاً من المسلمين يصلي بهم لم يكره وإن كرهوه كلهم لأنه قد رأى ذلك مصلحة ورأيه أولى من رأي الأكثر.
الفرع الثاني: وتكره الصلاة خلف من عليه صلاة فائتة. قال القاسم: لا يؤم من عليه صلاة فائتة. وحمله السيدان الأخوان على الكراهة، وهذا مبني على أن الواجبات المطلقة على الفور.
ووجه ذلك: هو أن من عليه صلاة فائتة لا يؤمن أن يكون قد أخل بقضائها مع تذكره لها لأن وقت قضائها مضيق عليه لقوله : ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها )). وروي: ((لا وقت لها غيره)). فيكون مخلاً بالواجب عليه فإذا لم يأمن ذلك لم يأمن أن يكون سبيله سبيل من ترك الصلاة عن وقتها، فلهذا قلنا: بأن الواجبات المطلقة لا تقتضي الفور في أدائها.
والمختار: أن الأوامر الشرعية ساكتة لا دلالة فيها على الفور ولا على التراخي إلا بدلالة منفصلة تدل على الفور أو التراخي وقد ذكرنا ما هو المختار في الكتب الأصولية.
الفرع الثالث: قال المؤيد بالله: ومن تاب من الفسق منذ يوم أو أكثر فإنه لا يجوز قبول شهادته حتى يعلم استمراره على التوبة، وأما الصلاة خلفه فإنها أخف حكماً من الشهادة؛ وهذا جيد لأن كل من أَلِفَ مُلاَبَسَه الكبائر من الزنا وشرب المسكر وغيرها من الكبائر فإن الفطام عن المألوف عسير فلا يؤمن رجوعه إذا كان قريب التوبة، فأما إذا صدقت توبته جاز، وهذا إنما يعلم عند تطاول المدة فأما المدة القصيرة فلا يعلم ذلك فيها، فأما الصلاة خلفه فهي أخف حكماً وإنما كانت أخف؛ لأنها حق لله تعالى بخلاف الشهادة فإن الغرض فيها اقتطاع مال فلابد من أخذ الحيطة باختبار أمره وخبرته بالأزمنة المتطاولة التي يعلم فيها صدق حاله فافترقا.
الفرع الرابع: وتكره الصلاة خلف التمتام، وهو الذي يكرر التاء فيقول في تبارك الله: تتبارك اللّه. وفي نحو نستعين: نستتعين يكررها. وخلف الفافاء وهو الذي يكرر الفاء فيقول: ففلله الحمد، والواوا وهو الذي يكرر الواو فيقول في نحو [وإياك] ووإياك لما يزيدون من الأحرف وهي زيادة غير مغبرة للمعنى، فلهذا كرهت الصلاة خلفهم، فإذا صلى المصلي خلفهم صحت صلاته لأنه أتى بزيادة مغلوب عليها. وتكره الصلاة خلف من في كلامه الغُنَّة وهي إشراب الحرف صوت الخيشوم والخُنَّة وهي أشد من الغُنَّة وهو إنما يكون في النون والميم فإذا كثرت كرهت وليست مفسدة لأنها زيادة لا تخل بالمعنى، فأما النون الساكنة نحو عَنْكَ فهي غنة لا محالة لا تنفك عن الغنة وإنما كلامنا في النون الصريحة والميم الصريحة إذا دخلتهما الغُنَّة والخُنَّة وليس فيهما غُنَّة ولا خُنَّة، فلهذا كرهت الصلاة للزيادة اللاحقة بها.
الفرع الخامس: فأما الأرتّ بالتاء المثناة الفوقانية، فهو الذي يدغم أحد الحرفين على الأخر ويُسقط أحدهما ومثاله: أن يقول: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أنعمت عييهم. فيحذف اللام ويبدل مكانها الياء المثناة التحتانية، وأما الألثغ بالثاء المثلثة الفوقانية فهو الذي يبدل حرفاً بحرف ثان يأتي بالثاء مكان السين، فيقول في نستعين: نثتعين وفي المستقيم المثتقيم ويقول في الطاس والكاس الطاث والكاث، وأنشد بعض الفقهاء:
وألثغ قلت له ما اسمه
فصرت من لغثه ألثغاً ... أجابني بالغنج عباث
فقلت أين الطاث والكاث
وأراد اسمه عباس والطاس والكاس. وعن الفراء اللثغة بالثاء المثلثة الفوقانية، [والألثغ]: هو الذي يجعل الراء لاماً والضاد بنقطة من أعلاها ثاء بثلاث من أعلاها. وأما الأليغ بالياء المثناة التحتانية فهو الذي لا يبين الكلام، وأما العقلة بالعين المهملة والقاف فهو الذي ينعقل لسانه عند إرادة الكلام فلا يساعده على النطق بالكلام، وأما الأَلَتَّ بالتاء المثناة الفوقانية فهو الذي يجعل اللام تاء بنقطتين من أعلاها فيقول في أكلت: أكت وفي كلهم: كتهم، وأم العكلة بالعين المهملة والحكلة بالحاء المهملة فهي العجمة في جميع الكلام لا بالإضافة إلى حرف دون حرف بحيث يستبهم كلامه فلا يعرف منه شيء، فما هذا حاله يقال العكْلَة والحكْلَة. فهذه حملة الفسادات التي تلحق اللسان فإن ائتم بهؤلاء من هو على مثل حالهم صحت الصلاة كما إذا ائتم أُمي بأُمي مثله وإن ائتم به القارئ فسدت صلاته كما مرّ بيانه هكذا حكي عن الشافعي رضي الله عنه.
الفرع السادس: وكل من كان في لسانه عجمة بحيث لا يمكنه التكلم بالعربية نحو الروم والترك والحبشة ولم يكن الكلام ممكناً له فإن صلاته صحيحة لنفسه على حد ما يمكنه من القراءة من القرآن لأن ما لا يمكنه فعله لا يكون مكلفاً به ولا يخاطب به لكن لا تصح إمامته إلا لمن كان على مثل حاله ولا يصح لمن كان أفصح منه كما قلناه في حق الأمي والقاريء، فأما إذا لم يكن الفساد من جهة الخلقة ويمكنه إيقاع الكلم على وضعه وحده فإنه إذا تركه كان تاركاً للواجب مخلاً به ويكون حكمه حكم من أخلَّ بالقراءة على الخلاف في تركها كما هو رأي نفاة الأذكار، وقد قدمناه ولنقتصر على هذا القدر في من تكره إمامته، وبتمامه يتم الكلام على الفصل الثاني والحمد الله.
الفصل الثالث في بيان موقف الإمام والمأموم
إذا حضر الرجلان لصلاة الجماعة قام المأموم عن يمين الإمام؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: بت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله فتوضأ وصلى فقمت أنا فتوضأت كما توضأ فقمت عن يساره فأخذ بيدي وقيل: برأسي وحولني عن يمينه وروي: فأدارني من ورائه. وهذا الحديث قد اشتمل على عشرين فائدة:
الفائدة الأولى: أن الواحد يكون موقفه عن يمين الإمام.
الثانية: أنه إذا خالف ووقف عن يساره صحت صلاته.
الثالثة: أنه لا يلزمه سجود السهو.
الرابعة: أنه إذا وقف عن يساره ينبغي أن يتحول إلى جهة يمينه.
الخامسة: أنه إذا لم يتحول حوله الإمام.
السادسة: أنه يحوله بيمينه دون يساره.
السابعة: أنه يديره من خلفه.
الثامنة: أن صلاة النفل يحرم فيها الكلام.
التاسعة: أن النفل يجوز فعله جماعة.
العاشرة: أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة كما فعله الرسول .
الحادية عشرة: أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة كما فعل ابن عباس من المشي القليل.
الثانية عشرة: أن الصبي موقفه كموقف البالغ لأن ابن عباس كان صبياً.
الثالثة عشرة: أن المأموم يدور ولا يدور الإمام.
الرابعة عشرة: المرور بين يدي المصلي يكره؛ لأن الرسول أداره من خلفه ولم يدره من قُدَّامه.
الخامسة عشرة: يجب على النبي البيان لأحكام الشريعة كما فعل الرسول .
السادسة عشرة: أنه يجب على الخلق الإتباع لما قاله الرسول كما فعل ابن عباس رضي الله عنه.
السابعة عشرة: أنه يستحب القيام في الليل للصلاة كما فعل الرسول .
التاسعة عشرة: أن المأموم الواحد لو وقف وراء الإمام صحت صلاته؛ لأنه أداره من خلفه ولم تبطل صلاته.
[الفائدة] العشرون: يستحب التعليم لأحكام الشريعة للصغار وإن لم تكن واجبة عليهم كما فعل الرسول بابن عباس مع كونه صغيراً ولله دَرُّ كلام صاحب الشريعة صلوات الله عليه، فما أغزر معانيه وأكثر فوائده.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: إذا حضر الرجل الواحد مع الإمام فأين يكون موقفة؟ فيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن موقفه يكون عن يمين الإمام، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أكثر الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك.
والحجة على هذا: ما رويناه من حديث ابن عباس رضي الله عنه فإنه وقف عن يساره فأداره إلى يمينه فدل ذلك على أن موقف الواحد مع الإمام عن يمينه.
المذهب الثاني: أن موقفه عن يساره وهذا هو المحكي عن ابن المسيب.
والحجة على هذا: ما جاء في حديث ابن عباس فإنه وقف عن يسار الرسول من أول وهلة ولم تفسد صلاته، وفي هذا دلالة على أن موقفه من أول مرة إنما هو عن يساره فإدارته له عن يمينه إنما كان على جهة الاستحباب.
المذهب الثالث: أن موقفه من ورآئه فإن جاء رجل آخر وقف معه وإن لم يجيء آخر وركع الإمام فإنه يتقدم إلى يمين الإمام وهذا هو المحكي عن النخعي.
والحجة على هذا: هو أن الإمام متبوع والمأموم تابع وليس تعقل التبعية إلا مع تأخره عن إمامه فإذا جاء آخر معه صاراً جماعة، وإن لم يجيء آخر وركع الإمام فإنه يتقدم إلى جنبه كما فعل ابن عباس لكن عقد الواحد مع الإمام يكون من ورائه كما يكون في الجماعة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من الفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى جابر عن الرسول أنه قال: جئت والرسول قائم يصلي حتى قمت عن يساره فأخذ بيدي فأقامني عن يمينه، وهكذا حديث ابن عباس الذي رويناه فإنه أداره إلى يمينه.
ووجه الدلالة من هذين الخبرين: هو أن الرسول لما قام ابن عباس وجابر عن يساره لم يلبث أن حولهما كل واحد منهما منفرداً إلى جهة يمينه، وفي هذا دلالة على أن موقف الواحد إنما هو على يمين الإمام لا غير.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: موقف الواحد على يسار الإمام بحديث ابن عباس وجابر فإنهما عقدا جماعتهما من عن يسار الإمام فدل ذلك على أنه أصل الموقف.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لو كان موقفاً لما غيَّره الرسول وأن الواجب خلافه في الشخص الواحد.
وأما ثانياً: فلأن ابن عباس وجابراً إنما وقفا عن اليسار برأيهما لا بأمرٍ من جهة الرسول وفي هذا دلالة على أن يسار الإمام ليس موقفاً للواحد ولهذا فإن النبي لم يتمالك في تأخيرهما إلى جهة اليمين على السرعة.
قالوا: موقف الواحد خلف الإمام كما هو موقف الإثنين والجماعة فإن جاء واحد وقف معه وإن لم يجيء آخر وركع الإمام تقدم إلى جنبه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد قررنا بحديث ابن عباس وجابر أن موقف الواحد عن يمين الإمام.
وأما ثانياً: فلأنه إذا وجب تقدمه عند ركوع الإمام فيجب تقدمه من أول صلاته أولى وأحق حتى لا تنعقد صلاته من أولها على انفراده فلهذا وجب ما ذكرناه.
الفرع الثاني: وإن حضر رجلان مع الإمام فما هو الواجب في ذلك؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الواجب وقوفهما خلف الإمام، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه وعمر وابن عمر، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روى جابر عن رسول الله أنه قال: صليت مع رسول الله فقمت عن يساره فأدارني حتى أقامني عن يمينه ثم جاء جبار بن صخر(1)
فقام عن يساره فدفعنا جميعاً إلى خلفه فقمنا بعده.
__________
(1) أبو عبد الله جبار بن صخر بن أمية بن خنسا الأنصاري ثم السلمي، روى صاحب (الإصابة) أنه كان في أهل العقبة وأهل بدر، وكان يبعثه رسول الله فيخرص على أهل خيبر بدلاً عن عبد الله بن رواحة بعد استشهاده بمؤته، وكان مع رسول الله في يوم بدر فقال رسول الله : ((من يتقدمنا فيمدر لنا الحوض ويشرب ويسقينا))؟ فقام جبار بن صخر وقال: أنا يا رسول الله... الحديث، وروي عنه قوله: سمعت النبي يقول: ((إنا نُهينا أن نرى عوراتنا)) مات جبار سنة 30هـ وهو ابن 62 سنة.
المذهب الثاني: أنهما إذا كانا اثنين مع الإمام فإن أحدهما يقف عن يمينه والآخر يقف عن يساره فإذا كانوا ثلاثة وقفوا خلفه، وهذا شيء يحكى عن ابن مسعود وروي عنه أنه صلى بعلقمة والأسود فجعل أحدهما عن يمينه وجعل الآخر عن يساره.
والحجة على هذا: ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله إذا كان معه رجلان وقف أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من الفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه قال: أمَّنا رسول الله أنا ورجلاً من الأنصار فتقدَّمنا وخلَّفنا خلفه ثم قال: ((إذا كان اثنان فليقم أحدهما عن يمين الآخر.)).
الحجة الثانية: ما روى سمرة بن جندب أنه قال: أمرنا رسول الله إذا كنا ثلاثة أن يتقدمنا أحدنا. فهذه الأخبار كلها دالة على ما قلناه من تقدم الإمام على الأثنين.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روى ابن مسعود عن رسول الله : ((أنهم إذا كانوا ثلاثة وقف الإمام وسطهم أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الإجماع منعقد بعد ابن مسعود على ما قلناه من جهة الصحابة والتابعين وفي هذا دلالة على نسخه؛لأنهم لا يجمعون إلا عن حجة ودلالة من جهة الرسول وإجماعهم حجة وفيها بطلان مقالته.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما ذكرناه من الأخبار وهي راحجة على ما روى من جهة كثرتها وثقة الرواة لها فلا وجه لما ذكره إلا النسخ، فإن كانوا ثلاثة غير الإمام اصطفوا وراءه، وهذا هو رأي أئمة العترة والفقهاء ولا خلاف فيه. ويستحب تعديل الصفوف لما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا قمتم إلى الصلاة فأقيموا صفوفكم والزموا عواتقكم ولا تدعوا خللاً للشيطان كما يتخلل أولاد الحذف)) (1).
يعني صغار المعز، وأراد بتقويمها عن الإعوجاج وبالتقدم والتأخر، وأراد [بسد] الخلل التقارب والملاصقة وأراد بإلزام العواتق إلصاق بعضها ببعض، وتستحب المجاورة بين المناكب لما روى ابن عمر عن الرسول أنه قال: ((أقيموا الصفوف وجاوروا بين المناكب وسدوا الخلل ولا تذروا خرجات الشيطان))(2).
والخرجات جمع خرجة وهي الفرجة بين الشيئين. وفي حديث آخر: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ))؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: ((يسدون الخلل ويقيمون الصفوف ويلصقون الكعاب بالكعاب))(3).
__________
(1) هذا الحديث ورد من عدة طرق عن أنس بن مالك، وعن النعمان بن بشير،و عن أبي أمامة وغيرهم، وورد في صحيحي ابن خزيمة3/22 في باب الأمر بالمحاذاة بين المناكب والأعناق، وابن حبان5/539، وفي مصنف عبدالرزاق2/46، ومسند أحمد3/260، والحذف بالتحريك: ضأن سود جرد صغار تكون باليمن، وقيل: هي غنم سود صغار تكون بالحجاز، واحدتها: حَذَفة، وقيل: الحذف: أولاد الغنم عامة، اهـ. (لسان العرب)9/40.
(2) أورده البيهقي في (السنن)3/101، وأبو داود1/148، وأحمد2/97.
(3) رواه عن جابر بن سمرة، مسلم 1/322، وابن حبان5/527، والنسائي (المجتبى)2/92، وابن ماجة 1/314.
الفرع الثالث: ويستحب للإمام ومن معه أن يقوموا إذا قال المؤذن: حي على الصلاة. فإذا قال: قد قامت الصلاة. كبر، وهو رأي الهادي في الأحكام ومحكي عن أبي يوسف ومحمد؛ لما(1)
روى عبدالله بن أبي أوفى قال: كان بلال إذا قال: قد قامت الصلاة كبر الرسول ولم ينتظر شيئاً، ومن جهة أن قول المؤذن: قد قامت الصلاة. إخبار عن قيامها فيستحب أن يفعل الإمام ما يكون خبره مطابقاً لمخبره وقد تقدمت المسألة وذكرنا المختار والانتصار له فأغنى عن الإعادة. ويستحب التقدم إلى الصف الأول لقوله : ((لو يعلم الناس ما في الصف الأول لاستهموا عليه )) (2).
وروى البراء بن عازب عن رسول الله أنه قال: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول ))(3).
وأراد أهل الصف الأول. والصلاة من الله تعالى الرحمة ومن الملائكة الدعاء، ويستحب أن يعتمد عن يمين الإمام لما روي البراء بن عازب قال: كان يعجبنا عن يمين رسول الله لأنه كان يبدأ بمن عن يمينه فيسلم عليه. ويستحب إذا وجد في الصف الأول فرجة أن يسدها لما روي عن الرسول أنه قال: ((أتموا الصف الأول ))(4)
__________
(1) في هامش الأصل: في الشرح أن أبا يوسف يقول: لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، وروى نحوه عن محمد.
(2) جاء في صحيح ابن خزيمة3/25، وفي (المغني)10/299و(نيل الأوطار)5/378، وهو مروي عن أبي هريرة بلفظ: ((لو تعلمون -أو- يعلمون ما في الصف الأول لكانت قرعة)).
(3) أخرجه أبو داود عن عائشة، ورواه ابن حبان في صحيحه5/531، والبيهقي في (السنن)3/103، وابن ماجة 1/318.
(4) أخرجه أبو داود عن أنس، ورواه ابن خزيمة3/22، والبيهقي3/102،و النسائي2/93.
فإن كان نقص ففي المؤخر. ويستحب إذا كان النقص في الصف الأول أن يتمه؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((من وصله وصله الله ومن قطعه قطعه الله )) (1).
فإن لم يجد في الصف الأول مدخلاً فهل له أن يجذب رجلاً من الصف يصلي معه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يستحب له أن يجذب ويستحب للمجذوب أن ينجذب فإنه أفضل له، وهذا هو رأي الهادي واختاره السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب، ومحكي عن الشافعي والمحاملي من أصحابه وقول محمد بن الحسن.
والحجة على هذا:ما روى وابصة بن معبد(2)
عن رسول الله أنه صلى رجل خلفه فقام وحده في الصف فلما قضى رسول الله صلاته نظر فقال: ((يا مُصَلٍّ وحده هلاَّ كنت دخلت في الصف فإن لم تجد سعة أخذت بيد رجل فأخرجته إليك))(3).
المذهب الثاني: أنه يكره له الجذب، وهذا هو رأي أبي حنيفة ومالك والمنصوص في البويطي.
والحجة على هذا: ما روى أنس بن مالك عن رسول الله أنه قال: ((أتموا الصف الأول فإن كان نقص ففي المؤخر )).
والمختار هاهنا: كراهة الجذب لأمرين:
أما أولاً: فلأنه يؤدي إلى نقصان الصف الأول وخرمه، وهو منهي عنه كما ورد في حديث أنس.
__________
(1) هذا جزء من حديث رواه ابن عمر قال: قال رسول الله : ((أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله)) أخرجه أبو داود 1/148، والبيهقي في (السنن)3/101، والنسائي2/93.
(2) هو وابصة بن معبد بن الحارث الأسدي الرقي، سكن الكوفة ثم تحول إلى الرقة، ومات بها، له أحاديث عن النبي منها: أن رسول الله أمر رجلاً رآه يصلي خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة. اهـ. من (الاستيعاب) 4/1563.
(3) رواه البيهقي في سننه3/105، قال: وهو ضعيف، ورواه أبو داود في المراسيل، وهو في معجم الطبراني الكبير22/145، والأوسط 8/208.
وأما ثانياً: فلما فيه من حرمان المجذوب لفضل الصف الأول، وقد ورد فيه من الفضل ما ذكرناه من قبل فلا وجه له.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: حديث وابصة دال على استحباب الجذب فلهذا كان هو الأفضل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإنه محمول على أن المجذوب لم يكن قد دخل في الصف وإنما أراد الدخول فجذبه يصلي معه.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما رويناه من النهي عن خرم الصف الأول ونقصه، وإذا تعارضا وجب الترجيح، ولا شك أن الأحاديث الواردة في فضل الأول أظهر وأشهر فلهذا كان التعويل عليها.
الفرع الرابع: فإن صلى خلف الصف منفرداً فهل تكون صلاته مجزية أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه إذا صلى منفرداً خلف الصف من عذر بطلت صلاته، وهذا هو الذي نصه الهادي في (الأحكام) واختاره السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب، وهو رأي الناصر ومحكي عن الثوري وحمَّاد وإبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل وابن أبي ليلى.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أن الرسول رأى رجلاً صلى خلف الصف فلما انصرف قال له رسول الله : ((هكذا صليت وحدك ليس معك أحد " ))؟ قال: نعم. فقال له: ((قم فأعد الصلاتك))(1).
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال: ((لا صلاة لمن يصلي خلف الصف وحده ))(2).
المذهب الثاني: أنها تكره وتكون مجزية،وهذا هو الذي ذكره أبو العباس، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومروي عن عطاء.
والحجة على هذا: ما روي أن أبا بكر جاء ورسول الله راكع فركع وراء الصف ثم مشى إلى الصف فقال له الرسول : ((زادك الله حرصاً ولا تعد ))(3)
__________
(1) رواه ابن حبان5/580 وأبو يعلى في مسنده3/162.
(2) رواه في شرح معاني الآثار1/394.
(3) أخرجه البخاري1/271، وابن حبان5/568، وأبو داود1/182، والنسائي2/118.
وقد كان افتتح الصلاة خلف الصف وحده من غير عذر ولم يأمره الرسول بالإعادة فدل ذلك على الإجزاء مع الكراهة حيث قال: ((لا تعد)).
المذهب الثالث: جواز الصلاة خلف الصف من غير عذر، وهذا هو قول مالك.
والحجة على هذا: هو أنه موقف للمصلي بدليل حديث ابن عباس حيث أداره من خلفه وحديث أبي بكر حيث افتتح الصلاة وحده وصوَّبه الرسول على فعله، ومن جهة أن وراء الصف موقف لمن صلى فجازت صلاته كما لو كان معه غيره.
والمختار: ما قاله أبو العباس من جواز الصلاة مع الكراهة.
والحجة على هذا: ما ذكرناه نُصْرةً لكلام أبي العباس ونزيد هاهنا وهو أن وراء الصف موقف مشروع؛ لما رويناه من حديث أمير المؤمنين كرم الله وجهه هو والرجل الأنصاري حين أدارهما الرسول إلى ورآئه ولما كان من حديث ابن عباس حين أدآره من ورآئه؛ ولما روي من حديث أبي بكر حين كبر منفرداً عن الصف ثم مشى إلى الصف، فهذه الأخبار كلها دالة على أن [وقوفه]وراء الصف منفرداً موضع مشروع للصلاة، وإذا كان الأمر كما قلناه كان ذلك على الإجزاء لما كان موقفاً مشروعاً، وإنما قلنا بكونه مكروهاً لما روي من حديث أبي بكر حيث قال له : ((زادك الله حرصاً ولا تعد)) فلما لم يأمره دل على الجواز، ولما قال له: ((لا تعد)) دل على الكراهة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه أن الرسول قال لمن صلى خلف الصف: ((هكذا صليت قم فأعد صلاتك )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإنه محمول على أنه أفسد صلاته من غير انفراده في الصف فلهذا أمره بالإعادة.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الأخبا رالتي رويناها فإنها دالة على أن الموقف بعد الصف مشروع فلهذا قضينا بكونه جائزاً.
قالوا: ما دل على جواز الصلاة خلف الصف من غير عذر مع الكراهة فهو بعينه دال على جوازه من غير كراهة.
قلنا: لولا ما ورد في حديث أبي بكر من قوله : ((زادك الله حرصاً ولا تعد)). لما قضينا بالكراهة لكن قوله هذا دال على الكراهة فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا أنه تجوز الصلاة خلف الصف منفرداً من أجل العذر وما هذا حاله فلا خلاف فيه، والعذر إما ألا يجد موضعاً في الصف، وإما بأن لا ينجذب أحد معه فيصلي معه. وإن صلى من غير عذر فعلى رأي الهادي والسيدين صلاته باطلة، وعلى رأي السيد أبي العباس تكره وتجزئ، وهو المختار كما قررناه، وإما أن تكون مجزية من غير كراهة وهو رأي مالك، وقد ذكرنا هذه المذاهب بأدلتها فأغنى عن تكريرها.
الفرع الخامس: وإن حضر مع الإمام صبي مراهق يعقل الصلاة كان موقفه عن يمين الإمام لما رويناه من حديث ابن عباس فإنه أداره من عن يساره فدل ذلك على أن موقفه وحده عن يمين الإمام كالرجل البالغ، وإن حضر مع الإمام رجل وصبي مراهق ففيه؟ ففيه قولان:
القول الأول: أنهما يقفان خلف الإمام جميعاً ويصح اصطفافهما خلفه كالبالغين، وهذا هو الذي ذكره السيدان أبو العباس والمؤيد بالله، وهو رأي أكثر الفقهاء لأن أبا العباس ذكر أن حكم الصبيان حكم الرجال في الموقف وعلى هذا يكون موقف الصبي وحده مع الإمام عن يمينه والصبيين خلف الإمام كالرجال البالغين؛ وهذا هو الذي ذكره الإمام المؤيد بالله في (الإفادة) فإنه قال: ومن وقف معه صبي مراهق خلف الصف صح اصطفافهما وإن لم يكن معهما غيرهما؛ لأن صلاة الصبي صحيحة وإن كانت تطوعاً.
القول الثاني: يحكى عن المؤيد بالله أنه لا يكون صبي وبالغ صفا، وهو الأقرب عندي لأن صلاة الصبي ليست صحيحة ولا هي صلاة في الحقيقة وإنما يؤمر بها للتمرين والتعويد على الصحيح من مذهبه فإذا لم تكن صلاة فإنه لا يصح اصطفافهما فصار كمن وقف وراء الصف وحده من غير عذر.
والمختار: ما ذكره في الإفادة وارتضاه أبو العباس للمذهب.
والحجة على هذا: ما روى أنس بن مالك أنه قال صليت أنا ويتيم لنا خلف رسول الله وأم سليم خلفنا.
الحجة الثانية: حديث ابن عباس رضي الله عنه فإن الرسول أداره إلى يمينه، فإذا كان موقف الصبي وحده مع الإمام عن يمينه كالبالغ كان موقفه مع البالغ صفا وراء الإمام كالبالغين إذا كانا اثنين من غير فرق.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكره في غير (الإفادة) وهو رأيه الأخير، وهو أن صلاة الصبي ليست بصلاة صحيحة وإنما هي فعل نؤمر بها على جهة التعويد والتمرين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الرسول قد جعل ابن عباس مصلياً وإن كان صغيراً وأداره إلى يمينه كما فعل مع الرجال البالغين.
وأما ثانياً: فلما روى أنس بن مالك من أن أنساً صار مع اليتيم صفاً خلف الرسول فهذان الخبران دالان على ما قلناه من صحة كون الصبي مع غيره صفاً بعد الإمام. قوله: إن صلاة الصبي ليست صلاة صحيحة.
قلنا: قد جعلها الرسول صلاة وجعل له حكم الموقف كالرجال سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة ولهذا نزله منزلة البالغين في أحكام الموقف.
ومن وجه آخر: وهو أن هذا مبني على صحة إسلام الصبي وهذا لا مانع منه فإنه لا يمتنع أن يكمل الله عقله قبل انفصال النطفة منه وينظر في حدوث وثبوت الصانع ويكون مؤاخذاً بالإحكام العقلية كلها دون الأحكام الشرعية فقد جعل الشرع لها حداً بإحدى العلامات الدالة على بلوغه ومع هذا التجويز تكون صلاته صحيحة مكلفاً بها عند الله تعالى. وإن حضر صبيان مع الإمام كان موقفهما بعده صفا كالرجلين البالغين وإن حضر مع الإمام رجل وامرأة وقف الرجل عن يمين الإمام والمرأة خلفهما وإن حضرت امرأة وحدها مع الإمام فلا صلاة لها مع الإمام وحدها كما مر بيانه. والذي يدل على صحة المسألة الأولى حديث أنس فإنه وقف عن يمين الرسول والمرأة خلفه والذي يدل على بطلان الثانية قوله : ((ألا لا يخلون أحدكم بامرأة فإن ثالثهما الشيطان )).
الفرع السادس: وإن حضر مع الإمام خنثى لبسة وحدها لم تصل مع الرجل لجواز أن تكون امرأة ولا يجوز وقوفها عن يمينه لتجويز كونها رجلاً؛ لأن مخالفة الإمرأة للموقف أشد من مخالفة الرجل؛ لأن المرأة إذا وقفت على يمين الإمام كانت معصية وإذا منعنا الرجل من صلاة الجماعة لم تكن معصية فافترقا. وإن حضر مع الإمام رجل وصبي معاً وخنثى فالرجل والصبي يكونان خلف الإمام والخنثى بعدهما لجواز كونها امرأة وإن حضر صبي وحده وخنثى كان الصبي عن يمين الإمام والخنثى وراءه لتجويز كونها امرأة، وإن حضر مع الإمام امرأة وخنثى لم تجز الصلاة عندنا لجواز كون الخنثى امرأة فلا تجوز الصلاة بنساء لا رجل معهن، وعلى رأي الشافعي تكون المرأة وراء الإمام والمرأة خلف الخنثى؛ لأنه تجوز صلاة الإمام بنساء لا رجل معهن كما مر بيانه. وإن حضر رجال وصبيان يقدم الرجال في الصف الأول ثم الصبيان بعدهم في صف آخر، وإن حضر مع الإمام رجال وصبيان وحناثا ونساء يقدم الإمام على الرجال ثم الرجال على الصبيان ثم الصبيان على الخناثا ثم الخناثا على النساء لجواز كون الخناثا ذكوراً وإنما قدمنا الرجال على الصبيان لقوله : ((ليلني منكم أوْلو الأحلام والنُّهى)) (1).
__________
(1) رواه أبو مسعود الأنصاري بلفظ: كان النبي يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة، ومثله عن ابن مسعود: ((ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) ثلاثاً. ((وإياكم وهيشات الأسواق)) رواه أحمد ومسلم والترمذي وأبو داود.
…قال في (فتح الغفار)1/319: قوله: هيشات -بفتح الهاء وإسكان الياء المثناة من تحت وبالشين المعجمة- أي: اختلاطها والمنازعة والخصومة، وارتفاع الأصوات.
وعن أنس بن مالك أن الرسول كان يحب أن يليه المهاجرون والأنصار، وإنما قدمنا الصبيان على الخناثا لإحتمال أن يكون الخناثا نساء وإنما قدمنا الخناثا على النساء لاحتمال أن يكون الخناثا رجالاً.
والصف الأول أفضل وميامنه أفضل لما قدمنا من حديث البراء بن عازب وعن الرسول أنه قال: ((الصف الأول في صلاة الجماعة أفضل والصف الأخير في صلاة الجنازة أفضل)). وإنما كان أفضل في صلاة الجماعة لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا صلاة إلى ميت ولا صلاة إلى متحدث ولا صلاة إلى حائض ولا صلاة إلى قبر)). فكل هذه الأمور استقبالها مكروه.
وإن حضر مع الإمام رجل فصلى عن يمينه ثم جاء رجل آخر نظرت فإن كان قدَّام الإمام واسعاً وورآءه ضيق تقدم الإمام، وإن كان قدَّام الإمام ضيقاً تأخَّراً خلفه لأن المكان إذا كان واسعاً كان الإمام أحق بالتقدم لأنه متبوع وإذا كان قدَّام الإمام ضيقاً كان أحق بالتأخر لأنهما تابعان.
الفرع السابع: والإعتبار في معرفة حكم الخنثى بالمبال لما روى ابن عباس عن الرسول أنه سئل عن مولود له قبل وذكر من أين يورث؟ فقال: ((من حيث يخرج البول ))(1)
فإن خرج البول من الذكر فهو رجل وحكمه حكم الرجال وإن خرج من الفرج فهو امرأة وحكمه حكم النساء وإن خرج منهما جميعاً فهو خنثى لُبسة فيكون له حكم الرجال والنساء.
قال السيد أبو طالب: حكمه في باب العورات حكم النساء احتياطاً للصلاة ويعطى من الميراث نصف نصيب الذكر ونصف نصيب الأنثى كما سنوضحه في الفرائض بمعونة الله واعتبار حكمه بالمثال هو رأي أئمة العترة، ومروي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه. وإن خرج البول منهما جميعاً فهل يعتبر الأكثر أم لا؟ فيه قولان:
__________
(1) رواه البيهقي في سننه الكبرى6/261، وهو في (الكامل في ضعفاء الرجال)3/249.
فالقول الأول: أنه لا عبرة بالكثرة، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة والشافعي؛ لأن الخبر لم يفصل بين الأقل والأكثر فلهذا لم يكن عليه تعويل.
القول الثاني: أنه يعتبر الأكثر، وهذا هو المحكي عن أبي يوسف ومحمد، من جهة أن للكثرة غلبة في مجاري العادات فلا يمكن دفعه. وهل يعتبر السبق في التمييز أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه لا عبرة بالسبق.
والحجة على هذا: ما روى ابن عباس فإنه لم يفصل بين أن كون سابقاً أو غير سابق إذا كان خارجاً منهما جميعاً وهذا هو الظاهر من مذهب الأئمة والفقهاء.
القول الثاني: أن الإعتبار بالسبق فإذا سبق من أحدهما عمل عليه، وهذا هو المحكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه رواه عنه جعفر بن محمد.
والمختار والانتصار له نذكره إذا ذكرنا ما يستحق من الميراث بمعونة الله، وهذا القدر يكفي في هذا المحل.
الفرع الثامن: قال المؤيد بالله: وإن اصطف رجلان خلف الإمام وأحدهما قاعداً وفاسق صحت صلاتهما؛ لأن القاعد مصلٍّ وهو معذور والفاسق فهو من أهل الصلاة وفسقه لا يخرجه عن أن يكون من أهل الجماعات فلهذا صح اصطفافهما خلفه، وأما المُجبر ففيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الجبر كفر، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة والأكثر من المعتزلة الشيخين أبي علي وأبي هاشم وقاضي القضاة وغيرهم، والكافر ليس من أهل الصلاة فلا يصح الاصطفاف معه.
المذهب الثاني: أن الجبر ليس كفراً، وهذا هو رأي المؤيد بالله ومحكي عن الشيخ أبي الحسين محمد بن علي البصري من المعتزلة، وإذا لم يكن كفراً صح اصطفافه كغيره من المسلمين. وأقول قولاً كلياً: أن الجبر سواء كان كفراً أو غير كفر فإنه يصح اصطفافه ويكون اصطفافه صحيحاً؛ لأنه إذا كان ليس كفراً فظاهر فإنه من جملة من يحكم بإسلامه مع الجبر ما لم يرتكب كبيرة توجب فسقه وخروجه عن الإسلام، وأما إذا كان كفراً على رأي من يكفر بالجبر فإنما هو كفر من جهة التأويل والمعنى أن المُجبر مصدق بالله وبرسوله وباليوم الآخر مُصَلٍّ إلى القبلة مقر بصدق القرآن وناكح على الشريعة وملتزم لأحكام الدين من الصلاة والزكاة وسائر الأمور الشرعية والمعارف الدينية لكنه اعتقد اعتقاداً خطأ فأوجب إكفاره وهو منزه عن سائر الكبائر الفسقية فلا جرم قضينا بصحة شهادته وقبول خبره وإن حكمه يخالف أحكام الكفار المصرحين بالكفر كاليهود والنصارى والملاحدة فهذا هو المتوجه على رأي من يقول بإكفار المجبرة. فأما نحن فلا نقول بإكفارهم ولا بفسقهم إلا أن يرتكبوا كبيرة توجب تفسيقهم فأما مجرد الجبر فلا يوجب كفراً ولا فسقاً اللهم إلا أن يجوز كفراً لا دليل عليه ولا قائل به أو فسقاً لا دليل عليه كما هو رأي المعتزلة لكن الكفر والفسق اللذين لا دليل عليهما لا ثمرة لهما فلا حاجة إلى القول بهما ولا نكلف بما كان عندالله تعالى.
الفرع السابع: والمتابعة واجبة على المأموم لإمامه لقوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا)). فإن تقدم المؤتم على الإمام وصلى قدَّامه فهل تصح صلاته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن صلاته باطلة بالتقدم عليه وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة وقول الشافعي في الجديد.
والحجة على هذا: هو أن المأخوذ على المأموم أن يكون وراء الإمام أو مساوياً له، فأما أن يكون متقدما ًعليه فلا وإنما أوجبنا أن يكون وراءه فلما روى جابر أنه قال جئت والرسول يصلي فقمت عن يساره فأدارني إلى يمينه فجاء جبار بن صخر فدفعنا حتى أقامنا خلفه. وإنما أوجبنا أن يكون مساوياً فلما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا كان اثنان فليقم أحدهما عن يمين الإمام )) (1).
ولم يفصل بين أن يكون متأخراً عنه أو مساوياً له.
المذهب الثاني: أن صلاته جائزة مع التقدم، وهذا هو قول الشافعي في القديم، ومحكي عن مالك وإسحاق وأبي ثور.
والحجة على هذا: هو أنه خالف سنة الموقف مع الإمام فوجب أن لا تمتنع الصلاة كما لو وقف عن يسار الإمام وحده.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من بطلان الصلاة بالتقدم.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أنه وقف في موضع ليس موقفاً لمؤتم على حال فأشبه ما إذا وقف في موضع نجس.
فقولنا: بحال. نحترز به عمن يقف عن يسار الإمام وحده فإنه موقف على حال ولهذا لم يكن مفسداً للصلاة كما قررناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إنه خالف سنة الموقف مع الإمام فوجب القضاء بصحة صلاته كما لو صلى عن يسار الإمام وحده.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المعنى في الأصل المقيس عليه كونه مساوياً للإمام في الموقف من غير تقدم عليه فلهذا جاز بخلاف ما نحن فيه فإنه قد تقدم عليه فلهذا بطلت صلاته.
وأما ثانياً: فلأن التقدم على الإمام يبطل الإقتداء كما لو كان في موضع نجس فافترقا.
__________
(1) رواه الإمام علي وأورده في(الجواهر)1/320 عن (الشفاء).
الفرع العاشر: وإذا صلى الإمام في المسجد الحرام إلى ناحية من نواحي الكعبة فاستدار المؤتمون حوالي الكعبة، فإن من كان منهم في جهة الإمام وكان متقدماً عليه وأقرب إلى الكعبة من إمامه فإن صلاته تبطل كما قدمناه في المسألة الأولى، وأما صلاة من كان أقرب إلى الكعبة من إمامه في غير جهة الإمام فهل تكون صحيحة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها تكون غير صحيحة كالمسألة الأولى إذا كان المأموم متقدماً على الإمام في غير المسجد الحرام، وهذا هو الذي اختاره الهادي، وهو أحد قولي الشافعي، وبالغ الهادي في المنع من ذلك وقال: لو أمكنني الله من الحرم لمنعت الناس من ذلك لما فيه من التقدم على الإمام في غير جهته والقرب من الكعبة.
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله تقدم على الإمام في غير جهته فلم تكن الصلاة مجزية كما لو كان التقدم عليه في جهته.
المذهب الثاني: جواز الصلاة إذا كان التقدم في غير جهة الإمام بالقرب من الكعبة وهذا هو المحكي عن القاسم واختاره السيد أبو العباس ورأي أبي حنيفة والمنصوص للشافعي وارتضاه أصحابه لمذهبه.
والحجة على هذا: هو أن تقدم المأموم في غير جهة الإمام بحيث يكون بالقرب من الكعبة، لا يكاد يضبط وتشق مراعاته فلهذا كان مغتفراً في صحة الصلاة مع تقدم المأموم بخلاف ما إذا كان القرب من جهة الإمام فافترقا.
والمختار: ما قاله القاسم وارتضاه الناصر وأبو العباس من جواز الصلاة في البيت المحرم إذا كان التقدم في غير جهة الإمام.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن الصلاة في حوالي الكعبة مخالفة لسائر الأماكن؛ لأنهم محدقون حوالي الكعبة مستقبلون لها فالقرب إليها لا يكون تقدماً على الإمام لما كان التقدم في خلاف جهته.
الحجة الثانية: هي أن المأموم إذا كان في غير جهة الإمام فليس يكون بين يديه فلهذا جازت الصلاة، وإن كان أقرب منه إلى الكعبة وإذا كان المأموم في جهة الإمام كان بين يديه فلهذا بطلت صلاته فافترقا.
الحجة الثالثة: هو أن ما هذا حاله في البيت الحرام قد سكت عليه العلماء من جهة الأقاليم والأقطار ورأوه وفعلوه من غير نكير منهم، وفي هنا دلالة على تجويزه وأنه شائع لأجل سكوتهم وقد قال : ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عندالله حسن )).
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: المأموم متقدم على الإمام في غير جهته فلم تكن الصلاة مجزية كما لو كان متقدماً عليه في جهته.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فالموجب لفساد الصلاة في جهة الإمام لما كان المأموم بين يديه بخلاف ما لو كان في غير جهة الإمام فليس كائناً بين يديه فافترقا.
وأما ثانياً: فلما ذكرناه من مخالفة البيت الحرام لسائر الأماكن من الإحداق بالبيت فلهذا لم يكن المأموم بين يدي الإمام.
الفرع الحادي عشر: وإذا صلى المأموم بصلاة الإمام وهما جميعاً في المسجد فإنه يعتبر في صحة صلاة المأموم علمه بصلاة الإمام إما بأن يشاهده أو يكون بحيث يسمع تكبيره أو من يكون مبلغاً عنه، وسواء كان بين الإمام والمأموم قرب أو بعد أو حائل من جدرات المسجد أو غير حائل فإن الإجماع منعقد على صحة هذه الصلاة؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة الواحدة، ولا يشترط في صحة هذه الصلاة مشاهدة الإمام في المسجد؛ لأن ذلك غير ممكن في أكثر الأحوال لكثرة الناس خاصة في جوامع المدن والأمصار وهكذا يكون الحكم إذا صلى في رحبة المسجد؛ لأنها من جملة المسجد وإن صلى على سطح المسجد بصلاة الإمام في قعر المسجد جاز ذلك لما روي أن أبا هريرة صلى على سطح المسجد بصلاة الإمام في قراره ولأن سطح المسجد كقراراه في الحرمة ولهذا فإن الجنب لا يجوز له القعود فيه واللبث كما لا يجوز ذلك في قراره ولأن أكثر ما يقال فيه الحيلولة بينه وبين الإمام بالسقف ومثل هذا غير مانع فإن الحيلولة في المسجد غير مانعة بالجدرات في قرار المسجد، فإذا صحت الصلاة في السطح كما أشرنا إليه فينبغي أن يكون موقف المأموم وراء الإمام كما لو كان مصلياً في قراره فإن وقف المأموم بحذاء رأس الإمام كره ذلك وأجزأه؛ لأن أكثر ما فيه المساواة وهي مغتفرة كما لو كان عن يمينه وإن وقف قدام الإمام بحيث يكون سابقاً له لم تصح صلاته لأنه يكون غير مقتدٍ به فلهذا كانت الصلاة باطلة كما لو تقدمه في قرار المسجد وإن كان سطح المسجد مملوكاً بأن يكون قرار المسجد وجدراته وأساطينه مسبَّلة وجاء رجل آخر فَسَقَفَهُ ولم يسبل سقفه فصلى عليه مصل مؤتماً بالإمام في قراره لم تصح صلاته لأنه إذا كان مملوكاً فليس من جملة المسجد.
الفرع الثاني عشر: وإذا صلى المؤتم بصلاة الإمام خارج المسجد ولم يكن بين الإمام والمأموم حائل يمنع من الرؤية والمشاهدة فإن لم يكن للمسجد حائط أو كان له حائط قصير أو وقف المأموم بحذاء الباب والباب مفتوح جازت الصلاة لأنه لا مسافة بين الإمام والمأموم تكون قاطعة للائتمام فلهذا جازت الصلاة كما لو كان المؤتم داخل المسجد، وإن كان بين المؤتم وبين الإمام الذي يكون داخل المسجد مسافة قريبة صحت الصلاة؛ لأن القريبة لا تكون مانعة من الائتمام، وإن كانت بعيدة منعت الائتمام؛ لأن البعد يقطع الإئتمام وإن كانت المسافة البعيدة مانعة والقريبة غير مانعة فلابد من التفرقة بين المسافتين، والتفرقة بين المسافتين فيها مذهبان:
المذهب الأول: أن مقدار المسافة القريبة قدر القامة وهو مقدار ما بين الصفوف والمسافة البعيدة ما فوق ذلك، وهذا هو رأي أئمة العترة وعليه الاعتماد لظاهر المذهب.
والحجة على هذا: قوله : ((ليلني منكم أولو الأحلام والنُّهى )). وأراد في القرب والدنو منه في حال الصلاة ولن يكون إلا بما ذكرناه من القرب في المسافة، فأما ما زاد على ذلك فهي مسافة بعيدة لا تغتفر في الإئتمام للصلاة، ويؤيد ما ذكرناه أن كل أمر فله طرفان ووسط:
فالطرف الأول: أن يكون الإمام والمأموم في غاية البعد بحيث لا يرى أحدهما صاحبه، وهذا لا قائل به ولا يعقل معه الائتمام.
والطرف الثاني: في غاية القرب والملاصقة بحيث لا حائل بينهما، وهذا غير معتبر بالاتفاق وهذان الطرفان لا يعتبر بهما.
والوسط بينهما: هو المعتمد والمعول عليه وهو ما ذكرناه من تقدير القامة، وهو أقرب ما يكون وأخصر ولكونه مختصاً بالصلاة فلهذا كان الاعتماد عليه في مقدار المسافة القريبة والبعيدة كما ترى.
المذهب الثاني: أن مقدار المسافة القريبة المغتفرة بين الإمام والمأموم تكون ثلاثمائة ذراع والمسافة البعيدة ما زاد على ذلك، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما نذكره عنه واختلف أصحابه في مأخذه في التفرقة بين المسافة القريبة والبعيدة وذكروا له مأخذين:
المأخذ الأول: ذكره ابن سريج وأنه أخذه من صلاة الخوف، وهو أن الرسول أحرم بطائفة فصلى بهم ركعة وفي رواية ابن عمر أن هذه الطائفة مضت إلى وجه العدوِّ وهي في الصلاة وكان بين الرسول وبينها مقدار ثلاثمائة ذراع ولأنهم إنما يحرسون المسلمين من وقع السهام لأنها أبعد وقعاً من جميع الأسلحة وأكثر ما يبلغ السهم ثلاثمائة ذراع.
المأخذ الثاني: ذكره ابن الوكيل(1)
وهو أن الشافعي إنما أخذه من عرف الناس وعادتهم وهذا هو منصوص الشافعي واختيار ابن الصباغ صاحب (الشامل)، وهل يكون هذا التقدير تحديداً أو تقريباً؟ فإن قلنا: يكون تحديداً لم يزد فيه ولا ينقص فتكون المسافة القريبة ثلاثمائة ذراع من غير زيادة ولا نقصان والمسافة البعيدة ما زاد على ذلك، وإن قلنا: أنه تقريب فإن زاد [بعيده]على ذلك قليلاً لم يضر في المسافة القريبة وإن زاد زيادة كبيرة فهي مسافة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من تقدير المسافة القريبة بقدر القامة والمسافة البعيدة بما زاد على ذلك.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ونزيد هاهنا وهو أن الأصل في كل بعد عن الإمام أن يكون مانعاً عن الائتمام لأجل الإنفصال والمباينة ولم يدل الشرع إلا على ما قلناه فلهذا وجب التعويل عليه.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: أخذناه إما من صلاة الخوف وإما من العرف والعادة وكلاهما صحيح يعول عليه في قرب المسافة وبعدها.
__________
(1) أبو حفص عمر بن عبد الله المعروف بابن الوكيل، فقيه جليل الرتبة تكلم في المسائل فأحسن ما شاء فيها، وهو من كبار المحدثين والرواة وأعيان النقلة، توفي سنة310هـ ويعرف بالباب شامي نسبة إلى باب الشامي، إحدى المحال المشهورة بغربي بغداد، راجع (طبقات الفقهاء) للشيرازي ص90 و(تهذيب الأسماء واللغات)2/215، و(طبقات الفقهاء) للعبادي ص43.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن الطائفة الأولى مضت بعد صلاتها ركعة مع الرسول وهي مصلية أصلاً وإنما مضت في مقابلة العدوِّ بعد إتمامها ركعة لنفسها وركعة مع الرسول .
وأما ثانياً: فلأن العرف والعادة معيار مضطرب تختلف فيه الأحوال وما هذا حاله فلا يجعل معياراً في المسافة البعيدة والقريبة في الإئتمام للصلاة فحصل من مجموع ما ذكرناه أنه لابد من اعتبار أمرين في صحة صلاة المأموم:
أحدهما: المسافة القريبة.
وثانيهما: أن يكون المأموم عالماً بالإمام وأن يكون مشاهداً له، والإجماع منعقد على ذلك من جهة العلماء أئمة العترة وأكثر الفقهاء.
وأما ما يحكى عن عطاء فإنه قال: إذا كان المأموم عالماً بالإمام صحت الصلاة وإن كان على مسافة بعيدة فهذا لا وجه له لأمرين:
أما أولاً: فلما ذكرناه من الإجماع فلا حاجة إلى مخالفته.
وأما ثانياً: فلأن المسافة البعيدة تقطع الإئتمام كما شرحناه.
الفرع الثالث عشر: وتعتبر المسافة من حائط المسجد، وعلى هذا لو وقف الإمام في محراب المسجد ومساحته تكون ألف ذراع أو أكثر من هذا ثم وقف صف خارج المسجد بينه وبين حائط المسجد مقدار القامة فما دونها وهم عالمون بصلاة الإمام صحت صلاتهم، وإن كان أكثر من ذلك بطلت صلاتهم؛ لأن ما دون القامة مسافة قريبة فلهذا صحت صلاتهم وما فوق ذلك مسافة بعيدة فلهذا بطلت الصلاة ويأتي على ما قاله الشافعي إن كان بينهم وبين حائط المسجد ثلاثمائة ذراع صحت صلاتهم، وإن كان أكثر من ذلك بطلت الصلاة.
ومساحة المسجد فلا عبرة بها في البعد، وإن كانت كثيرة؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة فهو كالبقعة الواحدة القريبة. وإن كان بين الإمام والمأموم حائط المسجد فهل تكون الصلاة مجزية أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الحائط غير مانع لصحة الائتمام في داخل المسجد فلهذا لم يكن مانعاً صحة الائتمام لمن هو خارج المسجد.
وثانيهما: أنه مانع لأن هذا الحائط إنما بني من أجل الفصل بين المسجد وغيره فأشبه حائط غير المسجد.
والمختار: هو الأول لأن حائط المسجد من جملة المسجد فإذا صلى الصف وراء الحائط جازت الصلاة إذا كانوا ملاصقين للجدار وكان بينهم وبين الجدار قدر القامة فما دونها، وإن كان أكبر من القامة لم تجز الصلاة؛ لما قررناه من قبل ولأن الجدار متصل بالمسجد كاتصال رحبة المسجد فلما جازت الصلاة في الرحبة جازت الصلاة في الجهة التي وراء الحائط، وإن كان بين الإمام والمأمومين حائل يمنع الدخول ولا يمنع من مشاهدة الإمام كالجدار الذي فيه الشباك فهل يكون مانعاً للائتمام أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مانع للدخول فهو كالحائط.
وثانيهما: أنه غير مانع لأنه لا يمنع المشاهدة.
والمختار: أنه غير مانع لما ذكرناه في الجدار فإنه إذا كان غير مانع مع أنه لا مشاهدة فيه فهكذا حال الجدار الذي لا يمنع المشاهدة بل هو أحق لعدم المنع لأجل المشاهدة. وإذا كان لرجل دار بجنب المسجد وحائط المسجد هو حائط الدار جاز لصاحب الدار أن يصلي مع غيره في بيته بصلاة الإمام في المسجد إذا علم بصلاة الإمام. هذا كله إذا كان الإمام حاصلاً في المسجد يكون الكلام في الائتمام على ما قررناه.
الفرع الرابع عشر: في حكم الإمام إذا كان مصلياً في الصحراء فإن الإمام للصف الأول كالمسجد للصف الأول خارج المسجد إذا كان الإمام يصلي في المسجد فإن وقفوا من الإمام على مقدار القامة فما دونها فصلاتهم مجزية، وهكذا لو وقف بعدهم صف بينهم وبين الصف الأول قدر القامة جاز ذلك، وهكذا الكلام في الثالث والرابع يكون الكلام فيه ما ذكرناه من قدر المسافة بين الصفين.
قال أحمد بن يحيى في المفرد: وإذا كان الإمام من أهل الدين واصطف ورآءه قوم مخالفون ثم اصطف بعدهم أهل الدين لم تفسد صلاتهم وأراد بقوله: قوم مخالفون. يعني من أهل الجبر والتشبيه ممن يكون كفره من جهة التأويل كالذين ذكرناهم أو من يكون فاسقاً من جهة التأويل كالخوارج وغيرهم فإنه ليس هاهنا إلا أنهم تخللوا فيما بين الصفين أو فيما بين الإمام والمأموم وذلك مما لا يطرق خللاً ولا نقصاً في صلاة من خلفهم، ولا يمكن أن يقال: إنهم غير مصلين وأن صلاتهم كلا صلاة فإن صلاة هؤلاء مسقطةٌ لفرضهم عن ذممهم ولهذا فإنهم لو تابوا عن هذه الاعتقادات لم يتوجه عليهم قضاء الصلاة وأخبارهم مقبولة وشهاداتهم. فقول من قال من محصلي مذهبنا: أنهم غير مصلين. لا وجه له لما ذكرناه ولكن يقال: إنهم مصلون معتقدون بهذه الاعتقادات التي توجب إكفارهم على رأي من أكفرهم بها فلا يضر من صلى خلفهم في صلاتهم ولا ينزلون منزلة البهائم فإنهم من جملة المعتقدين للشريعة العالمين بها المكلفين بأحكامها فكيف يقال: بأنهم بمنزلة البهائم. وإن اصطف رجلان خلف الإمام وأحدهما محدث صحت صلاة المتوضي؛ لأن حدثه ليس بأبلغ من أن لا يكون مصلياً والصلاة منعقدة، وإن لم يكن مصلياً إذا كبر قبل تكبيره فهكذا هاهنا تنعقد الصلاة به وإن كان محدثاً.
الفرع الخامس عشر: وإذا صلى الإمام في سفينة والمأمومون في سفينة أخرى نظرت فإن كان بينهما حائل يمنع من المشاهدة لأحوال الإمام بطل الاقتداء كالجدار الحائل في الصحراء، وإن لم يكن بينهما حائل نظرت فإن كانت سفينة المؤتمين متقدمة على سفينة الإمام بطل الإقتداء بالتقدم كما مر بيانه، وإن لم تكن متقدمة نظرت، فإن كانتا متصلتين صحت الصلاة؛ لأنه لا حائل بينهما، وإن كانتا منفصلتين نظرت فإن كان الفصل مقدار القامة أو أقل صحت الصلاة؛ لأن ما هذا حاله مغتفر في البعد كما قررناه من قبل، وإن كان أكثر من ذلك بطل الاقتداء وسواء كانت الريح زعزعاً أو رخاء(1)
في صحة الائتمام على الوجه الذي ذكرناه، وحكي عن أبي حنيفة وأبي سعيد الأصطخري من أصحاب الشافعي: أن الماء يمنع الاقتداء وهذا لا وجه له فإن الماء لا يراد للحيلولة وإنما يراد للمنفعة فهو كجدار المسجد.
قال محمد بن يحيى: والنهر يكون مانعاً من صحة الإئتمام وإنما يكون مانعاً بشرطين:
__________
(1) ريح زعزع وزعزاع وزعزوع: شديدة، الأخيرة عن ابن جني، ا هـ، لسان8/142ـ والرياح الرخاء: رياح لينة طيبة لا تزعزع، اهـ كشاف 3/375، في تفسير قوله تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب)) 36ص.
الشرط الأول: أن يكون النهر واسعاً بحيث تجري فيه السفن وهذا نحو دجلة والفرات وسيحون وجيحون(1)
فإن هذه الأنهار يعبر فيها بالسفن الصغار والقناطر، وعلى هذا إذا كانت حائلة بين الإمام والمؤتمين فإنها تكون مانعة من الائتمام، فإن صلى المؤتمون والحال هذه بطلت صلاتهم وصحت صلاة الإمام فأما إذا كان النهر ضيقاً بحيث يكون سمكه مقدار القامة أو دونها فإنه لا يكون مانعاً عن صحة الائتمام ولو كان الماء جارياً فيه بحيث يكون حائلاً بين الإمام والمؤتمين.
الشرط الثاني: أن النهر إنما يكون مانعاً إذا لم تكن الصفوف متصلة.
واعلم أن اتصال الصفوف يطلق في لسان الفقهاء وله معنيان:
المعنى الأول: وهو الأكثر في الإطلاق أن يكون في الطريق والشارع والنهر ناس يصلون فإذا كان الأمر هكذا فإن هذه الأمور غير مانعة من صحة الإئتمام لأجل اتصال الصفوف؛ لأنه لا حيلولة بالبعد مع اتصالها فلهذا كانت جائزة.
المعنى الثاني: أن يطلق ويراد به أن يكون بين المصلي والإمام مسافة قريبة مثل قامة المصلي فما دونها فهذان المعنيان يكون البعد مانعاً من الائتمام باعتبارهما.
__________
(1) نهر دجلة ينبع من المرتفعات الواقعة في جنوب شرق تركيا وتمده عدة روافد ويدخل الحدود العراقية بالقرب من قرية فيشخابور، والفرات أحد النهرين اللذين يرويان أرض العراق (الآخر دجلة) ويستمد الفرات مائة من منابع عديدة شرق تركيا، وسيحون نهر طوله حوالي2900كيلو متر، يتكون بوادي فرغانة بجمهورية أوزبك بالتقائه مع نهري كرين وكره داريا وينتهي إلى بحر آرال، وجيحون نهر طوله 2523 كيلو متر بوسط آسيا اسمه القديم: أو جزوس و هو بالعربية جيحون ويصب كسابقة في بحر أرال، ويلتقي نهرا دجلة والفرات في منطقة البصرة بالعراق ليشكلا شط العرب الذي يصيب في الخليج العربي، راجع (الموسوعة العربية الميسرة) صفحات (228،785،977،1278).
الفرع السادس عشر: في الطريق هل تكون مانعة من صحة الائتمام أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها مانعة من صحة الائتمام، وهذا هو رأي القاسم نص عليه في مسائل عبدالله بن الحسن وارتضاه السيدان الأخوان للمذهب، وإنما تكون مانعة من صحة الائتمام بشرط أن تكون واسعة بحيث تكون مساحتها أكثر من قدر القامة فإن كانت مساحتها دون القامة أو قدر القامة فإنها لا تكون مانعة سواء كانت مسلوكة أو غير مسلوكة؛ لأن الاعتبار إنما هو بالبعد دون السلوك والإستطراق فإنهما لا يعتمدان بحال.
والحجة على هذا: قوله : ((لا جمعة لمن يصلي في الرحبة ))(1).
ووجه الاستدلال بالخبر: هو أنه لا خلاف أن الرحبة إذا كانت من جملة المسجد أو لم يفصل بينها وبين الإمام طريق أو يكون بينها وبين الإمام أقل من قدر القامة فإن الصلاة فيها مجزية، فإذاً المراد إذا كان بينه وبينها طريق سائلة واسعة.
المذهب الثاني: أن الطريق غير مانعة سواء كانت واسعة أو ضيقة أو كانت الصفوف متصلة أو غير متصلة، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا)). ولم يفصل بين أن تكون الطريق فاصلة أو غير فاصلة ولأنه من الإمام على مسافة يسيرة لا حائل بينهما فأشبه ما إذا لم يكن بينهما طريق.
والمختار: تفصيل نشير إليه وهو أن الطريق ليست مانعة لكونها طريقاً ولهذا يستوي الحال فيها سواء سقط المرور عنها أو لم يسقط، وإنما الاعتبار بكونها مسافة بعيدة عن الإمام ولهذا فإنها لو كانت قريبة لم تكن مانعة كما قررناه من قبل وكل على أصله، فعندنا أنها إذا كانت قامة أودونها لم تكن مانعة وإن كانت أكثر من ذلك كانت مانعة، والشافعي المسافة القصيرة عنده ثلاثمائة ذراع والمانعة ما فوق ذلك.
الانتصار: يكون بالجواب على أوردوه.
__________
(1) حكاه في (الجواهر)1/324 و(الشفاء). قال: الرحبة: بسكون الحاء، ساحة خارج المسجد.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا)).
قلنا:عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ظاهر هذا الخبر متروك لأنه قد خرج عنه المزبلة والمجزرة وغيرهما فإذا خرجت هذه بدلالة أخرجنا الطريق الواسعة بدلالة التي تكون حائلة بين الإمام والمأموم.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما أوردناه من الخبر وإذا تعارضا فلابد من ترجيح أحدهما ولا شك أن خبرنا أرجح لأنه حاظر وخبركم مبيح وإذا تعارض الحظر والإباحة كان ما دل على الحظر أولى بالعمل لأنه أحوط للدين.
قالوا: ولأن المأموم على مسافة يسيرة لا حائل بينهما فأشبه ما إذا لم تكن بينهما طريق.
قلنا: نحن نقول بموجب هذا القياس فإنا نسلم أن المسافة بين الإمام والمأموم إذا كانت يسيرة جازت الصلاة ولكنا لانسلم ما ذكرتموه من المسافة فإن المسافة القصيرة القامة فما دونها وعندكم أن المسافة القصيرة ثلاثمائة ذراع، فإذاً الخلاف راجع بيننا إلى مقدار المسافة وقد قررنا فيما سبق أنه لا يغتفر البعد بين الصفين في غير المساجد ولا بين الإمام والمأموم إلا مقدار القامة فما دونها فأغنى عن الإعادة.
الفرع السابع عشر:في حكم الإمام إذا صلى في موضع مرتفع أو منخفض. وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: محكي عن الهادي وعنه روايتان:
الرواية الأولى: ذكرها في (المنتخب) وهي أن صلاته تبطل إذا كان الإمام في موضع مرتفع وهم في موضع منخفض أو كانوا في موضع مرتفع والإمام في موضع منخفض فإنه قال: فإن صلى بقوم هم في الأرض وهو فوق سطح أو كان في الأرض وهم على سطح أعادوا دونه؛ لأنه تحتهم أو فوقهم لا أمامهم وهم وراءه.
والحجة على هذا: قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)). وفائدة هذا الخبر: المتابعة للإمام في أقواله وأفعاله ولن يكون هكذا إلا وهو متقدم عليهم وهم خلفه حتى تعقل المتابعة؛ فإذا كان مرتفعاً أو منخفضاً لم تعقل المتابعة فلهذا بطلت صلاتهم لأجل بطلان الاقتداء.
المذهب الثاني: أن الإمام إذا كان أسفل كره وإن كان في موضع مرتفع فإن كان ارتفاعه فوق القامة بطل الاقتداء وبطلت صلاتهم، وإن كان [مقدار] القامة فما دونها جازت الصلاة، وهذا هو الذي حصله السيدان الأخوان للمذهب.
والحجة على هذا: هي أن الإمام إذا كان أسفل فهم تابعون له ومتوجهون إليه فلهذا لم تكن صلاتهم باطلة، فأما إذا كان الإمام في مكان مرتفع فوق القامة فإنه يبطل التوجه إليه لارتفاعه فلهذا بطلت صلاتهم، وإن كان دون ذلك جازت صلاتهم وهذا كله أعني ارتفاع الإمام وانخفاضه إذا كانت المسافة بينهم قريبة فأما إذا كانت بعيدة على ما ذكرناه في حد البعيدة والقريبة فإن الصلاة تبطل مع البعد في المسافة كما حققناه.
المذهب الثالث: التفرقة بين المسجد وغيره، وهذا هو رأي الشافعي فإنه قال: إذا صلى الرجل في علو الدار بصلاة الإمام في المسجد فإنه لا تجزيه بحال، وإن كانوا يرون من في الصحن لأن الدار نائية من المسجد وليس بينهما قرار يمكن اتصال الصفوف به؛ لأن الصف لا يتصل إلى فوق وإنما يتصل بالقرار هذا نص الشافعي.
وقال صاحب (الإيضاح): ومن كان على الصفا والمروة وعلى جبل أبي قبيس(1)
__________
(1) الجبل المعروف بمكة المطل على البيت الحرام، وقد أصبح اليوم مغطى بالمباني حتى لا يكاد يرى.
يصلي بصلاة الإمام في المسجد فإن صلاته صحيحة وإن كان أعلى منه؛ لأن ذلك متصل بالقرار، وقد يكون القرار مستعلياً ومستقلاً ومستوياً وليس كذلك سطح الدار فإنه ليس من القرار والصف غير متصل، فإن صلى رجل على سطح الدار بصلاة الإمام في الدار في صحنها لم تصح صلاته؛ لأن بينهما حائلاً يمنع المشاهدة والاستطراق. والتفرقة بينه وبين المسجد أن المسجد يبنى كله للصلاة وسطحه منه وليس كذلك الدار؛ لأن سطحها بني للحائل ولم يبن للصلاة فحاصل كلام الشافعي أن الإمام إذا كان أسفل، فإن كان المأموم بحيث تتصل الصفوف صحت الصلاة كالأمكنة المستوية، وإن كان المأموم في سطح الدار والإمام في المسجد أو في قرار الدار بطلت الصلاة لأنه لا يمكن إتصال الصفوف إلى أعلى. ولم أقف على مذهبه إذا كان الإمام في موضع عال والمأموم أسفل منه خلا أنه قال: أختار للإمام أن يعلم من خلفه الصلاة أو يصلي في موضع مرتفع ليراه من وراءه، فكلامه هذا دال على أن ارتفاع الإمام يخالف انخفاضه وأن ارتفاعه مستحب ولم يذكر ما ذكره السيدان من اعتبار القامة أو فوقها في الصحة والفساد.
المذهب الرابع: محكي عن أبي حنيفة، وهو أنه يكره ارتفاع الإمام وانخفاضه ولا تبطل صلاة المؤتمين في الحالين.
والحجة على هذا: هو أن المأخوذ على المأمومين المتابعة للإمام سواء كان مرتفعاً أو منخفضاً في الإجزاء لكن الإستحباب أن يكون مقامهم واحداً فإذا اختلف الحال كره لهم ذلك.
والمختار: ما قاله السيدان الأخوان وحصَّلاه للمذهب وهو أعدل المذاهب وهو الكراهة إذا كان الإمام أسفل لأن التوجه باق إليه بكل حال، وهذا بشرط أن تكون المسافة قريبة فأما إذا كانت بعيدة مع الإنخفاض بطلت الصلاة، فأما إذا كان الإمام في موضع مرتفع فإن كان قدر القامة أو ما دونها صح الائتمام لأجل ثبوت المواجهة، وإن كان فوق القامة بطلت الصلاة لبطلان المواجهة.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: نص الهادي في المنتخب على بطلان الصلاة في الحالين جميعاً للمؤتمين دون إمامهم.
قلنا: هذا محمول على ما إذا كانت المسافة بين الإمام والمؤتمين بعيدة فلهذا بطل الائتمام سواء كان الإمام مرتفعاً أو منخفضاً.
قالوا: حكي عن الشافعي التفرقة بين المسجد وغيره فإذا كان الإمام في المسجد والمؤتمون أعلى منه صح الإئتمام إذا كان على حالة تتصل به الصفوف فأما إذا كان لا تتصل به الصفوف بطلت الصلاة.
قلنا: قد أوضحنا أنه لا فرق بين ارتفاع الإمام وانخفاضه إذا كانت المسافة قريبة بينه وبين المؤتمين وسوءا كان في مسجد أو في غيره فلا وجه للتفرقة بين المسجد وغيره مع كون الحال ما ذكرناه من قرب المسافة. والشافعي يذهب إلى أن الإمام إذا كان في مسجد وبينه وبين المؤتمين ثلاثمائة ذراع صحت الصلاة ونحن لا نقول بهذه المقالة لأنها مسافة بعيدة والبعد يقطع الصلاة والائتمام بالإمام.
قالوا: حكي عن أبي حنيفة أنه يقول بصحة الصلاة في ارتفاع الإمام وانخفاضه لكنه يكره لأجل المخالفة بينه وبين المؤتمين.
قلنا: هذا مسلم مع اعتبار قرب المسافة في الانخفاض للإمام فأما مع ارتفاع الإمام وعلوه فلا نسلم الكراهة [إلا] إذا كان ارتفاعه فوق قدر القامة [فإنه] يكون مبطلاً للإمام لبطلان المواجهة فأما الانخفاض فلا كراهة فيه مع قرب المسافة لأن المواجهة حاصلة بين الإمام والمؤتمين.
الفرع الثامن عشر: وإذا كان بين الإمام والمؤتمين شارع أو سكة فهل تجوز الصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الشارع والسكة مانعان من الإقتداء إلا أن تتصل الصفوف، وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة ورأي المسعودي من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: ما ذكرناه من قوله : ((لا جمعة لمن يصلي في الرحبة)) (1).
__________
(1) تقدم.
ولا وجه لذلك إلا البعد، وقلنا: إلا أن تتصل الصفوف فإن اتصلت الصفوف جاز ذلك والمراد أن يكون عرض الشارع أو السكة قدر ما بين الصفوف أو تكون أكثر من ذلك ولكن يكون بعض الصفوف واقفاً على الطريق والشارع أو السكة، فعلى هذا إن قلنا أن من وقف على السكة أو الشارع فصلاته باطلة فإنه يمنع من بطلان صلاة من ورآءه من الصفوف، وأما إذا كانت المسافة بعيدة وهي أن تكون فوق المعتاد بين الصفين من قدر القامة فإنه يوجب البطلان لأجل البعد سواء كان الناس يسلكونه أو لايسلكونه بل قد سقط عنه المرور.
المذهب الثاني: جواز الصلاة خلف الشارع والسكة وهذا هو نقل أهل بغداد عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن بين الإمام والمأموم مسافة يسيرة لا حائل بينهما فأشبه ما إذا لم يكن هناك شارع ولا سكة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن الشارع والسكة إنما تكون مانعة عن الائتمام بشرطين:
أحدهما: أن يكون عرض الشارع كبيراً يزيد على قدر القامة فإن كان دون ذلك لم يكن حائلاً بين الإمام والمأموم.
وثانيهما: أنه إذا كان زائداً على قدر القامة وكان فيه من يصلي لم يكن مانعاً فإن ما زاد على قدر ما يكون بين الصفوف بطل الإئتمام وكان قاطعاً لما ذكرناه من البعد.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: المأموم من الإمام على مسافة قريبة فلا يكون مانعاً من الإئتمام.
قلنا: إن كانت المسافة مقدار القامة فهذا غير مانع، وإن كانت المسافة على ما يراه الشافعي، وهي مقدار ثلاثمائة ذراع فما هذا حاله يكون مسافة بعيدة فيكون مانعاً عن الائتمام كما أوضحناه من قبل.
الفرع التاسع عشر: ومن صلى في قرار داره أو دار غيره وباب الدار مفتوح يرى منه الإمام في المسجد والمصلين نظرت، فإن كانت الدار قريبة من المسجد علىمسافة قريبة مثل ما بين المصلين في الصفوف جازت الصلاة وجاز الائتمام، وإن كان بينهما أكثر من ذلك نظرت، فإن اتصلت الصفوف على معنى أن بعض الصفوف في قدر هذه المسافة صحت الصلاة والائتمام، وإن كانت المسافة بعيدة تزيد على قدر إتصال الصفوف بطلت صلاة المؤتمين لأجل البعد المتفاوت، ويستحب لمن أراد أن يعلم الناس أمور الصلاة وأحكامها أن يكون على نشز من الأرض لما روي عن سهل بن سعد الساعدي أن الرسول صلى بنا وهو على المنبر ثم رجع القهقرى حتى نزل فسجد ثم رقى إلى المنبر فلما فرغ قال: ((إنما فعلت ذلك لتأتموا بي وتعلموا صلاتي )) (1).
وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). ويكره أن يصلي على نشز من الأرض لغير التعليم لما روي أن سلمان الفارسي وأبا سعيد الخدري قدِمَا على حذيفة بالمدائن وعنده أسامة فصلى بهم حذيفة على نشز من الأرض أنشز مما هم عليه فأخذ سلمان بضبعه حتى أنزله فلما نزل قال له سلمان: سمعت رسول الله يقول: ((لا يصلي إمام القوم على أنشز مما هم عليه ))(2).
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وأخرج البخاري نحوه، وهو في (المنتقى) لابن الجارود1/86، ومسند أبي عوانة1/470.
(2) رواه الدارمي في سننه1/321، وأخرج أبو داود نحواً منه.
…قال في (الجواهر): وصحح في (التلخيص) الحديث الأول، قال-يعني أبا داود-: ويقويه ما رواه الدارقطني من وجه آخر عن همام عن ابن مسعود: نهى رسول الله أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه. اهـ.1/325.
فقال أبو سعيد الخدري وأسامة صدق، ويستحب لمن رأى ذلك أن يغيره وينكره لما روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن فتقدم عمار على دكان رقى عليه يصلي والناس أسفل منه يصلون بصلاته فقدم حذيفة فأخذ بيده واتبعه عمار فأنزله فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة ألم تسمع رسول الله يقول: ((إذا قام الرجل يصلي بالناس فلا يقم في مقام أرفع من مقامهم )) (1).
قال فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي، وروي أن حذيفة أمَّ الناس بالمدائن على دكان فأخذه أبو مسعود البدري بقميصه فجذبه فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك أو قال: نهي عن ذلك. قال بلى قد علمت ذلك حين حدثتني، وكل هذا إذا كان الارتفاع دون قدر القامة فإن كان فوق القامة بطلت الصلاة لأنهم صاروا غير مواجهين للإمام كما لو تقدمهم.
الفرع العشرون: في بيان حكم المواقف في الصلاة.
اعلم أن المواقف ربما كانت مشروعة ومرة تكون مكروهة وأخرى تكون محظورة فهذه ضروب ثلاثة نفصلها بمعونة الله:
الضرب الأول: ما يكون مشروعاً وهو يكون على أوجه خمسة:
أولها: عن يمين الإمام إما مساوياً له وإما متأخراً عنه.
وثانيها: خلف الإمام إذا كانا رجلين.
وثالثها: إذا كانوا جماعة في المسجد اغتفر البعد فيما بينهم وبين الإمام وفيما بين الصفوف، وإن كان البعد ألف ذراع في المسجد؛ لأن المسجد كالبقعة الواحدة للصلاة.
ورابعها: أن يكون بينهم وبين الإمام قدر القامة في غير المساجد أو مادونها.
وخامسها: أن يكون بين الصفوف قدر القامة فما دونها في غير الصحاري.
الضرب الثاني: في المواقف المكروهة [وتلك أمور] أربعة:
أولها: عن يسار الإمام إذا كان واحداً.
وثانيها: عن يمين الإمام إذا كانا رجلين.
وثالثها: أن يكون الإمام على نشز دون قدر القامة.
ورابعها: أن يكون المأموم على نشز أرفع من الإمام دون قدر القامة.
__________
(1) أخرجه أبو داود، ورواه البيهقي في سننه3/109.
الضرب الثالث: المواقف المحظورة. و[تلك] أربعة:
أولها: المرأة عن يمين الإمام.
وثانيها: المرأة في صف الرجال.
وثالثها: خلف الصف الذي تكون فيه المرأة على نعت المشاركة لهم في الصلاة.
ورابعها: قدَّام الإمام في جهته.، فهذه جملة المواقف تكون على هذا الوجه وقد مر تفصيلها بأدلتها فأغنى عن الإعادة.
قاعدة: نجعلها خاتمة لهذا الفصل
اعلم أن بعض المتفقهة من أصحاب الشافعي زعموا أن إمام المحراب إذا كان معتزلياً فلا تجوز الصلاة خلفه لكفره، وأن كل من قال بخلق القرآن من المعتزلة فإنه كافر، فظاهر هذا الكلام هو القول بإكفار المعتزلة، وهذه(1)
بعينها هي عقيدة أهل العدل من أئمة العترة من الزيدية ومن تابعهم من شيعتهم وأهل مذهبهم فإن الفئة العدلية هم أئمة العترة والزيدية والمعتزلة وهم لا يخالفون الزيدية في شيء من عقائدهم إلا في التنصيص على الإمامة وفي سهم ذوي القربى، وهاتان المسألتان ليس فيهما إكفار ولا تفسيق، وهم إذا قالوا بإكفار المعتزلة في هذه المسائل فهم لا محالة يذهبون إلى إكفار الزيدية وأئمتهم بهذه المسائل؛ لأن هذه عقائدهم من غير محالة. ويتضح بطلان هذه المقالة ويظهر فسادها لمسلكين:
__________
(1) يقصد الأقوال التي ينكرها المتفقهة على المعتزلة.
المسلك الأول: هو أن الخوض في الإكفار والتفسيق مورده الشرع ولا مجال للعقل فيه فإنه كلام في مقادير الثواب والعقاب وثبوتهما وسقوطهما، ومثل هذا لا تؤخذ من جهة صاحب الشريعة والأمر فيه صعب والإقدام عليه من غير بصيرة نافذة ولا رسوخ قدم في العلم يكون رمياً في العمى وخبطاً في العشواء وتهوراً في الضلالة وإغراقاً في الجهالة، وهذه حالة هؤلاء الذين ذهبوا إلى هذه المقالة فنعوذ بالله من استحكام الخذلان واستحواذ الشيطان والسبب لهؤلاء في قولهم بهذه المقالة التي لم تصدر عن فطانة ولا لها من جهة الله توفيق ولا تسديد هو أنهم تعلقوا بأطراف من علم الفقه ولعقوا شيئاً من أحكامه لم يعضُّوا على العلوم الكلامية بضرس قاطع ولا غمسوا أيديهم في أسابيغها ولا أحاطوا بالمباحث الإلهية بفهم واسع فتراهم يطلقون الكلام في الإكفار إطلاقاً على ما عن وسنح عملاً بالأهواء وتعويلاً على ما يعرض من سخيف الأراء وميلاً إلى نصرة المذاهب وإهمالاً للتعويل على النظر الصائب.
المسلك الثاني: هو أن هذه المسائل الكلامية والمباحث الإلهية لا يتعلق بها إكفار ولا تفسيق؛ لأن المتكلمين من أئمة الزيدية والمعتزلة والأشعرية وسائر فرق الجبرية قد صرحوا بأن الله تعالى موجود قادر عالم حي مريد متكلم، لكن اختلفوا في حقائق هذه الصفات هل تكون من قبيل الأحكام أو من قبيل الصفات؟ أو تكون من قبيل السلب أو الإيجاب؟ أو تكون قديمة أو حادثة؟ مع اتفاقهم على أصلها وثبوتها لله تعالى، ومثل هذا لا تعلق للإكفار به وإنما يتعلق به مجرد الخطأ لأن الحق فيه واحدٌ ولم تدل دلالة شرعية على كونه كفراً ولا فسقاً، فإطلاق الكفر والفسق بما ذكرناه من هذه المسائل يكون خطأ وجهلاً، فقد وضح لك بما ذكرناه أنهم لم يصنعوا شيئاً في إطلاق الإكفار بهذه المسائل وأنهم ليسوا من التحقيق في ورد ولا صدر. وقد نجز غرضنا من بيان مواقف الإمام من المأموم ونشرع الآن في حكم الاقتداء ونختم به الكلام في صلاة الجماعة.
الفصل الرابع في حكم الاقتداء بالإمام في الصلاة
إعلم أن الواجب على المؤتم متابعة الإمام في الأقوال والأفعال من غير مخالفة له إلا لدلالة خاصة لقوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا)). وقوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). وقوله : ((لا يأمن الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو رأس كلب أو رأس عنز))(1).
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على وجوب المتابعة والموافقة.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: ينبغي للمأموم ألا يتقدم على الإمام في أفعال الصلاة لما روي عن الرسول أنه قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا ولا ترفعوا قبله))(2).
وروي عن الرسول أنه قال: ((أما يخشى الذي يرفع رأسه والإمام ساجد أن يحول الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار)). فإن شاركه في التكبير والقيام والقعود والركوع السجود فهل تصح صلاته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: وهذا هو رأي المؤيد بالله، فإنه قال: إذا وافق المؤتم الإمام في إبتداء التكبير أو في الركوع أو غيره فالأقرب عندي أن صلاته لا تبطل لأن الأئتمام هو أن يفعل مثل ما فعل الإمام تبعاً له وليس من شرطه أن يفعل بعد فعل الإمام. فهذا تصريح من مذهبه على جواز مشاركة المأموم للإمام في أفعاله ولا تبطل صلاته.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)). ولم يفصل بين أن يكون الإمام متابعاً له أو مشاركاً له في أفعاله.
ومن وجه آخر: وهو أن الائتمام كما هو حاصل بالمتابعة فهو حاصل بالمشاركة فلهذا كانا سواء في صحة الأئتمام.
__________
(1) رواه أبو هريرة، أخرجه ا لبخاري1/245 ومسلم1/320، والترمذي2/475، وأبو داود1/169، والنسائي2/96، وابن ماجة1/308، وهو في أغلب السنن والصحاح والمسانيد.
(2) تقدم.
المذهب الثاني: المنع من ذلك وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا وإذا ركع فاركعوا )). والفاء هذه دالة على التعقيب والترتيب وأن يكون فعله بعد فعل الإمام.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله.
وحجته: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا: وهو قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)). فأطلق ولم يفصل بين أن يكون الائتمام معه أو بعده، وفي هذا دلالة على أن البَعْدية غير معتبرة وأن المشاركة له في أفعاله لا تبطل الائتمام به.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: قوله : ((فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا وإذا ركع فاركعوا)). والفاء دلالة التعقيب وفيه دلالة على اعتبار البعدية.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا ننكر البَعْدية وإنما هي الأولى، ولكن إذا شاركه لم تفسد الصلاة كما زعمتم، وليس في كلام الرسول ما يدل على بطلان المشاركة، وإنما أشار في كلامه هذا إلى البعدية؛ وكلامنا إنما هو في المشاركة.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما روينا من الأخبار، وما ذكرناه أرجح لقوة دلالته على المقصود.
ومن وجه آخر: وهو أن الفاء وإن كانت للتعقيب بأصل وضعها لكنها قد تكون دالة على المشاركة كالواو.
الفرع الثاني: وإذا لحق الإمام وقد فاته بعض الركعات فهل يجعل ما لحقه فيها أول صلاته أو آخرها؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه أول صلاته قولاً وفعلاً وحكماً، وهذا هو رأي أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وعمر، وأبي الدرداء من الصحابة رضي الله عنهم، ومن التابعين الحسن البصري، وابن المسيب، ومن الفقهاء الأوزاعي، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، والشافعي.
ومعنى قولنا: قولاً. أي أنه يقول به ويذهب إليه.
ومعنى قولنا: فعلاً. أي أنه يفعله ويعتمد عليه.
ومعنى قولنا: حكماً. يظهر في مسائل منها أنه إذا أدرك الإمام في الثالثة والرابعة فإنه يقرأ الفاتحة والسورة لأنه أول صلاته، ومنها أنه إذا أدرك الإمام في الركعة الثانية فإنه يقعد مع الإمام في التشهد ويتشهد الإمام ولا يتشهد لأنه ليس موضعاً لتشهده لأنها أول صلاته، ومنها أنه إذا أدرك الإمام في الركعة الثانية من الفجر فإنه لا يقنت وإن قنت الإمام لأنها أول صلاته. ومنها أنه إذا أدرك الإمام في الركعة الثانية من العيد فإنه يكبر خمساً وإن كبر الإمام أربعاً لأنها أول صلاته على حد الخلاف في أعداد التكبيرات، وهذا هو: رأي الهادي، والقاسم، والمؤيد بالله، أعني أنه أول صلاته.
والحجة على هذا: ما روى أبو رافع، عن جده، عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: إذا سبق الإمام أحدكم بشيء فليجعل ما أدركه أول صلاته مع الإمام، والصحابي إذا أطلق مثل هذا فإنما يطلقه عن توقيف من جهة الرسول إذ لا محال للاجتهاد فيه بحال.
المذهب الثاني: أن كلما أدركه مع الإمام فهو آخر صلاته، وما يقضيه بعد سلام الإمام فهو أول صلاته وهذا هو: رأي الإمام زيد بن علي، والثوري، ومالك، وأبي يوسف.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((ما أدركت فصل وما فاتك فاقضه )) (1).
والذي فاته مع الإمام فهو أول صلاته وهو المقضي، فالذي يدركه مع الإمام فهو آخر صلاته؛ لأنه للإمام آخر وهو مؤتم به، والإمام حاكم عليه.
__________
(1) رواه عبد الرزاق في (المصنف)2/77.
المذهب الثالث: أن كل ما أدرك مع الإمام فهو آخر صلاته حكماً على معنى أنه إذا أدرك الركعة الأخيرة من الفجر مع الإمام فإنه يقنت فيها وهي أول صلاته فعلاً؛ لأنه لم يسبقها شيءٌ قبلها فهي أول ما فعله مع الإمام، وما يفعله بعد فراغ الإمام من الصلاة فهو أول صلاته حكماً على معنى أنه إذا قام إلى الثالثة والرابعة فإنه يقرأ الفاتحة والسورة؛ لأنها أول صلاته بعد فراغ الإمام وآخر صلاته فعلاً على معنى أنها آخر صلاته مع الإمام لأن بعدها التسليم وهو آخر الصلاة، وهذا هو المنقول عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أنها آخر صلاة الإمام فيجب أن تكون آخر صلاة المأموم كما لو لم يكن مسبوقاً.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من الصحابة والتابعين والفقهاء، وهو محكي: عن الباقر، والناصر، وأحمد بن عيسى.
وحجتهم: ما نقلناه عنهم، ونزيد هاهنا وهو أن الإمام إنما كان مشروعاً في الصلاة من أجل الزيادة في فضلها وثوابها وإعظام أجرها، فكيف يقال: بأنه يكون سبباً في قلب حقيقتها، وأن صلاة المأموم تكون آخرها أولاً لما يبتدي به [و] هذا لا وجه له.
ومن وجه آخر: وهو أن كل من ابتدأ شيئاً فإنما يبتدأ به من أوله ولا يبتدأ به من آخره فلهذا قلنا: بأن صلاة المأموم إذا كان مدركاً لبعض صلاة الإمام تكون أول صلاته دون آخرها.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((ما أدركت فصل وما فاتك فاقضه)). والذي فاته مع الإمام فهو أول صلاته وهو المقضي فالذي أدركه مع الإمام فهو آخر صلاته لأنه للإمام آخر، وهو مؤتم به والإمام حاكم عليه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد ما أدركت وقته من الصلاة فصل، وما فاتك وقته من الصلاة فاقضه؛ لأن الإنسان في الحقيقة إنما يدرك وقت الصلاة لا فعل نفسه.
وأما ثانياً: فلأن المراد بقوله: فاقضه. الإتمام لأنه قد تغير بالقضاء عن الإتمام كما قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}[فصلت:14]. أي أتمهن. وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ }[الجمعة:10]. أي تمت وفرغت.
قالوا: ما يدركه المأموم فهو آخر صلاة الإمام فيجب أن تكون آخر صلاة المأموم كما لو لم يكن مسبوقاً.
قلنا: المعنى في الأصل أنه أدرك أول صلاة الإمام فلهذا كان آخر صلاة الإمام آخر صلاته بخلاف ما نحن فيه فإنه لم يدرك أول صلاة الإمام فافترقا.
الفرع الثالث: وإن حضر المأموم وقد أقيمت الصلاة فلا يشتغل عن الدخول فيها بنافلة لما روى أبو هريرة عن الرسول : ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) (1).
وإن أدرك الإمام في حال القيام وخاف أن يركع الإمام لم يشتغل بدعاء الاستفتاح لأنه نفل فلا يشتغل به عن أداء الفرض وإن أدركه راكعاً فركع معه واطمأن راكعاً فقد أدرك هذه الركعة لما روي عن الرسول أنه قال: ((من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى ومن لم يدرك الركوع فليصل الظهر أربعاً)) (2).
ولأنه قد أدرك معظم هذه الركعة فلهذا كان داخلاً بها في الصلاة واحتسب له بها، وإن رفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يركع المأموم فهذا يكون على أوجه ثلاثة:
__________
(1) أخرجه البخاري1/235، ومسلم1/493 في صحيحيهما، وهو في صحيحي ابن خزيمة2/169، وابن حبان5/564، وفي سنن الترمذي2/282، وأبي داود2/22، وابن ماجة1/364.
(2) أخرجه الدارقطني في سننه2/14، وموضوعه صلاة الجمعة.
أولها: أن يرفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يركع المأموم ثم يركع المأموم بعد رفعه ويدركه قائماً مطمئناً في القيام فما هذا حاله يكون مدركاً الركعة لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا تبادرنني في ركوع ولا سجود فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت)) (1).
فسماه مدركاً بالرفع إلى القيام وفي هذا دلالة على ما قلناه من إدراك الركعة بإدراك القيام مع الإمام.
وثانيها: أن الإمام إذا تحرك للرفع من الركوع وهوى المأموم إلى الركوع فإن بلغ المأموم في ركوعه موضع الإجزاء في الركوع وهو يقدر على أن يقبض على ركبتيه واطمأن قبل أن يخرج الإمام عن حد الإجزاء في الركوع فإن المأموم يعتد بهذه الركعة لأنه قد أدرك معه الركوع، وإن لم يبلغ المأموم أول حد الإحزاء حتى خرج الإمام عن حد الركوع فإن المأموم لا يعتد بهذه الركعة كما لو أدركه بعد الرفع من الركوع.
وثالثها: أن يرفع الإمام رأسه من الركوع ثم يهوي المأموم للركوع ولا يدركه قائماً ولا يطمئن معه في القيام فإنه لا يكون مدركاً للركعة لخروج المأموم عن مشاركة الإمام في الركوع أو في القيام كما قررناه فإدراك المأموم الإمام يكون على هذه الأوجه التي أشرنا إليها وبالله التوفيق، وإن أدركه راكعاً فإنه يكبر تكبيرة الافتتاح ليكون داخلاً بها وتكبيرة أخرى؛ لأنها مشروعة في حقه كما لو أدركه قائماً.
الفرع الرابع: يشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: إذا أدرك المأموم الإمام راكعاً فهل يكبر تكبيرة أو تكبيرتين فيه مذهبان:
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه1/168: ((لا تبادرتي بركوع ولا سجود، فإني مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني إذا رفعت إني قد بدنت)) جاء في (الجواهر) حاشية البحر1/320 يقال: بدن الرجل بتشديد الدال وفتحها إذا أسَنَّ، وبتخفيفها وضمها إذا سمن، والمراد هاهنا المعنى الأول. اهـ، وأخرج الحديث ابن ماجة1/309 وغيره.
المذهب الأول: أنه يكبر تكبيرتين إحداهما تكبيرة الافتتاح وهي الفرض، والأخرى للركوع وعلى هذا يكون مدركاً لتلك الركعة كما مر بيانه، وهذا هو رأي الهادي، والقاسم، والناصر، ومحكي عن جميع الفقهاء.
والحجة على هذا: هو ما ظهر من فعل الصحابة والتابعين أنهم كانوا إذا أدركوا الإمام كبروا بتكبيرتين تكون إحداهما فرضاً، والأخرى سنة.
المذهب الثاني: أنه لا يكبر إلا تكبيرة واحدة وهي الفرض ويركع بها من غير زيادة، وهذا هو المحكي عن زيد بن علي .
والحجة: هو أن هذه التكبيرة الثانية إنما تكون مشروعة إذا كان مدركاً للإمام في حال قيامه فأما إذا أدركه راكعاً فالمفروضة كافية.
والمختار: أنه لا بد من التكبيرتين وإحداهما لا تقوم مقام الأخرى من جهة أن إحداهما يفتتح بها الصلاة، والأخرى مسنونة من تكبيرات النقل فلا تسقط المسنونة بفعل المفروضة، كما لو أدركه المأموم في حال قيامه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أورده.
قوله: إن التكبيرة إنما تكون مشروعة إذا كان مدركاً للإمام في حال قيامه فأما إذا أدركه راكعاً فالمفروضة كافية.
قلنا: الإجماع منعقد من جهة الصحابة والتابعين على أنها لا تسقط بالمفروضة وأنها غير كافية.
المسألة الثانية: وإذا ركع الإمام فنسي تسبيح الركوع فرفع رأسه ثم رجع إلى الركوع ليكمل التسبيح فهل تبطل صلاته أو لا تبطل؟ فيه تردد.
والمختار: أنها لا تبطل؛ لأنه جاهل بالتحريم فأشبه ما لو فعلها ساهياً. وإذا قلنا بأن صلاته لا تبطل فإذا أدركه المأموم في هذا الركوع الثاني فهل يحتسب بهذه الركعة أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يكون لاحقاً بها ولا يعتد بهذه الركعة؛ لأن هذه الركعة إنما فعلت على جهة الجهل بالتحريم فلا يكون داخلاً بها لأن هذا الركوع لا يحتسب للإمام فلا يكون داخلاً معه به.
المسألة الثالثة: إذا قام الإمام إلى الركعة الخامسة غلطاً فهل يصح أن يدخل المأموم معه في هذه الركعة؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يكون المأموم داخلاً بهذه الركعة؛ لأنها لا تحتسب للإمام فلا يكون للمأموم دخول بها غير معدودة في الصلاة.
الفرع الخامس: إذا أدركه ساجداً، ويشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: إذا أدركه في السجود فإنه يَخِرُّ لله تعالى ساجداً لقوله : ((من أدركني فليكن على الحالة التي أنا عليها )) (1).
وهل يكبر تكبيرة الافتتاح قبل أن يَخِرَّ ساجداً على جهة الاستحباب ويكون داخلاً في الصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يَخِرَّ ساجداً على جهة الاستحباب ثم يقوم فيستأنف تكبيرة الافتتاح ويدخل معه في الصلاة ولا يعتد بالسجود الأول، وهذا هو رأي أئمة العترة.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((ثلاث لا يدعهن إلا عاجز عن اكتساب الأجر والثواب: رجل سمع مؤذناً فلا يقول مثل ما يقول، ورجل حضر إلى جنازة فلا يصلي عليها ولا يشيعها ولا يسلم على أهلها، ورجل لحق الإمام في السجود فترك مشاركته ومتابعته فيه))(2)
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم أن النبي قال: ((من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة كلها)).
…وعن علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل: ((إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام)).
…قال الرباعي في (فتح الغفار)1/303: رواه الترمذي بإسناد ضعيف، وقد أعل لانقطاع لكن يشهد له حديث معاذ عند أبي داود وأحمد... إلخ.
(2) رواه الإمام زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي".
…قال السياغي في (الروض النضير)1/549: أخرجه بهذا السياق والسند محمد بن منصور في (الأمالي) ولكل من الثلاث شواهد، الخصلة الأولى: قوله: ((رجل سمع مؤذناً ولا يقول كما يقول)) أخرج نحوه عبدالله بن أحمد بن حنبل في (زيادات المسند) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان علي بن أبي طالب إذا سمع المؤذن يؤذن قال كما يقول: الحديث، ذكره في (مجمع الزوائد) قال: وأخرجه الطبراني في (الكبير) عن ابن مسعود، وفي (التلخيص) عن أبي سعيد مرفوعاً، ورواه آخرون.
…قال السياغي: وقوله: ((ورجل لقي جنازة...إلخ)) سيأتي الكلام عليه في كتاب الجنائز، وكذا قوله: ((ورجل أدرك الإمام وهو ساجد)) سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في باب: الرجل يدرك مع الإمام بعض الصلاة. اهـ.
.
وإنما قلنا أنه لا يعتد بهذه السجدة ولا يكون داخلاً في الصلاة فلما روي عن الرسول أنه كان في صلاته في سجوده فسمع خفق نعل فلما فرغ من صلاته فقال: ((من ذا الذي سمعت خفق نعله ))؟. فقام رجل من أهل المدينة فقال: كنت أنا يا رسول الله فقال: ((كيف وجدتنا))؟ قال سجوداً قال: ((هكذا فاصنعوا ولا تعتدوا بها))(1).
فهذا الخبر دال على أنه يلزمه استئناف تكبيرة الافتتاح إذا قام، ولهذا قال: ((ولا تعتدوا بها)). فلو كانت تكبيرة الافتتاح مجزية له لم يقل: ((لا تعتدوا بها)).
المذهب الثاني: أنه تلزمه تكبيرة الافتتاح ثم يسجد ثم يقوم لاتمام صلاته، ولا تلزمه إعادة تكبيرة الافتتاح، وهذا هو رأي الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((يجعل ما لحق مع الإمام أول صلاته )). وفي هذا دلالة على أنه يكون لاحقاً بالمشاركة له في السجود ولا يلزمه استئناف تكبيرة الافتتاح.
والمختار: ما قاله أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو أنه لو كانت تكبيرة الافتتاح معتداً بها لكانت الركعة كلها محسوبة له، فلما وقع الإجماع على أنه لا يعتد بالركعة دل ذلك على أنه لا يعتد بتكبيرة الافتتاح عكسه المدرك في الركوع فإنه لما كان مدركاً للركعة كان مدركاً لتكبيرة الافتتاح.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((يجعل ما لحق الإمام فيه أول صلاته)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد أن يجعل أول صلاته ما كان مدركاً بإدراكه الركعة، ومن أدرك السجود فليس مدركاً للركعة فافترقا.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الخبر، وخبرنا أحق بالقبول لأنه أدل على المراد وأصرح بالمقصود من خبرهم، فلهذا كان أحق بالقبول.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 1/227.
المسألة الثانية: وإذا قلنا: بأنه لا تلزمه تكبيرة الافتتاح ولا يكون داخلاً في الصلاة بلحوق التشهد فهل تلزمه التكبيرة أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه غير لازم لأجل سجوده؛ لأن السجود غير معتد وإنما فعله امتثالاً لأمر اللّه، وتواضعاً لعظمته، ولقوله : ((من أدركني فليكن على الحال التي أنا عليها )). وإذا لحقه في السجدة الثانية فهل تلزمه إعادة السجدة الأولى أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أن إعادتها غير لازمة؛ لأنه لا ثمرة في إعادتها، ومن أصحاب الشافعي من ذهب إلى إعادتها وليس بشيء، ومن أدرك الإمام قاعداً للتشهد فإنه يَخِرُّ للجلوس من غير تكبير؛ لأن القعود عن القيام في الصلاة غير مشروع بحال فلهذا لا معنى للتكبير فيه بحال ويخالف الركوع والسجود فإنهما مشروعان عن القيام في الصلاة فلا ينحط المصلي عن القيام إلا إلى ركوع أو سجود فلهذا كان التكبير مشروعاً فيهما فافترقا.
المسألة الثالثة: قال المؤيد بالله: ومن أدرك الإمام وهو في التشهد الأوسط كبر قائماً ينتظر قيام الإمام وهو قائم ثم يقرأ بعد قيامه ويمضي في صلاته، وإن قعد معه جاز لقوله : ((من أدركني فليكن على الحالة التي أنا عليها)). وهل يتشهد إذا قعد أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يستحب له التشهد كما يستحب له القعود، وإن لم يكن له موضعاً للقعود.
وثانيهما: أنه لا يستحب له التشهد لأنه ليس موضعاً له في التشهد، وإذا قلنا: بأنه يستحب له التشهد. فإذا قام استحب له التكبير عند قيامه وعند قعوده. قال المؤيد بالله: ومن جلس مع الإمام في غير موضع جلوسه اتباعاً كبر إذا جلس، وإذا قام فيكبر إذا قعد اتباعاً لإمامه، ويكبر إذا قام لأنه يقوم إلى ركعة يؤديها فيستحب له التكبير كما لو كان منفرداً. وقال أيضاً: ولا يقوم لاتمام ما بقي من صلاته إلا إذا سلم الإمام التسليمتين جميعاً، فإن قام قبل فراغ الإمام من التشهد فالأقرب عندي بطلان صلاته.
والوجه في ذلك: هو أنه منهي عن مخالفة الإمام فإذا خالفه فقد دخل في النهي والنهي دال على الفساد، ومن أدرك الإمام في التشهد الأخير فإن أدركه ساجداً سجد معه استحباباً، وقام فأتم صلاته لنفسه.
وإن أدركه قاعداً فلا وجه لاستحباب تشهده معه ولا لقعوده؛ لأنه لا ينتظر قيامه لأن الصلاة قد فاتت، وإذا قام من التشهد الأوسط فإنه يبتدئ التكبير والقراءة، ويستحب له دعاء الاستفتاح لأنه لم يفت محله فيلزمه الإتيان به لأن محله بعد التكبير كما مر بيانه. قال المؤيد بالله: ومن قام بعد تسليم الإمام لإتمام صلاته فهل يكبر أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا تكبير عليه، وهو محكي: عن المؤيد بالله، والشافعي؛ لأنه قد كبر عند قعوده مع الإمام فلا يلزمه تكبيرٌ آخر.
وثانيهما: أنه يستحب له التكبير؛ لأن تكبير القعود إنما كان من أجل متابعة إمامه والتكبيرة عند القيام مشروعة كما لو كان منفرداً.
الفرع السادس: وإذا نوى المأموم مفارقة الإمام وأتم الصلاة لنفسه نظرت فإن كانت المفارقة لعذر جاز ذلك، والأعذار تكون على أوجه خمسة:
أولها: أن يخشى أن ترحل القافلة فيناله ضرر تخلفه عن القافلة في نفسه أو ماله فيقطع صلاة الجماعة ويسير معها.
وثانيها: إتيان القافلة وهو في إنتظار مرورها فجاءت وهو في الصلاة ويخشى من تخلفه عنها مضرة وانقطاعاً.
وثالثها: حضور حريق في مكانه وهو في الصلاة فيخشى إن أتم الصلاة وقوع الحريق في نفسه وماله فيجوز له قطع الائتمام.
ورابعها: أن يكون هناك قريب له منزول به الموت فيخشى إن أتم الصلاة أن يكون على غير تثبت عند الموت فيجوز له قطع الصلاة في الجماعة لأجل تثبيته وتحسين حاله عند الموت.
وخامسها: أن يكون هناك منكر يخشى فواته إن اشتغل بتمام الصلاة فيكون عذراً في قطعها وإتمامها لنفسه وإزالته، وإن كان من غير عذر فهل تبطل صلاته إذا خرج منها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها باطلة. وهذا هو: رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا وإذا ركع فاركعوا)). فأمر بمتابعة الإمام فمن خالفه فقد خالف الأمر، ومخالفة الأمر معصية، والمعصية تنافي الطاعة والقربة، والصلاة من شرطها القربة والطاعة.
المذهب الثاني: أن صلاته صحيحة، وهذا هو الأصح من قولي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى جابر أن معاذاً كان يصلي العشاء مع الرسول ثم يصلي بقومه في بني سلمة فصلى بهم ليلة فأطال الصلاة فقرأ سورة البقرة فخرج رجل من الصلاة لطولها وجاء إلى الرسول يسأله عن ذلك فأنكر على معاذ فعله وقال له الرسول : ((أفتان أنت يا معاذ )). ولم يأمر الرجل بالإعادة فدل ذلك على الجواز.
والمختار: ما عليه علماء العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو ما روي عن الرسول : ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس كلب أو رأس حمار أو رأس عنز)). فلو كان هذا جائزاً لما توعده عليه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أورده.
قالوا: روى جابر أن معاذاً طول القراءة فخرج الرجل ولم يؤمر بالإعادة فدل ذلك على الجواز.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه حكاية فعل لا ندري كيف وقعت، وما هذا حاله فهو مجمل يحتاج إلى البيان.
وأما ثانياً: فلأنه يحتمل أن الرجل لم يأت يستفتي إلا بعد أن قضى الصلاة لما كانت باطلة كما أشرنا إليه.
الفرع السابع: في القراءة بعد الإمام في صلاة الجماعة. قد ذكرنا فيما يتعلق بأحكامها ما يتعلق بالقراءة خلف الإمام في صلاة الجماعة، ويشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: هل تجب القراءة خلف الإمام أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن القراءة واجبة على المأموم إذا كانت القراءة سراً ولا تجب عليه إذا كانت القراءة جهراً، وهذا هو: رأي الإمامين القاسم، والهادي، ومحكي: عن زيد بن علي وعبدالله بن الحسن وأحمد بن عيسى، وهو اختيار المؤيد بالله، فإنه قال: والإستماع عند جهر الإمام والقراءة عند عدم السماع تقوى عندي وعليه أعمل. وقال: والاختيار عندي أن يقرأ المأموم الفاتحة وسورة معها فيما يخافت به الإمام. وهذا هو قول الزهري، وأحمد وإسحاق بن راهويه وأحد قولي الشافعي.
ودليلنا على أنه لا يقرأ إذا سمع الإمام: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا }[الأعراف:204]. وروي عن أبي هريرة، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري وإبراهيم والزهري ومحمد بن كعب(1):
أنها نزلت في شأن الصلاة.
ودليلنا على وجوب القراءة للمأموم إذا لم يسمع قراءة الإمام: قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20]. وقوله : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها)). وقوله : ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)). وهذا العموم يقتضي وجوب قراءتها على الإمام والمأموم والمنفرد إلا ما قامت على خلافه دلالة قضينا بها.
__________
(1) محمد بن كعب بن سليم، وقيل: ابن كعب بن حيان، وصفه في (سير أعلام النبلاء)5/65 بالإمام العلامة الصادق، أبو حمزة، وقيل: أبو عبد الله القرضي المدني، من حلفاء الأوس، سكن الكوفة ثم المدينة، قيل: ولد في حياة النبي ولم يصح ذلك، قال: وكان لمحمد جلساء من أعلم الناس بالتفسير، وكانوا مجتمعين في مسجد الربذة فأصابتهم زلزلة فسقط عليهم المسجد فماتوا جميعاً تحته، واختلف في تأريخ وفاته بين سبع عشرة وتسع عشرة وعشرين[كذا] وهو ابن سبع وثمانين سنة، روى عن أبي ذر وأبي الدرداء، وعلي والعباس وغيرهم، اهـ. وفي (تهذيب التهذيب)9/374. قال ابن حبان: كان-يعني محمد بن كعب- من أفاضل أهل المدينة علماً وفقهاً. اهـ.
المذهب الثاني: وجوب قراءة فاتحة الكتاب على الإمام والمأموم على كل حال، وهذا هو رأي الشافعي في الجديد.
والحجة على هذا: ما روى عبادة بن الصامت عن الرسول ، قال: صلى بنا صلاة الفجر فلما سلم قال: ((أتقرأون خلفي))؟. قالوا: نعم يا رسول الله. قال: ((فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها)) (1).
المذهب الثالث: أن القراءة غير واجبة خلف الإمام سواء كانت القراءة سراً أو جهراً، وهذا هو: رأي أبي حنيفة وأصحابه، والثوري.
والحجة على هذا: ما روى سالم عن ابن عمر، أن الرسول قال: ((من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ))(2).
وبما روى عمران بن حصين، عن النبي أنه نهى عن القراءة خلف الإمام، وبما روى عبدالله بن شداد(3)
أنه قال: ((من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )).
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من الفقهاء من وجوب القراءة خلف الإمام في الصلاة إذا كانت سراً، وامتناعها خلف الإمام في الصلاة إذا كانت جهراً.
__________
(1) جاء الخبر في (صحيح ابن حبان)5/95، وفي (المستدرك)1/364، وفي (سنن أبي داود)1/217.
(2) رواه البيهقي في (الكبرى) 2/159، والدارقطني في السنن1/323، وابن ماجة1/277.
(3) عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي أبو الوليد المدني، وأمه: سلمى بنت عميس اخت أسماء.
…قال في (تهذيب التهذيب)5/222 وفي (التأريخ الكبير)5/115: أنه سمع عمر وطلحة ومعاذ والعباس وابن مسعود. وروى عنه: سعد بن إبراهيم الشيباني، ومعبد بن خالد، والحكم بن عتيبة وغيرهم، قال: وقال الواقدي: خرج مع القراء أيام ابن الأشعث على الحجاج فقتل يوم دجيل، وكان ثقة فقيهاً كثير الحديث متشيعاً، وكان مقتله سنة 81هـ وقيل82هـ ليلة دجيل.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: كانوا يقراؤن خلف الرسول فقال لهم: ((خلطتم عليَّ فلا تفعلوا ))(1).
ولما روى أبو هريرة أن الرسول انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: ((هل قرأ منكم أحدٌ معي )). فقال رجل: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله : ((أنا أقول: مالي أنازع القرآن )) (2).
قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه الرسول بالقراءة من الصلاة ما إن سمعوا ذلك منه ، وروي: فاتعظ المسلمون بذلك فلم يكونوا يقراؤن فيما جهر به وهذا نص صريح فيما نذهب إليه. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قرأ فانصتوا)). ولأنه لو وجبت على المأموم القراءة خلف الإمام فيما يجهر به لوجب عليه أن يجهر كالإمام فلما لم يجهر دل على أن القراءة غير واجبة عليه مع جهر الإمام.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روى جابر بن عبدالله أن الرسول قال: ((من صلى ولم يقرأ بفاتحة الكتاب فهي خداج )). وهذا يحتج به الشافعي.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الغرض إذا كان المصلي وحده أو كان مأموماً في صلاة الإسرار، وكلامنا إنما هو في الصلاة المجهورة.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الأخبار التي رويناها فإنها دالة على ترك القراءة في الصلاة المجهورة خلف الإمام ولا شك أن أخبارنا أشهر وأكثر وأظهر فيجب التعويل عليها.
قالوا: روى سالم، عن ابن عمر أن الرسول قال: ((من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )). ولم يفصل بين المجهورة وصلاة الإسرار، وهذا هو احتجاج أبي حنيفة.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) أخرجه في (مجمع الزوائد)2/110، وفي سنن الدارقطني1/340، وفي مصنف ابن أبي شيبة1/330.
(2) رواه أبو هريرة، أخرجه الموطأ1/86، وأبو داود والترمذي والنسائي.
أما أولاً: فلأن هذا محمول على صلاة الجهر ولا شك أن صلاة الجهر لا يقرأ فيها المأموم، وأما إذا كانت الصلاة إسراراً وجبت عليه القراءة.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما أوردناه دلالة على وجوب القراءة إذا كانت الصلاة إسراراً.
المسألة الثانية: وإذا لم يسمع قراءة الإمام لصمم أو بُعْدٍ فالواجب عليه القراءة؛ لأنه مؤتم بغيره فإذا لم يسمع قراءة الإمام لزمه أن يقرأ كما لو كانت الصلاة عَجْماء، وهل تلزم الإعادة للمأموم إذا قرأ فيما يسمع مع قراءة الإمام أو لم يقرأ فيما لم يسمع أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها تلزمه الإعادة فيما ذكرناه، وهذا هو: رأي القاسمية.
والحجة على هذا: خبر عمران بن حصين وهو أن الرسول نهى عن القراءة خلف الإمام. والنهي يقتضي فساد المنهي عنه شرعاً، وإنما قلنا: إنه إذا لم يقرأ في صلاة الإسرار بطلت صلاته لقوله : ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها)).
المذهب الثاني: أن المأموم إذا قرأ فيما يجهر به من القراءة لم تبطل صلاته، وهذا هو: رأي المؤيد بالله، وإن جهر في موضع الإسرار كره له ولم تبطل صلاته؛ لأن الجهر والإسرار هيئتان للقراءة فإذا خالفهما لم تبطل الصلاة بالمخالفة كما يقول في سائر الهيئات كوضع اليد حذاء الخد أو حذو المنكب أو غير ذلك، وقد قدمنا المختار والانتصار له فلا وجه للإعادة.
المسألة الثالثة: قال السيد أبو طالب: وإن جهر الإمام في ركعة واحدة أجزت الصلاة؛ لأن الحمد عندنا بمنزلة القراءة والقراءة عندنا إنما تجب في ركعة واحدة فهكذا حال الجهر. قال محمد بن يحيى: وإن ترك المخافتة فيما يخافت به بطلت صلاته لأن الجهر والمخافتة عند الهادي وأولاده كأصل القراءة، وإذا أتى بالمخافتة في ركعة واحدة لم تبطل صلاته كالجهر، فأما على رأي المؤيد بالله فالجهر والمخافتة هيئتان من سنن الهيئات لا تبطل الصلاة لكل منها بتركهما كما مر بيانه.
الفرع الثامن: قال المؤيد بالله: وإذا وافق المؤتم الإمام في ابتداء التكبير والركوع وغيره فالأقرب عندي أن لا تبطل صلاته؛ لأن الائتمام أن يفعل مثل ما فعله تبعاً له، وليس من شرطه أن يفعل بعد فعل الإمام. فأراد بما قاله: أن المشاركة في الأفعال من جهة المأموم لإمامه لا تبطل الاقتداء؛ لأنه متابع له وإن شاركه في الأفعال.
واعلم أن الإمام إذا سبق المأموم بالإسم والصفة في قولنا: الله أكبر. جازت الصلاة لأجل المتابعة لقوله : ((فإذا كبر فكبروا)). وهذا فلا خلاف فيه، وإن سبق المأموم إمامه في الإسم والصفة بطلت الصلاة لفساد الاقتداء بالتقدم على الإمام وإن شارك المأموم إمامه في الإسم والصفة جازت الصلاة كما حكيناه عن المؤيد بالله، وإن سبق المأموم بالإسم وسبقه الإمام بالصفة جازت الصلاة مع الكراهة؛ لأن المأخوذ على المأموم المتابعة أو المشاركة دون السبق فلما سبق بالإسم كان مكروهاً، وإن سبق الإمام بالإسم وسبقه المأموم بالصفة لم تكن الصلاة جائزة لأجل سبقه لإمامه، وإن اشتركا في الصفة نظرت فإن سبق الإمام بالإسم كان جائزاً من غير كراهة، وإن سبق المأموم بالإسم كان جائزاً مع الكراهة، وإن اشتركا جميعاً في الاسم نظرت فإن سبق المأموم بالصفة لم يكون جائزاً، وإن سبق الإمام كان جائزاً، وهكذا يكون حال التسليم فإن اشترك الإمام والمأموم في التسليم كانت الصلاة جائزة لأن المشاركة بمنزلة المتابعة، وإن تابعه فسلم بعد تسليمه كانت الصلاة مجزية؛ لأن المتابعة هي المأخوذة على المأموم كما قررناه، وإن سلم المأموم قبل تسليم الإمام بطلت صلاته؛ لأنه سبقه بركنين من أركان الصلاة فيجري الحكم فيهما مثل ما ذكرناه في التكبير من غير مخالفة لأنهما سيان أعني التكبير والتسليم في كونهما ركنين من أركان الصلاة وإن اختلفا في كون أحدهما لتحريم الصلاة، والآخر لتحليلها وقد قررناه.
الفرع التاسع: قال المؤيد بالله: ومن لحق الإمام في بعض صلاته فلما جلس الإمام في آخر تشهده قام المؤتم لإتمام صلاته قبل فراغ الإمام من التشهد فالأقرب عندي أنه أفسد صلاته، وهذا جيد لا غبار عليه.
والوجه في ذلك: قول : ((لا تختلفوا على إمامكم)). وهذا نهي، والنهي يقتضي الفساد خاصة في العبادات، ولأنه ترك متابعة الإمام من غير عذر كما لو تقدم عليه، والواجب على المأموم متابعة الإمام في مفروض الصلاة ومسنونها من غير مخالفة له في ذلك لقول : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)). وقوله: ((لا تختلفوا على إمامكم)). فإن خالف المأموم فيما ليس مشروعاً في الصلاة جاز ذلك كما لو قام إلى الخامسة من الظهر والعصر، أو الثالثة من الفجر، أو الرابعة من المغرب، وهكذا لو قعد للتسليم على الثالثة من الظهر والعصر، أو على الركعتين من المغرب، فإن ما هذا حاله لا يجوز متابعة الإمام بل يعزل المصلي صلاته عن صلاة الإمام إذا تعذر تنبيهه عن غلطه وسهوه.
قال المؤيد بالله: وإذا قام الإمام غلطاً جلس المؤتم ولا يتابعه وليسلم لنفسه إذا تعذر تنبيه الإمام؛ لأن ما هذا حاله إنما فعله الإمام غلطاً وسهواً فلا تجوز متابعته على الغلط والسهو، وإذا سجد الإمام سجدة ونسي الثانية وقام لم يتابعه المؤتم وسجد لنفسه الثانية، فإن تنبه الإمام لما أخل به وعاد لأداء هذه السجدة لم يلزم المأموم متابعته لأنه قد سجدها فلا وجه لإعادتها، وإن لم ينتبه الإمام لهذه السجدة فهي باقية عليه يسجدها قبل فراغه من الصلاة، فإن تعذر تنبيهه لإدائها عزل المؤتم صلاته لأنه قد أخل بفرض من فروضها كما لو سلم على ثلاث من الرباعيات.
الفرع العاشر: في حكم المخالفة للإمام. وإذا خالف المأموم إمامه نظرت فإن كانت المخالفة فيما ليس مشروعاً في الصلاة وفيما لا يجب على المأموم موافقة الإمام فيه لم تلزمه المتابعة، وقد قررناه من قبل فأغنى عن تكريره، وإن كان فيما تجب عليه فيه المتابعة فهو مشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: في حكم المخالفة بالتقدم، وإذا سبق المأموم إمامه بتقدمه عليه نظرت فإن كان سبقه له بجزء من ركن لم يقدح ذلك في صحة الصلاة، فإذا قال المأموم: الله. قبل قول الإمام: الله أكبر. ثم يتم الإمام التكبير قبله لم تفسد صلاته؛ لأن ما هذا حاله تعظم به البلوى ويعظم الحرج فيه فلهذا رفع الشرع حكمه ولأنهم لما بادروه بالركوع والسجود نهاهم عن ذلك بقوله: ((لا تبادرونني بركوع ولا سجود )). ولم يأمرهم بالإعادة، وإن كان سبقه بركن واحد نظرت فإن كان ذلك الركن هو تكبيرة الافتتاح بطلت صلاة المؤتم لأنها أول الصلاة وبها يكون الافتتاح للتحريم فلا بد فيها من المتابعة، فإذا سبقه المؤتم بها لم يكن تابعاً له وبطل الائتمام، وإن كان غيرها من الركوع والسجود وسائر الأركان في الصلاة نظرت فإن كان ذلك على سبيل السهو لم تفسد الصلاة؛ لما روي أن الرسو صلى الظهر ثلاثاً على جهة السهو وتنبه بعد ذلك فزاد إليها واحدة وسجد للسهو ولم تبطل الصلاة؛ ولأن صلى الظهر خمساً على جهة السهو فلما نبهه ذو اليدين سجد لسهوه ولم تفسد الصلاة، وفي هذا دلالة على أن ما فعله على جهة السهو فإنه غير مفسد للصلاة، وإن كان على جهة العمل فهل تفسد به الصلام أم لا؟ فيه أقوال ثلاثة محكية عن المؤيد بالله:
فالقول الأول: ذكره في (الإفادة) فإنه قال: إذا رفع المؤتم رأسه قبل رفع الإمام فسدت صلاته إذا تعمد ذلك، وإن رفع ناسياً انتظر الإمام ويستوي جالساً أو قائماً فإن عاد إلى سجوده ثانياً بطلت صلاته لأنه فعل سجوداً زائداً وذلك يوجب بطلان الصلاة عندنا؛ لأن الأدلة ما فصلت في زيادة السجود الزائد على المشروع في إفساد الصلاة بين أن يكون سهواً أو عمداً.
القول الثاني: ذكره في (الزيادات) أنه لا يوجب بطلان الصلاة وإن فعل على جهة العمد وهذا هو الصحيح المرجوع إليه من قوليه وأشار إليه السيد أبو طالب، لقوله : ((لا تبادرونني بركوع ولا سجود )). وظاهر الحديث أنهم قد سبقوه بالركوع والسجود على جهة العمد ولم يأمرهم بالإعادة، وفيه دلالة على أنه غير مفسد.
القول الثالث: ذكره في موضع من (الإفادة) أنه فصل بين الرفع والخفض، فقال في الرفع: تبطل الصلاة به إذا كان عمداً؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((ألا يأمن الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو رأس كلب)). ولم يذكر في الخفض ذلك فدل على التفرقة بينهما.
والمختار: أن سبق المأموم بركن واحد غير مفسد للصلاة سواءً كان ذلك على جهة العمد أو على جهة السهو؛ لأنه ربما يقع كثيراً وتعظم فيه المشقة بالاحتراز فلا جرم خفف الشرع حكمه، ولا يخالف السهو العمد في أنه غير مفسد، وإنما يأثم بالعمد دون الإفساد للصلاة، وإن سلَّم المؤتم تسليمة واحدة قبل الإمام لم تفسد صلاته لأنه ركن واحد.
المسألة الثانية: في حكمه إذا خالفه بركنين، ومتى كان الأمر كما قلناه نظرت فإن كان ذلك لعذر لم تبطل الصلاة وهذا يكون في صورتين:
الصورة الأولى: في صلاة الخوف وهو أن الطائفة الأولى يسلمون قبل تسليم الإمام، ويخرجون من الصلاة إلى لقاء العدو، وتجيء الطائفة الثانية فيصلون الركعة الثانية كما سنوضح الكلام فيها بمعونة الله.
الصورة الثانية: في الرجل يتشهد التشهد الأخير فيخاف أن يحدث قبل تسليم الإمام فهل له أن يسلم وقد تمت صلاته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن له ذلك وأن صلاته صحيحة وهذا هو المروي عن أمير المؤمنين.
والحجة على هذا: قوله : ((إذا قعدت فقد تمت صلاتك )). فهذا الخبر دال على صحة ما قلناه لأنه حكم بصحة الصلاة بعد القعود.
المذهب الثاني: أن صلاته تبطل إذا فعل ذلك، وهذا هو الذي يأتي على أصل القاسمية.
والحجة على هذا: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). والنهي دال على الفساد لأن هذا قد خالف الإمام من غير عذر يدل عليه دليل شرعي.
والمختار: جواز ذلك لما روينا من الخبر؛ ولأن أمير المؤمنين قد ذهب إليه وإذا صدر من جهة الصحابي شيء فإنما يكون من جهة التوقيف من الرسول لأنه لا مجال للإجتهاد في العبادات فيجب القضاء بصحته.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((لا تختلفوا على إمامكم)). وهذه مخالفة تقتضي الوقوع في النهي وفي هذا دلالة على الفساد.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا محمول على المخالفة التي تكون قبل تمام الصلاة، فأما هذه المخالفة فإنها مخالفة واقعة بعد تمام الصلاة وإكمالها.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الخبر وإذا تعارضا وجب الترجيح، وخبرنا لا محالة أرجح لأنه دال على المقصود وأصرح بالمراد من الخبر الذي رويتموه، وأيضاً فإن خبرنا ظاهر في الدلالة على ما تدل عليه، وخبركم أقرب إلى الإجمال فلهذا كان خبرنا أقرب إلى القبول.
المسألة الثالثة: في حكم تخلف المأموم عن الإمام بعد دخوله معه في الصلاة لشيء تركه الإمام، فإن كان التخلف عن الإمام لشيء تركه نظرت في حاله فإما أن يكون مفروضاً أو مسنوناً، فإن كان من الفروض الواجبة في الصلاة وهذا نحو أن يترك ركعة أو سجدة فإن ما هذا حاله لا تلزمه متابعة الإمام؛ لأنه إنما يتابعه فيما كان مشروعاً في الصلاة، فأما إذا لم يكن مشروعاً في الصلاة لم تلزمه المتابعة، ويجب عليه أن يعزل صلاته عن صلاة الإمام إذا تعذر تنبيهه عن القيام بما تركه وأخل به. وإن كان المتروك من السنن المستحبة ففيه صورتان:
الصورة الأولى: أن يترك الإمام التشهد الأوسط ثم يجلس المأموم للتشهد ولا يتابع الإمام، فهذا التأخر عن متابعة الإمام يوجب بطلان الصلاة؛ لأنه عدل من مفروض إلى مسنون لأن متابعة الإمام واجبة، والتشهد من جملة المسنونات، فلهذا قلنا: ببطلانها لما ذكرناه.
الصورة الثانية: قال المؤيد بالله: والمؤتم إذا بقي عليه من آخر التشهد الآخر ما ليس واجباً وقد سلم الإمام فإنه يتم ما بقي من التشهد إذا لم يزد علىالمعتاد من الدعاء المسنون في آخر التشهد، والمعنى أن مشاركة الإمام في التسليم من الصلاة هو الأولى والأحق لأجل وجوب المتابعة إذا لم يكن هناك غرض أفضل منه، وإن كان هناك عرض أفضل منه جاز تركه وتقديمه عليه، والغرض الأفضل هو ما أشار إليه من إكمال الدعاء المسنون في التشهد المأثور عن الرسول وهو قوله: ((اللهم إنا نعوذ بك من عذاب النار ومن عذاب القبر ومن عذاب الفقر وأهوال يوم القيامة وسوء الحساب وسوء المنقلب وسوء المنظر في النفس والأهل والمال والولد)). والتفرقة بين هذه الصورة والصورة التي قبلها هو أن المصلي في الصورة الأولى قد بقي عليه من أعمال الصلاة ما يجب عليه متابعة الإمام فيه بخلاف المسألة الثانية فإنه لم يبق عليه من الصلاة ما يلزمه فيه المتابعة فافترقا، وإن زاد المأموم في الدعاء من غير المشروع من حوائج الدنيا والآخرة جاز ذلك ولا حرج عليه لأن الصلاة موضوعة للدعاء لما روي عن الرسو أنه كان لا يحزنه شيء مما يكرهه إلا ذكره في الصلاة.
المسألة الرابعة: في حكم التخلف عن الإمام لسبق الإمام له وإذا تخلف المأموم عن الإمام لسبقه له نظرت فإن كان سبقه له بجزء من ركن أو بركن كامل جاز ذلك؛ لأن مثل هذا لا يطرق خللاً في صحة الصلاة؛ ولأن الاحتراز عنه ربما يشق، فلهذا رفع الشرع [الحرج عنه]وإن سبقه الإمام بركنين فسدت الصلاة لأجل كثرة المخالفة وهي موجبة للفساد لقوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). إلا في صورتين قام الدليل الشرعي على أنهما لا يوجبان فساداً.
الصورة الأولى: أن يشتغل المؤتم بالتوجه فيكبر الإمام ويقرأ ويركع ثم يكبر المؤتم ويدرك الإمام راكعاً فقد سبقه بالتكبيرة والقراءة وهما ركنان ومع ذلك فقد قضينا بصحة صلاته لما أدرك الركوع وإنما كان الأمر كما قلناه لقوله : ((من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها)). فسماه مدركاً لما أدرك الركوع وإنما كان الأمر كما قلناه لقوله : ((من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها )) (1)
. فسماه مدركاً بإدراك الركوع.
الصورة الثانية: أن يسبقه الإمام بالتسليمتين فقد سبقه الإمام بركنين ولكنه غير مفسد للصلاة لأن السلام تخليل للصلاة وخروج عنها،فتخلف المأموم عن التسليم لا يطرق عليه خللاً في صلاته لأنه لم يبق بعدهما ما يوجب المتابعة فسبقه له غير مخل لما ذكرناه، والله أعلم.
الفرع الحادي عشر: في حكم الإمام إذا حدث به حادث وهو في الصلاة.
اعلم أن الإمام إذا حدث به حادث مما يبطل صلاته فالأفضل أن يستخلف من يصلي بمن كان خلفه لأن الرسو مرض مرضه الذي توفي فيه فاستخلف أبا بكر فصلى بالناس سبعة عشر يوماً وكان الرسول قد يخرج في بعض الأوقات ويصلي بهم قاعداً وإنما فعل ذلك ليبين لهم الجواز وأكثر أمره على الاستخلاف، وفي هذا دلالة على الأفضلية في الاستخلاف وهذا الفرع قد اشتمل على بيان أحكام:
الحكم الأول: أن الإمام إذا عرض له حادث في الصلاة فهل يجوز له الاستخلاف أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجوز له الاستخلاف وهو الأفضل في حقه وحقهم، وهذا هو: رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، ومحكي: عن أبي حنيفة وأصحابه، وقول الشافعي في الجديد، وهو رأي الأكثر من أصحابه.
__________
(1) يبدو الاستدلال في غير موضعه؛ لأن الموضوع هنا هو في صحة ائتمام من أدرك الإمام في ركوعه، فإنه يعتد بهذه الركعة، بينما الحديث الشريف يتعلق بإدراك الصلاة بإدراك الركعة منها قبل خروج وقتها، والله أعلم.
والحجة على هذا: ما رويناه عن الرسول في مرضه أنه استخلف أبا بكر يصلي بالناس فوجد خِفَّه فخرج المسجد يتهادى بين اثنين فأمَّهم في بعض صلاتهم وخرج أبو بكر من الإمامة والمأمومون من الائتمام،وفي هذا دلالة على جواز الصلاة بإمامين من أجل العذر لأن بعض صلاتهم كانت خلف أبي بكر وبعضها كانت خلف الرسول وفي هذا دلالة على جواز لإستخلاف.
المذهب الثاني: المنع من ذلك وهذا هو قول الشافعي في القديم.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه افتتح بالناس في صلاة الفجر ثم ذكر أنه جنب فانصرف واغتسل ولم يستخلف وفي هذا دلالة على أنه لا معنى للاستخلاف.
والمختار: ما عليه علماء العترة ومن تابعهم من جواز الاستخلاف.
وحجتهم: ما ذكرناه عنهم؛ ونزيد هاهنا، وهو ما روي عن الرسول أنه خرج إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فانتظروه للصلاة فأبطأ فقدموا أبا بكر ثم جاء الرسول فوقف في الصف فتأخر أبو بكر وتقدم الرسول فصلى بالقوم بقية الصلاة، ولأن صلاة الجماعة لا تنعقد إلا بالإمام والمأموم جميعاً ثم إنه لا يتغير حكمها يتغير المأموم وهو أن يخرج مأموم ويدخل مأموم آخر فهكذا يجب ألا يتغير حكمها بتغير الإمام فإذا أحدث الإمام جاز دخول إمام آخر وهذا هو فائدة الاستخلاف.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول أنه افتتح الصلاة بالناس في صلاة الفجر ثم ذكر أنه جنب فقال: ((على رسلكم)). ثم انصرف واغتسل ولم يستخلف وفي هذا دلالة على عدم الجواز في الاستخلاف.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكرتموه إنما يدل على عدم الوجوب لأنه لو كان واجباً لم يتركه ولكنه غير دال على عدم الجواز؛ لأن الجائز يجوز فعله ويجوز أن لا يفعل وإنما تركه ليعلم الناس أنه غير واجب.
وأما ثانياً: فلأن الرسول إنما ذكر كونه جنباً قبل دخوله في الصلاة وقبل دخول المسلمين فيها.
فإن قال القائل: إن عدم الجواز في الاستخلاف ما قاله به أحد إلا الشافعي في أحد قوليه وهو القديم والقول القديم مرجوع عنه فكيف يجعلونه مذهباً ويردون عليه مع رجوعه عنه.
قلنا: إن قول المجتهد الثاني يمنزلة قول مجتهد آخر في جواز العمل عليه للعامي ولا ينعقد الإجماع مع القول الثاني ولو كان مرجوعاً عنه وإذا كان الأمر كما قلناه استحق الكلام عليه كما لو ذهب إليه مجتهد آخر.
الحكم الثاني: أن كل واحد من المصلين لو أتم صلاته منفرداً هل يجوز أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك وهذا هو: رأي المؤيد بالله ومحكي عن الشافعي ورواية عن أبي العباس.
والحجة على هذا: هو أن المأموم خرج عن الائتمام بعد دخوله فجاز له البناء كالمسبوق لا معذور في الخروج لإتمام صلاته فهكذا هاهنا هو معذور عن الخروج لأجل بطلان صلاة الإمام.
المذهب الثاني: المنع من ذلك وهذا هو الراوية الثانية عن أبي العباس وهو الذي حصله على رأي الهادي وهو قول بعض الفقهاء.
والحجة على هذا: هو أن كل واحد منهم عقد صلاته في الجماعة ونوى الائتمام ثم خرج كل واحد منهم عن الائتمام فكانت صلاته باطلة كما لو دخلوا في صلاة الجماعة ثم خرجوا فالمخالفة مبطلة للصلاة هاهنا فهكذا تكون مبطلة لها هناك والجامع بينهما هو الخروج إلى الانفراد بعد الائتمام.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله من جواز ذلك.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن الحديث إنما عرض في حق الإمام دون المؤتمين فلا جرم بطلت صلاة الإمام دون صلاة المؤتمين فلما بطل إنعقاد الجماعة للعذر فلا جرم صلوا لأنفسهم.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: خرج عن صلاة قد عقدها جماعة وانفرد فبطلت كما لو عقدها جماعة ثم انفرد من غير عذر يعذره.
قلنا: المعنى في الأصل كونه خرج من غير عذر فلهذا بطل الخروج بعد عقد الجماعة بخلاف ما نحن فيه فإنه إنما خرج لعذر فساد الطهارة في حق الإمام فافترقا.
الحكم الثالث: إذا تعمد الإمام الحدث فهل تبطل صلاة المؤتمين به أو لا تبطل إلا صلاته فقط؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن صلاتهم صحيحة سواء سبقه الحدث أو تعمده، وهذا هو: رأي القاسمية ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن صلاة المأمومين معلقة بصلاة الإمام على معنى أنهم يقومون بقيامه ويقعدون بقعوده ويقتدون به في كل أحواله وعلى زيادة الفضل بانعقاد الجماعة فهذا هو المراد بكون صلاة المامومين متعلقة بصلاة الإمام، فأما على معنى أنها إذا فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة المؤتمين فلم تدل عليه دلالة فلهذا لم يحكم [بفسادها].
المذهب الثاني: أن الإمام إذا تعمد الحدث بطلت صلاة المؤتمين، وهذا هو: رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن صلاة المؤتمين كما هي متعلقة بصلاة الإمام في صحتها وفضلها فهي متعلقة في بطلانها وفسادها لأن كل ما تعلقت صحته بصحة أمر ففساده متعلق به، ألا ترى أن الصلاة صحتها موقوف على صحة الطهارة فيجب أن يكون فسادها بفساد الطهارة من غير فرق.
والمختار: ما عليه علماء العترة ومن تابعهم من أن صلاة المؤتمين لا تفسد بفساد صلاة الإمام عند تعمد الحدث.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا، وهو ما روى البخاري في صحيحه وهو قوله : ((إنكم تصلون بهم فما صلح فلكم ولهم وما فسد فعليكم دونهم)).
ووجه الاستدلال من الخبر: هو أنه جعل الاستقامة في الصلاة(1)
للأئمة والمؤتمين بخلاف الفساد فإنه جعله على الأئمة دون المؤتمين وهذا ظاهر في صحة ما قلناه.
ومن وجه آخر: وهو أنه لو فسدت صلاة المؤتمين بفساد صلاة الإمام للزم عكسه وهو أن تفسد صلاة الإمام بفساد صلاة المؤتمين ولا قائل به، فظهر الفرق بينهما.
__________
(1) أي: الصحة.
ومن وجه ثالث: وهو قوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)). وأراد في الكمال وإحراز الفضل والأجر والثواب والإتيان بالأركان والسنن والهيئات ولم يرد بذلك الفساد وهو أن تفسد صلاة المؤتمين بفساد صلاة الإمام وفي ذلك صحة ما قلناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: صلاة المؤتمين متعلقة بصلاة الإمام في الصحة والفساد من جهة أن كلما علقت صحته بصحة شيء فهو معلق بفساده كالطهارة في حق الصلاة.
قلنا: إن صلاة الإمام لم تشرع لكونها شرطاً في صحة صلاة المؤتمين فيلزم ما ذكرتموه، وإنما شرعت إحرازاً للفضل والأجر فلا يلزم من فسادها فساد صلاتهم.
قالوا: كما أن الصلاة موقوفة على الطهارة في الصحة والفساد فهكذا تكون صلاة المؤتمين موقوفة على صلاة الإمام في الصحة والفساد.
قلنا: إن الطهارة شرط في صحة الصلاة فلهذا صحت الصلاة بصحتها وفسدت بفسادها بخلاف صلاة الإمام فإنها ليست شرطاً في صحة صلاة المؤتمين فلا يلزم من فسادها فساد صلاتهم فافترقا.
الحكم الرابع: وإذا قلنا بصحة الاستخلاف، فهل يفترق الحال في صحته بين أن يكون الحدث عمداً أو سهواً أو لا يفترق الحال؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يفترق الحال في صحة الاستخلاف بين سهو الحدث وعمده، وهذا هو: رأي المؤيد بالله واختاره للمذهب.
والحجة على ذلك: هو أن الأدلة لم تفصل في جواز الاستخلاف وصحته بين أن يكون الحدث سهواً أو عمداً فلهذا قضينا بالتسوية بينهما.
المذهب الثاني: التفرقة بين السهو والعمد في صحة الاستخلاف وهذا هو: رأي السيد أبي طالب، واختياره وذكر فيه احتمالين:
الاحتمال الأول: وهو الأظهر على أصل الهادي أنه إذا تعمد الحدث بطل استخلافه.
والحجة على هذا: هو أن الاستخلاف ولاية جعلت له لأجل عقد الإمامة وقد أبطلها تعمد الحدث فلهذا بطل استخلافه عليهم.
ومن وجه آخر: وهو أن الحدث مبطل لأحكام الصلاة في إبطال ثوابها وسقوط فرضها عن الذمة، فهكذا حال الاستخلاف يكون مبطلاً له أيضاً من غير تفرقة.
الاحتمال الثاني: أنه غير مبطل للاستخلاف.
والحجة على هذا: هو أنه إمام عرض له في صلاته حدث فجاز له الاستخلاف كما لو كان مسبوقاً بحدث.
والمختار: ما ذكره السيد أبو طالب من بطلان ولاية الإمام للإستخلاف بعمده الحدث.
وحجته: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو أنا وجدنا الشرع والعقل يفرقان بين عمد الأفعال وسهوها فيوجبون للعمد حكماً وللسهو حكماً آخر أقل تأثيراً من العمد وإذا كان الأمر كما قلناه فالمؤاخذة حاصلة بحكم العقل والشرع في العمد دون السهو إلا لدلالة فاصلة، ومن جملة المؤاخذة بطلان هذه الولاية في الاستخلاف لأجل ما تعمده من الحدث ولأن المتعمد للحدث فيه إبطال لحرمة الصلاة وإسقاط لأمرها فلا أقل من حرمانه لهذه الولاية بالاستخلاف عليهم.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: حدث فجاز فيه الاستخلاف كما لو كان مسهواً عنه.
قلنا: قد قررنا التفرقة بين السهو والعمد في حكم العقل والشرع وقررنا أن أحدهما مخالف للآخر وإن للشرع والعقل مدخلاً في المؤاخذة في العمد دون السهو وفيه بطلان ما ذكرتموه.
الحكم الخامس: وإذا قلنا بجواز الاستخلاف كما مر بيانه، فهل يكون علىالفور أو لا؟
والمختار: أنه يكون على الفور لأن أفعال الصلاة تشترط فيها الموالاة بحيث لا فاصل بين أفعالها ولا تراخي، وإذا قلنا بوجوب الفور فبأي شيء يضبط الفور؟ فيه قولان:
فالقول الأول: أنه إن خرج الإمام من المسجد قبل الاستخلاف بطلت صلاتهم، وهذا هو الذي حصله أبو العباس لمذهب الهادي، وهو رأي أبي حنيفة، وإن استخلف قبل ذلك فهو جائز ما داموا في الركن ولو أطالوا.
القول الثاني:أنه يكون الاستخلاف في ذلك الركن، وهذا هو رأي المؤيد بالله، وهذا هو المختار، لأنا إذا قلنا: بالفور فلا فور هناك إلا بالاستخلاف في ذلك الركن لأن التأخر عنه لا يكون فوراً، وإذا حدث بالإمام حدث يوجب نقض الطهارة فإنه يتأخر عن مقامه لأن ذلك الموضع للصلاة وقد خرج عن الصلاة بانتقاض طهارته ويمشي القهقرى إلى وراءه لقوله : ((لا صلاة إلى متحدث )). فإن كان الذي يقدمه في الصف الأول فإنه يأخذه بيده ويقدمه للصلاة، وإن كان في الصف الآخر فإنه يتأخر إليه مستأخراً على قفاه حتى يقيمه في مقام الأول وإن استقبلهم لم يضره لأن الحال حال ضرورة، وإذا قام مقام الأول فهل تلزمه نية الإمامة أم لا؟ فيه قولان:
فالقول الأول: أن نية الإمامة تلزمه، وهذا هو: رأي السيد أبي طالب، واختاره للمذهب.
القول الثاني: أن نية الإمام غير واجبة سواء كان مستخلفاً أو غير مستخلف وهذا هو: رأي المؤيد بالله، وقد قدمنا وجه القولين، وذكرنا المختار والانتصار فأغنى عن الإعادة، فأما نية المؤتمين بالإمام الآخر فإنها واجبة كما وجبت في حق الأول، وإذا كان من قدمه الإمام قد فاتته ركعة فإنه يقعد في آخر صلاة القوم حتى يتشهدوا ويسلموا ويقوم هو فيقضي ما فاته من الصلاة، فإن قام وقاموا معه بطلت صلاتهم لأنها تكون لهم خامسة، وإن لم يسلم القوم حتى يقضي الإمام ما فاته ويسلم ويسلموا بتسليمه من غير مخالفة له جاز ذلك وكان أفضل حتى لا يخالفوه، ولا يجوز أن يقدم من لم يكن دخل معهم في الصلاة قبل الحدث لأنه لما عقد الإمامة عليهم كانت له ولاية فلا جرم كان من تثبت عليه الولاية أحق بالتقديم من الأجنبي، وتقدم من يصلح تقديمه ابتدءاً لأنه إذا جاز أن يكون في الابتداء جاز أن يكون مستخلفاً لاستوائهما في مقصود الصلاحية، وإن قدم من لا يصلح تقديمه ابتدءاً نحو المرأة والصبي والكافر والفاسق بطلت صلاتهم إذا ائتموا به؛ لأن هؤلاء لا تصلح إمامتهم كما قررناه من قبل على الإطلاق وإن كان لحال عارضة نحو أن يكون على غير طهارة أو يكون متطوعاً خلف الإمام والإمام لم يعلم ذلك أو يكون أمياً والقوم قراء فإذا قدم الأمي بطلت صلاة القُرَّاء وصحت صلاة الأميين، وهكذا القول فيما شاكل هذا، فإن الصلاة لمن كان على مثل حاله يصح ولا يصح لمن كان أفضل من حاله وقد أوضحناه من قبل فأغنى عن الإعادة فهذا ما أردنا في ذكر الأحكام التي تتعلق بنقض الطهارة للإمام في الصلاة.
الفرع الثاني عشر: في تصفح باقي الأحداث المبطلة للصلاة غير نقض الطهارة وإيراد ما يتعلق بها من الكلام وجملتها أمور خمسة:
الحدث الأول: اللحن. والإمام إذا لحن في صلاته لحناً يفسدها فإن صلاته تبطل لما قدمناه في باب ما يفسد الصلاة. قال المؤيد بالله: وصلاة المؤتمين. أراد أنها تفسد إذا فسدت صلاة الإمام وكلامه هذا ففيه إحتمالان:
الاحتمال الأول: أن تكون المسألة محمولة على ظاهرها وهو أن صلاة المؤتم كصلاة الإمام لأن صلاة المؤتم تتعلق بصلاة الإمام ولهذا فإن الإمام يتحمل عنه القراءة فإذا لحن الإمام يكون كلحن المؤتم لا محالة فلهذا حكمنا ببطلان صلاته وهذا بخلاف الحدث فإنه يختص في الفساد الإمام لا غير.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد إذا لحن الإمام واستمر على صلاته ولم يخرج منها، وهكذا المؤتمون إذا لم يعزلوا صلاتهم عن صلاة الإمام حين تكلم باللحن فإنه يجب أن لا تفسد صلاة المؤتمين وكلا الاحتمالين لا غبار عليه خلا أن الاحتمال الأول أدق، والإحتمال الثاني أحق.
الحدث الثاني: الاحصار. وهو أن يتعذر على الإمام القراءة فهل يجوز له الاستخلاف أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز الاستخلاف، وهذا هو: رأي القاسمية، ومحكي. عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا هو أنه عرض في صلاته ما يقطعه عن الاستمرار عليها من غير تغير الفرض فجاز له الاستخلاف كالحدث.
وقولنا: من غير تغير الفرض. نحترز به عمن انكشفت عورته في الصلاة فلا يتمكن من سترها فليس له إن يستخلف لأن الفرض قد تغير لأن فرض العاري الصلاة من قعود وفرض اللابس تأديتها من قيام كما سنوضحه.
المذهب الثاني: المنع من الاستخلاف، وهذا هو المحكي عن أبي يوسف، ومحمد.
والحجة على هذا: هو أن الولاية عليهم مشروطة بكمال الطهارة والسلامة من جميع ما يعرض في إبطال الصلاة فإذا أحصر بطل شرط صحة الصلاة فلا جرم قضينا ببطلان صحة الولاية في الاستخلاف وإنما أخرجنا بطلان الطهارة وإن صح الاستخلاف معها لأخبار دلت على ذلك فقضينا بها.
والمختار: ما قاله الهادي والقاسم.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو أن الإحصار مانع من المضي في الصلاة من أجل نقصان ركن من أركانها وهي القراءة فلا جرم كان له الاستخلاف كالحدث.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الإحصار يخالف نقض الطهارة، فلا جرم قضينا بصحة الاستخلاف بنقض الطهارة بخلاف الإحصار.
قلنا: إنا لا ننكر مخالفة الاحصار لنقض الطهارة لكنهما يستويان في صحة الاستخلاف والجامع بينهما بطلان الصلاة بكل واحد منهما عند تعذره.
الحدث الثالث: القعود. وإذا أقعد الإمام في الصلاة.
قال المؤيد بالله: وإذا عجز الإمام عن القيام في الصلاة في بعض صلاته فإنه يقدم أحد المؤتمين لأن قعوده كالحدث وأراد أنه كالحدث في حالتين في أنه لا يجوز لهم الاقتداء به وأما في حقه فإنه لا يكون حدثاً لأن الإمام باق على صلاته فلا يلزم الاستئناف لأنه إذا لم يستأنفها فإن جميع صلاته تكون من قعود وإذا بنى عليها فإن بعض صلاته تكون من قعود وبعضها من قيام فيكون أولى.
الحدث الرابع: الموت وإذا أمَّ رجل قوماً ثم مات في أثناء الصلاة فإنهم يقدمون رجلاً ويعتدون بالركعة ويطرحون الميت خلفهم.
والوجه في ذلك: هو أن الموت حدث مانع من إتمام الصلاة فجاز الاستخلاف كما لو انتقضت طهارته. قال القاسم: من اشتغل بطرح الميت وإخراجه من المسجد فإنه يستقبل الصلاة لأنها أفعال كثيرة تفسد الصلاة فلهذا وجب استئنافها، فأما غير من اشتغل بالميت فلا تكون صلاته فاسدة لأنه لم يعرض ما يوجب فسادها إلا الاستخلاف وهو غير مفسد لها كما مر تقريره في سائر الأحداث.
نعم.. لو أغمي على الإمام فهل تبطل صلاة المؤتمين أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تبطل صلاة المؤتمين لأن الإغماء مرض في العقل فأشبه الائتمام بالمجنون، فلهذا قضينا ببطلان صلاتهم.
وثانيهما: أنها لا تبطل صلاتهم لأنه مرض مبطل للحركة فأشبه القعود للإمام، وقعوده لا يبطل صلاتهم.
والمختار: أن الإغماء إنما يبطل صلاة الإمام دون صلاة المؤتمين لأنه لم يعرض في حقهم ما يبطل صلاتهم كما عرض في حقه ما يبطل صلاته فلهذا جاز لهم الاستخلاف كما جاز في سائر الأحداث.
الحدث الخامس: انكشاف العورة. وإذا عرض على الإمام انكشاف عورته في حال الصلاة فإنه يتمها من قعود لأن القعود فرض العريان، والعري كالحدث في حق المؤتمين على معنى أن صلاتهم صحيحة ولا يجوز لهم الاقتداء به، وأما في حقه فلا يكون حدثاً لأن الإمام باقٍ على صلاته ولا يلزمه الاستئناف لأنه لو استأنفها فإن جميع صلاته تكون من قعود، وإذا بنى عليها كان بعضها من قيام وبعضها من قعود، وهل يجوز لهم الاستخلاف أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: المنع من الاستخلاف من جهة أن الفرض قد تغير في حقه لأن فرضه قد صار إتمام صلاته من قعود وفرض المؤتمين من قيام فلهذا كان ممنوعاً من الاستخلاف.
وثانيهما:جواز الاستخلاف.
ووجهه:هو أنه قد عرض في حقه ما يمنع من إتمام الصلاة فصار كالحدث وقعوده لا يمنع من الاستخلاف كما لو قعد بالعجز والمرض.
وبتمامه يتم الكلام فيما أردنا ذكره من صلاة الجماعة. وبالله التوفيق.
---
الباب الثامن في سجود السهو
قال الإمامان القاسم، والهادي: سجدتا السهو واجبتان على المصلي في الأذكار والأفعال والزيادة والنقصان، وتجبان على كل من قام في موضع جلوس، أو جلس في موضع قيام، أو ركع في موضع سجود، أو سجد في موضع ركوع، أو قرأ في موضع تسبيح، أو سبح في موضع قراءة، ولا تختصان الفرض دون النفل.
فإذا عرفت هذا فلنذكر حكم النقصان في الصلاة، ثم نذكر حكم الزيادة فيها، ثم نردفه بذكر الشك في الصلاة، ونذكر على إثره أقسام السجدات وأحكامها وصفاتها، فهذه فصول أربعة نذكر ما يتوجه في كل واحد منها من التفريعات والمسائل بمعونة الله تعالى.
---
الفصل الأول في بيان حكم النقصان في الصلاة
اعلم أن سجدتي السهو مشروعتان لما روى ثوبان عن رسول الله أنه قال: ((لكل سهو سجدتان " )). ولا خلاف فيه، وهل تكونان واجبتين أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنهما واجبتان لأجل السهو. وهذا هو: رأي الهادي، والقاسم، والمؤيد بالله، وحكى الكرخي: أنه لا نص لأبي حنيفة في وجوب سجدتي السهو، لكن الذي يأتي على مذهبه: أنهما واجبتان.
والحجة على هذا: ما روى عبدالله بن جعفر، عن رسول الله أنه قال: ((من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم )). فهذا أمر شرعي وظاهر الأمر للوجوب إلا أن تقوم دلالة على خلافه.
المذهب الثاني: أنهما مستحبتان. وهذا هو: رأي الناصر، والشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((سجدتا السهو جبر للنقصان وترغيم للشيطان ))(1).
وروي عن الرسول أنه قال: ((هما المرغمتان " )) (2).
وما هذا حاله فليس يوصف بالوجوب لأن إرغام الشيطان من جملة المستحبات والنوافل.
المذهب الثالث: أنهما إن كانتا لنقصان فهما واجبتان، وإن كانتا لزيادة فهما مستحبتان.
والحجة على هذا: هو أن إتمام الصلاة واجب على كل مكلف فإذا نقص شيء منها فالواجب جبرانه بسجود السهو فلهذا كانتا واجبتين، وإن كان للزيادة فلا نقصان هناك في الصلاة فلهذا كانتا مستحبتين لأجل المخالفة بالزيادة.
والمختار: ما قاله الناصر، والشافعي: من أنهما غير واجبتين.
__________
(1) روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطَّرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته،و إن كان صلى تماماً لأبع كانتا ترغيماً للشيطان)) رواه أحمد ومسلم1/400، وفي رواية لأبي داود بدون قوله: ((..قبل أن يسلم)) وأخرجه ابن حبان6/390 وفي سنن الدارقطني1/371، وسنن النسائي3/27.
(2) أخرجه الطبراني في (لأوسط)4/350.
وحجتهما: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا، وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر صلى ثلاثاً أو أربعاً فليبن على اليقين وليلق الشك وليسجد سجدتين))(1)
فإن كانت صلاته ناقصة فقد أتى بها وكانت السجدتين مرغمتين للشيطان، وإن كانت صلاته تامة كان ما زاد نافلة والسجدتان له نافلة وترغمان أنف الشيطان، وما كان نافلة ويرغم أنف الشيطان فليس واجباً.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه أتاه رجل يسأله عن فرض الله عليه فقال: ((خمس صلوات في اليوم والليلة إلا أن تطوع ))(2).
ولم يذكر وجوب السجدتين فلو كانتا واجبتين لذكرهما لأنه في موضع تعليم الشرع.
الحجة الثالثة: هو أن سجود السهو سجود لا تبطل الصلاة بتركه فلا يكون واجباً دليله سجود التلاوة، فهذه الأدلة دالة على أنه ليس واجباً كما قلنا.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: روى عبدالله بن جعفر عن الرسول أنه قال: ((من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم )). وهذا أمر والأمر الشرعي يقتضي الوجوب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن الأمر يقتضي الوجوب، وإنما يقتضي الطلب، فأما استحقاق الذم على ترك المطلوب فلا بد فيه من دلالة خارجة تدل على ذلك.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما ذكرناه من الأخبار الدالة على كونه نافلة فإنها صريحة في دلالتها على المقصود وما أوردتموه ليس صريحاً فيما يدل عليه، فلهذا كان ما قلناه أحق بالقبول.
قالوا: روى ثوبان عن الرسول أنه قال: ((لكل سهو سجدتان )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ظاهره الجبر وليس فيه دلالة على الوجوب وهو صالح للوجوب والنفل لأن الأخبار عنهما على سواء فإن الواجب له سجدتان والنافلة لها سجدتان.
__________
(1) تقدم قريباً.
(2) أخرجه البخاري1/25، ومسلم 1/40، وابن خزيمة1/158، في صحاحهم، وقد تقدم.
وأما ثانياً: فلأن الوجوب إنما يكون بصيغة مخصوصة دالة على الحتم والإلزام والوعيد على الترك فأما مجرد الخبر فلا تكون فيه دلالة على الوجوب على حال.
قالوا: روى عبدالله بن مسعود عن الرسول أنه قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر ثم يسجد سجدتي السهو ))(1).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فليس في هذا إلا مجرد الإخبار عن كونه يسجد سجدتي السهو وليس فيه دلالة على الوجوب على حال.
وأما ثانياً: فلأنا نحمله على الإستحباب لأنه هو المتحقق لأن الوجوب يحتاج إلى دلالة منفصلة تدل على حظر الترك أو على إستحقاق الذم والعقوبة على الترك لأن هذه هي فائدة الوجوب وثمرته.
قالوا: ولأن الصلاة عبادة يدخلها الجبران فجاز أن يكون الجبران واجباً دليله جبران الحج.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا قياس، ولا مجرى للأقيسة في العبادات؛ لأنها أمور لا تفهم معانيها، فلهذا انسدت الأقيسة فيها.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل كونه جبراناً بالمال بخلاف ما نحن فيه، فلا يدخله جبران المال بحال فافترقا.
قالوا:ولأن هذا سجود أمر المأموم بمتابعة الإمام فيه، فلهذا كان واجباً كسجود الصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: المعنى في الأصل كون السجود ركناً من أركان الصلاة بخلاف سجود السهو فافترقا.
وأما ثانياً: فإنا نقلب عليهم هذا القياس ونقول سجود أمر المأموم بمتابعة الإمام فلا يكون واجباً كسجود التلاوة.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: نذكر فيه مسائل:
المسألة الأولى: في بيان متعلق السهو. وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن متعلقه هو الفرائض والسنن، وهذا هو: رأي القاسمية.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((لكل سهو سجدتان )). ولم يفصل في ذلك بين الفرائض والسنن.
__________
(1) رواه الطبراني في (الكبير)9/241.
ومن وجه آخر: وهو أن المقصود بالسهو إنما هو جبران ما نقص في الصلاة وكما يقع النقص في الفرض فقد يكون واقعاً في النفل فلهذا كان متعلقاً بهما.
المذهب الثاني: أن متعلقه إنما هو السنن دون الفرائض فلا تعلق له بها سواء كانت السنن قولاً أو فعلاً، وهذا المحكي: عن الناصر.
والحجة على هذا: هو أن السهو إنما وضع من أجل الجبران لما نقص وهذا إنما يتصور في السنن قولاً كالتشهد والقنوت، وفعلاً كالقعدة الوسطى، فأما الفرائض فلا وجه لجبرانها بل لا بد من الإتيان بها ولا يقوم مقامها شيء من لجبرانات.
المذهب الثالث: أن متعلقه الأفعال ولا يتعلق بالقول إلا بالقنوت، والتشهد الأول قال الشافعي: ولا سجود إلا في عمل البدن. يعني في الأفعال دون ما استثناه.
والحجة على هذا: هو أن هذه الأفعال المشروعة في الصلاة سوءا كانت مفروضة كالركوع والسجود أو كانت نافلة كالقعدة في التشهد الأوسط فإنها كلها مستقلة بنفسها ليست هيئة ولا تابعة لغيرها فلأجل هذا تعلق بها سجود السهو بخلاف الأذكار فإنها تابعة لغيرها وهيئات، فلهذا لم يتعلق بها سجود السهو ولا يستثنى من هذه الأذكار إلا القنوت والتشهد الأوسط فإنما هما مستقلان بأنفسهما لا يتبعان غيرهما ولا هما هيئتان فلهذا يتعلق بهما سجود السهو لاستقلالهما بأنفسهما،وأما غيرهما من الأذكار فإنها هيئات تابعة لغيرها فلهذا لم يتعلق بها سجود، وهذا نحو دعاء الاستفتاح فإنه تابع للصلاة لا تستفتح إلا لأجلها، ونحو قراءة السورة بعد الفاتحة فإنها تابعة لها ونحو التكبير للركوع والسجود فإنه هيئة للرفع والخفض، ونحو التسبيح فإنه هيئة للركوع والسجود فلما كانت هيئات لم يتعلق بها سجود السهو هذا قوله الحديد، وحكى الشيخ أبو إسحاق من أصحابه: أن السهو يتعلق بترك كل مسنون في الصلاة سواء كان ذكراً أو فعلاً، وهذا هو الأصح من مذهبه أنه لا يفصل في تعلق السهو بين الأذكار والأفعال.
المذهب الرابع: أن السهو يتعلق بأمور أربعة. وهذا هو المحكي: عن أبي حنيفة:
أولها: زيادة فعل من جنسها، وهذا كما لو ركع مرتين أو سجد ثلاث سجدات ناسياً.
وثانيها: نقصان فعل ينقص فيه الذكر في موضعه وهذا كالقعدة الأولى فإنه إذا تركها نسياناً نقص الذكر عن موضعه وهو التشهد.
وثالثها: ترك ذكر مقصود طويل وهذا نحو القنوت وتكبيرات العيدين والتشهد.
ورابعها: هيئة الركن وهذا نحو الجهر والمخافتة فهذه الأمور كلها يتوجه سجود السهو لأجلها لا غير ولا يتعلق إلا بها، ولا يجوز سجود السهو في تسبيح الركوع والسجود، ولا في التكبير لها لأنها غير مقصودة وإنما هي تابعة لغيرها ولا هي طويلة كالقنوت، فهذه هي المذاهب في متعلق السهو في الصلاة.
والمختار: ما عول عليه القاسمية من كون السهو متعلقه الفرض والنفل.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو قوله : ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر صلى ثلاثاً أو أربعاً فليبن على اليقين وليلق الشك وليسجد سجدتين)). ولم يفصل بين فرض ونفل، وفي هذا دلالة على كونه متعلقاً بهما.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: متعلقه السنن دون الفرائض، كما هو محكي: عن الناصر، لأن السهو موضوع للجبران والجبران إنما يعقل في السنن دون الفرائض.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المقصود جبران المفروض إذا غير عن حاله ثم أدي على الكمال والتمام، وهذا نحو أن ينسى سجدة أو ركعة ثم يأتي بها فقد تعلق السهو بالمفروض كما أوضحناه، ولا بد من تأديته والسهو جبران لما حصل من النقص بنسيانه وأدائه.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الأخبار الدالة على تعلق السهو بالمفروض والمسنون وما ذكرتموه فهو قياس والقياس لا يعارض الأخبار لأن الشرط في العمل على القياس أن لا يكون معارضاً بخبر.
قالوا: متعلقه الأفعال ولا يتعلق بالأذكار إلا في القنوت والتشهد كما هو محكي: عن الشافعي.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد حكينا من مذهبه أن الأصح تعلق السهو بالأقوال والأفعال فلا وجه لتخصيص الأفعال دون الأذكار.
وأما ثانياً: فلأن السهو كما يجري في الأفعال فهو جارٍ في الأقوال والأذكار من الصلاة فلا وجه لتخصيص أحدهما عن الآخر.
قالوا: هو جارٍ في الأمور الأربعة التي ذكرناها كما هو محكي: عن أبي حنيفة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن قصر السهو على هذه الأمور الأربعة تحكم لا مستند له ولا دلالة تدل عليه.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه غير حاصر لما يقع فيه السهو، وهذا نحو القراءة في موضع التسبيح والتسبيح في موضع القراءة وغير ذلك من الصور التي يتعلق بها السهو غير ما ذكروه فلا وجه لقصره على هذه الأمور الأربعة.
المسألة الثانية: نقصان الصلاة بترك السنن المتصلة بها هل يكون مبطلاً للصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يكون مبطلاً للصلاة، وهذا هو: رأي أئمة القاسمية، واختيار السيدين الأخوين، ومحكي: عن زيد بن علي، وهو: قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن التفرقة بين الفرض والسنة هو أن الفرض لا يجوز تركه ويستحق تاركه الذم والعقاب على تركه سواء كان الفرض عقلاً أو شرعاً فإن هذه هي أحكام الفرض بخلاف النفل والسنة فإن تاركها لا يستحق عقاباً ولا ذماً، وإذا كان الأمر كما قلناه فلا وجه لبطلان الصلاة بتركه السنة عمداً، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه أنه لو بطلت الصلاة بترك السنة لكان لا يفترق الحال بين الفرض والسنة.
المذهب الثاني: بطلان الصلاة بترك السنة على جهة العمد، وهذا هو: رأي الناصر.
والحجة على هذا: هو أن ترك السنة على جهة يكون فيه تهاون بأمر الرسول واستخفاف بحقه، وما هذا حاله فإنه يكون مبطلاً للصلاة لأن التارك لها على جهة العمد مستخف لا محالة.
والمختار: ما عليه أئمة القاسمية، والفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو أن الصلاة إذا أديت بكمالها بفروضها وشروطها فإنا نحكم عليها بالصحة، والإخلال بسنة من سننها لا يوجب بطلانها.
ومن وجه آخر: وهو أن الهيئات من السنن لما كان تركها على جهة العمد لا يوجب بطلانها كوضع الكفين حذاء الخدين، وتفريق الأصابع وضمها فهكذا في السنن المستقلة نحو القنوت والتشهد الأوسط والتسبيحات في الركوع والسجود، تركها على جهة العمد لا يكون مبطلاً للصلاة والجامع بينهما كونهما سنتين.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: ترك السنة المستقلة عمداً يكن استخفافاً بالرسول وإهانة، وما هذا حاله يبطل الصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن كل من ترك السنة فإنه مستخف بالرسول فإن ما هذا حاله يكون كفراً ورِدَّة وليس من ترك فعل السنن يقال: إنه قد كفر وارتد وخرج عن الدين فما هذا حاله فلا وجه له.
وأما ثانياً: فلأنه قد يتركها لأغراض أُخر غير الاستخفاف من اشتغال بغيرها وتكاسل عن أدائها، وإذا كان هذا محتملاً بطل أن يقال: إن ترك السنة متعمداً يكن استخفافاً بالرسول وإهانة.
قالوا: إنا لم نقل: إنه استخفاف بالرسول وإنما قلنا: إن ترك السنة على جهة الاعتماد ينزل منزلة الاستخفاف بحال الرسول والإعراض عنه.
قلنا: إن كل ما كان استخفافاً أو نازلاً منزلة الاستخفاف فلا بد فيه من القصد والنية، والتارك للسنة على جهة العمد لم يقصد الاستخفاف ولا خطر له على بالٍ وإنما آثر الترك لأمور عارضة لا يكون استخفافاً على كل حال.
المسألة الثالثة: جبران النقصان في الصلاة بسجدتي السهو هل يكون لعين السهو أو يكون لأجل النقصان؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه إنما وجب لعين السهو فلا يجب في العمد، وهذا هو: رأي المؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو قوله : ((لكل سهو سجدتان )).
وقوله : ((إذا سها أحدكم في صلاته فليبن على الأقل ثم يسجد سجدتين )).
ووجه الدلالة من هذين الخبرين: هو أنه علق وجوب السجود بعين السهو فلا حاجة إلى تغيير هذا الظاهر من غير دلالة.
المذهب الثاني: أن وجوب السجدتين إنما يتعلق بالنقصان ولهذا فإنه يجب على العامد كما يجب على الساهي، وهذا هو: رأي السيد أبي طالب.
والحجة على هذا: هو أن المقصود من خطاب الله تعالى، وخطاب رسوله إنما هو التعويل على المعاني دون الألفاظ ولهذا ورد التعبد بالقياس بخلاف خطاب الخلق فإن وقع اضطراب إلى قصودهم بخطابهم عول عليه، وإن لم يكن هناك اضطرار إلى قصودهم وجب التعويل على ما تدل عليه الألفاظ، ولا شك أن السابق إلى الفهم من قوله : ((لكل سهو سجدتان " )). إنما وجبا من أجل ما وقع في الصلاة من النقص بتغيير أحوالها عما شرعت عليه ولأجل هذا كان التعويل على جبران ما نقص، وسواء كان النقص واقعاً على جهة العمد أو على جهة السهو بل نقول: إن جبران ما وقع على جهة العمد أحق بالجبران لمن كان العمد به، وأن المؤاخذة بالعمد أكثر من المواخذة بالسهو فلهذا وجب التعويل على مجرد النقصان لما ذكرناه.
والمختار: ما ذهب إليه السيد أبو طالب.
ووجهه: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو أن المقصود إنما هو جبران ما نقص من الصلاة والنقص كما يحصل لسهو فهو حاصل بالعمد بل هو أدخل في الجبران من السهو. ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً }[النساء:10].فالوعيد إنما توجه ليس على من أكل بل على من أتلف بالإغراق والإحراق فالسابق إلى الفهم إنما هو الإتلاف، وقوله : ((لا يقض القاضي وهو غضبان " ))(1).
__________
(1) الحديث جاء هنا كما هو واضح في غير موضع الاستدلال في بابه وإنما أورده المؤلف على سبيل المقارنة والتمثيل، وسيأتي إن شاء الله في موضعه، وقد أخرجه الترمذي في سننه3/620، وهو في (المحلى) لابن حزم9/365، و(الأحكام) للآمدي3/285.
فليس المقصود هو عين الغضب وإنما القصد هو ما يلحق بالدهشة، وهذا حاصل بالجوع والعطش والألم، وحقن البول ومدافعة الغائط، وهكذا القول في جميع الخطابات من جهة اللّه، ومن جهة رسوله، فإن التعويل فيها على المعاني السابقة إلى الأفهام فهكذا ما نحن فيه يجب التعويل على ما ينقض الصلاة عمداً كان أو سهواً.
الانتصار: يكون بالجواب عما يخالفه.
قالوا: الأحاديث كلها دالة على تعليق الجبران بالسجود إنما هو يعين السهو فلا يدخل فيه العمد.
قلنا: نحن لا ننكر تعليقه بالسهو لكنا نقول: كما يتعلق بالسهو فهو متعلق بالعمد بجامع نقصان الصلاة وجبرانها، وهكذا فإنا لا نخرج الغضب في قضاء القاضي، ولا نخرج الأكل في مال الأيتام بل نقول: كما يتعلق بها فهو يتعلق بغيرها بجامع أعم منها فجامع السهو النقصان، وجامع الغضب الدهشة التي تنقض اجتهاد القاضي، وجامع الأكل إتلاف الأموال التي للأيتام فقد صارت هذه المعاني مقصودة لصاحب الشريعة من خطابه فلهذا وجب التعويل عليها.
الفرع الثاني: في بيان حكم المتروك في الصلاة.
اعلم أن الصلاة لها أركان وأبعاض وهيئات، والنقصان والترك متعلق بكل واحد من هذه الأنواع ونحن نذكر ما يتعلق بها ونجعله على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: في نقصان الأركان وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا قام المصلي من الركعة الأولى إلى الركعة الثانية ثم تيقن أنه ترك سجدة من الأولى ففيما يفعل مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه لا يحتسب بما فعل من الركعة الثانية حتى يتم الأولى، وهذا هو: رأي القاسمية، ومحكي: عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن ما فعله من الأولى فهو صحيح فلا تبطل بترك ما بعده وعلى هذا تصح له ركعة واحدة بكمالها وتبطل أعمال الركعة الثانية بعد أخذ السجدة منها.
والمذهب الثاني: أنه إذا قام إلى الثانية ثم ذكر أنه ترك سجدة من الأولى فإن ذكر ذلك بعد أن اطمأن في الركوع في الثانية أو بعدما سجد فيها فإنه لا يعود إلى إتمام الأولى بكل تكون الأولى باطلة وتكون الثانية صحيحة وهذا هو المحكي: عن مالك.
والحجة على هذا: هو أنه اطمأن في الركوع في الثانية أو بعدما سجد لها فإنها تكون أحق بالإتمام، والأولى تكون ناقصة فلا عبرة باعمالها.
المذهب الثالث: أنه إن ذكر بعد القراءة حصلت له الثانية وكانت الأولى باطلة، وإن كان ذكره قبل القراءة في الثانية سجد لتمام الأولى، وهذا هو المحكي: عن أحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: هو أنه إذا كان مشتغلاً بالقراءة وأتمها كانت الركعة الثانية أحق بالإتمام؛ لأن القراءة ركن من أركان الصلاة فإذا ذكرها بعد فراغه من القراءة كانت الثانية أحق بالإتمام بخلاف ما إذا كان ذكره لها قبل القراءة كانت الأولى أحق بالإتمام ويبطل ما عمل في الثانية من الأعمال.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إن اطمأن في الركوع في الثانية أو بعدما سجد لها كانت الثانية أحق ولا يعود إلى إتمام الأولى.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن إتمام الركعة الأولى أحق لما ذكرناه لأن الركعة الثانية لا تكون تامة إلا بتمام الركعة الأولى ولأنه لا يمكن بناء الصحيح على الفاسد.
وأما ثانياً: فلأنا إذا أخذنا سجدة من الركعة الثانية فقد حصل هناك بها فائدة وثمرة بخلاف ما إذا أبطلنا الركعة الأولى فلم تحصل فيها فائدة وقد قال تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. فلهذا كانت الركعة الأولى أحق بالإتمام لما ذكرناه فإذاً لا وجه لما قاله مالك وأحمد بن حنبل، فإذا عرفت هذا نظرت فإن سجد المصلي السجدة الأولى من الركعة الأولى وترك الجلوس بين السجدتين والسجدة الثانية وذكر ذلك وهو قائم في الركعة الثانية فإنه يجب أن يقعد ثم يسجد ومن أصحاب الشافعي من قال إنه لا يلزمه القعود لأن القعود بين السجدتين إنما وجب لأجل الفصل بينهما وقد قام القيام مقام القعود في الفصل.
والمختار على المذهب: أنه لا بد من القعود لأن القعود بين السجدتين هو فرض واجب كما مر بيانه فلا يقوم القيام مقامه كما لو قصد القيام بين السجدتين للفصل فإنه لا يعول عليه فهكذا هاهنا، وإن كان قد قعد بعد السجود الأول للفصل ثم قام ولم يسجد السجدة الثانية فإنه يتم الركعة الأولى بسجدة من الركعة الثانية ويلغي الباقي، وإن ترك من الركعة الأولى سجدة ثم صلى الركعة الثانية فسجد لها سجدة فإنه تصح له ركعة واحدة.
ووجهه: ما ذكرناه، وهو أن كل واحدة من الركعتين ناقص عن الكمال الشرعي والنقص إنما يتطرق إلى الثانية لأنها لا تتم إلا بعد كمال الأولى، فلأجل هذا أكملنا الأولى بالسجدة الثانية وكملت الركعة الأولى ويأتي بثلاث ركعات على الكمال والتمام ويلغي ما بقي من أعمال الركعة الثانية.
المسألة الثانية: وإن ترك من أربع ركعات أربع سجدات نقص من كل ركعة سجدة ففي الواجب عليه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنه يصح له ركعتان ولا يعتد بما تخلل بين السجدتين من الأفعال، وهذا هو: رأي الهادي، والمؤيد بالله، ومحكي: عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه صلى الظهر خمساً على جهة السهو فلما تحقق ذلك استقبل القبلة وكبر وسجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع وقال: ((هما المرغمتان )).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه لم يعتد بالعارض بين الركعة الرابعة وبين التشهد لما كان مفعولاً على طريق السهو.
المذهب الثاني: أنه يأتي بأربع سجدات متواليات وتصح صلاته، وهذا هو رأي: الناصر، ومحكي: عن أبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي.
والحجة على هذا: هو أن السجدات قد مضى محلهن بالنسيان، وإذا كان ماضياً فالواجب الإتيان بهن على جهة التوالي من غير فصل بينهن لما ذكرناه.
المذهب الثالث: أن الصلاة لما كانت ناقصة عن هذه السجدات والصلاة الشرعية لا تكون صلاة إلا بتمامها وكمالها بسجودها وركوعها فلما بطلت هذه السجدات كانت الصلاة باطلة، ويجب عليه الاستئناف خلا أن تكبيرة الافتتاح تكون صحيحة لأنه لم يعرض لها ما يبطلها فلا جرم كانت التحريمة صحية ويصلي أربع ركعات بركوعهن وسجودهن، وهذا هو المحكي عن: الليث، وأحمد بن حنبل.
والمختار: ما عول عليه الهادي، والمؤيد بالله، من أنه تصح له ركعتان لأن الركعة الأولى تتم بالثانية والثالثة تتم بالرابعة فقد صح له ركعتان وبقي عليه ركعتان، فإذا عرفت هذا نظرت، إن كان قد أتى بالقعدة بين السجدتين فقد تمت له الركعتان بكمالهما بسجودهما وحصول القعدة بينهما، وإن كان قد ترك سجدة من كل ركعة ثم ترك القعدة بين السجدتين فإنه يجب عليه الإتيان بهذه القعدة لأنها فرض واجب لتكون السجدة عقيب القعود، وعلى هذا تحصل له ركعة إلا سجدة وعليه سجدة يأتي بها حتى تكمل الركعة الأولى فتحصل له ركعتان وإن كان قد تشهد في الرابعة يظن أنه التشهد الأخير فإنه يعتد به عن التشهد الأول ثم يأتي بركعتين يتشهد في آخرهما ويسلم ويراعى في هذا التقرير أصلان:
الأصل الأول: أن كل ما أخذ منه شيء لإتمام غيره فإنه يلغو ويبطل ولا يكون له حكم، وبيانه أنا إذا أتممنا الركعة الأولى بسجدة من الثانية تعطل الباقي من أعمال الثانية، وإذا أتممنا الثالثة بسجدة من الرابعة بطل ما بقي منها.
الأصل الثاني: أنه لا يخرج من ركن من الصلاة إلا بعد كماله وتمامه لأن الترتيب مستحق في أعمال الصلاة فإذا كانت الركعة الأولى ناقصة والثانية تامة لم يحكم بتمام الثانية إلا بعد كمال الأولى لأن التام لا ينبني على الناقص.
قال السيد أبو طالب: فإن سجد في الركعة الثانية السجدة الثانية التي تركها في الأولى وسجدة معها أخرى فإن سجدها سهواً أجزت صلاته لأنه معذور في فعلها، وإن سجدها عمداً بطلت صلاته لأن زيادة سجدة تكون مخالفة للمشروع في الصلاة فلهذا كانت مبطلة لها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إذا نسي أربع سجدات من أربع ركعات فإنه يأتي بأربع سجدات متواليات كما هو المحكي عن الناصر وغيره من الفقهاء لأن هذه السجدات قد بطل محلها بالنسيان فلأجل هذا أوجبنا عليه التوالي.
قلنا: الترتيب مستحق في أعمال الصلاة والسجود فعل واجب في الصلاة لا تكون صلاة شرعية واقعة على صفتها إلا بإكماله فلأجل هذا أوجبنا عليه مراعاة الترتيب ولن يكون إلا بما ذكرناه حتى تكون الصلاة واقعة على صفتها المشروعة.
قالوا: إذا نسي هذه السجدات فقد أخل بترتيب الصلاة والإتيان بها على موضوعها الشرعي فيجب القضاء بإبطالها واستئناف الصلاة كما لو أخل فيها بركعة أو سجدة على جهة العمد.
قلنا: إن الله تعالى تهى عن إبطال العمل بقوله: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }[محمد:33]. وما ذكرتموه فيه إبطال العمل.
ومن وجه آخر: وهو أن الرسول قد زاد في الصلاة على جهة السهو وتداركها بسجود السهو ونقص من الصلاة وتدارك صحتها بإكمالها بما نقص منها، ولم يبطل العمل كما قاله: الليث، وأحمد بن حنبل فبطل ما قالاه.
المسألة الثالثة: في الحكم إذا لم يعلم مواضع ما نسي من السجدات بعد تحقق نسيانها، وفي كيفية الجبران لما تركه مذهبان:
المذهب الأول: أنه إذا ترك بعضاً من السجدات سهواً ولم يعلم مواضعها فإنه يأتي بها مطلقة من غير التفات إلى أنها من الركعة الأولى أو من الركعة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، فإن كان المتروك سجدة واحدة فإنه يأتي بها، وإن كان المتروك سجدتين فإنه يأتي بهما مع ركعتهما وهذا هو الذي اختاره السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب، وعلى هذا إذا ترك سجدة من ثماني سجدات صح له أربع ركعات إلا سجدة فيأتي بها، وإن ترك سجدتين صحت له ثلاث ركعات ثم يأتي بركعة بسجدتيها، وإن ترك ثلاث سجدات صحت له ثلاث ركعات إلا سحدة وعليه سجدة واحدة وركعة واحدة بسجدتيها، وإن ترك أربع سجدات صحت له ركعتان وبقي عليه ركعتان، وإن ترك خمس سجدات صحت له ركعتان إلا سجدة وعليه ركعتان وسجدة، وإن ترك ست سجدات صحت له ركعة واحدة وعليه ثلاث ركعات بسجودهن، وإن ترك سبع سجدات صحت له ركعة إلا سجدة وعليه ثلاث ركعات وسجدة، وإن ترك ثماني سجدات وجب عليه الإتيان بأربع ركعات بسجودهن إلا ركوع واحد، فقد صح له فيبني عليه.
والحجة على هذا: هو أن المقصود جبران الفائت من السجدات من غير التفات إلى مواضح الفوائت فإذا أتى على النحو الذي ذكرناه فقد خرج عن جهة الأمر وأتى بما يتوجه عليه. ويؤيد ما قلناه: ما روي عن الرسول أنه سلم في الظهر على ثلاث ركعات على جهة السهو ثم جبر النقصان بزيادة ركعة وسجوداً لسهو. قال المؤيد بالله: من صلى أربعاً من الظهر بخمس سجدات ونسي ثلاث سجدات ولا يعلم مواضعها من كل ركعة نسي سجدة أم كيف نسيها صحت له ثلاث ركعات إلا سجدة وعليه سجدة وركعة بسجدتيها وهكذا إن ترك ستاً صحت له ركعة وعليه ثلاث ركعات بسجودهن.
المذهب الثاني: محكي عن الشافعي وأصحابه.
وتقرير ما قالوه: هو أن المصلي إذا صلى أربع ركعات وذكر قبل أن يسلم أنه ترك سجدة منها وليس يعلم من أي موضع تركها فإنه يلزمه أن يأتي بركعة على تمامها لأن أحسن أحواله أن يكون قد تركها من الرابعة فيأتي بسجدة لا غير، وأسوأ أحواله أن يكون قد تركها مما قبلها فيلزمه أن يأخذ بأسوأ أحواله ليسقط الفرض بيقين، وإن ترك سجدتين ولم يعلم موضعيهما لزمه ركعتان لجواز أن يكون قد ترك من الأولى سجدة ومن الثانية سجدة فيتم الأولى من الثانية والثالثة من الرابعة ويلغو ما أخذ منه ويبطل، إلى تفصيلات طويلة تشتمل على شرحه كتبهم.
والمختار: هو ما ذكرناه في الإحتجاج من أن المقصود هو جبران الفائت من غير التفات إلى كون السجدة من الركعة الأولى أو من الثانية لأنا قد فرضنا أن مواضع السجدة غير معلوم فلهذا وجب جبرانها على ما ذكرناه في الاحتجاج.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إذا ترك سجدة واحدة ولم يعلم مكانها احتمل أن تكون من الركعة الأولى أو من الثانية وما بعدها وإذا كان الأمر كما قلناه أخذ بأسوأ الأحوال فتكون من الأولى ويكملها من الثانية ويلغو ويبطل ما أخذ منه فلهذا أوجبنا ركعة واحدة إذا كان الفائت سجدة واحدة.
قلنا: لما كان موضع السجدة غير معلوم فالواجب هو الإئتيان بها مجردة عن الركعة لأن الركعة قد أتى بها والفوات إنما كان في سجدة واحدة فلهذا أوجبناه من غير زيادة والتفرقة في فوات السجدة الواحدة بين أن يكون مكانها معلوماً أو غير معلوم هو أنه إذا كان مكانها معلوماً أتمت مما يليها، فإذا فات من الركعة الأولى سجدة أتمت من الركعة الثانية لتكون أعمال الصلاة مرتبة بخلاف ما إذا كان فوات السجدة موضعه غير معلوم فإنه يأتي به ويكمل له أربع ركعات إلا سجدة فيأتي بها من غير زيادة لأنها هي الفائتة. والتفرقة بين كلام أصحابنا وكلام الفقهاء هو أن عند أصحابنا إذا كان المتروك سجدة واحدة فإنه يؤتى بها من غير زيادة الركعة، والفقهاء أوجبوا زيادة الركعة إذا كان المتروك سجدة واحدة لأنهم جوزوا تركها من الركعة الأولى أم من الركعة الثانية، وجعلوا ما لم يعلم مكانها بمنزلة ما علم مكانها في أنهم يتمونها مما يليها على جهة التقدير فلهذا أوجبوا ركعة واحدة إذا كان المتروك سجدة واحدة، وللفقهاء تفاصيل فيما إذا كان المتروك مع السجدة القعدة بين السجدتين والتشهد يطول شرحها.
المسألة الرابعة: قال الإمام زيد بن علي: إذا نسي ركوعاً من آخر الظهر وذكره في التشهد عاد إلى الركوع ويركع ويتم ما بعده وإن نسي من الأولى فتذكر في آخره يعيد ركعة مع القراءة والركوع والسجود وهذا جيد فإن الرسول ترك ركعة من آخر الظهر فذكرها ثم أتى بها جبراناً لما نقص من صلاته، وإن كان المتروك من آخر الصلاة قبل التسليم فإن المصلي يأتي بالركوع من غير قراءة لأن القراءة قد تقدمت في أول الصلاة ثم يقعد بعد الركوع ويتشهد ويسلم وإن نسي الركوع الأول ولم يكن قد قرأ في الركعات الأخر فإنه يأتي بركعة مع القراءة فيكون بإتيانه بالركعة مع القراءة قد أتى بالمفروض والمسنون، وإن نسي ركوعين متواليين من أربع وعلم أنه قد أتى فيما صلى من الركوعين الآخرين في كل ركعة بسجدتين صحت له ركعتان بكمالهما ويلزمه الإتيان بركعتين بكمالهما وعليه سجود السهو بعد الإتيان بما ذكرناه لأجل المخالفة.
قال الإمام القاسم: لو نسي المصلي ركعة من صلاته ثم ذكرها قبل التسليم فإنه يقوم ويأتي بركعة تامة ويتشهد ويسلم وعليه سجدتا السهو في ذلك.
قال الإمام المؤيد بالله: ولو انحط المصلي من قيامه إلى السجود ثم ذكر أنه نسي الركوع فالواجب عليه الركوع، فإن استوى قائماً ثم ركع لم يبعد جواز صلاته.
وقال أيضاً: ولو انحط عن ركوعه إلى سجوده قبل الاستواء والإعتدال فإن كان فعله سهواً رجع إلى الاستواء ثم انحط ساجداً، وإن كان فعله عمداً فالأقرب بطلان صلاته، وهذا جيد أيضاً لأن الركوع فرض من فروض الصلاة وركن من أركانها فلا بد من الإتيان به كما قاله القاسم، وهكذا الحال فيما ذكره المؤيد بالله إذا انحط ولم يركع عاد إلى الركوع ليأتي به من غير انتصاب لأنه هو الفائت والقيام فرض قد أدَّاه فإن قام وركع لم يضره لأنه فعل قليل وعليه سجود السهو.
وعن زيد بن علي أنه قال: إذا دخل الرجل في الصلاة فنسي أن يقرأ حتى ركع فليستو قائماً ثم يقرأ ثم يركع ويسجد سجدتي السهو. وهذا جيد كما ذكر لأن القراءة فرض من فروض الصلاة ومحلها القيام فإذا نسيها وجب عليه أن يؤديها في محلها وهو القيام ثم يسجد سجدتي السهو لأجل ما وقع من المخالفة.
قال الإمام أبو طالب: ومن نسي القراءة في صلاته ثم تذكرها قبل التسليم قال: فالأولى على المذهب أن يأتي بركعة واحدة يقرأ فيها فاتحة الكتاب وسورة والأمر كما ذكر من جهة أن القراءة فرض فإذا نسيها وتذكرها وجب عليه الإتيان بركعة للقراءة بفاتحة الكتاب والسورة ويلغو ركعة وتبطل لأنها كلا ركعة لما خلت عن القراءة، وإن نسي المصلي الجهر والمخافتة في الصلاة ثم ذكرها قبل التسليم فالذي يأتي على رأي الهادي: أن صفة القراءة كالقراءة فالواجب الإتيان بالجهر والمخافتة في ركعة واحدة لأنها فرض ويسجد للسهو. وعلى رأي المؤيد بالله: الجهر والمخافتة هيئتان من هيئات الصلاة فإذا أخل بهما فلا سهو فيهما وهذا هو المختار، وقد ذكرناه من قبل، وإن قعد للتشهد الأخير ثم ذكر أنه لم يعتدل بين السجدتين فالواجب عليه إذا قعد للتشهد أن يعيد السجدة الأخيرة لتكون حاصلة بعد الإعتدال ثم يتشهد بعد السجود ويسلم وذلك لأن الإعتدال بين السجودين فرض لا بد من الإتيان به فلهذا قلنا: بوجوب إعادته وقد تم غرضنا من نقصان فروض الصلاة.
المرتبة الثانية: في بيان نقصان السنن. وهي الأبعاض ونذكر فيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا قام من الثانية ناسياً إلى الثالثة وترك التشهد فما الواجب عليه؟ فيه مذاهب خمسة:
المذهب الأول: أنه إن ذكر بعد أن انتصب قائماً لم يعد إليه، وإن ذكر قبل أن ينتصف قائماً عاد إليه، وهذا هو رأي القاسمية، واختاره السيدان الأخوان، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى المغير ة بن شعبة عن الرسول أنه قال: ((إذا قام أحدكم إلى الركعتين فلم يستتم قائماً فليجلس فإذا استتم قائماً فلا يجلس))(1).
المذهب الثاني: محكي عن مالك، وعنه روايتان:
الرواية الأولى: وهي المشهورة أنه إن قام أكثر القيام لم يرجع، وإن قام أقل القيام رجع.
الرواية الثانية: عنه حكاها ابن المنذر أنه إذا فارقت إليتاه الأرض لم يرجع.
والحجة على هذا: هو أن القعود سنة، والقيام فرض فإذا قام أكثر القيام فهو في حكم القائم بحصول أكثر القيام فلا يعود من مفروض إلى مسنون، وإن قام أقل القيام فهو في حكم من لم يقم فيعود إلى تمام المسنون.
وأما وجه الرواية الثانية: فهو أن القيام من أوله إلى آخره وقليله وكثيره هو فرض فإذا فارقت إليتاه الأرض صار في حكم القائم، فلهذا لم يكن له الرجوع.
المذهب الثالث: محكي عن الأوزاعي، وهو أن له الرجوع ما لم يستفتح القراءة.
والحجة على هذا: هو أن القيام صار محلاً للقراءة، إما فرضاً وإما نفلاً فلا يكون القيام له حكم إلا بما شرع فيه من القراءة فإذا لم يستفتح القراءة كان له الرجوع لما ذكرناه.
المذهب الرابع: أن له الرجوع ما لم يركع، وهذا هو المحكي عن الحسن البصري.
والحجة على هذا: هو أن القيام محل الرجوع ما لم يستتم القيام فلا يحصل استتمام القيام إلا بالرجوع إلى ركن آخر، وهو الركوع فمهما بقي على حالة القيام فله الرجوع.
المذهب الخامس: محكي عن أحمد بن حنبل: أن الواجب عليه أن يرجع قبل أن يستوي قائماً فإن استوى قائماً فهو بالخيار إن شاء رجع وإن شاء لم يرجع.
__________
(1) أخرجه أبو داود، وهو في سنن الدارقطني1/378، وابن ماجة1/381، ومصنف عبد الرزاق 2/310، ومسند أحمد4/253.
والحجة على هذا: هو أنه قبل أن يستوي قائماً فلم يخرج إلى ركن آخر فلهذا توجه عليه القعود قبل الإستواء لظاهر الخبر الذي رويناه عن المغيرة، فأما إذا استوى قائماً فهو بالخيار لأنه بعد الإستواء هو في مفروض وقد ضيع ما هو مسنون فهو بالخيار إن شاء واضب على السنة ورجع لأداء المسنون، وإن شاء وقف علىالمفروض، فهذا تقرير هذه المذاهب بأدلتها.
والمختار: ما عول عليه الهادي، واختاره الأخوان للمذهب.
وحجتهم: ما ذكرناه ونزيد هاهنا وهو أنه إذا استتم قائماً فقد حصل في فرض فلم يجز أن يرجع منه إلى سنة لأن الفرض بالمواضبة أحق من السنة.
الانتصار: يكون بالجواب عما يخالفه.
قالوا: إن قام أكثر القيام لم يجز له الرجوع، وإن قام أقل القيام جاز له الرجوع كما حكي عن مالك.
قلنا: هذا موافق لما قلناه لأن الغرض بأكثر القيام هو أنه قد استتم القيام، والغرض بأقل القيام هو أنه لم يستتم القيام، فقد حصل المقصود والخلاف مرتفع.
فأما الرواية الثانية عنه: إذا فارقت إليتاه الأرض لم يرجع.
فجوابه: هو أنه مهما كان أقرب إلى الدنو إلى الأرض فهو في حكم القاعد فلهذا كان له الرجوع للوفاء بالمسنون، فلا وجه لهذه المقالة.
قالوا: له الرجوع ما لم يستفتح القراءة كما حكي عن الأوزاعي.
قلنا: إنه لا يستفتح القراءة إلا بعد إتمام القيام فلهذا لم يكن له الرجوع بعد استكمال القيام سواء قرأ أو لم يقرأ كما دل عليه ظاهر الحديث.
قالوا: له الرجوع ما لم يركع كما هو محكي عن الحسن البصري.
قلنا: استتمام القيام هو المانع من الرجوع كما دل عليه ظاهر الخبر سواء ركع أو لم يركع إن لم يستو رجع، وإن استوى فهو بالخيار كما هو محكي عن أحمد بن حنبل.
قلنا: قد وافقنا على أنه إذا لم يستوِ للقيام رجع كما قلناه ولكنه قال: إذا استوى فهو بالخيار فما هذا حاله لا وجه له لأنه بعد الإستواء قد استقل لفرض آخر فلا وجه للتخيير لأنه يكون عوداً من فرض إلى نفل، فإذن لا وجه للتخيير الذي ذهب إليه، فإذا تقررت هذه القاعدة وانتصب قائماً ولا يعود لما حققناه فإنه يمضي في صلاته ويسجد للسهو ولما حصل من النقصان بترك القعود والتشهد للسنة، فإن خالف ورجع إلى القعود نظرت فإن كان رجوعه على جهة السهو والجهل بالتحريم لم تبطل صلاته لأنه معذور بالنسيان والجهل ولأنها زيادة من جنس الصلاة، وإن كان فعله على جهة العمد بطلت صلاته كما ذكره السيدان الأخوان، وهو رأي الشافعي لأنه قعد في موضع القيام ولأنه زيادة مفروضة على جهة العمد فأشبه ما لو زاد ركعة أو سجدة معمودة فإن ذكر ما نسيه في حال القعود فالذي يقتضيه قياس المذهب أنه يلزمه أن يقوم ولا يتشهد؛ لأن التشهد قد سقط عنه بالقيام وقد صار القيام فرضه ولكنه يجب عليه السجود بالزيادة والنقصان بالسهو أما الزيادة فجلوسه بعد القيام، وأما النقصان فلأجل تركه للقعود والتشهد فيه، وإن كان إماماً لغيره نظرت فإن انتصبوا معه للقيام لم يعودوا؛ لأنهم قد صاروا في فرض آخر، وإن لم يكونوا قد انتصبوا معه للقيام، وإنما انتصب وحده ثم رجع فالذي يقتضيه قياس المذهب أن المأموم يقوم ولا يتابعه في الجلوس لأن المأموم وإن لم يكن قد انتصب فقد وجب عليه الإنتصاب لأجل انتصاب الإمام فإذا رجع الإمام ولم يسقط ما وجب على المأموم من الانتصاب فإن خالفوا ورجعوا عن الانتصاب نظرت فإن فعلوه على جهة السهو لم تبطل صلاتهم، وإن فعلوه على جهة العمد بطلت صلاتهم لأنهم معذورون في السهو وغير معذورين في العمد. فإن تذكر الإمام قبل أن ينتصب ورجع إلى القعود فهل يجب عليه السجود للسهو أم لا؟ فيه قولان:
فالقول الأول: أنه يجب عليه سجود السهو وهذا هو رأي أئمة العترة، وأحد قولي الشافعي، ومحكي عن أحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه تحرك للقيام في الركعتين الآخرتين من العصر على جهة السهو فسبحوا له فقعد ثم سجد للسهو.
القول الثاني: أنه لا يلزمه سجود السهو وهو أحد قولي الشافعي، ومحكي عن الأوزاعي، وعلقمة، والأسود.
والحجة على هذا: ما روي عن المغيرة بن شعبة، أن الرسول قال: ((إذا شك أحدكم فقام في اثنتين فإن ذكر وقد استتم قائماً فلا يجلس وإن ذكر قبل أن يستتم قائماً جلس ولا سهو عليه))(1). ولأنه عمل قليل فلم يقتض سجوداً للسهو كالخطوة اليسيرة والالتفات اليسير.
والمختار: هو الأول لأنه زاد في الصلاة زيادة من جنسها ساهياً فوجب عليه سجود السهو كما لو زاد سجوداً أو ركوعاً، فإن ذكر نسيانه قبل أن ينتصب وخالف وانتصب لم تبطل صلاته لأنه ترك السنة ويجب عليه سجود السهو، فإن رجع الإمام من القيام قبل أن ينتصب وكان قد سبقه المأموم بالانتصاب فهل يجب على المأموم أن يرجع إلى القعود أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجب عليه الرجوع لأنه متابع للإمام ومتابعته فرض.
وثانيهما: أنه لا يلزمه الرجوع لأنه قد حصل في فرض فلا يرجع إلى مسنون والأول أقوى لقوله : ((لا تختلفوا على إمامكم )).
نعم.. والذي يأتي على كلام المؤيد بالله أنه إذا كان دعاء الاستفتاح مشروعاً بعد التكبير عنده فنسيه وقد تلبس بالقعود، أو ترك التعوذ فذكره وقد استفتح بالقراءة فإنه لا يعود إلى فعلهما؛ لأنهما ذكر مسنون فات محله فلم يأت به كما لو ترك تسبيح الركوع والسجود لم يذكر حتى فات محله ويلزمه سجود السهو لأنه ترك ذكراً مسنوناً يستحب له فعله فلزمه سجود السهو كسائر المسنونات.
المسألة الثانية: في القنوت.
__________
(1) ذكره في (شرح معاني الآثار)1/440 وفي (المعجم الكبير)20/399.
قال القاسم فيمن نسي القنوت في الفجر والوتر: يسجد سجدتي السهو. وهو رأي الفريقين الشافعية، والحنفية.
والحجة على ذلك: قوله : ((لكل سهو سجدتان )). ولم يفصل ولأنه ذكر مسنون ترك في الصلاة فلزم فيه سجود السهو كما لو ترك التشهد الأول.
وقوله: إن أحب ذلك(1).
فيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون المراد إن اختار وجوب سجدتي السهو؛ فإن وجوبهما مختلف فيه كما هو محكي عن الناصر، والشافعي: استحبابهما. كما سنوضحه.
وثانيهما: أن يكون المراد أن سجود السهو مستحب فكلامه محتمل لما ذكرناه، فإن ذكره بعد الإنحطاط وقبل السجود عاد إليه كما ذكرناه في التشهد الأوسط إذا ذكره قبل إتمام القعود كما فصلناه، فإن نهض لفعله قبل استتمام القيام لما ذكره ثم عاد إلى القعود سهواً لزمه سجود السهو لأنه تارك له فأشبه ما لو تركه من أول وهلة.
المسألة الثالثة: في حكم المسنون إذا ترك عمداً(2).
ومن ترك السنة من أعمال الصلاة نظرت في حاله فإن تركه على جهة الاستخفاف بحرمة الرسول والتهاون بأمره والإعراض عن شريعته كان كفراً ورِدَّة ورجوعاً عن الإسلام إلى الكفر ووجب قتله لقوله : ((من بدل دينه فاقتلوه ))(3).
لأن المعلوم ضرورة من الدين تعظيم أمره فما خالف ذلك ردة وكفر مع العمد والقصد إلى ذلك، وإن كان تركه المسنون متعمداً لعذر جاز ذلك من مرض أو ضعف لأن ما هذا حاله فله مدخل في إسقاط الفرض فضلاً عن المسنونات، وإن تركه عمداً من غير عذر فهل يكون فاسقاً بالترك أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) يبدو أن الكلام عائد إلى المؤيد بالله.
(2) هذا الكلام سبق في الحديث عن ترك السنن.
(3) هذا الحديث من غير بابه، وإنما أورده المؤلف عن طريق الاستطراد في حق من استهان بالسنن واستخف بها كما هو واضح، وقد أخرجه البخاري3/1098 وابن حبان10/327 والترمذي في السنن4/59 وابن ماجة2/848.
المذهب الأول: أنه يكون فاسقاً بترك السنن متعمداً، وهذا شيء حكاه أصحابنا عن المعتزلة ولم أعرف قائله على التعيين.
والحجة على هذا: هو أن الإجماع منعقد من جهة الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا على تعظيم حال الرسول واقتفاء آثاره في أقواله وأفعاله والمواضبة على فعل ما أُثر عنه من قول وفعل، ويؤيد هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }[الأحزاب:21]. وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ}[الأعراف:158]. ولم يفصل بين فرض ونفل، وإذا كان الأمر كما قلناه فمن ترك سنة وأعرض عنها من غير عذر تعذر به متعمداً كان خارقاً لهذا الإجماع وخرق الإجماع يكون فسقاً لاستحقاقه للوعيد كما دلت عليه الآية.
الحجة الثانية: قوله : ((من رغب عن سنتي فليس مني ))(1).
فظاهر هذا الخبر دال على البراءة منه، ويريد بالبراءة الخروج عن الدين وأدنى الخروج هو الفسق.
المذهب الثاني: أن ذلك لا يكون فسقاً، وإنما يجب النكير عليه وأمره بذلك، وهذا هو رأي المؤيد بالله ذكره في (الإفادة)، ومحكي عن قاضي القضاة، فإنه قال: من تهاون بكل النوافل فإنه يلزمنا أن نأمره بها من حيث أنه ظهر منه ما يدل على قلة الرغبة في الثواب. وعن الفضل بن شروين أنه قال: من جعل ترك السنة عادة وجب الإنكار عليه.
والحجة على هذا: هو قوله : ((من رغب عن سنتي فليس مني )). والمراد به أنه ليس من عملي وشأني لا أنه على البراءة منه وظاهر الخبر دال على كونه خطأ وإن لم يكن فسقاً، فهذه أقاويل العلماء في حكم ترك السنن عمداً من غير عذر.
__________
(1) روي في صحيح البخاري5/1649، ومسلم2/1020، وابن خزيمة1/99، وابن حبان1/190.
والمختار في هذا: تفصيل نشير إليه. وتقريره أنا نقول: أما سنن الصلاة المتصلة بالفروض منها، وهذا نحو القراءة في سائر الركعات، ونحو تسبيح الركوع، وتسبيح السجود، والتحميد، والتسميع، وتكبير النقل، والتشهد الأوسط، والقنوت فمتى ترك هذه السنن متعمداً على جهة الإستمرار فالواجب الإنكار عليه وتأديبه على تركها لأنه وإن لم يفسق بتركها لأنها غير واجبة ولكنه مخالف للمشروع في الصلاة وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي )). ولأن هذا يؤدي إلى تغيير مشروع الصلاة التي شرعت عليه وفي هذا تهاون بالصلاة وإبطال لهيئتها التي قررها صاحب الشريعة واستحسنها ورضيها.
وأما السنن المنفصلة في الصلاة وهذا نحو رواتب الصلاة نحو سنة الظهر وسنة المغرب والفجر والوتر فهذه وإن كانت سنناً منفصلة فهي مخالفة للسنن المتصلة وهي دونها لأن تركها لا يخل بالصلاة المفروضة ولا يغير هيئتها لكن تاركها يؤمر بفعلها وينهى عن تركها إذا كان تركها من جهته عمداً من غير عذر لأن تركها على هذه الصفة يدل على ركة في الدين وتهاون في الهمة ونزول قدر في الرغبة عن سنن الرسول وعن إمتثال أمره والإعراض عن المحاسن التي رضيها لأمته واختارها لهم في مضاعفة الثواب وتكثير الأجر.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الإجماع منعقد من جهة الصدر الأول والتابعين على اقتفاء أثر الرسول واتباع سنته فمن ترك سنته كان مخالفاً لهذا الإجماع وهو موجب للفسق كما حكيناه عن المعتزلة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الذي يقطع به هو خطأه لإعراضه عما جاء به الرسول من هذه السنن الحسنة والوظائف المحببة التي ترتاح لها القلوب، وتشرئب إليها النفوس، وتصفوا لفعلها الخواطر، فأما الفسق فإنما يكون بالأدلة القاطعة والمسالك العلمية ولسنا نجد مسلكاً قاطعاً من نص كتاب ولا من جهة سنة متواترة مقطوع بظاهرهما ولا إجماع قاطع على فسق من هذا حاله، والفسق لا يكون إلا بمسلك قاطع فلما لم يوجد شيء من ذلك لا جرم لم نقطع بالفسق لعدم الدلالة عليه، والإقدام على الفسق من غير دلالة يكون خطأ لا محالة لأن الإسلام مسترسل على كل من كان في دار الإسلام فإخراجه عن الإسلام إنما يكون بأمر موقوف به من الأدلة الشرعية القاطعة كما مهدناه، فأما ما حكيناه عن الإمام المؤيد بالله، وقاضي القضاة من وجوب النكير على تارك السنن فهو جيد لا غبار عليه لأن النكير شيء والفسق شيء آخر، والنكير يتوجه عليه لكونه آتياً لقبيح لم تدل دلالة على كونه فسقاً، وهذا أصل عظيم في الإكفار والتفسيق يجب مراعاته وهو أنه إذا لم تدل عليهما دلالة قاطعة وجب التوقف في حالهما حتى يتضح الأمر فيهما وقد ذكرنا في كتاب التحقيق أسراراً بديعة في الإكفار والتفسيق فمن أرادها فعليه بمطالعته فإنه يجد فيه بحمد الله تعالى ما يشفي غليل الصدور، ويكشف اللبس، ويعين على درك المقصود.
المرتبة الثالثة: في بيان النقصان في الهيئات من السنن
اعلم أنا نعني بالهيئة مما يكون مسنوناً ما يكون تابعاً لغيره ولا يكون على جهة الاستقلال، وذلك لأن السنن الواردة في الصلاة نوعان:
فالنوع الأول: حاصل على جهة الاستقلال، وهذا نحو التشهد الأوسط، والقنوت، والاستفتاح للصلاة وغير ذلك من السنن المستقلة بنفسها.
والنوع الثاني: ما يكون تابعاً لغيره ويكون هيئة، وهذا نحو الجهر، والمخافتة في الأذكار على رأي من يجعلهما هيئة، وهو المحكي عن المؤيد بالله لأنهما تابعان لنفس الذكر، ومن الهيئة في الأفعال نحو وضع اليدين على الخدين أو المنكبين، ونحو تفريق الأصابع على الركبتين عند الركوع، ونحو ضم الأصابع عند السجود، ونحو بسط الكف على الفخذ عند التشهد، ومثل قبض الكف وإرسال المسبحة والإبهام، فهذه الأمور وما شابهها كلها هيئات للأفعال والذكار في الصلاة تابعة لغيرها، وهل يجب فيها سجود السهو أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الهيئات الواقعة في أفعال الصلاة لا سهو فيها، وهذا هو رأي الإمامين الهادي، والمؤيد بالله.
ووجه ذلك: أنها أمور تابعة لغيرها وأمور إضافية مسنده إلى غيرها فلا سجود فيها، وقد خفف الشرع حكمها بكونه لم يجعل فيها سجوداً للسهو، وهذا نحو وضع اليدين حذاء الخدين أو المنكبين، فأما الجهر والإسرار في القراءة فاختلف رأيهما فيهما، فالذي رآه الهادي: أن صفة القراءة كالقراءة وأنهما فرضان كفرض القراءة، وهو محكي عن ابن أبي ليلى، والذي رآه المؤيد بالله: أنهما هيئتان للقراءة لا يجب فيهما سجود سهو كسائر الهيئات، وانقسمت الهيئة على رأي المؤيد بالله إلى: هيئة قول كالجهر والإسرار، وإلى هيئة فعل. وأما على رأي الهادي: فلا هيئة إلا في الأفعال التي لا يجب فيها سجود السهو.
المذهب الثاني: محكي عن الشافعي، وعنه قولان:
فالقول الأول: وهو القديم، أن سجود السهو يكون لترك كل مسنون في الصلاة سواء كان قولاً أو عملاً من أعمال البدن قال: وهكذا إذا جهر فيما يسر به أو أسر فيما يجهر به.
القول الثاني: وهو الجديد لا سجود للسهو إلا في عمل البدن لا غير فاستحبه في الأفعال دون الأذكار إلا في القنوت والتشهد فإنه مشروع فيهما سجود السهو.
المذهب الثالث: محكي عن أبي حنيفة، وهو أنه إذا ترك تكبيرات العيد سجد للسهو ولا يسجد لترك سائر التكبيرات، وإن ترك الجهر والإسرار سجد إذا كان إماماً فهذه مذاهب الناس فيما يعد من الهيئات وما لا يعد.
والمختار: ما رآه المؤيد بالله لأن الجهر والإسرار وصفان إضافيان للقراءة كما أن الأوصاف الإضافية في الأفعال هيئة لها فكما لا يجب السهو في هيئات الأفعال فهكذا لا يجب السهو في هيئات الأذكار من الجهر والإسرار لأن المصلي قارٍئ لا محالة سواء جهر بالقراءة أو أسر، ويحكى عن أنس بن مالك، أنه جهر في صلاة العصر فلم يعد الصلاة ولا سجد للسهو ولأن هذه هيئات فلم تقتض الجبران كالرمل والاضطباع(1) في أعمال الحج.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
فأما القول الأول القديم للشافعي فهو موافق لنا إلا في قوله: إن الجهر والإسرار فإنه يجب فيهما سجود السهو على رأيه في القديم وهو مخالف لمذهب يحيى، والمؤيد بالله كما قررناه من قبل.
وأما قوله الجديد في أنه لا يجب سجود السهو إلا في القنوت والتشهد فقد قررناه فيما سلف فأغنى عن الإعادة، وحكي عن أبي حنيفة أنه لم يوجب سجود السهو إلا في تكبيرات العيد دون غيرها من التكبيرات فلا وجه له لأنها من جملة المسنونات فوجب فيها سجود السهو كسائر السنن المتروكة سهواً.
__________
(1) اضطباع المحرم أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على يساره، ويبدي منكبه الأيمن، ويغطِّي الأيسر؛ سمي به لإبداء أحد الضَّبْعَيْن (القاموس المحيط ص 956،957).
وقوله: إنه لا يجب سجود السهو في الجهر والإسرار إلا إذا كان إماماً فقد دللنا على أنهما من جملة رأي السيد أبي طالب وهو الأصح من قولي الشافعي أنه يجب لأنه إذا وجب مع السهو فمع العمد أولى وأحق، وعلى رأي المؤيد بالله، وأحد قولي الشافعي، ومحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يجب عليه سجود السهو لأن السجود معلق بإسم السهو،والعمد ليس فيه سهو فلهذا لم يكن واجباً. وقد تم غرضنا من بيان النقصان بما ترك من الصلاة في المفروض والمسنون والهيئات.
www.awahab.com
---
الفصل الثاني في بيان حكم المزيد في الصلاة
اعلم أن الزيادة في أعمال الصلاة ليس يخلو حاله، إما أن يكون من جنس المفروض أو يكون من جنس المسنون، أو تكون الزيادة لا من جنس المفروض، ولا من جنس المسنون، فهذه مراتب ثلاث نذكر ما يتعلق بكل واحدة منها:
المرتبة الأولى: في بيان حكم الزيادة من جنس المفروض ونورد فيه مسائله المختصة به.
المسألة الأولى: قال المؤيد بالله: إذا تيقن المصلي أنه زاد في صلاته ركعة بطلت صلاته.
اعلم أن زيادة الركعة تقع على أوجه ثلاثة:
الوجه الأول: أن تكون واقعة على جهة السهو والنسيان فمتى وقعت على هذه الصفة فالصلاة صحيحة لقوله : ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)). ولا يقع خلاف بين الهادي، والمؤيد بالله في صحة الصلاة، ولأنه معذور في النسيان فلا يطرق ذلك خللاً في صلاته، ولأن الرسول زاد ركعة فلم تبطل صلاته بزيادتها، ويجب على المصلي سجود السهو لأجل الزيادة.
الوجه الثاني: أن تكون هذه الركعة واقعة على جهة العمد، وما هذا حاله فهو مبطل للصلاة بإجماع العترة والفقهاء لأنه غير معذور في الزيادة المخالفة للمشروع في الصلاة فلهذا كانت مبطلة للصلاة.
الوجه الثالث: أن تكون حاصلة في أول الأمر على جهة التظنن ثم تحقق بعد ذلك زيادتها فقد أجتمع فيها عدم العلم في أول الأمر وهو التظنن، وحصل فيها العلم والتحقق بعد فعلها فأيهما يكون الأغلب؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الأغلب على حالها التظنن فلا تكون مبطلة للصلاة، وهذا هو رأي المؤيد بالله.
والحجة على هذا: هو أنها تقررت من أول فعلها على التظنن، وعلى عدم العلم بزيادتها فهلذا كانت لاحقة بالمسهو عنها بجامع كونها غير متحققة من أول الأمر.
المذهب الثاني: أنها لاحقة بالمعمودة، وهو رأي أبي العباس، وأبي طالب.
والحجة على هذا: هو أنها لما تحققت في آخر الأمر أنها زائدة كانت لاحقة بالعمد، فلهذا كانت مبطلة للصلاة.
والمختار: ما ذكره المؤيد بالله لأمرين:
أما أولاً: فلأن الله تعالى نهى عن إبطال العمل بقوله: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. وإذا قلنا: بفساد الصلاة فقد أبطلناها.
وأما ثانياً:فلأنها تقررت الصلاة من أول وهلة على الصحة بالتظنن، وحصول العلم بعد هذا لا يبطل ما قد تقرر من صحتها فلهذا كان الحكم بصحتها هو الأولى.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إن المصلي قد تحقق في آخر الأمر أنها زائدة فأشبه ما لو تحقق زيادتها من أول الأمر فلهذا كانت مبطلة للصلاة.
قلنا: قد تعارض هاهنا أمران:
أحدهما: التظنن من أول الأمر.
الثاني: التحقق في آخر الأمر لكن التظنن أغلب لأنه هو السابق، وقد تقرر أن الصلاة صحيحة فلا يبطلها ما عرض من العلم بالزيادة لأن العلم طارئ بعد التظنن الموجب للإقدام على الزيادة للركعة.
المسألة الثانية: وإن قام المصلي من الركعة الرابعة إلى الركعة الخامسة ساهياً ثم تذكر في حال القيام أو في حال القراءة [أو] في الركوع فإنه يلزمه العَوْد إلى الجلوس ويُتِمَّ الصلاة ويلزمه سجود السهو.
قال المؤيد بالله: ومن صلى الظهر أربعاً فقام بعد الرابعة غلطاً فلما ركع ذكر أنها الخامسة فرجع إلى الجلوس وتشهد وسلم صحت صلاته وعليه سجدتا السهو. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة، والشافعي، ولا خلاف فيه.
والحجة على هذا: ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الظهر خمساً ولم يعد وسجد سجدتي السهو، وإن قيد هذه الركعة بسجدة أو تشهد للركعة الخامسة، فهل تصح صلاته أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن صلاته صحيحة، وإن قيدها بسجدة وسواء تشهد في الركعة الرابعة أو لم يتشهد، وهذا هو الذي حصله السيدان المؤيد بالله وأبو طالب للمذهب، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن ابن مسعود رضي اله عنه أن الرسول صلى الظهر خمساً فلما انصرف توسوس الناس فقال: ((مالكم))؟. قالوا: صليت خمساً. فسجد سجدتين. وقال: ((إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون " ))(1).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه أتم صلاته ولم يفسدها ولم يفصل الخبر بين أن يكون قد قيد الركعة بسجدة أو لم يقيدها.
المذهب الثاني: محكي عن أبي العباس وهو أنه إذا قيد الركعة الخامسة بسجدة فسدت صلاته.
والحجة على هذا: هو أنه إذا لم يقيد الخامسة بسجدة فإنها في حكم القليل بخلاف ما إذا أتى بالسجود فقد أتى في صلاته بالعمل الكثير والعمل القليل مغتفر في الصلاة بخلاف العمل الكثير فإنه غير مغتفر فلهذا قضينا بالفساد.
المذهب الثالث: محكي عن أبي حنيفة وهو: أنه إذا كان قد تشهد في الركعة الرابعة فإنه يضيف إلى الركعة الخامسة ركعة أخرى وتكون الركعتان له نافلة، وإن لم يكن قد قعد للتشهد في الرابعة فإنه ينظر فإن كان قد قيدها بسجدة بطلت الصلاة، وإن لم يكن قد قيدها بسجدة فإنه يعود ويتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو.
__________
(1) رواه الجماعة إلاَّ الترمذي بلفظ: صلى رسول الله فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: ((وما ذاك))؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجله و استقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ((إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليبن عليه ثم ليسجد سجدتين)) وفي رواية لمسلم: صلى بنا رسول الله خمساً.....، وبزيادة: ((...أذكر كما تذكرون...)) و((....فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب...)).
والحجة على هذا: هو أنه إذا تشهد في الرابعة قد تمت صلاته بالقعود لقوله : ((إذا قعدت فقد تمت صلاتك " )). فإذا قام إلى الخامسة فقد صارت له نافلة؛ لأنها حصلت بعد تمام الصلاة، ولقوله : ((إذا شك أحدكم في صلاته " فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً فليضف إليها ركعة أخرى فإن كانت قد تمت صلاته فالسجدتان والركعة نافلة)). فسمى الخامسة نافلة ولو كانت ملغاة لم تكن نافلة وإذا صح كونها نافلة فلن تكون نافلة على انفرادها لأن الركعة الواجبة لا تكون صلاة مشروعة فلهذا قلنا: بأنه يضيف إليها ركعة لتكون صلاة، وإن لم يكن قد تشهد في الرابعة فإنه ينظر فإن قيد الخامسة بسجود بطلت صلاته لأنها تكون أعمالاً كثيرة والأعمال الكثيرة مبطلة للصلاة، وإن لم يقيدها بسجدة صحت الصلاة لأنها عمل قليل والعمل القليل غير مبطل للصلاة فهذا تقرير هذه المذاهب بأدلتها.
والمختار: ما قاله السيدان من صحة الصلاة سواء قيدت الركعة بسجدة أو لم تقيد.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو ما روى زيد بن علي عن الرسول أنه صلى بهم الظهر خمساً فقام ذو الشمالين فقال: يا رسول الله هل زيد في الصلاة أم نسيت؟ فقال: ((وما ذاك))؟. قال: صليت بنا خمساً فاستقبل القبلة وكبر وهو جالس وسجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع وقال: ((هما المرغمتان)).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه لما قام إلى الخامسة لم يعتد بالعارض بين الركعة والتشهد ولأنه عمل زائد في الصلاة من جنسها سهواً فوجب أن تكون لغواً غير مفسد للصلاة كما لو لم يعقد الركعة بسجدة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إذا قيدها بسجدة فهي أعمال كثيرة والأعمال الكثيرة مبطلة للصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الإعتبار في إفساد الصلاة بالأعمال الكثيرة إنما يكون في الأفعال الخارجة في الصلاة التي لا تعد من مفروض الصلاة ومسنونها، فأما ما يكون من جنس أعمال الصلاة فلا يقال فيه كثرة ولا قلة.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الأخبار الدالة على صحة الصلاة، وما ذكرتموه من القياس فلا يكون معارضاً للإخبار لأن الأقيسة تكون باطلة بمعارضة الأخبار فإذن لا وجه لما قاله أبو العباس.
قالوا: إذا أتم التشهد في الركعة الرابعة فإنه يضيف إلى الخامسة ركعة وتكون نافلة كما حكي عن أبي حنيفة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن إثبات الركعة نافلة تحكم لا مستند له وتقرير عبادة من غير برهان ولا دلالة.
وأما ثانياً: فلأن هذه النافلة لم يؤمر بها وقد قال : ((كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " )). فإذن لا وجه لإثباتها عبادة من غير دلالة شرعية.
قالوا: وإن كان لم يتشهد في الركعة الرابعة وقيدها بسجدة بطلت صلاته لأن هذه أفعال كثيرة تبطل معها الصلاة.
قلنا: قد قررنا فيما سبق أن هذه الأفعال لا يكون فيها إبطال الصلاة وكيف لا والرسول قام إلى الخامسة وأكملها ورجع إلى التشهد ولم يعد الصلاة، وما زاد على سجدتين للسهو سجدهما، وفي هذا أكمل دلالة على بطلان ما قالوه من فساد الصلاة مع السجدة.
المسألة الثالثة: وإذا صلى المغرب فزاد فيها ركعة ساهياً؟ ففيما يتوجه عليه مذهبان:
المذهب الأول: أنه تجزيه سجدتا السهو، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه صلى الظهر خمساً فلما قيل له إنك زدت في الصلاة سجد لسهوه ولم يضف إليها أخرى ليكون شفعاً.
المذهب الثاني: أنه يضيف إليها ركعة أخرى ويسجد لسهوه، وهذا هو المحكي عن قتادة، والأوزاعي.
والحجة على هذا: هو أنه إذا لم يضف إليها ركعة أخرى صارت شفعاً وهي وتر.
والمختار: ما عليه علماء العترة، وفقهاء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((لكل سهو سجدتان " تجبان لكل زيادة ونقصان))(1).
فهذا نص صريح فيما ذهبنا إليه من أن هذه الزيادة مجبورة بالسهو من غير حاجة إلى زيادة ركعة.
ومن وجه آخر: وهو أن هذه الزيادة في الركعة لم يؤمر بها فلا وجه لزيادتها.
الانتصار: يكون بإبطال ما أوردوه.
قالوا: لو لم يزد الركعة لأدَّى إلى كونها شفعاً وهو خلاف موضعها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإنه لما صلى الظهر خمساً لم يزد على سجدتي السهو من غير زيادة، ولو زاد ركعة لكانت شفعاً مثل موضوعها.
وأما ثانياً: فلأن هذه الركعة لا دلالة عليها ولا ورد أمر بفعلها فلهذا قضينا ببطلانها.
المسألة الرابعة: في التسليم.
وإذا سلم المصلي تسليمة واحدة في غير محلها سهواً بنى على صلاته ولم تكن مفسدة لها لا خلاف فيه، ولما روي عن الرسول أنه قال: تحليلها. والغرض بالتحليل ما كان على الصفة المشروعة في التسليم وهو تسليمتان، فأما الواحدة فلا تحليل فيها لمخالفتها المشروع ولأنها زيادة غيرة مفسدة فوجب أن يتعلق بها سجود السهو كما لو زاد سجدة على جهة السهو، وإن سلم تسليمتين سهواً فهل تبطل صلاته أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه إذا سلم تسليمتين في غير موضعهما ساهياً بنى على صلاته ولم تبطل، وهذا هو رأي الناصر، ومحكي عن مالك، والشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه صلى الظهر خمساً ولم يزد على أنه سجد لسهوه فهكذا في زيادة التسليم في غير موضعه لاشتراكهما جميعاً في كونهما فرضين من فروض الصلاة.
المذهب الثاني:أنها مبطلان للصلاة، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب وحصله للمذهب.
__________
(1) أورده في (جواهر الأخبار)1/332 بلفظ: عن ثوبان أن رسول الله قال: ((لكل سهو سجدتان بعد السلام)) أخرجه أبو داود والنسائي.
والحجة على هذا: قوله : ((تحليلها التسليم " )). والتحليل هو الخروج من الصلاة فإذا فعل ما هو تحليل لها فهو خروج عنها لأن الرسول لم يفصل بين أن يكون التحليل على جهة السهو أن وعلى جهة العمد.
ومن وجه آخر: وهو أن هذا مما يقع به الخروج من الصلاة فيجب أن لا يختلف الحال في كونه مفسداً بين العمد والسهو كالأكل والشرب.
المذهب الثالث: أنه إن قصد بالتسليم الخروج من الصلاة كان مبطلاً لها وإن لم يقصد لم يكن مبطلاًلها، وهذا هو رأي زيد بن علي، والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله : ((تحليلها التسليم " )). والمعلوم أن التحليل لا يكون تحليلاً إلا بنية الخروج من الصلاة فلهذا وجب اعتبار هذه النية في كون التسليمتين أصلاً في فساد الصلاة.
والمختار: ما ذهب إليه الناصر ومن تابعه على ذلك.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو ما قدمنا من أن كلام الساهي لا يبطل الصلاة،فإذا كان كلام الساهي لا يبطل الصلاة فهكذا تسليم الساهي لايكون مبطلاً لها لقوله : ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)).
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((تحليلها التسليم " )). وإذا كان التسليم تحليلاً لم يكن له البناء بعد ذلك لما كان مفسداً للصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد بكون التسليم تحليلاً للصلاة إذا كان واقعاً في محله ولهذا فإنه لو سلم تسليمة واحدة لم يكن مبطلاً للصلاة لما لم يكن واقعاً على صفته المشروعة.
وأما ثانياً: فلأنه قال: ((تحريمها التكبير " )). والإجماع منقعد على أنه لا يكون محرماً إلا إذا كان واقعاً على صفته المشروعة، ولهذا فإنه لو كبر في موضع السجود والركوع لم يكن تحريماً لما لم يكن واقعاً على الوجه الذي شرع من أجله.
قالوا: إن صاحبته نية الخروج من الصلاة كان مبطلاً، وإن لم تصاحبه لم يكن مبطلاً كما هو محكي عن زيد بن علي، والمؤيد بالله، والحنفية.
قلنا: قد أوضحنا فيما سبق أن نية الخروج من الصلاة لا تكون شرطاً في التسليمتين إذا وقعا في محلهما فهكذا تكون النية في الخروج لا تكون شرطاً في الفساد للصلاة إذا وقعا في غير محلهما وذكرنا في باب ما يفسد الصلاة حكم الأفعال بالإضافة إلى النية فيما يفسد بانضمامها وما لا يفسد فلا وجه لتكريره.
المسألة الخامسة: ومن زاد في التكبيرات عند إفتتاح الصلاة وكررها مراراً لم يلزمه سجود السهو وسوءا كان التكرير عمداً أو سهواً لأنها إن كانت من الصلاة كما هو رأي الهادي، والشافعي.
والمختار عندنا: فلا سجود لأن السهو والنقصان إنما يكونان بعد انعقاد الصلاة والدخول فيها وليس داخلاً في الصلاة إلا بعد انعقاد التكبير وتمامه، وإن كانت ليست من الصلاة كما هو رأي المؤيد بالله فأبعد لأن ما لا يكون من الصلاة فلا وجه لجبران السهو فيه، والنقصان كما لو سهى في الأذان والإقامة، وإن كرر التشهد لزمه سجود السهو سواء كان التكرير عمداً أو سهواً لأنه قد خالف المشروع فيه وهكذا لو كرر التشهد مراراً فإنه يلزمه سجود السهو بالعمد والسهو لأجل النقصان بمخالفته المشروع فيه ولا يكون مبطلاً للصلاة ولو كانت فروضاً لأنها مجبورة بالسجود.
المرتبة الثانية: في حكم الزيادة من جنس المسنون. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ومن زاد في صلاته من جنس مسنونها فإما أن يكون مقصوداً مبتدأ أو مبتدأ غير مقصود، ونعني بالمقصود ما كان معموداً إليه غير مسهو عنه، ونعني بالمبتدأ ما كان في غير محله مع العلم بكونه في غير محله.
قال السيد أبي طالب: وذلك يكون على أوجه ثلاثة:
أولها:أن يفعل زيادة من جنس المسنون مقصودة مبتدأة وهذا نحو أن يفعل في صلاته تكبيرات متعمدة في حال القراءة أو في حال تسبيح الركوع والسجود أو في حال التشهد.
وثانيها: أن يفعل زيادة من جنس المسنون مقصودة غير مبتدأة كان يزيد في صلاته تكبيرات عند الركوع والسجود ظناً منه أنه لم يفعلها ثم تيقن أنه فعلها، لا يقال: إن هذه مقصودة مبتدأة لأنها في غير محلها لأن الركوع ليس بمحل للتكبير. لأنا نقول: بل هو محل له لمن لم يكن قد كبر حال الإهواء إليه وهذا ظن أنه لم يكبر فجاء بالتكبير حال الركوع لظنه أنه تركه حال الإهواء.
وثالثها: أن يفعل هذه الزيادة غير مقصودة ولا مبتدأة نحو أن يريد أن يسبح فيكبر أو يريد أن يكبر فيسبح قال: وهذه الوجوه كلها لا تكون مفسدة للصلاة ويتعلق بها سجود السهو إلا في الوجه الأول فإنه إذا انتهى إلى أن يكون ذلك فعلاً كثيراً أفسدها، وإن لم ينته إلى ذلك تعلق به سجود السهو، والأصل في ذلك قوله : ((لكل سهو سجدتان " بعدما يسلم)). وهو في الوجه الثاني والثالث قد سها في صلاته فوجب أن يتعلق به سجود السهو، وإذا ثبت فيهما قِسنا عليهما الوجه الأول فإنه زاد في صلاته من جنس المسنون ما لا يفسدها فوجب أن يتعلق به سجود السهو كما لو زادها سهواً، هذه ألفاظه وهو كلام جيد لا غبار عليه خلا أن فيه نظراً من وجهين:
أحدهما: أنه أسقط منها رابعاً مما تحتمله القسمة وهو ما كان مبتدأ غير مقصود فلم يذكره من جملة الأقسام، ومثاله: أن يقرأ في موضع التسبيح أو يسبح في موضع القراءة على جهة السهو دون العمد.
وجوابه: أن هذا القسم غير مقصود لما قدمنا أن للمبتدأ شرطين أن يكون مقصوداً، وأن يكون في غير محله، فإذا كان كذلك لم يتصور مبتدأ غير مقصود لأنه لا يكون متبدأ إلا وهو مقصود.
وثانيهما: أنه أوجب السهو في هذه الأمور وقاس الوجه الأول على الثاني والثالث، ولا معنى للقياس على رأيه ومذهبه لأنها كلها مسنونة في كونها إما مقصودة، وإما غير مقصودة، وإما مبتدأة، وإما غير مبتدأة، والسهو واجب لا لأجل كونه سهواً كما قررناه من قبل واخترناه فإذن لا وجه لقياس أحدهما على الآخر.
المسألة الثانية: قال المؤيد بالله: وإن أتم التشهد الأول سهواً فالأقرب عندي أن عليه سجود السهو.
واعلم أن إتمام التشهد الأول خلاف المشروع في الصلاة والسنة فيه الوقوف على الشهادتين لا غير فإذا خالف المشروع فيه بالإتمام نظرت فإن كان على جهة السهو وجب عليه سجود السهو لأجل المخالفة وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني اصلي)). والسنة فيه ترك الإئتمام له وإن زاد فيه بإتمامه على جهة العمد فهل يجب عليه سجود السهو أم لا؟ فيه تردد بين السيدين الأخوين.
فالذي اختاره المؤيد بالله:أنه لا يلزمه سجود السهو إذ ليس سهواً لأن الجبران معلق بإسم السهو.
وعلى ما ذكره السيد أبو طالب: أنه يلزمه سجود السهو لأن الجبران معلق بمعنى السهو وهو النقصان، وهذا نقصان بمخالفته المشروع فلهذا وجب فيه سجود السهو.
قال القاسم: من قرض أظفاره أو لحيته ناسياً أو ذاكراً في صلاته أنه يسجد سجدتي السهو ولا تفسد صلاته. وهذا جيد وإنما لم يكن مفسداً للصلاة لأنه عمل قليل والأعمال القليلة قد اغتفرها الشرع في الصلاة، وإذا لم يكن مفسداً للصلاة فسواء كان مفعولاً على جهة السهو أو العمد فليس فيه إلا سجود السهو لأجل الجبران لما عرض في الصلاة من الأعمال المباحة التي تخالف موضوعها.
وقال أيضاً: من قرأ في صلاته ولم يعلم السورة التي قرأها فلا سهو عليه. ومراده بما ذكره السورة غير فاتحة الكتاب فإنها متعينة في الصلاة كما مر بيانه، وإنما أراد غيرها من سائر سور القرآن، فإن القرآن كله كالسورة الواحدة فإذا كان عالماً أنه قد قرأ سورة مع الفاتحة ولم يعلمها بعينها أجزآه ذلك ولا سهو عليه إذ لا نقص يلحقه في صلاته.
المسألة الثالثة: قال محمد بن يحيى: من قرأ في تشهده لم يضره وعليه سجدتا السهو. وأراد بما ذكره التشهد الأوسط فإذا قرأ فيه فنهاية الأمر أنه كأنه لم يأت به وليس في تركه إلا سجود السهو فهكذا إذا خالف المشروع فيه بالقراءة ليس فيه إلا سجود السهو لأجل الجبران. وأما التشهد الأخير فإن قرأ فيه فإن أتى به بعد القراءة ففيه سجود السهو لأجل الزيادة، وإن لم يأت به حتى سلم بطلت صلاته لأنه ركن من أركان الصلاة فإذا لم يأت به بطلت صلاته كما لو ترك ركوعاً أو سجوداً، وإن سبق الإمام المأموم ببعض الركعات قام المأموم فأتم ما نقص عليه ولم يلزمه سجود السهو لأنه لم يكن من جهته تقصير في سهو ولا عمد فلهذا لم يلزمه السجود والتقصير، وإن حصل منه بتأخره حتى فاته الإمام بأول الصلاة فالتقصير إنما كان من أجل إدراك فضل الجماعة لا من جهة نقص في الصلاة نفسها. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: أدركوا حَدَّ الصلاة. أراد تكبيرة الافتتاح مع الإمام، وإن سبقه الإمام بركعة فلما كان في آخر التشهد قام المأموم لقضاء ما فاته نظرت فإن قام عمداً بطلت صلاته لمخالفته الإمام في قيامه، وإن قام سهواً لم تبطل صلاته وعليه سجدتا السهو، فإن قعد المأموم قبل تسليم الإمام لم يعتد بتلك الركعة التي أتى بها لأنه جاء بها في غير موضعها فيقوم فيأتي بها بعد تسليم الإمام وإن سلم الإمام في حال قيامه فهل يجب أن يعود إلى القيام(1)
أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يجب عليه القعود، ولا يجوز له العود إليه لأن الواجب عليه القيام وقد صار قائماً فلا معنى لعوده إلى القعود بعد تسليم الإمام.
المسألة الرابعة: قال القاسم%: إن سهى فسلم على شماله قبل يمينه فلا سهو عليه.
__________
(1) في الهامش: إلى القعود ا هـ. وهو أولى باعتباره قائماً، فكتب يعود إلى القيام، وكما هو واضح من السياق، والله أعلم.
اعلم أن المشروع في التسليم هو البداية باليمين قبل الشمال لقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). فإن خالف الترتيب فسلم على شماله قبل يمينه فهل تبطل صلاته بمخالفة الترتيب أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الترتيب بينهما واجب وهذا هو الذي حصله المؤيد بالله لمذهب الهادي، فإذا خالف بطلت صلاته لتركه فرضاً من فروض الصلاة وواجباتها.
قال القاضي زيد: ولا يبعد إذا قلنا بوجوب الترتيب بينهما وسلم على شماله قبل يمينه ثم يسلم على يساره أن تصح صلاته لأنه قد ذكر أن تسليمة واحدة لا تبطل الصلاة فإذا سلم على شماله بعد ذلك فقد وفَّى بالترتيب فلهذا لم تبطل صلاته وعليه سجود السهو لما وقع من التكرار بالتسليم.
المذهب الثاني: أن الترتيب بينهما غير واجب، وهذا هو رأي القاسم، والحقيني، فإذا أخل به لم تبطل صلاته ولا يلزمه سجود السهو وإنما لم تبطل صلاته لأنه أتى بالتسليم المفروض فلم تبطل صلاته وإنما يلزمه سجود السهو لأنه تغيير هيئة، والهيئات أمور إضافية لا يحصل بها نقص في الصلاة وأفعال تابعة.
والمختار: ما أشار إليه القاسم لأنه قد أتى بالفرض من التسليم عن اليمين والشمال وهذا هو المشروع ولم يتأخر عنه إلا هيئة الترتيب بينهما وهو أمر إضافي تابع للتسليم فنزل منزلة الجهر والإسرار في الصلاة ومنزلة وضع اليد حذاء المنكب والخد فإن هذه الأمور لا يحصل بها نقص في الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: التسليم فرض من فروض الصلاة كما قررناه من قبل على هيئته المشروعة، فإذا أخل به بطلت صلاته.
قلنا: إن المصلي قد أتى به لا محالة ولم يتأخر إلا صفته وهو الترتيب والترتيب أمر إضافي لا يخل بأصل الفرض المؤدى كما لا يخل التجافي بمطلق السجود إذا تأخر عنه لأن المقصود شيء والأمر الإضافي شيء آخر، فإذا أخل بالأمر الإضافي لم يلزم منه الإخلال بالمقصود.
المسألة الخامسة: قال أحمد بن يحيى في (المفرد)(1):
لو أن رجلاً صلى ركعتين فلما كان في الثالثة نسي القراءة وسبح ثم ذكر قبل أن يركع فإنه يقرأ، وإن كان بعد الركوع لم يقرأ وهذا يريد به في صلاة الوتر لأن التسبيح في الركعتين الأخيرتين من الرباعية والثالثة من المغرب هو الأفضل على رأي الهادي وأولاده فلهذا قلنا إنه أراد الوتر لأنه لا ثلاثية من النوافل إلا الوتر، وما ذكره فيه مبني على أصلين:
الأصل الأول: أن هذا على أن مذهبه أن الأفضل في الثالثة من الوتر هو القراءة كما دل عليه كلام القاسم بخلاف الفرائض فإذا ركع من غير قراءة فقد فاته موضع القراءة فلهذا جبره بسجود السهو لأنه زاد في صلاته ذكراً لا يبطلها فلهذا تعلق به سجود السهو.
الأصل الثاني: أن النوافل كالفرائض في تعلق سجود السهو إذا زاد فيها أو نقص كما سنقرره على أثر هذا بمعونة الله، وإذا سهى في صلاة النفل فهل يسجد للسهو أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يسجد في الزيادة والنقصان في النوافل المنفصلة كالوتر وركعتى الظهر والمغرب والفجر، وهذا هو رأي أئمة العترة.
قال: لا يختصان الفرض دون النفل. وهو قول الشافعي في الجديد، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله : ((لكل سهو سجدتان " )). ولم يفصل بين الفرض والنفل، وقوله : ((من شك في صلاته " فليسجد سجدتين بعدما يسلم)).
المذهب الثاني: أنه لا يسجد في صلاة النفل وهو قول الشافعي القديم، ومحكي عن ابن سيرين.
__________
(1) لعل المقصود هو الإمام الناصر لدين الله أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، المتوفى سنة 325هـ، فإن له كتاباً يحمل هذا الاسم.
والحجة على هذا: هو أن الفروض الشرعية الغرض بتأديتها الخروج عن عهدة الأمر والإلزام وليس يمكن ذلك إلا بتأديتها على أكمل الوجوه وأتمها ليخرج المكلف بها عن عهدة اللزوم، فإذا عرض في بعضها عارض من زيادة أو نقصان وجب جبرانها بسجود السهو بخلاف النوافل فإن المقصود منها هو القربة إلى الله تعالى وإحراز الثواب، والأجر حاصل سواء كانت ناقصة أو كاملة فلهذا لم يتوجه فيها سجود السهو للجبران.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة، وهو رأي الأكثر من فقهاء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أنها عبادة يدخل الجبران في فرضها فدخل في نفلها كالحج.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الفروض الغرض بها الخروج عن عهدة الأمر فلا بد من إكمالها وتمامها بسجود السهو بخلاف النوافل.
قلنا: قد حصل الأمر بالواجبات وحملناه على الوجوب وورد الأمر بالنوافل وحملناه على الندب والغرض الخروج عن عهدة الأمرين جميعاً، تارة بالوجوب، وتارة الددب، فإذا عرض النقص في النوافل توجه إكمالها بسجود السهو كالفرائض.
المسألة السادسة: وإن كرر قراءة الفاتحة مرتين وهكذا السورة والتشهد إذا كررهما لزمه سجود السهو لمخالفته للمشروع كما لو زاد أو نقص من المسنونات، وإن قرأ السورة قبل الفاتحة فهل يلزمه سجود السهو أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن السجود لازم له لأنه خالف المشروع في ترتيب الفاتحة على السورة وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وهذا هو رأي أبي حنيفة.
وثانيهما: أنه لا سجود في تغيير الترتيب لأنه تغيير هيئة فلا يتوجه فيه سجود السهو كالسجود على الجبهة والأنف فإنه لا ترتيب فيهما وهذا هو المختار. لأن المقصود هو حصول القراءة في السورتين والترتيب بينهما أمر إضافي لا عبرة به.
وحكي عن محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله: أنه إذا قرأ الفاتحة في الركعتين الأوليين مرتين فعليه سجود السهو فإن قرأها في الآخريين مرتين فلا سهو عليه والفرق بينهما أن القراءة بالفاتحة في الأخيرتين بمنزلة الدعاء دون القراءة بدليل أنه لو سبح جاز وهذه التفرقة جيدة فإن الله تعالى جعل سورة الفاتحة بين العبد وبين ربه نصفين فالنصف الأول ثناء والنصف الآخر دعاء فإذا كررت في موضع الدعاء اغتفر التكرير، ولم يلزم فيه سجود السهو، وإن خالف المصلي وجعل تسبيح الركوع في السجود، وتسبيح السجود في الركوع، لزمه سجود السهو؛ لأنه خالف المشروع في المسنون.
المرتبة الثالثة: في بيان حكم الزيادة التي ليست من جنس المفروض ولا من جنس المسنون.
واعلم أن ما كان على هذه الصفة من الأفعال فلا يخلو حاله، إما أن يكون قليلاً أو كثيراً، فإن كان قليلاً كالحركة اليسيرة ودرء المار وتسوية الرداء فإن الصلاة لا تبطل بفعله سواء كان عمداً أو سهواً لأن فعلها عمداً قد اغتفر الشرع وعفى عنه، وإذا كان عمده لا يبطل الصلاة فسهوه أولى بذلك وأحق، وإن كان كثيراً فعمده وسهوه يبطلان كالأكل والشرب وما شاكلهما.
قاعدة: تجمع ما يتعلق بسجود السهو في الزيادة والنقصان على جهة الإجمال وجملة ذلك أن السهو تارة يقع بالزيادة، وتارة يقع بالنقصان فهذان قسمان نفصلهما بمعونة الله تعالى.
القسم الأول: ما يتعلق بالزيادة، وتارة يتعلق بالأفعال، ومرة بالأقوال فهذان ضربان:
الضرب الأول: ما يتعلق بالأفعال فهو كل فعل إذا أتى به عمداً في الصلاة أبطلها فإذا أتى به على جهة السهو تعلق به سجود السهو، وقد يكون من جنس أفعال الصلاة، وقد يكون من غير جنسها، فأما ما يكون من غير جنس أفعال الصلاة فإنه لا يتعلق به سجود السهو فإن كان قليلاً فإنه لا يبطل الصلاة وهذا نحو درء المار، وتسوية الرداء، ونحو الحركة اليسيرة، وإن كان كثيراً فإنه يكون مبطلاً للصلاة وهذا نحو الأكل والشرب كما مر بيانه، وأما ما يكون من جنس أفعال الصلاة فالعمد منه يفسد والسهو لا يفسد وهذا نحو أن يزيد ركعة كما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه[صلى الله عليه وآله وسلم] صلى الظهر خمساً فقيل له في ذلك فسجد سجدتين للسهو بعد التسليم، وهكذا إذا ركع في موضع السجود أو سجد في موضع الركوع سهواً فإنه يسجد للسهو.
الضرب الثاني: ما يتعلق بالأقوال، وهذا نحو أن يسلم تسليمة واحدة أو يسلم تسليمتين على جهة السهو فإنه يسجد لسهوه وإن قرأ في موضع الركوع والسجود ساهياً سجد لسهوه وإن سبح تسبيح الركوع في السجود أو سبح تسبيح السجود في الركوع سجد لسهوه لمخالفته للمشروع كما قررناه من قبل.
القسم الثاني: ما يتعلق بالنقصان. وجملة الأمر فيه أنه إن ترك ركناً من أركان الصلاة فإنه لا يحكم بصحة صلاته حتى يأتي به ولا ينجبر بسجود السهو، وإن ترك سنة من سنن الصلاة نظرت في حالها، فإن كانت سنة مستقلة وجب فيها سجود السهو، وهذا نحو ترك التشهد الأول، ونحو ترك القنوت، ونحو أن يترك تسبيح الركوع، أو تسبيح السجود، أو يترك أول التشهد الأخير أو آخره، فإن ما هذا حاله يجبر بسجود السهو، وإن كان المتروك هيئة، وهذا نحو ترك التجافي، ونحو ترك الجهر والإسرار على رأي من يجعلهما هيئة، ونحو أن يجعل الكفين حذاء الخدين أو المنكبين إلى غير ذلك من الهيئات التي ليس لها حظ الإستقلال في كونها سنة ولكنها تابعة لغيرها فإن ما هذا حاله لا يتعلق به سجود السهو وهذا كله قد أوردناه من قبل وأوضحنا مسائله التي يتعلق بها، ولكنا أوردناها هاهنا على جهة الإجمال لتكون من الناظر على خاطر وبال.
---
الفصل الثالث في حكم الشك في الصلاة
اعلم أن الشك حظور أمر بالبال مع خلوه عن الاعتقاد والظن والعلم، فإذا شك المصلي هل صلى ثلاثاً أو أربعاً فلا يخرج عن حالة الشك إلا بأحد أمور ثلاثة: إما بالعلم بأحد الإحتمالات، وإما بالظن لأحدها، وإما بالاعتقاد، فمتى حصل أحد هذه الأمور الثلاثة زال الشك بكل حال، وحاصل الأمر فيه أن يتعارض تجويزان على التناقض لأسباب عارضة توجب التناقض، وقد ذكر الشيخ أبو حامد الغزالي في كتابه (الوسيط): أن يتعارض اعتقادان على التناقض. وهذا فاسد فإن الشك لا يصاحبه الاعتقاد ولا الظن ولا العلم كما أشرنا إليه ولكنه تصور للحقيقة مجردة عن الاعتقادات والظنون والعلوم ونجردها لعدم القرائن الموجبة للترجيح، فإذا حصل الرجحان زال الشك وهو مخالف للظن في ماهيته، فإن الظن تغليب بالقلب على أحد الإحتمالين، والشك لا تغليب فيه، والتصور هو الشك خلا أن التصور يصاحب هذه الأمور الثلاثة، والشك لا يصاحبها.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: اعلم أن الشك لا يكون مستنداً لشيء من الأحكام العقلية ولهذا فإنه لو أخبره مخبر بأن في هذا الطريق سبعاً وشك في صدقه وكذبه ولم يحصل له غلبة ظن على الصدق فإنه لا يقدم على المضي في تلك الطريق بناء على الأصل لا عملاً على الشك ولا يكون طريقاً إلى تقرير الأحكام الدينية فإنه لو شك في كفر شخص أو فسقه فإنه يواليه عملاً على الأصل في أن من وجد في دار الإسلام فهو مسلم لا من جهة العمل على الشك، ولا يكون أصلاً في شيء من الأحكام الشرعية العملية ولهذا فإنه لو شك في كون هذا الماء طاهراً أو نجساً فإنه يعمل على الطهارة عملاً على الأصل لا عملاً على الشك فإذن لا عمل على الشك في جميع هذه الأحوال والذي يقع التعويل عليه في العمل بأحكام الشريعة طريقان:
الطريق الأول: العلم. كما نقوله في الشهادات فإنه لا مستند للشهادة سوى العلم ولا تجوز الشهادة على غلبة الظن إلا في صورة نقررها في باب الشهادة لضرورة الحال كالشهادة فيما يشهد فيه الإشتهار كالنكاح، والنسب، وكالشهادة على الإفلاس، وعلى العدالة، وعلى أروش الجنايات، وقيم المتلفات.
الطريق الثاني: غلبات الظنون في باب العبادات والعادات والمعاوضات وأنواع المعاملات في أبواب الشريعة، فإنه أعظمها جرياناً وأوسعها خطوا وأكثرها مضطرباً، فإذا عرفت هذا فطروء الشك لا يخلو إما أن يكون واقعاً في حال الصلاة أو بعد الفراغ منها، فإن وقع في حال الصلاة فسيأتي تقرير الحكم فيه، وإن وقع بعد الفراغ من الصلاة ففيه ثلاثة أقوال:
الأول: أن ذلك محطوط عنه ولا تجب عليه الإعادة، وهذا هو الذي ارتضاه السيدان الأخوان، وهو أحد أقوال الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الشك يكبر بعد الفراغ من الصلاة فلا سبيل إلى تتبعه والعمل عليه.
القول الثاني: أنه يكون كالشك في أثناء الصلاة فإن الأصل فيه أنه لم يفعل فإن قرب الزمان قام إلى التدارك وسجد للسهو لأنه سلم في غير محله، وإن طال الزمان فلا وجه إلا القضاء والإستئناف، وهذا قول ثان محكي عن الشافعي.
القول الثالث: أنه إذا شك بعد تطاول الزمان فلا اعتبار به، وإن قرب الزمان اعتبر به، وهو محكي عن بعض أصحاب الشافعي.
والمختار: ما قاله الأخوان.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن المصلي إذا فرغ من الصلاة فالظاهر هو العمل على صحتها فذكر الشك بعد التسليم لا يطرق خللاً فيما قد تقرر من صحتها.
ومن وجه آخر: وهو أن الأخبار دالة على الرجوع إلى الأقل عند الشك، أو على تغليب الظن على الصحة وهذا إنما يكون في حال اشتغاله بالصلاة وتلبسه بها فأما بعد الخروج منها فلا وقع له.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إنه بعد الفراغ يكون كالشك في إثباتها في تغليب الظن والبناء على الأقل.
قلنا: إنه في أثناء الصلاة أعمالها متصلة بخلاف ما إذا كان قد فرغ عنها فلا وجه لإعمال النظر ولا فائدة فيه.
قالوا: إن شك بعد تطاول الزمان فلا اعتبار به، وإن كان الزمان قريباً اعتبر به.
قلنا: إن قرب الزمان وبعده سيان في أنه لا اعتبار به بعد تقضي الصلاة وفراغه منها فإذن التعويل إنما هو على كون المصلي مشتغلاً بالصلاة ومتلبساً بها.
الفرع الثاني: في حكم الشك إذا عرض في حال الصلاة.
فإذا عرض له الشك في ركعة بكمالها فيحصل المقصود منه بأن نرسم فيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا شك المصلي فلم يدر هل صلى ركعة أو ركعتين أو ثلاثاً أو أربعاً ففيما يجب عليه مذاهب خمسة:
المذهب الأول: أنه إذا شك فلم يدر عدد الركعات، وكان الشك أول ما عرض له، والغالب من حاله السلامة والشك نادر، فإنه يستأنف الصلاة، هذا هو الذي حصله السيد أبو طالب للمذهب وارتضاه.
والحجة على هذا: هو أن المقصود من العبادات أداؤها على اليقين إذا كان متمكناً أو على غالب الظن إن لم يتمكن من العلم ليكون بذلك خارجاً عن عهدة الأمر ويسقط لزومها للذمة وذلك يوجب أنه إذا كان الشك أول عرض له أن يستأنفها لما روي عن الرسول أنه قال: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)). وهو إذا استأنفها فقد عدل عما يريبه من اللزوم إلى ما لا يريبه من اللزوم.
المذهب الثاني: محكي عن الشافعي: أنه يأخذ بالأقل ويبني على صلاته ويسجد سجدتي السهو. وهذا هو قول مالك، وربيعة من فقهاء التابعين، ومحكي عن أمير المؤمنين وأبي بكر وعمر وابن مسعود من الصحابة رضي الله عنهم.
والحجة على هذا: ما روى أبو سعيد الخدري أن الرسول قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته " فليلق الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان للجبران، وإن كانت صلاته ناقصة كانت الركعة تماماً للصلاة والسجدتان ترغمان أنف الشيطان))(1).
__________
(1) تقدم قريباً عن ابن مسعود من رواية مسلم.
المذهب الثالث: محكي عن الحسن البصري: أنه يذهب على وهمه ويسجد للسهو. وهو محكي عن أبي هريرة، وأنس بن مالك من الصحابة رضي الله عنهم.
والحجة على هذا: هو أن الإستئناف إبطال للعمل وقد قال تعال: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. وإن كان الأمر هكذا وجب الذهاب على الوهم ومعناه أن يبني على الأقل ولا يلتفت إلى عارض شكه، ويكون الشك كأن لم يكن، ولأنه إذا ذهب على وهمه كان أقرب إلى انسداد أبواب الشك وإبطال التوهمات والشكوك العارضة، والتفرقة بين هذا المذهب وبين مذهب الشافعي هو أن الشافعي يبني على الأقل عند عروض الشك لأنه هو المستيقن. والحسن البصري ومن قال بقوله يقولون: يذهب على وهمه. أي أنه يبني على ما يذكر من حاله فيبني عليه ولا يلتفت إلى الأقل المستيقن فهذه هي التفرقة بين المذهبين.
المذهب الرابع: محكي عن أبي حنيفة وهو أن المصلي له ثلاثة أحوال، فإن كان ذلك الشك أول مرة استأنف الصلاة، وإن كان الشك غالباً عليه تحرى أكثر رأيه فيبني عليه وسجد للسهو، وإن لم يكن يدري لغلبة الشك عليه بنى على اليقين في الأقل.
والحجة على هذا: هو أنه في الحالة الأولى الغالب من حاله السلامة فإذا عرض له الشك فإنه يؤثر اليقين على الشك ويستأنف الصلاة ليكون الفرض ساقطاً عن ذمته بيقين وتحقق، وفي الحالة الثانية أو أكثر غلبة الشك تحرى أكثر رأيه فبنى عليه لأنه روي عن النبي أنه قال: ((إذا شك أحدكم ولم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً " فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب)). وفي الحالة الثالثة إذا لم يكن له رأي ولا تحرى لغلبة الشك عليه فإنه يبني على اليقين ويرجع إلى الأقل لما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا شك أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثاً أم أربعاً " فليبن على اليقين وليدع الشك)). وليس يكون البناء على اليقين إلا بالرجوع إلى الأقل فهذا تقرير المذاهب بأدلتها على ما ذكرناه.
المذهب الخامس: محكي عن الناصر، والإمامية، وهو أنه إذا شك في الركعتين الأوليين من الفرائض فلم يدر صلى واحدة أو اثنتين فعليه الإعادة، وإن شك في الركعتين الأخيرتين فكلامه محتمل أنه يتحرى ويبني على ما يغلب على ظنه ويحتمل أن يبني على الأقل.
والحجة على هذا: هو أنه إذا شك في الأوليين فهما أول الصلاة لم يسبقهما شيء فيصير كما لو شك في أنه صلى أو لم يصل، فكما أن هاهنا يستأنف فهكذا في الشك في الأوليين،فأما إذا كان شكه في الأخيرتين فقد صار في آخر الصلاة على شرف إتمامها فليس له إلا التحري إن كان من أهله، وإن لم يكن من أهل التحري فإنه يبني على الأقل وهو المستيقن.
والمختار: ما قاله السيد أبو طالب وقرره للمذهب: من أنه إذا كان الشك أول ما عرض له فإنه يستأنف الصلاة.
وحجته: ما ذكرناه، وهو مروي عن العبادله من الصحابة رضي الله عنهم ابن عمر وابن عباس وابن عمرو ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته " فلم يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً فليستأنف)). وهذا نص فيما ذهبنا إليه، وهو مروي عن الشعبي، وشريح، وعطاء، والأوزاعي من فقهاء التابعين، وإذا استأنف الصلاة فهل يستأنف تكبير الافتتاح أم لا؟ فيه قولان:
فالقول الأول: أنه يستأنف تكبيرة الافتتاح. وهذا هو الذي نصره السيد أبو طالب، وعليه الأكثر من أصحاب أبي حنيفة.
وحجتهم على هذا: هو أن التحريمة لا تراد لنفسها، وإنما تراد لما بعدها من الصلاة فإذا بطل ما بعدها من الصلاة بعروض الشك فصار كأنه لم يفعل تلك التحريمة.
والقول الثاني: محكي عن أصحاب أبي حنيفة: وهو أنه لا يلزمه من استئناف تكبيرة الافتتاح.
والحجة على هذا: هو أن الشك إنما عرض في الصلاة دون تكبيرة الافتتاح فلهذا لم يلزم استئنافها، وهذا هو الأقوى والمرتضى للمذهب لأمرين:
أما أولاً: فلأنه على يقين من تكبيرة الافتتاح وعلى شك من الصلاة فلا يلزم من فساد الصلاة فساد التكبيرة.
وأما ثانياً: فلأن التكبيرة من جملة الصلاة ولم يعرض لها ما يفسدها كما لو شك في القعدة الأخيرة وكما لو شك في التسليم فإنه يأتي به ولا يعترض الشك فيه الشك فيما تقدمه، فهكذا هاهنا إذا عرض الشك في عدد الركعات وأوجبنا عليه الاستئناف لأجل الخبر فلا تفسد التكبيرة بحال بل يبني عليها صلاته ولا يفتقر إلى إعادتها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: يبني على الأقل كما حكيناه عمن قال من الصحابة والفقهاء من التابعين، ومحكي عن الشافعي.
قلنا: إن ظاهر الخبر دال على إزالة الشك من جميع الوجوه، وإذا بنينا على الأقل من الصلاة لم يأمن أن يكون قد زاد في صلاته ركعة فيكون الشك باقياً من هذا الوجه، وإذا استأنف الصلاة فقد أدَّاها على اليقين من كل الوجوه فلهذا كان أحق.
قالوا: أخذنا بالأقل كما حكي عن أمير المؤمنين وغيره من الصحابة، ومن فقهاء التابعين لحديث أبي سعيد الخدري.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلما ذكرناه من أنه إذا أخذ بالأقل لا يأمن زيادة ركعة فيكون الشك باقياً، وإذا عاد زال هذا الاحتمال.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما ذكرناه من الحديث فإنه مصرح بالاستئناف، وخبر أبي سعيد الخدري ليس فيه تصريح بالمطلوب لأجل دخول الشرط فيه، والشرط محل للشك فلأجل هذا كان خبرنا أرجح فيجب العمل عليه.
قالوا: يذهب على وهمه. كما حكي عن الحسن البصري ومن تابعه من الفقهاء.
قلنا: إن المعنى أنه يذهب على وهمه أنه يبني على المستيقن كما حكي عن القاسم أنه قال في الشك: دواؤه المضي عليه. يريد أنه يبني على ما يستيقن من نفسه وليس الغرض أنه يبني على الأقل [كما]حكيناه عن الشافعي، وإنما أراد أنه مال إلى ما يتحقق من حاله فيبني الصلاة عليه وهذا لا وجه له فإنه لا يتحقق من حاله شيء مع الشك اللهم إلا أن يريد أنه يرجع إلى الأقل كما قاله الشافعي وقد ذكرنا ما يتوجه عليه من الإحتمال فأغنى عن الإعادة.
قالوا: حكي عن الناصر أنه قال: إذا كان الشك في الركعتين الأوليين فعليه الإعادة، وإن كان الشك في الآخرتين بنى على الأقل أو تحرى وعمل على تحريه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الأدلة الشرعية من الأخبار النبوية لم تفصل بين أن يكون الشك عارضاً في الأوليين أو الآخرتين فلا وجه لهذا التفصيل.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه مطابق لما قلناه من أنه إذا كان الشك أول ما عرض له وكان مبتدأ فإنه يعيد الصلاة ويستأنفها وما ذكره في الركعتين الآخرتين من احتمال البناء على الأقل والتحري فسنقرر الكلام فيه، وإنما الغرض هاهنا هو الاستئناف في حق من عرض له الشك من أول أمره، وهكذا ما حكي عن أبي حنيفة من الأحوال الثلاثة فإنه موافق لنا في الحالة الأولى إذا كان المصلي مبتدأ بالشك فإنه يستأنف الصلاة فلا وجه للرد عليه.
المسألة الثانية: في المصلي إذا كان الغالب من حاله الشك وكان يمكنه التحري والبناء على غالب الظن فمن هذه حاله هل يعمل على ما يؤدي به التحري أو يبني على الأقل؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يبني على ما أداه إليه التحري وتغليب الظن، وهذا هو الذي نصره السيد أبو طالب وقرره للمذهب، وهو محكي عن ابن عمر وأبي هريرة وجابر بن زيد وإبراهيم النخعي.
والحجة على هذا: ما روى علقمة بن عبدالله أن الرسول قال: ((إذا صلى أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً " فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب وليتمه ثم يسلم ويسجد سجدتي السهو)).
المذهب الثاني: أنه يبني على الأقل، وهذا هو المحكي عن عطاء، وعبد الرحمن بن عوف.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا صلى أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً " فليبن على اليقين وليدع الشك)). وظاهر هذا الخبر دال على أنه لا يعول على التحري ولكن يبني على الأقل، وهذا هو مرادنا.
والمختار: ما قاله السيد أبو طالب ونصره.
وحجته: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا كنت في الصلاة فشككت في ثلاث أو أربع " وأكثر ظنك على أنها أربع تشهدت وسلمت وسجدت سجدتي السهو)) (1).
وروي عنه أنه قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته " فليتحر ثم ليتم ثم ليسجد سجدتي السهو)). فهذه الأخبار كلها دالة على أن التحري هو الواجب على المصلي عند الشك إذا كان ممكناً له.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((إذا صلى أحدكم وشك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً " فليبن على اليقين وليدع الشك)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا الخبر محمول على من تعذر عليه التحري ولا يمكنه تغليب الظن فلأجل هذا كان له الرجوع إلى العمل على الأقل أو إلى الاستئناف كما ذكرناه من قبل.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما رويناه من الأخبار الدالة على تغليب الظن والعمل عليه، وأخبارنا أحق بالعمل عند التعارض لظهورها وكثرتها فلهذا كانت أحق بالعمل.
ومن وجه ثالث: وهو أن التحري يجب العمل عليه واستعماله في العبادات متى تعذر العلم فيها بدليل صور نذكرها:
الصورة الأولى: الصوم إذا التبس على الأسير في دار الحرب في شهر رمضان فإنه يعمل على التحري، وإعمال الظن في مطابقة صومه لرمضان.
الصورة الثانية: التحري في الأثواب إذا كان بعضها طاهراً وبعضها نجساً فإنه يتحرى ويعمل على غالب ظنه فما أدَّاه ظنه إليه عمل عليه.
الصورة الثالثة: الأواني إذا كان فيها ماء طاهر وبعضها نجس فإنه إذا أراد التوضيء فإنه يعمل أمارة الطهارة والنجاسة والتغليب على ظنه ويتوضى ولا يتيمم لأن التحري هو منتهى تكليفه.
الصورة الرابعة: القبلة. فإنه إذا اشتبه عليه الأمر في الصلاة إلى القبلة والتبست عليه الأمارات الموصلة إلى الكعبة فإنه يتحرى ويعمل على ما يؤدي إليه اجتهاده من أي الجهات صلى إليها.
__________
(1) أخرجه البيهقي في (الكبرى)2/336، والدار قطني1/378، وأبو داود 1/270.
الصورة الخامسة: وقت الصلاة إذا التبس عليه الأمر لدوام الغيم وأراد الصلاة فإنه يعمل رأيه في حصول الأمارات التي ينقدح بها الظن في دخول وقت الصلاة فيعمل عليه.
الصورة السادسة: تقويم قيم المستهلكات وأروش الجنايات ونفقة الزوجات فإنها مبنية كلها على التحري، وطلب الأمارات في هذه الأمور كلها، وإذا كان الأمر كما قلنا في تحكيم غلبات الظنون على التحري والنظر في الأمارات فهكذا يكون التعويل عليه عند عروض الشك في الصلاة وكان ممن يمكنه التحري.
المسألة الثالثة: في حكم المصلي إذا كان ممن يمكنه التحري وتغليب الظن لكن استوى في حقه الأمران جميعاً فلم يترجح له أحدهما دون الآخر فمن هذه حاله فإنه يجب عليه استئناف الصلاة، وهذا هو الذي نصره السيد أبو طالب واختاره للمذهب.
والحجة على هذا: هو أن حكم التحري قد بطل في حقه لاستواء الأمرين، وإذا كان الأمر هكذا وجب عليه الاستئناف وليكون مؤدياً للصلاة بيقين ويخرج عن عهدة الأمر بما ذكرناه وينزل منزلة من كان مبتدأ بالشك في أول مرة فإذا أوجبنا عليه استئناف الصلاة حتى يكون مؤدياً للصلاة بيقين فهكذا من استوى في حقه الأمران فإنه يلزمه الاستئناف من غير فرق بينهما والجامع بينهما أن كل واحد منهما لا معنى للتحري في حقه فلهذا وجب عليه الاستئناف لأن هذا تعارض في حقه الأمران بحيث لا ترجيح والمبتدأ الأغلب من حاله أنه لم يأت بشيء من الصلاة فلهذا وجب عليهما جميعاً الإعادة، لما ذكرناه ويدل على ما قلناه ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا صلى أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً فليستأنف الصلاة)) فهذا كما يدل على استئناف في حق الشاك لم يغلب على ظنه شيء فهو دال على أن المصلي إذا كان يمكنه التحري واستوى عنده الأمران من غير ترجيح فإنه يلزمه الاستئناف.
المسألة الرابعة: في حكم من كان مبتلى بكثرة الشك ولم يمكنه التحري وتغليب الظن لاستحكام الشك عليه فإنه يبني على الأقل.
والحجة على هذا ما روى عبدالرحمن بن عوف عن الرسول أنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا شك أحدكم في صلاته فشك في الواحدة والثنتين " فليجعلهما واحدة، وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثاً حتى يكون الوهم في الزيادة)). فهذا الخبر دال على الرجوع إلى الأقل فيجب حمله على من ذكرناه وقد استعملنا الأخبار كلها من غير رد لشيء منها، وحملنا كل واحد منها على ما يقتضيه الدليل فمن أمكنه التحري عمل عليه ومن لم يمكنه التحري فإنه يبني على الأقل لكثرة شكه واستيلائه عليه وهذه طريقة مرضية أعني الجمع بين الأخبار وتنزيل كل واحد منها على ما يقتضيه الدليل الشرعي من غير رد لشيء منها كما ذكرناه.
المسألة الخامسة: في حكمه إذا بنى على الأقل ثم أيقن أنه صلى خمساً فهل يعيد الصلاة أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه يلزمه إعادة الصلاة إذا تحقق زيادة الخامسة، وهذا هو الذي ذكره السيدان أبو طالب وأبو العباس وارتضياه.
القول الثاني: أنه لا تلزمه الإعادة، وهذا هو الذي أشار إليه المؤيد بالله وقد ذكرنا وجه القولين فيما مضى وذكرنا المختار وأوضحنا الانتصار له فأغنى عن التكرير.
قال المؤيد بالله: ومن اعترض له الشك فلم يتحر حتى فرغ من صلاته ثم غلب على ظنه أن صلاته صحيحة لم تكن عليه الإعادة وذلك لأن المقصود هو الخروج عن عهدة الأمر بأداء الصلاة فإذا غلب على ظنه صحتها فقد حصل الغرض المطلوب بصحتها وغلبة ظنه كافية في ذلك فإن خرج من صلاته وكان عنده أنه أتمها ثم عرض له الشك بعد ذلك لم يكن للشك العارض حكم لأنه قد حصل له من جهة نفسه إتمامها وهو الأصل المعمول عليه فلا وجه لعروض الشك فإن كان الشك قبل الخروج منها تحرى وبنى عليها سواء كان ذلك في الأوليين أو الأخريين لأن الشك يقوى تأثيره إذا كان قبل الخروج منها فيعمل على ما يقوى له من التحري أو الرجوع إلى الأقل أو إلى الاستئناف على ما قد قررناه من قبل، وإن سها في صلاته فلم يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً فبنى على تحريه ثم حصل له اليقين أنه قد أدَّاها صحيحة وزال الشك لم تكن عليه الإعادة لكونها مؤداة على الصحة ولم تلزمه سجدتا السهو لأن مع اليقين لا وجه للجبران بسجود السهو لأنه إنما يلزمه إذا شك ثم أدَّاها بغلبة الظن فأما مع اليقين فلا.
الفرع الثالث: في حكم الشك إذا وقع في ركن من أركان الصلاة.
قال المؤيد بالله: ومن شك في تكبيرة الافتتاح أو القراءة أو الركوع أو السجود فإنه يتحرى ويعمل على غالب ظنه.
واعلم أن كل من ترك ركناً من أركان الصلاة نحو القيام والركوع والسجود وغير ذلك من الأركان العشرة المفروضة التي أسلفنا ذكرها فليس يخلو حاله إما أن يمكنه التحري وتغليب الظن أو لا، فإن كان يمكنه التحري وتغليب الظن عمل على ما أدَّا إليه التحري سواء كان مبتلى بكثرة الشك أو كان الشك أول عارض في حقه وإن كان لا يمكنه التحري وتغليب الظن فإنه يبني على الأقل فيما كان يتكرر كالسجود فإنه إذا شك أنه سجد سجدتين أو سجدة واحدة فإنه يبني على الأقل، وإن كان فيما لا يتكرر نحو أن يشك في أنه ركع أو سجد فإنه يبني على إعادته وهكذا لو شك في القراءة وتكبيرة الافتتاح.
فحصل من هذا أن حكم الركن مخالف لحكم الركعة فإنه إذا شك في ركن من أركانها فإنه يلزمه أن يأتي به ولا يلزمه الاستئناف وليس كحال حكم الركعة فإنه إذا شك فيها وكان الغالب من حاله السلامة فإنه يلزمه الاستئناف والتفرقة بينهما من وجهين:
الفرق الأول: ذكره السيد أبو طالب وتقرير ما قاله هو: أن الركعة لا تكون إلا مقصودة وسائر الأركان قد تكون مقصودة وقد تكون غير مقصودة وما يكون من الأركان زيادة مقصودة في محلها يفسدها وسائر ما لا تكون مقصودة لا يفسدها، وإذا كان الأمر كذلك فالشك في زيادة لا تكون إلا مقصودة من الفرائض يجب أن يكون أبلغ في فساد الصلاة من الشك فيما يكون مقصوداً وقد لا يكون مقصوداً وذلك يقتضي الفصل الذي ذكرناه، هذه ألفاظه.
الفرق الثاني: هو أن الركعة مشتملة على أركان متعددة كالقيام والركوع والسجود والقراءة والقعدة بين السجدتين فالركن بعض أجزاء الركعة وجزء الشيء لا يكون مساوياً لكله فلأجل هذا كان حكم الركعة مخالفاً لركنها فإذا شك في الركعة وكان مبتدأً أعاد الصلاة بخلاف الركن فإنه يبني على الأقل فافترقا.
الفرع الرابع: قال المؤيد بالله: ومن شك في ركوعه أو سجوده وعلم من عادة نفسه سجدة التحري في الصلاة والتحفظ لأركانها جاز له الأخذ بما عهد من حاله بعدما ثبت له ذلك ولم يقابله ما ينافيه.
واعلم أن العلم باستمرار الأمور العادية ضروري لا مرية فيه، وهذا نحو العلم بما تجري به العادة من هذه الأشياء المعتادة، نحو طلوع الشمس والقمر وغروبهما وسائر الكواكب ونحو توالد الحيوانات كل جنس من جنسه، ونحو النباتات كل جنس من جنسه، فهذه الأمور كلها طريقها العادة فإذا كانت العادة موصلة إلى العلم فيما هو معلوم فإيصالها إلى غلبات الظنون فيما هو مظنون أحق وأولى، فإذا عرفت هذا فالعادة ليست من التحري ولا من النظر في الأمارات في ورد ولا صدر ولكنها أصل في تغليب الظن بصحة ما تعلقت به وإنما يعول عليها في صحة الصلاة بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون المصلي قد أتى بشرائط صحة الصلاة في الأقوال والأفعال من غير إخلال بشيء منها.
الشرط الثاني: أن لا يعارضها ما يناقضها من وجوه الفساد، وإذا كان الأمر كما قلناه جاز التعويل عليها في صحة الصلاة على ما جرت عليه عادة المصلي في التحفظ والإحتراز.
قال المؤيد بالله: ومن شك في صلاته فأدَّاها على التحري وغلبات الظنون وجب عليه سجود السهو إلا أن يتيقن أنه أتى بها صحيحة وكلامه هذا يشير به إلى أن للمصلي حالتين عند الشك في الصلاة:
الحالة الأولى: أن يتحقق بعد الشك أنه أدَّاها على الصحة والخروج عن عهدة الأمر وعند هذا لا يلزمه سجود السهو لأن العلم لا يجوز خلافه ولا وجه لتطرق النقصان إليها فتجبر بالسهو(1).
الحالة الثانية: أن يؤديها على التحري وتغليب الظن وعلى هذا تكون مجزية له ويخرج بها عن عهدة الأمر بالظن وهو غاية تكليفه لكنه يجب عليه سجود السهو للجبران من جهة أن الظن يجوز خلافه فلهذا جبره بالسجود.
__________
(1) يقصد لا يلزم جبرانها بسجود السهو. و الله أعلم.
قال المؤيد بالله: ومن اعترض له الشك في صلاته فلم يتحر حتى فرغ منها ثم غلب على ظنه أنها صحيحة فلا إعادة عليه. وهذا جيد فإن الشك إذا عرض فلا بد من دفعه إما بالتحقق بالأداء على الصحة وإما بغلبة الظن فكل واحد من هذين كاف في الخروج عن الشك ودفعه فإذا غلب على ظنه بعد الفراغ منها صحتها فقد حصل الإجزاء وبطلت الإعادة لأن الإعادة إنما تكون بما فسد وكان الوقت باقياً لكن يجب عليه سجود السهو.
الفرع الخامس: ومن شك في ركعة فتحرى في أخرى وبنى عليها فهل تصح صلاته أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: أن صلاته صحيحة، وإن تأخر تحريه من ركعة إلى أخرى أو تأخر تحريه إلى آخر الصلاة، وهذا هو رأي المؤيد بالله.
وحجته على هذا: هو أنه إذا شك في ركعة فإن المقصود بالتحري هو تغليب الظن بالأمارات الصحيحة على كون الصلاة صحيحة وكونها مجزية وهي في انتظامها تنزل منزلة الفعل الواحد ولهذا كانت الموالاة معتبرة فيها فلا فرق بين أن يتحرى في الركعة المشكوك فيها أو في الثانية أو في آخر الصلاة في حصول الإجزاء والخروج عن عهدة الأمر.
القول الثاني: أن التحري إنما يكون على الفور، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو العباس.
وحجته على هذا: هو أن المصلي إذا دخل في الصلاة وشك في ركعة من ركعاتها فلا سبيل إلى البناء عليها إلا بعد أدائها على الصحة والثبات فإذا خرج منها من غير تحر كان بناؤه عليها في الركعة الثانية أو بعد فراغه من الصلاة إخلالاً بشرط الصحة فلهذا كانت فاسدة.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله لأمرين:
أما أولاً: فلأن المقصود هو تأدية الصلاة على نعت الصحة بالتحقق أو غلبة الظن وهذا حاصل سواء كان عقيب الشك أو بعده إذا كانت الصلاة مشتملة عليه.
وأما ثانياً: فلم تدل دلالة على وجوب الفور في التحري فيعمل عليها وإنما المقصود حصوله قبل فراغه من الصلاة.
الفرع السادس: قال المؤيد بالله: ولو شك المؤتم خلف الإمام لم يكن له أن يتحرى بل يتبع الإمام ولا يلتفت إلى عارض شكه فإنما وجب ذلك لأمرين:
أما أولاً: فلقوله : ((الإمام ضامن)) ولا معنى لضمانه إلا بحمله لما عرض من النقصان في الصلاة.
وأما ثانياً: فلقوله : ((إنكم تصلون بهم فما صح فلكم ولهم " وما فسد فعليكم دونهم)). وفي هذا دلالة على ما قلناه.
ومن وجه آخر: وهو قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). ولم يفصل. فظاهر الخبر دال على أنه لا معنى لإنفراد المصلي بالتحري لأن ذلك يكون مخالفة للإمام.
وقال أيضاً: في رجل كثير السهو في صلاته صلى بجهده فلما بلغ آخر الجلسة أيقن أن صلاته صحيحة ثم بعد إتمام التشهد لم يذكر غير ما هو فيه أنه إذا ذكر عند التشهد تمام صلاته لم تلزمه الإعادة.
واعلم أن هذا إنما يكون في حق من غلبه السهو وكثرة الوسوسة في الصلاة، فإذا حصل له اليقين في آخر الصلاة أن صلاته صحيحة وذهل عن ذكر أول صلاته ولم يذكر إلا ما هو فيه اجزأه ذلك لأن الأصل في الإجزاء وسقوط الإعادة في الوقت والقضاء بعد فواته هو تحققه أن صلاته صحيحة وهذا حاصل ونسيانه وذهوله لما سبق من أعمال الصلاة لا يطرق خللاً بعد تحققه لصحة الصلاة ولا يلزمه سجود السهو مع التحقق كما مر في نظائره.
وقال أيضاً: ويكره لمن شك في صلاته الخروج منها لإعادتها إذا أمكنه التحري فيها وإنما كره ذلك لما فيه من إبطال العمل، وقد قال تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. وهذا إنما هو في حق من يمكنه التحري في الصلاة.
الفرع السابع: اعلم أن العبادات التي تُعِبِّدنا بأدائها والتكاليف التي أمرنا بفعلها منقسمة بالإضافة إلى طرقها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول منها: ما كان ثابتاً بطريق معلوم وهذا نحو أصل الصلاة والزكاة والحج والصوم فإن هذه العبادات أصولها ثابتة بطرق معلومة ضرورة من الدين وإنكارها يكون كفراً ورِدَّة، والشك فيها يكون شكاً في النبوة، وأما تفاصيلها فثبوتها يكون بطرق مظنونة وهو أخبار الآحاد وعليها التعويل في تقريرها والأقيسة حيث يكون لها مدخل فيها فإذا وقع الشك فيها جاز الأخذ فيها بغالب الظن والأمارات.
القسم الثاني: ما يكون أصله ثابتاً بطريق مظنون وهذا نحو أصل النية في الصلاة والقراءة وتعيين فاتحة الكتاب وغير ذلك مما وقع فيه الخلاف في مسائل الصلاة، فما هذا حاله يجوز أداؤها بغالب الظن وإذا دخل الشك جاز تحكيم الظن في أدائه، وأما تفاصيلها فثابتة أيضاً بطرق مظنونة وهذا نحو كيفية النية ومقدار القراءة وغير ذلك من تفاصيل مسائل الصلاة وما يتوجه فيها من مسائل الخلاف فإذا دخل الشك فيها جاز أداؤها بغالب الظن لأن أصلها إذا كان ثابتاً بطريق مظنون فتأدية التفاصيل بالطرق المظنونة أولى وأحق.
القسم الثالث: ما يكون أصله ثابت بطريق معلوم فلا يجوز دخول الشك فيه ولا يجوز دخول النظر في تقرير أصله وهذا نحو الوضوء فإن أصله معلوم بالضرورة من الدين لا يقع فيه خلاف، وأما تفاصيله فهل يجوز تأديتها بغلبة الظن إذا وقع الشك فيها أم لا؟ فيه قولان:
فالقول الأول: أنه لا يجوز الأخذ فيها بغالب الظن إذا وقع الشك في تطهير عضو من أعضاء الوضوء التي طريق العلم بوجوبه النص والإجماع، فإذا وقع الشك فيها وجبت الإعادة فيه وفيما بعده حتى يتحقق فعله يقيناً سواء كان قبل دخوله في الصلاة أو بعد دخوله فيها وسواء كان الوقت باقياً أو قائتاً، وهذا هو رأي الهادي.
القول الثاني: أنه إذا وقع الشك في تطهير عضو من هذه الأعضاء التي طريق وجوبها النص والإجماع فإنه يجوز أداؤه بغالب الظن والأمارات الصحيحة، وهذا هو رأي المؤيد بالله وقد قدمنا الكلام فيها وذكرنا المختار والانتصار له فأغنى عن الإعادة.
قاعدة: اعلم أن الجمع بين الأحاديث طريقة مرضية باتفاق الأصوليين من أئمة العترة وجماهير المعتزلة والأشعرية المعولين على العمل على أخبار الآحاد والمصرحين بقبولها في أحكام الشريعة من العبادات وأنواع المعاملات فإذا كان الجمع بينهما ممكناً فلا مزيد على حسن هذه الطريقة لأنه يكون قبولاً بجميعها، وإن تناقضت ولم يمكن الجمع بينها فلا بد من إعمال النظر في ترجيح بعضها على بعض بالإضافة إلى سنده ومتنه، وغير ذلك من طرق الترجيح التي أودعناها الكتب الأصولية. فإذا عرفت هذا فاعلم أن الأحاديث والأخبار الواردة في شأن الشك في الصلاة واردة على مراتب ثلاث:
المرتبة الأولى: في الأخبار الدالة على استئناف الصلاة إذا وقع الشك في الصلاة وهي محمولة على وجهين:
أحدهما: فيمن كان حاله السلامة والشك أول ما ورد عليه، فمن هذه حاله يجب عليه استئناف الصلاة ليكون مؤدياً للفرض على حقيقة ويقين من حاله.
وثانيهما: أن يكون وارداً في حق من استوى عنده الأمران أنه صلى ثلاثاً ولم يترجح له أحدهما على الآخر فمن هذه حاله يجب عليه استئناف الصلاة ليخرج عن عهدة الأمر بالصلاة بما ذكره من الإستئناف.
المرتبة الثانية: أن تكون الأحاديث واردة على وجوب التحري والنظر في الأمارات الموجبة لانقداح الظن وهي محمولة على من يمكنه التحري والنظر في الأمارات الدالة على ترجيح أحد الأمرين على الآخر وهو أكثر ما ورد من الأحاديث وذلك لأن الغالب من حال الشك القوة على الترجيح فلهذا وردت الأخبار الكثيرة على استعمالها والمواضبة عليها.
المرتبة الثالثة: في الأحاديث الدالة على العمل علىالأقل وهي محمولة على من لا يمكنه التحري وتغليب الظن على أحد الاحتمالين، فمن هذه حاله فإنه يبني على الأقل فالأحاديث الواردة في الشك في الصلاة لا تخرج عما ذكرناه من هذه المراتب الثلاث وقد حملنا كل واحدة منها على ما يقتضيه حكمه من غير حاجة إلى قبول بعضها ورد البعض أو النظر في الترجيح لأنا إذا حملناها على ما ذكرناه من هذه المعاني الجامعة لها فلا حاجة بنا إلى تناقضها وترجيح بعضها على بعض لأن في حملها على ما ذكرناه من الأمور الجامعة غنية عن حملها على المناقضة والترجيح، فهذا ما أردنا ذكره في ذكر الشك الوارد على المصلي في الصلاة وأحكامه.
---
الفصل الرابع في بيان أنواع السجدات
اعلم أن أنواع السجدات خمسة: سجدة فريضة، وسجدة نافلة، وسجدة سهو، وسجدة تلاوة، وسجدة شكر، وسجدة خشوع واعتراف بالذنب.
فأما سجدة الفريضة والنافلة، فقد ذكرنا حكمها من قبل، والذي نذكره هاهنا سجدة السهو، وسجدة التلاوة، وسجدة شكر وخضوع واعتراف بالذنب، فهذه أنواع ثلاثة نذكر ما يتوجه في كل واحدةٍ منها بمعونة الله تعالى.
النوع الأول: في بيان أحكام سجود السهو.
اعلم أن الذي نذكره هاهنا إنما هو ما يتعلق بأحكام السجود نفسه، فأما ما يتعلق بأحكام الصلاة التي وقع السهو فيها فقد ذكرناه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في بيان حكمه ومحله.
أما حكمه: فقد ذكرناه في أول الباب فأغنى عن الإعادة.
وأما محله: فهل يكون قبل التسليم أو بعده؟ فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن محله بعد التسليم، وهذا هو رأي زيد بن علي، والقاسم، والهادي، والمؤيد بالله، ومحكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وعمار من الصحابة رضي الله عنهم. ومروي عن الحسن البصري من التابعين، والثوري، وإبراهيم النخعي، وابن أبي ليلى، وهو رأي أبي حنيفة من الفقهاء.
والحجة على هذا: ما روى ثوبان عن الرسول أنه قال: ((لكل سهو سجدتان بعدما تسلم)) (1).
فهذا نص فيما ذهبنا إليه.
المذهب الثاني: أنه يكون محله قبل التسليم، وهذا هو المشهور عن الشافعي في عامة كتبه، وهو مروي عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، والزهري، وربيعة، والليث، والأوزاعي سواء كان للزيادة أو للنقصان.
والحجة على هذا: ما روى أبو سعيد الخدري عن الرسول أنه سجد للسهو قبل التسليم.
__________
(1) تقدم آنفاً، وهو في سنن أبي داود1/272، وابن ماجة1/385، ومصنف عبد الرزاق2/322، ومسند أحمد5/280.
والحجة الثانية: ما روى عبدالله بن بُحينة،(وبحينة هذا من الصحابة وهو بالباء بنقطة من أسفلها، وحاء مهملة وبالتصغير ساكنة، ونون، والباء مضمومة)، أنه قال: صلى بنا رسول الله إحدى العشائين فقام من اثنتين فقام الناس معه فلما جلس انتظر الناس تسليمه فسجد قبل أن يسلم، وروى ذلك عمر، وابن عباس عن الرسو (1).
المذهب الثالث: أنه إن كان السهو للزيادة فبعد التسليم، وإن كان للنقصان كان محله قبل التسليم، وهذا هو رأي الناصر، وجعفر الصادق، ومحكي عن مالك، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، والمزني من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الأخبار المروية عن الرسول بعضها دال على سجود قبل التسليم، وبعضها دال على سجود بعد التسليم فجمعنا بين هذه الأخبار وقلنا: ما دل على السجود قبل التسليم فهو للنقصان، وما دل على السجود بعد التسليم فهو للزيادة فيكون جمعاً بينها وهذه طريقة مرضية لما فيها من قبول الأخبار كلها من غير رد لشيء منها.
المذهب الرابع: حكى الطبري من أصحاب الشافعي أن الشافعي ذكر في القديم: أن المصلي مخير بين أن يسجد قبل التسلم أو بعده.
والحجة على هذا: أن الأخبار واردة على كلا الأمرين فلأجل هذا قضينا بالتخيير جمعاً بين الأخبار في الدلالة والقبول، فهذه المذاهب كما ترى في محل السهو.
والمختار: ما ذهب إليه الإمام زيد بن علي، والقاسمية، وحكاه الكرخي عن ابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وطاووس، والسائب وغيرهم ممن رويناه عنه.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو ما روى عبدالله بن مسعود عن الرسول أنه قال: ((إذا صلى أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب فليتمه ثم يسلم ثم يسجد سجدتي السهو)). وروي عنه قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر " ثم يتم ثم يسجد سجدتي السهو)).
__________
(1) جاء في صحاح البخاري1/285، ومسلم1/399، وابن حبان5/265، وفي سنن الترمذي2/235 وأبي داود1/271.
وروي عنه أنه كان إذا سها سجد سجدتين بعدما يسلم. وعن المغيرة بن شعبة، وعمران بن الحصين، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، أن الرسول سجد بعد التسليم.
وروى عبدالله بن مالك(1) أنه رأى رسول الله قام في الركعتين ونسي أن يقعد فمضى في صلاته ثم سجد سجدتين بعد الفراغ من صلاته(2). فهذه الأخبار كلها دالة على ما اخترناه من فعل السجدتين بعد التسليم.
ومن وجه آخر: وهو أن سجود السهو ليس هو من مقتضى تكبيرة الافتتاح ولا من مقتضى ما أوجبته التحريمة فوجب أن يكون محله بعد التسليم دليله تكبير التشريق.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روى أبو سعيد الخدري أن الرسول سجدهما قبل التسليم، كما حكي عن الشافعي.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد أنه سجدهما قبل التسليم المشروع في حقهما دون التسليم المشروع للصلاة المفروضة.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بالأخبار التي رويناها، وإذا عارضها فلا بد من الترجيح، وما رويناه من الأخبار فهو أرجح لكثرتها واشتهارها وتصريحها بما دلت عليه فلهذا كانت أحق بالقبول.
قالوا: روى معاوية، أنه سجدهما قبل التسليم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن خبر معاوية غير مقبول ولا يعمل عليه لفسقه وسقوط عدالته وحربه لأمير المؤمنين كرم الله وجهه وخروجه عليه.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما رويناه عن جلة الصحابة وأكابرهم، وخبر معاوية لا يعارضها بحال.
__________
(1) يوجد في المصادر المتاحة أكثر من شخص باسم عبد الله بن مالك، ومنهم من الصحابة: عبد الله بن مالك بن بُحينة، ولعله الأقرب وقد سبقت ترجمته باسم عبد الله بن بُحينة، والله أعلم. راجع (التأريخ الكبير)5/10 و(تهذيب التهذيب)5/332 وما بعدها.
(2) أخرجه البيهقي في (الكبرى)1/208، والطبراني في (الأوسط)2/142.
قالوا: إن كان السهو للزيادة فهو مفعول بعد التسليم في الصلاة، وإن كان للنقصان فمحله قبل التسليم من الصلاة، كما هو محكي عن الناصر ومن تابعه جمعاً بين الأخبار لأن بعضها دال على فعله قبل التسليم، وبعضها دال على فعله بعد التسليم فجمعنا بينهما بما ذكرناه، وهي طريقة مرضية في الأخبار.
قلنا: إن صاحب الشريعة صلوات الله عليه لم يقل سلموا في السهو قبل تسليم الصلاة في النقصان، وبعد التسليم في الزيادة. وإنما ورد بعض الأخبار بالتسليم قبل الخروج من الصلاة، وفي بعضها بعد الخروج من الصلاة، لكنا رجحنا أن أخبار التسليم بعد الفراغ من الصلاة لكثرتها واشتهارها.
قالوا: هو مخير في تسليم السهو بين أن يجعله قبل التسليم من الصلاة أو بعد التسليم منها كما حكى الطبري عن الشافعي.
قلنا: وهذا من الطراز الأول فإن الرسول لم يؤثر عنه التخيير قولاً صريحاً وإنما ورد بعض الأخبار مرة بالتسليم قبل الخروج من الصلاة، ومرة بعد الخروج عنها. فحصل الترجيح للأخبار الدالة على التسليم بعد الخروج من الصلاة فقضينا به، فإذا تقرر أن محل السهو بعد التسليم من الصلاة المكتوبة فلو سجدهما قبل الفراغ من الصلاة فهل تبطل صلاته أم لا؟.
فعلى رأي القاسمية أن صلاته تبطل لأنه خالف المشروع بزيادة السجود على جهة العمد، وأما على رأي الناصر فلا تبطل صلاته إذا كان سجوده لسهو النقصان، وهكذا على رأي الشافعي: لا تبطل صلاته لأن محله قبل التسليم على قول. ومخير بين أن يكون قبله أو بعده على قول [آخر].
الفرع الثاني: في بيان مفروضه ومسنونه.
والمفروض منه: أمور خمسة: النية، وتكبيرة الافتتاح، والسجود، والقعود بين السجدتين، وهو الاعتدال، والتسليم.
ويدل على وجوب النية: قوله : ((الأعمال بالنيات " )). وقوله: ((لا قول ولا عمل إلا بنية " )). ويدل على وجوب التكبير: قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ " }[المدثر:3]. ولم يفصل. ويدل على وجوب سائر الأفعال، ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه سهى في صلاته فتشهد ثم سلم ثم كبر فسجد ثم كبر ورفع رأسه من السجود ثم تشهد وسلم. وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وظاهر الأمر للوجوب إلا ما قامت الدلالة على خلافه(1).
وأما المسنون منه: فأمور ثلاثة: التشهد لأن في حديث أبي هريرة: أنه تشهد. وفي حديث علقمة: أنه تشهد في سجود السهو، وفي سائر الأحاديث الواردة في السهو: أنه لم يتشهد. وقوله : ((لكل سهو سجدتان)). ولم يذكر التشهد، وفي هذا دلالة على كون التشهد مسنوناً لأنه لو كان مفروضاً في السهو لم يتركه كما لم يترك التكبيرة والسجدتين وتسبيح السجود مسنون فيه وتكبير النقل مسنون فيه أيضاً لأنه إذا كان مسنوناً في الصلوات المكتوبة فهو في سجود السهو أحق وأولى.
قال زيد بن علي في سجدتي السهو: يتشهد المصلي مثل ما يتشهد في الركعتين ثم يسلم(2).
وعلى الجملة فما قلناه في أن المشروع في سجدتي السهو مثل المشروع في سجدتي الفريضة، هو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة عليه: ما قلناه.
الفرع الثالث: في بيان أحكام السهو. ويشتمل على أحكام خمسة:
الحكم الأول: وإن اجتمع على المصلي في صلاته سهوان أو أكثر فهل يكفيه للجميع سجدتان أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) المقصود هو القاعدة الفقهية أن ظاهر الأمر أي أمر كان للوجوب والنهي أي نهي للتحريم إلا ما خرج بدلالة خاصة، وليس المقصود كما قد توحي به العبارة، بأن ظاهر الأمر للوجوب في الحديث الشريف: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). والله أعلم.
(2) يقصد كما في التشهد الأوسط. والله أعلم.
المذهب الأول: أنه يكفيه سجدتان. وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية، والناصرية، ومحكي عن الفريقين الشافعية، والحنيفة، وهو قول كافة العلماء.
والحجة على هذا:ما روي عن الرسول أنه سلم في الظهر على اثنتين، وكلم ذا اليدين ساهياً، وخرج من المسجد فلما تحقق ذلك سجد سجدتين ولم يزد عليهما شيئاً.
المذهب الثاني: أن السهو إذا كان من جنسين لم يتداخلا، وإن كان من جنس واحد تداخلا.
والحجة على هذا: هو أن السهو إنما شرع من أجل الجبران للنقص فإذا كان النقص من جنس واحد كفى فيه سجدتان، وإن كان النقص من جنسين تكرر السجود. فالأول كأن يترك تسبيح ركوعين، والثاني كأن يترك القنوت وسجدة واحدة، وهذا كمن يسرق مرات كثيرة فإنه لا يجب عليه إلا حد واحد، ولو سرق وزنا وجب عليه حَدَّانٍ.
والمختار: ما عليه أكثر العلماء من الأئمة والفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه، ونزيد هاهنا وهو أن السهو إنما شرع في آخر الصلاة ليجبر به كل سهو وقع فيها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قوله: السهو إنما شرع لجبران النقص فإن كان من جنس واحد تداخلا، وإن كان من جنسين لم يتداخلا كالحدود.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد دللنا على أن الخبر قد دل على أن السهو غير متكرر والأخبار لا تعارض بالإقيسة.
وأما ثانياً: فلأن الحدود من باب العقوبات فلأجل هذا تكررت لما اختلفت أنواعها لما كانت الجنايات مختلفة بخلاف السهو فإنه شيء واحد شرع من أجل النقصانات في الصلاة ومخالفة المشروع سواء كان من زيادة أو نقصان فافترقا.
الحكم الثاني: ومن سها في سجدتي السهو فلا سهو عليه للسهو ومعنا هذا أن كل من شك فلم يدر هل سجد سجدة واحدة أو سجدتين فإنه سواء بنى على الأقل أو رجع إلى التحري فإنه لا يجب عليه سجود السهو، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: أن الشرع إنما ورد بجبران بعض الصلاة بسجود السهو ولهذا قال : ((لكل سهو سجدتان)). ولم يرد الشرع بجبران السهو نفسه.
ووجه: يأتي وهو أنه لم يؤثر عنه أنه أمر بالسجود لأجل السهو، وفي هذا دلالة على أنه غير مشروع، ولأنا لو التزمنا سجود السهو في السهو للزم ذلك إلى غير غاية، وما يلزم عليه الفساد فهو فاسد ولأنه سهو عرض بعد ارتفاع التحريم بالصلاة فوجب أن لا يكون له حكم كما لو عرض بعد الفراغ عن سجود السهو، ويحكى عن الكسائي، ومحمد بن الحسن الشيباني: أنهما حضرا في مجلس. فقال الكسائي: العلوم كلها جنس يستدل ببعضها على بعض، ويستمد بعضها من بعض. فقال محمد: ليس بجنس واحد، ولا يستمد بعضها من بعض، ولا يستدل ببعضها على بعض. فقال الكسائي: بلى. فقال محمد: ما تقول في رجل سها في سجود سهوه هل يلزمه السجود أم لا؟ فقال الكسائي: لا سجود عليه. فقال محمد بن الحسن: ولم؟ قال الكسائي: لأن العرب لا تصغر المصغر، فهكذا لا سهو في السهو، وكلام الكسائي في أن العلوم متلازمة أغوص في التحقيق، وكلام محمد بن الحسن أسهل وأخلص ولقد كان الأخلق بعلماء الدين ألا يحضروا مجالس الظلمة ولا يأنس أهل الفضل بهم إمتثالاً لما ورد به الشرع من البعد عنهم وطردهم وإيحاشهم.
الحكم الثالث: ومن نسي سجدتي السهو فإنه يسجدهما إذا ذكرهما لقوله : ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها " )).فإن كان قريباً من مصلاه عاد إليه استحباباً لأن الرسول لما أخبر بأنه صلى الظهر خمساً بعد خروجه من المسجد عادة إلى المسجد فسجدهما، وإن كان قد بَعُد سجد حيث يمكنه لأن لزومهما متحقق فلا يبطل بالبعد، وإن ذكرهما بعد طول المدة وجب عليه سجودهما، وإن أحدث سجدهما بعدما يتوضأ لما ذكرنا من توجه اللزوم، ومن سها في صلاته ثم اعترض له الشك هل يسجد لسهوه أم لا؟ وجب عليه سجودهما لأن وجوبهما قد تحقق فلا يبطل بالشك.
الحكم الرابع: في سهو الإمام والمأموم، وذلك يقع على أوجه ثلاثة:
الوجه الأول: إذا سها الإمام دون المأموم نظرت فإن سجد الإمام لسهوه وجب على المأموم السجود عند أئمة العترة، ومحكي عن فقهاء الأمة ولا يعرف فيه الخلاف سواء كان خلفه في حال سهوه أو دخل معه بعد سهوه لقوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)).لأنه إذا لم يسجد معه فقد خالفه. ولقوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)). وهذا يقتضي متابعته. وروي عن الرسول أنه قال: ((إذا سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السهو " )). ولأن صلاة المأموم معقودة بصلاة الإمام، وما يجري من النقص في صلاة الإمام فهو جار في صلاة المأموم فلهذا وجب عليه السجود مع إمامه، فإن لم يسجد مع الإمام فهل تبطل أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: بطلان صلاته لأجل مخالفة الإمام ولأجل مخالفة الإجماع، فإن كان الإمام قد سبق المأموم بركعة فإن الإمام يسجد لسهوه حين يسلم من صلاته، وأما المأموم ففيما يفعله ثلاثة أقوال:
فالقول الأول: أن الماموم لا يسجد لسهوه حتى يقضي ما فاته فإذا قضى ما فاته سجد سجدتي السهو لسهو إمامه، وهذا هو رأي الهادي، ومحكي عن ابن سيرين، والظاهر من كلامه في المنتخب: أنه لا ينتظر فراغ الإمام من سجدتي السهو بل يقوم فيقضي ما فاته من الصلاة.
وحجته على هذا: هو أن زيادة سجدة في الصلاة تبطلها، فلهذا قلنا: إنه لا يسجد حتى يفرغ من صلاته. وإنما قلنا: أنه لا ينتظر فراغ الإمام من سجوده لأن إتمامه لصلاته يكون على الفور فلا حاجة به إلى انتظاره.
القول الثاني: أنه ينتظر سجود الإمام للسهو ويسجد معه فإذا سلم الإمام من سجدتي السهو قام المؤتم فيقضي ما فاته فإن لم يسجد مع الإمام حتى قام للقضاء فإنه يسجد في آخر صلاته، وهو رأي أبي حنيفة.
وحجته على هذا: هو أن المأموم لزمه السجود لأجل سهو الإمام فلهذا وجب عليه إنتظاره.
القول الثالث: أنه يسجد مع الإمام قبل قضائه لما فاته ولا ينتظر سجود الإمام، وهذا هو رأي الشافعي.
وحجته على هذا: هو أن انتظاره يوجب المخالفة للإمام فلهذا وجب عليه السجود معه ثم يؤدي ما فاته بعد ذلك فإن لم يسجد الإمام لسهوه فهل يسجد المأموم أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه يجب على المأموم أن يسجد، وهذا هو قول القاسمية، ومحكي عن مالك، والشافعي، ومروي عن الليث، والأوزاعي.
والحجة على هذا: هو أن صلاة المأموم قد نقصت بنقصان صلاة الإمام، فإذا لم يجبر الإمام صلاته وجب على المأموم جبران صلاته.
القول الثاني: أنه لا يجب على المأموم سجود، وهذا هو رأي الناصر، ومحكي عن زيد بن علي، وأبي حنيفة، والنخعي، والمزني، وأبي حفص من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). ومهما سجد دون الإمام فقد خالفه، وقوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)).
والمختار: أنه لا يجب على المأموم سجود مع ترك الإمام لسجود السهو لأن الإمام لو ترك القعدة الأولى فالمأموم لا يقعدها، وإن كانت القعدة مسنونة فهكذا إذا ترك سجوداً لم يجب على المأموم سجوده.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إن صلاة المأموم قد نقصت بنقصان صلاة الإمام فإذا لم يجبر الإمام صلاته وجب علي المأموم جبران صلاته.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الإمام قد تحمل سهو المأموم لقوله : ((الإمام ضامن)). ولا يعقل الضمان إلا مع تحمله للسهو سواء قام به الإمام أو أسقطه، فلهذا لم يتوجه على المأموم.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما أوردناه من الأخبار، والأقيسة لا تعارض الأخبار.
الوجه الثاني: إذا سها المؤتم ولم يسه الإمام فهل يسجد المأموم لنفسه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك وأنه لا سجود على المأموم، وهذا هو رأي زيد بن علي، والناصر، والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روى ابن عمر عن الرسول أنه ليس على من خلف الإمام سهو وهذا نص فيما ذهبنا إليه.
المذهب الثاني: أنه يتوجه عليه السهو، وهذا هو رأي الهادي، ومحكي عن مكحول من الفقهاء.
والحجة على هذا: هو أن المؤتم قد لزمه السجود لسهوه فلا يسقط عنه إلاَّ بتأديته له.
والمختار: ما قاله أئمة العترة، زيد بن علي، والناصر، والمؤيد بالله، وغيرهم من فقهاء الأمة.
وحجتهم: ما حكيناه، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((ليس على من سها خلف الإمام سهو " )). ومعنى هذا هو أنه ليس لسهوه حكم إذا لم يسه الإمام.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: المؤتم قد لزمه السجود لسهوه فلا يسقط عنه إلا بتأديته.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا يتكرر لزومه للمأموم لكن الشرع قد أسقطه عنه بتحمل الإمام له.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه قياس والأقيسة لا وقع لها مع ورود الأخبار على خلافها وقد دللنا على أن الأخبار واردة بسقوط السهو عن المأموم وتحمل الإمام له.
الوجه الثالث: إذا سها الإمام والمأموم جميعاً فهل يتوجه على المأموم سجود واحد أو سجودان، فنقول أما سجوده لسهو الإمام فهو الواجب عليه ولا خلاف فيه كما مر بيانه، وأما سجوده لسهوه فهل يجب أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب، وهذا هو رأي الهادي.
والحجة على هذا: هو أن سهوه منفصل عن سهو إمامه فلأجل هذا وجب عليه سجود السهو لأجل سهوه.
المذهب الثاني: أنه لا يتوجه عليه سجوده لأجل سهوه، وهذا هو رأي زيد بن علي، والناصر، والمؤيد بالله.
والحجة على هذا: ما رويناه من الخبر الدال على بطلان سهو المأموم خلف الإمام، وأن الإمام يتحمل سهوه، وقد قررنا المختار، وذكرنا وجه الانتصار فأغنى عن الإعادة.
نعم.. إذا قلنا بأنه يجب على المؤتم سجودان على رأي الهادي، وأراد المؤتم فعلهما، فأيهما يكون أحق بالتقديم؟ فيه إحتمالان نذكرهما:
الاحتمال الأول: أنه يسقط الترتيب بينهما لأنهما واجبان معاً كما نقوله في قضاء الفوائت، وعلى هذا يبدأ بأيهما شاء.
الاحتمال الثاني: وهو المختار أن يقدم ما وجب عليه لسهو إمامه لأن ذلك أسبق في الوجوب، فلهذا كان أحق بالتقديم، وهذا كله فيمن سبقه الإمام بركعة أو أكثر.
الحكم الخامس: والإمام إذا أحدث في حال الصلاة وقد سهى فاستخلف غيره ثم سهى المقدم في صلاته فإنه يكفيه سجدتان لسهوه وسهو إمامه الأول، أما إجزاؤهما على نفسه فهو ظاهر لقوله : ((لكل سهو سجدتان)). وأما إجزاؤهما عن الإمام الأول فلأنه لما كان خليفة عنه لقيامه مقامه في إتمام الصلاة كان متحملاً لسهوه فلأجل هذا كانت السجدتان مجزيتين عن نفسه وعن الإمام الأول، ولا يتكرر السجود بتكرر السهو بل يكفي لجميع السهو سجدتان كما ورد عن الرسول : ((لكل سهو سجدتان " )). وحكي عن ابن أبي ليلى: أن السجود يتكرر بتكرر أنواع السهو. وهذا لا وجه له لأن لفظ الخبر ليس معناه تعميم السجود على أنواع السهو بالتكرير في السجود، وإنما الغرض أنه خبر في معنى الأمر كأنه قال: اسجدوا لسهو الصلاة فيها كما يقال: لكل ذنب توبة. فإن التوبة كافية عن جميع الذنوب كما أن السهو يكفي فيه وإن تكرر سجدتان. وقد تم سجود السهو.
النوع الثاني: في سجود التلاوة.
وهو مشروع في حق القارئ والمستمع، وهو الذي يطلب السماع ويقصده لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله ، يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بسجدة كبر وسجدنا معه. ولا خلاف في كونه مشروعاً بين أئمة العترة، وفقهاء الأمة. وهل يكون مشروعاً في حق السامع وهو الذي يسمع من غير قصد للإستماع أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه مشروع في حق السامع أيضاً كما هو مشروع في حق القارئ والمستمع وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله [تعالى]: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ}[الانشقاق: 20،21]. ومحكي عن بعض أصحاب الشافعي من أهل خراسان.
المذهب الثاني: ذكره في البويطي أنه قال: لا أؤكده على السامع الذي لم يقصد الاستماع فإن سجده فحسن.
والحجة على هذا: هو أن السبب في السجود إنما تحقق في حق القارئ لأجل القراءة والمستمع لأجل قصد الاستماع، فأما السامع فلم يحصل في حقه السبب في السجود.
المذهب الثالث: أنه لا يشرع السجود إلا في حق القارئ دون السامع والمستمع، وهذا هو المحكي عن مالك.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((في سورة الحج سجدتان " فمن لا يسجدهما لا يقرأهما))(1).
فعلق السجود بالقراءة فدل ذلك على أن السبب في شرع السجود إنما هو القراءة لا غير.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم، من كونه مشروعاً في حق القارئ والمستمع والسامع.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو أن الأدلة التي دلت على كون السجود مشروعاً لم تفصل بين القارئ والمستمع والسامع.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إنما شرع في حق القارئ والمستمع دون السامع، كما حكي عن الشافعي، وإنما يكون في حق القارئ دون السامع والمستمع كما حكي عن مالك.
__________
(1) القصد: فلا يقرأ الآيتين، والله أعلم، وهما الآيتان (18 و 77)، ويظهر من الخلاف الوارد ضمن هذا المبحث حول وجوب سجود التلاوة أن النهي في هذا الحديث هو للإرشاد إلى فضل السجود، وعند قراءة الآيتين وليس لتحريم قراءتهما إذا لم يسجد قارئهما، والله أعلم.
…أخرجه أبو داود و الترمذي عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، أفي [سورة] الحج سجدتان؟ قال : ((نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما)) وهو في سنن البيهقي2/317، والدارقطني1/408.
قلنا: لا نسلم ما ذكروه بل نقول: إن الأدلة التي ذكرناها لم تفصل بين هؤلاء الثلاثة، وفي هذا دلالة على كونه مشروعاً في حقهم.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: إذا تقرر كونه مشروعاً بما أوردتموه من الأدلة فهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن سجود التلاوة سنة مؤكدة، وليست واجبة، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه وعمر بن الخطاب وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم، ومن الفقهاء مالك والأوزاعي.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن ثابت أنه قال: عرضت {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى " }[النجم:1] على رسول الله فلم يسجد منا أحد، ولو كان واجباً لفعله وفعلناه.
المذهب الثاني: أن سجود التلاوة واجب. وهذا هو رأي أبي حنيفة، فإنه قال: إنه واجب على القارئ والمستمع.
والحجة على هذا: هو أن بعض السجدات بلفظ الأمر كقوله تعالى في سورة النجم: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}[النجم:62]. وقوله تعالى في سورة العلق: {كَلاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ }[العلق:19]. وظاهر الأمر للوجوب، وربما ورد على جهة التوبيخ على تركه، لقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ}[الاشنقاق:20،21]. والتوبيخ إنما يكون على ترك الواجب وما عداها مقيس عليها إذ لا فصل هناك.
المذهب الثالث: محكي عن زيد بن علي وهو أن عزائم السجود أربع: {ألم تنزيل} السجدة، و{حم}السجدة(1)،
وسورة {القلم}(2).
__________
(1) المقصود حم: فصلت وآيتا السجود في السورتين، في الأولى 15 وفي الثانية 38.
(2) المقصود بحسب اسم السورة أنها سوة العلق، أول سورة نزلت من القرآن الكريم، وموضع السجود في آخرها، وكلما وردت هنا باسم القلم فيما يخص سجود التلاوة فهي العلق.
واختلفت الرواية عنه في الرابعة فمرة قال: هي سورة والنجم. ومرة قال: هي سورة انشقت(1).
والحجة على هذا: هو أنا لا نعني بكونه عزيمة إلا وجوبه، وإنما قيل للواجب عزيمة لأنه معزوم على فعله ولا داعي إلى تركه، وإنما كانت هذه الأمور عزائم لأن بعضها أوامر كما مر في سورة النجم والقلم، وبعضها ورد عليه الذم والذم لا يرد على على ما كان واجباً متى يستحق الذم على تركه.
قال زيد بن علي: حدثني أبي عن أبيه عن علي" أنه قال: عزائم السجود في القرآن حم السجدة، والجرز(2)،
وسورة النجم، وسورة القلم. وسائر ما في القرآن إن شئت فاسجد، وإن شئت فلا تسجد، ومثل هذا لا يصدر عن توقيف من جهة الرسول لأنه لا مساغ للإجتهاد فيه بحال لكونه من باب العبادات التي مستندها ما كان توقيفاً من جهة الرسول .
والمختار: ما عول عليه علماء العترة، من كون سجود التلاوة سنة مؤكدة.
__________
(1) هي سورة الانشقاق في الآية 21.
(2) وهي سورة السجدة.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ وهو رأي الشافعي، ونزيد هاهنا وهو ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قرأ على المنبر سورة فيها سجدة فنزل وسجد وسجد الناس معه فلما كان في الجمعة الثانية قرأها فتهيأ الناس للسجود فقال: أيها الناس على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وهذا مجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد فجرى مجرى الإجماع، وروى عن الرسول زيد بن ثابت قال: قرأت على الرسول سورة (النجم) فلم يسجد فيها فلو كان السجود واجباً لسجد ولأمر به، وروى ابن عمر عن الرسول أنه قرأ سورة و(النجم) فسجد وسجد المسلمون معه والمشركون حتى تراكم الناس في السجود فلما سجد في حال دون حال دل ذلك على أن السجود غير واجب، وروى أبو هريرة عن الرسول أنه قرأ سورة و(النجم) فسجد وسجد الناس معه إلا رجلين أرادا الشهرة فلو كان واجباً لأنكر ذلك عليهما ولم يقرهما عليه، وروى زيد بن أسلم أن غلاماً قرأ عند الرسول حم (السجدة) فانتظر الغلام الرسول ليسجد فلم يسجد فقال يا رسول الله أليس فيها سجدة؟ قال: ((بلىولكنك إمامنا فلو سجدت لسجدنا " )) (1).
فلو كان السجود واجباً لسجد ولأمر به.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: بعض الأخبار دال على الأمر بالسجود عقيب التلاوة، وهو بظاهره دال على الوجوب وربما ورد بعض الأخبار بالتوبيخ، وهو دال علىالوجوب كما حكي عن أبي حنيفة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن الأمر بظاهره للوجوب، وإنما يدل على الطلب والوجوب مأخوذ من دلالة أخرى، والطلب لا دلالة فيه على الوجوب، وهكذا حال التوبيخ فلا نسلم أنه توبيخ وإنما هو حث على الاستحباب فلا دلالة فيه على الوجوب بحال.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه3/346، وأبو داود في (المراسيل) عن زيد بن أسلم وهو في مصنف ابن أبي شيبة1/379، و(فتح الباري)1/408.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما رويناه من الأخبار الدالة على كونه سنة ومستحباً، وإذا تعارضا فلا بد من الترجيح، وأخبارنا راجحة لظهورها وكثرتها واشتهارها.
قالوا: عزائم السجود أربع كما حكي عن زيد بن علي.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن المراد بالعزائم الواجبات وإنما كلامه محمول على تأكد الإستحباب وكثرة الأجر والثواب في فعلها لا أن المراد الوجوب.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما أوردناه من الأخبار فإنها دالة على الاستحباب فلأجل هذا قضينا برجحانها على غيرها لقوتها وظهورها.
الفرع الثاني: في بيان أعداد السجدات في القرآن. وفيها مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن أعدادها أربع عشرة سجدة، وهذا هو الظاهر من المذهب، ومحكي عن أبي حنيفة ومالك وابن أبي ليلى وقول الشافعي في الجديد.
الأولى: في سورة (الأعراف) عند قوله في آخرها: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }[الأعراف:206].
الثانية: في سورة (الرعد) عند قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}[الرعد:15].
الثالثة: في سورة (النحل) عند قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[النحل:50].
الرابعة: في سورة (بني إسرائيل)(1) عند قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً }[الإسراء:109].
الخامسة: في سورة (مريم) عند قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}[مريم:58].
السادسة: في سورة (الحج) عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2)[الحج:77].
__________
(1) وهي الإسراء.
(2) وهي الأخيرة في الحج.
السابعة: في سورة (الحج) أيضاً عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ " }. إلى قوله: {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(1) [الحج:18].
الثامنة: في سورة تبارك(الفرقان)عند قوله تعالى:{وَزَادَهُمْ نُفُوراً }[الفرقان:60].
التاسعة: في سورة (النمل) عند قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }[النمل:26].
العاشرة: في سورة (الجزر) عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً}. إلى قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}[السجدة:15].
الحادية عشرة: في سورة حم (السجدة) عند قوله تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ }[فصلت:38].
الثانية عشرة: في سورة (النجم) في آخرها عند قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا }[النجم:62].
الثالثة عشرة:في سورة (الانشقاق) عند قوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ }[الانشقاق:21].
الرابعة عشرة: في سورة (القلم) عند قوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}[العلق:19].
والحجة على استحباب السجود عند التلاوة: قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ}[الإنشقاق:20،21].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله حثهم على الإيمان بالله وبرسوله، وبالسجود عند قراءة القرآن وجمعهما جميعاً، وفي هذا نهاية الحث على السجود عند التلاوة، وما روي أنه كان يسجد إذا تلي ما فيه سجدة من القرآن من الآي التي ذكرناها فدل ذلك على استحباب السجود في هذه الآيات.
__________
(1) وهي الأولى في الحج.
المذهب الثاني: أن عزائم السجود إحدى عشرة آية، وهذا هو المحكي عن ابن عباس، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت من الصحابة رضي الله عنهم، ومن الفقهاء سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومحكي عن مالك.
والحجة على هذا: ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول لم يسجد في شيء من المفصل(1)
منذ تحول إلى المدينة، والذي في المفصل ثلاث سجدات فتبقى إحدى عشرة التي ذكرناها.
المذهب الثالث: أن السجدات خمس عشرة سجدة، وهذا هو المحكي عن عمرو بن العاص قال: اقرأني رسول الله خمس عشرة سجدة في القرآن تلك أربع عشرة سجدة التي أوضحناها وسجدة في سورة (ص) في قوله: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ " }[ص:24]. فهذه مذاهب العلماء في سجدات القرآن كما ترى.
الفرع الثالث: في ذكر الخلاف في هذه السجدات. ويقع الخلاف فيها في مواضع:
الخلاف الأول: ذهب أبو حنيفة: إلى أن سجدة (ص) من عزائم السجود وعزائم السجود عنده أربع عشرة فأثبت سجدة (ص) وأسقط الثانية من سورة الحج. وذهب الشافعي: إلى أن سجدة (ص) لا تعد من عزائم السجود وإنما هي سجدة شكر لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول قال: ((سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكراً )) (2).
__________
(1) قال السيوطي: والمفصل ما ولي المثاني من قصار السور، سمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السورة بالبسملة، وأورد الخلاف حول أوله ومنها (ق) و(الحجرات) و(الصافات) و غيرها. إلى 14 قولاً، اهـ 1/63.
(2) رُوي الحديث في سنن البيهقي2/318 والدارقطني1/407، والنسائي2/159، وفي (جواهر الأخبار)1/344 عن ابن عباس أن النبي سجد في (ص) وقال: ((سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكراً)) هذه رواية النسائي، وفي رواية البخاري وأبي داود والترمذي عن عكرمة عن ابن عباس قال: ليست (ص) من عزائم السجود، وقد رأيت النبي يسجد فيها.
الخلاف الثاني: ذهب الشافعي إلى أن سورة الحج فيها سجدتان لما روى عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله في الحج سجدتان؟ قال: ((نعم من لم يسجدهما فلا يقرأهما)). وروي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وابن عمر وابن عباس: أنهم يسجدون في سورة الحج سجدتين. وعن عمر: أنه سجد في الحج سجدتين. وقال: فضلت على غيرها بسجدتين. وعن أبي حنيفة أن الواجب في سورة الحج السجدة الأولى عند قوله: {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }[الحج:18]. دون الثانية وهي قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77].
الخلاف الثالث: ليس في شيء من مواضع السجود خلاف إلا في سجدة حم (السجدة) فإن الشافعي يذهب إلى أن محل السجود فيها عند قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ}[فصلت:38]. وحكي عن أبي حنيفة، وأحمد بن حنبل وإحدى الروايتين عن الثوري: أن موضع السجود منها عند قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[فصلت:37].
الخلاف الرابع: سجدة سورة (ص) إذا تقرر كونها سجدة شكر بما روى أبو سعيد الخدري قال: خطبنا رسول الله على المنبر فقرأ على المنبر الآية التي فيها سجدة (ص) فلما بلغ السجود تشزَّن الناس للسجود. فقال: ((إنما هي توبة نبي ولكن قد استعددتم للسجود ))(1).
فنزل وسجد وسجد الناس. فبين بكلامه أنها توبة وليست من عزائم سجدات القرآن. والتشزن بالتاء بنقطتين من أعلاها وشين بثلاث من أعلاها وزاي ونون والتشزن يطلق على معنيين:
أحدهما: الاستعداد والتهيؤ. وقد فسره الرسول بقوله: ((قد استعددتم للسجود)). وروي عن عثمان أنه سئل أن يجلس محضر المذاكرة فقال: حتى أتشزن. أي استعد للاحتجاج.
__________
(1) ورد الحديث في صحيح ابن خزيمة2/354،و ابن حبان6/470، وسنن أبي داود2/59، وفي المستدرك على الصحيحين1/421.
وثانيهما: أن يطلق ويراد به الانزعاج والفشل. كما حكي عن الحجاج أنه قال: نِعْمَ الحالة الإمرة لولا قعقعة البرد والتشزن عند الخطب. فلو سجدها ساجد في غير الصلاة على وجه الشكر جاز ذلك، وإن سجدها في الصلاة، فإن كان جاهلاً أو ناسياً لم تبطل صلاته، وإن كان عالماً بأنها ليست من عزائم السجود فهل تبطل صلاته أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: بطلان الصلاة لأنها سجدة شكر فإذا فعلها في الصلاة عالماً أبطلها كما لو بلغه شيء يشزيه في الصلاة فسجد فإنه يبطلها.
وثانيهما: أنها لا تبطل لأنها سجدة متعلقة بالتلاوة فلم تبطل الصلاة كسائر السجدات في القرآن.
والأول هو المختار لأن سجدات العزائم محصورة وهذه ليست معدودة منها فلهذا بطلت الصلاة.
الفرع الرابع: ويشترط في سجود التلاوة ما يشترط في الصلاة: من الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، لأنها صلاة في الحقيقة فلهذا اشترط ما ذكرناه كما يشترط في الصلاة.
قال المؤيد بالله: الساجد للتلاوة(1)
يجب أن يكون على طهارة، ويكون ما سجد عليه وفيه طاهراً كالمصلي.
__________
(1) في الأصل: الساجد للطهارة، وتم وضع (التلاوة) بدلاً عنها كونها المقصودة كما يؤكد السياق والموضوع، والله أعلم.
وقال أيضاً: ومن كان محدثاً فليس له أن يسجد للتلاوة ولا لغيرها ولا لوقوع زلزلة وهو المعمول عليه عند أئمة العترة وفقهاء الأمة. فإن قرأ آية فيها سجدة أو سمعها وهو محدث. فقال النخعي: يتيمم ويسجد. وعن بعض أصحاب الشافعي: أنه يتوضأ ويسجد. وهذا هو المختار لأنه قادر على الطهارة بالماء فلا يجوز له التيمم. وعن عثمان، وابن المسيب: أن الحائض إذا سمعت آية فيها سجدة فإنها تُومئ برأسها للسجود وتقول: اللهم لك سجدت. وهذا جيد لأنه لا معنى للطهارة في حقها فلهذا استحب لها ذلك. فإن لم تسجد في مكان السجود لم تسجد بعد ذلك لأنها متعلقة بسبب فإذا فات سقطت كالكسوف إذا انجلى قبل الصلاة فلا وجه للصلاة بعد إنجلائه، وإن أخر السجود وهو في مجلسه نظرت فإن لم يطل الفصل سجد، وإن أطال الفصل لم يسجد.
والتفرقة بين الإطالة وعدم الإطالة هو أن الإشتغال بفعل يعد إعراضاً عن السجود، وإن سجد للتلاوة في مجلس ثم أعاد تلك السجدة في ذلك المجلس فهل يعيد السجود أم لا؟ فحكي عن الشافعي أنه يعيد السجود لأن كل ما اقتضى السجود في مجلسين اقتضاه في مجلس واحد كالآيتين.
وقال أبو حنيفة: لا يسجد لأن السجود قد وقع بوقوع سببه ولم تدل دلالة على التكرير فلهذا بطل، والوجهان جائزان خلا أن ما ذكره الشافعي أحق، لأن تكرير الآية بمنزلة آيتين مختلفتين في توجه السجود، وإن سجد قبل أن ينتهي إلى موضع السجدة لم يصح سجوده كما لو سجد قبل التلاوة، وإن سجد بعد الزيادة على موضع السجود جاز ذلك.
الفرع الخامس: قال السيد أبو طالب: وإذا أراد أن يسجد للتلاوة في غير الصلاة فإنه يستقبل القبلة ثم يكبر لافتتاح السجود. وهل يرفع يديه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يرفع يديه، وهذا هو المحكي عن القاسم لأن رفع اليدين ليس مسنوناً عند القاسمية في الصلاة المفروضة، فلا يسن خارج الصلاة بحال.
وثانيهما: أن المستحب رفع اليدين لافتتاح السجود ثم يكبر تكبيرة ثانية للسجود لا يرفع بهما يديه ثم يكبر إذا رفع رأسه من السجود، وعن بعض أصحاب الشافعي أنه يكبر تكبيرة واحدة لا غير والأول أصح لأن التكبير مسنون في كل رفع وخفض، والمستحب أن يقول في سجوده من الأذكار أموراً ثلاثة:
الذكر الأول: أن يقول في سجوده: ((سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته تبارك الله أحسن الخالقين))(1).
لما روته عائشة عن الرسول أنه كان يقول ذلك في سجود التلاوة.
الذكر الثاني:ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول كان يقول في سجوده للتلاوة: ((اللهم اكتب لي بها عندك أجراً " واجعلها لي عندك ذخراً وضع بها عني وزراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود ))(2).
الذكر الثالث: أن يقول ما يقوله في سجوده للصلاة، وهذا هو الذي اختاره السيد أبو طالب، فهذه الأذكار كلها مستحبة لكن الأول والثاني أدخل في الاستحباب لأنها خاصة في التلاوة ومأثورة عن الرسول . وهل تفتقر إلى التشهد والسلام أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه لا يفتقر إليهما، وهذا هو رأي أئمة العترة.
والحجة على هذا: هو أن المعتمد ما أثر عن الرسول في هذه العبادات لم يؤثر عنه أنه تشهد في سجدة التلاوة ولا سلم، وهو محكي عن بعض أصحاب الشافعي.
المذهب الثاني: يتشهد ويسلم، وهو المحكي عن بعض أصحاب الشافعي.
وحجتهم على هذا: هو أنه سجود افتقر إلى الإحرام، فلهذا كان مفتقراً إلى التشهد والسلام.
المذهب الثالث: أنه يفتقر إلى السلام دون التشهد، وهذا هو قول بعض أصحاب الشافعي.
وحجتهم على هذا: هو أنه سجود يحتاج إلى الإحرام فلا يخرج عنه إلا بالتسليم كسجود الصلاة.
فإن كان القارئ سائراً في السفر فهل يكفيه الإيماء، أو يحتاج إلى وضع جبهته على الأرض؟ فيه وجهان:
__________
(1) أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي.
(2) أخرجه الترمذي2/472.
أحدهما: أنه يستحب وضع جبهته على الأرض لأن المستحب هو السجود ولا يعقل السجود الشرعي إلا بما ذكرناه فلهذا توجه عليه.
وثانيهما: أنه يكفيه الإيماء لأن السفر عذر فأشبه المرض.
وهل يكفى الركوع على السجود أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن السجود هو المتعين فلا يقوم الركوع مقامه، وهذا هو الذي يأتي على المذهب، وهو محكي عن الشافعي لأن المعتمد فيه هو فعل الرسول ولم يكن يركع عوض السجود.
وثانيهما: أنه بالخيار إن شاء سجد وإن شاء ركع، وهذا شيء يحكى عن أبي حنيفة.
وحجته على هذا: هو أن القصد بالسجود إنما هو الخضوع والخشوع وامتثال الأمر وهذا كما يحصل بالسجود فهو حاصل بالركوع.
الفرع السادس: وإن كان سجود التلاوة في أثناء الصلاة نظرت فإن كان في صلاة النفل جاز ذلك ولم يبطلها السجود، وهذا هو رأي القاسم، والهادي والمؤيد بالله ومحكي عن الناصر، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن مبنى النوافل على التخفيف من جهة الشارع، ولهذا فإنه يجوز أداؤها من قعود مع القدرة على القيام ومسلكها واسع فلهذا جاز فيها ما لا يجوز في الفرائض، وإن كان سجود التلاوة في الصلاة المفروضة فهل يجوز أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك غير جائز، وإن وقع فيها أفسدها، وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله.
والحجة على هذا: ما روى نافع عن ابن عمر، قال: كان رسول الله يقرأ علينا السورة من القرآن فإذا كان فيها سجدة فيسجد ونسجد معه في غير الصلاة وهذا تصريح بأنه لم يكن يسجد إذا قرأ فيها السجدة إذ لولا ذلك لكان لا معنى لقوله في غير الصلاة.
الحجة الثانية: قوله لمن علمه الصلاة: ((افتتح وكبر واقرأ إن كان معك قرآن " ))(1).
ولم يقل واسجد ما فيه سجدة فلو كانت السجدة من مفروضاتها أو مسنوناتها لأمره بها لأن القصد بالخبر بيان مفروضها ومسنونها.
__________
(1) أخرجه النسائي وأبو داود من حديث رفاعة بن رافع، وقد تقدم.
الحجة الثالثة: هو أنه زاد في الصلاة ذكراً زيادة ليست منها لو نقص مثلها في موضعها لبطلت فوجب أن تفسدها دليله إذا زاد ركعة.
المذهب الثاني: أن زيادة سجدة التلاوة لا تبطل الصلاة فريضة كانت الصلاة أو نافلة فيجب عليه أن يسجدها على رأي أبي حنيفة، ويستحب له أن يسجدها على رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قرأ في صلاة الصبح حم (السجدة) فسجد لها وفي هذا دلالة على جواز سجود التلاوة.
الحجة الثانية: هو أن النوافل كالفرائض في الصحة والفساد فما أفسد إحداهما أفسد الأخرى، وما جاز في إحداهما جاز في الأخرى، ولا شك أن النوافل يجوز فيها سجود التلاوة فهكذا في الفرائض من غير فرق بينهما.
الحجة الثالثة: هو أن هذه السجدة من الصلاة، فجازت زيادتها كزيادة القراءة، فهذه الأدلة كلها دالة على جواز سجود التلاوة في الفرائض.
والمختار: جواز تأدية سجود التلاوة في الفريضة كما قاله الفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا وهو أن سجود التلاوة كبقية في القراءة لأنها سبب في السجود فإذا جاز زيادة القراءة في الصلاة المكتوبة جاز زيادة السجود.
ومن وجه آخر: وهو أن الآيات الدالة على سجود التلاوة كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77]. وقوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا }[النجم:62]. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}[الرعد:15]. وغيرها من الآيات الدالة على كون سجود التلاوة مشروعاً لم يفصل بين أن يكون في الصلاة أو في غير الصلاة ولا فرق بين أن يكون في الصلاة المكتوبة أو في صلاة النافلة، وفي هذا دلالة على جوازها في الفروض.
ومن وجه ثالث: وهو أن التلاوة سبب في السجود والسبب جار مجرى العلة فلا يجوز تأخر أمر حكم السبب عن سببه كما لا يجوز تأخر حكم العلة عن العلة، وإذا كان الأمر كما قلناه فحيث وجدت القراءة التي هي سبب في السجود لم يجز تأخر السجود، ونظير هذا أن السرقة سبب في القطع والزنا سبب في الرجم، وهكذا سائر الأسباب فإنها مؤثرة في وجود مسبباتها فيجب أن تكون التلاوة مؤثرة في حصول السجود ولا تختص محلاً دون محل ولا مكاناً دون مكان وفي هذا حصول غرضنا.
ومن وجه رابع: وهو أن التلاوة ذكر فجاز السجود عقيبها كالقراءة في الصلاة.
ومن وجه خامس: وهو أن هذه السجدة زيادة مشروعة في الصلاة لأجل وجود سببها فلم تكن مفسدة للصلاة كزيادة الركوع في صلاة الخسوف.
فهذه الأوجه كلها دالة على أن سجود التلاوة غير مفسد للصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: روى ابن عمر عن الرسول أنه يقرأ السورة التي فيها سجدة فيسجدها ويسجد معه في غير الصلاة، وفي هذا دلالة على أنها غير مشروعة في الصلاة المفروضة وأنها مفسدة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن التلاوة وقعت في غير الصلاة وهي تابعة لسببها ولهذا قال في غير الصلاة فمن أين أنها لو وقعت في الصلاة لم يسجدها فلا بد من دلالة على هذا.
وأما ثانياً: فلأن هذا الإستدلال يبطل جوازها في صلاة النافلة وأنتم قد جوزتموه فيها، فإذا جاز في النافلة لدلالة خاصة جاز في الفريضة لدلالة خاصة.
ومن وجه ثالث: وهو أنه إنما قال: في غير الصلاة ليدل على أنه في الصلاة أدخل في الجواز لأن السجود بالصلاة أخص وبها أمس فما ذكرتموه إذن أدل على ما ذهبنا إليه.
قالوا: الرسول قال لمن علمه الصلاة: ((افتتح الصلاة وكبر واقرأ إذا كان معك قرآن )). ولم يقل واسجد إذا كان فيها سجدة فلو كانت السجدة مشروعة لذكرها لأنه في محل التعليم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكرتموه إنما يدل على أن السجدة للتلاوة غير واجبة، ونحن نقول: بذلك، وليس فيه دلالة على أنها غير مشروعة في الصلاة وهو المقصود.
وأما ثانياً: فلأنه إنما لم يذكره لمن علمه الصلاة لأن غرضه ذكر الفروض دون النوافل، فلهذا لم يذكره.
قالوا: إن هذه السجدة زيادة في الصلاة على جهة الذكر والعمد لسبب فيها فيجب أن تكون مفسدة لها كما لو زاد ركعة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لا مجرى للأقيسة في العبادات فإنها أمور غيبية مستندها كلام صاحب الشريعة وما ورد عنه، فأما الأقيسة فلا وقع لها في تقريرها وإثباتها.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكرتموه من القياس معارض بمثله، فإنا نقول: زيادة غير مفسدة للنافلة فلا تكون مفسدة للفريضة كالقراءة فقد وضح لك بما ذكرناه أن السجود للتلاوة غير مفسد للصلاة المفروضة بما ذكرناه.
الفرع السابع: إذا قرأ صبي آية فيها سجدة ولم يسجد فهل يتوجه على المستمع السجود أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يستحب له السجود، وهذا هو قول أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن المستحب السجود لهما جميعاً لحصول سبب السجود وهو التلاوة، فإذا حصل في القارئ عارض عن السجود إما إعراضه عن السجود وإما لأنه غير صالح للسجود كالصبي والكافر لم يسقط الاستحباب عن المستمع.
المذهب الثاني: أنه لا يسجد، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن أسلم أن غلاماً قرأ عند رسول الله السجدة فانتظر الغلام الرسول لعله يسجد فلم يسجد فقال: يا رسول الله أليس فيها سجدة؟. فقال: ((بلى ولكنك إمامنا فلو سجدت سجدنا " )).
والمختار: هو الأول. قال زيد بن علي في الرجل يسمع السجدة من الذمي والمرأة والصبي أنه يسجد. وهذا مطابق لما اخترناه، ومن قرأ السجدة الواحدة وأعادها مراراً في مجلس واحد فعليه سجدة واحدة، فإن أعادها في مجالس فعليه لكل تلاوة سجدة، وإن كانت سجدات مختلفة فلكل تلاوة سجدة في مجلس كان أو مجالس، وإن تلى سجدة فسجدها ثم أعادها في ذلك المجلس فلا سجود عليه ولا تكره قراءة السجدة في الصلاة عند الشافعي.
وقال مالك: تكره.
وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: تكره قراءتها في السريَّة دون الجهرية.
والمختار: هو الأول لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20]. ولم يفصل بين ما فيه سجدة وبين ما ليس فيه سجدة.
والمستحب: للمصلي إذا مر بآية رحمة أن يسألها، وإذا مر بآية عذاب أن يتعوذ منه سواء كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يستحب ذلك في النفل دون الفرض.
والمختار: هو الأول لما روى حذيفة بن اليمان أنه قال: صليت خلف رسول الله فقرأ البقرة فما مر بآية رحمة إلا سألها، ولا بآية عذاب إلا استعاذ منه، وكذلك سورة آل عمران والنساء حتى هممت بأمر سوء، فقيل: وما هو؟ قال: أردت أن أقطع الصلاة. وسواء كان ذلك في فرض ونفل لأن ما لا يكره في النفل ولا يفسده، فلا يكره في الفرض ولا يفسده.
النوع الثالث: في سجود الشكر.
لا خلاف أنه ليس واجباً إذ لا قائل بوجوبه، وهل يكون مستحباً أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه مستحب ممن تجددت عليه نعمة ظاهرة مثل أن يرزقه الله ولداً أو يصيب مالاً أو وجد ضالة أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة مثل أن يكون محبوساً فيفك عنه حبسه أو مريضاً فيشفى أو يكون له عسكر في مقابلة عدو فيهزم. فالمستحب له أن يسجد، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو محكي عن الشافعي، وأحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: ما روى حذيفة بن اليمان قال: كنت مع رسول الله فتقدمني فتبعته فوجدته ساجداً فوقفت أنتظره فأطال السجود ثم رفع رأسه. فقلت: خشيت أن يكون الله قد قبض روحك في سجودك؟ فقال: ((إني قد كنت وضعت رأسي فلقيني جبريل فأخبرني عن الله تعالى أنه قال: من صلى عليك صلاة صليت عليه مائة صلاة))(1).
المذهب الثاني: أن سجود الشكر مكروه، وهذا هو رأي مالك.
والحجة على هذا: هو أن نعم الله كانت على الرسول متواترة والآؤه لديه متوالية ظاهرة، ومننه عليه سابلة غامرة من حين بعثه الله إلى أن قبضه، ومما أنعم الله عليه اجتباؤه واصطفاؤه للنبوة والرسالة وائتمنه على وحيه وجعله سفيراً بينه وبين خلقه وجعله خاتم النبيين وسيد المرسلين، وأيده بالبراهين الباهرة والحجج الواضحة الزاهرة والمعجزات الدالة على صدقه وصحة نبوته من عند ربه وصحة ما جاء به من الشرائع النيرة وتقرير أمور الآخرة، ولم ينقل أنه سجد لشيء من ذلك شكراً لله تعالى واعترافاً بما أنعم الله عليه، فلو كان مستحباً لنقل ولما تركه عند تجدد هذه النعم، ولو فعل لنقل فلما لم ينقل دل على أنه لم يفعل. والكراهة هي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة مثل مقالة مالك.
المذهب الثالث: أنه غير معروف لا باستحباب ولا بكراهة، وهذا هو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة لأنه قال: لا أعرف سجود الشكر.
__________
(1) أورده في (مجمع الزوائد)2/287 ورواه من طريق أخرى احمد وصححه الحاكم، وأخرجه البزار وابن أبي عاصم عن عبد الرحمن بن عوف بلفظ: ((من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه)) الحديث، وفي رواية ((أخبرني جبريل أنه من صلى علي مرةً صلى الله عليه عشراً، فسجدت لله شكراً)).
والحجة على هذا: هو أن المعتمد في معرفة حكم الأشياء في الوجوب والندب والكراهة والاستحباب، إنما هو ما كان من جهة الله أو عن رسوله، وليس عن غيره، إذ لم ينقل عن صاحب الشريعة في سجود الشكر إيجاب ولا ندب ولا كراهة، وفي هذا دلالة على أن حكمه غير معلوم، ويؤيد ما ذكرناه أنه رُوْي عن الرسول أنه قال: ((إذا رأيتم البلاء فاسألوا الله العافية " ))(1).
ولم يذكر السجود فدل ذلك على أنه لا يعرف حكمه.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم على استحباب سجود الشكر.
وحجتهم: ما ذكرناه؛ ونزيد هاهنا، وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((سجد أخي داود توبة ونحن نسجد شكراً " )) (2).
الحجة الثانية:(3)
خر ساجداً لله تعالى، وعنه أنه رأى شيئاً أعجبه فخر لله تعالى شكراً.
__________
(1) جاء في (جواهر الأخبار)1/345 نقلاً عن (التلخيص) أن رسول الله رأى رجلاً نغاشيَّاً فخر ساجداً، ثم قال: ((أسأل الله العافية)) قال: هذا الحديث ذكره الشافعي في (المختصر) بلفظ: سجد شكراً لله، ولم يذكر إسناده، وكذا صنع الحاكم في (المستدرك) واستشهد به على حديث أبي بكرة، وهو في سنن أبي داود.
…والنغاشي-بضم النون فغين وشين معجمتان-: هو القصير جداً، الضعيف الحركة، الناقص الخلق.
(2) تقدم.
(3) محل الفراغ غير واضح في الأصل، ويقارب الفراغ في المخطوطة سطراً كاملاً.
الحجة الثالثة: وروي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه لما هزم الخوارج وطلبوا ذا الثدية في القتلى فلم يجدوه فجعل يعرق جبينه ويقول والله ما كذبت ولا كذبت فطلبوه فوجدوه تحت القتلى في ساقية أو جدول فلما رآه خر لله ساجداً. وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما بلغه فتح اليمامة وقتل مسيلمة الكذاب(1)
خر لله ساجداً فهذه الأدلة كلها دالة على استحباب سجود الشكر وأنه مشروع بما أوضحناه عن الرسول وعن الصحابة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قد خصه الله بما خص من الكرامات وإظهار المعجزات فلم يسجد لشيء من ذلك ولا فعل ولو فعل لنقل وكل ما ليس عن الرسول ولا عن الله تعالى فهو بدعة مكروه.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي، أبو ثمامة، عُرف بـ: مسيلمة الكذاب؛ لأنه ادعى النبوة باليمامة حيث ولد ونشأ، في أواخر أيام سول الله ، وكان رسول الله هو الذي لقبَّه بالكذاب، وذلك أنه كتب رسالة إلى النبي : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد فإني قد أُشركت في الأمر معك وإن لنا نصف ا لأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون، فأجابه رسول الله : ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)) وذلك في أواخر سنة10 للهجرة، وقد أكثر من وضع أسجاع يضاهي بها القرآن، وتوفي رسول الله قبل القضاء على فتنته، فلما انتظم الأمر لأبي بكر بعث إليه خالد بن الوليد على رأس جيش قوي هاجم ديار بني حنيفة، وصمد هؤلاء فكان عدة من استشهد من المسلمين ألفاً ومأتي رجل، منهم أربعمائة وخمسون صحابياً كما في (الشذارت) وانتهت المعركة بظفر جيش المسلمين وهزيمة مسيلمة الكذاب سنة 14هـ، (الأعلام)7/226، وحكاية مسيلمة وترجمته منتشرة في الكثير من المراجع.
أما أولاً: فلأنا لم نقل إن السجود يفعل عند كل نعمة فيلزم ما قلتموه، ولهذا فإن خلق الواحد منا نعمة، وحياته نعمة، وعقله نعمة، والعلم والقدرة والشهوة نعم من الله تعالى ولا حاجة إلى السجود لها.
وأما ثانياً: فإنا قلنا إنه مخصوص بتجدد نعمة وزوال نقمة فما كان بهذه الصفة استحب في حقه السجود كما قررناه من قبل فظهر بما قلناه بطلان كلام مالك في كونه مكروهاً.
قالوا: المعرفة التي نعتمد عليها في حكم الأشياء بما ورد به الشرع عن الله أو عن رسوله وسجود الشكر لم تدل عليه دلالة فبطل حكمه كما حكي عن أبي حنيفة.
قلنا: قد أوضحنا ما ورد فيه من الأخبار عن رسول الله وعن الصحابة فلا وجه لأن يقال لم يرد فيه شيء عن الله ولا عن رسوله، وكيف لا وقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن الرسول مر برجل به زمانة فنزل وسجد شكراً لله تعالى، ومر برجل أعمى فنزل وسجد شكراً لله تعالى.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: والذي اعتبرناه في سجود التلاوة من الطهارة من الأحداث، والطهارة من النجاسات، في الثياب، والأبدان، والأمكنه، وسجوده في موضع طاهر، واستقبال القبلة، وستر العورة، فإنه معتبر في سجود الشكر لأنهما مستويان في كونهما سجوداً يقصد به القربة، وهذا هو الذي قرره السيد أبو العباس والمؤيد بالله للمذهب، فأما السيد أبو طالب فقد قال: لو فعل هذين السجودين سجود التلاوة وسجود الشكر من غير طهارة لكان مجزياً، وما أرى هذا القول بعيداً من الصواب، ويدل على ذلك هو أن هذه الأمور إنما تشترط إذا كان السجود للصلاة فأما إذا كان سجوداً مجرداً عن كونه من الصلاة فلا وجه لاشتراط ما ذكرناه من اشتراط سجود الصلاة.
ومن وجه آخر: وهو أن سجود التلاوة وسجود شكر النعم وسجود دفع البلوى تكاد تعرض كثيراً فلو اعتبرنا فيه ما ذكرناه من اشتراط الطهارة من الحدث والنجس وسائر شروط سجود الصلاة لشق ذلك على كثير من الناس فيؤدي إلى تركه. وإذا قلنا: بأن الطهارة غير معتبرة في حقه خف محمله وسهل فعله خاصة في النوافل فإن الشرع قد بنى أمرها على الخفة ليسهل فعلها ويرغب في تحصيلها.
الفرع الثاني: ومن أراد فعل سجود الشكر نظرت فإن كان ذلك خارجاً عن الصلاة فإنه يكبر للافتتاح للسجود ثم يكبر للسجود ويسبح في حال سجوده تسبيح السجود، وإن قال في سجود شكر النعمة: الحمد لله الذي خصنا بفواضل نعمه وألهمنا شكرها وذكرها. وفي دفع البلوى: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به غيري وأصح جسمي. لكان حسناً، وإن كان في الصلاة لم يسجد لأن سبب السجدة ليس من الصلاة في شيء بخلاف سجدة التلاوة فافترقا، فإن سجد في الصلاة بطلت.
الفرع الثالث: وهل يظهر سجود الشكر أو يخفيه؟ فينظر فيه فإن كان لتجدد النعمة فإنه يظهره لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }[الضحى:11]. والمعنى فحدث بشكرها والاعتراف بحقها. ولقوله : ((إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه ، ويكره البؤس والتباؤس))(1)،
وإن كان السجود لرفع بلية، نظرت فإن رأى فاسقاً أو كافراً فسجد لله حين عصمه من فسقه وكفره فإنه يظهر ذلك ليراه الغير فيفعل مثل فعله، وإن رأى مبتلى ببلية فسجد شكراً لله حين عآفاه مما ابتلى غيره فإنه يخفيه مخافة أن يراه المبتلى فيسخط ويحزن ويقع في نفسه ضيق وحرج. وبتمامه يتم الكلام في باب السهو وما يتعلق به والحمد لله.
__________
(1) أخرجه ابن حبان 14/234، والبيهقي3/271.
الإنتصار
على علماء الأمصار
في تقرير المختار من مذاهب الأئمة
وأقاويل علماء الأمة
تأليف الأمام / يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم الحسيني
توفي عام 749 هـ
الجزء الرابع
تحقيق
عبدالوهاب بن علي المؤيد علي بن أحمد مفضل
أعده إلكترونياً
نزار بن عبدالوهاب المؤيد طارق بن محمد الصعدي
ملاحظة : هذه نسخة إلكترونية أولى ونرحب بأي ملاحظات على البريد الإلكتروني :
info@awahab.com
حقوق الطبع محفوظة لدى مؤسسة الإمام زيد (ع) الثقافية
---
كتاب صلاة الجمعة
وفي لفظها لغتان: ضم الميم وسكونها، وقد قرئ بهما جميعاً.
اعلم أن يوم الجمعة يوم فاضل، والدلالة على فضله قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ.، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}[البروج:2،3]. فاليوم الموعود: يوم القيامة. والشاهد: يوم الجمعة يشهد بما عُمِل فيه من الأعمال الصالحة في يوم الجمعة، وبالمواضبة عليها والحث على فعلها، والمشهود: يوم عرفة لأن الخلائق ممن حج البيت يشهدونه، فأقسم الله تعالى بهذه الأيام لعظمها وفضلها.
وروى أبو هريرة عن الرسول÷ أنه قال: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة.، يوم خلق الله فيه آدم وفيه أهبط من الجنة وفيه تاب الله عليه وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة من حين يطلع الفجر إلى حين تطلع الشمس يوم الجمعة شفقاً من قيام الساعة إلا الثقلين الجن والإنس)). والمسيخة بالسين بثلاث من أسفلها وياء بنقطتين من أسفلها وخاء بنقطة من أعلاها. ويقال مصيخة بالصاد المهملة أي مصغية أخذاً من قولهم: أصاخ بإذنه. إذا أصغاها للسماع، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه))(1).
وقد اختلف العلماء في هذه الساعة فقيل: إن أصحاب رسول الله اجتمعوا وتذاكروا فيها فتفرقوا ولم يختلفوا في أنها آخر ساعة يوم الجمعة.
وقيل: من بعد العصر إلى غروب الشمس.
وقيل: من الفجر إلى طلوع الشمس.
__________
(1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله÷: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، ففيه خلق الله آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه)).
قال ابن بهران: أخرجه الستة إلا البخاري ومسلم بروايات عدة، في بعضها قصة، وفي معناه أحاديث أخر. اهـ. (تخريج البحر) 2/3.
وقيل: من زوال الشمس إلى أن يدخل الإمام في الصلاة.
وقيل: من خروج الإمام إلى فراغه من الصلاة.
وقال كعب: لو قسم إنسان جمعة في جمع أتى على تلك الساعة. وأراد: أنه يدعو في كل جمعة في ساعة حتى يأتي على جميع اليوم.
وكانت العرب تسميه: العروبة. وهو عندهم اليوم الذي بين الخميس والسبت، يقول الشاعر:
نفسي الفداء لأقوام هم خلطوا
يوم العروبة أوراداً بأوراد
فإذا عرفت هذا فلنذكر من تجب عليه الجمعة، ومن لا تجب عليه، ثم نذكر الشرط في صحتها، ثم نردفه بذكر صفتها وهيئتها، ثم نذكر حكم الصلاة إذا اختل شرط من شروطها بعد التلبس بها. فهذه فصول أربعة نذكر ما يختص كل واحد منها من الأسرار والتفاصيل
---
الفصل الأول في بيان من تلزمه الجمعة، ومن لا تلزمه
والأصل في وجوب الجمعة الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9]..الآية. ودلالتها على الوجوب من أوجه ثلاثة:
الأول منها: أنه أمر بالسعي وظاهر الأمر يدل على الوجوب.
الثاني منها: أنه نهى عن البيع وقت النداء إليها، ولا ينهى عن المباح [إلا] إذا ترك به الواجب، وما ترك به الواجب فهو محظور.
الثالث: أنه وبخ على تركها بقوله في آخر الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا}[الجمعة:11]..الآية. ولا يوبخ إلا على ترك واجب.
فهذه الأوجه كلها دالة على وجوبها كما ترى.
وأما السنة: فما روى جابر عن رسول اللّه÷ أنه قال: ((من ترك الجمعة ثلاثة أسابيع من غير عذر طبع الله على قلبه " ))(1).
وروى جابر عن رسول اللّه÷ أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة ))(2).
__________
(1) روى نحوه الخمسة بلفظ: ((من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه)) عن أبي الجعد الضمري، وأخرج حديث جابر أحمد وابن ماجة والنسائي وابن خزيمة والحاكم بلفظ: ((من ترك الجمعة ثلاثاً من غير ضرورة طبع الله على قلبه)) قال الدار قطني: هو أصح من أبي الجعد. اهـ (فتح الغفار) 1/337.
(2) رواه البيهقي 3/184، والدار قطني 2/3، وابن أبي شيبة 1/446.
وعن جابر أيضاً أن رسول اللّه÷ قال على المنبر وهو يخطب: ((أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغَلوا، وأكثروا الصدقة ترزقوا وتؤجروا، واعلموا أن الله قد فرض عليكم الجمعة في عامكم هذا في شهركم هذا في ساعتكم هذه فريضة مكتوبة، فمن تركها جاحداً لها واستخفافاً بحقها، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له ولا حج له ولا صوم له، ولا بِرَّ له، إلا أن يتوب، فإن تاب تاب الله عليه))(1).
وروي عن الرسول÷ أنه قال: ((الجمعة واجبة على كل مسلم إلا على أربعة: الصبي والعبد والمرأة والمريض)) (2).
وروى كعب القرظي عن رسول الله÷ أنه قال: ((الجمعة واجبة ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة ، إلا على المرأة، والصبي، والمملوك، والمريض)).
وأما الإجماع: فهو منعقد من الصدر الأول إلى يومنا هذا على وجوبها لا مخالف فيه، وعلى فضلها، ومما يدل على فضلها قوله÷: ((إن لله في كل يوم جمعة ستمائة ألف عتيق كلهم قد استوجب النار))(3).
__________
(1) وروى الحديث أبو سعيد قال: خطبنا رسول÷ فقال: ((... الحديث)) أخرجه الطبراني في الأوسط، وبين اللفظين بعض الاختلاف، ورواه البيهقي 3/171، وابن ماجة 1/343.
(2) رواه البيهقي في سننه 3/183، وابن أبي شيبة 1/446، والطبراني في (الأوسط) 6/23، و(الكبير) 8/321.
(3) ذكره ابن أبي يعلى في مسنده 6/156، وهو في (شعب الإيمان) 3/114.
وفي حديث آخر: ((سيد البقاع مكة وسيد الشهور شهر رمضان وسيد الأيام يوم الجمعة)) (1).
وفي حديث آخر: ((الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما من الذنوب ))(2).
وفي حديث آخر: ((من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد)) (3).
وفي حديث آخر: ((من مات يوم الجمعة وقاه الله عذاب القبر))(4).
وفي حديث آخر: ((ألا وإن الجمعة حج المساكين، ألا وإن الجمعة جهاد كل ضعيف)) (5).
وعن الرسول÷، أن جبريل أتاه [و] في يده مرآة بيضاء فقال: ((هذه يوم الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون عيداً لك ولأمتك ))(6). وفي حديث آخر: ((إذا كان يوم الجمعة نزل جبريل في كوكب من الملائكة معهم صحف من فضة وأقلام من ذهب يقعدون على أبواب السكك والطرقات يكتبون الأول فالأول)) (7).
التفريع على هذه القاعدة:
__________
(1) وروى أحمد وابن ماجة نحوه عن أبي لبابة البدري أن رسول الله÷ قال: ((سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى، فيه خمس: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله تعالى آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئاً إلا آتاه الله تعالى ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلاَّ هن يشفقن من يوم الجمعة)).
(2) أخرجه مسلم 1/209، وابن ماجة 1/345، وعبد الرزاق في (المصنف) 3/267.
(3) ذكره في (تحفة الأحوذي) 4/160، وفي (كشف الخفا) 2/370.
(4) رواه عبد الرزاق في مصنفه 3/269، وأحمد في مسنده 2/176.
(5) جاء الحديث في (مسند الشهاب) 1/81، وفي (شرح السيوطي) 3/90، وفي (ميزان الاعتدال) 5/373.
(6) ذكره في (مجمع الزوائد) 10/421، وفي (السنة) لعبد الله بن أحمد بن حنبل 1/250، وفي (الترغيب والترهيب) 4/310.
(7) أخرجه البخاري 1/314، ومسلم 2/587 عن أبي هريرة، وهو في سنن البيهقي 5/229، ومسند أحمد 2/239.
الفرع الأول: الجمعة فرض من فروض الأعيان عند أئمة العترة وفقهاء الأمة.
ونقل بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي أنه يقول: بأنها فرض على الكفاية. لأنه قال: ومن وجبت عليه صلاة الجمعة وجبت عليه صلاة العيدين، وقد غلطه سائر أصحاب الشافعي في هذا الوهم، وقالوا: إن مراد الشافعي: أن كل من وجبت عليه الجمعة على جهة الوجوب فهو مخاطب بالعيدين على جهة الاستحباب.
وهذا جيد لأمرين:
أما أولاً: فلأن المنصوص له في سائر كتبه: وجوبها على الأعيان.
وأما ثانياً: فلأنه لا يخالف ما وقع عليه الإجماع قبله وبعده على كونها فرض عين، فبطل ما ذكره هذا المتوهم من أصحابه.
ونعني بكونها فرضاً من فروض الأعيان: هو أنه لا يختص بها شخص دون شخص عند تكامل شروطها، وأن الحرج والإثم لازمان لكل من أخل بها بخلاف فرض الكفاية فإنه مخالف لما ذكرناه.
فإذا ثبت هذا فإن الجمعة لا تجب إلا على من وجدت فيه شروط سبعة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والذكورة، والحرية، والصحة، والاستيطان .
ونعني بالإسلام: أن لا يكون كافراً.
ونعني بالبلوغ: أن لا يكون صبياً صغيراً.
ونريد بالعقل: ألا يكون مجنوناً ولا معتوهاً.
ونعني بالذكورة: ألا يكون امرأة، ولا خنثى لبسة.
ونعني بالحرية: ألا يكون عبداً مملوكاً.
ونعني بالصحة: أن لا يكون مريضاً ولا مقعداً ولا أعمى.
ونريد بالاستيطان : أن لا يكون مسافراً.
فصارت هذه الشروط باعتبار العبادات، الجمعة وغيرها، على أربعة أضرب:
الضرب الأول: يعم الجمعة وغيرها من العبادات البدنية كالصلوات الخمس والصوم والحج، وهي أمور ثلاثة: الإسلام والبلوغ والعقل. فهذه الشروط الثلاثة لا بد من اعتبارها في جميع العبادات كلها فلا بد من اشتراط الإسلام، لأن من هو كافر فلا يخاطب بهذه العبادات، وهكذا البلوغ فإن الطفل الصغير لا يخاطب بها ولا يمكن حصولها من جهته، وهكذا حال العقل فإن المجانين لا تعقل في حقهم العبادات.
الضرب الثاني: يشترط في الجمعة وحدها وذلك أمور أربعة: الذكورة، والحرية، والصحة، والاستيطان ، واشترطنا الذكورة من جهة أن النساء لا جمعة لهن، واشترطنا الحرية لأن العبيد لا جمعة لهم، واشترطنا الصحة فإن المريض والمقعد والأعمى لا تجب عليهم لأجل ضعف الحال، واشترطنا الاستيطان فإن المسافر لا تتوجه عليه الجمعة.
الضرب الثالث: ما يشترط في الوجوب دون الإجزاء وذلك أمور خمسة: البلوغ والحرية والذكورة والصحة والاستيطان ، فهؤلاء(1)
لا تجب عليهم الجمعة لكنهم إذا حضروها أجزتهم لأنهم من أهلها ولكن الشرع خفف الأمر في حقهم فأسقط وجوبها عنهم.
الضرب الرابع: يشترط في الوجوب والإجزاء وذلك شرطان وهما: الإسلام، والعقل، فالكافر لا تجب عليه الجمعة. وهل يكونون مخاطبين بالشرائع أم لا؟ فيه خلاف قد استقصيناه في كتاب الصلاة، وذكرنا المختار، والانتصار له، فأغنى عن الإعادة. ولا تجب الجمعة على صبي ولا مجنون لفقد العقل الذي هو ملاك التكليف.
الفرع الثاني: ولا تجب الجمعة على المرأة لما روى جابر: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة ، إلا على امرأة أو مريض أو مسافر أو عبد)). ولقوله÷: ((ليس على النساء جمعة، ولا جماعة )). وروى أبو عمرو الشيباني(2)،
__________
(1) واضح أنه يقصد: عكس أهل هذه الصفات وهم: الصبية والعبيد والنساء والمرضى والمسافرون.
(2) سعد بن إياد الكوفي من بني شيبان بن ثعلبة، سمع بالنبي÷ وهو يرعى لأهله، روى عن علي وابن مسعود وأبي مسعود الأنصاري، وحذيفة بن اليمان، وعنه: أبو إسحاق الهمداني، وسلمة بن كهيل، ومنصور والأعمش وغيرهم.
…جاء في (الجرح والتعديل) عن يحيى بن معين أنه سئل عن أبي عمرو الشيباني فقال: كوفي ثقة. اهـ 2/417، وفي (مشاهير علماء الأمصار) 1/100: أنه حج في الجاهلية حجتين، وكان في أيام النبي صبياً يعقل وليست له صحبة، مات سنة 101 عن 140 سنة.
قال: رأيت ابن مسعود يخرج النساء من الجامع يوم الجمعة، ويقول أخرجن إلى بيوتكن هو خير لكن.
ولا بأس بحضور العجائز اللاتي لا رغبة للرجال فيهن، لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((إلا عجوزاً بمنقليها)) (1).
راد بنعليها.
قال الشافعي في الأم: وأحب للعجائز إذا أذن لهن أزواجهن حضور الجمعة؛ لأنها لا تشتهى. وقد قال÷: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد اللّه )). [وهو] محمول على ما ذكرناه.
ولا تجب الجمعة على الخنثى؛ لأنه يحتمل أن يكون ذكراً فتجب عليه، ويحتمل أن يكون امرأة فلا تجب عليه، وإذا احتمل الأمران لم تجب الجمعة بالشك.
وهل تجب الجمعة على المسافر أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها غير واجبة عليه، وهذا هو رأي زيد بن علي والباقر والناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك.
والحجة على هذا: ما رويناه من حديث ابن عباس(2)
فإنه صريح في إسقاطها عن المسافر، ولأنه مشغول بالسفر وقضاء مآربه فلا يكلف الجمعة لما في ذلك من المشقة عليه.
المذهب الثاني: أنه إذا سمع النداء وجبت عليه الجمعة، وهذا هو رأي الهادي والقاسم وأبي طالب وأبي العباس، ومحكي عن الزهري والنخعي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9]. وهذا قد سمع النداء فلهذا توجه عليه الحضور.
__________
(1) أورده ابن بهران في (تخريج البحر) 1/306 عن (المهذب) و(الشفاء).
قال: وفي (التلخيص) ما لفظه: قوله: أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى النساء عن الخروج إلى المساجد في جماعة إلاَّ عجوزاً في منقلها، والمنقل: الخف، لا أصل له [يقصد: الحديث]. ثم قال: لكن أخرج المسعودي عن ابن مسعود قال: والله الذي لا إله إلاَّ هو ما صلت امرأة صلاة خيراً لها من صلاة تصليها في بيتها إلا المسجدين، إلا عجوزاً في منقلها، وكذا ذكره أبو عبيد في غريبه، والجوهري في (الصحاح). انتهى. اهـ.
(2) صوابه: جابر.
والمختار: ما عول عليه الأئمة وأكثر الفقهاء [من كونها غير واجبة عليه].
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا، وهو أن الرخصة حاصلة في حق المسافر بإسقاط نصف الفروض عنه من أجل مشقة السفر فلا يكلف بالجمعة لما فيها من مزيد المشقة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الآية دالة على وجوبها عليه لأنه قد سمع النداء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الآية عامة، وما ذكرناه من حديث جابر فهو خاص فيجب بناء العام على الخاص وتنزيله عليه.
وأما ثانياً: فإنه يخرج المسافر لخبر جابر، ويبقى ما عدى المسافر داخلاً تحت العموم فيكون عملاً عليهما جميعاً، وأنتم عولتم(1)
على ظاهر الآية واطرحتم حديث جابر، فلهذا كان ما ذكرناه أرجح لما فيه من العمل على الآية والخبر.
ويستحب إذا كان في بلدة وقت الجمعة أن يحضرها لأنه متمكن من ذلك من غير مشقة عليه في الحضور، وإن حضر الجمعة فهل يتعين عليه الوجوب بالحضور أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لايتعين عليه لأن الرخصة في حقه قائمة بالسفر.
وإن نوى الأقامة عشرة أيام وجبت عليه الجمعة لأنه قد صار مقيماً غير مستوطن فلا جرم توجه عليه الوجوب.
الفرع الثالث: وهل تجب الجمعة على العبد والمكاتب أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنها لا تجب عليهما جمعة، وهذا هو رأي أئمة العترة وأكثر الفقهاء الفريقين(2)
ومالك.
والحجة على هذا: ما في حديث جابر ((إلا على إمراة أو عبد مملوك )): وما هذا حاله فهو نص في إخراج العبد.
المذهب الثاني: أنها واجبة على المكاتب وعلى العبد الذي يؤدي الضريبة وهذا هو رأي الحسن البصري وقتادة.
والحجة على هذا: هو أن المكاتب قد صار مالكاً لنفسه بالكتابة مشغولاً بالتكسب فأشبه الحر، وهكذا حال العبد الذي عليه الضريبة لسيده يؤديها له فإنه قد صار مشغولاً بتحصيلها فيشبه الحر في ذلك.
__________
(1) في الأصل: وأنهم عولوا.
(2) الحنفية والشافعية.
المذهب الثالث: وجوبها على العبد مطلقاً سواء كان مكاتباً أو غير مكاتب أو كانت عليه ضريبة أو لم تكن، وهذا هو المحكي عن داود من أصحاب الظاهر.
والحجة على هذا: هو أن ظاهر العموم بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} متناول للأحرار والعبيد فيجب أن يكون مندرجاً تحت العموم، ولأنه مكلف عاقل فأشبه الحر.
والمختار: ما عليه الأئمة والأكثر من الفقهاء من سقوطها عن العبد والمكاتب ومن كانت عليه ضريبة.
والحجة على هذا: ماذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن العبد صار مشغولاً بخدمة السيد فلا يضار السيد بإهمال خدمته. والمكاتب بقوله÷: ((المكاتب عبد مابقي عليه درهم ))(1).
فهو مندرج تحت العبد. والعبد الذي عليه ضريبة فهو مملوك ولو كانت عليه ضريبة يؤديها، ولأنه مشغول بتحصيل الضريبة فهو في الحقيقة مشغول بخدمة السيد.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: المكاتب ومن كانت عليه ضريبة قد أشبها الحر في التكسب لأنفسهما فلهذا توجه الوجوب عليهما.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ملك الرقبة حاصل في حقهما، والتكسب فإنما هو أمر عارض.
وأما ثانياً: فلأن التكسب إنما هو في حق السيد وليس لأنفسهما فلهذا كانا في حكم العبد الذي يخدم سيده فلا يدخل عليه ضرر بالحضور للجمعة.
قالوا: العبد مكلف عاقل فأشبه الحر كما حكي عن داود.
قلنا: التكليف والعقل وإن حصلا في حقه فهو عبد لا محالة تجري فيه أحكام المعاوضات من البيع والصدقة والهبة، فلما كان الرق مستولياً عليه كان داخلاً في الخصوص الذي خرج به عن الوجوب بقوله÷: ((إلا على عبد مملوك )).
__________
(1) قد يظهر الحديث في غير بابه، ولكن الغرض من إيراده هنا كما هو واضح، تعريف المملوك الذي تسقط عنه الجمعة ويشمل المكاتب ما بقي عليه درهم لسيده، وقد أورد الحديث ابن حزم في (المحلي) 9/231، وهو في (المغني) 8/224.
ويستحب له: إذا أذن له سيده بحضور الجمعة أن يحضرها لأن المنع إنما كان لحق السيد فإذا أذن أسقط حقه.
والمدَبَّر لا يجب عليه الحضور لأن الرق باق في حقه ولهذا فإنه يجوز بيعه على حال.
وأما من عتق بعضه فهو في حكم الحر عندنا لأجل السراية، فلهذا وجب عليه الحضور، وأما على رأي الشافعي في جواز عتق البعض، فإذا كان بينه وبين سيده مهاباة فإن كان يوم الجمعة في خدمة السيد لم يجب عليه الحضور، وإن كان يوم الجمعة في خدمة نفسه وجب عليه الحضور. وسنوضح الكلام في السراية في العتق بمعونة الله.
الفرع الرابع: ولا تجب الجمعة على المريض لقوله تعالى: {وَلاَ على الْمَرِيضِ حَرَجٌ }[النور:61]. ولما رويناه من حديث جابر: ((إلا على مريض )). ولأنه مما يشق عليه المشي إلى الجمعة فلهذا سقط عنه.
وهل يجب على الأعمى الحضور أم لا؟ فينظر في حاله فإن كان لا يجد قائداً لم يجب عليه حضورها لقوله تعالى: {لَيْسَ على الأَعْمَى حَرَجٌ}[النور:61]. ولأنه غير مستطيع فلا يكلف الحضور.
وحكى الشاسي عن القاضي حسين(1)
من أصحاب الشافعي: أنه يجب عليه الحضور إذا كان يمكنه بالعصا المشي إليها. وأراد: أنه إذا كان يعتاد المشي من غير قائد وجب عليه. وهذا لا وجه له فإن الرخصة حاصلة في حقه بالعمى، فلا وجه لتكليفه ما لا يقدر عليه.
فإن وجد قائداً فهل يجب عليه الحضور أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجب عليه الحضور وإن وجد قائداً. وهذا هو رأي أبو حنيفة.
__________
(1) الإمام المحقق القاضي حسين المروروذي من كبار فقهاء الشافعية، له (التعليقة) المشهورة في الفقه، وصفه الجويني إمام الحرم بحبر المذهب أي المذهب الشافعي، توفي ليلة 23 من المحرم سنة 462هـ. اهـ (طبقات الشافعية) ص 164 لابن هداية الله.
والحجة على هذا: هو أن الشرع قد عذره بقوله: {لَيْسَ على الأَعْمَى حَرَجٌ}[النور:61]. ولأن في حضوره مشقة وحرجاً، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].
المذهب الثاني: أنه إذا وجد قائداً فإنه يجب عليه الحضور، وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن أبي يوسف ومحمد.
والحجة على هذا: هو أنه إذا وجد قائداً فإنه يصير كالبصير.
والمختار للمذهب: ما قاله أبو حنيفة: فإن الأعمى قد عذره الله تعالى في كثير من التكاليف، وهذا من جملتها فلهذا سقط عنه الوجوب سواء وجد قائداً أو لم يجد، لأن وجود القائد لا يوجب الحضور لأنه دخول تحت مِنَّة الغير في أداء عبادة كما لا يجب عليه قبول هبة المال ليزكيه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إذا وجد قائداً فهو بمنزلة البصير فلهذا توجه عليه الحضور.
قلنا: إنه مع وجود القائد فالوجوب ساقط عنه لما فيه من الدخول تحت مِنَّة الغير في أداء عبادة.
الفرع الخامس: فإن حضر هؤلاء الذين سقط عنهم فرض الجمعة كالعبد والمرأة والمريض والمسافر والصبي، وحضوره على وجه التمرين والتعويد إذ لا واجب عليه لأجل صغره، فهل تجزيهم الجمعة أم لا؟. فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يسقط عنهم فرض الجمعة، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة، والشافعي.
والحجة على هذا: هو أنهم قد أتوا بالجمعة على وجهها وهم مكلفون بها فيجب أن يكون فرضها ساقطاً عنهم كالذين ليس لهم عذر.
المذهب الثاني: أنهم لا يسقط عنهم فرض الظهر ولا تجزيهم الجمعة، وهذا شيء يحكى عن زفر حكاه عنه الشيخ أبو عبدالله البصري من المعتزلة.
والحجة على هذا: هو أن الشرع لما أسقط عنهم فرض الجمعة بقوله÷: ((إلا على المرأة والعبد والصبي والمريض )). وحضورهم الجامع لا يرد ما سقط عنهم بالشرع.
والمختار: ما قاله الأئمة ومن تابعهم من الفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا، وهو أنه إنما سقط عنهم فرض الجمعة على جهة الرخصة والتسهيل في حقهم فإذا عدلوا عن الرخصة والتزموا فعلها سقط عنهم فرضها كما لو صام المسافر، والمريض إذا تكلف القيام في الصلاة أجزأهم ذلك.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قد سقط عنهم فرضها بنص الخبر، فحضورهم المسجد لا يوجب الفرض عليهم.
قلنا: إن الشرع إنما أسقط الفرض على جهة الرخصة والرفق بحالهم، ويؤيد هذا: أنهم من أهل الجمعة لكن الشرع خفف عليهم الحال في إسقاطها.
الفرع السادس: الأعذار التي ذكرناها في صلاة الجماعة أنها أعذار في ترك الجماعة فهي في ترك الجمعة عذر في سقوطها فلا تجب الجمعة على خائف على نفسه أو ماله أو عرضه، فخوفه على نفسه بالقتل والجرح والضرب، وخوفه على ماله بالأخذ والخراب والنقص، وخوفه على عرضه بالأذية والسب، فهذه الأمور كلها تكون عذراً في إسقاط وجوبها لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ " }[الحج:78].
والمطر أيضاً عذر في إسقاطها لقوله÷: ((إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرِّحَال ))(1).
ولا تجب الجمعة على من له مريض يخاف ضياعه أو يرجو توبته عند الموت، أو يثبته في وصيته كما ذكرناه في الجماعة.
ولا تجب الجمعة على من له قريب مات فيريد دفنه وتجهيزه؛ لأنه معذور في ذلك.
فإن حضر المريض الجامع أو الأعمى أو من في طريقه مطر أو كان خائفاً، وجبت عليهم الجمعة؛ لأن المشقة قد زالت بالحضور فلا وجه لإبطال ما وجب عليهم من فرض الصلاة.
وإن أحرم المسافر أو المريض للجمعة وأرادا الانصراف عنها لم يكن لهما ذلك؛ لأنها قد تعينت عليهما بالدخول، عندنا وهو رأي الشافعي.
وإن أحرم العبد والمرأة ثم أرادا الإنصراف عنها إلى الظهر، فهل يجوز لهما ذلك أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: جواز ذلك؛ لأنهما ليسا من أهل الجمعة ولا من أهل فرضها.
__________
(1) تقدم.
وثانيهما: أنه لا يجوز لهما ذلك؛ لأنها قد تعينت بالدخول، وهذا الفرق لأصحاب الشافعي، وهو جيد لا عثار عليه إلا أن الأولى على المذهب أنه لا يجوز لهما الإنصراف بعد التلبس بالصلاة؛ لأن هؤلاء لو حضروا لأجزتهم الجمعة، فلهذا لم يجز لهم الإنصراف عنها.
الفرع السابع: والمستحب لأهل الأعذار ألا يصلوا الظهر حتى تنقضي جمعة الإمام، وانقضاؤها يكون برفع الإمام رأسه من الركوع في الثانية، وإنما كان ذلك مستحباً لأمرين:
أما أولاً: فلأن الجمعة فرض الجماعة، والظهر فرض الخصوص، فلهذا استحب تقديم فرض الجماعة.
وأما ثانياً: فلأن فيهم من ربما يزول عذره فيكون فرضه الجمعة.
فإن صلى المعذور الظهر ثم زال عذره قبل صلاة الإمام الجمعة، فهل تجب عليه الجمعة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تجب عليه الجمعة؛ لأنه قد زال عذره فتوجه عليه الخطاب بالجمعة كما لو لم يفعل الظهر قبلها، وهذا هو المحكي عن أبي بكر الحداد من أصحاب الشافعي، وهو الذي يأتي على قول من قال من أصحابنا: أن الأصل في يوم الجمعة هو الجمعة، والظهر بدل عنها.
وثانيهما: أنه لا تجب عليه الجمعة؛ لأنه قد سقط فرضه بصلاة الظهر في حال العذر، فلهذا لم تجب عليه الجمعة.
وهذا هو المختار وهو الذي يجيء على رأي أبي طالب؛ لقوله÷: ((لا ظهران في يوم)). والجمعة بمنزلة الظهر، فلهذا لم تجب إعادتها.
وإن صلى الخنثى الظهر في أول الوقت ثم بان أنه رجل قبل صلاة الإمام الجمعة، لزمه أن يصلي الجمعة، والتفرقة بينه وبين سائر المعذورين هو أنّا تبينا أنه كان رجلاً في وقت الصلاة بخلاف غيره من أهل العذر فافترقا.
وهل تكره الجماعة للمعذورين في يوم الجمعة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تكره، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب وأبو العباس، وهو محكي عن أبي حنيفة ومالك، لما في ذلك من تهوين أمر الإمام والإعراض عن جمعته، ويوهم أنهم ليسوا من أمره في ورد ولا صدر، ولهذا كره ذلك.
وثانهيما: أن الجماعة مستحبة لأهل العذر، وهذا هو رأي الشافعي؛ لأن الأدلة التي دلت على فضل الجماعة لم تفصل في ذلك، ولهذا كانت مستحبة لأهل العذر.
قال الشافعي: وأحب لهم إخفاء ذلك لئلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام.
والمختار في ذلك: تفصيل، وهو أن عذرهم إذا كان ظاهراً يعرفه كل واحد كالعمى والمرض والزمانة وغير ذلك من الأعذار التي لا تخفى على أحد فإنه لا تكره لهم الجماعة لأن عذرهم واضح فالتهمة زائلة عنهم. وإن كان عذرهم خفياً كالخوف على النفس والمال وغير ذلك من الأمور الخفية فإنها تكره لهم الجماعة لما يظهر من التهمة في حق الإمام.
الفرع الثامن: فأما من كان من أهل فرض الجمعة ممن لا عذر له، وصلى الظهر قبل فوات الجمعة، فهل يصح ظهره ويلزمه السعي إلى الجمعة أم لا؟ فيه أربعة أقوال:
القول الأول: محكي عن الشافعي في الجديد، أنه لا يصح ظهره وتلزمه الجمعة، فإن لم يصلها حتى فاتت وجب عليه إعادة الظهر. وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وزفر، لأن ظهره وقع على فسادٍ؛ والجمعة ممكنة فوجب عليه أداؤها، فإن فاتت الجمعة وجب الظهر لأنه بدل عنها عند فواتها وفوات شرطها.
القول الثاني: محكي عن أبي حنيفة: [أنه] يصح ظهره قبل فوات الجمعة ويلزمه السعي إلى الجمعة، فإذا سعى إليها بطل الظهر وإن لم يسع إليها أجزأه ظهره الذي صلاه، وإنما صح ظهره لأنه مخاطب به فإذا كان وقت الجمعة باقياً لزمه أداؤها لأنها ممكنه في حقه فإذا سعى إليها بطل ظهره لأنه لا ظهران في يوم، وإن تأخر عن السعي إليها أجزاه ظهره لأنه قد خرج به عن عهدة الأمر.
القول الثالث: محكي عن الشافعي في القديم؛ أنه يصح ظهره ويجب عليه السعي إلى الجمعة. مثل رأي أبي حنيفة، لكنه قال: إذا صلى الجمعة احتسب الله بأيهما شاء، فإذا فاتته الجمعة أجزأه الظهر.
والوجه في ذلك: ما حكيناه عن أبي حنيفة، وإنما قال: يحتسب الله بأيهما شاء. لأنهما فرضان قد وقعا على نعت الصحة والإمكان، فالأمر فيهما إلى الله تعالى في إسقاط الفرض واستحقاق الثواب والأجر.
القول الرابع: محكي عن أبي يوسف ومحمد فإنهما قالا: يصح ظهره ويبطل بالإحرام بالجمعة، وإنما صح الظهر لأنه مخاطب به إذا لم تكن هناك جمعة فإذا أحرم بالجمعة بطل ظهره لأنه لما أحرم بالجمعة انكشف الأمر أنها هي فرض الوقت.
ومنشأ الخلاف والتردد في هذه الأقوال إنما حصل من أن المخاطب به في وقت الجمعة هل هو الظهر أو الجمعة؟ وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الأصل هو الجمعة، وهذا هو رأي المؤيد بالله وتحصيله لمذهب الهادي، ومحكي عن أبي العباس، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن والشافعي في الجديد.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا }[الجمعة:9].
ووجه الدلالة من الآية: هو أنه أمر بالسعي إليها، وفي هذا دلالة على أنها هي الأصل.
الحجة الثانية: قوله÷: ((إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا )). فظاهر هذا الخبر دال على أنها هي الأصل، وأنها فرض الوقت والمخاطب بها.
المذهب الثاني: أن المخاطب به في يوم الجمعة هو الظهر، وهذا هو الظاهر من مذهب الهادي والقاسم، واختيار السيد أبي طالب، وهو قول الناصر ومحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
والحجة على هذا: قوله÷: ((إن للصلاة أولاً وآخراً وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس ))(1).
فأثبت الظهر ولم يفصل بين يوم الجمعة وغيره من سائر الأيام.
الحجة الثانية: هو أن هذا الوقت وقت للظهر في سائر الأيام فيجب أن يكون وقتاً لها في يوم الجمعة كسائر أوقات الصلوات، فهذا تقرير أدلة الفريقين كما ترى.
والمختار: ما قاله السيد أبو طالب، وارتضاه الإمامان القاسم والهادي ومن وافقهم على هذه المقالة.
وحجتهم: ما نقلناه عنهم.
__________
(1) تقدم.
ونزيد هاهنا حججاً أربعاً:
الحجة الأولى: ما كان من حديث فرض الصلاة في ليلة الإسراء فإن الصلاة فرضت خمسين، وما زال موسى يردد الرسول÷ حتى نقصت إلى خمس صلوات، ثم قال موسى: إن أمتك يا محمد لا تطيق على هذا. فقال الرسول÷: ((إني قد استحييت من ربي))(1).
فوجه الدلالة من هذا الخبر: هو أن الظهر فرض من أول مرة في يوم الجمعة وفي غيرها من الأيام وهو السابق، وفي هذا دلالة على أن الظهر هو الأصل وأن الجمعة طارئة عليه والظهر سابق.
الحجة الثانية: هو أن الرسول÷ لما قدم المدينة مهاجراً نزل قُبَا على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامداً إلى المدينة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم فصلى الجمعة، فكانت أول جمعة جمَّعها رسول اللّه÷(2).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن الظهر كان سابقاً على الجمعة لأن الصلاة فرضت في مكة، والجمعة فرضت بعد هجرته إلى المدينة ففي هذا دلالة على أن الظهر في يوم الجمعة هو الأصل، وأن الجمعة حاصلة بعده.
__________
(1) تقدم في الصلاة.
(2) ذكره في (صفوة الصفوة) 1/144، وفي (الثقات) 1/133، وفي (تأريخ الطبري) 2/7.
الحجة الثالثة: هو أن الأنصار اجتمعوا وقالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه في كل أسبوع، وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي. فقال قوم: السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة (1)
فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم. فسموه يوم الجمعة لإجتماعهم، فأنزل الله آية الجمعة، فهي أول جمعة جُمِّعت في الإسلام.
ووجه الدلالة: هو أن الله تعالى أنزل سورة الجمعة تقريراً لما فعله الأنصار واستحسنوه، وصوبهم على ذلك رسول اللّه÷ ولم ينكره عليهم.
الحجة الرابعة: أخبار المواقيت عنه÷ أنه قال: ((أمَّني جبريل عند باب البيت ، وصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، فلما كان في اليوم الثاني صلى بي الظهر حين صار ظل كل شيء مثله)).
ووجه الحجة من الخبر: هو أنه جعل ميقات الظهر في اليومين محدوداً معلوماً، ولم يذكر الجمعة، وفي هذا دلالة على أن الأصل هو الظهر وأن الجمعة طارئة، وعلى هذا تتفرع المسائل في كون الظهر هو الأصل كما حققناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9]. فأمر بالسعي إليها، وفي هذا دلالة على أنها هي الأصل.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) أسعد بن زرارة بن عدس النجاري من الخزرج، أحد الشجعان الأشراف في الجاهلية والإسلام، من سكان المدينة، قدم مكة في عصر النبوة ومعه ذكوان من عبد قيس فأسلما وعادا إلى المدينة، فكانا أول من قدمها بالإسلام، وهو أحد النقباء الاثني عشر، كان نقيب بني النجار، مات قبل وقعة بدر ودفن بالبقيع، اهـ (أعلام) 1/300، انظر ترجمته في (الطبقات) لابن سعد. وسعد بن زرارة هو أخوه.
أما أولاً: فلأنا لا ننكر السعي في يوم الجمعة، ولكنا نقول: إن الظهر سابق على السعي إلى [صلاة] يوم الجمعة، وفيه دلالة على أنه هو الأصل لسبقه.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما أوردناه من الأخبار الدالة على أصالة الظهر، وإذا تعارضا فلا بد من الترجيح وأخبارنا فهي أظهر وأشهر وأقوى فلهذا وجب الإعتماد عليها.
قالوا: روي عن الرسول÷ أنه قال: ((إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا )). وفي هذا دلالة على أن الأصل هو الجمعة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا ننكر فرض الجمعة في مقامه وفي يومه كما قال، ولكن الظهر سابق عليها وهي بعده.
وأما ثانياً: فلأن فرض الصلوات كان مكِّيَّاً، وفرض الجمعة كان مدنياً، وما كان في مكة فهو سابق لما كان في المدينة وفيه دلالة على أصالة الظهر.
الفرع التاسع: في بيان من تجب عليه الجمعة.
وتجب على المكلف الحر الذكر المقيم الصحيح فمن أتصف بهذه الصفات وجبت الجمعة عليه، ومن فقدت في حقه لم تجب عليه كما مر تقريره.
وتجب الجمعة على من كان في الأمصار والمدن عند أئمة العترة وفقهاء الأمة سواء سمعوا النداء أو لم يسمعوا.
والحجة على هذا: هو أن الرسول÷ خاطب أهل المدينة بوجوبها ولم يفرق بين أن يسمعوا النداء أو لا يسمعوا، ولقوله÷: ((لا جمعة ولا تشريق إلى في مصر جامع ))(1).
ولم يعتبر سماع النداء، ولأن المصر والمدينة كالدار الواحدة بدليل: أن كل من سافر منه فإنه لا يقصر الصلاة حتى يفارق جميعه كما سنقرره في صلاة القصر.
فأما من كان خارج المصر من أهل القرى والمحال والدروب فهل يعتبر في الوجوب عليهم سماع النداء أو قرب المسافة أو الإيواء ليلاً؟ فيه مذاهب خمسة:
__________
(1) رواه البيهقي في (الكبرى) 3/179، وابن أبي شيبة 1/439، وعبد الرزاق 3/167.
المذهب الأول: أن الجمعة لا تكون واجبة إلا في مصر جامع ولا تجب على أهل القرى، وهذا مروي عن زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا تجب الجمعة على أهل القرى ولو كمل العدد فيهم، وإنما تجب على أهل الأمصار. وحدَّ المصر عنده أن يكون هناك سلطان قاهر يقيم الحدود ويستوفي الحقوق أو خليفة من قبله، ويكون فيه سوق قائم وجامع ومنبر ونهر جاري.
فأما المؤيد بالله: فقد أطلق: أن الجمعة لا تجب إلا على أهل المصر. ولم أقف له على شيء في صفة المصر وبما يكون مصراً، وربما يكون رأيه مثل رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع )). فظاهر الخبر دال على سقوطها عن أهل القرى والمحال.
المذهب الثاني: أن الجمعة كما تجب على أهل المصر فهي واجبة على أهل القرى والمحال والمناهل كما تجب على أهل الأمصار، وأردنا بالمناهل: الذين يسكنون على الأنهار والبرك العظيمة، إذا كان هناك مسجد تقام فيه الجمعة، وهذا هو رأي الهادي والناصر، ومحكي عن مالك.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9].ولم يفصل بين المصر والقرية والمحلة. وقوله÷: ((من سمع النداء فعليه الجمعة ))(1).
وقوله÷: ((من كان الليل يؤيه إلى أهله فعليه الجمعة))(2).
__________
(1) أخرجه أبو داود عن ابن عمرو بن العاص بلفظ: ((الجمعة على من سمع النداء)) وهو في (السنن الصغرى) 1/375، و(الكبرى) 3/175، وفي سنن أبي داود 1/278.
(2) أخرجه الترمذي 2/374 عن أبي هريرة بلفظ: ((الجمعة على من آواه الليل إلى أهله)) وضعفه.
فدلت ظواهر هذه الأخبار على وجوب الجمعة ولم تفصل بين مكان ومكان إلا ما قامت عليه دلالة كأصحاب الخيام وأهل المواشي الذين ليس لهم مستوطن ولا يستقرون وإنما يطلبون الكلا أينما وجدوه، فهؤلاء لا تجب عليهم الجمعة لما ذكرناه.
المذهب الثالث: أن كل من كان خارج المصر فهم على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: الذين تجب عليهم الجمعة بأنفسهم ولا يحتاجون إلى غيرهم وهم أهل القرية إذا كانوا أربعين رجلاً وتكاملت في حقهم الشروط التي ذكرناها، فهؤلاء تلزمهم إقامتها في موضعهم سواء سمعوا النداء أو لم يسمعوه في المصر فإن أقاموها في موضعهم فقد أحسنوا وإن أتوا المصر وصلوا الجمعة فيه أجزأهم وقد أساؤا لأن إقامة الجمعة في موضعين أفضل من إقامتها في موضع واحد، وهذا هو المنصوص للشافعي.
وحكي عن الصيدلاني من أصحاب الشافعي: أنهم لا يكونون مسيئين بذلك لأن من العلماء من قال: لا تنعقد الجمعة وإنما تنعقد في المصر فإذا دخلوا المصر وصلوا فقد خرجوا من الخلاف.
الضرب الثاني: الذين لا تجب عليهم الجمعة بأنفسهم وتجب عليهم بغيرهم فهم الذين ينقصون عن الأربعين ويسكنون في موضع يسمعون النداء فيه من البلد الذي تقام فيه الجمعة.
الضرب الثالث: الذين لا تجب عليهم الجمعة بأنفسهم ولا بغيرهم وهم الذين ينقصون عن عدد الأربعين ويسكنون في الموضع الذي لا يسمعون فيه النداء من المصر الذي تجب فيه الجمعة، وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن عبدالله بن عمرو بن العاص وابن المسيب وأحمد بن حنبل وأبي ثور.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]. فأوجب السعي إلى الجمعة على المؤمنين ولم يفصل بين أهل المصر وأهل القرى وأهل السواد، وظاهر الآية يقتضي وجوب السعي على من كان خارج المصر سواء كان قريباً أو بعيداً لأن الرسول÷ قيده بمن سمع النداء، فروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الجمعة على من سمع النداء )) لأن أهل المصر تجب عليهم سواء سمعوا النداء أو لم يسمعوا بالإجماع، وروي [عن] ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أول جمعة بعد جمعة المدينة جمعت في قرية من قرى البحرين يقال لها: جواثا. وجواثا بالجيم المضمومة وبثاء منقوطة بثلاث من أعلاها.
المذهب الرابع: أن الجمعة تجب على من يمكنه إتيان الجمعة ويأوي إلى منزله بالليل، وهذا هو رأي ابن عمر، ومحكي عن أنس بن مالك وأبي هريرة.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((من كان الليل يؤيه إلى أهله فعليه الجمعة )).
المذهب الخامس: الذين قدروا بالمسافة، وفيه أقوال أربعة:
القول الأول: يحكى عن عطاء، وهو أن الجمعة واجبة على من كان من المصر على عشرة أميال.
القول الثاني: محكي عن الزهري، أنها واجبة على من كان من المصر على ستة أميال.
القول الثالث: محكي عن ربيعة، وهو أنها واجبة على من كان من المصر على أربعة أميال.
القول الرابع: أنها واجبة على من كان على ثلاثة أميال، وهذا هو المحكي عن مالك.
والحجة على هذا: هو أن أهل القرى الذين كانوا حول المدينة كانوا يحضرون جمعة الرسول÷ لا يتخلفون عنها وبعضهم يقرب وبعضهم على هذه المسافات المختلفة، فهذا هو السبب في هذا الإختلاف حتى اعتبروا هذه المقادير نظراً إلى ما ذكرناه.
فهذا تقرير المذاهب بأدلتها كما أشرنا إليه.
والمختار: ما عول عليه الهادي والناصر ومن تابعهما من الفقهاء وهو وجوب الجمعة على أهل القرى والمحال والدروب إذا كملت في حقهم الشرائط التي ذكرناها.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو قوله÷: ((إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا)). وقوله÷: ((من سمع النداء فعليه الجمعة )). وقوله: ((من كان الليل يؤيه فعليه الجمعة )). فهذه الأخبار كلها دالة على وجوب الجمعة ولم تفصل بين القرية والمصر وهي عامة في جميع المواضع إلا ما استثني من أصحاب الخيام وأهل المواشي الذين يتبعون الكلا والماء ولا يستقرون في مكان.
الحجة الثانية: ما روي عن ابن عباس أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة الرسول÷ جمعة جمعت في جواثا من قرى البحرين، وما روي أن أول من جمع في المدينة أسعد بن زرارة في حرة بني بياضة وهي قرية ليست مصراً.
الحجة الثالثة: قياسية، وهي أن القرى مواضع استيطان فيجب أن تصح فيها الجمعة كالأمصار، أو نقول: مواضع استيطان المسلمين وإقامة جماعتهم فجازت فيها الجمعة كالأمصار ولأنها مواضع لإقامة جماعة الصلوات الخمس فكانت مواضع لإقامة الجمعة.
قال الهادي: ويجب أن يكون في الموضع. يعني المحلة والقرية، مسجد يجمع فيه لأنه لم يروَ أن الرسول÷ أقام الجمعة إلا في المساجد دون البراري والصحاري، وتوارثه الخلف عن السلف فيجب الإعتماد عليه. والظاهر من كلامه هذا أنه جعل المسجد شرطاً في وجوب الجمعة على أهل القرية، فإن لم يكن هناك مسجد لم تجب عليهم إقامتها لعدم المسجد كأهل الخيام، ولم يجعله شرطاً في تأديتها، وعلى هذا إذا كان المسجد ضيقاً جاز إقامتها خارج المسجد في الصحراء والبرية لأنه لا يتسع لجماعة المسلمين كما قال المؤيد بالله، فإنه اعتبر المصر في الوجوب ولا بد في صحة المصر من المسجد لكنه جَوَّزَ إقامتها في الصحراء، وهو قول محكي عن الشافعي وأبي حنيفة.
قال الكرخي: ولا يجوز إقامة الجمعة إلا في المصر أو خارجاً عنه قريباً من المواضع التي جعلت مصلى لصلاة العيد ونحو ذلك.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((الجمعة حق واجب ))(1).
ولم يخص موضعاً من موضع إلا ما قامت عليه دلالة في المنع منه، ولقوله÷: ((إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا )). ولم يفصل.
سؤال: أراه÷ خص الدلالة على وجوب الجمعة بقوله: ((إن الله افترض عليكم الجمعة في شهري هذا في عامي هذا في مقامي هذا " فريضة مكتوبة)). ولم يقل مثل هذا في سائر العبادات كالصلوات الخمس والصوم والحج، فما الوجه في ذلك؟
وجوابه: من وجهين:
أما أولاً: فلأن ما هذا حاله من أسرار العبادات التي لا تعقل معانيها، كما كانت الظهر أربعاً والمغرب ثلاثاً والفجر ركعتين، ولأمر ما يسود من يسود.
وأما ثانياً: فلعل هذا إنما كان توكيداً في أمر الجمعة وتنبيهاً على فضلها وعلى الإهتمام بحالها، ولهذا فإنها مختصة بأسرار وتحكمات لا تختص بها سائر الصلوات المكتوبة من الخطبة ولباس الزينة والغسل والطيب وغير ذلك من الأدوات المشروعة في يوم الجمعة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول÷ أنه قال: ((لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع)). كما حكي عن الباقر، والمؤيد بالله وأبي حنيفة، وبالغ أبو حنيفة في اشتراط المصر حتى روي عنه أنه قال: لو كان بين المصلي وبين المصر خطوة لم تجب عليه الجمعة.
قال محمد بن الحسن الشيباني: قلت لأبي حنيفة: هل تجب الجمعة على أهل زُبادة؟ ـ وزُبادة: بضم الزاي وفتحها وبالباء بنقطة من أسفلها ودال بنقطة من أسفلها: محلة من محال الكوفة بينها وبين الكوفة نهر. فقال: لا تجب.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) أخرجه أبو داود 1/280، ورواه الحاكم في (المستدرك) 1/425، والبيهقي في (السنن الكبرى) 3/172.
أما أولاً: فلأن المراد بالخبر نفي الفضل والكمال دون الإجزاء، كما قال÷: ((لا صلاة لجار المسجد إلا فيه)).
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما أوردناه من الأخبار الدالة على جواز إقامة الجمعة في القرى والمحال، وإذا تعارضا وجب الترجيح ولا شك أن اخبارنا التي رويناها أكثر وأشهر، فلهذا وجب العمل عليها.
قالوا: روي عن الرسول÷ أنه قال: ((من سمع النداء فعليه الجمعة)). كما حكي عن الشافعي، فقد وافقنا في جواز الصلاة في غير المقر لكنه اعتبر سماع النداء وبكون العدة أربعين.
قلنا: أما العدد فسيأتي تقرير ما يعتبر منه في صحة صلاة الجمعة.
وأما اشتراط سماع النداء فلا نسلم وجوب اعتباره، فإن الجمعة واجبة عن من في المصر سواء سمعوا أو لم يسمعوا، وأيضاً فقوله÷: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة)). ولم يشترط سماع النداء. وقوله÷ : ((من ترك صلاة الجمعة ثلاثة أسابيع من غير عذر طبع الله على قلبه)). ولم يشترط سماع النداء، فقد دلت هذه الأخبار على بطلان اشتراط سماع النداء.
قالوا: روي عن الرسول÷: ((من كان الليل يؤيه إلى أهله فعليه الجمعة )). وهذا محكي عن ابن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة.
قلنا: هذا جيّد في تقدير المسافة التي تجب فيها الجمعة كما سنوضح القول فيه.
قالوا: روي عن أقوام؛ تقدير ذلك بالأميال، فروي عن قوم عشرة أميال وعن قوم ستة وعن قوم أربعة وعن قوم ثلاثة.
قلنا: هذه التقديرات تحكمات لادلالة عليها، وإنما التعويل على ما كان من جهة صاحب الشريعة كما سنوضح المختار فيه بمعونة الله تعالى.
الفرع العاشر: اعلم أن القائلين بأن الجمعة لا تجب إلا في الأمصار فلم يعتبروا أمراً آخر وإنما اعتبروا المصر لا غير، وسواء سمع النداء أو لم يسمعه كما حكيناه عن الباقر والمؤيد بالله وزيد بن علي والحنفية وقد قررنا ما عليهم من الكلام فلا نعيده.
وأما من قال بأن الجمعة واجبة على أهل القرى والمحال والدروب والأودية وهكذا حال البيوت المصنوعة من العيدان كبيوت أهل تهامة، فإنها تجب عليهم الجمعة ولا يشبهون حال أهل الخيام لأنها لا تنتقل كما ينقلها أهل الخيام إذا رحلوا، فاختلفوا في أمارة الوجوب على من يكون خارج المصر على ثلاثة أقوال:
القول الأول: محكي عن القاسم والهادي والناصر: أن الأمارة في الوجوب: سماع النداء. قال الناصر في اعتبار حال النداء: هو أن يقوم المؤذن على سور المصر فيؤذن، ويكون صيتاً، ولا يكون المستمع أصم، والأصوات هادئة والريح راكدة، وهكذا حكي عن الشافعي في سماع النداء.
القول الثاني: محكي عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس بن مالك: أن الإعتبار في الوجوب على أهل القرى خارج المصر بإيواء الليل، لما روي عن ابن عمر: ((من كان الليل يؤيه إلى أهله فعليه الجمعة)).
القول الثالث: الذين اعتبروا المسافة بتقدير الأميال كالعشرة والستة والأربعة والثلاثة كما هو محكي عن جماعة من الفقهاء قد ذكرنا تسميتهم، اعتماداً على القرى التي كانت حول المدينة وهي على هذه المسافات فاعتبروها لأنهم كانوا لا يتأخرون عن جمعة الرسول÷ في المدينة، فلأجل هذا قدروا الوجوب بهذه المقادير التي قررناها.
والمختار في تقدير المسافة في الوجوب لمن كان خارج المصر: ما رواه ابن عمر وأبو هريرة وأنس بن مالك من تقديرها ((بمن كان يؤيه الليل إلى أهله فعليه الجمعة))، وإنما كان هذا هو المختار لأمور ثلاثة:
أما أولاً: فلأنه رواه هؤلاء من الصحابة وهم من ثقاة الرواة وعدول الصحابة ولهم اليد البيضاء في صحة الرواية ونقل أحاديث الرسول÷.
وأما ثانياً: فلأنهم رووا هذا الحديث وعملوا به، والصحابي إذا روى الحديث وعمل به فإنه يزداد وثاقة وقوة على غيره من الأحاديث.
وأما ثالثاً: فلما فيه من الإحتياط للعبادة فإنه أبعد المقادير وهو مخالف لما روي: ((من سمع النداء)). ولما روي: من اعتبار عشرة أميال فما دونها، لمَّا كان إيواء الليل زائداً على هذه التقديرات فلهذا كان العمل عليه أحق وأولى لما فيه من الإحتياط والباب باب العبادة.
الفرع الحادي عشر: وإن اتفق عيد وجمعة فهل يجبان جميعاً أو يكتفى بأحدهما دون الآخر؟ فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أنهما يجبان جميعاً على الإمام، ولا يسقط فرض الجمعة بصلاة العيد، وهذا هو رأي الإمامين الناصر والهادي، وارتضاه السيدان الأخوان خلا أنه يجوز أن يقام فرض الجمعة ببعض من حضر صلاة العيد ويسقط فرض الجمعة عن الباقين.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول÷ أنه قال: ((قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة وإنا مجمِّعون ))(1).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن ظاهره دال على سقوطها عن بعض من حضر العيد ووجوبها على الباقين، وظاهره دال على وجوبها على الإمام.
المذهب الثاني: أن فرض الجمعة لا يسقط بصلاة العيد، وهذا هو المحكي عن الشافعي، وبه قال أكثر الفقهاء.
__________
(1) رواه أبو داود 1/281، وابن ماجة 1/416، والحاكم 1/425.
والحجة على هذا: ما ذكرناه من دلالة الظواهر الشرعية على وجوب الجمعة ولم تفصل في ذلك بين يوم العيد وغيره فيجب القضاء بذلك. فأما أهل السواد ومن هو خارج عن المصر الذين تجب عليهم الجمعة بسماع النداء من المصر إذا حضروا العيد فإنهم يروحون ولا يجب عليهم حضور صلاة الجمعة في يومهم ذلك، وهكذا حال أهل العالية وأهل السوادات فإنهم يصدرون ولا حرج عليهم في ترك الجمعة لما روي عن عثمان أنه قال في خطبة: أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم هذا فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة فليفعل ومن أحب أن ينصرف فليفعل. ولأنهم إذا قعدوا لانتظار صلاة الجمعة في المصر فاتتهم لذة العيد ورفاهيته، وإن راحوا بعد صلاة العيد إلى منازلهم ثم رجعوا لصلاة الجمعة كانت عليهم مشقة، والجمعة تسقط بالمشقة كما أوضحناه من قبل، بخلاف أهل المصر فإن ذلك لا يوجد في حقهم، وظاهر كلام الشافعي موافق لما قلناه خلا أنه يقول: إنما رخص في ترك الجمعة لأهل العوالي والسوادات بخلاف غيرهم من أهل المصر. وظاهر كلام أصحابنا أن فرض الجمعة ساقط عن بعض أهل المصر إذا حضر الباقون.
المذهب الثالث: محكي عن أبي حنيفة: وهو أنهما لا يسقطان جميعاً، وإن كل من وجب عليه فرض الجمعة في غير العيد وجب عليه في العيد، وأن الإمام والمأموم في ذلك سواء في الحضور.
والحجة على هذا: هو أن الدلالة التي دلت على فعل كل واحد منهما على الإنفراد فهي بعينها دالة على فعلهما مع الإجتماع من غير تفرقة بينهما في ذلك.
المذهب الرابع: محكي عن عطاء، وهو أن العيد يؤدى والجمعة ساقطة لا يجب أداؤها.
والحجة على هذا: ما روي عن عبدالله بن الزبير أنه صلى العيد وترك الجمعة فعابه عليه بعض بني أمية. فقال: هكذا كان يفعل عمر بن الخطاب. فبلغ ابن عباس فعل ابن الزبير وكان غائباً في اليمن فقال: أصاب السنة. وحكي عن عطاء أنه قال: لا صلاة في هذا اليوم إلا العصر.
والمختار: ما قاله الإمامان الهادي والناصر، وارتضاه الأخوان للمذهب، وهو أن العيد والجمعة واجبان، على الإمام حضورهما كسائر الأيام في الجمعة، وأن الرخصة إنما هي في حق المؤتمين فتقام الجمعة ببعض من حضر صلاة العيد.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو ما روي أن معاوية سأل زيد بن أرقم فقال: هل شهدت مع رسول اللّه÷ عيدين اجتمعا في يوم؟ فقال: نعم. فقال: كيف صنع؟ فقال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة. فقال: ((من شاء أن يصلي فليصل)).
الحجة الثانية: ما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه اجتمع عيدان في يوم فصلى بالناس في الجبان صلاة العيد ثم قال بعد خطبته: أما بعد فإنا مجمِّعون بعد الزوال فمن أحب أن يحضر فليحضر فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن ترك فلا حرج عليه.
دقيقة: اعلم أن الرخصة إنما وقعت في حق المؤتمين في أنهم لا يجب عليهم حضور الجمعة بعد حضور العيد ولا يجب عليهم سماع خطبة الجمعة للاكتفاء بسماع خطبة العيد، فلا تتكرر عليهم الموعظة خوفاً من الإملال والسآمة فلهذا رخص لهم في الحضور، ويجب عليهم تأديتها ظهراً.
فأما الإمام فلا رخصة له في حضورهما جميعاً لأن واحدة من الصلاتين لم تسقط إجماعاً وإنما رخص في تركها لبعض المؤتمين.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
فنقول: أما الشافعي فقد ذكرنا موافقته لمذهبنا، وذكرنا التفرقة بيننا وبينه فيما قررناه فلا وجه للكلام عليه، وإنما يتوجه الانتصار على غيره.
قالوا: العيد والجمعة لا يسقطان، وإن كل واحد منهما يؤدى. كما حكي عن أبي حنيفة، وحاصل كلامه إنكار الرخصة في حق المؤتمين وأنه لا وجه للرخصة لأحد ممن حضر العيد في إقامة الجمعة، وأن الإمام والمأموم في ذلك سواء.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإنا لا ننكر وجوب الجمعة وأنها غير ساقطة عن الإمام؛ ولكنا نقول: يسقط وجوبها عن بعض المؤتمين ممن حضر العيد إكتفاء بالعيد ويؤديها ظهراً.
وأما ثانياً: فإنا قد دللنا على حصول الرخصة بما أثر عن الرسول÷ وصرح به في كلامه، وبما قاله أمير المؤمنين في خطبة العيد من العذر لهم في الحضور والترخيص فيه فلا وجه لإنكاره، فأما الجمعة فلا رخصة في تركها لبعض من حضر العيد.
قالوا: الجمعة ساقطة لا يجب أداؤها وأنه لا صلاة بعد العيد إلا العصر كما حكي عن عطاء لما روي عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن الزبير.
قلنا: هذا الآن خلاف معنوي، وعنه جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكر مذهب لهؤلاء الصحابة واجتهاد فلا يكون حجة علينا، والحجة: ما كان عن الله وعن رسوله÷ فلا يلزم قبول اجتهادهم.
وأما ثانياً: فلأنه محمول على سقوط فرض الجمعة ركعتين وتأديتها ظهراً رخصة لهم في حق الحضور للجمعة مرة ثانية في حق بعض المؤتمين، فأما أن الجمعة ساقطة وبدلها ظهراً فلا وجه له لأنها فرض الوقت عند الزوال في يوم الجمعة إذا تكاملت شروطها فإذا نقص شرط من شروطها وجب الرجوع إلى بدلها وهو الظهر لأنه الأصل كما أوضحناه.
الفرع الثاني عشر: ومن أراد السفر في يوم الجمعة فهل يجوز له ذلك أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: جواز ذلك على الإطلاق وهذا هو الظاهر من المذهب وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷ أنه جهز جيش مؤتة يوم الجمعة مع جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة(1)،
فخرج جعفر ماضياً فيما أمره الرسول وتخلف عبد الله بن رواحة فصلى الجمعة فرآه الرسول÷ فقال: ((ما الذي أخرك يا عبد اللّه)) ؟ فقال: الجمعة. فقال له الرسول÷: ((غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها))(2).
فانطلق سائراً.
المذهب الثاني: محكي عن الشافعي وله ثلاثة أقوال نفصلها:
القول الأول: أنه لايجوز السفر بعد طلوع الفجر يوم الجمعة وهذا هو المحكي عن ابن عمر وعائشة.
__________
(1) أحد أبرز الصحابة الأجلاّء الذين جاهدوا في الله حق جهاده مع رسول الله÷ وهو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة، خزرجي أنصاري، أحد النقباء في العقبة، شهد بدراً وأحداً والخندق والحديبية وعمرة القضاء والمشاهد كلها إلاَّ الفتح وما بعده؛ لأنه استشهد يوم مؤتة، وكان قائد جيش رسول الله فيها زيد بن حارثة، ثم هو بوصية رسول الله÷ ثم جعفر بن أبي طالب، وهو أحد الشعراء الذين كانوا ينافحون عن دين الله ورسوله، وفيه وفي صاحبيه حسان بن ثابت وكعب بن مالك نزلت: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا الله كَثِيراً} الآية 227 من سورة الشعراء،. اهـ (الاستيعاب) 3/898.
(2) أخرجه الترمذي عن ابن عباس بلفظ: بعث رسول الله÷ عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة، فغدا أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع رسول الله ثم ألحقهم فلما صلى مع رسول الله رآه فقال: ((ما منعك أن تغدوا مع أصحابك)) فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال: ((لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم)) وأخرج الحديث بلفظ: ((غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)) البخاري 3/1028، ومسلم 3/1499، وابن حبان 10/461، وعبد الرزاق 5/259، واحمد 1/256، والطبراني في (الكبير) 6/158.
القول الثاني: أن السفر جائز قبل الزوال، ويروى ذلك عن عمر وابن الزبير وأبي عبيدة بن الجراح.
القول الثالث: أنه لايجوز السفر بعد الزوال إلى بلد لا تقام فيه الجمعة. فهذه كلها محكية عن الشافعي.
والحجة على هذه الأقوال: هو أن الصلاة قد وجبت عليه فلا يجوز تفويتها بالسفر.
المذهب الثالث: أنه إن كان السفر للجهاد جاز ذلك وإن كان لغير الجهاد لم يجز، وهذا شيء يحكى عن أحمد بن حنبل.
والحجة علىهذا: ما في حديث عبدالله بن رواحة فإنه لما كان في سفر الجهاد أمره الرسول بالخروج.
والمختار في المسألة: تفصيل نشير إليه، لأني لم أقف على نص لأحد من أئمة العترة فيها، وحاصله أنا نقول: من أراد السفر في يوم الجمعة نظرت في حاله، فإن كان يخاف فوت السفر عليه لذهاب القافلة ولا يمكنه السير وحده لخوف الطريق فإنه يجوز له السفر وترك الجمعة سواء كان قبل الزوال أو بعده لأن عليه مشقة في التأخير للصلاة، والجمعة تسقط للأعذار. وإن كان لا يخاف فوت السفر نظرت، فإن كان يسافر إلى بلدة تقام فيها الجمعة جاز سفره بعد الزوال، وإن كان سفره إلى بلدة لا تقام فيها الجمعة لم يجز السفر بعد الزوال لأن الصلاة قد وجبت عليه فلا يجوز له إسقاطها بالسفر كما لو دخل فيها وتلبس بها.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: يجوز السفر على الإطلاق كما حكي عن أبي حنيفة، لحديث عبدالله بن رواحة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما أمره بعد أن صلى فلهذا أمره بالخروج لما قضى الصلاة.
وأما ثانياً: فلو سلمنا أنه لم يصل فإنما أمره بالخروج قبل الزوال.
قالوا: حكي عن الشافعي أنه لا يجوز السفر بعد طلوع الفجر، وحكي عنه جواز السفر قبل الزوال.
قلنا: إنه بعد طلوع الفجر ليس وقتاً للصلاة فلهذا جاز السفر كما لو كان سفره في الليل ولأنه إذا جاز السفر على القول الثاني قبل الزوال جاز بعد طلوع الفجر أيضاً. وأما القول الثالث فهو موافق لما اخترناه للمذهب.
قالوا: إن كان السفر للجهاد جاز كما حكي عن أحمد بن حنبل.
قلنا: يجوز أن يكون الأمر في الجواز وعدمه على التفصيل الذي ذكرناه سواء كان للجهاد أو لغيره.
الفرع الثالث عشر: في حكم البيع وقت النداء.
اعلم أن الاشتغال عن الصلاة في يوم الجمعة بعد سماع النداء منهي عنه لشيء من الأمور المباحة سواء كان بيعاً أو إجارة أو أكلاً أو شرباً، والنص إنما وقع في البيع وقسنا عليه سائر ما يشغل بجامع كونه مانعاً من الصلاة بعد النداء إليها كما قسنا على الغضب في قوله÷: ((لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان )). سائر ما يدهش العقل بجامع كونه مانعاً عن استيفاء الاجتهاد، من الجوع والعطش وغيرهما من شواغل القلب، فإذا عرفت هذا فإذا وقع البيع في يوم الجمعة نظرت فيه، فإن كان واقعاً قبل الزوال لم يكره لأنه وقع البيع قبل وقت الصلاة فلم يكره كما لو وقع من الليل وإن وقع البيع بعد الزوال وقبل النداء ولم يظهر الإمام على المنبر كره البيع ولم يحرم.
وقال الضحاك(1)،
وربيعة، وأحمد بن حنبل: يحرم.
وحجتنا على ذلك: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ}[الجمعة:9]. فتقرر أن النهي عن البيع يتعلق بحال النداء.
__________
(1) جاء في تراجم العلامة أحمد بن عبد الله الجنداري لرجال (شرح الأزهار)3/18 ما لفظه: الضحاك: أين ما ورد في كتب أئمتنا، هو الضحاك بن مزاحم الحلالي أبو القاسم وأبو محمد الخراساني، حدث عن ابن عباس، وعنه جويبر وأبو إسحاق وآخرون، وثقه المؤيد بالله وابن معين وابن حنبل وأبو زرعة، وقال ابن حجر: صدوق من [الطبقة] الخامسة، مات بعد المائة. رحمه الله. اهـ.
وإن ظهر الإمام الأعظم على المنبر وأذن المؤذن حرم البيع لظاهر الآية، فإذا تقرر هذا فإن التحريم إنما يختص من كان من أهل فرض الجمعة فأما إذا تبايع رجلان ليسا من أهل فرض الجمعة كالعبدين والمسافرين والمرأتين لم يحرم عليهما البيع.
وحكي عن مالك أنه يحرم البيع.
وحجتنا على ذلك: هو أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الجمعة ونهى عن البيع لأجلها فلما كان السعي غير واجب على هؤلاء ثبت أن النهي عن البيع لا يتوجه عليهم ولا يدخلون فيه.
وإن تبايع اثنان بعد النداء وبعد ظهور الإمام على المنبر، أحدهما من أهل فرض الجمعة والآخر ليس من أهل فرضها فإنهما يأثمان جميعاً لأن من كان من أهل فرض الجمعة فقد تناولته الآية والآخر أعان على المعصية فكان عاصياً بذلك، فلأجل هذا قلنا بأنهما آثمان.
وكل موضع نهي عن البيع فإنه إذا وقع فيه البيع فإنه يكون منعقداً.
وحكي عن أحمد بن حنبل ومالك وداود أنه لا يصح.
والحجة على هذا: هو أن النهي لم يتعلق بالبيع وإنما كان متعلقاً بالصلاة، فلما كان النهي راجعاً إلى الغير لا جرم كان البيع منعقداً، وكمن ذبح لله بسكين مغصوبة فإن الذبيحة تحل لأن النهي راجع إلى غيرها، بخلاف من ذبح بعظم أو ظفر فإنها لا تحل الذبيحة لما كان النهي راجعاً إلى المذبوح نفسه فافترقا.
وقد تم الكلام فيمن تجب عليه الجمعة ومن لا تجب والحمد لله وحده.
---
الفصل الثاني في بيان شروط الجمعة
أعلم أن الجمعة مختصة بشرائط قد دل الشرع على اعتبارها من بين سائر الصلوات وأنها لا تكون جمعة ولا مجزية إلا بوجودها، وهي الإمام، والزمان، والمكان، والعدد، والخطبتان، ونحن نذكر كل واحد من هذه الشروط بكلام يخصه:
القول في الإمام: اعلم أن لا خلاف في وجوب اعتبار إمام المحراب في صلاة الجمعة لأن الإجتماع شرط في صحتها وذلك لا يكون إلا بإمام يجمع شملهم، وإنما الخلاف في الإمام الأعظم هل هو شرط في صحتها وانعقادها أم لا كما سنوضح القول فيه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الإمام الإعظم قائم بأمر اللّه تعالى وبأمور المسلمين، هل يكون شرطاً في إنعقادها وصحتها أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه شرط في صحة انعقادها ووجوبها، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، واختاره الأخوان السيدان المؤيد بالله وأبو طالب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}[الجمعة:9]. ولا شك أن لفظ الصلاة مجمل يحتاج إلى بيان من معرفة صفتها وشروطها وبيانها موكول إلى الرسول÷ لأن الشرع مأخوذ منه، وقد تقرر أنه÷ لم تقم الجمعة إلا به أو بمن يقوم مقامه والياً من جهته.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((أربعة إلى الولاة الجمعة والحدود والفيء والصدقات.))(1).
أراد بالولاة من يلي أمر المسلمين في أمور الدين والدنيا وقسمة الغنائم والفيء والصدقات.
الحجة الثالثة: قياسية، وهو أنها عبادة لا يجوز أن ينفرد بها كل أحد في إقامتها، فيجب أن يكون الإمام شرطاً في إقامتها كإقامة الحدود.
__________
(1) وفي بعض الروايات: ((أربعة إلى الأئمة....)) أورده ابن أبي شيبة في (المصنف) 5/506، بلفظ: ((... الجمعة والحدود والزكاة والفيء)).
المذهب الثاني: أن الإمام ليس شرطاً في صحة الجمعة وانعقادها، وتجوز إقامتها خلف من يكون إماماً في الصلاة المكتوبة، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي أن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أقام الجمعة وعثمان محصور في داره وكان الخليفة في ذلك الوقت، وفي هذا دلالة على أن الإمام ليس شرطاً.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنها صلاة مفروضة فيجب أن لا يكون الإمام شرطاً في إنعقادها كالصلوات المكتوبة.
المذهب الثالث: أن الإمام مشترط في الجمعة لا تتم إلا به لكن عدالته غير مشترطة فيجوز توليها من جهة الظلمة وسنفرد عليهم كلاماً يخصه على أثر هذا بمعونة الله.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من اشتراط الإمام في إقامة الجمعة فإنها لا تنعقد من دونه.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((إن اللّه افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا فمن تركها استخفافاً بحقها وحجوداً لها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع اللّه شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له إلا أن يتوب فإن تاب تاب اللّه عليه)).
الحجة الثانية: هو أن المعلوم من حال الرسول÷ أنه أقامها في أيامه وهكذا حال الخلفاء من بعده، فإن كل واحد منهم أقامها في أيامه من غير توقف في ذلك، وفي هذا دلالة على أنهم معتقدون لوجوب الإمام في إقامتها وأنه شرط.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه أقام الجمعة وعثمان محصور وهو الخليفة، وفي هذا دلالة على أن الإمام ليس شرطاً في وجوبها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإنما أقامها لأن عنده وعندنا أنه هو الإمام بعد الرسول÷ وأن إمامته ثابتة بالنص فلهذا أقامها لأن الولاية فيها وفي غيرها إليه فلهذا أقامها على هذه النية.
وأما ثانياً: فلأن أمير المؤمنين لما رأى إخلال عثمان بإقامة الجمعة لم يسعه عند اللّه تعالى أن يفوت فرضها على المسلمين فلهذا أقامها. كما روي أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط(1)
لما شرب الخمر وصلى بالناس سكران ولم يحدَّه عثمان فأراد أمير المؤمنين أن يحده فقال ولده الحسن: لا حاجة إلى حدِّه يتولى حارها من تولى قارها، فإنه يشير بذلك إلى أن عثمان أحق بحدِّه لأنه هو الخليفة بزعمه. فقال أمير المؤمنين: ما كان ليضيع حدٌ من حدود اللّه وأنا على الدنيا فحدَّه حد الشارب والحسن يعد الجلدات حتى أتمها.
قالوا: إنها صلاة مفروضة فيجب أن لا يكون الإمام شرطاً في إنعقادها كالصلوات الخمس.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الأقيسة لا مجرى لها في العبادات لأن معانيها منسدة ونحن وإن استعملناها فإنما هو على جهة المعارضة لا على جهة الإعتماد.
وأما ثانياً: فلأن الرسول÷ نزلها منزلة الحدود بقوله: ((أربعة إلى الولاة)). وعد من جملتها الجمعة، فدل ذلك على مفارقتها للصلوات المكتوبات في إشتراط الإمام فيها.
__________
(1) الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أبو وهب القرشي ابن عمرو بن أمية بن عبد شمس، روى عن النبي÷ وعنه أبو موسى عبد الله الهمداني وعامر الشعبي وحارثة بن مضرب، قال ابن سعد بسنده: أسلم الوليد يوم الفتح وبعثه رسول الله على صدقات بني المصطلق، وولاه عمر صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة [بدلاً عن سعد بن أبي وقاص] ثم عزله، فلما قتل عثمان تحول إلى الرقة فنزلها حتى مات بها سنة 61هـ على خلاف، وكان أخبر النبي÷ عن بني المصطلق أنهم ارتدوا عن الإسلام وأبو أداء الصدقة، وذكلك أنهم خرجوا إليه فهابهم ولم يعرف ما عندهم، فبعث رسول الله خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت فيهم فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام، فنزلت: {ياأيها الذين أمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...} الآية 6 من الحرجات، راجع (تهذيب التهذيب) 11/125 (وتهذيب الكمال) 31/53.
قالوا: الآية دالة على أن الإمام غير مشترط في صحة الجمعة لأنه تعالى قال: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]. ولم يذكر اشتراط الإمام.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد أوضحنا أن الآية مجملة وأن بيانها إلى الرسول÷، وقد أوضحها في شروطها وأبان كيفيتها ومن جملة بيانه لها أن تولاها إماماً بنفسه، وقد ظهر ذلك في فعله وأما قوله فقد بينها بقوله: ((فمن تركها وله إمام عادل أو جائر)). فقد حصل بما ذكرناه بيان هذه الصلاة بالقول والفعل من جهته.
وأما ثانياً: فلأن الخلفاء ومن بعدهم خلفاً عن سلف معتمدون على وجوب اشتراط الإمام في الجمعة وما ذاك إلا لأنهم فهموا ذلك من جهة الرسول÷ في أقواله وأفعاله فلهذا وجب الإعتماد على ذلك.
الفرع الثاني: إذا تقرر اعتبار كون الإمام شرطاً في صحة صلاة الجمعة فهل يعتبر كونه عدلاً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب اعتبار عدالته، وهذا هو رأي أئمة العترة.
والحجة على هذا: هو قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود:113].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن اللّه تعالى نهى عن الركون إلى الظلمة وأهل الجور والفساد، ومن صلى خلف ظالم أو جائر فقد ركن إليه في صحة صلاته وفي كونه ضامناً للصلاة كما هو جار في حق أهل العدالة من الآئمة.
الحجة الثانية: قوله÷: ((لا يؤمكم ذو جرأة في دينه)). ولا جرأة أعظم من ظلم العباد وملابسة المحظورات وأكل الأموال الحرامية إلى غير ذلك من أنواع الجور والفساد.
المذهب الثاني: جواز الصلاة في يوم الجمعة خلف الظلمة وأهل الفساد والجور، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله÷: ((فمن تركها وله إمام عادل أو جائر)). فظاهر الخبر دال على جواز الصلاة خلف الجائر من الظلمة وأهل الفساد والجور كما تجوز خلف العادل.
والمختار: وجوب اشتراط العدالة في إمام الجمعة كما ذكره أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن الإمام الأعظم هو الشرط في وجوبها وليس يكون إماماً للمسلمين إلا إذا كان مختصاً بصفات حاصلاً على شرائط، ومن جملتها: العدالة لأنه إذا كان عدلاً كان متولياً لمصالح الدين جامعاً لشمل المسلمين واضعاً للحقوق في مواضعها غير مفرط في شيء من الأموال في غير وجهه، ذاباً عن الجوزة، وكل ذلك معتمده العدالة فإذا لم يكن عدلاً بطلت هذه المصالح كلها وبطل الغرض به ولم يكن صالحاً للإمامة بحال.
الحجة الثانية: هو أن الشهادة لا خلاف في وجوب اعتبار العدالة فيها ولا يحكم الحاكم إلا بشهادة عدلين في الحقوق والأموال، فإذا كانت العدالة معتبرة في الدرهم الواحد وفي العشرة ويجب اعتبارها في الحقوق من الوكالة والوصاة فكيف لا تعتبر في أجلّ الإشياء وأخطرها وأعظمها حقاً عند اللّه تعالى وهي الإمامة وهي تتعلق بمصالح الدين والدنيا وعليها يدور صلاح الخلق.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول÷ أنه قال: ((وله إمام عادل أو جائر)). فلم يفصل بين العادل والجائر في صحة الإمامة في صلاة الجمعة، وفي هذا دلالة على جواز إمامة الظالم ومن كان جائراً خارجاً عن التمسك بالدين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الآية والخبر دالان على وجوب اعتبار العدالة وقد تعارضا وإذا تعارضا وجب الترجيح، ولا شك أن الآيات لا يمكن أن تعارضها الأخبار بل يجب الإعتماد على ما تدل عليه الآيات لأنها مقطوع بأصلها والأخبار مظنونة فلهذا كان العمل عليها أرجح من العمل على الأخبار.
وأما ثانياً: فلأن المراد بقوله: ((عادل أو جائر)) في الباطن؛ لأن الظاهر إذا كان هو العدالة فلا حاجة إلى العلم بالباطن فإن لا يطلع عليه إلا اللّه تعالى ولسنا مكلفين بعلم اللّه تعالى، وإنما نكلف بعلمنا وظننا.
الفرع الثالث: اعلم أنا قد أوضحنا فيما سبق انعقاد الإجماع من جهة أئمة العترة على كون الإمام شرطاً في إنعقاد الجمعة وصحتها واشتراط عدالته وقررنا ذلك بأدلة شافية، والذي بقي علينا من ذلك هو البحث عن كون هذا الإجماع مقطوعاً أو مظنوناً وهل يكون مانعاً من الاجتهاد أم لا؟ وهل يفسق مخالفه أم لا؟ فهذه أحكام ثلاثة لا بد من كشف الغطاء عنها وبها يظهر نور المسألة ويبدو رونقها.
الحكم الأول: في طريق هذا الإجماع هل يكون معلوماً أو مظنوناً.
فاعلم أن طريق الإجماع على وجهين:
أحدهما: أن يكون متواتراً نقله، ومتى كان على هذه الصفة كان موجباً للعلم كما نقوله في مكة وبغداد فإن طريقنا إلى العلم ليس بالمشاهدة فإنا لم نشاهدهما ولكن طريقها إلى العلم بهما إنما هو التواتر، وهكذا الحال في العلم بالرسول÷ وبالقرآن وأصول الشريعة فإنه لا طريق لنا إلى العلم إلا التواتر.
وثانيهما: أن يكون منقولاً بالآحاد ومتى كان على هذه الصفة فهو أمر ظني يعمل به في الأمور الظنية والأحكام العملية ولا يعمل به فيما كان مقطوعاً به، فإذا عرفت هذا، فالإجماع المنقول على اشتراط الإمام في الجمعة واشتراط عدالته ليس منقولاً بطريق التواتر ولا هو مقطوع به وإنما نقله بطريق الآحاد، فلا جرم كان مثمراً للظن معمولاً به في الأمور العملية ومن جملة الأمور العملية اشتراط الإمام واشتراط عدالته في القيام بالجمعة، فأما كون إجماعهم حجة فهو أصل من أصول الأدلة الشرعية وقد قررناه في الكتب الأصوليه ودفعنا عنه الأسئلة الواردة عليه وهذه الأحكام الثلاثة كلها متفرعة عليه.
الحكم الثاني: هل يكون [الإجماع] مانعاً من الاجتهاد أم لا؟ إذا وقع في مسألة من مسائل الشريعة.
فنقول: متى كان منقولاً بالتواتر كان موجباً للعلم لا محالة وكان مانعاً من الاجتهاد كالنص فإنه مانع من الاجتهاد، وإنما منع لكونه مقطوعاً بظاهره فأما إذا كان نصاً وليس مقطوعاً بأصله فإنه لا يكون مانعاً من الاجتهاد كما نقوله في أخبار الآحاد، فإنه وإن كان بعضها نصاً في المسألة فلا يكون هناك مانع من مخالفته، ومتى كان منقولاً بطريق الآحاد فإنه يكون مظنوناً ومتى كان مظنوناً لم يكن مانعاً من الاجتهاد كما نقوله في المسائل المأخوذة من جهة الأخبار فإنها معترك للظنون في مسائل التحليل والتحريم، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن هذا الإجماع في اشتراط الإمام في الجمعة لما كان مظنوناً من جهة نقله بطريق الآحاد لم يكن مانعاً من الإجتهاد، فإن المسألة خلافية بيننا وبين الفقهاء، ولو كان الإجماع مقطوعاً بطريقة لم يكن لخلافهم وجه كما لو خالفوا نصاً مقطوعاً به فلما خالفوا من غير نكير دل على أن طريق الإجماع مظنون، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن كل ما كان طريقه القطع بنص متواتر أو إجماع متواتر فإنه يكون مانعاً من الاجتهاد على خلافه.
الحكم الثالث: هل يفسق من خالف إجماع العترة أم لا؟ فنقول المخالف لإجماع العترة لا يفسق سواء كان طريقه مظنوناً أو مقطوعاً، أما إذا كان مظنوناً فلا إشكال فإن الفسق لا يكون إلا بطريق معلوم، وأما إذا كان مقطوعاً فلم يرد الوعيد على مخالفته فلهذا لم يقطع بفسق من خالفه، ويخالف إجماع الأمة وإن اشتركا في كونهما قاطعين فيما تواترا فيهما لما ورد الوعيد على مخالفة إجماع الأمة فلا جرم قضينا بفسق من خالف إجماع الأمة دون من خالف إجماع العترة، لكن نقطع بخطأه لا غير لكونه قد خالف قاطعاً، وقد نجز غرضنا من بيان هذه الأحكام التي ذكرناها ونرجع إلى التفريع.
الفرع الرابع: وإذا كان وجود الإمام شرطاً في إنعقاد الجمعة وكان بعض المسلمين في بعض الأقاليم والأمصار قد بلغب دعوته إليه ولا يمكنه الوصول إليه، فهل يجوز له إقامة الجمعة من غير تولية له من جهة الإمام ولا إذن أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك، وهذا هو الذي نصه الهادي في المنتخب، واختاره السيد أبو طالب رضي اللّه عنه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن)). فإذا رأى هذا النائي عن الإمام مع بلوغ دعوته إليه واستكمال الشرائط فيه أن يقيم له الجمعة من غير ولاية إذا كان هناك مانع من الوصول إليه وأخذ الولاية منه، جاز له ذلك لأن اختيار المسلمين له وراضاهم بإقامته للجمعة للإمام قائم مقام ولاية الإمام له. ويؤيد ما ذكرناه: ما روي عن الرسول÷ لما خرج إلى بني عمرو بن عوف يصلح بينهم قدَّم المسلمون أبا بكر يصلي بهم ولم ينكره الرسول÷ وصوبه. وفي غزوة مؤتة لما جهزهم وأمَّر عليهم زيداً(1) وقال: ((إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبدالله بن رواحة)). فلما قتلوا جميعاً اختار المسلمون خالد بن الوليد(2)
__________
(1) زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى، مولى النبي÷ صاحبي جليل من السابقين إلى الإسلام، تبناه رسول الله÷، وقال ابن عمر: ما كنا ندعوه إلاَّ زيد بن محمد حتى نزلت: {ادعوهم لآبائهم} وكان اشتراه حكيم بن حزام من سوق عكاظ بأربعمائة درهم لعمته خديجة رضي الله عنها، فلما تزوجها رسول الله وهبت زيداً له، ونقل ابن سعد في (الإصابة) عن عبد الرزاق بسنده: ما نعلم أن أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة، وكان يعرف بأنه حِبُّ رسول الله÷ كان قائد جيش رسول الله في مؤته، واستشهد فيها بعد أن أبلى فيها بلاءً عظيماً سنة 8 من الهجرة. اهـ. 2/895.
(2) أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة القرشي المخزومي، أسلم قبل الفتح بعد الحديبية، وكان أميراً على الجيش في أكثر من غزاة أثناء الفتوحات، و هو قائد محنك وفارس معروف، كان مع المشركين يوم أحد واستغل ومن معه نزول الرماة وانشغالهم بتعقب المشركين فالتف على جيش المسلمين وكان سبب هزيمتهم يوم أحد الناتج عن مخالفة الرماة لأمر رسول الله÷، كان في جيش المسلمين يوم مؤتة، وهو الذي تولى قيادة الجيش بعد استشهاد قادته الثلاثة زيد وابن رواحة وجعفر، وقفل بالجيش عائداً إلى المدينة، مات سنة 22 بحمص ودفن بها، انظر: (مشتاهير علماء الأمصار) 1/31، و(تقريب التهذيب) 191، و(الاستيعاب) 2/427.
فأمرَّوه عليهم ولم ينكر الرسول÷ ما فعلوه، وفي هذا دلالة على ما قلناه من الجواز، فإن كان النائي يمكنه الوصول لم يجز له إقامة الجمعة إلا بإذنه وتوليته.
المذهب الثاني: المنع من ذلك، وهذا هو رأي المؤيد بالله وتأول ما قاله الهادي في المنتخب على أن الإمام ولاه سراً.
والحجة على هذا: هو أن إقامة الجمعة عبادة من شرط صحتها الإمام فوجب أن يعتبر في صحة إقامتها إذن الإمام كالحدود فإنه لا يجوز إقامتها من غير تولية الإمام وإذنه، وهكذا أخذ الزكاة وغير ذلك مما يكون أمره إلى الإمام فلا يجوز فعله إلا برضاه وأذنه.
والمختار: ما قاله [الهادي] في المنتخب، وارتضاه السيد أبو طالب من جواز ذلك إذا كان هناك مانع يمنع من الوصول لأخذ الولاية، وهو محكي عن أصحاب أبي حنيفة، وحكي عن الكرخي: أنه لا تجوز الجمعة إلا بإذن الإمام وتوليته إلا أن يكون هناك مانع يمنع من الوصول إليه جاز ذلك. وهذا يؤيد ما قاله أبو طالب وذكره الهادي في المنتخب.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]. ومعلوم أن ما هذا حاله فهو من المعاونة على البر لأن ظهور جمعة الإمام والدعاء إلى طاعته وإشتهار أمره في تلك الناحية وذلك الأقليم، فيه أعظم المصالح لأن بظهور أمره يقوم الأمر بالمعروف وترتفع المنكرات ويضعف أمر الظلم ويهيئ(1)
جانب الظلمة خوفاً من سطوة الإمام وتوقعاً لنكاله.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إقامة الجمعة عبادة من شرط صحتها الإمام فلا بد من اعتبار إذنه وولايته كالحدود وأخذ الأموال وأمور الجهاد.
قلنا: هذا مسلم إذا كان ممكناً لا يتعذر الوصول إلى الإمام ولكن إذا كان الوصول متعذراً لم يجز بطلان هذه المصلحة التي ذكرناها بإظهار شعار الإمام وتقوية أمره وإشتهار ولايته وبما يصلح في ذلك من المصالح الدينية والدنيوية.
__________
(1) هكذا في الأصل غير واضحة، ولعلها: يوهن.
قال الشافعي: ويستحب أن لا تقام الجمعة إلا بإذن الإمام لأن الجمعة لم تقم في عهد رسول اللّه÷ إلا بإذنه، ولا أقيمت في أيام الخلفاء إلا بإذنهم وولايتهم. وهو محكي عن مالك وأحمد بن حنبل وكثير من الفقهاء، وإنما قالوا بااإستحباب لما كان الإمام غير شرط في صحة الجمعة عنده، وعن أبي حنيفة والأوزاعي، وجوب ذلك. كما مر بيانه.
الفرع الخامس: وإذا كان الإمام محبوساً، فهل يجوز إقامة الجمعة للمسلمين أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك، وهذا هو رأي أئمة العترة.
والحجة على هذا: هو أن وجود الإمام من شرط صحة الجمعة كما مر بيانه، فإذا كان محبوساً بطل تصرفه وبطل وجوبها على المسلمين لبطلان الإمام وتصرفه.
المذهب الثاني: جواز ذلك، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة، وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: إذا مات الإمام جاز للمسلمين أن يقيموا من يصلي بهم الجمعة لأن هذا موضع ضرورة.
والحجة على هذا: هو أن الجمعة فرض عين، فإذا حبس الإمام أو مات جاز للمسلمين إقامتها لئلا يفوت عليهم هذا الفرض المتعين.
والمختار: ما قررناه أولاً من اشتراط وجود الإمام في إيجاب الجمعة لما قدمنا من الأدلة فإذا مات أو حبس فقد بطل شرط إقامتها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الموت والحبس من جملة الأمور النادرة ومواضع الضرورة، فلهذا قلنا بجواز إقامتها من جهة المسلمين.
قلنا: إن كل ما كان شرطاً في صحة أمر وثبوته وقامت الدلالة [عليه] فإنه لا يجوز حصوله من دونه لأن صحته من دونه تؤذن بكونه شرطاً تقف صحته على وجوده وثبوته.
الفرع السادس: والإمام إذا اجتمع له صلاة جمعة والكسوف والإستسقاء والجنازة فإنه يبدأ بصلاة الجمعة لأمرين:
أما أولاً: فلأنها من فروض الأعيان وما عداها إما واجب على الكفاية كصلاة الجنازة، وإما سنة مؤكدة كصلاة الكسوف والإستسقاء، وإن اجتمع صلاة الجنازة والكسوف والإستسقاء فإنه يبدأ بصلاة الجنازة لقوله÷: ((ثلاث لا ينبغي التأني فيهن: الجنازة إذا حان وقتها، والصلاة إذا حضر وقتها، والأيم إذا حضر كفؤها)) (1).
إلا أن يخشى فوات الكسوف بالإنجلاء فالبداية به، وإن حضر الكسوف والإستسقاء فهما سواء إلا أن يخاف فوات الكسوف بالإنجلاء فهو أحق بالبداية.
ويستحب للإمام أن يأتي الجمعة راجلاً لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))(2).
ولأن الثواب بالمشي أكثر أجراً وأعظم ثواباً من الركوب.
ويستحب أن يأتيها حافياً غير منتعل لما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه كان يأتي الجمعة حافياً، وهذا كله في الرواح في الجمعة فأما بعد الفراغ منها فيفعل ما شاء من الركوب والإنتعال لأن الفضل إنما يكون في القصد إليها لا في المراح بعد إنقضائها، ولا يجوز الإئتمام في صلاة الجمعة بالصبي لأنه غير مكلف بالصلاة، ويجوز عند الشافعي في أحد قوليه، ويجوز الإئتمام بالأعمى لما روي عن الرسول÷ أنه كان يستخلف ابن أم مكتوم يصلى بالناس في المدينة، ويجوز الإئتمام بالعبد في صلاة الجمعة لأنها صلاة مفروضة فجاز الإئتمام به كصلاة الظهر، وحكي عن مالك أنه لا يجوز أن يكون العبد إماماً لأن إمامة الصلاة فيها علو ورفعة والرق في غاية النزول والركة فلأجل هذا تناقض حكمهما.
والمختار: جواز ذلك لأنه مسلم نقي عاقل مكلف فجازت الصلاة به كالحر.
__________
(1) تقدم.
(2) وروي الحديث بزيادة: ((.... المشائين في الظلمات)) و ((... في الظلم)) و((...في ظلم الليل)) أخرجه بهذه الزيادات ابن خزيمة في صحيحه 1/331، والترمذي 1/435، وأبو داود 1/154، وابن ماجة 1/257.
الفرع السابع: والإمام إذا كان من أهل الظلم والجور والفسق، والخطيب إذا كان متولياً من جهتهم ويخطب لهم ويدعو لهم على المنابر، فإذا كانوا على هذه الصفة تعلق بهم حكمان:
الحكم الأول: أنه لا يجوز حضور جُمَعِهم عند الأكابر من أئمة أهل البيت" ويأثم الحاضرون لها، وقد حكي عنهم روايات في المنع من ذلك والتشديد على من حضر والنكير، ونحن نذكرها ليتحقق الناظر ما خصهم اللّه به من الصلابة في ذات اللّه والتشدد في أمر الدين والبعد عن أهل الجور والظلم.
الرواية الأولى: مأثورة عن زيد بن علي، ومحمد بن عبدالله النفس الزكية(1): أ
ن كل من حضر خطبهم فهو آثم.
الرواية الثانية: عن إبراهيم بن عبدالله(2)
أنه سئل عن الجمعة هل تجوز مع الإمام الجائر؟ فقال: إن علي بن الحسين، وكان سيد أهل البيت كان لا يعتد بها معهم ويُؤَثِّم من حضرها.
الرواية الثالثة: محكية عن جعفر الصادق أنه سئل عن ذلك فقال السائل: أصلي خلفه وأجعلها تطوعاً؟ فقال: لو قبل التطوع قبلت الفريضة.
الرواية الرابعة: عن القاسم بن إبراهيم أنه قال: من صلى معهم فقد أثم.
الرواية الخامسة: عن الناصر أنه قال لشالوس(3)
ـ وكان ممن يحضر جُمَعَ الظلمة وأهل الجور والفسق ـ: إنكم تحضرون الجمعة وهي فرض من فرائض اللّه مع الظلمة فيأتي خطيبهم فيقول: اللهم أصلح عبدك وخليفتك والقائم بأمرك وبالحق في عبادك، وهو في حال دعاءه خِمِّير فاسق فيكذب مثل هذه الكذبات في خطبته التي هي نصف الصلاة فما أحد منكم يشري نفسه من اللّه فيكذبه في قوله وينكر عليه. فهذا كله تصريح بأنه لا يجوز لأحد من المسلمين حضور هذه الجمعة إذا كان الخطيب يخطب للظلمة.
الرواية السادسة: عن المؤيد بالله قال: يكره الحضور معهم فهذه الروايات كلها دالة على تأثيم الحاضرين.
الرواية السابعة: عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه قال: من سوَّد علينا فقد شرَّك في دمائنا. ومعنى كلامه هذا من كثر جماعة أعدائنا وزاد في سوادهم علينا، فكلامه هذا دال على أنه لا يجوز حضور جُمَعِهم. ويدل على البعد منهم والمجانبة لهم، ومن كان له إلى اللّه أدنى وسيلة ووثاقة في الدين فإنه يعتمد على ما رويناه، ومصداق هذه المقالة ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((من دعا لظالم بالبقاء فقد أعان على هدم الإسلام))(1).
وقوله÷: ((إذا مدح الفاسق أهتز العرش))(2).
وقوله÷: ((من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى اللّه في أرضه))(3).
الحكم الثاني: أنهم إذا صلوا وجبت عليهم الإعادة لأن الإمام شرط في إنعقاد الجمعة وصحتها، ولا شك أن إمامتهم باطلة فلهذا بطلت الجمعة ووجب عليهم إعادة الظهر، فأما على قول من قال: بأن المعاصي تكون ناقضة للوضوء. فإنه ينتقض وضوءه بكذبه وتعظيمه للظلمة وأهل الفسق، فلا جرم أوجبنا عليهم إعادة ما صلوا وهم على هذه الحالة، وهل يجب القضاء بعد فوات الوقت؟ فيه تردد والقوي أنه لا يجب عليهم القضاء بعد فوات الوقت لأنها من المسائل الخلافية، كما حكي عن شيوخ المعتزلة والحنفية: أنه لا يجوز التأخر عن الجمعة وإن كان الخطيب يخطب للآئمة والظلمة وأهل الفسق المتغلبين.
الفرع الثامن: والإمام إذا كان واقفاً في بلدة أو محلة متقاربة الأطراف فهل يجوز أن تقام الجمعة في مسجد واحد أو في كل مسجد؟
فالذي عليه أئمة العترة وأكثر الفقهاء: على أنه لا يجوز أن تقام الجمعة فيها إلا في مسجد واحدٍ.
__________
(2) رواه عن أنس بن مالك أبو يعلى في معجمه 1/165 بلفظ: ((إذا مُدح الفاسق غضب الرب واهتز العرش)) وهو في (ميزان الاعتدال) بلفظه في الأصل 3/161، وكذا في (لسان الميزان) 3/2.
(3) ورد على أنه كلام بعض السلف، وقد ذكره ابن حنبل في (الورع) 1/97، وهو في (شعب الإيمان) 7/53.
والحجة على هذا: قوله÷: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). والمعلوم من حالهم في المدينة وحاله أنه ما صلى فيها إلا في مسجد واحدٍ، وهي بلدة كبيرة ومصر من الأمصار، فإذا كان هذا واقعاً في المدينة مع سعتها ففي المحلة والقرية أحق وأولى.
وحكي عن عطاء وداود من أهل الظاهر: أنه يجوز إقامتها في كل مسجد كسائر الصلوات المفروضة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن من شرط الجمعة الجماعة، واجتماع الناس في القرية والمحلة الصغيرة سهل فلهذا وجب اجتماعهم على صلاة واحدة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إنها صلاة فجازت إقامتها في كل مسجد كالصلاة المكتوبة.
قلنا: إن المعنى في الأصل أن الإجتماع ليس شرطاً في الصلوات المكتوبة فلهذا جازت تأديتها في كل مسجد بخلاف الجمعة فإن من شرطها الجماعة فافترقا، وإن كان مقام الإمام في مصر كبير متباعد الأطراف فهل يجوز أن تقام الجمعة فيه في مسجد واحدٍ أو أكثر من ذلك؟ فيه أقوال خمسة:
القول الأول: جواز ذلك وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب للمذهب.
والحجة على هذا: هو أن المصر إذا كان متباعد الأطراف مثل بغداد أو البصرة فإن إجتماعهم في مكان واحدٍ تلحقهم به المشقة والحرج في التزاحم والضيق والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}[الحج:78]. فلهذا جاز فعلها في موضعين وثلاثة على قدر الحال في ذلك.
القول الثاني: المنع من ذلك، وهذا هو المحكي عن الشافعي فإنه قال: ولا يُجَمَّع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحدٍ.
وحجته على هذا: هو أن الرسول÷ والخلفاء بعده ما أقاموا الجمعة إلا في موضع واحدٍ وقد قال÷: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
القول الثالث: محكي عن أبي يوسف، وهو أن البلدة إذا كان لها جانبان وفي وسطها نهر عظيم يجري مثل مدينة السلام ـ يعني بغداد، وواسط ـ جاز أن يصلي في كل جانب منها جمعة. وهو محكي عن أبي الطيب من أصحاب الشافعي.
القول الرابع: محكي عن محمد بن الحسن، أن القياس أنها لا تقام إلا في مسجد واحد لكنه يجوز إقامتها في البلد في مسجدين استحساناً، ولا يجوز إقامتها في ثلاثة مساجد.
القول الخامس: الذي يأتي على كلام أبي حنيفة إذ ليس له في المسألة نص فحكي أن مذهبه مثل مذهب الشافعي، وقيل: إن مذهبه مثل قول محمد بن الحسن في الإستحسان.
واعلم أن الإستحسان وآدٍ من أودية القياس لكنه أخص من القياس وأدخل في غلبات الظنون والقياس إقامتها في مسجد واحدٍ لأن ذلك هو الواجب، والذي دلت عليه أدلة الشرع والإستحسان إقامتها في مسجدين لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك من غير زيادة عليه فإذن لا حاجة إلى ثالث إذ لا دلالة لا من جهة القياس ولا من جهة الإستحسان.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، وهو أن الأمر في ذلك على ما يراه الإمام الأعظم أو من يقوم مقامه بأمره في الجمعة، فإن كان الإجتماع في مسجد واحدٍ ممكناً فلا حاجة إلى إقامتها في غيره لأن ذلك يؤدي إلى تفرق الكلمة وتشتت الشمل، وإن كان غير ممكن أو كان في الإجتماع مشقة على المسلمين في الإجتماع بالإزدحام والتضايق جاز إقامتها في مساجد لأجل الضرورة الداعية إلى ذلك لأن العذر إذا كان ظاهراً فمداخل الإحن والبغضاء منسدة لا يظنها ظان وإذا لم يكن العذر ظاهراً تطرقت إليهم الإحن وأنواع العداوة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: لم تقم الجمعة إلا في مسجد واحد في زمن الرسول÷، كما حكي عن الشافعي المنع من ذلك. وعن أبي يوسف: الجواز إذا كان للبلدة جانبان كبغداد أقيمت في مسجدين، والإستحسان إقامتها في مسجدين كما حكي عن محمد. فأما أبو حنيفة: فرأيه في ذلك إما على ما قاله الشافعي، أو على ما قاله محمد.
قلنا: الجواب عن هذه المذاهب بحرف واحد: وهو تقرير الحال على ما تدعو إليه المصلحة في ذلك، ولا وجه للمنع مع دعاء الضرورة إليه، ولأن الأمر إذا إنتهى إلى مثل هذه الحالة فالأولى تحكيمها على ما يكون فيه مصلحة للمسلمين أو للصلاة، وذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والحمدلله.
الفرع التاسع: في حكم الجمعتين إذا اجتمعتا، وإن أقيمت جمعتان في البلدة الصغيرة التي لا يصح إقامتها فيها؟ نظرت فإن كان لإحداهما مزية على الأخرى بأن كان في إحداهما الإمام الأعظم فإن كان مع الأولى فهي الصحيحة لأنها الأولى ومعها الإمام الأعظم، وإن كان الإمام في الثانية فأيهما تكون أحق بالصحة؟ فيه تردد.
والمختار: الثانية هي الصحيحة لأنها جمعة الإمام ولأنا لو حكمنا بصحة الأولى لكان في ذلك إعراض عن الإمام وتهاون بجمعته، فلأجل هذا كان الحكم بصحة الثانية هو الأحق والأولى، وإن لم يكن لإحداهما مزية على الأخرى بأن أقيمتا بإذن الإمام فذلك يكون على خمسة أوجه:
الوجه الأول: أن تسبق إحداهما الأخرى، فالأولى السابقة هي الصحيحة، لأنها أقيمت بشرائطها فمنعت صحة الثانية والثانية باطلة، وهل يعتبر السبق في الأولى بالإحرام بالصلاة أو بالإبتداء بالخطبة؟ والأولى أن الإبتداء بالخطبة يعتبر به السبق لأنهما قائمتان مقام الركعتين.
الوجه الثاني: إذا أحرموا بهما جميعاً في حالة واحدة حكم ببطلانهما جميعاً لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى فتكون مرجحة، ولا وجه للجمع بينهما لأن الفرض إنما هو واحدة، فإذا كان لا ترجيح بينهما وجب الحكم ببطلانهما جميعاً.
الوجه الثالث: إذا لم يعلم هل سبقت إحداهما الأخرى أو كانتا في وقت واحدٍ فإنه يحكم ببطلانهما جميعاً لما ذكرناه في الوجه الثاني إذ لا مزية لإحداهما على الأخرى، ويجب عليهم أن يعيدوا الجمعة إذا كان الوقت واسعاً لأن فرضها لازم لهم فلا بد لهم من أدائه.
الوجه الرابع: إذا علم أن إحداهما سابقى لكنه غير معلوم بعينه، ومثاله: أن يسمع تكبير أحد الإمامين بالإحرام بالصلاة ـ إذا قلنا: الإعتبار بالسبق بالإحرام ـ ثم كبر الثاني ولا يُعلم الذي كبر أولاً.
الوجه الخامس: إذا عُلِم عين السابقة من الصلاتين ثم نسيت، ومثاله: أن يعلم عين المكبر أولاً لكنه نسي فالحكم في هذين الوجهين أعني الرابع والخامس واحد، وهو أن الجمعتين باطلتان، وإذا كان الأمر كما قلنا فالواجب على المسلمين قضاء الجمعة لأنا إذا حكمنا ببطلانهما معاً صار كأنه لم تقم في المصر جمعة فلهذا وجب عليهم إقامتها لأنا نعلم أن إحداهما باطلة والأخرى صحيحة، وإذا لم يعلم عين الصحيحة من الباطلة فالأصل بقاء الفرض في ذممهم فلهذا توجه عليهم الإعادة.
الفرع العاشر: والإمام إذا مر بمصر من الأمصار فصلى فيه الجمعة بأهله، فالذي يأتي على المذهب أن صلاة الإمام والمأمومين صحيحة مجزية، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الصفات المعتبرة في صحة الصلاة لهم جميعاً حاصلة فلأجل هذا قضينا بصحة الصلاة لهم جميعاً، وحكي عن زفر: أنها غير مجزية للإمام والمأمومين جميعاً، وإنما لم تصح صلاة المؤتمين لأنهم مقيمون والإمام مسافر، وقد قال÷: ((لا تختلفوا على إمامكم)). وإنما لم تصح صلاة الإمام لأنها لما بطلت في حقهم بطل العدد الذي هو شرط في صحة الصلاة فلأجل هذا بطل إجزاؤها في حق الإمام والمأمومين معاً.
والمختار: هو الأول لما ذكرناه من كمال الشرائط في حقه وحقهم، وما ذكره زفر فلا وجه له لأمرين:
أما أولاً: فلأنه لا خلاف في صحة الصلاة للمقيم خلف المسافر.
وأما ثانياً: فلأن الفرض في حق الإمام والمأموم متفق وهو فرض الجمعة لأنها ركعتان في حق المقيم والمسافر.
الفرع الحادي عشر: وإن صلى الإمام ثم ذكر أنه كان جنباً بطلت صلاته لبطلان طهارته وبطلت صلاة المؤتمين، ولا يقع هاهنا خلاف في بطلان صلاة المؤتمين كما وقع الخلاف في صلاة الجماعة كما قررناه لأن الإمام هاهنا شرط في صحة صلاة الجمعة بخلاف صلاة الجماعة، ولو صلى في صلاة الجمعة بجماعة ثم بان أنهم محدثون فإن صلاتهم باطلة لبطلان طهارتهم فتلزمهم الإعادة، فأما صلاة الإمام فهل يحكم بصحتها أم لا؟ فمن أصحاب الشافعي من حكم بصحة صلاة الإمام لأنه لم يكلف بالعلم بطهارة من خلفه من المؤتمين فلهذا حكمنا بصحة صلاته.
والمختار: بطلان صلاته لبطلان العدد لأنه شرط في صحة صلاة الجمعة كالإمام، وبالله التوفيق.
القول في العدد: وهو شرط في صحة الجمعة، ولا خلاف أن الجمعة لا تنعقد إلا بعدد لقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9]. وهذا خطاب للمسلمين بخطاب الجمع.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: اختلف العلماء في أقل العدد الذي تنعقد به الجمعة على مذاهب ثمانية:
المذهب الأول: أن أقل ما تنعقد به الجمعة أربعة: الإمام، وثلاثة مأمومين، وهذا هو الذي ارتضاه السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب للمذهب، وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن قوله تعالى: {فاسعوا} إنما هو خطاب للجمع وأقل الجمع ثلاثة لأن ما دون الثلاثة فليس جمعاً وما فوقها زائد على الجمع، فلهذا قلنا: إن أقله يكون ثلاثة غير الإمام لأن الخطاب للمسلمين، والسعي إنما هو إلى الإمام فلهذا كان مغايراً للساعين إليه.
المذهب الثاني: أن أقل ما تنعقد به: ثلاثة، إمام ومأمومان. وهذا هو الذي اختاره أبو العباس، وحصله لمذهب الهادي، وهو محكي عن أبي يوسف وأبي ثور والأوزاعي والثوري.
والحجة على هذا: هو أن قوله: {فاسعوا} إنما هو خطاب للإمام مع المأمومين ولا شك أنهم ثلاثة فيجب أن يكون الخطاب متوجهاً إليهم، ويمكن أن يقال: إن الخطاب للمأمومين لكن أقل الجمع إثنان عند جماعة من أهل اللغة.
المذهب الثالث: أنها لا تنعقد إلا بأربعين رجلاً ولا تنعقد بدون ذلك، وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن عمر بن عبدالعزيز وغيره، وهل يكون الإمام من جملة الأربعين أو يكون زائداً؟ فيه وجهان: أجودهما: أنه يكون من جملة الأربعين.
والحجة على هذا: ما روى عبدالرحمن بن كعب بن مالك(1)
قال: كنت قائداً لأبي بعدما كف بصره فكان إذا سمع الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة، فقلت له: إنك تترحم عليه في نداء كل جمعة؟ فقال: نعم.. كان أول من جَمَّع بنا في بني بياضه. قلت: كم كنتم؟ قال: أربعين رجلاً. وروي عن جابر بن عبدالله أنه قال: مضت السنَّة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة.
المذهب الرابع: أنها تنعقد بأثني عشر رجلاً محكي عن ربيعة، وعن عكرمة: أنها تنعقد بتسعة. وحكي عن الحسن البصري: أنها تنعقد بإمام ومأموم. وهو محكي عن داود وعن الحسن بن صالح: أنها تنعقد بالإمام وحده. وعن مالك: أني لا أجد في ذلك حداً وإنما يعتبر في ذلك عدد يمكنهم المقام في قرية ويتمكنون فيها.
والمختار: ما أرتضاه الأخوان وحصَّلاه للمذهب: من أنها تنعقد بثلاثة مع الإمام.
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) أبو الخطاب عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري السملي، روى عن أبيه وأخيه عبد الله بن كعب وأبي قتادة وجابر وعائشة وغيرهم، وعنه: ابنه كعب وأبو أمامة بن سهل والزهري وغيرهم، ولد على عهد النبي÷ ولم يرو عنه شيئاً، توفي في ولاية سليمان بن عبد الملك بن مروان، وقيل: في ولاية هشام. اهـ (تهذيب التهذيب) 6/233، وقال في (الإصابة): قال ابن سعد: كان ثقة وأكثر حديثاً من أخيه. اهـ. 5/47.
ونزيد هاهنا: وهو أن الروايات في الأخبار متعارضة فروي عن أسعد بن زرارة أنه جَمَّعَ في أربعين، وروي عن مصعب بن عمير(1): أنه جَمَّعَ في اثني عشر رجلاً(2)
__________
(1) أبو عبد الله مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، من جلة الصحابة ومشاهيرهم وفضلائهم، هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولى، شهد بدراً، وكان رسول الله÷ قد بعثه إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وكان يدعى القارئ المقرئ، ويقال: إنه أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة، ذكر في (الاستيعاب) عن الواقدي ما عُرف به مصعب بن عمير في مكة بأنه كان فتاها شباباً وجمالاً، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان رسول÷ يذكره ويقول: ((ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عيمير)) ولما بلغه أن رسول الله يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم جاءه وأسلم وظل يختلف إلى رسول الله سراً، فبصر به عثمان بن طلحة يصلي فأخبر به قومه وأمه، فأخذوه وحبسوه فلم يزل محبوساً إلى أن خرج مهاجراً إلى الحبشة، استشهد في أحد رحمه الله ورضي عنه، وكانت راية رسول الله معه يوم بدر ويوم أحد حتى استشهد فأخذها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، راجع (الاستيعاب) 4/1473، و(الإصابة) 6/123.
(2) جاء في (جواهر الأخبار) 2/13: عن جابر، بينما نحن نصلي مع رسول الله إذ أقبلت عير تحمل طعاماً فالتفوا إليها حتى بقي مع النبي إلاَّ اثني عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} [الجمعة:11] وفي رواية أن الرسول÷ كان يخطب قائماً فجاءت عير من الشام، وذكر نحوه، وقال: إلاَّ اثني عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر، وفي أخرى: إلاَّ اثني عشر رجلاً أنا فيهم، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، قال: وقوله في الكتاب: (يقصد: كتاب البحر): وبقي معه ثمانية، وقوله كذلك فقي (الانتصار) مخالف لما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم.
،
وروي: أنهم انفضوا حين دخلت العير ولم يبق منهم إلا ثمانية رجال إلى غير ذلك من الإختلافات، وإذا كانت الأخبار متعارضة وجب الرجوع إلى ما تدل عليه الآية بقوله تعالى: {فاسعوا} ولا شك أن أقل الجمع ثلاثة مع الإمام فيجب التعويل عليه، ولم أعثر في البخاري والترمذي على شيء يدل على العدد في الجمعة.
ومن وجه آخر: وهو أن التعويل على ما تدل عليه الآية وترشد إليه أحق من التعويل على هذه الأخبار المتعارضة، فإن الآية مقطوع بأصلها وظواهرها مظنونة فلهذا كان التعويل على ما تدل عليه أحق بالقبول لما ذكرناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]. وهذا جمع، وأقل الجمع إثنان مع الإمام كما حكي عن أبي العباس.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن أقل الجمع إثنان، ويدل على ذلك أن للتثنية صبغة في الأسماء الظاهرة فيقال: رجلان وفرسان وللجمع صبغة فيقال: رجال وأفراس، وفي الأسماء المضمرة فيقال في التثنية: هما وضربا. ويقال في الجمع: هم وضربوا. وفي هذا دلالة على أن التثنية ليست جمعاً.
وأما ثانياً: فلأن التثنية إذا كانت جمعاً فيجب أن يكون واحد مع الإمام كافياً في إنعقاد الجمعة لأنهما إثنان.
قالوا: لا تنعقد الجمعة إلا بأربعين كما حكي عن الشافعي اعتماداً على ما حكي عن أسعد بن زرارة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا مذهب لأسعد بن زرارة لأنه لم ينقله عن الرسول÷ فليس الحجة إلا في كلام اللّه وكلام رسوله÷، فأما مذاهب المجتهدين فلا تلزمنا.
وأما ثانياً: فإنه قد روي أن مصعب بن عمير أقام الجمعة في اثني عشر رجلاً، فما ذكروه معارض لهذا العدد فليس أحدهما أحق بالقبول من الآخر.
قالوا: روي: أنها لا تنعقد إلا بأثني عشر رجلاً. كما روي عن ربيعة، وعن عكرمة: بتسعة رجال، وعن الحسن البصري: أنها تنعقد بالإمام مع واحدٍ. وعن الحسن بن صالح: أنها تنعقد بالإمام وحده. وعن مالك: أنه لا يجد في ذلك حداً بعدد مخصوص، وإنما الإعتبار بعدد يمكنهم المقام في قرية.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه مذاهب مختلفة وآراء مضطربة لا تستند إلى دليل شرعي، ولا تتأيد بمسلك نقلي.
وأما ثانياً: فلأن هذه المقدرات أمور غيبية وعبادات شرعية لا يمكن إثباتها بطرق القياس، ولا بمسالك النظر، وإنما مستندها من جهة صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه من قوله وفعله، ولا يمكن فيها تحكيم الآراء ولا تجري فيها الأقيسة باستنباط المعاني لإنسدادها فيها ولا يمكن تقريرها بطرق الأشباه لتعذرها فيها وبعدها عنها، وإنما التعويل في إثباتها على ما ذكرناه من ظواهر القرآن والسنة، والأقوى فيها ما ذكرناه فيجب الإعتماد عليه.
الفرع الثاني: في صفة العدد الذي تنعقد بهم الجمعة، وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهم ضربان:
الضرب الأول: تنعقد بهم الجمعة ويجب فعلها وهؤلاء هم الرجال البالغون الأحرار المسلمون، فمن جمع هذه الأوصاف فإنها تجب عليهم الجمعة وتنعقد بهم إذا حضروا، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي.
الضرب الثاني: الذين لا تجب عليهم الجمعة وتنعقد بهم إذا حضروا وهؤلاء هم العبيد والمرضى والمسافرون والصبيان والنساء فإن هؤلاء لا تجب عليهم الجمعة، وإذا حضروا انعقدت بهم الجمعة.
قيل للسيد أبي طالب رضي اللّه عنه: هل يجب أن يكون العدد [من] الذين يعتبرون في الجمعة أحراراً بالغين عقلاء؟ فقال: يجب أن يكونوا مكلفين.
قيل: فهل يعتبر أن يكونوا رجالاً أحراراً؟ فقال: بل لو كانوا نساء وعبيداً وجب أن تصح وتنعقد بهم الجمعة لأن عندنا أن هؤلاء إن حضروا أجزتهم الجمعة.
المذهب الثاني: أن العدد بالإضافة إلى انعقاد الجمعة وعدم انعقادها على ضروب أربعة:
الضرب الأول: تنعقد بهم الجمعة وتجب عليهم، وهؤلاء إذا كانوا رجالاً بالغين عاقلين مسلمين أحراراً، وكانت عدتهم أربعين رجلاً مقيمين لا يظعنون شتاء ولا صيفاً إلا لحاجة.
الضرب الثاني: الذين لا تجب عليهم الجمعة ولا تنعقد بهم وهؤلاء هم المسافرون والنساء والصبيان والخناثا والعبيد، فهؤلاء لو اجتمع من صنف واحد منهم أربعون رجلاً أو من كل صنف منهم أربعون رجلاً لم تنعقد بهم الجمعة.
الضرب الثالث: الذي لا تجب عليهم الجمعة وتنعقد بهم إذا حضروا وهؤلاء هم المرضى ومن في طريقه مطر ومن يخاف من حضور الجامع فإن حضر هؤلاء انعقدت بهم الجمعة وتوجه عليهم وجوبها.
الضرب الرابع: تجب عليهم الجمعة وفي انعقادها بهم وجهان، وهؤلاء هم المقيمون في المصر لدرس العلم والفقه، ولطلب التجارة والأرباح، فقيل: تنعقد بهم الجمعة لأن كل من وجبت عليه انعقدت به. وقيل: إنها لا تنعقد بهم لأن الرسول÷ لم يقمها بعرفات بأهل مكة، وإن كانت دار إقامتهم لأنها ليست وطناً لهم. وهذا هو رأي الشافعي، فهذا تقسيم العدد المعتبر في من تنعقد الجمعة وصفاتهم وقد مضى الخلاف فيما يجزي من هذه الصفات، وما يجب اعتباره وما لا يجب فأغنى عن تكريره.
الفرع الثالث عشر: إذا كان العدد لا بد من اعتباره، فهل يكون شرطاً في إبتداء الخطبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن العدد شرط في إبتداء الخطبة، وهذا هو الذي يأتي على رأي الهادي، وهو محكي عن الشافعي، لأن الخطبتين عنده بمنزلة الركعتين.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]. والذكر هاهنا هو الخطبة.
المذهب الثاني: أن العدد ليس شرطاً في إبتداء الخطبة، وهذا هو الذي يأتي على رأي المؤيد بالله، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن المقصود هو الصلاة والخطبتان ذكر يتقدم الصلاة فلم يكن العدد شرطاً في إبتداء الذكر كصلاة الجماعة، وعلى هذا لو خطب وحده وحضر العدد وصلى بهم الجمعة جاز ذلك وانعقدت الجمعة.
والمختار: ما ذكره الهادي، وارتضاه الشافعي من أن العدد شرط في إبتداء الخطبة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن المقصود بالخطبتين إنما هو الوعظ والتذكير وتعريف الحاضرين فضل الجمعة، وهذا لا يمكن ولا يتأتى إلا بسماعهم وحضورهم، فإذا كانوا غير حاضرين عند ابتداء الخطبة بطل الغرض بهم.
الانتصار: يكون بالجواب عما اعتمدوه.
قالوا: ذكر يتقدم الصلاة فلم يكن العدد شرطاً في الإبتداء كصلاة الجماعة.
قلنا: المعنى في الأصل هو أن الجماعة ليست شرطاً في صحة انعقاد الجماعة بخلاف ما نحن فيه فإن الجماعة شرط في انعقاد الجمعة فافترقا، ولأنه ذكر يتقدم الصلاة شرط فيها فكان من شرطه حضور الجماعة، دليله: تكبيرة الإفتتاح في الجمعة، فإذا تقرر هذا فإنما يشترط حضور العدد عند الواجبات من الذكر في الخطبة على ما يأتي في تقريره دون ما سواها فلا عبرة به، فإن انفضوا بعد فراغه من الواجبات، فإن عادوا قبل تطاول الفصل بنى الإمام على الخطبة وأحرم بهم للجمعة وصحت الجمعة، وإن رجعوا بعد تطاول الفصل وحدُّ التطاول ما يكون في تعارف الناس تطاولاً، وجب على الإمام أن يعيد الخطبة ثم يصلي بهم الجمعة، وكمال العدد شرط في ابتداء الصلاة، وشرط في إستدامتها كالوقت والمكان، فإن نفر الناس قبل شروعه في الخطبة نظرت فإن عادوا في وقت الجمعة فهي جمعة، وإن لم يعودوا إليها أتمها ظهراً، وإن كان نفورهم بعد شروعه في الصلاة فسيأتي تقرير الكلام في حكم الصلاة إذا اختل أحد شروطها المعتبرة فيها.
---
القول في الإمام
اعلم أنه لا خلاف في وجوب اعتبار إمام المحراب في صلاة الجمعة لأن الإجتماع شرط في صحتها وذلك لا يكون إلا بإمام يجمع شملهم، وإنما الخلاف في الإمام الأعظم هل هو شرط في صحتها وانعقادها أم لا كما سنوضح القول فيه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الإمام الإعظم قائم بأمر الله تعالى وبأمور المسلمين، هل يكون شرطاً في إنعقادها وصحتها أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه شرط في صحة انعقادها ووجوبها، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، واختاره الأخوان السيدان المؤيد بالله وأبو طالب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9]. ولا شك أن لفظ الصلاة مجمل يحتاج إلى بيان من معرفة صفتها وشروطها، وبيانها موكول إلى الرسول÷ لأن الشرع مأخوذ منه، وقد تقرر أنه÷ لم تقم الجمعة إلا به أو بمن يقوم مقامه والياً من جهته.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((أربعة إلى الولاة الجمعة والحدود والفيء والصدقات))(1).
أراد بالولاة: من يلي أمر المسلمين في أمور الدين والدنيا وقسمة الغنائم والفيء والصدقات.
الحجة الثالثة: قياسية، وهو أنها عبادة لا يجوز أن ينفرد بها كل أحد في إقامتها، فيجب أن يكون الإمام شرطاً في إقامتها كإقامة الحدود.
المذهب الثاني: أن الإمام ليس شرطاً في صحة الجمعة وانعقادها، وتجوز إقامتها خلف من يكون إماماً في الصلاة المكتوبة، وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي أن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أقام الجمعة وعثمان محصور في داره وكان الخليفة في ذلك الوقت، وفي هذا دلالة على أن الإمام ليس شرطاً.
__________
(1) وفي بعض الروايات: ((أربعة إلى الأئمة....)) أورده ابن أبي شيبة في (المصنف) 5/506، بلفظ: ((... الجمعة والحدود والزكاة والفيء)).
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنها صلاة مفروضة فيجب أن لا يكون الإمام شرطاً في إنعقادها كالصلوات المكتوبة.
المذهب الثالث: أن الإمام مشترط في الجمعة لا تتم إلا به لكن عدالته غير مشترطة فيجوز توليها من جهة الظلمة وسنفرد عليهم كلاماً يخصه على إثر هذا بمعونة الله.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة من اشتراط الإمام في إقامة الجمعة فإنها لا تنعقد من دونه.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا فمن تركها استخفافاً بحقها وحجوداً لها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له إلا أن يتوب فإن تاب تاب الله عليه)).
الحجة الثانية: هو أن المعلوم من حال الرسول÷ أنه أقامها في أيامه وهكذا حال الخلفاء من بعده، فإن كل واحد منهم أقامها في أيامه من غير توقف في ذلك، وفي هذا دلالة على أنهم معتقدون لوجوب الإمام في إقامتها وأنه شرط.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه أقام الجمعة وعثمان محصور وهو الخليفة، وفي هذا دلالة على أن الإمام ليس شرطاً في وجوبها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإنما أقامها لأن عنده وعندنا أنه هو الإمام بعد الرسول÷ وأن إمامته ثابتة بالنص فلهذا أقامها لأن الولاية فيها وفي غيرها إليه فلهذا أقامها على هذه النية.
وأما ثانياً: فلأن أمير المؤمنين لما رأى إخلال عثمان بإقامة الجمعة لم يسعه عند الله تعالى أن يفوت فرضها على المسلمين فلهذا أقامها. كما روي أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط(1)
لما شرب الخمر وصلى بالناس سكران ولم يحدَّه عثمان فأراد أمير المؤمنين أن يحده فقال ولده الحسن: لا حاجة إلى حدِّه يتولى حارها من تولى قارها، يشير بذلك إلى أن عثمان أحق بحدِّه لأنه هو الخليفة بزعمه. فقال أمير المؤمنين: ما كان ليضيع حدٌ من حدود الله وأنا على الدنيا فحدَّه حد الشارب والحسن يعد الجلدات حتى أتمها.
قالوا: إنها صلاة مفروضة فيجب أن لا يكون الإمام شرطاً في إنعقادها كالصلوات الخمس.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الأقيسة لا مجرى لها في العبادات لأن معانيها منسدة، ونحن وإن استعملناها فإنما هو على جهة المعارضة لا على جهة الإعتماد.
__________
(1) الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أبو وهب القرشي، ابن عمرو بن أمية بن عبد شمس، روى عن النبي÷ وعنه أبو موسى عبد الله الهمداني وعامر الشعبي وحارثة بن مضرب، قال ابن سعد بسنده: أسلم الوليد يوم الفتح وبعثه رسول الله على صدقات بني المصطلق، وولاه عمر صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة [بدلاً عن سعد بن أبي وقاص] ثم عزله، فلما قتل عثمان تحول إلى الرقة فنزلها حتى مات بها سنة 61هـ على خلاف، وكان أخبر النبي÷ عن بني المصطلق أنهم ارتدوا عن الإسلام وأبوا أداء الصدقة، وذلك أنهم خرجوا إليه فهابهم ولم يعرف ما عندهم، فبعث رسول الله خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت فيهم فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام، فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا...} الآية 6 من الحجرات، راجع (تهذيب التهذيب) 11/125 (وتهذيب الكمال) 31/53.
وأما ثانياً: فلأن الرسول÷ نزلها منزلة الحدود بقوله: ((أربعة إلى الولاة)). وعد من جملتها الجمعة، فدل ذلك على مفارقتها للصلوات المكتوبات في إشتراط الإمام فيها.
قالوا: الآية دالة على أن الإمام غير مشترط في صحة الجمعة لأنه تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]. ولم يذكر اشتراط الإمام.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد أوضحنا أن الآية مجملة وأن بيانها إلى الرسول÷، وقد أوضحها في شروطها وأبان كيفيتها ومن جملة بيانه لها أن تولاها إماماً بنفسه، وقد ظهر ذلك في فعله، وأما قوله فقد بينها بقوله: ((فمن تركها وله إمام عادل أو جائر)). فقد حصل بما ذكرناه بيان هذه الصلاة بالقول والفعل من جهته.
وأما ثانياً: فلأن الخلفاء ومن بعدهم خلفاً عن سلف معتمدون على وجوب اشتراط الإمام في الجمعة، وما ذاك إلا لأنهم فهموا ذلك من جهة الرسول÷ في أقواله وأفعاله فلهذا وجب الإعتماد على ذلك.
الفرع الثاني: إذا تقرر اعتبار كون الإمام شرطاً في صحة صلاة الجمعة، فهل يعتبر كونه عدلاً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب اعتبار عدالته، وهذا هو رأي أئمة العترة.
والحجة على هذا: هو قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود:113].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله تعالى نهى عن الركون إلى الظلمة وأهل الجور والفساد، ومن صلى خلف ظالم أو جائر فقد ركن إليه في صحة صلاته وفي كونه ضامناً للصلاة كما هو جارٍ في حق أهل العدالة من الآئمة.
الحجة الثانية: قوله÷: ((لا يؤمكم ذو جرأة في دينه)). ولا جرأة أعظم من ظلم العباد وملابسة المحظورات وأكل الأموال الحرامية إلى غير ذلك من أنواع الجور والفساد.
المذهب الثاني: جواز الصلاة في يوم الجمعة خلف الظلمة وأهل الفساد والجور، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: قوله÷: ((فمن تركها وله إمام عادل أو جائر)). فظاهر الخبر دال على جواز الصلاة خلف الجائر من الظلمة وأهل الفساد والجور كما تجوز خلف العادل.
والمختار: وجوب اشتراط العدالة في إمام الجمعة كما ذكره أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن الإمام الأعظم هو الشرط في وجوبها وليس يكون إماماً للمسلمين إلا إذا كان مختصاً بصفات حاصلاً على شرائط، ومن جملتها: العدالة. لأنه إذا كان عدلاً كان متولياً لمصالح الدين جامعاً لشمل المسلمين واضعاً للحقوق في مواضعها غير مفرط في شيء من الأموال في غير وجهه، ذاباً عن الجوزة، وكل ذلك معتمده العدالة فإذا لم يكن عدلاً بطلت هذه المصالح كلها وبطل الغرض به ولم يكن صالحاً للإمامة بحال.
الحجة الثانية: هو أن الشهادة لا خلاف في وجوب اعتبار العدالة فيها ولا يحكم الحاكم إلا بشهادة عدلين في الحقوق والأموال، فإذا كانت العدالة معتبرة في الدرهم الواحد وفي العشرة ويجب اعتبارها في الحقوق من الوكالة والوصاة فكيف لا تعتبر في أجلّ الإشياء وأخطرها وأعظمها حقاً عند الله تعالى وهي الإمامة وهي تتعلق بمصالح الدين والدنيا وعليها يدور صلاح الخلق.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول÷ أنه قال: ((وله إمام عادل أو جائر)). فلم يفصل بين العادل والجائر في صحة الإمامة في صلاة الجمعة، وفي هذا دلالة على جواز إمامة الظالم ومن كان جائراً خارجاً عن التمسك بالدين.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الآية والخبر دالان على وجوب اعتبار العدالة وقد تعارضا وإذا تعارضا وجب الترجيح، ولا شك أن الآيات لا يمكن أن تعارضها الأخبار بل يجب الإعتماد على ما تدل عليه الآيات لأنها مقطوع بأصلها والأخبار مظنونة فلهذا كان العمل عليها أرجح من العمل على الأخبار.
وأما ثانياً: فلأن المراد بقوله: ((عادل أو جائر)) في الباطن؛ لأن الظاهر إذا كان هو العدالة فلا حاجة إلى العلم بالباطن فإنه لا يطلع عليه إلا الله تعالى ولسنا مكلفين بعلم الله تعالى، وإنما نكلف بعلمنا وظننا.
الفرع الثالث: اعلم أنا قد أوضحنا فيما سبق انعقاد الإجماع من جهة أئمة العترة على كون الإمام شرطاً في إنعقاد الجمعة وصحتها، واشتراط عدالته وقررنا ذلك بأدلة شافية. والذي بقي علينا من ذلك هو البحث عن كون هذا الإجماع مقطوعاً أو مظنوناً؟ وهل يكون مانعاً من الاجتهاد أم لا؟ وهل يفسق مخالفه أم لا؟ فهذه أحكام ثلاثة لا بد من كشف الغطاء عنها وبها يظهر نور المسألة ويبدو رونقها.
الحكم الأول: في طريق هذا الإجماع هل يكون معلوماً أو مظنوناً.
فاعلم أن طريق الإجماع على وجهين:
أحدهما: أن يكون متواتراً نقله، ومتى كان على هذه الصفة كان موجباً للعلم. كما نقوله في مكة وبغداد، فإن طريقنا إلى العلم ليس بالمشاهدة فإنا لم نشاهدهما، ولكن طريقنا إلى العلم بهما إنما هو التواتر، وهكذا الحال في العلم بالرسول÷ وبالقرآن وأصول الشريعة فإنه لا طريق لنا إلى العلم إلا التواتر.
وثانيهما: أن يكون منقولاً بالآحاد ومتى كان على هذه الصفة فهو أمر ظني يعمل به في الأمور الظنية والأحكام العملية ولا يعمل به فيما كان مقطوعاً به.
فإذا عرفت هذا، فالإجماع المنقول على اشتراط الإمام في الجمعة واشتراط عدالته ليس منقولاً بطريق التواتر ولا هو مقطوع به وإنما نقله بطريق الآحاد، فلا جرم كان مثمراً للظن معمولاً به في الأمور العملية ومن جملة الأمور العملية اشتراط الإمام واشتراط عدالته في القيام بالجمعة.
فأما كون إجماعهم حجة فهو أصل من أصول الأدلة الشرعية وقد قررناه في الكتب الأصوليه ودفعنا عنه الأسئلة الواردة عليه، وهذه الأحكام الثلاثة كلها متفرعة عليه.
الحكم الثاني: هل يكون [الإجماع] مانعاً من الاجتهاد أم لا؟ إذا وقع في مسألة من مسائل الشريعة.
فنقول: متى كان منقولاً بالتواتر كان موجباً للعلم لا محالة وكان مانعاً من الاجتهاد كالنص فإنه مانع من الاجتهاد، وإنما منع لكونه مقطوعاً بظاهره. فأما إذا كان نصاً وليس مقطوعاً بأصله فإنه لا يكون مانعاً من الاجتهاد كما نقوله في أخبار الآحاد، فإنه وإن كان بعضها نصاً في المسألة فلا يكون هناك مانع من مخالفته، ومتى كان منقولاً بطريق الآحاد فإنه يكون مظنوناً ومتى كان مظنوناً لم يكن مانعاً من الاجتهاد كما نقوله في المسائل المأخوذة من جهة الأخبار فإنها معترك للظنون في مسائل التحليل والتحريم.
ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه: أن هذا الإجماع في اشتراط الإمام في الجمعة لما كان مظنوناً من جهة نقله بطريق الآحاد لم يكن مانعاً من الاجتهاد، فإن المسألة خلافية بيننا وبين الفقهاء، ولو كان الإجماع مقطوعاً بطريقه لم يكن لخلافهم وجه كما لو خالفوا نصاً مقطوعاً به. فلما خالفوا من غير نكير دل على أن طريق الإجماع مظنون. فحصل من مجموع ما ذكرناه أن كل ما كان طريقه القطع بنص متواتر أو إجماع متواتر فإنه يكون مانعاً من الاجتهاد على خلافه.
الحكم الثالث: هل يفسق من خالف إجماع العترة أم لا؟
فنقول: المخالف لإجماع العترة لا يفسق سواء كان طريقه مظنوناً أو مقطوعاً، أما إذا كان مظنوناً فلا إشكال فإن الفسق لا يكون إلا بطريق معلوم، وأما إذا كان مقطوعاً فلم يرد الوعيد على مخالفته فلهذا لم نقطع بفسق من خالفه.
ويخالف إجماع الأمة، وإن اشتركا في كونهما قاطعين فيما تواترا فيهما، لمَّا ورد الوعيد على مخالفة إجماع الأمة فلا جرم قضينا بفسق من خالف إجماع الأمة دون من خالف إجماع العترة، لكن نقطع بخطئه لا غير لكونه قد خالف قاطعاً.
وقد نجز غرضنا من بيان هذه الأحكام التي ذكرناها ونرجع إلى التفريع.
الفرع الرابع: وإذا كان وجود الإمام شرطاً في انعقاد الجمعة وكان بعض المسلمين في بعض الأقاليم والأمصار قد بلغت دعوته إليه ولا يمكنه الوصول إليه، فهل يجوز له إقامة الجمعة من غير تولية له من جهة الإمام ولا إذن أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك، وهذا هو الذي نصه الهادي في المنتخب، واختاره السيد أبو طالب رضي الله عنه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)). فإذا رأى هذا النائي عن الإمام، مع بلوغ دعوته إليه واستكمال الشرائط فيه، أن يقيم له الجمعة من غير ولاية إذا كان هناك مانع من الوصول إليه وأخذ الولاية منه، جاز له ذلك. لأن اختيار المسلمين له ورضاهم بإقامته للجمعة للإمام، قائم مقام ولاية الإمام له. ويؤيد ما ذكرناه: ما روي عن الرسول÷ لما خرج إلى بني عمرو بن عوف يصلح بينهم قدَّم المسلمون أبا بكر يصلي بهم ولم ينكره الرسول÷ وصوبه. وفي غزوة مؤتة لما جهزهم وأمَّر عليهم زيداً(1)
__________
(1) زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى، مولى النبي÷ صحابي جليل من السابقين إلى الإسلام، تبناه رسول الله÷، وقال ابن عمر: ما كنا ندعوه إلاَّ زيد بن محمد حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} وكان اشتراه حكيم بن حزام من سوق عكاظ بأربعمائة درهم لعمته خديجة رضي الله عنها، فلما تزوجها رسول الله وهبت زيداً له، ونقل ابن سعد في (الإصابة) عن عبد الرزاق بسنده: ما نعلم أن أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة، وكان يعرف بأنه حِبُّ رسول الله÷ كان قائد جيش رسول الله في مؤته، واستشهد فيها بعد أن أبلى فيها بلاءً عظيماً سنة 8 من الهجرة. اهـ. 2/895.
وقال: ((إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبدالله بن رواحة)). فلما قتلوا جميعاً اختار المسلمون خالد بن الوليد(1)
فأمَّروه عليهم ولم ينكر الرسول÷ ما فعلوه، وفي هذا دلالة على ما قلناه من الجواز، فإن كان النائي يمكنه الوصول لم يجز له إقامة الجمعة إلا بإذنه وتوليته.
المذهب الثاني: المنع من ذلك، وهذا هو رأي المؤيد بالله وتأول ما قاله الهادي في المنتخب على أن الإمام ولاه سراً.
والحجة على هذا: هو أن إقامة الجمعة عبادة من شرط صحتها الإمام، فوجب أن يعتبر في صحة إقامتها إذن الإمام كالحدود فإنه لا يجوز إقامتها من غير تولية الإمام وإذنه، وهكذا أخذ الزكاة وغير ذلك مما يكون أمره إلى الإمام فلا يجوز فعله إلا برضاه وأذنه.
والمختار: ما قاله [الهادي] في المنتخب، وارتضاه السيد أبو طالب، من جواز ذلك إذا كان هناك مانع يمنع من الوصول لأخذ الولاية، وهو محكي عن أصحاب أبي حنيفة، وحكي عن الكرخي: أنه لا تجوز الجمعة إلا بإذن الإمام وتوليته إلا أن يكون هناك مانع يمنع من الوصول إليه جاز ذلك. وهذا يؤيد ما قاله أبو طالب وذكره الهادي في المنتخب.
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة القرشي المخزومي، أسلم قبل الفتح بعد الحديبية، وكان أميراً على الجيش في أكثر من غزاة أثناء الفتوحات، و هو قائد محنك وفارس معروف، كان مع المشركين يوم أحد واستغل ومن معه نزول الرماة وانشغالهم بتعقب المشركين فالتف على جيش المسلمين وكان سبب هزيمتهم يوم أحد الناتج عن مخالفة الرماة لأمر رسول الله÷، كان في جيش المسلمين يوم مؤتة، وهو الذي تولى قيادة الجيش بعد استشهاد قادته الثلاثة زيد وابن رواحة وجعفر، وقفل بالجيش عائداً إلى المدينة، مات سنة 22 بحمص ودفن بها، انظر: (مشاهير علماء الأمصار) 1/31، و(تقريب التهذيب) 191، و(الاستيعاب) 2/427.
ونزيد هاهنا وهو قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]. ومعلوم أن ما هذا حاله فهو من المعاونة على البر لأن ظهور جمعة الإمام والدعاء إلى طاعته وإشتهار أمره في تلك الناحية وذلك الأقليم، فيه أعظم المصالح لأن بظهور أمره يقوم الأمر بالمعروف وترتفع المنكرات ويضعف أمر الظلم ويخفى جانب الظلمة خوفاً من سطوة الإمام وتوقعاً لنكاله.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إقامة الجمعة عبادة من شرط صحتها الإمام فلا بد من اعتبار إذنه وولايته كالحدود وأخذ الأموال وأمور الجهاد.
قلنا: هذا مسلم إذا كان ممكناً لا يتعذر الوصول إلى الإمام ولكن إذا كان الوصول متعذراً لم يجز بطلان هذه المصلحة التي ذكرناها بإظهار شعار الإمام وتقوية أمره وإشتهار ولايته وبما يصلح في ذلك من المصالح الدينية والدنيوية.
قال الشافعي: ويستحب أن لا تقام الجمعة إلا بإذن الإمام لأن الجمعة لم تقم في عهد رسول اللّه÷ إلا بإذنه، ولا أقيمت في أيام الخلفاء إلا بإذنهم وولايتهم. وهو محكي عن مالك وأحمد بن حنبل وكثير من الفقهاء، وإنما قالوا بالاستحباب لما كان الإمام غير شرط في صحة الجمعة عنده.
وعن أبي حنيفة والأوزاعي: وجوب ذلك. كما مر بيانه.
الفرع الخامس: وإذا كان الإمام محبوساً، فهل يجوز إقامة الجمعة للمسلمين أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك، وهذا هو رأي أئمة العترة.
والحجة على هذا: هو أن وجود الإمام من شرط صحة الجمعة كما مر بيانه، فإذا كان محبوساً بطل تصرفه، وبطل وجوبها على المسلمين لبطلان الإمام وتصرفه.
المذهب الثاني: جواز ذلك، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة، وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: إذا مات الإمام جاز للمسلمين أن يقيموا من يصلي بهم الجمعة لأن هذا موضع ضرورة.
والحجة على هذا: هو أن الجمعة فرض عين، فإذا حبس الإمام أو مات جاز للمسلمين إقامتها لئلا يفوت عليهم هذا الفرض المتعين.
والمختار: ما قررناه أولاً من اشتراط وجود الإمام في إيجاب الجمعة لما قدمنا من الأدلة. فإذا مات أو حبس فقد بطل شرط إقامتها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الموت والحبس من جملة الأمور النادرة ومواضع الضرورة، فلهذا قلنا بجواز إقامتها من جهة المسلمين.
قلنا: إن كل ما كان شرطاً في صحة أمر وثبوته وقامت الدلالة [عليه] فإنه لا يجوز حصوله من دونه لأن صحته من دونه تؤذن بكونه شرطاً تقف صحته على وجوده وثبوته.
الفرع السادس: والإمام إذا اجتمع له صلاة جمعة والكسوف والاستسقاء والجنازة فإنه يبدأ بصلاة الجمعة لأمرين:
أما أولاً: فلأنها من فروض الأعيان وما عداها إما واجب على الكفاية كصلاة الجنازة، وإما سنة مؤكدة كصلاة الكسوف والاستسقاء.
وإن اجتمع صلاة الجنازة والكسوف والاستسقاء فإنه يبدأ بصلاة الجنازة لقوله÷: ((ثلاث لا ينبغي التأني فيهن: الجنازة إذا حان وقتها، والصلاة إذا حضر وقتها، والأيِّم إذا حضر كفؤها)) (1).
إلا أن يخشى فوات الكسوف بالانجلاء فالبداية به.
وإن حضر الكسوف والاستسقاء فهما سواء إلا أن يخاف فوات الكسوف بالانجلاء فهو أحق بالبداية.
ويستحب للإمام أن يأتي الجمعة راجلاً لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))(2).
لأن الثواب بالمشي أكثر أجراً وأعظم ثواباً من الركوب.
ويستحب أن يأتيها حافياً غير منتعل لما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يأتي الجمعة حافياً، وهذا كله في الرواح في الجمعة فأما بعد الفراغ منها فيفعل ما شاء من الركوب والانتعال لأن الفضل إنما يكون في القصد إليها لا في المراح بعد انقضائها.
__________
(1) تقدم.
(2) وروي الحديث بزيادة: ((.... المشائين في الظلام)) و ((... في الظلم)) و((...في ظلم الليل)) أخرجه بهذه الزيادات ابن خزيمة في صحيحه 1/331، والترمذي 1/435، وأبو داود 1/154، وابن ماجة 1/257.
ولا يجوز الائتمام في صلاة الجمعة بالصبي لأنه غير مكلف بالصلاة، ويجوز عند الشافعي في أحد قوليه.
ويجوز الائتمام بالأعمى لما روي عن الرسول÷ أنه كان يستخلف ابن أم مكتوم يصلي بالناس في المدينة، ويجوز الائتمام بالعبد في صلاة الجمعة لأنها صلاة مفروضة فجاز الائتمام به كصلاة الظهر.
وحكي عن مالك: أنه لا يجوز أن يكون العبد إماماً لأن إمامة الصلاة فيها علو ورفعة والرق في غاية النزول والركة فلأجل هذا تناقض حكمهما.
والمختار: جواز ذلك لأنه مسلم تقي عاقل مكلف فجازت الصلاة به كالحر.
الفرع السابع: والإمام إذا كان من أهل الظلم والجور والفسق، والخطيب إذا كان متولياً من جهتهم ويخطب لهم ويدعو لهم على المنابر، فإذا كانوا على هذه الصفة تعلق بهم حكمان:
الحكم الأول: أنه لا يجوز حضور جُمَعِهم عند الأكابر من أئمة أهل البيت" ويأثم الحاضرون لها، وقد حكي عنهم روايات في المنع من ذلك والتشديد على من حضر والنكير، ونحن نذكرها ليتحقق الناظر ما خصهم الله به من الصلابة في ذات الله والتشدد في أمر الدين والبعد عن أهل الجور والظلم.
الرواية الأولى: مأثورة عن زيد بن علي، ومحمد بن عبدالله النفس الزكية: أن كل من حضر خطبهم فهو آثم.
الرواية الثانية: عن إبراهيم بن عبدالله أنه سئل عن الجمعة هل تجوز مع الإمام الجائر؟ فقال: إن علي بن الحسين، وكان سيد أهل البيت كان لا يعتد بها معهم ويُؤَثِّم من حضرها.
الرواية الثالثة: محكية عن جعفر الصادق أنه سئل عن ذلك فقال السائل: أصلي خلفه وأجعلها تطوعاً؟ فقال: لو قبل التطوع قبلت الفريضة.
الرواية الرابعة: عن القاسم بن إبراهيم أنه قال: من صلى معهم فقد أثم.
الرواية الخامسة: عن الناصر أنه قال لشالوس -وكان ممن يحضر جُمَعَ الظلمة وأهل الجور والفسق-: إنكم تحضرون الجمعة وهي فرض من فرائض الله مع الظلمة فيأتي خطيبهم فيقول: اللهم أصلح عبدك وخليفتك والقائم بأمرك وبالحق في عبادك، وهو في حال دعائه خِمِّير فاسق فيكذب مثل هذه الكذبات في خطبته التي هي نصف الصلاة فما أحد منكم يشري نفسه من الله فيكذبه في قوله وينكر عليه. فهذا كله تصريح بأنه لا يجوز لأحد من المسلمين حضور هذه الجمعة إذا كان الخطيب يخطب للظلمة.
الرواية السادسة: عن المؤيد بالله قال: يكره الحضور معهم فهذه الروايات كلها دالة على تأثيم الحاضرين.
الرواية السابعة: عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: من سوَّد علينا فقد شرَّك في دمائنا. ومعنى كلامه هذا: من كثر جماعة أعدائنا وزاد في سوادهم علينا. فكلامه هذا دال على أنه لا يجوز حضور جُمَعِهم. ويدل على البعد منهم والمجانبة لهم.
ومن كان له إلى الله أدنى وسيلة ووثاقة في الدين فإنه يعتمد على ما رويناه، ومصداق هذه المقالة ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((من دعا لظالم بالبقاء فقد أعان على هدم الإسلام)). وقوله÷: ((إذا مدح الفاسق اهتز العرش))(1).
قوله÷: ((من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه))(2).
__________
(1) رواه عن أنس بن مالك، أبو يعلى في معجمه 1/165 بلفظ: ((إذا مُدح الفاسق غضب الرب واهتز العرش)) وهو في (ميزان الاعتدال) بلفظه في الأصل 3/161، وكذا في (لسان الميزان) 3/2.
(2) ورد على أنه كلام بعض السلف، وقد ذكره ابن حنبل في (الورع) 1/97، وهو في (شعب الإيمان) 7/53.
الحكم الثاني: أنهم إذا صلوا وجبت عليهم الإعادة لأن الإمام شرط في إنعقاد الجمعة وصحتها، ولا شك أن إمامتهم باطلة فلهذا بطلت الجمعة ووجب عليهم إعادة الظهر، فأما على قول من قال: بأن المعاصي تكون ناقضة للوضوء. فإنه ينتقض وضوءه بكذبه وتعظيمه للظلمة وأهل الفسق، فلا جرم أوجبنا عليهم إعادة ما صلوا وهم على هذه الحالة.
وهل يجب القضاء بعد فوات الوقت؟ فيه تردد والقوي أنه لا يجب عليهم القضاء بعد فوات الوقت لأنها من المسائل الخلافية.
كما حكي عن شيوخ المعتزلة والحنفية، أنه لا يجوز التأخر عن الجمعة وإن كان الخطيب يخطب للأئمة والظلمة وأهل الفسق المتغلبين.
الفرع الثامن: والإمام إذا كان واقفاً في بلدة أو محلة متقاربة الأطراف، فهل يجوز أن تقام الجمعة في مسجد واحد أو في كل مسجد؟
فالذي عليه أئمة العترة وأكثر الفقهاء: على أنه لا يجوز أن تقام الجمعة فيها إلا في مسجد واحدٍ.
والحجة على هذا: قوله÷: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). والمعلوم من حالهم في المدينة وحاله أنه ما صلى فيها إلا في مسجد واحدٍ، وهي بلدة كبيرة ومصر من الأمصار، فإذا كان هذا واقعاً في المدينة مع سعتها ففي المحلة والقرية أحق وأولى.
وحكي عن عطاء، وداود من أهل الظاهر: أنه يجوز إقامتها في كل مسجد كسائر الصلوات المفروضة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن من شرط الجمعة الجماعة، واجتماع الناس في القرية والمحلة الصغيرة سهل فلهذا وجب اجتماعهم على صلاة واحدة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إنها صلاة فجازت إقامتها في كل مسجد كالصلاة المكتوبة.
قلنا: إن المعنى في الأصل أن الإجتماع ليس شرطاً في الصلوات المكتوبة فلهذا جازت تأديتها في كل مسجد بخلاف الجمعة فإن من شرطها الجماعة فافترقا.
وإن كان مقام الإمام في مصر كبير متباعد الأطراف فهل يجوز أن تقام الجمعة فيه في مسجد واحدٍ أو أكثر من ذلك؟ فيه أقوال خمسة:
القول الأول: جواز ذلك وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب للمذهب.
والحجة على هذا: هو أن المصر إذا كان متباعد الأطراف مثل بغداد أو البصرة فإن إجتماعهم في مكان واحدٍ تلحقهم به المشقة والحرج في التزاحم والضيق والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}[الحج:78]. فلهذا جاز فعلها في موضعين وثلاثة على قدر الحال في ذلك.
القول الثاني: المنع من ذلك، وهذا هو المحكي عن الشافعي فإنه قال: ولا يُجَمَّع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحدٍ.
وحجته على هذا: هو أن الرسول÷ والخلفاء بعده ما أقاموا الجمعة إلا في موضع واحدٍ وقد قال÷: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
القول الثالث: محكي عن أبي يوسف، وهو أن البلدة إذا كان لها جانبان وفي وسطها نهر عظيم يجري مثل مدينة السلام -يعني بغداد وواسط-، جاز أن يُصلى في كل جانب منها جمعة. وهو محكي عن أبي الطيب من أصحاب الشافعي.
القول الرابع: محكي عن محمد بن الحسن، أن القياس: أنها لا تقام إلا في مسجد واحد لكنه يجوز إقامتها في البلد في مسجدين استحساناً، ولا يجوز إقامتها في ثلاثة مساجد.
القول الخامس: الذي يأتي على كلام أبي حنيفة، إذ ليس له في المسألة نص، فحكي: أن مذهبه مثل مذهب الشافعي، وقيل: إن مذهبه مثل قول محمد بن الحسن في الاستحسان.
واعلم أن الاستحسان وادٍ من أودية القياس لكنه أخص من القياس وأدخل في غلبات الظنون. والقياس: إقامتها في مسجد واحدٍ لأن ذلك هو الواجب، والذي دلت عليه أدلة الشرع. والاستحسان: إقامتها في مسجدين لأن الحاجة تدعو إلى ذلك من غير زيادة عليه فإذن لا حاجة إلى ثالث إذ لا دلالة لا من جهة القياس ولا من جهة الاستحسان.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، وهو أن الأمر في ذلك على ما يراه الإمام الأعظم أو من يقوم مقامه بأمره في الجمعة، فإن كان الإجتماع في مسجد واحدٍ ممكناً فلا حاجة إلى إقامتها في غيره لأن ذلك يؤدي إلى تفرق الكلمة وتشتت الشمل، وإن كان غير ممكن أو كان في الإجتماع مشقة على المسلمين في الإجتماع بالازدحام والتضايق، جاز إقامتها في مساجد لأجل الضرورة الداعية إلى ذلك لأن العذر إذا كان ظاهراً فمداخل الإحن والبغضاء منسدة لا يظنها ظان، وإذا لم يكن العذر ظاهراً تطرقت إليهم الإحن وأنواع العداوة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: لم تقم الجمعة إلا في مسجد واحد في زمن الرسول÷، كما حكي عن الشافعي: المنع من ذلك. وعن أبي يوسف: الجواز إذا كان للبلدة جانبان كبغداد، أقيمت في مسجدين، والاستحسان: إقامتها في مسجدين كما حكي عن محمد. فأما أبو حنيفة، فرأيه في ذلك إما على ما قاله الشافعي، أو على ما قاله محمد.
قلنا: الجواب عن هذه المذاهب بحرف واحد: وهو تقرير الحال على ما تدعو إليه المصلحة في ذلك، ولا وجه للمنع مع دعاء الضرورة إليه، ولأن الأمر إذا إنتهى إلى مثل هذه الحالة فالأولى تحكيمها على ما يكون فيه مصلحة للمسلمين أو للصلاة، وذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والحمد لله.
الفرع التاسع: في حكم الجمعتين إذا اجتمعتا.
وإن أقيمت جمعتان في البلدة الصغيرة التي لا يصح إقامتهما فيها؟ نظرت، فإن كان لإحداهما مزية على الأخرى بأن كان في إحداهما الإمام الأعظم فإن كان مع الأولى فهي الصحيحة لأنها الأولى ومعها الإمام الأعظم. وإن كان الإمام في الثانية فأيهما تكون أحق بالصحة؟ فيه تردد.
والمختار: الثانية هي الصحيحة لأنها جمعة الإمام، ولأنا لو حكمنا بصحة الأولى لكان في ذلك إعراض عن الإمام وتهاون بجمعته، فلأجل هذا كان الحكم بصحة الثانية هو الأحق والأولى.
وإن لم يكن لإحداهما مزية على الأخرى بأن أقيمتا بإذن الإمام فذلك يكون على خمسة أوجه:
الوجه الأول: أن تسبق إحداهما الأخرى، فالأولى السابقة هي الصحيحة، لأنها أقيمت بشرائطها فمنعت صحة الثانية والثانية باطلة. وهل يعتبر السبق في الأولى بالإحرام بالصلاة أو بالإبتداء بالخطبة؟ والأولى أن الإبتداء بالخطبة يعتبر به السبق لأنهما قائمتان مقام الركعتين.
الوجه الثاني: إذا أحرموا بهما جميعاً في حالة واحدة حُكم ببطلانهما جميعاً لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى فتكون مرجحة، ولا وجه للجمع بينهما لأن الفرض إنما هو واحدة، فإذا كان لا ترجيح بينهما وجب الحكم ببطلانهما جميعاً.
الوجه الثالث: إذا لم يُعلم هل سبقت إحداهما الأخرى أو كانتا في وقت واحدٍ، فإنه يحكم ببطلانهما جميعاً كما ذكرناه في الوجه الثاني، إذ لا مزية لإحداهما على الأخرى، ويجب عليهم أن يعيدوا الجمعة إذا كان الوقت واسعاً لأن فرضها لازم لهم فلا بد لهم من أدائه.
الوجه الرابع: إذا علم أن أحدهما سابق لكنه غير معلوم بعينه، ومثاله: أن يسمع تكبير أحد الإمامين بالإحرام بالصلاة - إذا قلنا: الإعتبار بالسبق بالإحرام- ثم كبر الثاني ولا يُعلم الذي كبر أولاً.
الوجه الخامس: إذا عُلِم عين السابقة من الصلاتين ثم نسيت، ومثاله: أن يعلم عين المكبر أولاً لكنه نسي. فالحكم في هذين الوجهين أعني الرابع والخامس واحد، وهو أن الجمعتين باطلتان، وإذا كان الأمر كما قلنا فالواجب على المسلمين قضاء الجمعة لأنا إذا حكمنا ببطلانهما معاً صار كأنه لم تقم في المصر جمعة فلهذا وجب عليهم إقامتها لأنا نعلم أن إحداهما باطلة والأخرى صحيحة، وإذا لم نعلم عين الصحيحة من الباطلة فالأصل بقاء الفرض في ذممهم فلهذا توجه عليهم الإعادة.
الفرع العاشر: والإمام إذا مر بمصر من الأمصار فصلى فيه الجمعة بأهله، فالذي يأتي على المذهب أن صلاة الإمام والمأمومين صحيحة مجزية، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الصفات المعتبرة في صحة الصلاة لهم جميعاً حاصلة فلأجل هذا قضينا بصحة الصلاة لهم جميعاً. وحكي عن زفر: أنها غير مجزية للإمام والمأمومين جميعاً.وإنما لم تصح صلاة المؤتمين لأنهم مقيمون والإمام مسافر، وقد قال÷: ((لا تختلفوا على إمامكم)). وإنما لم تصح صلاة الإمام لأنها لما بطلت في حقهم بطل العدد الذي هو شرط في صحة الصلاة فلأجل هذا بطل إجزاؤها في حق الإمام والمأمومين معاً.
والمختار: هو الأول لما ذكرناه من كمال الشرائط في حقه وحقهم. وما ذكره زفر فلا وجه له لأمرين:
أما أولاً: فلأنه لا خلاف في صحة الصلاة للمقيم خلف المسافر.
وأما ثانياً: فلأن الفرض في حق الإمام والمأموم متفق وهو فرض الجمعة لأنها ركعتان في حق المقيم والمسافر.
الفرع الحادي عشر: وإن صلى الإمام ثم ذكر أنه كان جنباً بطلت صلاته لبطلان طهارته وبطلت صلاة المؤتمين، ولا يقع هاهنا خلاف في بطلان صلاة المؤتمين كما وقع الخلاف في صلاة الجماعة كما قررناه، لأن الإمام هاهنا شرط في صحة صلاة الجمعة بخلاف صلاة الجماعة.
ولو صلى في صلاة الجمعة بجماعة ثم بان أنهم محدثون فإن صلاتهم باطلة لبطلان طهارتهم فتلزمهم الإعادة، فأما صلاة الإمام فهل يحكم بصحتها أم لا؟ فمن أصحاب الشافعي من حكم بصحة صلاة الإمام لأنه لم يكلف بالعلم بطهارة من خلفه من المؤتمين فلهذا حكمنا بصحة صلاته.
والمختار: بطلان صلاته لبطلان العدد لأنه شرط في صحة صلاة الجمعة كالإمام، وبالله التوفيق.
---
القول في العدد
وهو شرط في صحة الجمعة، ولا خلاف أن الجمعة لا تنعقد إلا بعدد لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9]. وهذا خطاب للمسلمين بخطاب الجمع.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: اختلف العلماء في أقل العدد الذي تنعقد به الجمعة على مذاهب ثمانية:
المذهب الأول: أن أقل ما تنعقد به الجمعة أربعة: الإمام وثلاثة مأمومين، وهذا هو الذي ارتضاه السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب للمذهب، وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن قوله تعالى: {فَاسْعَوْا} إنما هو خطاب للجمع، وأقل الجمع: ثلاثة؛ لأن ما دون الثلاثة فليس جمعاً وما فوقها زائد على الجمع، فلهذا قلنا: إن أقله يكون ثلاثة غير الإمام لأن الخطاب للمسلمين، والسعي إنما هو إلى الإمام فلهذا كان مغايراً للساعين إليه.
المذهب الثاني: أن أقل ما تنعقد به: ثلاثة، إمام ومأمومان. وهذا هو الذي اختاره أبو العباس، وحصله لمذهب الهادي، وهو محكي عن أبي يوسف وأبي ثور والأوزاعي والثوري.
والحجة على هذا: هو أن قوله: {فَاسْعَوْا} إنما هو خطاب للإمام مع المأمومين ولا شك أنهم ثلاثة فيجب أن يكون الخطاب متوجهاً إليهم، ويمكن أن يقال: إن الخطاب للمأمومين لكن أقل الجمع إثنان عند جماعة من أهل اللغة.
المذهب الثالث: أنها لا تنعقد إلا بأربعين رجلاً ولا تنعقد بدون ذلك، وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن عمر بن عبدالعزيز وغيره.
وهل يكون الإمام من جملة الأربعين أو يكون زائداً؟ فيه وجهان: أجودهما: أنه يكون من جملة الأربعين.
والحجة على هذا: ما روى عبدالرحمن بن كعب بن مالك.(1)
قال: كنت قائداً لأبي بعدما كف بصره فكان إذا سمع الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة، فقلت له: إنك تترحم عليه في نداء كل جمعة؟ فقال: نعم.. كان أول من جَمَّع بنا في بني بياضه. قلت: كم كنتم؟ قال: أربعين رجلاً. وروي عن جابر بن عبدالله أنه قال: مضت السنَّة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة.
المذهب الرابع: أنها تنعقد بإثني عشر رجلاً، محكي عن ربيعة.
وعن عكرمة: أنها تنعقد بتسعة.
وحكي عن الحسن البصري: أنها تنعقد بإمام ومأموم. وهو محكي عن داود.
وعن الحسن بن صالح: أنها تنعقد بالإمام وحده.
وعن مالك: أني لا أجد في ذلك حداً وإنما يعتبر في ذلك عدد يمكنهم المقام في قرية ويتمكنون فيها.
والمختار: ما ارتضاه الأخوان وحصَّلاه للمذهب، من أنها تنعقد بثلاثة مع الإمام.
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) أبو الخطاب عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي، روى عن أبيه وأخيه عبد الله بن كعب وأبي قتادة وجابر وعائشة وغيرهم، وعنه: ابنه كعب وأبو أمامة بن سهل والزهري وغيرهم، ولد على عهد النبي÷ ولم يرو عنه شيئاً، توفي في ولاية سليمان بن عبد الملك بن مروان، وقيل: في ولاية هشام. اهـ (تهذيب التهذيب) 6/233، وقال في (الإصابة): قال ابن سعد: كان ثقة وأكثر حديثاً من أخيه. اهـ. 5/47.
ونزيد هاهنا: وهو أن الروايات في الأخبار متعارضة، فروي عن أسعد بن زرارة أنه جَمَّعَ في أربعين، وروي عن مصعب بن عمير(1):
__________
(1) أبو عبد الله مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، من جلة الصحابة ومشاهيرهم وفضلائهم، هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولى، شهد بدراً، وكان رسول الله÷ قد بعثه إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وكان يدعى: القارئ المقرئ، ويقال: إنه أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة، ذكر في (الاستيعاب) عن الواقدي ما عُرف به مصعب بن عمير في مكة بأنه كان فتاها شباباً وجمالاً، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان رسول÷ يذكره ويقول: ((ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير)) ولما بلغه أن رسول الله يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم جاءه وأسلم وظل يختلف إلى رسول الله سراً، فبصر به عثمان بن طلحة يصلي فأخبر به قومه وأمه، فأخذوه وحبسوه فلم يزل محبوساً إلى أن خرج مهاجراً إلى الحبشة، استشهد في أحد رحمه الله ورضي عنه، وكانت راية رسول الله معه يوم بدر ويوم أحد حتى استشهد فأخذها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، راجع (الاستيعاب) 4/1473، و(الإصابة) 6/123.
أنه جَمَّعَ في اثني عشر رجلاً(1).
وروي: أنهم انفضوا حين دخلت العير ولم يبق منهم إلا ثمانية رجال إلى غير ذلك من الإختلافات، وإذا كانت الأخبار متعارضة وجب الرجوع إلى ما تدل عليه الآية بقوله تعالى: {فَاسْعَوْا} ولا شك أن أقل الجمع ثلاثة مع الإمام فيجب التعويل عليه، ولم أعثر في البخاري والترمذي على شيء يدل على العدد في الجمعة.
ومن وجه آخر: وهو أن التعويل على ما تدل عليه الآية وترشد إليه أحق من التعويل على هذه الأخبار المتعارضة، فإن الآية مقطوع بأصلها وظواهرها مظنونة فلهذا كان التعويل على ما تدل عليه أحق بالقبول لما ذكرناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ.}[الجمعة:9]. وهذا جمع، وأقل الجمع إثنان مع الإمام، كما حكي عن أبي العباس.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن أقل الجمع اثنان، ويدل على ذلك أن للتثنية صيغة في الأسماء الظاهرة فيقال: رجلان وفرسان. وللجمع صيغة فيقال: رجال وأفراس، وفي الأسماء المضمرة فيقال في التثنية: هما وضربا. ويقال في الجمع: هم وضربوا. وفي هذا دلالة على أن التثنية ليست جمعاً.
__________
(1) جاء في (جواهر الأخبار) 2/13: عن جابر، بينما نحن نصلي مع رسول الله÷ إذ أقبلت عير تحمل طعاماً فالتفوا إليها حتى ما بقي مع النبي÷ إلاَّ اثني عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] وفي رواية أن الرسول÷ كان يخطب قائماً فجاءت عير من الشام، وذكر نحوه، وقال: إلاَّ اثني عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر، وفي أخرى: إلاَّ اثني عشر رجلاً أنا فيهم، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، قال: وقوله في الكتاب (يقصد: كتاب البحر): وبقي معه ثمانية، وقوله في (الانتصار) ولم يبق معه إلاَّ ثمانية مخالف لما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم.
وأما ثانياً: فلأن التثنية إذا كانت جمعاً فيجب أن يكون واحد مع الإمام كافياً في إنعقاد الجمعة لأنهما إثنان.
قالوا: لا تنعقد الجمعة إلا بأربعين، كما حكي عن الشافعي اعتماداً على ما حكي عن أسعد بن زرارة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا مذهب لأسعد بن زرارة لأنه لم ينقله عن الرسول÷ فليس الحجة إلا في كلام الله وكلام رسوله÷، فأما مذاهب المجتهدين فلا تلزمنا.
وأما ثانياً: فإنه قد روي أن مصعب بن عمير أقام الجمعة في اثني عشر رجلاً، فما ذكروه معارض لهذا العدد فليس أحدهما أحق بالقبول من الآخر.
قالوا: روي: أنها لا تنعقد إلا باثني عشر رجلاً. كما روي عن ربيعة، وعن عكرمة: بتسعة رجال، وعن الحسن البصري: أنها تنعقد بالإمام مع واحدٍ. وعن الحسن بن صالح: أنها تنعقد بالإمام وحده. وعن مالك: أنه لا يجد في ذلك حداً بعدد مخصوص، وإنما الإعتبار بعدد يمكنهم المقام في قرية.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه مذاهب مختلفة وآراء مضطربة لا تستند إلى دليل شرعي، ولا تتأيد بمسلك نقلي.
وأما ثانياً: فلأن هذه المقدرات أمور غيبية وعبادات شرعية لا يمكن إثباتها بطرق القياس، ولا بمسالك النظر، وإنما مستندها من جهة صاحب الشريعة صلوات الله عليه من قوله وفعله، ولا يمكن فيها تحكيم الآراء ولا تجري فيها الأقيسة باستنباط المعاني لانسدادها فيها، ولا يمكن تقريرها بطرق الأشباه لتعذرها فيها وبعدها عنها، وإنما التعويل في إثباتها على ما ذكرناه من ظواهر القرآن والسنة، والأقوى فيها ما ذكرناه فيجب الإعتماد عليه.
الفرع الثاني: في صفة العدد الذي تنعقد بهم الجمعة، وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهم ضربان:
فالضرب الأول: [الذين] تنعقد بهم الجمعة ويجب عليهم فعلها. وهؤلاء هم الرجال البالغون الأحرار المسلمون، فمن جمع هذه الأوصاف فإنها تجب عليهم الجمعة وتنعقد بهم إذا حضروا، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي.
الضرب الثاني: الذين لا تجب عليهم الجمعة وتنعقد بهم إذا حضروا وهؤلاء هم العبيد والمرضى والمسافرون والصبيان والنساء فإن هؤلاء لا تجب عليهم الجمعة، وإذا حضروا انعقدت بهم الجمعة.
قيل للسيد أبي طالب رضي الله عنه: هل يجب أن يكون العدد [من] الذين يعتبرون في الجمعة أحراراً بالغين عقلاء؟ فقال: يجب أن يكونوا مكلفين.
قيل: فهل يعتبر أن يكونوا رجالاً أحراراً؟ فقال: بل لو كانوا نساء وعبيداً وجب أن تصح وتنعقد بهم الجمعة لأن عندنا أن هؤلاء إن حضروا أجزتهم الجمعة.
المذهب الثاني: أن العدد بالإضافة إلى انعقاد الجمعة وعدم انعقادها على ضروب أربعة:
الضرب الأول: تنعقد بهم الجمعة وتجب عليهم، وهؤلاء إذا كانوا رجالاً بالغين عاقلين مسلمين أحراراً، وكانت عدتهم أربعين رجلاً مقيمين لا يظعنون شتاء ولا صيفاً إلا لحاجة.
الضرب الثاني: الذين لا تجب عليهم الجمعة ولا تنعقد بهم وهؤلاء هم المسافرون والنساء والصبيان والخناثا والعبيد، فهؤلاء لو اجتمع من صنف واحد منهم أربعون رجلاً، أو من كل صنف منهم أربعون رجلاً لم تنعقد بهم الجمعة.
الضرب الثالث: الذين لا تجب عليهم الجمعة، وتنعقد بهم إذا حضروا وهؤلاء هم المرضى ومن في طريقه مطر ومن يخاف من حضور الجامع، فإن حضر هؤلاء انعقدت بهم الجمعة وتوجه عليهم وجوبها.
الضرب الرابع: تجب عليهم الجمعة، وفي انعقادها بهم وجهان. وهؤلاء هم المقيمون في المصر لدرس العلم والفقه، ولطلب التجارة والأرباح، فقيل: تنعقد بهم الجمعة لأن كل من وجبت عليه انعقدت به.
وقيل: إنها لا تنعقد بهم لأن الرسول÷ لم يقمها بعرفات بأهل مكة، وإن كانت دار إقامتهم لأنها ليست وطناً لهم. وهذا هو رأي الشافعي.
فهذا تقسيم العدد المعتبر في انعقاد الجمعة وصفاتهم. وقد مضى الخلاف فيما يجزي من هذه الصفات، وما يجب اعتباره وما لا يجب فأغنى عن تكريره.
الفرع الثالث: إذا كان العدد لا بد من اعتباره، فهل يكون شرطاً في ابتداء الخطبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن العدد شرط في ابتداء الخطبة، وهذا هو الذي يأتي على رأي الهادي، وهو محكي عن الشافعي، لأن الخطبتين عنده بمنزلة الركعتين.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ.}[الجمعة:9]. والذكر هاهنا هو الخطبة.
المذهب الثاني: أن العدد ليس شرطاً في ابتداء الخطبة، وهذا هو الذي يأتي على رأي المؤيد بالله، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن المقصود هو الصلاة؛ والخطبتان ذكر يتقدم الصلاة فلم يكن العدد شرطاً في ابتداء الذكر كصلاة الجماعة، وعلى هذا لو خطب وحده وحضر العدد وصلى بهم الجمعة جاز ذلك وانعقدت الجمعة.
والمختار: ما ذكره الهادي، وارتضاه الشافعي، من أن العدد شرط في ابتداء الخطبة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن المقصود بالخطبتين إنما هو الوعظ والتذكير وتعريف الحاضرين فضل الجمعة، وهذا لا يمكن ولا يتأتى إلا بسماعهم وحضورهم، فإذا كانوا غير حاضرين عند ابتداء الخطبة بطل الغرض بهم.
الانتصار: يكون بالجواب عما اعتمدوه.
قالوا: ذكر يتقدم الصلاة فلم يكن العدد شرطاً في الإبتداء كصلاة الجماعة.
قلنا: المعنى في الأصل: هو أن الجماعة ليست شرطاً في صحة انعقاد الجماعة بخلاف ما نحن فيه فإن الجماعة شرط في انعقاد الجمعة فافترقا، ولأنه ذكر يتقدم الصلاة شرط فيها فكان من شرطه حضور الجماعة، دليله: تكبيرة الإفتتاح في الجمعة.
فإذا تقرر هذا فإنما يشترط حضور العدد عند الواجبات من الذكر في الخطبة على ما يأتي في تقريره، دون ما سواها فلا عبرة به.
فإن انفضوا بعد فراغه من الواجبات، فإن عادوا قبل تطاول الفصل بنى الإمام على الخطبة وأحرم بهم للجمعة وصحت الجمعة، وإن رجعوا بعد تطاول الفصل. وحدُّ التطاول: ما يكون في تعارف الناس تطاولاً، وجب على الإمام أن يعيد الخطبة ثم يصلي بهم الجمعة.
وكمال العدد شرط في ابتداء الصلاة، وشرط في إستدامتها كالوقت والمكان.
فإن نفر الناس قبل شروعه في الخطبة نظرت فإن عادوا في وقت الجمعة فهي جمعة، وإن لم يعودوا إليها أتمها ظهراً، وإن كان نفورهم بعد شروعه في الصلاة فسيأتي تقرير الكلام في حكم الصلاة إذا [اختل] أحد شروطها المعتبرة فيها.
---
القول في الوقت للجمعة
أول وقت الخطبة وصلاة الجمعة زوال الشمس، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الرسول لم يصل الجمعة ولم يخطب لها إلا بعد الزوال، وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). ولأنهما فرضا وقت فلهذا لم يختلف وقتهما كصلاة الحضر والسفر.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول منها: وهل يكون لهما وقت آخر في الجواز غير هذا أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجوز فعلهما قبل الزوال، وهذا هو المحكي عن أحمد بن حنبل، ثم اختلف أصحابه في وقتهما فمنهم من قال: وقتهما أوله وقت صلاة العيد. ومنهم من قال: يجوز فعلهما في الساعة السادسة.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9]. ولم يفصل بين وقت ووقت لكنا أخرجنا طلوع الشمس وعند قائم الظهيرة لما كانا وقتين لا تجوز فيهما الصلاة، وما بعد العصر فليس وقتاً لهما.
المذهب الثاني: أن الخطبة يجوز فعلها قبل الزوال، وأما صلاة الجمعة فلا يجوز فعلها إلا بعد الزوال، وهذا هو رأي مالك.
والحجة على هذا: هو أن الخطبة ذكر فجاز فعله قبل الزوال كسائر الأذكار.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة ومن تابعهم من الفقهاء.
وحجتهم: ما نقلناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روى أنس بن مالك عن الرسول : أنه كان يصلي الجمعة إذا مالت الشمس(1).
وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]. ولأنها صلاة مفروضة فلا يجوز تأديتها قبل الزوال كالظهر ولأنها بدل عن الظهر فيجب أن يكون وقتهما واحداً كسائر الأبدال والمبدلات.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي بلفظ: حين تميل الشمس.
قالوا: أول وقتها كصلاة العيد لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]. ولم يفصل، فيجب أن تكون مثل صلاة العيد وفي الساعة السادسة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن قوله تعالى: {فاسعوا} أمر مجمل وقد أوضحه بفعله وقوله فلا يصح الإحتجاج بالأمور المجملة.
وأما ثانياً: فلأن تخصيصها بأن تفعل في هذين الوقتين لا دلالة عليه من جهة الشرع فيجب بطلانه.
قالوا: روى سلمة بن الأكوع(1)
أنه قال: كنا نصلي مع رسول اللّه صلاة الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل(2).
في هذا دلالة على جواز فعلها قبل الزوال.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا الحديث قد روي وليس للحيطان ظل يستظل به. وفي هذا دلالة على أنه أول الزوال.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من فعله لها بعد الزوال، وإذا تعارضت وجب الترجيح ولا شك أن العمل على الفعل أرجح لأنه هو الأظهر والأشهر لأنه فعله طوال عمره فبطل ما قاله أحمد بن حنبل.
قالوا: الخطبة يجوز فعلها قبل الزوال لأنها ذكر فجاز فعله قبل الزوال كسائر الأذكار كما حكي عن مالك.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المعلوم من حال الرسول طوال حياته: أنه كان لا يخطب إلا بعد الزوال.
وأما ثانياً: فلأن الخطبة ذكر مفروض فلم يجز فعله قبل الزوال كالصلاة.
ومن وجه آخر: وهو أن المعنى في الأصل أنه غير مفروض بخلاف الخطبة فافترقا.
الفرع الثاني: في آخر وقت الجمعة. وفيه مذاهب ثلاثة:
__________
(2) أخرجه البخاري 4/1526، والبيهقي في (الكبرى) 3/191، وأحمد 4/54.
المذهب الأول: أن آخر وقت الجمعة هو آخر وقت الظهر، وهذا هو رأي القاسمية والناصرية، فإذا صار ظل كل شيء مثله وهو في الجمعة فإنه يتمها جمعة، لأن وقتها وقت الظهر في الإشتراك مع العصر فلا تبطل الجمعة فإذا زاد قليلاً خرج وقت الجمعة، فهل يتمها جمعة أو يتمها ظهراً أو يبني؟ فيه تردد بين السيدين الأخوين نذكره في بيان ما يعرض للصلاة في البطلان.
قال الهادي في الأحكام: ولا ينبغي أن يبطيء بصلاة الجمعة أحد ولا أن يعجل بها قبل الزوال.
والحجة على هذا: هو ان الجمعة بدل عن الظهر فوقتها وقته كسائر الأبدال والمبدلات.
المذهب الثاني: أن آخر وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله، وهذا هو رأي الشافعي، فإذا صار ظل كل شيء مثله وهو في الجمعة بنى عليها الظهر وصلى أربعاً، وهل يحتاج إلى نية كونها ظهراً أم لا؟ فيه وجهان.
والحجة على هذا: هو أن للجمعة وقتاً مضروباً وهو قبل أن يصير ظل كل شيء مثله فإذا دخل وقت العصر بالمثل بطلت الجمعة لبطلان وقتها، وإذا بطلت وجب الظهر لأنه هو الأصل فلهذا يبنى عليها الظهر.
المذهب الثالث: أن آخر وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه، وعند هذا يدخل وقت العصر، فتبطل الجمعة وعليه أن يستأنف الظهر أربعاً وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الجمعة مؤقتة بوقت مخصوص فإذا بطل وقتها بطلت ووجب الظهر من غير أن يبني عليها لأنهما فرضان مختلفان، فهذا تقرير المذاهب كما ترى.
والمختار: ما ذهب إليه أئمة العترة وهو مبني على ثبوت وقت المشاركة وهو أن وقتاً واحداً يجمعهما فلهذا كان آخر وقت الجمعة صيرورة ظل كل شيء مثله وإذا زاد على ذلك بطلت الجمعة لبطلان وقتها، وقد قررنا ثبوت وقت المشاركة في الأوقات فأغنى عن الإعادة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
واعلم أن كلام الفريقين مبني على بطلان الإشتراك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في وقت واحد قد أوضحناه.
الفرع الثالث: وإن أحرم بالجمعة وشك وهو فيها هل خرج وقتها أم لا؟ ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يتمها جمعة لأن الأصل بقاء الوقت، فلا يمكن الخروج عنه بالشك.
وثانيهما: أنه يتمها ظهراً لأن الأصل هو الظهر كما مر بيانه وإنما جوز فعل الجمعة بشروط فلا يجوز فعلها إلا بعد تحقق تلك الشروط والأول هو الوجه لأن الأصل وإن كان هو الظهر لكن الجمعة الظاهر هو حصول شروطها فلهذا كان العمل عليها هو الأولى.
وإن خرج من الصلاة ثم شك هل خرج الوقت وهو فيها أو بعد فراغه منها لم تجب عليه الإعادة لأن الظاهر هو أداؤها على الصحة فلا وجه للعمل على الشك.
والمسبوق بركعة إذا قام ليأتي بركعة ثم خرج الوقت، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يتمها ظهراً كالإمام والجماعة إذا خرج الوقت بعد إتيانهم بركعة.
وثانيهما: أنه يتمها جمعة لأن هذه الركعة تبنى على جمعة قد تمت لقوله : ((من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها)). وهذا هو الوجه في الإتيان بها جمعة. وإن تشاغل المسلمون والإمام عن القيام بالجمعة حتى ضاق الوقت نظرت، فإن علم الإمام أنه إذا خطب أقل ما يجزي من الخطبتين وصلى أخف ما يكون من الركعتين فإنه يدخل العصر قبل الفراغ، فإنهم يصلونها ظهراً لأنهم قد تعذر عليهم تحصيل الجمعة فوجب عليهم الإتيان ببدلها وهو الظهر، وإن علم أنه يفرغ قبل دخول وقت العصر صلاها جمعة لأنها هي الفرض وقد تمكنوا من أدآئه وقد قال : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم)).
القول في المكان: ولا بد من مراعاته، وهل يجب أن يكون مصراً أو قرية أو محلة أو درباً؟ فيه التردد الذي ذكرناه بين الأئمة والفقهاء فإنه قد مر الخلاف فيه وذكرنا من قبل أن القاسمية يذهبون إلى أن المصر غير معتبر وأنها كما تقام في المصر فإنها تقام في المحلة والدرب مما يكون مستوطناً لأهله وأخرجنا من كان من أهل الخيام الذين يظعنون بالمواشي ولا يكون لهم قرار في موضع دون موضع وهو رأي مالك، ومحكي عن الشافعي والناصر، فأما زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله وأبو حنيفة فيذهبون إلى: أن الجمعة لا تقام إلا في الأمصار والمدن وقد مضى الكلام في الأدلة للفريقين، وذكر المختار والانتصار له فأغنى عن الإعادة.
القول في الخطبتين: والخطبتان مشروعتان لما روي عن الرسول أنه كان يخطب في الجمعة خطبتين يقعد بينهما ولا خلاف في كونهما مشروعتين. وهل تكونان واجبتين أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنهما واجبتان وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، ومحكي عن الشافعي ومالك.
والحجة على هذا: هو أن الرسول لم يصل الجمعة إلا بخطبتين وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
المذهب الثاني: أن الخطبتين مستحبتان، وهذا هو المحكي عن الحسن البصري وعبدالملك الجويني وداود من أهل الظاهر.
والحجة على هذا: هو أن الرسول فعلهما والفعل ليس فيه دلالة على الوجوب وإنما يحمل فعله على الإستحباب.
المذهب الثالث: أن الخطبة الواحدة كافية في الوجوب وهذا شيء يحكى عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن المقصود بالخطبة إنما هو التعريف بفضل الجمعة والحث عليها وتذكير الناس بالوعظ والخوف، وهذا حاصل بالخطبة الواحدة فلهذا كانت كافية.
والمختار: ما عليه أئمة العترة وأكثر الفقهاء من القول بوجوبهما.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9]. وظاهر الأمر للوجوب وأحوال الجمعة مجملة وهي موكولة إلى بيانه، وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). ولم يكن يصلي الجمعة إلا بالخطبتين فلهذا قضينا بوجوبهما ولأنهما خلف عن الركعتين، قال عمر رضي اللّه عنه: إنما قصرت الصلاة لأجل الخطبتين.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الفعل لا يدل على الوجوب.
قلنا: إنا لم نقل إن الفعل دلالة على الوجوب وإنما الفعل بيان لما أجمل في الجمعة ودلالة الوجوب هي قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]. وقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). فهاذان أمران، والأمر ظاهره يدل على الوجوب إلا لدلالة تدل على كونه ندباً.
قالوا: الخطبة الواحدة كافية كما حكي عن أبي حنيفة.
قلنا: الذي دل على وجوب الخطبة هو بعينه دال على كونهما خطبتين وهو الأمر بقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
قالوا: روي عن عمار أنه خطب فأوجز. وفي هذا دلالة على أن الذكر القليل من الخطبة فيه كفاية فلهذا قلنا: بأن الواجب واحدة.
قلنا: الإيجاز لا يدل على عدم الوجوب فالواجب خطبتان ويستحب إيجازهما.
قالوا: روي أن عثمان أرتج عليه على المنبر في الخطبة فقال: أيها الناس إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً وإنكم إلى إمام فعَّال أحوج منكم إلى إمام قوال وأنا أستغفر اللّه لي ولكم ونزل عن المنبر، وفي هذا دلالة على أن الذكر القليل كاف فلهذا قدرنا الخطبة الواحدة.
قلنا: عن هذا أجوبة:
أما أولاً: فأكثر ما في هذا أن هذا مذهب لعثمان واجتهاد له فلا يلزمنا قبوله.
وأما ثانياً: فلعله ارتج عليه بعدما أتى بالقدر الواجب الذي نذكره في الخطبتين.
وأما ثالثاً: فلعل هذا الكلام إنما كان في الخطبة الثانية بعد ذكر الواجب منها وإذا كان ما قلناه محتملاً بطل ما ذكروه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الطهارة من الحدث والنجاسة وستر العورة مشروعة في الخطبتين لأن الرسول كان يخطب على هذه الصفة، وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). ولأن الخلفاء الراشدين والأئمة السابقين كانوا يفعلون ذلك، وقد قال : ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)). وهل تكون الطهارة من الحدث والنجس واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك واجب، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو العباس وأبو طالب، وهو قول الشافعي في الجديد.
والحجة على هذا: هو أنه ذكر في الصلاة فاشترط فيه الطهارة دليله تكبيرة الإحرام للصلاة.
المذهب الثاني: أنه غير واجب، وهذا هو قول مالك، ومحكي عن أبي حنيفة، وهو قول الشافعي في القديم.
والحجة على هذا: هو أنه ذكر يتقدم الصلاة فلم تشترط فيه الطهارة كالأذان.
والمختار: ما قاله السيد أبو طالب وأبو العباس ومن تابعهما.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو قوله : ((صلوا كما رأيتموني)).
وستر العورة واجب بالأدلة التي قدمناها في الصلاة على الوجوب وهو أحد قولي الشافعي، وقوله القديم: أنه غير واجب في الخطبة فإن أحدث في خطبته مسبوقاً أو متعمداً بطلت وعليه أن يستأنفها لأن الخطبتين بمنزلة الركعتين اللتين اسقطتا من الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: ذكر يتقدم الصلاة فلم يجب كالأذان.
قلنا: المعنى في الأصل أنه ليس شرطاً في الصلاة بخلاف ما ذكرنا في الخطبتين فإنهما شرط في صحة صلاة الجمعة فافترقا.
الفرع الثاني: والقيام مشروع في الخطبة لما جرت عليه عادة الرسول ومن بعده أنهم كانوا يخطبون قياماً وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه ليس واجباً، وهذا هو الذي ذكره أبو العباس، ومحكي عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: هو أن الوجوب لا بد من دلالة عليه ومطلق الفعل لا يدل على الوجوب لأنه لا ظاهر للفعل والذي يقطع من الفعل على كونه مباحاً فأما دلالته على الوجوب والندب فلا بد من دلالة خارجة.
المذهب الثاني: أنه واجب وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى جابر بن سَمُرة أنه قال: كان الرسول يخطب الخطبتين وهو قائم ثم يجلس ثم يقوم فمن حدثك أنه كان يخطب قاعداً فقد كذب فقد صليت خلفه أكثر من ألف صلاة وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). فإن قعد لعذر أو مرض أجزأه كما جاز ذلك في الصلاة.
والمختار: هو الوجوب كما قاله الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن المعلوم من حال الرسول وحال الخلفاء بعده وحال الأئمة أنهم ما كانوا يخطبون إلا قياماً، ولم يحك عن أحدٍ منهم أنه خطب قاعداً فلو كان جائزاً لفعل على ممر الدهور وتكرر الأعصار وفي هذا دلالة على الوجوب.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الفعل لا دلالة فيه على الوجوب بمطلقه بل لا بد من دلالة غير مطلقة ولا دلالة فلهذا قضينا بالإستحباب فيه لفعل الرسول .
قلنا: تكرر العادات من جهة الرسول وعادة الخلفاء والأئمة دلالة زائدة على مطلق الفعل، فلأنه لو كان مستحباً لجاز تركه على العادات المتكررة.
الفرع الثالث: القعود بين الخطبتين مشروع لفعل الرسول وهل هي(1)
واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها سنة مستحبة وهذا هو الذي ذكره السيدان أبو طالب وأبو العباس، وهو محكي عن أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: هو أنا لم نأخذ الدلالة عليها إلا من جهة فعل الرسول ، ومطلق الفعل ليس فيه دلالة على الوجوب وإنما دليل على كونها سنة مستحبة.
المذهب الثاني: أنها واجبة وهذا هو المحكي عن الشافعي.
__________
(1) ربما أراد الجلسة أو القعدة فأنث الضمير وهو هنا عائد على القعود.
والحجة على هذا: ما روى جابر بن سمرة أن الرسول كان يفصل بين الخطبتين بجلسة، فإن خطب قاعداً لأجل العجز والمرض فصل بينهما بسكتة، وإن كان لا يقدر على القعود فصل بينهما بسكتة أيضاً.
والمختار: هو الوجوب.
والحجة عليه: هو أن الذي دل على وجوب القيام في الخطبتين هو بعينه دال على وجوب القعدة بينهما فلا وجه لتكريره.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الفعل لا دلالة فيه على الوجوب.
قلنا: قد أجبنا عن هذا في الدلالة على وجوب القيام فأغنى عن تكريره.
الفرع الرابع: في الذكر الذي تشتمل عليه الخطبتان.
وتشتمل على أحكام(1)
نفصلها.
والذكر مشروع في الخطبتين لا خلاف فيه وإنما الخلاف فيما يكون واجباً وما يكون مسنوناً:
الحكم الأول: المشروع من الذكر في الخطبة الأولى أمور أربعة:
أولها: حمدالله تعالى.
وثانيها: الصلاة على الرسول .
وثالثها: الموعظة لمن حضر من المسلمين وتعريفهم فضل الجمعة وحثهم على فروضها وسننها.
ورابعها: قرآة سورة من المفصل أو ثلاث آيات.
والمشروع في الخطبة الثانية أمور أربعة:
أولها: حمدالله تعالى.
وثانيها: الصلاة على الرسول .
وثالثها: الدعاء للإمام المخطوب له بالإعانة له على ما يحمله من أمور المسلمين، وإن خاف من ذكره كنى عنه.
ورابعها: الدعاء للمسلمين والمسلمات.
فهذه الأمور كلها مشروعة لأنه قد جرى عمل المسلمين على فعلها والمواضبة عليها.
الحكم الثاني: قرآة سورة من المفصل أو ثلاث آيات، وهل تكون واجبة أم لا؟ فالظاهر من المذهب وجوبها على ما ذكره السيد أبو طالب وهو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى سمرة بن جندب عن الرسول أنه كان يخطب قائماً ويقرأ آيات(2)،
__________
(1) أحد عشر حكماً.
(2) رواه النسائي 3/110، وابن ماجة 1/351، وأحمد 5/107 بلفظ: كان يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم ويقرأ ...إلخ.
وحكي عن الشافعي أنه ذكر في (الإملاء) أنها غير واجبة، والصحيح من مذهبه ما ذكره في (الأم): من وجوبها، وفي محل القرآة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن محلها هو آخر الخطبة الأولى دون الثانية، وهذا هو المحكي عن السيد أبي طالب، وهو المذكور في (الإيضاح) عن الشافعي.
القول الثاني: أن محلها في كل واحدةٍ من الخطبتين لأن كل ما كان واجباً في إحدى الخطبتين فهو واجب في الأخرى، وهذا محكي عن بعض أصحاب الشافعي.
القول الثالث: أن محلها إحدى الخطبتين لا على جهة التعيين وهذا أيضاً مذكور عن بعض أصحاب الشافعي، والأمر في هذا قريب لكن الأولى ما قاله أبو طالب لأن عمل الأئمة قد جرى عليه و((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن)).
الحكم الثالث: الذكر للإمام المخطوب له مشروع، وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه رأيان:
الرأي الأول: أنه واجب، ذكره السيد أبو طالب فيذكره إما بالتصريح، وإما بالكناية لأن عمل المسلمين قد جرى بذلك.
والرأي الثاني: أنه غير واجب. وهذا هو الذي ذكره المؤيد بالله.
قال المؤيد بالله: فالتولية هي الواجبة، وأما ذكر الإمام المخطوب له فلا أراه شرطاً في صحتها ولا أرى له تأثيراً، وسئل عطاء عن ذكر الإمام فقال: إنه محدث.
وأما الدعاء للمسلمين وللإمام فهل يكون واجباً أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه واجب، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب، وهو محكي عن المزني من أصحاب الشافعي.
ثوانيهما: أنه غير واجب؛ لأنه لا يجب في غير الخطبة فلا يجب في الخطبة، وإن خطب بالناس رجل وصلى بهم آخر، فهل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: يجزي وهذا هو ظاهر المذهب، ومحكي عن أبي حنيفة والشافعي في الجديد.
ووجهه: أن الخطبة ذكر يتقدم الصلاة فأشبه الأذان وقد تقرر أنه يجوز أن يؤذن رجل ويصلي بالناس آخر.
وثانيهما: أن ذلك غير جائز وهو محكي عن الشافعي في القديم.
ووجهه: أن الخطبتين صارا عوضاً عن الركعتين فكما لا يجوز ذلك في الصلاة فهكذا الخطبتين.
والمختار: هو الأول، وإنما لم يجز ذلك في الصلاة لأن الشرط فيها الموالاة بخلاف الخطبة مع الصلاة.
الحكم الرابع: الحمد يتعين لفظه ولا يقوم غيره مقامه، والصلاة على النبي تتعين ولا يقوم غيرها مقامها، وأما الوعظ والتذكير فلا يتعين لفظهما لأن المقصود هو التخويف والتحذير وأبواب المواعظ وإن اتسعت مسالكها فهي راجعة إلى الأمر بالطاعة والتحذير عن المعصية، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات فلا يتعين لأن المقصود بالدعاء هو الفوز بالجنة والبعد عن النار، والمستحب ألا يقتصر على الدعاء على حظوظ الدنيا ويجب رفع الصوت بالخطبة لأن المقصود هو إسماع الحاضرين الوعظ والتذكير وسائر الأذكار وهذا لا يحصل بالإسرار فلهذا وجب اشتراط الجهر وأقل ما يجزي في الخطبة أن يقول الخطيب: الحمدلله والصلاة على رسول اللّه أطيعوا اللّه يرحمكم اللّه، ويقرأ آية، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يجزيه سبحان اللّه ولا إله إلا اللّه. وعن أبي يوسف ومحمد: أنه لا يجزيه حتى يأتي بكلام يسمي خطبته في العادة، وعن مالك روايتان:
إحداهما: أن كل من سبح أو هلل أعاد ما لم يصل.
والثانية: أنه لا يجزيه إلا ما يسميه العرب خطبة.
والمختار: ما قاله أصحابنا من تلك الأنواع الأربعة.
والحجة على ما قلناه: قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]. ولم يبين كيفية الذكر، وكيفيته مأخوذة من فعل الرسول وقد روي عن الرسول أنه كان يأتي في الخطبتين بجميع ما ذكرناه.
الحكم الخامس: ويستحب أن تكون الخطبة قريبة من الأفهام بليغة في الوعظ خلية من غريب الكلام ووحشيه مؤداة على ترتيل مائلة إلى القصر لما روى ابن عباس رضي اللّه عنه أن الرسول خطب يوماً فقال: ((الحمد لله نستعينه ونستنصره ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد اللّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، من يطع اللّه ورسوله فقد رشد ومن يعص اللّه ورسوله فقد غوى)) (1).
وروي عن الرسول أنه خطب فقال: ((ألا إن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر، ألا وإن الخير بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر بحذافيره في النار، ألا فاعملوا وكونوا من اللّه على حذر، واعلموا أنكم معرضون على أعمالكم من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)) (2).
وروى جابر أن الرسول خطب يوم الجمعة فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ثم قال على أثر ذلك: وعلا صوته واشتد غضبه واحمرت وجنتاه كأنه منذر جيش ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) وأشار بالسبابة والوسطى ثم قال: ((إن أفضل الحديث كتاب اللّه وخير الهدي هدي محمد، شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ضياعاً أو عيالاً فإليَّ))(3)
ـ والهدى بفتح الهاء وتسكين الدال هي الطريقة يقال: فلان حسن الهدى. أي: حسن الطرائق وحسن المذاهب قاله الهروي في غريبه والضياع بفتح الضاد العيال. قال العتيبي هو مصدر ضاع يضيع ضياعاً فجاء بالمصدر نائباً عن الإسم كما جاء المصدر في قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة:95] نائباً عن الإسم، فأما من رواه بالكسر في الضاد فهو محتمل لمعنيين:
__________
(1) أورده الشافعي في مسنده 1/67، وفي (الأم) 1/202.
(3) رواه مسلم، وللنسائي (زيادة): ((...وكل ضلالة في النار)).
أحدهما: أن يكون جمعاً لضائع كجائع وجياع.
وثانيهما: أن يكون جمعاً لضيعة كقولك: حربة وحراب، فهذه خطب الرسول مشتملة على ما ذكرناه.
الحكم السادس: ويجب أن يأتي بالخطبة بالعربية لأن الرسول والخلفاء بعده كانوا يخطبون بالعربية وقد قال الرسول : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). فإن لم يوجد فيهم من يحسن العربية أجزأهم ذلك لأجل العذر، ويجب أن يتعلم واحد منهم العربية.
ويستحب: تقصير الخطبة وتطويل الصلاة لما روي عن الرسول أنه قال: ((طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنَّة من فقهه2))(1).
والمئنَّة: بهمزة ونون: القوة(2).
ويستحب: أن يخطب على شيء مرتفع كالمنبر والدرجة والحجر لما روي عن الرسول أنه لما دخل المدينة خطب على جذع مستنداً إليه في المسجد ثم وضع له منبر فصعده، وتحول إليه فحن الجذع حتى سمعه أهل المسجد فضمه فسكن(3)،
لأنه أبلغ في الإعلام.
ويستحب: أن يكون المنبر ثلاث مراق من غير زيادة ويكره أن يكون منيفاً عالياً لما روي أن منبره كان ثلاث مراق وإنما كره علوه لمخالفته لمنبر رسول اللّه ، ولأن هذا دأب الظلمة وأهل الجور.
ويستحب: أن يكون المنبر عن يمين المحراب وهو الموضع الذي يكون عن يمين الإمام إذا توجه للقبلة لأن الرسول وضع منبره على هذه الصفة.
ويستحب للإمام: إذا دخل المسجد أن يسلم على الناس عند دخوله فإذا بلغ المنبر صلى ركعتين تحية المسجد، لما روي عن الرسول أنه قال: ((لكل شيء تحية وتحية المسجد ركعتان))(4)
__________
(1) صحيح مسلم 2/594، وسنن البيهقي الكبرى 3/208.
(2) في هامش الأصل: المئنة: العلامة، قال الجوهري: وهم يروونها في الحديث والشعر يتشديد النون، وحقه عندي أن يقال: مئينة مثل معينة فعلى فعيله، وكان أبو زيد يقول: مئتة بالتاء، أي مخلقة لذلك ومجدرة ومجرأة.
…قال الأصمعي: سألني شعبة عن هذا؟ فقلت: مئنة، أي علامة لذلك وخليق لذاك. اهـ.
(3) أخرجه الترمذي 2/379، وابن أبي شيبة 6/319، وأحمد 1/249.
(4) تقدم.
ثم يصعد فإذا بلغ الدرجة التي يستريح بالقعود عليها التفت إلى الناس، وهل يسلم عليهم أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يسلم لما روي أن الرسول كان يسلم على من عند المنبر ثم يصعد فإذا استقبل الناس بوجهه سلم أيضاً.
وثانيهما: أنه لا يسلم ويكره السلام. وهذا هو المحكي عن مالك، وأبي حنيفة لأنه قد سلم عند دخوله فلا معنى لإعادته.
الحكم السابع: والمختار: أنه إذا صعد المنبر التفت إلى الناس بوجهه ثم يقعد للإستراحة من طلوع المنبر من غير سلام ثم يؤذن المؤذن فإذا فرغ من أذانه قام للخطبة ثم يسلم على الناس قبل الخطبة لما روي عن الرسول أنه قال: ((السلام قبل الكلام))(1).
ولا يغنيه السلام الأول عند دخوله المسجد لما روي أن أصحاب رسول اللّه كانوا إذا مروا في طريق تَحُولُ بين بعضهم وبين بعضٍ شجرة سلم بعضهم على بعض، ولأن الأول سلام لأجل الملاقاة والمخالطة، والثاني سلام لأجل الكلام والمخاطبة، فأحدهما مخالف للآخر، ثم يؤذن المؤذن في حال قعوده فإذا فرغ من أذانه قام لخطبته.
ويستحب: أن يكون المؤذن واحداً لما روي عن الرسول أنه لم يكن يؤذن له يوم الجمعة إلا واحد.
ويستحب: أن يعتمد عند أشتغاله بالخطبة على قوس أو سيف أو عكاز أو عصى، لما روى الحكم بن حرب(2)
أن الرسول اعتمد على قوس في خطبته، ولأنه أسكن لجاشِهِ وأثبت لقلبه عن الإنزعاج والفشل والطيش، فإن لم يكن له شيء من ذلك سكن نفسه إما بأن يضع يمينه على شماله، وإما بأن يرسل يديه لئلا يعبث بهما في تنقية أنفه ومسح لحيته، وإما بأن يضع يديه على جانبي المنبر ويخطب خطبتين على ما مضى تقريره.
__________
(1) رواه الترمذي 5/59، وأبو يعلى في مسنده 4/48.
الحكم الثامن: ويستحب أن يقبل على الناس بوجهه ولا يستدبرهم، فإن خالف واستقبل القبلة مستدبراً للناس لم يكن مجزياً، لأن الغرض هو خطابهم بالخطبة، وهذا إنما يتأتى مع الإستقبال دون الإستدبار، وحكي عن الشافعي: جواز ذلك. لكنه يكون مخالفاً للسنة.
وهل يحول وجهه في أثناء الخطبة يميناً وشمالاً أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: المنع من ذلك. وهذا هو المحكي عن الشافعي.
ووجهه: أن المقصود هو سماع الناس وهذا يحصل مع استقبالهم بوجهه فلا وجه للتحويل.
وثانيهما: استحباب ذلك. كالأذان، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة.
والمختار: ما قاله أبو حنيفة، لأن المقصود إعلامهم، فلهذا استحب التحويل ليكون الإعلام شاملاً للجانبين، وإن ارتج على الإمام في الخطبة فتعذر عليه الكلام؛ فالمستحب تلقينه والفتح عليه، لما روي عن الرسول أنه قرأ سورة هود في الصلاة فالتبس عليه آية فركع فلما فرغ قال: ((أليس فيكم أُبيٌّ))؟ قالوا: بلى. فقال: ((هلا رددت عليَّ))(1).
قال: إني ما كان اللّه ليراني وأنا أردُّ على رسول اللّه ، وروي عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه أنه قال: إذا استطعمكم الإمام فأطعموه. أراد: يفتح عليه.
الحكم التاسع: وهل يجوز شرب الماء البارد في حال الخطبة لتسكين العطش أو للتبرد.
فحكي عن الشافعي: جوازه. وقال مالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل: لا يجوز ذلك. حتى قال الأوزاعي: إن فعل ذلك بطلت جمعته.
والمختار: جوازه.
والحجة على ذلك: هو أن الكلام غير مبطل لها فهكذا شرب الماء والجامع بينهما أنه فعل مباح فإذا لم يكن الكلام مبطلاً لها فهكذا شرب الماء، فإن قرأ سجدة في خطبته فنزل فسجد جاز ذلك، لما روي عن عمر أنه فعل ذلك، وإن تركها جاز ذلك أيضاً لما روي أن عمر قرأ السجدة في الجمعة الثانية فتهيأ الناس للسجود فقال: أيها الناس على رسلكم فإن اللّه لم يكتبها علينا. ولم يسجد. والقعدة التي تكون بين الخطبتين تكون مقدار قدر سورة الإخلاص، فإذا فرغ من الخطبة الثانية نزل وابتدأ المؤذن الإقامة بحيث يوافق بلوغه المحراب الفراغ من الإقامة.
الحكم العاشر: ويباح الكلام بعد خروج الإمام قبل أن يبتدئ بالخطبة على ظاهر المذهب، وهو محكي عن الشافعي ومالك وأبي يوسف، ومحمد. لأن هذا الوقت ليس فيه شغل عن سماع الموعظة فلهذا كان مباحاً.
وهل يجوز الكلام ما بين الخطبة والصلاة أم لا؟ فالظاهر على المذهب: جوازه لما روي عن الرسول : أنه كان إذا نزل عن المنبر والمؤذن يقيم للصلاة فيقوم له الرجل فيحدثه ثم يجيبه ثم يتقدم للصلاة فلو كان مكروهاً لم يفعله، وحكي عن أبي حنيفة كراهة ذلك.
والحجة على هذا: ما روي أن الصحابة رضي اللّه عنهم كانوا يركعون حتى يصعد الرسول المنبر، فإذا صعد المنبر قطعوا الركوع، وكانوا يتكلمون حتى يبتدئ بالخطبة، فإذا ابتدأ بها قطعوا الكلام، ففيما فعلوه دلالة على ما قلناه من إباحة الكلام في الحالين اللذين ذكرناهما.
الحكم الحادي عشر: فإذا شرع الإمام في الخطبة فهل يجب الإنصات ويحرم الكلام أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب الإنصات ويحرم الكلام، وهذا هو المحكي عن الهادي والناصر وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل والقول القديم للشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أن رجلاً تكلم في حال الخطبة فقال الرسول : ((لا جمعة لك)) (1).
__________
(1) حكاه في (مجمع الزوائد) 2/185، ومصنف ابن أبي شيبة 1/458.
والحجة الثانية: روي أن رجلاً سأل أُبَيَّاً: متى نزلت هذه الآية؟ والإمام يخطب فقال له أُبَيُّ: ليس لك من صلاتك إلا ما لغوت. ثم سأل الرسول عن ذلك فقال: ((صدق أُبَيُّ)) (1).
المذهب الثاني: جواز الكلام الخفيف الذي لا يشغل عن سماع الخطبة، وهذا هو رأي القاسم ومحمد بن القاسم(2)
ومحمد بن يحيى والقول الجديد للشافعي.
والحجة على هذا: ما روى أنس بن مالك: أن رجلاً دخل ورسول الله على المنبر يوم الجمعة فقال: يا رسول اللّه متى تكون الساعة؟ فأشار الناس إليه أن اسكت. فقال له رسول اللّه : عند الثالثة، ((ويحك ما أعددت لها))؟ فقال: ما أعددت لها شيئاً ولكني أحب اللّه ورسوله. فقال الرسول : ((أنت مع من أحببت))(3).
فلو كان الكلام محرماً لأنكره الرسول ، فلما أجابه دل على جواز ذلك.
والمختار: ما قاله الهادي والناصر ومن تابعهما من منع الكلام وحظره في حال الخطبة قليله وكثيره.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو قوله : ((إذا قلت أنصت والإمام يخطب فقد لغوت))(4).
ظاهر هذا الخبر دال على المنع من الكلام قليله وكثيرة.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}[الأعراف:204]. فأمر بالإستماع والإنصات ولا شك أن الكلام يبطل الإستماع والإنصات فلهذا كان ممنوعاً محرماً وبه قال ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عمر، وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال: من رأيته يتكلم والإمام يخطب فاقرع رأسه بالعصى.
الحجة الثالثة: ولأنه ذكر جعل شرطاً في صحة الصلاة للجمعة فيجب أن يكون الكلام محرماً منهياً عنه كالإفتتاح والقراءة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
__________
(1) رواه في (نيل الأوطار) 3/272 عن أبي الدرداء، وهو في (مجمع الزائد) 2/186، وسنن ابن ماجة 1/352، ومسند أحمد 2/393.
(3) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 3/149، والبيهقي في (الكبرى) 3/221، وأحمد في مسنده 3/202.
قالوا: روى أنس بن مالك أن رجلاً سأله في حال الخطبة متى الساعة؟ فأجابه، فلو كان محظوراً لأنكره عليه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلعله كان يخطب في غير الجمعة، أو كان قبل الشروع في الخطبة، أو كان بعد الفراغ منها.
وأما ثانياً: فلأن هذا الخبر يعارضه ما ذكرناه من الأخبار الدالة على المنع من الكلام وإذا تعارضا وجب الترجيح، ولا شك أن أخبارنا أقوى وأشهر ولأنها دالة على الخطر، وهذا الخبر يدل على الإباحة وما دل على الحظر أحق بالقبول لما فيه من الإحتياط للدين.
ومن وجه آخر: وهو أن الإجماع منعقد على تحريم الكلام الكثير والمنع منه لأنه يضاد الإستماع والإنصات اللذين أمر بهما فيجب أن يكون ممنوعاً، ولا شك أن الكلام اليسير يدعو إلى الكثير وليس هناك مانع فلو سوغنا الكلام القليل لدعا إلى الكثير خاصة والنفوس مولعة بكثرة الكلام في أكثر الأحوال، ولكان في ذلك إبطال الغرض من سماع الموعظة والذكر فلهذا كان المنع منه هو الأوجه ليقع الإنتفاع بسماع الخطبة والإقبال إليها.
ومن وجه آخر: وهو أن الكلام الخفي يشغل عن سماع الخطبة الذي لا يدرك فكيف حال الكلام الخفيف الذي يدرك هو لا محالة اشغل للقلب وأبعد عن سماع الوعظ والتذكير كما قررناه. وقد نجز غرضنا من الكلام في الأحكام المتعلقة بالخطبة ونرجع الآن إلى التفريع.
الفرع الخامس: فإذا فرغ الإمام من الخطبة نزل وصلى الجمعة ركعتين ولا خلاف أن فرض الجمعة ركعتين مع الخطبتين وهو نقل الخلف عن السلف وفعله الخلفاء الراشدون والأئمة السابقون، واختلف العلماء فيما المستحب من القرآءة فيهما على أقوال أربعة:
القول الأول: أن المستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الثانية بسورة ((المنافقون))، وهذا هو المحكي عن: القاسم والهادي والناصر والشافعي، لما روى ابن عباس رضي اللّه عنه أن الرسول كان يقرأ بهما في صلاة الجمعة، وعن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه: أنه كان يقرأ بهما في صلاة الجمعة.
القول الثاني: محكي عن مالك: أنه يقرأ في الأولى بسورة ((الجمعة))، وفي الثانية بسورة ((الغاشية)).
القول الثالث: مروي عن أبي حنيفة وأصحابه أنه يقرأ بما شاء من القرآن ولا تعيين هناك.
القول الرابع: محكي عن زيد بن علي أنه يقرأ في الأولى ((بحم السجدة)) وفي الثانية بـ((هل أتى على الإنسان)).
والمختار: أن الجواز حاصل في جميع القرآن، ولكن الكلام إنما هو في الأفضل، فالأفضل ما فعله الرسول وأمير المؤمنين كرم اللّه وجهه، فإن قرأ غيرهما من القرآن أجزأ لما روي سمرة بن جندب أن الرسول قرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بسورة الغاشية، وفي هذا دلالة على الجواز كما ذكرناه، والجهر بالقرآءة في صلاة الجمعة هو السنة، وهذا هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة، وهو معمول عليه عند السلف والخلف، وروي عن بعض التابعين أنها تكون سراراً محتجاً بما روي عن الرسول أنه قال: ((صلاة النهار عَجْماء))(1).
فإن ظاهره غير معمول عليه لأن صلاة الفجر من صلاة النهار وهي مجهور بها، وإنما أراد أن الأكثر من صلاة النهار عَجماء، فهذا ما أردنا ذكره في شروط الجمعة.
__________
(1) تقدم في الصلاة، وقد رواه عبد الرزاق في المصنف 2/493، وابن أبي شيبة في مصنفه 1/320، وابن عبد البر في (التمهيد) 3/310.
---
القول في المكان
ولا بد من مراعاته، وهل يجب أن يكون مصراً أو قرية أو محلة أو درباً؟ فيه التردد الذي ذكرناه بين الأئمة والفقهاء فإنه قد مر الخلاف فيه وذكرنا من قبل أن القاسمية يذهبون إلى أن المصر غير معتبر وأنها كما تقام في المصر فإنها تقام في المحلة والدرب مما يكون مستوطناً لأهله. وأخرجنا من كان من أهل الخيام الذين يظعنون بالمواشي ولا يكون لهم قرار في موضع دون موضع. وهو رأي مالك، ومحكي عن الشافعي والناصر.
فأما زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله وأبو حنيفة فيذهبون إلى أن الجمعة لا تقام إلا في الأمصار والمدن. وقد مضى الكلام في الأدلة للفريقين، وذكر المختار والانتصار له فأغنى عن الإعادة.
---
القول في الخطبتين
والخطبتان مشروعتان لما روي عن الرسول أنه كان يخطب في الجمعة خطبتين يقعد بينهما، ولا خلاف في كونهما مشروعتين. وهل تكونان واجبتين أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنهما واجبتان وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، ومحكي عن الشافعي ومالك.
والحجة على هذا: هو أن الرسول لم يصل الجمعة إلا بخطبتين وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
المذهب الثاني: أن الخطبتين مستحبتان، وهذا هو المحكي عن الحسن البصري وعبدالملك الجويني وداود من أهل الظاهر.
والحجة على هذا: هو أن الرسول فعلهما والفعل ليس فيه دلالة على الوجوب وإنما يحمل فعله على الاستحباب.
المذهب الثالث: أن الخطبة الواحدة كافية في الوجوب. وهذا شيء يحكى عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن المقصود بالخطبة إنما هو التعريف بفضل الجمعة والحث عليها وتذكير الناس بالوعظ والخوف، وهذا حاصل بالخطبة الواحدة فلهذا كانت كافية.
والمختار: ما عليه أئمة العترة وأكثر الفقهاء من القول بوجوبهما.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9]. وظاهر الأمر للوجوب، وأحوال الجمعة مجملة وهي موكولة إلى بيانه، وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). ولم يكن يصلي الجمعة إلا بالخطبتين فلهذا قضينا بوجوبهما، ولأنهما خلف عن الركعتين، قال عمر رضي الله عنه: إنما قصرت الصلاة لأجل الخطبتين.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الفعل لا يدل على الوجوب.
قلنا: إنا لم نقل إن الفعل دلالة على الوجوب وإنما الفعل بيان لما أجمل في الجمعة ودلالة الوجوب هي قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]. وقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). فهاذان أمران، والأمر ظاهره يدل على الوجوب إلا لدلالة تدل على كونه ندباً.
قالوا: الخطبة الواحدة كافية كما حكي عن أبي حنيفة.
قلنا: الذي دل على وجوب الخطبة هو بعينه دال على كونهما خطبتين وهو الأمر بقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
قالوا: روي عن عمار أنه خطب فأوجز. وفي هذا دلالة على أن الذكر القليل من الخطبة فيه كفاية فلهذا قلنا: بأن الواجب واحدة.
قلنا: الإيجاز لا يدل على عدم الوجوب فالواجب خطبتان، ويستحب إيجازهما.
قالوا: روي أن عثمان ارتج عليه على المنبر في الخطبة فقال: أيها الناس إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً وإنكم إلى إمام فعَّال أحوج منكم إلى إمام قوال وأنا أستغفر الله لي ولكم. ونزل عن المنبر، وفي هذا دلالة على أن الذكر القليل كاف فلهذا قدر بالخطبة الواحدة.
قلنا: عن هذا أجوبة:
أما أولاً: فأكثر ما في هذا أن هذا مذهب لعثمان واجتهاد له فلا يلزمنا قبوله.
وأما ثانياً: فلعله ارتج عليه بعدما أتى بالقدر الواجب الذي نذكره في الخطبتين.
وأما ثالثاً: فلعل هذا الكلام إنما كان في الخطبة الثانية بعد ذكر الواجب منها وإذا كان ما قلناه محتملاً بطل ما ذكروه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الطهارة من الحدث والنجاسة وستر العورة مشروعة في الخطبتين لأن الرسول كان يخطب على هذه الصفة، وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). ولأن الخلفاء الراشدين والأئمة السابقين كانوا يفعلون ذلك، وقد قال : ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)).
وهل تكون الطهارة من الحدث والنجس واجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك واجب، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو العباس وأبو طالب، وهو قول الشافعي في الجديد.
والحجة على هذا: هو أنه ذكر في الصلاة فاشترط فيه الطهارة، دليله: تكبيرة الإحرام للصلاة.
المذهب الثاني: أنه غير واجب، وهذا هو قول مالك، ومحكي عن أبي حنيفة، وهو قول الشافعي في القديم.
والحجة على هذا: هو أنه ذكر يتقدم الصلاة فلم تشترط فيه الطهارة كالأذان.
والمختار: ما قاله السيد أبو طالب وأبو العباس ومن تابعهما.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو قوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
وستر العورة واجب بالأدلة التي قدمناها في الصلاة على الوجوب. وهو أحد قولي الشافعي، وقوله القديم: أنه غير واجب في الخطبة.
فإن أحدث في خطبته مسبوقاً أو متعمداً بطلت وعليه أن يستأنفها لأن الخطبتين بمنزلة الركعتين اللتين أُسقطتا من الصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: ذكر يتقدم الصلاة فلم تجب [فيه الطهارة] كالأذان.
قلنا: المعنى في الأصل: أنه ليس شرطاً في الصلاة بخلاف ما ذكرنا في الخطبتين فإنهما شرط في صحة صلاة الجمعة فافترقا.
الفرع الثاني: والقيام مشروع في الخطبة لما جرت عليه عادة الرسول ومن بعده أنهم كانوا يخطبون قياماً. وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه ليس واجباً، وهذا هو الذي ذكره أبو العباس، ومحكي عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: هو أن الوجوب لا بد من دلالة عليه. ومطلق الفعل لا يدل على الوجوب لأنه لا ظاهر للفعل، والذي يقطع من الفعل على كونه مباحاً، فأما دلالته على الوجوب والندب فلا بد من دلالة خارجة.
المذهب الثاني: أنه واجب وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى جابر بن سَمُرة أنه قال: كان الرسول يخطب الخطبتين وهو قائم ثم يجلس ثم يقوم. فمن حدثك أنه كان يخطب قاعداً فقد كذب فقد صليت خلفه أكثر من ألف صلاة وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
فإن قعد لعذر أو مرض أجزأه كما جاز ذلك في الصلاة.
والمختار: هو الوجوب كما قاله الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن المعلوم من حال الرسول وحال الخلفاء بعده وحال الأئمة أنهم ما كانوا يخطبون إلا قياماً، ولم يحك عن أحدٍ منهم أنه خطب قاعداً فلو كان جائزاً لفعل على ممر الدهور وتكرر الأعصار وفي هذا دلالة على الوجوب.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الفعل لا دلالة فيه على الوجوب بمطلقه بل لا بد من دلالة غير مطلقة ولا دلالة فلهذا قضينا بالاستحباب فيه لفعل الرسول .
قلنا: تكرر العادات من جهة الرسول وعادة الخلفاء والأئمة دلالة زائدة على مطلق الفعل، فلأنه لو كان مستحباً لجاز تركه على العادات المتكررة.
الفرع الثالث: القعود بين الخطبتين مشروع لفعل الرسول . وهل هي(1)
اجبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها سنة مستحبة وهذا هو الذي ذكره السيدان أبو طالب وأبو العباس، وهو محكي عن أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: هو أنا لم نأخذ الدلالة عليها إلا من جهة فعل الرسول ، ومطلق الفعل ليس فيه دلالة على الوجوب وإنما دليل على كونها سنة مستحبة.
المذهب الثاني: أنها واجبة وهذا هو المحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى جابر بن سمرة أن الرسول كان يفصل بين الخطبتين بجلسة.
فإن خطب قاعداً لأجل العجز والمرض، فصل بينهما بسكتة. وإن كان لا يقدر على القعود فصل بينهما بسكتة أيضاً.
والمختار: هو الوجوب.
والحجة عليه: هو أن الذي دل على وجوب القيام في الخطبتين هو بعينه دال على وجوب القعدة بينهما فلا وجه لتكريره.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الفعل لا دلالة فيه على الوجوب.
قلنا: قد أجبنا عن هذا في الدلالة على وجوب القيام فأغنى عن تكريره.
الفرع الرابع: في الذكر الذي تشتمل عليه الخطبتان.
ويشتمل على أحكام(2) نفصلها.
والذكر مشروع في الخطبتين لا خلاف فيه، وإنما الخلاف فيما يكون واجباً وما يكون مسنوناً.
الحكم الأول: المشروع من الذكر في الخطبة الأولى أمور أربعة:
أولها: حمدالله تعالى.
وثانيها: الصلاة على الرسول .
وثالثها: الموعظة لمن حضر من المسلمين وتعريفهم فضل الجمعة وحثهم على فروضها وسننها.
ورابعها: قرآة سورة من المفصل أو ثلاث آيات.
__________
(1) ربما أراد الجلسة أو القعدة فأنث الضمير وهو هنا عائد على القعود.
(2) أحد عشر حكماً.
والمشروع في الخطبة الثانية أمور أربعة:
أولها: حمدالله تعالى.
وثانيها: الصلاة على الرسول .
وثالثها: الدعاء للإمام المخطوب له بالإعانة له على ما يحمله من أمور المسلمين، وإن خاف من ذكره كنى عنه.
ورابعها: الدعاء للمسلمين والمسلمات.
فهذه الأمور كلها مشروعة لأنه قد جرى عمل المسلمين على فعلها والمواضبة عليها.
الحكم الثاني: قرآة سورة من المفصل أو ثلاث آيات، وهل تكون واجبة أم لا؟
فالظاهر من المذهب وجوبها على ما ذكره السيد أبو طالب وهو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى سمرة بن جندب عن الرسول أنه كان يخطب قائماً ويقرأ آيات(1). وحكي عن الشافعي أنه ذكر في (الإملاء) أنها غير واجبة، والصحيح من مذهبه ما ذكره في (الأم) من وجوبها.
وفي محل القرآة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن محلها هو آخر الخطبة الأولى دون الثانية، وهذا هو المحكي عن السيد أبي طالب، وهو المذكور في (الإيضاح) عن الشافعي.
القول الثاني: أن محلها في كل واحدةٍ من الخطبتين لأن كل ما كان واجباً في إحدى الخطبتين فهو واجب في الأخرى، وهذا محكي عن بعض أصحاب الشافعي.
القول الثالث: أن محلها إحدى الخطبتين لا على جهة التعيين. وهذا أيضاً مذكور عن بعض أصحاب الشافعي.
والأمر في هذا قريب لكن الأولى ما قاله أبو طالب؛ لأن عمل الأئمة قد جرى عليه و((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)).
الحكم الثالث: الذكر للإمام المخطوب له مشروع، وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه رأيان:
الرأي الأول: أنه واجب، ذكره السيد أبو طالب. فيذكره إما بالتصريح، وإما بالكناية لأن عمل المسلمين قد جرى بذلك.
والرأي الثاني: أنه غير واجب. وهذا هو الذي ذكره المؤيد بالله.
قال المؤيد بالله: فالتولية هي الواجبة، وأما ذكر الإمام المخطوب له فلا أراه شرطاً في صحتها ولا أرى له تأثيراً.
__________
(1) رواه النسائي 3/110، وابن ماجة 1/351، وأحمد 5/107 بلفظ: كان يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم ويقرأ ...إلخ.
وسئل عطاء عن ذكر الإمام فقال: إنه محدث.
وأما الدعاء للمسلمين وللإمام فهل يكون واجباً أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه واجب، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب، وهو محكي عن المزني من أصحاب الشافعي.
وثانيهما: أنه غير واجب؛ لأنه لا يجب في غير الخطبة فلا يجب في الخطبة.
وإن خطب بالناس رجل وصلى بهم آخر، فهل يجوز أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مجزي وهذا هو ظاهر المذهب، ومحكي عن أبي حنيفة والشافعي في الجديد.
ووجهه: أن الخطبة ذكر يتقدم الصلاة فأشبه الأذان وقد تقرر أنه يجوز أن يؤذن رجل ويصلي بالناس آخر.
وثانيهما: أن ذلك غير جائز وهو محكي عن الشافعي في القديم.
ووجهه: أن الخطبتين صارا عوضاً عن الركعتين فكما لا يجوز ذلك في الصلاة فهكذا الخطبتين.
والمختار: هو الأول، وإنما لم يجز ذلك في الصلاة لأن الشرط فيها الموالاة بخلاف الخطبة مع الصلاة.
الحكم الرابع: الحمد يتعين لفظه ولا يقوم غيره مقامه، والصلاة على النبي تتعين ولا يقوم غيرها مقامها، وأما الوعظ والتذكير فلا يتعين لفظهما لأن المقصود هو التخويف والتحذير. وأبواب المواعظ وإن اتسعت مسالكها فهي راجعة إلى الأمر بالطاعة والتحذير عن المعصية. والدعاء للمؤمنين والمؤمنات فلا يتعين لأن المقصود بالدعاء هو الفوز بالجنة والبعد عن النار. والمستحب ألا يقتصر في الدعاء على حظوظ الدنيا.
ويجب رفع الصوت بالخطبة لأن المقصود هو إسماع الحاضرين الوعظ والتذكير وسائر الأذكار ،وهذا لا يحصل بالإسرار فلهذا وجب اشتراط الجهر.
وأقل ما يجزي في الخطبة أن يقول الخطيب: الحمدلله والصلاة على رسول الله أطيعوا الله يرحمكم اللّه، ويقرأ آية.
وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يجزيه، سبحان الله ولا إله إلا اللّه.
وعن أبي يوسف ومحمد: أنه لا يجزيه حتى يأتي بكلام يسمى خطبة في العادة.
وعن مالك روايتان:
إحداهما: أن كل من سبح أو هلل أعاد ما لم يصل.
والثانية: أنه لا يجزيه إلا ما تسميه العرب خطبة.
والمختار: ما قاله أصحابنا من تلك الأنواع الأربعة.
والحجة على ما قلناه: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]. ولم يبين كيفية الذكر، وكيفيته مأخوذة من فعل الرسول وقد روي عن الرسول أنه كان يأتي في الخطبة بجميع ما ذكرناه.
الحكم الخامس: ويستحب أن تكون الخطبة قريبة من الأفهام، بليغة في الوعظ، خلية من غريب الكلام ووحشيه، مؤداة على ترتيل، مائلة إلى القصر. لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول خطب يوماً فقال: ((الحمد لله نستعينه ونستنصره ونستهديه. ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى))(1).
وروي عن الرسول أنه خطب فقال: ((ألا إن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر.، والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر، ألا وإن الخير بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر بحذافيره في النار، ألا فاعملوا وكونوا من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)).
وروى جابر أن الرسول خطب يوم الجمعة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال على إثر ذلك، وعلا صوته واشتد غضبه واحمرت وجنتاه كأنه منذر جيش: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) وأشار بالسبابة والوسطى ثم قال: ((إن أفضل الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ضياعاً أو عيالاً فإليَّ))(2)
__________
(1) أورده الشافعي في مسنده 1/67، وفي (الأم) 1/202.
(2) رواه مسلم، وللنسائي (زيادة): ((...وكل ضلالة في النار)).
والهدي بفتح الهاء وتسكين الدال: هي الطريقة. يقال: فلان حسن الهدي. أي: حسن الطرائق وحسن المذاهب. قاله الهروي في غريبه. والضياع بفتح الضاد: العيال. قال العتيبي: هو مصدر ضاع يضيع ضياعاً. فجاء بالمصدر نائباً عن الإسم كما جاء المصدر في قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة:95] نائباً عن الإسم. فأما من رواه بالكسر في الضاد فهو محتمل لمعنيين:
أحدهما: أن يكون جمعاً لضائع كجائع وجياع.
وثانيهما: أن يكون جمعاً لضيعة كقولك: حربة وحراب.
فهذه خطب الرسول مشتملة على ما ذكرناه.
الحكم السادس: ويجب أن يأتي بالخطبة بالعربية لأن الرسول والخلفاء بعده كانوا يخطبون بالعربية وقد قال الرسول : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). فإن لم يوجد فيهم من يحسن العربية، أجزأهم ذلك لأجل العذر، ويجب أن يتعلم واحد منهم العربية.
ويستحب: تقصير الخطبة وتطويل الصلاة لما روي عن الرسول أنه قال: ((طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنَّة من فقهه))(1).
والمئنَّة: بهمزة ونون: القوة(2).
ويستحب: أن يخطب على شيء مرتفع كالمنبر والدرجة والحجر، لما روي عن الرسول أنه لما دخل المدينة خطب على جذع مستنداً إليه في المسجد ثم وُضع له منبر فصعده، وتحول إليه فحن الجذع حتى سمعه أهل المسجد فضمه فسكن(3)،
ولأنه أبلغ في الإعلام.
__________
(1) صحيح مسلم 2/594، وسنن البيهقي الكبرى 3/208.
(2) في هامش الأصل: المئنة: العلامة، قال الجوهري: وهم يروونها في الحديث والشعر بتشديد النون، وحقه عندي أن يقال: مئينة مثال معينة على فعيله، وكان أبو زيد يقول: مئتة بالتاء، أي مخلقة لذلك ومجدرة ومحرأة.
قال الأصمعي: سألني شعبة عن هذا؟ فقلت: مئنة، أي علامة لذلك وخليق لذاك. اهـ.
(3) أخرجه الترمذي 2/379، وابن أبي شيبة 6/319، وأحمد 1/249.
ويستحب: أن يكون المنبر ثلاث مراق من غير زيادة. ويكره أن يكون منيفاً عالياً لما روي أن منبره كان ثلاث مراق. وإنما كره علوه لمخالفته لمنبر رسول اللّه ، ولأن هذا دأب الظلمة وأهل الجور.
ويستحب: أن يكون المنبر عن يمين المحراب وهو الموضع الذي يكون عن يمين الإمام إذا توجه للقبلة لأن الرسول وضع منبره على هذه الصفة.
ويستحب للإمام، إذا دخل المسجد: أن يسلم على الناس عند دخوله فإذا بلغ المنبر صلى ركعتين تحية المسجد، لما روي عن الرسول أنه قال: ((لكل شيء تحية وتحية المسجد ركعتان))(1)
ثم يصعد فإذا بلغ الدرجة التي يستريح بالقعود عليها التفت إلى الناس، وهل يسلم عليهم أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يسلم لما روي أن الرسول كان يسلم على من عند المنبر ثم يصعد فإذا استقبل الناس بوجهه سلم أيضاً.
وثانيهما: أنه لا يسلم ويكره السلام. وهذا هو المحكي عن مالك، وأبي حنيفة. لأنه قد سلم عند دخوله فلا معنى لإعادته.
الحكم السابع: والمختار: أنه إذا صعد المنبر التفت إلى الناس بوجهه ثم يقعد للإستراحة من طلوع المنبر من غير سلام ثم يؤذن المؤذن فإذا فرغ من أذانه قام للخطبة ثم يسلم على الناس قبل الخطبة لما روي عن الرسول أنه قال: ((السلام قبل الكلام))(2).
ولا يغنيه السلام الأول عند دخوله المسجد لما روي أن أصحاب رسول اللّه كانوا إذا مروا في طريق تَحُولُ بين بعضهم وبين بعضٍ شجرة سلم بعضهم على بعض، ولأن الأول سلام لأجل الملاقاة والمخالطة، والثاني سلام لأجل الكلام والمخاطبة، فأحدهما مخالف للآخر، ثم يؤذن المؤذن في حال قعوده فإذا فرغ من أذانه قام لخطبته.
ويستحب: أن يكون المؤذن واحداً لما روي عن الرسول أنه لم يكن يؤذن له يوم الجمعة إلا واحد.
__________
(1) تقدم.
(2) رواه الترمذي 5/59، وأبو يعلى في مسنده 4/48.
ويستحب: أن يعتمد عند اشتغاله بالخطبة على قوس أو سيف أو عكاز أو عصى، لما روى الحكم بن حزن(1)
أن الرسول اعتمد على قوس في خطبته(2)،
ولأنه أسكن لجأشِهِ وأثبت لقلبه عن الإنزعاج والفشل والطيش، فإن لم يكن له شيء من ذلك سكن نفسه إما بأن يضع يمينه على شماله، وإما بأن يرسل يديه لئلا يعبث بهما في تنقية أنفه ومسح لحيته، وإما بأن يضع يديه على جانبي المنبر ويخطب خطبتين على ما مضى تقريره.
الحكم الثامن: ويستحب أن يقبل على الناس بوجهه ولا يستدبرهم، فإن خالف واستقبل القبلة مستدبراً للناس لم يكن مجزياً، لأن الغرض هو خطابهم بالخطبة، وهذا إنما يتأتى مع الإستقبال دون الاستدبار.
وحكي عن الشافعي: جواز ذلك. لكنه يكون مخالفاً للسنة.
وهل يحول وجهه في أثناء الخطبة يميناً وشمالاً أم لا؟ فيه وجهان:
__________
(1) قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب)2/365: الحكم بن حزن الكلفي. حزن في (التقريب) بفتح [الحاء] المهملة وسكون الزاي، والكلفي في (لب اللباب) بضم الكاف وفتح اللام ثم فاء، بطن من تميم.
قال البخاري يقال: كلفة. من تميم، وفد على النبي ، روى عنه شعيب بن رزيق الطائفي، له عند أبي داود حديث واحد في خطبة الجمعة.
قلت: وقال الحازمي: الصحيح أنه منسوب إلى كلفة بن عوف بن نصر بن معاوية يعني ابن بكر بن هوازن، كذا ذكره غير واحد.
قلت: منهم خليفة وأبو عبيد والبرقي. وقال مسلم في (الوحدان): تفرد عنه شعيب.
(2) عن الحكم بن حزن -بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي ثم نون- الكُلَفي-بضم الكاف وفتح اللام ثم فاء- قال: وفدت إلى رسول الله سابع سبعة أو تاسع تسعة، فدخلنا عليه فقلنا: يا رسول الله زرناك فادع الله لنا بخير، إلى أن قال: وشهدنا معه الجمعة فقام متوكئاً على عصا أو قوس... إلى آخره، اخرجه أبو داود وأورده ابن بهران في (تخريج البحر) 2/18 وابن حجر في (بلوغ المرام) صفحة 81 بالرقم 376، وهو في (نيل الأوطار)1/268.
أحدهما: المنع من ذلك. وهذا هو المحكي عن الشافعي.
ووجهه: أن المقصود هو سماع الناس وهذا يحصل مع استقبالهم بوجهه فلا وجه للتحويل.
وثانيهما: استحباب ذلك. كالأذان، وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة.
والمختار: ما قاله أبو حنيفة، لأن المقصود إعلامهم، فلهذا استحب التحويل ليكون الإعلام شاملاً للجانبين.
وإن ارتج على الإمام في الخطبة فتعذر عليه الكلام؛ فالمستحب تلقينه والفتح عليه، لما روي عن الرسول أنه قرأ سورة هود في الصلاة فالتبس عليه آية فركع فلما فرغ قال: ((أليس فيكم أُبيٌّ))؟ قالوا: بلى. فقال: ((هلا رددت عليَّ))(1).
قال: إني ما كان الله ليراني وأنا أردُّ على رسول اللّه ، وروي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: إذا استطعمكم الإمام فأطعموه. أراد: يفتح عليه.
الحكم التاسع: وهل يجوز شرب الماء البارد في حال الخطبة لتسكين العطش أو للتبرد؟
فحكي عن الشافعي: جوازه.
وقال مالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل: لا يجوز ذلك. حتى قال الأوزاعي: إن فعل ذلك بطلت جمعته.
والمختار: جوازه.
والحجة على ذلك: هو أن الكلام غير مبطل لها فهكذا شرب الماء. والجامع بينهما: أنه فعل مباح فإذا لم يكن الكلام مبطلاً لها فهكذا شرب الماء.
فإن قرأ سجدة في خطبته فنزل فسجد جاز ذلك، لما روي عن عمر أنه فعل ذلك، وإن تركها جاز ذلك أيضاً لما روي أن عمر قرأ السجدة في الجمعة الثانية فتهيأ الناس للسجود فقال: أيها الناس على رسلكم فإن الله لم يكتبها علينا. ولم يسجد.
والقعدة التي بين الخطبتين تكون مقدار قدر سورة الإخلاص.
فإذا فرغ من الخطبة الثانية نزل وابتدأ المؤذن الإقامة بحيث يوافق بلوغه المحراب الفراغ من الإقامة.
__________
(1) صحيح ابن حبان 6/13، وسنن البيهقي الكبرى 3/212.
الحكم العاشر: ويباح الكلام بعد خروج الإمام قبل أن يبتدئ بالخطبة على ظاهر المذهب، وهو محكي عن الشافعي ومالك وأبي يوسف، ومحمد. لأن هذا الوقت ليس فيه شغل عن سماع الموعظة فلهذا كان مباحاً.
وهل يجوز الكلام ما بين الخطبة والصلاة أم لا؟
فالظاهر على المذهب: جوازه لما روي عن الرسول : أنه كان إذا نزل عن المنبر والمؤذن يقيم للصلاة فيقوم له الرجل فيحدثه ثم يجيبه ثم يتقدم للصلاة. فلو كان مكروهاً لم يفعله.
وحكي عن أبي حنيفة: كراهة ذلك.
والحجة على هذا: ما روي أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يركعون حتى يصعد الرسول المنبر، فإذا صعد المنبر قطعوا الركوع، وكانوا يتكلمون حتى يبتدئ بالخطبة، فإذا ابتدأ بها قطعوا الكلام، ففيما فعلوه دلالة على ما قلناه من إباحة الكلام في الحالين اللذين ذكرناهما.
الحكم الحادي عشر: فإذا شرع الإمام في الخطبة فهل يجب الإنصات ويحرم الكلام أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب الإنصات ويحرم الكلام، وهذا هو المحكي عن الهادي والناصر وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، والقول القديم للشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أن رجلاً تكلم في حال الخطبة فقال الرسول : ((لا جمعة لك)) (1).
والحجة الثانية: روي أن رجلاً سأل أُبَيَّاً: متى نزلت هذه الآية؟ والإمام يخطب فقال له أُبَيُّ: ليس لك من صلاتك إلا ما لغوت. ثم سأل الرسول عن ذلك فقال: ((صدق أُبَيُّ)) (2).
المذهب الثاني: جواز الكلام الخفيف الذي لا يشغل عن سماع الخطبة، وهذا هو رأي القاسم ومحمد بن القاسم ومحمد بن يحيى، والقول الجديد للشافعي.
__________
(1) حكاه في (مجمع الزوائد) 2/185، ومصنف ابن أبي شيبة 1/458.
(2) رواه في (نيل الأوطار) 3/272 عن أبي الدرداء، وهو في (مجمع الزائد) 2/186، وسنن ابن ماجة 1/352، ومسند أحمد 2/393.
والحجة على هذا: ما روى أنس بن مالك: أن رجلاً دخل ورسول الله على المنبر يوم الجمعة فقال: يا رسول الله متى تكون الساعة؟ فأشار الناس إليه أن اسكت. فقال له رسول اللّه عند الثالثة: ((ويحك ما أعددت لها))؟ فقال: ما أعددت لها شيئاً ولكني أحب الله ورسوله. فقال الرسول : ((أنت مع من أحببت))(1).
لو كان الكلام محرماً لأنكره الرسول ، فلما أجابه دل على جواز ذلك.
والمختار: ما قاله الهادي والناصر ومن تابعهما من منع الكلام وحظره في حال الخطبة، قليله وكثيره.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو قوله : ((إذا قلت أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)). فظاهر هذا الخبر دال على المنع من الكلام قليله وكثيره.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا}[الأعراف:204]. فأمر بالاستماع والإنصات ولا شك أن الكلام يبطل الاستماع والإنصات فلهذا كان ممنوعاً محرماً. وبه قال ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عمر، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من رأيته يتكلم والإمام يخطب فاقرع رأسه بالعصى.
الحجة الثالثة: ولأنه ذكر جعل شرطاً في صحة الصلاة للجمعة فيجب أن يكون الكلام محرماً منهياً عنه كالإفتتاح والقراءة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روى أنس بن مالك أن رجلاً سأله في حال الخطبة: متى الساعة؟ فأجابه، فلو كان محظوراً لأنكره عليه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلعله كان يخطب في غير الجمعة، أو كان قبل الشروع في الخطبة، أو كان بعد الفراغ منها.
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 3/149، والبيهقي في (الكبرى) 3/221، وأحمد في مسنده 3/202.
وأما ثانياً: فلأن هذا الخبر يعارضه ما ذكرناه من الأخبار الدالة على المنع من الكلام وإذا تعارضا وجب الترجيح، ولا شك أن أخبارنا أقوى وأشهر، ولأنها دالة على الخطر، وهذا الخبر يدل على الإباحة، وما دل على الحظر أحق بالقبول لما فيه من الإحتياط للدين.
ومن وجه آخر: وهو أن الإجماع منعقد على تحريم الكلام الكثير والمنع منه لأنه يضاد الاستماع والإنصات اللذين أمر بهما فيجب أن يكون ممنوعاً، ولا شك أن الكلام اليسير يدعو إلى الكثير وليس هناك مانع فلو سوغنا الكلام القليل لدعا إلى الكثير خاصة والنفوس مولعة بكثرة الكلام في أكثر الأحوال، ولكان في ذلك إبطال الغرض من سماع الموعظة والذكر، فلهذا كان المنع منه هو الأوجه ليقع الإنتفاع بسماع الخطبة والإقبال إليها.
ومن وجه آخر: وهو أن الكلام الخفي الذي لا يدرك يشغل عن سماع الخطبة فكيف حال الكلام الخفيف الذي يدرك؟ هو لا محالة اشغل للقلب وأبعد عن سماع الوعظ والتذكير كما قررناه.
وقد نجز غرضنا من الكلام في الأحكام المتعلقة بالخطبة ونرجع الآن إلى التفريع.
الفرع الخامس: فإذا فرغ الإمام من الخطبة نزل وصلى الجمعة ركعتين. ولا خلاف أن فرض الجمعة ركعتين مع الخطبتين وهو نقل الخلف عن السلف وفعله الخلفاء الراشدون والأئمة السابقون، واختلف العلماء فيما [هو] المستحب من القرآءة فيهما على أقوال أربعة:
القول الأول: أن المستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بسورة ((الجمعة))، وفي الثانية بسورة ((المنافقون))، وهذا هو المحكي عن القاسم والهادي والناصر والشافعي، لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول كان يقرأ بهما في صلاة الجمعة، وعن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه كان يقرأ بهما في صلاة الجمعة.
القول الثاني: محكي عن مالك: أنه يقرأ في الأولى بسورة ((الجمعة))، وفي الثانية بسورة ((الغاشية)).
القول الثالث: مروي عن أبي حنيفة وأصحابه: أنه يقرأ بما شاء من القرآن ولا تعيين هناك.
القول الرابع: محكي عن زيد بن علي: أنه يقرأ في الأولى بـ((حم السجدة)) وفي الثانية بـ((هل أتى على الإنسان)).
والمختار: أن الجواز حاصل في جميع القرآن، ولكن الكلام إنما هو في الأفضل، فالأفضل ما فعله الرسول وأمير المؤمنين كرم الله وجهه، فإن قرأ غيرهما من القرآن أجزأ، لما روى سمرة بن جندب: أن الرسول قرأ في الأولى بـ((سبح اسم ربك الأعلى))، وفي الثانية بسورة ((الغاشية))، وفي هذا دلالة على الجواز كما ذكرناه.
والجهر بالقرآءة في صلاة الجمعة هو السنة، وهذا هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة، وهو معمول عليه عند السلف والخلف.
وروي عن بعض التابعين أنها تكون سراراً محتجاً بما روي عن الرسول أنه قال: ((صلاة النهار عَجْماء))(1).
فإن ظاهره غير معمول عليه لأن صلاة الفجر من صلاة النهار وهي مجهور بها، وإنما أراد أن الأكثر من صلاة النهار عَجماء.
فهذا ما أردنا ذكره في شروط الجمعة.
__________
(1) تقدم في الصلاة، وقد رواه عبد الرزاق في المصنف 2/493، وابن أبي شيبة في مصنفه 1/320، وابن عبد البر في (التمهيد) 3/310.
---
الفصل الثالث في بيان هيئة الجمعة
وهي من جملة الصلوات المفروضة لكنها تختص بسنن وآداب نفصلها ونشرحها كالغسل واللباس والتزيُّن وغير ذلك من السنن.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الغسل سنة ومشروع.
والحجة على هذا: قوله : ((من توضأ يوم الجمعة فبِهَا ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل. ))(1).
فجعل الغسل في يوم الجمعة أفضل، فدل على أنه غير واجب، ومعنى قوله: ((فبها ونعمت)). أي: فبالفريضة أخذ ونعمت الخلَّة الفريضة.
وحكي عن أبي عبيد الهروي عن الأصمعي أنه قال: فبالسنة أخذ ونعمت الفضيلة السنة.
وقال بعضهم: فبالرخصة أخذ ونعمت. لما فيها من تخفيف التكليف.
الحجة الثانية: ما روى عثمان بن عفان: أنه دخل المسجد وعمر يخطب على المنبر فقال: أي ساعة هذه؟ فقال عثمان: كنت في السوق فلم أشعر أن سمعت النداء فما زدت على أن توضأت وجئت. فقال عمر: والوضوء أيضاً. وقد علمت أن رسول اللّه كان يأمر بالغسل. فأقره عمر على ترك الغسل بمحضر من الصحابة، ولو كان واجباً لم يجز تركه، ولم يُقره عليه.
وهل يكون واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير واجب، وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية والناصرية، وهو محكي عن أكثر الفقهاء.
والحجة على هذا: قوله : ((من غَسَّل واغتسل وبكَّر وابتكر ولم يرفث خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) (2).
__________
(1) أخرجه الترمذي 2/369، والبيهقي في (الكبرى)1/295، وأبو داود1/97، والنسائي3/94.
(2) رواه البيهقي في (السنن الصغرى) 1/379، وعبد الرزاق في (المصنف) 3/260، والطبراني في (الكبير) 1/214.
ومعنى قوله: بكَّر إلى صلاة الصبح، وابتكر: راح إلى الجمعة في الساعة الأولى لما فيه من الفضل كما سنقرره، وإنما قال: ((ابتكر)). مبالغة في اللفظ لما فيه من أعمال الجوارح في المسير إلى الجامع أو إلى الجبان بخلاف قوله: ((بكر)). فإنه ليس فيه مشقة في الخروج للصلاة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }[البقرة:286]. فظاهره دال: على أن الله يجزي على الفعل الخير بأدنى ملابسة، ولا يجزي على الشر إلا بأعمال الجوارح وإتعابها في المعصية، ومعنى قوله: ((غَسَّل واغتسل)). ففي قوله: ((غَسَّل)). روايتان:
الأولى: بالتخفيف. ومعناه: غَسَلَ أعضاء الوضوء وغسل جميع البدن.
الثانية: بالتثقيل. ومعناه: غَسَّل غيره واغتسل، وفيه إشارة إلى استحباب الوطء في يوم الجمعة؛ لما فيه من إيجاب الغسل على الغير.
المذهب الثاني: أن الغسل واجب، وهذا هو المحكي عن الحسن البصري، وداود وطبقته من أهل الظاهر.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) (1).
وقوله : ((حق على كل مسلم أن يغتسل في كل ثمانية أيام يوماً)) (2).
والمختار: ما عليه علماء العترة ومن تابعهم من علماء الأمة [من أن الغسل غير واجب].
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) أخرجه البخاري 1/300،305، وابن حبان 4/28،29، والبيهقي في (الكبرى) 1/293، وأبو داود في سننه 1/94، والنسائي في (المجتبى) 3/93.
(2) أخرجه البخاري 1/305، وابن حبان 4/33،35، ومسلم2/582، والبيهقي في (الكبرى) 3/188، وكلها بلفظ: ((...في كل سبعة أيام...)).
ونزيد هاهنا: وهو ما رواه أبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، عن الرسول أنه قال: ((من اغتسل يوم الجمعة واستن واستاك ولبس أجدَّ ما يجد من الثياب وخرج ولم يتخط رقاب الناس وركع ما شاء الله أن يركع وأنصت إذا خرج الإمام كان كفارة ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة قبلها))(1).
ووجه الدلالة في الخبر: وهو أنه عطف على الغسل هذه الأشياء المسنونة ومن حق المعطوف أن يشارك المعطوف عليه في حكمه، فإذا كان المعطوف مسنوناً كان المعطوف عليه مثله في السنة حتى يتسق الكلام ويتناسب.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((حق على كل مسلم أن يغتسل في كل ثمانية أيام يوماً )).
قلنا: ليس في الخبر إلا ذكر الحق، والحق كما يكون واجباً فقد يكون سنة. فإذن لا دلالة في ظاهر الخبر.
قالو: روي عن الرسول أنه قال: ((غسل الجمعة واجب على كل مسلم )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الواجب لفظ مشترك بين وجوب الاختيار ووجوب الإلزام.
ونعني بوجوب الاختيار: أن الفعل واجب عند توفر الداعية إليه لا يجوز تخلفه.
ونعني بالإلزام: أنه يستحق الذم على تركه إما بالعقل، وإما بالشرع، فلعل الرسول أراد وجوب الاختيار لا وجوب الإلزام.
وأما ثانياً: فلأنا نعارض ما ذكروه بالأخبار التي رويناها، وإذا تعارضا فلا بد من الترجيح، ولا شك أن أخبارنا مشهورة ظاهرة، فلهذا كان العمل عليها أرجح.
الفرع الثاني: الغسل يوم الجمعة، هل يسن لليوم أو للصلاة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يسن للصلاة لقوله : ((من جاء منكم فليغتسل ))(2).
فعلى هذا لا يسن الغسل لمن لا يأتي الجمعة لعذر أو لغير عذر.
__________
(1) روي الحديث عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، أخرجه ابن حبان في صحيحه 7/14، والحاكم في (المستدرك) 1/419، والبيهقي في (الكبرى) 3/243، وفي (الصغرى) 1/379.
(2) أخرجه الستة عن ابن عمر بلفظ: ((من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل)).
وثانيهما: أنه يسن لليوم لقوله : ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم )). فعلقه باليوم، وعلى هذا يسن لمن يحضر الصلاة ولمن لا يحضرها.
والمختار: أنه يسن لهما جميعاً ونجمع بين الأخبار في الدلالة ثم نحتمل أن يكون كل واحد منهما مقصوداً، فإن اغتسل يوم الجمعة ولم يصلّ كان موافقاً للسنة، وإن اغتسل قبل طلوع الفجر للصلاة كان موافقاً للسنة، وإن اغتسل يوم الجمعة للصلاة كان مطابقاً للسنة.
ويجوز أن يكون أحدهما مقصوداً والآخر تابعاً، فيحتمل أن يكون المقصود هو الصلاة واليوم تابع، ويحتمل أن يكون المقصود هو اليوم والصلاة تابعة.
والحجة على هذا: هو أن الأخبار قد دلت على تعليق السنة باليوم تارة وبالصلاة مرةً أخرى فلا جرم جمعنا بين الأخبار، وقلنا: إن السنة متعلقة بهما جميعاً على هذا التنزيل الذي ذكرناه والاحتمال الذي وجهناه، فإن اغتسل بعد الفجر وراح إلى الجمعة عقيبه فقد أتى بالأفضل، وإن لم يرح عقيبه أجزأه ذلك.
وحكي عن مالك: أنه لا يجزيه.
والحجة على ذلك: قوله : ((من توضأ يوم الجمعة فبِهَا ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل)). ولم يفرق بين أن يروح عقيبه أو لا يروح.
وإن كان جنباً يوم الجمعة فاغتسل غسلين غسلاً من الجنابة وغسلاً ليوم الجمعة فقد أتى بالأفضل لما روي عن الرسول أنه طاف على نسائه في ليلة واحدة فاغتسل لكل وطءٍ غسلاً فقيل له: ألم يكن غسل واحد كافياً؟ قال: ((بلى. ولكن هذا أطيب وأطهر ))(1).
فإذا كانت الغسلات الواجبة مع اتفاقها في الوجوب لم تتداخل فهكذا حال الفرض والسنة لا يتداخلان أحق وأولى لاختلافهما.
وإن اغتسل غسلاً واحداً عنهما أجزأه إذا نواه عنهما، لما روى نافع عن ابن عمر أنه كان يغتسل يوم الجمعة غسلاً واحداً عن الجنابة والجمعة، ولأنهما غسلان ترادفا فأجزأه عنهما غسل واحد كما لو كان على المرأة غسل جنابة وغسل حيض.
__________
(1) رواه البيهقي في (الكبرى) 1/204، وابن ماجة 1/194، وأحمد 6/391.
وإن اغتسل عن الجنابة في يوم الجمعة ولم ينو الجمعة أجزأ عن الجنابة. وهل يجزيه عن الجمعة؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يجزيه لأنه لم ينوه. والأعمال بالنيات.
وإن اغتسل ونوى الغسل للجمعة ولم ينو الجنابة التي عليه لم يجزه عن الجنابة لأنه لم ينوه. وهل يجزيه عن الجمعة؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يجزيه لأن غسل يوم الجمعة غير واقع مع تحقق الجنابة.
وإن اغتسل بنية الجمعة وكان يوم عيد حصل له غسل العيد والجمعة جميعاً، وإن إغتسل بنية العيد وكان يوم جمعة حصل له العيد والجمعة معاً، لأنهما غسلان للنفل فتداخلا بخلاف الجمعة والجنابة فإنهما لا يتداخلان.
فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا: أن الغسلين من الفرض يتداخلان في النية كما لو كان على المرأة غسل حيض وغسل جنابة فإن نية أحدهما تجزي عن نية الآخر وإن لم ينوه؛ لأن الفرضية تجمعهما. وأن الغسلين من النفل يتداخلان أيضاً كما لو غسل عن العيد في يوم الجمعة أجزأه عن الجمعة وإن لم ينوه. أو غسل عن الجمعة في يوم العيد أجزأه عن العيد وإن لم ينوه، لأن النفلية تجمعهما، فلهذا كان مجزياً.
فأما الفرض فلا يدخل تحت النفل كما لو غسل بنية الجمعة لم يجزه عن الجنابة، وهكذا فإن النفل لا يدخل في الفرض كما لو غسل عن الجنابة لم يجزه عن الجمعة لإختلافهما.
الفرع الثالث: ويستحب مع الغسل يوم الجمعة أن يفعل أموراً ثمانية:
أولها: إزالة الشعور: حلق العانة ونتف الإبط.
وثانيها: تقليم الأظفار. وفي الحديث: ((يطلب أحدكم خبر السماء وأظفاره كمخالب الطير )) (1).
وأراد بخبر السماء: إدراك العلوم الدينية فإنها من أخبار السماء. ولم يرد من جهته وقت في تقليمها مخصوص، ولا ورد كيفية تقليمها لا من جهة الله تعالى ولا من جهة رسوله، ولكن المقصود إزالتها على أي وجه كان.
__________
(1) رواه أحمد في (المسند) 5/414، وهو في (مجمع الزوائد) 5/168.
وثالثها: السواك. فقد ورد فيه من الفضل ما أوردناه في الطهارات فأغنى عن الإعادة.
ورابعها: إزالة الروائح الكريهة باحتمال الطيب.
وخامسها: لبس أحسن ثيابه إذا وجدها.
وسادسها: ألا يتخطى رقاب الناس لما فيه من الأذية للمسلمين الحاضرين للجمعة.
وسابعها: أن يركع ركعتين تحية المسجد.
وثامنها: الإنصات. لما روي عن الرسول أنه قال: ((من اغتسل يوم الجمعة واستن - وعنى بالإستنان: إزالة الشعور- واستاك ولبس أحسن ما يجد من ثيابه وخرج ولم يتخط رقاب الناس وركع ما شاء الله أن يركع وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة لما بين تلك الجمعة إلى الجمعة قبلها))(1).
قال أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام لأن الله تعالى يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}[الأنعام:160]. وروي عن الرسول أنه قال في يوم الجمعة: ((يا معاشر المسلمين إن هذا اليوم جعله الله عيداً لجميع المسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمسه)) (2).
وفي حديث آخر: ((ومن لا يجد طيباً يلتمس من قارورة أهله)). وفي حديث آخر: ((إذا عرض على أحدكم الطيب فليحتمله فإنه خفيف المؤنة طيب الرائحة)) (3).
__________
(1) وعن سلمان قال: قال رسول الله : ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهن ويمس من طيب بيته، ثم يخرج ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) أخرجه البخاري، وللنسائي نحوه أو قريب منه. اهـ. من (تخريج أحاديث البحر) 2/21.
(2) رواه ابو هريرة وأخرجه البيهقي في (الكبرى) 3/243، والشافعي في مسنده 1/63، وهو في موطأ مالك 1/65، ومصنف ابن أبي شيبة 1/435، ومصنف عبد الرزاق 3/197.
(3) رواه أبو هريرة بلفظ: ((من عُرض عليه طيب فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة)) رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. هكذا أورده الشوكاني في (نيل الأوطار) 1/148.
الفرع الرابع: ويستحب ذلك للعبيد والصبيان إذا أرادوا حضور الجمعة، ويستحب للنساء التنظف بالغسل ونحو ذلك، ويكره لهن لباس الشهرة من الثياب والطيب لأن ذلك يؤدي إلى الإفتتان بهن هذا إذا سوغنا لهن حضور الجمعة، فأما إذا منعناهن لأجل الفتنة بهن فلا وجه لذلك.
ويستحب أن يلبس من الثياب البيض لقوله : ((البسوا البياض فإنه خير ثيابكم ))(1).
لأن البياض كان أكثر لباس رسول اللّه وكُفِّنَ في ثلاثة أثواب[بيض] (2)،
ولم ينقل أنه لبس السواد إلا في فتح مكة فإنه دخلها وعليه عمامة سوداء. فإن لم يجد البياض فعصب اليمن. وعصب اليمن: هي هذه الأبراد التي فيها الخطوط التي يصبغ غزلها ثم ينسج، والغزل: هو العصب بالعين والصاد المهملتين. والغَزَّال: هو العصاب الذي ينسج العصب ويبيعه.
ويكره لبس الثياب المصبوغة بالورس والزعفران والعصفر، لما روي أن الرسول رأى رجلاً عليه ثوب مصبوغ بالحمرة فقال له: ((لو وضعت هذا في تنور أهلك لكان خيراً لك)) لأنها من ثياب النساء. ولا يكره ما صبغ بالزرقة والفَّوة والنقم لأنه لا زينة فيها، وقد شرحناه في لباس المصلي.
ويستحب أن يرتدي ويعتم لأن الرسول كان يفعل ذاك، وروي عن الرسول أنه قال: ((العمائم تيجان العرب ))(3).
__________
(1) رواه ابن عباس، واخرجه أبو داود والترمذي. وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله : ((البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم)) أخرجه الترمذي والنسائي. اهـ (تخريج أحاديث البحر) 2/22.
(2) وهو في الصحيحين كما جاء في حاشية الأصل.
(3) ذكره في (مسند الشهاب) 1/75، و(تحفة الأحوذي) 5/339، و(فيض القدير) 4/392، وجاء في (الجواهر)2/22: عن أبي المليح قال: قال رسول الله : ((اعتموا تزدادوا حلماً)) وقال: قال لي علي : (العمائم تيجان العرب)) أخرجه أبو داود.
لأن لبس التاج من عادة ملوك العجم، وروي عن الرسول أنه قال: ((اعتموا تزدادوا حلماً ))(1).
وعن الرسول : أن الملائكة تكتب أصحاب العمائم.
ويستحب للإمام من هذه الأمور أكثر مما يستحب لغيره لأنه القدوة وعليه العمدة في الإقتداء.
الفرع الخامس: يستحب التبكير إلى الجمعة لما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب شاة)) وفي حديث آخر: ((كبشاً أقرن)) ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) (2).
وروى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف)) (3).
ومن أين يكون تعيين هذه الساعات؟ فيه تردد.
والمختار: أن تعيينها يكون من طلوع الفجر لأنه أول اليوم، لأن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، اليوم إثنتا عشرة ساعة، والليلة إثنتا عشرة ساعة.
سؤال: أمر الله بالسعي بعد النداء بقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}[الجمعة:9]. وهو بعد الزوال فكيف ورد الاستحباب بالسعي قبل الزوال؟
وجوابه: أن السعي المأمور به بعد الزوال هو الواجب، وذلك لا يمنع استحباب السعي قبل الزوال لأن الوجوب لا يضاد الاستحباب.
__________
(1) أخرجه الحاكم في (المستدرك) 4/214، وهو في (مجمع الزوائد) 5/119، وفي (المعجم الكبير) 1/194، و(فتح الباري) 10/273.
(2) رواه الجماعة إلاَّ ابن ماجة.
(3) رواه البخاري ومسلم وابن ماجة في سننه 1/347، والنسائي 3/98، والبيهقي في (الكبرى) 3/226. وقال في (الجواهر): أخرجه الستة بروايات متقاربة. اهـ 2/22.
ويستحب: أن يمشي إلى الجمعة وعليه السكينة والوقار، ولا يركب من غير عذر، لما روى أوس بن أوس " (1)
عن الرسول أنه قال: ((من غَسَّلَ واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنى من الإمام فاستمع ولم يلغُ كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها)) (2).
فإن كان عاجزاً عن المشي لم يكره له الركوب لأنه معذور في الركوب كما عذر في ترك القيام في الصلاة فهاهنا أحق وأولى.
ويستحب إذا بلغ باب المسجد، أن يصلي على الرسول ويقول: اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك وأقرب من تقرب إليك وألحح من طلب إليك.
الفرع السادس: ويكره التخطي لرقاب الناس في يوم الجمعة إلا للإمام لأنه معذور لأنه لا بد له من المحراب والمنبر الذي يصعد فوقه، ولما روي عن الرسول : أنه خرج يتهادى بين اثنين من مرضه حتى دخل المحراب.
وإن جلس رجل في موضع لم يجز لغيره أن يقيمه منه، لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن يقول: تفسحوا وتوسعوا)) (3).
__________
(1) أوس بن أوس الثقفي الصحابي، له تراجم في (الجرح والتعديل) 2/303 و(تهذيب التهذيب) 1/333، و(الإصابة) 1/143 وغيرها، وملخصها: روى عنه النعمان بن سالم وغيره، روى عن النبي في فضل الاغتسال يوم الجمعة، وعنه أبو الأشعث الصنعاني، وأبو أسماء الرحبي وجماعة، روى له أصحاب السنن الأربعة أحاديث صحيحة، سكن دمشق ومات بها.
(2) أخرجه الحاكم في (المستدرك) 1/418، وأبو داود 1/95، والنسائي 3/95، وابن ماجة 1/346، واحمد في (المسند) 4/9.
(3) رواه أحمد 2/16، ومسلم 4/1414، عن جابر بلفظ: ((لا يقيمنَّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول: افسحوا)) وفي رواية: ((... ثم يخالفه إلى مقعده)).
فإن قام الجالس وأجلس غيره لم يكره له أن يجلس فيه، فأما القائم عنه فإن تقدم إلى موضع أقرب إلى الإمام لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك، لأنه آثر غيره بالقربة دون نفسه.
وإن أمر غلامه أن يحوز له موضعاً يوم الجمعة فإذا جاء السيد تنحى الغلام عنه جاز ذلك، لما روي أن ابن سيرين كان يفعل ذلك.
وإن وجد ثوباً مفروشاً للصلاة لرجل في المسجد لم يجز له أن يجلس عليه، لأنه لا يجوز الإنتفاع بمال الغير من غير إذنه من غير ضرورة، ولا يرفعه عن مكانه لئلا يلزمه ضمانه، لكن ينحيه.
ويستحب إذا غشيه النعاس أن يقوم من موضعه إلى موضع آخر، لما روي عن رسول اللّه أنه قال: ((إذا نعس أحدكم في مجلسه فليتحول إلى غيره ))(1).
ولا يشبك بين أصابعه لأن ذلك مكروه في الصلاة، وما دام ينتظر الصلاة في الجمعة فهو في الصلاة، فلهذا كره الشبك في الجمعة.
ويستحب أن يقرأ سورة الكهف، لما روي عن الرسول أنه قال: ((من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها وُقِيَ فتنة الدجال)). وفي حديث آخر: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة ))(2).
__________
(1) رواه أحمد والترمذي عن ابن عمر وصححه، وأبو داود وابن حبان في صحيحه عن إسحاق.
(2) وفي (الجواهر) 2/24: عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) رواه النسائي والبيهقي مرفوعاً، والحاكم مرفوعاً وموقوفاً، ورواه الدارمي موقوفاً على أبي سعيد ولفظه: ((من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق)).
ويستحب أن يكثر من الصلاة على الرسول في يوم الجمعة وليلتها، لما روي عن الرسول أنه قال: ((أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة فإني أسمع وأبلغ ))(1).
وفي حديث آخر: ((إن أقربكم إليَّ في الجنة أكثركم عليَّ صلاة فأكثروا من الصلاة عليَّ في الليلة الغراء واليوم الأزهر)) (2). يعني: ليلة الجمعة ويومها.
وتكره الحُبوة(3) والإمام يخطب في الجمعة، لما روى سهل بن معاذ (4)
عن أبيه عن رسول اللّه : أنه نهى عن الحُبوة في يوم الجمعة والإمام يخطب(5).
رواه الترمذي واستحسنه، وروي عن ابن عمر: جواز الحُبوة. والأول أقوى لما ذكرنا من الحديث.
__________
(1) في الحديث روايات إحداها عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله : ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فاكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي)) فقالوا: يا رسول الله، كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: يقول: بليت، قال : ((إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)) ذكره النووي في (الأذكار) ونسبه إلى سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة.
(2) ذكره في (شعب الإيمان) 3/111 و(لسان الميزان) 4/456، و(الأم) للشافعي 1/208.
(3) جاء في (لسان العرب) ما لفظه: وقد احتبى بثوبه احتباءً، والإحتباء بالثوب: الاشتمال، والاسم: الحِبْوة والحُبْوة والحِبْيَة. اهـ 14/160.
(4) سهل بن معاذ بن أنس الجهني، روى عن أبيه، وعنه: الليث ويزيد بن أبي حبيب وفروة بن مجاهد، وصفه بعض رجال الحديث بالضعف (الجرح والتعديل) 4/203، وقال فيه آخرون بأنه من خيار أهل مصر، وكان ثبتاً، وإنما وقعت المناكير في أخباره من جهة زبان بن فائد (مشاهير علماء الأمصار) 1/140، وذكره ابن حبان في الثقات. (تهذيب التهذيب) 4/227.
(5) أخرجه أبو داود 1/290، والترمذي 2/390 في باب ما جاء في كراهية الاحتباء والإمام يخطب، وأحمد في (المسند) 3/439.
الفرع السابع: ويستحب: أن يصلي بعد الجمعة وقبلها ما كان يصلي في الظهر قبله وبعده لأنها عوض عن الظهر إذا تكاملت شروطها، ويجوز الكلام الخفيف إذا قعد الإمام بين الخطبتين كما لا يكره قبل خروجه للصلاة وعند نزوله عن المنبر قبل إنتهائه إلى المحراب كما ذكرناه من قبل.
وإن سلم رجل والإمام يخطب فهل يُرد السلام عليه أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يسلم عليه لأن الرجل سلم في غير موضع سلام فلهذا لم يكن الجواب متوجهاً كما لو دخل وهم في الصلاة.
وإذا عرض ذكر الله تعالى بالتحميد والتعظيم وذكر صفاته الحسنى وذكر الرسول فإنه يكره أن يكثر اللغط بالتسبيح والتهليل لله تعالى، وذكر الصلاة على الرسول لأن ذلك كله يشغل الإمام عن الخطبة ويشغل المستمعين عن الإصغاء للسماع.
والمستحب أن يقولوا ذلك سراً من غير علو الأصوات به لما ذكرناه.
ويكره الحصب بالحصى لمن يتكلم في أثناء الخطبة لأنه ليس معهوداً، وروي عن ابن عمر أنه كان يحصب بالحصى من تكلم في الخطبة، ولا بأس بالإشارة بالسكوت إليه لأن الصحابة رضي الله عنهم أشاروا إلى الرجل الذي سأل عن الساعة، ولم ينكر الرسول إشارتهم.
ويستحب إذا شم رائحة من الطيب في امرأة ممن يجوز لها حضور الجمعة كالعجائز ومن لا رغبة للرجال فيهن، أن ينكر عليها، لما روي أن أبا هريرة رأى امرأة تفوح منها رائحة المسك، فقال لها: تطيبت للجمعة؟ فقالت: نعم. فقال لها: سمعت رسول اللّه يقول: ((أيما امرأة تطيبت للجمعة لم يقبل الله صلاتها حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل غسلها من الجنابة))(1).
الفرع الثامن: ومن دخل والإمام في صلاة الجمعة نظرت، فإن أدرك شيئاً من الخطبة ولو مقدار آية كان مدركاً للجمعة، عند أئمة العترة والفقهاء.
__________
(1) رواه أبو داود 4/79، والحميدي في مسنده 2/429.
والحجة على ذلك: هو أن الخطبتين بمنزلة الركعتين، فإذا أدرك شيئاً منها صار كأنه أدرك ركعة ولا خلاف فيه، فإن لم يدرك شيئاً من الخطبة فهل تكون جمعة له بإدراك ركعة من الصلاة، أو يكون ظهراً في حقه؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه إذا لم يدرك شيئاً من الخطبة صلاها ظهراً، وهذا هو رأي الهادي، ومحكي عن عمر بن الخطاب وعطاء وطاووس ومجاهد.
والحجة على هذا: ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: إنما جعلت الخطبتان مكان الركعتين فمن لم يدرك الخطبة صلاها أربعاً. ولم يرو خلافه عن أحد من الصحابة فجرى مجرى الإجماع في كونه حجة.
الحجة الثانية: هو أن المصلي لم يلحق شرطاً من شروطها فكان فرضه أن يصلي أربعاً كما لو لم يلحق الوقت أو لم يلحق الركعة الثانية من الجمعة.
المذهب الثاني: أنه يكون مدركاً، وإن لم يدرك شيئاً من الخطبة إذا أدرك ركعة منها ويتمها جمعة، وهذا هو رأي زيد بن علي، ومحكي عن ابن عمر وابن مسعود وأنس بن مالك من الصحابة رضي الله عنهم، والأوزاعي ومالك وأحمد بن حنبل والثوري، وهو رأي أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى ))(1).
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول أنه قال: ((من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها ، ومن أدرك دون الركعة صلاها ظهراً)) .
والمختار: ما قاله الإمام زيد بن علي ومن تابعه.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن المقصود من الجمعة إنما هو الصلاة فمن أدرك شيئاً منها فقد أدرك المقصود لأنها صلاة مفروضة فمن أدرك شيئاً منها فقد أدركها كالصلوات المفروضة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الخطبتان بمنزلة الركعتين كما حكي عن عمر، ولا مخالف له من الصحابة.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) رواه النسائي وابن ماجة والدار قطني، واللفظ له عن ابن عمر رضي الله عنهما بزيادة: ((... وقد تمت صلاته)).
أما أولاً: فلأن هذا مذهب لعمر فلا حجة فيه لأنه كسائر المجتهدين، وإنما الحجة ما كان عن الله أو عن رسول اللّه .
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما رويناه من الأخبار الدالة بصرائحها على ما ذهبنا إليه، فلا يمكن أن تعارض بمذاهب المجتهدين ولا بشيء من أنواع الأقيسة فلهذا وجب الإعتماد عليها.
قالوا: المصلي لم يلحق شرطاً من شروط الجمعة فكان فرضه أن يصلي أربعاً كما لو لم يلحق الوقت.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا غير مقبول في مقابلة الأخبار الصريحة التي رويناها.
وأما ثانياً: فإنا نعارض هذه القياس بمثله فنقول: أدرك جزءاً من الصلاة فكان مدركاً لها كما لو أدرك ركعة من الظهر.
أو نقول: ذكر يتقدم الصلاة فلم يكن إدراكه إدراكاً للصلاة كالأذان.
أو نقول: ذكر يتقدم الصلاة فلم يكن فواته مخلاً بالصلاة كافتتاح الصلاة على رأي الهادي.
قالوا: المأموم ممن تنعقد به صلاة الجمعة فوجب أن يكون إدراك الخطبة شرطاً في حقه كالإمام.
قلنا: المعنى في الأصل: كون الإمام هو الخاطب بخلاف المأموم فإنه ليس خاطباً فلا جرم افترقا.
الفرع التاسع: ومن أدرك مع الإمام الركوع في الركعة الثانية فقد أدرك معه الجمعة، فإذا سلم الإمام قام المأموم وأضاف إليها ركعة أخرى وسلم، وإن أدركه بعد الركوع في الثانية فقد فاتته الجمعة، وما الذي يتوجه عليه في هذه الحالة؟ فيه أقوال أربعة:
القول الأول: أنه ينوي الظهر لأنه فرضه بعد بطلان جمعته، وهذا هو مذهب أئمة العترة، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها، ومن أدرك دون الركعة صلاها ظهراً)). فهذا نص فيما ذهبنا إليه.
القول الثاني: أنه يلزمه أن ينوي الجمعة لأن الإمام لم يسلم فلهذا كان لاحقاً به، وهذا أحد قولي الشافعي، ومحكي عن ابن عمر وابن مسعود وأنس بن مالك ومالك والأوزاعي.
والحجة على هذا: قوله : ((من أدركني فليكن على الحالة التي أنا عليها)) فمهما لم يسلم الإمام فهو مدرك للصلاة معه.
القول الثالث: محكي عن أبي حنيفة، وهو أنه إذا أحرم خلف الإمام في التشهد فإنه يكون مدركاً للجمعة، وهكذا لو أحرم خلف الإمام وهو في سجدتي السهو بعد السلام فإنه يكون مدركاً للجمعة.
والحجة على هذا: هو أن الإمام مهما كان في الصلاة أو فيما يكون تتمة للصلاة فإنه يتمها جمعة خلف الإمام.
القول الرابع: أنه لا يكون مدركاً للجمعة حتى يدرك الخطبة أو بعضاً منها، وهذا هو رأي الهادي ومحكي عن عمر، وقد ذكرناه من قبل فأغنى عن الإعادة.
والمختار: هو القول الأول، لأن الجمعة إنما تكون واجبة بتمام شروطها فإذا بطل شرط منها رجع إلى الظهر لأنه هو الأصل كما مر تقريره.
فإن أدرك المأموم مع الإمام ركعة من الجمعة فلما جلس الإمام للتشهد ذكر المأموم أنه ترك سجدة فإنه يسجدها ويتابع الإمام في التشهد فإذا سلم الإمام أتى بركعة وعلى هذا يكون مدركاً للجمعة.
فإن صلى الإمام الجمعة ثلاث ركعات ساهياً فدخل المأموم معه في الركعة الثالثة ولم يعلم أنها ثالثة فصلاها معه فإنه لا يكون مدركاً للجمعة لأن هذه الركعة ليست من الجمعة في شيء، وعلى هذا يقوم المأموم ويأتي بثلاث ركعات.
وإن أدرك المأموم الإمام راكعاً في الثانية ثم رفع الإمام رأسه من الركوع وشك المأموم هل أدرك معه الركوع الجائز(1)
أم لا. فإنه لا يكون مدركاً للجمعة بل يجب عليه أن يصلي الظهر أربعاً لأن الأصل هو عدم الإدراك.
وإن دخل المأموم مع الإمام ولم يدر أجمعة هي أم ظهراً فصلى معه ركعتين ونوى بما يصليه الإمام، فهل يجزيه ذلك أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجزيه ذلك؛ لأن الجمعة والظهر تختصان بوجه واحد، فإذا علق نيته بنية الإمام أجزأه ذلك، وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة.
__________
(1) يقصد: الواجب.
وثانيهما: أنه لا يجزيه لا عن الجمعة ولا عن الظهر، وهذا هو المحكي عن الشافعي.
والمختار: هو الأول لما ذكرناه.
الفرع العاشر: وإذا وقع الازدحام في يوم الجمعة لكثرة الناس وازدحم المأموم عن السجود نظرت، فإن أمكنه السجود ففيه أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه يجوز له السجود على ظهر إنسان أو رأسه أو رجليه بحيث إذا سجد كان على هيئة الساجدين بأن يكون رأسه منخفضاً، وهذا هو الظاهر من المذهب، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه. ولا مخالف له في الصحابة، فجرى ذلك مجرى الإجماع في التصويب.
القول الثاني: أنه يكون بالخيار إن شاء سجد على ظهر إنسان أو على رأسه(1)
أو قدمه، وإن شاء صبر حتى يزول الزحام ثم يسجد على الأرض، وهذا هو قول الشافعي في القديم، ومحكي عن الحسن البصري.
والحجة على هذا: هو أن هذه الحالة حالة ضرورة لأجل الازدحام فلهذا رددنا الأمر إلى خيرته، فإن سجد على ظهر إنسان فهو معذور، وإن صبر حتى يمكنه السجود على الأرض فهو معذور في التأخر عن الإمام.
القول الثالث: أنه لا يجوز له السجود على ظهر إنسان ولا على قدميه بل يصبر حتى يسجد على الأرض وهذا هو قول مالك وعطاء والزهري.
والحجة على هذا: هو أن السجود على الأرض هو الواجب فلا يجوز تركه مع إمكانه لقوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم)). والإستطاعة هاهنا حاصلة بالصبر وليس فيه إلا التأخر عن الإمام وهو مغتفر للضرورة في الازدحام، وهو محكي عن الطبري من أصحاب الشافعي.
__________
(1) لا يبدو أن الازدحام يؤدي إلى أن يسجد الرجل على رأس مصلٍ آخر أمامه أو بجانبه.
وهذا هو المختار، ويدل عليه: أن متابعة الإمام واجبة، والسجود على الأرض واجب، فإذا انتظر بالسجود حتى يفرغ المكان بقيام الناس إلى الركعة الثانية ويقوم ويدرك الإمام في حال قيامه كان قد أتى بالأمرين جميعاً ووفَّى حق الفرضين، هذا كله إذا كان السجود ممكناً له، فإن كان لا يمكنه السجود على حالة أصلاً فإنه ينتظر زوال الزحام بكل حال، فإن زال وقد صار الإمام قائماً في الركعة الثانية فإن المأموم يسجد على الأرض ويتابع الإمام لأنه الواجب عليه لقوله : ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قام فقوموا وإذا قعد فاقعدوا)).
ويستحب للإمام: أن يرتل القرآءة ويطولها ليتبعه المزحوم في صلاته فإذا فرغ المزحوم من السجود وأدرك الإمام قائماً في الركعة الثانية تبعه، ولا كلام في هذا، وإن أدركه راكعاً في الثانية لزمه أن يركع مع الإمام ويمضي معه في تمام صلاته.
الفرع الحادي عشر: ويكره الدق بالسيف عند صعود الإمام على المنبر وهو بدعة لم ترد به السنة ولا فعله أحد من الخلفاء الراشدين ولا الأئمة السابقين، ولكن أخذ به المتأخرون بدعة وضلالة.
ويستحب الدعاء عند صعود المنبر وأن يقول عند صعوده: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم ارفع درجاتنا عندك يا أكرم الأكرمين. وبأي دعاء أحب أن يدعو دعا.
ويستحب للإمام أن يبسط كفيه عند الدعاء على المنبر لما روي عن الرسول أنه قال: ((سلوا الله ببطون أكفكم واستعيذوه بظهورها فإذا فرغتم من الدعاء فامسحوا بها وجوهكم فإن الله يتعالى إذا بسطتموها أن يردها صفراً)) (1).
ويكره رفع اليدين حتى يحاذيا الصدر لأن ذلك هو الإبتهال ولم يفعله الرسول إلا عند الاستسقاء.
والمستحب أن يبسط يديه على فخذيه، والتضرع أن يرفعهما قليلاً، والإبتهال أن يرفعهما حتى يحاذيا صدره.
__________
(1) رواه الحاكم في (المستدرك)1/719، وأبو داود2/78، وابن أبي شيبة في (المصنف)6/52.
ويستحب للإمام إذا فرغ من صلاة الجمعة، أن يتجوز بركعتين، واختلف العلماء في الصلاة قبل الجمعة وبعدها على أقوال خمسة حكاها الترمذي في صحيحه.
القول الأول: محكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه أمر أن يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعاً، وهذا لا يقوله إلا عن توقيف من جهة الرسول لأن الباب باب عبادة فلا مساغ للإجتهاد فيه.
القول الثاني: حكاه ابن عمر، أن الرسول كان إذا انصرف من الجمعة صلى ركعتين في بيته، وبه يقول الشافعي وأحمد بن حنبل.
القول الثالث: محكي عن سالم عن عمر بن الخطاب قال: كان الرسول يصلي بعد الجمعة ركعتين ولم يذكر أنهما تكونان في البيت.
القول الرابع: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه : ((من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً))(1).
القول الخامس: عن ابن مسعود قال: كان رسول اللّه يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. فهذه الأقوال كلها حكاها الترمذي. قال: إنها صحيحة حسنة وكل واحد من هذه الأقوال قد ذهب [إليه] من ذهب من علماء التابعين واستقواه، وكلها معمول عليها.
وقد تم غرضنا من باب هيئة الجمعة وما يستحب فيها وما يكره والحمد لله رب العالمين
__________
(1) رواه الجماعة إلاَّ البخاري بلفظ: ((إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات)) وجاء الحديث كما أورده المؤلف في رواية مسلم.
---
الفصل الرابع في حكم صلاة الجمعة إذا اختل شرط من شروطها
اعلم أنا قد ذكرنا أن صلاة الجمعة مشروطة بأمور قد ذكرناها وأشرنا إلى أن الجمعة لا تصح إلا بها وبفعلها كالإمام والوقت والعدد والخطبتين، فإذا عرض في أحد هذه الشرائط ما يبطلها فهل تكون جمعة أو ظهراً؟ ف
يه تردد وخلاف. ونحن نشير إلى كل واحد من هذه الأمور بكلام مفرد بمعونة الله تعالى.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: وإذا نعي الإمام إلى الخاطب وقد ابتدأ الخطبة في يوم الجمعة أو كان بعد فراغه من الخطبة، فإنه يتمها جمعة على رأي أئمة العترة في إشتراط الإمام في إنعقادها وصحتها. فأما من لا يشترط الإمام الأعظم في إنعقادها فإنها غير مشروطة بالإمام في الإبتداء فلا تكون مشروطة في التمام.
والحجة على ما قلناه من أنها جمعة: هو أن الإجماع منعقد على إتمامها جمعة.
ووجهه: هو أن الإمام إنما كان شرطاً في انعقادها، عند القائلين بكونه شرطاً، لا في تمامها وكمالها، فإذا انعقدت على الصحة لم تبطل بموته ولأن الخطبتين بمنزلة الصلاة، فإذا ابتدأها والإمام حي فقد انعقدت على الصحة كما لو نعي الإمام بعد دخوله في الصلاة وشروعه فيها.
ووجه آخر وهو: أنها قد انعقدت في مبدأ الأمر على نعت الصحة فعروض الموت لا يبطلها كما لو لم يمت الإمام.
الفرع الثاني: وإن مات الخطيب والإمام باقٍ على الحياة فهل يجوز الاستخلاف أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يجوز الاستخلاف، وهذا هو رأي الشافعي في القديم.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول÷: أنه أحرم بأصحابه في الصلاة ثم ذكر أنه جنب فقال: ((على رسلكم)). فذهب فاغتسل وجاء ورأسه يقطر ماءً فأحرم بهم وصلى. فلو كان الاستخلاف جائزاً في الصلاة لاستخلف من يصلي بهم، ولأن حكم الإمام مخالف لحكم المأموم فلو جوزنا الاستخلاف لأدى إلى أن يكون المأموم إماماً وهو متناقض.
المذهب الثاني: جواز الاستخلاف. وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول الشافعي في الجديد.
والحجة على هذا: ما روي أن الرسول÷ استخلف أبا بكر ليصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه فأقام سبعة عشر يوماً يصلي بالناس فوجد رسول اللّه÷ يوماً من نفسه خِفَّة فخرج يتهادى بين العباس(1)
وأمير المؤمنين كرم الله وجهه فقام على يسار أبي بكر وصلى بالناس فصار أبو بكر والناس مؤتمين برسول اللّه÷ بعد أن كان الناس مؤتمين بأبي بكر، وهذا هو حقيقة الاستخلاف.
والمختار: ما قاله أئمة العترة[من جواز الاستخلاف]، وهو محكي عن مالك وأبي حنيفة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي أن الرسول÷ خرج ليصلح بين بني عمرو بن عوف فأقيمت الصلاة فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فصلى بالناس بعض الصلاة فجاء رسول اللّه÷ فلما رآه الناس أكثروا التصفيق، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة فلما أكثروا التصفيق التفت فرأى رسول اللّه÷ فتأخر فقال له الرسول÷: ((أثبت مكانك)). وتقدم الرسول÷ فصلى بهم(2)،
في هذا دلالة على الاستخلاف وجوازه.
الانتصار: يكن بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول÷: أنه صلى بهم وهو جنب ثم قال: ((على رسلكم)). فاغتسل ولم يستخلف، فدل على منعه.
قلنا: إنما لم يستخلف ليدل على أن الاستخلاف ليس أمراً حتماً واجباً، وإنما هو على سبيل الجواز، فإن رأى الإمام أن يستخلف فلا بأس، وإن لم يستخلف صلوا وِحْدَاناً وبنوا على صلاتهم.
قالوا: لو جاز الاستخلاف لصار المأموم إماماً، وفي ذلك نوع من المناقضة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الشرع قد دل على ذلك فلا وجه يمنع منه، وتحكمات الشرع كثيرة فلا وجه لإنكارها.
__________
(1) المعروف أنه الفضل.
(2) تقدم، وهو في صحيح البخاري 1/242، وفي (التمهيد) لابن عبد البر 21/102.
وأما ثانياً: فلأن الوجه متغاير فلا معنى للمناقضة لأنه كان مأموماً فيما مضى من الصلاة وصار إماماً فيما بقي منها بعد حصول الحدث فبطلت المناقضة.
وإذا جوزنا الاستخلاف كما مر بيانه، فهل يبني على ما مضى من خطبته أو يستأنفها؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يستأنفها سواء كان قد أتى ببعض الخطبة الأولى أو أتى بكمالها، فإن أتى ببعضها استأنفها، وإن كان قد أكملها استأنفها لأنه عرض ما يمنع من إتمامها فوجب الإستئناف كما لو أحدث.
وثانيهما: أنه يبني على ما فعله ولا يلزمه الإستئناف لقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. فلو حكمنا عليه باستئناف الخطبة لكان ذلك إبطالاً لما فعله أولاً.
الفرع الثالث: في نفورهم عن الإمام.
اعلم أن نفارهم عنه له ثلاثة أحوال:
الحالة الأول: أن يكون نفارهم في حالة الخطبة، فإن عادوا على القرب أو خلف عوضهم آخرون، مضى في خطبته وبنى عليها، وإن مضى ركن من أركان الخطبة كالحمد والصلاة على الرسول÷ من غير حضور العدد ثم حضروا أعاد الخطبة لأنه لا فائدة فيها من غير سماع العدد، وإن نفروا بعد سماع الأركان الأربعة وقبل الدعاء للإمام المخطوب له فقد تمت الخطبة لأن ما هذا حاله فليس شرطاً في صحة الصلاة.
الحالة الثانية: أن يكون نفورهم بعد كمال الخطبة وقبل الصلاة، فإن طال الزمان أعاد الخطبة لأن الموالاة بين الخطبة والصلاة واجبة خاصة على رأي من يجعل الخطبتين بمنزلة الركعتين، وإن قصر الزمان فلا حاجة إلى إعادة الخطبة هذا كله مع عودتهم، فإن لم يعد الخطيب الخطبة مع طول الفصل فقد أثم النافرون لأنهم أخلوا بما وجب عليهم من الوقوف للسماع، وهل يأثم الخطيب أم لا؟ فيه تردد.
فيحتمل أن يقال: إنه يأثم لأنه تمكن من الإعادة فلم يعد.
ويحتمل أنه يزول عنه الإثم لأنه قد أدَّى ما وجب عليه.
الحالة الثالثة: أن يكون نفورهم في أثناء الصلاة. وفيه أقوال خمسة:
القول الأول: أنه إذا نقص العدد المعتبر في صحة الجمعة في حال الصلاة لم تصح الصلاة، وهذا هو رأي أبي العباس وأحد أقوال الشافعي.
ووجهه: أن العدد شرط في إبتداء الصلاة فكان شرطاً في استدامتها كالوقت والمكان.
القول الثاني: أنه إن بقي واحدٌ أو اثنان أَتَمَّ الجمعة، وهذا هو الذي حصله السيد المؤيد بالله لمذهب الهادي، وهو أحد أقوال الشافعي.
ووجهه: هو أن العدد لا يمكن ضبطه في الإستمرار فوجب أن يكون شرطاً في الإنعقاد والإبتداء دون البناء والكمال.
القول الثالث: أنه إن بقي واحد أَتَمَّ الجمعة لأنه مع الإمام يحصل لهما فضل الجمعة لقوله÷: ((الإثنان فما فوقهما جماعة))(1).
وهذا هو أحد أقوال الشافعي.
القول الرابع: أنهم إن نفروا بعد أن صلى بهم ركعة، أتمها جمعة. وإن كان قبل أن يصلي بهم ركعة، أتمها ظهراً، وهذا هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، ومحكي عن المزني من أصحاب الشافعي، وبه قال مالك.
ووجهه: هو أنه قد تلبس بالجمعة وأتى ببعضها فوجب إكمالها.
القول الخامس: أنهم إذا نفروا بعد الإحرام بالجمعة وبقي وحده جاز أن يقيمها جمعة، وهذا هو رأي المزني حصله لمذهب الشافعي.
والمختار من هذه الأقوال: ما قاله المؤيد بالله.
ووجهه: هو أن الله تعالى قال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً}[الجمعة:11]. فالظاهر أن نفورهم إنما كان بعد دخولهم في الصلاة، ولهذا قال: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً}. فليس القيام إلا في حال الصلاة(2)
__________
(1) سبق في صلاة الجماعة، وقد أخرجه الحاكم في (المستدرك) 4/371، والدار قطني في (السنن)1/280.
(2) وكذلك يكون في حال الخطبة. فقد ورد الأثر بهما، فعن جابر قال: بينما كنا نصلي مع رسول الله÷ إذ أقبلت عير تحمل طعاماً فالتفوا إليها حتى ما بقي مع النبي إلإ اثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية.
وفي رواية أن النبي÷ كان يخطب قائماً فجاءت عير من الشام، وذكر نحوه، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.
ولم يوبخهم الله تعالى على نفارهم ولا أَثَّمهم به وإنما دعاهم إلى الخير، وفي هذا دلالة على أن الرسول÷ أتمها جمعة، ولو خرموا الجمعة بالنفار لوبخهم الله تعالى وأَثَّمهم، فدل ذلك على ما قلناه من إتمامها جمعة بعد الشروع فيها وهو المطلوب.
الفرع الرابع: وإذا دخل وقت العصر والإمام في صلاة الجمعة، فهل تكون جمعة أو يتمها ظهراً؟ فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أنه مهما بقي وقت للاشتراك بين الظهر والعصر فهي جمعة لأنه وقت لهما جميعاً، وإن خرج وقت الإشتراك بدخول وقت الاختيار المحض فهي ظهر وبنى عليها، وهذا هو الذي حصله السيد أبو طالب للمذهب، وهو رأي الشافعي.
ووجهه: أن وقت الإشتراك وقت للجمعة كما هو وقت للظهر، فلهذا كانت جمعة ببقائه، فإذا خرج فقد خرج وقتها وبطل شرط أدائها فيضيف إليها ركعتين حتى تكون ظهراً لأنه هو الأصل فإذا بطل شرط الجمعة ببطلان وقتها عاد إلى الأصل وهو الظهر.
المذهب الثاني: أنه إذا ابتدأها في وقت الظهر وامتدت إلى وقت العصر فإنه يتمها جمعة، وهذا هو رأي السيد المؤيد بالله.
ووجهه: أنها قد انعقدت على الصحة فلا تبطل بعد صحتها.
المذهب الثالث: أنه إذا دخل وقت العصر بطلت الجمعة لبطلان وقتها ووجب استئناف الظهر لأنه هو الأصل في الفرض عند بطلان الجمعة، وهذا هو رأي أبي حنيفة.
المذهب الرابع: أن وقت الجمعة ممتدٌ إلى غروب الشمس، وهذا هو المحكي عن مالك.
وأقول: إن قول مالك لا غبار عليه، ويدل على ما قاله: حجج:
الحجة الأولى: قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9].
ووجه الحجة من الآية: هو أن الله تعالى أوجب السعي إلى الجمعة ولم يفصل بين وقت ووقت فلهذا كانت مجزية إلى قبل غروب الشمس بما يتسع لصلاة العصر.
الحجة الثانية: قوله÷: ((إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا)). ولم يفصل بين وقت ووقت، فدل ذلك على إجزائها، وقوله÷: ((الجمعة واجبة على كل مسلم)). ولم يفصل. وقوله÷: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة)). ولم يفصل، وقوله÷: ((من ترك الجمعة ثلاثة أسابيع من غير عذر طبع الله على قلبه)). فهذه الأخبار وغيرها كلها دالة على ما قلناه من اتساع وقتها.
الحجة الثالثة: هو أن الأصل هو الظهر وهي بدل عنه ووقت البدل مثل وقت المبدل منه لأنه قائم مقامه كما نقوله في سائر الأبدال والمبدلات، ولا شك أن وقت الظهر ممتد إلى قبل غروب الشمس بما يتسع لصلاة العصر فيجب مثله في وقت الجمعة من غير فرق بينهما فصار وقتها كوقت الظهر. فالأفضلية للوقت في حق الجمعة هو أول الزوال، ووقت الاختيار لها من بعد ما يتسع لها إلى أول وقت العصر، ووقت الجواز إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، ووقت الكراهة من بعد ذلك إلى غروب الشمس بما يتسع لصلاة العصر، كالظهر سواء.
الفرع الخامس: ولو أحدث الإمام في صلاة الجمعة نظرت، فإن كان الحدث في الخطبة فقد قدمنا أن الطهارة شرط فيهما. فهل يجوز الاستخلاف فيهما أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: جواز الاستخلاف لأنهما بمنزلة الركعتين فلما جاز الاستخلاف في الركعتين جاز الاستخلاف في الخطبتين، وهذا هو الذي يأتي كلام الهادي، وهو أحد قولي الشافعي.
وثانيهما: أنه لا يجوز الاستخلاف فيهما؛ لأنهما ذكر يتقدم الصلاة فلم يجز الاستخلاف فيهما كالأذان، وهذا هو الذي يأتي على كلام المؤيد بالله.
وإن كان الحدث بعد الفراغ من الخطبتين وقبل الإحرام للصلاة، جاز استخلاف من سمع الواجبات من الخطبتين لأنهما بمنزلة الصلاة، ولا يجوز استخلاف من لم يسمع ذلك.
وإن كان الحدث في الركعة الأولى، نظرت فإن استخلف من أحرم معه في الصلاة قبل الحدث، جاز ذلك سواء سمع الخطبة أو لم يسمعها، وسواء كان قبل الركوع أو بعده؛ لأنه قد صار من أهل الجمعة ولا يجوز [أن يستخلف] من لم يكن دخل معه في الصلاة لأنه يكون مبتدئاً بالجمعة، ولا يجوز دخول جمعة على جمعة بخلاف من قد دخل معه في الجمعة فإنه متبع وليس مبتدئاً. فأما جواز الاستخلاف في غير الجمعة فقد قررنا ما فيه في صلاة الجماعة فأغنى عن تكريره.
فهذا ما أردنا ذكره في إختلال الشرائط في الجمعة وبتمامه يتم الكلام في صلاة الجمعة والله الموفق.
القسم الأول: السنن التابعة للفرائض
وإنما بدأنا بهذا القسم [من السنن] لأمرين:
أما أولاً: فلأنها تابعة للفرائض. فكما بدأنا بالفرائض ألحقنا بها ما يتبعها، وفي هذا دلالة على تأكيدها من جهة الشرع.
وأما ثانياً: فلأنها تتكرر بتكرار الأيام والليالي كما تتكرر الفرائض.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في أعدادها. وجملتها سنن أربع:
السنة الأولى: سنة الفجر ركعتان. وهما مؤكدتان لما روي عن الرسول أنه قال: ((حافظوا على ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل طرداً ))(1).
وفي حديث آخر: ((حافظوا على ركعتي الفجر فإن فيهما رغب الدهر))(2).
وروت عائشة قالت: ما كان الرسول يعاهد على شيء من النوافل أشد من معاهدته على ركعتين قبل الصبح(3).
وروى زيد بن علي عن علي أنه قال له الرسول : ((لا تدعن صلاة ركعتين بعد طلوع الفجر قبل أن تصلي الفريضة في سفر ولا حضر فهو قول الله عز وجل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ }[الطور:49]. وروت عائشة أن الرسول كان يصلي بين أذان الفجر وإقامته ركعتين(4).
__________
(1) رواه الشوكاني في نيل الأوطار 3/23، وهو في الترغيب والترهيب 1/224، وفي شرح معاني الآثار 1/299 بلفظ: ((لا تتركوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل طرداً)) وفي المصدرين الأولين: ((لا تدعوا... إلخ)).
(2) جاء في مجمع الزوائد 2/234 بلفظ: ((... فإن فيهما رغائب الدهر)) وفي مصنف ابن أبي شيبة 2/49 بلفظ: ((فإن فيهما الخير والرغائب)) وفي مصنف عبد الرزاق 3/57 بلفظه.
(3) قبل صلاة الفجر، أخرجه البخاري 1/393، ومسلم 1/501 عن محمد بن المثنى، وأخرجه البيهقي في (الكبرى) 2/470 عن أبي عبد الله الحافظ، وأبو داؤود في سننه 2/19 عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر.
(4) أخرجه أبو داود في سننه 2/39 وهو في شرح معاني الآثار 1/281.
والمستحب: أن يقرأ فيهما بسورة ((الكافرون)) وسورة ((الإخلاص)) لما روي [عن] عبدالله بن مسعود أنه قال: ما أحصي ما سمعت رسول اللّه يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ }[الكافرون:1] و{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ }[الإخلاص:1](1).
ويستحب في فعلهما: التخفيف، لما روي أن الرسول كان إذا صلاهما كأنه لم يصلهما لسرعته في صلاتهما(2).
ويستحب فيهما: التغليس، لما روي عن الرسول أنه قال: ((أحشوهما في الليل حشواً)).
السنة الثانية: ركعتا المغرب. ولا خلاف في كونهما سنة وفي كونهما مشروعتين وفي استحباب فعلهما، لما روى زيد بن علي عن علي أنه قال له الرسول : ((لا تدعن ركعتين بعد المغرب في سفر ولا حضر فإنها قوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}[ق:40].
ويستحب أن يقرأ فيهما بسورة ((الإخلاص)) وسورة ((الكافرون))، لما روي [عن] ابن عمر أنه قال: سمعت رسول اللّه أربعاً وعشرين مرة أو خمساً وعشرين مرة يقرأ في ركعتي المغرب بـ{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1] و{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}[الإخلاص:1]. (3)
__________
(1) رواه الترمذي في سننه 2/296، وأبو يعلى في مسنده 8/463.
(2) روت عائشة قالت: كان النبي يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني أقول: أقرأ بأم الكتاب؟. متفق عليه، توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام 2/185 الطبعة الثالثة.
(3) روى الحديث أحمد في مسنده 2/58 والطبراني في (الكبير) 12/434 وهو في شرح معاني الآثار1/298.
وهل يُصلَّى قبل المغرب نافلة أم لا؟ فيه تردد، ولم أعلم أن أحداً من أهل البيت ذكر أنها سنة ولا فعلها، وروى عبدالله المزني(1)
عن رسول اللّه أنه قال: ((صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء ))(2).
خشية أن يتخذها الناس سنة، وروي عن الرسول أنه قال: ((بين كل أذان وإقامة صلاة ))(3).
وعن ابن عمر: أنه كان يصليهما(4)،
وروي عن أنس بن مالك أنه قال: صليت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول اللّه . قيل لأنس: هل رآكم رسول اللّه ؟ قال: نعم. رآنا فلم يأمرنا ولا نهانا(5).
__________
(1) جاء في (الكنى والأسماء)1/104 بالرقم 1227: أبو زياد عبد الله بن مغفل المزني، ويقال: أبو سعيد، له صحبة، وفي (الثقات) 3/236 بالرقم 761 قال عنه: عبد الله بن مغفل المزني، له صحبة، نزل البصرة، وهو المغفل بن عبد نهم بن عفيف بن أسحم، كنيته: أبو زياد، وقد قيل: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو سعيد، من مزينة مضر، مات سنة 59 في ولاية عبيد الله بن زياد، وأمر أن لا يصلي عليه ابن زياد، وأمر أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي، ويقال: مات سنة 61 وصلى عليه أبو برزة الأسلمي، وقد قيل: عائذ بن عمرو هو الذي صلى عليه. اهـ
(2) رواه البخاري 1/396 وجاء في شرح بلوغ المرام للبسام 2/183 -ط3، عن عبد الله بن مغفل المزني: ((صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب)) ثم قال في الثالثة: ((لمن شاء)) كراهية أن يتخذها الناس سنة.
(3) روى الحديث عبد الله بن المغفل المزني قال: قال رسول الله : ((بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة)) قال في الثالثة: ((لمن شاء)) أورده في (جواهر الأخبار - تخريج أحاديث البحر) 1/189، وقال: أخرجه الستة إلا الموطأ، ولا تكرار عند الترمذي، وعند أبي داود مرتين. وقد تقدم الحديث في الأذان والإقامة.
(4) أخرجه مسلم 1/573.
(5) أخرجه مسلم 1/573 والبيهقي والدارقطني وأبو داود.
وعن طاووس أنه قال: سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب؟ فقال: ما رأيت أحداً صلاهما على عهد رسول اللّه ، وكان يصليهما(1).
السنة الثالثة: ركعتان بعد الظهر. وهما سنتان مؤكدتان واضب على فعلهما الرسول بعد صلاة الظهر. وعن أم سلمة زوج الرسول أنها قالت: صلى رسول اللّه في بيتي ركعتين بعد العصر، فقلت: ما هاتان الركعتان؟ فقال: ((هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر فشغلني مال فصليتهما الآن ))(2).
فلما واضب رسول اللّه على قضائهما بعد فوات وقتهما دل على تأكدهما.
فأما العصر والعشاء الآخرة فليس لهما سنة مؤكدة مواضب عليها من جهة الرسول لا قبلهما ولا بعدهما إلا الوتر للعشاء الآخرة.
السنة الرابعة: الوتر، وهو مشتمل على أحكام عشرة:
الحكم الأول: ولا خلاف في كونه مشروعاً بعد العشاء، ولكن هل يكون سنة أم لا؟ فيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنه سنة مؤكدة. وهذا هو رأي أئمة العترة زيد بن علي والقاسم والهادي والمؤيد بالله ومحكي عن الشافعي ومالك وأبي يوسف ومحمد.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى }[البقرة:238]. والصلاة الوسطى إنما تكون في الوتر، فلو كانت الوتر واجبة لم تكن وسطى، وفي هذا دلالة على أنها غير واجبة.
الحجة الثانية: ما روي أن ضمام بن ثعلبة وصل وافداً على الرسول فسأله عن شرائع الإسلام واحدة واحدة فسأله عن الصلاة المفروضة؟ فقال: ((خمس في اليوم والليلة إلا أن تطوع)). فلو كان الوتر فرضاً لذكره.
__________
(1) أخرجه البيهقي في (الكبرى) 2/476، وأبو داود في سننه 2/26، وهو في فتح الباري 2/108.
(2) رواه ابن حجر في بلوغ المرام ص 37 بزيادة، فقلت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال : ((لا)) أخرجه أحمد، ولأبي داود عن عائشة بمعناه، وجاء في صحيح ابن حبان 6/377 وفي مراجع أخر.
الحجة الثالثة: ما روى عبادة بن الصامت عن رسول اللّه أنه قال: ((خمس صلوات كتبهن الله على عباده فمن جاء بهن لا يضيع منهن شيئاً إستخفافاً بحقهن كن له عند الله عهداً أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة)).
المذهب الثاني: محكي عن أبي حنيفة، وله فيه ثلاث روايات:
الرواية الأولى: أنه واجب. وهو قول: الحسن بن زياد من أصحابه.
الرواية الثانية: أنه فرض. وهو قول: زفر.
الرواية الثالثة: أنه سنة مؤكدة. وهو قول: أبي يوسف ومحمد.
فنقول: أما ما رواه أبو يوسف ومحمد فهو موافق لما قلناه.
والحجة فيه: ما أسلفناه.
والحجة على ما قالوه من كونه فرضاً واجباً: ماروي عن الرسول أنه قال: ((إن الله قد زادكم صلاةً هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الوتر ألا فصلوها ))(1).
وظاهر الأمر للوجوب.
الحجة الثانية: قوله : ((أوتروا يا أهل القرآن ))(2).
والأمر للوجوب. وإذا ثبت الوتر بالأمر على أهل القرآن للوجوب ثبت على غيرهم لأن المقصود: يامن أُمر بالقرآن.
__________
(1) قال ابن بهران رحمه الله: الخبر لفظه عن خارجة بن حذافة قال: خرج علينا رسول الله يوماً فقال: ((قد أمدكم الله بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر)) أخرجه أبو داود والترمذي. اهـ جواهر 2/130.
(2) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر يحب الوتر)) رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة، اهـ. توضيح الأحكام للبسام 2/212.
الحجة الثالثة: ماروى أبو أيوب الأنصاري عن الرسول أنه قال: ((الوتر حق واجب ))(1).
المذهب الثالث: ما حكي عن الناصر وعنه روايتان:
الرواية الأولى: أنه سنة مؤكدة وهو المروي عنه في كتابه (الكبير).
الرواية الثانية: ماذكره في (الألفاظ) أن الوتر عندنا لا يجوز تركه تشبيهاً لفريضة.
والحجة له على هذه الرواية: ماذكرناه عن أبي حنيفة.
ونزيد هاهنا، وهو أنها صلاة مشروعة على الوتر فأشبهت المغرب.
ومن وجه أخر: وهو أنه أحد زمانين فوجب أن يكون الواجب فيه عشراً كالنهار(2).
والمختار: أنها سنة مؤكدة كما حكي عمن ذكرناه من أئمة العترة وغيرهم.
وحجتهم: ماذكرناه.
ونزيد هاهنا، وهو ماروى عاصم (3)
عن علي أنه قال: الوتر ليس فريضة كالصلاة المكتوبة إنما هي سنة سنها رسول اللّه (4).
__________
(1) لفظ الحديث في (جواهر الأخبار): ((الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل)) أخرجه أبو داود والنسائي. اهـ 2/30، وهو في سنن الدارقطني 2/22، وشرح سنن ابن ماجة 1/82 بألفاظ متقاربة.
(2) أي: كما أنها عشر ركعات في النهار فإن الصلاة في الليل تكون عشر ركعات، وهو ما قصده المؤلف من قوله: إنه أحد زمانين أي الليل، والزمان الآخر النهار.
(3) هو عاصم بن ضمرة السلولي، صاحب علي رضي الله عنه وروى عنه، وعنه: أبو إسحاق الهمداني والحكم وعدة، وثقه ابن المديني ويحيى بن معين، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال أحمد: هو أعلى من الحارث، مات سنة 74هـ، انظر: الجرح والتعديل 6/345، الكاشف 1/519.
(4) تتمته: فقال : ((إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن)) أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي بألفاظ فيها بعض الاختلاف، وأخرجه البيهقي في (الكبرى) 2/8 وعبد الرزاق في (المصنف) 3/3 والطبراني في (الأوسط) 5/181 وغيرهم.
وهذا نص في موضع الخلاف، ومثل هذا لا يقوله إلا عن توقيف كما صرح به في كلامه هذا.
الحجة الثانية: ما روى ابن عمر أن الرسول كان يوتر على الراحلة، ولو كانت فرضاً لم يجز أداؤها على الراحلة لقوله : ((إذا كانت المكتوبة فالقرار ))(1).
الحجة الثالثة: ما روى زيد بن علي عن علي" أنه قال: ((الوتر سنة وليست حتماً كالفريضة))(2).
فهذه الأدلة كلها متفقة في الدلالة على أنها ليست واجبة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول [أنه قال]: ((إن الله زادكم صلاة هي خيرٌ لكم من حمر النعم ألا فصلوها)). والأمر للوجوب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن الأمر للوجوب وإنما هو نص في الطلب، فأما الوجوب فإنما يكون بدلالة خارجة عن ظاهره، وإنما هو هاهنا للندب والإرشاد إلى الفضل والأجر والثواب.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الأخبار الدالة على كونه سنة، وإذا حصل التعارض وجب الترجيح ولا شك أن الأخبار التي رويناها صريحة في كونه سنة فيجب العمل عليها.
قالوا: قوله : ((أوتروا يا أهل القرآن)). والأمر للوجوب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لو كان واجباً لم يخص به أهل القرآن كما فعل في الصلوات المكتوبة فإنه لم يخص بها أحداً دون أحد.
وأما ثانياً: فلأن الأمر للندب كما قررناه فلا حجة لهم في ذلك.
__________
(1) جاء في (الاعتصام) 2/111: وفي أمالي أحمد بن عيسى×، قال محمد: حدثني أحمد بن عيسى عن حسين عن أبي خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي"، أن رجلاً سأل النبي فقال: يا رسول الله هل تصلي على ظهر بعيرك؟ قال: ((نعم حيث توجه بك بعيرك إيماءً يكون سجودك أخفض من ركوعك صلاة التطوع، فإذا كانت المكتوبة فالقرار)) وهذا الخبر في (الشفاء). انتهى بلفظه، وفي رواية أخرى بزيادة: أقبل رسول الله في أول عمرة اعتمرها فأتاه رجل فقال: يا رسول الله أتصلي على ظهر بعيرك... الحديث.
(2) تقدم من حديث عاصم عن علي .
قالوا: روى أبو أيوب الأنصاري عن الرسول أنه قال: ((الوتر حق واجب )).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه في آخر الخبر: ((فمن شاء أن يوتر بثلاث أو خمس أو تسع )). ولو كان واجباً لم يكله إلى المشيئة كما في سائر الواجبات لأنها حتم وقطع.
وأما ثانياً: فلأن قوله: ((الوتر حق)). أنه مشروع من جهة الله لا باطل فيه، وأما الوجوب فالغرض به: وجوب اختيار بحت من جهة الداعي إليه وهو الثواب والأجر لا وجوب إلزام وحتم يستحق على تركه العقاب.
قالوا: إنها صلاة مشروعة على الوتر فأشبهت المغرب في الوجوب كما حكي عن الناصر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لا مجرى للأقيسة في العبادات فإنها أمور غيبية متلقاة من جهة الله ومن جهة رسوله.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بقياس مثله وهو أن نقول: صلاة تؤدى في الليل فتكون نافلة كنوافل الليل. والأحق الإعراض عن هذه الأقيسة الطردية التي لا حظ لها في اقتباس الأحكام الشرعية وتقريرها، وهي من الطرد المهجور التي لا يعرج عليها محصل، وإنما تورد معارضة للفاسد بالفاسد.
الحكم الثاني: في بيان عددها(1).
فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن عدتها ثلاث ركعات، وهذا هو رأي زيد بن علي والهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة وزين العابدين علي بن الحسين والصادق والباقر.
__________
(1) يلاحظ أن المؤلف يعبر عن الوتر بالتأنيث على اعتبار أنه يقصد صلاة الوتر.
والحجة على ذلك: ما روى زيد بن علي عن علي قال: كان رسول الله يوتر بثلاث. وروى ابن مسعود عن رسول اللّه : أنه كان يوتر بثلاث. وروت عائشة وأم سلمة عن الرسول : أنه كان يوتر بثلاث ركعات(1).
المذهب الثاني: أن أقله ركعة واحدة، وأكثره إحدى عشرة ركعة، وأدنى الكمال فيه ثلاث ركعات. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روت عائشة عن رسول اللّه : أنه كان يوتر بإحدى عشرة ركعة(2).
وعن أبي أيوب الأنصاري عن رسول اللّه أنه قال: ((الوتر حق مسنون وليس بواجب فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل)).
المذهب الثالث: أن أقل الوتر ركعة واحدة. وهذا هو المحكي عن مالك.
__________
(1) جاءت هذه الروايات الثلاث بلفظ واحد وهو أن رسول الله كان يوتر بثلاث ركعات، وتتمة هذه الروايات كما في (جواهر الأخبار): لا يسلم إلاَّ في حق آخرتهن، يقرأ في الأولى بـ{سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية بـ: {قل يا أيها الكافرون} وفي الثالثة بـ: {قل هو الله أحد} كما في رواية زيد بن علي، وبها والمعوذتين كما في رواية عائشة وأم سلمة، قال ابن بهران عن الحديث الأخير: أخرجه أبو داود والترمذي عن عائشة، وللنسائي مثله من رواية غيرها. اهـ 2/31.
(2) أورده مسلم في صحيحه 1/508، والترمذي في سننه 2/303، والبيهقي في (الكبرى) 3/23، والنسائي في سننه 3/234، وأحمد في المسند 6/35.
والحجة على هذا: هو أن المقصود: الوتر. وقد خير رسول اللّه في حديث أبي أيوب بين أن يوتر الرجل بثلاث أو عشر(1). وفي هذا دلالة على أن أقله ركعة واحدة لأنها أقل الأوتار.
والمختار: ما قاله أئمة العترة: من كون الوتر عدته ثلاث ركعات.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو ما روي عن الرسول : أنه نهى عن البتراء وهو أن يوتر الرجل بركعة واحدة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه. ولا شك أن الأحاديث التي رويناها في عدد ركعات الوتر هي أكثر وأشهر وأصرح بالمراد، فلهذا وجب التعويل عليها.
الحكم الثالث: في وقت التسليم في الوتر. وفيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه يسلم بعد الركعة الثالثة من الوتر. وهذا هو: رأي الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، وهو محكي عن أبي حنيفة، قال أبو حنيفة: يوتر بثلاث لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها يسلم في آخرهن. كما روى زيد بن علي عن علي عن الرسول : أنه كان يوتر بثلاث يسلم في آخرهن(2).
وهكذا فإنه روي عن عائشة وأم سلمة.
__________
(1) قوله: أو عشر. فيه نظر؛ لأن العشر شفع وليست وتراً، والوتر كما تعاضدت الأخبار فيه ما بين ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة، وأضاف البعض واحدة، وقد ثبت لدى أكثر أئمة علماء الزيدية أنه ثلاث، وقد تسبقه ركعتان وأربع وست وثمان، ولهم على ذلك أدلة منها: أن الرسول كان يقرأ في الأولى بسورة الفاتحة والأعلى، وفي الثانية بالفاتحة والكافرون، وفي الثالثة بالفاتحة والصمد والمعوذتين، كما رواه الإمام زيد بسنده عن علي عليه السلام، وكما جاء في (بلوغ المرام) لابن حجر، وفي بعض الصحاح والسنن، فليراجع هنالك، والله أعلم.
(2) تقدم.
المذهب الثاني: أنه يسلم بعد الركعة الثانية ثم يقوم فيأتي بركعة ثالثة ويسلم بعدها، وهذا هو المحكي عن علي بن الحسين والباقر والصادق، ورواية أخرى عن مالك بمثل ذلك غير ما رويناه عنه من قبل، لما روى ابن عمر أن الرسول كان يفصل بين الشفع والوتر، وروي عن ابن عمر: أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين حتى يأمر بحاجته فإن لم تكن حاجة قال: يا جارية اعلفي الناضح.
المذهب الثالث: ما روي عن الشافعي، وعنه في الأفضل أربعة أقوال:
أولها: أن يفصل بين الشفع والوتر بالتسليم.
وثانيها: أن الأفضل أن يجمع بين الثلاث بتسليمة واحدة كما هو رأي الأئمة.
وثالثها: أن الأفضل أن يجمع بينها بتسليمة واحدة إلا أن تكون ركعتان لصلاة نافلة وركعة للوتر فالأفضل أن يفصل الركعة وحدها.
ورابعها: أن الأفضل أنه إن كان يصلي جماعة فالأفضل أن لا يفصل خشية الفتنة والفرقة بين الناس، وإن كان يصلي وحده فالأفضل أن يفصل. وهذه الأقوال كلها نقلها المسعودي من أصحاب الشافعي.
والمختار: أنها ثلاث بتسليمة واحدة.
وحجتنا: ما تظاهر من الأخبار على ذلك فلهذا وجب التعويل عليها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: وردت أحاديث تدل على ما ذكرناه فيجب قبولها.
قلنا: إن الإحاديث التي رويتموها لا تعارض ما ذكرناه لكثرة أخبارنا وقوتها، والعمل عليه أقوى لا محالة.
الحكم الرابع: في وقت الوتر.
واعلم أن وقت الوتر عند أئمة العترة، وهو رأي الشافعي وأصحابه، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الصادق دون الكاذب، لما روي عن الرسول أنه قال: ((إن الله زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر))(1).
__________
(1) تقدم.
وإذا كان ممن لا يتهجد، والتهجد هو مجانبة النوم بالصلاة، فالأفضل له أن يوتر بعد صلاة العشاء، وإن كان له تهجد فالأفضل أن يوتر بعد التهجد، لما روى جابر عن الرسول أنه قال: ((من خاف منكم أن لا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أول الليل ثم ليرقد ومن طمع منكم أن يقوم من آخر الليل فليوتر آخر الليل))(1).
وروي أن الرسول قال لأبي بكر: ((متى توتر ))؟ قال: أوتر ثم أنام ثم أقوم. فقال له: ((أخذت بالحزم)). وقال لعمر: ((متى توتر))؟ فقال: أنام ثم أقوم ثم أوتر. فقال: ((أخذ هذا بالقوة وهذا أفضل))(2).
فإن أوتر في أول الليل ثم نام ثم قام للتهجد فإنه لا ينتقض وتره، وحكي عن علي وابن عمر: أنه ينتقض الوتر فيلزمه أن يوتر وتراً ثانياً.
والحجة على أنه لا ينتقض وتره: ما روي عن الرسول أنه قال: ((لا وتران في ليلة ))(3).
فإن اعتقد أنه صلى العشاء فأوتر ثم ذكر أنه لم يكن صلاها لم يعتد بالوتر الأول، وهو محكي عن الشافعي وأبي يوسف ومحمد، وحكي عن أبي حنيفة: أنه يعتد بما أوتر.
والحجة على ما قلناه: هو أن وقت فعله بعد العشاء فإذا فعله قبلها لم يجزه كما لو ظن أن وقت الفريضة قد دخل فصلاها ثم بان أنه لم يدخل.
الحكم الخامس: في بيان ما يقرأ في الوتر. ولا خلاف [في] أن القرآن كله مجزئ ولكن الخلاف في الأفضل فيما يقرأ في الركعات الثلاث، وفيه أقوال سبعة:
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 2/146 والبيهقي في (الكبرى) 3/35، وابن ماجة 1/375، وعبد الرزاق 3/16، وأحمد 3/389.
(2) رواه ابن خزيمة في صحيحه 2/145 وأبو داود 2/66.
(3) روي الحديث عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا وتران في ليلة)) رواه أحمد والثلاثة وصححه ابن حبان.
القول الأول: محكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، أن الأفضل أن يقرأ تسع سور مختلفات ففي الركعة الأولى {إنا أنزلناه} و{ألهاكم} و{إذا زلزلت الأرض زلزالها}، وفي الثانية: {العصر} و{الكوثر} و{قل يا أيها الكافرون}، وفي الثالثة: {إذا جاء نصر الله والفتح} و{تبت} وسورة {الإخلاص}.
القول الثاني: محكي عن زيد بن علي أنه كان يقرأ في الأولى والثانية بـ(المعوذتين)، ويقرأ في الثالثة بـ{قل هو الله أحد}.
القول الثالث: محكي عن الصادق والباقر: أنهما [كانا] يقرآن في وترهما تسع مرات سورة {الإخلاص} في كل ركعة ثلاث مرات.
القول الرابع: مأثور عن الناصر: أنه كان يقرأ في وتره إحدى عشرة مرة سورة {الإخلاص} ثلاثاً بعد الفاتحة في الركعة الأولى، وثلاثاً بعد الفاتحة في الركعة الثانية، وخمساً بعد [الفاتحة في] الركعة الثالثة.
القول الخامس: محكي عن الهادي: أنه يقرأ في وتره بسورة {سبح}(1)
في الأولى، وفي الركعة الثانية: بسورة (الكافرون)، وفي الثالثة: بـ{قل هو الله أحد}.
القول السادس: محكي عن الشافعي، والأفضل عنده أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بسورة (سبح)، وفي الثانية: بعد الفاتحة بـ(الكافرون). وفي الثالثة بعد الفاتحة بسورة (الإخلاص) و(المعوذتين).
القول السابع: محكي عن أبي حنيفة: أنه لا يقرأ بـ(المعوذتين) ولكن يقتصر على سورة (الإخلاص)، وذكر الكرخي من أصحاب أبي حنيفة، أنه قال: لا تقدير ولا تعيين في القراءة بعد الفاتحة لأصحابنا، والفاتحة لا تتعين أيضاً لكنه يستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بمقدار (سبح اسم ربك الأعلى)، وفي الثانية: بعدها بمقدار سورة (الكافرون)، وفي الثالثة: بعدها بمقدار سورة (الإخلاص).
__________
(1) سورة الأعلى.
والمختار: ما أثر عن رسول اللّه واختاره الهادي وهو قراءة (الفاتحة) في الأولى وسورة (سبح)، وفي الثانية: بعد الفاتحة بسورة (الكافرون)، وفي الثالثة: بعد الفاتحة بسورة (الإخلاص). وإنما اخترناه لما كان مأثوراً عن صاحب الشريعة صلوات الله عليه لأنه أحق بالمتابعة وأحق بقبول القول وبه الأسوة وعليه الإعتماد في أقواله وأفعاله فلا يعدل بقوله قول ولا يماثل باختياره اختيار.
الحكم السادس: في القنوت في الوتر. فهل يستحب القنوت في الوتر أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه يستحب في جميع السَّنَةِ كلها، وهذا هو قول أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه كان يقنت في الوتر في السَّنَةِ كلها.
المذهب الثاني: أنه لا يستحب القنوت في الوتر إلا في النصف الآخر من رمضان، وهذا هو رأي الشافعي، وحكي عنه قول آخر أنه يقنت في جميع الشهر. والصحيح هو الأول.
والحجة على هذا: ما روي عن عمر، أنه قال: السُّنَّةُ إذا انتصف الشهر من رمضان قنت في الوتر بعدما تقول: سمع الله لمن حمده. وروي ذلك عن أُبَيِّ بن كعب أنه كان لا يقنت إلا في النصف الآخر من رمضان.
المذهب الثالث: محكي عن موسى بن جعفر أنه غير مسنون في شهر رمضان ولا في غيره، وروي عنه أنه قال لرجلٍ: لا تقنت وما أصابك ففي رقبتي.
والمختار: ما عليه أئمة العترة من استحباب القنوت في الوتر في جميع السَّنَةِ.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن الرسول : أنه عَلَّمَ ولدَهُ الحسن بن علي القنوت في الوتر بقوله: ((اللهم اهدني )).. إلى آخره، وفي هذا دلالة على كونه مشروعاً في كل السَّنَةِ.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن عمر وأُبَيّ بن كعب أنهما قالا: إن القنوت في نصف شهر رمضان الآخر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا مذهب لهما فلا يلزمنا قبوله.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما روينا من حديث الرسول ، فلا يكون مقبولاً كما حكي عن الشافعي(1).
قالوا: روي عن موسى بن جعفر أنه لا سُنَّةَ في القنوت.
قلنا: هذا مذهب لموسى فلا يلزمنا قبوله، وكل مجتهد مصيب في المسائل الفقهية والمضطربات الاجتهادية.
والحجة التي يلزم قبولها: ما كان عن الله تعالى، أو عن رسوله .
الحكم السابع: في الذكر المشروع في قنوت الوتر وفيه أقوال ستة:
القول الأول: محكي عن أئمة العترة، الباقر والصادق والقاسم والناصر والمؤيد بالله، وهو أن المستحب فيه ما علمه رسول اللّه الحسن بن علي وهو أن يقول: ((اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يُقضى عليك إنه لا يعز من عاديت ولا يذل من واليت سبحانك وحنانيك تباركت ربنا وتعاليت)). ثم قال: ((إجعله في وترك))(2).
القول الثاني: محكي عن الناصر أنه يستحب أن يقول في القنوت: لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم رب السموات السبع ومن فيهن، ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن، ورب العرش العظيم. ثم يقول في آخره: ما أثر عن الحسن بن علي في قنوته.
القول الثالث: مأثور عن الهادي، وهو أن المستحب أن لا يتجاوز في القنوت آي القرآن كقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا }[آل عمران:8].. إلى آخرها، وقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا }[البقرة:286].. إلى آخرها، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
__________
(1) أي: فلا يكون مقبولاً ما حُكي عن الشافعي.
(2) أخرجه الترمذي 2/328 وأبو داود 12/63، والنسائي 3/248، وفي مجموع الإمام زيد بن علي ما رواه بسنده عن علي قال: كلمات علمهن جبريل رسول الله يقولهن في قنوت الوتر: ((اللهم اهدني فيمن هديت... إلخ)).
القول الرابع: محكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يقول في قنوت الوتر في أيام حربه لمعاوية قبل الركوع: اللهم إليك رفعت الأبصار، وبسطت الأيدي، وتحركت الألسنة بالأعمال الصالحات، اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، نشكوا إليك غيبة نبينا وكثرة عدونا، اللهم وقلة أنصارنا وتظاهر الفتن وشدة الزمان علينا، اللهم فأعنا بفتح تعجله ونصر تعز به أولياءك وتذل به أعداءك وسلطان حق تظهره إله الحق آمين(1).
القول الخامس: محكي عن عمر رضي الله عنه، أنه كان يقول في قنوته: اللهم قاتل الكفرة. وقد حكيناه بألفاظه في قنوت الفجر فأغنى عن الإعادة.
القول السادس: ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه، عن الرسول أنه كان يقول في قنوت الوتر: ((اللهم إني أعوذ برضاك من غضبك " ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك أنت كما أثنيت على نفسك لا نحصي ثناء عليك تباركت ربنا وتعاليت، سبحان الله الملك القدوس رب الملائكة والروح)) (2).
كان يقولها ثلاثاً بعد فراغه من قنوته ويمد بها صوته فإذا فرغ مسح وجهه بيديه.
الحكم الثامن: في محل القنوت. وهل يكون قبل الركوع أو بعده؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن محله بعد الركوع وهذا هو رأي أئمة العترة القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قنت في الوتر بعد الركوع بعد الركعة الثالثة.
المذهب الثاني: أن القنوت قبل الركوع. وهذا هو رأي زيد بن علي ومالك وابن أبي ليلى وأبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول : أنه قنت في الصبح قبل الركوع فيجب في الوتر مثله(3).
__________
(1) رواه الإمام زيد في مجموعه.
(2) أخرجه الترمذيي 5/561 والدارقطني 143 وابن ماجة 1/373، وهو في السنن الكبرى للبيهقي 4/414-6/222 وفي مسند أحمد 1/118.
(3) أخرجه البيهقي في (الكبرى) 2/206، وفي (الصغرى) 1/275، بلفظ: أنه قنت في الصبح قبل الركوع أو بعده بيسير.
والمختار: جوازهما جميعاً، لأنه قد ورد الشرع بهما جميعاً فأيهما فعل أجزأه في السُّنَّةِ، فإذا قنت بعد الركوع كان الركوع فاصلاً بين القنوت والقراءة، وإذا قنت قبل الركوع فإنه يكبر تكبيرة واحدة لتكون فاصلة بين القراءة والقنوت، وهو مروي عن أمير المؤمنين وعمر وابن مسعود، أنهم كانوا يكبرون إذا فرغوا من القراءة قبل القنوت ثم يقنتون، وهو محكي عن أبي حنيفة أيضاً أعني: التكبير من أجل الفصل.
الانتصار هاهنا على من خالف في كون القنوت مشروعاً(1)؛
فأما من أقر بكونه مشروعاً وخالف في محله فقد جوزنا الأمرين جميعاً.
الحكم التاسع: هل يرفع يديه عند دعاء القنوت أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: الجواز. وهذا هو رأي الناصر والفريقين الحنفية والشافعية.
والحجة على هذا: ما روي عن علي أنه قال: إذا دعوتم الله فارفعوا أيديكم وأصواتكم بالدعاء.
المذهب الثاني: المنع من ذلك. وهذا هو رأي الهادي، ومحكي عن مالك.
والحجة على هذا: ما ذكرناه في المنع من التكبير في الصلاة في أنه لا يجوز فيه رفع الأيدي وقد قدمنا ما فيه من الدلالة على المنع.
والمختار: جواز ذلك؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((إن الله يستحيي إذا رفع العبد يديه في الدعاء أن يردهما صفراً))(2).
ولم يفصل بين أن يكون في الصلاة أو في غير الصلاة، ولأن الرسول رفع يديه في صلاة الاستسقاء حتى رُؤيَ بياض إبطيه وهو الإبتهال.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: ما دللنا عليه في المنع من رفع الأيدي في تكبير الصلاة فهو بعينه دال هاهنا على المنع من رفع الأيدي عند الدعاء في القنوت.
__________
(1) لم يذكر المؤلف في هذا الانتصار شيئاً، ولعله قد استغنى بما تقدم من الانتصار في الحكم السادس قبل هذا، والله أعلم.
(2) رواه ابن حبان في صحيحة 3/160، والترمذي 5/556، وأبو داود 2/78، وهو في سنن البيهقي (الكبرى) 2/211، ومصنف عبد الرزاق 2/251.
قلنا: قد أوضحنا الكلام هناك وذكرنا المختار والانتصار له فأغنى عن تكريره.
الحكم العاشر: وإذا قلنا: بجواز رفع الأيدي في حال القنوت(1)
متى يكون الإرسال؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن يكون الرفع مستمراً حتى يفرغ من الدعاء، وهذا هو رأي الناصر والشافعي وأبي يوسف.
والحجة على هذا: هو أن الرفع كيفية في الدعاء فلهذا كان مستمراً حتى يفرغ من الدعاء.
المذهب الثاني: أنه يرسل قبل الفراغ، وهذا هو رأي أبي حنيفة ومحمد.
والحجة على هذا: هو أن الرفع إنما يحتاج إليه في إبتداء الدعاء ليكون فيه دلالة على التضرع ولا حاجة إلى استصحابه إلى آخر الدعاء.
والمختار: جواز الأمرين جميعاً فأيهما فعل أجزأه، فهذا ما أردنا ذكره في أحكام القنوت. ونرجع إلى التفريع.
الفرع الثاني: وآكد هذه السنن الوتر لأمرين:
أما أولاً: فلأنها أوجبت على الرسول لقوله : ((ثلاث أوجبت عليَّ ولم توجب عليكم : الوتر، والأضحية، والتهجد في آخر الليل)). وفي هذا دلالة على عظم إعتناء الشرع فيها واهتمامه بها.
وأما ثانياً: فلأن من العلماء من قال بوجوبها. كما رويناه من قبل وفي هذا دلالة على كونها أكثر من غيرها من السنن تأكيداً.
وهل تكون آكد أو ركعتا الفجر؟ فيه تردد. وللشافعي قول: إن ركعتي الفجر آكد من الوتر.
والمختار: هو قوله الجديد: أن [صلاة] الوتر آكد منهما لما ذكرناه من ترجيحها على غيرها وبعدها في التأكيد ركعتا الفجر لما ورد فيهما من الأحاديث الدالة على توكيدهما واهتمام الرسول بفعلهما كما أوضحناه من قبل.
وحكي عن الشافعي في (الفروع): أنهما سواء في التأكيد.
__________
(1) جملة: (في حال القنوت) زيادة في نسخة الذارحي وليست في نسخة وهاس.
والمختار: ما ذكرناه من تأكيد الوتر وبعده في التأكيد والاستحباب ركعتا الفجر، وقد روي عن الرسول : ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ))(1).
ويليهما في الاستحباب ركعتا المغرب والظهر.
وأيهما يكون آكد وأدخل في الاستحباب والسُّنَّة؟.
قال السيد المؤيد بالله: ركعتا الفجر آكد النوافل ثم ركعتا المغرب وركعتا الظهر، وركعتا العتمة دون الجميع في الاستحباب، والوتر آكد من جميع ذلك كله، وظاهر كلامه هذا دال على استواء ركعتي المغرب وركعتي الظهر في الاستحباب لأنه لم يرد فيهما شيء مما يدل على فضل إحداهما على الأخرى، وليس فيهما إلا المواظبة من جهته على فعلهما فلهذا كانتا مستويتين في الفضل، ويحتمل أن ركعتي الظهر آكد في الاستحباب لحديث أم سلمة أنه قضاهما بعد العصر. وفي هذا دلالة على تأكيدهما ولم يرد مثله في ركعتي المغرب. فأما ركعتا العتمة فالإجماع منعقد على أنهما أضعف السنن لأن الرسول لم يواظب على فعلهما كمواظبته على السنن الرواتب التي ذكرناها.
الفرع الثالث: ومن فاته شيء من هذه السنن الراتبة في وقتها، فهل يقضي أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: أنها لا يستحب قضاؤها، وهذا هو المحكي عن مالك وأبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أنها صلاة نفل فإذا فات وقتها لم يستحب قضاؤها كصلاة الكسوف والاستسقاء وعلى هذا إذا صلاها في غير وقتها لم تكن سنة راتبة، وإن نوى أن تكون سنة، لا سبب لها ولا يجوز فعلها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
القول الثاني: أنه يستحب قضاؤها. وهذا هو الذي ذكره الهادي والقاسم في مصنفاتهما واختاره السيد أبو طالب، وهو الصحيح من مذهب الشافعي.
__________
(1) رواه مسلم 1/501 وهو في صحيح ابن خزيمة 2/160 بلفظ: ((ثم ركعتا الفجر خير من الدنيا جميعاً)) وفي سنن الترمذي 2/275 ومسند أحمد 6/265.
والحجة على هذا: قوله : ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها فإن ذلك وقتها)). ولم يفصل بين الفريضة والنافلة، وقد ينام عن الفريضة كما ينام عن النافلة.
والمختار: ما قاله أئمة العترة لأنها صلاة راتبة مؤقتة بوقت فلم تسقط بفوات الوقت إلى غير بدل كالفرائض.
فقولنا: راتبة مؤقتة بوقت. نحترز به من صلاة الكسوف والاستسقاء لأنها راتبة لكنها غير مؤقتة بوقت معين، فلهذا لم يستحب قضاؤها.
وقولنا: إلى غير بدل. نحترز به عن صلاة الجمعة فإنها صلاة راتبة مؤقتة بوقت لكنها إذا فاتت لم تقض لأنها تسقط إلى بدل هو الظهر.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: صلاة نفلٍ فلا تقضى كصلاة الكسوف والاستسقاء.
قلنا: المعنى في الأصل أنها راتبة غير مؤقتة بوقت بخلاف هذه فإنها مؤقتة بوقت فافترقا فلهذا استحب قضاؤها.
الفرع الرابع: وإذا قلنا بإستحباب القضاء في هذه الرواتب، فهل يكون(1)
ضاؤها في الأوقات المكروهة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: لا يجوز قضاؤها في الأوقات المكروهة الثلاثة، وهذا هو المختار للمذهب، وهو الذي حصله السيد أبو طالب.
والحجة على هذا: ما روي عن عقبة بن عامر أنه قال: ثلاثة أوقات نهانا رسول اللّه أن نصلي فيهن. ولم يفصل بين القضاء والأداء ولا بين الفريضة والنافلة.
المذهب الثاني: جواز قضائها في هذه الأوقات الثلاثة، وهذا هو المحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها )). ولم يفصل بين وقت ووقت، وفي هذا دلالة على جواز أدائها في هذه الأوقات.
والمختار: هو المنع من قضائها في هذه الأوقات الثلاثة كما هو رأي أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) يقصد: فهل يجوز.
ونزيد هاهنا وهو أن كل واحدٍ من هذين الحديثين عام وخاص فقوله: ((من نام عن صلاة أو نسيها )). فهذا خاص في الصلاة عام في الأوقات. وقوله: نهانا رسول اللّه عن ثلاثة أوقات. فهذا عام في الصلاة خاص في الأوقات، فكل واحد منهما عام فيما الثاني خاص فيه، وإذا كان الأمر هكذا كان خبرنا أرجح، لأنه حاظر، فلهذا كان بالعمل أحق وأولى لما ذكرناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الخبر الذي رويناه دال على الجواز.
قلنا: قد قررنا تعارض الحديثين وأن العمل على المنع هو الأولى لما حققناه.
الفرع الخامس: وهل يجوز فعل هذه الرواتب في السفر وفعل سائر التطوعات كالنوافل المبتدأة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الرسول كان يتطوع في السفر ويأتي بهذه الرواتب كلها في حال سفره.
المذهب الثاني: المنع من ذلك. وهذا هو المحكي عن ابن عمر وعلي بن الحسين زين العابدين.
والحجة على هذا: هو أن السفر قد حصل فيه الرخصة في قصر الصلوات المكتوبة تخفيفاً على المسافرين، فإذا خففت الفرائض فالنوافل بالتخفيف أحق وأولى.
والمختار: ما عليه علماء العترة وهو مروي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه وعمر وابن مسعود من الصحابة رضي الله عنهم، وحكي عن الحسن البصري أنه قال: كان أصحاب رسول اللّه يسافرون فيتطوعون قبل الفريضة وبعدها، وفي هذا دلالة على الجواز.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الفروض المكتوبة قد وقع فيها التخفيف فضلاً عن النوافل فهي أحق بالتخفيف.
قلنا: رخص السفر غير معقولة المعاني فلا يجوز القياس عليها.
ومن وجه آخر: وهو أن القياس لا يعارض الخبر، وقد روينا عن الرسول وأصحابه أنهم كانوا يتطوعون في الأسفار.
---
القسم الثاني: في بيان ما تسن فيه الجماعة من النوافل
وهذا نحو صلاة العيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء، فإن هذه النوافل قد شرعت فيها الجماعة بإتفاق، والإجماع منعقد على ذلك. وهل تكون هذه النوافل أفضل من رواتب الصلوات المفروضة أو تكون الرواتب(1)
أفضل؟
فمن العلماء من قال: هذه هي أفضل من الرواتب لأنها تسن فيها الجماعة، وهي مشبهة للفرائض.
ومنهم من قال: إن الرواتب أفضل لأن الرواتب مؤدَّاة في اليوم والليلة وتأكيدها أكثر من تأكيد هذه الصلوات فلهذا كانت أفضل.
والمختار: أنهما سواء في الفضل لأن الشرع قد خص كل واحدة من النوعين بفضل ليس للأخرى فلهذا استويا في الفضل.
وإذا قلنا: باستوائهما في الفضل فهل يكون ما تسن فيه الجماعة متفاضلة أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنها متفاضلة، فصلاة العيد أفضلها لأمرين:
أما أولاً: فلأنها مؤقتة بوقت فأشبهت الفرائض.
وأما ثانياً: فلأنه مختلف في وجوبها، وغيرها فلا يخالف أحد في كونها غير واجبة.
ثم تليها في الفضل صلاة الكسوف، فإنها أفضل من صلاة الاستسقاء لأمرين:
أما أولاً: فلأن القرآن قد دل عليها حيث قال: {لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}[فصلت:37].
وأما ثانياً: فلأن المواظبة عليها من جهة الرسول÷ أكثر من المواظبة على صلاة الاستسقاء. ويدل على ذلك أمران:
أما أولاً: فلأن الرسول÷ لم يدع صلاة الكسوف عند وجود سببها وقد كان يستسقي تارة ويدع أخرى.
وأما ثانياً: فلأن صلاة الكسوف خالصة لوجه الله تعالى كسائر العبادات، وصلاة الاستسقاء إنما شرعت من أجل طلب الرزق.
ومن وجه ثالث: وهو أن الإجماع منعقد من جهة العلماء على كون صلاة الكسوف سُنة، واختلفوا في صلاة الاستسقاء هل هي سنة أم لا. وسيأتي الكلام في أحكام هذه الصلوات في أبواب نفردها لها بمعونة الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: النوافل، وهو خطأ.
---
القسم الثالث: في بيان سائر النوافل
اللتي ليست رواتب ولا تسن فيها الجماعة
ثم إنها على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: ما يتكرر بتكرر الأعوام والسنين وفيه صور ثلاثة:
الصورة الأولى: صلاة النصف من شعبان. ولها فضل عظيم وهو متفق على فضلها على ألسِنة العلماء في سائر الأمصار، وهي مائة ركعة. وفي الحديث عن الرسول أنه قال: ((من صلى في هذه الليلة خامس عشر من شهر شعبان مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك، ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكائد الشيطان)). وفي حديث آخر: ((إن الله يغفر لجميع المسلمين في هذه الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو مشاجر أو مدمن خمر أو عاق لوالديه أو مصر على الزنى)). وفي حديث آخر: ((يرحم الله من أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام كلب)) (1).
وهي مائة ركعة بخمسين تسليمة في كل ركعة (الحمد) مرة وسورة (الإخلاص) عشر مرات.
__________
(1) قال ابن بهران في (تخريج أحاديث البحر) 2/34: قلت: قد اتفق الحفاظ على أن صلاة الشعبانية وصلاة الرغائب المذكورتين لا يصح فيهما حديث عن النبي وأن حديثيهما موضوعان، وفعلهما بدعة ممن يعتقدهما سنة، وإلاَّ فالصلاة خير موضوع، ولم يذكرهما الحافظ المنذري في (الترغيب والترهيب) مع كثرة اطلاعه واستقصائه في جميع ما روي عن النبي وما كانت روايته ضعيفة نبه عليها.
وقال ابن الجزري في كتاب عدة الحصن الحصين ما لفظه: وأما صلاة الرغائب أول خميس في رجب وصلاة ليلة النصف من شعبان فلا يصحان، وصلاة القدر من رمضان وسندها موضوع باطل، انتهى.
وقال النووي في (شرح المهذب): هما بدعتان مذمومتان، قال: ولا يعتبر الحديث المذكور فيهما فإنه باطل، وممن ذكر ذلك العلامة الحافظ أبو أسامة المقدسي فإنه صنف في ذلك وأوضح أنه لا أصل لهما.اهـ.
الصورة الثانية: صلاة الرغائب وهي أول جمعة في رجب تصلى اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة (فاتحة الكتاب) مرة وسورة (الإخلاص) عشر مرات، و(إنا أنزلناه) ثلاث مرات، فإذا فرغ من الصلاة صلى على الرسول سبعين مرة يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد النبي الأمي الطاهر الزكي وعلى آله وسلم. ثم يسجد ويقول في سجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبعين مرة. ثم يرفع رأسه ويقول: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الله العلي الأعظم، سبعين مرة. ثم يسجد فيقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبعين مرة. ثم يسأل الله حاجته.
الصورة الثالثة: صلاة التراويح في رمضان وهي من السنن وهي عشرون ركعة بعشر تسليمات ووقتها بعد العشاء الآخرة [يقرأ فيها] بجزء من القرآن في كل صلاة ليلة، فأما صلاتها على الإنفراد فمما لا خلاف في حسنه لما روي عن الرسول أنه قال: ((من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ))(1).
ومعنى قوله: ((إيماناً)). أي: تصديقاً بثواب الله تعالى وأجره، وقوله: ((واحتساباً)) أي: طالباً من الله الثواب والأجر. أخذاً من قولهم: فلان يحتسب الأخبار. أي: يطلبها. والتراويح: جمع ترويحة، وهي عبارة عن كل ركعتين بمقدار معلوم من القرآن(2).
ولا خلاف في حسنها على الإنفراد وفضلها بين أئمة العترة والفقهاء.
__________
(1) رواه الترمذي 3/67، وابن ماجة 1/420، وهو في التمهيد لابن عبد البر 7/103.
(2) هكذا في الأصل، ويبدو أن هناك سقطاً في عبارة: (وهي عبارة عن كل ركعتين بمقدار معلوم...إلخ). وأن المقصود: وهي عبارة عن القراءة في كل ركعتين. إلخ. والله أعلم.
قال ابن منظور رحمه الله: والترويحة في شهر رمضان: سميت بذلك لاستراحة القوم بعد كل أربع ركعات.. والتروايح: جمع ترويحة وهي المرة الواحدة من الراحة، تفعيلة منها، مثل تسليمة من السلام. اهـ 2/462.
قال الشافعي: فأما قيام رمضان ـ أراد التراويح ـ فصلاة المنفرد أحب إليَّ. فظاهر كلامه هذا دال على أن صلاة التراويح على الإنفراد أفضل كما هو رأي أئمة العترة. ومن الصحابة من قال: إن صلاتها في جماعة أفضل. كما هو محكي عن أبي العباس بن سريج وغيره من أصحاب الشافعي.
فأما صلاة التراويح في جماعة فهل تكره أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: كراهتها. وهذا هو رأي أئمة العترة.
والحجة على هذا: ما روى جعفر الصادق عن أبيه الباقر عن علي عن الرسول : أنه خرج يوماً على بعض أصحابه في بعض ليالي رمضان وهم يصلون النوافل جماعة، فقال: ((صلاة الضحى بدعة وصلاة النوافل في رمضان جماعة بدعة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)). ثم قال: ((قليل في سنة خير من كثير في بدعة ))(1).
المذهب الثاني: جواز ذلك. وهذا هو رأي أبي حنيفة. ومحكي عن مالك وأحمد بن حنبل.
__________
(1) نقل الحديث ابن بهران في جواهره نقلاً عن الانتصار، وقال في آخره: والأقرب أنه موقوف على علي إن صحت الرواية عنه. اهـ 2/34.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول : أنه صلى بالناس في رمضان في الليلة الأولى فلما كان في الليلة الثانية خرج وإجتمع الناس إليه وكثروا فلما كان في الليلة الثالثة إجتمع الناس فلم يخرج إليهم، فلما كان من الغد قال: ((قد عرفت إجتماعكم ولكني لم يمنعني من الخروج إلا مخافة أن تفرض عليكم في رمضان فتعجزوا عنها ))(1).
فتوفي رسول اللّه والأمر هكذا، وفي زمن خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر فجمعهم على أُبَيّ بن كعب لأنه كان آخر من أخذ القرآن عن رسول اللّه لأنه عرض عليه القرآن في السنة التي توفي فيها رسول اللّه ، فأخرج عمر القناديل إلى المسجد فجعلهم جماعة واحدة فكان أُبَيّ يصلي بهم عشرين ليلة ثم يقف في بيته ويتمم بهم تميم الداري(2)
__________
(1) أخرجه الستة إلاَّ الترمذي عن عائشة، وهو في رواية أخرى عن زيد بن ثابت، وفيها: ثم جاءوا إليه فحضروا وأبطأ رسول الله عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله مغضباً فقال لهم: ((ما زال بكم صنعكم حتى ظننت أن سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلاَّ الصلاة المكتوبة))، وفي حديث عفان: ((ولو كتب عليكم ما قمتم به))، وفيه: ((فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلاَّ المكتوبة)) هذه رواية البخاري ومسلم، ولأبي داود والنسائي نحو ذلك، وفي معناه غيره، اهـ (جواهر) 2/35.
(2) في سير أعلام النبلاء 2/442-448: صاحب رسول الله ، أبو رقية تميم بن أوس بن خارجة بن سود بن جذيمة اللخمي الفلسطيني، والدار: بطن من لخم، ولخم فخذ من يعرب بن قحطان، وفد تميم الداري سنة تسع، فحدث عنه النبي على المنبر بقصة الجساسة في أمر الدجال، ولتميم عدة أحاديث، وكان عابداً تلاءً لكتاب الله، حدث عنه ابن عباس وابن وهب عبد الله،و أنس بن مالك، وكثير بن مرة، وعطاء بن يزيد الليثي، وزرارة بن أوفى وشهر بن حوشب وآخرون.
قال ابن سعد: لم يزل بالمدينة حتى تحول بعد قتل عثمان إلى الشام.
…وقال في الثقات 3/39-40: إنه سكن الشام وبها مات،و قبره ببيت جبرين في بلاد فلسطين، ولم يذكر تأريخ الوفاة.
وفي تهذيب الأسماء 1/145-146: تميم الداري الصحابي رضي الله عنه، هو تميم بن أوس بن خارجة بن سويد بن خزيمة... إلى أن قال: روي له عن رسول الله ثمانية عشر حديثاً، روى مسلم منها حديث الدين النصيحة، وفي صحيح مسلم أن رسول الله روى عن تميم قصة الجساسة، وهذه منقبة شريفة له لا يشاركه فيها غيره، ويدخل في الأكابر عن الأصاغر، وروى عنه جماعة من الصحابة، منهم ابن عباس وأنس وأبو هريرة رضي الله عنهم، وجماعات من التابعين، وكان بالمدينة، ثم انتقل إلى بيت المقدس بعد قتل عثمان رضي الله عنه، وكان كثير التهجد، قام ليلة حتى أصبح بآية من القرآن ويسجد ويبكي وهي: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21].
وفي تهذيب التهذيب 1/449: قيل وجد على قبره أنه مات سنة 40هـ.
باقي الشهر.
والمختار: جوازها في جماعة. ويدل على ذلك حجج:
الحجة الأولى: ما روى أبو هريرة عن الرسول : أنه خرج علينا فإذا ناس يصلون في ناحية المسجد فقال: ((من هؤلاء))؟ فقيل: هؤلاء ناس ليس معهم قرآن وأُبَيّ بن كعب يصلي بهم وهم يصلون بصلاته. فقال الرسول : ((أصابوا ونعم ما صنعوا ))(1).
الحجة الثانية: ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه صلى بالناس في شهر رمضان فكان يسلم بهم من كل ركعتين يقرأ في كل ركعة بخمس آيات من القرآن، وما هذا حاله فلا يفعله إلا عن توقيف من جهة الرسول لأن الباب باب عبادة فلا مجرى للإجتهاد فيه، وروي أن علياً رأى القناديل في المساجد فقال: رحم الله عمر نوَّر مساجدنا نوَّر الله قبره. فصوب ما فعله عمر، وفي هذا دلالة على جوازها.
الحجة الثالثة: ما روي أن عمر بن الخطاب خرج ذات ليلة فرأى الناس يصلون جماعة واحدة فقال: إنها بدعة ونعمت البدعة. ومثل هذا لا يقوله الصحابي إلا عن تَلَقٍّ من جهة الرسول .(2)
__________
(1) أخرجه أبو داود وضعفه كما جاء في (الجواهر)، وهو في صحيحي ابن خزيمة 3/339، وابن حبان 6/282، وفي السنن الكبرى للبيهقي 2/495.
(2) يمكن أن يقال بأن صلاة التراويح جماعة لو كانت متلقاة من جهة الرسول لما كانت بدعة كما وصفها عمر. ثم إن الرسول كما في الحديث المشهور، تأخر عن الخروج في الليلة الثالثة أو الرابعة فلما أصبح قال: ((رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم)) وظل الحال على هذا حتى لحق الرسول بربه، ولكن الذي يمكن أن يقال هنا تأويلاً لما فعله عمر، هو أن العلة، وهي خشية أن تفرض عليهم قد زالت بموت الرسول ، وأن عمر قد رأى أن تفرق الناس يمنع البعض من أداء هذه النوافل، فرأى أن يجمعهم على شخص واحد هو أبي، وهذا التأويل أوردناه تجوزاً، وفيه نظر؛ لأن أئمة وفقهاء المذهب يرون أن التراويح جماعة بدعة غير حسنة إذا جاز أن في المفهوم الشرعي بدعة حسنة.
وفي (نيل الأوطار) 3/52 قال العلامة الشوكاني: قوله: فقال عمر: نعمت البدعة، قال في الفتح: البدعة أصلها ما أُحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع على مقابلة السنة فتكون مذمومة، والتحقيق: أنها إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة. اهـ.
وقال في نهاية المبحث: والحاصل أن الذي دلت عليه أحاديث الباب وما يشابهها، هو مشروعية القيام في رمضان والصلاة فيه جماعة وفرادى، فقصر الصلاة المسماة بالتراويح على عدد معين وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم ترد به سنة.
.
والبدعة لها وجهان:
أحدهما: أن تكون قبيحة مكروهة، وهي التي تضاد السُّنَّة وتخالفها وتمحوها، فما هذا حاله من البدع مكروه وهذا هو المراد بقوله: ((كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )).
وثانيهما: أن تكون حسنة وهو أن تكون مبتدعة غير مضادة لسُنَّةٍ، وهذا مثل ما أشار إليه عمر في صلاة التراويح بقوله: إنها بدعة ونعمت البدعة. فالمراد به ما ذكرناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((صلاة النوافل في رمضان جماعة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)).
قلنا: قد أوردنا من الأحاديث ما يدل على جوازها وحسنها وكونها سُنَّة فإذا ورد من الأخبار ما يخالف ما ذكرناه وجب تأويله حذراً من تناقض الأدلة وتدافعها فإن الرسول صوَّبهم فيما فعلوه من صلاتها وفي هذا دلالة على حسنها وكونها سُنَّة.
ثم نقول: لم منعتم من صلاة التراويح؟ هل كان المنع من أجل أنها ليست سُنَّة؟ فقد دللنا على فعل الرسول لها وفعل أمير المؤمنين كرم الله وجهه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم وفي هذا دلالة على كونها سُنَّة.
وإن كان المنع من جهة أنها لا تصلى جماعة فلا وجه لذلك لأمرين:
أما أولاً: فلأنا قد رأينا من السُّنن ما يصلى جماعة كصلاة العيدين على رأي من يرى أنها سنة وصلاة الكسوفين وصلاة الاستسقاء فإن هذه كلها سنن وقد شرعت فيها الجماعة، بل لا تقام لها صورة إلا بالإجتماع فهكذا صلاة التراويح هي سنة من السنن والجماعة فيها مشروعة، فإذن لا وجه لإنكارها وهذا الذي اخترناه من كونها سنة في ليالي رمضان محكي عن زيد بن علي وعبدالله بن الحسن وعبدالله بن موسى بن جعفر.
الضرب الثاني: ما يتكرر بتكرر أيام الإسبوع ونذكر في ذلك صوراً ثلاثاً:
الصورة الأولى: صلاة الضحى. وهل تكون سنة أو بدعة؟ فيها مذهبان:
المذهب الأول: أنها سنة، وهذا هو رأي علي بن الحسين زين العابدين والباقر وإدريس بن عبدالله (1)،
وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
__________
(1) إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، مؤسس دولة الأدارسة في المغرب، وإليه نسبتها، أول ما عرف عنه أنه كان مع الحسين بن علي بن الحسن المثلث في المدينة أيام ثورته على الهادي العباسي سنة 169، ثم قتل الحسين فانهزم إدريس إلى مصر فالمغرب الأقصى سنة 142، ونزل بمدينة وريري (على مقربة من مكناس وهي اليوم مدينة قصر فرعون) وكان كبيرها يومئذ إسحاق بن محمد فعرفه إدريس بنفسه فأجاره وأكرمه، ثم جمع البربر على القيام بدعوته وخلع طاعة بني العباس فتم له الأمر (يوم الجمعة 4 رمضان 142) فجمع جيشاً كثيفاً وخرج به غازياً فبلغ بلاد تادله (قرب فاس) ففتح معاقلها وعاد إلى وريري، ثم غزا تلمسان فبايع له صاحبها، وعظم أمر إدريس فاستمر إلى أن توفي مسموماً في وريري، وهو أول من دخل المغرب من الطالبيين، ومن نسله الباقين إلى الآن في المغرب: شرفا العَلَم (العَلَميون) والشرفاء الوزانيون والريسيون والشبيهيون، والطاهريون الجوطيون، والعمرانيون والتونسيون (أهل دار القيطون) والطالبيون والغالبيون والدباغيون والكتانيون والشفشاويون والودغيريون والدرقاويون والزكاريون، انتهى بلفظه من (الأعلام) 1/279، وقد توفي إدريس بحسب المصدر في 147هـ، ولم يذكر تأريخ ولادته.
والحجة على هذا: ما روت أمّ هاني بنت أبي طالب(1)
أن الرسول صلاها يوم فتح مكة. وليست من السنن الراتبة. وأكثرها ثماني ركعات وأقلها ركعتان، ووقتها عند إشراق الضحى بعد ارتفاع الشمس قيد رمح أو عند بياضها وزوال الصفرة. ورواية أم هاني أنه صلاها ثماني ركعات، ورواية أبي ذر أنه صلاها ركعتين، قال أبو ذر، رواه عن رسول اللّه أنه قال:((يصبح على سلامى أحدكم صدقة وتجزي من ذلك ركعتان من الضحى)).
قال أبو عبيد: والسلامى: قصب اليدين والرجلين.
المذهب الثاني: أنها بدعة، وهذا هو رأي الهادي والقاسم، واختاره السيد أبو طالب.
والحجة على هذا: ما رويناه من حديث جعفر، أن الرسول قال: ((صلاة الضحى بدعة )).
والمختار: أنها سنة لمن أراد فعلها كما ذهب إليه من ذكرناه من أئمة العترة والفقهاء.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أنه لا خلاف في جواز الصلاة في هذا الوقت وهي من جملة التطوعات.
ومن وجه آخر: وهو أن من وقت طلوع الشمس إلى الزوال وقت ممتد فيستحب أن تكون فيه صلاة مسنونة لئلا تبعد مجاذبة القلوب بذكر الله تعالى.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روى جعفر عن الرسول : أنها بدعة.
__________
(1) أم هانئ بنت أبي طالب الهاشمية، واسمها فاختة، وقيل: هند، روت عن النبي، وعنها مولاها أبو مرة وأبو صالح باذام وابن ابنها جعدة المخزومي، وابن ابنها يحيى بن جعفر وابن ابنها أيضاً هارون وعبد الله بن عياش، وعبد الله بن الحارث بن نوفل وابنه عبد الله، والشعبي وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعطاء وكريب ومجاهد، وعروة بن الزبير ومحمد بن عقبة بن أبي مالك، وهي شقيقة علي وإخوته، وكانت تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي فولدت له عمراً، وبه كان يكنى، وهانئاً ويوسف وجعده، ذكره الزبير بن بكار وغيره، وعاشت بعد علي مدة.
قلت: حكى هذا الترمذي وغيره، وقد خطبها الرسول ، تهذيب التهذيب 12/507.
قلنا: تحمل بدعتها على أنه صلاَّها في غير وقت الصلاة من أوقاتها المكروهة مثل طلوع الشمس، أو يكون محمولاً على أنها أُبتدعت مخالفة للصلوات المكتوبة لا على معنى أنها مكروهة.
الصورة الثانية: ما يتكرر بتكرر أيام الأسبوع. وهذا نحو الصلوات المأثورة عن الرسول في أيام الأسبوع ولياليه، فإن الكتب الزهدية مملوءة من الصلوات المأثورة في الأيام والليالي، وهي منقولة على ألسِنة الرواة مدونة في كتب الزهد والوعظ كل يوم وليلة فيهما صلاة مخصوصة.
الصورة الثالثة: التهجد: وهو صلاة في آخر الليل وهو مفروض على الرسول وقد كان مفروضاً علينا ثم نسخ بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }[المزمل:20] بعد قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ}[المزمل:20]. فهذه الصور الثلاث كلها متكررة بتكرر أيام الإسبوع في أيامه ولياليه.
الضرب الثالث: ما يتكرر بحسب أسباب عارضة. وهذا نحو صلاة ركعتين بعد الوضوء، ونحو صلاة ركعتين على جهة الإستخارة، ونحو صلاة ركعتين لأجل قضاء الحاجة إلى غير ذلك من الصلوات التي تسن لأجل أمور عارضة.
---
القسم الرابع: في النوافل المبتدأة اللتي ليست تابعة للفرائض
ولا تسن فيها الجماعة ولا تكون مفعولة لأمور عارضة. وفيه ضربان:
الضرب الأول: صلوات خاصة ورد فيها الفضل من جهة الرسول ، ونذكرها في صور خمس:
الصورة الأولى: صلاة التسبيح، وهي صلاة فاضلة متفق عليها بين أهل النقل وهو ما بلغنا سماعاً من طريق أبي داود في سننه، أن الرسول عَلَّمَ عمه العباس هذه الصلاة وأوصاه أن يفعلها.
وصفتها: أن تصلي أربع ركعات بتسليمتين تقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وسورة من المفصل ثم تقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً [ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً] ثم تقوم فتقرأ فاتحة الكتاب وسورة أخرى ثم تقولها خمس عشرة مرة،ثم تفعل ذلك في الثلاث الركعات كما فعلت في الركعة الأولى فتكون في جميعها ثلاثمائة تسبيحة في كل ركعة خمس وسبعون مرة(1).
__________
(1) وصلاة التسبيح رواها ابن عباس وأبو رافع عن النبي أنه قال للعباس بن عبد المطلب: ((يا عباس يا عماه ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أجيزك، ألا أفعل لك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته، عشر خصال: أن تصلي أربع ركعات ... الحديث)) إلى أن قال: ((فذلك خمس وسبعون في كل ركعة تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تستطع ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)) أخرجه أبو داود عن ابن عباس، وأخرج الترمذي عن أبي رافع قريباً منه، اهـ. أورده ابن بهران في تخريج البحر 2/38.
الصورة الثانية: صلاة السحر. روى زيد بن علي عن الرسول أنه قال: ((من صلى من الليل ثماني ركعات فتح الله له ثمانية أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء)) (1).
وعن الرسول أنه قال: ((من صلى ثماني ركعات من الليل والوتر يداوم عليهن. حتى يلقى الله بهن فتح الله له إثني عشر باباً من الجنة يدخل من أيها شاء)) (2).
وروى زيد بن علي عن الرسول أنه قال: ((ركعتان في ثلث الليل الأخير خير من الدنيا وما فيها.))(3).
الصورة الثالثة: ما روى ابن عمر عن الرسول أنه قال: ((من صلى قبل الظهر أربع ركعات لم تمسه النار))(4).
وروى زيد بن علي عن الرسول أنه قال: ((صلاة الأوَّابين ثمان ركعات بعد الزوال قبل صلاة المكتوبة))(5).
الصورة الرابعة: ما روى السيد المؤيد بالله عن علي يرفعه إلى الرسول أنه قال: ((من صلى ركعتين يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وخاتمة سورة {الفرقان} أولها: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً}[الفرقان:61] إلى أخرها، ويقرأ في الثانية صدر سورة {المؤمنون} إلى قوله: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:14]. يقول في ركوعه: سبحان الله العظيم وبحمده ثلاث مرات. ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات أعطاه الله عشرين خصلة)).
__________
(1) قال في (الاعتصام): وقال الهادي : صلاة الليل ثماني ركعات، قال: وكذلك صح لنا عن رسول الله .
(2) جاء بلفظه في (الاعتصام) عن أمالي أبي طالب بسنده عن أبي خالد عن أبي هاشم عن زاذان عن سلمان رضي الله عنه. قال: وهو في (الجامع الكافي) ورواه المؤيد بالله في شرح التجريد. اهـ. 2/99.
(3) وهو في (الاعتصام) بلفظه عن مجموع زيد بن علي بسنده عن علي .
(4) رواه النسائي 3/265، وأحمد 6/426، والطبراني في (الأوسط)7/278.
(5) وفي (بلوغ المرام) عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)) رواه الترمذي.
الصورة الخامسة: صلاة الخمسين. وقد أنكرها القاسم على من أوجبها واستحسنها إذا لم تكن واجبة.
وروى زيد بن علي قال: كان أبي لا يفرط في صلاة الخمسين، وقد فسَّرها زيد بن علي فقال: سبع عشرة الفرائض وثماني قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وأربع بعد المغرب وثماني صلاة السحر والوتر ثلاث، وركعتان قبل الفجر.
الضرب الثاني: ما لم يرد به الشرع على جهة الخصوص، فكل وقت ليس منهياً عن الصلاة فيه فهو وقت لها خلا أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}[السجدة:15].. الآية. وهذا إنما يكون في صلاة الليل لأن تجافي الجنوب عن المضاجع إنما يكون عن النوم بالليل، ثم قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}[السجدة:14]. وفي هذا دلالة على أن من يقوم بالليل ثوابه غير منحصر.
وروي عن الرسول أنه قال: ((من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار))(1).
وروي عن الرسول أنه قال: ((من أطال قيام الليل خفف الله عنه يوم القيامة)).
وروى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((رحم الله امرأً أيقظ زوجته فإن أبت نضح وجهها بالماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها فإن أبى نضحت وجهه بالماء)) (2).
وروي عن الرسول أنه قال: ((أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))(3).
__________
(1) رواه في (مصباح الزجاجة) 1/157، وفي سنن ابن ماجة 1/422، وهو في مسند الشهاب 1/252.
(2) أورده في (نيل الأوطار) بلفظ: وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها بالماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) اهـ. 3/143.
(3) أخرجه مسلم 2/821، وابن حبان 8/398، وهو في سنن الترمذي 2/301، و البيهقي في (الكبرى) 1/414، والنسائي 3/206.
فرع: ومن اختار تجزئة الليل جزءين فالأفضل هو النصف الأخير لقوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[آل عمران:14]. وقوله تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:18].ومن جهة أن آخر الليل ينقطع فيه الذكر وقد قال : ((ذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراءبين أشجار يابسة)) (1).
وإن اختار أن يجزئ الليل أثلاثاً فالأفضل هو الجزء الأوسط لما روى عبدالله بن عمرو عن الرسول أنه قال: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة أخي داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه))(2).
لأن الذاكرين في هذا الوقت أقل فلهذا كانت الصلاة فيه أفضل.
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1/449.
(2) رواه البخاري ومسلم بلفظ: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً)). اهـ تخريج البحر 2/39، وهو في صحيح ابن خزيمة 2/181، وابن حبان 6/325، وفي السنن الكبرى 3/3، وأبي داود 2/327، وابن ماجة 1/546، ومسند أحمد 2/160، وغيرها.
ويكره قيام الليل كله لأنه يورث السآمة والملالة وقد قال : ((عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا)) (1). ولما روى عبدالله بن عمرو أن النبي قال له: ((أتصوم النهار))؟ قلت: نعم. قال: ((وتقوم الليل))؟ قلت: نعم. فقال: ((لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمسُّ النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (2).
وأفضل النوافل في البيت؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)) (3).
قد قال: ((أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة))(4).
__________
(1) أخرجه البخاري 2/695، ومسلم 1/540، وهو في صحيحي ابن خزيمة 3/61، وابن حبان 2/67، وسنن أبي داود 2/48، ومسند أحمد 6/267.
(2) رواه أحمد في مسنده من حديث طويل عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ثم زوجني أبي امرأة من قريش فلما دخلت علي جعلت لا أنحاش إليها مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته حتى دخل عليها، فقال لها: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير الرجال أو كخير البعولة من رجل لم يفتش لنا كنفاً ولم يعرف لنا فراشاً، فأقبل عليَّ فعذمني وعضني بلسانه، فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها وفعلت وفعلت، ثم انطلق إلى النبي فشكاني، فأرسل إلي النبي فأتيته، فقال لي: ((أتصوم النهار))؟ قلت: نعم، قال: ((وتقوم الليل))؟ قلت: نعم، قال: ((لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) اهـ بلفظه 2/158.
(3) أخرجه مسلم 1/538 وهو في صحيح ابن خزيمة 2/212، وسنن الترمذي 2/313، وفي فتح الباري 3/62، والتمهيد لابن عبد البر 5/229.
(4) رواه ابن خزيمة 2/211، وابن حبان 6/270 في صحيحيهما، وهو في سنن الترمذي 2/312.
فرع: والأفضل في النوافل أن تكون مثنى مثنى في صلاة الليل والنهار سواء، عند أئمة العترة القاسم والناصر، وهو محكي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل، وحكي عن أبي حنيفة، أنه قال: يجوز أن تصلى نوافل النهار مثنى مثنى وأربعاً أربعاً فإن زاد على ذلك بطلت صلاته والأربع أفضل.
وأما نوافل الليل فتجوز مثنى مثنى وأربعاً أربعاً وستاً وثماني ولا تجوز الزيادة على ذلك، والأربع أفضل.
والحجة على كونها مثنى في الليل والنهار: ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه عن الرسول أنه قال: ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى))(1). وهذا نص فيما ذهبنا إليه.
وحكي عن الشافعي، أنه قال: يجوز للمصلي أن يصلي النوافل أي عدد شاء سواء علم عدد ما صلى أو لم يعلم فإن أراد أن يسلم تشهد وسلم. وعن الشيخ أبي حامد الغزالي، أنه قال: التطوعات التي لا سبب لها ولا حصر فإن أحرم بركعة جاز له أن يزيد عليها مائة ركعة، وإن أحرم بمائة ركعة جاز أن يقصرها إلى ركعة واحده، وله أن يتشهد بين كل ركعتين وفي آخر كل ركعة من الصلاة، هذا كله من طريق الجواز عندهم. والأفضل عندنا ما ذكرناه من كونها مثنى مثنى ليلاً ونهاراً لما ورد في الأحاديث.
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة 2/214، وابن حبان 6/206 في صحيحيهما، والترمذي 2/294، والدارقطني 1/414، وأبو داود 2/29، وابن ماجة 1/419، وفي شرح بلوغ المرام للبسام، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى)) متفق عليه، وللخمسة وصححه ابن حبان بلفظ: ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)) وقال النسائي: هذا خطأ، قال البسام: الحديث صحيح بدون ذكر النهار.
فرع: ويستحب لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين لما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس))(1).
وفي حديث آخر: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يقعدن حتى يصلي ركعتين)) (2).
وفي حديث آخر: ((لكل شيء تحية وتحية المسجد ركعتان)) (3).
فإذا دخل وقد أقيمت الصلاة أو أقيمت بعد دخوله قبل أن يصلي لم يصل التحية لقوله : ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة))(4).
__________
(1) أخرجه البخاري 1/140، ومسلم 1/495 بلفظه، وابن حبان 6/245، والترمذي 2/129 بلفظ: ((إذا جاء أحدكم المسجد...)) وأورده في تخريج الأزهار 2/40 عن أبي قتادة، وقال: أخرجه الستة.
(2) أخرجه البخاري 1/391، ومسلم 1/495 بلفظ: ((فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)) وهو في صحيح ابن خزيمة 2/283، وصحيح ابن حبان 6/242، وفي (الكبرى) للبيهقي 1/188، وفي سنن ابن ماجة 1/323.
(3) أورد المنصور بالله في الاعتصام 2/114 عن أمالي المرشد بالله بسنده عن أبي ذر في حديث طويل قال: دخلت على رسول الله وهو في المسجد جالس فاغتنمت خلوته، فقال : ((يا أبا ذر للمسجد تحية)) قلت: وما تحيته يا رسول الله؟ قال: ((ركعتين [ركعتان] تركعهما)) ثم التفت فقلت: يا رسول الله إنك أمرتني بالصلاة، فما الصلاة؟ قال: ((خير موضوع فمن شاء أقل ومن شاء استكثر)) ونقل في رواية أخرى من تحفة المحتاج بلفظ: ((يا أبا ذر إن للمسجد تحية ركعتان فقم فاركعهما)) قال: رواه ابن حبان في صحيحه.
(4) أخرجه البخاري 1/235 ومسلم 1/493، والترمذي 2/282، وأبو داود 2/22، والنسائي 2/116، وابن ماجة 1/364، وأحمد 2/352، وهو في مصنفي ابن أبي شيبة 1/421، وعبد الرزاق 2/436.
والصلاة المكتوبة تقوم مقام التحية لما روي أن الرسول كان يصلي ركعتي الفجر في بيته ثم يأتيه بلال يؤذنه بالصلاة فيخرج لأداء المكتوبة فيصليها، ولم يعلم أنه صلى التحية، وفي هذا دلالة على أنها قائمة مقامها ولأن المقصود أنه يدخل المسجد مصلياً، وهذا حاصل بأداء المكتوبة.
وقد نجز غرضنا من الكلام في التطوعات وبتمامه تم الكلام على الأبواب العشرة المرسومة للصلاة ونشرع في إتمامها على رسم الكتب ونفصل أسرارها ونشرح مسائلها بمعونة الله تعالى.
---
كتاب صلاة السفر
والحجة عليه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ. إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}[النساء:101].
وأما السنة: فقد روي عن الرسول أنه كان يقصر في أسفاره حاجاً وغازياً ومعتمراً، وروى يعلى بن مُنْيَة(1)
أنه سأل عمر بن الخطاب فقال له: قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}[النساء:101]. وقد أمن الناس؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت فسألت رسول اللّه فقال: ((صدقة تصدق الله بها على عباده فاقبلوا صدقته))(2)
__________
(1) يعلى بن أمية بن أبي عبيدة، واسمه: عبيد، ويقال: زيد بن همام بن الحارث ... إلى أن وصله بزيد مناة بن تميم، أبو خلف، ويقال: أبو خالد، ويقال: أبو صفوان، المكي، حليف قريش، وهو يعلى بن منية وهي أمه ويقال: جدته، روى عن النبي وعن عمر وعنبسة بن أبي سفيان، وعنه أولاده وموسى بن باذان وعطا ومجاهد وغيرهم.
قال ابن سعد: شهد الطائف وحنيناً وتبوك مع النبي ، وقال أبو أحمد الحاكم: كان عامل عمر بن الخطاب على نجران، وقال الدارقطني: منية- بضم الميم وسكون النون بعدها تحتانية مفتوحة- بنت الحارث بن جابر، أم العوام بن خويلد والد الزبير.
وقال زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار: كان أول من أرخ الكتب يعلي بن أمية وهو باليمن.
وقال ابن عساكر: ذكره أبو حسان الزيادي في من قتل بصفين، قال الحافظ: وهذا لا أراه محفوظاً، استعمله عثمان على الجند فلما بلغه قتل عثمان اقبل لينصره فصحب الزبير وعائشة، ويقال: هو حمل عائشة على الجمل الذي كان تحته في وقعة الجمل. اهـ (تهذيب التهذيب) 11/350.
(2) أخرجه البيهقي في (الكبرى) 3/141، وأخرجه الستة إلاَّ البخاري والموطأ.
قال ابن بهران: وعن حارثة بن وهب قال: صلى بنا رسول الله ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه بمنى ركعتين، هذه رواية البخاري ومسلم والترمذي، ولأبي داود والنسائي نحوه. اهـ. 2/41 تخريج البحر.
فثبت جواز القصر في الخوف في السفر بالكتاب، وثبت جواز القصر في الأمن في السفر بالسنة.
وأما الإجماع فهو منعقد من جهة الأمة على جواز قصر الصلاة في السفر.
هذا تمهيد الكتاب فإذا عرفت هذا فلنذكر حكم السفر وحَدِّه، وحكم الاستيطان . فهذه فصول ثلاثة:
---
الفصل الأول في بيان حكم السفر وما يتعلق به
إعلم أن القصر إنما يجوز في الصلوات الرباعية كالظهر والعصر والعشاء، فأما المغرب والفجر فلا يجوز القصر فيهما، والإجماع منعقد على ذلك من جهة الأمة، لما روت عائشة عن رسول اللّه أنه قال: ((فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب ))(1).
وكان إذا سافر عاود الأصل، ويجوز قصر الصلاة في السفر في البحر كما يجوز في السفر في البر.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الأسفار على أربعة أضرب: واجب، ومحظور، ومباح، وطاعة.
فالضرب الأول: الواجب، وهو ما كان في سفر الحج والعمرة الواجبتين، وما كان للجهاد في سبيل الله إذا تعين عليه، وهكذا حال الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ونحو المهاجرة من دار الفسق إلى دار الإسلام، إذا حمل على فعل قبيح أو إخلالٍ بواجب، أو أوجب عليهم الإمام الهجرة فإنها تجب الهجرة بأمره، فالقصر متوجه في هذه الأسفار إما رخصة أو عزيمة كما سنوضحه.
الضرب الثاني[المحظور، وهو]: سفر المعصية. وهذا نحو أن يسافر لقطع الطريق أو لقتل نفس بغير حق أو لحرب الإمام أو لشرب المسكر وإتيان الفاحشة في بلد آخر، فما هذا حاله هل يجوز فيه القصر أم لا؟ فيه تردد وخلاف بين العلماء نذكره.
الضرب الثالث: سفر الطاعة. وهذا نحو أن يسافر لزيارة الوالدين أو لزيارة الأئمة والعلماء والصالحين ونحو السفر بحجج التطوع أو غير ذلك من القرب والطاعات.
__________
(1) أورده في (مجمنع الزوائد) 2/154، و(الكبرى) للبيهقي 3/145،و أخرجه الستة إلاَّ الترمذي، واللفظ للصحيحين بلفظ: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.
المحقق: والخبر هذا موقوف على عائشة كما هو واضح من لفظه.
وفي (بلوغ المرام) بزيادة: ثم هاجر ففرضت أربعاً وأقرت صلاة السفر على الأول، وزاد أحمد: إلاَّ المغرب فإنها وتر النهار، وإلاَّ الصبح فإنها تطول فيها القراءة. اهـ.
الضرب الرابع: السفر المباح. وهذا نحو أن يسافر لطلب الأرباح في أنواع التجارات. فهذان الضربان، أعني: سفر الطاعة، وسفر الإباحة، هل يجوز القصر فيهما أم لا؟ فيه تردد وخلاف بين العلماء.
والأحكام المتعلقة بالسفر ثلاثة: القصر للصلاة الرباعية، والإفطار في شهر رمضان، والجمع بين الصلاتين في أول وقت الأولى.
الفرع الثاني: السفر في الأمور الواجبة كالحج والعمرة الواجبين، والجهاد والهجرة إلى غير ذلك من الأمور المفروضة، هل يكون [القصر] رخصة أو عزيمة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه عزيمة لا يجوز الإخلال به، وهذا هو رأي القاسمية من أئمة العترة، ومحكي عن زيد بن علي والباقر وأحمد بن عيسى، وهو رأي السيدين الأخوين أبي طالب، والمؤيد بالله، وهو قول أكثر العلماء، ومروي عن الإمامية.
والحجة على هذا: ما روى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ركعتين، ومثل هذا يجب أن يكون مسنداً إلى رسول اللّه لأن مثل هذا لا مجال للإجتهاد فيه ولا يصدر إلا عن توقيف من جهة الرسول.
الحجة الثانية: ما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: فرض الله على لسان نبيكم الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين(1).
الحجة الثالثة: ما روى عمر رضي الله عنه أنه قال: الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان إتمام غير قصر على لسان نبيكم. فهذه الأخبار كلها دالة بصريحها على كون القصر حتماً لازماً.
المذهب الثاني: أن فرض المقيم والمسافر سواء في كونه أربعاً لكن الشرع أسقط عن المسافر النصف رخصة وتخفيفاً عند إستكمال الشرائط كما سنوضحها، وهذا هو رأي الناصر، ومحكي عن الشافعي.
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/157، والبيهقي في (الكبرى) 1/186،و أحمد في مسنده 1/254.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}[النساء:101].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن هذه اللفظة، وهي رفع الجناح إنما تستعمل فيما هو مباح لا على جهة الفريضة فيما هو واجب وحتم كما في قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ }[البقرة:234] وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}[النور:60].
وقوله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاء}[البقرة:236] وقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ }[البقرة:229] وقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً }[النساء:128]. وفي هذا دلالة على أن القصر رخصة لنص الآية على رفع الجناح فيه.
الحجة الثانية: ما روي عن عائشة: أنها أتمت في السفر فسألها رسول اللّه عنه فقال: ((أتممت ما قصرت وصمت ما أفطرت ))(1). فصوَّبها على فعلها. وقال لها: ((أحسنت)). فوجه الدلالة من الخبر هو أنه لو كان القصر عزيمة وحتماً لأنكر عليها الإتمام فلما صوَّبها دل على كونه رخصة.
والمختار: هو القول بكون القصر رخصة كما رواه الناصر والشافعي.
وحجتهما: ما ذكرناه.
__________
(1) في صيغة الحديث نظر، لأنه لم يستقم بها كما جاء في الأصل، ولعل الصواب ما أخرجه النسائي عن عائشة أنها قالت: اعتمرت مع رسول الله من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قصرت وأتممت وأفطرت وصمت، فقال: ((أحسنت يا عائشة)) وما عاب علي، اهـ من جواهر الأخبار، تخريج أحاديث البحر 2/42.
ونزيد هاهنا وهو أن فرض الصلاة كان بمكة في ليلة المعراج فإنها فرضت في الأصل خمسين صلاة على الرسول يوم عُرِجَ به فما زال موسى يرده ويقول: إن أمتك لا تطيق على هذا. حتى بقي خمسٌ من الخمسين في اليوم والليلة.
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن الفرض كان أربعاً أربعاً في أول الأمر واستقر ذلك ثم خفف عن المسافرين بأن نقص من الفرض نصفه رحمة للمسافر ورفقاً به، ورخصة في حقه.
الحجة الثانية: حديث المواقيت وهو ما روى جابر وابن عباس عن الرسول أنه قال: ((صلى بي جبريل عند باب البيت الظهر أربعاً حين زالت الشمس، والعصر أربعاً حين صار ظل كل شيء مثله)).
فوجه الدلالة: أن الأصل في الصلاة المفروضة إنما هو الأربع لكن خفف الله في حق المسافر بأن قصر في حقه الصلاة.
الحجة الثالثة: ما روي عن الرسول : أنه كان في بعض أسفاره يصلي أربعاً وتارة يصلي ركعتين وفي هذا دلالة على أن القصر ليس حتماً وإنما هو رخصة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن عائشة: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فهذا مذهب لعائشة، فلا يلزمنا قبول مذهبها.
وأما ثانياً: فلأن فرض الصلاة كان قبل مولدها، فإن فرض الصلاة كان في مكة ولم يكن مسافراً، وفي هذا دلالة على أن أول الفرض كان أربعاً، فحديث عائشة لا يعارض ما ذكرناه من الخبر المشهور(1)
في فرض الصلاة أربعاً.
قالوا: روي عن ابن عباس أنه قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين. فدل ذلك على كونه فرضاً وحتماً.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا نقول بموجبه، فإنه لا يجوز للمسافر ترك ركعتين إذا اختار أن يصليهما وهما فرضه.
__________
(1) المروي عن جابر وابن عباس والذي ذكره المؤلف قبل هذا في الحجة الثانية.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما ذكرناه من الأخبار التي رويناها، والعمل على ما روينا من الأخبار أرجح لأن مذهبنا دل عليه القرآن وهو مقطوع به بخلاف سائر الأخبار فإنه ليس مقطوعاً بأصلها، فلا جرم كان ما قلناه راجحاً.
قالوا: روي القصر في السفر عن علي وابن عباس وابن مسعود، وظاهره دال على كونه حتماً وعزيمة.
قلنا: كما روي القصر عن هؤلاء في السفر، فقد روي الإتمام عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وعائشة، على أن المسألة اجتهادية فلا يلزمنا قبول اجتهادهم.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((إن الله وضع على المسافر شطر الصلاة )). أو قال: ((نصف الصلاة، ووضع الصوم))(1).
وفي هذا دلالة على أن الواجب ركعتان.
قلنا: فهذا يدل على ما نقوله من أن المسافر إن شاء أتى بركعتين، وإن شاء أتى بأربع ركعات كما أنه إن شاء أفطر، وإن شاء صام، وهذه هي حقيقة الرخصة ومعناها.
قالوا: إن الرسول صلى بمكة وسلم على ركعتين ثم قال: ((يا أهل مكة قوموا فأتموا فإنا قوم سفر ))(2).
وفي هذا دلالة على أن فرض المسافر ركعتان.
قلنا: إن في هذا دلالة على جواز القصر للمسافر لا أنه فرض حتم ونحن نقول به، ولهذا اختص الإسقاط للمسافرين دون المقيمين.
قالوا: إن فرض المسافر ركعتان فلا تجوز الزيادة عليهما كما لا تجوز الزيادة على الفجر والجمعة.
قلنا: أما صلاة الفجر فهي ركعتان للمقيم والمسافر فلا وجه للزيادة عليها لأنها حتم عليهما فلا تدخلها رخصة القصر.
__________
(1) أورده البيهقي في (الكبرى) 3/154، والنسائي 4/180، والطبراني في (الأوسط) 7/14، وفي (الكبير) 1/263.
(2) أخرجه البيهقي في (الكبرى) 3/126، وأبو داود 2/9، والموطأ 1/149، وعبد الرزاق في المصنف 2/540.
وأما صلاة الجمعة فإذا تمت شرائطها فهي ركعتان، وإن اختل شرط من شروطها فهي أربع فالركعتان عزيمتان والأربع عزائم أيضاً فلا تدخلها رخصة، وإنما هي بدل ومبدل كما مضى تقريره بخلاف صلاة السفر فليس بدلاً ولا مبدلاً وإنما هو موكول إلى خيرته إن شاء قَبِلَ الرخصة وإن شاء أتى بالفرض الكامل.
دقيقة: إعلم أن الرخص مشروعة من أجل التسهيل والتوسعة والترفيه على الخلق رحمة من الله تعالى ولطفاً بعباده، وهذا نحو أكل الميتة في المخمصة تداركاً لحشاشة النفس، ونحو التيمم عند إعواز الماء وعدمه، ونحو إساغة اللقمة بشرب المسكر خوفاً على النفس(1)
وغير ذلك من الرخص.
ومعنى الرخصة: هو أن يكون سبب التحريم باقياً والإباحة جارية فيه من جهة الشرع كما قلناه في أكل الميتة عند الضرورة والمخمصة، فإذا قام البرهان الشرعي على كون القصر رخصة فالإتمام لا محالة يكون أفضل، ولقد خرج رسول اللّه في شهر رمضان في بعض الغزوات وليس [في أصحابه] صائم غيره ويفطرون ولا ينكر عليهم إتيان الرخصة في حق نفوسهم، وربما أفطر فسحة للخلق على جهة الندرة ولشرع الرخصة في الفطر في السفر.
وإذا كان الصوم في السفر أفضل وإتمام الصلاة في السفر أفضل فهل يكون عاماً في سائر الرخص أو يكون ترك الرخصة أفضل أم لا؟ (2)
فيه تردد سنذكره في باب الإكراه بمعونة الله تعالى.
الفرع الثالث: وهل يعتبر الخوف في رخصة القصر أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) عند حدوث الشرقة للإنسان وهو يأكل وليس لديه ماء ولا ما يحل محله لإساغة اللقمة إلا المسكر.
(2) في العبارة تناقض وغموض، والصواب وكما هو واضح من قصد المؤلف هو: وإذا كان الصوم في السفر أفضل وإتمام الصلاة في السفر أفضل فهل يكون الأفضل في ترك الرخص عاماً في سائر الرخص أو يكون الأخذ بالرخصة أفضل.
المذهب الأول: أن الخوف غير معتبر وهذا هو رأي القاسمية، ومحكي عن السيد المؤيد بالله، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وصار إليه جمهور الفقهاء.
والحجة على هذا: ما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه قال: كنا نصلي مع رسول اللّه في أسفارنا ركعتين ركعتين حتى يرجع، خائفاً كان أو آمناً، فما هذا حاله نص صريح في بطلان اشتراط الخوف في قصر الصلاة.
الحجة الثانية: ما روى عمران بن حصين أن الرسول أقام بمكة ثماني عشرة ليلة يصلي ركعتين ركعتين ويقول: ((يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين أخريين فإنا قوم سفر)). ومعلوم أن الرسول لم يكن خائفاً في مكة وصرح رسول اللّه بأن الإعتبار في القصر إنما هو بالسفر لا غير من غير خوف.
الحجة الثالثة: ما روى أنس بن مالك قال: صليت مع رسول اللّه بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين. والمعلوم من حاله أنه لم يكن خائفاً بذي الحليفة.
المذهب الثاني: أن الخوف معتبر في الترخص في قصر الصلاة، وهذا هو رأي الناصر ولا قائل به معه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا }[النساء:101]. فصارت الرخصة في قصر الصلاة لا بد فيها من اعتبار أمور ثلاثة، أن تكون مدة السفر ثلاثة أيام، وأن يكون السفر طاعة، وأن يكون خائفاً فصار كأن الله تعالى قال: قد فرضت عليكم الصلاة أربعاً ثم إني رخصت لكم في ترك ركعتين إن كنتم مسافرين خائفين.
والمختار هاهنا: تفصيل نشير إليه، وهو أن القصر ثبت بالكتاب جواز الرخصة فيه مع الخوف، وأن القصر ثبت جوازه بالسنة في السفر مع الأمن، وإذا كان الأمر كما قلناه فالرخصة متعلقة في السفر بهما جميعاً، فإن خاف ترخص بالقصر في السفر بالخوف بالكتاب، وإن أمن ترخص بالقصر مع الأمن بالسنة، فيكون ما ذكرناه جمعاً بين الأدلة الشرعية من غير تناقض، ولا يقال بأن السنة ناسخة للقرآن؛ لأن القرآن لا ينسخ بالسنة لأن أصله مقطوع به، والسنة أصلها مظنون لنقلها بالآحاد. ولا يقال: أن القرآن ناسخ للسنة لتقدم نزول الآية على الأفعال والأخبار والناسخ لا يكون متقدماً على المنسوخ وإنما يكون متأخراً عنه ليكون مزيلاً له.
والحجة على هذا: هو أن الآية دالة على اعتبار الخوف فلا حاجة إلى إهماله واطِّراحه من غير دلالة، لا يقال: لو كان شرط الخوف معتبراً في رخصة القصر لوجب العمل على مفهومه فكان يلزم إبطال القصر مع الأمن اعتماداً على مفهوم الشرط وقد دلت السنة قولاً وفعلاً على اعتباره كما قررناه، لأنا نقول: نحن لا ننكر مفهوم الشرط فإنه قوي في الاعتبار، ولكنا نقول: إنما بطل اعتباره لأجل معارضة السنة له، فلو لم تدل السنة على اعتبار الأمن لكان في مفهوم الشرط ما يدل على بطلانه.
وأما السنة فهي دالة قولاً وفعلاً على اعتبار الأمن فلهذا قلنا به عملاً على الدليلين معاً. لا يقال: أن قوله تعالى: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ}[النساء:101]. فإنما هو محمول على قصر الأفعال مع الإمام لأجل الخوف دون قصر العدد في الركعات. لأنا نقول: هذا لا وجه له فإن السابق إلى الفهم من قصر الصلاة إنما هو قصر العدد دون قصر الأفعال فلهذا وجب حمله عليه.
ومن وجه آخر: وهو أن قصر الأفعال إنما هو حالة نادرة في بعض الأوقات فلا يجوز حمل الآية على الأمور النادرة.
فأماما يحكى عن الإمام المؤيد بالله من أن قول الناصر قول قد سبقه الإجماع فوجب سقوطه لأنه غير محفوظ عن أحد من العلماء المتقدمين مع كثرة خلافهم في مسائل القصر، فعنه أجوبة أربعة:
الجواب الأول: أنا نقول: إن الآية مصرحة باعتبار الخوف في العمل على الرخصة في القصر في مدة السفر فلأي شيء أعرضت الأمة عن ظاهر الآية وما حملهم على اطراحه وإبطاله وهم محجوجون بظاهرها على اعتبار الخوف ولا يمكن حملهم على الإستهانة فهم منزهون عن ذلك، فإذن لا وجه لإعراضهم عما دلت عليه الآية من اعتبار الخوف فأي حرج على من اعتمد ظاهر الآية وعمل عليه، هذا لا مانع منه.
الجواب الثاني: أنا نقول: إنما يبطل كلام الناصر لو صرحت الأمة ببطلان العمل على الخوف في القصر في السفر، فأما إذا لم يصرحوا ببطلان اعتبار الخوف لم يكن الناصر خارقاً للإجماع إذا قال به وعول عليه.
الجواب الثالث: أن العلماء من الصدر الأول إلى يومنا هذا ما زالوا في العُصُرِ الخالية والآماد المتمادية مكبين على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة غضة طرية في كل وقت وفي كل أوان من غير نكير، وكل واحد منهم يستنبط خلاف ما يستنبطه الآخر، وإذا كان الأمر كما قلناه فأي حرج على الناصر إذا استنبط حكماً دل عليه الكتاب بظاهره فكيف يقال: في أنه في استنباطه لما استنبطه مخالف للإجماع.
الجواب الرابع: هل قال أحد بهذه المقالة قبل الناصر أم لا؟ فإن كان قد سبقه أحد من العلماء بهذه المقالة فكيف يقال: بأنه غير محفوظ عن غيره من العلماء وقد قيل به، وإن لم يقل به أحد من العلماء قبله فكيف يقال بأنه خارق للإجماع ولم يتحدثوا في المسألة ولا كان لهم فيها قول،و إنما يكون خرقاً لو قال قولاً قد صرحوا ببطلانه وفساده، فأما إذا لم يكن لهم قول في المسألة فلا وجه لكونه خارقاً لإجماعهم.
فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الناصر ليس خارقاً للإجماع بمقالته هذه، وأن الرخصة بالقصر في السفر حاصلة في الأمن والخوف كما أوضحناه.
الفرع الرابع: السفر في المعصية. نحو المسافرة لقطع الطرقات والسرقة والظلم وقتل النفس بغير حق ومحاربة الإمام ونهب المسلمين إلى غير ذلك من أنواع المعاصي، هل يجوز القصر في مثل هذه الأسفار أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن القصر جائز في مثل هذه الأسفار، وهذا هو رأي الإمامين الهادي والقاسم، ومحكي عن أبي حنيفة حتى قال أبو حنيفة: يجوز للمسافر أن يترخص بجميع الرخص حتى قال: لو خرج مع الحاج ليسرقهم ولا ينوي حجاً ولا عمرة جاز له أن يترخص. وهو محكي عن الأوزاعي والثوري والمزني من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله تعالى أباح للمسافر الإفطار ولم يفصل بين أن يكون السفر طاعة أو معصية في جواز الرخصة بالإفطار فهكذا حال القصر لأن أحداً لم يفصل بينهما.
الحجة الثانية: قوله : ((إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة )). ولم يفصل في ذلك بين أن يكون سفره في طاعة أو معصية، وفي هذا دلالة على ما قلناه.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز الترخص بالقصر في سفر المعصية. وهذا هو رأي الناصر، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}[الأنعام:145].
قال ابن عباس في تفسيرها: غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم بسيفه.
الحجة الثانية: هو أن الترخص برخص السفر في قصر الصلاة وغيره يكون إعانة على المعصية، ومثل هذا غير جائز في الحكمة.
والمختار: أن رخص السفر لا تجوز في المعصية كما قاله الناصر والشافعي.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا تقوية لما قالوه، وهو محكي عن جعفر الصادق، وحاصله: أن الرخص إنما شرعت من أجل التسهيل والتيسير على فاعلها، وهي مأخوذة من فعل الرسول أو من قوله، فأما فعله فهو حسن بكل حال لا يدخله قبيح لأنه معصوم عن الخطأ فأدنى أفعاله الحسن لا محالة، وإن كانت مأخوذة من قوله فهو لا ينطق عن الهوى ولا يأمر إلا بما له صفة زائدة على فعله من الواجب والمندوب، ولا شك أن الأمر بالرخصة في المعصية فيه إعانة على فعل القبيح وتيسير لحاله ولا يليق ذلك بمن هو معصوم عن كل خطأ.
ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه: قوله : ((من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة)) (1).
ولا شك أن كل من أعان على المعصية فقد سن سنة سيئة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا:قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }[البقرة:184] وإذا جاز الإفطار جاز القصر؛ لأن الرخصة فيهما واحدة ولم يفصل بين الطاعة والمعصية.
قلنا: ترك الاستفصال لا يدل على الإندراج وليس هناك لفظ يدل على العموم يشمل الطاعة والمعصية.
ومن وجه آخر: وهو أن ما ذكروه معارض بما أوردناه من الأدلة وهي راحجة على ما يخالفها من جهة أنها مطابقة لمقتضى الحكمة في أن الله تعالى لا يعين على معصية، وموافقة لمقتضى الأدلة الشرعية في أن صاحب الشريعة لا يأمر بالإعانة على معصية فلأجل هذا وجب العمل عليها.
قالوا: إن الله تعالى وضع عن المسافر نصف الصلاة ولم يفصل بين أن يكون السفر في طاعة أو معصية.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 2/350، وأحمد في مسنده 4/361، وهو في شرح النووي على صحيح مسلم 16/226.
قلنا: إنا لا ننكر الوضع عن المسافر رحمة من الله ولطفاً به، ولهذا قال : ((لو يعلم الناس ما للمسافر من اللطف لأصبح الناس كلهم على سفر ))(1)
ولكنه يخصه بسفر الطاعة ليكون ملائماً للأدلة العقلية والشرعية ومطابقاً للحكمة، كما مر تقريره.
الفرع الخامس: سفر الطاعة هل تجوز الرخصة فيه نحو زيارة الوالدين وزيارة الأئمة والعلماء وحج التطوع، وغير ذلك مما ليس واجباً وإنما هو طاعة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الرخصة جائزة على قول من يقول بكونه رخصة، وعلى رأي من يقول هو عزيمة في جميع الطاعات، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين.
والحجة على هذا: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم ركعتين ركعتين وفي الحضر أربعاً. ولم يفصل بين سفر الواجب وسفر الطاعة مما ليس واجباً.
المذهب الثاني: أن القصر في الصلاة إنما يكون في السفر الواجب لا غير. وهذا شيء يحكى عن ابن مسعود.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ }[النساء:101]. وليس الضرب في أيام الرسول إلا بالجهاد والغزو إلى بلاد الشرك والجهاد لمن كفر به.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من أهل العلم من جواز القصر في سفر الطاعة، وإن لم يكن واجباً.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن ظاهر الأدلة الشرعية دال على القصر في السفر من غير فصل بين كونه واجباً أو طاعة فلأجل هذا قضينا بجواز ذلك، وإن لم يكن السفر واجباً.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قوله: ما كان الضرب في أيام الرسول إلا في الجهاد الواجب فلهذا وجب حمل السفر عليه.
__________
(1) ورد الخبر في (الفردوس بمأثور الخطاب) 3/348 عن أبي هريرة، وفي التمهيد لابن عبد البر 22/36، وفي لسان الميزان 1/328، هذه الروايات جاءت بلفظ: ((لو يعلم الناس ما للمسافر لأصبح... الحديث)) بدون جملة ((من اللطف)).
قلنا: السفر مطلق فلا دليل على قصره على ما كان واجباً من الأسفار، والطاعة شاملة لأسفاره لأن تصرفاته ما كانت إلا طاعة واجبة ونفلاً.
الفرع السادس: السفر في الأمور المباحة. نحو السفر في طلب الأرباح وأنواع التجارات، هل يجوز القصر فيه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز القصر فيه. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أكثر أهل العلم.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}[النساء:101]. وهذا الضرب ليس مقصوراً على الطاعة وحدها بل كما يتعلق بالطاعة فهو متعلق بالمباح، لأن الحسن شامل للمباح والواجب والنفل فلا وجه لقصره على بعض المحسَّنات دون بعض.
المذهب الثاني: أن القصر في السفر لا يتعلق بالمباح. وهذا شيء يحكى عن عطاء.
وحجته على هذا: هو أن الخطاب بقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ}. إنما هو للرسول وأصحابه ولم يكن ضربهم إلا فيما هو طاعة وقربة دون الأمور المباحة.
والمختار: ما عليه أكثر العلماء من العترة وغيرهم من جواز القصر في سفر الإباحة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن المباح كالواجب والمندوب في كونه أموراً مُحَسَّنة ونحن إنما منعنا من القصر في المعصية لما كانت مجانبة لمقصود الشرع في كونها طاعة، فأما إذا كان السفر مباحاً فإنه مشارك في الواجب في كونه حسناً فلهذا جاز فيه القصر.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الخطاب بقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}. إنما هو فيما كان فيه قربة، فأما الأمور المباحة فليس فيها قربة.
قلنا: المباح كالواجب والمندوب في كونها أموراً يشملها الحسن فإذا جاز القصر في أمور الطاعة جاز فيما كان حسناً من غير تفرقة بينهما وهو المطلوب.
قاعدة: حكى الناصر في كتابه (الكبير) عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه لا يجوز القصر لعشرة: المكاري والجمَّال والملاَّح والراعي والمتغرب منتجع الغيث يسعى في أثر مواقعه، والعبد الآبق والصياد والساعي في الأرض فساداً ورب الضياع يدور في ضياعه يعمرها، والسلطان يدور في سلطانه وعمله. وهذه الرواية صحيحة كما ذكره الناصر وبعضها على ظاهره وبعضها يفتقر إلى التأويل على ما تقتضيه الأصول.
فأما العبد الآبق عن سيده فليس له القصر لأن سفره معصية ما لم يتب ويرجع إلى مولاه.
وأما السلطان فإن كان جائراً ظالماً فليس له أن يترخص برخص اللّه. وإن أراد به الإمام المحق فإنه محمول على أنه يسير في بلاده دون مدة السفر كما سنوضحه.
وأما رب الضياع يدور في ضياعه فإنه لا يكون مسافراً على الحقيقة لأن كل موضع ينزل فيه فهو له وطن، ويجوز أن يحمل على من بين ضياعه دون مسافة السفر.
وأما الملاح والجمال والمكاري والراعي فإن هؤلاء يحمل أمرهم على أن مسيرهم فيما لا تقصر فيه الصلاة، وهكذا من ينتجع الغيث يحمل أمره على ما قلناه، وهكذا حال الصيادين يحمل أمرهم على أنهم يطلبون الصيد فيما دون مسافة السفر(1).
فهكذا ينبغي تأويل ما ذكره في كلامه هذا ليجري على الأصول المقررة.
__________
(1) يمكن القول هنا، بأن المبحث يفترض فيه أنه يتناول من يسافرون مسافة القصر ولا يجوز لهم القصر لأسباب استثنائية، فأما من سافر دون مسافة القصر كما قال المؤلف عن الصيادين والإمام المحق والملاح والجمال والمكاري والراعي ممن يحمل أمرهم على أن مسيرهم فيما لا تقصر فيه الصلاة، فلا يحتاج أمرهم إلى الاستثناء؛ لأن شأنهم شان من لا يسافر مسافة القصر، والمبحث موضوع لمزيد من النظر فيه، والله أعلم.
---
الفصل الثاني في بيان حد السفر الذي تقصر فيه الصلاة
اختلف العلماء في مدة القصر، فمنهم من اعتبره بالأمكنة، ومنهم من اعتبره بالأزمنة، ومنهم من قدره بالزمان والمكان جميعاً، ومنهم من لم يقدره بواحدة منها، فهذه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: الذين قدروه بالمكان وفيه أقوال أربعة:
فالقول الأول: تقديره بالبريد. وهذا هو رأي الباقر والصادق وأحمد بن عيسى بن زيد، وهو رأي الهادي والقاسم.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((لا تسافر المرأة بريداً إلا ومعها زوج أو ذو رحم))(1).
.. فجعل البريد سفراً.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول : أنه كان يقصر في خروجه من مكة إلى عرفات، وذلك مقدر بأربعة فراسخ وهو البريد.
قال القاسم: وكذلك يقصر أهل مكة في خروجهم إلى عرفات لأنه مقدر بالبريد.
القول الثاني: وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة: أنه مقدر بثلاث مراحل وهي أربعة وعشرون فرسخاً.
القول الثالث: وهو إحدى الروايتين عن السيد المؤيد بالله: وهو أنه أحد وعشرون فرسخاً، فهذه أقوال من قدره بالأمكنة على ما قررناه.
القول الرابع: أنه مقدر بالأميال من الأمكنة، وهذا هو رأي الشافعي وعنه فيه روايات أربع:
الأولى: أنه ستة وأربعون ميلاً بالميل الهاشمي كل ميل إثنا عشر ألف قدم.
الرواية الثانية: ثمانية وأربعون ميلاً بالهاشمي.
الرواية الثالثة: أكثر من أربعين ميلاً.
الرواية الرابعة: أربعون ميلاً.
كل هذه الأميال بالميل الهاشمي الذي ذكرناه. فهذه أقوال من قدره بالأمكنة على ما قررناه.
المذهب الثاني: الذين قدروه بالأزمنة ثم فيه أقوال ثلاثة:
__________
(1) لفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يحل لامرأة أن تسافر بريداً إلا ومعها ذو محرم منها)) أخرجه أبو داود.
القول الأول: الذين قدروه بالأيام الثلاثة. وهذا هو المحكي عن زيد بن علي ومحمد بن عبدالله النفس الزكية، ومروي عن الناصر وأبي عبدالله الداعي، وهو قول السيدين الأخوين أبي طالب والمؤيد بالله، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، ومروي عن سفيان الثوري وأبي الحسن الكرخي، فهؤلاء يقدرونه بسير ثلاثة أيام السير المتوسط وهو سير الإبل ومشي الأقدام؛ لأن أسرع السير في اليوم الواحد للخيل عشرون فرسخاً، وسير الإبل ثمانية فراسخ في اليوم الواحد، وسير البقر أربعة فراسخ، وعلى هذا يكون ثلاثة أيام أربعة وعشرون فرسخاً.
القول الثاني: محكي عن الشافعي وله فيه ثلاث روايات:
الرواية الأولى: أنه يكون مسيرة ليلتين بسير الأثقال ودبيب الأقدام، يشير بذلك إلى سير الإبل ومشي الأقدام.
الرواية الثانية: مسيرة يومين.
الرواية الثالثة: مسيرة يوم وليلة.
القول الثالث: أنه مقدر باليوم الواحد. وهو المروي عن أنس بن مالك، والأوزاعي.
المذهب الثالث(1): محكي عن أهل الظاهر داود وطبقته.
فهذه مذاهب العلماء في حد القصر، وهي متداخلة كما ترى، وحاصل ما قاله أهل الظاهر: أنهم لا يعتبرون زماناً ولا مكاناً في تقدير مدة القصر لكن القصر يجب في قليل السفر وكثيره. وجملة الأمر أن المذاهب في حد القصر أربعة:
أولها: من يعتبر تقديره بالأمكنة كما حكيناه عن القاسمية فيقدرونه بالبريد.
وثانيها: من يعتبر تقديره بالأزمنة كما حكيناه عن المؤيد بالله والناصر وغيرهما، فيقدرونه بالأيام الثلاثة.
وثالثها: من يقدره بالأزمنة الليالي والأيام، وتارة بالأمكنة نحو الأميال والفراسخ كما حكيناه عن الشافعي.
__________
(1) هذا هو المذهب الرابع كما هو واضح مما قبله ومما بعده، والمذهب الثالث هو مذهب الشافعي الذي قدره بالأزمنة الليالي والأيام تارة والأمكنة نحو الأميال والفراسخ تارة أخرى، وقد انقسم هذا المذهب على المذهبين الأول والثاني، والله أعلم.
ورابعها: من لا يقدر فيه تقديراً بل قليله وكثيره يجب القصر فيه. وهذا هو المحكي عن أهل الظاهر.
والمختار في مدة القصر: هو العمل على الثلاث كما هو رأي الناصر والمؤيد بالله وغيرهما من علماء العترة.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام إلا مع محرم.)).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه علق الحكم بالثلاث، وإذا ثبت ذلك في سفر المرأة ثبت في القصر والإفطار لأن أحداً لم يفصل بينهما.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((لا تسافر المرأة يوماً أو يومين إلا مع محرم.))(1).
. وفي هذا بطلان تعليقه بالثلاث.
قلنا: المراد من الخبر هو أن السفر إذا زاد على ثلاثة أيام فلا يحل للمرأة أن تخرج من بيتها مسيرة يوم أو يومين إلا مع محرم.
الحجة الثانية: هو أن هذا نوع من المقدرات في العبادات فلا يجوز إثباته إلا بتوقيف من جهة الرسول وليس فيما دون الثلاث فلا يجوز جعله سفراً شرعياً، وإذا كان الأمر كما قلناه وجب التعويل على ما دل عليه الشرع وهو الثلاث فلا جرم وجب التعويل عليها.
__________
(1) أخرجه البخاري 1/400، ومسلم 2/976، وهو في صحيح ابن خزيمة 4/134 بألفاظ مختلفة، إذ ورد في الصحيحين بلفظ: ((.... مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم)) وفي (مجمع الزوائد) و (الأوسط) للطبراني: ((لا تسافر المرأة فوق يومين...)) وعلق عليه ابن بهران في (تخريج البحر) بقوله: هذه الرواية بهذا اللفظ غير معروفة عن النبي ، والله أعلم.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((لا تسافر المرأة يوماً إلا مع محرم)) وفي هذا بطلان تعليقه بالثلاث.
قلنا: المراد بالخبر هو أن السفر إذا زاد على ثلاثة أيام فلا يحل للمرأة أن تخرج من بيتها مسيرة يوم أو يومين إلا مع محرم، اهـ 2/43، وهذا نقله ابن بهران من كلام المؤلف في معرض الاحتجاج بالخبر كما ترى، والله أعلم.
وحكي عن الشيخ أبي جعفر: أن الناصر ذكر في كتابه الكبير: أنه لا يجوز القصر إلا في مسافة ثلاثة أيام بلياليها وهو السفر الشرعي، ولم أعلم أن أحداً من العلماء اعتبر الليالي مع الأيام في السير ولا دلت عليه دلالة ولعله أراد أن الليالي مضمومة إلى الأيام لا أنها معتبرة في مقدار السير في السفر بحال.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: روي عن النبي أنه قال: ((لا يحل لامرأة تسافر بريداً إلا مع محرم أو زوج.)). فجعل البريد تقديراً للسفر الشرعي. وفيه دلالة على ما اعتبرناه من البريد.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه محمول على أن البريد هو أول السير إلى تمام الثلاث لأنه مقدر بالبريد أوله وآخره.
وأما ثانياً: فلأن الخبرين قد تعارضا، وإذا تعارضا فلا بد من الترجيح وخبر الثلاث فيه الزيادة فيجب أن يكون مقبولاً أو يكون راجحاً على غيره مما لم يدل على الزيادة.
فأما ما حكي عن الشافعي من اختلاف أقواله في اعتبار مدة القصر بالأزمنة والأمكنة التي حكيناها عنه، فقد قال أصحابه: إن اختلاف أقواله كلها راجع إلى قول واحدٍ وهو اعتبار أربعة برد. فإلى هذا ترجع تلك الأقوال على اختلافها.
والجواب عما ذكروه، هو أن الخبر الذي رويناه في الدلالة على اعتبار الثلاث، هو دال بنطقه على ما قلناه، ودال بمفهومه على بطلان غيره من المذاهب، فلهذا وجب التعويل عليه.
قالوا: روى ابن عباس عن الرسول أنه قال: ((يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة. برد من مكة إلى عسفان إلى الطائف))(1)
__________
(1) هذا الحديث اختلف الرواة حوله، فالبعض يرى أنه موقوف على ابن عباس، وفي تخريج البحر: ولفظه في (الجامع) عن مالك [أنه بلغه أن ابن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف وما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة، قال مالك: وذلمك أربعة برد.
وأورد الخبر ابن حجر في بلوغ المرام بالرقم 347 عن ابن عباس بلفظ: ((لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان)) ثم قال: رواه الدارقطني بإسناد ضعيف، والصحيح أنه موقوف، كذا أخرجه ابن خزيمة، اهـ ص 76، والخبر في (مجمع الزوائد) 2/157 و(الكبرى) للبيهقي 3/137 والدارقطني 1/387، و(المعجم الكبير) 11/96 وكلها بلفظ: ((يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى ... الحديث)).
.
فهذا تصريح باعتبار أربعة برد في قصر الصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه من خبر البرد الأربعة يعارضه خبر البريد على نعت المناقضة في لفظه، وخبرنا في الثلاث لم يعارضه ما يناقضه في لفظه فإذاً كان أرجح.
وأما ثانياً: فلأن خبر الثلاث أكثر فائدة فإنه دال على مدة القصر، ودال على وجوب المحرم في حق المرأة، وخبر البرد الأربعة ليس فيه دلالة إلا على البرد لا غير، فلما كان خبرنا أكثر فائدة كان راجحاً على غيره.
وما يحكى عن داود وطبقته من أهل الظاهر من أن القصر واجب في قليل السفر وكثيره وطويله وقصيره، فهو فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن الإجماع منعقد على بطلانه؛ لأن أحداً من الأئمة لم يعتبر هذا الإعتبار بل لا بد فيه من التقدير إما بالأزمنة أو بالأمكنة على ما مر بيانه.
وأما ثانياً: فلأن الرسول قد كان يخرج إلى قُبا فتدركه الصلاة فلا يقصرها وبينه وبين المدينة مقدار فرسخ.
ومن وجه ثالث: وهو أن ما هذا حاله سير لا تلحق به المشقة، والقصر إنما شرع من أجل مشقة السفر. فيجب أن لا يتعلق به قصر كما لو سار في الحضر.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: وكل من أراد السفر فلا يجوز له القصر حتى يفارق موضع الإقامة. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ.}[النساء:101]. ومن لا يفارق موضع الإقامة فليس ضارباً في الأرض.
وحكي عن عطاء والحرث بن ربيعة(1)
__________
(1) لعله الحارث بن أبي ربيعة، ويقال: ابن عياش بن أبي ربيعة، ذكره ابن حجر في (تهذيب التهذيب)2/125، وقال عنه: روى عن النبي مرسلاً، وعن عمر ومعاوية وعائشة وحفصة وأم سلمة، وعنه: سعيد بن جبير ومجاهد والزهري وغيرهم.
قال الزبير بن بكار: استعمله ابن الزبير على البصرة فرأى مكيالاً فقال: إن مكيالكم هذا لقباع. فلقبوه به، إلى أن قال ابن حجر: قلت: ذكره بعض من ألف في الصحابة، وذكره ابن معين في تابعي أهل مكة، وقال المبرد: القباع، بالتخفيف، الذي يخفي ما فيه، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين.
: أنه يقصر إذا نوى السفر وإن لم يخرج عن بيوت القرية. وروي أن الحرث بن ربيعة أراد سفراً فصلى بهم المكتوبة ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد وغيره من أصحاب عبدالله بن مسعود.
وحجتنا عليه: ما ذكرناه. وعن أبي سعيد الخدري: أن الرسول كان إذا خرج [إلى] السفر من المدينة قصر إذا سار فرسخاً.
وإذا وجبت المفارقة للوطن بالدليل الذي ذكرناه فبما تكون المفارقة؟ فيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن المفارقة إذا صار بحيث تتوارى عنه بيوت أهله. وهذا هو رأي الهادي. وحمله السيدان الأخوان على أن المراد تفاصيل البيوت دون أعلامها لأن جملة البيوت والدور قد ترى من بريد وأكثر، وقدره الهادي.ميلاً أو نحوه.
والحجة على هذا: ما روى أبو سعيد الخدري عن الرسول : أنه كان إذا خرج من المدينة سار فرسخاً ثم قصر.
المذهب الثاني: أن المسافر يقصر إذا جاوز عمران البلد. وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى أنس بن مالك أنه قال: صليت مع رسول اللّه الظهر في المدينة أربعاً والعصر في ذي الحليفة ركعتين، فظاهره دال على أن المفارقة معتبرة، والعرف دال على أن المفارقة حاصلة بما ذكرناه لأن الضرب مطلق فلهذا حمل على العرف بما ذكرناه.
المذهب الثالث: أنه يقصر إذا جاوز باب المصر. وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن المصر إذا كان له سور فما لم يفارق السور فهو في موضعه ومستوطنه فلا عبرة إلا بمفارقة السور وما يجري مجراه في القرى والدروب والمحال.
المذهب الرابع: أن المسافر لا يحصل له القصر إذا سار نهاراً حتى يمسي، وإذا سار ليلاً حتى يصبح. وهذا هو المحكي عن مجاهد.
والحجة على هذا: هو أن المفارقة للوطن لا تحصل على الحقيقة إلا بإستغراق أحد طرفي النهار، فإذا خرج نهاراً انقطع وطنه بالمساء، وإن خرج ليلاً انقطع وطنه بالإصباح. فهذه المذاهب المذكورة في اعتبار المفارقة.
والمختار: أن الأمر في ذلك قريب وربما يقال: إن مذهب الهادي بتقدير الميل أرجح لأنه محل اتفاق وما عداه وقع فيه الخلاف، وهذا جيد خلا أنه يبقى فيه نظر بتقدير صوره وهو أن المسافر إذا أراد السفر وصلى الظهر في بلده ثم خرج من بلده ولم يبق من الوقت إلا ما يتسع لصلاة العصر، فإن راعينا بلوغ الميل فاتت الصلاة، وإن صلى قبل بلوغ الميل فهل يقصر أو يتم الصلاة؟ فإن قصر فقد قصر قبل بلوغ الميل، وإن أتم فقد فارق عمران البلد، فإذن الأولى الضبط بمفارقة العمران كما أشار إليه المؤيد بالله، ولهذا قال: يقصر المسافر إذا جاوز عمران بلده، وكذلك يقصر في رجوعه إلى وطنه إلى أن يبلغ عمران بلده.
والحجة على هذا: وجهان:
أحدهما: ما روى علي بن ربيعة(1)
__________
(1) جاء في تهذيب التهذيب 7/281 ما ملخصه: علي بن ربيعة بن نضلة الوالبي الأسدي، ويقال: البجلي، أبو المغيرة الكوفي، روى عن علي بن أبي طالب والمغيرة بن شعبة وسلمان وابن عمر، وأسماء بن الحكم الفزاري، وسمة بن جندب، وغيرهم.
وعنه: الحكم بن عتيبة وسعيد بن عبيد الطائي، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو السفر الهمداني، والمنهال بن عمرو، وآخرون.
قال ابن المغيرة والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، قال: وعلي بن ربيعة هو الذي روى عنه العلاء بن صالح، وقال فيه البجلي: له في الصحيحين حديث عن المغير: ((من كذب علي)).
قلت: فرق البخاري بينه وبين البجلي الذي روى عن العلاء بن صالح، وجزم أبو حاتم بأنهما واحد، حكاه ابنه عنه، وصنيع الخطيب يقتضي أنه وافقه فإنه ذكر في المتفق علي بن ربيعة أربعة، فبدأ الوالبي ثم البصري ثم القرشي ثم البيروتي ولم يفرد البجلي، فالظاهر أنهما عنده واحد، لكنه لم ينبه عليه في كتاب أوهام الجمع والتفريق الذي جمع فيه أوهام البخاري في التأريخ وعمدته كلام أبي حاتم، وقد يخالفه فسبحان من لا يسهو، وقال ابن سعد: كان ثقة معروفاً، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، ووثقه ابن نمير وغيره. ولم تذكر المصادر المتاحة تأريخ وفاته.
أنه قال: خرجت مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقصر ونحن نرى البيوت، ومثل هذا لا يفعله إلا عن توقيف من جهة الرسول لأن الباب باب عبادة لا مجرى للإجتهاد فيه، وفيه دلالة على أنه إنما قصر من أجل مفارقة البنيان.
وثانيهما: أن الله تعالى علق القصر بالضرب في الأرض وهو مطلق فلا بد من حمله على ما يطرد في العادات ويكثر جريه في العرف وليس ذلك إلا مفارقة الوطن ومباينة العمرانات وهذا هو المقصود. فإذا تقرر هذا فاعلم أن المدينة والمصر إذا كان لهما سور، فالقصر من مجاوزة السور، وإن لم يكن هناك سور، كان القصر من مجاوزة العمران. والبساتين ليست من عمران البلد لانفصالها عن البلدة واستقلالها بأنفسها، وهكذا حال المصلى(1)
فإنه ليس من حد العمران لانفصاله.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: يجب القصر إذا صار بحيث يتوارى عن البيوت. كما حكي عن الهادي.
قلنا: الأمر في ذلك قريب لكن الضبط بمجاوزة العمران أحسن وأحصر؛ لأن التعويل إنما هو على الانفصال عن البلد، فضبطه بمجاوزة ما عمر من البلد أحق وأولى.
قالوا: يقصر إذا جاوز سور البلد كما حكي عن أبي حنيفة و أحصابه.
قلنا: هذا سديد فيما له سور، وما ليس له سور فبأي شيء يضبط؟ فيجب أن يضبط بما يعم ما له سور وما ليس له سور كما أشرنا إليه من مجاوزة العمران.
قالوا: المسافر لا يحصل له القصر إذا مشى ليلاً إلاَّ بالصباح وإذا مشى نهاراً إلا بالمساء كما حكي عن مجاهد.
قلنا: هذا لا وجه له، فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}. ولم يشترط صباحاً ولا مساءً، وفي هذا دلالة على عدم اعتباره.
وقد أفسدنا ما قاله عطاء حيث قال: يكون مسافراً بالنية من غير انفصال عن بلده فأغنى عن تكريره.
__________
(1) يقصد مصلَّى أو جبانة صلاة العيد.
الفرع الثاني: وإذا كان بقرب البلد آثار دور وبيوت قد خربت وكانت خالية عن السكنى خلا أن الجدران قائمة فإنه لا يقصر حتى يفارقها لأن السكنى فيها ممكن وربما ترجى فيها العودة لأهلها فصارت كالعمران، فإن تهدمت وذهبت قواعدها وجدرانها جاز القصر قبل مفارقتها لأنها لا تسكن فصارت كالصحارى.
وإن كانت حيطان البساتين متصلة بحيطان البلد فإنه يقصر إذا جاوز حيطان البلد، وإن لم يفارق حيطان البساتين لأنها ليست مبنية للسكنى وإنما تراد الحيطان لحفظ ما وراءها لا غير.
وإن كان في وسط البلد نهر يجري مثل بغداد وكان يشق البلد نصفين فإذا أراد الرجل سفراً يجتاز إلى الجانب الآخر لم يجز له أن يقصر حتى يفارق بنيان الجانب الآخر لأن النهر أو الماء ليس حائلاً، ألا ترى أنه لو كان في وسط البلد عرصة واسعة تكون ميداناً للخيل أو مضحى للغنم أو فسحة لضرب الكرة أو غير ذلك من المنافع فإنه لا يقصر حتى يفارقها(1).
فالنهر أحق بذلك، فلهذا لم يكن له القصر حتى يجاوزه(2).
وإن كان هناك قريتان فاتصل البناء بينهما حتى صارتا قرية واحدة فإنه لا يقصر حتى يفارق جميعهما لأنهما صارتا في حكم القرية الواحدة بالإتصال، وإن كان بينهما فضاء، قصر إذا فارق القرية التي هو ساكن فيها لأجل ما بينهما من الحائل.
وإن خرج من عمران بلده فله أن يقصر الصلاة لحصول سببب القصر وهو العزم على السفر فإن ذكر أنه نسي حاجة في بيته فعاد لها وحضر وقت الصلاة وهو في بيته لم يكن له أن يقصر لأنه لم يجاوز موضع الإقامة، وإن فارق العمران ثم أحدث وعاد إلى العمران للوضوء لم يكن له قصر الصلاة في العمران، فإذا فارق العمران أستأنفها قصراً.
__________
(1) واضح أنه يريد مفارقة البلد وليس العرصة أو مضحى الغنم.
(2) أي يجاوز بنيان الجانب الآخر الذي اجتاز النهر إليه بقصد السفر.
وإن خرج من عمران بلده وصار في موضع آخر ينتظر القافلة فإن نوى أنه ينتظرها وهو على عزم السفر، خرجت القافلة أو لم تخرج، فإنه يقصر الصلاة لأنه قد قطع على السفر بنيته، وإن كان عزمه أنه لا يسافر حتى تخرج القافلة فإن لم تخرج لم يعزم على السفر، فإنه لا يقصر لأنه لم يقطع على السفر كما لو كان واقفاً في بلده.
الفرع الثالث: فأما أهل الخيام من أحياء العرب والذين لا سكنى لهم إلا فيها ولا يستقرون إلا بمصاحبتها فإنهم إذا أرادوا السفر لا يقصرون إلا بمفارقتها فإن كانت مجتمعة فلا قصر إلا بمفارقة جميعها، وإن كانت متفرقة في الأماكن المرتفعة وغضون الأودية وحيث تكون منافعهم فإن كل واحد منهم يقصر بمفارقة ما في جانبه لأنها لهم بمنزلة الدور والقرى لأهل الأمصار والمدن فهكذا يكون حكمهم حكم أهل القرى في المفارقة لمن هو ساكن فيها. وأما أهل الخيام التي ليست لهم سكنى وإنما يستصحبونها في الأسفار من أجل المطر والشمس واستعمالها للراحة والظلال تحتها كالملوك والأمراء، فإن قصرهم للصلاة يكون من حين انفصالهم عن عمران الدور والبيوت.
وهكذا حال أهل تهامة في اتخاذهم البيوت من سعف النخل والجريد والأثل فإنها إذا كانت مجتمعة فإن القصر يكون بمفارقة جميعها لأنها في حكم القرية الواحدة في عمرانها، وإن كانت متفرقة في أماكن متباعدة فقصر الصلاة يكون إذا انفصل عن الخيمة والبيت المبني من الجريد والسعف لأنها بمنزلة القرى في السكنى والإنتفاع.
وهكذا حال هذه الأكنان والجروف في الجبال فإنها صارت مساكن لأقوام ما لهم سكنى إلا فيها، فالقصر فيها يكون من حين مجاوزتها لأنها لهم بمنزلة العمران في المدن والقرى. والله تعالى قد امتن عليهم بهذه المساكن كلها بقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً}[النحل:81]. أراد: ظلال المجالس والقصور والرواشن والأجنحة وظلال الأشجار وغير ذلك مما يظل من الشمس والرياح ويقي من أذيتهما {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً}[النحل:81]. أراد به: الجروف فإن فيها راحة لأهل البداوة لهم في أنفسهم وللأنعام خاصة في أيام البرد فإنهم يقصدونها من أجل ذلك. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً}[النحل:80]. أراد به: أهل الخيام بتهامة فإنهم يجعلونها من جلود الأنعام تقي من المطر والحر والبرد، وأما أهل اليمن فيجعلونها من شعر المعز، وأما الملوك فإنهم يجعلونها من نبات القطن، وهي تنزل منزلة الدور في القرى والأمصار.
الفرع الرابع: ولا يجوز القصر إلا بوجود أمرين:
الأول منهما: نية القصر. وقال أبو حنيفة: إن القصر عزيمة لا تفتقر إلى النية.
والحجة على ما قلنا: قوله : ((الأعمال بالنيات ولكل امرء ما نوى)). ولأن القصر حكم يختص الصلاة فيجب فيه اعتبار النية كنية كونها ظهراً أو عصراً أو قضاءً.
وإذا قلنا: بأنه لا بد من وجود النية، فهل تكون مختصة بأول الصلاة أو تكون في أثنائها؟
فالذي يأتي على المذهب: أنها لا بد من أن تكون مقارنة لأول الصلاة. وحكي عن المزني أنها تجزي ولو كانت في أثناء الصلاة.
والحجة على ما قلناه: هو أن كل نية افتقرت إليها الصلاة كان محلها عند الإحرام، دليله نية الصلاة.
الأمر الثاني: الخروج من العمران كما مر تقريره.
وإن ترك المسافر القصر وأتم الصلاة، فهل تكون مجزية له أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها غير مجزية له. وهذا هو رأي من قال: إن القصر عزيمة واجبة كما هو محكي عن القاسم والهادي والمؤيد بالله، ومحكي عن علي، وعمر من الصحابة، ومن الفقهاء مالك وأبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أنه فرضه فلا تجوز مخالفة فرضه، كما لو قصر الصلاة في حال الإقامة.
المذهب الثاني: أنه يجزيه الإتمام. وهذا هو رأي من قال: إن القصر رخصة، فإذا أتم فلا حرج عليه في الإتمام كما لو صام في السفر كان مجزياً له.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}[النساء:101]. وهذه اللفظة(1)
موضوعة في كلام العرب للإباحة ورفع الحرج، وإذا كان الأمر كما قلناه، فإذا أتى بالأصل كان مجزياً له.
والمختار: أنه إذا أتم الصلاة كانت مجزية له لما روي عن عائشة قالت: كان رسول اللّه يقصر في السفر ويتم.
__________
(1) يقصد كلمة ((جناح))، وقد سبق أن استدل المؤلف بأنها في اللغة تعني الإباحة ورفع الحرج، وأورد من الأدلة الشرعية عدداً من الآيات الكريمة تأكيداً لما ذهب إليه، إلا أنه ربما أمكن القول بأن ذلك يمثل قاعدة تشمل كل ما وردت فيه كلمة ((جناح)) أنها للإباحة ورفع الحرج. بل هناك آيات جاءت الكلمة فيها للوجوب، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} هذا بالإضافة إلى أن بعض الفقهاء والمفسرين استدلوا بالآية الكريمة {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} الآية على صلاة المسايفة لا على صلاة السفر، ولذا تلتها الآية بصفة صلاة المسايفة {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} الآية، ولأنهم اعتبروا أن صلاة السفر ليست قصراً لأن أصل الصلاة مثنى مثنى، بينما قصر الصلاة في صلاة المسايفة تتحقق فيه صفة القصر بركعة واحدة خلف الإمام بدلاً من ركعتين. والله أعلم.
وروي عن أنس بن مالك أنه قال: كنا نسافر مع رسول اللّه فمنا المفطر ومنا المتم للصلاة، فلم يعب المتم على القاصر، ولا القاصر على المتم، ولا المفطر على الصائم، ولا الصائم على المفطر.
الفرع الخامس: وإذا قلنا: بأن القصر رخصة فهل يكون الإتمام أفضل أم القصر؟ فيه للقائلين بالرخصة ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن الإتمام أفضل لأن الأصل هو الإتمام والقصر بدل عنه فلهذا كان أفضل كالصوم في السفر، ولأن الإتمام أكثر عملاً وأكثر ثواباً فلهذا كان هو الأفضل.
المذهب الثاني: أن القصر هو الأفضل.
ووجهه: ما روي عن الرسول أنه قال: ((خير عباد الله الذين إذا سافروا قصروا))(1).
ولما روي عن الرسول : أنه كان يداوم على القصر في أسفاره ولا يداوم على الإتمام وليس يداوم إلا على الأفضل، ولأنه إذا قصر سقط عنه الفرض بالإجماع، وإن أتمَّ فالعلماء مختلفون في إجزائه.
المذهب الثالث: أن القصر والإتمام سواء.
ووجهه: هو أن كل واحد من القصر والإتمام مختص بفضل، قد دل عليه الشرع فلهذا كانا مستويين في الفضل.
والمختار: أن الإتمام أفضل لأن القصر عارض لأجل السفر والأصل هو الإتمام فلهذا كانت المعاودة إلى الأصل هي الأفضل.
ومن وجه آخر: وهو أن السبب في الوجوب للأربع قائم وإنما عرضت إباحة النقصان للركعتين رحمة ولطفاً بالمسافر فلهذا كان تحمل المشقة بالإتمام أفضل.
ومن وجه ثالث: وهو أنها عبادة رخص الشرع فيها فلهذا كان البقاء على الأصل هو الأفضل كالصوم في السفر.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((خيار عباد الله الذين إذا سافروا أفطروا)). وهو محكي عن مالك وأحمد بن حنبل.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) أورده في (بلوغ المرام) عن جابر بزيادة: ((... وأفطروا)) وقال: أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف. اهـ ص 76، وهو في مسند الشافعي 1/25، ومصنف عبد الرزاق 2/566 بلفظ: ((خياركم...)).
أما أولاً: فلأن ما ذكروه كلام في الإفطار وكلامنا إنما هو في القصر.
وأما ثانياً: فلأن مشقة الصوم في السفر كثيرة من أجل الجوع والعطش بخلاف الإتمام ولهذا ورد الثناء على من أفطر لأجل المشقة.
قالوا: روي أن الرسول كان يداوم على القصر ولو كان الإتمام أفضل لما داوم عليه لأنه لا يداوم إلا على الأفضل.
قلنا: لم يداوم عليه لفضله ولكن مداومته عليه ليعرف الناس لطف الله بالخلق في التسهيل لهم في أحوال العبادات والتخفيف عليهم فيها.
قالوا: ولأنه إذا قصر سقط الفرض بالإجماع وإذا أتمَّ فالخلاف واقع في الإجزاء، وما وقع الإجماع على صحته فهو أفضل.
قلنا: إنما وقع الإجماع على كون الإتمام غير مجزٍ لمَّا اعتقدوا وجوب القصر وكونه عزيمة فأما لو اعتقدوا كونه رخصة مثل ما ذهبنا إليه لقالوا إن الإتمام مجزٍ لا محالة.
الفرع السادس: وإذا كان للبلد الذي يقصده طريقان تقصر الصلاة في أحدهما دون الآخر[وسافر من الطريق الأطول] نظرت، فإن كان لغرض صحيح في السفر من واجب أو طاعة أو مباح فله أن يقصر الصلاة لأنه يسافر لمعنى جائز تقصر الصلاة لأجله، وإن كان السفر لا لغرض ولكن من أجل قصر الصلاة فهل يقصر أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من القصر، وهذا هو المذكور للمذهب وأحد قولي الشافعي، واختيار المروزي من أصحابه.
والحجة على هذا: أنه طَوَّل الطريق على نفسه لا لغرض فأشبه ما إذا مشى في الطريق القصير طولاً وعرضاً حتى طال.
المذهب الثاني: جواز القصر. وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي واختيار أبي حامد الإسفرائيني من أصحابه، وهو اختيار السيد أحمد الأزرقي(1)
__________
(1) أحمد بن محمد الأزرقي، ذكره القاضي أحمد بن عبد الله الجنداري في تراجم رجال الأزهار 3/6 وقال عنه: السيد الإمام الهدوي، هذا السيد ممن له اليد الطولى في الفقه وتخريج المذاهب.
قال في (المستطاب): هو اليمني صاحب جامع الخلاف، شيخ مطهر بن كثير، واعْتُرِض عليه بأن هذا ليس ذاك، وأن الأزرقي من أئمة الجيل والديلم، قام وادعا وتلقب بالمنتقم لله، فيُنْظر. انتهى بلفظه.
.
والحجة على هذا: هو قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}[النساء:101]. وهذا ضارب في الأرض فجاز له القصر، ولأنه سفر مباح تقصر في مثله الصلاة فهو كما لو لم يكن هناك طريق سواه.
والمختار: المنع من القصر.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((إن الله يبغض المشائين من غير أرب))(1).
وهذا مشي من غير أرب ولا حاجة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}. وهذا ضارب فلهذا جاز له القصر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الآية محمولة على ما هو المعهود في مطرد العادة من أن الضرب في الأرض إنما يكون لمقاصد وأغراض سببية فلا تكون متناولة لما لا غرض فيه بحال.
وأما ثانياً: فلأنها معارضة بما ذكرناه من الخبر فهو نص صريح بما ذهبنا إليه وإن كان أصله مظنوناً، والآية ظاهرها دال على ما قلتموه وأصلها مقطوع به وإذا تعارضا وجب الترجيح.
فنقول: الخبر صريح في الدلالة فلهذا وجب العمل به.
قالوا: ولأنه سفر مباح تقصر في مثله الصلاة فهو كما لو لم يكن هناك طريق سواه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه الأقيسة واردة [في قولكم] في المقدرات من أنواع العبادات والرخص السفرية ولا مجرى للأقيسة فيها بحال.
وأما ثانياً: فلأنا نعارضه بقياس مثله على قصد المناقضة، وهو أنه سير فُعِلَ لغرض غير السفر فأشبه ما لو كان سائراً في أزقة المِصْر.
__________
(1) جاء في (جواهر الأخبار) 2/44: هو كالذي قبله، اهـ. والذي قبله هو الحديث السالف: ((خير عباد الله...إلخ)) قال: ذكره في (التلخيص) بألفاظ متقاربة من طرق شتى، والله أعلم. اهـ.
ومن سار هائماً أو راكباً للتعاسيف(1)
أو قطع عمره في نظر البلدان كما يفعله كثير من المتصوفة الذين ليس لهم من الدين إلا لبس المرقعات وإهراق ماء الوجوه في طلب القوت وامتلاء البطون فهل يجوز لهؤلاء القصر أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: جواز القصر لأجل مفارقة الأوطان، ولقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}. وهؤلاء فقد ضربوا.
ويستحب: الإتمام لأنه لا مقاصد لهم سوى ما ذكرناه.
الفرع السابع: وإذا نوى رجل أن يسافر من بلده إلى بلدة أخرى ثم سافر من تلك البلدة إلى بلدة أخرى فإنه يعتبر كل واحدة من هذه البلدان بنفسه، فإن كان بين بلده وبين البلد الأول مسافة القصرجاز له القصر، وإن لم يكن بينهما مسافة القصر لم يقصر، وهكذا إذا كان بين البلد الأول والبلد الثاني مسافة القصر فإنه يقصر الصلاة، وإن لم يكن بينهما مسافة القصر فلا قصر هناك، وإن خرج رجل من مكة يريد المدينة فوصل بعض الطريق وتغير عزمه عن السير إلى المدينة لخوف عرض أو ليقصد غير المدينة، نظرت، فإن كان بينه وبين مكة مقدار مسافة القصر فإنه يقصر الصلاة، وإن كان دون مسافة السفر أتم الصلاة، ثم إنه يجعل هذا الموضع مبتدأ سفره قاصراً كان أو متماً بعد تغير عزمه عن المدينة.
__________
(1) في (لسان العرب): العسف، السير بغير هداية والأخذ على غير الطريق، وكذلك التعسف والاعتساف، والعسف: ركوب المفازة وقطعها بغير قصد ولا هداية، ولا توخي صوب ولا طريق مسلوك، يقال: اعتسف الطريق اعتسافاً، إذا قطعه دون صوب توخاه فأصابه، والتعسيف، السير على غير علم ولا أثر. اهـ 9/245.
قال المؤيد بالله: إذا خرج رجل يريد قرية في ناحية فدخل قرية من قرى تلك الناحية فليس له أن يتم الصلاة إذا لم يصل القرية التي قصدها وإنما يتم إذا دخل القرية التي قصد الخروج إليها وهذا إذا كانت القرى غير متصلة بعضها ببعض، وإن كانت الناحية واحدة فإن كانت القرى متصلة بعضها ببعض كالبلد الواحدة فإنه إذا حصل في محلة بعينها كان مقيماً وذلك لأنها إذا كانت غير متصلة كان حكم كل قرية حكم بلد على انفرادها فلا يكون الغرض حاصلاً بدخول بعضها، وإن كانت القرى متصلة بعضها ببعض فجميعها في حكم بلد واحدة فلهذا كان متماً بدخول بعضها.
وقال أيضاً: وإذا خرج الرجل من قريته إلى قرية أخرى نظرت، فإن كانت القرية المقصودة غير متصلة بقريته فإنه يقصر الصلاة حتى يصل القرية التي قصدها؛ لأنها غير قريته وهو غريب حتى يصلها، وإن كانت [في] الجملة تدعا بإسم واحد وإن كانت القرية متصلة بقريته، لم يقصر الصلاة لأنها في حكم المحلة الواحدة.
الفرع الثامن: وإن خرج رجل من بلدة يريد السفر ثم بدا له فأراد الرجوع إلى وطنه نظرت، فإن كان بين الموضع الذي أراد الخروج منه وبين وطنه مدة السفر، قصر حتى يبلغ وطنه لأنه قد صار غريباً فلهذا توجه عليه حكم السفر، وإن كان دون ذلك أتم لأنه لا يقصر إلا بحصول مدة السفر ولم تحصل في حقه مدة السفر. وإن صلى المسافر خلف من يصلي الجمعة لم يلزمه الإتمام. وحكي عن الشافعي: أنه يلزمه إتمام الصلاة لأن صلاة الجمعة تامة فلهذا لزمه الإتمام.
والحجة على ما قلناه: هو أن المسافر لا يلزمه حضور الجمعة فإن حضر لزمته الجمعة وكانت مجزية له سواء كان الإمام مقيماً أو مسافراً لأن الجمعة فرضها واحد على الإمام والمأموم فلهذا لم يلزم المأموم الإتمام، ولأنها قد تمت بشرائطها فلا يجوز أن تصلى ظهراً.
والقصر والإفطار هل يستوي حكمهما أو يكون مختلفاً؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنهما يستويان في الجواز. وهذا هو رأي الناصر والشافعي، فمتى جاز القصر جاز الإفطار فهما جميعاً مستويان في الجواز لكونهما رخصتين.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة:184].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن المعنى: فأفطر فعدة من أيام أخر، فجمع بين المريض والمسافر. ولا شك أن المريض مخُيَرَّ بين أن يفطر وبين أن يبقى على صومه إلى الليل فهكذا حال المسافر من غير فرق.
المذهب الثاني: أنهما مستويان في الوجوب فمتى وجب القصر وجب الإفطار. وهذا هو رأي الإمامية، ومحكي عن أصحاب الظاهر داود وطبقته.
والحجة على هذا: هو أن القصر واجب بالأدلة التي ذكرناها عمن قال بكونه عزيمة، وإذا وجب القصر وجب الإفطار لأنهما رخصتان من رخص السفر فما اعتبر في أحدهما اعتبر في الآخر.
المذهب الثالث: أنهما مختلفان، فالقصر واجب والإفطار جائز. وهذا هو رأي القاسمية ومحكي عن الحنفية.
والحجة على هذا: هو أنا قد دللنا على وجوب القصر بأدلة نفيسة فلا حاجة بنا إلى إعادتها، وأما الإفطار فلم تدل على وجوبه دلالة فلهذا بقي على أصل الجواز فإن شاء أفطر وإن شاء صام.
والمختار: هو القول بجوازهما جميعاً كما ذهب إليه الناصر والشافعي.
وحجتهما: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن الرسول في بعض أسفاره سافر وقصر وأفطر، وفي بعض أسفاره لم يفطر، وفي هذا دلالة على أن الإفطار غير واجب.
ومن وجه آخر: وهو أن الإفطار إنما شرع في حق المريض من أجل المشقة بالمرض فمن لا تلحقه المشقة فالأصل البقاء على صومه، وفي هذا دلالة على بطلان وجوب الإفطار.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: هما مستويان في الرخصة فإذا قامت الدلالة على وجوب القصر فالإفطار مثله لأنهما مستويان في التخفيف والتسهيل كما هو رأي الإمامية وأهل الظاهر.
قلنا: إن هذه الرخص السفرية في الوجوب والجواز موردها الشرع ولا مدخل للأقيسة فيها، فما قام الدليل على وجوبه قضينا به، وما قام على جوازه قضينا به من غير حاجة إلى المقايسة، على أن القصر عندنا رخصة كما مر بيانه فلا يقاس وجوب الإفطار عليه.
قالوا: القصر واجب والإفطار جائز كما هو محكي عن القاسمية لأن القصر قد دللنا على وجوبه بخلاف الإفطار فلا دلالة على وجوبه فبقي جائزاً.
قلنا: قد أجبنا عن أدلة الوجوب على القصر وأوضحنا أنه رخصة، وإذا كان رخصة فالإفطار مثله في كونه رخصة وهو المطلوب.
الفرع التاسع: وإذا دخل وقت الصلاة والمصلي في الحضر وتمكن من أدائها ثم سافر فهل يجوز له القصرم أم لا؟ فيحكى عن المزني وأبي العباس بن سريج: أنه لا يجوز له القصر.
وحجتهما على هذا: هو أنه بدخول الوقت قد تلبس بصلاة الحضر فلا يجوز له إسقاطها بالسفر بعد التلبس بها.
والمختار على المذهب: جواز القصر؛ لأن الإعتبار في حال الصلاة إنما هو بحال الأداء دون حال الوجوب، ولهذا فإنه لو دخل عليه وقت الظهر في يوم الجمعة وهو عَبْدٌ فلم يصل حتى عُتِقَ فإن الجمعة واجبة عليه، وهذا مسافر في حال الصلاة فلأجل هذا جاز له القصر، وهكذا حال المرأة إذا دخل عليها وقت الصلاة وتمكنت من أدائها ثم طرأ عليها الحيض فإنها تسقط عنها الصلاة.
وإن سافر وخرج من العمران أو ميل بلده ولم يبق من وقت الصلاة إلا قدر أربع ركعات فهل يجوز له القصر أم لا؟ فحكي عن المزني والقاضي أبي الطيب كلاهما من أصحاب الشافعي: أنه لا يجوز له القصر. والصحيح جواز القصر له كما ذكرناه في المسألة الأولى. فإذا سافر وقد بقي من الوقت ما يتسع لصلاة المسافر فهل يقصر أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يقصر. وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها)).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن الرسول أبان أن من أدرك ركعة بمنزلة إدراك الصلاة كاملة.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز القصر، وهذا هو المحكي عن المزني وأبي الطيب. فأما الشافعي فالصحيح من مذهبه مثل ما حكيناه من مذهبنا ومذهب أبي حنيفة.
وحجتهما: ما ذكرناه من قبل.
والمختار: جواز القصر لأنه قد بقي من الوقت ما يكفي لصلاة القصر فيلزمه القصر كما لو خرج في أول الوقت فإن فاتا والحال هذه صلاهما قصراً كما فاتا؛ لقوله : ((من نام عن صلاة أو نسيها فليؤدها إذا ذكرها)). وأراد تأديتها على حد فواتها قصراً أو إتماماً.
الفرع العاشر: وإن سافر ولم يبق من الوقت إلا ما يتسع لركعة واحدة مع الطهارة ففيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يؤدي الظهر تماماً فيقضيه لفوات وقتها، ويؤدي العصر مقصورة لأنه قد أدركها بإدراك ركعة منها. وهذا هو مذهب أئمة العترة وهو رأي أبي حنيفة والصحيح من مذهب الشافعي.
والحجة على هذا: ما رويناه من قوله : ((من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها)). فظاهر الخبر دال على إدراك الصلاة بإدراك ركعة منها.
المذهب الثاني: أنه يجب عليه قضاء الظهر تماماً ويؤدي العصر تامة من غير قصر. وهذا هو رأي المزني وأبي الطيب من أصحاب الشافعي.
وحجتهما: ما أسلفناه.
وإذا كان مدركاً لهذه الركعة في الوقت، فهل يكون مدركاً لجميع الصلاة بإدراكها أو يكون مدركاً للركعة أداء وباقيها قضاء؟. فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون مدركاً للصلاة كلها بإدراك هذه الركعة. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدركها)). فظاهر الخبر دال على إدراك الصلاة، وعلى هذا إذا كان مدركاً للصلاة كلها بإدراك ركعة صلاها قصراً لأن الوقت ممكن لصلاة القصر.
المذهب الثاني: أنه إنما أدرك الركعة الواحدة أداء، وعلى هذا يكون مؤدياً لما صلى في الوقت قاضياً لما صلى بعد خروج الوقت، وعلى هذا لا يجوز له القصر. وهذا هو المحكي عن بعض أصحاب الشافعي.
والمختار: أنه يكون مدركاً للكل بإدراك الركعة وهو الأصح من مذهب الشافعي لأن ظاهر الخبر دال عليه فلا حاجة إلى تأويل الخبر بأن المقصود بقوله: ((فقد أدركها)). أراد: أدرك الركعة، وهذا لا وجه له فإن الغرض إبانة حكم الصلاة في الإدراك وعدمه وليس الغرض إبانة إدراك الركعة فإنها مدركة لا محالة فلا حاجة إلى بيانها.
وإن سافر ولم يبق من الوقت إلا مقدار تكبيرة الإفتتاح فهل يكون مدركاً للصلاة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من الإدراك للصلاة. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الشافعي في أحد قوليه.
والحجة على هذا: هو أن ظاهر الخبر إنما دل على كونه مدركاً للصلاة بإدراك ركعة وما دون الركعة لا دلالة على كونه مدركاً به فلهذا بطل كونه مدركاً، وعلى هذا يكون قاضياً للظهر والعصر تماماً لأنهما فاتا في حال الإقامة.
المذهب الثاني: الجواز، وهو أنه يكون مدركاً للصلاة بإدراك التكبيرة. وهذا هو رأي أبي حنيفة.
وحجته على هذا: هو أن تكبيرة الإفتتاح أحد أركان الصلاة فكان مدركاً للصلاة كما لو أدرك الركعة، وعلى هذا تكون الصلاة قصراً كما لو أدرك الركعة.
والمختار: أنه لا يكون مدركاً للصلاة بإدراك التكبيرة؛ لأن حجته على ذلك إنما هو بالقياس، ولا مجرى للقياس في العبادات.
وإن سافر وقد خرج الوقت كله فإنه يقضي الظهر والعصر تماماً؛ لأنهما فاتا قبل التلبس بصلاة المسافر وقبل الخروج من عمران بلده وميلها.
الفرع الحادي عشر: فتنخل من مجموع ما ذكرناه أن المسافر إذا خرج من عمران بلده أو ميلها وقد بقي من الوقت إلى غروب الشمس ما يتسع للطهارة ولثلاث ركعات فإنه يجب عليه الظهر والعصر قصراً فإن فاتا قضاهما قصراً، وإن كان قد بقي منه ما يتسع للطهارة وركعة أو ركعتين فقط فإنه يقضي الظهر تماماً والعصر قصراً إذا فاتا، وإن خرج من الميل أو العمران ولم يبق من الوقت ما يتسع للطهارة وركعة قضى الصلاتين تماماً لفوات وقتهما، وإن خرج من الميل والعمران آخر الليل ولما يصلي الصلاتين وقد بقي من الوقت إلى طلوع الفجر ما يتسع للطهارة وخمس ركعات أو أربع مع الطهارة فإنه يصلي العشاء الآخرة قصراً لإدراكها مع المغرب. وإن كان لا قصر في صلاة المغرب كما قررناه من قبل، فأما ما يتعلق بالجمع بين الصلاتين في أول الوقت وآخره فقد مضى الكلام فيه في باب المواقيت.
---
الفصل الثالث في حكم الإقامة والاستيطان
اعلم أن الإقامة مبطلة حكم السفر ومبطلة للرخص التي هي مختصة به كالقصر والإفطار والجمع بين الصلوات، ولكن يبقى الكلام في مقدار الإقامة. وهكذا حال الاستيطان فإنه مبطل لحكم السفر أيضاً ولكن يبقى الكلام فيما به يكون المكان وطناً وما به يخرج عن الاستيطان ، ونحن نذكر ما يتعلق بكل واحد من هذين الأمرين ونوضحه ونذكر مسائله المختصة به بمعونة الله تعالى.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في بيان أقل الإقامة. وفيه مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أن أقل الإقامة عشرة أيام. وهذا هو رأي أئمة العترة القاسمية؛ الهادي والقاسم وأولادهما، ومحكي عن الناصر والمؤيد بالله وأحمد بن عيسى، ومروي عن ابن عباس من الصحابة، وهو قول الإمامية، ومروي عن الحسن بن صالح.
والحجة على هذا: ما روى الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا أقمت عشراً فأتم الصلاة. وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا أزمع أن يقيم عشراً أتم الصلاة(1).
ومثل هذا لا يصدر إلا عن توقيف من جهة الرسول÷ لأنه لا مجرى للإجتهاد في هذه المقدرات من العبادات وغيرها.
المذهب الثاني: أن أقل الإقامة خمسة عشرة يوماً. وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة(2).
__________
(1) وهما موقوفان على الإمام علي كرم الله وجهه كما أوضح المؤلف، والأخير رواه زيد بن علي بسنده عن علي بلفظ: إذا قدمت بلداً فأزمعت على إقامة عشر فأتم. اهـ مسند الإمام زيد ص 148 (طبعة 1966م).
(2) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 2/208، وهو في شرح الزرقاني 1/426.
ومثل هذا لا يصدر إلا عن توقيف من جهة الرسول÷ لأن هذه المقدرات لا تجري فيها الأقيسة ولا تعلم معانيها وتنسد فيها الأشباه، فلهذا كانت المقاييس فيها متعذرة.
المذهب الثالث: أن أقل الإقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج [وهو محكي عن الشافعي].
والحجة على هذا: وهو محكي عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب ومالك وأبي ثور، هو أن النبي÷ قال: ((يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثة أيام.))(1).
ووجه الدلالة: هو أن المهاجرين حرمت عليهم الإقامة بمكة قبل فتحها فلما فتحت وصارت دار إسلام تحرَّج المسلمون من الإقامة فيها ليكونوا على هجرتهم فكانوا لا يدخلونها إلا لأجل قضاء نسك، فلما أذن لهم الرسول÷ في الإقامة ثلاثاً دل على أنها في حكم السفر، وما زاد عليها في حكم الإقامة.
المذهب الرابع: أن أقل الإقامة إثنا عشر يوماً. وهذا هو المحكي عن الأوزاعي.
وعن ربيعة: يوم وليلة.
وعن الحسن البصري: إذا دخل المسافر بلداً أتم.
وعن عائشة: إذا وضع المسافر رحله أتم.
فهذه مذاهب العلماء في أقل الإقامة.
والمختار: هو تقدير الإقامة بالعشر من بين سائر الأعداد.
والحجة: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن هذه الأخبار الدالة على هذه الأعداد متعارضة، وإذا تعارضت وجب الترجيح لأنه لا يمكن العمل عليها أجمع لتناقضها، ولا يمكن إسقاطها أجمع لبطلان حكم المسألة فلم يبق إلا ترجيح بعضها على بعض، وخبرنا يمكن ترجيحه من جهتين:
الجهة الأولى: أن خبرنا تشهد له الأصول بالصحة وذلك في صور ست:
الأولى: في صوم المتمتع بدلاً من الهدي.
الثانية: أقل المهر عشرة دراهم.
__________
(1) نسب في (جواهر الأخبار) إلى (المهذب) تعليله قصر المهاجر على إقامة ثلاث في مكة، بقوله: لأن المهاجرين رضي الله عنهم حرم عليهم الإقامة بمكة، ثم رخص لهم النبي أن يقيموا بمكة ثلاثاً بقوله: ((يمكث المهاجر ... الحديث)) اهـ 2/46، وذلك كما ذكر المؤلف رحمه الله.
الثالثة: أقل ما يقطع به في السرقة عشرة دراهم.
الرابعة: أكثر الحيض مقدر عندنا بعشرة أيام.
الخامسة: صوم المحصر بدلاً من الهدي [عشرة أيام].
السادسة: الإطعام في كفارة اليمين [عشرة مساكين] (1).
فهذه صور ست تدل على اعتبار هذا العدد من بين سائر الأعداد التي أشار إليها الفقهاء. ولا شك أن الخبر الذي تشهد له الأصول أرجح من الخبر الذي لا تشهد له الأصول لأن كل واحدٍ من هذه الصور بمنزلة الشاهد على صحة هذا الخبر.
الجهة الثانية: أن هذا الخبر رواه أمير المؤمنين كرم الله وجهه، ولا شك أن الخبر يقوى بقوة سنده كما يقوى بقوة متنه، وأمير المؤمنين لا يعدل بروايته رواية غيره لما خصه الله تعالى به من العلم الوافر والورع الشحيح(2)
وحسن الذكاء وجودة الفطنة وتمييز الروايات والدراية بأحوال الرجال، ومن هذه حاله فلا شك في رجحان خبره على خبر غيره، وإذا كان راجحاً وجب العمل عليه دون غيره.
فحصل من مجموع ما ذكرناه، أن ظاهر الخبر الذي رواه أمير المؤمنين كرم الله وجهه في القوة والظهور كظاهر آية في كتاب الله تعالى، وفي هذه نهاية القوة والوثاقة في غلبات الظنون وقوتها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: أقل الإقامة خمسة عشر يوماً كما حكي عن أبي حنيفة، لما روى ابن عباس وابن عمر.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) لا يبدو أن في هذه التي ذكرها المؤلف شواهد على اختيار العشرة الأيام حداً لأقل الإقامة؛ لأن بالإمكان اعتبار الثلاث بدلاً من العشر، ثم الاستشهاد عليها بصور مثل صوم الكفارة، وغيرها كثير, والله أعلم.
(2) الشح: هو البخل بالشيء، والشحيح: البخيل، وهو اسم فاعل على صيغة فعيل، مثل: عليم. والمقصود به هنا: حرص أمير المؤمنين الشديد في ورعه عن أن يقول ما ليس مقطوعاً به لديه. راجع في تصريف المادة (لسان العرب) 2/495.
أما أولاً: فلأنا قد قررنا أن رواية أمير المؤمنين كرم الله وجهه راجحة على رواية غيره لما خصه الله تعالى به من الفضائل الباهرة والمناقب الظاهرة، فلهذا كانت روايته أحق بالقبول.
وأما ثانياً: فلأن الأمور العددية والتقديرات الشرعية إنما يكون مستندها قول صريح من جهة الرسول÷، وظاهر ما قاله ابن عباس وابن عمر هو الرأي والاجتهاد وليس مقبولاً في الأمور المقدرة.
نعم.. ظاهره أنه مذهب لهما واجتهاد من جهتهما لكنه لا يلزمنا قبوله لأن الآراء في المسائل الاجتهادية وإن كانت صائبة كلها لكنها مقصورة على من استنبطها وأحدثها برأيه، وأما غيره فلا يلزمه قبولها، وإنما الذي يجب قبوله ما كان عن صاحب الشريعة صلوات الله عليه في أقواله وأفعاله وإشاراته.
قالوا: روي عن الرسول÷ أنه قال: ((يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثاً)). قبل فتح مكة فلما أذن بالمقام في مكة بعد فتحها دل على أن الثلاث ليست إقامة، وأن ما زاد عليها يكون إقامة فلهذا كانت الأربع إقامة كما حكي عن الشافعي.
قلنا: لم يرد بالثلاث والأربع تعريف أقل الإقامة وإنما أراد بالثلاث مقدار قضاء الحوائج في مكة، فلهذا أذن بالثلاث قبل الفتح، وأذن بما فوق الثلاث بعد الفتح على جهة الإطلاق لما زال المانع وهو الكفر وأبدلها بالإسلام، فلهذا سمح بالمدة اليسيرة في المقام في دار الشرك لضرورة قضاء الحوائج.
ويؤيد ما ذكرناه: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((المؤمن والكافر لا تتراءى نيرانهما)). فدل على ما قلناه.
دقيقة.. إعلم أن للمحصلين من فقهاء مذهبنا كلاماً في إبطال مذاهب الفريقين الحنيفة والشافعية، عولوا فيه على الأقيسة واعتمدوها في إفساد ما عولوا عليه في مقدار أقل الإقامة.
فقالوا: رداً لرأي أبي حنيفة: في أن أقل الإقامة خمسة عشر يوماً، ولأنه نوى الإقامة مدة تزيد على ثلاثة أضعاف أقل مدة الحيض فوجب أن يلزمه الإتمام كما إذا عزم على إقامة خمسة عشر يوماً، ولأن ما لا يتقدر به أكثر مدة الحيض لا يجوز أن يكون مدة للإقامة. دليله: ما زاد على خمسة عشر يوماً.
ولأن الخمسة كسر العشرة فلا يزاد على العشرة في قدر الإقامة. دليله سبعة أيام أو تسعة أيام، ولأنه نوى الإقامة مدة لا تنقص عن أقل مدة الحيض فوجب أن يلزمه الإتمام كما لو أقام خمسة عشر يوماً.
وقالوا: رداً لكلام الشافعي: وهو أنه نوى الإقامة دون عشرة أيام فوجب أن يكون حكمه حكم المسافر، كما إذا نوى دون أربعة أيام، ولأنه نوى الإقامة مدة تنقص عن مدة أكثر الحيض فوجب أن لا يلزمه الإتمام كما لو نوى إقامة يومين أو ثلاثة، أو نقول: إن أربعة لا يتقدر بها أكثر الحيض فلا تكون مدة للإقامة. دليله ما ذكرناه، ولأن الأربعة كسر العشرة فلا يجوز أن تكون مدة الإقامة، دليله: خمسة أيام أو سبعة، فهذه القياسات كلها ذكروها في إفساد كلام الفقهاء.
واعلم أن هذه القياسات كلها وما أشبهها، من الطرديات المهجورة وجميعها من الاقناعيات المغمورة التي لا تعتمد في تقرير شيء من الأحكام الشرعية، ولا يعول عليها في جميع المضطربات الاجتهادية، وإنما تورد على جهة معارضة الفاسد بالفاسد وكتابنا هذا فلم نعتمد فيه على شيء من الأقيسة في العبادات خاصة إلا شاذاً نادراً وبعدنا عن كل طرد مهجور يستوي فيه إثبات الحكم ونفيه، وإنما نعتمد على الأقيسة المخيلة والأشباه القريبة من الإخالة في مواضعها التي تستعمل فيها الأقيسة والحمد لله.
فأما ما يحكى عن عائشة والحسن البصري والأوزاعي وربيعة من اختلاف مذاهبهم في مقدار الإقامة فلم أقف لهم على مستند شرعي يدل على ما قالوه من هذه التقديرات وإنما هي إجتهادات من جهة أنفسهم فلا يلزمنا قبولها، والله أعلم بالصواب.
الفرع الثاني: وهل تكون الإقامة مقصورة على البنيان والعمرانات أو تكون عامة في العمرانات والبراري والجزائر والبحر؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الإقامة كما تكون في العمرانات فقد تكون في البراري والبحار. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر، واختيار السيدين الأخوين، وهو قول الشافعي، ومحكي عن أبي يوسف، ومالك.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}[النساء:101]. ولم يفصل بين موضع وموضع في برٍ أو بحر أو مفازة أو دار حرب أو غير ذلك من المواضع التي تصلح فيها الإقامة.
المذهب الثاني: أن الإقامة إنما تكون في العمرانات ولا تجوز الإقامة في المفازة ولا في دار الحرب و[لا]في البحر. وهذا هو قول: أبي حنيفة، ومحمد.
والحجة على هذا: هو أن الإقامة إنما تصلح في موضع الإستقرار وهذه المواضع لا تصلح للإستقرار فلهذا لم تصح الإقامة فيها.
والمختار: هو جواز الإقامة في كل موضع يصلح للإستقرار كما قاله أئمة العترة ومن تابعهم.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[المزمل:20]. فلم يخص موضعاً من موضع في السفر لطلب الأرباح، وهكذا حال الإقامة فإنها تابعة للأسفار فحيث صلح السفر صلحت الإقامة من غير فرق.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إن هذه المواضع التي حكيناها عن أبي حنيفة لا تصلح للإستقرار فلهذا لم تكن صالحة للإقامة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أنها غير صالحة للإستقرار ولا معنى للإستقرار إلا التمكن من التصرفات بضروب من الإنتفاعات وهذا حاصل فيها.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه من القياس لا يعارض ما أوردناه من الآيات والأخبار الدالة على إمكان الإقامة في هذه الأماكن. وحكى الكرخي، عن ابن سماعة(1)
أن أبا يوسف ومحمداً قالا: إنها تصح الإقامة في المفازة خلافاً لما نقله ابن رستم.
فأما أبو حنيفة فقد قال: إن الإقامة لا تصح في المفازة ودار الحرب والبحر.
وإن نوى إقامة عشرة أيام في موضعين لم يلزم الإتمام عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة، وإن خالفنا في مقدار الإقامة.
والحجة على هذا: هو أنه لم ينو المقام في موضع أقل مقدار مدة الإقامة فلهذا كان غريباً يلزمه القصر.
ومن جهة: أنه باقٍ على السفر وعروض ما عرض من اللبث في موضعين لا يقطع سفره فلهذا لم يلزم الإتمام.
الفرع الثالث: والمسافر إذا لم يكن له نية في الإقامة وكان على عزم السفر يخرج اليوم يخرج غداً، فهل يقصر الصلاة أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه إذا كان على عزم السفر وتركه والتردد في حاله فإنه يقصر الصلاة شهراً، ثم يتم بعد ذلك أيَّ قدرٍ أقام، وهذا هو رأي الهادي والقاسم ومحكي عن الإمامية.
__________
(1) ترجم له في سير أعلام النبلاء 10/646 فقال: قاضي بغداد العلامة أبو عبد الله محمد بن سماعة بن عبيد الله بن هلال التيمي، الكوفي صاحب أبي يوسف ومحمد، حدث عن الليث والمسيب بن شريك، روى عنه محمد بن عمران الضبي والحسن بن محمد بن عنبر الوشاء، وصنف التصانيف، وثقه يحيى بن معين.
وقال أحمد بن عمران: سمعته يقول: مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي فصليت خمساً وعشرين صلاة أريد التضعيف، قلت: ولي القضاء للرشيد بعد يوسف بن أبي يوسف، ودام إلى أن ضعف بصره فصرفه المعتصم بإسماعيل بن حماد، عمر مائة سنة وثلاث سنين و توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
والحجة على هذا ما روى جعفر الصادق عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال في الذي يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، يقصر الصلاة شهراً. ومثل هذا لا يقوله إلا عن توقيف من جهة الرسول÷ لأنه لا مجال للإجتهاد في مقدار العبادات وكيفياتها.
المذهب الثاني: أنه يقصر أبداً. وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الأصل هو السفر وعروض التردد في الخروج لا يبطل كونه مسافراً، فلهذا وجب عليه القصر بكل حال.
المذهب الثالث: محكي عن الشافعي وله أقوال ثلاثة:
أولها: أنه يقصر أربعة أيام ثم يتم بعد ذلك.
وثانيها: أنه يقصر سبعة عشر يوماً أو ثمانية عشر يوماً إلا أن ينوي الإقامة فيما دون ذلك.
وثالثها: أنه لا يزال يقصر إلا أن يعزم على إقامة أربعة أيام.
والمختار: هو القصر بعد مضي الشهر إذا كان باقياً على التردد. كما قال أبو حنيفة، وأحد أقوال الشافعي.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا حججاً ثلاثاً:
الحجة الأولى: هو أن الأصل السفر وعروض التردد بعد إحراز مدة السفر لا يخرجه عن كونه مسافراً غريباً.
الحجة الثانية: هو أن التردد شك في أنه يخرج أو لا يخرج، والشك لا يبطل ما هو عليه من قبل من السفر وتحقق الغربة في حقه.
الحجة الثالثة: هو أنه بعد إنقضاء الشهر باقٍ على التردد فلأي شيء يكون مضي الشهر قاطعاً له عن التردد فكما لا يخرجه التردد قبل انقضاء الشهر عن كونه قاصراً، فهكذا بعد انقضاء الشهر لا يخرج عن كونه قاصراً.
ويؤيد ما ذكرناه من أن التردد بعد انقضاء الشهر لا يقطع حكم السفر، ما روي: أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة مع التردد، وروي عن أنس بن مالك: أنه أقام بنيسابور سنة أو سنتين يقصر الصلاة. وروي عن جماعة من الصحابة: أنهم أقاموا في بعض النواحي في الجهاد تسعة أشهر يقصرون الصلاة. فهذه القضايا كلها دالة على أن التردد لا يقطع حكم القصر في السفر.
الفرع الرابع: ويصير المكان مستوطناً بنية الاستيطان له كما يكون المقام مقاماً بنية الإقامة، فإذا دخله الإنسان صار مستوطناً له بالنية وتنقطع عنه رخص السفر لما روي عن الرسول÷ أنه دخل مكة يوم الرابع من ذي الحجة ثم خرج إلى منى يوم الثامن من ذي الحجة وهو يقصر الصلاة، وتأويل ذلك أن الرسول÷ دخل مكة يوم الرابع ولم يكن قد انتهى سفره لأنه كان يريد الخروج إلى عرفات، فلما خرج إلى عرفات لم ينو الإقامة ولا نوى الاستيطان فيها، فلهذا قصر فيها الصلاة وجمع بين الصلاتين، فلما فرغ من نسكه ونزل منى لم يدخل مكة وإنما نزل بالمحصب فلما كان من الغد دخل مكة وطاف بالبيت للوداع وراح إلى المدينة ولم ينو الإقامة بمكة ولا اتخذها مستوطناً.
ويخرج الوطن عن كونه مستوطناً بأمرين:
أحدهما: بالعزم على تركه.
وثانيهما: بالخروج منه.
فإن دخل المسافر بلداً في طريقه، فيها له أهل ومال ولم ينو الإقامة ولا الاستيطان لتلك البلدة فله أن يقصر، لما روي أن رسول اللّه÷ حج وحج معه خلق كثير من المهاجرين، وكذلك فإن أبا بكر حج بالناس في زمن رسول اللّه÷، وكذلك عمر وعثمان حجا بالناس وكان لهم بمكة دور ومال وقرابة، ولم ينقل أن أحداً منهم أتم الصلاة في مكة بل نقل عنهم، أنهم قصروا الصلاة، وما ذاك إلا لعدم النية في الاستيطان ولأن الاستيطان إنما يحصل بنية الإقامة أو بنية الاستيطان أو بأن يحصل في دار إقامته، ولم يوجد شيء من ذلك.
فإن خرج من وطنه فذلك يكون على أوجه ثلاثة:
أولها: أن يكون خروجه على عزم الإنصراف عنه وترك الاستيطان له إلى موضع يستوطنه ويعزم على سكونه، فمتى كان الأمر كما قلناه نظرت، فإن كان بينه وبين الموضع الذي يستوطنه مسافة القصر فإنه يقصر الصلاة، وإن كان دون ذلك فإنه يتم الصلاة. وإن رجع وجاوز الوطن الذي تركه فإنه يتم الصلاة إذا دخله لأنه قد تركه.
وثانيها: أن يكون خروجه على ترك الاستيطان لكنه لا يعزم على استيطان غيره فإن كان بينه وبين الموضع الذي يريد القصد إليه مسافة السفر فإنه يقصر الصلاة، وإن كان دون ذلك فإنه لا يقصر الصلاة.
وثالثها: أن يكون خروجه من وطنه الأول وهو عازم على استيطانه لكنه يريد استيطان موضع آخر فإذا كان الأمر هكذا نظرت، فإن كان بين الموضعين مسافة السفر فإنه يقصر الصلاة، وإن لم يكن بينهما مسافة السفر فإنه يتم الصلاة فإن رجع من الطريق إلى الموضع الأول فإنه يتم الصلاة لأن الوطن الأول لم يخرج عن الاستيطان فهلذا يجب عليه إتمام الصلاة إذا دخله، فعلى هذا التقدير تدور مسائل الباب.
الفرع الخامس: قال المؤيد بالله: ومن كان له بيت صيفيٌّ في الجبل وبيت شتويٌّ في السهل فنزل بأهله إلى السهل في الخريف ثم صعد إلى الجبل لحاجة له فإن دخل قريته وحانت الصلاة لزمه إتمام الصلاة ولا يسوغ له القصر، وهو الأقرب عندي لأنه لم يترك إستيطانها وإنما نزل إلى السهل للعود إليها في الربيع، وذلك لأنه بحصوله في وطنه يكون مقيماً وإن كان على عزم السفر إذ لا يصير مسافراً بنية السفر كما يكون مقيماً بنية المقام، ولهذا نقول: بأنه لا يقصر حتى يفارق البيوت والعمران إذا كان عازماً على السفر، وهذا يؤيد ما ذكره الهادي في الأحكام، حيث قال: وإن كان له في السفر موضعان يستوطنهما لم يقصر إذا بلغ واحداً منهما، وأراد أنه عازم على إستيطانهما جميعاً. وإن خرج من وطنه فسافر دون بريد فلما بلغه نوى أن يسافر مثله ثم لما بلغه نوى أيضاً مثله ثم كذلك فإنه يتم ولا يقصر.
ووجه ذلك: هو أنه لم يتوحد السفر الموجب لقصر الصلاة لأنه إذا سافر على هذا الوجه لا يكون مسافراً من حيث أنه لم ينو عند مسيره حد السفر فيكون مسيره ثانياً وثالثاً في إمتناع جواز القصر كمسيره أولاً.
الفرع السادس: والمسافر إذا دخل في الصلاة ثم نوى الاقامة وهو فيها فإنه يتم الصلاة على رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
ووجهه: ما قدمنا.
وهل يبني صلاة الإقامة على صلاة السفر أو يبتدئ الصلاة بتكبيرة يفتتحها؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يبتدئ الصلاة، صلاة الإقامة، بتكبيرة يفتتحها. وهذا هو الذي ذكره أبو العباس.
ووجهه: هو أن فرض المقيم غير فرض المسافر فإذا عزم على الإقامة تجدد عليه فرض مبتدأ وتجدده يقتضي تجديد نية مجددة وتجديد النية إنما يكون بتكبيرة يفتتحها(1).
وثانيهما: أنه يبني صلاة الإقامة على صلاة السفر، وهذا هو المختار لأنهما يختصان بوجه واحد.
ووجه ذلك: هو أن المصلحة إذا تجردت الصلاة عن نية الإقامة ركعتان بعد إحراز حد السفر، وإن حصلت نية الإقامة فالمصلحة أربع ركعات، فلما كانت المصلحة شاملة دل ذلك على اختصاصهما بوجه واحدٍ، وإذا كان الأمر هكذا جاز بناء صلاة الإقامة على ما حصل من صلاة السفر لما ذكرناه.
فإن تغيرت نيته ونوى السفر قبل خروجه من الصلاة فإنه يستمر على الإتمام لأنه إنما يكون مقيماً بأمر واحد وهو نية الإقامة، فأما السفر فإنما يكون مسافراً بأمرين: النية، والخروج من العمران أو التواري عن البيوت، فإذا حصلت النية فلم يحصل الخروج، فلهذا وجب استمراره على الإتمام. وهذا هو رأي أئمة العترة، واختاره الأخوان السيدان، وهو قول أكثر الفقهاء.
__________
(1) يقصد: يفتتح بها الصلاة.
وحكي عن المغربي(1)
من أصحاب داود من أهل الظاهر: أنه يكون مسافراً بالنية وحدها كما يكون مقيماً بالنية. وهذا فاسد فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}. وهذا فليس ضارباً فلهذا لم يكن مسافراً، ولأن محل الإقامة لا بد من إنفصاله عن محل السفر، وليس ذلك إلا بالخروج عن حد البلد ومفارقة الوطن كما قررناه.
الفرع السابع: ومن قصر الصلاة من غير نية القصر أعاد الصلاة إن كان وقتها باقياً، وإن كان فائتاً صلاها قضاءاً لأن نية القصر واجبة سواء كان القصر رخصة أو عزيمة.
وإن نوى القصر فصلاها تماماً على جهة السهو أجزته الصلاة ويسجد للسهو لأجل الزيادة لأن الرسول÷ صلى الظهر خمساً فلم يعد الصلاة وسجد للسهو، ولأن الزيادة إنما تكون مبطلة للصلاة إذا كانت على جهة العمد.
قال المؤيد بالله: ومن قصر في سفره وهو شاك في مدة السفر أنها مسيرة ثلاثة أيام ثم تحقق بعد ذلك أنها مسيرة ثلاثة أيام، صح ما صلى من صلاته. ومفهوم كلامه أنه إذا لم تتحقق المسافة بالثلاث أنه يعيد الصلاة لأن المدة أصل في صحة قصر الصلاة ولا يجوز القصر حتى تكون الصلاة جميعها في السفر، فإن حصل جزء من الصلاة في دار الإقامة لزمه أن يتم الصلاة لأنها لم تتمحض في السفر، وهذا نحو أن ينوي الإقامة في أثناء الصلاة في السفر فلهذا لزمه الإتمام كما ذكرنا.
__________
(1) الشيخ المحدث الثقة القدوة أبو عبد الله أحمد بن علي بن العلاء الجوزجاني ثم البغدادي، ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين، وسمع أحمد بن المقدام العجلي وزياد بن أيوب وأبا عبيد بن أبي السفر وطبقتهم، حدث عنه الدارقطني وعمر بن شاهين وعمر بن إبراهيم الكتاني وأبو الحسين بن جميع وآخرون، وكان شيخاً صالحاً بكاء خاشعاً ثقة، مات في ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة، سير أعلام النبلاء 15/248.
وإن أحرم بالصلاة على التمام وهو جاهل بأن له قصر الصلاة لأجل السفر ثم أنه سلم على ركعتين فإنه يجب عليه الإعادة في الوقت وقضاؤها بعد فوات الوقت أربعاً سواء قلنا بأن القصر رخصة أو عزيمة لأنه عقدها أربعاً، فإذا سلم على ركعتين منها فقد قصد إفسادها فلهذا لزمته الإعادة.
وإذا سافر رجلان وأحدهما يرى أن حد القصر في السفر بريد والآخر يرى أن حد السفر ثلاثة أيام، فإن جاوزا في السفر الثلاث جاز أن يأتم أحدهما بالآخر لاتفاق المذهبين في حد السفر، وإن جاوزا البريد لا غير جاز لمن اعتبر الثلاث أن يأتم بمن يعتبر البريد فيقتدي معه بركعتين ثم يقوم فيتم صلاته ويكون بمنزلة المسبوق، وإن ائتم من يعتبر البريد بمن يعتبر الثلاث فهل تصح صلاته أم لا؟ فيه تردد وكلام قد أوضحناه في صلاة الجماعة فأغنى عن تكريره.
الفرع الثامن: وإن سافر في البحر فركدت بهم الريح، فإن عزموا على إقامة عشرة أيام أتموا الصلاة، وإن هبت بهم الريح قصروا الصلاة، وإن ركدت الريح وهم في إنتظار هبوبها فعلى الإعتبار الذي ذكره أصحابنا في البراري يقصرون الصلاة شهراً ثم يتمون ما زاد، ولو وقفوا يوماً واحداً، وعلى ما اخترناه: يقصرون الصلاة كما قاله أبو حنيفة، لأنهم على ظهر السفر وقد قدمنا حكم المسألة.
والمسافر إذا دخل قرية فإن عزم على الإقامة عشراً أتم الصلاة، وإن عزم على الإنصراف قصر الصلاة، وإن لم ينو الخروج ولا الإقامة فهل يتم أو يقصر؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يتم الصلاة ويكون هذا منتهى سفره.
وثانيهما: أن يقصر الصلاة لأن الظاهر من حاله السفر لكونه غريباً، وهذا هو المختار لأنه بعد خروجه من وطنه فقد صار مسافراً تلحقه أحكام السفر.
وإن حاصر المسلمون قلعة أو حصناً أو قرية أو مدينة ولا يمنعهم من العودة إلى بلادهم إلا فتح هذه المواضع. فقال أصحابنا: يقصرون شهراً إذا كانوا على عزم الإنصراف وما زاد على الشهر فإنهم يتمون فيه ولو كان يوماً واحداً.
والمختار: أنهم مسافرون فيقصرون الصلاة ما داموا محاصرين حتى يفتح الله عليهم.
والحجة على ما قلناه: ما رويناه عن ابن عمر وعن أنس بن مالك من إقامتها على القصر ولو كان زائداً على الشهر.
الفرع التاسع: والذين يكونون تابعين لغيرهم في القصر والإتمام هم:
العبد: فإنه تابع لأمر سيده فلا أمر له معه لأن منافعه مستحقة لسيده فليس له إقدام ولا إحجام إلا بأمره.
والأجير الخاص: فإنه في معنى العبد من جهة أن منافعه قد صارت مستحقة للمستأجر له فهو تابع للمستأجر.
والمرأة مع زوجها: فإنها موقوفة على أمره فتكون مقيمة بإقامة زوجها ومسافرة بسفره لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ على النِّسَاءِ}[النساء:34].
والعساكر: فإنه لا نية لهم مع نية الإمام لأنهم تابعون لأمره غير مخالفين له فيما أمرهم به فلهذا كانوا مقيمين بإقامته مسافرين بسفره.
وهكذا حال من يصل إلى الإمام من البلدان البعيدة والأقطار والأقاليم فإن وصوله إلى الإمام يكون منتهى سفره ويتم الصلاة إذا قدم إلى الإمام في قضاء حوائجه من الفتاوى والإيراد والإصدار في أمور الأموال والقضاء والعزل والتولية وغير ذلك مما تقتضيه الإيالة والسياسة وإصلاح أمور الجهاد وفض(1)
لأموال على المستحقين.
وإن أسر المشركون رجلاً من المسلمين فساقوه معهم لم يجز له القصر من أول الأمر لأنه لا يتحقق المسافة التي يُحمَل إليها هل تكون قريبة أم بعيدة، فإن ساروا به إلى موضع تُقْصَر فيه الصلاة فإنه يقصر الصلاة.
وإن أبق له عبد وسار في طلبه إلى بلد تقصر فيه الصلاة جاز له القصر كما ذكرناه في غيره.
__________
(1) هكذا في الأصل، والمراد: وتوزيع، بحسب مفهوم السياق. والله أعلم.
الفرع العاشر: والملاحون وهم اللذين يعالجون السفن ويصلحونها لتكون صالحة للسير في البحر إذا كان معهم أهلهم وأموالهم وأولادهم لا يفارقونهم فيها، فهل يكون لهم القصر إذا سافروا في البحر أم لا؟ فعلى رأي أئمة العترة القاسمية، أنه يجب عليهم قصر الصلاة كما يجب على من يكون في البر. وعلى رأي الناصر، القصر رخصة فيجوز لهم القصر وإن أتمُّوا جاز.
وحكي عن الشافعي أنه قال: والملاحون إذا سافروا في البحر أحببت لهم أَلاَّ يقصروا لأنهم في أوطانهم ومستقرهم، وإن قصروا جاز لأنهم مسافرون.
وحكي عن أحمد بن حنبل، أنه لا يجوز لهم القصر.
والمختار: جواز القصر في حقهم لأنهم مسافرون سفراً مباحاً تقصر فيه الصلاة فجاز لهم القصر للصلاة كما لو لم يكن معهم أهلهم وأولادهم، وهكذا حال من ينتجع مواضع القطر ويتبعها ويحلها، وإذا شام برقاً اتبعه أينما وجده وأبصره وهمه مواضع الخصب يقف فيها وتكون بغيته ومقصده ولا يقصد موضعاً بعينه، فإنه إذا كان بينه وبين الموضع الذي يريده مسافة السفر فإنه يجوز له القصر، وإن لم يكن بينهما حد السفر ومسافته أتم الصلاة.
---
كتاب صلاة الخوف
صلاة الخوف، هل تكون ثابتة أو منسوخة أو خاصة للرسول ؟ فيها مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنها ثابتة غير منسوخة. وهذا هو رأي أئمة العترة القاسم والهادي والناصر، واختاره السيدان أبو طالب والمؤيد بالله، وهو محكي عن جلة الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ}[النساء:102]. فهذا نص صريح في ثبوت صلاة الخوف في زمن الرسول ولم تدل على تغييرها دلالة شرعية بنسخ ولا تغيير ولا خصوصية فإن الله تعالى قد عرف نبيه كيفية الصلاة في كتابه الكريم.
المذهب الثاني: أنها منسوخة. وهذا هو المحكي عن المزني وحكاه عنه الجوزجاني(1).
والحجة على هذا: هو أن هذه الصلاة مخالفة للصلاة المشروعة في صفتها وكيفيتها ولم تكن إلا على عهد الرسول لما ألجأه المشركون إلى ذلك ثم لما نصر الله نبيه وأظهر الدين على يديه وانبسط الإسلام وامتد جرانه نسخت من بعد الرسول .
المذهب الثالث: أنها وإن لم تكن منسوخة فإنها خاصة للرسول في أيامه كسائر التخصيصات التي كانت له كوجوب الوتر والأضحية والتهجد من الليل، وفائدة التخصيص أنه ليس لأحد بعد الرسول فعلها لأنها لو فُعلت بطل التخصيص.
والمختار: ما عليه أئمة العترة وأكثر الفقهاء من إثباتها وتقريرها.
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي الجوزجاني، أبو إسحاق: محدث الشام وأحد الحفاظ المصنفين المخرجين الثقات، نسبته إلى جوزجان (من كور بلخ بخراسان) ومولده فيها، رحل إلى مكة ثم البصرة ثم الرملة، وأقام في كل منها مدة. ونزل دمشق فسكنها إلى أن مات، له كتاب في (الجرح والتعديل) وكتاب في (الضعفاء). وقال ابن كثير: له مصنفات منها: (المترجم) فيه علوم غزيرة وفوائد كثيرة، توفي سنة 259هـ-873م. اهـ (الأعلام)1/81.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وهذا عام في جميع الأحوال.
الحجة الثانية: ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه صلى بأصحابه صلاة الخوف ليلة الهرير في أيام صفين، وسميت ليلة الهرير لما كان بعضهم يهر على بعض من شدة القتال وإتصال بعضهم ببعض.
وروي أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف في بعض الغزوات، وروي أن سعيد بن العاص(1)
كان أميراً للجيش بطبرستان(2)
__________
(1) هو سعيد بن العاص الأموي القرشي سمع عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة، سمع منه سالم وابنه يحيى، وقال مسدد: مات سعيد بن العاصي وأبو هريرة وعائشة وعبد الله بن عباس سنة سبع أو ثمان وخمسين، وقال سعيد بن يحيى: كنية سعيد أبو عثمان بن العاصي بن سعيد أبي أحيحة بن العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وقال سعيد: أبو عبد الرحمن القرشي، مات سنة تسع وخمسين. اهـ التأريخ الكبير 3/502.
وزاد في الجرح والتعديل 4/48: وهو سعيد بن العاص بن أبي أحيحة، وأبو أحيحة اسمه: سعيد بن العاص القرشي، له صحبة، روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، روى عنه ابنه ويحيى وسالم بن عبد الله بن عمر.
(2) طَبَرِستان: بفتح أوله وثانيه وكسر الراء، بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم، خرج من نواحيها من لا يحصى كثرة من أهل العلم والأدب والفقه، والغالب على هذه النواحي الجبال، وطبرستان في البلاد المعروفة بمازندران، وهي بين الري وقومس والبحر وبلاد الديلم والجيل، ومن أعيان بلدانها:
…دهستان وجرجان واستراباذ وآمل، زعم أهل العلم بهذا الشأن أن الطيلسان والطالقان وخراسان، ما عدى خوارزم، من ولد أشبق بن إبراهيم الخليل، والديلم، بنو كماشج بن يافث بن نوح ، وأكثرهم سميت جبالهم بأسمائهم إلا الأيلام قبيل من الديلم فإنهم من ولد باسل بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر. انتهى ملخصاً من (معجم البلدان) لياقوت الحموي 4/13.
فأراد أن يصلي صلاة الخوف فقال: هل منكم من صلى مع رسول اللّه صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. فقدمه حتى صلى بهم ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، فدل ذلك على أنه إجماع من جهة الصحابة رضي الله عنهم.
الحجة الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ على الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً}[النساء:103]. والمراد أنها ثابتة في جميع الأوقات كلها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إنها نسخت بعد الرسول فلا يجوز إثباتها.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن النسخ إقرار بثبوتها، وإدِّعاء نسخها فلا بد عليه من دلالة شرعية لأن الحكم لا يجوز نسخه إلا بأمر شرعي ولا دلالة هاهنا تدل على النسخ فلا يجوز إثبات النسخ من غير دلالة.
وأما ثانياً: فلأنها ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وما هذا حاله فلا يجوز [فيه] نسخ الكتاب إلا بالكتاب ولا يجوز نسخ السنة إلا بالكتاب والسنة، وأما الإجماع فلا يجوز نسخه ولا النسخ به كما قررناه في الكتب الأصولية. فبطل ما ادعوه من النسخ.
قالوا: هي خاصة بالرسول في زمنه وما كان خاصاً للرسول فلا يكون لغيره.
قلنا: فعله وإن كان الأصل أنه خاصٌّ به إلا أن تدل دلالة على تعديته إلى غيره وقد تقررت التعديه بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]. وبقوله: {وَاتَّبِعُوْهُ} وبقوله : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وإذا تقررت التعدية بهذه الأدلة فلا وجه لقولهم أنه مخصوص بفعلها لما ذكرناه.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: وهل تكون في السفر والحضر؟ أو لا تكون إلا في السفر؟. فيه مذهبان:
المذهب الأول: جوازها في السفر والحضر جميعاً. وهذا هو رأي زيد بن علي والناصر، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ}[النساء:102]. فأمر بصلاة الخوف ولم يفصل بين أن تكون في حال السفر أو في حال الحضر.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول : أنه صلى بالنخيلة الظهر أربعاً، فكانت أربعاً له ولهم، ولأن قصر الصلاة إنما يكون للسفر ولم يكن مسافراً، وفي هذا دلالة على ما قلناه.
المذهب الثاني: أنها لا تجوز إلا في حال السفر. وهذا هو رأي القاسم والهادي.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ}[النساء:101].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله تعالى لم يوجب القصر في الصلاة إلا بشرط الخوف، فدل ذلك على أنها مشروطة بالخوف.
الحجة الثانية: هو أن طريق إثبات هذه الصلاة الشرع، ولم يثبت أن الرسول صلاَّها إلا في حال الخوف في السفر، وقد قال : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
والمختار: جواز فعلها في الحضر كما تجوز في السفر فيصلي بطائفة ركعتين، وبطائفة آخرى ركعتين كما جاز أن يصلي في حال السفر بطائفة ركعة، وبطائفة أخرى ركعة أخرى من غير تفرقة بينهما.
وحجتهم: ما ذكرناه عن الناصر.
ونزيد هاهنا: وهو ما روى أبو بكر رضي الله عنه: أن الرسول صلى صلاة الخوف أربعاً فصلى بطائفة ركعتين، وبطائفة أخرى ركعتين. وفي هذا دلالة صريحة على أنه كان مقيماً ولهذا صلى أربعاً.
الحجة الثانية: هو أن هذه الصلاة إنما هي على قدر ما يعرض من الخوف، ولا شك أن الخوف كما يعرض في حالة السفر فربما عرض في الحضر فلا وجه لقصرها على حالة السفر.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}[النساء:101]. فلم يوجب القصر إلا بشرط الخوف في السفر.
قلنا: ظاهر الآية دال على أنها في حال السفر مفعولة، وليس فيها دلالة على المنع من فعلها في الحضر.
قالوا: روي عن الرسول أنه لم يفعل هذه الصلاة إلا في حال السفر والشرع مأخوذ من جهته، وقد قال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد روينا ما كان من حديث أبي بكر فإنه دال على فعلها من جهته في حال الحضر.
وأما ثانياً: فلأن الدليل الشرعي بالخطاب قد دل على فعلها في حال الحضر فيجب القضاء به سواء فعلها الرسول أو لم يفعلها لأن خطابه في الدلالة أقوى من فعله فإن الخطاب متعد بنفسه على ما يدل عليه والفعل لا يدل إلا بدلالة منفصلة عن كونه متعدياً إلى غيره.
الفرع الثاني: وهل تُصَلَّى هذه الصلاة في أول الوقت أو في آخره؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها إنما تُصَلَّى في آخر الوقت. وهذا هو رأي الهادي والقاسم واختيار أبي العباس.
والحجة على هذا: هو أن هذه الصلاة بدل عن صلاة الأمن فلا يجوز فعل البدل إلا بعد الإياس من المبدل [منه] كالإعتداد بالأشهر فإنه بدل عن الإعتداد بالأقراء فلا يجوز العدول إلى الأشهر إلا بعد الإياس من الأقراء ولا شك أن الإياس في مسألتنا إنما يحصل في آخر الوقت.
المذهب الثاني: أنها تفعل في أول الوقت كما نقوله في سائر الصلوات. وهذا هو رأي الناصر وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء:78].
ووجه الدلالة من الآية: هو أنه علق الصلاة بأول الدلوك ولم يفصل بين الصلاة في الأمن والخوف. لكن الناصر ذكر أن الاستحسان يوجب تأخير الصلاة إلى آخر وقتها لأنه ربما زال العذر فيؤدي الصلاة من غير نقص في حالها لما يعرض فيها من مخالفة الإمام والملاقاة والمزاحمة والمدافعة وغير ذلك مما يوجبه الحال في العذر ويقتضيه.
والمختار: وجوب تأديتها في أول وقتها على جهة التوسيع كما قاله الناصر وغيره.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو قوله : ((أول الوقت رضوان اللّه، وآخره عفو اللّه))(1).
ولأنها صلاة مفروضة متعلقة بوقت فكان تأديتها في أول وقتها أفضل كما لو لم يكن هناك عذر، ولقوله : ((صلوا الصلاة لوقتها)).
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: صلاة بدلية فلا يجوز فعلها إلا بعد الإياس من المبدل منه.
قلنا: لا نسلم أنها بدلية وإنما هي صلاة مخاطب بأدائها في أول وقتها كما في صلاة الأمن.
ومن وجه آخر: وهو أن الصلاة لها فضيلتان: فضيلة الوقت وفضيلة الكمال، فإذا فاتت فضيلة الكمال بما عرض من عذر المقاتلة والمزاحمة والمدافعة فلا تبطل فضيلة أول الوقت.
ثم إذا زال العذر وفي الوقت بقية فهل يلزم إعادة الصلاة أم لا؟ فالظاهر من كلام الإمامين القاسم والناصر: وجوب الإعادة لأنهم مخاطبون بتأدية الصلاة كاملة. وظاهر كلام المؤيد بالله: أنه إذا كان العذر نادراً وجبت إعادة الصلاة، وإن كان غير نادر لم تلزم إعادتها.
والمختار: أنه لا تلزمهم الإعادة لأنهم معذورون في تأديتها على هذا الوجه وقد قال : ((لا ظهران في يوم ولا عصران في يوم)). لكنه يستحب لهم الإعادة عند زوال العذر لتكون مؤداة على الكمال.
الفرع الثالث: هل يجب حمل السلاح في حال الصلاة أو يكون مستحباً؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن حمله واجب. وهذا هو قول الناصر، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو قوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}[النساء:102]. وهذا أمر والأمر الشرعي بمطلقه دال على الوجوب.
المذهب الثاني: أن حمله مستحب. وهذا هو قول القاسمية، ومحكي عن الحنفية.
والحجة على هذا: هو أنها صلاة مفروضة فلا يجب أخذ السلاح فيها كسائر الصلوات المكتوبة وهو أحد قولي الشافعي.
__________
(1) تقدم في الأوقات، وقد ورد في (التمييز) لابن عبد البر 4/340 وفي غيره.
والمختار: وجوب حمل السلاح في صلاة الخوف لما ذكروه من ظاهر الأمر في الآية.
ونزيد هاهنا: وهو أن الله تعالى أكد الأمر عليهم بدليل أمور ثلاثة:
أولها: قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}[النساء:102]. ولا حذر أعظم من حمل السلاح وتحمله لأن فيه أعظم الحذر وأقواه ولما يحصل فيه من ربط الجأش وقوة القلب في الإقدام.
وثانيها: قوله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}[النساء:102].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله تعالى رخص لهم في وضع الأسلحة عند المطر والمرض. ورفع الجناح إنما يكون رخصة في ترك الأمور الواجبة كما قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}[النساء:101]. وفي هذا دلالة على الوجوب كما ذكرناه.
وثالثها: قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}[النساء:102].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله تعالى أكد أمر أخذ الأسلحة بتحذيره من غدر الكفار ومكرهم وأنهم مترقبون لحصول الفرصة بالغفلة عن أخذ الحذر. فهذه الوجوه كلها دالة على ما قلناه من تأكيد الأمر في أخذ الأسلحة وإلتزامها في حال الصلاة في حالة الخوف.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: صلاة مفروضة فلا يجب حمل السلاح فيها كسائر الصلوات المفروضة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم صحة قياسكم هذا لأنه معارض بظواهر هذه الآيات الدالة على تأكد الوجوب بأخذ السلاح وحمله، ومن شرط صحة القياس ألا يكون معارضاً لشيء من أدلة الكتاب والسنة فمتى عارضها فهو دلالة على فساده وبطلانه.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا لكم صحة هذا القياس لكنا نقول: إن صلاة الخوف خارجة عن الأقيسة الشرعية على سائر الصلوات في أكثر أحكامها وشرائطها.
ويؤيد ما ذكرناه: أن سائر الصلوات لما لم يجب فيها حمل السلاح ولبسه فلا يجوز فيها المشي والدوران والمدافعة والمقاتلة، وفي صلاة الخوف يجوز ذلك كله فدل ذلك على أنها مخالفة لسائر الصلوات فلا يبعد وجوب أخذ الأسلحة ولبسها فيها كما أشرنا إليه.
الفرع الرابع: وتجوز صلاة الخوف في القتال الواجب والمستحب والمباح، فأما القتال الواجب فنحو جهاد الكفار ومقاتلتهم على التزام أحكام الإسلام ونحو مقاتلة أهل البغي والظلم وجهادهم حتى يرجعوا إلى الحق ويفيئوا إليه مع الإمام، فإن ما هذا حاله تجوز فيه صلاة الخوف إذا ألجئوا إليها لأنهم محقون فيما فعلوه من القتال، ونحو من يقصد(1)
إلى هلاك نفسه إذا قلنا بأن الدفع واجب فإن له صلاة الخوف إذا ألجئ إليها لأنه محق في الدفع عن نفسه الهلاك.
وأما المستحب: فنحو الدفع عن المسلمين، وعن أهل الذمة من أراد قتلهم وأخذ أموالهم، فإن ما هذا حاله يستحب الدفع عنهم إذا لم يتكامل فيه شرائط الوجوب فإن تكاملت فيه فإنه يكون واجباً لأن ما هذا حاله يكون من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كان القتال لا يؤدي إلى ضرر عليه في نفسه وماله توجه الوجوب والدفع عنهم، وإن كان يؤدي إلى ذلك استحب له الدفاع ولم يكن واجباً، وعلى هذا تجوز له صلاة الخوف لأنه محق في قتاله ودفعه.
وأما المباح: فنحو قتاله لمن أراد أخذ ماله فإنه يجوز له دفعه ويجوز له الترك فإذا ألجئ في دفعه إلى صلاة الخوف جاز له فعلها.
الفرع الخامس: وهل تجوز صلاة الخوف في طلب العدو أم لا؟ فيه وجهان:
__________
(1) هكذا في الأصل كلمة غير مفهومة. ومع احتمال أن تكون (يُقْصَدُ) فإن الفعل قد يكون مصاغاً للمجهول باعتبار أن غيره قصد به أو دفعه إلى إهلاك نفسه مكرهاً. والله أعلم.
الوجه الأول: المنع من ذلك. وهذا نحو أن يدخل الإمام والمسلمون بلاد العدو من الكفار والبغاة ويبلغون في بلادهم مبلغاً عظيماً في القهر والغلبة لهم والإستيلاء عليهم، أو يكون الكفار والبغاة قد انهزموا هزيمة فاضحة بحيث لا يرجى لهم رجوع ولا يجتمعون على القرب ويقطع على تفرق جموعهم، فإذا كانت الحال هكذا فإنه لا يجوز للإمام ولا للمسلمين صلاة الخوف لأنهم في هذه الحالة آمنون، وهذه الصلاة مشروطة بالخوف فلهذا لم يكن لهم فعلها.
الوجه الثاني: أن يدخل الإمام والمسلمون معه بلاد العدو ويبلغوا فيها بلداً لا يأمنون وقوع العدو عليهم ويخافون حصول النكاية والإستيلاء، أو يكون الإمام والمسلمون قد هزموا الكفار والبغاة ويمكنهم الرجوع على المسلمين والإمام والإجتماع عليهم ولا يؤمن ذلك منهم لقلة عدد المسلمين وكثرة العدو وقوة شوكته فإذا كانت هذه الحالة جازت لهم صلاة الخوف لأن الخوف حاصل بما ذكرناه.
الفرع السادس: في صفة صلاة الخوف.
إعلم أن أبا عيسى الترمذي
(1)
__________
(1) محمد بن عيسى بن سورة بن الضحاك السلمي، صاحب الجامع والعلل، الضرير الحافظ العلامة، طاف البلاد، وسمع خلقاً كثيراً من الخراسانيين والعراقيين والحجازيين وغيرهم، روى عن محمد بن المنذر والهيثم بن كليب وأبو العباس المحبوبي وخلق، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر.
…وقال أبو سعد الإدريسي: كان أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنف كتاب الجامع والعلل والتواريخ، تصنيف رجل عالم متقن، كان يضرب به ا لمثل في الحفظ، مات بترمذ في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. اهـ طبقات الحفاظ 1/282، وهو أحد الأربعة أصحاب السنن المشهورة الذين يعتد بهم في رواية الحديث، هو والنسائي وابن ماجة وأبو داود، وإذا قيل الخمسة يضاف إليهم أحمد، والستة هؤلاء الأربعة والبخاري ومسلم، والله أعلم.
…وللترمذي تراجم في مختلف كتب التواريخ، منها: ميزان الاعتدال 6/689، وفي الكاشف 2/208، وغيرهما.
ذكر في صحيحه: أن الرسول صلى صلاة الخوف في مواضع كثيرة على أوجه مختلفة في الأفعال وما ذاك إلا من أجل ما يعرض من شدة الحرب وسهولتها، فيكون العمل فيها على قدر الحال.
فإذا عرفت هذا، فلنذكر ما ورد من أفعال الرسول في الخوف، ثم نردفه بذكر خلاف العلماء فيما ورد عنه في كيفية الصلاة، ثم نذكر المختار من ذاك، ثم نذكر حكم الصلاة عند شدة إلتحام القتال والشغل بالمكافحة.
فهذه أطراف أربعة تحيط بالمقصد مما نريده في صفة صلاة الخوف.
---
الطرف الأول في بيان ما ورد عن الرسول في كيفية صلاة الخوف.
وجملة ما ورد عنه يأتي على أضرب ثلاثة:
الضرب الأول: صلاته بعسفان(1)
حيث لم يشتد الخوف وكان العدو في جهة القبلة وكان خالد بن الوليد في صف الكفار عوناً لهم على القتال، فلما دخل وقت العصر قال المشركون: قد دخل عليهم وقت صلاة هي أحب إليهم من أرواحهم فإذا شرعوا فيها حملنا عليهم حملة واحدة أصبنا منهم فيها غرضنا. فنزل جبريل فأخبر الرسول بما هموا به فجعل أصحابه فرقتين، وهذه الصلاة مشروطة بأمور ثلاثة:
أولها: أن يكون العدو في جهة القبلة.
وثانيها: أن يكون المسلمون في كثرة والعدو في قلة.
وثالثها: ألا يأمن المسلمون من مكر العدو ووثوبه وإنكبابه عليهم.
فإذا حصلت هذه الشروط الثلاثة(2)
أحرم الرسول بعد أن جعلهم فرقتين، فرقة في وجه العدو، وتصلي خلفه فرقة، فإذا كانت الصلاة ركعتين كما ذكرنا فإنه يصلي بالفرقة الأولى ركعة، فإذا قام إلى الثانية ثبت قائماً ونوت الفرقة الأولى مفارقته وأتموا الركعة الثانية لأنفسهم ثم يمضون إلى وجه العدو، وتأتي الفرقة الثانية ويحرمون خلف الرسول وينوون الإقتداء به فيصلي بهم الركعة الثانية فإذا سلم قاموا فأتموا الركعة الثانية لأنفسهم، فهذه هي الصلاة المأثورة عنه، وليس فيها إلا هذه المخالفة التي ذكرناها وهي مغتفرة لأجل العذر بالخوف.
__________
(1) ورد الخبر في رواية لأبي داود وأخرى للنسائي نحوها، وفي (الجواهر)2/51 أورد الحديث برواية أبي داود وقال: وأخرج مسلم رواية جابر في غزوة قِبَلَ نجد نحوه. اهـ. قال: وعُسْفان بضم العين وسكون السين المهملتين ثم فاء، موضع قريب من مكة بينهما أربعة برد.
(2) هكذا في الأصل، والعبارة غير مستقيمة كما ترى، ويمكن وضع كلمة (فلمَّا) بدلاً عن: (فإذا) لتكون العبارة: فلمَّا حصلت هذه الشروط الثلاثة أحرم الرسول ... إلخ.
الضرب الثاني: صلاة ذات الرقاع ـ والرقاع بالراء [المكسورة] والقاف وعين مهملة، جمع رقعة كبرمة وبرام ـ واختلف في تسميته ذات الرقاع على قولين:
أحدهما: أنه إسم لجبل مختلفة رقاعه فمنها أسود ومنها أحمر ومنها أصفر فلما اختلفت ألوانها قيل له: ذات الرقاع.
وثانيهما: أنه إسم لأرض جرز فيها خشونة مشى فيها ثمانية نفر في فدفد فذهبت أظفارهم وتفتت أقدامهم فكانوا يعصبون على أقدامهم بالخرق فسميت: ذات الرقاع.
وأما عسفان: فهو بضم العين المهملة والسين بثلاث من أسفلها(1)
وفاء، اسم واد. ولا بد في هذه الصلاة من إعتبار تلك الشروط الثلاثة التي ذكرناها في صلاة عسفان، وهذه الصلاة لا تكون إلا في حال إلتحام القتال فلا تحتمل الحال تخلف الكل واشتغالهم بالصلاة، فصدع الرسول أصحابه صدعين فانحاز بطائفة إلى حيث لا تبلغهم سهام العدو فصلى بهم ركعة وقام بهم إلى الثانية، فانفردوا بالركعة الثانية وسلموا وأخذوا مكان إخوانهم في الصف الأول وانحازت الفرقة المقاتلة إلى رسول اللّه وهو قائم ينتظرهم فاقتدوا به في الركعة الثانية فلما قعد رسول اللّه في الثانية قاموا فأتموا الركعة الثانية لأنفسهم وتشهدوا وسلم بهم رسول اللّه . فصار في صلاة ذات الرقاع روايتان:
__________
(1) يعني السين المهملة إذ كانت تنقط بثلاث من تحت في مقابل المعجمة لدى اليمنيين كما يبدو خاصة. والله أعلم.
الرواية الأولى: رواية خوات بن جيبر (1)
وهي الرواية التي ذكرناها وهي التي أخذ بها أصحابنا والشافعي واعتمدوها لأمرين:
أما أولاً: فلأن رواية خوات عليها أكثر الرواة وهي إلى الإحتياط وقلة الأفعال في الصلاة المستغنى عنها أقرب.
وأما ثانياً: فلأنها آخر الغزوات لأنها مقيدة بذات الرقاع ورواية ابن عمر مطلقة فلهذا كان العمل برواية خوات أولى.
__________
(1) خوات بن جبير بن النعمان بن أمية الأنصاري، أبو عبد الله وأبو صالح، ذكره موسى بن عقبة وإسحاق وغيرهما في البدريين، وقالوا: إنه أصابه في ساقه حجر فرد من الصفراء وضرب له بسهمه وأجره، ذكره الواقدي وغيره وقالوا: شهد أحداً والمشاهد بعدها، فروى البغوي والطبراني من طريق جرير بن حازم عن زيد بن أسلم أن خوات بن جبير قال: نزلت مع النبي بمر الظهران قال: فخرجت من خبائي فإذا نسوة يتحدثن فأعجبنني فرجعت فأخذت حلتي فلبستها وجلست إليهن وخرج رسول الله من قبته، فلما رأيته هبته فقلت: يا رسول الله جمل لي شرد فأنا ابتغي له قيداً... الحديث بطوله في قوله: ما فعل شراد جملك.
…وروى الطبراني وابن شاهين من طريق عبد الله بن إسحاق بن الفضل بن العباس، حدثنا أبي حدثنا صالح بن خوات بن صالح بن خوات بن جبير عن أبيه عن جده عن خوات مرفوعاً: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)).
…قال الواقدي: عاش خوات إلى سنة أربعين فمات فيها وهو ابن أربع وسبعين سنة بالمدينة، وكان ربعة من الرجال، وقال المرزباني: مات سنة اثنتين وأربعين. اهـ الإصابة 2/346، وله تراجم في الكنى والأسماء 1/434، وفي التأريخ الكبير 3/216، وفي تهذيب التهذيب 3/147 وغيرها.
الرواية الثانية: رواية ابن عمر، وهي أن الرسول لما قام إلى الثانية لم ينفردوا بالركعة الثانية لكن أخذوا مكان إخوانهم في الصف وهم باقون على الإحرام بالصلاة وجاء الآخرون فصلوا ركعة فتحلل بهم رسول اللّه من الصلاة ثم رجعوا إلى مكان إخوانهم وعليهم ركعة ورجع الفريق الأول فأتموا الركعة الثانية منفردين ونهضوا إلى الصف وعاد الآخرون وأتموا كذلك.
الضرب الثالث: صلاته ببطن النخل(1)
ولا بد فيها من إعتبار الشروط التي ذكرناها في صلاة ذات الرقاع، وصلاة عسفان، خلا أن العدو كان في غير جهة القبلة، فإذا كان الأمر كما قلناه فإنه يصدع أصحابه صدعين فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين ثم يسلم، ثم يصلي بالطائفة الثانية ركعتين ثم يسلم، هي له سنة ولهم فريضة. فعلى رأي الشافعي: يجوز ذلك لأنه ليس فيه إلا أن يقتدي المفترض بالمتنفل وهذا سائغ عنده كما مضى تقريره في صلاة الجماعة، وعلى رأي الأئمة من العترة أن ما هذا حاله فهو متأول على أنه منسوخ أو على أن الصلاة كانت حاصلة في الحضر مع الخوف، فهذه صلاة الرسول في حال خوفه في هذه المواطن الثلاثة وإختلافها على قدر حالة الخوف.
ويستحب للإمام إذا صلى صلاة الخوف: أن يخفف القرآءة في الركعة الأولى لأنها حالة حرب وكفاح للعدو وحمل سلاح، وهكذا فإنه يستحب للطائفة الأولى والثانية إذا فارقتا الإمام لإتمام ما عليهما من الصلاة أن يخففا القراءة؛ لأنهم يريدون لقاء العدو ويخاف منه الوثبة مع التطويل للقراءة والتثاقل.
وأما الإمام فإنه يستحب له أن يطول القراءة في الركعة الثانية لتدركه الفرقة الثانية لأنه موضع حاجة. والطائفة ثلاثة نفر فما فوقها.
ويكره: أن يصلي الإمام بأقل من ثلاثة نفر وأن يحرسه أقل من ثلاثة لظاهر الآية.
__________
(1) قال ياقوت في معجمه: بطن نخل: جمع نخلة، قرية قريبة من المدينة [المنورة] على طريق البصرة، بينهما الطرف على الطريق، وهو بعد أبرق العزاف للقاصد إلى مكة. اهـ 1/449.
ويستحب: أن تكون الطائفة التي تصلي مع الإمام ثلاثة فما زاد عليها. وهكذا حال الطائفة التي تحرسه. هذا الاستحباب على قدر الإمكان فإن قَدَّرْنَا أنهم خمسة مع الإمام فإنه يصلي مع الإمام ثلاثة ركعة واحدة ثم ينصرفون إلى لقاء العدو ويجيء الرجلان الآخران فيصليان الركعة الثانية كما قلناه في الطائفتين من غير فرق لأجل العذر بقلة العدد في الثانية، وإنما قلنا: أن أقل الطائفة ثلاثة فلأن أهل اللغة قد نقل عنهم ذلك، ولقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} وهذا خطاب للجمع وأقل الجمع ثلاثة، ولم ينقل عن الرسول في صلاة الخوف إلا ما فعله في هذه المواضع الثلاثة.
---
الطرف الثاني: في ذكر خلاف العلماء في صفة صلاة الخوف.
إعلم أن العلماء مختلفون في صفة صلاة الخوف على مذاهب خمسة:
المذهب الأول: محكي عن القاسم والهادي وارتضاه الأخوان السيدان المؤيد بالله وأبو طالب وأبو العباس، وهو أن يصير المسلمون مع الإمام طائفتين فتقف إحداهما بإزاء العدو متسلحين، ويفتتح الإمام الصلاة بالطائفة الأخرى ويصطفون خلفه فيصلي بهم الركعة الأولى فإذا قام الإمام إلى الركعة الثانية أطال القيام والقراءة حتى يصلي من ورآءه الركعة الثانية لأنفسهم ويسلموا وينصرفوا فيقفوا في مواقع أصحابهم بإزاء العدو، وتجيء الطائفة الثانية فتصطف خلفه ويفتتح الصلاة فيصلي الإمام بها الركعة الثانية وهي الأولى للقوم فإذا قعد الإمام وتشهد وسلم قاموا فأتموا لأنفسهم الركعة الثانية ويسلم الإمام ولا ينتظر فراغ القوم.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}[النساء:102].. إلى آخر الآية. فظاهر الآية دال على ما قلناه من غير مخالفة.
المذهب الثاني: محكي عن الناصر، ومذهبه ما حكيناه عن الهادي والقاسم خلا أنه يخالف في أمرين:
أحدهما: أنه يستوي قاعداً حتى تلحق الطائفة الثانية وهو الذي ذكره في المختصر.
وثانيهما: أن الطائفة الأولى لا يسلمون على فراغهم من الركعة الثانية لأنفسهم بل يقفون حتى يكون سلام الكل واحداً مع الإمام.
والحجة على هذا: ما في حديث خوات بن جبير وسهل بن أبي حثمة (1)
__________
(1) سهل بن أبي حثمة، واسمه: عبد الله، وقيل: عامر، وقيل: هو سهل بن عبد الله بن أبي حثمة الأنصاري الخزرجي.
قال ابن حجر: روى عن النبي وعن زيد بن ثابت، ومحمد بن سلمة، وعنه ابنه محمد وابن أخيه محمد بن سليمان، وبشير بن يسار وغيرهم.
قال ابن أبي حاتم عن أبيه: بايع تحت الشجرة وشهد المشاهد كلها إلاَّ بدراً.
وقال الواقدي: مات النبي وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عنه.
…قلت: قال ابن مندة: قول الواقدي أصح، وكذا جزم به ابن حبان وابو جعفر الطبري، وابن السكن والحاكم، وتوفي في أول ولاية معاوية، وهكذا ذكر ابن عبد البر، والذي يظهر لي أنه اشتبه بسهل بن الحنظلية، فإنه مذكور بهذا الوصف، قلت: ويقويه حكمهم على رواية الزهري عنه في الإرسال، لكن الذي جزم به الطبري أن الذي مات زمن معاوية هو أبو حثمة، والله أعلم. انتهى ملخصاً من (تهذيب التهذيب) 4/218.
:
وهو أن الرسول صلى صلاة الخوف في ذات الرقاع فافتتح الصلاة بالطائفة الأولى إلى آخر التقرير الذي حكيناه عن الهادي والقاسم، ثم قعد حتى لحقت الطائفة الثانية ثم ثبت قاعداً حتى يسلم الكل بتسليمه.
المذهب الثالث: محكي عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن ورواية عن أبي يوسف، وهو أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة فإذا قام الإمام إلى الثانية مضت هذه الطائفة إلى وجه العدو وهم في الصلاة وجاءت الطائفة الأخرى إلى مكان الأولى فيصلي بهم الإمام ركعة ثانية ويتشهد بهم ويسلم الإمام وحده فإذا فرغ الإمام من السلام قامت الطائفة الثانية إلى وجه العدو وهم في الصلاة وجاءت الطائفة الأولى إلى مكانها وأتمت صلاتها وسلمت ومضت إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة الثانية إلى مكانها وأتمت صلاتها.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ }[النساء:102]. فدل ذلك على أنهم إذا قاموا من سجود الأولى مضوا إلى وجه العدو.
وروى ابن عمر أن الرسول صلى بذات الرقاع على هذه الصفة.
المذهب الرابع: محكي عن أبي يوسف في إحدى الروايات عنه، وصفتها: أن يجعلهم الإمام صفين فيفتتح الصلاة بهم كلهم فإذا ركع ركعوا معه جميعاً وإذا رفع رفعوا معه جميعاً وإذا سجد سجد معه الذين يلونه وقام الصف المؤخر يحرسونهم، ثم [إذا] رفع رفعوا. ثم يسجد الصف المؤخر ثم [إذا قاموا] يتقدم الصف المؤخر ويتأخر الصف المقدم وفعلوا ما فعلوه أولاً. وهذا أيضاً محكي عن ابن أبي ليلى.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول : أنه صلى صلاة الخوف بعسفان على هذا النحو الذي ذكرنا. خلا أن ظاهر الآية دال على خلاف ما ذهبوا إليه.
قال المؤيد بالله: ما قالوه قد روي عن الرسول إلا أن ظاهر الكتاب يرده فلم نأخذ به لأن الله تعالى قال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}[النساء:102]. وفي هذا الخبر أن الطائفتين قامتا معه وهو مخالف لظاهر الآية.
المذهب الخامس: محكي عن علي وابن عباس وابن عمر وعبدالله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة وسهل بن أبي حثمة وأبي موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان، وهو أن الرسول صلى بكل طائفة ركعة وجعل الناس طائفتين، وهذا بعينه هو ما حكيناه عن الهادي والقاسم.
والحجة فيه: ما ذكرناه من ظاهر الآية فإنها دالة عليه.
فهذه المذاهب كلها قد أوردناها بأدلتها لِيُعْلم ما هو ضعيف منها وما هو قوي.
فأما صلاة المغرب، فهي ثلاث ركعات فلا يمكن التسوية فيها بين الطائفتين على الأخرى(1)
فلا بد فيها من تفضيل إحدى الطائفتين، وهل تفضل الطائفة الأولى أو الثانية؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: تفضل الطائفة الأولى. وهذا هو رأي القاسمية والحنفية، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم اله وجهه: أنه صلى بالطائفة الأولى في صلاة المغرب ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة واحدة، ومثل هذا لا يصدر إلا عن توقيف من جهة الرسول لأنه لا مدخل للقياس فيه.
المذهب الثاني: أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعة واحدة وبالثانية ركعتين. وهذا هو رأي الناصر، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن علي ، أنه صلى بالطائفة الأولى في صلاة المغرب ركعة وبالطائفة الثانية ركعتين. وهذا لا يقوله إلا عن توقيف ثم قال: إنما أردت أن تدرك كل طائفة فضيلة القراءة وسماع فاتحة الكتاب والسورة، فلهذا كان أحق وأولى.
والمختار: ما قاله الهادي والقاسم من تفضيل الطائفة الأولى بالركعتين.
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) جملة: (على الأخرى) زائدة دون فائدة في الدلالة على المقصود.
ونزيد هاهنا وهو قوله : ((لا تختلفوا على إمامكم)). ومن خرج في الركعة الثانية فقد خالف الإمام. وقوله: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)). ولقوله : ((ألا يخشى من يرفع رأسه قبل رأس الإمام أن يحول الله رأسه رأس كلب أو رأس حمار )).
وإذا تقرر هذا فلا عذر للطائفة الأولى في الخروج عن الإمام إلا خشية أن تفوت الصلاة على الطائفة الثانية مع الإمام وذلك حاصل بإدراك الركعة الثالثة، فإذن لا وجه لاختصاصهم بركعتين في هذه الصورة.
والحجة الثانية: هو أن الإتمام في صلاة الخوف ينبغي أن يكون مشروعاً لقسمة الصلاة نصفين على الطائفتين فيكون لكل واحدة نصفها وعلى أنه يجب أن تكون للطائفة الأولى ركعة ونصف لأن التنصيف في الثلاث لا يكون إلا بالكسر وإذا استحقوا النصف من الركعة الثانية وجب أن يستحقوا النصف الآخر لأن النصف الثاني تابع للأول من حيث كان سابقاً في الاستحقاق، والطائفة الثانية لم تكن مستحقة للنصف الأول فلهذا لم تستحق النصف الآخر لأنه غير تابع فبطل أن يكون مستحقاً.
الحجة الثالثة: وهو أنا إذا جعلنا الركعة الثانية للطائفة الثانية لكنا قد جعلنا التشهد الأول من الإمام بحيث لا حظ فيه لواحدة من الطائفتين، وبيانه: هو أن الطائفة الأولى لا تلحقه لأنه في الركعة الثانية والطائفة الثانية تجلس على جهة التبعية لأنه ليس لها بمحل ولا يعتد لها به، فوجب أن يجعله للطائفة الأولى لئلا يكون في صلاة الإمام ما لا حظ لواحدة من الطائفتين فيه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين: أنه صلى بالطائفة الأولى في صلاة المغرب ركعة وبالطائفة الثانية ركعتين وهذا لا يقوله إلاَّ عن توقيف.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا قد روينا عن أمير المؤمين ما يعارض هذه الرواية على جهة المناقضة فتتساقط الروايتان ونرجع إلى دليل آخر.
وأما ثانياً: فلأنا قد أوردنا من الأدلة الشرعية التي لا معارض لها ما فيه مقنع وكفاية من وجوب اختصاص الطائفة الأولى بالركعتين فأغنى عن الإعادة.
وحكي عن الشافعي: أنه خَيَّرَ أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعتين في صلاة المغرب وبين أن يصلي بهم ركعة واحدة وبين أن يصلي بالطائفة الثانية ركعة أو ركعتين، وأيهما يكون أفضل؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الأفضل أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة وبالثانية ركعتين لما روي عن علي : أنه صلى ليلة الهرير هكذا.
وثانيهما: أن الأفضل تفضيل الطائفة الأولى بركعتين؛ لأن الرسول فضل الطائفة الأولى بأن صلى بها ركعتين وبالثانية ركعة، وهذا هو الأصح من مذهبه.
فإن صلى بالطائفة الأولى ركعة واحدة فسدت صلاة الطائفة الأولى تفريعاً على ما اخترناه من أنه يجب أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين لأنهم خرجوا عن صلاته من غير عذر وقد قال : ((لا تختلفوا على إمامكم)) و((إنما جعل الإمام ليؤتم به)). وعليه أن يجلس في التشهد الأول من الركعتين الأوليين حتى تفرغ الطائفة الأولى.
قال السيد أبو العباس: فإن قام ونووا الخروج من الائتمام بطلت صلاتهم لأن قيامه إلى الثالثة يكون مصلياً بهم، وإن لم يجدد لذلك نية، لأن النية الأولى مسترسلة فلهذا كان خروجهم مبطلاً لصلاتهم من غير عذر، وهكذا إن نووا الائتمام أو لم ينووا فركعوا قبله فسدت صلاتهم لأنهم شاركوه ثم فارقوه وليس هذا مثل القيام في غير صلاة المغرب إلى الثانية لأن له غُنية عن القيام في المغرب بأن يقعد في التشهد ولا غنى له في غيرها لأن الائتمام يوجب المتابعة للإمام إلا في موضع عذر، فإذا قام الإمام وقاموا معه فقد ائتموا به في هذه الركعة ثم خرجوا عن الائتمام من غير عذر إذ كان يجوز ألا يأتموا به فيها بأن يقعد هو، فلهذا قضينا ببطلان صلاتهم من أجل المخالفة التي لا عذر لهم فيها.
---
الطرف الثالث: في بيان المختار في المسألة من هذه الأقاويل
إعلم أن منشأ التردد والإختلاف في هذه المذاهب إنما وقع من جهة اختلاف حال الرسول في الصلاة، بإعتبار ما يعرض من الخوف واختلاف حاله وحال المسلمين مما يعاني من حرب المشركين في القوة والضعف واستقبال القبلة وإستدبارها وغير ذلك من الأحوال العارضة، فهذا هو السبب في التردد والإختلاف بين العلماء مع إرادة التأسي والإقتداء والمتابعة له في أفعاله. وإذا كان الأمر كما قلناه لم يكن في المسألة معيار مضبوط يجب الإحتكام له والتعويل عليه، وإنما الأمر فيما قلناه فيما يعرض للإمام مما يعاني ويعالج من حرب الكفار والبغاة كما عرض للرسول من الإختلاف في حالاته في الصلاة في حال الحرب، فتارة يعرض الإختلاف باعتبار إستقبال القبلة واستدبارها، وتارة يعرض باعتبار حالة السفر والحضر، ومرة يعرض باعتبار القوة والضعف، ومرة يعرض باعتبار القرب والبعد في الأماكن التي تقع فيها الحرب والمصافة، فالغرض إنما هو إعمال النظر في الصلاة بالإجتماع ويكون بالتعويل فيها على الحال العارضة من غير التفات إلى التعويل على حالة مستمرة تكون على قانون واحد وصفة واحدة، ويتأيد هذا الكلام بإيراد سؤالين:
السؤال الأول: إذا كان الأمر على ما قلتموه من أن الاعتبار إنما هو بما يظهر من الحال فكيف نشأ الخلاف بين العلماء في صفة صلاة الرسول حتى انتهى في صفة صلاة الخوف إلى ست عشرة صورة، وكان ينبغي ألاَّ يقع اختلاف إذا كان التعويل على ما يعرض من مشاهدة الحال؟.
وجوابه: أن اختلاف العلماء إنما وقع في صلاة النبي التي صلاها باعتبار حاله التي كان عليها، فأما إذا كان الحال مخالفة لحاله كان التعويل على ما يعرض من مشاهدة الحال من غير نظر إلى حالة مستمرة في تأدية الصلاة.
السؤال الثاني: إذا قلتم أنه لا نظر إلى ما فعل فإن فعله على قدر حاله فهذا يبطل التأسي بأفعاله والإقتداء به.
وجوابه: أن التأسي والإقتداء إنما يكونان بأن يفعل مثلما فعل على الوجه الذي فعله لأنه فعله فمتى حصلت هذه الأمور حصل الإقتداء وهاهنا فلا وجه للإقتداء لأجل اختلاف الحال.
فحصل من مجموع ما ذكرناه: أن الإعتبار إنما هو على الحال العارضة في تأدية الصلاة من غير نظر إلى قانون مستمر لا يختلف حاله، وأن الرسول يقتدى بأفعاله إذا كانت حالنا مماثلة لحاله، فأما إذا كانت مخالفة فالاعتبار بالحال في كل الأحكام في حق الإمام وفي حرب من كان محقاً إذا كانت الحال مقتضية لذلك موجبة له ولهذا فإنه لو عرض الخوف في صلاة الجمعة وصلاة الكسوف وصلاة العيدين فإنه يفعل مثل ما فعله الرسول إذا كانت الحال مماثلة لحال الرسول، وإن كانت مخالفة عمل على قدر الحال لأن الإعتبار بالإمكان في حال هذه الضرورات، فإن أمكنهم الصلاة جماعة عملوا على قدر الحال، وإن كانت الجماعة غير ممكنة صلوا منفردين ويعملوا على قدر الإمكان والتعذر في تلك الحال. والله أعلم بالصواب.
---
الطرف الرابع: في حكم الصلاة في شدة التحام القتال
وشدة المسايفة ومطاردة العدو ويخافون إن ولوا أن يركب العدو أكتافهم
فيكون سبباً للهزيمة والتولي على الأعقاب.
فأما إذا كانت الحال هذه فالواجب عليهم الصلاة كيفما كان ممكناً لهم، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ركباناً على دوابهم ومشاة على أقدامهم يومئون بالركوع والسجود إيماءاً، ولا يجوز لهم إخراج الصلاة عن وقتها من غير شغل بها على قدر الإمكان؛ لأن الإجماع منعقد على تأديتها على قدر الحال التي هو عليها، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}[آل عمران:191].
قال القاسم%: فإن كان خوفاً لا يقدرون معه على الصلاة قياماً وركوعاً وسجوداً أومؤا برؤسهم إيماءاً ويكون إيماؤهم لسجودهم أخفض من إيمائهم لركوعهم، وإن لم يمكنهم ذلك استقبلوا القبلة وكبروا وذكروا الله تعالى وسبحوه وفعلوا من ذلك قدر ما يمكنهم في أي جهة كانت.
وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا كانت الحال هذه بحيث لا يتمكنون من الركوع والسجود جاز لهم تأخير الصلاة عن وقتها، فإذا زال ذلك صلوا.
وروى ابن عمر أن الرسول÷ صلى صلاة الخوف، فذكر كمذهب أبي حنيفة.
والذي عليه أئمة العترة والشافعي: أن الصلاة لا يسقط فعلها على قدر الإمكان كما ذكرناه.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}[البقرة:239].
وإن كان الخوف من جمل صائل أو سبع أو حية تحمل عليه جاز أن يصلي بالإيماء لأن الخوف على النفس علة في الصلاة على هذا الوجه، وإن أجبرهم جود من مطر بلا إمكان كِنٍّ صلوا ركباناً على دوابهم وإسراعاً على أرجلهم لقوله÷: ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم)).
قال السيد أبو طالب: وقد غلط بعض أصحابنا وقال: إن الخوف من السباع لا تصلى من أجله صلاة الخوف. وهو محكي عن بعض أصحاب الظاهر. وهذا لا وجه له فإن الأدلة الشرعية ما فصلت بين خوف وخوف كما قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}[البقرة:239]. ولأن الخوف من السباع ربما كان أضر من الجمل الصائل.
ويجوز أن تصلى صلاة الخوف جماعة وفرادى(1)
في حال شدة الإلتحام والخوف عند أئمة العترة، وهو محكي عن الشافعي.
وحكي عن أبي حنيفة: أنه يجوز لهم صلاة الخوف منفردين ولا تجوز جماعة لأنها حالة ضرورة فلا يمكن فيها الاجتماع ويتعذر ذلك.
والحجة على ما قلناه: هو أن الأدلة الشرعية كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}[البقرة:239]. لم تفصل بين الصلاة جماعة أو فرادى ولأن كل حالة جاز فيها تأدية الفرض فرادى جاز تأديته جماعة كحالة الأمن.
والصياح وارتفاع الأصوات تفسد الصلاة لأنه مستغنى عنه ويورث الفشل والطيش.
قال الهادي في الأحكام: وإن باشر القتال وهو في الصلاة فضرب ضربة خفيفة أو تقدم أو تأخر تقدماً خفيفاً أو تأخر خفيفاً جاز، وإن أطال ذلك وأكثر من التقدم والتأخر والطعن والضرب بطلت صلاته لأن قليل الأفعال لا يفسدها وكثيرها يفسدها والإجماع منعقد على ما قلناه.
قال السيد أبو طالب: وعلى هذا من ابتدأ الصلاة في حال الخوف راكباً ثم نزل لأجل الحاجة فصلاته صحيحة ويبني على ما فعله وإن أحوج إلى الركوب استأنف الصلاة إلا أن يتمكن من الركوب في سرعة وعمل قليل لخفة بدنه.
ومن الفقهاء من فرق بين النزول والركوب لأن الركوب فيه أفعال كثيرة بخلاف النزول، والأحسن أنه لا فرق بينهما وهذا هو قول الشافعي. ومحكي عن المزني من أصحابه، وله قول آخر في التفرقة بينهما.
__________
(1) في الأصل: ومنفردين.
وإن انتضح عليه في حال صلاته دم نظرت، فإن كان قليلاً لم يبطل الصلاة، وإن كان كثيراً فإن طرح ما أصاب من السلاح والأثواب في سرعة صحت صلاته، وإن لم يطرحه بطلت صلاته لأن الثوب النجس لا تجوز الصلاة فيه كما مر بيانه.
ويجوز أن يصلي وعنان فرسه في يده فإن نازعه الفرس فجذبه جذباً خفيفاً جازت صلاته، وإن تقحم الفرس ولم يقف على غرض فارسه فتوثب توثباً كثيراً بطلت الصلاة.
ويجوز أن يأتم المقيم بمن يصلي صلاة الخوف لأنه ليس فيه إلا أن المقيم يأتم بالمسافر، ومثل هذا جائز لأنه يكون في حكم المسبوق. فإذا قضى الخائف صلاته قام المقيم فأتم صلاته.
وإن صلى الخائفون إلى جهة العدو ثم انحرف العدو إلى جهة أخرى جاز أن ينحرفوا في صلاتهم إلى جهته وإن كانوا في غير القبلة دفعاً لنكاية العدو عنهم بالإنحراف إلى جهته لأن المقصود هو دفع العدو، فعلى أيَّة حال أمكن جاز لهم دفعه بكل حال.
وإن صلوا صلاة الخوف فعاد أمرهم إلى الأمن بنوا على صلاة الخوف، وهكذا إذا صلوا صلاة الأمن، فعاد أمرهم إلى الخوف بنوا على صلاة الأمن وإنما كان كذلك لأنهما يختصان بوجه واحد لأجل العدو.
ومن انفتل عن الإمام يريد لقاء العدو نظرت، فإن كان انفتاله قبل انصراف العدو بنى على صلاته لأنه معذور في الانفتال، ومن انفتل بعد انصراف العدو عن إمامه استقبلها لأنه غير معذور فيما فعله من المخالفة بالانفتال.
ومن أحدث في صلاة الخوف كان كمن أحدث في غيرها في نقض الوضوء لقوله÷: ((إذا قاء أحدكم أو رعف وهو في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليعد الصلاة)). ولم يفصل بين خوف وأمن.
وإن أراد الخائفون أن يصلوا جماعة جاز لهم ذلك لأن الأدلة الشرعية لم تفصل في المواضبة على صلاة الجماعة بين الخوف والأمن، وعلى هذا يجوز لمن كان راكباً أن يأتم بمن كان على القرار، ولا يجوز أن يؤم الركبان من كان على القرار لإختلاف الحال كما لا يؤم القاعد من هو قائم كما مر تقريره في صلاة الجماعة.
وإن افتتحوا صلاة الأمن ثم ترآءى لهم ركب أو خيال ظنوه عدواً فانفتلوا عن القبلة ثم استبانوا أنها إبل سائمة أو حجارة عظيمة نظرت، فإن كان انفتالهم من غير تقصير في النظر في الأمارات لا تلزمهم الإعادة لأنه لا تقصير من جهتهم وهم معذورون، وإن كانوا قد قصروا في النظر في الأمارات ولم يبحثوا عن حالها فإنها تلزمهم الإعادة لأنهم يصيرون كأنهم انفتلوا في حال السلامة، والتفرقة بين حالة التقصير وبين حالة الإمعان في النظر في الأمارات هو قوة الأمارات وضعفها فإذا كانت الأمارات قوية يظنها كل ظان أنها جيش كالآكام السود والإبل السائمة لم تجب عليهم الإعادة لقوة الأمارات في العدد، وإن كانت الأمارة ضعيفة نحو السراب وهبوب الريح فإن ما هذا حاله لا يغلب على الظن أنه جيش فلهذا وجبت الإعادة، وهكذا الحال فيما إذا تراؤا سواداً فظنوه جيشاً فانفتلوا عن الإمام فإنه يكون الحال فيه كالحال في المسألة التي قبلها، فإن كان عن تقصير في النظر في الأمارات لزمتهم الإعادة لأنهم خالفوا الإمام من غير عذر، وإن كانوا قد أمعنوا النظر في الأمارات فلا تقصير هناك من جهتهم فلا تلزمهم الإعادة.
وإن انهزم المسلمون نظرت، فإن كان الكفار عددهم دون الضعف لم تجز لهم صلاة الخوف لأنهم عاصون بالإنهزام والرخص لا تكون بالمعاصي، وإن كان عددهم فوق الضعف جاز لهم أن يصلوا صلاة الخوف لأنهم معذورون في الهزيمة.
وإن انهزم الكفار لم يجز للمسلمين صلاة الخوف لأنه لا خوف هناك.
وإذا أمر الإمام رجلاً يكمن للعدو ويرصده في المواضع الخفية والأماكن المستترة ليقضي غرضاً فيما أمر به وحضر وقت الصلاة جاز له أن يصلي قاعداً لأن المقصود لا يتم إلا بالقعود كما جاز لهم صلاة الخوف لأجل مصلحة القتال.
فهذا ما أردنا ذكره في صفة صلاة الخوف ونرجع إلى التفريع وتمامه.
الفرع السابع: قد ذكرنا وجوب حمل السلاح لظاهر الآية في الصلاة، وإذا كان الأمر كما قلناه صار السلاح على أقسام خمسة:
أولها: ما يحرم حمله وهذا نحو السلاح النجس مثل السيف والسكين إذا كان فيهما نجاسة، ونحو الريش النجس لا يجوز حمله إذا كان في النبل، ونحو أن يتصل بالسيف والسكين سم فيه نجاسة.
وثانيها: ما يكره حمله وهذا نحو السلاح الثقيل الذي يشغله عن الصلاة نحو الدرع والبيضة إذا كان لها أنف يمنع من وصول الجبهة لم يجز حملها.
وثالثها: ما يجب حمله وهو كل سلاح يدفع به عن نفسه كالسيف والشفرة.
ورابعها: ما يستحب حمله وهو كل سلاح يدفع به عن نفسه وعن غيره مثل القوس والنشاب والجعبة.
وخامسها: ما يختلف فيه وهو الرمح والسنان، فإن كان المصلي في جانب من الناس بحيث إذا ركع وسجد يمكنه أن يضعه بحيث لا يصيب أحداً ولا يتأذى به فإنه يستحب حمله. وإن كان المصلي في وسط الناس لا يأمن أن يصيب أحداً أو يتأذى به فإنه يكره حمله.
وإن سقى سيفه سماً ثم غسل ظاهره طهر، وإن لم يصل الغسل إلى باطنه لأن ذلك متعذر، وإن أدخل النار وقيل إنه قد ذاب ولم يبق له أثر لم يطهر حتى يغسل لأن البلة نجس فلا تزال إلا بالغسل، فإن مسح فهل يطهر أم لا؟ فيه تردد، وقد ذكرناه في باب إزالة النجاسة فأغنى عن تكريره.
الفرع الثامن: والقتال المحرم لا تجوز فيه صلاة الخوف لأن هذه رخصة والرخصة لا تكون في معصية فإن خالفوا وصلوا وجبت عليهم الإعادة إذا كان الوقت باقياً، والقضاء إذا كان الوقت فائتاً.
وإن هزم المسلمون الكفار لم تجز لهم صلاة الخوف، وإن هُزِموا جاز لهم صلاة الخوف كما مر تقريره.
وإن اتفق القتال يوم الجمعة وأراد الإمام أن يصلي بالمسلمين صلاة الخوف فإنه يجعلهم فريقين كما كان في صلاة ذات الرقاع مع الرسول÷ فرقة تقف في وجه العدو ويخطب الإمام بالفرقة الثانية ويصلي بهم ركعة واحدة ويثبت الإمام قائماً في الثانية ويتمون لأنفسهم ويجهرون بالقراءة بما بقي عليهم لأنهم منفردون ثم يمضون إلى وجه العدو وتأتي الفرقة الثانية ويصلي بهم الركعة التي بقيت عليه ويسلم بهم.
وإن خطب الإمام بالفرقة الأولى وصلى بهم الجمعة وسلم ثم خطب بالثانية وصلى بهم الجمعة صحت الجمعة في حق الإمام والفرقة الأولى، وبطلت في حق الثانية لأنه لا يصح إقامة الجمعة مرتين كما مر بيانه.
الفرع التاسع: ويجوز لبس الديباج والحرير الخالص في حرب الحق مع الإمام؛ لن المقصود به إظهار القوة وإرهاب العدو وليس المقصود به السرف والخيلاء، ويجوز استعمال الذهب أيضاً في حرب الحق كاللجام المذهب والثغر المفضض والأهبة الذهبية والفضية على رؤوس الخيل، لما روي عن الرسول÷ أنه لما دخل مكة معتمراً فكشف عن ضبعه وقال: ((يرحم الله من أراهم اليوم من نفسه قوة))(1).
هذا من القوة فلهذا كان مباحاً.
ويحرم لبس الذهب والحرير الخالص للرجال، وهل يجوز لبسه للعذر أم لا؟ فالظاهر من مذهب العترة جوازه. لما روي: أن الرسول÷ رخص لعبد الرحمن بن عوف وللزبير في لبس الحرير لما أصابهما حكة في جسدهما. وعن بعض أصحاب الشافعي: المنع من ذلك. ولا وجه له لما رويناه من الحديث المبيح. وهل يجوز لبسه للصبيان أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه:
أولها: الجواز لأنهم غير مكلفين.
وثانيها: المنع والتحريم كما يحرم على البالغين، لأن أدلة التحريم ما فصلت.
وثالثها: إن كان الصبي في سن السبع منع منه، وإن كان دون ذلك لم يمنع.
والمختار: المنع من ذلك، وقد مضى دليله فلا نعيده.
__________
(1) رواه في الثقات 2/27، وفي تأريخ الطبري 2/142، والسيرة النبوية 5/18.
وإن كان له جبة محشوة بالإبريسم(1)
جاز له لبسها لأنه لا سرف فيها ولا خيلاء لأنه مستور بظاهرها في غير الحرب، ويباح استعمال القليل من الحرير نحو الطوق ورؤوس التكك والأكمام والفرجين(2)
وعلم الثوب وحاشيته(3)،
لما روي عن مولى أسماء بنت أبي بكر قال: اشترى ابن عمر ثوباً شامياً فرأى فيه خطاً أحمر من حرير فرده فأخبرت أسماء فقالت: يا جارية ناوليني جبة رسول اللّه÷ فأخرجت جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج. ويباح مقدار الأصبع والثنتين والثلاث والأربع. لما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه، عن رسول اللّه÷: أنه نهى عن الحرير إلا في موضع أصبع أو أصبعين أو ثلاث أو أربع.
الفرع العاشر: وإذا كان الحرير خَلِقاً جاز لبسه في غير الحرب لأنه قد ذهب رونقه فلا سرف فيه ولا خيلاء، ويجوز لبس الدرع المحلى بالذهب والفضة في الحرب، ويجوز لبس البيضة إذا كانت محلية بالذهب والفضة.
ولا يجوز لبس جلد الكلب والخنزير للدواب والآلات لأنه نجس يحرم استعماله، ويجوز لبس جلد النمر والأسد إذا ذبحت لأنها تصير طاهرة بالذبح الشرعي، فإن لم تذبح لم يجز إستعمالها لأنها ميتة فيحرم إستعمالها كسائر جلود الميتات.
وإن نسج درع أو قميص من لؤلؤ جاز لبسه لما فيه من إظهار القوة فجاز استعماله كالذهب والحرير. فإن كان في غير الحرب فهل يجوز لبسه أم لا؟
فحكي عن الشافعي: جواز لبسه لأنه لم يرد الشرع بتحريمه.
__________
(1) معروف في معاجم اللغة بأنه الحرير، وهي كلمة فارسية.
(2) الفتحتان أو الفتقان في الثوب أو القميص واحدهما: فَرْج،
(3) المراد: أطراف الملابس وما يحيط بالعنق وفرج الجيب والقمصان والسراويلات، والغرض هنا أنها مباحة لقلتها إذ توضع فقط لغرض تزيين الملابس في أماكن خاصة وليس الحرير فيها ملبوساً أو غالباً للملبوس.
والمختار: تحريم لبسه لما فيه من الخيلاء ولأن الحرير محرم لما فيه من الخيلاء والسرف، والخيلاء بلبس قميص اللؤلؤ أكثر وأعظم. وقد قدمنا في لباس المصلي ما فيه مع هذا مقنع وكفاية والحمد لله.
الباب العاشر صلاة التطوع
اعلم.. أن أفضل أعمال الجوارح بعد الشهادتين: الصلاة، لما روي عن الرسول. أنه قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول اللّه،
وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، والحج إلى بيت الله الحرام))(1). فجعل الصلاة بعد الشهادتين فدل على أنها أفضل الأعمال من غيرها(2)، وروى عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول اللّه أنه قال: ((استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة فلا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن))(3).
وتطوعها أفضل التطوعات كما أن فرائضها أفضل المفروضات.
اعلم.. أن النافلة هي ولد الولد كما قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}[الأنبياء:72]. وإنما قيل للنوافل: نوافل؛ لأنها زائدة على الفرائض.
ثم تنقسم: إلى ما يكون تابعاً للفرائض وهي السنن الراتبة، وإلى ما تسن فيه الجماعة، وإلى ما يتكرر بأسباب عارضة، وإلى ما ليس كذلك من النوافل. فهذه أقسام أربعة نذكر ما يتوجه في كل واحد منها.
__________
(1) هذا من الأحاديث المشهورة التي أخرجها معظم أصحاب السنن والصحاح والمسانيد، رواه البخاري 1/12، ومسلم 1/45، وهو في صحيحي ابن خزيمة 1/159،3/187، وابن حبان 1/374، 4/294، وفي سنن الترمذي 5/5، والبيهقي (الكبرى)1/358، والنسائي (المجتبى)8/107 وفي غيرها.
(2) لعل الصواب فدل على أنها أفضل من غيرها من الأعمال؛ لأن المعروف أنه يكتفى بإضافة أفعل التفضيل إلى المفضول أو بأفعل التفضيل وبعده (من كذا) لا الجمع بينهما، والله أعلم.
(3) رواه في مصباح الزجاجة 1/41، وفي فيض القدير 1/497.
كتاب الجنائز
الجنازة، بفتح الجيم: السرير، وبكسرها: الميت.
ويستحب لكل أحد أن يكثر من ذكر الموت في جميع أحواله لما روي عن الرسول أنه قال: ((أكثروا من ذكر هاذم اللذات " فإنكم إن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم فرضيتم فأجرتم، وإن ذكرتموه في غنى بغضه إليكم فجدتم به فأثبتم)) (1).
وروي عنه أنه قال: ((أكثروا من ذكر هاذم اللذات " فما ذكر في كثير إلا قلله ولا ذكر في قليل إلا كثره)) (2).
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه 7/260، والطبراني في (الأوسط) 8/256، وابن الأمير في (سبل السلام) 2/89 بألفاظ مختلفة، وأورده ابن بهران عن أبي هريرة وقال: رواه ابن ماجة والترمذي والطبراني وابن حبان، قال: وفي معناه أحاديث أخر، وقال: هاذم: بالذال المعجمة أي: قاطع، وروايته بالمهملة تصحيف، حكى معنى ذلك في (التلخيص) و(شرح الروض) عن السهيلي، وهو مذكور في غيرهما. اهـ (جواهر-تخريج البحر) 2/84.
(2) هذا الحديث لا يختلف عن سابقه إلا باختلاف في بعض اللفظ، وقد جاء بهذا اللفظ في أكثر من مصدر منها: (المغني) 2/160، و(سبل السلام)2/89، و(كشف الخفاء) 1/189، وغيرها.
وأراد بقوله: ((ما ذكر في كثير إلا قلله)):أراد: المال إذا كان كثيراً، وذكر الموت فإنه يقلله ويتصدق به فقبل ((ولا ذكره في قليل إلا كثره)). أراد: الأعمال الصالحة فإنها إذا كانت قليلة وذكر الموات سيكثر منها. وروي عن عمر رضي الله عنه كان نقش خاتمه: كفى بالموت واعظاً يا عمر. وروي عن الرسول : ((استحيوا من الله حق الحياء " )). فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: ((من حفظ الرأس وما حوى " ، والبطن وما وعى، وترك زينة الدنيا، وذكر المقابر والبلى فقد استحيى من الله حق الحياء)) (1).
وروي: ((الجوف وما وعى)). وقيل معناه: البطن والفرج. فيكون على هذا تأويله ألا يدخل بطنه إلا حلالاً ولا يضع فرجه إلا في حلال. وقيل: أراد بالجوف: القلب. وما وعى من معرفة الله تعالى والعلم بحلاله وحرامه وأن لا يضيع ذلك. وأما الرأس فقد قال أبو عبيد: أراد به الدماغ. لأنه مجمع العقل ومسكنه.
ويستحب أن يستعد للموت بالخروج من المظالم وإصلاح المشاجرة بينه وبين غيره، والإقلاع عن المعاصي والإقبال على الطاعات لأنه لا يأمن أن يأتيه الموت فجأة، والاستحباب لذلك في حال المرض أشد لأنه سبب الموت وأمارته.
__________
(1) أورده ابن بهران عن ابن مسعود بلفظ: ((استحيوا من الله حق الحياء)) قال: قلنا: يا نبي الله إنا لنستحيي والحمد لله، قال: ((ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء)) قال: رواه الترمذي، وقيل: هو موقوف، وللطبراني نحوه من رواية عائشة. اهـ (جواهر- تخريج البحر) 2/85، وهو في (المستدرك على الصحيحين) 4/359، و(فتح الباري) 14/62، و(المعجم الكبير)3/219.
ويستحب للمؤمن: أن يكون محباً للقاء الله. لما روي عن الرسول أنه قال: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه " ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) (1).
وروي عن الرسول أنه قال: ((ما من برٍّ ولا فاجر إلا وبطن الأرض خير له من ظهرها " ، فإن كان براً يعجل إلى رضوان الله وجواره، وإن كان فاجراً استراح الناس منه)) .
فإذا عرفت هذا، فلنذكر ما يستحب للمريض في حال مرضه، وما ينبغي أن يفعل بالميت عند موته ثم غسله وتكفينه، وحمل جنازته، والصلاة عليه، ودفنه، والتعزية والبكاء عليه، فنجري في ذلك على ترتيب العمل والوجود.
__________
(1) رواه عبادة بن الصامت وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
قال في (جواهر الأخبار): ولهم عن عائشة قالت: قال رسول الله .... الحديث، فقلت: يا رسول الله أكراهية الموت فكلنا نكره الموت؟ قال: ((ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه)) وفيه روايات أخر. اهـ 2/85.
وهو في صحيح ابن حبان 7/278، وسنن النسائي 4/9، وابن ماجة، ومصنف عبد الرزاق 3/586، ومسند أحمد 2/313، وفي غيرها بعضها بلفظ: ((....ومن لم يحب لقاء الله ....)) وكذا: ((... ومن أبغض لقاء الله...)).
---
القول فيما يستحب للمريض في حال مرضه وما يكره
ويستحب للمريض: أن يصبر على الألم. لما روي عن الرسول÷ أن امرأة قالت له: يا رسول الله أدع الله أن يشفيني فقال لها: ((إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك)). فقالت: أصبر ولا حساب عليَّ(1).
ويكره للمريض أن يتمنى الموت، وإن اشتد مرضه، لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((لا يتمنى أحدكم الموت لضيق نزل به وليقل: اللّهم احيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي))(2).
ويستحب للمريض أن يتداوى. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، ولا تداووا بالحرام)). وفي حديث آخر: ((ما نزل داء إلاَّ ومعه دواء))(3)
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم وهو في صحيح ابن خزيمة 2/225، وابن حبان 7/169، والترمذي 5/569، والسنن الكبرى 4/353، وأحمد 1/346، وذكره ابن بهران عن (المهذب) قال: ولفظه في (الجامع [الكافي])، وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي÷ فقالت: إني أصرع فادع الله لي... الحديث، وفي نهايته فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أنكشف، فدعا لها، أخرجه البخاري ومسلم. اهـ 2/85، تخريح البحر.
(2) روى الخبر أنس بن مالك بلفظ: ((لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم احيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) أخرجه الستة إلا الموطأ، وهو في (السنن الكبرى) 3/377، وسنن النسائي 4/3، وسنن ابن ماجة ومسند أحمد وغيرها.
(3) ذكر ابن بهران الخبر عن أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب: يا رسول الله ألا نتداوا؟ قال: ((نعم، يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو دواءً إلا داءً واحداً)) قالوا: يا رسول الله، وما هو؟ قال: ((الهرم)) أخرجه أبو داود والترمذي، واللفظ له.
وعن أبي الدرداء: أن رسول الله÷ قال: ((إن الله أنزل الداء والدواء فتداووا، ولا تداووا بحرام)) أخرجه أبو داود.
وعن جابر: أن رسول الله÷ قال: ((إن لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله)) أخرجه مسلم. اهـ 2/85 (تخريج البحر)، والخبر في (نيل الأوطار) وفي (الكبير) للطبراني، و(معجم الزوائد).
.
ويستحب للإنسان أن يكون محسن الظن بالله في حياته وعند وفاته. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله فإن الله تعالى يقول: أنا حيث ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء)) (1).
وروي عن الرسول÷ أنه دخل على شاب وهو يعالج الموت، فقال له: ((كيف تجدك))؟ فقال: أرجو الله يا رسول اللّه، وأخاف من ذنوبي. فقال÷: ((لا يحتمعان -يعني: الرجاء والخوف- في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو منه وآمنه مما يخاف))(2).
وتستحب عيادة المريض. لما روى البراء بن عازب قال: أمرنا رسول اللّه÷ باتباع الجنائز وعيادة المريض وإجابة الداعي ونصرة المظلوم وإبرار القسم ورد السلام وتشميت العاطس(3).
__________
(1) أورده ابن بهران عن جابر وقال: هذه رواية مسلم، وعند أبي داود قال: [يعني: جابر]: سمعت رسول الله÷ يقول قبل موته بثلاث: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى)) اهـ. 2/86 (تخريج البحر).
(2) أخرجه البيهقي في (الكبرى) 6/262، وابن ماجة في سننه.
(3) أخرجه البيهقي في (الكبرى) 3/223، والنسائي في سننه 4/54، وأحمد في مسنده 4/299، بلفظ: أمرنا رسول الله÷ بسبع ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض ...إلى آخر السبع المذكورة، ونهانها عن خواتم الذهب أو عن التختم بالذهب، وعن الشرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي وعن لبس الحرير والاستبرق والديباج. أخرجه الستة إلاَّ الموطأ، وأبا داود، وفي بعض ألفاظه اختلاف.
قال ابن بهران بعد أن أورد الحديث: تشميت العاطس، يروى بالشين المعجمة وهو الأفصح وبالسين المهملة، والمياثر: جمع ميثرة، بياء مثناة من تحت ثم ثاء مثلثة، وهو وطاء مصبوغ بالحمرة محشو يجعله الراكب تحته على رحل البعير، والقسي: بفتح القاف وبعضهم بكسرها، ثم سين مهملة مشددة ثم ياء، كذلك، وهي الثياب من كتان مخلوط بحرير كانت تعمل بمصر. اهـ (تخريج البحر) 2/86.
وروى علي% عن الرسول÷ أنه قال: ((ما من مسلم يعود مسلماً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح فإن رجا له العافية دعا له بها)) (1).
والمستحب أن يقول في دعائه: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم(2)
أن يشفيك، سبع مرات. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((من قال ذلك سبع مرات عند مريض لم يحضر أجله، عافاه الله من مرضه))(3).
ويستحب أن يبشره بالعافية. لما روى أبو سعيد الخدري عن الرسول÷ أنه قال: ((إذا دخلتم على مريض فنفسوا له في أجله فإن ذلك لا يرد شيئاً ويطيب نفسه)) (4).
فإن رآه الزائر له منزولاً به فالمستحب أن يلقنه قول: لا إله إلا اللّه. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه))(5).
والمستحب: ألاَّ يقول له: قل لا إله إلا الله ولكن يقولها عنده ليذكر فيقولها لأنه ربما ضاق صدره إذا أمره بذلك، وربما يقول: لا فيأثم، ولا يكثر عليه، ويقولها عنده ثلاث مرات.
ويستحب أن لا يتكلم إلا بها. لقوله÷: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة))(6).
__________
(1) قال في المصدر السابق: أخرجه أبو داود موقوفاً هكذا وللنسائي نحوه مرفوعاً، وفي لفظه في هذا المصدر اختلاف عما أورده المؤلف.
(2) يبدو أن الصواب: تبادل الصفتين، فيقول: اسأل الله الكريم رب العرش العظيم، وفي بعض الروايات: ((أسأل الله العظيم رب العرش العظيم...إلخ)).
(3) أخرجه ابن حبان في صحيحه 7/240،و الترمذي في سننه 4/410، وأبو داود 3/187، وأحمد 1/239.
(4) أخرجه الترمذي في سننه 4/412، وابن ماجة 1/462، وابن أبي شيبة في مصنفه 2/445 وغيرهم.
(5) أورده الشوكاني في (نيل الأوطار) 4/19 عن أبي سعيد، وقال: رواه الجماعة إلا البخاري، قال: وفي الباب عن أبي هريرة عند مسلم بمثل حديث أبي سعيد، ورواه ابن حبان عنه، وزاد: ((فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)).
(6) تقدم ضمن الحديث السالف.
ويستحب توجيهه إلى القبلة. لما روي عن الرسول÷: أنه دخل على رجل من ولد عبدالمطلب وهو يجود بنفسه وقد وجهوه لغير القبلة فقال÷: ((وجهوه للقبلة فإنكم إذا فعلتم ذلك أقبلت عليه الملائكة))(1).
وفي كيفية توجيهه إلى القبلة مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون على ظهره عند موته وغسله مستقبل القبلة، وتصف قدماه إلى جهة القبلة. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والناصر والمؤيد بالله، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه إذا كان على الصفة التي ذكرناه كان مستقبلاً للقبلة بوجهه كله، وإذا وضع على شقه الأيمن لم يكن مستقبلاً للقبلة بكل وجهه، فلهذا كان ما ذكرناه أحق.
المذهب الثاني: أنه يضجع على جنبه الأيمن. وهذا هو رأي أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي أن فاطمة بنت رسول اللّه÷ قالت لامرأة كانت تباشرها: ضعي فراشي هاهنا واستقبلي بي القبلة، ثم قامت فاغتسلت كأحسن ما تغتسل ولبست ثياباً جدداً ثم قال: تعلمين أني مقبوضة الآن. ثم استقبلت القبلة وتوسدت يمينها ثم قبضت رضوان الله عليها ورحمته.
والمختار: أنه لا خلاف في توجيه الميت إلى القبلة ولا خلاف أن[كلا] الأمرين جائز، وإنما الخلاف في الأفضل منهما. والأفضل هو إضجاعه على يمينه ليستقبل القبلة للحديث الذي رويناه عن فاطمة لأنها لا تقول ذلك ولا تفعله إلا عن توقيف من جهة أبيها÷ وفعلها لنفسها يدل على ذلك أيضاً.
والحجة على هذا: هو أن استقبال القبلة إنما ورد مطلقاً من جهة الرسول÷ ولم يرد في إلقائه على قفاه حديث من جهة الرسول÷، وإنما كان ذلك استحساناً ليكون بوجهه إلى القبلة كاملاً تاماً، وإضجاعه على يمينه قد ورد فيه حديث فاطمة فلهذا كان هو الأفضل لما ذكرناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
__________
(1) أورده ابن بهران في (تخريج البحر) وقال: هكذا في (أصول الأحكام) و(الشفاء) اهـ. 2/87.
قالوا: إذا ألقي على فقاه كان أكمل حالة في استقباله فلهذا كان أحق بالعمل عليه.
قلنا: عمل الصحابي أحق بالقبول والذي رويناه عن فاطمة رضوان الله عليها في عملها لنفسها هو أحق لأنها لم تفعله إلا بوحي وتقرير من جهة الرسول÷.
فإن ضاق المكان عن إلقائه على قفاه ألقي على شقه الأيمن، وإن ضاق المكان عن إلقائه على شقه الأيمن ألقي على قفاه لأنه يجوز العدول عن الأفضل لأجل العذر.
ويستحب لمن دخل على المريض أن يأمره بالتوبة إلى الله تعالى، وهي الندم على ما أخل به من الواجبات وتلبس به من فعل المحظورات والعزم إن عافاه الله تعالى على ألاَّ يعود إلى شيء من ذلك، لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((توبوا إلى الله قبل أن تموتوا))(1).
ويستحب لمن حضر المريض، أن يأمره بالتخلص عما في ذمته من حقوق الله تعالى من الزكوات والأخماس والمظالم التي لا تتعين أو حج أو كفارات، وعما في ذمته من حقوق بني آدم من دم أو مال أو عرض، ويسأله عن كل واحد بعينه ليكون أقرب إلى ذكره والخلاص منه، فإن أمكنه في الوقت فهو الواجب لأن هذه الحقوق مطالب بها، وإن كان لا يمكنه التخلص منها على الفور فإنه يوصي بها ويعينها ويعين ما يوفي بها من تركته، ويدفع الوصية إلى ثقة من أقاربه أو من غيرهم يخلص ذمته. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((نفس المؤمن مرتهنة بدينه حتى يقضى))(2).
__________
(1) أورده ابن ماجة في سننه 1/343، وابن أبي يعلى في مسنده 3/382، وهو في (الترغيب والترهيب) 2/4، وفي (مصباح الزجاجة) 1/128.
(2) أخرجه الترمذي في سننه 3/389، والبيهقي في (الكبرى) 4/61، وفي (التمهيد) لابن عبد البر23/235، وكلها بلفظ: ((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)) ورواه الشوكاني عن أبي هريرة بلفظه، وقال: رواه أحمد وابن ماجة والترمذي، وقال: حديث حسن. اهـ (نيل الأوطار) 4/23.
ويستحب أن يأمره بتأدية الصلوات في أوقاتها على قدر إمكانه، فإن كان يمكنه الوضوء توضأ، وإن كان يتعذر عليه لأجل العلة فإنه يتيمم لأجل العذر، ويأتي بالصلاة على قدر إمكانه إما قائماً أو قاعداً وإما على جنب، لقوله÷: ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما أستطعتم)). وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ على الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}[النساء:103].
ويستحب تكرير الزيارة للمريض إذا طال مرضه. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((من عاد مريضاً لم تزل الملائكة تعوده في قبره)). وفي حديث آخر: ((من عاد مريضاً لم يزل في خرفة من مخارف الجنة))(1). والخرفة: هي البستان.
ويستحب أن يقرأ عند المحتضر سورة يس. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((إقرأوا على موتاكم سورة يس))(2).
ويستحب قراءة سورة الرعد لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((إقرأوا على موتاكم سورة الرعد فإنها تهون خروج الروح))(3).
فهذا ما أردنا ذكره فيما يفعل في المرض.
__________
(1) جاء في (نيل الأوطار) 4/14 عن علي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله÷ يقول: ((إذا عاد المسلم أخاه مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح)) قال: رواه أحمد وابن ماجة، وللترمذي وأبي داود نحوه.
(2) وكذا أورد الشوكاني هذا الخبر عن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله÷: ((إقرأوا يس على موتاكم)) رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد، ولفظه: ((يس قلب القرآن، لا يقرأها رجل يريد الله والدار الآخرة إلاَّ غفر له، واقرأوها على موتاكم)) اهـ (نيل الأوطار) 4/22، وهو في صحيح ابن حبان 7/269، والسنن الكبرى للبيهقي 6/265، وفي (الكنى) للبخاري.
(3) أورده ابن أبي شيبة في مصنفه 2/445.
---
القول فيما يفعل بالميت عند موته
فإذا مات الميت فإنه يستحب أن يتولَّى إغماض عينيه أرفق أهله، إما ولده أو والده أو غيرهما من أقاربه ممن كان شفيقاً رفيقاً به في حال حياته، فيفعل ذلك بأسهل ما يقدر عليه؛ لما روي عن الرسول أنه قال: ((عليكِ بالرفق يا عائشة فإنه ما جعل في شيء إلا زانه.، ولا نزع من شيء إلا شانه)) (1).
وإغماض الميت مشروع. لما روت أم سلمة أن الرسول أغمض أبا سلمة لما مات وقال: ((إن البصر يتبع الروح))(2).
ولأنه إذا لم يفعل ذلك بقيت عيناه مفتوحتين فيقبح منظره، وإذا أُغْمِضَت عيناه انطبقتا فيصير كالنائم.
ويستحب أن يشد لحيه الأسفل بعصابة عريضة أو بعمامة ويربطها فوق رأسه مخافة أن يبقى فوه مفتوحاً يدخله الهواء.
قال القاسم: تُغمض عيناه كأسهله ويربط برباط واسع من ذقنه إلى قمته ويجافا بذراعيه إلى عضديه ثم يمدان إلى فخذيه، وكذلك تمد فخذاه إلى بطنه.
ويستحب أن تلين مفاصله.
__________
(1) أخرجه مسلم 4/2004، وابن حبان2/310، وأبو داود 3/3، وأحمد 6/58 وغيرهم.
(2) جاء الخبر في (جواهر الأخبار) عن أم سلمة بلفظ: قالت: دخل رسول الله على أبي سلمة فأغمضه، ثم قال: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر)) فضج ناس من أهله، فقال: ((لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يُؤمِنُون على ما تقولون)) ثم قال: ((اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه)) أخرجه مسلم وغيره، اهـ. تخريج البحر 2/78.
وأورده الشوكاني عن شداد بن أوس بلفظ: قال رسول الله : ((إذا حضرتم موتاكم فاغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيراً فإنه يُؤمَّن على ما قال أهل الميت)) رواه أحمد وابن ماجة. اهـ (نيل الأوطار) 4/21.
قال المؤيد بالله: فإذا مات الميت وضع على قفاه مستقبل القبلة وتغمض عيناه أرفق ما يكون ويشد ذقنه إلى قمته بخرقة عريضة لئلا ينفغر فوه، وتلين مفاصله وتمد أصابع يديه إلى كفيه. وهذه الجملة مما لا خلاف فيها ولأنه يكون أسهل على غاسله، وذلك أن الروح إذا فارق البدن فإنه يكون حاراً لقرب مفارقة الروح ثم يبرد عقيب خروج الروح فإذا لينت الأعضاء عقيب خروج الروح لانت وتعطفت، وإذا لم تلين بقيت قاسية فيصعب علاجها في حالة الغسل.
ويستحب أن تنزع عنه الأثواب التي مات فيها لأمرين:
أما أولاً: فلأن الغالب ملابسة النجاسات خاصة مع طول المرض واختلاف الأمراض.
وأما ثانياً: فلأن الثياب إذا لم تنزع عنه ربما حميت عليه فيسرع إليه الفساد.
ويستحب إذا مات أن يسجى بثوب. لما روت عائشة أن رسول اللّه لما مات سجي بثوب خُمرة.
ويستحب أن يرفع الميت على سرير أو نشز من الأرض أو لوح مخافة أن يصيبه نداوة من الأرض فيتغير.
ويستحب إذا مات الميت أن يترك على بطنه شيء من حديد أو طين رطب لما روي أن غلاماً لأنس بن مالك مات فقالوا: اجعلوا على بطنه شيئاً من الحديد لئلا ينتفخ.
ويستحب إذا مات الميت وقد أوصى بصدقة أن تؤدى على الفور لتتعجل منفعتها.
ويستحب لمن حضر الميت أن يدعو ويثني خيراً. لما روت أم سلمة عن الرسول أنه قال: ((إذا حضرتم الميت أو المريض فقولوا خيرا فإن الملائكة تؤمن على دعائكم)) (1).
فلما مات أبو سلمة أتيت الرسول فقلت: يا رسول الله إن أبا سلمة مات فما أقول؟ قال: ((فقولي اللهم اغفر لي وله واعقبني منه عقبى حسنة)) (2).
قالت: فأعقبني الله منه رسوله الله خيراً منه.
__________
(1) أخرجه مسلم 2/633، وابن حبان 7/274 في صحيحيهما، وهو في سنن الترمذي 3/307، وابن ماجة 1/465، ومصنف عبد الرزاق 3/393 وغيرها.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 2/633، وابن ماجة في سننه 1/465،و الخبر جزء من سالفه.
ويستحب الدعاء عند شدة الموت لما روت عائشة أن الرسول كان عنده قدح فيه ماء فكان يدخل يده فيه ويمسح بها وجهه ويقول: ((اللهم أعنِّي على سكرات الموت))(1).
وإذا مات المريض بعلة معروفة فإنه لا يدفن حتى تظهر فيه علامات الموت لأنه قد يغشى عليه فيظن أنه قد مات ولم يمت، وجملة العلامات الدالة على الموت خمس:
الأولى منها: أن تسترخي قدماه فيقوَّمان وينصبان فلا ينتصبان.
الثانية: أن تميل أنفه عن إستقامتها وتعوج بعد ثبوتها.
الثالثة: أن تمتد جلدة وجهه بعد تقبضها.
الرابعة: أن تنخلع كفاه عن ذراعيه بعد إتصالهما.
الخامسة: أن ينخسف صدغاه وينحرفا(2)
فإذا حصلت هذه العلامات مع تقدم المرض فقد تحقق موته.
وإن كان [موته] فجأة من غير علة كأن يموت من فزع أو غرق أو ما أشبه ذلك فإنه يتأنى في أمره وينتظر حتى يتحقق موته، فإذا تحقق موته في الحالين جميعاً فالسنة أن يبادر إلى تجهيزه ودفنه، لقوله : ((ثلاثة لا ينبغي التأني فيهن: الصلاة، والجنازة، والأيم إذا حضر كفؤها)) (3).
__________
(1) جاء الخبر في (المستدرك على الصحيحين) 2/505، وسنن الترمذي 3/308، و(الكبرى) للبيهقي 4/259، وابن ماجة 1/519، ومصنف ابن أبي شيبة 6/42، و(المعجم الكبير) للطبراني 23/34.
(2) هكذا في الأصل كلمة: وينحرفا، غير معجمة.
(3) ولفظه: عن علي أن رسول الله قال له: ((يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا دخل وقتها، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً)) أخرجه الترمذي. اهـ. تخريج البحر 2/89.
وروي عن الرسول : أنه دخل على طلحة بن البراء(1)
يعوده فقال : ((ما أرى الموت إلا قد ذهب بطلحة فإذا مات فآذنوني وبادروا به فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله)) (2).
قال الهادي: وإن كان الميت امرأة حاملاً وفي بطنها ولد يتحرك شق بطنها وأخرج الولد ثم تخاط تخييطاً وثيقاً.
واعلم أن كلامه هذا قد اشتمل على أحكام ثلاثة:
الحكم الأول: أنه لا يقدم على الشق إلا بعد العلم بحركة الولد وحياته في بطن أمه، وما هذا حاله فإنه لا يخفى أمره، وإنما وجب ذلك لأن حرمة الحي أولى من حرمة الميت فلهذا أقدمنا على الشق حفظاً على حياة الولد فإذا لم تعلم حياة الولد بالسكون والخفوت في البطن فلا وجه للشق بحال.
الحكم الثاني: شق البطن لإخراج الولد. وهو رأي أئمة العترة، ومحكي عن سفيان الثوري، وحكي عن مالك: أن النساء يعالجن خروج الولد من مخرجه المعتاد خروجه منه في العادة. وحكي عن الشافعي أن مذهبه مثل مذهب مالك في إخراجه من مخرجه المعتاد.
__________
(1) ترجم له في الإصابة 3/524-525 فقال ما ملخصه: طلحة بن البراء بن عميرة بن وبرة بن ثعلبة بن غنم بن سري بن سلمة بن أنيف البلوي حليف بني عمرو بن عوف الأنصاري، وروى أبو داود من حديث الحصين بن وحوح أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي يعوده فقال: ((إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لمسلم أن يحبس بين ظهراني أهله)) هكذا أورده أبو داود مختصراً كعادته في الإقتصار على ما يحتاج إليه في بابه.
(2) أورده الشوكاني في (نيل الأوطار) 4/24 عن الحصين بن وحوح بلفظ: ((إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله)) رواه أبو داود، والحديث في سنن البيهقي الكبرى 3/386، والتمهيد لابن عبد البر 6/272 وغيرهما.
والحجة على ما قلناه: هو أن خروجه من مخرجه في العادة إنما يكون في حال الحياة بأمر الله تعالى وقدرته، فأما بعد بطلان الحياة فلا وجه لذلك ويتعذر، والشق يكون أسهل وأيسر في الخروج فلهذا كان معتمداً عليه.
الحكم الثالث: أنه يخاط الشق تخييطاً وثيقاً لأن ترك الخياط تغيير لبدن الميت ويجري مجرى المثلة فلهذا توجه خياطه وضمه.
ويستحب لمن مات في أول النهار: ألا يبيت إلا في قبره، ومن مات في أول الليل ألا يصبح إلا في قبره. لما روي عن الرسول أنه قال: ((أسرعوا بجنائزكم))(1).
ولما روى ابن عمر رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((من مات بالغداة فلا يقل إلا في قبره، ومن مات بالعشي فلا يبت إلا في قبره)) (2).
ولأنه لا يؤمن مع عدم دفنه أن يسبق إليه التغير. إلا من كان غريقاً أو صاحب هدم أو مبرسماً(3)،
__________
(1) هذا طرف من حديث أورده ابن بهران وغيره عن أبي هريرة بلفظ: إن رسول الله قال: ((أسرعوا بجنائزكم فإن تك صالحة فخير تقدمونها عليه وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)) أخرجه الستة. اهـ (تخريج البحر) 2/89، وهو في صحيح ابن حبان 7/315، ومصنف عبد الرزاق 3/441.
(2) ذكره في (مجمع الزوائد) 3/20، وأخرجه الطبراني في (الكبير) 12/421، وهو في (فيض القدير) 6/227.
(3) في (لسان العرب): البرسام: الموم. ويقال لهذه العلة: البرسام، وكأنه معرب، وبر: هو الصدر، وسام، من أسماء الموت، وقيل: معناه الابن، والأول أصح؛ لأن العلة إذا كانت في الرأس يقال: سرسام، وسر هو الرأس، والمبَلْسَم والمُبَرْسَم واحد. الجوهري: البرسام علة معروفة، وقد بُرْسِمَ الرجل فهو مُبَرْسَم. اهـ. 12/46.
أو صاحب سكتة، فإن هؤلاء ينبغي التأني في حقهم حتى تتحقق أحوالهم بظهور العلامات التي ذكرناها. ولا يكره الدفن ليلاً عند أئمة العترة وأكثر العلماء لما روى ابن عمر: أن امرأة مسكينة ماتت على عهد رسول الله فدفنت ليلاً. وروي عن أمير المؤمنين: أنه دفن فاطمة ليلاً.
وحكي عن الحسن البصري: أنه كره ذلك. لما روي: أن ملائكة النهار أرفق من ملائكة الليل.
ومن جهة أنه لا يكاد يحصل تجهيزه على الكمال ليلاً فلهذا كره دفنه ليلاً لما ذكرناه.
وإذا مات الميت فإنه تكره النياحة عليه، وشق الجيوب ونشر الشعور وخمش الوجوه. لما روت أم عطية أن الرسول نهى عن النياحة فما وفت واحدة منا بما قاله رسول اللّه إلا أم سلمة. وروى أبو سعيد الخدري: أن الرسول لعن النائحة والمستمعة إليها للنياحة(1).
وروى ابن مسعود أن الرسول قال: ((ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية2))(2).
وروي أن امرأة بايعت الرسول وقالت: أخذ علينا رسول اللّه ألاَّ نخمش وجهاً ولا ندعو ويلاً ولا نشق جيباً ولا ننشر شعراً، ولأن ذلك يشبه التظلم والإستغاثه، وما فعله الله فهو حكمة وصواب وعدل وحق ولأن ذلك يجدد الحزن.
وروي عن الرسول أنه قال: ((صوتان ملعونان فاجران في الدنيا والآخرة: صوت رنة عند مصيبة، وشق جيب وخمش وجه ورنة شيطان، وصوت عند نعمة، صوت لهو ولعب ومزامير شيطان)) (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري، وهو في سنن البيهقي الكبرى 4/63، ومسند أحمد 3/65.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 1/435، والبيهقي في (الكبرى) 4/64، وابن أبي شيبة في مصنفه 2/486، وقال فيه ابن بهران 2/90 تخريج البحر: أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن مسعود.
(3) أورده في (الاعتصام) عن (شرح التجريد) بلفظه 2/193، وهو في (الأحاديث المختارة) 6/189 و(مجمع الزوائد) 3/13، و(التمهيد) لابن عبد البر 2/199.
وروى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، عن الرسول أنه قال: ((ليس منا من حلق، ولا من سلق، ولا من خرق، ولا من دعى بالويل والثبور)) (1).
وفسره الإمام زيد بأن الحلق: حلق الشعر وجزه، والسلق: الصياح، والخرق: خرق الجيب والقميص.
وأما البكاء من غير ندب ولا نوح فهو جائز. لما روي عن الرسول أنه جعل ولده إبراهيم في حجره وروحه تنزع ونفسه تقعقع فبكى عليه وقال: ((تدمع العين ويحزن القلب ولا أقول ما يغضب الرب إنا بك يا إبراهيم لمحزونون)). ثم فاضت عيناه فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله فقال: ((إنها رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (2).
وروي أنه قال للرسول : أليس قد نهيت عن البكاء يا رسول الله؟ فقال: ((لا إنما نهيت عن النوح))(3).
وروي عن الرسول : أنه بكى على عثمان بن مظعون(4)
__________
(1) أورده في (مجمع الزوائد) 3/15، وأخرجه أبو داود في سننه 3/194، والبيهقي في (الكبرى) 1/611، والنسائي في سننه 4/20، وابن أبي شيبة في مصنفه 2/468.
(2) جاء الحديث بروايتين، الأولى عن أنس بن مالك، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود، والثانية عن أسامة بن زيد، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، بألفاظ في بعضها اختلاف، وكان في الرواية الأولى مع الرسول عبد الرحمن بن عوف، وفي الثانية سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل. اهـ.
(3) تقدم معناه في الأحاديث السابقة.
(4) أورد في (الثقات)3/260: ما فيه الدلالة على الموضوع، وهو جواز تقبيل الميت فقال: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب أخو قدامة بن مظعون القرشي، كنيته أبو السائب مات بالمدينة قبل وفاة رسول الله، وقبله رسول الله بعد الموت.
…وجاء في (تعجيل المنفعة)1/283: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة القرشي الجمحي، أبو السائب رضي الله عنه، أسلم قديماً بعد ثلاثة عشر نفساً وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً كان من أشد الناس اجتهاداً في العبادة، وهو ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقال: لا أشرب شراباً يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى مني، مات سنة اثنتين من الهجرة وقبله النبي وهو ميت، وهو أول من دفن بالبقيع، روى عنه ابن عباس حديثه في وقت نزول قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا.
حتى سالت دموعه، وروي أنه قال في بكائه عليه: ((هاي هاي هاي ثلاث مرات))(1).
فإن قيل: فهذا صوت وقد كره الصوت الرسول فكيف جاز له فعله؟
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا صوت للبكاء وإنما يكره من الصوت ما كان معه نوح وتعديد.
وأما ثانياً: فلأنه مغلوب عليه لشدة الحزن، وما هذا حاله فليس مكروهاً ولا يؤاخذ [عليه].
فإذا عرفت هذا فالبكاء مباح وجائز حين يموت الميت، فإذا مات فالمستحب أن لا يبكي وإن كان لا يحرم البكاء بعد الموت. لما روى عبدالله بن عتيك(2)
__________
(1) جاء في (جواهر الأخبار) عن عائشة أن رسول الله قبل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي، أو قالت: وعيناه تذرفان، أخرجه الترمذي وأبو داود، ولم يذكرا هاي هاي، والله أعلم. اهـ. 2/90 تخريج البحر.
(2) عبد الله بن عتيك، ويقال: ابن عتيق، ويقال: ابن عبيد، ويدعى ابن هرمز، روى عن معاوية وعبادة بن الصامت، وعنه محمد بن سيرين، ذكره ابن حبان في الثقات، روى له النسائي وابن ماجة حديثاً واحداً في بيع الذهب بالذهب، قلت: ذكر ابن عساكر في رواية ابن علية وبشر بن المفضل: عبد الله بن عبيد، وفي رواية يزيد بن زريع: عبد الله بن عتيك، انتهى، والصواب: ابن عبيد وبذلك جزم المصنف في الأطراف تبعاً لابن عساكر، فقال: رواية ابن زريع وهم، وقفت على قبره وعليه بلاطة فيها اسمه ونسبه وليس فيها تأريخ وفاته، وهكذا ذكره البخاري وابن أبي حاتم وابن أبي خيثمة ويعقوب بن سفيان وابن حبان، وهكذا وقع في السنن الكبرى رواية ابن الأحمر عن النسائي في طرقه، اهـ (تهذيب التهذيب) 5/273.
: أن الرسول جاء إلى عبدالله بن ثابت(1)
يعوده فوجده قد غلب عليه فصاح فلم يجبه فقال الرسول : ((قد غلبنا عليك يا أبا الربيع)). فصاحت النسوة بالبكاء فجعل عبدالله بن عتيك يسكتهن، فقال الرسول : ((دعهن يبكين فإذا وجبت فلا تبكين باكية)). فقال: يا رسول الله وما الوجوب؟ قال: ((إذا مات)) (2).
ولأن الموت يجدد الحزن ويمنع الصبر، ولأن البكاء إنما يكون محاذرة عن الفوات للأحباب، فأما بعد الموت فقد وقع الإياس فلا فائدة فيه، وسيأتي لهذا مزيد تقرير عند الكلام في التعزية.
__________
(1) ترجم له في الثقات 3/242، وجاء في تعجيل المنفعة 1/214: عبد الله بن ثابت الأنصاري، أبو الربيع، توفي في حياة النبي وكفنه النبي في قميصه، روى عن النبي حديث: كلو الزيت وادهنوا به، روى عنه الشعبي هذا الحديث، ويقال: روى عنه أيضاً أبو الطفيل وعطاء الشامي، وروى قصة موته في حياة النبي: جابر بن عتيك، وذكر الطبراني ومن قبله الواقدي أنه شهد أحداً، ولهم صحابي آخر يقال له: عبد الله بن ثابت بن الفاكه، وهو أنصاري أيضاً، ذكره العدوي في الأنساب، وقال: شهد الخندق وله عقب بالمدينة، وفي الصحابة أيضاً: عبد الله بن ثابت بن عتيك الأزدي، ذكره أبو عبيد، وقال: إنه استشهد باليمامة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وله تراجم منها: في الإكمال للحسيني1/229، وفي الإصابة7/137.
(2) هذا طرف من حديث رواه جابر بن عتيك، أخرجه ابن حبان في صحيحه 7/461، والبيهقي في (الكبرى) 4/69، وأبو داود 3/188، والنسائي 4/13، وموطأ مالك 1/233.
---
القول في غسل الميت
وغسله فرض من فروض الكفاية يجب على كل من علم أنه ميت أن يتولاه، فإذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين، وإن تركه الكل لحق الحرج من كان يمكنه القيام به وتركه. لما روي عن الرسول في الرجل الذي سقط من بعيره فمات: ((اغسلوه بماء وسدر))(1).
ولأن الإجماع منعقد على وجوبه على الكفاية كسائر الواجبات على الكفاية.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في المغسول. ويشتمل على مسائل عشر:
المسألة الأولى: غسل من مات من المسلمين واجب على الكفاية كما قررناه سواء كان صغيراً أو كبيراً ذكراً كان أو أنثى حراً كان أو عبداً، وإن وجد ميت ولم يعلم حاله مسلم أو كافر نظرت في حاله، فإن وجدت فيه سيما المسلمين نحو الخضاب وقص الشارب وتقليم الأظفار، غسل لأن هذه الأمارات دالة على كونه مسلماً فلهذا وجب غسله، وإن لم يوجد فيه شيء من هذه الأمارات اعتبر حاله بحكم الدار، فإن وجد في قرية من قرى المسلمين حكم عليه بالإسلام وغسل تغليباً لحكم الدار لأن الغالب أن من وجد في دار الإسلام فهو مسلم لأن الفائدة في كون الدار دار إسلام هو الحكم على من هو مجهول العين فيها، وإن وجد في قرية من قرى الكفر حكم عليه بالكفر تغليباً لحكم الدار فلا يغسل.
والسِّقط بضم السين وكسرها، هو الذي يولد لغير تمام، فإذا ولد ناقصاً نظرت في حاله فإن استهل ورث وورث وحجب وأسقط وسمي وغسل وصلي عليه ودفن، واستهلاله ظهور أمارة الحياة فيه وهو صراخه وبكاؤه وعطاسه وحركة يده أو رجله أو يطرف بعينه. وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
__________
(1) أخرجه البخاري 1/426، ومسلم 2/865، والترمذي 3/286، والنسائي 5/197، وأحمد 1/328، والبيهقي في (الكبرى) 3/390.
والحجة على هذا: ما روى البراء عن رسول اللّه أنه قال: ((أحق ما صليتم عليه أطفالكم))(1).
وإذا وجبت الصلاة وجب الغسل لأنه لا تجوز الصلاة على الميت إلا بعد غسله. وروى جابر أن إبراهيم ابن رسول اللّه مات وهو ابن ستة عشر شهراً فغسل وصلى عليه رسول اللّه .
وروى المغيرة عن الرسول أنه قال: ((الطفل يصلى عليه))(2).
وروى عطاء عن رسول اللّه أنه قال: ((إذا استهل الصبي ورث وصُلي عليه))(3).
وروى أبو أمامة عن رسول اللّه أنه قال: ((إذا أستهل السقط صلي عليه))(4).
__________
(1) أخرجه البيهقي في (الكبرى) 4/9، وهو في (شرح معاني الآثار) 1/508، وفي (الكنى) للبخاري 1/10.
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه 7/321، والترمذي في (السنن) 3/349، والبيهقي في (الكبرى)4/8.
(3) قال في (النيل): ويدل على اعتبار الاستهلال حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي بلفظ: ((إذا استهل السقط صُلي عليه وورث)) قال: وفي اسناده إسماعيل بن مسلم المكي عن أبي الزبير عنه، وهو ضعيف. اهـ 4/46.
قال ابن بهران: قلت: لكن في (الجامع) عن جابر أن النبي قال: ((الطفل لا يُصلى عليه ولا يورث حتى يستهل)) أخرجه الترمذب؟ اهـ 2/91 (حاشية البحر)، ورواه البيهقي في (الكبرى) 4/8، وابن أبي شيبة في مصنفه 6/288.
(4) تقدم عن جابر، قال في (تخريج البحر): ونسبه في (التلخيص) إلى الترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي، وبعضهم قال: هو موقوف.
وعن المغيرة بن شعبة: أن النبي قال: ((صلوا على السقط وادعوا لأبويه))(1).
على الجملة فإن ما هذا حاله لا خلاف فيه.
وإن لم يستهل فهل يغسل ويصلى عليه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه. وهذا هو رأي أئمة العترة. ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((إذا استهل الصبي صلي عليه وسمي وورث وإن لم يستهل لم يصل عليه ولم يسم ولم يورَّث)).
المذهب الثاني: أنه إذا لم يستهل غسل إذا استكمل أربعة أشهر.
وهل يصلى عليه أم لا؟ فيه قولان. وسيأتي ذكرهما في الصلاة.
والحجة على هذا: ما روى المغيرة بن شعبة عن الرسول أنه قال: ((السقط يصلى عليه ويدعا لأبويه بالعفو والمغفرة)).
وإذا صلي عليه وجب غسله. وهذا هو رأي الشافعي.
وحجته على هذا: ما روي في صحيح البخاري ومسلم وهو: ((إن النطفة إذا وقعت في الرحم فإنها تكون أربعين يوماً نطفة، وأربعين يوماً علقة، وأربعين يوماً مضغة، ثم يأمر الله الملك فيكتب رزقه وأجله وشقي أم سعيد))(2).
__________
(1) أورده الشوكاني في (نيل الأوطار) عن المغيرة بن شعبة بلفظ: ((الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريباً منها عن يمينها أو عن يسارها والسقط يُصلى عليه ويُدعا لوالديه بالمغفرة والرحمة))، رواه أحمد وأبو داود وقال فيه: ((والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها ويسارها قريباً منها)) وفي رواية: ((الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها، والطفل يُصلى عليه)) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. اهـ 4/45، ورواه البيهقي في (الكبرى) 4/8، وابن أبي شيبة في مصنفه 6/105,
(2) هذا طرف من حديث أخرجه بكماله: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، وأورده ابن حبان في صحيحه 7/321 والبيهقي في الكبرى 4/8 وغيرهما.
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه إذا كان في الأربعين الرابعة تنفخ فيه الروح فيكون حياً، وهذا معلوم من عادة النساء فإنها تجد حركته في وفاء أربعة أشهر. فإذا تقررت حياته ثم خرج سقطاً فإنه يغسل كما لو مات بعد استهلاله.
والمختار: ما عليه علماء العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن الشرع إنما ورد بغسل الأموات وهذا غير معلومة حياته ولا تعلم حياته إلا بالإستهلال، والميت من نزعت منه الحياة والسقط لم يستهل فيقال: إنه حي.
فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الأمارة الصحيحة في كون السقط حياً إنما هو إستهلاله، فإذا لم يستهل فلا حكم لحياته ولا يعمل عليها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: رُوي في الصحيحين؛ البخاري ومسلم: أنه تنفخ فيه الروح لأربعة أشهر، وفي هذا دلالة على أنه يكون حياً في مقدار أربعة أشهر، فإذا خرج من بطن أمه لهذه المدة فهو يغسل ويصلى عليه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه الحركة في بطن أمه لا يدرى حالها هل هي حركة من جهته أو حركة من جهة الله تعالى(1)
فلا يمكن بناء الأمر على ما ليس متحققاً.
وأما ثانياً: فلأن [أمر الجنين] لما كان مستوراً في بطن أمه رفع الشرع الإبهام بأن جعل أمارة واضحة في حياته وهو الإستهلال عند خروجه من البطن فلهذا رفع الشرع الشبهة في إيجاب الغرة في المولود الذي تلقيه المرأة لجناية فأوجب فيه الغرة وهي خمسمائة درهم لما لم يعلم أمره في كونه حياً أو غير حي، فهكذا الحال هاهنا رفع الشرع الشبهة في كونه حياً أو ميتاً بأن جعل الأمارة هي الاستهلال عند خروجه فيعمل عليها في الغسل والصلاة من غير حاجة إلى تعويل على غير ذلك من الأمارات.
__________
(1) هكذا في الأصل، والعبارة غامضة المعنى كما ترى، فكيف تكون الحركة من جهة الجنين مستقلة عن حركة الله تعالى له؟ وإذا كانت من جهة الله تعالى وهي كذلك، فهل يقصد أنها لا تدل على وجود حياة في الجنين؟
قالوا: روى المغيرة بن شعبة أنه قال: ((يصلى على السقط ويستغفر لأبويه)).
قلنا: هذا محمول على أنه قد استهل ليكون موافقاً لما ذكرناه من الأدلة فإنها صريحة في الدلالة على العمل على الإستهلال فلا يمكن معارضتها بالأمور المحتملة.
المسألة الثانية: إذا وجد بعض الإنسان من المسلمين، هل يصلى عليه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يغسل ولا يصلى على بعض الإنسان إلا إذا وجد الرأس مع النصف، أو وجد الأكثر منه. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وغيره من الأئمة، وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن الإجماع منعقد على أنه لا تجوز الصلاة ولا الغسل لليد المبانة بالقصاص والسرقة، وليس ذلك إلا لكونها بعضاً فهكذا حال البعض، إذا لم يكن الأكثر لم يغسل ولا يصلى عليه، ولأن القياس هو منع الصلاة على الموتى لأجل النجاسة لولا دل الشرع على ذلك، وإنما دل على من كان كاملاً من الأموات فأما البعض فلا يصلى عليه إلا أن تقوم دلالة على ذلك، والدلالة إنما قامت على وجود الأكثر دون ما سواه فلهذا وجب التعويل عليه.
المذهب الثاني: أنه إذا وُجد بعض الميت صُلي عليه وغُسل، قليلاً كان أو كثيراً. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الدلالة التي دلت على وجوب الغسل والصلاة في حق الموتى لم تفصل بين أن يكون بعض الإنسان أو كله.
ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه: أن طائراً ألقى يداً في مكة من وقعة الجمل فعرفوها بالخاتم فغسلوها وصلوا عليها. وقيل: إنها كانت يد طلحة، وقيل يد عتَّاب بن أسيد(1)
__________
(1) له تراجم في المقتنى في سرد الكنى 1/365، وفي الثقات3/304، وفي التأريخ الكبير 7/54، وقال في مشاهير علماء الأمصار 1/30: عتاب بن أسيد بن أبي العيص كنيته أبو محمد ولاه رسول الله مكة وهو ابن ثماني عشرة سنة، توفي يوم توفي أبو بكر الصديق، وجاء في (تهذيب التهذيب)7/82: عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد المكي، روى عن النبي وعنه عمرو بن أبي عقرب وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعبيد الله بن عبيدة الربذي، قال ابن عبد البر: استعمله النبي على مكة عام الفتح في خروجه إلى حنين فحج بالناس سنة ثمان وحج المشركون على ما كانو اعليه ولم يزل على مكة حتى قُبض رسول الله وتركه أبو بكر فلم يزل عليها والياً إلى أن مات، فكانت وفاته فيما ذكر الواقدي يوم مات أبو بكر الصديق، وقال محمد بن سلام الجمحي وغيره : جاء نعي أبي بكر إلى مكة يوم دفن عتاب، وكان عتاب رجلاً صالحاً خيراً فاضلاً.
قال أبو داود: لم يسمع سعيد بن المسيب من عتاب شيئاً، وقال أيوب بن عبد الله بن يسار عن عمرو بن أبي عقرب: سمعت عتاب بن أسيد فذكر حديثاً له عندهم، حديثاً في الخرص، وعند ابن ماجة آخر في النهي عن شف ما لم يضمن، قلت: ومقتضاه أن عتاباً تأخرت وفاته عما قال الواقدي؛ لأن أيوب ثفة وعمرو بن أبي عقرب ذكره البخاري في التابعين، وقال: سمع عتاباً. والله أعلم، وقد ذكر أبو جعفر الطبري عتاباً فيمن لا يعرف تأريخ وفاته، وقال في تأريخه: أنه كان والي مكة لعمر سنة عشرين وذكره قبل ذلك في سني عمر ثم ذكره في سنة 21 ثم في سنة 22 ثم قال في مقتل عمر سنة 22: قتل وعامله على مكة نافع بن عبد الحارث، انتهى، فهذا يشعر بأن موت عتاب كان في أواخر سنة 22 أو أوائل سنة 23 فعلى هذا فيصح سماع سعيد بن المسيب منه، والله أعلم.
.
وروي أن أبا عبيدة صلى على رأس من رؤوس المسلمين وجده، وروي أن عمر بن الخطاب صلى على عظام وجدها وهو بالشام. فهذه كلها دالة على جواز الغسل والصلاة لما وجد من أبعاض المسلمين.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من أنه لا يصلَّى إلا على الأكثر، إما الرأس مع وجود النصف، وإما الأكثر من البدن.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أنا لو صلينا على البعض لأدَّى إلى حصول صلاتين على ميت واحد بأن وجد النصفان منه مرتين فيؤدي إلى تكرير الصلاة على ميت واحدٍ. والإجماع على خلاف ذلك منعقد، وإذا وجد الأكثر أو النصف معاً فهو في حكم الكل فلا حكم للموجود بعد ذلك.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: الأدلة لم تفصل في الصلاة والغسل بين أن يوجد الأكثر أو الأقل فلهذا جوزناه.
قلنا: الأدلة في الغسل والصلاة إنما دلت على الكل وهي ساكتة في البعض لكنا ألحقنا البعض بالكل إذا كان هو الأكثر فإذا كان الأقل فلا دلالة عليه.
قالوا: روي أن اليد [التي] ألقيت في مكة ألقاها الطير فصُلّي عليها، وعن عمر بن الخطاب مثله، وعن أبي عبيدة بن الجراح: أنهم صلوا على أبعاض من المسلمين وجدوها. فدل ذلك على جواز الصلاة على البعض إذا وجد.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذه مذاهب للمجتهدين من الصحابة فلا يلزمنا قبولها وإنما الحجة ما كان عن الله تعالى وعن رسوله أو كان إجماعاً من جهة الصحابة، فأما الأفراد فلا يجب علينا قبول أقوالهم.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه محمول على الدعاء دون الصلاة الشرعية حتى لا يعارض ما ذكرناه من الدلالة على منعه.
قالوا: إن الموجود هو بعض من الجملة التي يُصلى عليها فيجب أن يُصلى عليه ويغسل كما لو كان الموجود هو الأكثر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه يؤدي إلى ما ذكرناه من الصلاة على آدمي مرتين وهو ممنوع لأن النصفين سواء فلا مزية لأحدهما على الآخر.
وأما ثانياً: فلأن الأكثر بمنزلة الكل فلهذا جازت الصلاة عليه والغسل له فلا يؤدي إلى المحذور الذي ذكرناه فافترقا.
قال الهادي في الأحكام: والميت إذا كان به جراح أو حرق بالنار ويخشى تقطيعه إن غسل، فإنه يصب عليه الماء صباً لأنه مأمور بصيانة الميت وحفظه عن التغيير. ولهذا فإنه يوضع عليه الحديد خشية إنتفاخه، ويعاجل بدفنه ويصان عن الشمس فلهذا سقط غسله، فإن كان صب الماء يغيره ويقطع أوصاله ترك غسله ويمم وصُلّي عليه ودفن كما هو من غير غسل.
وقال أيضاً: وولد الزنا يغسل ويُصلى عليه لأن فسق أبويه لا يؤاخذ به لقوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164]. ولأن أحكام المسلمين جارية عليه في حياته ومماته، ولهذا يغسل ويصلى عليه إذا مات ويستغفر له إذا علم صلاحه وإسلامه.
وأما الأغلف، وهو الذي ترك الختان فينظر في حاله، فإن كان ترك الإختتان لعذر وهو خوفه على نفسه إن اختتن، غُسِل وصُلِّي عليه، لما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: لا يصلى على الأغلف إلا أن يكون ترك ذلك خوفاً على نفسه فإنه معذور في تركه. وإن كان تركه تهاوناً بما أوجب الله عليه واطراحاً للسنة لم يغسل ولا يصلى عليه لحديث أمير المؤمنين كرم الله وجهه حيث قال: لا يصلى على الأغلف لأنه ترك من السنة أعظمها واطرح ما أوجب عليه. ولأن فعل الختان من شعائر الإسلام وسنة من سنن المرسلين، كما روي عن الرسول أنه قال: ((عشر من سنن المرسلين خمس في الرأس، وخمس في الجسد)). وعد من جملتها الختان. وتركه من شعائر الكفر فلا بد من تغييره، ولما روي أن رجلاً من أهل الكتاب أسلم وهو أغلف فقال له الرسول : ((إختتن)). فقال: إني أخاف على نفسي. فقال: ((إذا خفت على نفسك فكف)) (1).
وفي هذا دلالة على وجوبه إلا إذا خاف على النفس فإن الروح واجب حفظه وصيانته عن التلف لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ}[البقرة:195]. فلهذا يغتفر في سلامتها ترك كثير من الواجبات والسنن.
المسألة الثالثة: والكفار المصرحون بالكفر من أهل الشرك وعبدة الأوثان والأصنام والنجوم والملاحدة وسائر الملل الكفرية فلا يجب غسلهم عند أئمة العترة وفقهاء الأمة، والإجماع منعقد على بطلان وجوب غسلهم لأنهم ليسوا من أهل العبادة ولا ملتزمون للنبوة وأحكام الشريعة وكما أنهم لا يطالبون بالصلاة والزكاة مع إصرارهم على الكفر فهكذا لا تجري عليهم أحكام الملة بعد الموت. وهل يجوز غسلهم أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) رواه زيد بن علي بسنده عن علي بلفظ: ((إن كنت تخاف على نفسك فكف)) فمات وصلى عليه وأهدي له فأكل، اهـ (مجموع الإمام زيد بن علي) 171، ويبدو في العبارتين الأخيرتين تقديم وتأخير. والله أعلم.
المذهب الأول: أنه لا يجوز غسلهم. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن مالك.
والحجة على هذا: هو أن الغسل من جملة العبادات ولهذا فإنه يفتقر إلى النية والكافر ليس من أهل العبادة ولهذا لم يجز غسله بحال.
المذهب الثاني: جواز غسله. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول : أنه أمر علياً كرم الله وجهه أن يغسل أباه أبا طالب، ولو لم يكن جائزاً لما أمره به.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من المنع من غسل الكافر.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن الغسل لو جاز في حق الكافر لجازت الصلاة فلما لم تجز الصلاة لم يجز الغسل لأنهما أمران يختصان الأموات، فلما لم تجز الصلاة بالإجماع لم يجز الغسل.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال لعلي : ((اغسل أباك)) (1)
__________
(1) علق ابن بهران رحمه الله على هذا بقوله: هكذا يحكيه أهل الفقه، ولم أقف له على شيء في كتب الحديث، وإنما لفظ الحديث عن ناجية بن كعب أن علياً قال: لما مات أبو طالب أتيت رسول الله فقلت: إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: ((اذهب فوار أباك ثم لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني، فواريته فجئته فأمرني فاغتسلت فدعالي، هذه رواية أبي داود، وعند النسائي أنه أتى النبي فقال: إن أبا طالب مات، فقال: ((اذهب فواره)) قال: إنه مات مشركاً، قال: ((اذهب فواره)) فلما واريته رجعت إليه فقال لي: ((اغتسل)) وأخرج أيضاً نحو رواية أبي داود.
وفي (التلخيص) ما لفظه: (تنبيه): ليس في شيء من طرق هذا الحديث التصريح بأنه غسله إلاَّ أنه يؤخذ ذلك من قوله: فأمرني فاغتسلت، فإن الاغتسال شرع من غسل الميت ولم يشرع من دفنه، ثم قال: قلت: وقع عند ابن أبي شيبة بلفظ: إن عمك الشيخ الكافر قد مات فما ترى فيه؟ قال: ((أرى أن تغسله وتجنه)) وحكُى في (التلخيص) عن الواقدي بإسناده إلى علي قال: لما أخبرت رسول الله بموت أبي طالب بكى ثم قال لي: ((اذهب فاغسله وكفنه وواره)) قال: ففعلت ثم أتيته، فقال: ((اذهب فاغتسل)) اهـ من (تخريج البحر) 2/93.
.
دل ذلك على الجواز.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه قد روي أنه قال لأمير المؤمنين كرم الله وجهه: ((اذهب فوار أباك)). ولم يذكر أنه يغسله.
وأما ثانياً: فلعل هذا إنما كان في مكة ولم يكن قد حصل التحريم لغسل الكفار لأن الشريعة لم تكن قد اتسعت في مكة، وإنما كان إتساعها في المدينة وانبساط أحكامها وتقرير قواعدها.
المسألة الرابعة: في كفار التأويل، وهذا نحو المجبرة والمشبهة والروافض والخوارج على رأي من يقول بإكفارهم، فإن هؤلاء يغسلون إذا ماتوا.
فإن قلنا: إنهم ليسوا كفاراً كما هو الذي نختاره فهم من جملة المسلمين يجب غسلهم كما يجب غسل سائر المسلمين.
فأما من يقول بإكفارهم، فإنه لا يخالف في وجوب غسلهم لأنهم موحدون لله تعالى مصدقون بالشريعة مقرون بالنبوة ناكحون على القرآن والسنة مصلون إلى القبلة لكنه قام البرهان الشرعي عند من يقول بإكفارهم على أن هذا الاعتقاد الذي اعتقدوه يوجب إكفارهم، وجميع الأحكام الإسلامية لاحقة لهم كما أوضحناه.
فإن قال قائل: فإذا كان حالهم في هذه الأحكام فما فائدة من يقول بإكفارهم وما حكمهم عنده؟
والجواب: أن الذي يأتي تفريعاً على قولهم بإكفارهم، هو تحريم المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين وتحريم الذبيحة، فأما قبول أخبارهم وشهادتهم فلا يختلفون في قبولها، وعلى الجملة فإن كل من قال بإكفارهم فإنه يعاملهم معاملة المرتدين لأنهم قالوا: بمقالة توجب ردتهم عن الدين.
والمختار: هو القطع بخطأهم في هذه المسائل، فأما إكفارهم بها فلا وجه له، وتأويلهم فيها واعتقادهم الحسن فيها يعذرهم عن الإكفار، فلأجل هذا قطعنا ببطلان إكفارهم لعدم الدليل القاطع ووقوع الاحتمال فلا سبيل إلى الإكفار بالأمور المحتملة.
المسألة الخامسة: في الفساق المرتكبين للكبائر المصرحين بالفسق من أهل القبلة ممن مات مصراً على كبيرة، فهل يغسل أم لا؟
فالذي عليه أئمة العترة: أنهم لا يغسلون لأجل ما هم عليه من ارتكاب الكبائر. والمحكي عن الفقهاء: أنهم يغسلون لأنهم مصدقون بالله تعالى وبرسوله وبالشريعة وبالقرآن.
والحجة على ما قاله علماء العترة: هو أنهم صاروا من أهل عداوة الله تعالى ومستحقين للعذاب فأشبهوا الكفار.
ومن جهة: أنها لا تقبل شهاداتهم وترد أخبارهم لتهتكهم وإقدامهم على الكبائر.
والمختار: أن غسلهم غير واجب. وهل يجوز أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: جواز الغسل لأهل الكبائر وتغطية جيفهم بالدفن كسائر الجيف التي على الأرض تطهيراً لها وإبعادها عن التأذي بروائحها الخبيثة وتشريفاً للإقرار بالتوحيد والتصديق بالرسالة وغير ذلك من الأحكام الإسلامية التي التزموها لكنهم فسقوا وتعرضوا لسخط الله وغضبه بارتكاب ما ارتكبوه من المعاصي الفسقية.
المسألة السادسة: في فساق التأويل. وهم الذين خرجوا على إمام الحق بالمخالفة ومنعوه عن الإستيلاء على البلاد وإنفاذ أوامر الله ونواهيه لشبهة طرت عليهم، فمن هذه حاله فيقال فيهم: إنهم فساق تأويل لأنهم فسقوا بالمخالفة والظهور عليه، وحكمهم الفسق بالمخالفة، وحكمهم أخف ممن ارتكب كبيرة لا شبهة له في ارتكابها. وفسق الخوارج أدخل وأعظم من فسق التأويل فإن فسق الخوارج يمنع من قبول الشهادة وقبول الأخبار لعظمه، وفسق التأويل لا يمنع من ذلك، وعلى هذا هل يغسلون أم لا؟ فيه تردد لأن أمير المؤمنين كرم الله وجهه لم يعاملهم معاملة أهل الفسق من أهل الكبائر.
فالمختار: غسلهم ودفنهم في مقابر المسلمين. وقد روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه لم يغسل من قتل من أصحابه في النهروان لكونهم شهداء وصلى عليهم، ومن قتل من الخوارج في ذلك اليوم لم يغسل ولم يصل عليه، لخروجهم عليه لكن الشبهة الطارئة عليهم في الخروج عليه هي التي خففت الأمر في حقهم فلهذا قلنا: بجواز الغسل.
المسألة السابعة: في الشهداء، والشهيد الذي يقتل في المعركة في قتال الحق مع الإمام أو ينقل من المعركة مجروحاً بجراحة يقطع على موته منها فهذا هو الشهيد وهي مشتملة على أحكام ثلاثة عشر:
الحكم الأول: هل يغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الشهيد الذي وصفنا حاله لا يغسل. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وعامة الفقهاء.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول في شهداء أحد أنه قال: ((زملوهم بكلومهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك)) (1).
الحجة الثانية: ما روى زيد بن علي عن علي كرم الله وجهه أن قتلى بدر لما أصيبوا وذهبت رؤوس عامتهم فصلى عليهم الرسول ولم يغسلهم، وما ذاك إلا من أجل شهادتهم وقتلهم في سبيل اللّه.
المذهب الثاني: أنهم يغسلون. وهذا هو المحكي عن الحسن البصري وسعيد بن جبير من التابعين.
والحجة على هذا: هو أن غسل من مات من المسلمين فرض على الكفاية وهو معلوم ضرورة من الدين فلا يجوز أن ترفع هذه القاعدة بأمر مظنون والأمور المقطوعة لا يمكن رفعها بالأمور المحتملة المظنونة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من فقهاء الأمة، وهو المنع من غسل الشهداء لأجل ما كرمهم الله به من الشهادة، واختار لهم من الكرامة بإعزاز كلمة الدين والذب عن حوزته.
والحجة لهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما علم من حاله في جميع من قتل من أصحابه بين يديه وبأمره في بدر وأحد وسائر الغزوات وجميع السرايا، فإنه لم يغسلهم، وفي هذا دلالة على صحة ما ذكرناه من منع غسلهم.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: غسل الموتى قاعدة معلومة فلا يجوز تركها بأمر مظنون.
__________
(1) أورد الحديث ابن بهران عن عبد الله بن ثعلبة بلفظ: ((زملوهم بدمائهم ...) أخرجه النسائي. اهـ 2/93، وهو في سنن النسائي 6/29 ومسند أحمد 5/431، والسنن الكبرى 4/11.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لم نرفع حكم هذه القاعدة إلا بأمر معمول عليه من أقوال صاحب الشريعة وأفعاله، وما هذا حاله فإنه يعمل به في تخصيص العموم، ونسخ الأحكام، وغير ذلك من الأمور العملية.
وأما ثانياً: فلأنا عملنا بكلا الدليلين فعملنا بهذه القاعدة في غسل الأموات فيما عدا الشهداء، وعملنا بقول الرسول وفعله في حال الشهداء من ترك الغسل في حقهم فقد عملنا بكلا الدليلين كما ذكرناه، وأنتم أسقطتم العمل بأقواله وأفعاله في حق الشهداء فلهذا كان ما قلناه أحق بالعمل والقبول مما ذكرتموه.
الحكم الثاني: في أمره إذا نقل من المعركة وفيه شيء من الحياة.
قال الهادي: ومن حُول من المعركة وفيه شيء من الحياة فُعل به ما يُفعل بسائر الموتى وغسل وكفن وصلي عليه.
واعلم أن كل من لم يقتل في المعركة ونقل منها حياً، ففيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: إذا نقل وفيه جراحة يعلم أنه لا يعيش معها فهو شهيد لا يغسل، وإن نقل وأكل وشرب وتداوى ومات بعد ذلك فإنه يغسل. وهذا هو الذي حصله السيد أبو طالب للمذهب.
والحجة على هذا: هو أن الأصل في الموتى كلهم الغسل لانعقاد الإجماع على ذلك خلا أن الشهيد استثني من هذه القاعدة، والإستثناء إنما وقع في حق من قتل في المعركة أو كان به جراحة لا يعيش منها، فأما من عدا ذلك فهو خارج عن اسم الشهيد فلهذا وجب غسله.
المذهب الثاني: أنه إذا نقل من المعركة فأكل وشرب ثم مات قبل تقضي الحرب فإنه يكون في حكم الشهيد فلا يغسل. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه مهما كانت الحرب قائمة فهو في حكم من حضرها ولهذا فإنه يأخذ حقه من الغنيمة إذا مات بعد إحرازها.
المذهب الثالث: أنه إن مات بعد الإرتياث(1)
__________
(1) يُرْتَثّ: قال ابن منظور رحمه الله: والرتث: الصريع الذي يثخن في الحرب، ويُحمل حياً ثم يموت، وقال ثعلبة: هو الذي يحمل من المعركة وبه رمق، فإن كان قتيلاً فليس بمرتث. اهـ 2/151 لسان.
فإنه يغسل وليس شهيداً، وإن مات قبل الإرتياث فهو شهيد فلا يغسل. وهذا هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، واختلفوا في الإرتياث وتفسيره على أقوال ثلاثة:
القول الأول: محكي عن أبي الحسن الكرخي: وهو أن الإرتياث أن يحمل على أيدي الرجال ويأكل أو يشرب أو يوصي بدينه أو بثلث ماله أو يوصي أو يصلي أو يبقى في المعركة يوماً وليلة حتى يعقل أو يمضي عليه وقت صلاة فلا يجب عليه قضاؤها، فإن كان مغمى عليه مرتثاً فهو شهيد.
القول الثاني: محكي عن أبي يوسف: وهو أنه إن بقي في المعركة أقل من يوم فليس مرتثاً وهو شهيد. حكاه ابن سماعة عنه.
القول الثالث: محكي عن محمد: مثل ما حكيناه عن أبي يوسف، خلا أنه قال: إن عاش يوماً كاملاً في مكانه فليس مرتثاً وهو شهيد ولم يجعل الوصية ارتياثاً، وقال: إنها من أمر الموتى. فهذه مقالة الحنفية في معنى لإرتياث.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن الرسول : أنه لما رمي سعد بن معاذ في أكحله، رماه ابن العرفة ونقل من المعركة وأقام أياماً ورسول الله يعوده بعد الإرتياث ثم مات فغسله الرسول .
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: إذا مات قبل تقضي الحرب لم يغسل، وإن مات بعد تقضيها غسل.
قلنا: قد حكي هذا عن الشافعي لكن التعويل إنما هو على الجرح فإن كان يموت منه قطعاً فهو شهيد لأنه في حكم من مات في المعركة، وإن كان يعيش منه غسل إذا مات، ولا وجه لتقضي الحرب واتصالها فإنه لا مدخل له في إثبات الشهادة وعدمها.
قالوا: إن مات بعد الإرتياث فإنه يغسل، وإن مات قبل الإرتياث لم يغسل وهو شهيد، كما حكي عن الحنيفة.
قلنا: تعليق الغسل بالإرتياث والنفي وفي إثبات الشهادة وعدمها على الجرح أحق من تعليقه بالإرتياث لأن الجرح هو سبب الموت والقتل، فلا جرم كان التعليق في إثبات الغسل وانتفائه على ما ذكرناه من الجرح في كونه قاتلاً أو غير قاتل؛ لأنه ربما أريث وقد قطع أحد وريديه وهو مقتول لا محالة ويحكم عليه بالشهادة فلا يغسل.
الحكم الثالث: إذا قُتل الشهيد في المعركة وكان جُنباً فهل يغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يغسل. وهذا هو الذي حصله السيدان الأخوان لمذهب الهادي، وهو محكي عن الشافعي وأبي يوسف، ومحمد.
والحجة على هذا: قوله : ((زملوهم بكلومهم)). ولم يفصل بين أن يكون جنباً أو غير جنب.
المذهب الثاني: أنه يغسل. وهذا هو رأي القاسم، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي أن حنظلة(1)
لما استشهد غسلته الملائكة فقال الرسول : ((إن صاحبكم هذا غسلته الملائكة))(2).
فسألوا أهله فقالوا: إنه خرج جنباً. فدل ذلك على أن الغسل واجب عليه ولهذا غسلته الملائكة.
والمختار: ما قاله السيدان الأخوان للمذهب من ترك غسل الشهيد الجنب.
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) هو حنظلة بن الراهب، قتل يوم أحد، فقال رسول الله : ((إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة فما شأنه))؟ فسئلت امرأته فأخبرت أنه سمع هيعة فخرج إلى القتال وهو جنب، ذكر ما يتضمن ذلك في كتب السيرة، وأشار إليه في (المهذب) وغيره، ونسبه في (التلخيص) إلى ابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث عبد الله بن الزبير بمعناه، وحنظلة المذكور هو المشهور بغسيل الملائكة، وأبوه المذكور هو أبو عامر الراهب الذي لحق بقريش وخرج معهم على رسول الله يوم أحد، ثم لحق بالروم بعد ذلك، وكان رسول الله يسميه: الفاسق، اهـ بلفظه (جواهر) 2/94.
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه 15/465، وهو في (المستدرك على الصحيحين) 2/225، وفي السنن الكبرى للبيهقي 4/15.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن الرسول أنه قال: ((الشهيد لا يغسل))(1).
ولم يفصل بين أن يكون جنباً أو غير جنب، ولأنه شهيد مات في المعركة فلا يغسل كما لو لم يكن جنباً ولأن القتل على وجه الشهادة تطهير فلا يحتاج إلى تطهير بالغسل بالماء.
وغسل واحد يسقط ما وجب قبل ذلك إذا اجتمعت أسباب كثيرة موجبة للغسل، ولهذا فإنها لو كانت جنباً ثم حاضت ثم ماتت فإن الغسل الواحد كافٍ في ذلك، وهكذا لو حاضت بعد الجنابة أجزاها غسل واحد من الحيض والجنابة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: حنظلة غسلته الملائكة. وفي هذا دلالة على وجوب الغسل من الجنابة للشهيد.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن غسل الملائكة لا يلزمنا ولا نحن مكلفون بما فعلوه لأن الشريعة إنما شرعت في حق الثقلين الجن والإنس فأما الملائكة فهم بمعزل عن هذا.
وأما ثانياً: فإنما كان غسلهم لحنظلة على جهة التبرك والتشريف دون الوجوب وكلامنا إنما هو في الوجوب فافترقا.
قالوا: الغسل كان واجباً على الجنب فالقتل لا يسقطه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الواجبات كلها ساقطة عن الميت والغسل من جملتها فلا معنى لقولكم إن الغسل واجب عليه.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكرتموه ليس موضعاً للخلاف وإنما الخلاف في وجوب غسله علينا، وذلك مما لم يثبت بدلالة شرعية فيقال: إن القتل يسقطه أو لا يسقطه.
قالوا: قد تقرر أن غسل الميت واجب على الكفاية. وكان القياس أن يغسل الشهيد خلا أنا تركنا القياس في الشهيد إذا لم يكن جنباً للدلالة الشرعية فيجب حمل الجنب على موجب القياس في وجوب غسله.
قلنا: غسل الأموات حكم شرعي فوجب أن تراعى فيه الدلالة الشرعية والشرع إنما ورد فيه إذا لم يكن شهيداً، وهذا قد تقررت شهادته فيجب المنع من غسله لما ذكرناه.
__________
(1) جاء الخبر في شرح النووي على صحيح مسلم 16/26، وفي (الاستيعاب) 1/273.
الحكم الرابع: وإن وُجِد ميت في المعركة وليس فيه أثر القتل والجرح فهل يغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يغسل. وهذا هو رأي الهادي، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الأصل في كل ميت أن يغسل إلا أن يكون شهيداً، ومن هذه حاله فليس تعلم شهادته لأن الشهيد من قتل، وهذا ليس فيه أثر القتل ولا الجرح فلهذا حكمنا بالموت عليه حتف أنفه ويجب غسله كسائر الأموات.
المذهب الثاني: أنه لا يغسل. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن كل من حضر المعركة فإنه بصدد القتل إما بالضغط والازدحام والعطش والسموم وهذه كلها أسباب للموت بسبب الجهاد في سبيل اللّه، فلهذا كان حكمها حكم الجرح والقتل.
والمختار: هو غسله. كما قاله الهادي.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن ما ذكره الشافعي وإن كان محتملاً لكن الظاهر خلافه فإن الغالب أن كل من قتل في المعركة فلا بد فيه من أمارة القتل والجرح.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: قتله يجوز بسبب من الأسباب لما كان حاصلاً في المعركة.
قلنا: وجوب غسله معلوم وليس يسقط غسله إلا بأمارة قوية دالة على شهادته، وهاهنا فلم تحصل أمارة قوية في شهادته فلهذا وجب الرجوع إلى القاعدة المعلومة وهو وجوب غسل الموتى.
الحكم الخامس: ومن قتل بعصا أو حجر أو ضرب بدبوس، أو منع نَفَسُه حتى مات فهو شهيد لا يغسل لأن الغرض اهراق(1)
__________
(1) لعل إزهاق هنا أوفى بالغرض من كلمة إهراق التي تكاد تكون خاصة بالسوائل كالماء والدم والمطر على نحو ما ذكره ابن منظور في لسان العرب 10/365.
روحه في سبيل الله على أي وجه اهراقت فإنه يكون من جملة الشهداء لما روي عن الرسول ، أنه لما قيل: من المجاهد يا رسول اللّه؟ قال: ((المجاهد من كان قتاله لأن تكون كلمة الله هي العليا))(1).
وإن جرح فخرج الدم من عينيه أو أذنيه فهو شهيد فلا يغسل لما روي عن الرسول أنه لما قيل: فمن الشهيد يا رسول اللّه؟ قال: ((الشهيد من عقر جواده وأهريق دمه في سبيل اللّه))(2)
لأنه لا يخرج من هذه المواضع إلا عن جرح فإذا تعقبه الموت فهو مقاتل(3)
لا محالة.
وإن خرج الدم من أنفه وذكره ودبره ومِنْ فِيهِ غسلَ لأن هذه المنافذ يخرج منها الدم من غير جرح فلهذا كان ميتاً فيجب غسله.
الحكم السادس: في المرأة والصبي إذا قتلا في المعركة، فهل يغسلان أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: المنع من غسلهما.
قال القاسم: والصبي والمرأة إذا قتلا في المعركة فإنه يصنع بهما ما يصنع بالشهيد ولا يغسلان. وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن كل من صلح للقتال فإنه مستحق للشهادة، والصبي والمرأة إذا حضرا المعركة وقَاتَلا وقُتِلا لم يغسلا لكونهما شهيدين.
المذهب الثاني: وجوب غسلهما. وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب، واستضعف ما حُكي عن القاسم من منع غسلهما وقال: إن المجاهد إنما يطلق على الرجال البالغين المستحقين للثواب فلهذا وجب غسلهما كالمجنون أو المجنونة.
المذهب الثالث: أنه يجب غسل الصبي ولا تغسل المرأة. وهذا هو رأي أبي حنيفة ومحمد.
__________
(1) أخرجه البخاري 1/58، ومسلم 3/1514، وابن حبنان 10/493، والترمذي 4/179، وأبو داود 3/14، والنسائي 6/23 بألفاظ متفاوتة عن أبي موسى.
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه 2/77، وهو في (مجمع الزوائد) 1/59، ومصنف عبد الرزاق 3/72، ومسند أحمد 3/300.
(3) في الأصل: قاتل، ولا يستقيم المعنى بها كما ترى.
والحجة على هذا: هو أن الصبي ليس من أهل الشهادة لصغر سنه فلا تكليف عليه بالجهاد ولا بغيره، وأما المرأة فلا تغسل لأنها من أهل التكليف فتكون من أهل الشهادة ولأنها حضرت المعركة وقتلت ظلماً فتستحق الشهادة فلا تغسل.
فهذه أقاويل العماء في الصبي والمرأة إذا قتلا في المعركة.
والمختار: ما قاله القاسم وهو المنع من غسلهما.
وحجته: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن المرأة من أهل التكليف فصارت من أهل الشهادة فلهذا لم تستحق الغسل كسائر الشهداء، وإنما أسقط عنها الجهاد لأجل التخفيف لضعف حالها فصار ترك الجهاد عنها رخصة كحضور الجمعة فإنه رخص لها في ترك الجمعة، فإذا حضرت ولم تقبل الرخصة كانت الجمعة مجزية لها، فهكذا حال الجهاد رخص لها في تركه فإذا حضرت المعركة وقتلت لم تغسل لأنها شهيدة.
ويؤيد ما ذكرناه: أن امرأة يقال لها نسيَّة ـ بنون وسين بثلاث من أسفلها وياء بنقطتين من أسفلها ـ استأذنت الرسول في الخروج فأذن لها فأصابها جرح على عاتقها فكانت تحمل سكيناً فقيل لها ما تصنعين بهذه؟ فقالت: إذا لقيني أحد من المشركين بعجته بها.
وأما الصبي فهو مبني على صحة إسلامه. فإذا قلنا بصحة إسلامه وإيمانه صح كونه مجاهداً.
فإذا قتل لم يغسل، وقد قررنا فيما سلف أنه يصح منه الإسلام لأن الإسلام يتقرر على كمال عقله ويجوز أن يكمل الله عقله قبل بلوغ خمس عشرة سنة وقبل انفصال النطفة منه، وإذا كان الأمر هكذا صح ما قلناه من صحة جهاده والمنع من غسله إذا قتل إلحاقاً له بالمجاهدين.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: ليسا من أهل الجهاد فصارا كالمجنون والمجنونة.
قلنا: لا نسلم أنهما ليسا من أهل الجهاد بل الخطاب شامل لهما بقول الله تعالى: {وَفَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ على الْقَاعِدِينَ}[النساء:95]. ولم يفصل. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}[التوبة:143]. ولم يفصل، ولا يشبهان المجنون والمجنونة لأنهما عاقلان، والمجنون والمجنونة ليسا عاقلين. فلا يغسلان.
قالوا: يغسل الصبي ولا تغسل المرأة. كما حكي عن أبي حنيفة.
قلنا: لا وجه للتفرقة لأنهما كليهما يُعقل في حقهما الجهاد كما أوضحناه وربما كان الصبي أقوى وأكيس وأعظم فطنة في القتال من المرأة وأقدر على النكاية [بالعدو] فلهذا كانا سواء.
الحكم السابع: ومن بُغِيَ عليه فَقُتِل دون ماله وحرمه ظلماً فهل يغسل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه شهيد فلا يغسل. وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب في التذكرة، وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو قوله : ((من قتل دون ماله فهو شهيد))(1).
ولأنه مقتول ظلماً لم يرتث فوجب المنع من غسله كالذي يقتل في المعركة، ونقول: مكلف قُتِل ظلماً فلا يغسل كما لو قتله أهل الشرك.
المذهب الثاني: أنه يجب غسله. وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب في الشرح(2)،
هو محكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي أن أمير المؤمنين كرم الله وجهه قُتل ظلماً فغسل، وعمر قتل ظلماً فغسل. وفي هذا دلالة على أن من قتل في المصر ظلماً فإنه يجب غسله كسائر الأموات.
والمختار: وجوب الغسل لمن هذه حاله.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن غسل الأموات قاعدة قد تقررت ودل عليها الشرع على جهة الوجوب على الكفاية فلا يجوز إسقاطها إلا بدلالة شرعية ولم يدل الشرع في إسقاطها إلا في حق الشهيد الذي قتله الكفار وأهل الحرب فبقي ما عداه على أصل القياس في وجوب غسله.
__________
(1) أخرجه البخاري 2/877، ومسلم1/144، وابن حبان 7/467.
(2) شرح التحرير.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)). وفي هذا دلالة على إطلاق اسم الشهادة عليه فلهذا لم يمنع من غسله.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما سمي شهيداً لكونه قتل ظلماً لا على معنى أن يعطى حكم الشهيد في إمتناع غسله.
وأما ثانياً: فلأنه يستحق ثواب الشهيد لقتله من غير حق ظلماً فلهذا أطلق عليه اسم الشهيد.
الحكم الثامن: ومن قتله البغاة بين يدي الإمام في المعركة فإنه يمتنع غسله عند أئمة العترة، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه لم يغسل أصحابه الذين قتلهم البُغَاة من الخوارج في النهروان والجمل وصفين. وصلى عليهم. ومثل هذا لا يفعله إلا عن توقيف من جهة الرسول إذ لا مجال للإجتهاد فيه، ولأنه روي عن عمار بن ياسر: أنه قال: ادفنوني بثيابي فإني رجل مخاصم، ولأنه قتل في المعركة ظلماً لم يرتث فَشَابَهَ من قتله أهل الشرك.
ووجه آخر: وهو أن الإمام يقاتل أهل البغي للذب عن الدين ولما هم عليه من مخالفة الحق. والإمام يصلي بهم صلاة الخوف في قتالهم كما يصلي في قتال أهل الحرب، فوجب ألا يغسل من يقتلونه كمن قتله أهل الشرك.
فأما إذا كان المقتول ظلماً في المصر بالسلاح من غير إمام، فهل يغسل أم لا؟. فهو على ما ذكرناه في من قتل على ماله وحرمه ظلماً، في الخلاف، وذكر المختار والانتصار له وقد مر فلا وجه لتكريره.
الحكم التاسع: وإن ظل عنهم غسله ونسوه؟ ففيه مذهبان:
المذهب الأول: أنهم يستخرجونه للغسل ما لم يقبر ويحثا عليه التراب(1).
وهذا هو رأي القاسم، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن الغسل واجب للأموات على الأحياء فلا ينبش بعد القبر وحثو التراب عليه كما لو لم يصلِّ عليه.
__________
(1) واضح من كلام المؤلف أنه يقصد استخراج الميت بعد أن يوضع في القبر وقبل أن يهال على التراب.
المذهب الثاني: أنه يستخرج للغسل وإن قبر وحثي عليه التراب. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الغسل والكفن والتقبير كلها واجبة على الكفاية علينا في حق الأموات فلا يجوز الإخلال بواحد منها، لقوله : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم)). ولا شك أن إخراجه من قبره ونبشه لغسله وتكفينه أمر ممكن فلهذا وجب لما ذكرناه.
والمختار: ما قاله القاسم.
وحجته: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن الميت إذا قبر وحثي عليه التراب فإنه يسرع إليه التغيير في الرائحة الخبيثة فإخراجه للغسل لا وجه له لما يحصل من إخراجه من التلوث بالنجاسات وحصول الروائح الكريهة فلهذا ترك على حاله، وكان هذا عذراً في ترك غسله.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: هذه الأمور واجبة للأموات على الأحياء من الغسل والكفن فإذا كانت ممكنة وجب الإتيان بها كما قاله الشافعي.
قلنا: إن هذه الأمور وإن كانت ممكنة لكن الشرع منع منها وجعل القبر عذراً في الإتيان بها فلا وجه للإستئناف لها.
الحكم العاشر: والحائض والنفساء والجنب إذا ماتوا وجب غسلهم.
وحكي عن الحسن البصري: أن الحائض والنفساء يغسلان ولا يصلى عليهما.
والحجة على هذا: هو أن الجنابة والحيض والنفاس قد بطلت بالموت، والغسل لهؤلاء إنما يجب بالموت لأنهم من جملة المسلمين ماتوا في غير حرب أهل الحرب، فلهذا وجب غسلهم كسائر الأموات الذين يجب علينا غسلهم وهذا مما لا يعرف فيه خلاف. وما قاله الحسن فهو مسبوق بالإجماع.
ويجب في حقهم غسل واحد لأن الموجب هو الموت فلا وجه لتكرار الغسل، وهذا مما لا خلاف فيه. أعني: [عدم] تكرير الغسل.
ومن قتل نفسه لم يغسل ولا يصلى عليه. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الأوزاعي.
والحجة على هذا: هو أنه إذا قتل نفسه كان فاسقاً لأنه يفسق بقتل نفسه كما يفسق قاتله، وروي عن الرسول [أنه قال]: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه خالداً في النار مخلداً، ومن تَحَسَّى سماً فسمه في يده يتحساه خالداً في النار مخلداً)) (1).
وحكي عن الشافعي: أنه يجب غسله والصلاة عليه. وحكي عن أحمد بن حنبل أنه لا يصلي عليه الإمام ويصلي عليه غيره.
ومن قتل بالرجم في الزنا نظرت، فإن كان قتله بالإقرار غسل وصلي عليه، لما روي عن الرسول [أنه] رجم الغامدية بإقرارها وغسلت وصلى عليها. وإن رجم بالبينة نظرت، فإن تاب غسل وصلي عليه لأن التوبة تمحو الفسق بالزنا فلهذا جازت الصلاة عليه وغسله، وإن لم يتب فهل يغسل ويصلى عليه أم لا؟
فالذي عليه أئمة العترة أنه لا يغسل ولا يصلى عليه.
وحكي عن الشافعي: أنه يغسل ويُصلى عليه.
وقال الزهري: المرجوم بالزنى لا يصلى عليه.
وحكي عن مالك أنه قال: لا يصلي عليه الإمام الأعظم ويصلي عليه غيره.
والحجة لما قاله أئمة العترة: هو أن من هذه حاله يكون فاسقاً، والفاسق لا يُصلى عليه.
وقد قررنا الحجة على ذلك فأغنى عن الإعادة.
والإمام إذا قتل البغاة فإنهم لا يغسلون ولا يصلى عليهم، وهو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة.
وحكي عن الشافعي: انهم يغسلون ويصلى عليهم.
والحجة على ما قلناه: هو أن أمير المؤمنين كرم الله وجهه لم يصل على من قتل من الخوارج في النهروان وصفين والجمل ولا أمر بغسلهم، وإنما وجب ذلك لأجل فسقهم وخروجهم على الإمام فيكون ترك الصلاة والغسل عقوبة لهم على ارتكاب البغي وإصرارهم عليه.
ومن قتل بالمُثَقَّل والجارح فإنهما سواء في أن المقتول لا يغسل ويصلى عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري 5/2179، ومسلم 1/103، وهو في سنن النسائي 4/66، و(الكبرى) للبيهقي 1/638، ومسند أحمد 2/478.
وحكي عن أبي حنيفة: أن كل من قتل بالجارح فإنه لا يغسل، وإن قتل بالمثقل فإنه يغسل. كل هذا إذا قتل في المعركة في قتال أهل الحرب.
والحجة على ما قلناه من أنه لا يغسل وأنه يصلى عليه سواء قتل بالجارح أو بالمثقل في المعركة، وهو رأي الشافعي: هو أن الأدلة الدالة على أن الشهيد لا يغسل ويصلى عليه لم تفصل بين أن يكون قتله بالجارح أو بالمثقل.
الحكم الحادي عشر: وأما سائر الشهداء ممن مات بغرق أو حرق بالنار أو هدم أو بطن أو أصابه طاعون أو ما أشبه ذلك، فإن هؤلاء يغسلون ويصلى عليهم، لما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه قال: قال رسول اللّه : ((أتدرون من الشهداء من أمتي))؟ قالوا: نعم. الذي يقتل صابراً محتساً في سبيل الله. قال: ((إن شهداء أمتي إذن لقليل، الشهيد الذي ذكرتم، والطعين - يريد الذي أصابه الطاعون وهو يقتل على الفور يموت منه خلق كثير - والمبطون، وصاحب الهدم، والغريق، والمرأة تموت جُمعاً -بضم الجيم وسكون الميم-. قالوا: وكيف تموت جُمعاً؟ قال: يعترض ولدها في بطنها فتموت)) (1).
ولا خلاف في غسل هؤلاء وإن ورد الشرع بكونهم شهداء، فالصلاة عليهم لعموم الخبر، ولأنهم مسلمون ماتوا في غير معترك الكفار فوجب غسلهم والصلاة عليهم كما لو ماتوا بغير هذه الأمراض.
الحكم الثاني عشر: ويستحب نزع الجلود والفراء من الشهيد، والحديد. لما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي : أنه قال: ينزع من الشهداء الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراويل إلا أن يكون أصاب السراويل دم فإنه يترك ولا يترك عليه شيء من المعقود إلاّ حُلَّ(2).
__________
(1) رواه مسلم 3/1521، وابن ماجة 2/937، وابن أبي شيبة 4/220،و عبد الرزاق 3/562، وأحمد 5/315.
(2) هو في مجموع الإمام زيد بن علي يرويه عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
ويستحب: نزع الحديد والجلود. لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: أمرنا رسول اللّه بقتلى أحد أن ننزع عنهم الحديد والجلود(1).
ويستحب: تزميلهم بكلومهم وثيابهم، لما روي عن الرسول أنه قال: ((زملوهم بدمائهم وثيابهم)). وعن أمير المؤمنين أنه قال: تنزع عنهم السراويل إلا أن يكون أصابها دم.
وجملة الأمر أن ما يستحب نزعه من الأثواب عن الشهداء يقع على أوجه ثلاثة:
أحدها: ما لا ينزع منهم على كل حال سواء أصابها دم أو لم يصبها وهذا نحو الثوب والقميص والقبا فهذه لا تنزع منهم لقوله : ((زملوهم بدمائهم وثيابهم)). ولأن هذه الأثواب مما يكفن فيها في مطرد العادة فلهذا لم تنزع عنهم بحال.
وثانيها: ما ينزع بكل حال سواء أصابه دم أو لم يصبه، وهذا نحو الفرو والحديد والجلود والمنطقة والبيضة والحياصة التي تشد على درع الحديد لأن مثل هذا لا يكفن به في مطرد العادة فلهذا لم يكن بد من نزعه.
وثالثها: ما ينزع إذا لم يصبه الدم فإن أصابه دم ترك على حاله، وهذا نحو السراويل فإنه لا يكفن في مثلها في العادة لكنه لما أصابها الدم لم تنزع لقوله : ((زملوهم بدمائهم)). فاقتضى ظاهر الخبر أن كل ما أصابه الدم لا ينزع إلا ما خرج بدلالة كالذي ذكرناه.
قاعدة.. إعلم أن الإجماع منعقد على أن الميت إذا ذهبوا عن غسله وتكفينه والصلاة عليه وتوجيهه للقبلة ثم وضعوه في لحده ووضعوا عليه اللبن والأحجار(2)
فإنه يجب عليهم إخراجه وفعل هذه الأمور كلها به لأن فعلها ممكن فلا يجوز تركها مع الإمكان، فأما إذا هيل عليه التراب فلا يجوز إخراجه ويكون ذلك عذراً في ترك هذه الواجبات التي ذكرناها لما في إخراجه من العفونة والتقذير كما لو تقطعت أوصاله.
__________
(1) رواه أبو داود 3/195، وابن ماجة 1/485، وأحمد 1/247.
(2) يقصد: ولم ينزعوا عنه ما يجب نزعه مما تقدم ذكره، والله أعلم.
الحكم الثالث عشر: الشهداء قد ظهر فضلهم بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران:169،170]. وبقوله : ((أرواح الشهداء تأوي إلى حواصل طير خضر على قناديل معلقة في الجنة)) (1).
هذه الآية والخبر دالان على فضل الشهداء.
والعلماء فقد ظهر فضلهم بقوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ}[آل عمران:18]. فلم يجعل بين الأنبياء والعلماء درجة في الشهادة بالوحدانية وفي هذا نهاية الفضل، وقوله : ((العلماء ورثة الأنبياء))(2).
وقد ظهر بما ذكرناه ظهور الفضل للعلماء والشهداء. وهل تكون الأفضلية للشهداء أو للعلماء؟ فيه تردد.
والمختار: أن العلماء أفضل لقوله : ((مداد العلماء يعدل دم الشهداء))(3).
وفي حديث آخر: ((يقول الله تبارك وتعالى للشهداء: أدخلوا الجنة لا حساب عليكم. فيقول العلماء: بفضل علمنا جاهدوا. فيقول الله عز وجل: أنتم عندي كبعض ملائكتي)) .
وقد تم غرضنا من بيان أحكام الشهداء ونرجع إلى تتمة المسائل.
المسألة الثامنة: إذا مات محرم وجب غسله لا خلاف فيه. وهل ينقطع إحرامه بموته أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) أورده ابن بهران عن كعب بن مالك وقال: رواه الترمذي. اهـ (جواهر- تخريج البحر) 2/97.
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه 1/289، والترمذي 5/48، وأبو داود 3/317، وابن ماجة 1/81.
(3) ذكره في (لسان الميزان) 5/225 بلفظ: ((... يوزن مداد العلماء)) و(فيض القدير) 6/362.
المذهب الأول: أنه لا ينقطع إحرامه بموته فلا يلبس المخيط ولا يخمر رأسه ولا يقرب طيب من بدنه ولا في ثيابه ولا يجعل الكافور في الماء الذي يغسل به. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن أحمد بن عيسى، ومن الصحابة: أمير المؤمنين وعثمان وابن عباس، ومن التابعين: عطاء. ومن الفقهاء: الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: وهو مروي عن الشافعي، وإحدى الروايتين عن مالك، ما روى ابن عباس رضي الله عنه: أن رجلاً محرماً وقص(1)
به بعيره فمات فقال الرسول : ((اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)). وروي ملبداً، والتلبيد نشرحه في باب الحج بمعونة الله تعالى.
المذهب الثاني: أن موته يقطع حكم إحرامه، وعلى هذا يجوز له لبس المخيط ويخمر رأسه ويطيب. وهذا هو رأي زيد بن علي، ومحكي عن ابن عمر وعائشة من الصحابة، ومن الفقهاء: أبي حنيفة والأوزاعي، وإحدى الروايتين عن مالك.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه عن الرسول : ((إن الرجل إذا مات انقطع عنه سائر عمله إلا ثلاثة: ولد صالح يدعو له، أو صدقة تجري، أو علم ينتفع به)) (2).
والإحرام عمل وله حكم فوجب انقطاعه بالموت فإذا انقطع صار كسائر الموتى في الكفن والطيب وغير ذلك.
والمختار: ما قاله أمير المؤمنين ومن تابعه: من أن إحرامه باقٍ بعد الموت غير منقطع.
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) قال أبو عبيدة: الوقص، كسر العنق، ومنه قيل للرجل: أوقص إذا كان مائل العنق قصيرها، ومنه يقال وقصت الشيء إذا كسرته. اهـ (لسان العرب) 7/106.
(2) وهو مروي من طريق أخرى عن أبي هريرة بلفظ: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) أخرجه مسلم وغيره.
ونزيد هاهنا: وهو أن الإحرام قد تقرر، وعروض ما عرض لا يقطعه فلهذا وجب القضاء بإستمراره، وإنما قلنا: إن الإحرام قد تقرر فلا إشكال في حصوله قبل الموت وثبوته ، وأن عروض ما عرض لا يمنع من استمراره فلأن الذي عرض الموت وهو معنى مزيل للعقل فلا يكون مبطلاً للإحرام كما لو نام، ولأن أحكام الإحرام معلقة بالبدن من الطيب والتخمير واللباس للمخيط فلا يبطلها الموت لأن الموت إنما أزال الحياة، والبدن باقٍ فلهذا بقيت أحكام الإحرام في البدن.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع سائر عمله)). والإحرام من جملة الأعمال فيجب انقطاعه وزواله بعد الموت.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المراد بالإنقطاع إنما هو في الأزمنة المستقبلة. والإحرام ثابت في حال الحياة فلهذا استمرت أحكامه ولم ينقطع إلا عمله في الأزمنة المستقبلة.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما رويناه من الحديث، وإذا تعارض الخبران وجب الترجيح فلا شك أن خبرنا أصرح بالمراد وأوضح بالمقصود فإنه دال على بقاء الإحرام وثبوته بعد الموت وخبركم ليس فيه ظهور ولا تصريح بالمطلوب.
ومن وجه آخر: وهو أن الإحرام عبادة لا تبطل بالجنون فلا تبطل بالموت كالإيمان فتقرر ما ذكرناه.
المسألة التاسعة: الميت إذا غسل هل يحكم عليه بالطهارة أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الميت ينجس ولا يطهر بالغسل. وهذا هو رأي أئمة العترة، حكاه الشيخ أبو جعفر من أصحاب الناصر.
والحجة على هذا: ما روي أن حبشياً وقع في بئر زمزم فمات فنزح ماء البئر. وفي هذا دلالة على أنه ينجس بالموت، ولأنه ميتة فأشبه سائر الحيوانات من المواشي والدواب والسباع.
المذهب الثاني: أنه ينجس بالموت لكنه يطهر بالغسل. وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الإجماع منعقد على وجوب غسل الموتى فلولا أنه يطهر لكان لا وجه لإيجاب غسله بدليل أن جميع الميتات لا تطهر بالغسل فدل ذلك على الحكم بطهارته مع الموت.
المذهب الثالث: أنه لا ينجس بالموت وأن الغسل في حقه ليس لأجل الطهارة وإنما هو تعبد في حقه كالصلاة.
والحجة على هذا: ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول قال: ((لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً))(1).
وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه.
والمختار: أن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً.
والحجة فيه: ما رويناه من حديث ابن عباس فإنه صريح في تطهيره في حال حياته وموته.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه لما غسل الرسول شرب الماء الذي تحقن على سرته وقال: طبت حياً وميتاً. فلو كان [الماء] نجساً لما جاز له شربه كسائر النجاسات.
ومن وجه آخر: وهو أنه مسلم مات فيجب الحكم بطهارته كالشهيد في المعركة، فهذا كله دال على الحكم بتطهيره وأنه لا ينجس بالموت.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي أن حبشياً وقع في زمزم فمات فنزح ماء البئر، فدل ذلك على تنجيسها بوقوعه [فيها].
قلنا: هذا محمول على أنه خرج من بطنه ما غيَّر ماء البئر فلهذا وجب النزح لإزالة ما وقع فيها من النجاسات، أو لعله أقام في البئر حتى تمعط لحمه وأراح برائحة خبيثة، فلهذا أمر بنزح ماء البئر حتى تطيب من تلك الرائحة.
قالوا: إنه ينجس بالموت لكنه يطهر بالغسل كما حكي عن الحنفية.
قلنا: قد أوضحنا بما ذكرنا من الأدلة أن المؤمن لا ينجس بالموت، والغسل إنما كان مشروعاً من أجل التعبد كالصلاة، ولو كان ينجس بالموت لم يطهر بالغسل كسائر الميتات من الحيوانات والأنعام والسباع.
المسألة العاشرة: قال الناصر: الغسل للميت آكد من الصلاة عليه لأمرين:
__________
(1) أخرجه في (المستدرك على الصحيحين)1/542، وفي سنن البيهقي الكبرى 1/306 وسنن الدارقطني 2/70 وغيرها.
أما أولاً: فلأن الغسل أمر يختص الميت لكونه تطهيراً له وإزالة العفونات الحاصلة بسبب المرض عنده. والصلاة مختصة بالحي ولا ينال الميت إلا الدعاء منها.
وأما ثانياً: فلأن الرسول أمر علياً بغسل أبيه ولم يأمره بالصلاة عليه، فدل ذلك على كونه آكد في حق الأموات خاصة.
دقيقة.. اعلم أن الإمامين الناصر والمنصور بالله وغيرهما من سادات أهل البيت، ذهبوا إلى أن أبا طالب مات مسلماً على دين الإسلام، وأنه آمن بالله وملائكته وكتبة ورسله والوعد والوعيد وصدق بأحكام الآخرة كلها التي كانت في ذلك الوقت لأن موته كان بمكة قبل الهجرة، وأن الله لا ينسى ما كان من جهته من الحنو والشفقة على رسول اللّه وحمايته عن الأعداء ونصرته له في كل ما همت به قريش في حقه من الهجوم والأفاعيل القبيحة، وإنما لم يصل عليه الرسول لأن الصلاة لم تكن قد فرضت في حق الموتى، والذي ذهب إليه بعض علماء العترة والفقهاء وأهل التاريخ والسير: أن أبا طالب مات على الشرك وتعظيم الأوثان. ويدل على ذلك أمور ثلاثة:
أما أولاً: فلأنه لما مات جاء أمير المؤمنين إلى الرسول فقال له: إن عمك الشيخ الضال مات. فسماه ضالاً لبقائه على الشرك، فلو كان قد علم إسلامه وإيمانه لم يقل له بهذه المقالة لأن هذه المقالة لا تصلح في حق من كان مسلماً بحال.
وأما ثانياً: فلأن الرسول قال لعلي: ((إذهب فاغسله وواره)). ولو كان مسلماً عند الرسول لقام في جهازه وغسله ودفنه وتعظيم حاله وشأنه لأنه كان يفعل ذلك في حق الضعفاء والعجائز من سائر المسلمين فكيف حال عمه ومن يختص جانبه فهو في هذا أقوم وأكثر عناية وأعظم.
وأما ثالثاً: فلما روي عن الرسول أنه قال: ((إن أبا طالب لفي ضحضاح من نار ولو لا مكاني لكان في الظمظام)) (1)
__________
(1) رواه البخاري 3/1408، ومسلم 1/194، قلت: هذه مسألة فيها نظر من حيث الخلاف حولها بين كثير من أئمة وعلماء الزيدية وغيرهم، فقد ذهب عدد منهم إلى إسلام أبي طالب وأنه حرص على إخفاء إسلامه حتى لا يصبح خصماً لقريش فيعجز عما كان يقوم به من حماية لابن أخيه رسول الله ، والدعوة الإسلامية في بداية ظهورها، واسنشهدوا بأشعاره ومواقفه، ومنها: قوله أمام عدد من وجهاء قريش عندما جاءوا يشكون إليه ابن أخيه عارضين عليه كلما يعتقدون أنه قد يكون طامعاً فيه من متاع الحياة وسلطانها، فرد رسول الله بمقولته المشهورة: ((والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني ...إلخ)) فقال أبو طالب كما روته كتب السير:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
حتى أوسد في التراب دفينا
فلقد صدقت وكنت ثم أمينا
إلى أن قال:
ولقد علمت بأن دين محمدٍ
من خير أديان البرية دينا
واحتج الذاهبون إلى هذا الرأي بأن قوله في هذا البيت اعتراف صريح بالإسلام، ومع الأخذ في الاعتبار ما ورد من حديث الضحضاح في أبي طالب، بقطع النظر عن مدى صحته إذ ضعفه وأنكره كثير من العلماء ورواة الأحاديث، فإن ما أورده المؤلف من أن رسول الله قال لعلي: ((اذهب فاغسله وواره)) يتعارض مع حديث الضحضاح وغيره مما في معناه، فضلاً عما جاء في أكثر من مصدر ومسند من مصادر وأسانيد كتب أهل البيت من دفاع عن إسلام أبي طالب، ومنهم مثلاً الإمام الناصر والمنصور بالله وغيرهما من سادات أهل البيت، ذهبوا كما قال المؤلف إلى أن أبا طالب مات مسلماً وعلى دين الإسلام، إلى قوله: لأن موته كان بمكة قبل الهجرة، ثم قوله: وإنما لم يصل عليه الرسول لأن الصلاة لم تكن قد فرضت في حق الموتى، ثم ما أورده المؤلف من ذهاب أصحاب الرأي الآخر من أن أبا طالب مات على الشرك، وهنا يمكن لقائل الاعتراض على الأمور الثلاثة التي دلل بها على إثبات هذا الرأي بأمور عدة لا مجال لسردها هنا، ويكفي الإشارة إلى ما سلف حولها، ومن ذلك غسل علي له وتكفينه إياه، بالإضافة إلى ما ورد عن الرسول أنه قال: ((ما نالت مني قريش حتى مات أبو طالب)) وكذلك حزن رسول الله على وفاته الحزن الشديد حتى سمي العام الذي مات فيه أبو طالب وأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بعام الحزن.
وفي (البحر) 2/98 قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى: مسألة: (ن ص) وموت أبي طالب قبل شرع الصلاة، فغسل فقط لإسلامه عندهما لتصريحه بتصديق الرسول وما جاء به ومدافعته عنه.
وعلق ابن بهران على هذا بقوله: ذلك كثير في أشعاره، كقوله:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً
نبياً كموسى خُط في أول الكتب
اهـ بلفظه، والغرض مما سلف هو لفت النظر بإيجاز إلى هذه القضية وما فيها من خلاف وتعارض وتداخل وأنها حرية من القارئ بالمزيد من البحث والتأمل، وليس الغرض تأييد هذا الفريق أو ذاك، والله الموفق. اهـ. المحقق.
.
فهذه الأمور الثلاثة كلها دالة على كفره وشركه، ولا يتعجب من هذا متعجب فيقول: عم رسول اللّه كيف يستحق الدخول في النار مع قربه من رسول اللّه واتصاله به، فإن والد رسول اللّه عبدالله بن عبد المطلب ووالدته آمنة ماتا على الشرك والكفر وهما أعظم اتصالاً به وآكد حقاً من عمه. ولقد استأذن رسول اللّه في زيارة والديه والإستغفار لهما فأذن له في الزيارة فزارهما فبكى وأبكانا ولم يؤذن له في الإستغفار فزارهما، ففي هذا ألف مقنع لأنه لو استغفر لكان لا يخلو حاله إما أن يقبل أو يرد. فإن قبل فقد قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ}[النساء:48]. وإن رد عن الشفاعة ففيه نقص لحال الرسول وتنفير للخلق عنه بالرد.
ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاََوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114].
وقد نجز غرضنا من بيان حال المغسول وما يتعلق به والحمد لله.
الفرع الثاني: في بيان حال الغاسل.
ويجوز للرجال غسل الرجال، ويجوز للنساء غسل النساء، وإن اختلف الجنسان فلا يجوز الغسل إلا لزوجته أو محرمته، ويجوز للسيد غسل أمته ومستولدته وما هذا حاله فهو مشتمل على مسائل عشر:
المسألة الأولى: في الميت إذا كان رجلاً فالذين يجوز لهم غسله على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: الذين هم أولى بغسله وهم العصبات من الأقارب الأب ثم الجد أب الأب وإن علا، ثم الإبن ثم ابن الإبن وإن سفل، ثم الأخ ثم ابن الأخ وإن سفل، وسواء كان الأخ لأب وأم أو لأب فإنه مقدم على ابن الأخ، ثم العم لأب وأم ثم العم لأب ثم ابن العم وإن سفل وذلك يكون على ترتيب العصبات في الميراث.
واعلم أن هذا الترتيب في الأولى من العصبات في غسل الميت لم يذكره أصحابنا وإنما ذكروه في الأولى في الصلاة على الميت وإنما قالوا: يغسل الميت وليُّه. وأولى الناس به من كان على ملته. وما ذكرناه أولى وأحق لأنا إنما أوجبنا الترتيب في العصبات في الصلاة لأجل الشفقة والرحمة في استجابة الدعاء. وترتيب العصبات في باب الغسل أحق وأولى من جهة ما يباشره الغاسل من الميت من المحاسن والمساوئ فيستر ما يرى من المساوئ ويظهر ما يرى من المحاسن وهذا إنما يليق بالأقارب والأرحام من أهله فلهذا كان الغسل أحق بمراعاة الترتيب.
ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه: ما ورد عن الرسول أنه قال: ((من غسل ميتاً فستر ما يراه من المساوئ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) (1).
إنما قدمنا الأب والجد على الإبن لأنهما أكثر شفقة من الإبن وأرحم وأرق وأعطف.
الضرب الثاني: الزوجات ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يغسل صاحبه، أما غسل الزوجة زوجها فهو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روي عن عائشة أنها قالت: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا زوجاته، ومثل هذا لا يقوله الصحابي إلا عن توقيف لأن الباب باب عبادة فلا مدخل للإجتهاد فيه، فدل ذلك على أنها قد فهمته من رسول اللّه .
وحكي عن أحمد بن حنبل: المنع من غسل المرأة زوجها.
وحجته على هذا: هو أن المبيح للإطلاع على العورة إنما هو عصمة النكاح وقد بطلت بالموت فلهذا لم يجز لها غسله.
والمختار: جواز ذلك كما قاله الأئمة ومن وافقهم.
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) رواه في (المستدرك على الصحيحين) 1/505، وفي (مجمع الزوائد) 3/21، وفي (المعجم الكبير) للطبراني 1/315، وكلها بلفظ: ((من غسل ميتاً فكتم عليه ...إلخ)) وهو في (الاعتصام) 2/155 بلفظ: وروى في (الشفاء) عن أبي رافع أن رسول الله قال: ((من غسل ميتاً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة)).
ونزيد هاهنا: وهو ما روي أن أبا بكر لما دنت وفاته أوصى امرأته أسماء بنت عميس أن تغسله فدل ذلك على جوازه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: عصمة النكاح قد بطلت بالموت فلا يجوز لها غسله كما حكي عن أحمد بن حنبل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن العدة باقية عليها من أجله ولهذا فإنه يحرم عليها النكاح كما لو كان حياً.
وأما ثانياً: فلأن عصمة النكاح وإن بطلت بالموت لكن الشرع قد دل على ذلك فلهذا قضينا به.
وأما غسل الزوج زوجته فهل يجوز أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر، وهو محكي عن الشافعي ومالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: ما روت عائشة أن الرسول دخل وهي تقول: وارأساه فقال : ((بل أنا يا عائشة وارأساه)). ثم قال لها الرسول: ((لومت قبلي لغسلتك وكفنتك))(1).
فلو لم يكن الغسل جائزاً لما جاز ذلك(2).
المذهب الثاني: المنع من ذلك. وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن عصمة النكاح قد انقضت بالموت وليس على الرجل عدة كما للمرأة فلهذا جاز لها الغسل وإن كانت العصمة باطلة بالموت لما كانت العدة عليها واجبة.
__________
(1) قال ابن بهران في (تخريج البحر) 2/99: لفظه في (الجامع): عن القاسم بن محمد قال: قالت عائشة: وارأساه، فقال رسول الله : ((ذلك لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك)) قال: وهو طرف من حديث أخرجه البخاري وليس فيه: ((لغسلتك)) والله أعلم.
والحديث في صحيح ابن حبان 14/551، وسنن الدارمي 1/51، وسنن ابن ماجة 1/470، ومسند أحمد 6/228، وغيرها.
وفي (نيل الأوطار) 4/27 عن عائشة قالت: رجع إلي رسول الله من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعاً في رأسي وأقول: وارأساه، فقال: ((بل أنا وارأساه، ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك)) رواه أحمد وابن ماجة. اهـ بلفظه.
(2) لعل الصواب: لما قال ذلك.
والمختار: هو الجواز كما هو رأي أئمة العترة ومن وافقهم.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي أن فاطمة بنت رسول اللّه لما ماتت، رضي الله عنها، أوصت بأن يغسلها أمير المؤمنين وأسما بنت عميس فغسلاها وظهر ذلك في الصحابة فلم ينكره أحد منهم فجرى مجرى الإجماع، ولأنه أحد الزوجين فجاز له غسلها كالزوجة.
ومن وجه آخر: وهو أن النظر المستفاد لعقد النكاح نظران، نظر شهوة يحل به الاستمتاع، ونظر حرمة كالنظر إلى سائر المحارم كالأم والأخت والبنت. ونعني بكونه نظر حرمة هو أن يحرم لأجله الاستمتاع، فإذا مات أحد الزوجين بطل جواز النظر بالشهوة وبقي جواز النظر بالحرمة فلهذا جاز غسل كل واحد منهما لصاحبه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: عصمة النكاح قد بطلت وهي المبيحة للنظر فلهذا لم يجز له غسلها.
قلنا: عن هذا أجوبة خمسة:
أما أولاً: فلأن الإنقطاع بالموت كما لا يكون مانعاً من غسل الزوجة زوجها فهكذا لا يكون مانعاً من غسل الزوج لزوجته لأن انقطاع الزوجية [حاصل] بموت كل واحد منهما.
وأما ثانياً: فلأن الموت يوجب الفرقة فوجب أن يكون حكم الرجل مع المرأة في جواز النظر حكم المرأة مع الرجل كالطلاق فإنه موجب لفرقة كل واحد منهما عن الأخر.
فإذا تقرر هذا وثبت أن المرأة يجوز لها أن تنظر إلى زوجها إذا مات وجب أن يجوز للزوج أن ينظر إليها إذا ماتت من غير تفرقة بينهما.
وأما ثالثاً: فلأن كل من جاز أن يغسل صاحبه في حال الحياة جاز له أن يغسله بعد الوفاة كالمرأة.
وأما رابعاً: فلأنها فرقة حصلت بالوفاة فلم تحرم الغسل كما لو مات الزوج.
وأما خامساً: فلأن كل شخص جاز له غسل شخص جاز لذلك الشخص غسله كالأخوين، فهذه الأوجه كلها دالة على جواز غسل الزوج لزوجته.
الضرب الثالث: النساء المحارم كالأمهات والجدات والبنات والأخوات ومن كان مشبهاً لهن من المحارم، فإنه يجوز لهن غسله كما يجوز له غسلهن، ولأن كل واحد من هؤلاء يجوز له النظر إلى صاحبه في حال الحياة خلا ما استثني من العورة، فلهذا جاز لكل واحد منهم غسل صاحبه كالأزواج والزوجات، خلا أن الرجال والزوجات يتقدمون عليهن.
المسألة الثانية: في الميت إذا كان امرأة ولا زوج لها، فالنساء أحق بغسلها من الرجال لأمرين:
أما أولاً: فلأنهن أوسع في باب النظر إلى العورة بخلاف ذوي الأرحام والمحارم.
وأما ثانياً: فلأنهن بأحوال بعضهن بعضاً أعرف لأن المثل أعرف بأحوال مثله ممن كان مخالفاً له في الجنسية ثم إن أقارب المرأة في الأولوية والجواز على أربعة أضرب:
الضرب الأول: أن أولى النساء بالغسل لها، ذوات الأرحام المحرمة وهي كل من لو كانت رجلاً لم يجز لها أن تتزوج بها، وهذا نحو الأم والجدة والأخوات والبنات وبنات الأخ وبنات الأخت ومن أشبههن في التحريم فهؤلاء أحق بالغسل لها لما بينها وبينهن من الحرمة في الرحمية والمحرمية.
الضرب الثاني: ذوات الأرحام غير المحارم وهي كل واحدة لو كانت ذكراً جاز لها نكاحها وهذا نحو بنات العم وبنات ابن العم، وبنات العمات وبنات الخالات وبنات الخال وابن الخال فهؤلاء يكن أولى بالغسل من الأجنبيات لما بينهن من مسيس الرحم والقرابة ولها مدخل في هذا الباب.
الضرب الثالث: الأجنبيات، فإنهن يكن أولى من الرجال بعد الأقارب من النساء اللاتي وصفنا حالهن.
الضرب الرابع: إذا لم يوجد هناك أحد من النساء، فإنه يغسلها أقاربها من الرجال، وأولاهم بغسلها ذوو الأرحام المحرمة كالأب والجد ثم الإبن ثم ابن الإبن وإن سفل ثم الأخ وابن الأخ وإن سفل ثم العم، فهؤلاء عصبة لها ومحارم فإن اجتمع الخال وابن الأخت مع ابن العم فإنه يغسلها الخال وابن الأخت لأنهما من الأرحام لها المحرمة بخلاف ابن العم فإنه ليس من الأرحام المحرمة بل هو عصبة لا غير، فإن لم يوجد هؤلاء ووجد من الأرحام غير المحرمة كابن العم وابن الخال وابن العمة وابن الخالة فهم أحق من سائر الرجال الأجانب لما لهم من مزية القرابة والرحمية.
وهل تقدم الزوجة على الأب والجد وسائر القرابات أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تقدم لأن لها النظر إلى عورته بخلاف سائر القرابات.
وثانيهما: أن القرابات مقدمون عليها كما يقدمون في الصلاة.
والمختار: هو الأول لأن هذا مكان يفتقر إلى الإطلاع على العورة فلهذا كانت أحق.
وإن مات رجل وامرأته حامل فوضعت قبل أن تغسله فهل يجوز لها غسله أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من ذلك وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أنها بالوضع قد انقضت عدتها فصارت كسائر الأجانب.
المذهب الثاني: جواز ذلك. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه مات على الزوجية التامة فأشبه ما إذا بقيت عدتها.
وإن طلق رجل زوجته طلاقاً رجعياً ثم مات أحدهما، فهل يجوز للآخر أن يغسله أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز أن يغسل كل واحد منهما صاحبه. وهذا هو رأي أئمة العترة، وإحدى الروايتين عن مالك: يجوز له أن يغسلها ولا يجوز لها أن تغسله.
والحجة على هذا: هو أنها في عدة منه فلهذا جاز لها غسله، وإن ماتت فله غسلها لأن الاستمتاع بها في حال الحياة كان موقوفاً على اختياره فلهذا جاز له غسلها كالتي لم تطلق.
المذهب الثاني: المنع من ذلك. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنها محرمة الوطئ عليه فأشبهت المبتوتة.
والمختار: هو الأول.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن الزوج كان له وطؤها بحكم النكاح فلهذا جاز له غسلها كغير المطلقة.
وإن بانت المرأة عن زوجها بردة أو خلع أو طلاق قبل الدخول أو كان الطلاق ثالثاً لم يجز لكل واحدٍ منهما أن يغسل صاحبه فإذا ماتت لم يغسلها لأنها قد صارت أجنبية عنه بالبينونة، وإن مات لم تغسله لبطلان النكاح فيصير أجنبياً عنها. وحيث سوغنا لكل واحد من الزوجين أن يغسل صاحبه فإن الواجب أن يتقيا النظر إلى عورة كل واحد منهما لأن الشرع إنما أباح ذلك في حال الحياة لأجل حل الاستمتاع بينهما فإذا ارتفع ذلك بالموت وجب أن يتقيا النظر كما يجب ذلك في الأجانب.
والإخوة لأم هل يقدمون على الأب والجد أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنهم يقدمون لأن لهم مزيد شفقة ورحمة لكونهم ركضوا هم والميت في بطن واحدٍ.
وثانيهما: أنهم لا يقدمون لأن ما ذكرناه حق للتعصيب ولا مدخل لهم في العصوبة. فإن كانوا عصبات مع اختصاصهم بإخوة الأم كانوا أحق بالتقديم على سائر العصبات لما ذكرناه من الاختصاص.
المسألة الثالثة: وإذا مات رجل بين نسوة أو امرأة بين رجال، نظرت فإن كان للرجل محرم من الرجال أو النساء، أو كان للمرأة محرم من الرجال أو النساء فإنه يغسله ويوزره ويسكب عليه الماء سكباً ويغسل يديه وينقيه ولا يمس العورة. وهذا هو رأي الهادي وهو محكي عن الشافعي.
قال القاسم في الرجل تموت ابنته في السفر وليس معها نساء: إنه يغسلها ويجتنب النظر إلى العورة.
والحجة على هذا: هو أن المحرم يجوز له النظر إلى محرمه في حال حياته ويمس منه ما ليس بعورة، فهكذا يجوز له أن يفعل ذلك بعد موته، وهكذا حال الصغير والصغيرة فإنه لما جاز للأجنبي أن ينظر إليهما في حال الحياة جاز أن يغسلهما بعد الممات لأن حالهما بعد الموت كحالهما قبل ذلك، فإذا صح هذا فعليه أن يوزره وليكن التأزير ما دون السرة وتحت الركبة كما مضى تقريره في العورة وينقيه غسلاً ولا يمس العورة ويجتنب النظر.
وحكي عن أبي حنيفة أنه ييمم محرماً كان أو أجنبياً ولا يجوز لأحد من الرجال محرماً كان أو زوجاً غسل النساء. وحكي عن الشافعي مثل هذا. فلا جرم كان له قولان في المحرم.
والحجة على هذا: ما يعلم من مقصود الشرع من المحافظة على العورة.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ}[الأحزاب:59]. وقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ}[النور:31]. وإذا كان الأمر كما قلنا فلا يجوز مع اختلاف الجنسين الإطلاع على العورة فلا يحل غسل الرجال للنساء ولا غسل النساء للرجال لما ذكرناه.
والمختار: ما عول عليه الإمامان القاسم والهادي ومن تابعهما على وجوب غسل المحارم لمن يختصهم إذا اضطروا إلى ذلك.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن غسل الموتى واجب كما قررناه فإذا أمكن الوفاء به على الصورة التي أشرنا إليها فلا حاجة إلى العدول إلى التيمم مع إمكان استعمال الماء والكف عن العورة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: حفظ العورة مقصود من جهة الشرع، والطهارة بالماء عنها عوض وهو العدول إلى التيمم. وحفظ العورة لا بدل له فلهذا وجب العدول إلى التيمم في الصورة التي قررناها.
قلنا: إنا لا ننكر أن حفظ العورة ليس له بدل بخلاف الطهارة ولكن إذا أمكن الوفاء بالتطهير للميت على الوجه الذي ذكرناه كان واجباً جارياً على القواعد الشرعية ولأنه لا يعدل إلى البدل إلا بعد الإياس عن المبدل منه ولا يعدل إلى التيمم إلا بعد الإياس من الطهارة وهي ممكنة على النحو الذي ذكرناه.
المسألة الرابعة: إذا لم يكن هناك محرم للرجل بين النسوة منهن، ولا محرم للمرأة بين الرجال منهم، فما يكون الحكم في ذلك؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن يجعل الغاسل على يده خرقة ويصب الماء ويمر الغاسل يده عليه وينقيه لأنه يمكن غسله وتنقيته بذلك. وهذا هو رأي الهادي والقاسم وأحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وبه قال قتادة والزهري والنخعي.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه عن الرسول أنه أتاه نفر فقالوا له: إن امرأة معنا توفيت وليس معها ذو محرم لها؟ فقال: ((كيف صنعتم))؟ قالوا: صببنا الماء صباً. فقال: ((ما وجدتم امرأة من أهل الكتاب تغسلها؟)). قالوا: لا. قال: ((أولا يممتموها)).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه أنكر عليهم صب الماء من غير إمرار اليد عليها ليكون غسلاً، فإذا كان إمرار اليد ممكناً مع صب الماء كان مجزياً في الغسل لا محالة.
المذهب الثاني: أنه ييمم ولا يغسل. وهذا هو أحد قولي الشافعي، ومحكي عن مالك، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، ومروي عن حماد وابن المسيب وغيرهم من الفقهاء.
والحجة على هذا: هو أن الغسل غير ممكن لما فيه من مباشرة العورة لمن لا يجوز مسها، وإذا تعذرت الطهارة بالماء وجب العدول إلى التيمم كالعادم للماء.
والمختار: ما عول عليه الإمامان الهادي والقاسم ومن وافقهم على هذه المقالة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن غسله ممكن على ما ذكرناه فلا يسقط فرضه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الغسل غير ممكن لما فيه من مباشرة العورة لمن لا يجوز [له] مسها.
قلنا: المحذور ليس إلا مباشرة العورة وقد قلنا إن الغاسل يلف على يده خرقة أو يجعل ثوباً على الميت ويمر يده عليه من غير مباشرة لجسد الميت وإذا كان الأمر هكذا كان فيه وفاء بالغسل وبعد عن ملامسة العورة.
ويؤيده: ما روي عن الرسول أنه قال: ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم)).
المسألة الخامسة: أنه إذا تعذر صب الماء لنجاسة لا يزيلها الصب وإمرار اليد، فما يكون الحكم فيه عند تعذره؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يُيمم. وهذا هو رأي الإمامين القاسم والهادي، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه قد توجهت عليه الطهارة بالماء وتعذر استعماله فلهذا وجب العدول إلى التيمم كما نقوله في من تعذر عليه استعمال الماء للطهارة للصلاة فإنه يجب عليه التيمم.
المذهب الثاني: أنه لا يجب التيمم ولا الغسل. وهذا شيء يحكى عن الأوزاعي.
والحجة على هذا: هو أن التيمم لا يجوز لمكان وجود الماء لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[النساء:43]. وهذا واجد للماء فلا يجوز له التيمم ولا يجوز الغسل أيضاً لما فيه من فعل ما هو محظور وهو مباشرة العورة ولهذا بطلا جميعاً.
والمختار: هو ما ذكرناه من وجوب التيمم عند تعذر استعمال الماء. كما هو رأي الهادي والقاسم وغيرهما من العلماء.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن ما ذكروه مطابق للأقيسة الشرعية وموافق للقوانين الاجتهادية في أن الماء إذا تعذر في الطهارة لأداء العبادة فإن التيمم بدل عنه وكافٍ في أداء العبادة، وما ذكره الأوزاعي يكون مخالفاً للإجماع لأنه لا قائل به، وما هذا حاله فلا تعويل عليه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قوله: الماء قد تعذر استعماله لما فيه من مباشرة العورة، والتراب لا يجوز استعماله مع وجود الماء.
قلنا: إنا لا نسلم تعذر استعمال التراب بل هو ممكن فلهذا وجب استعماله وقد قال : ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم)). واستعمال التراب ممكن فلهذا لم يسقط.
المسألة السادسة: في حكم المماليك في الغسل. وفيه صور أربع:
الصورة الأولى: المملوكة.
إذا ماتت جاز للسيد غسلها. وهذا هو الظاهر من المذهب ذكره السيد أبو طالب، وهو قول الشافعي.
وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يجوز للسيد غسلها.
والحجة على ما قلنا: هو أنها مباحة الوطئ في حال الحياة فجاز له غسلها كالزوجة.
والمختار: ما قاله السيد [أبو طالب] للمذهب.
وحجتهم: ما ذكرناه..
ونزيد هاهنا: وهو أنه يلزمه الإنفاق عليها فكان له غسلها كالحية.
وإن مات السيد فهل لها أن تغسله أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: جواز غسلها له. وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب للمذهب وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن له غسلها فجاز لها غسله كالزوجة.
القول الثاني: أنه لا يجوز لها غسله لأنها قد صارت أجنبية عنه فامتنع غسلها له لأنها قد صارت ملكاً للورثة بإنتقالها بموته.
وهذا هو المختار لقوله : ((من ترك مالاً فلأهله)). فظاهر الخبر دال على انتقالها إلى الورثة فصارت كجارية الغير.
الصورة الثانية: أم الولد.
وإذا ماتت أم الولد جاز للسيد غسلها. ذكره السيد أبو طالب للمذهب، وهو قول الشافعي.
وعند أبي حنيفة وأصحابه لا يجوز له غسلها لأنها قد عتقت بالإستيلاد والموت فصارت أجنبية.
والمختار: هو الأول لأنها باقية على الملك بدليل أنه يجب عليه كفنها ودفنها كما كان واجباً عليه نفقتها وكسوتها فجاز له غسلها كحال الحياة.
وإن مات السيد فهل يجوز لها غسله أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: جواز غسلها له. وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب للمذهب، وهو قول مالك وزفر، ومحكي عن بعض أصحاب الشافعي، وهو أحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنها موطؤة بعقد لم يطرأ عليه ما يوجب حله فجاز لها غسله كالزوجة.
القول الثاني: أنه يمتنع غسلها له. وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنها عتقت بموته فصارت أجنبية عنه فلهذا لا يجوز لها غسله.
والمختار: هو الأول، لأن وطأها كان مباحاً له ويجب عليها العدة بموته فلا جرم جاز لها غسله.
الانتصار على أبي حنيفة. قوله: إنها قد عتقت بموته فصارت أجنبية.
قلنا: إن حل وطئها كان بعقد فليس بطلانه بالموت بأعظم من إنفساخ النكاح بالموت في حق الزوجة، فكما جاز غسلها لزوجها مع بطلان عقد النكاح، فهكذا حال أم الولد يجوز غسلها له وإن عتقت بالموت.
الصورة الثالثة: المُدَبَّرة.
فإذا ماتت جاز للسيد غسلها لأنها باقية على الرق بدليل القيامة عند الإتلاف ووجوب الكسوة والنفقة فأشبهت المملوكة، وإن مات السيد فلا يجوز لها غسله لأنها قد عتقت بالموت فصارت أجنبية. وهذا هو الذي ذكره السيد أبو طالب للمذهب، وهو جيد لا غبار عليه بحال.
الصورة الرابعة: المكاتبة.
وإذا ماتت المكاتبة لم يغسلها المكاتِب لها لأنها بملكها لنفسها بالمكاتبة قد صارت أملك بنفسها منه فأشبهت الحرة، وإن مات السيد لم تغسله لأنها إذا كانت أملك بنفسها في حال حياة السيد فهي أملك بنفسها بعد وفاته أحق وأولى لأنها ملكت نفسها بعقد فأشبهت ما لو ملكها الغير فصارت في كلتا الحالتين بموتها وموت سيدها مالكة لنفسها فلا يجوز لها غسله ولا يجوز له غسلها لأجل استقلالها بملك نفسها.
المسألة السابعة: والصبي الصغير من الرجال والصبية الصغيرة من النساء، يجوز للرجال والنساء غسله.
قال القاسم في الصبي الذي لم يبلغ: لا بأس بأن تغسله النساء. فظاهر كلامه دال على أن الصبي لم يبلغ الحلم ولا خمس عشرة سنة ولا أنبت لأن هذه أمارات البلوغ، وهكذا حال الصبية ما لم تبلغ بالإنبات وبالحيض أو ببلوغ خمس عشرة سنة على قياس قوله.
واختلف العلماء في السن الذي يجوز للرجال والنساء تولي الصغير والصغيرة [على ستة أقوال].
فالقول الأول: ذكره السيدان الأخوان المؤيد بالله وأبو طالب، وهو أنه ما لم يبلغ حد المجامعة وشهوة النساء، وهكذا حال الصبية الصغيرة على هذا القياس، وحملا ما قاله القاسم على ذلك وهو مخالف لما دل عليه ظاهر كلامه، فإن كلامه دال على البلوغ الشرعي في الصبي والصبية.
القول الثاني: محكي عن الشافعي: وهو أنه ما لم يكن مميزاً. حكاه الشيخ أبو نصر من أصحاب الشافعي وقال: إنه ليس للشافعي نص في السن وعلى هذا ما لم يكن مميزاً جاز غسله للرجال والنساء.
القول الثالث: محكي عن أبي حنيفة: ما لم يتكلم.
القول الرابع: محكي عن الحسن البصري: وهو أنهما ما لم يفطما.
القول الخامس: محكي عن مالك: وهو ما كان دون سبع سنين.
فهذه أقاويل العلماء في سن الطفولية.
القول السادس، وهو المختار: أنه إذا صار مستقلاً بنفسه في الأكل والشرب وسائر التصرفات وحافظاً لعورته فإذا كان الصغيران من الرجال والنساء على هذه الصفة لم يغسله إلا الرجال ولا يغسلها إلا النساء، فأما ما دون ذلك فإنه جائز(1) للنساء تولية الصغير وللرجال تولية الصغيرة في الغسل من الموت.
نعم.. يمكن التفرقة بين الصبي الصغير والصبية الصغيرة وهو أن الصغير إذا كان غير مميز جاز للنساء تولي غسله عند الموت لأجل ما يحصل من مباشرتهن له في حال الطفولية والإطلاع على عورته في حال التربية بخلاف الصبية فإنه لا يعالجها الرجال في حال الطفولية ولا يباشرونها، فلهذا لم يكن للرجال غسلها عند الموت لأجل هذه التفرقة، وأيضاً فإن الغالب هو تحرك الشهوة عند الإطلاع على عورة الصبية للرجال وإن كانت صغيرة، فلهذا كان الرجال ممنوعين من غسلها وإن كانت صغيرة فافترقا.
المسألة الثامنة: وإن مات خنثى ففي كيفية غسله ثلاثة مذاهب، نفصلها بمعونة الله تعالى:
__________
(1) عبارة: (فإنه جائز) مضافة مكان كلمة (جاز) ليستقيم التعبير عن المقصود.
المذهب الأول: أن حكمه حكم المرأة إذا ماتت بين الرجال، وحكم الرجل إذا مات بين النساء. وهذا هو رأي القاسم والهادي، فإن كان له محرم فإنه يغسله ويوزره ويصب الماء عليه صباً ولا يمس عورته، وإن لم يكن له هناك محرم فإنه يصب الماء عليه صباً من غير أن يمسه، وإن لم يمكن صب الماء عليه فإنه يلف على يده خرقة ثم ييممه ولا يكشف شيئاً من بدنه ولا من شعره.
المذهب الثاني: أن يُشترى له جارية من ماله إن كان له مال أو من بيت المال إن لم يكن له مال لأنه لا يجوز للرجال غسله لجواز أن يكون امرأة، ولا يجوز للنساء غسله لجواز أن يكون رجلاً ولا بد من غسله لأنه واجب على الكفاية ولا طريق إلى غسله إلا بما ذكرناه، وهذا شيء حكاه علي بن العباس(1)
عن علماء آل الرسول .
__________
(1) ترجم له القاضي أحمد بن عبد الله الجنداري في رجال الأزهار فقال: علي بن العباس بن إبراهيم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، الهاشمي الحسني، أبو الحسن، روى عن الهادي والناصر وهو الذي يروي إجماعات أهل البيت، وروى عنه السيد أبو العباس. قال في (الكنز): هو أحد علماء العترة وفضلائها وراوي علوم آل محمد والمصنف لها، دخل مع الهادي إلى اليمن، وقال القاضي أحمد بن صالح أبو الرجال في (مطالع البدور): كان قاضياً بطبرستان أيام الداعي الصغير، وله تصانيف كثيرة في الفقه منها كتاب (اختلاف أهل البيت) وكتاب (ما يجب أن يعمله المجتهد). وقال في (حواشي الإفادة): صحب الهادي والناصر وسئل عنهما فقال: الناصر عالم آل محمد والهادي فقيه آل محمد قال السيد: يكون موته تقريباً في الأربعين والثلاثمائة، روى له الإخوان. اهـ3/24 من (شرح الأزهار) وواضح أن هناك خطأ في النسب، ولعل الصحيح ما جاء في (الروض النضير)1/63 نقلاً عن (مطلع البدور) وهو أنه علي بن العباس بن إبراهيم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
المذهب الثالث: محكي عن الشافعي وله في ذلك أربعة أقوال:
أولها: أنه يصب عليه الماء صباً ويلف عليه ثوب ويمر الغاسل يده عليه وعليها خرقة لأنه لا يمكن غسله إلا هكذا.
وثانيها: أنه ييمم ولا يغسل.
وثالثها: أنه يُشترى له جارية من ماله.
ورابعها: أنه يغسله الرجال والنساء استصحاباً لحكمه في حال الصغر لأن الصغير من الرجال والنساء يجوز للرجال والنساء غسله كما مر بيانه. فهذه أقاويل العلماء في حكم غسل الخنثى إذا مات.
والمختار: أن أعدل المذاهب هذه التي نقلناها، ما عول عليه الهادي والقاسم، وهو أنه إذا كان له محرم فإنه يغسله ولا يمس عورته، وإن لم يكن هناك محرم فإنه يصب الماء عليه صباً، وإن كان الصب لا ينقيه فإنه ييممه. ولا يكشف شيئاً من بدنه ولا من شعره على حد ما ذكرناه في المرأة تموت بين الرجال والرجل بين النساء، فهكذا يكون حكمه من غير تفرقة، وإنما كان هذا أعدل المذاهب لما فيه من الوفاء بتطهيره على الوجه الممكن المشروع، ولما فيه من الوفاء بستر العورة والمؤكد سترها في الشرع.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: يغسله الرجال والنساء استصحاباً لحكمه في الصغر لأن الصغير من الرجال والنساء يجوز للرجال والنساء غسله.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الصغير مخالف للخنثى فإن الضرورة داعية إلى علاجه ومباشرته لأجل ضعف حاله في حال الطفولية فلهذا اغتفر ذلك لأجل صغره بخلاف الخنثى فإنه صار كبيراً فافترقا.
وأما ثانياً: فلأن استصحاب الحال للصغر إنما يكون مع عدم المحرم فأما إذا وجد المحرم فهو أحق بعلاجه في غسله ولا يباشره الرجال والنساء إلا بعد عدم المحرم فإذا عدم المحرم وجب صب الماء عليه صباً كما ذكرنا، وهذا القول حكاه القفال من أصحاب الشافعي.
فأما ما ذكره علي بن العباس من إجماع آل الرسول : أنه يشترى له جارية من ماله تغسله، فإن لم يكن له مال فمن مال المصالح، وهو محكي عن أهل خراسان من أصحاب الشافعي فهو متأول على ما فيه من البعد، على أن الخنثى أوصى بأن تشترى له من ماله جارية قبل موته تغسله، فأما من غير وصية منه فلا وجه لشراء الإمام والحاكم له جارية تغسله لأنه لا مدخل للولاية في الإطلاع على العورة، فإذا أوصى وشريت الجارية فإنها تعود بعد غسله إلى الورثة لأنها من جملة ماله فلهذا عادت إلى ورثته.
المسألة التاسعة: ويجوز للحائض والجنب غسل الأموات لأنهما من أهل الملة فلهذا جاز غسلهما كمن يكون طاهراً من أهل الملة لكنه يكره ذلك لأجل إفتقارهما إلى الطهارة، فكيف يجزئ غسل من كان في نفسه مفتقراً إلى الغسل؟ فإن دعت الضرورة إلى غسلهما زالت الكراهة فينبغي للجنب أن يغتسل قبل غسله للميت ببعض طهور الميت إن كان فيه فضلة وكان مباحاً أو بماء غيره، وإن لم يجد ماء فإنه يتيمم ويغسله، وأما الحائض فإنه تتعذر طهارتها مع بقاء الحيض، فإن كانت قد طهرت فإنها تغتسل ثم تغسل الميت، وإن لم تكن قد طهرت من حيضها فإنها تغسل بدنها استحباباً ثم تغسل الميت، وهكذا حال النفساء لا تكون غاسلة للميت إلا عن ضرورة كما ذكرناه في حق الحائض.
قال الناصر: وإن تنفست المرأة بالولد فاعتنق في رحمها ثم مات وهي حية ولم يخرج فإنه يحتال في إخراجه من فرجها، فإن لم يخرج إلاَّ بإدخال اليد في رحمها وتقطيعه بضعة بضعة جاز ذلك لأن حفظ نفس الحي أولى من حفظ الميت لأنه إن بقي فإنه يخشى على الأم التلف فلهذا جاز إخراجه على الصورة التي ذكرناها.
المسألة العاشرة: والكافر والفاسق لا يُغْسَلان كما مضى شرحه لعصيانهما اللّه، فهل يَغْسِلان الميت أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: الجواز لأن المقصود هو التنظيف وهو حاصل بغسلهما كما في طهارات النجاسات عن الأثواب والآنية.
وثانيهما: المنع لأنهما كما لا يُغْسلان فلا يَغْسِلان أحداً ممن مات من المسلمين.
وهذا هو المختار: لأنه غسل واجب فأشبه الغسل من الجنابة، ولأنه لا يتعلق بإزالة عين فأشبه غسل الجنابة.
وهل يفتقر إلى النية أم لا؟ فيه تردد نذكره في كيفية غسل الميت بمعونة الله تعالى.
وإن كان الميت امرأة فازدحم جمع يصلحون للغسل فإنه يبدأ بنساء المحارم، البنات والأخوات والجدات والعمات والخالات، ثم بعدهن بالأجنبيات المسلمات، ثم بعد ذلك بالزوج، ثم برجال المحارم، الأب والجد والإبن وابن الإبن وسائر العصبات كترتيبهم في الصلاة.
وإن كان الميت رجلاً فإنه يبدأ برجال المحارم، الأب والجد والإبن وابن الإبن، ثم بعدهم بالأجانب المسلمين، ثم بعد ذلك بالزوجة، ثم بنساء المحارم، الأمهات والجدات والبنات والأخوات، وتجب رعاية الترتيب فيما بين الرجال وحدهم، أو فيما بين النساء وحدهن فطريقه الأولى والاستحباب.
وقد تم الكلام فيما نريده من بيان الغاسل وما يتعلق به.
الفرع الثالث: في بيان كيفية الغسل للميت
الغَسْل بفتح الغين مصدر غسل يغسل غسلاً؛ كضرب يضرب ضرباً.
والغُسْل بضمها هو الإسم من المصدر.
والتفرقة بينهما: هو أن المصدر يتعلق بالفعل ويصدر عنه بخلاف الإسم فإنه لا يتعلق بالفعل بحالٍ.
والغِسل بالكسر هو ما يغسل به من سدر أو خطمي(1) أو صابون أو أشنان.
وأقل الغسل إمرار اليد على جميع الأعضاء، وأكمله تكرير الغسل ثلاث مرات.
ويتم المقصود من هذا الفرع بأن نرسم فيه مسائل إحدى عشرة:
__________
(1) في حاشية الأصل: الخطمي الذي يغسل به الرأس. اهـ.
المسألة الأولى: ينبغي لمن أراد أن يغسل الميت أن يستر موضعه الذي يغسله فيه فلا يراه إلا غاسله أو من لا بد له منه في الإعانة، ويغضون أبصارهم إلا فيما لا يمكن إلا بصره ليعرف الغاسل ما يغسل، لأنه قد يكون هناك عيب يكتمه فلهذا استحب غض الأبصار، وينبغي أن يكون الغاسل ثقة أميناً لما روي عن عمر أنه قال: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون. ولأنه إذا لم يكن ثقة لم يؤمن ألا يستوفي الغسل، أو يظهر ما يرى من قبيح ويكتم ما يرى من جميل.
ويستحب: ألا يكون مع الغاسل إلا من لا بد له منه في الإعانة إذ لا حاجة إلى ما زاد على ذلك ولأن الميت إذا كان مجرداً من ثيابه فإنه لا يؤمن أن يرى فيه ما هو عورة لأنه منكشف للغسل وقد قال : ((يا علي لا تنظر إلى فخذ حيٍّ ولا ميت)).
وهل يجرد من ثيابه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجرد من ثيابه. وهذا هو الذي أشار إليه الإمامان الهادي والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الغرض تطهيره من جميع النجاسات المتصلة به، وهو مع التجريد أكثر تنقية وأعظم إزالة للنجاسة لأن النجاسات ربما تنحبس مع القميص إذا غسل فيه.
المذهب الثاني: أنه لا يجرد ويغسل في قميص رقيق لكي إذا صب الماء نزل ولم يقف، فإن كانت أكمام القميص واسعة أدخل الغاسل يده فيه وصب المعين للغاسل الماء من فوق القميص، وإن كانت أكمامه ضيقة نزع القميص وطرح على عورته خرقة تسترها.
وحكي عن أبي علي بن أبي هريرة: أنه يفتق التخاريص ويدخل يده. وهذا هو المحكي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: ما روت عائشة أنه لما توفي رسول اللّه سمعنا صوتاً ولا ندري من يتكلم به فقال: اغسلوا نبي الله في ثيابه. فغسل أمير المؤمنين كرم الله وجهه رسول اللّه في قميصه، والماء يصب من فوق القميص، ولأن ذلك يكون أستر فلهذا كان هو الأولى.
والمختار: هو التجريد، كما قاله الهادي والمؤيد بالله، ومن تابعهما.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو أنه غسل يعم جميع الجسد فاستحب فيه التجريد كغسل الجنابة، ولأنه غسل مأمور به فاستحب فيه التجريد كسائر الغسلات الواجبة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روت عائشة أن الرسول غسل في قميصه فلهذا استحب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما هذا حاله كان خاصاً برسول اللّه فلا يقاس عليه غيره.
ويؤيد ما ذكرناه: هو أنهم قد كانوا عزموا على تجريده لولا ما سمعوه من الهاتف الذي يسمع كلامه ولا يرى شبحه، وفي هذا دلالة على أن السنة التجريد.
وأما ثانياً: فلأنه كان طيباً حياً وميتاً ليس تعلق في جسمه نجاسة فلهذا استحب غسله في قميصة.
ومن وجه آخر: وهو أنه إنما خص بالغسل في قميصه مخافة أن ينكشف شيء من عورته وقد خصه الله تعالى بهذه الخاصة فلم يطلع عليها أحد من أهل الدنيا.
المسألة الثانية: قال الهادي في الأحكام: ومن أراد أن يغسل الميت فإنه يضعه على مغتسله مستلقياً على قفاه مستقبلاً بوجهه القبلة ويوضع على فرجه خرقة.
ويستحب أن يكون وضعه على لوح مهيئاً للغسل ليكون أسهل في علاج الغسل وليكن اللوح منحدراً من قبل رجليه مخافة أن يستنقع الماء فتسترخي مفاصله، ولأن ذلك أطهر وأنقى.
ويستحب وضع الخرقة على عورته مخافة أن يطلع عليها عند غسله، ولم يذكر الهادي والقاسم والمؤيد بالله تليين مفاصله عند وضعه على اللوح وإنما ذكروا ذلك عند خروج روحه.
وحكي عن المزني أنه قال: إذا وضع على اللوح فإنها تلين مفاصله. وهذا لا وجه له فإنه قد برد فلا ينفعه ذلك فلا معنى لما ذكره المزني.
ويستحب أن يكون مع الغاسل ثلاثة آنية: إناء كبير كالجب(1)
__________
(1) المزادة يخيط بعضها إلى بعض، كانوا ينتبذون فيها. اهـ. (لسان) 1/249. (ينتبذون: يضعون فيها النبيذ ويشربونه منها).
يكون فيه الماء [و] يكون من البعد مخافة أن يتطاير عليه شيء من النجاسات إن كانت هناك، وإناء أصغر منه بقرب الغاسل كالقصعة والإجانة(1)،
وإناء صغير يكون بيد المُعِين يغرف به من القصعة إلى الغاسل فوق بدن الميت.
وهل يكره تسخين الماء أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكره تسخينه إلا لبرد شديد أو عفونة في الميت لا يمكن إزالتها إلا بالماء [الساخن]. وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الماء البارد يشدد بدن الميت ويصلبه، والماء الحار يرخيه فلهذا كره.
المذهب الثاني: أن الماء الحار هو أولى. وهذا هو المحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن الماء الحار أدخل في إزالة النجاسة وأعظم في التنظيف لما فيه من الرقة والمبالغة في إزالة العفونات الحاصلة في بدن الميت.
والمختار: أنه لا حاجة للميت إلى تسخين الماء إلا أن يعرض ما ذكرناه من برد شديد أو عفونة لا تزول إلا بحرارة الماء، فأما إذا لم يكن هناك أحد الأمرين فلا وجه لتسخينه.
__________
(1) القصعة: الضخمة تشبع العشرة، والجمع: قيصَاع وقِصَع. اهـ (لسان) 8/274.
والإجانة والإنجانة والأجَّانة؛ الأخيرة طائية، عن اللحياني: المركن، وأفصحها: إجَّانة، واحدة الأجاجين، وهو بالفارسية: إكانة، قال الجوهري: ولا تقل: إنجانة. اهـ (لسان) 13/8.
ويستحب أن يعد الغاسل خرقتين، إحداهما يلفها على يده ويغسل بها فرجه وأسفله ثم يرمي بها، ويأخذ الأخرى ويغسل بها بقية بدنه لأنهما إذا كانتا خرقتين كان ذلك أقرب إلى النظافة وأبعد عن التقذير و[أقرب إلى] التنزه عما أصاب الخرقة الأولى من النجاسة لما روي أن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في غسله لرسول اللّه كان بيده خرقة يتبع بها ما تحت القميص. ولو غسل الخرقة الأولى التي جعلها للإستنجاء غسلاً ناعماً وغسل سائر جسده [بها] جاز ذلك وكان أخف مؤنة وأسهل. ولا يجوز للغاسل أن يمس عورة الميت بيده ولا ينظر إليها، كما لا يجوز له ذلك في حال الحياة ويغض بصره عن النظر إلى سائر جسده، هكذا ذكره أصحابنا والفقهاء- أعني غض البصر عن سائر بدن الميت ولم أجد له وجهاً في الأحاديث عن الرسول ، ولا بأس به لأمرين:
أما أولاً: فلأنه يجوز بصره(1)
في حال الحياة فهكذا في حال الموت ولم تحرم إلا العورة كما في حال الحياة.
وأما ثانياً: فلأن في بصره أعظم عبرة وأبلغ موعظة لقوله : ((كفى بالموت واعظا))(2).
ويستحب أن يكون بالقرب منه مجمرة فيها بخور وعود مخافة أن يظهر شيء له ريح كريه من الميت فتضعف نفس الغاسل ومن يعينه ويفتر عن استقصاء الغسل للميت.
المسألة الثالثة: وأول ما يبدأ به الغاسل أن يُجلس الميت إجلاساً رفيقاً، إما مائلاً إلى الغاسل، وإما مائلاً إلى يسار الميت ولا ينصبه نصباً مستوياً لأنه إذا نصبه نصباً مستوياً لم يخرج شيء من بطنه.
قال المؤيد بالله: وإن علم الغاسل أنه إذا أجلسه كان أوعب لخروج ما يخرج منه أجلسه مستنداً إلى الغاسل ليخرج ما في بطنه إن كان هناك شيء قبل الغسل فلا يحتاج إلى إعادة غسله إذا خرج بعد الغسل.
__________
(1) يقصد النظر إليه، وكذا في التي تليها من: وأما ثانياً: فلأن في بصره، ثم ما جاء على شاكلتها.
(2) أخرجه في (مجمع الزوائد) 10/308، وفي (شعب الإيمان) 7/353.
قال الهادي: ويمر يده على بطنه ثلاثاً. وهل يكون الإمرار بليغاً أو خفيفاً؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يكون خفيفاً. وهذا هو الذي أشار إليه الإمامان الهادي والمؤيد بالله لقوله : ((عليك بالرفق يا عائشة فإنه ما حصل في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه)). ولم يفصل ولأنه إذا كان بليغاً لم يؤمن أن يوهي شيئاً من أعضاء الميت ويفسد معآءه ويغيرها.
وثانيهما: أنه يكون بليغاً قوياً. وهذا هو رأي الشافعي لما روي أن ابن عمر رضي الله عنه غسل عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر فنفضه نفضاً قوياً بليغاً وعصره عصراً شديداً.
والمختار: أن يكون العصر بليغاً. لأن الصحابي لا يفعله إلا عن توقيف من جهة الرسول ولأنه لا يضر الميت ما فعل به، ولأنه إذا فعل به ذلك وكان في جوفه شيء خرج منه، وإذا لم يفعل ذلك ربما خرج بعد كمال غسله أو بعد تكفينه فيفسد بدنه وكفنه بالنجاسة.
وإن كان الميت امرأة حاملاً لم يمسح بطنها صيانة للولد، فإن كان الولد حياً أخرج كما مر تقريره، وإن كان ميتاً ترك على حاله لأنه إذا مسح بطنها لا يؤمن خروج ما يخرج فلا حاجة إلى مسح بطنها، ثم يشرع الغاسل في الغسل.
والنية متعذرة من جهة الميت. وهل تجب على الغاسل أم لا؟ فيها وجهان:
أحدهما: أنها تجب على الغاسل، والميت محل لها.
ووجهه: أنه غسل واجب فأشبه غسل الجنابة في كونها واجبة.
وثانيهما: أنها غير واجبة لأنها شرعت تطهيراً للميت عن العفونة فلا يجب فيها نية كإزالة النجاسة(1).
والمختار: وجوبها لأنها من جملة القرب ولهذا فإنها لا تصح من الكافر، فلو مات مسلم وله زوجة ذمية على القول بجواز نكاح الكتابيات، لم يجز لها غسله لأنه قربة فلا يصح أداؤها من كافر. فينوي الغاسل عند شروعه في الغسل.
__________
(1) هكذا في الأصل، والصواب: لأنه شرع تطهيراً للميت فلا تجب فيه نية...إلخ؛ لأن الضمير هنا يعود للغسل بينما الضمير في (أنها غير واجبة) يعود للنية كما هو واضح، والله أعلم.
قال الأئمة الهادي والناصر والمؤيد بالله: غسل الميت كالغسل من الجنابة من غير فرق. وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه، وذلك لكونه واجباً فأشبه غسل الجنابة.
وهل تستحب المضمضة والإستنشاق للميت كما شرعتا في حق الجنب أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنهما مشروعتان. وهذا هو رأي الأئمة والشافعي.
والحجة على هذا: قوله لمن غسلن ابنته: ((ابدأن بمواضع الوضوء منها))(1).
ومعلوم أن المضمضة والإستنشاق من مواضع الوضوء.
وثانيهما: أنهما غير مشروعين في حق الأموات. وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن المضمضة محل السواك وموضعه فكما أن السواك غير مشروع في حق الميت فهكذا حال المضمضة فهو تابع لها.
والمختار: أنهما مشروعتان في حق الميت كما يشرعان في حق الحي من غير تفرقة لما رويناه من الحديث.
__________
(1) أخرجه البخاري 1/73، ومسلم 2/648، وهو في سنن أبي داود 3/197، وسنن النسائي 4/30، ومسند أحمد 6/408، والخبر مروي عن أم عطية الأنصارية بلفظ: أن رسول الله قال لمن غسلن ابنته: ((ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)).
…قال ابن بهران: وهذا طرف من حديث أخرجه الستة بروايات كثيرة.
المسألة الرابعة: ثم يلف الغاسل على يده إحدى الخرقتين المعدتين فيدخل يده التي لف عليها الخرقة وهي اليسار؛ لأن الإستنجاء يكون باليسار كما في حق الأحياء. ويكره الإستنجاء باليمين إلا لضرورة، فيغسل فرجيه قبله ودبره ويصب عليهما الماء غزيراً ليذهب ما كان عليهما من النجاسة ثم يرمي بهذه الخرقة ويغسل يده بماء وأشنان إن كان ممكناً ليذهب ما اتصل بها من الأقذار، ثم يأخذ الخرقة الثانية ويلفها على يده فيوضئ الميت فيبدأ بالمضمضة والإستنشاق ويدخل يده في فِيِه ويمرها على ظاهر أسنانه ويصب عليه الماء ولا يفتح فاه، ويدخل إحدى أنامله في أنفه ليزيل ما هناك من العفونة والدرن ثم يغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ويغسل رجليه، لقوله : ((ابدأن بمواضع الوضوء)). فإذا فرغ من توضئته غسل رأسه ولحيته إذا كانت.
ويستحب البداية بغسل رأسه قبل لحيته. وعن إبراهيم النخعي: يبدأ بغسل لحيته قبل رأسه. لأنه إذا بدأ بغسل لحيته ثم غسل رأسه بالسدر نزل الماء والسدر على لحيته فيحتاج إلى غسلها مرة ثانية، وإذا بدأ بغسل رأسه لم ينزل من رأسه على لحيته ما يكدرها فلهذا كانت البداية بالرأس أحق، ولأن الرأس أشرف ما في أعضاء الإنسان لأن فيه السمع والبصر.
ووجه ما ذكره النخعي: هو أن اللحية لها شرف وكرامة وهي محل العقل والوقار فلهذا استحب البداية بها.
قال المؤيد بالله: والوضوء للميت قبل غسله مستحب كما أشار إليه الهادي في الأحكام، ولا يجب الترتيب في الغسل وله أن يبدأ بأي عضو شاء كما في الغسل من الجنابة وقد مضى تقريره في الغسل.
فإن كان رأسه ولحيته شعرهما متلبداً، فهل يستحب التسريح لهما بالمشط أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك غير مستحب. وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة.
قال الهادي في الأحكام: ولا يمشط شعره.
والحجة على هذا: ما روي عن عائشة أنها قالت لنسوة مشطن شعر امرأة: مالكن تصنعن بموتاكن هكذا؟ منكرة لما فعلنه من المشط، ومثل هذا لا يقوله الصحابي إلا عن توقيف من جهة الرسول لأنه لا مدخل للإجتهاد فيه.
المذهب الثاني: استحباب المشط بمشط مفرج الأسنان. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن أم عطية أنها قالت: ضفرنا شعر بنت رسول اللّه ثلاثة قرون وألقيناها من خلفها، وهذا لا يكون إلا بعد التسريح.
والمختار: ما عليه أئمة العترة، وأنه غير مستحب لأنه لا يؤمن مع التسريح أن يتساقط الشعر، والشرع ورد بصيانة الميت عن إذهاب شيء من أجزائه، ولأن ما هذا حاله إنما هو من زينة الدنيا، والأموات فهم في شغل عن زينة الدنيا ولذاتها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: حديث أم عطية من إلقاء الذوائب خلفها لما غسلت رقية بنت رسول اللّه ولا يمكن ذلك إلا بعد التسريح.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فليس فيه ذكر التسريح بالمشط فلا يجوز إثباته من غير دلالة.
وأما ثانياً: فلأن الإلقاء له خلفها وجعله ثلاثة قرون يمكن من غير تسريح بأن يضم بعضه إلى بعض.
المسألة الخامسة: فإذا فرغ من غسل رأسه ولحيته بالماء والسدر غسل صفحة عنقه اليمنى ثم شق صدره وجنبه وفخذه وساقه الأيمن ثم يعود إلى شقه الأيسر فيغسله من صفحة عنقه الأيسر كذلك، هذا في حال إجلاسه على اللوح، ثم يميله على جانبه الأيسر فيغسل جانب ظهره الأيمن وقفاه إلى ساقه الأيسر. ويستحب أن يستقصي في المبالغة في تطهيره وتنظيفه.
قال الهادي في الأحكام: ويستقصي على غسل ظهره وبطنه وأفخاذه وبين أرفاغه ـ يعني معاطفه وغضونه ـ وينقي أظفاره، وإن كان بالميت درن كثير لدوام المرض وبعد تعهده بالماء وكان تزيله الأشنان جاز استعماله واستعمال الصابون لزواله لأن المقصود هو النظافة وإزالة العفونة. والواجب غسلة واحدة ولا خلاف بين أئمة العترة وفقهاء الأمة، لما روي عن الرسول في المحرم الذي خرَّ من بعيره فمات ((أغسلوه بماء وسدر))، وذلك لا يقتضي أكثر من مرة واحدة، ولأن غسل الجنابة والحيض والنفاس للأحياء يجزئ مرة واحدة فهكذا غسل الميت.
وهل يكون للغسل حد في العدد أم لا؟
فالذي عليه أئمة العترة والأكثر من الفقهاء أن له حداً وهو الوتر. لما روي عن الرسول أنه قال لأم عطية: ((اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً))(1).
وحكي عن مالك: أنه لا حد للغسل.
والحجة على هذا: هو أن المقصود هو التنظيف وإزالة الكدر على أي وجه زال من غير حاجة إلى التقدير.
والمختار: هو تقديره، وأنه لا يتجاوز السبع لما حكيناه من حديث أم عطية، ولأنه لا قائل بالزيادة على السبع فوجب الإقتصار عليها.
ويستحب أن تكون الغسلات ثلاثاً لحديث أم عطية، ولأنها طهارة حكمية مفعولة لأجل الصلاة فاستحب أن تكون ثلاثاً كالطهارة من الحدث.
وإذا قلنا باستحباب الثلاث ففي كيفية استعمالها أربعة أوجه:
الوجه الأول: أن يُغسل رأسه ووجهه وجميع بدنه وأرفاغه بالحرض(2) ثم يُغسل الحرض بالماء القراح، ثم يُغسل مرة ثانية بالسدر، ثم يغسل السدر بالماء القراح ثم يغسل في المرة الثالثة بالماء القراح ويجعل فيه الكافور. وهذا هو رأي الهادي والمؤيد بالله، أعني: الجمع بين الحرض والسدر والكافور.
__________
(1) أخرجه البخاري 1/423، ومسلم 2/647، وأبو داود3/197،والسنائي 4/30، وهو في صحيح ابن حبان 7/302، والسنن الكبرى للبيهقي 3/389.
(2) في حاشية الأصل: الحَرَضُ والحُرُضُ: الأشنان، قاله الجوهري. اهـ.
والحجة على هذا: ما في حديث أم عطية الأنصارية أن الرسول دخل علينا حين توفيت ابنته فقال: ((اغسلنها ثلاثاً بالحرض والسدر والكافور))(1).
فجمع بين الأمور الثلاثة ولن تكون إلا بما ذكرناه في الأولى والثانية والثالثة.
الوجه الثاني: أنه يُغسل في المرة الأولى بالحرض والسدر، والثانية بماء الكافور، والثالثة بالماء القراح. وهذا هو رأي الناصر، ومحكي عن الصادق جعفر.
والحجة على هذا: ما روي أن رسول اللّه أمرهن أن يغسلن رقية بنت رسول اللّه ثلاثاً لما ماتت، أولهن بالحرض والسدر، والثانية بالكافور، والثالثة بالماء القراح. فقد اتفق الإمامان الهادي والناصر على استحباب الحرض في المرة الأولى في حق الأموات كما ترى، والحرض: هو التراب لما يحصل فيه من الإزالة والقوة في رفع الكدر والدرن.
الوجه الثالث: أن تكون الغسلة الأولى بالماء القراح والسدر،والغسلة الثانية بالماء القراح والسدر، والغسلة الثالثة بالماء القراح والكافور، ويستحب أن يكون الكافور في كل الغسلات الثلاث إن كان ممكناً، وإن لم يمكن كان في الغسلة الثالثة. وهذا هو رأي الشافعي، ولم يذكر الحرض في شيء من الغسلات.
والحجة على هذا: ما روي أنه قال في تعليمهن لغسل ابنته: ((اغسلنها ثلاثاً أو خمساً بماء وسدرأو أكثر إن رأيتن)) ويجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً أو شيئاً من الكافور، وظاهره دال على أن كل غسلة منها تكون بالسدر.
__________
(1) هذا الخبر والخبران السابقان له، حديث واحد روته أم عطية الأنصارية بلفظ: دخل علينا رسول الله حين توفيت ابنته فقال: ((اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك)) وفي رواية: ((أو سبعاً إن رأيتن ذلك، بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني)) فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه، أي إزاره، فقال: ((أشعرنها إياه)) أي: اجعلنه مما يلي جسدها. اهـ. (تخريج البحر) 2/102.
الوجه الرابع: أنه يُغسل أولاً بالماء القراح ثم يُغسل ثانياً بالماء القراح والسدر، ثم يغسله ثالثاً بالماء القراح والحرض وليكن الماء الأول مسخناً بالنار، والماء الثاني يغلى بالسدر، والماء الثالث يغلى بالحرض، وهذا كله رأي أبي حنيفة. حكاه الكرخي من أصحابه.
والحجة على هذا: هو أن الماء إذا كان مسخناً ومغلياً بالسدر والحرض، كان أدخل في الإزالة وأعظم قلعاً لما علق في الجسم من الأدران، فلهذا استحب التسخين في الماء مع هذه الأخلاط التي قد دل عليها الشرع، هذه رواية الكرخي.
وحكى أصحاب الشافعي عنه أنه قال: يستحب في الأول الغسل بالماء القراح، وفي الثانية بالماء والسدر، وفي الثالثة بالماء القراح.
المسألة السادسة: مشتملة على أحكام تتعلق بالغسل وجملتها خمسة:
الحكم الأول: هل تقلم أظفار الميت وتحلق عانته ويقصر شاربه وينتف إبطه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يزال عنه شيء من ذلك. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي يوسف وأبي حنيفة ومحمد.
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله إزالة جزء من أجزائه فلم يجز ذلك وكما لو سرق ثم مات لم تقطع يده.
المذهب الثاني: أنه يجوز. وهذا هو رأي مالك، وأحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله : ((افعلوا بميتكم ما تفعلونه بعروسكم))(1).
والعروس يفعل به هكذا.
__________
(1) أخرجه في (تلخيص الحبير) 2/106، وفي (خلاصة البدر المنير) 1/255، وقال: قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأورد ابن بهران عن (الشفاء) أن أئمتهم" ردوا هذا الخبر.
…وقال في (التلخيص): هذا الحديث ذكره الغزالي في (الوسيط) بلفظ: ((افعلوا بموتاكم كما تفعلون بأحيائكم)) وتعقبه ابن الصلاح بقوله: بحثت عنه فلم أجده ثابتاً، قال أبو شامة في كتاب السواك: فهذا الحديث غير معروف، اهـ بلفظه من (تخريج البحر) 2/202.
والمختار: أنه لا يزال شيء من أجزاء الميت ويجب صيانته بكل حال، ولأن ما هذا حاله إنما يفعل بالأحياء لما فيه من الزينة دون الأموات.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول أنه قال: ((افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم)). وهذا ما يفعل بالعروس.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا معارض بما رويناه عن عائشة من إنكارها لذلك على من فعله.
وأما ثانياً: فلأنه محمول على فعل الطيب وإزالة الدرن دون ما فيه قطع مما يتصل به.
قالوا: إنما هذا حاله تنظيف له فجاز كإزالة الدرن وسائر الأقذار.
قلنا: إن إزالة الأدران والأقذار ليس فيها قطع لشيء منه وليس هكذا إزالة الشعور فإن فيها قطعاً مما يتصل به فافترقا.
الحكم الثاني: هل يطلى بالنورة أم لا؟ فينظر فيه فإن كان طلاؤه بالنورة لأجل تطهيره وتنظيفه عن الأدران والأقذار جاز ذلك كما يفعل بالسدر والصابون والأشنان لإزالة ذلك، وإن كان فعله من أجل إزالة الشعر كما يفعل بالموسى لم يجز ذلك لما فيه من إزالة جزء من أجزائه وهو ممنوع كما أشرنا إليه.
واعلم أن ظاهر النقل من مذهب الشافعي جواز إزالة هذه الشعور وتقليم الأظفار واستحباب ذلك، والصحيح من مذهبه ما حققه الشيخ أبو حامد من أصحابه، أنه لا خلاف على المذهب أن ذلك غير مستحب، ولكن هل يكره أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: كراهة ذلك لما فيه من قطع جزء من أجزائه.
وثانيهما: أنه لا يكره لقوله : ((افعلوا بميتكم مثل ما تفعلونه بعروسكم)). والعروس يفعل به هكذا فكذلك الميت، وروي أن سعد بن أبي وقاص غسل ميتاً ودعى بموسى وحلق عانته.
الحكم الثالث: شعر الرأس هل يحلق أم لا؟ فالظاهر من المذهب أنه لا يحلق رأسه. وهو المحكي عن الشافعي لأن حلق الرأس إنما يحلق لزينة أو لأداء نسك، والميت ليس عليه نسك ولا يصلح لزينة، وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه إن كان ممن يحلق رأسه في العادة جاز حلقه، وإن كان ممن لا يحلق رأسه لم يحلق.
والمختار للمذهب: ما قررناه أولاً أن ذلك إزالة جزء من أجزائه فلا يجوز كالختان.
الحكم الرابع: وإذا تساقط شيء من شعره بعد الغسل فالظاهر من المذهب أنه يرد في كفنه. وهو محكي عن أبي حنيفة، وحكي عن المزني من أصحاب الشافعي أنه ينبذ ويطرح كما تنبذ قلامة الظفر في حال الحياة، وعن بعض أصحاب الشافعي أنه يدفن على حدة لأنه قد بطل اتصاله بالميت فلهذا دفن وحده.
والحجة على ما قلناه: ما روي عن أمير المؤمنين كرم اله وجهه أنه قال: واردد هذا ـ يعني الشعر ـ فإن كل شيء يقع من بني آدم فهو ميت وإنه يأتي يوم القيامة بكل شعرة نور. ولأن الميت من حقه أن تدفن جميع أجزائه [معه] وهذا من أجزائه فيجب دفنه معه.
الحكم الخامس: وإذا مات الرجل وهو أغلف يعني من غير ختان، فهل يختن أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يمتنع ختانه بعد موته. وهذا هو رأي أئمة العترة وهو الأصح من قولي الشافعي، لأنه قطع عضو ولا يجوز قطع عضو من الميت.
وثانيهما: أنه يختن. وذلك على قولين:
أحدهما: أنه يختن صغيراً كان أو كبيراً.
وثانيهما: أنه إن كان صغيراً لم يختن، وإن كان كبيراً ختن.
والمختار: هو المنع من ذلك كما قاله أصحابنا لما روي عن الرسول أنه قال: ((الختان مكرمة للنساء، مطهرة للرجال)). وهذا إنما يختص حال الحياة دون الموت.
وهل يجوز أخذ الأجرة على غسل الميت أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأنه واجب على الكفاية فلا يجوز أخذ الأجرة عليه كالجهاد.
قال المؤيد بالله: والأقرب عندي أنه ليس لغاسل الميت أخذ الأجرة على غسله لأنه عبادة، ولهذا كان مفتقراً إلى النية.
وقال أيضاً: والختان وإن كان واجباً فإن وجوبه على المختون لا على غيره، فإن أمر به غيره واستأجره جاز فلهذا يجوز أخذ الأجرة عليه. ورأي الهادي والمؤيد بالله هو وجوب الختان على الرجال والنساء. وهو محكي عن الشافعي أيضاً لما روي عن الرسول أنه قال لرجلٍ أغلف: ((اختتن)). فقال: إني أخاف على نفسي. فقال: ((أما إذا خفت على نفسك فدع)). وظاهر الأمر للوجوب إلا لدلالة.
ولا يجعل في الماء الذي يغسل به الميت شيء من الطيب إلا الكافور لما في حديث أم عطية: ((واجعلن فيه شيئاً من الكافور)). فخص الكافور دون غيره، فأما السدر فليس من الطيب في شيء وإنما يستعمل من أجل النظافة كالدلوك(1) والأشنان والصابون، ولأن الحاجة في الطيب إنما تكون في الكفن كما سنقرره، وفي الميت، فأما الماء فلم يرد الشرع إلا بما ذكرناه فلا حاجة إلى مخالفة السنة.
المسألة السابعة: وإن خرج من أحد فرجي الميت خارج بعد غسله ثلاثاً نظرت، فإن كان الخارج بعد وضعه في كفنه وإدراجه فيه لم يعد عليه الغسل ولا الوضوء ولا يفعل فيه شيء لأنه قد انتقل من حالة إلى حالة فصار كما لو حدث به حادث بعد وضعه في قبره، وإن حدث الحادث قبل إدراجه في أكفانه، ففي ما يفعل به مذاهب أربعة:
المذهب الأول: أنه يتمم الغسل خمساً، فإن خرج خارج بعد الخمس تمم سبعاً، فإن خرج خارج بعد السبع لم يزد على ذلك شيء واحتيل في سد المخرج بالقطنة. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، وأحد أقوال الشافعي.
__________
(1) الدلوك: ما تُدلك به من طيب أو غيره. وقد دلكت الشمس عن كبد السماء، واسم ذلك الوقت: الدلك، قال الفراء: جابر عن ابن عباس، في دلوك الشمس، أنه زوالها الظهر، قال: ورأيت العرب يذهبون بالدلوك إلى غياب الشمس، وتدلك الرجل: أي دلك جسده عند الاغتسال. اهـ (لسان) 10/426).
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال لأم عطية في غسل ابنته: ((اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك)). فعلق العدد في الخمس والسبع إلى رأيهن ونظرهن، وليس المقصود وقف ذلك على شهوتهن فإن ذلك أمر شرعي لا يمكن وقفه على الشهوة والإرادة من جهتهن، وإنما الغرض ما يقتضيه الشرع ويقتضيه حكمه وأمره وليس ذلك إلا إذا حدث حادث يقتضي تكرير الغسل، فلهذا قضينا بتكريره إلى هذه الغاية التي قد دل عليها الشرع، فأما إذا خرج خارج بعد تجاوز هذه العدة فلا يتعلق به حكم شرعي ويدرج في أكفانه من غير عمل.
المذهب الثاني: أنه يغسل الموضع وتزال عنه النجاسة لا غير. وهذا هو قول أبي حنيفة ومالك والثوري ومحكي عن المزني من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن غسله قد صح فلا يبطل بالحدث كالجنب إذا اغتسل وحدث منه حادث فإنه لا يعاد غسله.
المذهب الثالث: محكي عن أبي إسحاق من أصحاب الشافعي: وهو أنه يجب علينا غسل الموضع من النجاسة وإعادة غسل أعضاء الوضوء.
والحجة على هذا: هو أن الجنب إذا وجب عليه الغسل فاغتسل وحدث منه حادث فإنه يعيد الوضوء لا غير، فإذا كان الحي حكمه هكذا فكذلك الميت.
المذهب الرابع: أنه يجب عليه غسل جميع بدنه. وهذا شيء يحكى عن أحمد بن حنبل، وأبي علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الحدث في حق الميت إنما هو الموت، وهو الموجب للغسل فيجب إذا خرج شيء من سبيليه أن يكون موجباً لغسله بجامع كونه حدثاً، دليله: الموت.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم.
وحجتهم: ما ذكرناه..
ونزيد هاهنا، وهو أن المستحاضة ومن به سلس البول وسيلان الجرح إذا استدام ذلك وكان لا يمكن رده ولا يتأتا غسله فإنه يسد الموضع بالقطنة ويصلي مع ذلك ولا يجب تكرير الطهارة، فإذا ثبت ذلك في الحي وجب مثله في الميت من غير تفرقة بينهما.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: يغسل الموضع من النجاسة ولا يعاد الغسل كالجنب إذا خرج منه خارج بعد الإغتسال. كما حكي عن أبي حنيفة وغيره.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الشرع قد أشار إلى غاية في إيجاب الغسل فيجب الإقتصار عليه ولا يجوز إهماله.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه إنما يكون بعد وجوب الغسلات السبع فإذا تجاوزناها وخرج بعدها خارج لم يتعلق به حكم بحال.
قالوا: يعيد الوضوء لا غير. كما حكي عن بعض أصحاب الشافعي، كما في الجنب إذا حدث منه حادث بعد الإغتسال.
قلنا: الوضوء لم تدل عليه دلالة وفي إيجاب الغسلات كفاية عن إيجاب الوضوء فلا وجه لإيجاب الوضوء.
قالوا: يجب عليه غسل بدنه. كما حكي عن أحمد بن حنبل وغيره لأن حدث الموت يوجب الغسل فيجب في كل ما خرج من الميت أن يكون موجباً للغسل.
قلنا: قد دل الشرع على وجوب الغسل خمس مرات وسبع مرات فلا وجه لإيجاب الغسل مرة واحدة.
المسألة الثامنة: والمرأة في وجوب الغسل من الموت كالرجل، وينبغي أن يكون سترها أعظم من ستر الرجل لأنها كلها عورة.
قال الهادي في المنتخب: وتغسل في موضع مستور من فوقه. وأراد أن الموضع إن كان مظلماً فهو ساتر، وإن كان مضيئاً سُجِّي من فوقه بثوب يستر الغاسل لأن ذلك يكون أقرب إلى السترة لها.
ويستحب ألا ينظر إليها أحد إلا من يتولى غسلها من النساء لأنه ربما حدث منها ما يكره فلا ينبغي الإطلاع على ذلك. لما روى زيد بن علي عن علي أنه قال: قال رسول اللّه : ((من غسل أخاً له مسلماً فنظفه ولم يقذره ولم ينظر إلى عورته ولم يذكر منه سُوءاً ثم شيعه وصلى عليه ثم جلس حتى يدلى في قبره خرج من ذنوبه عطلاً)) (1)
__________
(1) أورده الإمام زيد بن علي في مسنده ص 161 (منشورات دار مكتبة الحياة- بيروت. لبنان 1966م).
…وفي الهامش: يقال: عُطل بالضم، وعاطل ومعطال، أي: خال، فيه لغتان: عطل وعطل، انتهى من شرح مقامات الحريري.
قال في (المصباح): عطلت المرأة عطلاً من باب قتل إذا لم يكن عليها حلي فهي عاطل وعطل بضمتين، وقوس عطل أيضاً لا وتر عليها. اهـ.
.
فإن كان لها شعر فكيف يصنع به؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يضفر ثلاث ضفائر ويلقين خلفها. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: حديث أم عطية حيث قال الرسول : ((تجعل ثلاث غدائر ويلقين خلفها))(1).
من غير تسريح كما مر بيانه.
وثانيهما: أن يلقين بين ثدييها. وهذا هو رأي أبي حنيفة.
وحجته: أنه لا بد من مخالفة حال الحياة لحال الموت وليس ذلك إلا بإلقائهن بين ثدييها.
والمختار: هو الأول لأن الحديث أولى من القياس، فلهذا كان ما روته أم عطية أولى بالقبول.
فإذا فرغ الغاسل من غسل الميت رجلاً كان أو امرأة فالمستحب أن ينشفه بثوب قبل إدراجه في أكفانه ثم ينقله إلى الكفن، وإنما كان الأمر كما قلناه لأن العادة في الأحياء أنه إذا اغتسل فإنه يخرج من اغتساله إلى ثوب يتنشف به ثم يلبس ثيابه فهكذا حال الميت، ولأنه إذا لم يفعل ذلك لا يأمن أن تبتل أكفانه فيسرع إليه الفساد.
وإن تعذر غسل الميت لعدم الماء أو لغيره من أنواع المعاذير في الغسل وجب أن ييمم بالتراب لأنه غسل لا يتعلق بإزالة عين فناب التيمم عنه عند العجز كغسل الجنابة.
المسألة التاسعة: وإذا فرغ الغاسل من غسل الميت استحب له الغسل عند الأكثر من أئمة العترة، وهو محكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وغيره من الصحابة والتابعين، لما روى زيد بن علي قال: حدثني أبي عن أبيه أنه سئل عن غاسل الميت هل يغتسل أم لا؟ فقال: نعم يغتسل غاسل الميت. يشير به إلى الاستحباب.
وهل يجب أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير واجب. وهذا هو المحكي عن علي وابن عباس وابن عمر وعائشة، وهو قول كثير من التابعين، ومن الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
__________
(1) أخرجه الترمذي 3/315، وابن أبي شيبة 2/457، وأحمد 6/408، والطبراني في (الكبير) 25/64.
والحجة على هذا: هو أن الميت طاهر، ومن غسله طاهر فهو كما لو غسل جنباً، ولأن الوجوب لا بد فيه من دلالة ولا دلالة على وجوبه.
المذهب الثاني: أنه واجب. وهذا شيء يحكى عن الناصر وغيره من أصحاب الحديث، ومحكي عن أبي هريرة.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((من غسل ميتاً فليغتسل، ومن مسه فليتوضأ)) (1).
ورواية ثانية عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
والمختار: هو الأول.
وحجتهم: ما ذكرناه..
ونزيد هاهنا: وهو ما روى ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((لا غسل عليكم من غسل موتاكم حسبكم أن تغسلوا أيديكم)) (2).
وهذا نص فيما نريده من استحبابه وعدم وجوبه.
الحجة الثانية: ما روي عن عائشة، أنها قالت: أأنجاس - تريد الإنكار على من أوجب الغسل من غسل الميت - وهذا لا تقوله إلا عن توقيف من جهة الرسول لأن هذا لا مدخل له في الاجتهاد.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روى أبو هريرة: ((من غسل ميتاً فليغتسل)). والأمر للوجوب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الأمر محمول على الاستحباب ودلالته على الوجوب لا بد فيه من دلالة ولا دلالة هاهنا.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما رويناه من الأحاديث وإذا تعارضا فلا بد من الترجيح، ولا شك أن أخبارنا أكثر وأدل على المقصود فلهذا كانت أحق بالعمل والقبول.
فأما قوله: ((ومن مسه فليتوضأ)). فالمراد به وضوء اليد وغسلها.
ويؤيد حمل الوضوء على ما ذكرناه: قوله : ((الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر والوضوء بعد الطعام ينفي اللمم)) (3).
يعني: الجنون.
__________
(1) أورده البيهقي في (الكبرى) 1/300، وابن أبي شيبة في مصنفه 3/47، وعبد الرزاق في المصنف 3/408، وأحمد في المسند 2/454.
(2) ذكره الدارقطني في سننه2/76، وفي (ميزان الاعتدال) 5/337.
(3) أورده في (مسند الشهاب) 1/205، و(فيض القدير) 6/376، و(ميزان الاعتدال)6/538.
المسألة العاشرة: وإذا تقرر أن الغسل من غسل الميت غير واجب. فهل هو آكد أو غسل الجمعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن غسل الجمعة آكد لأن الأخبار فيه أكثر وأوفر.
وثانيهما: أن الغسل من غسل الميت آكد لأنه مختلف في وجوبه، ومن أصحاب الشافعي من ذهب إلى أن الغسل من غسل الميت آكد في الوجوب من غسل يوم الجمعة. وهو العمراني صاحب البيان. وهذا فاسد، فإن كان ترجيح تأكيده من جهة أن الخلاف في وجوبه [حاصل] فكل واحد منهما(1) قد قال قائل بوجوبه، وإن كان ترجيحه من جهة أخرى فلا بد من ذكرها حتى ينظر في قوتها وضعفها.
والمختار: أن غسل يوم الجمعة آكد لأن الأحاديث الواردة في فضله كثيرة، وممن قال بوجوبه: الحسن البصري وداود وطبقته من أهل الظاهر.
ومن جهة أن غسل يوم الجمعة مؤقت بوقت بخلاف الغسل من غسل الميت فإنه أمر مطلق معلق بسبب، فلا شك أنه(2)
مشبه للصلوات المكتوبة في كونه مؤقتاً كما هي مؤقتة بوقت، وما كان مشبهاً للفرائض فهو آكد مما لا يكون مشبهاً لها.
ويستحب لمن غسل ميتاً ورأى ما يعجبه منه مما يدل على سلامته من النار وفوزه بالجنة نحو تهلل وجهه ووضوحه عند غسله أن يظهر ذلك ويتحدث به ليكون ذلك سبباً في الدعاء إلى الخير والإشتغال بالأعمال الصالحة.
وإن رأى ما يكرهه مثل اسوداد وجهه أن يكتم ذلك ولا يظهره لما رويناه من حديث زيد بن علي وقد قدمناه، ولما روى أبو رافع عن الرسول أنه قال: ((من غسل ميتاً فكتم عنه غفر الله له أربعين مرة))(3).
وقوله: ((أربعين مرة)). يحتمل أنه يريد أربعين خطيئة، وهو الظاهر من المعنى. ويحتمل أن الله تعالى يكرر العفو بإسقاط العقوبة عن المعصية كما يكرر الأجر على الطاعة بزيادة الأجر، والأول أوضح وأظهر.
__________
(1) أي: غسل الجمعة والغسل من غسل الميت.
(2) يقصد: غسل يوم الجمعة.
(3) تقدم.
وإن كان الميت من أهل البدع والضلالات الدَّاعين إليها والمحبين لشرائعها والمكبين على فعلها كالمجبرة والمشبهة والروافض والظلمة وأهل الفسوق ممن مات مصراً على كبيرة غير تائب منها ولا مقلع، فالمستحب أن يتحدث به الغاسل في الناس ليكون ذلك زجراً للناس عن التلبس بالبدع، وهكذا حال من كان معانداً للإمام مانعاً له عن إمضاء أوامر الله ونواهيه فإنه يظهر ذلك ليكون تحذيراً للناس عن الوقوع في مثله فينفرون عنه.
المسألة الحادية عشرة: قد أوضحنا فيما سبق أن الغسل من غسل الميت غير واجب وإنما هو مستحب.
قال القاسم: فإن انتضح على الغاسل شيء من الماء الذي أصاب بدن الميت فعليه أن يغتسل. وقال أيضاً: وإن كان الميت يغسل فعاسله أولى لما ينتضح عليه من مائه.
قال أبو العباس: وهذا من قوله دليل على إيجاب الغسل إذا انتضح، وعلى استحبابه إذا لم ينتضح.
قال السيد أبو طالب: وهذا يجب أن يكون المراد به إذا لم يتبين له الموضع الذي انتضح الماء من غيره كمن تصيب بدنه نجاسة ويشتبه عليه موضعها فإنه يلزمه أن يغسل جميع بدنه، فأما إذا تميَّز الموضع فإنه لا يجب عليه إلا غسله.
فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا: أن ما انتضح من بدن الميت على الغاسل فهو نجس، فإن عُلِمَ وجب غسله على إنفراده، وإن لم يُعْلَم وجب غسل جميع البدن على ما نصه القاسم، وخرَّجه السيدان أبو العباس وأبو طالب من كلامه، وهذا فيه نظر على رأي القاسم وعلى ما اخترناه من أن الماء القليل لا ينجس بإتصال النجاسة به إلا إذا كان متغيراً بها، فأما إذا لم يكن متغيراً بها فهو طاهر كما مر تقريره في باب المياه، وإذا كان الأمر كما قلناه فلا وجه للحكم بنجاسة ما انتضح من بدن الميت على الغاسل سواء كان الانتضاح من الغسالة الأولى أو من الثانية أو من الثالثة فكلها طاهرة إذا لم تكن متغيرة بالنجاسة.
والعجب من الإمام القاسم حيث أطلق هذا الإطلاق في وجوب الغسل من الإنتضاح من غسل الميت ولم يذكر ما أسلفه في باب المياه من أن القليل من الماء لا ينجس إلا بالتغير بالنجاسة، كما هو رأي جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الفقهاء، وهكذا حال السيدين أبي طالب وأبي العباس فإنهما أطلقا هذا التخريج على رأيه ولم يذكرا ما تقدم من مذهبه، ولعله إنما قال ذلك تفريعاً على قول من قال بنجاسته وإن لم يتغير كما هو المأثور عن ولده الهادي وغيره من الصحابة والتابعين والفقهاء، وقد أسلفنا في المسألة كلاماً شافياً فأغنى عن تكريره وإعادته.
وإذا كان الأمر كما قلناه، فإذا كان الميت ينجس فالماء المنفصل عن غسله لا ينجس، وإن كان نجساً على رأي القاسم كما ذكرناه، فأما على ما اخترناه من أن المؤمن لا ينجس وأن الماء القليل لا ينجس إلا أن يتغير بالنجاسة، فالمنتضح يكون طاهراً على الوجهين جميعاً فلا يلزمه غسله سواء كان متعيناً أو غير متعين.
ويستحب إذا كان تحت أظفار الميت عفونة، إزالتها عند غسله بأن يتخذ الغاسل شظاظاً(1)
رقيقاً يستخرج به ما تحت أظفاره برفق وسهولة من غير حاجة إلى تقليم أظفاره.
وقد نجز غرضنا مما نريده في غسل الميت، ونشرع الآن في التكفين بمعونة الله ولطفه.
__________
(1) الشظاظ:العود الذي يُدخل في عروة الجوالق، وقيل: الشظاظ: خُشَيْبَة عقفاء محددة الطرف توضع في الجوالق أو بين الأونين يُشد بها الوعاء. اهـ (لسان) 7/445. (والمقصود هنا: عود محدد الطرفين تُستخرج به العفونة من تحت أظفار الميت).
---
القول في التكفين للميت
واعلم أن التكفين للموتى من المسلمين مشروع لقوله÷ في الأعرابي الذي وقصت به ناقته: ((كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما.)).
هو واجب على الكفاية لا يختص أحداً دون أحدٍ فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذه هي فائدة كونه واجباً على الكفاية فلو تمالى أهل قرية أو مصر من الأمصار على ترك تكفين الموتى من المسلمين حاربهم الإمام على ترك هذا الواجب، فإذا عرفت هذا فلنذكر حكم الكفن، وصفة الأكفان، وكيفية الإدراج فيها، فهذه فروع ثلاثة تتفرع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: في حكم التكفين. وفيه مسائل ثلاث:
المسألة الأولى: في حكم الوجوب، هل يكون من رأس المال أو يكون من الثلث؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه يكون من رأس المال. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
قال الهادي في المنتخب: الكفن من أصل التركة، وهو قبل الديون والوصايا. وفي هذا دلالة على أنه من رأس المال، وسواء كان مؤسراً أو معسراً.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷ في الرجل الذي خر من ناقته فمات فقال: ((كفنوه في ثوبيه)). ولم يسأل هل يخرجان من ثلثه وهل كان مؤسراً أو معسراً، وترك الإستفصال في القضية دال على عموم الحكم في كل أحوالها إلا ما خرج بدلالة.
المذهب الثاني: أنه إن كان مؤسراً فمن رأس ماله، وإن كان معسراً فمن ثلثه. وهذا هو المحكي عن الزهري وطاووس.
والحجة على هذا: قوله÷: ((من ترك مالاً فلأهله ومن ترك عيلة فإليَّ)).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه دال على انتقال المال إلى الوارث بالموت، لكن الشرع قد استثنى ما يخص الميت في نفسه في جهازه فإن كان الميت مؤسراً فهو من رأس ماله لأنه لا يضره ما استثني للميت، وإن كان معسراً فهو من ثلثه لأن المال ينتقل إلى الوارث وهو أحق، والثلث للميت يفعل فيه ما شاء.
المذهب الثالث: أنه يكون من الثلث على كل حال سواء كان مؤسراً أو معسراً. وهذا شيء يحكى عن خلاس بن عمرو (1).
والحجة على هذا: هو أن المال قد دل الخبر على أنه ينتقل إلى الوارث بنفس الموت وما خرج جهازاً للميت فهو يكون بمنزلة الوصية والوصية من الثلث.
والمختار: أنه من رأس المال. كما قاله الأئمة وأكثر الأمة.
__________
(1) خلاس بن عمرو الهجري البصري، روى عن علي وعمار وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم.
وعنه: قتادة وعوف الأعرابي وجابر بن صبح وداود بن أبي هند وجماعة، قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني عن أحمد بن حنبل: روايته عن علي من كتاب. وقال عبد الله بن أحمد [بن حنبل] عن أبيه: ثقة ثقة، وقال الآجري عن أبي داود: ثقة ثقة، قيل: سمع من علي؟ قال: لا، قال أبو داود: وسمعت أحمد يقول: لم يسمع خلاس من أبي هريرة شيئاً(...)، وقال الأزدي: خلاس تكلموا فيه، يقال: كان صحفياً، قلت: وقد ثبت أنه قال: سألت عمار بن ياسر، ذكره محمد بن نصير في كتاب الوتر. قرأت بخط الذهبي: مات خلاس قبيل المائة. اهـ ملخصاً من (تهذيب التهذيب) 3/152.
والحجة على هذا: ما روي أن رجلاً من الأنصار مات فقدموا جنازته إلى الرسول÷ ليصلي عليه فقال: ((هل على صاحبكم دين))؟ قالوا: نعم ديناران. فقال: ((صلوا على صاحبكم)) (1).
فتحملها أبو قتادة فصلى عليه الرسول÷، فلو كان الكفن من الثلث لوجب صرف كفنه في الدينارين لأن الدين قبل الوصية.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إذا كان مؤسراً فمن رأس ماله، وإن كان معسراً فمن ثلثه لأن المال ينتقل إلى الوارث بالموت، ومع اليسار فالميت أحق، ومع الإعسار فالوارث أحق.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا ننكر أن المال ينتقل إلى الوارث بالموت لكن نقول: جهاز الميت مستثنى من ذلك.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما أوردناه من الأدلة ومتى تعارض الدليلان وجب الترجيح، وأخبارنا فهي أكثر وأوضح وهي دالة بظاهرها على ما قلناه.
قالوا: يكون من الثلث على كل حالٍ. كما حكي عن خلاس لأنه ينزل منزلة الوصية.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الثلث إنما يكون فيما يكون متعلقاً بالبدن وسائر الأمور التي لا تجب إلا بالإيصاء بها، وما هذا حاله فلا يفتقر إلى الإيصاء فإنه واجب أوصى أو لم يوص.
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه 7/329، والبيهقي في (الكبرى) 6/73، وأبو داود 3/247، وابن أبي شيبة 3/49، وعبد الرزاق 8/291، وأحمد 3/296، وهو مروي عن جابر، وروي أن الذي احتمل عنه الدين هو علي قال: هما عليَّ يا رسول الله برئ منهما، فتقدم رسول الله÷ فصلى عليه ثم قال لعلي%: ((جزاك الله خيراً، فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك، إنه ليس من ميت يموت إلا وهو مرتهن بدينه، فمن فك رهان ميت فك الله تعالى رهانه يوم القيامة)) فقال بعضهم: هذا لعلي خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال÷: ((بل للمسلمين عامة)) هكذا رواه في (تخريج البحر) عن علي%، وقال: رواه الدارقطني وضعفه المنذري. اهـ 2/105.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بالدين، والإجماع منعقد على كونه من رأس المال، وما هذا حاله فهو آكد من الدين لحاجته إليه في نفسه.
المسألة الثانية: في بيان من يجب عليه الكفن.
وإذا مات الميت نظرت، فإن كان رجلاً فكفنه في ماله لقوله÷ في الأعرابي: ((كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما)). ولا خلاف بين أئمة العترة وفقهاء الأمة [في] أن كفنه في ماله إذا كان له مال.
وإن لم يكن له مال كان كفنه على من تلزمه نفقته من أقاربه لأن الكفن بعد الموت ينزل منزلة الكسوة في حال الحياة، فلهذا قلنا: بأنه يجب على أقاربه. ولا خلاف فيه بين الأئمة والفقهاء.
وإن لم يكن [له] قريب أو كان قريبه معسراً فكفنه من بيت المال. ولا خلاف فيه بين الأئمة والفقهاء.
قال المؤيد بالله: وذلك لأنه في حال الحياة إذا لم يكن له مال ولم يوجد من ينفق عليه وجب أن ينفق عليه من بيت المال، فهكذا حاله بعد الموت، فإذا بطلت نفقته بالموت لم تسقط كسوته بعد الموت وهو الكفن فلهذا أوجبنا كفنه على بيت المال، فإن لم يكن بيت المال فعلى المسلمين لأن كل من مات ولا وارث له فورثته المسلمون فيجري بيت المال مجرى الأقارب، وجري المسلمين مجراهم إذا لم يكن بيت مال، لقوله÷: ((الفقراء عالة الأغنياء))(1).
والمعنى أن الأغنياء يعولون الفقراء إذا لم يكن لهم أقارب أغنياء. ولقوله÷: ((أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه))(2).
وإذا كان وارثاً له نزل منزلة القريب فلهذا وجب عليه الكفن لما كان له وارث كالقريب على أنه لا خلاف فيه بين الأئمة والفقهاء.
فأما إذا كان الميت امرأة، فإن لم يكن لها زوج فكفنها على الأقارب، وإن لم يكن لها أقارب فعلى بيت المال، وإن لم يكن هناك بيت مال فعلى المسلمين كما قررناه في الميت إذا كان رجلاً فلا يفترقان فيما ذكرناه.
__________
(1) سيأتي في الزكاة.
(2) رواه أبو داود في سننه 3/143، وابن ماجة 2/879، وابن حبان 13/397.
وإن كان لها زوج فهل يكون كفنها في مالها أو على زوجها؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن كفنها واجب على زوجها غنية كانت أو فقيرة. وهذا هو رأي الهادي على ما حصله أبو العباس لمذهبه، ومحكي عن الشافعي في أحد قوليه، ومروي عن أبي إسحاق من أصحابه.
والحجة على هذا: هو أنه يرثها فيلزمه من كسوتها ما كان يلزمه في حال حياتها ولأن كل من وجبت كسوته على شخص في حال الحياة وجب عليه تكفينه كالمملوك من العبد والأمة، فإذن كفنها تابع للزوم النفقة. وقد تقرر أنها على الزوج في حال الحياة فيجب كفنها عند الموت عليه.
المذهب الثاني: أن كفنها واجب في مالها إذا كانت غنية، فإن كانت فقيرة فعلى الأقارب إن كانوا أغنياء، وإن لم يكن أقارب أو وجدوا وكانوا فقراء ففي بيت المال، فإن لم يكن بيت مالٍ فعلى المسلمين لما ذكرناه في الرجل إذا كان فقيراً. وهذا هو رأي المؤيد بالله ومحكي عن محمد بن الحسن.
والحجة على هذا: هو أن الموت قد قطع عصمة النكاح بين الزوجين فلم يجب على الزوج كفنها كالأجنبية.
المذهب الثالث: أنها إن كانت غنية ففي مالها، وإن كانت فقيرة فعلى زوجها. وهذا هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف.
والحجة على هذا: هو أنها إذا كانت غنية فهي كسائر الأموات لإنقطاع عصمة النكاح بينها وبين زوجها، وإذا كانت فقيرة وجب ذلك على زوجها لأن الكفن تابع للكسوة في حال الحياة فلهذا أوجبناه على الزوج مع فقرها.
والمختار: وجوب الكفن في مالها إذا كانت غنية كما قاله المؤيد بالله ومن تابعه.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أنها امرأة غنية بالمال فوجب أن يكون كفنها في مالها كالتي لا زوج لها.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إنه كل من وجبت نفقته وكسوته على شخص في حال الحياة وجب عليه تكفينه كالعبد والأمة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المعنى في الأصل هو الملك في العبد والأمة بخلاف الزوجة فهي غير مملوكة فافترقا.
وأما ثانياً: فلأن النفقة إنما وجبت للزوجة في حال الحياة لعصمة النكاح وفي مقابلة الاستمتاع، ولأن قد بطلت العصمة والاستمتاع بالموت فلهذا لم يجب كفنها عليه ووجب في مالها.
المسألة الثالثة: وإذا تشاجر الورثة فقال بعضهم: أنا أكفنه من مالي. وقال بعضهم: بل يكفن من التركة. فإنه يكفن من التركة لأن في كفنه من بعص الورثة مِنَّة على الباقين ولا يلزمهم قبول مِنَّته.
وإن مات محرماً فهل ينقطع إحرامه بموته أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن إحرامه باقٍ بعد موته وأنه غير منقطع عنه بموته. وهذا هو رأي أمير المؤمنين كرم الله وجهه وعثمان وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم، وعطاء من التابعين، ومن الفقهاء الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو قول الشافعي، وعلى هذا لا يلبس المخيط ولا يخمر رأسه، ولا يحنط بحنوط فيه طيب؛ لأن ما هذا حاله محرَّم على المحرم في حال الحياة ولم ينقطع بالموت.
وحكي عن طائفة من العلماء: أنه ينقطع إحرامه بموته. فمن الصحابة ابن عمر وعائشة، ومن الفقهاء أبو حنيفة والأوزاعي ومالك، ومحكي عن زيد بن علي والناصر، وقد ذكرنا الإحتجاج لكل واحد من المذهبين، وذكرنا المختار والانتصار له في باب الغسل فأغنى عن الإعادة.
وإن ماتت امرأة معتدة عن الوفاة، فهل يسقط عنها تحريم الطيب. فالذي يأتي على المذهب أنه يسقط عنها تحريمه وتحنط بالطيب لأن المعتدة إنما حرم عليها الطيب لئلا يدعو ذلك إلى النكاح، وهذا لا يوجد بعد الموت فلهذا سقط التحريم، وهو أحد قولي الشافعي. وله قول آخر أنه لا يسقط عنها التحريم كالمُحْرِمة.
وتكره المغالاة في الأكفان. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((لا تغالوا في الأكفان فإن الكفن سلب سريع فإن يكن من أهل الجنة يكفن من الجنة، وإن يكن من أهل النار يكفن من النار)) (1).
ومعنى المغالاة: أن يكون الثمن غالياً لنفاسته وعلو قدره.
ويستحب أن يكون سحقاً خلقاً. لما روي أن أبا بكر لما قربت وفاته أمر بثوبين سحقين فغسلا وقال: إنهما عن قريب وصارا إلى المهلة(2)،
فإن غالى الميت في وصيته أجزأ ذلك ما زاد على الوسط مما يكفن به الميت ويكون الزائد من ثلثه لأنه يكون وصية فنفوذه من الثلث. وفي حديث آخر عن الرسول÷ أنه قال: ((لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً فإما بُدِّل خيراً منه وإما بُدِّل شراً منه)) (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود 3/199، والبيهقي في (الكبرى) 3/403، وابن الأمير في (فتح الباري) 3/253، وهو في (التمهيد) لابن عبد البر 22/144 وفي غيرها، وأورده في (تخريج البحر) عن علي% بلفظ: لا تغالوا في كفن فإني سمعت رسول الله÷ يقول: ((لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً)) وقال: أخرجه أبو داود.
(2) جاء في (نيل الأوطار) 4/35 عن عائشة أن أبا بكر نظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيها، قلت: إن هذا خلق، قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للمهلة، مختصر من البخاري، ثم قال: قوله إنما هو للمهلة، قال القاضي عياض: روي بضم الميم وفتحها وكسرها وبذلك جزم الخليل.
وقال ابن حبيب: هو بالكسر الصديد، وبالفتح التهمل، والضم عكر الزيت، والمراد هنا: الصديد. اهـ.
(3) تقدم قريباً.
وإن سرق كفن الميت نظرت، فإن كان بعد استيفاء الغرماء ديونهم وحيازتها لم ينقص شيء مما أعطوه وكانوا أحق بها لأنهم قد ملكوها بحق لهم فلم يجز أخذ شيء منها كما لو لم يسرق، وإن كان قبل استيفاء الغرماء حقوقهم كفن من رأس ماله لأن المال باقٍ على ملكه فلهذا وجب تكفينه منه فإن مانع الغرماء لم يلتفت إلى منعهم لأن ما هذا حاله مستثنى قبل الديون والوصايا، وهكذا لو نبش من قبره وسلب أكفانه يكون الحال كما ذكرناه، وإن لم يوجد من الأكفان إلا ثوب قصير كفن به، لما روى أن حمزة بن عبدالمطلب لما قتل في أُحدٍ كفنه رسول اللّه÷ برداء إذا غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطيت رجلاه بدا رأسه، فقال الرسول÷: ((غطوا رأسه واجعلوا على رجليه شيئاً من الحشيش))(1).
ولأن الرأس أفضل ما في بدن الإنسان فكان أحق بالتغطية، وروي عن الرسول÷ أنه قال: ((غطوا رؤوس موتاكم وخمروها ولا تكشفوها كاليهود))(2).
__________
(1) رواه في (نيل الأوطار) عن خباب أن حمزة لم يوجد له كفن إلإ بردة ملحاء إذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الاذخر، رواه أحمد، والحديث في (المستدرك) 2/131 و(الكبرى) للبيهقي 3/401 ومصنف ابن أبي شيبة 2/463، ومسند أحمد 6/395 وغيرها، وأورده ابن بهران في (تخريج البحر) 2/106.
(2) عن أبي أسيد الساعدي بلفظ: كنا مع رسول الله÷ على قبر حمزة بن عبد المطلب فجعلوا يجرون النمرة على وجهه فتنكشف قدماه ويجرونها على قدميه فينكشف وجهه، فقال رسول الله÷: ((اجعلوها على وجهه واجعلوا على قدميه من هذا الشجر)) قال: هذا طرف من حديث رواه الطبراني.
وإن لم يوجد له شيء من الثياب التي تواري عورته غطيت عورته بالشجر لما روي أن مصعب بن عمير لما قتل في أحد ولم يكن له إلا نمرة إذا غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت بها رجلاه بدا رأسه، فقال الرسول÷: ((غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه شيئاً من الاذخر)). وإذا جاز تغطية رجليه عند العدم فهكذا يغطى كله إذا عدمت الثياب، ولأن ذلك جائز للعاري في حال الحياة أن تُستر عورته بالشجر، فهكذا في الأموات أحق وأولى. والنمرة: بفتح النون وكسر الميم هي ثوب من صوف فيه خطوط من بياض وسواد.
الفرع الثاني: في أعداد الأكفان وصفتها. وفيه مسائل ثلاث:
المسألة الأولى: قال الهادي: يكفن الميت فيما يمكن ويوجد ويختاره أهله من الثياب من سبعة أو خمسة أو ثلاثة أو واحد، فإن كان سبعة فحسن، وإن كان خمسة فحسن، وإن كان ثلاثة فحسن. نص على ذلك كله في الأحكام.
واعلم.. أن أقل ما يكفن به الإنسان ما يستر عورته.
وظاهر كلام الإمامين القاسم والهادي أن أقل ما يكفن به الميت الثوب الواحد.
قال القاسم: يكفن في ثوب واحدٍ إذا لم يوجد غيره. فظاهر كلامهما: على أن أقل ما يكفن به الميت الثوب الواحد.
والمختار: هو الأول لما رويناه من حديث حمزة ومصعب بن عمير فإنهما كفنا فيما دون الثوب وجعل على ما بقي من جسدهما أذخر، وإن حصل من الثياب ما يستر بعض الجسم ستر به العورتان لأنهما أحق بالستر، وإن حصل ما يستر به إحدى العورتين ستر به القبل لأن الدبر مستور بالإليتين، فكشف القبل أفحش من كشف الدبر، فلهذا كان أحق بالستر ويجعل على ما بقي من الجسد شجر من الأذخر وغيره.
فأما الثوبان فقد روى أبو عبيد الهروي: أن الرسول÷ كفن في ثوبين صحاريين. وصحار بالصاد المهملة والحاء المهملة قرية تعمل فيها الثياب، وهي رواية غريبة لم يذكرها البخاري ولا الترمذي في صحيحيهما ولا عثرت عليها في كتب الحديث وهي مستغربة من وجهين:
أما أولاً: فلم يذكرها غيره من المحدثين.
وأما ثانياً: فلأن السنة في الكفن الوتر والإثنان ليسا وتراً.
وأما الثلاثة من الأثواب فهي المستحبة لاتفاق الروايات على أن الرسول÷ كفن في ثلاثة أثواب.
قال المؤيد بالله: والأحب إلينا أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب. لما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه كفن رسول اللّه÷ في ثلاثة أثواب.
وروى الترمذي في صحيحه: أن الرسول÷ كفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية.
وروي: أن عمر كفن في ثلاثة أثواب ثوبين سحوليين وثوب كان يلبسه.
والعمامة غير مستحبة في الثلاثة باتفاق بين نقلة الأحاديث.
وهل يكون القميص مستحباً في الثلاثة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن القميص غير مستحب في الثلاثة. وهذا هو رأي المؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روت عائشة أن الرسول÷ كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. والسحول بالسين والحاء المهملتين قرية في اليمن تعمل فيها هذه الأثواب، بفتح السين وبضمها: الثياب الشديدة البياض، وعلى هذا يجعل أحدها لفافة من السرة إلى الركبة ويدرج في اثنين فتكون اللفافة إزاراً في حقويه.
المذهب الثاني: أنه يستحب فيها القميص. وهذا هو رأي الهادي، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي أن الرسول÷ كفن في ثلاثة أثواب: قميص غير مخيط، وإزار يبلغ من سرته إلى ركبته، ولفافة يلف بها من قرنه إلى قدمه.
والمختار: أنه لا يستحب القميص في الثلاثة كما قاله المؤيد بالله.
وحجته: ما ذكرناه..
ونزيد هاهنا: وهو أن الروايات في ترك القميص في الثلاثة أكثر وأشهر، فلهذا كان التعويل عليه أحق.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: روى زيد بن علي أنه÷ كفن في ثلاثة، أحدها قميص من غير عمامة.
قلنا: الأكثر الذي عليه أهل العلم وأهل الحديث ما روته عائشة من أن الأفضل هو الثلاثة من غير قميص ولا عمامة، ولأن اللفافة إذا كانت في الكفن يلف في ثوبين كان أقوى وأستر للميت.
وأما الخمسة من الأثواب في الأكفان فهي جائزة. لما روي أن ابن عمر كان يكفن أهله في خمسة أثواب فيها قميص وعمامة.
وهل تكون مستحبة أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها مستحبة. وهذا هو الظاهر من مذهب الهادي.
والحجة على هذا: ما روي أن الرسول÷ كفن ابنته في خمسة أثواب قميص وعمامة وأدرجت في ثلاثة(1).
ظاهر الحديث دال على استحباب الخمسة كما ذكرنا، وفي استعمال خمسة الأثواب في الكفن عنه روايتان:
الرواية الأولى: رواية الأحكام أنه يلبس قميصاً ويعمم بعمامة ويدرج في ثلاثة. لما روينا من حديث بنت رسول اللّه÷ أنها كفنت على هذه الصفة.
الرواية الثانية: رواية المنتخب أنه يلبس قميصاً ويؤزر بمئزر ويدرج في ثلاثة. فجعل هاهنا المئزر عوضاً عن العمامة.
المذهب الثاني: أن الخمسة جائزة غير مستحبة. وهذا هو رأي المؤيد بالله ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الأحاديث كلها دالة على استعمال الثلاثة في الكفن.
قال المؤيد بالله: والأحب ألاَّ يزاد على الثلاثة. والدلالة على عدم الاستحباب فيما زاد على الثلاثة هو أن الأحاديث والأخبار الواردة في الخمسة قليلة فلهذا كان التعويل في الاستحباب على الثلاثة كما ذكرناه.
والمختار: هو جوازها من غير استحباب كما قاله المؤيد بالله.
وحجته على ذلك: ما ذكرناه..
ونزيد هاهنا: وهو أن الأصل عدم الاستحباب فلا يقدم عليه إلا بدلالة شرعية ولا دلالة هاهنا تدل على استحبابها فلهذا اقتصرنا فيها على الجواز.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
__________
(1) رواه في (مجمع الزوائد) 3/22، وسنن البيهقي 4/4، و(المعجم الكبير) 25/145، وفي (تخريج البحر) 2/107، رواه عن ليلى بنت قانف الثقفيةبلفظ: قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله÷ الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله÷ عند الباب يناولناها ثوباً ثوباً، أخرجه أبو داود.
قالوا: كفن رسول اللّه÷ ابنته في خمسة فدل ذلك على استحبابها.
قلنا: إنما أراد بذلك بيان الجواز. والاستحباب إنما يكون على خلاف ذلك بالأمر وتكرر الفعل، فأما الفعل مرة فإنما يدل على الجواز وعلى أنه غير مكروه.
وأما السبعة من الأثواب في التكفين فلا خلاف في أنها غير مستحبة وإنما التردد في جوازها وعدم جوازها ولم أعلم أن أحداً من العلماء قال بجوازها قبل الهادي.
وحجته على جوازها: ما روي عن الرسول÷ أنه قال حين ماتت ابنته: ((اغسلنها ثلاثاً أو خمساً إن رأيتن أو أزيد من ذلك)).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أنه إذا جاز أن يكون عدد الغسلات أَزْيَد من خمس جاز أن يكون عدد الكفن أزيد منها والجامع بينهما هو أن كل واحد منهما تجهيز للميت يدخله العدد، لكن الزائد على سبع لم يقل به قائل فيجب أن يكون مطرحاً في الغسلات والكفن، ويجب الاقتصار على السبع فيهما جميعاً، وهذا هو المقصود، وعلى هذا يكون استعمالها أن يلبس الميت قميصاً ويؤزر بمئزر ويعمم بعمامة ويدرج في أربعة لأنه قد استوفى لباس الرأس بالعمامة ولباس البدن بالقميص ولباس الوسط بالمئزر، فلا وجه للتكرير فيها فلم يبق إلا أن تكون اللفائف التي يدرج فيها أربعة لأنه لم يرد التكرير إلا في اللفائف التي يدرج فيها الأموات دون غيرها من سائر لباس الرأس والبدن وقد ورد التكرير في اللفائف في الثلاثة والخمسة كما قررناه من قبل.
والمختار: أن السبعة مكروهة لأمرين:
أما أولاً: فلما فيه من السرف المستغنى عنه، وقد قال÷: ((خير الأمور أوساطها وشرها محدثاتها)).
وأما ثانياً: فلأنه لم يقل بها أحد من المحدثين ولا نقلها ناقل منهم ولا ذهب إليها ذاهب من الصحابة والتابعين.
والانتصار: يكون بالجواب عما ذكره الهادي.
قوله: إن الرسول÷ أمر النساء أن يغسلن ابنته ثلاثاً أو خمساً إن رأيتن. فعلق الزيادة برأيهن ولا قائل بالزيادة على السبع في الغسل، فهكذا يكون الكفن ولأنه جهاز للميت يتعلق بالعدد.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الغسل من باب الطهارات فلا مدخل للأقيسة فيها لأن موردها الشرع وهي أمور غيبية استأثر الله بعلمها ورسوله.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل كونها طهارة والطهارة مشروع فيها التكرير لإزالة النجاسة بخلاف الأكفان فافترقا.
فإن قال قائل: فإذا كان الهادي لم يسبقه أحد بهذه المقالة فهل يكون مخالفاً للإجماع أم لا؟
قلنا: حاشا لفكرته الصافية ونظره الموفق أن يخالف إجماعاً وقدره أعلى وأشرف لأمرين:
أما أولاً: فلأن الأمة لم تصرح بالمنع عن التكفين بالسبعة من الأثواب فلا يكون خارقاً للإجماع إلا إذا صرحوا بما ذكرناه.
وأما ثانياً: فلأنه يجوز أن يستنبط المجتهد حكماً لم يستنبطوه، وأن يعلل بعلة لم يذكروها وأن يستدل بدليل لم يظفروا به، وما هذا حاله لم يكن مخالفة للإجماع، فهكذا إذا قال بجواز التكفين بالسبعة لعلة استنبطها لم يكن عليه حرج في ذلك فلأجل ذلك قلنا: إنه غير مخالف للإجماع.
المسألة الثانية: في المرأة.
وهي كالرجل، وأقل ما يجزئ في كفنها ما يستر عورتها على قدر الإمكان والوجود، فإن وجد ثوب غامر كفنت فيه، وإن وجد ما يستر عورتها جعل على الباقي من جسدها من حشائش الأرض وأشجارها ما يواري جسدها، وإن وجد ما يستر إحدى العورتين ستر به القبل لأنه أحق من الدبر كما ذكرناه في حق الرجل، ويجوز تكفينها في الثلاثة إذا وُجدت، مئزر وتدرج في إثنين على رأي الهادي من غير قميص، وعلى رأي المؤيد بالله: قميص وإزار وتدرج في ثوب واحدٍ، وإن وجدت السبعة جاز تكفينها فيها على رأي الهادي قميص وإزار وخمار وتدرج في أربعة على ما قدمناه.
وأما الخمسة: فهي المستحبة في كفن المرأة. لما روي: أن الرسول÷ كفن ابنته في خمسة أثواب.
وهل يستحب أن يكون أحدها قميصاً أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه غير مستحب. وهذا يأتي على رأي الهادي، وهو أحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنها ميتة فلم يستحب في كفنها المخيط كالرجل، ولأن الدرع إنما يحتاج إليه ليكون ساتراً للمرأة في تصرفاتها، والميت لا يتصرف بحال، وعلى هذا تؤزر بإزار وتخمر بخمار وتدرج في ثلاثة أثواب.
وثانيهما: أنه يستحب أن يكون أحدها قميصاً. وهذا هو الذي يأتي على رأي المؤيد بالله، وهو أحد قولي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن أم عطية قالت: لما غسلنا بنت رسول الله كان جالساً على الباب يناولنا الأكفان واحداً واحداً، فناولنا إزاراً وقميصاً وخماراً وثوبين. وهذا هو الأفضل في حق المرأة لأن أفضل حال الإنسان إذا كان محرماً فلما كان للمرأة المحرمة لبس المخيط فهكذا بعد الموت يستحب لها، فعلى هذا تؤزر بإزار وتخمر بخمار وتلبس القميص وتدرج في ثوبين، وحكي عن الشافعي أنه قال: يشد على صدرها بثوب لتجتمع. واختلف فيه أصحابه على قولين، فحكي عن أبي إسحاق أنه قال: ليس يكون من جملة الأكفان لأنه يكون سادساً ولم ترد به السنة. ولا حاجة إلى شد الأكفان بثوب على انفراده بل يشد بالخيوط وفيه غنية عن ثوب سادس.
ويستحب تكفين الخنثى فيما تكفن به المرأة من هذه الأثواب الخمسة لأنه إن كان رجلاً فالخمسة جائزة غير مستحبة في حقه، وإن كان امرأة فالخمسة مستحبة في حقها فلهذا كفن فيها.
المسألة الثالثة: وهل يكره تكفين الميت في الثيات المصبوغة بالمعصفر والمزعفر والمورس أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: جواز ذلك من غير كراهة. وهذا هو رأي أئمة العترة ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن ما هذا حاله يجوز لبسها له في حال الحياة فجاز لبسها له عند الموت.
المذهب الثاني: كراهة ذلك. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله÷: ((خير لباسكم البياض فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم)) . وهذا يعم الرجال والنساء. وهكذا الحال في الثياب الحريريه من الديباح والأبريسم فإنه يجوز للمرأة التكفين فيه لأنه جائز لها لبسه في حال الحياة، ويأتي على رأي الشافعي كراهته لما رويناه من الحديث.
والمختار: جواز ذلك من غير كراهة كما حكي عن الأئمة لأن حال الموت معتبر بحال الحياة فإذا جاز في حال الحياة جاز في حال الموت من غير تفرقة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قوله: قد ورد عن الرسول÷: ((البسوا هذه الثياب البيض وكفنوا فيها موتاكم)). وهذا عام.
قلنا: إنا لا ننكر أن الثياب البيض أفضل لما روى ابن عباس أن الرسول÷ قال: ((البسوا هذه الثياب البيض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم)). وقوله÷: ((البسوا الثياب البيض فإنها أطيب وأطهر وكفنوا فيها موتاكم)). وقوله÷: ((خلق الله الجنة بيضاء وإن أحب إلى الله الثياب البيض فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم)) (1).
فهذه الأحاديث كلها دالة على فضل البياض من الثياب ولكنا نقول: ما كانت تلبسه المرأة في حال حياتها جاز تكفينها به من غير كراهة.
وكيف يكون حال الأطفال في الكفن؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن حالهم كحال البالغين في الكفن فيستحب أن يكون كفنهم ثلاثة أثواب. وهذا هو الذي يأتي على المذهب. وهو محكي عن الشافعي.
__________
(1) أخرجه في (المستدرك على الصحيحين) 1/506، وفي (المعجم الأوسط)4/7، و(الصغير)1/238، و(الكبير)14/65، ورواه في (نيل الأوطار)4/38، عن ابن عباس بلفظ: أن النبي÷ قال: ((البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم)) رواه الخمسة إلاَّ النسائي. وصححه الترمذي، قال: وعن أبي الدرداء عند ابن ماجة يرفعه: ((وأحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض)). اهـ.
والحجة على هذا: هو أن الطفل لما ساوى الكبير في صفة الكفن وما يجوز فيه وما لا يجوز ساواه في مقداره.
المذهب الثاني: أن الصبي إنما يكفن في خرقتين. وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷ [في] (1)
الأعرابي الذي خر من ناقته فمات فقال: ((كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما)).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن حال الأطفال متميز عن حال البالغين فيجب أن يكونوا أنقص حالاً من البالغين لما كانوا غير مكلفين فلهذا كان الثوبان كافيين في أمرهم وهو أدنى ما شرع في حق الأموات كما ذكرناه من حال الأعرابي.
والمختار: أن حكمهم حكم البالغين في جميع الأحكام الشرعية إلا ما قامت عليه دلالة خاصة فيما يتعلق بالنقصان من العقل وكماله، وحال الموت فيما يتوجه فيه الإستواء بحال البالغين من غير تفرقة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الأطفال حالهم متميز عن حال البالغين في حال الحياة بأمور كثيرة فيجب تميُّزهم في الأكفان بما ذكرناه.
قلنا: التمييز حاصل بينهم وبين البالغين بأمور كثيرة ولو لم يكن إلا بالعقل والتكاليف، فإذا اجتمعوا في الكفن لم يبطل تميزهم بما ذكرناه.
وأما صفة الأكفان فيستحب أن تكون ثياباً بيضاً لما قدمناه من فضل البياض.
ويستحب أن تكون رباطاً والربطة الثوب الذي ليس ملفقاً من ثوبين، وهكذا حال الثوب الحبره فإنه الذي ليس ملفوقاً من شقين.
ويستحب أن يبخر الكفن على مشجب أو عود مما يرفعه عن النار، لما روي عن النبي÷: ((إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثاً))(2).
__________
(1) في الأصل: أنه كفن، وهي جملة غير متسقة مع السياق، فتم إحلال كلمة (في) محلها.
(2) جاء الحديث في (تخريج البحر): ((إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثاً)) قال: حكاه في (المهذب) اهـ 2/108، وقد أخرجه ابن حبان 7/301، و(المستدرك)1/506، وأحمد 3/331 وغيرهم، جاء في بعضها بلفظ: ((إذا أجمرتم الميت فاوتروا)).
والغرض: أكفان الميت لأن الميت لا يمكن تجميره ولأنه ربما ظهر من الميت شيء فيغلبه ريح البخور ولهذا فإنه يستحب أن يبخر الميت من حين يموت وتوضع بإزائه مجمرة لأنه في الغالب لا ينفك عن رائحة كريهة عند الموت.
ويستحب في ثياب الأكفان أن تكون واسعة عريضة لتكون شاملة لبدن الميت ويمكن ضم بعضها إلى بعض.
وإن اختلف الورثة في قدر الكفن فقال بعضهم: يكفن في ثلاثة أثواب، وقال بعضهم: يكفن بثوب واحدٍ، وقال بعضهم: يكفن بما يستر عورته، ففيه إحتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: أن يقدم قول من دعا إلى الأثواب الثلاثة لأنها هي التي وردت بها السنة كما أوضحناه من قبل.
الاحتمال الثاني: قول من دعا إلى ثوب واحدٍ لأنه هو الواجب من جهة أنه يعم جميع البدن ويشمله.
الاحتمال الثالث: أنه يقدم قول من دعا إلى ستر العورة لأن الثياب إذا ضاقت كانت العورة أحق بالستر كما مر بيانه.
والمختار من هذه الاحتمالات، وهو الذي يأتي على المذهب، أنه ينظر في حال الميت فإن كان مؤسراً كفن في أثواب مرتفعة وإن كان متوسطاً بين الغني والفقير كفن في أثواب متوسطة وإن كان فقيراً ففي ثياب أدنى من المتوسط اعتباراً بحاله في حال الحياة فإن حال الموت إن لم تكن ناقصة عن حال الحياة لم تكن زائدة، فلهذا كان الأمر كما قلنا.
قاعدة: اعلم أنه لا خلاف بين أئمة العترة وفقهاء الأمة في أنه يجب تكفين الميت من الوسط من رأس ماله، وأنه يجب جهازه قبل قضاء ديونه وتنفيذ الوصايا وقسمة المواريث من الغسل والحفر والكفن وحمل الجنازة إلى غير ذلك من الأمور التي لا بد له منها في جهازه وإدخاله قبره، ولكن اختلفوا في قدر الوسط على ثلاثة أقوال:
فالقول الأول: ذكره الهادي في كتاب الوصايا: أنه مقدر بربع عشر ماله. وهذا محمول على أن الميت الذي سئل الهادي عن حاله يبلغ عشر ماله كفناً وسطاً فلأجل هذا قدره بربع العشر الذي ذكره في الأحكام وحصل من مذهبه أن الكفن من رأس المال الوسط وما زاد على الوسط فهو من ثلث ماله.
القول الثاني: محكي عن الشافعي، وهو أن الغرماء إذا خاصموا ومنع الورثة وكان الميت وسطاً في الرفعة والدناءة فإن كفنه يكون ثلاثة أثواب من رأس ماله ومن الحنوط ومما يحتاج إليه مقدراً معروفاً لا إسرافاً ولا تقتيراً، والباقي للغرماء ثم للورثة، وإن كان مقلاً فالواجب ما يستر البدن وهي لفافة وما زاد فهو استحباب ولهم المنع من ذلك.
القول الثالث: محكي عن أبي حنيفة، أن الواجب الذي لا اعتراض فيه من جهة الوارث ولا من جهة الغرماء ثوبان من رأس ماله. كما قاله أصحابنا.
ولا خلاف أن كل من لا مال له من الأموات ولا أحد ممن تلزمه نفقته في حال حياته، أن كفنه في بيت مال المسلمين، فإن لم يكن هناك بيت مال أو كان خلا أنه خلا عن المال في ذلك الوقت فإن كفنه على المسلمين.
فإن لم يوجد للميت كفن يكفن به ويوارى، فإنه يلقى عليه شجر يغطي عورته، فإن لم يوجد شجر يوارى به من الأشجار فكيف يصنع به؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يلقى في لحده مثل حالته مع الكفن على جنبه الأيمن مستقبلاً للقبلة. وهذا هو الذي ذكره الهادي في الأحكام، وهو محكي عن أكثر العلماء لأن عدم الكفن لا يغير حاله في وضعه في لحده على ما ذكرناه، والأدلة ما فصلت في ذلك في وضعه على ما ذكرناه سواء كان مكفناً أو عارياً عنه.
المذهب الثاني: يوضع في لحده إذا كان عارياً عن الكفن مكبوباً على وجهه في لحده. وهذا هو المحكي عن ابن عباس والمذكور في المنتخب.
ووجهه: هو أنه أستر لعورته لأن الدبر مستور بالإليتين فلهذا وضع على جنبه.
والمختار: ما عليه أكثر العلماء من وضعه لجنبه. وهذا الخلاف قد انقرض فلا وجه للكلام عليه والحمد لله وحده.
الفرع الثالث: في كيفية التكفين. وفيه مسائل ثلاث:
المسألة الأولى: والمستحب أن يُعمد إلى أوسع الأكفان وأحسنها فَيُبْسَط ويُذر عليه الحنوط ثم يبسط الذي بعده ويذر عليه الحنوط، ثم الثالث الذي يلي بدن الميت اعتباراً بالحي، فإنه يجعل أحسن ثيابه ما كان ظاهراً للتجمل فهكذا حال الميت ثم تذر الذريرة ويجعل الحنوط فيما بين هذه الأكفان.
قال الهادي: ثم تذر الذريرة على الأكفان، وظاهر كلامه أنها تذر على جميع الأكفان كلها وعلى الذي يلي بدن الميت لأنه يكون أقوى لبدنه وأشد. ثم ينزع عنه الثوب الذي نُشف فيه بعد غسله ثم ينقل إلى أكفانه التي قد بسطت يلقى على فقاه ثم يؤخذ قطن منزوع الحب (البرعم) عنه ويذر عليه الحنوط والكافور ويدخل بين إليتيه يجعل على صورة الموزة، فإن كانت علة المريض من إسهال في بطنه فإنه يستدخل القطنة إستدخالاً عظيماً إلى الدبر ليكون مانعاً للخارج من الخروج، وإن كان مرضه من غير ذلك استدخل دون ذلك الإستدخال ليكون قاطعاً للروائح، ثم يؤخذ قطن منزوع الحب ويذر عليه الحنوط والكافور ويوضع على الفم والمنخرين والعينين والأذنين وعلى جرح نافذ إن كان حاصلاً فيه ليخفي ما يظهر منه من الرائحة في هذا الموضع، ثم يذر الحنوط والكافور على قطن منزوع الحب ويوضع على مواضع السجود من بدنه، لما روي عن ابن مسعود أنه كان يتبع بالطيب مساجده ولأنها قد شرفت بالسجود فلهذا استحب تطييبها.
ويستحب وضع الطيب في لحيته ورأسه لأن الحي يطيبهما إذا تطيب، وإن كان في الحنوط سعة طُيِّبَ جميع بدنه بالحنوط والكافور لأنها تقوي الجسم وتشده عن التغيير.
قال الهادي في المنتخب: ويوضع شيء من الكافور على مساجده تعظيماً لها من جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وقدميه. وهو محكي عن الناصر أيضاً، ومروي عن أكثر العلماء، لما ذكرناه من شرفها بالسجود فلهذا شرفت بالطيب، فإذا فرغ من ذلك وادرج في الثياب ضم بعضها إلى بعض فيبدأ بالأيسر على الأيمن ثم بالأيمن على الأيسر لأن هذه عادة الأحياء في الثوب والرداء فهكذا حال الموت أيضاً، ويجعل ما يلي الرأس من الأكفان الزائدة أكثر مما يلي الرجلين كما يفعله الأحياء فإن ما على رأسه أكثر مما على الرجلين ويرد ما بقي عند رأسه على وجهه ويلقى ما عند رجليه على ظهر قدميه. فإن خافوا على الأكفان الإنتشار فلا بأس في عقدها عليه، فإذا أدخلوه قبره حلوها لأنه لا حاجة إلى عقدها بعد وضعه في لحده لأن الإنتشار قد أُمِنَ، فإن كان الكفن قصيراً لا يعم جميع بدنه ستر به عورته وما بقي من ستر عورته غطي به رأسه ووجهه وصدره لما ذكرناه من حديث مصعب بن عمير.
المسألة الثانية: والحنوط عبارة عن رؤوس الأطياب كالعود الرطب وهو الألوة(1)،
والعنبر وماء الورد والكافور. والذريرة من الصندل والسنبل والثمرة.
فأما العود والعنبر: فَتُبَخَّر بهما الأكفان حتى تعبق لأنهما لا يستعملان إلا على هذه الصفة.
وأما ماء الورد: فيرش على الأكفان بعد الفراغ منها وضمها على الميت.
__________
(1) قال ابن منظور: الألآء بوزن العلاء: شجر ورقه وحمله دباغ، يمد ويقصر، وهو حسن المنظر مر الطعم، ولا يزال أخضر شتاءً وصيفاً، واحدته: الآءة بوزن ألاعة، وتأليفه من لام بين همزتين. أبو زيد: هي شجرة تشبه الآس لا تغير في القيظ، ولها ثمرة تشبه سنبل الذرة، ومنبتها الرمل والأودية، قال: والسلامان نحو الألآء غير أنها أصغر منها، يتخذ منها المساويك، وثمرتها مثل ثمرتها، ومنبتها الأودية والصحاري. اهـ. (لسان) 1/24.
وأما الذريرة: فتذر على الأكفان كما وصفناه واحداً بعد واحدٍ، وتجعل في لحية الميت ورأسه وجميع بدنه.
وأما الكافور: فيوضع في الماء وفي مساجده كما ذكرناه من قبل.
وهل يستحب المسك في الحنوط أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يستحب. وهذا هو رأي الهادي والمؤيد بالله، ومحكي عن أكثر العلماء من الصحابة والتابعين.
قال الهادي في الأحكام: ويستحب الحنوط بالمسك وقد كرهه قوم ولسنا نكرهه.
والحجة على هذا: ما روي أنه كان في حنوط رسول اللّه÷ الذي أنزل من الجنة، وفي حنوط أمير المؤمنين كرم الله وجهه الذي استبقاه من حنوط رسول اللّه÷ فحنط به.
المذهب الثاني: أنه يكره. وهذا هو المحكي عن الناصر، وروي عن عطاء وطاووس من الفقهاء، كراهته. وحكي عن القاسم أنه قال: رأيت آل محمد منهم من يكرهه ومنهم من لا يرى به بأساً.
وحجتهم على هذا: هو أن الميت للنفاد والبلى، والمسك إنما هو للأحياء.
والمختار: أن المسك يستحب في الحنوط. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((أطيب الطيب المسك))(1).
ولأنه قد وضع في حنوط رسول اللّه÷، وفي حنوط أمير المؤمنين كرم الله وجهه، ولأنه مما يشبه الكافور في شد الجسم فلهذا استحب.
ويكره استعمال العصفر والزعفران والورس في حنوط الرجال لما روي عن الرسول÷، أنه نهى عن لبس المعصفر والمزعفر والمورس للرجال(2).
__________
(1) أخرجه الترمذي 3/317، والنسائي4/39، وأحمد 3/36. وجاء في (تخريج البحر)2/108: عن أبي سعيد أن رسول الله÷ سئل عن المسك فقال: ((هو أطيب طيبكم)) هذه رواية الترمذي، وفي رواية أبي داود والنسائي: ((أطيب الطيب المسك)) اهـ.
(2) أخرجه مسلم 3/1648، والترمذي 4/226، وأبو داود4/47، والنسائي2/217، وابن ماجة 2/1191 وغيرهم.
ولما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((خير طيب الرجال ما خفي لونه وظهر ريحه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه)) (1).
لا خلاف في كراهته للرجال.
وهل يجب الحنوط للميت أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه واجب. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((اصنعوا بميتكم مثل ما تفعلون بعروسكم)) وأعظم ما يفعل بالعروس استعمال الطيب.
وثانيهما: أنه غير واجب. ولهذا فإنه لا يجب في حق المفلس وفي حق من استغرق ماله بالديون، ولو كان واجباً لم يكن لهم منعه.
والمختار: هو الأول لما روي عن الرسول÷ أنه قال للنساء اللواتي غسلن ابنته: ((اجعلن في الماء شيئاً من الكافور))(2).
وظاهر الأمر للوجوب إلا لدلالة، وأيضاً فإن هذا ما جرى عليه الخلف والسلف ولم ينكره أحد، وواضبوا على فعله، وفي هذا دلالة على كونه واجباً ولأنه أمر يتعلق بجهاز الميت فكان واجباً، كالكفن والغسل.
__________
(1) أخرجه الترمذي 5/107، وأبو داود2/254، والنسائي8/151 عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري 1/422، ومسلم 2/648، والترمذي 315، وأبو داود3/197، والنسائي4/28، وابن ماجة 1/468 وغيرهم، وهو من الأحاديث المشهورة وقد تقدم بمعناه أحاديث فيما روته أم عطية عن غسل ابنة رسول الله÷.
المسألة الثالثة: وأما المرأة فلا بأس بالحنوط لها مما به يحنط الرجال من الطيب كله وتختص بجواز الحنوط بالورس والزعفران والعصفر لأنه مما يباح لها في حال الحياة فهكذا حال الموت. وحكي عن الشافعي أنه قال: وتشد على الميت خرقة مشقوقة الطرف بإحدى إليتيه وعانته ثم تشد عليه كما يشد التُبَّان الواسع. وأراد بكلامه هذا أن الخرقة تشق نصفين أعلاها، يكون أحدهما في خاصرته اليمنى والآخر في خاصرته اليسرى ثم يلتقي طرفاها فيعقدان في وسط حقوه كما ذكرناه في الإستثفار للمستحاضة. والتُّبَّان: بتاء مقدمة بنقطتين من أعلاها وبموحدة بنقطة من أسفلها وهو السراويل من غير تكة. وهذا الذي ذكره الشافعي لا وجه له في حق الميت لأمرين:
أما أولاً: فلأن المستحاضة إنما كانت محتاجة إليه لأجل مشيها وتصرفها وهذا مفقود في حق الميت.
وأما ثانياً: فلأنه إنما يحتاج إليه إذا كان الميت مات من إسهال في بطنه فيخشى أن يخرج من بطنه شيء فتكون الخرقة مانعة من خروج ما يخرج، فأما إذا كان لا يخشى ذلك فلا وجه لهذه الخرقة المشقوقة لما ذكرناه.
ومن مات في البحر ولم يكن البر قريباً منهم، فإن كان قريباً وجب إخراجه من السفينة وغسله وتكفينه ودفنه في البر، فأما إذا لم يكن ممكناً فإنه يغسل ويكفن ويحنط ويصلى عليه ثم يعصب برجله ما يكون مثقلاً له ليرسب في البحر لأنه إذا لم يثقل بحجر طفا على وجه البحر.
وإنما قلنا: إنه يعصب به شيء ليرسب في البحر، لأنه إذا لم يفعل به ذلك أنتن وتغير وتأذى به المسلمون في السفينة ولا يمكنهم في هذه الحالة إلا ما ذكرناه.
ولا فرق في الكفن بين القطن والكتان على أنواعهما وبين الخلق والجديد إذا كان طاهراً، وهكذا حال الصوف على أنواعه إذا كان طاهراً ولكن يستحب الخلق لأن الجديد أنفع للحي والكفن يصير للبلاء والمهل والصديد في القبر.
ويستحب حسن التكفين وإكماله وإتمامه وحسنه، لما روى أبو عيسى الترمذي عن أبي قتادة قال: قال رسول اللّه÷: ((إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه))(1).
__________
(1) أورده بلفظه في (نيل الأوطار) وقال: رواه ابن ماجة والترمذي. اهـ. 4/34.
---
القول في حمل الجنازة
الحمل بفتح الحاء هو المصدر يقال: حمله حملاً، وهو عبارة عما كان غير منفصل نحو حمل البطن وحمل الشجرة. وبكسر الحاء هو الإسم، وهو عبارة عما كان منفصلاً، وهذا نحو حمل الظهر. قال الله تعالى: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا}[الحج:2]. وقال تعالى: {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً}[الأعراف:189]. لما كان غير مزايل. وقال تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ}[يوسف:72]. لما كان مزايلاً. وفيه مسائل [خمس]:
المسألة الأولى: حمل الجنازة واجب على الكفاية فإن تركوها أثموا وحرجوا من كان منهم يمكنه ذلك. ومن لا يمكنه القيام به يسقط عنه وجوبه. وإن قام به واحد منهم سقط فرضه عن الباقين.
وكيفية الحمل: تارة تكون بالتربيع، وتارة تكون بالحمل بين العمودين، وأيهما يكون أفضل مع أن الجواز شامل لهما جميعاً؟ وفي الأفضل مذاهب:
المذهب الأول: أن الأفضل هو التربيع، وهو أن يحمل كل واحد بجانب من جوانب الجنازة الأربعة. وهذا هو رأي القاسم والهادي، ومحكي عن الثوري وأبي حنيفة وأصحابه، ثم اختلف القائلون بالتربيع على أقوال أربعة:
القول الأول: أنه يبدأ بمقدم ميامنها ثم بمؤخره، ثم بمقدم مياسرها ثم بمؤخره. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم، ومحكي عن زيد بن علي.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، أنه قال: تحمل اليد اليمنى من الميت ثم الرجل اليمنى، ثم اليد اليسرى ثم الرجل اليسرى، ثم لا عليك ألا تفعل إلا مرة واحدة فإذا حملت ثلاثاً فقد قضيت ما عليك وكلما زدت فهو أفضل ما لم تؤذ أحداً(1).
ومثل هذا لا يقوله إلا عن توقيف من جهة الرسول لأن ما هذا حاله لا مدخل للإجتهاد فيه.
القول الثاني: محكي عن أبي حنيفة وأصحابه: وهو أن يبدأ الذي يريد أن يحمل الجنازة بالمقدم من الميت الأيمن فيجعله على عاتقه الأيمن ثم بالمؤخر الأيمن فيجعله على عاتقه الأيمن ثم المقدم الأيسر على عاتقه الأيسر ثم المؤخر الأيسر على عاتقة الأيسر.
وحكي عن أبي حنيفة: أنه كره أن يضع مقدم السرير أو مؤخره على أصل العنق.
القول الثالث: أن يبدأ الحامل بياسرة المقدمة فيضع العمود على عاتقه الأيمن ثم بياسرة المؤخرة فيضعها على عاتقه الأيمن ثم يرجع إلى يامنه المقدمة فيضعها على عاتقه الأيسر ثم بيامنة المؤخرة فيضعها على عاتقه الأيسر. وهذا شيء ذكره صاحب البيان ولم أعرف قائله ولا عزاه إلى أحدٍ من الفقهاء.
القول الرابع: محكي عن سعيد بن جبير، وهو أن يبدأ فيأخذ بياسرة المقدمة ثم بياسرة المؤخرة كما حكيناه عن صاحب البيان، ثم يأخذ بيامنة المؤخرة ثم بيامنة المقدمة. فهذه أقاويل أهل التربيع كما ترى.
__________
(1) أورده الإمام زيد في مسنده وبلفظه صفحة 167 في باب كيف يحمل السرير والنعش، وفي هذا الباب أخبار مرفوعة إلى النبي منها ما أورده الشوكاني في (النيل) 4/69 قال: وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((من تبع الجنازة وحملها ثلاث مرار فقد قضى ما عليه من حقها)) قال الترمذي: هذا حديث غريب. اهـ. وفيه عن ابن مسعود: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع، رواه ابن ماجة.
المذهب الثاني: أن الأفضل هو الحمل بين العمودين. وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه حمل جنازة سعد بن معاذ(1)
__________
(1) الصحابي الأنصاري الجليل سيد الأوس، له تراجم عدة، منها ما جاء في التأريخ الكبير 4/65، وفي الجرح والتعديل 4/93، وفي الثقات 3/164-165، وفي الكاشف 1/430، وتتلخص في ما جاء في تهذيب الكمال 10/300-305 بأنه: سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري الأشهلي، أبو عمرو المدني سيد الأوس وأمه كبشة بنت رافع، وشهد بدراً وأحداً والخندق، ورمي يوم الخندق بسهم فعاش بعد ذلك شهراً، ثم انتقض جرحه فمات منه والذي رماه بالسهم حبان بن العرقة وقال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال رسول الله: ((عرق الله وجهه في النار)) وكان رسول الله قد أمر بضرب فسطاط في المسجد لسعد بن معاذ، وكان يعوده في كل يوم حتى توفي سنة خمس من الهجرة، وكان موته بعد الخندق بشهر وبعد قريظة بليال، كذلك روى سعد بن إبراهيم عن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، وروى الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال: رمي سعد بن معاذ يوم الأحزاب فقطعوا أكحله فحسمه رسول الله فانتفخت يده ونزفه الدم، فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقة فما قطر قطرة حتى نزل بنو قريظة علىحكمه وكان حكمه فيهم أن يقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذريتهم يستعين بهم المسلمون فقال رسول الله: ((أصبت حكم الله فيهم)) وكانوا أربعمائة، فلما فرغ من فتلهم انفتق عرقه فمات، وروي من حديث أنس بن مالك قال: لما حملنا جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، وكان رجلاً ضخماً، فقال رسول الله : ((إن الملائكة حملته)). وقال يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن ابيه عن عائشة: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة لم يكن بعد النبي أفضل منهم، سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر، وقال رسول الله: ((اهتز العرش لموت سعد بن معاذ)) وروي: ((عرش الرحمن)) وهو حديث روي من وجوه كثيرة متواترة رواه جماعة من الصحابة.
…وقال الزهري: عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس: قال: قال سعد بن معاذ: ثلاث أنا فيهن رجل، يعني كما ينبغي، وما سوى ذلك فأنا رجل من الناس، ما سمعت من رسول الله حديثاً قط إلا علمت أنه حق من الله، ولا كنت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى اقضيها، ولا كنت في جنازة قط فحدثت نفسي بغير ما تقول ويقال لها حتى أنصرف عنها.
…قال سعيد بن المسيب: فهذه الخصال ما كنت أحسبها إلا في نبي، روى له البخاري حديثاً واحداً.
بين العمودين.
وكيفية الحمل بين العمودين على رأيه هو أن يحمل النعش ثلاثة فواحد من مقدم النعش فيضع كل عمود على كتف ويجعل رأسه بينهما، ومن المؤخر اثنان لا يتأتى غير ذلك.
المذهب الثالث: محكي عن الشيخ أبي حامد من أصحاب الشافعي، والمحاملي منهم، أن الأفضل هو الجمع بين التربيع والحمل بين العمودين في حمل الجنازة، وإن أراد الإقتصار فالحمل بين العمودين هو الأفضل.
المذهب الرابع: محكي عن الشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ صاحب الشامل وكلاهما من أصحاب الشافعي: أن الأفضل هو الحمل بين العمودين.
المذهب الخامس: محكي عن مالك: أنهما سواء في الفضل لا مزية لأحدهما على الآخر.
فهذه المذاهب في كيفية حمل الجنازة.
والمختار: هو العمل على التربيع والبداية بالمقدم في اليد والرجل من الميمنة من الميت. كما هو رأي أئمة العترة ومن وافقهم.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه قال: ((ابدأوا بميامنكم))(1).
وكان الرسول يحب التيامن في كل أحواله. وقوله في غسل ابنته: ((ابدأن بميامنها)). وليس التيامن يكون إلا على ما ذكره أمير المؤمنين كرم الله وجهه حيث قال: يبدأ بحمل اليد اليمنى من الميت، ثم يحمل الرجل اليمنى، ثم باليد اليسرى ثم بالرجل اليسرى. فإذا فعل ذلك فقد استكمل التيامن في التربيع. والظاهر من مذهب الأئمة: كراهة الحمل بين العمودين. وهو مروي عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وإبراهيم النخعي كلهم على الكراهة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول : أنه حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين. وفي هذا دلالة على استحبابه.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) أخرجه ابن ماجة 1/141، وابن حبان 3/370 وغيرهما، وأخرجه ابن حجر في (بلوغ المرام) ص 18 عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: قال قال رسول الله : ((إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم)) أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة.
أما أولاً: فلأن هذه حكاية فعل لا يدرى كيف وقعت، وما هذا حاله فهو مجمل يحتاج إلى بيان فلا دلالة فيه وليس له ظاهر فنحمله عليه.
وأما ثانياً: فلعله إنما فعل ذلك لعذر فهو خارج عن الاستحباب.
ومن وجه آخر: وهو أنه محمول على أنه قام بين العمودين تشريفاً لسعد وليس حاملاً، وكلامنا إنما هو في الحمل لا غير دون الوقوف.
المسألة الثانية: ويستحب حمل الميت على سرير أو نعش أو لوح أو خشب يضم بعضها إلى بعض ليمكن الحمل عليها فإن خيف عليه الإنفجار قبل أن يهيأ له ما يحمل عليه فلا بأس بحمله على أيدي الرجال أو في ثوب يلف فيه، فإن ثقل الميت فلا بأس بأن يحمله في جنبتي السرير من يخففه على الحاملين، وإن أدخلوا عموداً في عرض السرير ليكونوا ستة أو ثمانية ليسهل عليهم الحمل فلا بأس في ذلك.
ويستحب إذا كان الميت امرأة أن يتخذ لها فوق السرير خيمة تسترها لما روي عن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله قالت: إني لضئيلة، أرادت: سقيمة، فإذا مت فلا يراني الناس. فلما توفيت رضي الله عنها قالت أم سلمة أو أسماء بنت عميس: إني رأيت في أرض الحبشة يعمل للنساء نعش يحملن فيه عليه خيمة. فاتخذت لها خيمة فوق النعش فكان أول من حمل على نعش فوقه خيمة فاطمة بنت رسول اللّه (1).
ويستحب المشي القصد بين السيرين في الجنازة. لما روي عن الرسول أنه قال: ((عليكم بالقصد في المشي بالجنائز))(2).
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر في (الاستيعاب)4/1898، وجاء في (تهذيب الكمال) 35/252، وفي (سير أعلام النبلاء)2/149.
(2) أورده البيهقي في (الكبرى) 4/22، وابن أبي شيبة في مصنفه 2/479، والطبراني في (الأوسط) 6/137.
وروى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه كان إذا مشى خلف الجنازة سار بين السيرين ليس بالعجل ولا بالبطيء(1).
ويكره التبطؤ والتثاقل خلفها. لما روي عن الرسول أنه قال: ((أسرعوا في جنائزكم فإن يك خيراً عجلتموه إليه، وإن يك شراً وضعتموه عن أعناقكم وظهوركم)) (2).
ويكره الاستعجال والإسراع الفاحش. لما روي عن الرسول أنه مر بجنازة تمخض مخض الزق(3)،
فقال الرسول : ((عليكم بالقصد في المشي خلف الجنائز2))(4).
فإذا كره الإستعجال وكره التبطؤ والتثاقل لم يبق إلا السير بين السيرين لما روي عن الرسول أنه قال: ((خير الأمور أوساطها)).
والضابط لما ذكرناه أن يكون السير دون الخبب وفوق مشية العادة في قضاء الحوائج بحيث لا يشق على ضعفاء المسلمين السائرين خلفها. وهذا هو رأي الشافعي. وحكي عن أبي حنيفة: أنه يبلغ الخبب.
وحجتنا عليه: ما ذكرناه.
فإن خيف الإنفجار إذا كان المشي قصداً أسرع فيه، وإن خيف الإنفجار لو كان السير بسرعة مشوا على سجية المشي في قضاء الحاجة لأن القصد المصلحة في خشية الانفجار وعدمه.
__________
(1) رواه الإمام زيد في المسند عن أبيه عن جده عن علي" بلفظ: أنه كان إذا سار بالجنازة سار سيراً بين السيرين ليس بالعجل ولا بالبطيء. اهـ. ص 174.
(2) رواه الترمذي 3/335، وابن حبان 7/315، ورواه الشوكاني في (النيل) 4/70 عن أبي هريرة بلفظ: ((اسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير وإن كانت غير ذلك فشر تضعوه عن رقابكم)) رواه الجماعة.
(3) الزق: السقاء، وجمع القلة: أزقاق، والكثير: زقاق وزقان، مثل ذئب وذؤبان. والزق من الأهب: كل وعاء اتخذ لشراب ونحوه. اهـ. (لسان) 10/143.
(4) رواه أحمد عن أبي موسى كما ورد في (النيل) 4/70 بلفظ: مرت برسول الله جنازة تمخض مخض الزق فقال رسول الله: ((عليكم القصد)).
ويستحب اتباع الجنائز لما روى البراء بن عازب عن الرسول أنه قال: أمرنا رسول اللّه باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم(1).
ويكره الركوب في الذهاب مع الجنازة من غير عذر. لما روي عن الرسول : أنه ما ركب في عيد ولا جنازة. وروي عن ثوبان أنه قال: خرجنا مع رسول اللّه في جنازة فرأى ناساً ركباناً فقال: ((ألا تستحيون أن ملائكة الله يمشون على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب))(2).
__________
(1) قال في (الاعتصام)2/184: وأخرج البخاري عن البراء، قال: أمرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع، امرنا باتباع الجنائز وعيادة المريض، وإجابة الداعي ونصرة المظلوم وإبرار القسم ورد السلام وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب، والحرير والديباج والقسي والإستبرق. وأخرج البخاري أيضاً عن أبي هريرة بلفظ: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس)) وفيه: وأخرج أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجة عن علي عن النبي أنه قال: ((للمسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويجبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه)) قال: ذكره في (الجامع الصغير)).
(2) أخرجه الترمذي 3/333، وابن ماجة 1/475، وهو في (المستدرك) 1/508.
فإذا كان عاجزاً عن المشي لم يكره له الركوب لأن ذلك عذر وقد قال تعالى: {لَيْسَ على الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ على الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ على الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[النور:61]. وإن ركب في الانصراف لم يكره. لما روى جابر بن سمرة: أن الرسول اتبع جنازة أبي الدَّحداح(1)
ماشياً ورجع راكباً على فرس(2)،
ولأنه غير قاصد في الرجوع إلى قربة فلم يكره له الركوب.
المسألة الثالثة: واتباع الجنازة مشروع مستحب لما رويناه. وهل يكون خلفها أو أمامها؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن المستحب أن يكون المشي خلفها. وهذا هو رأي أئمة العترة القاسم والهادي والمؤيد بالله والناصر، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
__________
(1) من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، قال عنه في الإصابة 7/119-140: أبو الدحداح الأنصاري حليف لهم، قال أبو عمر: لم أعثر على اسمه ولا نسبه أكثر من أنه من الأنصار حليف لهم. وقال البغوي: أبو الدحداح الأنصاري ولم يزد، وروى أحمد والبغوي والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لفلان نخلة وأنا أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي: ((أعطه إياها بنخلة في الجنة)) فأبى قال: فأتاه أبو الدحداح فقال له: بعني نخلتك بحائطي، قال: ففعل فأتى النبي فقال: يا رسول الله ابتعت النخلة بحائطي، فاجعلها له فقد أعطيتكها، فقال: ((كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة)) قالها مراراً، قال: فأتى امرأته، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع أو كلمة تشبهها. عاش إلى زمن معاوية.
(2) أورده في (نيل الأوطار) 4/72، وقال: رواه الترمذي، وفي رواية: أُتي بفرس مُعرَور فركبه حتى انصرفنا من جنازة ابن الدحداح ونحن نمشي حوله، رواه أحمد ومسلم والنسائي، قال: مُعرَور: بضم الميم وفتح الراء، قال أهل اللغة: اعروريت الفرس: إذا ركبته عريانا فهو معرور.
قال القاسم: وأَحَبُّ المشي إلى آل الرسول أن يكون خلفها، إلا من يتقدمها بحملها.
والحجة على هذا: ما روى أبو أمامة قال قال أبو سعيد الخدري لعلي كرم الله وجهه: أخبرني يا أبا الحسن عن المشي في الجنازة أي ذلك أفضل أمامها أو خلفها؟ فقال له: يا أبا سعيد مالك تسأل عن هذا أما والله إن فضل المشي خلفها على المشي أمامها كفضل الصلاة المكتوبة على التطوع. سمعته من رسول اللّه (1).
الحجة الثانية: عن محمد بن طاووس(2)
عن أبيه أنه قال: ما مشى رسول اللّه حتى مات إلا خلف الجنازة. وفي هذا دلالة على مداومته لذلك إلى أن توفاه الله تعالى. ومثل هذا لا يصدر إلا عن توقيف وعلم بلغه من جهة الرسول لأنه لا مجال للإجتهاد فيه(3).
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/447، وفي (تخريج البحر) قال: حُكي في (الشفاء) وغيره عن أبي أمامة.
(2) قال في ترجمته في تهذيب الكمال 25/487: محمد بن عبد الله بن طاؤوس بن كيسان اليماني، روى عن أبيه وروى عنه عبد الرحمن بن طاووس وعثمان بن سعيد وعمر بن يونس اليمامي، ونعيم بن حماد الخزاعي، ذكره ابن حبان في كتاب الثقات، روى له أبو داود حديثاً واحداً عن أبيه عن جده طاووس بن كيسان عن ابن عباس قال: كان رسول الله يقول بعد التشهد: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات)) وفي حديث وهب بن بقية: ((وأعوذ بك)) في الجميع.
قال الحافظ أبو عبد الله بن مندة: هذا حديث غريب بهذا الإسناد تفرد به عمر بن يونس، رواه أبو داود عن وهب بن بقية.
وله تراجم في تهذيب التهذيب 9/230، وفي التأريخ الكبير 1/135، وفي الجرح والتعديل 7/298.
(3) في العبارة غموض وتداخل بين الضمائر، ولابد من احتمال أن يكون الضمير في كلمة (مداومته) عائداً إلى طاووس حتى يستقيم المعنى، والله أعلم.
المذهب الثاني: أن الأفضل إنما هو المشي أمامها. وهذا هو المحكي عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن عمر وأبي هريرة، وهو قول مالك وأحمد بن حنبل والزهري، وهو قول الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى ابن عمر: أن الرسول وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يمشون أمام الجنازة ويقولون هو أفضل.
الحجة الثانية: هو أنهم شفعاء للميت إلى الله تعالى فلهذا استحب أن يكونوا أمامها لتقبل شفاعتهم فيها.
والمختار: أن الأفضل هو المشي خلفها. كما ذهب إليه علماء العترة ومن وافقهم.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن عبدالله بن مسعود، أنه قال: سألنا نبيئنا عن المسير بالجنازة فقال: ((ما دون الخبب، الجنازة متبوعة وليست بتابعة))(1).
الحجة الثانية: هو أن المشي خلفها أقرب إلى الإتعاظ والإنزجار والاعتبار بحالها لأنه إذا كان ناظراً لها ومعاينها كان أقرب إلى ما ذكرناه، ولأنه مأمور باتباعها، فلهذا وجب أن يكون خلفها كالمأموم يكون خلف الإمام.
الحجة الثالثة: عن أمير المؤمنين أنه سئل عن ذلك فقيل له: هو شيء تقوله برأيك أم سمعته من رسول اللّه ؟ فقال: بل سمعته من رسول اللّه . فهذه الأدلة كلها دالة على أن الأفضل المشي خلف الجنازة.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: روي عن الرسول وأبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة ويقولون هو أفضل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن كلامنا إنما هو في معرفة الأفضل دون الجواز فلا خلاف في جواز المشي خلفها وأمامها.
وأما ثانياً: فلأن ما روينا هو قول من جهة صاحب الشريعة، وما رأيتموه فإنما هو فعل، والقول والفعل إذا تعارضا فالعمل على القول أحق لما في الفعل من الاحتمالات والإجمال.
ومن وجه آخر: وهو أنهم إنما عدلوا إلى المشي أمامها توسعة على الخلق وتخفيفاً عليهم.
__________
(1) أخرجه الترمذي 3/332، وأبو داود 3/206، والبيهقي في (الكبرى) 4/22، والطبراني في (الأوسط)7/294، وأحمد في مسنده 1/394.
ويؤيد ما ذكرناه: ما روى المؤيد بالله: أن علياً مشى خلف جنازة فقيل: إن أبا بكر وعمر كانا يمشيان أمامها، فقال: إنهما كانا يسهلان على الناس ويحبان التخفيف عليهم، وقد علما أن المشي خلفها أفضل(1).
وروى الكرخي مثل ذلك عن أمير المؤمنين، وفي هذا دلالة على أن المشي أمامها إنما كان لعارض.
المذهب الثالث: محكي عن سفيان الثوري: وهو أنه إذا كان راكباً مشى خلفها، وإن كان راجلاً مشى أمامها. ففي كلامه هذا دلالة على أن الأفضل المشي قدامها، وهذا أختص به من كان راجلاً لفضله، وما أوردناه على الشافعي فهو وارد عليه..
ونزيد هاهنا: وهو أن الأدلة التي [تدل] على [أن] المشي ورائها هو الأفضل لم تفصل بين الراكب والراجل فلا وجه لفصله بين الركوب والمشي.
المسألة الرابعة: ويستحب لمن مشى خلف الجنازة أن يكون قريباً [منها] لأنه إذا كان بعيداً عنها لم يكن سائراً بعدها ولا تابعاً لها.
فإن سبق إلى المقبرة فهو مخير بين القعود والقيام.
وحكي عن أبي مسعود البدري وجماعة معه أنهم قالوا: يجب القيام للجنازة.
وعن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل: أنه يكره القعود حتى توارى الجنازة في اللحد.
والحجة على ما قلناه: وهو رأي الشافعي، ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: أمرنا رسول اللّه أن نقوم للجنازة ثم أمرنا بالجلوس(2).
__________
(1) أورده في (الاعتصام) 2/183 عن (التجريد) للمؤيد بالله قال: وهو في (أصول الأحكام) و(الشفاء).
(2) وفي هذا ما أورده في (نيل الأوطار) 4/74 عن علي أنه ذكر القيام في الجنائز حتى توضع، فقال: قام رسول الله ثم قعد، رواه النسائي والترمذي وصححه، ولمسلم معناه، وفيه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله : ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبعها فلا يجلس حتى توضع)) رواه الجماعة إلا ابن ماجة، وفيه عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي قال: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع)) رواه الجماعة.
وظاهر الخبر دال على التخيير بين القعود والقيام كما ذكرناه. وروى الحسن البصري: أن جنازة ليهودي مرت بالرسول لها رائحة فقام لرائحتها حتى جازت ثم قعد فرُؤيَ أنه قام من أجل ذلك(1).
وقيل: إنه قام لئلا تعلوه جنازة المشرك.
وروى عبادة بن الصامت قال: كان رسول اللّه إذا كان في جنازة لم يجلس حتى توضع في اللحد، فاعترض بعض اليهود فقالوا: إنا نفعل ذلك. فجلس الرسول وقال: ((خالفوهم)) (2).
__________
(1) وجاء أيضاً في المصدر السابق عن جابر قال: مرت بنا جنازة فقام لها البني وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي، فقال: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها)) وفيه: عن سهل بن حنيف وقيس بن سعد، أن رسول الله مرت به جنازة فقام فقيل له: إنها جنازة يهودي فقال: ((أليست نفساً)) متفق عليه.
قال الشوكاني: ولأحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً: ((إنما تقومون إعظاماً للذي يقبض النفوس)) ثم قال في (النيل) 4/76: فأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي، قال: إنماقام رسول الله تأذياً بريح اليهود وكراهية أن يعلو على رأسه بخورها، فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة، أما أولاً: فلأن أسانيد هذه لا تقاوم تلك في الصحة، وأما ثانياً: فلأن التعليل بذلك [أي:بالرائحة] راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي إلى آخره. انتهى ملخصاً.
(2) أخرجه أبو داود 3/204، ورواه في (تخريج البحر) عن علي وقال: أخرجه الموطأ وأبو داود، وفي رواية مسلم: رأيت النبي قام فقمنا وقعد فقعدنا، يعني في الجنازة، وللترمذي والنسائي نحوه، وفي رواية أخرى للنسائي إنما قام رسول الله لجنازة يهودية ولم يعد بعد ذلك. اهـ. 2/114.
ويجوز للمسلم اتباع جنازة قريبه الكافر. لما روي أن أمير المؤمنين كرم الله وجهه لما مات أبوه جاء إلى الرسول فقال: يا رسول الله إن عمك الضال توفي. فقال : ((اذهب فواره))(1).
ولا تتبع الجنازة بمجمرة ولا صوت. لما روى ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول أنه قال: ((لا تتبع الجنازة بنار ولا صوت))(2).
وأراد: النائحة. وروي عن ابن عباس أنه رأى مجمرة على قبر فقال: لا تتشبهوا باليهود. ولأن ما هذا حاله من الفأل السؤ الذي يكره فلهذا وجب اطراحه.
المسألة الخامسة: ويكره للنساء اتباع الجنائز لقوله : ((النساء عيٌّ وعورات فاستروا عيهن بالسكوت وعوراتهن بالبيوت)). ولأن ذلك أستر لهن عن مخالطة الرجال.
ويكره لهن زيارة القبور. لما روي عن الرسول أنه قال: ((لعن الله زوارات القبور2))(3).
__________
(1) تقدم قريباُ بلفظ: ((اذهب فاغسله وواره)).
(2) رواه البيهقي في(الكبرى)3/394 وابن أبي شيبة في مصنفه 2/472، وأحمد في مسنده 2/531، وأورده في (الاعتصام) 2/183 عن الموطأ من طريق أبي هريرة، وأورده في (تخريج البحر) 2/113 بلفظه وقال: زاد في رواية: (ولا تمشوا بين يديها)) أخرجه أبو داود.
(3) أخرجه الترمذي 3/371، وابن ماجة 1/502، وأحمد 2/337، وأورده ابن حجر في (بلوغ المرام) ص 100وقال: أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان.
ويكره لهن انتظار الجنازة. لما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه عن الرسول أنه مر بنسوة فقال: ((ما يحبسكن هاهنا؟)). فقلن: ننتظر جنازة. فقال: ((هل تحملن فيمن يحمل))؟ فقلن: لا فقال: ((هل تغسلن فيمن يغسل؟)). فقلن: لا. فقال: ((هل تدفن فيمن يدفن؟)). فقلن: لا. فقال: ((ارجعن مأزورات غير مأجورات)) (1).
قال الهادي في الأحكام: فإن حضرن مع الكراهة تنحين عن الرجال لأنه أستر لهن. وأراد أنهن إذا دخلن في المكروه بالخروج اتباعاً للجنازة فينبغي منهن التنحي عن الرجال حتى لا يجمعن بين كراهتين: اتباع الجنازة وهو مكروه لهن، ومخالطة الرجال وهو مكروه أيضاً، فلهذا قال: إذا خرجن تنحين عن الرجال.
ومن البدع والضلالة والشناعة والجهالة في وقتنا هذا، أنه إذا مات الميت وكان مشهور الشرف وعظم حاله أنه إذا كان في اليوم السابع من موته تخرج النسوان من أهل بيته ومن غيرهن إلى المقبرة، ويجمعون شيئاً من أنواع الطيب والرياحين ويسرجون الشموع نهاراً، ثم يصب ذلك الماء المخلوط بأنواع الطيب على قبره ويقفن ساعة ثم ينصرفن، فما هذا حاله من أعظم البدع التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة فينبغي المبالغة في تغيير ذلك وإنكاره لمن قدر عليه.
ويكره النعي في الأسواق والطرقات وفي الشوارع والسكك.
__________
(1) أورده في (الاعتصام) 2/185 عن (شرح التجريد) قال: وروي عن محمد بن الحنفية عن أمير المؤمنين علي أن النبي رأى نسوة فقال: ((ما يحبسكن؟)) فقلن: ننتظر جنازة... الحديث، قال: وهو في (أصول الأحكام) اهـ. وأورده ابن بهران في (تخريج البحر) 2/113 وقال: رواه ابن ماجة وحكاه في (الشفاء) وغيره.
وصورته: أن ينادى في هذه المواضع بأن فلاناً قد مات. لما روي عن الرسول أنه نهى عن ذلك وقال: ((إنه من عمل الجاهلية))(1).
وصورته: أنهم كانوا إذا مات رئيس من رؤسائهم؛ أمروا رجلاً يركب جملاً ويصيح في الطرقات والأسواق، بأن فلاناً قد مات. فكره رسول اللّه ذلك لما كان من فعلهم.
قال القاسم: ويكره النعي في الأسواق والطرقات.
ويستحب الإيذان.
وصورته: أنه إذا مات أحد من المسلمين فإنه يستحب أن يتأذن المسلمون على الإجتماع والحضور على دفنه والصلاة عليه، وهو يخالف النعي لأن ذلك من أمر الجاهلية كما قررناه. وهو رأي أئمة العترة والهادي والمؤيد بالله، ومحكي عن أبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما روى ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول ، أنه رأى قبراً حديثاً فقال: ((آلا آذنتموني))(2).
__________
(1) واضح أن المؤلف قصد الكراهة للحضر كون النعي محرماً بما جاء في أحاديث عدة منها ما رواه ابن مسعود أن رسول الله كان ينهى عن النعي وقال: ((إياكم والنعي فإنه من عمل الجاهلية)). وفي (الاعتصام) عن (شرح التجريد) من رواية أبي العباس الحسني بسنده قال: قال رسول الله : ((الإيذان من النعي والنعي من أمر الجاهلية)) وهذا في (أصول الأحكام) اهـ 2/192.
قلت: والإيذان هنا كما يفهم من أحاديث أخر، هو تعداد مناقب الميت والتصويت بها حزناً عليه كما كان عليه الأمر من الجاهلية، وليس المقصود به إيذان الناس بوفاته إعلاماً لغرض الاجتماع للصلاة عليه، ويؤيد هذا ما جاء في المصدر السالف تعقيباً على هذا الحديث بالقول: ولكن إن آذن به إخوانه وأقاربه فلا بأس به إن شاء الله تعالى. اهـ المحقق.
(2) أورده في (الاعتصام) 2/192، عن (شرح التجريد) وهو في سنن الدارقطني 2/77.
أراد حتى يحضر فيصلي عليه ويدفنه. وروي أن مسكينة مرضت فأخبر الرسول بأنها مريضة وكان يعود المساكين ويسأل عن حالهم فقال: ((إذا ماتت فآذنوني))(1).
ويستحب إذا وضع الميت على السرير والنعش وأريد حمله أن يسجى بثوب. لما روي أن الرسول لما مات سجي بثوب. فإن كان الميت رجلاً فإنه يجنب الحرير والديباج ولتكن التسجية بالقطن والكتان وغير ذلك من أنواع الثياب. وإن كان امرأة فهل يجوز تغطيتها بالحرير والديباج أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: الجواز لأنه إذا جاز لباسها الحرير جاز تغطيتها بالحرير.
وثانيهما: المنع من ذلك لأن المباح إنما هو اللباس وهذا ليس من اللباس.
والمختار: جواز ذلك كما يجوز تكفينها به إذا لم يكن هناك سرف بالتكفين به.
وتستحب المناوبة في حمل الجنازة خاصة مع بعد المقبرة فالاستحباب آكد، ويحمل الأربعة شوطاً بعد شوط، فإذا حمل مرة فقد حاز الثواب، وإن حمل ثلاث مرات فقد أدى ما عليه من السنة. لما روى أمير المؤمنين كرم الله وجهه في حمل الجنازة؛ ثم لا عليك ألا تفعل إلا مرة واحدة فإذا حملت ثلاثاً فقد أديت ما عليك وما زدت فهو أفضل. فلو حمل الجنازة أربعة لا غير لثقل عليهم ولأتعبوا أنفسهم وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]. وهذا من أنواع البر فلهذا استحبت المعاونة فيه.
وقد نجز غرضنا من مسائل حمل الجنازة.
__________
(1) رواه النسائي في سننه 4/40، ومالك في الموطأ 1/227، والبيهقي في (الكبرى)1/623.
---
القول في الصلاة على الجنازة
وهي فرض على الكفاية لقوله÷: ((صلوا على من قال لا إله إلا اللّه.)) (1).
وفرض الكفاية مثل فرض العين لا يختلفان في ابتداء الوجوب لأن مستند وجوبهما هو الشرع بالأمر. لأن فرض الأعيان يجب على كل واحدٍ بعينه وفرض الكفاية على كل واحد ممن علم بالميت خلا أنهما يختلفان في الفعل، ففرض الكفاية إذا قام به البعض سقط الفرض عمن علم وعمن لم يعلم، وفرض العين لا يسقط عن أحدٍ بفعل غيره.
ومن وجه آخر وهو أن فرض العين إذا تُرك استحق الذم والعقاب على تركه كل من وجب عليه بخلاف فرض الكفاية فإنه إنما يستحق الذم بتركه كل من علم دون من لم يعلم، فإذا تركه من علم به وكان ممكناً له فعله ولم يفعله لحق الإثم الجميع لإخلالهم بما وجب عليهم من غير تخصيص.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: الطهارة مشروعة في صلاة الجنازة كغيرها من الصلوات. لقوله÷: ((مفتاح الصلاة الطهور.)). وهل تكون الطهارة شرطاً في صلاة الجنازة حتى لا تصح إلا بها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن الطهارة شرط في صحتها. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن فقهاء الأمصار لا يختلفون فيه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}[المائدة:6] ... الآية.
ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله تعالى أوجب غسل هذه الأعضاء عند القيام للصلاة والصلاة إسم جنس يدخل تحته كل ما سمي صلاة فيجب اندراج صلاة الجنازة تحت ما قلناه، فلهذا أوجبنا فيها الطهارة.
الحجة الثانية: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((لا صلاة إلا بوضوء)). وفي حديث آخر: ((لا صلاة إلا بطهور)). فنفى نفياً عاماً أنه لا صلاة مجزية إلا باشتراط الوضوء، وفي هذا دلالة على ما قلناه من اشتراط الطهارة فيها.
__________
(1) رواه الدارقطني في سننه 2/56، وهو في (مجمع الزوائد) 2/67، و(المعجم الكبير) للطبراني 14/447.
المذهب الثاني: أن الطهارة غير مشترطة فيها. وهذا هو رأي بعض التابعين كالحسن البصري وعطاء ومحكي عن بعض الإمامية والروافض، وروي عن محمد بن جرير الطبري من أصحاب الشافعي.
والحجة على ما قالوه: هو أن صلاة الجنازة ليست صلاة على الحقيقة، ولهذا فإنه ليس فيها ركوع ولا سجود ولا قعود، وإنما موضوعها الدعاء للميت، والدعاء لا تشترط فيه الطهارة.
والمختار: هو اشتراط الطهارة فيها فلا تكون مجزية من غير ماء ولا تراب. كما هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((لا يقبل الله صلاة امرء لا يضع الطهور مواضعه))(1).
هذا عام لكل صلاة، فهذه الأخبار كلها دالة على اشتراط الطهارة في صلاة الجنازة.
ومن وجه آخر وهو أنها صلاة ذات تحليل وتحريم فتحليلها التسليم وتحريمها التكبير فيشترط لها الطهارة بالماء أو التراب كطهارة الأحداث.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: صلاة الجنازة ليست صلاة على الحقيقة فلا ركوع فيها ولا سجود فلا تشترط فيها الطهارة بالماء ولا بالتراب مع القدرة عليهما، وإنما موضوعها الدعاء للميت.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنها صلاة يشرع فيها الذكر والقيام والجماعة والتحليل والتحريم فلا تصح إلا بالطهارة من الحدث والنجس وستر العورة واستقبال القبلة كسائر الصلوات.
وأما ثانياً: فلأن ما قالوه معارض بما أوردناه من الأخبار العامة في اشتراط الطهارة وقياسهم لا يعارض ما ذكرناه من الأخبار فإن الأخبار لا تعارضها الأقيسة بل تكون باطالة في مقابلة الأخبار لأن من شرط الأقيسة ألا تكون معارضة للأخبار، ولأن الأقيسة مستندها نظر القائس، والأخبار مستندها صاحب الشريعة وهو مؤيد بالعصمة والقائس لا يؤمن من الخطاً والزلل في قياسه.
قالوا: دعاء شرع في حال القيام للميت فلا تشترط فيه الطهارة كسائر الأدعية.
__________
(1) كل أحاديث الطهارة والصلاة هنا تقدمت في الصلاة.
قلنا: نقلب عليهم هذا القياس فنقول: دعاء مشروع في حال القيام فاشترط فيه الطهارة كالتعوذ والإستفتاح.
واعلم.. أن هذه الأقيسة لا موقع لها في أبواب العبادات وحيث أوردناها فإنما نوردها معارضة لمن اعتمدها حتى تكون معارضة للفاسد بالفاسد.
الفرع الثاني: في وقت صلاة الجنازة.
وأفضل الأوقات أوقات الصلوات المكتوبات ولا خلاف فيه.
ووجهه أن هذه الأوقات مخصوصة لفضلها ولشرفها بتأدية الصلوات المفروضة فلهذا استحب أن تكون الصلاة على الموتى ودفنهم فيها.
وهل يجوز تأديتها في الأوقات المكروهة الثلاثة أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: المنع من ذلك. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والمؤيد بالله، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومحكي عن مالك.
والحجة على هذا: ما في خبر عقبة بن عامر عن الرسول÷ أنه قال: ((ثلاثة أوقات نهانا رسول اللّه÷ أن نصلي فيهن وأن ندفن فيهن موتانا)). وهذا نص في المنع عن ذلك.
المذهب الثاني: جواز ذلك. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: قوله÷: ((من نام عن صلاته أو نسيها فوقتها حين يذكرها)). فلا وقت لها غيره، وإذا جاز تأدية الصلاة المقضية في هذه الأوقات جاز تأدية صلاة الجنازة بجامع كونهما واجبتين.
المذهب الثالث: جواز تأديتها في هذه الأوقات مع الكراهة.
والحجة على هذا: وهو المحكي عن الأوزاعي هو أن قوله: نهانا رسول اللّه÷ دال على الكراهة. وقوله÷: ((من نام عن صلاة أو نسيها)). دال على الجواز من غير كراهة فجمعنا بين الخبرين. وقلنا: بالكراهة لأن المكروه ممنوع لكنه جائز فعله.
والمختار: هو المنع من الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة. كما قاله علماء العترة ومن وافقهم.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو أن النهي دال على فساد المنهي عنه خاصة في العبادات فإن من شرطها القربة، والنهي مضاد للقربة فلهذا كانت صلاة الجنازة غير مجزية في هذه الأوقات.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول÷: ((من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها)). ولم يفصل بين صلاة وصلاة، ولا بين وقت [ووقت] وفي هذا دلالة على الجواز، كما ذكره الشافعي.
قلنا: خبرنا خاص في الوقت، عام في الصلاة، وخبركم عام في الوقت خاص في الصلاة فلأجل هذا كان خبرنا أحق بالعمل لما كان خاصّاً.
قالوا: صلاة الجنازة مكروهة في هذه الأوقات لا غير. كما حكي عن الأوزاعي جمعاً بين الخبرين.
قلنا: ظاهر الخبر دال على النهي وهو مقتضٍ للفساد فلا حاجة إلى حمله على الكراهة من غير دلالة.
فأما صلاة الجنازة بعد فعل صلاة العصر [والفجر] فمما لا خلاف في جوازها بين أئمة العترة وعلماء الأمصار، لأن كل ما له أسباب عارضة جاز تأديته في هذين الوقتين وإنما تكره النوافل المبتدأة، والكراهة إنما تتعلق بالفعل لهذين الفرضين العصر والفجر، فأما قبل فعلهما فمما لا يكره شيء من النوافل المبتدأة ولا مما له سبب عارض وقد قدمنا ما فيه من قبل فأغنى عن التكرير.
وإن خيف فوات صلاة الجنازة إن إشتغل بالطهارة جاز له التيمم مع وجود الماء. عند أئمة العترة، وهو محكي عن أبي حنيفة. لأن كل صلاة ليس لها بدل ولا يجوز إعادتها جاز فيها التيمم إن خيف فواتها إذا اشتغل بالطهارة.
فقولنا: ليس لها بدل. نحترز به عن صلاة الجمعة.
وقولنا: لا يجوز تكريرها. نحترز به عن الصلاة المفروضة فإنها إذا فاتت مع الجماعة جاز تأديتها على الانفراد، بخلاف صلاة الجنازة فافترقا.
الفرع الثالث: في بيان من يكون أولى بالصلاة على الميت. وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أن أولى الناس بالصلاة هو الإمام الأعظم أو من يلي من قبله كالقاضي بولايته. عند أئمة العترة لا يختلفون في ذلك. وحكى علي بن العباس إجماعهم على ذلك إذا حضر أو حضروا إليه. وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه. وحكى الكرخي عن أبي حنيفة، أنه قال: يصلي الإمام إن حضر أو القاضي أو الوالي، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء ينبغي أن يقدموا إمام الحي قبل العصبات.
والحجة على هذا: ما روى أبو مسعود الأنصاري عن الرسول÷ أنه قال: ((لا يؤم الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه)).
الحجة الثانية: ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه قال: إذا حضر الإمام الجنازة فهو أولى من أوليائها بالصلاة عليها.
المذهب الثاني: أن الأولى بالصلاة هم الأولياء من غير فصل. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن المقصود بالصلاة هو الدعاء للميت ولا شك أن من يليه من العصبات أشفق وأحنى عليه وأقرب إلى إستجابة الدعاء فلهذا كانوا أولى من غيرهم.
والمختار: هو تقديم الإمام الأعظم ومن يليه من قضاته وولاته.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((إن هذه القبور مظلمة حتى أصلي)) (1).
__________
(1) هذا الحديث طرف من حديث رواه أبو هريرة أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شاباً، ففقدها رسول الله÷ فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: ((أفلا آذنتموني)) قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: ((دلوني على قبره)) فدلوه، فصلى عليها، ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم)) متفق عليه، وليس للبخاري ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة)) إلى آخر الخبر، انتهى بلفظه من (نيل الأوطار) 4/51.
وفي حديث آخر: ((لا يصلين أحدٌ على موتاكم ما دمت فيكم)) (1).
وما كان إلى الرسول÷ من الولايات في أمر الدين فهو إلى الإمام بعده إلا لدلالة منفصلة تدل على المخالفة، وإذا كان الأمر كما قلناه وجب اختصاص الرسول÷ بالصلاة على الأموات في أيامه ثم بعد ذلك إلى الإمام بعده، وفي هذا صحة ما قلناه من أن الإمام الأعظم أحق من العصبات، ومن يلي من قِبَله كحاكمه وواليه.
فإذا لم يكن هناك إمام ولا من يلي من قبله فالعصبات من الرجال الأقرب منهم فالأقرب فالأب ثم الجد أب الأب ثم الإبن ثم ابن الإبن وإن سفل ثم الأخ لأب وأم، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ لأب وأم، ثم ابن الأخ لأب، ثم العم لأب وأم، ثم العم لأب، ثم ابن العم لأب وأم، ثم ابن العم لأب، على ترتيب الميراث من غير مخالفة. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن المقصود من الصلاة على الميت هو الدعاء له ولا شك أن دعاء من كان قريباً إلى الميت وأخص به من العصبات فدعاؤه أرق وألطف وأقرب إلى الإجابة لأجل الحنو على الميت والشفقة عليه. لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((أسرع الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب)). فإذا كان دعاء الغائب أسرع إلى الإجابة فدعاء القريب أولى وأحق.
الفرع الرابع: وهل يكون الأب أولى بالتقدم للصلاة أو الإبن؟
فالذي عليه أئمة العترة أن الأب أحق بالتقدم من الإبن، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
وحكي عن مالك: أن الإبن أحق بالتقدم من الأب.
__________
(1) أورده في (تخريج البحر) 2/116 عن زيد بن ثابت بلفظ: أنهم خرجوا مع رسول الله÷ ذات يوم فرأى قبراً جديداً فقال: ((ما هذا))؟ قالوا: هذه فلانة مولاة فلان ماتت ظهراً وأنت صائم قائل فكرهنا أن نوقظك بها فقام رسول الله÷ وصف الناس خلفه وكبر عليها أربعاً ثم قال: ((لا يموت فيكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتموني به فإن صلاتي له رحمة)) أخرجه النسائي.
والحجة على ذلك: هو أن الأب والإبن وليَّان جميعاً من غير واسطة خلا أن المقصود هاهنا هو الصلاة ولا شك أن حنو الأب وشفقته أكثر من حنو الإبن وشفقته، فلهذا كان دعاؤه أقرب إلى القبول لشفقته ورقته ورحمته.
وحجة مالك: هو أن تعصيب الإبن أقوى من تعصيب الأب لأن الإبن لا يخرج عن كونه عصبة بحال بخلاف الأب فإنه ربما خرج من التعصيب على حال.
والمختار: هو الأول لما ذكرناه من الرقة والرحمة، ولأن الله تعالى قد جعل للآباء حرمة، وشرف مكانهم وأعظم أمرهم بخلاف الأبناء، وقوة التعصيب غير نافعة في هذه الحالة لأن المقصود خلافها.
وهل تكون للزوج ولاية في التقدم للصلاة على زوجته أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه لا ولاية له. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أن الزوج أجنبي عن المرأة فلا ولاية له عليها فلم يقدم على العصبات، كتزويج جاريتها.
المذهب الثاني: أن الزوج أحق بالتقدم للصلاة عليها من سائر الأقارب من العصبات. وهذا هو المحكي عن ابن عباس وعمر بن عبدالعزيز والشعبي وعطاء وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: هو أن الزوج له من الخلطة بزوجته ما ليس لغيره، ولهذا فإنه يجوز له غسلها كما مر بيانه فلهذا كان أحق بالتقديم للصلاة عليها.
المذهب الثالث: أنه لا ولاية له خلا أنه يكره تقدم ابنه عليه فلهذا استحب تقدم الزوج.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((لا يؤم الرجل أباه وإن كان أفقه منه)) . فلما كان الأمر كما قلناه استحب تقديم الأب على الإبن في الصلاة.
والمختار: ما قاله ابن عباس وعمر بن عبدالعزيز ومن وافقهما من كون الزوج أحق بالتقديم من سائر العصبات في الصلاة سواء كان أجنبياً أو عصبة للزوجة.
وحجتهم: ما ذكرناه عنهم.
ونزيد هاهنا: وهو قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الروم:21]. يعني: الأزواج والزوجات.
ووجه الدلالة من الآية: هو أن المقام هاهنا مقام رحمة واستجابة دعاء، وقد صرح الله تعالى بالمودة والرحمة بين الأزواج والزوجات، وفي هذا دلالة على أن الزوج دعاؤه أسرع إلى القبول لأجل المودة والرحمة.
ومن وجه آخر: وهو ما أباح الله تعالى [له] من الإطلاع على العورة والمباشرة والخلطة التي ليس وراءها خلطة، فلما كان الأمر كذلك لا جرم عظمت الشفقة فلهذا كان الدعاء منه أقرب إلى القبول لأجل الخلطة ومقارفة الألفة والرحمة والرقة لأجل مقارفة الالف.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إن الزوج أجنبي عن الزوجة فلا ولاية له عليها في الصلاة كسائر الأجانب.
قلنا: ليس المقام هاهنا مقام توريث وإنما هو مقام رحمة وشفقة وهو أحق بالشفقة والرحمة لما خصه الله تعالى به من ذلك.
ومن وجه آخر وهو أن الأب أحق بالتقدم على الإبن لما ذكرناه من الخبر، وإذا قدم الزوج على ابنه في الصلاة على زوجته جاز تقديمه على سائر الأقارب بجامع الشفقة والرحمة والمودة.
وأما أبو حنيفة فقد قدمه لأجل الأبوة ولم يقدمه من أجل الولاية.
والمختار: أنه جامع للأمرين جميعاً فقد صار أباً وله شفقة ورحمة كما قررنا، فمن أجل هذا صار أحق بالتقديم.
الفرع الخامس: في ذكر مسائل عشر تنشأ عمن هو أولى بالتقديم في الصلاة من الأقارب.
المسألة الأولى: إذا اجتمع الأخ لأب وأم مع الأخ لأب فأيهما أحق بالتقديم؟
فالذي عليه أئمة العترة: استحباب تقديم الأخ من الأب والأم في الصلاة، وهو أحد قولي الشافعي ومحكي عن أبي حنيفة. وله قول آخر أنهما سواء.
والحجة على ذلك: وهو الأصح من قولي الشافعي هو أن اختصاصه بمزيد السببين وامتزاجه بهما يوجب تقديمه كما في ولاية النكاح وفي الميراث.
ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه: هو أن للأم مزيد اختصاص بالصلاة لأمرين:
أما أولاً: فلأنهم ركضوا هم والميت في بطن واحد.
وأما ثانيها: فلأن للأم مدخلاً في الصلاة، ولهذا فإنها تصلي على الميت منفردة ومأمومة عند الحاجة إليها، فلما كان الأمر كما قلناه قُدِّم من كان يدلي بها لأن لها مدخلاً في الشفقة والرحمة، فلهذا كان أحق بالتقديم في الصلاة لما ذكرناه، وإذا كان الأخ من الأب والأم مقدماً في الصلاة فهكذا حال أولاده، يستحب تقديمهم لأجل الاختصاص.
المسألة الثانية: وإذا اجتمع عَمَّانِ أحدهما عم لأب وأم، والآخر عم لأب فعلى ظاهر المذهب، وهو رأي أبي حنيفة والأصح من قولي الشافعي أن العم لأب وأم أحق بالتقديم من العم لأب كما ذكرناه في الأخ لأب وأم، وهكذا الحال في أولادهما يكون من اختص باجتماع السببين أحق لا محالة.
وإن اجتمع ابنا عم وأحدهما أخ لأم يكون من اختص بقرابة الأمومة أحق بالتقدم في الصلاة.
وإن اجتمع أخوان في درجة واحدة إما أخوان لأب وأم، وإما أخوان لأب وأحدهما مملوك والآخر حر، فالحر أولى لأن له فضيلة الحرية فدعاؤه أسرع إلى الإجابة لفضله(1).
وإن اجتمع عم حر وأخ مملوك فأيهما يكون أحق بالتقدم في الصلاة؟ ففيه وجهان:
أحدهما: أن العم أحق لأنه أكمل بالحرية.
وثانيهما: أن المملوك أحق لاختصاصه بالقرابة القربى.
والمختار: أن العم أحق لاختصاصه بصفة الكمال وهي الحرية.
ويؤيد هذا: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((الإمام وافد فقدموا أفضلكم)). فلهذا كان أحق بالتقديم في الصلاة.
__________
(1) لا يبدو أن مقياس الفضيلة بالحرية والعبودية، فإن التقوى والإخلاص متى توفرا كانا مقياس الفضيلة ووسيلة لنيل الإجابة، وهذا يتطابق مع قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ} وقول الرسول÷ في خطبة حجة الوداع: ((كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)).
وحكي عن المزني أنه قال: والولي الحر أولى من الولي المملوك. وأُخِذ عليه في هذا الإطلاق؛ لأن المملوك لا ولاية له على نفسه فضلاً عن أن يكون له ولاية على غيره، والأحق في الكلام أن يقال: والولي الحر أولى من المملوك.
والقريب المملوك أولى من الأجنبي، لأن القرابة لها مزيد قوة في الشفقة والرحمة ولها اختصاص بالرقة والرأفة فلهذا قدم في الصلاة.
المسألة الثالثة: وإن اجتمع وليان في درجة واحدة؟ ففيه وجهان:
أحدهما: تقديم الأفقه كما ذكرنا في صلاة الجماعة في الصلاة المفروضة.
وثانيهما: أن الأسن أحق بالتقديم. وهذا هو الظاهر من المذهب، وأحد قولي الشافعي والأصح منهما، لقوله÷: ((إن الله يستحي أن يرد للشيخ دعوة)). وفي حديث آخر: ((إن الله زين السماء بالشهب وزين الأرض بالشيوخ)). وفي حديث آخر: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشببية)). وفي حديث آخر: ((إذا بلغ الرجل ثمانين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)).
ووجه الدلالة من هذه الأخبار: هو أن هذا المقام مقام رحمة وتقبل دعاء فلهذا كان الأسن أحق بالتقدم في الصلاة، والتفرقة بينها وبين صلاة الجماعة هو أن الحق في صلاة الجماعة لله تعالى فلهذا قدم الأفقه لأنه أعرف بحق الله تعالى في أحوال الصلاة بخلاف صلاة الجنازة فإن الحق فيها للميت لأنه أرجا لقبول الدعاء فلهذا قدم الأسن لما ذكرناه. وإن لم يكن الأسن محمود الطريقة قدم الأفقه لأن السن إنما يكون له تأثير في التقديم لأجل مزية التقوى والطهارة. فإذا استويا في السن قدم الأفقه لأنه قد تميز بالفقه وزيادة البصيرة. فإن استويا فيما ذكرناه فأيهما قدم جاز إذ لا فضل لأحدهما على الآخر.
المسألة الرابعة: وان إجتمع الولي والإمام الأعظم أو من يلي من جهته، فالظاهر من المذهب أن الإمام الأعظم أحق بالتقدم للصلاة لما ذكرناه من قبل، وهو الأصح من قولي الشافعي.
وله قول آخر: أن الولي أحق بالتقدم وهو القديم من قوليه.
وما قلناه هو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك وإسحاق بن راهويه لقوله÷: ((لا يؤم الرجل في سلطانه)). وروي أن الحسن بن علي لما مات حدث الحسين بن علي سعيد بن العاص وهو الوالي في المدينة من جهة معاوية وقال له: تقدم فلولا السنة لما قدمتك(1).
والحجة لقوله القديم: قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}[الأنفال:75] وهذا عام في الصلاة وفي غيرها.
والمختار: هو الأول، وأما الآية فلا يصح الإحتجاج بها لأنها مجملة ولا ظاهر لها لأن الأولويةغير معلومة فلا بد من بيانها، وما كان مجملاً من الآي والأخبار فإنه مفتقر إلى دلالة فلا يحتج به.
المسألة الخامسة: وإن أوصى رجل أن يصلي عليه فلان أجنبي فهل يقدم على الأقرباء أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أنه لا يقدم على الأقرباء وأنهم أحق بالصلاة. وهذا هو الظاهر من المذهب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
والحجة على هذا: هو أنها ولاية يترتب فيها العصبات فلا يقدم فيها الوصي على العصبات كولاية النكاح.
المذهب الثاني: أن الوصي أحق بالتقدم وهذا هو قول أنس بن مالك وزيد بن أرقم من الصحابة رضي الله عنهم. ومحكي عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: هو أن الوصي قد صار له ولاية من جهة الميت فيما هو ولي فيه من جهة الميت فكان أحق كسائر التصرفات التي جعلها له الميت.
المذهب الثالث: أن الوصي إن كان ممن يرجى دعاؤه قدم على الولي، وإن كان ممن لا يرجى دعاؤه فالقريب أحق. وهذا هو المحكي عن مالك.
والحجة على هذا: هو أن الوصي قد صارت له ولاية [و] إذا كان الوصي يرجى دعاؤه وقبول تضرعه كان أحق بالصلاة لإفتقار الميت وحاجته إلى ذلك بخلاف من لا يرجى قبول دعائه فإن القريب أحق.
__________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه 3/471، وهو في (مجمع الزوائد) 3/31، وفي (المغني)2/178.
والمختار: ما هو الظاهر من المذهب. وهو قول الفقهاء لأن هذا الحق قد تقرر بالشرع للعصبات فلا يجوز إبطاله بقول الموصي للوصي.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: الوصي أحق بالتصرفات من جهة الميت، والصلاة من جملة التصرفات فلهذا كان أحق بها.
قلنا: هذه عبادة جعلها الشرع للعصبات فلا تبطل بقول الغير سواء كان ممن يقبل دعاؤه كما قاله مالك، أو ممن لا يقبل دعاؤه.
وإن غاب الولي الأقرب واستناب من يصلي، فهل يكون القريب الحاضر أولى أو المستناب؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن القريب الحاضر أحق. وهذا هو رأي أبي حنيفة.
وثانيهما: أن الذي استنابه الغائب أحق بالصلاة. وهذا هو رأي الشافعي.
والمختار الذي يأتي على المذهب: أن القريب الحاضر أحق بالصلاة كما قاله أبو حنيفة لأن القريب الغائب قد انقطعت ولا يته بالغيبة كما لو مات.
المسألة السادسة: وأقل ما يسقط الفرض في الصلاة على الميت، [فيه] وجهان:
أحدهما: أن أقل العدد ثلاثة لقوله÷: ((صلوا على من قال لا إله إلا اللّه)). وأقل الجمع ثلاثة، والخطاب للجمع.
وثانيهما: أن الفرض يسقط بواحد؛ لأنها صلاة لا تفتقر إلى الجماعة فلم تفتقر إلى العدد كسائر الصلوات.
وقولنا: لا تفتقر إلى الجماعة. نحترز به عن صلاة الجمعة فإنها لا تصح فرادى لإفتقارها إلى العدد.
والمختار: أن المستحب هو الجماعة في صلاة الجنازة لنقل الخلف عن السلف صلاتها في الجماعة فإن دعت الضرورة إلى صلاة الواحد كان مجزياً ولم تعد الصلاة بعد صلاته.
وهل يعتد بصلاة النساء في صلاة الجنازة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يسقط الفرض بفعلهن لقوله÷: ((صلوا على من قال لا إله إلا اللّه)). وهذا خطاب للذكور، وعلى هذا إذا صلى الخنثى لم يسقط الفرض بفعله لجواز أن يكون امرأة.
وثانيهما: سقوط الفرض بفعلهن لأن الصلاة فعل يختص الميت فجاز فعله من جهة النساء كالغسل.
وحكي عن السيد أبي طالب: أن المرأة إن صلت وحدها لا تجزئ وتعاد الصلاة.
والمختار: أن الرجال إذا كانوا موجودين فالفرض غير متوجه على النساء، وإن كانوا غير موجودين توجه الفرض عليهن.
وإذا قلنا بجواز صلاتهن عند عدم الرجال، فهل تكون صلاتهن فرادى أو مجتمعات؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تكون فرادى لأن الجماعة لم تسن في حق النساء في حق صلاة الجنازة.
وثانيهما: أنه لا بأس بصلاتهن جماعة في حق الجنازة.
وإذا قلنا بجواز صلاتهن جماعة، ففيها وجهان:
أحدهما: أن تكون إمامتهن في وسطهن.
وثانيهما: أن يَكُنَّ صفاً بعد صف كما تكون صفوف الرجال، وقد مضى تقرير ذلك في صلاة الجماعة.
المسألة السابعة: وإذا قلنا باستحباب الجماعة في صلاة الجنازة كما مر، فالسنة أن يكونوا ثلاثة صفوف، لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب)) (1).
وأراد: وجبت له الجنة.
وتستحب كثرة الصفوف وكلما كان أكثر كان أعظم في الأجر لما روت عائشة رضي الله عنها أن الرسول÷ قال: ((لا يموت ميت من المسلمين فتصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة فيشفعون له إلا شفعهم الله فيه))(2).
وهل تكره الصلاة على الجنازة في المساجد أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها تكره، وإن صليت لم تعد. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن مالك وأبي حنيفة.
__________
(1) ذكره في (فتح الباري) 3/186، وقال ابن بهران: أخرجه الترمذي عن مالك بن هريرة وفي رواية أبي داود قال: سمعت رسول الله÷ يقول: ((ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب)).
وعن ابن عباس: سمعت رسول الله÷ يقول: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)) أخرجه مسلم وأبو داود. وعن عائشة أن النبي÷ قال: ((ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه)) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. اهـ (تخريج البحر) 2/115.
(2) تقدم آنفاً.
والحجة على هذا: ما روى أبو هريرة عن الرسول÷ أنه قال: ((من صلى على جنازة في مسجد فلا شيء له))(1).
أراد: من الأجر والثواب، ولأنه لا يؤمن أن تنفصل عن الجنازة نجاسة فتؤدي إلى تنجيس المساجد وهو محظور.
المذهب الثاني: جواز ذلك من غير كراهة. وهذا هو رأي المنصور بالله ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن عائشة أنها أمرت بجنازة سعد بن أبي وقاص أن تدخل المسجد ليصلى عليها فأُنكر عليها ذلك فقالت: ما أسرع ما نسي الناس. ما صلى رسول اللّه÷ على سُهيل بن بيضاء وأخيه إلا في المسجد(2).
والمختار: ما ذهب إليه المنصور بالله والشافعي من جواز تأديتها في المساجد.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو قوله÷: ((صلاة الرجل في مسجده تعدل صلاته في بيته بضعاً وعشرين درجة)). ولم يفصل بين صلاة وصلاة ولأنها صلاة ذات تحليل وتحريم فكانت تأديتها في المساجد أفضل كالصلوات المفروضة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن الرسول÷ أنه قال: ((من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له)).
قلنا: هذا له تأويلان:
التأويل الأول: أن يكون مراده: من صلى على جنازة في مسجد بعدما صُلِّيَ عليها فلا شيء له من الأجر لأن الصلاة بعد الصلاة بدعة فلا يستحق عليها أجر.
التأويل الثاني: أن يكون الميت كافراً أو فاسقاً ومن هذه حاله فلا تجوز صلاته(3)
في المسجد.
وإنما تأوَّلنا على هذين التأويلين حذراً عن معارضة الأدلة التي ذكرناها في جواز تأدية الصلاة على الجنائز في المساجد.
__________
(1) أورده في (شرح معاني الآثار) 1/492، وفي (الترغيب والترهيب) 1/137، و(الكامل في ضعفاء الرجال) 4/56، وقال ابن بهران: أخرجه أبو داود من رواية أبي هريرة، وفي بعض النسخ: ((فلا شيء عليه)) والله أعلم.
(2) أخرجه مسلم 2/668،و الترمذي 3/351، وأبو داود 3/207، والنسائي 4/68، وابن ماجة 1/486.
(3) يقصد: الصلاة عليه.
قالوا: لا يأمن أن تنفصل نجاسة من الميت فتؤدي إلى تنجيس المساجد.
قلنا: تنجيس المساجد محظور من جهة الأموات والأحياء، فإذا كانت النجاسة غير مأمونة فالمحظور إنما هو النجاسة لا لأجل الصلاة في المساجد، وعلى هذا إذا قررنا أن لا نجاسة منفصلة عن الميت جازت الصلاة.
قالوا: روي عن عائشة أنها أرادت الصلاة على سعد بن أبي وقاص في المسجد فأنكر عليها فتركت ذلك، فدل الإنكار عليها على عدم الجواز.
قلنا: لم يمنعوها ولا أنكروا عليها إلا الصلاة على سعد بن أبي وقاص، وأكابر الصحابة حضور، والصلاة على الجنائز موكولة إلى الرجال فلهذا أنكروا عليها، ولم ينكروا الصلاة في المساجد على الجنائز فلهذا كانت جائزة في المساجد(1).
المسألة الثامنة: ويستحب إذا صلي على الميت وقع البدار إلى دفنه، لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((ثلاث لا ينبغي التأني فيهن)). وذكر من جملتها الجنازة إذا حان وقتها، ولأنه إذا وقف يخشى عليه التغيير والانفجار.
وهل يوقف به لمن أراد أن يصلي عليه ثانياً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنها لا توقف الجنازة لمن يريد أن يصلي ثانياً، عند أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه ومالك.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي قال: صلى رسول اللّه÷ على جنازة فلما فرغنا من دفنه جاء رجل فقال: يا رسول الله إني لم أدرك الصلاة عليه أفأصلي على القبر؟ قال: ((لا ولكن قم على قبره وادع لأخيك وترحم عليه واستغفر له)) (2).
المذهب الثاني: أن الجنازة إذا لم يخش عليها التغيير وكان قد صلي عليها وكان الولي لم يصل عليها، جاز وضعها ليصلي عليها الولي.
__________
(1) لكن جواب أم المؤمنين بقولها: ما أسرع ما نسي الناس. ما صلى رسول الله÷ على سهيل بن بيضاء وأخيه إلا في المسجد، يدحض القول بأنهم ما أنكروا عليها إلا إرادتها الصلاة على سعد. والله أعلم.
(2) رواه الإمام زيد في مسنده ص 173.
قال الشافعي: فإن صلى بعض الأولياء والناس ثم جاء وليٌّ آخر لم توضع له الجنازة إذا طلب وضعها فإن وضعت له لم أر في ذلك بأساً.
والحجة على هذا: ما روي أن امرأة مسكينة مرضت فقال الرسول÷: ((إذا ماتت فآذنوني)). فماتت ليلاً فدفنوها ولم يوقظوا رسول اللّه÷ فلما أصبح أُخبر بذلك فقال: ((ألا أذنتموني)). فقالوا كرهنا أن نوقظك فخرج رسول اللّه÷ إلى قبرها ووقف بالناس وصلى عليها.
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن الرسول÷ صلى على الجنازة بعد ما صُلّي عليها فدل ذلك على الجواز.
والمختار: أنه لا وجه لتكرير الصلاة بعد ما صُلِّي[عليها] لما ذكرناه من حديث زيد بن علي، ولأنه لو جاز تكريرها مرة جاز تكريرها مراراً ولا قائل به.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي أن الرسول÷: صلى على قبر تلك المسكينة بعد ما صلي عليها، فدل ذلك على الجواز.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الفرض في الصلاة لا يسقط في زمن الرسول÷ إلا بصلاته لقوله: ((لا يصلين أحد على موتاكم ما دمت فيكم)). فلهذا صلى عليها.
وأما ثانياً: فلأن هذا فعل ولا ندري على أي حالٍ وقع لأن الفعل مجمل، والقول لا إجمال فيه فلهذا كان القول أحق بالعمل به دون الفعل، وما قلناه عمل على القول فلهذا كان أولى.
المسألة التاسعة: فإن دفن الميت من غير أن يُصلَّى عليه فهل يُصلَّى على القبر أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: المنع من الصلاة على القبر، وإن لم يكن قد صلي عليه. وهذا هو الذي حصله السيد أبو طالب لمذهب الهادي والقاسم.
والحجة على هذا: خبر زيد بن علي، فإن ظاهره دال على المنع من الصلاة على القبر صُلّي أو لم يصل. وأما إذا لم يُصَل فإنه يُصلَّي على القبر.
والحجة على هذا: هو أن الصلاة على الجنازة من فروض الكفاية، فإذا صلى عليها قوم سقط الفرض عن الباقين فلو كررت لم تكرر إلاَّ على جهة التطوع، ولا يجوز التطوع بالصلاة على الموتى لأن ذلك لو جاز لجاز أن يصلى على من قد مات حالاً بعد حالٍ، وهذا خلاف الإجماع ولا قائل به، ولأنها صلاة لا تصح إلا بالإمام، فإذا فاتت لم تُصَل كصلاة الجمعة.
قال القاسم: لا يُصلى على الميت بعد ما صُلي عليه.
المذهب الثاني: جواز ذلك. وهذا هو رأي الناصر ومحكي عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك، ومروي عن ابن سيرين وأحمد بن حنبل.
قال الشافعي: ومن فاتته الصلاة صلى على القبر.
وعن أبي حنيفة، أنه قال: لا تجوز الصلاة على القبر إلا أن يكون الميت قد دفن بغير صلاة جاز أن يصلي على القبر.
والحجة على هذا: هو أن الصلاة على الموتى فرض على الكفاية فلا يجوز سقوطها بالدفن لأن الصلاة على القبر ممكنة فلا يجوز إسقاطها.
والمختار: جواز الصلاة إذا لم يكن قد صلي. كما حكي عن الناصر واختاره أبو العباس للمذهب.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن النبي÷: أنه صلى على البراء بن معرور(1)
__________
(1) صحابي جليل، وهو كما في الإصابة1/282: البراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان، ينتهي نسبه إلى جشم بن الخزرج الأنصاري الخزرجي السلمي أبو بشر، قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان من النفر الذين بايعوا البيعة الأولى بالعقبة، وهو أول من بايع في قول ابن إسحاق وأول من استقبل القبلة، وأول من أوصى بثلث ماله، وهو أحد النقباء، وقال ابن إسحاق: حدثني معبد بن كعب أن أخاه عبد الله وكان من أعلم الأنصار حدثه أن أباه وكان ممن شهد العقبة قال: خرجنا في حجاج قومنا وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيدنا، فذكر القصة مطولة في ليلة العقبة، قال: وكان أول من ضرب على يد رسول الله البراء بن معرور.
وروى يعقوب بن سفيان في تأريخه من طريق ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، قال قال كعب: كان البراء بن معرور أول من استقبل الكعبة حياً، وعند حضرة وفاته قبل أن يتوجهها رسول الله فبلغ ذلك رسول الله فأمره أن يستقبل بيت المقدس فأطاع، فلما كان يوم موته أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة.
وروى ابن شاهين بإسناد لين من طريق عبد الله بن أبي قتادة، حدثتني أمي عن أبي: أن البراء بن معرور مات قبل الهجرة فوجه قبره إلى الكعبة، وكان قد أوصى لرسول الله ثم ردها على ولده، وصلى عليه يعني على قبره وكبر أربعاً، وفي الطبراني من وجه آخر عن أبي قتادة أن البراء بن معرور أوصى إلى النبي بثلث ماله يصرف حيث شاء فرده النبي.
قال ابن إسحاق وغيره: مات البراء بن معرور قبل قدوم النبي بشهر، يعني قبل قدومه مهاجراً إلى المدينة.
…له تراجم في الجرح والتعديل 2/399، وفي التأريخ الأوسط 1/20، وفي الثقات 3/26 وغيرها.
بعد قدومه المدينة، وكان قد مات قبل ذلك، وأوصى إلى الرسول÷ فقبل وصيته وصلى عليه بعد شهر. (1)
وما روي عن الرسول÷: أنه صلى على أم سعد بن عبادة(2)
على قبرها بعد شهر(3).
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: خبر زيد بن علي دال على المنع.
قلنا: إنا نحمله على أنه قد صلي على الجنازة فلهذا منعه عن تكرير الصلاة، وكلامنا إنما هو في الصلاة على القبر إذا لم يكن قد صلي عليها، فتجب الصلاة على القبر.
وإذا قلنا: بجواز الصلاة على القبر إذا لم يكن قد صلي عليه، فإلى أي وقت تجوز الصلاة على القبر؟
فحكي عن أبي حنيفة: أنه إذا لم يصل عليه صلي عليه إلى ثلاث، ولا تجوز الصلاة على القبر في اليوم الرابع، وإن كان قد صلي عليه لم تجز الصلاة على القبر إلا للولي والوالي وإمام الحي.
وحكي عن الشافعي: أربعة أقوال:
__________
(1) قال الشوكاني في (النيل) 4/51: وعن ابن عباس أن النبي÷ صلى على قبر بعد شهر، وعنه أن النبي÷ صلى على ميت بعد ثلاث، رواهما الدارقطني.
(2) من أشهر الصحابيات المبايعات السابقات، قال عنها ابن عبد البر في الاستيعاب 4/1887: عمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد بن مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، أم سعد بن عبادة، وكانت من المبايعات، توفيت في سنة خمس من الهجرة.
وفي الإصابة 8/33: عمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، والدة سعد بن عبادة، ماتت في حياة النبي سنة خمس.
…قال ابن سعد: ماتت والنبي في غزوة دومة الجندل في شهر ربيع الأول، فلما جاء النبي÷ المدينة أتى قبرها فصلى عليها. قلت: وثبت أنها لما ماتت سأل ولدها النبي÷ عن الصدقة عنها.
(3) رواه سعيد بن المسيب بسنده أن أم سعد ماتت والنبي÷ غائب، فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر، أخرجه الترمذي، اهـ (نيل) 4/51، وهو في مصنف ابن أبي شيبة 3/41، و(المعجم الكبير) للطبراني 6/20.
أولها: أنه تجوز الصلاة على القبر إلى شهر. وهو محكي عن أحمد بن حنبل.
وثانيها: أنها جائزة مالم يبل جسده وتذهب عظامه لأنه إذا كان باقياً فهو بمنزلة حالة الموت.
وثالثها: أنه يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه لأنه من أهل الخطاب بالصلاة عليه عند موته.
ورابعها: أنه يصلى عليه أبداً؛ لأن القصد منها هو الدعاء، وهذا يوجد مع طول المدة.
قال أصحاب الشافعي: وإنما لم تجز الصلاة على قبر الرسول÷ فلأجل الأوجه الثلاثة؛ لأنه قد مضى أكثر من شهر، ولأنا لا نعلم بقائه في قبره لأنه قد قيل إن الأنبياء يرفعون من قبورهم، ولأنا لم نكن من أهل الخطاب بالصلاة عند موته.
وأما الوجه الرابع، فاختلفوا:
فمنهم من قال: تجوز الصلاة على قبره أبداً وعلى قبر آدم. وهو رأي الشيخ أبي حامد الإسفرائيني.
ومنهم من قال: لا تجوز الصلاة على قبره الآن. وهو محكي عن صاحب الشامل، وهذا هو المختار لقوله÷: ((لا تتخذوا قبري مسجداً)). وروي: ((لا تتخذوا قبري وثناً)) (1).
وفي حديث آخر: ((فإنما هلك بنو إسرائيل لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). (2)
ولأن الإجماع منعقد على أن أحداً لم يصل على قبر الرسول من يوم دفن إلى الآن، وفي هذا دلالة على المنع من ذلك.
فحصل من مجموع ما ذكرناه: المنع من الصلاة على القبر صلي على الميت أو لم يصل. كما هو رأي الهادي والقاسم.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 3/30، وعبد الرزاق 3/577 بلفظ: ((لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم مقابر)) وأحمد في مسنده 2/367 بلفظ: ((ولا تجعلوا بيوتكم قبواراً)) وهو في (فتح الباري) 8/135،و (التمهيد) لابن عبد البر 5/43 بلفظ: ((لا تتخذوا قبري وثناً)) وفي (الفردوس بمأثور الخطاب)5/15 بلفظ: ((... صنماً يعبد)).
(2) في (نيل الأوطار): عن أبي هريرة أن رسول الله÷ قال: ((قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) متفق عليه. اهـ 4/90.
وعلى رأي الناصر و[هو] المختار؛ جواز الصلاة إذا لم يصل عليها على القبر، وعلى المنع إذا صُلِّي، وهو رأي أبي حنيفة، وعلى جواز الصلاة على القبر صلي على الميت أو لم يصل. وهذا هو رأي الشافعي.
المسألة العاشرة: هل تجوز الصلاة على الميت الغائب عن البلد؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا تجوز الصلاة على الغائب. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر، وهو محكي عن أبي حنيفة وأصحابه ومالك.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((لا يصلي أحد على موتاكم ما دمت فيكم)). وهذا إنما يقال فيمن كان حاضراً من الأموات دون من كان غائباً. وأيضاً فإن الصلاة أمر يتعلق بالميت فلا يجوز فعلها إلا مِنْ مَنْ كان حاضراً كالغسل والكفن والقبر.
المذهب الثاني: جواز ذلك. وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن أحمد بن حنبل، فيتوجه المصلي إلى القبلة ويصلي على الميت سواء كان في جهة القبلة أو في غير جهتها.
والحجة على هذا: ماروي عن الرسول÷، أنه نعى النجاشي إلى أصحابه يوم مات، أعلمه الله بموته من غير إعلام أحدٍ من الخلق. فكان هذا من جملة معجزاته، فخرج بهم إلى المصلى [وكبر] وكبرو خلفه لما كبَّر.
هذا كله [إذا كان الميت] في بلد أخرى أو قرية أخرى وبينهما مسافة سواء كانت تلك المسافة قريبة أو بعيدة، فإن كان الميت في طرف البلد لم يجز أن يصلي عليه حتى يحضر عنده، لأن ذلك ممكن فلا يجوز تركه.
فإن كانت الجنازة حاضرة فتقدم عليها وصلى وهي من خلفه وراء ظهره؟ ففيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك جائز كما لو كانت الجنازة غائبة.
وثانيهما: أن ذلك غير جائز لأن الأصول قد فرقت بين الضرورة وحال الرفاهية، وهاهنا يمكن أن تكون الجنازة أمامه فلا يجوز تركه. هذا تقرير كلام الشافعي في هذه المسألة.
والمختار: المنع من ذلك. كما هو رأي العترة وغيرهم.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن هذا لو كان جائزاً لصلى الرسول÷ على كل من كان في غير مكة(1)،
المعلوم أنه ما فعل ذلك، فدل ذلك على أنه غير جائز وأنه غير مسنون.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: صلى الرسول÷ على النجاشي وهو في الحبشة والرسول÷ في مكة(2)
فدل على جوازه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن هذا كان خاصاً للرسول÷ فلا يفعله غيره بعده، فلقد كان مخصوصاً في نفسه بأمور كثيرة نحو نكاح التسع ونحو إيجاب الوتر والأضحية والتهجد إلى غير ذلك من الخصائص، وإذا كان خاصاً فلا وجه لقياس غيره عليه لأنه يبطل التخصيص.
وأما ثانياً: فيمكن أن يكون خاصاً في حق النجاشي فلا يفعل لغيره، كما أباح الحرير لعبد الرحمن بن عوف وقيل لعثمان، وكما أجاز التضحية بالعناق لأبي بردة بن نيار(3)
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصحيح: ... على كل من كان في غير المدينة، والله أعلم.
(2) المعروف، وهو الأقوى والأصح، أن الصلاة على النجاشي كانت بالمدينة.
…وروى ابن بهران في (تخريج البحر) 2/117: عن جابر، أن رسول الله÷ قال: ((قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه)) قال: فصفنا فصلى النبي÷ ونحن. وفي رواية: أن النبي÷ صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث، أخرجه البخاري ومسلم، وفي رواية للنسائي: ((إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه)) فقام فصف بنا كما نصف على الجنازة وصلى عليه، وفي ذلك أحاديث أخر. اهـ.
(3) قال في (تهذيب التهذيب) 14/22: أبو بردة بن نيار البلوي، حليف الأنصار، واسمه هانئ بن نيار بن عمرو، وقيل: مالك بن هبيرة، والأول أصح، وهو حليف الأنصار وخال البراء بن عازب، وقيل: عمه، شهد بدراً وما بعدها، وروى عن النبي÷، وعنه البراء بن عازب وجابر وابن أخيه سعيد بن عمير بن عقبة بن نيار، وعبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، وبشير بن يسار وغيرهم، قيل: مات سنة إحدى، وقيل: اثنتين وأربعين، وقيل: خمس وأربعين.
قلت: وقال الواقدي: توفي في أول ولاية معاوية بعد شهوده مع على حروبه كلها. انظر تهذيب الكمال 33/71، مشاهير علماء الأمصار 1/26، والجرح والتعديل 9/99.
وإذا كان هذان الأمران محتملين بطل القياس.
الفرع السادس: في صفة الصلاة على الموتى. ويشتمل على أحكام ثمانية:
الحكم الأول: القيام مشروع في صلاة الجنازة، لما روي عن الرسول÷: أنه لم يكن يصلي على جنازة إلا قائماً، وهكذا المعهود من حال أمير المؤمنين كرم الله وجهه وأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من التابعين وسائر العلماء.
وهل يكون القيام واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن الشافعي، وعلى هذا لو صلى قاعداً مع القدرة على القيام لم تكن مجزية.
والحجة على هذا: هو أنها صلاة مفروضة فوجب فيها القيام مع القدرة عليه كسائر الصلوات المفروضة.
المذهب الثاني: أن القيام غير واجب فإن صلى قاعداً أجزأ. وهذا هو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أن المقصود من هذه الصلاة إنما هو الدعاء، والدعاء للميت حاصل سواء كان المصلي قاعداً أو قائماً خلا أن الأفضل القيام، فإن صلى قاعداً أجزأ ولم تجب إعادتها.
والمختار: هو وجوب القيام. كما هو رأي أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو قوله÷: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وهذا أمر والأمر للوجوب إلا لدلالة، ولم يفصل بين صلاة وصلاة فلهذا وجب القيام.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: المقصود من هذه الصلاة الدعاء وهو حاصل مع القيام والقعود فلهذا لم يجب القيام.
قلنا: ليس المقصود هو الدعاء كما زعمتموه.
ويؤيد ما ذكرناه: أنها مشتملة على النية والتكبير والقراءة والتحليل بالتسليم كما وجب في الصلاة المفروضة، فلا جرم كانت مخالفة للدعاء بما ذكرناه، فلهذا وجب القيام فيها.
الحكم الثاني: والنية مشروعة فيها، لقوله÷: ((الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى)). وهي واجبة لأنها صلاة مفروضة فوجبت فيها النية كسائر الصلوات المكتوبة، ولا يلزمه أن ينوي أن الميت رجل أو امرأة بل ينوي الصلاة عليه لا غير، فإن نوى أن يصلي على هذا الرجل فإذا هو امرأة أو على هذه الإمرأة فإذا هي رجل. فهل تجزي أم لا؟
حكي عن المسعودي من أصحاب الشافعي، أنها لا تجزئ. ولا وجه له لأنه مشار إليه، وجهل الصفة لا يضر مع الإشارة فلهذا كان مجزياً.
ولا يجوز أن ينويها سنة لأمرين:
أما أولاً: فلأنها من فروض الكفايات فلا يجوز أن ينويها سنة؛ لأن هذا مخالف لموضوعها.
وأما ثانياً: فلأن مثلها لا يتنفل به على صفتها.
وهل يلزمه أن ينوي كونها فريضة؟ فيه التردد الذي ذكرناه في سائر الصلوات المفروضة.
والمختار: أنه لا يحتاج إلى نية كونها فرضاً كما لا يحتاج إلى نية كون الظهر فرضاً كما مر بيانه.
الحكم الثالث: وأين يكون مقام الإمام من الميت إذا صلى عليه؟ فيه أقوال خمسة:
القول الأول: مروي عن الهادي، وهو رأي الناصر والمؤيد بالله، قال السيد أبو طالب: وهو رأي أهل البيت لا يختلفون فيه، وهو أن يقف من الرجل حذاء وسطه، ومن المرأة عند صدرها.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه كان إذا صلى على جنازة فإن كان رجلاً قام عند سرته، وإن كانت امرأة قام حذاء ثدييها(1)،
وهذا إنما فعله عن توقيف من جهة الرسول÷ لأنه لا مدخل للإجتهاد فيه.
القول الثاني: محكي عن القاسم: وهو أن يقف من جنائز الرجال ما بين الصدر والسرة، ومن جنائز النساء بحذاء صدرها ووجهها.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷: أنه صلى على جنازة امرأة فقام عند وسطها، وإذا قام من المرأة في وسطها فإنه يقوم من الرجل بحذاء الصدر والسرة لأنه لا بد من المخالفة في المقام بينهما.
__________
(1) هو في مجموع الإمام زيد ص 169.
القول الثالث: محكي عن أبي حنيفة، وعنه ثلاث روايات:
الرواية الأولى: حكاها الكرخي، أنه يقف بحذاء الصدر من الرجل والمرأة.
الرواية الثانية: حكاها الطحاوي، أنه يقوم بحذاء الصدر من الرجل والمرأة(1).
الرواية الثالثة: حكاها الحسن بن زياد، أنه يقوم بحذاء الوسط من الرجل والمرأة.
وحكى الطحاوي عن أبي يوسف في (الإملاء) أنه يقوم من الرجل عند رأسه ومن المرأة عند وسطها.
قال أبو جعفر الطحاوي: وبه نأخذ.
القول الرابع: محكي عن الشافعي: أنه يقف من الرجل بحذاء الرأس ومن المرأة عند العجز.
القول الخامس: محكي عن مالك، أنه يقف عند الرأس من الرجل والمرأة.
فهذه أقاويل العلماء في موقف الإمام من الجنازة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وأئمة أهل البيت، وهو أن يقف من الرجل حذاء وسطه، ومن المرأة حذاء صدرها، ورجحانه يظهر من وجهين:
أما أولاً: فلأنه صار إجماعاً من جهة العترة وهو حجة نعتمد عليها في الأمور القطعية، ويكون مستنداً في الأحكام الشرعية.
وأما ثانياً: فلما رويناه من حديث أمير المؤمنين كرم الله وجهه وهو لا يقوله إلا عن مستند من جهة الرسول÷، وباقي الأقوال التي رويناها إستحسانات من جهة الآراء النظرية والاجتهادات الشرعية فلا تكون معارضة لما قلناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه من هذه الأقاويل، ولم يذكروا فيها شيئاً من جهة الرسول÷ ولكن اعتمدوا فيها التفرقة بين الرجل والمرأة وإيثار مجانبة العورة من الرجل والمرأة في المقابلة عند القيام للصلاة فاختلفوا هذا الاختلاف والأمر فيه قريب لأن المقصود هو الدعاء للميت والتوجه إليه بالصلاة والدعاء والشفاعة إلى الله في قبوله وغفران خطاياه وهذا حاصل بالمواجهة على أي وجه كان خلا أنا آثرنا ما نقل عن الرسول÷ على ما كان من الآراء.
__________
(1) هذا فيه تكرار للرواية الأولى عن الكرخي، ولعل المقصود في الأولى أو الثانية انه يقف بحذاء الوسط من الرجل والصدر من المرأة.
الحكم الرابع: ثم يكبر. والتكبير على الجنازة مشروع لقوله÷: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). والمعلوم من حاله أنه كان يكبر على الجنازة. وهو واجب أعني: تكبيرة الإفتتاح. لأنها صلاة مفروضة فكانت تكبيرة الإفتتاح فيها واجبة كالصلوات المفروضة.
وكم يكون عدد التكبير؟ فيه مذاهب خمسة:
المذهب الأول: أنه يكبر خمساً. وهذا هو رأي أئمة العترة.
قال الهادي في الأحكام: أجمع علماء آل الرسول÷ على أن التكبير على الجنائز خمس. وهو مروي عن أبي ذر الغفاري وعن زيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان ومحمد بن الحنفية(1)
__________
(1) من مشاهير وعلماء التابعين من أهل البيت، له تراجم واسعة في كثير من كتب التراجم، منها: مشاهير علماء الأمصار 1/62، وقال عنه ابن حجر في (تهذيب التهذيب)9/315: محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي،أبو القاسم المدني، المعروف بابن الحنفية، وهي خولة بنت جعفر بن قيس من بني حنيفة، ويقال من مواليهم، سبيت في الردة من اليمامة، روى عن أبيه وعثمان وعمار ومعاوية وأبي هريرة وابن عباس، ودخل على عمر.
روى عنه أولاده إبراهيم والحسن وعبد الله وعمر وعون، وابن أخيه محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وحفيد أخيه محمد بن علي بن الحسين، وابن أخته عبد الله بن محمد بن عقيل، وعطاء بن أبي رباح والمنهال بن عمرو، ومحمد بن قيس بن مخرمة، والمنذر بن يعلى الثوري، ومحمد بن بشر الهمداني، وسالم بن أبي الجعد، وعمرو بن دينار وغيرهم.
قال العجلي: تابعي ثقة، كان رجلاً صالحاً، يكنى أبا القاسم.
…قال إبراهيم بن الجنيد: لا نعلم أحداً أسند عن علي ولا أصح مما أسند محمد، وقال الزبير بن بكار: وتسميه الشيعة المهدي، قال: وكانت شيعة محمد بن علي تزعم أنه لم يمت، وأورد لكثير عزة وتلميذ الحميري في ذلك أشعاراً، قيل: إنه ولد في خلافة أبي بكر، وقيل: في خلافة عمر، ومات سنة ثلاث وسبعين، وقيل: سنة ثمانين، وقيل: سنة إحدى وقيل اثنتين وثمانين، وقيل: ثلاث وتسعين.
…قال البخاري في تأريخه: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا عوانة عن أبي حمزة قال: قضينا نسكنا حين قتل ابن الزبير، ثم رجعنا إلى المدينة مع محمد، فمكث ثلاثة أيام ثم توفي، وقد دخل على عمر وهو غلام، وقال ابن سعد: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة عن أبي حمزة قال: كانوا يسلمون على محمد بن علي: السلام عليك يا مهدي، فيقول: أجل أنا مهدي أهدي إلى الخير، ولكن إذا سلم أحدكم فليقل: السلام عليك يا محمد، وقال ابن حبان: كان من أفاضل أهل بيته.
…وجاء في رجال مسلم 2/174: مات برضوى سنة ثلاث وسبعين، ويقال: سنة ثمانين، وقيل: سنة إحدى وثمانين، ودفن بالقيع.
…وفي (تهذيب الكمال) 26/147-152: روى ليث بن ابي سليم عن محمد بن نشر، عن محمد بن الحنفية عن علي قال: قلت: يا رسول الله، إن ولد لي مولود بعدك اسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: ((نعم))، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: تابعي ثقة، كان رجلاً صالحاً، وثلاثة يكنون بأبي القاسم رخص لهم: محمد بن الحنفية ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله.
…وروي عن سفيان بن عيينة قال: سمعت الزهري يقول: قال رجل لمحمد بن علي بن الحنفية: ما بال أبيك كان يرمي بك في مرام لا يرمي فيها الحسن والحسين؟ قال: لأنهما كان خديه وكنت يده، فكان يتوقى بيده عن خديه.
من الصحابة رضي الله عنهم، ومحكي عن ابن عباس، ومروي عن ابن أبي ليلى من الفقهاء.
والحجة على هذا: ما روي عن زيد بن أرقم: أنه صلى على جنازة فكبر خمساً فسئل عن ذلك؟ فقال: هذه سنة نبيكم(1).
الحجة الثانية: ما روي عن حذيفة بن اليمان أنه كبر على جنازة خمساً ثم التفت إلينا وقال: ما وهمت ولا نسيت ولكن كبرت كما كبر رسول اللّه÷(2).
المذهب الثاني: أنه يكبر أربعاً. وهذا محكي عن زيد بن علي، وهو رأي عمر وابن عمر وعقبة بن عامر من الصحابة رضي الله عنهم. ومن التابعين، ابن سيرين وجابر بن زيد(3)
__________
(1) رواه الترمذي3/343، وأبو داود 3/210، والنسائي 4/72، وابن ماجة 1/482، وفي (بلوغ المرام) أورده ابن حجر بالرقم 451 ص 96 عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بلفظ: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعاً، وأنه كبر على جنازة خمساً، فسألته فقال: كان رسول الله÷ يكبرها، رواه مسلم والأربعة.
(2) رواه أحمد في المسند 4/416، وهو في (مجمع الزوائد) 3/34، وفي (تخريج البحر) 2/118 عن يحيى بن عبد الله التيمي أنه صلى مع عيسى مولى حذيفة ... الخبر.
(3) له تراجم عدة، منها ما جاء في (تهذيب الكمال) 4/434-437 وفيه: جابر بن زيد الأزدي اليحمدي، أبو الشعثاء الجوفي البصري، والجوفي نسبة إلى ناحية بعمان، وقيل: موضع بالبصرة، يقال له درب الجوف، روى عن الحكم بن عمرو الغفاري وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعكرمة مولى ابن عباس، روى عنه: أمية بن زيد الأزدي، وأيوب السختياني، وحيان الأعرج، وداود بن أبي القصاف، وسليمان بن السائب وصالح الدهان، وأبو حفص عبيد الله بن رستم إمام مسجد شعبة.
قال عمرو بن دينار: عن عطاء عن ابن عباس: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً من كتاب الله، وربما قال: عما في كتاب الله.
وقال عتاب بن بشير: عن خصيف عن عكرمة كان ابن عباس يقول: هو أحد العلماء، يعني: جابر بن زيد.
وقال عروة بن البرند: عن تميم بن حدير عن الرباب سألت ابن عباس عن شيء؟ فقال: تسألونني وفيكم جابر بن زيد.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين وأبو زرعة: بصري ثقة.
قال أحمد بن حنبل وعمرو بن علي والبخاري: مات سنة ثلاث وتسعين، روى له الجماعة.
.
ومن الفقهاء أبو حنيفة والشافعي ومالك والأوزاعي والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود من أهل الظاهر(1).
والحجة على هذا: ما روي: أن الرسول÷ كبر على النجاشي أربعاً لما مات ونعاه إلى أصحابه، وخرج إلى المصلى وصف بهم(2).
وروى ابن عباس رضي الله عنه أن آخر ما كبر رسول اللّه÷ على الجنازة أربعاً(3).
وروى أُبَيُّ بن كعب أن الرسول÷ قال: ((إن الملائكة صلت على آدم وكبرت أربعاً)). وقال÷: ((هذه سنتكم يا بني آدم)) (4).
المذهب الثالث: محكي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه كبر على من كان من أهل بدر ست تكبيرات، وعلى من كان من الصحابة من غير أهل بدر خمس تكبيرات، وعلى سائر الناس أربع تكبيرات. وهذا لا يقوله إلى عن توقيف من جهة الرسول÷(5).
__________
(1) في نسخة الذارحي وأحمد بن حنبل وإسحاق ... إلخ. وليس إسحاق موجوداً في النسخة الأخرى.
(2) جاء الخبر في صلاة الغيبة على النجاشي عن جابر: أن رسول الله÷ قال: ((قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلموا فصلوا عليه)) قال: فصفنا فصلى النبي ونحن، وفي حديث عن أبي هريرة أن النبي÷ نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف وكبر عليه أربع تكبيرات، أخرجه الستة، وعن جابر أن رسول الله÷ صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعاً، أخرجه البخاري ومسلم. اهـ. (تخريج البحر) 2/118.
(3) أخرجه البخاري من حديث ابن عباس كما جاء في (نيل الأوطار) 4/58.
(4) رواه في (مجمع الزوائد) 3/35، وسنن البيهقي الكبرى 4/36.
(5) جاء في مسند الإمام زيد بسنده عن علي% أنه كبر [يقصد في صلاة الجنازة] أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً، اهـ ص 168، وفي (بلوغ المرام) لابن حجر ص 96، عن علي رضي الله عنه أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً وقال: إنه بدري، رواه سعيد بن منصور، وأصله في البخاري.
المذهب الرابع: محكي عن ابن مسعود، أنه قال: يكبر على الجنازة تسعاً وسبعاً وخمساً وأربعاً. فكبروا ما كبر الإمام، ورواه عن الرسول÷(1).
المذهب الخامس: مروي عن أنس بن مالك، ورواية عن ابن عباس أنه يكبر ثلاثاً على الجنازة.
فهذه أقاويل العلماء في عدد التكبير في صلاة الجنازة.
والمختار في التكبير: خمساً. كما هو رأي أئمة العترة ومن وافقهم.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو ما روي أن أمير المؤمنين صلى على فاطمة وكبَّر خمساً ودفنها ليلاً(2).
وروي عن الحسن بن علي أنه صلى على أبيه فكبر خمساً(3).
وروي عن محمد بن الحنيفة أنه صلى على ابن عباس فكبر خمساً.
وعن أبي ذر أنه قال لحصين بن عامر(4):
__________
(1) أوره في (مجمع الزوائد) 3/35، والمعجم الأوسط للطبراني 4/217.
(2) أورده في الاعتصام 2/173، عن محمد بن منصور بسنده من أمالي (أحمد بن عيسى) عن عمر بن علي عن علي% وقال: وهذا في (شرح التجريد) و(أصول الأحكام) وفي (الشفاء).
(3) وفيه أيضاً: وروى محمد [بن منصور] بإسناده أن الحسن بن علي صلوات الله عليهما وسلامه صلى على أبيه فكبر خمساً، وهو في (أصول الأحكام) وفي (الشفاء).
(4) لم تتوفر له ترجمة واضحة للاختلاف في اسمه وكنيته، وإنما جاء ما ملخصه في (الإصابة)2/86: حصين بن ربيعة بن عامر بن الأزور الأحمسي، أبو أرطأة، مشهور بكنيته، وخرج مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله÷: ((ألا تريحني من ذي الخلصة)) فسرت في خمسين ومائة راكب من أحمس، وكانوا أصحاب خيل فأحرقناها ... الخبر، وأخرجه البخاري لكن لم يسمه، وإنما قال: يقال له أبو أرطأة، وفي بعض نسخ مسلم: حسين بالسين المهملة، وهو تحريف، وذكر في الموطأ أنه قيل فيه ربيعة بن حصين كأنه انقلب وتقدم أنه قيل فيه أرطأة.
إذا أنا مت فاستر عورتي واغسلني ونقني وكفني في وتر وكبر عليَّ خمساً وسلني سلاً(1).
فهذه أقاويل الصحابة والتابعين والفقهاء دالة على كونها خمساً قولاً وفعلاً ورواية عن الرسول÷ فيجب العمل على ذلك.
ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه: أنها عبادة ذات عدد يختص الميت فيجب أن يكون وتراً كالكفن والغسل.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي: أن رسول اللّه÷ صلى على النجاشي أربع تكبيرات.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لم يذكر تكبيرة الإفتتاح لما كانت مشروعة في كل صلاة.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما روى زيد بن أرقم، فإنه كبر خمساً. وقال: هذه سنة نبيكم.
قالوا: روي عن الملائكة أنها كبرت على آدم أربع تكبيرات. وقالوا: هذه سنتكم يا بني آدم.
قلنا: فعل الملائكة لا يلزمنا ولا نحن متعبدون بأفعالهم وأيضاً فلعلها كانت شريعة لآدم وهي منسوخة بهذه الشريعة.
فأما ما روي عن علي كرم الله وجهه من أنه كبر أربعاً وستاً وخمساً. وما روي عن ابن مسعود أنه كبر تسعاً وسبعاً وخمساً وأربعاً. وما روي عن أنس بن مالك أنه كبر ثلاثاً. فهو معارض بما أوردنا من الأخبار والآثار الدالة على أن السنة في تكبير الجنازة خمساً، وإذا تعارضا فلا بد من الترجيح وأخبارنا فهي أرجح من أوجه:
أما أولاً: فلأن هذه الرواية عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه غير مشهورة فلا يعول عليها.
وأما ثانياً: فلعله إنما فعل ذلك لعارض لأنها فعل فلا يدرى كيف وقع.
وأما ثالثاً: فلأن إجماع العترة على ما قلناه، ولو صحت الرواية لما أجمعوا على خلاف قوله.
__________
(1) وفي (الاعتصام) أيضاً، وفي (أمالي أحمد بن عيسى) عن محمد بن منصور بسنده عن حصين بن عامر قال: قال لي أبو ذر: ... الحديث، بزيادة: ... وربع قبري تربيعاً في آخره، قال: وهذا بإسناده في (شرح التجريد) وفي (أصول الأحكام) وفي (الشفاء).
وأما ما روي عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، فإنما كان ذلك رأي منهما من جهة الاجتهاد فلا يلزمنا قبوله لأن الحجة ما كان عن الله تعالى وعن صاحب الشريعة، فأما الآراء الاجتهادية فلا تكون حجة على مجتهد آخر.
وقد ظهر ترجيح مذهبنا على مذاهب الفقهاء من كونه أربعاً من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن ما رووه من الأحاديث يحتمل أن تكون غير تكبيرة الافتتاح لأنها مشروعة في كل صلاة فلهذا لم تُعَدُّ من جملة التكبيرات.
وأما ثانياً: فلأن أخبارنا مشتملة على الزيادة وهي مقبولة من جهة العدل خاصة والباب باب عبادة.
وأما ثالثاً: فلأنه اتفاق من جهة أهل البيت، وأقل أحواله أن يكون مرجحاً إذا لم يكن حجة قائمة.
الحكم الخامس: ثم يكبر التكبيرة الأولى. وهل يرفع يديه في التكبيرة الأولى أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه يستحب الرفع في التكبيرة الأولى إلى المنكبين أو إلى شحمة الأذنين. وهذا هو رأي الناصر والقاسم والمؤيد بالله، ومحكي عن الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
قال القاسم: ويرفع يديه في أول التكبير.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين أنه كان إذا صلى على الجنازة رفع يديه عند تكبيرة الإفتتاح.
القول الثاني: أنه لا يستحب رفع اليدين. وهذا هو رأي الهادي.
والحجة على هذا: قوله÷: ((أسكنوا في الصلاة)). وقد قدمنا ذكر ذلك في فروض الصلاة وذكرنا المختار والانتصار له فأغنى عن التكرير.
وإذا كبر الأربع البواقي فهل يرفع يديه فيها أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه لا يستحب الرفع فيها. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة ومالك.
والحجة على ذلك: ما روي عن أمير المؤمنين أنه كان إذا كبر رفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود إلى رفعها.
القول الثاني: أنه يستحب رفع اليدين في كل تكبيرة. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: ما روي عن أنس بن مالك وابن عمر أنهما كانا يرفعان في التكبيرات كلها. ولأنها تكبيرات زائدة في صلاة الجنازة فيسن فيها رفع اليدين كالتكبيرة الأولى.
والمختار: أن المستحب ترك الرفع فيما زاد على تكبيرة الإفتتاح. كما قاله أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو قوله÷: ((مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة)). وفي هذا دلالة على كراهة الرفع إلا ما دلت عليه دلالة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي الرفع عن أنس بن مالك وابن عمر، وإنما يقولان ذلك عن توقيف.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الظاهر أنه مذهب لهما فلا يلزمنا قبوله.
وأما ثانياً: فلأنه معارض بما رويناه عن أمير المؤمنين، ورواية أمير المؤمنين راجحة على غيرها لما خصه الله تعالى [به] من شرائف الخصال والفضل الذي فاق على غيره من الصحابة رضي الله عنهم.
فإن كبر أربعاً أعاد الصلاة سواء كان سهواً أو عمداً لأنه نقصان من المشروع، فلهذا قلنا بوجوب الإعادة كما لو نقص من الركعات المفروضة.
وهل يسن التوجه والتعوذ في صلاة الجنازة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه لا يسن شيء منها لأنها مبنية على الإختصار والحذف والخفة.
ويؤيد هذا ما ورد عن الرسول÷: ((أن كل من مات في أول الليل فلا يصبح إلا في قبره، ومن مات في النهار فلا يمسي إلا في قبره)).
وثانيهما: أنه يسن فيهما التعوذ والتوجه كما في سائر الصلوات غيرها. وهذا هو المختار، لأن صلاة الجنازة موضوعها الدعاء، والتوجه والتعوذ دعاء، فلهذا كان مستحباً.
وهل يستحب الجهر فيها أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه غير مسنون. وهذا هو الظاهر من المذهب، وهو محكي عن الأكثر من أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة، سواء صلاها ليلاً أو نهاراً. لما روي عن ابن عباس أنه جهر بالقراءة في صلاة الجنازة، فقال: إني ما جهرت لأن الجهر سنة ولكن جهرت لأعرفكم أن فيها قراءة واجبة.
وثانيهما: أنه يجهر إن صلاها ليلاً، ويخافت إذا صلاها نهاراً كسائر الصلوات. وهو محكي عن الداركي(1)
ن أصحاب الشافعي.
والمختار: هو الأول لقوله÷: ((صلاة النهار عجماء)). وما يقع في صلاة الليل فهو نادر قليل فلهذا كان التعويل على الأكثر.
الحكم السادس: في بيان الذكر المشروع بين التكبيرات.
والإجماع منعقد على أن الذكر مسنون مشروع في صلاة الجنازة، ولكن الخلاف هل يكون موضوعها الدعاء والقراءة، أو يكون موضوعها الدعاء من غير قراءة؟ ولا خلاف أنه لا تشرع فيها القراءة وحدها، فهذان تقريران:
التقرير الأول: أن موضوعها الدعاء والقراءة. وفيه مذهبان:
المذهب الأول: أن السنة أن يجمع فيها بين القراءة والدعاء. وهذا هو رأي القاسم والهادي والمؤيد بالله، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة معها وجهر حتى سمعنا جهره، فلما انصرف سألته عن القراءة؟ فقال: هي سنة. ومثل هذا لا يفعله إلا عن توقيف من جهة الرسول÷، لأنه لا مدخل للإجتهاد فيه، فلهذا كان حجة. فأما ما فعله عن اجتهاد فلا يكون حجة لأنه إنما يقوله من تلقاء نفسه بنظر واجتهاد.
__________
(1) قال عنه في (تهذيب الأسماء) 2/540: عبد العزيز بن عبد الله، قيل: هو منسوب إلى دارك، قرية من قرى أصبهان.
قال الشيخ أبو إسحاق في (الطبقات): كان فقيهاً محصلاً، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وانتهى التدريس إليه ببغداد، وعليه تفقه الشيخ أبو حامد الأسفرائيني بعد موت الشيخ أبي الحسن المرزبان، وأخذ عنه عامة شيوخ بغداد، وغيرهم من أهل الآفاق، مات سنة خمس وسبعين وثلاثمائة رحمه الله ورضي عنه. اهـ بتصرف.
فإذا عرفت هذا فالصفة المشروعة بين التكبيرات بالدعاء والقراءة؛ أن يكبر التكبيرة الأولى. ويستحب أن يقول بعدها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيٌّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. ثم يقرأ: سورة الحمد. ثم يكبر التكبيرة الثانية ويقول: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وخيرتك من خلقك وعلى آل بيته الطيبين الأطهار الصادقين الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. ثم يقرأ: قل هو الله أحد. ثم يكبر الثالثة ويقول: اللهم صل على ملائكتك المقربين، اللهم شرف بنيانهم وعظم أمرهم، اللهم صل على أنبيائك المرسلين، اللهم أحسن جزائهم وارفع عندك درجاتهم، اللهم شفع محمداً في أمته واجعلنا ممن تشفعه فيه، اللهم اجعلنا في زمرته وأدخلنا في شفاعته، واجعل مأوانا الجنة. ثم يقرأ: قل أعوذ برب الفلق. ثم يكبر الرابعة، ويقول: سبحان من سبحت له السموات والأرضون، سبحان ربنا الأعلى، سبحانه وتعالى، اللهم هذا عبدك وابن عبدك وقد صار إليك، وقد أتيناك متشفعين له سائلين له المغفرة فاغفر له ذنوبه وتجاوز عن سيئاته وألحقه بنبيه محمد÷، اللهم وسع عليه قبره وأفسح له أمره وأذقه عفوك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، اللهم ارزقنا حسن الاستعداد لمثل يومه ولا تفتنا بعده، واجعل خير أعمالنا خواتهما وخير أيامنا يوم نلقاك. ثم يكبر الخامسة، ثم يسلم تسليمتين.
قال الهادي: وهذا الدعاء إنما يدعى به للصالحين المتقين. فأما الفسقة الظالمون فإذا اضظر إلى الصلاة عليهم خوفاً من ظالم، لعنهم في صلاته.
وإن كان الميت ملتبساً حاله قال: اللهم إن كان محسناً فزده إحساناً، وإن كان مسيئاً فأنت أولى بالعفو عنه.
وإن كان الميت طفلاً قال: اللهم اجعله لنا ولوالديه ذخراً وسلفاً وفرطاً وأجراً.
وحكي عن المؤيد بالله أنه قال: يكبر الأولى فيقرأ فيها: بفاتحة الكتاب، وإن شاء دعا مكانها، ثم يكبر الثانية ويقرأ إن شاء أو يدعو حتى يكبر أربعاً، ثم يصلي على الرسول÷ ويدعو لنفسه وللميت وللمؤمنين والمؤمنات، ثم يكبر الخامسة ويسلم عن يمينه ويساره.
وكلام المؤيد بالله هو استحباب الجمع بين القراءة والدعاء في صلاة الجنازة كما حكيناه عن الهادي والقاسم.
المذهب الثاني: محكي عن الشافعي: فإذا كبر التكبيرة الأولى قرأ بفاتحة الكتاب وهي واجبة عنده. وهو محكي عن ابن عباس وابن الزبير وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود من أهل الظاهر.
وحجتهم على هذا: ما روى جابر: أنه صلى على جنازة فقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب.
ثم يكبر الثانية ويصلي على الرسول÷ وهو واجب لقوله÷: ((لا صلاة لمن لم يصل على نبيه)) (1).
ثم يدعو للمؤمنين والمؤمنات بعد الصلاة على الرسول÷.
وحكي عن المزني: أنه نقل عن الشافعي، أنه إذا كبر الثانية حمد الله تعالى وصلى على الرسول÷. واستضعفه أصحاب الشافعي وقالوا: هذا لا يعرف للشافعي، لأن هذا ليس موضعاً للتحميد.
ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت وهو واجب لما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((إذا صليتم على موتاكم فأخلصوا لهم الدعاء)) (2).
__________
(1) رواه الدارقطني 1/355 وهو في (تلخيص الحبير) 1/262، وفي (نيل الأوطار) 2/322.
(2) رواه ابن ماجة 1/480، واليهقي في (الكبرى) 4/40، وابن حبان في صحيحه 7/346، وأورده ابن حجر في (بلوغ المرام) بالرقم 457 ص97 عن أبي هريرة بلفظ: أن النبي÷ قال: ((إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)) وقال: رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
وقد رويت عن الرسول÷ أدعية مختلفة إلا أن أكثر ما نقل عنه÷ أنه كان يقول: ((اللهم اغفر لشاهدنا وغائبنا وحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته فتوفه على الإسلام))(1).
وزاد ابن الصباغ صاحب الشامل: ((اللهم اغفر لأولنا وآخرنا)). وفي آخره: ((ومن توفيته فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده)).
قال الشافعي في الأم: وأي دعاء دعا به أجزأه. واختار الشافعي في (الأم) دعاء ذكره: وهو أن يقول: اللهم إن هذا عبدك وابن عبديك خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحبابه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسناً فزده إحساناً وارفع درجته وقه عذاب القبر وكل هول دون يوم القيامة وابعثه من الآمنين، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئآته وبلغه بمغفرتك وطولك درجات المحسنين، اللهم إنه قد فارق ما كان يحب من سعة الدنيا وأهلها وعزه إلى ظلمة القبر وضيقه وجئنا له شفعاء نرجو له مغفرتك، اللهم إنه فقير إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه.
__________
(1) وهو حديث مشهور في كتب الصحاح، أخرجه الترمذي 3/343، وأبو داود 3/211، وابن ماجة 1/480، وهو في صحيح ابن حبان 7/339 ومسند أحمد 2/368، وفي (المستدرك) 1/511، وأورده في (بلوغ المرام) ص 97 عن أبي هريرة، وقال: رواه مسلم والأربعة، وكذا في (النيل) 4/63، وقال: رواه أحمد والترمذي، ورواه أبو داود وابن ماجة وزاد: ((اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده)).
ونقل المزني عنه دعاء أطول من هذا وهو قوله: اللهم هذا عبدك وابن عبديك خرج من الدنيا وسعتها ومحبوبها وأحبابه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسناً فزده إحساناً، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه، ولَقِّه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وأفسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبه ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين.
وإن كان الميت صغيراً قال: اللهم اجعله فرطاً وذخراً. ويدعو لأبويه فيقول: اللهم اجعله لهما سلفاً وذخراً وفرطاً وعظة واعتباراً.
وإذا كبر الرابعة فإنه يسلم ويقول بعد التسليم: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. وربما أغفله في موضع آخر ليدل على أنه ليس واجباً.
والتسليم واجب لقوله÷: ((تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)). وهل يسلم تسليمة واحدة أو تسليمتين؟ له فيه قولان كما مر تقريره في تسليم الصلوات المفروضة فأغنى عن إعادته.
فهذا هو الكلام على رأي من قال: أن المشروع في صلاة الجنازة الجمع بين القراءة والدعاء.
التقرير الثاني: على رأي من قال: المشروع فيها هو الدعاء لا غير.
وهذا هو رأي زيد بن علي والناصر، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، ومالك حتى قال مالك: أكره القراءة فيها.
والحجة على هذا: ما روى ابن مسعود عن الرسول÷ أنه قال: لم يوقت رسول اللّه÷ قراءة في صلاة الجنازة بل قال: ((كبر إذا كبر الإمام واختر من أطيب الكلام ما شئت)) (1).
فأما صفة الدعاء المذكور بين التكبيرات من غير قراءة. ففيه مذهبان:
__________
(1) رواه الطبراني في (الكبير) 1/320 وفي (عون المعبود) 8/352.
المذهب الأول: محكي عن الناصر: فإذا كبر التكبيرة الأولى فالمستحب أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن الجنة حق والنار حق والموت حق والبعث حق والصراط حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. ثم يكبر الثانية فيقول: اللهم أنت الحي الدائم، وأنت الحي القيوم تحيي وتميت، وأنت حي لا تموت بيدك الخير وأنت على كل شيء قدير، كل شيء هالك إلا وجهك وإليك المصير. ثم يكبر الثالثة ويقول إن كان من الموحدين التائبين: اللهم إنه عبدك وابن عبديك، نزل بساحتك وأنت خير منزول بساحته، وهو إلى رحمتك فقير وأنت عن عذابه غني، اللهم فصلْ وحدته وآنس وحشته، ووسع عليه في لحده، وأعطه رحمة من عندك تغنيه بها عمن سواك، اللهم إني عرفته موالياً لأوليائك معادياً لأعدائك، وساعياً في مرضاتك، اللهم فألحقه بمن كان يتولاه من مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم ارزقنا حسن الإستعداد لما نزل به، ولا تضلنا بعده ولا تجعلنا من الغافلين.
فإن كان من الفاسقين في ظاهر أحواله فإنه يقول: اللهم إنه عبدك وابن عبديك، وأنت عدل لا تظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، اللهم إني عرفته موالياً لأعدائك، معادياً لأوليائك، ساعياً في غير مرضاتك مؤثراً هواه على طاعتك، مجترئاً عليك، اللهم فاحشره على(1)
ن كان يتولاه، واملا جوفه وقلبه ناراً واجعلنا منه على حذر، ولهذا اليوم مراقبين.
وإن كان لا يعرف مذهبه وحاله فإنه يقول: اللهم إنه عبدك وابن عبديك، وأنت أعرف به بخيره وشره، فإن تعذبه فبحق، وإن تغفر له فأنت أولى بالمغفرة والرحمة، اللهم ارزقنا حسن الاستعداد لما نزل به ولا تضلنا بعده، ولا تجعلنا من الغافلين.
وإن كان الميت صغيراً فإنه يقول في هذا الموضع: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً.
__________
(1) في الأصل: على. ولعل الصواب: مع.
ثم يكبر الرابعة ويقول: اللهم ارحم صغارنا وكبارنا وأحيائنا وأمواتنا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن أمته فأمته على الإيمان، اللهم ارزقنا حسن الاستعداد للموت والتوفيق لما يرضيك، ويزلف لديك والفوز برحمتك إنك لا تخلف الميعاد.
فهذه جملة ما حكي عن الناصر في الدعاء بين التكبيرات.
ثم يكبر الخامسة ويسلم تسليمتين.
المذهب الثاني: محكي عن الحنفية. وهو أن يكبر في الأولى ويحمد الله تعالى ويثني عليه بما هو أهله، ثم يكبر الثانية ويصلي على الرسول÷، ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت، ثم يكبر الرابعة ويسلم عن يمينه ويساره، كما في المكتوبة. ولم أقف لأبي حنيفة وأصحابه على دعاء مخصوص للميت فنذكره، وإنما أطلقوا الدعاء إطلاقاً.
فهذه جملة أقاويل العلماء في بيان الذكر المشروع بين التكبيرات في صلاة الجنازة كما ترى.
والمختار: هو الجمع بين القراءة والدعاء في هذه الصلاة. كما هو رأي الهادي والقاسم والمؤيد بالله.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن هذه صلاة واجبة فاستحب فيها الجمع بين القراءة والدعاء كالصلوات المكتوبة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روي عن ابن مسعود أن الرسول÷ لم يوقت قراءة في صلاة الجنازة بل قال: ((اختر من أطيب الكلام ما شئت)).
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن مراده بما ذكر لم يعين فيها سورة بعينها وإنما أطلق القراءة بما شاء القارئ أن يقرأ قرأ من غير تعيين.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بما روى جابر وابن عباس من كون القراءة مشروعة في صلاة الجنازة، وإذا تعارضا وجب الترجيح، وحديث ابن عباس وجابر أرجح لأنهما رويا زيادة والزيادة مقبولة من جهة الراوي لأنهما أفادا بما روياه فائدة جديدة فلهذا كان خبرهما أرجح فوجب العمل عليه.
الحكم السابع: وإذا قلنا: بأن المختار هو الجمع بين القراءة والدعاء في صلاة الجنائز كما مر بيانه، ونقلناه من كلام الأئمة والعلماء. فالذي نختاره: أن يكبر التكبيرة الأولى ويقرأ الفاتحة لأن تقديمها أحق كما مر في الفريضة، فإذا فرغ من قراءتها فالمستحب أن يقول: سبحان من تفرد بالبقاء وقهر العباد بما حكم عليهم من الموت والفناء أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أهل الكبرياء والعظمة، وأهل الجود والجبروت، وأهل العفو والرحمة، وأهل التقوى وأهل المغفرة، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الإسلام والدعاء إلى دار السلام، ونشهد أن الوعد حق، وأن الوعيد حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
ثم يكبر الثانية ويقول: اللهم صل على ملائكتك المقربين وصل على أنبيائك المرسلين، وصل على عبادك الصالحين، وخص محمداً وأهل بيت محمد بأفضل الصلاة والتسليم.
ثم يكبر الثالثة، ويقول: اللهم اغفر لشاهدنا وغائبنا وحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه حياة طيبة على الدين والإيمان، ومن توفيته فهوَّن عليه كرب الموت وأمته على الدين والإيمان، اللهم بارك لنا في الموت والحياة واجعل مأوانا الجنة.
ثم يكبر الرابعة ويقول: اللهم هذا عبدك وابن عبدك وأمتك خرج من سعة الدنيا وفسحتها؛ إلى ضيق القبر ووحشته، ومن عمران الدور إلى خراب القبور، ومن الإنس بالإخوان والأصحاب إلى الظلمة والوحشة والتمرغ في التراب، وقد نزل بساحة كرمك وأنت خير منزول به شاهداً لك بالوحدانية، ولرسولك بالرسالة، وهاتان الشهادتان من أعظم الوسائل إلى كل خير لك، اللهم اجعلهما من أثقل ما يوضع في ميزان خيراته وتجاوز بفضلهما عن خطيئاته وسيئاته، وقد أتيناك متشفعين له سائلين له المغفرة والرحمة فلا تردَّنا خائبين ولا أشقياء بدعائك ولا محرومين.
ثم يكبر الخامسة، ويسلم عن يمينه ويساره. وليس بعد التسليم شيء. وهذا الكلام في من كان من الأولياء وأهل الصلاح والخير والستر.
فإن كان صغيراً طفلاً فليقل: اللهم اجعله لنا ولوالديه فرطاً وسلفاً وذخراً وثواباً وأجراً وأجعل مصابه غفراناً للذنوب، وتكفيراً للخطايا.
وإن كان الميت ممن لا يعلم حاله فليقل: اللهم إن هذا عبدك وابن عبديك، اللهم إن كان من أوليائك فأكرمه بما وعدته، على لسان رسولك، وإن كان من أعدائك فإن تعذب فبحق وإن تغفر فعن ذنب، اللهم ارزقنا حسن الإستعداد لما نزل به، ولا تضلنا بعده، ولا تجعلنا من الأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وإن كان من الفسقة الذين ماتوا على ملابسة الكبائر مصرين على اقتحام العظائم فليقل: اللهم هذا عبدك وابن عبديك، فقد خسر عمله، وضل سعيه، واجترأ على مخالفتك، وقد نزل بك فإن تعذبه فبجرم واستحقاق، وإن تغفر فأنت أهل العفو وأنت على كل شيء قدير.
الحكم الثامن: في بيان من يصلَّى عليه ومن لا يصلَّى عليه. ويشتمل على صور ست:
الصورة الأولى: ويصلى عل كل من مات ممن اجتمع في حقه هذان الوصفان ـ أعني: الإسلام والموت ـ وجبت عليه الصلاة.
قال محمد بن عبدالله: والصبي والصبية إذا سبيا من دار الشرك إلى دار الإسلام وليس معهما أحد من أبويهما فإنه يصلى عليهما إذا ماتا في دار الإسلام.
واعلم.. أنهما إذا حصلا في دار الإسلام على جهة السبي نظرت فإن كان معهما الأبوان وأسلما أو واحد منهما فإنه يصلى عليهما لأنهما لاحقان بالأبوين في الإسلام لقوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}[الطور:21]. وإن لم يكن معهما أحدٌ من الأبوين وماتا في دار الإسلام فإنه يصلى عليهما لأنهما إذا لم يلحقا بالأبوين ألحقا بحكم الدار لأن من وجد في دار الإسلام فهو مسلم، وإن كان معهما الأبوان ولم يسلما ولا واحد منهما لم يصل عليهما لأن حكم الأبوين أخص من حكم الدار لأنه لا يحكم عليهما بحكم الدار إلا عند فقد الأبوين، فأما إذا وجدا فالحكم للأبوين دون الدار، وإن وقع الأبوان في سهم رجل والصبيان في سهم آخر ولم يسلم الأبوان لم يصل عليهما إذا ماتا لأنهما كافران بكفر أبويهما.
قال القاسم: وإن سبيت جارية إلى دار الإسلام جاز لمن وقعت في سهمه وطؤها.
واعلم أن الجارية إذا سبيت فإنه يجوز لمالكها وطؤها لأنها بدخولها دار الإسلام محكوم بإسلامها وإن لم تضف الإسلام. فإذا ماتت صلي عليها، وإن ظهر منها الكفر وماتت لم يصل عليها لأن حكم نفسها أخص من حكم الدار ولهذا فإن الصبي والصبية إذا سبيا إلى دار الإسلام فبلغا وظهر منهما التصريح بالكفر وماتا لم يصل عليهما لأن حكم أنفسهما أخص من حكم الدار.
قال الهادي: وولد الزنى يصلى عليه إذا كان سالكاً لطريق الحق، الإسلام والصلاح، كما يصلى على غيره من المسلمين ولا يضره فسق أبويه إذا كان مؤمناً لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164]. وأما الأغلف الذي ترك الختان فينظر في حاله فإن كان تركه خوفاً على نفسه فإنه يصلى عليه إذا مات لأنه معذور، وإن كان ترك الختان من غير عذر لم يصل عليه لأنه ترك من السنة أعظمها فلهذا لم يصل عليه، والأصل في ذلك خبر زيد بن علي في الأغلف وقد قدمناه.
الصورة الثانية: وإذا مات الكافر نظر فيه.
فإن كان طريق كفره التصريح ومات فإنه لا يصلى عليه. والكفر الصريح ما وقع الإجماع عليه من الأئمة على كفره فإنه يمنع من الصلاة عليه كاليهود والنصارى والملاحدة والدهرية والمجوس ممن كان كفره ظاهراً لا تأويل فيه. وهذا هو رأي أئمة العترة والفقهاء.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ}[التوبة:84]. ولأن الصلاة للرحمة. والكافر لا يرحم.
وإن كان كفره من جهة التأويل وهذا نحو المجبرة والمشبهة وغيرهم من كفار التأويل فإن هؤلاء مصدقون بالله وبرسوله، ومصلون إلى القبلة وناكحون على الشريعة ومؤمنون بجميع الشريعة والقرآن خلا أنهم اعتقدوا اعتقاداً أوجب إكفارهم، وعلى هذا تجوز الصلاة عليهم إذا ماتوا لما قلناه، ويدفنون في مقابر المسلمين.
الصورة الثالثة: والفاسق إذا مات فإنه ينظر في حاله.
فإن كان فسقه من جهة التصريح، وهذا نحو مرتكبي الكبائر والتاركين للصلاة والمكبين على شرب المسكر والسُّرَّاق والزناة وغيرهم ممن كان فسقه بارتكاب الكبائر الفسقية، فمن هذه حاله فإنه لا تجوز الصلاة عليه عند أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة.
وحكي عن الشافعي: أنه يصلى عليه.
والحجة على ما قلناه: هو أن الفاسق صار بفسقه من أهل عداوة الله تعالى، ومستحقاً للعقوبة بالنار فلهذا لم تجز الصلاة عليه كالكافر.
وإن كان فسقه من جهة التأويل، وهذا نحو الخوارج فإنهم فسقوا بشبهة وخرجوا على إمام الحق بطروّ الشبهة عليهم، واعتقادهم الصواب فيما فعلوه، وعرفت أحكامهم من جهته، وأجرى عليهم أكثر أحكام الإسلام ولم يعاملهم معاملة أهل الفسق.
وروي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه لم يصل على قتلى أهل النهروان لأنهم يشبهون المحاربين وقطاع الطريق لأن هؤلاء الخوارج منعوا الإمام عن إمضاء أوامر الله تعالى ونواهيه، وإصلاح أمور الدين، كما كان من قطاع الطريق وسائر المحاربين من منع المسلمين عن التصرفات في الطرقات، وكله فساد في الأرض من المحاربين وأهل البغي على الإمام، فلهذا لم يصل عليهم.
قال القاسم: لا يصلى على صاحب الكبيرة. والمرجوم إن رجم بإقراره صلي عليه، وإن رجم بالبينة لم يصل عليه إلا أن تسمع منه التوبة. وعلى هذا يدخل كل باغٍ وقاطع طريق فيما ذكره القاسم.
وقال أيضاً: من أتى كبيرة مما وجب له بها النار لم يصل عليه لأنه ملعون. كما حكي عن الحسين بن علي ودعائه على سعيد بن العاص حين مات، في صلاته عليه.
وقول أبي حنيفة، وأبي يوسف مثل ما حكي عن القاسم.
قال المؤيد بالله: ولا يصلى على الفاسق. قد دل عليه كلام الهادي في غير موضع من الأحكام.
دقيقة.. إعلم أن الظاهر من كلام هؤلاء الأئمة القاسم والهادي والمؤيد بالله وأبي طالب وأبي العباس: أن الفساق من أهل الكبائر الفسقية من أعمال الخوارج لا تجوز الصلاة عليهم وأنهم ملعونون مستحقون للعقاب من جهة الله تعالى كالزناة والشربة والسُّرَّاق، وأنه ينبغي لعنهم والتبرؤ عنهم.
والذي يلي الصلاة عليهم لأجل خوف مضرة فإنه يلعنهم في صلاته ولأنهم من أهل عداوة الله تعالى. وهذا هو رأي أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف في البغاة وقطاع الطريق.
فأما من لم يكن من البغاة وقطاع الطريق، فإنه يصلى عليه عند الحنفية.
وأما الشافعي فله في الفاسق قولان.
وحكي عن زيد بن علي وأحمد بن عيسى: جواز الصلاة على الفاسق.
وهذا التردد والخلاف إنما هو في فساق الخوارج الذين ماتوا على الإصرار على الفسق من غير توبة.
فأما فسَّاق التأويل فكلامهم فيهم محتمل. ولم أقف على منع الصلاة عليهم عند هؤلاء الأئمة، ولم يؤثر منع الصلاة على من فُسِّق بالتأويل إلا عن أمير المؤمنين فإنه امتنع من الصلاة على قتلى أهل النهروان لما كانوا بغاة من جهة التأويل. فيحتمل أن يقال: لا يغسلون لأنهم فُسَّاق مثل فُسَّاق الخوارج، ويحتمل أن يكونوا معذورين في فسقهم لأجل جهلهم وعلى هذا يغسلون.
الصورة الرابعة: الشهيد. وهل يصلى عليه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يصلى عليه. وهذا هو رأي أئمة العترة القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله وغيرهم من أكابر العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والثوري، ومروي عن المزني من أصحاب الشافعي، والحسن البصري وسعيد بن المسيب.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، أنه لما كان يوم بدر أصيب جماعة فذهبت رؤوسهم فصلى عليهم رسول اللّه÷(1).
الحجة الثانية: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أمر رسول اللّه÷ يوم أحد بالقتلى فجعل يصلي عليهم ويضع تسعة وحمزة فيكبر تسع تكبيرات ثم يرفعون ويترك حمزة ثم جيء بتسعة فكبر عليهم تسعاً حتى فرغ منهم.
فأما ما يتعلق بالغسل فقد قدمنا ما فيه من الخلاف فأغنى عن تكريره.
المذهب الثاني: أن الشهيد لا يصلى عليه. وهذا هو رأي الشافعي، ومحكي عن مالك، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
__________
(1) جاء في (تخريج البحر)2/142: وهو سهو [أي: ما جاء في (الانتصار) من فعله÷ يوم بدر] والصواب: يوم أحد، ولفظه في (المجموع) و(الشفاء): عن علي% قال: لما كان يوم أحد أُصيبوا فذهبت رؤوس عامتهم فصلى عليهم رسول الله÷ ولم يغسلهم، وقال: ((انزعوا عنهم الفراء)) اهـ.
والحجة على هذا ما روى جابر وأنس بن مالك أنه قتل من الصحابة يوم أحد إثنان وسبعون قتيلاً فأمر رسول اللّه÷ أن تنزع عنهم الجلود والفراء وأن يدفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم(1) فدل ذلك على أن الشهيد لا وجه للصلاة عليه عندهم.
والمختار: وجوب الصلاة على الشهيد. وهذا هو رأي أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: ما روي عن الرسول÷ في قتل حمزة فإنه سُجِيَّ ببردة وصلي عليه، وهذا ظاهر عند أهل النقل والمعرفة بالسير لا يختلفون فيه وأنه كبر عليه سبعين تكبيرة(2) فكيف يمكن إنكار مثل هذا مع ما فيه من الاشتهار عند أهل السير والأخبار.
والحجة الثانية: ما روي أن أعرابياً بايع الرسول÷ في خيبر وتقدم للقتال فقتل فكفنه رسول اللّه÷ في جبته وصلى عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري 4/1497 وأبو داود 3/195، والدارقطني 4/117، والبيهقي في (الكبرى) 4/10 وهو في (المستدرك) 1/520، ومصنف ابن أبي شيبة 7/318. ويبدو أن كون رسول الله÷ لم يصل عليهم فيه نظر ضمن ما سيأتي من كلام المؤلف، ولتظاهر الروايات على أن الرسول÷ صلى عليهم كما في حديث أبي مالك الغفاري وحديث ابن عباس الذي رواه البخاري، وما قاله ابن حجر من أن حديث ابن عباس روي من طريق أخرى، منها ما أخرجه الحاكم وابن ماجة والطبراني والبيهقي. وما أورده في (الاعتصام) 2/164 من رواية المؤيد بالله من حديث عقبة بن عامر، كما أورد فيه أيضاً حديث ابن عباس عن (شرح التجريد)، وآخر عن عبد الله بن الزبير، فضلاً عن حديث أمير المؤمنين%، وفي (تخريج البحر) عن (التلخيص) رواية صلاة النبي÷ على قتلى أحد عشرة عشرة، في كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلاة، قال: ورجاله ثقات.
(2) رواه البيهقي في (الكبرى) 4/14، وهو في (فتح الباري) 3/210، و(سبل السلام)2/97، و(نيل الأوطار) 4/81.
الحجة الثالثة: أن الشهيد مات على الدين والإسلام ثابت الولاية فوجب أن يصلى عليه كسائر المسلمين، فإن الشهادة ما زادته إلا قوة وعلواً ورفعة عند الله تعالى.
ومن جهة أن الصلاة على الموتى تشريف من جهة الله للمسلمين وعلو رفعة ولا شك أن الشهيد أحق بهذه الأمور من غيره من سائر المسلمين لما عظَّم الله من حالهم ورفع من منازلهم بالقتل بالشهادة فوجب أن يكونوا أحق بالصلاة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: روى جابر وأنس بن مالك، أنه قتل يوم أحد سبعون قتيلاً فأمر الرسول÷ بدفنهم بثيابهم ولم يغسلهم.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الرسول÷ ربما لم يصل على بعضهم لأنه كان في ذلك اليوم مشغولاً بما أصابه من الجرح من كسر رباعيته وجرح وجنته، فكان مشغولاً بغسل الدم عن وجهه، ومداواة الجرح فظن الراوي أنه لم يصل عليهم وأمر من صلى عليهم لما ذكرناه.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه معارض بما روى ابن عباس وزيد بن علي من أنه صلى على قتلى أحد، وإذا تعارضا فلا بد من الترجيح لأحدهما على الآخر، وما ذكرناه أرجح لإشتماله على الزيادة وهي مقبولة من جهة الراوي.
قالوا: إن الشهيد لا يغسل، فهكذا لا يصلى عليه كسائر الحيوانات.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ترك الغسل في الشهيد خارج عن القياس، والقياس: غسله كسائر المسلمين غير الشهداء، وإذا كان خارجاً فلا وجه للقياس عليه.
وأما ثانياً: فلأن قياسنا أرجح من اختصاصه بالتجانس فإن رَدَّ الصلاة إلى الصلاة أقرب من ردها إلى الغسل وكلما عظم الاختصاص في الأقيسة بقرب التجانس كانت راحجة على غيرها مما لا تجانس فيه. فلهذا قلنا: إن الشهيد يصلى عليه كما يصلى على سائر المسلمين. وهم قالوا: لا يصلى عليه كما لا يغسل، فلأجل هذا كان قياسنا أدخل في الملائمة وأجرى على قوانين الأقيسة من اعتبار التجانس الذي يقوى على الظن ويقرر قواعد الحكم.
والعجب من الشافعي رضي الله عنه مع اختصاصه بالفضل وتبحره في علوم الشريعة وغوصه في أسرارها ودقائقها حيث منع من الصلاة على الشهداء وأوجبها على اللصوص والأكراد والسلابين وقطاع الطريق والظلمة وسائر الفساق المقطوع على فسقهم كالزناة وشربة المسكرات مع اختصاص الفسق بالجوارح بالدناءة والسخف والركة في الدين ونزول العذر عند الله بملابسة الكبائر والجرأة عليه في اختصاصهم وإكبابهم على فعلها. واختصاص الشهداء بمزية الشرف وعلو المنزلة عند الله حيث بذلوا أرواحهم التي هي أعز ما عندهم لله تعالى وإعزازاً لدينه وإظهاراً لأمره.
وأعجب من هذا: أنه قال: لا يغسل ويدفن بثيابه التي أصابها الدم لشرف الشهادة وعلو قدرها، وما ورد من الثناء عليهم بترك الغسل، حيث قال÷: ((زملوهم بكلومهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك)). ومنع من الصلاة التي فيها نهاية الشرف وعُلُوِّ الدرجة وارتفاع المنزلة، وأن يكونوا مشبهين للفساق والكفار في منع الصلاة ويحرمون بركتها وفضلها، فما هذا حاله فمما لا سبيل إلى قبوله.
نعم.. نحن لا ننكر أن المسألة اجتهادية، وأن الرأي المقطوع به هو تصويب الآراء في المسائل الاجتهادية والمضطربات النظرية لكن ربما كان النظر منحرفاً عن قواعد الشريعة ومخالفاً لأصولها فلا جرم ضعف، وكان غيره أكثر موافقة وأعظم جرياً على القياس.
الصورة الخامسة: في السِّقط.
وإذا استهل صبي صُلي عليه. واستهلاله صراخه عند الولادة. وهو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
وحكي عن سعيد بن جبير: لا يصلى عليه حتى يبلغ.
وعن بعض الفقهاء: لا يصلى عليه حتى يصلي. ولم أقف عليه ولكن حكاه صاحب البيان.
[والمختار: ما قاله أئمة العترة ومن تابعهم].
والحجة على ما قاله علماء العترة: ما روى جابر وابن عباس عن الرسول÷ أنه قال: ((إذا استهل السقط صلي عليه)). وروى أبو أمامة عن الرسول÷ أنه قال: ((إذا استهل السقط صلي عليه، وإن لم يستهل لم يصل عليه)) (1).
هذا نص صريح فيما ذهبنا إليه.
[الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه].
قالوا: لم يبلغ الحلم ولا صلى فلا يصلى عليه، كما لو لم يستهل.
قلنا: إنه بالإستهلال قد صار من جملة الأحياء لكنه لم يمهل للبلوغ والصلاة فأشبه سائر الأطفال.
وإن خرج ميتاً لم يستهل لم يصل عليه ولف في خرقة ثم دفن.
وإن خرج رأسه واستهل ثم خرج باقيه وقد مات صلي عليه لأنه قد صار حياً باستهلاله ثم طرأ عليه الموت فلهذا صلي عليه.
وإن مكث في بطن أمه أربعة أشهر ثم خرج ميتاً فهل يصلى عليه أم لا؟.
فحكي عن الشافعي: أنه يصلى عليه.
والمختار: أنه لا يصلى عليه. وهو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة ومالك.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول÷ أنه قال: ((إذا استهل المولود صلي عليه)). فصريح الخبر وظاهره دالان على أنه تجب الصلاة عليه إذا استهل، ودليل خطابه: أنه لا يصلى عليه إذا لم يستهل. فأما الكلام في غسله فقد قدمناه وذكرنا ما هو المختار والانتصار فأغنى عن التكرير.
الصورة السادسة: وإن وجد بعض الإنسان فهل يصلى عليه أم لا؟.
فالذي عليه أئمة العترة: أنه لا يصلى عليه إلا إذا وجد الأكثر منه أو وجد الرأس مع النصف، فإن وجد النصف أو دونه لم يصل عليه. وهذا هو رأي أبي حنيفة ومالك.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 3/11، والبيهقي في (الكبرى) 4/8، وأورده الشوكاني في (النيل) 4/45، عن المغيرة بن شعبة ضمن حديث جاء فيه قوله÷: ((والسقط يصلى عليه ويدعا لوالديه بالمغفرة والرحمة)) رواه أحمد وأبو داود، وقد تقدم.
وحكي عن الشافعي: أنه إذا وجد بعض الميت فإنه يصلى عليه سواء وجد أقل البدن أو أكثره حتى لو وجد منه أصبع واحدة. وهو محكي عن أحمد بن حنبل، فإن وجد الشعر أو الظفر فله فيه قولان.
والحجة على ما قلناه: هو أنا لو جوزنا الصلاة على ما وجد من الإنسان لأدَّى إلى صلاتين وهذا لا قائل به، ولأن الإجماع منعقد على أنه لا تجوز صلاتان على شخص واحدٍ، فأما غسله فقد قررنا الكلام عليه فلا وجه لتكريره.
قال القاسم: ولا يصلى على الميت بعد ما صلي عليه. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أن صلاة الجنازة فرض من فروض الكفاية فإذا قام بها البعض سقط عن الباقين فلا وجه لتكريرها بعد أدائها،وهو محكي عن مالك.
وقال الشافعي: تجوز الصلاة على الميت مرة بعد مرة أخرى، وإذا فاتت الصلاة على الميت فإنه يصلي على القبر.
وحجته: ما روي عن الرسول÷ أنه قدم المدينة بعد موت البراء بن معرور فصلى عليه بعد شهر، وقد كان صُلّي عليه.
والمختار: أن صلاة الجنازة لا تكرر لأنها صلاة مفروضة فوجب ألا يتطوع بها كسائر الصلوات لأنها لو أديت ثانياً لم تكن إلا على جهة التطوع ولا تطوع فيها، ولأنها فرض يتعلق بالميت فإذا أُدِّيَ مرة واحدة لم يؤدَّ ثانياً كالغسل والتكفين.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إنه÷ صلى على البراء بن معرور بعد الصلاة عليه بعد شهر، وفي هذا دلالة على جواز تكريرها.
قلنا: هذا محمول على أنه لم يُصَلَّ عليه فلهذا صلى عليه.
قالوا: قد كررت الصلاة على الرسول÷ فدل ذلك على جواز تكريرها.
قلنا: إن الصلاة على الرسول÷ كانت فرضاً على كل واحدٍ فلهذا صلوها فرادى من غير إمام لأن ذلك كان خاصاً للرسول÷، ولهذا قال: ((إذا أنا مت فكفنوني في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض مصر وضعوني على شفير قبري ثم ادخلوا فوجاً فوجاً فصلوا عليَّ وسلموا تسليماً))(1).
فهذا ما أردنا ذكره في هذه الصور التي ذكرناها ونرجع الآن إلى التفريع.
الفرع السابع: في اجتماع الجنائز.
وإذا اجتمع الجنائز فالأفضل أن تفرد كل جنازة بصلاة على انفرادها إذا كان لا مشقة فيه ويسهل، لأن المقصود هو الدعاء لكل ميت، وهو إذا كان منفرداً بالصلاة كان أفضل وأتم.
وإن كان هناك مشقة وأراد الإمام أن يصلي عليهم صلاة واحدة جاز ذلك، لأن المقصود من ذلك الدعاء وذلك يحصل بصلاة واحدة.
فإذا كانت الجنائز جنساً واحداً إما رجالاً وإما نساءاً فالذي يقتضيه ظاهر المذهب أنه يوضع كل واحد منهم بجنب الآخر كالصف الواحد ويُقَدَّم إلى الإمام أفضلهم. وهو الأصح من قولي الشافعي.
وله قول آخر: أنه يجعل رأس كل واحد منهم عند رجلي الآخر.
والمختار: هو الأول لأن الجنائز إذا كان وضعها على هذه الصفة كان الإمام مستقبلاً لهم في الصلاة، وإذا كان على تلك الصفة لم يكن مستقبلاً لهم بالدعاء، فلهذا كان العمل عليه أحق.
وإن كانت الجنائز أجناساً مختلفة نحو أن يكونوا رجالاً ونساءاً وعبيداً وصبياناً وخناثى، ففي كيفية ترتيبهم أقوال ثلاثة:
القول الأول: أن يكون الرجال الأحرار إلى جانب الإمام، ثم الصبيان الأحرار مما يلي الرجال، ثم جنائز العبيد مما يلي الصبيان، ثم الخناثا مما يلي العبيد، ثم النساء. وهذا هو رأي القاسم والناصر والمؤيد بالله وأبي طالب، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
__________
(1) أورده الحاكم في (المستدرك على الصحيحين) 3/62، وهو في (مجمع الزوائد)9/25، وفي مسند البزار 5/395، ورواه الطبراني في (الأوسط) 4/209.
والحجة على هذا: ما روى عمار بن أبي عمار(1)
__________
(1) له تراجم في التأريخ الكبير 7/26، والكشاف 2/51 وغيرها، وقال عنه في (تهذيب التهذيب) 7/353: عمار بن أبي عمار، مولى بني هاشم، ويقال مولى بني الحارث بن نوفل أبو عمرو، ويقال: أبو عمر، ويقال أبو عبد الله، روى عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وابي قتادة وعبد الله بن نوفل بن الحارث وجابر بن عبد الله وغيرهم، وعنه عطاء بن أبي رباح ونافع، وهما من أقرانه، وعلي بن زيد بن جدعان وشعبة ومعمر، ويونس بن عبيد وخالد الحذاء، وعوف الأعرابي ويحيى بن صبيح وحمادة بن سلمة وآخرون.
…قال أحمد وأبو داود: ثقة،و قال أبو زرعة وأبو حاتم: ثقة لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مات في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق. قلت: وقال: كان يخطئ، وقال البخاري في الأوسط بعد أن ساق حديثه عن ابن عباس في سن النبي: لا يتابع عليه، وقال: وكان شعبة يتكلم فيه، وقال أبو داود: قلت لأحمد: روى شعبة عنه حديث الحيض، قال: لم يسمع غيره، قلت: تركه عمداً؟ قال: لا لم يسمع، وقال النسائي: ليس به بأس.
أنه قال: ماتت أم كلثوم(1)
بنت أمير المؤمنين كرم الله وجهه وولدها زيد(2)
__________
(1) لها تراجم عدة، منها في (المقتنى في سرد الكنى) 2/171، وفي (تعجيل المنفعة) 1/563، وفي (رواة الاثار) 1/211، وقال عنها في (الاستيعاب)4/1954-1956: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ولدت قبل وفاة رسول الله÷، أمها فاطمة الزهراء بنت رسول الله÷، خطبها عمر بن الخطاب إلى علي بن أبي طالب فقال له: إنها صغيرة، فقال له عمر: زوجنيها يا أبا الحسن فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد، فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين في الروضة وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون فقال لهم: رفئوني، فقالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وقد سمعت رسول الله÷ يقول: ((كل نسب وسبب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري)) فكان لي به% النسب والسبب فأردت أن أجمع إليه الصهر، فرفأؤه.
…وذكر ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن ابيه عن جده أن عمر بن الخطاب تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب على مهر أربعين ألفاً. قال أبو عمر: ولدت أم كلثوم بنت علي لعمر بن الخطاب زيداً ورقية بنت عمر، وتوفيت أم كلثوم وابنها زيد في وقت واحد، وقد كان زيد أصيب في حرب كانت بين بني عدي ليلاً كان قد خرج ليصلح بينهم فضربه رجل منهم في الظلمة فشجه وصرعه، فعاش أياماً ثم مات هو وأمه في وقت واحد، وصلى عليهما ابن عمر، قدمه الحسن بن علي، وكانت فيهما سُنَّتَان فيما ذكروا لم يورث واحد منهما من صاحبه؛ لأنه لم يعرف أولهما موتاً.
…وفي (الإصابة) 8/293: أن سعيد بن العاص هو الذي صلى عليهما، ولم يرد أن سعيد بن زيد صلى عليهما كما جاء في الأصل، والله أعلم.
(2) قال عنه في (الجرح والتعديل) 3/568: زيد بن عمر بن الخطاب، من أم كلثوم بنت علي.
…وفي (تهذيب الأسماء)1/200: زيد بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من زوجته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة بنت رسول الله رضي الله عنهم.
…قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: توفي زيد وأمه أم كلثوم في ساعة واحدة وهو صغير لا يدرى أيهما مات أولاً.
بن عمر بن الخطاب فصلى عليهما سعيد بن زيد(1)
فجعل زيداً مما يلي الإمام وأمه من قدامه مما يلي القبلة، وفي القوم الحسن والحسين وابن عباس وأبو هريرة حتى عد ثمانين من الصحابة رضي الله عنهم. فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هكذا السنة. وهذا هو رأي الهادي في الأحكام.
__________
(1) قال عنه في (التأريخ الكبير) 3/452: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أبو الأعور القرشي ثم العدوي، قدم من الشام بعدما انصرف النبي÷ من بدر فضرب له رسول الله÷ بسهمه.
…قال أبو نعيم: حدثنا عبد السلام عن يزيد بن أبي زياد عن يزيد بن يحنس عن سعيد بن زيد أن النبي÷ خرج وهو محتضن الحسن أو الحسين قال: ((اللهم إني أحبه فأحبه)) مات سعيد سنة ثمان وخمسين. وفي ترجمته في (الجرح والتعديل) 4/21 جاء ما ملخصه: سعيد بن زيد بن عمرو بن الأعور القرشي العدوي، مات بالعقيق، ودفن بالمدينة في ولاية معاوية، روى عنه ابن عمر وعمرو بن حريث وأبو الطفيل عامر بن واثلة، قال: سمعت أبي يقول ذلك. وفي (الإصابة) 3/103 قال عنه: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى، العدوي، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأمه فاطمة بنت بعجة بن مليح الخزاعية، كانت من السابقين إلى الإسلام، أسلم قبل دخول رسول الله دار الأرقم، وهاجر وشهد أحداً والمشاهد بعدها، ولم يكن بالمدينة زمان بدر، فلذلك لم يشهدها. اهـ.
القول الثاني: أنه إذا اجتمع جنائز الرجال والنساء فإنه تُجعل النساء مما يلي الإمام والرجال يكونون مما يلي القبلة بعدهن. وهذا هو المحكي عن القاسم بن محمد(1)
وسالم بن عبدالله(2)
__________
(1) من أشهر رجال الحديث رواية، وتراجمه في معظم كتب الرجال، منها (التأريخ الكبير) 7/157، وفي (الجرح والتعديل) 7/118، و(لسان الميزان) 4/465، و(تهذيب الأسماء)2/366، وجاء في ترجمته في (سير أعلام النبلاء) 5/53-60: القاسم بن محمد بن خليفة رسول الله÷ أبي بكر الصديق عبدالله بن أبي قحافة، الإمام القدوة الحافظ الحجة، عالم وقته بالمدينة مع سالم وعكرمة، أبو محمد وأبو عبدالرحمن القرشي التيمي البكري المدني، ولد في خلافة الإمام علي فروايته عن أبيه عن جده انقطاع على انقطاع، فكل منهما لم يلحق أباه، وربى القاسم في حجر عمته أم المؤمنين عائشة، وتفقه منها وأكثر عنها، وروى عن ابن مسعود مرسلاً، وعن زينب بنت جحش مرسلاً، وعن فاطمة بنت قيس وابن عباس، وابن عمر وأسماء بنت عميس جدته، وأبي هريرة ورافع بن خديج، وعبد الله بن خباب وعبد الله بن عمرو، ومعاوية وطائفة. حدث عنه ابنه عبد الرحمن والشعبي، ونافع العمري وسالم بن عبد الله، وأبو بكر بن حزم والزهري، وابن أبي مليكة وسعد بن إبراهيم وحميد الطويل وأيوب وربيعة الرأي وعبيد الله بن عمر، وابن عون وربيعة بن عطاء وثابت بن عبيد وجعفر بن محمد وغيرهم. قال ابن المديني: له مئتا حديث، وقال ابن سعد: أمه أم ولد يقال لها سودة، وكان ثقة عالماً رفيعاً، فقيهاً إماماً ورعاً كثير الحديث.
(2) له تراجم في مختلف كتب الرجال، منها ما جاء في (سير أعلام النبلاء) 4/457-467 ملخصاً في الآتي: سالم بن عبد الله بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، الإمام الحافظ مفتي المدينة، أبو عمر وأبو عبد الله القرشي العدوي المدني، وأمه أم ولد، مولده في خلافة عثمان.
…حدث عن أبيه فجود وأكثر، وعن عائشة، وذلك في سنن النسائي وأبي هريرة، وذلك في البخاري ومسلم عن زيد بن الخطاب العدوي، وأبي لبابة ابن عبد المنذر، وذلك مرسل وعن رافع بن خديج وسفينة وأبي رافع مولى النبي÷ وسعيد بن المسيب وامرأة أبيه صفية، وعنه ابنه أبو بكر وسالم بن أبي الجعد، وعمرو بن دينار القهرمان، ومحمد بن واسع، ويحيى بن إسحاق الحضرمي، وأبو بكر بن حزم والزهري، ومحمد بن أبي حرملة وكثير بن زيد، وفضيل بن غزوان، وحنظلة بن أبي سفيان، وصالح بن كيسان وصالح بن محمد بن زائدة، أبو واقد، وعاصم بن عبد الله وعبد العزيز بن أبي رواد، وعبيد الله بن عمر وعكرمة بن عمار، وابن أخيه عمر بن حمزة وابن ابن أخيه عمر بن محمد بن زيد وابن ابن أخيه خالد بن أبي بكر بن عبيد الله وابن أخيه القاسم بن عبيد الله وخلق سواهم.
قال ابن أبي الزناد: كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم الغر السادة علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة علماً وتقى وعبادة وورعاً، فرغب الناس حينئذٍ في السراري.
…قال ابن المبارك: كان فقهاء المدينة الذي كانوا يصدرون عن رأيهم سبعة: ابن المسيب وسليمان بن يسار، وسالم والقاسم وعروة وعبيد الله بن عبد الله، وخارجة بن زيد، وكانوا إذا جاءتهم مسألة دخلوا فيها جميعاً، فنظروا فيها ولا يقضى حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها فيصدرون.
والحسن البصري وسعيد بن المسيب.
والحجة على هذا: هو أن القبلة من أشرف الأمكنة فلهذا خص الرجل به كما إذا دفنا في لحد واحد معاً فإنه يقدم الرجل إلى القبلة فهكذا هاهنا.
القول الثالث: أنه يُقدم جنائز الرجال الأحرار ثم جنائز النساء الحرائر على جنائز العبيد. وهذا هو الذي ذكره الهادي في المنتخب.
والحجة على هذا: هو أن الحرية صفة عالية. والرق صفة نازلة. فالحر يملك نفسه ويملك تصرفه، والعبد لا يملك نفسه ولا يملك تصرفه، فلما كان الأمر كما قلناه لا جرم قدمت النساء الحرائر على العبيد لما ذكرناه.
والمختار: ما ذكره السيدان الأخوان رضي الله عنهما من صحة الترتيب الذي ذكرناه على رواية الأحكام.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو ما روي عن ابن عمر: أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء بعدهم مما يلي القبلة وصلى. وهذا لا يصدر من جهة الصحابي إلا عن توقيف من جهة الرسول÷ لأن هذه عبادة وفيها تقديم وتأخير لا يصدر إلا من جهة الرسول÷ إذ لا مدخل للإجتهاد فيه.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: ما يلي القبلة أفضل كما إذ لو وضعوا في اللحد.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الرجال يكونون إلى جانب الإمام كما في سائر الصلوات.
وأما ثانياً: فلأن اللحد ليس فيه إمام، فلهذا اعتبرنا القبلة بخلاف ما نحن فيه فالإمام معتبر فافترقا.
وإن اختلف الأولياء في من يكون إلى جانب الإمام عند الوضع للصلاة نظرت، فإن كان الأموات رجالاً على الإنفراد أو نساء على الإنفراد قدم السابق، لأن له مزية السبق وهم جنس واحد فلا مزية إلا بالسبق، وإن كانوا رجالاً ونساءاً قدم الرجال سواء كان النساء سابقات أو مسبوقات، لأن السنة في الموقف أن تكون المرأة خلف الرجل، وإن اجتمع رجل وصبي فإن كان الرجل السابق قدم إلى جانب الإمام، وإن كان الصبي هو السابق قدم لأن له حقاً بالسبق وقد يقف مع الرجل في الموقف بخلاف المرأة.
الفرع الثامن: في التكبير. وفيه مسائل خمس:
المسألة الأولى: قال القاسم%: من كبر قبل تكبير الإمام التكبيرة الأولى أعاد التكبير إذا كبر الإمام لأمرين:
أما أولاً: فلقوله÷: ((لا تختلفوا على إمامكم)). ولا شك أن كل من كبر مع الإمام تكبيرة الإفتتاح فقد خالفه.
وأما ثانياً: فلأنه إذا كبر قبله لم يكن مؤتماً به لأن من حق المأموم أن يكون متابعاً للإمام.
المسألة الثانية: قال الهادي في المنتخب: وإذا كبر الإمام على الجنازة تكبيرة واحدة ثم جيء بجنازة أخرى ففي ما يفعل الإمام قولان:
فالقول الأول: أن الإمام ينوي الصلاة عليها عند التكبيرة الثانية ويبلغ بالتكبيرات ستاً، وهكذا يفعل في كل جنازة توضع فمتى كملت عليها خمس تكبيرات رفعت للدفن وعلى هذا يكون تقرير المذهب.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول÷: أنه لما صلى على حمزة يوم أحد كانت الجنائز توضع واحدة بعد واحدة والرسول÷ يصلي عليها وجنازته موضوعة فحصل له سبعون تكبيرة ولم يستأنف الصلاة على كل واحدة منها، فإن كان ذلك في صلاة واحدة فهو الذي نقوله، وإن كان في صلوات مستأنفة أدَّى ذلك إلى أن يكون قد كرر الصلاة عليه في حالة واحدة، وتكرير الصلاة في حالة واحدة على ميت واحدٍ من مصلٍ واحدٍ ليس مذهباً لأحد ولا قائل به.
القول الثاني: محكي عن أبي حنيفة وأصحابه: أنه يفرغ من الصلاة على الجنازة الأولى ثم يستأنف الصلاة على الجنازة الثانية.
والحجة على هذا: هو أن الإمام إذا فعل ذلك كان أوفر للدعاء وأقرب إلى القياس كما لو كان في أوقات مختلفة.
والمختار: أن كل واحدٍ من الأمرين جائز لأن أي واحد منهما فعل فقد حصل به الغرض المقصود من توفير التكبيرات على كل ميت لكن المقصود هو تعيين الأفضل ولا شك أن الإقتداء بالرسول÷ هو الأفضل وما فعله فهو الأحسن الأكمل وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]. وقوله: {وَاتَّبِعُوهُ}.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: القياس: هو أن يكون على كل واحدٍ من الجنائز صلاة مستأنفة فلا حاجة إلى العدول عنه.
قلنا: قد أوضحنا أن القياس ما ذكرتموه لكن إنما عدلنا عن القياس تأسياً بالرسول÷ في أفعاله، خاصة والباب باب عبادة فلا مدخل للأقيسة فيها.
المسألة الثالثة: قال الناصر: وإن كبر التكبيرات الخمس بالفارسية أجزأه ذلك سواء أحسن العربية أو لم يحسن، وهكذا سائر الأدعية المشروعة في صلاة الجنازة يجوز تأديتها بالفارسية. وإن أراد قراءة القرآن فيها فلا يجوز ذلك إلا بالعربية كما قررناه في كتاب الصلاة، لأن قراءة القرآن بالفارسية يبطل إعجازه ويخرجه عن كونه قرآناً، فلهذا لم تجز قراءته بالفارسية لما ذكرناه.
ومن فاته بعض التكبيرات فإنه يكبر إذا سلم الإمام. عند أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: هو أنه مسبوق في صلاته فيلزمه قضاء ما فاته بعد تسليم الإمام كمن سبق في سائر الصلوات، ويكبر قبل رفع الجنازة لأنها ما دامت بين يديه كان مصلياً عليها، فإذا رفعت خرج عن أن يكون مصلياً عليها.
المسألة الرابعة: وإن فاته الإمام ببعض التكبيرات، فهل يكبر للإفتتاح أو ينتظر تكبير الإمام؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يكبر بل ينتظر تكبير الإمام فيكبر معه. وهذا هو الذي حصله السيد أبو طالب للمذهب، وهو محكي عن أبي حنيفة، ومحمد.
والحجة على هذا: هو أن كل تكبيرة من صلاة الجنازة قائمة مقام ركعة فالمسبوق إذا لحق الإمام فإنه لا يبدأ بقضاء ما فاته، وإنما يقضيه بعد فراغ الإمام من صلاته، فلو كبر قبله لكان قد بدأ بما فاته.
المذهب الثاني: أنه يكبر ولا ينتظر الإمام. وهذا هو رأي الشافعي ومحكي عن أبي يوسف.
والحجة على هذا: هو أنه مدرك للإمام فلهذا دخل معه من غير انتظار كسائر الصلوات.
والمختار: هو التكبير من غير انتظار تكبير الإمام.
والحجة على هذا: هو أن صلاة الجنازة ليست بأبلغ من الصلوات المكتوبة، وقد تقرر فيها أن المأموم يكبر من غير انتظار فهكذا هاهنا.
ويؤيد ما ذكرناه: قوله÷: ((من أدركني فليكن على الحالة التي أنا عليها)). ولم يأمر بالانتظار، وفي هذا دلالة على ما قلناه من التكبير من غير انتظار لتكبير الإمام، ولا فائدة في قوله: ((فليكن على الحالة التي أنا عليها)). إلاَّ بالدخول من غير انتظار الإمام.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إنه إذا كبر قبل تكبير الإمام كان قاضياً لما فاته لأن التكبيرات بمنزلة الركعات.
قلنا: إنه يكبر لإفتتاح الصلاة لا للقضاء كما في الصلاة المكتوبة، وإن فاته شيء من التكبيرات فإنما يقضيه بعد تسليم الإمام.
ويؤيد ما ذكرناه: قوله÷: ((ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا)). ومن هذه حاله فهو مدرك للتكبير، فلهذا لا وجه للانتظار لَمَّا كان مدركاً للتكبير.
المسألة الخامسة: وإذا كبر على الجنازة خمساً من غير قراءة ولا دعاء للميت ولا لغيره لم تكن مجزية ووجب إعادتها لأنه أخل بالمقصود، لأن معظم المقصود منها هو الدعاء للميت، ولأنها تكبيرات مشروعة على الجنازة فيجب أن يتخلل بينها ذكر مشروع كصلاة العيدين.
الفرع التاسع: وإن اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، ولم يمكن التمييز بينهم ففي كيفية الصلاة عليهم ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يصلي عليهم وينوي بالصلاة والدعاء المسلمين. وهذا هو الذي ذكره أحمد بن يحيى في (المفرد) في إمام يقاتل أهل الشرك فَقُتِلَ المسلمون في المعركة وفيهم يهود ونصارى فإن الإمام يصلي وينوي بالصلاة من كان مسلماً دون غيره.
والحجة على هذا: هو أن الصلاة قد وجبت فلا يجوز إسقاطها بالشك، كما لو نسي صلاة من صلاة يوم وليلة لأن المانع ليس إلا الإختلاط وهذا لا يكون مانعاً من تأدية الصلاة الواجبة لأنه يمكن تمييزها بالنية.
القول الثاني: أنه يصلي على كل واحد منهم صلاة وينوي بالصلاة عليه إن كان مسلماً.
والحجة على هذا: هو أنه اختلط من يصلى عليه بمن لا يصلى عليه ولم يتميزوا فوجب أن يؤدي الصلاة بالقصد والنية. وهذا القول محكي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل.
القول الثالث: أنه إذا كان المسلمون أكثر وجبت الصلاة بالنية، وإن كان المسلمون أقل لم تجب الصلاة. وهو رأي أبي حنيفة.
والحجة على هذا: هو أنهم إذا تساووا غلب جانب الحظر على جانب الإباحة، كما لو كان هاهنا إناآن في أحدهما بول وفي الآخر ماء فإنه لا يجوز التوضؤ ويعدل إلى التيمم.
والمختار: هو وجوب الصلاة وتمييزهم بالنية والقصد.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا، وهو قوله÷: ((إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم)). وهاهنا فإنه يمكن تأدية الصلاة بالنية والقصد، فلهذا لم تكن ساقطة.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: يصلي على كل واحدٍ منهم لأجل الإلتباس كما قاله الشافعي.
قلنا: هذا ربما صعب وشق خاصة إذا كان فيهم كثرة ولم يمكن التمييز، وفيما ذكرناه غنية عن تكرير الصلاة على كل واحد منهم لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. وفي الصلاة على كل واحدٍ منهم حرج ومشقة.
قالوا: إذا كان المشركون أكثر بطلت الصلاة تغليباً لجانب الحظر على جانب الإباحة كالإنائين اللذين أحدهما بول والآخر ماء كما قاله أبو حنيفة.
قلنا: إنما يغلب جانب الحظر على جانب الإباحة إذا لم يكن هناك مخصص، وهاهنا مخصص يزيل الحظر وهو النية، فلهذا وجب التعويل عليها.
ووجه آخر: وهو قوله÷: ((الأعمال بالنيات ولكل امرء ما نوى)). فظاهر الخبر دال على أن النية لها مدخل في تزكية العمل وإخلاصه، فهكذا يكون لها تأثير في تمييز الجواز على الحظر.
الفرع العاشر: أجمع العلماء واتفق الفضلاء من أكابر أهل البيت كالحسين بن علي والقاسم والهادي والناصر وغيرهم من علماء العترة، على أن كل من يلي الصلاة على الفساق والظلمة وأهل البدع والضلالات الخارجين على الدين والمتمردين بأكل أموال الناس وخضمها وقضمها خاصة ظلمة أهل زماننا هذا والمحاربين لله ولرسوله فهم الساعون في الأرض بالفساد، فمن مات من هؤلاء مصراً على ما هو عليه من اقتحام الكبائر وملابسة المعاصي فإنهم يُلعنون في الصلاة عليهم ويسأل من الله تعالى ما يستحقونه من العذاب والجزاء والنكال، ولا يسأل من الله تعالى ما لا يستحقونه من الثواب والمغفرة فإنه لا يجوز فعلها لهم مع الإصرار [بل] كما فعل الحسين بن علي في صلاته على سعيد بن العاص من اللعن حتى قال له قائل: هذه صلاتكم على موتاكم؟ فقال: هذه صلاتنا على أعدائنا.
فإن زعم زاعم وقال: إن الرسول÷ صلى على عبدالله بن أُبَيَّ(1)
واستغفر له مع ظهور نفاقه وكفره وبغضته للرسول÷ ولم يلعنه في صلاته بل استغفر له، فإذا جاز ذلك في حال من ظهر كفره ونفاقه، فكيف لا يجوز لمن كان فاسقاً وليس كافراً من طريق الأولى والأحق؟
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فقد نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ}[التوبة:84]. ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:84]. وما نهاه إلا لأجل ما ذكرناه من المفسدة، فهكذا حال من ذكرناه لا تنبغي الصلاة عليهم، فإن خاف من ترك الصلاة ضرراً يلحق به أو إسقاط مرتبة أو غير ذلك من أنواع المضار فإنه يلعنهم في صلاته.
وأما ثانياً: فلأن ضرر عبدالله بن أبي إنما كان على نفسه(2)
__________
(1) عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد الخزرجي، أبو الحباب المشهور بابن سلول، وسلول جدته لأبيه من خزاعة، رأس المنافقين في الإسلام من أهل المدينة، كان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم، وأظهر الإسلام بعد وقعة بدر تقية، ولما تهيأ النبي÷ لوقعة أحد انخذل عبد الله بن أُبي وكان معه ثلاثمائة رجل فعاد بهم إلى المدينة، وفعل ذلك يوم التهيؤ لغزوة تبوك، وكان كلما حلت بالمسلمين نازلة شمت بهم، وكلما سمع بسيئة نشرها، وله في ذلك أخبار، ولما مات تقدم النبي÷ فصلى عليه فنزلت: {ولا تصل على أحد منهم...} الآية. اهـ (الأعلام) 4/65.
(2) لعل في هذا نظراً كون عبد الله بن أبي كان ضرره أيضاً على المسلمين بالتحريض والتخذيل عن اتباع رسول الله÷، وعن الجهاد، وبالإغراء بين المسلمين كما فعل بين الأوس والخزرج حتى كادوا يعيدون (يوم بعاث) في الجاهلية، لولا أن تداركهم رسول الله.
بكفره ونفاقه، وهؤلاء الفسقة والظلمة من أهل زماننا هذا، ضررهم على غيرهم من المسلمين بالظلم والجور فإنهم صاروا كالسباع الضارية في أكل أموال الناس بالباطل لصوصاً سَلاَّبِين يغصبون أموال الخلق ويتعلقون في قلاعهم اللعينة حتى يفرغوا(1)
فإذا فرغوا نزلوا، وهكذا دأبهم مع الخلق لا يقلعون عن ذلك إلا بالسيف، يلبسون الرقيق ويأكلون الرقيق، ويتبجحون بالظلم والإستيلاء على الخلق، ما كأنهم سمعوا قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء:47]. وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}[النساء:143]. وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه}[الزلزلة:7]. وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه}[الزلزلة:8]. فإذا كانت مثاقيل الذر محصاة فكيف ما وراءها. ولقد قل المعين على إزالة الظلم وإزاحة الجور فالله لهم بالمرصاد {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}[الشعراء:227].
الفرع الحادي عشر: قال الناصر: الصلاة على الميت مشتملة على خمس تكبيرات من غير ركوع ولا سجود ولا قراءة ولا قعود ولا تشهد. وجملة الأمر أن صلاة الجنازة مشروعة على أمور واجبة وأمور مستحبة.
فأما الأمور الواجبة: فهي: النية، والتكبيرات، والقراءة، والصلاة على الرسول وعلى الآل، والدعاء للميت وللمؤمنين والمؤمنات، والتسليم.
وأما الأمور المستحبة: فرفع اليدين عند التكبيرة الأولى، والتعوذ، والاستفتاح.
فإن نَقَّصَ من هذه التكبيرات بطلت صلاته وأعيدت، وإن زاد عليها لم تبطل، سهواً كانت الزيادة أو عمداً.
__________
(1) يبدو أن المؤلف أراد: حتى يفرغوا من استهلاك ما نهبوه، والله أعلم.
وإن سها في صلاة الجنازة فلا سجود للسهو لأن سجود السهو إنما شرع في صلاة ذات ركوع وسجود، وصلاة الجنازة لا ركوع فيها وإنما هي عبارة عن خمس تكبيرات، من غير ركوع ولا سجود ولا قعود ولا تشهد، متواليات يتوسط بينها ذكر مشروع في قومة واحدة بتسليمتين. وقد فصلنا ذلك.
وبتمامه يتم الكلام في الصلاة على الموتى.
---
القول في دفن الميت
وهو فرض من فروض الكفاية لقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21].قال ابن عباس في تفسير الآية: أي أكرمه بالقبر. لأنه إذا تُرك على وجه الأرض تأذى الناس بجيفته ورائحته. ولا خلاف في وجوبه على الكفاية، وأنه إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين.
وأقله: حفرة تواري جسده وتمنعه عن أكل السباع وتكتم رائحته. والأكمل: أن يكون قعيراً كما سنوضح القول في مقداره.
واللحد أولى من الضرح إلا أن يكون رخواً ينهار جاز الضرح للعذر.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: والأولى الدفن بالنهار لأنه أمكن لما يحتاج إليه. وهل يكره الدفن بالليل أم لا؟
فالذي عليه أئمة العترة والفقهاء أنه لا يكره.
والحجة على هذا: ما روي عن عائشة، أنها قالت: ما عرفنا دفن رسول اللّه حتى سمعنا صوت المساحي أول ليلة الأربعاء.
وروي عن عائشة أنها دُفنت ليلاً، وفاطمة بنت رسول اللّه دفنها أمير المؤمنين ليلاً.
قال الناصر: وقد قيل: إن قبر فاطمة في مسجد دارها، وجماعة من أولادها مدفونون في قبرها تبركاً بأمهم فاطمة+. وقيل: إنها في خوخة دار مبنية عند الخوخة. والخوخة: اسم بقعة بالمدينة. وقال قوم: إن قبرها على الجادة على باب دار محمد بن زيد بن علي(1)
__________
(1) له عدة تراجم، وكان إماماً عالماً عابداً، يعمل على محاربة الظلم ومساندة المظلومين، وهو ابن الإمام المجاهد الشهيد زيد بن علي.
قال عنه في (تأريخ بغداد) 5/288: محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو عبد الله الهاشمي، وهو أخو يحيى وعيسى بن زيد، ورد بغداد في أيام المهدي.
أخبرنا الحسن بن أبي بكر أخبرنا الحسن بن محمد بن يحيى العلوي، حدثنا جدي حدثني عبيد الله بن محمد بن عمر، قال: أوصى محمد بن عبد الله يعني بن الحسن بن الحسن فقال: إن حدث بي حدث فالأمر إلى أخي إبراهيم بن عبد الله، فإن أصيب إبراهيم بن عبد الله فالأمر إلى عيسى بن زيد بن علي ومحمد بن زيد بن علي، قال جدي: وكان محمد بن زيد من رجالات بني هاشم لساناً وبياناً.
.
وقيل: إنها بالبقيع في المسجد الذي يصلي فيه الناس على جنائزهم، وبقيع الغرقد: مقبرة المدينة، ولم يؤذن أمير المؤمنين أحداً بموتها لأنها أوصته بذلك، فلهذا دفنها ليلاً.
وَدُفِنَ أمير المؤمنين بالسر ليلاً لأن بني أمية كانوا مستولين على العراق مالكين للأمر والدولة بأيديهم بالقهر والتغلب، وكانوا ينبشون قبور أعدائهم فدفن ليلاً سراً مخافة منهم، وكانوا في غاية الاجتهاد على عداوته وبغضه، وكان في غاية الشدة عليهم بالسيف والسنان والقلم واللسان تقرباً إلى الله تعالى وغضباً لدينه، ولله در أمير المؤمنين كرم الله وجهه ما أصلبه في ذات الله وأشد شكيمته على أعداء الدين وأعداء الله. واختلف في قبره فقال قوم: هو في رحبة مسجده بالكوفة. وقال قوم: هو في مسجد الجامع بالكوفة، والذي عليه الناصر والقاسم وجعفر الصادق: أنه مدفون بالغري وهو مسجده الذي يزار فيه اليوم وهو مشهد معظم مشهور يقصد للزيارة مزخرف بالعمارة. وروي أن عثمان دفن ليلاً.
وحكي عن الحسن البصري: أنه يكره الدفن ليلاً.
وحجته على هذا: هو أنه يروى أن ملائكة النهار أرفق.
والمختار: أنه لا يكره ليلاً ولا نهاراً لأنه لو كان مكروهاً لم يفعله الصحابة في دفن رسول اللّه ، ولا دفن أمير المؤمنين وفاطمة وعائشة، وفي هذا دلالة على الجواز في الليل والنهار جميعاً.
الانتصار: يكون بالجواب عما قاله.
قوله: إن ملائكة النهار أرفق من ملائكة الليل.
قلنا: لو كان الأمر كما قلتم لدل عليه الشرع ونبه عليه، ولأنه هو الدال على الأحكام الشرعية بقوله وفعله وسكوته فلما لم ينبه عليه بطل.
الفرع الثاني: والمستحب لمن مات في مكة أن يدفن في مقبرتها، وكذلك من مات في المدينة أن يدفن بالبقيع. لما روي عن الرسول أنه قال: ((يؤتى يوم القيامة بمقبرة مكة والمدينة فتنثران في الجنة)). وإن مات في بيت المقدس فالأفضل أن يدفن في مقبرتها لحرمتها وشرف منزلتها وبركتها كما قال تعالى: {إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}[الإسراء:1]. وإن مات في بلدة غير هذه البلدان فإن كانت مقبرة تذكر بخير من كونها فيها قبور الصالحين فالأفضل الدفن فيها، لأنه لا يعدم بركة لمجاورة أهل الصلاة والخير، ولأنها مزورة من أهل الصلاح فلا يعدم خيراً من الدعاء والزيارة وإن لم يذكر شيء من ذلك، فالدفن في المقابر أفضل من الدفن في البيت لما يلحقه من دعاء المسلمين الذين يزورون القبور.
فإن قيل: فالرسول دفن في بيت عائشة فيجب الإقتداء به في دفن البيت.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلما روى أبو بكر رضي اله عنه أنه قال: سمعت شيئاً من رسول اللّه ما نسيته. سمعته يقول: ((ما قبض نبي إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه )) (1)
ادفنوه في موضع فراشه.
وأما ثانياً: فلأنهم إنما أرادوا تخصيص الرسول بدفنه في بيت عائشة لأنه يكثر الزوار إليه فلهذا خصوه بمكان منفرد عن المقبرة.
وأما ثالثاً: فلأنه قبر أصحابه في المقبرة فلهذا كان الإقتداء بفعله أولى.
الفرع الثالث: وإن تشاجر الورثة فقال بعضهم: ندفنه في ملكه. وقال بعضهم: ندفنه في المقبرة المُسَبَّلة.
__________
(1) روته عائشة وابن عباس قالا: لما قبض رسول الله وغسل اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: ما نسيت ما سمعت رسول الله سمعته يقول: ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)) ادفنوه في موضع فراشه، أخرجه الترمذي. اهـ بلفظه من (تخريج البحر) 2/146، وهو في سنن ابن ماجة 1/520، وفي مسند البزار 1/186، والتمهيد لابن عبد البر 24/399، وكلها بلفظ: ((إلا دفن حيث يقبض)).
فإنه يدفن في المقبرة المسبلة، لأن بالموت قد صار الملك لهم فلا حاجة إلى المِنَّة عليهم بدفنه في أملاكهم.
ولو قال بعض الورثة: أنا أكفنه من مالي، وقال بعضهم: بل يكفن من مال الميت. فإنه يكفن من ماله، والتفرقة بينهما ظاهرة وهو أنه لا منة عليهم في دفنه في المقبرة المسبلة، وعليهم منة في تكفينه من مال الوارث، فإن بادر بعضهم ودفنه في ملك الميت جاز للباقين نقله لأن الملك قد صار لهم لقوله : ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)). خلا أنه يكره لهم نقله لما في ذلك من هتك حرمته بإخراجه من قبره. وإن بادر بعض الورثة فدفنه في ملكه، وكفنه من ماله، فإنه لا ينقل ولا يسلب أكفانه بعد دفنه، لما في ذلك من هتك حرمته، وليس في تبقيته نقص عليهم ولا غضاضة، فلهذا وجب تبقيته.
ويستحب أن يجمع الأهل والقرابة في الدفن في بقعة واحدة. لما روي عن الرسول : أنه لما دفن عثمان بن مظعون أمر رجلاً أن يأتيه بحجر فلم يستطع الرجل حملها فقام إليها رسول اللّه فحسر عن ذراعيه ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال: ((أَعْلِمُ بها على قبر أخي لأدفن إليه من مات من أهلي)) (1).
__________
(1) قال في (تخريج البحر) عن المطلب بن أبي وداعة قال: لما مات عثمان بن مضعون... الحديث، ثم قال: هكذا في رواية أبي داود. اهـ 2/146.
وإن أراد أحد أن يدفن ميتاً في موضع قد دفن فيه ميت آخر نُظِرَ في حاله، فإن كان يعلم أن الميت الأول قد اندرس وبلي وتفرقت أجزاؤه وصار تراباً جاز الدفن فيه لأنه بعد ذلك لا حرمة له. وإن علم أنه باقٍ فيه لم يبل لم يجز الدفن فيه لأنه قد صار أحق به، وذلك يختلف بإختلاف البلدان والأوطان، ففي البلاد الحارة التي يشتد حرها يفنى الميت وتذهب أجزاؤه، وفي البلاد الباردة تبقى الأجزاء ولا تذهب إلا بعد أزمنة طويلة، وهكذا حال الأوطان، فإن كانت الأرض سبخة رطبة فإن الميت يكون أسرع في البلى والتلاشي بخلاف البلاد الصلبة فإنه يبقى زماناً طويلاً. فإن خالف فحفر قبراً فوجد ميتاً وعظاماً باقية أعيد القبر ودفن كما كان ولا يغير عن حاله.
الفرع الرابع: قال الإمامان القاسم والهادي: ويكره أن يدفن في قبر واحد أكثر من شخص واحد. وهو قول أبي حنيفة والشافعي، لأن الرسول كان يفعل هكذا، وقد جرت السنة بذلك من غير مخالفة، فإن دعت إلى ذلك ضرورة بأن يكثر الموتى أو يكثر القتلى أو يكون بالناس جهد لقلة الغذاء في القحط أو يكونوا مشغولين بالحرب جاز أن يدفن الإثنان والثلاثة والأربعة في قبر واحدٍ ويقدم أكثرهم قرآناً إلى القبلة، لما روي عن الرسول : أنه أمر في قتلى أحدٍ أن يجعل الإثنان والثلاثة في قبر واحدٍ. قالوا: فمن نقدم؟ قال: ((أكثرهم قرآناً)) (1).
__________
(1) رواه الترمذي 3/335، وأبو داود 3/195، والنسائي4/80، وأحمد 4/19، وابن أبي شيبة 7/372، وأورده البسام في (شرح بلوغ المرام) 2/499 عن جابر رضي الله عنه، وقال: رواه البخاري.
ويجعل بين كل إثنين جاجز من تراب. وإن دعت الضرورة إلى دفن رجل وامرأة في قبر واحد جاز ذلك، وقدِّم الرجل قدامها إلى القبلة وجعل بينهما حاجز من تراب. وإن كان الأموات رجلاً وصبياً وخنثى وامرأة قدِّم الرجل إلى القبلة ثم الصبي ثم الخنثى ثم المرأة اعتباراً بصف الصلاة عليهم. وإن أعار رجل غيره أرضاً ليقبر فيها ميتاً فله الرجوع حتى يدفن لأنها عارية لم تقبض، فلهذا كان له الرجوع، وإن دفن الميت فيها لم يكن له الرجوع، وإن بلي الميت وذهبت أجزاءه كان له الرجوع كما لو جرفه السيل فإنه لا حرمة بعد زوال الميت عن البقعة. وإن دفن رجل ميتاً في أرض بغير إذن صاحبها، فالمستحب لصاحب الأرض ألا ينقله، لما في ذلك من هتك حرمته، فإن نقله جاز له لأنه دفن فيها بغير إذنه لقوله : ((من أخذ عصا أخيه فليردها عليه)) (1).
وإن مات جماعة من أهله ولم يمكنه دفنهم إلا واحداً بعد واحد نظرت فإن كان يخشى تغير أحدهم دون غيره بدأ بمن يخشى تغيره لأنه معذور في تقديمه لأجل خشية تغيره، وإن كان لا يخشى تغيره فإنه يبدأ بأبيه لأنه أعظم حقاً عليه وأكثر حرمة، وتحتمل البداية بالأم لقوله : ((بر أمك ثم أمك ثم أباك)) . فجعل حق بر الأب بعد الأم بمراتب، وفي هذا دلالة على عظم حقها على غيرها فيحتمل تقديم الأب كما ترى ويحتمل تقديم الأم لما ذكرناه، ويحتمل أن يكونا سواء فيبدأ بأيهما شاء، وإن كانا أخوين قدم أكثرهما قرآناً، وإن استويا قدم أكبرهما سناً، وإن استويا فإليه الخيرة في تقديم أيهما شاء كالأبوين، وإن كانا زوجتين فأكبرهما سناً، وإن استوياً فأكثرهما براً، وإن استويا في البر فأكثرهما صدقة وصلاحاً.
__________
(1) رواه عبد الله بن السائب، عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله يقول: ((لا يأخذن أحدكم عصا أخيه لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها إليه)) أخرجه الترمذي ولأبي داود نحوه. اهـ (تخريج البحر) 2/147.
الفرع الخامس: ولا يقبر مسلم في مقبرة الكفار ولا يقبر كافر في مقبرة المسلمين لقوله : ((المؤمن والكافر لا تتراءى نيرانهما))(1).
ولأن المسلم كما لا يحل له المقام في دار الحرب، فهكذا لا يجوز قبره بين الكفار، ولأن الكافر إذا قبر بين المسلمين فربما يزور المسلمون قبره ويدعون له بالمغفرة والرحمة والكافر ممنوع من الدعاء له بما ذكرناه، فلهذا لم يجز الأمران جميعاً.
وإن ماتت ذمية حاملة بمسلم؟ وهذه المسألة لها صورتان:
الصورة الأولى: على من يمنع نكاح الذميات من أهل الكتابين اليهود والنصارى، كما هو رأي الهادي والقاسم، فبأن يسلم زوجها الذمي وتبقى على ما هي عليه من الكفر، وعلى هذا يكون الولد مسلماً بإسلام أبيه.
الصورة الثانية: على رأي من يجوز نكاح الكتابيات من اليهود والنصارى. كما هو رأي زيد بن علي وغيره.
وعلى هذا فالولد مسلم من يوم العلوق به، فإذا ماتت هذه الذمية وفي بطنها هذا الولد المسلم، فأين يكون قبرها؟ فيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنها تقبر في مقابر أهل الذمة. وهذا هو رأي الهادي والقاسم والناصر، ومحكي عن أبي حنيفة وعطاء والزهري والأوزاعي.
__________
(1) جاء في المصدر السالف: عن النبي أنه قال: ((أنا بريء من كل مسلم أقام بين المشركين)) فقيل: لم يا رسول الله؟ قال: ((لا تتراءى نيرانهما)) هكذا روي وهو طرف من حديث ذكره في (الجامع) ولفظه: عن جرير بن عبد الله قال: بعث رسول الله بسرية إلى خثعم فاعتصم أُناس منهم في السجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك رسول الله فأمرهم بنصف العقل وقال: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)) قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: ((لا تتراءى نارهما)) قال الترمذي وأبو داود: وقد رواه جماعة ولم يذكروا جريراً، قال: وقد روي مرسلاً وهو أصح، وأخرجه النسائي عن إسماعيل بن قيس ولم يذكر جريراً. اهـ بلفظه 2/147.
والحجة على هذا: هو أن الولد ما دام متصلاً في بطن أمه فهو كجزء منها وبعض من أبعاضها لا يجب له شيء من الأحكام، فوجب أن يكون حكمه وهو في بطنها مثل حكمها وهي خالية عنه فلهذا قبرت في مقابر أهل ملتها.
المذهب الثاني: أنها تقبر في مقابر المسلمين. وهذا هو رأي عمر بن الخطاب، ومحكي عن مكحول وإسحاق بن راهويه.
والحجة على هذا: قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[النساء:141].
ووجه الدلالة من الآية: هو أنا لو قبرناها في مقابر الكفار لكنا قد جعلنا للكفار سلطاناً وسبيلاً على المسلمين بدفن المسلمين في مقابرهم ويكونون من جملتهم، فلهذا قلنا: بدفنها في مقابر المسلمين.
المذهب الثالث: أنها تدفن بين مقابر المسلمين ومقابر أهل الذمة. وهذا هو رأي زيد بن علي، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنا لو دفناها في مقبرة المسلمين لكنا قد دفنا كافراً في مقبرة المسلمين، ولو دفناها في مقبرة الكفار لكنا قد دفنا مسلماً بين الكفار، وكلا الأمرين غير جائز، فلهذا قلنا: بأنها تدفن بين المقبرتين.
والمختار: هو جعلها في مكان على انفرادها بين المقبرتين كما قاله زيد بن علي.
وحجتهم: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا: وهو أن جعلها على انفرادها سلامة عن كل محذور وعمل على الإحتياط فلهذا كان عليه التعويل.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: إنه بمنزلة الجزء منها فلهذا لم يكن له حكم غير حكمها فلهذا قبرت في مقابر أهل ملتها من اليهود.
قلنا: ولو كان بمنزلة الجزء منها فقد تقرر له حكم الإسلام وهو أغلب لقوله : ((الإسلام يعلوا ولا يُعلا)) (1).
قالوا: يقبر في مقابر المسلمين.
__________
(1) أخرجه البخاري 1/454، وهو في السنن الكبرى للبيهقي 6/205، وفي سنن الدارقطني 3/252.
قلنا: وهذا يؤدي إلى محذور، وهو دفن كافر في مقابر المسلمين. ولا خلاص عن هذين المحذورين إلا بما قلناه من دفنها في قبر منفرد وحدها. هذا كله إذا مات الولد في بطنها، وأما إذا كان حياً بعد موتها فإنه يجب شق بطنها وإخراجه، فإذا مات بعد إخراجه دفن في مقابر المسلمين لأنه من جملتهم، ودفنت في مقابر أهل الذمة لإنفصال الولد عنها ولا خلاف فيه.
الفرع السادس: المقابر على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول منها: مقابر أهل الشرك وأهل دار الحرب. فهل تجوز زراعتها وإحياؤها أم لا؟ فيه قولان:
القول الأول: المنع من ذلك. وهذا هو الذي ذكره أحمد بن يحيى والسيد أبو طالب، لأن عمل المسلمين قد جرى بالإمتناع من ذلك.
القول الثاني: جواز ذلك. وهذا هو رأي الإمام المؤيد بالله وهو المختار.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول أنه لما دخل المدينة وبركت الناقة في مربد لأبي أيوب الأنصاري(1)
فشراه(2)
الرسول من أبي أيوب وجعله مسجداً، وكان في جانب منه مقبرة للجاهلية فأمر رسول اللّه بها فنقلت ورجم بعظامهم، وذلك لأنه لا حرمة لهم في حال الحياة فهكذا لا حرمة لهم بعد الموت.
الضرب الثاني: مقابر أهل الذمة وحكمها حكم مقابر المسلمين؛ لأن دمائهم وأموالهم مصونة بالذمة في حال الحياة، فهكذا مقابرهم فإنه لا يجوز لأحد زراعتها وإحياؤها لما ذكرناه.
الضرب الثالث: مقابر المسلمين فإنه لا يجوز لأحد زراعتها وإحياؤها.
__________
(1) المربد هو لغلامين يتيمين من بني النجار وهما في حجر معاذ بن عفراء، سهل وسهيل ابني عمرو.
والمربد: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر. اهـ. (سيرة النبي) لابن هشام.
(2) هكذا في الأصل؛ والمقصود: فاشتراه.
قال المؤيد بالله: ولا يجوز لأحد زراعة مقابر المسلمين، ويأثم إن زرع ويكون الزرع له. هذا كله إذا كانت عامرة وأعلامها باقية ورسومها ظاهرة، فأما إذا جرفها السيل وامحت أعلامها ورسومها وصارت أرضاً بيضاء لا عهد فيها للقبور ولا رسم فيها ظاهر، صارت إلى المصالح يصرفها الإمام حيث يشاء، وتجوز زراعتها والعمارة فيها، وإن رأى أن يسبلها مقبرة ثانية جاز ذلك لأنها صارت من أموال المصالح.
الفرع السابع: في التقبير. ويشتمل على مسائل[ثمان]:
المسألة الأولى: والمستحب إعماق القبر لما روي عن الرسول أنه قال: ((احفروا وأوسعوا وأعمقوا)) (1).
اختلف العلماء في حد إعماقه.
فحكي عن الشافعي: أنه قال: يكون عمقه قامة وبسطة باليد، قدر أربعة أذرع ونصف.
وعن عمر بن عبدالعزيز: إلى السرة.
وعن مالك: أنه قال: لا حد له.
والمختار: الذي يأتي على المذهب، لأني لم أقف على قدر عمقه في كلام أئمة العترة، أن يكون أقله ما يواري جسد الميت، ويستر عورته، ويمنعه عن السباع، والأكمل فيه: أن يكون قدر عمقه إلى الثدي. وفي ذلك كفاية عمن يريد نبشه، وعن خروج الرائحة وحماية له عن السباع.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: احفروا قبري قدر قامة وبسطة. وفيما ذكرناه كفاية عن هذا القدر.
__________
(1) أخرجه الترمذي 4/213، وأبو داود 3/214، والنسائي 4/81، وابن ماجة 1/497، وهو في السنن الكبرى للبيهقي 3/413، وفي مصنف عبد الرزاق 3/508، ومسند أحمد 4/19.
قال في (نيل الأوطار): عن هشام بن عامر قال: شكونا إلى رسول الله يوم أحد فقلنا: يا رسول الله الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال: ((احفروا واعمقوا واحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد))... الحديث، قال: رواه النسائي والترمذي بنحوه، وصححه. اهـ 4/78.
ويستحب: أن يوسع عند رأس الميت ورجليه. لما روي عن الرسول أنه قال للحافر: ((أوسع من قبل رأسه ورجليه)) (1).
والمستحب: أن يلحد لقبور المسلمين.
قال القاسم والهادي: ينبغي أن يلحد لقبور المسلمين إلا أن لا يتمكن منه فيضرح. لما روى زيد بن علي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه لما قبض رسول اللّه قالوا له: أنلحد أم نضرح؟ فقال : سمعت رسول اللّه يقول: ((اللحد لنا والشق لغيرنا)) (2).
وقوله : ((الشق لغيرنا)). يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يريد أن الشق لأهل الجاهلية والشرك وعبدة الأوثان والأصنام.
وثانيهما: أن يريد بقوله: ((والشق لغيرنا)). أهل الكتابين من اليهود والنصارى.
واللحد: هو حفرة في جانب القبر مما يلي القبلة يوضع فيه الميت، فإن كانت الأرض شديدة فاللحد أفضل لما روي أن الصحابة لما توفي رسول اللّه اختلفوا في قبره فقال بعضهم: نلحد له، وقال آخرون: نضرح، وكان في المدينة حفاران يحفران القبور فأرسلوا إليهما وقالوا: اللهم اختر لنبيك. فجاء الذي يلحد فلحد لرسول اللّه قبره. وإن كانت الأرض رخوة لا يمكن فيها اللحد لرخاوتها وحذراً من إنهيارها على الميت فإنه يضرح.
والضرح: هو الشق فيترك الميت في وسط الشق ثم يسقف عليه بالأحجار الطوال وبالخشب ويجعل في خروقه كسر اللبن.
قال الشافعي: ورأيتهم عندنا يضعون على السقف الاذخر ثم يهيلون عليه التراب.
__________
(1) أخرجه أبو داود 3/244، وفي (النيل) أيضاً عن رجل من الأنصار، قال: خرجنا في جنازة فجلس رسول الله على حفيرة القبر فجعل يوصي الحافر ويقول: ((أوسع من قبل الرأس وأوسع من قبل الرجلين رب عذق له في الجنة)) رواه أحمد وأبو داود، قال: العذق: بفتح العين، النخلة، والجمع: أعذق وأعذاق، وبكسر العين: القنو منها والعنقود من العنب، والجمع أعذاق وعذوق.
(2) رواه الترمذي 3/363، وأبو داود 3/213، والنسائي 4/80، وابن ماجة 1/496، وأحمد 4/357.
المسألة الثانية: والمستحب ألاَّ يُدخِل الميت القبر إلا الرجال من المحارم، سواء كان الميت رجلاً أو امرأة، لأنه يحتاج إلى بطش وقوة واستظهار فلأجل ذلك كان الرجال بذلك أقوم وأحق، ولأن النساء إذا تولين ذلك ربما يبدو شيء من عوراتهن لأجل العلاج.
ويستحب ألا ينقل المرأة من مغتسلها إلى موضع التكفين إلا النساء، ولا ينقلها من موضع التكفين إلى السرير إلا النساء، ولا يسلها من السرير إلى شفير القبر إلا النساء، ولا يحل عقود الكفن إلا النساء لأنهن يقدرن على ذلك، فلهذا كن به أحق(1).
__________
(1) هذا الكلام فيه نظر؛ لأن المنع من حضور النساء إلى المقابر عند تشييع وقبر الميت راجح بالحديث الشريف الذي تقدم: ((ارجعن مأزورات غير مأجورات)) ثم إن هذا القول يعني أن النساء هن اللاتي يتولين وحدهن تجهيز المرأة الميتة من الغسل إلى القبر، وهذا غير وارد، فالرجال أولى وأقوى كما سلف آنفاً، ثم إن المؤلف من ثم أكد في بداية المسألة الثانية من هذا البحث كما ترى أن لا يدخل الميت إلى القبر إلا الرجال، سواء كان الميت رجلاً أو امرأة، لذا لزم التنبيه، والله أعلم.
فإذا ثبت هذا، فالميت إن كان رجلاً فأولى الناس بإدخاله القبر أولاهم بالصلاة عليه فيدخله منهم أفقههم، فإن كان له قريبان أحدهما أبعد من الآخر وكان البعيد فقيهاً فهو أولى من القريب الذي ليس فقيهاً لأن هذا أمر يحتاج فيه إلى الفقه والعلم فلهذا كان الفقيه بذلك أولى، وإن استويا في الفقه فأقربهم رحماً كالأب والجد ثم بعدهما الأبن ثم ابن الإبن على ترتيب العصبات. وإن كان الميت امرأة فالزوج أولى بإدخالها من كل أحدٍ لأن له من النظر إليها ما لا يحل لغيره، فإن لم يكن هناك زوج فالأب أولى ثم الجد أب الأب ثم الإبن ثم ابن الإبن، فإن لم يكن أحدٌ من ذوي محارمها فمملوكها لأنه محرم بظاهر الآية في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}[النور:31]. فإن لم يكن فبنوا العم، فإن لم يكن هناك أحد من ذوي الأرحام المحارم ومن غير المحارم فالأجانب من الرجال الثقات يلفونها بالثوب الذي على السرير أو على غيره ويدلونها إلى من في القبر من الرجال ويضعونها على شفير اللحد ويزحلقونها إلى قعر اللحد برفق وسهولة.
والمستحب: أن يكون عدد الذين يضعونها في القبر وتراً إما ثلاثة وإما خمسة أو سبعة. لما روي أن الرسول أدلاه إلى حفرة اللحد ثلاثة، أمير المؤمنين والعباس واختلف في الثالث فقيل: هو الفضل بن العباس. وقيل: أسامة بن زيد. وهو الصحيح عند أهل السير والأخبار، فأما عبدالرحمن بن عوف فقد كان هم بذلك وتهيأ للنزول لكنه لم ينزل.
المسألة الثالثة: ويستحب أن يسجى على قبر المرأة بثوب في حال إدخالها القبر، وفي حال علاج ختم القبر وسده. ويكشف بعد ذلك عند أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
والحجة على هذا: قوله : ((النساء عيٌّ وعورات في كل أحوالهن فاستروا عيهن... الخبر)) (1).
__________
(1) رواه في (الاعتصام) عن (شرح التجريد) 2/85، وهو في (فيض القدير) 2/528، و(نيل الأوطار) 2/11.
ولا خلاف في استحبابه في حق المرأة لما ذكرناه.
وهل يسجى على الرجل أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير مشروع في حق الرجل. وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على هذا: ما روي عن أبي قتادة أنه مر برجل يدفن وقد سجِّيَ على قبره بثوب فأزال الثوب وهمَّ بتمزيقه، وقال: إنما يسجَّى على قبر المرأة دون الرجل. والصحابي إذا فعل مثل هذا فإنما يقوله عن توقيف من جهة الرسول لأنه لا مدخل للإجتهاد فيه.
المذهب الثاني: أنه يسجى على الرجل كالمرأة. وهذا هو رأي الشافعي.
والحجة على هذا: هو أنه لا خلاف في تسجية الرجل بالثوب عند موته وعند غسله، فهكذا يسجى عند سله إلى القبر، ولأنه لا يؤمن تغيره فلهذا استحب ستره.
والمختار: إستحباب ستره في حال إدلائه إلى القبر.
وحجته: ما ذكرناه.
ونزيد هاهنا وهو ما روى سعد بن مالك(1)
أنه قال: لما دفن رسول اللّه سعد بن معاذ ستر قبره بثوب، وكنت ممسكاً بحاشيته، فأصغى رسول اللّه إلى أسامة بن زيد. فقلت له: ما قال لك؟ قال: [قال]: ((اهتزت قوائم العرش لموت سعد بن معاذ))(2).
ولما روي أن الرسول سُجِّيَ بثوب عند موته فهكذا الحال عند القبر.
الانتصار: يكون بالجواب عما خالفه.
قالوا: روى أبو قتادة أنه هَمَّ بتمزيق الثوب لما سُجِّيَ به الرجل. فدل ذلك على كراهته.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فالظاهر أن هذا إنما هو مذهب لقتادة فلا يلزمنا قبوله.
وأما ثانياً: فلعلهم إنما سجوه قبل إدخاله قبره فنهاهم عن ذلك لأنه لا فائدة فيه.
__________
(1) هو أبو سعيد الخدري، سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد الأنصاري، وقد سبقت ترجمته، راجع (تهذيب التهذيب) 3/416.
(2) قال في (تخريج البحر) 2/149: هكذا في (الشفاء) وزاد غيره: فأصغى رسول الله إلى أسامة بن زيد... الحديث. اهـ. وهو في (المستدرك على الصحيحين) 3/227، ومسند أحمد 3/23،و المعجم الكبير للطبراني 6/14.
المسألة الرابعة: وإذا أُدلي الميت [في] قبره، رجلاً كان أو امرأة. فمن أين يكون إدلاؤه؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن المستحب أن يكون إدلاؤه من موضع الرجلين من الميت في القبر فيوضع الميت من عند الرجلين ثم يسل من قبل رأسه سلاً رفيقاً إلى قبره. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن الشافعي وأحمد بن حنبل.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول : أنه صلى على رجل من ولد عبدالمطلب فأمر بالسرير فوضع من قبل رجلي الميت ثم أمر به فسل سلاً رفيقاً(1).
المذهب الثاني: أن المستحب أن توضع الجنازة عرضاً من ناحية القبلة ثم يدخل الميت القبر معترضاً.
والحجة على هذا: هو أنه إذا وضع من ناحية القبلة معترضاً كان أسهل وأيسر على من يضعه لأنه لا يحتاج في ذلك إلى كلفة وتعب بخلاف وضعه من جهة الرجلين فإنه يحتاج إلى كلفة وعلاج.
والمختار: هو الأول.
وحجتهم: ما ذكرناه..
ونزيد هاهنا: وهو ما روي أن الرسول سُل من قبل رأسه فلهذا كان هو المستحب لما ذكرناه.
الانتصار: يكون بالجواب عما ذكروه.
قالوا: إنزاله من جهة القبلة فيه سهولة بخلاف غيره فلهذا كان هو المستحب.
قلنا: الأولى اتباع السنة فيما يتعلق بجانب الموتى وجميع العبادات، وإذا وردت السنة بما ذكرناه كان الأولى اتباعها سواء كان خفيفاً أو ثقيلاً لما روي عن الرسول أنه قال: ((كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد)).
والمستحب عند سله في حفرته أن يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله. والملة والسنة واحدة وهي متابعة الرسول في أقواله وأفعاله فمن وافقه في ذلك فهو على سنته وملته.
__________
(1) أورده ابن بهران في (تخريج البحر)2/149 من طريق علي وقال: حكاه في (الشفاء). وروى في (المهذب) عن ابن عباس. اهـ.
والمستحب أن يقول عند وضعه في اللحد: اللهم أسلمَتْه الأشِحَّاء من أهله وولده وقرابته وإخوانه، وفارق من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك وأنت خير منزول به، إن عاقبته فبذنبه، وإن عفوت عنه فأنت أهل العفو، وأنت غني عن عذابه وهو فقير إلى رحمتك، اللهم اشكر حسنته واغفر سيئاته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له الأمن من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة، واخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
المسألة الخامسة: والمستحب أن يضجع الميت على جنبه الأيمن في لحده لقوله : ((إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه)) (1)
والنوم أخو الموت. ولأن الرسول فُعل به هكذا وسائر الصحابة رضي الله عنهم بعده إلى يومنا هذا، ولأنه إذا فُعل به هكذا فإنه يكون مستقبلاً للقبلة بجميع بدنه لقوله : ((خير المجالس ما استقبل القبلة)) (2).
فإذا خالفوا وأضجعوه على جنبه الأيسر واستقبلوا بوجهه القبلة جاز ذلك لأنه في كلتا الحالتين مستقبل القبلة وهو المقصود.
ويستحب: أن يوسد رأسه بلبنة كالحي إذا نام، ويدلى إلى اللحد، ويجعل خلف ظهره تراب يشده لئلا يستلقي على ظهره، ولا تجعل يده تحت خده؛ لما روي عن عمر أنه قال: إذا مت فافضوا بخدي إلى الأرض. فأما قول الرسول : ((فليتوسد يمينه)). فإنما أراد جنبه الأيمن.
__________
(1) رواه البيهقي في (الكبرى) 6/196 بزيادة: ((...ثم ليقل بسم الله...)) الحديث، وأورده في (تخريج البحر) وقال: لم يرد هذا في المدفون وإنما ورد في النائم. اهـ 2/130.
(2) رواه في (المستدرك) 4/300، و(مجمع الزوائد)8/59، وسنن البيهقي الكبرى 7/272، ومصنف ابن أبي شيبة 5/265، والمعجم الكبير للطبراني 10/320.
ويكره أن يجعل الميت في تابوت، ولا يكاد يستعمله أحد في ديار اليمن إلا الباطنية، وهو بدعة لا حاجة إليها، لأن ما هذا حاله لم تدل عليه دلالة من جهة الشرع، ولا فعله الرسول ، ولا فعله أحد من الصحابة ولا أحد من أكابر أهل البيت"، وفي هذا دلالة على كونه بدعة وضلالة، ولو كان سنة لكان من ذكرناه أحق بفعله والمواضبة عليه.
ويكره أن يجعل تحت رأسه مخدة أو وسادة، وتحت جسمه طرَّاحة أو مُضَرَّبة(1).
ويكره أن يفرش له شيء من الحناء.
ويكره أيضاً: أن يدفن معه مصحف، أو يوضع على صدره وفي عنقه.
ويكره أن يكتب في الأكفان شيء من القرآن لأن هذا يؤدي إلى تنجيس المصحف بالصديد والقيح.
وإنما كرهت هذه الأمور كلها لما فيها من مخالفة السنة، فإنها لم تفعل للرسول في جهازه، ولا نبه عليها في كلامه، ولا فعلها أحد من أهل الصلاح.
وروي أن عمر قال: إذا أنزلتموني اللحد فأفضوا بخدي إلى الأرض. وعن أبي موسى الأشعري، أنه قال: لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً. ومثل هذا إنما يقال عن توقيف فهموه من جهة الرسول لأنه لا مدخل للاجتهاد فيه فيجب أن يكون عليه التعويل.
قال الإمامان القاسم والهادي: ويستحب أن ينصب على اللحد اللبن والصفا. لما روي عن سعد بن أبي وقاص، أنه قال: اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله انصبوا عليَّ اللبن وأهيلوا عليَّ التراب(2).
وتسد الخلل التي تكون بين اللبن مخافة أن يقع التراب على الميت.
ويستحب لمن كان على شفير القبر ولمن حضر الجنازة: أن يحثي على القبر ثلاث حثيات، ثم يهال عليه التراب بالمساحي؛ لما روي عن الرسول : أنه حثا على قبر رجل من بني عبد المطلب ثلاث حثيات.
وروي عن فاطمة كرم الله وجهها، أنها قالت: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول اللّه .
__________
(1) فرش مخيط بضربات الإبرة.
(2) أخرجه مسلم والنسائي.
وروي عن أبي هريرة، أنه قال: قال رسول اللّه : ((من حثا في قبر أخيه ثلاث حثيات من تراب كفر عنه من ذنوبه ذنوب عام)) (1).
ويستحب أن يقول إذا حثا هذه الحثيات: ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان يقول: اللهم إيماناً بك، وتصديقاً برسلك، وإيقاناً ببعثك، هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وصدق المرسلون(2).
ويكره أن يزاد على تراب القبر من غيره لأنه إذا زيد ارتفع من الأرض كثيراً وكان شاخصاً.
المسألة السادسة: ويكره تشييد القبر ورفعه عن الأرض وإشخاصه وزخرفته بالجص والصاروج(3)
__________
(1) قال في (تخريج البحر): حكاه في (الشفاء) وحكاه في (أصول الأحكام) من رواية أبي هريرة. اهـ 2/130، وجاء في (الاعتصام 2/189 استناداً إلى رواية الهادي له في (الأحكام).
قال الإمام القاسم: وهذا في أمالي أحمد بن عيسى×، ورواه في (شرح التجريد)
(2) أورده في (تخريج البحر) 2/130 نقلاً عن (الشفاء) بلفظه.
(3) الصاروج: النورة وأخلاطها التي تصرج بها النزل وغيرها، فارسي معرب، وكذلك كل كلمة فيها صاد وجيم لأنهما لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب. وهو بالفارسية جاروف عُرِّبَ فقيل: صاروج، وربما قيل: شاروق، وصرجها به: طلاها، وربما قالوا: شرقة. اهـ. (لسان) 2/310.
والآجر وترتيبه بالعمارة. لما روي عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه؛ أنه قال: أمرني رسول اللّه ألاَّ أدع قبراً مشرفاً إلا هدمته، ولا تمثالاً إلا طمسته(1).
ويستحب أن يشخص القبر على وجه الأرض مقدار الشبر. لما روى جعفر الصادق أن قبر الرسول رفع على وجه الأرض مقدار الشبر.
ويستحب أن يطرح عليه الرضراض. لما روى القاسم بن محمد، أنه قال: قلت لعائشة: يا أمه إكشفي لي عن قبر رسول اللّه وصاحبيه. فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة عليها بطحاء العرصة(2).
وهل يجوز تطيينه بالطين أم لا؟ فحكي عن القاسم والهادي: أنه لا بأس بتطيين القبر مخافة من محوه وانطماسه وإزالة أثره.
وحكي عن أبي حنيفة: أنه كره التطيين للقبر. حكاه عنه الكرخي.
والمختار: كراهة التطيين للقبور. لما روي عن الرسول : أنه نهى عن تطيين القبور ولأنه فيه إذا طين ملاسة وتحسيناً له بالطين فيصير كالزخرفة، فلهذا كره.
__________
(1) أخرجه مسلم 2/666، والترمذي 3/366، وأبو داود 3/215، وهو في (الاعتصام)2/190 بلفظ: وروي في (الشفاء) عن علي : أمرني رسول الله أن لا أرى قبراً مشرفاً إلا سويته، ولكن يجعل بينه وبين الأرض قدر شبر، وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي الهياج قال: قال لي علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ؟ قال: ((اذهب فلا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته))، وأورد هذه الرواية في (نيل الأوطار) 4/83، وقال: رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة.
(2) أورده في (الجواهر) عن القاسم بن محمد بن أبي بكر بلفظ في آخره: لا مشرفة ولا طئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء، أخرجه أبو داود. اهـ. 2/131.
ويكره التسقيف على القبر، لأنه يمنع من دفن الميت(1)،
فأما السقف فوق قبر رسول اللّه فإنه كان سقف بيته الذي كان فيه.
وهل كان بيتاً لعائشة أو بيتاً للرسول ؟ فالذي رآه الناصر والصادق والباقر: أن البيت كان بيتاً للرسول لقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}[الأحزاب:53]. ورأى الفقهاء: أن البيت إنما هو بيت لعائشة. ولهذا فإن عمر لما قتل استأذن عائشة في الدفن مع الرسول وأبي بكر.
وهل يكون القبر مربعاً أو مسطحاً، أو مدوراً؟ فيه أقوال ثلاثة:
القول الأول: أن المستحب أن يكون مربعاً. وهذا هو قول الهادي والناصر والمؤيد بالله، ومحكي عن الشافعي.
والحجة على هذا: ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده: أن الرسول ربع قبر ابنه إبراهيم بيده، وأنه ربع قبر حمزة، فهما إلى الآن مربعان.
القول الثاني: أن المستحب هو التسنيم للقبر. وهذا هو رأي القاسم وأبي حنيفة.
والحجة على هذا: وهو محكي عن أبي على الطبري من أصحاب الشافعي، ما روى القاسم عن إبراهيم النخعي، أنه قال: أخبرني من رأى قبر رسول اللّه ، وأبي بكر وعمر وأنها مسنمة ناشزة من الأرض عليها فلق مدر بيض.
القول الثالث: التدوير. وهذا هو الذي ذكره الهادي في الأحكام، فإنه قال: التربيع أفضل، وإن دوِّر فلا بأس.
والمختار: هو التسنيم. لأن عمل المسلمين قد صار الآن عليه، وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.
__________
(1) وكراهة التسقيف لا تعلل بأنه يمنع من دفن الميت بل لنهيه فيما رواه جابر، أن يُجصص القبر وأن يُبْنى عليه وأن يُقْعد عليه، وفي رواية: وأن يُكتب عليه وأن يُوطأ، وفي أخرى: وان يُزاد عليه، اخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ متقاربة. اهـ. (بلوغ المرام) 99، و(تخريج البحر) 2/131.
قال الشيخ أبو حامد الغزالي: والتسطيح وإن كان هو الأفضل لكن التسنيم الآن صار هو الأفضل لما فيه من مخالفة شعار الرافضة لأنهم يربعون قبورهم(1)،
فلهذا استحب التسنيم لما ذكرناه.
وهل بعد الفراغ من القبر يرش عليه الماء أم لا؟ فالمحكي عن أولاد القاسم: إستحباب الرش. وهذا هو رأي الشافعي وأبي حنيفة.
والحجة على هذا: ما في خبر زيد بن علي: أنه صلى على جنازة رجل من ولد عبدالمطلب، ثم أمر من رش عليه قربة من ماء.
وحكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة: أنه لا معنى للرش ولا فائدة فيه، لأنه إنما يرش في ديار تهامة والحجاز وحيث يقل المطر، فربما تذهب الرياح بالطين إذا كان يابساً فيزول أثر القبر ويمحي رسمه، وأما في ديارنا هذه فلا يحتاج إليه لكثرة المطر.
__________
(1) هذه حجة واهية. إذ لو أجزنا ذلك لفتحنا باباً لترك أكثر السنن والفضائل بحجة أن صاحب بدعة ما يعمل بهذه السنة وآخر يعمل بتلك وهكذا. وأنى لهذا الشيخ أن يتجاوز بهذه العلة الواهية ما روي في هذا الباب من آراء وأخبار عن أمثال جابر وابن عباس وغيرهما فيما رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي في مسألة تربيع القبور وتسنيمها، والغريب ليس انفر اد الشيخ برأيه فهذا لا ينكره أهل العلم على أهل العلم، ولكن الغريب اعترافه بأن التسطيح هو الأفضل كما ورد ثم يعرض عن الأفضل بحجة أنه من فعل الروافض كما يقول. وقديماً قيل:
لهوى النفوس سريرة لا تعلم
اهـ. المحقق.
والمختار: استحباب الرش عقيب الفراغ من عمل القبر، لأن الريح إذا لم يرش تذهب به قبل مجيء المطر فلهذا كان مستحباً، ولأن صب الماء البارد فيه تفاؤل لما فيه من البرد والروح والراحة فلعل الله أن يجعل للميت في قبره روحاً وراحة، فأما نصب حجرين على القبر علامة لكونه قبر امرأة، وحجر واحد على أنه قبر رجل فهو من بدع العوام فلا وجه له، ولا بأس بأن يحجر القبر بأحجار حوله مصفوفة مخافة أن يذهب طينه إلى الأرض فيزول ويمحى، فإذا حجز بهذه الأحجار كان أقرب له إلى الصيانة.
المسألة السابعة: ولا بأس ببناء القباب والمشاهد على قبور الأئمة والفضلاء من أهل العلم والفضل لأجل الزيارة ولم ينكره أحد من العلماء في كل ناحية، وفي هذا دلالة على جوازه لأن ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.
ثم ينظر في بناء القباب والمشاهد، فإن كان في المقابر المسبلة منعوا من ذلك لأنه يضيق علىغيره في القبر ويستغرق جانباً من البقعة لغير القبر، وإن كان في ملك نفسه جاز ذلك لأنه لا ضرر فيه على الغير.
وإن ذكر اسم الميت على القبر نظرت فإن كان ذكر بكتابة غالية وتزويق وزخرفة كره ذلك ومنع منه، وإن كان من غير ذلك جاز، لما روينا من حديث عثمان بن مظعون، وأن الرسول حمل حجراً وقال: ((هذه أعلم بها قبر أخي)). فهذا هو الأصل في الجواز.
قال القاسم والهادي: والصخر أولى من اللوح، لأن اللوح ربما كان فيه زينة وزخرفة فلهذا كان الصخر أحق به.
وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف: كراهة ذلك. وهذا محمول على أن فيه زخرفة وزينة، فأما مجرد ذكر اسم الميت في الصخر فلا بأس به، لحديث عثمان وقد قدمناه.
وإن غُصب ثوب وكفن فيه ميت نظرت، فإن عُلِمَ بغصبه قبل أن يهال عليه التراب أخذ منه وكفن بغيره من ماله أو من غيره، وإن عُلِمَ بالغصب بعد أن دفن وهيل عليه التراب لم ينبش لما في ذلك من هتك حرمته، وينتقل حق مالكه إلى القيمة لأنه صار مستهلكاً.
وفي قول آخر للشافعي: أنه ينبش مالم يتغير.
والمختار: هو الأول لما ذكرناه.
والقبور محترمة، فيكره الجلوس عليها والإتكاء إليها، ولا ينام فوقها، ولا تقضى عليها حاجة من غائط أو بول، ولا يصلى إليها. لما روي عن الرسول أنه قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). ولما روي عن الرسول ، أنه قال: ((لا تقعدوا على القبور ولا تجصصوها ولا تبنوا عليها)) (1).
وحكي عن مالك: أنه لا يكره الجلوس على القبر ولا الإتكاء إليه. والأول محكي عن أئمة العترة وهو قول الشافعي وأبي حنيفة.
والحجة: ما ذكرناه.
وإن وقع في القبر شيء له قيمة بعد أن هيل التراب عليه نبش وأخرج ما فيه. لما روي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول اللّه عند الدفن فقال: خاتمي ففتح موضعاً وأخرجه. وقال: أنا أقربكم عهداً برسول اللّه . وقيل: إنه فعل ذلك حيلة لما ذكرناه(2).
وإن كان في بطن الميت جوهرة أو درة أو خاتم ابتلعه في حال الحياة. نظرت فإن كان لغيره شق بظنه وأخرج ما فيه لقوله : ((لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه)).
وإن كان للميت، فهل يشق بطنه أم لا؟ فيه تردد.
والمختار: أنها تخرج من بطنه لأنها قد انتقلت إلى الورثة فتصير كمال الغير.
__________
(1) رواه النسائي 4/95،و البيهقي في (الكبرى)1/658، وهو في (فتح الباري) 3/224، ورواه الشوكاني في (النيل)4/85 عن جابر قال: نهى النبي أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه، رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه، ولفظه: نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ، وفي لفظ النسائي: ونهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه، اهـ.
(2) أي ليكون أقرب عهداً برسول الله ، رواه في (المستدرك على الصحيحين) 3/507.
وحكي عن بعضهم: أنها لا تخرج. لأنه استهلكها في حال حياته وهو مالك لها، والحق هو الأول لأن فيها منفعة للحي ولا منفعة فيها للميت، وقد نهى رسول اللّه عن ((قيل وقال وإضاعة المال)) (1).
فلو تركناها لكان فيه إضاعة للمال.
المسألة الثامنة: وإذا أكمل الدفن على الميت فقد فرغ منه، جاز الانصراف عن المقبرة. لكن الإنصراف يقع على أربعة أوجه:
أولها: أنه إذا صلى وانصرف كان له ثواب الصلاة وثواب التشييع، دون ثواب الدفن والحضور.
وثانيها: أنه ينتظره حتى يوارى في قبره، وهذا أفضل من الأول.
وثالثها: أنه ينتظره حتى يدفن وينصرف، وهذا أفضل من الأولين. لما روى أبو هريرة: أن الرسول قال: ((من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شيعها حتى يقضى دفنها فله قيراطان أصغرهما مثل أُحُد))(2).
قال أبو هريرة: فذكرت ذلك لابن عمر فأرسل إلى عائشة رضي الله عنها يسألها عن ذلك فقالت: صدق أبو هريرة. فقال ابن عمر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
ورابعها: أن يقف بعد الدفن ويدعو للميت، وهذا أفضل من الأولين(3).
ويستغفر له. لما روى عثمان بن عفان: أن الرسول كان إذا دفن ميتاً وقف عند قبره وقال: ((اسغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل))(4).
وكان من مضى من العلماء والأفاضل يفعلون ذلك، فأما الآن في هذه الأزمنة فصارت نسياً منسياً.
والمختار: فعله. لما رويناه من حديث عثمان، وترك من تركه لا يخرجه عن كونه مستحباً.
__________
(1) رواه البخاري 2/537، ومسلم 3/1341، وابن حبان 8/182، والبيهقي في (الكبرى) 6/63، ومالك في الموطأ 2/990.
(2) أخرجه مسلم 2/653، والترمذي 3/358، وأبو داود 3/202، والنسائي 4/76، وابن ماجة 1/492، وغيرهم.
(3) هكذا في الأصل، والصواب: من الأوجه الثلاثة السابقة.
(4) جاء في سنن أبي داود 3/215، و(المستدرك) 1/526، و(نيل الأوطار)4/138.
ويستحب لقرابة الميت وجيرانه: أن يصنعوا لأهل الميت طعاماً يشبعهم يومهم وليلتهم. لما روي عن الرسول ، أنه لما بلغه نعي جعفر بن أبي طالب، وأنهم أصيبوا في غزوة مؤتة فقال: ((اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنهم مشغولون فإنه قد جاءهم ما يشغلهم)) (1).
فأما إصلاح أهل الميت طعاماً وجمع الناس له فلم ينقل فيه عن الرسول ، ولا ذهب إلى استحبابه أحد من أئمة العترة وفقهاء الأمة؛ وهو بدعة، هذا إذا كان من أموالهم، فأما إذا كان من أموال الأيتام فهو حرام كله، والفاعل يكون آثماً ضامناً، فأما الإثم فلأجل مخالفة السنة وأكل مال الأيتام بغير حق، وأما الضمان فلأنه أتلف مال الأيتام ظلماً وعدواناً، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}[النساء:10].
__________
(1) رواه أبو داود 3/195، وابن ماجة 1/514،و أحمد 1/205، وهو في (نيل الأوطار) 4/97 عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي : ((اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم)) رواه الخمسة إلاَّ النسائي.
---
القول في التعزية والبكاء على الميت
والتعزية سنة، والمستحب: أن يعزى أهل الميت وأقاربه، لقوله : ((من عزى مصاباً كان له مثل أجره)) (1).
وروي عن الرسول أنه قال: ((من عزى ثكلى كُسِيَ برداً في الجنة))(2).
والمقصود من التعزية: هو الحمل على الصبر بوعد الأجر، والتحذير عن تحمل الوزر بإفراط الجزع، وبذكر المصائب. والرجوع إلى الله تعالى في كل الأمور.
ومصداق ما قلناه: قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:156،157].
فمن قال هذه الكلمة اختص بفوائد ثلاث:
الصلاة من الله، وهي دعاؤهم إلى كل خير من الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ.}[الأحزاب:43].
والرحمة، وهو اللطف الذي يكون سبباً إلى تيسير الطاعات.
والاهتداء إلى طريق الخيرات.
التفريع على هذه القاعدة:
الفرع الأول: التعزية مرة واحدة. لما روى أنس بن مالك، عن الرسول أنه قال: ((التعزية مرة واحدة.)) (3).
لأن تكرارها لم ترد به السنة، ولأن المقصود منها ما ذكرناه من الوعظ والتذكير والأمر بالصبر، وترك الجزع، والرضاء بقضاء الله تعالى وحكمه، وهذا حاصل بالمرة الواحدة.
والتعزية مستحبة. ووقتها: من حين يموت الميت حتى يدفن. عند أئمة العترة والفقهاء، لقوله : ((من عزى مصاباً كان له مثل أجره.)). ولم يفصل بين وقت ووقت.
وهل تكون مستحبة بعد الدفن أم لا؟ فيه مذهبان:
__________
(1) رواه الشوكاني في (النيل) عن الأسود عن عبد الله عن النبي قال: ((من عزى مصاباً فله مثل أجره)) رواه ابن ماجة والترمذي. اهـ 4/94.
(2) أخرجه الترمذي3/387، وهو في (شعب الإيمان) 7/13، وفي (الترغيب والترهيب)4/179.
(3) رواه في (نيل الأوطار) 4/145.
المذهب الأول: أنها مستحبة بعد الدفن. وهذا هو رأي أئمة العترة الهادي والقاسم، ومحكي عن الشافعي.
قال القاسم: والتعزية قبل حمل الجنازة وبعدها، لكن بعد الدفن أحسن.
والحجة على هذا: هو أن بعد الدفن تعظم المصيبة بالمفارقة، ويقع الإياس(1)
لأن الميت ما لم يدفن فهو بين ظهراني أهله، وإنما يكون الإياس والوحشة بعد مفارقته ودفنه، فلهذا كان أحق بالتعزية لما ذكرناه.
المذهب الثاني: أن التعزية غير مستحبة بعد الدفن. وهذا هو رأي أبي حنيفة، ومحكي عن سفيان الثوري.
والحجة على هذا: ما روي عن الرسول ، أنه دخل على رجل من الأنصار يعوده فجعل النساء يبكين فقام رجل من الأنصار يسكتهن، فقال الرسول : ((دعهن يبكين فإذا وجبت فلا تبكيَنَّ باكية.))(2).
ووجه الدلالة من الخبر: هو أن الرسول نهاهن عن البكاء بعد الموت لما حضر الإياس وانقطع الرجاء، فهكذا حال التعزية بعد الدفن قد انقطع الرجاء وحصل الإياس، فلهذا قلنا: إنه لا وجه لها بعد الدفن.
والمختار: هو جواز التعزية بعد الدفن واستحبابه كما قاله أئمة العترة.
وحجتهم: ما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: وينقطع الإياس، وهو غير متسق مع المعنى المقصود، ولعله خطأ من النسخ.
(2) أخرجه أبو داود 3/188،و النسائي 4/13، وهو في موطأ مالك 1/233، وفي (الكبرى) للبيهقي 1/606، وصحيح ابن حبان 7/461، وأورده في (نيل الأوطار)4/101 عن جابر بن عتيك: أن رسول الله جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع وقال: ((غلبنا عليك يا أبا الربيع)) فصاح النسوة وبكين، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله : ((دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية)) قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: ((الموت)) رواه أبو داود والنسائي.
ونزيد هاهنا وهو أن التعزية إذا كانت بعد الدفن، فهو وقت الإفتراق لقضاء الحاجات والإشتغال بطلب المعيشة، فإذا افترقوا على الدعاء بالصبر والتجلد، كان الدعاء خاتمة للإعمال [و] كان أحسن وأعظم للأجر وأدخل في الثواب.
الانتصار: يكون بالجواب عما أوردوه.
قالوا: قد أمر الرسول بالسكوت عن البكاء بعد الموت، فهكذا حال التعزية لا تستحب بعد الدفن، والجامع بينهما: الإياس.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فكان يلزم ألاَّ تستحب التعزية بعد الموت، فإنه قد وقع اليأس قياساً على ما ذكرتموه من المنع من البكاء ولا قائل به.
وأما ثانياً: فلأن البكاء إنما كان من أجل وحشة الفراق وفقد الأنس، وبعد الموت فقد انقطع اليأس(1)،
فلا وجه للبكاء بخلاف التعزية فإنما شرعت من أجل الجزع وتحصيل الثواب، وهذا حاصل قبل الدفن وبعده فافترقا.
ومن وجه آخر: وهو أن البكاء إنما أبيح من أجل تَوَهُّمِ الفرقة وانقطاع الألفة، وهذا إنما يكون قبل الموت، فأما بعد الموت فقد حصل اليقين بالانقطاع والفرقة بخلاف التعزية، فإنما شرعت من أجل الثواب والأجر بالدعاء بالصبر على المصيبة، وهذا حاصل قبل الموت وبعده، وقبل الدفن وبعده.
الفرع الثاني: إلى من تكون التعزية؟
وهي تكون إلى الصغير والكبير، والمرأة والرجل، لأنهم مستوون في حصول المصيبة وفقد الميت وانقطاع الألفة وعدم القريب المصاحب.
ويستحب أن يخص بالتعزية الضعفاء من القرابات كالنساء والصبيان، ومن كان شيخاً كبيراً ومن تعظم عليه المصيبة بفقده، لأن هؤلاء يضعفون عن احتمال المصيبة ويعظم عليهم الحزن، فلهذا كانوا أحق بالتعزية.
وتكره التعزية إلى الشوابِّ من البنات والأخوات فلا يعزيهن إلا ذوو المحارم المحرمة كالعم والخال والأخ والإبن وسائر المحارم. فأما الأجانب فلا، لأنه ربما يخشى الإفتتان بالتعزية إليهن.
__________
(1) لعل الصواب: فقد حصل اليأس وانقطع الرجاء، وهذا يناسب ما أورده المؤلف عن القاسم.
وأما لفظ التعزية فإن كانت لمسلم بمسلم، فالمستحب أن يعزى بتعزية الخضر% أهل بيت رسول اللّه ، فإنه لما توفي رسول اللّه وجاء وقت التعزية سمعوا صوتاً ولا يرون أحداً، يقول: السلام عليكم أهل بيت النبوة ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاءاً عن كل مصيبة، ودركاً من كل فائت، وخلفاً عن كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب(1).
ويستحب أن يقال بعد ذلك: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وخلفه عليك بخير، وغفر لك ولميتك.
وإن عزى مسلماً بكافر قال: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وخلف عليك بخير.
وإن عزى كافراً بمسلم قال: خلف الله عليك، وكثر عددك، وغفر لميتك.
وإن عزى كافراً بكافر قال: خلف الله عليك،وكثر عددك ولا أقله، ووفره ولا فله. وأراد بكثرة العدد: حتى يعظم أمر الجزية وأخذها من أهل الكتابين. وإن كان من غير أهل الكتابين فالغرض بتكثير العدد حتى يكثر السبي وتعظم الغنائم منهم.
__________
(1) رواه في (المستدرك على الصحيحين) 3/59، وفي (مجمع الزوائد) 3/3، وفي سنن البيهقي الكبرى 4/60، وفي المعجم الأوسط للطبراني 8/110، وقال في (الاعتصام) 2/197: أخرجه الحاكم في (المستدرك) عن جعفر الصادق عن أبيه محمد بن علي الباقر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: لما توفي رسول الله عزتهم الملائكة" يسمعون الحس ولا يرون الشخص، فقالت: السلام عليكم أهل البيت... الحديث، وفيه: أخرج الحاكم في (المستدرك) قال: لما قبض رسول الله أحدق به اصحابه فبكوا حوله واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى أصحاب رسول الله فقال: إن في الله عزاءً ... الحديث إلى قوله: وانصرف، فقال بعضهم لبعض: تعرفون الرجل؟ قال علي وأبو بكر: نعم، هذا أخو رسول الله الخضر%.
ويكره الجلوس للتعزية، وهو أن يجتمع أهل الميت في الساحات والعرصات والشوارع والمساجد والمجالس ليقصدهم من يعزي لهم لأن ما هذا حاله بدعة وهو محدث لا يعرف من جهة السنة، بل يتوجه كل واحد منهم في قضاء حوائجه، ويعزي الرجل في سوقه وحانوته ومسجده وضيعته، وحيث وقع الاتفاق إذا لم يقع إتفاق في المقبرة.
الفرع الثالث: وتحرم النياحة، وهي رفع الصوت والصياح بالويل والثبور وإظهار الجزع والتفجع بطول الأصوات ورفعها. لما روي عن الرسول أنه قال: ((خصلتان من عمل الجاهلية، النياحة والطعن في الأنساب.)) (1).
ويحرم لطم الخدود وخمش الوجوه وشق الجيوب ونشر الشعور؛ لما روت أم عطية: أن الرسول نهى عن النوح، فما وفَى أحدٌ منا إلا أم سلمة.
وروى أبو سعيد الخدري: أن الرسول قال: ((لعن الله النائحة والمستمعة.)).
وروى ابن مسعود: أن الرسول قال: ((ليس منا من لطم الخدود.، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)) (2).
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 2/644، والبيهقي في (الكبرى) 4/63 عن عبيد الله بن ابي يزيد أنه سمع ابن عباس يقول: الحديث.
(2) جاء في (نيل الأوطار) 4/102 بلفظه، وأورده في (تخريج البحر) لابن بهران 2/134، وقال: أخرجه البخاري وغيره.
وروي عن امرأة بايعت الرسول : أنها قالت: أخذ علينا رسول اللّه ، ألا نخمش وجهاً، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيباً، ولا ننشر شعراً(1). ولأن ما هذا حاله يشبه التظلم والإستغاثة، وما فعله الله تعالى فهو حكمة وعدل وصواب. ولأن ذلك فيه تشبه بالجاهلية، وقد قال : ((من تشبه بقوم فهو منهم.)) (2).
لأن هذا يجدد الحزن ويمنع التجلد والصبر اللذين يستحق بهما الثواب فلهذا حرم.
وتكره التعزية بعد ثلاث لمن كان قريباً. لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا الزوجة)) (3). فأما من كان بعيداً فلا يكره له ذلك.
وتمنع النساء عن عقد المناحات وهو الإجتماع والظهور إلى الساحة الواسعة والعرصات في الشوارع والسكك، فإن ذلك كله محظور من عمل الجاهلية ويجب النكير عليه لمخالفته السنة وركوب البدعة والضلالة والتشبه بالجاهلية.
__________
(1) أخرجه أبو داود 3/194، وهو في السنن الكبرى للبيهقي 4/64، وفي المعجم الكبير للطبراني 25/184، وجاء في (تخريج البحر) 2/135: وعن أنس أن رسول الله أخذ على النساء أن لا ينحن، فقلن: يا رسول الله، إن نساء أسعدننا في الجاهلية أفنسعدهن؟ فقال رسول الله : ((لا إسعاد في الإسلام)) أخرجه النسائي.
(2) أخرجه أبو داود 4/44، وهو في (مجمع الزوائد) 10/271، ومصنف ابن أبي شيبة 6/471.
(3) أخرجه مسلم 2/1123،و البخاري 1/430، والنسائي6/189،و ابن ماجة 1/674.
فأما اجتماع النساء في المجالس وتعديد الميت لمحاسنه وخصاله وذكر مناقبه فلا بأس بذلك. لما روي عن الرسول ، أنه لما أصيب جماعة من المسلمين في أُحد واستشهدوا في سبيل الله فبكى كل واحد في المدينة على ميته، فقال رسول اللّه : ((أما حمزة فلا بواكي له)) لأنه لم يكن له زوجة ولا أهل في المدينة. فلما سمع الأنصار كلام رسول اللّه أخرجوا نساءهم وبكين على حمزة والرسول يسمع وعددنه بمحاسنه، وذكرن جهاده وأوصافه الجميلة، فلما فرغن قال الرسول : ((انصرفن يرحمكن الله فلقد آسيتن)) (1).
الفرع الرابع: في البكاء.
وأما البكاء من غير ندب ولا نواح فيجوز. لما روي عن الرسول ، أنه لما مرض ولده إبراهيم جعله في حجره وهو ينازع الموت فبكى عليه الرسول وقال: ((تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يغضب الرب إنا بك يا إبراهيم لمحزونون)). ثم فاضت عيناه. فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: ((إنها رحمة يضعها الله حيث شاء في قلب من يشاء، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (2).
__________
(1) رواه الحاكم في (المستدرك)1/537، وابن ماجة 1/507، وأحمد 2/40، وعبد الرزاق في مصنفه 3/561.
(2) في (الاعتصام) 2/194: وفي (الجامع الكافي): وروي عن الرسول أنه دخل على ابنه إبراهيم لما حُضر فلما رآه دمعت عيناه، فقيل: يا رسول الله، ألم تنهنا عن هذا؟ فقال: ((إنما نهيتكم عن النياحة وأمر الجاهلية، وأن يندب الرجل بما ليس فيه، إنما هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، ومن لا يرحم لا يرحمه الله)) إلى آخر الحديث، وأورده عن الترمذي في رواية عن جابر، وأخرى عن أمالي أحمد بن عيسى عن علي%.
وروي أنه قال للرسول : أليس قد نهيت يا رسول الله عن البكاء؟ فقال: ((إني لم أَنْه عن البكاء، وإنما نهيت عن النواح وعن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة؛ لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة؛ خمش وجه، وشق جيب)). وروي عن الرسول : أنه بكى على عثمان بن مظعون حتى سالت دموعه. وروي أنه قال في بكائه: هاي هاي هاي، ثلاث مرات.
فإن قيل: إن هذا صوت فَلِمَ تكرهون الصوت؟
فجوابه: أنه يحتمل أن الرسول كان مغلوباً عليه لشدة الحزن، وعظم الفقد لعثمان، وما كان مغلوباً عليه فإنه لا يؤاخذ به، ويحتمل أن يكون الصوت المكروه ما كان بنوح وتعديد وتجاوز حد في طول الأصوات، وهذا ليس منه. فإذا ثبت هذا فالبكاء مباح إلى أن يموت الميت، فإذا مات فالمستحب ألا يبكي. لما روى عبدالله بن عتيك: أن الرسول جاء إلى عبدالله بن ثابت يعوده فوجده قد غلب عليه فناداه فلم يجبه فقال الرسول : ((إنا لله وإنا إليه راجعون)). ثم قال: ((قد غلبنا عليك يا أبا الربيع)). فصاحت النسوة بالبكاء لما سمعن كلام رسول الله بالإياس منه، فجعل عبدالله بن عتيك يسكتهن فقال الرسول : ((دعهن يبكين فإذا وجبت فلا تبكين باكية)). قالوا: وما الوجوب يا رسول اللّه؟ قال: ((إذا مات)). ولأن البكاء بعد الموت يجدد الحزن ويمنع الصبر ويحرك الجزع.
الفرع الخامس: فأما المقارضة فهي مباحة إذا لم يقترن بها محظور.
وصورتها: أن يخرج إثنان من أهل الميت ومن قبيلته، ورجلان آخران ممن يأتي إليهم معزياً فيذكر الرجلان من أهل الميت من مات بكلام مزدوج يشبه الرجز وليس رجزاً، فيه ذكر محاسن الميت وذكر أوصافه وأفعاله الجميلة، ويجيبهما الآخران بمثل ذلك. فما هذا حاله مباح يفعله أهل المغارب من أهل حجة والشرف وحملان(1) وغيرهم ما لم يقترن به محظور لأنهم ربما يخرجون في آخره إلى الأذية والهجاء وهو محظور لا يجوز فعله، فأما البكاء فمما لا بأس به.
فإن قال قائل: فقد روى عمر وابن عمر وأبو هريرة عن الرسول أنه قال: ((إن الرجل ليعذب ببكاء أهله)). وفي حديث آخر: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) (2). فما تأويله؟
فجوابه: إن له تأويلات ثلاثة:
__________
(1) لعلها منطقة كحلان فهي أقرب إلى حجة والشرف، ولعدم وجود منطقة هنالك باسم حملان، والله أعلم.
(2) أخرجه البخاري 1/432، ومسلم 2/639،والترمذي 3/328، وأبو داود 3/194، وأحمد 1/42، وفي (تخريج البحر) 2/135، عن عمر بلفظ: ((الميت يعذب في قبره بما نيح عليه)) وفي رواية: ((...ما نيح عليه)) هذه رواية ابن عمر عن أبيه، وقد رواه عنه أيضاً ابن عباس وأنس وأبو موسى بألفاظ متقاربة، وفي رواية ابن عباس أن عائشة قالت: والله ما قاله رسول الله قط إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: ((إن الكافر ليزيده الله ببكاء أهله عذاباً))، وإن الله لهو أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أخرى ولكن السمع يخطئ أخرجه البخاري ومسلم، وعند الترمذي والنسائي: ((الميت يعذب ببكاء أهله عليه)) ثم قال ابن بهران ما ملخصه: إن عائشة بلغها أن ابن عمر يروي الحديث السالف، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله على يهودية يبكى عليها فقال: ((إنه ليبكى عليها وإنها لتعذب في قبرها)) أخرجه الجماعة إلا أبا داود. اهـ.
التأويل الأول: أنه روى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سألت عائشة عن هذا الخبر فقالت: يرحم الله عمر، والله ما حَدَّثَ رسول الله بهذا الحديث، وإنما قال: ((إن الميت ليزداد في عذابه ببكاء أهله)) حسبكم القرآن قال الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164])).
فظاهر كلام عائشة أنها أنكرت على عمر لفظ الحديث وروته كما سمعته من الرسول من غير مخالفة في لفظه لما خالف عمر لفظ الحديث. وروي عنها أنه قالت: مات يهودي فكان أهله يبكون عليه فقال الرسول : ((إن الميت ليعذب وأهله يبكون عليه)) (1).
التأويل الثاني: أن يكون الميت قد أوصى بالبكاء عليه، وهذا حال الجاهلية فإنهم كانوا يوصون بذلك ويواضبون عليه كما فعله
__________
(1) أخرجه أبو داود 3/194، وأحمد 2/38 بلفظ: ((إن صاحب هذا القبر ليعذب وأهله يبكون عليه)).
عبدالمطلب(1)
__________
(1) ترجم له الزركلي في (الأعلام) 4/154 فقال: (نحو 127ق. ه. -45 ق. هـ نحو 500-579م) عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو الحارث، زعيم قريش في الجاهلية،و أحد سادات العرب ومقدميهم، مولده في المدينة ومنشأه بمكة، كان عاقلاً ذا أناة ونجدة، فصيح اللسان حاضر القلب، أحبه قومه ورفعوا من شأنه، فكانت له السقاية والرفادة، قال: (سيديو) في خلاصة تأريخ العرب: (مارس الحكومة العظمى بمكة من سنة 520 إلى سنة 579، وخلص وطنه من غارة الحبشة) وهو جد رسول الله ، قيل: اسمه شيبة، وعبد المطلب لقب غلب عليه، وهو ممن وفد على الملك سيف بن ذي يزن في وجوه قريش يهنئونه بالنصر على الحبشة، كما قي كتاب (ملوك حمير) وقيل: هو أول من خضب بالسواد من العرب، وكان أبيض مديد القامة، مات بمكة عن نحو ثمانين عاماً أو أكثر، وذكر الزركلي في الهامش عن اليعقوبي 1/203 أن عبد المطلب ولد بمكة ونشأ بالمدينة وعاد إلى مكة مع عمه المطلب، وحذف من نسب قريش، وأن اسمه شيبة الحمد، وهو الذي حفر زمزم... إلخ. اهـ، ويلحظ هنا أنه حُذف من نسب قريش أثناء نشأته خارج مكة حتى عاد وظنوه عبداً لعمه المطلب حين دخل به مكة حتى استعاد نسبه وسيادته في قريش.
عند قريب وفاته فقال لبناته عاتكة(1)
__________
(1) في (الإصابة) 8/13: عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم، عمة النبي، كانت زوج أبي أمية بن المغيرة والد أم سلمة زوج النبي ، ورزقت منه عبد الله وغيره. قال أبو عمر: اختلف في إسلامها، والأكثر يأبون ذلك، وفي ترجمة أروى ذكرها في الصحابة، وكذلك ذكر عاتكة، وأما ابن إسحاق فذكر أنه لم يسلم من عماته إلاَّ صفية، وذكرها ابن فتحون في ذيل الاستيعاب، واستدل على إسلامها بشعر لها تمدح فيه النبي وتصفه بالنبوة. وقال الدارقطني في كتاب الإخوة: لها شعر تذكر فيه تصديقها، ولا رواية لها. وقال ابن مندة -بعد ذكرها في الصحابة-: روت عنها أم كلثوم بنت عقبة، ثم ساق من طريق محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أم كلثوم بنت عقبة، عن عاتكة بنت عبد المطلب قصة المنام الذي رأته في وقعة بدر، وقال ابن سعد: أسلمت عاتكة بمكة وهاجرت إلى المدينة، وهي صاحبة الرؤيا المشهورة في قصة بدر.
صفية(1)
__________
(1) قال في (الإصابة) 7/743-744: صفية بنت عبد المطلب بن هاشم القرشية الهاشمية، عمة رسول الله والدة الزبير بن العوام أحد العشرة، وهي شقيقة حمزة، أمها هالة بنت وهب خالة رسول الله ، وكان أول من تزوجها الحارث بن حرب بن أمية، ثم هلك فخلف عليها العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى فولدت له الزبير والسائب، وأسلمت وروت وعاشت إلى خلافة عمر، قاله أبو عمر، قلت: وهاجرت مع ولدها الزبير، وأخرج ابن أبي خيثمة وابن مندة من رواية أم عروة بنت جعفر بن الزبير عن أبيها عن جدتها صفية أن رسول الله لما خرج إلى الخندق جعل نساء في أطم يقال له فارع، وجعل معهن حسان بن ثابت، قالت: فجاء إنسان من اليهود فرقى في الحصن حتى أطل علينا، فقلت لحسان: قم فاقتله، فقال: لو كان ذلك فيَّ كنت مع رسول الله ، قالت صفية: فقمت إليه فضربته حتى قطعت رأسه وقلت لحسان: قم فاطرح رأسه على اليهود وهم أسفل الحصن، فقال: والله ما ذاك، قالت: فأخذت رأسه فرميت به عليهم فقالوا: قد علمنا أن هذا لم يكن ليترك أهله خلوفاً ليس معهم أحد فتفرقوا، وأخرج الطبراني من طريق حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما قبض النبي خرجت صفية تلمع بردائها وهي تقول:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة
لو كنت شاهدها لم يكثر الخطب
…وذكر لها ابن إسحاق من رواية إبراهيم بن سعد وغيره في السيرة أبياتاً مرثية في النبي، منها:
لفقد رسول الله إذ حان يومه
فيا عين جودي بالدموع السواجم
…وفي السيرة من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق، حدثني الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة ومحمد بن يحيى وغيرهم عن قتل حمزة قال: فأقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى أخيها فلقيها الزبير فقال: أي أمه إن رسول الله يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه مُثل بأخي وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك لأصبرن واحتسبن إن شاء الله، فجاء الزبير فأخبر النبي فقال: ((خل سبيلها)) فأتت إليه واستغفرت له، ثم أمر به ودفن، ومما رثت به صفية النبي:
إن يوماً أتى عليك ليوم
كورت شمسه وكان مضيئا
وفي رواة (الآثار): توفيت صفية في خلافة عمر ودفنت بالبقيع ولها ثلاث وسبعون سنة.
وأروى(1)
__________
(1) لها تراجم، منها في (الاستيعاب) 4/1778-1781 وغيره، يتلخص مجملها في الآتي: أروى بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، عمة رسول الله ، ذكرها أبو جعفر في الصحابة، وذكر أيضاً عاتكة بنت عبد المطلب، وأبى غيره من ذلك، وهما مختلف في إسلامهما، فأما محمد بن إسحاق ومن قال بقوله فذكر أنه لم يسلم من عمات رسول الله إلاَّ صفية، وغيره يقول: إن أروى وصفية أسلمتا جميعاً من عمات رسول الله ، وذكر محمد بن عمر الواقدي قال: أخبرنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: لما أسلم طليب بن عمير ودخل على أمه أروى بنت عبد المطلب فقال لها: قد أسلمت وتبعت محمداً وذكر الخبر، وفيه أنه قال لها: ما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه فقد أسلم أخوك حمزة؟ فقالت: انتظر ما يصنع أخواتي ثم أكون إحداهن، قال فقلت: فإني أسألك بالله إلا أتيته وسلمت عليه وصدقته وشهدت أن لا إله إلا الله، قالت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم كانت بعد تعضد النبي بلسانها وتحض ابنها على نصرته والقيام بأمره، قال أبو عمر: كان لعبد المطلب ست بنات عمات رسول الله وهن: أم حكيم وعاتكة، وبرة وأميمة، وأروى وصفية، وقد اختلف في أم أروى بنت عبد المطلب فقيل أمها فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فلو صح هذا كانت شقيقة عبد الله والزبير وأبي طالب وعبد الكعبة،وأم حكيم وأميمة وعاتكة وبرة، وقيل: بل إمها صفية بنت جندب بن حجير بن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة، فلو صح هذا كانت شقيقة الحارث بن عبد المطلب.
وأم حكيم(1)
والبيضاء: أبكينني وأنا أسمع. فأنشدت كل واحدة منهن قصيدة في مدحه فلما فرغن، قال: هكذا فابكينني.
وقال طرفة بن العبد(2):
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي عليَّ الجيب يا أم معبد
وهكذا كان الجاهلية يفعلون في الوصية بما ذكرناه.
__________
(1) أم حكيم بنت عبد المطلب بن هاشم، هاجرت وماتت في خلافة عثمان، يقال لها البيضاء، ويقال إنها توأمة عبد الله بن عبد المطلب، وقد اختلف في ذلك ولم يختلف في أنها شقيقة عبد الله وأبي طالب والزبير بني عبد المطلب، وكانت أم حكيم هذه تحت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له عامراً وبنات له، وهي القائلة: إني لحصان فما أكلم، وصناع فما أعلم.
(2) هو أحد شعراء الجاهلية المشاهير، وله إحدى المعلقات الدالية، التي مطلعها:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
قال في نزهة الألباب 1/444: طرفة بفتحات ثلاث ابن العبد الشاعر، اسمه عمرو.
وترجم له الزركلي في (الأعلام) 3/225 فقال: طرفة بن العبد (نحو 86-60ق. هـ. نحو 538-564م) طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد البكري الوائلي، أبو عمرو، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، ولد في بادية البحرين، وتنقل في بقاع نجد، واتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر (عامله على البحرين وعمان) يأمره فيه بقتله لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر شاباً في (هجر) قيل: وهو ابن عشرين عاماً، وقيل: ابن ست وعشرين، أشهر شعره معلقته، ومطلعها:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
وقد شرحها كثير من العلماء، وجُمع المحفوظ من شعره في ديوان صغير، ترجم إلى الفرنسية، وكان هجاءً غير فاحش القول، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره، اهـ.
التأويل الثالث: أن معنى قوله: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)). أي بما كانوا يبكون عليه؛ لأن الجاهلية كانوا يبكون على موتاهم، ويعددون في بكائهم خصالهم التي كانوا يفعلونها في حال الحياة من الظلم والقتل، ويفتخرون بالأفعال السيئة، والأعمال المنكرة.
الفرع السادس: ويستحب للرجال زيارة القبور. لما روي عن الرسول أنه قال: ((زوروا موتاكم تذكركم بالموت ، ولا تقولوا هجراً)) . والهجر: الكلام القبيح. وروي عنه أنه قال: ((كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها )) (1).
وروي عن الرسول : أنه استأذن في زيارة والدته وفي الإستغفار لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له في الاستغفار، لأن الأنبياء ممنوعون عن الإستغفار لأهل الشرك وسائر الكفار، لأنهم إذا استغفروا فإما أن يجابوا أولا يجابوا، فإن أجيبوا فهو خلاف المصلحة، وإن لم يجابوا كان تنفيراً عنهم في عدم الإجابة.
وروي أنه زار قبر أمه في ألف مقنع فبكا وأبكانا(2).
__________
(1) جاء في(تخريج البحر) 2/136 لفظه: عن أم عطية أن رسول الله قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجراً)) وفي نسخة: ((... فحشاً)) ذكره رزين.
وعن بريدة قال: قال رسول الله : ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أُذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)) هذه رواية الترمذي، اهـ، وهو في (نيل الأوطار) 4/109، برواية الترمذي.
(2) أخرجه الحاكم في (المستدرك) 2/661، وهو في (شعب الإيمان) 7/15، وفي (فيض القدير) 4/67.
ويستحب إذا زار القبور: أن يدعو لهم ويستغفر. لما روي عن الرسول : أنه مر بقبور أهل المدينة فأقبل عليهم بوجهه وقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله عن قريب لاحقون بكم، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)). وروي أنه قال: ((اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم )) (1).
وأما النساء فلا يجوز لهن زيارة القبور لما روي عن الرسول أنه قال: ((لعن الله زوارات القبور )) (2). ولأن الإرتياب حاصل بخروجهن إلى القبور، فلهذا كان ممنوعاً.
ولا يكره المشيء بين القبور بالنعال عند أئمة العترة، والفقهاء.
وحكي عن أحمد بن حنبل: كراهة ذلك.
والحجة على ما قلناه: ما روي عن الرسول في حديث مسألة الميت، وأنه ليسمع خفق نعالهم. فدل ذلك على جواز دخول المقبرة بالنعال.
وقد ذكرنا كراهة وطء القبور والجلوس عليها. لما روي عن الرسول أنه قال: ((لأن يجلس أحدكم على نار فيحترق ثوبه ويصل إلى بدنه أحب إليَّ من أن يجلس على قبر )) (3).
وروي عن الرسول أنه قال: ((لا تجلسوا فوق القبور ولا تصلوا إليها )) (4).
هذا كله إذا دفنوا في غير الطريق فلهذا كره الوطؤ، فإن دفنوا في الطريق جاز الوطء لأنه لا حق لهم في الطريق والواطئ معذور.
__________
(1) أخرجه الحاكم في (المستدرك) 2/661، ورواه في (نيل الأوطار) 4/111، وقال: رواه أحمد ومسلم والنسائي، ولأحمد من حديث عائشة مثله وزاد: ((اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم)).
(2) أورده في (تخريج البحر) 2/136 عن أبي هريرة أن رسول الله لعن زورات القبور، أخرجه الترمذي.
…وعن ابن عباس أن رسول الله لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
(3) أخرجه مسلم 2/667، وأبو داود 3/217، والنسائي 4/95، وابن ماجة 1/499.
(4) أخرجه مسلم 2/668، والترمذي 3/367، وأبو داود 3/217، والبيهقي في (الكبرى)2/435، والحاكم في (المستدرك) 3/244 وغيرهم.
ويكره المبيت في المقبرة لما فيها من الوحشة.
ويكره البناء على القبر مسجداً. لما روي عن الرسول أنه قال: ((لا تتخذوا قبري وثناً.، فإنما هلك بنو إسرائيل لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد)).
ويستحب إذا بني على قبور الأئمة والفضلاء مشاهد أن تكون منفصلة عن المساجد حتى لا يكونوا داخلين في النهي كما يفعلون الآن.
الفرع السابع: وتجوز التعزية لأهل الذمة لأنهم محقونو الدم لأجل الذمة، بشرط أداء الجزية، فجازت التعزية لهم كالمسلمين.
قال الهادي والقاسم: لا بأس بتعزية أهل الذمة لقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ}[الممتحنة:8] والتعزية من أنواع البر لأن التعزية وعظ وتذكير بالموت وأهواله.
وهذا هو رأي الشافعي.
والقول الحسن الذي يقال لهم في التعزية ما قاله محمد بن يحيى وهو أن يقال لهم: أعطاكم الله من الأجر على ميتكم ما أعطا السلف الماضي من أهل ملتكم.
وهذا فيه نظر، فإن سلفهم الماضين الذي صدقوا موسى وآمنوا به، ولم يكن من جهتهم تحريف ولا تبديل فهم مستحقون للثواب فكيف يقال بأن هؤلاء الذين كذبوا الرسول وحرفوا التوراة وغيَّروا وبدلوا يستحقون مثل أولئك، فهذا لا وجه له، ولكن يقال لهؤلاء الذين كفروا بالرسول وحرفوا وغيروا وبدلوا وضربت عليهم الجزية لأجل كفرهم وتمردهم: كثر الله عددكم وأعاضكم عن ميتكم.
فتكثير العدد والإعاضة عن الميت يفعله الله لهم ابتداء لأنهم يستحقونه وتكثير العدد والإعاضة عن الميت بشخص آخر فيه تكثير لمال الجزية فلهذا جاز لهم الدعا به.
ولا يدعا لهم بالمغفرة لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ }[التوبة:113].
ولا تحضر جنائزهم لقوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ}[التوبة:84]. وحضور الجنازة كالقيام على القبر.
وسيأتي تقرير أحكام أهل الذمة وما يعاملون به في أخذ الجزية وغيرها من الأحكام بمعونة اللّه.
وقد نجز غرضنا من الجنائز وبتمامه يتم الكلام على أبواب الطهارة والصلاة، والله الموفق.