فابتلي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه صلوات رب العالمين وعلى آله، كما قال في بعض كلامه: (بليت بأربعة لم يبل بهم أحدٌ غيري: بعائشة ابنة أبي بكر، أطوع الناس في الناس، وبطلحة بن عبيدالله، أنطق الناس في الناس، وبالزبير (أشجع الناس في الناس)([410])، وبيعلى بن منية التميمي، الذي يعين عليَّ بأصواع الدنانير والدراهم).
ذكر أنه وجد بصك ليعلى على طلحة باثنين وسبعين فرقاً دراهم([411])، ممَّا أعانه بها على حرب أمير المؤمنين عليه السلام.
فقول الحشوية: إن الناس كانوا في خفض ودعةٍ، حتى أثار علي الفتنة بينهم.
كان بدء الفتنة من الذي ادعى ما ليس له، ودفع صاحب الحق عن حقه بأعوانه الذين نصروه عليه، فما زالوا متعاونين عليه، حتى أغرى الله بينهم العدواة والبغضاء، كما قال الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، قصدوا الذي أقام يطعمهم من أموال الفقراء والمساكين اثنتي عشرة سنة فقتلوه، أجمعوا كلهم على قتله، كاجتماعهم([412]) على طاعته، في غير مرضاة الله، ثم خرجوا بفتنتهم إلى البصرة، حتى أثاروا الفتنة، وقتلوا من أهل الحق جماعة، ثم قام صاحب الحق في نصرة المظلومين، فأبعد الظالمين منهم.
فالظالمون هم الذين أثاروا الفتنة، ليس الذي منعهم من ظلم المظلوم.
وقال رجل ثقفي لأمير المؤمنين يوم الجمل: ما أعظم هذه الفتنة !.
قال عليه السلام: (وأي فتنة هذه وأنا قائدها وأميرها ؟!).
وإنما بدء الفتنة من يوم السقيفة، ثم يوم الشورى، ويوم الدار، وأمَّا حرب الجمل وصفين والنهروان([413]) فهو كحرب بدرٍ وأحد وخيبر، المتولي لحربهم واحد بأمر الله، على لسان رسول الله، صلَّى الله عليه وآله وسلم، بإجماع العلماء عن قول رسول الله، فليس يقال لهذه: فتنة؛ بل هذا هو الجهاد الأكبر، كما قال أمير المؤمنين حين يقول: (الشريعة فيهم واحدة).
وكذلك قالت له عائشة يوم الجمل عندما جاء يعتب عليها: خل الأمر عن العتاب.
صدقت، إنما يعتب على المرأة إذا رفعت صوتها، وأبدت وجهها إلى غير محرم؛ وأمَّا امرأة تسير مسيرة شهر بالجنود والعساكر في سفك دماء المسلمين إلى ديارهم، فقد قصر العتب عنها([414]).
ثمَّ ابتلي علي بعد هؤلاء بمعاوية بن أبي سفيان، الذي لم يكن في الفراعنة مثله إلاّ قليل، مع كمال عقله، وقرابته من آل رسول الله، فكان مكره وفعله وحيله، أعظم من مكر عبدة الأوثان([415])؛ لأن عبدة الصنم إذا خرجوا إلى قتال أنبياء الله مرَّوا على أصنامهم، فخرَّوا لها سجداً، وإذا راحوا، فكذلك على هذا الحال، وأصنامهم لا تعينهم بشيء؛ دوابهم وسلاحهم وأزوادهم من أموالهم، وليس لهم مع ذلك عند أصنامهم شكر ولارحمة([416]).
فمعاوية جمع أهل الشام، ثم قال لهم: أنتم تعلمون أن عمر بن الخطاب ولاّني بلدكم هذه، وسرت فيكم بسيرته، سواء سواء، لم أغير ولم أبدل، حتى فارق الدنيا؛ ثم أثبتني فيكم بعده عثمان، فسرت فيكم أيضاً بسيرته، لم تنقموا عليَّ شيئاً أنتم ولا هما، حتى قتل عثمان؛ ثمَّ اعلموا أن علي بن أبي طالب قد صار إلى البصرة، فقتل رجالها، وأباح ديارها، وقطع خضراها، وهدم غبراها، وقتل طلحة والزبير، وهتك حجاب أم المؤمنين، عندما نقموا عليه وعلى أصحابه قتل عثمان، ثم قد توجه إليكم، وقد سألني القدوم إليه والبيعة له، والدخول في جملته فما قولكم ؟ فإن قلتم: أصير إليه؛ لأعود معه لخراب بلدكم، فذلك إليكم، وإن قلتم: إنكم تحامون على بلدكم، وتبعدونه من وطنكم، فقلدوا أمركم رجلاً منكم، يتولى أمركم ويدافع عن بلدانكم، فأنا رجل منكم، وأحدكم، وابن عمكم، وعشيرتكم.
قالوا له: القول في علي، كما قلت ووصفت من سفك الدماء، وهتك الحريم، وأخذ الأموال، لا ينكر من ذلك شيء؛ وأمَّا قولك: يتولى هذا الأمر رجل منَّا يقوم فينا، فليس فينا من يقوم مقامك؛ بل أنت أقوم بهذا الأمر منَّا، وأشفق علينا من أنفسنا، فقم فنحن بين يديك، ننصرك بأموالنا، وأنفسنا، فلو علم الإمامان: عمر الفاروق، وعثمان ذو النورين أن فينا من يصلح لهذا الأمر لقلداه ذلك، وليس رأينا أصوب من رأيهما.
فلما علم أن كلامه المحال، قد تمكن في قلوبهم، وحلا في صدورهم، كما حلا كلام فرعون في صدور أصحابه، حين يقول لهم: ذروني أقتل موسى وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
قال له قومه: أتذر موسى وقومه؛ ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟.
قال([417]) حينئذٍ: أنتم تعلمون أني ابن عم عثمان، المقتول ظلماً وعدواناً، فأنا أكتب إليه أسأله أن يسلم إليَّ قتلة عثمان، فإني ابن عمه؛ فإن أجابني إلى ذلك، كان لنا فيه رأيٌ.
فلما ورد عليه كتاب أمير المؤمنين يقول: (ذكرت أنك ابن عم عثمان، وسألتني أن أسلم إليك قتلته، فليس الحكم يوجب ذلك، ولكن تحضر أنت وأولاد عثمان؛ لأن أولاد عثمان أولى بدم أبيهم منك، فإن وكلوك، نظرت بينك وبينهم، فما وجب لك من الحق أوصلتك إليه؛ وأمَّا قولك: أوليك الشام كما ولاّك صاحباك، فاقدم إليَّ؛ لأرى فيما سألت رأياً).
فأقرأ أهل الشام الكتاب، ثم قال لهم: لولا أنه رضي بقتل عثمان، لوجّه بقتلته إليَّ؛ وأمَّا قوله: أقدم إليه ليرى فيَّ رأيه؛ فمن أي جهة صار هو أحق بهذا الأمر مني ؟ هذه البلد صّيرها إليَّ الذي أسلم إليه أبوبكر([418]) أمر هذه الأمة بأسرها، وولاّه عليهم وعلى عليٍّ وغيره من بني هاشم؛ فإن قلتم: إن أبا بكر مصيب في فعله، فليس له عليَّ سبيل، وإن يقل: إنه ابن عم رسول الله وختنه، فأنا ابن عمه أيضاً وأختي زوجته؛ وإن يقل: إنه أسلم قبلي، فقد ادعى هذا السبب عند موت النبي على المهاجرين والأنصار، فلم يوجبوا له الإمامة والخلافة؛ بل قدموا عليه أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان؛ وإن يقل: إن أعوانه أهل العراق، فليس أهل العراق أفضل من أهل الشام.
ثم قال لهم: إن نصرتموني على عدوي وعدوكم، أبحت لكم دماء من خالفكم، ونساءهم وأموالهم.
كما قال فرعون لقومه في بني إسرائيل: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف:127].
فصدقه طغام أهل الشام، كما صدقت القبط فرعون، إذ قالوا له: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ}[الأعراف:127].
ثم قال لهم: عليَّ أن أوسع عليكم من رغائب الدنيا وعطاياها، وأنا خير لكم من علي.
كنحو ما قال فرعون لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51)أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ(52)فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ(53)فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(54)}[الزخرف:51-54].
وكذلك معاوية استخف أهل الشام، حتى نصروه على أمير المؤمنين، وعلى سبطي رسول رب العالمين: الحسن والحسين وسن فيهم القتل، فلم يزالوا يقتلونهم حتى كان آخرهم المختار، الذي قتله ولاة بني العباس، كما قال دعبل بن علي الخزاعي([419]) في فعلهم بآل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم:
وليس حي من الأحياء يعلمه
إلاّ وهم شركاء في دمائهم
من ذي يمان ولا بكر ولا مضر
كما تشارك أنسار على جزر
وقال أيضاً:
قتلاً وأسراً وتشريداً ومنهبةً
فعل الغزاة بأهل الروم والجزر
وقال السَّيِّد:
وكأنما بك يا ابن بنت محمد
ويكبرون بأن قتلت وإنما
قتلوا جهاراً عامدين رسولا
قتلوا بك التكبير والتهليلا
وقال الكميت بن زيد([420]) في الحسين بن علي:
إذ أسرعت فيه الأسنة كبرت
عوابئهم([421]) من كل أوب وهللوا
[كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية وجواب معاوية عليه]
فلما عزم معاوية على قتال علي، كتب إليه محمد بن أبي بكر، ينهاه عن محاربة علي، ويعلمه أن علياً أحق بمقام رسول الله في أمته منه، ويحتج عليه بما بين الله عز وجل في فضل علي في كتابه، وعلى لسان رسوله.
فلما قرر محمد فضل علي في صدره، رد عليه جواب كتابه، ([422]) تمويهاً وتلبيساً على([423]) من معه، من طغام أهل الشام، قال له: أبوك يا محمد، مهد مهاداً، وثنى لملكه وسادا، ووازره على ذلك فاروقه، فإن يكُ ما نحن فيه حقاً، فأبوك شرعه وإن يك باطلاً، فأبوك استنه([424])، بهديه اهتدينا، وبفعله اقتدينا؛ فعب أباك أو دع، والسلام على من تاب عن عيب أبيه ورجع.
فاحتذى في جوابه حذو قوم إبراهيم سواء سواء، عندما قال عليه السلام لقومه: {مَا تَعْبُدُونَ(70)قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71)قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72)أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73)قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(74)}[الشعراء:70-74].
كان جوابه أن يقولوا: نعم هم يسمعوننا إذا كلمناهم، أو ينفعوننا إذا عبدناهم، ويضروننا إذا أعرضنا عن عبادتهم ؟ أم يقولون له: ليس يسمعون كلامنا، ولا ينفعوننا إذا عبدناهم، ولا يضروننا إذا لم نعبدهم.
لا بل أجابوه بخلاف ما سألهم، وكذلك كان الجواب على معاوية أن يقول لمحمد بن أبي بكر: إن كان أشكل عليه([425]) أمر علي أن يبين عليه ذلك؛ فلم يفعل إذ كان كلام محمد في علي عنده صحيحاً، فلو كتب إليه محمد يعلمه أن أباه ادعى ما ليس له وجلس في غير مجلسه، لم يقبل منه ذلك على وجه المكابرة؛ إذ هو موقن أن علياً أولى بمقام النبي في أمته بعده من جميع الناس، غير أنه كان يشنع على محمد عند أتباعه الطغام، وأجاز لمحمد الإمساك وعند خالقه([426])؛ لما تقرر في صدر معاوية من كتاب الله، وقول رسوله في علي ثلاثاً وعشرين سنة بمكة والمدينة، ومعاوية مقيم بالبلد، يحارب رسول الله مع أبيه وعشيرته قريش، بيده ولسانه، ليس هو مخرج من النجر([427]).