[ذكر افتراق الأمة وبيان الفرقة الناجية]
ثم اعلم يا أخي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((افترقت أمة موسى إحدى وسبعين فرقة كلها هالكة إلاَّ فرقة واحدة، وافترقت أمة عيسى اثنتين وسبعين فرقة كلها هالكة إلاّ فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلاّ فرقة واحدة؛ وإنه سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله([141])))، فقوله هذا يدل على أنه من أخذ بكتاب الله وسنته، فقد أخذ بالتوراة والإنجيل والزبور، ومن صدقه فقد صدق جميع رسل الله، ومن أنكر نبوته، فقد أنكر نبوة من كان قبله من الأنبياء، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء:150]، ثم قال سبحانه فيمن أقرَّ بنبوة محمد من أهل الكتاب وغيرهم: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:152].
ثم دل عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام أيضاً على الفرقة الناجية بقوله: ((الحق ما أجمعت عليه الأمة، ولم يختلفوا فيه وإن أمتي لا تجتمع على ضلالة أبداً))، فالواجب على الإنسان([142]) إذا اشتكل عليه أمر دينه من كثرة ما في أمة محمد من التخليط، أن يأخذ بما تجمع عليه الأمة من رسولها، في جميع ما تعبَّد الله به خلقه، ولا يخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لقول الله سبحانه حين يقول فيه:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء:115] الآية، بين سبحانه بقوله هذا: أن المؤمنين أخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع ما أمرهم به من الحلال والحرام، وذكر سبحانه أن سبيلهم وسبيل رسوله واحدة، كما قال لرسوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] الآية، قوله سبحانه هذا يبطل قول من زعم أن ثبات الحق من أربعة وجوهٍ: بالعقل، والرسول، والكتاب، وإجماع الأمة من غير الرسول، والكتاب، ولذلك قال سبحانه لجميع خلقه: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ}[الحشر:7] الآية.
فالله عز وجل لم يجز لأحد من رسل الملائكة والإنس أن يزيدوا على دينه الذي تعبدهم به من تلقاء أنفسهم شيئاً، فكيف يجوز لغيرهم ومنزلتهم عنده دون منزلة رسله ؟! ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، ثم قال سبحانه لرسوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112] وقال:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ(44)}[الزخرف].
ولو زاد الرسول والوصي، ومن تبعهما إلى آخر الدنيا على وحي الله لسألهم ربهم عنه، كما قال سبحانه في رسوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)} [الحاقة].
ثم زعمت الحشوية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: بم تحكم ؟ قال: بكتاب ربك.
قال: وبم ؟
فقال: وبسنتك.
قال: فإن نزل بك أمر ليس له نبأ في الكتاب والسنة ؟
قال: أحكم فيه برأي، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الحمدلله الذي وفق رسول رسول الله عندما قال: إنه يحكم بغير ما أنزل الله عليه، قال الله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، ثم قال في آخرها: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائده:50]، وفي قولهم هذا إبطال رسل الملائكة والإنس، فمن لم يحكم بما جاءت به الرسل فحكمه حكم أهل الجاهلية، فحكم الحشوية أكثره على هذا الحكم اليوم، فزعموا أنَّ بين أبي حنيفة اختلاف وبين الشافعي في أربعمائة مسألة في حلال الله وحرامه، وكل منهما مصيب عندهم غير جائر في حكمه، ولا متعدٍ في ظلمه، خلافاً لقول الله عز وجل حين يقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
[إجماع الأمة عن رسولها على أصول الدين وأصول الشرائع]
أجمعت الأمة يا أخي ـ جمع الله لك خير الدنيا والآخرة – عن رسولها أن الله واحدٌ ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار، وأنه عدل في جميع أفعاله، غني عن ظلم عباده، وعلى أن وعده ووعيده حق، من أطاعه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار، وعلى أن محمد بن عبدالله([143])رسول الله إلى جميع خلقه، وعلى أن علياً بن أبي طالب كان مستحقاً للخلافة، موضعاً لها يوم قبض الله نبيه، وعلى أن الإمامة جائزة في آل محمد، وعلى أن الصلوات الخمس في يوم وليلة بأوقاتها، وأداء الزكاة عند وجوبها على ما شرعها الرسول، وصوم شهر رمضان، والحج إلى بيت الله الحرام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجبٌ على الإنسان، وأن يحب الإنسان للناس، ـ كما قال الرسول ـ ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فإذا فهم ذلك، وثبت عنده، واستقام([144]) عليه واجتنب المعاصي كلها، كان من أهل السنة والجماعة، ومن الذين وصفهم الله سبحانه حين يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13ـ14]، وكان من أتباع الشيعة، الذين ذكرهم الله في كتابه حين يقول {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ(79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ(82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ(83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(84)} [الصافات]، اختص الله عز وجل خليله إبراهيم الأوَّاه الحليم بهذا الاسم، وشهره في كتابه الذي أنزله على رسوله في كتبه التي أنزلها على رسله، إذ يقول سبحانه لكليمه موسى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]، فالأنبياء والمؤمنون كلهم من شيعة نوح، وإبراهيم، وموسى، ثم المسلمون من شيعة محمد وعلي إلى آخر الدنيا عليهم([145]) السلام.
[تفرق الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ]
وأنا أعرفك يا أخي بمن ثبت على هذا الإجماع، ومن خرج منه من جميع الفرق شيئاً شيئاً، وحرفاً حرفاً، حتى تعرف أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم صحيح؛ لأن النبي عليه السلام قال: ((ليس الخبر كالمعاينة([146]))).
نقضت المشبهة قولها في الوحدانية؛ إذ شبهوا الله بخلقه، وزعموا أنه ساكن في السماء، وأنه ينزل ليلة القدر إلى الأرض، وليلة النصف من شعبان، ويوم الموقف بعرفة، وأن الأبصار تدركه يوم القيامة، وأن النبي أبصره في دنياه عندما أسري به إلى السماء السابعة، وتأولوا في جميع ذلك بالآيات المتشابهات، وبالروايات المهلكات، خلافاً لكتاب الله، وكذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله سبحانه لرسوله:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]،فالقرآن محكم ومتشابه، وتنزيل، وتأويل، فمحكمه كمتشابهه، وتنزيله كتأويله؛ لأنه ليس في القرآن اختلاف، ولا تناقض، كما قال الله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41)لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:41ـ42]، وقال عز وجل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال: {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ(21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ(22)} [البروج].
[بيان المحكم والمتشابه]
وكيف يبطل أو يتناقض ما حفظه الواحد الكريم من كل دنسٍ أو باطل ذميم؟ إلا أن الله جعل المحكم إماماً للمتشابه، فالواجب على الإنسان أن يأخذ بالمحكم، لأن له في المحكم كفاية وشفاء، ويسأل بعد ذلك عن المتشابه، العالم الذي عنده تفسير المتشابه، كما قال الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، وأهل الذكر، هم محمد وآله، الذين أنزل الله عليهم الكتاب، وهداية إلى القول بالصواب، فرفضوا الرسول ظلماً وطغياناً، وأبدوا لله في ذلك خلافاً وعصياناً، وقالوا في كل نازلة نزلت، من حلال أو حرام بأهوائهم اجتراء على ذي الجلال والإكرام، وتعمداً في ذلك لخلاف آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم([147])، وجنبوا في كثير من أقاويلهم عن الكتاب والسنة والعقول، فتبارك الله ذو الجلال والطول، ثم لم يقتصروا على ذلك، حتى كفروا من لم يكن كذلك، فكلهم يدعو الجهال إليه، ويزعم الصواب في يديه، وهو متجنب([148]) عن الحق، حائر عن طريق الصدق، بعيد عن الحق والهدى، ويتبع الغي والردى، قد صدوا عن الله عباده، وأظهروا جهاراً عناده، وأزاحوا الحق في([149]) مغرسه، الذي اختاره الله عز وجل له، فجعله سبحانه وركبه؛ لعلمه به فيه، وبنى دعائم الدين عليه، وذلك قوله:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، ويقول عز وجل: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، ويقول سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر:32]، فالله عز وجل جعل أمر القرآن والسنة إلى نبيه محمد وآله الطاهرين، كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79)} [الواقعة]، والمطهرون فهم آل محمد، كما قال سبحانه فيهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]، فليس يوجد الجوهر إلاّ في معدنه.
[كلام لزيد بن علي عليه السلام ]
قال زيد بن علي عليه السلام: (أما بعد يا قارئ القرآن، إنك لن تتلوا القرآن حق تلاوته حتى تعرف الذي حرفه، ولن تمسك بالكتاب حتى تعرف الذي نقضه، ولن تعرف الهدى حتى تعرف الضلالة، ولن تعرف التقى حتى تعرف الذي تصدى، فإذا عرفت البدعة في الدين والتكلف، وعرفت الفرية على الله والتحريف، رأيت كيف اهتدى من هدى.
واعلم أن القرآن ليس يعلمه إلاّ من ذاقه، فأبصر به عماه وأسمع به صممه، وحيي به إذا مات، ونجا به من الشبهات.
واعلم يا قارئ القرآن أن العهد بالرسول قد طال، ولم يبق من الإسلام إلاّ اسمه، ومن القرآن إلاّ رسمه ولا من الإيمان إلاّ ذكره، وأن الله عز وجل لم يجعل ما قسم بيننا نهبا ولا ليغلب قوينا ضعيفنا، ولا كثيرنا قليلنا، بل قسم برحمته علينا الأقسام والعطيات، فمن أجرأ على الله ممن زعم أن له أقساماً بين العباد، سوى ما حكم به في الكتاب ؟
فلو كانت الأحكام، كما حكم بها أهل الجور والآثام، لما كان بيننا اختلاف، ولا استعدينا إلى الحكام، كما لا يستعدي بعضنا على بعض في اللحا والألوان، ولا في تمام الخلق والنقصان، وقديماً اتخذت الجبابرة دين الله دغلاً، وعبادة خولاً، وأمواله دولاً([150]))، وقد ذكرت آخر هذا الكلام في أول الكتاب فاعلم ذلك.
واعلم يا أخي أن القرآن محكمٌ ومتشابه، وتنزيل وتأويل، وناسخ ومنسوخ، وأمثال وإضمار، وقصص وأخبار، وحلال وحرام، وأمر ونهي، وخاص وعام، وتقديم وتأخير، ثم هو بلسان عربي مبين، فليس يحيط بجميعه ولا يفهمه إلاّ أهله، ومن تعلم من أهله، قال الشاعر:
اطلب وجوه الخير من أهله
لا تطلب الرمَّان من حنظل
يأتك ما تطلب من سهله
فإنما الشيء على أصله
المحكم والمتشابه، والتنزيل والتأويل، قد فسرت لك، وأنا أفسر لك سائر وجوه القرآن، إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــ
[تفسير الناسخ والمنسوخ]
مثل قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ}[البقرة:240] الآية، فنسخها قوله([151]):{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}[النساء:12] الآية، فللمرأة في مال زوجها الربع، والثمن فهذا خير لها من نفقة السنة، كما قال الله سبحانه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِها}[البقره:106] (على التقديم والتأخير المعنى فيهما: ما ننسخ من آية نأت بخير منها)([152]) وننسها فلا ننسخها؛ ونسخ الآية فهو تفهيم من الله، وزيادة من غير نقص ولا إبطال في نفسها.
ثم قال سبحانه: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:15] الآية، نسخها قول الله عز وجل:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فهذا إلى الإمام، فإذا عدم الإمام فصاحبها مخير فيها، إن شاء حبسها في البيت وإن شاء استتابها، وزوجها رجلاً، وليس للإنسان في آية المواريث خيار.
والأمثال قول الله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} [النساء:73]، الآية وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41]، وما أشبه هاتين.
والإضمار، كقول الله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} [الرعد:31] الآية،فمعناه مضمر، (وهو لو كان لكان هذا القرآن)([153]).
ونسخ الآية فهو تفهم وزيادة، غير نقص.
والحلال، كقول الله سبحانه: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة:1]، وما أحله الله في الكتاب الناطق، وعلى لسان رسوله الصادق، وكذلك الحرام على هذه الوجوه.
والأمر كقول الله عز وجل([154]):{أَطِيعُوا اللَّهَ}[النور:54] {اعْبُدُوا اللَّهَ}[المؤمنون:32]، {اتَّقُوا اللَّهَ}[الحشر:7].
والنهي قول الله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ}[النساء:171] {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:15] {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].
والخاص كقوله تعالى([155]) في علي عليه السلام: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائده:55]، وفي قوله لأبي بكر: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة:40].
والعام {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وما أشبهها.
والإخبار ما ذكر الله سبحانه في كتابه من أخبار الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل في كتابه، الذي أنزل([156]) على رسوله لرسوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)} [الإخلاص]، فهو الذي لا كفو له ولا نظير ولا شبيه، ولا عديل، وقال سبحانه: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقال: {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[إبراهيم:52]، وقال سبحانه: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[النحل:15]، وقال سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء:22].
[تعلق المشبهة بالآيات المتشابهات وتركها للمحكمات]
أنكرت المشبهة هذه وما أشبهها من الآيات المحكمات وتعلقت بالآيات المتشابهات، لطلب الفتنة والبلاء، وإنما قال سبحانه: {مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]، فمحكم القرآن أمه ونوره وبيانه، ومتشابه القرآن داخل في محكمه غير خارج منها، ولا مخالف له، كالولد الذي هو تابع للأم غير خارج منها، ولا مخالف لها في شيء من الأشياء، لأنه من جنسها وشكلها ومنها وإليها.
وإنما قالت المشبهة – عزَّ الله عن قولهم وجل -: إنه ساكن في السماء؛ لقوله: {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]، إنما تأويلها أنه سبحانه إله فيها، ومالك لها، وعالم بها وبما فيها، كما قال عز وجل: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3]، فكينونته في السماء ككينونته في الأرض، وكينونته فيهما ككينونته([157])فيما بينهما، وفوقهما وتحتهما لا تحيط به أقطار السماوات والأرضين، ثم قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84] أحكمهما عز وجل، وقدرهما وأحسن تقديرهما، كما قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ(3)ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(4)} [الملك:3ـ4].
واحتجت الحشوية بقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، فقالوا: إنه ساكن في السماء، تعالى الله عمَّا يقول المشبهون علواً كبيراً.
وإنما تفسير قوله: {يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:10] يريد بقوله: إليه: إلى الملك الأعلى الذي وكله الله سبحانه على جميع خلقه، وجعل أمره ونهيه إليه، وأمر رسل الملائكة بطاعته؛ ثم صرف عليه السلام كل قوم منهم في فنّ من عبادة خالقهم، كما أمره ربه، وكما حكى عنهم رب العالمين، إذ يقولون عليهم السلام: وما منا إلاّ له مقام معلوم، وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون قوم منهم موكلون بنقل أخبار الأرض إلى السماء، وبنقل أخبار السماء إلى الأرض، فرأسهم جبريل الذي كان يأتي بوحي الله إلى آدم، وإلى محمد وإلى غيرهما، من الرسل على جميعهم السلام، كما قال سبحانه فيه وفي أصحابه من الملائكة: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:4].
كانوا يطلعون من عند رسل الإنس إلى الملك الأعلى بأخبار الأرض في يوم كان مقدار([158]) غيرهم في المسير ـ إن ساروا ـ مسيرة خمسين ألف سنة.
وقوم منهم موكلون بحفظ أعمال الإنس والجن من تحت يد الملك الأعلى، حتى يعرفون([159]) بأعمالهم، كما قال سبحانه: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ(17)مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)} [ق: 17ـ18]، ثم قال سبحانه فيهم: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، يقول: بأمر الله، قامت من مقام البا، وقال سبحانه فيهم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10)كِرَامًا كَاتِبِينَ(11)يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)} [الإنفطار:10ـ12]، ثم قال سبحانه:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[السجدة:5].