ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) فأبو أحيحة لم يجد حيلة في
ابنه الذي أسلم إلا أن يهجره ويأمر اخوته بهجره . وكذلك كل مبتدع يزعم أن
هجر المسلمين طاعة وقربة ، ويلح على تثبيت ذلك في عقول أصحابه البسطاء مع
اعتقاده في داخل نفسه أنه كاذب مخادع ، لأنه إنما يهجر المسلمين عامة ،
واخوته خاصة ، لغرض شخصي ، لا علاقة له بالدين ، وسنكشف عن ذلك الغرض ،
موضحا بالأدلة والشواهد ، فيما يأتي إن شاء الله تعالى . فصل يتبين من المثل
المذكورة في هذه المقدمة : أن المشركين توافقوا على الهجر الذي جعلوه سلاحا
ضد رسل الله ، منذ عهد قوم نوح ، إلى عهد كفار قريش . ومن القواعد التي
يجهلها وهابي طنجة : أن ما ابتدعه المشركون أعداء الله ، لا يمكن أن يشرعه
اللة لاوليائه المؤمنين ، وجوبا أو ندبا يتعاملون به فيما بينهم وانما يشرعه
ليعاملوا به الكفار معاملة بالمثل . ألا ترى إلى الاسترقاق ، لما ظهر
الإسلام ، وجده معمولا به عند الكفار في بقاع الأرض ، شرقها وغربها عجمها
وعربها ، فأجاز الله للمسلمين إذا جاهدوا الكفار أن يسترقوا أسراهم ، من باب
المعاملة بالمثل . وحرم عليهم إذا قاتلوا البغاة أو الخوارج أن يسترقوا
أسيرا منهم لأنهم مسلمون . كذلك الهجر أجازه الله بالنسبة للكفار ، معاملة
بالمثل ، قال تعالى (واهجرهم هجرا جميلا . . وأعرض عن المشركين) . وحرمه على
المسلمين فيما بينهم ، تحريما بالغا ، وجعله من الكبائر الموجبة للنار ، ولم
يرخص لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام . والأحاديث متواترة صريحة في تحريم
الهجر تحريما عاما ، ذكرت بعضها في القول المسموع وهو مطبوع . وقد غلط أبو
داود رحمه الله ، حيث قال في سننه بعد أن روى جملة من أحاديث =
===========================================================================
[ 90 ]
= تحريم الهجر : إذا كانت الهجرة لله ، فليس من هذا في شئ ، هجر النبي (ص)
بعض نسائه أربعين يوما ، وأبن عمر هجر أبنا له إلى أن مات . اه . وبيان
غلطه من وجوه : ا - أن هجر النبي لبعض نسائه أربعين يوما ، لا يصلح لتخصيص
أحاديث تحريم ا لهجر . لأنه ضعيف ، ولأنه من باب الايلاء الذي يكون بين
الرجل وزوجته . 2 - لو فرض صلاحيته للتخصيص ، فهو يفيد تخصيص النبي (ص) في
عموم تحريم الهجر . لأن المقرر في علم الأصول في صور تعارض قوله وفعله عليه
الصلاة والسلام أن قوله إذا كان عاما له وللأمة نحو (لا يحل لمسلم أن يهجر
أخاه فوق ثلاث ليال) وجاء فعله مخالفا له ، كهجره بعض نسائه أكثر من ثلاث ،
يكون الفعل خاصا به ، ولا يشمل غيره لأنه ليس من صيغ العموم . والدليل على
هذه القاعدة ما رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أم سلمة قالت : صلى رسول
الله في العصر ، ثم دخل بيتي ، فصلى ركعتين ، قلت يا رسول الله صليت صلاة لم
تكن تصليها ؟ قال : (قدم خالد فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر
فصليتهما الآن) فقلت : يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتا ؟ قال : (لا) وروى
أبو داود عن عائشة قالت : كان رسول الله يصلي بعد العصر وينهى عنها ويواصل
وينهى عن الوصال . فأحاديث تحريم الهجر ، عمومها ثابت في حقنا بلا إشكال . 3
- إن النبي (ص) خصص عموم تحريم الهجر ، بكونه فوق ثلاث ، فأفاد أن الهجر
لمدة ثلاثة ايام جائز ، والعام لا يخصص مرتين . 4 - إن تخصيص عموم تحريم
الهجر ، بإخراج الهجر لأجل الدين استدراك على الشارع والاستدراك عليه لا
يجوز . 5 - إن تخصيص الشارع بثلاثة أيام يشمل الهجر للدين أو الدنيا ، فقصره
على هجر الدنيا تصرف لادليل عليه . =
===========================================================================
[ 91 ]
= والذي أفادته الأحاديث الصحيحة المتواترة أن هجر المسلم لأخيه كبيرة توجب
النار ، ولا يجوز إلا لمدة ثلاثة ايام سواء كان لأجل الدين أو الدنيا . 6 -
أن هجر ابن عمر لابنه لا يصلح مخصصا للحديث ، وإنما هو اجتهاد منه ، أخطأ
فيه فله ثواب اجتهاده ، وخطأه مغفور لكن لا يجوز ترك نص الشارع واتباع غيره
. فصل وتحريم هجر المسلم للمسلم ، له أسباب وحكم : 1 - منها : أنه بدعة
شركية كما مر بيانه ، والإسلام إنما جاء لمخالفة المشركين في بدعهم ، خصوصا