وفي ذلك ما يقول الشاعر:

قضى قبل خلق الخلق ما هو كائن

هواها ونجواها وموقع أمرها

 

خلائق لا تخفى عليه أمورها

وقبل الهوى ما قد يجن ضميرها

فالأشياء كلها بعلم الله، ألا يعلم مَنْ خَلَق وهو اللطيف الخبير، (فجميع ما كان من أفعال الآدميين وما سيكون منهم بقضاء الله، إنه سيكون ذلك منهم واختياراً من أنفسهم؛ لا اضطراراً من علم الله أنه يضطرهم إلى الطاعة والمعصية، وفي ذلك ما روي)([111]) عن زيد بن علي [عليه السلام] أنه قال: (اللهم إنا نعوذ بك أن نفتري عليك الكذب، أو نقول بخلاف ما أنزلت على رسولك (أو نزعم أن 

الإيمان إقرار بلا عمل، أو نزعم أن من عصى الله ورسوله أولياء لك)([112])  أو نزعم أنك لم تكمل دينك، أو نزعم أن رسول الله عليه السلام قال بخلاف ما أنزلت عليه من حلال أو حرام).

 

[تفسير الكتاب في القرآن]

[الكتاب في القرآن]

على ثلاثة وجوه:

* قال الله عز وجل لرسوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء:105]، يعني: القرآن.

*  ثم قال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، يقول فرض عليكم.

* والوجه الثالث: تفسير علم الله، كما قال سبحانه لرسوله في أصحابه يوم أحد عند ما قالوا: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154]، يقول: لبرز الذين علم الله منهم أنهم سينفرون اختياراً من أنفسهم لطلب الشهادة في سبيل الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أعداء الله سيختارون قتلهم لطلب الدنيا، فالبراز فعل للبارز، كما القتال فعل للقاتل، وعلم الله محيط بالبارز والقاتل، وأفعالهما، وليس علم الله الذي أدخلهما، وجبرهما على البراز والقتل؛ لأن البراز والقتل فعل لهما بالاختيار لا بالاضطرار، ولذلك أثاب الله البارز وعاقب الفار([113]).

(وتصديق ما قلنا أن تفسير الكتاب هاهنا علم الله قول الله سبحانه في مواضع شتى من القرآن حين يقول عز وجل: {نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس:12]، وقال: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:29]، وقال: {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}[الأنبياء:94]، وقال: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا}[التوبة:51]، وقال: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ}[فاطر:11]، وقال: {كِرَامًا كَاتِبِينَ(11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)}[الإنفطار]، وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة:21].

فتفسير هذه الآية وما أشبهها من الآيات: علم الله أنهم سيختارون من تلقاء أنفسهم الطاعة، والمعصية ولم يعلم أن علمه اضطرهم إلى الطاعة والمعصية {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]،)([114])، لأن القتل على وجهين:

* قتل في سبيل  الله، * وقتل في سبيل الطاغوت، كما قال الله سبحانه: {الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء:76 ] الآية، فما كان في سبيل الله فهو بأمر الله أمر تخيير وحزم لا أمر حتم وجبر وقسر، وما كان في سبيل الطاغوت، فهو من المعتدي الظالم لا بأمر الله ولا مشيئته ولا تقديره، بل قد نهاه عز وجل عن ذلك كما قال سبحانه في ابن آدم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة:30]، فهذا أول من قتل مسلماً ظلماً وعدواناً في دار الإسلام، وهو الذي سن القتل في سبيل الطاغوت في جميع ولد آدم، وإنما قال الله عز وجل: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ}[آل عمران:154]، يقول: علم منهم؛ قامت على مقام من؛ إذ هما من حروف الصفات يخلف بعضها بعضاً، كما قال سبحانه: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}[الأنبياء:77]، يقول: على القوم الذين كذبوا بآياتنا، وقال فرعون اللعين ولأصلبنكم في جذوع النخل يعني على جذوع النخل.

 وتصديق ما قلنا، أن تفسير الكتاب هاهنا علم الله([115])  قول الله سبحانه: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]، يقول: في علمه([116]).

 وقال سبحانه: {أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[الحديد:22]، يقول: في علم الله من قبل أن يخلق الأنفس.

 وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}[الأنبياء:94]، يقول سبحانه: عالمون.

وقال سبحانه: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75]. 

[تفسير الأذن في كتاب الله]

 [الأذن] على وجهين: أذن أمر، وأذن علم، فأما أذن الأمر فقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145]، يقول بأمر الله كما قال سبحانه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[التكوير:29]، صدق الله عز وجل لولا أنه شاء وأذن لنا الإيمان ما اهتدى واحد منا إلى الإيمان من تلقاء نفسه بغير هداية من الله، ولكن الله هدانا إلى الإيمان به بالعقول والرسل والكتب، فبه سبحانه هدايتنا إلى الإيمان لا بغيره.

وأما الأذن في الثاني: فعلمه كما قال الله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}[التغابن:11]، يقول: إلا بعلم الله، وقال سبحانه: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، يقول: بعلم الله.

والوجه الثاني: قول الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}[يونس:100]، يقول: بأمر الله، صدق الله عز وجل، لولا أنه أراد وشاء إيماناً به لم يأمر بذلك، كما قال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[التكوير:29] الآية([117]) .

لما ركب فينا العقول، وأرسل إلينا الرسل، وأنزل عز وجل علينا الكتب، وركب فينا استطاعة الإيمان به، قال حينئذ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن:8].

[تفسير الكفر في كتاب الله]

[الكفر]

 على وجهين:

كفر جحود، وإنكار للبعث والنشور، كما حكى الله عز وجل عمن أنكر ذلك حين قالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(16)أَوَءَابَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ(17)قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ(18)فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ(19)} [الصافات:16،19].

والوجه الثاني: كفر نعمة، كما قال الله عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، حكم الله عز وجل لشاكر النعمة بالزيادة، ولكافر النعمة بالعذاب الأليم، قال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].

فكل من ارتكب معاصي الله، وخالف أمره، وضاد حكمه، فهو كافر لنعم الله معاند لله، قال الله سبحانه:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود:18].

 وأما الله عز وجل فلا ينكره أحدٌ، بل كلهم مقرون به، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]، ثم قال الله عز وجل: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[آل عمران:83].

أما الملائكة والأنبياء والمؤمنون، فقد أقروا لخالقهم بالوحدانية والربوبية طائعين، وأما الكفار فإقرارهم بالله عز وجل اضطرار، كما قال سبحانه فيهم: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، أصل كل كفر المعصية لله سبحانه من اليهودية والنصرانية والمجوسية والشرك والبغي؛ فمن عصى الله فقد استوجب منه العقوبة في دنياه وآخرته؛ لقوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} إلى آخر الآية، ثم قال في آخرها: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].

[تفسير الشرك في كتاب الله]

[الشرك في كتاب الله]

على أوجه: قال الله سبحانه:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، كل من أطاع عاصياً فيما يأمره وينهاه فقد أشركه في عبادة خالقه، كما قال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110].

و الوجه الثاني: أنه من غل زكاة ماله من أهلها، فقد استوجب اسم الشرك عند الله؛ سبحانه؛ لقوله:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[فصلت:6ـ7]، فسماهم سبحانه مشركين بتركهم  لأداء زكاتهم، (وبرفض ما أمر الله تعالى بإخراجه من أموالهم)([118])،  ثم قال سبحانه:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينه:5]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الروم:31]، ومن ترك الصلاة وغلَّ الزكاة فهو خارج من دين الله (مستوجب لاسم الشرك، يريد بذلك إذا غل إنسان زكاة ماله من أهلها ثم تصدق بجميع ماله، لم يقبل الله منه تلك الصدقة، وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المعنى، كمثل رجل تطهر عند ارتفاع النهار للصلاة ثم توجه القبلة وصلى ركعتين ركعتين، حتى غربت الشمس، ولم يصل الظهر أربعاً والعصر أربعاً، وكذلك لم يصل العشاء ولا العتمة وصلى ركعتين حتى طلع الفجر؛ وصام أحد عشر شهراً إلى سنته ولم يصم شهر رمضان)([119])..

وقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم:((لا تقبل صلاة إلاّ بزكاة، كما لا تقبل صدقة من غلول([120])))، وقال عليه السلام: ((مانع الزكاة وآكل الربا حرباي في الدنيا والآخرة([121]))).

والوجه الثالث: أنه من أربى في تجارته، فقد استوجب اسم الشرك عند خالقه؛ لقول الله سبحانه فيهم:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: ((لدرهم ربا أشد عند الله من أربع وثلاثين زنية أهونها إتيان الرجل أمه([122]))).

والوجه الرابع: أنه من شرب الخمر، فقد استوجب اسم الشرك عند الله لقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90] فالخمر كل ما خامر العقل فأفسده؛ كان من عنب أو زبيب، أوتمرٍ، أو شعير أوبر أو ذرة أو عسلٍ، والميسر فهو القمار كله من نرد([123])  أو شطرنج([124]) أو غير ذلك، والأنصاب فهي أصنامهم التي كانوا ينصبونها ويعبدونها من دون الله، والأزلام فهو القداح([125])  التي كانوا يستقسمون بها في المراهنة وغيرها، كما قال الله سبحانه: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3]، قوله عز وجل: ذلكم فسق، يقول: خروج من الإيمان إلى الكفر، كما خرج إبليس إذ يقول فيه: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50].

 وكل رجس فهو محرم في كتاب الله عز وجل، كما قال سبحانه لرسوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام:145]، ثم قال سبحانه لرسوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، يعني سبحانه بقوله ومنافع للناس: في بيعهما وشرائهما، إذ كانوا يربحون فيهما، ليس يريد بذلك منفعة البدن؛ لأن الخمر يزيل العقل، والميسر فليس ينفع بدن الإنسان أبداً والإثم محرم في كتاب الله، كما قال سبحانه لرسوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33]، ثم قال عز وجل: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:97].

 فذمهم الله([126])  عندما غيروا ما رزقهم من الرزق الحسن، وأفسدوه كما قال: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:89]، ثم قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]؛ لأنهم كانوا يصلون خلف النبي صلاة العشاء، ثم جلسوا ينتظرون العتمة، فيقوم النبي يصلي بهم صلى الله عليه وآله، وقاموا خلفه وقد أسكرهم النعاس وغلبهم فلا يعقلون بقراءة النبي ولابصلاته،  فقال لهم الرب: لا تقربوها وأنتم على الحال حتى تفيقوا من سكرة النوم، فلو كان الله عز وجل أراد سكر الخمر، لكان قد أوقع([127])  عليهم الصلاة في حال سكرهم، وهذا مخالف لكتاب الله عز وجل، ثم قال سبحانه في قوم كانوا قد شربوها قبل معرفتهم بتحريمها، فلما نزلت آية التحريم قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ وكيف بصلاتنا ونحن نشربها ؟ فأنزل الله عز وجل على رسوله فيهم: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَءَامَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93]، فكانت هذه الآية معذرة للماضين وحجة على الباقين، فالخمر([128])  محرم على آدم وأولاده إلى آخر الدنيا.

وقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: ((مدمن الخمر كعابد الوثن قيل: وما مدمنه يا رسول الله ؟ قال الذي كلما وجده شربه ولو كان في كل عام مرة([129])))، فجعل شارب الخمر كعابد الحجر([130]).

وقال عليه السلام: ((([131])من ملأ جوفه في الدنيا خمراً لا بد أن يملأه في الآخرة جمراً إلاّ من تاب وآمن))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم([132]):((لا يسرق السارق وهو مؤمن ولا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر وهو مؤمن([133])))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم([134]):((ما أسكر كثيره فقليله حرام والذوق منه حرام([135]))).

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه([136]):(ثلاثة أشياء ما فعلتها ولا أفعلها أبداً، ما عبدت صنماً قط؛ لأني لم أكن لأعبد مالا ينفعني ولا يضرني، ولا زنيت قط؛ لأني أكره في حرمة غيري ما أكره في حرمتي، ولا شربت خمراً قط؛ لأني إلى ما يزيد في عقلي أحوج مني إلى ما ينقص منه)، ثم قال عليه السلام لأصحابه: (لا يكن مثلكم مثل رجل خيره سلطان جائر إحدى ثلاث خصال، القتل، أوالزنى، أو شرب الخمر، وأوعده بالقتل، إن لم يفعل فاستعظم القتل والزنا ورأى شرب الخمر أهون عليه، فلما سكر منها قتل وزنـا).

وأمَّا قول الجاهل: إن الله لم يحرم الخمر عندما قال سبحانه: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، لم يقل: إنها عليكم حرام فعلى هذا القياس ينبغي أن تكون عبادة الصنم غير حرام، إذ قال سبحانه فيهما:{فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90]، قال الله عز وجل:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106] ذكر سبحانه الإيمان والشرك في آية واحدة، لأن الإنسان إذا قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، فقد شمله اسم الإيمان وحكم الإيمان ينتظمه في حياته ومماته، لأنه لا يمنع من دخول المساجد، ويقبر في مقابر المسلمين، ويجري في ميراثه مجرى أهل الإسلام، ثم له أعمال من دون ذلك يستوجب بها اسم الشرك عند الله إذا فعل شيئاً منها، نحو ماذكرنا مثل: الجبر والتشبيه وإنكار البعث والنشور، وتكذيب الرسل وإباحة المحارم.

وجوه الشرك في كتاب الله كثيرة، فقد بينت بعضها، وأنا أبين الباقي في آخر الكتاب فتفقدها، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ((الشرك يدب فيكم دبيب النمل فتفقدوه([137])))؛ ولذلك قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم:((من قال لا إله إلاّ الله مخلصاً دخل الجنة([138])))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم([139]): ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها حرموا عليَّ دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله([140])))، ثم قتل عليه السلام بعد هذا القول اليهود والنصارى، وأخذ أموالهم وسباهم، وهم يقولون: لا إله إلا الله، موسى وهارون وداوود وسليمان وعيسى رسل الله، والتوراة والإنجيل والزبور كتب الله، وكذلك قتل وصيه من بعده من الناكثين والقاسطين، والمارقين خلقاً كثيراً، وأخذ أموالهم، ولم يسبهم، وهم يقولون: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، ويقولون بنبوة من تقدم من الأنبياء قبلهم صلوات الله عليهم أجمعين.

 فالواجب عليك يا أخي ـ أوجب الله لك المغفرة ـ أن تعلم أنهما مصيبين في جميع أفعالهما، وتسلِّم لأمر الله بعد البيان، كما قال الله عز وجل لرسوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فاحذر التقليد واتباع الهوى، فإنه ما هلك من كان قبلك إلاّ بهذين المعنيين، وقد ذكرهما الله في كتابه، الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حين يقول: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50]، ثم قال سبحانه في أصحاب التقليد: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104]، {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23]. 

6 / 44
ع
En
A+
A-