وقوله سبحانه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ} [الأنبياء:87]، يقول: توهم وحسب أنا لا نأخذه بفعله هذا، عندما ذهب من قومه غضبان عليهم.

وإنما كان يريد ربه منه الرجوع إلى قومه؛ فلما ذهب منهم عاقبه ثم رحمه عندما استرحمه، إنه بعباده رؤف رحيم.

وأمَّا قوله سبحانه لرسوله صلى الله عليه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41] الآية، كان أيوب صلى الله عليه رجلاً كريماً يطعم الطعام؛ فلما كان ذات يوم غاب من منزله فراح منزله ضيف، فقدمت امرأته إلى هذا الضيف طعاماً بلبن؛ فلما راح أخبرته أنها أطعمت ضيفه لبناً؛ فغضب عليها إذ لم تطعمه بلحم، فحلف ليضربنها مائة ضربة.

(فلما سكن غضبه، ندم على يمينه، فوسوس إليه الشيطان، قال له: يا أيوب، أي نبي رأيته يحلف على شيء ليفعله ثم لم يفعله؟ فلما عزم على ضربها، قال له إبليس: ما فعلت هذه المسكينة الضعيفة، حتى تضربها مائة ضربة([587])) وهي لم تأت بفاحشة ولا بذنب ؟.

 ثم رجع إلى عقله، فإذا به يقول: إنها لا تستوجب هذا الضرب، فلم تزل نفسه توسوسه، والشيطان يسول له، حتى سقم ومرض وتعب تعباً شديداً، وهو محتمل صبور؛ فلما طال مرضه رحمه ربه وأمره أن يركض برجله، فلما ركض انفجر من ذلك الموضع ماء، فغمره، فاماط عنه كل سقم ومرضٍ كان به، فشرب منه، فأخرج كل ما كان في جوفه.

 ثم أمره ربه أن يأخذ ضغثاً من الحشيش، فيضربها به ضربةً واحدة؛ لأن  لا يحنث، كما قال سبحانه:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].

[خطايا الأنبياء عليهم السلام كلها على جهة الخطأ والنسيان]

هذه خطايا الأنبياء التي ذكرها الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه الذي أنزله عليه، وعرّفه أن خطاياهم كانت على وجه الغفلة، والزلل والنسيان، لا على وجه الاعتماد والتمرد والطغيان، كمعصية إبليس ومن تبعه من الجن والإنس؛ ثم مع ذلك كانوا يتوبون  ([588]) ساعتهم إلى خالقهم، ويطلبون منه الإقالة والغفران، فيجيبهم إلى ذلك ويغتفر ([589]) ذنوبهم، ويردهم إلى مراتبهم ومنازلهم؛ لعلمه بإخلاصهم ورجوعهم إلى ما يرضيه، وتجنبهم عمَّا يسخطه، وكذلك فعله عز وجل لجميع من تاب إليه من عبيده، وأقلع عن معصيته، ورجع إلىطاعته، كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء:88]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة:120]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [آل عمران:222].

صيرت الحشوية معصية الأنبياء ومعصية إبليس ومعصية ابن آدم سواء، حتى موهوا على جهَّال الناس بذلك، كتمويه معاوية عندما ضربته رياح اللقوة في وجهه، قال لهم: إن ابن آدم عرض للبلاء، إما مبتلى فيؤجر، وإما معاقب فيزدجر، فإن ابتليت، فقد ابتلي الصالحون، من قبلي، وإني لأرجو أن أكون منهم، وإن عوقبت، فقد عوقب الخاطئون من قبلي، ولا آمن أكون منهم؛ فقدموه بقوله هذا على أتباعه، وهو موقنٌ أن هذا الذي نزل([590])، نقمةٌ من الله وسخط، وأنه لا يزيح عنه ربه ذلك، إلاّ بتوبة نصوح، والإقلاع والإخلاص، وقد أبدى بعض ذلك إلى رفيقه، مروان بن الحكم، عندما قال له: أراك تبكي.

قال: فيَّ أحببتني([591]) فخفت أن تكون هذه عقوبة من ربي، ولولا هواي في يزيد، لقصدت قصدي.

 وإنما خاطب بهذه المخاطبة....([592]) على وجه التمويه، فلما صارت المخاطبة..... ([593])عنده، ولم يرد أن يبين له أمره على الحقيقة، كما وصفهم ربهم، حين يقول سبحانه: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء:108] الآية، وقال سبحانه......([594]): {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:26]، {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].

فقد وصفت لك في كتابي هذا خالقك وأولياءه، ممَّا وصف الله عز وجل نفسه وإياهم؛ لتسلم من بلائهم، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا(57)وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(58)}[الأحزاب:57، 58].

ـــــــــــــــــــ

[خاتمة]

قال أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري رحمة الله عليه: جميع ما في هذا الكتاب من أوله إلى آخره من مذهب الهادي إلى الحق أمير المؤمنين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين وسلم تسليماً طيباً([595]).

ــــــــــــــــــــ

 

 

تم الكتاب والحمد لله المنعم الوهاب

 

([1]) – التحف الفاطمية شرح الزلف الإمامية. 

([2]) قوله: (أشرف)؛ منصوب على أنه خبر كان في (لما كان التكلم).

([3]) هذه الجملة جواب (لما) التي في أول الكلام في قوله: (ولما كان التكلم) تمت.  

([4])- في (ب): بسم الله الرحمن الرحيم، قال أحمد بن محمد الطبري: الهدى من الله عز وجل هديان، أما الهدي الأول فالعقول. 

([5]) - ما بين القوسين سقط من (ب). 

([6]) - في (ب): قد بين.  

([7]) - في (ب): هوى غيره.  

([8]) - في (ب): ثم قال سبحانه.  

([9]) -ما بين القوسين ساقط من (ب).

([10]) - في (ب): ثم قال.  

([11]) - في (ب): سبحانه.  

([12])- في (ب): في أول القول، ثم قال سبحانه. 

([13])- في (ب): وأعرض عن ذكره. 

([14]) - في (ب): الثواب.  

([15])- في (ب):برأ. 

([16]) ـ أخرجه البخاري بلفظ: ((إن رحمتي سبقت غضبي)) 6/270 برقم 6986، ومسلم 4/2108 رقم 2751، والترمذي 5/549 رقم 3543 بلفظ ((تغلب))، وابن ماجه 1/67 رقم 189، وهو في مسند أحمد 2/242 رقم 7297، وفي صحيح ابن حبان 14/12 رقم 6143 بلفظ ((تغلب))، وفي المستدرك 4/277 رقم 7633 بلفظ ((وخلق رحمته تغلب غضبه))، والنسائي 4/417 رقم 7750 بلفظ((غلبت))، وذكره في كنز العمال 4/250 برقم 10385 بلفظ ((سبقت رحمتي غضبي))، وعزاه إلى مسلم عن أبي هريرة، وبرقم 10386 بلفظ((كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق: رحمتي سبقت عضبي))، وعزاه إلى ابن ماجه عن أبي هريرة.

([17])- هذا البحث لا يترتب على علمه أو جهله مسألة شرعية، ولا دليل منتهض، وأشف ما يؤخذ منه دلالة على النفي وإن لم تكن وافية هي قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْض}[يس:36] إذْ قال: خلق الأزواج كلها مع قوله تعالى:{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن:15]، والنار ليست مما تنبت الأرض، ولقائل أن يقول: النار من الشجر، والشجر مما تنبت الأرض؛ مع القياس على سائر الحيوانات المادية، وهذا دليل على وجود الإناث فيهم.

([18]) - في (ب): ذكر سبحانه أن في كل ما خلق ذكوراً وإناثاً سوى الملائكة، والجن.  

([19])- كذا في (أ) و(ب)، ولعل الصواب: بشبيه.

([20])- ما بين القوسين سقط من (ب). 

([21]) - جملة لعنه جواب لما..  

([22])- في (ب): خالقه. 

([23]) - في (ب): حين يقول سبحانه.  

([24]) - في (ب): كتابه.  

([25])- في (ب):أول من عصى. 

([26])- في (ب): رسوله. 

([27]) - سيأتي تخريجه.

([28]) - الصواب والله أعلم: أن المعنى لا يزال أهل الباطل مختلفين فيما بينهم، لكن من رحم ربك لا يختلفون وقد أشار المؤلف رحمه الله بإستدلاله بهذه الآية إلى أن الرحمة جاءت في القسم المخرج من أهل الاختلاف فتأمله، محمد بن محمد بن إسماعيل مطهر،حاشية من (ب).  

([29]) - في (ب): كلهم.  

([30])- في (ب): لم يوسعهما. 

31 / 44
ع
En
A+
A-