فلما قتل بايع الحسن بن علي من أصحاب علي أبيه مائة ألف فارس([378]) فأرسل إليهم معاوية الكتب، فلم يزل يعمل فيهم حتى دخلوا عليه، فطعنوا بطنه بخنجر، ونهبوا داره وعزموا على قتله، وقتل أخيه وأهل بيته؛ فلما بلغ الخبر إلى معاوية، أرسل إليه يسأله الصلح والموادعة له، والرجوع إلى المدينة، وعلى أنه يلزم منزله كما لزم أبوه في عصر أبي بكر وعمر وعثمان، فأجابه الحسن إلى ما سأل، وشرط عليه كما شرط أبوه على أبي بكر وعمر وعثمان، وأن يحكم في أمة محمد بكتاب الله، وسنة رسوله وعلى أن يدفع الخمس الذي أوجب الله لبني هاشم إليه، كما كان أولئك يدفعون إلى أبيه، فاتفقا على هذا الشرط، ورجع الحسن والحسين وأهل بيتهما إلى المدينة، ومعاوية بدمشق.
فلم يزل معاوية يعمل في الحسن حتى قتل([379]) بالسم، وحرَّض في الحسين([380]) على أن يلحقه أخاه فلم يستمكن منه.
ثم إن معاوية لعنه الله أوصى بالأمر إلى ابنه يزيد([381]).
ثم استدعى الحسين قوم من أهل الكوفة، وبايعوه ووعدوه بالنصرة، فخرج إليهم بأهل بيته وحرمه، ووالي البلد عبيدالله بن زياد من تحت يد يزيد بن معاوية، فحاربه حتى قتله وقتل أهل بيته، ووجه بحرمه وأطفاله ورأسه إلى يزيد، وردهم يزيد إلى المدينة.
[ذكر من قام بأمر الله من أهل البيت (ع) من بعد الحسنين]
فأقاموا على ذلك حتى بلغ زيد بن علي بن الحسين مبلغ أبيه وجده في العلم والكمال، ثم خرج إلى العراق، ودعا الناس إلى طاعة الله كما دعاهم جده الحسين، فبايعه خلق كثير، وبلغ خبره إلى يوسف بن عمر، وهو وال البلد من تحت هشام بن عبدالملك بن مروان، فحاربه يوسف حتى قتله، ثم صلبه في الكوفة، وأقام مصلوباً سنتين، ثم أنزله فأحرقه ونسف رماده في الفرات، وخذله أهل بيعته كما خذلوا جده الحسين، وكان معه ابنه يحيى بن زيد([382])، فلما قتل أبوه هرب منهم؛ فلحقوه في أرض خراسان في بلد يقال له جوزجان، فقتلوه ومن معه، ثم وضعوه في المهراس فهرسوه([383])، وذلك في ولاية الوليد بن يزيد بن عبدالملك.
ثم كان سبب هلاك بني أمية قتل علي والحسن والحسين وزيد ويحيى، حتى أهلكهم الله ودمرهم، وصار الأمر إلى بني العبَّاس.
ثم خرج محمد بن عبدالله النفس الزكية([384])، فدعا الناس إلى طاعة الله في مدينة الرسول، فخرَّج إليه أبو الدوانيق عسكره حتى قتله، وسال دمه إلى حجار الزيت.
وذلك أنهم رووا أن رسول الله خرج ذات يوم، فوقف في موضع من المدينة، ثم قال لأصحابه: ((ألا إنه سيقتل في هذا الموضع رجل من ولدي، اسمه كاسمي واسم أبيه كاسم أبي، يسيل دمه من هاهنا إلى أحجاز الزيت، على قاتله ثلث عذاب أهل النار))([385]).
فقتله وأباه وإخوته وعمه، وجماعة من الحسنيين([386]).
وفي النفس الزكية وفي المهدي ما روى الهادي إلى الحق عن آبائه عن زيد بن علي [عليهما السلام] أنه قال:(نحن الموتورون ونحن طلبة الدَّم، والنفس الزكية من ولد الحسن، والمنصور من ولد الحسن فكأني بشيبات النفس الزكية وهو خارج من المدينة يريد مكة، فإذا قتله القوم لم يبق لهم في الأرض ناصر ولا في السماء عاذر، فعند ذلك يقوم قائم آل محمد، ملجياً ظهره إلى الكعبة بين عينيه نور ساطع لا يعمى عنه إلاّ أعمى القلب في الدنيا والآخرة).
قال: فقال أبو هاشم بياع الرمان([387]): وما ذلك يا أبا الحسين ؟.
قال: عدله فيكم، وحجته على الخلائق.
ثم قال الهادي إلى الحق([388]) في المهدي على أثر ذلك:
كريم هاشمي فا
رؤوف أحمدي لا
ترى أعداؤه منه
شجاع يتلف الأروا
رحيم بأخي التقوى
حكيم أوتي التقوى
بعدل القائم المهدي
طمي جامع القلب
يهاب الموت في الحرب
حذار الحتف في الكرب
ح في الهيجاء بالضرب
شديد بأخي الذنب
وفصل الحكم والخطب
غوث الشرق والغرب
وقد بلغنا عن الهادي إلى الحق أنه قال: بينه وبين المهدي خمسة عشر إماماً، وإن المهدي آخر الأئمة.
ثم خرج إبراهيم بن عبدالله([389]) أخي([390]) النفس الزكية ودعا الناس إلى طاعته([391]) بناحية البصرة، فخرَّج إليه أبو الدوانيق عسكره، فحاربه حتى قتله بباخمرى.
ثم خرج الحسين([392]) بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بفخ في جانب مكَّة، وخرج أمير مكة بعسكره وبمن أجابه من الحاج، فحاربوه حتى قتلوه وجماعة من أهل بيته وغيرهم من المسلمين، فلم يجترئ أحد يدفنهم حتى أكلت السباع بعضهم.
وبلغني عن الذي تولى قتل هذا الإمام، أنه لما جابَهَ([393]) الموتَ قيل له: قل: لا إله إلاّ الله فلم يفصح بها، وهو يقول:
ألا ليت أمي لم تلدني ولم أكن
لقيت حسيناً يوم فخ ولا حسن
فطفقت([394]) نفسه على هذا البيت، والذي جهز في قتاله موسى بن أبي الدوانيق.
ثم خرج يحيى بن عبدالله([395]) أخو النفس الزكية بناحية طبرستان والديلم، ودعا الناس إلى طاعة الله، فلم يزل هارون بن موسى يتعمل فيه حتى وقع في يده ببغداد، فقتله وطُرح في بركة فيها السباع، فكفت عنه ودفن فيها، وبنيت عليه اسطوانة.
ثم خرج في سواد الكوفة محمد بن إبراهيم ـ الذي صحبه أبو السرايا([396]) ـ في عصر المأمون ودعا الناس إلى طاعة الله، فأدركه الموت، فمات بعد أربعة أشهر.
ثم خرج أخوه القاسم بن إبراهيم([397]) في غربي مصر، ودعا الناس إلى طاعة الله، فأجابه قوم منهم، فأقام فيهم ما أقام، فلما كان ذات يوم قال له بعضهم: ما تقول في أبي بكر وعمر ؟.
قال لهم: كانت لنا أم صِدِّيقة ابنة صِدِّيق ماتت، وهي عليهما غاضبة([398])، ونحن نغضب لغضبها؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله يغضب لغضب فاطمة([399]))).
فغضبوا من هذا القول وبان له منهم الإدبار، ثم انسل منهم، ولحق بالحجاز، ولزم جبلاً يقال له الرس، فأقبل على تعليم الناس، حتى أظهر دين جده، ووفد إليه خلق كثير من آفاق الدنيا، ثم مات.
ثم لزم ابنه محمد بن القاسم مجلسه، وعلم الناس على رسم أبيه.
ثم خرج ابن أخيه الهادي إلى الحق في اليمن، ودعا الناس إلى طاعة الله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأظهر العدل والتوحيد فيهم، وهاجر إليه خلق كثير من جميع البلدان أصحاب دين وفقهٍ وعلمٍ.
وأكثر من جاءه من ناحية طبرستان فناصروه([400]) وقاموا معه، وجاهدوا بين يديه وولاهم أحكام الناس وصلاتهم وقبض زكاة أموالهم، وكانوا بطانته؛ وخاصته لما اختبره من نصيحتهم، وثقة خلصائهم، وقيامهم معه على كل من عاداه، من قريب أو بعيد، أو شريف أو دني، ونصره أهل اليمن، وقاموا معه غاية القيام، فأقام على ذلك خمس عشرة سنة، وأظهر من دين جده مالم يظهره أحدٌ، ممن كان قبله (من الأئمة الصادقين، وذلك لتمكنه ومقامه مالم يتمكن من كان قبله)([401]) من أشكاله.
هذا وهو محاربٌ لأعداء الله، ولا([402]) وادع، ولا خافض يوماً واحداً من حربهم، وذلك أنهم أجمعوا عليه أولا([403]) بني العباس الذي([404]) كانوا في اليمن، حتى بلغ بعضهم العراق، يستنصر بهم عليه، فنصر الله عز وجل ابن نبيه، وأعانه على إظهار دينه على يديه، حتى استفاد منه أهل اليمن، والشام، ثم مات بصعدة وقبره بها صلوات الله عليه.
ثم خرج ابناه محمد([405])، وأحمد([406])، فحاربا القرامطة بمن تبعهما من المسلمين، حتى أذلوهم، وأخزوهم، وأوهنوا كيدهم، ومزقوهم كل ممزق، فما زالا مجتَهِدَين في حربهم، حتى ماتا بصعدة.
وإنما نَسَقِي([407]) هذا لجميع من وصفتهم لك؛ لأن أعرفك بالنبي وأهل بيته الصادقين، ومن حاربهم من الفراعنة الجبارين، وكيف قتلوهم حين دعوهم إلى إحياء ما جاء به جدهم، ومن كان قبلهم من المرسلين، كما قتل الفراعنة الأولون رسل الله، عندما دعوهم إلى طاعة الله، ونهوهم عن معصية الله، وعمَّا نهوا أنفسهم عن سخط الله([408])، كما حكى الله عز وجل حين يقول فيهم: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [البقرة:77] الآية.
فما ضر فعلهم ذلك رسل الله ولا أولياءه؛ بل كانوا هم الخاسرين، ولعذاب الله وسخطه مستوجبين، وقد ذهب كلهم إلى رب العالمين، ونفي([409]) الحساب بينهم، ووجدوا ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربك أحداً؛ فريق في الجنة، آدم ومن تبعه من الجن والإنس، وفريق في السعير إبليس ومن تبعه من الجن والإنس.
[ذكر ما ابتلي به علي عليه السلام والرد على من قال: إن علياً عليه السلام أثار الفتنة]