وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} كنحو قول الملعون إبليس لربه، إذ يقول له: أرأيتك هذا الذي كرمت عليَّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكنَّ ذريته إلاّ قليلاً؛ وقال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين.
ثم قال سبحانه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22].
بين سبحانه في جميع ما ذكر من آياته لرسوله أن الإنسان لا يؤتى إلاّ من نفسه، وأن الشيطان ليس له عليه سبيل.
وأمَّا قوله سبحانه في إبليس وأعوانه، حين يقول: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}[الأعراف:27]؛ ليس هذه الآية توجب أن الجن يرون ولد آدم بأبصارهم.
ويمكن أن يكون تفسير قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}، أنهم([525]) يعلمون من أفعالنا ما لا نعلم من أعمالهم، كالملائكة الذين هم يحيطون بأعمالنا، كما قال سبحانه فيهم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10)كِرَامًا كَاتِبِينَ(11)يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)} [الإنفطار:10]؛لأن الله عز وجل قال:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}، كما قال لرسوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}[النساء:105]، يقول: بما علمك الله؛ وقال إبراهيم عليه السلام: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا}[البقره:128]، يقول: علمنا؛ لأن العقل لا يستحسن أن يقدر الله عز وجل عدوه اللعين، وأتباعه من مردة الجن، إلى أن ينظروا عورات المسلمين والمسلمات من الآدميين؛ لأنه قال للمسلمين، في مخاطبة المسلمات: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}[الأحزاب:53]؛ ثم قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ .....، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30].
وإبليس فهو مجتهدٌ فيما يعم المسلمين بإقراره، إذ يقول الملعون: لأغوينهم أجمعين، لأحتنكن ذريته.
ثم قال سبحانه: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224)أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225)وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226)} [الشعراء:221ـ226].
بين سبحانه أن من خالف قوله فعله فهو شيطان، وأن بعضهم أولياء بعض؛ فافهمه إن شاء الله.
[التمييز بين معصية إبليس ومن تبعه وبين معصية آدم ومن تبعه]
ميِّز يا أخي، بين المعصيتين: بين معصية إبليس ومن تبعه من مردة الجن والإنس، وبين معصية آدم ومن تبعه من المؤمنين؛ لأن الله عز وجل قد ذكرهما بالمعصية فقال: {وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121].
ثم ميَّز بين معصية إبليس، ومعصية آدم، فقال سبحانه لرسوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، نسي آدم قول الله له في إبليس: إنه له عدوٌ؛ وعندما أشار عليه بأكل مانهاه الله عنه، وحلف له أنه له ناصح، كما حكى الله عنه، إذ يقول له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ(20)وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ(21)فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:20ـ22].
فلو ذكر عليه السلام، عند هذه المخاطبة، قول الله في الملعون لم يغتر بقوله، وعلم أنه يريد هلاكه، ولم يقرب الشجرة، كما نهاه الله عنها.
ولعلم الله سبحانه أن إبليس يأمره بمعصية خالقه، قدم إليه خبره، وحذره منه، وقال له: {يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117].
فلما غفل عليه السلام وزلَّ وأخطأ، أزال الله نعمته منه، فلزمه الشقاء، والعمل في طلب المعيشة، وكان مكفياً في الجنَّة، غنياً عن العمل، كما قال سبحانه: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى(118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى(119)} [طه:119]، كان في ظل بارد([526])، ومعيشة رغدة، وسيمة، وسلامة، ونعمة سابغة؛ فلما عصى ربه، أخرجه منها، ثم سأله أن يعيد عليه تلك النعمة، فأبى عز وجل أن يردها، إلاّ أنه قد قبل توبته، وعفا عنه، وأقال ([527]) عثرته بفضله وامتنانه، إنه منانٌ كريم.
ثم اعلم أن نبياً من أنبياء الله ([528])، لا يتعمد معصية خالقه أبداً؛ لأنه لو كان ذلك يكون عليهم السلام، كما قالت الحشوية، المجبرة القدرية، لكان في ذلك وهنٌ في التوحيد والرسالة؛ لأن الذي اختصهم بالرسالة، وقلدهم الأمانة إلى جميع خلقه، عالم بعواقب أمورهم، وبصير بهم، وعلمه بما سيكون من أفعالهم، كعلمه بما كان وظهر منهم؛ لأنه عز وجل العالم بنفسه، كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6)فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ(7)} [الأعراف:6ـ7].
فعلمه سبحانه بهم أنهم سيبلغون رسالته، ويؤدون أمانته، اختياراً منهم لرضى خالقهم، وتجنباً لسخطه، اصطفاهم واختارهم واجتباهم، كما قال سبحانه فيهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33)ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34)} [آل عمران:33ـ34].
فمن زعم([529]) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خان وتعدَّى، فقد طعن على المُرْسِل، وأنكر عليه علمه، فمن([530]) اصطفاه الله وقلده أداء أمانته إلى خلقه؛ فمن أنكر علم الله في رسله وفي غيرهم، فقد نسب إلى الله سبحانه ضد العلم، وضده الجهل، أو وصفه سبحانه بضد العدل، وهو الجور، فتعالى عز وجل عن الجهل والجور، وتقدس عن الجهل([531]) والعجز.
فإذا صح أنه سبحانه لا يختار إلاّ أميناً، ولا يقلد أمته([532]) إلاّ مصطفىً قوياً، مستحقاً لما قلده ربه، فقد صح أن معاصي الأنبياء على وجه الغفلة والغلط، والنسيان والزلل، لا على وجه التمرد والطغيان، والاجتراء على الواحد المنَّان؛ ولذلك ميَّز بين صفيه أبي البشر، وبين عدوه إبليس اللعين، في الفعل والاسم، وسماهما إمامين، قال سبحانه فيهما، وفيمن تبعهما من الأبرار والفجار، فقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ}، إلى قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}([533])، وقال في إبليس وشيعته: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}، [إلى قوله]: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:41ـ42].
إبليس وأتباعه ملعونون في دنياهم، مقبوحون في آخرتهم، كما قال سبحانه فيهم: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقره:114]، ثم قال سبحانه لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85].
وقال سبحانه في الفريقين: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، آدم ومن تبعه في الجنة، وإبليس ومن تبعه في النار؛ هما حزبان: حزب الله وحزب الشيطان، فحزب الله هم الغالبون المفلحون في الدنيا والآخرة، وحزب الشيطان هم الخاسرون الملعونون في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]؛ فكما لا يغلب عز وجل، فكذلك أولياؤه لا يغلبون ولا يخذلون، ولا يهابون في دنياهم وآخرتهم، فافهم إن شاء الله.
[تفضيل الرسل بعضهم على بعض]
ثم اعلم أن الله فضَّل رسله، بعضهم على بعض، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الاسراء:55]، وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[البقرة:253].
لم يسم الفاضل من المفضول، ولم يميَّز بينهما، فيعرف كل واحد منهما بفضله، إلاّ أنه أجمل الأمر في فضل جميعهم، وأمر خلقه بإقرار فضلهم والاقتداء بهم، كما قال سبحانه لرسوله، في خليله إبراهيم، الأوَّاه الحليم، وفي ذريته الأطيبين الكرام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(74)وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75)}[الأنعام:74ـ75].
ثم قال سبحانه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(84)وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ(85)وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ(86)وَمِنْ ءَابَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(87)ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(88)أُولَئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ(89)أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:83ـ90].
تفسير قوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}[الأنعام:89] يعني سبحانه: الأئمة الهادين الذين يخلفون جدهم في أمته بعده، عليه وعليهم السلام.
بين سبحانه لرسوله أن هداه واحدٌ فيه وفيمن تقدمه من رسله، وذلك قوله: فبهداهم اقتده (إلى آخر الدنيا فقد بان.
ثم اعلم أنَّ فضل من في يده شيء من التوراة كتاب ربه، مشهور، مثل: أصحاب التوراة والإنجيل، والزبور والفرقان، والصحف الأولى: صحف إبراهيم وموسى، وكذلك فضل أولي العلم من الرسل)([534]).
وقال الإمام المرتضى لدين الله: (أولوا العزم هم خمسة: موسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد، صلوات الله عليهم أجمعين وعلى آل محمد).
فالواجب على المسلم أن يعرف فضل جميع الرسل؛ لأن هذا المفضول منهم ليس بناقص العقل، الذي يكون دون الآخر، وككتاب الله؛ لأن العقل والرسول والكتاب حجج الله في خلقه، فحججه لا تكون ناقصة أبداً.
وقالت العلماء: إن الله لا يعذب حججه من الرسل، في الدنيا ولا في الآخرة، فافهمه.
وقال الإمام المرتضى لدين الله: إن أول من يدخل الجنة محمد بن عبدالله، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الله عز وجل: {وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(121)ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى(122)}[طه:121ـ122]، ثم قال سبحانه: {فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:37].
وأمَّا قوله سبحانه لملائكته: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، يعني: هذه الأرض التي كان عليها آدم ومات فيها.
[جنة آدم (ع) كانت في الأرض]
والجنَّة التي كان فيها آدم، فكانت في الأرض، وكانت من جنان الدنيا، ليست جنَّة المأوى، وقوله سبحانه له ولزوجته ولإبليس: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38]، كقوله لبني إسرائيل: {اهْبِطُوا مِصْرًا}[البقرة:61]، فجنَّة الخلد لم يدخلها أحدٌ بعد، لا إدريس النبي، ولا حبيب النجار، ولا بلال بن حمامة، رحمة الله عليهم، كما قالت الحشوية؛ لأن من دخل الجنَّة لم يخرج منها، وهو مخلد فيها، كما قال الله سبحانه في كتابه، الذي نزَّل على رسوله، في آي كثيرة.
فأمَّا قول الملائكة عليهم السلام لخالقهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة:30]، إنما ذلك على وجه الاستفهام؛ لأنه سبحانه كان أعلمهم قبل هذه المخاطبة بمفسدي ولد آدم، فلمَّا أعاد عليهم القول في خلق آدم، خاطبوه بهذه المخاطبة، حتى قال لهم:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، من بركته وبركة ذريته، من الأنبياء والمؤمنين، وفي ذريته من لولاه ما خلقت الدنيا ولا الآخرة، محمد المصطفى.
فلما عرفهم عز وجل بذلك، قالوا له سبحانه: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32]، قالوا: إنما أعلمتنا بالمفسدين من أولاده، ولم تعلمنا بالصالح منهم.
وأمَّا قوله سبحانه فيه وفي زوجته، حين يقول: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(189)فَلَمَّا ءَاتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا} [الأعراف:189ـ190] الآية، كانا عليهما السلام قالا له: إن رزقتنا ولداً سوياً صحيحاً سالماً صالحاً، أفردناه في عبادتك، ولا نشغله بشيء من خدمتنا؛ فلما رزقهما كما سألاه، ألزماه الحرث والعمل، وشغلاه، فعاب عليهما ربهما ذلك؛ وكذلك سألت امرأة عمران ربها، إذ قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[آل عمران:35]، فلما وهب لها مريم، وفت لربها بما نذرت وعاهدت، فحمدها ربها، ولم يعتب عليها، كما عتب على أبويها عليهم السلام.
وأمَّا قوله لصفيه نوح عليه السلام، عندما خاطبه في ابنه، حين يقول: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}[هود:45]، وقول ربه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، قال له ربه: إني وعدتك أن أنجيك وأهل طاعتك من الغرق، فابنك ليس من أهل طاعتك؛ لأنه لو كان من أهل طاعتك لصدقك، ولم يكذبك عندما أمرته، وقلت له: كن ([535]) معنا، ولا تكن مع الكافرين، فلا تسألن ما ليس لك به علم؛ لأن سؤالك هذا عمل غير صالح لك؛ فلما عرفه سبحانه بخطائه، تاب من آخر ساعته، وسأل ربه العفو والغفران، وقال: رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين.
وأمَّا قوله في زوجته وزوجة لوط، حين يقول: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10]، كانت خيانتهما لخالقهما عن أزواجهما، فعاب عليهما ربهما ذلك، كما عاب على عائشة خروجها من بيت زوجها، في حرب وصي رسوله، بعد موت رسوله، فلم يكن لها خيانة غير ذلك؛ لأنهن أزواج الأطيبين، كما قال الله سبحانه:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26].
[تبرئة يوسف (ع) مما نسب إليه الحشوية]
وأمَّا قوله سبحانه في نبيه يوسف الصديق، عليه السلام، حين يقول: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24]، أمَّا هي، فقد همت بالفسق؛ وهمه هو، هم الطباع، المركب فيه وفي غيره، تحركت نفسه عندما تعلقت به المرأة، فزجر نفسه عن هواها، وسكنها ببرهان ربه، بقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}[الإسراء:32]، وسأل ربه أن يصرف عنه كيدها، واختار السجن والحبس، على ما سألت المرأة؛ لرضاء الله، ومخافة من سخطه؛ وأجابه ربه إلى ما سأل من العصمة والتسديد، فجعله في عباده المخلصين، ومكنه من أرضه، وملكه أمر عبيده، وآتاه ملك الدنيا والآخرة، واختصه برسالته، واصطفاه لنبوته، وأمر خلقه بطاعته، وقرن طاعته بطاعته، صلى الله عليه.
بين الله عز وجل ذلك لجميع رسله، الذين بعثهم بعده إلى خلقه، وأمرهم أن يعلموا أمتهم باستقامته على طاعته، وتجنبه عن معصيته؛ ليقتدوا بفعله، وذكر ذلك لرسوله المصطفى في كتابه، وعرفه([536])بخلصا([537]) نيته، وبين له برآءته، مما نسب إليه جهلة خلقه، على ألفاظ شتى؛ ليسلم أولياؤه من غيبة نبيه؛ قال الله سبحانه: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف:24]، ثم قال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]؛ ([538]) قال سبحانه: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51]، ثم قال سبحانه: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]، ثم قال سبحانه: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35]، ثم قال سبحانه:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ(33)فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)} [يوسف:33ـ34]، ثم قال سبحانه: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30]، ثم قال سبحانه: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32].
أنكرت الحشوية هذه الشهادة من كتاب الله، ونسبت إلى رسول الله ما نفى عنه ربه، من الفعل القبيح، الذي لا يليق به، ولا يأتيه، اجتراء على الله، وتمرداً وطغياناً، وزوراً وبهتاناً.
فمن شدة استقصائهم في إنكار قول الله، وكذبهم على رسول الله، زعموا أنه رأى أباه يعقوب، مصوراً معه في جانب البيت، عاضاً على إصبعه، ينهاه عمَّا همَّ به من فسقه بامرأة العزيز، ولولا أبوه، لكان منه ما راودته المرأة من الفسق، وزعموا أن أباه أعظم عنده قدراً من خالقه، وأن عذابه أشد من عذاب ربه؛ أخرجوا صفي الله من إيمانه، إذ يقول سبحانه: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[التوبة:13].
وأمَّا قوله عليه السلام للعزيز: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف:55]، لم يسأله أن يكون له جابياً ومكاساً([539]) من تحت يده؛ إنما قال له: الأمر الذي تقلدته، ودخلت فيه، لست تعرفه، ولا تقوم له؛ لأن هذا باب النبوة، فأنا أبصر بهذا منك؛ لأني من أهل النبوة، كما قال عليه السلام للمسجونين: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(37)وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ(38)} [يوسف:37ـ38].
قال له: أنت مشرك بالله، والمشرك لا يستوجب مقام الأنبياء، وأنا أبصر وأعرف بمقامهم منك، كما قال: إني حفيظ عليم.
ودليل ذلك قول الله فيه إذ يقول سبحانه:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56].
فلما عرفه بذلك، اعتزل الأمر، وأسلمه إليه، فصيره مكانه وصار الاسم الذي كان يدعى به ليوسف، كما قال له إخوته: {يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف:88].
فلوكان هذا الذي نسبه إليه الحشوية من الفسق والمكس، من فعله، لعاب ذلك عليه ربه، كما عاب عليه قوله في إخوته، إذ يقول: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}[يوسف:70].