وحدثني رجلٌ أثق به قال: سمعت فلاناً ـ وسماه باسمه ـ يقول للذي حارب ولد الهادي: عداوتنا لعلي بن أبي طالب وأولاده قديمةٌ؛ لأنك تعلم أنَّ جدي وجدك كانا يحاربانه مع معاوية.
فالقوم كلهم إلاّ قليل([480]) منهم، كما قال دعبل بن علي الخزاعي:
وكيف يحبون النبي ورهطه
إذا ذكروا قتلاً ببدر وخيبر
وهم تركوا أحشاهم وعرات؟
ويوم حنين أسبلوا العبرات
وأعجب من هذا كله أنهم رفضوا الهادي إلى الحق، الذي أقرله أهل العلم والفضل بالعلم والورع والدين، والتقى والبر والإحسان، مع ثبات نسبه إلى خير خلق الله محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، وسبطي نبي الهدى ! وتبع بعضهم علي بن فضل الخلقاني، والحسن بن علي الكوفي النجار صاحب جبل مسور القرمطيين، اللذين أركبا الآباء البنات، والبنين الأمهات، والأخوة والأخوات([481])، وأهلكا الحرث والنسل، وساما عباد الله بالخسف والذل، ورسما في اليمن رسماً يعيرون به إلى آخر الدنيا؛ وقوم آخرون نصروا آل طريف وابن كالة عليه، فحاربوه وقاتلوه، وقتلوا خلقاً كثيراً من أهل بيت الطهارة، ومن تبعه من سائر المسلمين، الذين قاموا مع ابن رسول الله على أعداء الله؛ لإظهار دين الله.
فالله عز وجل لا يضيع لهم ذلك، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120]، وقال عز وجل: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}[آل عمران:195].
والقرامطة وآل طريف يقولون لأصحابهم وأتباعهم: انصرونا على هذا الغريب، نخرجه من وطننا وبلداننا إلى جبل الرس؛ وهم يسمعون المؤذن في كل قرية يقول: أشهد أن محمداً رسول الله؛ فابن محمد عندهم في دار جده غريبٌ، وهم زعموا أنهم أهل الدار، بتلبيسهم على من تبعهم من جهَّال الناس، ويقولون له: إلحق بجبل الرس ودع منك الطمع، فإن الطمع قد دفن بكربلاء والكناسة، وبفخ وببا خمرى وبجوزجان، اتباعاً لقول أبي الدوانيق حين يقول، عندما وضع رأس محمد بن عبدالله النفس الزكية بين يديه ـ الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:-
تؤمل ليلى أن تعود وإنما
تقطع أعناق الرجال المطامع
نسبوا الحسين بن علي عليهما السلام، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، والنفس الزكية، وأخاه، والحسين بن علي، الأئمة الصادقين من آل محمد صلى الله عليهم أجمعين، إلى الطمع الذي هو الدنس، كما قال رسول الله: ((استعيذوا بالله من طمع يهدي إلى طبع([482])))، فهذا الاسم بهم أليق، وإليهم ألصق؛ لأن الطمع، الذي يجوز أن ينسب إلى أئمة الهدى، هو الذي ذكره الله لجدهم المصطفى، حين يقول تبارك وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[السجده:16]؛ لأنهم بدلوا ما رزقهم الله من الأبدان الصحيحة، والوجوه الصبيحة؛ لطلب ما وعدهم ربهم من الثمن الربيح، حين يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:112]، إلى آخر الآية: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ فلهذا الطمع قاموا، وله بذلوا أنفسهم، لا([483]) لإلفة ليلى ولا معرفة هند، كما قال أبو الدوانيق؛ وقال الله سبحانه: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}[الأعراف:56]، هذا الطمع الذي طلبوا.
عن سليمان الأعمش([484]) قال: كنت جالساً مع أبي جعفر، إذ مر علينا رجلٌ، فقام إليه، ثم قال: مالك لم تقم إلى هذا الرجل؟.
قلت له: ومن هذا الرجل؟.
قال: هذا النفس الزكية، وفي قاتل هذا جاء الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم ((إن على قاتله ثلث عذاب أهل النار))([485]).
فلما أن قتله أردت أن أذكره له، وأذكره بالحديث ثم خفته، فلما وضعوا رأس إبراهيم بن عبدالله أخي النفس الزكية بين يدي أبي الدوانيق، تمثَّل بهذه الأبيات:
وبشرها فاستعجلت عن خمارها
وخبَّرها الركبان أن ليس بينها
فألقت عصاها واستقر بها النوى
وقد تستفز المعجلين البشائر
وبين قرى مصرٍ ونجران كافر
كما قر عيناً بالإياب المسافر
اتباعاً لعائشة، إذ تمثلت بهذه الأبيات، عندما جاءها خبر أمير المؤمنين حين قتل، خرت ساجدة، وتمثلت بهذه الأبيات.
وليس عصبيتهم واجتماعهم على إخراج الهادي إلى الحق من دار جده، بأعظم من قول فرعون لقومه في موسى وأصحابه، حين يقول: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54)وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ(55)وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ(56)} [الشعراء:54ـ56].
ثم قال سبحانه في فرعون: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا(103)وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} [الاسراء:103ـ104].
فهو قادر سبحانه على أن يسكن أولاد نبيه في دار جدهم، كما أسكن بني إسرائيل في دار نبيهم موسى عليه السلام؛ إذ إرادته([486]) للجميع في طاعة خالقهم واحدة، وإرادة من خالفهم في معصية بارئهم مستوية؛ لأنه ليس لقحطان، ولا لولد عدنان، ولا لفارس، في دار محمد حقٌ، إلاّ من دخل في جملة القائم من آل محمد، كما دخل المهاجرون والأنصار مع جدهم؛ لأن الدار هي دار الإسلام، والإسلام جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل الإسلام هم أولى بدار الإسلام ممَّن خرج من الإسلام، وحارب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذين جاءوا بالإسلام، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]؛ وفي ذلك ما يقول الكميت بن زيد:
بك اجتمعت أنسابنا بعد فرقة
لقد غيبوا براً وصدقاً ونائلاً
فنحن بنو الإسلام ندعا وننسب
عشية واراك الصفيح المنصب
لأن الدار دار الله، والعباد عباد الله، فأولاهم بدار الله من سعى في عبادة الله؛ فهذه الدار كانت في أيدي المشركين، فانتزعها من أيديهم النبي والوصي، ومن تبعهما من المسلمين؛، وكيف يكون أولاد محمد وعلي فيها غرباء، يستوجبون الطرد منها ؟! إذ ساروا في أمة جدهم بسيرته عليه وعليهم السلام.
فقولهم في أولاد الرسول كقول شعرائهم في الأنبياء حين يقول ابن الصلح الشهابي:
فإن تفخر بكعبتها قريش
بغمدان المنيف وتبعيها
وأحمدها يفاخرها سباء
وذي الأخلاد منها المرتجاء
وقال ابن يعقوب:
وأنكحنا ببلقيس أخانا
ولم نطلب بذي تبعٍ بديلا
وما كنَّا سواه منكحينا
ولو أنَّا بتنزيلٍ أتينا
فالقوم كلهم علماؤهم، وسلاطينهم، وشعراؤهم، كما وصفهم الله حين يقول: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
فمخاطبتهم لنا في الهادي إلى الحق عليه السلام، كمخاطبة قوم نوح في نوح عليه السلام، حيث خاطبت أنا قاضياً من قضاتهم، بقول الهادي إلى الحق، مما جاء به جدهم عليه السلام، من معرفة الكتاب والسنة، فوضع أصبعيه في أذنيه، وغطى رأسه ووجهه، وقال لأصحابه: لا تسمعوا، ولا ترفضوا إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير ومعاوية.