والمعنى في ذلك كله على المشاهدة والتدبير لاعلى أنه في شيء يحويه، ولا على أنه مع شيء ملازق([189]) فافهمه.
وإن قال قائل: ما الفرق بين شيء وشيء وخلق وخلق ؟.
قيل له: إن ([190]) الخلق اسم له خلاف([191])؛ وخلافه خالق، ولو قال القائل: الخالق مخلوق كذب، ولو قال قائل: الخالق شيء لم يكذب، فقول الموحدين([192]):شيء إثبات شيء، لأن لا شيء عدم، ليس له خلاف ولا ند ولاضد ولا مثل.
واعلم أن الضد هو غير الخلاف، وبيان ذلك أن كل ضد خلاف، وليس كل خلاف ضد، والضد هو المضاد، والمضاد هو الغير الذي [هو] مضاد([193])، وذلك أنك تقول هذا خلاف الله، ولا تقول هذا ضد الله.
وقول المشبهة الحشوية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما زعموا أنهم يرون ربهم كالبدر ليلة التمام، والبدر فهو([194]) قرص محدود، أحاطت به الجهات الست: فوق وتحت، ويمين ويسار، وأمام وخلف، فقد وصفوه بالحدود، فإن زعموا أنهم ليس يرون كله، فقد بعضوه وجزؤوه.
قولهم: إن الذي روى حديث الرؤية إنهم أربعة عشر رجلاً من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فليس ([195]) لنا أن نكذبهم، لأنا إذا([196]) أكذبناهم([197]) بطل كل ما في أيدينا، لأنا لم نأخذ دين الله الذي جاء به رسول الله إلاّ منهم.
قلنا لهم: خيار أصحاب الرسول علي ومن تبعه من المهاجرين والأنصار، فعلي يكذب بهذا([198])الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو باب الرسول، فكيف يتهيأ لنا أن نتقول على الرسول، مع قول الله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، ومع إنكار الباب، والنبي يقول: ((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من جهنم([199])))؟.
وباب آخر أن هؤلاء الحشوية كذبوا على رب العالمين، وملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين، وأئمته الهادين، وأوليائه الصالحين، فكيف تقبل شهادتهم على أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؟!.
[بطلان قول الحشوية إن الله يقضي بالفواحش]
وكذلك نقضت القدرية، المجبرة الضالة الغوية، قولها في عدل الله تبارك وتعالى، إذ قالوا: إن الله عز وجل عن قولهم يقضي بالفواحش، ويقدرها على فاعلها، خلافاً لقول الله، إذ يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]، فمن زعم أن الله يقضي بالفواحش ويريدها ويشاها، فقد شبه([200]) بقوله هذا المشركين، الذين قال الله عز وجل فيهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148].
وفيهم وفي إخوانهم المرجئة ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:((صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي، قد لعنوا على لسان سبعين نبياً: القدرية والمرجئة)).
قيل: وما القدرية ([201]) ؟.
قال: ((أمَّا القدرية فهم الذين يعملون المعاصي، ويقولون إنها من الله قضى بها وقدرها علينا، وأمَّا المرجئة فهم الذين يقولون الإيمان قولٌ بلا عمل، ثم قال القدرية مجوس هذه الأمة، والمرجئة يهود القبلة))([202]).
وإنما شبه صلى الله عليه وآله وسلم القدرية بالمجوس؛ لأن المجوسي يأتي أمه وابنته وأخته وعمته وخالته، فإذا نهاه إنسان عن هذا القبيح السمج، قال الملعون: الله الذي قضى بهذا الفعل وقدره عليَّ، وكذلك القدري يقول: إن الله الذي قضى وقدر على اليهودي باليهودية وعلى النصراني بالنصرانية وعلى المجوسي بالمجوسية سواءً سواء.
وشبه عليه السلام المرجئة باليهود؛ لأن اليهود قالوا لرسول الله: لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة، فالأيام المعدودة عندهم سبعة أيام، وذلك أن الدنيا بزعمهم سبعة ألف([203]) سنة، وأن الله يعذب مذنبيهم سبعة أيام مكان ألف سنة يوماً واحداً، ثم يخرجهم من النار إلى الجنة؛ لشفاعة نبيهم، فقال الله عز وجل لرسوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة:80].
[بحث في خلود العاصين في النار وفي الشفاعة]
ثم فسر سبحانه أنه يخلد أهل الطاعة في الجنة، وأهل المعصية في النار، فقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(82)} [البقرة:81ـ82].
فلم تعتبر المرجئة بقول ربها عندما رد على اليهود بهذا المرد حتى جمعهم فقال سبحانه للفريقين: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النساء:123]، وذلك أن المرجئة يقولون: إن الله يعذب مذنبي أمة محمد يوم القيامة في النار على قدر ذنوبهم، ثم يخرجهم من النار إلى الجنة؛ لشفاعة النبي، ورووا في ذلك أحاديث أسندوها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إنه قال: ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، وزعموا أنه قال: يأتي وقت على جهنم لا يبقى فيها ممن يشهد ألاّ إله إلاّ الله أحدٌ، خلافاً لقول الله سبحانه وكذباً على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}[طه:109]، وقال {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87].
هذا مع إجماع الأمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال لبني هاشم: ((كأني بالناس يأتونني يوم القيامة بأعمالهم، وتأتونني أنتم بأحسابكم))، ثم قال لابنته فاطمة عليها السلام([204]) (( اعملي لنفسك فإني لا أغني عنك من الله شيئاً)).
وإنما شفاعة النبي تجب للمحسنين من أمته؛ لأن المحسن يستوجب دخول الجنة بعمله الصالح، كما قال سبحانه: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، ثم يزيدهم الله عز وجل درجة؛ لشفاعة الملائكة المقربين، وأنبيائه المرسلين، وأوليائه الصالحين، كما قال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فهذه الزيادة بعد الجزاء، لشفاعة من يشفع.
فالله عز وجل لا يبطل وعده ووعيده، ولا يصير المسيء مع المحسن، ولا المجرم مع المسلم، ولا المفسد مع المصلح، ولا الفاسق مع المؤمن في الجنة، وهو سبحانه يقول لرسوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)} [القلم:35]، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(28)كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ(29)} [ص:28ـ29]، وقال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ(18)أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(19)وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(20)}[السجدة:18ـ20]، وقال عز وجل: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ(28)مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(29)} [ق:28ـ29].
صدق الله عز وجل، ما هو بظلام للعبيد، فيبطل وعده ووعيده، ويجمع وليه وعدوه في جنته، ويبطل جهاد وليه لعدوه في طاعته، فليس هذا من العدل بل هذا ظلم خارج من النصفة، ثم قال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37]، ففي كل ذلك يخبر عز وجل أنه من دخل النار، فهو مقيم فيها، ليس بخارج منها من بعد مصيره إليها.
وقال سبحانه في الفريقين: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13)وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ(14)يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ(15)وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ(16)} [الإنفطار:13ـ16].
[نقض الحشوية والإمامية قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم]
وكذلك نقضت الحشوية والإمامية قولها في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن شهدوا له بالرسالة، أنه رسول الله إلى جميع خلقه([205]) من الجن والإنس، وأنه خاتم النبيين لا نبي بعده، لا رسول سواه إلى آخر الدنيا، حتى زعمت الحشوية أنه خرج من الدنيا ولم يوص بأمته إلى أحد يقوم فيهم مقامه بعده إلاّ أنه تركهم مهملين.
وزعمت الإمامية أن إمامها يوحى إليه، وأنه يأتي بكتاب وشريعة بعد كتاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم:((افترقت أمة موسى إحدى وسبعين فرقة كلها هالكة إلاّ فرقة واحدة، وافترقت أمة عيسى اثنتين وسبعين فرقة كلها هالكة إلاّ فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلاّ فرقة واحدة، وإنه سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله([206]))).
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم هذا يدل على أن اثنتين وسبعين فرقة عبدوا غير معبوده؛ لأنهم لو عبدوا معبوده لم يهلكوا، ونجوا كما نجت الفرقة الناجية، وكذلك من أمة موسى وعيسى عليهما السلام؛ لأن الفرقة الناجية من أمتهما وأمة محمد واحدة؛ ودليل ذلك أن أكثر ما في أيدي العامة والإمامية، مما يضاهي قول اليهود والنصارى في الجبر والتشبيه، وإنكار الوعد والوعيد، وتكذيب الرسل، ولولا أن الجميع كذبوا الرسل، وعبدوا غير معبودهم، لم يفرق معبود الرسل بينهم وبين الرسل يوم القيامة، ولم تبطل عبادتهم، كما قال سبحانه: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
لم يحصل مع الرسل من أممهم إلاّ الشرذمة القليلة، كما قال فرعون: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وقال الرب عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
فجميع هذه الفرق يزعمون أنهم على دين الرسل، وأنهم غير مخالفين لهم جملة، ثم إنهم في خلال ذلك لا يدرون من أي القبضتين: من اليمنى، أو من اليسرى، والحمدلله الذي هدانا لدينه، ومنَّ علينا بنبينا([207]) محمد وآله الصادقين، حتى أخرجنا من الظلمات إلى النور بهم عليهم السلام.
قولهم: بالقبضتين يوجب عليهم التشبيه والتجوير؛ لأنهم وصفوه بصفة المخلوق، إذ زعموا أنه قبض بيده اليمنى، ثم اليسرى([208])، فالله عز وجل عن قولهم ذكر قبضته على غير هذه الصفة، فقال عز وجل:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:76]، يريد سبحانه بقوله هذا: بقدرته([209]) وملكه ونفاذ أمره فيهما؛ إذ هو مبديهما ثم معيدهما، على ماكانتا، لا يغلبه من أمورها([210]) شيء، كما لا([211]) يغلبه عند ابتداء خلقهما، كما قال سبحانه لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11]، يقول: كونهما فكانتا، وكذلك يبيدهما ثم يعيدهما، بغير مؤامرة، ولا مخاطبة ولا تقديم إرادة، كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، وفي التجوير يزعمون أنه حال بينهم وبين الدخول في الإيمان، وأدخلهم في الكفر، ثم يعذبهم على كفرهم.
[تحريم مناكحة أهل الكتاب وأكل ذبائحهم]
وكذلك قالت الحشوية: بتزويج اليهوديات، والنصرانيات وأكل ذبائحهم، واحتجوا بقول الله ([212]): {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}، إلى قوله:{وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]، تفسير الآية معلوم، وما أنزل على رسوله مفهوم، عند أهل العلم، قال الله سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]، يعني: الذين آمنوا به وبرسوله، وما أنزل على رسوله، كما قال الله سبحانه: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199] إلى آخرها، أجاز سبحانه ذبيحة هؤلاء، والتزويج إليهم، لأنهم مسلمون ومصدقون لخالقهم في أمره ونهيه، سماهم أهل الكتاب، إذ آمنوا بكتابه الذي أنزله على موسى عليه السلام، كما قال سبحانه فيهم حين يقول: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}[البقرة:121].
ميز سبحانه بين الذين آمنوا بكتابه، وبين الذين كفروا بكتابه، قال سبحانه فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ}، إلى قوله{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:5]، ثم قال عز وجل: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159]، فهؤلاء الذين أجاز لرسوله وأوليائه ذبائحهم، ومناكحتهم، ليس الذين شبههم بالحمار؛ لأنه قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، وقال: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:121] الآية، ثم قال سبحانه: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، واليهودي يذكر على ذبيحته اسم الذي أولد عزيراً، والنصارى الذي أولد المسيح، كما حكى الله عنهم، لم يذكروا اسم خالقهم، والله يقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:30ـ33].
وأما المحصنات، اللواتي من أهل الكتاب، أجاز تزويجهن للمؤمنين، فهنَّ اللواتي آمنَّ بالله وبرسوله، فإذا أحصنت بدنها من الكفر بالإيمان، جاز تزويجها للمؤمن، كما قال سبحانه: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}[النور:26]، كما أحصنت مريم عليها السلام بدنها بالإيمان، وتصديق الله في رسله وكتبه، كما قال الله سبحانه فيها: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12].
وأجمعت الأمة كلها، أن مسلماً لو قذف يهودية أن ليس عليه حد؛ لأن الحد الذي يلزم القاذف هو العذاب، كما قال سبحانه: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}[النساء:25]، أزاح سبحانه عن قاذفها الحد، لقوله: المحصنات الغافلات المؤمنات، فهي غير مؤمنة؛ لقول الله سبحانه فيهم:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[التوبة:29]، ثم قال في آخرها: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع الأمة: ((لا يتوارث أهل ملتين([213])))، فقوله هذا يبطل تزويجهن؛ لأن الله قال فيمن أجاز التزويج: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}[النساء:12] الآية، فأبطل صلى الله عليه وآله وسلم الموارثة بينهم، فإذا أبطل الموارثة، فقد أبطل التزويج، لأن التزويج والميراث شيء واحدٌ في حكم الله، فإذا بطل الميراث، بطل التزويج عند من أنصف عقله وتبع قول ربه، وسنة نبيه، مع قول الله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}[التوبة:28]، فاليهودية نجسة رجسة كافرة، وقال سبحانه: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10].
وأما في الذبيحة فقد أجمعت الأمة([214]) أن إنساناً إذا ذبح إلى غير القبلة أنها حرام، فاليهودي لا يذبح إلى القبلة، لقول الله سبحانه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}[البقرة:145] إلى آخر الآية.
فمن زعم أن ذبيحة أهل الكتاب أكلها الرسول والمؤمنون، فقد زعم أن رسول الله تبع أهواء اليهود، والله عز وجل يقول: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:145]، فقول من قال بهذا القول فاسد غير ثابت، وأنا يا أخي أبين لك فساد قول الفريقين من كتاب ربك، ومن سنة نبيك شيئاً شيئاً، وحرفاً حرفاً، حتى تعرف كذبهم وزور قولهم، وعظيم بهتانهم على الله وعلى رسوله؛ لأن الحق أبلج، والباطل لجلج، كما قال الله سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
يسأل هؤلاء الذين زعموا أن الإمام لا يكون([215]) إلاّ بالاختيار والاجتهاد في الرأي، وأن ذلك إليهم دون رسول الله إذا([216]) زعموا في مقالتهم أنهم يبينون في([217]) ذلك مالم يبينه رسول الله، وأن لهم من المعرفة في صلاح الدين وإقامة الأحكام وإثبات الإمامة ما لم يجعل الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
يسأل الذين قوموا([218]) أبا بكر فيقال لهم: أخبرونا عن جميع ما جاء به محمد من عند الله سبحانه وأمرنا به من طاعته ما هو ؟ وهل يخلوا من ثلاثة أوجه:
إمَّا فريضة أوجبها عليهم عن الله عز وجل.
وأما سنة سنها لهم.
وإما تطوعاً أمرهم به على الترغيب فيه إن شاءوا فعلوه، وإن شاءوا تركوه ؟.
فمن قولهم: إنه لا يخلو من أحد الثلاثة الوجوه؛ ولا سبيل لهم إلى أكثر من ذلك.
يقال: فأخبرونا عن الفرائض التي أمرهم النبي بها عن الله معلومة معروفة، أو مجهولة غير معروفة ؟.
فمن قولهم: معروفة غير مجهولة.
فيقال لهم: مثل أي شيء ؟.
فمن قولهم: مثل: صلاة الظهر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات، ومثل: الزكاة من مائتي درهم خمسة، ومثل: فريضة المواريث للبنت الواحدة النصف، ومثل هذا كثير في الفرائض.
فيقال لهم: هل يجوز لأحد أن يحول هذه الفرائض، فيجعل الظهر ثلاث ركعات والمغرب أربع ركعات ويفرض للبنت الواحدة الثلث، ومن مائتي درهم ثلاثة دراهم ؟.
فمن قولهم: هذا لا يجوز.