فهؤلاء الذين تقلدوا أمر الله وتقديره في خلقه  ([160])  وكذلك ينفذون أمره في عباده يوم القيامة، كما قال سبحانه فيهم: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ(17)يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} [الحاقة:17ـ18]، يعني: يحمل أنهم ينفذون أمره في أهل جنته وناره، كما قال سبحانه فيهم: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]، يسوقهم إلى النار، يقولون كما قال الله سبحانه {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8)قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك: 8ـ9] الآية، وشهيد يشهد لهم بالجنة ويقولون لهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر:73] الآية، ثم قال في آخر السورة: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ}[الزمر:75]، يقول: محدقين من حول الجنة والنار؛ لأن العرش هو ملك الله سبحانه، وملكه يوم القيامة الجنة والنار وما فيهما، لأن ليس لله ثَمّ خلق غيرهما، كما قال: عرشه على الماء  إذا([161]) لم يكن خلق غيره.

[تفصيل خلق الكون]

لأنه سبحانه خلق الهوى، ثم خلق الماء فأسكنه في الهوى، ثم خلق الرياح فأنشأها في الماء، فاضطرب الماء وأزبد وماج، ثم خلق النار فأنشأها في ذلك الموج، فاحترق فصار دخاناً، فخلق الله من ذلك الدخان سبع سماوات طباقاً، وسطح من حراقته أرضاً، وذلك قول الله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]، قوله سبحانه: كانتا رتقاً يعني: الموج فاحترق فصار([162])  دخاناً وحراقة خلق الله ([163])  هذه الأشياء الأربعة الهواء والماء والرياح والنار من غير شيء كان قبلها، ثم خلق الملائكة من الريح والهواء، فأسكنهم في السماء، وخلق الجن من مارج من نار فأسكنهم الهواء؛ وخلق آدم من الطين فأسكنه وذريته ([164])  الأرض.

 ثم كان عرشه بعد الماء السماوات والأرض وما بينهما من الخلق أجمعين ثم قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5)لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)} [طه:5ـ6]، يقول سبحانه: بعد أمره وتدبيره ونهيه، فيما خلق وبرأ، لم يمتنع منه سبحانه شيء، ولم يغلبه غالب ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم.

الدنيا كلها في الهواء السماوات والأرض وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما؛ لأن الأرض على الماء، والماء على الهواء، والشمس تسير بالنهار في الهواء ما بين السماء والأرض، وتسير بالليل تحت الماء في الهواء، وقوله سبحانه: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12]، يقول: مثلهن في العدد ليس في الصفة، لأن السماوات السبع طبق فوق طبق، وفي كل طبق سكان من الملائكة عليهم السلام. 

والأرضون إنما هي سبع في العدد كالبحور، أرض ثم بحر سبعة أبحر، وسبع أرضين، كلها فوق الأرض ليس تحتها منهن شيء.  

تفسير قول الله عز وجل {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]

الحمل: هو تنفيذ أمر الله، والعرش ملك الله، وفوقهم يقول منهم، قامت فوق مقام من، المعنى فيه: ويحمل عرش ربك منهم يومئذٍ ثمانية، فالثمانية يمكن أن تكون ثمانية أصناف، أو ثمانية آلاف، أو ثمانية أملاك كل ذلك على الله يسير، قال الشاعر ([165]):

حملت أمراً جليلاً فاصطنعت([166])  به

 

وقمت فيه بحق الله يا رجل

وقال آخر ([167]):

تداركتما عبساً وقد ثل عرشها

 

وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل

فقال: وقد ثل عرشها، وإنما أراد ذهب ملكها، وانهدم عزها، وهذا موجود في لغة العرب، فهؤلاء  الملائكة الذين ينفذون أمر الله يوم القيامة في عباده، كما نفذوا أمره في هذه الدنيا؛ لأن الله عز وجل لا يشافهه أحدٌ، ولا يدرك ببصر أبداً؛ وقوم من الملائكة موكلون بقبض أرواح الآدميين، كما قال سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}[الأنعام: 61]، فرأسهم ملك الموت، كما قال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11]، فهؤلاء كلهم يتصرفون من تحت يد الملك الأعلى بأمر الله، من عنده يهبطون وإليه يصعدون بأعمال الآدميين، كما قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10].

بين سبحانه أنه لا يقبل من أعمالهم إلاّ الطيب الصالح، وما كان سوى ذلك فهو يبور ويبطل.

 قوله إليه يصعد الكلم الطيب وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، وقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169]، كقوله سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادله: 7]، وقال سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]، وقوله سبحانه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، يعني سبحانه في هذه وما أشبهها من الآيات أن علمه سبحانه محيط بعباده وأعمالهم، وأنه لا يغبى عليه شيء من أمورهم.

 [صفات الله هي ذاته]

فعلمه سبحانه، ذاته وذاته علمه، والذات هو الله عز وجل، هو العالم بنفسه لا بعلم سواه، وكذلك قدرته ذاته وذاته قدرته، هو القادر بنفسه لا بقدرة سواه، علمه وقدرته ونفسه ووجهه ذاته، كما قال سبحانه:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقره:115]، أي الموجود في كل جهة الله، ثم قال سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[الأنعام:54]، الكاتب والمكتوب عليه شيء واحد، وهو الله الذي ليس كمثله شيء، وهو لا يشبهه شيء، لا كالأشياء بل هو منشىء([168])  ما يشاء من الأشياء، فسمى سبحانه نفسه شيئاً، لإثبات الوجود([169])، ونفي العدم المفقود، كما قال سبحانه لرسوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19]، فالله عز وجل بكل مكان، ولا يحويه مكان فإن قال المشبه: أيصعد الكلم من الله إلى الله؟

قيل له: يصعد الكلم الطيب من المكان الذي لا يخلو منه الله إلى السماء التي فيها الله عز وجل، والله على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، فمن أنكر وزعم([170]) أن ربه في مكان دون مكان، سئل في أي مكان هو، فإن قال: على العرش.

 قيل له: أو ليس العرش غير السماوات والأرض.

فقوله: نعم فيقال: كيف قلت: هو في السماء وقد زعمت أنه على العرش، و العرش عندك ليس السماوات والأرض؟ وفي هذا رد لقول الله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3]، وإن قالوا: إن العرش ليس في السماوات، ولكن([171]) فوقها، عطلوا السماوات من العرش وفي تعطيلهم السماوات من العرش تعطيل ما قالوا هو العرش دون ما سواها([172])([173]).

[بطلان جسم لا كالأجسام]

فإن قال قائل: يقول إن الله جسم لا كالأجسام، قلنا له: هذا محال في الله عز وجل لايرى الجسم أبداً شيئاً مجسماً([174])، ولسنا نرى الأشياء كلها كائناً جسماً، فالشيء يعم الأشياء كلها، والجسم فإنما يقع على بعضها، فلذلك قلنا: إن كل جسم شيء، وأن ليس بجسم كل شيء، فلما أن خرج بعض الأشياء من أن ينتضمه([175])  اسم الجسم ولم يخرج الجسم من أن ينظمه اسم الشيء في الحكم.

 قلنا: إن الله سبحانه شيء، ليس كالأشياء، وكذلك فعل المخلوقين شيء،  وليس جسماً، كما قال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52]، ففعل الخالق يعلم ويرى([176])،  وفعل المخلوق يعلم ولا يرى، لأنه عرض والعرض لا يقوم إلاّ بالجسم، والأجسام يكون منها الحركات بالقعود والقيام، وهي مجتمعة متلاحقة، وهي تسكن وتهدأ وهي قائمة بأعيانها، غير متصرفه([177])  والحركات غير متلاحقات ولامؤتلفة، بل هي متصرفة متباينة مختلفة، وبعضها لا يلحق بعضاً، ولا يعلم لها بعد خروجها طول ولا عرض، فهذا الفرق بين الأجسام والأفعال، ولو كان الله سبحانه كما يقول المبطلون: إنه صورة أو جسم من الأجسام، لكان مشابهاً لما خلق من الصور والأجسام، ولكان محتاجاً إلى المكان، ولو احتاج إلى المكان لما كان كما قال وذكر عن نفسه حين يقول سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ}[المجادلة:7] الآية، وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4].

[شبهة للمشبهة وجوابها]

واحتجت المشبهة في الرؤية بقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[الإنشقاق:6]، وبقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110]، وبقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22ـ23]، وبقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وبحديث رووه وأسندوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فزعموا أنه قال: ((إنكم ترون ربكم لا تضامون في رؤيته كالبدر إذا استدار)) خلافاً لقول الله سبحانه: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، وكذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: ((كل ما أسند إليَّ من الحديث بعدي وكان مخالفاً لكتاب ربي، فليس هو مني فلا تقبلوه ولا تأخذوا به)).

فالله تبارك وتعالى ليس بشخص، فتجاهره الأبصار، ولا هو صوت فتوعيه الأسماع، ولا رائحة فتشمه المشام ولا حار ولا بارد، فتذوقه اللهوات، ولا لين ولا خشن فتلمسه الأيدي؛ لأنه سبحانه خلق الأبصار وما جاهرت والأسماع وما وعت، والمشام وما شمت، واللهوات وما ذاقت، والأيدي وما لمست، فهذه الخمس الحواس المدركات كلها مجعولات مصورات مقدرات ليس فيها شيء يشبه الله ولا الله يشبه شيئاً منها؛ لأن من وقع عليه البصر، فهو محدود تحيط به الجهات الست فوق، وتحت، ويمين وشمال وأمام وخلف، وأن الله لا يوصف بشيء من ذلك؛ لأنه غني قديم، وإن لم يكن الأمر كذلك([178])، لم يكن لقول الله سبحانه: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}[الأنعام:103][فائدة].

فهذه مدحة مدح الله بها نفسه لا يزيلها في([179])  نفسه في دنياه، ولا في آخرته، فعمل من قال بالرؤية باطل؛ لقول الله سبحانه حين يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا(21)يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا(22)وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23)} [الفرقان:21 ـ23]، فسواء قال الإنسان: إن الأبصار تدرك خالقها في الدنيا أو في الآخرة فقد شبهه بخلقه.

[تفسير قول الله عز وجل وجوه يومئذ ناظرة]

وأمَّا تفسير قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:22]: يقول سبحانه: وجوه المؤمنين يوم القيامة مشرقة ناعمة، بهجة ناظرة إلى ثواب ربها منتظرة، خلاف وجوه المشركين الذين ذكرهم الله عز وجل حين يقول سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}[الزمر:60] الآية.

وأمَّا قولهم في قول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}[الكهف:110] إنه الرؤية فإذا كان اللقاء عندهم الرؤية، فما فضل ثواب النبي عندهم على نفاق المنافق؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77]، إنما تفسير اللقاء: أنهم يرون أعمالهم التي قدموها بين أيديهم يوم القيامة، كما قال سبحانه: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، وقال سبحانه: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15]، ثم قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، يقال: إنَّ الكفار يوم القيامة عن ثواب ربهم لمبعدون، كما قال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:24]، أي مبعدة.

وأمَّا قول الله سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:26]، قالت المشبهة: إن الزيادة هي النظر إلى وجه الله، كذبوا في ذلك بل الزيادة في ثواب ربهم، كما قال الله سبحانه: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، وقال سبحانه: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]، ففي الحالة التي لا ينظر الله إليهم([180])    فهو يراهم إلاّ أنه لا ينظر إليهم كنظره إلى المؤمنين رحمةً، ونظره إلى الكفار نظر سخطة، كما قال لكليمه وأخيه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، يقول أحفظ وأرعى([181])،خلاف كونه سبحانه مع عدوهما فرعون اللعين؛ لأنه ينصرهما، ويخذل([182]) عدوهما؛ إذ كان عدوهما عدوه، كما قال سبحانه لأمهما: {عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39].

[كلام للقاسم عليه السلام في التوحيد]

قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام، في بعض كلامه في التوحيد: ولو أمد الله عز وجل الأبصار بالمعونة حتى تدرك أقل قليل، نقطة من القطر في مدلهم ليل عاتم، تحت الأرض السفلى، من أبعد غايات السموات العلى، ما أدركت الأبصار الله، وكذلك لو أمدت الحواس كلها بالمعونات، حتى تدرك كل عموس([183])  ما هجم منها شيء على الله سبحانه تبارك وتعالى علواً كبيراً.

وقال القاسم عليه السلام: فكل من وصف الله بهيئة خلقه، أو شبهه بشيء من صفاتهم([184])  أو توهمه صورة، ما كان من الأصوار، أوجسماً ما كان من الأجسام، أو شبحاً، أوأنه في مكان دون مكان، أو أن الأقطار تحويه، أو أن الحجب تستره، أو أن الأبصار تدركه، أو أنه لم يخلق كلامه، وكتبه وأحكامه، أو أنه كشيء مما خلق،([185])  وذرأ وبرأ، وممَّا يخلق أبد الأبد فقد نفاه وكفر به، وأشرك به، وعبد غيره، فافهمه وفقنا الله وكل مؤمن لإصابة الحق، وبلوغ الصدق، إنه قريب مجيب.

وكذلك قال القاسم عليه السلام: وكذلك قال الموحدون: إن الله واحد، يعنون أنه أول الأشياء، وبه كان كل شيء، وهو منشئها، ومدبرها بنفسه لا بغيره، وهو الواحد لا من عدد، ولا فيه عدد يجزأ، وليس شيء يقال: إنه واحد في الحقيقة غير الله، وكل واحد غير الله فهو ذو عدد([186])  مجزء، ومن عدد، وهو الواحد الذي لا أول له، ولا ثاني معه، وهو في كل شيء مدبر لا محوي، ومع كل شيء رقيب لا محاط به.

والـ في ([187])، لها معانٍ، تختلف في اللغة ليس شيء في شيء، إلاّ وهو لا يخلو من أحد هذه المعاني، التي نحن ذاكروها إن شاء الله.

 إمَّا أن يكون فيه بمعنى قول القائل: الناس في عامهم هذا مخصبون.

أو يكون الشيء في الشيء محوياً، كاللبن في وعائه.

ويكون الشيء في الشيء كالمرابط في رباطه، والباني في بنائه.

 ويكون الشيء في الشيء كالحي في حياته.

 ويكون الشيء في الشيء، كالبياض([188])  في بياضه.

ويكون الشيء في الشيء، كالعبد في سلطان مولاه.

وفي القرآن مثل ذلك قول الله سبحانه: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف:38] أي مع أمم.

ومعنى آخر: ولأصلبنكم في جذوع النخل، يعني: على.

 ومعنى آخر: إلى، قال فتهاجروا فيها يعني: إليها.

 ومعنى آخر: ومن كان في هذه أعمى يقول: عن هذه النعمة.

 ومعنى آخر: وإنا لنراك فينا ضعيفاً أي: عندنا.

8 / 44
ع
En
A+
A-