فلما دله عقله على الحق المبين، استغفر ربه من خطيئته، فأقاله ربه من عثرته، وعفى عنه زلته، وذلك قوله:{وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}...إلى قوله: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص:24ـ26].

فداود لم يسل أوريا أن ينزله على زوجته؛ إنما كان يذكرها بينه وبين نفسه؛ فمن هذه الجهة حكى ربه عنه حين قال: {أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23].

ونظير هذا في كتاب الله قول الله في صفيه آدم وعدوه إبليس حين يقول سبحانه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]؛ فآدم لم ير شخص إبليس ولم يسمع كلامه (ولكن لما أن قال له ربه ولزوجته: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [الأعراف:19]، داخلته الوسوسة، عندما نهاه ربه عن أكلها، فلم تزل الوسوسة تعمل فيه، حتى ألزمه أكل الشجرة، فلو أنه لم يأكل الشجرة، لم يغصبه إبليس على أكلها، ولم يقدر على إدخاله في المعصية جبراً، فافهم ذلك)([564]).

فهذا العتب، الذي عتب الله عز وجل على داوود عليه السلام، وتعريف الله له بالحق، الذي كلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لزيد بن حارثة: إلزم زوجتك ولا تطلقها؛ وذلك قوله عز وجل:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37].

 فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا أخذ زوجه، وضمَّها إلى زوجاته، أنه يلزم وليه ([565]) العتب والعنت.

فصيَّرت الحشوية قول رسول الله لزيد: أمسك عليك زوجك، تأديباً له؛ فهذا فخر لرسول الله وذخيرة له، عند ربه، إذ منع نفسه عن اتباع الهوى، وردها إلى النصفة والتقى، كما قال سبحانه:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، فبقوله: أمسك عليك زوجك، كان ([566])   فضله على أخيه  داوود؛ لأن  داوود لم يقلع عن ذكرها إلاّ بعد تشبيه الله تعالى  له بدلاً له، غيره، مما يوافق العقل.

ومحمد استدل على ما يوحيه الحق، بعقله، واستعمله عن فقد الدليل([567])، وعدم المعلم المبين، (([568])ولذلك قالت العلماء: إن أفضل الأنبياء إبراهيم، ومحمد على جميعهم السلام؛ لأن  محمداً عليه السلام خلفه في قوم، كانوا مقبلين على عبادة الأصنام، فنشأ فيهم؛ وهم أهل بيته: أعمامه وعماته، وأخواله وخالاته، وبنو عمه، وكل يقول بعبادة الأصنام، وشرب الخمور، وارتكاب الشرور، وهو ساكن معهم، ومجانب لأفعالهم، وماقتٌ لهم، وصائن لنفسه من جميع الدنس؛ فأقام على ذلك أربعين سنة؛ فلما علم عز وجل صبره على ما يرضيه، قلده تبليغ رسالته إلى جميع عباده؛ وكان القوم على صنفين: صنف منهم العرب، أصحاب كلام وبلاغة، وشعر وفصاحة.

 والصنف الثاني أصحاب التوراة، والزبور، والإنجيل، كتب الله التي أنزلها على رسله، فيها النور والبرهان؛ غير أن أهل الكتاب حسدوه، وأنكروا ثبوته ([569])، مكابرة لعقولهم، وهم عارفون، وموقنون أنه رسول الله إليهم، كما قال عز وجل فيهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ  عَلَى الْكَافِرِينَ}، إلى قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:89ـ90].

وقال سبحانه فيهم: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقره:146].

وكانت معاملة هؤلاء أشد عليه صلوات الله عليه من معاملة المشركين؛ لأن  المشركين أكبر ما معهم من الاحتجاج، ما ذكر الله عز وجل عنهم، إذ يقول سبحانه فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[المائده:104].

 وقال عز وجل في أهل الكتاب: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}[البقرة:146]، وقال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ  عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة:89].

ثم قال سبحانه لرسوله، عندما زعموا [أنه] ما أنزل الله على بشر من شيء: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا ءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91].

قوله سبحانه تجعلونه قراطيس تبدونها، كانوا يأخذون من التوراة ما أرادوا من متشابهها ؛ ليموهوا به على جهلة أتباعهم، ويلبسوا عليهم، كما قال سبحانه لرسوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71].

[مشابهة الحشوية لأهل الكتاب]

وبسيرة هؤلاء أخذت الحشوية في فعلهم، بمتشابه القرآن، وجعلوه إماماً وأُماً للمحكم، خلاف ما يقول به سبحانه: {مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7].

فالله جعل المحكم إماماً للمتشابه، وجعلت الحشوية المتشابه إماماً للمحكم، اتباعاً لفعل اليهود، وحسداً لآل محمد، كحسد اليهود لمحمد سواء سواء، فكانت معاملة اليهود لمحمد هذه المعاملة، بعد معرفتهم أنه رسول الله إليهم، من قبل خالقهم على ما وجدوه في كتب الله، وسمعوه من رسل الله؛ فكان عز وجل يقويه عليهم بما أنزل([570]) عليه من النور والبرهان.

فتلبيس هؤلاء أشد على جهَّال الناس من تلبيس المشركين؛ لأن  هؤلاء يقرؤن التوراة، والإنجيل، والزبور؛ ثم يجتمعون في كنائسهم، وبيعهم فلا يقدر أحد من المسلمين أن يمنعهم من قراءتها؛ لأنها كتب الله، بل كثير ممن يدعي الإسلام من الحشوية يأخذون بقولهم في أمور كثيرة من أهل التزويج والذبائح، فلا يقولون بتزويج المشركات، ولا بأكل ذبائحهم؛ ويرون تزويج اليهوديات والنصرانيات، فهم في خلال ذلك يرون قتلهم وسبيهم، ففعلهم كله تخليط، وتلبيسٌ، وتمويهٌ، لا يرون قتل من أقرَّ بنبوة محمد، ويرون التزويج إليهم، فرأيهم في تزويج اليهوديات، والنصرانيات، والمسلمات، واحد، وفي قتلهم وسبيهم مختلف؛ إنما هو إيمانٌ وكفرٌ، فليس بينهما شيء ثالثٌ، فمن دخل في الإيمان، فهو في عداد المؤمنين، يجب له ما يجب للمؤمنين، ويحرم عليه ما يحرم عليهم، ومن خرج من الإيمان، فهو داخل في الكفر، يحل للمؤمنين دماؤهم وأموالهم، كما قال الله عز وجل للمؤمنين: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4]، وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} [التوبة:5]، وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:132].

 وإنما أصل كل كفر المعصية لله، وكذلك اليهود عصوا خالقهم في رسوله محمد، وهم به مقرون؛ فلما كذبوه في رسوله أنه ليس رسولاً إليهم، كما قال سبحانه: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف:158]، وجب قتلهم.

 فمن أنكر قول رسول الله في شيء واحد مما جاء به، فقد حل دمه للمسلمين، وحرم عليهم نكاحه، وذبيحته، وتزويجه، وموالاته، كائناً من كان، يهودياً أو نصرانياً، أو مجوسياً أو مشركاً، أو معاهداً، فافهمه.

فلم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد هؤلاء كلهم، حتى أظهر دين الله عليهم، وأذلهم، وأخزاهم، فبهذه الخصال قالت العلماء: إنه أفضل الأنبياء.

 ثم جاءت أخبار عنه عليه السلام، من جده عليه السلام الأوَّاه الحليم.

 روى محمد بن القاسم بن إبراهيم، عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه سئل عنه، وعن إبراهيم أيهما أفضل ؟ فقال صلوات الله عليهما: ((أنا حسنة من حسنات إبراهيم))، ثم قال محمد بن القاسم: لما نزلت([571]) هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، قالوا له أصحابه([572]): كيف نصلي عليك يا رسول الله؟.

 قال: ((قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت، وباركت، على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد([573]))).

قال لهم: قولوا كما صليت؛ لم يقل أفضل مما صليت؛ إلاّ قال: مثل ما صليت على إبراهيم.

وروى([574]) رجل غيره، أن رجلاً قال لرسول الله: يا خير خلق الله.

قال: ((ذلك إبراهيم خليل الله))؛ صلى الله عليهما.

[رجوع إلى ذكر داوود (ع)]

ثم نرجع إلى ذكر داوود، صلى الله عليه: فلما بان له أن ذكر هذه المرأة يغضب الله، أعرض عن ذكرها، وكان أوريا صاحب جيشه ([575])  على حرب المشركين؛ كعلي لمحمد، على جميعهم السلام؛ فأقاما ما شاء الله من ذلك، حتى قتل أوريا، قتله المشركون؛ فلما خرجت المرأة من عدتها، أذن الله لخليفته بتزويجها؛ كما أذن لمحمد بتزويج زينب، بعد خروجها من عدة زيد، سواء سواء؛ لم يكن من داوود في أوريا وزوجته، إلاّ ما ذكرت لك.

 لا تلتفت إلى كلام الحشوية في خليفة الله، وصفيه داوود؛ لأنهم نسبوا إليه من الفعل القبيح ما لا يليق به، وكذلك جاء الخبر في امرأة العزيز: أن يوسف النبي صلى الله عليه تزوجها، بعد موت زوجها؛ لأنه روي أنها قالت: يا نبي الله، لي إليك ثلاث حوائج: تدعو الله لي يرد عليَّ بصري، ويردني شابةً بكراً، ويأذن لك الله بتزويجي؛ فأجابه الله إلى ما سألت، وما ذلك على الله بعزيز، فهو يعطي أولياءه ما سألوه بطاعتهم له؛ لأنه لم يخلق الدنيا والآخرة، وما فيها من النعم، إلاّ لأوليائه الصالحين، كما قال سبحانه لرسوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]).

[ذكر خطيئة سليمان عليه السلام ]

 وأمَّا قوله سبحانه لرسوله، في صفيه سليمان بن داوود عليهما السلام، حين يقول: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34]، كان سليمان لما تزوج بلقيس، ملكة سبأ، وبنى بها، أقامت معه ما شاء الله من ذلك؛ فلما كان ذات يوم، قالت: يا نبي الله قد كنت أعظم هذا النهار، قبل دخولي في الإسلام، أفتأذن لي أن أذبح ثوراً، أوكبشاً، أو أنحر جملاً، لتعظيم هذا النهار ؟.

فمنعها عن ذلك، فبينما هما كذلك في هذا الحديث، سقطت جرادة في حجرها، فأخذتها، فقلعت رأسها، فغفل عنها رسول الله، ولم يزجرها، ثم خرج منها إلى ساحل البحر، ليتطهر ([576])  للصلاة، فنزع خاتمه من يده، فوضعه جنبه، فخرج حوت من البحر، فالتقم الخاتم، ومرَّ به في البحر؛ فلما ذهب عنه الخاتم، أدبر عنه أهل طاعته، وبقي وحده، فلحق بالملاحين يعمل معهم في البحر، كل يوم بحوتين، فحوت يشتري به دقيقاً، وحوت يشويه ويأكله؛ فأقام على ذلك أياماً كثيرة، فلما كان ذات يوم، شق حوتاً ممَّا كان يأخذ في إجارته، فإذا بخاتمه فيه، فلما لبسه، وصار الخاتم في يده، أقبل إليه أهل طاعته، ومضى إلى منزله؛ فلما أوحشه([577]) الجسد الذي كان جلس على كرسيه، هرب منه؛ وهو صلى الله عليه، كان يستغفر الله في هذه الأيام، من خطيآته([578])، ويسأله قبول توبته، كما قال الله سبحانه:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)}، إلى قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:35ـ40].

وأمَّا الجسد فالله أعلم ما كان، أمن الجن أم من الإنس ؟ غير أنه كان بينه وبين قوم سليمان حجاب؛ وهم يسمعون كلامه، ويحسبون أنه سليمان  ([579])، والإنس لا يسمعون كلام الجن.

(([580])وأمَّا قوله سبحانه: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [ص:34]، نسب عز وجل إلى نفسه في قوله؛ إذ كان قادراً إلى أن يحول بينه، وبين الجلوس على كرسي سليمان؛ والكرسي فهو ملكه، وقوله وألقينا، كقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14]، {أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ}[مريم:83]، وكقوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت:25]، و{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]، و{زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:4]، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأنعام:129].

 يعني سبحانه في هذه الآيات وما أشبهها من الآيات: التخلية والإمهال، وتأخير العقوبة؛إذ هو قادر على إهلاكهم، كما قال سبحانه: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58].

وأما قوله سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص:34]، نسب فتنة سليمان إلى نفسه، وكانت من سليمان؛ فعل سليمان خلاف فعل خالقه.

إنما نسبها عز وجل إلى نفسه؛ لأنه عز وجل الذي ركب حب امرأته في قلبه، بالشهوة التي ركبها فيه من شهوة النساء وحبهن، فتلك المحبة التي منعت سليمان عن زجره إياها؛ لأنه لو كان ذلك الفعل من غيرها، لفطن أن ذلك ممَّا يغضب الله، إلاّ أن المحبة التي منعته، فلم تطاوعه نفسه أن يعصيها؛ للوصلة والمحبة الذي بينه وبينها، ما ليس بينه وبين غيرها، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:((حبك للشيء يعمي ويصم([581])))؛ {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}[النساء:129]، ثم قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14].

حذرهم عز وجل من الزوجات والأولاد؛ لما ركب الله فيهم لهم من المحبة والمودة، ما لم يركب فيهم لغيرهم، كما قال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].

فبهذه الذي تكون بين الرجل والمرأة [من] المحبة([582]) والرحمة، منعت امرأة فرعون زوجها فرعون من قتل موسى عليه السلام، وهو قد قتل جملاً كثيراً، مخافة من موسى أن يزيل ملكه؛ فلما وقع في يده الذي أخبره ثقاته؛ لأنهم أجمعوا على مقالة واحدة عند مولد موسى أنه قد ظهر، ولم يبينوا أنه هو بعينه؛ إلاّ أنهم قالوا: إنه قد خرج من بطن أمه، ولم يعرفوه ولا أمه بأعيانهما؛ فلما صح له أنه قد ظهر الذي كانوا يتوقعون ظهوره، ثم لمَّا صار إليه لم تدعه المحبة التي كانت في قلبه لامرأته، عندما قالت له: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9]؛ فترك موسى، مساعدة لها وإعظاماً لحقها؛ للمحبة الراسخة في قلبه لها؛ ولذلك قال الله سبحانه لأمه، حين يقول: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:7]؛ لأنه سبحانه علم أن امرأة فرعون، إذا وقع موسى في يد فرعون، أحبته؛ لقول الله عز وجل:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]، وأنها لا تريد قتله، وأن فرعون ساعدها على تركه من القتل؛ فجاء الأمر منها ومن زوجها في كليمه موسى، على ما علم الله، وسلم من القتل ورد إلى أمه، كما قال عز وجل: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ}، فقالت أخت موسى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ(12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(13)} [القصص:11ـ13]؛ فبتوفيق الله وتسديده، وعونه، وتأييده، ولطفه، سلم موسى من القتل، على يدي أمةٍ طاهرة من إمائه، وأعرض عدوه عن قتله، اختياراً منه لمساعدته لزوجته، لا اضطراراً ولا جبراً من خالقه؛ فلم يكن من الله جبر في شيء من أمر نبيه موسى، إلاّ امتناع الرضاع؛ فإن ذلك كان خيراً، إذْ حال بينه وبين رضاع غير أمه، وذلك لما كان وعد أمه برده إليها، كما قال سبحانه: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}[القصص:7]، رحمةً منه بها وبولدها، وشفقة عليهما وقال: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12].

كذلك فعل العزيز كفعل فرعون، سواء سواء؛ قالت امرأته: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25]، فحبسه رضاء لها، بعد أن بان له أنه بريء مما نسبت إليه زوجته، كما قال سبحانه: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35]؛ ثم قالت له عندما كرهت حبسه: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف:51].

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:((هلاك أمتي في ثلاث: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه))([583])، ثم قال صلى الله عليه:((ثلاث من كن فيه فقد استكمل خصال الإيمان: الذي إذا قدر، لم يتعاط ما ليس له، وإذا رضي، لم يدخله رضاه في باطل، وإذا غضب، لم يخرجه غضبه من الحق)).

فإذا سلم إنسان من هذه الثلاث، فهو سالم من آفات الدنيا، وعذاب الآخرة).

[ذكر خطيئة نبي الله يونس (ع)]

 وأمَّا قوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:37] الآية، كان يونس عليه السلام رسولاً إلى قومه، فأقام يدعوهم إلى طاعة الله؛ فلما عصوه، أمره الله عز وجل أن يخرج من بينهم؛ لينزل عليهم عذابه، فخرج منهم؛ فلما رأوا العذاب مقبلاً إليهم، تضرعوا إلى خالقهم، وسألوه الكشف عنهم وتابوا وأقلعوا عن المعاصي، فكشف عذابه عنهم، فقال ([584])  سبحانه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].

فلما رأى يونس عليه السلام سلامتهم من عذاب ربهم، مضى منهم غضباناً عليهم، وظن أن الله عز وجل لا يؤاخذه([585]) بذهابه عنهم، حتى ركب في السفينة مع قومٍ في البحر، فلما صاروا فيها وقفت فلم تسر، فقال أهلها: فينا ذو خطيئةٍ.

فقال لهم يونس: أنا المخطئ المذنب.

قالوا له: أنت رسول الله، والمخطيء غيرك.

 قال لهم: تساهموا بنا.

 فإذا بالسهم وقع عليه، فلفَّ رأسه في كسائه وطرح نفسه في البحر، فالتقمه الحوت([586])؛ فلما صار في بطنه نادى حينئذ في الظلمات: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:87]؛ فأقام ما شاء الله من ذلك في بطنه، وهو يستغفر الله ويسأله قبول توبته، فاستجاب له ربه وأخرجه إلى ساحل البحر: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ(145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ(146)}[الصافات:145ـ146]، وهو الدبا.

 فلما صح جسمه رده إلى قومه، كما قال: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، يقول: يزيدون على مائة ألفٍ، ولولا أنه استغفر ربه، لتركه ربه في بطن الحوت إلى يوم الحشر، كما قال سبحانه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ(143)لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(144)}، وقال: {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:149]، يعني العراء: [عراء] الآخرة، ليس عراء الدنيا.

30 / 44
ع
En
A+
A-