ألا ترى ما قال عز وجل، إذ يقول فيه: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}[يوسف:76]، قال سبحانه: كدنا أن نبطش به ونعاقبه؛ إذ نسب إلى إخوته السرق، ولم يسرقوا، وانتزع أخاه منهم بهيبة الملك، فكره الله عز وجل ذلك لنبيه، فقال لرسوله محمد، صلى الله عليه وآله وسلم: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76].

قامت اللام، التي في قوله: (ليوسف) مقام الباء؛ المعنى فيه: كدنا بيوسف بالعقوبة؛ فهذه من زلـله([540])  عليه السلام.

وكذلك بين سبحانه لرسوله خبر يوسف، أنه غير مملوك للذي اشتراه، في قوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23]، وقال سبحانه: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25]، لم يقل سيده، كما قال: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النساء:141].

[تفسير ما هو المراد بقول موسى: رب أرني انظر إليك، والرد على الحشوية]

وأمَّا قوله سبحانه في كليمه موسى عليه السلام، حين يقول: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] الآية، لم يرد موسى النظر إلى ما ذهبت إليه الحشوية، عندما زعموا أنه سأله ينظره ويراه ببصره، جهرةً، محدوداً مصوراً، كما سأله قومه، إذ قالوا له: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153].

فكيف يجوز أن ينسب إلى كليم الله، ووجيهه وصفيه، موسى، هذا الشرك ؟! وهو ينهى قومه عن هذا القول بعينه، عندما قال لهم: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138].

ألا ترى أنه أخرجهم من المعرفة بالله؛ إذ سماهم جهَّالاً، ونفى عنهم العلم؛ فليس موسى يرضى لنفسه هذه المنزلة الدنية، وهو قد كررها ([541])  لقومه، ولم يكن ليأتي شيئاً، ينهى قومه عنه، كما قال شعيب عليه السلام([542]): {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ}، إلى قوله: {وإليه أنيب} [هود:88].

قال سبحانه لمن فعل مثل ما قالت الحشوية: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].

موسى أعلم الخلق بالله، أن يسأل ربه أن يراه ببصره، وهو يسمع قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103].

وأعجب من هذا كله، أنهم زعموا أن موسى سأل ربه، أن ينظره، فلم يجبه إلى ذلك، وأن محمداً رآه ببصره، عندما أسري به إلى السماء السابعة!.

 فمن أي جهةٍ ـ ليت شعري ـ فرقوا بينهما، وكلامهما ([543])  مكين، عند خالقه؟! لا محمد ـ ولله الحمد ـ رأى ربه ببصره، ولا موسى سأل  ([544]).

فالله أبطل قولهم في ذلك كله، وبين كذبهم في كتابه، الذي أنزل على رسوله.

إنما سأل موسى ربه  أن يريه آيةً من آيات يوم القيامة([545])، يحتج بها على قومه فقال له ربه: {لَنْ تَرَانِي}[الأعراف:143].

يقول: إنك لن ترى مني تلك الآية، ولا تقدر أنت على نظر هذه الآية؛ ولكن سأهبطها على هذا الجبل، فإن استقر الجبل مكانه، بعد أن تقع ([546])   الآية، فسوف تقدر على النظر إليها؛ فلما تجلى ربه للجبل، يقول: أظهر الآية على الجبل، تقطع الجبل، وساخ وذهب؛ فلما رأى موسى ما نزل بالجبل، من الأمر العظيم، والهول الجسيم، هاله الأمر وأفزعه، وخر صعقاً، فلما أفاق، قال له ربه: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144].

قال له: الآيات التي معك تكفيك، فلا تحتاج إلى غيرها، ففيهن الكفاية لمن أراد الإيمان، وكره الطغيان.

وقوله عليه السلام لربه: تبت إليك، يقول: كان الواجب عليَّ أن لا أسألك إظهار شيء، لا تظهره في هذه الدنيا، وإنما التجلي يكون على وجوه: يقول القائل: قد تجلى هذا الشخص، يقول: إنه رآه ببصره.

ثم يقول: تجلى لي هذا الأمر، وهذا الكلام، يقول: إنه سمعه بإذنه ([547]).

وليس تجلي الخالق كتجلي المخلوق  ([548])، وقد تجلى لنا ([549])  بآياته ودلالاته، ووحيه وبرهانه، ولولا ذلك، لم نهتد إلى معرفته، بغير هداية منه، فبه سبحانه عرفناه، واهتدينا إلى ما هدانا إليه وأدركناه؛ لأن  الدرك دركان: درك بالقلب والعقل، ودرك بالبصر، فدرك القلب أوكد من درك العين؛ لأن  العين ربما رأت الشيء شيئين، إذا تباعد منها، كما قال الله سبحانه: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً}[النور:39] الآية؛ فدرك القلب لا يشبه خالقه بمخلوق، ولا ينسب ظلمهم إليه، ولا يستقبح أمره، ولا ينكره أبداً، (فافهم([550]) إن شاء الله.

لأن درك العين قد استوى فيه أهل العقول وغيرهم من الحيوان؛ فأدرك أهل العقول بعقولهم وألبابهم وتمييزهم، ما لم يدرك الحيوان، ولذلك وجبت عليهم من معرفة خالقهم وعبادته، ما لم تجب على سائر الحيوان، فأدرك أهل العقول خالقهم، على غير تحديد، ولا إحاطة في ذلك([551])  نفوا عنه شبه خلقه، ووصفوه بصفته، التي وصف بها نفسه، من أنه واحدٌ أحدٌ، ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه عدل في جميع أفعاله؛ ثم عبدوه بعد هذه المعرفة حق عبادته، سبحانه وتعالى عمَّا يقول المشبهون فيه علواً كبيراً.

 وإنما صرف الله عز وجل هذه الآية عن كليمه موسى إلى الجبل، شفقة منه على موسى؛ لعلمه بها أنها تدمر كل ما صادفت؛ إذ هي آية آخرية ليست دنيائةٍ ([552])، ودليل ذلك أن الدرك لا يكون إلاّ منها، كما قال سبحانه: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14]، وقال سبحانه:{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(21)وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22)}) [الفجر:21ـ22].

وقول المشبهة: إن محمَّداً رأى ربه في دنياه؛ لقوله سبحانه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13]، إنما ذلك جبريل، رآه على صورته؛ وإنما كان يراه على صورة دحية الكلبي([553])، رجل من الأنصار، في طول ما أقام في نبوته؛ فما رآه على صورته إلاّ مرتين: مرةً في الأرض يوم أحد، ومرةً في السماء، كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13]؛ فأبطل الله سبحانه قول من قال: إنه رأى ربه مرتين، فدل سبحانه بقوله: نزلة أخرى، أنه رأى جبريل، مع ما بين في آخر آياته، حين يقول: {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]، وآياته غيره تبارك وتعالى.

( ([554])  فليت شعري، ما تأويل قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}[الأنعام:103] عند المشبهة! إذ يزعمون أن محمداً أبصره في هذه الدنيا، وهم يرونه في الآخرة بأبصارهم.

 فقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}[الأنعام:103] تحقيق الموحدين أن الأبصار لا تدركه في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن  أهل التوحيد أجمعوا كلهم على أن الأبصار ما أدركت خالقهم في الدنيا؛ ثم الآية تؤكد قولهم: لا يدرك ببصر في الآخرة؛ لأن قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}[الأنعام:103] ينتظر ([555])  فعل الماضي، وفعل المستقبل، كما ينتظم قوله: {لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص:3]، المعنيين كليهما، وقد ذكر الله أن قوماً قالوا في الدنيا: اتخذ الله ولداً؛ ولم يقل سبحانه: إن أحد([556]) من خلقه يقول إن خالقهم يولد فيما يستقبل من الآخرة.

ومعنى قوله: {لَمْ يَلِدْ}، و{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} شيءٌ واحد، ينتظم الحرفان المعنيين جميعاً: معنى الدنيا والآخرة، فافهمه.

 فسؤال موسى عليه السلام ربه في هذه الآية، كسؤال أبيه إبراهيم، إذ قال لربه: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقره:26]، فأراه ما سأل؛ إذ سأله إظهار ما يظهر في هذه الدنيا، ولم يعب عليه ربه، كما عاب على كليمه موسى عليهما السلام.

روى الهادي إلى الحق أمير المؤمنين عن أبيه أمير المؤمنين [عليهما السلام] أنه قال: (أوحى الله إلى موسى بن عمران أتدري لما اصطفيتك على الناس برسالتي، وكلمتك تكليماً ؟

قال: لم يا رب ؟

قال: لأني اطلعت على قلوب عبادي، فلم أجد فيهم أشد تواضعاً لي منك).

فتقول المشبهة: إن علم الله بطل في كليمه، حتى جاء بخلاف ما علم الله منه، واصطفاه من شبهه بخلقه، عزالله وتعالى.

زعمت المشبهة: أنَّ دكّ هذا الجبل من جهة معبودهم، عندما ظهر عليه، فما يؤمنهم أن يدكهم، عند ظهوره إليهم للنظر إليه، كما تدكك الجبل، عند نظره إليه، عندما زعموا أنه يظهر إليهم، ويرونه يوم القيامة، محاطاً محدوداً.

وباب آخر: أنَّ الجبل ليس له عينان، يبصر بهما ما أراد، ولا له عقل يميز به بين الخالق والمخلوق، وتعالى الله عن قول المشبهين علواً كبيراً؛ وإنما هذه الآية يظهرها ربها في آخر الدنيا، قبل البعث والنشور، كما قال الله سبحانه لرسوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] الآية، وقال سبحانه:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47] الآية، وقال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:5]، وقال ذو القرنين رحمة الله عليه: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98].

فليس يظهر رب العالمين هذه الآية، إلاّ في آخر الدنيا، كما قال عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر:68] الآية، عند إبادته للدنيا؛ ولذلك عاب على كليمه موسى، عندما سأله إظهارها قبل أوانها وحينها.

 وقوله سبحانه: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وقال:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}[النساء:153]، بين سبحانه بقوله: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، أنهم ظلموا أنفسهم، وتعدوا، وسألوا موسى أن يصف لهم خالقهم، بخلاف ما وصف به نفسه، إذ يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}[الأنعام:103].

وأمَّا قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]،{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم:52]، فالله عز وجل خلق هذا الكلام، أسمعه نبيه، ففهم نبيه أن الكلام والنداء خلق من الله، والمنادي هو الله سبحانه، كما نادى أبويه من قبله حوَّى وآدم، وأباه إبراهيم من بعد، عليهم السلام، إذ يقول سبحانه لرسوله محمد: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف:22]،{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ}). 

وأمَّا قولهم: إنه لا يجوز أن نقول لأحد من المخلوقين: إني أنا الله لا إله إلاّ أنا فاعبدني، فجاز هذا القول لكل من يتلوا كتاب الله، إلاّ محمداً([557])؛ لأن  محمداً، ومن تبعه، يقول كل من قرأه: إني أنا الله لا إله إلاّ أنا فاعبدني، كما جاز له أن يقرأ: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم:19]، والمخاطب لمريم بهذه المخاطبة جبريل عليهما السلام، والواهب لها عيسى جالود([558]) جبريل، كذلك خاطب جبريل محمداً فقال له: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ}[الزمر:41]؛ فالمنزل خالقه، والمخاطب لمحمد رسوله الأمين.

[ذكر وجوه الوحي]

وإنما الوحي الذي ذكره الله في كتابه هو على أربعة وجوه: كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى:51] الآية.

 بين سبحانه أنه كلم جميع رسله، مثل ما كلم موسى، ثم فسر كيف وصل كلامه إليهم ؟ فقال: إلاّ وحياً، مثل ما كان منه سبحانه إلى خليله إبراهيم، إذ يقول لابنه عليهما السلام: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] الآية.

ثم قال سبحانه: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}[الشورى:51] (مثل ما كان إلى آدم وحوَّى، وإبراهيم وموسى، عليهما السلام.

 وقال: أو من وراء حجاب)([559])، إنما كان الحجاب بينهم وبين موضع الكلام؛ لأن الله سبحانه لا يحجبه شيء، ولا يحويه شيء ولا يحيط به شيء، ولا يخلوا منه شيء، وهو أقرب إلى كل شيء من الشيء إلى نفسه، كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، يقول: إنما هو أعلم بهم من أنفسهم، كما قال سبحانه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].

ثم قال:{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}[الشورى:51]؛ يعني: جبريل، فجبريل يسمع هذا الوحي، الذي أسمعه رسل الإنس من رسل الملائكة؛ فالرسول الملك الأعلى قد ثبت لك خبره، أنه يصل وحي الله إليه على وجه القذف في صدره، والتقرير في عقله، والترتيب في لبه، لا معاينةً بالبصر، ولا مسامعة بالأذان، ولا ملامسة باليد، إلاّ مقدراً مجعولاً، مركباً في قلبه من خالقه، العزيز القدير، المهيمن الحليم الجبَّار.

والوحي الرابع فهو إلهام، كما قال سبحانه في النحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68] الآية.

 وأمَّا قول موسى:{إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}[يونس:88] الآية؛ لم يرد عليه السلام بقوله هذا أنه آتى فرعون الملك([560]) الذي ذكر سبحانه، أنه آتاه أنبياءه وأولياءه؛ إنما قال: وأموالاً، يعني: كل ما أنبتت الأرض من الذهب والفضة والحبوب، والثمار والدَّواب والأنعام؛ لأن  الملك لا يقوم إلاّ بهذه الأشياء، وجاز أن يقول: آتيت فرعون، على مجاز الكلام (([561]) إذ لم يحل بينه وبينها؛ بل أباح لهم وأغدق عليهم السماء، وأنبت لهم ما قامت به سلاطينهم، واستوت به أمورهم، وأمرهم أن يصرفوا هذه النعم كلها فيما يرضيه، فصرفوها فيما يسخطه، كما قال موسى: ربنا ليضلوا عن سبيلك؛ المعنى لئلا يضلوا، فقد ضلوا؛ ربنا اطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم، كما ضلوا وكفروا بنعمتك؛ فلا يؤمنوا، يقول: لأنهم لا يؤمنون بك، اختياراً منهم للكفر، لم يقل عليه السلام: حتى لا يؤمنوا؟ وكيف يقول: حتى لا يؤمنوا، وهو يدعوهم دائباً إلى الإيمان، كما قال له ربه:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(17)فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى(18)وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19)}[النازعات:17ـ19]، ويقول له: أرسل معنا بني إسرائيل، ولا تعذبهم، ويقول لهم: ويلكم لا تفتروا على الله كذباً، فيسحتكم بعذاب، وقد خاب من افترى، وقد خاب من حمل ظلماً).

[بيان أن خطيئة داوود (ع) كانت ذكراً في نفسه فقط]

وأمَّا قوله سبحانه لرسوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21]، كان داوود صلى الله عليه، عندما وقع بصره على امرأة أوريا، رحمة الله عليه، كان يذكرها دائباً بينه وبين نفسه، فيقول له لو علمت أن هذه المرأة على هذه الصفة، لتزوجتها قبل أن يتزوجها أوريا.

فلما كره الله ذلك لخليفته، بعث إليه ملكين ينهيانه عن هذه الخطية، ويعرفانه بغفلته، وأمرهما أن يحكماه في ذلك، وينسبا هذا الأمر إلى أنفسهما، ويكون هو الحاكم بينهما، بما يوجبه الحق من حجة العقل، بعلمه سبحانه بأن ذلك أنور في قلب نبيه؛ إذ النفس أمارة بالسوء، فلما دخلا عليه، فزع منهما، قالا له: لا تخف واطمئن، خصمان بغى بعضنا على بعضٍ، فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط، يقولان: لا تمل مع أحدنا على الآخر، واهدنا إلى سواء الصراط، وهو يقول ([562]): إنهما رجلان من ولد آدم؛ قال لهما: اذكرا خبركما، قال له أوريا: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدة، فقال: أكفلنيها وعزَّني في الخطاب.

فكان مع داوود يومئذ تسع وتسعون زوجة، وليس مع أوريا غير زوجة واحدة؛ فقال: أكفلنيها وعزَّني في الخطاب، عندما كان يذكرها دائباً.

فحكم داوود بينهما بما يوجبه الحق، ورجع إلى نفسه، فقال: إذا أخذ صاحب الجماعة من صاحب الواحدة هذه الشاة، وانتزعها من يده، قتله الجوع، فهذا ظلم بين، قال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24].

 يقول: إلاّ من أنصف عقله؛ دله عقله أن هذا جور وظلم، فالذي يتبع عقله، ويأخذ بأمره قليل في الناس؛ بل أكثرهم يتبع هوى نفسه، الذي هو ضد لعقله.

فلما فصل بينهما بالحق، تغيبا منه ولم ينظرهما ([563])،  عند دخولهما، ولا عند خروجهما؛ فرجع إلى عقله يستفتيه، ويطلب منه بيان ما نزل به، من أمر هذين الخصمين، فإذا عقله يقول له: هذا أنت ووليك أوريا؛ لأنك تعلم أنك إذا أخذت زوجته، ألزمته العنت؛ لأن فيه من شهوة النساء مثل ما فيك، وأنت فلم تنفعك هذه الجماعة، حتى تاقت نفسك إلى زوجته، فكيف يكون حاله بعدها عند فقده إياها ؟.

29 / 44
ع
En
A+
A-