احتجاج اليهود في هاجر أنها أمة لسارة، أنهم زعموا أن نمرود أراد يأخذ سارة من إبراهيم، فابتلاه الله في بدنه، فتركها، ثم وهب لها ابنته هاجر.
كلامهم هذا رجمٌ بالغيب، أرادوا بذلك إسقاط منزلة محمد الفاضل من آل إبراهيم. وأمَّا العارف البر التقي من الحيين، فهم كما ذكرهم الله أخوة رحماء بينهم، وكذلك الفارسي التقي ليس يأخذ من قول اليهود بشيء؛ بل يتبرأ إلى الله من قولهم وفعلهم، كما أمر الله حين يقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}، إلى قوله: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة:51ـ52].
أرادت اليهود بقولهم هذا، أن إسحاق أشرف من إسماعيل، فوافقتهم الحشوية، كما وافقتهم في الجبر والتشبيه، معارضة للنبي وآله عليهم السلام، فالمسلمون كلهم على سنة هاجر في الصفا والمروة وزمزم، على زعم اليهود، وكذلك عصبيتهم في أشياء كثيرة غير واحدة على ولد إسماعيل، كشبه ما بين قحطان وعدنان، لأن القحطاني الجاهل ينكر فضل النبي، فصدقتهم على هذا الكذب الحشوية، وخاصَّة من يدعي أنه من فارس؛ لأنهم يزعمون أن نسبهم ونسب اليهود واحدٌ.
[ذكر بعض البدع والجواب عليها]
ومن هنا قال الله عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}[المائدة:58]، أكثر الناس اليوم على هذا المعنى، إنهم إذا سمعوا إنساناً يؤذن بأذان النبي أنكروا عليه بأيديهم أو بألسنتهم أو بقلوبهم، واتخذوا نداءه ذلك هزؤاً، وسموه مبتدعاً وضالاً، وهو نداء النبي، لأن الأمة أجمعت كلها عنه أنه: كان عليه السلام يؤذن، ويقيم مثنى مثنى، ويؤذن بحي على خير العمل إلى أن فارق الدنيا، وأنه ما صلى بأصحابه هذه التراويح قط، ولا أذن بالصلاة خير من النوم قط، وهم([241]) يعرفون ذلك، ثم لم يرضوا بذلك، حتى أظهروا هذه البدعة في جميع دار الإسلام، واتخذوها ديناً، وأمروا مؤذنيهم، وأئمتهم أن يشهدوا خالقهم، وملائكته، وأولوا العلم من الجن والإنس، أنهم خالفوا رسوله في كل يوم عشر مرات في الأذان والإقامة، وفي كل شهر رمضان، خلافاً له، إذ يقول سبحانه لهم: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7] الآية.
فإذا نهاهم إنسان عن هذه البدعة، قالوا: هي بدعة حسنة.
كيف تكون البدعة حسنة ؟ وأمير المؤمنين علي عليه السلام، يقول: (ما أحدث محدث بدعة إلاّ ترك بها سنة)، صدق عليه السلام([242])؛ لأنه إذا اشتغل بهذه البدعة لم يصل بصلاة النبي، لأن صلاته عليه السلام في شهر رمضان ركعتين ركعتين، إلى أن ذكر أولوا العلم عنه أنه كان يحيي الليل في العشر الآواخر من رمضان.
وأعجب من هذا كله أن هؤلاء الحشوية يزعمون أنه عليه السلام، تعلم الأذان من عبدالله بن زيد الأنصاري([243])، ومن بلال بن حمامة([244])، خلافاً لقول الله، وكذباً على رسول الله، إذ يقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]، فالنِّداء مذكور في كتاب الله، فكتاب الله لم يأخذه رسول الله إلاّ من رسول الله جبريل عليه السلام، كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194)} [الشعراء:192ـ194]، وقال سبحانه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:97]، وقال سبحانه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]، يعني: جبريل عليه([245]) السلام.
وزعموا أن حروفاً من القرآن تأليف بعض الناس، وذلك أنهم قالوا: إن رسول الله كان يملي القرآن على عبدالله بن سعيد بن أبي سرح فيقول: اكتب والله سميع عليم، اكتب والله غفور رحيم، فيكتب غفور؛ رحيم، وما أشبه هذا، فيقول له النبي: هو جيد.
وزعموا أن رسول الله تعلم طهور الصلاة من قوم من الأنصار؛ لقوله فيهم: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}[التوبة:108].
وزعموا أن عمر قال: وافقني ربي في أربعة أشياء قال: قلت لرسول الله لو أظهرت مقام إبراهيم، وجعلته قبلة ومصلَّى، فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]، وقلت: لو كان بين المؤمنين، وبين نسائك حجاب، فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}[الأحزاب:53]، وقلت له يوم بدر: لا تأسر من المشركين أحداً، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:67] إلى آخرها، قال: وتلى علينا رسول الله قول الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)}إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ءَاخَرَ}[المؤمنون:12ـ14]، فقلت أنا: فتبارك الله أحسن الخالقين.
فزعموا أن عمر أراد الآخرة، والنبي أراد عرض الدنيا.
وزعموا أن النبي قال: أمرت أن أعرض القرآن على أبي بن كعبٍ([246]).
وقال الله عز وجل تكذيباً لقولهم: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(16)} [يونس:15ـ16].
وقال عليه السلام:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص:86]{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأنعام:50]، وقال سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]؛ يعني: جبريل عليه السلام.
[تحويل القبلة]
ثم قال الله سبحانه لرسوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[البقرة:144] إلى آخرها، وذلك أن اليهود قالوا له: أيَّ فضل لك علينا، وأنت تصلي إلى قبلتنا، فتمنى أن تكون قبلته([247]) قبلة أبيه إبراهيم، فاستشار في ذلك جبريل، فقال له جبريل: الأمر لربنا ليس لنا.
فصعد جبريل إلى ربه، والنبي كان ينظر هبوطه، فقال له ربه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144].
الرسولان لم يبتدعا من تلقاء أنفسهما شيئاً، إلاّ بأمر خالقهما، فكيف يجيز([248]) الله عز وجل لغيرهما([249])، أن يزيدوا في كتابه وسنته، أو ينقصوا منهما؟ هذا ما لا يكون أبداً؛ بل هو تنزيل منه سبحانه من أوله إلى آخره، على لسان رسوله([250])، إلى قلب نبيه عليهما([251]) السلام.
وأمَّا قوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ}[يونس:16] فهو تأكيد لنبوة رسوله، ورد على من زعم أنه ناقص، إذ هو أمي لا يعرف هجاء القرآن؛ لأنه أقام بينهم أربعين سنة لم يقرب كاتباً ولم يتعلم منهم، ثم جاءهم بشيء عجز الخلق كلهم أن يأتوا بمثله، كما قال سبحانه للذين أنكروا نبوته من اليهود وغيرهم من المشركين: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}، إلى قوله:{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23ـ24]، وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، وقال في سورة البقرة: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وقال في سورة هود: بعشر؛ لأن بين سورة البقرة وبين سورة هود عشر سور، ثم قال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
[الرد على من قال إن علياً عليه السلام بايع الثلاثة]
وأمَّا قول المعتزلة في أمير المؤمنين: إنَّه أفضل الثلاثة، وإنه بايعهم؛ إذ طاعتهم واجبة عليه، فهذا قول يبطله الكتاب والسنة، وينكره العقل؛ لأن الله عز وجل أوجب طاعة الفاضل على المفضول في كتابه المنزل، وعلى لسان نبيه المرسل؛ لقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
ثم إنكار العقل أن يأتي الفاضل إلى المفضول، فيعقد في عنقه ببيعته على أنه يأتمر بأمره، وينتهي عن نهيه، وهو يعلم أنه جاهل بأمر الله ونهيه، فهذا محال.
ودليل ذلك أن علياً لم يبايع غير رسول الله، إذ لم يزل في نصرته حتى دفنه عليهما السلام، ثم غمد سيفه، فلم يشهره حتى يوم الجمل، وأنه لم يقتل أحداً في عصر هؤلاء الثلاثة، ولم يبرح عن منزله.
وأبين من هذا كله أن عثمانَ عند إحصاره في داره في أربعين يوماً طلب النصرة على الذي حاصره من الناس كلهم، وعلي حاضر في القرية معهم، فلم ينصره، والله عز وجل يقول: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، فمن زعم أن علياً كان بايعه، فقد نسب إليه أنه ناكث خاذل، فعلي لا يستحق هذا من الاسمين([252]) أبداً عند الله، ولا عند أهل العلم، لمعرفته بحلال الله وحرامه، هذا مع قول أهل العلم أنه ما بايعهم، ولا اعتقد بصلاتهم عند ما سألوه بمنى في ولاية عثمان، أن يصلي بهم عندما لم يظهر عثمان.
فقال لهم عليه السلام: إن أحببتم أن أصلي بكم بصلاة النبي فعلت، فأبوا عليه، فتركهم.
فهذا يدل على أنه لم يأتمر بأمرهم قط، وأن حضوره معهم كان على وجه المتاقاة، كما قال ([253]) سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28].
وعلى هذا النحو كان كلامه لعبد الرحمن بن عوف يوم الشورى عندما قال له: نبايعك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر.
قال لهم: أبايعكم على أن أسير فيكم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأحكم([254])بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال لهم عثمان: أنا أسير فيكم بسيرتهما([255]).
فدل بقوله هذا عليه السلام أن سيرتهم خلاف الكتاب والسنة.
وأمَّا قول العامة فيه: إنه قد رضي فعلهم، إذ سكت عنهم ولم يحاربهم فليس بإمساكه من حربهم يبطل حقه، ويستوجبون هم مقامه، لأنه مقام النبوة، فمقام النبوة تثبيت([256]) في القائم مقام النبي في أمته بعده، مِنْ خَالِقِه ليس من خَلْقه، كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54].
فأكثر رسل الله يدعون عباد الله إلى عبادتهم له بألسنتهم، لا بالقتل والقتال، فلم يبطل ذلك نبوتهم عندما لم يحاربوا أعداء الله؛ فكذلك لا يبطل وصية وصي رسول الله، إذ غلب على أمره، كما لم تبطل نبوة صفي الله نوح عليه السلام عندما قال: فدعا ربه أني مغوب فانتصر، إذ الوصية مقرونة بالنبوة سواءً سواء، ليس بينهما فرق إلاّ مشافهة جبريل عليه السلام.
فليس مع القوم حجة أكثر من قولهم: إنهم يقولون نتبع الأكثر، الجمهور الأعظم؛ فحجتهم داحضة عند الله، كما قال الله سبحانه فيهم وفيمن تقدمهم من أشكالهم: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى:16] الآية.
إذا قرر سبحانه معرفته في صدورهم، ثم أنكروه مكابرة لعقولهم، فليس بإنكارهم تبطل وحدانية الله وعدله.
وكذلك لا تبطل النبوة والوصية من النبي والوصي، فإنكار من أنكرهما، كما قال سبحانه لرسوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] الآية، وقال له: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}[الفرقان:44]، وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
ثم مدح سبحانه القليل، فقال: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}[ص:24]،{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وقال سبحانه: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36].
فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث إلى أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس، فلم يحصل معه في ثلاث وعشرين سنة إلاّ أهل المدينة، ومن داناها من البلدان، فقال الله عز وجل فيهم، وفيمن حولهم:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}[التوبة:101].
وكذلك لم يحصل مع الوصي بعده إلاّ القليل منهم، وكذلك رفض أكثر الخلق سبطي نبي الهدى، والأئمة الصادقين من أولادهما، وتبعوا أئمة الجور والظلم.
وليس بإدبار الظالمين عن صاحب الحق يَبْطُل حقُه الذي حكم الله به، كما قال موسى عليه السلام: إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد، لإنك تعلم أن أكثر ولد آدم ينكرون بألسنتهم عدل الله ووحدانيته، فليس إنكارهم يُبْطِلُ شهادة من يشهد له بالوحدانية، لأنه سبحانه لم ينظر إلى شهادة من حرف شهادته بعد الإتقان([257])، بل قبل شهادة ملائكته، وأولي العلم من خلقه، كما قال سبحانه:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]، فكذلك قال لنبيه في إثبات نبوته: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43]، يعني: ملائكته وأولوا العلم من خلقه من الجن والإنس فافهمه.
والدليل أن علياً لم يبايع هؤلاء الثلاثة أنه لم يطلب قاتل عمر، بل طلب قاتل هرمز الفارسي، وهو عبيداللهبن عمر، حتى هرب منه إلى معاوية، فقتله علي يوم صفين.
وذلك أن أبا لؤلؤة عندما قتل عمر قال عبيدالله: هذا لم يقتل أبي إلاّ بأمر مولاه هرمز.
وهرمز هذا هو من ملوك فارس، وكان عمر قد عزم على قتله، فقال له هرمز: يأمر له بشربة ماء، فلما صار الكوز في يده، قال له: أنا في ذمة الله وذمتك حتى أشرب هذا الماء الذي في([258]) الكوز.
قال له عمر: نعم.
فضرب بالكوز الجدر، وكان الكوز زجاجاً فانكسر واستراق الماء .
فعزم عمر على قتله، فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه: لا يجب لك قتله؛ لأنك أمنته من القتل حتى يشرب الماء الذي كان في الكوز، فلم([259]) يشربه.
فقال له عمر: خدعني.
فقال له علي: كنت لا تنخدع له.
فأسلم هرمز على يدي علي عليه السلام، فلزم مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتكف فيه، وحسن إسلامه حتى قتله عبيدالله، رحمة الله عليه.
فلما قتله عبيدالله بلغ الخبر إلى علي، فأخذ السيف وخرج في طلب عبيدالله، فهرب منه إلى معاوية، فقتله علي يوم صفين.