هذا كله من فعل قوم نوح، كما حكى عنهم رب العالمين، حين يقول سبحانه فيهم: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}، [إلى قوله]: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:7ـ23]، وقالوا: إن هو إلاّ رجل به جِنَّة فتربصوا به حتى حين.

وقال قوم محمد لأتباعهم، كما حكى الله عنهم سبحانه، حين يقول: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}[فصلت:26].

وقال: هو أبطل قول علمائنا، فنقول: ليس العلم إلاّ معه ونترك ؟!.

 كما قال الأولون في جده نبي الله [و] في صالح وغيرهما من الأنبياء([487])، وقالوا: أبشر يهدوننا ؟ فكفروا، وتولوا وقالوا: أبشراً منا واحداً نتبعه ؟ إنَّا إذاً لفي ضلال وسعرٍ ءألقي الذكر عليه من بيننا؟ بل هو كذابٌ أشر ؟.

وقالوا، لمحمد: أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ؟  ثم قالوا: أأنزل عليه الذكر من بيننا ؟.

فأنت تعلم: أن الله أقام الأئمة الهادين، من أولاد خاتم النبيين، في أمة جدهم مقام رسله في الأمم الخالية، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى))([488]).

فالهادي إلى الحق في وقتنا هذا صاحب سفينة نوح، فمن تبعه فهو كمن تبع نوحاً، ومن أدبر عنه استوجب الغرق في دنياه، والنَّار في آخرته، كما قال سبحانه: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح:25].

فالله عز وجل أظهر دينه، الذي تعبد به خلقه في أرضه على يد أبينا آدم عليه السلام، كما قال سبحانه:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96]، والبيت فهو دين الله؛ لأن  ليس تمام الحج إلى بيت الله إلاّ بمعرفة الله، ومعرفة رسله، وما جاءت به من أداء فرائض الله، واجتناب المحارم كلها؛ فإذا فعل ذلك الداخل في هذا البيت، أمن من العذاب في دنياه وآخرته.

ودليل ذلك أن الله سمى هذا البيت مباركاً، كما سمى روحه عيسى بن مريم مباركاً، وكتابه الذي أنزل على محمد مباركاً؛ لما فيه لمن أخذ به من المنفعة والبركة في الدنيا والآخرة، وذلك قول عيسى صلوات الله عليه:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ}[مريم:31] الآية، وقال لصفيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].

فمن اتبع عقله، وأحل ما أحل الكتاب، وحرم ما حرم الكتاب، فهو داخل في بيت الله الذي ذكره حين يقول: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا} [آل عمران:97]، وقال صفي الله نوح لخالقه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].

فهذا البيت مبارك كما ذكره الله سبحانه: {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ(96)فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا} [آل عمران:96ـ97]، ثم قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)} [آل عمران:97].

قوله: من كفر، يعني: من أعرض عن عبادته، فقد كفر بخالقه.

 ثم قال سبحانه لخليله إبراهيم، الأوَّاه الحليم، ولابنه إسماعيل الذبيح عليهما السلام: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125].

أمرهما عز وجل أن يعلما جميع خلقه ما يقربهم إليه، من الدين والطهارة، ويباعدهم([489])  عن الكفر والنجاسة، كما قال سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] الآية.

بين سبحانه في آي كثيرة أن الطهارة للبيت هو التقرب إلى رب البيت، بما يرضيه من الأعمال الصالحة.

 وكذلك قال سبحانه لإبراهيم([490]): {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}[هود:73].

وقال لكليمه وأخيه هارون: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:87].

فدل بقوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أن تمام الحج أداء جميع الفرائض، وأمرهما أن يعلما قومهما دين أهل القبلة؛ لقوله([491]): {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}.

وقال سبحانه لرسوله وأهل بيته: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33].

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجميع أمته:((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))([492]).

بين صلى الله عليه وآله وسلم أن حبل الله الذي جاء به صفي الله آدم ممدود، في جميع أولاده إلى آخر الدنيا.

وكذلك قال سبحانه في رسوله محمد، لجميع خلقه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103].

وذكر النبي أن هذا الحبل لا ينقطع حتى يردوا عليه حوضه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح))([493]).

فعبادة الله على الآخرين، كعبادته على الأولين، بالرسل والكتب.

 

 

 

وكذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله يختم الأئمة الهادين بالمهدي([494])))، فقوله هذا يدل على أن حبل المهدي موصول بحبل الله، فاعلم ذلك ([495])   علماً يقيناً.

ــــــــــــــــ

[ذكر فضائل الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي صلوات الله عليهم أجمعين]

عن الحسن بن علي عليهما السلام قال: أخبرني أبي أميرالمؤمنين، قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال([496]): ((يخرج منَّا في آخر الزمان رجل يقال له: زيد، فينهب ملك السلطان، فيقتل، فإذا قتل صعد بروحه إلى السماء الدنيا، فيقول له النبيون: جزى الله عنا نبيك أفضل الجزاء، كما شهد لنا بالبلاغ، وأقول له أنا: أقررت عيني يابني، وأديت عني، ثم يشيعه أهل سماء إلى سماء، حتى ينتهى بروحه إلى الله عز وجل، ويأتي أصحابه يوم القيامة يتخللون رقاب الناس، بأيديهم أمثال الطوامير([497])، فيقال: هؤلاء خلف الخلف، ودعاة الحق إلى رب العالمين)).

عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحسين بن علي عليهما السلام: ((يا حسين يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يتخطى هو وأصحابه رقاب الناس يوم القيامة، غراً محجلين، يدخلون الجنة أجمعين بغير حساب([498]))).

عن أبي مخنف([499]) أن طائفة أتوا أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام، وهو يومئذٍ بالمدينة، وذلك قبل خروج أخيه زيد بن علي، فقالوا له: إن فينا أخاك زيداً فنبايعه ؟.

قال: نعم فبايعوه إنه اليوم لأفضلنا.

وقال: ما ولد فينا أشبه بعلي بن أبي طالب منه.

عن الزهري قال: دخل زيد بن علي عليه السلام على هشام بن عبدالملك، فسلم عليه، فرد هشام ـ لعنه الله ـ عليه السلام، ورفع مجلسه، وأقبل عليه بوجهه، وتبسم إليه، فأقبل زيدٌ على هشام، فقال: اتق الله أيها المرء، فما أحد من خلق الله فوق أن يؤمر بتقوى الله، ولا أحدٌ دون أن يأمر بتقوى الله، كفاك كبيرة أن تكون من الذين إذا أمروا بتقوى الله، استفزهم الشيطان، وأخذتهم العزة بالإثم.

فقال هشام: هذا تحقيق ما رفع إليَّ منك، ومن أمرك أن تضع نفسك في غير موضعها، وترفعها عن مكانها ؟ فاربع([500])  على نفسك، واعرف قدرك، ولا تشاورن([501])  سلطانك، ولا تخالفن على إمامك.

فقال زيد: من وضع نفسه في غير موضعها، أثم بربه، ومن رفع نفسه عن مكانها، خسر نفسه، ومن لم يعرف قدر نفسه، ضل عن سبيل ربه، ومن شاور سلطانه وخالف إمامه، هلك؛ أفتدري من ذلك يا هشام ؟ ذلك من عصى ربه، وتكبر على خالقه، وتسمى باسم ليس له؛ وأمَّا الذي أمرك بتقوى الله، فقد أدَّى إلى الله النصيحة فيك، ودلك على رشدك.

ثمَّ ولَّى خارجاً.

فقال هشام: يقولون قد ذهب أهل هذا البيت؛ هيهات ما ذهبوا ما دام هذا فيهم([502]).

عن أبي خالد([503]) قال: كنَّا عند زيد بن علي عليه السلام، فجاءه أبو الخطاب فكلمه، فقال له زيد: (اتق الله فإني قدمت إليكم([504])، وشيعتنا يتهافتون في النار تهافتاً؛ رسول الله جدنا، والمؤمن المهاجر معه أبونا، وزوجته خديجة ابنة خويلد جدتنا، وابنته فاطمة أمنا، فمن أهله إلاّ من نزل منه بمثل ما نزلنا؛ فالله بيننا وبين من غلا فينا، ووضعنا على غير حدنا، وقال فينا ما لا نقول في أنفسنا؛ المعصومون منَّا خمسة: رسول الله، وأمير المؤمنين علي، وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام؛ وأمَّا سائرنا أهل البيت فيذنب كما يذنب الناس، ويحسن كما يحسن الناس؛ للمحسن([505])  منَّا ضعف الأجر، وللمسيء منَّا ضعف العقاب؛ لأن  الله سبحانه قال: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] الآية؛ أفترون أن رجالنا ليسوا من نسائنا؟.

 ألا إنَّا أهل البيت، ليس يخلو من أن يكون منَّا مأمونون على الكتاب والسنة؛ لأن  الله سبحانه قال:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28].

فإذا ضل الناس، لم يكن الهادي إلاّ منَّا؛ علمنا عِلْماً جهله من ([506])   دوننا، وعلم من هو فوقنا عِلْماً لم يبلغه علمنا، فلم يضر من هو دوننا ما فقهناه من علمنا، ولم يضرنا ما فاتنا فيه غيرنا، ممَّا لم يبلغه علمنا.

كانت الجماعة أحبّ إلى أمير المؤمنين من الفرقة، ثم الجماعة بعد الفرقة على السيف، إلاّ أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جالت عليه جولة).

عن سعيد بن خثيم قال: سمعت جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: (اللهم لا تجعلني ممن تقدم فمرق، ولا ممن تأخر فمحق، واجعلني من النمط الأوسط، واجعلني حياً سعيداً، وميتاً شهيداً).

قال: قلت: يا ابن رسول الله، من هذا الذي تقدم فمرق ؟.

 قال: (هؤلاء الرَّافضة المتقدمة، حملوا الناس على رقابنا، وادعوا فينا ما ليس لنا، وزعموا أنا نعلم الغيب؛ اللهم إني أبرأ إليك منهم).

قال: قلت: يا ابن رسول الله، من هذا الذي تأخر فمحق ؟.

 قال: (هؤلاء المرجئة السامرية، هم أعدى([507]) لنا من اليهود).

 قال: قلت: يا ابن رسول الله، فمن النمط الأوسط ؟.

26 / 44
ع
En
A+
A-