كتاب أنـوار اليقـين

 في إمامـة أميـر المؤمنـين

علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في غرف الجنان

ألفه وجمعه وبالجواهر والفوائد وضعه السيد العلم العالم الإمام الأكرم سيف الدين المرتضى لدين رب العالمين المنصور بالله أمير المؤمنين الحسن الداعي إلى الله تعالى بدر اليدن شيخ آل الرسول وحجة ذوي العقول محمد بن أحمد بن يحيى بن الحسن بن الناصر بن الحسن بن عبد الله بن محمد بن المختار الناصر الهادي إلى الحق عليهم السلام والرحمة والإكرام إلى يوم القيامة. وصلى على محمد وآله وصحبه وسلم.

 

الجزء الثاني


بسم الله الرحمن الرحيم

أو هل سمعت بحديث المنزلة
وثبت الطهر ما كان له

 

يجعل هارون النبي مثله
من صنوه موسى فصارت مدخلة

 من حيث لو لم يذكر النبوة
ثابتة بحكم رب القوة

 

كانت له من بعده مرجوه
أي والذي صيرها مدحوه

وقد أتى في النبأ العظيم
والحكم من ذي العزة الحكيم

 

تحقيق قول المرسل الكريم
لو سلموا للملك القيوم


أما حديث المنزلة فقد روى بأسانيد كثيرة وطرق كثيرة، ونحن نذكر منها هاهنا طرف مما رواه المؤالف والمخالف على نحو كلامنا في خبر الغدير.

أما ما رواه أهل مذهبنا فمن ذلك ما رويناه مسنداً عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ولو كان لكنته)).

وما روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال بإسناده عن ابن عباس، عن أنس بن مالك في غزوة تبوك، واستخلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام على المدينة، وكلام المنافقين في ذلك، ولحوق علي عليه السلام لرسول الله حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخبر: ((أما ترضى يا ابن أبي طالب أن أكون استخلفتك كما استخلف موسى هارون، أما والله أنك مني بمنزلة هارون غير أنه لا نبي بعدي)).

ونحو ما روى بالإسناد الموثوق به إلى زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).

ومثله بالإسناد الموثوق به أيضاً إلى سعد بن أيو وقاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون إلا أنه لا نبي بعدي)) ونحن ما روي بالإسناد الموثوق به إلى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قد شكوت عليه ما ألقى من حسد الناس. فقال: أما ترضى أن تكون أخي في الدنيا والآخرة، صاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وأن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) الخبر.

ونحو ما روي بإسناد آخر عن زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت أخي في الدنيا والآخرة، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وأنت أولى الناس بأمتي من بعدي، من تولاك فقد تولاني ومن عاداك فقد عاداني[3])).

قال: أبان قال: زيد بن علي قال له: والله أنت مني بمنزلة هارون من موسى وما ينطق عن الهوى.

وعن عامر بن سعد أني لمع أبي إذ تبعانا رجل في قلبه على علي بن أبي طالب بعض الشيء. فقال: يا أبا إسحاق ما حديث يذكره الناس عن علي. قال: قال: وما هو؟ قال أنت مني كمكان هارون من موسى. قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي عليه السلام: ((أنت مني كمكان هارون من موسى)).

قال الرجل: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال نعم؟ وما تنكر أن يقول رسول الله صلى الله لعلي هذا أو أفضل.

ومثل ذلك حديث عبد خير عن علي عليه السلام قال: أقبل سخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الأمر بعدك لمن؟ قال: ((لمن هو مني يمنزلة هارون من موسى)) قال: فأنزل الله سبحانه: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} يعني يسألك أهل مكة عن خلافة علي، عن النباء العظيم الذي هم فيه مختلفون.

فمنهم المصدق ومنهم المكذب بولايته {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ} وهو رد عليهم سيعرفون خلافته إنها حق إذ يسألون عنها في قبورهم فلا يبقى ميت منهم في شرق ولا غرب، ولا بحر ولا بر، إلا ومنكر ونكير يسألانه يقولان للميت: من ربك وما دينك، ومن نبيك ومن إمامك، فكان علي يقول لأصحابه: أنا والله النبأ العظيم الذي اختلفت فيه في جميع الأمم. والله ما نبأ أعظم مني. وهذا هو الذي أردنا بقولنا: وقد أتى النبأ العظيم الآيات.

وقد تقدم في ضمن الأخبار المتقدمة [214-ج] التي رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي اشتملت على قوله صلى الله عليه وآله لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)) ما يغني عن الإعادة، إذ لا فائدة في التطويل وسيأتي بعض منها في أثناء الكتاب بمشيئة الله تعالى، ونحن الآن نذكر هنا طرفاً مما رواه المخالف، ونكتفي بما رويناه في ذلك عن الإمام المنصور بالله رضوان الله عليه وسلامه. قال عليه السلام في الرسالة النافعة من ذلك ما ذكره في مسند ابن حنبل رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).

ثم رفعه بإسناده إلى سعد بن أبي وقاص وزاد فيه: ((أما ترضى)).

قال عليه السلام: فكانت هذه الإشارة تفيد الولاية والشركة في الأمر، ودلالته استثنى النبوة.

ورفعه من طريق أخرى إلى سعيد بن المسيب عن سعد.

ورفعه بإسناده إلى مصعب عن سعد إلا أنه أبدل مكان أما ترضى بغير واو، ورفعه إلى سعد بن إبراهيم عن سعد ولم يزد الواو، ورفعه إلى عائشة بنت سعد، عن سعد، ورفعه بإسناده إلى أسماء بنت عميس واستثنى،ورفعه بإسناده إلى سعد بن مالك مثله إلا أنه زاد فيه أن المسرة لما خامرت قلبه بما ساق الله من فضله خلافة النبوة، وأشركه في تصرف أعمال[4] النبوة رجع يسعى فرأيت غبار قدميه يصدع.

ورفعه بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه سعد إلا أن الراوي قال: أحببت أشافهه بذلك فلقيته فذكرت له ما ذكر لي عامر قال: فوضع أصبعيه في أذنيه فقال: استكتا إن لم أكن سمعته من النبي.

ورفعه بإسناده بطريق أخرى إلى أسماء بنت عميس. ورفعه بإسناده إلى سعيد بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إلا أنه لم يذكر فيها ثنوى النبوة.

ومن صحيح البخاري من الجزء الخامس بإسناده إلى مصعب بن سعد عن أبيه سعد أن رسول الله عليه وآله وسلم خرج إلى تبوك واستخلف علياً عليه السلام فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ فقال: ((ألا ترضى أن يكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي)).

وبإسناده بطريق أخرى إلى مصعب مثله في الجزء الرابع من صحيح البخاري على حدٍ رفعه باسناده إلى إبراهيم بن سعد مثله ولم يذكر ثنوى النبوة.

ومن صحيح مسلم من الجزء الرابع بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه مثله، وذكر ثنوى النبوة، وذكر أنه ساقه سعد بن أبي وقاص يروى أنه عامر قال: سمعته بهاتين وإلا فاستكتا، ورفعه بإسناده إلى مصعب بن سعد مثله، سوى برواية أخرى رفعها إلا إبراهيم بن سعد مثله، ولم يذكر ثنوى النبوة.

ومن صحيح مسلم من الجزاء الرابع من أوله في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بإسناده إلى عامر بن سعد، عن أبيه، واستثنى النبوة، وذكر مشافة سعد، وذكر أن سعداً ترك أصبعه في أذنيه وقال: نعم، وإلا فاستكتا.

وبإسناده عن مصعب بن سعد عن أبيه سعد، واستثنى النبوة ورواه بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه سعد أن معاوية أمر إليه: ما منعك من سب أبي تراب؟

فقال: أما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وآله فلن أسبه لأن يكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه، فقال علي يا رسول الله خلفتني في النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) وسمعته يقول يوم خيبر: ((لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله فتطاولنا لها فقال: ادعو لي علياً فأتى به أرمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه)).

ولما نزلت هذه الآية: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ}  دعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)).

قال الإمام المنصور بالله عليه السلام. وقد تكرر حديث الراية في الصحاح وما ذكرنا من الكتب الطاهرة في أيدي الأمة دون ما يرويه أباؤنا سلام الله عليهم وأشياعهم رضى الله عنهم، يعني عليه السلام[5] ما اعتمده في الرسالة النافعة من ذلك قال عليه السلام فقلت في ذلك أبياتاً أحببت إيداعها هذا المكان؛ لأن راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ردت مهزومة، حتى كاد ما لا بصيره له ييأس من الفتح فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال في خيبر وهي:

قد عرفوا طرق التقديم لو عرفوا
ساروا برايته واسترجعوا هربا

 

لكنهم جهلوا والجهل ضرار
والخيل تعتثر والأبطال فرار

حتى إذا اشتد وجه الفتح واختلجت
نادى أبا حسن موفى مواعده

 

خواطر من بني الدنيا وأفكار
صبحاً وقد شخصت في ذاك أبصار

فجاء كالليث يمشي خلف قائده
فمج فيها بريق طعمه عسل

 

 

إذا كان في عينه ضوء وعوار
وريحه المسك لم يغضضه عطار

 وقال خذها وصمم يا أبا حسن

 

فكان فتح وباقي الجيش صدار

تم كلامه في هذا الموضوع عليه السلام، وهذه الأبيات نظمها في الرسالة النافعة بعد رواية هذا الخبر، فأحببنا ذكرها حيث ذكرها، وإلا فموضوعها حديث الراية في يوم خيبر المشهور، وقد قدمنا ذكرناه أولاً.

وروينا من الجمع بين الصحاح الستة عن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) فقال بن المسيب: أخبرني بهذا عامر بن سعد، عن أبيه فاحببت أشافه به سعداً فلقيته فقلت: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فوضع أصبعيه على أذنيه وقال: نعم وإلا فاستكتا.

ومن مناقب ابن المغازلي رفعه إلى عامر بن سعد عن أبيه سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).

ومنه أيضاً ما يقرب من الأول يرفعه إلى عامر بن سعد، ومثله أيضاً عنه يرفعه إلى سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص ومثله منه رفعه إلى إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، ومثله منه أيضاً رفعه إلى أنس بن مالك. ومثله أيضاً منه رفعه إلى أبي سعيد الخدري.

واعلم أرشدك الله أن خبر المنزلة تلقته الأمة بالقبول، ورواه أهل المذهب وهو جار مجري الأخبار المتعلقة بأصول الشريعة على مثل ما قدمناه في خبر الغدير، وما ذكرناه من كثرة الناقلين له يؤذن بأنه ظاهر مشهور، معلوم بالضرورة لمن سمع الأخبار، وبحث عن السير والآثار، وكثير من أئمة الهدى يذكر أن العلم به ضروري، وأيضاً فقد علمنا أن هذا الخبر قد ظهر واشتهر في وقت الصحابة والتابعين، واستمرت الحال في ظهوره في زمن بني أمية.

ثم كذلك إلى وقتنا هذا. وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يذكره في[6] مقاماته، وينبه الناس عليه، ويذكر العارفين به معرفته، ويحتج به على المخالفين له.

وقد ذكره في قصة الشورى واحتج به عليهم، وقصة الشورى معلومة مشهورة.

وقد احتج به متكلموا الشيعة على إمامته عليه السلام مرة، وعلى تفضيله مرة أخرى، وذلك منتشر في كتبهم وتصانيفهم، لا يمكن دفعه على كثرة المخالفين، وأرباب العداوة لأمير المؤمنين.

وما زال ظاهراً مشهوراً أيام كان يلعن أمير المؤمنين على المنابر مع أنه قد وقع الإكراه من بني أمية على إخفاء مناقبه، وكتمان محامده، وظهر بسبب ذلك من أعداء الله القتل لمن دان بذلك، والصلب والإحراق، فلا بد من سبب في ظهور هذا الخبر وانتشاره.

ولا يجوز أن يكون ذلك السبب هو اللهج بذكره؛ لأن الصوارف المذكورة تصرف عن نشر ذلك، بل لا يعقل وجه سوى أنه كان ظاهراً معلوماً في زمن الصحابة، فجرى مجرى ما ظهر من أمور الأنبياء عليهم السلام.

وما شاكل ذلك في الظهور من أمر الملوك، وغير ذلك مما يكون العلم به متواتراً، فإنما هذه حالة ن لا يمكن جحدانه، ولا يعقل في هذا الخبر إلا هذا الوجه.

هذا مع أن الأمة مجمعة على قبوله، وإنما اختلفوا في تأويله، والشيعة تحتج على الإمامة والمعتزلة، ومن طابقها تحتج به على الفضيلة، وقد أدخله في الصحاح أرباب الحديث، كما قدمنا ذلك، وقد ذكره قاضي القضاة، وقال: خبر المنزلة حمله شيوخنا على أنه منه بمنزلة الاستخلاف.

واحتج به أبو عبد الله على الفضل، واحتج به الجاحظ في كتاب الزيدية الكبرى على إمامته، ولا أحد من المخالفين رده بل ذكره، ولو وجد فيه أرباب النظر معمراً بالحجة لذكروه، فقد أمعنوا في إبطال إمامة غير أبي بكر بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والشيعة تجادلهم به، فكان ذلك يدعوهم إلى الرد لو وجد إليه سبيلاً.

ولهذا لم يلتفتوا على ما ذكره أبو عثمان الجاحظ في كتاب العثمانية أن هذا الحديث رواه عامر بن سعد، وهو واحد ولو سمعنا من سعد لم تكن حجة في تأخر أبي بكر.

وحكى عن أناس من العثمانية هم شكوا فيه، وكذلك الكرابيس، وما يروى أنه رده فإن علماء المخالفين فضلاً عن الموافقين لم يعتدوا بذلك، وقالوا: قد انتشر قبل حدوث هذا الخلاف، ولا شك أن ذلك صح عن الكرابيسي فقد سبقه الإجماع. فأما الجاحظ فلم يرده، وإنما ذكر ذلك من لا يعتمد، وهذا الجنس مما لا يؤثر فيما هو ظاهر مشهور، مثل ما حكى عن بعضهم أن حرب الجمل وصفين لا أصل لهما، فإن هذه الأقوال لا يعتمد عليها ولا يلتفت إليها والكلام في هذا الخبر في موضعين:

أحدهما: في بيان وجه دلالته على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.

والثاني: في بيان الإعتراضات الواردة على ذلك، والجواب عنها.

أما الموضع الأول: وهو في بيان وجه دلالته على إمامة أمير المؤمنين، فوجه الإستدلال بهذا الخبر[7] على إمامته عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت لعلي عليه السلام جميع منازل هارون من موسى عليهما السلام إلا النبوة.

ومن منازل هارون من موسى استحقاق الخلافة والشركة في الأمر، وذلك لا يفيد معنى الإمامة فيجب أن يكون إماماً بذلك.

وهذه الدلالة مبنية على ثلاثة أصول:

أحدهما: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أثبت له جميع منازل هارون من موسى عليهما السلام إلا النبوة.

والثاني: أن منازله منه استحقاق الخلافة والشركة في الأمر.

والثالث: أن ذلك يفيد معنى الإمامة.

أما الأصل الأول: وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم أثبت له جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة، فالذي يدل على ذلك أنه لما استثنى النبوة دل ذلك على أنه لو لم يستثتها لدخلت تحت الخطاب؛ لأن من حق الاستثناء الحقيقي أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته. وسائر المنازل في صحة الإستثناء كالنبوة.

ألا ترى أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إلا أنه لا نبي بعدي، ولا خليفة على أمتي، ولا شريك في أمري لصح ذلك فبان أن قوله: بمنزلة هارون من موسى يتناول جميع المنازل. فثبت الأصل الأول.

وأما الأصل الثاني: وهو أن من منازله منه استحقاق الخلافة والشركة في الأمر فالذي يدل على ذلك ما حكاه الله سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام في قوله {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.

فإذا ثبتت الخلافة لهارون فالإستحقاق حاصل لا محالة؛ لأن الثبوت فرع على الإستحقاق والصلاحية، ولأن موسى عليه السلام لم يكن ليولي أمر أمته من لا يستحق ذلك ولا يصلح له.

ومما يدل على أن منازله منه استحقاق الخلافة بإجماع الأمة على أن هارون لو بقى بعد موسى عليهما السلام لكان أحق الخلق بأمته، فثبتت هذه المنزلة لأمير المؤمنين عليه السلام.

والذي يدل على أن منازل هارون من موسى الشركة في الأمر قوله تعالى فيما حكاه عن موسى إذ قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} إلى قوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} ولا شك أن الشركة في الأمر هي أن يكون لهارون مثل ما كان لموسى من التصرفات في الأمور، فثبت جميع ذلك لأمير المؤمنين، فثبت في الأصل الثاني.

وأما الأصل الثالث: وهو أن ذلك يفيد معنى الإمامة، فالذي يدل على أن معنى الإمامة هو ملك التصرفات على الكافة في أمور مخصوصة على ما تقدم، ومعلوم أنه كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتصرف تصرفات الأئمة من إقامات الحدود، وتجيش الجيوش، وصلاة الجمعة، وأخذ الأموال ممن وجبت عليه طوعاً وكرهاً، وإنفاقها في مستحقها إلى غير ذلك من الأمور.

فيجب أن نثبت ذلك لأمير المؤمنين بمقتضى دلالة الخبر فيكون إماماً[8] يزيد ذلك بياناً ووضوحاً ما تقدم في خبر أبي ذر رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي ذكر في آخره إيما علي عليه السلام بخنصره اليمنى، وأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: ((اللهم إن موسى سألك فقال: رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، واشركه في أمري، فأنزلت عليه: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا}. اللهم وإن محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً اشدد به ظهري)) وفي رواية أخرى: ((اشدد به أزري)).

قال أبو ذر: فما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة حتى نزل جبريل عليه السلام من عند الله فقال: يا محمد اقراء فقال: وما أقرأ؟ قال أقرأ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} فانظر كيف كل واحد من دليلي الكتاب والسنة عاضد لصاحبه، مطابق له في هذا المعنى، فثبت الأصل الثالث، وبثبوته ثبت الموضع الأول وهو في بيان وجه دلالة الخبر على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.

وأما الموضع الثاني: وهو في بيان الإعتراضات الواردة في ذلك والجواب عنها، فمنها أن قيل إن لفظة المنزلة لا تفيد الإمامة، ولا كانت الإمامة ثابتة لموسى ولا لهارون.

والجواب عن ذلك أن المنزلة وإن لم تعد بلفظها ثبوت الإمامة، فإنها تفيد ثبوتها من حيث اقتضت ثبوت الشركة في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وثبوت الخلافة على أمته واستحقاقها من بعده، وكل ذلك يقتضي ثبوت الإمامة على ما سبق بيانه.

ومنها: أن قيل أنه أثبت منزلة واحدة وليس لفظها لفظ العموم.

والجواب عن ذلك أن العموم على ضربين عموم لفظ وعموم معنى، ونحن نسلم أن المنزلة ليست من ألفاظ العموم. وأما أن معناه العموم لجميع الأمور التي كانت لهارون من موسى، فلا بد من ذلك وإلا كان الاستثناء باطلاً، فإن القول بأن الاستثناء مما لا يعلم لفظاً لا يصح، ولا شك أن المنزلة يدخل تحتها معنى يشتمل على أمور مختلفة، ولهذا يقولون منزلة فلان من الملك كذا وكذا.

ومنها: أن قيل أن هذا التشبيه يوجب أن تكون هذه الأحكام إلى الأئمة ثابتة في شرع موسى وهارون عليهما السلام، نحو إقامة الحدود وما يجري مجراها، وأنها تكون إلى الأنبياء وإلى الأئمة، وان الأئمة كانوا يخلفون الأنبياء في إقامة هذه الحكام، ومن الجائز أن لا يكون شيئاً من ذلك.

والجواب على ذلك أنه لا حاجة بنا إلى معرفة ذلك، بل يكفينا أن نعلم أن علياً عليه السلام كان شريكاً في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخليفة على أمته كما كان هارون شريكاً في أمر موسى عليهما السلام وخليفة على أمته، وذلك يوجب أن نثبت لعلي عليه السلام جميع ما ثبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا النبوة كما اقتضاه الخبر[9] فيكون له تنفيذ هذه الأحكام والإختصاص بها، سواء كان ذلك في شريعة موسى عليه السلام أو لم يكن، وسواء كان ذلك مما يختص به الأنبياء والأئمة أو لا.

كما أنه إذا قال قائل أن زيد شريك في مالي كما أن عمر كان شريكاً لأخي فلان في ماله كان هذا القول يقتضي أن يكون لزيد مثل ما كان لهذا المتكلم من التصرف في ماله، ولا يجب لأجل ذلك أن يكون ماله من جنس مال أخيه الذي كان عمر شريكاً له.

ومنها: أن قيل هذا يوجب أن يكون استخلاف هارون ثابتاً من جهة موسى حتى يكون ذلك ثابتاً لعلي عليه السلام وليس كذلك؛ لأن تصرف هارون كان بحكم النبوة، وإنما كان من موسى تأكيداً للحال في أمره، فيكون ذلك متناقضاً؛ لأن كونه شريكاً يقتضي أن يفعل ما لموسى أن يفعله، وكونه خليفة يقتضي تصرفه عن إذن موسى عليه السلام.

والجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أن يقول أن الرد علينا بما ذكره المتعرضين في ذلك من التناقض ليس برد علينا، بل هو رد على الله تعالى؛ لأن الله تعالى قد أخبر بالشركة، وبأنه خليفة له، ثم إنا لا نحتاج إلى ما قاله بل يكفينا أن نعلم أن علياً عليه السلام يجب أن يكون شريكاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمره وخليفة على أمته، كما تقدم بيانه، كما كان ذلك ثابتاً لهارون عليه السلام مع موسى، سواء كان ثبوت ذلك لهارون عليه السلام كما أن القائل إذا قال: فلان شريكي في هذه الدار كما أن زيداً شريك لعمرو في داره، فإن هذا القول يفيد الشركة في الدار ولا يفيد اثبات  الشركة حتى أن الشركة في دار هذا القائل لو ثبتت من جهته فإن وهب بعض داره لمن ذكر اسمه، والشركة في الدار الأخرى بين زيد وعمرو ثبتت بطريق متساوية بان يرثاها معاً لم يقدح ذلك في ثبوت الشركة بين الجميع، وكان التمثيل صادقاً في نفس الشركة وإن اختلف أسبابها.

كذلك ما نحن فيه يجب أن نثبت الشركة لأمير المؤمنين عليه السلام في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت من موسى وهارون عليهما السلام، ولا يقدح في ذلك اختلاف الأسباب.

والثاني: أن ظاهر القرآن ينطق أن أمر هارون في وزارته، وشدة الأزر وشركته في الأمر يثبت بسؤال موسى عليه السلام بقوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} إلى قوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى}.

فلما كان ذلك ثابتاً بسؤال موسى جاز أن يضاف إليه فتكون منازل هارون ثابتة منه فيصح تمثيل ما ثبت لعلي عليه السلام بذلك.

ومنها: إن قيل إنما كان هذا يصح لو بقي هارون بعد موسى حتى يصح تشبيه منزلة علي عليه السلام بمنزلة هارون، ومعلوم أنه مات قبل موسى عليهما السلام، فكيف يشبه علي به فيما ثبت له، والجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أن في الخبر ما يدل[10] على أن هذه المنزلة ثابتة لعلي عليه السلام بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن قوله: لا نبي بعدي، يقتضي بظاهرة استثناء النبوة بعد موته، فيقتضي ذلك ثبوت هذه المنازل بعد موته عليه السلام لتطابق الكلام، وليس لأحد أن يحمله على أنه أراد به، إلا أنه لا نبي بعد نبوتي؛ لأن هذا خلاف الظاهر كما أن القائل إذا قال: إن هذه الدار لفلان بعدي أفاد ذلك ثبوتها بعد موته، ولم يجز أن يحمل على أنها بعد سكناه أو بعد دخوله، وهذا بين لمن أنصف.

والثاني: أن الخبر إذا اقتضى ثبوت هذه المنازل لعلي عليه السلام كما سبق بيانه وجب ثبوتها بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والقول بثبوتها له في حالة حياة النبي صلى الله عليه وآله دونما بعد موته يكون خرقاً للإجماع، فلا يجوز، وقد قيل أيضاً أن الأمة مجمعة على أن هارون لو بقى بعد موسى عليه السلام لكان أولى الخلق بالتصرف في أمته، فيجب أن نثبت هذه المنزلة لأمير المؤمنين علي عليه السلام.

ومنها: إن قيل لو عاش هارون تقديراً بعد موسى فلسنا نعلم أن هذا التصرف كان موكلاً إليه كما كان إلى موسى عليه السلام، فلعله كان يصير الأمر إلى غيره، لو صار هذا التصرف إليه، فلا علم لنا أنه كان يصير إليه على طريقة الخلافة من موسى عليه السلام بل كان يتصرف بحكم النبوة فيكون استثناء النبوة مزيلاً لهذا التصرف التابع لها.

والجواب: عما ذكره أولاً ما سبق في الوجهين الأولين من أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إلا أنه لا نبي بعدي)) يقتضي ثبوت هذه المنازل لعلي عليه السلام بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم.

 والثاني: إجماع من أثبت هذه المنازل على ثبوتها لعلي عليه السلام بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد عن السيد أبي طالب عليه السلام في كتاب الدعامة أنه حكى إجماع الأمة على أن هارون لو بقى بعد موت موسى عليه السلام لكان أولى الخلق بمقامه، والتصرف في أمته فثبت ذلك لعلي عليه السلام.

فأما ما ذكره ثانياً من قوله: ولو ثبت هذا التصرف لهارون لكان إنما ثبت بحكم النبوة دون الخلافة من موسى.

فالجواب: أنه متى ثبت لعلي عليه السلام ما تقدم ذكره من الشركة في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والخلافة على أمته بمقتضى الخبر على ما تقدم بيانه ثبت ذلك له بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على طريق النيابة، والإستفادة من إثبات النبي ذلك له لما ذكرناه من إجماع من قال بذلك.

وليس يجب إذا كان ثابتاً لهارون عليه السلام تبعاً لنبوته إن ثبت ذلك لعلي عليه السلام بهذا الطريق لما بيناه من أن الإشتراك في حكم من الأحكام لا يقتضي الإشتراك في سببه وطريقه كما تقدم القول فيه.

ومنها: إن قيل أن الخبر يدل على نقيض الإمامة من حيث الخلافة لم تثبت لهارون بعد موسى فيجب أن لا تثبت لعلي أيضاً بعد النبي صلى الله عليه وآله [11] أو لأنه لما استثنى النبوة وهذا التصرف داخل تحتها وجب أن يخرج لخروجها.

والجواب عن ذلك قد سبق حيث بينا أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نبي بعدي يقتضي ثبوت هذه المنازل لأمير المؤمنين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإجماع عند من ثبت ذلك له عليه السلام [219-ج] على ثبوته له بعد موت النبي صلى الله عليه وآله فإن العترة مجمعة على ذلك وإجماعهم حجة كما قدمنا وقد بينا أن هذا التصرف ليس من أحكام النبوة، بل هو منفصل عنه لثبوته حيث لا تثبت النبوة، فانه ثابت للأئمة وليسوا بأنبياء على ما تقدم بيانه، فلا يكون استثناء النبوة مقتضياً لاستثناء هذا التصرف.

ومنها: إن قيل أنه النبي صلى الله عليه وآله أثبت منزله في الحال كما بقي النبوة في الحال، وقبل أن لا يكون إماماً في الوقت كما لم يكن نبياً في الوقت، فإذا لم يصح ذلك لم يكن فيه دلالة على الإمامة، ويجب حمله على منزلة الفضيلة، وسكون نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه؛ لأن ذلك هو الثابت في الحال دون الإمامة.

والجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أن الظاهر يقتضي ثبوت هذه المنازل لعلي عليه السلام بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله: ((إلا أنه لا نبي بعدي)) كما سبق القول فيه فلا يكون ذلك ثابتاً له في الحال.

والثاني: أنا لو سلمنا اقتضا الخبر لثبوت هذه المنازل لعلي عليه السلام في الحال وفيما بعد الحال لكان في الإجماع المنعقد على أنه لا أمر لأحد مع النبي صلى الله عليه وآله ما يقتضي خروج زمانه، بما اقتضاه الخبر فيبقى ما بعده داخلاً تحت ما اقتضاه، فثبت إماماً بعده بلا فصل، إذ لا دليل يقتضي خروج ذلك الزمان.

ومنها: إن قيل إنما كان ذلك يصح لو كان منزلة هارون مستفادة من موسى عليهما السلام، وليس كذلك لأن منزلة هارون وهي النبوة لم تثبت من قبل موسى بل هي ثابتة من الله تعالى.

وكذلك إمامة علي عليه السلام ثابتة من قبل الله تعالى فكيف يصح التشبيه بينهما.

والجواب عن ذلك أن منازل هارون لما ثبتت بسؤال موسى، وبعناية من جهته، وكانت تابعة لنبوته صارت كالمستفاد منه، وإن كانت ثابتة من الله سبحانه كما تقدم بيانه.

وكذلك القول في إمامة علي عليه السلام فإنها لما كانت تابعة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله، وثابتة بدلالة قوله، وواضحة المنهاج ببيانه، صارت كالمستفاد منه والمضافة إليه، فيصح بذلك أن يقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، لا سيما بعد سؤاله من الله تعالى كما تقدم في خبر أبي ذر، ولا يخفى على منصف أن هارون كان تابعاً لموسى عليهما السلام، وكان أمره من تحت أمره.

ولهذا قال: اخلفني في قومي. وقال له: {يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}.

فلما كان تابعاً وكان أمره من تحت أمره كان علي عليه السلام بهذه المنزلة من النبي صلى الله عليه وآله سوى النبوة، صح ما قاله صلى الله عليه وآله، وظهر وجه التشبيه بينهما، وعلى أن الفضيلة التي ذكرها المخالف، وحمل عليها ما ذكر في الخبر من أن المنزلة تقتضي أن لا يصح ما قاله[12] لأن تلك الفضيلة مستفادة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفضيلة هارون عليه السلام لم تكن مستفادة من جهة موسى عليه السلام، فلا يصح حمل المنزلة على الفضيلة أيضاً، فما أجاب به من الفضيلة التي ذكرها فواجبنا مثله في الإمامة، وهذا كما قال الشيخ أبو عبد الله: أن الخبر يدل على أنه عليه السلام أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله كما أن هارون كذلك.

والجواب على ذلك: أن هذا تأويل له على حد محتملاته دون أن نقصر على ذلك وحده، بل يجب إدخال غيره من المحتملات معه؛ لأن اللفظة إذا احتملت أكثر من معنى واحد وجب حملها على جميع المعاني، وقد قال السيد أبو طالب عليه السلام: أن من منازل هارون من موسى أنه كان لا يجوز أن يكون رعبة لأحد من أمة موسى، فيجب أن يثبت ذلك لعلي عليه السلام.

قال الإمام المرتضى عليه السلام: من منازل هارون من موسى أنه كان مفترض الطاعة في أمة موسى فيجب ذلك لعلي عليه السلام.

قال الشيخ أبو الفضل بن شروين رضى الله عنه: من منازل هارون كونه مقدماً على بني إسرائيل، ولم يكن لأحد منهم أن يتقدمه، وأنه كان يجب أن يكون آمراً ناهياً، فتجب هذه المنزلة لعلي عليه السلام، وعلى الجملة فإنه يجب حمل المنزلة على جميع ما يحتمله، وهو يدخل في ذلك لا محالة الخلافة، ومعنى الإمامة والعصمة والفضل وما أشبه ذلك لا يعقل قصرها على الفضل كما ادعى المخالف، وهذا بين لمن أنصف نفسه وخصمه، واستبصر بنور الهدى، فثبت الكلام في دلالة الخبر على إمامته عليه السلام، وبطلت الإعتراضات الواردة عليه بفضل الله ومشيئته، ومنته ورحمته.

وقد أتى الحديث في أسامه
محمد لما قضى أيامه

 

وجيشه من صاحب الزعامه
محققاً لصنوه الإمامه

هذا الخبر هو من جملة الأدلة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله في آخر أيامه من الدنيا: ((أنفذوا جيش أسامة)) وهذا الخبر معلوم الصحة عن الرسول صلى الله عليه وآله بحيث يعلم كونه من النبي صلى الله عليه وآله ضرورة، ويقر به الموالف والمخالف، وتحتج به المعتزلة بزعمها في إمامة أبي بكر.

وأجمعت الصحابة على صحته ويتذاكروه فيما بينهم.

ووجه الإحتجاج به أن النبي صلى الله عليه وآله أمر بإنفاذ جيش أسامة، والمأمور بذلك لا يجوز أن يكون غير أمير المؤمنين، فيجب أن يكون هذا أمير المؤمنين، وذلك يفيد معنى الإمامة.

وإنما قلنا أن المأمور به لا يجوز أن يكون غير علي؛ لأنه لا يخلو أن يريد بذلك الحاضر والغائب، ولا يجوز أن يريد الغائب؛ لأن قوله أنفذوا صيغته صيغة الأمر للحاضر بلا خلاف بين أهل اللغة العربية.

فلو حمل على الغائب لكان حملاً له على غير حقيقة، مع إمكان حمله عليها، وذلك لا يجوز، ولهذا يبطل قول من يقول أنه أمر لجميع الأمة؛ لأن ذلك يقتضي أن المنفذ هو المنفذ وذلك محال.

وبذلك يبطل أن[13] يكون ذلك الجيش هو المأمور بإنفاذ نفسه؛ لأن القائل إذا قال أرسل زيداً عقل منه أن المسير غير المسير، فإذا بطل أن يكون الغائب هو المامور بإنفاذ جيش أسامة، وبطل أن يكون ذلك الجيش هو المأمور بإنفاذ نفسه، بطل أن يكون المأمور بإنفاذه هو أبو بكر وعمر؛ لأن الإجماع منطبق على أن عمر بن الخطاب كان في جيش أسامة، وأن أسامة أمره صلى الله عليه وآله، وإجماع أهل البيت عليهم السلام منطبق على أن أبا بكر كان في جيشة أسامة، ولم تختلف هذه الأمة انه لم يكن حاضراً من الحاضرين لمن أقره النبي صلى الله عليه وآله بالإنفاذ، بل قال بعضهم كان في جيش أسامة.

وقال بعضهم لم يكن في جيشه، ولا كان حاضراً حين قال النبي صلى الله عليه وآله: ((انفذوا جيش أسامة)) بل ما كان هناك من الرجال إلا علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وقثم بن العباس، فبان أن أبا بكر وعمر لم يأمرهما النبي صلى الله عليه وآله بإنفاذ جيش أسامة، وقد ثبت أن العباس وقثم لا يجوز أن يكونا مأمورين بذلك بلا خلاف بين الأمة؛ لأن منهم من قال: المأمور بذلك علي بن أبي طالب عليه السلام، ومنهم من قال: المأمور أبو بكر لما بويع له بعد النبي صلى الله عليه وآله.

وإنما قلنا بأنه إذا لم يكن غير علي عليه السلام هو المأمور به وجب أن يكون المأمور بإنفاذه؛ لأنه لو لم يحمل على ذلك وهو أنه المأمور به لما كان أحد مأمور بإنفاذه، وهو يعلم خلافه ضرورة بإجماع الصحابة وبالأخبار المتواترة، فصح أن أمير المؤمنين عليه السلام هو المأمور به، وإنما قلنا بأنه إذا كان مأمور بذلك كان هو الإمام لوجهين:

أحدهما: أن الإجماع منطبق على أن المأمور بإنفاذ جيش أسامة هو الإمام، وإنما اختلفوا في تعيينه فمنهم من قال: هو أمير المؤمنين عليه السلام، ومنهم من قال: هو من استخلف من بعده.

الوجه الثاني: أن تجييش الجيوش إلى الأئمة كالحدود بلا خلاف بين الصحابة، فثبت أن الإمام دون غيره، فإن قيل ما أنكرتم أن يكون أمراً في حال حياة النبي صلى الله عليه وآله دون ما بعد الوفاة؟

قلنا: إن الأمر لا يجب على الفور عندنا، ثم لو قدرنا أنه يجب على الفور فإن هذا الأمر خاصة قد اقترنت منه قرينة تدل على أنه كما هو أمر قبل الوفاة، فكذلك بعد الوفاة؛ لأن الصحابة اجتمعت على ذلك، ولهذا تشدد فيه أبو بكر ولم يلتفت إلى قول عمر، وقال: لا أخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بمحضر من الصحابة هذا بعد موت النبي صلى الله عليه وآله، وقال عمر لأسامة بعد موت النبي صلى الله عليه وآله: أنت أميري أمرك رسول الله صلى الله عليه وآله عليَّ ولم يعزلك.

وفي رواية الهادي إلى الحق عليه السلام: لما كتب أبو بكر لأسامة وأمره بالرجوع إليه للبيعة منه، أتى أسامة أبا بكر فسأله البيعة، فقال أسامة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرني عليك أنت من أمرك علي، والله لا أطيعك أبداً، ولا أحللت لك عهدي، فلا صلاة لك إلا بصلاتي، فما أنكر ذلك أبو بكر عليه، بل اعتذر إليه بأن الناس[14] أجمعوا عليه، ومن المعلوم الظاهر أن أبا بكر احتاج إلى أن يستأذن لعمر في التخلف عن جيش أسامة، وذلك كله يدل على أن الصحابة تحققت أن جيش أسامة لابد من إنفاذه بعد موت النبي صلى الله عليه وآله لأمره بذلك، فإن قيل: لو كان علي هو المأمور بذلك لقام به؟

قلنا: إن القوم منعوه عن ذلك، وصدوه عما أمر به أعظم المنع، حيث بادروا قبل فراغه من جهاز رسول الله صلى الله عليه وآله إلى التأمير عليه، وأخذ حقه غصباً، وقعد أبو بكر مقعد رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: هو الذي ينفذ جيش أسامة.

ومن المعلوم أنه كان في جيش أسامة، وأنه كان أميراً عليه كما روى محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه علي عليه السلام قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله بثلاث: أمرني ان أنفذ جيش أسامة وفيهم أبو بكر وعمر، وأن لا يساكنه إلا أهل دينه.

قال الراوي عن محمد بن علي وهو جابر: نسيت الثالثة، وفيه دلالة على أنه ما ترك ذلك إلا ممنوعاً، على أن ذلك معلوم ضرورة بالتواتر أن أبا بكر يمنعه من ذلك ومن غيره، فلا يحتاج إلى استدلال ونظر.  

وكم أتى فيه حديث مشترك
فيها لنا دلالة حسنى ولك

 

في طرق الفضل التي  قد ملك
فلا تكن في أمره ممن هلك

 أما الأخبار المشتركة الجامعة لفنون الفضل، المشتملة على أنواع الشرف، فقد أورد فيه عليه السلام من ذلك كثير، نحو ما روى الناصر للحق عليه السلام بإسناده عن جابر أن علياً عليه السلام لما قدم من خيبر بعدما افتتحها قال له النبي صلى الله عليه وآله: ((لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح بن مريم لقلت فيك قولاً لا تمر بملأ إلا أخذوا من تراب رجليك، وفضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أنك مني وأنا منك، ترثني وأرثك، وأن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وأنك تبرئ ذمتي، وتقاتل على سنتي، وأنك غداً في الآخرة أقرب الناس مني، وأنك على الحوض خليفتي، وأنك أول من يكسى معي، وأنك أول داخل معي من أمتي الجنة، وأن شيعتك على منابر من نور، مبيضة وجوههم أشفع لهم، ويكونون غداً جيراني، وأن حزبك حزبي وسلمك سلمي، وأن سرك سري وعلانيتك علانيتي، وأنك أمرء سريرة صدرك كسريرة صدري، وأن ولدك ولدي، تنجز عداتي، وأن الحق معك ليس أحد من الأمة يعدلك، فإن الحق معك وعلى لسانك، وفي قلبك وبين عينيك، وأن الإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي، وأنه لن يرد الحوض مبغض لك، ولا يغيب عنه محب لك حتى يرد الحوض معي)).

قال: فخر علي ساجداً ثم قال: الحمد لله الذي أنعم عليَّ بالإسلام، وعلمني القرآن، وحببني إلى خيرة البرية خاتم النبين، وسيد المرسلين إحساناً منه وتفضلاً.

وروينا هذا الحديث بطريق أخر فيه[15] زيادة بعد قوله تفضلاً، وهي تفضلاً منه عليَّ. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لولا أنت يا علي ما عرف المؤمنون من بعدي، لقد جعل جل وعز نسل كل نبي من صلبه وجعل نسلي من صلبك يا علي، فأنت أعز الخلق وأكرمهم عليَّ، وأعزهم عندي ومحبك أكرم من يرد عليَّ من أمتي)).

فانظر أيها المستبصر إلى ما اطوى عليه هذا الخبر، هل تجد مثله في أحد من الخلق بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وآله، وأين تكون المماثلة بين القوم مع هذا وأمثاله، وكيف يكون الشك، ولله القائل:

وقالوا علي غلا قلت لا

 

إن العلي بعلي علا

 وما قلت فيه كقول الغلاة
ولكن أقول بقول النبي
ألا إن من كنت مولاً له

 

وما كنت أحسبه مرسلاً
وقد جمع الخلق كل الملا
فمولى علي وإلا فلا

 ومثله قول الآخر:

علي لنا علم في الهدى
ألا لعنة الله واللاعنين

 

وغير علي لقوم علم
ليوم الحساب على من ظلم

ولقد أحسن الصاحب حيث يقول:

وما حبي علياً باكتساب
ولو لم أحو من حبيه شيئاً

 

ولكن من فوائد فضل ربي
كفى منه حلاوته بقلبي

 وحيث يقول: أيضاً:

حسب علي بن أبي طالب
إذا كان تفضيلي له بدعة

 

هو الذي يهدي إلى الجنة
فلعنة الله على السنة

واسمع إلى ملائك الرحمن
خلقاً لهم في صورة الإنسان

 

إذ سألوا ذا العز والسلطان
مثل علي قاتل الأقران

في ذلك ما رويناه من كتاب المراتب، وهو ما رواه قوم من الشيعة أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما عرج إلى السماء رأى على صورة علي عليه السلام في السماء حتى لم يغادر منه شيئاً فظنه علياً فقال: ((السلام عليك يا أبا الحسن، كيف سبقتني إلى هذا المكان))؟ فقال له جبريل: ليس هذا علي بن أبي طالب، هذا ملك على صورته، فإن الملائكة من كثرة ما سمعوا من فضل علي عليه السلام اشتاقوا إليه، فسألوا ربهم أن يكون لهم من هو على صورته فيرونه، والعقل لا يمنع من صحة هذا الخبر، فإنه يدل على الفضل والكمال، وأنه محبوب إلى الملائكة، معظم الشأن، ومقطوع على معينه، وليس هذا بأعظم مما قد أتى وما سيأتي من فضائله عليه السلام.

ولم يكن ولي الرسول أحدا
حيث تولى مغوراً أو منجدا

 

عليه بل كان عليهم سيدا
والقوم أعلى فوق أيديهم يدا

أردنا بذلك ما ظهر عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه ما ولي أحد قط ولا قدمه على علي[16] عليه السلام، بل ما أنفذه في سرية، ولا أخرجه في غزاة، ولا جعله في قوم، ولا استنابه في أمر إلا وهو الأمير عليهم من رسول الله، الوالي عليهم بحكم الله، يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بطاعته ويحذرهم مخالفته، وكان صاحب لوائه في غزواته، حتى سأله جابر بن سمرة: يا رسول الله، من يحمل رايتك يوم القيامة؟ قال: ((ومن عسى أن يحملها إلا من حملها علي بن أبي طالب)) وقد تقدم ذلك، وكم عاشر رسول الله عليه وآله فلم ينقم عليه طول صحبته، ولا أنكر عليه شيئاً من قوله وفعله، بل أنكر على من أنكر عليه وشكاه إليه حيث يقول: ((ما لكم ولعلي علي مني وأنا منه))  بخلاف الثلاثة فإنه قدم عليهم غيرهم من أصحابه، وإذا كان الأمر كما ترى لم يكن عليه لأحد ولاية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، إذا لم يول عليه أحداً فكيف يولي عليه غيره غير رسول الله صلى الله عليه وآله، يؤكد ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.

فكيف تثبت ولايتهم عليه من قبل أنفسهم ولم يرد لهم حكم من الله ولا من رسوله، بل حكم الله تعالى ورسوله عليه السلام له بالولاية على القوم وعلى غيرهم من الأمة.

وهو الذي دانت له همدان
وذاك مما خصه الرحمن

 

في يومه وعمها الإيمان
من فضله ياأيها الإنسان


أما حديث همدان وإيمانهم على يديه عليه السلام ففي ذلك ما رويناه أن النبي صلى الله عليه وآله بعث علياً إلى اليمن، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله، فأسلمت همدان كلها في يوم واحدٍ، فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما قرأ كتابه خر ساجداً، ثم جلس وقال: ((السلام على همدان ثلاثاً)) وهم كانوا أنصار علي عليه السلام، وفيهم يقول:

فلو أنني ملكت مفتاح جنة
وقاتل الناس على التأويل
مثل قتال أحمد الرسول

 

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
لسور القرآن ذي التبجيل
لهم كما قال على التنزيل

نريد بذلك ما روى أبو سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن في المسجد قال: فكأنما كانت على رؤسنا الطير، لا يتكلم أحد منا فقال، صلى الله صلى عليه وآله: ((إن منكم من يقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فقام أبو بكر فقال: أنا يا رسول الله؟ قال: لا، فقام عمر فقال: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في الحجرة فخرج علينا علي ومعه نعل رسول الله يصلح شأنها)).

بمثله يضرب لو يلقى المثل
كم فارس أردى وكم قرنٍ قتل

 

أيام صفين وأيام الجمل
في ماقط كالصدع في بعض الأسل

ففي حديث الناكثين فاسمع
فاصغ سمعاً للمقال ثم عي

 

فضل عجيب للإمام الألمعي[17]
وانقد إلى الحق انقياد مسرع

روينا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي عليه السلام: ((إنك تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)) فالناكثون طلحة والزبير ومن معهما، وكانت عائشة سنان ذلك بخروجها على الجمل، وحربها لأمير المؤمنين عليه السلام زعمت أنها طالبة بدم عثمان.

وروى أبو الحسن أحمد بن موسى الطبري أن أمير المؤمنين أغمد سيفه بعد دفن رسول الله صلى الله عليه وآله فما سله إلا يوم الجمل، وأنه لم يقتل أحداً في عصر الثلاثة، ولم يبرح في منزله.

وروينا من مسند ابن حنبل رفعه إلى علي بن الحسين قال: حدثني ابن عباس قال: أرسلني علي إلى طلحة والزبير يوم الجمل، قال: فقلت لهما إن أخاكما يقريكما السلام ويقول لكما: هل وجدتم علي حيفاً في حكيم أو في أشياء أو في كذا؟ قال: فقال الزبير: لا ولا في واحد منهما، ولكن مع الخوف شدة المظالم.

ومنه أيضاً رفعه إلى ابن عباس رضى الله عنه أن علياً عليه السلام كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى قال: {أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} والله لا نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، ولئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه، وابن عمه ووارثه، ومن أحق به مني.

وروينا أن أمير المؤمنين عليه السلام دفع رايته يوم الجمل إلى محمد بن الحنفية وقال: تقدم يا بني فتقدم ثم وقف ساعة، فصاح به اقتحم لا أم لك، فحمل محمد وطعن بها في أصحاب الجمل طعناً منكراً، وأعجبه فعاله فجعل ينشد:

اطعن بها طعن أبيك محمد

 

لا خير في الحرب إذا لم توقد

ورجع واستل أمير المؤمنين عليه السلام سيفه، وحمل على القوم فضرب فيهم يميناً وشمالاً ورجع وقد أنحنى سيفه فجعل يسويه بركبته، فقيل له: نحن نكفيك ذاك يا أمير المؤمنين، فلم يجب أحداً حتى سواه، ثم حمل ثانياً حتى اختلط بهم ورجع وقد انحنى سيفه، فرجع فوقف يسويه بركبتيه ويقول: والله ما أريد بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة، ثم التفت إلى ابنه محمد وقال: هكذا فاصنع يا بني، وخرج رجل من أصحاب الجمل يقال له عبد الله بن أترا وجعل يرتجز ويقول:

يا رب إني طالب أبا الحسن
ذاك الذي نطلبه على الأجن

 

ذاك الذي يعرف قدماً بالفتن
ونقضه شريعة من السنن

فخرج علي وجعل يقول:

إن كنت تهوى أن ترى أبا الحسن

 

وكنت ترميه بإيثار الفتن


فسوف تلقاه ملياً فاعلمن

 

 ثم حمل عليه بالسيف فضربه ضربة هتك عاتقه، وسقط قتيلاً، ووقف عليه أمير المؤمنين فقال: أرأيت أبا الحسن فكيف وجدته، وخرج عمرو بن اليثربي، وقتل ثلاثة من أصحاب أمير المؤمنين، وطلب البراز فخرج إليه عمار، وألقاه عن فرسه[18] وجره حتى ألقاه بين أيدي أمير المؤمنين فأمر بضرب عنقه. فقال: استبقني لأقتل منهم مثل ما قتلت من أصحابك، فقال: أبعد ثلاثة من أصحابي. فقال: ادن مني أذنك أكلمك فقال: أنت رجل متمرد، وقد أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بكل متمرد، فقال: لو دنوت مني لقطعت أذنك وقتل، فخرج أخوه عبد الله بن اليثربي وارتجز:

أضربكم ولو أرى عليا
واسمراً غتطنطا خطيا

 

غممته أبيض مشرفيا
أبكي عليه الولد والوليا

فخرج إليه عليه السلام متنكراً وهو يقول:

يا طالباً في حربه عليا
أثبت لتلقاه به مليا

 

تمنحه أبيض مشرفيا
مهذباً سميدعاً كميا

فحمل عليه علي فضربه ضربة رمى بنصف رأسه فقتله، وانصرف فصاح صائح من خلفه، فالتفت فإذا بعبد الله بن خلف الخزاعي، صاحب منزل عائشة فقال: ما تشاء يا ابن خلف؟ فقال: هل لك في المبارزة؟ فقال: ما أكره ذلك، ولكن ما راحتك في القتل؟ قال: ترى أينا يقتل صاحبه، ثم جعل يرتجز:

إن تدن مني يا علي فترا
 بصارم يسقيك كأساً مراً

 

فإنني دان إليك شبرا
ها أن في صدري عليك وترا

فثنى أمير المؤمنين عليه السلام عنانه وأنشأ يقول:

ياذا الذي يطلب مني الوترا
حقاً وتصلي بعد ذاك الجمرا

 

إن كنت تبغي أن تزور القبرا
فادن تجدني أسداً هزبرا

أضغطك اليوم زعاقاً صبرا

 

فتطاعنا وتضاربا، فضربه علي ضربة رما بيمينه، ثم ثناه ضربة أخرى فأطار  قحف رأسه، ثم وقف عليه وجعل يرتجز:

إياي تدعو في الورى يا ابن الأرب

في أبيات له، ولما عقر الجمل الذي تحت عائشة، وحملت خيل علي عليه السلام وكان أصحابها يقولون حينئذٍ:

يا أمنا عائش لن تراعي

 

يفتك كل بطل شجاع

وأصحاب علي يقولون:

جزيت عنا أمنا عقوقا
قتلت من أمتنا فريقا

 

كما تنكبت بنا الطريقا
ورمت أمراً نكراً سحيقا

ويقولون أيضاً:

عائش يا قادمة المقدمات

 

إن لنا سواك أمهات

في مسجد النبي ثاويات

 

ولما عرقب الجمل ووقع، دنا أمير المؤمنين على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله فقرع الهودج برمحه. وقال: يا عائشة أهكذا أمرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالت عائشة: قد ظفرت فانبجح، فقال لمحمد بن أبي بكر: شأنك بأختك فأدخلها البصرة ثم ردها إلى المدينة.

وروينا أن علياً عليه السلام قال لها: إن لم تنصرفي قلت الكلمة[19] التي تعرفينها، فقالت: سمعاً وطاعة فانصرفت، وتلك الكلمة هي أن النبي صلى الله عليه وآله جعل إلى علي عليه السلام طلاقها إن لم تكن على السداد.

وروينا من صحيح البخاري رفعه إلى نافع بن عبد الله قال: قام النبي صلى الله عليه وآله خطيباً فأشار  نحو مسكن عائشة فقال: ((هاهنا الفتنة ثلاثاً من حيث يطلع قرن الشيطان)).

وقد وردت توبتها بعد ذلك. روى عمرو بن الزبير عن عائشة أنها قالت: ليتني مت قبل الذي كان من شأن عثمان.

وروى هشام بن عروة عن أبيه قال: ما ذكرت عائشة مسيرها قط إلا بكت حتى تبل خمارها وتقول: يا ليتني مت قبيل هذا وكنت نسياً منسيا.

وعن جعفر بن محمد عليه السلام قال: دخل على عائشة نسوة عراقيات فقلن لها يا أم المؤمنين: أخبرينا عن خروجك على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله وسلم وقتالك إياه، أكان على ضلالة فاستحللت قتاله، أو كان على حق فبغيت عليه؟

قالت: يا عراقيات لقد سألتنَّ عن الداهية الدهيا، والمعظلة العظمى، وأغلظتنَّ في المسألة، إن علياً لم يزل لله نصوراً، داعياً لأمته، محامياً عن الإسلام أولاً وآخراً، لم يكن بالغافل في حق الله تعالى، ولا بالجاهل بأمر الله، غذي بالعلم صغيراً، ونشأ على الطهارة منذ كان طفلاً إلى أن صار كهلاً .........، ربيب الرسالة وقريع الوحي، يسمعه صباحاً ومساءً، يعيه بأذن واعية، وهو حجته على خلقه، والباب بينه وبينهم، وما عسيت أن أقول في أبي الحسن والحسين أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، اشتبك لحمه ولحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتباك الأصابع، واختلطلت لحومها ودماؤها، فكانا كنفس واحدة أودعت جسمين، أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو تفاحتيه، وزوج فاطمة الزهراء، أفرغت من ماء الجنة في صلب رسول الله صلى الله عليه وآله في أطيب رحم، ولقحت في أكرم ملقح، وإن لعلي بن أبي طالب فضلاً يا عراقيات لولا .......إلا حدوثه لطردتكن، ثم قالت: انصرفنَّ غفر الله لي ولكنَّ.

فأما طلحة والزبير فإنهما بايعا علياً عليه السلام، ثم خرجا إلى مكة وبها عائشة واتفقت آراؤهم على الخروج إلى البصرة، ومخالفة علي والمطالبة بدم عثمان، فاستدعوا أم سلمة رحمها الله فأتت، وكان من حديث ما ..........ما هو معروف، واجتمع مع عائشة وأصحابها بالبصرة من الجنود ما لا يحصيه إلا الله كثرة، كما ذكره الرواة.

وروينا من كتاب المصابيح للسيد أبي العباس رحمه الله قوله: أخبرنا الرواة عن أبي جعفر، عن أبيه عليهما السلام: أن عائشة كتبت إلى زيد بن صوحان، بسم الله الرحمن الرحيم. من عائشة بنت أبي يكر أم المؤمنين زوجة النبي صلى الله عليه وآله إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد: فإذا جاءك كتابي هذا فأقم في بيتك، وخذل الناس عن علي عليه السلام حتى يأتيك أمري، وليبلغني عنك ما أسر به، فإنك من أوثق أهل بيتي عندي والسلام. فلما قرأ كتابها[20] قال: أمرت بأمرٍ وأمرنا بغيره، أمرت أن تجلس في بيتها وأن تقر فيه، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة فركبت ما أمرنا، وتأمرنا أن نركب ما أمرت به.

وروينا منه أيضاً أخبره أبو العباس بإسناد الرواة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} قال: كان يقول جاهلية أخرى.

وروينا منه أيضاً قال: وحدثنا الرواة عن بن مسعود قال: قلت يا رسول الله من يغسلك إذا مت؟ قال: ((يغسل كل نبي وصيه)).

قال: قلت: يا رسول الله ومن وصيك؟ قال: ((علي بن أبي طالب)).

قلت: يا رسول الله كم يعيش بعدك؟

قال: ((ثلاثين سنة، وإن يوشع بن نون عاش بعد موسى ثلاثين سنة)).

وخرجت عليه صفرا بنت شعيب زوجة موسى. فقالت: أنا أحق بالأمر منك. فقاتلها وقاتل مقاتليها، وأسرها وأحسن أسرها، وإن ابنة أبي بكر ستخرج على علي عليه السلام في كذا وكذا ألفاً من أمتي فيقاتل مقاتليها، ويأسرها فيحسن أسرها)).

وفيها وفي صفرا أنزل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}[الأحزاب:33] يعني صفرا في خرزجها على يوشع بن نون.

وروينا منه أيضاً عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لنسائه: ((ليت شعري أيتكنَّ صاحبة الجمل الأذنب، تخرج حتى تنبحها كلاب الجؤب، يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلاً كثيراً في النار من الناس)).

وروينا منه أيضاً أخبرنا أبو العباس، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: سمعت أم هاني وهي تقول: قد علم من جرت عليه المواشي أن أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبي الأمي وقد خاب من افترى.

وروينا منه أيضاً أخبرنا عيسى بن محمد العلوي، عن نصر بن مزاحم، عن علي عليه السلام قال: لقد علمت صاحبة الجمل أن أصحاب الجمل وأصحاب النهروان ملعونون على لسان النبي الأمي،  تمت رواية كتاب المصابيح.

وروى أبو الحسن أحمد بن موسى الطبري أنه قال رجل ثقفي لأمير المؤمنين صلوات الله عليه يوم الجمل: ما أعظم هذه الفتنة. فقال علي عليه السلام: وأي فتنة هذه وأنا قائدها وأميرها، وإنما بدؤا الفتنة من يوم السقيفة، ثم يوم الشورى، ثم يوم الدار، ولقد صدق عليه السلام، فإن ذلك ليس بفتنة بل كان حرب الجمل وصفين والنهروان جهاد أكبر الحرب كحرب بدر وحنين وأحد، إذ المتولي لجميعها واحد بأمر الله تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وآله، وإنما الفتنة خروج القوم على أمير المؤمنين أخا رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه، مع امرأه كان فرضها لزوم بيتها وستر عورتها هنالك، كما قال أمير المؤمنين حيث عتب على عائشة يوم الجمل، فقالت: خل الأمر عن العتاب، فقال عليه السلام: صدقت إنما يعتب على المرأة إذا رفعت صوتها، أو أبدت وجهها إلى غير محرم، وأما امرأة تسير مسيرة شهر بالجنود والعساكر في سفك دماء المسلمين إلى ديارهم فقد قصر العتب عن هذه، ولما اجتمعوا إلى البصرة وتواعدوا للقتال دعا علي طلحة وقال له: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وآل من والاه وعاد من عاداه))[21]؟

قال: نعم.

قال: فلم تقاتلني؟

قال: لم أذكر. فانصرف طلحة.

وروي أن طلحة لما رمي قال بعدما أفاق من غشيته: ما رأيت مصرع قرشي أضل من مصرعي وتاب.

وروى أنه عليه السلام قال للزبير: أنشدك الله أتذكر يوم مر بك رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن في مكان كذا فقال: ((يا زبير أتحب علياً))؟ فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمي وعلى ديني. فقال: ((يا زبير أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم)) قال الزبير: بلى والله لقد نسيت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ثم تذكرته الآن، ووالله لا أقاتلك. فرجع الزبير يشق الصفوف. وروى أنه ينشد:

ترك الأمور التي تخشى عواقبها
فاخترت عاراً على نار موججة

 

لله أجمل في الدنيا وفي الدين
أنى يقوم بها خلق من الطين

ويروى أنه أنشد:

ندمت ندامة الكسعي لما

 

رأت عيناه ما صنعت يداه

فعرض له ابنه عبد الله فقال: مالك؟ قال: ذكرني علياً حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لتقاتلنه وأنت له ظالم، فلا أقاتله، وذهب حتى نزل بوادي السباع فقتله بن جرموز، وأتى برأسه علياً فقال عليه السلام: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((بشروا قاتل ابن صفية بالنار)).

فأما عائشة فقد رويت توبتها كما قدمنا.

وروى عنها بعد التوبة في أمير المؤمنين وأسباطه ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، ولا شك أنها قد اقتحمت أمراً عظيماً كما قال أبو الحسن أحمد بن موسى الطبري قال: قلت لرجل نجدي عندما قال لي: تول عائشة فقلت: أوالي من حاربته عائشة. ثم قلت له: أراك تلح عليَّ في عائشة ولم تذكر حفصة والله سبحانه وتعالى ذكرها بقوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} إلا أني أظن أنك تفضلها لقول الله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} عندما حاربت علياً، وسنت لأمة محمد قتل أولاد النبي والوصي إلى آخر أيام الدنيا؛ لأنها أول من حارب علياً والحسن والحسين صلوات الله عليهم، ومن معهم من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ولولا هي لم تقدم حرب هؤلاء أحد؛ لأن الزبير ذهب منهم، وطلحة قتل أول النهار غير أن حفصة تغلبها لقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} والله عز وجل لم يجز شهادة ألف امرأة في درهم واحد إلا برجل معها فكيف يقلدها تبليغ الكتاب والسنة إلى خلقه.

وهو الذي لم يصل ظهر جوشنه
بل يعرف الإقدام منه شنشنه

 

لأنه من هربٍ قد أمنه
والحملات والقروح المثخنة

وكان فوق البغل يلقى القرنا
إذ لم يكن عن العدو يثنى

 

فكم وكم قرن عليه أقنى
بل يستتم ضربه والطعنا

أما قولنا فيه عليه السلام: لم يصل ظهر جوشنه، فلما علم من حاله أنه كان لا[22] يكون على ظهره جوشنة حديد فسئل عن ذلك فقال: إنما يحتاج إليه من يهرب من عدوه ليحفظ ظهره، وأنا لا أهرب، وهو كما قال عليه السلام إذ لم يعرف بفرار قط، بل هو القائل لا أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت علي.

وأما ما ذكرناه من البغل وركوبه فهو ما اشتهر عنه أنه كان حيناً يقاتل على البغل، ولقد قيل له لم لا تقاتل على الفرس؟ فقال: إن الفرس يحتاج إليه من يهرب من العدو، أو يهرب العدو منه فيلحقه، وأنا لا أهرب ولا أترك العدو يهرب، فالبغل والفرس سواء، ومثل ذلك ما رويناه عن علي بن مهدي قال: روي أن أمير المؤمنين علياً عليه السلام: قيل له إنك يا أمير المؤمنين رجل مطلوب فلو ركبت الخيل في الحرب. فقال: إني لا أفر عمن كروا، ولا أكر على من فروا، البغلة ترجيني وهذا إنما يكون في قتال أهل البغي.

وهذه المواقف تدل على كونه عليه السلام على الحق، والقوم على الباطل، ولم يزل كذلك عليه السلام، ويدل على توبتهم، وعلى أنهم الناكثون الذين أخبر بهم الرسول عليه السلام،...... من الشجاعة ورباط الجأش، والتأييد من الله ما هو به خليق، وهي من جملة مقاماته المشهورة، التي ليس للقوم مثلها سلام الله عليه ورضوانه.

وقد روى الإمام المنصور عليه السلام أن القتلى في حرب الجمل ثلاثون ألفاً.

ثم حديث القاسطين مثله
 فالفضل في آل الرسول فضله

 

والأمر لله تعالى كله
وهم مكان فضله وأهله

وقد أتى الحديث في عمار
في الفئة الباغية الأشرار

 

وقتله بغياً عن المختار
يا ويلهم من دركات النار

وكان في العين الذي قد كانا
وهي من الفضل الذي استبانا

 

أخرجهم سيدهم عيانا
في أمره فاستمع البيانا

القاسطون هم معاوية وأحزابه عليهم لعنة الله، وقد تقدم حديث النبي صلى الله عليه وآله في قوله لعلي عليه السلام: ((إنك تقاتل الناكثين والقاسطين)) يريد بالقاسطين معاوية وأصحابه.

روينا عن علقمة والأسود قالا أتينا أبا أيوب الأنصاري فقلنا: يا أبا أيوب إن الله أكرمك بنبيه عليه السلام، إذ أوحى إلى راحلته فبركت على باب دارك، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله ضيفاً لك، فضيلة من الله تعالى فضلك بها، أخبرنا بمخرجك مع علي تقاتل أهل لا إله إلا الله؟

فقال أبو أيوب: فإني أقسم لكما بالله تعالى لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله معي في هذا البيت الذي أنتما معي فيه، وما معي في البيت غير رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي جالس عن يمينه وأنا جالس عن يساره، وأنس قائم بين يديه، إذ حرك الباب فقال رسول الله: ((يا أنس انظر من بالباب فخرج أنس فنظر فقال: يا رسول الله هذا عمار بن ياسر. فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله: افتح لعمار الطيب المطيب، ففتح أنس الباب، ودخل عمار فسلم على رسول الله[23] فرحب به ثم قال لعمار: إنه سيكون في أمتي من بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم، وحتى يقتل بعضهم بعضاً، وحتى يتبرأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني -يعني علي بن أبي طالب- فإن سلك الناس كلهم وادياً وسلك علي وادياً فاسلك وادي علي، وخل عن الناس يا عمار إن علياً لا يردك عن هدى ولا يدلك على ردى، يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة الله)).

وقد قدمنا هذا الحديث حيث ذكرنا أن الحق مع علي وأنه مع الحق، احتجاجاً به هناك على ذلك، وذكرناه هاهنا لكونه حجة أيضاً في قتال أهل لا إله إلا الله البغاة.

وفي الروايتين بعض تقديم وتأخير يخالف بينهما والمعنى واحد، ونحن نرويهما من سماعين كذلك.

وروينا عن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا رسول الله بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. فقلنا: يا رسول الله أمرتنا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين فمع من؟ قال: ((مع علي بن أبي طالب)).

وروينا عن أبي سعيد الخدري أيضاً قال: لما بنا المسجد كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وآله فجعل ينفض التراب عن رأسه ويقول: ((ويحك تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار، ألا تحمل كما يحمل أصحابك)) قال: إني أريد الأجر من الله تعالى، فجعل ينفض التراب عن عمار ويقول: ((ويحك تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار)). وفي بعض الأخبار: ((وآخر زادك من الدنيا شربة من لبن)).

وروي أنه لما كان اليوم الذي قتل فيه شرب شربة من لبن، ثم كان يقول: الجنة الجنة تحت الأسنة، اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه.

وروي أنه لما قتل عمار قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اليوم صح لنا يا معاوية أنك على الباطل؛ لأني سمعت رسول صلى الله عليه وآله يقول لعمار: ((تقتلك الفئة الباغية)).

قال معاوية: أنحن قتلناه، إنما قتله من جاء به.

قال: فإنما قتل حمزة النبي صلى الله عليه وآله.

وعن أبي عمارة عن خزيمة بن ثابت قال: كان خزيمة بن ثابت كافاً لسلاحه حتى قتل عمار بصفين فسل سيفه وقال: حانت حل لي القتال، فقاتل حتى قتل، ولما رأى علي عماراً مقتولاً وقف عليه وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن امرء لم تدخل عليه مصيبة من قتل عمار فما هو من الإسلام في شيء، ثم قال: رحم الله عماراً يوم قتل ويوم يبعث، ويوم يسأل، فوالله لقد رأيت عماراً وما يذكر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ثلاثة إلا كان رابعهم، ولا أربعة إلا كان خامسهم، إن عمار وجبت له الجنة في غير موطن فهنيئاً له الجنة، ولقد قتل مع الحق والحق معه، فقاتل عمار وسالب عمار وشاتم عمار في النار، وصلى عليه ودفنه. ولما سار علي عليه السلام لقتالهم، وخرج من الأنبار  سار في برية وأخرج بها عيناً بقرب دير فسئل عنها الراهب فقال: إنما بني هذا الدير لهذه العين، وهي عين راحوماً، ما استخرجها إلا نبي أو وصي نبي. ولقد شرب منها سبعون[24] نبياً وسبعون وصياً، فأخبروا بذلك علياً.

وعن أبي سعيد قال: خرجت مع علي عليه السلام إلى الشام حتى إذا كان بجانب هذا السواد لظهر الكوفة عطش الناس، واحتاجوا إلى الماء، فانطلق علي صلوات الله عليه حتى انتهى إلى صخرة كأنها ربضة عنز، فأمر بها فقلعت. فخرج لنا ماء فشرب الناس فارتووا. ثم أمر بالصخرى فألقيت عليها، ثم سار حتى انتهى إلى المنزل فقال: أيكم يعلم مكان هذا الماء الذي شربنا منه؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين نحن نعلم مكانه. قال: فاذهبوا إليه، فانطلقنا رجالاً وركباناً حتى أتينا المكان الذي كنا نعلمه فيه فطلبناه فيه فلم نقدر على شيء، فلما أعيا علينا أتينا ديراً قريباً منه فسألنا أهل الدير هل يعلمون مكان هذا الماء الذي هاهنا. قالوا: ما هاهنا ماء. قلنا: بلى قد شربنا منه. قالوا: وأنتم شربنا منه؟ قلنا: نعم. قالوا: فوالله ما بني هذا الدير إلا من أجل ذلك الماء، وما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي.

وروينا عن سعيد بن جبير قال: كان مع علي بصفين ثمانمائة من الأنصار وتسعمائة ممن بايع تحت الشجرة.

وروينا عن الحكم بن عتبة قال: شهد مع علي يوم صفين ثمانون بدرياً، وكان معه سيد التابعين أويس القرني.

واذكر حديث صاحب البساله
فهاضة الوصي وانبرى له

 

دلاه عمر فابتغى قتاله
كليث غاب يحتمي أشباله

وكم وكم أيام صفين قتل
يعضو إلى الحرب العوان بالأسل

 

من فارس تحت العجاجات بطل
غادرة ثم صريعاً لا يسل

أما قصة حريث فما رويناه عن السيد أبي طالب عليه السلام بإسناده رفعه إلى الحسن بن عبد الرحمن الريعي، قال: كان لمعاوية مولى يقال له حريث، وكان من أشجع الناس وأشبههم بمعاوية، وكان إذا حمل أيام صفين قال الناس: حمل معاوية، وكان لا يقوم له قائم، وكان معاوية مسرور بموضعه، فقال له يوماً: يا حريث بارز من بارزك، وقاتل كل من قاتلك إلا علياً فإنه لا طاقة لك به، فحسد عمرو بن العاص حريثاً لما يظهر من نجدته وبسالته، فقال له: يا حريث إن معاوية نفس عليك بقتل علي؛ لأنك عبد، ولو كنت عربياً وذا شرفٍ لرضيك لهذا الأمر والمنزلة، فإن قتلت علياً انصرفت براية الفخر، وعلى ذروة الشرف، فعمل في حريث قول عمرو فلما برز علي عليه السلام أحجم الناس عنه، فتقدم إليه حريث، فضرب علي ضربة لم تؤثر فيه، وضربه علي عليه السلام فقتله، فاتصل الخبر بمعاوية فقلق وجزع وقال: من أين أتاني حريث وقد كنت حذرته علياً ومنعته من قتاله، فقيل إن عمرو أشار عليه بذلك، فأنشأ معاوية يقول: صدق الملحون......

حريث ألم تعلم وعلمك ضائع
وأن علياً لم يبارزه أحد

 

بأن علياً للفوارس قاهر
من الناس ألا أقعصته الأظافر[25]

أمرتك أمراً جازماً فعصيتني
ودلاك عمرو والحوادث جمة
وظن حريث قول عمرو نصيحه
 

 

فحدك إذ لم يقبل النصح عاثر
فلله ما جرت عليك المقادر
وقد يهلك الإنسان ما لا يحاذر

فهذه قصة حريث. فأما غيره ممن أحملناه فكثير لا يمكن إحصاؤهم لكثرتهم وأمره عليه السلام مشهورة. وخرج في بعض أيام صفين مولى لعثمان يقال له احمر وكان شجاعاً للمبارزة وجعل يحول ويرتجز ويقول:

إن الكتيبة عند كل تصادم
 قوم حماة ليس فيهم قاصد

 

تبكي فوارسها على عثمان
تيلون كل مفصل ومثاني

فخرج إليه كيسان مولى علي وهو يقول:

قف لي قليلاً يا حمير فإنني
عثمان ويحك قد مضى لسبيله

 

مولى التقى الصادق الإيمان
فاثبت لحد مهند وسنان

فحمل عليه أحمر فقتله. فقال: علي قتلني الله إن لم أقتلك، وحمل عليه فاستقبله أحمر، وهو لا يعرفه فمد علي يده إليه وقبض على ثوبه فضرب به الأرض فكسر منكبه وأضلاعه، ثم جال في ميدان الحرب وهو يقول:

لهف نفسي وقليل ما أسر
لم أرد في الدهر يوماً حربهم

 

ما أصاب الناس من خير وشر
 وهم الساعون في الحرب السمر

وخرج الأشتر وطلب البراز فخرج إليه عبد الله بن عمرو ولم يعرفه فلما عرفه استعفاه ورجع فلامه معاوية، وقال: هلا خرجت إليه فقال: إنه رجع وقد خرجت إلى سعيد بن قيس وهو مثله، والله لا أخرجن إلى صاحبه علي، وهما في هذا إذ بعلي قد برز على فرس رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا معاوية إلى متى تراق الدماء، أبرز إليَّ والأمر لمن غلب، فسكت معاوية، فقال ابن عمرو: وهذا ما كنا فيه فأبرز فلم يجب. فقال ابن عمرو أبياتاً منها:

دعاك إلى البراز فلم تجبه

 

ولو بارزته تربت يداكا

وخرج عمرو يرتجز:

يا قادة الكوفة يالهل الفتن

 

يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن

 أضربكم ولا أرى أبا الحسن

 

فخرج علي وهو يقول:

أنا الغلام القرشي المؤتمن

 

أبو حسين فاعلمن والحسن

 ترضى بى السادات من أهل اليمن

 

وحمل علي على عمرو فأسقطه عن فرسه، فرفع عمرو رجله وأبدى عورته، فأعرض عنه أمير المؤمنين وولى عمرو هارباً قد تغير وجهه، ورجع هو ومعاوية يضحك فقال: مم تضحك؟ قال: منك ومن علي، فقال عمرو: والله لقد وجدته هاشمياً ملياً بالنزال[26] لا ينظر إلى عورات الرجال، وقال له: أحمد الله يا عمرو وعورتك، فقال: يا معاوية أما والله لو بدا له لأوجع فذالك، وأيتم عيالك، وأنهب مالك، وخرج بسر بن أرطأة في تلك الأيام إلى علي وهو لا يعرفه، فلما بصر به عرفه، وحمل عليه علي عليه السلام فسقط بسر عن فرسه كما فعله عمرو بن العاص ورفع رجليه، وكشف عورته، فصرف علي عليه السلام وجهه، ووثب بسر هارباً فضحك معاوية من بسر، وقال: لا عليك فقد نزل بعمرو مثل ما نزل بك، وصاح فتى من أهل الكوفة: ويلكم يا أهل الشام أما تستحون، لقد علمكم عمرو بن العاص في الحروب كشف الأستاه ثم أنشأ يقول:

أفي كل يوم فارس ذو كريهة
يكف لها عنه علي سنانه
بدت أمس من عمرو فقنع رأسه

 

له عورة وسط العجاجة باديه
ويضحك عنه في الخلا معاوية
وعورة بسر مثلها حذو حاذيه

فقولا لعمرو وابن أرطأة ابصرا
فلا تحمدا إلا الحيا وخصاكما
فلولا هما لم تنجوا من سنانه

 

سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه
هما مما كانتا والله للنفس واقيه
وتلك بما فيه عن العود ناهيه

وكان بسر يضحك مرة من عمرو وعمرو يضحك مرة من بسر، وتحامى أهل الشام علياً وخافوه خوفاً شديداً، وصار حديث عمرو مثلاً، فقال أبو فراس ذكر ذلك في شعر له من هذه الأبيات:

فما لي لا أمضي لما لا يعيني
ولا خير في دفع الردى بمذلة
ستذكرني قومي إذا جد جدها
 ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به

 

وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
كما ردها يوماً بسوءته عمرو
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر

ونحن أناس لا توسط بيننا
تهون علينا في المعالي نفوسنا

 

لنا الصدر دون العالمين أو القبر
 ومن خطب الحسنا لم يغلها مهر

وخرج علي يوماً ووقف وأنشأ يقول:

أنا علي فاسألوني تخبروا
سيفي حسامي وسناني يزهر
 وحمزة الخير ومنا جعفر
هذا الهدى وابن هند محجر

 

ثم ابرزوا لي في الوغاء وادبروا
منا النبي الطاهر المطهر
وفاطم عرسي وفيها مفخر
مذبذب مطرد مؤخر

فقال معاوية: إنه ليدعوني إلى البراز لقد استحييت من قريش، فقال له أخوه عتبة: أله عن كلامه، فإنك لتعلم أنه قتل حريثاً، وفضح عمرو، ولا تقدم إليه عمرو إلا وقد يئس من نفسه، ولو برزت إليه لا شممت رائحة الحياة أبداً، وأهل الشام كلهم ينهون عن مبارزة علي، وضحك يوماً معاوية فقال له عمرو: مم تضحك[27]؟ قال: يضحكني دفعك علياً عن نفسك بالإستاة، ولقد كان كريماً لا ينظر إلى عورات الرجال، فقال له عمرو: هلا ضحكت إذ دعاك إلى البراز فأحولت عيناك، ومال شدقاك، وارتعدت فرائصك، وبدا من أسفلك شيئ أكره ذكره.

وخرج المخارق بن عبد الرحمن وقتل أربعة من أصحاب أمير المؤمنين، وكشف عوراتهم واحتز رؤسهم، فخرج علي متنكراً وقتل من أصحاب معاوية ثمانية نفر، واحتز رؤسهم، ولم يكشف العورة، فقال معاوية لغلام له بطل يسمى حرب، اكفني هذا الرجل، فقال: إني أرى رجلاً لو برز إليه جميع عسكرك لأفناهم ولم يخرج، فجال علي ساعة ثم رفع المغفر وقال: أنا أبو الحسن فقال حرب لمعاوية: ألم أقل لك، وخرج كميت الشامي وقتل أربعة من أصحاب علي وكان من شجعان الشام، فخرج إليه علي فقتله، وقتل أربعة من فرسان الشام ثم صاح يا معاوية: هلم إليَّ، فقال معاوية: لا حاجة لي في مبارزتك، قتلت أربعة من سباع الأرض، وخرج إلي عروة بن داود الدمشقي وكان فارساً فقتله، وخرج علي عليه السلام ومعه وجوه أصحابه وهو يقول:

دبو دبيب النمل ولا تفوتوا
كيما تنالوا الدين أو تموتوا

 

واصبحوا في حربكم وبيتوا
أولا فإني طال ما عصيت

واعدد لنا كليلة الهرير
أهلك فيها غير ما نكير

 

لذلك الأمير والأمير
ست مئين عدد التكبير

قال السيد أبو العباس رضى الله عنه بإسناده عن الحارث بن أدهم أن الناس بصفين زحف بعضهم إلى بعض، فارتموا بالنبل حتى فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت، ثم مشى بعضهم إلى بعض بالسيوف وعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا وقع الحديد بعضه على بعض، لهو أشد هولاً في صدور الرجال من الصواعق.

وأخذ الأشتر رحمه الله فيما بين الميمنة فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل، لم يصلوا لله صلاة، فلم يزل يفعل ذلك الأشتر بالناس حتى أصبح من المجالدة وهي ليلة الهرير، وقتل فيها أمير المؤمنين عليه السلام ستمائة قتيل بستمائة ضربة يكبر مع كل ضربة تكبيرة، وهذا روايتنا عن غير السيد أبي العباس.

وكان عليه السلام إذا علا قد وإذا وسط قط.

قال السيد أبو العباس: قال نصر عن عمر بن سعد عن عمارة، عن أبي ربيعة: مربي والله الأشتر فأقبلت معه فقال: شدوا فداكم عمي وخالي شدة ترضون الله بها وتعزون الدين، ثم شد بالقوم حتى انتهى بهم إلى عسكرهم، ثم قاتلوا عند العسكر قتالاً شديداً وأخذ علي عليه السلام لما رأى الظفر قد جاء من قبله يمده بالرجال وجعل علي عليه السلام يقول: لم يبق منهم إلا آخر نفس[28] فدعى معاوية عمرو بن العاص فقال: ما ترى. فقال: إن رجالك لا يقومون برحاله، ولست مثله يقاتلك على أمرٍ، وتقاتله على غيره، أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم، وأهل الشام لا يخافون من على إن ظفر بهم، ولكن ألق إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا وإن ردوه اختلفوا، ادعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم فإنك بالغ بهم حاجتك، قال نصر: حدثنا عمرو بن سعد بإسناده عن جابر قال: سمعت تميم بن خزيم يقول لما أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا فإذا بالمصاحف قد ربطت على رؤس الرماح.

قال أبو جعفر وأبو الطفيل: وضعوا في كل مجنبة مائتي مصحف فكان جميعها خمسمائة مصحف، ثم نادوا هذا كتاب الله بيننا وبينكم، وأقبل الأشتر على فرس كميت، وقد وضع مغفره على قربوس السرج يقول: اصبروا يا معشر المسلمين قد حمى الوطيس واشتد القتال، قال نصر في حديث عمرو بن سعد فلما رفع أهل الشام قال علي عليه السلام. أنا أحق من أجاب إلى كتاب الله تعالى، ولكن معاوية وعمرو بن العاص، وعقبة ابن أبي معيط ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغاراً ورجالاً، وكانوا شر صغار وشر كبار ورجال، وما رفعوها إلا خديعة، فجاءه من أصحابه قدر عشرين ألفاً مقنعين في الحديد، سالي سيوفهم على عواتقهم، قد اسودت جباههم من أثر السجود. فقالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله، أو نقتلك كما قتلنا ابن عفان، وابعث إلى الأشتر فيأتيك. فقال الأشتر: امهلوني فواق ناقة فقد أحسست بالظفر. فقالوا: له: تحب أنك ظفرت ونقتل أمير المؤمنين أو يسلم إلى عدوه، فأقبل حتى انتهى إليهم فصاح: يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم فظنوا أنكم قاهرون، رفعوا المصاحف، حدثوني عنكم فقد قتل أماثلكم متى كنتم محقين، أحين قتل خياركم فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون أم أنتم محقون، فقتلاكم الذين كانوا خيراً منكم في النار، فقالوا: دعنا منك يا أشتر. قال: خدعتم فانخدعتم فسبوه وسبهم، وضربوا بسياطهم وجه دابته وضرب دوابهم، فصاح بهم علي عليه السلام. فكفوا فبعث علي نفراً من أهل العراق. وبعث معاوية من أهل الشام فاجتمعوا بين الصفين ومعهم الصحف، واجتمعوا على أن يحيوا ما أحياء القرآن ويميتوا ما أماته، وعلى أن يحكموا رجلين أحدهما من أصحاب علي عليه السلام، والآخر من أصحاب معاوية، فقال: أهل الشام اخترنا عمرو بن العاص، فقال الأشعث والخوارج: رضينا بأبي موسى، فقال: عليه السلام: إني لا أرضى به وليس يرضى، وقد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني، ولكن هذا ابن عباس قال: والله ما نبالي أنت كنت أو ابن عباس. قال: فإني أجعل الأشتر. فقال الأشعث. وهل ضيق[29] سعة الأرض علينا إلا الأشتر. فقال علي: إني أخاف أن يخدع يمينكم فإن عمرواً ليس من الله في شيء.

قال الأشعث: هو أحب إلينا. فقال علي: قد أبيتم إلا أبا موسى؟

قالوا: نعم، فبعثوا إلى أبي موسى، فجاء الأحنف بن قيس إلى علي فقال يا أمير المؤمنين: إن شئت أن تجعلني حكماً أو ثانياً أو ثالثاً، فإنه لا يعقد عقدة إلا حللتها، ولن يحل إلا عقدت فأبى الناس ذلك، ثم إن أبا موسى وعمرو بن العاص أخذا على علي عليه السلام ومعاوية عهد الله بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنة نبيه على أن على الحكمين أن يحكما بكتاب الله وسنة نبيه، فإن لم يفعلا برئت الأمة من حكمهما، وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلاً بين أهل العراق وأهل الشام، لا يحضر فيه إلا من أحبا عن ملأ منهما وتراضٍ، والناس آمنون على أنفسهم وأهاليهم وأموالهم إلى انقضاء مدة الأجل، والسلاح موضوع والسبيل مخلاة، وكان الكتاب في صفر، والأجل الذي يلتقي إليه الحكمان شهر رمضان، ثم إن الأشعث خرج بالكتاب يقرأه على الناس فرضى به أهل الشام، ثم مر برايات عنزة وكان منهم مع علي عليه السلام أربعة آلاف مخفف.

فلما قرأه عليهم قال معدان وجعد أخوان: لا حكم إلا لله فهما أول من حكم. ثم حملا على أهل الشام ثم مر به على مراد. فقال صالح بن شقيق:

ما لعلي في الدماء قد حكم

 

لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم

لا حكم إلا لله ولرسوله، وقالوا: بنوا راست كذلك. وكذلك رجل من تميم. وآخر يقال له عروة بن أذينة حتى قالوا: يحكمون الرجال، وقال لعلي: ارجع وتب كما تبنا وإلا برئنا منك، فإنا لسنا نرضى بما في الصحيفة ولا نرى إلا قتالهم، قال: فقال علي عليه السلام: ولا أنا رضيت، ولكن لا رأي لمن لا يطاع، ولا يصلح الرجوع إلا أن يقضى الله ويتعدى ما في كتابه فنقاتل من ترك أمره، ثم إن الناس أقبلوا على قتلاهم فدفنوهم ثم إن علياً عليه السلام بعث شريح بن هاني في أربعمائة وعبد الله بن عباس يصلي بهم ومعهم أبو موسى، وجاء عمرو بن العاص في أربعمائة إلى دومة الجندل، فنزل عمرو بأصحابه وابن عباس وشريح وأبو موسى مقابلهم، وكتب النجاشي شاعر علي عليه السلام عند ذلك إلى أبي موسى قصيدة منها:

أبا موسى جزاك الله خيراً
فأهل الشام قد نصبوا إماماً

 

عراقك إن حظك بالعراق
من الأحزاب معروف النفاق

وأنا لا نزال لهم عدواً
فلا تجعل معاوية بن صخر

 

أبا موسى إلى يوم التلاق
إماماً ما مشى قدم بساق

 ولا يخدعك عمرو إن عمرواً

 

أبا موسى لداهية الرفاق

وكان ابن عباس يغيظ أبا موسى ويقول: إنما هو عمرو فلا تغترن بقوله، فقال عمرو: يا أبا موسى كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وأبا بكر وعمر نجاهد ونقاتل[30] المشركين، واليوم كما ترى وبكا، ثم نال من معاوية أنه لا يرضى بشيء من فعله، فقال أبو موسى: وأنا كذلك لا أرضى بعلي وذمه، وجعل ابن عباس يستقره ما يجري بينهما، ويكتمه أبو موسى، ثم إن أبو موسى أتى عمراً واستخبره ما يريد، فقال: إن شئت أحيينا سنة عمر، فقال: إن كنت تريد أن تبايع لابنه فما يمنعك من ابني، فقال: إنه رجل صدق، ولكنك غمسته في الفتنة. قال: صدقت، واتفقا على أن يخلعا علياً ويجعلا الأمر في عبد الله بن عمرو، وبذلك خدع عمرو أبا موسى، ثم أقبلا على الناس وهم مجتمعون، وقال له عمرو: اصعد واتكلم وقد كان ابن عباس قال له: قدم عمرواً قبلك ثم تكلم بعده فإنه رجل غدار، فصعد أبو موسى المنبر بين العسكرين، فقال: أشهدوا أني قد خلعت علياً ونزع خاتمه وقال: كما ترون خلعت هذا الخاتم. ثم صعد عمرو: فحمد الله وأثنا عليه وقال: سمعتم خلعه صاحبه وقد خلعته أنا وبيده خاتم. فقال: وأثبت صاحبي كما أثبت الخاتم في أصبعي هذه وأدخله في أصبعه.

فقال أبو موسى: لا وفقك الله غدرت وخنت، مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.

وقال عمرو: ومثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والتمس أصحاب علي عليه السلام أبا موسى فركب ناقته ولحق بمكة، فكان بن عباس يقول: قبح الله أبا موسى قد حذرته فما عقل، وكان أبا موسى يقول: قد حذرني ابن عباس غدرة الفاسق. وقال بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك قصيدة أولها:

لعمرك لا ألقى مدى الدهر خالعاً

 

علياً يقول الأشعري ولا عمرو

 وقال بعضهم:

لو كان للقوم رأي يعصمون به
لله در أبيه أيما رجل
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن

 

عند الخطاب رموكم بابن عباس
ما مثله لقضاء الحكم في الناس
لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس

وروي أن أبا الأسود كان عند معاوية. فذكر الحكمان فقال: لو كنت مكان أبي موسى ما صنعت ما صنع، فقال له معاوية فما كنت تصنع: قال: كنت أجمع عدة من المهاجرين والأنصار، فانشدكم بالله المهاجرون أحق بالخلافة أم الطلقاء، قال له معاوية: أقسمت عليك بالله لا تذكر هذا ما عشت.

وبلغ القتل في أيام صفين من أصحاب معاوية خمسة وأربعين ألفاً، ومن أصحاب علي خمسة وعشرين ألفاً وهم خمسة وعشرين بدرياً وفيهم عمار بن ياسر رحمه الله، وهاشم بن عتبة، وعبد الله بن بديل بن ورقاء، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين في آخرين رحمة الله عليهم أجمعين.

والمروي أن عسكر أمير المؤمنين في صفين كانوا تسعين ألفاً، وكان عسكر معاوية مائة وعشرين ألفاً، وأقام أمير المؤمنين عليه السلام بصفين ومعاوية مائة يوم[31] وعشرة أيام.

وكانت الوقائع بصفين تسعين وقعة حتى أمضى الأمر إلى التحكيم بما كان بعدما تقدم ذكره من أمر التحكيم من الخوارج وقتالهم بعد أن أنكروا التحكيم الذي كان، وقالو لعلي: قد كفرت وكفرنا، وطلبوا من علي عليه السلام التوبة، فقال علي عليه السلام: توبوا فلم تكفروا، وارجعوا إلى حرب عدوكم، فقالوا: لا حتى تقر على نفسك، فقال: ويحكم أنتم فعلتم بأنفسكم وتركتم أمري، فلم يلتفتوا إلى قوله عليه السلام.

وفي حديث المارقين للورى
فاجعل علياً أولاً وهم ورا

 

حديث صدق ظاهر كما ترى
هيهات كم بين الثريا والثرى

كواهم أخو الرسول كية
إذ تبعوا شيطانهم وغيه

 

بالنهروين أهل ذي الثريه
فما استطاعوا صرفه وليه

هؤلاء هم المارقون لعنهم الله تعالى روينا عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال في بعض خطبه: حدثني خليلي أني سأقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وأن المارقين ملعونون على لسان داود وعيسى بن مريم.

وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى عليه وآله أنه قال: ((تكون فرقة من طائفتين من أمتي تمرق منها مارقة يقتلها أولى الطائفتين بالحق)).

وعن حميد بن هلال قال: أقبل رجلان من أهل الحجاز حتى قدما العراق، فقيل لهما: ما أقدمكما؟ قال: رجونا أن ندرك هؤلاء القوم الذين ذكرهم لنا رسول الله صلى عليه وآله فوجدنا ابن أبي طالب قد سبقنا إليهم. يعنيان أهل النهروان.

وروينا عن أبي سلمة عن عبد الرحمن قال: قلت: لأبي سعيد: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في هؤلاء القوم شيئاً -يعني الخوارج-؟

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يذكر قوماً يتعمقون في الدين، يحقر أحدهم صلاته عند صلاتهم وصومه عند صومهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.

وروينا عن زيد بن وهب وكان في جيش علي يوم النهروان قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((يخرج من أمتي قوم يقروؤن القرآن ليست قرأتكم إلى قرأتهم بشيئ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)) لم يعمل الجيش الذين يصيبونهم ما قضى الله لهم على لسان نبيهم لكلوا عن العمل، وآية أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع على عضده مثل حلمة ثدي المرأة، عليها شعرات بيض، وقيل كشعر الخنزير، وهؤلاء هم الذين قدمنا ذكرهم الآن حيث سألوا التوبة من أمير المؤمنين عليه السلام، واعتقدوا كفره وكفرهم، وأنه امتنع وكان من حديثهم أنه خرج أثناء عشر ألفاً من العراقيين[32] ورئيسهم شبيب بن ربعي وعبد الله بن الكواء، وعبد الله بن أبي أوفى، ووهب الراسبي أصحاب الصفوف والبرانس، فأرسل علي عليه السلام إليهم أبا أيوب الأنصاري، وصعصعة بن صوحان، ثم سار إليهم بنفسه في اليوم الثالث، واحتج عليهم فندموا على ذلك وانصرفوا إلى الكوفة، وأجمع أمير المؤمنين عليه السلام إلى المسير بالشام، فوافقوا على ذلك، فجمع من الحجاز والبصرة ونواحيها أربعين ألفاً، وأنفذ على مقدمته قيس بن سعد بن عبادة  في ستة آلاف، فمضى إلى أرض الجزيرة، وسار أمير المؤمنين حتى نزل أرض مسكن، فلما كان في بعض الطريق من الليل خرج من الكوفة والبصرة سبعة آلاف وقيل ثمانية آلاف رجل، فأغاروا وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت والي المدائن، وأم ولده وولد له صغير، ورجلاً من بني أسد كان يحمل الميرة إلى عسكر علي عليه السلام، فقيل لعلي: كيف تخرج وعدونا في مكاننا يغير علينا، فانصرفوا وانصرف أمير المؤمنين إلى الكوفة، ومضى الخوارج إلى شهرزور ونواحيها، يغيرون ويقتلون ويسبون، ورئيسهم من أهل الكوفة عبد الله بن وهب وزيد بن حصين، ومن أهل البصرة مسفر بن فدكي، والمستورد بن علقمة، فسار إليهم علي عليه السلام مع قيس بن سعد، وسهل بن حنيف، ومعقل بن قيس، وشريح بن هاني، ومالك بن الأشتر في زها عشرة آلاف حتى انتهى إلى النهروان في عسكره، فوجد القوم قد تجردوا للقتال واستقبلوه بصدور الرماح، فنادى أمير المؤمنين عليه السلام قنبر فقال: يا قنبر ناد القوم ما نقمتم على أمير المؤمنين، ألم يعدل في قسمتكم، ويقسط في حكمكم، ويرحم مسترحمكم، لم يتخذ أموالكم دولاً، ولم يأخذ منكم إلا السهمين الذين جعلهما الله سهماً في الخاصة وسهماً في العامة، فقالت الخوارج: يا قنبر مولاك رجل جدل وهو رجل خصم، وقد قال تعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وهو منهم، وقد ردنا بكلامه الحلو في غير موطن، وجعلوا يقولون: والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

فقال علي عليه السلام: يابن عباس انهض إلى القوم فادعهم بمثل الذي دعاهم قنبر، فإني أرجوا أن يجيبوك، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين ألقى علي حلتي، وألبس علي سلاحي فإني أخافهم على نفسي، فقال: بلى، فانهض إليهم في خيلك :

فمن أي يوميك من الموت تفر

 

يوم لا يقدر أو يوم قد قدر

قال: فنهض ابن عباس إليهم وناداهم بمثل بالذي أمره به.

فقالت طائفة منهم: والله لا نجيبه حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

فقال أصحاب الحجج في أنفسهم منهم: والله لنجيبه ولنخصمنه، ولنكفرنه، وصاحبه لا ينكر ذلك، فقالوا: أتنقم عليه خصالاً كلها موبقة مكفرة، أما أولاً فإنه محى اسمه من أمير المؤمنين حيث كتب إلى معاوية، فإن لم يكن أمير المؤمنين فإنه أمير الكافرين؛ لأنه ليس بينهما منزلة، ونحن مؤمنون ولسنا نرضى أن يكون علينا أميراً، ونقمنا عليه أن يقسم علينا يوم النصرة[33] ما حواه العسكر، وسفك الدماء، ومنعنا النساء والذراري، فلعمري إن كان حل هذا فما حرم هذا، ونقمنا عليه يوم صفين أنه أحب الحياة، وركن إلى الدنيا، حتى .........أن نقاتل معه وأن ننصره حيث رفعت لنا المصاحف، فهلا ثبت وحرض على قتال القوم وضرب بسيفه حتى يرجع إلى أمر الله ونقاتلهم، والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وننقم عليه أنه حكم الحكمين فحكما بجور لزمه وزره، ونقمنا عليه أنه ولى الحكم غيره وهو عندنا من أحكم الناس، ونقمنا عليه أنه شك في نفسه حين أمر الحكمين أن ينظرا، فإن كان معاوية أولى بالأمر ولوه، فإن شك في نفسه فنحن أعظم فيه شكاً، ونقمنا عليه أنه كان وصياً فضيع الوصية، ونقمنا عليك يا ابن عباس حيث ترفل إلينا في حلة حسنة تدعونا إليه، فقال بن عباس: يا أمير المؤمنين قد سمعت ما قال القوم، فقال علي عليه السلام: لا ترتاب ظفرت بهم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، نادهم ألستم ترضون بما أتيتكم به من كتاب الله لا تجهلون به، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تنكرونها، قالوا: اللهم بلى. قال: أبدأ بما بدأتم به على .............، أنا كاتب رسول الله صلى الله عليه وآله حيث كتبت: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى سهيل بن عمرو، وصخر بن حرب ومن قبلهما من المشركين عهداً إلى مدة، فكتب المشركون: إنا لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، فاكتب إلينا باسمك فإنه الذي نعرف، واكتب إلينا ابن عبد الله، فأمرني فمحوت رسول وكتبت ابن عبد الله. وكذلك كتبت إلى معاوية من علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومن قبلهما من الناكثين عهداً إلى مدة، فكتبوا إنا لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما قاتلناك، فاكتب إلينا من علي بن أبي طالب نجبك، فمحوت أمير المؤمنين وكتبت ابن أبي طالب كما محى رسول الله صلى الله عليه وآله وكما كتبت، فإن كنتم تلغون بسم الله الرحمن الرحيم إن محاها وتلغون رسول الله إن محاها ولا تثبتونه فالغوني ولا تثبتوني، وإن أثبتموه فإن الله تعالى قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فتأسيت برسول الله صلى الله عليه وآله، قالوا: صدقت هذه بحجتنا.

قال: وأما قولكم إني قسمت بينكم ما حواه العسكر يوم البصرة وأحللت الدماء، ومنعتكم النساء والذرية، فإني مننت على أهل البصرة لما افتتحها وهم يدعون الإسلام، كما منَّ النبي صلى الله عليه وآله على أهل مكة وهم مشركون لما افتتحها، فكانوا أولادهم ولدوا على الفطرة قبل الفرقة في دينهم، فإن عدوا علينا أخذناهم بذنوبهم، ولم نأخذ صغيراً بذنب كبير، وقد قال الله تعالى في كتابه: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[34].

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((لو أن رجلاً غل عقالا من الحرب لأتى الله يوم القيامة وهو مغلول به حتى يؤتيه)) وكانت أم المؤمنين أثقل من عقال، فلو غللتها وقسمت سوى ذلك فإنه غلول، ولو قسمتها لكم وهي أمكم لا يستحل منها ما حرم الله، فأيكم كان يأخذ أم المؤمنين في سهمه، قالوا: لا أحد وهذه بحجتنا هذه.

وأما قولكم: إني حكمت الحكمين فقد عرفتم كراهتي لهما، إلا أن تكذبوا قولي لكم ولوها رجل من قريش لا يخدع فأبيتم إلا أن وليتموها من وليتم، فإن قلتم سكت حيث فعلنا ولم ننكر، فإنما جعل الله الاقرار على النساء في بيوتهنَّ ولم يجعله على الرجال في بيوتهم، فإن كذبتم وقلتم: أنت حكمت ورضيت، فإن الله قد حكم في دينه الرجال وهو أحكم الحاكمين، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} الآية. وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وإنما على الإنسان الإجتهاد في استطلاع الحكمين، فإن عدلا كان العدل فيما أراه الأولى، وإن لم يعدلا فيه وجارا كان الوزر عليهما، ولا تزروا وازرة وزر أخرى. قالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.

وأما قولكم إني حكمت وأنا أولى الناس بالحكم، فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وآله سعد بن معاذ يوم اليهود، فحكم أن يقتل مقاتلهم وتسبي ذراريهم، وجعل أموالهم للمهاجرين دون الأنصار، فقالوا: صدقت. وهذه بحجتنا هذه.

وأما قولكم: إني حكمت قلت للحكمين انظرا في كتاب الله فإن كان معاوية أحق بها مني فاثبتوه، وإن كنت أولى بها فأثبتوني، فلو أن الحكمين اتقيا الله ونظرا في القرآن عرفا أنني كنت من السابقين بإسلامي قبل معاوية، ومعاوية مشرك، وعرفت أنهم إذا نظروا في كتاب الله وجدوني يجب لي على معاوية الإستغفار. لأني سبقته بالإيمان، ولا يجب لمعاوية على الإستغفار، ووجدوني يجب لي على معاوية خمس ما غنمتم؛ لأن الله تعالى أمر بذلك إذ يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية، فإذ حكما بما أنزل الله أثبتوني، ولو قلت: احكموا وأثبتوني أبا معاوية، ولكني أظهرت لهم النصفة حتى رضى، كما أن رسول الله صلى الله عليه وآله لو قال: اجعلوا لعنة الله عليكم أبوا أن يباهلوا، ولكن جعل لعنة الله على الكاذبين، فهم الكاذبون واللعنة عليهم، ولكن أظهر لهم النصفة فقبلوا. قالوا: صدقت هذه بحجتنا هذه.

وأما قولكم: إن كان معاوية أهدى مني فاثبتوه. فإني قد عرفت أنهم لا يجدونه أهدى مني، وقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} فقد عرفتم أنهم لم يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى من القرآن، فكذلك عرفت أنهم لا يجدون معاوية أهدى مني.

فأما قولكم: أن الحكمين كانا رجلي سوء فلِمَ حكمتهما وأنهما لو حكما بالعدل لدخلا فيما نحن فيه، وخرجا من سوءتهما كما أن أهل الكتاب لو حكموا بما أمر الله حيث يقول: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ[35] بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} خرجوا من كفرهم إلى ديننا، قالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.

وأما قولكم: إني كنت وصياً فضيعت الوصية فإن الله تعالى قال في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ولو ترك الحج من استطاع إليه سبيلا كفر، ولم يكن البيت ليكفر ولو ترك الناس لا يأتونه، ولكن كان يكفر من يستطيع إليه السبيل ولا يأتيه، وكذلك أنا إن أكن وصياً فأنتم كفرتم بي، لا أنا كفرت بكم وبما تركتموني، قالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.

وأما قولكم: إن ابن عباس جاء يرفل في حلة حسنة يدعوكم إلى ما يدعوكم إليه فقد رأيت أحسن منها على رسول الله صلى الله عليه وآله يوم حرب، فرجع إليه من الخوارج أكثر من أربعة آلاف، وثبت على قتاله أربعة آلاف، وأقبلوا يحكمون فقال علي عليه السلام: حكم الله أنتظر فيكم يا هؤلاء، أيكم قتل خباب بن الأرت وزوجته وابنه يظهر لي قتله به، وانصرف عهداً إلى مدة حكم الله تعالى أنتظر فيكم، فنادوا اللهم كلنا قتل خباب بن الأرت وزوجته وابنه، وأشرك في دمائهم، فناداهم أمير المؤمنين: اظهروا لي كتاباً وشافهوني بذلك فإني أكره أن يقر به بعضكم في الضوضاء، ولا يقر بعض ولا أعرف ذلك في الضوضاء، ولا استحل قتل من لم يقر بقتل من أقر لكم الأمان، حتى ترجعوا إلى مرادكم كما كنتم، ففعلوا وجعلوا كلما جاءت كتيبة سألهم عن ذلك فإذا أقروا عزلهم ذات اليمين حتى أتى على آخرهم.

ثم قال: ارجعوا إلى مرادكم، فلما رجعوا ناداهم ثلاث مرات رجعتم كما كنتم قبل الأمان من صفوفكم، فنادوا كلهم نعم، فالتفت إلى الناس وقال: الله أكير لو أقر بقتلهم أهل الدنيا وأقدر على قتلهم لقتلتهم، ثم شد عليهم مرة بعد مرة فرجع بسيفه يسويه على ركبتيه من اعوجاجه، ثم شد الناس عليهم فقتلوهم فلم ينج منهم تمام عشرة  فقال: ائتوني بذي الثدية فإنه في القوم. فقلب الناس القتلى فلم يقدروا عليه، فأتى فأخبر بذلك فقال الله اكبر والله ما كذبت ولا كذت وإنه لفي القوم. ثم قال: ائتوني بالبغلة فإنها هادية فركبها ثم انطلق حتى أتى على قليب، ثم قال: قلبوا فقلبوا سبعة من القتلى فوجدوه ثامنهم. فقال: الله اكبر هذا ذو الثدية الذي أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله أنه يقتل مع شرحبيل، ثم قال: تفرقوا فلم يقاتل معه الذين كانوا اعتزلوا عنه كانوا وقوفاً على حده.

وقد كان علي عليه السلام قال لأصحابه: أنه لا يقتل منكم عشرة، ولا ينجوا منهم عشرة، فكان الأمر كما قال عليه السلام.

وروي أنه لما أتوا به خرَّ ساجداً ومن معه من المسلمين.

ومن مسند ابن حنبل رفعه إلى أبي الوصي قال: شهدت علياً عليه السلام حيث قتل أهل النهروان، قال التمسوا المخرج فطلبوه من القتلى، فقالوا: ليس بخده، فقال: ارجعوا فالتمسوه فوالله ما كذبت ولا كذبت فرجعوا والتمسوه فردد ذلك مراراً، كل ذلك يحلف بالله ما كذبت ولا كذبت، فانطلقوا فوجدوه تحت القتلى في طين فاستخرجوه فجيئ به، فقال[36] أبو الوصي: فإني أنظر إليه حبشياً عليه ثديان إحدى ثديه مثل ثدي المرأة، عليه شعرات تكون على ذنب اليربوع.

ومنه أيضاً رفعه يزيد بن أبي صالح أن أبا الوصي عباداً حدثه قال: كنا عائدين إلى الكوفة مع علي بن أبي طالب عليه السلام، فذكر حديث المخرج، قال: والله ما كذبت ولا كذبت ثلاثاً، فقال علي عليه السلام: أما إن خليلي أخبرني أنهم ثلاثة إخوة من الجن هذا أكبرهم، والثاني له جمع كثير والثالث: فيه ضعف.

روينا ذلك كله فانظر أيها الساعي في فكاك رهنه، والمرتاد لسلامته وأمنه، إلى هذه المقامات لأمير المؤمنين عليه السلام المشهورة، والأخبار فيه المأثورة، والأعمال منه المبرورة، وفي هذا الجهاد العظيم بالنفس، الذي لا يبلغ إلى غايته أولئك القوم ولا غيرهم، إنما هي بطشة إلهية، ودعوة نبوية، وعزيمة، علوية وأفعال مرضية، هل يستطيعها إلا من له الإمامة والوصية:

واذكر أحاديث من الأمثال
يحكم بكل الفضل في الخصال

 

وخطبة الفخار والكمال
له على أولئك الرجال

أما أحاديث الأمثال فنريد بذلك تمثيل النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين علي عليه السلام من مثل له به من الأنبياء عليهم السلام فمن ذلك ما رويناه عن موسى بن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((من أراد أنة ينظر إلى موسى في شدة بطشه، وإلى نوح في علمه فلينظر إلى علي بن أبي طالب)).

ومثل ذلك ما روينا عن أبي الحمرا: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ((إن من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حلمه وإلى يحيى بن زكريا في زهده، وإلى موسى بن عمران في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب)).

ومثل ذلك كسره عليه السلام للأصنام كما فعله إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ} الآية.

وروينا عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: انطلق بي رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أتى الكعبة فقال لي: ((اجلس فجلست إلى جنب الكعبة، فصعد رسول الله على منكبي ثم قال لي: انهض، فنهضت فلما رأى ضعفي تحته قال لي: اجلس فجلست. فقال لي: يا علي اصعد على منكبي فصعدت على منكبه ثم نهض فلما نهض خيل لي أني لو شئت نلت أفق السماء، فصعدت فوق الكعبة وتنحى النبي صلى الله عليه وآله وقال: ائت صنمهم الأكبر صنم قريش، وكان من نحاس موتداً بأوتاد وحديد إلى الأرض، فقال لي: عالجه، وكان يقول إيه إيه جاء الحق وزهق الباطل فلم أزل أعالجه حتى استمسكت منه فقال لي: اقذفه، فقذته فانكسر، ونزوت من فوق الكعبة، فانطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وآله نسعى وخشينا أن يرانا أحد من قريش أو غيرهم)).

ومثله من مناقب ابن المغازلي رفعه إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام في فتح مكة[37]: ((أما ترى هذا الصنم يا علي على الكعبة؟ قال: بلى يا رسول الله ولعله قال: أتحملني أو أحملك. قال: بلى أنا أحملك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو أن ربيعة ومضر جهدوا أن يحملوا مني بضعة وأنا حي ما قدروا، ولكن قف يا علي فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلى ساقي علي فوق القربوس ثم اقتلعه من الأرض فرفعه حتى تبين بياض إبطه فقال له:ما ترى يا علي؟ قال: أرى  أن الله عز وجل قد شرفني بك حتى لو أردت أمس السماء للمستها ثم قال له: تناول الصنم فناولته فرمى به، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تحت علي وترك رجليه فسقط على الأرض فضحك، فقال له: ما أضحكك يا علي؟ قال سقطت من أعلى الكعبة فما أصابني شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وكيف يصيبك وإنما حملك محمد وأنزلك جبريل عليه السلام)).

ومثل ذلك مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً لنفسه في فداء رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد تقدمت القصة كما فعل إسماعيل عليه السلام في تسليمه لنفسه إلى أبيه إبراهيم الخليل ليذبحه، فنجا الله تعالى علياً عليه السلام كما نجى إسماعيل عليه السلام.

ومن ذلك فتح أمير المؤمنين عليه السلام للقلاع كما فعل يوشع بن نون عليه السلام.

وقد روينا أولاً قول الرسول صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: ((أنت هارون ويوشع)).

وقوله صلى الله عليه وآله: ((أنت مني بمنزلة يوشع بن نون)).

وقوله: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)).

ومثل ذلك ما روينا في حديث الشمس وردها لأمير المؤمنين، كما ردت ليوشع بن نون عليه السلام.

ومثل ذلك نزول جبريل عليه السلام ومناولته لعلي عليه السلام مرة سفرجلة ومرة لوزة ومرة تفاحة.

كل ذلك رويناه فكان ذلك كقصة الرمانة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدمت أحاديث ذلك.

ومثل ذلك إخراجه عليه السلام لعين راحوما حين خرج إلى صفين كما فعل عيسى بن مريم عليهما السلام التي ما استخرجها إلا نبي أو وصي نبي، وهي التي شرب منها سبعون نبياً وسبعون وصياً، وقد قدمنا ذكر ذلك في حديث صفين.

ومثل ذلك ما رويناه عنه عليه السلام: قال دعاني النبي صلى الله عليه وآله وقال: ((إن فيك مثلاً من عيسى أبغضته اليهود حتى اتهموا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليست له)).

وما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي: ((يا علي أنت في أمتي كعيسى بن مريم أحبه قوم يعني النصارى فدخلوا النار، وأبغضه قوم هم اليهود فدخلوا النار)).

وفي جواب الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام للشرفاء السليمانيين قال عليه السلام: ومما يدل في علي عليه السلام حيث قال له الرسول صلى الله عليه وآله: ((لولا أن يقال فيك ما قيل في عيسى بن مريم لقلت فيك قولاً يكون حجة لمن تبعك وعذاباً على من خالفك))  فقالوا مشركوا قريش: آلهتنا التي كنا نعبد خير أم هو؟ فأنزل الله[38] تعالى في ذلك آية، قال عز من قائل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.

وروينا عن علي عليه السلام: يهلك في حبي مفرط يفرطني بما ليس في، ومبغض مفرط يحمله شناني على أن يبهتني، ألا وإني لست نبي ولا يوحى إليَّ، ولكنني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت، فما أمركم به من طاعة الله فحق عليكم من طاعتي فيما أحببتم وكرهتم، وما أمرتكم بمعصية الله أنا وعترتي فلا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف.

وروينا عن عثمان بن المغيرة: قال كنت عند علي فجاء قوم فقالوا: أنت هو؟ فقال: ما أنا، فقالوا: أنت هو؟ قال: ما أنا، قالوا: أنت ربنا، قال: فاستتابهم، فأبو فضرب أعناقهم ودعى بحطب ونار فأحرقهم.

وقيل: لما همَّ بإحراقهم وتوعدهم بالحريق بالنار، قالوا: عرفنا أنك ربنا؛ لأنه لا يعاقب بالنار إلا الله تعالى، فضرب أعناقهم وحرقهم، وجعل يرتجز ويقول:

إني إذا رايت أمراً منكراً

 

أوقدت ناري ودعوت قنبرا

قال يحيى بن الحسين مصنف كتاب العمدة في عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار: أما الطائفة المفرطة في حبة فهلكت هم النصيرية وهم الذين يعتقدون أنه إله الخلق.

وأما الطائفة الذين بغضوه فهلكوا فهم الذين نصبوا له العداوة، وحاربوه ودفعوه عن مقامه الذي جعله الله له، وجعله له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومثل ذلك ما روى ابن المغازلي بإسناده إلى علي بن ثابت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فقال: ((إن الله تعالى أوحى إلى موسى أن ابن مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا موسى وهارون وأبناء، وأن الله تعالى أوحى إليَّ أن ابني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا أنا وعلي وأبنا علي)).

فشبه علي بهارون وشبه ولديه بولدي هارون، وأجاز لهم ولفاطمة عليهم السلام في المسجد ما قدمنا ذكره.

ومثل ذلك حديث البساط، وحمل الريح لعلي عليه السلام وللذين معه على البساط عند قوله: يا ريح احملينا، ووصولهم إلى الكهف ورجوعهم في يوم واحد، وقد تقدم هذا الحديث، كما كان لسليمان بن داود عليه السلام في الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر.

وكلمه عليه السلام أصحاب الكهف كما كلم الموتى عيسى بن مريم، والموتى لا تكلم بعد الموت إلا نبياً أو وصي نبي، وقد ثبت أنه عليه السلام ليس بنبي فثبت أنه وصي.

ومثل ذلك ما روت أم سلمة قالت: أقبل نفر على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال الأول: يا محمد زعمت أنك خير من إبراهيم وهو تعالى اتخذه خليلاً فأي شيء اتخذك؟ قال: ((اتخذني صفياً، والصفي أقرب من الخليل)) فقال الثاني: زعمت أنك خير من موسى عليه السلام وقد كلم الله موسى تكليماً، قال: ((ويلك كلم الله موسى في الأرض وأنا كلمني تحت سرادق عرشه)) فقال الثالث: تزعم أنك خير من عيسى وكان يحيى الموتى فأنت متى أحييت؟[39] قال: فغضب وصفق بيديه وقال: ((يا علي، فإذا علي عليه السلام مشتمل بشملة له وهو يقول: لبيك لبيك يا رسول الله فقال له: من أين، قال: كنت في بستان إذ سمعت صوتك وتصفيقك فقال: ادن مني فوالذي نفس محمد بيده ما ألقى الصوت في مسامعك إلا جبريل، فدنى علي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله ثم كلمه بكلمات لم أسمعها ثم قال: قم يا حبيبي والبس قميصي هذا وانطلق بهم إلى قبر يوسف بن كعب فاحيه لهم بإذن محي الموتى)).

قالت أم سلمة: فخرجوا أربعة معاً وأقبلت أنا معهم حتى انتهى بهم إلى بقيع الغرقد إلى قبر دارس، فدنى منه وتكلم بكلمات، فتصدع القبر ثم أمره ثانية فتصدع، ثم أمره ثالثة فتصدع، فقال: قم بإذن محي الموتى، فإذا شيخ ينفض التراب عن رأسه ولحيته وهو يقول: يا أرحم الراحمين، ثم التفت إلى القوم كأنه عارف بهم ثم قال: ويلكم اكفر بعد إيمان، أنا يوسف بن كعب صاحب أصحاب الأخدود، أماتني الله منذ ثلاثمائة سنة وستين عاماً حتى الساعة، ثم هتف بي هاتف فقال: قم صدق سيد ولد آدم محمد فقد كُذب. فقال: بعضهم لبعض ارجع بنا لا تعلم بنا صبية قريش فيرجمونا بالحجارة، وناشدوا علياً إلا رددته فتكلم بكلام لا أفهمه، فإذا الرجل قد رجع إلى قبره، وسوى عليه التراب، ورجع يعني علياً عليه السلام، ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فكلمه عليه السلام هذا الميت أيضاً كما كان مثل ذلك لعيسى عليه السلام، واختصه رسول الله صلى الله عليه وآله بتعليمه الكلمات، وإلباسه قميصه، وجعل هذه المعجزة على يديه دون غيره من جميع الخلق.

ومثل ذلك أنه غلا في محبته وبغضه فرقتان فقال: من أحبه هو الله، تعالى الله عن ذلك. وقال من أبغضه فيه قولاً فضيعاً حتى رفضوا محبته، وجحدوا فضله وحاربوه كما كان في المسيح عليه السلام، والذين غلوا كالذين ذكرنا أنه حرقهم وقتلهم ومن أشبههم، والذين رفضوه وأبغضوه فهم كثرة أيضاً كالذين لعنوه على المنابر سبعين سنة، ومن حذا حذوهم لعنهم الله لعناً وبيلاً.

ومثل ذلك أنه عليه السلام قتل في الليلة التي رفع فيها عيسى بن مريم عليه السلام.

ولما مات عليه السلام صعد الحسن بن علي عليهما السلام المنبر فخطب خطبة بليغة، فكان مما قال: ولقد قبض في الليلة التي قبض فيها يوشع بن نون، والليلة التي رفع فيها عيسى، والليلة التي أنزل فيها القرآن.

ومثل ذلك أنه عليه السلام قتل بسبب امرأة وهي قطام بنت الأصبع، وسبب ذلك أنه رآها عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله، وكانت ذات حسن وجمال فشغف بها حباً، وأعجبه حسنها وبهاؤها، فخطبها إلى نفسها، فأبت إلا أن يبذل لها ثلاثة آلاف وعبداً وقينة، وقتل علي عليه السلام، وقد كانت واعدته إلى منزلها فلما أدخلته قالت: لجواريها: هلموا إليَّ ثيابي الرقاق، فأتى بها فلبستها فأخذت زينتها وقعدت في مفرشها، وقالت لجواريها: إذا دخل المرادي فإذا هو نظر إلي وملأ عينيه مني فالقول الحجاب فيما بيني وبينه حتى يكون ذلك أشد لشوقه، فلما أتاها[40] في منزلها ونظر إليها في ذلك الذي لم يرها قبل ذلك فيه أزداد شوقاً إلى ما كان في قلبه، ثم قال لها: يا جارية ما صنعت في الأمر الذي كان بيننا؟

قالت: يا أخا مرادي إن قومي أبو أن ينكحوني إلا على ثلاثة آلاف وعبد وقينية، وقتل علي بالحسام المسمم.

قال لها: ويلك، وما الذي جئت به هل رأيت حبيباً يقتل حبيبه، هل رأيت عبداً يقتل سيده، هل رأيت خليلاً يقتل خليله، ويحك من يصل إلى قتل أمير المؤمنين  علي بن أبي طالب، وهو صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وآله، وقاتل الأقران ومبيد الشجعان، ومشتت الآلاف.

أما علمت أنه ضراب القلل، هزام الجيوش، أما علمت أنه صاحب عتبة وشيبة والوليد، وعمرو بن عبدود، ويحك من يقتل أمير المؤمنين وجبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، والملائكة يحفونه بأجمعهم.

قالت: يا أخا مراد ما لنا في المال من حاجة إلا قتل علي وحده، وكانت من الخوارج قتل جماعة من قومها.

قال لها: ويحك أما قتل علي فلا طاقة لنا به، ولا أقدر عليه.

قالت: فاضربه لنا ضربة واحدة، إن عاش منه عاش، وإن مات منها مات.

وحمله على ذلك الهوى الغالب، وجعل الشيطان يحرضه على ذلك، فقال لها: لك ذلك، فافترقا على هذه الشريطة، قالت له: فادفع إلىَّ سيفك فدفعه إليها فاشترت له سماً بثمانمائة مثقال، وكان ذلك في عشرة خلون من شهر رمضان، فلما مضى من شهر رمضان ثمانية عشرة يوماً أرسلت قطام لعبد الرحمن فاستتر في طريقه عن الناس، حتى دخل منزلها، وقد هيئات له طعاماً وشراباً، ودعت الجواري، وجعلنَّ يضربنَّ بالمعازف، ثم نزعت عنها ثياباً كانت عليها، ولبست ثياباً رقاقاً ثم استخرجت له السيف من السم وعصبته بعصابة، ثم قالت: يا أخا مراد إن علي بن أبي طالب فارس بطل شجاع، لا يظفر به أحد، ولا يبرز إليه فيطمع فيه، فإن أنت لم تعتد له في ظلمة هذا الليل وإلا لم تقدر عليه، فقم فاقضي حاجتنا ترجع قرير العين مسروراً، قال: لا بل والله ارجع سخين .........مثبوراً، فأخذ السيف تحت ثوبه ثم بكى حتى وقع  النصل من يده، فقالت ما هذا الجزع يا أخا مراد؟ فقال لها: ويحك أقدم على أمير المؤمنين فاضربه بالسيف فلا أجزع، ثم أخذ السيف ومضى إلى جامع الكوفة، وذلك في ليلة تسع عشر من رمضان، فكمن لعلي عليه السلام في بعض طاقات المسجد، وقيل: على باب المسجد، وكان علي عليه السلام لا يقدم على الأذان أحد لما سمع فيه من الفضل، فلما كان وقت الأذان خرج عليه السلام إلى صحن الدار ليلتها إلى صلاته، فطار في وجهه وز كان قد أهدى له. فقال صلى الله عليه: صوايح تتبعها نوايح. فقال ابنه الحسن: يا أبه، أليس قال جدي: ((ليس منا من تطير ولا من تطير له، ولا من تكهن ولا من تكهن له))؟ فقال: يا بني ما تطيرت، ولكن عهداً عهده إليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتهيأ فخرج يريد فتح الباب فعسر عليه حتى انحل مئزره، فقلع الباب ورمى به فأخذ يتزر وهو يقول:

اشدد حيازيمك للموت
ولا تجزع من الموت

 

فإن الموت لا قيكا
إذا حل بواديكا

ثم مضى إلى المسجد وهو يقول[41]:

خلوا سبيل المؤمن المجاهد

 

في الله لا يعبد غير الواحد

ويوقظ الناس إلى المساجد

 

ثم خرج إلى باب المسجد ووضع رجله وهو يقول: بسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم تقدم المرادي يريد أن يضرب علياً فهابه، فلما أن كبر أمير المؤمنين وسجد علاه الملعون عبد الرحمن بن ملجم لعنة الله عليه بالسيف فضربه فوقعت على الضربة التي أصابته يوم الخندق، فخر علي صلوات الله عليه منها، وخرج المرادي يريد الهرب إلى منزل قطام التميمية، فلما صار على باب المسجد قيد الله رجليه وأعمى عينيه، فوقف على باب المسجد وسيفه تحت ثيابه يقطر دماً، وأقبل الناس من كل ناحية، فأدركوه فاستمكنوا من عدو الله، وأقبل علي عليه السلام على ابن ملجم. وقال: أرأيت إن سألتك عن خصال ثلاث تصدقني إن سالتك؟ قال سلني: قال: سألتك بالله هل كنت تدعى وأنت صغير ابن راعية الكلاب؟ قال: اللهم نعم، قال: فأسألك عن الثانية قال: أنشدك الله أمر بك رجل وقد تحركت فقال: أنت شقيق عاقر ناقة ثمود؟

قال: اللهم نعم.

قال: إني سائلك عن الثالثة: وهي أشدهنَّ عليك هل حدثتك أمك أنها حملت بك في حيضها؟

قال: اللهم نعم. ولو كنت كاتماً شيئاً لكتمته، فلما قضى أمير المؤمنين عليه السلام نحبه وقبض روحه عليه السلام، قتل بن ملجم لعنه الله واعتوره الناس بعد السبطين عليهم السلام بأسيافهم، فلما نظر العبدي الذي أدخله مكتوفاً ما نزل به انشأ يقول:

فلم أرى مهراً ساقه ذو بلية
ثلاثة آلاف وعبد وقينة

 

كمهر قطام ساق حتف ابن ملجم
وقتل علي بالحسام المسمم

فلا مهرا على من علي وإن علا
لقد نال بالسيف الحسام شهيدنا

 

ولافتك إلا دون فتك بن ملجم
يفوق إذا عد الحجى بالتكرم

وصي رسول الله والسيد الرضي
فأبشر بخزي في الحياة معجل

 

وناصر دين الله غير توهم
وأبشر بخزي في قرار جهنم

وفي رواية أخرى في البيت الأول أنه:

فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة

 

كمهر قطام من فصيح وأعجمي

ويروى أن الأبيات الثلاثة من أولها فقط قول ابن مياس الفزاري. أولها هذا البيت الأخير على ما تلوناه مصافاً إلى بيتين بعد البيت الأول.

وتولى غسله وتكفينه ابناه الحسن والحسين عليهم السلام جميعاً بأمره لهما.

وفي رواية أنه غسله ابنه الحسن بن علي عليهما السلام وعبد الله بن العباس، وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وصلى عليه ابنه الحسن عليه السلام وكبر خمس تكبيرات، ودفن عند صلاة الصبح أولاً في الرحبة مما يلي باب كندة، ثم نقلا ليلاً إلى ذي الغري.

وذكر السيد أبو طالب عليه السلام[42]: أن المشهور أن زيد بن علي عليهما السلام قال لأصحابه وهم يسلكون معه طريق الغرى: أتدرون أين نحن؟ نحن في رياض الجنة نحن في طريق قبر أمير المؤمنين.

قال: ومن المعلوم الذي لا يخفى على من نظر في الأخبار أن جعفر بن محمد حضر الموضع وزار القبر وقال لابنه إسماعيل: هذا قبر جدك أمير المؤمنين.

وروي عن الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال حملناه ليلاً ودفناه بالغرى فهذا قول سادة العترة، فكيف تدعي النواصب أن موضع القبر ليس بمعروف، لولا عمى بصائرهم وشدة انحرافهم عن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله.

وروينا عن شهاب بالإسناد المتقدم قال: قدمت دمشق غازياً فدخلت على عبد الملك بن مروان، فإذا هو على فرش يفوت القائم، والناس سماطين بين يديه، فسلمت فأخذت مجلساً، فقال: يابن شهاب أتعرف ما كان في بيت المقدس صباح ليلة قتل فيها علي بن أبي طالب عليه السلام؟

قلت: نعم.

قال: هلم فدرت خلف السماطين حين أتيته من خلف القبة، فتحول إليَّ فولى رأسه فقال: ما كان؟

فقلت: ما رفع حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دماً،. فقال: ما بقي أحد يعرف هذا غيري وغيرك، فلا يخرجن منك فما حدث به حتى مات.

وروي عن الرضى عليه السلام أنه قال: من زار قبر أمير المؤمنين عليه السلام فليصل عند رأسه ست ركعات، فإن قبره عظام آدم، وجسد نوح، وأمير المؤمنين. فمن زار أمير المؤمنين فقد زار آدم ونوحاً وأمير المؤمنين.

وعنه رضى الله عنه عن الصادق عليه السلام: إذا بعدت بأحدكم الشقة، ونأت به الدار فليصل ركعتين، وليوم بالسلام إلى قبورنا فإن ذلك يصل إلينا.

وروينا بالإسناد إلى الحاكم رضي الله عنه رواه عن جعفر بن محمد بإسناده عن النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام: ((يا علي من زارني في حياتي وبعد وفاتي أو زارك في حياتك أو بعد موتك، أوزار بنيك في حياتهما أو بعد موتهما ضمنت له يوم القيامة أن أخلصه من أهوالها وشدائدها حتى أصيره معي في درجتي)).

فقتل أمير المؤمنين بسبب امرأة كما قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام بسبب امرأة، وذلك أنه كان في زمن بني إسرائيل ملك في زمن يحيى بن زكريا، وكان لذلك الملك ابنة اسمها دثبل فهمت ابنة الملك بأن تتزوج أباها، وقالت: لو تزوجني أبي لاجتمع لي سلطانه دون النساء، فدعت أباها إلى نفسها، فقال أبوها: يا بنية إن يحيى بن زكريا لا يحل لنا هذا، فقالت: من لي بيحيى بن زكريا ضيق على أمري، وحال بيني وبين أبي، فأمرت الحجاب، فقالت: ادخلوا عليه وألعبوا بين يديه حتى إذا فرغتم منه فإنه سيحكمكم فإذا حكمكم فقولوا: دم يحيى بن زكريا، فدخلوا عليه ولعبوا بين يديه فلما كثر عجبه قال: سلوني، وكان الملك فيهم إذا حدث فكذب أو وعد فاخلف استبدلوا به وخلعوه، فقالوا: دم يحى، فقال: سلوني ويحكم غير هذا، فقالوا: لا نسألك غيره، فخاف على ملكه إن خالفهم، فبعث إلى يحيى عليه السلام وهو في محرابه فذبحوه في طشت وحمل إلى الملك ورأسه يقول: لا يحل لا يحل، فقال بعضهم: هب لي هذا الدم؟ فقال: إيش تصنع به؟ قال أطهر منه الأرض[43] فإنه ضيق علينا فقال: اعطوه، فأدخله بيتاً وأقفل الباب ففار الدم وخرج من تحت الباب، فأخرجه إلى فلاة، فجعل يفور حتى قتل على ذلك سبعون ألفاً ثم سكن، ففي هذه الأحاديث وما يشاكلها مما تقدم ومما سياتي ذكره بمشيئة الله تعالى في خطبة الفخار وغيرها، وكذلك ما تقدم من الآثار في ذكر ملكي علي عليه السلام، وأنهما ملكا يحيى بن زكريا عليه السلام، وذكر صحيفة علي عليه السلام، وأنه أشبه صحف أهل الأرض بصحيفة يحيى بن زكريا عليه السلام، وأعجب من هذا كله وأعظم منزلة قوله تعالى في آية المباهلة حيث قال: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} فجعل نفس محمد سيد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ونفس علي عليه السلام شيئاً واحداً وذلك مصداق ما أتى في أخبار النور الذي خلقهما الله تعالى منه.

وفي ذلك نهاية الفضل على ما تقدم بيان ذلك مفصلاً.

وأما خطبه الفخار وهي ما روي عن جابر بن عبد الله عن أبي الحسن أحمد بن عبد الله البكري قال: لما رجع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من قتال أهل النهروان خطب الناس بكوفان فرقى المنبر وهو أسف غضبان فأثقل المنبر، وكان مما زجر به الأسماع فأوقرها، والقلوب فعمرها، والعقول فأنفرها، أن ابتدء بالثناء على رب العالمين والصلاة على ابن عمه محمد خاتم النبيين، ثم صرخ بالناس صرخة راعي ضان مالت غنمه من المرعى وصرخ ليجمعها، وزجرها ليسمعها، فقال: أرعاع القبائل وخطبا الجحافل، ونطقا المحافل، اخلوا الآذان لما مني تسمعون، وإن كنتم لذلك لا تعقلون، فمن عرف شرح مقالي، وإلا فلا يمنعه العي من سؤالي. ياأيتها الأنفس الوامقة، والآذان الرامقة، والقلوب الواهلة، أنا حجة الله في البلاد، وعصمة الله في العباد، وسيف الله على الأعادي، وأنا لكم يوم القيامة واقف بالمرصاد، وأنا باب العلم ومحل الحلم، ووعاء الفهم، وسفينة نوح وحجة هود وناقة ثمود، وكلمة إبراهيم وصبر إسماعيل، وجنة إلياس، وشرب الخضر، وعصى موسى ومقام هارون، وعديل يوشع بن نون، ودرع داود وخاتم سليمان، وطهر أيوب، وكفالة زكريا، ونسك يحيى، وقرين المسيح، وأنا أول الأبرار، وإمام الأخيار، وقسيم الجنة والنار، وأنا دابة الأرض ذات الحق في الفرض، وأنا الصديق الأكبر، والفاروق الأجهر، وأنا ذوا النورين الأزهر، أنا أخو رسول الله صلى الله عليه وآله ونجيه، وابن عمه ووصيه، لا يقولها بعدي إلا فاجر متعدي، أو كاذب ردي، قال: فنهض عامر بن الكواء أخو عبد الله، وكان رأس السراة ثم تابا وأنابا، فقال: يا أمير المؤمنين، أجشت بحرك بإعلان أمرك بما ذكرت، فادخلت على القلوب ما أوغرت به الصدور، من نكرات الأمور، فإما بيان منك على ما ذكرت، وبرهان بما به نفسك وصفت، من شيم المؤمنين ودرجات الصديقين، وإن يكن ذلك منك لنا طارق مسكت، أو دليل مبهت، أو جواب مبكت، تخرس به الألسن[44] عن مطالبتك، وألهمم عن مطالعتك، فلقد تسربلت بجسيم، وتدرعت من قولك بعظيم، مقال ما نطق به سواك، يدريه هواك واشتغل به نجواك، فقام إليه عمرو بن الحمق، وحجر بن عدي، وصعصعة بن صوحان، وأزرق بن صفوان، كل يناديه زاجراً ويسكته نهراً.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: دعوه اكشف له عن شكه، وأنقذه من هلكه، فجلس من كان قائماً إلا عامر بن الكواء، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أما قولي أنا حجة الله في البلاد، وعصمة الله في العباد، وسيف الله على الأعادي، وأنا لكم يوم القيامة بالمرصاد، فناشدت الله منكم من سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وآل من والاه وعاد من عاده، وانصر من نصره واخذل من خذله)).

فقام إليه جابر بن عبد الله، وزيد بن أرقم، وزهاء على اثنا عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار كل يقول: أنا سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال عليه السلام: اللهم اشهد أني حجة الله عليهم، ووديعتك لديهم، فأي حجة أوكد لكم من حجتي وأنقذك لكم من عصمتي.

وأما قولي: أنا باب العلم فإنكم تشهدون ولا تنكرون قول النبي صلى الله عليه وآله: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها)) ثم قال: ((علي أقضاكم)) تشهدون بذلك على قول رسول الله صلى الله عليه وآله، ففي القضاء والعلم والفهم والجزم.

وأما قولي: أنا سفينة نوح: فلقول رسول الله صلى الله عليه وآله: ((مثل أهل بتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)) وأنا تاج أهله، والمشتمل لفضله، والوارث لعلمه، هل تعلمون ذلك؟

قال الناس جميعاً: اللهم نعم.

قال علي: اللهم أشهد.

وأما قولي أنا حجة هود فلقول النبي صلى الله عليه وآله: ((علي الريح الصرصر على المشركين، وحجة النجاة للمؤمنين)).

وأما قولي: أنا ناقة ثمود، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قرنني بها فقال: ((يا علي إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عاقر ناقة ثمود، وقاتلك يا علي)).

أيها الناس: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال مثل ما أقول؟

قال أكثرهم: سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله.

قال علي: اللهم إنك سامع فاشهد.

وأما قولي: أنا كلمة إبراهيم، فإن الله العظيم قال في كتابه الحكيم إخباراً عن إبراهيم إذ يقول:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} فأنا ممن جنبني عبادتها، وحفظني عن السجود لها.

وأما قولي: أنا صبر إسماعيل، فإن إسماعيل صبر على الذبح ففداه الله بكبش، وأنا صبرت على الذبح ليلة بت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله.

وأما قولي: أنا جنة إلياس، وشرب الخضر، وعصى موسى، ومقام هارون، وعديل يوشع بن نون، ودرع داود وخاتم سليمان. فأما إلياس فأُلهم الوحدانية صغيراً فكانت جنته من النار، والله لقد أُلهمت الوحدانية حيث ظهرت إلى دار الدنيا، وتيقنت لا يجب لمعبود يعبد إلا من خلق السماوات فزينها، والأرض فسطحها، فلما تيقنت ورأيت[45] قومي يسجدون للأوثان، أنكرت فعلهم وأنكر فعلهم قلبي، فلم أسجد لغير الله تعالى قط ولا سجدة واحدة، فلما نطق رسول الله بالكلمة أجبته إليها من غير تمنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((أنت جنة محببك من النار)) وكذلك قيل له: أنت جنة محبيك من النار.

وأما شرب الخضر، فمن ورد شربي وشرب من تبعني لم يمت حتى يشربه بحبه ويتبعه لعلمه. يعني لم يمت عن معرفة الله قلبه.

وأما قولي: أنا عصا موسى، فموسى أكثر الأنبياء آيات، وأعظم آياته العصا ومحمد صلى الله عليه وآله أكثر من موسى آيات؛ لأن موسى صلى الله عليه وآله وسلم بعث بتسع آيات، وبعث محمد صلى الله عليه وآله بثمانمائة آية، ومن أعظم آياته السيف والسيف بيدي.

وأما قولي: أنا مقام هارون، فإن موسى عليه السلام قال لهارون اخلفني في قومي، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: ((اخلفني في أهلي)) وأهل محمد صلى الله عليه وآله خير من قوم موسى.

وأما قولي: أنا عديل يوشع بن نون، فيوشع وصي موسى عليه السلام، وأنا وصي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله، وأوقفت الشمس ليوشع حتى صلى العصر، وردت إلى ميقاتها بعد أن كادت تغرب، فأوقفت لي الشمس في السماء لوقتها الأول من مواقيت العصر حتى صليت فرائضي ثم غربت بين سلامي وقيامي، كالنبلة تخرج من الرمية، وكان رجوعها عجب وغروبها عجب.

وأما قولي: أنا درع داود، فدرع داود من الحديد لما الانه الله تعالى له، وأنا مجن محمد صلى الله عليه وآله في الهيئات، ودرعه الحصينة من النكرات، ورددت عنه هوازن في وادي حنين، وقد نكست الناس، وأنا أمامه مرة أصد ومرة أرد، وتارة أكر، وهوازن يومئذ في أربعة وعشرين ألف عنان، فما وصلوا إليه بضربة ولا طعنه فأي درع أحصن مني.

وأما قولي: أنا خاتم سليمان، فإني حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة العقبة حضور الجن وبيعتهم، وشهدت على مقالتهم، فسليمان أجابته الجن لنقش خاتمه، وأجابني الجن بالقرآن العظيم، علمني رسول الله صلى الله عليه وآله الكلمات التي كانت على خاتم سليمان عليه السلام، ولم يعلمها أحد غيري، ولا تصير إلى أحد بعدي.

وأما قولي: أنا طهر أيوب: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي: ((يا علي إن الله طهر باطنك وظاهرك من الأدواء، كما طهر أيوب من البلاء)).

وأما قولي: أنا كفالة زكريا، فإن زكريا كفل لبعلبك ملك الشام، ألا يتخط في ملكه أحد من بني إسرائيل إلى محذور، فرضي بذلك منه ليتخذ بذلك عليه حجة فيقتله، فكانوا سفهاء قومه من بني إسرائيل إذا خرجوا تحت الليل يريدون شراً حيرهم الله عز وجل فيصيحون حيث خرجوا لئلا يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، وإن نصارى نجران أتو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقاطعته طائفة منهم فسألوه أن يؤمنهم، وطلبوا عهداً لقومهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ((أنا لا أومنكم ولا أقبل عهدكم إلا بكفيل يكون من أهل السنا والفضل، يكون لكم كفيلاً أن لا تفسدوا[46] في الأرض بعد إصلاحها، فمشوا إلى الناس جميعاً فأبى الناس أن يعرضوا لكفالتهم، فدلهم أكثر الناس إلي فأتوني ولا يد لهم عندي ولا سبب بيني وبينهم، فسألوني ذلك فلزمني الحيا إلى إجابتهم إلى الذي طلبوه من غيري فلم يجدوه؛ لأنهم كانوا أهل غدر ومكر، فلما غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال لهم: ((هل وجدتم لكم كفيلاً))؟

قالوا: نعم.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وليكم من أهل الأمانة والفضل، وإلا فلا عهد لكم عندي ولا أمان)).

قالوا: إنه منك. فقال لهم عليه السلام: ((من الذي مني))؟ فقالوا: ابن عمك علي، قال: صدقتم أنا منه وهو مني ثم نظر إلي وهو كاره.

فقلت: والله يا رسول الله ما سبق لهم إليَّ يد، ولكنهم قصدوني وسألوني فاكتنفني الحيا فلم أستطيع ردهم، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآل ثم قال: ((الحياء ثمرة والكرم شجرتها، فلا زلت بالكرم نضراً ولا بالحياء مثمراً)).

فقال عند ذلك رجال منهم عمر بن الخطاب وغيره: مهلاً يا أبا الحسن فإن أهل نجران أهل غدر وعدوان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((دعوه فإن المؤمن إذا أوعد وفى)).

قال عليه السلام: فدخلت في كفالتهم فوفوا بعهدهم ووعدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((حفظ الله لعلي كفالته كما حفظ لزكريا كفالته)).

وأما نسك يحيى بن زكريا عليه السلام، فإن يحيى بن زكريا عليه السلام ما فكر قط في حرام مخافة الآثام، وأنا في كل يوم أمسي وفي كل ليلة حتى أصبح أعرض على نفسي صحيفتها، وأحاسبها قبل يوم القيامة، فقلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ((إن أشبه صحف أهل الأرض بصحيفة يحيى بن زكريا صحيفتك يا علي، وإن الملكين الذين كانا يعرجان إلى الله تعالى بعمله هما حافظاك، وبقيت لك درجة من درجاته وهي الشهادة)).

وأما قولي: أنا قرين المسيح عليه السلام، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ((يا علي لولا أن تقول طائفة من أمتي فيك ما قالت النصارى في المسيح عليه السلام، واليهود في العزير، لقلت فيك قولاً يكون حجة لمن تابعك، وعذاباً لمن خالفك حتى يتبين لعدوك قبل خروجه من الدنيا العذاب، ويتبين لمحبيك قبل خروجهم من الدنيا حسن الثواب)).

وأما قولي: أنا أول الأبرار فأنا أول من قال مع رسول الله صلى الله عليه وآله: ((لا إله إلا الله، وشهدت أنه رسول الله، فأنا أول الأبرار، وإمام الأخيار، وقسيم الجنة والنار)).

وأما قولي: أنا دابة الأرض، ذات فإن الحق في الفرض، فلقول رسول الله صلى الله عليه وآله: ((علي مجنة أمتي، فمن وجد له بقلبه مكاناً فأولئك الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان، ومن عدل عنه امتحن الله قلبه للنفاق)).

وأما قولي: أنا الصديق الأكبر: فلقول رسول الله صلى الله عليه وآله: ((صلت علي وعلى علي الملائكة سبع سنين)).

وأما قولي: أنا الفاروق الأجهر، فما جاهد أحد في التفريق بين الحق والباطل مثلي حتى ..........من عانده وقاتلت من كابده.

وأما قولي: أنا ذو النورين الأزهرين، لم يكن لفاطمة عليها السلام شبه في النساء، ولا يكون مثلها أبداً، ثم تزوجت[47] أمامة ابنة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وهي ابنة أبي العاص.

وأما قولي: أنا أخوه ونجيه، وأنا أخوه الظاهر وأنا أخوه الباطن، وغيبة سره، ومشكاة في جهره، وابن عمه ووصيه، فمن كان منكم له بعض ما ذكرت أو شطر ما به نفسي وصفت ونعت، فوالله لولا أن لا تحمل القلوب مداد رجاء العلم بسرعة الهجر أخشى على القلوب أن تحير فتصدع، أو تروى فمتمنع، لأخرجت من بين جنبي علماً مخزوناً، وسراً مكنوناً، لا يبلغ عشر معشاره أوهام الظنون، ثم تنفس الصعداء، ثم أن متتابعاً، ثم قال: أواه مما يتلاطم في صدري، أواه مما يضطرب به فكري، لو قد وجدت صدراً وقوراً لأوقرته سروراً، ولبصرته بالنور إلى يوم النشور، ثم قال: يابن الكواء ألي تزجر بهمزاتك وإياي تخاطب بزجراتك، وأنا أعلم بك منك، أمسك على عذرك وتكلم على قدرك، فنحن أبناء الأنبياء أنبياء الله، وورثة حكمته، والتالون لكتابه، وخزائن علمه، والمؤتمنون على سره، فقام إليه عامر بن الكوا، فقال: يا أمير المؤمنين، صدق الله فيك إذ يقول: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} فأذنك وعاء، وكنت أول مصدق إذا دعا، فأنت أول من لامته رعا، أتم بك الدين وأعز بك المسلمين، ما كان خطابي لك وتعرضي بك إلا إشفاقاً عليك، وتقرباً في الدين إليك، لئلا تنزل من منبرك فيكون بعد ذلك كلام فترميك أهل الجهل بالملام، فكان مقامي استبحاثاً لشرح ما به تكلمت، وبه نفسك وصفت، انكشافاً لغطاء أفئدة الجهال، وزيادة في معرفتك عند ذوي الأفضال، ولقد تيقنت ذلك قبل شرحك لي، أنك لا تنكل عن جواب، ولا تريع في خطاب، ثم نزل عن المنبر وانصرف.

وقد روى ابن حنبل في مسنده ما روينا بإسناده إلى عبد الله وهو ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب عليه السلام، وأنت أيها الطالب النجاة، والمقتفى سبيل الهداة، إذا تأملت هذه الأخبار التي انطوت على التشبيه لأمير المؤمنين، والتمثيل بينه وبين أنبياء الله المذكورين فيها سلام الله عليهم أجمعين، علمت أن من قدم عليه غيره من القوم، وعدل عن تقديمه، فإنما هو ممن اقتاده الهوى بزمامه، واكتنفه الغي من خلفه وأمامه، كيف يخفى وجه الصباح الطالع، أو يستر عن العيون السليمة القمر الساطع، لكن هاجت المحن، وظهرت ضماير الإحن، وتجلت ضغائن الصدور، وقفلت أمور الأمور، فالحمد لله الذي هدانا إلى سبيل النجاة، وجعلنا من سلالة المهتدين الهداة صلوات الله عليهم أجمعين.

وقد أتى إجماع أبناء النبي
من غير فصل عندهم قبل الوصي

 

إن الإمام بعده الهادي علي
فأي شك بعد ذا لا ينجلي

وقولهم حجة حق صادقة
وهكذا الأثار فيهم باسقة

 

إذ جاءت الآيات فيهم ناطقة
وهي بهم كما علمت لايقة

فهم شهود ربنا العدول
والقلان القوم والتنزيل

 

ظهرهم في ذكره الجليل[48]
كما بهذا حكم الرسول


 هذا هو أحد الأدلة القاطعة على إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام وجه ذلك أن العترة مجمعة على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فضل هو أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي عليه السلام وإجماعهم على ذلك حجة مشهور معلوم وإجماعهم حجة واجبة الإتباع كما تقدم بيانه تبين ذلك أن المعلوم أن علياً عليه السلام كان يقول ويظهر ويعلم منه أنه أحق الخلق بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وكذلك فاطمة الزهراء عليها السلام تعتقد ذلك وتقوله وتدين به وكذلك الحسن ولحسين عليهما السلام وهو قول الحسن بن الحسن، وعلي بن الحسين، وزيد بن علي، و محمد بن علي الباقر، وهو قول يحيى بن زيد، وقول جعفر بن محمد الصادق، ثم كذلك أئمة الهدى وسائر أهل البيت عليهم السلام إلى يومنا هذا يعلم ذلك من دينهم ضرورة كما يعلم أن من دينهم اعتقاد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وهذه حجة قاطعة كافية في ذلك وكذلك فإجماع أهل البيت عليهم السلام منعقد على أن كل مكلف يجب عليه العلم بإمامة علي عليه السلام وأنها واجبة على الأعيان دون غيره من الأئمة عليهم السلام مالم يكن ذلك إمام العصر وإجماعهم حجة كما تقدم ونحن الأن كاشفون لك من التنبيه يايها الناظر بنور الله.انظر رحمك الله كم بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين القوم في هذا الميدان أيساوي بين من عكف على الأصنام واستقسم بالأزلام وعرف بالقبيح. وبين من لم يثبت عليه اسم الشرك أبداً، ولا يعرف بعبادة لغير الله بل يدخل في كبيرة أبداً، وهو مشاكل لرسول الله صلى الله عليه وآله في شرف المولد والمشاركة في النور وطهارة النشأة، وانتقاء العبادة عنه لغير الله ودخوله في الدين وإجابة دعوة الرسول عليه السلام من حال الحداثة دعاه فأمن به ولبا دعوته وأثر نصرته واستعمل نصيحته ووقاه بنفسه، فله القرابة من رسول الله ، والسبق إلى الله وإلى رسوله وهو العالم المبرز بل هو أعلم الناس بعد نبيه عليه السلام وله الزهد الذي لم نثبته بغيره، فيه وله الفضل في الثواب كما قدمنا ذلك في الحجة، حيث ذكرنا قول الرسول عليه السلام ((اللهم أتيني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير )) وهو الأفضل في الخصال كلها فاعتبرها فيما قدمناه، فلا أحد يقايسه فيها ولا يدانيه، بل هو الجامع بين خصال الفضل، وما نفرق في الصحابة فإن الشجعان المبرزين منهم ثلاثة، علي عليه السلام، والزبير، وأبو دجانة، وهو عليه السلام أشجعهم وأكثرهم جهاداً، ولا يبلغ أحد أبداً إلى جهاده بلا خلاف في ذلك.

والسابقون منهم إلى الإسلام ثلاثة، علي عليه السلام، وأبو بكر، وزيد بن حارثة، وهو عليه السلام أولهم إسلاماً بنص الرسول عليه السلام، وقد قدمنا الدلالة عليى ذلك واختص عليه السلام أن إسلامه على فطرة، وأعلمهم ثلاثة، علي عليه السلام،[49] وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وهو عليه السلام أعلمهم بنص الرسول عليه السلام، والزهاد منهم أربعة، علي عليه السلام، وعمر، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وهو عليه السلام أزهدهم كما بينا في زهده.

والقراء منهم ثلاثة،علي عليه السلام، وعثمان، وأبي بن كعب، وهو عليه السلام، أقرأهم لما بيناه أيضاً، أولأمرقبل القراء، وأمر أبوبكر للناس باالنداء بالقرأن كما ينادي بالظالة فكان فيكان يجمعه بعضهم من بعض، وكتبه عليه السلام في داره وحده، لم يستعن عليه بأحد مع غير ذلك مما تقدم بيانه.

وأهل الاستحياء منهم ثلاثة، علي عليه السلام ، وأبو بكر، وعثمان، وهو عليه السلام أفضلهم في ذلك، والأفضل قراءة علي  عليه السلام، وحمزة، وجعفر، وهو عليه السلام أفضلهم، والرجال من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس أهل البيت وطهرهم تطهيرا، ثلاثة، علي، والحسن، والحسين، عليهم السلام، وهو أفضلهم، والمفسرون ثلاثة، علي عليه السلام، وابن عباس،وابن مسعود، وهو عليه السلام أعلمهم بكتاب الله تعالى لما جاء به من النص في العلم من الله تعالى حيث يقول: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.

وروينا من تفسير الثعلبي يرفعه إلى عبد الله بن عطاء، قال: كنت مع أبي جعفر جالساً في المسجد فرأيت عبد الله بن سلام فقلت: هذا الذي عنده علم الكتاب: فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب، ورفعه أيضاً إلى راذان عن ابن الحنفية، ومن عنده علم الكتاب، قال هو علي بن ابي طالب عليه السلام.

ومن رسول الله صلى الله عليه وآله حيث يقول: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها )) وحيث يقول: ((علي أعلمكم علماً)) ولما حكاه عليه السلام من نفسه على المنابر حيث بين علمه بالكتب المنزلة من الله تعالى وقد قدمنا شرح ذلك في موضعه وعن جرير بن عبد الله قال: أرجف الناس في المدينة فقالوا: أبو بكر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من علي بن ابي طالب رضي الله عنه.

 وقال أخرون: بل عمر بن الخطاب.

 وقال أخرون: بل عثمان بن عفان، فكثر اختلافهم في ذلك حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:إذا كان غد فاغدوا إلي حتى أضرب لكم مثلاً يضطركم إلى التصديق فيما أقول لكم، فلما أصبح مضوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واجتمعوا وتحاشدوا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((.......كيف قلتم))؟ قالوا: قلنا لك كذا، وأعادوا عليه كلامهم الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب ولأبي بكر ولعمر وعثمان: ((يقعد كل رجل مقعده مقدار نسبه مني، فقعد علي عليه السلام إلى جانبه عن يمينه صلى الله عليه وآله وسلم، وقعد أبو بكر على مقداره من تيم، وقعد عمر على مقداره من عدي، وقعد عثمان على مقداره أقرب منهما؛ لأنه من بني أمية بن عبد شمس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لمن حضره: أفهمتم))؟ قالوا: نعم. قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[50]: ((هذه أماكنكم في النسب))؟ قالوا: نعم.

قال: ((قوموا فليقعد كل رجل منكم على مقدار سبقه في الإيمان)) فلم يبرح علي عليه السلام في مكانه عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله، وقام أبو بكر فجلس في مكانه بإزاء علي، وقام عمر بن الخطاب فجلس آخر الناس؛ لأنه كان أسلم بعد جماعة، وجلس عثمان بالقرب من أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: ((أفهمتم))؟

قالوا: نعم يا رسول الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ((قد جلستم في مجالسكم من الإيمان، قوموا فاجلسوا على قدر مجالسكم في الفقه والدين)) فانحازوا جميعاً، وجلس علي عليه السلام في موضعه عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يبرح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم: ((أفهمتهم))؟

قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ((قوموا فاجلسوا على قدر أماكنكم في الجهاد بالسيف)) فتأخروا ولم يبرح علي عليه السلام من موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((وما يعقلها إلا العالمون، وما يدفعه إلا الظالمون، علي أول الناس إسلاماً، وأقرب الناس رحماً، وأفقه الناس في دين الله تعالى، وأضربهم بالسيف، وهو وصيي ووليي، وخليفتي من بعدي، يصول بيدي، ويضرب بسيفي، وينطق بلساني، ويقضي بحكمي، لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا كافر منافق، وهو علم الهدى، ومكانه مني في الأخرة كمكانه مني في الدنيا)).

وعن أبي هريرة قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة، وهو في ملأ من المهاجرين والأنصار، وأشراف العرب، وبعضهم يقول: عمر خير، وبعضهم يقول: أبو بكر خير، وبعضهم يقول: عثمان بن عفان خير، وبعضهم يقول: علي بن أبي طالب عليه السلام خير، فقام النبي صلى الله عليه وآله على قدميه فبكى بكاء شديداً، حتى تحدرت دموعه على خديه كنظام الدر في سلكه ثم قال: ((أيها الناس لِمَ تؤذونني في علي، علي أخي وابن عمي وزوج ابنتي، غفر الله لك يا علي ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أما إن لك يا علي شأن عظيم لك ولمحبيك ولشيعتك، يحشرك الله يوم القيامة على ناقة من نوق الجنة، زمامها من الياقوت الأحمر، عليها هودج من رحمة الله عن يمينك سبعين ألف صف من الملائكة، ملائكة الروحانيين، ومن بين يديك مثل ذلك، وجبريل ينادي في عرصات القيامة هذا علي ابن أبي طالب، قال: فيأمر الله سبحانه الملائكة فيتوجونك، ويحلونك ويكسونك حلة الكرامة، وتردا بردا الصبر، وتقلد بقلادة من نور، في وسطها درة تضيء لأهل الجنان، على رأسك لواء الحمد مكتوب في وسطها بالخضرة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، علي ولي الله، فتأخذ بحجز شيعتك حتى تدخلهم الجنة)) فانظر كيف جمع عليه السلام ما تفرق فيهم، ثم برز فيه مع جمعه عليهم، فياأيها المساوي بين الرجال، والمشاكل بين قوم ليسوا بأشكال، أين الظلمات من النور، وأين الظل من الحرور، أتساوي بين الأحياء والأموات، أم تنزل الحيوان الكامل العاقل المكلف منزلة الموات، والعجب كل العجب ممن يقول: أبو بكر أفضل من أمير[51] المؤمنين وربما سأل سائل فيقول: أيهما أفضل فيا سبحان الله العظيم أيكون أخو عمراً وأخو حارثة بن زيد على بعض الروايات أفضل من أخي رسول الله صلى الله عليه وآله إمام المتقين، وسيد الوصيين، والذايد عن الكوثر يوم الدين، هل يستقيم في هذا الموضع لفظه، أفعل بينهما هذا كما يقال النهار أضوء أم الليل، يقال المر أحلى أم العسل، فمتى جمع أبو بكر من هذه الخصال ومما قدمناه من جميع هذه الخلال ما جمعه علي عليه السلام، فيكون حينئذ للشك يدان وللتحير ميدان، ليس شرفت العرب على العجم برسول الله صلى الله عليه وآله  وسلم، ثم كذلك كل فضله مهما قربت منه كانت أفضل، حتى انتهينا إلى الحمية وقسميه في نوره وخليفته، وأخيه في السراء والضراء، والشدة والرخاء، ووزيره وظهيره، وأمينه وصهره، وغيبة سره وباب مدينة علمه، وزوج خير أولاده، وابن ولده، قلتم هو أفضل أو رجل من تيم، إنما كان يصح هاهنا، ويستقيم أن يقول السائل علي أفضل أم رسول الله صلى الله عليه وآله فيقال: بلى رسول الله صلى الله عليه وآله، أو يقول علي أفضل أم عمه الحمزة أم أخوه جعفر، فيقال: بل علي عليه السلام، هذا وقد بينا أنه أكرمهم على الله وأتقاهم، وأكثرهم بلاء في الإسلام وأكثرهم ثواباً بنص رسول الله صلى الله عليه وآله، والجامع لخصال الفضل، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فأعجب مهما عشت أراك الذهن العجب، إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وأين تكون المساواة هاهنا ياأيها المساوي والمفاضلة، فما أبعد عنك في هذا الموضع المشاكلة والمماثلة، إلا أن تقطع بعض أسلافك فلم يجدوا حيلة ولا اهتدوا سبيلا،بعد تسليمه أن علياً عليه السلام أفضل إذا قيل له فكيف قدم المفضول على الفاضل؟ فقال: أنا أقول أن أبا بكر كان شيخاً محتشماً، فكانت المصلحة في تقدمه، وكان علي شاباً فعلي قود، قوله هذا كان أبو قحافة وغيره من شيوخ الصحابة أولى من أبي بكر هل هذا الأخطل من القول، وضلال في العقيدة، وهذه الدلالة وهي دلالة الفضل إحدى الدلالات القوية، فإن الأمة أجمعت على اعتبار الأفضل في الإمامة، فإن من عرف من الأخبار، واقتص السير والأثار، علم أنهم تجادلوا فيها تجادل من يرى أنها لا تجوز إمامة المفضول وتقدمه على الأفضل، فإن كل مدع منهم لذلك عد فضائله، ألا ترى أن الأنصار عدوا فضائلهم لما طلبوا الإمارة بعد الرسول صلى الله عليه وآله، وكان من قولهم: الإسلام عزينا والدار دارنا، وأبو بكر لما حاجهم ذكر فضائل قومه وما اختص به المهاجرين من الفضائل.

وقال العباس بن عبد المطلب لما حاجهم في ذلك: وما أنتم يا قريش من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام لما علم بحجة قريش على الأنصار حيث قالوا: إنهم شجرة الرسول صلى الله عليه وآله: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة، وذكر من قصة الشورى، وفي غيرها فضائله ومقاماته، وجميع ما يكون لمكانه أفضل وأولى[52] سلوكاً منه عليه السلام، يمثل ما سلكوه أولاً، فهي نصوص عليه السلام، ولما قال عمر لأبي عبيدة: امدد يدك أبايعك، قال: مالك يا بن الخطاب هفوة في الإسلام مثل هذه تقول هذا وأبو بكر قائم.

وروي فهة في الإسلام، وكان عمر يقول: بأن أبا عبيدة كالمساوي لأبي بكر لما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه أمين هذه الأمة، ولم يرد على أبي عبيدة، قيل: لأنه عرف منه أنه يعتقد أن أبا بكر أفضل، ولما ولى أبو بكر عمر بعده قالوا له: وليت علينا فضاً غليضاً -يعنون عمر-، وقالوا لأمير المؤمنين عليه السلام لما اجتمعوا إليه عند موت أبي بكر: قد علم الناس أن إسلامنا قبل إسلام عمر، وفي عمر تسليط اللسان، فاحتجوا بالأحسن من الفضل، ولما قالوا لأبي بكر: ما تقول لربك إذا وفدت عليه وقد وليت علينا فضاً غليضاً؟ قال: أقول وليت عليهم خيرهم في نفسي، وفي بعض الرويات خير أهلك، فأخبرهم أنه الأفضل عنده، فثبت أن الأمة أجمعت على ذلك، وقد ثبت أن إجماعهم حجة، وبعد فإن العترة أجمعت على اعتبار الأفضل وإجماعهم حجة كما تقدم، وبعد فإن الأمة أجمعت على جواز إمامة الأفضل، واختلف فيما عداه ولا دليل في الشرع على جواز إمامة المفضول، فبقى على الحصر العقلي، فإذا ثبت ذلك اتضح أنه لا يجوز تقدم أبي بكر على أمير المؤمنين ولا تقدم صاحبيه أبداً؛ لأن ما تقدم من الأدلة الثلاثة إلا أن تدل على أنه لا يجوز تقدم المفضول على الأفضل، لا لعذر ولا لغير عذر، فإن أمير المؤمنين وقومه من بني هاشم، وأتباعه المؤمنين لما اعتقدوا أنه الأفضل لم يجيزوا التقدم عليه، وكذلك سائر الصحابة فإن الكل منهم فيما قدمناه لم يتنازعوا في تعريف الفضل من كل واحد منهم لصاحبه، فإن كل مدع لما قدمنا من ذكر الفضائل غير جاهل؛ لأن للمدعي الآخر فضيلة، وليس بينهم في اعتقاد ذلك تنازع، وإنما التنازع بينهم من حيث أن كل فريق من المتنازعين يدعي أنه الأفضل؛ لأنهم مستوون في ذلك، ولهذا جعلت الأنصار النصرة فضلاً لها، فأضافت قريش إلى أنفسها القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله مبينين بذلك أنهم أفضل؛ لأنهم نصروا وهم مع ذلك أقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم احتج أمير المؤمنين عليه السلام وبنوا هاشم بأنهم أقرب من ساير قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم كذلك حججهم لمن تأملها، فإنها شاهدة باعتبار بالأزيد في الفضل، وقد ثبت أن التزايد في الفضل شرط من شروط الإمامة، فلا يجوز ثبوتها من دونه، كما لا يجوز ثبوتها من دون سائر الشروط من العلم والإيمان، والورع والشجاعة، والمنصب فإذا ثبت ذلك، فتعلل المعتزلة بذكر العذر في تقديم المفضول على الأفضل هذيان؛ لأنهم أن إرادوا بذلك العذر أمراً يختص الأفضل بزعمهم، ويمنعه من القيام، ولم يصح ذلك؛ لأن ذلك يخرجه عن الصلاحية للإمامة[53] فضلاً عن أن يقال أنه أفضل من غيره، وإن أرادوا به عذراً راجعاً إلى غيره نحو ما قالوا في أمير المؤمنين عليه السلام أنه قد  وتر الناس، وأوحشهم بكثرة القتل في كفار قريش وغيرهم من العرب، فإن هذا يعلل من يقول من المعتزلة بأن علياً عليه السلام أفضل من أبي بكر، فهذا تعلل سقيم، ومقال غير مستقيم، لوجوه:

منها أن هذا العذر بزعمهم لو كان مانعاً من إمامته لما صحت إمامته بعد عثمان؛ لأن العذر باق وليس ذلك من قولهم.

ومنها أن الإمام يجب أن يتجنب المنفرات كما يتجنبها الأنبياء عليهم السلام، ولو كان الأمر كذلك لما صحت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان؛ لأن من أعظم المنفرات عنهم عبادتهم أولاً للأوثان، واستقسامهم بالأزلام، وغير ذلك من أفعالهم الكفرية المنفرة، ولهذا قال العلماء من أهل البيت وغيرهم عليهم السلام، ومن غيرهم من أهل العدل، لم يكن إيمانهم يصلح للنبوة بخلاف إيمان علي عليه السلام، وإن كان هذا القول هو قول كافة العدلية، فإنهم يقولون: لا يجوز من النبي فعل شيء من الكبائر لا قبل البعثة ولا بعدها، كما هو مذكور في مواضعة.

ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقدم علياً عليه السلام على الصحابة، ويؤمره عليهم، وذلك معلوم ظاهر، فلو كان ما تقدم منه من هذه الأفعال الحميدة منفراً ومانعاً، وموحشاً كما قالوا ما فعل ذلك، بل الأمر على العكس، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} بل هذا من أعظم الفضايل له عليه السلام، فإن الجهاد سنام الدين، وقد فضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً، وكفى بالله شهيداً، وكيف يكون كشف الكرب عن وجه الرسول عذراً ووحشة، ولو استحيت المعتزلة على أنفسهم دنيا وآخرة ما صدروا مثل هذا الإعتراض الركيك في أمير المؤمنين عليه السلام، وإنما العذر هو الرغبة في الإمارة، والتقدم في الدنيا، وظهور الضغاين التي حكاها رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام، ولهذا روي عن زيد بن علي عليه السلام أنه قال: إنما لم يقدموا علياً عليه السلام طمعاً في الرئاسة، قال عمر فيما رويناه عنه أولاً في صدر الكتاب لابن عباس في مثل ذلك: ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه، وقال: فقلت يا أمير المؤمنين ما استصغره الله حيث أمره بأخذ سورة براءة من أبي بكر فيؤديها فسكت، ولقد صدق بن عباس رحمه الله تعالى، فإن هذا كان ينبغي أن يعد منفراً من تقديم أبي بكر على أمير المؤمنين، لتقديم الله ورسوله ورده على ذلك، فأعجب من جعل عمر للصغر عذراً حيث قال: استصغروه كما حكيناه عن بعض المتبعين له من المعتزلة، وليس هذا بعذر في شيء من أدلة الشرع في الإمامة، بل هذا نهاية التجاهل، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام أيام الشورى في مثل ما ذكرناه من تقدمهم عليه لطلب الدنيا قوله عليه السلام: فإذا سألوني عن أمري، وناظرتهم[54] في أيامي وأيامهم، فأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم، وذكرتهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وتأكيده ما أكد لي من البيعة في أعناقهم دعاهم حُب الإمارة، وبسط الأيدي والألسن، والأمر والنهي، والركون إلى الدنيا إلى الاقتداء بالماضين قبلهم، وتناول مالم يجعل الله لهم، إلى آخر كلامه عليه السلام، وقد قدمناه في صدر الكتاب.

وروي عن الجاحظ أنه قال: لما منعوه؛ لأنهم قالوا لو اجتمعت النبوة والإمامة في بيت واحد لادعوا الربوبية، وهذا صريح الحسد كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} لأن الحكمة من الحكيم ليست من القوم، وقد تقدم حديث المغيرة بن شعبة وما دعا إليه أبو بكر وعمر، مخافة أن تكون هرقلية وقيصرية كما قالوا، ومثل ذلك أيضاً قول عمر لابن عباس في الحديث الذي قدمناه في صدر الكتاب حيث قال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتحججوا على قومكم تحججاً، فاختارت قريش لنفسها فأصابت ووفقت، فكان من جواب ابن عباس له: أما قولك إن قريشاً اختارت لنفسها فأصابت ووفقت فلو أن قريشاً اختارت لنفسها حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود، ولا محسود.

وأما قولك: أنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن الله عز وجل وصف قوماً بالكراهية فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} يؤيد ذلك ما رويناه عن ابن المغازلي في مناقبه رفعه إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال: والله نحن الناس، ولله القائل:

وفي تعب من يحسد الشمس ضوؤها

 

 

ويجهد أن يأتي لها بضريب

 ومثله قول الآخر:

محاسن من مجد متى تقربوا بها

 

محاسن أقوام تكن كالمعايب

وقد احتج بعض المخالفين بأن إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر مع كون علي هو الأفضل يدل على جواز تقدم المفضول على الأفضل، والجواب إن هذا هو موضع المنازعة، فكيف يكون نفس المذهب حجة على صحبته، فإنا لا نسلم هذا الإجماع الذي جعله المخالف بزعمه حجة، وسيأتي تفصيل الكلام في إبطال الإجماع المدعى مع ما تقدم فيه من البيان، واحتج المخالفين أيضاً بأن قال: قد ثبت أنه لا خلاف في أن عند العذر في الأفضل يجوز تقديم المفضول إذ لا يمكن غير ذلك، وأيضاً فإنه لا خلاف أن الأفضل لو كان هو المملوك لجاز تقدم المفضول عليه، وكذلك الضرير.

واعلم أن مثل هذه الشبهة لا ينبغي صدورها من عالم عارف، فإن لقائل أن يقول: غنك استدللت في أول الشبهة التي أوردتها بالشيء على نفسه، وزدت في ذلك أنه لا خلاف فيه، وأنت عالم أن الزيدية والإمامية يخالفون في ذلك، وقولك لا يمكن غير ذلك محال؛ لأنه يمكن ترك إمامة المفضول، ويقدر عليه وإن أردت أنه لا يعقل ذلك فالعقل يقضي أنه لايقع المشروط عند فقد الشرط، فإذا قد أقررت أن الأفضل شرط لم تصح الإمامة من دونه كما لا يصح من دون سائر الشروط من العلم[55] والإيمان وغيرهما.

وإن عنيت لا يمكن بمعنى أن هذا مذهب أسلافك فلا يصح مفارقته، فذلك لا يصح؛ لأنه يجوز عليهم الخطأ، وإن كانوا في علم الكلام رؤساء، وقد ثبت أن بعضهم خطأ بعض في ذلك.

وأما ما ذكرته في العبد والضرير، وأنه يجوز العدول عنه، مع أنه الأفضل فهذا أشنع من الكلام الأول، وأكثر ركاكة منه، الست تعلم أن العبد والضرير ليس أفضل من الفاطمي والقرشي عندك فيما يتعلق بالإمامة؛ لأنها لاتصلح إلا في منصب مخصوص، فإنهما إنما جاز العدول عنهما؛ لأنهما ليس فيهما منصب الإمامة الذي هو قاعدة شروطها، بحيث يكون عدم سائر الشروط ووجوده مع فقده على سوى.

وهذه الشبهة مروية عن قاضي القضاة، فأعجب من صدور مثل هذا عن مثله، مع كونه مبرزاً في العلم، ولا سبب لمثل هذا إلا الميل عن الصواب، واتباع مذاهب الأسلاف، والله المستعان، وقد احتج قاضي القضاة على جواز العدول عن الأفضل لغرض لشبهة أخرى، وهو قول عمر بن الخطاب كانت بيعة أبي بكر فلتة وقا الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، قال: وإنما أراد أنهم بادروا إليها قبل الفساد من غير مشورة أهل الرأي، وقوله: من عاد إلى مثلها فاقتلوه، يعني استعمال هذه الطريقة في الترك من الإجماع على الرأي، وقاتل عليه فاقتلوه وإن أدى إلى قتله، ولا يصلح حمله على خلاف ذلك؛ لأن المعلوم ضرورة أنه كان محباً لأبي بكر، معظماً لأمره، والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:

أحدها: أن قول عمر ليس يحجة.

والثاني: أن قول عمر لا يحتاج إلى تأويل؛ لأنه ليس بحكيم، ولو كان حكيماً فإنه لا يجوز التأويل إلا لدلالة.

والثالث: أن المعتزلة لا تقول بمقتضى الخبر؛ لأنهم لا يرون قتل من عاد إلى مثلها.

والرابع: أنه إن كان الغرض من عاد إلى مثلها، من عاد إلى التقدم على الأفضل للضرورة فاقتلوه، ففيه دلالة على أن أبا بكر كان يستحق القتل، وأنه ليس بإمام عند عمر، فلا يصح قولهم أن الصحابة أجمعت على ذلك، وإن كان الغرض من عاد إلى مثلها مع أن الأولى للضروة دون الثانية، كان خروجاً على مقتضى المثل؛ لأن ذلك ليس بمثل لها.

والخامس: أن قاضي القضاة يكون مقراً بحمد الله بصحة هذا الخبر عن عمر، وقاله على رؤوس الأشهاد على المنبر، وهذا الخبر يهدم على القاضي وأصحابه أصول مذهبهم في الإمامة؛ لأن ظاهر هذا الخبر الإنكار من عمر لإمامة أبي بكر، وأنها ليست بدين عنده، وأنه يستحق القتل على مثلها، وأنها شر والشر قبيح، فأما قوله أن عمر كان يعظم أبا بكر ويحبه، فذلك غير ممتنع وقد يحب الإنسان غيره لغرض له لا للدين، كما كان معاوية يحب يزيد لعنهما الله تعالى، فلا تدل محبة عمر لإمامة أبي بكر على أنها دين مع هذا الكلام منه وامثاله مما قد ذكرناه في صدر كتابنا هذا، وإنما أحبها لأنها صارت حاجبة ومانعة من إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وقوله القاضي معناه أنهم بادروا إليها من غير مشاورة أهل الرأي خوف الفساد، فما بادروا إلا حذراً من أمير المؤمنين عليه السلام[56] فكيف تكون إمامته عليه السلام فساداً، ولو كانت فساداً ما جاز للمسلمين أن يقدموه بعد ذلك، وهو على حالته لم يزد ولم ينقص، وما مثلهم في هذا العذر إلا كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} لعمر الله إن كان كما قال بادروا إليها خوف الفساد لقد غرقوا في لجة الفساد منذ دخلوا فيها، فإنهم بذلك أخرجوا الحق عن معدنه، وخرجوا عن اختيار الله تعالى، واختيار رسوله إلى اختيار أنفسهم، وظلموا العترة ماجعل الله لهم ورسوله، فهم أساس هذا الظلم إلى يوم القيامة، ففي عين الفساد وقعوا لا محالة، وإن قال القاضي أن الفلتة البيعة من غير مشاورة فقد بينا أن هذا عليه دلالة، وقد قال صاحب كتاب العين أن الفلتة هي الأمر الذي يقع على غير أحكام، ولا شك أنها خلافة وقعت على غير الوجه الشرعي، فليست محكمة شرعاً، وإلا فقد أحكوها في باب الدنيا فبان بطلان ما ذكره المخالف من كل وجه بحمد الله وهدايته، وإلا فقد أحكموه في باب الدنيا فبان بطلان ما ذكره المخالف من كل وجه بحمد الله وهدايته.

واسمع عليا يا هديت قائلاً
فأوضح الحجة والمسائلا

 

إذ جاه رأس اليهود سائلا
وصير الحجة نوراً شاملا

دونك فاسلك للنجاة عنهم سبلها
عنه فلم تسمع عنهم مثلها

 

خذها فقد آن لك الأخذ لها
ولم يكن ممن تعامى ولها

هاك الدلالات عن المعصوم

 

شاهدة بالفضل والتقديم

له يحكم المكلك القيوم

 

فانفذ لها تنج من الجحيم

إنما أراد بهذه الجملة التنبيه على ما ذكره عليه السلام في كتاب رأس اليهود مما يحقق لك منزلته وكرامته عند الله تعالى، وعند رسوله صلى الله عليه وآله، ويوضح لك استحقاقه للإمامة والوصية بعد الرسول عليه السلام {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} وكتاب رأس اليهود هو ما روى محمد بن علي بن الحسين صلوات الله عليهم، عن محمد بن الحنفية رحمة الله عليه أنه قال أتى رأس اليهود إلى أمير المؤمنين عليه السلام عند منصرفه من وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة فقال: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي، فإن شئت سألتك وإن شئت عفيتك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام سل عما بدا لك، فقال اليهودي: إنا نجد في التوراة أو قال في الكتب أن الله تعالى إذا بعث نبياً أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته وصياً يقوم فيهم من بعده مقامة، ويعهد إليه بعده، ولا بد له من محن يمتحن بها في حياة النبي وبعد وفاته، فاخبرني كم يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء وكم يمتحنون بعد وفاته الأنبياء من مرة؟ وإلام يصير أمر الوصياء إذا رضى الله محبتهم؟

قال علي عليه السلام: فوا الله الذي[57] لا إله إلا هو، الذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة على موسى بن عمران، لئن أخبرتك بحق ما سالتني به لتقرن به؟

قال: نعم.

قال: فو الله الذي لا إله إلا هو لئن صدقتك لتسلمنَّ؟

قال: نعم.

قال له علي عليه السلام: إن الله تعالى يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعاتهم، فإذا رضي محبتهم أمر الأنبياء يتخذوهم أولياء في حياتهم، وأوصياء بعد وفاتهم، ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي صبرهم، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالشهادة ليلحقهم بالأنبياء، وقد أكمل لهم السعادة، فقال له رأس: اليهود صدقت يا أمير المؤمنين، فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد عليه السلام، وكم امتحنك بعد وفاة محمد من مرة؟  وإلام يصير أمرك؟ فأخذ علي عليه السلام بيده وقال: انهض يا أخا اليهود،  فقام إليه جماعة من الناس فيهم ابن الكواء فقال: يا أمير المؤنين أنبئنا بذلك معه؟ فقال علي عليه السلام: إني أخاف ألا تحتمله قلوب كثير منكم، فقام إليه الأشتر رحمة الله عليه فقال: يا أمير المؤنين: أنبئنا بذلك معه، فوالله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الأرض من وصي نبي سواك، وأن الله لا يبعث بعد نبيناً صلى الله عليه وآله نبياً سواه، وإنا لنعلم أن طاعتك في أعناقنا موصولة بطاعة نبينا صلى الله عليه وآله فجلس علي، وأقبل على اليهودي فقال: يا أخا اليهود إن الله سبحانه وتعالى امتحنني في حياة النبي صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن، فوجدني فيهنَّ من غير تزكية لنفسي بنعمة الله مطيعاً، قال: فيم وفيم يا أمير المؤمنين؟

قال علي عليه السلام: أما أولهن فإن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله بالنبوة، وحمله الرسالة، وأنا أحدث أهل بيتي سناً أخدمه في بيته، وأسعى بين يديه في أمره، فدعا صغير بني عبد المطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه، وعاجزوه ونابذوه، واعتزلوه واجتنبوه، وسائر الناس معصية له، وخلافاً عليه، لما أورده عليهم مما لا تحتمله قلوبهم، ولم تدركه عقولهم، فأجبت رسول الله صلى الله عليه وحدي إلى ما دعا إليه، مسرعاً مطيعاً مجيباً، لم يختلجني في ذلك الاختلاج، فمكثنا ثلاث حجج ليس على ظهر الأرض أحد يصلي لله، ويشهد لرسوله صلى الله عليه بما أتاه الله غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله تعالى، وقد فعل، ثم أقبل على أصحابه فقال: أليس كذلك؟ فقالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

فقال: وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشاً لم تزل تحتل الآراء، وتعمل في الحيل في قتل رسول الله صلى الله عليه وآله بكل حيلة، وفي كل حال حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوماً بدار الندوة، وإبليس الملعون حاضرها في صورة أعور ثقيف، ولم تزل تقلب أمورها ظهوراً وبطوناً حتى اجتمعت أراؤها على أن تنتدب من كل فخذ من قريش رجلاً، يأخذ كل رجل منهم سيفاً، ثم يأتوا النبي صلى الله عليه وآله وهو نائم على فراشه فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها، فلم تسلمها، ومضى دمه هدراً، فهبط جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه[58] بذلك، وأخبره الليلة التي يجتمعون فيها، والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج إلى الغار فأنبأني رسول صلى الله عليه وآله الخبر، وأمر أن اضطجع مضجعه، وأقبلت رجال من قريش بسيوفها موقنة في نفوسها بقتل رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه نهضت إليهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الناس، ثم أقبل على أصحابه فقال: أليس كذلك؟

 قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

قال: وأما الثالثة يا أخا يهود فإن ابني ربيعة وابن عتبة وكانوا فرسان قريش دعو إلى البراز يوم بدر، فلم يبرز إليهم أحد من قريش فأنهضني رسول الله صلى الله عليه وآله مع صاحبي رضي الله عنهما وقد فعل وأنا أحدث أصحابي سناً، وأقلهم بالحرب خبرة، فقتل الله بيدي وليداً وشيبة سوى ما قتلت من جحاجحة قريش وفرسانها في ذلك اليوم، وسوى من أسرت، فكان مني أكثر ما كان من أصحابي، واستشهد ابن عمي رحمه الله في ذلك اليوم، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

قال: وأما الرابعة يا أخا يهود فإن أهل مكة أقبلوا إلينا عن بكرة أبيهم طالبين بثأر مشركي قريش في يوم بدر، وهبط جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله فأنباه ذلك، فتأهب رسول الله صلى الله عليه وآله وعسكر بأصحابه في صفح جبل أحد، فأقبل المشركون إلينا بحملة رجل واحد، فاستشهد من المسلمين من استشهد، وكامن ممن بقي منهم ما كان مما يعفو الله عنه من الهزيمة، وبقيت أنا وحدي مع رسول الله صلى الله عليه وآله على الصخرة أذب عنه بسيفي مرة، وأقيه بيدي وبوجهي مرة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله ومضى المهاجرين والأنصار إلى منازلهم، كل يقول: قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وقتل علي، ثم صرف الله تعالى المشركين عنه، وقد جرحت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله نيفاً وسبعين جراحة، منها هذه وهذه وألقى رداه عنه وأشار بيده إلى ذراعية، فإذا صدره ومنكبه وعضده وذراعيه كأمثال تقشير القصاب، فكان مني مما علم الله ثوابه إن شاء الله تعالى، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟

قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

قال: وأما الخامسة ياأخا يهود فإن قريشاً والعرب تجمعت وجددتا بينها عهداً وميثافاً، لا ترجع من وجهتها حتى تقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وتقتلنا معه معاشر بني هاشم، ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت على المدينة، وأيقنت في أنفسها بالظفر لما توجهت له، فهبط جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه الخبر، فخندق رسول الله صلى الله عليه وآله على نفسه وعلى من معه من المهاجرين والأنصار، وقدمت قريش وقامت على الخندق محاصرة ترى في نفسها القوة وفينا الضعف، ثم ترعد وتبرق، وتهدد وتوعد، ورسول الله صلى الله عليه وآله يدعوها إلى الله، ويناشدها القرابة والرحم، فتأبى ولا يزيدها ذلك إلإ عتواً واستكباراً، وفارسها فارس العرب عمرو بن عبد ود يهدر كالبعير المعتلم، يدعو إلى البراز ويرتجز[69] بالشعر، ويخطر برمحه وبسيفه مرة لا يتقدم عليه منا متقدم، ولا يطمع فيه منا طامع، فأنهضني إليه رسول الله صلى الله عليه وآله، وعممني بعمامته، وأعطاني سيفه هذا، وضرب بيده إلى ذي الفقار، فخرجت أمشي إليه، ونساء المدينة بواك، ورجالها اشفاقاً علي من ابن عبد ود، فقتلته والعرب لا تعد فارساً غيره، وضربني هذه الضربة وأومى بيده إلى هامته، ووضع يده على الضربة، وهزم الله قريشاً والعرب، بما كان مني فيهم، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟

قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

قال: وأما السادسة يا أخا يهود فإنا وردنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله مدينة أصحابك خيبر على رجال يهود وقريش بها من قيس وغيرها فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والسلاح، وهم في أمنع دار، وأكثر عدد كل يدعوا إلى البراز وينادي إلى اللقا، فلم يلقهم في أصحابي أحد إلا قتلوه حتى إذا .................. وهمت كل أمرء نفسه، وتلفت بعض أصحابي إلى بعض، وكلهم يقول لي أوجلهم يا أبا الحسن، فانهضني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى برازهم فلم يبرز لي منهم أحد إلا قتلته، ولم يثبت لي فارس إلا طحنته، ثم شددت عليهم شدق الليث على فريسته حتى أدخلهم جوف مدينتهم، وكسع بعضهم بعضاً، فوردت فإذا باب المدينة مشدود عليهم، وهو ماقد رأيتم فاقتلعته بيدي، ودخلت عليهم مدينتهم وحدي، أقتل من يظهر لي فيها واستبي من اجد فيها من نسائهم حتى افتتحتها وحدي، ولم يكن لي فيها معان إلا الله وحده، ثم التفت إلى أصاحابه فقال أليس كذلك؟

قالو بلى يا أمير المؤمنين.

قال: وأما السابعة يا أخا يهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما توجه لقتح مكه أحب أن يدعوهم إلى الله آخراً كما دعاهم أولاً، وكتب كتاباً يحذرهم من الله وينذرهم عذابه، ويعدهم الصفح عنهم، ويمنيهم مغفرة ربهم ...... لهم في آخر سورة براءة ليقرأ عليهم، ثم عرض على جميع أصحابه المضي إليهم فكلهم يرى فيه التثاقل،  فلما رأى ذلك منهم ندد منهم عند ذلك أبا بكر ليوجهه فهبط جبريل عليه السلام،  فقال: يامحمد إنه لايؤدي عنك إلا رجل منك، فانبأني رسول الله صلى الله عليه وآله ووجهني بكتابه ورسالتة إلى أهل مكة، وأهلها من قد عرفتم ليس من هم أحد لا ولو قدر على أن يضع مني على كل جبل ارباً لفعل، ولوأن يبذل في ذلك نفسه وولده، وأهله وماله، فأبلغتهم رسالة النبي صلى الله عليه وآله، وقرأت عليهم كتابه، وكل تلقاني بالتهدد والوعيد، ونبذ لي البغضاء، ويظهر لي الشحناء من رجالهم ونسائهم، فلم يثنني ذلك حتى تهدت ولما وجهني رسول الله صلى الله عليه وآله فكان مني في ذلك ماقد رأيتم، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟

قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

ثم قال: يا أخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيهنَّ ربي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [60 ] فوجدني فيهنَّ كلهنَّ بمنه ولطفه مطيعاً.

قال: صدقت يا أمير المؤمنين.

قال: ولي يا أخا يهود مواطن ليست لأحد مثلي الذي فيهنَّ لو وصفت ذلك، ولكن الله  نهاني عنه التزكية.

قالوا: يا أمير المؤمنين صدقت لقد أعطاك الله الفضيلة بالقرابة من نبينا، واسعدك بأن جعلك له أخاً تنزل منه بمنزلة هارون من موسى، وفضلك بالمناقب التي باشرتها، والأهوال التي ركبتها، مما لم يذكر مع نبينا فاحتملته وصرت عليه، فلو شينا أن نصف ذلك لوصفناه علماً منا به، وظهوراً منا عليه، إلا أنا نحب أن نسمع منك ما امتحنك الله به بعد موت نبينا فاحتملته.

فقال: يا أخا يهود إن الله تعالى امتحنني في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنه ورحمته صبوراً.

أما أولهنَّ فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين ولا عامة أجد أنس به، ولا استأنس إليه، ولا اعتمد عليه، أتقرب إلى الله تعالى بطاعته، ولا أنهج به في السر أو لااستريح في الضر إليه غير رسول الله صلى الله عليه وآله، هو رباني صغيراً، وبوأني كبيراً، وكفاني العيلة، وجبرني من اليتم، وأعانني عن الطلب، ووفاني الكسب، ومأن لي النفس والأهل والولد، هذا في تصاريف من الدنيا مع ما خصني الله به من الدرجات إلى معالي ..........عند رسول الله صلى الله عليه وآله، فنزل بي من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله مالم أكن أظن أن الجبال تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي بين جازع لا يملك جزعه، ولايضبط نفسه، ولايقوى على حمل فادح ما نزل به، قد اذهب الجزع صبره، وذلة عقله، وحال بينه وبين الفهم والأفهام، وبين القول والاستماع، وسائر الناس من غيري بني عبد المطلب بين معزي بالصبر، وبين مساعد باك لبكائهم، جزع لجزعهم، فحملت نفسي على الصبر عند وفاته، ولزوم الصمت والأخ بما أمرني الله به من تجهيزه وغسله، وتكفينه وتحنيطه، والصلاة عليه، ووضعه في حفرته، وجميع أمانة الله وكتابه وعهده الذي حملناه إلى خلفه ،واستودعناه فيهم لاتشغلني عن ذلك بادر دمعه، و لاهياج زفرة ولاحرقة، ولا جليل مصيبة حتى أديت الحق الواجب لله ورسوله علي، وبلغت منه الذي أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟

قالوا بلى يا أمير المؤمنين. 

قال: وأما الثانية يا أخا يهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني في حياته على جميع أمته، وأخذ لي ممن حضر منهم البيعة، والسمع والطاعة لأمري، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب، فكنت المؤدي رسول الله صلى الله عليه وآله أمره، والأمير في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولابعد وفاته.

ثم أمر الله رسوله بتوجيه الجيش الذي وجه مع أسامة عند الذي حدث به من المرض الذي توفاه فيه، فلم يدع أحد رسول الله صلى الله عليه وآله من قريش ولامن الأوس والخزرج وغيرهم من سائر العرب ممن يخاف على بغضه أو منازعته، ورده ولا أحداً ممن يرى [61]بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبنه  وأخيه، أو حميمه، ألا وحميه في جيش أسامة لامن المهاجرين ولا من الأنصار وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، والمنافقين لتصفوا قلوب من يتقى بحضرته، ولئن لايقول قائل شيئاً مما أكرهه في جوازه، ولايدفعني دافع عن الولاية، والقيام بأمور رعيته وأمته من بعده.

ثم كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وآله في شيء من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة، وألا يتخلف أحد ممن أنهض معه إلا عاص لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فتقدم في ذلك أشد التقدم، وأوعر في ذلك أبلغ الإيعار والإنذار، وأكد في ذلك أكثر التأكيد، فلم أشعر بعد أن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله إلا برجال من جيش أسامة وأهل عسكره، قد تركوا أمر كرهم، وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله فيما أنهضهم وأمرهم به، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم، والمسير معه تحت لوائه حتى ينقذ لوجهه الذي وجهه، وخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى عهد عهده الله وسوله صلى الله عليه وآله في أعناقهم، فنكثوه وعقدوا لأنفسهم عقداً اصحرت به أصواتهم، واختصت به أراؤهم، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب، ولامشاركة في رأي، ولااستفالة لما في أعناقهم من تبعة. 

 ففعلوا ذلك وأنا برسول الله صلى الله عليه وآله وتجهيزه مشغول عن سائر الأشياء، لأنه كان أهمها، وكان أحق مايبدأ به منها، فكانت هذه يا أخا يهود  من أفدح مايرد على القلوب مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية، وفاجع المصيبة، وهذا من لا خلف إلا الله منه فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها على تقاربها وسرعة اتصالها بها، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟

قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

قال: وأما الثالثة، يا أخا يهود فإن القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله كان يلقاني معتذراً في كل أيامه، يلزم غيره ما ركبت به من أخذ حقي ونقض تبعتي، وسألني تخلية فكنت أقول تنقضي أيامه، ويرجع إليَّ حقي الذي جعل الله لي عفواً هنياً، من غير أن أحدث في الإسلام مع حدثه، وقرب عهده بالجاهلية حدثاً في طلب حقي بمنازعة، لعل قائلاً يقول فيها نعم، وقائل يقول لي فيرقى ذلك من القول إلى الفعل، وجماعة خواص من أمة محمد أعرفهم بالنصح لله ولرسوله صلى الله عليه وآله، ولكتابه وللمسلمين يأمرونه عوداً وبداً، وعلانية وسراً، فيندبوا مني إلى أخذ حقي، ويبذلون لي أنفسهم في نصرتي، ليردوا بذلك إليَّ حقي ببيعتي التي في أعنافهم.

فأقول: رويداً أصبر لعل الله أن يأتني بذلك عفواً بلا منازعة، ولاإراقة الدماء، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، وطمع في الأمر من بعده من ليس له بأهل، حتى قال قوم: منا أمير ومنكم أمير، وما طمع القائلون في ذلك إلا ليتناول الأمر غيري، فلما أتت وفاة القائم وانقضت أيامه صير الأمر لصاحبه، فكانت أخت أخيها يحلها مني محلها، وأخذها ما جعل الله لي مثل أخذها، فاجتمع من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ممن مضى رحمه الله، وبقى ممن اجتمع، فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في أختها فلم [62] يعدل قول الأول.

القول الثاني: صبراً واحتساباً وبقيا من أن يبقى عصبة لجمعهم رسول الله صلى الله عليه وآله، يقمعهم باللين مرة وبالشدة أخرى، حتى كان تأليفه إن كان الناس له بالكنّ والشبع والري، واللباس والوطء، والدثار، ونحن أهل بيت محمد لاسقوف لبيوتنا ولا أبواب، ولا ستور لبيوتنا إلا الجرائد، وما أشبهها، ولا أوطار ولادثار علينا، يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا، ويطوي الأيام والليالي جوعاً عامتنا، وربما أتانا النبي صلى الله عليه وآله مما أفا الله علينا وصيره لنا خاصة دون غيرنا، ونحن ماوصفت من حالتنا فيوثر به أرباب النعم والأموال تألفاً منه لهم، واستكباراً منهم، وكنت أحق من لم يبن هذه التي ألفها رسوله الله صلى الله عليه وآله، ولم يحملها على الخطيئة التي لا خلاص لها منها، دون بلوغها أو فنا حالها قبلها؛ لأني لو نصبت حتى أدعوهم إلى نصرتي كانوا منه في أحد أمرين على إحدى منزلتين، إما ممتنع فقاتل أومقتول إن لم يتبع، وإما خاذل يكفر بخذلانه إن قصر عن نصرتي، أو امسك عن طاعتي بغير مستقبل، وقد عرف أني بمنزلة هارون من موسى، يحل بهم من مخالفتي والإمساك عن نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم من مخالفة هارون، وترك طاعته، ورأيت تجرع الغصص، ورد أنفاس الصعد أو الصبر حتى يفتح الله أو يقضي ما أحب، أزيد لي في حظي فارفق بالعصابة التي وصفت أمرهم، وكان أمر الله قدراً مقدورا، ولو لم أتقي يا أخاء اليهود هذه وطلبت حقي، أولا يجهدني وطلب العلم من مضى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن يحضر معهم، إني كنت أكثرهم عدداً وأعز عشيرة، وأمنع رجالاً، وأقوم أمراً، وأوضح حجة، وأكثر في هذا الدين مناقب، وآثار السابقين، ونكايتي وقرابتي، ووزارتي فضلاً على استحقاقي في ذلك الوصية التي لا مخرج للعباد منها، والبيعة المتقدمة لي في أعناقهم ممن تناولها، ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وإن ولاية الأمة في يدي وفي بيته لا في أيدي هؤلاء الذين تناولوها ولافي بيوتهم، ولافي أهل بيتي الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ولي بالأمر من غيرهم في جميع الخصال، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟

قالوا: بلى يا أمير المؤمني.

قال: وأما الرابعة يا أخاء يهود فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور، فيصدرها عن رأي، ويناظرني في حوادثها فيمضيهما عن أمري، لا أعلم أحداً ولا أعلم اصحابي يناظره في ذلك غيري، لا يطمع في الأمر بعده سواي. 

فلما أتت منيته اتته على فجأة بلامرض كان قبله، ولا من كان أمضاه في صحة من بدنه، فلم يشك الناس إلا أني قد استرجعت حقي في عاقبة المنزلة التي كنت اطلبها، والعاقبة التي كنت التمسها، وأن الله سيأتيني بذلك على أحسن مارجوت وأفضل ما أملت، فكان من فعله أنه ختم أمره بأن سما قوماً انا سادسهم، لم يستو بي وبهم حال قط، ولم يكن لرجل منهم أثر في وراثة الرسول ولا قرابة، ولاصهره ولا نسبة ، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي، ولا أثر من اثاري، ولا حق من استحقاقي، وصيرها شورى بيننا، وصير ابنه فيها حاكماً[63] علينا، وأمره أن يضرب آناف الستة الذين صيرا الأمر إليهم إن لم ينفذوا أمره، وكفى بهذا الصبر على هذا يا أخا يهود صبراً، فمكث القوم أيامهم حتى أن كلاً ليخطبها لنفسه، أنا............ فإذا سألوني عن أمري، وناظرتهم في أيامي و أيامهم، وأوضحت لهم مالم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم، وذكرتهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وتأكيده ما أكد لي من البيعة في أعناقهم، دعاهم حُب الإمارة وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي، والركوب إلى الدنياء إلى الإقتداء بالماضين قبلهم، وتناول مالم يجعل الله لهم، فإذا خلوت بالواحد منهم بعد الواحد فذكرته آيام الله وحذرته ماهو قادم عليه، وصائر إليه، التمس مني شرطاً يطائقه من الدنيا، أصيرها له، فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء، والحمل على كتاب الله وسنة رسوله ووصيته، وإعطاء كل امرءٍ ماجعل الله له انتبذ من القوم منتبذ فاراً لها آل بن عفان طمعاً في التبحح معه، وابن عفان رجل لم يستو به ولو أخذ ممن حضر حال قط فضلاً على دونه، ولايدري التي هي واحدة القوم وسنام فخرهم، ولاغيرهم من المأثر التي أكرم الله بها رسوله صلى الله عليه وآله ممن اختصه معه من أهل بيته.

ثم لو اعلم القوم أمسوا في يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم، ونكصوا على أعقابهم، وأحال بعضهم على بعض يلوم نفسه ويلوم أصحابه.

ثم لم تطل الأيام بالمنتبذ بالأمر، لابن عفان حتى كفره وتبرى منه ومشى إلى أصحابه وسائر أصحاب محمد عامة يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته، فكانت هذه يا أخا يهود أجل من اختها، وأفضع وأجرى أن يصبر عليها، فنالني الذي لايبلغ وصفه، ولايحد وقته، فلم يكن عندي فيها غير الصبر على مامضى وبلغ منها، ولقد أتاني الباقون من الستة من لومهم، كل راجع عماكان منه يسألني خلع بن عفان منها والوثوب عليّ وأخذ حقي منه، ويعطيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي أو يرد الله إليَّ حقي.

ثم بعد ذلك مرة بعد مرة امتحن القوم فيها أنواع المحن، مرة بحلق الرأس، ومرة بمواعد الخلوات، ومرة بموافاة الأماكن، كل ذلك يفى القوم بوعدهم، فوالله يا أخا يهود، ما منعني منها إلا الذي منعني من أختها قبلها، ورأيت الابقاء على ما بقى من الطائفة أنهج لي، وأنس لقلبي من فنائها، وعلمت أني إن حملتها على ركوب الموت ركبته، فأما هنيتي فقد علم من حضر ممن يرى وممن غاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش.

وقد كنت عاهدت الله ورسوله، وعمي حمزة، وأخي جعفر، وابن عمي عبيدة ابن الحرث، على أمر وفينا به لله ولرسوله، فقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله، فأنزل الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أنا والله يا أخا اليهود المنتظر، وما بدلت تبديلا، وماسكنني من ابن عفان وحثني على الإمساك إلا أني عرفت من أخلاقه فيما خبرت عنه مالم يدعه حتى يستدعي الأباعد إلى قتله وخلعه، فضلاً عن الأقارب عزله، فصبرت حتى كان ذلك لم أنطق فيه بحرف من لا ولا نعم.

ثم أتاني بالأمر[64] وأنا بعلم الله له كاره لمعرفتي بمايطمعون من اتقاد الأموال، والمرح في أرض الله، وعلمته بأن تلك ليست لهم عندي وشديد عادة  منتزعه، فلما لم يجدوها عندي تعللوا الأعاليل. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس ذلك؟

قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

قال: وأما الخامسة يا أخا يهود، فإن المنافقين لم يطمعوا في تلك مني وثبوا بالمرأة علي، وأنا ولي أمرها والوصي عليها، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحل،  أقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البوادي، وتنبحها كلاب الحوب، فتظهر لها علامات الندم في كل ساعة، وعند كل حالة في عصبه قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم لي عامة أولاً في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأتت أهل بلدة طويلة لحائها، قليلة عقولها، عرية أوزارها حبارى يخبطون بسيوفهم، ويخرقون بسهامهم، بغير علم فوقعت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلة المكروه، إن كففت لم يرجعوا ولم يقلعوا إن قدمت، كنت قد صرت إلى الذي كنت كرهت فقدمت الحجة بالأعذار والإنذار، ودعوت المرأة بالرجوع إلى بيتها، والقوم الذين حملوها إلى الوفاء ببيعتهم لنقضهم عهدها، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه منها، وناظره بعضهم فرجع وذكرته فذكر.

ثم أقبلت على الناس لمثل ذلك فلم يزدادوا إلا جهلاً وتمادياً وغياً.

فلما أتوا إلهي ركبتها منهم فكانت عليهم الدائرة، وبهم الهزيمة والحسرة، وفيهم القتل والفل، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بداً، ولم يسعني منها أن تقلدت الأمر، وأظهرته آخراً مثل الذي وسعني منه أولاً، من الإغضاء والإمساك، إن أمسكت كنت مغنياً لهم بإمساكي على ما صاروا إليه، وطمعوا فيه من تناول الأطراف وسفك الدماء ، قتل الرعية، وبحكم النواقض العقول والنواقض الحظوظ على الرجال كعادة بني الأصفر، ومن مضى من ملوك سبأ والأمم الخالية، فأصير  إلى ما كرهت أولاً، وقد أهملت المرأة وجندها ففعلوا ماوصفت وذهب بين الوقتين، وألقى ما قدرت ولم أهجم على الأمر إلابعد أن قدمت  وتأخرت، وتأنيت وأرسلت، وشاورت  وأعذرت، وأنذرت وأعطيت  القوم كل ما التمسوه، وبعد أن عرضت عليهم كل شيء لم يلمسوه مالم يخرج من الدين، فلما أبو إلا تلك أقدمت فبلغ الله فيهم ما أراد، وكان عليهم بماكان مني إليهم شهيداً، ثم ثم التفت إلى أصحابه فقال أليس كذلك؟

قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

قال: وأما السادسة يا أخا يهود فبحكم الحكمين، ومحاربة ابن آكلة الأكباد لي وهو طليق بن طليق، معاند الله والمؤمنين مذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله إلى أن  فتح الله علينا مكة عنوة، فأخذت بيعته وبيعة أبيه لي فيمن معه في ذلك اليوم، وفي ثلاثة مواطن بعده، وأبوه بالأمس أول من بايعني، وسلم علي بأمره المؤمنين، ويحضني على النهوض في أخذ حفي من الماضين قبلي، ويجدد بيعته كلما أتاني، فوثب علي لما لم يطمع في أموال المسلمين والتحكيم عليهم، ليستديم قليل مابقى مما يفوته من كثير ما يبقى، وأعجب العجب أنه لما رأى أن الله قدرد علي حقي وأمره في معدنه عندي فانقطع [65] طمعه أن يطمع في دين الله، واقتات في أمانته التي حملناها حاكماً كراً على العاص بن بالعاص بالطمع إليه فمال إليه، ثم أقبل بعد أن اطمعه خطر وحرم عليه أن يأخذ من الفيء درهماً فوق قسمه، وعلى الداعي إيصال درهم إليه فوق حقه، والإغضاء له على أخذه، فأقبل يخبط البلاد بالظلم ويطاؤها بالغشم فمن تابعه أرضاه، ومن خالفه ناواه.

ثم توجه إليَّ باكياً غانما مغيراً في البلاد مشرقاً ومغرباً، يميناً وشمالاً، والأنباء تأتيه والأخبار ترد علي، فأتاني باعور ثقيف فأشار بأن أوليه الناحية التي هو فيها لإدارة ما أوليه فيها، وكان الذي أشاربه الرأي لو وجدت في توليته مخرجاً أو رضيت لنفسه فيما أتيت من ذلك عذراً، فاعملت فكري في ذلك، وشاورني فيه من أثق به بنصحته لله ولرسوله وللمؤمنين، فكل رايه في ابن آكلة الأكباد مثل رأيي ينهاني عن توليته، ويحذرني أن أدخل في المسملين يده، فلم يكن الله ليعلم أني اتخذ المضلين عضدا، فوجهت إليه أخا............وأخا الأشعريين آخراً، فكلاهما ركن إلى الدنيا، وتابع هواه فيما أرضاه، فلم يزدد فيما انتهك من محارم الله تعالى إلا تمادياً، فشاورت من معي من أصحاب محمد عليه السلام، والذين ارتضى الله أمرهم ورضى عنده بيعتهم، وعيرهم من صلحا المسلمين والتابعين، كل يوافق رأيه في غزوه ومحاربته، ومنعه مما مد إليه يده، فنهضت إليه بأصحابي أنفذ إليه من كل موضع كتبي، وأوجه إليه رسلي، أدعوه إلى الرجوع عما هو فيه، والدخول فيما فيه الناس معي، وكان يتحكم على الأحكام ويتمنى علي الأماني، وشرط علي شروطاً لايرضاها الله والمسلمون، يشرط في بعضها أن أدفع إليه قوماً من أصحاب محمد عليه السلام أخياراً  أبراراً، منهم عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، وأين مثل عمار فوالله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله و مايعد منا خمسة إلاكان عمار سادسهم، ولاأربعة وإلا كان عمار خامسهم، فاشترط دفعهم إليه ليقتلهم ويصلبهم، وانتحل طلب دم عثمان، ولعمر الله ما آلت الناس على عثمان، ولاحملهم على قتله إلاهو وأشباهه من أهل بيته أعصاب الشجرة الملعونة في القرآن.

 فلما لم أجبه إلى ماشرط في القرآن كر في نفسه مستعلياً السلطان في نفسه يطغيانه وبغيه لحمير لا عقول لهم، ولابصائر، وموه أمراً فبايعوه عليه، وأعطاهم عليه من الدنيا ما أمالهم إليه، فناجزناه إلى الله بعد الإنذار، فلم يزده إلا تمادياً وبغياً،  فلقيناه بعادة الله التي عودنا من النصر على أعدائه وعدونا، وراياً من رسول الله صلى الله عليه وآله في أيدينا، فلم يزل يقتله ويقتل حزبه حزب الشيطان حتى أفضى الموت عليه، وحل منه محل السحي، وهو معلم أرباب أبيه، التي لم نزل نقاتلها مع رسول الله صلى الله عليه في كل موطن، فلما لم يجد من الموت منجا إلا الهرب ركب فرسه، وقلب رأيه لايدري كيف يحتال استغاث بابن العاص، فأشار عليه باظهار المصاحف ورفعها على الأعلام، والدعاء إلى ما فيها، وقال له ابن أبي طالب وحزبه أهل بصيرة ورحمة، وتقيا وقد دعوا إلى[66] كتاب الله أولاً وهم يجيبونك إليه آخراً، فأعطاه فيما أشار به عليه إذ رأى أنه لا ملجأ له من القتل والهرب، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه، فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي بعد فناء أخيارهم، وحدمهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائر منهم، وظنوا بابن آكلة الآكباد الوفاء بما دعاهم، والتمام على ما يفارقهم، فأصغوا إلى دعوته، فأقبلوا علي بأجمعهم، فأبيت حتى أخذ بعضهم يقول لبعض: إن لم يعقل فالحقوه بابن عفان، أو ادفعوه إلى ابن هند يرميه، فجهدت علم الله جهدي، ولم أدع غاية في نفسي إلا بلغتها في أن يخلف في ورائي، فلم يفعلوا وأدربهم على الطبر إلى مقدار فواق الناقة أوركضة الفرس فلم يجيبوا ماخلا الشيخ وحده، وأومئ بيده إلى الأشتر وعصبة من أهل بيتي قلبلة، فوالله مامنعني من المضي على بصيرتي إلا مخافة على هذا، وهذا وأومئ بيده إلى الحسن والحسين فينقطع نسل رسول الله وذريته في أمته، ومخافة أن يقتل هذا وهذا وأومئ بيده إلى عبد الله بن جعفر، ومحمد بن الحنفية، فإني اعلم لولامكاني لم يقفا في هذا الموقف، فلذلك صرت إلى ما أراد القوم مع ماسبق من علم الله وأمره، فلما أن رفعنا عن القوم سيوفنا، تحكموا في الأمر وتحيروا في الأحكام والآراء، وتركوا المصاحف ومادعوا إليه من حكم القرآن، فأبيت أن أحكم في دين الله أحداً، أو كان التحكيم في ذلك الخطاء الذي لاشك فيه ولا امترا، فلما أبوا إلا تلك أدرت أصحابي على أن أحكم رجلاً من أهل بيتي ممن أرضى رأيه وعقله، وأثق بنصيحته ومودته ودينه، وأقبلت لا أسمع أحداً إلا امتنع ابن هند، ولادعوته إلى شيء من الحق إلا أدبر عنه، وأقبل ابن هند لا يسومنا خسفاً إلا تابعه أصحابنا عليه، فلما أبوا إلا غلبتي على التحكيم تبرأت الله، وفوضت ذلك إليه، وقلده أمراً كان أوضع في العلم.

ثم أخرجه منه وقد خرقت أول ميلة إلى ابن هند، وأخذه من دنياه فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق البلاد وغربها، وأظهر المخدوع ندماً قليلاً غباره عنه. ثم أقبل على اصحابه فقال أليس كذلك؟

قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

قال: وأما السابعة يا أخاء اليهود، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إلي أن أقاتل في أخر أيامي قوماً من أصحابي يصومون النهار، ويقومون الليل، ويتلون الكتاب، بمرقون من الدين بخلافهم ومحاربتهم إياي، مروق السهم من الرمية،  فيهم ذوا الثدية يختم الله لي بقتلهم السعادة، فلما انصرفت إلى موضعي هذا بعد أمر الحكمين أقبل بعض القوم على باللآئمة فيما صار من حكم الحكمين، فلما لم يجدوا لأنفسهم من ذلك مخرجاً إلاأن قالوا: كان ينبغي لأميرنا أن لايتابع ما اخطأنا من رأينا، وأن يمضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من يخالفه منا، فقد كفر بمتابعته في الخطأ لنا، وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه، فتجمعوا على تلك من حالهم، وخرجوا ناكسي رؤسهم ينادون بأعلا أصواتهم لاحكم إلا الله.

ثم تفرقوا فرقة بالتخيلة، وأخرى بحرورا راكبة رؤسها تخبط الأرض [67]  شرقاً وغرباً، حتى عبرت دجلة فلم تمر بمسلم إلا أصحبته فمن بايعها استجرت، ومن خالفها قتلت، فخرجت إلى الأولين واحدة بعد أخرى ادعوها إلى طاعة الله تعالى ومتابعة الحق، والرجوع إليه، فأبتا إلا السيف لاتضعهما غيرة، فلما اعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله فقتل الله هذه وهذه.

ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة، ووجهت إليها رسلي تتراء وتتابع، وكانوا من أجل صحابي، وأهل التعبد منهم، والزهد في الدنيا، فأبت إلا إتباع اختها، والاحتذا على مثالهما، وأسرعت في قتل من خالفها من المسلمين، وتتابعت الأخبار إليَّ بقتلهم، فخرجت حتى قطعت إليهم دجلة أوجه إليهم السفراء والنصحاء، وأطلب .......بهذا مرة وبهذا مرة، وأومئ بيده إلى الأشتر النجعي، والأحنف بن قيس التميمي، وسعيد بن قيس الحاشدي، والأشعث بن قيس الكندي، فلما أتوا إلى تلك ركبتها فقتلهم الله يا اخا يهود عن آخرهم أربعة الآف أو يزيدون، حتى لم تغلبني منهم كثرة، واستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من يرا له ثدي كثدي المرأة، ثم التفت إلى أصحابه فقال أليس كذلك؟

قالوا: بلى ياأمير المؤمنين.

قال: قد وفيتكم سبعاً وسبعاً يا أخاء يهود، وبقيت الأخرى.

قال الآخر: إن يخضب هذه، وضرب بيده على لحيته من هذه، وضرب بيده على هامته فارتعت أصوات الناس في المسجد الجامع بضجة البكاء، حتى لم يبق في الكوفة دار إلا خرج أهلها فزعاً من ذلك، وأسلم رأس اليهود على يدي علي من ساعته، ولم يزل بالكوفة مقيماً حتى قتل علي رضي الله عنه.

وقد فعل فلما أن قتل وأخذ ابن ملجم لعنه الله تعالى أقبل رأس اليهود حتى وقف على الحسن بن علي، والناس حوله وابن ملجم لعنه الله بين يديه، وقال يا أبا محمد أقتله قتله الله فإني ......فرأيت في الكتب التي أنزلت على موسى أن هذا أعظم عند الله من ابن آدم الذي قتل أخاه، ومن القدار عاقر ناقة ثمود، ومن قاتل يحي بن زكريا، ومن فرعون ذي الأوتاد الذي قال أنا ربكم الأعلى.   

ومن غريب ما روي في ابن ملجم لعنه الله تعالى مارويناه عن الحاكم رضوان الله عليه من كتاب السفينة، وهوما رواه عن منصور بن عمار، قال: بعثني الرشيد إلى الروم فلقيت راهباً في الطريق، فقلت أخبرني بأعجب شيء رأيته؟

قال: رأيت طيراً أعظم من البختي خرج من البحر، ورفرف على صومعة، ثم سقط على الأرض، ورمى من منقاره رأس إنسان ونفسه ورجله ويده، ثم ابتلعه ودخل البحر، فعل ذلك ثلاث مرات، وكنت أهابه فسألته في اليوم الثالث باالله أن تخبرني من أنت؟

قال: أنا عبد الرحمن ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكل الله بي هذا الطير يعذبني هكذا إلى يوم القيامة.

 فاسمع إلى عذارة فيما خلى

 

 

وعذره الآن الذي قد فصلا
غفغف

 

 ياويحهم مما آتوه الجهلا

 

 

لكنه استدثر صبراً اجملا [68]   
11

هذا هو الصواب الاعظم

 

 

لاصبر للقوم كهذا يعلم
غف غف

أين سجايا الهاشمي منهم

 

 

هيهات ابن الشمس لمساً عنهم
غف

 إذاهم الأسوة مثل الشمس

 

 

بأنبياء ربنا بالأمس

  فأغرقت في زاخرات اللبس

 

 

يخالفوه من جميع الأنس

واستمعوا القول من النبي

 

 

عن قول جبريل عن العلي

    في أمة مالت عن الوصي

 

 

واستخلفت من ليس بالوصي

أما قولنا فاسمع إلى عذارة فيما خلى فيريد بذلك ما اعتذر به عليه السلام في كلامه لرأس اليهود وغير ذلك مما تقدم، وماصرح به لقلة الناصر المعين، ومايخشاه مع ذلك الحوادث على الإسلام وأهله، مع قرب عهد الناس بالكفر.

وأما قولنا وعذره الأن الذي قد فصلا و ما ذكرنا  من التأسي بأنبياء الله تعالى فيزيد بذلك ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام،  أنه فعله أن أقواماً تكلموا فقالوا ما بال علي لم يحارب أبا بكر وعمر وعثمان على هذه الخلافة، وحارب طلحة والزبير ومعاوية وعائشة، فلما بلغه ذلك أمر فنودي بالصلاة جامعة، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله ثم قال: معاشر الناس بلغني أن أقواماً تكلموا فقالوا:  لما لم أحارب أبا بكر ولا عثمان، ولا عمر على هذه الخلافة، وحاربت طلحة والزبير، ومعاوية عائشة، ولي اسوة بستة من أنبياء الله تعالى بنوح صلى الله عليه وآله، إذ يقول:  {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}  فإن قلتم إنه لم يدع ربه كفرتم، وإن قلتم غيرذ لك  فالوصي أعذر، وبإبراهيم صلى الله عليه إذ يقول: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} فإن قلتم إنه اعتزلهم من غير عذر كفرتم، وإن قلتم غير ذلك فالوصي أعذر ، وبلوط صلى الله عليه وآله إذ يقول: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} فإن قلتم إنه كان له قوة أو يآوي إلى ركن شديد كفرتم، وإن قلتم أنهم لم يخيفوه كفرتم، وإن قلتم غير ذلك فالوصي أعذر. 

وبهارون صلى الله عليه وآله إذ يقول: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} فإذا قلتم إنهم لم يسضعفوه كفرتم.

وإن قلتم غير ذلك فالوصي أعذر، وبمحمد صلى الله عليه وآله إذ ذعب من فراعنة قريش إلى الغار. فإن قلتم، إنه هرب إلى الغار من غير عذر كفرتم، وإن قلتم غير ذلك فالوصي أعذر، فقالوا: صدقت يا أمير المؤمنين.

وأما قولنا: واستمع من القول النبي إلى آخر هذه الأيات المتقدمة فنريد بذلك ماروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال لجماعة من أصحابه يوم جعرانة: ((والذي بعثني بالحق نبياً لقد هبط عليَّ حبيبي جبريل في غير في غير موطن ولا موطنين، واعلمني أن أمتي يستخلفون من بعدي، ويولون عليهم من يعدي من لم يفرض الله طاعته في كتاب، ولا على لسان نبي، فإذا كان كذلك كان ترك حق[69] برفق الإسلام خيراً من أخذ حق...........الإسلام)).

فانظر أيها المسترشد ما دفع إليه عليه السلام من هذه الشدائد المذكورة في كلام رأس اليهود ومخاطبته، وما حكاه من أفعال القوم وأقوالهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فإنه عليه السلام ما زال محسوداً مظلوماً بالثأر في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وبعده، وكان هو الصابر المحتسب في هذا وأمثاله من مقاسات الحروب، ومكافحة الأقران، ومنازلة الشجعان، وظلم من ظلمه حقه وابتزه ميراثه، ثم أصيب بموت رسول الله صلى الله عليه وآله، وموت فاطمة الزهراء، وقتل حمزة وجعفر عليهما السلام.

روى ابن  عباس رحمه الله تعالى أنه لما نعى إليه جعفر قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأنزل الله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ومن معظم صبره أنه أصيب بموت رسول الله صلى الله عليه وآله أعظم من غيره، فصبر هنالك صبراً جميلاً كما حكى عن نفسه بأمانة الله وعهده، الذي حمله وهو ابن عمه وأخوه، وصهره وأبو عرسه، وأبو ولديه السبطين الحسن والحسين عليهما السلام، وانفتحت عليه الشدائد بعد موته، ورماه الناس عن قوس واحدة، إلا من وفقه الله وقليل ماهم، ولعظم مصابه وكونه وصيه، وأولى الخلق به حياً وميتاً جاء إليه الخضر عليه السلام معزياً له، ولأهل بيته دون سائر الصحابة، من غير منازعة في ذلك، فقال عليه السلام: هذا الخضر يعزيكم عنه، ولهذا اشتغل علي عليه السلام بتعزيته وجهازه، واشتغل القوم بالتنافس في الإمارة، ولم يزل عليه السلام كما ذكر صابراً على الأول والثاني والثالث لما ذكره من قلة الناصر، والخوف على الإسلام كما ذكر عليه السلام، ثم أفضى إليه الأمر وأفضى إليه أمور عظيمة، وشدائد كثيرة، واختلاف عظيم، وحرب أهل القبلة، فصبر على تمييز الحق من الباطل، ولا نعلم أحداً بعد الأنبياء عليهم السلام صبر مثل صبره، وهذا ما أردنا من ذكر صبره في الأبيات، فأخذ بذلك، وما أشبهه الحظ الأوفر من قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فإذا كان هذا الذي قدمناه في كلامه لرأس اليهود، وفي التأسي بالأنبياء عليهم السلام مبيناً بذلك عذره وضعفه عن أخذ حقه مع الذي شفع ذلك من الخوف على الإسلام بسبب القوم هو وأمثاله، قول أمير المؤمنين، وسيد الوصيين في هؤلاء القوم، مضافاً إلى غيره من الحجج القاطعة من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، وإجماع العترة عليهم السلام، فجدير لكل عاقل مميز بين الحق والباطل أن يستدرك في أمره عليه السلام نفسه، ويذكر رمسه، ويخشى غداً وقوفه للسؤال، بين يدي ذي العزة والجلال، ويدع تقليد الأسلاف، وتمويهات الخلاف، فإن المتكلم في نقيض ذلك، معارض لله ولرسوله وللمؤمنين، ولتعلمن نبأه بعد حين[70]:

وانظر إلى أحوال الأربعة
كي تحصر الأمر لهم وتجمعه

 

اعتبر تلك البطون مجمعة
أي نبهم قل لنا الحق معه

أمن أبي بكر شموس الظلمة
أمن بني عثمان ياذا الهمة

 

أمن بني الخطاب سفن الأمة
أمن علي تجعل الأئمة

أهم اتيم أو عدي كلها
كالشمس تدفع حجتي بمثلها

 

من بني أمية فخلها
أم لا فدعها زينة لأهلها

أنحن أهل البيت أم هم فاحلالي
أم أينا أهل الكساء المرسل

 

ياأيها العالم المعتزلي
وأهل تطهير الكتاب المنزل

إنما أوردنا هذه الجملة وما يأتي بعدها من ذكر أهل البيت عليهم السلام لشرح طرفاً من خطبهم عليهم السلام، ومن الفضل النبوي، والنصاب العلوي، والفخر الهاشمي، والنسب الفاطمي، لينظر العاقل في ذلك بعين بصيرته، ويسرح في رياضها سرب عقيدته، وليميز بين أولاد الجماعة، فما أقبح الجهل بضاعة، وإن كان بين ذلك بعد المشرقين، هيهات أين الصباح من الليل، والبرادين من عراب الخيل، أين العلم من الجهالة، وأين الهدى من الضلالة، أين النجاة من الغرق، وأين الدجا من الفلق، وأين الظمأ من الري، وأين البلاغة من الغي، أين العرا من البيت، أم أين الحي من الميت، شتان ما بين السعادة والشؤم، ويا بعد ما بين الكرم واللوم، أين الشقاوة من السعادة، وأين الحسرات من الإفادة، هيهات طاشت الحلوم، وولت أدبارها العلوم، أيستخاف الواحد القيوم في اختياره، أم يرد قول مصطفاه ومختاره، اسمع يا طالب الفضل بالمنا، أين مكان الفضل من الغنا، أيديم الفضل بالتمني، أم تدعى الحجج بالتجني، من هؤلاء الذين قال فيهم ربنا الحميد: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} أم هل تعلم أو تقدر تقديراً فيمن قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب:33] قل لي من الثقلان، إن كان لك في هذا المسرح يدان، أتعلم من أمان أهل الأرض يا صاحب العمى، كما أن النجوم أمان أهل السماء، وإلا فقل منقطعاً لا ناقة للقوم في ذلك ولا جمل، ولا جدي ولا حمل.

وروينا عن أبينا رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((لما أسري بي رأيت على باب الجنة مكتوباً بالذهب لا بما الذهب لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله، فاطمة أمة الله، الحسن والحسين صفوة الله، على باغضهم لعنة الله)).

وروينا عن ابن المغازلي في مناقبه، ورفعه إلى السدي في قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً}[الشورى:23] قال المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال:وفي قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قال: رضى محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخل أهل بيته الجنة[71].

ومن مناقبه أيضاً رفعه إلى علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فضل أهل البيت علي الناس كفضل البنفسج على سائر الأزهار)).

وفي كتاب الحياة لإسحاق بن أحمد بن عبد الباعث رحمه الله رواه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((فضل أهل البيت على الناس كفضل دهن البنفسج على سائر الأدهان)).

وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لفاطمة عليها السلام: ((ايتيني بزوجك وابنيك فجاءت بهم، فألقى عليهم كساء فدكياً ثم قال: اللهم هؤلاء آل محمد، فاجعل شرايف صلواتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كم جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل فدفعني وقال: ((إنك على خير)) وفي حديث آخر أنه قرأ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب:33] وقد تقدم الخبر بذلك من كتبنا ومن كتب العامة جميعاً.

وروينا  عن الثعلبي في تفسير قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} حديثاً رفعه إلى أنس بن مالك وبريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الآية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} إلى قوله: {وَالأَبْصَارُ}  فقام رجل فقال: أي بيوت يا رسول الله؟ فقام إليه أبو بكر فقال يا رسول الله هذا البيت منها بيت علي وفاطمة؟ قال: ((نعم، من أفضلها)).

ومن مسند ابن حنبل رفعه إلى الربيع بن المنذر عن أبيه قال: كان الحسين بن علي عليهما السلام يقول: من دمعت عيناه فينا دمعة، أو قطرت عيناه فينا قطرة بوأه الله عز وجل الجنة.

ومن  كتاب الحياة قال صلى الله عليه وآله: ((من صلى صلاة الخمس في جماعة حيث كان وأين ما كان جاز الصراط كالبرق اللامع في أول مرة من السابقين، وجاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، وكتب له في كل يوم وليلة كأجر ألف شهيد إذا أتى حقها وحقيقتها محبتنا أهل البيت.

ومن كتاب الحياة أيضاً وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((حرمت الجنة على ثلاثة: مدمن الخمر، وعابد وثن، وعدو آل محمد)).

أنحن أم هم شجرة النبوة
من الأولى فضلهم ذو القوة

 

أم هل لهم من جدنا النبوة
على جميع ساكني المدحوة

وروينا عن أبينا رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((نحن أهل بيت شجرة النبوة، ليس أحد من الخلائق يفضل أهل بيتي غيري)) وإذا لم يكن أحد أفضل منهم فهو أولى بالأمانة من كل أحد، إذ لا تصح إمامة المفضول مع وجود الأفضل على ما تقدم بيانه.

وروينا عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((إن الله تعالى جعل ذرية كل نبي من صلبه، وإن الله عز وجل جعل ذريتي من صلب علي بن أبي طالب عليه السلام)) ومصداق ذلك قوله تعالى في آية المباهلة: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ} فكان الأبناء هم الحسن والحسين عليهم السلام، وقد بينا في ذلك طرقاً فيما تقدم:

ما الثقلان أيها الإنسان
ومن له الوداد لا الشنآن

 

بين لنا ومن هم الأمان[72]
أجراً به قد نطق القرآن

وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).

وروينا عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((إني أوشك أن ادعا فأجيب، وإني قد خلفت فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا ماذا تخلفوني فيهما)).

قال الإمام الناصر للحق عليه السلام في معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)) عندي أن المراد به أن النبي صلى الله عليه وآله إنما قال: ((إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، وهما الخيلفتان من بعدي)) فجعلهما الإمامين لعباد الله تعالى إلى يوم القيامة، ثم قال عليه السلام: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.........بذلك من لم يعرف إماميه من الكتاب والعترة.

وروينا عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((النجوم أمان أهل السماء، وأهل بيتي أمان أهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم من السماء أتا أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتا أهل الأرض ما يوعدون)).

وروي: ((فإذا انقرضوا من الأرض صب الله عليهم العذاب صبا)).

وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فويل لمن خذلهم وعاندهم)).

وروينا عن ابن عباس رضي الله عنه قال لما نزلت: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا: يا رسول الله ومن قرابتك هؤلاء الذين أوجبت علينا مودتهم؟ قال: ((علي وفاطمة وابناهما عليهما السلام)) وفي غير هذا الحديث قالوا: يار سول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله عز وجل بمودتهم؟ قال: ((فاطمة وولداها)).

وعنه صلى الله عليه وآله قال: ((إن الله عز وجل جعل أجري عليكم المودة في أهل بيتي، وإني سائلكم غداً فمخف لكم في المسألة)) فانظر كيف جعل الله مودتهم مستحقة إذ جعلوها أجراً، والأجر لا يكون إلا مستحقاً، ولا خلاف بين أهل الإسلام في أنه يجب تسليم الأجرة على الأجير، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم ((أعطوا الأجير أجرته قبل أن يجف عرقه)).

وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((إن الله تعالى فرض فرائض ففرضها في حال وخفف في حال، وفرض ولايتنا أهل البيت فلا يضعها في حال من الأحوال)).

وعنه صلى الله عليه وآله: ((استوصوا في أهل بيتي خيراً، فإني مخاصمكم عنهم ومن أكن خصمه خصمته)).

ومن كتاب الناصر للحق عليه السلام روى أبو سعيد الخدري قال: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وآله مرضه الذي توفي فيه أخرجه علي والعباس يصلي، ثم وضعاه على المنبر فحمد الله[74] وأثنى عليه فقال: ((أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين لن تعمى قلوبكم، ولن تزول أقدامكم، ولن تقصر أيديكم أبداً، ما أخذتم بهما كتاب الله سبب بينكم وبين الله فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه)) قال فعظم من كتاب ما شاء أن يعظم ثم سكت، فقام عمر وقال: هذا أحدهما قد أعلمتنا به فاعلمنا بالآخر؟ فقال: (( إني لم أذكره إلا وأنا أريد أن أخبركم به غير أني أخذني الرفق فلم استطع أن أتكلم ألا وعترتي ألا وعترتي ألا وعترتي ثلاثاً، فوالله لا يبعث الله رجل يحبهم إلا أعطاه الله نوراً حتى يرد عليَّ يوم القيامة، ولا يبعث الله رجل يبغضهم إلا احتجب الله عنه يوم القيامة، ثم حملاه إلى فراشه محتضراً، وقد روي أن الضحاك سأل أبا سعيد الخدري عما اختلف فيه الناس بعد الرسول عليه السلام فقال: والله ما أدري ما الذي اختلفوا فيه، ولكني أحدثكم حديثاً سمعته أذناي، ووعاه قلبي فلن تخالجني فيه الظنون، إن النبي صلى الله عليه وآله خطبنا على منبره قبل موته في مرضه الذي توفي فيه لم يخطبنا بعده فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين ثم سكت، فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: ما هذان الثقلان، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله حتى احمر وجهه وقال: ((ما ذكرتهما إلا وأنا أريد أن أخبركم بهما، ولكني أضرني وجع فامتنعت عن الكلام، أما أحدهما فهو الثقل الأكبر كتاب الله سبب بينكم وبين الله تعالى طرف بيده وطرف بأيديكم، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي علي وذريته، والله إن في أصلاب المشركين لمن هو أرضى من كثير منكم)) ورواية أسلافنا، وحفاظ أهل مذهبنا واسعة في هذا الباب، وكذلك ما يرويه غيرنا من ذلك أوسع مستفيض، ونحن نذكر منه ما رويناه عن الإمام المنصور بالله عليه السلام في كتاب الشافي، وهو يرويه عن كتبهم المشهورة.

قال عليه السلام: فصل في قوله عليه السلام: ((خلفت فيكم الثقلين)) وقوله: ((خلفت فيكم خليفتي)) من مسند بن حنبل بإسناد رفعه إلى علي بن ربيعة قال: لقد لقيت زيد بن أرقم وهو داخل على المختار وخارج من عنده فقلت له: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((إني تارك فيكم الثقلين)) قال: نعم، والإسناد عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلو بعدي الثقلين: أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من  السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).

قال ابن نمير: قال بعض أصحابنا عن الأعمش قال: انظروا كيف تخلفوني فيهما.

وبالإسناد عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، أو ما بين السماء والأرص وعترتي أهل بيتي إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).

ومن صحيح مسلم في الجزء الرابع منه من أحزاء ستة في آخر الكراس الثانية من أوله بالإسناد قال: حدثني زهير بن حرب وشجاع بن مخلد جميعاً عن ابن علية قال زهير حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال حدثني أبو حباب، حدثني يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة، وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه[74]قال له حصين: لقد رأيت يا زيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله، وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً حدثنا يا زيد أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: يا ابن أخي، والله لقد كبر سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وآله فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تكلفوا فيه، ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا خطيباً بماء يدعا خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: ((أما بعد، أيها الناس إنما أنا بشر أوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله فيه النور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتتي، أذكركم الله في أهل بيتي)) فقال حصين: ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: ليس نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة عليه.

قال المنصور بالله عليه السلام: وقد ثبت أن الواجب اتباعهم أهل البيت هم أهل الكساء المطهرون، فزاد ناس المعاصي بشهادة الآية والخبر، بل الأخبار المتظاهرة من مسند ابن حنبل، ومن صحيح مسلم والبخاري، ومن كتاب الحميدي والصحاح الستة للغيدري، ومن تفسير الثعلبي في باب تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب:33] أمن غير طريق وذكر عددهم، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وتفسير رسول الله صلى الله عليه وآله أولى من تفسير زيد وغيره من خلق الله جميعاً، ثم يزيده بياناً استفهام أم سلمة له من أهل بيته صلى الله عليه وآله ويقول: إنك من أزواج النبي وإنك إلى خير، فلم يذكرها في الجملة، ولفظة الأهلية أين وردت فالمراد بها الأربعة نفر الذين فسرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونطق به لفظ القرآن الكريم، إنهم أهل البيت، ولأن الرجل يموت أو يطلق فتلحق المرأة بأهلها، ويزيد ذلك بياناً ما ذكره الثعلبي في تفسيره، وهم الذين لم يفترقوا في الجاهلية والإسلام، ولم يوجد من لم يفترق قديماً ولا حديثاً سواهم صلى الله عليهم على كل حال وفي كل وقت، فهم خصوص العموم، وورثة العلوم، وجبال الحلوم، ويزيده بياناً أن زيداً الراوي فسر أهل البيت وهم في هذا الخبر الذي نذكره بعد هذا الخبر، وبالإسناد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير كلاهما عن أبي حيان بهذا الإسناد، نحو حديث إسماعيل، وزاد في حديث جرير: كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به، وأخذ به كان على الهدى، ومن اخطأه ضل، وبالإسناد عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم قال: دخلنا عليه فقلنا له لقد صاحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصليت حلفه، وساق الحديث، نحو حديث ابن حيان غير أنه قال: ((ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل من الله من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة)) وفيه فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، وأيم الله إن المرأة لتكون مع الرجل[75] لعصر ثم لدهر يطلقها فترجع إلى أهلها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته، الذين حرم الصدقة علهيم، ومن تفسير الثعلبي من الجزء الثاني في تفسير سورة آل عمران في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} وبالإسناد قال حدثنا الحسن بن محمد بن حبيب، قال وجدت في كتاب جدي بخطه قال حدثنا أحمد بن الأعجم القاضي المروزي، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أيها الناس إني قد تركت فيكم الثقلين خليفتين، إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، أو قال إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).

وروينا من تفسير الثعلبي وليس مما رويناه عن المنصور بالله؛ لأنه لم يذكره في تفسير قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} ورفعه إلى ابن ثعلب، عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: نحن حبل الله الذي قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} ولنرجع إلى روايتنا عن المنصور بالله عليه السلام.

ومن مناقب ابن المغازلي بالإسناد عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أوشك أن أدعا فأجيب، وإني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا ماذا تخلفوني فيهما)) ومن الجمع بين الصحاح الستة لرزين العبدي من الجزء الثالث من أجزاء أربعة من صحيح أبي داود السجستاني وهو كتاب السنن، ومن صحيح الترمذي عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم  من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني في عترتي)).

قال سفيان: أهل بيته هم ورثة علمه؛ لأنه لا يورث من الأنبياء إلا العلم، فهو كقول نوح صلى الله عليه وآله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً} يزيد ذلك والعلماء من أهل بيته المقتدرون به، والعاملون بما جاء به، لهم فضلان، وقد شهد بطهارتهم الكتاب والسنة، فهم الذين يجب اتباعهم، ويحرم خلافهم، لارتفاع الشك في اتباعهم بيقين.

قال الإمام المنصور بالله رضوان الله عليه وسلامه: فهذا كما ترى أخبار متظاهرة بما روته العامة، ولم يتناكر فيه، ولا اختلفت معانيه، وقد كرر لفظ العترة وأهل البيت، وقد بينا من هم بدلالة الكتاب في آية التطهير وأحاديث الكساء، والبرد المتكررة المتظاهرة، إذ هم موضع الحجة على الأمة، لمكان العصمة، وإيجاب[76]الرجوع إليهم في المهمة، كما يرجع إلى الكتاب في الأدلة، وهذا نص صريح يأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل من شملته كلمة الإسلام، فمن كان من المسلمين لزمه الاقتداء بالثقلين الكتاب والعترة، ولا يلزم أهل بيته الاقتداء بأحد؛ لأن الوصية بالتمسك بأهل بيته، والأمر بذلك لأمته، وهو أيضاً أمر باقتدائهما إلى آخر انقطاع التكليف؛ لأنه قيد التمسك بهما ما لابد، وجعل مدة اجتماعهما إلى ورود الحوض عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

ومطلق الأمر قد اختلف فيه المتكلمون فذهب جميع الفقهاء وطائفة من المتكلمين إلى أن الأمر يقتضي إيجاب الفعل على المأمور به، وربما قالوا بوجوبه.

وقال آخرون: مطلق الأمر إذا كان من حكيم اقتضى كون المأمور به مندوباً إليه، وإنما يعلم الوجوب بدلالة زائدة، وذهب آخرون إلى وجوب الوقف في مطلق الأمر بين الإيجاب والندب، والرجوع إلى كل واحدٍ من الأمرين إلى دلالة غير الظاهر، أما على أن تركه قبيح فيعلم أنه واجب، أو يعلم أنه ليس بقبيح فيعلم أنه ندب، وهذا الأمر منه صلى الله عليه وآله بالتمسك بأهل بيته عليهم السلام لكل أهل الإسلام هو أيضاً واجب، يدل على وجوبه قبح تركه؛ لأنه عليه السلام قال: ((ما إن تمسكتم به لن تضلوا)) فجعل ترك التمسك بهما هو الضلال، فصار ترك هذا الأمر قبيحاً، فيعلم وجوبه بقبح تركه، وهو شهادة الصادق، وينفي الضلال مع أن الامتناع والاحتراز من الضلال واجب؛ لأنه دفع الضرر عن النفس، فوجب  بوجهي الوجوب من العقل والسمع فما لمعتل علة، فقد صار وجوب اتباع أهل البيت عليهم السلام المعصومين المفضلين على الأمة واجباً على جميع الوجوه على كل قول من قال الأمر على الوجوب، فقد ورد من قال لابد من دليل فقد حصل، ثم جعل ذلك مستمراً ممتداً بذكر الأبد في لفظ الخبر، وضرب له غاية ينتهي إليها، وهو قوله صلى الله عليه وآله: ((حتى يردا عليَّ الحوض)) فقد صار الخبر الوارد بإجماع كافة أهل الإسلام من قول النبي صلى الله عليه وآله: ((افترقت أمة أخي موسى إلى أحد وسبعين فرقة، منها قرقة ناجية والباقون في النار، وافترقت أمة أخي عيسى اثنتين وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية والباقون في النار، وستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة منها فرقة ناجية والباقون في النار)) بياناً عن الفرقة الناجية من أمته وهي التي تمسكت بالثقلين، وهما كتاب الله وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله، بدليل النجاة، وترك التمسك بهما هو طريق الضلال، ويدل على صحة ما قلناه ما ذكره الثعلبي في تفسير قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} من سورة الأنعام.

قال الثعلبي: وقال زاذان أبو عمرو قال لي علي عليه السلام: يا أبا عمرو تدري كيف افترقت اليهود؟ قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية، إلا واحدة هي الناجية، أتدري على كم افترقت النصارى؟

قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: افترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة هي الناجية، ثم قال[77]: أتدري على كم تفترق هذه الأمة؟

قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا فرقة واحدة هي الناجية، ثم قال: أتدري على كم تفترق فيَّ؟

قلت: وإنه لتفترق فيك؟

قال: نعم، تفترق فيَّ اثني عشر فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة هي الناجية، وأنت منهم يا أبا عمر، ومما يؤيد ذلك ويزيده بياناً أيضاً ما ذكره الثعلبي أيضاً بالإسناد في تفسير قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا}.

قال: وأخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الله القاضي، أخبرنا القاضي أبو الحسن محمد بن عثمان البغدادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن السبيعي بحلب، حدثنا الحسبن بن إبراهيم الجصاص، أخبرنا حسين بن الحكم، أخبرنا إسماعيل بن أبان، عن فضيل بن الزبير، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي عبد الله الجذلي، قال دخلت على علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فقال: يا أبا عبد الله، ألا أنبئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنة، والسيئة التي من جاء بها كبه الله في النار، ولم يقبل منه عملاً؟

قلت: بلى.

قال: الحسنة حبنا، والسيئة بغضنا، من غير كلام المنصور عليه السلام.

فلا رغبتي تقتضي الرهبة

 

ولا عقد لي من حبهم يتحلل

ولا أنا عنهم مجدد أحبة

 

ولا أنا مغتاض بهم متبدل

ومما يدل على أن العترة هم أولاد النبي عليه السلام أن العترة في اللغة مأخوذة من العتيرة، وهي ضرب من النبات، فلماكان ولد الرجل وولد ولده في حكم ما نبت منه أجرى عليهم هذا الاسم، وهذا المعنى لا يؤخذ إلا في الأولاد دون سائر الأقارب، وقد نص على ذلك صاحب كتاب العين حكاية عن العرب فقال عنهم: عترة الرجل منهم ولده وولد ولده، وهذا دليل على أن العترة تستعمل حقيقة فيمن ذكرنا، وإن جاز استعمالها في غيرهم مجازاً، غير أنه يجب حمل كلام الرسول عليه السلام على الحقيقة مهما أمكن، وقد قال الناصر عليه السلام: إنما سماهم عترة؛ لأن الولد عند والده أطيب ريحاً من عترة المسك، ولهذا تقول العرب لولد الإنسان هو ريحانة أبيه وتفاحته، ولا شك أن عترة المسك أطيب من الريحانة، فسمى عليه السلام أولاده بأطيب الطيب، وجعل ذلك صفة لهم غير مشتركة، والناصر للحق عليه السلام ممن لا.............في اللغة العربية، فهذا من قبل اللغة، ثم لا خلاف بين الأمة أن ولد الرجل وولد ولده عترة له، ومن عداهم مختلف فيه، ولا دليل يدل على من عاداهم، فبقى على الأصل، وهو أن ذلك لا يستعمل حقيقة فيمن عداهم، ثم لا خلاف في أن من عداهم لا يكون قوله حجة، وقد بينا أن قول العترة حجة فصح ماقلناه، يزيد ذلك وضوحاً أن في الأخبار قرينة تدل على أن العترة هم علي وفاطمة، والحسن والحسين عليهم السلام، وهو قوله صلى الله عليه وآله: ((وعترتي أهل بيتي)) فإنه وصفهم بأنهم أهل بيته، وقد بينا أن أهل بيته من ذكرنا فيما تقدم من الأخيار في الكساء وغيره، ومن هذا الوجه دخل معهم علي عليه السلام، فيكون الإجماع لا يصح من دونه عليه السلام، وإلا فالعترة في اللغة ليسوا إلا الأولاد كما تقدم، وإنما[78] دخل عليه السلام في أهل البيت بما تقدم فيما شاكله من الأخبار الشاهدة بذلك، القاضية به من قول النبي صلى الله عليه وآله وتفسيره، وهي أخبار كثيرة متواترة على ذلك، وقال عليه السلام.

فصل في معنى قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}

ومن مسند أحمد بن حنبل بالإسناد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] قالوا: يا رسول الله من قرائبك الذين وجبت علينا مودتهم؟

قال: ((علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام)).

ومن صحيح البخاري في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] بالإسناد عن عبد الملك بن ميسرة سمعت طاوساً، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] قال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلوات الله عليهم.

ومن صحيح مسلم في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] قال: وسئل ابن عباس رضي الله عنه عن هذه الآية، قال ابن جبير: هي قربا آل محمد عليهم السلام.

ومن تفسير الثعلبي في قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] قال: اختلفوا في قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله الذين أمر الله تعالى بمودتهم، فأخبرني الحسين بن محمد الثقفي العدل، ثم سرد الإسناد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه لما نزلت: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] قالوا: يا رسول الله، من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: ((علي وفاطمة وابنيهما صلوات الله عليهم وسلامه)).

قال: ودليل هذا التأويل ما حدثنا أبو منصور الحمشادي، حدثني أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو بكر بن مالك، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عبد الله بن عائشة، حدثنا إسماعيل بن عمرو، عم عمر بن موسى، عن زيد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسد الناس لي، فقال: ((أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت، والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وعن شمائلنا، وذرياتنا من خلف أزواجنا، وشيعتنا من خلف ذريتنا)).

وبالإسناد عن السدي، عن أبي الديلمي قال: لما جيء بعلي بن الحسين صلوات الله عليه أسيراً فأقيم على درج دمشق، فقام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قرب الفتنة، فقال له علي بن الحسين صلوات الله عليه:  أقرأت القرآن؟

قال: نعم.

قال: أقرأت الرحم، قال: قرأت القران ولم أقرأ الرحم، قال: قرأت: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23]؟ قال: لأنتم هم؟ قال: نعم.

وبالإسناد قال أخبرنا أبو الحسن العلوي الوصي، قال حدثنا موسى بن جعفر، حدثني أبي جعفر الصادق، قال: كان نقش خاتم أبي محمد بن علي: ظني بالله حسن، وبالنبي المؤتمن، وبالوصي ذي المنن، وبالحسين والحسن.

وبالإسناد قال: وأنشد منصور الفقيه لنفسه:

إن كان حبي خمسة

 

زكت بهم فرائضي

وبغض من عاداهم

 

رفضضاً فإني رافضي

وبالإسناد عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، ما بال قريش تلقى بعضها بعضاً بوجوه يكاد أن تسايل من الود، ويلقونا بوجوه قاطبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((وبفعلون ذلك))؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق[79]لا يؤمنوا حتى يحبوكم.

وبالإسناد عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله عليه وآله وسلم: ((من مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكملاً للإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة، ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تُزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حُب آل محمد جعل الله زوار قبره الملائكة بالرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة)).

ومن تفسير الثعلبي في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} [الشورى:23] قال: المودة لآل محمد عليه وآله الصلاة والسلام.

ومنه أيضاً في تفسير قوله سبحانه وتعالى في سورة النمل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} قال: يقول القنبر في صياحه: اللهم العن باغض آل محمد صلى الله عليه وآله.

ومنه قوله تعالى من سورة آل عمران: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} بالإسناد، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد، ثم سرد الإسناد إلى الأعمش، عن وائل قال: قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود: إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل محمد على العالمين.

ومنه أيضاً في تفسير قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وبالإسناد قال ابن عباس رضي الله عنه: هي قريضة والنظير، وهما بالمدينة وفدك من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر وقرى عرين وينبع، جعلها الله تعالى لرسوله يحكم فيها ما أراد، واختلفوا فيها فقال ناس: هلا قسمها، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} يعني من أموال أهل القرى.

قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: واختلف الفقهاء في وجه استحقاقهم سهمهم من مال الفيء والغنيمة، فقال قوم: إنهم يستحقون ذلك بالقرابة، ولا تعتبر فيهم الحاجة وعدم الحاجة، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه.

وقال آخرون: إنهم يستحقون ذلك بالحاجة لا بالقرابة، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، فإذا قسم ذلك فضل الذكور على الإناث كالحكم في الميراث للذكر سهمان وللأنثى سهم.

وقال محمد بن الحسن: يسوي بينهم، ولا يفضل الذكران على الإناث، وهو الصحيح، وشهد بصحته ظاهر الكتاب العزيز لقوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} فأوجب لهم سهماً معلوماً، ولم يفرق بين من كان ذا حاجة وغير ذي حاجة، ومن ذهب إلى أنهم يستحقون بالحاجة لا بالقرابة فمخالف لظاهر الكتاب العزيز؛ لأنه لو كان الاستحقاق بمجرد الحاجة لقد كان يوجد في غيرهم من هو أحوج منهم، وإذا وجد من هو أحوج منهم وكان مجرد الاستحقاق حاصلاً، وهو وجود الحاجة دون القربى فكان أحق به، وهذا خلاف ورود النص في لفظ الآية؛ لأن لفظ الآية متضمن لفظ القرابة، ولفظ القربى حاصل فيهم لا في غيرهم.

وقوله: يقسم[80] بينهم قسمة الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين فمخالف أيضاً لظاهر الكتاب العزيز، وعلى كل الوجهين هو مستحق لهم من جانب الميراث أولاً، للفظ القرآن أنه لهم؛ لأنهم أولوا القربى، والباقي بموافقة أبي حنيفة على قسمته للذكر مثل حظ الأنثيين، وإذا ثبت ذلك لم يبق إلا وجوب الميراث لهم عليهم السلام، ولا حجة لمن دفعهم عنه، ومنه أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} قال: عنى بذلك قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبالإسناد روى السدي عن الديلمي قال: قال علي بن الحسين عليهما السلام لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فما قرأت في سورة بني إسرائيل: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} قال: وإنكم القرابة الذين أمر الله تعالى أن يؤتى حقه؟ قال: نعم.

ومن مناقب الفقيه ابن المغازلي وبالإسناد عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن ماله فيم أنفقه ومن أين اكتسبه، وعن حب أهل البيت)).

ومن الجمع بين الصحاح الستة لأبي الحسن رزين، وبالإسناد في تفسير سورة حم قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.

قال ابن جبير: قربى آل محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين.

وبالإسناد عن طاوس أن ابن عباس رضي الله عنه سئل عن قوله تعالى: {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال ابن جبير: قربى آل محمد صلى الله عليهم.

قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: قد تظاهرت الأخبار، وتواترت الآثار، بوجوب محبة آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تصريحاً وتعريضاً، وقد تقرر بالآثار من أهل البيت المطهرين من الأدناس، المفضلون على كافة الناس، وأنهم أهل الكساء صلوات الله عليهم، وعلى الطيب من ذريتهم، فما جاء في وجوب اتباع أهل البيت فهو عائد إليهم، ومقصور عليهم، وشاهد الحال ينطق بذلك فيهم؛ لأنهم أهل العلم والطهارة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باليد واللسان، والسبف والسنان، وعندهم علم كل غريبة، وفك كل مشكلة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} وقد شهد لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم لا يفارقون الكتاب ولا يفارقهم إلى ورود الحوض، وميزهم الله تعالى بآية التطهير، وفسرهم رسول الله صلى الله عليه وآله، وبين عدتهم بما تقدم من غير طريق لما سئل: من أهل بيتك؟ فقال: ((علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام)) وكل بيان غير تفسير الله تعالى تفسير غير معتد به، فثبتت مودتهم، وبثبوتها تثبت ولايتهم، وبثبوت ولايتهم يجب الاقتداء بهم، وإذا جعل الله لهم سبحانه وتعالى أجر رسول الله صلى الله عليه وآله من الأمة في السفارة بينه تعالى وبين خلقه، وأجر بذله لنفسه وتقريره بمهجته المودة في أهل بيته، صارت مودتهم واجبة، وإذا وجبت مودتهم وجبت طاعتهم، وإذا وجبت طاعتهم وجب اتباعهم[81] ويدل على وجوب ذلك قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} فوجبت طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ووجبت طاعتهم؛ لكونها أجر الإبلاغ، ولم تكن المودة أجر التبليغ إلا من حيث كانت النفس واحدة، فوجب لهم من فرض الطاعة ما وجب للرسول عليه السلام، ومعنى: إلا في قوله إلا المودة في القربى إنما هي بمعنى غير، ومعناها التفخيم لأمرهم، والتعظيم لهم عليهم السلام، كما قال الشاعر:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

 

 

بهن فلول من قراع الكتائب

أراد بغير المبالغة في المدح، وإليه ذهب عمرو بن بحر الجاحظ في كتابه كتاب إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي صنفه للمأمون:

قوم إذا املولح الرجال على

 

أفواه من ذاق طعمهم عذبوا

تم كلام المنصور علبه السلام، وروايته من كتب العامة، وروايتنا عنه في هذا الموضع، وعن جابر لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} استبان لأهل المدينة الذي حباهم الله به، فأقبلوا بأجمعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا: نفديك بآبائنا، وأمهاتنا تقيك يارسول الله، نخرج لك من أموالنا وأولادنا، وننزل لك عن نسائنا، ولقد منّ الله علينا إذ هدانا بك إلى الإسلام، وفقهنا في الدين، واستنقذنا بك من شفا جرف هار قال: فأنزل الله على نبيه في ذلك المقام: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قال: فقام إليه رجل من القوم يقال له مصعب بن عمير فقال: يا رسول الله، وما المودة في القربى؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((حب هذا وهذين، وأشار بيده إلى علي والحسن والحسين)).

قال مصعب بن عمير: والذي بعثك نبياً إني لأحبك وأحبهم، قال: ((صدقت يا مصعب، فاستعد للفقر جلباباً، وللشهادة............، فوالذي بعثني بالحق رسولاً لا يموت محبنا إلا شهيداً، ولو على فراشه، وإن الفقر إلى محبنا لأسرع من ركض البراذين أو قال الشفرة إلى سنام الجمل)).

قال جابر بن عبد الله: فغزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله غزاة أحد فاستشهد مصعب بن عمير، فطلبنا شيئاً نكفنه فيه فلم نصب له شيئاً إلا فضل شملة كانت عليه، كنا إذا لحفنا رجليه انكشف وجهه.

قال حابر: فأتيناه فأخبرناه فقال: ((غطوا بها وجهه، وضعوا على رجليه الإذخر، فوالذي بعثني بالحق نبياً ليحشرن يوم القيامة وفضل تلك الشملة عليه ريطة من رياط الجنة يلمع نورها ما بين السماء والأرض)).

مَن آل ياسين أنحن أم هم

 

بين لنا إن كنت ممن يعلم

ياآيها المعتزلي الأعظم

 

وأينا سفينته لو تفهم

وروينا عن أبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، ومن قاتلنا في آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال)).

وروينا من مناقب ابن المغازلي رفعه إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تأخر عنها هلك)).

ومنه أيضاً[82] رفعه إلى أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق)).

ومنه أيضاً رفعه إلى أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ومن قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال)).

وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} قال: على آل محمد:

من باب حطة وباب سلم

 

بين لنا ذلك ياذا الفهم

ومن موالوه فولاه الغنم

 

ومبغضوه في جحيم الاثم

روينا عن أبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك، ومثل باب حطة في بني إسرائيل)).

وروينا عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة من دخله غفر له)).

وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: ادخلوا في السلم كافة قال: ولايتنا أهل البيت.

وعن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} قال: ولايتنا أهل البيت.

وعن بن عباس رضى الله عنه في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً}[الشورى:23] قال الموالاة  لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

  وروينا عن نبينا محمد صلوات الله عليه وآله أنه قال: ((والذي نفس محمد بيده لا يبغضنَّ أهل البيت أحد إلا كبه الله في النار)).

 وروينا عنه صلى الله عليه وآله أنه قال:((ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة، الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه)).

 وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((من احسن إلى أحد من أهل بيتي بعدي شفعت له يوم القيامة ويكون في الجنة معي)).

وروينا عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (( إن لله حرمات من حفظهنَّ حفظ الله له أمر دينه ودنياه، ومن ضيعهنَّ لم يحفظ الله له شيئاً)) قيل: وماهنَّ يارسول الله قال: ((حرمت الله وحرمتي وحرمت رحمي)).

وروينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من زار قبراً من قبورنا أهل البيت ثم مات من عامه الذي زار فيه، وكل الله بقبره سبعين ملكاً يسبحون له إلى يوم القيامة)).

وروينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أحب أن يحيى حياتي ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدني ربي فليتولى علي بن أبي طالب وذريته الطاهرين، أئمة الهدى، ومصابيح الدجى من بعده، فإنهم لن يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الظلالة)).

وفي حديث آخر: ((أعطاهم الله علمي وفهمي، وهم عترتي من لحمي ودمي إلى الله عزّ وجلّ أشكوا ظالمهم من أمتي، والله لتقتلنهم أمتي لا أنالهم الله عزّ وجلّ شفاعتي)).

وروينا عن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ((قد أعطيت الكوثر)) فقلت يارسول الله، وما الكوثر؟

قال: ((نهرفي الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب، لا يشرب منه أحد فيضمأ، ولا يتوضأ منه أحد فيشعث، لا يشربه أحد خفر ذمتي، ولامن قتل أهل بيتي)).

وروي عنه صلى الله عليه وآله أنه وصف آخر الزمان فقيل أي العمل أفضل يارسول الله؟ قال: ((فرس تربطه وسلاح[83] ومن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، يا أيها الناس إن الله قد غفر لأهل بيتي وطهرهم تطهيرا، ياأيها الناس لايفتننكم الشيطان، أحبوهم تفلحوا أو تفوزوا، ويصلح شأنكم بإذن الله تعالى، فمن أبغضهم أو سبهم أو ظلمهم فهو المفتون الذي لا خلاق له في الآخرة))

قال الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام: في جواب الشرفا من  بني سليمان، وقد روى عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن جده عن علي عليه السلام، قال قال: رسول الله صلى الله عليه وآله: ((مابال أقوام من أمتي إذا ذكر عندهم آل إبراهيم استبشرت قلوبهم وتهللت وجوههم، وإذا ذكر أهل بيتي اشمأزت قلوبهم وكلحت وجوههم، والذي بعثني بالحق نبياً لو أن الرجل منهم لقى الله بعمل سبعين نبياً ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل بيتي ماقبل الله عزّ وجلّ منه صرفاً ولا عدلاً)).

وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من قبل العرش يامعشر الخلائق إن الله عزّ وجلّ يقول انصتوا فطال ما نصت لكم، أما وعزتي وجلالي وارتفاعي على عرشي لا يجاوز أحد منكم إلا بجوزا مني وجواز مني محبة أهل البيت المستضعفين، فيكم المقهورين على حقهم، المظلومين والذين صبروا على الأذى، واستخفوا بحق رسولي فيهم فمن أتاني بحبهم اسكنته  جنتي، ومن أتاني ببغضهم أنزلته مع أهل النفاق)).

وعن القاسم بن ابراهيم عن أبيه عليهم السلام، قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين عليهما السلام، فقال يابن رسول الله قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد جائه رجل فقال إني أحبك وأهل بيتك، فقال صلى الله عليه: ((فاستعد للفقر جلباباً)) ما ذلك الفقر؟ فقال علي بن الحسين عليهما السلام: هو الفقر إلى الله عزّ وجلّ، فلو جعلت الدنيا بحذافيرها لمؤمن ما فرح بها، ولو صرفت بكلتيها ما حزن عليها، وإن أوليا الله لا يسكنون إلى شيء دونه.

وروينا من أمالي المرشد بالله عن عمرو بن مسعدة قال: دخلت على المأمون وبين يديه كتاب ينظر فيه وعيناه تجريان بالدموع.

قال عمرو: فقلت يا أمير المؤمنين مافي هذا الكتاب الذي أبكاك لا أبكى الله عينك؟

قال: يا عمرو هذا مقتل أمير المؤمنين علي، والحسين بن علي عليهما السلام. 

فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الخاصة والعامة قد كثرت في أمرهم فما يقول أمير المؤمنين في أهل الكساء؟

قال: فتنفس الصعدا، ثم قال: هيه ياعمرو هم والله آل الله، وعترت المرسل الأواه، يعني إبراهيم عليه السلام، وسفينة النجاة، وبدر ظلام الدجى، وبحر بغاه الندى، وغيث كل الورى، وأشبال ليث الدين، ومبيد المشركين، وقاصم المعتدين، وأمير المؤمنين، وأخوا رسول رب العالمين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، هم والله المعلموا التقى، والمسر الهدى، والمعلموا الجدوى، والناكبون عن الردى، ...................غلظ في كل موطن يقظ [84] ونميل مع أهل بيتي حيث مالوا.

وعنه صلوات الله عليه وعلىآله: ((لوأن عبداً عبد الله بين الركن والمقام ألف عام ثم ألف عام، لم يقل بحبنا أهل البيت لكبه الله على منخريه في النار)).

وروينا عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (( لايؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وتكون عترتي أحب إليه من عترته، ويكون أهلي أحب إليه من أهله، ويكون ذاتي أحب إليه من ذاته)).

وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (( من قاتلني في الأولى وقاتل أهل بيتي في الثانية فأولئك شيعة الدجال)).

وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (( يابني عبد المطلب إني سألت الله أن يثبت أقدامكم، ويهدي ظالكم، ويعلم جاهلكم، ويجعلكم رحما نجبا، فلوا أن رجلاً صف قدميه ثم قام وصلى، ثم لقى الله وهو مبغض لأهل هذا البيت دخل النار)).

وعنه صلى الله عليه وآله: ((في كل خلف من أهل بيتي عدول ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)).

وعن الحسن بن علي قال: تنفس أميرالمؤمنين فقلت: بأبي وأمي تنفس الصعداء، قال نعم لما أعلم ما تلقون ويلقى بعضكم من بعض يبلغه عدوكم منكم، ولولا ماسمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ما طابت نفسي.

قلت: ماسمعته؟

قال قال: سمعته يقول اللهم إنهم عترة رسولك فهب مسيئهم لمحسنهم، وهبهم لي.

قال: تفعله وهو فاعل.

قال: فعلت لكم ويفعله بمن بعدكم.

وعن سلمان قال: طارت القلوب مطائرها، فالحمد لله الذي علم أين طار قلبي، وأين طار قلبك؟

قال: ويحكم إلى آل محمد.

وعن بن مسعود قال: إن لأمة محمد صلى الله عليه وآله فرقة وجماعة، فجامعوها إن أجمعت، فإن افترقت فكونوا مع النمط الأوسط، ثم ارقبوا أهل بيت نبيكم فإن حاربوا فحاربوا، وإن سالموا فسالموا، فإن زالوا فزولوا، معهم حيث زالوا، فإنهم مع الحق لن يفارقهم ولن يفارقوه.

وقيل ليحي بن معاذ: ماذا تقول في أهل البيت؟

قال: ما أقول في طينة عجنت بماء النبوة، وغرست بإرض الرسالة، فهل ينفخ فيها إلا ريح الهدى وعنبر التقى.

وعن سلمان قال: أنزلوا آل محمد صلى الله عليه وآله بمنزلة الرأس من الجسد، وبمنزلة العينين من الرأس، فإن الجسد لايهتدي إلا بالرأس، وإن الرأس لايهتدي إلا بالعينين.

وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (( اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي، وفي زرعي وزرع زرعي)).

وعنه صلوات الله عليه وآله أنه قال: (( لا تعلموا أهل بيتي فهم أعلم منكم، ولاتشتموهم فتضلوا)).

وعن علي عليه السلام أنه قال: (( مثل أهل بيتي كالنجوم، كلما مر نجم طلع نجم)).

وعنه عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((من لم يعرف حق عترتي والأنصار والعرب فهو لإحدى ثلاث، إما منافق وإما لريبة، وإما امرء حملت به أمه في غير طهر)).

ومن كتاب الحياة قول النبي صلى الله عليه وآله في بعض خطبه: (( يا أيها الناس الله الله في أهل بيتي، الله الله في لحمي ودمي، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي فتحملوا الناس عليهم، أحبوهم لحبي، وأعرفوا لهم الفضل فمن أحبهم فقد أحبني، ومن أحبني أحبه الله، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله[85]، هامات هامات، وسادات سادات، وغيوث حارات، وليوث غابات، وألوا الأحساب الوافرة، والوجوه الناظرة، مافي عودهم خور، ولا في زندهم قصر، ولا في صفوهم كدر، ثم ذكر الحسن والحسين عليهم السلام، فهملت منه دمع العين، في حلبة الخدين كفيض الغربين، ونظم السمطين وهي من الفرطين، ثم قال: والله هما  كبدري دجى، وشمسي ضحى، وسيفي لقا، ورمحي لواء، وطودي حجى، وكهفي تقى، وبحري ندى، وهم رحيانتا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثمرتا فؤاده، والناصران لدين الله تعالى، أو ولد بين التحريم والتحليل، ودرجا بين التأويل والتزنيل، رضيعا لبان الدين، والإيمان والفقه والبرهان، وحكمة الرحمن، سيدا شباب أهل الجنة، والدتهما البتول الصادقة، بنت خير الشباب والكهول، وسماهم الجليل، ورباهم الرسول، وناغهما جبريل، فهل لهؤلاء من عديل، بررة أتقياء، وورثة الأنبياء، وخزنة الأوصياء، قتلهم الأدعياء، وخذلهم الأشقياء، ولم ترعوي من قتل الأئمة، ولم تحفظ الحرمة، ولم تذر النقمة، ويلاً لها ماذا أتت، وبسخط من تعرضت، وفي رضا من سعث، طلب الدنيا قليل عظمها، حقير جسيمها، ورد المعاد أغلقت إذا الجنة أزلفة، وإذا الجحيم سعرت، وإذا القبور بعثرت، ولحسامها جمعت، ويلاً لها ماذا حرمت، عن روح الحنان ونعيمها صدفت، وعن الولدان والحور غيبت، وإلى جحيم صيرت، ومن الضريع والزقوم أطعمت، ومن المهل والصديد والغسلين سقيت، ومع الشياطين والمنافقين قرت، وفي الأغلا ل والحديد صفدت، ويلاً لها ما أتت، ثم هملت عيناه، وكثر نحيبه، وشهيقه، فقلت يا أمير المؤمنين يشنيك ما إليه صار القوم، فقال نعم إنه لشقى، ولكني أبكي الأشجان وأحزان تحركها الأرحام، وقال شعراً:

لاتقبل التوبة من تائب

 

إلا بحب ابن أبي طالب

حب علي واجب لازب

 

في عنق الشاهد والغائب

نحورسول الله خلف الهدى

 

والأخ لا يعدل بالصاحب

لو جمعا في الفضل يوماً لقد

 

نال أخوه رغبة الراغب

بعد علي حب أولاده

 

ما أنا بالمزري ولا الغائب

إن مال عنه الناس في جانب

 

ملت إليه الدهر في جانب

جاءت به السنة مقبولة

 

فلعنة الله على الناصب

حبهم فرض علينا لهم

 

كمثل حج لازم واجب
ق

فصل: وقد ذهب بعض ما لا يعول عليه إلى أنه لا فضل إلا بالعمل، ومنهم من تجاهل فقال: لافضل برسول الله ولابنسبه صلى الله عليه وآله.

واعلم ارشدك الله أن القائل بذلك خارج عن الدين، مائل عن طريق المهتدين، مستهزئ برسل رب العالمين، فإن كون الفضل بغير العمل مما ظهر وانتشر وعرف بالعقل والشرع، بل عرف من الدين ضرورة[86] فإن كل عاقل يعلم فضل الذهب على النحاس، والفضة على الرصاص، والدنانير على الدراهم، والدراهم على الحجارة، ويعلم علو منزلة الخيل على الحمير، والعاقل على غير العاقل، فهذه الصورة الإنشائية على الصورة التميمية، وهذه قضية ضرورية في كل فضل، وعلو قدر بغير عمل، ثم إن هذا القائل بهذا القول زاد على الرحمن مكذب للقرآن، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} فبين أنه تعالى المفضل، والحاكم بالفضل لمن شاء، كما قال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} ألا ترى إلى بيانه تعالى للأنبياء وإعداده، وقوله عقب ذلك: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفي كل ذلك  يضيف الاختيار والتفضيل إليه تعالى، والاجتباء هو الاصطفاء والاختيار، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} فكذب تعالى من قال أنه لا فضل لأحدٍ على أحد بالنسب، وأن ذلك لا يتم إلا بالعمل.

وقال في موسى عليه السلام: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} فما بال هذا المنكر للفضل لغير العمل لا يعمل حتى يبلغ إلى منزلة موسى كليم الله، وعيسى روح الله، ومحمد حبيب الله، ولما عجبت قريش من تفضيل الله تعالى محمداً صلى الله عليه وآله عليهم قال الله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} فبين أنه لا عجب في هذا، فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهذا كلام العزيز الحكيم، ولقد قال تعالى في بني آدم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أفلا ينظر هذا الجاحد إلى تفضيل الله تعالى لكل بني آدم على غيرهم ممن خلق، وفيهم البر والفاجر، والمسلم والكافر، وفضلهم الذي آتاهم تعالى، وفضلهم على غيرهم كامل واف، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أفلا يتفكر هذا الطاعن في الفضل بغير العمل في بني إسرائيل، وما ابتدأهم الله تعالى به من الفضل المبين، وما جعل فيهم من الحكمة والنبوة، وهما من أعظم الفضائل في الفاضلين، وما فضلهم به على العالمين وفي العالمين، ونوه بذكره في الكتاب المبين، وقال تعالى في تفضيل أهل السماء على أهل الأرض: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً} وهذا تفضيل لغير عمل لأهل السماء، وقال تعالى في يحيى عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} وكثير من البالغين لم يؤته الحكم صبياً ولا كبيراً، ومثله في عيسى عليه السلام أعطاه النبوة صغيراً، ورفعه بها رفعاً كبيرا‌ً قبل وقت العمل، فقال عز وجل حيث قال: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا،  وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} وقال تعالى في تزايد الفضل في أنبيائه عليهم السلام: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} فهذا تزايد في الفضل للفاضلين في حكم رب العالمين [87]وقال تعالى لموسى حين اختصه بالكلام والنجوى من بين سائر الملأ: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} فبين أنه اختاره واصطفاه، ورفع قدره على سائر العالمين وأعلاه، بل جرى هذا القبيل بين الذكور والإناث، فقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وفي النساء من أفضل من بعض الرجال وأزكى، وللرجل الولاية عليها، وفضل الذكورة عند العلي الأعلى، وأوحى الله تعالى إلى أم موسى دون غيرها من النساء، وهذا نوع تفضيل كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ولم يوح بذلك إلى غيرها من العالمين، وأرسل الله تعالى ملائكة إلى مريم عليها السلام دون غيرها من النساء، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} فكالمها وبشرها، وخاطبته وخاطبها، ورأته كما رآها، وما كان ذلك لأحدٍ غيرها، بل هذا الفضل متعدٍ من الله تعالى إلى الجماد من الأجسام، بل إلى غيرها من الأغراض، فإن الله تعالى فضل مكة على غيرها من البلدان، والمسجد الحرام على غيره من المساجد، والكعبة على غيرها من البيوت، وعرفات على غيرها من الفيافي والقفار، وفضل الليالي والأيام والشهور بعضها على بعض، حتى أنه فضل الأشهر الحرم على غيرها، وفضل شهر رمضان عليها، وعلى غيرها من الشهور، وفضل يوم الجمعة على سائر أيام الأسبوع، وفضل يوم العيد على سائر أيام السنة، وهذا أمر لا يجحده من الأنام إلا الطغام، فأما الفضل بالأنساب فلا ينكره إلا أهل الشك والارتياب، فكل عاقل يعلم أن أولاد الأنبياء  لا ينزلون في العقول منزلة أولاد الأغنياء، وان أولاد السلاطين والملوك لا ينزلون في الشرف منزلة أولاد من يقول ناولني الميزان والمكوك وغير ذلك كالمكيال، وأن ولد الشريف شريف بنسبه، وولد الوضيع وضيع بنسبه، حتى أنهما لو استويا في العمل الصح والمتجر الربح، والعلم والزهد، فإن أحدهما يفضل على الآخر في العقل بنسبه الشريف، ولو لم يكن الفضل إلا بالعمل لما كان الله تعالى هو الأعز والأجل الأعلى الأكبر؛ لأنه لا فعل هناك ولا عمل، وقد قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فبين تعالى أن إليه الخفض والرفع، والإعطاء والمنع، والخلع والنزع، ولما أنكر المشركون الاصطفاء من الله تعالى للأنبياء عليهم السلام والاختيار، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} فبين أن هذا راجع إلى اختياره تعالى، ولما أنكرت بنو إسرائيل إمارة طالوت عليهم {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} ذلك أنه لم يكن من بيت الملك، ولا بيت النبوة فيهم، وكان العادة أن الله تعالى ابتعث الأنبياء من بيت، والملك الذي يؤيدهم من بيت آخر، ولم يكن طالوت من أي البيتين فأنكروا[88] ذلك، فبين تعالى أن الاصطفاء والاختيار والرفع لمن شاء إليه تعالى، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وبين أيضاً أن الزيادة في الجسم بالطول والجمال، والكمال أعظم فضلاً، وهذا نوع تفضيل بغير العمل خلافاً لهؤلاء الجهال، وقد فضل الله تعالى الأعراب بعضها على بعض حتى أنه جعل كلامه أفضل من كلام غيره، بل فضل كلامه على بعضه، حتى جعل بعض السور بحكمه أفضل من بعض، وبعض الآيات أفضل من بعض، ولما اجتمعت الصحابة ينظرون أي القرآن أفضل كل ذلك بحضرة عمر بن الخطاب قال بعضهم: خاتمة سورة براءة هي الأفضل، وقال بعضهم: خاتمة بني إسرائيل، وقال بعضهم: خاتمة كهيعص، وقال بعضهم: خاتمة طه، فقدم القوم وأخروا، فلما جاء أمير المؤمنين علي عليه السلام عرفوا أنه جاءهم الفضل، فكانوا يرجعون إليه في المهمات، فلما سمع بعض كلامهم قال عليه السلام: أين أنتم يا أمة محمد عن آية الكرسي؟ فقالوا: يا أبا الحسن أخبرنا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله؟

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((يا علي سيد البشر آدم عليه السلام، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي، يا علي إن فيها لخمسين كلمة، في كل كلمة خمسون بركة)) فهذه سيادة ورفعة أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض العقلاء على بعض، ولبعض الأغراض على بعض، فأين الجهال من ذلك، فأما منصب الرسول صلى الله عليه وآله فلا يخفى شرفه، ولا يغني عرفه، فقد شهدت به العقول، وجاءت به الكتب المنزلة من الله عز وجل، وحكمت به الآثار النبوية، ولا ينكره إلا كافر، ولا يجحده إلا منافق، ولما كانت قريش تعترف بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله في النسب، ويقدمونه على غيره من العرب، تعللوا بأنه فقير لا مال له، وأن الله تعالى لو أراد أن يبعث نبياً لكان أحد رجلين، إما الوليد بن المغيرة في مكة لسعة ماله، وإما حبيب بن عمرو بالطائف لسعة ماله، وكثرة غناه، وقيل: أبو مسعود الثقفي بالطائف، فقال تعالى مجيباً لهم عن ذلك، وحاكياً لمقالتهم: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي عظيم المال {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فبين تعالى أن الرفع الشريف لمن يشاء تبارك وتعالى، فأما أولاد النبي وسلالة الوصي، فلا إشكال في شرفهم، بنسبهم وعلو قدرهم، برفيع منصبهم، إذ قد بينا أن العلو والشرف يكون بشرف الأصل وتعالي النجل، والنجل في اللغة الولد، والفسل نجل بمعنى ولد، يقولون: قبح الله ناجليه، أي أبويه، وقال الأعشى:

إذا نجلاه فنعم ما نجلا

ولا نسب أشرف من نسب رسول الله صلى الله عليه وآله ولا أعلا ولا أكرم، بل هم طراز ثوب الشرف، وذروة حصون العز المنيع، وبحار الجود القاذفة بالدر، وسحاب العلم الهاطلة بالدرر، وما للطغام والجهلة الأغثام من كلام في ولده الرسول صلى الله عليه [89] وحيدر والبتول، ولقد أحسن فيهم القائل حين يقول:

إليكم كل مكرمة تؤل

 

إذا ما قيل جدكم الرسول

أليس أبوكم الهادي علي

 

وأمكم المطهرة البتول

 وقد ثبت أن أفضل الثمرة على حسب فضل الشجرة، فالحنظلة لا تخرج إلا من شجر الحنظل، والتفاحة من التفاح، والرمانة من الرمان، ويقال: الثمر يدل على الأصل، ويشرف الثمر بشرف الأصل، ولا يسوى أولاد من ظهرت عليه المعجزات، وأولاد من ظهرت على يديه الفاحشات، وأولاد من سن الهدايات وجاء بالآيات، وأولاد من ابتدع الضلالات، وتلطخ بالقذارات، وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب:33] فأين من طهر من الرجس ممن لم يطهر منه، وبنو أمية لعنهم الله هم الذين أساؤا للناس، نفي الفضل عن أولي الفضل من آل الرسول عليهم السلام، فإن معاوية كتب إلى علي عليه السلام كتاباً يذكر فيه فضائل أقوام سبقوا في الفضل على أمير المؤنين عليه السلام بزعمه، فأجابه علي عليه السلام بما فيه شفاء للكلام، بل هو شفاء من الموت الزؤام، لو كان له شفاء في الأنام، وقد قدمنا ذكر الكتاب والجواب أولاً، فخذه من موضعه، فالغرض الاختصار، فذلك وأمثاله من كلامه عليه السلام المتقدم فيه نهاية الفضل بالنسب، والقرابة من الرسول عليه الصلاة والسلام، وقوله عليه السلام عندنا هو القول الفصل، إذ هو المقطوع على عصمته، والمعلوم صدق حكايته، وقد أفادنا فيما تقدم من كلامه دلالة الفضل الذي جعله الله عز وجل لأهل البيت المطهرين صلوات الله عليهم أجمعين، ومن جملة ما احتج به قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} بعد ذكره لأنواع من الفضل، فإن هذا عام في كل شيء، فإذا كان لمحمد صلى الله عليه فضل النبوة، ولعلي عليه السلام فضل الوصية والولاية، ولفاطمة فضل الولادة، وللحسن والحسين فضل البنوة، بل الفضل الذي دلت عليه آية التطهير من الأرجاس، وأولادهم في كل زمان أولى بفضلهم من جميع الناس، فإذا كان فضل من تقدم يعلو على من تقدم ، كيف إن بان أن فضل من هو أولى بفضلهم من أولادهم لا يبلغ إليه إنسان، وأيضاً فإنهم عليهم السلام بحكم الله تعالى منصب الإمامة، ومعدن الزعامة، ولا يخفى فضل الإمامة على ما فضل به سائر العامة، وعلى هذا قال تعالى لإبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ذريته إذ هو نبي لا يجوز ألا يجيب دعوته، ولا خلاف أن من عدا أولاد الحسن والحسين وولد إبراهيم لا يختص في باب الإمامة في غير ما يختص به سائر الناس، فلم تبق إجابة الدعوة إلا في أولاد الحسن والحسين عليهم السلام، وأيضاً فلهم من الله تعالى شرف العصمة في إجماعهم من بين سائر الأمة، ولا يعتد بإجماعهم من دونهم، فالإجماع يثبت بثبوتهم، وينتفي بانتفا[90] إجماعهم، وهذه مرتبة أخرى، ومنزلة عظمى، وأيضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ليس أحد من الخلائق يفضل أهل بيتي غيري)) وهذا صريح بفضلهم، وعلو قدرهم ونبلهم، وأيضاً فمن فضلهم أن المتمسك بهم سالم، وبغيرهم نادم، كما تقدم في خبر التمسك، وأيضاًً فهم سفينة النجاة، وباب حطة، كما تقدم في خبر السفينة، وخبر باب حطة، وأيضاً فهم الطائفة الناجية كما تقدم في الخبر، وأيضاً فهم الذي أمرنا باتباعهم وسؤالهم والاستفتاء منهم، فلولا أنهم الأفضل والأعلم ما ألزم الله ذلك ولا حكم به، فإنها لا تخفى مرتبة المفتي على المستفتي، وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقد بين لنا أهل الذكر بقوله: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولاً} فكأنه يقول: اسألوا آل الرسول عليه السلام، وأيضاً فقد أمرنا بطاعتهم والدخول تحت أمرهم، وهذا دليل الرئاسة، وأنهم أهل السيادة والرئاسة، ودليله قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} فأفهمنا أن أولي الأمر هم الذين إليهم الاستنباط، والفهم والمعرفة والعلم، وإليهم الرد والاستفتاء، وبين أن هؤلاء الذين إليهم الفتوى والرجوع والاستفتاء فهم أهل الذكر دون غيرهم من الناس، وهم آل الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله النجبا، وكل ذلك نطق به الكتاب، ولم يقع فيه الارتياب، وأيضاً فقال علي عليه السلام: انظروا أهل بيت نبيكم، فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا، فهذا كلام المعصوم المعلوم العصمة، وفيه بيان أن أهل البيت عليهم السلام هم سادة الأنام، والرؤساء الحكام، ومن له الرئاسة والفضل، والعلو والأمر على جميع الخلق، وزيادة وجوب طاعتهم، والاتباع لهم في الإقدام والإحجام، ويدل على فضلهم أيضاً أخبار الوصية، وأخبر المودة، وأخبار العصمة، وأخبار كون الحق معهم، وأخبار العصمة لهم من النار، ولأتبعاهم وأخبار الشجرة، وأخبار الثقلين، وأخبار التزايد في العلم والحلم، وأخبار وجوب اصطناع المعروف إليهم، والآيات النازلة فيهم، وجعل الحكم معهم وعلى أيديهم، وبيان أنهم الهادون والسادة المطهرون، وأخبار شرف أصلهم، واختيار الله لهم من أشرف المناصب، وقد تقدم ذلك كله في صدر الكتاب بحمد الله، وإنما أردنا التنبيه عليه، ومثل حديث ليلة الإسراء، وقول العلي الأعلى: من خلفت على أمتك يا محمد؟ وقد تقدم، وافتخار علي عليه السلام بنسبه وقربه من الرسول ظاهر، نحو ما قدمناه من الآيات التي يقول فيها محمد النبي أخي وصهري، الآيات كلها، والعجب من الجبرية العمين، وسائر النواصب المفترين أنهم يرعون لمعاوية حق الصهورية لرسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يرعون لأولاد النبي صلى الله عليه وآله حق القرابة، فإن هذا هو الحيف العظيم، والجهل الصميم، وأيضاً فيدل على فضلهم[91] أنهم خلقوا من نطفة أفضل الأنبياء، وخير الأوصياء، ومن الطاهرة المرضية فاطمة الزهراء، وحرم نكاح أمهم على غير أبيهم قبله وبعده بخلاف العالمين، وكان المزوج لها من أمير المؤمنين رب العالمين، والشهود هم الملائكة المقربون، والنثار من شجرة طوبا باللؤلؤ الرطب مع الدر الأخضر، مع الياقوت الأحمر، مع الدر الأبيض، والحور العين يلتقطن من ذلك، ومن الحلي والحلل، ويقلنَّ: هذا من نثار فاطمة بنت محمد عليه السلام، وقد قدمنا أحاديث نكاحها عليها السلام مفصلة، وفي تلك الأحاديث لفاطمة وعلي وأولادهما عليهما السلام ما يقضي لهم جميعاً بنهاية الفضل والزلف، وسامي العلو والشرف، وأنهم خيموا من العز في ساميات الغرف، إذ شرفهم عليهم السلام يتردد من الملك إلى الملك إلى الرسل، إلى الوصي إلى خير النساء، ولله القائل:

لم يبلغوا مدح النبي وآله

 

قوم إذا ما بالمدائح فاهوا

رجل يقول إذا تحدث قال لي

 

جبريل أرسلني إليك الله

وهل يعلم أحد من أولاد آدم كان الخاطب له أولا...............الله، والشهود الملائكة الكرام، والموضع الذي عقدوا فيه النكاح العرش، فوق السماوات السبع، والنثار في النكاح من شجرة طوبى من أشرف شيء في الأرض، والسماء من الدر الأزهر، والياقوت الأحمر، والعاقد في الأرض خير الملأ محمد المصطفى، وهو الأب والجد، وسيد البشر، وهو الشفيع في المحشر، وهو الذي يسوق بغلة الأم في الزفاف، وجبريل الحاضر الزفاف وميكائيل ومن معهما من الملائكة المقربين، وسائر المؤمنين على ما تقدم بيانه، هذا ما لا يكون لأحدٍ من العالمين، وإنما هذا الشرف لأهل البيت الطاهرين عليهم صلوات رب العالمين.

وروينا بالإسناد لأمير المؤمنين عليه السلام قال: كنت أبائع لرسول الله صلى الله عليه وآله على السمع والطاعة، في العسر واليسر، وأن نقم ألسنتنا بالعدل، وفي أن لا تأخذنا في الله لومة لائم، فلما ظهر الإسلام، وكثر أهله قال: ((يا علي ألحق فيها: وعلى أن تمنعوا رسول الله وذريته من بعده مما منعتم أنفسكم وذراريكم)).

قال علي عليه السلام: فوضعتها والله على رقاب القوم، وفا من وفا وهلك بها من هلك، وقد تقدم الحديث، وهو يدل على مرتبة عظيمة، حيث أوجب أن يكون أهل بيته عند المكلفين كأنفسهم، وأخذ البيعة على ذلك يدل على تأكيد الأمر فيهم، والأخبار الواردة في فضل أهل البيت عليهم السلام لا تتسع لها إلا المجلدات المعروفة في هذا الشأن، وقد قدمنا ما فيه شفاء لطالب الحق، ومرتاد السلام، وقد عاد الظلال بالنواصب والحشوية إلا إنكار نسب رسول الله صلى الله عليه وآله، ونفي أولاد فاطمة عن الانتساب إليه، وردوا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله ما ظهر وانتشر، من ذلك مثل آية المباهلة في الأبناء، وتفسيرها بالحسن والحسين عليهما السلام[92] وغير ذلك من الأخبار الواردة بلفظ الأبناء والأولاد، وقد تقدمت، وليست البنوة في الشرع لمن حصل الولد من نطفته، بل من قضاء الله تعالى ببينونته، وإذا كان الله تعالى الحاكم بذلك في أولاد الرسول فلا معنى لما يقوله ويظنه الجهول، هذا والله تعالى بإجماع قد جعل عيسى عليه السلام وهو ابن البنت البتول من ذرية نوح الرسول صلى الله عليه وآله، فأين يتاه بالنواصب عن هذه الدلائل، وكيف لم يستنيروا بنور هذه الفضائل، وقد صرح الرسول عليه السلام بأن الحسن والحسين ابناه، وأن كل بني أنثى ينتسبون إلى أبيهم إلا أولاد علي من فاطمة عليهما السلام جميعاً، وقد شرف الرسول صلى الله عليه أولاده بالنسب الشريف، والنسب المخصوص بالتعظيم والتشريف، في أخبار متواترة، نحو الحديث الطويل الذي قدمناه في الحسن والحسين عليهما السلام، ومغيبهما في الحظيرة، وما كان من المقام المشهور والتعظيم لأهل البيت يومئذٍ من الرسول، يشهد الناس وغير ذلك، والآفاق المتقدمة، وهو خبر كاف فيما قصدناه من الدلالة على بيان شرف الآباء والأجداد والأقارب، شرف ظاهر، وعلو كامل، ويدل على شرف أولاد هما في كل زمان، بمثل ما شرفهما الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله، ويدل على ظلال النواصب، وم ينتسب إلى العدلية ممن يحيف في تعظيم العترة، ولا يعترف لهم بالفضل، وأيضاً فخصال الكمال فيهم متكاملة، فإن زهدهم أكثر، وعلمهم أغزر، وحلمهم أثقل، وورعهم أجل، وهم في خصال الكمال أشرف وأكمل، وقد دعا لهم الرسول صلى الله عليه وآله حيث يقول: ((اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي، وفي زرعي وزرع زرعي)) والنبي صلى الله عليه وآله مستجاب الدعوة، لا يجوز أن لا يجاب أبداً، وذلك عن إسناد مسموع إليه عليه السلام، وقد روينا أن زيد بن علي عليه السلام أقام في حبس هشام بن عبد الملك لعنه الله خمسة أشهر، يفسر لهم سورة الفاتحة والبقرة.

قال الراوي:..........ذلك هذا، وهذا لا يوجد في علماء غيرهم عليهم السلام، فإن المفسرين قد شرحوا وأكثروا من غيرهم، فما بلغوا إلى سورة الفاتحة والبقرة لا تتم إلا في خمسة أشهر، مع..........، وكذلك أنهم أعلم وأفهم.

فاسمع إلى قول البتول فاطمة

 

حيث أتت إلى عقيق خاصمة

زارية في فدك محاكمة

 

حاطبة للقوم وهي كاظمة

فما ترى في غضب البتول

 

وغضب السبطين والخليل

أليس منه غضب الرسول

 

وغضب المهيمن الجليل

وقد ذكرنا من فضل أهل البيت عليهم السلام ما ذكرنا مما تقدم ومما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، فإنا قد وعدنا في خطبة الكتاب بذكر ما نظفر به من أقوالهم في المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام، وما يتعلق بذلك مضافاً إلى ما نذكره في أمره عليه السلام[93] وأمر القوم من الآيات المقدسة العظيمة، والآثار النبوية الكريمة، وإجماع أهل البيت عليهم السلام، وقد ذكرنا في أثناء الكتاب أولاً وآخراً من أقوال أمير المؤمنين علي عليه السلام ما فيه مقتنع لمرتاد الحق، وكفاية لطالب الصواب، وقد قدمنا أيضاً من كلام فاطمة الزهراء سيدة النساء عليها السلام ما رواه الإمام المنصور بالله عليه السلام، وهو ما خاطبة به نساء المهاجرين والأنصار، لما اجتمعنا إليها عند شدة مرضها، وقوة علتها، ونحن الآن موردون كلامها عليها السلام في أمر فدك، وخطبتها هنالك، غير ملتفتين إلى ما يهذي به المخالفون من أن هذه الخطبة ولدها أبو العيناء الضرير، فلقد أبعد المخالف في الدعوى، وأساء في الظن، وجحد ما لا يجحد، وإنما كان يمكنه التلبس بمثل هذا الهذيان، على ما لا يسبر له لو كان لا يوجد لها صلوات الله عليها، ولا لأمير المؤمنين، ولا لولديه السبطين الطاهرين، الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين، ولا للأئمة السابقين المطهرين بعدهم عليهم السلام في ذلك مقال، ولا يعلم فيه مجال، فأما ما فتحوه من أبوابه، وكشفوا من حجابه، على استبيان طلوع شموسه وأقماره، وظهر فصوح ليله بنهاره، ولم تتمكن من ذلك، ولن تجد إليه سبيلاً، إنما هو أمر تطابق عليه الكتاب والسنة المعلومة، وإجماع العترة عليهم السلام، كل ذلك قضا بالإمامة من غير فضل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام، وسيد الوصيين كما قدمنا ذلك مفصلاً، فجحدان الخطبة، ونسبتها إلى الضرير، لأجل الحذر من انكشاف ما قد كشفته هذه الحجج المعلومة، ونبه عليه كلام أمير المؤمنين، وكلام أبنائه الطيبين في فدك وفي غيرها من أمور القوم لا يلتفت إليه، بل ذلك كله محق؛ لكون هذه الخطبة والموقف الذي يأتي ذكره الآن بمشيئة الله عن فاطمة عليها السلام، ووصيتها عليها السلام مشهورة مذكورة عند أهل البيت عليهم السلام، كما روى ذلك الإمام المنصور بالله عليه السلام، ولا خلاف فعلمه بين أهل البيت عليهم السلام في أن فاطمة عليها السلام ماتت غضبانة على القوم، مباينة لهم، قالية لهم، لا تناكر في ذلك بين آل محمد صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول في كتاب نهج البلاغة: فنقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وخالفوا إلى غير فعله في أخذهم فدكاً من يد ابنته، وتأولوا ما لم يعلموا معرفة حكمه.

ومن كتاب الكامل المنير روى أبو بكر محمد بن الوليد قال: لما اشتكت فاطمة عليها السلام شكواها التي توفيت فيها جاءها أبو بكر يعودها، فاستأذن عليها فكرهت أن تأذن له، فأخبر أن علي عندها فأرسل إليه يسأله أن يأمرها تأذن له فأذنت، فكلمها فأبت أن تكلمه فسأل علياً عليه السلام أن يأمرها أن تكلمه فكلمته.

وفي رواية أخرى في هذا الكتاب قال لها: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، وغضب ابنت رسوله، غضبانة فأرضى أم عاتبة فأعتب، فقالت:ما[94] أزيد على السلام شيئاً، فلما توفيت صلوات الله عليها ورحمته وبركاته، حملها علي عليه السلام في أهل بيتها، ومعه المقداد بن عمرو، وحليف بن زهرة، فصلوا عليها ليلاً صلوات الله عليها.

فأما خطبتها التي ذكرت فيها أمر فدك، فهي خطبة الزهراء الكبرى، وهي هذه: حدثنا أبو زرعة أحمد بن محمد بن موسى الفارسي رحمه الله تعالى قال حدثنا القاسم بن محمد بن مصعب الكوفي، قال حدثني أبي، قال حدثني يحيى بن الحسين بن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده عن عمته زينب بنت علي عليه السلام قالت: لما بلغ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله إجماع أبو بكر منعها فدك، لاتت خمارها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها ما تخرم مشية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، فنيطت دونها ملأه، ثم أتت أنه أجش لها القوم بالبكاء، فأملهتهم حتى هدأت ثورتهم، ثم قالت صلوات الله عليها: أبتدي بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد، الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر بما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ إلا أسداها، وإحسان من والاها، جل عن الاحصاء عددها، ونأ عن المجازاة أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، استنثى الشكر بفضائلها، واستحمد إلى الخلق باجزالها، ومن بالندب إلى أمثالها، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأبان في الذكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام الإحاطة به، الذي ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبله، وأنشأها بلا احتذاء امتثله، وفطرها لغير فائدة، زاد به الإظهار لقدرته ودلالته على ربوبيته، وإعزاز لأهل دعوته، ثم جعل الثواب على طاعته جياشة لعباده إلى جنته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة لعباده عن نقمته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن انتباه، واصطفاه قبل أن يبتعثه إلى الخلائق بالغيب مكنونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله بعواقب الأمور، وإحاطة منه بحوادث الدهور، ومعرفة منه بعواقب المقدور، ابتعثه الله ابتعاثاً لعلمه، وعزيمة على امضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكوفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله بعد عرفانها، فأنار الله بأبي ظلمها، وفرج عن القلوب بهمها، وجلا عن الأبصار غمها، ثم قبضه الله عز وجل قبض رأفة واختيار، ورغبة عن تعب هذه الدار، موضوعاً عنه عبء الأوزار، محفوفاً بالملائكة الأبرار، ورضوان رب غفار، بجوار ملكٍ جبار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأخيار، ثم أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، لله فيكم عهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب الله بينة بصائره، وآي منكشفة سرائره، وبرهان متجلية ظواهره، قائد إلى الرضوان اتباعه، مؤد إلى النجاة أشياعه، فيه تبيان لحجج الله المنورة[95] ومواعظه المكررة، ومحارمه المحددة، وجعل صلة أرحامنا زيادة لعدتكم، وطاعتنا نظاماً لملحمتكم، والائتمام بنا الأمان من فرقتكم، فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، وأطيعوه فيما أمركم به، فإنما يخشى الله من عباده العلماء.

أما بعد: فأنا فاطمة وأبي محمد رسول ربكم، وخاتم أنبياؤكم، أقولها عوداً على بدء، وما أقول سرفاً ولا شططا وما أنا من الكاذبين، بسم الله الرحمن الرحيم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فإن تعزوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخي ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه، بلغ الرسالة صادعاً بالنذارة، ما بلى عن مذرجه المشركين، حائداً عن سنتهم، ضارباً لثيجهم، آخذاً...............بحد الهام، وينكب الأصنام، حتى انهزم الجمع وولا الدبر، وأسفر الحق عن محضه، وتبدا الليل عن صبحه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقائق الشياطين، وفهم بكلمة الإخلاص، وكنتم على شفاء حفرة من النار، نهزه الطامع، ومذفت الشارب، وقبسة العجلان، وموطأ الأقدام، تقتاتون القد، وتشربون الطرق، وأنتم أذلة خاشعون، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله بأبي بعد اللتيا والتي، وعند....... بهم الرجال، وذوبان العرب، كلما حشوا نارا للحرب، ونجم قرن للضلالة، وقعرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه، ومحمد لهبها تجده مكدود في ذات الله تعالى، وأنتم في رفاهية آمنون وادعون، توكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، فلما اختار الله عز وجل لرسوله دار أنبيائه، وما عنده لرسله، ظهرت حسكة النفاق، وسمل جلباب الإسلام، واخلولق ثوبه، وقحل عظمه، وأرتث رميمه، وظهر قانع، ونطق كاظم،.............حامل، وهد رفيق الباطل يهذر في عراصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مصرعه هازئاً بكم، فألفاكم لدعائه مستجيبين، ولغروره ملاحظين، فاستنهضكم فوجدكم خفافاً، وأكمتكم فألفاكم عصابا، فوشمتم غير إبلكم، وودتم شراباً ليس لكم بدار، وزعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، هذا والعبد قريب، والكلم رحيب، والجرح لم يندمل، والرسول لا يقبر، فهيهات منكم وكيف بكم وأنى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم، زواجره ظاهرة، وأوامره لائحة واضحة، أرغبة عنه فبئس للظالمين بدلا، ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ثم لم تلبثوا إلا ريثما أن شكت نفرتها وسلس قيادها، حتى زعمتم أن لا إرث لنا أهل البيت، أفحكم الجاهلية تبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، ويهاً معشر المسلمين، أنثرا رثية  أيا الله حق أن ترث أباك، ولا أرث ...... لقد جئت شيئاً فريا، فدونكها مخطومة من حوله تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والموعد القيامة، والزعيم محمد[96] وعن قليل تنكفون، وعند الساعة يحشر المبطلون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، ثم التفت صلوات الله عليها إلى الأنصار فقالت: معشر النقباء، وأعضاد الملمة، وحصنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي، والسيئة في ظلامتي، أما كان رسول الله صلى الله عليه يقول: ((المرء يحفظ في ولده)) ما أسرع ما أحدثتم، وعجلان ما نكثتم، ....... أتقولون مات محمد، فخطب والله عليك استوسع وهيه، واشتهر فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض، واكتأبت خيرة الله، وأكلت الأموال، فأضيع الحريم وأديلت الحرمة، فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله في أفنيتكم ممساكم ومصبحكم هتافاً هتافا، ولقبله ما حلت بأنبياء الله ورسله، وما محمد إلا رسول قد خلت من قله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين، إنني قيلة أهضم تراث أبي وأنتم هرا، ومسمع شملكم الدعوة، وفيكم العدة والعتاد، ولكم الدار................، وأنتم خيرة الله الذي انتجب لنا، نابذتم العرب، وناهزتم العجم، وكافحتم  إليهم لا نبرح وتبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتى استقامت لكم الدار، واستدارت لكم بنا محالة الإسلام، واستوطن نظام الدين، ودوخلت البلاد، وسكتت نقرة الشيطان، وهدأت وغرة الهرج، فأنى حزتم بعد البيان، ونكصتم بعد الإقدام، عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دينكم تخشونهم، فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا بل أرى والله قد أخلدتم إلى الخفض، وخليتم الدعوة فمججتم بالذي وعيتم، وسمتعم الذي تسوغتم، وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد، ألا وقد قلت الذي قلت، على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم، ولكنها فيضة النفس، ونفثة  الغيظ، وبثة الصدر، ومعذرة الحجة، فدونكموها فاحتقبوا مدبرة الظهر، ناقبة الخف، نافية العار، موسومة بشنار، الأيد موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، فيغير الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأنا بنت نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، ثم عطفت على قبر أبيها صلى الله عليه وعلى آله فخنقتها العبرة، فتمثلت بقول عمتها صفية بنت عبد المطلب:

قد كان بعدك أبناء وهنبثة
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
وقد رزينا الذي لم يرزه أحد
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا
وكنت نوراً وبدراً يستضاء به
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت
تهضمتنا رجال واستخف بنا

 

لو كنت شاهدتها لم تكثر الخطبُ
واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا
من البرية لا عجم ولا عربُ
فغبت عنا فكل الخير محتجبُ
عليك تنزل من ذي العزة الكتبُ
ما العيون بتهتان هما سربُ
مذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصبُ

وفي غير هذه الرواية أنها وقفت على قبر أبيها فجللته بردائها، ثم تناولت حفنة من تربه فشممته وهي تقول هذه الأبيات المتقدمة[97]:

ماذا على مشتم تربة أحمدٍ

 

أن لا يشم مدا الزمان عواليا

صبت عليًّ مصائب لو أنها

 

صُبت على الأيام عدن لياليا

 قلت: فلم تر بعد اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر باكياً ولا باكية من ذلك اليوم، وارتجت المدينة، وصاح الناس، وارتفعت الأصوات من دور بني عبد المطلب، وبعض دور المهاجرين والأنصار، وجاء العباس بن عبد المطلب فأخذ بيدها، وردها إلى منزلها، وقال لعلي: ابسط يدك أبايعك، وجاء أبو سفيان بن حرب فقال: يابن أخي ابسط يدك أبايعك، فإن أبو ملأتها خيلاً ورجلاً، فأثنا عليهما أمير المؤمنين خيراً وقال لهما: يرحمكما الله، وأين تبلغان مما أريد، ومرضت فاطمة عليها السلام، فأوصت بأن تدفن ليلاً، ولا يعلم بموتها من ظلمها إرثها، وتوفيت صلوات الله عليها فدفنها أمير المؤمنين صلى الله عليه وعليها مع نفر من أهل بيته ليلاً، وغيب قبرها صلوات الله عليها ورحمته وبركاته، وسنذكر ما رواه عبد الله بن الحسن في الصحيفة التي كتبها أبو بكر لفاطمة عليها السلام، وتمزيق عمر لها إن شاء الله تعالى.

تفسيرها: قال أبو غسان رحمه الله: لاتت خمارها أدارت، يقال: لت العمامة إذا أدرتها على رسك، لمة جماعة من الناس على زنة فيه وكره، يقال ولم القوم إذا اجتمعوا، ومنه اشتقاق الوليمة، ما تخرم مشية رسول الله صلى الله عليه وآله أي ما تنقص منها شيئاً، فأصل الخرم قطع طرف من الشيء، والمعنى أنها حكت مشية رسول الله صلى الله عليه وآله على وجهها، وتمامها في حشد من المهاجرين، في جفل وجمع، نيطت علقت، تقول: قد نيط بسمعي كلامك أجهش الإنسان للبكاء، إذا تهيأ له، وجاشت نفسه لذلك، فورتهم هيجانهم جياشة من حشت الشيء إذا جرته إلى حيث يتمكن منه، فكل شيء أحطت به فقد.............زيادة منها أنتباه وتبناه، ويجوز ترك الهمزة فيه على لغة قريش.

وقد روي أن بعض العرب قال: يانبي الله فهمز، فقال صلى الله عليه وآله: ((لست بنيء الله، ولكني نبي الله)) ولم يهمز، والغم جمع غمة، يقال للمحنة المطبقة المظلمة غمة، ويقال: صار أمره عليه غمة، إذا لم يهتد لوجه الحيلة فيه، والبهمة والبهم قرينة الغمة، وهي ظلمة شديدة تطبق على القلب، ويقال للأمر الشديد إذا لم يهتد لوجه الخلاص منه بهمة، العبء الثقل، والأعباء الأثقال، تظاما لملحمتكم لاجتماعكم، والملحمة في غير هذا اجتماع القوم للحرب، تعزوه تنسبوه، حائداً عن سنتهم ما بلا عن طريقهم ضارباً لثجهم، ثج الشيء معظمه، وربما قيل للظهر ثج، آخذاً بأكظامهم أي بمخرج أنفاسهم، يقال: أخذ بكظمه إذا خنقه وضيق عليه نفسه، بحد الهام، يقطع ويبكت الأصنام يقال: بكت الشيء إذا ألقيته على رأسه، أسفر الحق أضاء، نفر الليل عن صبحه يشقق، الشقشقة التي يدليها الفحل المعتلم إذا هاج، ويهدر فيها، فهتم وتفوهتم بمعنى واحد، تشربون الطرق بمعنى الماء الكدر المطروق الذي قد طرقته الشاربة، الخاشع من الخشوع وهو أشد الخضوع، اللتيا والتي الأمر العظيم، والهنت والهينة والمراد الحادثة والحويدثة كأنهما أمران عظيمان، أحدهما أعظم من الآخر، ابنى بهم الرجال، أي ابتلى والبهمة الفارس البطل الشجاع الباسل[98] الذي لا يهتدى لوجه التمكن منه، ويقال: هو الذي يعد بمائتي فارس، وذوبان العرب، يقال ذيب وذوبان وذياب، وحشو ناراً للحرب، من حششت النار أحشها حشاً إذا أوقدتها، وأصل الحش أن يدمع الوقود من الأطراف إلى الوسط، ومتفرق النار إلى المعظم يشتد توقدها، وكل مجموع بمحشوش لحم قرن طلع، فغر فتح، والأسد فاغرة أفواهها يقال: فغر فاه أي فتحه فعرفوه انفتح، الانكفاء الانقلاب، انكفى الإنسان انصرف وانقلب، الأخمص باطن القدم، ووجدت في النسخة التي نسخت منها هذه النسخة قريباًمن هذا الموضع في الحاشية، وهي الأخمص خص باطن القدم ثراه متجافياً عن الأرض ولا ينالها عند المشي، قال حسان بن ثابت:

مع كل مسترخ الأزار كأنه

 

 

إذا ما مشى من أخمص الرجل ضالع

رجع في رفاهية في خفض عيش، يتوكفون يبطرون، ينكصون يرجعون، النزال الحرب، الحسكة والحسيكة والخشفة الحقد، سمل الثوب يسمل إذا خلق فحل ببئس جلد قاحل أي يابس، وأرثت رميمه، الارتثاث حمل الشيء وهو في آخر بقية كالجريح يرتث من المعركة، أي يحمل وفيه رمق، وظهر تابع حامل لا يؤبه له هدر فيتق الباطل، الفيتق الفحل من الإبل، يقال فحل أفتق إذا ترك واحم للفحلة، ولم يذل بالحمولة، وأصل الفيتق الناعم، يقال: فتقته نعمته، وتفتق الرجل تنعم، أحمشكم أغضبكم، الكلم الجراحة، الرحيب الواسع، ابترا متقلب يقال من عزّ بز أي من غلب سلب.

قال أمير المؤمنين عندما قتل عمرو بن عبد ود:

وعففت عن أثوابه ولو أنني

 

كنت المقطر بزني أثوابي

أي سلبني، سرع ما حذيتم، أي ما أسرع ما استحذيتم وخضعتم لهم، وعجلان ذا هالة الإهالة الودك إذا أذيت تضرب مثلاً للشيء يعجل قبل أوانه، الذي نكثتم بسرعة وعجلة، هتافا هتافا صباحاً صباحا، وأنتم بمرأ ومسمع أي بحيث ترون وتسمعون، ناهزتم العجم من قولك نهزت الرمح ونهززته إذا نحسته، ونهز المستقي دلوه، ويدلوه في البير إذا جركها لتمتلئ، وكافحتم من المكافحة وهي المواجهة بالقتال وغيره، الوعرة الوقدة، الدعة الراحة، مججتم الذي وعيتم يقال وعا العلم.......... ووعت أذنه ما سمعت، وأوعا المتاع في الوعا مججتم أي صببتم ما سمعتم بأذانكم في كلام أمير المؤمنين صلوات الله عليه لابنه الحسن صلوات الله عليهما أن الإذن مجاجة، والنفس خمصة، فلا تخيب فهمك بالإلحاح عليه، فإن لكل عضو من البدن مستراحاً خمسة، أي أنها تحب الاستراحة من حال إلى حال، والانتقال من علم إلى علم، وفن إلى فن، وأصل هذا أن الإبل إذا رغب الخلة وهي ما خلا من النبات حولت إلى الحمص وهو ما ملح من النبات، والعرب تقول الحلة خبز الإبل والخمص فاكهتها، فهذا الذي تسمع أيها الناظر بعين البصيرة، وهي عليها السلام المعصومة كما تعلم، فكيف يكون النجاة مع هذا وأمثاله، ونحن بعد الفراغ من قولها عليها السلام، ذاكرون ما نظفر به من قول سبطيها المطهرين الحسن والحسين عليهما السلام، بعد الكلام في بعض مناقبهما، مضافاً إلى ما تقدم ذكره من ذلك، وبعد الكلام في إمامتهما عليهما السلام، وذاكرون بعد ذلك كل إمام من أبنائهم الطيبين عليهم السلام، وما نظفر به من قوله إن شاء الله في هذا الباب، الذي نحن بصدده بمن الله وعونه[99].

أين لهم كالحسنين ابني علي

 

ابني رسول الله حقاً والوصي

خير سلالات وصي ونبي

 

وسيدا شباب جنات العلي

قد قدمنا من ذكر فضل الحسن والحسين، وشرفهما عليهما أفضل الصلاة والسلام فيما قدمناه طرفاً منبهاً على غيره، ولو رمنا إحصاؤه لتعذر علينا في مثل هذا الموضع، فإن الكلام في فضل أهل البيت عليهم السلام يطول بيانه، ويتسع ميدانه، فإن المروي عن الفقيه العلامة زيد بن الحسن البيهقي رحمه الله تعالى أنه أقام بمدينة صعدة يقرأ في العلوم إلا يوم الخميس والجمعة، فإنه جعل القراءة فيهما في فضل أهل البيت عليهم السلام، فأقام بها كذلك سنة كاملة، فما علم أنه أعاد خبراً مما أتى به فيهم عليهم السلام، والحسن والحسين عليهما السلام هما ريحانتا رسول الله عليه عليه وآله، وهما اللذان يقول فيهما صلى الله عليه وآله: ((هما وديعتي في أمتي)) فاكرم بوديعة سيد الأولين والآخرين، من لدن آدم إلى انقطاع التكليف، وليس هذا لأحد غيرهما.

وروى بأسانيده إلى الأعمش قال: بعث إلي أبي جعفر المنصور فقلت للرسول: لما يريدني أمير المؤمنين؟ فقال: لا أعلم، فقلت: أبلغه أني آتيه، ثم تفكرت في نفسي، فقلت: ما دعاني في هذا الوقت لخير، ولكن عسى أن يسألني عن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فإن أخبرته قتلني، قال: فتطهرت ولبست أكفاني، وتحنطت ثم كتبت وصيتي، ثم صرت إليه فوجدت عنده عمرو بن عبيدة فحمدت الله تعالى على ذلك، وقلت: وجدت عنده عون صدق من أهل البصرة، فقال لي: ادن يا سليمان، فدنوت فلما قربت منه أقبلت على عمرو بن عبيد أسائله، فأراح مني ريح الحنوط، فقال: يا سليمان ما هذه الرائحة، والله لتصدقني وإلا قتلتك، فقلت: يا أمير المؤمنين أتاني رسولك في جوف الليل فقلت في نفسي ما بعث إليَّ أمير المؤمنين في هذه السعة إلا يسألني عن فضائل علي، فإن أخبرته قتلني، فكتبت وصيتي ولبست كفني وتحنطت، فاستوى جالساً وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال: تدري يا سليمان ما اسمي؟

قلت: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: ما اسمي؟

قلت: عبد الله الطويل بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.

قال: صدقت، فاخبرني بالله ولقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كم رويت في عليَّ من فضيلة من جميع الفقهاء، وكم يكون؟

قلت: يسير يا أمير المؤمنين. قال: علي ذلك، قلت: عشرة آلاف حديث وما زاد.

قال: فقال يا سليمان لأحدثنك في فضائل علي عليه السلام حديثين ياكلان كل حديث رويته عن جميع الفقهاء، فإن حلفت ألا ترويهما لأحد من الشيعة حدثتك بهما.

قلت: لا أحلف ولا أخبر بهما أحداً منهم، فقال: كنت هارباً من بني مروان، وكنت أدور البلدان، أتقرب إلى الناس بحب علي وفضائله، فكانوا يأووا إليَّ ويطعموني، ويزورني ويكرموني، ويحملوني حتى وردت بلاد الشام، و أهل الشام كلما أصبحوا لعنوا علياً عليه السلام في مساجدهم؛ لأن كلهم خوراج، وأصحاب معاوية فدخلت مسجداً وفي نفسي منهم ما فيها، فأقيمت الصلاة فصليت الظهر، وعلي كساء خلق، فلما سلم الإمام اتكى على الحائط[100]وأهل المسجد حضور فلم أرى أحداً منهم يتكلم توقيراً لإمامهم، فإذا بصبيين قد دخلا المسجد، فلما نظر إليهما الإمام قال: ادخلا مرحباً بكما، ومرحباً بمن سميتكما بأسمائهما، والله ما سميتكما بأسمائهما إلا بحب محمد وآل محمد، فإذا أحدهما يقال له الحسن والآخر الحسين، فقلت فيما بيني وبين نفسي قد أصبت اليوم حاجتي ولا قوة إلا بالله، وكان شاباً إلى جنبي فسألته من هذا الشيخ، ومن هذان الغلامان؟ فقال: الشيخ جدهما، وليس في هذه المدينة أحد يحب علياً عليه السلام غير هذا الشيخ، ولذلك سماهما الحسن والحسين، فقمت فرحاً وإني يومئذٍ لصارم لا أخاف الرجال، فدنوت من الشيخ فقلت: هل لك في حديث أقر به عينك؟ قال: ما أحوجني إلى ذلك، وإن أقررت عيني أقررت عينك، فقلت: حدثني أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: من والدك، ومن جدك، فلما عرفت أنه يريد أسماء الرجال، فقلت: محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قال: إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فاطمة عليها السلام قد أقبلت تبكي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما يبكيك يا فاطمة))؟ قالت: يا أبتاه إن الحسن والحسين قد غبرا، وقد ذهبا منذ اليوم، ولا أدري أين هما، وإن علياً يمشي على الدالية منذ خمسة أيام يسقي البستان، وإني قد طلبتهما من منازلك فما حسست لهما أثر، وإذا أبو بكر عن يمينه فقال: ((يا أبا بكر قم فاطلب قرة عيني، ثم قال: يا عمر قم فاطلب قرة عيني، يا سلمان يا أبا ذر، يا فلان، قال: فأحصينا على رسول الله صلى الله عليه وآله سبعين رجلاً بعثهم في طلبهما وحثهم، فرجعوا ولم يصيبوهما، فاغتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم غماً شديداً، ووقف على باب المسجد وهو يقول: بحق إبراهيم خليلك، وبحق آدم صفيك، إن كان قرتا عيني وثمرتا فؤادي أخذا براً أو بحراً فاحفظهما وسلمهما، فإذا جبريل عليه السلام قد هبط فقال: يا رسول الله إن الله يقرئك السلام ويقول لك: لا تحزن ولا تغتم الصبيان فاضلان في الدنيا فاضلان في الآخرة، وهما في الجنة، وقد وكلت بهما ملكاً يحفظهما إذا ناما وإذا قاما، ففرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرحاً شديداً، ومضى ومضى جبريل عن يمينه، والمسلمون حوله، حتى دخلوا حضيرة بني النجار فسلم على ذلك الملك الموكل بهما، ثم جثى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ركبتيه وإن الحسن معانق للحسين، وهما نائمان، وذلك الملك قد جعل أحد جناحيه تحتهما والآخر فوقهما، وعلى كل واحدٍ منهما دراعة من شعر أو صوف، والمداد على شفتيهما فما زال النبي صلى الله عليه يلثمهما حتى استيقظا، فحمل النبي صلى الله عليه وآله الحسن وحمل جبريل الحسين، وخرج النبي صلى الله عليه وآله من الحضيرة)).

قال ابن عباس: وجدنا الحسن عن يمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحسين عن يساره، وهو يقبلهما ويقول: ((من أحبكما فقد أحب رسول الله، ومن أبغضكما فقد أبغض رسول الله)) فقال أبو بكر: يا رسول الله أعطني أحدهما أحمله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نعم المحمول ونعم المطية تحملهما)) فلما أن صار إلى باب الحضيرة لقيه عمر، فقال له مثل ما قاله أبو بكر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما رد على أبي بكر، فرأينا الحسن متشبثاً بثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكياً باليمين على رسول [101]الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووجدنا يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأسه، فدخل صلى الله عليه وآله وسلم المسجد فقال: ((لأشرفن ابني اليوم كما شرفهما الله، فقال: يا بلال عليَّ بالناس، فناداهم فاجتمع الناس فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: معشر أصحابي بلغوا عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ألا أدلكم على خير الناس جداً وجدة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: عليكم بالحسن والحسين، فإن جدهما محمد رسول الله، وجدتهما خديجة بنت خويلد سيدة نساء أهل الجنة، قال: هل أدلكم على خير الناس أباً وأماً؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: عليكم بالحسن والحسين، فإن أباهما علي بن أبي طالب وهو خير منهما، شاب يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ذو المنفعة والمنقبة في الإسلام، وأمهما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعليها سيدة نساء أهل الجنة، معشر الناس: ألا أدلكم على خير الناس عماً وعمة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: عليكم بالحسن والحسين، فإن عمها جعفر ذو الجناحين يطير بهما في الجنان مع الملائكة، وعمتهما أم هاني بنت أبي طالب، معشر الناس: هل أدلكم على خير الناس خالاً وخالة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: عليكم بالحسن والحسن، فإن خالهما القاسم، وخالتهما زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ألا يا معشر الناس أعلمكم أن جدهما في الجنة وجدتهما في الجنة، وأبوهما في الجنة وأمهما في الجنة، وعمهما في الجنة وعمتهما في الجنة، وخالهما في الجنة، وخالتهما في الجنة، وهما في الجنة، ومن أحب ابني علي فهو معنا غداً في الجنة، ومن أبغضهما فهو في النار، وإن من كرامتهما على الله أنه سماهما في التوراة شبراً وشبيراً)).

فلما سمع الشيخ الكلام هذا مني قدمني ثم قال: ادلك على من يفعل بك خيراً هاهنا، إخوان لي في هذه المدينة أحدهما كان إمام قوم فكان إذا أصبح لعن علياً ألف مرة في كل غداة، وأنه لعنه في يوم الجمعة أربعة آلاف مرة، فغير الله ما به من نعمة، فصار آية للسائلين، فهو اليوم يحبه، وأخ لي يحب علياً منذ خرج من بطن أمه فقم إليه، ولا تحتبس عنده، والله يا سليمان لقد ركبت البغلة وإني يومئذٍ لجائع فقام معي الشيخ وأهل المسجد حتى صرنا إلى باب الدار، وقال الشيخ: انظر لا تحتبس، فدققت الباب وقد ذهب من كان معي، فإذا شاب أدم قد خرج، فلما رآني والبغلة قال: مرحباً بك، والله ما كساك أبو فلان خلعته، ولا حملك على بغلته إلا أنك تحب الله ورسوله، إن أقررت عيني لأقرن عينك، والله يا سليمان إني لأتفسر بهذا الحديث الذي سمعه وتسمعه، أخبرني أبي عن جدي، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلوساً بباب داره فإذا فاطمة قد أقبلت وهي حاملة للحسين، وهي تبكي بكاء شديداً، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتناول الحسين منها، وقال لها: ((ما يبكيك يا فاطمة؟)) قال: يا أبة عيرتني نساء قريش، وقلن زوجك أبوك معدماً لا شيء له، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((مهلاً وإياي أن أسمع هذا منك، فإني لم أزوجك حتى زوجك الله من فوق عرشه، وشهد على ذلك جبريل وإسرافيل[102] وإن الله تعالى اطلع على أهل الدنيا فاختار من الخلائق أباك فبعثه الله نبياً، ثم اطلع الثانية فاختار من الناس علياً فأوحى إليَّ فزوجتك إياه، واتخذته وزيراً ووصياً، فعلي أشجع الناس قلباً، وأعلم الناس علماً، وأحلم الناس حلماً، وأقدم الناس إسلاماً، وأسماهم كفاً، وأحسن الناس خلقاً، يا فاطمة إني آخذ لواء الحمد ومفاتيح الجنة بيدي، فادفعها إلى علي فيكون آدم ومن ولد من تحت لوائه، يا فاطمة إني غداً أقيم علياً على حوضي يسقي من عرف من أمتي، يا فاطمة الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وكان قد سبق اسمهما في توراة موسى، وكان اسمهمها في الجنة شبراً وشبيراً، فسماهما الحسن والحسين لكرامة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكرامتهما عليه، يا فاطمة يكسى أبوك حلتين من حلل الجنة، ويكسى علي حلتين من حلل الجنة، ولواء الحمد في يدي، وأمتي تحت لوائي، فأناوله علياً لكرامته على الله تعالى، وينادي منادي يا محمد نعم الجد جدك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، وإذا دعاني رب العالمين دعا علي معي، وإذا جثوت جثا علي معي، فإذا شفعني شفع علي معي، وإذا أجبت إجيب علي معي، وإنه في المقام عوني على مفاتيح الجنة، قومي يا فاطمة إن علياً وشيعته هم الفائزون غداً)).

وقال: بينما فاطمة جالسة إذ أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جلس إليها فقال: ((يا فاطمة ما لي أراك باكية حزينة، فقالت: بأبي وأمي كيف لا أحزن وتريد أن تفارقني، فقال لها: يا فاطمة لا تبكي ولا تحزني، فلابد من مفارقتك، قال: فاشتد بكاء فاطمة عليها السلام، ثم قالت: يا أبة أين ألقاك؟ قال: تلقيني على تل الحمد أشفع لأمتي، قالت: يا أبة فإن لم ألقاك؟ قال: تلقيني على الصراط وجبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، وإسرافيل أخذ بحجزتي، والملائكة خلفي، فأنا أنادي يا رب يارب أمتي أمتي هون عليهم الحساب، ثم انظر يميناً وشمالاً إلى أمتي، وكل نبي يومئذ مشتغل بنفسه يقول: يارب نفسي نفسي، وأنا أقول: يارب أمتي أمتي، فأول من يلحق بي من أمتي يوم القيامة أنت وعلي والحسن والحسين، فيقول الرب: يا محمد، إن أمتك لو أتوني بذنوب كأمثال الجبال لعفوت عنهم ما لم يشركوا بي شيئاً، ولم يوالوا لي عدواً)).

قال: فلما سمع الشاب هذا مني أمر لي بعشرة آلاف درهم، وكساني ثلاثين ثوباً ثم قال لي: من أين أنت؟

قلت: من أهل الكوفة.

قال: أعرابي أنت أم مولى؟

قلت: بلى عربي.

قال: فكما أقررت عيني أقررت عينك، ثم قال لي: اتيني غداً في مسجد أبي فلان، وإياك أن تخطئ الطريق، فذهبت إلى الشيخ وهو جالس ينتظرني في المسجد فلما رآني استقبلني وقال: ما فعل أبو فلان؟ قلت: كذا وكذا، قال: جزاه الله خيراً، جمع الله بيننا وبينهم في الجنة، فلما أصبحت يا سليمان ركبت البغلة وأخذت الطريق الذي وصف لي، فلما سرت غير بعيد تشابه عليَّ الطريق، وسمعت إقامة الصلاة في مسجد، فقلت: والله لأصلين مع هؤلاء القوم، فنزلت عن البغلة ودخلت المسجد، فوجدت رجلاً قامته مثل قامة صاحبي، فصرت عن يمينه فلما صرنا في ركوع وسجود إذا عمامته قد رمى بها من خلفه، فتفسرت في وجهه فإذا وجهه وجه خنزير، ورأسه وخلقه ويداه ورجلاه فلم أعلم ما صليت، وما قلت في صلاتي متفكراً في أمره، وسلم الإمام وتفكر في وجهي، وقال: أنت أتيت أخي بالأمس فأمر لك بكذا وكذا؟

قلت: نعم، فأخذ بيدي فأقامني، فلما رآنا أهل المسجد تبعونا، فقال للغلام: اغلق الباب، ولا[103] تدع أحداً يدخل علينا، ثم ضرب بيده إلى قميصه فنزعه، فإذا جسده جسد خنزير، فقلت: يا أخي ما هذا الذي أرى بك؟

قال: كنت مؤذن القوم، وكنت إذا أصبحت ألعن علياً ألف مرة بين الأذان والإقامة، قال: فخرجت من المسجد، ودخلت داري هذه وهو يوم جمعة، وقد لعنته أربعة آلاف مرة، ولعنت أولاده فاتكيت على الدكان فذهب بي النوم فرأيت في منامي كأنما أنا بالجنة وقد أقبلت، فإذا علي فيها متكى والحسن والحسين متكئين بعضهم ببعض مسرورين، بجنبهم مصلتات من نور، وإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس والحسن والحسين قدامه، وبيد الحسن كأس فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اسقني فشرب ثم قال للحسن: اسق أباك علياً، فشرب ثم قال للحسن: اسق الجماعة فشربوا، ثم قال: اسق المتكي على الدكان، فولى الحسن بوجهه عني، وقال: يا أبة كيف أسقيه وهو يلعن أبي في كل يوم ألف مرة، وقد لعنه اليوم أربعة آلاف مرة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مالك لعنك الله تلعن علياً وتشتم أخي، لعنك الله وتشتم أولادي الحسن والحسين، ثم بصق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فملأ وجهي وجسدي، فانتبهت من منامي ووجدت موضع البصاق الذي أصابني من بصاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد مسخ كما ترى، وصرت آية للسائلين، ثم قال: يا سليمان سمعت في فضائل علي عليه السلام أعجب وأفضل من هذين الحديثين، يا سليمان حب علي إيمان وبغضه نفاق، لا يحب علي إلا مؤمن ولا يبغضه إلا كافر، فقلت: يا أمير المؤمنين، الأمان، قال: لك الأمان، قال: قلت فما ترى يا أمير المؤمنين فيمن قتل هؤلاء؟

قال: في النار لا شك؟

قال قلت: فما تقول فيمن قتل أولادهم وأولاد أولادهم؟

قال: فنكس رأسه، ثم قال: يا سليمان الملك عقيم، ولكن حدث عن فضائل عليَّ بما شئت.

قال قلت: فمن قتل ولده فهو في النار.

قال عمرو بن عبيد: صدقت يا سليمان، الويل لمن قتل ولده.

فقال المنصور: يا عمرو أشهد عليه أنه في النار، فقال عمرو: أخبرني الشيخ الصدق يعني الحسن عن أنس أن من قتل أولاد علي لا يشم رائحة الجنة، قال: فوجدت أبا جعفر وقد خمص وجهه، قال: وخرجنا فقال أبو جعفر: لولا مكان عمرو ما خرج سليمان إلا مقتولاً.

قال علي بن محمد بن الشرفية: حضر عندي في دكان بالوارقين بواسط يوم الجمعة خامس ذي القعدة من سنة ثمانين وخمسمائة القاضي العدل، جمال الدين نعمة الله علي بن أحمد بن العطار، وحضر أيضاً عندي الأمير شرف الدين أبي شجاع بن العنبري الشاعر، فسأل شرف الدين القاضي جمال الدين أن يسمعنا المناقب، فابتدأ بالقراءة عليه من نسختي التي في دكاني يومئذٍ وهو يرويها عن جده لامة العدل المعمر أبو عبد الله بن علي المغازلي عن أبيه المصنف فهماً في القراءة، وقد اجتمع عليهما جماعة إذ اجتاز أبو نصر بن قاضي العراق وأبو العباس بن رتيقة وهما ينبزان بالعدالة فوقعا يغوغيان وينكران عليه قراءة المناقب، وأطنب ابن القاضي العراق في التهزي والمجون، وقال في جملة مقالته على طريق الاستهزاء: قاضي اجعل لنا وظيفة كل يوم جمعة بعد الصلاة تسمعنا شيئاً في هذه المناقب في مسجد الجامع، فقال لهم القاضي نعمة الله العطار: ما أنتما من أهلها أنتما قد حضرتما[104] في درب الخطب، وذكرتما أن علياً عليه السلام ما كان يعرف سورة واحدة من كتاب الله تعالى، والمناقب تتضمن أنه ما كان في الصحابة أقرأ من علي بن أبي طالب عليه السلام، فما أنتما من أهلها، فأكثر الغوغاء والتهزي، فضجر القاضي نعمة الله بن العطار، وقال بمحضر جماعة كانوا وقوف: اللهم إن كان لأهل بيت نبيك عندك حرمة ومنزلة فاخسف به داره، وعجل نكايته، فبات ليلته تلك، وفي صبحة يوم السبت سادس ذي القعدة من سنة ثمانين وخمسمائة خسف الله تعالى بداره، فوقعت هي والقنطرة وجميع المسناة إلى دجلة، وتلف منها فيها جميع ما كان يملك من مال وأثاث وقماش، فكانت هذه المنقبة من أطرف ما شوهد يومئذٍ من مناقب آل محمد صلوات الله عليهم، فقال علي بن محمد بن الشرفية في ذلك اليوم في المعنى:

ياأيها العدل الذي هو عن طريق الحق عادل
متنحياً سبل الهدى وإلى سبيل الغي مائل
أبمثل هذا البيت يا مغرور ويحك أنت هازل
دع عنك أسباب الخلاعة واستمع مني الدلائل

بالأمس حيث جحدت من أفضالهم  بعض الفضائل
وجريت في ستر التمرد لست تسمع عدل عادل
نزل القضاء على ديارك في صباحك شر نازل
أضحت ديارك سابحات في الثرى خسف الزلازل

وبقيت يا مغرور في الدنيا لم تحظا بطائل
هذا الجزاء بذا فعدلهم ما أنت قائل

 فهذه القصة مذكورة في نسخة المناقب، وهي لنا مسموعة -أعني القصة هذه-.

وروينا عن عبد الله بن عمرو الخزاعي، عن هند ابنة الجون قالت: نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيمة أم معبد ومعه أصحاب له، وكان من أمره في الشاة ما قد علمه الناس فقال في الخيمة هو وأصحابه حتى بردوا، وكان يوماً قايضاً شديداً حره، فلما قام من رقدته دعا بماء فغسل يديه فأنقاهما، ثم مضمض فاه ومجه إلى عوسجة كانت إلى جنب خيمة خالية، فلما كان من الغد أصبحنا وقد غلظت العوسجة حتى صارت أعظم دوحة عادية رأيتها، وشذب والله شوكها، وساحت عروقها، واخضر ساقها وورقها، ثم أثمرت بعد ذلك وأينعت بثمر أعظم ما يكون من الكماة في لون الورس المسحوق، ورائحته العنبر، والشهد طعمه، والله ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا عوفي، ولا أكل من ورقها بعير ولا ناقة ولا شاة إلا در لبنها، ورأينا النما والبركة في أموالنا منذ نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واخصبت بلادنا وأمرعت، فكنا نسمي تلك الشجرة المباركة، وكان من ينتابنا من حولنا من البوادي يستشفعون بها، ويبردون من ورقها ويحملونها معهم في الأرض القفار، فتقوم لهم مقام الطعام والشراب، فلم تزل كذلك وعلي ذلك حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها، وصفر ورقها فحزنا لذلك وفزعنا له، فما كان إلا قليلاً حتى جاء نعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو قد قبض في ذلك اليوم، وكانت بعد ذلك تثمر دونه في الطعم والعظم والرائحة، وأقامت على ذلك ثلاثين سنة، فلما كان ذات يوم أصبحنا فإذا بها قد أشوكت من أولها إلى آخرها، وذهبت نظارة عيدانها، وتساقط جميع ثمرها، فما كان إلا يسيراً حتى وافانا مقتل أمير المؤمنين عليه السلام، فما أثمرت بعد ذلك قليلاً ولا كثيراً، وانقطع ثمرها، ولم يزل من حولنا يأخذ من ورقها، ونداوي به مرضانا، ونستشفي به من أسقامنا، فأقامت على ذلك مدة[105] وبرهة طويلة، ثم أصبحنا فإذا بها يوماً قد نبعت من ساقها دم غبيط حار، وورقها ذابل يقطر ماء كما اللحم، فعلمنا أن قد حدث حدث عظيم، فيبينا نحن فزعين مهمومين نتوقع الداهية، فأتانا بعد ذلك قتل الحسين بن علي عليهما السلام، ويبست الشجرة، وجفت وكسرتها الرياح، والأمطار بعد ذلك، فذهبت واندرس أصلها.

قال محمد بن سهل وهو من رواة الحديث: فلقيت دعبل بن علي الخزاعي بمدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فحدثته بهذا الحديث، فقال: حدثني أبي عن جدي، عن أمه سعدى بنت مالك الخزاعية أنها أدركت تلك الشجرة، وأكلت من ثمرتها على عهد أمير المؤمنين عليه السلام، قال دعبل فقلت قصيدتي:

زر خير قبرٍ بالعراق يزار

 

واعص الحمار فمن نهاك حمار

 لم لا أزورك يا حسين لك الفدى

 

نفسي ومن عطفت عليه يزار

ولك المودة في قلوب ذوي النهى

 

وعلى عدوك مقتة وذمار

ولنقتصر على هذا القدر من شرفهما، وفضلهما عليهما السلام، إذ كان كالشمس ضوءاً، وكالصباح شهرة، ونتبع ذلك الكلام في إمامتهما وإمامة أبنائهما الطيبين بعدهما، وحضرة الإمامة فيهم سلام الله عليهما أجمعين:

هما إمامان كما قد وردا

 

بنص خير المرسلين أحمدا

إذ قال قاما معلناً أو قعدا

 

فهل يكون قوله مفندا

ثم أقول إنما الزعامة

 

لكل هادٍ سابق علامة

يقوم من بينهما القوامة

 

إذكان فيهم منصب الإمامة

واعلم أرشدك الله أن الكلام في هذه الجملة يقع في موضعين:

أحدهما: في إمامة الحسن والحسين عليهما السلام.

والثاني: في حصر الإمامة بعدهما في أبنائهما الطيبين، وأنهم معدن الإمامة ومنصبها دون غيرهم.

أما الموضع الأول وهو في إمامة الحسن والحسين عليهما السلام فالذي يدل على صحة إمامتهما وجوه ثلاثة:

أحدها: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما)) وهذا نص صريح، ودليل واضح، وارد فيهما بلفظ الإمامة، وهذا الخبر مما ظهر بين الأمة واشتهر، وتلقته بالقبول، ولم ينكره ولا جحده أحد ممن يعول عليه من علماء الإسلام، بل هم بين مستدل به، وبين متأول له، والعترة مجمعة على صحته أيضاً، وإجماعهم حجة واجبة الاتباع كما تقدم، ولا يقدح في الخبر قول من قال أنه لو صح كونه دليلاً على إمامتهما عليهما السلام لكان دليلاً على ثبوتها لهما في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي زمن أبيهما عليهما السلام، وفي زمن الحسن للحسين عليهما السلام، لأنا أخرجنا زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا كان لهما مع أبيهما أمر، ولا كان للحسين مع الحسين أمر، فبقي ما عدا ثابتاً داخلاً تحت النص، فثبت الوجه الأول.

الوجه الثاني: أن العترة مجمعة على أن الإمام بعد علي عليه السلام هو ولده الحسن، ثم ولده الحسين بعده عليهما السلام من غير فضل بينهم، على هذا الترتيب، وإجماعهم على ذلك معلوم، وقد ثبت[106]أن إجماعهم حجة واجبة الاتباع كما تقدم، فيثبت الوجه الثاني.

الوجه الثالث: أن كل واحدٍ منهما عليهما السلام قام ودعا وهو جامع لخصال الإمامة، وتابعه أهل الفضل من العترة وغيرهم من المؤمنين، ولم يكن في زمنهما من يدعي الإمامة إلا معاوية وولده يزيد لعنهما الله تعالى، ولا حظ لهما في ذلك فثبت الموضع الأول، وهو في إمامة الحسن والحسين عليهما السلام.

وأما الموضع الثاني وهو في حصر الإمامة بعدهما في أبنائهما، وأنهم معدن الإمامة ومنصبها دون غيرهم، فالكلام منه يقع في ثلاثة مواضع:

أحدها: في حكاية المذهب والخلاف.

والثاني: في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه، وفساد ما ذهب إليه المخالف.

والثالث: في إبطال أقوال المخالفين.

أما الموضع الأول وهو في حكاية المذهب والخلاف، فذهب المخلصون من الزيدية إلى أن الإمامة محصورة بعد الحسن والحسين عليهما السلام فيمن رجع بنسبه من قبل أبيه إليهما، وأنها لا تجوز فيمن عداهم، وأن طريقها الدعوة عند تكامل شروطها في الداعي، وذهبت المعتزلة إلى أنها جائزة في جميع قريش، وأن طريقها العقد والاختيار والبيعة، وذهبت الخوارج ومن قال بقولها إلى أنها جائزة في جميع الناس، وذهبت الإمامية أنها محصورة في جماعة من ولد الحسين، والطريق إليها هو النص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذهب ابن الراوندي وأتباعه إلى أن طريقها الإرث، وذهب الجاحظ ومن تابعه إلى أنها جزاء على الأعمال، وذهبت الحشوية إلى أن طريقها القهر والغلبة، فثبت الموضع الأول، وهو في حكاية المذهب والخلاف.

وأما الموضع الثاني وهو في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المحالف، والذي يدل على ذلك وجهان:

أحدهما: أن الأمة أجمعت على جوازها في البطنين بعد بطلان قول أصحاب النص، وتحقيق ذلك أن من أجازها في سائر الناس فقد أجازها فيهم؛ لأنهم من الناس بل هم من خير الناس، ومن أجازها في قريش فقد أجازها فيهم؛ لأنهم من قريش، بل هم من خير قريش، ومن أجازها فيهم وحدهم فهذا آخذ بموضع الإجماع، فقد وقع الإجماع عليهم، والاختلاف على أحد البطنين دون الآخر، ولابد من الكلام في الموضع الثالث على إبطال قول أصحاب النص بمشيئة الله، فثبت الوجه الأول.

الوجه الثاني: أن العترة أجمعت على أن الإمامة لا تجوز في غيرهم إجماعاً معلوماً، وإجماعهم حجة يجب اتباعه على ما تقدم، وإذا ثبتت الإمامة في البطنين بإجماع العترة وإجماع الأمة، ولا دليل في الشرع يدل على جوازها في غيرهم ثبت ما قلناه، وذلك واضح بحمد الله ومنه، فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع المعلوم شيء يدل على جوازها في غيرهم، فوجب قصرها عليهم، وحصرها فيهم، والقطع على أنهم معدنها دون من عداهم، لما ثبت من أن الإمامة تقتضي التصرف على الناس في أمور شاقة كريهة، نحو تجييش الجيوش، وإقامة الحدود، وأخذ الأموال ممن وجبت عليه طوعاً وكرهاً، وكل ذلك مما يمنع منه العقل، إلا بعد ورود إذن شرعي لمن يقوم بذلك، ولا إذن من جهة الشرع إلا ما ذكرناه من الإجماع الدال على جواز ذلك لمن يكون من أبنائهما عليهما السلام[107] فيبقى من عداهم بحكم الأصل الذي اقتضاه دليل العقل، ولم يخص الإجماع الوارد أحد البطنين دون الآخر، وصار ذلك عاماً للبطنين جميعاً، فثبت الموضع الثاني، وهو في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه، وفساد ما ذهب إليه المخالف، إلا الاحتجاج على أن الدعوة طريق الإمامة، فسيأتي بيان ذلك في الموضع الثالث بمشيئة الله تعالى.

وأما الموضع الثالث وهو في إبطال أقوال المخالف، فنحن نوردها قولاً فقولاً، أما من ذهب إلى القول بالنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أئمة معدودين من ولد الحسين، فالجواب عن ذلك أنه لو كان هناك نص لوجب أن يكون ظاهراً معلوماً؛ لأنه من أصول الدين العظيمة، وأركانه القوية، فكان يجب أن يكون بمنزلة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما)) فإن هذا الخبر ظاهر النقل، معلوم في نفسه، مشهور عند الكافة، بحيث لا يختص به من الأمة فريق دون فريق، فهو مما لزمة الحجة به، ولم تقع المنازعة في صحته، وبمنزلة قوله صلى الله عليه وآله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) في خبر الغدير، وبمنزلة خبر المنزلة، ومعلوم أنه ليس بظاهر ولا معلوم، وكفى بذلك فساداً لما ادعوه من النص.

وأما من قال بالإرث فقد أبعد؛ لأن الإرث يستحقه النساء والصبيان والمجانين، وإمامتهم غير جائزة، ولأنه كان يستحق الإمامة جميع الورثة، إن كانت إنما تثبت بالميراث في وقت واحد، وذلك لا يجوز.

وأما من قال أن الإمامة تستحق جزاء على الأعمال الصالحة فقد مال عن طريق الحق؛ لأن من حق الجزاء على الأعمال الصالحة أن تكون لله خالصة، وسروراً كاملاً، وقد ثبت أن الإمامة متضمنة للمشاق العظيمة، والعموم المتكاثفة، وهذا ينافي الجزاء والثواب على الأعمال الصالحة، وبعد فلو كان جزاءاً على الأعمال لما اختص بها بطن دون بطن، ولا كانت لواحد دون جماعة في وقت واحد؛ لأن في العاملين كثرة، والجزاء يعمهم جميعاً، وقد ثبت أنها مختصة لمنصب مخصوص، ثم بواحد من ذلك المنصب في الوقت الواحد، بحيث لا يجوز قيام غيره معه.

وأما من قال أن طريقها القهر والغلبة فذلك باطل؛ لأن المبطل الجائر قد يغلب المحق العادل، ولا يجوز مع ذلك أن يكون إماماً، وبعد فربما انقلب الغالب مغلوباً عقيب كونه غالباً، فكان يجب بنقل الإمامة من الغالب إلى المغلوب، حالاً بعد حال على هذه المقالة الفاسدة، وقد انعقد الإجماع من الصحابة على أن إمامة المبطل لا تجوز، وأن العدالة والصلاح من شروط الإمامة، وقضت الشريعة بأن الإمام إذا هزم عسكره لم يخرج عن الإمامة بظهور عليه.

وأما من قال أن طريقها العقد والاختيار فذلك أيضاً قول بعيد مبني على أساس منهدم؛ لأنه لا دلالة في السمع لأمر كتاب ولا شبهة معلومة، ولا إجماع معلوم على ما ادعوه من ذلك، وسنريك الكلام عليهم مشروحاً فيما يدعونه، فلم يبق إلا ما يقول المحققون من الزيدية من أن طريقها الدعوة ممن تكاملت الشروط المذكورة فيه، وتلك الشروط محصورة موجودة في كتب المتكلمين بحمد الله، وميلنا إلى الاختصار إذ لو بطل القول بالدعوة مع بطلان ما تقدم لخرج الحق عن أيدي الأمة، وذلك لا يجوز، وقد أكد القول[108] بالدعوة، فإنها واردة من جهة الشرع، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فأمر سبحانه بالدعوة إلى الخير، وحث عليها، وأثنى على أهلها، ومدحهم بأن قولهم من أحسن الأقوال، وزاد ذلك وضوحاً وتأكيداً ما روي من قول النبي صلى الله عليه وآله: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه يوم القيامة في نار جهنم)) وأمثال ذلك من الآيات والأخبار مما يقتضي كون الدعوة مشروعة، فوجب القضاء بصحتها، وأنها طريق إلى ثبوت الإمامة، فثبت بهذه الجملة ما ذهبنا إليه من كون الدعوة طريقاً إلى ثبوت الإمامة، وأنها محصورة في ولد الحسنين عليهم السلام دون من عداهم، وأنهم معدنها ومستقرها ومنصبها، يؤكد ذلك ما قد رويناه في هذا المعنى من أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العترة عليهم السلام، وما نبه عليه من شرفهم وفضلهم، وكونهم أولى بالاتباع، ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال في كتاب نهج البلاغة في ذكر العترة والأئمة منهم الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، وبنا يستجلى من العمى أن الأئمة من قريش في هذا البطن من هاشم، لا يصلح على سواهم، ولا يصلح الولاة من غيرهم.

وقال عليه السلام: فأين يتاه بكم، بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمة الحق، وألسنة الصدق، فانزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورد الهيم العطاش.

وقال عليه السلام: ولا يعادل بآل محمد آل، ولا يساوي بهم من جرت نعمتهم عليهم أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفي العالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة.

وقال عليه السلام: فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنهم عيش العلم، وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، ولا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه.

وقال عليه السلام في ذم من استغنى لرأيه وعلم شيوخه: فيا عجبا ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفون عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشبهات، المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما نكروا، ومفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعلوهم في المهمات على رأيهم، كان كل أمرء منهم إمامة نفسه، هذا قوله عليه السلام في كتاب نهج البلاغة، وهو مسموع لنا معلوم، ونحن ذاكرون الآن بعد علي والحسن والحسين عليهم السلام من قام بالأمر من أبناء الحسن والحسين إلى يومنا هذا، ومن هو بالغ هذه المنزلة ممن صده عن القيام متمردوا هذه الأمة، ومن عارض من قريش الذين جازت فيهم المعتزلة الإمامة مع غيرهم من فرق الضلال، بعد أن قدأريناك أيها المسترشد حصر الإمامة في أبناء الحسن والحسين عليهم السلام ليتحقق للأمر شرفهم بأمير المؤمنين، وشرفه بأولاده الأئمة السابقين، الطاهرين المطهرين[109] مثل ما قد تحق غير ذلك من الشرف والفضل، وليعلم المطلع على ذلك أن دين الله تعالى لو كان كما زعموا في غير هذه العصبة النبوية من سائر قريش، لما قام به قائم صدق لله يستحق الخلافة بحكم الله ورسوله، لو صلح منهم واحد أو اثنان، فأيهم حينئذٍ يعترف بأن الحق لغيره من أهل البيت عليهم السلام، نحو عمر بن عبد العزيز، ومن حذا حذوه، فيكون أهدى سبيلاً ممن ادعا له هذه المنزلة من علماء السوء.

فنقول على ضرب من الاختصار في شرح تعدادهم، وما يتعلق بذلك مما نحن بصدده وبالله التوفيق: المعارض لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام تعدٍ يقضي أيام من منعه حقه، واغتصبه من ميراثه، وحال بينه وبين انتصابه، حيث نصبه الله تعالى لأمة محمد، ورسوله عليه السلام لا من أبي بكر وعمر وعثمان، والمناصب له إلى أن توفي رضوان الله عليه وسلامه ......معاوية بن أبي سفيان لعنه الله لعناً وبيلاً وهو من بني أمية.

روى الإمام الحاكم رحمه الله بإسناده في الشجرة الملعونة في القرآن أنهم بنو أمية.

وروى الإمام المنصور بالله عليه السلام مسنداً في قول الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} أنها في بني أمية وبني العباس.

قال عليه السلام: وكل آية في كفار قريش رأسها بني أمية في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((شر قبائل العرب بنو أمية، وبنو ثقيف، وبنو حنيفة)).

وقال: ((إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثون رجلاً اتخذوا مال الله دولاً، وعيال الله خولاً، ودين الله دخلاً)) ولقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما رآه يقود بأبيه أبي سفيان بن حرب وأخوه يسوق: ((لعن القائد والراكب والسائق)) وقال: ((إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)).

وقيل للمغيرة بن شعبة: إنك كنت من هذا الرجل بمكان-يعني معاوية- فلِمَ تركته؟

قال: إن هذا الرجل أخبث عباد الله، كنت أسايره وأحدثه حتى انبسط إليَّ، فقلت وذكرت بني هاشم أعف عنهم وتابعهم وارفق بهم، فإنما نلتم ما نلتم بقرابتكم منهم، فقال: اسكت لا تقل شيئاً، توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصار هذا الأمر في أبي بكر، فلما مات انقطع ذكره وذكر قومه، فلما توفي صار الأمر إلى عمر فانقطع ذكره وذكر قومه، وأن جماعة هؤلاء بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي بهم في كل يوم وليلة خمس مرات، فليس لهم الآن يكرفوا بالتراب، وقام الإمام السبط الحسن بن علي عليه السلام بعد أبيه صلوات الله عليه، وكان عليه السلام أبيض اللون، حسن الوجه على رتة في لسانه.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أتته من قبل جده موسى)) وكان عليه السلام يقول: ((إن الحسن والحسين اقتسما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالحسن أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين مفرق صدره إلى نحره، والحسين أسفل من ذلك، ونحل الحسن رسول الله صلى الله عليه وآله المهابة والحيا)).

وكان قيامه بالأمر عليه السلام يوم الاثنين لثمان بقين من شهر رمضان سنة أربعين وعارضه معاوية اللعين، وجرا بينهما الصلح بسبب خذلان أصحاب الحسن عليه السلام، وقد كان بايع الحسن عليه السلام من أصحاب أبيه عليه السلام مائة ألف، فأرسل إليهم معاوية بالكتب فلم يزل يعمل فيهم، حتى دخلوا على الحسن فطعنوا بطنه بخنجر، ونهبوا داره وعزموا على قتل أخيه، وأهل[110] بيته، فلما وصل الخبر إلى معاوية أرسل إليه يسأله الصلح والموادعة، والرجوع إلى المدينة، وعلى أن يلزم منزلة كما لزم أبوه في عصر أبي بكر وعمر وعثمان، فأجابه الحسن إلى ما سأل، وشرط عليه كما شرط أبوه على أبو بكر، وأنه يحكم في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب الله وسنة محمد، وعلى أن يدفع الخمس الذي أوجب الله لبني هاشم إليه كما كان أولئك يدفعون إلى أبيه، فاتفقا على ذلك، رواه أحمد بن موسى الطبري.

وروينا عن عمارة بن ربيعة قال: قال الحسين للحسن: أجاد أنت فيما أرى من موادعة معاوية؟

قال: نعم.

قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ثلاثاً، ثم قال: لو لم يكن ألاقي ألف رجل لكان ينبغي لنا أن نقاتل عن حقنا حتى ندركه أو نموت وقد أعذرنا.

فقال الحسن: فكيف لنا بألف رجل مسلمين، إني أذكرك الله يا أخي أن تفسد علي ما أريد، أو ترد عليٍّ أمري، فوالله ما ألوك ونفسي وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خيراً، إنك ترى ما نقاسي من الناس، وما كان يقاسي منهم أبوك من قبلنا، حتى كان يرغب إلى الله في فراقهم كل صباح ومساء، ثم قد ترى ما صنعوا بي فيها، ولا نرجو أن ندرك حقنا، إنا اليوم يا أخي في سعة وعذر، وسعنا العذر يوم قبض نبينا.

قال: فسكت الحسين، فانظر رحمك الله كيف عد الحسن قهر معاوية له، وقلة أنصاره بعد قهر أبي بكر وعمر لأبيه عليه السلام، وقلة أنصاره يومئذٍ، وهذا كلام المعصوم للمعصوم، مضافاً إلى قول أبيهما أمير المؤمنين، وفاطمة سيدة نساء العالمين، فكيف يكون الأمر بعد كلام هؤلاء من أهل الكساء المعصومين، فحسبك هذا إن كنت ذا بصيرة، وذكر الحسن بن علي عليه السلام في خطبته التي خطب الناس بها بعد مهادنته لمعاوية أن الذي ألجأه إلى المهادنة، هو الذي ألجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى دخول الغار، وألجأ أمير المؤمنين عليه السلام إلى مبايعة أبي بكر وعمر، حيث جمعت حزم الحطب على داره لتحرق بمن فيها من ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يخرج يبايع، وقال فيها: ومن البلاء على هذه الأمة أنا إذا دعوناهم لم يجيبونا، وإذا تركناهم لم يهتدوا إلا بنا، فساوى الحسن عليه السلام بين كفار قريش وبين أبي بكر وعمر، وأتباعهما وبين معاوية وأعوانه، وليس على هذا من مزيد.

ومن كتاب للحسن بن علي عليه السلام إلى معاوية لعنه الله فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنازعت سلطان العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسراته وأولياؤه، ولا يجمل بكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقه، فرأت العرب أن القول كما قالت قريش، وأن الحجة في ذلك على من نازعها أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأنعمت لهم العرب وسلمت لهم ذلك، ثم حاججنا نحن وقريش بمثل ما به حاجت العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها؛ لأنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياؤه إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالإجماع على ظلمنا ومراغمتنا، والعيب منهم لنا، فالموعد الله وهو المولى والنصير، وقد عجبنا لتوثب المتوثبين في حقنا، وسلطان نبينا، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، فأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين، أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا[111] من إفساده، إلى آخر كتابه، فتدبر هذا وأمثاله من قولهم عليهم السلام تعجب، ثم سم الحسن بن علي عليه السلام سمته امرأته جعدة بسبب معاية لعنهما الله، ولما حضرته الوفاة عليه السلام قال لأخيه الحسين بن علي عليه السلام: اكتب هذا ما أوصى به الحسن بن علي صلوات الله عليهم جميعاً ورضوانه وبركاته، أوصى أني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده حق عبادته، لا شريك له في الملك ولا ولي من الذل، وأنه خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأنه أول من عبد، وأحق من حُمد، ومن أطاعه رشد، ومن عصاه غوى وهوى، ومن تاب إليه اهتدى، ومن خالفه ضل، وإني أوصيك يا حسين بما خلفت من أهلي وولدي ونسائي، وأهل بيتك أن تحفظ منهم ما أوصاك الله، وأن توالي وليهم وتعادي عدوهم، وأن تكون لهم والداً، وأن تغفر لمسيئهم، وأن تقبل من محسنهم، وأن تدفنني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإني أقرب إليه، وأحق به ممن دخل بيته بغير إذنه، ولا بعهد عنده منه، لقوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} فوالله ما أمروا بالدخول بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا جاءهم كتاب من بعده بالإذن، فإن أتت عليك الامرأة فأناشدك الله والقرابة التي قرب الله منك، والرحم الماسة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة وأمير المؤمنين، وسيد المسلمين علي بن أبي طالب أن لا تهريق فيَّ دم محجمة، حتى تلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداً فتحجهم عنده، وتخبره بما كان من الناس إلينا بعده، ثم قبض رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته، وله سبع وأربعون سنة، وقيل: ست، وقيل: خمس، سنة اثنتين وخمسين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: تسع وأربعين، اختلفوا في تاريخ موته حسب اختلافهم في تاريخ عمره، ولما احتضر عليه السلام قال: لقد سقيت السم ثلاث مرات ما منهنَّ واحدة بلغت مني ما بلغت هذه، لقد تقطعت كبدي.

وروي أنه لما احتضر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أقدم على سيد لم أره، وأسلك طريقاً لم أسلكها، أخرجوا سريري إلى صحن الدار، حتى أنظر في ملكوت السماوات.

وروينا أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا يمشيان إلى الحج فلم يمرا براكب إلا نزل يمشي، فثقل ذلك على بعضهم فقالوا لسعد بن أبي وقاص: قد ثقل علينا المشي، ولا يستحسن أن نركب، وهذان الفتيان يمشيان، فقال سعد للحسن عليه السلام: يا أبا محمد، إن المشي قد ثقل على جماعة ممن معك، والناس إذا رأوكما لم تطب أنفسهم بأن يركبوا فلو ركبتما، فقال الحسن عليه السلام: لا نركب، قد جعلت على نفسي أن أمشي، ولكن أتنكب الطريق، وأخذ جانباً.

وروينا عن المغيرة عن أبي نجيح أن الحسن بن فاطمة عليهما السلام حج خمساً وعشرين حجة، وقاسم ماله ربه.

وروى السيد أبو الحسين يحيى بن الحسن الحسيني في كتاب نسب آل أبي طالب، بإسناده إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال: لقد حج الحسن بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً، وإن النجائب لتقاد معه، وتوفي عليه السلام بالمدينة، ثم إن الحسين دعا لغسله عبد الله بن عباس، وعلي بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر فقال لهم: اغسلوا ابن عمكم، فغسلوه وحنطوه، وألبسوه أكفانه، ثم خرجوا به حتى صلوا عليه في المسجد بمدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومشهده، ثم أمر الحسين أن يدخل البيت[112] فيحفر له فيه، فجاء مروان بن الحكم وآل سفيان ومن كان من ولد عثمان بن عفان فقالوا: أيدفن عثمان الشهيد المقتول ظلماً بالبقيع بشر مكان، ويدفن الحسن بن علي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله لا يكون ذلك أبداً حتى تقطع السيوف بيننا، وتكسر الرماح، وتنفذ النبل.

فقال الحسين بن علي: أما والذي حرم مكة للحسن بن علي أحق برسول الله وبيته أن يدفن فيه معه ممن دخل بغير عهدٍ منه، ولا كتاب جاء به بعده، وأحق به من عثمان حمال الخطايا، ومسير أبي ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفاعل بعمار بن ياسر وبعبد الله بن مسعود، واحماه للحما ايثاراً منه لبني أمية، وإيوائه الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصرتم بعده ولاة الأمر، وأتبعتم الأعداء وأبناء العداء، وكانوا لكم أعواناً على عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وولده ورزا، قال: فحملناه وأتينا به قبر فاطمة فدفناه إلى جنبها.

قال ابن عباس: فكنت أول من انصرف، وسمعت لفظ الحسين فخشيته أن يعجل على القوم على من أقبل، لأني رأيت شخصاً عرفت الشر فيه، فإذا أنا بعايشة مبادرة في أربعين راكباً، وهي على بغل تدخل تقدمهم وتأمرهم بالقتال، فقلت: يا سوأتاه، أين تريدين؟ فقالت: يابن عباس، لقد اجترأتم عليَّ تؤذونني مرة بعد مرة، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى هواه، فقلت: يا سوأتاه يوم على بغل ويوم على جمل، تطفين به نور الله، وتقاتلين أولياء الله، وتحولين بين رسول الله وبين حبيبه أن يدفن في بيته، فقد كفاه الله المؤنة، ودفن مع أمه، فلم يزدد دفنه مع أمه برسول الله إلا قرباً، ولم يزدد من أدخل بيتك بغير إذن رسول الله إلا بعداً، والله ما أذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبيك، ولا كان عندك وعنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد حرم الله دخول بيته على أبيك في كتابه وعلى من سواه فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} ولقد أخرج رسول الله أباك، وأدخل علياً إياه، وحرم المسجد على أبيك وعلى صاحبه وأحله للحسن ولأبيه، فيا سوأتاه فقد رأيت ما يسرك، وستردين معهم غداً على ما تكرهين، فقطبت في وجه ابن عباس وقالت بأعلى صوتها: أو ما نسيتم الجمل يابن عباس، إنكم لذووا حقود، فقال لها ابن عباس: والله ما نسيه أهل السماء فكيف ينساه أهل الأرض، إن ننساه نحن فإن الله تبارك وتعالى لا ينسا كل ذلك في علمه لايغيب عنه، ثم انصرفت، فهذا كلام الحسن في وصيته، وكلام الحسين عليهما السلام في القوم، وفعل عائشة هاهنا نقيض ما يحكى عنها من التوبة الأولى، كما هو نقيض توبتها المروية ما يحكى عنها، أنها لما جاءها خبر قتل أمير المؤمنين عليه السلام خرت ساجدة، وتمثلت بهذه الآبيات:

وبشرها فاستعجلت عن خمارها

 

وقد تستنفر المستعجلين البشائر

وخبرها الركبان أن ليس بينها

 

وبين قرى مصر ونجران كافر

فألقت عصاها واستقر بها النوى

 

كما قر عيناً بالإياب المسافر

وروى بعض العلماء أنه لما اتصل بها نعي أمير المؤمنين عليه السلام قالت: من قتله؟ فقيل لها: رجل من مراد، فأنشدت:

فإن يك نائياً فلقد نعاه

 

غلام ليس في فيه التراب

فانظر كيف فعلها، وقولها بعد التوبة المروية يشابهان ما كان منها قبلها، كما روي في كتاب الكامل[113] المنير عن عبد الله بن عباس حين أرسله أمير المؤمنين عليه السلام بعد وقعة الجمل إلى عائشة وهي نازلة في دار عبد الله بن خلف الخزاعي بالبصرة، فأمرها بالخروج إلى المدينة، فقالت: افعل والله أخرج، أما والله ما في الأرض أبغض من بلدة أنتم فيها معاشر بني هاشم، فقال لها عبد الله بن عباس: أما والله ما تلك يدنا عندك، لقد سمينا أباك صديقاً، واسمه عتيق بن أبي قحافة، وجعلناك للمسلمين أماً وأنت ابنة أم رومان، فقالت: أتمنون عليَّ برسول الله عليه السلام؟ فقال: إي والله إني لأمنُّ عليك بمن لو كان منك لمننت به عليَّ، ولن تخفى على الله خافية، وهو ولي الأمر سبحانه وتعالى.

ثم قام من بعده أخوه الإمام الحسين السبط، الشهيد بن علي عليهما السلام، وقد كان معاوية عقد الأمر لولده اللعين يزيد بن اللعين معاوية، وبايع الناس يزيد بعد موت أبيه ست سنين، وكان من يزيد لعنه الله من قتل الحسين وأهله وبقية المجاهدين معه، وسبي حرم رسول الله عليه السلام ما قد ظهر واشتهر.

وعن الأعمش بن سالم بن أبي الجعد قال: خطب عمر بن الخطاب الناس فقال: أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم، فقام الحسين بن علي من جانب المسجد فقال: أنصت أيها المتكلم، أنزل من على منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك، قال: منبر أبيك والله منبري، أبوك أمرك بهذا، قال: وإن كان أمرني إنه لهادي مهتدي، تخطأت رقاب بني عبد المطلب، ترقأ على منبرهم، وتقر بالحكم فيهم، بكتاب أنزل عليهم لا تحفظ تنزيله، ولا تعرف تأويله، بلا بلاء كان منك في ديننا، ولا من آبائك، بل أجلبتم لدين الله الغوائل، فيسألك الله عما أخذت وعما أعطيت، فقال عمر: أمرنا الناس عليهم فتأمرنا، ولو أمروا غيرنا لأطعنا، فقال له الحسين: من أمرك على نفسه من قبل أن تؤمر أبا بكر على نفسك، إنما أمرت أبا بكرٍ على نفسك ليؤمرك على الناس، فسألك الله عما أخذت وعما أعطيت، فنزل عمر مغضباً ومعه الناس، فدخل على علي وعنده الحسن بن علي فقال: ياأبا الحسن أدب الحسين، فإنه يجهر بالقول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، ويحضض طغام أهل المدينة، فقال الحسن بن علي: الحسين يخضض طغام أهل المدينة، على من خضض طغام أهل المدينة لعنة الله، أما والرافضان يوم جمع لولاه ما نلت ما نلت.

فقال علي رضي الله عنه: مهلاً ياأبا محمد، ما أنت بسريع الغضب، ولا بمشون الحسب، ولا فيك عرق من السودان تعجل بالكلام قبلي، وسكت.

فقال عمر: بلى يا أبا الحسن أدبهما فإن في أدبهما منك شرفاً لهما، فقال علي: إنما يؤدب أهل الذلة وأهل المعصية، فأما من أدبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدبه فضل فما يؤدب، فقال: إنهما أيهمان وفي قلوبهما ما لا علم لك به، قال فأدبهما فأديهما حقهما يرضى عنك خالقهما، قال: وما حقهما؟

قال: الرجوع إلى التوبة بعد المعصية، قال: فقام ومعه الناس خارجين من عند علي عليه السلام فلقيهم عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف فقال عثمان لعمر: لقد طالت بكما الحجة.

قال عمر: وهل مع علي وشبليه من حجة.

فقال عثمان بن عفان: هم بنو عبد مناف يسمنون والناس عجاف، ولقد رأيتهم في المواقف ظن المكروهات، حيث تزهق أنفس الناس[114] يكبون إلى الموت سراعاً.

قال عمر: كأنه سرك ما كان؟

قال عثمان: كأنك تنكر ما أقول؟

فقال: عبد الرحمن: أشربتما قلبي الفتنة، لا تقعن بينكم كلمة فانصرفا.

وعن الربيع بن المنذر الثوري، عن أبيه قال: سمعت الحسين بن علي عليه السلام يقول: إن أبا بكر وعمر عمدا إلى هذا الأمر وهو لنا كله، فجعلا لنا فيه سهم الجدة، والله لتهمهما أنفسهما يوم يطلب الناس فيه شفاعتنا، وقد قال الحسين بن علي عليه السلام في بعض رسائله إلى أهل البصرة: أما بعد، فإن الله قد ابتعث محمداً بالحق، واصطفاه على جميع الخلق، فكنا أهله وأولياؤه وذريته، وأحق الناس في الناس بمقامه، إلى آخر ما ذكره في قصة المشايخ واستيثارهم بالأمر.

فتأمل أيها الطالب للرشاد، كلام أهل الكساء عليهم السلام في القوم، وألفاظ أهل العصمة ففيها لك كفاية، وكان الحسين بن علي عليه السلام يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سرته إلى قدميه.

وروي أنه كان شديد البياض حتى كأنه يهتدى به إلى موضعه في الليل المدلهم، لشدة بياض وجهه ونحره، وكان من قتله عليه السلام ما هو مشهور، قتله سنان بن أنس النخعي، وقيل: لا بل قتله شمر بن ذي الجوشن، وأجهز عليه خولي بن زياد الأصبحي من حمير، وحز رأسه، ودفن جسده بكربلاء ورأسه في الشام، وعليهما مشهدان مشهوران مزوران، وترك بنو أمية رأسه عليه السلام فيخزائنهم، فأقام فيها إلى أيام سليمان بن عبد الملك، فأمر بإخراجه وتكفينه وتعظيمه، وكان قتله عليه السلام بالطق، والمتولي لحربه هنالك عمرو بن سعد بن أبي وقاص من عبيد الله بن زياد لعن الله قاتله وخاذله، والمعين عليه.

وروى السيد أبو الحسين يحيى بن الحسن بإسناده عن خالد بن يزيد عن أم سليم خالة له قالت: لما قتل الحسين بن علي مطرت السماء مطراً كالدم على البيوت والحيطان، فبلغني أنه كان بالبصرة والكوفة وبالشام وخراسان حتى كنا لا نشك أنه سينزل الهذال.

وروي أيضاً عن عمرو بن زياد قال: أصبحت جبايتنا يوم قتل الحسين بن علي ملأنه دم.

وروي عن حاجب عبيد الله بن زياد قال: دخلت القصر خلف عبيد الله بن زياد حين قتل الحسين فاضطرم وجهه ناراً، فقال: هكذا بكمه على وجهه، فقال: هل رأيت؟ قلات: نعم، فأمرني أن أكتم، وأخذ سراويل الحسين يحيى بن كعب فكأنما يداه يقطران دماً إذا أشتى وإذا صاف، يبستا وعادتا كأنهما عود يابس، وأخذ..............مالك بن بشير الكندي فلم يزل محتاجاً حتى مات، وأخذ عمامته جابر بن يزيد الأودي فاعتم بها فصار مجذوماً، وأخذ درعه مالك بن بشر الكندي فلبسها فصار معتوهاً.

وعن ابن قتيبة: أنتهب الناس ورساً من عسكر الحسين عليه السلام يوم قتل، فما طلت به امرأة إلا برصت، وكذلك رواه..............، وكان قتل الحسين بن علي عليه السلام في يوم عاشورا، وهو يوم الجمعة من المحرم لسنة إحدى وستين، وهو ابن ست وخمسين، وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول في الحسن والحسين عليهم سلام الله جميعاً: هم ولدا رسول الله، ويقول لولده محمد: ولدي وليس على وجه الأرض ولد أحدٍ لأبوين هما اعز على الله على وجه الأرض سوى الحسن والحسين عليهما السلام، أبوهما رسول الله سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وعلى آله، وأمير المؤمنين[115] وإمام المتقين، وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان ولده محمد بن الحنفية أشجع أهل زمانه، وقد روي أنه نحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمه، وكناه أبا القاسم.

وروينا من كتاب السفينة عن علي عليه السلام قال: قلت يا رسول، إن ولد لي ابن أسميه باسمك واكنيه بكنيتك، قال: نعم، ومنه أيضاً روي عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن ولد لك ولد فسمه باسمي وكنه بكنيتي، وهي لك خاصة دون الناس)) وبلغ من العلم والفضل الغاية القصوى، وروى عن أبيه عليهما السلام الآداب والحكم، وكان وصي الحسين لما خرج إلى كربلاء، وكان الحسين وصي الحسن، وكان الحسن وصي أبيه أمير المؤمنين، وكان أبوه وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين، كما تقدم بيان ذلك.

ولما توفي يزيد لعنه الله بويه بعده لولده معاوية بن يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، وكان له مذهب جميل في أهل البيت، وهو الذي سب أباه وجده على المنبر، فاعترف بحق أهل البيت عليهم السلام وتوفي، وقام بالأمر بعد مروان بن الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وروينا عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مروان: ((لعن الله الوزغة بن الوزغة، وأولاده إلى يوم القيامة)) فبويع في رجب سنة أربع وستين، ثم مات إلى لعنة الله، وقام بالأمر بعد عبد الملك بن مروان سنة خمس وستين، وهو الذي جهز بالجنود إلى حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله عليه وآله، ورمى الكعبة بالمنجنيق، وأمر بهدمها وردها على أساس الجاهلية، وولى الحجاج بن يوسف على ما بقي من المهاجرين والأنصار، يحكم فيهم برأيه،ختم على أعناق كثير منهم، وكانت فتلى الحجاج في أيامه صبراً مائة ألف وعشرين ألفاً، وتوفي في سجنه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، ثم مات عبد الملك إلى لعنة الله، وقام بعده بالأمر ولده الوليد بن عبد الملك، للنصف من شوال سنة ست وثمانين، وكان لا يرى للدين حرمة:

أم لهم كالحسن بن الحسن

 

بن علي السيد المؤتمن

إمام حق أوحد في الزمن

 

إجماع آل الحسين والحسن

هو الإمام الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، عقدت له البيعة في أيام عبد الملك، وأيام ولده الوليد بن عبد الملك، وسمي عليه السلام الرضى، وأجمع عليه آل الحسن وآل الحسين عليهم السلام، وبايعه علماء عصره، نحو عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن بن أبي الحسن البصري، وأبي البحتري الطائي، والشعبي، وأبي وائل شقيق، ومحمد بن سيرين، وعاصم بن ضمرة السلولي، وغيرهم، ثم مات الوليد بن عبد الملك لعنه الله.

وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ويل لبني أمية، ويل لبني أمية، ويل لبني أمية)).

وعن ابن مسعود: لكل شيء آفة، وآفة الدين بنو أمية.

وعن الشعبي: كان خطباء بنو أمية يسبون علياً فكأنهم يرفعونه إلى السماء، ويمدحون أسلافهم فكأنهم يكشفون عن جيفة، وقام بالأمر بعد الوليد أخوه سليمان بن عبد الملك، بويع له يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة[116] سنت ست وتسعين، وكان يأكل فلا يكاد يشبع، وكان يأكل في اليوم نحو من مائة رطل، ومات تخمة فهو شهيد بطنه إلى لعنة الله، وكان قد عقد الأمر لعمر بن عبد العزيز بغير علم عمر، بل كتب العهد مختوماً، وحلف الناس عليه، ثم فضه فإذا فيه ذكر عمر، فبويع له سنة تسع وتسعين، ولما ولي عمر بن عبد العزيز تنكب أعمال أهل بيته، وسماها مظالم، ولم ينزل في شيء من قصورها التي بنوها بأموال الله، ونزل البرية، ورد مظالم بني أمية إلى أربابها، ووصل أهل بيت النبي عليه السلام بعشرة آلاف مثقال أنفذها إليهم إلى المدينة، وزاد لفاطمة بنت الحسين شيئاً لما كتبت إليه جزاك الله من والٍ خيراً، فلقد أشبعت بطوناً من أهل بيت النبي جائعة، وكسوت ظهوراً عارية، وأخدمه من كان لا يقدر على خدمة نفسه، ورد عمر بن عبد العزبز ظلامة فدك على أولاد فاطمة عليها السلام، بلا احتلاف بين أهل العلم في ذلك، وقطع لعن علي عليه السلام على المنابر، وكان يقسم الأموال التي جمعها من تقدمه، وهو يصيح هلم إلى أموال الخونة، هلم إلى أموال الظلمة، وكان معترفاً بفضل أهل البيت عليهم السلام، وبهذه النكتة ترجى سلامته، ثم توفى عمر بن عبد العزيز.

أم هل لهم كالرجل السجاد

 

زين مطيعي الله والعباد

ابن الحسين سيد الأوتاد

 

ذي النفثات العلوي الهادي

ومن أيام يزيد بن معاوية إلى وفاة عمر بن عبد العزيز عاصرهم زين العابدين سلام الله عليه، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم سيد العابدين)) ويستم السجاد لكثرة سجوده، وتسمى زين العابدين لكثرة عبادته، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وقيل: في الليلة الواحدة، ويسمى ذو الثفنات، لعظيم عبادته، حتى صارت مساجده كالثنفات، وقطع عليه عليه السلام من مساجده سبعين قطعة من أثر العباده، فلما مات  قبرت معه، وله في الفضل والشرف ما اعترف به الموالف والمخالف، وهو القائل عليه السلام فيما نحن بصدده في موشحته القافية: فمن الأمان به على بلاغ الحجة، وتأويل الكتاب إلى أهل الكتاب، وأبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، الذين احتج الله بهم على خلقه، ولم يدع الخلق سدى، هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا فرع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين طهرهم الله تعالى من الرجس، وبرأهم من الآفات، هم العروة الوثقى، وهم معدن التقى، وخير حبال العالمين، وتبعها وقام بالأمر من بعد عمر بن عبد العزيز يزيد بن عبد الملك بويع له يوم الجمعة، لخمس بقين من رجب إحدى ومائة، وكان شديد الكبر، صاحب لذات ولهو، وكان له جاريتان حبابة وسلامة، وكان مشغوفاً بهما، وماتت حبابة فنبشها بعد الدفن، ولم يدفنها حتى لامه كبار أهله، بعد أن تغير ريحها، ومات بعدها بيسير أسفاً عليها:

أم كان فيهم كالولي بن الولي

 

 

إمام أهل الحق زيد بن علي

أم كان فيهم كأخيه الأفضل

 

 

محمد باقر علم المرسل

أو مثل عبد الله أعني ابن الحسن

 

 

أو مثل إبراهيم شبه المؤتمن[117]

ابن المثنى صنوه محيي السنن

 

 

أئمة الحق وأقمار الزمن

وفي أيام يزيد بن عبد الملك زيد بن علي وأخوه محمد بن علي الباقر، وعبد الله بن الحسن الكامل، وأخوه إبراهيم الشبه، وإنما سمي الشبه لأنه كان أشبه خلق الله بجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تولى بعد يزيد بن عبد الملك هشام بن عبد الملك، بويع له لست بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وكان جباراً عنيداً، ظلوماً غشوماً، ولما دخل عليه الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام قال له: أنت زيد المؤمل للخلافة، وما أنت وذاك، وأنت ابن أمه.

قال زيد بن علي: إن الأمة لو قصرت بولدها عن بلوغ الغاية لما بعث الله نبياً هو ابن أمة، وجعله أب العرب، وأبا خير البشر، وهو إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، وكانت أمع مع أم إسحاق كأمي مع أمك، وما تقصيرك برجل أبوه رسول الله، وجده علي بن أبي طالب.

فلما خرج زيد بن علي عليه السلام قال هشام لجلسائه: ألستم زعمتم أن أهل البيت انقرضوا، ألا لعمر الله ما انقرض قوم هذا خلفهم، ودخل عليه مرة أخرى، فجاء وفي مجلسه يهودي يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانتهره زيد بن علي وقال: يا كافر، أما والله لئن مكنت منك لأختطفنّ روحك، فقال هشام: مه يا زيد لا تؤذ جليسنا، فخرج زيد وهو يقول: من استشعر حب البقاء استدثر الذل إلى الفناء، فذلك الذي هاجه إلى الخروج على هشام، وهو الذي انتسب إليه الزيدية، وله من الفضائل ما لا يتسع له هذا الموضع، غير أنا نذكر منه طرفاً في هذا الموضع، فمن ذلك ما روينا عن محمد بن علي عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحسين: ((يا حسين يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يتخطأ هو وأصحابه رقاب الناس يوم القيامة، غير محجلين يدخلون الجنة)).

ومنه ما روينا بالإسناد إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الحسين بن علي وصلب ابنه زيد بن علي عليه السلام قلت: يا رسول الله، أترضى أن يقتل ولدك؟ قال: ((يا علي أرضى بحكم الله فيَّ وفي ولدي، ولي دعوتان، إما عوة اليوم وإما الثانية، فإذا عرضوا على الله عز وجل عرضت عليَّ أعمالهم، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: يا علي أمن على دعائي اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، وسلط بعضهم على بعض، وامنعهم الشرب من حوضي ومرافقتي، قال: فأتاني جبريل وأنا أدعو عليهم وأنت تؤمن فقال: قد أجيبت دعوتكما)).

وبالإسناد إلى يحيى بن ميمون رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يصلب رجل من أهل بيتي بالكوفة عريان لا ينظر أحد إلى عورته متعمداً إلا أعماه الله يوم القيامة)).

وروينا بالإسناد إلى علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن رجلاً يصلب هاهنا من ولدي لا ترى الجنة عين رأت عورته)).

وروينا عن ......العربي قال: كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام أنا والأصبع بن نباته في الكناسة في موضع الجزارين، والمسجد والخياطين، وهو يومئذٍ صحرا فما زال يلتفت إلى ذلك الموضع ويبكي بكاء شديداً ويقول: بأبي بأمي، فقال له الأصبع: يا أمير المؤمنين[118] لقد بكيت، والتفت حتى بكت قلوبنا وأعيننا، والتفت فلم أرى أحداً، قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يولد لي مولود ما ولد أبوه بعد يلقى الله غضباناً وراضياً له على الحق حقاً على دين جبريل وميكائيل ومحمد صلى الله عليهم أجمعين، وأنه يمثل به في هذا الموضع مثالاً ما مثل بأحد قبله ولا يمثل بأحدٍ بعده صلوات الله على روحه وعلى الأرواح التي تتوفا معه.

وبالإسناد إلى أبي ذر الغفاري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبكي فبكيت لبكائه فقلت: فداك أبي وأمي قد قطعت أنياط قلبي ببكائك، قال: ((لا قطع الله أنياط قلبك يا أبا ذر، إن ابني الحسين يولد له ابن يسمى علياً أخبرني حبيبي جبريل أنه يعرف في السماء بأنه سيد العابدين، وأنه يولد له ابن يقال له زيد، وأن شيعة زيد هم فرسان الله في الأرص، وأن فرسان الله في السماء الملائكة، وأن الخلق يوم القيامة يحاسبون، وأن شيعة زيد في أرض بيضاء كالفضة أو كلون الفضة، يأكلون ويشربون ويتمتعون، ويقول بعضهم لبعض: امضوا إلى مولاكم أمير المؤمنين حتى ننظر إليه كيف يسقي شيعته، قال: فيركبون على نجائب من الياقوت والزبرجد، مكللة بالجواهر، أزمتها اللؤلؤ الرطب، رحالها من السندس والاستبرق، قال: فبينما هم يركبون إذ يقول بعضهم لبعض: والله إنا لنرى أقواماً ما كانوا معنا في المعركة، قال: فيسمع زيد عليه السلام فيقول: والله لو شاركوكم هؤلاء فيما كنتم من الدنيا كما يشارك أقوام أتوا من بعد وقعة صفين، وإنهم لإخوانكم اليوم، وشركاؤكم اليوم)).

ومنه ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه نظر إلى زيد بن حارثة فقال: ((ادن يا زيد زادك اسمك عندي حباً، فأنت سمي الحبيب من أهل بيتي)).

ومن ذلك ما رويناه بإسناده إلى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خير الأولين والآخرين المقتول في الله، المصلوب في أمتي، المظلوم من أهل بيتي، سمي هذا ثم ضم زيد بن حارثة إليه، ثم قال: يا زيد لقد زادك اسمك عندي حباً، سمي الحبيب من أهل بيتي)).

ومن ذلك ما روينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقتل من ولدي رجل يدعا زيد بموضع يعرف بالكناسة يدعو إلى الحق يتبعه كل مؤمن ومؤمنة)).

وفي حديث الحسين بن علي عليهما السلام أنه قال: فإنه حدثني أبي أنه سيكون منا رجل اسمه زيد يخرج فيقتل، فلا يبقى في السماء ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلى يلقى روحه، يرفعه أهل سماء إلى سماء فقد بلغت، يبعث هو وأصحابه يتخللون رقاب الناس، فقال: هؤلاء خلف الخلق، ودعاة الحق.

ومن ذلك ما روينا عن ابن عباس قال: بينما علي عليه السلام بين أصخابه إذ بكا بكاءاً شديداً حتى لبقت لحيته فقال له ابنه الحسن عليه السلام: ما لك تبكي؟ قال: يا بني لأمور خفيت عليك أنبأني بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وما أنبأك به رسول الله صلى الله عليه؟

قال: يا بني لولا أنك سألتني ما أخبرتك لئلا تحزن، ويطول همك، أنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[119] فذكر حديثاً طويلاً قال فيه: ((يا علي كيف أنت إذا وليها الأحول الذميم، الكافر اللئيم، فيخرج عليه خير أهل الأرض من طولها والعرض؟ قلت: يا رسول الله من هو؟ قال: رجل أيده الله بالإيمان، وألبسه قميص البر والإحسان، فيخرج في عصابة يدعون إلى الرحمن، أعوانه من خير أعوان، فيقتله الأحول ذوا الشنآن، ثم يصلبه على جذع زمان، ثم يحرقه بالنيران، ثم يضربه بالعسبان حتى يكون رماداً كرماد النيران، ثم تصير إلى الله عز وجل روحه وأرواح شيعته إلى الجنان)).

وروينا بالإسناد إلى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن الحسين بن علي عليهما السلام أن علياً أمير المؤمنين صلوات الله عليه خطب خطبة على منبر الكوفة، فذكر أشياء وقتها حتى ذكر أنه قال: ثم تملك هشام تسعة عشر سنة، وتوارته أرض رصافة رضفت عليه النار، مالي ولهشام جبار عنيد، قاتل ولدي الطيب المطيب، لا تأخذه رأفة ولا رحمة، يصلب ولدي بالكناسة بالكوفة، زيد في الذورة الكبرى من الدرجات العلى، فإن يقتل زيد فعلي سنة أبيه، ثم الوليد فرعون خبيث شقي غير سعيد، ياله من مخلوع قتيل، فاسقها وليد وكافرها يزيد، وطاغوتها أزيرق، متقدمها ابن آكلة الأكباد، ذره يأكل ويتمتع ويلهه الأمل فسوف يعلم من الكذاب الأشر.

وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: يخرج مني بظهر الكوفة رجل يقال له زيد في أبهة سلطان، والأبهة الملك، لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون، إلا من عمل بمثل عمله، يخرج يوم القيامة هو وأصحابه معهم الطوامين، لم يتخطوا أعناق الخلائق، قال: فتلقاهم الملائكة فيقولون: هؤلاء خلف الخلف، ودعاة الحق، يستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وآله فيقول: ((قد عملتم بما أمرتم ادخلوا الجنة بغير حساب)).

وروينا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: الشهيد من ذريتي القائم بالحق من ولدي، المصلوب بكناسة كوفان، إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، يأتي يوم القيامة هو وأصحابه تتلقاهم الملائكة المقربون، ينادونهم ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

وروينا عن أبي غسان الأزدي قال: قدم زيد بن علي إلى الشام أيام هشام بن عبد الملك فما رأيت رجلاً كان أعلم بكتاب الله منه، ولقد حبسه هشام خمسة أشهر يقص علينا ونحن معه في الحبس بتفسير الحمد وسورة البقرة يهذ بذلك هذا.

وروينا بالإسناد الموثوق به أيضاً أن زيد بن علي سأل محمد بن علي الباقر عليهما السلام كتاباً كان لأبيه فقال له محمد بن علي: نعم، ثم نسي، فلم يبعث إليه فمكث سنة، ثم ذكر فلقي زيداً فقال: أي أخي ألم تسأل كتاب أبيك؟ قال: بلى، قال: فوالله ما منعني أن أبعث به إلا التيهان، فقال زيد: قد استغنيت عنه، فقال: تستعني عن كتاب أبيك، قال: نعم، استغنيت بكتاب الله، قال: فاسألك عما فيه؟ قال له زيد: نعم، قال: فبعث محمد إلى الكتاب، ثم أقبل بسأله عن حرف حرف، وأقبل زيد يجيبه حتى فرغ من آخر الكتاب، فقال له محمد: والله ما خرمت منه حرفاً واحداً.

وروينا عن بشر بن عبد الله قال: صحبت علي بن الحسين، وأبا جعفر، وزيد بن علي، وعبد الله بن الحسن، وجعفر بن محمد، فما رأيت أحداً كان أحضر جواباً من زيد بن علي عليهما السلام.

وروينا عن سعيد بن خثيم قال: كان زيد بن علي عليهما السلام إذا كلمه رجل أو ناظره يعجله عن كلامه حتى يأتي على[120] آخره، ثم يرجع عليه فيجيبه عن كلمة كلمة، حتى يستوفي عليه الحجة.

وروينا عن أبي سدير قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام، فأصبنا منه خلوة فقلنا: اليوم نسأله عن حوائجنا كما نريد، فبينما نحن كذلك إذ دخل زيد بن علي عليهما السلام وقد كثفت عليه ثيابه، فقال له أبو جعفر: بنفسي أنت ادخل، فأفض عليك من الماء، ثم اخرج إلينا، فخرج إلينا متفضلاً، فأقبل أبو جعفر يسأله، وأقبل زيد يخبره بما يحتج عليه، والذي يحتج به، قال: فنظرت إلى وجه أبي جعفر فتهلل، قال: ثم التفت إلينا أبو جعفر فقال: ياأبا سدير، هذا والله سيد بني هاشم، إن دعاكم أجيبوه، وإن استنصركم فانصروه، تم الخبر.

ومعنى قوله: فخرج إلينا متفضلاً أي متبذلاً، وخرج عليه السلام على هشام مجاهداً في سبيل الله سابقاً، وكان قيامه لسبع بقين من المحرم سنة اثنتين وعشرين ومائة، وله حديث يطول هاهنا، إلا أنه رمي بنشابة في جبينه فمات عليه السلام، فحرقوه بالنار، وخبطوه بالشماريخ في العثاكيل حتى صار رماداً، ونسفوه في البر والبحر، وذروه في الرياح، بعد أن صلبوه زماناً لعن الله قاتله وخاذله، والمعين عليه، والمحكى عن زيد بن علي عليه السلام فيما نحن بصدده أنه نسب ما أصابه من ظلم هشام إلى الشيخين، لأجل كونهما أول من سن ظلم العترة، والتقدم على الأئمة.

وعن عبد الرحيم البارقي، عن زيد بن علي عليه السلام قال: الإمامة والشورى لا تصلح إلا فينا، رويناه من كتاب السفينة.

وعن أبي الجارود أن المعتزلة قالوا لزيد بن علي عليه السلام: سلم لمن مضى وننصرك، قال: كل لواء عقد في الإسلام لغيرنا فهو لواء ضلالة.

وعن فضيل المرسان قال: قال زيد بن علي عليه السلام قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أولى الناس بالناس علي بن أبي طالب، ثم قبض علي فكان أولى الناس بالناس الحسن، ثم قبض الحسن فكان أولى الناس بالناس الحسين بن علي عليهما السلام، ثم سكت.

وروي أيضاً عن زيد بن علي عليه السلام أنه قال: كان علي عليه السلام يقول: بايع الناس والله أبا بكر، وأنا أولى بهم منه مني بقميصي هذا، فكظمت غيظي، وانتظرت أمري، وألزقت كلكلي بالأرض، ثم إن أبا بكر هلك واستخلف عمر، وقد والله علم أني أولى بالناس منه بقميصي هذا، فكظمت غيظي، وانتظرت أمري، ثم إن عمر هلك وجعلها شورى، وجعلني فيها سادس ستة كسهم الجدة، فقال: اقتلوا الأول، فكظمت غيظي وانتظرت أمري، وألزقت كلكلي بالأرض حتى ما وجدت إلا القتال أو الكفر بالله.

وقال عليه السلام في كتاب الصفوة: واعلم أن ما أصاب الناس الفتن، واشتبهت عليهم الأمور من قبل ما أذكر لك، فاحسن النظر في كتابي هذا، واعلم أنك لن تستشفي بأول قولي حتى تبلغ آخره إن شاء الله تعالى، وذلك أنهم لم يروا لأهل بيت نبيهم فضلاً عليهم يعترفون لهم به في قرابتهم من النبي صلى الله عليه وآله، ولا علماء بالكتاب ينتهون إلى شيء من قولهم فيه.

وقال عليه السلام: وليس كتاب إلا وله أهل هم أعلم الناس به، ضل منهم من ضل، واهتدى من اهتدى، ثم قال عليه السلام بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو جدنا وابن عمه المهاجر معه أبونا وابنته أمنا، وزوجته أفضل أزواجه جدتنا، فمن أهل الأنبياء إلا من نزل منزلتنا من نبينا صلى الله عليه وآله والله المستعان، واحتج على ذلك بقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً[121] وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}.

وحكى عنه الحاكم رحمه الله أنه قال: الرد إلينا ونحن والكتاب الثقلان.

وروى عنه الحاكم أيضاً في كتاب السفينة أنه قال: نحن ولاة أمر الله، وخزان علم الله، وورثة وحي الله، وعترة نبي الله، وشيعتنا دعاة الشمس والقمر، والله لا تقبل التوبة إلا منهم، ولا يخص بالرحمة يوم القيامة سواهم.

ومن ذلك ما ذكره عليه السلام في رسالته المشهورة المسموعة قال الرواة: هذه الرسالة للإمام الرضي، والحسام المشرفي زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى جميع النبيين وسلامه، حدثنا القاضي الأجل يحيى بن عطية إجازة، قال حدثنا الفقيه الأجل حبر المدارس، وصدر المجالس، حسام الدين، وزين الموحدين، حميد بن أحمد -أدام الله علوه- إجازة وبعضه سماعاً قال: حدثنا الفقيه الأجل العالم، الزاهد العابد، بها الدين علي بن أحمد بن الحسن بن المبارك الأكوع رضوان الله عليه، قال حدثنا الشيح الأجل، العالم الفاضل الصالح أبو علي بن صالح السمانة الكوفي الزيدي -أيده الله- بمكة- حرسها الله تعالى- بظهور الحق وأهله، فقال: حدثنا الشيخ الصالح أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله الزيدي بن ملاعب الأسدي المفسر، قال: أخبرنا السيد الشريف تاج الدين أبو البركات عمر بن إبراهيم العلوي الحسني إجازة، قال أخبرنا السيد الشريف العلامة أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين بن عبد الرحيم العلوي رضي الله عنه، قال: أخبرنا أبي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن سعيد الرقي، قراءة عليه سنة ست وخمسين وثلاثمائة، قال حدثنا محمد بن علي بن جعفر العطار، قال حدثنا محمد بن مروان الغزال، عن إبراهيم الحكم بن ظهير، عن أبيه، عن السدي، عن زيد بن علي عليه السلام قال: هذا قول من خاف مقام ربه، واختار لنفسه ودينه، وأطاع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أهل بيته، واجتنب الشك واعتزله، والظن والدعوى والأهوى، والشبهات والقياس، وأخذ عند ذلك بالحق من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وعلى أهل بيته بالحجة البالغة، والثقة واليقين، فاحتج بذلك على من خالفه بخلاف الحق، ويرى الواجب مما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أهل بيته وأصحابه البدريين من كتاب الله وسنة نبيه، وما جاء به الرسول في كتاب الله وسنة نبيه، وتركنا ما قالت الأمة برأيها فنثق برأيها، فاختلفت فيه بلا فقه ولا يقين ولا حجة؛ لأن الرأي قد يخطئ ويصيب، فما كان يخطئ مرة ويصيب مرة فليس بحجة ولا يقين ولا ثقة، وذلك أن الأمة أجمعت على أن النبي صلى الله عليه وآله والبدريين اجتمعوا يوم بدر حيث شاورهم النبي صلى الله عليه وآله فيما شاور أهل بدر، فاتفق رأيهم ورأي النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه البدريين، أن يقبلوا منهم الفداء من الأسارى، وكان ذلك الرأي من النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه البدريين صواباً[122] وقد كان خطأ عند الله عز وجل، حتى نزل على نبيه صلى الله عليه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فالذي يخطئ مرة ويصيب مرة فليس ما يخطئ ويصيب بيقين، ولا حجة ولا ثفة، ولكن الحجة علينا عند الله الطاعة لله ولرسوله، وما أجمعت عليه الأمة بعد الرسول مما جاء به الرسول، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بين الله في كتابه فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} والآخذون بما جاء الرسوله به من كتاب الله وسنة نبيه، مطيعون لله ولرسوله، مستوجبون من الله الكرامة والرضوان، والتاركون لذلك عاصون لله وللرسول، مستوجبون من الله العذاب.

أما بعد فإنا قوم لم ندرك النبي صلى الله عليه وآله، ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفوا بينهم، فنعلم كيف كان الخلاف بينهم، ونعلم أي الفريقين أولى بالحق والصدق، فنتابعهم ونتولاهم، ونكون معهم كما قال الله تعالى في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ونعلم أي الفريقين أولى بالكذب والضلال فنجتنبهم كما أمر الله، فهذا غائب عنا -يعني أمرهم- وكان كما قال الله تعالى في كتابه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} حتى إذا أدركنا العقل طلبنا معرفة الدين وأهله من الحق والصدق، فوجدنا الناس مختلفين يتبرأ بعضهم من بعض، وقد يجمعهم في حال اختلافهم فريقان، فريق قالوا أن الرسول عليه السلام وعلى أهله مضى ولم يستخلف أحداً بعينه، وأنه جعل ذلك إلينا معاشر المسلمين نختار لأنفسنا رجلاً فنستعمله عليها، فاخترنا أبا بكر، وفرقة قالوا: إن النبي صلى الله عليه وآله استخلف علياً فجعله خليفة وإماماً، نستبين به بعده، فصار كل فرقة منهم مدعية تدعي الحق، فلما رأينا ذلك أوقفنا الفريقين جميعاً حتى نستبين ذلك، ونعلم المحق من المبطل، ثم سألنا الفريقين جميعاً كيف كان النبي صلى الله عليه وآله يقضي بين الخصمين، والفريقين إذا اجتمعوا إليه، فاجتمع الفريقان جميعاً على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقضي بين الفريقين إذا اجتمعوا إلا بالبينة العدول من غير أهل الدعوى، ممن لا يحر إلى نفسه، فقبلنا منهم حين اجتمعوا عليه، وشهدنا أنه الحق، وأن من خالف حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد جار وظلم، ثم سألنا الذين زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف علي بن أبي طالب ومضى هل لكم بينة عدول من غيركم على من ادعيتم فنصدقكم، ونقضي لكم، قالوا: لا نجد بينة عدول من غيرنا، ثم سألنا الذين زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضى ولم يستخلف أحداً، وأنه جعل ذلك إليهم ليختاروا أنفسهم، فاختاروا أبا بكر، فهل لكم من بينة عدول من غيركم، ونصدقكم ونقضي لكم؟ قالوا: لا نجد بينة عدولاً من غيرنا، فلما لم يجد الفريقان البينة العدول من غيرهم[123] على ما ادعوا، أوقفناهم حتى نعلم المحق من المبطل.

ثم سألنا الفريقين جميعاً هل للناس بد من وال يصلي بهم ويقيم أعيادهم، ويجبي زكواتهم ويعطيها فقرارهم ويقسمها، ويقضي بنيهم، ويأخذ لضعيفهم من قويهم، ويقيم حدودهم؟ فاجتمع الفريقان على أنه لابد من وال إمام يقيم فيهم بالحق، ويعمل فيهم بالسنة، فقبلنا منهم وشهدنا أنه لابد للناس من والٍ يقيم فيهم بالحق، ويعمل فيهم بالسنن، ثم سألنا الفريقين هل للناس أن يتبرعوا بتولية رجل، ويجعلونه إماماً وخليفة عليهم قبل أن ينظروا في كتاب الله عز وجل والسنة، فإن وجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وبفعله يولونه بفضله عليهم في الكتاب والسنة؟ فاجتمع الفريقان على أن ليس لأمة أن يتبرعوا بولاية رجل يختارونه، ويجعلونه عليهم ولياً يحكم بينهم دون أن ينظر في كتاب الله عز وجل والسنة، وإن وجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وفعله ولوه عليهم، إن لم يجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وفعله، كانت لهم الشورى بعد ذلك بما وافق الكتاب والسنة، فلما أجمعوا على ذلك قبلنا منهم، وشهدنا أنه ليس لأمة أن يتبرعوا بتولية وال، على أن يجعلوه الخليفة والإمام دون أن ينظروا في الكتاب.

ثم سألنا الفريقين عن الإسلام الذي أمر الله تعالى به خلقه ما هو؟ فاجتمعوا على أن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به نبيهم صلى الله عليه، وصلاة الخمس، وصوم شهر رمضان، والحج إلى بيت الله من استطاع إليه سبيلاً، والعمل بهذا القرآن، أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويعمل بما فيه، فقبلنا منهم حيث اجتمعوا عليه فشهدنا أنه الحق، ثم سألنا الفريقين جميعاً هل لله خيرة من خلقه اختارهم واصطفاهم، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه، فقالوا: قول الله تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} فقبلنا منهم، حيث اجتمعوا على ذلك، وشهدنا بأن لله خيرة من خلقه، ثم سألناهم من خيرة الله من خلقه؟ فقالوا: المتقين، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه، فقالوا: قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فقبلنا حيث اجتمعوا-يعني على ذلك- وشهدنا أنه الحق، وأن خيرة الله من خلقه المتقون.

ثم سألنا الفريقين هل لله خيرة من المتقين؟ فقالوا: نعم، فقلنا: من هم؟ فقالوا: المجاهدون في سبيل الله، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه، فقالوا: قول الله تبارك وتعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً، دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} فقبلنا منهم، وشهدنا أن خيرة الله من خلقه المجاهدون في سبيل الله من المتقين.

ثم سألنا الفريقين: هل لله من خيرة من المجاهدون في سبيل الله؟

قالوا: نعم، فقلنا: من هم. فقالوا: السابقون من المهاجرين إلى الجهاد.

فقلنا: ما برهانكم عليه؟

قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فقبلنا ذلك منهم، وشهدنا أن خيرة الله من المجاهدين السابقون إلى الجهاد.

ثم سألنا الفريقين: هل لله خيرة من السابقين إلى الجهاد؟

قالوا: نعم، أكثرهم[124] عملاً في الجهاد، وأكثرهم ضرباً وطعناً وقتالاً في سبيل الله.

فقلنا: ما برهانكم؟

قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} فقبلنا منهم، وشهدنا أن خيرته من السابقين إلى الجهاد أكثرهم عملاً في الجهاد، وأبذلهم لله مهجة، وأكثرهم قتالاً لعدوه.

ثم سألنا الفريقين عن هذين الرجلين الذين اختلفت فيهم الأمة علي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله وأبي بكر بن أبي قحافة أيهما كان أكثر عملاً في الجهاد في سبيل الله، وأكثرهم ضرباً وطعناً، وصبراً وقتالاً، ومنفعة وخوفاً منه من خالف الحق في سبيل الله؟ فاجتمع الفريقان على أن علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام كان أكثرهم عملاً في الجهاد في سبيل الله، فلما اجتمعوا على ذلك الفريقان جميعاً قبلنا منهم، وشهدنا أن علي بن أبي طبالب خير من أبي بكر بما دل عليه الكتاب والسنة فيما اجتمعوا عليه من فضله في كتاب الله الذي لا خلاف فيه، فدل ما اجتمعت عليه الأمة على أن خيرة الله المتقين، وأن خيرة الله من المتقين المجاهدون في سبيل الله، وأن خيرة الله من المجاهدين السابقون إلى الجهاد، وأن خيرة الله من السابقين أكثرهم عملاً في الجهاد، واجتمعت الأمة على أن خيرة الله من السابقين في الجهاد البدريون، وأن خيرة البدريين المجاهدون هذان الرجلان اللذان اختلفت فيهم الأمة علي بن أبي طالب وأبو بكر، فلم يزل الفريقان يصدق بعضهم بعضاً، ويدل بعضهم على بعض، حتى دلوا على خيرة هذه الأمة بعد نبيها بما اجتمعت عليه الأمة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله.

ثم سألنا الفريقين حيث اجتمعوا على أن خيرة الله هم المتقون فسألنا فيه من هم؟

فقالوا: هم الخاشيون، فقال: ما برهانكم عليه؟ فقالوا: قول الله تبارك وتعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} {وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} فقلنا: من هم؟ وشهدنا أن المتقين هم الخاشيون.

ثم سألنا الفريقين عن الخاشين؟ فقالوا: العلماء، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟

قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فقلنا: من هم؟ وشهدنا أن الخاشين هم العلماء.

ثم سألنا الفريقين عن أعلم الناس من هو؟ فقالوا: أعمل الناس بالعدل، وأهداهم إلى الحق، وأحقهم أن يكون متبوعاً حاكماً، ولا يكون تابعاً.

فقلنا: ما برهانكم عليه؟

قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فجعل الحكومة لأهل العدل، وأهل العلم.

ثم سألنا الفريقين عن أعلم الناس بالعدل من هو؟

قالوا: أدل الناس على العدل، ثم سألناهم: من أدل الناس على العدل من هو؟

قالوا: أهدى الناس للحق، وأحق الناس أن يكون متبوعاً، ولا يكون تابعاً، فقلنا: ما برهانكم عليه؟

قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فدل ما اجتمعت عليه الأمة من كتاب الله الذي لا اختلاف فيه على أن علي بن أبي طالب عليه السلام خير هذه الأمة، وأنه أتقى الأمة، وأنه إذا صار أتقى الأمة صار أخشاها؛ لأنه صار أعلم الأمة، وإذا صار أعلم[125] الأمة، صار أدل الأمة على العدل، وإذا صار أدل الأمة على العدل صار أهدى الأمة إلى الحق، وصار أحق الأمة أن يكون متبوعاً، ولا يكون تابعاً، وأن يكون حاكماً، ولا يكون محكوماً عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.

هذا ما أجمعت عليه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم أجمعت على أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم مضى وخلف فينا كتاب الله الذي أنزل عليه، وأمرنا أن نعمل بما فيه، وبلغنا النبي صلى الله عليه وآله ذلك فقال في الكتاب: جعلناه تبيانا لكل شيء وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين، واجتمعت الأمة على أنه لابد لهم من والٍ يجمعهم، ويدبر أمورهم، واجتمعت على أنه لا يحل لهم أن يعملوا عملاً ويقولوا اقرأ علينا هذا القرآن، فيمضوا لما يأمرهم به القرآن الذي يعرفه صغيرهم وكبيرهم، فيقولون: اقرأ حتى إذا بلغ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} فيقولون: أثبتها واعزلها فإنا نجد الله سبحانه وتعالى خلق الخلق فاختار من خيرة الخلق ما ليس لنا أن نختار غيرهم، ثم يقولون: اقرأ حتى ننظر من خيرته من خلقه الذين اختارهم، فيقرأ حتى إذا بلغ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فيقولون: قد فسرت لنا هذه الآية، وقد دلتنا على أن خيرة الله من خلقه المتقون، ثم يقولون: اقرأ حتى نعلم من المتقين، فيقرأ حتى إذا بلغ: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} فيقولون: قد دلت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشيون، ثم قالوا: اقرأ حتى إذا بلغ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فيقولون: قد دلتنا هذه الآية على أن الخاشين هم العلماء، ثم قالوا اقرأ حتى نعلم أي العلماء أخير وأفضل أم غيرهم، فيقرأ حتى إذا بلغ: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} فيقولون: قد دلتنا هذه الآية على أن العلماء أفضل من غيرهم، ثم يقولون: اقرأ حتى إذا بلغ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيقولون: قد فسرت لنا هذه الآية، ودلتنا على أن الله تبارك وتعالى قد اختار أهل العلم، وفضلهم ورفعهم فوق الذين آمنوا درجات، وأجمعت الأمة على أن الفقهاء العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأخذون عنهم أبواب صلواتهم وزكواتهم، وطلاقهم وسننهم، وفرائضهم ومشاعرهم، فقالوا: أربعة علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت الأنصاري.

وقالت طائفة: عمر بن الخطاب، فسألنا الأمة، من أولى الفقهاء العلماء بالتقدم بالصلاة إذا حضروا؟ فاجتمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يؤمكم أقرأكم لكتاب الله، وأفقهكم في دين الله)) فسألنا أي الخمسة أقرأ لكتاب الله عز وجل؟ فاجتمعوا على أن الأربعة أولى بالتقدم من عمر، ثم سألنا الأمة: أي الأمة أولى بالإمامة؟ فأجمعت الأمة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الأئمة من قريش)) فسقط اثنان من الأربعة عبد الله بن مسعود[126] وزيد بن ثابت؛ لأنهما لم يصلحا للإمامة؛ لأنهما ليسا من قريش، فبقي علي بن أبي طالب عليه السلام وعبد الله بن عباس، مسلمين فقيهين، عالمين قرشيين، فسألنا الأمة إذا كانا عالمين فقيهين قرشيين أيهما أولى بالإمامة؟ فأجمعت الأمة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا كانا فقيهين عالمين فأكبرهما وأقدمهما في الهجرة)) فسقط عبد الله بن عباس، وحصل علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلم، وصار أحق الناس بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ما اجتمعت عليه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، اجتمعوا على أن لله خيرة من خلقه اختارهم واصطفاهم، وجعلهم أدلا على الفرائض والحكم على خلقه، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟

قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فاجتمعوا على أن الأمة المسلمة خلقها الله من ذرية إسماعيل بن إبراهيم خاصة، وأنهم آل إبراهيم خاصة المصطفين، الذين اختارهم الله واصطفاهم على العالمين، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟

قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فقبلنا منهم، وشهدنا أن الأمة المسلمة خلقها الله تبارك وتعالى خلقها من ذرية إسماعيل خاصة، وأنهم آل إبراهيم الذين اصطفاهم الله على العالمين، وأنهم أهل البيت الذين رفع الله منهم الأئمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل، وبعث فيهم الرسول فصار البيت الذي بعث الله محمداً عليه السلام صار أولئك ذرية إبراهيم حقاً يقيناً؛ لأن الأمة اجتمعت على أن إبراهيم المصطفى وذرية إبراهيم الذين على دين إبراهيم، واجتمعت الأمة على بني هاشم هم الذين استجابوا للرسول عليه السلام وصدقوه، فتلا عليهم آياته، كما تلا عليهم الكتاب والحكمة وزكاهم، واجتمعت الأمة على أنهم فيها أمة وسطاً، ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيداً، فجعل الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم شهيداً بما أنزل عليهم تلاوة الكتاب، وتعليمه إياهم للكتاب، كما قال إبراهيم وإسماعيل ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، ولم يقولا اجعل الأمة مسلمة من ذريتنا ومن غير ذريتنا، ولكنهما أفردا الأمة المسلمة، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك خاصة، وابعث فيهم رسولاً منهم، ولم يقولا: وابعث من غيرهما رسولاً، ولكنهما قالا: ومن ذريتنا، وابعث فيهم رسولاً منهم، فصار الرسول من أنفسهم شهيداً عليهم، بما أتى إليهم من الكتاب، وصاروا شهداء على الناس بما يكون على الناس من علم الكتاب والحكمة، وقال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.

وهذا ما اجتمع عليه كل بار وفاجر، وكل مؤمن وكافر، اجتمعوا على أن الميت إذا مات فأهل بيته[127]أولى بميراثه، فاجتمعت الأمة على أن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة، فأقام في قومه عشرين سنة، كما حكم الله عليه وجادلهم بالتي هي أحسن، فسموه مجنوناً وكذاباً، وكاهناً وساحراً، فأقام مع المشركين وهم في شركهم حتى انقضت الأيام والسنون، ثم أمر الله عز وجل أن ينصر هجرته، وأن يشهر سيفه، وأن يصير إلى حيث يقاتل من خالفه، وأن يقيم الحدود، وان ياخذ للضعيف من الشديد، فلم يزل ناصباً هجرته، شاهراً سيفه، يقاتل من خالفه، ويقيم الحدود، حتى لحق بالله عز وجل، واجتمعت المة على أن النبوة لا تورث، فقبلنا منهم، وشهدنا أن النبوة لا تورث، وسألنا الأمة تقاد الذي جاء من عند الله بالسنن وإقامة الحدود، وتدفع كل ذي حق حقه نبوه، فكان من عمل بها فهو نبي، فقالوا: لا، ولكن النبوة للاختيار عن الله، والسبيل بالكتاب والسنة، فهذا بيان لمن تفكر فيه، ولم يعطف الحق إلى هواه، ورضي بالحياة الدنيا واطمأن بها، تمت رسالته عليه السلام.

ومن ذلك ما يروى عن العباس بن بكار قا لحدقنا شيبة بن شيبة، قال سمعت خالد بن صفوان بن الأهيم المنقري يقول: لما قدم زيد بن علي بن الحسين عليه السلام بن علي بن أبي طالب صولت الله عليه على هشام بن عبد الملك وهو يومئذٍ بالرصافة، وكان الناس يخبرون عن ابن عيينة، وكثرة علمه، وبيان حجته، وفصاحة لسانه، وشدة قلبه، دخلت عليه في منزله فسلمت عليه، وجلست وهو متكئ، فذكرت له أمر أبي بكر وعمر، ثم ذكرت له قتل عثمان، وأنه قتله قوم ليسوا من المهاجرين، ولا من الأنصار، فلما سمع كلامي استوى قاعداً فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وآله وعلى أهل بيته، وذكر أن أبا بكر وعمر، ثم انتهى كلامه إلى ذكر عثمان، وأنه سار بسيرة صاحبيه، وكان على منهاجهما، ثم مال إلى الطلقاء وأبناء الطلقاء، فاستنزلوه فنكب على نفسه، فاجتمع في أمره المهاجرون والأنصار، فاستعتبوه فأبا إلا تمادياً فيما لا يوافق الكتاب ولا السنة التي اجتمعوا عليها، فقتلوه، فقلت له: أكل المسلمين قتلوه يابن رسول الله؟ فقال: لا، لكن بعض قتل وبعض خذل، والقاتل والخاذل سواء، فمكث ملقى جصته لا تدفن أياماً ثلاثاً.

قلت: فما منعهم من دفنه يابن رسول الله؟

فقال: لو أنهم أرداوا دفنه لم يروا قتله، فأقام ثلاثة أيام على المزبلة، فكان الصبيالن يمشون على بطنه ويقولون:

أبا عمرو أبا عمروا رماك الله بالجمر

 

ولقاك من النار مكاناً ضيق القعر

 فما تصنع بالمال إذا حدرت في القبر

 

 ثم انطلق المسلمون من المهاجرين والأنصار فتشاوروا فبايعوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه طائعين غير مكرهين، راضين غير ساخطين، عملهم من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، حتى نكث بيعته رجال من المهاجرين، من غير حدث نقموا منه غير العدل في القضية، والقسم بالسوية، وذلك أن طلحة والزبير أتيا ومعهما موليان لهما، وحضر العطا فأعطاهما علي بن أبي طالب، وأعطى الموليين كما أعطى السيدين، فغضب طلحة والزبير فنكثا البيعة، وأنشب الحرب له، فجد في قتالهما حتى نصره الله، فقتلا ناكثين، أما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم أصابه عند أصل الساق فنزف الدم[128] الدم حتى مات، وفي ذلك يقول مروان بن الحكم:

شفيت غليلاً كان في الصدر كالشجى

 

 

بقتلي قتال ابن عفانا عثمانا

وما أن أبالي بعد قتلي طلحة

 

 

قتلت بعثمان بن عفان إنسانا

 وأما الزبير بن العوام فقتله رجل من تميم يقال له: عمر بن جرموز نظر إليه فاراً فتبعه حتى قتله، وفي ذلك يقول عمير:

أتيت علياً برأس الزبير
فبشر بالنار قبل العتاب
لقتل الزبير ومثل الزبير

 

وقد كنت أرجو به الزلفة
فبئس النجية والتحفة
كضرطة عنزٍ بذي الجحفة

قال خالد بن صفوان: فلما فرغ من ذلك طلحة والزبير وعائشة، وشأن الحرب يوم الجمل قال: قلت يابن رسول الله، الناس يزعمون بالشام أن عثمان قتله رجال من أهل مصر ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار؟ فقال: ما أشد غفلتك يابن الأهيم، وهل كان فيهم إلا قاتل وخاذل، أو لم تسمع شاعرهم حيث يقول:

قتلنا ابن أورى بالكتاب ولم نكن
أطاع سعيداً والوليد وعمه
وقول أبي سفيان إذ كان قاتلاً

 

لنقتله إلا بأمرٍ محكم
ومروان في المال الحرام وفي الدم
وصيته في كل غيٍ ومأثم

وقد كان أوصاه بذاك ابن عامرٍ
يعاتبه في كل يوم وليلة
فما زال ذاك الدار ستين ليلة

 

فذاق بها من رأيه كأس علقم
على هدم دين أو هضيمة مسلم
وستة أعوام لدى كل موسم

وقلنا له أو لا فخل عن أمورنا
وإلا فإنا قاتلوك وما دمٌ
أتت نصرة الإنصار والحي حوله

 

فإنك إن تتركه تسلم ونسلم
أبى الله إلا سفكه بمحرم
قريش وهم أهل الحطيم وزمزم

وهم شهدوا بدراً وأحداً وناضلوا
وهم أظهروا الإسلام شرقاً ومغرباً
أولئك حزب الله حيث تجمعوا

 

عن الدين والبيت العتيق المعظم
وهم نصروا دين النبي المكرم
فريقان ذو خذل وقتل مصمم

 فما زلت أستنشده أشعار المهاجرين والأنصار في قتل عثمان وأخباره، وهو ينشدني، وحدثني منه، وقلت لنفسي: قد أكثرت على ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى استحييت السؤال، وهو يقول: سل عما بدالك يابن الأهيم فعلى الخبير سقطت، فقلت: يابن رسول الله، إن أناساً من أهل الشام يزهمون أن معهم نظر وفقه وحجج، فإن أذنت لي أن أدخلهم عليك فيسألونك، ولعلك أن تعطهم، ولعل كلامك أن يقع منهم كما وقع مني، فأبايعك وهم حضور على مجاهدة عدوك، وأرجو أنهم[129] إذا سمعوا كلامك، ونظروا إليَّ أبايعك يدخون معي في بيعتك ويتابعوني إن أنت كسرت عليهم حجتهم، فقال لي: آت بهم إن شئت.

قال خالد: فادخلتهم على زيد بن علي رحمة الله عليه، وفيهم رجل قد انقاد له جميع أهل الشام في البلاغة والنصر بالحجج، فلما دخلوا عليه سلموا، ثم جلسوا فقال لهم: ليتكلم متكلمكم، فتكلم الشامي البليغ فذكر رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم ذكر أبا بكر وعمر إلى أن ذكر عثمان بن عفان أنه كان الخليفة، والمظلوم، وكانت الجماعة معه، وأنه غنما قتل مظلوم، وأن الله عز ذكره رد الخلافة في موضعها، وهم قرابة عثمان حين اجتمع الناس على بيعة معاوية ابن أبي سفيان، ويزيد بن عبد الملك، والوليد وسليمان، فجعل يذكر ملوك بني أمية واحداً واحداً، ويقول: إنه لم تكن جماعة إلا كانت على حق، وهم أولى بالحق وأهل الحق؛ لأنهم قرابة الخليفة عثمان المقتول ظلماً-يعني بني أمية- فمن ناصبهم فهو يطلب غير الحق، ويطلب ما ليس له، ولا هو له مستحق.

قال خالد بن صفوان: وزيد بن علي في كل ذلك مطرق، فلما قضى الشامي كلامه قال له زيد: إنك زعمت أن عثمان إنما قتله خاص، وأن الجماعة كانت معه، وانت تقول أنه قتل مظلوماً، والله ما قتله إلا جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار، ومن الذبن اتبعوهم بإحسان؛ لأن المسلمين قتلوه، ولمن بعض قتله وبعض خذله، فكل ميعين بقتاله الظالم؛ لأنه كالجنائز إذا حضرها بعض المسلمين أغنى عن الباقين، وكذلك الجهاد في سبيل الله إذا قام به بعض المسلمين أغنى ذلك وأجزا عن القاعدين، فقتلوه بكتاب الله، حيث يقول: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} فلم لم يكن فيما يليهم كافراً كان أظهر كفراً من عثمان، وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} فقتله أصحاب رسول الله بكتاب الله، حيث خالف كتاب الله، وكان أول الناكثين على نفسه، وأول من خالف أحكام القرآن، أوى طريداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بن العاص، ومروان ابنه، مع نفيه أبا ذر من المدينة إلى الربذة، وغنما ينفا عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفساق، والمخبتون، مع ضربه ابن مسعود حتى مات، ومع مشيه على بطن عمار بن ياسر حتى سدم من ذلك دهراً طويلاً، ومع أخذه مفاتيح بيت مال المسلمين من عبد الله بن أرقم، وإنفاقه المال على من أحب من أقاربه، مع أشياء كثيرة ذكرها وعددها.

قال خالد: فاعجم القوم عن جوابه؛ لأنه جاءهم بأمرٍ حيرهم، فقالوا له: صدقت يابن رسول الله، والحق ما قلت، إن القوم لم يقتلوا عثمان إلا عن أمر بين، وخلاف ظهار، وجور شامل، ونكث، ثم أقبل على الشامي البليغ بزعمهم، فقال له: أما ما ذكرت من أنها لم يكن جماعة قط إلا كانوا أهل حق، فإنهم ولوا معاوية فاستأثر بفي المسلمين، واضطر أهل الشام إلى خدمة اليهود والنصارى، وأعطا الأموال من أحب من الفساق، فأيتم الأطفال، وأرمل الأزواج، وسلب الفقراء والمساكين، ثم قدموا بعده ابنه فقتل الحسين بن فاطمة، وساروا إليه ببناته حسراً على نوق ضعاف، وأقتاب عارية كما يفعل بسبي الروم، فلو أن اليهود أبصرت أبنا موسى بن عمران لأكرمته وأجلته، وأجلت قدره، ولعرفت حقه، فكيف[130] زعمت أن جماعة قدموا رجلاً على إمامتهم فقتل ولد نبيهم، ثم سكتوا على ذلك ولم يكن عليه في ذلك منهم، فكيف زعمت أن هؤلاء جماعة، أو هم على حق؟ وأن الله تعالى قد مدح القليل إذا كانوا على حق، ألا تسمع إلى قوله تعالى في داود: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} فقد ذم الله الكثير ومدح القليل، وقال: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} كما ترى، فقال في نوح: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} وقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} وقال في ذم الجماعة والكثير: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وقال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} إلى غير ذلك مما يوجد له عليه السلام.

وأما أخوه فهو أبو جعفر محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن الوصي بن أبي طالب عليهم السلام، ويسمى باقر علم الأنبياء؛ لبلوغه المنزلة العالية في العلم، إذ هو العالم المبرز، وحيد عصره، وكعبة دهره، وفي الحديث أن جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه الله تعالى أتى الباقر وهو أعمى، فبلغه السلام من جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وناهيك بها فضيلة وشرفاً له عليه السلام.

وعن علي عليه السلام في خطبته الكبرى المعروفة بالزهراء قوله عليه السلام: إن الله أعطا نبيه عشرة مفاتيح ولم يعطها أحد قبله من مفاتيح الغيب، القرآن منها جزء، وخصني بالتسعة لم يشركني فيها أحد، ولم ينبغي أن يشركني فيها أحد إلا أني كنت من الرسول بالمنزلة التي لن يقاس بنا أحد، ولم يعلونا، ولكن ليبتلي الله الأمم بالفتن لينظر إياه يعبدون أو الدنيا، ألا وقد وضعها في ذريتي، ولا يفهم تأويلها إلا المذبوح بأرض كربلاء، وباقر العلم، ووارث الأرض في آخر الزمان، تم كلامه عليه السلام، فالمذبوح الحسين، وباقر العلم محمد بن علي، ووارث الأرض المهدي عليه السلام.

وعن الباقر عليه السلام في هذا المعنى الذي نحن بصدده من كتاب المصابيح، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحب علياً ووالاه أحبه الله وهداه، ومن أبغض علياً وعاداهى أصمه الله واعماه، وجبت رحمة ربي لمن حب علياً)).

فقالت عائشة: يا رسول الله: ادع لي ولأبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن كنت أنت وأبوك ممن أحب علياً وتولاه وجبت لكما رجمة ربي، وإن كنتما ممن أبغض علياً وعاداه وجبت عليكما لعنة ربي)) فقالت: اعاذاني الله أن أكون أنا وأبي كذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أبوك أول من يغصبه حقه، وأنت أول من يقاتله)).

وله عليه السلام مناظرةالخارجي الحروري لعنه الله وهو ما روى الحسن بن إدريس، عن هشام بن سالم قال: كنت مع محمد بن النعمان وهو بالطاق بالكوفة في المسجد، وفيه جماعة من اهل الكلام منهم أبو حنيفة، وسفيان الثوري، ورجل حروري محجاج قد أسكت الناس بالحجج والمجادلة، فقال أبو حنيفة وقد نظر إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام: ويحك يا حروري هذا[131] رأس الشيعة وعالمها، فهل لك أن تقوم بنا إليه؟

فقال الحروري: إذا شئت، فأخذ أبو حنيفة بيد الحروري فقام وقام معه سفيان، وتنقضت خلق المسجد وأريج أهله، فأتا القوم أبا جعفر رضي الله عنه وهو يثلي فقعدوا حتى فرغ من صلاته، ثم أقبل عليهم بوجهه فسلم فردوا عليه، ثم أقبل الأعمش من ناحية اخرى ومعه شريك، فسلما وجلسا، فقال أبو جعفر لأبي حنيفة: هل من حاجة؟

قال: نعمن، أتيناك للمناظرة.

فقال أبو جعفر: لقد أضللتم دينكم، فأنتم تطلبون، ولولا ذلك لقلت مناظرتكم فيه، واشتغلتم عن العمل، وإنما يعمل المتقون، إنما العمل مع التقوى يقبل، وقليله ينفع، وغنه لثقيل، قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.

قال الحروري: كل يدعي، وقد أتيناك للمناظرة.

قال أبو جعفر: إن كنت تريد الله بمناظرتك، وتقبل الحجة إذا لزمتك، وتذعن للحق إذا ورد عليك، فما أحوجنا إلى ذلك أن نتكلم، فينفع الله بكلامنا من اتبع الهدى، وإن كنت تريد الغلبة والرئاسة، فلك ذلك عليك دون الكلام أنت رأس وأنت غالب.

قال الحروري: بل نريد الله بكلامنا.

قال أبو جعفر: فتكلم إذا شئت.

قال الحروري: من إمامك؟

قال أبو جعفر: من نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم فابات ولايته.

قال الحروري: هو أبو بكر.

قال أبو جعفر: ذلك مردود يوم براءة، وصاحبي المؤدي عن الله، وعن رسوله.

قال الحروري: لنا لا لك، وذلك أبو بكر.

قال أبو جعفر: دعوى أقم عليها البينة.

قال الحروري: بل أنت المدعي.

قال أبو جعفر: كيف أكون المدعي وأنا المنكر لصاحبك أن يكون ذلك، وأنا أقول ذلك رجل قد أجمعت عليه الأمة أنه صاحب الغدير المبعوث خلف أبي بكر، فكيف يكون دعوى، بل أنت المدعي أنه أبو بكر.

قال الحروري: دعنا من هذا.

قال أبو جعفر: واحدة لم تخرج منها، ولم تقم عليها بينة، فإذا لم تقم لك حجة فالحق في يدي حتى تأتي بالبينة من غير أهل مقالتم.

قال الحروري: إن في أبو بكر أربع خصال بهنَّ بان عن العالم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واستحق الإمامة.

قال أبو جعفر: إن كان يوم الغدير منها ويوم براءة فنعم.

قال الحروري: ذلك كان بلا حجة، هذان حديثان لكم، ولصاحبي أربع حصال هي غير هذه.

قال أبو جعفر: وماهنَّ.

قال الحروري: أما واحدة فأول الصديقين لا يعرف صديق غيره.

والثانية: صاجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار.

والثالثة: المولى في الصلاة.

والرابعة: صاحبه في القبر.

قال أبو جعفر: أخبرني عن هذه الأربع أمناقب لصاحبك بان بهنَّ عن الناس؟

قال: نعم:

قال أبو جعفر: فإن هذه مثالب.

قال الحروري: لقولك.

قال أبو جعفر: بل بإقرارك.

قال الحروري: فهات إذا قلت.

قال أبو جعفر: أنت رجل منكر جحود مكابر، ولكن اجعل بيننا من يحكم علينا وعليك.

قالت الجماعة: إنا إذا سمعنا الحق، وجاءت الحجة على أحدٍ كما عرفناها وشهدنا بها، فبين لنا أنت يا أبا جعفر أن هذه مثالب.

قال: نعم، أما قولك أنه كان صديقاً فاخبرني من سماه بهذا الاسم؟

قال الحروري: الله ورسوله.

قال أبو جعفر: ذلك عليك، وقد قال الله عز وجل في أبي جهل بن هشام: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} فما ينفعه ذلك وهو في الجحيم، ثم قال له: فما العلة والمعنى الذي سمي صديقاً؟

قال الخروري: لأنه كان أول من آمن.

قال أبو جعفر: سل الفقهاء هل أجمعوا[132]هذا من رواتهم أن أبا بكر أول من آمن؟

قالت الجماعة: اللهم قد روينا أن علياً أول من أسلم.

قال الحروري: أوليس قد زعمتم أنه ما أشرك قط؟

قال أبو جعفر: أوليس اتباعه محمداً صلى الله عليه وآله في وقت من الأوقات، وإن لم يكن حديث عهد بشرك يستحق هذا الاسم.

قالت الجماعة: أجل.

قال أبو جعفر: يا حروري إن كان إنما سمي صاحبك صديقاً لهذه العلة فقد استحقها غيره، فهو المحقوق بهذا الاسم، إن كان علي أول المؤمنين لما جاء بالصدق وصدق به.

قال الحروري: لست أقبل هذا، هو أول المحقين.

قال أبو جعفر: فأيا يسوغك فسر لي بما ذكرت له أنه صديق؟

قال: نعم.

قال أبو جعفر للجماعة: اشهدوا عليه، أنّا إن وجدنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يسمى صديقاً سقطت حجته.

قال الجماعة: نعم.

قال أبو جعفر: يا حروري هل قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر))؟

قال القوم: واحدة خصمك بها يا حروري.

قال الحروري: لا أعرف هذه الرواية فظلمه القوم.

قال أبو جعفر: فهل تعرف القرآن؟

قال: نعم.

قال: فهل يلزمك ما فيه من حجة؟

قال: نعم.

قال أبو جعفر: فقد شارك صاحبك في هذه المسلمون جميعاً، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.

قالت الجماعة: خصمك يا حروري.

قال أبو جعفر: وما ذكرت أنه صاحبه في الغار، فما رأيت الصاحب في كتاب الله محموداً، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} وقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وقال العالم لصاحبه وهما في فضلهما: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} فما أرى الصاحب محموداً في حال الصحبة للصاحب.

قال الحروري: ليس هذا من ذلك.

قال أبو جعفر: ذلك نبي معصوم، وقد استجهل عالماً قد علمه الله علماً لم يعرفه موسى، ثم عرف فأقر له، واستغنى العالم من صحبته على أنه موسى بن عمران، ولكن لعل صاحبك استحق المثل الأول الذي قال لصاحبه وهو يحاوره.

قال الجماعة: أغليت يا أبا جعفر.

قال: ما قلت بأساً، إنما ذكرت الصحبة، فأحببت أن لا يحتج بها لما بين الله من أمر الصاحبين.

قال الحروري: هذا صاحب في الغار، يلقا البلا، ويصبر على الخوف.

قال أبو جعفر: فهل كان صابراً على البلاء راجياً بذلك ثواباً؟

قال: نعم.

قال أبو جعفر: أما السكينة فقد نزلت على غيره، وأما الحزن فقد تعجله والاثم كما قال الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينهى عن طاعة الله تعالى، وإنما ينهى عن معصيته، فأراه قد عصى في حزنه وهو مع رسول الله صلى الله عليه في الموضع، واكتسب ذنباً فهذا مما ينبغي أن يستغفر له منه، لا تعد له حسنة، ولو كان أثبت في كينونته كما زعمت مع رسول الله صلى الله عليه وآله لقد كان أبان ذلك؛ لأن ثواب الغار إنما هي السكينة، فقد قال الله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فعلى من نزلت السكينة؟ فسكت الحروري.

قالت الجماعة: نزلت السكينة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال أبو جعفر: فهل شاركه أبو بكر فيها؟

قال الحروري: نعم.

قال أبو جعفر: فهل أبان الله ذلك أن كانت السكينة كثيرة، وكان المشارك فيها واحد، كما نزلت على رسول الله صلى الله عليه[133] إذ هو في جماعة، فخصت رسول الله وعمتهم، حيث يقول: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فهل أبان ذلك في صاحبك كما أبانه في المؤمنين؟ إنما قال: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}.

قال الحروري: قوموا فقد أخرجه من الإيمان.

قال أبو جعفر: ما أنا أخرجته، بل أنت أحرجته.

قال الحروري: تقول أنا أخرجته.

قال أبو جعفر: ما أنا قلت، ولكن الله عز وجل هو قال، فهذا كتاب ينطق في تبيين ذلك، فامسك عن الغار.

وأما ما ذكرت من الصلاة فلعمري إنكم لتقولون استحقها حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وآله فعند ذلك أخرج أبو بكر وتقدم فصلى فعددتم ذلك فضلاً، وإخراجه إياه من المحراب نقصان، ولعمري لو تركه لكان ذلك فضلاً.

قال الحروري: فلِمَ لم ينحه؟

قال أبو جعفر: فكيف يقول؟ قال: يقول صلي بالناس.

قال أبو جعفر: ورسول الله خلفه أو أمامه؟

قال: بل أمامه، ولكن هو المكبر.

قال أبو جعفر: هو المكبر قبل رسول الله صلى الله عليه وآله أو بعده؟

قال: بل بعده.

قال أبو جعفر: فمن كان إمام القوم في تلك الصلاة أرسول الله أم أبو بكر؟

قال الحروري: بل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال أبو جعفر: إماماً لأبي بكر والناس معاً؟

قال: نعم.

قال أبو جعفر: فإنما منزلته في ذلك الوقت بمنزلة من كان في الصف الأول غير سائر الصفوف، مع أن هذه الدعوى لم يدعها إلا لمعنى، فما هذا المعنى الذي أوقف أبا بكر في ذلك الموقف؟

قال الحروري: ليرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس.

قال أبو جعفر: فلا ...........في أبي بكر ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قالت الجماعة: وكيف ذلك؟

قال أبو جعفر عليه السلام: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عن الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} فنهى الله عز وجل أن ترفع الأصوات فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله، ولم يأمر الله عز وجل أن ترفع الأصوات فوق صوت نبيه، وكذا نبيه نهى أن ترفع الأصوات فوق صوته، وقد أتى الله تعالى، ووعد من غظ صوته عند نبيه مغفرة وأجراً عظيماً، وأبو بكر فعل ذلك فهو الكفر والعصيان لرسول الله.

قال الحروري: ليس هذا من ذاك، وإنما وقف يسمع الناس التكبير.

قال أبو جعفر: هذا مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة معروف الحدود، ما كان يحتاج إلى مسمع، بل من كان في شرقه يسمع صوت رسول الله صلى الله عليه وآله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله في حال ضعفه وعلته أقوى من قوتهم في شدته.

وقالت الجماعة: هذه الثالثة، قد عرفت العامة والخاصة أنك يا حروري مخصوم.

قال أبو جعفر: والرابعة زعمت أنه صاحبه في القبر.

قال: نعم.

قال أبو جعفر: أو في بيت أبو بكر؟

قالت الجماعة: لا.

قال: فلعله في بيت عمر.

قالوا: لا.

قال أبو جعفر: أوليس قال الله في كتابه: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} فهل استأذناه فأذن لهم في ذلك؟

قال: نعم.

قال أبو جعفر: ما هذا في حديث العامة كذا، بل أمر النبي صلى الله عليه وآله بسد أبوابهما[134] فقال أحدهما: يا رسول الله أترك كوة أنظر منها إليك؟ قال: ((لا ولا مثل أصبع)) فأخرجهما وسد أبوابهما، قال: فأقم أنت البينة على أنه أذن لهما؟

قال الحروري: كتاب الله أذن لهما.

قال أبو جعفر: بأي حجة؟

قال: بما لا تدفعه.

قال أبو جعفر: هات.

قال: بميراث ابنتيهما.

قال أبو جعفر: كم نصيب عائشة وحفصة مع تسع نساء كنَّ لرسول الله صلى الله عليه، ظلمته يا حروري فيما ادعيته، إنما هو يجحد فاطمة ميراثها من أبيها عليهما السلام، ما أن الأمر كما ذكرت يرث النبي أهله ونساؤه، لكن أبا بكر أبا ذلك، وقال بزعمه أن الأنبياء لا تورث فرية على الله، والله يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} وقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} فأسقط صاحبك الارث وقال: الأنبياء لا تورث، فسقط عند الناس بالقليل من ميراث ابنته الكثير من ميراث فاطمة ابنة رسول الله عليهما السلام، وما ضرها وأبوها خليفة، فإن أحببت أن يملك ما ذكرت بما يصير لها، والأخرى على قدر الحصة من الحصص التسع فعلمنا ذلك.

قال سفيان وأبو حنيفة: قم، ويلك كم عسى نصيبها إذا كان هكذا، ونحن نقول الأنبياء لا تورث.

قال أبو جعفر: قد أجمعت الحجة، وضلت المقايسة، فانظر كم نصيبها ذراعين من البيت، ثم قال أبو جعفر: فلا بصرتم ولا سمعتم انقطاع صاحبكم.

قال القوم: ما نرام ولا تغادر قدرك، فقام أبو حنيفة وسفيان وهما يقولان: ما للشيعة غير هذا الرجل، وانقطع الحروري.

وأما عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فهو أبو الأئمة، وهو العالم المبرز، الزاهد الصابر في الله.

قال بعض الرواة: انتهى كل الحسن إلى عبد الله بن الحسن، كان يقال من أحسن الناس فيقال: عبد الله بن الحسن، ويقال: من أفضل الناس؟ فيقال عبد الله بن الحسن.

وعن بعضهم قال: رأيت عبد الله بن الحسن وسمعته يقول: أنا أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولدني رسول الله صلى الله عليه وآله مرتين، وهو عليه السلام أول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين عليهما السلام؛ لأن أمه فاطمة بنت الحسين.

وعن بعضهم قال: رأيت عبد الله بن الحسن فقلت: هذا والله سيد الناس، وكان ملبساً نوراً من قرنه إلى قدمه.

وعن بعضهم قال: سمعت أيوب بن محمد.........يقول: كان أهل الشرف وذوو القدر لا ينوطون بعبد الله بن الحسن.

ومن كتاب الحياة: وكان عبد الله بن الحسن يقوم الليل.

وروي عنه أنه قام ستين سنة يصلي صلاة العشاء الأخيرة، ثم يصلي بوضوء ذلك صلاة الفجر، فإذا فرغ من صلاته سجد على الأرض، فيأخذ في الدعا فيسمع منه يقول: إلهي لم أعبدك كما ينبغي لوجهك، ولكني أعلم أنك تعلم أني لم أشرك بك شيئاً، ولم اتخذ من دونك ولياً، وهو عليه السلام المظلوم في الله، احتال فيه وفي أهل بيته من بني الحسن وجماعة من بني الحسين أبو جعفر المنصور لعنه الله لما تغيب عنه محمد وإبراهيم أبناء عبد الله بن الحسن، فحملوا إليه في المحامل لما تواريا عنه، ولما رآهم جعفر بن محمد الصادق عليه السلام هملت عيناه حتى جرت دموعه على لحيته، ثم قال: والله لا تحفظ لله حرمة بعد هؤلاء.

وروينا عنه عليه السلام في مثل ما نحن فيه من كتاب السفينة، عن أبي معاذ الحران قال: سمعت عبد الله بن الحسن بن الحسن يقول: العلم بيننا وبين هذه الأمة علي بن أبي طالب، والعلم بيننا وبين الشيعة زيد بن علي، وسيأتي ذكر ما رواعه في هذا المعنى[135] في أمر الصحيفة التي كتبها أبو بكر لفاطمة.

وأما إبراهيم الشبه فهو إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وإنما سمي الشبه لأنه كان أشبه خلق الله برسول الله صلى الله عليه وآله كما قدمنا، وهو عليه السلام أول من توفي في حبس أبي جعفر لعنه الله، ومات هشام بن عبد الملك لعنه الله وقام بعده بالأمر الوليد بن يزيد بن عبد الملك بويع له في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وهو المستخف بكتاب الله، وبحرمة الكعبة، وبحرمة الإسلام، ولما نظر في المصحف فخرج {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} الآية، استهدف المصحف بالرمي استخفافاً بكتاب الله وحرقه بالنار وقال:

أتوعدني بجبار عنيد

 

فها أنذاك جبار عنيد

إذا لاقيت ربك يوم حشرٍ

 

فقل يا رب حرقني الوليد

 وكان قد عمل على الشراب على ظهر الكعبة، وأمر مجوسياً رقاها ليعمل قبة للشراب، فعوجل بالانتقام قبل ذلك لعنه الله عز وجل.

أم هل ترى فيهم كمثل الصادق

 

 

السيد المكرم في الخلائق

بفضله يشهد كل ناطق

 

 

حقاً وليس الزور كالحقائق

هو جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن عل الوصي علي بن أبي طالب عليه السلام، وله من الشرف والفضل، والورع والعلم ما أجمعا عليه البعيد والقريب، وشهد به البغيض والحبيب، وهو وحيد زمانه، وشمس أوانه، سلام الله عليه ورضوانه.

وروينا عن السيد أبي العباس الحسني رحمه الله في معنى ما نحن فيه عن جعفر بن محمد عليه السلام، عن جده الحسين عليه السلام قال: قال أبو بكر لخالد بن الوليد إذا صليت الصبح وسلمت، فاقتل علياً، فلما فرغ من صلاته سلم في نفسه وصاح لا تفعل ما أمرتك.

قال علي: وهو الله أضيق خلقه من أن يفعل ما أمرته، والله لو فعل ما خرجت أنت وأصحابك إلا مقتولين.

وروى السيد أبو العباس في شرح الأحاكم يإسناده إلى محمد\ بن النعمان قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام: من أنكر حق علي وجحده فهو كافر؟ قال: نعم، إن الله افترض حق علي عليه السلام على خلقه، كما افترض حق نبيه صلى الله عليهم، فحق رسول الله صلى الله عليه واجب مفترض على جميع الخلق، وكذلك حق علي بن أبي طالب عليه السلام بأنه وصيه، وهو يجري كما يجري لمحمد من بعده، فإن كان القوم حسدوه يا محمد فقد حسد هابيل قابيل حين قتله، وكذلك جرت السنة في أمير المؤمنين صلوات الله عليه وفي الأئمة من بعد أمير المؤمنين عليه السلام.

وروى السيد أبو بالعباس في كتاب المصابيح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن فدكاً تسع قربات متصلات حدهما مما يلي وادي القرى.........في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار لم يضرب عليها بخيل ولا ركاب، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها فاطمة عليها السلام قبل أن يقبص بأربع سنين، وكانت في يدها تحمل غلاتها وعبد يسمى جبير وكيلها فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنفذ أبو بكر رجلاً من قريش بعد خمسة عشر يوماً[136] فأخرج وكيل فاطمة منها.

قال أبو العباس: عن عبد الله بن الحسن أنه أخرج وكيل فاطمة من فدك، وطلب منها البينة بعد شهر من موت الرسول صلى الله عليه وآله، فلما ورد وكيل فاطمة وقال: أخرجني صاحب أبي بكر سارت فاطمة عليها السلام ومعها أم أيمن، ونسوة من قومها إلى أبي بكر، فقالت: فدك بيدي أعطانيها أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعرض صاحبك لوكيلي، قال: يابنة محمد أنت عندنا مصدقة، إلا أن عليك البينة، فقالت: يشهد لي علي بن أبي طالب وأم أيمن، فقال: هاتي فشهد أمير المؤمنين، وأسماء أم أيمن وكتبه لها صحيفة وختمها، فأخذتها فاطمة فاستقبلها عمر فقال: يابنة محمد، هلم الصحيفة ونظر فيها، وتفل فيها ومزقها، وآخر هذا الحديث عن عبد الله بن الحسن إلا أن الحديث اتصل بعضه ببعض.

وفي كتاب المصابيح أيضاً عن جعفر بن محمد عليه السلام أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من النبي صلى الله عليه وآله وسلم هما يومئذٍ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)) فهجرته فاطمة، ولم تكلمه حتى ماتت، ودفنها علي عليه السلام ليلاً فلم يؤذن بها أبا بكر.

قال أبو العباس: الذي طلباه سهمه من خيبر، فأما فدك فقد كانت لفاطمة في حياة النبي صلى الله عليه وآله كما قدمنا، وهو وجه الحديث.

حكى الحاكم رحمه الله تعالى عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال: نحن حبل الله الذي قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً}.

وروى الحاكم عن الصادق أيضاً في كتاب السفينة أنه قال: كل راية تنصب في غير الزيدية فهي راية ضلالة.

أم أين فيهم كابن زيد يحيى
من بعد أن أفشا الطغاة البغيا

 

وهو الذي انتاش الهدى وأحيا
وأعلن الزجر لهم والنهيا

هو الإمام يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، قام إماماً في وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأظهر عليه السلام دعوته إلى جوزجان، غاضباً لله تعالى، باذلاً نفسه في سبيله، فاجتمعت عليه الجنود هناك فقاتلهم ثلاثة أيام أشد القتال، فأصابته نشابة، فمات عليه السلام، وحز رأسه وصلب، ويروى عن أبي السراج، عن سلمة بن ثابت في حديث يحيى بن زيد عليه السلام  في ما نحن فيه قال: وسأل رجل يحيى بن زيد عليه السلام عن الرجلين يوم القتال فلم يجبه فيهما بشيء، فلما أن أصيب بسهم نادى عند ذلك أين السائل عن الرجلين؟ فقام إليه رجل فقال: أنا ذا، فقال: هما والله أقاماني هذا المقام-يعني أبا بكر وعمر- ثم قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وقام بالأمر بعده يزيد بن الوليد عاصياً لله تعالى، بويع لليلتين بقيتا من جمادى الأخرى سنة ست وعشرين ومائة، وكان يدين بالعدل والتوحيد، وهو الذي سار لقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك ثم مات، وقام بالأمر بعده إبراهيم بن الوليد، بويع له في شهر ذي الحجة سنة سبع وعشرين ومائة، وكان ضعيفاً في أمره لا يخلي ولا يمر، يدعا بالخلافة تارة، وبالإمارة أخرى، ثم خلع نفسه وسلم الأمر إلى مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، ويسمى الجعدي، ويلقب حمار الجزيرة، بويع له في صفر سنة تسع وعشربن ومائة، وكان لا يراعي من أمر الدين شيئاً على منهاج سلفه في انتهاك حرمة الإسلام، ولم يزل أمره مضطرباً إلى أن زال الأمر منه إلى بني العباس لحقه عبد الله بن علي يطوي البلاد بعده، وتبعه صالح بن علي فقتله، وتمت هنا دولة الشجرة الملعونة في القرآن[137].


الدولة العباسية

وكان أول بني العباس السفاح، وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، بويع له بالكوفة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة من ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكان مقداماً على الدماء، غير وفي بعهد ولا ذمة، وتوفي بالجدري، وتوارى عنه محمد وإبراهيم أبنا عبد الله بن الحسن مدة أيامه، وقام بالأمر بعده أخوه حعفر الملقب بالمنصور، وهو أيضاً عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ويسمى أبو الدوانيق، لحرصه على جمع المال، بويع له يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وكان لا يدع لله حرمة، وتغيب عنه أيضاً محمد وإبراهيم أبنا عبد الله بن الحسن، ولما تواريا عنه أرسل لأبيهما عبد الله بن الجسن، ولمن كان معه من أهل بيته كما قدمنا أولاً، فحلسهم وضيق عليهم أشد التضييق، وسمر عبد الله بن الحسن بمسامير، ولما دخلوا عليه نظر إلى محمد بن إبراهيم بن الحسن فقال: أنت الديباج الأصفر؟

قال: نعم.

قال: أما والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد من بيتك، ثم أمر باسطوانة مبنية ففرغت، ثم أدخل فيها، فبنى عليه وهو حي، وقتل بشير الرحال لما خرجت على أبي جعفر قال: ادخلني ذات بوم بعض البيوت فنظرت إلى عبد الله بن الحسن مسموراً بالمسامير إلى الحائط، فخررت مغشياً عليَّ اعظاماً لما رأيت، وأعطيت الله عهداً أن لا اختلف عليه سيفان إلا كنت مع الذي عليه.

أو كابن عبد الله ذي المناقب
والضارب الهامات في المقانب

 

محمد مشرف المناسب
في كل يوم في غدات واصب

هو الإمام المهدي لدين الله النفس الزكية: محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، أظهر دعوته عليه السلام، وشهر نفسه لعظيم ما نزل بآل الرسول عليه السلام وعليهم أجمعين من أبي جعفر لعنه الله، وذلك لليلتين بقيتا من جمادى الأخرى سنة خمس وأربعين ومائة، فبايعه فضلاء زمانه، وعلماء عصره، لبلوغه المنزلة السنية، علماً وعملاً، ونابذ عدو الله، وجاهد في سبيل الله حتى استشهد، وقد رضي الله سعيه، وتقبل عمله، قتل عليه السلام عند أحجار الزيت بعد قتال شديد، وقد انهزم عنه أنصاره، فقتل عليه السلام سبعة عشر رجلاً من شجعان الناس يومئذٍ، ثم طعن في صدره، وضرب على أصل أذنه، وحز رأسه بعد ذلك، وسمي النفس الزكية لما ورد في الحديث أن النفس الزكية يقتل فيسير دمه إلى أحجار الزيت، لقاتله ثلث عذاب أهل النار، فكانت هذه الأمارة فيه دون غيره، ويسمى المهدي، ويسمى صريح قريش؛ لأنه لم يكن في آبائه من أمه أم ولد إلى أمير المؤمنين، وكذا جداته من قبل أمه.

وروى الشيخ أبو الفرج في مقاتل الطالبيين بإسناده عن عيسى بن زيد عليه السلام قال: لو أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله أنه باعث نبي بعده لكان ذلك النبي محمد بن عبد الله بن الحسن، فهذا كلام عيسى بن زيد عليه السلام، وهو من أقمار الهدى، وشموس الإسلام، وفي معنا كتابنا هذا من قوله عليه السلام ما روى الإمام المنصور بالله عليه السلام في كتاب الشافي عن الإمام المهدي لدين الله محمد بن عبد الله بعد[138] كلام ذكر فيه قصة المشائخ، فنظر علي لدين الله قبل نظره لنفسه فوجد حقه لا ينال إلا بالسيف، وتذكر ما هم به من حديث عهد بجاهلية، فكره أن يضرب بعضهم ببعض، فيكون في ذلك ترك الألفة، فأوصى بها أبو بكر إلى عمر من غير شورى، فقام بها عمر وعمل في الولاية بغير عمل صاحبه، وليس بيده فيها عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تأويل من كتاب الله، إلا رأي توخاه هو فيه مفارق لرأٍي صاحبه، جعلها بين ستة، ووضع عليهم أمراً أمرهم أنهم إذا اختلفوا أن يقتل الأول من الفتنة وصغروا من أمرهم ما عظم الله، وصاروا سبباً لولاة السوء، وسدت عليهم أبواب التوبة، واشتملت عليهم النار بما فيها، والله جل ثناؤه بالمرصاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أو مثل إبراهيم ذي المحامد
شهم الجنان ثابت القواعد

 

أخيه من ذي الفارس المعاند
غياث كل صادرٍ ووارد

هو الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام لما ورد عليه الخبر بقتل أخيه المهدي لدين الله، وهو في البصرة داعياً لأخيه، وقد استولى على كثير من الأهواز، رقا المنبر بعد صلاة العيد غرة شهر شوال سنة خمس وأربعين ومائة، فخطب الناس، وذكر قتل أخيه، ونعاه إلى الناس، وبكا الناس، فلما نزل بايعه علماء البصرة، وزهادها وفقهاؤها، وبايعه المعتزلة مع الزيدية، ولم يتأخر عنه ممن بها من الفريقين أحد، وكان أبو حنيفة يدعو إليه سراً ويكاتبه، وكان عليه السلام عالماً فاضلاً، خطيباً شاعراً، مفلقاً شجاعاً، لا يبالي أدخل على الموت أو خرج عليه، وانطوى في ديوانه على مائة ألف مقاتل، ونال من الظالمين منالاً عظيماً، ثم رمي عليه السلام بسهم فوقع في رأسه فقتله، وذلك عند أن كشف المغفر لشدة الحر بعد بلاء عظيم، فأخذه بشيراً الرحال إلى حجره وهو يقول: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، واحتوشته الشيعة، ثم شعرت به العباسية، فشدوا عليهم فأزاحوهم عنه، واحتزوا رأسه وأمروا به إلى أبي جعفر.

وروينا عنه عليه السلام فيما نحن فيه من كتاب السفينة عن عباد بن يعقوب قال: حدثنا الحكيم بن زهير، قال: قال إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، لو نزلت راية من السماء لم تنصب إلا في الزيدية، ثم تقضت أيام أبي جعفر لعنه الله بعد أن هلك من آل الرسول عدة فضلاء في الوقائع والسحوب، فتوفى إلى لعنة الله، وقام بعده بالأمر ولده المسمى بالمهدي، وهو محمد بن عبد الله بويع له يوم السبت لست خلون من ذي الحجة سنة ثمان وحمسين ومائة، وتوفي وكان منهمكاً في المعاصي، واللذات والملاهي، وكان شديد العناية في طلب فضلاء أهل البيت لقتلهم، فأدرك مراده في البعض وسلم منه البعض.

أو كابن عباس علي الماجد
دعا وقام للعلي الواحد

 

خير فتى من غائب وشاهد
وباع نفساً بالثواب الخالد

وعلي بن العباس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، كان عليه السلام قد دعا إلى نفسه ببغداد، واستجاب له جماعة وافرة من الزيدية، فدس عليه الملقب بالمهدي[139] الجواسيس، فجاؤه بعلمه قبل استحكام أمره، فقبص عليه، ولم يزل في حبسه إلى أن وفد عليه الحسين بن علي الفخي فكلمه فيه واستوهبه، فوهبه له فرش عليه شربة سم، فلم تزل تعمل فيه حتى قدم المدينة فتفسخ لحمه، وتباينت أعضاؤه، وتوارى عن المهدي عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو العلامة المبرز، المعروف بالشجاعة والثبات، والعلم وأمره أظهر من أن يخفى، حتى مات في تواريه سلام الله عليه.

وانقضت أيام المهدي وقام بعده بالأمر ولده الملقب بالهادي، وهو موسى بن محمد، وكان فظاً غليظاً، جباراً عنيداً، غيوراً حسوداً، قل من يسلم من سطوته من جلسائه، إلا من عرف أمره.

أو كالحسين بن علي الفخي
أكرم فرع في أعز سخ

 

بخٍ له من علوي بخ
طب يطعن قرنه والشدخ

صلوات الله عليه وعليهم، هو الإمام الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، المعروف بالفخي، قام بالمدينة ليلة السبت لإحدى عشرة بقيت من ذي القعدة سنة تسع وسبعين ومائة، وهو كامل الخصال في الفضل والعلم، وهو الغاية القصوى في الكرم، وكان أبوه يدعا العابد، ويدعا الأغر، وكان مع جماعة من أهل البيت في حبس أبي جعفر، وقد جعلهم في حبس مظلم، لا يعرفون ليلاً من نهار، فكانوا يعرفون بوظائف عبادته أوقات الصلاة، لكثرة اعتياده لقراءة القرآن، والعبادة في أوقات الليل والنهار، وقد كانت قيودهم قلقلت لشدة صبرهم ومكثها فيهم، فكانوا يخرجونها عنهم فإذا أحسوا بأحدٍ من الحراس ردوها، وأبا عليه السلام أن يحل قيده، فقال عمه عبد الله بن الحسن وأصحابه: مالك لا تحل قيدك؟ قال: لا أفعل حتى ألقى الله عز وجل فأقول: رب سل جعفر لِمَ قيدني، وضجر عليه عبد الله ضجرة فقال: يابن أخي ادع على أبي جعفر؟ فقال: يا عم، إن لأبي جعفر منزلة في النار لا يصلها إلا بما يوصل إلينا من الأذى، وإن لنا منزلة في الجنة لا نصلها إلا بالصبر على ما لحقنا في حق الله سبحانه من أبي جعفر، فإن شئت أدعو الله تعالى بأن يضع من منزلتنا في الجنة ويخفف عن أبي جعفر من منزلته في النار فعلت، وإن صبرنا فعما قليل نموت ونقضى إلى رحمة الله تعالى، وكان هذا ما كان، فقالوا: بل نصبر، فقام ولده هذا الإمام الحسين بن علي الفخي بالمدينة، ثم ولي عليها، وتقدم إلى مكة، ولزم في فخ، وتوافت إليه جيوش العباسية، فكان بينه وبينهم يوم عصيب، وكان آخر أمره أن حماد التركي رماه بنشابة فصرعه، فأجاز محمد بن سليمان حماد على ذلك مائة ألف درهم، ومائة ثوب لعنهما الله تعالى، وفي فخ وأهله ما روينا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه انتهى إلى موضع فخ فصلى بأصحابه صلاة الجنائز، ثم قال: ((يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة من المؤمنين، تنزل عليهم الملائكة بأكفان وحنوط من الجنة، تسبق أرواحهم أجسادهم)) الخبر.

وتوفي الملقلب بالهادي، وقيل: مات بالعلة، وقيل: أن أمه الخيزران غمته هي وجواريها حتى مات، وقام بالأمر بعده أخوه هارون الملقب بالرشيد، بويع له ليلة مات أخوه ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الأخرى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وكان متهيكاً منهمكاً في أنواع الملاهي والخمور.

أو كالإمام العلوي المنتجب
ضارب هام الكسر ضرب المعصب

 

يحيى بن عبد الله ليث المقنب[140]
في كل يوم مجمع عصيصب

رماه هارون بأمرٍ منكر
من كل ذي علم حمارٍ مفتري

 

بعد شهادات كلاب المحشر
ياويلهم من العذاب الأكبر

هو الإمام يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان عليه السلام في أيامه متقدماً جماعة أهل بيته، علماً وفضلاً، وزهداً وورعاً، وعبادة وشجاعة، وله رواية واسعة، وكان فارساً، له مقامات مشهورة في مبارزة الأقران، وقتل الأبطال، مع الإمام الحسين بن علي الفخي عليهما السلام، وحكي أنه أصيب يوم فخ بمائة وسبعين نشابة التي استقرت في درعه وأثرت دون ما عدا ذلك، فصار كالقنفذ، واستتر عليه السلام بعد قتل الحسين الفخي، ودخل اليمن، وأقام بصنعاء شهوراً، وأخذوا منه علماً كثيراً، ودخل بلاد السودان، ووصل بلاد الترك سراً، ثم خرج عليه السلام إلى الديلم، وظن أنه صاحب الديلم الذي وردت فيه الآثار، وهو الناصر الأطروش عليه السلام، فأظهر هنالك دعوته، وقام سابقاً غاضباً لله، فوجه إليه هارون الجيوش الكثيفة، في سنة ست وتسعين ومائة، وهو يومئذٍ عليه السلام عند جستان، فلم يقدروا عليه حتى احتالوا فيه بالحيلة المعروفة من أبي البختري وهب بن وهب لعنه الله، حيث جمع ألفاً وثلاثمائة من أهل العلم، فشهدوا عند جستان بأن أبا البختري قاضي القضاة، ثم شهد أبو البختري بأن يحيى عليه السلام عبد مملوك لهارون، ثم أمر لهم يحيى عليه السلام، فلما حضروا بين يديه وعظهم موعظة بليغة، وذكرهم بأيام الله، وحذرهم من هذه الشهادة، فلم ينفع ذلك فيهم، بل شهد أبو البحتري، ثم شهدوا بعده ثانية بأنه عبد مملوك لهارون، فحينئذٍ عزم جستان على تسليمه إليهم، فلما لم يبق إلا ذلك، استأمن يحيى عليه السلام من هارون أماناً مؤكداً، معلوماً مشهوداً، وسلمه بعد ذلك جستان إلى القوم، فساروا به إلى هارون، فخلى عنه مدة، ثم سعى إليه الزبيري عبد الله بن مصعب لعنه الله فيما فعل، فباهله يحيى عليه السلام فيما افترى عليه من الزور، فانتقمه الله في الحال، فجعل هارون يحيى عليه السلام بعد شهادة الزبيري في الحبس، ثم قتله بعد ذلك لا يدرى سم أو جوع أو خنق، أو غير ذلك.

وحكى الإمام المنصور بالله عليه السلام في كتاب الشافي عن الإمام يحيى بن عبد الله عليه السلام في معنى كتابنا هذا أنه قال في كتاب كتبه إلى هارون يذكر فيه قصة المشايخ وقصة علي عليه السلام، ولو شاء أمير المؤمنين عليه السلام لهدأت له وركنت إليه محاباة الظالمين، واتخاذ المظلين، وموالاة المارقين، ولكن أبى الله ورسوله أن يكون للخائنين متخذاً، وللظالمين موالياً، ولم يكن أمره عندهم مشكلاً، فبدلوا نعمة الله كفراً، واتخذوا آيات الله هزواً، وأنكروا كرامات الله، وجحدوا فضيلة الله، فقال رابعهم أنى يكون لهم بالخلافة والنبوة حسداً وبغياً، فقديماً ما حسدوا النبوات، وأبناء النبيين، الذين اختصهم الله بمثل ما اختصصناه، فأخبر عنهم تبارك وتعالى فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}.

وقال عليه السلام في كلام وعظ به الذين شهدوا عليه بأنه عبد مملوك لهارون: فخلف فيكم ذرية فأخرتموهم وقدمتم غيرهم، ووليتم أموركم سواهم، ثم لم يلبث إلا[141] قليلاً حتى جعل مال ولده حوزاً، وظلمت ابنته فدفنت ليلاً.

أو مثل إدريس بن عبد الله
أكرم به من آمرٍ وناهي

 

الخضرم العلامة الأواه
ليس له في القوم من أشباه

هو الإمام إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، خرج إلى المغرب داعياً لأخيه يحيى بن عبد الله، فلما بلغه هلاك أخيه دعا إلى نفسه، وكان تلو أخيه في خصال الإمامة، وشبيهه في طرق الزعامة، ولما ظهر أمره بالمغرب، وقوي جانبه، قلق هارون لمكان ذلك قلقاً عظيماً، فهون الأمر عليه يحيى بن خالد، ووعده بالحيلة في هلاك إدريس بن عبد الله، واستعمل يحيى بن خالد سماً، وأمر به من دسه عليه، فمات عليه السلام.

ثم توفي هارون، وقام بالأمر بعده ولده الملقب بالأمين، بويع له لسبع خلون من جمادى الأخرى، سنة ثلاث وتسعين ومائة، وكان قبيح السيرة، ضعيف الرأي، سفاكاً للدماء، قد غلب عليه اللهو واللعب، والجواري والخصيان، وما أفاق من الخمر حتى الليلة التي قتل فيها، ثم قام بالأمر بعده أخوه عبد الله بن هارون الملقب المأمون، بويع له يوم الأحد لخمس خلون من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان مؤثراً للذات على رأي سلفه، مدمناً على شرب الخمور.

أو كالإمام المجتبى محمد
سباق غايات كريم مولد

 

صفوة إبراهيم هادي مهتدي
من محتدٍ أعظم به من محتدي

والإمام محمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الشبيه بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي الوصي بن أبي طالب عليهم السلام، قام في أيام المأمون إماماً، غاضباً لله، باذلاً نفسه في سبيله، وظهر بالكوفة يوم الخميس لعشرٍ خلون من جمادى الأولى، سنة تسع وتسعين ومائة، ونصره أبو السريا رحمه الله تعالى، وقاتل المسودة في عدة وقعات، واستظهر عليهم، وكان يباشر القتال بنفسه، فأصابه طعن ونبل اعتل منها، وقتل تعمد بسلاح مسموم، فمات إلى رحمة الله ورضوانه.

أو كالإمام السابق المختار
وفالق الهامات بالبتار

 

محمد مروي القنا الخطار
في كل يوم كوقود النار

هو الإمام محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، بايعه أبو السرايا فيمن معه من أهل رسول الله، وجاهد في الله حق جهاده، فأحصيت القتلى في أيامه وفي أيام محمد بن إبراهيم عليهما السلام من جنود بني العباس مائتي ألف قتيل، ثم كان بعد ذلك انهزمت عنه جنوده، فانحاز هو وأبو السرايا حتى أخذا على الأمان، فقتل أبو السرايا، وأنفذوا بمحمد عليه السلام إلى المأمون، فجعله في دار، وأعطاه فرساً وخادماً، ثم دس عليه السم فقتله.

أم هل لهم مثل الإمام الأزهر
بكل هندي وكل سمهري

 

مردي العدا محمد بن جعفر
جرياً على رأي أبيه حيدر

هو الإمام محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قام إماماً، وكان السبب في قيامه[142] أن رجلاً في أيامه صنف كتاباً سب فيه آل رسول الله صلى الله عليه حتى اتصل بفاطمة عليها السلام، فنال منها، فجاء الطالبيون بالكتاب إلى محمد بن جعفر، فقرأه عليه، وكانوا يطلبونه القيام قبل ذلك فلم يساعد، فلما سمع ذلك لم يرد عليهم جواباً إلا دخول منزله فلبس الدره، وتقلد السيف، وخرج إليهم وهو يقول:

لم أكن من حملة علم الله

 

 

وإني لحرها اليوم صالي

وكان فاضلاً عابداً، شجاعاً سخياً، عالماً جامعاً لخصال الكمال، يصوم يوماً ويفطر يوما، وما علم أنه خرج بردا ورجع به، بل يتصدق به، أو يهبه، وكانت بينه وبين الجنود العباسية وقعات كثيرة، وهزمهم فيها، ثم تكاثفت عليه الجنود، فالتجأ إلى جبل في الحجاز، ثم اضطر أصحابه فنزل بعد الأمان إلى العباسية، وتقدم إلى خراسان، فتلقاه المأمون أولاً بالانصاف، ثم دس عليه السم فقتله.

خيرة آل المرتضى علي
الترجمان العالم التقي

 

أين لهم كالقاسم الرسي
أكرم شيخ من بني النبي

شيخ الرسوس وإمام الحق
وعصمة الآل وشمس الخلق

 

ومعدن العلم ورب السبق
مقال حقٍ ومقال صدق

هو الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، يكنى أبا محمد، ويلقب ترجمان الدين، ويقال له: القاسم العالم، وأبوه إبراهيم يلقب طباطبا الغمر لجوده، وكان عليه السلام الغاية القصوى في العلم والفضل، وكان يقال له نجم آل الرسول صلى الله عليه وآله.

وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يا فاطمة منك هاديها ومهديها، ومستلب الرباعيتين-يعني القاسم)) هكذا السماع، ورواية أخرى عمن نثق به إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((يا فاطمة منك هاديها ومهديها، ومسترق الرباعيتين، ولو كان بعدي نبي لكان هو نبياً)).

وروينا عن الإمام المنصور بالله رضوان الله عليه قال: روى القاضي العالم بن عمار قال: أخبرني فقيه آل الرسول صلى الله عليه وآله في عصر الحسين بن حمزة، قال أخبرني النفس الزكية، والشيبة المرضية، حمزة بن أبي هاشم، الإمام الرضى يرفعه عن آبائه إلى شيخ من شيوخ آل الحسن، كان يدرس عليه فتيان الحسن، وكانوا إذا جاؤا قام في وجوههم وعظمهم، فأقسموا عليه لا فعل، وكان القاسم عليه السلام من شباب ذلك العصر، فكان إذا أتى قام في وجهه وعظمه، فقالوا: أيها السيد إنا قد عذرناك، وهذا الفتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يخرج من ذريتي رجل مسروق الرباعيتين لو كان بعدي نبي لكان هو)) وفيه يقول الشاعر:

ولو أنه نادى المنادي بمكة

 

 

ببطن منا فيمن تضم المواسم

من السيد السباق في كل غاية

 

 

لقال جميع الناس لا شك قاسم[143]

أما ومن أبنا الآئمة قدمت

 

 

له الشرف المعروف والمجد هاشم

أبوه علي ذو الفضائل والنهى

 

 

وآباؤه والأمهات الفواطم

بنات رسول الله أكرم نسوة

 

 

على الأرض والآباء شم خضارم

وله عليه السلام التصانيف الجمة في أنواع العلوم، والأنظار الحسنة، والحجج الواضحة، وله الهجرة إلى الله سبحانه، والزهد في الدنيا، والانقطاع إلى الله تعالى، وله من الفضل ما يطول شرحه.

وكان عليه السلام داعياً لأخيه إبراهيم، فلما جاءه خبره دعا إلى نفسه، فأجابه أهل العلم والزهد من كل بلدة، وانتشر خبره قبل تمكنه مما يريد، فوجهت الجيوش في طلبه، فالجأه ذلك إلى الجولان في البلاد، فدخل اليمن والتجأ إلى بالبدو، ودخل عدن، وخرج إلى بلاد السودان، ودخل إلى مصر، ثم إلى الحجاز، ثم هاجر إلى جبل الرس بأهله وولده.

وروى أبو الفرج في كتابه الصغير أن القاسم عليه السلام دعا إلى الله في مخمصة، وقال: اللهم إني أسألك بالاسم الذي دعاك به صاحب سليمان فجاءه العرش قبل ارتداد الطرف، فتهدل البيت عليه رطباً.

ومن كتاب الحياة قال: وروي أن القاسم بن إبراهيم عليه السلام كان بمكة، وكان يخرج في الليل، فروى بعض أصحابه أنه رآه ورأى المقام لاطياً بالأرض باسطاً كفيه ساجداً، وقد بل الثرى بدموعه، وهو يقول: إلهي من أنا فتعذبني، فوالله ما يشين ملكك معصيتي، ولا يزين ملكك طاعتي.

وقيل: لأبي جعفر محمد بن منصور المرادي: إن الناس يقولون بأنك لم تستكثر من القاسم بن إبراهيم وقد طال صحبتك له، فقال: نعم، صحبته خمساً وعشرين سنة، ولكنكم تظنون أنا كلما أردنا كلامه كلمناه، ومن كان يقدر على ذلك منا، فكنا إذا لقيناه أشربنا حزناً لتأسفه على الأمة، وما أصيبت به من الفتنة من علماء السوء، وعتاة الظلمة.

وله عليه السلام في معنى كتابنا هذا أقوال يطول شرحها في هذا الموضع، غير أنا نذكر منها يسيراً، يدل على ما رواه، فمن ذلك ما قال عليه السلام في كتاب تثبيت الإمامة في صفة علي عليه السلام بعد ذكره لجملة من فضائله، مع ما يكون عند الأوصياء من علم حوادث الأنبياء، وما يلقون بعد الأنبياء من شدائد كل كيد، ودول كل جبار عنيدً.

وقال عليه السلام في هذا الكتاب أيضاً: ولو كان الأمر في الإمامة كما قال المبطلون فيها، وعلى ما زعموا من أنهم الحاكمون بآرائهم واختيارهم عليها، وأن الخيرة فيها ما اختاروا، والرأي منهم ما رأوا، لكان في ذلك من طول مدة الالتماس، وما قد أعطبوا بقبحه وفساده من اهمال الناس، ما لا يخفى على نظرة عين، ولا سلم معه عصمة دين.

وقال عليه السلام: والله ما جعل إليهم الخيرة فيما خولهم، ولا فيما جعل من أموالهم، فكيف يكون لهم الخيرة في أعظم الدين عظما، وأكثره عند علماء المؤمنين حكما.

وقال عليه السلام في جواب سائل سأله عن الشيخين: كانت لنا أم صديقة بنت صديق، وماتت غضبانة عليهما، ونحن غاضبون لغضبها، لقول النبي صلى الله عليه وآله: ((إن الله يغضب لغضب فاطمة)).

وقال عليه السلام في كتاب تقديم تثبيت إمامة أمير المؤمنين في آخر الكتاب بعد شرح الاحتجاج بما لا يتسع[144] له ما نحن فيه: واعلم أنه لا يجوز أن يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وآله من إذا قضى بقضية، أو أحدث حدثاً مما لم يأت عن الله، ولم يحكم به رسول الله صلى الله عليه وآله، فراجعه فيه من هو أعلم منه بالله، رجع عن حكمه واعتذر، وكان قوله: عليَّ شيطان يعتريني، فإذا رأيتم مني ذلك فاجتنبوني، لا أبدر في أشعاركم وإنشادكم، فهذا لا يصلح للإمامة، ولا يجلس في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا من إذا حكم بحكم فقيل له: أصبت يا أمير المؤمنين فيعلوه بالدرة، ويقول: لا تزكونا في وجوهنا، والله ما أدري أصبت أو اخطأت، وما هو إلا رأي رأيته من نفسي، فيخبرهم أنه لا يدري أصاب أم اخطأ، وهم يشهدون له أن السكينة تنطق على لسانه، يخبرون بخلاف ما يخبر عن نفسه، ويجعلون له من التوفيق ما لا يجعلون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يصلح للإمامة، ويخلف النبي صلى الله عليه وآله في أمته من كان إذا صعد المنبر يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فعندي علم المنايا، والقضايا والوصايا، وفصل الخطاب، والله لأنا أعلم بطرق السماء من العالم منكم بطرق الأرض، ما من آية نزلت في ليل ولا نهار، ولا سهل ولا جبل، إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وفيما نزلت، ولقد أسر إليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب من مكنون علمه، فتح كل باب منها ألف باب، نحن النجباء، وأبناء النجباء، وأنا وصي الأوصياء، وأنا من حزب الله ورسوله، والفئة الباغية من حزب الشيطان، والشيطان منهم، وإفراطنا إفراط الأنبياء، ولا يقوم أحد يسأل عن شيء إلا أخبرته به غير مريب، والله يقول: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} والإمامة لا تكون إلا في موضع الطهر، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وجوهر النبوة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأمر بمودتهم بعد نهيه عن موادة من حاده، وليس يخالف ما ذكرنا من الحق إلا أهل العناد لله ولرسوله، والبغي والحسد والجهالة ممن لا درية له.

أو كابنه محمد بن القاسم
آل الرسول الشم في الملاحم

 

منبع علم قومه الأكارم
والحاكمون بالكتاب الحاكم

هو محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، كان عليه السلام بالغاً في العلم والفضل خصال الكمال جميعاً، مبلغ الأئمة السابقة، غير أنه لم يظهر نفسه، ويشهر دعوته، ولم نذكره عليه السلام إلا لجلالة قدره، وعظم موقعه في الإسلام، علماً وعملاً.

ومن قوله عليه السلام في المعنى الأول في كتاب الشرح والتبيين: ورأس النجاة لكم، فيما اشتبه عليكم من دينكم، إلا أن يقبل بعضكم قول بعض، ولكن ليرجع وليسأل فيما اشتبه عليه من جعله الله معدنه، وموضعه من أهل الذكر، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

وقال عليه السلام في شرح دعائم الإيمان: فأولئك هم الذين أمر الله بطاعتهم، وهم العترة الطاهرون، من آل نبيه عليه السلام، وأقامهم أئمة يهدون بأمره، وأمر الخلائق كلهم أن يسألوهم إذا جهلوا، وأن يردوا إليهم علم ما اختلفوا فيه؛ لأنهم أهل الاستنباط والبحث، والنظر الذين أمر الله بالرد[145] إليهم.

وقال عليه السلام: وقد أخبرنا الله عز وجل أنه قد كفا عباده ما يحتاجون إليه بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وفيه تبيان كل شيء، فالمذكورون علماء  آل محمد عليهم السلام.

أو كعلي ذي المناقب الرضى
ليث عرين وحسام منتضى

 

المدرة الحبر بن موسى المرتضى
يقضي الذي شاء له الإله وقضى

هو الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، وهو المشهور علماً وزهداً، وورعاً وخيراً كاملاً، وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((سيلقى بضعة مني بأرض خراسان لا يزورها مؤمن إلا أوجب الله له الجنة، وحرم جسده على النار)).

وعنه صلى الله عليه وآله: ((ستدفن بضعة مني بخراسان ما زارها مكروب إلا نفس الله كربه، ولا مذنب إلا غفر الله ذنبه)).

وعن جعفر بن محمد الصادق: من زار علي بن موسى الرضى، والحسين بن علي في سنة واحدة كان كمن زار أهل السماوات.

وحكى أبو عبد الله الينبعي الحافظ أنه قال: أعفت ليلة من الليالي في المشهد بطوس فرأيت ملكين نزلا من السماء وكتبا على جدار المشهد هذين البيتين وهما:

من سره أن يرى قبراً برؤيته

 

 

يفرج الله عمن زاره كربه

فليأت طوساً فإن الله أسكنها

 

 

سلالة من رسول الله منتجبة

عقد له المأمون البيعة بعد أن امتنع عليه السلام امتناعاً كثيراً، حتى تهدده وأوعده، فطاوعه، فتقدم المأمون فبايعه أولاً، ثم أهل بيته، ثم بايعه بنو هاشم، ثم الناس على مراتبهم، والأمراء والقواد، وأعطا المأمون الناس يومئذٍ للبيعة عطاء واسعاً، وضرب اسمه في السكة والطرق، ولبسوا الخضرة دون السواد، وجعل له في الخطبة موضعاً، فكان إذا بلغه الخطيب قال: اللهم صل على الإمام الرضى علي موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين سيد شباب أهل الجنة بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ثم يقول:

ستة إمامهم ما هم

 

 

هم خير من نشرت وبل الغمام

ثم دس عليه المأمون سماً فمات رضوان الله عليه فدفنه بطوس بخراسان، كما ورد في الآثار النبوية، ولم يأمرهم عليه السلام بلباس الخضرة إلا لتعتبر طاعتهم، ففعلوا ذلك، وسمه المأمون بعد البيعة من الجميع، كما قال أبو فراس رحمه الله:

باؤا بقتل الرضى من بعد بيعته

 

 

فابصر وأبغض يوم رشدهم وعموا

عصابة شقيت من بعد ما سعدت

 

 

ومعشر هلكوا من بعد ما سلموا

وله عليه السلام في معنى ما نحن فيه من تفسير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لتركبنَّ سنن من كان من قبلكم حذوا، الفعل بالفعل، والقذة بالقذة)) علم باهر، وبيان شافي لحال هذه الأمة، وميلها عن الحق، في تقديم المشائخ على أمير المؤمنين عليه السلام، وفي ميلها عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا أن الغرض الاختصار لنقلناه كاملاً إلى هذا الموضع، وإنما نحكى منه زبدة يسيرة، وفيها دلالة نافعة، فمن أحب الوقوف عليه فهو موجود بحمد الله، فمن ذلك قوله عليه السلام حاكياً عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه أنذر أمته من الفتن، وقال: أرى مواقع الفتن[146] في خلال بيوتكم كمواقع المطر، ثم دلهم على سفينة نجاة فقال: ((إن مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)) أي من سلك سبيلهم واستن بسنتهم، لا يغرق بالفتن، كقوم نوح بالماء، فيدخل النار مع الداخلين، قال الله عز وجل: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} أغرقوا فادخلوا ناراً فظنوا أن سبيلهم كسبيل غيرهم، فلم يسلك من أمته سبيلهم إلا قليل، كما لم يركب مع نوح من قومه إلا ثلاثة بنين، سام وحام ويافث، ولم يقصد طريق علي عليه السلام، ولم يخالفه في شيء من أصحاب نبينا صلى الله عليه وآله إلا ثلاثة: سلمان، وأبو ذر، والمقداد الكندي، تركيباً لسنة من قبلهم واحتذاء بهم.

وقال عليه السلام في موضع منه آخر: وقد أحب رسول الله صلى الله عليه وآله أن يخلف علياً عليه السلام في أمته، ويجعله وزيراً من أهله، ووصياً في قومه، كما سأل موسى عليه السلام ربه فقال: رب {اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} وخاف تكذيب قومه فأنزل الله عز وجل على هدايته، وصحة ولاية أخيه من السماء، وأمره أن يبلغ ذلك فقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي بلغ الولاية بعد الرسالة {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((فضقت به ذرعاً، وعلمت أن الناس يكذبون، فأوعدني ربي تعالى لأبلغها، أو ليعذبني)) فقام صلى الله عليه وآله بغدير خم فأخذ بيد علي عليه السلام، ونصبه مكان نفسه، وكان تصديقه إياه إيماناً، وتكذيبه كفراً، يأتمنه على ما أدى إليه من النصيحة، والدعاء إلى الخير، وإلى سبيل  الرشاد كما نصبه جبريل بأمر رب العالمين تبارك وتعالى في أدائه ما أدى إليه إسرافيل، فكانت طاعته طاعة الله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله حجة على الخلق، ورحمة من الله عن ذكره لعباده، فأقامه تحت دوحتين، وقال لأصحابه: ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: اللهم نعم، ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، ومن كنت نبيه فعلي أميره، ومن كنت أولى به من نفسه فهذا أولى به من نفسه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)) وأمر أصحابه أن يبلغ الشاهد الغائب، فأنزل الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} أي لا أنزل بعد هذا فريضة أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((الله أكبر على كمال الدين، وإتمام النعمة، والولاية لعلي بن أبي طالب عليه السلام)) ولم يؤكد موسى عليه السلام على قومه أكثر من هذا في خلافة هارون عليه السلام، إنما كانت خلافة كلمة اخلفني في قومي، واصلح ولا  تتبع سبيل المفسدين، ورسول الله وكد على قومه في خلافة علي عليه السلام ما وكد بغدير خم، ثم أخرج من المدينة من خاف على منازعة علي عليه السلام في خلافته وولايته، فجعلهم تحت يدي أسامة بن زيد مولاه، وأمره أن لا يقف أحد منهم بالمدينة، وهو صلى الله عليه وآله يقول: ((كي تصفو الخلافة لعلي عليه السلام)) فكان لابد لهذه الأمة أن تحتذ حذو بني إسرائيل لما وعدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستركبون سنة بني إسرائيل)) وما وعدهم الله عز وجل في الكتاب أنهم يفتنون كما فتن الذين من قبلهم.

ثم قال عليه السلام: ولقد سألوه عليه السلام إلى من نفزع بعدك[147] يا رسول الله، ومن خليفتك؟ فلما أخبرهم ساءهم ذلك.

وقال عليه السلام في موضع آخر: فلما أن فارق رسول الله صلى الله عليه وآله الدنيا انقلب أكثر أمته على أعقابهم كما فعلت الأمم الماضية بعد أنبياءهم عليهم السلام، وكما قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً، ثم قبضه إلا وكانت بعد وقفة تملأ منها جهنم، قال الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} فنكصوا على أعقابهم، وتركوا أخا نبيهم صلى الله عليهما، ووليهم ووزير رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه في قومه، وخليفته على أمته، كما فعل بني إسرائيل مع هارون عليه السلام، بعد ما غاب موسى عليه السلام عنهم، واتخذوا العجل في بني إسرائيل عشرة أيام، حتى قال عليه السلام: فقبض نبينا صلى الله عليه وآله ولم يغب كما غاب موسى عليه السلام فبقى عبدة العجل من أمتنا في غيهم يترددون لا يتوبون، ولا هم يذكرون.

وقال عليه السلام في موضع آخر: قال الله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ،  إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} حاكم علي والعباس عليهما السلام إلى أبي بكر في ميراث النبي صلى الله عليه وآله فقال: فيما قد أوجبتم وراثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام وأنا عم النبي عليه السلام، وهو ابن عمه، فقال أبو بكر: على الخير هجمتم، تذكر يا عباس يوم كنا في شعب أبي طالب أربعين رجلاً لم يكن فيكم من غيركم غيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان له وصي وخليفة، فمن يكن منكم وصيي وخليفتي، ووارث أمري، يقضي ديوني، وينحز وعدي، ويبرى ذمتي)) قال: فسكتوا ولم يجبه أحد، فقلت أنت يا عباس: ومن يقدر على ذلك وأنت أسخى من الريح، قال فقام في الثالثة فقال: ((يا معشر بني هاشم، كونوا في الإسلام روسا ولا تكونوا أذناباً، إن كان فيكم وإلا كان في غيركم)) قال: فقام أخمشكم ساقاً، وأعظمكم بطناً، وهو هذا، وأشار بيده إلى علي عليه السلام، فقال: أنا أكون وصيك وخليفتك، ووارث أمرك، أقضي ديونك، وأنجز مواعيدك، وأبرئ ذمتك، أتعرف هذا له يا عباس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: نعم يا أبا بكر، قال: فلأي شيء تخاصمه وأنت تعرفه له من رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال عباس: وأنت لماذا توثبت عليه في حقه، وتعرف هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال أبو بكر: أخرجوهما عني مكيدة من بني هاشم.

قال عليه السلام: وقال الله عز وجل: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} كذلك أخرجت أمتنا من ديارهم بغير حق، من كان أصدق لهجة ممن أضلته الخضراء وأقلته الغبراء، لم ينقموا منه إلا أنه كان قوالاً بمر الحق[148] حذو النعل بالنعل.

وقال عليه السلام: قال الله عز وجل: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} كذلك قالت الناصبية أن الحسن والحسين عليهما السلام ليسا أبنا رسول الله صلى الله عليه وآله، وتأولوا قول الله عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وقد علموا أنها نزلت في شأن زيد بن حارثة حين تبناه رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما تزوج زينب بنت جحش قال المنافقون: إن محمداً تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} فزوجه زينب كيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم، ونهى المؤمنين بعد ذلك أن يقولوا: زيد بن محمد، وقال: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} فبقوا بنيه الحسن والحسين عليهما السلام، ولم يصدقوا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في غير موضع، قال الله سبحانه: {فَقُلْ} يا محمد {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} ولم يكن الله عز وجل يأمر أن يدعو ابنه، وليس له بنون، وكان ابناه يومئذٍ الحسن والحسين عليهما السلام، فلم يكن له عليه السلام ابن غيرهما، وقد سماهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنيه في غير موضع، وكذلك قالوا في آية التطهير، قالوا: إنما أنزلت في نساء النبي عليه السلام، ونسوا ما ذكر الله عز وجل عن نبيه موسى: {اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} ولما أنزل الله عز وجل على نبيه عليه السلام: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ} كان يأتي ستة أشهر على باب علي وفاطمة عليهما السلام فيناديهما: ((الصلاة يا أهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)) ولو كانت المخاطبة للنساء لذكرهنَّ بالتأنيث كما ذكرهم {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ}[الأحزاب:33] فلما بلغ موضع التطهير ذكرهم وأذهب عنهم التأنيث فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب:33] مع شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله لهم، وأنه قال: ((نزلت هذه الآية في خمسة في، وفي علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ}[الأحزاب:33] الآية.

وروت عنه أم سلمة عليها السلام أنه جمعهم في بيتها تحت كساء خيبري فقال: ((اللهم هؤلاء عترتي أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)) فقلت: وأنا من أهل بيتك، فقال: ((وأنت إلى خير)) ولكن هذا لهم خاصة، وكذلك روت عائشة، وروى النواس ين سمعان كذلك، وأنا جالس في ناحية ثم قال: ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، اللهم هؤلاء أهل بيتي...)) الخبر.

ثم انقضت أيام المأمون، وقام بالأمر بعده الملقب بالمعتصم، محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، بويع له يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، وكان في اللهو على منهاج من سبقه من أهله.

أو هل لهم كالعلوي الهاشمي
فخر بني فاطمة الأكارم

 

محيي الهدى محمد بن القاسم[149]
حياة مظلوم وموت ظالم

هو الإمام محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو العالم الزكي، الزاهد الفاضل، وهو الذي يقال له صاحب الطالقان، ظهر في أيام المعتصم، وكانت بينه وبين آل طاهر والجنود العباسية وقعات عظيمة، يظهر فيها عليهم، إلى أن تكاثفت عليه الجنود، فانهزم عنه أجناده، وتفرق أصحابه، واحتال في نفسه، وخرج إلى موضع وانكتم فيه، فعلم به بعد مدة عبد الله بن طاهر، فاحتال في قبضه، وقيده وأنفذ به إلى المعتصم، فجعله في حبس، ثم احتال محمد بن القاسم في نفسه حتى خرج في وجه الليل، ثم اختلف فيه، فقيل: رجع إلى الطالقان فمات فيه، وقيل: انحدر إلى واسط، وهو أكثر ما حققه أهل العلم، فمات في الحبس، وقيل: إنهم سموه، وقيل عبر دجلة إلى الجانب الغربي فمات هناك، سلام الله عليه ورضوانه.

وتوفى المعتصم، وبويع لولده الملقب بالواثق يوم الأربعاء لتسع ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين ومائة، وكان في باب اللهو واللعب، والشرب على منهاج أهل بيته، وله الألحان المعروفة في الغنا بالواثقية، وهي العشرة المختارة من المائة التي كان المسمى بالرشيد، اختارها ومات الواثق، وكان أجمل القوم طريقة في أمر أهل البيت عليهم السلام، وبويع بعده للملقب بالمتوكل، واسمه جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، بويع له لست بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكانت أيامه أشد أيام مرت بآل الرسول صلوات الله عليهم من أيام بني العباس، وهو الذي أمر اليهود بكرب قبر الحسين عليه السلام، وأجرا الماء عليه، وهدم المنازل التي حوله، والبنيان الذي عليه، وكان مما بالغ في عداوة أهل البيت أنه استعمل على مكة والمدينة عاملاً يمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ويمنع الناس من برهم، والتقرب إلى بالله بإعطائهم، وكان لا يبلغه أن أحداً بر أحد منهم بشيء وإن قل، إلا نهكه عقوبة، وأثقله غرماً، حتى كان القميص الواحد يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرفعنه ويجلسنَّ على مغازلهنَّ عواري حواسر، والمغنيات والصياحات والعوادات يحمل إليهنَّ أنواع الثياب الفاخرات على البغال.

أو هل لهم داعٍ كمثل الداع
سباق كل سابق وساعي

 

الحسن الحبر شديد الباع
وبغية الأبصار والأسماع

أو كان فيهم كابن عيسى أحمدا
أشرف من حج ومن تعبدا

 

فقيه آل أحمدٍ غيث الندى
وراح في آل الرسول واغتدا

أما الداعي فهو الداعي إلى الله الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، كان عليه السلام في أيام المتوكل، وغلب عليه السلام على طبرستان[150] بسنان بنواحي الديلم، وكان بينه وبين الجنود العباسية وقعات كثيرة، أكثرها له عليهم، وكان فاضلاً ورعاً، عالماً عاملاً، سخياً شجاعاً، وبعث دعاته في الآفاق، فكان من دعاته محمد بن جعفر بن عمر بن علي بن الحسين، وله أخبار يطول شرحها.

وأما ابن عيسى فهو أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو من دعاة الداعي أولاً، ثم بعد ذلك توفي في أيام المتوكل بعد أن دعا إلى الله عز وجل، واستجابه كثير من الخلق، وكان عليه السلام يسمى فقيه آل محمد، وكان عالماً فاضلاً، زاهداً ورعاً، عابداً ناسكاً، حج ثلاثين حجة من البصرة راجلاً، وكان معلوم الفضل مشهور العلم.

ثم قتل المتوكل وقام بعده بالأمر ولده المنتصر، وكان يرى بخلاف أبيه في كل شيء، فلم يتعرض لأهل البيت بشيء، وأمر بأموال فرقت فيهم في الحجاز وغيره، فأما اللهو واللعب والشرب فكان فيه على منهاج سلفه، ولما توفى المنتصر قام بالأمر بعده الملقب بالمستعين بالله، بويع له يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وهو جار مجرى من تقدمه في انتهاك المحرمات، على أنهم كانوا ينعتونه بالصلاح بالإضافة إلى من سبقه.

أم أين فيهم كالحسيني الأغر
من أهل بيت جعلوا خير البشر

 

إمام أهل الحق يحيى بن عمر
منشاهم بين الرسول والسور

هو الإمام يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان فارساً شجاعاً، ورعاً عالماً، عابداً كريماً، شديد البدن، مجتمع القلب.

وكان عليه السلام قد ظهر في أيام المتوكل، ثم لم ينتظم له الأمر، فخرج في البلدان، ثم استقل أمره في أيام المستعين، وكان بينه وبين الجنود العباسية وقعات، وظهر فيها عليهم، ثم استشهد عليه السلام في بعض تلك الوقعات، وحز رأسه، وحمل إلى بغداد، وأسر قوم من أنصاره، قلم ير قبلهم أحد من الأسارى لحقه ما لحقهم من العنف وسوء الحال، كانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً، فمن تأخر ضربت عنقه، ثم قام بالأمر الملقب المعتز بن المتوكل بعد خلع المستعين، وهو أبو عبد الله محمد.

وقيل: هو الزبير بن جعفر المتوكل، بويع ببغداد لأربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكان المعتز مؤثراً للذات، عاكفاً على الشهوات، متهوراً في شرب القهوات.

أو مثل إسماعيل حيث يقرا
معتقلاً إلى الطغاة الأسمرا

 

لله في مرضاته مستمرا
يحمي به الملة أن تغيرا

هو الإمام إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قام إماماً، وهو كامل الخصال، على منهاج آبائه الطيبين، وجاهد في الله تعالى، وغلب على بعض الحجاز، ثم قام بالأمر بعده الملقب بالمهدي، وهو أبو عبد الله محمد بن هارون، بويع له لليلة بقية من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين[151].

أم لهم مثل علي بن زيد
مستأسر الأقران أسر الصيد

 

ابن الحسين ذي التقى والأيد
لا حائد عن بأسهم والكيد

هو علي بن زيد بن الحسين بن عيسى بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قام في الكوفة، فبايعه نفر قليل من أهلها لما أصاب الناس في أيام يحيى بن عمر عليه السلام، فوجه إليه المهتدي الشاة بن ميكال في عسكر ضخم، وكان قبل خروج الناجم بالبصرة.

حكى محمد بن سليمان الكوفي قال: قال أبي كنا مع علي بن زيد، ونحن زهاء مائتي فارس نازلين ناحية من سواد الكوفة، وقد بلغنا خبر الشاة بن ميكال، فنحن ............، فقال لنا علي بن زيد: إن القوم لا يريدون غيري فاذهبوا فأنتم في حل من بيعيتي، فقلنا: لا والله لا نفعل هذا أبداً، فأقمنا معه، ووافى الشاة بن ميكال في جيش عظيم لا يطاق، فداخلنا من الرعب أمر عظيم، فلما رأى ما لحقنا قال لنا: اثبتوا وانظروا ماذا أصنع، فثبتنا وانتضى سيفه، وقنع فرسه، وحمل في وسطهم يضربهم يميناً وشمالاً، ثم أفرجوا له فرجة حتى صار خلفهم، وعلا على تلعة ولوح بسيفه إلينا، ثم حمل من خلفهم فأفرجوا له حتى عاد إلى موقفه، ثم قال لنا: ما تجزعون من مثل هؤلاء، ثم حمل ثانية ففعل مثل ذلك، ثم عاد إلينا وحمل الثالثة، وحملنا معه فهزمناهم أقبح هزيمة، وقتلنا منهم ما شئنا، وكانت هذه قضيته.

وروي أنه لم يبايعه من الزيدية إلا عوامهم، ولم يكن للعلماء فيه هوى، وفي أيام المهتدي نجم الناجم بالبصرة العلوي، وهو علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وليس من أئمة الهدى، وإن كان أشد طريقاً من القوم، ونال من بني العباس منالاً عظيماً، وقتل من أجنادهم وأنصارهم مائتين وخمسين ألف قتيل، ثم تولى الأمر الملقب بالمعتمد، واسمه أحمد، ويكنى أبو العباس، وقيل: أبو جعفر، وأبوه جعفر المتوكل، وبويع له لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال سنة ست وخمسين ومائتين، وفي أيامه وقع هلاك الجنود العباسية، على يدي الناجم بالبصرة، وكان على منهاج سلفه في انتهاك محارم الله، وقتل آل الرسول صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وهلك منهم في أيامه جماعة أخيار، ثم قام بالأمر الملقب بالمعتضد بالله، وهو أبو العباس أحمد بن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل، بويع له لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب من سنة ست وخمسين ومائتين، وكان مبرزاً على سلفه في الملاهي والشرب، وانتهاك المحارم.

أم كان فيهم كابن زيد الداعي
من قول أهل الشبه الرعاعي

 

محمد مطهر البقاع
والفالق الهامات بالقطاع

هو محمد بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان في أيام المعتضد، وهو عليه السلام المعروف بالداعي، وقد كان تقدمه أخوه الحسن بن زيد عليهما السلام، ومحمد هذا يضرب بعدله المثل، أظهر في أيامه العدل، ونفى الجور، وعزت به الذرية الطاهرة، وبأخيه وانتصفت من الأعداء، وظهر العدل والتوحيد، ونفي الجور والتشبيه[152] والمذاهب الردية، كالقدر والإرجاء، ونال محمد بن زيد من جنود بني العباس، وتمكن حتى كان يهم بسرير الملك ببغداد، ثم قصده القوم بجنودهم وجموعهم، واستشهد إلى رحمة الله ورضوانه، ومات بجرجان، ومشهده هنالك مزور، وسيره مدونة معلومة، ولم يكن هو وأخوه الحسن إمامين، إلا أنا ذكرناهما لصلاحهما، وحسن بلائهما في الإسلام، ولما قتل محمد بن زيد عليه السلام رثاه الإمام الناصر عليه السلام للحق بمرثية حسنة، وأثنى عليه وتوجع لهلاكه، وكان يمدحه في حياته ويثني عليه، ويشكر طريقته، وفي ذلك دلالة على حسن فعله، وجميل طريقته.

ثم توفى المعتضد ليلة الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وقام بالأمر بعده ولده الملقب بالمكتفي وهو علي بن أحمد بن المعتضد، وكانت الأمور قد تواطت له بمن سبقه من أهله، فتخلى للهو واللعب ولم يقع عليه طايل تكدير.

أم أين فيهم كالإمام الهادي
ومنشر الملة في العباد

 

مطهر الآباء والأجداد
بعد ظهور ظلمة الإلحاد

الضارب الهام بذي الفقار
والسابق المذكور في الآثار

 

في كل يوم كوطيس النار
عن النبي المصطفى المختار

هو الإمام الهادي إلى الحق أمير المؤمنين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان قيامه عليه السلام في أيام الملقب بالمعتضد، وكان أكثر استظهاره على القرامطة والمسودة في أيام المكتفي، وكان قيامه عليه السلام سنة ثمانين ومائتين.

وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه أشار بيده إلى اليمن وقال: ((سيخرج رجل من ولدي في هذه الجهة اسمه يحيى يحي به الله الدين)).

وروينا عن بعض علمائنا رحمهم الله تعالى رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يخرج في هذا النهج-وأشار بيده إلى اليمن- رجل من ولدي اسمه يحيى الهادي، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحي الله به بالحق، ويميت به الباطل)).

وروى مصنف سيرته قال: بلغنا عن عبد الله بن موسى قال: حدثني أبي عن بشر بن رافع، رفع الحديث إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه قال: ياأيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، أيها الناس أنا أحلم الناس صغاراً، وأعلمهم كباراً، أيها الناس إن الله تعالى بنا فتح وبنا ختم، ياأيها الناس ما تمر فتنة إلا وأنا أعلم سائقها وناعقها، ثم ذكر فتنة بين الثمانين ومائتين، فيخرج رجل من عترتي اسمه اسم نبي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، يميز بين الحق والباطل، ويؤلف بين قلوب المؤمنين على يديه، كما يؤلف الله فرع الخريف، انتظروه في الأربع والثمانين ومائتين في أول السنة واردة وآخره صادرة، من تأمل علم أن ذلك فيه؛ لأن مصنف سيرته حكى أن وصوله إلى صعدة في المرة الأخيرة التي استنفر فيها في الجهات الستة أيام ماضية من شهر صفر سنة أربع وثمانين ومائتين، في أول سنة واردة، وعقيب سنة صادرة.

وروينا عن  الباقر محمد بن علي السجاد زين العابدين عليهما السلام أنه قال: إذا قتل أهل مصر كبيرهم، وظهر اليماني باليمن، فإنه يملأ الأرض عدلاً، فقتل أهل مصر كبيرهم سنة ثمانين ومائتين.

وروينا[153] عن أبي العباس أنه قال: صاحب الحق حسني يظهر باليمن، واسمه واسم أبيه ستة أحرف.

وكان عليه السلام موصوفاً من حال صباه بفضل القوة والشدة، والبأس والشجاعة، والاشتغال بالعلم والتوقر عليه، فأما الزهد والورع فمما لا يحتاج إلى وصفه؛ لظهور الحال فيه  عند الخاص والعام، وابتدأ في تصانيف العلوم، وله سبع عشرة سنة، وله في العلوم التصانيف الكثيرة، الني يعلم مكانه من أطل عليها من أهل المعرفة، وكان عليه السلام حسن المناظرة.

وروينا عن الإمام المنصور بالله عليه السلام أنه قال: قدم الهادي عليه السلام إلى صنعاء وأهلها جبرية، وكان فيها سبعة آلاف فقيه، وكانوا يصلون خلف الهادي عليه السلام، فاختار سبعمائة فقيه وشيخهم جميعاً التوبي وتقدموا إلى بين يدي الهادي بصنعاء لمناظرته، فتقدم التوبي بين يديه وقال: ما تقول يا سيدنا في المعاصي؟

فقال عليه السلام: ومن العاصي، فسكت التوبي، ولم يجبه بشيء، وبقي متحيراً، وقام وقام معه أصحابه إلى مؤخر المسجد، فوبخه أصحابه وقالوا: فضحتنا عند هذا الشريف، فقال: يا قوم إني قلت له ما تقول في المعاصي؟ فقال: ومن العاصي، فإن قلت الخالق العاصي كفرت، وإن قلت المخلوق العاصي خرجت من مذهبي إلى مذهبه، فقاموا جميعاً فبايعوه وصاروا على مذهبه عليه السلام.

وكان الإمام المنصور بالله يروي هذا الحديث ويقول: إن الهادي عليه السلام  رد أهل صنعاء زيدية بتسعة حروف وهم ألوف، فهذا من بركته، وحسن إجابته سلام الله عليه، وكان عظيم القوة، كان يأخذ الدينار فيطمس سكته بيده ويمحوها، وكان له على رجل حق فمطله فاهوى إلى عمود حديد فلواه في عنقه، ثم سواه وأخرج عنقه منه، وكان في حال حداثته يدخل السوق في أوان البلوغ وقد امتاروا من موضع فيقول: ما طعامكم هذا؟ فيقال: الحنطة، فيدخل يده في الوعا فيأخذ منها في كفه ويطحنها في كفه بيده، ثم يخرجه فيقول: هذا دقيق يري قوته، وكان بينه وبين القرامطة نيف وسبعون وقعة كانت له اليد فيها عليهم.

وكان إذا طلع ظهر فرسه لم تقم له قائمة، وكان معه ذو الفقار سيف جده علي بن أبي طالب عليه السلام، ولقد كانت له ليلة مع القرامطة تشبه ليلة الهرير لجده علي عليه السلام.

وروينا من كتاب المراتب عن أبي القاسم البستي أنه عليه السلام كبر تلك الليلة ثلاثمائة تكبيرة قتل بكل تكبيرة واحد من القرامطة.

وروينا من طريق أخرى سماعاً أنه قتل فيها مائة قتيل، وقتل ولده المرتضى عليه السلام ما يدنوا من ذلك، ولما ظهر ابن فضل الملعون القرمطي، وهو رجل نجار من أهل الكوفة، وأظهر دين المجوسية والكفر، وظهر من عسكره التأذين بأشهد أن علي بن الفضل رسول الله، قال الهادي عليه السلام لأصحابه: قد تعين علينا فرض جهاد هذا الكافر.

قال أصحابه: لا قدرة لنا عليهم، وهم عدد كثير، فقال عليه السلام: ما يجزعكم من عدوكم وأنتم ألفا رجل؟

فقالوا: إنما نحن ألف واحدٍ، فقال: أنتم ألف وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم، وكان يضرب ضرب جده علي بن أبي طالب عليه السلام[154]ضرب على باب ميناس رجلاً فجذب السيف من بين رجليه، فلما تنظر إليها ابن حميد قال: استروا ضربة هذا العلوي، فوالله لئن رآها الناس لا تناصروا، وطعن رجلاً فأمرقه وشاله بالرمح فثنى فصب الرمح وانكسر، وطعن رجلاً على باب الهجر بنجران فرمى به وبفرسه في أراكة، وكان في ملاحم كثيرة يضرب بسيفه حتى تغرى الدم بيده فلا ينفك إلا بالماء المسخن، فقال عليه السلام:

غربت أنامل راحتي بصحيفتي

 

 

لله در خنعثر أغواها

وبرز له رجل ذات يوم في بعض حروبه فرفع الرجل يده ليضربه بالسيف فأهوى عليه السلام بيده فقبض بها على يد الرجل على مقبض السيف فهشم أصابعه.

وكان له عليه السلام من الكرامات ما هو دليل على علو المنزلة، وشريف الرتبة عند الله تعالى.

فمنها ما رواه مصنف سيرته عن بعضهم قال: كان لي ابن صغير لم يتكلم فطلبت الدواء له بكل حيلة فأعياني، فعزمت على حمله إلى مكة، وكنت على ذلك حتى أتاني كتاب الهادي إلى الحق عليه السلام فأخذنا خاتمه فوضعناه في ما وسقيناه الصبي فاصح بالكلام، فحدثت بذلك الناس، وشاهدوا الغلام وهو يتكلم، وشاهده بعضهم وهو لا يتكلم.

وروي أيضاً عن بعضهم قال: سمعت رجلاً يقع في الهادي عليه السلام وينتقصه في أصله، فما مكث إلا أيامأً حتى أخذه بلاء فانقطعت رجله قبل يموت، قال: ثم مات بعد ذلك، قال: وسمعت أيضاً أن امرأة تكلمت بكلام سوء فقامت شجرا فأخذتها النار فاحترقت.

وروي أيضاً أنه عليه السلام كان في نجران فأتي بصبي قد ذهب بصره من الجدري، فأمر يده على بصره ودعا له فأبصر.

وروي أنه عليه السلام أنه كان في أرض لا ظلال فيها ولا شجر، وكان يومئذٍ شديد الحر، كثير السموم، فأنشأ الله سحابة حتى ركدت فوق رأس الهادي عليه السلام وجميع أصحابه، وأظلهم الله بها في ذلك اليوم الشديد الحر، قال: فوالله ما زالت تلك السحابة مظلة حتى راح، وكانت السماء مصحية ما فيها سحابة غيرها، وإن الناس ليعجبون مما رأوا إلى غير ذلك، وكان إذا كان مسالماً، وأرخى الليل سدوله، نزل إلى مصلى له في أسفل داره، ولم يزل يصلي ويبكي، ويقرأ إلى طلوع الفجر، فأطل بعض خدامه فاستحلفه لا ذكرت هذا لأحدٍ من خلق الله في حال حياتي، فما ذكره للناس إلا بعد وفاته، ودخل ذات يوم وقد كان جلس للناس يريد النوم.

قال الراوي: فرجعت فإذا هو في مكانه فقلت: يابن رسول الله، ألم تكن أردت النوم؟ فقال: دخلت وهميت بذلك، فقلت: ما يؤمنني أن يأتي طالب لحاجة أو مظلوم، فأكون قد أنمت فخرجت على الفور، وكان شعاره في الحرب، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، وكان يعود المرضى بنفسه، ويداوي الجرحى.

وروى السيد أبو طالب عليه السلام عن بعضهم أنهم كانوا مع الناصر رضي الله عنه بالجيل قبل خروجه، فنعي إليه يحيى بن الحسين عليه السلام فبكى بنحيب ونشيج، وقال: اليوم انهد ركن الإسلام، فقلت: ترى أنهما تلاقيا لما قدم يحيى بن الحسين عليه السلام طبرستان؟ قال: لا.

وروى السيد أبو طالب بإسناده عن بعضهم قال: حضرنا املاء الناصر الحسن بن علي عليه السلام في مصلى آمل فجرى ذكر يحيى بن الحسين عليه السلام، فقال بعض[155] أهل الري: وأكثر ظتي أنه أبو عبد الله محمد بن عمرو الفقيه، كان والله فقيهاً، قال: فضحك الناصر، وقال: ذاك والله من أئمة الهدى، ولو أردنا احصا مناقبه لتعذر ذلك علينا في مثل هذا الموضع، وهي موجودة بحمد الله لطالبها.

وله عليه السلام في معنى كتابنا هذ: ما يشرح منه دلالة واضحة.

قال عليه السلام في كتاب الأحكام: ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، واجبة على جميع المسلمين، فرض من الله رب العالمين، لا ينجو أحد من عذاب الرحمن، ولا يتم له اسم الإيمان حتى يعتقد ذلك بأتقن الإيقان.

وقال عليه السلام فيه: فمن أنكر أن يكون علي أولى الناس بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد رد كتاب الله ذي الجلال والطول، وأبطل قول رب العالمين، وخالف في ذلك ما نطق به الكتاب المبين، وأخرج هارون من أمر موسى كله، وأكذب رسول الله في قوله، وأبطل ما حكم به في أمير المؤمنين، فلابد أن يكون من كذب بهذين المعنيين في دين الله فاجراً، وعند المسلمين كافراً.

قال عليه السلام: والاختيار في ذلك إلى الرحمن، وليس من الاختيار في ذلك شيء إلى الإنسان، كما قال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً} صدق الله سبحانه، لقد ضل من اختار سوى خيرته، وقضى بخلاف قضائه، وحكم بضد حكمه.

وقال عليه السلام في جوابه لأهل صنعاء: لست بزنديق ولا دهري، ولا ممن يقول بالطبع ولا وثني، ولا مجبر قدري، ولا حشوي ولا خارجي، وإلى الله أبرأ من كل رافضي غوي، ومن كل حروري ناصبي، ومن كل معتزل غالٍ، ومن جميع الفرق الشاذة، ونعوذو بالله من كل مقالة غالية، ولابد من فرقة ناجية عالية، وهذه الفرق عندي كلهم حجتهم داحضة، والحمد لله.

وقال عليه السلام في كتاب القياس: وقع هذا الاختلاف وكان ما سألت عنه من قلة الائتلاف، لفساد هذه الأمة، وافتراقها، وقلة نظرها لأنفسها في أمورها، وتركها لما أمرها الله باتباعه، والاقتباس من علمه، ورفضها لأئمتها وقادتها الذين أمرت بالتعلم منهم، والسؤال لهم.

ثم قال عليه السلام: فإن قيل فكيف لا تقع الفرقة ولا يقع بين أولئك عليهم السلام خلفة؟

قيل: لأنهم أخذوا علمهم من الكتاب والسنة، ولم يحتاجوا إلى إحداث رأي  ولا بدعة.

ثم قال عليه السلام: ثم اعلم من بعد كل علم وقبله، وعند استعمالك لعقلك في فهمه، أن الذين أمرنا باتباعهم من آل الرسول صلى الله عليه، وخصصنا على التعلم منهم، وذكرنا ما ذكرنا من أمر الله برد الأمور إليهم، هم الذين احتذوا الكتاب من آل رسول الله، واقتدوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله، الذين اقتبسوا العلم من علم آبائهم وأجدادهم جداً عن جد، وأباً عن أب، حتى انتهوا إلى مدينة العلم، وحصن الحكم، الصادق المصدق، الأمير الموقن، الطاهر المطهر، المطاع عند الله سبحانه المقدم محمد عليه السلام، فمن كان من آل رسول الله على ما ذكرنا ناقلاً عن آبائه، مقتبساً عن أجداده، لم يزغ عنهم، ولم يقصد غيرهم، ولم يتعلم من سواهم، فعلمه ثابت صحيح.

وقال عليه السلام في جواب مسائل سأله عنها محمد بن عباد، ومن تبرأ من آل محمد ومال إلى أعدائهم، فجزاؤه النار؛ لأن الله[156] تعالى جعل حجة خلقه، وقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقال سبحانه: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولاً} فمن خالفهم فقد جاء بكبيرة؛ لأن الله يقول في الإنجيل والفرقان: حبل من الله وحبل من الناس، فحبل الله الكتاب، وحبل الناس أهل بيت محمد صلى الله عليهم وعليهم أجمعين.

وقال عليه السلام في ذم رفضه  الأئمة: لا يجهل فضلهم إلا جهول معاند، ولا ينكر حقهم إلا معطل جاحد، ولا ينازعهم في معرفة ما أتوا به إلا ظلوم، ولا يكاد يرمهم فيما ادعوه عن الله إلا غشوم.

وقال عليه السلام في الأحكام أيضاً: وأوثق وثائق الإسلام أن آل محمد لا يختلفون إلا من جهة التفريط، فمن فرط في علم آبائه، ولم يتبع علم أهل بيته أباً فأبا حتى ينتهي إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم شارك العامة في أقاويلها، وتابعها في كل شيء تأويلها، ولزمه الاختلاف لا سيما إذا لم يكن ذا نظر وتمييز، ورد لما ورد عليه إلى الكتاب، ورد كل متشابه إلى المحكم، وله عليه السلام كتاب تثبيبت الإمامة وهو:

بسم الله الرحمن الرحيم

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} لا نشرك بالله شيئاً، ولا نتخذ من دونه إلهاً ولا ولياً، نحمده على ما خصنا به من نعمه، ودلنا عليه من طاعته، واستنقذنا به من الهلكة برحمته، وبصرنا به من سبيل النجاة، وابتدأنا به من الفضل العظيم، والإحسان الجسيم، بمحمد البر الرؤف الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم، ارسله إلينا فكان كما قال عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فبلغ عليه السلام رسالة ربه، ونصح لأمته إذا ما أوتمن عليه، واحتج لله عز وجل، ودعا إليه بالموعظة البالغة، والحكمة الجامعة، واجتهد في أمره، واحتمل الأذى في دينه، واصطبر على كل محنة وبلوى حتى قبضه الله إليه، وقد رضي فعله، وشكر سعيه، وغفر ذنبه فقال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:1-2] فمضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد بين لأمته، وأدى إليهم جميع ما يحتاجون إليه مما فرضه الله عز وجل عليهم في محكم تنزيله على لسان نبيه، ورسوله من الحلال والحرام، والحدود والمواريث والأحكام، والأمر والنهي، فقبض وليس لأحدٍ على الله حجة، بعد ما كان منه صلى الله عليه وآله فيمن كان قبله من الأنبياء عليهم السلام، رسلاً مبشرين منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل، فترك صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرهم من كتاب الله الكريم حجة عليهم، وما فيه بيان ما يحتاجون إليه، وما يعملون به هدى وشفاء لما في الصدور، فيه أصل كل شيء وفرعه، كما قال سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وكيف يجوز أن يكون فيه تفريط، وهو جامع لما افترض الله سبحانه على عباده، وفي كل آية منة لله سبحانه، حجة وبيان لما حرم وأحل، وحد وفرض، فلم تزل منه آية لم تذهب منه سورة، لما ذكرنا من إكمال الحجة[157] على عباده، وذلك قوله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال سبحانه: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} فما حفظ الله فغير ضائع، وما جاء فغير ذاهب، فعند فقد الأمة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ضيع الكتاب، وما افترض الله عليهم، فلم يعمل بما أنزل الله فيه، ولم يلتفت إلى شيء مما جرت به الأحكام عليه، واختلفت الأمور عند قبضه عليه السلام، وانقصمت الظهور، وبدت من الأقوام عليه وعلى عترته ما كانوا يخفون من ضغائن الصدور، وتكلم كل بهواه، وجاء كل بحديث ينقض به حديث صاحبه، كل يزعم أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله مع ما في تلك من خلاف محكم التنزيل، لما في كتاب الله الجليل، يعلمون ذلك وهم راضون في المحكم بغير ما فيه، وقد أجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لهم: ((سيكذب عليَّ كما كذب على من قبلي من الأنبياء  عليهم السلام، فما جاؤكم عني فاعرضوه فما وافق كتاب الله فهو مني، وأنا قلته وإن قالوا لم تقله، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله وإن قالوا قاله)) ثم افترقت هذه الأمة بعد ما كان منها مما ذكرنا على أربع فرق، كل فرقة تكفر الأخرى، فيمن يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وآله، وفرقة تقول نصب رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب للمسلمين إماماً، نصبه نصباً، ونصه نصاً، باسمه ونسبه، ودعا إليه، وحث عليه، وافترض طاعته، وفرقة أخرى تقول أومى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى علي إيماء، ودل عليه وأشار إليه، وقال فيه أقاويل تشهد له بالعدل، ويستوجب بأقلها الإمامة، واحتج بحجج كثيرة فيه، فقد ذكرنا هنالك في كتاب غير هذا، وفرقة قالت أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر أن يصلي بالناس، والصلاة عماد الذين.

فقلنا: عندما انتجبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إماماً للصلاة أنه أخير أصحابه وأنه حقيق بالإمامة، وأكثروا الحجج والخطب في أمر الصلاة، وسأذكر ذلك والحجة عليهم فيه في مواضعه إن شاء الله تعالى، وقالت الفرقة الرابعة وهي جل الناس لا نعرف من هذه الأقاويل شيئاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قبض ولم ينصب أحداً ولم يؤم إلى أحدٍ، ولم يأمر أحداً بالصلاة، فترك الأمة تختار لأنفسها من رأوا أنه أفضلهم، وأحسنهم وأعلمهم عن الله وعن رسوله، وعن كتابه، وزعموا أن ذلك فرض على كل إمام واجب أنه لا يحل للإمام أن يعقد الإمامة لأحدٍ بعده؛ لأن في ذلك خلافاً لرسول الله صلى الله عليه وآله، ولما فعل وإن من فعل ذلك كان ضالاً مخطئاً، واحتجوا فيما ادعوه بأحاديث عن النبي عليه السلام.

ومنها ما زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لئن تختاروا لأنفسكم أحب إليَّ من أن أولي عليكم والياً إن أحسن كان لنفسه وإن أساء كان مني، وكانت الحجة لكم غداً، واحتجوا بأحاديث مثل هذا، يغني ذكر هذا عن ذكرها، ثم زعموا أن الناس اجتمعوا على أبي بكر فقلدوه الأمر، واأقاموه مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وادعوا له قياماً بأمر الله، واستصلاحاً لما تحتاج إليه الأمة، فسألنا هذه الفرق الأربع هل أجمعتم على ما ادعت هذه الفرقة من إمامة أبي بكر، فقالت فرقتان معاذ الله فكيف ونحن نقول أن رسول الله صلى الله عليه وآله نصب إماماً، وأشار إليه وادعت[158]فرقتان منهم الإجماع معهما فبطل قول من قال بالإجماع بخلاف هاتين الفرقتين، ثم سألناهم عن الاختيار لأبي بكر أكان أمراً من رسول الله صلى الله عليه، وعهداً إلى أقوام بأعيانهم ليتخاروا إماماً منهم، يقوم مقامه، ام جعل الاختيار عاماً إلى الناس كلهم، قالوا: بل إلى الناس كلهم، فقلنا: فهذا الاختيار كان ممن كان بالمدينة، من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله اثنى عشر ألفاً، وغابت بالمواضع التي ذكرنا الوف لا تحصى، وأهل الدار والمهاجرون إليها، الذين حضروا مختلفون لم يجتمعوا ولم يحصروا، وعددهم ما رسمنا، ولقد حضر السفينة من أصحابه عليه السلام ثلاثمائة جلهم من الأنصار، وذلك ربع عشر أصحابه، فهل اجتمعوا، فإن قالوا: نعم قلنا فيا سبحان الله كيف الإجماع والأنصار، تقول منا أمير ومنكم أمير، وأين الإجماع، وسعد بن عبادة وابنه وعصابة معهم أنكر البيعة، وسعد يصيح يا علي صوته عند البيعة، يا معاشر الأنصار املكوا أيديكم قليلاً، والناس كلهم الذين حضروا السقيفة  يهرجون لم يقع الرضى من جميعهم، حتى وثب أوس بن خولي فقال لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك عندما سمع من قول الأنصار منا أمير ومنكم أمير مخافة أن يتم هذا القول، فتقدم الأنصار سعد بن عبادة، فيكون أميراً ويكون الأمر في الخزرج، وتبقى أوس بن خولي وعشيرته سوقه، وهم الأوس، فدخله الحسد للحزرج ولسعد، ولما كان بينهم من الضغائن والحروب التي كانت في الجاهلية التي رفعها الله عليهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان سعد عظيم القدر في الأنصار وفي العرب، وكانت إذا اجتمعت الأنصار قدمت سعداً، وإذا افترقت قدمت الخزرج سعداً، وقدمت الأوس أوساً، فدخل أوساً الحسد لسعد وللخزرج، وخاف إن تم ذلك أن يحمل هو وعشيرته فبادر بالتسليم والبيعة؛ لأن يكون أقطع للكلام الذي يخافه منا أمير ومنكم أمير، وبايعه الأوس ومن حضر، ثم نهض أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، ومن نهض منهم من أهل السقيفة، محتزمين بالإزر معهم المخاصر، لا يمرون بأحدٍ ولا يلقونه إلا خبطوه، وقالوا: بايع غي أن تشاورة أو تعلم خبراً، فأين الإجماع من هذا الفعل، وأين الإجماع وعمر بن الخطاب يقول على المنبر: إن بيعو أبي بكر كانت فلتة، وقى الله شرها، فمن عاد لمثلها فاقتلوه، والفلتة هي النهزة والخلسة، والاغترار والمبادرة، وكيف يكون الإجماع على شيء انتهزه، وبودر واختلس من أهله اختلاساً، ثم يوجب على فاعل ذلك القتل، فلا يجب إلا على أحد ثلاثة، إما كافراً بعد إيمان، أو زانٍ بعد إحصان، أو قاتل النفس بغير الحق، ولم يكن في هذا الفعل شيء من الخصلتين الآخرتين، وإنما أوجب القتل على من كانت بيعته مثل بيعة أبي بكر؛ لأنه عنده قد كفر، وخرج من الإسلام بفعله، فاوجب بهذا القول على نفسه، وعلى صاحبه الكفر بالله، والقتل؛ لأنهما أضل هذ الفعل وفزعه، فيل للعجب ممن يسمع مثل هذه الأمور المتناقضو، ولا ينفعه سمعه، وأين الإجماع وقد طلع أبو بكر المنبر بعدما عقد له، فوثب اثنى عشر رجلاً من خيار أصحاب محمد عليه السلام منهم عمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وأبو[159] الهيتم بن التيهان بن حنيف، وأخواه الأنصاريان، ومعهم غيرهمك ممن اختلف في اسمه، فقالوا لأببي بكر: الله الله في سلطان آل محمد، لا تخرجه من بيته، إلى بيوتكم، ولا تأخذ ما ليس لك، ولا تقعد في غير موضعك، فإن أهل بيت النبوة أحق بهذا الأمر منك، ولم يأخذه من أيدي العرب الذين هم أشد عنا في الإسلام إلا بقرباك من محمد، وهم أقرب منك مع كلام كبير يتكلم به كل واحدٍ منهم، يعنفونه ويوبخونه، فقد فراغهم من كلامهم أرسل نفسه على المنبر، ولزم بيته يومه ذلك، ولم يأمر ولم ينه، فلما كان من الغد غدا إليه عمر وسعد وعبد الرحمن وطلحة وغيرهم من قريش كل رجل منهم في أهل بيته في السلاح الشاك، وأحرجوه حتى أقعدوه على المنبر، ثم قالوا قل ما بدلك ثم سلوا السيوف، وقعدوا تحت المنبر، ثم قالوا: والله لئن عاد أحد يتكلم بشيء مما تكلم به رعاع بالأمس لنضعن أسيافنا فيه، فأحجم الناس وكرهوا الموت، فلم يتكلم أحد، وأين الإجماع وبنو هاشم إليهم يرجع الشرف، والذكر والقول في الجاهلية والإسلام، ولم يبايع منهم أحد، ولم يشهدوا ولم يشاوروا علي عليه السلام لازم بيته، قد أبى أن يخرج معهم، وأبة أن يحضر وقد أرسلوا إليه ثلاثة رسل رسولاً بعد رسول، أن اخرج فبايع خليفة رسول الله، فرد عليهم ما كان أسرع ما كذبتم على رسول الله، ثم عاد الرسول ثانية، فقال: أحب أمير المؤمنين تبايعه، فقال سبحان الله ما أجرى من تسمى بما ليس له، ثم رجع إليه ثالثة فقال: أجب أبا بكر فقد أجمع السملمون وبايعوه، فبايعه أنت، وادخل فيما دخل فيه الناس، فقال أبو بكر لعمر: انهض في جماعة فاكسروا باب هذا الرجل، وجونا به يدخل فيما دخل فيه الناس، فنهض عمر ومن معه إلى باب علي عليه السلام فدقوا الباب فدافعته فاطمة صلوات الله عليها فدفعها وطرحها فصاحت يا عمر أخرجك ومن معك بخرج الله أن لا تدخل علىَّ بيتي فإني مكشوفة الشعر مبتذلة، فقال لها: خذي ثوبك، فقالت: مالي ولك، ثم قال: خذي ثوبك، فإني داخل فأعادت عليه القول فدفعها ودخل وأصحابه، فحالت بينهم وبين البيت فيه علي عليه السلام، وهي ترى أنها أوجب عليهم حقاً من علي لضعفها وقرابتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوثب إليها خالد بن الوليد لعنه الله فضربها بالسوط على عضدها حتى كان أقره في عضدها مثل الدملج، فصاحت عند ذلك، فخرج عليهم الزبير بالسيف ، فصاح عمر دونكم الليث، فدخل في صدره عبد الله بن ربيعه فعانقه وأخذ السيف من يده وضرب به الحجر حتى كسره، فدخل البيت فأخرجوا علياً عليه السلام ملبوباً متعلقاً به جماعة منهم، حتى انتهوا به إلى أبي بكر فقالوا له أبو بكر بايع، قال: ما أفعل، قال له عمر: ما تفارقنا أو تفعل، فقال له علي رضي الله عنه: احلب حلب لك شطره شدها له اليوم يردها عليك غداً، فأين الإجماع من هذا الخبر، وأين الإجماع وكثير من أصحاب محمد عليه السلام قد أبو البيعة، منهم خالد بن سعيد وكان ولاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زبيد حين أرثد عمرو بن معد كرب وأخرج النبي صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب لحربهم، فلما هزمهم وأمكن الله منهم ولى عليهم خالد بن سعيد، وكان على مقدمته، فلم يزل فيهم حتى قبض رسول الله[160] صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قدم بزكواتهم فدفعها إلى علي بن أبي طالب، وأبى أن يسلمها إلى أبي بكر، فأرسل أبو بكر إلى علي فقبض منه الزكاة، ودعا أبو بكر خالد بن سعيد للبيعة فأبى، فأمره باللحوق بأطراف الشام، ثم زعم أصحاب الحديث والأخبار أنه أمر بقتله، فقتل، وزعم بعضهم أنه قتل في وقعة كانت هنالك، والصحيح أنه لم يكن ثمة وقعة وغيره ممن لم يبايع كثير، وكيف تنعقد بيعة لمن هو في بيعة غيره، ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وجه أبا بكر وعمر وغيرهما في جيش أسامة بن زيد قبل وفاته صلى الله عليه وآله، وأمرهم يسمعون له ويطيعون، ويصلون بصلاته وياتمرون بأمره.

وقال صلى الله عليه وآله: ((أنفذوا جيش أسامة، ولا يتخلفنَّ أحد منكم، إلا من كان عاصياً لله ولرسوله)) فلما صار أسامه بعسكره على أميال من المدينة، بلغهم مرض رسول يالله صلى الله عليه وآله، فرجع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فلما دخلو على رسول الله صلى الله عليه وآله تغير لونه، وقال: ((اللهم إني لا أذن لأحدٍ أن يتخلف عن جيش أسامة)) وهم أبو بكر بالرجوع إلى أسامة واللحوق به، فمنعه عمر، ولهما أخبار كثيرة موجودة في خبر جيش أسامة، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله اشتغل يعلي بن أبي طالب في جهازه، ودعا عمر إلى بيعة أبي بكر، ولم يلتفتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله حتى فرغوا من أمرهم، وقال عمر لأبي بكر: اكتب إلى أسامة بن زيد يقدم عليك، فإن في قدومه عليك قطع الشنعة عنتا، فكتب إليه أبو بكر:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أسامة بن زيد أما بعد: فانظر إذا أتاك كتابي هذا فاقبل إليَّ انت ومن معك، فإن المسلمين قد اجتمعوا علي وولوني أمرهم، فلا تتخلفن فتعصني، ويأتيك ما تكره والسلام.

فأجابه أسامة بن زيد وكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله أسامة بن زيد عامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على غزوة الشام إلى أبي بكر بن قحافة، أما بعد: فقد أتاني كتابك ينقض أوله آخره، وذكرت في أوله أنك خليفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذكرت في آخره أن الناس قد اجتمعوا عليك وولوك أمرهم، ورضو بك، واعلم أني ومن معي من المهاجرين والأنصار، وجميع المسلمين ما رضنياك ولا وليناك أمرنا، فاتق الله إذا قرات كتابي هذا، واقدم إلى ديوانك الذي بعثك فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا تعصه، وانظر أن تدفع الحق إلى أهله فإنهم أحق به منك، وقد علمت ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي عليه السلام يوم الغدير، وما طال العهد فينسى، فانظر إن تلحق بمركزك ولا تتخلف فتعي الله سبحانه ورسوله، وتعصي من استخلفه رسول الله  صلى الله عليه وآله عليك وعلى صاحبك، فإن رصسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استخلفني عليك ولم يعزلني، وقد علمت كراهية رسول الله صلمن لرجوعك مني إلى المدينة، وقال: لا يتخلف أحد من جيش أسامة إلا كان عاصياً لله ولرسوله، فيالك الويل يابن قحافة تعدل نفسك بعلي بن أبي طالب عليه السلام، وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه وابن عمه وأبو ولديه، فاتق الله أنت وصاحبك، فغنه لكما بالمرصاد[161] وأنتما منه في غرور، والذي بعث محمداً بالحق نبياً ما تركت أمة وصية رسولها، ولا نقضوا عهده إلا استوجبوا من الله تعالى اللعنة والسخط، فلما وصل الكتاب إلى أبي بكر هم أن يخلعها من عنقه، فقال عمر: لا تفعل، قميص قمصك الله لا تخلعه فتندم، فقال له: يا عمر أكفر بعد إسلام، فألح عليه عمر وقال: اكتب إليه وأمر فلاناً وفلاناً جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتبوا إليه أن أقدم ولا تفرق جماعة المسلمين، فلما وصلته كتبهم قدم المدينة، ووصل إلى علي عليه السلام فعزاه برسول الله، وبكا بكاء شديداً، وضم الحسن والحسين عليه السلام إلى صدره، وقال: يا علي ما هذا؟

قال: هو ما ترى، فما تأمرني، فأخبره بما عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله من تركهم جتى يجد أعواناً، ثم أتا أبو بكر إلى أسامة وسأله البيعة، فقال له أسامة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرني عليك أنت من أمرك عليَّ، والله لا أطيعك أبداً ولا حللت لك عهداً، فلا صلاة لك إلا بصلاتي، أفلا يرى من عقل أن أسامة أمير على أبي بكر، وهو أحق بهذا الأمر وأولى منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات وهو عليه أمير لم يعزله عن امرته، فأين الإجماع والرضى مع هذه الأخبار، ولقد قال أبو قحافة حين ذكر علياً فقالوا: ابنك أسن من علي عليه السلام. فقال: أنا أسن من ابني فبايعوني ودعوه.

ثم رجع القول إلى الفرقة التي أثبتت إمامة بأبي بكر من جهة الصلاة بالناس، فسألناهم البينة من غير أهل مقالتهم على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أبا بكر بالصلاة بالناس، فلم يأتوا بالبينة على ذلك، وأجمعت الثلاث الفرق التي خافتهم أن عائشة هي التي أمرت بلالاً عندما أذن رسول الله بالصلاة فقال له: مر أبا بكر فليصلي بالناس، فبطلت حجة من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر أبا بكر بالصلاة، ولم يتخذ أحداً يشهد لها على هذا الادعا، ثم أجمع جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما أفاق من غشيته سأل من المتولي للصلاة؟ فقالوا: أبو بكر، فنهض صلى الله عليه وآله وسلم متوكياً على علي بن أبي طالب بالإجماع، والرجل الآخر مختلف فيه، قد قيل الفضل بن العباس، وقيل: غيره، تخط الأرض قدماه حتى جرى أبا بكر من المحراب، فأخره فتقدم وصلى بالناس قاعداً، والناس وراءه فتام ثم قال: أما إن هذه الصلاة لا تحل لأحد من بعدي، فزعمت هذه الفرقة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إماماً لأبي بكر، وأبو بكر إما للناس، فقلنا لهم: أخبرونا هل كان أحد من الناس يحتاج إلى إمامة احد مع إمامة رسول الله صلى الله عليه وآله، وهل كان أحد من الناس يحتاج إلى أمامة أحدٍ مع إمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهل كان بإمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقص وتقصير، حتى يضم معه أبا بكر، وهل سمعتم فيما مضى أو يصلح فيما يستأنف إمامان في صلاة واحدةٍ، فقالوا: لا، فقلنا فما معنا ذكركم فإذا لم يصلح أن يكون إماماً، فإنما منزلته في ذلك المقام منزلة أول صفٍ.

قالوا: قد كانت فضيلته؛ لأنه كان يسمع الناس بالتكبير عند ركوع رسول الله صلى الله عليه وآله وسجوده، لضعف رسول الله صلى الله عليه وآله [162].

قلنا: يا سبحان الله ما أقبح ما يسندون إلى أبي بكر يزعمون أنه كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله، والله عز وجل يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فإن كان أبو بكر فعل ما ذكرتم فيه فهي خطيئة لا فضيلة، يجب أن يستغفر له منها، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال ضعفه أقوى من أبي بكر في حال قوته، وقد مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مراراً منها حين صرعه فرسه، فاعتل من ذلك عليه السلام علة شديدة، فلم يحتج إلى مسمع، وكان يسمع في أقصى المسجد وأدناه؛ لأنه كان لطيفاً جدوده اليوم معروفة.

ثم قلنا لهم: أخبرونا عن تأخير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر، هل يخلو عندكم من أحد وجهين، إما أن يكون الله أمره بتأخيره عن ذلك المقام بوحي أنزل عليه في تلك الساعة، فأزعجه ذلك وأخرجه مع شدة الحال والعلة، وضعفه الذي كان فيه، أو يكون رأياً رآه رسول الله صلى الله عليه وآله في أبي بكر، وعلى من قال بهذه المقالة بتأخير رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك المقام، على أي الوجهين كان، فكيف يجوز عندكم أن يؤخره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة وتقدمونه أنتم للإمامة، والإمامة تجمع الصلاة وغيرها من شرائع الإسلام، والإمامة قوام دين رب العالمين، والحجة لله ولرسوله على المسلمين، وقد قدم عمر صهيباً فصلى بالناس ثلاثة أيام، فلو كانت الصلاة حجة توجب لأبي بكر الإمامة، فلم يصل أبو بكر إلا صلاة واحدة، وصهيب صلى بالناس خمسة عشر صلاة، فيجب على قياسكم أن يكون صهيب أولى بالإمامة من الستة الذي جعلها عمر شورى بينهم، فنسأل الله التوفيق والهدى، ونعوذ بالله من الضلالة والعمى، ثم وجدنا أبا بكر قد أقام نفسه مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقامه من أقامه من هذه الفرق ذلك المقام، مستدلين منه زعموا بالصلاة والرشاد، والقيام بما في كتاب الله ومحكم تنزيله من فرائضه، والترجمة عنه، والقيام بالقسط في عباده وبلاده، وأمضى سيرتيه، والاقتداء بفعله، وكان أول ما نقض أبو بكر مما أسند إليه ما فعل بمحمد وأهل بيته، بعد شهادته وشهادة من أقام ذلك المقام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإبلاغ أو الأدى لما حمله الله سبحانه إليهم، وانه عليه السلام خيرهم نفساً وحسباً وتسباً، وإنما جاء من عند الله فحق وصدق، لا يحل لأحدٍ من المسلمين أن يحكم بغير ما في كتاب الله عز وجل، ولا بغير ما صح من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن تعدى ذلك إلى غيره فمخطئ وجاهل ضال، ومن تركه وهو يعلم أن الحق العمل به مستحقاً مطروحاً عنده فكافر ملعون، فكان من أبي بكر إطراح  ما في كتاب الله عز وجل وحكم بغيره؛ لأن الله عز وجل قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} إلى قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} آية جامعة لم يخرج منها نبياً ولا غيره، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول من قصدنا الأذى ف ينفسه وأقاربه، وأول من شهد عليه بالزور، وأول من أخذ ماله، وأول من[163] روع أهله، واستخف حقهم، فروعوا وأذوا، وهم يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من روع مسلماً فقد برئت منه، وخرج من ربقة الإسلام)) وقال الله تعالى فيهم: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] وقد فعل بفاطمة عليها السلام ما ذكرنا في كتابنا هذا وروسل الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها، ويؤذيها ما يؤذيني)) فأذوها أشد الأذى، ولم يلتفت فيها ولا في أقاربه إلى شيء مما ذكرنا، فكانت حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله أول حرمة انتهكت في الإسلام، وكان أول مشهود شهد عليه بالزور، وكان ماله أول مال أخذ غصباً من ورثته بالدعوى التي ذكرها أبو بكر، والله عز وجل يقول غير ذلك، قال سبحانه وتعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} وقال تعالى فيما يحكى عن زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا(5)يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} فحكم الله سبحانه لأولاد الأنبياء بالميراث من آبائهم وقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة)) فتبت وترخت أيدي أقوام رفضوا كتاب الله، ونقلوا أضداده، ولو سألنا جميع من نقل من أصحاب محمد صلى الله عليه هل روى واحد منكم هم أحدٍ من أصحاب النبي عليه السلام أنه سمع من سول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما قال بو بكر لقالوا: اللهم لا، ثم جاءت بعد ذلك أسانيد قد جمعها الجهال لحب التكثير لما لا ينفع من عائشة.

وعن ابن عمر فنظرنا عند ذلك إلى أهل هذه الأحاديث التي أسندوها إلى عائشة وإلى ابن عمر فإذا عائشة تقول: سمعت أبا بكر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة)) وإذا هذه الأسانيد المختلفة ترجع إلى أصل واحدٍ ولم يوجد واحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله يشهد بمثل شهادة أبو بكر في الميراث فدفع أبو بكر فاطمة عليها السلام عن ميراثها بمثل هذا الخبر الذي أسند إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا الخبر ينقض كتاب الله عز وجل، وكان في كلام فاطمة عليها السلام لأبي بكر بيان لمن خاف الله سبحانه أن ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئاً فريا، ثم انصرفت عنه، ومن أعجب العجائب أن هذه الأمة أجمعوا على أن من ادعى دعوى لنفسه، أو ادعوا له فيها حق أن شهادته لا تقبل حتى يشهد على ذلك شاهدان عدلان لا دعوى لهما فيما شهدا فيه، وأجمعوا أيضاً أن الإمام لا يحكم لنفسه بحق دومن أن يشهد به غيره، واحتجوا في ذلك بدرع أمير المؤمنين عليه السلام أنه سقط منه يوم الجمل فاعترفها من رجل من النصارى فقال: درعي، لم أبع ولم أهب، فقال الرجل: درعي، فقال له علي عليه السلام: تخاصمني وتحاكمني إلى شريح، فتحاكما إليه فقال شريح: من كان في يده شيؤ فهو أحق به حتى يقم المدعي البينة شاهديك يا أمير المؤمنين فضحك أمير المؤمنين عليه السلام وقال: والله لو غيرها قلت لما حكمت بين اثنين، فأحضر أمير المؤمنين شاهديه، فاستحق درعه، ثمن وهبها للذي وجدها معه بعد الاستحقاق، ثم الناس على ذلك إلى يومنا هذا، لا تقبل شهادة الرجل لنفسه[164] ولا يحكم لأحدٍ على أحد في دعوى يدعيها عليه إلا بشاهدين عدلين غير فاطمة عليها السلام، فإنه حكم عليها بغير ما حكم به على جميع الخلق، وانتزع من يدها ما كانت تملكه وتحوزه من ميراث أبيها ومالها من فدك المعروف لها بلا شهود، إلا بما ادعى أبو بكر لنفسه وللمسلمين من الصدقة عليهم، بأموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبو بكر المدعي لنفسه ولأصحابه أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو أن رجلاً من سلاطين الجور في وقتنا هذا ادعى مالاً لنفسه ولأصحابه، ثم قال: أنا أشهد لنفسي ولهم إذ لم أجد شاهداً غيري، وأنا أحكم لي ولهم إذ لم أجد حكماً غيري، واقبض هذا المال لي ولهم ممن يحوزه وممن هو معه، وسمع بهذا الخبر مجنون لا يعقل، أو صبي لا يفقه لأنكر ذلك، ولعلم أنه أظلم الظلم، وأجور الجور، وقد جوز هذا من ينتحل المعرفة والدين افتراء أنهم جهلوا ما في هذا من المنكر والفضيحة، لا ما جهلوا ذلك، ولكنهم أغضوا على ما علموا بغضاً الله ولرسوله ولأهل بيته، وتحاملاً عليهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

ثم إن أبا بكر عمد إلى أن يقوم هذا الذي له ولأصحابه، فأوقفه على نفسه وولده ولده وعلى أصحابه، وأولادهم وأولاد أولادهم مؤبداً إلى أن تقوم الساعة، وترك أهله أجمعين جايعين ضارعين، فقد أول ذلك الظالمون ظالم بعد ظالم عليهم لعنة الله من يومهم ذلك إلى يومنا هذا، يصرفونه حيث يشاؤا يعيش في الفاجرون، ويتخذونه معوناً للفاسقين، يشرب به الخمور، ويرتكب به الذكور، ويستعان به على الشرور، وأهله أهل بيت الحكمة، ومعدن الخيرة، وموضع الفضل، ومنزل الوحي، ومختلف الملائكة مبعودون عنه مظلومون فيه، مأخوذ من أيديهم ظلماً، ومغتصب غصباً، ثم يقول: همج من الناس رعاع صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطونا منها شيئاً نتبارك به، مستبصرون في الحيرة والعمايا، لهم الويل متى تصدق بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن رأوه عنه، أم من شهد أمن أقر بهذه الصدقة من أهل بيته فيأخذون زعموا ما يتباركون به منها، مستبصرين في الجهالة والخطايا لله، لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصدق بها ما أخفى ذلك عن أمته، ولكان الشاهد بها كثيراً من أصحابه، وأهل بيته، ولما خفي هذا الفعل لمن هو دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف به وأثره نقص، وفعله تتبع في الدقيق والجليل، ولكان علم ذلك عند علي عليه السلام وفاطمة رحمة الله عليها، والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين، ولقد كان فيهم من الفضل والورع، والدين والمعرفة بالله سبحانه، والاقتداء برسول الله عليه السلام يطلبون ما ليس لهم، ومع هذا شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالثقة والأمانة، وأنهم من أهل الجنة، فكيف يجوز على من هذه صفته أن يطلب ما ليس له، وهم الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فقطع أبو بكر حقهم ودفعهم عن ميراثهم، وطلب من فاطمة عليها السلام الشهود على أن فدكاً لها وهي في يدها، ولم يطلب من نفسه ولا من أصحابه شهوداً على ميراث محمد عليه السلام حين قبضه، وجازه على أصحابه[165] فيا للعجب من قبضه ما ليس بيده، ولا له شهود ولا بينة، وطلب البينة والشهود من فاطمة عليها السلام على ما هو بيدها ولها، وقد أجمعت الأمة على أن كل من كان في يده شيء فهو أحق به حتى يستحق بالبينة العادلة، فقلب أبو بكر البينة عليها فيما كان في يديها، وإنما يجب عليه هو وعلى أصحابه فيما ادعا له ولهم، فحكم علي فاطمة عليها السلام بما لم يحكم به على أحدٍ منهم أهل الإسلام، ومنعت ميراث أبيها وشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يورثها، والله قد ورث الولد من والده نبياً كان أو غيره، وذلك قوله تبارك وتعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} وقول زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فلما لم يجد بداً من أن يركبها من العنف ما أركبها جاءت بعلي والحسن والحسين، وأم أيمن عليهم السلام يشهدون لها، فقال: لا أقبل شهادتهم؛ لأنهم يجرون بها المال إلى أنفسهم، وأم أيمن امرأة لا أقبلها وحدها، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشهد لهم بالعدالة والثقة، والخير والعفة، والأمانة والجنة، فأي تزكية أو تعديل بعد تعديل رسول الله وتزكيته، فقد أجمعت الأمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه جاء رجل فقال: يا رسول الله، أوصي بمالي كله فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا)). فقال الرجل فبنصفه؟ فقال: ((لا))، قال: فبثلثه، قال: ((نعم، والثلث كثير)) فكيف ينهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس عن الوصية بالمال كله، ويحرم ذلك عليهم رأفة منه ورحمة لمن يخلفون من أولادهم، ويوصي هو عليه السلام بماله كله، وهو أرأفهم وأرحمهم، فيا سبحان الله العظيم ما أقبح هذا الذي أسند إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم، وأفسده، فيا للضلالة والعما يقول أبو بكر يجرون إلى أنفسهم وهم يشهدون لغيرهم، ولا حق لهم في مال فاطمة عليها السلام إلا من بعد موتها، وإنما يجر إلى نفسه من شهد بمثل شهادة أبي بكر لنفسه بشيء في يد غيره، وعلى من شهد معه لا حق لهم في مال فاطمة إلا بعد موتها، وأي عجب أعجب مما ذكرنا، فمضى حكم أبي بكر وولايته على ما وصفنا من تلاعبه بالدين والمسلمين، حتى إذا حضره يومه عقدها لعمر من بعده، وأمر المسلمين بالبيعة له والطاعة، وأجلسه مجلسه، وأقامه مقامه، وقال للمسلمين: هذا إمامكم بعدي، وهو بالأمس وصاحبه ومن قال بإمامته يقولون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يول أحداً بعده، لا نصاً ولا إشارة، وترك المسلمين يختارون لأنفسهم، وأن الواجب على كل إمام أن يفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ترك الناس يختارون لأنفسهم، وأن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة وبه القدوة، فمن رغب عن سنته، أو تعدى عن فعله فمخطئ ضال، وأنه ليس لأحدٍ من الناس إماماً كان أو غيره أن يتعدى ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول بغيره، وكانوا بهذا يحتجون على من قال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصب علياً بعينه، فخالف أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل بغير فعله، وصوبه عمر وجميع أصحابه، وأطاعوه على ذلك[166] فإذا به وبعمر وأصحابهما، تداخلوا ما حرموا، وتركوا ما أضلوا، وشهدوا على أنفسهم بالخطأ والضلال، والخلاف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأفسدوا بفعلهم عقدهم الذي عقدوه، وإضلالهم الذي أضلوا، فاستغنى من خالفهم عن الطعن عليهم بطعنهم على أنفسهم، فأي بلية أشد أو عظيمة أجل مما أسند هؤلاء القوم إلى أنفسهم من الضلالة والعمى، فلما هلك أبو بكر نهض صاحبه الذي نصب فنظر فيما سار به أبو بكر وحكم به، فلم يرض بكل سيرته، ولا بكل حكمه، فرد مما حكم به كثيراً من ذلك الذي كان سباه أبو بكر حتى يخلصه من أيدي الناس بعد البيع والشرى، وبعد أن ولد كثير منهم فخالفهم عمر أنه لا يأخذ ذلك السبي، ورأى أن أبا بكر مخطئ في سبيهم، فأي بلية أو عظيمة أجسم وأكبر، وأجل وأعظم مما أتا به أبو بكر، إن كان الأمر في أبي بكر على ما ذكر عمر، وعمر إذ ذاك يصوب أبا بكر في سبيه وفعله في حياته، ويطعن عليه في ذلك الفعل بعد وفاته، وكثير من أحكام أبي بكر قد ردها عمر في ولايته، وعابها عليه يغني هذا الخبر عن ذكرها، إذ كان فعلاً وطئ به الفرج الحرام وسفك به الدم الحرام، فالويل لمن فعل ذلك، فيا للعجب هل يخلو من عمر في طعنه على أبي بكر من أحد وجهين، إما أن يكون أعما خلق الله قلباً، وأقلهم عقلاً، وأسخفهم ديناً، إذ خفى عليه أفعال أبي بكر في حياته، التي تنبه لها بعد وفاته، ويكون بها عالماً، وهو يستعمل النفاق مع أبي بكر في دين الله، ويصوب أبا بكر في أمور يفعلها، وهي عند الله سبحانه سخط، فإن كان هكذا فليس لعمر في الإسلام حظ إن كان رضى أبي بكر أعظم عليه من سخط الله وسخط رسوله، فالله المستعان على هذه الأمور، وكان مما أمضى عمر من أحكام أبي بكر أخذ أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانفاذها على ما فعل، ودفع ورثه فاطمة عليها السلام من ميراثها وعن فدك، وكان يكثر الطعن على أبي بكر في جميع أسبابه حتى حضر يومه، فرأى عند ذلك أن ما كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي شهد به أنه ترك الأمة لتختار لأنفسها خطأ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورأى أن خلافه في ذلك حزم منه، وأن الذي فعله صاحبه فيه من تقليده الأمور، ونصبه له خطأ أيضاً، وأن غيره حير منه، فعزم على ترك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبصاحبه الذي كان يتمنى في حياته أن يكون شعرة في صدر أبي بكر، وجعلها عمر شورى بين ستة نفر زعم أنهم خير من على وجه الأرض من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم، وأن هذا الأمر لا يصلح إلا لهم وفيهم؛ لأنهم بقية العشرة السابقين الأولين الذين حضروا بيعة الفتح وبيعة الرضوان، تحت الشجرة، وأن الله عز وجل أنزل فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}[الفتح:18] وزكاهم ومدحهم، وشهد لهم بالثقة والأمانة، حتى إذا فرغ مما ذكرنا قال: احفظوا وصيتي يا معاشر المسلمين، ولا تضيعوها، إن أبا هؤلاء الستة أن ينصبوا رجلاً منهم فيسمعوا له ويطيعوا له في ثلاثة أيام فاضربوا أعناقهم، فإن اختلفوا وأجمع منهم ثلاثة ولم يجمع معهم الباقون فاضربوا أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإن اجتمع أربعة وخالف اثنان فاضربوا أعناق الاثنين، وذ لك بعد ما شهد لهم بما ذكرنا من الإيمان والمعرفة، ثم يأمر بضرب أعناقهم على غير جرم اجترموه، ولم يحل الله سبحانه دم مؤمن كما أحل عمر، قال الله تبارك[167] وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ}.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من شرك في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله تعالى)).

ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((من راع مسلماً فقد برئت منه ربقة الإسلام)) وعمر إذ ذاك كان غير ملتفت على شيء من ذلك، ويقتل خير من على وجه الأرض بزعمه، فيا للعجب من هذه الأحكام المختلفة، والأقاويل التي هي غير مؤتلفة، والتلاعب بالدين حتى كأنهم أيسوا، فبأي حجة وبأي معنى أو خطية أراد عمر قتل هؤلاء الستة، وما كانت حجته عند الله ورسوله لو وقع القتل، وكيف كان يكون حال الأمة التي تبقى بعدهم، وزعم أنه أراد بقوله: اقبلوا ما هو أصلح للأمة، أفلا ترى على قوله وقياسه أن الأمر لو تم لكان فيه دمار الأمة وهلاكها، إذ بقيت سائبة بلا راعي، فما أقرب النظر، وأكثر العمى والتخليط، وأبين فضيحة القوم عند من عرف وفهم وأنصف، نسأل الله التثبيت واليقين إنه على كل شيء قدير.

وتوفي عليه السلام بصعدة يوم الأحد لعشر باقية من ذي الحجة، آخر سنة ثماني وتسعين ومائتين، ودفن يوم الاثنين قبل الزوال، ومضى عن ثلاث وخمسين سنة، وقد كان اعتل علة شديدة، إلا أنه مضى وهو جالس لم تتغير جلسته، ذكره السيد أبو طالب عليه السلام، ودفن عليه السلام في عدني المسجد الجامع بصعدة، وقبره مشهور مزور، وفيه يقول بعض الشعراء:

عرج على قبر بصعدة وابك مرموساً بأمل

 

 

واعلم بأن المقتدي بهما سيبلغ حيث يأمل

ثم قام بالأمر بعده المكتفي الملقب بالمقتدر، أبو الفضل جعفر بن المعتضد، بويع لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، سنة خمس وتسعين ومائتين، وتقلد الأمر وهو ابن ثلاث عشر سنة؛ لأن مسلك القوم في الخلافة مسلك الملك، ولما تقلد الأمر غلب على أمره النساء والخدم، حتى أن جارية لأمه كانت تجلس للمظالم، ويحضرها القضاة والفقهاء، وكانت تشبه بالرجال خلاف دين الإسلام، وتعمم بعمامة تكورها ما يكور، وعاشر النساء حتى احتشم من مواجهة الرجال، وأنفقوا الأموال اسرافاً وتبذيراً، ولتشاغله باللذات، وعكوفه على الشهوات غلبت القرامطة على كثير من البلدان، وكان على عادة أسلافه في قتل أهل البيت عليهم السلام.

أم أين فيهم كالإمام الحسن
جمال المصطفى المؤتمن

 

ابن علي السمري المحسن
والناقم الثارات غير وهن

باعث أرواح الهدى والحكم
ثم أبان ألف ألف مسلم

 

بعلمه في الجيل ثم الديلم
بورك علماً علمه من خضرم

هو الناصر للحق الإمام أمير المؤمنين الحسن ين علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قام في أيام الملقب بالمقتدر، ولم يكن في عصره مثله شجاعة وعلماً، وزهداً وكرماً، وفضلاً، وفيه ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رواه بعض علمائنا رحمهم الله أنه صلى الله عليه وآله لما سأله أنس عن علامات الساعة قال: ((من علاماتها خروج الشيخ الأصم من ولد أخي[168] مع قوم شعوهم كشعور النساء، بأيديهم المزاريق)) وكانت هذه صفته عليه السلام وصفة أصحابه.

وفيه ورد عن أمير المؤمنين في خطبته أنه قال: يخرج من نحو الديلم من جبال طبرستان فتى صبيح الوجه يسمى باسم..........النبي صلى الله عليه وآله الأكبر، يعني الحسن بن علي عليه السلام.

وفي الخبر لما أغرق الله الأرض لم يصب جبال الديلم الغرق فسألت الملائكة عليهم السلام ربها عن ذلك فقال: ((إنه يخرج فيها رجل من ولد النبي الأمي)) وله تصانيف في العلوم، وكان جامعاً لعلم القرآن والكلام، والفقه والحديث، والأدب والأخبار، واللغة، جيد الشعر فصيحاً، وكان يحضر جنائز الأشراف وكبار الفقهاء بنفسه، ولما حضر معزي بعض الأشراف فلما سمع البكاء من داره قال: هذا الميت الذي يبكى عليه مات حتف أنفه على فراشه، وبين أهله وعشيرته، وإنما الأسف على أولئك النفوس الطاهرة التي قتلت تحت أديم السماء، وفرق بين الأجساد والرؤس، وعلى الذين قتلوا في الحبوس، وفي القيود وفي الكبول.

وكان عليه السلام منقطعاً في عبادة الله، ودعا إلى الله أحسن الدعة، فأجابه الجيل والديلم إلى عبادة الله، ونزعوا عن عبادة الأصنام والنيران، وآمن منهم زها مائتي ألف مقاتل، وذكر مصنف أخباره أن الذي أسلموا على يديه بلغوا ألف ألف نسمة، وحديثهم وإيمانهم على يديه عليه السلام مأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، معروف عند أهل البيت عليهم السلام.

وكان عليه السلام يقول.................بكتابين من كتاب الله عز وجل: أحدهما القرآن لما فيه من تسلية لأبينا محمد صلى الله عليه وآله بما كابده السلف الصالحون من الأنبياء المتقدمين، والرسل الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، والثاني كتاب ذانيال النبي عليه السلام لما فيه أن الشيخ الأصم يخرج في بلد يقال لها ديلمان، وبمكائد أصحابه وأعدائه جميعاً، ما لا يقادر قدره، ولكن عاقبته محمودة.

وكان عليه السلام جامعاً للعلوم، وقرأ من كتاب الله عز وجل ثلاث عشر كتاباً، وغلظ أمره عليه السلام، وغلب جستان بعد ذلك في طاعته، وبايعه هو وجميع أولاده وقواده، واستولى عليه السلام بعد ذلك على طبرستان بعد وقعة قتل فيها من الخراسانية بالسيف والبحر عشرين ألفاً، وقتل عقيبها الداعي إلى الله الحسن بن القاسم خمسة آلاف من بقية الخراسانية في المواضع.

وكان الناصر للحق عليه السلام يرد بين الصفين متقلداً مصحفه وسيفه، ويقول: أنا ابن رسول الله، وهذا كتاب الله، فمن أجاب إلى هذا وإلا فهذا، ومن قوله عليه السلام في بعض مقامات القتال:

شيخ شرا مهجته بالجنة

 

واستن ما كان أبوه سنة

ولم يزل علم الكتاب فيه

 

يقاتل الكفار والأظنة

 بالمشرفات وبالأسنة

 

وله عليه السلام فضائل جمة، منها أن أمره عليه السلام لما عظم على صاحب جيش خراسان وعلى بني العباس نهدوا له، وحشدوا بقضهم وقضيضهم، ونهض إسماعيل بن أحمد صاحب جيش خراسان قاصداً طبرستان، وأظهر أنه يخربها، وأنه لا يبقي بالديلم شجرة إلا اقتلعها، فاشتغل قلوب أولياء الناصر عليه السلام بذلك اشتغالاً عظيماً، فلما كان في بعض تلك الأيام خرج إلى مجلسه، وقال: قد[169] كفيتم أمر هذا الرجل، فقد وجهت إليه جيشاً نكتفي به في أمره، فقالوا له: أيها الإمام، ومن أين هذا الجيش؟ ومتى تقدمهم؟

فقال: صليت البارحة ركعتين، ودعوت الله عليه، فما كان إلا مسافة ورد الخبر، واتصل العلم بأن غلمانه قتلوه، وكفى الله شره، وهذا مما لا يختلف فيه أحد من رواة الأخبار، العارفين بأحوال تلك الناجية، إلى غير ذلك.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يا علي يكون من أولادك رجل يدعى بزيد المظلوم، يأتي يوم القيامة مع أصحابه على نجب من نور، تغير على رؤس الخلائق كالبرق اللامع، وفي أعقابهم رجل يدعى بناصر الحق، حتى يقفوا على باب الجنة، تستقبلهم الحور العين، وتجذب بأعنة نجبهم إلى أبواب قصورهم)).

وله عليه السلام خصائص وكرامات جمة، من ذلك ما رويناه عن الفقيه حمزة بن محمود الجيلاني أيده الله، يرويه عن الفقيه نظام الدين أبي الفضل بن فيروزشاه الجيلي رضي الله عنه، أنه عليه السلام قصد ذات يوم من الأيام إلى بعض المساجد، وكان منفرداً من الأصحاب، ولم يكن معه شيء من السلاح، فرآه بعض أعدائه فطمع فيه وعمده، فلم يجد عليه السلام شيئاً يدافع به عن نفسه، فعمد إلى صخرة صما، فسخرها الله فقبض منها شيئاً ورمى به في وجه عدوه، وبقيت آثار يده عليه السلام وأصابعه يزار ذلك ويتبرك به، وأخبر أنه شاهد ذلك وقد قصده في صحبة من ذكره من العلماء رضي الله عنه.

وروينا أيضاً عن الفقيه الفاضل الحسن بن علي بن الحسن الديلمي اللنجاي رحمه الله أن رجلاً كان يحترب في الطرقات، وكان معه كلب قد عوده أنه إذا شاهد من يطمع فيه أرسله، فيعمد الكلب إلى موضع العورة من الرجل ثم يأتي صاحبه وقد كفاه المؤنة، فيأخذ ماله، فأقبل الناصر عليه السلام ذات يوم منفرداً وقعد على غيضة يأكل شيئاً من الطعام، فأرسل الرجل كلبه عليه على جاري العادة، فلما وصل إلى الناصر عليه السلام قعد بالقرب منه ولم يعرض له، ورمى له بشيء من الطعام، وأقبل الرجل فدعا الناصر عليه السلام الله عز وجل أن يسلط عليه الكلب فسلط عليه فقتله بما جرت العادة بأن يقتل به الناس، وانصرف الكلب مع الناصر عليه السلام، وأقام مدة، وكان ربما يحضر في شيء من الحروب، فيؤثر في أعدائه حتى كان في بعض الأيام، وعمل رجل ضيفة للناصر عليه السلام فتقدم والكلب خلفه، فما استقر الطعام بين يدي الناصر نبح الكلب نباجاً عظيماً، بخلاف العادة، وهم بالطلوع فمنع من ذلك، وكانوا قد طلعوا من الموضع بسلم، فأمرهم الناصر عليه السلام بأن يخلو بين الكلب وبين الطلوع، فطلع ووقف الكلب بين يدي الناصر عليه السلام، وأكل شيئاً من الطعام قبل أكل الناصر عليه السلام فمات في حينه، وكان الطعام مسموماً، فسلِم الناصر عليه السلام وأصحابه.

وروينا عنه أيضاً رحمه الله تعالى أن الناصر عليه السلام وقف ذات يوم بالقرب من ماء وفيه ضفادع وحيات، فخرجت منها ضفدع فقصدتها حية، فدخلت الضفدع خلف الناصر عليه السلام كالمستجيرة به، فدعا الله تعالى أن يسلط الضفدع على الحية، فاستجاب الله دعاه، وغدت الضفدع على الحية فقتلتها، وحكى هذه الحكاية الفقيه الفاضل حمزة بن محمود الجيلاني أيده الله قال: وأظن أيضاً أن الفقيه الحسن رحمه الله تعالى قال لي إن ذلك مستمراً إلى الآن[170] في ذلك الموضع أن الضفادع تقتل الحيات، وهذا من الفضائل الباهرة، والخصائص الشريفة، الشاهدة له عند الله تعالى بعلو المنزلة عليه السلام، وهو القائل في معنى كتابنا هذا فيما حكى عنه مصنف المسفر في ذكر علي عليه السلام: كان وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وخليفته، وخير هذه الأمة بعده، وأحق الناس بمجلسه؛ لأنه خص بالدعاء إلى الإيمان قبل البلوغ، فضيلة له دون غيره، وأن من حاربه وظلمه كافر يجب البراءة منه.

وقال عليه السلام: لا إيمان إلا بالبراءة من أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وآله، وهم الذين ظلموا آل محمد صلى الله عليه وآله، وأخذوا ميراثهم، وغصبوا خمسهم، وهموا بإحراق منازلهم.

وحكى عليه السلام أن أبا بكر وعمر اختلفا في المشورة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمن يترأس على بني تميم، فأشار أبو بكر بالأقرع بن حابس، وأشار عمر بغيره حتى علت أصواتهما فوق صوت النبي، فأنزل الله تعالى فيهما: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}.

وقال عليه السلام: فإذا كانت طاعتهم تحبط برفع الصوت فما ظنك بمن قلت طاعته، وعظم خلافه للنبي صلى الله عليه وآله.

وقال عليه السلام: ولله أدلة على الحوادث على المكلف إصابتها، التي الأمة فيها سواء، فأما سوى هذه الأصول والأحكام، والحوادث النازلة التي يسوغ فيها الجهاد إذ لا نص فيها من كتاب ولا سنة، ولا إجماع من الأمة والأئمة، والاجهاد فيها إلى علماء آل الرسول عليهم السلام دون غيرهم لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ولقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} الآية.

قال عليه السلام: فإذا نظر الطالب للحق في اختلاف علماء آل الرسول فله أن يتبع قول أحدهم إذا وقع له الحق فيه، بدليل فيه من غير طعن ولا تخطئة للباقين.

وذكر عليه السلام أن المعتزلة وأصحاب الرأي يرون الاجتهاد، ويقول: إن أول من اجتهد عمر، ومن شعره في معنى ذلك قوله:

لا تتبعوا غير آل المصطفى علما

 

 

يهديكم فيه خير الورى آل

آل النبي وعنه إرث علمهم

 

 

القائون بنصح الحق لم يألوا

وقوله عليه السلام:

وقولهم مسند عن قول جدهم

 

 

عن جبريل عن الباري إذا قالوا

أشكو إلى الله أن الحق مترك

 

 

بين العباد وأن السر مبذول

إلى قوله عليه السلام:

وأن أمتنا أبدت عداوتنا

 

 

أن خصنا من عطاء الله تفضيل

إذا ذكرنا بعلم أو بعارفة

 

 

صاروا كأنهم من غيظهم حول

وذكر بعض من صنف أخباره عليه السلام أنه كان في الليلة التي توفي فيها يشاهد نور ساطع من الدار التي هو فيها إلى عنان السماء، وأنه يستضيء بذلك النور من بعد عن الدار، فلم يزل كذلك حتى انقطع النور، فجاء من شاهده وقد توفى عليه السلام.

وروي أنه عليه السلام في مرضه كان لا تفوته صلاة بوضوء إلى إن أثقل، وكان يومي إلى الوضوء بيده فيوضونه، ويأخذ في الصلاة حتى فاضت نفسه وهو ساجد.

وروي أنه في ليلته التي توفي فيها استعر به المرض فأخر المغرب والعشاء إلى قرب السحر ثم صلاهما، فلما فرغ منهما فاضت نفسه[171] ودفن بآمل، ومشهده عليه السلام بها معروف مزور.

ولما قتل الملقب بالمقتدر قام بالأمر بعده الملقب بالقاهر أبو منصور محمد بن المعتضد، بويع له يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر شوال سنة عشرين وثلاثمائة، وكان شديد الإقدام على سفك الدماء بغير بصيرة، يأكل التراث أكلاً لما، ويحب المال حباً جما، قبيح السياسة، غير قاصر عن سعي من تقدمه من سلفه في المعاصي والملاهي.

ثم قام بعده بالأمر الملقب بالراضي أبو العباس محمد بن المقتدر بعد أن قبض على القاهر، وأقيم بين يدي الراضي، وسملت عيناه، ولم يكن بالقاصر عن مسعاه من تقدمه في معاصي الله سبحانه وتعالى.

أم أين فيهم قائم كالداعي
والضارب الأقران في المصاع

 

الباسط العدل على البقاع
بكل عضب ذكر قطاع

هو الداعي إلى الله تعالى الحسن بن القاسم بن الحسن بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قام في أيام الملقب بالراضي، فأظهر عليه من حسن السيرة، وبسط العدل والإحسان إلى الناس عموماً، وأهل صنعاء خصوصاً، وإلى الأشراف وإلى غيرهم على حسب طبقاتهم، والتشدد على أهل العبث والفساد، ما يضرب به المثل إلى الآن بطبرستان، فيقال: عدل الداعي، وكانت بينه وبين الجنود العباسية وقعات عظيمة، وحروب مشهورة، واستظهر عليهم استظهاراً تاماً، وضف له الملك بعد معارضة أبناء الناصر له أبي الحسن أحمد، وأبي القاسم جعفر اثني عشرة سنة وأشهراً، ومات الملقب بالراضي، وقام بالأمر بعده الملقب بالمتقي أبو إسحاق بن المقتدر، بويع له يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وكان على منهاج من تقدمه من أهله في ارتكاب المعاصي، واطراح فرائض الله عز وجل.

أم أين فيهم كأبي العباس
مطهر العرض من الأدناس

 

الحسني المصقع الهرماس
والمستضيء بعلمه في الناس

هو أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

وهو الفقيه المتكلم، المناظر بألفاظ علماء العترة أجمع، غير مدافع ولا منازع، وكان في محل الإمامة ومنزل الزعامة، وإنما لم ينتظم له الأمر بحيث يتمكن من انفاذ الأحكام، وقد نقلنا من كتابه المسمى بالمصابيح في معنى كتابنا هذا ما يغني عن إفراده بذكرها هنا، وهو موجود في أثناء هذا الكتاب، والغرض الاختصار، وقد روى عليه السلام في شرح الأحكام بإسناده إلى عمران بن الحصين قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله إذ دخل أبو بكر فقال: ((يا أبا بكر سلم على أمير المؤمنين، قال: ومن أمير المؤمنين يا رسول الله؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: عن أمر الله وأمر رسوله، قال: عن أمر الله ورسوله)) قال: ثم دخل عمر فقال له كمثل ما قال لأبي بكر، واشترط على أبي بكر وعمر، قال: فبايعه، قال: ثم دخل سلمان ولم يشترط، ثم دخل فلان وفلان وسلموا ولم يشترطوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر: ((إني أمرتكما بالسلام عليه بأمر أمير المؤمنين، فاشترطتما علي، فقلتما عن أمر الله وأمر رسوله[172] فقلت نعم، وقد أخذ الله ميثاقكما عليه كما أخذ الله ميثاق بني آدم إذ أشهدهما على أنفسهما ألست بربكم، أما لئن أبغضتموه لتكفرنَّ)) قال: فلما خرجوا ضرب رجل من القوم على يد صاحبه ثم قال: ورب الكعبة لا يكون هذا أبداً.

وبإسناده إلى الحارث بن الخزرج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي عليه السلام: ((ما يتقدمك بعدي إلا كافر، ولا يتأخر عنك بعدي إلا كافر، وإن أهل السماوات يسمونك أمير المؤمنين)).

أو كالإمام المرتضى محمد
صفوة يحيى بن الحسين السيد

 

إمام كل مغور ومنجد
 فكاً لعان وهلاك معتدِ

حافظ ما بينت له الآباء
وعفة سارت بها الأبناء

 

علماً ومجداً دونه السماء
وسؤدد ليس له أكفاء

ولما قبض الهادي إلى الحق عليه السلام إلى رحمة الله ورضوانه، وعظم خطبه على الإسلام والمسلمين، لتخوم القرامطة باليمن، وقوة أمرهم كما قال بعض أصحابه في بعض مراثيه، اجتمع الناس إلى ولده المرتضى باكين:

كفا حزناً أنا فقدنا إمامنا

 

 

على حين أمسينا نهاباًَ مقسما

على حين أمسى المشركون بأرضنا

 

 

ومالهم فياً حلالاً ومغنما

فخطبهم عليه السلام خطبة عظيمة بليغة، ذكر فيها الهادي عليه السلام، وحسن بلائه في الإسلام، ثم أنشد بعد أن بكا وأبكا الناس:

يهون ما ألقى من الوجد أنني

 

 

مجاوره في داره اليوم أو غدا

فبايعه عليه السلام، وهو الإمام أبو القاسم محمد بن المرتضى لدين الله بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

وله عليه السلام فضل كثير، ومقامات مشهورة في الحروب، لم يبلغها غيره في أيام أبيه، وورعه وزهده، وكرمه وعبادته، وسخائه وفضله، مما لا يخالف فيه ولي ولا عدو، وله بسطة في العلم واسعة، وتصانيف جمة، فانتصب للأمر عليه السلام وحمى حوزة الإسلام، وحارب القرمطي المسمى بعلي بن فضل، وانتعش به الدين، وقويت قلوب المؤمنين.

وكان قيامه عليه السلام وبيعة الناس له غرة شهر المحرم من سنة تسع وتسعين ومائتين، واعتزل الأمر لما رأى من اختلال أحوال الناس لإحدى وعشرين ليلة حلت من ذي القعدة من السنة المذكورة.

وتوفي عليه السلام بصعدة سنة عشر وثلاثمائة، وله اثنتان وثلاثون سنة، ذكره السيد أبو طالب عليه السلام، ودفن إلى جنب أبيه عليهما السلام.

وله عليه السلام فيما معنى ما نحن فيه ما نذكره، قال عليه السلام في مسائل الطبري: وأمر الله أمة محمداً أن يجعلوا المكافأة المحبة لولده، وأوجب عليهم بذلك طاعتهم، وافترض محبتهم كما افترض الصلاة، وذلك لإقامة الحجة في رقابهم، وقطع عللهم، لما قد علم سبحانه ما سيكون من أمة محمد صلى الله عليه وآله فيهم، وبهم من العداوة والبغضة.

قال عليه السلام في الرسالة السابعة: قد حكم الله بهذا الأمر لقوم سماهم ودل عليهم، ونصبهم وحضره على غيرهم، فجعله لهم فضيلة على سواهم، وذلك قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، ثم ذكر كثيراً من الآيات والأخبار[173].

وقال عليه السلام: فمن غدا بهذا الأمر في غير أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم فقد عبث بنفسه، وتمرد في دين خالقه.

وقال عليه السلام في جوابه للطبريين، وقد ذكر الأئمة: إنما اختلف الأئمة عليهم السلام في الحلال والحرام، وفي الشرح والأحكام، ولكل إمام في زمانه نوازل تنزل به، وعليه يحكم فيها بما يوفقه الله له، ويستنبطها من كتاب الله، وسنة نبيه، أو حجة العقل التي يستدل بها على غامض الكتاب، ويستخرج به الحق والصواب، ولو نزلت هذه المسألة بالأول لاستخرجها كما يستخرجها الآخر، والأئمة مؤتمنة على الخلق، قد أمرهم الله عز وجل بحسن السيرة فيهم، والنصح لهم، فلعله أن يجري في عصر الإمام سبب من أسباب الرعية يحكم فيه بالصواب، الذي يشهد له به الكتاب، ثم تنزل تلك النازلة في عصر آخر من الأئمة لا يمكنه من انفاذ الحكم فيها ما أمكن الأول، فيكون بذلك عند الله معذوراً.

ثم قام بعد الملقب بالمتقي الملقب بالمستكفي عند الله بعد أن أقيم المتقى بين يديه، وسلم عليه بالخلافة، وأشهد على نفسه بالخلع، ثم.......عيناه عقيب ذلك، وبويع للمستكفي مقتفياً آثار سلفه في انتهاك المحارم واختيار المقبحات.

أم أين فيهم كالإمام الناصر
منتجب الآباء والعناصر

 

صفوة يحيى بن الحسين الطاهر
إمام باد وإمام حاضر

قسورة عزبه الإيمان
وأرغم الضلال حيث كانوا

 

وذل في أيامه العصيان
وشب بعد شيبه الزمان

هو الإمام الناصر لدين الله أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قام داعياً إلى الله بعد أن جمع خصال الإمامة، وشروط الزعامة، وكان عالماً فاضلاً، ورعاً عابداً، سخياً حسن السياسة والتدبير، بعد أن اجتمع وجوه الناس من وجوه خولان، قوم يوم الأحد لثمان ليال خلت من صفر سنة إحدى وثلاثمائة، فاستعانوا به على أخيه المرتضى أن يقوم فيهم، فكره ذلك، فسألوا الناصر عليه السلام القيام فيهم، على ما كان والده فأجابهم، فكانت بيعته عليه السلام يوم الجمعة في مسجد الهادي عليه السلام الذي فيه قبره، وله في العلوم تصانيف جمة حسنة، فأظهر العدل في البلاد، ودانت له ملوك اليمن، واستولى على أكثر أعماله، وكانت له مع القرامطة وقعات لا تنحصر في هذا الموضع، آخرها الوقعة المشهورة في الموضع المعروف بنغاش من ظاهر بلد قدم، فإنه استأصل فيها شأفتهم، وأباد دعاتهم ورؤساؤهم، ولم ينحصر القتلى فيها، وكانت أعظم وقعة.

وروى عبد الله بن محمد الهمداني مصنف سيرته عليه السلام، وكان من أهل العلم والصلاح، قال: فلما قتلنا القوم وقعت فرسي في بعض تلك الأماكن، فشهدت على شعاب تجر دماً كما تجر بالماء، قال: ورأيت ظبياً مقتولاً، وأخبرني بعض أصحابنا أنه رأى ظبياً أو ظبين مقتولين في مكان آخر، وفقد من علمائهم ودعاتهم، وعلماء ضلالتهم أربعون داعياً، وخطب له عليه السلام بمكة، وتوطد ملك آل رسول في أيامه، وأنزل الله الخير في[174]دولته، وكانت أيامه تسمى السنين الخضر، لكثرة البركات والخير الواسع فيها، ولم يزل عليه السلام معزاً للإسلام، ناشراً للعدل في الأنام، قامعاً لأهل الضلالة والأثام، عابداً لله مقبلاً على طاعته، ومجاهداً في سبيله، حتى أتاه الله اليقين، سلام الله عليه وعلى آبائه الأكرمين.

وتوفى عليه السلام سنة خمس عشرة وثلاثمائة، فكانت مدة ظهوره عليه السلام نحو ثلاث عشرة سنة، ودفن بصعدة إلى جنب أخيه وأبيه، ومشاهدهم عليهم السلام هنالك مشهورة مزورة، وصار إليه ذو الفقار سيف جده علي عليه السلام من والده الهادي عليه السلام، وقد ذكر ذلك في قصيدة طويله ذكر فيها الأحوال فيما بعده وما ..............مما بعده ومن بعده فقال:

وشكى ذو الفقار إذا نعاني

 

وأنتشروا نعاتي مفصحينا

ومن قوله عليه السلام في معنى كتابنا هذا قوله عليه السلام في مسائل أبي إسحاق حيث قال عليه السلام قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} فاعلمك الله عز وجل أنه لا يعقلها إلا العالمون، ولا علم لمن جهل معدن الحق، وقدر النبوة، وخيرة الإمامة.

وقوله عليه السلام في كتاب النجاة: وتعاموا عن قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب:33] والمطهر من الرجس لا يكون في دينه زلل، ولا في قوله ميل، ولا في تأويله للقرآن خطل، فلم يكن الله عز وجل ليطهر من يكذب عليه، فيكون من عانده أولى بالحق منه، وهو عز وجل أعلم بالمفسد من المصلح.

ثم قام بالأمر الملقب بالمطيع الفضل بن المقتدر، بويع له لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة بعد أن قبض على المستكفي، وأقيم بين يديه، فسلم على المطيع الفضل بالخلافة، وأشهد على نفسه بالخلع، ثم سملت عيناه عقيب ذلك، فكان للمطيع من الخلافة اسمها، فأما حكمها وأعمالها، والتصرف فيها فلمعز الدولة، وكان معترفاً بفضل أهل البيت محباً لهم، وهو في حكم المستضعفين.

أو كابنه المختار ذي الأيادي
إمام كل حاضر وبادي

 

القاسم بن الناصر بن الهادي
وحجة الله على العباد

هو الإمام المجتبا لدين الله القاسم بن الناصر لدين الله أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

قام عليه السلام بعد أبيه وبايعه الناس، وجاهد الظالمين، ونابذ العاصين، وأظهر دين رب العالمين، ثم قتل عليه السلام في قصر ريدة أسره الضحاك الهمداني، وحبسه في القصر، ثم قتل بعد ذلك.

أو كابنه محمد المنتصر
والناقم الثارات والمظفر

 

شحاك كل معتدٍ ومفتر
بالظالمين للإمام الأزهر

هو الإمام المنتصر لدين الله محمد بن المختار لدين الله القاسم بن الناصر أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

قام إماماً بعد أبيه عليهم السلام، وجاهد في الله، ونابذ عن دينه، وظفره الله عز وجل بقاتلي أبيه عليهم السلام من همدان البون فقتلهم عليه السلام، ونقم بثأر الإسلام والمسلمين[175] منهم، وفي ذلك يقول عليه السلام القصيدة المعروفة  له وهي:

علام ألام يا سلمى علاما
دعيك اللوم أزوع هاشمياً
أ

 

عداني اللوم فاطرحي الملاما
هزبراً ضيغماً بطلاً هماما

ألما تعلمي قتلي جهاراً
وطعني غير ما وجل وضربي

 

عشية لم تهب نفسي الحُماما
كلاً وطلاً وأحشاءً وهاما

بردت الغل ثم شفيت نفسي
فتاً في السلم كان هداً ونوراً

 

......الأولى قتلوا الإماما
وسيفاً في الوغى ذكراً حُساما

به امتثلوا فعال بني زيادٍ
وهم جبنوا الجياد وحاولوا من

 

غداة الطف واتبعوا هشاما
بني الزهراء قسراً واهتضاما

فألفونا ضراغمة كراماً
وأكرعناهم حوض المنايا

 

وألفيناهم خبثا لئاما
وأسقيناهم كأساً سماما

وقلنا أي بني الزهراء حاموا
ويا سعد الحماة ويا أزالاً

 

على الأحساب أو موتوا كراما
أجدوا من عدوكم انتقاما

جلونا حين ما صلنا عليهم
وأقطر سيف ثأر بني علي

 

بأجمعنا عن أوجهنا القتاما
ومنهم طال ما قد كان صاما

وحكمنا البواتر في جلاهم
وحزن خيلهم والبيض عنها

 

فخرت هامهم فلقاً تراما
وأوسعنا أسارهم ذماما

رأينا قتلهم إذ ذاك أحرى
فصلنا صولة شعواء أضحت

 

بنا من أن نذل وأن نضاما
أنوف الكاشحين لها رغاما

أبي الهادي الذي كسر البرايا
وكان له وللدنيا جميعاً

 

وذب عن الهدى قدماً وحاما
إذ انتظما لأمته انتظاما

وجدي خير من ركب المطايا
وقومي في الأولى يدعوا العطايا

 

رسول الله واتخذ المقاما
وهم يدعوا المنايا والرحاما

يدعنا كل مكرمة ولما
وما أن زال أولنا نبياً

 

نزل للمجد مذ كنا سناما
ولا ينفك آخرنا إماما

تدين الناس كلهم جميعاً
ملأنا الأرض إسلاماً وعدلاً

 

لمرضعنا وما بلغ الفطاما
وملكنا الورى يمناً وشاما

هديناهم صراطاً مستقيما
جعلنا من حرامهم حلالاً

 

وأصبحنا لدينهم قواما
لهم وحلال ما اتبعوا حراما[176]

ولولا نحن ما خروا سجوداً
ولا حجوا ولا شرعوا جهاداً

 

ولا مثلوا إلى نفل قياما
ولا زكّوا ولا فرضوا صياما

يصلي كل محتلم علينا
وحسبك مفخراً أنا جعلنا

 

إذا صلى ويتبعها السلاما
لكل هدى ومفترض تماما

 

 

أو كالإمام الحسني المهدي
ليث الكريهات وغيث الوفد

 

محمد المحمود في معد
ومنبع العلم وشمس المجد

هو الإمام المهدي لدين الله أبو عبد الله محمد بن الإمام الداعي إلى الله الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان عالماً فاضلاً، عابداً شجاعاً، سخياً، نشأ من صعدة على الزهد والورع، والعلم والعبادة، وهو عليه السلام الذي قيل فيه: لو مادت الدنيا بشيء لعظمه لمادت بعلم أبي عبد الله الداعي، ودرس على السيد أبي العباس الحسني، وعلى الشيخ أبي عبد الله البصري، وبلع في العلم والأدب الغاية القصوى، بويع له سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، ونفذ أمره في الديلم، وانقاد له كثير من الجيل، ومن حملة بركاته وآثاره الحسنة أن الديلم كانوا يعتقدون أن من خالف القاسم عليه السلام في فتاويه فهو ضال، وكل قول يخالف قوله في الفروع ضلالة، والجيل يعتقدون مثل ذلك في قول الناصر عليه السلام، ولم يكن سمع هنالك قبل دخوله تلك الناحية أن كل واحدٍ من القولين حق، فأظهر عليه السلام هذا المذهب، وأيده بالحجة، وبين أن كل واحد من القولين صواب، بعد أن ناظره الفقهاء منهم والعلماء في ذلك، فقطعهم وظهرت حجتهم عليهم، فاتبعوه في ذلك، وقد كان بعضهم يفسق بعضاً وربما كفره.

وكان عليه السلام يقاتل بالسيف فارساً وراجلاً، وذكر أن سيفه سيف حمزة بن عبد المطلب عليه السلام، ولما اجتمعت جنود المسودة لحربه عليه السلام لما غلظ أمره، واشتدت شوكته، لقيهم عليه السلام ومن معه من المسلمين فهزمهم، وأوقع بهم، فاحتالوا بعد ذلك في سم دسوه إليه فمات بالسم شهيداً سلام الله عليه، ثم خلع المطيع نفسه لغير سبب، وقلد الأمر ولده أبا بكر عبد الكريم، ولقبه الطائع لله، وكان مبرزاً في ارتكاب المعاصي، ولم يهتم بما ورى آبائه، وكان الأمر لمعز الدولة.

أم أين فيهم كالإمام جعفر
مردي الكماة في الخميس الأكبر

 

الثائر الحبر الجواد الكوثر
تحت العجاج في الوطيس الأحمر

هو الإمام الثائر في الله أبو الفضل جعفر بن محمد بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، دعا إلى الله تعالى سنة سبع وستين وثلاثمائة بعد جمعه لخصال الإمام، وبايعه أهل الجيل بعد معرفتهم بفضله، وكان فيه شجاعة وحزم، وفضل وتدبير وضبط، وأعين بالظفر والإقبال، ومساعدة المقدور، فملك طبرستان بأسرها، وأخرج منها المسودة، وطوى ممالكهم طي السجل للكتاب، فاقتطعه الأجل المعلوم، والقدر المحتوم سلام الله عليه آمين[177].

أو كالإمام يوسف الكريم
إمام حق واجب التقديم

 

يحيى التقي ذي الكرم العميم
حيث نشأ في الحسب الصميم

هو الإمام يوسف بن يحيى بن الناصر لدين الله أحمد بن يحيى بن الهادي إلى الحق عليه السلام بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو الذي يسمى في التواريخ أمير صنعاء.

قام ودعا وجاهد في سبيل الله تعالى، فسار إلى نجران فأقام بها أياماً، ثم صار إلى بلد وادعة من بلد همدان، فأقام بها أياماً في حضرة بني ربيعة، ثم سار حتى دخل ريدة، وأقام سنة ثمان وستين وثلاثمائة، ثم حفر الموضع الذي كان فيه الإمام المختار لدين الله مدفوناً فنبش فأخرج على هيئته التي كان عليها في حياته، فحمله إلى صعدة، وقبره بالمشهد المقدس مع آبائه الهادي والمرتضى والناصر عليهم السلام، وتقدم فدخل صنعاء، وسار بمسيرة آبائه المطهرين، وله بصنعاء وقعات كثيرة، وفي غيرها أعرضنا ميلاً إلى الاختصار، ثم قام بالأمر الملقب بالقادر أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله بعد أن قبض على الطائع، وأقيم بين يديه، وقطع شئياً من إحدى أذنيه، وكان القادر متهتكاً جارياً على آثار آبائه، غير أنه شفع ذلك بأنه اتخذ له النضر أبي سعيد بن الحسن وزيراً، وكناه أبا العلا، على أنه كان مستضعفاً له من الأمر والحكم لغيره.

أو كالإمام العلوي الهاشمي
رب الفخار الأريحي العالم

 

القاسم بن علي القاسم
سبط الكرام والد الأكارم

هو الإمام المنصور بالله القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد بن القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

قام عليه السلام إماماً، وجاهد في الله الظالمين، وأظهر معالم الدين، وله مقامات لا يتسع لها هذا الموضع، وهو القائل عليه السلام في معنى كتابنا هذا في كتاب الأهواء والوهوم: قد أتى الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفارق الدنيا حتى خولف أمره في جيش أسامة وغيره، ولقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في أوان وفاته: ((ادعوا لي أخي)) فأرسلت عائشة إلى أبي بكر فدعته فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غطى على وجهه ولم يكلمه بشيء، فلما رأى ذلك قال: ما أحسب أني المدعو ورجع، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ادعوا لي أخي)) فأرسلت حفصة إلى عمر وأقبل حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما وقف بين يديه غطى وجهه ولم يكلمه، فلما رأى ذلك قال: ما أظن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاني وانصرف، ثم قال صلى الله عليه وآله: ((ادعوا لي أخي)) فأرسلت فاطمة فدعت علياً عليه السلام فلما دخل عليه علي أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله بالوصاية، وأقبل أمير المؤمنين على رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يبرح عنده حتى قبض الله رسوله، وقد عقد القوم رأيهم، وولوا غير من أشار إليه نبيهم، ثم اعتلوا بأخبار[178] رووها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختلقها من رواها تسهيلاً لما ارتكبوا، وخدعاً لمن أهلكوا، فلم ينج من فتنتهم، وما ركبوا من أهوائهم إلا الحجة النيرة، والذرية الخيرة، والشيعة المبصرة، وقليل ما هم، ومن قبل ما فعل القوم أخبر الله بفعلهم فقال عز من قائل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} فلم يكن الشاكرون فيما بلغنا إلا علي وذرية الرسول، وذرية أمير المؤمنين، ومن تبعهم من المؤمنين، وكان هذه أول فُرقة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الناس كلهم فرقة، وكان علي وأصحابه أمة ثانية، فلم يزل أمير المؤمنين مع الكتاب كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والقوم في دنياهم يخبطون خبط العشوى، لا يهتدون إلا ما هداهم له عليه السلام عند فزعهم في بعض الأمور، تثبيتاً للحجة عليهم، يدولون ولايتهم ادوال من كان من أمم الأنبياء قبلهم عليهم السلام.

وقال عليه السلام في كتاب التنبيه: وسألت عن السواد الأعظم، وارماله ماله للحج لبيت الله الحرام، وزيارة قبر النبي عليه السلام، يشهدون بالأمر والخلافة لصاحب الغار، وينكرون قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).

والجواب: اعلم أيها الأخ أكرمك الله أن هؤلاء سامرية أمة محمد صلى الله عليه وآله، لا فرق بينهم وبين سامرية أمة موسى صلى الله عليه، كما لا فرق بين موسى ومحمد، وكما لا فرق بين هارون وعلي إلا النبوة، لقول النبي صلى الله عليه: ((علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).

وقال عليه السلام في رسالته إلى أهل طبرستان وهو منقول من رواية المنصور بالله أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن حمزة: أصل التأويل الخيال والاختلاف، وأصل الجهل مع الجدال العلم في غير علمنا، كالجاهل لحقنا، الراغب في عدونا، كالزاهد فينا، المحسن إلى عدونا، كالمسيء إلينا الشاكر لعدونا، كالذام لنا المتعرض لنحلتنا، كالغازي علينا، معارضنا في التأويل كمعارضنا في التنزيل، الراعي لما لم يسترع كالمضيع لما استوعى، القائم بما لم يستأمر عليه كالمتعدي فيما استحفظ، الخاذل لنا كالمعين علينا، المتخلف عن داعيتنا كالمجيب لعدونا، معارضنا في الحكم كالحاكم بغير الحق، المفرق بين العترة الهادين كالمفرق بين النبيين، هنا أصل الفتنة بإجماع الشيعة.

ومن هذه الرسالة قوله عليه السلام: الإقرار بالنبوة لا يصح، إلا مع  الإقرار بالذرية، والإقرار بالكتاب لا يصح بغير نصاب، مقلد الناس كالباني على أساس، طالب العلم من أهله كمشتري الدر بعد خيره، المؤتم بغير العترة كالأعمى يتبع الأعمى.

ومنها قوله عليه السلام: أما تعلمون رحمكم الله وهداكم أن أصل الهلكة منذ بعث الله سبحانه آدم عليه السلام إلى هذه الغاية لم تكن إلا بالاحتقار بالأنبياء صلوات الله عليهم في أيامهم، وبالذرية من بعدهم إلى أن تقوم[179] الساعة، وعنوان هذه الرسالة من الإمام القاسم بن علي إلى جماعة الشيعة الطبريين العارفين بفضل آل محمد خاتم النبيين.

وتوفى عليه السلام يوم الأحد لتسع خلون من شهر رمضان، سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، ومشهده عليه السلام بعيان مشهور مزور.

أو كالرضى مهدي الإمام الصائر
لهف التسامي قاصم الجبابر

 

ثمال كل وارد وصادر
بالراعني والحسام الباتر

هو الإمام أبو الحسين مهدي بن أبي الفضل جعفر الثائر في الله بن محمد بن الحسين بن علي بن عمر بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فكان كاملاً فاضلاً، أشجع أهل عصره وأشدهم، قام إماماً، ودعا إلى الله تعالى، وبايعه الأفاضل، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأظهر العدل، ونفى الجور وعبد الله حتى أتاه اليقين، وكان شاباً مقبلاً، فمات بعلة الجدري، فأصيب الإسلام والمسلمون به عليه السلام.

أو كالحسين الفاطمي المهدي
خير كهول عصره والمرد

 

العالم المحيي رسوم المجد
ومنبع العلم وباب الرشد

هو الإمام المهدي لدين الله الحسين بن الإمام القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد بن القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

وكان له عليه السلام جواد حاصر، وله التصانيف الحسنة العجيبة في علم الكلام، والكتب النفيسة، وقد نصب نفسه لجهاد الظالمين، ونابذ أعداء الله رب العالمين.

وقد روى عنه رواة أشياء لا ينبغي أن يكون من مثله لعلمه وفضله قولهم فلأن كلامه أبهر من كلام الله، وهو أفضل من رسول الله، وحملوه على أنه زال عقله ولا سبيل إلى حمله على السلامة إن صح ذلك عنه إلا بحمله على زوال العقل، أو لعلة مكذوب عليه لمكان علمه الباهر، ونسبه الطاهر، وكانت له غزوات وحروب في بلاد متفرقة، تارة له وتارة عليه، وكان فارساً شجاعاً، مقداماً، ثم قتله بعد ذلك همدان بموضع بالقرب من ريدة بذي غرار، وقتل معه خلق كثير، وكانت وفاته عليه السلام سنة أربع وأربعمائة، وعمره نيف وعشرون سنة.

روى بعض الحفاظ بإسناده أن قاتل الحسين بن القاسم زنج من بني حماد، فانتقمه الله، وهو أنه أراد أن يتبخر فحرقت ثيابه فاحترقت كلها، فحرق ومات إلى لعنة الله تعالى، وهو القائل عليه السلام في معنى كتابنا هذا ما ذكره في الرد على الملحدين.

قال عليه السلام: فياأيها الأمة الضالة عن رشدها، الجاحدة في هلاك أنفسها، أمرتم بمودة آل النبي أم فرض عليكم مودة تيم وعدي.

وقال عليه السلام في كتاب الرد على الداعي اللعين بعد ذكره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبض الله له، فكان أول حجة بعده على المبطلين الخونة[180] الناكثين علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه صلوات رب العالمين، ففتن أهل الضلالة من فتنوا به من شياطينهم، فخرجوا إلى الشك من يقينهم، واستخفهم المردة بأهوائهم وظنونهم، ونبذوا كتاب الله سبحانه وراء ظهورهم، ثم لم يزل أهل كل زمان مفتونين، ولم يزل أهل الحق بحقهم متعلقين.

وقال عليه السلام في كتاب التوحيد: ولو تمسكوا بسفن النجاة ما غرقوا في بحار العمى، ولو شربوا علم آل نبيهم لشفوا من العما، ولظفروا بالغنائم العظمى، ولأنارت قلوبهم بمرافقة الحكما، ولكنهم اكتفوا بعلم أنفسهم، واستقلوا آل نبيهم، ولا يبعد إلا من ظلم، وعلى نفسه السوء اجترم.

وقال عليه السلام في مختصر الأحكام: وجميع العقول منتضرة إلى عقول الأئمة عليهم السلام، ولولا ذلك لما احتاج أحد إلى إمام، ولسقط فرض الإمامة عن جميع الأنام، ولو سقط ذلك عنهم لما فرضه الله عليهم.

وقال عليه السلام في كتاب الرد على الملحدين أيضاً: الإمامة فرض من الله لا يسع أحد جهلها؛ لأن الحكيم لا يهمل خلقه مع ما يرى من اختلافهم من الحجة على من عند من الحق منهم، والهداية لمن طلب النجاة من أوليائه، والبيان لقليس أعدائه، وإلا فقد ساوى بين حقهم وباطلهم، وفي ذلك ما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية)).

وقول الله عز وجل: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فأخبر أن النبي صلى الله عليه وآله منذر للعباد، وأن لكل قوم هاد إلى الحق في كل زمان، يوضح ما ألتبس من الأديان، ويرد على من دان بغير دين الإسلام.

أو أين فيهم كالإمام الحسن
وباسط العدل بأرض اليمن

 

القائم المنشر ميت السنن
أكرم به من سيد مؤتمن

هو الإمام أبو هاشم الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ظهر بأرض اليمن، وجاهد الظالمين، ودخل صنعاء وغيرها من البلدان، ونابذ أعداء الله، كما جرت شيمة آبائه الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين.

وذكر عليه السلام في كتاب دعوته التي كتبها إلى جميع المسلمين في آخر جمادى الأخرى سنة ثماني عشرة وأربعمائة، نبذاً متفرقة في أثنا دعوته، منها بعد ذكره لمحمد صلى الله عليه وآله: فلما قومهم بالهدى والتقى، وجنبهم مصارع الغي والردى، أنزل عليه العلي الأعلى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] ثم أمر تعالى أن يكافؤا جلائل النعم، ويجازوا فواضل هذه القسم، بإعظام هذه الذرية، وإكرام نجل النبوة، فرضاً حتمه على كافة البرية، وأكده رسوله المصطفى صلى الله عليه بالوصية.

ثم قال في موضع آخر منها: فلما انقضى عهد النبوة، وتعين على الخلق فرض الإمامة، ألحدت فيها طائفة منهم سلكوا منهاج من تقدمهم حذو النعل بالنعل والقدة بالقدة، فغرتهم الدنيا بزخرفها[181] وزهرتها وزينتها، فربكتهم شهواتهم، وأوبقتهم سياؤتهم، ولجت بهم عثراتهم، فنالوا من الدنيا متاعاً قليلا، وبلاغاً نزراً حقيرا، وكابدوا بعدها عذاباً طويلا، وعقابا وبيلا، وعاينوا مقاماً مهيلا، وغراماً وتنكيلاً.

ثم قال في موضع آخر منها: ثم إعزار آل رسول الله صلى الله عليه وآله الذين جحدتهم أكثر الأمة حقوقهم، واستحلت عقوقها، واستباحت دماها، هذا أمير المؤمنين عليه السلام أزيح يوم السقيفة عن منزلة الشريفة المنيفة، وغصبت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدكاً، ثم اطرد عليه السلام في الأئمة، وظلمهم كلامه، ثم سرد بقية دعوته عليه السلام.

ولما توفى الملقب بالقادر قام بعده بالأمر الملقب بالقائم بالله جعفر بن أحمد، بويع له في ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، فنسج على منوال أسلافه في ارتكاب المقبحات، والجنوح إلى الشهوات، ومخالفة أوامر الله، وتعدي حدوده، وهو مع ذلك مستضعف مقهور، والأمر لجلال الدولة كما قال أبو فراس:

لا يدعوا ملكها ملاكها العجم

وكذلك من تقدم قبله في المتقي لم يبق لهم في الأمر شيء.

أو كالإمام السابق المؤيد
مروي الوشيح في العجاج الأسود

 

أبو الحسين الحسني أحمد
من كل قرن كالرهيص الملبد

هو الذي حيت به الفرائض
وخضعت لبأسه الروافض

 

واتضحت بعلمه الغوامض
ولم يقم لشأنه معارض

هو الإمام المؤيد بالله أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قام ودعا إلى الله تعالى، وكان له عليه السلام السلام خرجات:

إحداها: في أيام الصاحب في سنة ثمانين وثلاثمائة، وبين الخرجة الأولى والخرجة الثانية سنون وفترات، ولم يكن في عصره من هو مثله في العلم والفضل والعبادة، والزهد والحلم، والسخاء والشجاعة، وكان محيطاً بأنواع العلوم، وله تصانيف كثيرة في الأصول والفروع، وكان ممن بايعه قاضي القضاة، وغيره من العلماء والفضلاء، وكان منهم الإمام الموفق بالله أبو عبد الله بن الحسين الجرجاني.

وكان عليه السلام في نهاية الورع والتحفظ على بيت المال، كثير التواضع للمؤمنين، والمواساة للمساكين، يلبس الخشن من الثياب، ويطوف الأسواق، ويتفقد أحوال المسلمين، وكان له من الشجاعة والشهرة وثبات القلب ما يجاوز به حد الشجعان من أهل عصره على كبر سنه، وضعف جسمه لكثرة العبادة، وله مقامات في الجهاد كثيرة، ومواقف مشهورة، وجد في جوشنه في بعض أيامه من أثر المزارق نيف وثلاثون موضعاً، ولقد لطمه عليه السلام رجل من الظلمة، فعن قريب اسدوت يداه، وأكلتهما الأكلة، وكان عبرة للناس، وما زالت تقرضهما حتى ذهبتا، ولما أظهر الله أمره، ونصره على عدوه، وذكر في مجلس بجرجان، وقال بعض من حضر أن الله سبحانه يعينه على الحق وينصره، فقال عياض التغلبي: ترى[182] من رب يعينه. وقال عقيب هذا القول بلا فضل: أوجعني في بطني، وتعلق ببطنه، وعاد داره، ومات من ليلته بلا خلاف في الرواية.

وكان عليه السلام ضابطاً لجيوشه، حسن السياسة لعسكره، فكانوا لا ينزلون على أحدٍ بغير إذنه، ولا يتناولون شيئاً من ثمار الناس إلا بثمن، ومكنه الله تعالى فهزم الظالمين وجنودهم في وقعات بيننه وبينهم.

فأما عدله وحسن سيرته في العباد والبلاد فيغني ظهوره عن شرحه، وليس هذا موضع استيفائه.

وتوفى عليه السلام في يوم عرفة سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ودفن يوم الأضحى، وصلى عليه السيد مانكديم الأعرابي القزويني الخارج بعده بلنجا، الملقب بالمستظهر، وأديمت الختم على قبره من يوم دفنه إلى تمام شهر، وبنى عليه في لنجا، ومشهده بها مزور مشهور، وفيه يقول القائل:

عرج على قبر بصعدة وابك مرموساً بلنجا

 

 

واعلم بأن المقتدي بهما سيبلغ ما ترجا

وكان عمره عليه السلام تسعاً وسبعين سنة، وله عليه السلام في معنى كتابنا هذا ما ذكره في دعوته فقال: ولم يسمعوا ما أنزل الله في أمير المؤمنين حين تصدق بخاتمه راكعاً، إذ يقول عز قائلاً: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.

وقول رسول الله صلى الله عليه وآله مخاطباً لكافة أمته: ((من أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: الله ورسوله أولى، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه)) حتى قال عليه السلام: فتأملوا رحمكم الله كيف أوضح الحق، وكيف قطع المعاذير، وانظروا إلى كثير من الأمة كيف غيروا وبدلوا حتى زاغوا وضلوا.

ولما توفي الملقب بالقائم بالله قام بالأمر الملقب بالمقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن محمد الدخيرة، بويع في شهر رمضان سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان مشتغلاً باللهو، مهملاً للأمور، مستضعفاً في الخاصة والعامة، وكان خاصته ومحل أسراره ابن الموصلي النصراني، وغيره من النصارى، ولم يزل مقبلاً على استعمال اللذات، ونيل الشهوات، وارتكاب المحرمات، وترجيع المنغمات.

أم أين فيهم كالإمام الناطق
بحر العلوم ذي المقال الصادق

 

بالحق يحيى بن الحسين السابق
شفا كل سائل وطارق

منتجع السائل والمسائل
ومصقع العترة والمحافل

 

ومفرع المفتين في النوازل
أكرم به من سيد حلاحل

هو الإمام الناطق بالحق أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون بن الحسن بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسين بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

ولما توفي أخوه المؤيد بالله عليه السلام قام ودعا إلى دين الله، بعد أن جمع خصال الكمال، علماً وعملاً، وشرفاً وفضلاً، وسياسة وزهداً، فأجابه العلماء والفضلاء، بسهول الجيل والديلم وجبالها، وانتضرت بيعته في الآفاق، وكان وحيد زمانه، وله تصانيف كثيرة حسنة في أنواع العلم في الأصول والفروع وغيرهما، وحاله في ذلك أظهر من أن تخفى، ولم يزل عليه السلام بعد قيامه مشتغلاً بصلاح الإسلام والمسلمين، وانفاذ أحكام رب العالمين، ومنابذة الفاسقين، وعبادة الله[183] حتى أتاه اليقين، سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.

وتوفي عليه السلام وهو ابن نيف وثمانين سنة بالديلم سنة أربع وعشرين وأربعمائة، هذا هو الأقرب، وإن روي غير ذلك، وقبره عليه السلام بجرجان معروف، وله عليه السلام في معنى كتابنا هذا كتاب الزعامة المسمى بالإمامة، وفيه يقول عليه السلام: وأما السقيفة فإنه عليه السلام لم يحضرها، والقوم لم يستدعوه ولا انتظروا حضوره، بل استبدوا بالأمر دونه، فكان عليه السلام مشتغلاً بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغسله ودفنه، والذين حضروا السقيفة وعقدوا الأمر، لمن عقدوا، ولم يبنوا ذلك على المشاورة والمباحثة، واختيار الأولى والأصلح، والنظر في الأدلة والحجج، وإنما جعلوه نهزة وفلتة، ولذلك قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة.

وقال عليه السلام في موضع آخر ذكر فيه كلاماً بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين عثمان، فقال عثمان: أبو بكر وعمر خير منك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: كذبت أنا خير منهما ومنك، عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما، إلى أخبار كثيرة في هذا الباب.

ثم توفى المقتدر وقام بالأمر بعده الملقب المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن عبدالله المقتدي، بويع له في شهر المحرم من سنة سبع وثمانين واربعمائة، وهو الذي صنف له الغزالي في الإمامة التصنيف المنطوي على أن إمامة الجاهل المقلد ثابتة، وكان كما قدمنا ذكره في أسلافه من مجانبة مرضات الله، واتباع معاصيه.

أو كالإمام السابق الحسين
إمام حق طاهر الفرعين

 

أبي الحسين منجب الجدين
عن كل ذم في الورى وشين

هو الإمام أبو الحسين يحيى بن الحسين بن إسماعيل، وهو العالم الفاضل، المتحدث المتكلم، الفقيه النسابة، قام ودعا إلى دين الله تعالى، وكانت دعوته عليه السلام في الجيل والري وجرجان، ومضى على منهاج سلفه سلام الله عليه وعليهم أجمعين، وهو في أيام الملقب المستظهر.

أو كالإمام الناصر الكريم
ذي الشرف الحادث والقديم

 

القائم المخصوص بالتعظيم
وباعث الميت من العلوم

هو الإمام الناصر لدين الله القائم بأمر الله، أبو عبد الله الحسين بن أبي أحمد بن الحسن بن الحسن بن علي، الأديب الشاعر، وهو الأمير أبو الحسن بن الناصر الكبير بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

قام في أيام المستظهر أيضاً، ودعا إلى الله تعالى، وكان بالغاً في الفضل والنهاية، فجرا على منهاج آبائه الطاهرين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحيا معالم الدين سلام الله عليه.

وكان عليه السلام شاعراً فصيحاً، مفلقاً، أنشأ على البديهة من وقت الظهر إلى العصر زها مائتي قافية في مديح أهل بيت المصطفى صلى الله عليه وعليهم، وتفضيل أمير المؤمنين علي عليه السلام، ونقض من خالفه، وفيها:

علي كبان والشيوخ كضعوة

 

فمحال ضعو في مخالب أصقر

إلى غير ذلك.

ثم توفى المستظهر[184] وقام بالأمر بعده ولده المفضل تكنا أبو منصور، ولقب بالمسترشد بالله، بويع له سنة اثنتي عشرة وخمسمائة سنة، وكان سالكاً مسلك من تقدمه في ارتكاب المحرمات، والانهماك في اللذات.

أو كأبي طالب الإمام
فاري شوون البطل الضرغام

 

ابن أبي القاسم ذي الإقدام
في ما قط يضرب بالحمام

هو الإمام المؤيد بالله أبو طالب يحيى بن الحسين بن المؤيد بالله أبي الحسين أحمد بن الجسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

قام في أيام المسترشد بالجيل والديلم، بعد جمعة لخصال الإمامة، وأطبق عليه سادات العلماء بعد أن ناظروه شهراً، فوجدوه جامعاً لخصال الإمامة، فكان جل حربه للباطنية، قتل منهم في يوم واحد ألفاً وأربعمائة، وافتتح من بلادهم مسيرة اثنتي عشر ليلة على مذهب الهادي إلى الحق عليه السلام، سوى الأتباع من العوام، ثم ظهرت دعوته في عمان، وأطاع له صاحبها، وظهرت دعوته في اليمن، وأنفذت إلى الأمير الأجل المحسن بن الحسن بن محمد بن المختار بن الناصر بن الهادي إلى الحق عليه السلام فقام بها أحسن قيام، ونفذت أوامره في صعدة ونجران، والجوفين والظواهر، ومصانع حمير، ثم قتلت أهل صعدة الأمير المحسن رحمه الله وولده غدراً، سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، فقام بثأره السيد الشريف الفاضل من الديلم من جهة الإمام أبي طالب عليه السلام، وأخرب صعدة، وأعانه على ذلك شيخ الشيعة في وقته محمد بن عليان بن أسعد البحيري، وأمدهم الأمير غانم بن يحيى بن حمزة السليماني بمال كثير، وقال محمد بن عليان شعراً الذي أوله:

تألبت الغوغاء من أهل صعدة

وهي إلى خمسين بيتاً، وكان هذا الإمام عليه السلام مهيباً في قلوب الظالمين، وغزا عليه السلام في البر والبحر، وبويع له في الحرمين الشريفين، وكان يثب من الأرض إلى ظهر الفرس، وكانت خزائنه تحتوي من الكتب اثني عشر ألف مجلد، ولما قتل المسترشد قام بالأمر بعده ولده الملقب بالراشد بالله أبو منصور جعفر بن المسترشد، بويع له من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وكان غير خارج من منهاج آبائه، آثر الشهوات على المفروضات، واسترسل في استعمال المحرمات، وكان مهملاً لأموره، له من الخلافة اسمها فقط.

أو كالإمام السيد الموفق
الفائق الرائق عذب المنطق

 

سهل الشمال الصادق المصدق
ليث عرين فيلق في الفيلق

هو الإمام الموفق أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل بن زيد بن جعفر بن الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.

وفي رواية أخرى: هو الحسين بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن محمد بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ويعرف بالجرجاني.

قام عليه السلام في أيام الملقب بالراشد، وكان الغاية القصوى في العلوم، كان أعلم بفقه الحنفية والشافعية والمالكية من فقهائهم المحققين بحيث[185] ينازعونه، وبلغ الغاية في اللغة والنحو ما لم يبلغه أحد من أهل عصره، وكان في الخطب والرسائل، والشعر والكتاب في أعلى درجة، ولم يزل عليه السلام على منهاج سلفه الصالحين سلام الله عليه وعليهم أجمعين.

ثم قتل الملقب بالراشد، وقام بالأمر بعده ولده الملقب بالمقتفي لأمر الله أبو عبدالله محمد بن المستظهر في شهر ذي الحجة من سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وكان مهملاً مستضعفاً، منعه في أيامه الملقب بالحافظ من الباطنية من إنفاذ أوامره في مكة-حرسها الله- وغلب ملك خوارزم في أيامه على العراق، ثم انتهى الحال إلى أنه غلب على التصرف في بغداد، ولم يبق له إلا ما وراء بابه، وإن كان مقبلاً على إيثار الشهوات والإقدام على المحرمات، سالكاً مسلك آبائه.

أو كالإمام المنتجب الغضنفر
من جوهر المختار أي جوهر

 

السابق الهادي علي بن جعفر
أبي شبير المصطفى وشبير

هو الإمام الهادي أبو الحسين علي بن جعفر بن الحسن بن عبد الله بن علي بن الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أحمد الحقيني بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

قام في أيام الملقب بالمقتفي، بعد أن جمع خصال الإمامة، وأحرز فنون الزعامة، وهو الذي فاق أهل عصرة في العلم والعمل، وله التصانيف العجيبة الحسنة، وعلمه عليه السلام مشهور، وعمله مبرور، وكان جامعاً للعلوم، أجمع العلماء في زمانه أن سبع علمه آله الإمامة سلام الله عليه ورضوانه، ولما توفى الملقب بالمقتفي قام بالأمر ولده الملقب بالمستنجد بالله يوسف بن محمد، ويكنى أبا المظفر، بويع له يوم مات أبوه سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وكان كمن تقدمه من أسلافه، مطرحاً لطاعة ربه، مقبلاً على معاصيه، وكان أحزم من غيره، ضابطاً لأمر مملكته.

أو كالإمام المجتبى أبي الرضى
شمس العلوم والحسام المنتضى

من

 

السابق العدل الأغر المرتضى
في كل جيش ما إلى وجه الفضا

هو الإمام أبو الرضى الكيسمي الحسني عليه السلام، جامعاً لخصال الإمامة، ودعا الخلق إلى نفسه بعد الهادي الحقيني، فاستولى على جميع أقطار جيلان وديلمان إلى حدود طبرستان، وكان كثير العبادة والقيام، شديد الانكار على أهل المناكير، ولما بلغه أن ولد من أولاده شرب الخمر قال: حرمه الله جميع ما نبت على وجه الأرض، فلم يلبث الولد أن عبر قنطرة فزال قدماه فغرق في الوادي، فنودي على الإمام بالملام، فقال: إليكم عني، قال القائل ما قال، وسمع السامع من أسمع، ولم يعش بعد الهادي عليه السلام إلا قليلاً، ثم قبضه الله إلى رحمته في بلده كيسم، ومشهده هنالك معروف مزور عليه السلام.

أو كأبي الفتح الإمام الديلمي
مروي الرماح في العجاج الأقتم

 

الناصر الدين الأعز الأكرم
من كل قرن مستميت ضيغم

هو الإمام الناصر لدين الله أبو الفتح ناصر بن الحسين بن محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

قام في أيام الملقب بالمستنجد، بعد أن بلغ في العلم مبلغ المبرزين من أسلافه الطيبين، بحيث بهر العلماء علماً وفهماً، وله[186]التصانيف الكثيرة، والعلوم المشهورة، ودعا إلى الله سبحانه بالديلم، ثم خرج إلى أرض اليمن فاستولى على كثير من بلاد مذحج وهمدان وخولان، وانقادت له العرب، وحارب الظالمين، وجاهد القرامطة، ولم يزل قائماً بأمر الله حتى أتاه اليقين، فسلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وكان وصوله من الديلم فعلا أمره، وملك صعدة والظاهر، واختط ظفار، وهو حصن الإمام المنصور بالله عليه السلام، وحارب الصليحي في بلاد مذحج، وقتل من خولان بمجز مقتلة عظيمة، وله حروب في أثافت من قبل الصليحي سجال له وعليه، ثم قتله الصليحي، وقبره عليه السلام بردمان من بلاد عنس رضوان الله عليه، وله في معنى كتابنا هذا ما قاله في تفسيره لمعنى قوله سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} قال: أي يخلق ما يشاء من الخلق، ويختار من يشاء للنبوة والإمامة.

وفي معنى قوله سبحانه: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} قال: عنى بالأزواج من بانت خيرتها، وصحت سريرتها، كخديجة بنت خويلد أم الأئمة عليهم السلام، وكأم سلمة بنت أبي أمية رضي الله عنها، فأما من عند منهنَّ عن الحق، وشق عصى المسلمين، فليسوا بأمهات للمسلمين، ولا هنَّ بأهل كرامات عند الله رب العالمين.

وفي معنى قوله سبحانه: {والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل} قال: هم الذين لا يوجبون محبة آل محمد صلى الله عليهم، وينكرون فصلهم.

وفي معنى: {أَهْلَ الذِّكْرِ} قال: هم العلماء من آل الرسول عليهم السلام.

وفي معنى قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} قال: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين علي عليه السلام، وخيار أهل بيتهما، ومن سار بسيرتهما، وتبع طريقتهما إلى يوم القيامة؛ لأنهم ورثة الكتاب والعاملون به، ولهم الخلافة في الأرض إلى يوم العرض.

وفي معنى قوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} قال: يعني دين الإسلام، وذلك عند ظهور حجة الله القائم.

وروي عنه عليه السلام أنه قال: أما فروع الشريعة فإن وقع بين الأئمة عليهم السلام في ذلك اختلاف فليس ذلك مما ينقص علمهم وفضلهم؛ لأن الاجتهاد في الدين واجب، والاحتياط لازم، والرجوع إلى الكتاب والسنة مما تعلم به البلوى، ولكل في عصره نظر واستدلال، وبحث وكشف، وقد ينكشف للمتأخر ما لم يكشف للمتقدم؛ لأن المتقدم قصر عما بان للمتأخر، وقال: ليس من الدين تخطئة واحد منهم، والحكم عليه بأنه خالف الشريعة والأمة.

ولما توفى المستنجد قام بالأمر ولده الملقب بالمستضي، وهو أبو محمد الحسن بن يوسف، بويع له في سنة ست وستين وخمسمائة، ولم يدع طريقة من طرائق من سبقه من ترك الطاعات، وارتكاب المنكرات، والاقبال على الملاهي والشهوات إلا سلكها.

قال الإمام المنصور بالله عليه السلام في كتاب الشافي: وحكى لي من أثق به عن رجل يرتضيه أن هذا القاعد اليوم على سرير الملك ببغداد الملقب بالناصر أوصد عليه الحمام حتى قتله فيه، ويشهد بصحة ذلك تحريمه البيع والشرى بكل دينار ودرهم فيه رسم أبيه، ولما هلك المستضيء بويع لولده هذا الملقب بالناصر، وهو أبو العباس أحمد بن المستضيء في سنة سبعين وخمسمائة، وكان سالكاً طريقة أسلافه من انتهاك محارم الله، واطراح طاعته، وكان يطوف ببغداد مستخفياً، وهو ظاهر، ثم أشار إليه قتله، ومن قال من وسطه إلى غير ذلك من الأفعال القبيحة:[187]

أو كأمير المؤمنين أحمدا
في العالمين مغوراً ومنجدا

 

ابن سليمان الذي أحيا الهدى
ولم يزل مظفراً مؤيدا

شهم الجنان قاتل الأبطال
طب بطعن الكيس في النزال

 

هزبر غابات أبو أشبال
وكل ما استبهم من سؤال

هو الإمام المتوكل على الله عز وجل أمير المؤمنين، وإمام المسلمين أحمد بن سليمان بن محمد بن المطهر بن علي بن الناصر أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

قام عليه السلام وعاصر الملقب بالناصر، فكان قيامه في أرض اليمن بمدينة صعدة حرسها الله بخلال المشاهد المقدسة، ودعا إلى الله سبحانه فاجتمع إليه من أولاد علي بن أبي طالب من ولد الحسن والحسين، وولد العباس بن علي ثلاثمائة رجل من أهل الفضل والصلاح، والعلم والمعرفة، فجاروه في مسائل العلوم ودقائقها، وعرفوا فضله وسلموا له، واجتمع من العلماء والفقهاء، والتلامذة والتابعين ألف رجل وأربعمائة رجل، فناظروه في غوامض العلوم ودقائقها، فوجدوه بحراً زاخراً، فشهدوا بسبقه، واعترفوا بحقه، فبايعوه واتبعوه، وانتشروا في أقطار اليمن دعاة إليه لمن عداهم، وقد كان والده رأى في المنام وهو حمل في بطن أمه كأن ملكين نزلا عليه وكتبا له بيت من الشعر وهما:

بشراك يابن الطهر من هاشم

 

 

بماجدٍ دولته تحمد

يا أحمد المنصور من مثله

 

 

بورك في من اسمه أحمد

وله عليه السلام فضائل مأثورة، وبركات مشهورة، من ذلك ما رواه مصنف سيرته عن جماعة من المسلمين ثلاثة معروفين بالصلاح في الدين، ينتهى إليهم في العدالة، قالوا: بينما نحن في المسجد الجامع قائلين إذ سقطت قطعة من المحراب لغير سبب نعرفه من الأسباب، وتبعه خرقة ملفوفة فنظرنا إليها فإذا هي غلاف قرطاس، فنشرناه فإذا فيه ملحمة رواها عبد الله بن محمد الطبري، عن الهادي عليه السلام يرفعه إلى علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله، وذكر القائمين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله، وما يكون منهم، وأعلامهم في الدولتين الأموية والعباسية، إلى أن انتهى إلى المتوكل على الله عز وجل، فذكر بيعته وصفته، وما يكون من أمره إلى نهايته مما لم يمكن هاهنا إيراده، ومن ذلك ما رواه مصنف سيرته عمن أثبت اسمه في كتابه أنه لما هبط إلى نجران من بلاد يام، أجهده وأصحابه العطش في مفازة من الأرض، لا يوجد الماء فيها إلا مسيرة يوم، قال: فوطنا النفوس على الموت، واحتسبناها في الله تعالى، فبدأ لنا صياف أو سحاب بين أيدينا، ولسنا نطمع بمطر فيه، ولا نرى أمارات المطر، فوقفنا على عذرات تفمق ماء عذباً فراحاً فشربنا منه، وحمدنا الله تعالى، وعلمنا أنه غياث لولي الله تعالى وابن نبيه صلى الله عليه وآله حتى قال: فما زالوا يخوضون الماء حتى هبطوا على نجران.

ومن ذلك أنه عليه السلام كان ببلاد بني بحر في وقت مطر شديد، فخرج وقت صلاة الفجر فطلب الماء فتعذر[188] عليه من الماء ما تطيب به نفوس، فطلب التيمم فتعذر للثق الأرض بالمطر، فقعد في موضع يفكر كيف يصنع بالصلاة، فالتفت عن يمينه فوجد تراباً جافاً مكتوباً من غير جنس تراب البلد جافاً وتحته الندى، فدعا أصحابه فجاؤه وتيمم وتيمموا وصلى بهم، وعرف أهل البلد القصة، فابتنوا على موضع التراب مسجداً هو باقٍ إلى الآن.

وحكى الإمام المنصور بالله عليه السلام عن الشيخ محيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد رحمه الله أنه سمع قضية التراب من لسان الإمام المتوكل على الله عز وجل.

ومن ذلك ما ذكر الشيخ العالم سليمان بن يحيى الثقفي، وإن كانت هذه الرواية معروفة مشهورة مسموعة من غير واحد، أنه لما توجه يريد بلاد مذحج من طريق العائط على مدينة براقش، ومعه دليل من خولان العالية ففاته أول الناس، وهي بلاد بهما طامسة الأعلام، كثيرة الحر والسموم، فلحق بالإمام وقال: إن الناس قد ضلوا الطريق، وتوجهوا إلى مكان يقال له محرر لا ماء فيه، والناس يتلفون من العطش، فأمر من يردهم فلم يتأت ذلك، فسار في أثرهم حتى لحق أولهم آخرهم بواد محرر، وطلبوا الماء فلم يجدوا فحطوا رحالهم هنالك، وصلوا صلاة الظهر والعصر بالتيمم، وبلغ الناس الجهد من العطش، وصاروا يتصايحون ويقول أحدهم: من يسقيني ماء بقوسي، ومنهم من يقول: بثوبي، فلما رأى الإمام ذلك قام إلى الوادي فعلم فيه ثلاثة مواضع، وقال: احفروا فحفروا موضعين فلحقوا الماء على قامة وبسطة، فشرب الناس كلهم، وسقوا بهائمهم، وملأوا مزاودهم، وجميع أسقيتهم، وطهروا واستفاضوا، وأمسوا إلى الصبح، ثم طهروا وصلوا صلاة الفجر، فلما فضلا من الماء وصاروا في يعض الطريق رجع منهم قوم لشيء نسوه من أدواتهم، فأتوا وليس للماء أثر، ولا يقي منه شيء، فلحقوا الناس وأعلموهم، وكانوا من أهل الصدق والثقة والدين، فعجب الناس من كلامهم، وزادهم ذلك يقيناً في إمامته عليه السلام.

ومن ذلك أنه عليه السلام لما وصل إلى غيمل من بلاد الأنبا ومخلاف صنعاء، وأقبل إليهم ينو شهاب وفيهم أسعد بن عطوة، وله فرس عنده عزيزة فمرضت وكادت تتلف، وصارت ملقاة على شقها تجود بنفسها، فقرب عليه السلام إليها ونفث عليها، ودعا الله سبحانه أن يزيل ما نزل بها، فقامت من ساعتها كانها لم يكن بها بأس، فقادوها إلى صاحبها ما بها ريب، فطرح السرج والتجفاف وركبها، فازداد المسلمون يقيناً.

ومن ذلك أنه لما كان في بيت بوس وصلى صلاة الجمعة في مسجد بيت بوس، فلما فرغ من الصلاة والناس يزدحمون عليه، وينظرون إليه، ويستمعون مواعظه وكلامه وفوائده، فدخل عليه شيخ كبير يقوده أولاده، فسلم وقرب من الإمام عليه السلام، وشكا عليه الصمم في أذنيه، فنفث في أذنيه، ثم دعا له، ثم قام هو وأولاده إلى ناحية من جوانب المسجد، فإذا به يشهد ويكبر فقالوا له: مالك؟ فقال: إني سمعت في أذني انقاضاً كأنقاض الوصف فإذا بي أسمع ما يقال، ويحدث وحادثوه، وكلموه فحدثهم وأجابهم عن كل ما سألوه، وإذا به قد صار سميعاً بصيراً بعد أن شهد أولاده أنه كان لا يسمع الطبول والأصوات العالية، فعجب الناس لذلك عجباً شديداً، وزادهم إيماناً وتثبيتاً.

ومن ذلك أن غلاماً من مذحج يقال له دهمش، وكان[189] رئيساً شجاعاً، شاباً جاهد بين يديه في بلاد يام فاستشهد صابراً محتسباً، وتاب عند القتال، وكان قبل ذلك مسترسلاً كما يسترسل الشباب، فبقى أهله يتأسفون عليه من النار، فرضخت صبية صغيرة لها ثلاث سنين بحجر فشدخ رأسها فقالت: وهي تجود بنفسها لا تقبروني مع الكبار أهل النار، واقبروني مع الصغار أهل الجنة، وإن دهمش من أهل الجنة، وعليه صيام شهر رمضان، وهي لا تعرفه ولا تعرف ما عليه، فلما وصل الإمام إلى بلاد الغلام أمرت له والدة الغلام وقالت: إن دهمشاً أفطر شهر رمضان أفصوم عنه أم ماذا أصنع؟ فعجب الناس من ذلك، وعرفوا فضله.

ومن ذلك ما روى مصنف سيرته، وروى غيره ما مثاله وإن اختلف لفظه أنه عليه السلام لما خرج عليه السلام لحرب صعدة لما نكث أهلها أيمانهم، ونقضوا عهودهم، في عسكر عظيم من خولان وهمدان، حكى مصنف سيرته أنهم.........الفاً بين فارس وراجل، فلما علم أهل صعدة بإقبال الجنود، كبسوا الآبار وتركوا في بعضها..........جنود الإمام من الظمأ، ففزع إلى الله تعالى ودعا إليه بالغياث، فأنشأ الله سحابة وكان ذلك الوقت وقت حزيران فمطرت فمطراً لا نظن في مثله أنه يسيل، وعسكره بإزاء المكان ما كاد يصلهم إلا الشفاف، فما شعر الإمام حتى أتاه البشير يعلمه بنزول سيل عظيم حتى أحاط بمدينة صعدة، وبإزائه حفرة عظيمة تجاوز بعضها حد البرك الواسعة، فامتلأت ما فراحاً سمهجاً، فكان فيه شيء من البرد فصار يشبه ماء الثلج، فتقدم بعساكره المنصورة فحارب مدينة صعدة، فقهرها وأخذها عنوة، وتغنمت الجنود منها أموالاً عظيمة وخربها، وبمثل هذا المعنى أخبرني والدي شيخ آل الرسول بدر الدين الداعي إلى الحق المبين، محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى الهادي عليهم السلام، وكان مع الإمام المتوكل على الله عليه السلام مجاهداً يومئذ، حاضراً لقضية المطر والسيل، فحكى في حديثه أن الله سبحانه أنشأ سحابة............فوصل سيلها إلى الحفر التي هي بالقرب من المدينة، فشرب الناس ماء بارداً لذيذاً.

وروى رحمة الله عليه قول الإمام المتوكل على الله عليه السلام في ذلك الوقت: قد رضي الله جهادي، وما أعان إلا وهو يرضى به، أعانني بالريح والسيل في وقت الضحى إذ كنت أحرى به.

وله عليه السلام من الفضائل ما لو أردنا احصاؤه في مثل هذا الموضع لطال به الشرح، وله المقامات المشهورة التي شهدت له بأنه وحيد زمانه، شجاعة ورباطة جأش، إذ لا يعلم في زمانه من هو أشجع منه، مثل يوم قليس، وذلك أنه عليه السلام لما صار بذمار جمع خيلاً من جنب زهاء ثلاثمائة فارس، وعارضه عبد الله بن يحيى في سبعمائة فارس، فلما............لحاتم بن أحمد، وكان مع حاتم بن أحمد من همدان ونهد وسنحان خمسمائة فارس، وقريب من ثلاثة آلاف فارس وألف فارس، فلما بلغه عبد الله بن يحيى بمن معه واجتمعت جموعه نهض بهم للقاء الإمام عليه السلام إلى موضع يقال له: قليس، فوقع بينهم قتال شديد من أول النهار إلى آخره.

ثم إن القوم اجتمعت خيلهم وحملوا على الإمام حملة رجل واحدٍ، فافترقت منه أصحابه ثلاثة أصناف، فصنف انقلبوا مع أصحابهم عليه، وصنف انهزموا عنه وتعلقوا الجبل، وصنف يتحمون ويقاتلون وهم يستخرجون نفوسهم، فلما رأى الإمام عليه السلام ذلك فَعل فِعل آبائه الكرام[190] عليهم السلام، وحمل على القوم إلى أن خالطهم، ودخل بينهم وجاولهم في ميدان الحرب، ومزقهم يميناً وشمالاً وهم ألف ومائتا فارس، غير ما ذكرنا من الرجالة، ثم استخرج نفسه عليه السلام من أوساطهم، وتميل إلى شق الجبل سالماً مظفراً، وما قتل من أصحابه غير ثلاثة رجال ببركته ونجدته، وحمايته وبأسه.

ومثل يوم الشرارة قصده حاتم بن أحمد، وكانت خيل حاتم تسعمائة فارس معدة كلها ورجله عشرة آلاف فيهم ثلاثة آلاف قايس وألف تارس، وأتو الإمام وأصحابه على غرة معاجلة قبل شدهم على خيلهم، ولبس آلة حربهم، فابتدر عليه السلام هو وأصحابه كالليوث العادية، وقصده القوم إلى المضرب بخيلهم ورجلهم، وصاروا بين يديه صفوفاً، وتجلجل الناس عن الإمام لكثرة النبل والحجارة، ولم يكن معه عليه السلام من الرجالة غير أربعين رجلاً، فوقفوا بين يديه دون المضرب، فملك أعداؤه عليه أكمتين قريباً من المضرب، وطمعوا في نيله لقلة من معه لتخلخلهم عنه، وشمروا عنه أصحابه إلى المحطة، وعزم أهل المحطة على الانهزام، وأحيط بأصحاب الإمام من كل جهة إلا ما يلي المضرب فلم ينالوه، واشتد القتال وحمي الوطيس، وكثرة القتلى، فلما نظر الإمام إلى زيادة القوم عليهم، ولم يصل من أصحاب الإمام إلى القوم سهم ولا حجر، إلا كل منهم يتقي على وجهه بيده، جعل عليه السلام يحمل على القوم فيلقونه جنوبهم ورماحهم، وسهامهم وما يهم أحد منهم أن يرد رأس فرسه، فحمل عليهم اسفاراً وكأنه يحمل على جبل من حديد، وقرب من القوم من المضرب، وأحاطوا  فعند ذلك رفع الإمام عليه السلام يده إلى السماء وقال: اللهم إنه لم يبق إلا نصرك، وقال في نفسه: إن ظفر القوم بنا ظهر مذهب الباطنية، فارتفع في جميع البلاد، وهلك الإسلام المسلمون، فعند ذلك أرسل الله ريحاً عاصفاً من المشرق فقابل وجوه القوم فاسستبشر الإمام عليه السلام بالنصر من الله، وقال: إنها ريح فاحملوا ثم حملوا فانهزم القوم عنه، وأعطاه الله النصر عليهم، ومنح القوم أكتافهم، فانجلت المعركة خمسمائة قتيل وخمسمائة أسير، وقريب من ذلك، وما زالت الهزيمة في همدان إلى صنعاء، فتعلقوا بالحصون، وعاد الإمام عليه إلى محطة مظفراً سالماً، غانماً، وفي ذبك يقول شاعره القاضي محمد بن عبد الله الحميري القصيدة المعروفة في الإمام عليه السلام، ومن جملتها قوله:

فخمس مائين حر منها وريدها

 

 

وخمس ما بين أثقالها قيودها

 وهي طويلة، وله عليه السلام مقامات كثيرة مشهورة، وميلنا إلى الاختصار، وكانت ولايته عليه السلام ثلاثاً وثلاثين سنة، وأصابه العمى بعد ذلك، وتوفى سنة ست وستين وخمسمائة بحيدان من أرض خولان، وقبره هنالك مشهور مزور.

وله عليه السلام في معنى كتابنا هذا ما لا يتسع لجميعه هذا الموضع غير أنا نذكر منه زبدة تدل على غيرها، قال عليه السلام في كتاب الحكمة: قد أجمع ذوو قربا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن الإمامة خاصة في الحسن والحسين وأولادهما، وكان إجماعهم حجة؛ لأن خلافهم خلاف المودة، ولم يودهم من خالفهم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقرن المحبة بالاتباع، فمن لم يتبعهم لم يحبهم، فصح ما قلناه.

وقال فيه يحكي قصة السقيفة: فلما اشتغل[191] أمير المؤمنين بما بنبغي له أن يشتغل به اجتمع المهاجرون والأنصار إلى سقيفة بني ساعدة، وتنافسوا في الملك، ونسوا ما أوصاهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمره باتباعهم لعلي عليه السلام في مواقف كثيرة، وأكاليم شهيرة.

وقال عليه السلام: وكان من جملة الظالمين من غصب علياً عليه السلام حقه، وأنكر سبقه، واستولى على الأمر الذي كان أولى به كأبي بكر وعثمان وعمر، ومن أعانهم على أمرهم، واحتج على نكثهم أيمانهم وإيمانهم بقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية، وذكر أنها نزلت فيهم.

وروى عليه السلام في كتاب حقائق المعرفة خبراً عجيباً عن جماعة من الصحابة اجتمعوا إلى أبي بكر وانكروا عليه تقدمه على أمير المؤمنين، ورووا ما سمعوا في أمير المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو خبر مفيد، وقد ذكرناه في الموضع الرابع من هذا الكتاب فتأمله هنالك تقف على العجب العجاب فيه.

وقال عليه السلام في جوابه لمسائل الشرفاء من بني سليمان تسمى المعتزلة معتزلة حيث اعتزلوا أمير المؤمنين عليه السلام، منهم سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، وسموا نفوسهم أهل العدل والتوحيد، وقال فيه: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستفترق أمتي  بعدي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة، إلإ فرقة واحدة)) وقد بينها صلى الله عليه وآله وسلم وأوضحها في أهل بيته عليهم السلام ومن تبعهم في مواضع كثيرة.

منها ما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وغوى)).

وقال فيه أيضاً عليه السلام: واعلم أنه من قال أنه لا اختلاف بين الصحابة أن ذلك القول محال، وأن التعلق به ضلال، ولو كان بينهم ائتلاف لما كان بعدهم اختلاف.

ثم حكى قصة الاختلاف بينهم بعد الرسول عليه السلام، وما كان من المغيرة بن شعبة من الحديث مع عمر، وما كان من أمر سقيفة بني ساعدة إلى بيعة أبي بكر، حتى قال: وخرج علي عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبره، وسأله أصحاب أبي بكر البيعة لأبي بكر، وأجمعوا عليه، فلم يرا إلا أنه بايع اضطراراً مسحاً بيده من غير عهد، وخشي أن يمتنع ويطلب ما هو أولى به من الخلافة، فتعود جاهلية جهلا، وكان عهد الناس بالشرك قريباً، فخاف أن يرجع الناس إلى الشرك إذا وقعت المنازعة، فأغلق عليه السلام بابه، وترك الناس على حالهم، يبعدون كل يوم عن الحق مرحلة، ويقربوا إلى الباطل مرحلة.

قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه: إنا استنكرنا أنفسنا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأربعة أيام، وأقام لازماً نفسه مدة مقام أبي بكر وعمر وعثمان، ووسعه من ..........ما وسع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل مهاجرته إلى المدينة، وما وسعه من دخول الغار.

وقال فيه عليه السلام: والمرجئة هم الذين قدموا أبا بكر وعمر على علي عليه السلام، وأرجوا علياً عليه السلام[192] وعثمان ومعاوية، وهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((المرجئة يهود هذه الأمة)) ثم قسم هذه الفرقة وهم المرجئة وبين فرقهم.

أو كإمام عصرنا المنصور
ذي العمل المبارك المبرور

 

الصابر العلامة المشهور
لعا له من يومه المقدور

لعاً له لو أنه يجدي لعا
وطال ما حما حماه ورعا

 

وللهدى من بعده مصدعا
فاضحت الأتباع فيه شيعا

أحيا الهدى في يمن وشام
وكان شمس العترة الكرام

 

وأظهر الملة في الأنام
وملجأ لحملة الإسلام

حتى إذا شطت به يد الردى
تبت يدا هدت به ركن الهدى

 

لم يبق للدين والدنيا يدا
لو يفتدى كل الورى له فدا

لو قيل يفدي فدت الرسوس
في الآل لا نفس ولا نفيس

 

ولم يكن من دونه محبوس
وقل أن نفديه بالنفوس

وإنما الموت قضاء لازب
أمر من الله فلا مغالب

 

لا العجم تعدوه ولا الأعارب
فارضى به إن الرضا واجب

هو الإمام الأجل المنصور بالله عز وجل، أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وخليفة رب العالمين، أبو محمد عبد الله بن حمزة بن علي بن حمزة بن أبي هاشم بن الحسن بن عبد الرحمن بن علي بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

قام عليه السلام بعد الإمام المتوكل على الله سلام الله عليهما، وكان معاصراً للملقب الناصر، وكان دعوته عليه السلام بعد أن أحرز خصال الكمال، ونال منها أشرف منال، وكان معروفاً بالنشأة الطاهرة، والعلوم الباهرة، والورع المعروف، والكرم الموصوف، والشرف والسخا، والنجدة والوفا، فاجتمع لاختياره وامتحانه علماء عصره، وسادات وقته، من الأمراء والشرفاء، والقضاة والفقهاء، وغيرهم من المسلمين، فناظروه في جميع الفنون، وامتحنوه أشد الامتحان، حتى أن عالماً واحداً منهم سأله وحده عن خمسة آلاف مسألة في الأصول والفروع، وعلوم القرآن والأخبار، وأجابه عنها الإمام عليه السلام بأحسن جواب، فلما رأى العلماء وسمعوا من علمه ما يشهد له العيان، وينطق به الامتحان، وتعجز عنه أرباب البيان، سمعوا له وأطاعوه، وبايعوا واتبعوا، وكانت البيعة له عليه السلام يوم الجمعة لثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين وخمسمائة.

وله عليه السلام التصانيف الكثيرة، والفتاوي الحسنة، بل هو عليه السلام عالم دهره، ووحيد عصره، عرف ذلك له البعيد والقريب، وشهد به البغيض والحبيب.

وله عليه السلام فضائل وبركات كثيرة، منها أنه عليه السلام أيام فتج صنعاء كتب كتاباً لصبي قد ابيضت عيناه لمصابة أصبتها فذهب بنظره، فما كان إلا أن تعلق الكتاب وأبصر في الحال، وعوفي وعاد إلى صنعته من الخياطة.

ومنها أنه عليه السلام كتب كتاباً إلى[193] شهاب الدين إلى عضدان، فلما وصل إليه الكتب أمر بضرب الريح حتى اجتمع أهل الحصن، وأمر بتنقية مساقي الماجل، وقال: استسقي بهذه الكتب، فتعقب ذلك المطر من وقته، وامتلأ بعض المناهل وتنغص بالماء بعضها، وكان من دواعي شهاب إلى طاعته.

ومنها ما حصل في أيام دولته من ظهور معادن الحديد بجبال خولان ونواحيها، فبلغ خمسة عشر رطلاً بدينار سبأي في وقته، بعد أن بلغ في دولته الغز نصف رطل حديد بدينار سبأي، وبعد أن منع الغز من يشتريه من عدن إلا من تحت أيديهم، فوسع الله على حلقه ببركته عليه السلام.

ومنها دخوله عليه السلام صنعاء على سبعمائة فارس أو يزيدون، وما كان معه من العرب إلا قليل بعد أن هرب السلطان إسماعيل من صنعاء في اليوم الذي دخلها فيه الإمام عليه السلام.

ومنها فتح باب غمدان بصنعاء بشصة من نشابة من غير تعب، ووافق ذلك وصول الإمام إلى الباب، وكان لا ينفتح بمفتاحه إلا بعد علاج شديد.

ومنها انقضاض الغز وقد أحاطوا بالإمام عليه السلام في المسجد الجامع بصنعاء، وقد هموا فيه وفي أصحابه.

قال الراوي: وسألته عليه السلام هل دعى عليهم في ذلك الوقت فقال: دعوتان عجل الله الإجابة فيهما، إحداهما في ميتك، وهي اللهم إنه قد عجز الناصر من خلقك فمثهم كما يماث الملح في الماء، والأخرى هذه.

ومنها مجيء فرسيه عليه السلام في تلك الليلة وعليهما العدة والسلاح من قدام المسجد الجامع يتلوا أحدهما الآخر، من غير قائد ولا سائق في أزقة مختلفة إلى جهات مختلفة، حتى أتيا الشاره الذي فيه الدار التي كان فيها عليه السلام، ولم يدخلا صنعاء قبلها إذ هما من خيل نجد وهما معه منذ قيامه.

ومنها ما روي عن رجل من المطرفية أنه جاء إلى أهل قرية فسألهم شيئاً من زكواتهم، فقالوا: قد سلمناها إلى الإمام، فأطلق لسانه بسب الإمام، ثم انصرف إلى جانب من القرية، وقعد بموضع بالقرب منه كلبة رابضة، يجوز عليها الناس من معروف وغير معروف فما تعرض لهم بشر، فلما استقر هذا الرجل في مجلسه وثبت عليه خاصة دون الناس، فوضعت يديها على كتفيه، وهرت في وجهه، فاستخرجت لسانه من فيه، فشدخت لسانه بأنيابها، وأغار الناس عليه، وقد تركته عبرة يلوك لسانه، فحملوه فلبث مدة عليلاً حتى عاف الناس قربه، ونفروا عن مجالسته لنتن رائحته، فلما عوفي ولم يعتبر بذلك، ونظر على أن الله ما اختص نبيه صلى الله عليه وآله بفضل، ولا اجتباه برسالة، فلما صح ذلك للإمام عليه السلام أمر بضرب عنقه، وهذه القصة مشهورة في الآفاق، وقد نظمها العصيفري في أبيات شعر فقال:

اسمع أمير المؤمنين قضية

 

 

أضحا بفضلك ذكرها مشهورا

أنبت بالراسين كلب مسلم

 

 

سميته لوداده قطميرا

سمع الذي أطرا عليك بسبه

 

 

فجرا بعض لسانه تحذيرا

هاتلك معجزة غدا لك ذكرها

 

 

في بطن كل صحيفة مسطورا

إلى غير ذلك من الفضائل التي يطول تعدادها.

وكان له عليه السلام من جودة الرأي وحسن التدبير[194] ورباطة الجأش، وثبات القلب ما شهرته تغني عن ذكره.

وله مقامات في جهاد أعدائه عظيمة، شاهدة بشجاعته وجوده، وهي مشهورة معروفة، من أوان شبابه إلى أن توفي إلى مرضات الله، نحو قيامه بجبل ميتك، محتسباً في سبيل الله تعالى، محارباً للسلطان علي بن حاتم من جهة، ولسيف الإسلام سلطان العجم من جهة، واستولى سيف الإسلام على كثير من المغارب، وأطاعه الناس كرهاً وخشية، وقريب جيوش العجم من جهة الإمام عليه السلام، وأحاطوا بالحصن مع تسلم أكثر أهل الجبل، وطاعتهم لسيف الإسلام، فلح على الإمام الخواص في التميل والانعراج، فأقسم عليه السلام لا تأخرت عن هذا المكان إلا غالباً أو مغلوباً، ثم أمر أخاه محمد بن حمزة وأصحابه بالنزول لحرب العدو، وهو مستقر مكانه، وقال لأصحابه: لا تحاربوهم حتى يبدونا بالحرب، وكان محمد رحمه الله قوي الدين، شديد الورع، كاملاً فاضلاً، فما حاربهم حتى بدؤه بالحرب، وكان لا يملك نفسه عن الإقدام، فلما تلاحم القتال زحف في طائفة من الناس، فلم يزل يقاتل وهم ينكشفون عنه حتى تأخر عنه كثير من أصحابه، والإمام عليه السلام ثابت مكانه، ثم قرب سيف الإسلام بنفسه من تلك الجهة، وفسد الناس على الإمام فما أثر ذلك فيه، حتى قال له الناس: يا هذا قد ركنت على الجنة فما بقيت تخاف الموت، فيقول: أنا أخوفكم من النار، وطلع من العسكر قدر أربعمائة، وطلع حفيظ موضعاً منيعاً، وصار الإمام عليه السلام في أوساط القوم، وما معه إلا أصحابه، فأمرهم بأخذ ما كان لهم، وأخذ عليه السلام قوساً كانت له، ولحق بأصحابه وقال لأصحابه: قد فعلنا ما أمكننا، ولزم لهم الطريق قوم من قدم، فقرب منهم عليه السلام بنفسه، في مكان ضيق لا يجوز فيه إلا الرجل الواحد لضيقه، فرموه بالحجارة و هو لا يظهر الريبة منهم، ومد يده عليه السلام فسلموا عليه ولاطفهم وسالمهم، وسألهم عن شأنهم، ومضى بأصحابه عنهم سالماً، ونحو ما هو مشهور معروف، يوم هران وهو واد طويل وقف لهم فيه البدو، وهم رماة فانهزم أصحابه عنه فلزم على أعقابهم وهو يحمل على العدو، وتطلع فرسه في عرض الجبل وتعمدوه بالرمي لما شغلهم عن أصحابه فما أصابه شيء من ذلك، ولا أصاب فرسه، وكان حاسراً لا عدة على رأسه، فقال في بعض قصائده:

وفي يوم هران ألم أحم حاسراً

 

ذوي الزرد الموضون يوماً مبهما

ولما لم يتمكن عليه السلام من لبس الدرع قال: اللهم لا درع إلا سترك، ولا........إلا نصرك، فستر الله عليه، وحمى أصحابه، وسلموا بصبره وإبلائه، ونصر الله له، وراح العسكران ينشران حق ذلك المقام وهو في نفسه لا يعده شيئاً.

وله عليه السلام دخول صنعاء بعد تفرق العرب عنه، وقلة الأصحاب معه، فتقدم إليها مع العجم باذلاً نفسه في سبيل الله، على صعوبة الحال، وقلة أهل البصائر، وعدم المعين، وذلك حيث يقول عليه السلام:

أقلب طرفي أهل أرى العرب جهرة

 

 

فلم أرى إلا أعجمياً مهمهما[195]

سوى نفرٍ شم الأنوف غطارف

 

 

رأوا خلطهم للنفس بالنفس أكرما

فوصلها وقد انهزم إسماعيل عنها في أربعمائة فارس، فحط الإمام شامي مسجد الحرة، وأراد الدخول فمنعه أهل صنعاء لفرقة كانت بنيهم، واختلاف أعراض، فعاد إلى محطته وصلى بأصحابه الظهر والعصر، ثم أتاه جماعة من أهل صنعاء لما تحققوا وصوله، يستدعونه للدخول، فركب في أصحابه، واختلف أهل البلد في دخوله بين كاره وراض، فينما هم كذلك إذ دخل شمس الخواص من باب الخندق الأعلى فتفرقوا في الحال خوفاً منه، وأخذوا مفتاح الباب ففتحه بعض أصحاب الإمام عليه السلام بكسرة من عود من نشاب كما قدمنا ذلك، فدخل الإمام عليه السلام وأمر بإخراج من في الحبوس، وكانوا قريباً من خمسمائة، وأغاثهم الله به مما هم فيه، وتقدم إلى المسحد الجامع، وتقدم شمس الخواص لقصده إليه، فأحاطوا به، فتفرق من كان مع الإمام عليه السلام إلا مقدار خمسة عشر رجلاً، فصلى بهم المغرب، ودعا إلى الله تعالى بتعجيل...........، فكان ذلك إلا يسيراً حتى تفرقوا بأسرهم، فتنكر عليه السلام وخرج فدخل داراً فأمسى فيها، فلما صلى الفجر تفأل في المصحف فظهرت سورة يوسف عليه السلام فعلم أن الفرج يكون من الله، فلما أصبح اجتمع إليه عساكر الغز مخالفهم وموالفهم، وقد تفرق عنه أصحابه، فبرز إليهم عليه السلام، ثم نزل عن فرسه ودعاهم إلى البيعة على شدة الخطر، وعظم الحال، فألقا الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا عن خيلهم وبايعوه، وأيديهم ترتعد، وخفقت القلوب خوفاً عليه منهم، فلما انقضت البيعة وتمت موعظته لهم، بعد ابلاغها وانطوائها على الكلام البليغ، الذي تعجز الألسن عن مثله في ذلك المقام، نشر المناشير لشمس الخواص وأصحابه، واستمر الأمر ونفذت الأحكام، وأقيمت الحدود، واهريقت الخمور في المدينة حتى جرت كالسيل، ثم كذلك مقامه المحمود المعروف بذمار مع  الغز وظفره بهم، وأخذه البيعة عليهم، وغير ذلك مما يطول ذكره، وتحرجنا عن الغرض لسعته مع اشتهار مناقبه عليه السلام في أهل الزمن لقرب عهده وظهورها.

وتوفى عليه السلام يوم الخميس لاثني عشر يوماً من شهر المحرم سنة أربع عشرة وستمائة بكوكبان، وكان في غاية التجلد والصبر على المرض لقوة يقينه، حتى أنه يروى أنه كان في حال النزاع الشديد وهو مجتب بثوبه حتى فاضت نفسه، وهو كذلك رضوان الله عليه، ثم نقل عليه السلام إلى بكر فأقام فيه مدة، ثم نقل إلى الموضع الذي قد صار منسوباً إليه، ودفن فيه فرضوان الله عليه وسلامه.

وله عليه السلام في معنى كتابنا هذا ما يشفي غليل الصدر، ويوضع لأهل البصائر ما التبس من الأمور، ونحن نذكر من ذلك طرفاً يدل على غيره مما لم نذكره، وهو موجود لطالبه بحمد الله ومنه.

قال عليه السلام في كتاب شرح الرسالة الناصحة: انظر أيدك الله بفكر ثاقب كيف يسوغ لمسلم انكار فضل قوم تبدأ بذكرهم الخطب، وتختم بذكرهم الصلاة، حتى لا تتم صلاة مسلم إلا بذكرهم، وذكرهم مقرون بذكر الله سبحانه، وذكر رسول الله صلى الله عليه وعليهم، أين العقول السلمية، والأفكار الصافية من هذا.

وقال عليه السلام[196]: هم أعلام الدين، وقدوة المؤمنين، والقادة إلى عليين، والذادة عن شرخ الإسلام والمسلمين، وبهم أقام الله الحجة على الفاسقين، ورد أعداء الدين، وهم القائمون دون هذا الدين القويم، حتى تقوم الساعة ينفون عنه شبه الجاحدين، وإلحاد الملحدين، وفي ذلك ما روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين أنه قال: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) فكما أنا نعلم أنه لا يجوز أفول نجم إلا بطلوع نجم آخر حتى تقوم الساعة نعلم أنه لا يمضي منهم سلف صالح إلا عقبه خلف صالح، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وآله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فمعنى الآية والله اعلم: أن الله جل ذكره جعل في كل وقت من أهل بيته صلى الله عليه وآله هادياً لقوم ذلك الوقت، وقد روينا عن أبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من كان في قلبه مثقال حبة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي لم يرح رائحة الجنة)) ولا نعلم لهم أشد عدواة ولا أعظم مكيدة لدين الله ونبيه صلى الله عليه وآله ممن أنكر فضل عترته، وساوى بينهم وبين غيرهم.

وقال عليه السلام: ولا يرد الحوض إلا من خلصت مودته لهم، ولا تخلص مودة من أنكر فضلهم، وجحد حقهم، وساوى بينهم وبين غيرهم، كيف يكون شيعياً لآل محمد عليه وعليهم السلام من أنكر فضلهم، وجحد حقهم، وقيس العلم بزعمه من غيرهم.

وقال عليه السلام في الجواب الكاشف للإشكال والفرق بين الشيع والاعتزال: وسألت عمن يرضي عن الخلفاء، ويحسن الظن بهم وهو من الزيدية، ويقول: أنا أقدم علياً عليه السلام، وأرضى عن المشائخ ما يكون حكمه، وهل تجوز الصلاة خلفه؟

والجواب عن ذلك أن هذه المسألة غير صحيحة، فيتوجه الجواب عنها؛ لأن الزيدية على الحقيقة هم الجارودية، ولا نعلم في الأئمة عليهم السلام بعد زيد بن علي عليه السلام من ليس بجارودي وأشياعهم كذلك، وأكثر ما نقل وصح عن السلف هو ما قلنا عن تلفيق واجتهاد، وإن كان الطعن والسب من بعض الزيدية ظاهر، وإنما هذا رأي المخلصين، وإنما هذا قول بعض المعتزلة يفضلون علياً عليه السلام، ويترضون عن المشائخ، فليس هذا يطلق على أحدٍ من الزيدية؛ لأنا نقول قد صح النص على أمير المؤمنين عليه السلام من الله ومن رسوله صلى الله عليه وآله، وصحت معصية القوم وظلمهم وتعديهم لأمر الله سبحانه، وإن كانت جائزة المعصية والترضية، فما أبعد الشاعر في قوله:

فويل تالي القرآن في ظلم

 

الليل وطوبا لعابد الوثن

ومن حاله ما ذكرت لا يعد في الزيدية رأساً، وإنما هذا قول لبعض المعتزلة، وصاحب هذا القول معتزلي لا شيعي، ولا زيدي.

وقال عليه السلام: منكر فضل أهل البيت عليهم السلام يشارك قتلة زيد بن علي عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم في سفك دمائهم، ووزر قتالهم؛ لأن علة قتالهم لزيد إنكار فضلهم، وفضل أهل بيته صلوات الله عليهم، وما أوجب الله على الكافة من توقيرهم والرجوع إليهم، وأخذ العلم عنهم، والجهاد بين أيديهم.

ومن كلامه عليه السلام في كتاب حديقة الحكمة في شرح التاسع عشر من الأخبار السيلقية قوله: فأما حب الرفعة فقد هلك فيه قوم كثير، والله بما يعملون بصير، ألم تسمع إلى قول الأنصار في معنى الافتتان برفعة الدنيا والحب لشرفها، وذلك لما قتل سعد بن عباد بسهمين رمي بهما في الليل وقد خرج لقضاء حاجته ليلاً[197] وزعم بعض من زعم أنه سمع من الجن قائلاً يقول:

قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده

 

 

رميناه بسهمين فلم نخط فؤاده

فقال في ذلك بعض الأنصار: وكان سعد قتل مغاضباً لأبي بكر ممتنعاً من بيعته، وروي عنه أنه قال: لما رأينا قريشاً عدلت بالأمر عن أهله، طمعنا فيه في قصص طوال، فقال بعض الأنصار في ذلك يعرض بأبي بكر في ذلك وأنه:

يقولون سعد شقت الجن بطنه

 

ألا ربما حققت فعلك بالعذر

وما ذنب سعدٍ أنه بال قائماً

 

ولكن سعداً لم يبايع أبا بكر

لئن صبرت عن فتنة المال أنفس

 

لما صبرت عن فتنة النهي والأمر

لم يصبر عن رفعة النهي والأمر، وشرف الرئاسة.

وقال عليه السلام: واعلم أن من تأمل أدنى تأمل في أحد الأدلة فضلاً عن مجموعها، إما في دلالة العقل أو في كتاب الله سبحانه، أو في سنة الرسول، أو في إجماع الأمة أو العترة، أو تتبع أقوال الأئمة عليهم السلام، علم صدق ما قلناه، ولكن أين من يترك يصل إلى ذلك ويمنعه من ذلك إيجاب الرجوع إلى الشيخ.

وقال عليه السلام: أمر النبي صلى الله عليه وآله أمته باتباع العترة المطهرة، فخالفوه في ذلك، ولهم أتباع في كل وقت يقتفون آثارهم في خلاف العترة الطاهرة حذوا النعل بالنعل، بل قد تعدوا ذلك إلى قالوا هم أولى بالحق، واتباعهم أوجب من اتباع هداتهم، فردوا بذلك قول النبي صلى الله عليه وآله: ((قدموهم ولا تقدموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشمتوهم فتكفروا)) وهذا نص في موضع الخلاف.

وقال عليه السلام في الشافي: قال الله تعالى تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فالمنذر رسول الله صلى الله عليه وآله، والهادي هو الإمام من ذريته الطاهرة.

وقال علي عليه السلام في ذم من يفرق بين الأئمة: ألم تعلم أن المفرق بين العترة الهادين، كالمفرق بين النبيين.

وقال عليه السلام: كيف تخالف الذرية أباها، وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستقامة بقوله: ((إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).

وقال عليه السلام: اعلم أن كافة أهل البيت الطاهرين، ذرية خاتم النبيين صلى الله عليه وآله يدينون ويعتقدون أنه لا نجاة لأبي بكر وعمر وعثمان إلا بخلوص ولايتهم فيهم؛ لأن الله تعالى أوجب محبتهم على جميع المكلفين وهم منهم، ولآثار روينا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)).

وروي فيه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من ناصب علياً في الخلافة بعدي فهو كافر، وقد حارب الله، ومن شك في علي فهو كافر)).

وقال: ((ويل لأعداء أهل بيتي، المستأثرين عليهم، لا نالتهم شفاعتي، ولا رأوا جنة ربي)).

وقال فيه أيضاً: ولما قبض رسول الله صلى الله عليه مرضي الفعل، مشكور العمل، قد أنقذ الخلائق من شفا الحفرة، ونجاهم من بحار الهلكة،[198] واصفى عليهم سنن الإسلام الحسن الجميل، لم يبق عنق مكلف إلا فيه له صلى الله عليه وآله منه الهداية والمنة لله تعالى، كأمر فاطمة عليها السلام المرضية، والنسمة الزكية، والجمانة النحرية، والياقوتة المضية، ما من النزاع في أمرٍ الإرث وبعد ذلك في أمر التخلية لفدك وغيره ما شاع في الناس ذكره، وعظم على بعضهم أمره، حتى قال قائلهم: وما ضرهم لو صدقوها بما ادعت، وماذا عليهم لو أطابوا جناتها، وقد علموها بضعة من نبيهم، فلِمَ طلبوا فيما ادعته بيانها، فمرضت سراً، ودفنت ليلاً، وذلك بعد دفع الوصي عن مقامه، واتفاق الأكثر على اهتضامه، فتجرع أهل البيت عليهم السلام الرزية، وصبروا على البلية، علماً بأن لله داراً غير هذه الدار، يجبر فيها مصاب الأولياء، ويضاعف لهم في المسار، وهي دار الدوام ومحل القرار، ويضاعف على الأعداء الخزي والبوار، ويخلدون في أنواع العذاب التي أحدها النار.

وقال عليه السلام في الجواب الكاشف للإشكال في جواب سائل سأله عن قتلة عثمان، والجواب في ذلك أنا نتوالى قتلة عثمان، ونقضي بجواز فعلهم، إذ لو كان محظوراً لوجب على أمير المؤمنين عليه السلام إنكاره، وعلى الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا لا يخلون بواجب؛ لأنهم قدوة معصومين عند الاتفاق، وعلي عليه السلام معصوم، لو كان منفرداً.

ثم روى عليه السلام في موضع آخر في هذا الجواب من أحداث عثمان قال عليه السلام: ولم يبق وجه من الصحابة إلا أساء إليه عثمان علي عليه السلام في المسجد، فرفع العصى وضربها علياً عليه السلام، فتلقاها بيده وانتزعها من عثمان وأراد ضربه بها، فلزمه بعض الصحابة، وطرد أبا ذر بعد الأذية إلى الربذة، ومنع من تشييعه، وأمر بضرب عبد الله بن مسعود فضرب وأخرج من المسجد، وقال للمقداد: لقد هممت أن أردك إلى مواليك، فقال: لا والله لا قبضت لك عطاء أبداً وهجره، ولما مرض أوصى لا يصلي عليه عثمان، فأمر عثمان من سأله عن حاله فقال له: إني هممت أن أرجع إلى موالي وتلى: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} ولما مات تبادر جلة الصحابة إلى جنازته، وراموا دفنه قبل اتيان عثمان فجاء عثمان وهم يحملونه، فنزل ودخل بين العمودين يحمل وهو يترحم وهو يقول: رحمة الله عليك أبا عبد الله، فتمثل طلحة من جانب السرير:

لأعرفنك بعد الموت تندبني

 

 

وفي حياتي ما زودتني زادي

فقال عثمان: رحمك الله أبا محمد، ما كنت أحب أن أسمع منك مثل هذا، قال: ولا كنت أحب أن يموت أفاضل الصحابة واحداً بعد واحد وكلهم عليك غضبان، إلى غير ذلك مما عده عليه السلام.

ثم ذكر أن المعتزلة يتعذرون له بأعذار كثيرة، ثم قال عليه السلام: ولكنا لا نعتمد إلا ما قلنا، ونحن نتمكن من نقض أعذارهم التي اعتذروا بها، بفعل المعصوم الذي لا إشكال في عصمته، وهو أنه شهد قتل الرجل فما نهته عنه بكلمة واحدة، وهو يسمع الهايعة في داره، وقتل فأقام ثلاثة أيام مطروحاً ما أمر بدفنه، ولا بالصلاة عليه، ومنع من القبر في مقابر المسلمين، بمشهد أمير المؤمنين عليه السلام، ومشهد الصحابة أجمعين مهاجريهم وأنصارهم، فقبر في حشر كوكب مقبرة اليهود بلا خلاف في ذلك، إلى غير ذلك مما ذكره عليه السلام.

وقال عليه السلام: لو لم يتقلد الأمر أبو بكر ما تأهل له عمر، ولو لم يتقلد عمر ما طمع فيه عثمان، ولولا تقلد عثمان لم يطمع[199] فيه معاوية، ومن تبعه من جبابرة بني أمية، ولولا أخذه جبار بني أمية ما تقلده بنو العباس.

وحكى عليه السلام كلام فاطمة عليها السلام مع نساء المهاجرين والأنصار الذين عرضت فيه للمشائخ بقول الله سبحانه: {بِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} وقد قدمنا في صدر كتابنا هذا بعض قوله عليه السلام في هذا الموضع، وقول فاطمة عليها السلام الذي رواه عنها.

ثم قال عليه السلام عقيب حكاية قولها: فهذا كلام فاطمة عليها السلام الذي لقيت عليه الله سبحانه، قلم تتعد طريقة من تحب إلا اقتدا به من الآباء والأمهات عليهم السلام، ومن شعره عليه السلام في معنى ما نحن فيه قوله عليه السلام:

فعد عن المنازل والتصابي
فيالك موقفاً ما كان أسنى

 

وهات لنا حديث غدير خم
ولكن مر في آذان صم

 لقد مال الأنام معاً علينا

 

كأن خروجنا من خلف ردم

وقوله عليه السلام:

أرى الناس من بعد يوم الغدير
فلم قدموا شيخ تيم عتيق

 

سوا سيلة ليلهم أغدرا
ولِمَ أخروا الهاشمي حيدرا

 فلا تعجبن فإن الخطوب

 

ترى ما يرى أنه لا يرى

وقوله عليه السلام:

أأرضى أن يكون أبا حسن
معاذ الله ليس يكون هذا

 

رباعي وفي كفي حسامي
ولما تحتسي جوع الروامي

وقوله عليه السلام:

أيها الطالب ملكاً لم تصب
لو وعوا ما قيل في أربابها

 

أن فيه الهلك فاسأل من خبر
لم يقلدها أبو بكر عمر

 قد عرفوا طرق التقديم لو عرفوا

 

لكنهم جهلوا وجهل ضرر

وقوله عليه السلام في الرسالة النافعة الأبيات التي أولها، وقد قدمناها وقوله عليه السلام:

قالوا الرضي رباعي فقلت لهم

 

 

ثاني الرسول بلا مين ولا فند

وقوله عليه السلام:

كم بين قولي عن أبي عن جده

 

 

وأبو أبي فهو النبي الهادي

وفتا يقول لنا روى أشياخنا

 

 

ما ذلك الإسناد من إسنادي

وقال عليه السلام في دعوته إلى أهل اليمن: لست بجبري ولا رافضي، ولا قدري ولا معتزلي، ولا مرج غال ولا ناصب.

قال: وقال عليه السلام في كتاب الشافي بعد كلامه في إمامة علي عليه السلام: وقد حرى في أمر إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ما في بعضه الكفاية[200] فمن نظر بعين البصيرة، وانقاد لحكم الضرورة، فإنه أولى الخلق بالخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن إمامة من تقدمه من أبي بكر وعمر وعثمان على غير أساس من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وآله، وقد كان هذا الإمام المنصور بالله عليه السلام شمس دهره، ووحيد عصره، أحيا معالم الدين وقمع جبابرة المعتدين، وشيد مذهب آبائه الطاهرين الطيبين، وعبد الله حتى أتاه اليقين، ولما اختار الله له ما عنده زلزلة لمصابه أركان الإٍسلام، وتصدعت له قلوب آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وانقصمت ظهور كافة المؤمنين من بني الأنام، وأضحى أهل عصره عمي في ريبهم يتحيرون، يضلل بعضهم بعضاً، ويرميه بالعداوة والبغضاء إلا من عصمه الله وأيده، ووفقه وسدده، وقليل ماهم، فإلى الله تعالى نشكوا فقد إمامنا، وانقلاب بني أيامنا، واقبال نواجم الفتن، وتأجج نيران المحن، واختلاف القلوب المؤتلفة مع قلتها وما تلقاه هذه العترة من أمتها، فهو تعالى أولى بنصر دينه، وقمع الباطل وشياطينه، ولقد كان من أعظم الحوادث، وأجل الكوارث ما ظهر في هذه العصبة الزيدية التي هي كنانة آل الرسول باليمن، وشيعتهم في هذا الزمن، من تظاهر بعضهم بتقديم المشائخ على أمير المؤمنين، وأخي رسول رب العالمين، وإشراك قريش في وراثة الآل، والتبجح في ذلك بأقوال أهل الاعتزال، وشفع ذلك اغضاء علماء العترة النبوية، وتغافل سادات الذرية العلوية، وجنوح متكلمي الزيدية، إلى استماع هذه الأذية، مع شدة وطأتهم وقوة حدتهم، واتباع المطهرين، وأولياء سفن النجاة المهتدين الهداة، ولعمر الله أن ذلك بعد مهلك الإمام المنصور بالله عليه السلام المسود للقلوب، ومضاعف للكروب، فنسأل الله عصمة كافية، واستقامة شافية إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وقد تقضى عدد الأئمة
أخي الرسول وسراج الظلمة

 

مكملاً فضل إمام الأمة
والفارس الكاشف عنه الغمة

هؤلاء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، من لدن أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى يومنا هذا، وقد ذكرنا من أخبارهم زبدة نقلناها إلا القليل منها من كلام المنصور بالله عليه السلام، وكذلك من عاصرهم من أئمة الضلال، وقدوة الجهال، تبركاً باقتفاء أثره، واكتفاء بضبطه وجودة نظره رضوان الله عليه.

وإن عددت ولد الجماعة
إلى الهوى ويؤثر اتباعه

 

رأيت فيهم من يمد باعه
ويجعل الغي له بضاعة

فهل ترى محتدهم كمحتده
أو هل ترى أولادهم كولده

 

أو هل ترى مشهدهم كمشهده
وقد ترى الفضل جميعاً بيده

 قد أريناك أيها الطالب النجا، أئمة الضلال من قريش، ولهم أشكال من أولاد المشائخ الذين هم الطبقة العليا من أولادهم، مع قرب العهد بالرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وشدة وطأة الإسلام[201]، فأما من عدا الطبقة العليا منهم كالحسن والحسين ومحمد عليهم السلام، وإخوانهم كانوا النهاية في العلم والصلاح والفضل، لا يعلم منهم مائلاً عن طريق الحق، ذلك الفضل من الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ثم من بعدهم من أئمة الهدى إلى يومنا هذا، هم هداة الأنام، وحماة شرخ الإسلام، وشموس الدنيا والدين، وسبيل السلامة إلى رب العالمين، صلوات الله عليهم أجمعين، فمن أولاد المشائخ عبد الرحمن بن أبي بكر فيه نزل قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} وكان على الشرك والتكذيب بالقيامة يدعو أبويه إلى الشرك وهما يدعوانه إلى الإسلام، وعبد الله بن حمزة تخلف عن بيعة أمير المؤمنين علي عليه السلام، ثم جاء إلى الحجاج بن يوسف يطلب منه البيعة لعبد الملك بن مروان، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)) فتطايش به الحجاج، وقال: يدي مشغولة فبايع رجلي فبايع رجله، فلما خرج قال الحجاج: انظروا إلى هذا الخرق تأخر عن بيعة علي عليه السلام وجاء يبايعني عند عبد الملك بن مروان.

روينا هذه الجملة سماعاً من كتاب المراتب، وفي رواية أخرى فكتب الحجاج بذلك على عبد الملك بن مروان، فأمر له بعشرة آلاف وعبيد الله بن عمر قاتل علياً عليه السلام، وكان من أتباع معاوية وأنصاره بصفين، روى ذلك الطبري في تأريخه، ولما قتل أبوه جرد سيفه، وقتل ابن أبي لؤلؤة.............، وهو رجل أعجمي بغير ذنب وقال: لا أدع أعجمياً إلا قتلته، فأراد أمير المؤمنين علي عليه السلام قتله فهرب إلى معاوية، وشهد صفين معه هناك، وقتل هناك، وأبو شحمة بن عمر ضربه أبوه الحد على شرب الخمر وعلى أمر آخر.

وروي أنه كان يجلده وهو يقول: يا أبتاه مت، فيقول: مت إلى أن مات، وأبان بن عثمان شهد الجمل مع عائشة، وخالف أمير المؤمنين، وسعيد بن عثمان كان عاملاً لمعاوية ثم عزله معاوية، وأقبل برهن كانوا في يده، وألقاهم في أرض كانوا يعملون فيها بالمساحي، فأغلقوا يوماً باب الحائط، ووثبوا عليه فقتلوه، والوليد بن عثمان كان صاحب شراب وقنوة، وقتل أبوه وهو محلق في حجلته، وهذه الجملة التي من ورا قولنا كتاب الطبري منقولة له من كتاب المعارف لابن قتيبة، وهو ممن يميل إلى المشائخ ويصوبهم ويقدمهم.

وروى أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري أن أبا لؤلؤة عندما قتل عمر قال عبد بن الله بن عمر: هذا لم يقتل أبي إلا بأمر مولاه هرمز وهرمز هذا من ملوك فارس، وكان عمر قد عزم على قتله، فقال له هرمز: تأمر لي بشربة ماء فلما صار الكوز في يده قال له: أنا في ذمة الله وذمتك حتى أشرب هذا الماء الذي في هذا الكوز، قال له عمر: نعم، فضرب بالكوز الجدر فانكسر، وكان زجاجاً واستراق الماء، وعزم عمر على قتله فقال له أمير المؤمنين: لا يجب لك لأنك أمنته من القتل حتى يشرب الماء الذي في الكوز وهو لم يشربه، فقال عمر: خدعني، فقال له علي: كنت لا تنخدع له، فأسلم هرمز على يدي على فلزم مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتكف فيه وحسن إسلامه حتى قتله عبد الله بن عمر، فلما قتله عبيد الله بن عمر بلغ الخبر إلى علي عليه السلام فأخذ السيف وخرج في طلب عبيد الله فهرب منه إلى معاوية، فقتله علي عليه السلام بصفين[202] ولم يطلب عليه السلام قاتل عمر أبا لؤلؤة ليقتله، وكذلك لم يطلب قتله عثمان ليقتلهم.

وذكر أحمد بن موسى أنه يسمى هرمز، وفي غير هذا الحديث أنه الهرمزان، وذكر الثعلبي في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} بالإسناد، قال الثعلبي: قال ابن عباس رضي الله عنه وأبو العالية، ومجاهد والسدي: نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر.

وقيل: في عبد الله بن أبي بكر قال له أبواه: أسلم وألحا عليه في دعائه إلى الإيمان، فقال: أحيوا لي عبد الله بن جدعان، وعامر بن كعب، ومشائخ من قريش حتى أسألهم عما يقولون، فأين المساواة بين أولاد الجماعة هيهات ما أقبح الجهل بضاعة، أين هؤلاء من سيدي شباب أهل الجنة، ورضيعي الكتاب والسنة، يابعدهم عن هؤلاء المذكورين آنفاً من أئمة الهدى، وشموس التقى، وحماة الإسلام والمسلمين، والطيبين لأهل الدنيا والدين، وإذ قد أتينا على بيان جمل من أحوال الفريقين من الآباء والأبناء، وذكرنا ما ظفرنا به، وقت تأليف هذا الكتاب من أقوال أهل البيت عليهم السلام، ومن لم نظفر له منهم بقول في القول مفصل فقوله كقول آبائه في الجملة، وهم متأولون عليه، وبعضهم ينسج على منوال بعض، وهم بين مكفر للقوم مفسق، ومهلك مضلل، وقد قدمنا ذلك مفصلاً.

واعلم بعد ذلك أن المخالف لنا من المعتزلة ولآبائنا عليهم السلام لا يخلو أن يقول بأن الأئمة من لدن محمد عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان ثم علي عليه السلام، ثم أبناؤه الذين عددناهم إلى وقتنا، فيكون قد جمع بين الأضداد، وقرن بين الصلاح والفساد، وكيف يعتقد صحة إمامة قوم يقولون في أئمته الثلاثة ما قد سطرناه من الأقوال القاصمة للظهور، ومن الظاهر الجلي إجماعهم على أنهم ليسوا بأئمة، وأنهم ظالمون لأمير المؤمنين فيما أتوه، ومتعدون عليه، وهل يجتمع أولياء الله وأعداؤه، وقد أسمعنا قول الإمام المنصور بالله حيث سأله السائل عمن رضي عنهم، ويقول بإمامة علي مقدماً عليهم، حتى قال عليه السلام: وإن كانت جائزة المعصية والترضية فما أبعد الشاعر في قوله:

فويل تالي القرآن في ظلم

 

الليل وطوبا عابد الوثن

أو يقولون بأن الأئمة هم الثلاثة، ثم معاوية فمن بعده من أئمة الضلال إلى يومنا هذا، فيكون قد خلع من ربقة الإسلام، وانتظم في سلك المعاندين الطغام، أو تقول الأئمة من قريش على سبيل الجملة، وليسوا بها ولا هؤلاء ولا أدا ذلك إلى انقضاء التكليف، ومقارنة انقضائه بغير إمام، وخرج بذلك عن حوزة الإسلام، أو يقول بأن الأئمة حقاً في حينه الثقلين الذين أمننا الرسول عليه السلام من افتراقهما إلى ورود الحوض عليه، وأن أولهم بعد الرسول بلا فضل هو إمام المتقين، وأخو رسول رب العالمين علي عليه السلام، ثم أولاده المطهرون المذكورون في كتابنا هذا، فقد اهتدى وأفلح، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، ونحن الآن متكلمون في الموضع الرابع مما وعدنا به في كتابنا هذا بمشيئة الله وعونه، وهو في إبطال حجج المخالفين على إثبات إمامة القوم، وفساد شبههم على حسب الاختصار والانجاز، وعمدة أمرهم إنما هو إمامة أبي بكر إن ثبتت، فلذلك نبدأ بالكلام عليها[203] ونجعل ذلك الأصل، فإن أساس البيان إذا انهدم انهدم بعده ما تفرع عليه وبالله التوفيق، وبيده الحول والقوة.

وإن تقل فإنهم قد أجمعوا
فهو الإمام قيل فيهم فاسمعوا

 

على عتيق كلهم واتبعوا
إن لم يكن ثم دليل يمنع

قلنا فأين تلكم المشاجرة
اختلف الأنصار والمهاجرة

 

والاختلاف والأمور الظاهرة
وطلب الأمر العرب الحاضرة

وليس في اختلافهم إنكار
لعقدهم ولاية أشاروا

 

لوم يكن من هاشم حضار
بل كرهته العصبة الأخيار

اعلم أرشدك الله أيها الطالب للحق، والمبتغي للرشد أن للمخالفين شبهاً كثيرة، فمنها ما قد دخل في ضمن الأدلة المتقدمة في أثناء الكتاب، ودخل الجواب عنه، ومنها شبهة لم نذكرها بعد، ونحن نذكر عمدها، والأكثر منها شيئاً شيئاً، ونتكلم عليها إن شاء الله تعالى.

شبهة: قالوا إن الصحابة أجمعت على إمامة أبي بكر وبايعوه واتبعوه، ولم يكونوا ليجمعوا على الخطأ.

والجواب عن ذلك أنه لا إجماع من جميعهم على إمامته بل تنزيههم عن الإجماع على إمامته أولى، لما بيناه من الأدلة القاطعة على أن الإمام هو علي عليه السلام دون أبي بكر ودون صاحبيه، فلو أجمعت الصحابة على ذلك لكانت قد أجمعت على خلاف الله تعالى، وخلاف رسول الله صلى الله عليه وآله، بل هذه الدعوى باطلة؛ لأن ذلك لو وقع منهم لكان إجماعاً على الخطأ، وإجماعهم على الخطأ لا يجوز، فوجب أن يتأول جميع ما يشتبه على من لا بصيرة له من وقوع الإجماع على موافقة أدلة الكتاب والسنة؛ لأنها معلومة، والقول بهذا الإجماع يؤدي إلى بطلانها، وبطلانها محال لا سيما مع ما عرف أن الأصل هو الإجماع، ومدعيه يحتاج إلى بيان أن الصحابة أجمعوا على إمامة أبي بكر قولاً ونصاً من غير تنازع، أو فعلاً، أو تقديراً مقروناً به العلم بالرضى من كافتهم، وهذا مما يبعد ويتعذر العلم به والمعرفة له مع ما يروى في تلك الأيام مما قد بينا منه بعضاً في صدر كتابنا هذا، وفي اثنائه إلى هذا الحد، ومما  نبينه الآن إن شاء الله تعالى، وسواء جعل هذا بنفسه وجهاً في بطلان إمامة أبي بكر وحده، أو جعل مسند إلى أن الإجماع على إمامته في  الأصل هنالك، فإنه دليل ثابت.

ثم اعلم أن ما يدعي المخالف من الإجماع باطل، فإن المعلوم المشهور من حال الصحابة لمن عرف الأخبار، واقتص السير والآثار، أن المختلفين عن البيعة يوم السقيفة هم علماء الصحابة، وأعيان الإمامة الذين يرجع إليهم في الأمور المهمة من فتوى وغيرها، وأهل الورع والجد والاجتهاد من المهاجرين والأنصار، وأرباب الجهاد مع الرسول عليه السلام، والمتخلفون الذين أشرنا إليهم، منهم إمام المتقين وسيد المسلمين، وأمير المؤمنين عليه السلام، والسابق إلى الخيرات، والمتقدم إلى الغمرات، وعمه العباس بن عبد المطلب، وجميع بني هاشم، فإنه لا خلاف أنهم ما حضروا السقيفة[204] ومنهم الزبير بن العوام، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وعبدالله بن مسعود، وخالد بن سعيد، وأبو الهيثم بن التيهان، وأبي بن كعب، وسهل بن حنيف، وأبو بردة الأسلمي، خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبو أيوب الأنصاري، وحذيفة وبلال بن حمامة، وكذلك أسامة ومن بقي معه من عسكره، وعمرو بن سعيد بن العاص في بعض الروايات، وعثمان بن حنيف في بعضها، ومنهم سعد بن عبادة، وقيس بن سعد بن عبادة، وجميع عشيرة سعد من الخزرج، وأهله، فكيف يصح دعوى الإجماع مع تخلف هؤلاء، ولولا بقي واحد من علماء الصحابة لما صح معه إجماع، فكيف بأكثر علمائهم، وكيف يتصور أو يعقل وقوع إجماع خرج عنه إمام الهدى، ووصي رسول الله صلى الله عليه الذي لا ينكر سابقته وفضله وعلمه، إلا من خلع دين محمد عليه السلام من عنقه، وذهب متبعاً رسن حمقه، واشتهار تخلف هؤلاء المذكورين كاشتهار وقوع بيعة من بايع أبا بكر مع أنا لو قدرنا مثلاً أن تخلفهم لم يشتهر كاشتهارها، بل هو مروي بأخبار الآحاد لم يصح إجماع معلوم مع ذلك؛ لأن أخبار الآحاد توجب الظن، ومع الظن والتجويز لا يثبت القطع على وقوع الإجماع، وحجة المخالف على إمامة أبي بكر بن عمه، هو وقوع القطع على الإجماع، وهذا مما لا سبيل إليه، بل من تأمل وقوع بيعة السقيفة ممن بايع عرف أن ذلك أمر لم يكن عن رأي وبصيرة، بل كان إيثار للهوى لما كان فيه من المبادرة والعجلة، والحمية والمناقسة في الدنيا، والسبق لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإخراج هذا الأمر عنهم، واغتنام فرصة اشتغالهم، وأن ذلك لم يكن عن اتباع حجة، ولا كان لشبهة وردت سوىطلب الإمارة والمنافسة في الدنيا، فإن أحاديث الموالف والمخالف لمن تأملها قاضية بذلك.

وروى ابن جرير في تأريخه على اجتهاده في تحسين الظن بالقوم أن الناس لما اجتمعوا إلى سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، بلغ ذلك أبا بكر فأتاهم وعمر معه، وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هو؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء، ثم قال أبو بكر: إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة، إلى أن قال: فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار: لا نبايع إلا علياً، وهذا دليل على أن الصحابة لم يجمعوا، فكيف يصح ذلك مع خروج الأنصار مع علي عليه السلام، ومن قدمنا ذكره أولاً، وذكر الطبري أن الناس لما بايعوا بعد عمر استثنوا البيعة، ولا شك أنهم إذا استثنوا بيعة من بقي من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم لم يبايع علي عليه السلام وحده، أو هو ومن تقدم ذكره فلا بيعة لمن بايع مستثنياً لهذا الشرط.

وروى الطبري في تأريخه أيضاً بالإسناد أن عمر لما علم أن قائلاً يقول: لو قد مات أمير المؤمنين يعني عمر لقد بايعت فلانا في قصة طويلة ذكر فيها، أن عمر صعد المنبر وخطب خطبة وحمد الله فيها، وأثنى عليه وذكرها إلى قوله: ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: قد مات أمير المؤمنين بايعت فلاناً، فلا يغرر أحد أن يقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة فقد كانت[205] كذلك غير أن الله وقا شرها، ثم ذكر قصة أبي بكر فقال على المنبر: إن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة، وتخلفت عنا الأنصار بأسرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم، فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدراً، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟

قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار.

قالا: فارجعوا فاقضوا أمر نبيكم.

فقلت: والله لنأتينهم، فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة، وإذا بينهم رجل مزمل، قلت: من هذا؟

قالوا: سعد بن عبادة.

قلت: ماشأنه؟

قالوا: وجع، فقام رجل فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم معاشر قريش رهط منا، وقد زفت إلينا قومكم زافة فلما رأيتهم يريدون أن يخنزلونا من أصلنا ويغصبوننا الأمر، وقد كنت رددت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الجد، وهو كان أوقر مني وأحلم، فلما أردت أن أتكلم، قال: على رسلك، وكرهت أن أغضبه، فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئاً كنت أردته في نفسي أن أتكلم به إلا أجابه أو بأحسن، فقال: أما بعد يا معاشر الأنصار، فإنكم لا تذكرون منكم فضلاً إلا أنتم أهله، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، أوسط داراً ونسباً، وإني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، إلى أن قال: فقام رجل منهم فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير، يا معاشر قريش، قال: فارتفعت الأصوات، وكثر اللغط، فلما أشفقت من الاختلاف قلت لأبي بكر: ابسط يدك نبايعك فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون والأنصار، لم نزونا على سعد حتى قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعداً إلى قوله: خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نبايعهم على ما لا يرضى أو نحالفهم فيكون الفساد، وهذا يظهر لمن نظر بعين البصر، واستبصر بنور الهدى، أن بيعتهم هذه وقعت من غير نظر، فيمن هو الأولى بالأمر، ولهذا تعرضها بعضهم على بعض، ويقرون على أنفسهم أن مسابقتهم بالبيعة مخافة أن يسبقهم عليها الأنصار، فدل ذلك على أن هذا الأمر حصل من غير نظر واستدلال، فاعجب ومهما عشت رأيت العجب، كيف هذا العمى والحيرة، عن ذكر خير خلق الله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب مع ما سمعوا فيه من الله ورسوله مما قدمنا كثيراً، وإن كان لا يحصى كثرة، حتى كأنهم ما سمعوا شيئاً من ذلك أبداً، فما منهم حينئذٍ قائل يقول فأين علي بن أبي طالب وهو أولى لهذا الأمر فهل تغافلوا عن ذلك إلا لطلب الإمارة، ولو قرع المسابقة كما قال عمر كانت فلتة، بل ما ذكر علياً عليه السلام إلا بعض الأنصار في جميع تلك الأحوال، وهذا عمر يقر على نفسه أنها ما حضر علي عليه السلام ولا بنو هاشم، وإجماع الرواة على ذلك، فكذلك ما ذكر أحد من الرواة حضور كثير ممن ذكرناه، فأين الإجماع يا مدعية هذه الأحوال، وذكر الطبري في قصم الشارع بين المهاجرين والأنصار[206] يوم السقيفة، وقصة حديث سعد بن عبادة ومدحه الأنصار، اختصرنا أكثره إلى قوله: وحتى أثخن الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض، وبكم قرير عين، استبدوا بهذا الأمر دون المسلمين، فإنه لكم دون الناس، فأجابوه أن قد وقعت في الرأي، وأصبت في القول، ولن يعدوا ما رأيت نوليك هذا الأمر فأنت له أهل، ولصالح المسلمين رضى، ثم إنهم ترادوا الكلام قالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله الأقربون، ونحن عشيرته وأولياؤه فعلام ننازع الأمر بعده.

قالت طائفة: فإنا نقول منا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى دون هذا أبداً، فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن، ثم ذكر تقدم أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح، فتماشوا إليهم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بن عدي وعويمر بن ساعدة فقالوا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون إلا ما تحبون، فقالوا: لا نفعل، فجاؤا وهم مجتمعون، ثم ذكر كلام أبي بكر وكان يهم به عمر من الكلام حتى انتهى إلى كلام أبي بكر في آخر كلامه، حيث قال: فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفاثون بمشورة، ولا يقضى دونكم أمر، فقال فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار، أملكوا عليكم أيديكم، فإن الناس فيكم وفي ظلمكم، ولن يجترئ مجترى على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أولوا العزم والثروة، وألوا العدد والتجرئة، وذووا الباس والنجدة، بما يشطر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض أمركم، إن أبى هؤلاء إلا ما قد سمعتم منا أمير ومنكم أمير.

فقام عمر بن الخطاب فقال: لا يجتمع اثنان في قرن واحد، إنه والله لا ترضى العرب أن تؤمروكم ونبيها صلى الله عليه وآله وسلم من غيركم، ولكن العرب تمنع أن تولي أمرها من كان النبوة في غيرهم، ولنا بذلك على من أتى العرب الحجة الظاهرة، والسلطان البين، من ذا ينازعنا سلطان محمداً وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مذل باطل أو متجانفٍ لاثم، أو متورط في هلكة، فقام الحباب بن المنذر فقال: يا معشر الأنصار، أملكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فتذهبوا نصيبكم من هذا الأمر، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإن تولوا عليكم فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أما والله لئن شئتم لنعيدها خدعة.

فقال له عمر: إذاً يقتلك الله، قال: بل إياك يقتل، ثم ذكر بعد ذلك كلام أبي عبيدة بن الجراح، وعدل بشير بن سعد بن النعمان بن بشير الأنصاري حتى قال: فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا، فقال: لا والله لا نتولى هذه الأمر عليك إلى قولهما: ابسط يدك نبايعك، فلما ذهبا ليبايعاه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر يا بشير بن سعد عقتك عقاق ما حملك على ما صنعت أنفست على ابن عمك الإمارة؟

فقال: لا، ولكني كرهت أن أنازع قوماً حقاً جعله الله لهم، فلما رأى الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعوا إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض[207] وفيهم أسد بن حصين، والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً، فبايعوا أبا بكر، فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بن العبادة والخزرج ما كانوا أجمعوا عليه من أمرهم.

قال: وأقبل ناس للبيعة فكادوا يطؤن سعداً بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: أتقوا سعداً لا تطؤه، فقال عمر: اقتلوه قتله الله، ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى يتبدد عضوك، فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر ثم قال: والله لو خصصت منه شعرة ما رجعت وفيك واضحة، فقال أبو بكر: مهلاً يا عمر، الرفق أبلغ، فأعرض عنه عمر فقال سعد: أما الله لو أن لي من قولي ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطار المدينة وسككها زئيراً لحجرك وأصحابك، والله إذاً لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع، أحملوني عن هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره وترك أياماً، ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس، وبايع قومك، فقال: أم الله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب منكم سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته، وأقاتلكم بأهل بيتي، ومن أطاعني من قومي فلا أفعل، وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم ما بايعتكم حتى أعرض على ربي، وأعلم ما حسابي، فلما أتى ذلك أبا بكر فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع، فقال له بشير بن سعد: إنه قد لج، وليس بمبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته فاتركوه، فليس تركه بضائركم، إنما هو رجل واحد، فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه لما بدأ لهم البيعة، وكان سعد بن عبادة لا يصلي بصلاتهم، ولا يجتمع معهم، ويحج فلا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر.

وروى الطبري أيضاً أنها وقعت مناوشة بين الحباب بن المنذر وبين عمر، حتى انتضى الحباب سيفه، وقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، قال: فجامله عمر فضرب بيده فبدر السيف فأخذه، ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد، وتتابع الناس على البيعة، وكانت فلتة كفلتات الجاهلية، وقال قائل: قد قتلتم سعداً، وقال عمر: قتله الله إنه منافق، واعترض بالسيف صخرة فقطعه، فهذه رواية من هو من القوم، وقد تقدم من روايات أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم ما تقدم، فكيف يصح مع هذا وأمثاله ادعا الإجماع من الصحابة مع مغيب علي عليه السلام، ومن غاب معه من بني هاشم والمهاجرين إلا هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم، وأي رضى واختيار لهذه البيعة مع وقوع هذه المنازعة العظيمة، والخلاف الشديد، وترك البيعة من بعض، والقتال عليها والتحيل من صاحبها في وقوعها، حتى بايع خمسة أو أربعة أو ثلاثة عمر بن الخطاب وأبو عبيدة وبشير بن سعد، وهؤلاء كالشيء الواحد والرجل الواحد، وسائر الأنصار من سعد وأصحابه يقولون بأنهم اغتصبوها عليهم، وبقية من بايع عوام الناس الذين ليس فيهم أحد من علماء الصحابة، وقد روى علماء أهل البيت عليهم السلام وسادتهم أن السبب في البيعة هو المغيرة بن شعبة وقضيته ما تقدم من مطاوعة عمر له، ومطاوعة أبي بكر لعمر في الاجتهاد في إخراج هذا الأمر عن معدنه أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله، وبذلك بعينه اختدع[208] أبو بكر وعمر من اختدعا بإدعائهما أنهما أولى بالأمر لقربهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأين..........عمن هو أقرب منهما، إذا كان ذلك هو الحجة كما قال أمير المؤمنين لما ذكر له أنهم احتجوا على الأنصار بأنهم شجرة الرسول فقال عليه السلام: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة، وقد تقدم كلامه عليه السلام في صدر كتابنا هذا، فأين يكون الإجماع والرضى والاختيار، يا مدعيه، وعلي عليه السلام وبنو هاشم ومن تقدم ذكره من علماء الصحابة غير حاضرين ولا مشاورين في هذا الشأن، هذا مع ما روي بعد ذلك من إكراه الناس على البيعة، وحملهم عليها كرهاً، ومع اقرارهم بالخطأ فيها كما روي في خطبة عمر حيث يقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى الله شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه، وقوله هذا مشهور، يرويه المعتزلة والحشوية، وأمره بالقتل لمن عاد إلى مثلها دلالة على وقوع الخطأ فيها، فإن ما أوجب القتل فأقل أحواله الخطأ، وأنه على غير طريق الصواب.

وقد روي أن أبا بكر كان يرى ويظهر أن علياً عليه السلام هو أولى منه بالأمر لما أعجله عمر بن الخطاب بسب المغيرة بن شعبة، وحسده لأمير المؤمنين عليه السلام، وقد ذكر مثل هذا أمير المؤمنين، واعتذار أبي بكر منه في كلام رأس اليهود وقد تقدم ذلك.

قال السيد أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى بإسناده: ولما بويع لأبي بكر قعد عنه أمير المؤمنين عليه السلام فلم يبايعه، وفر إليه طلحة والزبير فصارا معه في بيت فاطمة عليها السلام، وأبيا البيعة لأبي بكر.

وقال كثير من المهاجرين والأنصار: هذا الأمر لا يصلح إلا في بني هاشم، وأولاهم بعد روسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام، لسابقته وعلمه وقرابته إلا الطلقاء وأشباههم كرهوا ذلك لما في صدورهم فجاء عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة إلى باب فاطمة فقالوا: والله لتخرجن للبيعة أولنحرقن عليكم البيت، فصاحت فاطمة يا رسول الله ما لقينا بعدك، فخرج عليهم الزبير مصلتاً بالسيف، فحمل عليهم فلما بصر به عياش قال لعمر بن الخطاب: اتق الكلب، وألقا عليه عياش كساً حتى احتضنه، وانتزع السيف من يده فضرب به حجراً فكسره، وقد تقدمت هذه الرواية وأمثالها مما رويناه عن أمير المؤمنين وعن أئمة الهدى عليهم السلام، ولا خلاف أن خالد بن وسعيد بن العاص لما جاء من اليمن أظهر الخلاف، وحث بني هاشم على الخلاف حتى قال: أرضيتم بأن تلي عليكم تيم، ولما خرج عليهم الزبير بن العوام بالسيف قال: كلا، لا يملكها أحد دون علي بن أبي طالب، ولا أبايع إلا علياً ما دام سيفي في يدي، وأنكر عمار بن ياسر رحمه الله فضربوه، ولما رأى ذلك سلمان الفارسي رحمه الله أنكر عليهم وقال لهم: بالفارسية: كرداديكر داد، وروي: كرد أن يكردان، معناه فعلتم أم لم تفعلوا.

وقيل: قال كرديدا كرديد، وذكر بعض من يعرف الفارسية أن قوله مرديد بمعنى فعلتم أي بايعتم، وقوله: امكرديد بمعنى ما فعلتم، أي ما كأنكم بايعتم أي وقعت بمنزلة لا بيعة، قالوا: فمعناه انكم عقدتم لمن لا يصلح للأمر ولا يستحقه.

وروي انه رحمه الله قال لهم بالعربية: أنسيتم أو تناسيتم، أو جهلتهم أو تجاهلتم، والله، لو أعلم أني أعز لله ديناً وأمنع له ضيماً، لضربت بسيفي قدماً قدماً فوجئت عنقه حتى خفض إلى الأرض.

ومن كتاب[209] الكامل المنير عن أبي إسماعيل الكوفي، عن زاذان، عن سلمان الفارسي أنه قال في حطبته بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد أيها الناس، فإني قد أوتيت علماً، ولو أني أخبرتكم بكل ما أعلم لقالت طائفة منكم مدجنون، وقالت طائفة منكم: رحم الله قاتل سلمان، ألا وإن لكم منايا تتبعها بلايا، ألاوإن عند علي بن أبي طالب المنايا والبلايا، وفصل الخطاب، وهو على سنة هارون بن عمران حين قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت خليفتي ووصيي في أهلي، وأنت مني كهارون من موسى صلوات الله عليهما، أما والله لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، فابشروا بالبلاء، واقنطوا من الرجاء، فقد نابذتكم على سواء، وانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء، أما والله لو أعلم أني أدفع ضيماً أو أعز لله ديناً لوضعت سيفي على عاتقي ثم ضربت به قدما)) في كلام له كثير في خطبته، وامتنع أبو ذر وعمار والمقداد، وحذيفة، وابن مسعود من بيعة أبي بكر، وهم خيار الصحابة بعد علي عليه السلام، وكذلك بلال، وسعد بن عبادة، وغيرهم ممن قد حكيناه أولاً، وأتى أبو سفيان بن حرب إلى علي فقال: يا أبا الحسن لئن شئت لأملأنها خيلاً ورجلاً، وفي حديث آخر: أشهد لأملأنها خيلاً ورجلاً، أو ليردنَّ الأمر إلى أهله. وأنشأ يقول:

بني هاشم لا يطمع الناس فيكم

 

 

ولا سيما بني مرة أو عدي

فما الناس إلا منكم وإليكم

 

 

وليس لها إلا أبو حسنٍ علي

أبا حسن فاشدد بها كف حازم

 

 

فإنك بالأمر الذي يرتجا ملي

 فقال له علي: أتريد أن تردها جذعة، فقال: لا، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير موضع يقول: ((علي مع الحق والحق مع علي يدور حيث دار)) فاهتش لها العباس، فأخذ علي بطرف ثوبه وقال: مهلاً يا عم، فإنه فاسق يدعوا إلى تفريق الكلمة، ولنا برسول الله صلى الله عليه وآله، وبالفراغ من أمره شغل، وتظاهر سعد بن عبادة وأهله وعشيرته بالخلاف، ولما سمع أبو قحافة الضجة في المسجد قال: ما هذا؟ فقيل له: الناس يشدون البيعة لابنك عتيق، فقال: ابن عمه العباس وهو صنو أبيه وسيد عبد المطلب في الجاهلية، فقالوا: إن العباس طليق.

 قال: فأين علي بن أبي طالب وهو ابن عمه وصهره، وأحب الناس إليه، وأقدمهم سلماً، وأولهم إيماناً، فقالوا: ابنك أسن من علي.

قال أبو قحافة: فأنا أسن من ابني، فبايعوني ودعوه، وجاء  جماعة إلى أبي ذر وهو يسقي نخلاً له فقالوا له: يا جندب مد يدك حتى نبايع لك، فإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) فقال: لست هنالك، بايعوا من الله معه، وبايعوا من الله معه، بايعوا علي بن أبي طالب.

وقال العباس بن عبد المطلب: وما أنتم يا قريش من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيراتها، وقال العباس يومئذٍ ما رواه عنه الرواة:

ما كنت أحسب أن الأمر منحرف

 

 

عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم

 

 

وأعلم الناس بالآثار والسنن[210]

وأقرب الناس عهداً بالنبي ومن

 

 

جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما في جميع الناس كلهم

 

 

وليس في الناس ما فيه من الحسن

ماذا الذي ردكم عنه فنعرفه

 

 

ها أن بيعتكم من أول الفتن

 وصدق رحمه الله أن بيعتهم أول فتنة في الإسلام.

وقد روينا أولاً عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: خرجت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على علي صلوات الله عليه في بيت فاطمة عليها السلام، وعنده المهاجرون قلت: ما تقول يا علي؟

قال: أقول خيراً، نحن أولى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبما ترك.

قلت: فالذي يجيء؟

قال: نعم.

قلت: فالذي بعدك؟

قال: نعم.

قلت: كلا، والذي نفسي بيده حتى تجزوا رقابنا بالمناشير، وهذا الخبر في كتاب المعتمد في الإمامة، فهل تراهم أجمعوا على إمامة أبي بكر كلهم، أو رضي لها كلهم، معاذ الله، وهذا الاختلاف مما ظهر بين الأمة واشتهر، وإن كانت الأخبار عنه آحاد، فإن مجموعها يلحقها بالمواترة، هذا لو سلمنا للمخالف أنها غير متواترة مثلاً مع أنا لوسلمنا أنها غير متواترة، فإنه لا يصح ادعاء الإجماع معها على ما تقدم بيانه، ولو لم يكن في صحتها إلا إجماع أهل البيت عليهم السلام، وإجماعهم حجة على ما تقدم، وتلك دلالة قطعية.

وإن تقل قد كان ذا النزاع
ثم استقر بعده الإجماع
قلنا فقد أقررت بالتنازع

 

في أول الأمر والامتناع
وبيعة ليس لها انخلاع
ثم ادعيت عقد أمرٍ جامع

وقلت .....الناس يين تابع
فهات بين هاهنا الدلالة
وعترة الحق أولوا الجلالة

 

وساكت عنهم لغير مانع
هيهات ما أبعدها مقالة
تعدها بأسرها ضلالة

لم يرض من آل النبي راضي
فقولكم منهدم الأرباضي
ومن روى البيعة مسحاً غضبا

 

ولا أتى الاتباع عن تراضي
منتقض وأيما انتقاض
من غير عهدٍ..........الربا

  فقد روى إذاً فحسباً حسبا

 

أعظم به يوم التنادي ذنبا

 شبهة: فإن قيل إنا نسلم لكم وقوع الاختلاف في أول الأمر غير أنا نقول أنه قد وقع الإجماع بعد ذلك على بيعة أبي بكر ولم يتخلف عنه أحد، بل كان الناس بين متبع له راض، وبين تارك للنكير ساكت سكوت رضى.

فالجواب عن ذلك من وجوه:

أحدها: أن العترة أجمعت على أن علياً عليه السلام ومن اتبعه من المؤمنين ما رضوا ببيعة أبي بكر قبل ولا بعد، وإجماعهم حجة كما تقدم بيان ذلك.

والثاني: أنكم مسلمون لوقوع التنازع والإختلاف، وهذه بعد ذلك دعوى، فهلم الدلالة.

والثالث: أنما عولتم عليه من ترك النكير وصرفه إلى الرضى لا يصح، مع هذا التشدد العظيم من عمر وأشباهه في بيعة أبي بكر، مع ما يؤيد ذلك من قلة الأنصار لعلي عليه السلام، وكثرة الإحن عليه، والحسد له، وظهور الضغائن[211] التي أخبره بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قدمنا ذكر ذلك، ولهذا قال له عمه العباس: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله بايع ابن أخيه، فلا يختلف عليك اثنان.

قال عليه السلام: لو كان عمي حمزة حياً، أوأخي جعفر باقياً، مبيناً بذلك ضعفهم وقلتهم في جنب القوم، وقد اعتذر عليه السلام لضعفه عن ذلك ستة من أنبياء الله تعالى عدهم وسماهم ضعفوا وعجزوا عن مثل ما عجز عنه، وقد تقدم الخبر.

وقد روى سادات ائمة الهدى وغيرهم من موالف ومخالف الوعيدة بإحراق بيت فاطمة عليها السلام، أو هدمه على ما تقدم، فكيف يصح ادعا هذا الإجماع ومثل هذا يكفي في المنع عن العلم، فإنهم لم ينكروا، لأن أقل الأحوال هذه الأخبار، لو سلمنا مثلاً أنها أخبار آحاد تجويز صدقها فلا يحصل العلم معها بعدم الإنكار، ثم لو سلمنا تسليم جدل أنه لم يوجد من أحدٍ من إنكار، فإن السكوت لا يدل على الرضى إلا إذا لم يكن صرفه إلى وجه سواه، وهاهنا وجه يمكن صرف السكوت إليه، وهو لو أنهم أظهروا النكير لافترقت الكلمة، واشقتا العصاه، وتفرق شمل المسلمين، وتحزبوا أحزاباً، يؤكد ذلك قول علي عليه السلام، في جوابه لأبي سفيان: طال ما طلبت للإسلاك الغوائل، وقوله لعمه العباس، حين أهش لكلام أبي سفيان مهلاً يا عم، فإنه فاسق يدعوا إلى تفريق الكلمة، وفي ذلك كما ترى من وهن الإسلام، وما لا يخفى على ذي بصيرة مع كثرة المنافقين، وقلة عدد المسلمين في جنب المشركين، وارتداد العرب حول المدينة، وكثرة تشدد المبايعين لأبي بكر، والمتابعين له، وقد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه لرأس اليهود أنه ما ترك الأمر إلا لهذا المعنى، وصرح بذلك، وقد قدمناه مفصلاً، وفي ذلك كله وجه يتضح به العذر في الإنكار، وإظهار الخلاف، ولو قدرنا أنه لم يقع منهم إنكار، فكيف يقال مع هذا أنه لا وجه للمسلمون إلا الرضى، ومتى استمرت الحال هكذا لم يكن في استمرارها دلالة على الرضى؛ لأن الأحوال الموجبة للسكوت في أول الأمر لو قدرنا وقوعه دائمة مستمرة من بعد، على وجه أقوى مما كانت عليه قبل، فإن أمر القوم استحكم وظهر ظهوراً، بحيث لو سمع من واحد من جماعة الحق التي حكاها أمير المؤمنين في كلامه لرأس اليهود، حيث قدمنا ذكر ذلك نكير لنزل به من المكاره أعظم مما كان قبل، والذي قد ظهر أولاً من الامتناع من البيعة والإنكار في صرف الأمر عن علي عليه السلام، ولحوق الوحشة بقلبه هو دلالة على فقد الرضى، وقد أنكروا بألسنتهم وبغضهم بالسيف كما فعل الزبير كما تقدم بيان ذلك حتى إذا قهر وأكفاهم ما في القلوب، وإذا ثبت ذلك فلا دلالة في السكوت على الرضى، ولهذا فإن سكوت من سكت عن النكير لإمارة معاوية وخلافته عند استحكام أمره، وقهره للمؤمنين عليها، فإن السكوت هناك لا يكون دلالة على الرضى بإمامته، لما كان هناك ما يمكن صرف السكوت إليه، وهو الخوف من معاوية، والمحاذرة من شره، وكذلك ما نحن فيه تبيين ذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام، لما وجد الأعوان، وتفانا كثيرة ممن قهره أظهر كثيراً مما كان في قلبه على المنابر، وجاهد أعداء الله، وأظهر أمره[212] وقاتل الناكثين مرة والقاسطين حيناً، والمارقين تارة، وكذلك غيرهم، فأما ما يدعيه بعض المخالفين أو كلهم من أن علياً عليه السلام قد بايع أبا بكر، فقد ادعوا ذلك، وربما قال بعضهم: كانت بيعته كرهاً بعد موت فاطمة عليها السلام.

وقال بعضهم بعد ستة أشهر، وقال بعضهم: أتى به ملبياً، وقيل: بل في عنقه حبل، وتوعدوه بالقتل، وقيل: له: إن لم تبايع ضربنا عنقك.

فالجواب عن ذلك أن العترة مجمعة على أنه عليه السلام ما بايع أبا بكر بيعة عهد ورضى، وإجماعهم حجة واحبة الإتباع، كما تقدم بيان ذلك، وأكثر أهل البيت عليهم السلام ينفى وقوعها مسحاً وغيره، ومن ذكرها منهم مسحاً على وجه الإكراه مع قول علي عليه السلام: اللهم اشهد، فذلك مما لا حكم له ولا اعتبار به، وقد قدمنا في صدر كتابنا هذا ما وقع منهم من التشدد في البيعة على علي عليه السلام، وامتناعه عن ذلك، كما رواه أئمة الهدى عليهم السلام، وأما رواية غيرهم، فروى صاحب كتاب المحيط بالإمامة.

 قال بإسناده إلى قيس بن مسلم، يرفعه إلى عمر بن الخطاب، أنه قال لعلي عليه السلام، حين دعي للبيعة فأبى، فاختر إحدى ثلاث، إما أن تدخل فيما دخل فيه المسلمون، وإما أن تأذن بحرب، وإما أن تأخذ  براد شهر.

وروى أبو الحسن أحمد بن يحيى البلاذري وهو ثقة عند العامة وأصحاب الحديث بإسناده، قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي عليه السلام حين قعد عن بيعته وقال: ائتني به بأعنف العنف، فلما أتاه جرى بينهما كلام، فقال له علي: اجلب حلباً لك شطره، والله ما حرضك على إمارته اليوم إلا ليؤمرك غداً، وما تنفس على أبي بكر هذا، ولكنا أنكرنا ترككم مشاورتنا، وقلنا: إن لنا حقاً لا تجهلوه، ثم أتاه فبايعه.

وروينا بالإسناد الموثوق به إلى عدي بن حاتم قال: ما رحمت أحداً رحمي علياً حين أتي به ملبياً، فقيل له: بايع، قال: فإن لم أفعل.

 قالوا: إذاً نقتلك.

 قال: إذاً تقتلوا عبد الله، وأخا رسول الله، ثم بايع كذلك، وضم إليه اليمنى.

وعن عدي بن حاتم أيضاً قال: إني لجالس عند أبي بكر إذ جيء بعلي عليه السلام فقال له أبو بكر: بايع، فقال له عليه السلام: فإن لم أبايع؟

 قال: أضرب الذي فيه عيناك، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم اشهد، ثم مد يده فبايعه، فانظر كيف الخبر الأول شاهد بأمر أبي بكر لعمر بأن يأتي بعلي بأعنف العنف، والثاني ناطق بالوعيد بضرب العنق، فكيف يصح كون البيعة عن رضى مع ذلك كله، وفي الخبر الأول دلالة على أنه عليه السلام قد نبه على أنه ما أنكر عليهم لأجل حسد، ولا أنه نفس عليهم، وإنما ذلك لأجل الحق الذي له، وهم عارفون له، فبين أن إنكاره لله تعالى لا لأجل الدنيا وإمارتها، فهو الأمير قام أو قعد.

وروى ابن جرير في تاريخه أنه لما قيل لعلي عليه السلام بايع أبا بكر فقال: إني أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليه بالقرابة من رسول الله صلى الله عليه، وتأخذونه منا أهل البيت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر لمكان محمد صلى الله عليه وآله فاعطوكم القادة، وسلموا إليكم الإمارة، فأنا أحتج عليكم  بمثل احتججتم على الأنصار،  نحن أولى برسول الله حياً وميتاً منكم، فانصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر[213] ما عرفته لكم الأنصار، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون، فقال له عمر: لست متروكاً حتى تبايع، فقال له علي: اجلب جلباً لك شطره، اشدد له اليوم ليرده عليك غداً.

وقال عليه السلام: لا والله لا أقبل قولك ولا أبيايعه.

قال أبو بكر: وإن لم تبايعني لا أكرهك.

قال أبو عبيدة بن الجراح لعلي: يابن عم، إنك حدث السن، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا قوي على هذا الأمر منك، وأشد اجتماعا واحتمالاً منك له، فسلم لأبي بكر هذا الأمر، وارض به، فإنك إن تعيش ويطل بك عمر، فإنك لهذا الأمر لخليق، وبه حقيق لفضلك ودينك، وقرابتك وسابقتك.

فقال له علي عليه السلام: يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم  وقعور بيوتكك، وتدفعوا أهله من مقامه في الناس، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في الدين، العالم بالسنة، والمضطلع لأمر الرعية، ووالله إنه لفينا فلا تبغوا فتزدادوا من الحق بعدا.

فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف فيه اثنان، وهذا مشهور من أخبار السقيفة وكتب التواريخ.

ويروى بإسناد أبي عثمان في كتاب الجوابات المسكتة، أن أبا بكر لما بايعه الناس كتب إلى علي: عافانا الله وإياك، إن أحب الناس إليًّ وأقربهم إليَّ لأنت وأهل بيتك، وقد بايعني المهاجرون بعد خصومة الأنصار، وقد فلجتهم بكتاب الله، وبقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان بيعة الناس عن ملايمة ومشورة، وأنا أدعوك إلى قبول ذلك، والدخول في.......فيه الله، فإنك إذا دخلت في بيعتي دخل فيها أهل بيتك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقلب علي رضي الله عنه الكتاب وكتب في ظهيره:

فإن كنت بالقربا تأولت أخذها

 

 

فغيرك أولى بالنبي وأقرب

وإن كنت بالشورى فلجت خصيمهم

 

 

فكيف استبدت والمشيرون غيب

 فما راجعه أبو بكر بجواب في البيعة حتى هلك، وهذه الرواية كرواية كثير من أهل البيت عليهم السلام أنه لا بيعة هناك، وإذا كان كذلك فجوابنا عن هذه الشبهة وما أشبههما هو ما قدمنا من أنه لا بيعة عند كافة أهل البيت عليهم السلام، ولا صحة للمسح الذي يحكى عند أكثرهم وأكثر شيعتهم، وعلى هذا لا إمامة للأول ولا للثاني ولا للثالث؛ لأنه لا إجماع مع خروجه عليه السلام عن ذلك، بل لو صح ما يرويه بعض المخالفين، والموالفين، من وقوع البيعة على وجه الإكراه، فإن وجودها كعدمها، وهي بيعة بمنزلة الأولى، في أنه لا حكم لها، ولا دلالة، فإنه عليه السلام لو صح أنه مد يده مبايعاً بعد هذا من غير أن يمدوها ما كانت بيعة؛ لأنه لا يمين، ولا بيعة، ولاطلاق، ولا حكم شرعي مع الإكراه، كما قال تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} فقال لاإكراه في الدين، أي لايثبت حكمه، وهو بمنزلة ما لم يقع، إذا كان هناك إكراه، ولا خلاف في امتناعه عليه السلام عن البيعة، بل الأخبار المتواترة قاضية بذلك، والإجماع مطبق عليه، وإنما اختلفوا في مدة[214] الإمتناع من الحضور إليهم، وترك الاجتماع بهم، ووقوفه في منزله عليه السلام، فروى بعضهم أنه اعتزل القوم فما حضرهم ستة أشهر.

وروى بعضهم أنه ما زال معتزلاً إلى أن ماتت فاطمة عليها السلام غاضبة على أبي بكر، وأوصت أن لا يحضرها هو وعمر عند دفهنا، وكانت قوة لأمير المؤمنين عليه السلام، لما لها من التعظيم والجلالة في قلوب المؤمنين.

وقال بعضهم: وهو أقل ما قيل اعتزل أربعين يوماً، هذا هو المروي في امتناعه من بعض، جعلوه امتناعاً من الحضور، وجعله المخالف امتناعاً عن البيعة كما قدمنا آنفاً عنهم، فجعلوا ذلك مدة الامتناع عنهما كما قال أبو هاشم بأنه عليه السلام تأخر عن البيعة أربعين صباحاً.

ورووا عن الزهري وغيره أنه تأخر ستة أشهر.

وقال قاضي القضاة: تأخر لاستيحاشه منهم حيث استبدوا بالأمر، ولم يتربصوا بإبرام العقد حضوره، وإنما تأخر أياماً يسيرة، ولعله كان أربعين يوماً، ولم يكن أبو بكر يلتمس منه المبادرو، وهذا كما ترى أقاويل ملفقة وأحاديث ترهات باطلة، فإن التأخر منه عليه السلام معلوم لا يدفع ذلك دافع، ولا يخالف  فيه مخالف، ودعوى البيعة دعوى باطلة من حيث أنه لا حجة عليها، بل كثير من الروايات ناطق بأنه لم يبايع أصلاً، وإنما لبسوا على العامة، وفي بعضها أنه بايع كرهاً كما قدمنا، وليس في شيء منها أنه بايع عن اختيار، ولمن نظر بعين الحق في هذا كله دلالة واضحة على أنه عليه السلام لو علم صحة إمامة أبي بكر لما تأخر عنها الوقت اليسير مع كونه السباق إلى الخيرات، والباعث عليها، والفاعل لها مع كونه العالم والحجة، فكيف يغفل عن معرفة هذا وهو الوصي، وكيف لا يعرف أمر الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هذه الوحشة لعلمه بأنه صاجب الأمر بحكم الله وحكم رسوله عليه السلام، وأن القوم انتحلوا ما ليس لهم، وأنهم سلكوا غير طريق الحق، وركبوا من المنافسة في هذه الدنيا الفانية، وحمله على الوحشة التي ذكرها المخالف، حمل له على أقبح الوجوه، ومثله عليه السلام لا يدع الواجب والأمر المهم في الدين لمثل هذه الترهات، ولقد نسبه القاضي إلا أمر قبيح من حيث نسبه إلى ما لا يجوز من تركه لما يحب من الأمور الدينية المهمة؛ لأجل ما تنفر عنه نفسه من استبدادهم بالرأٍي دونه، بل لو قال بعض المسلمين مثل هذا في قاضي القضاة ولا استنكرت المعتزلة، ولنزهوه عنه، فكيف في المعصوم السباق إلى كل خير وطاعة، وإن كان قاضي القضاة قد قال: إنما تأخر عليه السلام عن البيعة لاشتغاله بتجهيز الرسول عليه السلام هذا هوالمذكور في شرح المقامات، عما ذكر في المعنى، وفي المحيط، فقد ناقض في كلامه أو بدا له من اعتقاد، وهذا إلى اعتقاد آخر وهو المشبهة التي ذكرها شبهة داحضة، فإن اشتغال أمير المؤمنين عليه السلام بذلك يكفي في الوقت اليسير، والتأخر على قولهم كان شهوراً، وأقل قولهم أنه تأخر أربعين يوماً، ثم لو قدرنا أنه اشتغل في تجهيز رسول الله عليه السلام، أربعين يوماً، على بعد ذلك واستحالته، ولقد كان يكفي في ذلك أن يرسل رسولاً[215]،  أو يكتب كتاباً إلى أبي بكر بأني داخل تحت أمره، راض بإمارته، ومصوب لتقدمه، ويكون هذا مكان سخطه عليه، وادعا الظلم منه، وكان يقول لمن طلب البيعة قد بويع أبي بكر وهو الخليفة، وأنا متبع له، وإنما صرفني اشتغالي بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما لو نظر المخالف بعين الصواب والبصيرة، لعلم أن اشتغاله عليه السلام بأمر الرسول عليه السلام وكون ذلك اختصاصاً به منه صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين، وأهل بيته من جملة مناقبه عليه السلام الداعية إلى تقديمه، والموجبة لانتظار الصحابة الصحابة له بذلك، ووقوفه عليه فإن المأثور بالإسناد الموثوق به إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما اشتدت علته، وحجب على الرجال ثلاثاً، وخلى به النساء، فلما كان في اليوم الرابع فتح عينيه وقال: ((ويحكن ادعن لي حبيبي وثمرة فؤادي)) فقالت حفصة: ادعو له عمر، فدعي له ثم قال: ((ويحكن ادعن لي حبيبي وثمرة فؤادي)) فقالت عائشة: ادعو له أبا بكر، فدعي له فقال: ((ويحكم ادعن لي حبيبي وثمرة فؤادي)) فقالت فاطمة عليها السلام: ادعو له زوجي علي بن أبي طالب ما أراه يدعو غيره، فدعي فلما نظر إلى علي جذبه فاعتنقه وقبله وقبل بين عينيه ثم قال: ((السلام عليك يا أبا الحسن، إذا أنا مت فاغسلني أنت، فإنه لا ينظر أحد جسد محمد غيرك إلا ذهب بصره، وليكن من ينقل إليك الماء من أهل بيتي مسدود العينين، فإذا فرغت من عسلي فكفني بثوبين أبيصين وبحبرة يمانية)) قال عليه السلام: فإذا فرغنا من غسلك وتكفينك من يصلي عليك؟ قال: ((يا سبحان الله، إذا فرغتم من شأنبي فامهلوني على شفير قبري ساعة، فأول من يصلي عليَّ رب السماوات والأرض، والصلاة من الله الرحمة، ثم جبريل وميكائيل وملائكة سماء سماء، فإذا فرغتم من ذلك فامهلوني قليلاً قليلاً، ثم يتقدم من أهل بيتي فليصل على الأقرب فالأقرب بغير إمام، ثم الحدوني في لحدي، واحثوا عليَّ التراب، أوصبكم بالوصية العظما بفاطمة والحسن والحسين)) فكان أمير المؤمنين عليه السلام هو الذي يغسله وجبريل يعاونه ويقلبه له، والفضل بن العباس ينقل الماء إليه، وهو المشدود العين.

وروينا من مناقب الفقيه ابن المغازلي رفعه إلى السائب بن يزيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل لمسلم ينظر مجردي أو عورتي إلا علي)).

وعنه أيضاً رفعه إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل لرجل يرى مجردي إلا علي)).

وروينا ذلك عنه ولقد بعد المدافع بهذه الحجة في الميل عن الحق، بل لو أنصف لكان اختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام بهذه المنزلة العظماء، ولأهل بيته عليهم السلام أقوى دلالة على أنه عليه السلام أولى بما وراها من أمر الأمة؛ لأن أمره صلى الله عليه وآله أهم من أمر الأمة، واختصاصه عليه السلام به من جملة ما يدل على اختصاصه بأمر الأمة، ألا ترى أن المعتزلة جعلوا ما ادعوه لأبي بكر من أمره بالصلاة دليلاً على استحقاقه الخلافة، وهي دعوى لا صحة لها، كما قدمنا ذلك فهذا الاختصاص لعلي عليه السلام بالتغسيل والتكفين والنزر إليه دون سائر الناس[216] ومعاونة جبريل عليه السلام بأمره، مع قوله في هذا الخبر بأنه يحبيبه وثمرة فؤاده، وإعراضه عن أبي بكر وعمر، وقد دعيا له عن أمرهما بما أمره به عليه السلام من جميع ذلك فيه نهاية التعظيم والشرف، والتنبيه لأهل العقول السليمة من الحمية المنزهة عن العصبية، المعرضة عن اتباع السلف، وشبه الخلاف على أنه عليه السلام ولي الأمر، ثم يزيد ذلك وضوحاً وصيته التي جعلها الوصية العظما بفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وكانت كما قال بعض أئمة الهدى ممن قد قدمنا ذلك عنه أول حرمة هتكت في الإسلام، حيث منعوها فدكاً، وتوعدوها تحريق بيتها، وتوعدوا زوجها أخا رسول الله عليهما السلام بضرب ما فيه عيناه إن لم يبايع أبا بكر، فالله المستعان لقد سلبت المعتزلة في أمره عليه السلام التوفيق، حيث مالوا عن سواء الطريق، فعارضوا الله ورسوله بأدلتهم وحججهم، فصارت أدلتهم هنالك شبهات، وحججهم ترهات كما ترى مثل هذه التعليلات الفاسدة، والاعتراضات على الحق الباردة التي لم يكن تليق بأمثالهم، ولا تصدر عن أشكالهم، كل ذلك بسبب ال التحي عن الطريق الصواب، والميل عن أنظار ذي الألباب، والإعراض عن حجج السنة والكتاب، وسعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ولقد كان الاشتغال بأمر رسول الله عليه السلام وتجهيزه، والأمر الذي هو أهم ما يبدأ به، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه لرأس اليهود.

ثم يقال: هل هذه المقالة ومن طابقهم ما يقولون أكان تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واجباً إلى أن يدفن أن لا؟

فإن قالوا: لا، فقد تعدوا، وإن قالوا: نعم هو واجب، قيل لهم: فهل كانت بيعة أبي بكر واجبة أو لا؟

فإن قالوا:لم تكن واجبة قبل فعلها، قيل لهم: فلماذا اشتغلوا بما ر يجب عما ليجب على التعيين، وهو تجهيز الرسول عليه السلام إلى أن يدفن إلا ما لا يجب على التعيين، وإن قالوا: كانت واجبة بيعة أبي بكر بعينه، قيل لهم: فهل وجبت لئلا يبايع الأنصار أولاً؟ فإن قالوا وجبت لهذا، قيل لهم: ليس بأن تجب بيعته لئلا يبايع لسعد بن عبادة، ولا من أن يجب أن يبايع سعد لئلا يبايع أبا بكر بن أبي قحافة، وأولي الأمر من أن تجب بيعة من النساء والمماليك، لئلا يبادر إليها أبو بكر إن كان لا علة إلا أن يسبق إلى البيعة، وإن قالوا: وجبت  لا لذلك، قيل لهم: فهل وجبت بيعته على عمر وأبي عبيدة ومن سبق إلى بيعته كبشير بن سعد لدلالة أو لا لدلالة؟ فإن قالوا: لغير دلالة، قيل لهم: فإن ما لا دلالة عليه فهو بدعة وضلالة، ولم تكن بارة تجب لغير دلالة أولا من أن لا تجب، ويكون عدولهم عن تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله الذي هو واجب معصية أخرى، وإن قالوا: للدلالة، قيل لهم: فهل دلت على أن بيعة أبي بكر أولى من تجهيز رسول الله عليه السلام أو لا، فإن قالوا: للدلالة قيل لهم فهل دلت على أن بيعة أبي بكر أولى من تجهيز رسول الله عليه السلام أو لا، فإن قالوا لم تدل على أنها أولا، قيل لهم: فكان الأولى تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله؛ لنه لا أحد يقول كانا سواء في الوجوب قبل البيعة[217] وإن قالوا: دلت علىأن بيعة أبي بكر أولى من تجهيز رسول الله هه قيل لهم: هذا غاية الحيف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنها لو كانت أولى لكانت أفضل من تجهيزه والإجماع مطبق على أن بيعة ألي بكر لا تقارب تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله في الفضيلة عند القائلين بهذا، وهي باطلة عند أمير المؤمنين عليه السلام، وعند أهل البيت كافة عليهم السلام، وعند كثير من الأمة، فكيف يقال أنها أفضل من تجهيزه؟

ثم يقال لهم: أخبرونا أيا المخالفون عل كانت تجب على الناس بيعة أبي بكر عند بيعة عمر وأبي عبيدة أو لا؟ فإن قالوا: لا تجب عليهم، قيل لهم: فلِمَ اشتغلوا بما لا يجب، وحملوا الناس عليه واضطروهم إليه، وأتوا بالأفعال التي هي ظلم ما لم يكن في واجب، ونحو كسر سيف الزبير، والاستخفاف بسلمان، وغير ذلك مما تقدم، وإن قالوا: كان قد وجبت بيعته، قيل لهم: فهل كانت وجبت علىالناس بما وجبت على عمر وأبي عبيدة، والحمسة أو وجب لا بما وجبت عليهم؟

فإن قالوا: وجبت بما وجبت عليهما، أو على الثلاثة أو على الخمسة على حسب مذاهبهم، قيل لهم: فهل وجبت على هؤلاء المذكورين من حمسة أو دونهم بالكتاب والسنة، أو الإجماع أو لدلالة العقل، أو بالضرورة، فإن ادعوا الضرورة فقد باهتوا، وإن ادعوا شيئاً من الأدلة المتقدمة قيل لهم: ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على وجوب بيعة أبي بكر على عمر، ولا على أبي عبيدة، ولا على أحدٍ، ولا يجدون سبيلاً إلى ذلك، والإجماع الذي يدعوتنه متأخر عن البيعة عندهم، وإن قالوا: وجبت على الناس بغير ما وجب على هؤلاء المتقدمين من خمسة أو أقل، قيل لهم: فهل وجبت على الناس بغير بيعة عمر، والأربعة أو ذويهم على حسب مذاهبهم ضرورة أو استدلالاً، فإن قالوا: ضرورة فقد باهتوا، وإن قالوا باستدلال قيل لهم: فليس في العقل ولا في الكتاب ولا في السنة ما يدل على أن الخمسة أو ذويهم إذا بايعوا رجلاً فقد وجبت إمامته، وإن قالوا بلإجماع قيل لهم: فليس الخمسة أو دونهم أهل الإجماع.

ويقال لهم أيضاً: فهل علم عمر وأبو عبيد ة وأبو بكر أن أبا بكر أولى بالإمامة من غيره حين نازعوا الأنصار فيها أو لا؟

فإن قالوا: لم يعلموا، قيل لهم: هذه منازعة بالباطل، وتوثب على غير الحق، وعمل بالظن في الإمامة التي هي من أعظم أركان الدين، وإن قالوا: علموا أن أبا بكر هو الأولى حين نازعوا الأنصار قيل لهم: فلم عرضها أبو بكر على عمر وعلى أبو عبيدة، ودها الأنصار إلى ذلك وعرضها كل على صاحبه، ولو كان فهذا يدل على أنهم اعتمدوا أن يجعلوها في غير أهلها، وتعمدوا ذلك وتعمدوا أن يجعلوها لأبي بكر من غير علم أنه أولى، وما هذه حاله لا يصلح أن يقال إن الصحابة أجمعت عليه، وكيف تجمع على الخطأ وعلى ما لا يصح أن يكون عليه دليل، أو يقال لهم: أخبرونا أيها المخالفون: لِمَ بادروا إلى بيعة أبي بكر، ولم ينتظروا أمير المؤمنين عليه السلام وبني هاشم، ومن ذكرناه من فضلاء الصحابة، هل ذلك إلا لأن هؤلاء المتروكين لا يعتد بهم، أو لأنهم[218] تبع لهم، أو لأنهم يكفون من دون اجتماعهم معهم، أو لأن هنالك نصاً على أبي بكر.

فإن قالوا: لا يعتد بهم، فقد جعلوا هؤلاء الرؤساء في الإسلام الذي يعرف فضلهم، والاعتداد بهم الخاص والعام ممن لا يعتد بهم، ومن بلغ إلى هذا الحد فلا ينبغي مناظرته؛ لأنه لم يعرف ما يعلم ضرورة من الدين، وإن قالوا لغيره بل الأولى أن يقال إن غيره له تبع، وإن قالوا لأنهم يكفون من دونهم اجتماعهم فذلك باطل؛ لأنه لا يصح الإجماع  مع خروج واحدٍ من هؤلاء فكيف بجميعهم، ومن اعتقد أنهم يكفون دون رؤساء الإسلام، وسادة الصحابة وعلمائها، فقد بعدوا أن قالوا للنص فهو باطل بما تقدم، وبما يأتي إن شاء الله تعالى.

وإن قالوا: لأنهم بايعوه ويجب على سائر الناس طاعة أبي بكر بعد بيعتهم، قيل لهم: فهل علِمَ أمير المؤمنين عليه السلام ومن تخلف معه أن طاعة أبي بكر تجب عليهم بعد بيعة هؤلاء أولا؟

فإن كان كذلك كان تخلفهم عنه ومنازعته فسقاً في الصحابة، فلا خطاب له، وإن قالو: لم يعلموا ذلك، قيل لهم: فكيف يعلم صغار الصحابة وعوامهم وجوب طاعة أبي بكر إن كانت معلومة مثل المغيرة بن شعبة، وبشير بن سعد، وغيرهم، وعمر بن الخطاب، ويجهلها هؤلاء، وأين هؤلاء وأشكالهم من أمير المؤمنين وابن مسعود، وأبي الدرداء، وأبي ذر الغفاري، وسلمان وعمار وغيرهم ممن ذكرنا أولاً، فقد بان بعد ما يذكرونه في ذلك.

وقال لهم هل وجبت طاعة أبي بكر وثبتت إمامته ذلك الوقت أو لا؟

فإن قالوا: لا حتى تجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قيل لهم: فلم قعد في مقعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك، ولم أمر ونهى وأوجب على الناس اتباعه، وحل وعقد، وولى وعزل، وأنفذ الأحكام الإمامية، وأكره الناس على بيعته، وتوعد الناس هو وأصحابه، وأحدثوا الحوادث المتقدمة، واضطروا أمير المؤمنين إلى بيعته على قول من رواها، وإن قالوا: ثبتت إمامته ذلك الوقت بعينه ببيعة الخمسة أو دونهم، وهم عمر ومن معه، قيل لهم:............إجماع الصحابة تثبت أم لا؟

فإن قالوا: ثبتت بإجماع الصحابة حين بايعه الخمسة أو دونهم، قيل لهم: أفليس أمير المؤمنين ومن معه من المهاجرين والأنصار من خيار الصحابة، بل هم كبار الصحابة، فلِمَ لا يعتد بهم في الإجماع، ولم يصح الإجماع مع خروج واحد من علماء الصحابة، فضلاً عن هؤلاء، وإن قالوا: ثبتت إمامته تلك الحال، وإن لم تجمع الصحابة، قيل لهم: قد خرجتم عن دليلكم؛ لأنكم استدللتم على إمامته بإجماع الصحابة، وهذا المدلول إذا حصل وهو إمامة أبي بكر فلابد أن يكون الدليل حاصلاً؛ لأنه يدل دلالة الوقوع، ولا يدل الإجماع على أنه كان إماماً؛ لأنه إنما يثبت إماماً بالإجماع عند المخالفين، فكيف يصح ما قلتموه عند ذلك، فأما قول قاضي القضاة[219] أن أمير المؤمنين كان ناظراً في الاختيار هل هو طريق الإمامة أو لا، فذلك لا يصح؛ لأن عندهم أن كون الاختيار طريقاً إلى الإمامة مما هو ظاهر عند الصحابة، وكيف يجوز أن يعرفه المغيرة بن شعبة وأصاغر الصحابة، ولا يعرف أمير المؤمنين ومن معه طريق الإمامة، وقد عرفها أصاغر القوم وعوامهم، هذا ما لا يعقل ولا سيما مع قولهم أن الاختيار إنما يعرف أنه طريق الإجماع، وأيضاً فإن كان الاختيار لا يعلم أن الإمامة ثبتت به إلا بإجماع من الصحابة على إمامة أبي بكر، وأنهم اختاروه وجعلوا طريقة إمامته الاختيار، وقد علم خلاف هذا الإجماع بما قدمنا من اختلافهم فيه، فإذاً لا تثبت الإمامة ولا طريقها لملعتزلة.

ومما يدل على خلاف ما ادعوه من رضى علي عليه السلام أنه ما زال مغضباً متوجعاً متألماً لمكان ظلمهم، وأخذهم حقه، روى ذلك عنه الموالف والمخالف، وكما رواه الإمام المنصور بالله عليه السلام في كتاب معاوية إلى أمير المؤمنين في قوله لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، وقوله: كنت تقاد للبيعة كما يقاد الحمل المحشوش.

وروي عليه السلام جوابه عن أمير المؤمنين عليه السلام فكان من قوله: وذكرت ابطائي عن الخلفاء، وحسدي إياهم، والبغي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، وأما الكراهة فوالله ما اعتذر إلى الناس من ذلك، إلى غير ذلك مما ذكره في خطبته الشقشقية، وغيرها من خطبه ومقاماته، فكيف يكونون عنده أئمة، ويكون متبعاً لهم، وهو يقسم بالله ما يعتذر إلى الناس من كراهتهم، ويقول: تقمصها ابن أبي قحافة وفي العين قذا، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، متى كان هذا يجتمع كل ذلك، رواية المنصورة بالله عليه السلام كما قدمناه.

وكتب نهج البلاغة مسموع مشهور، لا ينكره إلا معاند يريك الهوى.

وإن تقل لو كان نص يوجد
لكنهم لما ادعوا لم يجدوا
قلنا بلى نادوا على الأشهاد

 

في حيدر لا ظهروا وأوردوا
فالحق ما اختاروا إذاً وعقدوا
وأظهروا النصوص على العباد

 مبثوثة لرائح وغاد

 

لكنهم مالوا عن الرشاد

شبهة: فإن قيل: لو كانت الإمامة بالنص لكانت الإمة قد أحمعت على الخطأ؛ لأن من لم يدع النص وهو علي عليه السلام وأتباعه لم يظهروا النصوص، ولا ادعوه، ولم يظهروا  الإنكار على من قال بالعقد والاختيار، وهم يعلمون أن الأمر عظيم في باب الإمامة، ومن مواقعة المناكير العظيمة، من إقامة الحدود، وأخذ الأموال، وسفك الدماء، فكان يلزم أن ينكروا ذلك إنكاراً ظاهراً، وأن يظهروا النص على غير الإمام، فلما لم يقع منهم ذلك دل على أن النكير لم يكن، وأنه لا نص وأن الصحيح هو العقد والاختيار.

والجواب عن ذلك أن نقول: أما ما ذكرته أيها المخالف من أنه لم يقع إنكار، ولا تعيين منصوص عليه، فذلك ظاهر البطلان والسقوط، لما بيناه أولاً من إنكار من أنكر، وتعيينهم للإمامة في علي عليه السلام، وما جرى هنالك من التشدد، والمنازعة والمشاجرة، فلا يستقيم لك[220]إنكار ذلك منهم، بل روى ذلك المؤالف والمخالف.

وأما قولك إنه كان يلزم أن ينكروا ذلك انكاراً ظاهراً لما في الإمامة من الخطأ من مواقعة المناكير العظيمة.

قلنا: عنه جوابان:

أحدهما: أنه قد وقع من ذلك الواحب فما فوقه من شهر سيف الزبير، وانتهى الأمر بسبب الانكار الظاهر والمنازعة الشديدة، والتصريح بأن علياً عليه السلام هو الإمام إلى كسر سيف الزبير، وضرب سلمان وعمار، والوعيد بإحراق بيت فاطمة عليها السلام، كما روى ذلك أئمة الهدى وغيرهم من موالف ومخالف، وقد قدمنا ذلك مفصلاً، ونحو ما حكاه الرواة من منازعة أمير المؤمنين لهم آنفاً، في جواب الشبهة التي قبل هذه حيث بين لهم أنه أولى بالأمر منهم، ونحو قوله عليه السلام: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.

وقول العباس: وما أنتم يا قريش من شجرة نحن أغصانها، وأنتم جيرانها.

وقول عمر لعلي: لا والله حتى تجزوا رقابنا بالمناشير، حيث قال له عليه السلام: نحن أولى برسول الله وبما ترك، ونحو ما وقع من إنكار الجماعة الذين تكلموا مع أبي بكر في المسجد، وخوفوه بالله، ونهوه عن التقدم على من له الأمر، وهو أمير المؤمنين عليه السلام، وذلك ما روى الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام في كتاب حقائق المعرفة قال: لما بويع لأبي بكر وارتقا المنبر منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان ممن قعد عن بيعته اثنا عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وستة من الأنصار، فكان من المهاجرين خالد بن سعيد، وأبو ذر وعمار، والمقداد وسلمان، وأبي بن كعب، وكان من الأنصار قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، وأبو هيثم بن التيهان، وسهل بن حنيف، وأبو بردة الأسلمي، وخزيمة بن ثابت ذوا الشهادتين، وأبو أيوب الأنصاري، فقال بعضهم لبعض: قوموا إلى هذا الرجل فانزلوه من منبر رسول الله صلى الله عليه، فقال بعضهم: إن هذا الرجل اتفقت عليه هذه الأمة، ولكن انطلقوا بنا إلى صاحب هذا الأمر حتى نشاوره ونستطلع رأيه، فانطلق القوم حتى أتو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقالوا: يا أمير المؤمنين، كنا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، ورأينا هذا الرجل قد صعد منبر رسول الله صلى الله عليه وآله فأردنا أن ننزله عنه، فكرهنا أن ننزله دونك، ونحن نعلم أن الحق لك.

فقال عليه السلام: أما إنكم لو فعلتم ما كنتم إلا حرباً لهم، وما كنتم إلا كالكحل في العين، أو كالملح في الزاد، وقد اتفقت هذه الأمة التاركة قول نبيها الذين باعوا آخرتهم بدنياهم، وقد شاورت في ذلك أهل بيتي، فأبوا إلا السكوت لما يعلمون من وغر صدور القوم، وبغضهم لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن انطلقوا إليه فاخبروه بما سمعتم من قول نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تتركوه في شبهة من أمره، ليكون ذلك أوكد في الحجة، وأبلغ في العقوبة إذا لقى الله وقد عصاه، وخالف أمر نبيه، فانطلق القوم في يوم جمعة في وقت صلاة الظهر حتى جثوا حول منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، فأقبل أبو بكر فصعد المنبر فقال المهاجرون للأنصار: قوموا فتكلموا بما سمعتم من قول نبيكم صلى الله عليه فقال الأنصار للمهاجرين: بل أنتم قوموا فتقدموا، فإن الله قدمكم علينا في كتابه فقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} فكان أول من تكلم خالد بن سعيد، فقام قائماً على قدميه[221] وقال: معاشر المسلمين، أنشدكم الله وبحق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، تشهدون بأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي: ((هذا خالد صديق قومه))؟ فقالوا: بلى، والله نشهد بذلك، فقال: يا معشر المسلمين، وأنا أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: ((علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، وهو أحق بالأمر بعدي)) ثم جلس.

وقام بعده أبو ذر الغفاري فقال: يا معاشر الناس: أنشدكم بالله وبحق  رسول الله صلى الله عليه تشهدون بأن رسول الله صلى الله عليه قال: ((يرحمك الله ياأبا ذر تموت وحدك، وتدفن وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، وتدخل الجنة وحدك، يكرم الله سبعة نفر يلون غسلك ودفنك)) قالوا: نشهد والله بذلك، قال: فأنا أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: ((علي أخي وابن عمي، وأبو سبطي، والحجة من بعدي)) ثم جلس.

وقام سلمان الفارسي فقال: يا معشر المسلمين، أنشدكم بالله وبحق رسول الله صلى الله عليه تشهدون بأن رسول الله صلى الله عليه قال: ((سلمان منا أهل البيت)) قالوا: بلى والله نشهد بذلك، فقال: فأنا أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: ((علي إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، والأمير من بعدي)) ثم جلس.

وقام من بعده المقداد بن الأسود الكندي فقال: معشر المسلمين أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: ((علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، فالفائز من تولاه والكافر من عاداه)) ثم جلس.

وقام من بعده عمار بن ياسر فقال: يا معاشر المسلمين ناشدتكم الله وبحق رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام ألستم تشهدون أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ((يا آل ياسر ابشروا موعدكم الجنة)) وقال: ((عمار مع الحق والحق مع عمار حيث ما دار عمار دار الحق معه)) وقال: ((ياعمار تقتلك الفئة الباغية، يكون آخر زادك من الدنيا قعب من لبن)) فقالوا: بلى، والله نشهد بذلك، ثم أقبل بوجهه إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر، ارجع عن فعلك، واقبر شرك، والزم منزلك، وإنك على رد الأمر على من جعله الله له ورسوله، ولا تركن إلى الدنيا، ولا يغرنك من قريش أوغادها، فعن قليل ترتحل من دنياك، وما ربك بظلام للعبيد، ثم جلس.

وقام من بعده أبي بن كعب وقال: يا معشر المسلمين، ألستم تشهدون أن رسول الله صلى الله عليه وآله رقا المنبر يوم غدير خم، وقام علي إلى جانبه، وحط يده اليمنى وشالا أيديهما حتى راى بياض آباطهما، ثم قال: ((يا معشر الناس، من كنت نبيه فهذا علي وليه، ألا من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله)) ثم جلس.

وقام من بعده قيس بن سعد بن عبادة فقال: يا أبا بكر ألست تشهد أن النبي صلى الله عليه بوم كنا بين يديه فأقبل علينا بوجهه وقال: ((ياأبا بكر من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أبغض الله كان حقيقاً على الله أن يكبه على منخريه في نار جهنم)) فقال: بلى أشهد بذلك، ثم قال: يا معشر المسلمين، أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((أنا حرب لمن حارب علي، وسلم من سالم علي)) ثم جلس.

وقام من بعده أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا معاشر المسلمين، ألستم تشهدون بأن النبي صلى الله عليه قال: ((هذا ابن التيهان ما كذبني[222] منذ آمن بي، ولا نافقني منذ صدقني)) قالوا: بلى، نشهد بذلك، ثم قال: يا معشر المسلمين، أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: ((علي سفينة من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)) أو قال: ((في النار)) ثم جلس.

وقام من بعده سهل بن حنيف فقال: معاشر المسلمين إني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: ((علي باب حطة من دخلها كان آمناً)) ثم جلس.

وقام من بعده أبو بريدة الأسلمي فقال: معاشر المسلمين، أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وهو يقول: ((علي أخي وابن عمي، ووارث علمي، وحامل رايتي يوم القيامة، والخليفة من بعدي، المؤمن من بايعه والكافر من  خالفه)) ثم جلس.

وقام من بعد خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وقال: يا معاشر المسلمين، ألستم تشهدون بأن النبي صلى الله عليه قبل شهادتي وحدي، ولم يزد معي غيري؟ قالوا: بلى نشهد بذلك، فقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: ((ألا إن الله ربكم، ومحمداً نبيكم، والقرآن إمامكم، والإسلام دينكم، وعلي عليه السلام هاديكم، فوالا الله من والاه، وعادا من عاداه)) ثم جلس.

وقام من بعده أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أبا بكر، ألست تذكر هذه الآية يوم أنزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} فقمت أنت وصاحبك فقبلتما بين كتفيه وقلتما والله أصبحت مولانا، ومولا كل مؤمن ومؤمنة، فقال: بلى، قد كان ذلك، فقال: إني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: ((علي عين الله في خلقه، وولايته الصراط المستقيم، والحجة على الأمة بعدي)).

فلما أن سمع أبو بكر نزل عن المنبر، ودخل منزله فمكث لا يخرج إلى الناس ثلاثة أيام، فلما أن كان في اليوم الرابع أتاه عمر وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسالم مولى حذيفة، والأشعث بن قيس، وأبو موسى الأشعري، وقنفذ مولى عمر مع  كل رجل منهم عشرة رجال، شاهرين أسيافهم، حتى أخرجوه من منزله، وعلا المنبر، فخطب وجعلوا يدورون في المدينة وهم يقولون: والله لئن عاد أحداً إلى مثل ما تكلم به بالأمس لنعلونه بأسيافنا، فأمسك القوم للقوم عند ذلك ولم يردوا جواباً، ومن تدبر ما أخص الله به أمير المؤمنين عليه السلام من الآيات المتقدمة الكريمة، ونظر بعين البصيرة إلى ما ورد فيه من الآثار من رسول الله صلى الله عليه وآله علم، أن الصحابة لا يجمعون على خلاف تلك النصوص، لكون ذلك إجماعاً على الخطأ، فيتحقق أن مثل هذه الأحاديث الواردة بالإنكار منهم على من تقدم علياً عليه السلام لا ثقة بهم، وأن مثلهم لا يغفل عن مثل هذا الأمر الأعظم، ولا ينسى تلك النصوص ولا يعرض عنها، بل هذا مما يلزم تنزيه جملتهم عنه، ووقوع الخطأ من البعض لا يلزم الكل، مع إنكار هؤلاء العلماء والحجاحجة، ولا سيما مع شهادة  الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بأن إجماعهم حجة، وأنهم الدلالة الكبرى، وأن الله لا يجمعهم إلا على رضاه، فيعلم حينئذٍ أن هذه الأخبار وإن كانت أخبار آحاد فإن ما تضمنته لابد أن يقع من ثقته فيهم، فكيف يسوغ لمن يدعي الحق، وينتحل الإسلام أن يدعي أن علياً عليه السلام هو وأتباعه لم يدعوا النص، ولم يظهروا الارتكاز على من قال بالعقد والاختيار، وهو لأئمة الهدى وأتباعهم المهتدون، يزوون هذه الأحاديث وأمثالها، وإجماعهم عليهم السلام معلوم على وقوع الانكار، وكيف يدعي مدع من أهل الإسلام أنهم أجمعوا على إمامة أبي بكر[223] مع مثل هذه الأخبار والحكايات، ومع إجماع أهل البيت عليهم السلام على أنهم ما أجمعوا عليها، وهذه الأمة بخلاف من تقدم من الأمم من حيث إجماعها حجة، فإذن هذه الأخبار وما شاكلها من أرجح الأخبار؛ لأنها موافقة للكتاب والسنة، ولإجماع العترة عليهم السلام، ولما يقتضي به الظن الجميل في أصحاب الرسول عليه السلام، وذلك كله موقع للقطع على الجملة أنه لا إجماع معلوم تقع به الحجة على إمامة أبي بكر.

ومن كتاب الكامل المنير قال: وحديث عبد الله بن بريد قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعة رهط وأنا ثامنهم فقال: ((أنتم شهداء الله في الأرض، أبديتم أم كتمتم، قال: يا أبا بكر قم فسلم على علي بامرة المؤمنين، فقال أبو بكر: عن أمر الله وأمر رسوله؟ قال: نعم، هو الذي أمرني، قال علي: اللهم اشهد، ثم أمر عمر بن الخطاب فقال مثل ما قاله أبي بكر عن أمر الله وأمر رسوله؟ قال: نعم، قال علي اللهم اشهد، ثم قال للمقداد بن الأسود فقام ولم يقل مثل ما قاله الأولين فأتاه فسلم عليه، ثم قال لأبي ذر فقام فسلم عليه، ثم قال لحذيفة فقام فسلم عليه، ثم أمرني فقمت فسلمت عليه وأنا أصغر القوم سناً، وأنا ثامنهم))، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا غائب، فلما قدمت وجدت أبا بكر قد استخلف، فدخلت عليه فقلت: يا أبا بكر أما تحفظ تسليمنا على علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بامرة المؤمنين؟ فقال: بلى، فقلت: ما لك فعلت الذي فعلت؟

قال: إن الله تعالى لا يحدث أمراً بعد الأمر، ولم يكن الله ليجمع الخلافة والنبوة في أهل بيت، فانظر إلى هذا الخبر وأمثاله، فالحق واضح بين بحمد الله.

فأما دفع المخالف لنا بأنها أخبار آحاد فجوابنا عن ذلك أن نقول: إن كل من روى الإجماع على البيعة التي يدعونها يروي هذه الأخبار، فإن كانت هذه الأخبار لا تُقبل، فكذلك أخبار البيعة لا تُقبل، ومتى لم تُقبل فلا إجماع هناك على بيعة أبي بكر، وإذا لم تثبت خلافته بطلت خلافة عمر لكونها مبنية عليها، وصح أن الإمام هو أمير المؤمنين قبلهما، وإن كانت هذه الأخبار صحيحة هي وما شاكلها لم تصح إمامة أبي بكر أصلاً، فكيف ما دارت القضية فالحجة لنا بحمد الله، وكذلك الحق لا يزال غالباً لا مغلوباً.

الوجه الثاني من جواب الشبهة أن هذا الكلام إنما يتوجه على الإمامة من حيث قالوا بأن النص على علي عليه السلام جلي، يعلم المراد به كل أحد، وأن المخالف مرتكب الخلاف ما علم من دين الرسول صلى الله عليه وآله ضرورة، ولهذا يعظم الأمر فيه مع أنهم يعتذرون في ذلك بأن علياً عليه السلام خاف على نفسه الهلاك، فلزمته هاهنا التقية والابقاء على نفسه، وعلى الجماعة التابعة له التي هي في قلة مع ما تخشى من أعداء الإٍسلام لقرب العهد بالكفر إن افترقت كلمة المسلمين كما روي عن عبيد بن جعد قال: سمعت علياً عليه السلام[224] يقول: لقد ظلمت الحق، ولولا عهد الناس بالكفر لجاهدتهم، ولكن اصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.

فأما الزيدية الذين يذهبون إلى أن النصوص على أمير المؤمنين عليه السلام  استدلالية إذا نظر فيها علم وجوب طاعته إذا أمر وتوجه الأمر عليه بشرط السلامة، وأن لا يكون هناك ما يؤدي إلى الفساد، وتشتيت الشمل، وقد أيضاً يخفى المراد بما هذه حاله من النصوص على البغض، ويلتبس الحال فيه، فالواجب في مثل هذا عندهم وهو التنبيه على مواضع الاستدلال بها دون إظهار التكبر على الوجه الذي ذكره مورد الشبهة؛ لأنهم لا يرون المقدم على خلافها مرتكباً لكبيرة بحيث يقطعون على ذلك، بل يجوزونه ويجوزون كون ذلك صغيرة لجواز أن يلبس عليه الأمر فيظن أنه مصيب فيما أقدم عليه، فالحال فيه كالحال فيمن خالف آيات الوعيد، ومن أنكر كون القياس حجة شرعية، وما جرى مجرى ذلك مما فيه مسرح للالتباس والاشتباه، فكما أن ذلك يكفي فيه التنبيه والمناظرة اللطيفة كذلك ما نحن فيه، ألا ترى إلا ...........في كون الإجماع حجة مع ما يتعلق بذلك من اثبات الأحكام الكثير في النفوس والأموال والفروج، ومذهب الحسن البصري إلا أن الفاسق منافق يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وخالفه واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، ومثل ذلك جرى بين أبي علي وأبي هاشم من الخلاف في المسائل الكثيرة التي الحق فيها واحد، ولم يظهر من أحد من العلماء أنه قال في مثل ما هذه حاله أن ترك الانكار على الوجه الأعلى من المشاقة والمباينة، والإنكار الظاهر الشهير يدل على الرضى به، ويدل على القول بمثله لما وقع في ذلك من التنبيه والمناظرة اللطيفة، ما يكفي في مثل ما هذه حاله، فإذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يعلم من حال القوم أنه إذا ادعى الإمامة منعوه، وإن حاربهم وقاتلهم لم يقو عليهم لكثرتهم وقوتهم، وكثرة الضغائن، والإحن من المنافقين والمشركين، وغيرهم عليه مع أن ذلك يؤدي إلى تسليط الكفار وأعداء الإسلام على المسلمين لم يجب عليه إظهار الإنكار على الوجه الذي ذكره صاحب الشبهة، وادعا الإمامة على ذلك الوجه الظاهر بل يكون له السكوت انتظاراً للتمكين.

وأما قوله أنه يتبين بذلك أن لا نص بذلك فقد أريناه النصوص الكثيرة فيما تقدم، وبينا وجوه دلالتها على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، بما يشفي غليل الصدور، ويوضح ملتبسات الأمور.

وأما قوله: وإلا كانت الأمة قد أجمعت على الخطأ، وذلك لا يجوز فقد أريناه أن الإجماع بأوضح دلالة، فإن أمير المؤمنين عليه السلام ومن تقدم ذكره من المؤمنين لم يتركوا أمر الرسول عليه السلام، ولم يعدلوا عنه إلى غيره كما قدمنا ذلك، فأما من عداهم فعنه جوابان:

أحدهما: أنه لم يظهر لنا أنهم قد اضطروا إلى قصد الرسول عليه السلام في تلك النصوص، فخالفوه مع ذلك، ويجوز أن يكونوا تركوا الاستدلال بقوله عليه السلام، وعدلوا عنه لشبهة دخلت عليهم، أو لأمور دهمتهم عند اجتماع الأنصار في السقيفة، وطلب بعضهم البيعة لسعد بن عبادة، فلما سئلوا عن ذلك قالوا: خشينا أن نكون كالغنم بلا راعي، لما عظم عليهم من موت الرسول عليه السلام[225] ولما نالهم من الفزع والجزع من أعداء الإسلام، ثم لما وقعت البيعة من بعض لأبي بكر لم ينعموا النظر، فاستمروا عليه، وربما أن يعلم البعض قصد النبي عليه السلام فيحمله الحسد وطلب الدنيا على ترك علي عليه السلام، واتباع أبي بكر، ولهذا الوجه لا نقطع بفسق أحد من الصحابة ما لم يعلم من أحدٍ منهم ارتكاب كبيرة.

ومن جواب الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام للشرفاء من سليمان قال عليه السلام: ومما نزل فيه أيضاً أنه لما اجتمع قوم ممن كان يسر بغضه علي عليه السلام، فقالوا: ما رضى محمد أن يكون على ما هو عليه حتى جعل الأمر بعده لابن عمه، فتقاسموا أن لا ولي الأمر بعده لنقتلنه، فعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لهم: ((قد فعلتم فاعتذور إليه)) وحلفوا ما قالوا، فأنزل الله تعالى في ذلك ما يقول عز وجل: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.

فالجواب الثاني أن المتبعين لأبي بكر هم بعض الأمة، وهم ممن يجوز عليهم الخطأ والمعصية، فإنك إذا تأملت أمرهم كشف لك عن قلة الرأي، والتسرع إلى أمر لا قاعدة له، ألا ترى إلى تركهم للأمر الأهم، وهو أمر رسول الله صلى الله عليه وآله، ومبادرة أبي بكر وعمر، وأبي عبيدة إلى سقيفة بني ساعدة، واستبدادهم بالأمر دون بني هاشم، وهم لحمة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأشرف الخلق بعده، ثم انظر إلى قول أبي بكر لهم: بايعو أحد هذين إن شئتم -يعني عمر وأبا عبيدة- فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: الأئمة من قريش، ثم مد عمر يده، فبايع أبا بكر وبايعه أبو عبيدة، وامتنع سعد بن عبادة، فقال عمر: اقتلوا سعداً قتل الله سعدا، فأي اختيار هاهنا يا مدعي الاختيار مع كراهة من كره ذلك، أم أي عقد هاهنا عقد لأبي بكر غير الرجلين، ثم وقع الإكراه بعدهما فلم يذكر العقد إلى على وجه الاستظهار، وإلا فلا أصل في الشرع للعقد الذي اعتبروه، ولا للاختيار الذي ذكروه كما قد هيأ ذلك، والله عز وعلا يقول: {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ويقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً} يبين ذلك ويوضحه أن أبا بكر أوصى بالخلافة لعمر على كره مما ذكرنا أولاً من كبار الصحابة، بل روي أن الأكثر منهم كان كارهاً لم يبايع لعمر بعد ذلك، ولم يطلب الاختيار، فإن كان الاختيار  فرضاً واجباً فقد عصى من عهد وعصى صاحب العهد؛ لأنه سلك غير الطريق الشرعية بزعمهم، وإن كانت الإمامة ثبتت بالعقد فقد أخطأ وعصى من اختاروا، وإن قالوا تثبت بهما جميعاً فذلك لا يصح؛ لأنه ليس في الكتاب ولا في السنة، ولا في الإجماع ما يدل على ذلك، وقياس نص إمامة على إمام كما قاله بعضهم على الولايات الشرعية لا تصح؛ لأنها مختلفة الأصول، فإن بعضها للولي وبعضها لا يصح ذلك منه، ألا ترى أن للوصي أن يوصي إلى الغير، وليس للوكيل أن يوكل ولا لولي النكاح أن يولي غيره بعد موته[226] فليس بأن تقاس الوصية والعهد بالإمامة على بعضها أولى من البعض الآخر، على أنه إنما كان للوصي أن يوصي بحكم الشرع، ولا دلالة على أن للإمام أن يعهد إلى إمام، وتكون إمامته ثابتة بالعهد فقط، أو بالعهد والاختيار جميعاً، بل ذلك مجرد مذهب المخالف فقط، وليس له حجة إلا ما يدعيه من الإجماع، وقد انهدم، وكذلك الباطل تنهدم أصوله كما رام صاحبه إقامته والحمد لله، وإنما الاختيار الذي ادعوه وذهبوا إليه بدعة في الدين ليس بمشروع في الإسلام، وكيف ترا الحاضرين بالسقيفة أصابوا الحق إن كان الأمر في قريش كما قال المخالفون، أليس رؤيتهم أن الأنصار أرادوا الأمر فيهم فاخطأوا، وهذا عمر يقول مرة: ولو كان سالم مولى حذيفة حياً ما تخالجني فيه الشكوك، واخطأ عمر في ذلك، وهدم قاعدته التي بنا عليها بزعمه، وهذا أبو بكر وعمر وأبو عبيدة يحملون الناس كرهاً على بيعة أبي بكر باختيار رجلين أو ثلاثة، فاخطأوا على هذا الأصل الفاسد، أبو بكر مع ذلك يقول: وليتكم وليست بخيركم، فاخطأ في تقدمه مع ذلك، واخطأوا في اتباعه، ويستبدون مع ذلك بالأمر دون أهله ودون مشورتهم، ولو كان ذلك عن إجماع من المسلمين كما زعموا، وعقد واختيار عن رضى كما هذوا بذلك لكانت البيعة باجتماعهم، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه، ولم تكن كما قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقا الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، وإذا قال قائل إن هؤلاء من أمة محمد اخطأوا فهم ممن يجوز عليه الخطأ، وليسوا بكل الأمة، وما هؤلاء من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام بأكثر من أصحاب موسى عليه السلام حيث يقولون مرة: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، وكذلك بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وآله في غزوة تبوك نظروا إلى سمرة خضراء فتبادروا من جانب الطريق يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، وذات أنواط شجرة كانت قريش تعبدها، وتعلق عليها الحلي والحلل، وفي ذلك يقول الله عز قائلاً: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} الآية، وكذلك عمدت بنو إسرائيل إلى العجل يعبدونه طاعة للسامري، وقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وتركوا هارون ومن معه حين قال هارون عليه السلام: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَانُ} فاستضعفوه عليه السلام وأطرحوا قوله، وكذلك هذا العصبة من أصحاب محمد صلوات الله عليه نصبوا أبا بكر لهم خليفة بغير حجة ولا بصيرة كما قد ترى، وأطاعوه فهو كما قال بعض أئمة الهدى فيما قدمناه عجلهم، وخالفوا وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وولي أمرهم واستضعفوه عليه السلام، فنجا هو والمؤمنون المتبعون له عن معصيتهم، فكان هذا تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله: ((لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة)).

وروينا من تفسير الثعلبي رفعه إلى ابن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلون عن الحوض، فأقول يارب أصحابي، فيقال: إنك لا علم لك بما أحدثوا، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى)).

ومن صحيح مسلم رفعه إلى ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بموعظة فقال: ((ياأيها الناس إنكم محشورون إلى الله عراة حفاة، غرلاً كما بدأنا أول[227] خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلاق يكسا يوم القيامة إبراهيم صلى الله عليه، ألا وإنه سبحانه سيجا برجال من أمتي فيأخذنهم ذات الشمال، فأقول يارب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ إلى قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} قال: فيقال لي إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)).

قال: وفي حديث وكيع ومعاذ: فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

ومن الجمع بين الصحيحين قال: وأخرجه البخاري من حديث عطاء بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((بينا أنا قائم إذ أقبلت زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار، والله ما قلت ما شأنهم قال: إنهم: ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار، والله..... قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)).

وقد روى صاحب كتاب الكامل المنير أن الأشعث بن قيس قال لعلي عليه السلام إنك لم تقم فينا مقاماً قط إلا وأنت تقول: والله ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما منعك أن تضرب بسيفك دون ظلامتك؟ قال: يا أشعث منعني من ذلك ما منع هارون إذ قال لموسى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} وكان قول موسى لهارون: إن ضل قومي واتبعوا غيرك فجاهدهم ونابذهم، فإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك، ولو أمرني بمجاهدتهم وحدي لجاهدتهم وحدي، ونحن لا نشك في وقوع المعصية منهم، وأنهم قد ظلموه عليه السلام تراثه وابتزوا حقه، والله أعلم بمقدار معصيتهم ، وليس إذا عصوا الله دون من أمسك عن معصيته من الصحابة يلزم من ذلك إجماع الكل على الخطأ، أو يلزم منه كما قال صاحب الشبهة وصحت الاختيار، فواعجباه ممن يستعظم نسبة القوم إلى المعصية، وقد أخبر الله بعصيان المهاجرين والأنصار حيث يقول تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} فقال: وعصيتم ولم يقل تعالى: وأطعتم، ثم قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} فأخبر تعالى بأنهم قد عصوا وتولوا عن النبي مدبرين، وأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وأنهم يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا عصوا والرسول بين أظهرهم فغير بعيد ذلك بعد موته، كما قد كان.

ثم يقال للمخالف: أخبرنا كيف تثبت إمامة إبي بكر وصحة بيعته، وطاعته مع كونه بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وآله تحت ولاية أسامة يصلي بصلاته، ويدخل تحت أمره ونهيه، ولذلك احتج عليه أسامة لما سأله البيعة له، فأما أن[227] تقول: أيها المخالف إن أبابكر وعمر خرجا عن جيش أسامة وتركا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتركا أميرهما المقدم عليهما فقد عصيا الله تعالى.

وإما أن تقول إنهما لم يكونا في جيشه، ولا فيمن لزمهما أمره ونهيه، واتباعه بأمر رسول الله وولايته له عليهما، فما بال أسامة يحتج على أبي بكر، ويقول له: أما أنا فرسول الله أمرني عليك فأنت من أمرك، والله لا أطيعك أبداً، ولا أحللت لك عهدي، فلا صلاة لك إلا بصلاتي هذه، وتوليه أسامة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهما وعلى غيرههما مشهورة مستفيضة.

وقد ذكرناها في كلام أمير المؤمنين عليه السلام وروى ذلك أئمة الهدى عليهم السلام، وقد تقدم ذكر ذلك فكيف ساغ لهما خلاف أمر رسول الله، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فكيف تثبت إمامة مولى عليه بأمر رسول الله صلى الله عليه.

ثم يقال للمخالف ما تقول أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد علم من يلي الأمر من بعده أولم يعلم فإن قلت: لم يعلم فذلك محال إذ قد أعلمه الله تعالى ما هوكائن بأمته إلى يوم القيامة بذلك أخبر عليه الصلاة والسلام، وإن قلت: قد علم، قيل لك فلِمَ جعل أبابكر وعمر في جيش أسامة، وجعله والياً عليهما، وهو غلام بن ستة عشر سنة كما روي، فكيف ثبتت ولاية أبي بكر على من له الولاية  عليه من رسول الله عليه السلام، ماكان ذلك إلا ليحتج عليهما أن قعدا، وتخلفا النفير معه، وقد فعلا وهو ما عصيا به الله وخالفا فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، هذا وقد أقام رسول صلى الله عليه وآله بالمدينة سنين كثيرة فما بلغنا أنه ولاهما على بعوثه وسراياه إلا ما كان في خيبر، فعاد بعضهم يجبر بعضاً، وانهزموا حتى وقع الفتح على يدي أمير المؤمنين عليه السلام كما تقدم، وولى عمر الصدقة فشكاه العباس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعزله عنها، أو ماكان في سورة برآءة وقد تقدم حديث ذلك وولى عليهما رسول الله صلى الله عليه وآله عمرو بن العاص وأسامة بن زيد وغيرهما، ولم يول أحد قط على أمير المؤمنين كما قدمنا بيان ذلك.

قالوا فهل كان لهم من ذكر

 

 

يوم التقوا بعد النبي الطهر
غف

سوى اختيار رجل للأمر

 

 

فكان إجماعاً طوال الدهر

قلنا اطلتم ذكر إجماع القوم

 

 

دعوى جهالات كاحلام النوم

فهل علمتم باظطرار ذا الروم

 

 

أو بدليل قاصر عنه اللوم

شبهة: قال المخالفون أن الصحابة لما تنازعوا في الإمامة لم يكم لههم ذكر إلا اختيار رحل إلى حسب ما قد تقدم من الكلام، فأجمعوا على الاختيار.

الجواب عن هذه الشبهة من وجهين:

أحدهما: أنها فرع على أصل منتقض، وهو أن الإجماع على الاختيار قد وقع من أهل السقيفة كما ادعوا، وأهل السقيفة بعض من الصحابة وليسوا بكلهم، فإن علياً عليه السلام [229] ومن قدمنا ذكره معه خرجوا بالإجماع بالكلية.

الوجه الثاني: أن تقول لهم هل تعلمون هذا الإجماع الذي ادعيتموه أو تظنونه؟ فإن قالوا: نظن لم يلزم اتباع الظن في هذا؛ لأن كل مبطل يظن كذلك أن معه حجة، وإن قالوا نعم، قلنا: فهل تعلمون ذلك ضرورة أو استدلالاً؟

فإن قالوا: ضرورة قلنا: فإن أكثر الضروريات لا تتصور هاهنا كالبديهة، والمشاهدة، والخبرة والتجربة؛ لأنا نعلم خلافها، ولا يمكن ادعا ذلك، فإن المخالف لم يحضر ولم يشاهد، ولا مجال للخبرة والتجربة، وكان يجب أن نجد ذلك من أنفسنا، فاما الأخبار المتواترة، فإن ادعوها فذلك محال؛ لأنا مشاركون للمخالف في جميع ما يرويه، وفي جميع ما يرويه غيره من الأخبار، ونحن لا نجد من نفوسنا العلم الضروري بوقوع الإجماع على أن الاحتيار طريق للإمامة، على أن المخالف للمعتزلة هو الجم الغفير من الشيعة، وهم كثيرة لا يمكن فيهم التواطؤ على الكذب، وإن قالوا نعلم ذلك بالاستدلال، قلنا: فليس في العقل ولا في الكتاب ولا في السنة ما يدل على أن الاختيار طريق  للإمامة.

وأما الإجماع فكيف يصح وقوع الإجماع مع وقوع الخلاف فيما يدعونه من الإجماع فثبت أنه لا طريق لهم إلى صحة هذا المذهب.

وقال من ظن دليلاً قد حضر

 

أن الإمامات العظيمات الخطر

واجبة في الناس دفعاً للضرر

 

فكل من ظن نهانا وأمر

فقلت لابين على ذا الأصل

 

أن الطريق في الوجوب عقلي

فإنما الشرع طريق الكل

 

لولاه لم يقض بحسن الفعل

شبهة: قال بعض المخالفين إن الإمامة تجب لدفع الضر عن النفس، فإذا غلب على الظن أنه يندفع بنصب واحدٍ كان واجباً، ألا ترى أن قوماً أحاط بهم  العدو وغلب على ظنهم أنهم أقاموا واحداً منهم سلموا منه فإنه يلزمهم ذلك.

والجواب أن هذا نبأ على أن طريق وجوب الإمامة العقل، وذلك باطل؛ لأن ما ذكره المخالف ليس باستدلال على نفس  المسألة، فإن الذي هو التنازع ليس هو أن الرئاسة هل تثبت بالعقل أو بالشرع، وإنما هي مسألة رئاسة الإمامة، وهي التي تحتاج إليها في إنفاذ أمور شرعية نحو إقامة الحدود، وأخذ الزكوات كرهاً، وتجييش الجيوش لقتال الكافرين والمنافقين والفاسقين، وهذه الرئاسة المخصوصة في هذه الأمور لا تعلم بالعقل، بل تعلم بضرورة العقل، أن العقلاء قبل ورود الشرع ما يفزعون إلى نصب رئيس يتشرطون فيه أوصاف الأئمة ومنصبهم، ولهذا نجد من لا يعرف الشرائع لا يعرف هذه الرئاسة، وإنما الذي ذكره المخالف في كلام ورئاسة ليس بعامة نحو الرئاسة على العاقلة والقرية والقبيلة، وما أشبه ذلك، ومعلوم أن العقلاء لا يشترطون أوصاف الأئمة في هذه الرئاسة.

ثم يقال للمخالف إنما ذكرته من تولية واحد لدفع الضرر إذا أحاط بهم العدو ليس من الإمامة[230] في شيء؛ لأن ذلك الواحد إن كان يقصد إلى ما يقصد إليه الإمام من إقامة الجمعة، وإنفاذ الأحكام، أحكام الإمامة لم يجز توليته على الإطلاق، وإنما يجوز ذلك إن كان من منصب الإمامة، وكان مختصاً بأوصافها، وإن أردت الإمارة فذلك أمر غير الإمامة.

شبهة للمخالفين: قالوا فإذا كان الحق لعلي عليه السلام فلِمَ لم يبادر إلى السقيفة قبل وقوع العقد لأبي بكر ليورد حجته وينازع في الأمر؟

والجواب عن ذلك أنه عليه السلام اشتغل بالأمر الأهم، وبدأ بالحق الأعظم، الذي أضاعوه واشتغلوا عنه بالمنافسة في الدنيا، وهو تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم لو قدرنا أن ذلك كان يمكنه برسالة فإنه يجوز أن يكون أحسن بهم الظن، وأنهم لا يعجلون إلا بعد نظر وتدبر، ولا سيما ما قد علموا فيه من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم مع ذلك لا يعدلون عنه.

ويقال للمخالف: أليس قد روى علماؤنا وعلماء مخالفينا قول أبي بكر في أول خطبة بعد عقد من عقد له الأمر وليتكم ولست بخيركم، وإني لا أتكلم بها جهلاً، فإن كان صادقاً في قوله فلقد أخطأؤا في توليته، وإعراضهم عن من هو خير منه، وإن كان كاذباً في قوله فكيف يولون كذاباً يعلو منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، ويعلن بهذا الكذب الصراح في جميع الصحابة، وعلى كل حال فهذا الخبر دليله على أنه ليس هو الأفضل بإجماع الصحابة أجمعت على ذلك، وإجماعهم حجة، يبين ذلك ويوضحه أن أبا بكر لما قال ذلك على المنبر بمحضر من الصحابة لم يخالفه أحد منهم، ولا أنكر عليه أحد، وإنما روي أن بعضهم قال: أنت أحق بهذا الأمر، ونحن لا نقيلك، وليس هذا رد عليه أنه خيرهم، وليس لقائل أن يقول إنه أراد بذلك التبكيت للنفس وترك العجب؛ لأن هذا لا يصح من حيث أنه يكون كذباً منه، وليس في الكذب تواضع بل فيه الضعة والنقص، ورسول الله صلى الله عليه وآله كان أزهد الخلق وأورعهم، فقال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني في الحديث الطويل، وقد تقدم وكان لا يزال يدعي الفضل على غيره، واحتج بذلك علماء الدين على أن الفاضل ينبغي أن يشهر فضل نفسه لا على وجه التزكية لنفسه، ولكن لأنه تتعلق بذلك أحكام شرعية في الاستفتاء منه، وقبول قوله، وإجابة دعوته إلى طاعة الله تعالى، وإنفاذ حكمه، والرجوع إليه عن المهمات، وتلبيته إذا دعا عند الملمات في الدين، وغير ذلك مما ذكره قاضي القضاة، وغيره من علماء الدين، فلو حمل قول أبي بكر عل ذلك لكان حملاً له على أقبح الوجوه، ولكانت الصحابة لا تقاره أيضاً على ذلك؛ لأنهم كانوا يذكرون فضائلهم ولا يقولون هذا القول أبداً، وإنما سكتت الصحابة لأنه صادق فيما قاله من أنه ليس بأفضلهم، ولا خيرهم فيبطل بذلك قول من يفضله، ومن فضل عمر فهو عن ذلك أبعد، فإن المعلوم الظاهر أنه قال لأبي عبيدة بن الجراح: امدد يدك أبايعك، فقال أبو عبيدة: ما لك في الإسلام فهة غير هذا، أتقول لي وأبو بكر حاضر، وأشار إلى أن أبي بكر[231] أفضل منه، ولم يجعل عمر أفضل ولا قال أنا أفضل وأولى بهذا الأمر، على أن تفضيل عمر قول خارج عن قول الصحابة والتابعين، وإنما الذين فضلوا هم قوم من الخطابية قد سبقهم الإجماع بخلافه، وقد فضل قوم العباس بن عبد المطلب وقالوا: هو الأفضل بعد الرسول عليه السلام، ومن المعلوم الظاهر أن قولهم هذا خارج أيضاً عن قول الصحابة والتابعين، وأن هذا القول موضوع لبني العباس فقط، وقد سبقه إجماع العترة والتابعين، ومن المعلوم أن العباس لم يكن من السابقين ولا من المهاجرين، ولا من فقهاء الصحابة، فكيف يفضل علي عليه السلام.

وأعجب من ذلك قول من ذهب من المعتزلة إلى الوقف فيهم؛ لأنه قول باطل؛ لأن الصحابة والتابعين إلى زمن أبي الهذيل كانوا على فرقتين، فرقة قالت بتفضيل علي على أبي بكر وغيره، وكانوا يسمونهم الشيعة، وفرقة قالت بتفضيل أبي بكر وكانوا يسمونهم العمرية والعثمانية، والشيعة تسميهم النواصب.

فأما القول بالوفق أو بتفضيل العباس أو عمر فلم يقل به أحد في ذلك الزمان، ولا هو محكي في شيء من المقالات، ولا هو مروي في شيء من الأخبار، حتى ذهب إليه أبو الهذيل، وبايعه أبو علي وأبو هاشم، فبان أنه مخالف لإجماع الصحابة، وأيضاً فإنما يقوله أهل التوقيف محال؛ لأنهم يقولون بأنهم لا يقطعون على أن أبا بكر أفضل من علي، ثم يقولون أن أبا بكر أفضل من عمر، وعمر أفضل من عثمان، ويتوقفون في علي وعثمان أيضاً، وإذا توقفوا فيه كانوا قد جعلوهما كالمتقاربين، وذلك يدل على أن أبا بكر لا يساويه علي عليه السلام؛ لأنه أفضل ممن هو أفضل من عثمان، وهذا يناقض القول بالتوقف في أبي بكر وعلي، وفيه دلالة على بطلان هذا القول، وثبوت الإجماع على أن علياً عليه السلام هو الأفضل؛ لأنها إذا بطلت أقوال الأمة كلها في التفضيل، ولم يبق إلا قول من فضل علياً عليه السلام وجب أن يكون هو الحق، وإلا كان الحق قد خرج عن أيدي الأمة، وذلك لا يجوز، ولما ثبت من أنهم لا يجمعون على أقوال كلها باطلة، فقد ظهر هاهنا بعد ما ادعاه المخالفون من فضل غير علي عليه السلام من الصحابة، وظهر أنه الأفضل بهذا أفتى بغيره مما قدمناه، ومما سيأتي وهو أظهر من أن يخفى، ولقد أبعدت المعتزلة في هذه الدعوى كما أبعد أبو هاشم، ومال عن طريقة الصواب لما احتج أهل مذهبنا على أن علياً عليه السلام هو الأفضل بآية المبالهلة، حيث جعل الله تعالى نفسه نفس النبي صلى الله عليه وآله بقوله: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}.

قال أصحابنا: وإذا صار مثل نفسه صلى الله عليه وآله فلا أحد أفضل من رسول الله، ولا أكثر ثواباً منه، ولولا الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وآله أفضل منه لكانت الآية متناولة لذلك، فإنها تقتضي تفسير النبي صلى الله عليه وآله أن نفس علي كنفسه صلى الله عليه وآله في كل وجه إلا ما خصه دلالة، ولهذا صار دلالة على إمامته، فقال أبو هاشم: لم يقصد بذلك الفضل، وإنما قصد القرب بالنسب، وهذا قول ساقط ظاهر البطلان؛ لأن العباس بن عبد المطلب أقرب من علي نسباً، فلماذا خص علياً بذلك[232] دونه، والعباس قيل أسلم قبل ذلك بثلاث سنين.

قالوا وقد نص عتيق لعمر
فأجمع القوم على من قد أمر

 

بالأمر نصاً شاع فيهم وظهر
ولم يكونوا منكرين ما سطر

قلنا إلى كم يدعون الإجماع
في ذاك من متبوعهم والاتباع

 

وقد سمعتم بالكثير قد شاع
فطار في صحائف وأسماع


شبهة: قالوا أليس أن أبا بكر نص على عمر، وأقامه مقامه، ولم يكره ذلك أجد من الأمة، ولا تخلف منهم متخلف عن عمر، فلولا أن طاعة أبي بكر واجبة لكان لا يجوز انعقاد الإجماع على طاعة عمر لمكان نص أبي بكر عليه، فلما انعقد الإجماع عليه علمنا أن طاعته إنما وجبت لمكان الاختيار وذلك يبطل النص.

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:

أحدها: أنا قد بينا في غير موضع في هذه الكتاب امتناع أصحاب أبي بكر من قبول اختيار عمر، وإنكارهم عليه في اختياره، وذكرنا كراهة المتوبع حقاً، وهو أمير المؤمنين علي عليه السلام لتقدم الأول والثاني والثالث، وإنكاره لأمره هو ومن معه من المؤمنين.

الثاني: أن قول المخالف أن الصحابة أجمعت على ذلم دعوى لا بنية عليها، إلا أن يرجع بذلك إلى مثل قوله أولاً في أبي بكر من أن القوم كانوا بين مطيع له قائل به وبين ساكت عنه، والسكوت يدل على الرضى، فقد تقدم بطلانه لما بيناه مكن صرف السكوت إلى غير الرضى لا سيما مع استحكام أمر عمر وشدة وطأته وحدة شوكته.

والثالث: أن معاوية لم يظهر من أحد فيه نكير على الوجه الذي يريد صاحب الشبهة من الظهور والاشتهار والمقاساة بعد مهادنة الحسن بن علي عليهما السلام، فكما لم يدل ذلك على الرضى من كافة المسلمين بصحة ما كان يفعله معاوية وعلى الإجماع من كافة المؤمنين على الاعتراف بغمامته، والانقياد له كذلك ما نحن فيه، فإنه قد ظهر من أمير المؤمنين أولاً، ومن الصحابة لاحقاً به مما قد أوضحناه، وإمامة عمر تبع لإمامة أبي بكر، فإذا لم يثبت الأصل فالفرع بأن لا يثبت أولى، ولهذا فإن ظالماً متى اغتصب أرضاً فبنى فيها أساس دار فأنكر علهي المسلمون ذلك فقهرهم واستولى عليها، فلما كان بعد مدة أصلح السقوف على الحوائط التي كانت، واتم العمارة والمسلمون مستعملون السكوت الأول تقية ومخافة، فإنه لا يقال بأنه قد صار محقاً في ذكل لمكان السكوت، وجه ينصرف إليه، ومتى قيل إن ما ذكرتموه من أمر معاوية غير مستقيم لأنه قد كان المعلوم من حال جماعة من أعيان الصحابة والتابعين كراهة ذلك كما وردت الأخبار.

قلنا: فكذلك جوابنا فارضوا منها أيها المخالفون لنا بمثل هذا الذي قلتم، فإن العترة بإجماعها روت عن أمير المؤمنين عليه السلام ومن تابعه من المؤمنين أنهم كانوا كارعين لتقدم أبي بكر، ولتقدم عمر، ولقتدم عثمان كما قدمناه أولاً، وذكرناه الآن في الجواب عن هذه الشبهة غير راضين باستيلائهم على أمره عليه السلام، فلا يكون في ترك النيكير على ذلك الوجه كما ذكره المخالف دلالة[233] على الرضى والتسليم، ورواية العترة بأجمعها تدل على القطع كما تقدم، ولو أنها مثلاً لم تدل على القطع ولم تكن مقتضية للعلم، فأقل أحوالها أن تكون مقتضية لغالب الظن، وذلك يمنع من القطع على رضائهم بولاية القوم وتقدمهم، يزيد ذلك بياناً ووضوحاً أن خالد بن الوليد ما رضي بإمامة عمر ولا أطاعه في أمره، ولا خاطبة بأمير المؤمنين، ولا بايعه إلا أن مات،  وكذلك ما روي أن أبا بكر قال لعبد الرحمن بن عوف لما استخلف عمر كلكم قد ورم أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر له، وكذلك ما روي من تفرق الجماعة عن أبي بكر، لما خشوا بأنه مستخلف عمر، وأتوا علياً عليه السلام فقالوا: إن أبا بكر مستخلف عمر، وقد علم الناس إسلامنا قبل اسلام عمر، وفي عمر بقية التسليط إلى غير ذلك مما قدمناه من الحكايات المشهورة التي رواها الموالف والمخالف، وذلك يؤذن بوقوع النكير في أمر عمر كما كان في أبي بكر هذا، والأمر على ما ذكرناه من تشدد عمر وأصحابه، بحيث لو زاد النكير ظهوراً لم يؤمن وقوع الفتنة المؤدية إلى هدم قواعد الإسلام، لا سيما مع ما حصل في أيام عمر من الفتوح التي بها يقوى منه وتشتد وطأته، وانتشر لذلك الإسلام، فلم يكن لظهور الإنكار بحيث يريد على حد الواجب وجه، فإذا كان قد جرى في أمره من الإنكار ما قد ذكرناه لم يجب تكراره، وكذلك فالمعلوم من حال عمر في آخر أيامه أنه كان يرجع إلى أمير المؤمنين في المهمات، فلا يكاد يقطع أمراً إلا بمشورته، نحو ما رواه المخالف والموالف من قول عمر: ما من معضلة إلا وشهدها ابن أبي طالب، ونحو قوله: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب، وقوله: لولا علي لهلك عمر، ونحو ما روي أنه قال: عجزت النساء أن تلدن مثل ابن أبي طالب، وفي بعض الروايات عنه أنه قال لعلي عليه السلام: لولاك لافتضحنا، وذلك ثابت في مثل هذه المسائل التي سئل عنها أبو بكر، والمسائل التي سئل عنها عمر، فلم يعرفا جوابها، وأجابها عليه السلام وفي غير ذلك، وكان المعلوم من حال عمر أنه كان إذا أراد امضاء حكم صعد المنبر، وجمع الصحابة واستشارهم، وكان يقول: رحم الله امرءاً عنده في هذه مشورة أو رأي أظهر ذلك، فلما كان طريقته كما ترى فإنه إذا لم يحكم بما ليس من الدين لم يجب إظهار النكير عليه، لما في اظهاره من الاختلاف والتفرق، وتشتيت الكلمة، ووهن الإسلام.

ومتى قيل إنما ادعغى في أمر ابي بكر وعمر جميعاً  أنه جرى على مثل ما جرى عليه أمر معاوية في اجتماع الخلق على ذلك، فقد أبعد فإنا نعلم ضرورة أن أعيان أهل البيت وغيرهم كانوا ساخطين لأمر معاوية، ولا يمكن القطع على كارهة زاحد  من الصحابة للأمر الذي عقد لأبي بكطر وعمر، وإنما يروى كراهة بعضهم بالاحاد.

فالجواب عن ذلم أنا إنما جمعنا بينهما من وجه جامع وهو أن سكوت من سكت عن المبالغة في النكير في إمامة أبي بكر وعمر لا تدل على الرضى لما كان هناك وجه يمكن صرف المبالغة لغة في السكوت إليه، وهو خشية الفرقة التي تعود بالضرر على الإسلام، كما أن سكوت من سكت عن المبالغة في الإنكار[234] على معاوية لا يدل الرضى لما كان لسكوته وجه يمكن صرفه إليه وهي المحاذرة من أن يؤدي ذلك إلى منكر أعظم، ومضرة أوفى.........، وأحد شروط انكار المنكر أن يعلم من يتوجه عليه ذلك أو يغلب على ظنه ن كان إنكاره لا يؤدي إلى وقوع منكر أعظم منه أو مساوء.

فأما قول المخالف أن من أعيان أهل البيت عليهم السلام وغيرهم من كان كارهاً لأمر معاوية، وأن ذلك معلوم ضرورة.

فالجواب عن ذلك مثل ما قدمناه آنفاً عن مثل هذا الاعتراض في أبي بكر وهو أنا كذلك نقول فإن أهل البيت عليهم السلام مجمعون أن علياً عليه السلام، ومن تابعه من المؤمنين كانوا كارهين لولايته، غير منقادين لها عن رضى، فإن كان خبرهم مقتضياً للعلم بذلك فهو الغرض، وذلك هو الصحيح كما تقدم من أن إجماعهم حجة، وأن إجماعهم يقتضي العلم، وإلا فلا أقل من أن يقتضي غالب الظن.

ثم يقال للمعترض وكذلك ما كان من جماعة بني هاشم ظاهر فإنه ما حضر أحد منهم السقيفة، ولا رضي بما كان فيها، ولا يصح أن يدعي على أحد منهم أنه بايع بعد ذلك طائعاً، ولا أنه سلم الأمر تسليم رضى به، وقد قلنا أن السكوت له وجه يمكن صرفه إليه.

فقال في الشورى لنا دلالة
فأجمعوا واتبعوا ما قاله

 

إذ سمعوا من عمر المقاله
وكان فيهم صنو ذي الرسالة

قلنا فما أقبح ما يقول
أما لكم دين ولا عقول

 

كم تدعي الإجماع يا جهول
ولا لكم من أمة معقول

أما أمير المؤمنين فحضر
ويتلو الآي عليهم والأثر

 

شؤراهم ليستعيد ما غبر
ويظهر الحجة فيما قد ظهر

شبهة: قالوا إن الصحابة قد اتفقت على الرضى بالشورى لما جعل الأمر عمر شورى بين ستة، فلولا أن ذلك حق لما اتفقت الصحابة عليه، لا سيما وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام في جملة من أدخل نفسه في الشورى.

والجواب عن ذلك أن هذا من أضعف ما تعلق به المخالف؛ لأن هذا فرع على إمامة عمر وغمامة عمر فرع على إمامة أبي بكر، ولا يجوز التمسك بالفرع في تصحيح الأصل، ولكن هلم الدلالة على صحة الأصل ليتم الفرع بعد تمامه على أن في قصة الشورى من الخليط والعدول عن طريقة الصواب مالا خفاء به ممال قد بيناه أولاً.

وأما قول المخالف لا سيما وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام في جملة من  ادخل نفسه في الشورى.

قلنا: عنه جوابان:

أحدهما: أنه عليه السلام رجا أن يصير إليه حقه، وأن يرد عليه ميراثه على وجه لا يقع فيه تفريق كلمة المسلمين، ولا تشتيت شملهم.

الجواب الثاني: أنه عليه السلام توصل بذلك إلى إظهار حجته  على القوم، وبيان أمره على وجه الظهور، وكان ذلك كذلك، فإن من نظر إلى قصة الشورى، وعلم ما تكلم به عليه السلام في هذا الباب على أنه لم يبق لكنه، ونحن الآن بمشيئة الله مودون خبر الشورى، وما كان منه عليه السلام في ذلك، وهو مشهور لا يرده أحد من المخالفين والموالفين، بل كلهم روى[235] الحديث، وما جرى هنالك وهو يروى بروايات فيها بعض اختلاف في تقديم وتأخير، وزيادة ونقصان، والمعنى فيها واحد وهو الاحتجاج عليهم، وقد قدمنا إحدى الروايات في صدر الكتاب، وهذه رواية أخرى رواها إبراهيم بن محمد بن خيران في كتاب الكامكل المنير، ورواها أيضاً أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري في كتاب المنير لم يختلف إلا في اليسير، كليهما رواها عن أبي الجارود وغيره.

قال: كنا على الباب يوم الشورى فسمعنا علي بن أبي طالب صلوات الله عليه يقول: بايع الناس أبا بكر وأنا والله كنت بها أولى منه وأحق بذلك، إن بيعتي في رقابكم جاءت عن الله عز وجل وعن رسوله، فنقضتم العهد والميثاق، فالله بيني وبينكم، ثم بايع الناس عمر وأنا والله كنت أولى بها وأحق، ثم تريدون أن تبايعوا لعثمان فالله بيني وبينكم يوم القيامة، ثم قال: والله لأحتجنَّ عليكم  بحجج لا يستطيع معاهد منكم ولا مشرك ولا مصلي أن يرد حجة منها.

ثم قال: ناشدتكم الله أيها الخمسة القضاة وأنتم أيها الناس أتعلمون أن فيكم من  وحد الله قبلي؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من صلى القبلتين غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من اتخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخا لنفسه غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من له عم كعمي حمزة أسد الله عز وجل وأسد رسوله عليه وآله السلام، وسيد الشهداء الذي غسلته الملائكة غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من له زوجة مثل زوجتي سيدة نساء العالمين عليها صلوات الله رب العالمين غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من له سبطان مثل سبطي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من له سهمان سهم في الخاصة وسهم في العامة غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من كان أعظم غناً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه غيري حين اضطجعت في مضجعه، وبذلت له مهجة نفسي، فأنزل الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} غيري؟

قالوا: اللهم لا.

 قال: أفيكم من كان أقتل لصناديد العرب عند كل شدة تنزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مني؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قتل يوم بدر ستة رجال في المبارزة غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال أفيكم من ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد حين انهزمتم منه جميعاً، فأنزل الله عز وجل في حين عاتبكم بالذي كان من انهزامكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسماني شاكراً غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: افيكم من قال له جبريل يومئذ يا محمد لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الرجل لك منذ اليوم بنفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنه مني وأنا منه، فقال جبريل صلوات الله عليه: وأنا منكما)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [236] مثل الذي قال لي يوم بعثني إلى ذات السلاسل حين بعث إليهم أبا بكر فانهزم، ثم بعث عمر فانهزم عمر ثم بعث العاص فانهزم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لأبعثن إليهم رجلاً طاعته كطاعتي، ومعصيته كمعصيتي، لا ينهزم كما انهزمتم حتى يفتح الله على يديه إن شاء الله)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قتل عمراً وأصحابه يوم الخندق حتى أنزل الله سبحانه فيَّ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قتل مرحباً اليهودي وأخاه ياسر غيري حتى قال النبي عليه السلام: ((لولا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في المسيح صلى الله عليه وسلم لقلت فيك قولاً لا تمر  على ملأء إلا أخذوا من أثر قدميك يتشفون به، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك، حتى تكلم قوم من أصحابه في ذلك اليوم، فأنزل الله عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} إلى قوله: تخلفون غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يباهل به غيري وغير زوجتي وابني حيث يقول لرسوله: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من من ترك بابه إلى المسجد عن أمر الله غيري؟.

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من أحل له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أحل لي؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من سماه الله تبارك وتعالى في كتابه مؤمناً وسمى عدوه وهو عقبة بن أبي معيط فاسقاً غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قال جبريل لرسول الله عليه وآله السلام عن الله: ((لا يؤدي عنك سورة براءة إلا رجل هو منك وأنت منه)) فقال النبي عليه السلام: ((يا جبريل من ذلك؟ قال: علي بن أبي طالب صلوات الله عليه)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من كان معه جبريل صلوت الله عليه غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((هذا أقدمكم سلماً-يعني إسلاماً- وأعلمكم علماً، وأقرأكم لكتاب الله، وأقضاكم بحكم الله)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من كلمته الجن حين سرحنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا وأبو بكر وعمر وعثمان إلى وادي الجن فبدأ أبو بكر فسلم عليهم وكلمهم، فلم يجيبوه، ثم كلمهم عمر فلم يجيبوه، ثم كلمهم عثمان فلم يجيبوه، ثم قال القوم: إنا لا نجيب إلا نبياً أو وصي نبي، فسلمت عليهم فردوا علي السلام؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعليًّ بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

 قال: أفيكم من غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من كان أقرب عهداً برسول الله عليه وآله حين وضعه في قبره غيري؟

قالوا: اللهم لا[237].

ثم قال: الله بيني وبينكم، ثم قال: أفيكم من إذا قاتل كان جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي مع الحق والحق معه)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قال الله عز وجل فيه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم عن أمر الله ما قال: ((ياأيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((اللهم اشهد، ثم قال: اللهم اشهد، ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأحب من أحبه، وابغض من أبغضه)) وفي إحدى الروايتين: ((وأعز من أعزه، وقال: هذا وليكم من بعدي)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من أحدٍ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله ورسوله على يديه)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أفيكم من من قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

ثم قال: أناشدك الله يا عثمان، وأنت يا طلحة، وأنت يا زبير، وأنت يا عبد الرحمن، ما كنتم عشرة رجال عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر وأنتم أيها الأربعة وسلمان الفارسي، وأبو ذر، والمقداد بن الأسود، وبريدة بن زيد الأسلمي فقال رسول الله عليه وآله السلام لأبي بكر: ((قم يا أبا بكر فسلم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)) فقال أبو بكر: بأمر من الله ورسوله؟ قال: ((نعم)) ثم قال لعمر مثل مقالة أبي بكر بأمرٍ من الله ومن رسوله؟ قال: ((نعم)) ثم قال لك يا عثمان فقلت مثل مقالتهما، ثم قال لجميعكم فلم تقولوا مثل ما قالوا، بل سلمتم ورضيتم؟

قالوا: اللهم نعم قد كان ذلك، وجميع ما قلت لا ينكر ولا يجحد.

ثم قال: الله بيني وبينكم.

قال مصنف كتاب الكامل المنير بعد هذا الحديث: قد علمت الأمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخا بين أصحابه، فاختار بعضهم لبعضٍ على قدر فضائلهم وسوابقهم ومنازلهم، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وبين سعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل، وآخى بين نفسه صلوات الله عليه وآله وسلم وبين علي بن أبي طالب عليه السلام، إذ لم يكن كفو في جميع أهل الأرض غيره، و لانظير له فيهم غيره، فكان كل واحدٍ منهم براً بأخيه، مطيعاً له هواه مائلاً إليه، يؤده لا يؤثر عليه غيره، فكان النبي عليه السلام أبر الخلق بأخيه، لا يتقدمه أحد عنده في ثقته وبره إياه، وإفضائه بأسراره إليه، وهو أولى الخلق بذلك صلوات الله عليه، حتى إذا حضرته الوفاة أوصى إليه بقضاء دينه، وإنفاذ عداته، وغسله وحنوطه وكفنه، دون الأمة كلها لا يختلف في ذلك أحد، فقام علي رضي الله عنه بهذا كله  دون الخلق مع ما عهد إليه من ولاء الأمة فيه من الولاء في غدير خم، فلما توفي صلوات الله عليه وآله وسلم اشتغل علي عليه السلام بجهاز أخيه، واشتغل أبو بكر وعمر بطلب[238] مقام علي من رسول الله عليه وآله السلام، فدعا كل واحدٍ منهما الناس إلى بيعة أخيه كا دعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيعة أخيه، فلم يطيع إذ دعا إليها وأطيع عمر إذ دعا إلى أخيه أبي بكر، فقام أبو بكر مقام علي عليه السلام، وكان طلب الخلافة عندهما أولى من جهاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومواراته في قبره والحزن عليه، وعظم المصيبة، فلما حضرة أبو بكر الوفاة دعا الناس إلى بيعة عمر أخيه، ورد الأمر إليه، وكذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام يوم بيعة أبي بكر لعمر حين قال لعلي عليه السلام: أيها الرجل لست بمتروك أو تبايع، وكان من قول علي لعمر: أجلبت جلباً لك شطره، اشدد له الأمر اليوم ليرده عليك غداً، فقل للخوارج لمن قال بمقالتهم: أليس قد جلب عمر لأبي بكر ورد عليه أبو بكر فقام عمر مقام أخيه بالخلافة، فلما حضرته الوفاة نظر إلى من بقي من الأخوة الذين آخى بينهم النبي عليه السلام ممن يصلح للخلافة عندهم، فإذا عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف أخوان، وإذالا طلحة والزبير إخوان، وإذا علي بن أبي طالب عليه السلام وسعد بن أبي وقاص ليس واحد منهما لصاحبه بأخ، فعلم عمر أن كل واحدٍ من هؤلاء الأربعة يدعو إلى أخيه لا يؤثر عليه أحد، وعلم أن عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي واقاص أبناء عم دهريان، كل واحدٍ منهما صهر لصاحبه، مع الإخوة، فأمر الخمسة واحد من افخوة والقرابة والصهر، وبقي علي بن أبي طالب عليه السلام ليس له في القوم أخ ولا صهر  ولا قريب، ولا من يعتضد به، ولا من يدعو إليه غير أن الزبير قد كان دعا إلى بيعة علي يوم بيعة أبي بكر، وخرج سيفه وقال: لا أبايع إلا علياً، فصاح عمر اقتلوا الكلب يعني الزبير، فوثب إليه أسيد بن الحصين وسلمة بن أسبم فانتزعوا السيف من يده، فخاف عمر شدود الزبير وميله إلى علي عليه السلام لتلك الفعلة، ووثق بهؤلاء الأربعة أنهم لا يدعون إلى علي عليه السلام لذلك جعلها شؤرى، والدليل على ذلك قوله: إن اجتمع ثلاثة وثلاثة فالحق في الفرقة التي فيها عبد الرحمن بن عوف، وذلك أنه علم انه يدعو إلى أخيه عثمان بن عقان، وإن اتفق أربعة وخالف اثنان فاضربوا أعناق الاثنين؛ لأنه علم أن علي بن أبي طالب والزبير سيخالفان، وأن علياً سيدعوا إلى نفسه، وسيجيبه الزبير، كما خالفا عليهم يوم بيعة أبي بكر، وإلا فما دليل عمر أن الحق في الفرقة التي فيها عبد الرحمن بن عوف إذا لم يكن أمر من الله ولا من رسوله، ثم حكم فيهم بجكم آخر أن يصيروا الستة أصحاب الشورى في بيت ويتشاوروا فيه ثلاثة أيام لا يدخل عليهم أحد، فإن مضت ثلاثة أيام ولم يقيموا رجلاً منهم فاضربوا أعناقهم جميعاً، وصيروا على ضرب أعناقهم ابنه عبد الله، واستخلف على الصلاة صهيباً الرومي، فكامن يصلي بالمهاجرين والأنصار فقال صاحب الكتاب: فإذا كانت الصلاة فيما زعموا عندهم عمود الدين، وهي أفضل الأعمال، وهي دليلهم على أبي بكر إذ زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالصلاة، فقد دلهم عمر على صهيب إذ امره بالصلاة، فكانت حاجتهم إلى الشورى مع أن تصحيح فعال عمر في الشورى وصرفه الخلافة عن علي بن أبي طالب[239] صلوات الله عليه ومحبته أن تصير إلى عثمان بن عفان من جهة عبد الرحمن بن عوف، أنه لما اجتمعوا فاحتج عليهم أمير المؤمنين عليه السلام بما قد ذكرنا فلم يقبلوا من قوله شيئاً، فقال عبد الرحمن لأصحاب الشؤرى صيروا الأمر في يدي على أن أخرج منها نفسي، وأصير الخلافة إلا رجل منكم ترضون به جميعاً، يعمل فيها بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله، فخلا عبد الرحمن بأخيه عثمان فقال له: أصيرها إليك على أن تعمل فيها بكتاب الله وسنة رسوله، وتسير فيها بسيرة أبي بكر وعمر، وتجعل مصر طعمة لي ما بقيت، فأجابه إلى ذلك لقوله يعمل فيها بكتاب الله وسنة رسوله، وأوضح سيرة أبي بكر وعمر ولم يرد غير سيرتها؛ لأنه علم أن علياً عليه السلام لا يسير بسيرتهما، ثم خلا بسعد فقال له: أصيرها إليك على أن تحكم فيها بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وتسير فيها بسيرة أبي بكر وعمر، وتجعل لي مصر طعمة ما بقيت، فأجابه إلى ذلك، ثم خلى بطلحة بن عبيد الله فقال له مثل مقالته لصاحبه فأجابه إلى ذلك، ثم خلا بالزبير بن العوام ثم قال له مثل مقالته لأصحابه، فأجابه إلى ذلك، ثم خلا بأمير المؤمنين عليه السلام فقال له: أصيرها إليك على أن تحكم فيها بكتاب الله وسنة رسوله، وتسير فيها بسيرة أبو بكر وعمر، وتجعل مصر طعمة لي ما بقيت؟

فقال له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام صلوات الله عليه: بل أحكم فيها بكتاب الله وسنة نبيه، وانظر في شرطك في مصر، فإن كان يصير لكل رجل من المسلمين مثل مصر صيرت لك مصر، وإلا فليس لك عندي إلا ما لأقصى رجل من المؤمنين وأدناهم، فأعاد عبد الرحمن الشروط كلها على القوم، فأجابوه بجوابهم الأول، ما خلا أمير المؤمنين عليه السلام إلا بما كان قاله له، فجعل يسألهم ثلاث مرات، فيجيبونه بجواب واحد، ويسأل أمير المؤمنين صلوات الله عليه فيجيبه بجوابه الأول.

ثم قال عبد الرحمن لأخيه عثمان ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعه.

وقال أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري بعد ذكر عهد عمر: ثم قال للمهاجرين والأنصار إن اتفقوا في هذه الأيام على إمامة رجل منهم فهو إمامكم، وإن لم يتفقوا واختلفوا فاضربوا رقابهم، فهذا عبد الرحمن بن عوف أميني عليكم، ثم قال: إن اتفق أربعة منهم على إمامة رجل فكره واحد منهم فاقتلوه، وإن مال معه آخر فاقتلوه، وإن افترقوا نصفين فكونوا أنتم في الحزب الذي يكون فيه عبد الرحمن بني عوف، وإنما أرد بقوله إن انفرد واحد فاقتلوه يعني علياً عليه السلام؛ لأنه علم أنه لا يساعدهم، وأراد بالثاني الزبير إذ هو ابن عمته، وأراد بالثالث طلحة إذ هو صديق للزبير.

وأما عبد الرحمن فقد علم أنه يميل مع عثمان إذ هو صهره، ومع سعد إذ هو ابن عمه فأدار في ذلك رأيه في إزالة علي عليه السلام من الخلافة.

واعجب من هذا أنهم سمعوا بشهادته لهؤلاء الستة أنهم من أهل الجنة فلا تقولون له  ألا تتقي الله يا إنسان، بل أطرقوا وأهطعوا اتباع كل ناعق، وسيقة كل سابق، فحرص القوم على إزالة أمير المؤمنين واسقاطه، فأبا الله[240] عز وجل إلا رفعته وعلوه؛ لأن تبيان رب العالمين لا يهدمه هادم، وأمره لا يعدوه أحد، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فهذه رواية الرجلين المذكورين في كتاب الكامل المنير، وفي كتاب المنير أيضاً.

وهذه رواية أخرى وذلك أن أصحاب الشورى وهم ستة منهم علي عليه السلام لما اجتعموا انفرد كل واحد منهم بصاحبه ناحية، وقام عبد الرحمن بن عوف إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فخلا به، فقال له عبد الرحمن يا أبا الحسن ما تقول تقوم بهذا الأمر بعهد الله وميثاقه، وعلى أن تسير بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تعمل بكتاب الله تعالى وسنة نبيه بالعهود والمواثيق، وعلى أن لا تأخذك في الله لومة لائم، فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: أما أن أكون أعطيك أيماناً فالله أجل في عيني وأهيب في نفسي، وأعظم في صدري من أن أعطيك ما ذكرت رغبة فيما أنتم فيه، وهذا الذي ذكرت من غير أيمان هو الواجب عليّ.

ثم قال: أم والله إنكم لتعرفون من أولى الناس بهذا الأمر قديماً وحديثاً، وما منكم من أحد إلا وقد سمع ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن صدقت صدقتموني وإن كذبت كذبتموني، أنشدكم الله هل فيكم أحد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: ((أنت أفضل من أخلف بعدي في القضاء من جميع القوم)) فهل قالها صلى الله عليه وآله لأحد منكم غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد سد رسول الله صلى الله عليه وآله أبواب الناس في المسجد وفتح له في المسجد باباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إني والله ما سددت أبوابكم، وفتحت بابه، بل أمرني الله بذلك)) فهل فتح باب أحدٍ من الناس غيري؟

قالوا: اللهم لا.

ثم قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له الله ................. في المسجد جنباً مع رسول الله صلى الله عليه وآله غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار يفتح الله على يديه، فلما أصبح نضر لها الناس فأتى بي وأنا أرمد فتفل في عيني وقال: اللهم اذهب عنه الرمد، ثم دفع إليَّ الراية، ولم يدفعها إلا أحدٍ غيري)).

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدك بالله هل فيكم أحد تصدق بصدقة وهو راكع فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} فخرج النبي صلى الله عليه وآله وأخذ بباب المسجد ثم قال: ((من تصدق عليه فهل واحد تصدق بصدقة وهو راكع)) غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال أنشدكم بالله هل فيكم أحد دعاه رسول الله صلى الله عليه وآله ودعا الناس فقال: ((من يضمن عني ديني وعداتي، ويخلفني في أهلي من بعدي)) فكف الناس عنه، وابتديت له فضمنت له ذلك، فدعا لي بناقته العضباء وبفرشه المرتجز، وببغلته وحماره وسيفه ذي الفقار، وبدرعه ذات الفضول، ويجميع ما كان يحتاج إليه في الحرب، ففقد رسول الله صلى الله عليه وآله عصابة كان يشد بها بطنه في الحرب، فأمرهم أن يطلبوها فدفع ذلك إليَّ وقال: ((يا علي اقبضه في حياتي لا ينازعك فيه أحد بعدي)) ثم أمرني فحولته إلى منزلي فهل قبض ذلك، ووافى بدينه وعداته غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال أنشدكم بالله هل فيكم أحد أوصاه رسول الله صلى الله عليه وآله أنه يلي غسله ولا ينظر إلا عورته غيري؟ وأمرني أن أحجبه عن جميع أهل بيته، وكانوا من وراء الستر يناولونني الماء، ثم رددها علي فقال[241]: ((يا علي لا ينظرن أحد إلى عورتي غيرك)) فهل قال ذلك لأحدٍ منكم غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد أنزل الله تعالى فيه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب:33] فهل كان في بيته غيري وزوجتي وابناي الحسن والحسين صلوات الله عليهم؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد أنزل الله فيه من السماء في كتاب الله عز وجل إذ يقول: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] فهل قرباه غيري وغير أهل بيتي؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد أمر الله سبحانه وتعالى بانفال الله ورسوله غير وغير أهل بيتي؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد ثبتت رايته مع رسول الله الله صلى الله عليه وآله في أربعة آلاف من الملائكة مسومين، ثم ولى الناس عن النبي صلى الله عليه وآله والنبي صلى الله عليه وآله يدعوهم في أخراهم، فهل ثبت معه غير؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المشركين بسورة براءة فبلغها عن النبي صلى الله عليه وآله، ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: هل حدث فيَّ أمر يا رسول الله نبئني؟ قال: ((لا، ولكن أتاني جبريل عليه السلام فقال: ((إنه لا يؤدي عنك إلا رجل منك)) فكان علي منه فبعثه؟

فقالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال رسول الله حين أتي بالطائر ((اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر)) فهل أتاه أحد غيري يخبركم بذلك النبي صلى الله عليه وآله؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد اضطجع مضجع رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة طلبه العدو فبذل مهجة نفسه، ووقاه بدمه غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد له سهمان كسهمي سهم في الخاصة وسهم في العامة غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: هل كان فيكم أحد بعث في سرية أنا فيها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلا كنت أميرها عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل ولا رسول الله صلى الله عليه وآله واحد من الناس إلا كان عليه أمير رسول الله صلى الله عليه وآله غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله يوم غيدير خم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)) هل قال ذلك في أحد غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد لما جاءت نصارى نجران يباهلون النبي صلى الله عليه وآله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الله: {قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فبسط رسول الله صلى الله عليه وآله كساه، ثم دعاني وابني وزوجتي، ثم جلسنا وجلس معنا، ثم قال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)) فقالت أم سلمة يا رسول الله: ألست من أهلك؟ قال: ((بلى إنك على خير)) فهل قال ذلك لأحدٍ غيري؟

قالوا: اللهم لا، ثم جعلني كنفسه حيث قال: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} فهل قال ذلك لأحدٍ غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله إذ دعاني وابني وزوجتي صلى الله عليهم فأجلسنا جميعاً، ثم قال: ((إن هؤلاء أهل بيتي وعترتي، اللهم أحب من أحبهم[242] وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، اللهم إني أحبهم وأحب من أحبهم)) ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني سأخلف فيكم الثقلين، الثقل الأكبر والثقل الأصغر، فأما الثقل الأكبر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، وأما الثقل الأصغر فهؤلاء عترتي لن تضلوا ما إن تمسكتم بهم، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، وحوضي سعته ما بين بصرى وصنعاء، فيه أكواب عدد نجوم السماء)) ثم أقبل على عمار بن ياسر فقال: ((أوصي من بعدي بولاية علي بن أبي طالب، فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولا الله، ومن عاداه فقد عاداني ومن عاداني فقد عادا الله، يا عمار أما علمت أن علياً بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، يا عمار أما علمت أني أول من انشقت الأرض عنه وعلي معي على حوضي، وهو الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة، وهو الذاد عن حوضي)) هل قال ذلك لأحدٍ غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل تعلمون يوم أتيتكم وأنتم جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((هذا أخي قد أتاكم، ثم أقبل عليكم فقال: إنه أولكم إيماناً بالله، وأقومكم بأمر الله، وأوفاكم بعهد الله، وأفضاكم بحكم الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكبرتم معه، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله: ((اللهم وال)) فهل قال ذلك لأحدٍ منكم غيري؟ فهل تعلمون أن ذلك كذلك؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أن فيكم أحد أنزل الله فيه سورة من الفرقان: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} إلى آخرها حين أطعمت يتيماً ومسكيناً وأسيرا، فهل فعل ذلك أحد منكم غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم بالله هل فيكم أحد اعتنقه رسول الله صلى الله عليه وآله فبكا وبكيتم جميعاً، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وآله رأسه ورفعت رأسي، فقلت: يا رسول الله بأبي وأمي أحدث حدث؟ فقال صلى الله عليه: ((لا)) فقلت: فما أبكاك يا رسول الله؟ قال: ((ضغائن في صدور قوم لن يظهروها لك إلا من بعدي، فلو شهدتك)) هل قال ذلك لأحدٍ غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: أنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ((كذب من يزعم يا علي أنه يحبني ويبغضك)) فهل قال ذلك لأحدٍ غيري؟

قالوا: اللهم لا.

قال: فمن شهد ذلك منكم فما أسميته، ثم نهض صلوات الله عليه وآله وبين هذا الحديث والحديث الذي قبله وبين الحديث الذي رويناه في صدر الكتاب شيء من اختلاف، وكأنه عليه السلام يحدث معهم لكل واحدٍ في موقف من أيام الشؤرى، وهي ثلاثة أيام على ما روي، والله أعلم.

وحديث الشؤرى ليس أحد ينكره، والمخالف ينشره ويذيعه، ليبين به كيف ابتدأ خلافة عثمان من عمر، وفيه دلالة واضحة على أن أمير المؤمنين عليه السلام هو الأفضل في الثواب، والأولى بالحق والصواب، والأجدر بأمر الأمة، والأحب إلى الله وإلى رسوله، والذي هو الأكمل في جميع الخصال والمودة، ولن يخفى ذلك إلا على من أعمى الحيف بصيرته، فهل ترى أيها الناظر بعين البيان البصيرة[243] حضوره عليه السلام في الشؤرى كان إلا لمثل هذا الموقف العظيم الذي أوضح به الحجة، وأقام له عليهم الحجة، فواعجباً لمن يجعل الحجة له عليه السلام بزعمه حجة عليه، هل هذا إلا قول من تجاهل، وغر نفسه بالله الغرور، وكيف تخفى الشمس على ذي بصر سليم، أو يشتبه مثل هذا على ذي عقل قويم.

وكان من كلامه عليه السلام في أيام الشؤرى أن قال عليه السلام: فمكث القوم أيامهم كلها حتى أن كلاً منهم ليخيطها لنفسه، وأنا ممسك فإذا سألوني عن أمري وناظرتهم في أيامهم وأيامي، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم، وذكرتهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وتأكيده ما أكد لي من البيعة في أعناقهم، دعاهم حب الإمارة، وبسط الأيدي والألسن، والأمر والنهي، والركون إلى الدينا إلى الاقتداء بالماضين قبلهم، وتناول ما لم يجعل الله هم، فإذا خلوت بالواحد منهم بعد الواحد فذكرته أيام الله، وحذرته ما هو قادم إليه وصائر إليه، التمس مني شرطاً بطائفة من الدنيا صيرها له، فلما لم يجد عندي إلا المحجة البيضاء، والحمل على كتاب الله وسنة رسوله ووصيته، وإعطاء كل أمري ما جعل الله له، ومنعه ما لم يجعل الله له، انتبذ من القوم منتبذ فأزالها إلى ابن عفان طمعاً في التبجح معه فيها، إلى آخر كلامه عليه السلام في ذلك، وقد قدمناه مستوفا في موضعه.

فأما الإجماع الذي يدعيه المخالف هاهنا فالدليل على إبطاله مثل ما مضى في دعوى الإجماع أن علياً عليه السلام وأتباعه غير راضين بذلك، بل كان الحق عندهم تسليم الأمر لصاحبه أمير المؤمنين عليه السلام، ولهذا لما عقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان.

قال علي عليه السلام: حياته حياة.........دهراً، وليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم في شأن، وروى ذلك الطبري في تاريخه، وكان من كلام المقداد ما قدمناه في صدر كتابنا هذا في ذلك اليوم.

فقال سعد منذ مات انقطعا
على عتيق منذ مات لا لعا

 

خلافه وصار قولاً مجمعا
فهل خلاف بعد سعد بدعا

فقلت سعد يا جهول واحد
فأين ذا الإجماع يا معاند

 

ممن أبا الأمر الذي يراود
وكم خلا على الخلاف شاهد

شبهة: قالوا إن سعد بعد خلافه في إمامة أبي بكر مات فانقطع خلافه، وتم الإجماع.

والجواب عن ذلك من وجوه:

أحدها: أن الذين كرهوا إمامة أبي بكر ولم يرضوه هم جماعة قد رويناهم أولاً، وهم أمير المؤمنين، ومن ذكرنا معه من المؤمنين، وسعد واحد ممن لم يرضها،  وليسوا بسعد وحده.

والثاني: أن سعداً ما مات إلا بعد موت أبي بكر على ما روي، بل قيل لم يمت إلا بعد عمر، ولو مات سعد قبل ذلك فما مات أهله وولده، ولم يزل قيس بن سعد باقياً إلى وقت الحسن بن علي عليه السلام، وقد روي أن عمر دس إلى سعد[244] من رماه فقتله حتى قال الضعفاء من الناس أن الجن قتلته، والجن إنما ناحت عليه، وقالت شعراً:

قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة

 

رميناه بسهمين فلم نخط فؤاده

وروي عن قيس بن سعد في خذلان الأنصار له، واستبداد الرهط من قريش عليهم بالرأي قوله:

وخبرتمونا أنما الأمر فيكم
وأن وراثات الخلافة فيكم

 

خلاف رسول الله يوم التشاجر
حباكم بها ذو العرش دون العشائر

فهلا وزيراً واحداً تجتبونه
سقى الله سعداً يوم ذاك ولا سقى

 

بغير وداد منكم وأواصر
 عن أجره هانت صدور النواير

وقائلاً يقول في بير قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة، وذكر القتيبي في المعارف أن سعد بن عبادة مر إلى الشام سنتين ونصف من خلافة عمر، وكان سبب موته أنه جلس يبول فاقتتل فمات من ساعته واخضر جلده، وقال ولده: ما علمنا بموته في المدينة حتى بلغنا أن غلماناً سمعوا الشعر، قال: ومعنى اقتتل أي قتلته الجن.

قال علماء الإسلام: فانظر هل قتلت الجن رجلاً بعده، فكيف اختص بهذا، وسئل بعضهم عن سبب قعود علي بن أبي طالب في داره لا يخرج إلى القوم فقال: خشية أن تقتله الجن.

وفيما ذكرنا دلالة على أن الخلاف باقٍ متصل إلى زمان عمر، وإلى زمان عثمان، وقد قدمنا ما رواه الإمام المنصور بالله عليه السلام في قتل سعد، وما روي من الشعر حيث قال:

يقولون سعداً شقت الجن بطنه

 

 

ألا ربما حققت فعلك بالعذر

وما ذنب سعدٍ أنه بال قائماً

 

 

ولكن سعداً لم يبايع أبا بكر

والثالث: أن الاعتبار في ما هذه حاله من الإجماع إنما هو إجماع جميع المؤمنين في ذلك العصر حتى لا شذ منهم أحد من أهل عصره، والذي يدل على ذلك أنه لو لم يعتبر بجميع المؤمنين في العصر لعاد ذلك الأصل الإجماع بالنقض والابطال، وذلك لا يجوز، وإنما قلنا بأن الإجماع في هذا وفي غيره لو لم يعتبر لجميع المؤمنين في كل عصر إذا كانوا ممن يتمكن من الحكم في المسألة؛ لأنه لم يكن كذلك، لعاد ذلك على أصل الإجماع بالنقض والابطال؛ لأن دلالة الإجماع عامة لجميع المؤمنين، فإن لفظ المؤمنين في قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} معرف بالألف واللام، ولفظ الجمع المعرف بالألف واللام يقتضي الاستغراق، بدليل صحة الاستثناء منه، وصحة الاستثناء تدل على الاستغراق، وبدليل تأكيده بكل وأجمعين، وكل ذلك يقتضي الاستغراق، ألا ترى أنه تعالى لو قال: ويتبع غير سبيل المؤمنين كلهم أو المؤمنين أجمعين، أو المؤمنين إلا زيداً وعمرا وغيرهما لساغ ذلك، وكل ذلك دليل الاستغراق.

وبعد فإن الأمة اسم شامل للمؤمنين من اتباع النبي عليه السلام؛ لأن اسم أمة محمد اسم مدح وتعظيم، وذلك إنما بصلح للمؤمنين ولا يخرج عنه أحد منهم في حكم رب العالمين، فلم يعتبر بما دلت عليه[245] دلالة الإجماع لعاد على اثبات الإجماع بالنقض والإبطال، وإنما قلنا بأن ذلك لا يجوز لما ثبت من أن الإجماع حجة، فلو حكمنا في ثبوت الإجماع بإجماع بعض من الأمة دون بعض ممن عدا العترة عليهم السلام لكان تخصيص بغير دلالة لا يجوز، وإنما قلنا أنه يكون تخصيصاً بغير دلالة؛ لأن دلالة الإجماع إنما قضت بالحجة في قول جميع من يشمله لفظ المؤمنين دون بعض، وليس في العقل ولا في الكتاب ولا في السنة ما يدل على تخصيص بعض من المؤمنين بكون إجماعهم حجة من دون اعتبار غيرهم معهم، ما لم يكن ذلك البعض هو العترة عليهم السلام، فتخصيصهم من دون ذلك يكون تخصيصاً بغير دلالة، فإن الدلالة ليست إلا ما ذكرنا، وإلا قلنا بالتخصيص بغير دلالة لا يجوز؛ لأنه لو جاز ذلك لعاد على اثبات العموم بالنقض والإبطال؛ لأنه متى لم يبق لفظ إلا وقد ارتد به البعض تحقيق حينئذٍ أنه لا لفظ للاستغراق أصلاً، ومتى كان كذلك فلو جاز لم يكن قول بعضهم بأنه يكون حجة أولى من البعض.

فأما إجماع العترة عليهم السلام فهو حجة لما تقدم من الدلالة بالكتاب والسنة عليه، فلم يكن ذلك تخصيصاً لهم بغير دلالة، فخرج عن هذا الباب، فإذا كان الإجماع يعتبر فيه إجماع كل المؤمنين في العصر إذا كانوا ممن يتمكن من الحكم في المسألة فلا إجماع على إمامة أبي بكر، ولا على على إمامة صاحبيه، لما في ذلك من خروج بعض المؤمنين، فإذاً لا إجماع.

شبهة: قالوا إن خلاف سعد في إمامة أبي بكر كان مبنياً  على اعتقاد جواز الإمامة في غير قريش، وخلافه في ذلك باطل، فيبطل ما بناه عليه.

فالجواب عن ذلك أن سعداً وإن اعتقد ذلك فلم يعتقد أن الإمامة لا تجوز في قريش، بل اعتقد جوازها فيهم، ومثل هذه الشبهة قولهم: أن سعداً كان يرى جواز الإمامة في غيرهم لأكثر من واحد؛ لأنا نقول أن هذا القول من سعد لا يمنعه من البيعة لأبي بكر، لو كان على إمامته دليل يوجب القول بها، فخلافه فيما خالف فيه لا يمنع من أن يجمع على ما قال به غيره، مع أن قوله أوسع من قول غيره، أنه جوزها في قريش وغيرهم، وجوزها في أكثر من واحد، فلما لم يبايع مع ذلك لم يكن خلافه ساقطاً، ولم يقع الإجماع في الأعصار على خطأ سعد في امتناعه من بيعة أبي بكر، وإن كان قد أخطأ من وجه آخر، فذلك لا يمنع من اعتبار خلافه حيث لا إجماع، وهذا واضح بين بحمد الله مع أن سعداً واحداً ممن خرج عن أمور القوم، فكرهها كما تقدم.

فقال إن حجتي بالتولية
حجة حق للخصم موهية

 

وبالنكاح إن عرفتم ماهية
فسلموا لهذه لأمر ليه

قلنا التولي لا يدل أبدا
لأنه إمام حق وهدى

 

من الوصي لو تولى ما اقتدى
وغيره قد أنكروا فما عدى[246]

وليس في إنكاحهم دليل
لو لم يكن للخوف يا ضلول

 

عن الإمامات التي تقول
وإن يكن له فما التطويل

شبهة: قالوا إنهم قد تولوا من جهة عمر وزوجه علي عليه السلام ابنته أم كلثوم، ومتى ثبتت إمامة عمر فإمامه أبي بكر بالثبوت أولى؛ لأنها مستندة إليها ومبنية عليها.

فالجواب عن ذلك أنا نقول: أما التولية فما تولى أمير المؤمنين منهم شيئاً أبداً، وأكثر ما يدعى في ذلك تولي حفظ المدينة عند خروج عمر إلى الشام، إن صح ذلك عنه عليه السلام فحفظها متوجه عليه يومئذٍ، وليس في مثل هذا دلالة لو صح دلالة على إمامته، على أنا نقول لو تولى هذا أو غيره لكان له ذلك؛ لأن ولايته هي النافذة بحكم الله تعالى، وإنما ترك ذلك لأن لا يوهم الخطأ، وكذلك لو خرج معهم في الجهاد لكان ذلك جائزاً، وإنما تركه لمثل ذلك.

فأما قول المخالف أن جميع أصحابه، ومن يدعي أنه كان أنكر تولوا أمورهم وأخذوا عنهم الولايات الكثيرة، ولا سيما في وقت عمر، فقد بينا وقوع الخلاف منهم، والإنكار فلا تكون الولاية بعد ذلك دليلاً على الرضى؛ لأن كثيراً من الصالحين تولى لبني أمية كالحسن البصري وغيره، ولم يدل ذلك على قولهم بخلافتهم؛ لأن طريق ذلك طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال بعض الفقهاء بأن الولاية للقضاء وغيره من تحت أيدي الظلمة جائزة، وقد حكى الله تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال للعزيز اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، فطلب الولاية من الكافر لما عرف أنه نفى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن يمنعه مانع، وقد قيل أيضاً أنهم ما تولوا إلا بأمر أمير المؤمنين عليه السلام، فيجب حملهم على أحسن الوجوه، ولا شك أن فيهم الإمام، وهو أمير المؤمنين، وقد ظهر إنكارهم على المشائخ وموالاتهم لأمير المؤمنين، فأما أن يظن أن ميل أمير المؤمنين في زمن أبي بكر وعمر كان خافياً فكلا وحاشا.

وقد روى أبو الحسن بن علي بن الحسن بن محمد الزيدي في كتاب المحيط بالإمامة بإسناده عن الزهري، والزهري ممن لا يتهم في أمر المشائخ قال: حدثنا عبدالله بن كعب أن الحسن بن علي عليهما السلام جاء إلى عمر بن الخطاب وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال له: انزل عن منبر جدي، فقال له عمر: يابن أخي تأخر، والحسن عليه السلام يردد ذلك عليه ويجذبه عن منبر جده حتى قطع خطبته، ونزل عن منبره، وأقام الصلاة، ومثل هذا الخبر مروي عن الحسين بن علي عليه السلام، وقد تقدم حديث ذلك، فدل على استمرار الميل والإنكار من زمن أبي بكر إلى زمن عمر، فإن الحسن والحسين عليهما السلام لا يجاذبان عمر على النزول عن منبر جدهما إلا ومعهما علم من أبيهما صلوات الله عليهم أجمعين.

وأما تزويج أم كلثوم من عمر فلا اعتراض علينا به لوجهين:

أحدهما: أن التزويج ممن ليس بإمام جائز، فلا يدل ذلك على أنه راض بإمامته، ولا على أنه قائل بها، فإنا لا نقول بأن تقدم عمر عليه ونصبه لنفسه إماماً يوجب تحريم المناكحة بينه وبين المسلمين، بل يختص[247] هذا بالإمامية القائلين بأن عمر كفر بذلك، وارتد عن الإسلام، فكان تزويج أمير المؤمنين عليه السلام له مبطلاً عليهم ذلك المذهب، ما لم يكن ثم اكراه على التزويج.

الثاني: ما أجاب به الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام السائل عن هذه المسألة في الجواب الكاشف للإشكال حيث قال عليه السلام: وأما تزويجه لعمر فنحن نروي امتناعه وكراهته لذلك حتى غضب عمر، وجاء العباس رضي الله عنه فقال: أنا عمه وأنا زوجك، فأجاز علي عليه السلام فعل العباس رضي الله عنه لما وقع الإكراه، وليس فيه أكثر من أن ما لم يجز قبل الإكراه جاز بعده، وليس حكم ما هذا حاله حكم الزنا وشرب الخمر؛ لأن عمر اجتهد في أنه يجوز له زواج بنت فاطمة، وعلي عليه السلام يقول: لا يجوز ذلك، فأكرهه عمر على ما اعتقد جوازه كما أكرهه على الانقياد له ولصاحبه في ثبوت إمامتهما، فانقاد له عليه السلام مشكوراً مأجوراً.

فأما من يعتقد جواز شرب الخمر فإنه يكون كافراً بالإجماع، وهذه مسألة اجتهاد فلا يطلق عليه لفظ الزنا، ولا تبطل أحكامه، ولا يلحق بالمنكرات في حال من الأحوال، فإذاً لا يصح استدلالهم بما ذكروه على إمامة عمر، ولا على أصلها يعود الشيء إليه من إمامة أبي بكر.

فصل

واعلم أرشدك الله أنه لا يجوز نكاح الفاطميات لأحدٍ من الناس ما خلا بني الحسن والحسين عليهم السلام، والذي يدل على ذلك أن الإجماع منعقد على اعتبار الكفاءة في النكاح، وذلك أيضاً مأثور عن النبي صلى الله عليه وآله نحو ما روى عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((لا يزوجنَّ النساء إلا من الأكفاء، ولا ينكحهنَّ إلا الأولياء، ولا مهر دون عشرة دراهم)) وقد ثبت أن الكفوء في اللغة العربية هو المثل والنظير، فاقتضى ذلك أن امرأة لا تزوج إلا من مثلها ونظيرها، ولا مثل للفاطميات؛ لأن المثل هاهنا لا يخلو إما أن يراد به المماثلة فيما وقع فيه الاشتراك من الجسمية وما شاكلها، وذلك لا يصح؛ لأنه لا تفاضل في ذلك بين الناس بل هم فيه سواء، ولا خلاف أن ذلك ليس هو المراد، ويراد به المماثلة فيما وقع فيه الاتفاق بين بعض الناس دون بعض، كالنسب والدين، وهو الوجه؛ لأن العلماء اختلفوا في ذلك فاعتبر زيد بن علي والناصر للحق في أحد قوليه، ومحمد بن يحيى عليهم السلام الكفو في الدين فقط، واعتبر القاسم ويحيى الهادي، وعامة أهل البيت عليهم السلام الكفو في الدين والنسب جميعاً، وهو قول الناصر للحق في الإبانة.

وقال أبو حنيفة: الكفو في المال والحسب والدين.

وقال أبو يوسف: مثله، وزاد الصناعة.

وقال محمد: هو الحسب والمال.

وقال الشافعي: الكفو في النسب والدين، والحرية والصناعة، واليسار، والصحيح من هذا هو اعتبار النسب في الدين جميعاً، ولا أعلم في ذلك خلافاً بين أهل البيت عليهم السلام ما خلى زيد بن علي، والناصر للحق في أحد قوليه، ومحمد بن يحيى عليهم السلام، الذي يدل على ذلك ما رواه ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم[248] قال: ((العرب بعضها أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، وحي بحي، ورجل برجل، والموالي بعضها أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، وحي بحي، ورجل برجل)).

ووجه الاستدلال بهذا الخبر أنا لو حملنا الخبر على الكفاءة في الدين فقط لأداء ذلك إلى إبطال فائدة كلامه عليه السلام، والحاقه بالهذر والعبث الذي لا فائدة فيه؛ لأنه إذا لم يكن الاعتبار إلا بالكفاءة في الدين فقط، فسواء كانا عربيين أو موليين، أو كان أحدهما عربياً والآخر مولى، أو كان أحدهما عربياً أو مولى وكان الآخر عجمياً، فكان هذا التفصيل المذكور في الخبر عبثاً و هذراً لا فائدة فيه؛ لأنه ليس من شرط الكفاء في الدين هذا التفضيل، وهذا معلوم عند كل عاقل عارف باللغة العربية، متدبر لمعنى الخطاب، بل لا حكم هاهنا إلا للنسب على الحقيقة؛ لأن الخبر يقتضي ذلك تحقيقه، وهو يجب حمل الخطاب على الحقيقة مهما أمكن، وليس في هذا الخبر ما يدل على الدين، فإنما كان يدخل فيه الدين، لو قال صلى الله عليه وآله: ((المسلمون بعضهم أكفاء لبعض)) وإن كان الدين ثابتاً بدليل آخر، وقد ثبت أنه لا يجوز حمل كلامه صلى الله عليه على الهذر والعبث الذي لا فائدة فيه، وكيف بذلك، وقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فإذا كان وحياً من الله تعالى وجب تنزيهه عن ذلك، ولم يجز حمله عليه، يزيد ذلك بياناً وهو قول سلمان الفارسي رحمه الله تعالى أمرنا أن ننكحكم ولا ننكح إليكم، وسلمان من أكابر الصحابة، ومن أهل العلم والصلاح، وقول الصحابي أمرنا بكذا يدل على أن الآمر هو الرسول صلى الله عليه وآله دون غيره، والذي يدل على ذلك أن من عرف الأخبار، وبحث على السير والآثار، كانت تورد ذلك مورد الاحتجاج، والقطع للخصوم إجماعاً منهم على ذلك، ولا يسوغون لأحدٍ اطراحه، وترك العمل به، ولا يوردونه مورد الحكاية، فلو لم يكن مضافاً إليه عليه الصلاة والسلام لما أجمعوا على الاحتجاج به، والرجوع إليه من حيث أن الحجة بعد الكتاب والسنة ليست إلا الإجماع، والصحابي لا يقول في ما ثبت بالإجماع أمرنا بكذا؛ لأن الإجماع يقتضي لو أنه داخل فيه، ولا يصح أن يأمر نفسه، وعلى أنهم كانوا يطلقون ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وآله، وذلك يدل على أنهم لا يريدون به الإجماع؛ لأنه لا إجماع إلا بعد موته صلى الله عليه وآله.

وبعد فإن الصحابة كانوا لا يرون الحجة إلا الكتاب والسنة، والإجماع دون أقوال الخلفاء أو غيرهم، ولهذا كانوا يخالفونهم في كثير من المسائل، فلا يصح أن يقال إن الأمر وارد منهم؛ لأنهم ليسوا بحجة، وقد بينا أنهم لا يقصدون به الإجماع، فلم يبق إلا أنهم يريدون الأمر منه صلى الله عليه وآله فثبت أن قول سلمان الفارسي رحمه الله أمرنا أن ننكحكم ولا ننكح إليكم هو عنه صلى الله عليه وآله، ومن الظاهر الجلي أنه لا وجه لذلك  إلا كونه من العجم، وأولئك من العرب، وذلك أمر زائد على الدين لا معقول منه غير النسب، مع أنه رحمه الله كان آخذاً من الدين بالحظ الأوفر، يؤكد ذلك ويزيده وضوحاً قول النبي صلى الله عليه وآله: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه)) والنسب من جملة الخلق[249]فصح بذلك أن الكفو يعتبر في النسب والدين جميعاً، فأما اعتبار الكفاءة في الدين فيدل على ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاََمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} فنها الله عن نكاح المشركين، ونكاح المشركات، وكذا قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فشرط الله تعالى في ذلك الإيمان في الحرائر، وشرطه في وطئ ملك اليمين أيضاً، وكذا قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، والزوجية تجمع المودة والرحمة، لقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فحكى الله تعالى أنه جعل بين الزوجين مودة ورحمة، وقد نفى تعالى الإيمان مع مودة من حاد الله ورسوله، فثبت أنه لابد من اعتبار الدين مع النسب في النكاح، وأن الكفاءة فيهما جميعاً، يؤيد ذلك ما رواه الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم رضوان الله عليه في كتاب الأكفاء من قول النبي صلى الله عليه وآله: الكفو في المعنيين جميعاً في المنصب والدين معاً، والمنصب هو الأصل، وهذا تصريح ما ذهبنا إليه من اعتبارها جميعاً في الكفاءة، فأما ما اعتبره غير أئمتنا عليهم السلام من التقديم فالحجة على إبطاله أجمع العترة عليهم السلام على أنه لايعتبر في الكفاءة ما زاد عليهما، وإجماعهم حجة على ما تقدم بيانه، ومتى ثبت اعتبار النسب والدين جميعاً بما تقدم من الأدلة، فاعلم أنه لا مثل لأهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عداهم؛ لأن الشرف إنما هو برسول الله صلى الله عليه وآله، ولمكانه شرفت العرب على العجم، وعلى هذا دل خبر سلمان حيث يقول: أمرنا أن ننكحكم ولا ننكح إليكم، فإنه لا وجه له، إلا كونه من العجم، وأنهم ليسوا أكفاء للعرب، لمكان رسول الله صلى الله عليه وآله فوجب أن تكون لأولاده على سائر العرب مثل ما كان للعرب على العجم صلى الله عليه وآله من الشرف، فلا يكونون أكفاء لهم، كما لم يكن العجم أكفاء للعرب لهذه العلة، بل هم بذلك أولى، و لا شبهة في ذلك عند أهل البصائر، ألا ترى أن كل قبيلة وفصيلة تكون إليه أقرب فهي أشرف، ولا خلاف بين الأمة في حصول الشرف به عليه السلام، وقد تقدم بعض ذلك عند كلامنا في فضل أهل البيت عليهم السلام، ألا تسمع إلى قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي أنتم خير أمة، وذلك كله لمكان محمد صلى الله عليه وآله، والإجماع من الصحابة منعقد على حصول الشرف للأقرب فالأقرب إليه، ولهذا فإن الأنصار إنما سلمت الأمر لقريش لقربها من رسول الله صلى الله عليه وآله، وكونها من شجرته، واحتج بنو هاشم بهذا بعينه على غيرهم من قريش، ولهذا لما استخبر أمير المؤمنين علي عليه السلام عن أنباء السقيفة فأخبروه أن قريشاً احتجت على الأنصار بأنهم شجرة الرسول صلى الله عليه وآله، قال عليه السلام: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة، وقد ثبت أن ثمرة شجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أشرف من ثمرة شجرة غيره، وقد دل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله: ((إن الله[250] اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)) والاصطفاء هو الاختيار، وهذا الخبر نص صريح في موضع الخلاف لمن ظنه على غير ما بينا، وعلى حسب هذا الحبر اعتبر المؤيد بالله قدس الله روحه، الكفاءة فقال عليه السلام: الناس بعضهم أكفاء لبعض إلا العرب، والعرب بعضهم أكفاء لبعض إلا أولاد فاطمة عليهم السلام، وأولاد فاطمة بعضهم أكفاء لبعض، هكذا ذكره عليه السلام، فإذا كانوا عليهم السلام صفوة الصفوة النبوية، وسلالة الخيرة الإلهية، ثبت أنه لا كفو لهم في النسب إذ لو كان لهم فيه كفواً لعاد ذلك على فائدة الاختيار بالنقض، وقد قال الله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} وفاطمة وبناتها عليها السلام من جملة نسائه صلى الله عليه وآله، ودليل ذلك قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} الآية، ولا خلاف بين أهل النقل أنه ما دعا من النساء يوم المباهلة إلا فاطمة عليها السلام، ومثل ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن قوله تعالى: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} عام لزوجات المؤمنين وغيرهم من بنات البنين والبنات وغيرهم من القرابات بلا خلاف، والأصل في ذلك أن اسم النساء لفظ جمع معرف مستغرق على ما هو مبين في مواضعه من أصول الفقه، فأخبر تعالى أن نساء النبي لسن كأحدٍ من النساء، وقد دخلت فاطمة عليها السلام وبناتها في نسائه بالدلالة، فدل هذا الخبر على أنه لا مثل لهنًّ في النساء دلالة واضحة، فلو كان للفاطميات مثل فيمن عدا أهل البيت ينكحهنَّ وهو مع ذلك مثل للنساء ممن عداهنَّ، وكقولهن لما كان لقوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} فائدة من يحث قد صار غيرهنًّ من النساء مثلهنَّ، وإنما كان ذلك الشرف لنسائه صلى الله عليه وآله بشرط الاتقاء، وليس الشرف بالاتقاء وحده، وإلا شاركهنَّ من اتقا، وبطلت فائدة الآية، فثبت أنه لا مثل لبنات الرسول الله صلى الله عليه وآله ولا لبنيه في النسب إلا من كان منهم، ومتى لم يكن لهم كفو من غيرهم لم يجز نكاح الفاطميات ممن عداهم، ولا اعتبار بمن عدا فاطمة عليها السلام من بناته صلى الله عليه وآله؛ لأن ذلك مخصوص بقوله صلى الله عليه وآله: ((أمرت أن أنكح إليكم وأنكحكم إلا فاطمة)) فاستثناها صلى الله عليه وآله من بناته، ووجب أن يكون لبناتها مثل ما لها، لدلالة الكفاءة في النسب المتقدم، يزيد ذلك بياناً أنه لا شك عند أحدٍ من أهل الدين والمعرفة في أن الله تعالى ما حرم نكاح أزواج النبي عليه السلام بقوله تعالى: {وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ} إلا لشرفه وكرامته لا لدينهنَّ وصلاحهنَّ، وإلا فقد فسقت عائشة بخروجها على أمير المؤمنين عليه السلام بلا خلاف بين المخلصين، فلم يقل أحد يجواز نكاحها لأجل الفسق لأحدٍ من الناس، وفاطمة وولدها عليهم السلام[251] أحق بشرف رسول الله وكرامته من عائشة؛ لأن بضعة رسول الله أشرف من زوجته، ومتى اعتبرنا الدين أيضاً ظهر أنه ليس لأحدٍ مثل ما ثبت لأهل البيت عليهم السلام بآية التطهير وغيرها من الكتاب والسنة، فإن ذلك كله قاضٍ بأن إجماعهم حجة، وأن الله تعالى طهرهم من الأرجاس، وصاروا معصومين عند إجماعهم، وليس لأحدٍ من العرب ولا من العجم مثل ذلك، بل الاعتبار بإجماع الأمة كافة متى خرج منه أهل البيت عليهم السلام، وكل ذلك قاضٍ لهم بأنهم لا كفواً لهم في الوجهين جميعاً؛ لأن من لم يظهر من الأرجاس، ولم يعصم من جميع الناس لا يكون مثلاً لهم هذا وقد قال للقوم رسول الله صلى الله عليه وآله: ((إن الله كره لكم غسالة أوساخ أيدي الناس)) أفيكره لهم الزكاة ويرضى لهم بما هو أوسخ منها، وهم أفضل الخلق بعده صلى الله عليه، ولا كفو لهم.

روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((نحن أهل شجرة النبوة ليس أحد من الخلائق يفضل أهل بيتي غيري)) وإذا لم يكن يفضل عليهم غيره عليه السلام لم يكن غيرهم لهم كفو، وكذلك ما روى ابن المغازلي في مناقبه، ورفعه إلى علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فضل أهل البيت على الناس كفضل البنفسج على سائر الأدهان)).

وفي كتاب الحياة لإسحاق بن أحمد رحمه الله: ((فضل أهل البيت على الناس كفضل دهن البنفسج على سائر الأدهان)) إلى غير ذلك مما قدمناه من الآثار.

فأما ما يعترض به من لا بصيرة له من نكاح عمر لأم كلثوم فإن ضرورة الشرع أباحه كما أباح الشرع أكل الميتة، والنطق بكلمة الكفر عند الضرورة، فلما وقع الإكراه من عمر، وامتنع علي عليه السلام من إنكاحه أشد الامتناع، وكره ذلك قال له عمه العباس: أنا عمه وأنا ازوجك، فأجاز علي عليه السلام فعل العباس رضي الله عنه لما وقع الإكراه من عمه، ووقع الخوف عليه وعلى أهل بيته كما تقدم ذكر هذه الرواية عن الإمام المنصور بالله عليه السلام، وليس ما جاز للضرورة يجوز لغيرها، ألا ترى أنه لا يجوز لغير الضرورة أكل الميتة، ولا النطق بكلمة الكفر، فكذلك هذا، ومن قال بأن ابني فاطمة وأولادهما عليهم السلام سواء هم وغيرهم من الناس في الفضل والنسب فقد تجاهل واخطأ، ورد ما علم من الدين ضرورة؛ لأنهما أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله قضى بذلك الكتاب والسنة.

أما الكتاب قول الله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} ولا خلاف بين أهل النقل أن المراد بالأبناء الحسن والحسين عليهما السلام، وأنه ما دعا من الأبناء غيرهما، وأن المراد بالنساء فاطمة عليها السلام، وأنه ما دعا من النساء غيرها، وأن الأنفس هاهنا علي عليه السلام دون كل أحد؛ لأنه ما دعا سواه مع نفسه ممن عداهم.

وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وآله: ((كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما)).

وقوله صلى الله عليه وآله: ((وإنهما ولداه وابناه، إن الله جعل ذرية كل نبي من صلبه، وإن الله عز وجل جعل ذريتي من صلب علي بن أبي طالب عليه السلام)) وقد ورد فيهما عنه صلى الله عليه وآله وأنهما[252] ولداه وابناه ما لا يتسع له الكلام في هذا الفصل مع ظهوره واشتهاره، وقد قدمناه في الكتاب، وقدمنا من الكلام في فضلهما وفضل أهل البيت عليهم السلام ما فيه كفاية وغنى عن غيره بحمد الله، ومتى كان كذلك لم يجز نكاح الفاطميات لمن عداهم، بل لو نكح فاطمية أجنبي من غيرهم لما انبرم النكاح، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله: ((لا يزوجنَّ النساء إلا من الأكفاء)) فإنه دليل على هذا بعينه؛ لأنه بمنزلة قوله: ((لا نكاح إلإ بكفو)) والمعنى لا نكاح شرعي إلا بكفو، فأما وحوده غير شرعي فذلك ممكن، ومتى لم يكن شرعياً فهو الغرض بقولنا لا يجوز، أي لا ينبرم في الشرع لعدم الكفو لهنَّ من غير القوم.

وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((لما أسري بي رأيت على باب الجنة مكتوباً بالذهب لا بماء الذهب: لا إله إلا الله، محمد حبيب الله، علي ولي الله، الحسن والحسين صفوة الله، على باغضهم لعنة الله)) وقد تقدم الحديث فأين الكفو لصفوة الله، ولأولاد حبيب الله ورسوله من غيرهم ما أبعد ذلك، وهذا واضح بين بحمد الله، فأما ما عدا الفاطميات فإن نكاحهنَّ ممن عدا الكفو إذا رضيت المرأة، ورضي أولياؤها صحيح لما ثبت من أمثال ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وآله من غير إنكار منه، ويمكن أن يحتج على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله: ((أنتم بنو آدم طف الصاع لن تملاؤه، ولا فضل لأحدٍ إلا بتقوى الله)) فإن هذا الخبر دليل على أنه لا تفاضل بغير الدين غير أنه مخصوص في أهل البيت عليهم السلام بما تقدم من أدلة الكتاب والسنة النبوية التي قدمناها، فبقي من عداهم داخلاً في عموم الخبر.

فأما من يقول أن الإجماع منعقد على أن المرأة متى رضيت ورضي أولياؤه بالنكاح من غير كفو صح النكاح على وجه العموم فقد غلط؛ لأن الإمام المؤيد بالله نص على أن نكاح الفاطميات مع ذلك لا يصح، وكذلك الإمام المتوكل على الله قال: لا ينبرم العقد، ولم يكونا عليهما السلام ليجهلا هذا الإجماع، فإن كان ذلك فيما عدا الفاطميات فلعل إذ لا يصح الإجماع من دونهما عليهما السلام، ولو كان لم يخف عليهما فنصهما على ذلك مؤذن بأنه لا إجماع فهذا هو المعتمد عليه والله الهادي.

وهذه مسألة في تحريم نكاح الفاطميات بغير الفاطميين، أجاب عنها مولانا الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان عن رسول الله عليه وآله السلام، وسألت عن الدليل على تحريم نساء ولد الحسين والحسن على سائر الناس، وقلت أنك قد سمعت جماعة ممن يدعي الفهم يزعم أن حجتنا في ذلك ضعيفة، وقال: ليس أحد أعز من النبي صلى الله عليه وآله فزوج بناته قريش، وذكر أن أكثر العلماء مطبق على زواج بنات النبي صلى الله عليه وآله من العامة.

الجواب عن ذلك أن قول من ذكرت من يدعي العلم أن حجتنا في منع زواج الفاطيمات من غير الفاطميين ضعيفة استضعاف من ذكرت لها لا يقضي بصحة دعواه فيها.

وأما اطباق الأكثر على ذلك فأكثرهم لا يعقلون، وأكثرهم للحق كارهون، ولله الحجة البالغة، غير أنا نقول أن القرآن الكريم قد نص بتحريم نكاح أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأحدٍ من المخلوقين، وأجمعت الأمة على ذلك، وأولاد رسول الله صلى الله عليه وآله غير مخاطبين بالنهي عن نكاح[253] أزواج النبي صلى الله عليه وآله؛ لأن الآية لو لم ترد وأطلق نكاحهنَّ للأمة حرم نكاحهنَّ عليهم؛ لأنهنَّ زوجات جدهم، وما يعلم لتحريمهنَّ على الأمة وجه يشار إليه إلا كونهنَّ فراشاً لرسول الله صلى الله عليه وآله، ومتصلات بسبب زوجيته، وشرفهنَّ الواقع بمناكحته، والمعلوم أن سبب الولادة آكد في الحرمة من سبب النكاح؛ لأن أولئك فراشه وهؤلاء لحمه ودمه، فتحريم نكاح بناته على الأمة بطريق الأولى أولى، وهذا قياس لا نعلم في أقيسة الفقه ما هو أقوى منه، بل هو يوصل من نظر فيه على الوجه الصحيح إلى العلم، وهو يستعمل في أصول الدين لقوته، وبعض أدلة الفقه أمارات لا تقتضي إلا غالب الظن، ويسميها أهل الفقه أدلة، وهذا الدليل كان يوجب الحكم في جميع البنات لعمومه وشموله، إلا ما خصه الدليل، وقد خص الدليل ما عدا فاطمة عليها السلام بالقول والفعل، أما الفعل فإنه زوج رقية وأم كلثوم عليهما السلام من عثمان واحدة بعد واحدة، وزوج زينب من أبي العاص بن الربيع.

وأما القول فإن أبا بكر وعمر وجماعة من الصحابة خطبوا إليه فاطمة عليها السلام، فكان يقول: ((انتظر القضاء)) إلى أن نزل الوحي بزواج فاطمة عليها السلام من علي عليه السلام، فإن الله تعالى زوجه إياها في السماء، وأشهد ملائكته وأوحى إلى شجرة طوبا، فنثرت الدر والياقوت وأنواع الجواهر، فلقطت ذلك الحور العين فمن لقط منهنَّ شيئاً من نثار فاطمة عليها السلام كان حلياً للحلي، وفضيلة لمن أخذه في أخبار كثيرة، نرويها مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: ((إنما أنا بشر مثلكم أتزوج منكم وأزوجكم إلا فاطمة، فإن زواجها نزل من السماء)) فانحاز الحكم كله إليها، وعكف عليها سلام الله ورحمته عليها، وذكر أن من يذكر أن بنات فاطمة من زوج من غير الفاطميين، وذلك مما لا لا ننكره، ولكنا نقول ونعلم أنما زوجت واحدة منهنَّ في غيرهم إلا لضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، فيصير الذي كان قبيحاً في الحال الأول جائزاً أو واجباً في الحالة الثانية، كما تقول في النطق بكلمة الكفر أنه محظور في الحال الأولى جائز في الحال الثانية، وكذلك أكل الميتة محظور في الحالة الأولى واجب في الحالة الثانية، وهو بأن تخاف تلف النفس ولا تجد إلا هي.

وتفريع قول القائل أن ما عدا ما قلنا هو قول أكثر العلماء إنما يجوز على الجهال؛ لأن قول أكثر العلماء لا يكون حجة بل لا يمنع أن يكون قول الأكثر هو الخطأ، وقول الأقل هو الصواب، ونحن نقول بأن الدولتين العباسية والأموية لما تظاهر ضعف حال أهل البيت عليهم السلام، وجهل الناس حقهم، وأنكروا فضلهم، وأكبر برهان على ما قلنا ما فعلوا بالحسين بن علي عليهما السلام ولا واسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله إلا بضعة البنوية فاطمة عليها السلام، فمنعوه وقتلوه، وقتلوا أهل بيته، وفرقوا بين جسده ورأسه، وأوطؤا الخيل صدره وظهره، وسلبوا ثيابه، ونزعوا سراويله، وكشفوا عورته، وسلبوا نسائه، وساقوا حريمه وذريته، كأنهم أهل شرك من ترك وتأمل، وقال شاعرهم:

أطعنا من ولايته علينا

 

..........ثم هادينا حسينا

فقامت الخطباء بذمه وذم أبيه حاشاهم على رؤوس الأشهاد، فهل علمت أن حكمت عقلك هل بقيت[254] عندهم حرمة النكاح أهل هذا البيت عليهم السلام، ولولا دفاع الله فأما من الأمة فلم يبق من يدفع فضربوا عليهم السهام، وسبوهنَّ كما تسبى بنات يافث وحام، ولقد قال رجل من أهل الشام، وقد نظر إلى فاطمة بنت الحسين بن علي عليه السلام، أو إلى سكينة الشك من قبلي فلما أعجبته قال ليزيد يا أمير المؤمنين، هب لي هذه فقالت زينب بنت علي عليه السلام: ليس ذلك إليك يا عدو الله فقال: يزيد، والله لو شئت لكان إلي، قالت: والله لا كان ذلك إليك إلا أن تكفر بما جاء به محمد صلى الله عليه، فلما قهرته بالحجة، وخشي مقت الأمة لا سوا ذلك، قال يا أمير المؤمنين: هبها لي، ولا عليك كلام من هذه، فقال له: اذهب وهب الله لك حيفا قاضيا، ولا كان عنك راضياً، وذلك بعد أن أخذتها زينب وتركتها خلف ظهرها، ولما قال هشام بن عبد الملك لسكينة بنت الحسين رضي الله عنها: هل أولاد أختك فاطمة منكم أفضل أم أولادها منا؟

فقالت: أبرزنا لك يوم الطف يا أحول فقام وقال: إنك امرأة تحبين الشر، ولما خطب عبد الله بن عمر وابن عثمان الذي كان يقال له المطرف لحسنه فاطمة بنت الحسين بعد وفاة جدنا الحسن بن الحسن عليه السلام، حلفت وكررت الأيمان وهذا نهاية قدرتهم في ذلك الزمن لا تزوجته فاحتال بكل حيلة، فلم يصل إلى شيء مما أراد، فأتى الرأي من قبل أمها فاستشفع بزوج أمها فصدر لذلك أمها وطلبت ذلك منها فأبت أشد الإباء، فنزعت أمها خمارها وقامت في الشمس، وأقسمت لا فارقت الشمس على حالها حتى يشفعها أو تتلف، فمكثت سدس نهارها ساعتين لا تكلم حتى استوت فقالت: هاجرت نفس أمك والسلطان، والسلطان يومئذٍ سلطان بني أمية، فأجابت بعد هذا، وأعطا عن كل كفارة كفارتين، وعن كل نفس نفسين من المعتقين، وكذلك خطب عمر إلى علي عليه السلام أم كلثوم، فامتنع واعتذر وألح عليه فلم يفعل، واعتذر ولم يفعل وقال: إنك امرء فدخلت وهي صبية صغيرة ولا تعرف حقك، وأنت تحتاج إلى امرأة تعرف حقك وصرح فغضب عمر حتى ورمت أنفه، فدخل على العباس وهو يقول: والله يا بني هاشم لا تركت لكم مأثرة إلا هدمتها، أو كما قد قال في حديث طويل، فقال العباس رضي الله عنه: وما قال؟ قال فقص عليه القصص، فقال: وما يضرك من امتناعه وأنا عمه وأنا أزوجك، فزوجه العباس رضي الله عنه، ولم يرض علي عليه السلام إلا الإجازة، وذلك في حال الزواج جائز، لولا جاز لم يفعله بعد الامتناع؛ لأنه معصوم فعله عندنا حجة، وقد كانت بنو أمية لها سلطان قاهر، وهي عندنا كافرة إلا القليل، والباقي يفسق بعضهم لأمور أحدثوها، فكانت لهم رغبة في نكاح بنات رسول الله صلى الله عليه وآله، ومنافسة في ذلك لمن قدر عليه، ولولا ذلك لما كان عمر من الزهد في الغاية، ومن التقسيط في النهاية، وكان يعاقب من زاد في الصدقات على خمسمائة درهم قفلة، وأصدق أم كلثوم بنت علي عليه السلام أربعين ألفاً، ولما تزوج المصعب بن الزبير سكينة بنت الحسين أصدقها ألف ألف درهم، فقال شاعرهم: [255]

مهر الفتاة بألف ألف كامل

 

وبنات سادات الجنود ضياعا

كان من رأي ولد الحسن والحسين أن يزوجوا من خافوا أن يطلب منه إلى غير بني هاشم في بني هاشم؛ لأنهم أكفاؤهم لولا النص، وفي أولاد علي على من سوى ولد الحسن والحسين عليهما السلام، وفي بيوتات قريش من سوى بني أمية، وصواباً في الدين كان رأيهم؛ لأن المحظورات والشرور بعضها أغلظ من بعض الزنا حرام محظور، ونكاح المحارم، وأمثلة ذلك كثيرة، وميلنا إلى التخفيف فعلى ما ذكرنا أجمل ما بلغك من هذا الباب فبرهانه واضح، وهو اضطهاد أهل هذا البيت عليهم السلام إلى يومنا هذا، ونحن نروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من قبل العرش ألا لا يجوزنَّ أحد إلا بجواز، فيقال: وما ذلك الجواز؟ فيقال: حُب أهل البيت المستضعفين في الأرض، المغلوبين على حقهم، فمن لقيني بحبهم أسكنته جنتي، ومن لقيني ببغضهم أنزلته مع أهل النفاق)) فقد نطق الشرع باستضعافهم، وغلبة على حقهم، فمن ادعا غير ذلك خالف المعلوم مشاهد ونصاً.

وأما اتفاق من اتفق على المنع من ذلك فقد اتفق الأكثر على المنع ممن تقول الإمامة لعلي بالنص بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فضل، والعلماء القائلون بهذا أكثر وأعلم من القائلين بثبوت نكاح بنات النبي صلى الله عليه وآله، ومناهي شرفه لغير أولاده لئن يفترش شرف رسول الله صلى الله عليه وآله، ويعلو شعره بشعره، ولا يجوز ذلك لغيره لعظم حرمته صلى الله عليه وآله وتناهي شرفه، فتأمل ما ذكرنا لك، فإنا لم نتمكن من المبالغة لكثرة الاشتغال، وقد ذكرنا لك جملة كافية بإشارات هادية إن شاء الله تعالى.

فقال في مسألة الإمامة
فالكل فيها مدرك ما رامه

 

للاجتهاد الظعن والإقامة
ومبرم لما يرى إبرامه

فقلت ما أبعد هذا من قول
والخلق والأمر جميعاً والطول

 

ومن له القوة حقاً والحول
لأنها معلومة ياذا الغول

شبهة: قالوا أن مسألة الإمامة تعني بكونها احتهادية.

والجواب عن ذلك أن هذا القول لا يصح؛ لأنا نقول للمخالف ما تعني بكونها اجتهادية، فإن عنيت أنها من مسائل الخلاف، فكما يقوله أبو الحسين أن مسائل الاجتهاد هي مسائل الخلاف، فلا شك أن مسألة الإمامة فيها الخلاف، يدخل في تعيينها وفي طرقها، وفي بعض شرائطها، ولكن القول بأن مسائل الاجتهاد هي المسائل الخلافية لا يصح؛ لأن كثير من العلماء يقول بأن كل مجتهد مصيب، ولا يقول بأن كل المختلفين مصيب، بل يقع التكفير لكثير من المخالفين على هذين القولين أن يكون اثبات الصانع، وبقية من مسائل الاجتهاد التي يصيب فيها المختلفان، وكذلك أصول الدين وهو محال، ولأن مسائل الاجتهاد لا ينقض الحكم الخطأ الواقع[256] فيها من الحاكم، وينتقض بمسائل الخلاف الأصولية، وكثير من مسائل الخلاف في الفروع مما ليس طريقه الظن، ولغير ذلك مما هو مذكور في أصول الفقه؛ لأن الصحابة تحاربوا في بعض ما اختلفوا فيه دون بعض، فلابد من فصل، وليس ذلك إلا أن بعضه طريقه معلوم دون الآخر، وإن عنيت بكون مسألة الإمامة اجتهادية أنها ظنية، كما يقول بعض العلماء أن مسائل الاجتهاد إنما هي المسائل الظنية، دون القطعية فذلك لا يصح في مسألة الإمامة؛ لأن طريق وجوبها وثبوتها وشروطها، وما لا يتم إلا به إنما هي قطعيات عند علماء الزيدية، فلا يتطرق الظن إليها في شيء من أمرها إلا فيما هو تابع لها.

أما طريق وجوبها في الأصل فإجماع الصحابة، فإنهم كانوا لا يستحلون أن يبيتوا ليلة واحدة بغير إمام، كما تفصيله مبين في غير هذا الموضع؛ لأن الله تعالى أمر بما لا يتم إلا بالإمام، وأمره يقتضي الوجوب، وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجباً كوجوبه، وتفصيل ذلك مبين في كثير من الكتب المبسوطة.

وأما ثبوت الإمامة حيث ثبت فإنها ما تثبت عندنا إلا في المنصوص عليه بالنص المعلوم، وهو أمير المؤمنين عليه السلام، فأين الظن من ذلك، وفيمن دعا من العترة  الطاهرة عليهم السلام، وتكاملت فيه شرائط الإمامة بالقطع لا بالظن، فأين هذا من مسائل الإجتهاد الظنية.

وأما طريق شروطها فكلها معلومة مجمع عليها من الصحابة والمسلمين بعدهم، ومستدل عليها بأدلة قطعية، فأين هي من الظنيات.

وأما مابه ثبتت الإمامة فإنما هو لنص المعلوم، وخلاف المعلوم لا يجوز، وليس المعلوم هو المظنون.

وأما الدعوة فطريق اعتبارها إنما هو إجماع العترة عليهم السلام، وعليها بعد بطلان قول أصحاب النص وإجماعهم حجة كما تقدم، واجبة الاتباع، وأيضاً ثبوت إجماع محقق معلوم أنها لا تثبت الإمامة إلا بطريق أو موجب لها، وبطلان جميع ما يتوهمونه طريقاً إليها، أو موجب لها إلا الدعوة قد تقدم، فيبقى أنها الطريق، ودلالة الكتاب والسنة على ذلك أيضاً، فكيف ما دارت القضية فإذا الإمامة معلومة غير مظنونة لكون ثبوتها ووجوبها، وطرقها وشروطها معلومة، وبهذا يتضح بطلان قول هؤلاء الحشوية، ومن جرا مجراهم أنها اجتهادية، وأين هؤلاء الحشوية من قول الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه في كتاب الأحكام أن من لم يعلم ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فلا ينجو من عذاب الرحمن، ولا يتم له اسم الإيمان حتى يعتقد ذلك بأيقن الإيقان؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية، ثم أطال الكلام عليه السلام حتى خرج فيه إلى كلام صريح بالتكفير، والأتيان بالجرم العظيم لمن تقدم أمير المؤمنين، أو لم يعلم إمامته من العالمين، وقد قدمنا ذلك مع أن يحيى بن الحسين صلوات الله عليه جاءت الآثار بمدحه، والتصريح بإمامته، وحياة الدين على يديه، كما روينا أولاً من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يكون في هذا النهج[257] -وأشار بيده إلى اليمن- في آخر الزمان رجل من أهل بيتي اسمه يحيى الهادي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحيي به الله الحق، ويميت به الباطل)) إلى غير ذلك مما رويناه أولاً فيه عن النبي صلى الله عليه وآله، حيث ذكرنا إمامته عليه السلام، وقوله عندنا الحق، وكلامه الصدق، وهو أولى بالاتباع من غيره وأوثق، وقد أخبر أنه ما يقول إلا ما يرويه عن أجداده حتى يتصل بعلي أمير المؤمنين، ثم بالنبي خير المرسلين، ثم بالروح الأمين، ثم برب العالمين، وهذا إسناد لا يوجد مثله في العالمين، على أنه قد ذهب إلى مثل قول الطائفة الكثير من أهل البيت عليهم السلام ورحمة رب العالمين، بل قد ذكرنا أن إجماع أهل البيت عليهم منعقد على أن كل مكلف يجب عليه العلم بإمامة علي عليه السلام، وأنها واجبة على الأعيان دون غيره من الأئمة عليهم السلام، ما لم يكن ذلك إمام عصر، أو إجماعهم حجة كما تقدم بيانه، فيبطل قول من قال أن الإمامة مسألة اجتهادية.

قالوا فلم قال أصحاب الجمل
وأغفل الحجة بالنص الأجل

 

نكثتم البيعة ما هذا العمل
لو كان نص لم يكن عنه غفل

قلنا بلى احتج عليهم بالحجج
وخص بالبيعة من عنها خرج

 

من النصوص الموذنات بالحرج
إذ كانت الأصل لديهم ....اهج

شبهة: قالوا لو كان علي عليه السلام كما يقولون منصوصاً لكان لا يحتج على طلحة والزبير بالبيعة، فيقول بايعتماني ثم نثكتماني، بل يحتج بالنص عليهما من حيث هو أقوى، فلما عدل عنه إلى الأضعف وهو البيعة، دل ذلك على أنه لا نص.

والجواب عن ذلك أنه عليه السلام خاطبهما، واحتج عليهما بما هو عندهما حجة، وهو البيعة، إذ لو كانوا معترفين بكونه منصوصاً عليه لما خرجوا عن طاعته، فأما مع إعراضهم عن النص فلا معنى للاحتجاج به، وبعد فقد كانا ممن حضر الشؤرى، وسمعا ما احتج به هنالك من النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، ولكن القوم نبذوا الحجج وراء ظهورهم، وآثروا الدنيا على الآخرة، وقد روى علي عليه السلام يوم الجمل قول الرسول عليه الصلاة والسلام للزبير: ((أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم)) يعني علياً عليه السلام، فلما سمع ذلك الزبير عنه قال: بلى، والله لقد نسيت مذ سمعت رسول الله ثم تذكرته الآن، والله لا أقاتلك فرجع الزبير يشق الصفوف، فأي دلالة في ذلك.

قالوا فلم ينقض الأحكاما
قلنا اتقى أولئك الأقواما

 

إن لم يكن فاعلها إماما
أن ينفروا عن أمره قياما

شبهة: قالوا إن أمير المؤمنين عليه السلام لما تمكن من الأمر، وقام به لم ينقض على القوم الأحكام التي حكموا بها، فلولا أنهم عنده أئمة لرد ما جكموا به ونقضه.

والجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أن أمير المؤمنين عليه السلام إنما لم ينقض أحكامهم؛ لأنه لو نقضها[258] لتخلف عنه الناس، فلم يمكنه القيام بالأمر، إذ أتباعه هم أتباع القوم أولاً إلا القليل، وكان لا يمكنه حينئذٍ القيام بم افترض الله عليه، فاستثقل عليه السلام ما بقي متعلقاً به دون الماضي الذي هو حاله.

والثاني: أن أحكامهم مختلفة، فمنها ما هو حق سواء كان من إمام أو غيره من المسلمين، وهذا لا يجب نقضه ما لم يكن ذلك القائم به كافراً، أو فاسقاً على القطع دون التظنن والتجويز، وليس يقول بذلك قطعاً بعض الزيدية، فأما من قال به من أهل البيت وغيرهم من الزيدية فالجواب الأول كافٍ عنه، ومنها ما هو محالف للحق، وقد تقدم الجواب عنه الآن في الوجه الأول، ثم يقال لصاحب الشبهة فما تقول في إمامك عمر ألم يوعد خالد بن الوليد بعد قتله لمالك بن نويرة بأنه يفتده به إن ولي من أمر المسلمين شيئاً، حتى قال له: فقد تحقق لي أنك قتلت مالكاً رغبة منك في امرأته، فوقعت بينهما منازعة في المسجد تطايش خالد بن الوليد فيها عن عمر يوم قدوم خالد من سفره حتى دخل خالد على أبي بكر وقاس ما عنده، فوجده غير محرج عليه في ذلك، فخرج إلى عمر وقال: هلم إليَّ يا ابن أم أشملة، فأغضا عنه عمر لما عرف اعراض أبا بكر عنه، فلما ولي الأمر لم يفعل فيها بخالد شيئاً، بل عاش حتى مات، فإن قال أنه رأى من المصلحة أن لا يقتله وهو إمام، قلنا: فاقتنع منا بمثل هذا الجواب.

قالوا فكم من حجة وبرهان
فقلت أين الناس من هذا الشان

 

لنا عليكم بين آي القرآن
شتان بين القوم ثم شتان

أن الكتاب للوصي قد حكم
فمن يكن مخالفاً فقد ظلم

 

بأنه الإمام في خير الأمم
وقد أساء الفعل حقاً واجترم

واعلم أن للمخالفين شبهاً يتعلقون فيها بشيء من القرآن الكريم، ونحن نورد منها ما يكون منها جوابه على الجواب في غيره بمشيئة الله.

شبهة تعلقوا فيها بقول الله سبحانه وتعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} الآية.

قالوا: والداعي لهم هو أبو بكر؛ لأنه دعا الناس إلى محاربة الروم وفارس، ودعاهم إلى محاربة أهل الردة، فيجب أن تكون طاعته واجبة، لما في الآية من الوعد والوعيد، ولا وجه لوجوب طاعته إلا الاختيار؛ لأنه لا نص عليه.

والجواب عن ذلك أن الآية تدل على أن كل من دعاهم إلى ذلك وجبت طاعته، ولم يجز التخلف عنه، سواء كان ذلك هو أبو بكر أو غيره، ولا يدل ذلك على الإمامة، فبطل التعلق بالظاهر، ثم كذلك لا يدل على قتال قوم بأعيانهم، فإن الداعي إلى الحق إنما يقاتل من هو خارج عنه، والباغي خارج عن الحق كالكافر، ومتى كان كذلك فأمير المؤمنين ذلك الداعي؛ لأنه قد دعا الناس إلى قتال الناكثين والقاسطين، والمارقين، أو يستوي الحال فيسقط التعلق بالظاهر، ولا تعلق للمخالف بقوله تعالى في الآية: {أَوْ يُسْلِمُونَ} فإن الإسلام يكون بمعنى الاستسلام والانقياد، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} معنى ذلك استسلمنا وانقدنا من غير إيمان، بل نفاه الله عنهم[259] ومما يبين فساد قولهم في الآية أن الدعاء إلى القتال يقع من الإمام ومن غيره، ومتى كان ذلك كذلك لم يكن دعاء الداعي مؤذناً بإمامته؛ لأن وجوب الجهاد لا يتعلق بقوله، وليس من حق الداعي أن يكون إماماً، ثم لا خلاف أن الآية نزلت عن الذين تخلفوا عن الحديبية، وكان هنالك غزواة كثيرة أنكر المخالف تلك الغزوات بعدها هي مراده بالآية، وأن الداعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

شبهة: ومتى قالوا إن الله تعالى قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية، ولم يجد هذا الاستخلاف والتمكين إلا في زمن أبي بكر وعمر لما وقع من الفتوح، فكان هو المراد.

فالجواب أن الاستخلاف المذكور في الآية ليس المراد به الخلافة، وإنما المراد بقاؤهم على أثر ممن مضى من القرون كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ} لأنا لو حملناه على ظاهره لأدى إلى تجويز أئمة كثيرة في زمن واحد، وإن عدلنا إلى التأويل فليسوا بأن يتأولوه على الخلفاء أولى من أن يتأولوه عن ملك بلاد معينة، وحصلت فيها الصفة من التمكين، وظهور الدين فيها، فإنا لو حملنا الأرض على عمومها لخرجت عن أن يكون في أحد من الصحابة وغيرهم إلى زمننا هذا، فإن الأرض كلها ما ملكها أحد على الحقيقة.

ثم يقال: إن الآية لايقة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبأصحابه، فإنه مكنهم بعد الخوف الشديد، وأظهر دينه على الأديان، ولو جعلنا المراد بالآية من تمكن في البلاد لأدى ذلك إلى أنها نازلة في معاوية وجبابرة بني أمية وبني العباس، فإنهم ملكوا ما لم يملكه أبو بكر ولا عمر، وقد روي عن مجاهد أنهم أمة محمد صلى الله عليه وآله، وعن ابن عباس مثله.

وعن الشيعة: أن ذلك في زمن المهدي عليه السلام، وعلى الجملة فإنها لا تختص أبا بكر، ولا توجد دلالة تدل على حملها عليهما فبطل قول المخالف.

شبهة: ومتى تعلقوا بقول الله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فقالوا: إن أبا بكر هو السابق إلى الإسلام، فدخل فيمن رضي عنه الله ورضي الله عنه، وأعد له الجنة، ومتى كان كذلك فهو إمام، إذ لو لم يكن إماماً صح ذلك فيه، ولا كان ممن وعد له الجنة، وتعلقوا بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وبما أشبه هاتين الآيتين مما فيه ذكر الرضى من الله تعالى، وذكر الوعد بالجنة، وأن القوم قد دخلوا في جملة من رضي الله عنه، ووعده بالجنة، وإذا كانوا كذلك فأفعالهم حق، ولن يكون ذلك إلا وهم أئمة.

فالجواب عن ذلك أما قولهم في الآية الأولى أن أبا بكر هو السابق إلى الإسلام فذلك قول ساقط لما قدمنا بيانه من الحجج القوية، والآثار النبوية، التي أطبق على روايتها الموالف والمخالف، وقد قدمنا منها في صدر كتابنا ما لو أعددناه هاهنا لطال الشرح، واتسع الكلام، وكفى بقول الرسول عليه السلام في أخبار كثيرة: ((علي أولكم سلماً)) وفي بعضها: ((إسلاماً)) وهذا تعريض الرسول من نزاع هذا مع ما تظاهر به أمير المؤمنين[260] عليه السلام على المنابر وغيرها، وهو يدعي ذلك على رؤس الأشهاد، وبعده من أعظم المناقب، وفي ذلك يقول عليه السلام.

سبقتكم إلى الإسلام طراً

 

غلاماً ما بلغت أوان حلمي

فما علم أن أحداً من الصحابة رد ذلك عليه، ولا أنكره أبداً، وكفى بذلك دلالة، ثم العترة مجمعة على أنه هو السابق إلى الإسلام، لكل أحد من رجال الصحابة وإجماعهم على ذلك معلوم، وإجماعهم حجة كما تقدم ذلك، ومتى كان كذلك لم يكن أبو بكر هو السابق من المهاجرين، وكان من المتابعين، فإن أحسن كان من المتبعين، فإن اتبع كان من المتبعين بإحسان، ولكن كيف الإحسان مع تقدمه على أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وإمام المسلمين، بحكم رب العالمين، وحكم رسوله الأمين، وإجماع آل محمد الطيبين صلوات الله عليهم أجمعين، فبطل تعلقهم بذلك في الإمامة، وصح أنه علي عليه السلام بقرينة قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} إذ هو الأول عليه السلام، والقول بأنه علي عليه السلام، قول ابن عباس وجابر، وزيد بن أرقم ومحمد بن المنكدر، وربيعة الرأي وأبي حسان، والمزني.

وأما ما تعلقوا به من الوعد بالجنة والاختيار بالرضى عن المبايعين تحت الشجرة، فقد ذكر العلماء أن ذلك إخبار عن الحال؛ لأن من المعلوم الجلي أن من القوم من فسق بعد ذلك، فإن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممن بايع تحت الشجرة فسقوا يوم حنين بالفرار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يدل على ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15-16] ولا خلاف نعلمه في أن القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك الموقف وأمثاله كثيرة، ومثل ذلك خروج  طلحة والزبير على أمير المؤمنين ففسقا بذلك، فلا يصح مع هذا وأمثاله أن يكون ذلك اخباراً إلا عن الحال أن الله تعالى راض عنهم في تلك الحال، وإنما يكون ذلك خبراً عن الحال، وعن العاقبة جميعاً، في المعصوم وهو أمير المؤمنين عليه السلام، وبهذا المعنى سقط جميع ما يتعلق به المخالف من هذا القبيل، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك دلالة  على الإمامة أصلاً.

قال فلي دلائل في آثار
على إمامات الرجال الأخيار

 

تواترت وانتشرت في الأقطار
فأي قول بعد تلك الأخبار

فقلت إن كان حديث المنزلة
فإنها معلومة مفصلة

 

فيها وأخبار الغدير مدخلة
أو لا فدعها لعلي فهي له[261]

لا تجعلن خبراً عن واحدٍ
مثل أحاديث الإمام الماجد

 

وقول كل كاذب معاند
يوم الغدير في ذوي المشاهد

تلك التي تواترت في الخلق
ونطقت في الناس آي نطق

 

وانتشرت أطرافها عن صدق
أن علياً إمام الحق

واعلم أن للمخالفين شبهاً يتعلقون فيها بأخبار، ويروونها عن النبي صلى الله عليه وآله في المشائخ، ويعدونها أدلة على إمامتهم، ونحن لا نطول الكلام بذكر جميعها هاهنا؛ لأنها أخبار آحاد لا توصل إلى العلم، فإنه لا خبر منها إلا وقد اختلف فيه وفي طريقه وإثباته، ونحن الآن نجيب بجواب كافٍ، وهو أن كل ما يدعى في القوم من نص جلي فإنه لا صحة له لوجهين:

أحدهما: أنه لو كان منصوصاً به عليهم لم يخل ذلك أن يكون نصاً جلياً يعلم ضرورة، وهذا يوجب الشركة بين مخالفهم وبينهم، ومعلوم خلاف ذلك ضرورة، أو يكون استدلالياً فذلك باطل؛ لأنه ليس في الكتاب ولا في السنة، ولا في الإجماع ما يدل عل ذلك، كما بينا ذلك، ثم لو جوزنا صحة ما يدعيه المخالف من النص مثلاً فقد دلت النصوص المتقدمة من الكتاب والسنة، وإجماع العترة وتزايد الفضل واجتماعه على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، كما تقدم ذلك كله لأدى ذلك إلى جواز إمامة إمامين في عصر واحد وهو محال.

الوجه الثاني: أنه لو كان منصوصاً عليهم لوجب أن يورد أبو بكر تلك النصوص يوم السقيفة، حيث احتاج إلى مناظرة الأنصار، ودفعهم عما أرادوا من الإمامة، ولا يحتج بالقرآن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن النص أقطع وأظهر كما فعل أمير المؤمنين عليه السلام يوم الشؤرى وغيرها، وكذلك فلو كان منصوصاً عليه لما قال: أقيلوني، ولما قال: وليتكم ولست بخيركم؛ لأن المنصوص عليه لا يستقيل؛ لأن الاستقالة تدل على أن الإمامة وقعت بالبيعة، ولما قال أبو بكر يوم السقيفة بايعو أحد هذين إن شئتم عمر وأبا عبيدة؛ لأن هذا منه إخبار بأنه لا نص عليه، ولكان أبو بكر يورد النصوص في عمر يوم أنكر عليه الصحابة توليته عليهم، ولما جعل عمر الأمر شؤرى بين ستة، بل جعل الأمر لصاحب النص، ولما قال عمر: لو كان سالم مولى حذيفة حياً لما خالجتني فيه الشكوك، ولكان عثمان أيضاً يحتج بتلك النصوص أيام الشؤرى، كما فعل أمير المؤمنين في احتجاجه بالنصوص، فلما لم يكن شيء من ذلك دل على أنهم غير مدعين لما ادعاه لهم المخالف، وأن ما يهذون من تلك الأحاديث لا صحة لها، ومثل ما ألزمناهم لا يلزم في أمير المؤمنين؛ لأنه عليه السلام لم يتمكن من المناظرة واللجاجة كتمكنهم، لخوفه وقوع الفتنة إلا القليل من ذلك إلى أيام الشؤرى، ثم بين بما احتمله الحال يومئذٍ، ولهذا لما استقر له[262] الأمر أظهر كثيراً مما كان يكنه نحو خطبته الشقشقية، وغيرها مم اقدمنا ذكره، ونحن نذكر من الأحاديث التي يروونها شيئاً لنريك الكلام على وجه التفضيل، إذ تكلمنا هاهنا على سبيل الجملة.

شبهة: تعلقوا بما رووه من قول النبي صلى الله عليه وآله: ((إن وليتم أبا بكر وجدتموه قوياً في دين الله، ضعيفاً في بدنه، وإن وليتم عمر وجدتموه قوياً في دين الله قوياً في بدنه، وإن وليتم علياً وجدتموه هادياً مهدياً، يحملكم على المحجة البيضاء)) قالوا: ولم يذكر النص ولا ذكر أن ذلك لا يسوغ لهم، بل قررهم عليه، وجعل الأمر إليهم، فدل ذلك على أن الأمر في تعيين الإمام إلى الأمة.

فالجواب عن ذلك من وجوه:

أحدها: أن هذا الخبر إن ادعوا أنهم علموه ضرورة كابروا، وإن قالوا علموه استدلالاً قلنا فهلم الدلالة من إجماع وقع عليه، أو من نقل ظهر واستشهر ولا سبيل لهم إلى ذلك، بل أكثر ما يقولون أنا علمنا صحة هذا الخبر من حيث اجتمعت الصحابة على القول بالاختيار، ونحن قد أبطلنا الإجماع الذي يدعونه، ولا سبيل إلى ثبوته، ثم لو صح مثلاً ما ادعاه المخالف من الإجماع، ولا سبيل إلى ذلك لكان بنفسه دلالة قطعية، فما وجه التعليق بالخبر وهو لا يستثقل بنفسه، ولا يوصل إلى العلم.

الوجه الثاني: أن هذا الخبر لو صح لكان علي عليه السلام أولى من أبي بكر بالأمر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وصفه بالضعف في بدنه، وذكر أمير المؤمنين، فأورد فيه خصال الإمامة كاملة؛ لأن كونه هادياً مهدياً يجمع ما احتاج إليه الإمام، والخبر يقتضي بظاهره أن الخطأ لا يقع منه في باب الدين، وإلا خرج من أن يكون هادياً مهدياً، فلو سلمنا صحة الخبر تسليم جدل لدل على أن عدولهم عن أمير المؤمنين عليه السلام إلى غيره كان خطأ؛ لأن الصالحين للأمر إذا استوت حالهما إلا أن أحدهما مأمون الباطن، حيث يؤمن عليه، ويعلم أنه الخطأ لا يقع منه دون الآخر لم يجد حينئذٍ العدول عنه إلى الآخر الذي يجوز عليه الخطأ؛ بل يجوز عليه العمد والعصيان، ولا يؤمن وقوعه منه، فلو جعل هذا دلالة على المخالف كما فعل يعض من نصر هذا المذهب من الشيعة لكان أولى.

الوجه الثالث: أن هذا الخبر معارض بما روى ابن مسعود قال: كنت مع النبي صلى الله عليه ليلة وفد الجن فتنفس فقلت ما شأنك بأبي وأمي يا رسول الله؟

قال: ((نعيت إليَّ نفسي يابن مسعود)) قلت: ألا تستخلف، قال: ((من))؟ قلت: أبا بكر، فسكت، ثم مضى ساعة ثم تنفس، قلت: ما شأنك بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال: ((نعيت إليَّ نفسي يابن مسعود)) قلت: ألا تستخلف؟ قال: ((من))؟ قلت: عمر، ثم سكت حتى مضى ساعة ثم تنفس، قلت: ما شأنك؟ قال: ((نعيت إليَّ نفسي يابن مسعود)) قلت: أتستخلف؟ قال: ((من؟)) قلت: علي بن أبي طالب، قال: ((أما والذي نفسي بيده لو أطاعوه - أو قال- لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أطتعين)) وقد زيف هذا الخبر الحاكم في حال اعتزاله، وروى في عمر ما لا يصح أن يكون عن النبي عليه السلام وهو قوله: لو كان بعدي نبي لكان عمر، فيا سبحان الله العظيم كيف يصح مثل هذا عن الرسول ونحن لا نعلم كونه كذباً إذ لا يصح أن يكون النبي قبل البعثة كافراً يسجد للأصنام ويستقسم[263] بالأزلام كما كان عمر، وهل في التنفير عن الأنبياء أكثر من هذا، وللحاكم رحمه الله تعالى في التهذيب في تفسير سورة الضحى ما ينقض قوله حيث فسر قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ثم قال: ومتى قيل أليس قد قال بعضهم أنه كان على دين قومه فهداه إلى الحق، حتى روي عن السدي أنه قال: كان على أمر قومه أربعين عاماً.

قلنا: هذا خبر من الخطأ العظيم؛ لأن الكفر لا يجوز على الأنبياء قبل البعثة وبعدها، ولأنه يؤدي إلى التنفير، ولابد في النبي أن يكون معصوماً قبل البعثة وبعدها من كل كبيرة، هذا كلامه رحمه الله تعالى، ولم يأت فيه إلا بمذهب أهل العدل، غير أنه غفل عن ذلك عند كلامه في الخبر، حيث كان حينئذٍ ناصراً للباطل فخذل، وغير بعيد صحة الخبر الأول الذي رواه ابن مسعود ليلة وفد الجن؛ لأنه إنما ورد بما يوافق الكتاب والسنة وإجماع العترة، فبأي طريق ينسب برد إلى من لا يعتد به، وقد روى هذا الخبر من هو مخالف لنا عن عبد الرزاق.

قال أخبرني أبي عن مثنى عن عبد الله بن مسعود قال: كنت مع النبي عليه السلام ليلة وفد الجن، فلما انصرف منهم تنفس، قلت: ما شأنك؟ قال: ((نعيت إليَّ نفسي يابن مسعود)) قال فقلت: استخلف، قال: ((من؟)) قلت: أبا بكر، فسكت، ثم مضى ساعة ثم تنفس، قلت: ما شأنك بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال: ((نعيت إليَّ نفسي يابن مسعود)) قلت: ألا تستخلف؟ قال: ((من))؟ قلت: عمر بن الخطاب، قال: فسكت، قال: ثم مشى ساعة ثم تنفس أيضاً، ثم قال: ((نعيت إليَّ نفسي يابن مسعود)) قلت: استخلف، قال: ((من؟)) قلت: عثمان، ثم قلت طلحة، ثم قلت عبد الرحمن بن عوف، ثم قلت الزبير، وهو ساكت، قال: ((نعيت إليَّ نفسي يابن مسعود)) قال قلت: استخلف، قال: ((من))؟ قلت: علياً وهو في رواية أخرى عن إبراهيم بن عيسى وأخرت علياً لمعرفتي برأيه فيه، فقال: ((والذي نفسي بيده لئن أطاعوا علياً ليدخلوا الجنة أجمعين أكتعين)) فقلت: ما اكتعين؟ قال: ((لا يبقى منهم أحد)).

وفي رواية إبراهيم أنه قال تأوه: ((أما إنهم لن يفعلوا ولو فعلوا لدخلوها أجمعين أكتعين)) فكيف يرو مثل هذا، والمخالف يرويه كما يرويه الموالف، وهو وارد بما هو الحق، وإنما ينبغي أن يرد مثل هذا الخبر الذي في عمر على ما بيناه الآن، وبيناه أولاً عند كلامنا في قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: ((ألا إنه لا نبي بعدي، ولو كان لكنته)) وأن ذلك لا يصح أن يرد في غيره، وإن كان الحاكم رحمه الله قد رجع عن الاعتزال وقال بتقديم علي عليه السلام، واحتج لذلك وصنف وبالغ في نصرة هذا المذهب الشريف مبالغة مثله، وله في ذلك تنبيه الغافلين على قضاء الطالبين.

ثم يقال لهم: أليس يوضح هذا الخبر الذي رويتم يجوز أن يكون حصل النص بعده على أمير المؤمنين عليه السلام بل قد وقع فيبطل ما اعتمد عليه.

شبهة: وتعلقوا بما رووا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة)) قالوا: وهي عام ولاية علي عليه السلام.

والجواب أن هذا[264] الخبر ضعيف في نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله قبض لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وقبض عليه السلام لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين فهاهنا زيادة على ثلاثين من ليلة ثلاث عشرة ليلة من ربيع الأول إلى ليلة إحدى عشرة بقيت من شهر رمضان، وكلام النبي صلى الله عليه وآله لا يجوز فيه الكذب لا بقليل ولا بكثير، وهذه دلالة وهي الخبر واختلاله على أنه لا تعلق للمخالف به؛ لأن المعتزلة تقول بخلافة الحسن والحسين عليهما السلام، فكيف يقصرون الخلافة على ثلاثين سنة مع قوله عليه الصلاة والسلام: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)).

شبهة: ومتى قيل أليس قد روي أنه جاء كعب الأحبار إلى عمر بن الخطاب فقال له: يا أمير المؤمنين أعهدت أنك ميت في ثلاثة أيام؟

قال: وما يدريك؟

قال: أجده في كتاب الله التوراة.

قال عمر: إنك لتجد عمر بن الخطاب؟

قال: اللهم لا، ولكن صفتك وحليتك فإنه قد فني أجلك، فلما كان من الغد جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يومان، ثم جاء بعد الغد فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يومان وبقي يوم وليلة، وهي لك إلى صبحها، فلما جاء الصبح قتله أبو لؤلؤة، وكان الأمر كما ذكره كعب، وهذا يدل على أنه إمام حيث ذكر في كتاب الله تعالى.

والجواب عن ذلك أن الله تعالى ذكر في كتابه المؤمن والعاصي، وليس مجرد الذكر بدليل، يبين ذلك ويوضحه أنه لو كان إماماً بمجرد ذكره هنالك لكان معاوية لعنه الله إمام حق؛ لأن عثمان لما جمع أصحابه ليستشيرهم فيما بلغه عن الناس في أمره، فاجتمعوا إليه في الموسم، ثم ارتحل فمر به الحادي:

قد علمت ضوامر المطي

حتى قال:

أن الأمير بعده علي

 

وطلحة الحامي لنا ولي

 وفي الزبير خلفه رضي

 

فقال كعب وهو يسير خلف عثمان للحادي: كذبت صاحب البغلة الشهباء بعده، وأشار إلى معاوية، فأخبر بذلك معاوية فسأل كعباً عن الذي بلغه، فقال: نعم، أنت الأمير بعده، ولكنها والله لا تصل إليك حتى تكذب حديثي هذا فوقعت في نفس معاوية.

قال أبو جعفر: كتب إلي فلان عن فلان عن رجل من بني أسد قال ما زال معاوية يطمع فيها بعد مقدمه على عثمان حين جمعهم فاجتمعوا إليه بالموسم، فعلى هذا يجب أن يكون معاوية إماماً لو صح ما قاله المخالف، فإن الأمر صار إليه حقيقة، واستقر في يديه، ثم إلى ولده يزيد لعنهما الله، وظهر بذلك فساد ما ذكره، بل لو اعتبرنا مجرد الوجدان لدل ذلك على نقيض ما ذكره السائل، كما ثبت مثله في معاوية وذلك بين بحمد الله ومنه.

شبهة: ادعى بعض المخالفين لنا أن النبي صلى الله عليه وآله أمر أبا بكر بالصلاة بالناس في مسجده، وفي حال شدة مرضه، وجعل ذلك المخالف دلالة على إمامته، وقد قدمنا الجواب على ذلك من كلام أئمة الهدى، حيث بينوا أن الأمر بذلك كان من عائشة، وجعلوا ذلك مثلبة ومنقصة عليه، كما ذكره الباقر، فمن أحب الوقوف على حقيقة الأمر فلينظر في كرم أئمة الهدى عليهم السلام في كتابنا هذا، حيث ذكرنا ما ظفرنا من أقوالهم في القوم ففيه[265] جواب شاف، وعلى أنا لما لو سلمنا للمخالف هذه الدعوى التي لا حقيقة لها تسليم جدل، فإن الصلاة بهم لا تدل على أنه الخليفة لوجهين:

أحدهما: أنه ليس فيه دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة ولا إجماع.

والثاني: أن الخليفة عندنا هو أمير المؤمنين علي عليه السلام ولم يحضر الصلاة معهم، فيكون أبو بكر متقدماً عليه، بل كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يبين ذلك ما أجمع عليه الكل من كون النبي عليه السلام متوكياً عليه في حال خروجه، حيث أفاق وسأل عن المصلي بالناس من هو، فخرج إلى المسجد فعزل أبا بكر فصلى بالناس، ورووا السادات من أئمة الهدى عليهم السلام أنه صلى الله عليه وآله خرج متوكياً على علي بن أبي طالب بالإجماع، وعلى رجل آخر مختلف فيه، قيل: الفضل بن العباس وقيل: غيره تخط الأرض قدماه حتى جر أبا بكر فأخرجه، وتقدم وصلى بالناس قاعداً، والناس وراؤه قيام، ثم قال: ((أما إن هذه الصلاة لا تحل لأحدٍ بعدي)) فبان بهذا أن هذه حجة داحضة، وشبهة منقوضة غير ناقضة، ولنقتصر على هذا القدر من ذكر ما يأتي به المخالفون من ترهات الشبهات، ومن خرافات التمويهات، فإن ما ذكرنا من الأدلة اللائحة والأجوبة الواضحة، والحجج المرضية، والبراهين الرضية، هدى لمن اتبع الهدى، وتجنب مداحض الغواية والردى، فأما من اقتاده الهوى بزمامه، واكتنفه الريب من خلفه وأمامه، فلن يستبصر وإن بصر، ولن يتذكر وإن ذكر، إنما يتذكر أولوا الألباب، الفائزون غداً يوم الحساب.

وقد ترى يا طالب النجاة
وحجج الحق المبينات

 

شواهد الآثار والآيات
فاسلك هديت منهج الهدات

واسبح على منوال أبناء النبي
يا حبذا مذهبهم من مذهب

 

خير رجال عجم أو عرب
يعزونه إلى النبي اليثرب

........عنه صادق عن صادق
إلى أبي أئمة الخلائق

 

وسابق عن سابق عن سابق
وكعبة الخير لكل طارق

وهل سمعت قط في الأبناء
لكل أهل الود والبغضاء

 

قول أبي في الخطبة الزهراء
عن أحمدٍ عن رافع السماء

مرغباً كل الورى مذهباً
يوماً عصيباً فادحاً عصبصبا

 

مجدداً يوما كريهاً مغضبا
أعظم به يوماً يسوء المذنبا

أظهر فيها نبا الاعصار
ودولة العاصين والأخبار

 

وفتنة الغاوين في الأمصار
وأنه خليفة المختار
ذ

أعلن بالمكنون للعباد
مبيناً لرائح وغادي

 

وأظهر المستور في البلاد
وحاضر من الورى وبادي[266]

وصية كانت من الرسول
وحجة من سيفه المسلول

 

هدى بها الله ذوي العقول
تنطق بالمسموع والمعقول

سار إليها الصعب والذلول
واستمع المبغض والخليل

 

وأمها الناصر والخذول
إذ قوله مصدق مقبول

أصغى إليها كل بر طاهر
حيث أتت تعلن بالسرائر

 

وصد عنها كل خب فاجر
بعد اختلاف القوم والتشاجر

فقف عليها تنظر العجائبا
فلن ترى مثل أبينا خاطبا

 

وتعلم الحق المبين الصائبا
مبيناً للناس فرضاً لازبا

إمام أهل الرشد واليقين
وكعبة الدين لأهل الدين

 

وصي خير الخلق أجمعين
وحافظ وصية الأمين

                                                                                               الخطبة الزهراء

هي الخطبة الكبرى التي خطب بها أمير المؤمنين علي عليه السلام قبل موته البعيد والقريب، فأسمعها البغيض والحبيب، كان في عصره ممن تبلغه ذلك عنه، وهي آخر خطبة خطبها، ولقي الله تعالى عليها، انطوت على علم كثير، وبين فيها عليه السلام أحوال الدنيا، وما يكون بعده من العظائم إلى يوم القيامة، وهي موجودة بحمد الله تعالى، غير أنا نذكر منها طرفاً منبهاً لذوي البصائر على ما تقدم من أمره عليه السلام قال عليه السلام في موضع منها: ألا وإني أقول قولي هذا فلعلني لا أقول بعد يومي هذا مثل قولي هذا، فليستمع المحبون والمبغضون، فإنه ما من نبي بعث في الأولين ولا في الآخرين، إلا كان له هادي من بعده، وإن موسى كليم الله ومحمد صفي الله، وأقام موسى بعده هادياً مهدياً هارون بن أمه، وإن محمد أقامني هادياً مهدياً، فأنا نظيره إلا أني لست بنبي، فاختلفتم كما اختلف بنو إسرائيل على هارون فضربها الله بالفتن والاختلاف، وطاعة السامري فعاقبهم بالقتل، فمن قتل نفسه بالتوبة كان شهيداً، ومن كره القتل عوقب بالافتراق، والخروج عن الملة، فافترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها ضلت وتاهت، وهلكت إلا بقية من آل موسى وآل هارون، وهي الأمة الهادية التي قال الله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} فهي التي تعدل وتنهي، ولم يكن الله ليضل الناس بعده، وافترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كل فرقة على ثلاث وسبعين ملة لكل ملة ضالة مضلة، إلا من أخذ بحجزتي وحجزة أهل بيت رسوله وكتابه وسنته، واتبع الحبل الأكبر والحبل الأصغر.

وقال عليه السلام في موضع منها أجر اللهم علمك في عبادك ما أقول، وقضاؤك هو أعلى من كل شيء، وأبلغ كل شيء من غيرك مقهور، اللهم إني قد بلغت وحذرت، وحمدت وقمت، وأديت كل ما أمرت، وكلما وقعت فيه بعد رسولك، هو كما انبأني به[267] رسولك، وما فعلت بعد رسولك أمرني رسولك، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، لم أزل ولم أمل، ولم أفارق منهاج الرسول ودينه وذريته، وسيرته ووصيته، ألا فاعترفوني معرفة النفس، أنا ابن اسلامها، وبانيها وسابقها، وناصرها ومنصورها وجابرها، أنا وضعت بكلكل العرب، وكسرت قرني ربيعة ومضر، ونطحت جبابرة قريش وفراعنتها، وهذا الحي من قحطان..........فيها أنا ليثها وفارسها، أنا ابن سيفها وذابحها، أنا ذبحت مخزمها وكعبها، وعبد شمسها، وأنا ضربت بخرطومها، هل لأحدٍ من هذه العصابة والعشيرة التي تنتحل أنها كانت على المؤازرة، والنصر من رسول الله صلى الله عليه وآله قرابتي، ومنزلتي وصحبتي، وضعني في حجره وأنا ابن أربع سنين، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جلده وجسده، وعرقه وإنه ليقبلني فامص ريقه ، واكل من قصعته، وألعق أصابعه ويناولنيها لأفعل ذلك على العهد، ليدخل روحه في روحي، ومن مائه في مائي، واتخلق بأخلاقه، واخذ بهديه حتى كان يمضغ الشيء مضغاً، ثم يلقمني من فيه، وإنه كان صلوات الله عليه يتطهر إذا أتاه الوحي، ويأمرني بذلك فلا أكون معه نهاري إلا طاهراً، ولا أبيت معه ليلي إلا طاهراً، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطأ في حد.

وقال عليه السلام في موضع آخر منها: ألا فاعرفوني فكل العرب قد عبدت الأصنام، واستقسمت بالأزلام، ولبيت كما لبى رسول الله صلى الله عليه وآله، وإني لم أعبد صنماً ولم استقسم بالأزلام، ولم أشرب خمر الجاهلية، وأنا أول من رأى نور الوحي والرسالة، واشتم رائحة النبوة، وأنا أول من صدق به، وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله بعد رسول الله، وأنا سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم وهو يقول: يا ويله من ذا يضل بعد نبي الرحمة، ولم يسمعه غير رسول الله صلى الله عليه وآله غيري، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة، فقال: ((هذا شيطان إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي، وإنك لوزير وإنك لعلى خير)).

وقال عليه السلام فيها: وأنا كنت معه يوماً قال النبي صلى الله عليه وآله: ((يأتيني تسعة نفر من حضرموت يسلم منهم ستة نفر، ولا يسلم ثلاثة فوقع في قلوب الناس كثير من كلامه بما شاء الله أن يقع، فقلت أنا صدق الله ورسوله هو كما قلت يا رسول؟ فقال: ((أنت الصديق ويعسوب المؤمنين وإمامهم، وترى ما أرى وتعلم ما أعلم، وأنت أول المؤمنين إيماناً، وخلقك الله من ضياء، وترك منك الشك والضلال، فأنت الهادي الثاني والوزير الصادق)) ثم سرد عليه السلام حديث النفر.

وقال عليه السلام فيها: ألا فاعرفوني فإني صاحب عقبة بن أبي معيط فرعون قريش، وضع رجله على عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ساجد فغمزه إلى الأرض غمزاً شديداً[268] حتى بلغ منه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((والذي لا يحلف بأعظم منه، لئن أمكنني الله منك، ويمكنني إن شاء الله لأقتلنك على يدي أحب خلق الله إليه من أهلي وآلي)) فلما كان يوم بدر أخذ أسير فجاؤا به إلى النبي صلى الله عليه وآله فأمرني أن أضرب عنقه صبراً، فسمعت قائلاً يقول: ما بعد يومك هذا من ذنب، وأنت ذو قرينها فالتفت فلا أرى شيئاً.

وقال عليه السلام: من الذي بكت عليه مكة بعد النبي صلى الله عليه، إنها لما خرجت منها بكت علي كما بكت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ...............هل تخلفت عن غزاة واحدة، ومن صاحب بدر وأحدٍ وحنين والخندق، ومن سبي البطل يوم الأحزاب، من صاحب ليلة الهرير، من الذي زعزع بني قريظة، هاتوا من الكرار غير الفرار، من صاحب الجبابرة، من صاحب الحصون، من كان نظير يوشع بن نون، وعلى من ردت الشمس، وضحكت إليه المدينة غيري، من كلم الخضر من أصحاب الرسول غيري، ومن رأى جبريل ومكيائيل غيري، وعلى من قرأوا السلام من الرب العظيم غيري، ومن كان صاحب تبوك حين خلفني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتكلم الناس للظغن الذي في صدورهم، وقالوا: إنما خلفه رسول الله لأنه قد أبغضه، فلحقت رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرني الخبر فقال والملأ يسمع: ((كيف أبغض رجلاً أمرني الله بحبه قبل ليلة  أسري بي، وأمرني أن أواخيك ففعلت، وأمرني أن أزوجك ففعلت، وأمرني أن أعلمك ولا أترك جاهلاً، وأمرني أن أقربك ولا أجفوك ففعلت، وإن أدينك ولا أقضيك، وأنت أخي في الدنيا والآخرة، ولم يعط رب الشفاعة غيري، وسألت ربي أن يشركك معي في الشفاعة ففعل، وأمرني أن أقيمك ولياً من بعدي، وأنت ولي ولما يفعلوا إلا أن لك الكرة عليهم كالكرة الأولى، فمن أعطى ما أعطيت يا علي وأنت كرارها غير فرارها، لم يرجع أبداً إلا بفتح أو نصر أكرم ملائكة الله معك، لا يفارقونك، وهل ذكرت في موضع من السماء إلا ذكرت معي أنت خاتم الأوصياء بعدي، وأنت شهيد الشهداء من أهلي، لتخضبنَّ هذه من هذا قضى مقدوراً، وعلماً سابقاً، ونفس تسعد وتبلغ الدرجة العلياء بنفس تقيه، ويله ماله شقى الآخرين فمثلك أبغض، وقد أحب الله رب العالمين حباً لا يبغضك أبداً، ثم سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسار الناس معه فشكوا العطش، فقال للناس اطلبوا الماء فطلبوا فلم يصيبوا قليلاً ولا كثيراً حتى خافوا على أنفسهم، وماتت بعض دوابهم، فلما رأوا ما نزل بهم قالوا: يا رسول الله ادع لنا ربك يسقينا الماء فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد أبحث بيدك هذا الصعيد، ثم ضع قدميك وأصبعيك المسبحتين حتى يكون اثنتي عشرة أصبعاً وسم، ففعل النبي صلى الله عليه وآله ما أمره جبريل فتفجر من بين أصابعه الماء حتى شرب الناس وارتووا، وسقوا دوابهم، وحملو معهم من الماء ما كفاهم، حتى بلغو إلى الماء الآخر، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أعطى موسى صلى الله عليه وآله، وأن الموضع الذي تفجر من لمعروف[269] في طريق الحديبية، لم يغتسل فيه تلك الساعة غيري، ولا ينبغي لأحدٍ أن يغتسل فيه غيري، فازداد المؤمنون أيماناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((الصلاة جامعة)) فاجتمع أحياء العرب، وكل فصائلها وعشائرها من المهاجرين والأنصار وغيرهم من العرب فخطبهم ثم أقامني عن يمينه، ثم قال: ألست برسول الله؟

قالوا: نعم.

قال: أليس هذا علي؟

قالوا: نعم.

قال: إني أقول فيه قولاً لا أقوله في أحد من الناس: إن هذا مني بمنزلة هارون من موسى، كذلك سألت ربي، وأمرني ربي أن أخلفه في ديني وعداتي، وأضع عنده أسراري، والعلوم المخصوصة التي تكون في النبيين وآل النبيين، وهذا ولي كل مؤمن بعدي، اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، ومن كنت عدوه فعلي عدوه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، أقول قولي هذا للمؤمنين والمؤمنات، وتلا في موضع عليه السلام قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

قال علي عليه السلام: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وأنا معه في بيته فقال: ((يا علي)) فقلت لبيك يا رسول الله، فقال: ((اللهم أجب علي عن رسولك بالخير أبداً، انطلق إلى بني عبد المطلب، ثم سرد عليه الخبر المعروف، حتى قال وأجمعها لي في بيتي هذا فأني أطعمها من طعامي، واسقيها من شرابي، وابلغها رسالة ربي، وأقيم فيها اليوم زيري وناصري إلى يوم القيامة، ليتقدمها وليعلمها، وليتأمر عليها، ثم قام صلى الله عليه وآله فذبح شاة، واتخذ خبزاً وثريداً لنفسه، ثم انطلقت سريعاً حتى قال أمير المؤمنين صلوات الله عليهم فجمعتهم كلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فاجتمعوا طمعاً أن يحالفهم ويجامعهم على أمرهم، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وكان بيته مما لا يسع عشرة رجال، فاجتمعوا فيه كلهم بإذن الله، وهم زهاء ستين رجلاً، يزيدون أو ينقصون، فقرب لهم رسول الله طعاماً فطعموا من الشاة والجفنة، فشبعوا وفضل من الطعام النصف أو أكثر، ثم سقاهم لبناً في عيس واحدٍ، فرووا منه والرجل منهم لا يروى من مثله ومثله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنتم الملأ من قريش أتيتكم بعز الأبد، وملك الدنيا والآخرة، وهو الملك الذي قال آدم، وملك لا يبلى، وتكونون فوق الناس، ولا يزال الناس تبعاً لكم إلى يوم القيامة، تملكون الأقاصرة والأكاسرة، وبني الأصفر حتى يكون زمان الدنيا في ملككم، فأيكم يؤازرني ويجامعني ويتابعني، ويؤمن بي ويصدقني على أمري هذا، فيكون وزيري وخليلي وأميني وخليفتي، ووصيي ووليي في الدنيا والآخرة)) فسكت القوم واشمأزوا حتى قالوا هجرت ولم يجيبوه، فقلت: أنا يا رسول الله، وأنا أحدث القوم سناً، قد آمننت بك وصدقتك، ووازرتك وناصرتك، واتبعتك، وأشهد أنك رسول الله[270] بعثك بالحق بشيراً ونذيرا، فقال صلى الله عليه: ((اللهم اشهد أني قد وازرت علياً وحالفته، وجامعته، فهو وزيري وخليلي، وأميني ووصيي، والقائم بعدي، وخير أهلي، ومن آمن بي، فاتخذه يارب خليلاً وارض عنه)) فقام القوم وهم يقولون ويهزون لأبي طالب: يا أبا طالب قد ولي علك ابنك وأمره، واتخذه خليلاً ووزيراً من دونك فما بعد هذا شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((من تولى الله ورسوله فهو ولي الله ورسوله، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما كان لرسول الله مجمع مثله)).

وقال عليه السلام فيها: وأنا صاحب مطر المدينة، أصبح الناس غثى مطر شديد، فخرج النبي صلى الله عليه وآله يمشي حتى برز إلى الصحراء فلحقته فعلم مجيئي فوقف حتى سلمت عليه فرد السلام، فقال: ((ياعلي لا تزال تتبعني في الخيرات، وتلحقني حتى تجمعنا درجة واحدة، وأنه بشرني ملك كريم بمجيئك فمن ذا الذي يبغضك إلا شقي، وأنا بريء منه)).

وقال عليه السلام فيها: من اسمه في التوراة والإنجيل، والزبور والفرقان، وثاني اسمه غيري، من ناداه الله بالتطهير غيري {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب:33] أين كان سيفه في المواطن الكريهة، من ضرب خرطوم العرب بسيفه، حتى نجعت وجاءته أفواجاً، من كان صاحب السرايا الذي كان جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، من خص بالنذور والثناء، وشكر فعله، من ناداه الله يعلم المؤمنين بأني وليهم، فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} إنما هو من سأل الله منكم المودة، وأمر النبي أن يقول لأمته لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى.

وقال عليه السلام فيها: هاتوا من سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في خطبة الجماعة وهو يقول: ((من فارقني فارق الله، ومن فارق علياً فقد فارقني، ومن أطاعني أطاع الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصا علياً فقد عصاني)).

وقال عليه السلام فيها: هاتوا من الذي سمع رسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معه يقول: ((إن بني إسرائيل كانت فيهم الأنبياء كلما ذهب نبي كان بعده نبي، وعلي يقوم بعدي بهذا، وحبل علي متصل بحبلي، وأنه يكون في أمتي من ذريتي أئمة هادية يهدون بهدي وسنتي، وحبلهم متصل بحبلي، لا يفتقرون حتى يجمعنا المنزل، فمن اختلف عليهم فقد خرج من الحق والهدى، وإن علياً لا يزول حتى يلقاني شهيداً مختضباً)).

وقال عليه السلام فيها: يقولون إني طلبت الإمارة والأمر، صدقتم إمارة وأمراً سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((ويل للأمراء، ويل للعرفا، ويل للأمنا، ليأتين على أحدهم يوم يود لو أنه به معلق بالنجم مذبذباً، وأنه لم يتأمر على اثنين)) إنما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وبنوه وخلافه، فزعمتم أنه لا خلافة بل إمارة، فما أسرع ما تسيتم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول على رؤس الأشهاد: ((من أراد أن يحيى حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي، قضيت غرسه بيدي، وقال له كن فليتولى علي بن أبي طالب، وليتولى[271] وليه، وليعادي عدوه، وليتولى ذريته من بعدي، خلقوا من طينتي، ورزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين منهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي، ويقول: كل نسب وسبب منقطع بوم القيامة إلا نسبي وسنتي ونسبي، ويضرب على منكبي ومنكبي ولدي وزوجتي هي ابنته، وهو يقول: أما ترضى أن تكون منزلتك في الجنة مقابل منزلي))؟ قلت: بلى، قال: ((فإنه كذلك)) هاتوا لمن قال رسول الله صلى الله عليه نحن بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة، أليس قال: أنا وعلي وحمزة وجعفر والحسن والحسين والمهدي ألا من فارقني فارق الله، من فارق علياً فارقني، أين أنتم عن رسول الله صلى الله عليه وهو يقول في خطبته: ((ألا فدلوني من أفضلكم)) فقال محبوه يا رسول الله أنت، قال: أنا رسول الله وليس الرسول كالأمة، قالوا: أخبرنا يارسول الله فإنك أعلم، فأخذ بيدي فقال: ((هذا أفضلكم فضلاً، وأكثركم علماً، وأقدمكم سلماً، ما أوتيت شيئاً إلا وقد أوتيته، ولا أمرت بشيء إلا وقد أمرته، إلا أنه لا نبي بعدي، أما إني لم أبعثه في سرية قد إلا رأيت جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، يكلمانه ويحفظانه، ولا وجهته في شيء قط حتى أمرت بذلك)) أتنكرون ذلك فلينكره من ينكر، وليعرف من عرف، فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لقد أخذ الله ميثاقنا، وميثاق شيعتنا من صلب آدم، فجعلها تحت العرش، والله لا يزيد فينا أحد ولا ينقص منا أحد أبداً، ولحبنا أشد خزانة من الذهب والفضة، وإن حبي على كل المؤمنين إيمان، وبغضي كفر بالله العظيم، ألا أنبيكم بقول الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} قال: اللهم أنت ولي في نعمتي، والقادر على طلبتي، والعالم بحاجتي اسألك بحق محمد وآل محمد وأهل بيته إلا تقبلت مني توبتي، فقال: أنا ولي نعمتك، وأنا القادر على طلبتك، وقد علمت حاجتك، فكيف تسألني عمن لم يسألني بحقه غيرك، فقال: يا رب إنك لما نفخت في الروح رفعت بصري فإذا على عرشك مكتوب: محمد رسول الله صلى الله عليه، وعلي وصيه، فعلمت أنهما أقرب الخلق إليك.

وقال عليه السلام فيها: أولست الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قال لي ملك الموت، يا محمد إن الله وكلني بسيف علي، فما أشار عليه قبضت روحه)) والله ما كان لأحدٍ من الناس مجلس من رسول الله صلى الله عليه وآله في كل ليلة بعد العتمة الأولى، ثم كان لا يزال يحدثني، ويقول: ((يا علي يكون كذا وكذا يكون كذا وكذا، حتى حدثني بكل زمان ورجال، وكل قتال عاتي، حتى أخبرني بصفة ثلاثين دجالاً إلى آخرهم الدجال المسيح الأعور، حتى قال آخر ما قال: إني سألت الله أن يجعلك معي في درجتي، فأعطاني ذلك)).

وقال عليه السلام فيها: هاتوا أنبئوني من صاحب الرمانة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، والذي نفس علي بيده ما أكل منها غير رسول الله صلى الله عليه وآله وغيري، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله نحو حرا وقد أصابه الجوع[272] وأصابني معه فدعا الله، وشكونا إليه الجوع فهوت رمانة فوقعت في يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأكل نصفها وناولني النصف الآخر، وقال: ائت عليها فلما فرغت منها قال رسول صلى الله عليه وآله: ((إن جبريل أخبرني أن هذه الرمانة من المنّ، وأمرني أن لا يأكل منها غير نبي أو وصي، ولا يأكل طعام الجنة إلا الأنبياء والأوصياء)) أنا الأذن الواعية يقول الله جل ثناؤه: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أنا وعيت وحفظت، أتنكرون قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أنا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، الأسرة من نوح والآل من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية من محمد، به شرفنا، واستوجبنا الحق من أمة محمد فينا كالسماء المرفوعة، والجبال المنصوبة، والكعبة المستورة، والشمس الصاحية، والشجرة الزيتونية، أضاء زيتها، وبورك زبدها، وصي آدم في علمه، ووارت ما علمه الله من الأسماء حتى قال عليه السلام: لا يتم لنبي في العالمين الميثاق والإقرار حتى يؤمن بمحمد وآله ووصيه، وإن اسمي كان مقروناً باسمه، حيث كان اسم محمد في وصية آدم والسفر الأول.

وقال عليه السلام فيها: أما والله أيتها الأمة المتحيرة بعد ثبتها، لو فتحت لكم أبواب ما علمني رسول الله صلى الله عليه وآله من خصيصات العلم الذي لم يشركني فيه غيري، لفتحت لكم ما تفتأ الأقلام، وتعيأ الأصابع، ويعجزكم المداد عن كتابته، ولأوضحت لكم الحنيفية البيضاء النقية، إن الله بارك على إبراهيم وآل إبراهيم، وجعل تلك البركة على محمد وآل محمد، لو علمتموها وعرفتم حق الوراثة، وأعطيتم وراثة رسول الله صلى الله عليه وآله من ورثه، وعرفتم حق الوصي القائم إذاً ما غال القائم، ولا ضاق الفقير، ولا طاش من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم، لكن رغبتم عن أهل البيت، وتركتم المحجة الكبرى، وتركتم السلم الهادية، وملتم إلى الدنيا.

وقال عليه السلام فيها: هاتوا أنبئوني من الذي سال روح رسول الله صلى الله عليه في كفه حتى وجد برده، وضم ريحه، من الذي غسل حسده المبارك الذي ستره الله من الخلائق بعد موته غيري، من الذي تولى غسله وتحنيطه ودفنه غيري، من كان آخر العهد به من الناس غيري، من الذي جاءته التعزية فيه من السماء غيري، من الذي أتاه بعد موته في المنام كل ليلة جمعة واثنين غيري، من الذي نعى إليه نفسه في منامه غيري، وأنا الذي رأيته عليه السلام ينعي إلي نفسي، من الذي عزاني في ولدي بعد مولدهما غيري، من الذي استزراه رسول الله في المنام غيري، من الذي كان في الطبقة الثانية من الأمة غير رسول الله صلى الله عليه كان الطبقة الأولى وأنا الثانية، ثم الناس كانوا في طبقتي حكم أؤتيناه، وفهم استنبطناه.

وقال عليه السلام فيها: فهل تقدم عليَّ إلا جري شقي، وهل ينكر من حقي إلا ظالم معتدي، إنما يعرف حقي المؤمنون الذين أنا يعسوبهم[273] والمحبون الذين أنا أميرهم.

وقال عليه السلام فيها: إن الله تبارك وتعالى أعطا نبيه عشرة مفاتيح ولم يعطها نبياً قبله من مفاتيح خزائن الغيب، القرآن منها جزء واحد، وخصني بالتسعة لم يشركني فيها أحد، ولم ينبغي أن يشركني فيها أحد؛ لأني كنت من الرسول بالمنزلة التي لم يقس بها أحد ولم يعلنا، ولكن ليبتلي الله الأمم بالفتن، فينظر إياه يعبدون أو الدنيا، ألا وقد وضعتها في ذريتي، ألا ولا يفهم تأويلها إلا المذبوح بأرض كربلاء، وباقر العلم، ووارث الأرض في آخر الزمان.

وقال عليه السلام فيها: ولي الخلافة لم أحلها لأحدٍ، فكونوا مع العادل القائم بالقسط، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ((من مات ليس عليه إمام عادل فإنه يموت ميتة جاهلية)) إلا أن يكون هو الإمام، وليس لأحد على عترة رسول الله إمامة ولا إمارة، بل هم الأئمة والأمراء، لهم ميراث النبي، وإليهم عاقبة الأمر، ذلك تقدير العزيز العليم.

وقال عليه السلام فيها: والزموا الجماعة جماعة آل محمد، فإنها الحجة الكبرى، والسنة العظمى، والشريعة العلياء، والحنفية البيضاء، والعروة الوثقى، والحبل الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وآله.

وقال عليه السلام فيها: اسمعوا هذا مني فإنكم لا تسمعون بعدي، ولا ترون مثل مقامي هذا، ومثل أيامي هذه؛ لأنه وجب القول، وحقت الكلمة، وعلى كل وصي، إذا فارق الأمة أن يعهد إليهم، مثل عهدي هذا لي ولعترتي، وأهلي وأطايب أرومتي، وإبرار عترتي كباراً وصغاراً، وذكراناً وإناثاً، خيراً لكم من دنيا فانية، ومن ملك فاني، ونعيم زائل، فاطلبوهم حيث كانوا وسئلوا عنهم والحقو بهم، فإن معهم راية الحق فمن تبعها لحق، ومن خذلها محق، ومن سبقها ............باب حطة من دخله فاز ومن أبى هوى، تم كلامه عليه السلام المنقول في هذه الخطبة فتامله رحمك الله تأمل متبع الدليل، متسمر سواء السبيل، ففيه هدى ونور وشفاء لما في الصدور.

فأين يا متبعي السلامة
إذ لم يكن من شيعة العلامة

 

تبغي الهدى والفوز في القيامة
أخي الرسول صاحب الأمة

ليس من الشيعة والأتباع
فلا تكن كالهمج الرعاع

 

من قال أن جدنا رباعي
أتباع كل ناعق وداعي

وإنما الشيعي من قال علي
خليفة الطهر الأمير والوصي

 

هو الإمام أولاً بعد النبي
وهو الولي دون تيم وعدي

يا أمة جارت عن الطريق
البطل المصدق المصدوق

 

ورغبت عن حيدر الصديق
ويلك من زاقرة الحريق

هل لك من بعد النبي معتصم
وبعد آل المصطفى أهل الكرم

 

يوم مقامات الجزاء إذا خصم
ويلك هاك من خير الأمم[274]

هل طالب للفوز والرشاد
ورايح في دينه وغادي

 

وسالك نهج النبي الهادي
وراغب عن منهج العباد

هل من تقي يتبع الدلالة
والحسد المذموم والضلالة

 

ويرفض التقليد والجهالة
ويقتفي محمداً وآله

أين محبوا المصطفى وعترته
وأنهم أتباعه في ملته

 

المدعون أنهم من زمرته
والمقتفون بعده لسنته

أما سمعتم أيها العباد
وأن قول آله رشاد

 

أن خلاف المصطفى عناد
أم هل علمتم ما الذي أرادوا

إن المحب فيهم المتبع
لكنه الساعي إلى ما شرعوا

 

لا المائل القالي ولا المتبدع
وليس عن ملتهم ينخذع

واحفظ لهم مودة القرابة
وقل علي لكم الإجابة

 

إن كنت تخشى الله أو عقابه
بالسمع والطاعة والإنابة

وخذ من الدين بحظ وافر
فليس بعد القوم من مناصر

 

وارغب عن التقليد للأكابر
ولا معين لك ولا مظاهر

بهم لعمر الله ينجو الهارب
فرض على كل العباد لازب

 

إذ حبهم على الجميع واجب
وهم شموس الحق والكواكب

هم خير أولاد لخير والد
ومهبط الروح بوحي الواحد

 

ومنبع الحكمة والمحامد
وهم نجاة صادر ووارد

فإن تكن من شيعة الذرية
الفرقة الراضية المرضية

 

فاسلك هديت مسلك الزيدية
أكرم بها من عصبة تقية

الناصرين عترة المختار
وحجج عظيمة الأخطار

 

بالبارقات والقنا الخطار
بالعقل والكتاب والآثار

هم شيعة الآل واتباع الهدى
والمزلفون في جوار أحمدا

 

والفائزون بالشفاعات غدا
والآمنون من مقامات الردى

 أما ما انطوت عليه هذه الأبيات من نجاة اتباع آل الرسول، وما اشتملت عليه من مدح الدليل والمدلول، ومعرفة شيعتهم على الحقيقة دون المجاز، فإن هذه الجملة انطوت على علم جم، لو أردنا شرحه لاتسع الكلام فيه، ولطال شرح ألفاظه ومعانيه، ونحن ننبه منه على زبدة شافية، ونبذة كافية، ولم نقصد باسم الشيعة هاهنا التسمية العامة، فإنها مجاز على الحقيقة، وإنما قصدنا الذين هم خواص آل محمد وشيعتهم صلى الله عليه وآله وعليهم[275] الذين هم شيعة الأخوين، واتباع الثقلين، والناصرون لأهل البيت المطهرين، والمتبعون لدينهم دون كل دين، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين  وحسن أولئك رفيقا، فأما من عصاهم، واتبع غيرهم، وقدم عليهم سواهم، فليس من أتباعهم.

وروى القاضي العالم إسحاق بن أحمد بن عبد الباعث رحمة الله عليه في كتاب الحياة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من قال لا إله إلا الله مخلصاً فله الجنة)).

قال عمر بن الخطاب: خاصة أم عامة، فقال رسول الله صلى الله عليه: ((بل هي خاصة لعلي وأتباعه)) فقال: يا رسول الله: ادع الله لنا أن يجعلنا من أتباعه، قال لهما: ((إن سركما أن تكونا من أتباعه فلا تعصياه في أمره)) فإذا كان الأمر كذلك فما حال من أخره من منزلته، واغتصبها عليه، وأكذبه في دعواه، وسن التقدم عليه، وعلى آل محمد إلى يوم القيامة.

وروينا عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ((شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة)).

وروى الناصر بإسناده أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ((أقضى أمتي بكتاب الله علي بن أبي طالب، فمن أحبني فليحبه، فإن العبد لا ينال ولايتي إلا بحب علي عليه السلام)).

وسئل الحسين عليه السلام: من شيعتكم؟

قال: الذين قال الله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ} الآيات.

وعن الباقر قال: نفس المحب لنا تسبيح، وانتظاره لأمرنا جهاد، وتبرؤه من أعدائنا أمان من عذاب الله.

وعن عمار قال: قبض أمير المؤمنين يدي بعد الرجوع من البصرة وقال: يا عمار نحن النجباء، وإفراطنا افراط الأنبياء، وحزبنا حزب الله، والفئة الباغية حزب الشيطان، ومن ساوى بيننا وبين عدونا فليس منا.

وعن أبي ذر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه في مرضه الذي توفي فيه فوجدته مغمي عليه، ملقى في حجر علي بن أبي طالب، فجلس منكباً على صدر علي بن أبي طالب، ففتح عينيه إليَّ وقال: ((ياأبا ذر أيُّما عبد مؤمن يصلي ركعتين في ظلام الليل لم يرد بهما أحداً إلا الله دخل الجنة)) ثم أغمي عليه، فجلست حتى أفاق منكباً على صدر علي بن أبي طالب وجعل يده في صدره ورأسه في نحره، ثم أقبل عليَّ وقال: ((ياأبا ذر، أيُّما عبد مؤمن صام تطوعاً يوماً لم يرد به أحداً إلا الله دخل الجنة، يا أبا ذر أفأزيدك؟)) قلت: نعم، قال: ((من حشره الله يوم القيامة محباً لهذا وجعل يده على صدره دخل الجنة)).

وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((يا علي قد غفر لك ولأهلك، وشيعتك ولمحبي شيعتك، ومحبي محبي شيعتك، فابشر فإنك الأنزع البطين، منزوع من الشرك وبطين من العلم)).

وروى الباقر محمد بن علي السجاد عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه: ((خذوا بحجزة هذا الأنزع-يعني علي عليه السلام- فإنه الصديق الأكبر، والهادي المطهر، ومن اعتصم به أخذ بحبل الله، ومن تركه مرق من دين الله، ومن تخلف عنه محقه الله، ومن ترك ولايته أضله الله، ومن أخذ ولايته هداه الله)).

وعن علي عليه السلام قال: نحن ومن يحبنا يوم القيامة[676] معنا حتى نرد على نبينا صلى الله عليه الحوض، قال: وأومى بأصبعه السبابتين وقال كذا فضم أصابعه.

وعنه عليه السلام أحبب حبيب آل محمد ما أحبهم، وابغض مبغض آل محمد ما أبغضهم، فإذا أحببهم فاحببه، وابشرك بالبشرى.

وعنه عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله: ((ما أحبنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إلا ثبتته قدم حتى ينجيه الله يوم القيامة)).

وعنه عليه السلام: ((والله لا تؤمنون حتى تحبوني، والله لا تحبوني حتى أكون عند المؤمن أثر من نفسه وأهل بيتي أثر عنده من أهل بيته، وولدي أحب إليه من ولده، وأزواجي أحب إليه من أزواجه)).

وعن الصادق في قوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ،  وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} قال: نزلت فينا وفي شيعتنا، وذلك أنا نشفع وتشفع شيعتنا، فإذا رأى ذلك من ليس منهم قال: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} رواه الحاكم رحمه الله تعالى.

وعن الصادق عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله قال: ((إن في السماء لحرساً وهم الملائكة، وفي الأرض حرساً وهم شيعتك يا علي)) وفي بعض الأخبار: ((لن يبدلوا ولن يغيروا)).

وذكر الناصر بإسناده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب)) قال علي: من هم يا رسول الله؟ قال: ((هم شيعتك وأنت إمامهم)).

ومن مناقب الفقيه ابن المغازلي رفعه إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم، ثم التفت إلا علي عليه السلام فقال: هم من شيعتك وأنت إمامهم))

وعن الباقر أن نبي الله قال: ((إن عن يمين العرش رجالاً وجوههم من نور، عليهم ثياب من نور، ما هم بنبيين ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء)) قيل: من هم؟ قال: ((أولئك أشياعنا، وأنت إمامهم يا علي)).

وعن محمد بن سالم قال: حدثنا جعفر بن محمد، قال حدثني محمد بن علي، قال حدثني علي بن الحسين، قال حدثني الحسين بن علي، قال حدثني علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يا علي إن شيعتنا يخرجون من قبورهم يوم القيامة على ما بهم من العيوب والذنوب وجوههم كالقمر في ليلة البدر، وقد فرجت عنهم الشدائد، وسهلت لهم الموارد، واعطوا الأمن والأمان، وراتفعت عنهم الأحزان، يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون، شرك نعالهم تتلألأ نوراً على نوق بيض لها أجنحة، قد ذللت من غير مهانة، ونجبت من غير رياضة، أعناقها من ذهب أحمر، ألين من الحرير لكرامتهم على الله تعالى)).

وقد قيل في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أنهم الزيدية.

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل علي بن أبي طالب فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه قال: ((هذا أخي قد أتاكم، ثم التفت إلى الكعبة ثم قال: ورب هذه البينة  أن هذا وشيعته الفائزون يوم القيامة)) الخبر، وقد تقدم.

وروينا من كتاب سلوة العارفين، وروى عباد بن يعقوب الأسدي[277] قال: كان أمير المؤمنين قاعداً في الرحبة وأطال الحديث وأكثر، ثم نهض فتعلق به رجل من همدان فقال: يا أمير المؤمنين حدثني حديثان، قال: حدثتكم كثيراً، قال: أجل إنه كثر، فلم أحفظه، وغزر فلم أضبطه، فحدثني حديثاً جامعاً ينفعني الله به، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله أني أرد وشيعتي رواء، ويرد عدونا ظمآ خذها إليك قصيرة وطويلة أنت مع من أحببت، ولك ما اكتسبت، أرسلني يا أخا همدان.

وعن أبي معاذ الحران قال: سمعت عبد الله بن الحسن يقول: العلم بيننا وبين هذه الأمة علي بن أبي طالب، والعلم بيننا وبين الشيعة زيد بن علي.

وعن عباد بن يعقوب قال: حدثنا الحاكم بن زهير قال: قال إبراهيم بن عبدالله بن الحسن: لو نزلت راية من السماء لم تنصب إلا في الزيدية.

وروى أبو سعيد السمان بإسناده عن سعيد بن أبان عن عمرو بن حريب عن الصادق قال: كل راية تنصب في غير الزيدية فهي راية ضلالة، ومثل ذلك يروى عن علي عليه السلام حيث يقول في حديث حرب الجمل: ألا إن كل راية ليست لنا فهي ضلالة، وكل من قام يدعو بأمرنا فلم يسير بسيرتنا فليس منا.

وعن زيد بن علي عليه السلام قال: نحن ولاة أمر الله، وخزان علم الله، وورثة وحي الله، وعترة نبي الله، وشيعتنا رعاة الشمس والقمر، والله لا تقبل التوبة إلا منهم، ولا يخص بالرحمة يوم القيامة سواهم.

وروينا من كتاب السفينة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله رجع من سفره وهو متغير اللون، فخطب خطبة بليغة وهو يبكي ثم قال: ((أيها الناس، إني قد خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أمتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، ألا وإني أنتظرهما، ألا وإني سائلكم يوم القيامة في ذلك، ألا أنه سترد علي يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمة، راية سوداء فتقف فأقول من أنتم؟ فينسون ذكري، ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب، فأقول: أنا محمد نبي العرب والعجم، فيقولون: نحن من أمتك، فأقول: كيف خلفتموني في عترتي وكتاب ربي؟ فيقولون: أما الكتاب فضيعنا، وأما عترتك فحرصنا على أن ننبذهم، فأولي وجهي عنهم فيصدرون عطاشاً، قد اسودت وجوههم، ثم ترد راية أخرى أشد سواداً من الأولى، فأقول لهم: من أنتم؟ فيقولون كالقول الأول نحن من أهل التوحيد، فإذا ذكرت اسمي قالوا: نحن من أمتك، فأقول: كيف خلفتموني في الثقلين كتاب ربي وعترتي؟ فيقولون: أما الكتاب فخالفنا، وأما العترة فخذلنا، ومزقناهم كل ممزق، فأقول لهم: إليكم عني، فيصدرون عني عطاشاً، مسودة وجوههم، ثم ترد راية أخرى تلمع نوراً، فأقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى، نحن أمة محمد، ونحن بقية أهل الحق، حملنا كتاب ربنا فأحللنا حلاله وحرمنا حرامه، وأجبنا ذرية محمد، فنصرناهم من كل ما نصرنا به أنفسنا، وقاتلنا معهم وقتلنا من نأواهم، فأقول لهم[278]: ابشروا فأنا نبيكم محمد، ولقد كنتم كما وصفتم، ثم أسقيهم من حوضي، فيصدرون رواء)) الخبر.

قال الإمام الحاكم رحمه الله: ومن نظر في هذا الحبر علم أن الفرقة الأولى الناصبة الضالة، القاتلة العترة، وأن الفرقة الثانية الرافضة التاركة للحق، الخاذلة للعترة، المبغضة لهم، وأن الفرقة الثالثة أهل الحق وأنصار الدين، وأتباع الأئمة الذين هم الزيدية، ويعرف من هذا الخبر قوله صلى الله عليه وآله لأم أيمن: ((يهلك فيه اثنان محب غال، ومبغض قال)) فالأول الرافضة والثاني الناصبة، وهي كما قال رحمة الله عليه، وأن من يدعي الحق بزعمه وهو معرض عن دين أهل البيت المطهرين، غير متبع لهديهم، ولا مسترشد برشدهم، فليس من الله في شيء.

والعجب كل العجب ممن ينتحل دينهم وهو مضعف لأقوالهم، مفسداً لإجماعهم، مشرك معهم غيرهم في وراثة الرسول، والقيام بالأمر في الأمة، والخلافة في المؤمنين، أما علم أنه عنهم بمعزل، وأنه متنكب عن سبيلهم، وراغب عن دينهم، وماذا يكون حال من أعرض عن كتاب الله، وآثار رسول الله، وإجماع عترة رسول الله، كما تقدم ذلك كله، نسأل الله تعالى أن يوزعنا شكر نعمته، وأن يلهمنا رشدنا بمنه ورحمته لنا يوم نلقاه، وأن يجعلها بصيرة للمسترشدين، وهدى وبرهاناً للمؤمنين.

فهذه أرجوز الأنوار
قد فصلت بالآي والآثار

 

كانها غزالة النهار
وعقد إجماع بني المختار

فآي ربي بعد هذا يوجد
والأنبياء قبلنا قد حُسد

 

فلا ريب لولا بغضه والحسد
وأي نقص وأبونا أحمد

صلى عليه منشى السحاب
وآله الشم ذوي الأحساب

 

من مرسل مكرم الأنساب
ينابع الحكمة والصواب

وهذا حين أتينا على الفراغ من هذه الأرجوزة وشرحها، ونحن نسأل الله تعالى أن ينفعنا بها والمسلمين، وأن يجعلها ذخيرة نافعة، ونحن نسأل من وقف على هذا الكتاب من المؤمنين، الموثوق بعلمهم ومعرفتهم وضبطهم أن يصلح ما يجد من خلل في معنى، أو لفظ من سماع أو غيره، أو تشكيل تحققه، أو ظن يعلمه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه، هو كتاب الله عز وجل.

وكان الفراغ منه تأليفاً ونساخة في شهر رجب الأصب من شهور سنة أربعين وألف، بخط الفقير إلى كرم الله تعالى علي بن محمد بن أحمد العلالي غفر الله له ذنوبه، وستر عيوبه ووالديه، وكافة المؤمنين، وحشره في زمرة الآل المطهرين بجوده وكرمه  ومنه، والحمد لله وحده، وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.