وأمَّا أبو بكر، فقد خَرَّج إليهم خالد بن الوليد، فحاربهم، وقتل منهم، وسبى أربع مائة نفس وكانت فيهم أم محمد الحنفية([82])، صارت في دار أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام، فأرسل إلى أهلها وأسلمها إليهم، فقالت لهم: (اعرضوني على هذا الرجل)؛ فتزوجها عليه السلام، فمن هذه الجهة سأله أصحابه يوم الجمل أن يجيز لهم سبي نساء أهل البصرة، كما أجاز لهم أبو بكر، فكره ذلك، ثم قال لهم: أيكم يأخذ عائشة بسهمه ؟ قالوا: لا أينا، قال: فكيف وهي أعظم الناس جرماً؟فسكتوا حينئذ وسلموا الأمر إلى أمير المؤمنين.
وأمَّا خالد فقتل مالك بن نويرة([83]) في أول النهار، وأخذ زوجته وتقدم عليها في آخر النهار، وصرف عبدالله بن عمر إياه بذلك([84]) فسأل عمر أبابكر أن يغير على خالد فلم يفعل، فلمَّا أن مات أبو بكر رد عمر أولئك السبي إلى بلدهم.
ــــــــــــــ
[تفسير العبادة في كتاب الله]
[العبادة في كتاب الله]
على ثلاثة وجوه:
* عبادة الله عز وجل، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] يقول: أطيعوه.
* وعبادة الصنم، كما قال إبراهيم الخليل لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42].
* وعبادة الشيطان، كما قال إبراهيم الخليل عليه السلام أيضاً: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: 44]، فلم يكن أبو إبراهيم يصلي للشيطان، ولا يصوم له ولا أحد من ولد آدم، إلاّ أنهم يسعون في مرضاته، فجعل فعلهم ذلك وسماه عبادة الشيطان، كما قال سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي ءَادَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يس:60].
[شياطين الإنس أنكى في الإغواء من شياطين الجن]
فالشياطين كثير، أولهم إبليس الذي أغوى أبا البشر آدم عليه السلام، ثم له أعوان من شياطين الإنس؛ لأنهم أشد بلاء، وأنكى في قلوب الآدميين من شياطين الجن، لأنهم من جنسهم، ومنهم وإليهم وإخوانهم وبني عمهم، ولذلك حذرنا الله منهم حين يقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، وقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23]، وقال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}[الحشر: 22] إلى آخرها.
فكل سلطان جائر فهو فرعون من فراعنة الآدميين، وكل عالم متمرد فهو إبليس من أبالسة الإنس، وكل إنسان عاصٍ فهو شيطان من شياطين الإنس، فمن أطاع واحداً من هؤلاء الثلاثة، فقد عبده من دون الله، كما قال الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] الآية، قال الله عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 ـ 23] يعني سبحانه بقوله وأزواجهم: أعوانهم من زراع وصانع وتاجر؛ لأن دولة الظالمين لا تقوم إلاّ بهؤلاء الثلاثة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله بعثني بالرحمة واللُّحمة([85])، وجعل رزقي في ظل رمحي، ولم يجعلني حراثاً ولا تاجراً، ألا إن من شرار عباد الله الحراثين والتجار إلاّ من أخذ الحق وأعطى الحق([86])))، ثم تلى هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9].
وقال عز وجل: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113] وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: ((ملعون ملعون من كثر سواد ظالم))، وقال: ((ملعون من رفع دواة ظالم))([87]).
فضرر عبادة شياطين الإنس أشد ضرراً على الإسلام والمسلمين من ضرر عبادة الصنم، وعبادة شياطين الجن، لأن الصنم جماد لا يأمر ولا ينهى، فضرر عبادته على عباده لا على غيره، وشياطين الجن ليس الآدميون يرونهم، ولا يسمعون كلامهم، وشياطين الإنس تأمر أصحابهم بسفك دماء المسلمين، وهتك حريمهم وأخذ أموالهم.
والعالم المتمرد يأمر أشياعه بالقول على الله بالجبر والتشبيه، وإبطال الوعد والوعيد، وتكذيب الرسل والأنبياء والأئمة الهادين، والأولياء والصالحين([88])، كما حكى عنهم رب العالمين، حين يقول سبحانه:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ ءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] قولهم على الله غير الحق من تعليم علمائهم لهم، وتحريفهم لقول الله عز وجل، كما قال سبحانه فيهم: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169]، وقال سبحانه: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]، وقال سبحانه: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101] وقال عز وجل: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا}[المائدة:41] الآية.
فالحشوية والإمامية، يدينون في كثير من أديانهم بدين اليهود والنصارى، علماؤهم وأتباعهم، وهم لا يعلمون، لأنهم اتبعوا أهواءهم وأدبروا عن علماء آل رسولهم([89])، فضلوا وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل، فالنبي عليه السلام يقول لهم: ((عليكم بأهل بيتي فإنهم لن يدخلوكم من باب ردى ولن يخرجوكم من باب هدى([90]))).
قالوا هم: نحن نجد معرفة الكتاب والسنة مع غير أهل بيت النبي أوسع وأكثر، وأوكد وأبين، رداً على الله، وتكذيباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فعداوة عالم السوء وضرره أشد من عداوة السلطان الجائر المعلن بالفسوق والفجور؛ لأن السلطان الجائر قد أظهر أمره للجاهل والعالم، فلا يتبعه (بعد إظهار جوره إلا ظالم مثله، لا يبالي بنفسه ولا بدينه، يريد الدنيا([91])) وزينتها، والذي لا يريد ([92]) لا يقاربه، وهذا السلطان وإن عادى أهل الحق وحاربهم، فهو مقر على نفسه بالظلم معترف بأن الذي يحاربه خير منه، وأقرب إلى الله.
والعالم المموه يدخل على أشياعه التهمة بإظهاره لهم التنسك والورع، فالعابد الجاهل يسرع إلى قبول قوله، وإلى طاعته وأمره ونهيه، لأنه قلده دينه، واتبع هوى نفسه، وأشركه في عبادته، وآثر طاعته على طاعة خالقه.
فمثل السلطان الجائر والعالم المموه، كمثل فرعون والسامري، لأن فرعون قال لهامان: ابن لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى، إذ كان عنده أن إله موسى ساكن في السماء وقارفيها.
وقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فنسي، فأظهر إليهم العجل فقال لهم: نسي موسى أن إلهه حاضر هاهنا، وأنه ذهب يطلبه في جبل طور سيناء، أفلا ترى أن السامري ألطف مدخلاً من فرعون !.
وكذلك من قال على الله عز وجل بالتشبيه اليوم فهو على سيرة فرعون والسامري، عليهما لعنة الله، وأنا أبين فساد قولهم في موضعه إن شاء الله تعالى.
[ذم المستضعفين الذين يعينون الظالم بأموالهم]
وقال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب([93]) عليهم([94]) السلام في كلام طويل: (وقديماً([95]) اتخذت الجبابرة دين الله دغلاً([96])، وعباده خَوَلاً([97])، وأمواله دولاً([98])،فاستحلوا الخمر بالنبيذ، والمسكر بالركاة([99]) والسحت بالهدية، يجبونها من سخط الله، وينفقونها في معاصي الله، ووجدوا على ذلك من خونة أهل العلم والزراع والتجار والصناع، والمتأكلين بالدين أعواناً، فبتلك الأعوان خطبت أئمة الجور على المنابر، وبتلك الأعوان قامت راية الفسق في العساكر، وبهؤلاء الأعوان أخيف العالم، فلا ينطق، ولا يتعظ لذلك الجاهل فيسأل، وبتلك الأعوان مشى المؤمن في طبقاتهم بالتقية والكتمان، فهو كاليتيم المفرد يستذله من لا يتق الله تعالى والسلام).
فلولا الأعوان ما ثبت لظالم دولة، (ولا لهم مقالة)([100])، ثم هؤلاء الزراعون والتجار والصناع يزعمون أنهم مستضعفون مقهورون مغلوبون فكأنهم لم يسمعوا قول ربهم عز وجل حين يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، فلم يقبل سبحانه عذرهم بل عذبهم على نصرهم للظالم بأبدانهم وأموالهم على الحق والمحقين، ثم قال سبحانه: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: ((لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن ([101]) عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعوا خياركم، فلا يستجاب لهم حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان الله المنتصر لنفسه، فيقول: ما منعكم إذ رأيتموني أعصى أن لا تغضبوا لي([102])))، فبإعراضهم عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر سلط الله عليهم الظالمين، فلم يستجب دعاءهم على ظالميهم؛ لأن أكثرهم نسب ظلم ظالميهم إلى خالقهم، فيقول: إن ظلمه هذا بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته عليهم، ثم هم في خلال ذلك يقولون: اللهم انصفنا من ظالمنا، فمن ينصفهم إذا كان بزعمهم أنه ـ عز وجل عن قولهم ـ الذي قضى عليهم بالظلم، فدعاؤهم على هذا الحال كما قال الله سبحانه فيهم، وفي إخوانهم حين يقول عز وجل: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر:50]، وقال: {إِلَّا فِي تَبَابٍ}[غافر:37]([103])، وكذلك يوم القيامة لا يدرون ممن يطلبون النصفة على من ظلمهم إذا كان الله الذي قضى عليهم بزعمهم كل ظلم نزل بهم من الظالمين، فمن المنصف لهم على من ظلمهم وتعدى عليهم؟ غير أنهم لا يدرون مع ذلك أن الظالم الذي يُرحم([104]) يوم القيامة أو المظلوم، إذا كان اعتقادهم أن خالقهم قبض قبضة باليمين، فقال: هؤلاء من أهل الجنة ولا أبالي، ثم قبض قبضة بالشمال، فقال: هؤلاء من أهل النار ولا أبالي، فليس يدرون الظالم من القبضة اليمنى أو المظلوم.
ثم يزعمون مع ذلك أن ليس للإنسان استطاعة على العمل وأن الفعل كله لله لا يسأل عما يفعل، فقد بين سبحانه أن المعاصي من أفعالهم لا من فعله، ولذلك أقسم لرسوله وقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)}[الحجر].
[القدرية مبطلون لوعيد الله عز وجل]
فإن سلموا من الجبر والقدر، ونزَّهوا الله من التقدير عليهم بظلم ظالمهم، لم يسلموا من إبطال وعيد الله عندما زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:((ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))، فإذا كان النبي يشفع لظالمهم لم يصلوا إلى النصفة، لأن ظالمهم من أمته، لم يظلمهم المشرك الذي ينكر نبوة محمد عليه السلام فافهمه، فإن القوم في عشواء مظلمة هائلة منقلة([105]) لا يفيقون منها أبداً حتى يرون، كما قال الله سبحانه: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ(8)} [التكاثر] وقال عز وجل: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].
فلو نسبوا ظلم ظالمهم هذا إلى الظالم، ونزهوا خالقهم من الجبر والتشبيه، لدفع عنهم ظلم الظالمين، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا} [الحج:38]، وقال:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، ثم قال سبحانه لرسوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وقال سبحانه:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، فأي استكبار وتجبر أعظم من قول مجبر قدري، ضال غوي يقول: إن المعاصي التي نفاها الله عن نفسه، ونسبها إلى ظلمة عبيده أن يقول: إنها من الله قضى بها وقدرها على خلقه؟! وهو يقول سبحانه: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:128]، فأكذبهم الله سبحانه بقوله([106]) ونفى عن نفسه ما نسبوه إليه بظلمهم، وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
قد ميز الله سبحانه بين تقديره وتقدير خلقه فقال سبحانه: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:3]، وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، ثم قال عز وجل: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)}[عبس]، وقال: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23]، وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2].
ثم قال عز وجل: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17]، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ}[المؤمنون:18]، فهذا تقدير الله عز وجل، لم يذكر أنه قدر المعاصي ولا الطاعة، إلاّ أنه سبحانه أمر بالطاعة، ونهى عن المعصية([107]) ونسبها إلى المطيع والعاصي، ونفاهما عن نفسه، ونسب سبحانه تقدير المعاصي، كما قال في الوليد بن المغيرة المخزومي، اللعين حين يقول: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)}[المدثر]، وقال سبحانه فيه أيضاً: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} [ن:15]، نسب سبحانه تقدير المعاصي كلها إلى فاعلها، وذكر أنها بعلمه، ليس بإرادته ولا بمشيئته، ولا بقضائه ولا بتقديره، ولا بأمره، ولا علمه الذي أدخلهم في المعاصي.
[الرد على من قال أن السنة ليست من الله عز وجل]
قالت الحشوية: إن السنَّة من رسول الله ليست من الله، تكذيباً لكتاب الله ورداً على الله، إذ يقول سبحانه لرسوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص:86]، وقال عز وجل:{قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15] وقال: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الأحقاف:9]، وقال سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)} [الحاقة]الآية.
بين الله سبحانه في هذه الآية وما أشبهها من الآيات، أن جميع ما جاء به رسوله من الكتاب والسنة، أنه منه ليس من رسوله وأن رسوله مبلغ لرسالته إلى خلقه، وأنه مؤدٍ أمانته إلى عباده، وأن الكتاب والسنة أنزلهما عز وجل عليه، على يدي رسوله جبريل الروح الأمين، كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}[الأعراف:54]، وقال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4]، وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، الأمر كله لله.
فرسله من الملائكة والإنس مأمورون، فالآمر خلاف المأمور، فرسله مأمورون كالملائكة، والجن والإنس، فإذا كان الله يأمر ويفرض، ويتعبد خلقه بما تعبدهم، لأنك تعلم أن الله فرض للبنت النصف، لقوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:11]، ثم فرض لبنت الابن النصف بالسنة.
فإذا قلت: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم([108]) فرض لابنة الابن النصف بغير أمر من الله، فقد جعلته نداً لخالقه؛ إذا كان يفرض ويتعبد، كفرض خالقه وتعبده، فهذا معبود ثانٍ، فالرسول عابد، والمرسِل مُتَعَبّد، بإجماع أهل العقول فالعاقل لا يقول أبداً إلاّ أن العبادة من العابد، والعابد غير المعبود، فالرسول داخل في قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، وقال له ربه: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14ـ15].
وأمَّا قول القائل: إنها سنة محمد، وكتاب محمد، فهو كقول الله عز وجل: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} [هود:17]، ثم قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد:38] كقوله لعيسى بن مريم{وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}[المائدة110]، فالله عز وجل الذي أنطق الميت على يدي روحه عليه السلام، ليس نبيه ولذلك([109]) التوراة والإنجيل، والزبور والفرقان، وجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله منه خلقها وأحدثها، وكونها عند إرادته عز وجل؛ لإنزالها على رسله، كما قال سبحانه: {يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأنبياء:2]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113].
قد بين سبحانه أن كتبه محدثة بإحداث الرسل، فالرسول محدث، وكتابه الذي جاء به لأمته محدثٌ أيضاً، فكلاهما محدثان ليسا قديمين، فالقديم الله عز وجل المحدث لهما ولغيرهما، وكلما نسب إليه من الحيوان والجماد، فهو مخلوق محدث مجعول؛ كوَّنه سبحانه بعد إذ لم يكن.
فقول الحشوية في سنة الله كقول الإمامية في كتب الله؛ إذ زعموا أن التوراة تأليف موسى، والزبور تأليف داوود، والإنجيل تأليف عيسى، والقرآن تأليف محمد عليهم السلام سواء سواء، فالحشوية تنكر هذا القول على الإمامية، ثم هم في خلال ذلك يقولون في سنة الله، كما قالت الإمامية في كتب الله، فمثل الفريقين، كما قال الله ([110]) حين يقول: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، وقال سبحانه لرسوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:44].
قالوا: يجب على الإنسان أن يأخذ بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة، كما أمر سبحانه جميع خلقه بذلك حين يقول سبحانه: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
[تفسير القضاء في كتاب الله]
[القضاء في كتاب الله]
على ثلاثة أوجه: قضاء خلق، وقضاء أمر، وقضاء علم.
* فقضاء خلق: كما قال سبحانه: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12].
* وقضاء أمر: قال الله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23].
* وقضاء علم: قول الله سبحانه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4].
يقول سبحانه: أعلمنا بني إسرائيل في الإنجيل أنهم سيختارون الفساد في أرضهم مرتين، ثم قال سبحانه:{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [الحجر:66]، يقول: أعلمنا لوطاً عليه السلام أن دابر عصاة قومه مقطوعٌ مصبحين.