هنا أن أنقل ملخصا بعض ما جاء في رسالة إمام العصر سيدي عبد الله بن الصديق
المسماة (بالنفحة الذكية في أن الهجر بدعة شركية) للانتفاع فأقول : قال رضي
الله عنه ونفعنا به : ان الصواب الذي ليس بعده إلا الخطأ حرمة الهجر بجميع
أنواعه ولا يوجد هجر مشروع لاجل الدين ولا لغيره وأنه منابذ لروح التشريع
الاسلامي ، والذين قالوا بمشروعيته مخطئون واهمون استندوا إلى ما ليس بدليل
توهموه دليلا فهم مثابون على اجتهادهم مغفور لهم خطؤهم لكن يحرم على
الحاقدين المتنطعين أن يتخذوا خطأهم ذريعة لقطيعة الرحم وعقوق الوالدين
ومفارقة من لم يوافق هواهم . وقد يعذر المقلد لمجتهد مخطئ ، إذا كان تقليده
عن حسن نية ، أما المقلد عن سؤ قصد فهو آثم مغرور ، ولا يعفيه من الاثم أن
يورد آيات وأحاديث يوهم بإيرادها أنه من أهل الاستدلال والاحتجاج ، بل هذا
مما يضاعف إثمه ويغلظ عقوبته عند الله تعالى لانه أصر على التقليد بعناد ،
وحمل الآيات والأحاديث خلاف ما تقتضيه من المعنى المراد وهذا جز سميته
(النفحة الذكية ، في أن الهجر بدعة شركية) أوضحت فيه : أن الهجر في الأصل
ابتدعه المشركون ، قاطعوا به رسل الله الداعين إلى توحيده ، وأن الإسلام
حرمه تحريما باتا وجعله من الكبائر الموبقات ، ولم يرخص فيه لاحد من
المسلمين إلا في حالة عذر ضروري كما رخص للمضطر في أكل الميتة . وما رخص فيه
الشارع لعذر ، لا يكون مشروعا على الإطلاق بل شرعيته مقيدة بحالة العذر ، لا
يتجاوزها . ومن القواعد المقررة المعروفة : أن ما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها
. وليس في الحالة التي ابيح فيها الهجر ، كون المهجور مبتدعا أو فاسقا بشرب
الخمر أو غيره ، فإن الإسلام لا يعرف هجر المسلم لبدعته أو فسقه ، بل ولا
يقره ، فضلا عن أن يدعى فيه أنه واجب أو سنة ، تالله أن هذه الدعوى كاذبة ،
وسيأتي بيان ذلك مفصلا ، إن شاء الله تعالى . (تنبيه) : من المقرر المعلوم :
أن الشخص إذا ضعف في ميدان المناظرة احتجاجه ، واختل =
===========================================================================
[ 88 ]
= برهانه ولم يسعفه بيانه ، ووجد مناظره قوي الحجة ، صحيح البرهان ، واضح
البيان ، لم يجد سبيلا لمقاومته إلا أن يهجره ، ويوصي أصحابه بهجره ، حتى لا
يتأثروا بحسن منطقه ، فينضموا إليه . وهذا هو ما فعله المشركون في مقاومة
دعوة التوحيد ، وهي الدعوة التي أيدتها قضايا العقول ، وشهدت بصحتها الفطر
السليمة ، (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
لخلق الله) ومن المشركين من لجأوا في محاربة دعوة التوحيد ، إلى طريقة
بدائية ، حين كان العقل الإنساني ما زال في دور طفولته . استمع إلى سيدنا
نوح عليه السلام ، وهو يشكو إلى الله قومه (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم
جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) قال
ابن عباص جعلاو أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا ما يقول واستغشوا ثيابهم ،
قال غطوا بها وجوههم لكيلا يروا نوحا ولا يسمعوا كلامه . ونحن نعلم أن
الأطفال إذا تنازعوا في شئ من لعبهم ، يضع أحدهم إصبعه في أذنيه ، لئلا يسمع
كلام منازعه ، يغيظه بذلك . فإذن قد استعمل قوم نوح طريقة صبيانية . ومن
المشركين من استعمل التشويش ، كما يستعمل الآن في الإذاعة بين الدول ا
لمتحار بة . وأول من ابتدع الهجر من المشركين آزر والد ابراهيم عليه السلام
فإنه لما ضاق ضرعا بدعوة ابنه إلى التوحيد وعجز عن معارضة حجته ، لم يجد
مخلصا منه إلا أن قال له (أراغب انت عن آلهتي يا ابراهيم لئن لم تنته
لأرجمنك واهجرني مليا) أي اعتزلني دهرا طويلا ، حتى لا أسمع دعوتك . وكذلك
فعل المشركون مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع صحابته . ومن هذا المعنى قوله
تعالى : (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن
ذكري وكانوا لا يستطيمون سمعا) أي كانوا لا يستطيعون أن يسمعوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، لشدة عداوتهم له فهم يهجرونه ، ويبتعدون عنه . =
===========================================================================
[ 89 ]
= وكذلك قوله تعالى : (وهم ينهون عنه وينأون عنه) وكذلك قوله تعالى : (وإذا