ولم يطلب أبا لؤلؤة، كما لم يطلب قاتل عثمان، فقد بان أنه لم يبايعهما، كما يقول الجهال.
وكذلك صحَّ أنه لم يبايع أبا بكر أيضاً، لإخفائه موت فاطمة عنه حتى لا يحضر جنازتها بإجماع الأمة، وذلك بأمر الله، فإذا كره الله منه حضور قبر أمة من إمائه، فكيف يرضى حكمه في خلقه ؟!
أعمى الله قلوب هؤلاء الحشوية، هم مجمعون أنها ماتت وهي غضبانة عليهما وأن خالقها يغضب لغضبها، فكيف يولي سبحانه على خلقه إنساناً يحكم فيهم برأيه وهو غضبان عليه.
وروي عن أبي لؤلؤة أنه قيل له: لم قتلت عمر ؟.
قال: بأمره قتلته سمعته يقول: كانت بيعة أبي بكر فلته وقى الله شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه.
قالت الحشوية: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهد لعشرة بالجنة: لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبدالرحمن وأبي عبيدة.
قالت الشيعة: لا نقول بنبؤة من شهد لهؤلاء بالجنة، لأن هؤلاء اختلفوا فيما بينهم وسفك بعضهم دماء بعض، ولكن نقول: بنبؤة من شهد لعشرة بالجنة: لعلي وفاطمة والحسن والحسين وحمزة([260])وجعفر([261]) وسلمان وعمار([262]) والمقداد([263]) وأبي ذرٍ([264])، لأنهم ثبتوا على عهد رسول الله ومع وصيه حتى فارقوا الدنيا.
قالت الحشوية: إن رسول الله قال: ((أُبي أقرؤكم وزيد([265]) أفرضكم، ومعاذ([266]) أعلمكم، وأبوبكر أرحمكم، وعمر أشدكم)).
وقالت الشيعة: لا نقر بنبوءة من قال: إن هؤلاء أقرأ وأفرض وأعلم وأرحم وأشد في الحق من علي، لأن النبي قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))([267])، وقال الله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6].
قالت الحشوية: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)).
قالت الشيعة: على الائتلاف وليس على الاختلاف، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم شبَّه أولاده الهادين بالنجوم، وقرنهم بالكتاب عندما قال: ((إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، بين عليه السلام بقوله هذا أن ليس بين الأئمة الصادقين من أولاده اختلاف عند ما شبههم بالنجوم، كما ليس بين النجوم اختلاف، كما قال الله سبحانه: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39)لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)} [يس:39ـ40].
فكذلك أصحاب رسول الله إذا وافق قولهم عن رسول الله قول وصي رسول الله، فقولهم مقبول صحيح، وهو سبيل المؤمنين، كما قال الله سبحانه لرسوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:128]، وقال سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}[هود:112].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:((الحق ما أجمعت عليه الأمة، والباطل ما اختلفت فيه الأمة)) اتباعاً لقول الله حين يقول سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، وقال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13].
بين سبحانه أن الاختلاف يكون بين المشركين وبين المسلمين.
وباب آخر، أنه لو علم أمير المؤمنين عليه السلام أن نصرة عثمان واجبةٌ عليه لنصره، كما نصر موسى عليه السلام وليه على عدوه، كما حكى الله عنه حين يقول سبحانه: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص:19]، فهذه الآية تدل على أن عثمان وقاتله لم يستوجبوا النصرة، فلذلك أرسل بعضهم على بعض وأمسك من الفريقين اتباعاً لقول الله حين يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]، ولولا ذلك لنصر أحدهما كما نصر كليم الله ولي الله في اليومين معاً فافهمه.
واعرف أن علياً مصيب في جميع أموره، لأنه أعلم بحلال الله وحرامه، وأمَّا قول من زعم أن علياً قتل عثمان، فالويل لعثمان إن قتله علي، لأن علياً لم يقتل مسلماً قط بإجماع الأمة.
[لا رجاء للعاصي]
ثمَّ اعلم يا أخي - أرشدك الله بطاعته - أن الله عز وجل لعن إبليس، وأخزاه في دنياه وآخرته، عندما استكبر عن عبادته، فإذا كان إبليس استوجب اللعن من ربّ العالمين، وملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين، وأوليائه الصالحين، إلى يوم الدين، وأخسر([268]) العالمين على معصية واحدة، مع إقراره بالله أنه خالقه وربه، كما حكى عنه ربه إذ يقول: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[ص:79].
فكيف يكون حال من لا يترك معصيةً واحدة حتى يواقعها، من الجبر والتشبيه وإنكار البعث والنشور، وتكذيب الرسل والأئمة الصادقين من أهل بيت خاتم النبيين، مع سفك دماء المسلمين وهتك حريمهم، وأخذ أموالهم مع ترك الصلوات، وغلول الزكوات، ورفض صيام شهر رمضان، والحج إلى بيت الله الحرام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ثم هو مع ذلك يرجو رحمة ربه مع إصراره، كأن لم يسمع الله يقول: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
أصحاب الرجاء والرحمة معروفون في كتاب الله عز وجل، قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} الإيمان كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (قول مقول؛ وعمل معمول؛ وعرفان بالعقول)، ثم قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} والهجرة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجل الذي قال له: يا رسول الله إلى أين الهجرة ؟ إليك فإذا مت انقطعت الهجرة؟.
قال: ((فالهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن فإذا فعلت ذلك فأنت مهاجر ولو مت بالحظرة)).
ثم قال سبحانه: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}فالجهاد، كما قال رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم]لأصحابه عندما انصرفوا من حرب بدر: ((إنكم قد انصرفتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)).
قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله، أليس قد قَتلنا وقُتلنا وجرحنا وجُرحنا؟.
قال: ((جهاد الأنفس)).
ثم قال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156] إلى آخرها، لم يقل فسأكتبها للذين يفسقون، ويخالفون الرسول.
وما مثل من وضع الرجاء في غير موضعه إلا كمثل رجل توجه طريق عدن يسلكها وهو يقول: أنا أبلغ مكة فهو كيف ما أمعن في السير، بعد من مكة.
ثم قال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] الآية.
[ثبوت الإمامة لمن استقام من ولد إبراهيم ومحمد(ص)]
ثم أمر الله رسوله أن يعلم أمته أن الإمامة ثابتة في ولد إبراهيم ومحمد عليهما السلام كما قال سبحانه لأبيهم إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:194]، ثم قال سبحانه: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}[الزخرف:28]، يعني عز وجل: أنه جعل الإمامة في ولد إبراهيم عليه السلام.
ثم قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(36)}[إبراهيم:35ـ36].
(فكل ساير بسيرة إبراهيم من ولده في جميع أموره وجب له ما وجب لأبيه كما قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ})([269]).
فمن هذه الجهة وجبت النبوة لمحمد، والوصية لعلي، والإمامة للحسن والحسين وأولادهما الصادقين إلى آخر الدنيا، عبدوا ربهم، واعتزلوا عبادة الصنم والشياطين، كما اعتزل أبوهم ذلك، ولم يكذبوا على الله، ولا كذبوا رسوله جبريل عندما جاءهم بالصدق، كما كذبه غيرهم، وذلك قول الله سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(33)} [الزمر:32ـ33].
فالناس كلهم داخلون في التكذيب سوى النبي والوصي والسبطين، ومن قام من أولادهما الصادقين، ومن تبعهم من سائر المسلمين إلى آخر الدنيا؛ لأن النبي صدق جبريل عندما جاءه بالنور من عند خالقه، وكذلك الوصي صدق رسول الله عندما دعاه إلى تصديقه، وغيره صدق رسول الله بعد التكذيب، كذبه أولاً ثم صدقه بعد طوعاً وكرهاً، فمن صدقه طوعاً بعد الدعاء، فهو غير معذور عند خالقه، أولاً في التكذيب قبل دعاء الرسول له، ولا بعد الدعاء، لأن خالقه قد دعاه إلى عبادته بالعقل المنير المركب فيه، ونهاه عن عبادة غيره، كما قال سبحانه: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8]، ولولا ذلك لم يعذب المشركين بالنار يوم القيامة، والذين ماتوا على شركهم قبل الرسول؛ لأن حجته سبحانه على خلقه أولها العقل، ثم الرسول، يدعوهم إلى ما استحسنه العقل، ويزجرهم عمَّا يستقبحه العقل بالآيات والنذر، فمن أراد لنفسه الخير قبل من عقله، ثم من رسوله، ومن أراد هلاك نفسه لم يقبل من العقل ولا من الرسول، كما قال سبحانه: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:19]، كفرعون اللعين عندما لم يقبل الحق الذي (دلّه عليه عقله، ولا الحق الذي)([270]) دلّه عليه رسولا رب العالمين عليهما السلام، كما قال سبحانه فيه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56]، وقال سبحانه في إبليس: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقره:134]، وقال في جميع من أدبر عن عبادته: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وقال فيمن أنكر البعث: {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:18]، وكل أتوه داخرين فافهمه، لأن الله عز وجل لم يتعبد إلاّ بعد البيان، والحمدلله رب العالمين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين.
وأمَّا قولهم: إن علياً عليه السلام أسلم وهو طفل، وقدموا عليه من أسلم بعد أن عبد الأصنام، وشرب الخمور، وارتكب الشرور([271])، ففي قولهم هذا طعن على الأنبياء ليس على الوصي وحده؛ لأن رسول الله أقام بينهم أربعين سنة، معتزلاً لأفعالهم، وكذلك أبوه خليل الله من قبل، ثم صديق الله يوسف، ثم كليم الله.
وإنما الذي اشترى يوسف قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، أراد أن يكون لهم مساعداً على شركهم، وكذلك أبقى فرعون موسى لهذا المعنى، فليس من لم يعبد الصنم كمن عبده، لأن الشاعر يقول في علي عليه الصلاة والسلام:
هل كافرٌ بصنمٍ كمؤمن
بصنم ليس هذان يستويان([272])
لأنه من عبد الصنم والشيطان من ولد إبراهيم، فقد زالت عنه النبوة والوصية والإمامة، وإن تاب عن ذلك تاب الله عليه، وكان من سائر المسلمين، ليس من الأنبياء المرسلين، ولا من الأئمة الصادقين الذين يجب لهم ما يجب([273])، لأبيهم من الطاعة والولاية والأمر والنهي.
بيَّن سبحانه لجميع خلقه طاعة ولاة الأمر على لسان رسوله المصطفى، وقال: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، ثم قال سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء:8]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}[النساء:64]، وقال: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد:38]، ثم قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(2) وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3)}[الجمعه:2-3].
وقوله عز وجل: {وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم علم جميع أمته الحلال والحرام، والحدود والأحكام، الأولين والآخرين، بوصي بعد وصي، وإمام بعد إمام، وعالم بعد عالم، من أولاده الصادقين إلى آخر الدنيا صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله عز وجل فيهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، فورثة الكتاب محمد وعلي والحسن والحسين ومن تبعهم من أولادهم الطاهرين.
[تفسير الظالم والمقتصد والسابق]
ثم قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}[فاطر:32]، ففيهم من الظالم لنفسه مثل ما في الناس؛ إذ هم بشر كما قال سبحانه في ولد إبراهيم وإسحاق عليهم السلام: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، وقال عز وجل لأبيهم إبراهيم الأواه الحليم: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، ثم قال سبحانه: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود:113].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ملعون ملعون من كثَّر سواد ظالم))، وقال: ((ملعون من رفع دواة ظالم))، وقال أمير المؤمنين عليه السلام([274]): (ليس بين الله سبحانه وبين أحد من خلقه قرابة، ولا بينه وبينهم هوادة، أكرمهم عند الله أتقاهم، وأهونهم عليه أرداهم، لا يخشاه من عباده إلاّ العلماء، ولا يهلك عنده إلاّ الجهلاء).
وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وقال: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:212] الآية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله قد أذهب نخوه الجاهلية، وعتوها، والفخر بالآباء أنتم بنوا آدم([275]) وآدم خلق من خلق الله خلقه من تراب، ولا فضل لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلاّ بتقوى الله)).
وقال الهادي إلى الحق عليه السلام: (ما منـزلة الحسن بن زيد ومحمد بن زيد الحسنيين أميري طبرستان عند الله إلاّ كمنـزلة سابكين وكوبكين عبدين لبني العباس مملوكين من تحت أيديهم، بل هما أعظم جرماً عند الله لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([276]) .
ثم قال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}[فاطر:32]، فالمقتصد منهم رجل عالم ورع تقي عارف بكتاب الله، وسنة رسوله خارج من الظلم، غير لاحق بالسابق منهم.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}[فاطر:32]، فالسابق من آل الرسول رجل عالم ورعٌ تقي، نقي، قويٌ في أمر الله مضطلع، أمين على أمة جده، شاهر لنفسه مجرد لسيفه، مباين الظالمين مؤمن المؤمنين، يأمر بالمعروف الأكبر، وينهى عن الفحشاء([277]) والمنكر، يأخذ الحق من أهله ويصرفه في أهله والقريب والبعيد، والشريف والدني عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم، فطاعة هذا واجبة على الناس كلهم كطاعة الله وطاعة رسوله، كما قال تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فهذا من ولاة الأمر الذين أوجب الله طاعتهم على الخلق كلهم.